خطبه 140شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام

أَيُّهَا النَّاسُ- مَنْ عَرَفَ مِنْ أَخِيهِ وَثِيقَةَ دِينٍ وَ سَدَادَ طَرِيقٍ- فَلَا يَسْمَعَنَّ فِيهِ أَقَاوِيلَ الرِّجَالِ- أَمَا إِنَّهُ قَدْ يَرْمِي الرَّامِي- وَ تُخْطِئُ السِّهَامُ وَ يُحِيلُ الْكَلَامُ- وَ بَاطِلُ ذَلِكَ يَبُورُ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ وَ شَهِيدٌ- أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْبَاطِل وَ الْحَقِّ إِلَّا أَرْبَعُ أَصَابِعَ

قال الشريف: فسئل عليه السلام عن معنى قوله هذا، فجمع أصابعه و وضعها بين أذنه و عينه، ثم قال: الباطل أن تقول سمعت، و الحقّ أن تقول رأيت.

اللغة
أقول: أحاك الكلام يحيك: إذا عمل و أثّر و كذلك حاك، و روى: يحيل: أى يبطل و لا يصيب.

و هذا الفصل نهى عن التسرّع إلى التصديق بما يقال في حقّ مستور الظاهر المشهور بالصلاح و التديّن من العيب و القدح في دينه،
و هو نهى عن سماع الغيبة بعد نهيه عنها نفسها، و إليها الإشارة بقوله تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى‏ ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ»«». ثمّ نبّه على جواز الخطأ على المتسرّعين إلى الغيبة بالمثل. فقال: أما إنّه قد يرمى الرامى و تخطى‏ء السهام. و وجه مطابقة هذا المثل أنّ الّذي يرمى بعيب قد يكون بريئا منه فيكون الكلام في حقّه غير مطابق و لا صائب كما لا يصيب السهم الّذي يرمى به فيخطئ الغرض. و على الرواية بالكاف، و يحيك الكلام: أى أنّ السهم قد يخطى‏ء فلا يؤثّر، و الكلام يؤثّر على كلّ حال، و إن لم يكن حقّا فإنّه يسوّد العرض و يلوّثه في نظر من لا يعرفه.

و قوله: و باطل ذلك يبور و اللّه سميع و شهيد. يجرى مجرى التهديد و تحقير ثمرة ذلك القول الكاذب الّذي لا يبقى من مال أو جاه أو نحوهما بالنسبة إلى عظم عقوبة اللّه و غضبه الباقى فإنّ سمعه و شهادته مستلزمان لغضبه المستلزم لعقوبته. و قوله: أما إنّه ليس بين الحقّ و الباطل إلّا مقدار أربع أصابع. فتفسيره الفعل المذكور، و تفسير ذلك الفعل هو قوله: الباطل أن تقول: سمعت، و الحقّ أن تقول: رأيت. ثمّ هاهنا لطيفتان: فالاولى: أنّ قوله: الباطل أن تقول سمعت. لا يستلزم الكلّيّة حتّى يكون كلّ ما سمعه باطلًا فإنّ الباطل و المسموع مهملان. الثانية: أنّ الحقّ ليس هو قوله: رأيت. بل المرئىّ له، و الباطل هو قوله.
سمعت. بل القول المسموع له، و إنّما قوله: رأيت و سمعت. إخبار عن وصول المرئىّ و المسموع إلى بصره و سمعه فأقام هذين الخبرين مقام المخبر عنهما مجازا. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 179

 

خطبه 139شرح ابن میثم بحرانی

 

و من كلام له عليه السّلام في النهى عن غيبة الناس

وَ إِنَّمَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعِصْمَةِ وَ الْمَصْنُوعِ إِلَيْهِمْ فِي السَّلَامَةِ- أَنْ يَرْحَمُوا أَهْلَ الذُّنُوبِ وَ الْمَعْصِيَةِ- وَ يَكُونَ الشُّكْرُ هُوَ الْغَالِبَ عَلَيْهِمْ- وَ الْحَاجِزَ لَهُمْ عَنْهُمْ- فَكَيْفَ بِالْعَائِبِ الَّذِي عَابَ أَخَاهُ وَ عَيَّرَهُ بِبَلْوَاهُ- أَ مَا ذَكَرَ مَوْضِعَ سَتْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ ذُنُوبِهِ- مِمَّا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي عَابَهُ بِهِ- وَ كَيْفَ يَذُمُّهُ بِذَنْبٍ قَدْ رَكِبَ مِثْلَهُ- فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَكِبَ ذَلِكَ الذَّنْبَ بِعَيْنِهِ- فَقَدْ عَصَى‏ اللَّهَ فِيمَا سِوَاهُ مِمَّا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ- وَ ايْمُ اللَّهِ لَئِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَاهُ فِي الْكَبِيرِ- وَ عَصَاهُ فِي الصَّغِيرِ لَجُرْأَتُهُ عَلَى عَيْبِ النَّاسِ أَكْبَرُ- يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَعْجَلْ فِي عَيْبِ أَحَدٍ بِذَنْبِهِ- فَلَعَلَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ وَ لَا تَأْمَنْ عَلَى نَفْسِكَ صَغِيرَ مَعْصِيَةٍ- فَلَعَلَّكَ مُعَذَّبٌ عَلَيْهِ- فَلْيَكْفُفْ مَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ عَيْبَ غَيْرِهِ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ عَيْبِ نَفْسِهِ- وَ لْيَكُنِ الشُّكْرُ شَاغِلًا لَهُ عَلَى مُعَافَاتِهِ مِمَّا ابْتُلِيَ بِهِ غَيْرُهُ

المعنى

أقول: أهل العصمة هم الّذين أعانهم اللّه سبحانه على قهر نفوسهم الأمّارة بالسوء حتّى صارت أسيرة في أيدى نفوسهم العاقلة فحصلوا من ذلك على ملكة ترك الذنوب و الانزجار عن ولوج أبواب المحارم، و اولئك هم الّذين اصطنع اللّه إليهم السلامة من الانحراف عن سبيله و الوقوع في مهاوى الهلاك. فنبّههم أوّلا على ما ينبغي لهم و هو أن يرحموا أهل الذنوب. و حصول تلك الرحمة منهم باعتبارهم حال العصاة و وقوعهم في مهاوى الهلاك. و من عادة عباد اللّه الرحمة لمن يرونه في مهلكة بإنقاذه و إعانته على الخروج منها، و أن يكون الشكر هو الغالب عليهم و الحاجز لهم، و ذلك باعتبارهم عند مشاهدة أهل المعاصى لما أنعم اللّه به عليهم من إعانته لهم على قهر شياطينهم الّتى هى موادّ الذنوب.

و قوله: فكيف بالغايب. شروع في تنبيه من هو دون أهل العصمة ممّن يرتكب كبيرة أو صغيرة على ما ينبغي له من ترك الغيبة فكأنّه قال: فهذا هو ما ينبغي لأهل العصمة فكيف يليق بغيرهم ممّن يعيب أخاه و يعيّره ببلواه بل ينبغي لمثله أن يترك الغيبة و يشكر اللّه بالطريق الأولى. و ذلك باعتبار ستر اللّه عليه من ذنوبه ما هو أعظم ممّا عيّر أخاه به.
و تلك نعمة اللّه يجب شكره عليها، و أشار بموضع ستر اللّه عليه إلى النعمة المصطنعة عنده و هى تأهيله و إعداده له، و الاستفهام على سبيل الإنكار أخذ بالتعجّب من ذمّ العائب لأخيه على ذنب. و هو في صورة احتجاج عليه في ارتكابه لهذا الذنب، و ذلك قوله: و كيف يذمّه. إلى قوله: يا عبد اللّه. فكأنّه يقول: لا يجوز لأحد أن يعيب أخاه لأنّه إمّا أن يكون بذنب قد ركب العائب مثله أو أكبر منه أو أصغر. فإن كان بذنب قد ركب مثله أو أكبر كان له في عيبه لنفسه شغل عن عيب غيره، و إن كان ارتكب أصغر منه فهو ممنوع على تقدير جرأته على الغيبة و صدوره عنه لأنّها من الكباير، و إنّما قال: هى أكبر ما عند اللّه. إمّا مبالغة أو لأنّ المفاسد الّتى يشتمل عليها ارتكاب ساير المنهيّات جزئيّة و مفسدة الغيبة كلّيّة لأنّه لمّا كان من المقاصد المهمّة للشارع اجتماع النفوس على همّ واحد و طريقة واحدة و هى سلوك سبيل اللّه بساير وجوه الأوامر و النواهى و لن يتمّ ذلك إلّا بتعاون هممهم و تصافي بواطنهم و اجتماعهم على الالفة و المحبّة حتّى يكونوا بمنزلة عبد واحد في طاعة مولاه، و لن يتمّ ذلك إلّا بنفى الضغائن و الأحقاد و الحسد و نحوه، و كانت الغيبة من كلّ منهم لأخيه مشيرة لضغنه و مستدعية منه مثلها في حقّه لا جرم كانت ضدّ المقصود الكلّىّ للشارع فكانت مفسدة كلّيّة، و لذلك أكثر اللّه تعالى و رسوله من النهى عنها كقوله تعالى «وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً»«» حتّى استعار لما يقترضه الغائب من عرض أخيه لفظ اللحم و زاده تقبيحا و تكريها بصفة الميّت فقال «أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً» و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إيّاكم و الغيبة فإنّ الغيبة أشدّ من الزنا إنّ الرجل يزني فيتوب اللّه عليه و إنّ صاحب الغيبة لا يغفر له حتّى يغفر له صاحبه، و عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مررت ليلة اسرى بى فرأيت قوما يخمشون وجوههم بأظافيرهم فسألت جبرئيل عنهم.
فقال: هؤلاء الّذين يغتابون الناس، و في حديث البراء بن عاذب: خطبنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى أسمع العواتق في بيوتهنّ. فقال: ألا لا تغتابوا المسلمين و لا تتّبعوا عوراتهم فمن تتّبع عورة أخيه تتّبع اللّه عورته و من تتّبع اللّه عورته يفضحه في جوف بيته. ثمّ نهى عن الاستعجال و التسرّع إلى العيب، و نبّه على‏ وجوب ذلك الاحتمال [لانتهاء- خ- ] باحتمال أن يكون الذنب الّذي يعيب أخاه به مغفورا له و إن كان كبيرا، و ذلك لاحتمال أن يكون حالة لم تتمكّن من جوهر نفسه، و نهى عن أن يأمن على نفسه صغير معصية يرتكبها لاحتمال أن يعذّب عليها لصيرورتها ملكة متمكّنة من جوهر نفسه. ثمّ عاد إلى الأمر بالكفّ عن العيب باعتبار ما يعلم الإنسان من عيب نفسه، و أن يكون الشكر للّه دأبه على السلامة من التورّط في مورد الهلكة الّذي سلكه صاحب الذنب و ابتلاه اللّه به.

و اعلم أن تعريف الغيبة يعود إلى ذكر الإنسان بما يكره نسبته إليه ممّا يعدّ نقصانا في العرف ذكرا على سبيل قصد الانتقاص و الذمّ سواء كان ذلك النقصان عدم كمال بدنىّ كالعور و العمى، أو نفسانىّ كالجهل و الشره و الظلم، أو عدم كمال من خارج كسقوط الأصل و دناءة الآباء. و احترزنا بالقيد الأخير في تعريفها و هو قصد الانتقاص عن ذكر العيب للطبيب مثلا أو لاستدعاء الرحمة من السلطان في حقّ الزمن و الأعمى بذكر نقصانهما. ثمّ الغيبة قد تكون باللسان و هي الحقيقيّة، و قد تكون بالإشارة و غيرها من ساير ما يعلم به انتقاص أخيك و التنبيه على عيبه، و تسمّى غيبة مجازا لقيامها مقام الغيبة. و لها أسباب غائيّة: أحدها: شفاء الغيظ. فانّ الإنسان كثيرا ما يشفى غيظه بذكر مساوى من غاظه. الثاني: المباهاة و التفاضل كما يقول من يتعاطى الإنشاء و الشعر: كلام فلان ركيك و شعره بارد. الثالث: اللعب و الهزل و ترجية الوقت فيذكر غيره بما يضحك الحاضرين. الرابع: أن يستشعر من غيره أنّه سيذمّه عند السلطان مثلا فيقصد سبقه بذكر مساويه ليسقط شهادته عنده عليه، و قد تكون لها غايات أخر. و قد وردت الرخصة في غيبة الفاسق المتجاهر بفسقه كالخمّار و المخنّث و العشّار الّذي ربّما يفتخر بعيبه و لا يستحيى منه. قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غيبة له. لكن تركها إلى السكوت أولى. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 176

 

خطبه 138شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام في وقت الشورى

لَنْ يُسْرِعَ أَحَدٌ قَبْلِي إِلَى دَعْوَةِ حَقٍّ- وَ صِلَةِ رَحِمٍ وَ عَائِدَةِ كَرَمٍ- فَاسْمَعُوا قَوْلِي وَ عُوا مَنْطِقِي- عَسَى أَنْ تَرَوْا هَذَا الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِ هَذَا الْيَوْمِ- تُنْتَضَى فِيهِ السُّيُوفُ وَ تُخَانُ فِيهِ الْعُهُودُ- حَتَّى يَكُونَ بَعْضُكُمْ أَئِمَّةً لِأَهْلِ الضَّلَالَةِ- وَ شِيعَةً لِأَهْلِ الْجَهَالَةِ

أقول: هذا من جملة كلام قاله عليه السّلام لأهل الشورى و قد ذكرنا طرفا من أخبارها.

فقوله: لن يسرع أحد. إلى قوله: و عائدة كرم. تقرير لفضيلته ليسمع قوله، و لذلك قال بعده: فسمعوا قولى و عوا منطقى، و ذكر فضائل ثلاثا: الدعوة إلى الحقّ الّذي لن يسارعه أحد إليها إلّا سرعه. و هى ثمرة العدالة، و صلة الرحم، و عائدة الكرم. و هما فضيلتان تحت ملكة العفّة. و الّذى أمرهم بسماعه هو التنبيه على عاقبة أمر الخلافة، و ما يقع فيها من الهرج و المرج بعدهم بناء على ما حضر من الخبط و الاختلاط فيها فكأنّه يقول: إذا كان حال هذا الأمر هذه الحال من الخبط و مجاذبة من لا يستحقّه [لمن يستحقّه خ‏] و التغلّب فيه على أهله فعسى أن ترونه بعد هذا اليوم بحال يختصم الناس فيه بالسيوف و تخان فيه العهود، و هو إشارة إلى ما علمه من حال البغاة و الخوارج عليه و الناكثين لعهد بيعته. فقوله: حتّى يكون بعضهم أئمّة لأهل الضلالة و شيعة لأهل الجهالة. غاية للتغالب على هذا الأمر، و أشار بالأئمّة إلى طلحة و الزبير، و بأهل الضلالة إلى أتباعهم، و بأهل الجهالة إلى معاوية و رؤساء الخوارج و سائر امراء بنى اميّة، و بشيعة أهل الجهالة إلى أتباعهم. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 175

 

خطبه 137شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام في ذكر الملاحم

القسم الأول

يَعْطِفُ الْهَوَى عَلَى الْهُدَى- إِذَا عَطَفُوا الْهُدَى عَلَى الْهَوَى- وَ يَعْطِفُ الرَّأْيَ عَلَى الْقُرْآنِ- إِذَا عَطَفُوا الْقُرْآنَ عَلَى الرَّأْيِ

أقول: الإشارة في هذا الفصل إلى وصف الإمام المنتظر في آخر الزمان الموعود به في الخبر و الأثر.

فقوله: يعطف الهوى على الهدى أى يردّ النفوس الحايرة عن سبيل اللّه المتّبعة لظلمات أهوائها عن طرقها الفاسدة و مذاهبها المختلفة إلى سلوك سبيله و اتّباع أنوار هداه، و ذلك إذا ارتدّت تلك النفوس عن اتّباع أنوار هدى اللّه في سبيله الواضح إلى اتّباع أهوائها في آخر الزمان، و حين ضعفت الشريعة و زعمت أنّ الحقّ و الهدى هو ذلك. و كذلك قوله: و يعطف الرأى على القرآن إذا عطفوا القرآن على الرأى: أى يردّ على كلّ رأى رآه غيره إلى القرآن فيحملهم على ما وافقه منها دون ما خالفه، و ذلك إذا تأوّل الناس القرآن و حملوه على آرائهم و ردّوه إلى أهوائهم كما عليه أهل المذاهب المتفرّقة من فرق الإسلام كلّ على ما خيل إليه، و كلّ يزعم أنّ الحقّ الّذي يشهد به القرآن هو ما رآه و أنّه لا حقّ وراه سواه. و باللّه التوفيق.

القسم الثاني منها:

حَتَّى تَقُومَ الْحَرْبُ بِكُمْ عَلَى سَاقٍ بَادِياً نَوَاجِذُهَا- مَمْلُوءَةً أَخْلَافُهَا حُلْواً رَضَاعُهَا عَلْقَماً عَاقِبَتُهَا- أَلَا وَ فِي غَدٍ وَ سَيَأْتِي غَدٌ بِمَا لَا تَعْرِفُونَ- يَأْخُذُ الْوَالِي مِنْ غَيْرِهَا عُمَّالَهَا عَلَى مَسَاوِئِ أَعْمَالِهَا- وَ تُخْرِجُ لَهُ الْأَرْضُ أَفَالِيذَ كَبِدِهَا- وَ تُلْقِي إِلَيْهِ سِلْماً مَقَالِيدَهَا- فَيُرِيكُمْ كَيْفَ عَدْلُ السِّيرَةِ- وَ يُحْيِي مَيِّتَ الْكِتَابِ وَ السُّنَّةِ

اللغة
أقول: أخلاف الناقة. حلمات ضرعها. و أفاليذ: جمع الجمع لفلذة، و هى القطعة من الكبد و جمعها فلذ.

المعنى
فقوله: حتّى تقوم الحرب بكم على ساق. إلى قوله: عاقبتها. كأنّه غاية لتخاذلهم عن طاعته في أمر الحرب و لقاء العدوّ. كأنّه يقول: إنّكم لا تزالون متخاذلين متقاعدين حتّى يشتدّ العدوّ و يقوم بكم الحرب على ساق. و قيامها على الساق كناية عن بلوغها الغاية في الشدّة، و بدوّ نواجدها كناية عمّا يستلزمه من الشدّة و الأذى، و هو من أوصاف الأسد عند غضبه. لأنّه حاول أن يستعير لها لفظ الأسد فأتى بوصفه.

و قال بعض الشارحين: بدوّ النواجد في الضحك: أى تبلغ بكم الحرب الغاية كما أنّ غاية الضحك أن تبدو النواجد. فهي أقصى الأضراس. فكنّى بذلك عن إقبالها.
قلت: هذا و إن كان محتملا إلّا أنّ الحرب مظنّة إقبال الغضب لا إقبال الضحك. فكان الأوّل أنسب. و كذلك قوله: مملوّة أخلافها. استعارة لوصف الناقة لحال استعداد الحرب و استكمالها عدّتها و رجالها كاستكمال ضرع الناقة اللبن. و قوله: حلوا رضاعها. استعارة لوصف المرضع لها، و كنّى بحلاوة رضاعها عن إقبال أهل النجدة في أوّل الحرب عليها. فكلّ منهم يحبّ أن يناجز قرنه و يستحلى مغالبته كما يستحلى الراضع لبن امّه، و كذلك استعار لفظ العلقم لعاقبتها، و وجه الاستعارة المشابهة بين المرارتين الحسيّة و العقليّة، و المنصوبات الأربعة: باديا، و مملوّة، و حلوا، و علقما. أحوال. و المرفوعات بعد كلّ منها فاعله، و إنّما ارتفع عاقبتها عن علقما مع أنّه اسم صريح لقيامه مقام اسم الفاعل كأنّه قال: مريرة عاقبتها.

و قوله: ألا و في غد. إخبار عن بعض الامور الّتي ستكون. و قوله: و سيأتى غد بما لا تعرفون. المراد به تعظيم شأن الموعود بمجيئه. و بيان لفضيلته عليه السّلام بعلم ما جهلوه.

و هو جملة اعتراضيّة كقوله تعالى «فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ»«» فقوله: و إنّه لقسم. اعتراض.

و قوله: يأخذ الوالى من غيرها عمّالها. يشبه أن يكون قد سبقه ذكر طائفة من الناس ذات ملك و إمرة فأخبر عليه السّلام‏ أنّ الوالى من غير تلك الطائفة- يؤمى به إلى الإمام المنتظر- يأخذ عمّالها على مساوى أعمالها: أى يؤاخذهم بذنوبهم. و قوله: و تخرج الأرض أفاليذ كبدها. استعار لفظ الكبد لما في الأرض من الكنوز و الخزائن، و وجهها مشابهة الكنوز للكبد في العزّة و الخفاء، و رشّح بذكر الأفاليذ. و قد ورد ذلك في الخبر المرقوع، و من لفظه: و قادت له الأرض أفلاذ كبدها. و فسّر بعضهم قوله تعالى «وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها» بذلك. فأمّا كيفيّة ذلك الإخراج: فقال بعض المحقّقين: هو إشارة إلى أنّ جميع ملوك الأرض تسلّم إليه مقاليد ممالكها طوعا و كرها و تحمل إليه الكنوز و الذخائر، و أسند الإخراج إلى الأرض مجازا لأنّ المخرج أهلها. و استبعد أن يكون الأرض بنفسها هي المخرجة لكنوزها. و لأهل الظاهر أن يقولوا إنّ المخرج يكون هو اللّه تعالى، و يكون ذلك من معجزات الإمام و لا مانع.

و قوله: و تلقى إليه سلما مقاليدها. أسند أيضا لفظ الإلقاء إلى الأرض مجازا لأنّ الملقى للمقاليد مسالما هو أهل الأرض، و كنّى بذلك عن طاعتهم و انقيادهم أجمعين لأوامره و تحت حكمه، و سلما مصدر سدّ مسدّ الحال. ثمّ أخبر أنّه سيريهم عدل سيرته، و أنّه يحيى ميّت الكتاب و السنّة. و لفظ الميّت استعارة لما ترك منهما فانقطع أثره و الانتفاع به كما ينقطع أثر الميّت.
فإنّ قلت: قوله: و يريكم. يدلّ على أنّ المخاطبين يدركون المخبر عنه و يرون عدله مع أنّكم قلتم أنّه يكون في آخر الزمان فكيف وجه ذلك.
قلت: خطاب الحاضرين من الامّة كالعامّ لكلّ الامّة، و ذلك كسائر خطابات القرآن الكريم مع الموجودين في عصر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإنّه يتناول الموجودين إلى يوم القيامة ثمّ يخرج المخاطبون بدليل العادة. إذ من عادتهم أن لا تمتدّ أعمارهم إلى وقت ظهوره فبقى الموجودون في زمانه. و باللّه التوفيق.

 

القسم الثالث منها:

كَأَنِّي بِهِ قَدْ نَعَقَ بِالشَّامِ- وَ فَحَصَ بِرَايَاتِهِ فِي ضَوَاحِي كُوفَانَ- فَعَطَفَ عَلَيْهَا عَطْفَ الضَّرُوسِ- وَ فَرَشَ الْأَرْضَ بِالرُّءُوسِ- قَدْ فَغَرَتْ فَاغِرَتُهُ وَ ثَقُلَتْ فِي الْأَرْضِ وَطْأَتُهُ بَعِيدَ الْجَوْلَةِ عَظِيمَ الصَّوْلَةِ- وَ اللَّهِ لَيُشَرِّدَنَّكُمْ فِي أَطْرَافِ الْأَرْضِ- حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْكُمْ إِلَّا قَلِيلٌ كَالْكُحْلِ فِي الْعَيْنِ- فَلَا تَزَالُونَ كَذَلِكَ- حَتَّى تَئُوبَ إِلَى الْعَرَبِ عَوَازِبُ أَحْلَامِهَا- فَالْزَمُوا السُّنَنَ الْقَائِمَةَ وَ الْآثَارَ الْبَيِّنَةَ- وَ الْعَهْدَ الْقَرِيبَ الَّذِي عَلَيْهِ بَاقِي النُّبُوَّةِ- وَ اعْلَمُوا أَنَّ الشَّيْطَانَ- إِنَّمَا يُسَنِّي لَكُمْ طُرُقَهُ لِتَتَّبِعُوا عَقِبَهُ

اللغة
أقول: نعق الغراب و نعق الراعى بغنمه بالعين و الغين: صاح. و فحص المطر التراب: قلّبه، و الفحص: البحث. و كوفان: اسم للكوفة. و ضواحيها: نواحيها البارزة. و الضروس: الناقة السيّئة الخلق تعضّ حالبها. و فغرت فاغرته: انفتح فوه.
و أكّد الفعل بذكر الفاعل من لفظه. و يسنّى: يسهّل. و العقب بكسر القاف: مؤخّر القدم.

المعنى
و قد أخبر في هذا الفصل أنّه سيظهر رجل بهذه الصفات. قال بعض الشارحين: هو عبد الملك بن مروان، و ذلك لأنّه ظهر بالشام حين جعله أبوه الخليفة من بعده و سار لقتال مصعب بن الزبير إلى الكوفة بعد أن قتل مصعب المختار بن أبي عبيدة الثقفىّ فالتقوا بأرض مسكن- بكسر الكاف- من نواحى الكوفة. ثمّ قتل مصعبا و دخل الكوفة فبايعه أهلها و بعث الحجّاج بن يوسف إلى عبد اللّه بن الزبير بمكّة فقتله و هدم الكعبة، و ذلك سنة ثلاث و سبعين من الهجرة، و قتل خلقا عظيما من العرب في وقايع عبد الرحمن بن الأشعث، و رمى الناس بالحجّاج بن يوسف،
و في الفصل لطايف:

الاولى: أطلق لفظ النعيق
لظهور أوامره و دعوته بالشام مجازا، و كذلك استعار لفظ الفحص لقلبه أهل الكوفة بعضهم على بعض و نقصه لحالاتهم الّتى كانوا عليها. ثمّ شبّه عطفه و حمله عليها بعطف الناقة الضروس، و وجه التشبيه شدّة الغضب و الحنق و الأذى الحاصل منها.

الثانية: فرشه الأرض بالرءوس
كناية عن كثرة قتلة فيها، و ذلك ممّا يشهد به التواريخ. و فغر: فيه استعارة ببعض أوصاف السبع الضارى كنّى به عن شدّة إقدامه على القتل و إقباله على الناس بشدّة الغضب و الأذى، و كذلك ثقل وطأته في الأرض كناية عن شدّة بأسه و تمكّنه في الأرض.

الثالثة: بعد جولته
كناية عن اتّساع ملكه و جولان خيله و رجله في البلاد البعيدة، و بعيد و عظيم حالان، و من روى بالرفع فهما خبرا مبتدأ  محذوف.

الرابعة: لمّا فرغ من صفاته العامّة بيّن لهم ما سيفعله معهم
من التشريد و الطرد في أطراف البلاد، و أكّد ذلك بالقسم البارّ، و ذلك إشارة إلى ما فعله عبد الملك و من ولى الأمر من ولده في باقى الصحابة و التابعين، و أحوالهم معهم في الانتقاض و الاحتقار و الطرد و القتل ظاهرة، و شبّه البقيّة منهم بالغبار الّذي يكون في العين من الكحل، و وجه التشبيه الاشتراك في القلّة.

الخامسة: أخبر أنّهم لا يزالون كذلك
أى بالحال الموصوفة مع عبد الملك و من بعده من أولاده حتّى تعود إلى العرب عوازب أحلامها: أى ما كان ذهب من عقولها العمليّة في نظام أحوالهم، و العرب هم بنو العبّاس و من معهم من العرب أيّام ظهور الدولة كقحطبة بن شبيب الطائىّ و ابنيه حميد و الحسن، و كبنى زريق أبى طاهر بن الحسين و إسحاق بن إبراهيم المصعبىّ و من في عدادهم من خزاعة و غيرهم من العرب من شيعة بنى العبّاس. و قيل: إنّ أبا مسلم أصله عربىّ. و كلّ هؤلاء كانوا مستضعفين مقهورين مقمورين في دولة بنى أميّة لهم ينهض منهم ناهض إلى أن أفاء اللّه تعالى عليهم ما كان عزب عنهم من حميّاتهم فغاروا للدين و للمسلمين من جور بنى مروان و أقاموا الأمر و أزالوا تلك الدولة.

فإن قلت: إنّ قوله: تؤوب. يدلّ على أنّ انقطاع تلك الدولة بظهور العرب و عود عوازب أحلامها، و عبد الملك مات و قامت بنوه بعده بالدولة، و لم يزل الملك عنه بظهور العرب فأين فايدة الغاية قلت: إنّ تلك الغاية ليست غاية لدولة عبد الملك بل غاية من كونهم لا يزالون مشرّدين في البلاد، و ذلك الانقهار و إن كان أصله من عبد الملك إلّا أنّه استمرّ في زمن أولاده إلى حين انقضاء دولتهم فكانت غايته ما ذكر، و قال بعض الشارحين في الجواب: إنّ ملك أولاده ملكه و ما زال الملك عن بنى مروان حتّى آبت إلى العرب عوازب أحلامها. و هذا جواب من لم يتدبّر كلامه عليه السّلام، و لم يتتبّع ألفاظ الفصل حتّى يعلم أنّ هذه الغاية لأيّ شي‏ء منه فيلحقها به. ثمّ أمرهم بلزوم سنن اللّه و رسوله القائمة فيهم من بعده و آثاره البيّنة فيهم و عهده القريب بينهم و بينه. و وجّه عليهم ذلك الأمر في الحال و عند نزول تلك الشدائد بهم: أى إذا نزل بكم منه ما وصف فلتكن وظيفتكم لزوم ما ذكرت. ثمّ نبّههم على ما في سهولة المعاصى و في تسهيل نفوسهم الأمّارة بالسوء عليهم طرق المحارم من المحذور و هو أن تنقاد لها النفوس العاقلة فتضلّها عن سبيل اللّه و يقودها الضلال إلى الهلاك الاخروىّ. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 169

 

خطبه 136شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام في معنى طلحة و الزبير

القسم الأول

وَ اللَّهِ مَا أَنْكَرُوا عَلَيَّ مُنْكَراً- وَ لَا جَعَلُوا بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ نِصْفاً- وَ إِنَّهُمْ لَيَطْلُبُونَ حَقّاً هُمْ تَرَكُوهُ وَ دَماً هُمْ سَفَكُوهُ- فَإِنْ كُنْتُ شَرِيكَهُمْ فِيهِ فَإِنَّ لَهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنْهُ- وَ إِنْ كَانُوا وَلُوهُ دُونِي فَمَا الطَّلِبَةُ إِلَّا قِبَلَهُمْ- وَ إِنَّ أَوَّلَ عَدْلِهِمْ لَلْحُكْمُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ- وَ إِنَّ مَعِي لَبَصِيرَتِي مَا لَبَسْتُ وَ لَا لُبِسَ عَلَيَّ- وَ إِنَّهَا لَلْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ فِيهَا الْحَمَأُ وَ الْحُمَّةُ- وَ الشُّبْهَةُ الْمُغْدِفَةُ وَ إِنَّ الْأَمْرَ لَوَاضِحٌ- وَ قَدْ زَاحَ الْبَاطِلُ عَنْ نِصَابِهِ- وَ انْقَطَعَ لِسَانُهُ عَنْ شَغْبِهِ- وَ ايْمُ اللَّهِ لَأُفْرِطَنَّ لَهُمْ حَوْضاً أَنَا مَاتِحُهُ- لَا يَصْدُرُونَ عَنْهُ بِرِيٍّ- وَ لَا يَعُبُّونَ بَعْدَهُ فِي حَسْيٍ

اللغة
أقول: النصف: النصفة. و الطلبة بكسر اللام: المطلوب. و الحمأ: الطين الأسود المنتن كما قال تعالى «وَ لَقَدْ خَلَقْنَا»«» و يروى الحما بألف مقصورة. و الحمه بضمّ الحاء و تخفيف الميم و فتحها: اسم العقرب. و المغدفة بالدال و الفاء:المظلمة. يقال: أغدف الليل إذا اشتدّ ظلامه، و روى: المغدفة بفتح الدال: الخفيّة.
و أصله أنّ المرأة تغدف وجهها بالقناع. و زاح الباطل: انحرف. و نصابه: أصله و مقرّه. و لافرطنّ: لأملأنّ. و الشغب بالتسكين: المشاغبة و تهييج الشرّ. و الماتح بنقطتين من فوق: المستقى، و بنقطتين من تحت: الّذي يملأ الدلو في البئر. و العبّ: الشرب. و الحسى بكسر الحاء و سكون السين: الماء الّذي يشربه الرمل فينتهى إلى أرض صلبة تحفظه ثمّ يحفر عنه فيستخرج.

المعنى
و اعلم أنّ قوله: و اللّه. إلى قوله: و لا لبس علىّ. قد تقدّم تفسيره في قوله: ألا و إنّ الشيطان قد ذمّر حزبه. و في فصل قبله برواية اخرى فلا حاجة إلى إعادته.

و أمّا قوله: و إنّها للفئة الباغية فيها الحمأ و الحمة. فقال بعض الشارحين: في تعريف الفئة بالألف و اللام تنبيه على أنّه كان عنده علم من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه ستبغى عليه فئة من غير تعيين لها. فلمّا خرجت هذه الفئة علمها بإماراتها، و قد سبق أيضا تفسير الحمأ و الحمة على بعض الروايات، و أمّا على هذه الرواية فاستعارة للغلّ و الفساد الّذي كان في صدور هذه الفئة، و وجه الاستعارة استلزامه لتكدير الإسلام و إثارة الفتنة بين المسلمين كما تكدّر الحمأ الماء و تخبثه، و استلزامه للأذى و القتل كما يستلزم ذلك سمّ العقرب، و أشار بالشبهة المغدفة إلى شبهتهم في الطلب بدم عثمان، و استعار لها وصف الظلمة لعدم اهتداء أكثر الخلق فيها حتّى قتلوا بسببها كما لا يهتدى في الليل المظلم و قوله: و إنّ الأمر لواضح. إلى قوله: شغبه. نفى لتلك الشبهة عن نفسه و ولايته، و أنّ الحقّ واضح في حاله لا أصل للباطل فيه و لا لسان يشغب به، و لفظة اللسان استعارة، و الشغب ترشيح لها. و باقى الفصل قد تقدّم تفسيره أيضا في الفصل المذكور.

القسم الثاني منه

فَأَقْبَلْتُمْ إِلَيَّ إِقْبَالَ الْعُوذِ الْمَطَافِيلِ عَلَى أَوْلَادِهَا- تَقُولُونَ الْبَيْعَةَ الْبَيْعَةَ- قَبَضْتُ كَفِّي فَبَسَطْتُمُوهَا- وَ نَازَعْتُكُمْ يَدِي فَجَاذَبْتُمُوهَا- اللَّهُمَّ إِنَّهُمَا قَطَعَانِي وَ ظَلَمَانِي- وَ نَكَثَا بَيْعَتِي وَ أَلَّبَا النَّاسَ عَلَيَّ- فَاحْلُلْ مَا عَقَدَا وَ لَا تُحْكِمْ لَهُمَا مَا أَبْرَمَا- وَ أَرِهِمَا الْمَسَاءَةَ فِيمَا أَمَّلَا وَ عَمِلَا- وَ لَقَدِ اسْتَثَبْتُهُمَا قَبْلَ الْقِتَالِ- وَ اسْتَأْنَيْتُ بِهِمَا أَمَامَ الْوِقَاعِ- فَغَمَطَا النِّعْمَةَ وَ رَدَّا الْعَافِيَةَ

اللغة
أقول: العوذ: جمع عوذة و هى الناقة المسنّة. و المطافيل: جمع مطفل بضم الميم و هى قريبة العهد بالنتاج. و التأليب: التحريص. و أبرمت الأمر: أحكمته. و استثبتّهما بالثاء المعجمة بثلاث نقط: طلبت رجوعهما، و يروى بالتاء من التوبة.
و استأنيت: انتظرت.

و هذا الفصل احتجاج على طلحة و الزبير و من تابعهما على نكث بيعته.

فقوله: فأقبلتم. إلى قوله: فجاذ بتموها. يجرى مجرى صغرى قياس ضمير من الشكل الأوّل، و تلخيصها أنّكم اجتهدتم علىّ في طلب البيعة حتّى بايعتكم و أخذت عهودكم. و تقدير الكبرى و كلّ من اجتهد اجتهادكم إلى تلك الغاية فيجب عليه الوفاء بعهده. و الصغرى مسلّمة منهم. و برهان الكبرى الكتاب «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»«» و «أَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ»«» الآية، و قد شبّه إقبالهم عليه طالبين للبيعة بإقبال مسنّات النوق على أطفالها، و وجه التشبيه شدّة الإقبال و الحرص على مبايعته، و خصّ المسنّات لأنّها أقوى حنّة على أولادها، و نصب البيعة على الإغراء، و فائدة التكرير في الإغراء تأكيد الأمر الدالّ على شدّة الاهتمام بالمأمور به. و قال بعض الشارحين: فايدة التكرار دلالة المنصوب الأوّل على تخصيص الأمر الأوّل بالحال، و دلالة الثاني على تخصيص الأمر الثاني بالمستقبل: أى خذ البيعة في الحال و خذها للاستقبال. قال: و كذلك قوله: اللّه اللّه: أى أتّقوا اللّه في الحال و اتّقوه في الاستقبال.
و أقول: إنّ ذلك غير مستفاد من اللفظ بإحدى الدلالات.

و قوله: اللّهم إلى قوله: علىّ. شكاية إلى اللّه منهم في امور ثلاثة: قطع رحمه و ظلمهما له بمطالبتهما له بغير حقّ لهما عنده. ثمّ نكث بيعته. ثمّ جمع الناس على قتاله.

و قوله: فاحلل. دعاء عليهما بأمور ثلاثة: أن يحلّ ما عقدا من العزوم الفاسدة الّتى فيها هلاك المسلمين، و أن لا يحكم ما أبرماه من الإغراء في حربه، و أن يريهما المسئاة في آمالهما و أعمالهما: أي عكس أغراضهما فيهما. و استجابة دعاءه ظاهرة بقتلهما.

و قوله: و لقد استثبتّهما. إلى قوله: الوقاع. إظهار لعذره مع الناس في حقّهما قبل وقاع الحرب بتأنّيه فيه في حقّهما، و استعطافه لهما في الرجوع إلى الحقّ و استتابته لهما من ذنبهما في نكث البيعة.

و قوله: فغمطا. إلى آخره. بيان لجوابهم عن إعذاره إليهم و هو مقابلتهم نعمة اللّه: أي قسمهما من الفى‏ء بالاحتقار لها و النظر عليها. إذ كان أحد الأسباب الباعثة لهما على منافرته هو التسوية بينهم و بين غيرهم في العطاء، و كذلك مقابلتهم للسلامة و العافية من بلاء الحرب و الشقاق و هلاك الدين و النفس في عاقبة فعلهما بردّهما لهما و الإصرار على الحرب و المنابذة من غير نظر في عاقبة أمرها. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 166

 

خطبه 135شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام

لَمْ تَكُنْ بَيْعَتُكُمْ إِيَّايَ فَلْتَةً- وَ لَيْسَ أَمْرِي وَ أَمْرُكُمْ وَاحِداً- إِنِّي أُرِيدُكُمْ لِلَّهِ وَ أَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لِأَنْفُسِكُمْ- أَيُّهَا النَّاسُ أَعِينُونِي عَلَى أَنْفُسِكُمْ- وَ ايْمُ اللَّهِ لَأُنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ مِنْ ظَالِمِهِ وَ لَأَقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخِزَامَتِهِ- حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ الْحَقِّ وَ إِنْ كَانَ كَارِهاً

اللغة
أقول: الفلتة: الأمر يقع بغير تدبّر و لا رويّة. و الحزامة: الحلقة من الشعر يجعل في أنف البعير.

المعنى
و مفهوم قوله: لم تكن بيعتكم إيّاى فلتة. أنّها لمّا كانت عن تدبّر و اجتماع رأى منكم لم يكن لأحدكم بعدها أن يخالف أو يندم عليها، و فيه تعريض ببيعة أبى بكر حيث قال عمر فيها: كانت بيعة أبى بكر فلتة وقى اللّه شرّها. و قوله: و ليس أمرى و أمركم واحدا. إشارة إلى الاختلاف بين حركاته و مقاصدهم. ثمّ بيّن الفرق بقوله: إنّى اريدكم للّه: أى إنّما اريد طاعتكم لإقامة دين اللّه، و إقامة حدوده، و أنتم تريدونني‏ لأنفسكم: أى لحظوظ أنفسكم من العطاء و التقريب و ساير منافع الدنيا. ثمّ لمّا وبّخهم بذلك أيّه بهم، و طلب منهم الإعانة على أنفسهم: أى بالطاعة له و امتثال أوامره. فأقسم لينصفنّ المظلوم و ليقودنّ الظالم بخزامته، و كذلك استعار لفظ المنهل للحقّ. و وجه الاستعار كونه موردا يشفى به ألم المظلوم كما يشفى به ألم العطشان.
و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 165

 

خطبه 134شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام

قد وقعت مشاجرة بينه و بين عثمان فقال المغيرة ابن أخنس لعثمان: أنا أكفيكه. فقال أمير المؤمنين عليه السّلام:

يَا ابْنَ اللَّعِينِ الْأَبْتَرِ- وَ الشَّجَرَةِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا وَ لَا فَرْعَ- أَنْتَ تَكْفِينِي- فَوَ اللَّهِ مَا أَعَزَّ اللَّهُ مَنْ أَنْتَ نَاصِرُهُ- وَ لَا قَامَ مَنْ أَنْتَ مُنْهِضُهُ- اخْرُجْ عَنَّا أَبْعَدَ اللَّهُ نَوَاكَ ثُمَّ ابْلُغْ جَهْدَكَ- فَلَا أَبْقَى اللَّهُ عَلَيْكَ إِنْ أَبْقَيْتَ

أقول: هذه المشاجرة كانت في زمن ثوران الفتنة على عثمان في خلافته، و كان الناس يستسفرونه عليه السّلام إليه.

اللغة
و الأبتر: كلّ أمر انقطع من الخير أثره. و النوى: المقصد الّذي ينويه المسافر من قرب أو بعد. و النوى: لغة في النأى: و هو البعد.

المعنى
و قد ذمّ المغيرة بسقوط الأصل، و لعنه. و استعار لبيته لفظ الشجرة، و كنّى بنفى أصلها و فرعها عن سقوط بيته و دناءته و حقارته في الناس. ثمّ استفهمه عمّا ادّعى من الكفاية له استفهاما على سبيل الإنكار و الاستحقار له، و أقسم أنّ اللّه لا يعزّ من هو ناصره، و إنّما يعزّ اللّه من نصره أولياء اللّه و أهل عنايته، و من لم يعزّ اللّه لم يقم من نهضته كقوله تعالى «إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ»«». ثمّ دعا عليه بإبعاد اللّه مقصده. و قوله: أبلغ جهدك. أى في الأذى فلا أبقى اللّه عليك إن أبقيت، أى لارعاك و لا رحمك إن راعيتنى.
يقال: أبقيت على فلان إذا راعيته و رحميته.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 164

 

خطبه 133شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام و قد شاوره عمر بن الخطاب في الخروج إلى غزو الروم بنفسه

وَ قَدْ تَوَكَّلَ اللَّهُ- لِأَهْلِ هَذَا الدِّينِ بِإِعْزَازِ الْحَوْزَةِ- وَ سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَ الَّذِي نَصَرَهُمْ- وَ هُمْ قَلِيلٌ لَا يَنْتَصِرُونَ- وَ مَنَعَهُمْ وَ هُمْ قَلِيلٌ لَا يَمْتَنِعُونَ- حَيٌّ لَا يَمُوتُ- إِنَّكَ مَتَى تَسِرْ إِلَى هَذَا الْعَدُوِّ بِنَفْسِكَ- فَتَلْقَهُمْ فَتُنْكَبْ- لَا تَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ‏ كَانِفَةٌ دُونَ أَقْصَى بِلَادِهِمْ- لَيْسَ بَعْدَكَ مَرْجِعٌ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ- فَابْعَثْ إِلَيْهِمْ رَجُلًا مِحْرَباً- وَ احْفِزْ مَعَهُ أَهْلَ الْبَلَاءِ وَ النَّصِيحَةِ- فَإِنْ أَظْهَرَ اللَّهُ فَذَاكَ مَا تُحِبُّ- وَ إِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى- كُنْتَ رِدْءاً لِلنَّاسِ وَ مَثَابَةً لِلْمُسْلِمِينَ

أقول: ذلك حين خرج قيصر الروم في جماهير أهلها إلى المسلمين، و انزوى خالد بن الوليد فلازم بيته و صعب الأمر على أبى عبيدة بن الجرّاح. و شرحبيل بن حسنة و غيرهما من امراء سرايا الإسلام.

اللغة

و حوزة كلّ شي‏ء: بيضته و جمعيّته. و كنفه: حفظه و آواه. و المحرب بكسر الميم: الرجل صاحب حروب. و حفز كذا: أى دفعه. و حفزه ضمّه إلى غيره. و أظهر اللّه على فلان: نصر عليه. و الرده: العون. و المثابة: المرجع.

المعنى

و قوله: و قد توكّل اللّه. إلى قوله: لا يموت. صدر لهذه النصيحة و الرأى، نبّه فيه على وجوه التوكّل على اللّه و الاستناد إليه في هذا الأمر، و خلاصتها أنّه ضمن إقامة هذا الدين و إعزاز حوزة أهله، و كنّى بالعورة عن هتك الستر في النساء، و يحتمل أن يكون استعارة لما يظهر عليهم من الذلّ و القهر لو اصيبوا فضمن سبحانه ستر ذلك بإفاضة النصر عليهم، و هذا الحكم من قوله تعالى «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى‏ لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً»«».

و قوله: و الّذى نصرهم. إلى آخر الصدر. احتجاج في هذه الخطابة يشبه أن يكون تمثيلا، و تلخيصه أنّ الّذي نصرهم حال قلّتهم حىّ لا يموت فهو ينصرهم حال كثرتهم. فأصل التمثيل هو حال قلّتهم و فرعه حال كثرتهم، و حكمه النصر و علّة ذلك الحكم هو حياته الباقية الّتي لا يعاقبها موت.

و قوله: إنّك متى تسر. إلى آخره. نفس الرأى و خلاصة المشورة بعدم خروجه بنفسه، و وجه هذا الرأى تجويز النكبة و انقهاره عند ملاقات العدوّ مع أنّه يومئذ ظهر المسلمين الّذين يلجؤن إليه. فلو انكسر لم تبق لهم كانفة قوام يحوطهم، و لا جمع يستندون إليه. ثمّ بإخراج من يقوم مقامه من أهل النجدة ممّن عرف بكثرة الوقايع و الحروب فيكون على بصيرة في أمر الحرب، و أن يضمّ إليه أهل البلاء: أى المختبرون في النصيحة و المجرّبون في الوقائع. ثمّ استنتج من هذا الرأى أنّه إن نصر اللّه المسلمين فذاك الّذي تحبّ، و إن تكن الاخرى: أى الانكسار و عدم الانتصار كان للمسلمين ظهر يستندون إليه و مأمن يأوون إليه.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 162

 

خطبه 131شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام

القسم الأول

نَحْمَدُهُ عَلَى مَا أَخَذَ وَ أَعْطَى- وَ عَلَى مَا أَبْلَى وَ ابْتَلَى- الْبَاطِنُ لِكُلِّ خَفِيَّةٍ- وَ الْحَاضِرُ لِكُلِّ سَرِيرَةٍ- الْعَالِمُ بِمَا تُكِنُّ الصُّدُورُ- وَ مَا تَخُونُ الْعُيُونُ- وَ نَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ- وَ أَنَّ مُحَمَّداً ص نَجِيبُهُ وَ بَعِيثُهُ- شَهَادَةً يُوَافِقُ فِيهَا السِّرُّ الْإِعْلَانَ وَ الْقَلْبُ اللِّسَانَ

المعنى

أقول: الضمير في قوله: نحمده. يعود إلى اسم اللّه في كلام سابق لم يذكر، و قد علّم شكر اللّه تعالى على أخذه و إعطائه و على إبلائه بالخير و ابتلائه بالشرّ،و نبّه بذلك على وجوب شكر اللّه تعالى في طوارى السرّاء و الضرّاء و حالتى الشدّة و الرخاء، فأمّا وصفه له بالباطن و الحاضر و العالم فقد سبق شرحه غير مرّة و مصداق الوصفين الأوّلين قوله تعالى «يَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفى‏»«»، و مصداق الأخيرين قوله تعالى «يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَ ما تُخْفِي الصُّدُورُ»«» و كذلك سبقت الإشارة إلى سرّ الشهادتين. و نجيبه و بعيثه: منتخبه و مبعوثه. فعيل بمعنى مفعول. و قوله: شهادة يوافق فيها. إلى آخره. أى شهادة خالصة من النفاق و الرياء. و باللّه التوفيق.

القسم الثاني منه:

فَإِنَّهُ وَ اللَّهِ الْجِدُّ لَا اللَّعِبُ- وَ الْحَقُّ لَا الْكَذِبُ- وَ مَا هُوَ إِلَّا الْمَوْتُ قَدْ أَسْمَعَ دَاعِيهِ- وَ أَعْجَلَ حَادِيهِ- فَلَا يَغُرَّنَّكَ سَوَادُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِكَ- فَقَدْ رَأَيْتَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ- مِمَّنْ جَمَعَ الْمَالَ وَ حَذِرَ الْإِقْلَالَ- وَ أَمِنَ الْعَوَاقِبَ طُولَ أَمَلٍ وَ اسْتِبْعَادَ أَجَلٍ- كَيْفَ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ فَأَزْعَجَهُ عَنْ وَطَنِهِ- وَ أَخَذَهُ مِنْ مَأْمَنِهِ- مَحْمُولًا عَلَى أَعْوَادِ الْمَنَايَا- يَتَعَاطَى بِهِ الرِّجَالُ الرِّجَالَ- حَمْلًا عَلَى الْمَنَاكِبِ- وَ إِمْسَاكاً بِالْأَنَامِلِ- أَ مَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَأْمُلُونَ بَعِيداً- وَ يَبْنُونَ مَشِيداً وَ يَجْمَعُونَ كَثِيراً- كَيْفَ أَصْبَحَتْ بُيُوتُهُمْ قُبُوراً- وَ مَا جَمَعُوا بُوراً- وَ صَارَتْ أَمْوَالُهُمْ لِلْوَارِثِينَ- وَ أَزْوَاجُهُمْ لِقَوْمٍ آخَرِينَ- لَا فِي حَسَنَةٍ يَزِيدُونَ- وَ لَا مِنْ سَيِّئَةٍ يَسْتَعْتِبُونَ- فَمَنْ أَشْعَرَ التَّقْوَى قَلْبَهُ بَرَّزَ مَهَلُهُ- وَ فَازَ عَمَلُهُ‏ فَاهْتَبِلُوا هَبَلَهَا- وَ اعْمَلُوا لِلْجَنَّةِ عَمَلَهَا- فَإِنَّ الدُّنْيَا لَمْ تُخْلَقْ لَكُمْ دَارَ مُقَامٍ- بَلْ خُلِقَتْ لَكُمْ مَجَازاً- لِتَزَوَّدُوا مِنْهَا الْأَعْمَالَ إِلَى دَارِ الْقَرَارِ- فَكُونُوا مِنْهَا عَلَى أَوْفَازٍ- وَ قَرِّبُوا الظُّهُورَ لِلزِّيَالِ

 

اللغة

أقول: المشيد: المعلّى. و الاهتبال في الأمر: السعى في إحكامه، و هبلها مصدر مضاف إلى ضمير التقوى مؤكّد للفعل: أى احكموها إحكاما. و الأوفاز: جمع وفزة و هى العجلة،

المعنى

و الضمير في قوله: فإنّه. إمّا أن يرجع إلى مذكور سابق أو إلى معنى كلامه و هو التحذير و الإنذار، و كذلك الّذى في قوله: و ما هو إلّا الموت. يحتمل أن يعود إلى ملفوظ به سابق و يحتمل أن يعود إلى المعنىّ بالتحذير منه و الإنذار به: أى و ما الّذى احذّركم هجومه عليكم إلّا الموت، و أسمع و أعجل محلّهما النصب على الحال من معنى الإشارة.

و قوله: فلا يغرّنّك إلى قوله: و أمن العواقب. أى فلا يغرّنّك من نفسك الأمّارة بالسوء و سوستها و استغفالها لك عن ملاحظة الموت برؤية سواد الناس: أى كثرتهم. إذ كثيرا ما يرى الإنسان الميّت محمولا فيتداركه من ذلك رقّة و روعة. ثمّ يعاوده الوسواس الخنّاس و يأمره باعتبار كثرة المشيّعين له من الناس و أن يجعل نفسه من الأحياء الكثيرين بملاحظة شبابه و صحّته و يأمره باعتبار أسباب موت ذلك الميّت من القتل و سائر الأمراض و باعتبار زوال تلك الأسباب في حقّ نفسه، و بالجملة فيبعّد في اعتباره الموت بكلّ حيلة. فنهى السامعين عن الانخداع للنفس بهذه الخديعة، و أسند الغرور إلى سواد الناس لأنّه مادّته. ثمّ نبّههم بقوله: و قد رأيت. إلى قوله: يستعتبون. على كذب تلك الخديعة مشاهدة، و الواو في قوله: و قد. واو الحال، و من في قوله: من جمع. بدل البعض من الكلّ من قوله: من كان قبلك. و المعنى أنّه كما نزل بأولئك الموت و أزعجهم عن أوطانهم فكذلك أنتم.

و قوله: طول أمل. نصب على المفعول له.
أى فعلوا ذلك لأجل طول الأمل، و يحتمل أن يكون مصدرا سدّ مسدّ الحال، و يحتمل أن يكون ظرفا و العامل أمن، و قيل: هو بدل من قوله: من كان قبلك: أى رأيت طول أمل من كان قبلك، و يروى بطول أمل. و أعواد المنايا: النعوش، و يتعاطى به الرجال الرجال: أى يسلّمه الحاملون له بعضهم إلى بعض، و الخطاب بالكاف لنوع المخاطب أو لشخص على طريقة قولهم: إيّاك أعنى و اسمعى يا جارة.

و قوله: أما رأيتم استفهام على سبيل التقرير، و إنّما كانوا لا يستطيعون زيادة في حسنة و لا استعتابا من سيّئة لأنّ محلّ الأعمال هى الدنيا دون ما بعدها. و قوله: فمن أشعر التقوى قلبه. أى من اتّقى تقوى حقيقة برزت تؤدته: أى ظهرت عليه آثار الرحمة الإلهيّة في السكينة و الوقار و الحلم و الأناة عن التسرّع إلى مطالب الدنيا، و علمت راحته في الآخرة، و فاز عمله فيها بالجزاء الأوفى. ثمّ أمرهم بإحكام التقوى: أى أن تتّقوا اللّه تقوى حقيقيّة فإنّها الّتى يستحقّ بها الثواب الدائم، و أن يعملوا للجنّة عملها الّتى تستحقّ به. ثمّ نبّههم على وجوب العمل للجنّة بالتصريح بما لأجله خلقت الدنيا، و أنّها لم تخلق دار إقامة بل طريقا يعبر بها إلى الآخرة كما يعبر المسافرون، و يتزوّد منها الأعمال الصالحة الموصلة إلى الجنّة، و أمرهم أن يكونوا فيها على سرعة في قطع عقباتها و عجل في الارتحال عنها لأنّ التأنّي فيها يستلزم الالتفات إلى لذّاتها و الغفلة عن المقصد الحقّ، و استعار لفظ الظهور و هى الركوب لمطايا الآخرة و هي الأعمال الصالحة، و تقريبها للزيال هو العناية الإلهيّة بالأعمال المقرّبة إلى الآخرة المستلزمة للبعد عن الدنيا و الإعراض عنها و مفارقتها.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 150

خطبه 130شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام

أَيَّتُهَا النُّفُوسُ الْمُخْتَلِفَةُ وَ الْقُلُوبُ الْمُتَشَتِّتَةُ- الشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ وَ الْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ- أَظْأَرُكُمْ عَلَى الْحَقِّ- وَ أَنْتُمْ تَنْفِرُونَ عَنْهُ نُفُورَ الْمِعْزَى مِنْ وَعْوَعَةِ الْأَسَدِ- هَيْهَاتَ أَنْ أَطْلَعَ بِكُمْ سَرَارَ الْعَدْلِ- أَوْ أُقِيمَ اعْوِجَاجَ الْحَقِّ- اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ- أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَانٍ- وَ لَا الْتِمَاسَ شَيْ‏ءٍ مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ- وَ لَكِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ- وَ نُظْهِرَ الْإِصْلَاحَ فِي بِلَادِكَ- فَيَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ- وَ تُقَامَ الْمُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ- اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَنَابَ- وَ سَمِعَ وَ أَجَابَ- لَمْ يَسْبِقْنِي إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ ص بِالصَّلَاةِ- وَ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَالِي عَلَى الْفُرُوجِ- وَ الدِّمَاءِ وَ الْمَغَانِمِ‏ وَ الْأَحْكَامِ- وَ إِمَامَةِ الْمُسْلِمِينَ الْبَخِيلُ- فَتَكُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ نَهْمَتُهُ- وَ لَا الْجَاهِلُ فَيُضِلَّهُمْ بِجَهْلِهِ- وَ لَا الْجَافِي فَيَقْطَعَهُمْ بِجَفَائِهِ- وَ لَا الْحَائِفُ لِلدُّوَلِ فَيَتَّخِذَ قَوْماً دُونَ قَوْمٍ- وَ لَا الْمُرْتَشِي فِي الْحُكْمِ- فَيَذْهَبَ بِالْحُقُوقِ- وَ يَقِفَ بِهَا دُونَ الْمَقَاطِعِ- وَ لَا الْمُعَطِّلُ لِلسُّنَّةِ فَيُهْلِكَ الْأُمَّةَ

اللغة

أقول: أظأركم: أعطفكم. و وعوعة الأسد: صوته. و سرار العدل: ما خفى منه، و النهمة: الحرص على الدنيا.

المعنى

و قد أيّه بالنفوس بصفة الاختلاف: أي اختلاف الأهواء و القلوب المتشتّتة: أى المتفرّقة عن مصالحها و ما خلقت لأجله. و أراد بغيبة عقولهم ذهولها عن رشدها، و إصابة وجه الحقّ بانصرافها عن دعائه إلى ما ينبغي، و شبّه نفارهم بنفور المعزى من صوت الأسد، و وجه التشبيه شدّة نفارهم عن الحقّ، ثمّ استبعد إظهاره للعدل و إقامة الدين بمثلهم على ما هم عليهم من قلّة طاعته. ثمّ عقّب ذلك باستشهاد اللّه سبحانه على أنّ قصده بمنافسته في أمر الخلافة لم يكن في سلطان و لا لفضل حطام دنيويّ، و لكن للغاية الّتى ذكرها من ردّ معالم الدين و هى الآثار الّتى يهتدى بها و كذا سائر ما عدّده من المصالح. ثمّ تلا ذلك الاستشهاد باستشهاده على أنّه أوّل من أناب. أي رجع إلى اللّه تعالى عمّا لعلّه كان يعدّ في حقّه ذنبا، و سمع: أى أطاع اللّه و أجاب: أي داعى اللّه. ثمّ استثنى سبق الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى الدين بالصلاة و ذلك أمر معلوم من حاله، و إنّما يقول خصمه: إنّه حين تبع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان طفلا لا اعتداد بإسلامه. و سنذكر ذلك في موضعه من الخطبة المسمّاة بالقاصعة، و غرضه من هذا الاستشهاد مع ما بعده من الإشارة إلى الرذائل الّتى ينبغي أن يكون الإمام منزّها عنها تقرير فضيلته، و نبّه على أنّ فيه من الفضائل ما يقابل تلك الرذائل بتعديدها و نفيها عن الإمام الوالى لامور المسلمين، و الإشارة إلى وجوه المقاصد اللازمة عنها، و تذكيرهم بما علموه من ذلك بقوله. و قد علمتم. إلى آخره:

أمّا البخيل فلشدّة حرصه على ما في أيدى الناس من الرعيّة و قد عرفت ما يستلزمه من نفارهم عنه و عدم انتظام الأحوال به، و أمّا الجاهل فلأنّه لجهله بقوانين الدين و تدبير امور العالم ضالّ و ضلاله يستلزم ضلال من اقتدى به و ذلك ضدّ مقصود الشارع، و أمّا الجافي فلأنّ جفاءه يستلزم النفرة و الانقطاع عنه و ذلك ضدّ الالفة و الاجتماع المطلوب للشارع، و أمّا الخائف من الدول فيخصّص بعنايته من يخافه دون غيره و ذلك ظلم لا ينتظم معه نظام العالم، و أمّا المرتشى في الحكم فلظلمه و ذهابه بالحقوق و الوقوف فيها على الحيف دون المقاطع الحقّة. فترى أحد هؤلاء إذا أراد فصل قضيّة دافع بها طويلا و صعّب الحقّ و عرّض بغموضه و أشار بالصلح بين الخصمين مع ظهور الحقّ لأحدهما و كانت غايته من ذلك تخويف صاحب الحقّ من فواته ليجنح إلى الاصلاح [الصلح. خ‏] و الرضى ببعض حقّه مع أنّه قد يأخذ منه رشوة أيضا، و ربّما كانت في المقدار كرشوة المبطل منهما. و لهم في ذلك حيل يعرفها من عاناهم. و اللّه المستعان على ما يصفون، و أمّا المعطّل للسنّة فلتضييعه قوانين الشريعة و إهمالها المستلزم لفساد النظام في الدنيا و الهلاك الدائم في الاخرى. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 148

 

خطبه 129شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام لأبى ذر رحمه اللّه لما اخرج إلى الربذة

يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ غَضِبْتَ لِلَّهِ فَارْجُ مَنْ غَضِبْتَ لَهُ- إِنَّ الْقَوْمَ خَافُوكَ عَلَى دُنْيَاهُمْ وَ خِفْتَهُمْ عَلَى دِينِكَ- فَاتْرُكْ فِي أَيْدِيهِمْ مَا خَافُوكَ عَلَيْهِ- وَ اهْرُبْ بِمَا خِفْتَهُمْ عَلَيْهِ- فَمَا أَحْوَجَهُمْ إِلَى مَا مَنَعْتَهُمْ- و مَا أَغْنَاكَ عَمَّا مَنَعُوكَ- وَ سَتَعْلَمُ مَنِ الرَّابِحُ غَداً وَ الْأَكْثَرُ حُسَّداً- وَ لَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرَضِينَ كَانَتَا عَلَى عَبْدٍ رَتْقاً- ثُمَّ اتَّقَى اللَّهَ لَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْهُمَا مَخْرَجاً- لَا يُؤْنِسَنَّكَ إِلَّا الْحَقُّ- وَ لَا يُوحِشَنَّكَ إِلَّا الْبَاطِلُ- فَلَوْ قَبِلْتَ دُنْيَاهُمْ لَأَحَبُّوكَ- وَ لَوْ قَرَضْتَ مِنْهَا لَأَمَّنُوكَ

المعنى

أقول: أبوذرّ: اسمه جندب بن جنادة، و هو من بنى غفار قبيلة من كنانه، و أسلم بمكّة و لم يشهد بدرا و لا الخندق لأنّه حين أسلم رجع إلى بلاد قومه فأقام حتّى مضت [قامت خ‏] هذه المشاهد. ثمّ قدم المدينة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كانّ يتولّى عليّا و أهل بيته، و هو الّذي قال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حقّه: ما أقلّت الغبراء و لا أظلّت الخضراء على ذى لهجة أصدق من أبى ذرّ، و روى ابن المعمّر عنه قال: رأيت أباذرّ آخذا بحلقة باب الكعبة و هو يقول: أنا أبوذرّ الغفارىّ فمن لم يعرفني فأنا جندب صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم يقول: مثل أهل بيتى كمثل سفينة نوح من ركبها نجى و من تخلّف عنها غرق. و كان قد أخرجه عثمان إلى الربذة، و هى موضع قريب إلى المدينة. و اختلف في سبب إخراجه فروى عن زيد بن وهب أنّه قال: قلت لأبى ذرّ- رحمة اللّه عليه- و هو بالربذة: ما أنزلك هذا المنزل قال: اخبرك أنّى كنت بالشام في أيّام معاوية فذكرت قوله تعالى «وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ» الاية«» فقال معاوية هذه نزلت في أهل‏ الكتاب. قلت: بل فينا و فيهم. فكتب معاوية إلى عثمان يشكومنّى في ذلك فكتب إلىّ أن أقدم علىّ فقدمت عليه فامثال الناس علىّ كأنّهم لم يعرفوني فشكوت ذلك إلى عثمان فخيّرنى فقال: أنزل حيث شئت فنزلت الربذة. و هذا قول من نزّه عثمان عن ظلم أبى ذرّ و نفيه. إذ كان خروجه إلى الربذة باختياره، و قيل: بل كان يغلّظ القول في إنكار ما يراه منكرا و في حقّ عثمان، و يقول: لم تبق أصحاب محمّد على ما عهد. و ينفرّ بهذا القول و أمثاله عنه. فأخرجه لذلك، و خطابه عليه السّلام لأبى ذرّ أليق بالقول الثاني.

فقوله: إنّك عضبت للّه. شهادة له أنّ إنكاره لما ينكره إنّما يقصد به وجه اللّه تعالى. و قوله: إنّ القوم خافوك على دنياهم. أى على أمر الخلافة بالتنفير عنهم، و خفتهم على دينك باجتناب موافقتهم و أخذ عطائهم على غير السنّة. و قوله: فاترك. إلى قوله: منعوك. أى اترك لهم دنياهم و انج بدينك فما أحوجهم إلى دينك و أغناك عن دنياهم. و قوله: ستعلم من الرابح غدا و الأكثر حسّدا. أشار به إلى يوم القيامة، و ظاهر كون تارك الدنيا أربح من المقبل عليها. و أكثريّة الحسّد من لواحق أكثريّة الربح. و قوله: و لو أنّ السماوات. إلى قوله: مخرجا. بشارة له بخلاصه ممّا هو فيه من ضيق الحال بسبب الإخراج، و شرط في ذلك تقوى اللّه إشارةً إلى قوله تعالى «وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً»«» قال ابن عبّاس قرء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من يتّق اللّه يجعل له مخرجا، قال: من شبهات الدنيا، و من غمرات الموت و شدائد يوم القيامة. و ظاهر كون التقوى عند استشعارها سببا قاطعا لطمع المتّقى من الدنيا و قيناتها، و هو مستلزم لراجيه من مجاذبة النفس الأمّارة بالسوء عن الوقوع في شبهات الدنيا، و هى في استلزام الخلاص من غمرات الموت و شدائد يوم القيامة أظهر، و كنّى عليه السّلام بالغاية المذكورة و هي رتق السماوات و الأرض على العبد عن غاية الشدّة مبالغة ليتبيّن فضل التقوى، ثمّ أمره بالاستيناس بالحقّ وحده، و الاستيحاش من الباطل وحده. و أكّد الحصر في الموضعين بقوله: وحده. تنفيرا عن أن يستوحش من حقّ ما فيترك و ينفر عنه و إن صعب و شقّ على النفس، أو يستأنس بباطل ما فيفعل أو يسكت عليه و إن لذّ لها. و نبّه على علّة بغضهم و إخافتهم له و هو عدم مشاركتهم في دنياهم و الانفراد بالإنكار و غلظة القول عليهم، و كنّى بالقرض من الدنيا عن الأخذ. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 145

 

خطبه 128شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام في ذكر المكائيل و الموازين.

عِبَادَ اللَّهِ إِنَّكُمْ وَ مَا تَأْمُلُونَ- مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا أَثْوِيَاءُ مُؤَجَّلُونَ- وَ مَدِينُونَ مُقْتَضَوْنَ أَجَلٌ مَنْقُوصٌ- وَ عَمَلٌ مَحْفُوظٌ- فَرُبَّ دَائِبٍ مُضَيَّعٌ وَ رُبَّ كَادِحٍ خَاسِرٌ- وَ قَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي زَمَنٍ لَا يَزْدَادُ الْخَيْرُ فِيهِ إِلَّا إِدْبَاراً- وَ الشَّرُّ فِيهِ إِلَّا إِقْبَالًا- وَ الشَّيْطَانُ فِي هَلَاكِ النَّاسِ إِلَّا طَمَعاً- فَهَذَا أَوَانٌ قَوِيَتْ عُدَّتُهُ- وَ عَمَّتْ مَكِيدَتُهُ وَ أَمْكَنَتْ فَرِيسَتُهُ- اضْرِبْ بِطَرْفِكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ النَّاسِ- فَهَلْ تُبْصِرُ إِلَّا فَقِيراً يُكَابِدُ فَقْراً- أَوْ غَنِيّاً بَدَّلَ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً- أَوْ بَخِيلًا اتَّخَذَ الْبُخْلَ بِحَقِّ اللَّهِ وَفْراً- أَوْ مُتَمَرِّداً كَأَنَّ بِأُذُنِهِ عَنْ سَمْعِ الْمَوَاعِظِ وَقْراً- أَيْنَ أَخْيَارُكُمْ وَ صُلَحَاؤُكُمْ- وَ أَيْنَ أَحْرَارُكُمْ وَ سُمَحَاؤُكُمْ- وَ أَيْنَ الْمُتَوَرِّعُونَ فِي مَكَاسِبِهِمْ- وَ الْمُتَنَزِّهُونَ فِي مَذَاهِبِهِمْ- أَ لَيْسَ قَدْ ظَعَنُوا جَمِيعاً- عَنْ هَذِهِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ- وَ الْعَاجِلَةِ الْمُنَغِّصَةِ- وَ هَلْ خُلِقْتُمْ إِلَّا فِي حُثَالَةٍ- لَا تَلْتَقِي بِذَمِّهِمُ الشَّفَتَانِ- اسْتِصْغَاراً لِقَدْرِهِمْ وَ ذَهَاباً عَنْ ذِكْرِهِمْ- فَ إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ- ظَهَرَ الْفَسَادُ فَلَا مُنْكِرٌ مُغَيِّرٌ- وَ لَا زَاجِرٌ مُزْدَجِرٌ- أَ فَبِهَذَا تُرِيدُونَ أَنْ تُجَاوِرُوا اللَّهَ فِي دَارِ قُدْسِهِ- وَ تَكُونُوا أَعَزَّ أَوْلِيَائِهِ عِنْدَهُ- هَيْهَاتَ لَا يُخْدَعُ اللَّهُ عَنْ جَنَّتِهِ- وَ لَا تُنَالُ مَرْضَاتُهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ- لَعَنَ اللَّهُ الْآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ التَّارِكِينَ لَهُ- وَ النَّاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ الْعَامِلِينَ بِهِ

اللغة

أقول: أثوياء: جمع ثوىّ على فعيل و هو الضيف. و الدائب: المجدّ في العمل.
و الكدح: العمل. و الوقر: الصمم. و الحثالة: الثقل، و كأنّه الرديّ من كلّ شي‏ء.

المعنى

و قد نفّر عليه السّلام عن الدنيا بذكر عدّة من معايبها:

أحدها: كونهم فيها ضيفانا
و استعار لهم لفظ الضيف و كذلك لما يأملون منها و وجه الاستعارة مشابهتهم للضيف في تأجيل الإقامة و انقطاع وقته و قرب رحيله، و مؤجّلون ترشيح للاستعارة.

الثانية: كونهم مدينون فيها
و استعار لفظ المدين باعتبار وجوب الفرائض المطلوبة منهم و عهد اللّه المأخوذ عليهم أن يرجعوا اليه طاهرين عن نجس الملحدين، و رشّح بذكر المقتضين لما أنّ شأن المدين أن يقتضى فيه الدين. ثمّ لمّا ذكر كونهم مؤجّلين و مدينين كرّر ذكر الأجل بوصف النقصان، و لا شكّ في نقصان ما لا يبقى، و ذكر العمل الّذي خالصه و صالحه هو الدين المقتضى منهم بوصف كونهم محفوظا عليهم ليجذب بنقصان الأجل إلى العمل، و بحفظ العمل إلى إصلاحه و الإخلاص فيه.

و أجل و عمل: خبران حذف مبتدئهما: أى أجلكم أجل منقوص، و عملكم عمل محفوظ. و نبّه بقوله: فربّ دائب مضيّع، و ربّ كادح خاسر: أنّ العمل و إن قصد فيه الصلاح أيضا إلّا أنّه قد يقع على وجه الغلط فيحصل بذلك انحراف عن الدين و ضلال عن الحقّ فيضيّع العمل و يخسر الكدح كدأب الخوارج و نحوهم فربما دخل الكادح في قوله تعالى «هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ‏يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً»«» و ذلك ككدح أهل الكتاب و نحوهم.

و قوله: و قد أصبحتم: إلى قوله: إقبالا. شكاية للزمان و ذمّ له، و هو كقوله: إنّا قد أصبحنا في زمن كنود، و دهر عنود. و ذلك لأخذ الزمان في البعد عن وقت ظهور الشريعة و طراوتها و جرأة الناس على هتك الدين و ارتكاب مناهى اللّه، و كذلك طمع الشيطان في هلاكهم: أى في هلاك دينهم الّذي يكون غايته هلاكهم في الآخرة، و أشار إلى أنّ ذلك الوقت هو أوان قوّة عدّته و عموم مكيدته و إمكان عمله فما ظنّك بزماننا هذا و ما بعده، و استعار لفظ الفريسة لمطاوعى الشيطان و المنفعلين عنه، و وجه الاستعارة بلوغه منهم مراده و تصريفه لهم لغاية هلاكهم كالأسد مع فريسته. و قوله: اضرب بطرفك. إلى قوله: و قرا. شرح لما أجمله أوّلا من ازدياد إقبال الشرّ و إدبار الخير، و كفر الغنىّ تركه و إعراضه عن شكر نعم اللّه سبحانه عليه. و قوله: بحقّ اللّه متعلّق بالبخل.

أى: أنّ البخيل يقصد ببخله بحقّ اللّه على مستحقّه توفير المال و الزيادة فيه. و قوله: أين خياركم: إلى قوله: مذاهبهم. سؤال من باب تجاهل العارف تنبيها لهم على ما صار و إليه من الفناء و فراق الدنيا، و على أنّه لم يبق فيهم من اولى الأعمال الصالحة أحد لعلّهم يرجعون إلى لزوم الأعمال الصالحة، و أراد بالأحرار الكرماء، و المتورّعون في مكاسبهم الملازمون للأعمال الجميلة فيها من التقوى و المسالمة و إخراج حقوق اللّه تعالى، و المتنزّهون في مذاهبهم الممتنعون عن ولوج أبواب المحارم و الشبهات في مسالكهم و حركاتهم.

و قوله: أليس. إلى قوله: المنغّصة. سؤال على سبيل التقرير لما نبّههم عليه من فراق الدنيا و دناءتها بالنسبة إلى عظيم ثواب الآخرة و تنغيصها بالآلام و نحوها حتّى قال بعض الحكماء: إنّ كلّ لذّة في الدنيا فإنّما هى خلاص من ألم. و قوله: و هل خلقتم. إلى قوله: عن ذكرهم. سؤال على سبيل التقرير لما ذكر أيضا، و استعار لفظ الحثالة لرعاع الناس و همجهم. و قوله: لا تلتقى بذمّهم الشفتان. أى إنّهم أحقر من أن يشتغل الإنسان بذمّهم. و انتصب استصغارا و ذهابا على المفعول له، و حسن اقتباس القرآن هاهنا لما أنّ هذه الحال الّتى الناس عليها من فقد خيارهم و بقاء شرارهم مصيبة لحقتهم، و من آداب اللّه للصابرين على نزول المصائب أن يسلّموا أنفسهم و أحوالهم إليه فيقولوا عندها: إنّا للّه و إنّا إليه راجعون كما قال سبحانه «وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ» الآية. ثمّ حكم على سبيل التوجّع و الأسف بظهور الفساد و بنفى المنكر المغيّر للفساد المزدجر عنه تنبيها لهم على أنّهم و إن كان فيهم من ينكر و يزجر إلّا أنّه لا يغيّر ما ينكره و لا يزدجر عن مثله، و ذلك من قبايح الأعمال و الرياء فيها. و قوله: أ فبهذا. أى بأعمالكم هذه المدخولة و بتقصيركم. و مجاورة اللّه: الوصول إليه و المقام معه في جنّته الّتى هى مقام الطهارة عن نجاسات الهيئات البدنيّة و مقام تنزيه ذات اللّه تعالى و طهارتها عن اتّخاذ الشركاء و الأنداد، و هو استفهام على سبيل الإنكار و لذلك عقبّه بقوله: هيهات. إلى آخره، و لمّا كان ذلك يجرى مجرى الزهد الظاهر مع النفاق في الباطن أعنى أعمالهم المدخولة من إنكار المنكر و ارتكابهم نبّههم على أنّ فعلهم كخداع اللّه عن جنّته، و صرّح بأنّ اللّه لا يخدع لعلمه بالسرائر و أنّه لا تنال مرضاته إلّا بطاعته: أى الطاعة الحقيقيّة الخالصة دون الظاهرة. ثمّ ختم بلعن الآمرين بالمعروف مع تركهم للعمل به، و الناهين عن المنكر المرتكبين له لأنّهم منافقون مغرون بذلك لمن يقتدى بهم و النفاق مستلزم اللعن و البعد عن رحمة اللّه. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 142

خطبه 127شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام يؤمى به إلى وصف الأتراك

كَأَنِّي أَرَاهُمْ قَوْماً- كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ- يَلْبَسُونَ السَّرَقَ وَ الدِّيبَاجَ- وَ يَعْتَقِبُونَ الْخَيْلَ الْعِتَاقَ- وَ يَكُونُ هُنَاكَ اسْتِحْرَارُ قَتْلٍ- حَتَّى يَمْشِيَ الْمَجْرُوحُ عَلَى الْمَقْتُولِ- وَ يَكُونَ الْمُفْلِتُ أَقَلَّ مِنَ الْمَأْسُورِ- فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ- لَقَدْ أُعْطِيتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عِلْمَ الْغَيْبِ- فَضَحِكَ ع وَ قَالَ لِلرَّجُلِ وَ كَانَ كَلْبِيّاً يَا أَخَا كَلْبٍ لَيْسَ هُوَ بِعِلْمِ غَيْبٍ- وَ إِنَّمَا هُوَ تَعَلُّمٌ مِنْ ذِي عِلْمٍ- وَ إِنَّمَا عِلْمُ الْغَيْبِ عِلْمُ السَّاعَةِ- وَ مَا عَدَّدَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ- إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ- الْآيَةَ- فَيَعْلَمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَا فِي الْأَرْحَامِ- مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَ قَبِيحٍ أَوْ جَمِيلٍ- وَ سَخِيٍّ أَوْ بَخِيلٍ- وَ شَقِيٍّ أَوْ سَعِيدٍ- وَ مَنْ يَكُونُ فِي النَّارِ حَطَباً- أَوْ فِي الْجِنَانِ لِلنَّبِيِّينَ مُرَافِقاً- فَهَذَا عِلْمُ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ- وَ مَا سِوَى ذَلِكَ فَعِلْمٌ- عَلَّمَهُ اللَّهُ نَبِيَّهُ ص فَعَلَّمَنِيهِ- وَ دَعَا لِي بِأَنْ يَعِيَهُ صَدْرِي- وَ تَضْطَمَّ عَلَيْهِ جَوَانِحِي

اللغة

أقول: المجانّ بالفتح: جمع مجنّ بكسر الميم و هو الترس. و المطرقة بفتح الراء و التخفيف: الّتى تطبق و تخصف كطبقات النعل. يقال: أطرقت بالجلد إذا ألبست. و السرق بفتح السين و الراء: شقق الحرير واحدتها سرقة. قال أبو عبيدة: هى البيض منها، و هو فارسىّ معرّب أصله سره: أى جيّد كالاستبرق الغليظ من الديباج. و يعتقبون الخيل: يحتبسونها و يرتبطونها. و استحرّ القتل و حرّ: أى اشتدّ.

المعنى

و اعلم أنّه عليه السّلام من عادته إذا أراد الإخبار عن أمر سيكون فإنّه يصدّره بقوله: كأنّى كما سبق من إخباره عليه السّلام عن الكوفة كأنّى بك يا كوفه، و كقوله:

كأنّى به و قد نعق بالشام. و وجه ذلك أنّ مشاهدته بعين بصيرته لمّا افيض على نفسه القدسيّة من أنوار الغيب على سبيل الإلهام بواسطة الاستاد المرشد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تشبّه المشاهدة بعين البصر في الجلاء و الظهور الخالى عن الشكّ فلذلك حسن حرف التشبيه صدرا، و ضماير الجمع في الفصل تعود إلى الأتراك، و شبّه وجوههم بالتروس المطبقة، و وجه الشبه في تشبيهها بالتروس الاستداره و العظم و الانبساط، و في كونها مطرقة الخشونة و الغلظة و هو تشبيه للمحسوس بالمحسوس، و أمّا وصفه لهم بمراعاة لبس السرق و الديباج، و اعتقاب الخيل فاعتبار أحوال الترك تشهد بصدقه، و أمّا إخباره عن استحرار القتل إلى الغاية المذكورة حين ظهورهم فممّا يشهد بصدقه التواريخ بالوقايع المشهورة بينهم و بين العرب و غيرهم من المسلمين في أيّام عبد اللّه بن الزبير، و في أيّام قتيبة بن مسلم، و يكفى في صدق ذلك إلى الغاية المذكورة ما شهدناه من وقايع التتار مع المسلمين و قتلهم إيّاهم بالعراقين و خراسان و غيرها من البلاد فأمّا جوابه عليه السّلام للكلبىّ إنّ ذلك ليس بعلم غيب، و إنّما هو تعلّم من ذى علم، و تعديده للمعلومات بعلم الغيب الّذي لا يعلمها إلّا اللّه سبحانه فحقّ و صدق، و قد نبّهنا على الفرق بين علم الغيب و الإخبار عن المغيبات في المقدّمات لكن ينبغي أن يعلم أنّ التعلّم الحاصل له من قبل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم ليس على سبيل أنّ كلّ ما القى إليه صور جزئيّة و وقايع جزئيّة بل معناه هو إعداد نفسه القدسيّة على طول الصحبة من حيث كان طفلا إلى أن توفّى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لهذه العلوم بالرياضة التامّة، و تعليم كيفيّة السلوك و أسباب تطويع النفس الأمّارة بالسوء للنفس المطمئنّة حتّى استعدّت نفسه الشريفة للانتقاش بالامور الغيبيّة، و انتقشت فيها الصور الكلّيّة فأمكنه الإخبار عنها و بها، و لذلك قال: و دعا لى بأن يعيه صدرى و تضطمّ عليه جوانحى: أى يضبطه قلبى و يشتمل عليه، و كنّى بالجوانح عن القلب لاشتمالها عليه و لو كانت تلك العلوم صورا جزئيّة لم يحتج إلى مثل هذا الدعاء فإنّ فهم الصور الجزئيّة و ضبطها و الإخبار عنها ممكن لكلّ الصحابة من العوامّ و غيرهم، و إنّما الصعب المحتاج إلى الدعاء بأن يعيه الصدر و يستعدّ الأذهان لقبوله‏ هو القوانين الكلّيّة، و كيفيّة انشعابها و تفصيلها و أسباب تلك الامور المعدّه لإدراكها حتّى إذا استعدّت النفس بها أمكن أن ينتقش بالصور الجزئيّة من مفيضها كما سبقت الاشارة إليه.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 139

 

خطبه 126شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام فيما يخبر به عن الملاحم بالبصرة

يَا أَحْنَفُ كَأَنِّي بِهِ وَ قَدْ سَارَ بِالْجَيْشِ- الَّذِي لَا يَكُونُ لَهُ غُبَارٌ وَ لَا لَجَبٌ- وَ لَا قَعْقَعَةُ لُجُمٍ وَ لَا حَمْحَمَةُ خَيْلٍ- يُثِيرُونَ الْأَرْضَ بِأَقْدَامِهِمْ- كَأَنَّهَا أَقْدَامُ النَّعَامِ يومئ بذلك إلى صاحب الزنج ثُمَّ قَالَ ع- وَيْلٌ لِسِكَكِكُمُ الْعَامِرَةِ وَ الدُّورِ الْمُزَخْرَفَةِ- الَّتِي لَهَا أَجْنِحَةٌ كَأَجْنِحَةِ النُّسُورِ- وَ خَرَاطِيمُ كَخَرَاطِيمِ الْفِيَلَةِ- مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَا يُنْدَبُ قَتِيلُهُمْ- وَ لَا يُفْقَدُ غَائِبُهُمْ- أَنَا كَابُّ الدُّنْيَا لِوَجْهِهَا- وَ قَادِرُهَا بِقَدْرِهَا وَ نَاظِرُهَا بِعَيْنِهَا

اللغة

أقول: الملحمة: الوقعة العظيمة.

المعنى

و هذا الفصل من خطبة له عليه السّلام بالبصرة بعد وقعة الجمل ذكرنا منها فصولا فيما سبق، و الخطاب مع الأحنف بن قيس لأنّه كان رئيسا ذا عقل و سابقة في قومه، و كان اسمه صخر بن قيس بن معاوية بن حصن بن عباد بن مرّة بن عبيد بن تميم، و قيل: اسمه الضحّاك، و كنيته أبو بحر. و بسببه كان إسلام بنى تميم حين دعاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلم يجيبوا. فقال لهم الأحنف: إنّه يدعوكم إلى مكارم الأخلاق و ينهاكم عن ملاعبها فأسلموا. و أسلم الأحنف و شهد مع علىّ عليه السّلام صفّين و لم يشهد الجمل مع أحد الفريقين، و الضمير في قوله: كأنّى به. لصاحب الزنج و اسمه علىّ بن محمّد علوىّ النسب، و الجيش المشار إليه هم الزنج، و واقعتهم بالبصرة مشهورة و أخبارهم و بيان أحوالهم و تفصيل واقعتهم يشتمل عليها كتاب منفرد في نحو من عشرين كرّاسة فليطلب علمها من هناك، و أمّا وصف ذلك الجيش بالأوصاف المذكورة فلأنّ الزنج لم يكونوا أهل خيل و لا جند من قبل حتّى يكون بالأوصاف المشار إليها، و إثارتهم التراب بأقدامهم كناية عن كونهم حفاة في الأغلب سائرين بالأقدام فهى [من اعتياد الحفاة- خ- ] باعتبار الحفاء و مباشرة الأرض بالخشب و نحوه فكانت مظنّة إثارة التراب عوضا من حوافر الخيل، و وجه شبهها بأقدام النعام أنّ أقدامهم في الأغلب قصارعراض منتشرة الصدور و مفرّقات الأصابع فهي من عرضها لا يتبيّن لها طول فأشبهت أقدام النعام في بعض تلك الأوصاف، ثمّ أخبر بالويل لمحالّ البصرة و دورها المزوّقة من اولئك، و استعار لدورها لفظ الأجنحة، و أراد بها القطانيّات الّتى تعمل من الأخشاب و البوارى بارزة عن السقوف كالوقاية للمشارف و الحيطان عن آثار الأمطار و هى أشبه الاشياء في هيئتها و صورة وضعها بأجنحة كبار الطير كالنسور، و كذلك استعار لفظ خراطيم الفيلة للميازيب الّتى تعمل من الخوص على شكل خرطوم الفيل و تطلى بالقار يكون نحوا من خمسة أزرع أو أزيد تدلى من السطوح حفظا للحيطان من أذى السيل أيضا، و هى أشبه الأشياء في صورتها بخراطيم الفيلة، و أمّا وصفه لهم بأنّه لا يندب قتيلهم و لا يفتقد غايبهم. قال بعض الشارحين: ذلك وصف لهم بشدّة البأس و الحرص على الحرب و القتال و أنّهم لا يبالون بالموت و لا يأسفون على من فقد منهم.

و أقول: و الأشبه أنّ ذلك لكونهم لا اصول لهم و لا أهل لأكثرهم من امّ أو أخت أو غير ذلك ممّن عادته أن ينوح و يندب قتيله و يفتقد غائبه لكون أكثرهم غرباء في البصرة فمن قتل منهم لا يكون له من يندبه و من غاب لا يكون له من يفتقده. و قوله: أنا كابّ الدنيا لوجهها. إشارة إلى زهده فيها، و تنبيه على فضيلته. يقال: كببت فلانا لوجهه إذا تركته و ما التفت إليه، و قادرها بقدرها: أى معامل لها بمقدارها، و لمّا كان مقدارها حقيرا عنده كان التفاته إليها التفاتا حقيرا حسب ضرورة البقاء فيها، و كذلك ناظرها بعينها: أى معتبرها بالعين الّتى ينبغي أن تعتبر بها الدنيا من كونها غرّارة غدّارة حائلة إلى غير ذلك من أوصافها، و أنّها مزرعة الآخرة و طريق إليها غير مطلوبة لذاتها. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 137

 

خطبه 125شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام أيضا للخوارج.

فَإِنْ أَبَيْتُمْ إِلَّا أَنْ تَزْعُمُوا أَنِّي أَخْطَأْتُ وَ ضَلَلْتُ- فَلِمَ تُضَلِّلُونَ عَامَّةَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ص بِضَلَالِي- وَ تَأْخُذُونَهُمْ بِخَطَئِي- وَ تُكَفِّرُونَهُمْ بِذُنُوبِي- سُيُوفُكُمْ عَلَى عَوَاتِقِكُمْ- تَضَعُونَهَا مَوَاضِعَ الْبُرْءِ وَ السُّقْمِ- وَ تَخْلِطُونَ مَنْ أَذْنَبَ بِمَنْ لَمْ يُذْنِبْ- وَ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص رَجَمَ الزَّانِيَ الْمُحْصَنَ- ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ وَرَّثَهُ أَهْلَهُ- وَ قَتَلَ الْقَاتِلَ وَ وَرَّثَ مِيرَاثَهُ أَهْلَهُ- وَ قَطَعَ السَّارِقَ وَ جَلَدَ الزَّانِيَ غَيْرَ الْمُحْصَنِ- ثُمَّ قَسَمَ عَلَيْهِمَا مِنَ الْفَيْ‏ءِ وَ نَكَحَا الْمُسْلِمَاتِ- فَأَخَذَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ص بِذُنُوبِهِمْ- وَ أَقَامَ حَقَّ اللَّهِ فِيهِمْ- وَ لَمْ يَمْنَعْهُمْ سَهْمَهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ- وَ لَمْ يُخْرِجْ أَسْمَاءَهُمْ مِنْ بَيْنِ أَهْلِهِ- ثُمَّ أَنْتُمْ شِرَارُ النَّاسِ- وَ مَنْ رَمَى بِهِ الشَّيْطَانُ مَرَامِيَهُ وَ ضَرَبَ بِهِ تِيهَهُ- وَ سَيَهْلِكُ فِيَّ صِنْفَانِ- مُحِبٌّ مُفْرِطٌ يَذْهَبُ بِهِ الْحُبُّ إِلَى غَيْرِ الْحَقِّ- وَ مُبْغِضٌ مُفْرِطٌ يَذْهَبُ بِهِ الْبُغْضُ إِلَى غَيْرِ الْحَقِّ- وَ خَيْرُ النَّاسِ فِيَّ حَالًا النَّمَطُ الْأَوْسَطُ فَالْزَمُوهُ- وَ الْزَمُوا السَّوَادَ الْأَعْظَمَ- فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ- وَ إِيَّاكُمْ وَ الْفُرْقَةَ- فَإِنَّ الشَّاذَّ مِنَ النَّاسِ لِلشَّيْطَانِ- كَمَا أَنَّ الشَّاذَّ مِنَ الْغَنَمِ لِلذِّئْبِ- أَلَا مَنْ دَعَا إِلَى هَذَا الشِّعَارِ فَاقْتُلُوهُ- وَ لَوْ كَانَ تَحْتَ عِمَامَتِي هَذِهِ- فَإِنَّمَا حُكِّمَ الْحَكَمَانِ لِيُحْيِيَا مَا أَحْيَا الْقُرْآنُ- وَ يُمِيتَا مَا أَمَاتَ الْقُرْآنُ- وَ إِحْيَاؤُهُ الِاجْتِمَاعُ عَلَيْهِ- وَ إِمَاتَتُهُ الِافْتِرَاقُ عَنْهُ- فَإِنْ جَرَّنَا الْقُرْآنُ إِلَيْهِمُ اتَّبَعْنَاهُمْ- وَ إِنْ جَرَّهُمْ إِلَيْنَا اتَّبَعُونَا- فَلَمْ آتِ لَا أَبَا لَكُمْ بُجْراً- وَ لَا خَتَلْتُكُمْ عَنْ أَمْرِكُمْ- وَ لَا لَبَّسْتُهُ عَلَيْكُمْ- إِنَّمَا اجْتَمَعَ رَأْيُ مَلَئِكُمْ عَلَى اخْتِيَارِ رَجُلَيْنِ- أَخَذْنَا عَلَيْهِمَا أَلَّا يَتَعَدَّيَا الْقُرْآنَ فَتَاهَا عَنْهُ- وَ تَرَكَا الْحَقَّ وَ هُمَا يُبْصِرَانِهِ- وَ كَانَ الْجَوْرُ هَوَاهُمَا فَمَضَيَا عَلَيْهِ- وَ قَدْ سَبَقَ اسْتِثْنَاؤُنَا عَلَيْهِمَا فِي الْحُكُومَةِ بِالْعَدْلِ- وَ الصَّمْدِ لِلْحَقِّ سُوءَ رَأْيِهِمَا وَ جَوْرَ حُكْمِهِمَا

اللغة

أقول: البحر: الشرّ و الأمر العظيم. و الختل: الخديعة. و الصمد: القصد.

و هذا الفصل مشاجرة مع الخوارج

و هو منع لشبههم الّتي بها كفّروا أصحابه عليه السّلام و صورتها إنّكم ضللتم بالتحكيم، و كلّ ضالّ كافر ينتج أنّهم كفّار.

فقوله: فإن أبيتم. إلى قوله: و ضللت. يجرى مجرى تسليم جدل لما منعه أوّلا في الفصول السابقة من صغرى شبههم و بين أنّ التحكيم لم يكن منه خطأ و لا ضلالا. فكأنّه يقول: وهب أنى أخطأت كما زعمتم.

و قوله: فلم تضلّلون عامّة امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بضلالى. منع لصغرى هذه الشبهة.

و قوله: و تكفّرونهم بذنوبى. إلى قوله: بمن لم يذنب. منع للكبرى. فكأنّه يقول: و هب أنّكم ضلّلتموهم بضلالى فلم تكفّرونهم، و تقتلون بسبب تكفيرهم المذنب و غير المذنب.

و قوله: و قد علمتم. إلى قوله: بين أهله. استشهاد عليهم بفعل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيمن أخطأ، و أنّه لم يكفّرهم بذنوبهم بل أجرى عليهم أحكام الإسلام، و لم يسلبهم اسمه، و هذا الاستشهاد يجرى مجرى‏ ذكره مستند المنع. و الزانى الّذي رجمه هو المحصن، و لم يمنعه استحقاقه الرجم صدق الإسلام عليه و لحوق أحكامه له من الصلاة عليه و توريث ماله لأهله، و كذلك الباقون من أهل الكبائر من الأمّة لم يمنعهم ذلك من إجراء أحكام الإسلام عليهم، و صدق اسمه المنافي لصدق الكفر عليهم، و ضمير الاثنين في نكحا يرجع إلى السارق و الزاني: أى لم يمنعهم استحقاق القطع و الجلد من حصّتهما من الفي‏ء و لا من نكاح المسلمات، و ضمائر الجمع في قوله: فأخذهم اللّه بذنوبهم. إلى قوله: بين أهله راجعة إلى كلّ من جرى ذكره من المذنبين، و الكلام المذكور حكاية لحالهم، و الضمير في أهله يرجع إلى الإسلام.

ثمّ لمّا فرغ من بيان غلطهم ذمّهم و نسبهم إلى الانفعال عن الشيطان. إذ كانت وساوسه مبادى الأغلاط و الشبه. ثمّ عقّب ذلك بالإخبار عن هلاك من سلك طريق الإفراط في حبّه أو بغضه لخروجهما عن الحقّ و العدل إلى الباطل و الجور، و إفراط الحبّ أن جعل إلهاً كالمنسوب إلى النصيريّة و نحوهم من الغلاة، و إفراط البغض أن نسب إلى الكفر كالمنقول عن الخوارج، و جعل خير الناس فيه حالًا النمط الأوسط في المحبّة، و هم أهل العدل فيه. و النمط الأوسط الجماعة من الناس أمرهم واحد، و في الحديث خير هذه الامّة النمط الأوسط يلحق بهم التالى و يرجع إليهم الغالى. فالتالى هو المقصّر الواقف في طرف التفريط، و الغالى هو العابر إلى طرف الإفراط. و أمر بلزوم ذلك النمط و لزوم طريقة السواد الأعظم: أى أكثر المسلمين المتّفقين على رأى واحد، و رغّب في لزوم طريقتهم بأنّ يد اللّه على الجماعة فتجوّز بلفظ اليد في قدرة اللّه و حراسته للجماعة. إذ كانوا أمنع و أبعد عن الانفعال للعدوّ، و آمن من الغلط و الخطاء لكثرة آرائهم و اتّفاقها فلا تكاد تتّفق على أمر لا مصلحة فيه مع كثرتها و اختلافها، و حذّر من الفرقة و الشذوذ عن الجماعة بأنّ الشاذّ من الناس: أى المتفرّد المستبدّ برأيه للشيطان: أى محلّ تطرّق الشيطان لانفراده، و شبّه ذلك بالشّاذ من الغنم، و وجه الشبه كون انفراده محلّا لتطرّق الهلاك إليه باستغواء الشيطان له كمان أنّ الشاة المنفردة في مظنّة الهلاك لانفرادها و وحدتها للذئب. ثمّ أمر بقتل من دعا إلى هذا الشعار و هو مفارقه الجماعه و الاستبداد بالرأى. و قوله: و لو كان تحت عما متى هذه. مبالغة في الكلام كنّى بها عن أقصى القرب من عنايته: أى و لو كان ذلك الداعى إلى هذا الحدّ من عنايتى به، و قيل: أراد و لو كان ذلك الداعى أنا. و قوله: و إنّما حكّم الحكمان. اعتذار عن شبهة التحكيم، و أسند إليهما لفظى الإحياء و الإماتة مجازا باعتبار كونهما في الاجتماع عليه و العمل به مظهرين لمنفعته و فايدته كما يفعله موجد الحياة، و كونهما في تركه و الإعراض عنه سببا لبطلان منفعته و عدم منفعته كما يفعله مميت الشي‏ء و مبطل حياته. فلم آت- لا أبالكم- بجراً: إلى آخر. لمّا بيّن وجه عذره في التحكيم أنكر أن يكون فعله ذلك مشتملا على قصد شرّ أو خديعة لهم أو تلبيسا عليهم في التحكيم من غير اتّفاق منهم و مراجعة لهم بل إنّما كان ذلك عن اجتماع آراء قومهم على اختيار حكمين اخذت عليهما الشرائط المعدودة في كتاب الصلح، و في نسبته اختيار الحكمين إلى ملائهم، و نسبة أخذ العهد عليها في اتّباع الكتاب إلى نفسه أو إلى جماعة هو أحدهم تنبيه على أنّ أخذ العهد عليهما كان منه أو بشركته دون تعيينهما للحكومة لما نقل إنّه كان غير راض بنصب أبى موسى نائبا عنه، و إنّما اكره على ذلك و كان ميله و اختياره في ذلك لابن عبّاس.

و تلخيص الكلام: أنّا إنّما رضينا بالحكمين بشرط أن يعملا بكتاب اللّه، و المشروط بشرط عدم عند عدم ذلك الشرط. فحيث خالفا الشرط عمدا بعد أن سبق استثناؤنا عليهما سوء رأيهما وجبت مخالفتهم. و انتصب سوء رأيهما لأنّه مفعول به عن سبق. و باللّه التوفيق و العصمة.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 133

 

خطبه 124شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام لما عوتب على التسوية في العطاء

أَ تَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ- فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ- وَ اللَّهِ لَا أَطُورُ بِهِ‏ مَا سَمَرَ سَمِيرٌ- وَ مَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْماً- لَوْ كَانَ الْمَالُ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ- فَكَيْفَ وَ إِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللَّهِ- أَلَا وَ إِنَّ إِعْطَاءَ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ تَبْذِيرٌ وَ إِسْرَافٌ- وَ هُوَ يَرْفَعُ صَاحِبَهُ فِي الدُّنْيَا- وَ يَضَعُهُ فِي الْآخِرَةِ- وَ يُكْرِمُهُ فِي النَّاسِ وَ يُهِينُهُ عِنْدَ اللَّهِ- وَ لَمْ يَضَعِ امْرُؤٌ مَالَهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَ لَا عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ- إِلَّا حَرَمَهُ اللَّهُ شُكْرَهُمْ- وَ كَانَ لِغَيْرِهِ وُدُّهُمْ- فَإِنْ زَلَّتْ بِهِ النَّعْلُ يَوْماً- فَاحْتَاجَ إِلَى مَعُونَتِهِمْ فَشَرُّ خَلِيلٍ- وَ أَلْأَمُ خَدِينٍ

اللغة

أقول: لا أطور به: أى لا أقرّبه. و السمير: الدهر. يقال: لا أفعله ما سمر سمير: أى الدهر كلّه، و كذلك لا أفعله ما سمر ابنا سمير: أى الدهر كلّه، و ابناه: الليل و النهار. و الخدين: الصديق.

المعنى

و التسوية في العطاء من سنّة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كان أبو بكر كذلك على تلك السنّة فلمّا فضّل من بعدهما أهل السابقة و الشرف في العطاء على غيرهم اعتاد المفضّلون بذلك إلى زمانه عليه السّلام و لمّا كان سالكا مسالك الرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و مقتفيا أثر سنّته لم يمكنه إلّا التسوية فطلب المفضّلون عادتهم من التفضيل عند ولايته لهذا الأمر فقال الكلام.

فقوله: أتامرونىّ أن أطلب النصر بالجور، جواب لمن أشار عليه بالتفضيل، و كأنّ المشير قال له: إن فضّلت هؤلاء كانوا معك بقلوبهم و نصروك. فأجابهم بذلك. و الجور: العدول عن سبيل اللّه بالتفضيل حيث كان خارجا عن سنّة الرسول. ثمّ أقسم أنّه لا يقرب التفضيل أبدا، و أنّ المال لو كان له لكان من العدل أن يسوّى بينهم فيه فكيف و المال للّه و لهم، و وجه ذلك أنّ التسوية هى العدل الّذي تجتمع به النفوس على النصرة و تتألّف الهمم على مقاومة العدوّ دون التفضيل‏ المستلزم لانكسار قلوب المفضولين مع كثرتهم. فلو كان المال له مع كونه بطباع البشريّة الميّالة إلى شخص دون شخص لم يسوّ بينهم فكيف و المال للّه الّذى تساوى نسبة الخلق إليه و ما لهم الّذى فرضه اللّه لهم على سواء، و هو كالاعتذار الحاسم لمادّة الطمع في التفضيل. ثمّ نبّه على قبح وضع المال في غير أهله و على غير وجهه. و غير أهله: هم غير المفروض لهم، و غير وجهه: غير حقّه الّذى يفرضه الشارع، و أشار إلى وجوه المفاسد ففى غير أهله تبذير، و في غير وجهه إسراف، و عرفت أنّهما طرفا الإفراط و التفريط من فضيلة السخاء.

و قوله: يرفع صاحبه في الدنيا. أى يحصل له بالتبذير ذكر الكرم بين العوامّ و الغاغة، و من لا يعرف حقيقة الكرم، و يضعه في الآخرة. إذ كان به على رذيلة، و كذلك يكرمه عند الناس و يهينه عند اللّه، و أمّا حكمه عليه السّلام بأنّ الواضع لماله في غير حقّه و عند غير أهله محروم شكرهم و لغيره ودّهم و على تقدير وقوع الزلّة منه الّتى يحتاج فيها إلى مساعدتهم يتقاعدون عنه فذلك أمر يحصل بالاستقراء و ربّما بلغ التجربة، و أمّا سرّ ذلك فيحتمل أن يكون لأنّهم لمّا كانوا غير أهل لوضع المعروف لم يكونوا أهلا للاعتراف به إمّا لجهلهم و غفلتهم أو لاعتقادهم أنّ المسدى إليهم غير أهل لشكرهم، و أنّهم على مرتبته و أحقّ بالمال منه. و أكثر ما يكون عدم الشكر من هؤلاء لنظر كلّ منهم إلى أنّ غيره من المسدى إليه غير أهل، و أنّه هو أحقّ فيرى نفسه دائما مبخوس الحظّ من باذل المعروف فلا يزال متسخّطا عاتبا عليه ذامّا للزمان، و حينئذ لا يتحقّق اعترافه بنعمة الباذل فإذا أصابه من غيره أدنى معروف أو لم يصبه بل سمع مدح أحد و شكر الناس له ساعد على مدحه و أظهر فضله، و قال: إنّه ممّن يضع المعروف في أهله فيكون ذلك كالمستنهض لهمة الباذل أو كالمزرى عليه و المغاير له، و كنّى بزلّ النعل عن خطائه و عثاره في المصائب. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 131

 

خطبه 123شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام في التحكيم

إِنَّا لَمْ نُحَكِّمِ الرِّجَالَ- وَ إِنَّمَا حَكَّمْنَا الْقُرْآنَ هَذَا الْقُرْآنُ- إِنَّمَا هُوَ خَطٌّ مَسْطُورٌ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ- لَا يَنْطِقُ بِلِسَانٍ وَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَرْجُمَانٍ- وَ إِنَّمَا يَنْطِقُ عَنْهُ الرِّجَالُ- وَ لَمَّا دَعَانَا الْقَوْمُ- إلَى أَنْ نُحَكِّمَ بَيْنَنَا الْقُرْآنَ- لَمْ نَكُنِ الْفَرِيقَ الْمُتَوَلِّيَ- عَنْ كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى- وَ قَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ- فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ- فَرَدُّهُ إِلَى اللَّهِ أَنْ نَحْكُمَ بِكِتَابِهِ- وَ رَدُّهُ إِلَى الرَّسُولِ أَنْ نَأْخُذَ بِسُنَّتِهِ- فَإِذَا حُكِمَ بِالصِّدْقِ فِي كِتَابِ اللَّهِ- فَنَحْنُ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ- وَ إِنْ حُكِمَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ص- فَنَحْنُ أَوْلَاهُمْ بِهِ- وَ أَمَّا قَوْلُكُمْ- لِمَ جَعَلْتَ بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُمْ أَجَلًا فِي التَّحْكِيمِ- فَإِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ لِيَتَبَيَّنَ الْجَاهِلُ- وَ يَتَثَبَّتَ الْعَالِمُ- وَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ فِي هَذِهِ الْهُدْنَةِ- أَمْرَ هَذِهِ‏ الْأُمَّةِ- وَ لَا تُؤْخَذَ بِأَكْظَامِهَا- فَتَعْجَلَ عَنْ تَبَيُّنِ الْحَقِّ- وَ تَنْقَادَ لِأَوَّلِ الْغَيِّ- إِنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ- مَنْ كَانَ الْعَمَلُ بِالْحَقِّ أَحَبَّ إِلَيْهِ- وَ إِنْ نَقَصَهُ وَ كَرَثَهُ مِنَ الْبَاطِلِ- وَ إِنْ جَرَّ إِلَيْهِ فَائِدَةً وَ زَادَهُ- فَأَيْنَ يُتَاهُ بِكُمْ- وَ مِنْ أَيْنَ أُتِيتُمْ- اسْتَعِدُّوا لِلْمَسِيرِ إِلَى قَوْمٍ حَيَارَى- عَنِ الْحَقِّ لَا يُبْصِرُونَهُ- وَ مُوزَعِينَ بِالْجَوْرِ لَا يَعْدِلُونَ بِهِ- جُفَاةٍ عَنِ الْكِتَابِ- نُكُبٍ عَنِ الطَّرِيقِ- مَا أَنْتُمْ بِوَثِيقَةٍ يُعْلَقُ بِهَا- وَ لَا زَوَافِرَ عِزٍّ يُعْتَصَمُ إِلَيْهَا- لَبِئْسَ حُشَّاشُ نَارِ الْحَرْبِ أَنْتُمْ- أُفٍّ لَكُمْ- لَقَدْ لَقِيتُ مِنْكُمْ بَرْحاً يَوْماً أُنَادِيكُمْ- وَ يَوْماً أُنَاجِيكُمْ- فَلَا أَحْرَارُ صِدْقٍ عِنْدَ النِّدَاءِ- وَ لَا إِخْوَانُ ثِقَةٍ عِنْدَ النَّجَاءِ

أقول: هذا الفصل من كلام له بعد سماعه لأمر الحكمين و خدعة عمرو بن العاص لأبى موسى.

اللغة

كرثه الأمر. اشتدّ عليه. و أوزع له بكذا فهو موزع: إذا أغرى به. و نكّب بتشديد الكاف: جمع ناكب و هو العادل عن الطريق كباذل و بذّل. و زوافر الرجل: أنصاره و عشيرته. و الحشّاش: جمع حاشّ و هو موقد النار، و كذلك الحشاش بكسر الحاء و تخفيف الشين كنائم و نوّام و نيام، و قيل: هو ما يحشّ به النار: أى يوقد.
و البرح بسكون الراء: الشدّة و الأذى. يقال: لقيت منه برحا بارحا، و روى ترحا و هو الحزن.

المعنى

و هذا الفصل من أوله. إلى قوله: أولاهم به. جواب له عن شبهة التحكيم للخوارج عن أمره بالحرب بعد أن رضى بالتحكيم. و تقدير الشبهة أنّك رضيت بتحكيم رجلين في هذا الأمر و عاهدت على ذلك، و كلّ من رضى بأمر و عاهد عليه فليس له أن ينقض عهده. فقدح في صغرى هذه الشبهة بقوله: إنّا لم نحكّم الرجال:

أى لكونها رجالا، و إنّما حكّمنا القرآن لكن لمّا كان القرآن لابدّ له من ترجمان يبيّن مقاصده، و دعانا القوم إلى حكم القرآن و لم نكن نحن الفريق الكاره لكتاب اللّه، المتولّى عنه بعد أمره تعالى بالرجوع إليه و إلى رسوله في الكتاب و السنّة فيما اشتبه أمره بقوله «فَإِنْ تَنازَعْتُمْ» الآية. فإذا حكم بالصدق عن علم بكتابه فنحن أحقّ الناس به: أى أولاهم باتّباعه و أولاهم بأن ينصّ على كون الأمر لنا كما في قوله تعالى «وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ». إلى قوله: «وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ»«» و ظاهر كون اولئك بعد عقد الإمامة بغاة عليه فوجب بنصّ الكتاب قتالهم، و كذلك الآيات الدالّة على وجوب الوفاء بالعهود و العقود و كان هو أولى بالحقّ الّذى يجب قتالهم عليه فكان الحاكم لهم مخطئا مخالفا لكتاب اللّه غير عامل به فوجبت مخالفة حكمه، و إن حكم بسنّة رسول اللّه فنحن أولى الناس برسول اللّه للقرابة و للعمل بسنّته لموافقتها الكتاب و نصّه على وجوب متابعة الإمام العادل فكان الحاكم لغيره مخالفا للسنّة أيضا. فصارت خلاصة هذا الجواب أنّا لم نرض بتحكيم الرجلين و لكن بتقدير حكمهما بكتاب اللّه الّذى هما ترجمان عنه و هو الحاكم الّذي دعانا الخصم إليه و حيث خالفاه لم يجب علينا قبول قولهما.

و قوله: و أمّا قولكم. إلى قوله: لأوّل الغيّ. فتقدير سؤال آخر لهم مع جوابه، و ذلك أنّهم حين اتّفقوا على التحكيم كتبوا كتاب الصلح و ضربوا لحكم الحكمين أجلًا مدّة سنة، و صورة الكتاب: هذا ما تقاضى عليه علىّ بن ابي طالب و معاوية بن أبى سفيان قاضى علىّ بن أبي طالب على أهل العراق و من كان معه من شيعته من المؤمنين و المسلمين، و قاضى معاوية بن أبى سفيان على أهل الشام و من كان من شيعته من المؤمنين و المسلمين إنّما ننزل عند حكم اللّه تعالى و كتابه و لا يجمع بيننا إلا إيّاه، و إنّ كتاب اللّه سبحانه بيننا من فاتحته إلى خاتمته نحيى ما أحيى القرآن و نميت ما أمات القرآن. فإن وجد الحكمان ذلك في كتاب اللّه اتّبعاه، و إن لم يجداه أخذا بالسنّة العادلة غير المفرّقة،و الحكمان عبد اللّه و عمرو بن العاص، و قد أخذ الحكمان من علىّ و معاوية و من الجندين أنّهما آمنان على أنفسهما و أموالهما و الامّة لهما أنصار، و على الّذى يقضيان عليه و على المؤمنين و المسلمين من الطائفتين عهد اللّه أن يعمل بما يقضيان عليه ممّا وافق الكتاب و السنّة، و إنّ الأمن و الموادعة و وضع السلاح متّفق عليه بين الطائفتين إلى أن يقع الحكم، و على كلّ واحد من الحكمين عهد اللّه ليحكمنّ بين الأمّة بالحقّ لا بما يهوى، و أجل الموادعة سنة كاملة فإن أحبّ الحكمان أن يعجّلا الحكم عجّلاه، و إن توفّى أحدهما فلأمير شيعته أن يختار مكانه رجلا لا يألو الحقّ و العدل و إن توفّي أحد الأميرين كان نصب غيره إلى أصحابه ممّن يرتضون أمره و يحمدون طريقته. اللّهم إنّا نستنصرك على من ترك ما في هذه الصحيفة و أراد فيها إلحادا و ظلما.

و شهد فيه من أصحاب علىّ عليه السّلام عشرة، و من أصحاب معاوية عشرة. فذلك معنى الأجل في التحكيم. و تقدير هذا السؤال إنّك حين رضيت بالتحكيم لم ضربت بينك و بينهم أجلا، و ما الحكمة في ذلك. فأجاب إنّما فعلت ذلك ليتبيّن الجاهل: أى في وجه الحقّ، و يتثبّت العالم: أى في أمره بحيث يخلص من الشبهة، و رجاء إصلاح هذه الامّة بهذا الصلح. و قوله: و لا تؤخذ بأكظامها فتعجل. إلى آخره. فعبّر بأخذ الكظم عن الأخذ بغتة و على غرّة، و هؤلاء القوم لمّا أخذوا لأوّل شبهة عرضت من رفع المصاحف و هو أوّل الغىّ و لم يتثبّتوا في أمرهم أشبهوا من اخذ بمجرى نفسه فلم يتمكّن من‏ الاستراحة إلى التنفيس فاستعير وصف الكظم لهم. و قوله: إنّ أفضل الناس. إلى قوله: و زاده. جذب إلى الحقّ و إن أدّى إلى الغاية المذكورة و تنفير عن الباطل و إن استلزم الغاية المذكورة بذكر الأفضليّة عند اللّه.

و قوله: من الباطل. متعلّق بأحبّ إليه.
و قوله: و إن نقصه و كرثه.
اعتراض بينهما. و الحكم في هذه القضيّة ظاهر الصدق. إذ كان ملازم الحقّ‏ أتقى الخلق، و الأتقى أفضل عند اللّه تعالى كما قال تعالى «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ»«». و قوله: فأين يتاه بكم يريد إلى أىّ غاية يكون هذا التيه الّذى أخذتم فيه، و فيه تنبيه على أنّ ذلك التيه فعل الغير بهم. و من أين اتيتم: أى من أىّ وجه دخلت عليكم الشبهة. و يشبه هذا السؤال تجاهل العارف. إذ كان يعلم وجه الداخل عليهم. ثمّ أعقب ذلك التعنيف لهم بالأمر بالمسير إلى أهل الشام. و وصفهم بالحيرة عن الحقّ و العمى عنه و الإغراء بالجور عن طريق اللّه بحيث لا مثل للجور عندهم، و بجفاوة الطباع عن فهم كتاب اللّه و نبوء الأفهام عنه و بعدولهم عن طريقه كلّ ذلك إغراء بهم.

و قوله: ما أنتم بوثيقة: أى بعروة وثيقة. إلى آخره و هو عتاب لهم و تضجّر منهم على قلّة طاعته. و قوله: يوما اناديكم. أى أدعوكم إلى النصرة و أستغيث بكم، و يوما اناجيكم: أى اعاتبكم و اجادلكم على تقصيركم. و قوله فلا أحرار صدق عند النداء. لأنّ الحرّ من شأنه إجابة الداعى و الوفاء بالوعد و لستم كذلك، و لا إخوان ثقة عند النجاء لأنّ أخا الثقة إذا زلّ و عوتب من أخيه انعتب، و إذا أحوج و اعتذر إليه رجع إلى صفاء الاخوّة لمكان وثاقتها و لستم من ذلك في شي‏ء. و باللّه التوفيق.

شرح نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 3 ، صفحه‏ى 131

 

خطبه 122شرح ابن میثم بحرانی

 و من كلام له عليه السّلام في حث أصحابه على القتال

فَقَدِّمُوا الدَّارِعَ وَ أَخِّرُوا الْحَاسِرَ- وَ عَضُّوا عَلَى الْأَضْرَاسِ- فَإِنَّهُ أَنْبَى لِلسُّيُوفِ عَنِ الْهَامِ- وَ الْتَوُوا فِي أَطْرَافِ الرِّمَاحِ فَإِنَّهُ أَمْوَرُ لِلْأَسِنَّةِ- وَ غُضُّوا الْأَبْصَارَ فَإِنَّهُ أَرْبَطُ لِلْجَأْشِ وَ أَسْكَنُ لِلْقُلُوبِ- وَ أَمِيتُوا الْأَصْوَاتَ فَإِنَّهُ أَطْرَدُ لِلْفَشَلِ- وَ رَايَتَكُمْ فَلَا تُمِيلُوهَا وَ لَا تُخِلُّوهَا- وَ لَا تَجْعَلُوهَا إِلَّا بِأَيْدِي شُجْعَانِكُمْ- وَ الْمَانِعِينَ الذِّمَارَ مِنْكُمْ- فَإِنَّ الصَّابِرِينَ عَلَى نُزُولِ الْحَقَائِقِ- هُمُ الَّذِينَ يَحُفُّونَ بِرَايَاتِهِمْ- وَ يَكْتَنِفُونَهَا حِفَافَيْهَا وَ وَرَاءَهَا وَ أَمَامَهَا- لَا يَتَأَخَّرُونَ عَنْهَا فَيُسْلِمُوهَا- وَ لَا يَتَقَدَّمُونَ عَلَيْهَا فَيُفْرِدُوهَا أَجْزَأَ امْرُؤٌ قِرْنَهُ وَ آسَى أَخَاهُ بِنَفْسِهِ- وَ لَمْ يَكِلْ قِرْنَهُ إِلَى أَخِيهِ- فَيَجْتَمِعَ عَلَيْهِ قِرْنُهُ وَ قِرْنُ أَخِيهِ- وَ ايْمُ اللَّهِ لَئِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ سَيْفِ الْعَاجِلَةِ- لَا تَسْلَمُوا مِنْ‏ سَيْفِ الْآخِرَةِ- وَ أَنْتُمْ لَهَامِيمُ الْعَرَبِ وَ السَّنَامُ الْأَعْظَمُ- إِنَّ فِي الْفِرَارِ مَوْجِدَةَ اللَّهِ وَ الذُّلَّ اللَّازِمَ وَ الْعَارَ الْبَاقِيَ- وَ إِنَّ الْفَارَّ لَغَيْرُ مَزِيدٍ فِي عُمُرِهِ- وَ لَا مَحْجُوزٍ بَيْنَهُ وَ بَيْنَ يَوْمِهِ- الرَّائِحُ إِلَى اللَّهِ كَالظَّمْآنِ يَرِدُ الْمَاءَ- الْجَنَّةُ تَحْتَ أَطْرَافِ الْعَوَالِي- الْيَوْمَ تُبْلَى الْأَخْبَارُ- وَ اللَّهِ لَأَنَا أَشْوَقُ إِلَى لِقَائِهِمْ مِنْهُمْ إِلَى دِيَارِهِمْ- اللَّهُمَّ فَإِنْ رَدُّوا الْحَقَّ فَافْضُضْ جَمَاعَتَهُمْ- وَ شَتِّتْ كَلِمَتَهُمْ وَ أَبْسِلْهُمْ بِخَطَايَاهُمْ إِنَّهُمْ لَنْ يَزُولُوا عَنْ مَوَاقِفِهِمْ- دُونَ طَعْنٍ دِرَاكٍ يَخْرُجُ مِنْهُ النَّسِيمُ- وَ ضَرْبٍ يَفْلِقُ الْهَامَ وَ يُطِيحُ الْعِظَامَ- وَ يُنْدِرُ السَّوَاعِدَ وَ الْأَقْدَامَ- وَ حَتَّى يُرْمَوْا بِالْمَنَاسِرِ تَتْبَعُهَا الْمَنَاسِرُ- وَ يُرْجَمُوا بِالْكَتَائِبِ تَقْفُوهَا الْحَلَائِبُ- وَ حَتَّى يُجَرَّ بِبِلَادِهِمُ الْخَمِيسُ يَتْلُوهُ الْخَمِيسُ- وَ حَتَّى تَدْعَقَ الْخُيُولُ فِي نَوَاحِرِ أَرْضِهِمْ- وَ بِأَعْنَانِ مَسَارِبِهِمْ وَ مَسَارِحِهِمْ قال الشريف: أقول: الدعق: الدق، أى: تدق الخيول بحوافرها أرضهم، و نواحر أرضهم: متقابلاتها، يقال: منازل بنى فلان تتناحر، أى: تتقابل أقول: هذا الكلام. قاله بصفّين.

اللغة

أمور: أشدّ حركة و نفوذا. و الجأش: روعة القلب و اضطرابه عند الخوف. و الذمار: ما وراء الرجل ممّا يجب عليه حمايته، و حفافا الشي‏ء: جانباه. و لهاميم العرب: أجوادهم. و الموجدة: الغضب. و أبسلهم: أسلمهم للهلكة. و العوالى: جمع عالية: الرمح، و هو ما دخل منه إلى ثلثه. و النسيم: النفس. و المنسر: القطعة من الجيش، و كذلك الخميس: الجيش. و النواحر: جمع نحيرة و هى آخر ليلة من‏ الشهر مع يومها كأنّها تنحر الشهر المستقبل فيكون مراده بنواحر أرضهم أقاصيها. و أعنان مساربهم: أقطارها و ما اعترض منها. و مساربهم: مراعيهم واحدتها مسربة و هكذا مسارحهم: واحدتها مسرحة.

المعنى

و قد أمرهم بأوامر في مصلحة الحرب و كيفيّتها و نهاهم مناهى: فأوّلها:

الأمر بتقديم الدارع و تأخير الحاسر. و المصلحة فيه ظاهرة.

الثاني: العضّ على الأضراس. و حكمته ما سبق في قوله: معاشر المسلمين استشعروا الخشية، و في قوله لابنه محمّد بن الحنفيّة: تزول الجبال و لا تزل، و قد كرّره هنا أيضا.

الثالث: الالتواء في أطراف الرماح. و علّته ما ذكر، و هو أنّه إذا التوى الإنسان مع الرمح حال إرساله كان الرمى به أشدّ، و ذلك لحركة صدر الإنسان بعد التوائه مع حركة يده حين الإرسال فكانت حركته أشدّ و أقوى نفوذا.

الرابع: غضّ الأبصار. و فائدته ما ذكر من كونه أربط لاضطراب القلب و أسكن، و ضدّ ذلك مدّ البصر إلى القوم فإنّه مظنّة الخوف و الفشل و علامة لهما عند العدوّ.

الخامس: إماتة الأصوات. و فائدته أيضا طرد الفشل، إذ كانت كثرة اللغط (اللفظ خ) و الصياخ علامة لخوف الصائخ، و ذلك مستلزم لطمع العدوّ فيه و جرئته عليه.

السادس: قوله: و رايتكم فلا تميلوها. فإنّ إمالتها ممّا يظنّ به العدوّ تشويشا و اضطراب حال فيطمع و يقدم، و لأنّها إذا اميلت تغيب عن عيون الجيش فربّما لا يهتدى كثير منهم للوجه المطلوب.

السابع: و لا تخلّوها. و سيفسّر هو التخلية.

الثامن: لا تجعلوها. إلى قوله: منكم. و ذلك أنّها أصل نظام العسكر و عليها يدور و بها يقوى قلوبهم ما دامت قائمة فيجب في ترتيب الحرب أن يكون حاملها أشجع القوم. و قوله: فإنّ الصابرين. إلى قوله: فيفردوها. تخصيص لمن يحفظ الراية و يحفّها بوصف الصبر على نزول الحقائق: أى الشدائد الحقّة المتيقّنة الّتى‏ لا شكّ في نزولها، كى يسارعوا إلى حفظها و الإحاطة بها رغبة في تلك المحمدة، و بيّن بقوله: لا يتأخّرون عنها. إلى قوله: فيفردوها. معنى التخلية الّتى نهاهم عنها، و قوله: فيسلموها و يفردوها. نصب الفعلان بإضمار أن عقيب الفاء في جواب النفى.

التاسع: قوله: أجزء امرؤ قرنه. العاشر: آسى أخاه بنفسه فعلان ماضيان في معنى الامر، و التقدير و ليجزى امرؤ قرنه و هو خصمه و كفوه في الحرب: أى لتقاومه و ليواس أخاه بنفسه في الذبّ عنه و لا يفرّ من قرنه اعتمادا على أخيه في دفعه فيجتمع على أخيه قرنه و قرن أخيه. ثم ذكّرهم عدم الفائدة في الفرار. إذ كانت غاية الفرار السلامة من الموت و هو لا بدّ منه كقوله تعالى قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَ إِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا«» و استعار لفظ سيف الآخرة للموت. و وجه المشابهة كونهما مبطلين للحياة. و إنّما كان سيف الآخرة لأنّها غايته. ثمّ مدحهم بأوصاف يستقبح معها الفرار، و هى كونهم أجود العرب و السنام الأعظم، و استعار لهم لفظ السنام لمشاركتهم إيّاه في العلوّ و الرفعة. ثمّ أكّد تقبيح الفرار بذكر معايبه، و أنّه لا فائدة فيه أيضا: أمّا معايبه فكونه يستلزم غضب اللّه فإنّ الفارّ من الجهاد في سبيله عاص لأمره و العاصى له مستحقّ لغضبه و عقابه. ثمّ كونه مستلزما للذّل اللازم و العار الباقى في الأعقاب و هو ظاهر، و أمّا أنّه لا فائدة فيه فلأنّ الفارّ لا يزاد في عمره لفراره. إذ علمنا أنّه بفراره لم يبلغ إلّا أجله المكتوب له فكان بقائه في مدّة الفرار من عمره لازيادة فيه و إنّ له يوما في القضاء الإلهىّ لا يحجز بينه و بينه فرار. و فيه تخويف بالموت.

و قوله: رائح إلى اللّه كالظمآن يرد الماء. استفهام عمّن يسلك سبيل اللّه و يروح إليه كما يروح الظمآن استفهاما على سبيل العرض لذلك الرواح، و وجه الشبه القوّة في السير و السعى الحثيث، و أشار بقوله: الجنّة تحت أطراف العوالى. إلى أنّ مطلوبه الرواح إلى اللّه بالجهاد و جذب إليه بذكر الجنّة، و خصّها بجهة تحت لأنّ دخول الجنّة غاية من الحركات بالرماح في سبيل اللّه و تلك الحركات‏ إنّما هي تحت العوالى، و قد أطلق لفظ الجنّة على تلك الأفعال الّتى هى غاية منها مجازا تسمية باسم غايته. ثمّ أعقب ذلك بدعاء اللّه على محاربيه إن ردّوا دعوته الحقّ بالتفريق و الإهلاك. ثمّ حكم بأنّهم لن يزولوا عن مواقفهم دون ما ذكر حكما على سبيل التهديد و الوعيد لهم. و الطعن الدراك: المتدارك. و كنّى بخروج النسيم منه عن كونه بخرق الجوف و الأمعاء بحيث يتنفّس المطعون من الطعنة، و روى النسم، و روى القشم بالقاف و الشين المعجمة و هو اللحم و الشحم و هو بعيد. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 123

 

خطبه 120 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام قاله لأصحابه في ساعة الحرب

وَ أَيُّ امْرِئٍ مِنْكُمْ أَحَسَّ مِنْ نَفْسِهِ- رَبَاطَةَ جَأْشٍ عِنْدَ اللِّقَاءِ- وَ رَأَى مِنْ أَحَدٍ مِنْ إِخْوَانِهِ فَشَلًا- فَلْيَذُبَّ عَنْ أَخِيهِ بِفَضْلِ نَجْدَتِهِ- الَّتِي فُضِّلَ بِهَا عَلَيْهِ- كَمَا يَذُبُّ عَنْ نَفْسِهِ- فَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُ مِثْلَهُ- إِنَّ الْمَوْتَ طَالِبٌ حَثِيثٌ‏ لَا يَفُوتُهُ الْمُقِيمُ- وَ لَا يُعْجِزُهُ الْهَارِبُ- إِنَّ أَكْرَمَ الْمَوْتِ الْقَتْلُ- وَ الَّذِي نَفْسُ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ بِيَدِهِ- لَأَلْفُ ضَرْبَةٍ بِالسَّيْفِ أَهْوَنُ عَلَيَّ- مِنْ مِيتَةٍ عَلَى الْفِرَاشِ

اللغة

أقول: نجدته: شجاعته. و التذبيب: الدفع و المنع.

المعنى

و قد أمرهم في هذا الفصل بمساعدة بعض لبعض في الحرب و منع بعضهم عن بعض منعا صادقا كما يمنع عن نفسه، و بذلك يكون انعقاد الاجتماع و تعاون الهمم حتّى يكون الجميع كنفس واحدة، و بذلك يكون الظفر و الغلبة و استمال ذوى النجدة بذكر فضيلة تخصّهم دون من يذبّون عنه استثارة لنجدتهم و تعطيفا لهم.
و قوله: إنّ الموت طالب حثيث. إلى قوله: إنّ أكرم الموت القتل: تسهيل للقتل و الموت بذكر أنّه لابدّ، و تسهيل للحرب عليهم. أمّا أنّ أكرم الموت القتل فأراد القتل في سبيل اللّه، و ذلك لاستلزامه الذكر الجميل في الدنيا و الثواب الدائم في الاخرى. ثمّ أكّد ذلك بالقسم لألف ضربة بالسيف أهون من ميتة على الفراش. و صدق ذلك في حقّ من نظر إلى الدنيا بعين الاستحقار في جنب نعيم الأبد في الآخرة و الذكر الجميل في الدنيا و حصلت له ملكة الشجاعة ظاهر. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 121

خطبه 119 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام قاله للخوارج

و قد خرج إلى معسكرهم و هم مقيمون على إنكار الحكومة فقال ع

أَ كُلُّكُمْ شَهِدَ مَعَنَا صِفِّينَ- فَقَالُوا مِنَّا مَنْ شَهِدَ- وَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَشْهَدْ- قَالَ فَامْتَازُوا فِرْقَتَيْنِ- فَلْيَكُنْ مَنْ شَهِدَ صِفِّينَ فِرْقَةً- وَ مَنْ لَمْ يَشْهَدْهَا فِرْقَةً- حَتَّى أُكَلِّمَ كُلًّا مِنْكُمْ بِكَلَامِهِ- وَ نَادَى النَّاسَ فَقَالَ أَمْسِكُوا عَنِ الْكَلَامِ- وَ أَنْصِتُوا لِقَوْلِي- وَ أَقْبِلُوا بِأَفْئِدَتِكُمْ إِلَيَّ- فَمَنْ نَشَدْنَاهُ شَهَادَةً فَلْيَقُلْ بِعِلْمِهِ فِيهَا- ثُمَّ كَلَّمَهُمْ ع بِكَلَامٍ طَوِيلٍ- مِنْهُ أَ لَمْ تَقُولُوا عِنْدَ رَفْعِهِمُ الْمَصَاحِفَ حِيلَةً وَ غِيلَةً- وَ مَكْراً وَ خَدِيعَةً إِخْوَانُنَا وَ أَهْلُ دَعْوَتِنَا- اسْتَقَالُونَا وَ اسْتَرَاحُوا إِلَى كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ- فَالرَّأْيُ الْقَبُولُ مِنْهُمْ- وَ التَّنْفِيسُ عَنْهُمْ- فَقُلْتُ لَكُمْ هَذَا أَمْرٌ ظَاهِرُهُ إِيمَانٌ- وَ بَاطِنُهُ عُدْوَانٌ- وَ أَوَّلُهُ رَحْمَةٌ وَ آخِرُهُ نَدَامَةٌ- فَأَقِيمُوا عَلَى شَأْنِكُمْ- وَ الْزَمُوا طَرِيقَتَكُمْ- وَ عَضُّوا عَلَى الْجِهَادِ بَنَوَاجِذِكُمْ- وَ لَا تَلْتَفِتُوا إِلَى نَاعِقٍ نَعَقَ- إِنْ أُجِيبَ أَضَلَّ وَ إِنْ تُرِكَ ذَلَّ- وَ قَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْفَعْلَةُ وَ قَدْ رَأَيْتُكُمْ أَعْطَيْتُمُوهَا- وَ اللَّهِ لَئِنْ أَبَيْتُهَا مَا وَجَبَتْ عَلَيَّ فَرِيضَتُهَا- وَ لَا حَمَّلَنِي اللَّهُ ذَنْبَهَا وَ وَ اللَّهِ إِنْ جِئْتُهَا إِنِّي لَلْمُحِقُّ الَّذِي يُتَّبَعُ- وَ إِنَّ الْكِتَابَ لَمَعِي مَا فَارَقْتُهُ مُذْ صَحِبْتُهُ فَلَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ص- وَ إِنَّ الْقَتْلَ لَيَدُورُ عَلَى الْآباءِ وَ الْأَبْنَاءِ- وَ الْإِخْوَانِ وَ الْقَرَابَاتِ- فَمَا نَزْدَادُ عَلَى كُلِّ مُصِيبَةٍ وَ شِدَّةٍ- إِلَّا إِيمَاناً وَ مُضِيّاً عَلَى الْحَقِّ- وَ تَسْلِيماً لِلْأَمْرِ- وَ صَبْراً عَلَى مَضَضِ الْجِرَاحِ- وَ لَكِنَّا إِنَّمَا أَصْبَحْنَا نُقَاتِلُ إِخْوَانَنَا فِي الْإِسْلَامِ- عَلَى مَا دَخَلَ فِيهِ مِنَ الزَّيْغِ وَ الِاعْوِجَاجِ- وَ الشُّبْهَةِ وَ التَّأْوِيلِ- فَإِذَا طَمِعْنَا فِي خَصْلَةٍ يَلُمُّ اللَّهُ بِهَا شَعَثَنَا- وَ نَتَدَانَى بِهَا إِلَى الْبَقِيَّةِ فِيمَا بَيْنَنَا- رَغِبْنَا فِيهَا وَ أَمْسَكْنَا عَمَّا سِوَاهَا

اللغة

أقول: التنفيس: التفريج،

المعنى

و أكثر هذا الفصل ظاهر مما سبق.
و قوله: هذا أمر ظاهره إيمان. أى رفع أولئك للمصاحف و طلبهم للحكومة فإنّ ظاهره منهم الاجتهاد في الدين بالرجوع إلى كتاب اللّه، و باطنه منهم عدوان: أى حيلة للظلم و الغلبة، و أوّله رحمة منكم لهم برجوعكم إلى قولهم، و آخره ندامة لكم عند تمام الحيلة عليكم فأقيموا على شأنكم: أى ما كنتم عليها من الاجتهاد في الحرب. و الناعق إشارة إلى طالبى الحكومة أو المشير عليهم بذلك الرأى و هو عمرو بن العاص، و أخرجه في أوصاف إبليس.

و قوله بعد ذلك: و لقد كنّا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إلى قوله: مضض الجراح استدراج لهم بشرح حاله و حال الصحابة. حيث كانوا في الجهاد مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على الحالة الّتي شرحها لعلّهم يتأسّون بالماضين فيها. و قوله: و لكنّا إنّما أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام. إلى آخره. تنبيه على اعتراض عساهم يقولونه و جواب عنه و هو أن يقولوا: إنّما فعل إخواننا السابقون ما فعلوا ليقينهم بما هم عليه من الدين الحقّ و تيقّنهم ضلال الكفّار و المحاربين لهم فأمّا نحن فإنّما نقاتل بعضنا بعضا فكيف يجوز لنا قتل قوم مسلمين استسلموا إلينا و دعونا إلى المحاكمة إلى كتاب اللّه فأجاب بما معناه إنّا إنّما نقاتل في مبدء الأمر و منتهاه دعوة إلى الإسلام و رغبة في رسوخ قواعده ففى المبدأ قاتلنا لتحصل ماهيّته في الوجود، و في الثاني قاتلنا لحفظ ماهيّته و بقائها، و حيث دخل فيه من الزيغ و الاعوجاج و الشبهة و التأويل ما دخل فإذا طمعنا في خلّة محمودة يجمع اللّه بها تفرّقنا و نتقارب بها إلى ما بقى فيما بيننا من الإسلام و الدين رغبنا فيها و قاتلنا طمعا في تحصيلها، و كأنّه عنى بالخصلة رجوع محاربيه إلى طاعته و اتّفاقهم عليه، و هذا الكلام في قوّة صغرى قياس ضمير احتجّ عليهم به، و تقديرها إنّكم حين قلت لكم إنّ رفعهم للمصاحف خدعة منهم أجبتمونى بهذا الجواب، و تقدير الكبرى و كلّ من أجاب بهذا الجواب فليس له أن ينكر الحكومة، إذ كان قد رضى بها. فينتج أنّه ليس لهم أن يأبوا الحكومة. و باللّه التوفيق.

شرح ‏نهج‏ البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 3 ، صفحه‏ى 119

 

خطبه 118 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

و قد قام إليه رجل من أصحابه فقال:

نهيتنا عن الحكومة ثم أمرتنا بها، فلم ندر أى الأمرين أرشد فصفق عليه السلام إحدى يديه على الأخرى ثم قال:

هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الْعُقْدَةَ- أَمَا وَ اللَّهِ لَوْ أَنِّي حِينَ أَمَرْتُكُمْ- بِمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ حَمَلْتُكُمْ عَلَى الْمَكْرُوهِ- الَّذِي يَجْعَلُ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً- فَإِنِ اسْتَقَمْتُمْ هَدَيْتُكُمْ- وَ إِنِ اعْوَجَجْتُمْ قَوَّمْتُكُمْ- وَ إِنْ أَبَيْتُمْ تَدَارَكْتُكُمْ لَكَانَتِ الْوُثْقَى- وَ لَكِنْ بِمَنْ وَ إِلَى مَنْ- أُرِيدُ أَنْ أُدَاوِيَ بِكُمْ وَ أَنْتُمْ دَائِي- كَنَاقِشِ الشَّوْكَةِ بِالشَّوْكَةِ- وَ هُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ضَلْعَهَا مَعَهَا- اللَّهُمَّ قَدْ مَلَّتْ أَطِبَّاءُ هَذَا الدَّاءِ الدَّوِيِّ- وَ كَلَّتِ النَّزَعَةُ بِأَشْطَانِ الرَّكِيِّ- أَيْنَ الْقَوْمُ الَّذِينَ دُعُوا إِلَى الْإِسْلَامِ فَقَبِلُوهُ- وَ قَرَءُوا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ- وَ هِيجُوا إِلَى الْجِهَادِ فَوَلِهُوا- وَلَهَ اللِّقَاحِ إِلَى أَوْلَادِهَا- وَ سَلَبُوا السُّيُوفَ أَغْمَادَهَا- وَ أَخَذُوا بِأَطْرَافِ الْأَرْضِ زَحْفاً زَحْفاً- وَ صَفّاً صَفّاً بَعْضٌ هَلَكَ وَ بَعْضٌ نَجَا- لَا يُبَشَّرُونَ بِالْأَحْيَاءِ- وَ لَا يُعَزَّوْنَ عَنِ الْمَوْتَى- مُرْهُ الْعُيُونِ مِنَ الْبُكَاءِ- خُمْصُ الْبُطُونِ مِنَ الصِّيَامِ- ذُبُلُ الشِّفَاهِ مِنَ الدُّعَاءِ- صُفْرُ الْأَلْوَانِ مِنَ السَّهَرِ- عَلَى وُجُوهِهِمْ غَبَرَةُ الْخَاشِعِينَ- أُولَئِكَ إِخْوَانِي الذَّاهِبُونَ- فَحَقَّ لَنَا أَنْ نَظْمَأَ إِلَيْهِمْ- وَ نَعَضَّ الْأَيْدِي عَلَى فِرَاقِهِمْ- إِنَّ الشَّيْطَانَ يُسَنِّي لَكُمْ طُرُقَهُ- وَ يُرِيدُ أَنْ يَحُلَّ دِينَكُمْ عُقْدَةً عُقْدَةً- وَ يُعْطِيَكُمْ بِالْجَمَاعَةِ الْفُرْقَةَ- فَاصْدِفُوا عَنْ نَزَغَاتِهِ وَ نَفَثَاتِهِ- وَ اقْبَلُوا النَّصِيحَةَ مِمَّنْ أَهْدَاهَا إِلَيْكُمْ- وَ اعْقِلُوهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ

اللغة

أقول: الضلع بفتح الضاد و سكون اللام: الميل و الهوى. و الداء الدوىّ: الشديد- وصف بما هو من لفظه. و الذوىّ: اسم فاعل من دوى إذا مرض. و النزعة: المستقون. و الركىّ: جمع ركيّة و هى البئر. و مره: جمع مارهة و هى العين الّتى فسدت: أى عيونهم مارهة. و سنّى له كذا: حسّنه و سهّله. و عقلت عليه كذا: أى حبسته عليه.

المعنى

و كان هذا الكلام منه عليه السّلام بصفّين حين أمرهم بالحكومة بعد أن نهاهم عنها، و السبب أنّ معاوية لمّا أحسّ بالعجز و ظفر علىّ عليه السّلام به ليلة الهرير راجع عمرو بن العاص. فقال: إنّى خبأت لك رأيا لمثل هذا الوقت و هو أن تأمر أصحابك برفع المصاحف على الأرماح و يدعوا أصحاب علىّ إلى المحاكمة إلى كتاب اللّه فإنّهم إن فعلوا افترقوا و إن لم يفعلوا افترقوا، و كان الأشتر صبيحة تلك الليلة قد أشرف على الظفر فلمّا أصبحوا رفعوا المصاحف الكبيرة بالجامع الأعظم على عشرة أرماح و هم يستغيثون: معاشر المسلمين اللّه في إخوانكم في الدين حاكمونا إلى‏ كتاب اللّه، اللّه اللّه في النساء و البنات. فقال أصحاب علىّ عليه السّلام: إخواننا و أهل دعوتنا استقالونا و استراحونا إلى كتاب اللّه فالرأى النفيس كشف لكربه عنهم فغضب عليه السّلام من هذا الرأى. فقال: إنّها كلمة حقّ يراد بها باطل. كما سبق القول فيه. فافترق أصحابه فريقين: منهم من رأى رأيه عليه السّلام في الإصرار على الحرب، و منهم من رأى ترك الحرب و الرجوع إلى الحكومة و كانوا كثيرين فاجتمعوا إليه عليه السّلام.

فقالوا: إن لم تفعل قتلناك كما قتلنا عثمان فرجع إلى قولهم و أمر بردّ الأشتر عن الحرب. ثمّ كتبوا كتاب الصلح و طافوا به في أصحابه عليه السّلام و اتّفقوا على الحكومة فخرج بعض أصحابه من هذا الأمر و قالوا: كنت نهيتنا عن الحكومة ثمّ أمرتنا بها فما ندرى أىّ الأمرين أرشد. و هذا يدلّ على أنّك شاكّ في إمامة نفسك. فصفق بإحدى يديه على الاخرى فعل النادم غضبا من قولهم، و قال: هذا جزاء من ترك العقدة: أى عقدة الأمر الّذي عقده و أحكمه و هو الرأى في الحرب و الإصرار عليها، و الّذي كان أمرهم به هو البقاء على الحرب، و هو المكروه الّذي يجعل اللّه فيه خيرا من الظفر و سلامة العاقبة. و قوّمتكم: أى بالقتل و الضرب و نحوه، و كذلك معنى قوله: تداركتكم. و قوله: لكانت الوثقى.

أى الفعلة المحكمة. و قوله: و لكن بمن أى بمن كنت أستعين عليكم، و إلى من أى إلى من أرجع في ذلك. و قوله: اريد أن اداوى بكم. أى اريد أن اداوى ما بى من بعضكم ببعض، و أنتم دائى. فأكون في ذلك كناقش الشوكة بالشوكة و هو يعلم أنّ ضلعها معها، و هذا مثل تضربه العرب لمن يستعان به في إصلاح من يراد إصلاحه و ميله إلى المستعان عليه يقال: لا تنقش الشوكة بالشوكة فإنّ ضلعها معها. يقول: إنّ استعانتى ببعضكم في إصلاح بعض كنقش الشوكة بالشوكة، و وجه المشابهة أنّ طباع بعضكم يشبه طباع بعض و يميل‏ إليها كما تشبه الشوكة الشوكة و تميل إليها فربّما انكسرت معها في العضو و احتاجت إلى منقاش آخر. ثمّ رجع إلى الشكاية إلى اللّه، و أراد بالداء الدوىّ ما هم عليه من الاعتياد المخالفة لأمره و تثاقلهم عن صوته، و بالأطبّاء نفسه. فإنّ داء الجهل و ما يستلزمه أعظم من سائر الأدواء المحسوسة، و فضل أطبّاء النفوس على أطبّاء الأبدان بقدر شرف النفوس على الأبدان، و هى استعارة تكاد أن تكون حقيقة، و كذلك استعارة لفظ النزعة له مثل ضربه لنفسه معهم فكأنّهم عن المصلحة في قعر بئر عميق قد كلّ هو من جذبهم إليها. ثمّ أخذ في السؤال عن إخوانه من أكابر الصحابة الّذين بذلوا جهدهم في نصرة الدين و أعرضوا عن الدنيا استفهاما على سبيل التوبيخ لفقدهم، و هذا كما يقول أحدنا إذا وقع في شدّة أين أخى عنّى ثمّ وصفهم بالأوصاف الحميدة ترغيبا للسامعين في مثل حالهم و إزراءً عليهم حيث لم يكونوا بهذه الأوصاف، و ذلك بطريق المفهوم. و قوله: أولادها. نصب بإسقاط الجارّ. إذ الفعل و هو قوله: و لهوا. غير متعدّى إلى مفعولين بنفسه، و في الخبر: لا توله والدة بولدها. و تولّههم لها بركوبهم إيّاها عند خروجهم للجهاد. و قوله: و أخذوا بأطراف الأرض. أى أخذوها بأطرافها، و زحفا زحفا و صفّا صفّا: مصدران موكّدان بمثليهما قاما مقام الحال. و قوله: لا يبشّرون بالأحياء و لا يعزّون عن القتلى [الموتى خ‏]. أى كانوا في تلك الحال غير ملتفتين إلى حيّهم و لا مراعين و لا محافظين على حياته حتّى يبشّرون ببقائه أو يجزعون لموته فيعزّون عليه بل مجرّدون للجهاد في سبيل اللّه، و لعلّهم يفرحون بقتل من يقتلونه في سبيله و إن كان ولدا لوالده أو بالعكس، و إنّما كان السهر موجبا لصفرة اللون لأنّه يهيّج الحرارة و يفسد السحنة و ينجف البدن و يكثر فيه المرّة، و الصفرة من توابع ذلك لا سيّما في الأبدان النحيفة كما عليه أهل المدينة و مكّة و الحجاز. و غبرة الخاشعين قشف الزاهدين الخائفين‏ من اللّه لعدم تحلّيهم بالدنيا، و استعار لفظ الظماء للشوق إليهم ملاحظة لشبههم بالماء في شدّة الحاجة إليه فنزل الشوق إليهم، و الحاجة إلى لقائهم منزلة العطش إلى الماء فأعطاه لفظه، و أراد بعقدة الدين ما احكم منه من القوانين و القواعد، و بحلّ الشيطان لها تزيينه ترك قانون قانون. و سنّة الاجتماع عقدة عقدها الشارع لما سبق فيها من المصالح و أكّدها. فكانت الفرقة حلّا لتلك العقدة، و نزعات الشيطان حركاته بالإفساد، و نفثاته إلقائه الوسوسة في القلوب مرّة بعد اخرى، و عنى بمن أهدى إليهم النصيحة نفسه. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 115

خطبه 117 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام

تَاللَّهِ لَقَدْ عُلِّمْتُ تَبْلِيغَ الرِّسَالَاتِ- وَ إِتْمَامَ الْعِدَاتِ وَ تَمَامَ الْكَلِمَاتِ- وَ عِنْدَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ أَبْوَابُ الْحُكْمِ وَ ضِيَاءُ الْأَمْرِ- أَلَا وَ إِنَّ شَرَائِعَ الدِّينِ وَاحِدَةٌ وَ سُبُلَهُ قَاصِدَةٌ- مَنْ أَخَذَ بِهَا لَحِقَ وَ غَنِمَ- وَ مَنْ وَقَفَ عَنْهَا ضَلَّ وَ نَدِمَ- اعْمَلُوا لِيَوْمٍ تُذْخَرُ لَهُ الذَّخَائِرُ- وَ تُبْلَى فِيهِ السَّرَائِرُ- وَ مَنْ لَا يَنْفَعُهُ حَاضِرُ لُبِّهِ- فَعَازِبُهُ عَنْهُ أَعْجَزُ وَ غَائِبُهُ أَعْوَزُ- وَ اتَّقُوا نَاراً حَرُّهَا شَدِيدٌ- وَ قَعْرُهَا بَعِيدٌ وَ حِلْيَتُهَا حَدِيدٌ- وَ شَرَابُهَا صَدِيدٌ- أَلَا وَ إِنَّ اللِّسَانَ الصَّالِحَ- يَجْعَلُهُ اللَّهُ لِلْمَرْءِ فِي النَّاسِ- خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْمَالِ يُورِثُهُ مَنْ لَا يَحْمَدُهُ

المعنى

أقول: صدّر الفصل بذكر فضيلته و هى علمه بكيفيّة تبليغ الرسالات و أدائها، و علمه بإتمام اللّه تعالى ما وعد به المتّقين في دار القرار. فتمام وعده أن لا خلف فيه، و تمام إخباره أن لا كذب فيها، و تمام أوامره و نواهيه اشتمالها على المصالح الخاصّة و الغالبة.

و هكذا ينبغي أن يكون أوصياء الأنبياء و خلفائهم في أرض اللّه و عباده. ثمّ أردف ذلك بالاشارة إلى فضل أهل البيت عامّا، و أراد بضياء الأمر أنوار العلوم الّتى يبتنى عليها الأمور و الأعمال الدينيّة و الدنيويّة، و ما ينبغي أن يهتدى الناس به في حركاتهم من قوانين الشريفة و ما يستقيم به نظام الأمر من قوانين السياسات و تدبير المدن و المنازل و نحوها. إذ كان كلّ أمر شرع فيه على غير ضياء من اللّه و رسوله أو أحد أهل بيته و خلفائه الراشدين فهو محلّ التيه و الزيغ عن سبيل اللّه، و استعار لفظ الشرائع و هى موارد الشاربة لأهل البيت. و وجه الاستعارة كونهم موارد لطلّاب العلم كما أنّ الشرائع موارد طلبة الماء، و كونها واحدة إشارة إلى أنّ أقوالهم لا تختلف في الدين بل لمّا علموا أسراره لم تختلف كلمتهم فيه فكلّهم كالشريعة الواحدة، و كذلك استعار لهم لفظ السبل، و وجه المشابهة كونهم موصلين إلى المطالب على بصيرة و قصد كما يوصل الطريق الواضح. و قوله: من أخذ بها لحق. أى من أخذ عنهم و اقتدى بهم لحق بالسابقين من سالكى سبيل اللّه و ندم على تفريطه بتخلّفه. و قيل: أراد بشرائع الدين وسيلة قوانينه الكلّيّة فإنّ أىّ قانون عمل به منها فإنّه مستلزم لثواب اللّه فهى واحدة في ذلك و موصل إلى الجنّة من غير جور و لا عدول و ذلك معنى كونها قاصدة، و الأوّل أظهر لكونه في معرض ذكر فضيلتهم. و لمّا كان غرض الخطيب من إظهار فضيلته قبول قوله شرع في الأمر بالعمل ليوم القيامة. و الذخائر: الأعمال الصالحة.

 معنى قوله: و من لا ينفعه حاضر لبّه. إلى قوله:

أعوز: أن اعتبروا حال حضور عقولكم فإنّها إن لم ينفعكم الآن كانت أعوز و أعجز عن نفعكم إذا عزبت عند حضور الموت و مقاساة أهواله و ما بعده من أحوال الآخرة. ثمّ أكّد التخويف بمناقشة الحساب بالتخويف بالنار، و أراد بحليتها من الحديد ما أعدّ فيها للعصاة من الأغلال و الأصفاد و المقامع و السلاسل الّتى تشبه الحلية. و قوله: ألا و إنّ اللسان. إلى آخره. تنبيه لهم على طلب الذكر الجميل من الناس في العقبى و تهوين للمال، و قد سبقت الاشارة إلى هذا في قوله: أمّا بعد فإنّ الأمر ينزل من السماء إلى الأرض.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 113

 

خطبه 116 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام

و قد جمع الناس و حضهم على الجهاد فسكتوا مليا فقال عليه السّلام: أ مخرسون أنتم فقال قوم منهم: يا أمير المؤمنين، إن سرت سرنا معك، فقال عليه السّلام مَا بَالُكُمْ لَا سُدِّدْتُمْ لِرُشْدٍ وَ لَا هُدِيتُمْ لِقَصْدٍ- أَ فِي مِثْلِ هَذَا يَنْبَغِي أَنْ‏ أَخْرُجَ- وَ إِنَّمَا يَخْرُجُ فِي مِثْلِ هَذَا رَجُلٌ- مِمَّنْ أَرْضَاهُ مِنْ شُجْعَانِكُمْ- وَ ذَوِي بَأْسِكُمْ- وَ لَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَدَعَ الْجُنْدَ وَ الْمِصْرَ- وَ بَيْتَ الْمَالِ وَ جِبَايَةَ الْأَرْضِ- وَ الْقَضَاءَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ- وَ النَّظَرَ فِي حُقُوقِ الْمُطَالِبِينَ- ثُمَّ أَخْرُجَ فِي كَتِيبَةٍ أَتْبَعُ أُخْرَى- أَتَقَلْقَلُ تَقَلْقُلَ الْقِدْحِ فِي الْجَفِيرِ الْفَارِغِ- وَ إِنَّمَا أَنَا قُطْبُ الرَّحَى تَدُورُ عَلَيَّ وَ أَنَا بِمَكَانِي- فَإِذَا فَارَقْتُهُ اسْتَحَارَ مَدَارُهَا- وَ اضْطَرَبَ ثِفَالُهَا- هَذَا لَعَمْرُ اللَّهِ الرَّأْيُ السُّوءُ- وَ اللَّهِ لَوْ لَا رَجَائِي الشَّهَادَةَ عِنْدَ لِقَائِي الْعَدُوَّ- وَ لَوْ قَدْ حُمَّ لِي لِقَاؤُهُ- لَقَرَّبْتُ رِكَابِي- ثُمَّ شَخَصْتُ عَنْكُمْ فَلَا أَطْلُبُكُمْ- مَا اخْتَلَفَ جَنُوبٌ وَ شَمَالٌ- إِنَّهُ لَا غَنَاءَ فِي كَثْرَةِ عَدَدِكُمْ- مَعَ قِلَّةِ اجْتِمَاعِ قُلُوبِكُمْ- لَقَدْ حَمَلْتُكُمْ عَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ- الَّتِي لَا يَهْلِكُ عَلَيْهَا إِلَّا هَالِكٌ- مَنِ اسْتَقَامَ فَإِلَى الْجَنَّةِ وَ مَنْ زَلَّ فَإِلَى النَّارِ

اللغة

أقول: الكتيبة: الجيش. و القدح: السهم قبل أن يراش. و الجفير: كالكنانة أوسع منها. و ثقال الرحى: الجلد الّذي يوضع عليه ليسقط عليه الدقيق. و حمّ الأمر: قدر.

و مدار هذا الفصل على الدعاء عليهم

مصدّرا بالاستفهام عن حالهم القبيحة الّتى هم عليها من مخالفته على سبيل الإنكار عليهم. ثمّ عمّا أشاروا به من خروجه بنفسه إلى الحرب منكرا لذلك أيضا. ثمّ على الإشارة إلى من ينبغي أن يخرج عوضا له. ثمّ بيّن وجه المفسدة في خروجه بنفسه و هو تركه للمصالح الّتى عدّدها ممّا يقوم به أمر الدولة و نظام العالم. و قبح ذلك ظاهر.

و شبّه خروجه معهم بالقدح في الجفير. و وجه الشبه أنّه كان قد نفذ الجيش قبل ذلك و أراد أن يجهز من بقى من الناس في كتيبة اخرى فشبّه نفسه في خروجه في تلك الكتيبة وحده مع تقدّم أكابر جماعته و شجعانها بالقدح في الجفير الفارغ في كونه يتقلقل. و في العرف أن يقال للشريف إذا مشى في حاجة ينوب فيها من هو دونه، و ترك المهامّ الّتى لا تقوم إلّا به: ترك المهمّ الفلانىّ و مشى يتقلقل على كذا. ثمّ استعار لنفسه لفظ القطب ملاحظة لدوران الإسلام و مصالحه عليه كما تدور الرحى على قطبها و ذلك هو وجه الاستعارة، و استلزم ذلك تشبيهه الإسلام و أهله بالرحى، و أنّه إذا أهملها بخروجه إلى الحرب اضطربت كاضطراب الرحى و خروج مدارها و استحارته عن الحركة المستديرة إلى المستقيمة، و لمّا بيّن وجه المفسدة في رأيهم حكم بردائته، و أكّد ذلك بالقسم البارّ. ثمّ أقسم أنّه لو لا رجائه لقاء اللّه بالشهادة في لقاء العدوّ لو قدّر له ذلك لفارقهم غير متأسّف عليهم و لا طالب للعود إليهم أبدا تبرّما من سوء صنيعهم و كثرة مخالفتهم لأوامره. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 111

 

خطبه 115 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام

أَنْتُمُ الْأَنْصَارُ عَلَى الْحَقِّ- وَ الْإِخْوَانُ فِي الدِّينِ- وَ الْجُنَنُ يَوْمَ الْبَأْسِ- وَ الْبِطَانَةُ دُونَ النَّاسِ- بِكُمْ أَضْرِبُ الْمُدْبِرَ وَ أَرْجُو طَاعَةَ الْمُقْبِلِ- فَأَعِينُونِي بِمُنَاصَحَةٍ خَلِيَّةٍ مِنَ الْغِشِّ- سَلِيمَةٍ مِنَ الرَّيْبِ- فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَوْلَى النَّاسِ بِالنَّاسِ

اللغة

أقول: الجنن: جمع جنّة و هى ما استترت به من سلاح. و بطانة الرجل: خاصّته.

و قد اشتمل هذا الفصل على استمالة طباع أصحابه إلى مناصحته في الحرب.
فمدحهم بكونهم من أهل الدين. ثمّ بالشجاعة. ثمّ بإعلامهم أنّهم من أهل خاصّته الّذين يعتمد عليهم في ضرب المدبر و طاعة المقبل، و طلب منهم الإعانة بمناصحة صادقة سليمة من الشكّ في صحّة إمامته و أنّه أولى بالأمر من غيره فلذلك أقسم أنّه كذلك. و قد سبق بيانه.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 111

خطبه 114 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام

فَلَا أَمْوَالَ بَذَلْتُمُوهَا لِلَّذِي رَزَقَهَا- وَ لَا أَنْفُسَ خَاطَرْتُمْ بِهَا لِلَّذِي خَلَقَهَا- تَكْرُمُونَ بِاللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ- وَ لَا تُكْرِمُونَ اللَّهَ فِي عِبَادِهِ- فَاعْتَبِرُوا بِنُزُولِكُمْ مَنَازِلَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ- وَ انْقِطَاعِكُمْ عَنْ أَوْصَلِ إِخْوَانِكُمْ

أقول: مدار هذا الفضل على التوبيخ بالبخل بالأموال و الأنفس

و في قوله: للّذى رزقها و خلقها. استدراج حسن فإنّ البخيل إنّما يستقبح بذله لملاحظة أمرين: أحدهما: خوف الفقر، و الثاني: أنّه كثيرا ما يتوهّم الأشحّاء أن لا مستحقّ للمال إلّا هم فيكون ذلك و أمثاله عذرا لهم مع أنفسهم في عدم البذل، و كذلك الشحيح بنفسه إنّما يشحّ بها خوف الموت و أن لا يكون له من هذه الحياة عوض يساويها فإذا علم أنّ بذل المال لرازقه إيّاه بعد أن يكون حسن الظنّ به زال عذره في البخل لعلمه بتعويضه خيرا منه و بأنّه أحقّ منه. إذ كان المملوك و ما يملك لمولاه، و كذلك يزول عذر الشحيح بنفسه لعلمه أنّ الطالب لبذلها هو الأحقّ بها و أنّه القادر على أن يوصله إلى ما هو خير له من هذه الحياة الفانية، و في انقطاع ما يتوهّمونه عذرا في البخل بالمال و النفس يكون سهولة بذلهما في سبيل اللّه. و قوله: تكرمون باللّه على عباده. أى تفخرون و تشرفون على الخلق بأنّكم أهل طاعة اللّه و عباده. ثمّ لا تكرمونه فيما يدعوكم إليه و لا تجيبون داعيه في إكرام عباده و الالتفات إلى فقرائهم باليسير ممّا رزقكم. ثمّ أمرهم باعتبار نزولهم منازل الدارجين، و انقطاعهم عن أوصل‏ إخوانهم تنبيها لهم على أنّهم أمثالهم في اللحاق بمن سلف و الانقطاع عمّن يبقى، و روى عن أصل إخوانكم: أى أقربهم أصلا إليكم، و فائدة هذا الاعتبار تذكّر الموت و العمل لما بعده.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 110

خطبه113 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

القسم الأول

أَرْسَلَهُ دَاعِياً إِلَى الْحَقِّ- وَ شَاهِداً عَلَى الْخَلْقِ- فَبَلَّغَ رِسَالَاتِ رَبِّهِ- غَيْرَ وَانٍ وَ لَا مُقَصِّرٍ- وَ جَاهَدَ فِي اللَّهِ أَعْدَاءَهُ- غَيْرَ وَاهِنٍ وَ لَا مُعَذِّرٍ- إِمَامُ مَنِ اتَّقَى وَ بَصَرُ مَنِ اهْتَدَى

اللغة

أقول: الواهن: الضعيف. و المعذّر بالتشديد: المقصّر.

المعنى

و اعلم أنّ الأوصاف الّتى ذكرها للنبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ظاهرة، و قد سبقت الإشارة إليها غير مرّة فأمّا كونه إمام من اتّقى فلاستناد أهل التقوى إليه في كيفيّة سلوك سبيل اللّه الّتى هى التقوى، و قد استعار لفظ البصر له. و وجه المشابهة كونه سببا لاهتداء الخلق إلى سبيل الرشاد كما يهتدى صاحب البصيرة في طريقه المحسوس. و باللّه التوفيق.

القسم الثاني مِنْهَا
وَ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ مِمَّا طُوِيَ عَنْكُمْ غَيْبُهُ- إِذاً لَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ- تَبْكُونَ عَلَى أَعْمَالِكُمْ- وَ تَلْتَدِمُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ- وَ لَتَرَكْتُمْ‏ أَمْوَالَكُمْ لَا حَارِسَ لَهَا- وَ لَا خَالِفَ عَلَيْهَا- وَ لَهَمَّتْ كُلَّ امْرِئٍ نَفْسُهُ- لَا يَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِهَا- وَ لَكِنَّكُمْ نَسِيتُمْ مَا ذُكِّرْتُمْ- وَ أَمِنْتُمْ مَا حُذِّرْتُمْ- فَتَاهَ عَنْكُمْ رَأْيُكُمْ- وَ تَشَتَّتَ عَلَيْكُمْ أَمْرُكُمْ- وَ لَوَدِدْتُ أَنَّ اللَّهَ فَرَّقَ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ- وَ أَلْحَقَنِي بِمَنْ هُوَ أَحَقُّ بِي مِنْكُمْ- قَوْمٌ وَ اللَّهِ مَيَامِينُ الرَّأْيِ- مَرَاجِيحُ الْحِلْمِ- مَقَاوِيلُ بِالْحَقِّ- مَتَارِيكُ لِلْبَغْيِ- مَضَوْا قُدُماً عَلَى الطَّرِيقَةِ- وَ أَوْجَفُوا عَلَى الْمَحَجَّةِ- فَظَفِرُوا بِالْعُقْبَى الدَّائِمَةِ- وَ الْكَرَامَةِ الْبَارِدَةِ- أَمَا وَ اللَّهِ لَيُسَلَّطَنَّ عَلَيْكُمْ- غُلَامُ ثَقِيفٍ الذَّيَّالُ الْمَيَّالُ- يَأْكُلُ خَضِرَتَكُمْ- وَ يُذِيبُ شَحْمَتَكُمْ- إِيهٍ أَبَا وَذَحَةَ

قال الشريف: أقول: الوذحة: الخنفساء، و هذا القول يرمى‏ء به إلى الحجاج، و له مع الوذحة حديث ليس هذا موضوع ذكره.

 

اللغة

أقول: الصعدات: جمع الصعد، و هو جمع صعيد و هو وجه الأرض. و اللدم و الالتدام: ضرب الوجه و نحوه. و رأى ميمون: مبارك. و قدما بضمّ القاف و الدال: أى تقدّموا و لم ينثنوا. و الوجيف: ضرب من السير فيه قوّة. و الوذحة: كما قيل- كنية للخنفساء. و لم ينقل ذلك في المشهور من كتب اللغة و إنّما المشهور أنّها القطعة من بعر الشاة تنعقد على أصواف أذنابها و تتعلّق بها.

المعنى

و هذا الفصل من خطبة له بالكوفة يستنهض فيها أصحابه إلى حرب الشام، و يتبرّم من تقاعدهم عن صوته. فنبّههم أوّلا على جهلهم بما سيقع من الفتن في الإسلام ممّا غاب عنهم علمه- و علمه هو من اللّه و رسوله- بحيث لو تصوّروا ما علمه منها لاحتال كلّ منهم في الخلاص لنفسه، و لهاموا على وجه الأرض باكين من تقصيرهم في أعمالهم‏ على وفق أوامره الّتى بها يكون نظام العالم إلى الأبد، و الأمن من تلك الفتن لو فعلوها. و لكنّهم نسوا ما ذكّروا به من آيات اللّه و أمنوا التحذير فضلّت عنهم آراؤهم الصالحة الّتى يكون بها نظام امورهم فاستعقب ذلك تشتّت امورهم و غلبة العدوّ على بلادهم، و قيل: أراد بما طوى عنهم غيبه و علمه هو ما يلقى المقصّرون من أهوال الآخرة. و الأوّل أنسب لسياق الكلام. ثمّ عقّب ذلك بالتبرّم منهم و طلب فراقهم و اللحاق بإخوانه من أولياء اللّه مباركى الآراء، ثقال الحلوم لا يستخفنّهم جهل الجهّال، ملازمى الصدق و نصيحة الدين من شأنهم ترك البغى على أنفسهم و غيرهم، مضوا على الطريقة الحميدة، سالكين لمحجّة اللّه غير ملتفتين عنها فوصلوا إلى الثواب الدائم و النعيم المقيم. و قرينة الظفر تخصّص العقبى بالثواب. و العرب تصف النعمة و الكرامة بالبرد. ثمّ بيّن لهم بعض ما سيلحقهم من الفتن العظيمة ممّا طوى عنهم غيبه و هي فتنة الحجّاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن مسعود بن عامر بن معتب بن ملك بن كعب بن الأخلاف- قوم من ثقيف- و كان ضعيف العين، دقيق الصوت، ذيّالا: أى طويل الذيل يصحبه تبخترا، ميّالا: أى يكثر التمايل كبرا، و أخبر أنّه يأكل خضرتهم، و كنّى بها عمّا هم عليه من الابّهة و سلامة النفوس و الأموال و حسن الأحوال و بأكله لها عن إزالة تلك و تغييرها إلى أضدادها، و لفظ الأكل مستعار لذلك، و وجه الاستعارة ظاهر، و كذلك استعار الشحمة لثرائهم و قوّتهم و وصف الإذابة لإفناء ذلك بالقتل و الإهانة، و مصداق ذلك المشهور من فعله بأهل العراق كما سبق بيانه في ذكر الكوفة. ثمّ قال: إيه أبا وذحة. و كلمة إيه اسم من أسماء فعل الأمر يستدعى بها الحديث المعهود من الغير- إن سكنت- و إن نوّنت كانت لاستدعاء قول أو فعل ما، و قيل: التسكين للوقف و التنوين للدرج فأمّا تلقيبه عليه السّلام له بأبى وذحة فروى في سبب ذلك أنّه كان يوما يصلّى على سجّادة له فدبّت إليه خنفساء. فقال: نحوّها عنّى فإنّها وذحة من وذح الشيطان. و روى أنّه قال: قاتل اللّه قوما يزعمون أنّ هذه من خلق اللّه. فقيل له: ممّا هى فقال: من وذح إبليس، و كأنّه شبّهها بالوذحة المتعلّقة بذنب الشاة في حجمها أو شكلها فاستعار لها لفظها و نسبته لها إلى إبليس لاستقذاره إيّاه و استكراهه لصورتها أو لأنّها تشوّشه في الصلاة، و روى أبو علىّ بن مسكويه: أنّه نحّاها بقصبته و قال: لعنك اللّه وذحة من وذح الشيطان، و نقل بعض الشارحين و دجة بالدال و الجيم، و كنّى بذلك عن كونه سفّاكا للدماء قطّاعا للأوداج، و فيه بعد.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 107

 

خطبه111شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْوَاصِلِ الْحَمْدَ بِالنِّعَمِ- وَ النِّعَمَ بِالشُّكْرِ نَحْمَدُهُ عَلَى آلَائِهِ- كَمَا نَحْمَدُهُ عَلَى بَلَائِهِ- وَ نَسْتَعِينُهُ عَلَى هَذِهِ النُّفُوسِ الْبِطَاءِ- عَمَّا أُمِرَتْ بِهِ- السِّرَاعِ إِلَى مَا نُهِيَتْ عَنْهُ- وَ نَسْتَغْفِرُهُ مِمَّا أَحَاطَ بِهِ عِلْمُهُ- وَ أَحْصَاهُ كِتَابُهُ عِلْمٌ غَيْرُ قَاصِرٍ- وَ كِتَابٌ غَيْرُ مُغَادِرٍ- وَ نُؤْمِنُ بِهِ إِيمَانَ مَنْ عَايَنَ الْغُيُوبَ- وَ وَقَفَ عَلَى الْمَوْعُودِ- إِيمَاناً نَفَى إِخْلَاصُهُ الشِّرْكَ وَ يَقِينُهُ الشَّكَّ- وَ نَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ- وَ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ- ص شَهَادَتَيْنِ تُصْعِدَانِ الْقَوْلَ وَ تَرْفَعَانِ الْعَمَلَ- لَا يَخِفُّ مِيزَانٌ تُوضَعَانِ فِيهِ- وَ لَا يَثْقُلُ مِيزَانٌ تُرْفَعَانِ عَنْهُ أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ- الَّتِي هِيَ الزَّادُ وَ بِهَا الْمَعَاذُ- زَادٌ مُبْلِغٌ وَ مَعَاذٌ مُنْجِحٌ- دَعَا إِلَيْهَا أَسْمَعُ دَاعٍ- وَ وَعَاهَا خَيْرُ وَاعٍ- فَأَسْمَعَ دَاعِيهَا وَ فَازَ وَاعِيهَا- عِبَادَ اللَّهِ إِنَّ تَقْوَى اللَّهِ حَمَتْ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ مَحَارِمَهُ- وَ أَلْزَمَتْ قُلُوبَهُمْ مَخَافَتَهُ- حَتَّى أَسْهَرَتْ لَيَالِيَهُمْ وَ أَظْمَأَتْ هَوَاجِرَهُمْ- فَأَخَذُوا الرَّاحَةَ بِالنَّصَبِ وَ الرِّيَّ بِالظَّمَإِ- وَ اسْتَقْرَبُوا الْأَجَلَ فَبَادَرُوا الْعَمَلَ- وَ كَذَّبُوا الْأَمَلَ فَلَاحَظُوا الْأَجَلَ- ثُمَّ إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ فَنَاءٍ وَ عَنَاءٍ وَ غِيَرٍ وَ عِبَرٍ- فَمِنَ الْفَنَاءِ أَنَّ الدَّهْرَ مُوتِرٌ قَوْسَهُ- لَا تُخْطِئُ سِهَامُهُ- وَ لَا تُؤْسَى جِرَاحُهُ يَرْمِي الْحَيَّ بِالْمَوْتِ- وَ الصَّحِيحَ بِالسَّقَمِ- وَ النَّاجِيَ بِالْعَطَبِ- آكِلٌ لَا يَشْبَعُ وَ شَارِبٌ لَا يَنْقَعُ- وَ مِنَ الْعَنَاءِ أَنَّ الْمَرْءَ يَجْمَعُ مَا لَا يَأْكُلُ- وَ يَبْنِي مَا لَا يَسْكُنُ- ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى- لَا مَالًا حَمَلَ وَ لَا بِنَاءً نَقَلَ- وَ مِنْ غِيَرِهَا أَنَّكَ تَرَى الْمَرْحُومَ مَغْبُوطاً- وَ الْمَغْبُوطَ مَرْحُوماً- لَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا نَعِيماً زَلَّ وَ بُؤْساً نَزَلَ- وَ مِنْ عِبَرِهَا أَنَّ الْمَرْءَ يُشْرِفُ عَلَى أَمَلِهِ- فَيَقْتَطِعُهُ حُضُورُ أَجَلِهِ- فَلَا أَمَلٌ يُدْرَكُ- وَ لَا مُؤَمَّلٌ يُتْرَكُ- فَسُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَعَزَّ سُرُورَهَا- وَ أَظْمَأَ رِيَّهَا وَ أَضْحَى فَيْئَهَا- لَا جَاءٍ يُرَدُّ وَ لَا مَاضٍ يَرْتَدُّ- فَسُبْحَانَ اللَّهِ- مَا أَقْرَبَ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ لِلَحَاقِهِ بِهِ- وَ أَبْعَدَ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ لِانْقِطَاعِهِ عَنْهُ- إِنَّهُ لَيْسَ شَيْ‏ءٌ بِشَرٍّ مِنَ الشَّرِّ إِلَّا عِقَابُهُ- وَ لَيْسَ شَيْ‏ءٌ بِخَيْرٍ مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا ثَوَابُهُ- وَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ مِنَ الدُّنْيَا سَمَاعُهُ أَعْظَمُ مِنْ عِيَانِهِ- وَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ مِنَ الْآخِرَةِ عِيَانُهُ أَعْظَمُ مِنْ سَمَاعِهِ- فَلْيَكْفِكُمْ مِنَ الْعِيَانِ السَّمَاعُ- وَ مِنَ الْغَيْبِ الْخَبَرُ- وَ اعْلَمُوا أَنَّ مَا نَقَصَ مِنَ الدُّنْيَا- وَ زَادَ فِي الْآخِرَةِ- خَيْرٌ مِمَّا نَقَصَ مِنَ الْآخِرَةِ- وَ زَادَ فِي الدُّنْيَا- فَكَمْ مِنْ مَنْقُوصٍ رَابِحٍ وَ مَزِيدٍ خَاسِرٍ- إِنَّ الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ أَوْسَعُ مِنَ الَّذِي نُهِيتُمْ عَنْهُ- وَ مَا أُحِلَّ لَكُمْ أَكْثَرُ مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ- فَذَرُوا مَا قَلَّ لِمَا كَثُرَ وَ مَا ضَاقَ لِمَا اتَّسَعَ- قَدْ تَكَفَّلَ لَكُمْ بِالرِّزْقِ- وَ أُمِرْتُمْ بِالْعَمَلِ- فَلَا يَكُونَنَّ الْمَضْمُونُ لَكُمْ طَلَبُهُ- أَوْلَى بِكُمْ مِنَ الْمَفْرُوضِ عَلَيْكُمْ عَمَلُهُ- مَعَ أَنَّهُ وَ اللَّهِ لَقَدِ اعْتَرَضَ الشَّكُّ- وَ دَخَلَ الْيَقِينُ- حَتَّى كَأَنَّ الَّذِي ضُمِنَ لَكُمْ قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ- وَ كَأَنَّ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْكُمْ قَدْ وُضِعَ عَنْكُمْ- فَبَادِرُوا الْعَمَلَ وَ خَافُوا بَغْتَةَ الْأَجَلِ- فَإِنَّهُ لَا يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ الْعُمُرِ- مَا يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ الرِّزْقِ- مَا فَاتَ الْيَوْمَ مِنَ الرِّزْقِ رُجِيَ غَداً زِيَادَتُهُ- وَ مَا فَاتَ أَمْسِ مِنَ الْعُمُرِ- لَمْ يُرْجَ الْيَوْمَ رَجْعَتُهُ- الرَّجَاءُ مَعَ الْجَائِي وَ الْيَأْسُ مَعَ الْمَاضِي- فَ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ- وَ لا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ‏

اللغة

أقول: لا توسى: أى لا تداوى. و لا ينقع: لا يسكن عطشه. و أضحى: برز لحرّ الشمس.

و في الخطبة لطائف:
الاولى: أنّه صدّر الخطبة بحمد اللّه تعالى باعتبارين:
أحدهما: وصله حمد حامديه بإفاضة نعمه عليهم
كما قال تعالى «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ» و سرّه أنّ العبيد يستعدّ بشكر النعمة.
الثاني: وصله النعم الّتى يفيضها على عباده
بإفاضة الاعتراف بها على أسرار قلوبهم، و قد علمت: أنّ الاعتراف بالنعم هي حقيقة الشكر فظهر إذن معنى وصله النعم بالشكر، و إنّ الشكر و التوفيق له نعم اخرى كما سبقت الإشارة إليه في الخطبة الاولى، و يحتمل أن يريد الشكر منه تعالى لعباده الشاكرين كما قال تعالى «إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ» و ظاهر أنّ وصله نعمه بشكره في نهاية التفضّل و الإنعام فإنّ الإحسان المتعارف يستتبع الشكر من المحسن إليه فأمّا من المحسن فذلك تفضّل آخر و رتبة أعلى.

الثانية: أنّه نبّه بتسويته بين حمده على النعماء و حمده على البلاء
تنبيها منه على وجوب ذلك لأنّ النعمة قد تكون بلاءا من اللّه كما قال تعالى «وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً» و البلاء منه أيضا نعمة يستحقّ به الثواب الآجل، و سبب النعمة نعمة، و بهذا الاعتبار يجب الشكر على البلاء أيضا كما يجب على النعماء. إذ الكلّ نعمة.

الثالثة: نبّه على وجوب استعانته تعالى على النفوس
و ذكر ما لأجله الاستعانة عليها و هو كونها بطاء عمّا امرت به من سائر التكاليف. و ذلك لحاجة النفوس إلى مقاومة الطبيعة سراعا إلى ما نهيت عنه من المعاصى، و ذلك لموافقتها مقتضى الطبيعة.

الرابعة: نبّه على وجوب طلب المغفرة من اللّه لكلّ ذنب صغير أو كبير
ممّا أحاط به علمه و أحصاه كتابه المبين و لوحه المحفوظ- جبرئيل الأمين- علما أحاط بكلّ شي‏ء و كتابا غير مغادر لشي‏ء.

الخامسة: إنّما خصّ إيمان من عاين الغيوب و وقف على الموعود
أى وقف على ما وعد به المتّقون بعين الكشف لكونه أقوى درجات الإيمان فإنّ من الإيمان ما يكون بحسب التقليد، و منه ما يكون بحسب البرهان و هو علم اليقين، و أقوى منه الإيمان بحسب الكشف و المشاهدة و هو عين اليقين، و ذلك هو الإيمان الخالص فيه و بحسب الإخلاص فيه يكون نفى الشرك، و بحسب يقينه يعنى اعتقاد أنّ الأمر كذا مع اعتقاد أنّه لا يمكن أن يكون إلّا كذا يكون نفى الشكّ، و قد علمت أنّه عليه السّلام من أهل هذه المرتبة.

السادسة: كون الشهادتين تصعدان القول و ترفعان العمل
و ذلك أنّ إخلاص الشهادتين أصل لقبول الأقوال و الأعمال الصالحة لا يصعد إلى اللّه قول و عمل لا تكونان أصلا له، و أشار إلى ذلك بقوله: لا يخفّ ميزان توضعان فيه و لا يثقل ميزان ترفعان عنه. و قد أشرنا إلى معنى الوزن فيما سبق و سنزيده بيانا إنشاء اللّه تعالى.

السابعة: أراد بكون تقوى اللّه هى الزاد
أنّها الزاد المبلّغ و أنّ بها المعاد: أى المعاد المنجح، و لذلك أوردهما تفسيرا.

الثامنة: أراد بأسمع داع
أشدّ الداعين إسماعا و تبليغا و هو الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أراد بخير واع المسارعين إلى داعى اللّه الّذين هم أفضل القوابل الإنسانيّة.

التاسعة: وصف ما يستلزم تقوى اللّه من الآثار في أولياء اللّه
و وصف الليالى بالسهر، و الهواجر بالظماء لكونهما ظرفين. فالليالى لقيام الصلاة و النهار للصوم فكان مجازا من باب إطلاق صفة المظروف على الظرف، و هو كقولهم: نهاره صائم و ليله قائم، و أخذهم الراحة: أى في الآخرة بالنصب: أى بتعب الأبدان من القيام، و الرىّ من عين تسمّى سبيلا بالاستعداد بظمأ الصيام، و الفاء في فبادروا و لاحظوا للتعليل فإنّ استقراب الأجل مستلزم للعمل له و لما بعده، و كذلك تكذيب الأمل و انقطاعه ملازم لملاحظة الأجل.

العاشرة. ذكر مذامّ الدنيا إجمالا
و هو كونها دار فناء و عناء و غير و عبر.
ثمّ أعقب ذلك الإجمال بتفصيل كلّ جملة و ذلك إلى قوله: و لا مؤمّل يترك. و استعار لفظ الإيتار لإيتار الدهر، و رشّح بذكر القوس، و وجه الاستعارة أنّ الدهر كما يرمى بمصائبه المستندة إلى القضاء الإلهىّ الّذي لا يتغيّر كما يرمى الرامى الّذي لا يخطى‏ء، و كذلك استعار لفظ الجراح لنوائب الدهر لاشتراكهما في الإيلام، و رشّح بذكر عدم المداواة، و كذلك استعار له لفظ الآكل و الشارب عديمى الشبع و الرىّ، و وجه المشابهة كونه يأتي على الخلق فيفنيهم كما يأتي الآكل و الشارب المذكوران على الطعام و الشراب فيفنيانهما، و أراد بالمرحوم الّذي يرى مغبوطا أهل المسكنة و الفقر الّذي يتبدّل فقرهم بالغنى فيغبطون، و بالمغبوط الّذي يرى مرحوما أهل الغنى المتبدّلين به فقرا بحسب تصاريف الدهر فيصيروا في محلّ الرحمة، و قوله: ليس ذلك إلّا نعيما زلّ: أى عن المغبوطين و بؤسا نزل بهم.

الحادية عشر: نسب الغرور إلى سرورها و الظماء إلى ريّها و الضحى إلى فيئها،
و أتى بلفظ التعجّب، و كنّى بريّها عن استتمام لذّاتها، و بفيئها عن الركون إلى قنياتها و الاعتماد عليها، و وجه هذه النسب أنّ سرورها و فيئها هي الصوارف عن العمل للآخرة و الملفتات عن الإقبال على اللّه فكان سرورها أقوى سبب للغرور بها، و ريّها و فيئها أقوى الأسباب لظماء منهمك فيها من شراء الأبرار و أوجب لأبراره إلى حرّ الجحيم فلهذه النسبة جازت إضافة الغرور و الظماء و الضحى إلى سرورها و ريّها و فيئها و قوله: لا جاء يردّ: أى من آفات الدهر كالموت و القتل و نحوهما، و لا ماض يرتدّ: أى من الأموات و الفائت من القنيات.

الثانية عشر: قوله: أنّه ليس شي‏ء بشرّ من الشرّ إلّا عقابه. إلى قوله: سماعه.
يحتمل أن يريد الشرّ و الخير المطلقين، و يكون ذلك للمبالغة. إذ يقال للأمر الشريف و الشديد: هذا أشدّ من الشديد و أجود من الجيّد، و يحتمل أن يريد شرّ الدنيا و خيرها فإنّ أعظم شرّ في الدنيا مستحقر في عقاب اللّه، و أعظم خير فيها مستحقر بالنسبة إلى ثواب اللّه. ثمّ أكّد ذلك بأعظميّة أحوال الآخرة بالنسبة إلى أحوال الدنيا. و مصداق كلامه عليه السّلام أنّ أعظم شرّ يتصوّر الإنسان بالسماع و يستهوله و يستنكره ممّن يفعله صورة القتل و الجراح فإذا وقع في مثل تلك الأحوال و شاهدها و اضطرّ إلى المخاصمة و المحاربة سهل عليه ما كان يستصعبه منها و هان في عينه ذلك الوقع و الخوف، و كذلك لا يزال الإنسان يتخوّف المثول بين يدي الملوك و يتصوّر عظمتهم و بطشهم إلى أن يصل إلى مجالسهم فإنّه يجد من نفسه زوال ذلك الخوف. فكانت مشاهدة ما كان يتصوّره شرّا عظيما أهون عنده من وصفه و السماع له، و كذلك حال الخير فإنّ الإنسان لا يزال يحرص على تحصيل الدرهم و الدينار و غيرهما من سائر مطالب الدنيا، و يكون قلبه مشغولا بتحصيله فرحا بانتظار وصوله فإذا وصل إليه هان عليه. و هو أمر وجدانىّ، و أمّا أحوال الآخرة فالّذي يسمعه من شرورها و خيراتها إنّما يلاحظها بالنسبة إلى خيرات الدنيا و شرورها، و ربّما كانت في اعتبار أكثر الخلق أهون من خيرات الدنيا و شرورها لقرب الخلق من المحسوس و قرب الدنيا منهم و ذوقهم لها دون الآخرة مع قيام البرهان العقلىّ على ضعف الأحوال الحاضرة من خير و شرّ بالقياس إلى أحوال الآخرة فلذلك كان عيان أحوالها أعظم من سماعها. و إذا كانت الحال كذلك فينبغى أن يكتفى من العيان بالسماع، و من الغيب بالخبر حيث لا يمكن الاطّلاع على الغيب و مشاهدة العيان لتلك الأحوال في هذه العالم. ثمّ نبّه على أفضليّة الآخرة بأنّ ما زاد فيها ممّا يقرّب إلى اللّه تعالى فإن استلزم نقصان الدنيا من بذل مال أو جاه خير من العكس. و بيان هذه الخيريّة كون خيرات الدنيا في معرض الزوال مشوبة بالأوجاع و الأوجال (الأوحال خ) و كون تلك باقية على كلّ حال مع كونها في نهاية الكمال، و ضرب المثل بأكثريّة المنقوص من الدنيا الرابح في الآخرة، و هم أولياء اللّه و أحبّائه الّذين اشترى منهم أنفسهم و أموالهم بأنّ لهم الجنّة، و بأكثريّة المزيد الخاسر الّذين يكنزون الذهب و الفضّة و لا ينفقونها في سبيل اللّه فبشّرهم بعذاب أليم. ثمّ أكّد الحثّ على سلوك طريق الآخرة ببيان اتّساعها بالنسبة إلى طريق الدنيا. فقال: إنّ الّذي امرتم به أوسع من الّذي نهيتم عنه، و ذلك ظاهر فإنّ كبائر ما نهينا عنه خمس: القتل. و في الحلم و العفو و الصبر الّتى هى من أشرف الأخلاق المحمودة سعة عنه. ثمّ الظلم. و في العدل و الاقتصار على تناول الامور المباحة الّتى هى أكثر و أوسع سعة عنه. ثمّ الكذب الّذي هو رأس النفاق و عليه يبتنى خراب العالم. و في المعاريض و الصدق الّذي هو بضدّه في عمارة العالم مندوحة عنه. ثمّ الزنا. و لا شكّ أنّ في سائر وجوه النكاحات مع كثرتها و سلامتها عن المفاسد اللازمة عن الزنا سعة عنه. ثمّ شرب الخمر الّتى هى امّ الخبائث و منشأ كثير من الفساد. و في تركها إلى ما أفعالها الّتى تدّعى كونها محمودة من سائر الأشربة و غيرها معدل عنها و سعة. و كذلك قوله: و ما أحلّ لكم أكثر ممّا حرّم عليكم فانّ الواجب و المندوب و المباح و المكروه يصدق على جميعها اسم الحلال، و هى أكثر من الحرام الّذي هو قسم واحد من الأحكام ثمّ لمّا نبّه على وجه المصلحة في ترك المنهىّ و المحرّم أردف ذلك بالأمر بتركهما لأنّ العقل إذا لاحظ طريقا مخوفا واحدا بين طرق كثيرة آمنة اقتضى العدول عن المخوفة لضرورته.

الثالثة عشر: نبّه بالنهى عن ترجيح طلب الرزق على الاشتغال بفرائض اللّه،
و على أنّ الاشتغال بها أولى بكون الرزق مضمونا. فالسعى في تحصيله يجرى مجرى تحصيل الحاصل. ثمّ أردف ذلك بما يجرى مجرى التوبيخ للسامعين على ترجيحهم طلب الرزق على الاشتغال بالفرائض فأقسم أنّ ذلك منهم عن اعتراض الشكّ لهم فيما تيقّنوه من تكفّل اللّه سبحانه بأرزاقهم و وعده و ضمانه لهم بقوله «وَ فِي السَّماءِ
رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ» أى في سماء جوده، و قد علمت أنّ الجدّ في طلب الرزق يستند إلى ضعف التوكّل على اللّه و هو مستند إلى ضعف اليقين فيه و سوء الظنّ به، و ذلك يستلزم استناد العبد إلى نفسه و توكّله عليها. و جعلهم في طلب الرزق كمن تيقّن المضمون له مفروضا طلبه عليه، و المفروض عليه طلبه موضوعا عنه. مبالغة في قلّة احتفالهم بفرائض اللّه عليهم و اشتغالهم عنها بطلب الدنيا.

الرابعة عشر: نبّه على وجوب المحافظة على العمر بالعمل فيه للآخرة
و على أولويّة مراعاته بالنسبة إلى مراعاة طلب الرزق بكون العمر لا يرجى من رجعته ما يرجى من رجعة الرزق فإنّ العمر في تقضّ و نقصان، و ما فات منه غير عائد بخلاف الرزق فإنّه يرجى زيادته و جبران ما نقص منه في الماضى، و لمّا كان العمر الّذي من شأنه أن لا يعود ما فات منه طرفا للعمل و يفوت بفواته وجب تدارك العمل بتداركه، و قوله: الرجاء مع الجائى. يريد الرزق، و اليأس مع الماضى. يريد العمر.
و هو مؤكّد لما قبله.

الخامسة عشر: أنّه ختم بالآية اقتباسا من نور القرآن
و وجه هذه الاقتباس أنّه لمّا كان الكلام في معرض جذب السامعين إلى العمل الّذي هو سبب تطويع النفس الأمّارة بالسوء للنفس المطمئنّة الّذي هو جزء من الرياضة، و كان التقوى عبارة عن الزهد في الدنيا الّذي حقيقته حذف الموانع الداخليّة و الخارجيّة عن القلب الّذي هو الجزء الثاني من الرياضة، و كان الإسلام هو الدين الحقّ المركّب من ذينك الجزئين لا جرم حسن إيراد الآية المشتملة على الأمر بالتقوى و الموت على الإسلام بعد الأمر بالعمل ليكون ذلك أمرا بإكمال الدين و إتمامه. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 98

 

خطبه112 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام في الاستسقاء

اللَّهُمَّ قَدِ انْصَاحَتْ جِبَالُنَا- وَ اغْبَرَّتْ أَرْضُنَا وَ هَامَتْ دَوَابُّنَا- وَ تَحَيَّرَتْ فِي مَرَابِضِهَا- وَ عَجَّتْ عَجِيجَ الثَّكَالَى عَلَى أَوْلَادِهَا- وَ مَلَّتِ التَّرَدُّدَ فِي مَرَاتِعِهَا- وَ الْحَنِينَ إِلَى مَوَارِدِهَا- اللَّهُمَّ فَارْحَمْ أَنِينَ الْآنَّةِ- وَ حَنِينَ الْحَانَّةِ- اللَّهُمَّ فَارْحَمْ حَيْرَتَهَا فِي مَذَاهِبِهَا- وَ أَنِينَهَا فِي مَوَالِجِهَا- اللَّهُمَّ خَرَجْنَا إِلَيْكَ- حِينَ اعْتَكَرَتْ عَلَيْنَا حَدَابِيرُ السِّنِينَ- وَ أَخْلَفَتْنَا مَخَايِلُ الْجُودِ- فَكُنْتَ الرَّجَاءَ لِلْمُبْتَئِسِ- وَ الْبَلَاغَ لِلْمُلْتَمِسِ نَدْعُوكَ حِينَ قَنَطَ الْأَنَامُ- وَ مُنِعَ الْغَمَامُ وَ هَلَكَ السَّوَامُ- أَلَّا تُؤَاخِذَنَا بِأَعْمَالِنَا- وَ لَا تَأْخُذَنَا بِذُنُوبِنَا- وَ انْشُرْ عَلَيْنَا رَحْمَتَكَ بِالسَّحَابِ الْمُنْبَعِقِ- وَ الرَّبِيعِ الْمُغْدِقِ- وَ النَّبَاتِ الْمُونِقِ سَحّاً وَابِلًا- تُحْيِي بِهِ مَا قَدْ مَاتَ- وَ تَرُدُّ بِهِ مَا قَدْ فَاتَ- اللَّهُمَّ سُقْيَا مِنْكَ مُحْيِيَةً مُرْوِيَةً- تَامَّةً عَامَّةً طَيِّبَةً مُبَارَكَةً- هَنِيئَةً مَرِيعَةً- زَاكِياً نَبْتُهَا ثَامِراً فَرْعُهَا نَاضِراً وَرَقُهَا- تُنْعِشُ بِهَا الضَّعِيفَ مِنْ عِبَادِكَ- وَ تُحْيِي بِهَا الْمَيِّتَ مِنْ بِلَادِكَ- اللَّهُمَّ سُقْيَا مِنْكَ تُعْشِبُ بِهَا نِجَادُنَا- وَ تَجْرِي بِهَا وِهَادُنَا- وَ يُخْصِبُ بِهَا جَنَابُنَا- وَ تُقْبِلُ بِهَا ثِمَارُنَا- وَ تَعِيشُ بِهَا مَوَاشِينَا- وَ تَنْدَى بِهَا أَقَاصِينَا- وَ تَسْتَعِينُ بِهَا ضَوَاحِينَا- مِنْ بَرَكَاتِكَ الْوَاسِعَةِ- وَ عَطَايَاكَ الْجَزِيلَةِ- عَلَى بَرِيَّتِكَ الْمُرْمِلَةِ وَ وَحْشِكَ الْمُهْمَلَةِ- وَ أَنْزِلْ عَلَيْنَا سَمَاءً مُخْضِلَةً مِدْرَاراً هَاطِلَةً- يُدَافِعُ الْوَدْقُ مِنْهَا الْوَدْقَ- وَ يَحْفِزُ الْقَطْرُ مِنْهَا الْقَطْرَ- غَيْرَ خُلَّبٍ بَرْقُهَا- وَ لَا جَهَامٍ عَارِضُهَا- وَ لَا قَزَعٍ رَبَابُهَا- وَ لَا شَفَّانٍ ذِهَابُهَا- حَتَّى يُخْصِبَ لِإِمْرَاعِهَا الْمُجْدِبُونَ- وَ يَحْيَا بِبَرَكَتِهَا الْمُسْنِتُونَ- فَإِنَّكَ تُنْزِلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا- وَ تَنْشُرُ رَحْمَتَكَ وَ أَنْتَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ

قال الشريف: قوله عليه السّلام «انصاحت جبالنا» أى: تشققت من المحول، يقال: انصاح الثوب، إذا انشق. و يقال أيضا: انصاح النبت و صاح و صوّح إذا جفّ و يبس. و قوله «و هامت دوابنا» أى: عطشت، و الهيام: العطش و قوله «حدابير السنين» جمع حدبار: و هى الناقة التي أنضاها السير فشبه بها السنة التي فشا فيها الجدب، قال ذو الرمة:-
حدابير ما تنفكّ إلّا مناخة على الحسف أو نرمى بها بلدا قفرا

و قوله «و لا قزع ربابها»: القزع: القطع الصغار المتفرقة من السحاب، و قوله «و لا شفان ذهابها» فإن تقديره: و لا ذات شفان ذهابها، و الشفان: الريح الباردة، و الذهاب: الأمطار اللينة، فحذف «ذات» لعلم السامع به.

اللغة

و أقول: اعتكرت: اختلطت و ازدحمت. و المخائل: جمع مخيلة للسحابة الّتى ترجى المطر. و المبتئس: الحزين. و المنبعق و المنبعج: السحاب المنصبّ بشدّة.
و الربيع هنا: المطر. و السقيا بالضمّ: الاسم من السقى. و المريع: المخصب. و النجاد: جمع نجد و هو المرتفع من الأرض. و الضواحى: النواحى البارزة: أى أهل نواحينا. و المرملة: قليلة المطر. و المخضلة: الرطبة. و الودق: القطر.
و الجهام: المظلم الّذي لا ماء فيه. و الخلّب: الّتى يكذب الظنّ فيها. و المسنتون: الّذين أصابتهم شدّة السنة.

المعنى

و اعلم أنّه نبّه بقوله. ندعوك عن لا تؤاخذنا بأعمالنا و لا تأخذنا بذنوبنا. على أنّ للذنوب و الأعمال الخارجة عن أوامر اللّه تأثير في رفع الرحمة. و سرّ ذلك‏ أنّ الجود الإلهىّ لا بخل فيه و لا منع من قبله و إنّما يكون ذلك بحسب عدم الاستعداد و قلّته و كثرته، و ظاهر أنّ المقبلين على الدنيا المرتكبين لمحارم اللّه معرضون عنه غير متلقّين لآثار رحمته بل مستعدّون لضدّ ذلك أعنى سخطه و عذابه بحسب استعدادهم بالانهماك في محارمه و الجور عن سبيله، و حرىّ بمن كان كذلك أن لا تناله بركة، و لا يفاض عليه أثر رحمة، و نصب سحّا و وابلا على الحال و العامل انشر، و أراد بالسماء المخضلة هنا السحاب، و العرب تقول: كلّ ما علاك فهو سماءك، و معنى إنزاله إرسال مائه و إدراره، و يحتمل أن يريد بالسماء المطر نفسه، و نحوه أنزل علينا الغيث، و قد اقتبس من القرآن الكريم ختام هذا الفصل أيضا، و وجه مناسبته للآية ظاهر. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 104

 

خطبه 110 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام
وَ أُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا مَنْزِلُ قُلْعَةٍ- وَ لَيْسَتْ بِدَارِ نُجْعَةٍ- قَدْ تَزَيَّنَتْ بِغُرُورِهَا- وَ غَرَّتْ بِزِينَتِهَا- هَانَتْ عَلَى رَبِّهَا فَخَلَطَ حَلَالَهَا بِحَرَامِهَا- وَ خَيْرَهَا بِشَرِّهَا وَ حَيَاتَهَا بِمَوْتِهَا وَ حُلْوَهَا بِمُرِّهَا- لَمْ يُصْفِهَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَوْلِيَائِهِ- وَ لَمْ يَضِنَّ بِهَا عَلَى أَعْدَائِهِ- خَيْرُهَا زَهِيدٌ وَ شَرُّهَا عَتِيدٌ- وَ جَمْعُهَا يَنْفَدُ وَ مُلْكُهَا يُسْلَبُ‏ وَ عَامِرُهَا يَخْرَبُ- فَمَا خَيْرُ دَارٍ تُنْقَضُ نَقْضَ الْبِنَاءِ- وَ عُمُرٍ يَفْنَى فِيهَا فَنَاءَ الزَّادِ- وَ مُدَّةٍ تَنْقَطِعُ انْقِطَاعَ السَّيْرِ- اجْعَلُوا مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنْ طَلَبِكُمْ وَ اسْأَلُوهُ مِنْ أَدَاءِ حَقِّهِ مَا سَأَلَكُمْ- وَ أَسْمِعُوا دَعْوَةَ الْمَوْتِ- آذَانَكُمْ قَبْلَ أَنْ يُدْعَى بِكُمْ- إِنَّ الزَّاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا تَبْكِي قُلُوبُهُمْ وَ إِنْ ضَحِكُوا- وَ يَشْتَدُّ حُزْنُهُمْ وَ إِنْ فَرِحُوا- وَ يَكْثُرُ مَقْتُهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَ إِنِ اغْتَبَطُوا بِمَا رُزِقُوا- قَدْ غَابَ عَنْ قُلُوبِكُمْ ذِكْرُ الْآجَالِ- وَ حَضَرَتْكُمْ كَوَاذِبُ الْآمَالِ- فَصَارَتِ الدُّنْيَا أَمْلَكَ بِكُمْ مِنَ الْآخِرَةِ- وَ الْعَاجِلَةُ أَذْهَبَ بِكُمْ مِنَ الْآجِلَةِ- وَ إِنَّمَا أَنْتُمْ إِخْوَانٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ- مَا فَرَّقَ بَيْنَكُمْ إِلَّا خُبْثُ السَّرَائِرِ- وَ سُوءُ الضَّمَائِرِ- فَلَا تَوَازَرُونَ وَ لَا تَنَاصَحُونَ- وَ لَا تَبَاذَلُونَ وَ لَا تَوَادُّونَ- مَا بَالُكُمْ تَفْرَحُونَ بِالْيَسِيرِ مِنَ الدُّنْيَا تُدْرِكُونَهُ- وَ لَا يَحْزُنُكُمُ الْكَثِيرُ مِنَ الْآخِرَةِ تُحْرَمُونَهُ- وَ يُقْلِقُكُمُ الْيَسِيرُ مِنَ الدُّنْيَا يَفُوتُكُمْ- حَتَّى يَتَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي وُجُوهِكُمْ- وَ قِلَّةِ صَبْرِكُمْ عَمَّا زُوِيَ مِنْهَا عَنْكُمْ- كَأَنَّهَا دَارُ مُقَامِكُمْ وَ كَأَنَّ مَتَاعَهَا بَاقٍ عَلَيْكُمْ- وَ مَا يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ أَنْ يَسْتَقْبِلَ أَخَاهُ بِمَا يَخَافُ مِنْ عَيْبِهِ- إِلَّا مَخَافَةُ أَنْ يَسْتَقْبِلَهُ بِمِثْلِهِ- قَدْ تَصَافَيْتُمْ عَلَى رَفْضِ الْآجِلِ وَ حُبِّ الْعَاجِلِ- وَ صَارَ دِينُ أَحَدِكُمْ لُعْقَةً عَلَى لِسَانِهِ- صَنِيعَ مَنْ قَدْ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ وَ أَحْرَزَ رِضَا سَيِّدِهِ‏

اللغة
أقول: يقال: هذا منزل قلعة بضمّ القاف: أى لا يصلح للاستيطان. و النجعة بضمّ النون: طلب الكلاء. و العتيد: المهيّأ المعدّ. و اللعقة بالضمّ: اسم لما تأخذه الملعقة.

و في هذا الفصل نكت:

فالاولى: التحذير من الدنيا و الاستدراج إلى تركها بذكر معايبها
و ذلك من أوّل الفصل إلى قوله: انقطاع السير. فأشار أوّلًا إلى أنّها لا تصلح للاستيطان و طلب الكلاء، و كنّى به عمّا ينبغي أن يطلب من الخيرات الباقية الّتى هى محلّ الأمن و السرور الدائم. و ثانيا إلى أنّ زينتها سبب لاستغفالها الخلق و الاغترار بها سبب لاستحسانها.
فإن قلت: فقد جعل الزينة سببا للغرور، و الغرور سببا للزينة و ذلك دور.
قلت: إنّما جعل الزينة سببا للاستغرار، و الغرور سببا لاستحسانها و عدم التنبّه لمعايبها. فلا دور. و ثالثا: أنّها هانت على ربّها: أى لم تكن العناية الآلهيّة إليها بالذات فلم تكن خيرا محضا بل كان كلّ ما فيها ممّا يعدّ خيرا مشوبا بشرّ يقابله، و ذلك بحسب الممكن فيها و زهادة خيرها بالنسبة إلى خير الآخرة.

الثانية: التأديب بأوامر:
أحدها: أن يجعلوا فرائض اللّه عليهم من جملة ما يطلبونه منه، و الغرض أن تصير محبوبة لهم كمحبّتهم لما يسألونه من مال و غيره فيواظبوا على العمل بها. الثاني: أن يسألوه أداء حقّه عنهم، و ذلك بالإعانة و التوفيق و الإعداد لذلك كما سألهم أداء حقّه، و الغرض أيضا أن يصير الأداء مهمّا لهم محبوبا إليهم، و نحوه في الدعاء المأثور: ألّلهمّ إنّك سألتنى من نفسى ما لا أملكه إلّا بك فأعطنى منها ما يرضيك عنّى. الثالث: أن يسمعوا داعى الموت آذانهم: أى يقصدون سماع كلّ لفظ يخوّف الموت و أهواله، و ذلك بالجلوس مجالس الذكر و محاضرة الزاهدين في الدنيا، و فائدة ذكر الموت تنغيص اللذّات الدنيويّة كما قال عليه السّلام: أكثروا ذكر هادم اللذّات.

الثالثة: شرح حال الزاهدين في الدنيا
ليهتدى من عساه أن ينجذب إلى اللّه إلى‏ كيفيّة طريقتهم فيقتدى بهم. فذكر لهم أوصافا: الأوّل: أنّهم تبكى قلوبهم و إن ضحكوا، و ذلك إشارة إلى دوام حزنهم لملاحظتهم الخوف من اللّه فإن ضحكوا مع ذلك فمعاملة مع الخلق. الثاني: أنّهم يشتدّ حزنهم و إن فرحوا. و هو قريب ممّا قبله. الثالث: أنّه قد يكثر لبعضهم متاع الحياة الدنيا و لكنّهم يتمرّدون على أنفسهم فيتركون الالتفات إليها بالزينة و طاعتها فيما تدعوهم إليه من متاع الحياة الدنيا الحاضرة و إن غبطهم غيرهم بما قسّم لهم من رزق.

الرابعة: تعنيف السامعين على ما هم عليه من الأحوال المضرّة في الآخرة
و ذلك بالغفلة عن ذكر الأجل و استحضارهم للآمال الكاذبة و غيرها من الأحوال المذكورة. إلى آخر الفصل، و محلّ- تدركونه و تحرمونه و يفوتكم- النصب على الحال، و- قلّة صبركم- عطف على وجوهكم: أى حتّى يتبيّن ذلك الفلق في وجوهكم و في قلّة صبركم عمّا غيّب عنكم منها. و قوله: و ما يمنع أحدكم أن يستقبل أخاه. إلى آخره. أى ما يمنع أحدكم من لقاء أخيه لعيبه و لأئمته عليه إلّا الخوف منه أن يلقاه بمثله لمشاركته إيّاه فيه كما صرّح به في قوله: تصافيتم على رفض الآجل. إلى آخره، و استعار لفظ اللعقة لما ينطق به من شعار الإسلام و الدين كالشهادتين و نحوهما من دون ثبات ذلك في القلب و رسوخه و العمل على وفقه، و- صنيع- نصب على المصدر: أى صنعتم صنيعا مثل صنيع من أحرز رضا سيّده بقضاء ما أمره به، و وجه التشبيه الاشتراك في الترك و الإعراض عن العمل. و باللّه التوفيق.


شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 3 ، صفحه‏ى 93

 

خطبه 109 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام ذكر فيها ملك الموت

هَلْ تُحِسُّ بِهِ إِذَا دَخَلَ مَنْزِلًا- أَمْ هَلْ تَرَاهُ إِذَا تَوَفَّى أَحَداً- بَلْ كَيْفَ يَتَوَفَّى‏ الْجَنِينَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ- أَ يَلِجُ عَلَيْهِ مِنْ بَعْضِ جَوَارِحِهَا- أَمْ الرُّوحُ أَجَابَتْهُ بِإِذْنِ رَبِّهَا- أَمْ هُوَ سَاكِنٌ مَعَهُ فِي أَحْشَائِهَا- كَيْفَ يَصِفُ إِلَهَهُ- مَنْ يَعْجَزُ عَنْ صِفَةِ مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ

المعنى
أقول: هذا الفصل من خطبة طويلة ذكره في معرض التوحيد و التنزيه للّه تعالى عن اطّلاع العقول البشريّة على كنه وصفه فقدّم التنبيه بالاستفهام على سبيل الإنكار عن الإحساس به في دخوله منازل المتوفّين و ذلك قوله: هل تحسّ به. إلى قوله: أحدا. و نبّه باستنكار الإحساس به على أنّه ليس بجسم. إذ كان كلّ جسم من شأنه أن يحسّ بإحدى الحواسّ الخمس. ثمّ عن كيفيّة توفّيه للجنين في بطن امّه و هو استفهام من قبيل تجاهل العارف بالنسبة إليه، و ذلك قوله: بل كيف يتوفّى الجنين.

إلى قوله: في أحشاها. و جعل الحقّ من هذه الأقسام في الوسط و هو إجابتها بإذن ربّها ليبقى الجاهل في محلّ الحيرة متردّدا. ثمّ لمّا بيّن أنّ ملك الموت لا يتمكّن الإنسان من وصفه نبّه على عظمة اللّه سبحانه بالنسبة إليه، و أنّه إذا عجز الانسان عن وصف مخلوق مثله فبالأولى أن يعجز عن صفة خالقه و مبدعه الّذي هو أبعد الأشياء عنه مناسبة، و تقدير البيان بذلك التنبيه أنّ العبد عاجز عن صفة مخلوق مثله لما بيّناه من العجز عن صفة ملك الموت و حاله، و كلّ من عجز من صفة مخلوق مثله فهو من صفة خالق ذلك المخلوق و مبدعه أشدّ عجزا. و لنشر إشارة خفيفة إلى حقيقة الموت و إلى ما عساه يلوح من وصف ملك الموت إنشاء اللّه تعالى.

فنقول: أمّا حقيقة الموت: فاعلم أنّ الّذي نطقت به الأخبار و شهد به الاعتبار أنّ الموت ليس إلّا عبارة عن تغيّر حال، و هو مفارقة الروح لهذا البدن الجارى مجرى الآلة لذي الصنعة، و أنّ الروح باقية بعده كما شهدت به البراهين العقليّة في مظانّها، و الآثار النبويّة المتواترة. و معنى مفارقتها له هو انقطاع تصرّفها فيه لخروجه عن حدّ الانتفاع به فما كان من الامور المدركة لها تحتاج في إدراكه إلى آلة فهى متعطّلة عنه بعد مفارقة البدن إلى أن تعاد إليه في القبر أو يوم القيامة، و ما كان مدركا لها لنفسها من غير آلة فهو باق معها يتنعّم به و يفرح أو يحزن من غير حاجة إلى هذه الآلة في بقاء تلك العلوم و الإدراكات الكلّيّة لها هناك. و قد ضرب للمفارقة الّتي سمّيناها بالموت مثلا: فقيل: كما أنّ بعض أعضاء المريض متعطّل بحسب فساد المزاج يقع فيه أو بحسب شدّة تعرّض للأعصاب فتمنع نفوذ الروح فيها فتكون النفس مستعملة لبعض الأعضاء دون ما استقصى عليها منها فكذلك الموت عبارة عن استقصاء جميع الأعضاء كلّها و تعطّلها، و حاصل هذه المفارقة يعود إلى سلب الإنسان عن هذه الأعضاء و الآلات و القينات الدنيويّة من الأهل و المال و الولد و نحوها، و لا فرق بين أن تسلب هذه الأشياء عن الإنسان أو يسلب هو عنها. إذ كان المولم هو الفراق، و قد يحصل ذلك بنهب مال الرجل و سبى ذريّته، و قد يحصل بسلبه و نهبه عن ماله و أهله. فالموت في الحقيقة هو سلب الانسان عن أمواله بإزعاجه إلى عالم آخر فإن كان له في هذا العالم شي‏ء يأنس به و يستريح إليه فبقدر عظم خطره عنده يعظم تحسّره عليه في الآخرة و تصعب شقاوته في مفارقته، و يكون سبب عظم خطره عنده ضعف تصوّره لما اعدّ للأبرار المتّقين في الآخرة ممّا يستحقر في القليل منه أكثر نفائس الدنيا. فأمّا إن كانت عين بصيرته مفتوحة حتّى لم يفرح إلّا بذكر اللّه و لم يأنس إلّا به عظم نعيمه و تمّت سعادته. إذ خلّى بينه و بين محبوبه فقطع علائقه و عوائقه الشاغلة له عنه و وصل إليه و انكشف له هناك ما كان يدركه من السعادة بحسب الوصف انكشاف مشاهدة كما يشاهدالمستيقظة من نومه صورة ما رآه في النوم.

و الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا. إذا عرفت ذلك فاعلم أن ملك الموت عبارة عن الروح المتولّى لإفاضة صورة العدم على أعضاء هذا البدن و لحال مفارقة النفس له، و لعلّه هو المتولّى لإفاضة صورة الوجود عليها لكنّه بالاعتبار الأوّل يسمّى ملك الموت. ثمّ لمّا كانت النفوس البشريّة إنّما تدرك المجرّدات ما دامت في هذا العالم و تستثبتها بأن تستصحب القوّة المتخيّلة معها فيتحاكى ما كان محبوبا منها للنفس و مستبشرا بلقائه بصورة بهيّة كتصورّها لجبرئيل في صورة دحية الكلبىّ و غيره من الصور البهيّة الحسنة، و ما كان مستكرها مخوفا منفورا من لقائه بصورة هائلة لاجرم اختلف رؤية الناس لملك الموت فمنهم من يراه على صورة بهيّة و هم المستبشرون بلقاء اللّه الّذين قلّت رغبتهم في الدنيا و رضوا بالموت ليصلوا إلى لقاء محبوبهم و فرحوا به لكونه وسيلة إليه كما روى عن إبراهيم عليه السّلام أنّه لقى ملكا فقال له: من أنت فقال: أنا ملك الموت. فقال له: أ تستطيع أن ترينى الصورة الّتى تقبض فيها روح المؤمن قال: نعم أعرض عنّى فأعرض عنه فإذا هو شابّ فذكر من حسنه و ثيابه (شبابه خ) و طيب ريحه فقال: يا ملك الموت لو لم يلق المؤمن من البشرى إلّا حسن صورتك لكان حسبه، و منهم من يراه على صورة قبيحة هائلة المنظر و هم الفجّار الّذين أعرضوا عن لقاء اللّه و رضوا بالحياة الدنيا و اطمأنّوا بها كما روى عن إبراهيم عليه السّلام أيضا أنّه قال لملك الموت: فهل تستطيع أن ترينى الصورة الّتى تقبض فيها روح الفاجر فقال: لا تطيق ذلك. فقال: بلى قال: فأعرض عنّى فأعرض عنه. ثمّ التفت إليه فإذا هو رجل أسود قائم الشعر منتن الريح أسود الثياب يخرج من فيه و مناخره النار و الدخان فغشى على إبراهيم عليه السّلام.

ثمّ أفاق، و قد عاد ملك الموت إلى حالته الاولى فقال: يا ملك الموت لو لم يلق الفاجر عند موته إلّا هذه الصورة لكفته. و باللّه التوفيق.


شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 90

خطبه 108 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبته له عليه السّلام

أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا- فَإِنَّهَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ- حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ وَ تَحَبَّبَتْ بِالْعَاجِلَةِ- وَ رَاقَتْ بِالْقَلِيلِ وَ تَحَلَّتْ بِالْآمَالِ- وَ تَزَيَّنَتْ بِالْغُرُورِ لَا تَدُومُ حَبْرَتُهَا- وَ لَا تُؤْمَنُ فَجْعَتُهَا- غَرَّارَةٌ ضَرَّارَةٌ حَائِلَةٌ زَائِلَةٌ- نَافِدَةٌ بَائِدَةٌ أَكَّالَةٌ غَوَّالَةٌ- لَا تَعْدُو- إِذَا تَنَاهَتْ إِلَى أُمْنِيَّةِ أَهْلِ الرَّغْبَةِ فِيهَا وَ الرِّضَاءِ بِهَا- أَنْ تَكُونَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى سُبْحَانَهُ- كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ- فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ- فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ- وَ كانَ اللَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مُقْتَدِراً- لَمْ يَكُنِ امْرُؤٌ مِنْهَا فِي حَبْرَةٍ- إِلَّا أَعْقَبَتْهُ بَعْدَهَا عَبْرَةً- وَ لَمْ يَلْقَ فِي سَرَّائِهَا بَطْناً- إِلَّا مَنَحَتْهُ مِنْ ضَرَّائِهَا ظَهْراً- وَ لَمْ تَطُلَّهُ فِيهَا دِيمَةُ رَخَاءٍ- إِلَّا هَتَنَتْ عَلَيْهِ مُزْنَةُ بَلَاءٍ- وَ حَرِيٌّ إِذَا أَصْبَحَتْ لَهُ مُنْتَصِرَةً- أَنْ تُمْسِيَ لَهُ مُتَنَكِّرَةً- وَ إِنْ جَانِبٌ مِنْهَا اعْذَوْذَبَ وَ احْلَوْلَى- أَمَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ فَأَوْبَى- لَا يَنَالُ امْرُؤٌ مِنْ غَضَارَتِهَا رَغَباً- إِلَّا أَرْهَقَتْهُ مِنْ نَوَائِبِهَا تَعَباً- وَ لَا يُمْسِي مِنْهَا فِي جَنَاحِ أَمْنٍ- إِلَّا أَصْبَحَ عَلَى قَوَادِمِ خَوْفٍ- غَرَّارَةٌ غُرُورٌ مَا فِيهَا فَانِيَةٌ- فَانٍ مَنْ عَلَيْهَا لَا خَيْرَ فِي شَيْ‏ءٍ مِنْ أَزْوَادِهَا إِلَّا التَّقْوَى- مَنْ أَقَلَّ مِنْهَا اسْتَكْثَرَ مِمَّا يُؤْمِنُهُ- وَ مَنِ اسْتَكْثَرَ مِنْهَا اسْتَكْثَرَ مِمَّا يُوبِقُهُ- وَ زَالَ عَمَّا قَلِيلٍ عَنْهُ- كَمْ مِنْ وَاثِقٍ بِهَا قَدْ فَجَعَتْهُ- وَ ذِي طُمَأْنِينَةٍ إِلَيْهَا قَدْ صَرَعَتْهُ- وَ ذِي أُبَّهَةٍ قَدْ جَعَلَتْهُ حَقِيراً- وَ ذِي نَخْوَةٍ قَدْ رَدَّتْهُ ذَلِيلًا- سُلْطَانُهَا دُوَّلٌ وَ عَيْشُهَا رَنِقٌ- وَ عَذْبُهَا أُجَاجٌ وَ حُلْوُهَا صَبِرٌ- وَ غِذَاؤُهَا سِمَامٌ وَ أَسْبَابُهَا رِمَامٌ- حَيُّهَا بِعَرَضِ مَوْتٍ- وَ صَحِيحُهَا بِعَرَضِ سُقْمٍ- مُلْكُهَا مَسْلُوبٌ- وَ عَزِيزُهَا مَغْلُوبٌ- وَ مَوْفُورُهَا مَنْكُوبٌ- وَ جَارُهَا مَحْرُوبٌ- أَ لَسْتُمْ فِي مَسَاكِنِ- مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَطْوَلَ أَعْمَاراً- وَ أَبْقَى آثَاراً وَ أَبْعَدَ آمَالًا- وَ أَعَدَّ عَدِيداً وَ أَكْثَفَ جُنُوداً- تَعَبَّدُوا لِلدُّنْيَا أَيَّ تَعَبُّدٍ- وَ آثَرُوهَا أَيَّ إِيْثَارٍ- ثُمَّ ظَعَنُوا عَنْهَا بِغَيْرِ زَادٍ مُبَلِّغٍ- وَ لَا ظَهْرٍ قَاطِعٍ- فَهَلْ بَلَغَكُمْ أَنَّ الدُّنْيَا سَخَتْ لَهُمْ نَفْساً بِفِدْيَةٍ- أَوْ أَعَانَتْهُمْ بِمَعُونَةٍ- أَوْ أَحْسَنَتْ لَهُمْ صُحْبَةً- بَلْ أَرْهَقَتْهُمْ بِالْقَوَادِحِ- وَ أَوْهَقَتْهُمْ بِالْقَوَارِعِ- وَ ضَعْضَعَتْهُمْ بِالنَّوَائِبِ- وَ عَفَّرَتْهُمْ لِلْمَنَاخِرِ وَ وَطِئَتْهُمْ بِالْمَنَاسِمِ- وَ أَعَانَتْ عَلَيْهِمْ رَيْبَ الْمَنُونِ- فَقَدْ رَأَيْتُمْ تَنَكُّرَهَا لِمَنْ دَانَ لَهَا- وَ آثَرَهَا وَ أَخْلَدَ لَهَا- حَتَّى ظَعَنُوا عَنْهَا لِفِرَاقِ الْأَبَدِ- وَ هَلْ زَوَّدَتْهُمْ إِلَّا السَّغَبَ- أَوْ أَحَلَّتْهُمْ إِلَّا الضَّنْكَ- أَوْ نَوَّرَتْ لَهُمْ إِلَّا الظُّلْمَةَ- أَوْ أَعْقَبَتْهُمْ إِلَّا النَّدَامَةَ- أَ فَهَذِهِ تُؤْثِرُونَ أَمْ إِلَيْهَا تَطْمَئِنُّونَ- أَمْ عَلَيْهَا تَحْرِصُونَ- فَبِئْسَتِ الدَّارُ لِمَنْ لَمْ يَتَّهِمْهَا- وَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا عَلَى وَجَلٍ مِنْهَا- فَاعْلَمُوا وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ- بِأَنَّكُمْ تَارِكُوهَا وَ ظَاعِنُونَ عَنْهَا- وَ اتَّعِظُوا فِيهَا بِالَّذِينَ قَالُوا- مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً- حُمِلُوا إِلَى قُبُورِهِمْ- فَلَا يُدْعَوْنَ رُكْبَاناً- وَ أُنْزِلُوا الْأَجْدَاثَ فَلَا يُدْعَوْنَ ضِيفَاناً- وَ جُعِلَ لَهُمْ مِنَ الصَّفِيحِ أَجْنَانٌ- وَ مِنَ التُّرَابِ أَكْفَانٌ وَ مِنَ الرُّفَاتِ جِيرَانٌ- فَهُمْ جِيرَةٌ لَا يُجِيبُونَ دَاعِياً- وَ لَا يَمْنَعُونَ ضَيْماً وَ لَا يُبَالُونَ مَنْدَبَةً- إِنْ جِيدُوا لَمْ يَفْرَحُوا- وَ إِنْ قُحِطُوا لَمْ يَقْنَطُوا- جَمِيعٌ وَ هُمْ آحَادٌ وَ جِيرَةٌ وَ هُمْ أَبْعَادٌ- مُتَدَانُونَ لَا يَتَزَاوَرُونَ- وَ قَرِيبُونَ لَا يَتَقَارَبُونَ- حُلَمَاءُ قَدْ ذَهَبَتْ أَضْغَانُهُمْ- وَ جُهَلَاءُ قَدْ مَاتَتْ أَحْقَادُهُمْ- لَا يُخْشَى فَجْعُهُمْ- وَ لَا يُرْجَى دَفْعُهُمْ- اسْتَبْدَلُوا بِظَهْرِ الْأَرْضِ بَطْناً- وَ بِالسَّعَةِ ضِيقاً وَ بِالْأَهْلِ غُرْبَةً- وَ بِالنُّورِ ظُلْمَةً فَجَاءُوهَا كَمَا فَارَقُوهَا- حُفَاةً عُرَاةً قَدْ ظَعَنُوا عَنْهَا بِأَعْمَالِهِمْ- إِلَى الْحَيَاةِ الدَّائِمَةِ وَ الدَّارِ الْبَاقِيَةِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ- نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ


اللغة
أقول: الحبرة: السرور. و الفجعة: الرزيّة. و غوّالة: أى تأخذ على غرّة.
و أوبى: أمرض. و الغضارة: طيب العيش. و قوادم الطير: مقاديم ريش جناحه. و أوبقه: أهلكه. و الابّهة: العظمة. و رنق: كدر. و رمام: بالية منقطعة. و المحروب: مسلوب المال. و أرهقتهم: غشيتهم. و فدحه الأمر: اغتاله و أثقله. و القارعة: الداهية الشديدة. و ضعضعتهم: أذلّتهم. و المناسم: أخفاف الإبل. و السغب: الجوع. و الأجنان: جمع جنن جمع جنّة و هي الستر.

و اعلم أنّ مدار هذا الفصل على التحذير من الدنيا و التنفير عنها بذكر معايبها، و فيه نكت:

فالأولى: استعار لفظ الحلاوة و الخضرة
المتعلّقين بحّسى الذوق و البصر لما يروق النفس منها و يلذّ، و وجه المشابهة المشاركة في الالتذاذ به، و إنّما خصّ متعلّق هذين الحسّين لأكثريّة تأديتهما إلى النفس و الالتذاذ بواسطتهما دون سائر الحواسّ.

الثانية: وصف الدنيا بكونها محفوفة بالشهوات
و في الخبر: حفّت الجنّة بالمكاره، و حفّت النار بالشهوات. قال أصحاب المعانىّ: و في ذلك تنبيه على أنّ النار هي الدنيا، و محبّتها بعد المفارقة هو سبب عذابها. قلت: إنّ ذلك غير مفهوم من كلامه عليه السّلام، و أمّا معنى الخبر فجاز أن يراد فيه النار المعقولة فيكون قريبا ممّا قالوا، و جاز أنّ يراد بالنار المحسوسة، و يكون المعنى على التقديرين أنّ النار إنّما تدخل بالانهماك في مشتهيات الدنيا و لذّاتها و الخروج في استعمالها عمّا ينبغي إلى ما لا ينبغي فكأنّها لذلك محفوفة و محاطة بالشهوات لا يدخل إليها إلّا منها. و أراد بالعاجلة اللذّات الحاضرة الّتي مالت القلوب إلى الحياة الدنيا بسببها فاشبهت المرأة المتحبّبة بما لها و جمالها. فاستعير لها لفظ التحبّب، و كذلك قوله: راقت بالقليل: أى اعجبت بزينتها القليلة بالنسبة إلى متاع الآخرة كميّة و كيفيّة، و كذلك تجلّيها بالآمال الكاذبة المنقطعة و بزينتها ممّا هو في نفس الأمر غرور و باطل فإنّه لو لا الغرور و الغفلة عن عاقبتها لما زانت في عيون طالبيها.

الثالثة: استعار لها أوصاف المحتالة الخدوع
و هي كونها غرّارة و غوّالة: أى كثيرة الاستغفال لأهلها و الخداع لهم، و وصف السبع العقور لكونها أكّالة لهم، و كنّى بالأوّلين عن كونها كالمخادع في كونها سببا لغفلتهم عمّا خلقوا لأجله بالاشتغال بها و الانهماك في لذّاتها، و بالأكّالة عن كونها كالسبع في إفنائهم بالموت و طحنهم تحت التراب.

الرابعة: معنى قوله: لا تعدوا. إلى قوله: مقتدرا
أنّ غاية صفائها للراغبين فيها و الراضين بها و موافقتها لهم لا يتجاوز المثل. و هو: أن تزهر في عيونهم و تروقهم‏ محاسنها ثمّ عن قليل تزول عنهم فكأنّها لم تكن. كما هو معنى المثل المضروب لها في القرآن الكريم «وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ»«» الآية.

الخامسة: كنّى بالعبرة عن الحزن المعاقب للسرور
و تخصيصه البطن بالسرّاء و الظهر بالضرّاء، و يحتمل أمرين: أحدهما: أن يريد بطنّ المجنّ و ظهره، و ذلك من العادة في حال الحرب أن يلقى الإنسان ظهر المجنّ، و في حال السلم أن يلقى المجنّ فيكون بطنه ظاهرا. فجرى المثل به في حقّ المتنكّرين و المخاصمين بعد سلم. فقيل: قلّب له ظهر المجنّ. كما قال علىّ عليه السّلام لابن عبّاس في بعض كتبه إليه: قلّبت لابن عمّك ظهر المجنّ. فكذلك استعمل هاهنا لقائها للمرء ببطنها في إقبالها عليه و لقائه منها ظهرا في إدبارها عنه و محاربتها له. الثاني: يحتمل أن يريد بطنها و ظهرها. و ذلك أنّ العادة فيمن يلقى صاحبه بالبشر و السرور أن يلقاها بوجهه و بطنه و فيمن يلقاه بالتنكير و الإدبار أن يلقى بظهره مولّيا عنه فاستعير ذلك للدنيا و عبّر به عن إقبالها و إدبارها.

السادسة: و إنّما خصّ منها بالجناح
لأنّ الجناح محلّ التغيّر بسرعة فنبّه به على سرعة تغيّراتها، و إنّما خصّ الخوف بالقوادم من الجناح لأنّ القوادم هى رأس الجناح و هي الأصل في سرعة حركته و تغيّره و هو في مساق ذمّها و التخويف منها فحسن ذلك التخصيص، و مراده أنّه و إن حصل فيها أمن فهو في محلّ التغيّر السريع و الخوف إليه أسرع لتخصيصه بالقوادم.

السابعة: لا خير في شي‏ء من أزوادها إلّا التقوى
استثنى ما هو المقصود من خلق الدنيا و أشار إلى وجود هذا النوع فيها و هو التقوى الموصل إلى اللّه سبحانه، و إنّما كان من أزواد الدنيا لأنّه لا يمكن تحصيله إلّا فيها، و قد سبقت الإشارة إليه في قوله: فتزوّدوا من الدنيا ما تحرزون به أنفسكم غدا. و ظاهر أنّه لا خير فيها عداه من أزوادها لفنائه و مضرّته في الآخرة.

الثامنة: من أقلّ منها استكثر ممّا يؤمنه
أى من الزهد فيها، و قد عرفت‏ كيفيّة الأمان من عذاب اللّه، و من استكثر منها استكثر ممّا يوبقه و هو ملكات السوء الحاصلة عن حبّ قيناتها و ملذّاتها الفانية الموجبة للهلاك بعد مفارقتها و زوالها.

التاسعة: استعار لفظ العذب و الحلو للذّاتها
و لفظى الاجاج- و هو المالح- و الصبر لما يشوب لذّاتها من الكدر بالأمراض و التغيّرات، و وجه الاستعارات الاشتراك في الالتذاذ و الإيلام.

العاشرة: استعار لفظ الغذاء
و كنّى به عن لذّاتها أيضا، و لفظ السمام له. و وجه الاستعارة ما يستعقب الانهماك في لذّاتها من الهلاك في الآخرة كما يستعقبه شرب السمّ، و السمام: جمع سمّ. ثمّ أعقب التحذير منها بالتنبيه على مصارع السابقين فيها ممّن كان أطول أعمارا و أشدّ بأسا من تغيّراتها و تنكّراتها لهم مع شدّة محبّتهم و تعبّدهم لها. و السؤال على سبيل الإنكار عن دوام سرورها لهم و حسن صحبتها إيّاهم، و صرّح بعده بالإنكار بقوله: بل أرهقتهم بالفوادح، و استعار لها لفظ الإرهاق و التضعضع و التعفير و الوطى و إعانة ريب المنون عليهم، و أسند إليها أفعال الأحياء ملاحظة تشبهها بالمرأة المتزيّنة لخداع الرجال عن أنفسهم و أموالهم و نحو ذلك.

الحادى عشر: لمّا فرغ من ذمّها و التنفير عنها بتعديد مذامّها
استفهم السامعين على سبيل التقريع لهم عن إيثارهم لها بهذا المذامّ و اطمينانهم إليها و حرصهم عليها. ثمّ عاد إلى ذمّها مجملا بقوله: بئست الدار لمن لم يتّهمها: أى لمن اعتقد بصحبتها و أنّها مقصودة بالذات فركن إليها فإنّها بذلك الاعتبار مذمومة في حقّه إذ كانت سبب هلاكه في الآخرة. فأمّا المتّهم لها بالخديعة و الغرور فإنّه يكون فيها على وجل منها عاملا لما بعدها فكانت محمودة له إذ كانت سبب سعادته في الآخرة. ثمّ شرع في الأمر بالعمل على وفق العلم بمفارقتها، و ذلك أنّ ترك العمل للآخرة إنّما يكون للاشتغال بالدنيا فالعالم بضرورة مفارقتها له و ما أعدّ لتاركى العمل من العذاب الأليم إذا نبّه على تلك الحال كان ذلك صارفا له عنها و مستلزما للعمل لغيرها، و أكدّ التنبيه على مفارقتها بالتذكّر بأحوال المفارقين لها بعد مفارقتها المضادّة للأحوال المعتادة للأحياء الّتى ألفوها و استراحوا إليها. إذ كان من عادتهم إذا حملوا أن‏ يسمّوا ركبانا، و إذا نزلوا أن يسمّوا ضيفانا، و إذا تجاوروا أن يجيبوا داعيهم و يمنعوا عنه الضيم، و أن يفرحوا إن جادهم الغيث، و يقنطوا إن قحطوا منه، و أن يتزاوروا في التدانى و يحلموا عند وجود الأضغان، و يجهلوا عند قيام الأحقاد و يخشوا و يرجوا.
فسلبت عنهم تلك الصفات و عرفوا بأضداد تلك السمات.

الثانية عشر: فجاءوها كما فارقوها
أى أشبه مجيئهم إليها و وجودهم فيها و خروجهم منها يوم مفارقتهم لها، و وجه الشبه كونهم حفاة عراة، و هو كناية عن النفر منها، و دلّ على ذلك استشهاده بالآية الكريمة. و موضع قوله: قد ظعنوا عنها. النصب على الحال. كما انتصب حفاة عراة، و العامل فارقوها. و لا يقدّر مثله بعد جاءوها و إن قدّر مثل الحالين السابقين. قال الإمام الوبرىّ- رحمة اللّه عليه- : فراقهم من الدنيا إن خلقوا منها و مجيئهم إليها إن دفنوا فيها قال اللّه تعالى «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ». ثم قلت: و كان الحامل لهذا الإمام على هذا التأويل أنّه لو كان مراده مجيئهم إليها هو دخولهم فيها حين الولادة مع أنّه في ظاهر الأمر هو المشبّه و مفارقتهم هي المشبّه به لانعكس الفرض. إذا المقصود تشبيه المفارقة بالمجي‏ء و ذلك يستلزم كون المشبّه هو المفارقة و المشبّه به هو المجي‏ء لكن ينبعى أن يعلم أن المشابهة إذا حصلت بين الشيئين في نفس الأمر جاز أن يجعل أحدهما أصلا و الآخر فرعا، و جاز أن يقصد أصل المساواة بينهما من دون ذلك فحمله هنا على الوجه الثاني أولى من‏ التعسّف الّذي ذكره. فأمّا الآية فإنّ- من- فيها لبيان الجنس فلا تدلّ على المفارقة و الانفعال. و باللّه التوفيق.


شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 84

خطبه 107 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

إِنَّ أَفْضَلَ مَا تَوَسَّلَ بِهِ الْمُتَوَسِّلُونَ- إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى- الْإِيمَانُ بِهِ وَ بِرَسُولِهِ وَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ- فَإِنَّهُ ذِرْوَةُ الْإِسْلَامِ- وَ كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ فَإِنَّهَا الْفِطْرَةُ- وَ إِقَامُ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا الْمِلَّةُ- وَ إِيتَاءُ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا فَرِيضَةٌ وَاجِبَةٌ- وَ صَوْمُ شَهْرِرَمَضَانَ فَإِنَّهُ جُنَّةٌ مِنَ الْعِقَابِ- وَ حَجُّ الْبَيْتِ وَ اعْتِمَارُهُ- فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَ يَرْحَضَانِ الذَّنْبَ- وَ صِلَةُ الرَّحِمِ- فَإِنَّهَا مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ وَ مَنْسَأَةٌ فِي الْأَجَلِ- وَ صَدَقَةُ السِّرِّ فَإِنَّهَا تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ- وَ صَدَقَةُ الْعَلَانِيَةِ فَإِنَّهَا تَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ- وَ صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ فَإِنَّهَا تَقِي مَصَارِعَ الْهَوَانِ- أَفِيضُوا فِي ذِكْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ أَحْسَنُ الذِّكْرِ- وَ ارْغَبُوا فِيمَا وَعَدَ الْمُتَّقِينَ فَإِنَّ وَعْدَهُ أَصْدَقُ الْوَعْدِ- وَ اقْتَدُوا بِهَدْيِ نَبِيِّكُمْ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ الْهَدْيِ- وَ اسْتَنُّوا بِسُنَّتِهِ فَإِنَّهَا أَهْدَى السُّنَنِ وَ تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ- وَ تَفَقَّهُوا فِيهِ فَإِنَّهُ رَبِيعُ الْقُلُوبِ- وَ اسْتَشْفُوا بِنُورِهِ فَإِنَّهُ شِفَاءُ الصُّدُورِ- وَ أَحْسِنُوا تِلَاوَتَهُ فَإِنَّهُ أَنْفَعُ الْقَصَصِ- وَ إِنَّ الْعَالِمَ الْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ- كَالْجَاهِلِ الْحَائِرِ الَّذِي لَا يَسْتَفِيقُ مِنْ جَهْلِهِ- بَلِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ وَ الْحَسْرَةُ لَهُ أَلْزَمُ- وَ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ أَلْوَمُ


اللغة
أقول: ذروة الشي‏ء: أعلاه. و الملّة: الدين: و الجنّة: الوقاية. و يرحضان بفتح الحاء: يغسلان. و الرحض: الغسل. و المثراة: المكثرة، و هى محلّ كثرة المال و الثروة. و المنسأة: محلّ النسأ، و هو التأخير. و الإفاضة في الذكر: الاندفاع فيه. و الهدى: ضدّ الإضلال، و هو مصدر.

و قد أشار عليه السّلام في هذا الفصل إلى أنّ أفضل الوسائل الموصلة إلى اللّه سبحانه هو الإيمان
الكامل فالإيمان باللّه هو التصديق بوجوده، و هو إشارة إلى أصل الإيمان.
ثمّ له لواحق و كمالات:

أحدها: التصديق برسوله
و إنّما قدّمه على سائر العبادات لأنّه أصل لها لا تصحّ بدونه.

الثاني: الجهاد في سبيله
و قد عرفت فضائل الجهاد فيما سلف، و أشار إلى وجه فضيلته بكونه ذروة الإسلام، و استعار لفظ الذروة له ملاحظة لشبهه في العلوّ و المرتبة في الإسلام بالسنام للبعير و إنّما قدّمه على الصلاة لكون سالكه على يقين من لقاء اللّه و قوّة من التصديق بما جاء به الرسول حيث يلقى نفسه إلى التهلكة الحاضرة الّتي ربّما يغلب على ظنّه أو يتيقّنها، و لأنّه الأصل الأعظم في جمع العالم على الدين.

الثالث: كلمة الإخلاص
و هى كلمة التوحيد المستلزمة لنفى الشركاء و الأنداد و هى معنى الإخلاص و لذلك اضيفت إليه، و وجه فضيلتها كونها فطرة اللّه الّتي فطر الناس عليها فإنّ العقول السليمة البريّة عن شوائب العلائق البدنيّة و عوارض التربية شاهدة و مقرّة بما اخذ عليها من العهد القديم من توحيد صانعها و براءته عن الكثرة، و أطلق عليها اسم الفطرة و إن كانت الفطرة عليها مجازا إطلاقا لاسم الملزوم على لازمه.

الرابع: إقامة الصلاة
و إنّما جعلها الملّة و إن كانت بعض أركان الدين لأنّها الركن القوىّ من أركانه فأطلق عليها ذلك اللفظ إطلاقا لاسم الكلّ على الجزء مجازا.
و أعلم أنّ للصلاة فضائل و أسرار يجب التنبيه عليها: أمّا فضيلتها فقد ورد فيها أخبار كثيرة بعد تأكيد القرآن الكريم للأمر بها كقوله صلى اللّه عليه و آله و سلم: الصلاة عمود الدين من تركها فقد هدم الدين، و قوله: مفتاح الجنّة الصلاة، و قوله في فضل إتمامها: إنّ الرجلين من امّتى يقومان في الصلاة و ركوعهما و سجودهما واحد و إنّما بين صلاتيهما ما بين السماء و الأرض، و قوله: أمّا يخاف الّذي يحوّل وجهه في الصلاة أن يحوّل اللّه وجهه وجه حمار، و قوله: من صلّى ركعتين لم يحدث فيهما نفسه بشي‏ء من الدنيا غفر اللّه له ذنوبه. و أمّا أسرارها فيقسم إلى عامّة و إلى خاصّة،و أمّا العامّة فقد بيّنّا فيما سلف في ذكر الحجّ في الخطبة الاولى السرّ العامّ لجميع العبادات، و هى كونها متمّمة للغرض الثاني من أغراض العارف من الرياضة و معينة على تطويع النفس الأمّارة بالسوء للنفس المطمئنّة و تمرينها على موافقتها، و إذا لاح لك هذا السرّ فقد علمت أنّ جميع الآيات و الأخبار الواردة في فضلها يرجع معناها إليه كنهيها عن الفحشاء و المنكر في قوله تعالى «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى‏ عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ» إذ كان سببهما القوّة الروعيّة [التروّعيّة خ‏] إذا خرجت عن حكم العقل فإذا كانت الصلاة هي الّتي توجب دخولها تحت حكم العقل و العقل ناه عن الفحشاء و المنكر فقد كانت الصلاة هى السبب في الانتهاء فكانت ناهية، فظهر أيضا معنى كونها عماد الدين. إذ قال: بنى الإسلام على خمس. فكلّ منها عماد بحسب شرائطه فمن أخلّ بها فقد هدم بنيانه الّذي يصعد به إلى اللّه، و كذلك كونها مفتاحا للجنّة. إذ بها ينفتح باب من أبواب الوصول إلى اللّه، و لذلك ظهر التفاوت الّذي يشير إليه صلّى اللّه عليه و آله و سلم في صلاة الرجلين من امّته فإنّه إذا كانت فائدة الصلاة هو الالتفات إلى اللّه تعالى بقمع الشيطان و كان أحد الرجلين في صلاته خاشعا لخشية اللّه مستحضرا لعظمته، و الآخر غافل عن هذه الجهة قد صرف الشيطان وجه قلبه إلى غير القبلة فأين أحدهما من الآخر، و كذلك ما أشار إليه من التخويف لمن يحوّل وجهه في الصلاة فإنّه نهى منه عن الغفلة عن الالتفات إلى اللّه و ملاحظة عظمته في حال الصلاة فإنّ الملتفت يمينا و شمالا ملتفت عن اللّه و غافل عن مطالعة أنوار كبريائه، و من كان كذلك فيوشك أن تدوم تلك الغفلة عليه فيتحوّل وجه قلبه كوجه قلب الحمار في قلّة عقليّته للامور العلويّة و عدم إكرامه بشي‏ء من العلوم و القرب إلى اللّه، و كذلك غفران ذنب المصلّى بسبب تركه حديث نفسه بشي‏ء من الدنيا فإنّه في تلك الحال يلتفت إلى اللّه تعالى غافل عن غيره، و الالتفات إليه هو روح العبادة و خلاصتها، و لذلك قال صلّى اللّه عليه و آله و سلم: إنّما فرضت الصلاة و امر بالحجّ و الطواف و اشعرت المناسك لإقامة ذكر اللّه فإذا لم يكن في قلبك المذكور الّذي هو المقصود و المبتغى عظمته، و لا هيبته فما فيه ذكرك. و عن عايشة قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم يحدّثنا و نحدّثه فإذا حضرت الصلاة فكأنّه لم يعرفنا و لم نعرفه شغلا باللّه عن كلّ شي‏ء. و كان علىّ عليه السّلام إذا حضر وقت الصلاة يتململ و يتزلزل و يتلوّن فيقال له: مالك يا أمير المؤمنين فيقول: جاء وقت أمانة عرضها اللّه على السماوات و الأرض فأبين أن يحملنها و أشفقن منها، و كان علىّ بن الحسين عليهما السّلام إذا حضر للوضوء اصفرّ لونه فيقول أهله: ما هذا الّذي يعتادك عند الوضوء فيقول: ما تدرون بين يدي من أقوم. و كلّ ذلك إشارة إلى استحضار عظمة اللّه و الالتفات إليه حال العبادة و الانقطاع عن غيره، و أمّا ما يخصّها من الأسرار فقد علمت أنّ الصلاة ليس إلّا ذكر و قراءة و ركوع و سجود و قيام و قعود: أمّا الذكر فظاهر أنّه محاورة و مناجاة للّه تعالى و غايتها استلزام الالتفات إليه، و تذكّر ما ينجذب القوى الشيطانيّة تحت قياد العقل و يستمرّ تعوّدها بذلك و هو المقصود من القرائة و الأذكار و الحمد و الثناء و التضرّع و الدعاء، و ليس المقصود منه الحرف و الصوت امتحانا للّسان بالعمل و إن حصلت الغفلة فإنّ تحريك اللسان بالهذيان خفيف على الإنسان لا كلفة فيه من حيث إنّه عمل، و سنبيّن حال الذكر و فضيلته و فائدته في موضع أليق به إنشاء اللّه تعالى، و أمّا الركوع و السجود و القيام و القعود فالغرض بها التعظيم للّه تعالى المستلزم للالتفات إليه و ذكره أيضا. إذ لو جاز أن يكون معظّما للّه بفعله و هو غافل عنه لجاز أن يعظّم صنما موضوعا بين يديه و هو غافل عنه، و يؤيّد ذلك ما روى عن معاذ بن جبل من عرف من على يمينه و شماله متعمّدا في الصلاة فلا صلاة له، و قال عليه السّلام: إنّ العبد ليصلّى الصلاة لا يكتب له سدسها و لا عشرها و إنّما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها، و لمّا عرفت أنّ الأصل من أركانها هو الالتفات إلى اللّه تعالى فاعلم أنّ الالتفات إليه مستلزم للتذكّر و التفهّم لأنّ الالتفات إليه إنّما يراد لمطالعة كبريائه و عظمته، و المطالعة ليس إلّا الفكر الّذي هو عين البصيرة و حدقة العقل الإنسانىّ.

ثمّ إنّ التذكّر و التفهّم مستلزم للتعظيم فإنّ مطالعة عظمة اللّه أعظم من أن لا يعظّمها العارف بها، و التعظيم مستلزم للخوف و الرجاء فإنّا نجد عند تصوّر عظمة ملك من ملوك الدنيا وجدانا ضروريّا أنّا ننقهر عن مكالمته و محاورته و نلزم معه السكون و الخضوع و ربّما يتبع ذلك رعدة البدن و تعثّم اللسان، و منشأ كلّ ذلك الخوف الحادث عن تصوّر عظمته فكيف يتصوّر جبّار الجبابرة و ملك الدنيا و الآخرة، و كذلك الرجاء فإنّا عند تصوّر عظمة اللّه نتصوّر أنّ الكلّ منه و ذلك باعث على رجائه، خصوصا و قد تأكّد ذلك بالآيات الواردة في باب الخوف و الرجاء، و كذلك يستلزم الحياء لأنّ المتصوّر لعظمة الآمر لا يزال مستشعرا تقصيرا و متوهّما ذنبا و ذلك الاستشعار و التوهّم يوجب الحياء من اللّه سبحانه.

الخامس: إيتاء الزكاة
و هى ركن قوىّ من أركان الدين، و أشار إلى وجه فضلها بكونها فريضة واجبة. قال قطب الدين الراوندى: أراد بالفريضة السهم المنقطع من المال للفقراء المستحقّين المسمّى زكاة. قال: و هو عرف شرعىّ لأنّ الفريضة بمعنى الواجب فإنّ كلّ العبادات الواجبة كذلك، و لأنّ الفرض و الواجب بمعنى فيكون قوله: فريضة واجبة. تكرارا، و أقول: ما ذكره وجه حسن، و هو إشارة إلى بعض أسرارها كما نبيّنه، و لهذه العبادة مع السرّ العامّ الشامل لجميع العبادات و هو الالتفات إلى اللّه تعالى و محبّته أسرار: الأوّل: أنّ المراد بكلمة الشهادة التوحيد المطلق و إفراد المعبود بالتوجّه إليه و ذلك لا يتمّ إلّا بنفي كلّ محبوب عداه فإنّ المحبّة لا يحتمل الشركة، و التوحيد باللسان قليل الفائدة في الباطن و إنّما تمتحن درجة الحبّ بمفارقة المحبوبات، و الأموال محبوبة عند الخلق لأنّها آلة تمتّعهم بالدنيا و انسهم بها و نفرتهم عن الموت فامتحنوا بتصديق دعواهم في المحبوب و استنزلوا عن المال الّذي هو معشوقهم كما قال تعالى «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ» و لمّا فهم الناس هذا المعنى انقسموا أقساما: فطائفة أخلصوا في حبّ معشوقهم و وفوا بعهده فبذلوا أموالهم و لم يدّخروا منها شيئا حتّى قيل لبعضهم: كم تجب من الزكاة في مائتى درهم قال: أمّا على العوّام فبحكم الشرع خمسة دراهم، و أمّا علينا فيجب بذل الجميع، و منهم من قعد عن هذه المرتبة و أمسكوا أموالهم‏ و راقبوا مواقيت الحاجة و مواسم الخيرات و جعلوا قصدهم في الادّخار الإنفاق على قصد الحاجة دون التنعّم، و صرف الفاضل عن الحاجة إلى وجوه البرّ، و هؤلاء لا يقتصرون على واجب الزكاة كالنخعىّ و الشعبيّ و مجاهد، و قيل للشعبىّ: هل في المال حقّ سوى الزكاة فقال: نعم أما سمعت قوله تعالى «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ» الآية و استدلّوا بقوله تعالى «وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ» و لم يجعلوا ذلك مخصوصا بآية الزكاة بل هو داخل في حقّ المسلم على المسلم، و معناه أنّه يجب على المؤسر مهما وجد محتاجا أن يزيل حاجته بما يفضل عن مال الزكاة، و منهم من اقتصر على أداء الواجب من الزكاة من غير زيادة و لا نقصان و هى أدون الرتب و قد اقتصر مع العوامّ على ذلك لجهلهم بسرّ البذل و بخلهم المال و ضعف حبّهم للآخرة، و يلزم لهذا السرّ تطهير ذوى الأموال عن رذيلة البخل فإنّها من المهلكات قال عليه السّلام: ثلاث مهلكات: شحّ مطاع، و هوى متّبع، و إعجاب المرء بنفسه، و وجه كونه مهلكا أنّه إنّما يصدر عن محبّة المال و قد علمت أنّ الدنيا و الآخرة ضرّتان بقدر ما يقرّب من إحداهما يبعّد من الاخرى فكانت محبّة المال صارفة عن التوجّه إلى اللّه و مبعّدة منه، و ذلك يستلزم الهلاك الاخروى كما بيّناه، و إنّما تزول هذه الرذيلة بتعوّد البذل. إذ حبّ الشي‏ء لا ينقطع إلّا بقهر النفس على مفارقته بالتدريج حتّى يصير ذلك عادة فالزكاة بهذا المعنى طهور: أى تطهّر صاحبها عن خبث البخل المهلك و إنّما طهارته بقدر بذله و فرحه و استبشاره بصرفه في جنب اللّه طاعة و محبّة له و ملاحظة لحذف كلّ محبوب عداه من سمت القبلة. السرّ الثاني: شكر النعمة فإنّ للّه على العبد نعمة في نفسه و شكرها العبادات البدنيّة، و نعمة في ماله و شكرها العبادات الماليّة، و ليس أحد أخسّ و أبعد عن رحمة اللّه ممّن ينظر إلى فقير قد ضيّق عليه الرزق ثمّ اضطرّ إليه فلم يسمح نفسه بأن يؤدّى شكر اللّه تعالى على ما أغناه عن السؤال و أحوج غيره إليه بعشر ماله أو بربع عشره. السرّ الثالث: يتعلّق بإصلاح المدن و تدبير أحوال أهلها و هو أن جعل اللّه هذا الفرض في أموال الأغنياء شركة للفقراء لأن يسدّ به خلّتهم، و إليه أشار عليه السّلام بكونه‏ فريضة واجبة، و في هذا السرّ سرّان: أحدهما: أن يكون ذلك عونا لهؤلاء على عبادة اللّه كى لا يشتغلوا بالطلب عنها. الثاني: أن تنكسر همّهم عن حسد أهل الأموال و السعى بالفساد في الأرض فلا ينتظم أمر المدنيّة، و تكون قلوبهم ساكنة إلى ذلك القدر معلّقة به مستمدّة من اللّه تعالى بالدعاء في حفظه متألّفة مع أهل الأموال منجذبة إليهم فيتمّ بذلك أمر المشاركة و المعاونة و الانس و المحبّة الموجبات للالفة الموجبة لنظام العالم و قوام أمر الدين و بقاء نوع الإنسان لما لأجله وجد.


السادس: صوم شهر رمضان.
و تخصيصه بكونه جنّة من العقاب مع أنّ سائر العبادات كذلك لما أنّه أشدّها وقاية، و بيان ذلك أنّه مستلزم لقهر أعداء اللّه الّتى هى الشّياطين المطيفة بالإنسان فإنّ وسيلة الشيطان هي الشهوات و إنّما يقوّى الشهوة و يثيرها الأكل و الشرب، و لذلك قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ الشيطان ليجرى من ابن آدم مجرى الدم فضيّقوا مجاربه بالجوع، و قال صلى اللّه عليه و آله و سلم لعايشة: داومى قرع باب الجنّة فقالت: بماذا قال: بالجوع. فكان الصوم على الخصوص أشدّ قمعا للشيطان و أسدّ لمسالكه و تضييق مجاريه، و لمّا كان العقاب إنّما يلحق الإنسان و يتفاوت في حقّه بالشدّة و الضعف بحسب تفاوت قربه من الشيطان و بعده منه و كانت هذه العبادة أبعد بعيد عن الشيطان كان بسببها أبعد بعيد عن العقاب فلذلك خصّت بكونها وقاية منه. و اعلم أنّ هذه العبادات و إن كانت عدميّة إلّا أنّها ليست عدما صرفا بل عدم ملكة يحرّك من الطبيعة تحريكا شديدا ينبّه صاحبه أنّه على جملة من الأمر ليس هذرا فيتذكّر سبب ما ينويه من ذلك و أنّه التقرّب إلى اللّه سبحانه كما هو غاية للسرّ العامّ للعبادات.

السابع: حجّ البيت و اعتماره
و قد سبقت منّا الإشارة إلى أسراره في الخطبة الاولى. و الّذي ذكره هاهنا كونهما ينفيان الفقر و يغسلان الذنب فجمع فيه بين منفعة الدنيا و منفعة الآخرة: أمّا منفعة الدنيا فكونهما ينفيان الفقر و ذلك بسبب التجارة الحاصلة في موسم الحجّ و قيام الأسواق بمكّة حينئذ، و أمّا منفعة الآخرة لكونهما يغسلان الذنب عن لوح النفس كما علمته في أسرار العبادات و هي هذه المنافع‏ المشار إليها في القرآن الكريم بقوله «لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ» قال أكثر المفسّرين: هي منافع الدنيا من التجارة و هو المنقول عن سعيد بن جبير و ابن عبّاس في رواية أبي رزين عنه، و منهم من جعلها عامّة في منافع الدنيا و الآخرة كالتجارة و الثواب، و هو المنقول عن مجاهد و ابن عبّاس في رواية عطاء عنه.

الثامن: صلة الرحم
و ذكر من فوائدها أمرين: أحدهما: كونها مثراة في المال، و ذلك من وجهين: أحدهما: أنّ العناية الإلهيّة قسّمت لكلّ حىّ قسطا من الرزق يناله مدّة الحياة الدنيا و تقوم به صورة بدنه فإذا أعدّت شخصا من الناس للقيام بأمر جماعة و كلّفته بإمدادهم و معونتهم وجب في العناية إفاضته أرزاقهم على يده و ما يقوم بإمدادهم بحسب استعداده لذلك سواء كانوا ذوى أرحام أو مرحومين في نظره حتّى لو نوى قطع أحد منهم فربّما نقص ماله بحسب رزق ذلك المقطوع، و ذلك معنى كونه مثراة للمال. الثاني: أنّ صلة الرحم من الأخلاق الحميدة الّتي يستمال بها طباع الخلق فواصل رحمه مرحوم في نظر الكلّ فيكون ذلك سببا لإمداده و معونته من ذوى الإمداد و المعونات كالملوك و نحوهم فكانت صلة الرحم مظنّة لزيادة المال. و الثاني: كونه منسأة للأجل و هو من وجهين: أحدهما: أنّ صلة الرحم توجب تعاطف ذوى الأرحام و توازرهم و معاضدتهم لواصلهم فيكون عن أذى الأعداد أبعد و في ذلك مظنّة تأخيره و طول عمره. الثاني: أنّ مواصلة ذوى الأرحام توجب تعلّق هممهم ببقاء واصلهم و إمداده بالدعاء و يكون دعائهم له و تعلّق هممهم ببقائه من شرائط بقائه و إنساء أجله فكانت مواصلتهم منسأة في أجله.

التاسع: صدقة السرّ
و ذكر من فوائدها كونها تكفّر الخطيئة، و إنّما خصّها بذلك مع أنّ سائر العبادات كذلك لكونها أبعد عن الرياء و مخالطة ما لا يراد به إلّا وجه اللّه تعالى فكان الإخلاص فيها للّه أتمّ فكانت أولى بالتقريب من اللّه و بمحو الخطيئة.

العاشر: صدقة العلانية
و ذكر من فوائدها أنّها تدفع ميتة السوء، و بيان‏ ذلك أنّ صدقة العلانية تستلزم الشهرة بفعل الخيرات و توجب الذكر الجميل للمتصدّق، و لمّا كانت ميتات السوء كالحرق و الغرق و الصلب و القتل و نحو ذلك من الأحوال الشنيعة الّتي تكثر نفرة الناس عن الموت عليها. و كان قليلا ما يقع شي‏ء منها بقصد من الناس لمن أحبّوه و اشتهر بالرحمة و استجلاب قلوب الفقراء بالصدقة و الإيثار. فلا جرم كانت تلك الصدقة مظنّة الدفع لميتات السوء.

الحادى عشر: صنايع المعروف
و ذكر من فوائدها أنّها تقى مصارع الهوان، و تقريره قريب ممّا قبله. إذ كان اصطناع المعروف مستلزما لتألّف قلوب الخلق و جامعا لهم على محبّة المصطنع فقلّما يقع من ذلك نسيبهم في مصرع هوان
ثمّ لمّا فرغ من تعداد كمالات الإيمان أمر بما يؤكّده في القلوب و يثبّته
و هي امور: أحدها: الاندفاع في ذكر اللّه. و هو من مؤكّدات الإيمان به، و رغّب فيه بكونه أحسن الذكر، و ذلك لما يستلزمه من الحصول على الكمالات المسعدة في الآخرة و الوصول إلى اللّه كما سنبيّن فائدته و فضيلته في موضع التوبة. الثاني: الرغبة فيما وعد المتّقين من ثواب الآخرة و أنواعه. و هو أيضا من مؤكّدات طاعته و العمل له، و لمّا كان الخلف في خبره تعالى محالا كان وعده أصدق الوعود. الثالث: الاقتداء بهدى النّبى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. الرابع: اتّباع سنّته. و لمّا كان أفضل الأنبياء كانت سنّته أشرف السنن و الاقتداء به و اتّباع سنّته أهدى الطرق إلى اللّه. الخامس: تعلّم القرآن. و ظاهر كونه من مؤكّدات الإيمان باللّه و رسوله، و استعار له لفظ الربيع، و وجه المشابهة كون القرآن جامعا لأنواع العلوم الشريفة و الأسرار العجيبة اللطيفة الّتي هي متنزّه القلوب كما أنّ زمن الربيع محلّ الأزهار الرايقة الّتي هي مستمتع النظر و مطرح السرور. السادس: الاستشفاء بنوره، و ظاهر كونه شافيا للقلوب من ظلمة الجهل. السابع: حسن تلاوته. و ذلك لأنّ حسن تلاوته مظنّة تفهّم معانيه و تدبّرها، و بحسن تلاوته تظهر فايدته و تحصل منفعة قصصه، و إنّما يكون أنفع القصص إذا تلى حقّ تلاوته كما سبق بيانه. ثمّ أكّد الأوامر المذكورة بالأعمال الّتي عدّدها ممّا ينبغي أن يعمل على وفق العلم بالتنبيه على نقصان العالم الّذي لا يعمل بعلمه فسوّى أوّلا بينه و بين الجاهل العادل عن سواء سبيل اللّه، و وجه التسوية اشتراكهما في ثمرة الجهل و هو الجور عن قصد السبيل و في عدم الانتفاع بفائدة العلم و ثمرته و هي الأعمال الصالحة. ثمّ جعل حال العالم أخسّ لثلاثة أوجه: أحدها: أنّ الحجّة عليه أعظم لأنّ للجاهلين أن يقولوا: إنا كنّا عن هذا غافلين. و ليس للعالم ذلك، و روى عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: العلم علمان: علم على اللسان فذلك حجّة اللّه على بن آدم، و علم في القلب فذلك العلم النافع. أى الّذي يستلزم الطاعة بالعمل. الثاني: أنّ الحسرة له ألزم. و ذلك أنّ النفوس الجاهلة غير عالمة بمقدار ما يفوتها من الكمال بالتحصيل فإذا فارقت أبدانها فهى و إن كانت محجوبة عن ثمار الجنّة و ما أعدّ اللّه فيها لأوليائه العلماء إلّا أنّها لمّا لم تجد لذّتها و لم تطعم حلاوة المعارف الإلهيّة لم تكن لها كثير حسرة عليها و لا أسف على التقصير في تحصيلها بخلاف العارف بها العالم بنسبتها إلى اللذّات الدنيويّة فإنّه بعد المفارقة إذا علم و انكشف له أنّ الصارف له و المانع عن الوصول إلى حضرة جلال اللّه هو تقصيره في العمل بما علم مع علمه بمقدار ما فاته من الكمالات و الدرجات كان أسفه و حسرته على ذلك أشدّ الحسرات. و جرى ذلك مجرى من علم قيمة جوهرة ثمينة يساوى جملة من المال ثمّ اشتغل عن تحصيلها ببعض لعبه حتّى فاتته فإنّه يعظم حسرته عليها و ندمه على التفريط فيها بخلاف الجاهل بقيمتها. الثالث: أنّه يكون عند اللّه ألوم، و أشدّيّة اللائمة بعد المفارقة مجاز في انقطاع لسان حاله عن العذر في معصيته عن علم و إنّما يكون ألوم لأنّ إقدام العالم على المعصية الّتي علم قبحها إنّما يكون عن نفس في غاية الانقياد للنفس الأمّارة بالسوء و الطاعة لإبليس و جنوده طاعة تفضل على طاعة الجاهل و انقياده لقيام الصارف في حقّ العالم‏ و هو علمه بقبحها و ترجّح الداعى إليها عليه و عدم الصارف في حقّ الجاهل. و لا شكّ أنّ أشدّية اللائمة تابعة لأشديّة الانقياد لإبليس خصوصا مع العلم بما يستلزم متابعته من الهلاك. و ظاهر إذن كونه ألوم عند اللّه. و باللّه التوفيق و العصمة.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 74

خطبه 106 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

الفصل الأول
كُلُّ شَيْ‏ءٍ خَاشِعٌ لَهُ- وَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ قَائِمٌ بِهِ- غِنَى كُلِّ فَقِيرٍ- وَ عِزُّ كُلِّ ذَلِيلٍ- وَ قُوَّةُ كُلِّ ضَعِيفٍ- وَ مَفْزَعُ كُلِّ مَلْهُوفٍ- مَنْ تَكَلَّمَ سَمِعَ نُطْقَهُ- وَ مَنْ سَكَتَ عَلِمَ سِرَّهُ- وَ مَنْ عَاشَ فَعَلَيْهِ رِزْقُهُ- وَ مَنْ مَاتَ فَإِلَيْهِ مُنْقَلَبُهُ- لَمْ تَرَكَ الْعُيُونُ فَتُخْبِرَ عَنْكَ- بَلْ كُنْتَ قَبْلَ الْوَاصِفِينَ مِنْ خَلْقِكَ- لَمْ تَخْلُقِ الْخَلْقَ لِوَحْشَةٍ- وَ لَا اسْتَعْمَلْتَهُمْ لِمَنْفَعَةٍ- وَ لَا يَسْبِقُكَ مَنْ طَلَبْتَ- وَ لَا يُفْلِتُكَ مَنْ أَخَذْتَ- وَ لَا يَنْقُصُ سُلْطَانَكَ مَنْ عَصَاكَ- وَ لَا يَزِيدُ فِي مُلْكِكَ مَنْ أَطَاعَكَ- وَ لَا يَرُدُّ أَمْرَكَ مَنْ سَخِطَ قَضَاءَكَ- وَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْكَ مَنْ تَوَلَّى عَنْ أَمْرِكَ- كُلُّ سِرٍّ عِنْدَكَ عَلَانِيَةٌ- وَ كُلُّ غَيْبٍ عِنْدَكَ شَهَادَةٌ- أَنْتَ الْأَبَدُ فَلَا أَمَدَ لَكَ- وَ أَنْتَ الْمُنْتَهَى فَلَا مَحِيصَ عَنْكَ- وَ أَنْتَ الْمَوْعِدُ فَلَا مَنْجَى مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ- بِيَدِكَ نَاصِيَةُ كُلِّ دَابَّةٍ- وَ إِلَيْكَ مَصِيرُ كُلِّ نَسَمَةٍ- سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ مَا نَرَى مِنْ خَلْقِكَ- وَ مَا أَصْغَرَ عِظَمَهُ فِي جَنْبِ قُدْرَتِكَ- وَ مَا أَهْوَلَ مَا نَرَى مِنْ مَلَكُوتِكَ- وَ مَا أَحْقَرَ ذَلِكَ فِيمَا غَابَ عَنَّا مِنْ سُلْطَانِكَ- وَ مَا أَسْبَغَ نِعَمَكَ فِي الدُّنْيَا- وَ مَا أَصْغَرَهَا فِي نِعَمِ الْآخِرَةِ أقول: هذا الفصل من أشرف الفصول المشتملة على توحيد اللّه و تنزيهه و إجلاله و تعظيمه.


اللغة
و اللهف: الحزن، و الملهوف: المظلوم يستغيث. و الأبد: الدائم. و الأمد: الغاية. و حاص عن الشي‏ء: عدل و هرب. و المحيص: المهرب.


و فيه اعتبارات ثبوتيّة و سلبيّة:
أمّا الثبوتيّة فعشرة:
الأوّل: خشوع كلّ شي‏ء له
و الخشوع مراد هنا بحسب الاشتراك اللفظىّ.
إذ الخشوع من الناس يعود إلى تطأ منهم و خضوعهم للّه و من الملائكة دؤو بهم في عبادتهم ملاحظة لعظمته، و من سائر الممكنات انفعالها عن قدرته و خضوعها في رقّ الإمكان و الحاجة إليه، و المشترك و إن كان لا يستعمل في جميع مفهوماته‏ حقيقة فقد بيّنّا أنّه يجوز استعماله مجازا فيها بحسب القرينة و هى هنا إضافته إلى كلّ شي‏ء أو لأنّه في قوّة المتعدّد كقوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ»«» فكأنّه قال: الملك خاشع له و البشر خاشع له، و هذا الاعتبار يستلزم وصفه تعالى باعتبارين: أحدهما: كونه عظيما، و الثاني: كونه غنيّا: أمّا العظيم فينقسم إلى ما يكبر حاله في النفس و لكن يتصوّر أن يحيط بكماله العقول و يقف على كنه حقيقته، و إلى ما يمكن أن يحيط به بعض العقول و إن فات أكثرها، و هذان القسمان إنّما يطلق عليهما لفظ العظمة بالإضافة، و قياس كلّ إلى ما دونه فيما هو عظيم فيه، و إلى ما لا يتصوّر أن يحيط به العقل أصلا و ذلك هو العظيم المطلق الّذي جاوز حدود العقول أن يقف على صفات كماله و نعوت جلاله، و ليس هو إلّا اللّه تعالى، و أمّا الغنىّ فسنذكره.

الثاني: قيام كلّ شي‏ء به
و اعلم أنّ جميع الممكنات إمّا جواهر أو أعراض و ليس شي‏ء منها يقوم بذاته في الوجود: أمّا الأعراض فظاهر لظهور حاجتها إلى المحلّ الجوهرىّ، و أمّا الجواهر فلأنّ قوامها في الوجود إنّما يكون بقيام عللها و تنتهى إلى الفاعل الأوّل جلّت عظمته فهو إذن الفاعل المطلق الّذى به قوام كلّ موجود في الوجود، و إذ ثبت أنّه تعالى غنىّ عن كلّ شي‏ء في كلّ شي‏ء و ثبت أنّ به قوام كلّ شي‏ء ثبت أنّه القيّوم المطلق. إذ مفهوم القيّوم هو القائم بذاته المقيم لغيره فكان هذا الاعتبار مستلزما لهذا الوصف.

الثالث: كونه تعالى غنى كلّ فقير
و يجب أن يحمل الفقر على ما هو أعمّ من الفقر المتعارف و هو مطلق الحاجة ليعمّ التمجيد كما أنّ الغنى هو سلب مطلق الحاجة، و إذ ثبت أنّ كلّ ممكن فهو مفتقر في طرفيه منته في سلسلة الحاجة إليه، و أنّه تعالى المقيم له في الوجود ثبت أنّه تعالى رافع حاجة كلّ موجود بل كلّ ممكن و هو المراد بكونه غنى له، و أطلق عليه تعالى لفظ الغنى و إن كان الغنى به مجازا إطلاقا لاسم السبب على المسبّب.

الرابع: كونه عزّ كلّ ذليل
و قد سبق أنّ معنى العزيز هو الخطير الّذى يقلّ وجود مثله و يشتدّ الحاجة و يصعب الوصول إليه فما اجتمعت فيه هذه المفهومات الثلاثة سمّى عزيزا، و سبق أيضا أنّ هذه المفهومات مقولة بالزيادة و النقصان على ما تصدق عليه، و أنّه ليس الكمال في واحد منها إلّا للّه سبحانه، و يقابله الذليل و ثبت أنّه تعالى عزّ كلّ موجود لأنّ كلّ موجود سواه إنّما يتحقّق فيه هذه المفهومات الثلاثة منه سبحانه الناظم لسلسلة الوجود و الواضع لكلّ من الموجودات في رتبته من النظام الكلّىّ فمنه عزّ كلّ موجود، و كلّ موجود ذليل في رقّ الإمكان و الحاجة إليه في إفاضة المفهومات الثلاثة عليه فهو إذن عزّ كلّ ذليل و إطلاق لفظ العزّ عليه كإطلاق لفظ الغنى.

الخامس: و قوّة كلّ ضعيف
القوّة تطلق على كمال القدرة و على شدّة الممانعة و الدفع و يقابلها الضعف و هما مقولان بالزيادة و النقصان على من يطلقان عليه، و إذ ثبت أنّه تعالى مستند جميع الموجودات و المفيض على كلّ قابل ما يستعدّ له و يستحقّه فهو المعطى لكلّ ضعيف عادم القوّة من نفسه كماله و قوّته فمنه قوّة كلّ ضعيف بالمعنيين المذكورين لها، و روى أنّ الحسن قال: و اعجبا لنبىّ اللّه لوط عليه السّلام إذ قال لقومه: لو أنّ لى بكم قوّة أو آوى إلى ركن شديد أ تراه أراد ركنا أشدّ من اللّه تعالى. و إطلاق لفظ القوّة عليه كإطلاق لفظ الغنى أيضا.

السادس: كونه مفزع كلّ ملهوف
أى إليه ملجأ كلّ مضطرّ في ضرورته حال حزن أو خوف أو ظلم كما قال تعالى «ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ»«» «وَ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ»«» فكلّ مفزع و ملجأ غيره فلمضطرّ لا لكلّ مضطرّ و مجاز لا حقيقة و إضافيّ لا حقيقىّ، و هذا الاعتبار يستلزم كمال القدرة للّه لشهادة فطرة ذى الضرورة بنسبة جميع أحوال وجوده إلى جوده و يستلزم كمال العلم لشهادة فطرته باطّلاعه على ضرورته، و كذلك كونه سميعا و بصيرا و خالقا و مجيبا للدعوات و قيّوما و نحوها من الاعتبارات.

السابع:
كونه من تكلّم سمع نطقه.
الثامن: من سكت علم سرّه
و هما إشارتان إلى وصفى السميع و العليم، و لمّا كان السميع يعود إلى العالم بالمسموعات استلزم الوصفان إحاطته بما أظهر العبد و أبداه و ما أسرّه و أخفاه في حالتى نطقه و سكوته، و قد سبقت الإشارة إلى ذلك.

التاسع:
و من عاش فعليه رزقه.

العاشر: و من مات فإليه منقلبه
و هما إشارتان إلى كونه تعالى مبدء للعباد في وجودهم و ما يقوم به عاجلا و منتهى و غاية لهم آجلا فإليه رجوع الأحياء منهم و الأموات، و به قيام وجودهم حالتى الحياة و المماة.

الحادى عشر من الاعتبارات السلبيّة: لم تراك العيون فتخبر عنك
و فيه التفات من الغيبة إلى الخطاب كقوله تعالى «إِيَّاكَ نَعْبُدُ» و هذا الالتفات و عكسه يستلزم شدّة عناية المتكلّم بالمعنى المنتقل إليه، و حسنه معلوم في علم البيان، و اعلم أنّ هذا الكلام لا بدّ فيه من تجوّز أو إضمار، و ذلك إن جعلنا الرائى هو العيون كما عليه اللفظ و يصدق حقيقة لزم إسناد قوله فتخبر إليها مجازا لكون الإخبار ليس لها، و إن راعينا عدم المجاز لزم أن يكون التقدير: لم ترك العيون فتخبر عنك أربابها، أو لم ترك أرباب العيون فتخبر عنك. فيلزم الاضمار و يلزم التعارض بينه و بين المجاز لكن قد علمت في مقدّمات اصول الفقه: أنّهما سيّان في المرتبة، و غرض الكلام تنزيهه تعالى عن وصف المشبّهة و نحوهم و إخبارهم عنه بالصفات الّتى من شأنها أن يخبر عنها الراءون عن مشاهدة حسيّة مع اعترافهم بأنّ إخبارهم ذلك من غير رؤية، و لمّا كان الإخبار عن المحسوسات و ما من شأنه أن يحسّ إنّما يصدق إذا استند إلى الحسّ لا جرم استلزم سلبه لرؤية العيون له سلب الإخبار عنه من جهتها و كذب الإخبار عنه بما لا يعلم إلّا من جهتها، و يخبر و إن كان في صورة الإثبات إلّا أنّه منفىّ لنفى لازمه و هى رؤية العيون له. إذ كان الإخبار من جهتها يستلزم رؤيتها، و نصبه بإضمار أن عقيب الفاء في جواب النفى، و الكلام في تقدير شرطيّة متّصلة صورتها لو صحّ إخبار العيون عنك لكانت قد رأتك لكنّها لم تراك فلم تصحّ أن تخبر عنك، فأمّا قوله: بل‏ كنت قبل الواصفين من خلقك. فتعليل لسلب الرؤية المستلزم لسلب الإخبار عنها بقياس ضمير تقدير كبراه: و كلّ من كان قبل واصفيه لم يروه فلم يخبروا عنه، و هذه الكبرى من المظنونات المشهورات في بادى النظر، و هى كما علمت من موادّ قياس الخطيب و إن كانت إذا تعقّبت لم يوجد كلّيّة. إذ ليس كلّما وجد قبلنا بطل إخبارنا عنه، و يمكن حمل هذا القول على وجه التحقيق و هو أن نقول: المراد بقبليّته تعالى للواصفين قبليّة وجوده بالعليّة الذاتيّة و هو بهذا الاعتبار مستلزمة لتنزيهه تعالى عن الجسميّة و لواحقها المستلزم لامتناع الرؤية المستلزم لكذب الإخبار عنه من وجه المشابهة الحسيّة.

الثاني عشر: كونه لم تخلق الخلق لوحشة
و هو إشارة إلى تنزيهه عن الطبع المستوحش و المستأنس، و قد سبق بيان ذلك في الخطبة الاولى.

الثالث عشر: و لا استعملتهم لمنفعة
أى لم يكن خلقه لهم لمنفعة تعود إليه، و قد سبق بيان أنّ جلب المنفعة و دفع المضرّة من لواحق المزاج- المنزّه قدس اللّه تعالى عنه- .

الرابع عشر: و لا يسبقك من طلبت
أى لا يفوتك هربا.

الخامس عشر: و لا يفلتك من أخذت
أى لا يفلت منك بعد أخذه فحذف حرف الجرّ، و عدّى الفعل بنفسه كما قال تعالى «وَ اخْتارَ مُوسى‏ قَوْمَهُ» و هذان الاعتباران يستلزمان كمال ملكه و تمام قدرته و إحاطة علمه. إذ أىّ ملك فرض فقد ينجو من يده الهارب و يفلت من أسره المأخوذ بالحيلة و نحوها.

السادس عشر:
و لا ينقص سلطانك من عصاك.

السابع عشر: و لا يزيد في ملكك من أطاعك
و هما تنزيه له تعالى من أحوال ملوك الدنيا. إذ كان كمال سلطان أحدهم بزيادة جنوده و كثرة مطيعه و قلّة المخالف و العاصى له، و نقصان ملكه بعكس ذلك و هو سبب لتسلّط أعدائه عليه و طمعهم فيه. فأمّا سلطانه تعالى فلما كان لذاته و كمال قدرته مستوليا و هو مالك الملك يؤتى الملك من يشاء و ينزع الملك ممّن يشاء و يذلّ من يشاء بيده الخير و هوعلى كلّ شي‏ء قدير. لم يتصوّر خروج العاصى بعصيانه عن سلطانه حتّى يؤثّر في نقصانه، و لم يكن لطاعة الطائع تأثير في زيادة ملكه.

الثامن عشر: و لا يردّ أمرك من سخط قضائك
يريد بالأمر هنا القدر النازل على وفق القضاء الإلهىّ و هو تفصيل القضاء كما بيّناه، و هذا الاعتبار أيضا يستلزم تمام قدرة اللّه و كمال سلطانه. إذ كان ما علم وجوده فلا بدّ من وجوده سواء كان محبوبا للعبد أو مكروها له كما قال تعالى «وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ»«» «إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ»«» «وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَ إِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ»«» و إنّما خصّص المستخطّ للقضاء بالعجز عن ردّ الأمر. إذ كان من شأنه أن لو قدر لردّ القدر.

التاسع عشر: و لا يستغنى عنك من تولّى عن أمرك
أراد بالأمر هاهنا ظاهره، و هو أمر عباده بطاعته و عبادته، و ظاهر أنّ من تولّى عن أمر اللّه فهو إليه أشدّ فقرا و أنقص ذاتا ممّن تولّى أمره، و هذا الاعتبار يستلزم كمال سلطانه و غناه المطلق.

العشرون:
كلّ سرّ عندك علانية.

الحادى و العشرون: و كلّ غيب عندك شهادة
هذان الاعتباران يستلزمان كمال علمه و إحاطته بجميع المعلومات، و لمّا كانت نسبة علمه تعالى إلى المعلومات على سواء لا جرم استوى بالنسبة إليه السرّ و العلانية، و أيضا فإنّ السرّ و الغيب إنّما يطلقان بالقياس إلى مخفىّ عنه و غائب عنه و هى القلوب المحجوبة بحجب الطبيعة و أستار الهيئات البدنيّة و الأرواح المستولى عليها نقصان الإمكان الحاكم عليها بجهل أحوال ما هو أكمل منها، و كلّ ذلك ممّا تنزّه قدس الصانع عنه.

الثاني و العشرون: أنت الأبد فلا أمد لك
أى أنت الدائم فلا غاية لك يقف عندها وجودك، و ذلك لاستلزام وجوب وجوده امتناع عدمه و انتهائه بالغاية، و قال بعض الشارحين: أراد أنت ذو الأبد كما قيل: أنت خيال. أى ذو خيال من الخيلاء و هو الكبر. و أقول في تقرير ذلك: إنّه لمّا كان الأزل و الأبد لازمين لوجوداللّه تعالى أطلق الأبد على وجوده مجازا للمبالغة في الدوام و كان أحدهما هو بعينه الآخر كقولهم: أنت الطلاق. للمبالغة في البينونة.

الثالث و العشرون:
و أنت المنتهى فلا محيص عنك.

الرابع و العشرون: و أنت الموعد فلا منجا منك إلّا إليك:
أمّا أنّه تعالى المنتهى و الموعد فلقوله تعالى «وَ أَنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الْمُنْتَهى‏»«» و قوله «إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً» و المنتهى في كلامه عليه السّلام الغاية، و قد سبق بيان أنّه تعالى غاية الكلّ و مرجعه و أمّا أنّه لا معدل عنه و لا ملجأ منه إلّا إليه فإشارة إلى ضرورة لقائه كقوله تعالى «وَ ظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ».

الخامس و العشرون: بيدك ناصية كلّ دابّة 

أى في ملكك و تحت تصريف قدرتك كقوله تعالى «ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها»«» و إنّما خصّت الناصية لحكم الوهم بأنّه تعالى في جهة فوق فيكون أخذه بالناصية، و لأنّها أشرف ما في الدابّة فسلطانه تعالى على الأشرف يستلزم القهر و الغلبة و تمام القدرة.

السادس و العشرون: و إليك مصير كلّ نسمة
و قد سبق أنّه تعالى منتهى الكلّ، و إليه مصيره.
و قوله: سبحانك ما أعظم ما نرى من خلقك. إلى آخره.
 تنزيه و تقديس للّه تعالى عن أحكام الأوهام على صفاته بشبهيّة مدركاتها و تعجّب في معرض التمجيد من عظم ما يشاهد من مخلوقاته كأطباق الأفلاك و العناصر و ما يتركّب عنها، ثمّ من حقارة هذه العظمة بالقياس إلى ما تعبّره العقول من مقدوراته و ما يمكن في كمال قدرته من الممكنات الغير المتناهية، و ظاهر أنّ نسبة الموجود إلى الممكن في العظم و الكثرة يستلزم حقارته و صغره، ثمّ من هول ما وصلت إليه العقول من عظمة ملكوته، ثمّ من حقارته بالقياس إلى ما غاب عنها و حجبت عن إدراكه بأستار القدرة و حجب العزّة من الملأ الأعلى و سكّان حظائر القدس و حال العالم العلوي، ثمّ من سبوغ نعمة اللّه تعالى على عباده في الدنيا و حقارة تلك النعم بالقياس إلى النعمة الّتى أعدّها لهم في الآخرة، و ظاهر أنّ نعم الدنيا إذا اعتبرت إلى نعم الآخرة في الدوام و الكثرة و الشرف كانت بالقياس إليها في غاية الحقارة. و باللّه التوفيق.


منها:
مِنْ مَلَائِكَةٍ أَسْكَنْتَهُمْ سَمَاوَاتِكَ- وَ رَفَعْتَهُمْ عَنْ أَرْضِكَ- هُمْ أَعْلَمُ خَلْقِكَ بِكَ- وَ أَخْوَفُهُمْ لَكَ وَ أَقْرَبُهُمْ مِنْكَ- لَمْ يَسْكُنُوا الْأَصْلَابَ- وَ لَمْ يُضَمَّنُوا الْأَرْحَامَ- وَ لَمْ يُخْلَقُوا مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ- وَ لَمْ يَتَشَعَّبْهُمْ رَيْبُ الْمَنُونِ- وَ إِنَّهُمْ عَلَى مَكَانِهِمْ مِنْكَ- وَ مَنْزِلَتِهِمْ عِنْدَكَ وَ اسْتِجْمَاعِ أَهْوَائِهِمْ فِيكَ- وَ كَثْرَةِ طَاعَتِهِمْ لَكَ وَ قِلَّةِ غَفْلَتِهِمْ عَنْ أَمْرِكَ- لَوْ عَايَنُوا كُنْهَ مَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ مِنْكَ- لَحَقَّرُوا أَعْمَالَهُمْ وَ لَزَرَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ- وَ لَعَرَفُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ- وَ لَمْ يُطِيعُوكَ حَقَّ طَاعَتِكَ


اللغة
أقول: المهين: الحقير. و التشعّب: الاقتسام و التفريق. و المنون: الدهر. و ريبة: ما يكره من حوادثه. و المكانة: المنزلة. و كنه الشي‏ء: نهاية حقيقته. و زريت عليه: عبث فعله.


المعنى
و اعلم أنّ من في صدر هذا الفصل لبيان الجنس، و ذلك أنّه عليه السّلام لمّا شرع في بيان عظمة اللّه تعالى و جلاله جعل مادّة ذلك التعظيم تعديد مخلوقاته و ذكر الأشرف فالأشرف منها
فذكر الملائكة السماوية، و أشار إلى أفضليّتهم بأوصاف:

الأوّل: كونهم أعلم خلق اللّه به
و هو ظاهر. إذ ثبت أنّ كلّ مجرّد كان علمه أبعد عن منازعة النفس الأمّارة بالسوء الّتي هي مبدء الغفلة و السهو و النسيان كان أكمل في معارفه و علومه ممّن عداه، و لأنّ الملائكة السماويّة وسائط لغيرهم‏ في وصول العلم و سائر الكمالات إلى الخلق فكانوا كالاستادين لمن عداهم، و ظاهر أنّ الاستاد أعلى درجة من التلميذ، و قد عرفت في الخطبة الاولى أنّ المعارف مقولة بحسب التشكيك.

الثاني: كونهم أخوف له
و ذلك لكونهم أعلم بعظمة اللّه و جلاله و كلّ من كان أعلم بذلك كان أخوف و أشدّ خشية: أمّا الاولى: فلما مرّ، و أمّا الثانية: فلقوله تعالى «إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ»«» فحصر الخشية في العلماء.
و بحسب تفاوت العلم بالشدّة و الضعف يكون تفاوت الخشية بهما.

الثالث: كونهم أقرب منه
و المراد لا القرب المكانىّ لتنزّهه تعالى عن المكان بل قرب المنزلة و الرتبة منه. و ظاهر أنّ من كان أعلم به و أخوف منه كان أقرب منزلة عنده لقوله تعالى «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ»«».

الرابع من سلب النقصانات البشريّة عنهم
كونهم لم يسكنوا الأصلاب، و لم يضمّنوا الأرحام، و لم يخلقوا من ماء مهين، و لم يختلف عليهم حوادث الدهر. و ظاهر كون هذه الامور الأربعة نقصانات تلزم الحيوان العنصرىّ لاستلزامها التغيّر و مخالطة المحالّ المستقذرة و معاناة الأسقام و الأمراض و سائر الهيئات البدنيّة المانعة عن التوجّه إلى اللّه فكان سلبها عمّن لا يجوز عليه من كمالاته.

و قوله: و إنّهم على مكانتهم [مكانهم خ‏] منك. إلى آخره.
 لمّا بيّن عظمة الملائكة بالنسبة إلى من عداهم شرع في المقصود و هو بيان عظمة اللّه تعالى بالنسبة إليهم، و حقارتهم على عظمتهم بالقياس إلى عظمته و كبريائه: أى أنّهم مع كونهم على هذه الأحوال الّتي توجب لهم العظمة و الإجلال من قرب منزلتهم منك و كمال محبّتهم لك و غرقهم في أنوار كبريائك عن الالتفات إلى غيرك لو عرفوا كنه معرفتك لصغرت في أعينهم أعمالهم، و علموا أن لا نسبة لعبادتهم إلى عظمتك و جلال وجهك، و لمّا كان كمال العبادة و مطابقتها للأمر المطاع بحسب العلم بعظمته، و كان ذات الحقّ سبحانه أعظم من أن يطّلع عليه بالكنه ملك مقرّب‏ أو نبيّ مرسل لا جرم كانت عبادة الملائكة بحسب معارفهم القاصرة عن كنه حقيقته.
فكلّ من كانت معرفته أتمّ كانت عبادة من دونه مستحقرة في جانب عبادته حتّى لو زادت معارفهم به و أمكن اطّلاعهم على كنه حقيقته لزادت عبادتهم و كانت أكمل فاستحقروا ما كانوا فيه و عابوا أنفسهم بقصور الطاعة و العبادة عمّا يستحقّه كماله المطلق، و عبّر بقلّة الغفلة عن عدمها في حقّهم مجازا إطلاقا لاسم اللازم على ملزومه.
إذ كان كلّ معدوم قليل و لا ينعكس، و جعل قلّة الغفلة في مقابلة كثرة الطاعة، و يحتمل أن يريد بقلّة الغفلة قوّة معرفة بعضهم بالنسبة إلى بعض مجازا أيضا إطلاقا لاسم الملزوم على لازمه. إذ كانت قلّة الغفلة مستلزمة لقوّة المعرفة و زيادتها، و قد سبق ذكر أنواع الملائكة السماويّة و غيرهم، و ذكر نكت من أحوالهم في الخطبة الاولى.


الفصل الثاني
قوله: سُبْحَانَكَ خَالِقاً وَ مَعْبُوداً- بِحُسْنِ بَلَائِكَ عِنْدَ خَلْقِكَ خَلَقْتَ دَاراً- وَ جَعَلْتَ فِيهَا مَأْدُبَةً- مَشْرَباً وَ مَطْعَماً وَ أَزْوَاجاً- وَ خَدَماً وَ قُصُوراً- وَ أَنْهَاراً وَ زُرُوعاً وَ ثِمَاراً- ثُمَّ أَرْسَلْتَ دَاعِياً يَدْعُو إِلَيْهَا- فَلَا الدَّاعِيَ أَجَابُوا- وَ لَا فِيمَا رَغَّبْتَ رَغِبُوا- وَ لَا إِلَى مَا شَوَّقْتَ إِلَيْهِ اشْتَاقُوا- أَقْبَلُوا عَلَى جِيفَةٍ قَدِ افْتَضَحُوا بِأَكْلِهَا- وَ اصْطَلَحُوا عَلَى حُبِّهَا- وَ مَنْ عَشِقَ شَيْئاً أَعْشَى بَصَرَهُ- وَ أَمْرَضَ قَلْبَهُ- فَهُوَ يَنْظُرُ بِعَيْنٍ غَيْرِ صَحِيحَةٍ- وَ يَسْمَعُ بِأُذُنٍ غَيْرِ سَمِيعَةٍ- قَدْ خَرَقَتِ الشَّهَوَاتُ عَقْلَهُ- وَ أَمَاتَتِ الدُّنْيَا قَلْبَهُ- وَ وَلِهَتْ عَلَيْهَا نَفْسُهُ- فَهُوَ عَبْدٌ لَهَا- وَ لِمَنْ فِي يَدَيْهِ شَيْ‏ءٌ مِنْهَا- حَيْثُمَا زَالَتْ زَالَ إِلَيْهَا- وَ حَيْثُمَا أَقْبَلَتْ‏ أَقْبَلَ عَلَيْهَا- لَا يَنْزَجِرُ مِنَ اللَّهِ بِزَاجِرٍ- وَ لَا يَتَّعِظُ مِنْهُ بِوَاعِظٍ- وَ هُوَ يَرَى الْمَأْخُوذِينَ عَلَى الْغِرَّةِ- حَيْثُ لَا إِقَالَةَ وَ لَا رَجْعَةَ- كَيْفَ نَزَلَ بِهِمْ مَا كَانُوا يَجْهَلُونَ- وَ جَاءَهُمْ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا مَا كَانُوا يَأْمَنُونَ- وَ قَدِمُوا مِنَ الْآخِرَةِ عَلَى مَا كَانُوا يُوعَدُونَ- فَغَيْرُ مَوْصُوفٍ مَا نَزَلَ بِهِمْ- اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ- وَ حَسْرَةُ الْفَوْتِ فَفَتَرَتْ لَهَا أَطْرَافُهُمْ- وَ تَغَيَّرَتْ لَهَا أَلْوَانُهُمْ- ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ فِيهِمْ وُلُوجاً- فَحِيلَ بَيْنَ أَحَدِهِمْ وَ بَيْنَ مَنْطِقِهِ- وَ إِنَّهُ لَبَيْنَ أَهْلِهِ يَنْظُرُ بِبَصَرِهِ- وَ يَسْمَعُ بِأُذُنِهِ عَلَى صِحَّةٍ مِنْ عَقْلِهِ- وَ بَقَاءٍ مِنْ لُبِّهِ- يُفَكِّرُ فِيمَ أَفْنَى عُمُرَهُ- وَ فِيمَ أَذْهَبَ دَهْرَهُ- وَ يَتَذَكَّرُ أَمْوَالًا جَمَعَهَا أَغْمَضَ فِي مَطَالِبِهَا- وَ أَخَذَهَا مِنْ مُصَرَّحَاتِهَا وَ مُشْتَبِهَاتِهَا- قَدْ لَزِمَتْهُ تَبِعَاتُ جَمْعِهَا- وَ أَشْرَفَ عَلَى فِرَاقِهَا- تَبْقَى لِمَنْ وَرَاءَهُ يَنْعَمُونَ فِيهَا- وَ يَتَمَتَّعُونَ بِهَا- فَيَكُونُ الْمَهْنَأُ لِغَيْرِهِ وَ الْعِبْ‏ءُ عَلَى ظَهْرِهِ- وَ الْمَرْءُ قَدْ غَلِقَتْ رُهُونُهُ بِهَا- فَهُوَ يَعَضُّ يَدَهُ نَدَامَةً- عَلَى مَا أَصْحَرَ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ أَمْرِهِ- وَ يَزْهَدُ فِيمَا كَانَ يَرْغَبُ فِيهِ أَيَّامَ عُمُرِهِ- وَ يَتَمَنَّى أَنَّ الَّذِي كَانَ يَغْبِطُهُ بِهَا- وَ يَحْسُدُهُ عَلَيْهَا قَدْ حَازَهَا دُونَهُ- فَلَمْ يَزَلِ الْمَوْتُ يُبَالِغُ فِي جَسَدِهِ- حَتَّى خَالَطَ لِسَانُهُ سَمْعَهُ- فَصَارَ بَيْنَ أَهْلِهِ لَا يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ- وَ لَا يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ- يُرَدِّدُ  طَرْفَهُ بِالنَّظَرِ فِي وُجُوهِهِمْ- يَرَى حَرَكَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ- وَ لَا يَسْمَعُ‏ رَجْعَ كَلَامِهِمْ- ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ الْتِيَاطاً فَقُبِضَ بَصَرُهُ كَمَا قُبِضَ سَمْعُهُ وَ خَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ جَسَدِهِ- فَصَارَ جِيفَةً بَيْنَ أَهْلِهِ- قَدْ أَوْحَشُوا مِنْ جَانِبِهِ- وَ تَبَاعَدُوا مِنْ قُرْبِهِ- لَا يُسْعِدُ بَاكِياً وَ لَا يُجِيبُ دَاعِياً- ثُمَّ حَمَلُوهُ إِلَى مَخَطٍّ فِي الْأَرْضِ- فَأَسْلَمُوهُ فِيهِ إِلَى عَمَلِهِ- وَ انْقَطَعُوا عَنْ زَوْرَتِهِ


اللغة
أقول: المأدبة بضمّ الدال و فتحها: الطعام يصنع و يدعى إليه. و الوله: التحيّر لشدّة الوجد و المحبّة. و أغمض: أى اذداد من مطالبها و تساهل في وجوه اكتسابها و لم يحفظ دينه. و التبعة: ما يلحق من إثم و عقاب. و المهنأ: المصدر من هنؤ بالضمّ و هنى‏ء بالكسر. و العب‏ء: الحمل. و أصحر: انكشف. و رجع الكلام: جوابه و ترديده. و الالتياط: الالتصاق. و المخطّ: موضع الخطّ كناية عن القبر يخطّ أوّلا ثمّ يحفر، و يروى بالحاء. و محطّ القوم: منزلهم.


و في هذا الفصل نكت:
الاولى: أنّ خالقا و معبودا حالان انتصبا عمّا في سبحانك من معنى الفعل:
أى اسبّحك خالقا و معبودا، و أشار بذلك إلى وجوب تنزيهه في هذين الاعتبارين أعنى اعتبار كونه خالقا للخلق و معبودا لهم عن الشركاء و الأنداد فإنه لمّا تفرّد بالإبداع و الخلق، و استحقّ بذلك التفرّد تفرّده بعبادة الكلّ له وجب تنزيهه عن مساو له في الاعتبارين.

الثانية: قوله: بحسن بلائك عند خلقك خلقت دارا الجارّ و المجرور متعلّق بخلقت، و لفظ الدار مستعار للإسلام، و لفظ المأدبة للجنّة، و الداعى هو الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم. و قد جمعها الخبر في بعض أمثاله صلّى اللّه عليه و آله و سلم إنّ اللّه جعل الإسلام دارا و الجنّة مأدبة و الداعى إليها محمّدا. و وجه الاستعارة الاولى أنّ الإسلام يجمع أهله و يحميهم كالدار، و وجه الثانية: أنّ الجنّة مجتمع الشهوات و منتجع اللذّات‏ كالمأدبة، و يحتمل أن يريد بالدار الآخرة باعتبار كونها مجمعا و مستقرّا و المأدبة فيها الجنّة، و المنصوبات الثمانية مميّزات لتلك المأدبة، و ظاهر أنّ وجود الإسلام و الجنّة و الدعوة إليها بلاء حسن من اللّه لخلقه، و قد عرفت معنى ابتلائه تعالى، و قال بعض الشارحين: إنّ قوله: بحسن بلائك متعلّق بسبحانك أو بمعبود و هو بعيد.

الثالثة: قوله: فلا الداعى أجابوا. إلى قوله: بواعظ
شرح لحال العصاة الّذين لم يجيبوا داعى اللّه، و بيان لعيوبهم و غرقهم في حبّ الباطل من الدنيا و فائدته: أمّا للمنتهين اللازمين لأوامر اللّه المجيبين لدعوته فتنفيرهم عن الركون إلى هؤلاء و الوقوع فيما وقعوا فيه، و أمّا لهؤلاء فتنبيههم من مراقد غفلاتهم بتذكيرهم عيوبهم لعلّهم يرجعون، و استعار لفظ الجيفة للدنيا، و وجه المشابهة أنّ لذّات الدنيا و قيناتها في نظر العقلاء و اعتبار الصالحين منفور عنها و مهروب منها و مستقذرة كالجيفة و إلى ذلك أشار الواصف لها:
و ما هي إلّا جيفة مستحيلة عليها كلاب همهنّ اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها
و إن تجتذبها نازعتك كلابها

و يمكن أخذ معنى البيت الثاني في وجه الاستعارة المذكورة، و كذلك استعار لفظ الافتضاح للاشتهار باقتنائها و جمعها و الخروج بها عن شعائر الصالحين، و وجه الاستعارة أنّه لمّا كان الإقبال على جمع الدنيا و الاشتغال بها عن اللّه من أعظم الكبائر و المساوى في نظر الشارع و السالكين لطريق اللّه، و كان الافتضاح عبارة عن انكشاف المساوى المتعارف قبحها لا جرم أشبه الاشتهار بجمعها و انكشاف الحرص عليها الافتضاح، و يمكن أن يصدق الافتضاح هاهنا حقيقة، و كنّى بأكلها عن جمعها، و تجوّز بلفظ الاصطلاح في التوافق على محبّتها إطلاقا لاسم الملزوم على لازمه فإنّ الاصطلاح عبارة عن التراضى بعد التغاضب و يلزمه الاتّفاق على الأحوال، و قوله: من عشق شيئا أعمى بصره و أمرض قلبه. كبرى قياس دلّ على صغراه قوله: و اصطلحوا على حبّها. لأنّ الاصطلاح على محبّة الشي‏ء يستلزم شدّة محبّته و هومعنى العشق و نتيجته أنّ المذكورين في معرض الذمّ قد أعشت الدنيا أبصارهم و أمرضت قلوبهم، و استعار لفظ البصر لنور البصيرة ملاحظة لشبه المعقول بالمحسوس، و لفظ العشاء لظلمة الجهل ملاحظة للشبه بالظلمة العارضة للعين بالليل، و إسناد الإعشاء إلى الدنيا يحتمل أن يكون حقيقة لما يستلزمه حبّها من الجهل و الغفلة عن أحوال الآخرة، و يحتمل أن يريد بالبصر حقيقته، و يكون لفظ العشاء مستعارا لعدم استفادتهم بأبصارهم عبرة تصرفهم عن حبّ الدنيا إلى ملاحظة أحوال الآخرة، و يؤيّده قوله: فهو ينظر بعين غير صحيحة، و كنّى بعدم صحّتها عمّا يلزم العين غير الصحيحة من عدم الانتفاع بها في تحصيل الفائدة، و كذلك استعار لفظ المرض للداء الأكبر و هو الجهل استعارة لفظ المحسوس للمعقول، و قوله: فهو يسمع باذن غير سميعة، و كنّى بذلك عن عدم إفادتها عبرة من المواعظ و الزواجر الإلهيّة كما سبق، و كذلك استعار لفظ التخريق لتفرّق عقله في مهمّات الدنيا و مطالبها.
و وجه الاستعارة أنّ العقل إذا استعمل فيما خلق لأجله من اتّخاذ الزاد ليوم المعاد و اقتباس العلم و الحكمة من تصفّح جزئيّات الدنيا و الاستدلال منها على وجود الصانع و ما ينبغي له و نحو ذلك ممّا هو كماله المستعدّ في الآخرة فإنّه يكون منتظما منتفعا به، و أمّا إن استعمل فيما لا ينبغي من جميع متفرّقات الدنيا و توزيع الهمّة في تحصيل جزئيّاتها و ضبطها حتّى يكون أبدا في الحزن و الأسف على فوات ما فات، و في الخوف من زوال ما يحصل، و في الهمّة و الحرص على جمع ما لم يحصل بعد فإنّه يكون كالثوب المخرّق الّذي لا ينتفع به صاحبه. و نحوه قول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم: من جعل الدنيا أكبر همّه فرّق اللّه عليه همّه، و جعل فقره بين عينيه.
الحديث، و نسبة ذلك التخريق إلى الشهوات ظاهرة. إذ كان زمام عقله بيد شهوته فهى تفرّقه و تمزّقه على حسب تصرّفاتها و ميولها إلى أنواع المشتهيات، و كذلك استعار لفظ الإماتة لقلبه، و وجه المشابهة خروجه عن الانتفاع به الانتفاع الحقيقىّ الباقى كالميّت، و الضمير في قوله: عليها يعود إلى الدنيا: أى و ولّهت الدنيا على نفسها، و كنّى بالتولّه عن شدّة المحبّة لها و أطلقه مجازا تسمية للشي‏ء بما هو من غاياته، و كذلك‏ استعار لفظ العبد له لكونه محبّها و المتجرّد لتحصيلها متصرّفا بحسب تصريفها و دائرا في حركاته حيث دارت فإن كانت في يده أقبل عليها بالعمارة و الحفظ، و إن زالت عنه أنصب إلى تحصيلها و خدمة من كانت في يده لغرضها فهو في ذلك كالعبد لها بل أخسّ حالا كما قال عليه السّلام في موضع آخر: عبد الشهوة أذلّ من عبد الرقّ. إذا الباعث لعبد الرقّ على الخدمة و الانقياد قد يكون قسريّا، و الباعث لعبد الشهوة طبيعىّ، و شتّان ما بينهما.

الرابعة: قوله: و هو يرى المأخوذين على الغرّة
فالواو في قوله: و هو للحال، و هو شروع في وصف نزول الموت بالغافلين عن الاستعداد له و لما ورائه من أحوال الآخرة و كيفيّة قبض الموت لأرواحهم من مبدء نزوله بهم. إلى آخره، و كيفيّة أحوالهم مع أهليهم و إخوانهم معه، و هو وصف لا مزيد على وضوحه و بلاغته و فائدته تذكير العصاة بأهوال الموت و تنبيههم من غفلتهم في الباطل بذلك على وجوب العمل له، و تثبيت للسالكين إلى اللّه على ما هم عليه، و مراده بقوله: ما كانوا يجهلون. لا الموت فإنّه معلوم لكلّ أحد، بل تفصيل سكراته و أهواله. و ما كانوا يأمنون. إشارة إلى الموت و ما بعده فإنّ الغافل حال انهماكه في لذّات الدنيا لا يعرض له خوف الموت بل يكون في تلك الحال آمنا منه، و قوله: فغير موصوف ما نزل بهم: أى ليس ذلك ممّا يمكن استقصائه بوصف بل غايته التمثيل كما ورد في التوراة: أنّ مثل. الموت كمثل شجرة شوك أدرجت في بدن بن آدم فتعلّقت كلّ شوكة بعرق و عصب ثمّ جذبها رجل شديد الجذب فقطع ما قطع و ابقى ما ابقى، و استعار لفظ الولوج لما يتصوّر من فراق الحياة لعضوعضو فأشبه ذلك دخول جسم في جسم آخر، و كذلك استعار لفظ العب‏ء للآثام الّتي تحملها النفس، و رشّح بذكر الظهر استعارة لفظ المحسوس للمعقول.

الخامسة: قوله: و المرء قد غلقت رهونه بها.
ضربه مثلا لحصول المرء في تبعات ما جمع و ارتباطه بها عن الوصول إلى كماله و انبعاثه إلى سعادته بعد الموت، و قد كان يمكنه فكاكها بالتوبة و الأعمال الصالحة فأشبه ما جمع من الهيئات الرديئة في نفسه عن اكتساب الأموال فارتهنت بها بما على الرهن من المال، و قال بعض الشارحين: أراد أنّه لمّا أشفى على الفراق صارت الأموال الّتي جمعها مستحقّة لغيره و لم يبق له فيها تصرّف فاشبهت الرهن الّذي غلّق على صاحبه فخرج عن كونه مستحقّا لصاحبه و صار مستحقّا للمرتهن. و هذا و إن كان محتملا إلّا أنّه يضيّع فائدة قوله: بها. لأنّ الضمير يعود إلى الأموال المجموعة و هو إشارة إلى المال الّذي تعلّق الرهن به فلا تكون هي نفس الرهن، و قوله: و هو يعضّ يده. كناية عمّا يلزم ذلك من الأسف و الحزن و الندم على تفريطه في جنب اللّه حيث انكشف له حال الموت انقطاع سببه من اللّه، و فوت ما كان يتوهّم بقائه عليه ممّا اشتغل به عن ربّه، و حيث يتحسّر على ذلك التفريط كما قال تعالى «أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى‏ عَلى‏ ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَ إِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ»«» و يتمنّى هداية اللّه فيقول: لو أنّ اللّه هدانى لكنت من المتّقين، أو الرجعة إلى الدنيا لامتثال ما فرّطت فيه من الأوامر الإلهيّة فيقول حين يرى العذاب: لو أنّ لى كرّة فأكون من المحسنين، و كما قال تعالى «وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى‏ يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا»«» و قد نبّه عليه السّلام في هذا الكلام على أنّ آلة النطق تبطل من الإنسان حال الموت قبل آلتى السمع و البصر بقوله: فحيل بين أحدهم و بين منطقه، و إنّه لبين أهله ينظر ببصره و يسمع باذنه على صحّة من عقله. ثمّ نبّه على بطلان آلة السمع بعدها قبل آلة البصر و أنّ آلة البصر تبطل مع المفارقة بقوله: حتّى خالط سمعه.
إلى قوله: يرى حركات ألسنتهم و لا يسمع رجع كلامهم. و ذلك لعلمه عليه السّلام بأسرار الطبيعة، و ليس كلامه مطلقا بل في بعض الناس و أغلب ما يكون ذلك فيمن تعرّض الموت الطبيعىّ لآلاته، و إلّا فقد تعرّض الآفة لقوّة البصر و آلته قبل آلة السمع و آلة النطق، و الّذي يلوح من أسباب ذلك أنّه لمّا كان السبب العامّ القريب للموت هو انطفاء الحرارة الغريزيّة عن فناء الرطوبة الأصليّة الّتي منها خلقنا، و كان فناء تلك الرطوبة عن عمل الحرارة الغريزيّة فيها التجفيف و التحليل و قد تعينها على‏ ذلك الأسباب الخارجيّة من الأهوية و استعمال الأدوية المجفّفة و سائر المخفّفات كان كلّ عضو أيبس من طبيعته و أبرد أسرع إلى البطلان و أسبق إلى الفساد.
إذا عرفت ذلك فنقول: أمّا أنّ آلة النطق أسرع فسادا من آلة السمع فلأنّ آلة النطق مبنيّة على الأعصاب المحرّكة و مركّبة منها، و آلة السمع من الأعصاب المفيدة للحسّ، و اتّفق الأطبّاء على أنّ الأعصاب المحرّكة أيبس و أبرد لكونها منبعثة من مؤخّر الدماغ دون الأعصاب المفيدة للحسّ فإنّ جلّها منبعث من مقدّم الدماغ فكانت لذلك أقرب إلى البطلان، و لأنّ النطق أكثر شرائط من السماع لتوقّفه مع الآلة و سلامتها على الصوت و سلامة مخارجه و مجارى النفس، و الأكثر شرطا أسرع إلى الفساد، و أمّا بطلان آلة السمع قبل البصر فلأنّ منبت الأعصاب الّتي هى محلّ القوّة السامعة أقرب إلى مؤخّر الدماغ من منابت محلّ القوّة الباصرة الصماخ الّذي رتّبت فيه قوّة السمع احتاج أن يكون مكشوفا غير مسدود عنه سبيل الهواء بخلاف العصب الّذي هو آلة البصر فكانت لذلك أصلب، و الأصلب أيبس و أسرع فسادا. هذا مع أنّه قد يكون ذلك لتحلّل الروح الحامل للسمع قبل الروح الحامل للبصر أو لغير ذلك. و اللّه أعلم، و أمّا سبب النفرة الطبيعيّة من الميّت و التوحّش من قربه فحكم الوهم على المتخيّلة بمحاكاة حاله في نفس المتوهّم، و عزل العقل في ذلك الوضع حتّى أنّ المجاور لميّت في موضع منفرد يتخيّل أنّ الميّت يجذبه إليه و يصيّره بحالة مثل حالته المنفورة عنها طبعا.

السادسة: قوله: و أسلموه فيه إلى عمله
إشارة إلى أنّ كلّ ثواب و عقاب اخروىّ يفاض على النفس فبحسب استعدادها بأعمالها السابقة الحسنة و السيّئة فعمل الإنسان هو النافع أو الضارّ له حين لا ناصر له، و لمّا كان ميله عليه السّلام في هذا الكلام إلى الإنذار و التخويف لا جرم ذكر إسلامهم له إلى عمله لأنّ الإسلام إنّما يكون إلى العدوّ فلمّا حاول أن ينفّر عن قبح الأعمال نبّه على أنّ عمل الإنسان القبيح يكون كعدوّه القوىّ عليه يسلم إليه.

الفصل الثالث:
قوله: حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ- وَ الْأَمْرُ مَقَادِيرَهُ- وَ أُلْحِقَ آخِرُ الْخَلْقِ بِأَوَّلِهِ- وَ جَاءَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا يُرِيدُهُ- مِنْ تَجْدِيدِ خَلْقِهِ- أَمَادَ السَّمَاءَ وَ فَطَرَهَا- وَ أَرَجَّ الْأَرْضَ وَ أَرْجَفَهَا- وَ قَلَعَ جِبَالَهَا وَ نَسَفَهَا- وَ دَكَّ بَعْضُهَا بَعْضاً مِنْ هَيْبَةِ جَلَالَتِهِ- وَ مَخُوفِ سَطْوَتِهِ- وَ أَخْرَجَ مَنْ فِيهَا فَجَدَّدَهُمْ بَعْدَ إِخْلَاقِهِمْ- وَ جَمَعَهُمْ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ- ثُمَّ مَيَّزَهُمْ لِمَا يُرِيدُهُ مِنْ مَسْأَلَتِهِمْ- عَنْ خَفَايَا الْأَعْمَالِ وَ خَبَايَا الْأَفْعَالِ- وَ جَعَلَهُمْ فَرِيقَيْنِ- أَنْعَمَ عَلَى هَؤُلَاءِ وَ انْتَقَمَ مِنْ هَؤُلَاءِ- فَأَمَّا أَهْلُ الطَّاعَةِ فَأَثَابَهُمْ بِجِوَارِهِ- وَ خَلَّدَهُمْ فِي دَارِهِ- حَيْثُ لَا يَظْعَنُ النُّزَّالُ- وَ لَا تَتَغَيَّرُ بِهِمُ الْحَالُ- وَ لَا تَنُوبُهُمُ الْأَفْزَاعُ- وَ لَا تَنَالُهُمُ الْأَسْقَامُ وَ لَا تَعْرِضُ لَهُمُ الْأَخْطَارُ- وَ لَا تُشْخِصُهُمُ الْأَسْفَارُ- وَ أَمَّا أَهْلُ الْمَعْصِيَةِ- فَأَنْزَلَهُمْ شَرَّ دَارٍ وَ غَلَّ الْأَيْدِيَ إِلَى الْأَعْنَاقِ- وَ قَرَنَ النَّوَاصِيَ بِالْأَقْدَامِ- وَ أَلْبَسَهُمْ سَرَابِيلَ الْقَطِرَانِ- وَ مُقَطَّعَاتِ النِّيرَانِ- فِي عَذَابٍ قَدِ اشْتَدَّ حَرُّهُ- وَ بَابٍ قَدْ أُطْبِقَ عَلَى أَهْلِهِ- فِي نَارٍ لَهَا كَلَبٌ وَ لَجَبٌ- وَ لَهَبٌ سَاطِعٌ وَ قَصِيفٌ هَائِلٌ- لَا يَظْعَنُ مُقِيمُهَا- وَ لَا يُفَادَى أَسِيرُهَا- وَ لَا تُفْصَمُ كُبُولُهَا- لَا مُدَّةَ لِلدَّارِ فَتَفْنَى- وَ لَا أَجَلَ لِلْقَوْمِ فَيُقْضَى


اللغة
أقول: الرجّ، و الرجف: الاضطراب الشديد، و يروى رجّها بغير همزة، و هو الأشهر. و نسفها: قلعها من اصولها و بثّها. و دكّ بعضها بعضا: تصادمت. و تنوبهم: تعودهم. و الخطر: الإشراف على الهلاك. و شخص: خرج من منزله‏ إلى آخر، و أشخصه: غيّره. و الكلب: الشدّة. و الجلب و اللجب: الصوت. و القصيف: الصوت الشديد. و الكبول: الأغلال واحدها كبل. و فصمها: كسرها.


المعنى
و أشار بقوله: حتّى إذا بلغ الكتاب أجله. إلى غاية الناس في موتهم، و هو بلوغ الوقت المعلوم الّذي يجمع له الناس و هو يوم القيامة، و أراد بالأمر القضاء و مقاديره و تفاصيله من الآثار الّتي توجد على وفقه كما سبق بيانه، و لحوق الخلق بأوّله إشارة إلى توافيهم في الموت و تساويهم فيه كما نطقت الشريعة به، و تجديد الخلق بعثهم و إعادتهم، و أمّا إمادة السماء و شقّها و ارجاج الأرض و نسف الجبال فظاهر الشريعة الناطق بخراب هذا العالم ناطق به، و أمّا من زعم بقائه فربّما عدلوا إلى التأويل،
و الّذي يحتمل أن يقال في ذلك وجوه:

أحدها
أنّ القيامة لمّا كانت عندهم عبارة عن موت الإنسان و مفارقته لهذا البدن و لما يدرك بواسطته من الأجسام و الجسمانيّات و وصوله إلى مبدئه الأوّل كان عدمه عن هذه الأشياء مستلزم لغيبوبتها عنه و عدمها و خرابها بالنسبة فيصدق عليه أنّه إذا انقطع نظره عن جميع الموجودات سوى مبدئه الأوّل- جلّت عظمته- أنّها قد عدمت و تفرّقت، و كذلك إذا انقطع نظره عن عالم الحسّ و الخيال و متعلّقاتهما من الأجسام و الجسمانيّات و اتّصل بالملأ الأعلى فبالحرىّ أن يتبدّل الأرض و السماوات‏ بالنسبة إليه فيصير عالم الأجسام و الجسمانيّات أرضا له و عالم المفارقات سمائه.

الثاني:
أنّ هذه الموجودات المشار إليها لمّا كانت مقهورة بلجام الإمكان في قبض القدرة الإلهيّة كان ما نسب إليها من الانشقاق و الانفطار و الارجاج و النسف و غيرها امورا ممكنة في نفسها و إن امتنعت بالنظر إلى الأسباب الخارجيّة فعبّر عمّا يمكن بالواقع مجازا. و حسنه في العربيّة معلوم، و فائدته التهويل بما بعد الموت و التخويف للعصاة بتلك الأهوال.

الثالث:
قالوا: يحتمل أن يريد بالأرض القوابل للجود الإلهىّ استعارة فعلى هذا إمادة السماء عبارة عن حركاتها و اتّصالات كواكبها الّتي هى أسباب معدّة لقوابل هذا العالم، و انفطارها إفاضة الجود بسبب تلك المعدّات على القوابل، و ارجاج الأرض إعداد الموادّ لإعادة أمثال هذه الأبدان أو لنوع آخر بعد فناء النوع الإنسانيّ، و قلع الجبال و نسفها و دقّها إشارة إلى زوال موانع الاستعدادات لنوع آخر إن كان، أولا عادة بناء هذا النوع استعارة. و وجهها أنّ الأرض بنسف الجبال يستوى سطحها و يعتدل فكذلك قوابل الجود يستعدّ و يعتدل لأن يفاض عليها صورة نوع اخرى لأبناء هذا النوع.

الرابع:
قالوا: يحتمل أن يريد بالسماء سماء الجود الإلهىّ، و بالأرض عالم الإنسان. فعلى هذا يكون إمادة السماء عبارة عن ترتيب كلّ استحقاق لقابله في القضاء الإلهىّ، و الفطر عبارة عن الفيض، و ارجاج الأرض و إرجافها عبارة عن الهرج و المرج الواقع بين أبناء نوع الانسان، و قلع جبالها و نسفها و دكّ بعضها بالبعض عبارة عن إهلاك الجبابرة و المعاندين للناموس الإلهىّ و قتل بعضهم ببعض. كلّ ذلك بأسباب قهريّة مستندة إلى هيبة جلال اللّه و عظمته، و إخراج من فيها و تجديدهم إشارة إلى ظهور ناموس آخر مجدّد لهذا الناموس و المتّبع له إذن قوم آخرون هم كنوع جديد، و تمييزهم فريقين منعم عليهم و منتقم منهم ظاهر فإنّ المستعدّين لاتّباع الناموس الشرعىّ و القائلين به هم المنعم عليهم المثابون، و التاركين له المعرضين عنه هم المنتقم منهم المعاقبون، فأمّا صفة الفريقين و ما أعدّ لكلّ منهم بعد الموت فعلى ما نطق به الكتاب العزيز و وصفته هذه الألفاظ الكريمة. و على تقدير التأويلات السابقة لمن عدل عن الظواهر فثواب أهل الطاعة جوار بارئهم و ملاحظة الكمال المطلق لهم، و خلودهم في داره: بقائهم في تلك النعمة غير جائز عليهم الفناء كما تطابق عليه الشرع و البرهان، و كونهم غير ظاعنين و لا متغيّرى الأحوال و لا فزعين و لا ينالهم سقم و لا خطر و لا يشخصهم سفر فلأنّ كلّ ذلك من لواحق الأبدان و الكون في الحياة الدنيا فحيث زالت زالت عوارضها و لواحقها، و أمّا جزاء أهل المعصية فإنزالهم شرّ دار، و هى جهنّم الّتي هي أبعد بعيد عن جوار اللّه، و غلّ أيديهم إلى أعناقهم إشارة إلى قصور قواهم العقليّة عن تناول ثمار المعرفة، و اقتران‏ النواصى بالأقدام إشارة إلى انتكاس رؤسهم عن مطالعة أنوار الحضرة الإلهيّة، و إلباسهم سرابيل القطران: استعار لفظ السرابيل للهيئات البدنيّة المتمكّنة من جواهر نفوسهم، و وجه المشابهة اشتمالها عليها و تمكّنها منها كالسربال للبدن، و نسبتها إلى القطران إشارة إلى شدّة استعدادهم للعذاب، و ذلك أنّ اشتغال النار فيما يمسح بالقطران أشدّ، و نحوه قوله تعالى «سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ»«» و كذلك مقطّعات النيران: إشارة إلى تلك الهيئات الّتي تمكّنت من جواهر نفوسهم، و نسبتها إلى النار لكونها ملبوس أهلها فهى منها كما قال تعالى «قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ»«» و لمّا كان سبب الخروج من النار هو الخروج إلى اللّه من المعاصى بالتوبة، و الرجوع إلى تدبّر الآيات و العبر النوافع. و كان البدن و حواسّه أبواب الخروج إلى اللّه فبعد الموت تغلق تلك الأبواب فلا جرم يبقى الكفّار وراء طبق تلك الأبواب في شدائد حرارة ذلك العذاب، و لهب النار و لجبها و أصواتها الهايلة: استعارة لأوصاف النار المحسوسة المستلزمة للهيبة و الخوف حسّا للنار المعقولة الّتي هي في الحقيقة أشدّ- نعوذ باللّه منها- و إنّما عدل إلى المحسوس للغفلة عن صفات تلك النار و عدم تصوّر أكثر الخلق لها إلّا من هذه الأوصاف المحسوسة، و كونها لا يظعن مقيمها كناية عن التخليد و ذلك في حقّ الكفّار، و لفظ الأسير و الفدية استعارة، و كذلك لفظ الكبول استعارة لقيود الهيئات البدنيّة المتمكّنة من جواهر نفوس الكفّار فكما لا ينفصم القيد الوثيق من الحديد و لا ينفكّ المكبّل به كذلك النفوس المقيّدة بالهيئات الرديئة البدنيّة عن المشى في بيداء جلال اللّه و عظمته و التنزّه في جنان حظائر قدسه و مقامات أصفيائه، و لمّا كان الأجل مفارقة البدن لم يكن لهم بعد موتهم أجل، إذ لا أبدان بعد الأبدان و لا خلاص من العذاب للزوم الملكات الرديئة لأعناق نفوسهم، و تمكّنها منها. فهذا ما عساهم يتأوّلونه أو يعبّرون به عن الأسرار الّتي يدّعونها تحت هذه العبارات الواضحة الّتى وردت الشريعة بها. لكنّك قد علمت أنّ العدول إلى هذه التأويلات و أمثالها مبنىّ على امتناع المعاد البدنىّ، و ذلك ممّا صرّحت به الشريعة تصريحا لا يجوز العدول عنه، و نصوصا لا يحتمل التأويل، و إذا حملنا الكلام على ما وردت به الشريعة فهذا الكلام منه عليه السّلام أفصح ما يوصف به حال القيامة و المعاد. و التعرّض لشرحه يجرى مجرى إيضاح الواضحات. و باللّه التوفيق.


الفصل الرابع

و منها في ذكر النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم:
قَدْ حَقَّرَ الدُّنْيَا وَ صَغَّرَهَا- وَ أَهْوَنَ بِهَا وَ هَوَّنَهَا- وَ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ زَوَاهَا عَنْهُ اخْتِيَاراً- وَ بَسَطَهَا لِغَيْرِهِ احْتِقَاراً- فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ- وَ أَمَاتَ ذِكْرَهَا عَنْ نَفْسِهِ- وَ أَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ- لِكَيْلَا يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً- أَوْ يَرْجُوَ فِيهَا مَقَاماً- بَلَّغَ عَنْ رَبِّهِ مُعْذِراً- وَ نَصَحَ لِأُمَّتِهِ مُنْذِراً- وَ دَعَا إِلَى الْجَنَّةِ مُبَشِّراً- نَحْنُ شَجَرَةُ النُّبُوَّةِ- وَ مَحَطُّ الرِّسَالَةِ- وَ مُخْتَلَفُ الْمَلَائِكَةِ- وَ مَعَادِنُ الْعِلْمِ وَ يَنَابِيعُ الْحُكْمِ- نَاصِرُنَا وَ مُحِبُّنَا يَنْتَظِرُ الرَّحْمَةَ- وَ عَدُوُّنَا وَ مُبْغِضُنَا يَنْتَظِرُ السَّطْوَةَ


اللغة
أقول: الرياش: اللباس.


المعنى
و الفصل اقتصاص لحال الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم و أوصافه الحميدة ليبنى عليها ممادح نفسه بعد. فتحقيره للدنيا و تصغيرها و تهوينها إشارة إلى ما كان يجذب الخلق به عنها من ذكر مذامّها و تعديد معايبها، و إهوانه بها إشارة إلى زهده فيها، و علمه بإزواء اللّه إيّاها عنه اختيارا إشارة إلى أنّ زهده فيها كان عن علم منه باختيار اللّه له ذلك و تسبّب أسبابه و هو وجه مصلحته ليستعدّ نفسه بذلك لكمال النبوّة و القيام بأعباء الخلافة الأرضيّة و بسطها لغيره احتقارا لها،. و قد عرفت معنى الاختيار من اللّه لخلقه غير مرّة. فكان إعراضه عنها بقلبه إماتة ذكرها عن‏ نفسه، و محبّته لأن تغيب زينتها عن عينه لئلّا يتّخذ منها رياشا و لا يرجو فيها مقاما جذبا للعناية الإلهيّة له عن الالتفات إلى الالتقاط إلى الكمالات المعلومة له، و عن أن ينحطّ لمحبّتها عن مقامه الّذي قضت العناية الإلهيّة بنظام العالم بسببه. ثمّ أعقب ذلك بذكر ثلاثة أحوال هى ثمرة النبوّة الّتي هى ثمرة الزهد المشار اليه، و هى تبليغ رسالة ربّه إعذارا إلى خلقه أن يقولوا يوم القيامة: إنّا كنّا عن هذا غافلين، و النصح لهم إنذارا بالعذاب الأليم في عاقبة الإعراض عن اللّه، و دعائه إلى الجنّة مبشّرا لمن سلك سبيل اللّه و نهجه المستقيم بما أعدّ له فيها من النعيم المقيم. ثمّ عقّب اقتصاص تلك الممادح بالإشارة إلى فضيلة نفسه، و ذلك منه في معرض المفاخرة بينه و بين مشاجريه كمعاوية فأشار إلى فضيلته من جهة اتّصاله بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم إذ كان من البيت الّذي هو شجرة النبوّة و محطّ الرسالة و معدن العلم و ينبوع الحكمة بأفضل مكان بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم كما سبق بيانه في بيان فضائله، و لفظ الشجرة و المعادن و الينابيع مستعار كما سبق، و إذا كان من تلك الشجرة كما علمت و لكلّ غصن من الشجرة قسط من الثمرة بحسب قوّته و قربه من الأصل و عناية الطبيعة به علمت مقدار فضيلته و نسبتها إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم. و قوله بعد ذلك: ناصرنا ومحبّنا. إلى آخره. ترغيب في نصرته و محبّته و جذب إليها بالوعد برحمة اللّه و إفاضة بركاته و تنفير عن عداوته و بغضه بلحوق سطوة اللّه، و لعلّ ذلك هو غايته هنا من ذكر فضيلته. و باللّه التوفيق و العصمة.


شرح ‏نهج البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 3 ، صفحه‏ى 50

خطبه 105 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام و هى من خطب الملاحم

القسم الأول
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُتَجَلِّي لِخَلْقِهِ بِخَلْقِهِ- وَ الظَّاهِرِ لِقُلُوبِهِمْ بِحُجَّتِهِ- خَلَقَ الْخَلْقَ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ- إِذْ كَانَتِ الرَّوِيَّاتُ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِذَوِي الضَّمَائِرِ- وَ لَيْسَ بِذِي ضَمِيرٍ فِي نَفْسِهِ- خَرَقَ عِلْمُهُ بَاطِنَ غَيْبِ السُّتُرَاتِ- وَ أَحَاطَ بِغُمُوضِ عَقَائِدِ السَّرِيرَاتِ
أقول: حمد اللّه تعالى باعتبارات خمسة:

أحدها: اعتبار تجلّيه لخلقه بخلقه
و قد علمت غير مرّة أنّ تجلّيه يعود إلى إجلاء معرفته من مصنوعاته لقلوب عباده حتّى أشبهت كلّ ذرّة من مخلوقاته مرآة ظهر فيها لهم. فهم يشاهدونه على قدر قبولهم لمشاهدته و تفاوت تلك المشاهدة بحسب تفاوت أشعّة ابصار بصائرهم. فمنهم من يرى الصنيعة أوّلا و الصانع ثانيا، و منهم من يراهما معا، و منهم من يرى الصانع أوّلا، و منهم من لا يرى مع الصانع غيره.

الثاني: الظاهر لقلوبهم بحجّته
أى الواضح وجوده لقلوب منكريه بأوهامهم و ألسنتهم بقيام حجّته عليهم بذلك و هي إحكام الصنع و إتقانه في أنفسهم و إن احتاجوا إلى تنبيه ما كقوله تعالى «وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ» و كذلك في ملكوت السماوات‏ و الأرض كقوله تعالى «أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ»«» الآية و هو قريب ممّا مرّ.

الثالث: خلقه الخلق بلا رويّة
و فكر في كيفيّة خلقه، و أشار إلى برهان سلب الرويّة عنه بقوله: إذ كانت الرويّات لا تليق إلّا بذوى الضمائر: أى بذى قلب و حواسّ بدنيّة. و ليس بذى ضمير في نفسه. و القياس من الشكل الثاني، و ترتيبه كلّ روية فلذى ضمير، و لا شي‏ء من واجب الوجود بذى ضمير. فينتج أنّه لا شي‏ء من الرويّة لواجب الوجود سبحانه. و المقدّمتان جليّتان ممّا سبق غير مرّة.

الرابع: كون علمه خارقا لباطن غيب السترات
و هو إشارة إلى نفوذه في كلّ مستتر و غائب بحيث لا يحجبه ستر و لا يستره حجاب.

الخامس: كونه محيطا بغموض عقائد السريرات
أى بما دقّ من عقائد أسرار القلوب كقوله تعالى «يَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفى‏».


القسم الثاني

منها في ذكر النبي صلى اللّه عليه و آله و سلم:
اخْتَارَهُ مِنْ شَجَرَةِ الْأَنْبِيَاءِ- وَ مِشْكَاةِ الضِّيَاءِ وَ ذُؤَابَةِ الْعَلْيَاءِ- وَ سُرَّةِ الْبَطْحَاءِ وَ مَصَابِيحِ الظُّلْمَةِ- وَ يَنَابِيعِ الْحِكْمَةِ


اللغة
أقول: الذؤابة: ما تدلّى من الشعر و نحوه. و بطحاء مكّة: بسيط واديها.
و سرّة الوادى: أشرف موضع فيه.

و في الفصل استعارات:
الاولى: لفظ الشجرة لصنف الأنبياء عليهم السّلام
و وجه المشابهة كون ذلك الصنف ذا ثمر و فروع، ففروعه أشخاص الأنبياء، و ثمره العلوم و الكمالات النفسانيّة كما أنّ الشجرة ذات غصون و ثمر.
الثانية: لفظ المشكاة لآل إبراهيم
و وجه المشابهة أنّ هؤلاء قد ظهرت منهم‏ الأنبياء و سطع من بيتهم ضياء النبوّة و نور الهداية كما يظهر من نور المصباح من المشكاة.
الثالثة: لفظ الذؤابة.
و يشبه أن يشير به إلى قريش، و وجه المشابهة تدلّيهم في أغصان الشرف و العلوّ عن آبائهم كتدلّى ذؤابة الشعر عن الرأس.
الرابعة: سرّة البطحاء
و أشار به إلى اختياره من أفضل بيت في مكّة.
الخامسة: استعارة لفظ المصابيح
للأنبياء أيضا. و وجه المشابهة ظاهر. و قد مرّ غير مرّة كونهم مصابيح ظلمات الجهل.
السادسة: استعارة لفظ الينابيع،
و وجه المشابهة فيضان العلم و الحكمة عنهم كفيضان الماء عن ينابيعه.


القسم الثالث و منها
طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ- وَ أَحْمَى مَوَاسِمَهُ يَضَعُ ذَلِكَ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ- مِنْ قُلُوبٍ عُمْيٍ وَ آذَانٍ صُمٍّ- وَ أَلْسِنَةٍ بُكْمٍ- مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ- وَ مَوَاطِنَ الْحَيْرَةِ لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِأَضْوَاءِ الْحِكْمَةِ- وَ لَمْ يَقْدَحُوا بِزِنَادِ الْعُلُومِ الثَّاقِبَةِ- فَهُمْ فِي ذَلِكَ كَالْأَنْعَامِ السَّائِمَةِ- وَ الصُّخُورِ الْقَاسِيَةِ- قَدِ انْجَابَتِ السَّرَائِرُ لِأَهْلِ الْبَصَائِرِ- وَ وَضَحَتْ مَحَجَّةُ الْحَقِّ لِخَابِطِهَا- وَ أَسْفَرَتِ السَّاعَةُ عَنْ وَجْهِهَا- وَ ظَهَرَتِ الْعَلَامَةُ لِمُتَوَسِّمِهَا- مَا لِي أَرَاكُمْ أَشْبَاحاً بِلَا أَرْوَاحٍ- وَ أَرْوَاحاً بِلَا أَشْبَاحٍ- وَ نُسَّاكاً بِلَا صَلَاحٍ- وَ تُجَّاراً بِلَا أَرْبَاحٍ- وَ أَيْقَاظاً نُوَّماً- وَ شُهُوداً غُيَّباً- وَ نَاظِرَةً عَمْيَاءَ- وَ سَامِعَةً صَمَّاءَ- وَ نَاطِقَةً بَكْمَاءَ رَايَةُ ضَلَالٍ قَدْ قَامَتْ عَلَى قُطْبِهَا- وَ تَفَرَّقَتْ بِشُعَبِهَا- تَكِيلُكُمْ بِصَاعِهَا- وَ تَخْبِطُكُمْ بِبَاعِهَا- قَائِدُهَا خَارِجٌ مِنَ الْمِلَّةِ- قَائِمٌ عَلَى الضَّلَّةِ- فَلَا يَبْقَى يَوْمَئِذٍ مِنْكُمْ إِلَّا ثُفَالَةٌ كَثُفَالَةِ الْقِدْرِ- أَوْ نُفَاضَةٌ كَنُفَاضَةِ الْعِكْمِ- تَعْرُكُكُمْ‏ عَرْكَ الْأَدِيمِ- وَ تَدُوسُكُمْ دَوْسَ الْحَصِيدِ- وَ تَسْتَخْلِصُ الْمُؤْمِنَ مِنْ بَيْنِكُمُ- اسْتِخْلَاصَ الطَّيْرِ الْحَبَّةَ الْبَطِينَةَ- مِنْ بَيْنِ هَزِيلِ الْحَبِّ أَيْنَ تَذْهَبُ بِكُمُ الْمَذَاهِبُ- وَ تَتِيهُ بِكُمُ الْغَيَاهِبُ- وَ تَخْدَعُكُمُ الْكَوَاذِبُ- وَ مِنْ أَيْنَ تُؤْتَوْنَ- وَ أَنَّى تُؤْفَكُونَ- فَ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ- وَ لِكُلِّ غَيْبَةٍ إِيَابٌ- فَاسْتَمِعُوا مِنْ رَبَّانِيِّكُمْ- وَ أَحْضِرُوهُ قُلُوبَكُمْ- وَ اسْتَيْقِظُوا إِنْ هَتَفَ بِكُمْ- وَ لْيَصْدُقْ رَائِدٌ أَهْلَهُ- وَ لْيَجْمَعْ شَمْلَهُ- وَ لْيُحْضِرْ ذِهْنَهُ- فَلَقَدْ فَلَقَ لَكُمُ الْأَمْرَ فَلْقَ الْخَرَزَةِ- وَ قَرَفَهُ قَرْفَ الصَّمْغَةِ فَعِنْدَ ذَلِكَ أَخَذَ الْبَاطِلُ مَآخِذَهُ- وَ رَكِبَ الْجَهْلُ مَرَاكِبَهُ- وَ عَظُمَتِ الطَّاغِيَةُ وَ قَلَّتِ الدَّاعِيَةُ- وَ صَالَ الدَّهْرُ صِيَالَ السَّبُعِ الْعَقُورِ- وَ هَدَرَ فَنِيقُ الْبَاطِلِ بَعْدَ كُظُومٍ- وَ تَوَاخَى النَّاسُ عَلَى الْفُجُورِ- وَ تَهَاجَرُوا عَلَى الدِّينِ- وَ تَحَابُّوا عَلَى الْكَذِبِ- وَ تَبَاغَضُوا عَلَى الصِّدْقِ- فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَانَ الْوَلَدُ غَيْظاً- وَ الْمَطَرُ قَيْظاً وَ تَفِيضُ اللِّئَامُ فَيْضاً- وَ تَغِيضُ الْكِرَامُ غَيْضاً- وَ كَانَ أَهْلُ ذَلِك‏ َ الزَّمَانِ ذِئَاباً- وَ سَلَاطِينُهُ سِبَاعاً وَ أَوْسَاطُهُ أُكَّالًا- وَ فُقَرَاؤُهُ أَمْوَاتاً وَ غَارَ الصِّدْقُ- وَ فَاضَ الْكَذِبُ- وَ اسْتُعْمِلَتِ الْمَوَدَّةُ بِاللِّسَانِ- وَ تَشَاجَرَ النَّاسُ بِالْقُلُوبِ- وَ صَارَ الْفُسُوقُ نَسَباً- وَ الْعَفَافُ عَجَباً- وَ لُبِسَ الْإِسْلَامُ لُبْسَ الْفَرْوِ مَقْلُوباً

اللغة
أقول: المواسم: المسامير الّتي تكوى. و انجابت: انكشفت. و المتوسّم: المتفرّس. و الضلّة: الضلال. و العكم بكسر العين: العدل. و البطينة: الممتلية. و الغياهب: الظلم. و تؤفكون: تصرفون. و الفنيق: الفحل المكرم. و كظوم الجمل: سكوته عن الجرّة.

المعنى
فقوله: طبيب دوّار بطبّه.
 كناية عن نفسه كناية بالمستعار فإنّه طبيب مرضى الجهل و رذائل الأخلاق، و كنّى بدورانه بطبّه تعرّضه لعلاج الجهّال من دائهم و نصب نفسه لذلك، و استعار لفظ المراهم لما عنده من العلوم و مكارم الأخلاق، و لفظ المواسم لما يتمكّن منه من إصلاح من لا ينفع فيه الموعظة و التعليم بالجلد و سائر الحدود. فهو كالطبيب الكامل الّذي يملك المراهم و الأدوية و المكاوى لمن لا ينفع فيه المراهم يضع كلّ واحد من أدويته و مواسمه حيث الحاجة إليه من قلوب عمى يفتح عماها بإعدادها لقبول أنوار العلم و الهداية لسلوك سبيل اللّه، و من آذان صمّ يعدّها لقبول المواعظ، و تجوّز بلفظ الصمم في عدم انتفاع النفس بالمواعظة من جهتها فهي كالصمّاء إطلاقا لاسم الملزوم على لازمه.
إذ كان الصمم يستلزم ذلك العدم، و من ألسنة بكم يطلقها بذكر اللّه و الحكمة، و أطلق لفظ البكم مجازا في عدم المطلوب منها بوجودها و هو التكلّم بما ينبغي فإنّها لفقدها ذلك المطلوب كالبكم.

و قوله: متّبع.
صفة لطبيب، و مواضع الغفلة و مواطن الحيرة كناية عن قلوب الجهّال [الجهلة خ‏] و لذلك أشار إليهم بأنّهم لم يستضيئوا بأضواء الحكمة: أى لم يكسبوا شيئا من العلوم و الأخلاق و لم يقدحوا بزناد العلوم الثاقبة الّتي تثقب سترات الحجب كما يستخرج بالزناد النار.

و قوله: فهم في ذلك
 أى في عدم استضاءتهم بأضواء الحكمة كالأنعام السائمة و الصخور القاسية. و وجه المشابهة بينهم و بين الأنعام استوائهم في الغفلة و الانخراط في سلك الشهوة و الغضب دون اعتبار شي‏ء من حظّ العقل و عدم التقيّد به كما لا قيد للأنعام السائمة. و بينهم و بين الصخور قساوة قلوبهم و عدم لينها و خشيتها من ذكر اللّه و آياته كما قال تعالى «ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً»

و قوله: قد انجابت السرائر لأهل البصائر.
إشارة إلى انكشاف ما يكون بعده لنفسه القدسيّة و لمن تفرّس من اولى التجارب و الفطن السليمة ممّا يكون من ملوك بنى اميّة و عموم ظلمهم، و يحتمل أن يريد بالسرائر أسرار الشريعة و انكشافها لأهلها.

و قوله: و وضحت محجّة الحقّ لخابطها.
 إشارة إلى وضوح الشريعة و بيان طريق اللّه، و فايدة القضيّة الاولى التنبيه على النظر في العواقب، و فائدة الثانية الجذب إلى اتّباع الدين و سلوك سبيل اللّه إذ لا عذر للخابطين في جهالاتهم بعد وضوح دين اللّه.

و قوله: و أسفرت الساعة عن وجهها:
 أى بدت مقبلة، و لمّا كان وجه الشي‏ء أوّل ما يبدو منه و ينظر كنّى به عمّا بدا من أمر الساعة و هو قيام الفتن و إقبالها.

و قوله: و ظهرت العلامة لمتوسّمها:
أى علامة قيام الساعة و هي الفتن المتوقّعة المتفرّسة (المتغرّسة خ) من بنى اميّة و من بعدهم، و ذكره لإسفار الساعة و علاماتها تهديد و ترغيب في العمل لها.

و قوله: ما لى أراكم أشباحا بلا أرواح.
 شبّههم في عدم انتفاعهم بالعقول و عدم تحريك المواعظ و التذكير لهم بالجمادات الخالية من الأرواح، كما قال تعالى «كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ».

و قوله: و أرواحا بلا أشباح.
 قيل فيه وجوه: الأوّل: أنّ ذلك مع ما قبله إشارة إلى نقصانهم: أى أنّ منهم من هو شبح بلا أرواح كما سبق، و من كان له روح و فهم فلا قوّة له بأمر الحرب‏ و لا نهضة معه فهو كروح خلت عن بدن، فهم في طريق تفريط و إفراط. الثاني: قيل: كنّى بذلك عن عدم نهضة بعضهم إلى الحرب دون بعض إذا دعوا إليه كما لا يقوم البدن بدون الروح و لا الروح بدون البدن. الثالث: قال بعضهم: أراد أنّهم إن خافوا ذهلت عقولهم و طارت ألبابهم فكانوا كالأجسام بلا أرواح و إن أمنوا تركوا الاهتمام بامورهم و ضيّعوا الفرص و مصالح الإسلام حتّى كأنّهم في ذلك أرواح لا تعلّق لها بما يحتاج الأجسام إليه.

قوله: و نسّاكا بلا صلاح.
 إشارة إلى أنّ من تزهّد منهم فزهده ظاهرىّ ليس عن صلاح سريرته. و قيل: أراد من تزهّد منهم عن جهل فإنّه و إن عمل إلّا أنّ أعماله لمّا لم تكن عن علم كانت ضايعة واقعة على غير الوجه المرضىّ و المأمور به، كما روى عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم: الزاهد الجاهل مسخرة الشيطان.

و قوله: و تجّارا بلا أرباح.
 إشارة إلى من يتّجر منهم بالأعمال الفاسدة و هو يعتقد كونها قربة إلى اللّه مستلزمة لثوابه و ليس كذلك، و لفظ التجّار و الربح مستعاران، و وجه الاستعارتين ظاهر.

و قوله: و أيقاظا نوّما.
 كنّى بنومهم عن نوم نفوسهم في مراقد الطبيعة و مماهد الغفلة فهم بهذا الاعتبار أيقاظ العيون نوّم العقول.

و قوله: و شهودا غيّبا:
 أى شهودا بأبدانهم غيّبا بعقولهم عن التفطّن لمقاصد اللّه و التلقّى لأنواره من الموعظة و الأوامر الإلهيّة.

و قوله: و ناظرة عمياء.
 أراد و عيونا ناظرة عمياء: أى عن تصفّح آثار اللّه للعبرة بها و الانتفاع في أمر الآخرة فهي تشبه العمى في عدم الفائدة بها.

و قوله: و سامعة صمّاء:
 أى: و آذانا سامعة للأصوات صمّاء عن نداء اللّه و النافع من كلامه فهي تشبه الصمّ في عدم الفائدة المقصودة.

و قوله: و ناطقة بكماء:
 أى: و ألسنة ناطقة بكماء عن النطق بما ينبغي فأشبهت البكم، و لفظ العمياء و الصمّاء و البكماء مستعار للمشابهات المذكورة، و قد راعى في ذلك التضادّ في الألفاظ و أراد ذوى عيون و آذان و ألسنة بالصفات المذكورة: أى خالية عن الفائدة.

و قوله: راية ضلالة [رأيت ضلالة خ‏].
 لمّا نبّههم و أيقظهم بالتوبيخ و التقريع و التنقيص ألقى إليهم ما ينبغي أن يحترزوا منه و يأخذوا اهبّتهم له من ظهور الفتن المتوقّعة لبنى اميّة، و كنّى عن ظهورها بقوله: راية ضلالة، و التقدير هذه راية ضلالة، و كنّى بقيامها على قطبها عن اجتماع أهلها على قائد الفتنة و رئيسهم فيها، و كنّى بالقطب عنه كناية بالمستعار. و تفرّقها و تشعبّها انتشارها في الآفاق و تولّد فتن اخرى عنها. ثمّ استعار لفظ الكيل لأخذهم و إهلاكهم زمرة زمرة ملاحظة لشبهها بالكيّال في أخذه لما يكيل جملة جملة، و رشّح بلفظ الصاع، و كذلك استعار لفظ الخبط لايقاع السيف و الأحكام الجائرة فيهم على غير قانون دينىّ و لا نظام حقّ لشبهها بالبكرة النفور من الإبل الّتى تخبط ما تلقاه بيديها، و رشّح الاستعارة بذكر الباع. و لم يقل بيدها لأنّ ذكر الباع أبلغ في البعير عن قوّة الخبط.

و قوله: قائدها خارج عن الملّة:
 أى خارج عن الدين و الشريعة فاسق عن أمر اللّه قائم على الضلّة: أى مقيم على الضلالة.

و قوله: فلا يبقى يومئذ منكم إلّا ثفالة كثفالة القدر.
 استعار لفظ الثفالة و كنّى به عمّن لا خير فيه من الأرذال و من لا ذكر له و لا شهرة، و شبّه اولئك بثفالة القدر في كونهم غير معتبرين و لا ملتفت إليهم، و كذلك‏ نفاضة العرك و هو ما يبقى في أسفل العدل من أثر الزاد أو الحنطة و نحوها. ثمّ استعار لفظ العرك لتقليب الفتن لهم و رميهم و تذليلهم بها كما يذلّل و يليّن الأديم، و كذلك استعار لفظ الدوس لإهانتهم لهم و شدّة امتهانهم إيّاهم بالبلاء، و شبّه ذلك بدوس الحصيد من الحنطة و نحوها و هو ظاهر، ثمّ أشار إلى استقصاء أهل تلك الضلالة على المؤمنين و استخلاصهم لهم لإيقاع المكروه بهم، و شبّه ذلك الاستخلاص باستخلاص الطير الحبّة السمينة الممتلية من الفارغة الهزيلة و ذلك أنّ الطير ترتاز بمنقاره سمين الحبّ من هزيله فيخلّى عن الهزيل منه. ثمّ أخذ يسألهم على سبيل التهكّم و التقريع لهم ببقائهم على غوايتهم فسألهم عن غاية أخذ مذاهب الضلال، و عمّا تتيه بهم ظلم الجهالات، و عمّا تخدعهم أوهامهم الكواذب جاذبا لهم إليه، منكرا عليهم مطلوبا آخر غير اللّه تعالى، رادعا لهم من طريق غير شريعته. ثمّ سألهم عن الجهة الّتى يؤتون منها: أى من أين أتتكم هذه الأمراض. و هو عليه السّلام يعلم أنّ الداخل إنّما دخل عليهم من جهلهم لكن هذا وجه من البلاغة و ذكرنا أنّه يسمّى تجاهل العارف و هو كقوله تعالى «فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ» و كذلك قوله: فأنّى تؤفكون: أى متى يكون انصرافكم عمّا أنتم عليه من الغفلة.

و قوله: و لكلّ أجل كتاب و لكلّ غيبة إياب.
تهديد بالإشارة إلى قرب الموت و أنّهم بمعرض أن يأخذهم على غفلتهم فيكونوا من الأخسرين أعمالا. ثمّ أمرهم بإسماع الموعظة منه. و الربّانىّ: العالم علم الربوبيّة المتبحّر فيه. ثمّ باحضار قلوبهم و هو التفاتهم بأذهانهم إلى ما يقول. ثمّ بالاستيقاظ من نوم الغفلة عند هتفه بهم و ندائه لهم. و قوله: و ليصدق رائد أهله. مثل نزّله هنا على مراده، و أصله: لا يكذب رائد أهله. فاستعار لفظ الرائد للفكر، و وجه المثل أنّ الرائد لمّا كان هو الّذي يبعثه القوم لطلب الكلاء و الماء أشبه الفكر في كونه مبعوثا من قبل النفس في طلب مرعاها و ماء حياتها من العلوم و سائر الكمالات فكنّى به عنه، و أهله على هذا البيان هو النفس فكأنّه عليه السّلام قال: فلتصدق أفكاركم و متخيّلاتكم نفوسكم، و صدقها إيّاها تصرّفها على حسب إشارة العقل فيما تقوله و تشير به دون‏ التفات إلى مشاركة الهوى فإنّ الرائد إذا أرسلته النفس عن مشاركة ميل شهوانيّ كذبها و دلّيها بغرور، و يحتمل أن يريد بالرائد أشخاص من حضر عنده فإنّ كلّا منهم له أهل و قبيلة يرجع إليهم فأمرهم أن يصدقهم أمر لهم بتبليغ ما سمع على الوجه الّذي ينبغي و النصيحة به و الدعوة إليه كما يرجع طالب الكلاء و الماء الواجد لهما إلى قومه فيبشّرهم به و يحملهم إليه.

و قوله: و ليجمع شمله
 أى ما تفرّق و تشعّب من خواطره في امور الدنيا و مهمّاتها، و ليحضر ذهنه: أى و ليوجّهه إلى ما أقول

و قوله: و لقد فلق لكم الأمر فلق الخرزة:
 أى أوضح لكم أمر ما جهلتموه من الدين و أحكام الشريعة، و قيل: أمر ما سيكون من الفتن. و شقّ لكم ظلمة الجهل عنه كايتّضح باطن الخرزة بشقّها، و قرفه قرف الصمغة: أى ألقى إليكم علمه بكلّيّته و النصيحة فيه حتّى لم يدّخر عنكم شيئا كما يقرف الصمغة قارفها، يقال: تركته على مثل مقرف الصمغة، إذا لم تترك له شيئا لأنّ الصمغة تقتلع من شجرها حتّى لا تبقى عليها علقة.

و قوله: فعند ذلك.
متّصل بقوله: من بين هزيل الحبّ: أى فعند ما تفعل بكم تلك الفتن و راية الضلال ما تفعل قد أخذ الباطل مآخذه: أى استحكم و ثبت و أخذ مقارّه، و كذلك يركب الجهل مراكبه: أى كان ذلك وقت حملته ملاحظة لتشبيهه بالمستعدّ للغارة قد ركب خيله، و كنّى بمراكبه عن الجهّال.

و قوله: و عظمت الطاغية
 أى الفتنة الطاغية الّتي تجاوزت في عظمها الحدّ و المقدار، و قلّت الراعية: أى رعاة الدين و أهله الّذين يحمون حوزته: أى الفرقة الراعية، و روى الداعية: أى الفرقة الداعية إلى اللّه.

و قوله: وصال الدهر صيال السبع العقور
استعار وصف الصيال للدهر ملاحظة 1 لشبهه بالسبع، و وجه الاستعارة كون الدهر مبدءا قوّيا لتلك الشرور الواقعة فأشبه السبع الضارى العقور في شدّة صياله. ثمّ استعار لفظ الفنيق للباطل و رشّح الاستعارة بذكر الهدير و الكظوم، و وجه المشابهة ظهور الباطل و إكرام أهله و تمكّنهم من الأمر و النهى كالفحل المكرّم ذى الشقشقة، و عنى بالهدير ظهورهم و تمكّنهم و بالكظوم خفاء الباطل و خمول أهله في زمان ظهور الحقّ و قوّته.

و قوله: و تواخى الناس على الفجور:
 أى كان اتّصالهم و محبّة بعضهم لبعض على الفجور و اتّباع الأهواء. و تهاجروا على الدين: أى من أحسّوا منه قوّة في دينه هجروه و رفضوه. فهجرهم. و التحابّ على الكذب داخل تحت التواخى على الفجور، و التباغض على الصدق داخل تحت التهاجر على الدين، و الغرض بتعداد ذلك تنفير السامعين عن تلك الرذائل و تخويفهم بوقوعها.

و قوله: فإذا كان ذلك كان الولد غيظا:
 أى إذا احدث ذلك اشتغل كلّ امرء بنفسه لينجو بها. فيكون الولد الّذي هو أعزّ محبوب غيظا لوالده: أى من أسباب محنته و غيظه، و أطلق لفظ الغيظ عليه إطلاقا لاسم السبب على المسبّب.

و قوله: و المطر قيظا.
جعل وقوع المطر قيظا من علامات تلك الشرور و هو أيضا ممّا يعدّ شرّا لأنّه لا يثير نباتا و لا يقوم عليه زرع و يفسد الثمار القائمة، و كأنّه كنّى به عن انقلاب أحوال الخير شرورا.

و قوله: و كان أهل ذلك الزمان. إلى قوله: أمواتا.
 أهل كلّ زمان ينقسمون إلى ملوك أكابر، و أوساط، و أدانى. فإذا كان زمان العدل كان أهله في نظام سلكه فيفيض عدل الملوك على من يليهم ثمّ بواسطتهم على من يليهم حتّى ينتهى إلى أدانى الناس، و إذا كان زمان الجور فاض الجور كذلك فكانت السلاطين سباعا ضارية مفترسة لكلّ ذى سمن، و كان أهل ذلك الزمان و أكابره ذئابا ضارية على أوساط الناس و كانت الأوساط أكّالا لهم، و كانت الفقراء أمواتا لانقطاع مادّة حياتهم ممّن هو أعلى منهم رتبة، و تجوّز بلفظ الأموات عن غاية الشدّة و البلاء لكون الموت غاية ذلك إطلاقا لاسم السبب الغائيّ على مسبّبه. ثمّ استعار لفظ الغيض لقلّة الصدق و الفيض لظهور الكذب و كثرته ملاحظة لشبهها بالماء، و استعمال المودّة باللسان إشارة إلى النفاق و هو التودّد بالقول مع التباعد بالقلوب و عقدها على البغض و الحسد، و استعار لفظ التشاجر بالقلوب ملاحظة لشبهها بالرماح فكما أنّ الرمح يشجر به فكذلك قلوب بعضهم تعقد على هلاك بعض و الطعن فيه بأنواع المهلكات، و كذلك لفظ النسب للفسوق، و وجه المشابهة كون الفسق بينهم يومئذ هو سبب التواصل و التزاور و التحابّ كما أنّ النسب كذلك، و صار العفاف عجبا لقلّة وجوده و ندرته بينهم، و لبس الإسلام لبس الفرو مقلوبا من أحسن التشبيه و أبلغه و المشبّه به هاهنا هو لبس الفرو و وجه الشبه كونه مقلوبا، و بيانه أنّه لمّا كان الغرض من الإسلام أن يكون باطنا ينتفع به القلب و يظهر فيه منفعته فقلّب المنافقون غرضه و استعملوه بظاهر ألسنتهم دون قلوبهم أشبه قلبهم له لبس الفرو.
إذ كان أصله أن يكون حمله ظاهرا لمنفعة الحيوان الّذي هو لباسه فاستعمله الناس مقلوبا. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 39

خطبه 104 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

وَ قَدْ رَأَيْتُ جَوْلَتَكُمْ- وَ انْحِيَازَكُمْ عَنْ صُفُوفِكُمْ- تَحُوزُكُمُ الْجُفَاةُ الطَّغَامُ- وَ أَعْرَابُ أَهْلِ الشَّامِ- وَ أَنْتُمْ لَهَامِيمُ الْعَرَبِ- وَ يَآفِيخُ الشَّرَفِ- وَ الْأَنْفُ الْمُقَدَّمُ- وَ السَّنَامُ الْأَعْظَمُ- وَ لَقَدْ شَفَى وَحَاوِحَ صَدْرِي- أَنْ رَأَيْتُكُمْ بِأَخَرَةٍ- تَحُوزُونَهُمْ كَمَا حَازُوكُمْ- وَ تُزِيلُونَهُمْ عَنْ مَوَاقِفِهِمْ كَمَا أَزَالُوكُمْ- حَسّاً بِالنِّصَالِ وَ شَجْراً بِالرِّمَاحِ- تَرْكَبُ أُوْلَاهُمْ- أُخْرَاهُمْ كَالْإِبِلِ الْهِيمِ الْمَطْرُودَةِ- تُرْمَى عَنْ حِيَاضِهَا- وَ تُذَادُ عَنْ مَوَارِدِهَا

اللغة

أقول: الجولة: الدولة. و انحاز: زلّ. و الطغام: أوغاد الناس. و اللهاميم: جمع لهموم و هو الجواد من الناس. و اليئافيخ: جمع يأفوخ و هو أعلى الدماغ. و الوحاوح: جمع وحوحة و هو صوت فيه بحح يصدر عن المتألّم. و الحسّ: الاستيصال. و النضال: جمع نضل السيف. و الشجر: الطعن. و تذاد: تساق و تطرد.

المعنى

و في هذا الفصل تبكيت لأصحابه بانحيازهم عن عدوّهم و تقريع، ثمّ تنحية و إغراء كيلا يعادوا إلى الفرّ، و ذلك قوله: و قد رأيت. إلى قوله: أهل الشام: أى و قد رأيت تخاذلكم عنهم حتّى حازكم أراذل أهل الشام مع أنّكم أهل الشرف و سادات العرب، و استعار لفظ اليئافيخ لهم. إذ كانوا بالنسبة إلى العرب في علوّهم و شرفهم كاليئافيخ بالنسبة إلى الأبدان، و كذلك استعار لفظ الأنف و السنام، و وجه المشابهة عزّهم و شرفهم كعزّة الأنف و تقدّمه، و حسن الوجه به بالنسبة إلى باقى الأعضاء، و كعزّة السنام و علوّه بالنسبة إلى باقى أعضاء الجمل. ثمّ أردف ذلك‏ التبكيت و التذكير بالرذيلة بذكر فضيلتهم الّتي ختموا بها و هي حوزهم لعدوّهم بالأخرة كحوزهم لهم أوّلا و إزالتهم عن مواقفهم كما أزالوهم و حسّهم استيصالا و طعنا يركب مقدّمهم تاليهم، و أوّلهم آخرهم ليثبتوا على مثل هذه الأفعال في مثل تلك المواقف، و عدّ ذلك شفاء لوحاوح صدره، و كنّى بالوحاوح عمّا كان يجده من التألّم بسبب انقهار أصحابه و غلب عدوّهم لهم و شبّههم في تضعضعهم و ركوب بعضهم لبعض مولّين بالإبل العطاش الّتي اجتمعت على الحياض ليشرب ثمّ طردت و رميت عنها بالسهام و ذيدت عمّا وردته فإنّ طردها على ذلك الاجتماع يوجب لها أن يركب بعضها بعضا و يقع بعضها على بعض. و باللّه التوفيق.

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 3 ، صفحه‏ى 38

خطبه 103 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

القسم الأول
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي شَرَعَ الْإِسْلَامَ- فَسَهَّلَ شَرَائِعَهُ لِمَنْ وَرَدَهُ- وَ أَعَزَّ أَرْكَانَهُ عَلَى مَنْ غَالَبَهُ- فَجَعَلَهُ أَمْناً لِمَنْ عَلِقَهُ- وَ سِلْماً لِمَنْ دَخَلَهُ- وَ بُرْهَاناً لِمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ- وَ شَاهِداً لِمَنْ خَاصَمَ عَنْهُ- وَ نُوراً لِمَنِ اسْتَضَاءَ بِهِ وَ فَهْماً لِمَنْ عَقَلَ- وَ لُبّاً لِمَنْ تَدَبَّرَ- وَ آيَةً لِمَنْ تَوَسَّمَ- وَ تَبْصِرَةً لِمَنْ عَزَمَ- وَ عِبْرَةً لِمَنِ اتَّعَظَ وَ نَجَاةً لِمَنْ صَدَّقَ وَ ثِقَةً لِمَنْ تَوَكَّلَ- وَ رَاحَةً لِمَنْ فَوَّضَ وَ جُنَّةً لِمَنْ صَبَرَ- فَهُوَ أَبْلَجُ الْمَنَاهِجِ وَ أَوْضَحُ الْوَلَائِجِ- مُشْرَفُ الْمَنَارِ مُشْرِقُ الْجَوَادِّ- مُضِي‏ءُ الْمَصَابِيحِ كَرِيمُ الْمِضْمَارِ- رَفِيعُ الْغَايَةِ جَامِعُ الْحَلْبَةِ- مُتَنَافِسُ السُّبْقَةِ شَرِيفُ الْفُرْسَانِ- التَّصْدِيقُ مِنْهَاجُهُ- وَ الصَّالِحَاتُ مَنَارُهُ- وَ الْمَوْتُ غَايَتُهُ وَ الدُّنْيَا مِضْمَارُهُ- وَ الْقِيَامَةُ حَلْبَتُهُ وَ الْجَنَّةُ سُبْقَتُهُ

اللغة
أقول: الأبلج: الواضح المشرق. و الوليجة: بطانة الرجل و خاصّته. و المضمار: محلّ تضمير الخيل للسباق. و الحلبة: خيل يجمع من مواضع متفرّقة للسباق، و قد تطلق على مجمعها. و السبقة: ما يستبق عليه من الخطر.

المعنى
و قد حمد اللّه سبحانه باعتبار ما أنعم به من وضع شريعة الإسلام للعقول لتسلك بها إليه، و أشار بشرائعه إلى موارد العقول من أركانه، و تسهيله لها إيضاح قواعده و خطاباته بحيث يفهمهما الفصيح و الألكن و يشارك الغبىّ في ورود مناهلها الفطن الذكىّ، و إعزاز أركانه حمايتها و رفعها على من قصد هدمه و إطفاء نوره مغالبة من المشركين و الجاهلين. ثمّ مدح الإسلام بأوصاف أسندها إلى مفيضه و شارعه سبحانه و تعالى:
أحدها: جعله أمنا لمن علقه
و ظاهر كونه أمنا لمن تعلّق به في الدنيا من القتل و في الآخرة من العذاب.
الثاني: و سلما لمن دخله
أى مسالما له، و في الأوّل ملاحظة لتشبيهه بالحرم باعتبار دخوله، و في الثاني ملاحظة لشبهه بالمغالب من الشجعان باعتبار مسالمته.
و معنى مسالمة الإسلام له كونه محقون الدم مقرّرا على ما كان يملكه فكأنّ الإسلام سالمه أو صالحه لكونه لا يقتصّ ما يؤذيه بعد دخوله فيه.
الثالث: كونه برهانا لمن تكلّم به
أى فيه ما هو برهان.
الرابع: كونه شاهدا لمن خاصم به
و الشاهد أعمّ من البرهان لتناوله الجدل‏ و الخطابة.
الخامس: كونه نورا يستضاء به
فاستعار له لفظ النور، و رشّحه بذكر الاستضاءة، و وجه المشابهة كونه مقتدى به في طريق اللّه إلى جنّته.
السادس: كونه مفهما لمن عقل.
و لمّا كان الفهم عبارة عن جودة تهيّؤ الذهن لقبول ما يرد عليه كان الدخول في الإسلام و رياضة النفس بقواعده و أركانه سببا عظيما لتهيّؤ الذهن لقبول الأنوار الإلهيّة و فهم الأسرار لا جرم أطلق عليه لفظ الفهم مجازا إطلاقا لاسم المسبّب على السبب.
السابع: كونه لبّا لمن تدبّر
و لمّا كان اللبّ هو العقل أطلق عليه لفظ العقل و إن كان مسبّبا له كالمجاز الأوّل، و أراد العقل بالملكة و ما فوقه من مراتب العقل فإنّ الإسلام و قواعده أقوى الأسباب لحصول العقل بمراتبه.
الثامن: كونه آية لمن توسّم
و أراد من تفرّس طرق الخير و مقاصده فإنّ الإسلام آية و علامة لذلك المتفرّس، إذ اهتدى بها فقد وقع في طريق الهدى.
التاسع: كونه تبصرة لمن عزم
و أراد من عزم على أمر قصده فإنّ في الإسلام تبصرة لكيفيّة فعله على الوجه الّذي ينبغي.
العاشر: كونه عبرة لمن اتّعظ
و ذلك ظاهر فإنّ الإسلام نعم المعبر بنفس المتّعظ إلى حضرة قدس اللّه بما فيه من أحوال القرون الماضية و تصرّف الزمان بهم.
الحادى عشر: كونه نجاة لمن صدّق
الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم فيما جاء به. فإنّ دخوله في الإسلام سبب نجاته من سيوف اللّه في الدنيا و عذابه في الآخرة، و أطلق عليه اسم النجاة إطلاقا لاسم المسبّب على السبب.
الثاني عشر: كونه ثقة لمن توكّل  

أى هو سبب ثقة المتوكّلين على اللّه لاشتماله على الوعد الكريم و به يكون استعدادهم للتوكّل.
الثالث عشر: كونه راحة لمن فوّض
أى من ترك البحث و الاستقصاء في الدلائل و تمسّك بأحكام الإسلام و دلائل القرآن و السنّة المتداولة بين أهله و فوّض أمره إليه استراح بذلك التفويض. و قيل: بل المراد أنّ فيه الندب إلى تفويض‏ الأمور إلى اللّه و علم ما لم يعلم منها و ترك التكليف به و ذلك راحته، و قيل: بل المراد أنّ المسلم إذا كمل إسلامه و فوّض أمره إلى اللّه كفاه اللّه جميع اموره و أراحه من الاهتمام بها.
الرابع عشر: كونه جنّة لمن صبر
أى صبر على العمل بقواعده و أركانه، و ظاهر كونه جنّة من عذاب اللّه، و لفظ الجنّة مستعار.
الخامس عشر: أبلج المناهج
و مناهج الإسلام طرقه و أركانه الّذي يصدق على من سلكها أنّه مسلم، و هى الإقرار باللّه و رسوله و التصديق بما ورد به الشريعة كما يفسّره هو به، و ظاهر كونها أنوار واضحة الهدى.
السادس عشر: كونه واضح الولايج
واضح البواطن و الأسرار لمن نظر إليه بعين الاعتبار.
السابع عشر: كونه مشرف المنار
و منار الإسلام الأعمال الصالحات الّتي يقتدى بها السالكون كالعبادات الخمس و نحوها، و ظاهر كونه مشرفة عالية على غيرها من العبادات السابقة.
الثامن عشر: كونه مشرق الجوادّ
و هو قريب من أبلج المناهج.
التاسع عشر: كونه مضي‏ء المصابيح
و كنّى بها عن علماء الإسلام و أئمّته كناية بالمستعار، و رشّح بذكر الإضاءة، و كنّى بها عن ظهور العلم عنهم و اقتداء الخلق بهم، و يحتمل أن يريد بالمصابيح أدلّة الإسلام كالكتاب و السنّة.
العشرون: كونه كريم المضمار
و مضمار الإسلام الدنيا كما سنذكره، و لا شكّ في كونها كريمة باعتبار اقتباس الأنوار منها و العبور بها إلى اللّه تعالى، و لفظ المضمار مستعار لها، و قد سبق بيانه.
الحادى و العشرون: كونه رفيع الغاية
و لمّا كانت غايته الوصول إلى حضرة ربّ العالمين الّتي هي جنّة المأوى لا جرم كان رفيع الغاية. إذ لا غاية أرفع منها و أعلى مرتبة.
الثاني و العشرون: كونه جامع الحلبة
و استعار لفظ الحلبة للقيامة فإنّها حلبة الإسلام كما سنبيّنه، و وجه الاستعارة كونها محلّ الاجتماع بها للسباق إلى حضرة اللّه الّتي هي الجنّة كاجتماع الخيل للسباق إلى الرهن.
الثالث و العشرون: كونه متنافس السبقة
و لمّا كانت سبقته الجنّة كانت أشرف ما يتنافس فيها.
الرابع و العشرون: كونه شريف الفرسان
و استعار لفظ الفرسان لعلمائه الّذين هم فرسان العلوم و رجالها ملاحظة لشبههم بالفرس الجواد الّذي يجارى راكبه.
الخامس و العشرون: التصديق منهاجه
و هى إلى آخره تفسير لما اهمل تفسيره من منهاجه و مناره و غايته و مضماره و حلبته و سبقته، و إنّما جعل الموت غاية: أى الغاية القريبة الّتي هى باب الوصول إلى اللّه تعالى، و يحتمل أن يريد بالموت موت الشهوات فإنّها غاية قريبة للإسلام أيضا، و كذلك استعار لفظ السبقة للجنّة لكونها الثمرة المطلوبة و الغاية من الدين كما أنّ السبقة غاية سعى المتراهنين.

 

القسم الثاني

منها في ذكر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم:
حَتَّى أَوْرَى قَبَساً لِقَابِسٍ- وَ أَنَارَ عَلَماً لِحَابِسٍ- فَهُوَ أَمِينُكَ الْمَأْمُونُ- وَ شَهِيدُكَ يَوْمَ الدِّينِ- وَ بَعِيثُكَ نِعْمَةً وَ رَسُولُكَ بِالْحَقِّ رَحْمَةً- اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَهُ مَقْسَماً مِنْ عَدْلِكَ- وَ اجْزِهِ مُضَعَّفَاتِ الْخَيْرِ مِنْ فَضْلِكَ- اللَّهُمَّ أَعْلِ عَلَى بِنَاءِ الْبَانِينَ بِنَاءَهُ- وَ أَكْرِمْ لَدَيْكَ نُزُلَهُ- وَ شَرِّفْ عِنْدَكَ مَنْزِلَهُ- وَ آتِهِ الْوَسِيلَةَ وَ أَعْطِهِ السَّنَاءَ وَ الْفَضِيلَةَ- وَ احْشُرْنَا فِي زُمْرَتِهِ- غَيْرَ خَزَايَا وَ لَا نَادِمِينَ- وَ لَا نَاكِبِينَ وَ لَا نَاكِثِينَ- وَ لَا ضَالِّينَ وَ لَا مُضِلِّينَ وَ لَا مَفْتُونِينَ قال الشريف: و قد مضى هذا الكلام فيما تقدم، إلا أننا كررناه ههنا لما في الروايتين من الاختلاف.

اللغة
أقول: القبس: الشعلة. و أورى: أشعل. و الحابس: الواقف بالمكان. و النزل: ما يهيّأ للنزيل من ضيافة و نحوها. و السناء: الرفعة. و الزمرة: الجماعة من الناس. و الناكب: المنحرف من الطريق.

المعنى
فقوله: حتّى أورى. إلى قوله: لحابس.
 غاية لكلام مدح فيه النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم و ذكر جهاده و اجتهاده في الدين للغاية المذكورة، و استعار لفظ القبس لأنوار الدين المشتعلة لتقتبس منها نفوس الخلائق أنوار الهدى، و كذلك استعار لفظ العلم و أسند إليه تنويره. و يفهم منه أمران: أحدهما: أنّه أظهر أنوارا جعلها أعلاما يهتدى بها في سبيل اللّه من حبسته [أجلسته خ‏] ظلمة الحيرة و الشبهة عن سلوكها فهو واقف على ساق التحيّر كقوله تعالى «وَ إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا»«» و كنّى بتلك الأعلام عن آيات الكتاب و السنن. الثاني: أن يكون المراد بالأعلام أئمّة الدين، و تنويره لها تنوير قلوبهم بما ظهر عن نفسه القدسيّة من الكمالات و العلوم.

و قوله: فهو أمينك المأمون.
 أى على وحيك، و شهيدك يوم الدين: أى على خلقك، و بعيثك نعمة: أى مبعوثك إليهم نعمة عليهم بهدايتهم به إلى جنّتك، و رسولك بالحقّ رحمة لعبادك أن يقعوا في مهاوى الهلاك بسخطك «وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ» ثمّ أردفه بالدعاء له صلّى اللّه عليه و آله و سلم فدعا اللّه أن يقسم له مقسما من عدله، و لمّا كان مقتضى عدل اللّه أن يبلغ نفسا هى محلّ الرسالة أقصى ما استعدّت له من درجات الكمال و يعدّها بذلك لكمال أعلى، دعا له أن يقسم له نصيبا وافرا من عدله يعدّه به للدرجات من رتب الوصول الغير المتناهية.

و قوله: و اجزه مضاعفات الخير من فضلك.
و قول لمّا دعا له بما يستحقّه زاد على ذلك فدعا له بأن يتفضّل عليه بزيادة من فضله فيضاعف له ما يستحقّه من الخيرات.

و قوله: اللّهمّ أعل على بناء البانين بنائه.
 دعاء ليشيّد ما بناه من قواعد الدين على سائر بناء البانين للشرائع من الرسل قبله، و أراد ما بناه لنفسه من مراتب الكمال، و لفظ البناء مستعار. ثمّ دعا أن يكرم لديه ما هيّأه له من الثواب الجزيل و أن يشرّف مقامه في حضرة قدسه و أن يؤتيه ما يتوسّل به إليه و يقرّ به منه، و هو أن يكمّل استعداده لما هو أتمّ القوّة على الوصول إليه، و أن يعطيه الرفعة و يشرّفه بالفضيلة التامّة، و أن يحشره في زمرته على أحوال: غير خازين: أى بقبائح الذنوب، و لا نادمين على التفريط في جنب اللّه و التقصير في العمل بطاعته، و لا ناكبين منحرفين عن سبيله إلى أحد طرفى التفريط و الإفراط، و لا ناكثين لعهوده و مواثيقه الّتى واثق بها خلقه أن يعبدوه و يخلصوا له الدين، و لا ضالّين عن سواء السبيل العدل، و لا مفتونين بشبهات الأباطيل. و باللّه التوفيق.


القسم الثالث

و منها في خطاب أصحابه:
وَ قَدْ بَلَغْتُمْ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَكُمْ- مَنْزِلَةً تُكْرَمُ بِهَا إِمَاؤُكُمْ- وَ تُوصَلُ بِهَا جِيرَانُكُمْ- وَ يُعَظِّمُكُمْ مَنْ لَا فَضْلَ لَكُمْ عَلَيْهِ- وَ لَا يَدَ لَكُمْ عِنْدَهُ- وَ يَهَابُكُمْ مَنْ لَا يَخَافُ لَكُمْ سَطْوَةً- وَ لَا لَكُمْ عَلَيْهِ إِمْرَةٌ- وَ قَدْ تَرَوْنَ عُهُودَ اللَّهِ مَنْقُوضَةً فَلَا تَغْضَبُونَ- وَ أَنْتُمْ لِنَقْضِ ذِمَمِ آبَائِكُمْ تَأْنَفُونَ- وَ كَانَتْ أُمُورُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ تَرِدُ- وَ عَنْكُمْ تَصْدُرُ وَ إِلَيْكُمْ تَرْجِعُ- فَمَكَّنْتُمُ الظَّلَمَةَ مِنْ مَنْزِلَتِكُمْ- وَ أَلْقَيْتُمْ إِلَيْهِمْ أَزِمَّتَكُمْ- وَ أَسْلَمْتُمْ أُمُورَ اللَّهِ فِي أَيْدِيهِمْ- يَعْمَلُونَ بِالشُّبُهَاتِ- وَ يَسِيرُونَ فِي الشَّهَوَاتِ- وَ ايْمُ اللَّهِ لَوْ فَرَّقُوكُمْ تَحْتَ كُلِّ كَوْكَبٍ- لَجَمَعَكُمُ اللَّهُ لِشَرِّ يَوْمٍ لَهُمْ

المعنى
أقول: صدّر هذا الفصل بتذكيرهم المنزلة الّتى أكرمهم اللّه بها من الإسلام‏ و الهداية للإيمان و ما في تلك المنزلة من الفضل حتّى عمّت حرمتها إمائهم و جيرانهم و إن كانوا غير مسلمين، و عظّمهم من لا فضل لهم عليه و لا يد لهم عنده، و هابهم من لا يخاف سطوتهم. و ظاهر أنّ سبب ذلك كلّه هو كرامة اللّه لهم بالإسلام و الهداية للإيمان. ثمّ لمّا قرّر نعمة اللّه عليهم أردف ذلك بالتوبيخ لهم على اتتقصير في أداء واجب حقّه، و أشار إلى ارتكابهم لبعض مسبّبات كفران نعمته و هو عدم إنكارهم لما يرون من نقض عهود اللّه و سكوتهم عليها و عدم غضبهم منها كالراضين بذلك، و أراد بذلك بغى البغاة و خروج الخوارج و سائر المنكرات الّتى وقعت من أهل الشام و غيرهم، خالفوا فيها أمر اللّه و نكثوا بيعته الّتى هى عهد من عهود اللّه عليهم فإنّ السكوت على مثل ذلك مع التمكّن من إزالته و إنكاره بالجهاد منكرهم راكبوه، و الواو فى قوله: و أنتم للحال: أى و أنتم مع ذلك تأنفون لنقض ذمم آبائكم فكان يجب منكم بطريق الأولى أن تأنفوا لعهود اللّه أن تنقض و ذممه أن تخفر. ثمّ ذكّرهم تقريطهم و تهاونهم في الأمور الّتى كان اللّه سبحانه فرضها عليهم و جعلهم موردها و مصدرها من امور الإسلام و أحكامه و التسلّط به على سائر الناس و بكّتهم بتمكينهم الظلمة في منزلتهم تلك من الإسلام، و أراد بالظلمة معاوية و قومه و بتمكينهم لهم تخاذلهم عنهم و إلقائهم أزمّة الامور إليهم بذلك، و لفظ الأزمّة مستعار، و الامور الّتى سلّموها إليهم أحوال بلاد الإسلام. كلّ ذلك بالتقصير عن مجاهدتهم. و عملهم بالشبهات: عملهم على وفق أوهامهم الفاسدة و آرائهم الباطلة الّتى يتوهّمونها حججا فيما يفعلون، و سيرهم في الشهوات: قطع أوقاتهم بالانهماك في مقتضيات الشهوة. و قوله: و أيم اللّه. إلى آخره. تحذير لهم و إنذار بما سيكون من بنى اميّة من جمع الناس في بلائهم و شرورهم و عموم فتنتهم، و كنّى باليوم عن مدّة خلافتهم الّتى كانت شرّ الأوقات على الإسلام و أهله، و إنّما نسب التفريق إليهم و الجمع إلى اللّه تقريرا لما سينزل به قدره من ابتلاء الخلق بهم فإنّهم لو فرّقوهم في أطراف البلاد لم يغنهم ذلك التفريق عن لحوق قدر اللّه لهم و لم يمنعهم من نزوله بجميعهم بما يراد لهم من الابتلاء بدولة بنى اميّة و شرورها، و أحوال دولتهم مع الخلق خصوصا الصالحين من عباد اللّه ظاهرة. و باللّه العصمة و التوفيق

شرح نهج البلاغة(ابن نميثم بحرانی)، ج 3 ، صفحه‏ى 30

خطبه 102 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّداً ص- شَهِيداً وَ بَشِيراً وَ نَذِيراً- خَيْرَ الْبَرِيَّةِ طِفْلًا- وَ أَنْجَبَهَا كَهْلًا- وَ أَطْهَرَ الْمُطَهَّرِينَ شِيمَةً- وَ أَجْوَدَ الْمُسْتَمْطَرِينَ دِيمَةً فَمَا احْلَوْلَتْ لَكُمُ الدُّنْيَا فِي لَذَّتِهَا- وَ لَا تَمَكَّنْتُمْ مِنْ رَضَاعِ أَخْلَافِهَا- إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا صَادَفْتُمُوهَا جَائِلًا خِطَامُهَا- قَلِقاً وَضِينُهَا- قَدْ صَارَ حَرَامُهَا عِنْدَ أَقْوَامٍ- بِمَنْزِلَةِ السِّدْرِ الْمَخْضُودِ- وَ حَلَالُهَا بَعِيداً غَيْرَ مَوْجُودٍ- وَ صَادَفْتُمُوهَا وَ اللَّهِ ظِلًّا مَمْدُوداً- إِلَى أَجْلٍ مَعْدُودٍ- فَالْأَرْضُ لَكُمْ شَاغِرَةٌ- وَ أَيْدِيكُمْ فِيهَا مَبْسُوطَةٌ- وَ أَيْدِي الْقَادَةِ عَنْكُمْ مَكْفُوفَةٌ- وَ سُيُوفُكُمْ عَلَيْهِمْ مُسَلَّطَةٌ- وَ سُيُوفُهُمْ عَنْكُمْ مَقْبُوضَةٌ- أَلَا وَ إِنَّ لِكُلِّ دَمٍ ثَائِراً- وَ لِكُلِّ حَقٍّ طَالِباً- وَ إِنَّ الثَّائِرَ فِي دِمَائِنَا كَالْحَاكِمِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ- وَ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ مَنْ طَلَبَ- وَ لَا يَفُوتُهُ مَنْ هَرَبَ- فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ يَا بَنِي أُمَيَّةَ عَمَّا قَلِيلٍ- لَتَعْرِفُنَّهَا فِي أَيْدِي غَيْرِكُمْ- وَ فِي دَارِ عَدُوِّكُمْ أَلَا إِنَّ أَبْصَرَ الْأَبْصَارِ مَا نَفَذَ فِي الْخَيْرِ طَرْفُهُ- أَلَا إِنَّ أَسْمَعَ الْأَسْمَاعِ مَا وَعَى التَّذْكِيرَ وَ قَبِلَهُ أَيُّهَا النَّاسُ- اسْتَصْبِحُوا مِنْ شُعْلَةِ مِصْبَاحٍ وَاعِظٍ مُتَّعِظٍ- وَ امْتَاحُوا مِنْ صَفْوِ عَيْنٍ قَدْ رُوِّقَتْ مِنَ الْكَدَرِ- عِبَادَ اللَّهِ لَا تَرْكَنُوا إِلَى جَهَالَتِكُمْ- وَ لَا تَنْقَادُوا إِلَى أَهْوَائِكُمْ فَإِنَّ النَّازِلَ بِهَذَا الْمَنْزِلِ نَازِلٌ بِشَفَا جُرُفٍ هَارٍ- يَنْقُلُ الرَّدَى عَلَى ظَهْرِهِ مِنْ‏ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ- لِرَأْيٍ يُحْدِثُهُ بَعْدَ رَأْيٍ- يُرِيدُ أَنْ يُلْصِقَ مَا لَا يَلْتَصِقُ- وَ يُقَرِّبَ مَا لَا يَتَقَارَبُ- فَاللَّهَ اللَّهَ أَنْ تَشْكُوا إِلَى مَنْ لَا يُشْكِي شَجْوَكُمْ- وَ لَا يَنْقُضُ بِرَأْيِهِ مَا قَدْ أَبْرَمَ لَكُمْ- إِنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْإِمَامِ إِلَّا مَا حُمِّلَ مِنْ أَمْرِ رَبِّهِ- الْإِبْلَاغُ فِي الْمَوْعِظَةِ- وَ الِاجْتِهَادُ فِي النَّصِيحَةِ- وَ الْإِحْيَاءُ لِلسُّنَّةِ- وَ إِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى مُسْتَحِقِّيهَا- وَ إِصْدَارُ السُّهْمَانِ عَلَى أَهْلِهَا- فَبَادِرُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِ تَصْوِيحِ نَبْتِهِ- وَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُشْغَلُوا بِأَنْفُسِكُمْ- عَنْ مُسْتَثَارِ الْعِلْمِ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ- وَ انْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تَنَاهَوْا عَنْهُ- فَإِنَّمَا أُمِرْتُمْ بِالنَّهْيِ بَعْدَ التَّنَاهِي


اللغة

أقول: الشيمة: الخلق. و احلولى: حلا. و الخلف: حلمة ضرع الناقة. و الوضين: حزام الهودج. و المخضود: الّذي لا شوك فيه. و الماتح: الجاذب للدلو من البئر. و شغر الكلب: رفع إحدى رجليه ليبول. و الترويق: التصفية. و الجرف: المكان يأكله السيل. و هار: أصله هائر و هو المنهدم نقلت من الثلاثى إلى الرباعى كشائك و شاكى. و الشجو: الهمّ و الحزن. و صوّح النبت: يبس.

المعنى

و قوله: حتّى بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلم. إلى قوله: من بعده.
 افتخار به صلّى اللّه عليه و آله و سلم و مدح له بالقوّة في الدين و توبيخ لجمّع الدنيا و محبّيها بعده، و هو غاية لفصل سابق كأنّه ذكر فيه ما كانوا عليه من سوء الحال و القشف و الفقر، و منّ عليهم بذكر هذه الغاية الحسنة لتلك الأحوال، و وصّفه بأوصاف: أحدها: كونه شهيدا، أى على الخلق بأعمالهم يوم القيامة كما قال تعالى «فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى‏ هؤُلاءِ شَهِيداً»«» و قد عرفت كيفيّة هذه الشهادة.

الثاني: و بشيرا للخلق بما أعدّهم من الثواب العظيم. الثالث: و نذيرا لهم بما أعدّ للعصاة من العذاب الأليم. و ينتظم هذه الأوصاف قوله تعالى «إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً»«» و الثلاثة أحوال. الرابع: خير البريّة طفلا، و لمّا علمت أنّ الأفضليّة إنّما هى بالأعمال الصالحة و التسديد لسلوك سبيل اللّه و كان هو صلّى اللّه عليه و آله و سلم منذ صباه و طفوليّته أفضل الخلق في لزوم ذلك لا جرم كان خير الناس طفلا. الخامس: و أنجبها كهلا، و لمّا كانت النجابة مستلزمة لكرم الخصال و التقاط الفضائل و تتبّعها و كان هو صلّى اللّه عليه و آله و سلم في كهولته و زهوته منبع كلّ فضيلة لا جرم كان أنجبهم كهلا. و طفلا و كهلا منصوبان على الحال أيضا. السادس: كونه أطهر المطهّرين شيمة، و لمّا كان صلّى اللّه عليه و آله و سلم متمّم مكارم الأخلاق الظاهرة و كلّ خلق عدل فمنه مكتسب لا جرم كان أطهر الشيمة و أكرم الخلق. السابع: أجود المستمطرين ديمة. استعار له وصف السحاب المرجوّ منه نزول الديمة و هى المطر الّذى لا رعد فيه و لا برق، و رشّح بلفظ الديمة و كنّى بذلك عن غاية جوده و كرمه، و قد كان صلّى اللّه عليه و آله و سلم إذا أمسى آوى إلى البيت فلا يجد فيه شيئا من فضّة أو ذهب إلّا تصدّق به و لم يبت في بيته منه شي‏ء. و شيمة و ديمة تميزان.

و قوله: فما احلولت لكم الدنيا في لذّاتها. إلى قوله: من بعده.
 الخطاب لبنى اميّة و نحوهم و تبكيت لهم بتطعّمهم لذّة الدنيا و ابتهاجهم بها و تمكّنهم منها بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم و تذكير لهم بمخالفتهم لسنّته في ذلك. و استعار لفظ الأخلاف، و كنّى به عن وجوه مكاسب الدنيا و لذّاتها، و رشّح تلك الاستعارة بذكر الرضاع، و كنّى به عن تناولها ملاحظة لتشبيهها بالناقة.

و قوله: و صادفتموها. إلى قوله: غير موجود.
 استعار لها لفظ الخطام و الوضين و رشّحهما بالقلق و الجولان، و كنّى بذلك عن مصادفتهم للدنيا بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم غير منظومة الحال و لا مضبوطة على ما ينبغي‏ لضعف ولاتها عن إصلاح حالها كما أنّ الناقة قلقة الحزام، و جائلة الخطام غير منظومة الآلة و لا مضبوطة الحالة فهى بمعرض أن تمشى و تنصرف على غير استقامة فهلك راكبها، ثمّ ذكر رذيلة القوم فشبّه حرامها بالسدر المخضود معهم، و وجه الشبه أنّ نواهى اللّه و وعيداته على فعل المحرّمات تجرى مجرى الشوك للسدر في كونها مانعة منه كما يمنع شوك السدر جانبه من تناول ثمرته، و لمّا كان بعض الامّة قد طرح اعتبار النواهى و الوعيد جانبا عن نفسه و فعل ما حرم عليه جرى ذلك عنده مجرى تناوله للسدر الخالى عن الشوك في استسهاله تناوله و إقدامه عليه. و كون حلالها بعيدا غير موجود: أى بين اولئك المشار إليهم. و جائلا و قلقا حالان.

قوله: و صادفتموها و اللّه. إلى قوله: معدودا.
 استعار لفظ الظلّ لها و رشّح بالممدود، و كنّى بذلك عن زوالها بعد حين تهديدا لهم به، ثمّ استعار لفظ الشاغرة للأرض، و كنّى به عن خلوّها لهم. يقال: بقى الأمر الفلانىّ شاغرا برجله إذا لم يكن له طالب و لا حام يحميه، و كنّى ببسط أيديهم فيها عن قدرتهم على التصرّف، و أراد بالقادة الخلفاء، و بسلاطة سيوفهم على القادة جرأتهم و حكمهم عليهم، و بقبض سيوف القادة عدم تمكّنهم منهم.

و قوله: ألا إنّ لكلّ دم ثائرا. إلى قوله: من هرب.
تهديد باللّه لبنى اميّة و تخويف بأخذه و عقابه. و هاتان الكلّيّتان ظاهرتا الصدق فإنّه تعالى هو الثائر لكلّ دم معصوم و الطالب به إن عدم طالبه أو ضعف، و لمّا كان دم مثلهم عليهم السّلام و سائر الصحابة ممّن عصم اللّه دمه و منع منه و حرّمه يجرى مجرى الحقّ الثابت المتعارف للّه في كونه يطلب به و لا يهمله و هو الحاكم المطلق لا جرم استعار لفظ الثائر، و إنّما قال: كالحاكم لأنّ إطلاق لفظ الحقّ للّه تعالى به ليس بحقيقة. إذ الحقّ من شأنه أن ينتفع بأخذه و يتضرّر بتركه و البارى منزّه عن ذلك لكن لمّا جرى ذلك الدم مجرى الحقّ له تعالى، به أشبه الحاكم منّا في استيفاء الحقّ. و وصفه تعالى بأنّه لا يعجزه مطلوب و لا يفوته هارب في معرض التهديد لهم بأخذه و قوّته. ثمّ أردف ذلك بالقسم البارّ مخاطبا لبنى اميّة لتعرفنّها: أى الدنيا و إمرتها في يد غيرهم من أعدائهم. و ذلك ظاهر الصدق بانتقالها إلى بنى عبّاس، ثمّ شرع بعده في التنبيه على الفكر في تحصيل السعادة الباقية و الخير الدائم و على قبول الوعظ و التذكّر فأشار إلى أنّه أبصر الأبصار ما نفذ في الخير طرفه، و أسمع الأسماع ما وعى التذكير فقبله، و أراد بطرف البصر العقل و سمعه استعارة، أو حسّ البصر و السمع على معنى أنّ أفضل إبصار البصر و سماع السمع ما عاد على المبصر و السامع بالفائدة المطلوبة منهما و هي تحصيل الكمالات النفسانيّة من العلوم و الأخلاق، و لمّا قدّم ذلك أمام مقصوده أيّه بالناس بعده إلى قبول قوله و الاستصباح بنوره، و استعار لنفسه لفظ المصباح، و رشّح بذكر الشعلة و الاستصباح، و استعار لفظ العين و رشّح بذكر الصفو و الترويق و المتح، و وجه الاستعارة الاولى كونه مقتدى به كالمصباح، و وجه الثانية كون المستفاد منه مادّة الحياة الأبديّة كما أنّ ماء العين مادّة الحياة الدنيويّة و كنّى بترويقها من الكدر عن رسوخه فيما علم بحيث لا يتطرّق إليه فيه شبهة تكدر يقينه، و هو أمر لهم بالاهتداء به و أخذ العلوم و الأخلاق عنه. ثمّ لمّا أمر بأخذهما عنه أردفه بالنهى عن الجهل و الركون إليه ثمّ عن الانقياد للأهواء الباطلة المخرجة عن كرائم الأخلاق إلى رذائلها و عن حقّ المصالح إلى باطلها.

و قوله: فإنّ النازل بهذا المنزل.
 أراد المنزل المشير المدّعى للنصيحة لهم عن جهل منه بوجوه المصالح و ذلك أنّه عليه السّلام كان يرى الرأى الصالح، و يشير عليهم به فإذا خلا بعضهم إلى بعض فما كان من ذلك فيه مشقّة عليهم من جهاد أو مواظبة على عمل شاقّ أشار منافقوهم المبغضون المدّعون لأهليّتهم لمقامه بعكس ما رأى فيه و أشار به ردّ و هم عنه إلى ما يوافق أهوائهم و يلائم طباعهم إفسادا في الدين، و أشار عليه السّلام إلى ما نزّل نفسه منزلة المشير الناصح مع أنّ كلّ ما يشير به عن هوى متّبع و جهل فهو على شفا جرف هار، و استعار لفظ الجرف للآراء الفاسدة الصادرة فإنّها لم تبن على نظام العقل و لم ترخّص فيه الشريعة فكانت منهارة لا يبنى عليها إلّا ما كان بصدد أن ينهار، و كأنّ المشير بها واقف على شفا جرف هار منها ينهار به في نار جهنّم أو في الهلاك الحاضر.

يقال لمن فعل فعلا على غير أصل أو يتوقّع له منه عقوبة مثلا: إنّه على شفا جرف هار، و نحوه قوله تعالى «أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى‏ شَفا جُرُفٍ هارٍ»«» الآية.

و قوله: ينقل الردى على ظهره من موضع.
 لمّا كان الردى هو الهلاك و كان الرأى الفاسد يستلزم الهلاك للمشار عليه و للمشير كان المشير على الخلق به عن هوى كالناقل للهلاك من شخص إلى غيره و المقسّم له على من يشير عليهم به. و هو في معرض التنفير عنه.
و قوله: لرأى يحدثه بعد رأى يريد أن يلصق ما لا يلتصق.

و قوله: لرأى يحدثه بعد رأى يريد أن يلصق ما لا يلتصق. ذكر غاية تنقّله من موضع إلى آخر فإنّ نقله للردى يستلزم أن ينقله، و روى: و لرأى بالواو. و على هذا يكون كلاما مستأنفا، و التقدير أنّ بسبب رأى يحدثه يريد إلصاق ما لا يلتصق. و استعار لفظ اللصق للصلح: أى يريد أن يصلح بينكم و بين أعدائكم و ذلك أمر لا ينصلح، و وجه المشابهة كون الخصمين‏ في طرفين يجمعهما الصالح و يوجب لهما الاتّحاد كما يجمع اللصاق بين الملتصقين، و يحتمل أن يريد أن يلصق بكم من الآراء الفاسدة ما لا ينبغي أن يلتصق بكم، و كذلك قوله: و يقرّب ما لا يتقارب و يقرّب عليكم ما بينكم و بينهم من البعد و الافتراق و ذلك أمر لا يتقارب. و يفهم من هذا أنّ من كان ينهاهم عن الركون إلى استشارته كان يخذلهم عن الحرب بذكر الصلح بينهم و بين معاوية و الدخول فيه. ثمّ حذّرهم اللّه و عقابه في أن يشكوا إلى من لا يشتكى حزنهم، و ذل أنّ المشتكى إليه و المستشار إذا لم يساهم الشاكى همّه لم يكن أهلا للرأى في مثل ذلك الأمر المشكوك و إن كان معروفا بجودة الرأى، و سرّ ذلك أنّ الاهتمام بالأمر يبعث رائد الفكر على الاستقصاء في تفتيش وجوه الآراء الصالحة فيه فيكون بصدد أن يستخرج منها أصلحها و أنفعها و إن كان دون غيره في جودة الرأى بخلاف الخلىّ العديم الباعث على طلب الأصلح. و أردفهم بنهيهم عن أن ينقض برأيه الفاسد ما قد أبرمه هو عليه السّلام لهم من الرأى الصائب في التجرّد للحرب. ثمّ أردفه ببيان ما يجب على الإمام ممّا هو تكليفه بالنسبة إلى الرعيّة، و فائدة ذلك الإعذار إليهم فيما هم عساهم ينسبونه إليه من تقصير فيركنون إلى غيره في الرأى و نحوه، و ذكر امورا خمسة: الإبلاغ في موعظة العباد. ثمّ الاجتهاد في النصيحة لهم. ثمّ الإحياء لسنّة اللّه و رسوله فيهم. ثمّ إقامة الحدود الّتي يستحقّونها بجناياتهم. ثمّ إصدار السهمان على أهلها. و السهمان: جمع سهم و هو النصيب المستحقّ به للمسلم من بيت المال. ثمّ لمّا سبق نهيه عن الركون إلى الجهل أمر هنا بالمبادرة إلى العلم من قبل تصويح نبته، و استعار لفظ النبت، و رشّح بذكر التصويح، و كنّى به عن عدمه بموته عليه السّلام.

و قوله: من قبل أن تشغلوا بأنفسكم.
 أى بتخليصها من شرور الفتن الّذي ستنزل بهم من بنى اميّة و معاناتها، و مستشار العلم ما استشير منه و استخرج، و أهله هو عليه السّلام و من في معناه. ثمّ أمرهم بالانتهاء عن المنكر، ثمّ ينهى غير هم فإنّ النهى عن الشي‏ء بعد الانتهاء عنه هو النهى المثمر المطابق لمقتضى الحكمة. إذ كان انفعال الطباع عن مشاهدة الأفعال و الاقتداء بها أقوى و أسرع منها عن سماع الأقوال خصوصا إذا خالفها فعل القائل. و ذلك أمر ظاهر شهدت به العقول السليمة و التجارب و توافقت عليه الآراء و الشرائع، و إليه أشار الشاعر:
              لا تنه عن خلق و تأتى مثله               عار عليك إذا فعلت عظيم‏

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 23

 

خطبه 101 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام
و قد تقدم مختارها بخلاف هذه الرواية أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً ص- وَ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ يَقْرَأُ كِتَاباً- وَ لَا يَدَّعِي نُبُوَّةً وَ لَا وَحْياً- فَقَاتَلَ بِمَنْ أَطَاعَهُ مَنْ عَصَاهُ- يَسُوقُهُمْ إِلَى مَنْجَاتِهِمْ- وَ يُبَادِرُ بِهِمُ السَّاعَةَ أَنْ تَنْزِلَ بِهِمْ- يَحْسِرُ الْحَسِيرُ وَ يَقِفُ الْكَسِيرُ- فَيُقِيمُ عَلَيْهِ حَتَّى يُلْحِقَهُ غَايَتَهُ- إِلَّا هَالِكاً لَا خَيْرَ فِيهِ- حَتَّى أَرَاهُمْ مَنْجَاتَهُمْ- وَ بَوَّأَهُمْ مَحَلَّتَهُمْ- فَاسْتَدَارَتْ رَحَاهُمْ- وَ اسْتَقَامَتْ قَنَاتُهُمْ- وَ ايْمُ اللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ مِنْ سَاقَتِهَا- حَتَّى تَوَلَّتْ بِحَذَافِيرِهَا- وَ اسْتَوْسَقَتْ فِي قِيَادِهَا- مَا ضَعُفْتُ وَ لَا جَبُنْتُ- وَ لَا خُنْتُ وَ لَا وَهَنْتُ- وَ ايْمُ اللَّهِ لَأَبْقُرَنَّ الْبَاطِلَ- حَتَّى أُخْرِجَ الْحَقَّ مِنْ خَاصِرَتِهِ أقول: لنشرح ما انفردت هذه الرواية من الزيادة على الفصل المتقدّم:


اللغة
فالحسير: الّذى أعيا في طريقه. و الرحا: قطعة من الأرض تستدير و ترفع على ما حولها. و استوسقت: اجتمعت و انتظمت. و خمت: جنبت.

المعنى
فقوله: فقاتل بمن أطاعه من عصاه. معناه ظاهر.

و قوله: و يبادر بهم الساعة أن تنزل بهم. أى يسارع إلى هديهم و تسليكهم لسبيل اللّه كيلا تنزل بهم الساعة على عمى منهم عن صراط اللّه فيقعوا في مهاوى الهلاك. و قوله: يحسر الحسير و يقف الكسير. إلى قوله: لا خير فيه. إشارة إلى وصفه عليه السّلام بالشفقّة على الخلق في حال أسفارهم معه في الغزوات و نحوها: أى أنّه كان يسير في آخرهم و يفتقد المنقطع منهم عن عياء و انكسار مركوب فلا يزال يلطف به حتّى يبلّغه أصحابه إلّا ما لا يمكن إيصاله و لا يرجى. قال بعض السالكين: كنّى بالحسير و الكسير عمن عجز و وقف قدم عقله في الطريق إلى اللّه لضعف في عين بصيرته و اعوجاج في آلة إدراكه، و بقيامه عليه حتّى يلحقه إلى غايته عن أخذه له بوجوه الحيل و الجواذب إلى الدين حتّى يوصله إلى ما يمكن من العقيدة المرضيّة و الأعمال الزكيّة الّتى هى الغاية من طريق الشريعة المطلوب سلوكها. و قوله: إلّا هالكا لا خير فيه. أراد به من كان مأيوسا من رشده لعلمه بأنّ تقويمه غير ممكن كأبى لهب و أبى جهل و نحوهما. و قوله: فاستدارت رحاهم. استعار لهم لفظ الرحا لاجتماعهم و ارتفاعهم على غيرهم كما يرتفع القطعة من الأرض عن تألّف التراب و نحوه. و قوله: و استوسقت في قيادها. إشارة إلى طاعة من أطاع من العرب و انقاد للإسلام، و استعار لفظ الاتّساق و القياد ملاحظة لتشبيههم بالإبل المجتمعة لسائقها و المنتظمة في قياده لها، و استعار لفظ الخاصرة للباطل، و رشّح تلك الاستعارة بذكر البقر ملاحظة لشبهه بالحيوان المبتلع ما هو أعزّ قيمة منه، و كنّى به عن تميّز الحقّ منه. و باللّه التوفيق.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 3 ، صفحه‏ى 23

 

خطبه 100 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

القسم الأول
انْظُرُوا إِلَى الدُّنْيَا نَظَرَ الزَّاهِدِينَ فِيهَا- الصَّادِفِينَ عَنْهَا- فَإِنَّهَا وَ اللَّهِ عَمَّا قَلِيلٍ تُزِيلُ الثَّاوِيَ السَّاكِنَ- وَ تَفْجَعُ الْمُتْرَفَ الآْمِنَ- لَا يَرْجِعُ مَا تَوَلَّى مِنْهَا فَأَدْبَرَ- وَ لَا يُدْرَى مَا هُوَ آتٍ مِنْهَا فَيُنْتَظَرَ سُرُورُهَا مَشُوبٌ بِالْحُزْنِ- وَ جَلَدُ الرِّجَالِ فِيهَا إِلَى الضَّعْفِ وَ الْوَهْنِ- فَلَا يَغُرَّنَّكُمْ كَثْرَةُ مَا يُعْجِبُكُمْ فِيهَا- لِقِلَّةِ مَا يَصْحَبُكُمْ مِنْهَا- رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً تَفَكَّرَ فَاعْتَبَرَ- وَ اعْتَبَرَ فَأَبْصَرَ- فَكَأَنَّ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنَ الدُّنْيَا عَنْ قَلِيلٍ لَمْ يَكُنْ- وَ كَأَنَّ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنَ الْآخِرَةِ- عَمَّا قَلِيلٍ لَمْ يَزَلْ- وَ كُلُّ مَعْدُودٍ مُنْقَضٍ- وَ كُلُّ مُتَوَقَّعٍ آتٍ- وَ كُلُّ آتٍ قَرِيبٌ دَانٍ

اللغة
أقول: صدف: أعرض. و ثوى بالمكان: أقام به. و الفجيعة: المصيبة. و الجلد: القوّة.

و حاصل الفصل تزهيد الدنيا و التحذير منها
فأمرهم أن ينظروا إليها نظر الزاهدين فيها المعرضين عنها أمر لهم بتركها و احتقارها إلّا بمقدار الضرورة إلى ما تقوم به الضرورة ثمّ أردفه بذكر معايبها المنفرّة:

فالأوّل: إزالتها للمقيم بها المطمئنّ إليها عمّا ركن إليه منها.

الثاني: فجيعتها للمترف المتنعّم بها الّذي خدعته بأمانيها حتّى أمن فيها بسلب ما ركن إليه و أمن عليه.

الثالث: كونها لا يرجع ما تولّى منها فأدبر من شباب و صحّة و مال و عمر و نحوه. الرابع: كونها لا يدرى ما هو آت من مصائبها فينتظر و يحترز منه. الخامس: شوب سرورها بالحزن.

إذ كان مسرورها لا يعدم في كل أوان فوت مطلوب أو فقد محبوب. السادس: انتهاء قوّة أهلها و جلدهم إلى الضعف كما قال تعالى «ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَ شَيْبَةً»«» و زهّد بعض الصالحين في الدنيا فقال: عيش مشوب بسقم منساق إلى هرم مختوم بعدم مستعقب بندم هل يجوز التنافس فيه. ثمّ نهى عن الاغترار بكثرة ما يعجبهم منها و علّل حسن ذلك الانتهاء بقلّة ما يصحبهم منها فإنّ المنافسة إنّما ينبغي أن يكون باقيلا للإنسان حيث كان كان، و أشار بقليل ما يصحبهم منها إلى الكفن و نحوه. ثمّ دعا لمن تفكّر فأفاده فكره عبرة: أى انتقال ذهن إلى ما هو الحقّ من وجوب ترك الدنيا و العمل للآخرة فإفادة ذلك الانتقال إدراكا للحقّ و مشاهدة ببصر البصيرة له ثمّ أردفه بتشبيه وجود متاع الدنيا الحاضر بعدمه تنبيها على سرعة لحوق عدمه بوجوده فكأنّ وجوده شبيه بأن لم يكن لسرعة زواله و كذلك تشبيه عدم الآخرة الآن و ما يلحق فيها من الثواب و العقاب بوجودها الدائم: أى كأنّها لسرعة وجودها و لحوقها لم تزل موجودة، و نبّه بقوله: و كلّ معدود منقض. على انقضاء مدد الأعمار لكونها معدودة الأيّام و الساعات و الأنفاس. و قوله: و كلّ متوقّع آت و كلّ آت قريب دان. في صورة الضرب الأوّل من الشكل الأوّل. و نتيجته فكلّ متوقّع قريب دان.
و الإشارة به إلى الموت و ما بعده.


القسم الثاني
الْعَالِمُ مَنْ عَرَفَ قَدْرَهُ- وَ كَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلًا أَلَّا يَعْرِفَ قَدْرَهُ- وَ إِنَّ مِنْ أَبْغَضِ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَعَبْداً- وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ- جَائِراً عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ- سَائِراً بِغَيْرِ دَلِيلٍ- إِنْ دُعِيَ إِلَى حَرْثِ الدُّنْيَا عَمِلَ- وَ إِنْ دُعِيَ إِلَى حَرْثِ الْآخِرَةِ كَسِلَ- كَأَنَّ مَا عَمِلَ لَهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ- وَ كَأَنَّ مَا وَنَى فِيهِ سَاقِطٌ عَنْهُ

المعنى
أقول: حصر العالم فيمن عرف قدره، و أراد بقدره مقداره من ملك اللّه و محلّه من الوجود، و لمّا كان عرفانه بذلك مستلزما لمعرفته بنسبته إلى مخلوقات اللّه في العالمين و أنّه أيّ شي‏ء هو منها، و لأىّ شي‏ء وجد لا جرم كان هو العالم اللازم لحدّه السالك لما امر به غير المتعدّى طوره المرسوم له في كتاب ربّه و سنن أنبيائه. و قوله: و كفى بالمرء جهلا أن لا يعرف قدره. لمّا كان العلم مستلزما لمعرفة القدر كان عدم معرفة القدر مستلزما لعدم العلم و هو الجهل لأنّ نقيض اللازم يستلزم نقيض الملزوم، و قوله: و كفى بذلك الجهل. إشارة إلى قوّته و استلزامه للعذاب. و قوله: و إنّ من أبغض الرجال إلى اللّه. إلى قوله: قصد السبيل. قد سبق بيانه. و قوله: سائرا بغير دليل. كنّى بالدليل عن أئمّة الهدى و المرشدين إلى اللّه، و يدخل في ذلك الكتاب و السنّة. فإنّ من سار في معاملته للّه أو لعباده بغير دليل منهما كان من الهالكين. و قوله: إن دعى. إلى آخره. استعار لفظ الحرث لأعمال الدنيا و أعمال الآخرة، و وجه المشابهة كونها مستلزمة للمكاسب الاخرويّة و الدنيويّة كما أنّ الحرث كذلك، ثمّ شبّه ما عمل له من حرث الدنيا بالواجب عليه في مبادرته إليه و مواظبته عليه، و شبّه ما ا قصّر عنه من حرث الآخرة بالساقط عنه فرضه في تكاسله و قعوده عنه مع أنّ الأمر منه ينبغي أن يكون بالعكس. و باللّه التوفيق.

القسم الثالث
و منها: وَ ذَلِكَ زَمَانٌ لَا يَنْجُو فِيهِ إِلَّا كُلُّ مُؤْمِنٍ نُوَمَةٍ- إِنْ شَهِدَ لَمْ يُعْرَفْ وَ إِنْ غَابَ لَمْ يُفْتَقَدْ- أُولَئِكَ مَصَابِيحُ الْهُدَى وَ أَعْلَامُ السُّرَى- لَيْسُوا بِالْمَسَايِيحِ وَ لَا الْمَذَايِيعِ الْبُذُرِ- أُولَئِكَ يَفْتَحُ اللَّهُ لَهُمْ أَبْوَابَ رَحْمَتِهِ- وَ يَكْشِفُ عَنْهُمْ ضَرَّاءَ نِقْمَتِهِ- أَيُّهَا النَّاسُ سَيَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ- يُكْفَأُ فِيهِ الْإِسْلَامُ كَمَا يُكْفَأُ الْإِنَاءُ بِمَا فِيهِ- أَيُّهَا النَّاسُ- إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَاذَكُمْ مِنْ أَنْ يَجُورَ عَلَيْكُمْ- وَ لَمْ يُعِذْكُمْ مِنْ أَنْ يَبْتَلِيَكُمْ- وَ قَدْ قَالَ جَلَّ مِنْ قَائِلٍ- إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَ إِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ

قال الشريف: قوله عليه السّلام: «كل مؤمن نومة» فانما أراد به الخامل الذكر القليل الشر، و المساييح: جمع مسياح، و هو الذى يسيح بين الناس بالفساد و النمائم، و المذاييع: جمع مذياع، و هو الذى إذا سمع لغيره بفاحشة أذاعها و نوه بها، و البذر: جمع بذور و هو الذى يكثر سفهه و يلغو منطقه.

اللغة
أقول: النومة: كثير النوم، و روى نومة بسكون الواو. و هو ضعيف. و كفأت الإناء: قلّبته لوجهه،

المعنى
و كنّى بالنومة عن خامل الذكر بين الناس المشتغل بربّه عنهم كما فسّره عليه السّلام بقوله: إن شهد لم يعرف و إن غاب لم يفتقد، و أشار بأولئك إلى كلّ مؤمن كذلك، و استعار لهم لفظ المصابيح و الأعلام لكونهم أسباب الهداية في سبيل اللّه، و قد سبق ذلك. و قوله: ليسوا بالمساييح. إلى قوله: ضرّاء نقمته. ظاهر. و قد فسّر السيّد- رضوان اللّه عليه- مشكله. و قوله: أيّها الناس. إلى قوله: الإناء بما فيه. إخبار بما سيكون من فساد أهل الزمان و ما يكون فيه من الفتن و ترك الدين كما سبق إشاراته، و شبّه قلبهم للزمان بقلب الإناء بما فيه و وجه الشبه خروج الإسلام عن كونه منتفعا به بعد تركهم للعمل به كما يخرج ما في الإناء الّذي كبّ عن الانتفاع. و أحسن بهذا التشبيه. فإنّ الزمان للإسلام كإناء للماء، و أشار إلى‏ أنّ ذلك ليس بظلم بقوله: إنّ اللّه قد أعاذكم من أن يجور عليكم في قوله تعالى «وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ»«» إنّ ذلك ابتلاء منه يبتلى به عباده كما قال تعالى «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَ إِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ»«» فمن صبر نفعه صبره و من كفر فعليه كفره، و قد عرفت معنى ابتلاء اللّه لخلقه و فائدته فلا وجه لإعادته. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 18

 

خطبه 99 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام يجرى هذا المجرى.

القسم الأول
وَ ذَلِكَ يَوْمٌ يَجْمَعُ اللَّهُ فِيهِ الْأَوَّلِينَ وَ الْآخِرِينَ- لِنِقَاشِ الْحِسَابِ وَ جَزَاءِ الْأَعْمَالِ- خُضُوعاً قِيَاماً قَدْ أَلْجَمَهُمُ الْعَرَقُ- وَ رَجَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ- فَأَحْسَنُهُمْ حَالًا مَنْ وَجَدَ لِقَدَمَيْهِ مَوْضِعاً- وَ لِنَفْسِهِ مُتَّسَعاً

اللغة
أقول: أشار باليوم إلى يوم القيامة. و نقاش الحساب: المناقشة و التدقيق فيه.

المعنى
و قد عرفت كيفيّة ذلك اليوم فيما سبق و نحوه قوله تعالى «يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ»«» الآية. و خضوعا كقوله تعالى «خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ»«» و قياما كقوله تعالى «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» و هما كناية عن كمال براءتهم من حولهم و قوّتهم إذن و تيقّنهم أن لا سلطان إلّا سلطانه. و ألجمهم العرق: بلغ منهم مكان اللجام، و هو كناية عن بلوغهم الغاية من الجهد. إذ كانت غاية التاعب أن يكثر عرقه.

و قوله: و رجفت بهم الأرض.
 كقوله تعالى «يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ»«» و «إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَ بُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا»«» قال بعضهم: المراد بالأرض الراجفة و المرتجّة أرض القلوب عن نزول خشية اللّه عليها و شدّة أهوال يوم القيامة، و قال آخرون: إنّ ذلك صرف الكلام عن ظاهره من غير ضرورة فلا يجوز. إذ كلّ ما أخبر الصادق عنه من جزئيّات أحوال القيامة امور ممكنة، و القدرة الإلهيّة وافية بها.

و قوله: فأحسنهم حالًا من وجد لقدميه موضعا و لنفسه متّسعا.
 قيل المراد من وجدت لقدما عقله موضعا من معرفة اللّه تعالى و عبادته، و من وجد لنفسه متّسعا في حظائر قدس اللّه وسعة رحمته. و ظاهر أنّ أولئك أحسن الخلق حالا يوم القيامة، و حمله على ظاهره موافقة لظاهر الشريعة ممكن.

القسم الثاني
و منها: فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ- لَا تَقُومُ لَهَا قَائِمَةٌ وَ لَا تُرَدُّ لَهَا رَايَةٌ- تَأْتِيكُمْ مَزْمُومَةً مَرْحُولَةً- يَحْفِزُهَا قَائِدُهَا وَ يَجْهَدُهَا رَاكِبُهَا- أَهْلُهَا قَوْمٌ شَدِيدٌ كَلَبُهُمْ- قَلِيلٌ سَلَبُهُمْ- يُجَاهِدُهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَوْمٌ أَذِلَّةٌ عِنْدَ الْمُتَكَبِّرِينَ- فِي الْأَرْضِ مَجْهُولُونَ- وَ فِي السَّمَاءِ مَعْرُوفُونَ- فَوَيْلٌ لَكِ يَا بَصْرَةُ عِنْدَ ذَلِكِ- مِنْ جَيْشٍ مِنْ نِقَمِ اللَّهِ- لَا رَهَجَ لَهُ وَ لَا حَسَّ- وَ سَيُبْتَلَى أَهْلُكِ بِالْمَوْتِ الْأَحْمَرِ- وَ الْجُوعِ الْأَغْبَرِ

اللغة
أقول: يحفزها: يدفعها من خلف. و الكلب: الشرّ. و الأذّلة: جمع ذليل. و الرهج: الغبار. و الحسّ: الصوت الخفىّ.

و قد نبّه في هذا الفصل على ما سيقع بعده من الفتن، و يخصّ منها فتنة صاحب الزنج بالبصرة
و شبّه تلك الفتن بقطع الليل المظلم، و وجه الشبه ظاهر. و لا تقوم لها قائمة: أى لا يمكن مقابلتها بما يقاومها و يدفعها، و إنّما أنّث لكون القائمة في مقابلة الفتنة. و قيل: لا تثبت لها قائمة فرس، و استعار لفظ الزمام و الرحل و الحفز و القائد و الراكب و جهده لها ملاحظة لشبهها بالناقة، و كنّى بالزمام و الرحل عن تمام إعداد الفتنة و تعبيتها كما أنّ كمال الناقة للركوب أن تكون مزمومة مرحولة، و بقائدها عن أعوانها، و براكبها عن منشئها المتبوع فيها، و بحفزها و جهدها عن سرعتهم فيها، و أهلها إشارة إلى الزنج و ظاهر شدّة كلبهم و قلّة سلبهم. إذ يكونوا أصحاب حرب و عدّة و خيل كما يعرف ذلك من قصّتهم المشهورة كما سنذكر طرفاً منها فيما يستقبل من كلامه في فصل آخر، و قد وصف مقاتليهم في اللّه بكونهم أذلّة عند المتكبّرين، و كونهم مجهولين في الأرض: أى ليسوا من أبناء الدنيا المشهورين بنعيمها، و كونهم معروفين في السماء هو إشارة إلى كونهم من أهل العلم و الايمان‏ يعرفهم ربّهم بطاعتهم و تعرفهم ملائكته بعبادة ربّهم ثمّ أردف ذلك بأخبار البصرة مخاطبا لها و الخطاب لأهلها بما سيقع بها من فتنة الزنج، و ظاهر أنّه لم يكن لهم غبار و لا أصوات. إذ لم يكونوا أهل خيل و لا قعقعة لجم فإذن لا رهج لهم و لا حسّ، و ظاهر كونهم من نقم اللّه للعصاة و إن عمّت الفتنة. إذ قلّما تخصّ العقوبة النازلة بقوم بعضهم كما قال تعالى «وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً»«»

و قوله: و سيبتلى أهلك بالموت الأحمر و الجوع الأغبر.
 قيل: فالموت الأحمر إشارة إلى قتلهم بالسيف من قبل الزنج أو من قبل غيرهم، و وصفه بالحمرة كناية عن شدّته و ذلك لأنّ أشدّ الموت ما كان بسفك الدم. و أقول: قد فسّره عليه السّلام بهلاكهم من قبل الغرق كما نحكيه عنه و هو أيضا في غاية الشدّة لاستلزامه زهوق الروح، و كذلك وصف الأغبر لأنّ أشدّ الجوع ما أغبرّ معه الوجه و غبر السحنة الصافية لقلّة مادّة الغذاء أو ردائه فذلك سمّى أغبر، و قيل: لأنّه يلصق بالغبراء و هى الأرض، و قد أشار إلى هذه الفتنة في فصل من خطبته خطب بها عند فراغه من حرب البصرة و فتحها و هى خطبة طويلة حكينا منها فصولا تتعلّق بالملاحم.

من ذلك فصل يتضمن حال غرق البصرة. فعند فراغه عليه السّلام من ذلك الفصل قام إليه الأحنف بن قيس فقال له: يا أمير المؤمنين و متى يكون ذلك. قال: يا أبا بحر إنّك لن تدرك ذلك الزمان و إنّ بينك و بينه لقرونا و لكن ليبلغ الشاهد منكم الغائب عنكم لكى يبلغوا إخوانهم إذا هم رأوا البصرة قد تحوّلت أخصاصها دورا و آجامها قصورا فالهرب الهرب فإنّه لا بصيرة لكم يومئذ ثمّ التفت عن يمينه فقال: كم بينكم و بين الإبلّة. فقال له المنذر بن الجارود: فداك أبى و أمّى أربعة فراسخ. قال له صدّقت فو الّذى بعث محمّدا و أكرمه بالنبوّة و خصّه بالرسالة و عجّل بروحه إلى الجنّة لقد سمعت منه كما تسمعون منّى أن قال: يا علىّ هل علمت أن بين الّتى تسمّى البصرة و الّتى تسمّى الإبلّة أربعة فراسخ و قد يكون في الّتى تسمّى الإبلّة موضع أصحاب القشور يقتل في ذلك الموضع من امّتى سبعون ألفا شهيدهم يومئذ بمنزلة شهداء بدر فقال‏ له المنذر: يا أمير المؤمنين و من يقتلهم فداك أبى و امى قال: يقتلهم إخوان الجنّ و هم اجيل كأنّهم الشياطين سود ألوانهم منتنة أرواحهم شديد كلبهم قليل سلبهم طوبى لمن قتلهم و طوبى لمن قتلوه ينفر لجهادهم في ذلك الزمان قوم هم أذلّة عند المتكبّرين من أهل ذلك الزمان مجهولون في الأرض معروفون في السماء تبكى السماء عليهم و سكّانها و الأرض و سكّانها ثمّ هملت عيناه بالبكاء ثمّ قال: ويحك يا بصرة ويلك يا بصرة من جيش لا رهج له و لا حسّ قال له المنذر يا امير المؤمنين: و ما الّذي يصيبهم من قبل الغرق ممّا ذكرت، و ما الويح، و ما الويل فقال: هما بابان فالويح باب الزحمة، و الويل باب العذاب يا ابن الجارود نعم ثارات عظيمة منها عصبة يقتل بعضها بعضا، و منها فتنة تكون بها خراب منازل و خراب ديار و انتهاك أموال و قتل رجال و سبى نساء يذبّحن ذبحا يا ويل أمرهن حديث عجب منها أن يستحلّ بها الدجّال الأكبر الأعور الممسوح العين اليمنى و الأخرى كأنّها ممزوجة بالدم لكأنّها في الحمرة علقة تأتى الحدقة كهيئة حبّة العنب الطافية على الماء فيتبعه من أهلها عدّة، من قتل بالإبلّة من الشهداء أناجيلهم في صدورهم يقتل من يقتل و يهرب من يهرب ثمّ رجف ثمّ قذف ثمّ خسف ثمّ مسخ ثمّ الجوع الأغبر ثمّ الموت الأحمر و هو الغرق.

يا منذر إنّ للبصرة ثلاثة أسماء سوى البصرة في الزبر الأوّل لا يعلمها إلّا العلماء منها الخريبة، و منها تدمر، و منها المؤتفكة يا منذر و الّذي فلق الحبّة و برى‏ء النسمة لو أشاء لأخبرتكم بخراب العرصات عرصة عرصة و متى تخرب و متى تعمر بعد خرابها إلى يوم القيامة، و إنّ عندى من ذلك علما جمّا و إن تسألونى تجدونى به عالما لا أخطى‏ء منه علما و لا وافيا، و لقد استودعت علم القرون الأولى و ما كائن إلى يوم القيامة. قال: فقام إليه رجل فقال يا أمير المؤمنين: أخبرنى من أهل الجماعة و من أهل الفرقة و من أهل السنّة و من أهل البدعة فقال: ويحك إذا سألتنى فافهم عنّى و لا عليك أن لا تسأل أحدا بعدى: أمّا أهل الجماعة فأنا و من اتّبعنى و إن قلّوا و ذلك الحقّ عن أمر اللّه و أمر رسوله، و أمّا أهل الفرقة فالمخالفون لى و لمن اتّبعنى و إن كثروا، و أمّا أهل السنّة فالمتمسّكون بما سنّه اللّه و رسوله لا العاملون برأيهم و أهوائهم و إن كثروا،و قد مضى الفوج الأوّل و بقيت أفواج و على اللّه قصمها و استيصالها عن جديد الأرض. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى14

خطبه98 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام يشتمل على ذكر الملاحم.

الْأَوَّلِ قَبْلَ كُلِّ أَوَّلٍ وَ الْآخِرِ بَعْدَ كُلِّ آخِرٍ- وَ بِأَوَّلِيَّتِهِ وَجَبَ أَنْ لَا أَوَّلَ لَهُ- وَ بِآخِرِيَّتِهِ وَجَبَ أَنْ لَا آخِرَ لَهُ وَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ شَهَادَةً- يُوَافِقُ فِيهَا السِّرُّ الْإِعْلَانَ- وَ الْقَلْبُ اللِّسَانَ- أَيُّهَا النَّاسُ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي- وَ لَا يَسْتَهْوِيَنَّكُمْ عِصْيَانِي- وَ لَا تَتَرَامَوْا بِالْأَبْصَارِ عِنْدَ مَا تَسْمَعُونَهُ مِنِّي- فَوَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَ بَرَأَ النَّسَمَةَ- إِنَّ الَّذِي أُنَبِّئُكُمْ بِهِ عَنِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ ص- وَ اللَّهِ مَا كَذَبَ الْمُبَلِّغُ وَ لَا جَهِلَ السَّامِعُ- لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى ضِلِّيلٍ قَدْ نَعَقَ بِالشَّامِ- وَ فَحَصَ بِرَايَاتِهِ فِي ضَوَاحِي كُوفَانَ- فَإِذَا فَغَرَتْ فَاغِرَتُهُ- وَ اشْتَدَّتْ شَكِيمَتُهُ- وَ ثَقُلَتْ فِي الْأَرْضِ وَطْأَتُهُ- عَضَّتِ الْفِتْنَةُ أَبْنَاءَهَا بِأَنْيَابِهَا- وَ مَاجَتِ الْحَرْبُ بِأَمْوَاجِهَا- وَ بَدَا مِنَ الْأَيَّامِ كُلُوحُهَا- وَ مِنَ اللَّيَالِي كُدُوحُهَا- فَإِذَا أَيْنَعَ زَرْعُهُ وَ قَامَ عَلَى يَنْعِهِ- وَ هَدَرَتْ شَقَاشِقُهُ وَ بَرَقَتْ بَوَارِقُهُ- عُقِدَتْ رَايَاتُ الْفِتَنِ الْمُعْضِلَةِ- وَ أَقْبَلْنَ كَاللَّيْلِ الْمُظْلِمِ وَ الْبَحْرِ الْمُلْتَطِمِ- هَذَا وَ كَمْ يَخْرِقُ الْكُوفَةَ مِنْ قَاصِفٍ- وَ يَمُرُّ عَلَيْهَا مِنْ عَاصِفٍ- وَ عَنْ قَلِيلٍ تَلْتَفُّ الْقُرُونُ بِالْقُرُونِ- وَ يُحْصَدُ الْقَائِمُ- وَ يُحْطَمُ الْمَحْصُودُ يشتمل على ذكر الملاحم.

اللغة
أقول: [لا يجرمنّكم: أى لا يحملنّكم خ‏]. يجرمنّكم: يحقّ عليكم. و استهواه: أماله. و الضليل: الكثير الضلال. و نعق: صاح. و فحص الطائر الأرض برجله: بحثها. و الضواحى: النواحى البارزة. و كوفان: اسم للكوفة. فغرفوه: انفتح. و فلان شديد الشكيمة: إذا كان قوّى النفس أبيّا و الكلوح: تكثر في عبوس. و الكدح: فوق الخدش. و أينع الزرع: نضج. و الحطم: الدقّ.

المعنى
و مضمون هذا الفصل بعد توحيد اللّه تحذير السامعين عن عصيانه و عن التغامر بتكذيبه فيما بينهم فيما كان يخبرهم به من الامور المستقبلة. فقوله: الأوّل و الآخر قد مضى تفسيرهما.

و قوله: بأوليّته وجب أن لا أوّل له.
 لمّا أراد بأولّيته كونه مبدءا لكلّ شي‏ء، و بآخريّته كونه غاية ينتهى إليها كلّ شي‏ء في جميع أحواله كان بذلك الاعتبار يجب أن لا يكون له أوّل هو مبدئه و لا آخر يقف عنده و ينتهى، و وصف شهادته بأنّها الّتي يوافق السرّ الإعلان و القلب اللسان كناية عن خلوصها عن شائبة النفاق و الجحود باللّه ثم أبّه بالناس و حذّرهم من شقاقه و عصيانه و تكذيبه فيما يقول و هو تقريع لمن ضعفت عين بصيرته عن إدراك فضله و إمكان الإخبار بما سيكون من مثله ثمّ أسند ما يريد أن يخبر به من ذلك و ما أخبر به إلى النبىّ صلى اللّه عليه و آله و سلم ليكون ذلك شهادة لصدقه، و أكّد ذلك بتنزيهه صلى اللّه عليه و آله و سلم و تنزيه السامع يعنى نفسه من الكذب فيما بلّغ عن ربّه و فيما سمع هو عنه، و قد بيّنّا كيفيّة أخذه لهذه العلوم عنه في المقدّمات.

و قوله: لكأنّى أنظر إلى ضليل قد نعق بالشام.
 من جملة إخباراته بما سيكون، و الضليل: قيل: إنّه اشار به إلى السفيانّى الدجّال. و قيل: إنّه إشارة إلى معاوية فإنّ مبدء ملكه بالشام و دعوته بها و انتهت غاراته إلى نواحى الكوفة و إلى الأنبار في حياته عليه السّلام كما عرفت ذلك من قبل، و كنّى بفحصه براياته عن بلوغه إلى الكوفة و نواحيها كناية بالمستعار ملاحظة لشبهه بالقطاة المتّخذة مفحصا، و كذلك فغرت فاغرته كناية عن اقتحامه للناس كناية بالمستعار أيضا ملاحظة لشبهه بالأسد في اقتحام فريسته، و اشتداد شكيمته كناية عن قوّة رأسه و شدّة بأسه. و أصله أنّ الفرس الجموح قوّى الرأس محتاج إلى قوّة الشكيمة و شدّتها، و كذلك ثقل وطأته كناية عن شدّة بأسه في الأرض على الناس، و الأشبه أنّه إشارة إلى عبد الملك، و قد عرفت أحواله، و ثقل وطأته في الأرض‏ فيما سبق، و استعار لفظ العضّ للفتنة و وجه المشابهة ما يستلزمانه من الشدّة و الألم، و رشّح تلك الاستعارة بذكر الأنياب، و أبناء الفتنة أهلها، و كذلك استعار لفظ الموج للحرب، و كنّى به عن الاختلاط الواقع فيها من القتل و الأهوال. و للأيّام لفظ الكلوح، و كنّى به عن شدّة ما يلقى فيها من الشرّ كما يلقى من المعيس المكثر، و كذلك لفظ الكدوح استعارة لما يلقى فيها من المصائب الشبيهة بها، و لفظ الزرع استعارة لأعماله و لفظ الإيناع كناية عن بلوغه غاية أفعاله و لفظ الشقاشق و البروق استعارة لحركاته الهائلة و أقواله المخوفة تشبيها بالسحاب ذى الشقاشق و البروق.

و قوله: عقدت رايات الفتن المعضلة.
 أى: أنّ هذه الفتنة إذا قامت أثارت فتنا كثيرة بعدها يكون فيها الهرج و المرج، و شبّه تلك الفتن في إقبالها بالليل المظلم، و وجه المشابهة كونها لا يهتدى فيها لحقّ كما لا يهتدى في ظلمة الليل لما يراد، و بالبحر الملتطم في عظمها و خلطها للخلق بعضهم ببعض و انقلاب قوم على قوم بالمحقّ لهم و الهلاك كما يلتطم بعض أمواج البحر ببعض، ثمّ أشار إلى ما يلحق الكوفة بسبب تلك الفتنة بعدها من الوقائع و الفتن، و قد وقع فيها وفق أخباره وقائع جمّة و فتن كثيرة كفتنة الحجّاج و المختار بن أبى عبيدة و غيرهما، و استعار لفظى القاصف و العاصف من الريح لما يمرّ بها من ذلك و يجرى على أهلها من الشدائد.

و قوله: و عن قليل تلتفّ القرون بالقرون. إلى آخره.
 أى عن قليل يلحق قرن من الناس بقرون، و كنّى بالتفاف بعضهم ببعض عن اجتماعهم في بطن الأرض، و استعار لهم لفظ الحصد و الحطم لمشابهتهم الزرع يحصد قائمة و يحطم محصودة فكنّى بحصدهم عن موتهم أو قتلهم، و بحطم محصودهم عن فنائهم و تفرّق أوصالهم في التراب. و أعلم أنّه ليس في اللفظ دلالة واضحة على أنّ المراد بالضليل المذكور معاوية بل يحتمل أن يريد به شخصا آخر يظهر فيما بعد بالشام كما قيل: إنّه السفيانىّ الدجّال و إن كان الاحتمال الأوّل أغلب على الظنّ. و باللّه التوفيق.

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 3 ، صفحه‏ى 10

خطبه 97 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

الْحَمْدُ لِلَّهِ النَّاشِرِ فِي الْخَلْقِ فَضْلَهُ- وَ الْبَاسِطِ فِيهِمْ بِالْجُودِ يَدَهُ- نَحْمَدُهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ- وَ نَسْتَعِينُهُ عَلَى رِعَايَةِ حُقُوقِهِ- وَ نَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ- وَ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ- أَرْسَلَهُ بِأَمْرِهِ صَادِعاً وَ بِذِكْرِهِ نَاطِقاً- فَأَدَّى أَمِيناً وَ مَضَى رَشِيداً- وَ خَلَّفَ فِينَا رَايَةَ الْحَقِّ- مَنْ تَقَدَّمَهَا مَرَقَ- وَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا زَهَقَ- وَ مَنْ لَزِمَهَا لَحِقَ- دَلِيلُهَا مَكِيثُ الْكَلَامِ- بَطِي‏ءُ الْقِيَامِ سَرِيعٌ إِذَا قَامَ- فَإِذَا أَنْتُمْ أَلَنْتُمْ لَهُ رِقَابَكُمْ- وَ أَشَرْتُمْ إِلَيْهِ بِأَصَابِعِكُمْ- جَاءَهُ الْمَوْتُ فَذَهَبَ بِهِ- فَلَبِثْتُمْ بَعْدَهُ مَا شَاءَ اللَّهُ- حَتَّى يُطْلِعَ اللَّهُ لَكُمْ مَنْ يَجْمَعُكُمْ وَ يَضُمُّ نَشْرَكُمْ- فَلَا تَطْمَعُوا فِي غَيْرِ مُقْبِلٍ- وَ لَا تَيْأَسُوا مِنْ مُدْبِرٍ- فَإِنَّ الْمُدْبِرَ عَسَى أَنْ تَزِلَّ بِهِ إِحْدَى قَائِمَتَيْهِ- وَ تَثْبُتَ الْأُخْرَى فَتَرْجِعَا حَتَّى تَثْبُتَا جَمِيعاً- أَلَا إِنَّ مَثَلَ آلِ مُحَمَّدٍ ص كَمَثَلِ نُجُومِ السَّمَاءِ- إِذَا خَوَى نَجْمٌ طَلَعَ نَجْمٌ- فَكَأَنَّكُمْ قَدْ تَكَامَلَتْ مِنَ اللَّهِ فِيكُمُ الصَّنَائِعُ- وَ أَرَاكُمْ مَا كُنْتُمْ تَأْمُلُونَ

اللغة
أقول: مرق: خرج من الدين. و زهق: هلك. و المكيث: البطى‏ء المتأنّى. و خوى النجم: سقط للمغيب. و الصنيعة: النعمة.

المعنى
و هذا الفصل يشتمل على إعلامهم بما يكون بعده من أمر الأئمّة و تعليمهم ما ينبغي أن يفعل الناس معهم و يمنّيهم بظهور إمام من آل محمّد عقيب آخر، و وعدهم‏ بتكامل صنايع اللّه فيهم بما يأمّلونه من ظهور إمام منتظر.

فقوله: الحمد للّه. إلى قوله: حقوقه.
 شكر له تعالى باعتبار أمرين: أحدهما: نشره لفضله في خلقه. الثاني: بسطه فيهم بالجود يده، و يده نعمته مجازا لتقدّسه تعالى عن الجارحة، و هو من باب إطلاق اسم السبب على المسبّب، و ظاهر كون الجود مبدءا للنعمة، و النشر و البسط و إن كانا حقيقة في الأجسام إلّا أنّهما من الاستعارات الشائعة الّتى قاربت الحقيقة ثمّ أكّد ذلك الحمد بتعميمه باعتبار كلّ صادر عنه من رخاء و شدّة. إذ الشدائد اللاحقة من نعمه أيضا فإنّها إذا قوبلت بصبر جميل استلزمت ثوابا جزيلا كما قال تعالى «وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ» الآية، و ظاهر أنّ أسباب النعم نعم و لمّا حمده على ما لحق من نعمائه طلب منه المعونة على رعاية واجب حقوقه، و استعار لفظ الصادع للرسول و وجهها أنّه شقّ بأمر اللّه بيضة الشرك و قلوب المشركين فأخرج ما كان فيها من الكفر و الجهل و نطق بذكره تعالى فأودعها إيّاه فأدّى ما امر به أمينا عليه و قبضه اللّه إليه مرشدا له إلى حضرة قدسه و منازل الأبرار من ملائكته، و صادعا و ناطقا و أمينا و رشيدا أحوال، و أشار براية الحقّ الّتي خلّفها رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم إلى كتاب اللّه و سنّته، و أشار بتقدّمها و التخلّف عنها إلى طرفى الإفراط و التفريط من فضيلة الاستقامة عليها: أى أن من كان تحتها لاحقا بها فهو على حاقّ الوسط من الفضائل، و من تقدّمها كان على طرف الإفراط و قد تعدّى في طلب الدين و أغلى فيه على جهل فمرق منه كما فعلت الخوارج، و من تخلّف عنها كان على طرف التفريط و التقصير فهلك في طريق الضلال و الحيرة، و لفظ الراية مستعار، و وجه المشابهة كون الكتاب و السنّة مقصدين لتابعهما يهتدى بهما في سبيل اللّه كما أنّ الراية كذلك، و أشار بدليلها إلى نفسه استعارة، و وجهها أنّ الإمام مظهر و مبيّن لأحكام الكتاب و السنّة و ما خفى منهما للسالكين إلى اللّه كما يرفع الراية حاملها لتابعيه ليقتدوا به ثمّ أشار إلى صفات ذلك الدليل، و كنّى بقوله: مكيث الكلام عن تروّيه و تثبّته في أقواله و ما يشير به و يحكم، و بقوله: بطى‏ء القيام عن تأنّيه في حركته في وجوه المصالح إلى حين استثباته‏ الرأى الأصلح و وجه المصلحة، و بقوله: سريع إذا قام. عن مبادرته إلى وجوه المصلحة و انتهاضه (انتهازه خ) الفرص ثمّ أخذ يذكّرهم بموته، و كنّى بقوله: ألنتم له رقابكم. من خضوعهم لطاعته و انقيادهم لأمره، و بقوله: و أشرتم إليه بالأصابع عن اشتهاره فيهم و تعيّنه و تعظيمهم له، و أشار إلى أنّه إذا تمّ الإسلام به توفّى، و نبّه بقوله: فلبثتم بعده ما شاء اللّه. إلى أنّهم يخلون عن إمام يجمعهم مدّة، و الاشارة إلى مدّة بنى اميّة، و بقوله: حتّى يطلع اللّه لكم. إلى قوله: نشركم. على أنّه لابدّ لهم بعد تلك المدّة من شخص يجمعهم، و طلوعه ظهوره و تعيّنه للرياسة بعد اختفاء. فقيل: هو الإمام المنتظر. و قيل: هو قائم بنى العبّاس بعد انقضاء دولة بنى أميّة.

و قوله: فلا تطمعوا في غير مقبل.
 أى من لم يقبل على طلب هذا الأمر ممّن هو أهله و متعيّن له و آثر تركه إلى الخلوة باللّه فلا تطمعوا فيه فإنّ له باللّه شغلا عن كلّ شي‏ء. و قيل: المراد بغير المقبل من انحرف عن الدين بارتكاب منكر فإنّه لا يجوز الطمع في أن يكون أميرا لكم، و روى فلا تطعنوا في عين مقبل: أى من أقبل عليكم من أهل البيت طالبا لهذا الأمر و هو أهل له فكونوا معه، و كنّى بالطعن في عينه عن دفعه عمّا يريد.

و قوله: و لا تيأسوا من مدبر. إلى قوله: تثبتا جميعا.
 أراد أنّ من أدبر عن طلب الخلافة ممّن هو أهل لها فلا ينبغي أن يحصل الإياس من عوده و إقباله على الطلب فلعلّه إنّما أدبر عن ذلك لاختلال بعض الشرائط الّتي يتعيّن عليه معها القيام، و كنّى عن اختلال بعض أحواله من قلّة ناصر و نحوه بزوال إحدى قائمتيه و بثبات الاخرى من وجود بعض الشرائط كثبات أهليّته للطلب أو بعض أنصاره معه، و بقوله: فترجعا حتّى تثبتا. عن تكامل شرائط قيامه و لا ينافي النهى عن اليأس هاهنا النهى عن الطمع في غير المقبل لجواز أن ينهى عن الطمع فيه حال إعراضه و إدباره عن الطلب لاختلال بعض شرائطه و النهى عن الإياس منه لجواز حصول شرائط القيام فيه و تكاملها.

و قوله: ألا إنّ مثل آل محمّد. إلى قوله: طلع نجم.
تعيين للأئمّة من آل محمّد. قالت الإماميّة: هم الاثنى عشر من أهل البيت.
و شبّههم بالنجوم و وجه التشبيه أمران: أحدهما: أنّهم يستضاء بأنوار هداهم في سبيل اللّه كما يستضي‏ء المسافر بالنجوم في سفره و يهتدى بها. الثاني: ما أشار إليه بقوله: كلما خوى نجم طلع نجم و هو كناية عن كونهم كلّما خلا منهم سيّد قام سيّد، و الإماميّة يستدلّون بهذا الكلام منه عليه السّلام على أنّه لا يخلو زمان من وجود قائم من أهل البيت يهتدى به في سبيل اللّه.

و قوله: فكأنّكم. إلى آخر.
 إشارة إلى منّة اللّه عليهم بظهور الإمام المنتظر و إصلاح أحوالهم بوجوده.
و وجدت له عليه السّلام في أثناء بعض خطبه في اقتصاص ما يكون بعده فصلا يجرى مجرى الشرح لهذا الوعد، و هو أن قال: يا قوم اعلموا علما يقينا أنّ الّذى يستقبل قائمنا من أمر جاهليّتكم ليس بدون ما استقبل الرسول من أمر جاهليّتكم و ذلك أنّ الامّة كلّها يومئذ جاهليّة إلّا من رحم اللّه فلا تعجلون فيجعل الخرق بكم، و اعلموا أنّ الرفق يمن و في الإناة بقاء و راحة و الإمام أعلم بما ينكر، و لعمرى لينزعنّ عنكم قضاة السوء و ليقبضنّ عنكم المراضين، و ليعزلنّ عنكم امراء الجور، و ليطهرنّ الأرض من كلّ غاش، و ليعملنّ فيكم بالعدل، و ليقومنّ فيكم بالقسطاس المستقيم، و ليتمنّأنّ أحيائكم لأمواتكم رجعة الكرّة عمّا قليل فيعيشوا إذن فإنّ ذلك كائن.
للّه أنتم بأحلامكم كفّوا ألسنتكم و كونوا من وراء معايشكم فإنّ الحرمان سيصل إليكم و إن صبرتم و احتسبتم و ائتلفتم أنّه طالب و تركم و مدرك لثاركم و آخذ بحقّكم، و أقسم باللّه قسما حقا أنّ اللّه مع الّذين اتّقوا و الّذين هم محسنون.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 3 ، صفحه‏ى 6

خطبه96 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

نَحْمَدُهُ عَلَى مَا كَانَ- وَ نَسْتَعِينُهُ مِنْ أَمْرِنَا عَلَى مَا يَكُونُ- وَ نَسْأَلُهُ الْمُعَافَاةَ فِي الْأَدْيَانِ- كَمَا نَسْأَلُهُ الْمُعَافَاةَ فِي الْأَبْدَانِ- عِبَادَ اللَّهِ أُوصِيكُمْ بِالرَّفْضِ- لِهَذِهِ الدُّنْيَا التَّارِكَةِ لَكُمْ- وَ إِنْ لَمْ تُحِبُّوا تَرْكَهَا- وَ الْمُبْلِيَةِ لِأَجْسَامِكُمْ وَ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ تَجْدِيدَهَا- فَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَ مَثَلُهَا كَسَفْرٍ- سَلَكُوا سَبِيلًا فَكَأَنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوهُ- وَ أَمُّوا عَلَماً فَكَأَنَّهُمْ قَدْ بَلَغُوهُ- وَ كَمْ عَسَى الْمُجْرِي إِلَى الْغَايَةِ- أَنْ يَجْرِيَ إِلَيْهَا حَتَّى يَبْلُغَهَا- وَ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَقَاءُ مَنْ لَهُ يَوْمٌ لَا يَعْدُوهُ- وَ طَالِبٌ حَثِيثٌ يَحْدُوهُ- فِي الدُّنْيَا حَتَّى يُفَارِقَهَا فَلَا تَنَافَسُوا فِي عِزِّ الدُّنْيَا وَ فَخْرِهَا- وَ لَا تَعْجَبُوا بِزِينَتِهَا وَ نَعِيمِهَا- وَ لَا تَجْزَعُوا مِنْ ضَرَّائِهَا وَ بُؤْسِهَا- فَإِنَّ عِزَّهَا وَ فَخْرَهَا إِلَى انْقِطَاعٍ- وَ زِينَتَهَا وَ نَعِيمَهَا إِلَى زَوَالٍ- وَ ضَرَّاءَهَا وَ بُؤْسَهَا إِلَى نَفَادٍ- وَ كُلُّ مُدَّةٍ فِيهَا إِلَى انْتِهَاءٍ- وَ كُلُّ حَيٍّ فِيهَا إِلَى فَنَاءٍ- أَ وَ لَيْسَ لَكُمْ فِي آثَارِ الْأَوَّلِينَ مُزْدَجَرٌ وَ فِي آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ تَبْصِرَةٌ وَ مُعْتَبَرٌ- إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ- أَ وَ لَمْ تَرَوْا إِلَى الْمَاضِينَ مِنْكُمْ لَا يَرْجِعُونَ- وَ إِلَى‏ الْخَلَفِ الْبَاقِينَ لَا يَبْقَوْنَ- أَ وَ لَسْتُمْ تَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْيَا- يُصْبِحُونَ وَ يُمْسُونَ عَلَى أَحْوَالٍ شَتَّى- فَمَيِّتٌ يُبْكَى وَ آخَرُ يُعَزَّى- وَ صَرِيعٌ مُبْتَلًى وَ عَائِدٌ يَعُودُ- وَ آخَرُ بِنَفْسِهِ يَجُودُ- وَ طَالِبٌ لِلدُّنْيَا وَ الْمَوْتُ يَطْلُبُهُ- وَ غَافِلٌ وَ لَيْسَ بِمَغْفُولٍ عَنْهُ- وَ عَلَى أَثَرِ الْمَاضِي مَا يَمْضِي الْبَاقِي- أَلَا فَاذْكُرُوا هَاذِمَ اللَّذَّاتِ- وَ مُنَغِّصَ الشَّهَوَاتِ- وَ قَاطِعَ الْأُمْنِيَاتِ- عِنْدَ الْمُسَاوَرَةِ لِلْأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ- وَ اسْتَعِينُوا اللَّهَ عَلَى أَدَاءِ وَاجِبِ حَقِّهِ- وَ مَا لَا يُحْصَى مِنْ أَعْدَادِ نِعَمِهِ وَ إِحْسَانِهِ

اللغة
أقول: الرفض: الترك. و السفر: المسافرون. و أمّوا: قصدوا. و يعدوه: يتعدّاه. و يحدوه: يسوقه. و المساورة: المواثبة.

المعنى

فقوله: نحمده. إلى قوله: في الأبدان.
 خصّص الحمد بما كان لأنّ الشكر على النعمة مترتّب على وقوعها. و الاستعانة على ما يكون لأنّ طلب العون على أمر هو بصدد أن يفعل. ثمّ سأل العافية في الأديان كما سألها في الأبدان لأنّ لها سقما هو في الحقيقة أشدّ، و قيل لأعرابيّ: ما تشتكى قال: ذنوبى. فقيل: ما تشتهى قال: الجنّة. فقيل: أ فلا ندعو لك طبيبا فقال: الطبيب أمرضني، و سمعت عصرة (عنترة خ) العابدة البصريّة رجلًا يقول: ما أشدّ العمى على من كان بصيرا فقالت: يا عبد اللّه غفلت عن مرض الذنوب و اهتممت بمرض الأجساد، و عمى القلب عن اللّه أشدّ. و المعافاة فيها بامداد العناية الإلهيّة ببقائها سليمة و بتداركها للمذنبين بجذبهم إلى التوبة.
ثمّ أردف ذلك بالرأى الصالح و الوصيّة الناصحة برفض الدنيا، و نفّر عنها بذكر معايب: أحدها: تركها لهم على كلّ حال و إن لم يحبّوا تركها، و من أكبرالمصالح ترك محبوب لا بدّ من مفارقته تركا باستدراج النفس و استغفالها كى لا يقدحها مفارقته دفعة مع تمكّن محبّته عن جوهرها فيبقى كمن نقل من معشوقه إلى موضع ظلمانىّ شديد الظلمة. الثاني: كونها مبلية لأجسامهم و إن أحبّوا تجديدها و إبلائها بالأمراض و الهرم، و من شأن الموذى أن يجتنب لا أن يحبّ إصلاحه. ثمّ أردف ذلك بتمثيلهم في الكون بها فمثّلهم بالسفر و مثّلها بسبيل هم سالكوه، و من سلك سبيلا فكأنّهم قطعوه فالمشبّه هم باعتبار سرعة سيرهم و قرب الآخرة منهم و قطع منازل الأعمار، و المشبّه به قاطع ذلك السبيل: أى من سلك سبيلا أشبه في سرعة سيره من قطعه ثمّ لمّا كان لا بدّ لكلّ طريق سلك من غاية يقصد فمن سلك سبيلا فكأنّهم بلغوا تلك الغاية: أى أشبهوا في قرب وصولها من بلغها و هو تخويف بالموت و ما بعده و تحقير لمدّة البقاء في الدنيا و المقام فيها، و أكّد ذلك بقوله: و ما عسى المجرى إلى الغاية أن يجرى إليها حتّى يبلغها: أى إجرائه إليها بسير سريع، و في بعض النسخ: و كم عسى، و التقدير و كم يرجو الّذي يجرى إلى غاية من إجرائه إليها حتّى يبلغها، و هو استفهام في معنى التحقير لما يرجوه من مدّة الجرى، و هي مدّة الحياة الدنيا، و مفعول المجرى محذوف و التقدير المجرى مركوبه. و لمّا لم يكن الغرض إلّا ذكر الإجراء لا جرم حذف المفعول. و قد يجي‏ء لازما، و كذلك قوله: و ما عسى أن يكون بقاء من له يوم لا يعدوه. إلى قوله: يفارقها: أى و ما يرجى و يؤمل أن يكون من ذلك البقاء، و كان هنا تامّة و هو في الموضعين استفهام على سبيل التحقير لما يرجى من البقاء في الدنيا و الانكار على المؤمّل الراجى له، و عنى بالطالب الحثيث الموت و أسند إليه الطلب مجازا و استعار له لفظ الحد و، و قد علمت وجه هذه الاستعارة، و كنّى بذلك الحد و عمّا يتوهّم من سوق أسباب الموت للبدن إليه.

و قوله: و لا تنافسوا. إلى قوله: إلى فناء.
 نهى عن اعتبار شي‏ء من أحوالها: خيرها و شرّها. فمن خيرها عزّها و فخرها و زينتها و نعيمها، و نهى عن المنافسة فيه و الاعجاب به، و أمّا شرّها فضرّائها و شدائدها، و نهى عن الجزع منها و علّل وجوب الانتهاء عمّا نهى عنه بانقطاعه و زواله.
و ما كان من شأنه الزوال و الانقطاع فمن الواجب أن لا يتنافس فيه و لا يعجب به و إن عدّ نافعا، و أن لا يجزع من وجوده و إن عدّ ضارّا.

و قوله: أ و ليس لكم في آثار الأوّلين. إلى قوله: لا يبقون.
 تذكرة لهم بآثار السابقين لهم و الماضين من آبائهم على سبيل استفهامهم عن حصول العبرة لهم بهم استفهام إنكار عليهم أن لا يستفيدوا من ذلك عبرة على تقدير أنّهم عقلاء كما يزعمون ذلك ثمّ تنبيه لهم على وجه الاعتبار و الاتّعاظ و هو عدم رجوع الماضى منهم و عدم بقاء الباقى فإنّ ذلك محلّ العبرة ثمّ تنبيه لهم على ما يرون من أحوال أهل الدنيا المختلفة لستدلّوا على عدم بقائها باختلاف أحوالها و على أنّها لا تصلح قرارا فأهلها بين ميّت يبكى، و آخر يعزّى، و آخر صريع مبتلى بالأمراض و الأسقام، و آخر يعوده مشغول الخاطر به، و آخر في المعاوقة و الاحتضار، و السالم من تلك الامور طالب للدنيا و الموت من ورائه طالب له غافل عمّا يراد به و ليس اللّه بغافل عنه ثمّ لا بدّ له أن يمضى على أثر من مضى و إن طال بقائه، و ما في ما يمضى مصدريّة، و إنّما قدّم الميّت في أقسام أهل الدنيا لأنّ ذكره أشدّ موعظة، و استعار لفظ الجود للمحتضر، و وجه المشابهة أنّه يسمح بنفسه و يسلّمها كما يسلّم الجواد ما يعطيه من مال ثمّ أمرهم بذكر الموت و وصفه بلوازمه المنفّرة عنه و هي كونه هادما للّذّات الدنيويّة، و منغّصا لشهواتها و قاطعا للامنيّات فيها، و عيّن لهم وقت ذكره و هو عند وثباتهم إلى الأعمال القبيحة ليكون ذكره زاجرا لهم عنها ثمّ بالرغبة إلى اللّه في طلب معونته بجواذب عنايته و جميل لطفه على أداء واجب حقوقه الّتي كلّفنا القيام بها بالمواظبة عليها و أداء واجب ما لا يحصى من نعمه بدوام شكرها و الاعتراف بها ملاحظين لجلال كبريائه باعتبار كلّ جزئىّ منها. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 3

خطبه 95 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام

وَ اللَّهِ لَا يَزَالُونَ- حَتَّى لَا يَدَعُوا لِلَّهِ مُحَرَّماً إِلَّا اسْتَحَلُّوهُ- وَ لَا عَقْداً إِلَّا حَلُّوهُ- وَ حَتَّى لَا يَبْقَى بَيْتُ مَدَرٍ وَ لَا وَبَرٍ- إِلَّا دَخَلَهُ ظُلْمُهُمْ- وَ نَبَا بِهِ سُوءُ رَعْيِهِمْ وَ حَتَّى يَقُومَ الْبَاكِيَانِ يَبْكِيَانِ- بَاكٍ يَبْكِي لِدِينِهِ- وَ بَاكٍ يَبْكِي لِدُنْيَاهُ- وَ حَتَّى تَكُونَ نُصْرَةُ أَحَدِكُمْ مِنْ أَحَدِهِمْ- كَنُصْرَةِ الْعَبْدِ مِنْ سَيِّدِهِ- إِذَا شَهِدَ أَطَاعَهُ- وَ إِذَا غَابَ اغْتَابَهُ- وَ حَتَّى يَكُونَ أَعْظَمَكُمْ فِيهَا عَنَاءً أَحْسَنُكُمْ بِاللَّهِ ظَنّاً- فَإِنْ أَتَاكُمُ اللَّهُ بِعَافِيَةٍ فَاقْبَلُوا- وَ إِنِ ابْتُلِيتُمْ فَاصْبِرُوا- فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ

اللغة
أقول: نبابه المنزل: إذا لم يوافقه. و العناء: التعب.

و الإشارة في هذا الفصل إلى بنى اميّة
فأقسم لا يزالون ظالمين فحذف الخبر للعلم به و ذكر لظلمهم غايات: إحداها: أنّهم لا يدعون محرّما إلّا استحلّوه، و أعظم كباير المحرّمات الظلم و قتل النفس و حالهم فيهما مشهور فما ظنّك بغيرهما، و معنى قوله: استحلّوه: استعملوه كاستعمال الحلال في عدم التحرّج و التأثّم به. الثانية: أن لا يدعوا عقدا إلّا حلّوه: أى من عقود الإسلام الّتى نظم بها أمر العالم من قوانين الشرع و ضوابطه، و حلّة كناية عن حزم تلك القواعد بمخالفتها. الثالثة: أنّه لا يبقى بيت مدر و لا وبر إلّا دخله ظلمهم، و هو كناية عن عموم عداوتهم و بغيهم على جميع الخلق من البدو و الحضر،

و قوله: و نبا به سوء رعيهم: أى أوجب‏ سوء رعيهم لأهله نبوّهم عنه. الرابعة: أن يقوم الباكيان باك يبكى لدينه، و باك يبكى لدنياه. الخامسة: و حتّى تكون نصرة أحدكم من أحدهم كنصرة العبد من سيّده، ذكر المشبّه و المشبّه به ثمّ أشار إلى وجه الشبه بقوله: إذا شهد أطاعه و إذا غاب اغتابه. العاشر: و حتّى يكون أعظمكم فيها عناء أحسنكم باللّه ظنّا، و إنّما كان كذلك لأنّ من حسن الظنّ باللّه كان أشدّ الناس بعدا منهم و توكّلا عليه فيكونون عليه أشد كلبا و له أقوى طلبا فكان منهم أكثر تعبا، ثمّ أردف ذلك بأمر من أتته العافية أن يقبلها، و يشكر اللّه عليها نعمة، و أراد العافية من الابتلاء بشرورهم لبعض الناس أو بقائم عدل مخلص من بلائهم، و يأمر من ابتلى بهم بالصبر على ما ابتلى به و وعده على ذلك بحسن العافية لازما للتقوى و الصبر كما قال تعالى فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه‏ى 410

خطبه94 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام

وَ لَئِنْ أَمْهَلَ الظَّالِمَ- فَلَنْ يَفُوتَ أَخْذُهُ- وَ هُوَ لَهُ بِالْمِرْصَادِ عَلَى مَجَازِ طَرِيقِهِ وَ بِمَوْضِعِ الشَّجَا مِنْ مَسَاغِ رِيقِهِ- أَمَا وَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ- لَيَظْهَرَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ عَلَيْكُمْ- لَيْسَ لِأَنَّهُمْ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْكُمْ- وَ لَكِنْ لِإِسْرَاعِهِمْ إِلَى بَاطِلِ صَاحِبِهِمْ وَ إِبْطَائِكُمْ عَنْ حَقِّي- وَ لَقَدْ أَصْبَحَتِ الْأُمَمُ تَخَافُ ظُلْمَ رُعَاتِهَا- وَ أَصْبَحْتُ أَخَافُ ظُلْمَ رَعِيَّتِي- اسْتَنْفَرْتُكُمْ لِلْجِهَادِ فَلَمْ تَنْفِرُوا- وَ أَسْمَعْتُكُمْ فَلَمْ‏ تَسْمَعُوا- وَ دَعَوْتُكُمْ سِرّاً وَ جَهْراً فَلَمْ تَسْتَجِيبُوا- وَ نَصَحْتُ لَكُمْ فَلَمْ تَقْبَلُوا- أَ شُهُودٌ كَغُيَّابٍ وَ عَبِيدٌ كَأَرْبَابٍ- أَتْلُو عَلَيْكُمْ الْحِكَمَ فَتَنْفِرُونَ مِنْهَا- وَ أَعِظُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ الْبَالِغَةِ- فَتَتَفَرَّقُونَ عَنْهَا- وَ أَحُثُّكُمْ عَلَى جِهَادِ أَهْلِ الْبَغْيِ- فَمَا آتِي عَلَى آخِرِ قَوْلِي- حَتَّى أَرَاكُمْ مُتَفَرِّقِينَ أَيَادِيَ سَبَا تَرْجِعُونَ إِلَى مَجَالِسِكُمْ- وَ تَتَخَادَعُونَ عَنْ مَوَاعِظِكُمْ- أُقَوِّمُكُمْ غُدْوَةً وَ تَرْجِعُونَ إِلَيَّ عَشِيَّةً- كَظَهْرِ الْحَنِيَّةِ عَجَزَ الْمُقَوِّمُ وَ أَعْضَلَ الْمُقَوَّمُ- أَيُّهَا الشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ- الْغَائِبَةُ عُقُولُهُمْ- الْمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ- الْمُبْتَلَى بِهِمْ أُمَرَاؤُهُمْ- صَاحِبُكُمْ يُطِيعُ اللَّهَ وَ أَنْتُمْ تَعْصُونَهُ- وَ صَاحِبُ أَهْلِ الشَّامِ يَعْصِي اللَّهَ- وَ هُمْ يُطِيعُونَهُ- لَوَدِدْتُ وَ اللَّهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ صَارَفَنِي بِكُمْ- صَرْفَ الدِّينَارِ بِالدِّرْهَمِ- فَأَخَذَ مِنِّي عَشَرَةَ مِنْكُمْ- وَ أَعْطَانِي رَجُلًا مِنْهُمْ- يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ- مُنِيتُ مِنْكُمْ بِثَلَاثٍ وَ اثْنَتَيْنِ- صُمٌّ ذَوُو أَسْمَاعٍ- وَ بُكْمٌ ذَوُو كَلَامٍ- وَ عُمْيٌ ذَوُو أَبْصَارٍ- لَا أَحْرَارُ صِدْقٍ عِنْدَ اللِّقَاءِ- وَ لَا إِخْوَانُ ثِقَةٍ عِنْدَ الْبَلَاءِ- يَا أَشْبَاهَ الْإِبِلِ غَابَ عَنْهَا رُعَاتُهَا- كُلَّمَا جُمِعَتْ مِنْ جَانِبٍ تَفَرَّقَتْ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ- وَ اللَّهِ لَكَأَنِّي بِكُمْ فِيمَا إِخَالُكُمْ- أَنْ لَوْ حَمِسَ الْوَغَى وَ حَمِيَ الضِّرَابُ- قَدِ انْفَرَجْتُمْ عَنِ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ- انْفِرَاجَ الْمَرْأَةِ عَنْ قُبُلِهَا- وَ إِنِّي لَعَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ مِنْهَاجٍ مِنْ نَبِيِّي- وَ إِنِّي لَعَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ- أَلْقُطُهُ لَقْطاً انْظُرُوا أَهْلَ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ- فَالْزَمُوا سَمْتَهُمْ- وَ اتَّبِعُوا أَثَرَهُمْ- فَلَنْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ هُدًى- وَ لَنْ يُعِيدُوكُمْ فِي رَدًى- فَإِنْ لَبَدُوا فَالْبُدُوا- وَ إِنْ نَهَضُوا فَانْهَضُوا- وَ لَا تَسْبِقُوهُمْ فَتَضِلُّوا- وَ لَا تَتَأَخَّرُوا عَنْهُمْ فَتَهْلِكُوا- لَقَدْ رَأَيْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ ص- فَمَا أَرَى أَحَداً يُشْبِهُهُمْ مِنْكُمْ- لَقَدْ كَانُوا يُصْبِحُونَ شُعْثاً غُبْراً- وَ قَدْ بَاتُوا سُجَّداً وَ قِيَاماً- يُرَاوِحُونَ بَيْنَ جِبَاهِهِمْ وَ خُدُودِهِمْ- وَ يَقِفُونَ عَلَى مِثْلِ الْجَمْرِ مِنْ ذِكْرِ مَعَادِهِمْ- كَأَنَّ بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ رُكَبَ الْمِعْزَى- مِنْ طُولِ سُجُودِهِمْ- إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ هَمَلَتْ أَعْيُنُهُمْ- حَتَّى تَبُلَّ جُيُوبَهُمْ- وَ مَادُوا كَمَا يَمِيدُ الشَّجَرُ يَوْمَ الرِّيحِ الْعَاصِفِ- خَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ وَ رَجَاءً لِلثَّوَابِ

اللغة
أقول: المرصاد: الطريق يرصد بها، و الرصد الراقب. و الشجى: الغصص بلقمة و غيرها. و الحثّ: السوق الشديد. و أعضل: أشكل. و الحيّةخ: القوس‏ه. و منى: ابتلى. و تربت: أصابت التراب دون الخير. و أخال: أحسب. و الوغى: الحرب و أصله من الأصوات. و حمس: اشتدّ. و السمت: الطريقة. و لبد الطائر: لصق بالأرض.

المعنى
فقوله: و لئن أمهل اللّه الظالم. إلى قوله: ريقه. في معرض التهديد لأهل الشام بأخذ اللّه لهم و عدم قوّتهم. و أنّه لهم بالرصد على جميع حركاتهم و على مجاز طريقهم الّتى هم سالكوها ضلّالا و على موضع الشجى من مساغ ريقهم و هو الحق، و في ذكر الشجى و كون اللّه بالرصد تنبيه على أنّ‏ اللّه تعالى في مظنّة أن يرمى الظالم بعقوباته عند اطّلاعه على ظلمه كما قال تعالى أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى‏ تَخَوُّفٍ«» ثمّ أردف ذلك بالقسم البارّ ليظهرنّ أصحاب معاوية عليهم تنفيرا لهم إلى مقاومتهم، ثمّ نفى ما عساه يتوهّمه أنّه علّة غلبهم لهم كيلا يتخاذلون بسبب ذلك و هو قوله: ليس لأنّهم أولى بالحقّ منكم، و أردفه بتعيين السبب الحقّ في ذلك و هو قوله: لكن لإسراعهم إلى باطل صاحبهم: أى أمره الباطل و إبطائكم عن حقّى إذ كانت النصرة باجتماع الكلمة و طاعة الإمام لا باعتقاد حقيّة إمرته مع التخاذل عنه، ثمّ أردف ذلك بتوبيخهم و تنفيرهم عمّا هم عليه من مخالفة أمره بقوله: و لقد أصبحت الامم. إلى قوله: رعيّتى. لأن شأن الرعيّة الخوف من سلطانها فإذا كان حاله مع رعيّته بالعكس كانت اللائمة عليهم بعصيانه دون حجّة لهم عليه، و أمّا التنفير فيذكر أنّهم في محلّ ظلم نفسه و لقد أشفق عليه السّلام منهم في مواطن كثيرة كيوم التحكيم إذ قالوا له: إن لم ترض فعلنا بك كما فعلنا بعثمان.

و نحو ذلك، ثمّ أردف وجوه تقصيرهم ببيان ما فعل في حقّهم من الأيادى الجميلة و الهداية إلى وجوه المصالح من استنفارهم لجهاد عدوّهم و حفظ بلادهم و إسماعهم الدعوة إلى مصالحهم سرّا و جهرا و نصيحته لهم بالوجوه الصائبة من الرأى و هو كقوله تعالى حكاية عن نوح عليه السّلام قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَ نَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً وَ إِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا إلى قوله ثُمَّ«» ثمّ شبّههم بالغياب مع شهادتهم و بالأرباب مع كونهم عبيدا، و وجه الشبه أنّ الفايدة في شاهد الموعظة دون الغايب عنها هى سماعها و الانتفاع بها فإذا ليسوا كذلك فهم كالغياب عنها في عدم الانتفاع بها، و أمّا الثانية فلأنّهم رعيّة من شأنهم التعبّد لأوامر امرائهم ثم إنّهم لتعزّزهم و شموخهم كبرا و عدم طاعتهم كالأرباب الّذين من شأنهم أن يأمروا و لا يأتمروا ثمّ وبّخهم بنفارهم عمّا يتلو عليهم من الحكم و تفرّقهم عن مواعظه البالغة. و أهل البغى إشارة إلى أهل الشام. و أيادى سبا: مثل يضرب في شدّة التفرّق و ضربه لتفرّقهم عن مجالس الذكر و هما لفظان جعلا اسما واحدا كمعدى كرب، و سبا قبيلة من أولاد سبا ابن‏ يشحب بن يعرب بن قحطان، و أصل المثل أنّ هذه القبيلة كانت بمأرب فلمّا آن وقت انفتاح سدّ مأرب و رأت طريقة الكاهنة ذلك الأمر و عرفته ألقته إلى عمرو بن عامر الملقب بمزيقيا فباع أمواله بمأرب و ارتحل إلى مكّة فأصابت هولاء الحمى، و كانوا لا يعرفونها ففزعوا إلى الكاهنة فأخبرتهم بما سيقع، و قالت إنّه مفرّق بيننا فاستشارونها في أمرهم فقالت:

: من كان منكم ذاهمّ بعيد، و حمل شديد، و مراد حديد فليلحق بقصر عمّان المشيد، فكانت أزد عمّان، ثمّ قالت: و من كان منكم ذا جلد و قسر، و صبر على أزمات الدهر فعليه بالإدراك من بطن نمر.

فكانت خزاعة، ثمّ قالت: و من كان منكم يريد الراسيات في الوحل المطعمات في المحل فليلحق بيثرب ذات النخل فكانت الأوس و الخزرج، ثمّ قالت: و من كان منكم يريد الخمر و الخمير و الملك و التأمير و يلبس الديباج و الحرير فليلحق ببصرى و غوير، و هما من أرض الشام فكان الّذين يسكنونها آل جفنية من غسان، ثمّ قالت: و من كان منكم يريد الثياب الرقاق و الخيل العتاق و كنوز الأرزاق و الدم المهراق فليلحق بأرض العراق فكانت آل جذيمة الأبرش، و من كان بالحيرة و آل محرّق. فضربت العرب بتفرّقهم في البلاد هذا المثل و سار فيمن يتفرّق بعد اجتماع، ثمّ لمّا كانت المخادعة هى الاستغفال عن المصلحة قال: يتخادعون: أى أنّهم إذا رجعوا من مجلس وعظه أخذ كلّ منهم يستغفل صاحبه عن تذكّر الموعظة و يشغله بغير ذلك من الأحاديث و إن لم يكن عن قصد خداع بل تقع منهم صور المخادعة، و تقويمه لهم بالغدوة إصلاح أخلاقهم بالحكم و المواعظ و رجوعهم إليه عشيّة كظهر الحيّة: أى معوّجين كظهر القوس و هو تشبيه للمعقول من اعوجاجهم و انحرافهم عن جميل الأخلاق بالمحسوس. و قوله: عجز المقوّم. إشارة إلى نفسه و اعتراف بعجزه عن تقويمهم و أعضل المقوّم: أى أشكل أمرهم و أعيته إدواؤهم علاجا، ثمّ عاد إلى ندائهم و تنبيههم بذكر معايبهم لينفر عقولهم عنها فوصفهم بشهادة الأبدان مع غيبة العقول ثمّ باختلاف الأهواء ثمّ بكونهم ممّن ابتلى بهم أمراؤهم ثمّ نبّههم على رذيلتهم من مخالفة أمره مع كونه مطيعا للّه، و ما عليه خصومهم من فضيلة طاعة إمامهم مع كونه عاصيا للّه، و جعل ذلك مقايسة بينهم ليظهر الفرق فيدركهم الغيرة ثمّ أردفه بتحقيرهم و تفضيل عدوّهم عليهم في البأس و النجدة و استقامة الحال فأقسم أنّه ليودّ أن يصارفه معاوية بهم صرف الدينار بالدرهم و ذلك قوله: رجلا منهم. ثمّ أردف ذلك ببيان ما ابتلى به منهم، و أشار إلى خمس خصال، و إنّما قال بثلاث و اثنتين لتناسب الثلاث و كون الثنتين من نوع آخر فالثلاث: الصمم مع كونهم ذوى أسماع و البكم مع كونهم ذوى كلام و العمى مع كونهم ذوى أبصار، و جمعه لهذه الثلاث مع أضدادها هو سبب التعجّب منهم و التوبيخ لهم و أراد بها عدم انتفاعهم في مصالحهم الدينيّة و نظام امور دولتهم بآلة السمع و اللسان و العين فإنّ من لم يفده سمعه و بصره عبرة و من لم يكن كلامه فيما لا يعنيه كان كفاقد هذه الآلات في عدم الانتفاع بها بل كان فاقدها أحسن حالا منه لأنّ وجودها إذا لم يفد منفعة أكسب مضرّة قد أمنها عادمها، و أمّا الثنتان فكونهم لا أحرار صدق عند اللقاء: أى أنّهم عند اللقاء لا تصدق حريّتهم و لا تبقى نجدتهم من مخالطة الجبن و التخاذل و الفرار إذا الحرّ هو الخالص من شوب الرذائل و المطاعن، ثمّ كونهم غير أخوان ثقة عند البلاء: أى ليسوا ممّن يوثق باخوّتهم في الابتلاء بالنوازل، ثمّ عاد إلى الدعاء عليهم على وجه التضجّر منهم و تشبيههم بالنعم فقوله: تربت أيديكم دعاء بعدم إصابة الخير. و قوله: يا أشباه الإبل غاب عنها رعاتها كلما جمعت من جانب تفرّقت من جانب. ذكر للتشبيه و المشبّه به، و وجه الشبه أردفه بذكر رذيلة يظنّها منهم بإماراتها و هى تفرّقهم عنه على تقديره اشتباك الحرب، و شبّه انفراجهم عنه بانفراج المرأة عن قبلها ليرجعوا إلى الأنفة، و تسليم المرأة لقبلها و انفراجها عنه إمّا وقت الولادة أو وقت الطعان ثمّ عاد إلى ذكر فضيلته ليستثبت قلوبهم و يتألّفها و البيّنة الّتى هو عليها من ربّه آيات اللّه و براهينه الواضحة على وجوده و الثقة بما هو عليه من سلوك سبيله و هو كقوله تعالى قُلْ إِنِّي عَلى‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي و المنهاج من نبيّه طريقه و سنّته، و الطريق الواضح الّذى هو عليه سبيل اللّه و شريعة دينه، و التقاطه له لقطا تتّبعه و تميّزه على طريق الضلال بالسلوك له ثمّ أردف فضيلته بالأمر باعتبار أهل البيت و لزوم سمتهم و اقتفاء أثرهم، و أشاره إلى جهة وجوب اتّباعهم بكونهم يسلكون بهم سبيل الهدى لا يخرجون عنه و لا يردونهم إلى ردى الجاهليّة و الضلال القديم، و فيه ايماء إلى أنّ اتّباع غيرهم يرد إلى ذلك و قوله: فإن لبدوا: أى إن سكنوا و أحبّوا لزوم البيوت على طلب أمر الخلافة و القيام فيه فتابعوهم في ذلك فإنّ سكونهم قد يكون لمصلحة يغيب علمها عن غيرهم و إن نهضوا في ذلك فانهضوا معهم، ثمّ نهاهم عن أن يسبقوا فيضلّوا: أى إلى أمر لم يتقدّموكم فيه فإنّ متقدّم الدليل شأنه الضلال عن القصد و أن لا يتأخّروا عنهم فيهلكوا: أى لا يتأخّروا عن متابعتهم في أوامرهم و أفعالهم بالمخالفة لهم فيكونوا من الهالكين في تيه الجهل و عذاب الآخرة. و الإماميّة تخصّ ذلك بالاثنى عشر من أهل البيت عليهم السّلام. و قوله: و لقد رأيت أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم. إلى آخره.

مدح لخواصّ الصحابة و ذكر مكانهم من خشية اللّه و دينه ترغيبا في مثل تلك الفضايل، و حرّك بقوله: فما أرى أحدا يشبههم. ما عساه يدرك السامعين من الغيرة على تلك الفضايل أن يختصّوا بها دونهم و ذكر من ممادحهم أوصافا: أحدها: الشعت و الاغبرار و هو إشارة إلى قشفهم و تركهم زينة الدنيا و لذّاتها. الثاني: بياتهم سجّدا و قياما، و أشار به إلى إحيائهم الليل بالصلاة و هو كقوله تعالى وَ الَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِياماً. الثالث: مراوحتهم بين جباههم و خدودهم، و قد كان أحدهم إذا تعبت جبهته من طول السجود راوح بينها و بين خدّيه. الرابع: وقوفهم على مثل الجمر من ذكر معادهم و أشار به قلقهم و وجدهم من ذكر المعاد و أهوال يوم القيامة كما يقلق الواقف على الجمر ممّا يجده من حرارته. الخامس: كأنّ بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم، و وجه المشابهة أنّ محالّ سجودهم من جباههم كانت قد اسودّت و ماتت جلودها و قست كما أنّ ركب المعزى كذلك. السادس: أنّهم كانوا إذا ذكر اللّه هملت أعينهم حتّى تبلّ جيوبهم، و من روى جباههم فذلك في حال سجودهم ممكن. و مادوا كما تميد الشجر بالريح العاصف خوفا من عقاب ربّهم و رجاء لثوابه فتارة يكون ميدانهم و قلقهم عن خوف اللّه، و تارة يكون عن ارتياح و اشتياق إلى ما عنده من عظيم ثوابه و هو كقوله تعالى الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ

و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 2 ، صفحه‏ى 403

خطبه 93 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

القسم الأول
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْأَوَّلِ فَلَا شَيْ‏ءَ قَبْلَهُ- وَ الْآخِرِ فَلَا شَيْ‏ءَ بَعْدَهُ- وَ الظَّاهِرِ فَلَا شَيْ‏ءَ فَوْقَهُ- وَ الْبَاطِنِ فَلَا شَيْ‏ءَ دُونَهُ

المعنى

أقول: أثنى على اللّه سبحانه باعتبارات أربعة: الأوّليّة و الآخريّة و الظاهريّة و الباطنيّة، و أكّد كلّ واحد منها بكماله فكمال الأوّليّة بسلب قبليّة شي‏ء عنه، و كمال الآخريّة بسلب بعديّة كلّ شي‏ء له، و الظاهريّة بسلب فوقيّة شي‏ء له، و الباطنيّة بسلب شي‏ء دونه. و المراد بالظاهر هنا العالى فلذلك حسن تأكيده بسلب فوقيّة الغير له، و بالباطن الّذى بطن خفيّات الامور علما و هو بهذا الاعتبار أقرب الأشياء إليها فلذلك حسن تأكيده بسلب ما هو دونه: أى ما هو أقرب إليها منه و حصلت حينئذ المقابلة بين الدانى و العالى، و يحتمل أن يريد بالظاهر البيّن و يكون معنى قوله: فلا شي‏ء فوقه: أى لا شي‏ء يوازى وجوده و يحجبه عن معرفة خلقه به. و بالباطن الخفىّ و معنى فلا شي‏ء دونه: أى في الخفاء، و قد سبق بيان هذه الاعتبارات الأربعة غير مرّة. و باللّه التوفيق.


القسم الثاني منها فى ذكر الرسول صلى الله عليه و آله و سلّم

مُسْتَقَرُّهُ خَيْرُ مُسْتَقَرٍّ- وَ مَنْبِتُهُ أَشْرَفُ مَنْبِتٍ- فِي مَعَادِنِ الْكَرَامَةِ- وَ مَمَاهِدِ السَّلَامَةِ- قَدْ صُرِفَتْ نَحْوَهُ أَفْئِدَةُ الْأَبْرَارِ- وَ ثُنِيَتْ إِلَيْهِ أَزِمَّةُ الْأَبْصَارِ- دَفَنَ اللَّهُ بِهِ الضَّغَائِنَ- وَ أَطْفَأَ بِهِ الثَّوَائِرَ أَلَّفَ بِهِ إِخْوَاناً- وَ فَرَّقَ بِهِ أَقْرَاناً- أَعَزَّ بِهِ الذِّلَّةَ- وَ أَذَلَّ بِهِ الْعِزَّةَ- كَلَامُهُ بَيَانٌ وَ صَمْتُهُ لِسَانٌ

اللغة

أقول: المماهد: جمع ممهد، و الميم زائدة. و ثنيت إليه: أى صرفت. و الضغاين: الأحقاد. و النوائر: جمع نائرة، و هى العداوة و المخاصمة: و الأقران: الأخوان المقترنون.

المعنى

و أشار بمستقرّه إلى مكّة و كونها خير مستقرّ لكونها امّ القرى و مقصد خلق اللّه و محلّ كعبته، و يحتمل أن يريد محلّه من جود اللّه و عنايته و ظاهر كونه خير مستقرّ، و استعار لفظ المنبت و المعدن، و قد مرّ بيان وجه استعارتهما، و مماهد السلامة محالّ التوطئة لها، و هى كناية من مكّة و المدينة و ما حولها فإنّها محلّ لعبادة اللّه و الخلوة به الّتى هى مهاد السلامة من عذابه، و إنّما كانت كذلك لكونها دار القشف خالية عن المشتهيات و القينات الدنيويّة، و يحتمل أن يريد بمماهد السلامة ما تقلّب فيه و نشأ عليه من مكارم الأخلاق الممهّدة للسلامة من سخط اللّه و في قوله: و قد صرفت نحوه أفئدة الأبرار. تنبيه على أنّ الصارف هو لطف اللّه و عنايته بهم بالفات قلوبهم إلى محبّته و الاستضاءة بأنوار هداه، و لمّا استعار لفظ الأزمّة للأبصار ملاحظة لشبهها بمقاود الإبل رشّح تلك الاستعارة بذكر الثنى و كنّى بذلك عن التفات الخلق إليه بأبصار بصايرهم و تلقىّ الرحمة الإلهيّة منه ثمّ استعار لفظ الدفن لإخفاء الأحقاد به بعد أن كانت ظاهرة مجاهرا بها. و لفظ الإطفاء لإزالة العدوات بين العرب بالتأليف بين قلوبهم كما قال تعالى في إظهار المنّة على عباده وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ‏ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً«» و الأقران المفرّق لهم هم المتألّفون على الشرك. و قوله: أعزّ به الذلّة. أى ذلّة الإسلام و أهله، و أذلّ به العزّة: أى عزّة الشرك و أهله، و بين كلّ قرينتين من هذه الستّ مقابلة و مطابقة فقابل بالتفريق التأليف و بالذلّة الإعزاز و بالعزّة الإذلال.

و قوله: و كلامه بيان. إى لما انغلق من أحكام كتاب اللّه كقوله تعالى لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ.

و قوله: و صمته لسان. استعار لفظ اللسان لسكوته، و وجه المشابهة أنّ سكوته صلى اللّه عليه و آله و سلّم مستلزم للبيان من وجهين: أحدهما: أنّه يسكت عمّا لا ينبغي من القول فيعلّم الناس السكوت عن الخوض فيما لا يعينهم الثاني: أنّ الصحابة كانوا إذا فعلوا فعلا على سابق عادتهم فسكت عنهم و لم ينكره عليهم علموا بذلك أنّه على حكم الاباحة. فكان سكوته عنهم في ذلك بيانا له و أشبه سكوته عنه باللسان المعرب عن الأحكام. و باللّه التوفيق.


شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 2 ، صفحه‏ى 401

 

خطبه 92 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

بَعَثَهُ وَ النَّاسُ ضُلَّالٌ فِي حَيْرَةٍ- وَ حَاطِبُونَ فِي فِتْنَةٍ- قَدِ اسْتَهْوَتْهُمُ الْأَهْوَاءُ- وَ اسْتَزَلَّتْهُمُ الْكِبْرِيَاءُ- وَ اسْتَخَفَّتْهُمُ الْجَاهِلِيَّةُ الْجَهْلَاءُ- حَيَارَى فِي زَلْزَالٍ مِنَ الْأَمْرِ- وَ بَلَاءٍ مِنَ الْجَهْلِ- فَبَالَغَ ص فِي النَّصِيحَةِ- وَ مَضَى عَلَى الطَّرِيقَةِ- وَ دَعَا إِلَى الْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ

أقول: الفصل لتقرير فضيلة الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم
و الواو في و الناس للحال: أى في حال ما هم ضالّون عن سبيل اللّه في حيرة من أمرهم ما ذا يتبعون. و خابطون في فتنة: أى كانت حركاتهم على غير نظام في ضلال البدع، و من روى حاطبون فهو استعارة، و وجهها كونهم يجمعون في ضلالهم و فتنتهم ما اتّفق من أقوال و أفعال كما يجمع الحاطب، و منه المثل: حاطب ليل. لمن جمع الغثّ و السمين، و الحقّ و الباطل في أقواله.

و قوله: قد استهوتهم الأهواء.
 أى جذبتهم الآراء الباطلة إلى مهاوى الهلاك أو إلى نفسها، و استزلّتهم الكبرياء: أى قادتهم إلى الزلل و الخطل عن طريق العدل و اقتفاء آثار الأنبياء في التواضع و نحوه، و استخفّتهم الجاهليّة الجهلاء فطارت بهم إلى ما لا ينبغي من الغارات و الفساد في الأرض فكانوا ذوى خفّة و طيش، و لفظ الجهلاء تأكيد للأوّل كما يقال: ليل أليل و وتدواتد.

و قوله: حيارى في زلزال من الأمر و بلاء من الجهل.
أى لا يهتدون لجهلهم إلى مصالحهم فهو منشأ اضطراب امورهم و بلائهم بالغارات و سبى بعضهم بعضا و قتلهم.

و قوله: فبالغ. إلى آخره.
مضيّة على الطريقة سلوكه لسبيل اللّه من غير انحراف، و دعوته إلى الحكمة و الموعظة هى دعوته إلى سبيل اللّه بهما إمتثالا لقوله تعالى ادْعُ إِلى‏ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ«» فالدعوة بالحكمة الدعوة بالبرهان، و بالموعظة الدعوة بالخطابة، و قد سبقت الإشارة إلى ذلك في المقدّمات. و اللّه ولىّ التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 2 ، صفحه‏ى 400

 

خطبه 91 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

القسم الأول
فَتَبَارَكَ اللَّهُ الَّذِي لَا يَبْلُغُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ- وَ لَا يَنَالُهُ حَدْسُ الْفِطَنِ- الْأَوَّلُ الَّذِي لَا غَايَةَ لَهُ فَيَنْتَهِي- وَ لَا آخِرَ لَهُ فَيَنْقَضِيَ

المعنى
أقول: تبارك: قيل: مشتقّ من البروك المستلزم للمقام في موضع واحد و الثبات فيه، و قيل: من البركة و هو الزيادة، و بالاعتبار الأوّل يكون إشارة إلى عظمته باعتبار دوام بقائه و استحقاقه قدم الوجود لذاته و بقاء وجوده لا عن استفتاح و لا إلى انقطاع، و بالاعتبار الثاني إشارة إلى فضله و إحسانه و لطفه و هدايته و وجوه الثناء عليه.

و قوله: الّذى لا يبلغه بعد الهمم و لا يناله حدس الفطن.
 كقوله فى صدر الخطبة الاولى لا يدركه بعد الهمم و لا يناله غوص الفطن إلّا أنّه أبدل الغوص هنا بالحدس: و الحدس في اللغة الظنّ، و في اصطلاح العلماء لمّا كان الفكر عبارة عن حركة الذهن منتقلا من المطالب إلى المبادي‏ء ثمّ منها إلى المطالب كان الحدس عبارة عن جودة هذه الحركة إلى اقتناص الحدّ الأوسط من غير طلب و تجشّم كلفة، و هو مقول بحسب التشكيك، و هو بجميع اعتباراته و بأعلى رتبته قاصر عن تناول ذات الحقّ تعالى كما سبق.

و قوله: الأوّل. إلى آخره.
و قد مرّ تفسير أوّليّته و آخريّته غير مرّة. و باللّه التوفيق.

القسم الثاني
فَاسْتَوْدَعَهُمْ فِي أَفْضَلِ مُسْتَوْدَعٍ- وَ أَقَرَّهُمْ فِي خَيْرِ مُسْتَقَرٍّ- تَنَاسَخَتْهُمْ كَرَائِمُ الْأَصْلَابِ إِلَى مُطَهَّرَاتِ الْأَرْحَامِ- كُلَّمَا مَضَى مِنْهُمْ سَلَفٌ- قَامَ مِنْهُمْ بِدِينِ اللَّهِ خَلَفٌ- حَتَّى أَفْضَتْ كَرَامَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى إِلَى مُحَمَّدٍ ص- فَأَخْرَجَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْمَعَادِنِ مَنْبِتاً- وَ أَعَزِّ الْأَرُومَاتِ مَغْرِساً- مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي صَدَعَ مِنْهَا أَنْبِيَاءَهُ- وَ انْتَجَبَ مِنْهَا أُمَنَاءَهُ عِتْرَتُهُ خَيْرُ الْعِتَرِ- وَ أُسْرَتُهُ خَيْرُ الْأُسَرِ وَ شَجَرَتُهُ خَيْرُ الشَّجَرِ- نَبَتَتْ فِي حَرَمٍ وَ بَسَقَتْ فِي كَرَمٍ- لَهَا فُرُوعٌ طِوَالٌ وَ ثَمَرٌ لَا يُنَالُ- فَهُوَ إِمَامُ مَنِ اتَّقَى وَ بَصِيرَةُ مَنِ اهْتَدَى- سِرَاجٌ لَمَعَ ضَوْؤُهُ وَ شِهَابٌ سَطَعَ نُورُهُ- وَ زَنْدٌ بَرَقَ لَمْعُهُ سِيرَتُهُ الْقَصْدُ- وَ سُنَّتُهُ الرُّشْدُ وَ كَلَامُهُ الْفَصْلُ وَ حُكْمُهُ الْعَدْلُ- أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ- وَ هَفْوَةٍ عَنِ الْعَمَلِ وَ غَبَاوَةٍ مِنَ الْأُمَمِ اعْمَلُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ عَلَى أَعْلَامٍ بَيِّنَةٍ- فَالطَّرِيقُ نَهْجٌ يَدْعُوا إِلى‏ دارِ السَّلامِ- وَ أَنْتُمْ فِي دَارِ مُسْتَعْتَبٍ عَلَى مَهَلٍ وَ فَرَاغٍ- وَ الصُّحُفُ مَنْشُورَةٌ- وَ الْأَقْلَامُ جَارِيَةٌ- وَ الْأَبْدَانُ صَحِيحَةٌ- وَ الْأَلْسُنُ مُطْلَقَةٌ- وَ التَّوْبَةُ مَسْمُوعَةٌ- وَ الْأَعْمَالُ مَقْبُولَةٌ

اللغة

أقول: النسخ: النقل. و أفضت: انتهت. و الارومة: الأصل. و الصدع: الشقّ. و عترة الرجل: نسله و رهطه الأدنون. و اسرته: قومه: و بسقت: طالت، و الزند: العود الأعلى يقدح به. و نهج: واضح.

المعنى

و قوله، و استودعهم. إلى قوله: خلف.
إشارة إلى الأنبياء عليهم السّلام القائمين بدين اللّه. و اعلم أنّ دين اللّه واحد بعثت جميع الأنبياء لتسليك الخلق إيّاه و له أصل و فروع فأصله الطريق إلى معرفته، و الاستكمال بها، و جماع مكارم الأخلاق، و نظام أمر الخلق في معاشهم و معادهم و هذه الامور هى المراه من الشرع و هو أصل لا يخالف فيه نبىّ نبيّا. فأمّا الاختلاف الواقعة في الشرائع فهى امور جزئيّة بحسب مصالح جزئيّة يتعلّق بوقت الرسول المعيّن و حال الخلق المرسل إليهم يوقع عليها ذلك الأصل، و تكون كالمشخّصات له و العوارض الّتى يختلف بها الطبيعة الواحدة النوعيّة. و أفضل مستودع استودعهم فيه حظائر قدسه و منازل ملائكته و هو خير مستقرّ أقرّهم فيه و محلّ كرامته فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ و تناسخ الأصلاب لهم إلى مطهّرات الأرحام نقلهم إليها نطفا، و كرائم الأصلاب: ما كرم منها و حقّ لأصلاب سمحت بمثلهم أن توصف بالكرم. و مطهّرات الأرحام: ما طهر منها و حقّ لما استعدّ منها الإنتاج مثل هذه الأمزجة و قبولها أن تكون طاهرة من كدر الفساد. و الشيعة يطهّرون اصول الأنبياء من طرف الآباء و الامّهات عن الشرك و نحوه قول الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم: نقلنا من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الزكيّة. و يحتمل أن يريد بأفضل مستودع و خير مستقرّ في مبدئهم أصلاب الآباء و أرحام الامّهات و يكون قوله: تناسختهم تفسيرا له و بيانا.

و قوله: كلّما مضى منهم سلف قام بدين اللّه منهم خلف.
إشارة إلى ضرورة وجود الأنبياء عند الحاجة إليهم على التعاقب، و قد سبقت الإشارة إليه.

و قوله: حتّى أفضت كرامة اللّه إلى محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم. إلى قوله: امناءه.
 إشارة إلى غاية سلسلة الأنبياء عليهم السّلام، و كنّى بكرامة اللّه عن النبوّة و استعار لفظ المعدن و المنبت و المغرس لطينة النبوّة و هى مادّته القريبة الّتى استعدّت لقبول مثله، و وجه الاستعارة أنّ تلك المادّة منشأ لمثله كما أنّ الأرض معدن الجواهر و مغرس الشجر الطيّب، و ظاهر أنّ أصلا سمح بمثله أفضل المعادن و أعزّ الاصول، و قيل: أراد بذلك مكّة- شرّفها اللّه تعالى- و قيل: بيته و قبيلته ثمّ ميّزه بما هو أخصّ و أشرف فقال: من الشجرة الّتى صدع منها أنبياءه فاستعار لفظ الشجرة لصنف الأنبياء، و كما أنّ الشجرة أشرف من طينتها كذلك صنف الأنبياء أشرف من قوابل صورهم، و وجه الاستعارة هو ما كنّى بالانصداع عنه من تفرّع أشخاص الأنبياء عن صنفهم كما يتفرّع أغصان الشجرة منها. و أمناءه: أى على رسالته.

و قوله: عترته خير العتر و اسرته خير الاسر.
 بدء بالعترة لما عرفت أنّها أخصّ و أقرب من الاسرة، و مصداق أفضليّة عترته قوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم: سادة أهل المحشر سادة أهل الدنيا أنا و علىّ و حسن و حسين و حمزة و جعفر. و وجه أفضليّة اسرته قوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه اصطفى من العرب معدا، و اصطفى من معد بنى النضر بن كنانه، و اصطفى هاشما من بنى النضر، و اصطفانى من بنى هاشم. و قوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم: قال لى جبرئيل: يا محمّد قد طفت الأرض شرقا و غربا فلم أجد فيها أكرم منك و لا بيتا أكرم من بنى هاشم. و قوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم: الناس تبع لقريش برّهم لبرّهم و فاجرهم لفاجرهم.

و قوله: و شجرته خير الشجز.
 قيل: أراد بالشجر في الموضعين إبراهيم عليه السّلام، و قيل: أراد هاشما و ولده بقرينة قوله: نبتت في حرم و أراد مكّة، و رشّح تلك الاستعارة بوصف الإنبات و البسق، و كنّى بالكرم الّذى فيه عن زكاء أصله و ما استلزم من الفضل، و كنّى بالفروع عن أهله صلى اللّه عليه و آله و سلّم و ذريّته و ساير النجباء من بنى هاشم، و بوصفهم بالطول عن بلوغهم في الشرف و الفضل الغاية البعيدة، و هو ترشيح للاستعارة. و كذلك الثمر، و كنّى به عن العلوم و الأخلاق المتفرّعة عنه و عن أئمّة امّته، و بكونها لا تنال عن شرفها و غموض أسرارها: أى أنّها لشرفها و علوّها لا يمكن أن يطاول فيها، و أو لغموض أسرارها لا تصل الأذهان إليها.

و قوله: فهو إمام من اتّقى. إلى قوله: لمعه
استعار لفظ البصيرة و السراج و الشهاب و الزند له صلى اللّه عليه و آله و سلّم، و وجه الاستعارة كونه سبب هداية الخلق كما أنّ هذه الامور الثلاثة كذلك و رشّح استعارة السراج بلمعان الضوء و الشهاب بسطوع النور و الزند ببروق اللمع، و يحتمل أن يكون وجه استعارة الزند هو كونه مثيرا لأنوار العلم و الهداية.

و قوله: سيرته القصد.

 أى طريقته العدل و الاستواء على الصراط المستقيم و عدم الانحراف إلى أحد طرفى الإفراط و التفريط، و سنّته الرشد: أى سلوك طريق اللّه عن هدايته، و كلامه الفصل: أى الفاصل بين الحقّ و الباطل كقوله تعالى إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ و حكمه العدل الواسط بين رذيلتى الظلم و الانظلام.

و قوله: أرسله على حين فترة من الرسل و هفوة من العمل.
 أى زلّة عنه و غباوة من الامم: أى جهل منهم و عدم فطنة لما ينبغي، و قد سبق بيان الفترة.

و قوله: اعملوا رحمكم اللّه على أعلام بيّنة.
 استعار لفظ الأعلام لأئمّة الدين و ما بأيديهم من مصابيح الهدى، و كنّى بكونها بيّنة عن وجودها و ظهورها بين الخلق.

و قوله: و الطريق نهج يدعو إلى دار السلام.
 فالطريق: الشريعة. و نهجه: وضوحها في زمانه عليه السّلام و قرب العهد بالرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم و ظاهر كون الشريعة داعية إلى الجنّة. و إسناد الدعوة إلى الطريق مجاز إذ الداعى قيمّ الطريق و واضعها.

و قوله: و أنتم في دار مستعتب.
أى دار الدنيا الّتى يمكن أن يستعتبوا فيعتبوا: أى يطلبوا رضا اللّه بطاعته فرضى عنكم، و على مهل: أى إمهال و إنظار و فراغ من عوائق الموت و ما بعده.

و قوله: و الصحف منشورة. إلى آخره.
الواوات السبع للحال، و المراد صحائف الأعمال و أقلام الحفظة على الخلق أعمالهم.
و فايدة التذكير بهذه الامور التنبيه على وجوب العمل معها و تذكّر أضدادها ممّا لا يمكن معه العمل و لا ينفع الندم من الموت و طىّ الصحف و جفاف الأقلام و فساد الأبدان و خرس الألسنة و عدم سماع التوبة كما قال تعالى فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ«» و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 2 ، صفحه‏ى 394

 

خطبه 90 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

أَمَّا بَعْدَ أَيُّهَا النَّاسُ- فَأَنَا فَقَأْتُ عَيْنَ الْفِتْنَةِ- وَ لَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي- بَعْدَ أَنْ مَاجَ غَيْهَبُهَا- وَ اشْتَدَّ كَلَبُهَا- فَاسْأَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي- فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ- لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْ‏ءٍ- فِيمَا بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ السَّاعَةِ- وَ لَا عَنْ فِئَةٍ تَهْدِي مِائَةً وَ تُضِلُّ مِائَةً- إِلَّا أَنْبَأْتُكُمْ بِنَاعِقِهَا- وَ قَائِدِهَا وَ سَائِقِهَا وَ مُنَاخِ رِكَابِهَا- وَ مَحَطِّ رِحَالِهَا- وَ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَهْلِهَا قَتْلًا- وَ مَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ مَوْتاً- وَ لَوْ قَدْ فَقَدْتُمُونِي- وَ نَزَلَتْ بِكُمْ كَرَائِهُ الْأُمُورِ- وَ حَوَازِبُ الْخُطُوبِ- لَأَطْرَقَ‏ كَثِيرٌ مِنَ السَّائِلِينَ- وَ فَشِلَ كَثِيرٌ مِنَ الْمَسْئُولِينَ- وَ ذَلِكَ إِذَا قَلَّصَتْ حَرْبُكُمْ- وَ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقٍ- وَ ضَاقَتِ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ ضِيقاً- تَسْتَطِيلُونَ مَعَهُ أَيَّامَ الْبَلَاءِ عَلَيْكُمْ- حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ لِبَقِيَّةِ الْأَبْرَارِ مِنْكُمْ- إِنَّ الْفِتَنَ إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ- وَ إِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ- يُنْكَرْنَ مُقْبِلَاتٍ- وَ يُعْرَفْنَ مُدْبِرَاتٍ- يَحُمْنَ حَوْمَ الرِّيَاحِ يُصِبْنَ بَلَداً- وَ يُخْطِئْنَ بَلَداً- أَلَا وَ إِنَّ أَخْوَفَ الْفِتَنِ عِنْدِي عَلَيْكُمْ فِتْنَةُ بَنِي أُمَيَّةَ- فَإِنَّهَا فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ مُظْلِمَةٌ عَمَّتْ خُطَّتُهَا- وَ خَصَّتْ بَلِيَّتُهَا- وَ أَصَابَ الْبَلَاءُ مَنْ أَبْصَرَ فِيهَا- وَ أَخْطَأَ الْبَلَاءُ مَنْ عَمِيَ عَنْهَا- وَ ايْمُ اللَّهِ لَتَجِدُنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَكُمْ- أَرْبَابَ سُوءٍ بَعْدِي كَالنَّابِ الضَّرُوسِ- تَعْذِمُ بِفِيهَا وَ تَخْبِطُ بِيَدِهَا- وَ تَزْبِنُ بِرِجْلِهَا وَ تَمْنَعُ دَرَّهَا- لَا يَزَالُونَ بِكُمْ حَتَّى لَا يَتْرُكُوا مِنْكُمْ إِلَّا نَافِعاً لَهُمْ- أَوْ غَيْرَ ضَائِرٍ بِهِمْ- وَ لَا يَزَالُ بَلَاؤُهُمْ عَنْكُمْ- حَتَّى لَا يَكُونَ انْتِصَارُ أَحَدِكُمْ مِنْهُمْ- إِلَّا كَانْتِصَارِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ- وَ الصَّاحِبِ مِنْ مُسْتَصْحِبِهِ- تَرِدُ عَلَيْكُمْ فِتْنَتُهُمْ شَوْهَاءَ مَخْشِيَّةً- وَ قِطَعاً جَاهِلِيَّةً- لَيْسَ فِيهَا مَنَارُ هُدًى وَ لَا عَلَمٌ يُرَى- نَحْنُ أَهْلَ الْبَيْتِ مِنْهَا بِمَنْجَاةٍ وَ لَسْنَا فِيهَا بِدُعَاةٍ- ثُمَّ يُفَرِّجُهَا اللَّهُ عَنْكُمْ كَتَفْرِيجِ الْأَدِيمِ- بِمَنْ يَسُومُهُمْ خَسْفاً وَ يَسُوقُهُمْ عُنْفاً- وَ يَسْقِيهِمْ بِكَأْسٍ مُصَبَّرَةٍ لَا يُعْطِيهِمْ إِلَّا السَّيْفَ- وَ لَا يُحْلِسُهُمْ إِلَّا الْخَوْفَ- فَعِنْدَ ذَلِكَ تَوَدُّ قُرَيْشٌ بِالدُّنْيَا- وَ مَا فِيهَا لَوْ يَرَوْنَنِي مَقَاماً وَاحِداً- وَ لَوْ قَدْرَ جَزْرِ جَزُورٍ- لِأَقْبَلَ مِنْهُمْ مَا أَطْلُبُ الْيَوْمَ بَعْضَهُ فَلَا يُعْطُونِيهِ

اللغة

أقول: فقات عينه: عيّرتها. و ماج: اضطرب. و الغيهب: الظلمة: و الكلب: الشرّ و الكلب: داء معروف. و الفئة: الطائفة. و ناعقها: الداعى لها. و المناخ بالضمّ: محلّ البروك و حوازب الخطوب: ما حزب منها: أى أصاب. و التقلّص: التقبّض. و شبّهت: اشتبهت و أوقعت الشبهة. و حام الطائر: دار. و الخطّة. الحال و الأمر. و الناب: الناقة المسنّة. و الضروس: الّتى تعصّ حالبها. و العذم: العضّ و هو الكدم أيضا: و الزبن: الدفع. و شوها: جمع شوهاء و هى قبيحة المنظر، و سامه خسفا. أولاه إلّا. و العنف: شدّة السوق. و تحلسهم: أى تلبسهم الحلس و هو الكساء تحت بردعة البعير. و الجزر: القطع و منه سميّت الجزور لما ينحر من الإبل.

المعنی

و مقصود هذا الفصل التنبيه على فضيلته و شرف وقته به، و على رذيلة بنى اميّة بذكر فتنتهم و ما يكون منهم ليشتدّ النفار عنهم و تقوى الرغبة إليه من وجهين: أحدهما: بإخباره عمّا سيكون، و الثاني: بذكر الشرور من غيره.

فقوله: فأنا فقأت عين الفتنة
 إشارة إلى فتنة أهل البصرة و غيرها، و استعار لها لفظ العين، و إنّما خصّ العين لأنّها أشرف عضو فى الوجه، و بها تصرّف الشخص و حركته، و رشّح الاستعارة بذكر الفقاء و كنّى به عن زوال فتنتهم بسيفه،

و قوله: و لم يكن ليجترئ عليها أحد غيرى
 أى إنّ الناس كانوا لا يتجاسرون على قتال أهل القبلة و يخافون من ذلك الحرج و الإثم و لا يعلمون كيفيّة قتالهم هل يتّبعون مدبرهم و هل يجهزون على جريحهم و هل تسبى ذراريهم و تقسم أموالهم إذا بغوا أم لا حتّى أقدم عليه السّلام على فتنتهم ففقأ عينها فسكنت بعد هياجها، و مبدء ذلك حرب عايشة، و قد صرّح عليه السّلام بذلك فى ألفاظ اخرى فقال: أمّا بعد فأنا فقأت عين الفتنة شرقيّها و غربيّها و منافقها و مارقها لم يكن ليجترئ عليها غيرى و لو لم أكن لما قوتل أصحاب الجمل و لا صفّين و لا أصحاب النهر، و يحتمل أن يكون المراد فقأت عين أهل الفتنة فحذف المضاف و أقام المضاف إليه مقامه و يكون فقاؤه لعيونهم كناية عن قتلهم، و روى أنّ من المتوقّفين عن الحرب الأحنف بن قيس و جماعة معه، و كنىّ بتموّج غيهبها عن انتشار ظلمات الشبهة عن تلك الفتن فى أذهان الناس فجهلوا أنّ خلاف طلحة و خروج عايشة كان حقّا أو باطلافكان ذلك سببا لاضطرابهم و قتالهم و قتلهم، و كذلك كنىّ باشتداد كلبها عن شدّة ما وقع منها من الشرور، و كلب أهلها و حرصهم على القتل و القتال كناية بالمستعار فى الموضعين.

و قوله: فاسئلونى. إلى قوله: و من يموت منهم موتا.
 تعرّض للأسؤلة عمّا سيكون و لم يكن ليجترئ على ذلك أحد غيره من بين ساير الصحابة و التابعين، و لو ادّعى غير ذلك لكذّبه العيان و فضّحه الامتحان، و روى أنّ قتادة دخل الكوفة فالتفّت عليه الناس فقال: سلونى عمّا شئتم. و كان أبو حنيفة حاضرا و هو إذن غلام حدث السنّ فقال: سلوه عن نملة سليمان أ كانت ذكرا أم انثى. فسئلوه فانقطع فقال: أبو حنيفة كانت انثى فقيل له: بم عرفت ذلك فقال: من كتاب اللّه، و هو قوله: قالَتْ نَمْلَةٌ و لو كان ذكرا لقال: قال نملة و ذلك أنّ النملة تقع على الذكر و الانثى كالحمامة و الشاة، و إنّما يميّز بينهما بعلامة التأنيث فانظر إلى هذا المعجب بنفسه كيف انقطع عن سؤال يمكن الفطن أن يجيب عنه بأدنى سعى فكيف به إذا سئل عن الامور المستقبلة الّتى لا يتنزّلها من عالم الغيب إلّا من أيّد بقوّة إلهيّة تكشف لنور بصيرته معها حجب الأسرار، و قد بيّنا فيما سبق وجه تمكّنه من الإخبار عمّا سيكون و كيفيّة ذلك، و أراد بالساعة القيامة، و استعار أوصاف الإبل و رعاتها و أصحابها من الناعق و القائد و السائق و المناخ و الركاب و الرحال للفئة المهديّة و الضالّة و من يهديهم و يضلّهم ملاحظة لشبههم بالإبل فى الاجتماع و الانقياد لقائد و داعى، و الضمير فى أهلها يعود إلى الفئة.

و قوله: و لو قد فقدتمونى. إلى قوله: المسئولين.
 كرائه الامور ما يكرهون منها و حوازب الخطوب ما يصيبهم من الامور العظيمة المهمّة و أطراق السائلين لحيرتهم فى عواقب تلك الخطوب و ما يكون منها و كيفيّة الخلاص و فشل كثير من المسئولين: أى جنبوا عن ردّ الجواب لجهلهم بعواقبها و ما يسئلون عنه منها.

و قوله: ذلك.
 إشارة فى أطراق السائلين و فشل المسئولين.

و قوله: إذا قلصت حربكم
و قوله: إذا قلصت حربكم تفسير لكرائه الامور النازلة بهم، و استعار لفظ التقليص و التشمير عن ساق الحرب و وجه الاستعارة تشبيهها بالمجدّ فى الأمر الساعى فيه، و كما أنّه إذا أراد أن يتوجّه قلّص ثيابه و شمّرها عن ساقه لئلّا تعوفه و تهيّأ و أجمع عليه كذلك الحرب فى كونها مجتمعة عن النزول بهم و اللحوق لهم، و الواو في قوله: و ضاقت للعطف على شمّرت، و موضع تستطيلون النصب على الحال.

و قوله: حتّى يفتح اللّه لبقيّة الأبرار منكم.
أى الّذين يسلمون بنى اميّة فى دينهم و أعمارهم و يفتح اللّه لهم بهلاكهم و زوال دولتهم.

و قوله: إنّ الفتن إذا أقبلت تشبّهت [شبّهت خ‏].
 أى يكون فى مبدأها متشبّهة بالحقّ في أذهان الخلق و إذا أدبرت نبّهت لأذهان الخلق على كونها فتنة بعد وقوع الهرج و المرج بين الناس و اضطراب امورهم بسببها و أكثر ما يكون ذلك عند إدبارها كالفساد فى الدول مثلا الّذي يعرف به عامّه الخلق كونها فتنة و ضلالا عن سبيل اللّه أكثر ما يكون فى آخرها فيكون مؤذنا بزوالها و علامة مبشّرة.
و قوله: ينكرن مقبلات و يعرفن مدبرات.

و قوله: ينكرن مقبلات و يعرفن مدبرات. تفسير له: أى لا يعرف في مبدء الحال كونها فنة و تشتبه بكونها حقّا و دعاء هدى فاذا استعقبت عرفت أنّها عن الحقّ بمعزل و إنّ دعاتها كانوا دعاة ضلالة.

و قوله: و يحمن حوم [حول خ‏] الرياح.
استعار لها لفظ الحوم ملاحظة لشبهها في دورانها الموحوم و وقوعها عن قضاء اللّه من دعاة الضلال في بلد دون بلد بالطائر و الريح، و لذلك شبّهها بحومها و كذلك لفظ الخطاء.

و قوله: ألا إنّ أخوف الفتن عندى إلى آخر.
شروع فى تعيين ما يريد أن يخبر به و هو بعض ما تعرّض للسؤال عنه، و إنّما كانت هذه الفتن أخوف الفتن لشدّتها على الإسلام و أهله و كثرة بلوى أهل الدين فيها بالقتل‏ و أنواع الأذى و يكفى فى عظم تلك الفتنة هتكهم حرمة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و قتل الحسين عليه السّلام و ذريّتة، و هتك حرمة الإسلام بهدم الكعبة و حرقها، و قتل ابن الزبير و سبّ علىّ عليه السّلام ثمانين سنة، و ما انتشر من البلاء و عمّ بتوليتهم للحجّاج دماء المسلمين إلى غير ذلك من منكراتهم المسطورة في التواريخ و أشار بكونها فتنة عمياء إلى ذلك، و استعار لفظ العمى لها لجريانها على غير قانون حقّ كالأعمى المتصرّف فى حركاته فى غير جادّة، أو لكونها لا يسلك فيها سبيل الحقّ كما لا يهتدى بالعين العمياء و كذلك لفظ المظلمة و قوله: عمّت خطّتها لكونها ولاية عامّة، و خصّت بليّتها: أى بأهل التقوى و شيعة علىّ عليه السّلام و من بقى من الصحابة و التابعين الّذينهم أعيان الإسلام، و قوله: أصاب البلاء من أبصر فيها و أخطأ من عمى عنها: أى من اهتدى لكونها فتنة كان فيها في بلاء من نفسه و منهم أمّا من نفسه فالحزن الطويل من مشاهدة المنكر، و أمّا منهم فلأنّ المتّقى العالم بكونهم أئمّة ضلال منحرف عنهم و غير داخل فى تصرّفهم الباطل، و كان من شأنهم تتبّع من هذا حاله بالأذى و القتل فكان البلاء به أخصّ، و أمّا من لم يهتد لكونها فتنة بل كان فى عمى الجهل عنها فهو منقاد لدعوتهم الباطلة منساق تحت رايات ضلالهم جار على وفق أوامرهم فكان سالما من بلائهم ثمّ أردف ذلك بالقسم البارّ ليجدنّهم الناس أرباب سوء لهم و شبّههم في أفعالهم المضرّة لهم بالناب الضروس لحالبها، و أشار إلى وجه الشبهه بأوصاف: فكدمها و عضّها و خبطها بيدها و زبها برجلها و منعها درّها إشارة إلى جميع حركاتها الموذية الرديئة و هى تشبه حركاتهم في الخلق بالأذى و القتل و منع الوفد و الاستحقاق من بيت المال ثمّ أردف ذلك بذكر غايتين لحركاتهم الشريّة و بلائهم للناس: إحداهما: أنّهم لا يتركون من الأذى و القتل إلّا أحد رجلين إمّا نافع لهم سالك مسلكهم أو من لا يضرّهم بإنكار منكر عليهم. و لا يخافون على دولتهم من ساير العوامّ و السوقة، الثانية أنّه لا يكون انتصارهم منهم إلّا مثل انتصار العبد من سيّده و الصاحب ممّن استصحبه: أى كما لا يمكن العبد أن ينتصر من سيّده و التابع المستصحب الّذى من شأنه الضعف و عدم الاستقلال بنفسه ممّن يستصحبه كذلك لا يمكن بقيّة هؤلاء أن ينتصروا من بنى اميّة أصلا، و يحتمل أن يريد هناك ما يشبه الانتصار من الغيبة و نحوها كما قال عليه السّلام في موضع‏ آخر: و يكون نصرة أحدكم كنصرة العبد من سيّده إذا شهد أطاعه، و إذا غاب اغتابه. ثمّ أردف ذلك بذكر فتنتهم و أنّها مشتملة على فتن فوق واحدة تأتى شآبيب و قطعا كقطع الليل المظلم، و من روى فتنهم بلفظ الجمع فأراد جزئيّات شرورهم في دولتهم، و استعار لفظ الشوهاء لقبحها عقلا و شرعا، و وجه المشابهة كونها منفورا عنها كما أنّ قبيحة المنظر كذلك، و كذلك استعار لفظ القطع لورودها عليهم دفعات كقطع الخيل المقبلة في الغارة و الحرب، و أشار بكونها جاهليّة إلى كونها على غير قانون عدلىّ كما أنّ حركات أهل الجاهليّة كانت كذلك، و لذلك قال: ليس فيها منار هدى و لا علم يرى: أى ليس فيها إمام عدل، و لا قانون حقّ يقتدى به.

و قوله: نحن أهل البيت منها بمنجاة و لسنا فيها بدعاة
أى إنّا ناجون من آثامها و الدخول فيها و الدعوة إلى مثلها، و ليس المراد أنّا سالمون من أذاهم غير داعين فيها إلى الحقّ بشهادة دعوة الحسين عليه السّلام إلى نفسه و قتله و أولاده و هتك ذريّته، و يحتمل أن يريد أنّا بمنجاة من آثامها و لسنا فيها بدعاة مطلقا و الحسين عليه السّلام لم يكن داعيا منبعثا من نفسه للدعوة، و إنّما كان مدعوّا إلى القيام من أهل الكوفة و مجيبا لهم.

و قوله: ثمّ يفرّجها [يفرج خ‏] اللّه كتفريج الأديم. إلى قوله: إلّا الخوف.
 إشارة إلى زوال دولتهم بظهور بنى العبّاس عليهم و قلعهم و استيصالهم و تتّبعهم لآثارهم و حصول الفرج منهم لبقيّة الأبرار من عباد اللّه المقصودين بإذاهم كما يفرج الجلد: أى يشقّ عمّا فيه، و لقد أولاهم بنوا العبّاس من الذلّ و الهوان، و أذا قوهم كأس العذاب طعوما مختلفة، و أروهم عيان الموت ألوانا شتّى كما هو مذكور في كتب التاريخ، و لفظ الكأس و التصبير و العطيّة مستعار، و كذلك لفظ التحليس. و وجه المشابهة جعلهم الخوف شعارا لهم كما أنّ حلس البعير كذلك.

و قوله: حتّى تودّ قريش إلى آخره.
إشارة إلى غاية هذه الفرقة المتقلّبة من قريش على هذا الأمر أى أنّ حالهم في التراذل و الضعف عن محاربتهم ينتهى إلى أن يحبّوا رؤيته مقاما واحدا مع أنّه أبغض الخلق‏ إليهم ليقبل منهم حينئذ ما يطلب اليوم بغضه من نصرتهم له و اتّباعهم لأمره و انقيادهم لهداه و يمنعونه إيّاه، و كنّى عن قصر ذلك المقام المتمنّى له بمقدار زمان جزر الجزور، و صدقه عليه السّلام في هذا الخبر ظاهر فإنّ أرباب السير نقلوا أنّ مروان بن محمّد آخر ملوك بنى اميّة قال يوم الزاب حين شاهد عبد اللّه بن محمّد بن علىّ بن عبد اللّه بن العبّاس: مارّا به في صفّ خراسان لوددت أنّ علىّ بن أبى طالب تحت هذه الرايات بدلا من هذا الفتى. و القصّة مشهورة. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 2 ، صفحه‏ى 388

خطبه89 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام لما أريد على البيعة بعد قتل عثمان

دَعُونِي وَ الْتَمِسُوا غَيْرِي- فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً- لَهُ وُجُوهٌ وَ أَلْوَانٌ- لَا تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ- وَ لَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْعُقُولُ- وَ إِنَّ الْآفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ- وَ الْمَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ- . وَ اعْلَمُوا أَنِّي إِنْ أَجَبْتُكُمْ- رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ- وَ لَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وَ عَتْبِ الْعَاتِبِ- وَ إِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا كَأَحَدِكُمْ- وَ لَعَلِّي أَسْمَعُكُمْ وَ أَطْوَعُكُمْ- لِمَنْ وَلَّيْتُمُوهُ أَمْرَكُمْ- وَ أَنَا لَكُمْ وَزِيراً- خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيراً

المعنى
أقول: حاصل هذا الفصل أنّه لا بدّ لكلّ مطلوب على أمر من تعزّز فيه و تمنّع.
و الحكمة في ذلك أنّ الطالب له يكون بذلك أرغب فيما يطلب فإنّ الطبع حريص على ما منع سريع النفرة عمّا سورع إلى إجابته فيه فأراد عليه السّلام التمنّع عليهم لتقوى رغبتهم إليه فإنّه لم يصل إليه هذا الأمر إلّا بعد اضطراب في الدين في قتل عثمان و الجرأة على الدم‏ فاحتاج في تقويم الخلق و ردّهم إلى قواعد الحقّ إلى أنّ يزدادوا فيه رغبة بهذا الكلام و مثله فقال: دعونى و التمسوا غيرى. ألا ترى أنّه نبّههم بعد هذه التمنّع على أنّ هاهنا امورا صعبة مختلفة يريد أن ينكرها عليهم و يقاوم ببعضهم فيها بعضا و يحملهم على الصلاح، و جعل استقباله لتلك الامور الصعبة علّة لاستقالته من هذا الأمر فقال:

قوله فإنّا مستقبلون أمرا له وجوه و ألوان لا تقوم له القلوب
أى لا تصبر و لا تثبت عليه العقول بل تنكره و تأباه لمخالفته الشريعة و مضادّته لنظام العالم، و ذلك الأمر هو ما كان يعلمه من اختلاف الناس عليه بضروب من التأويلات الفاسدة و الشبهات الباطلة كتهمة معاوية و أهل البصرة له بدم عثمان و كتأويل الخوارج عليه في الرضا بالتحكيم و نحو ذلك، و هو المكنىّ عنه بالوجوه و الألوان كناية بالمستعار.
و قوله: و إنّ الآفاق قد أغامت و المحجّة قد تنكّرت.

و قوله: و إنّ الآفاق قد أغامت و المحجّة قد تنكّرت. استعار لفظ الغيم لما غشى آفاق البلاد و أقطار القلوب المتغيّرة العازمة على الفساد من ظلمات الظلم و الجهل، و وجه المشابهة ما تستلزمه هذه الظلمات من توقّع نزول الشرور منها كما يتوقّع نزول المطر و الصواعق من الغيم، و أشار بالمحجّة إلى واضح طريق الشريعة، و تنكّرها جهل الناس بها و عدم سلوكهم لها.

و قوله: و اعلموا. إلى قوله: عتب العاتب.
 لمّا تمنّع عليهم و علم صدق رغبتهم فيه شرع فى تقرير ما يريد أن يفعله تقريرا إجماليّا عليهم مع تمنّع دوين الأوّل فأعلمهم أنّه على تقدير إجابتهم إلى هذا الأمر لا يركب بهم إلّا ما يعلم من أمر الشريعة و لا يصغى إلى قول قائل خالف أمر اللّه لمقتضى هواه، و لا عتب عاتب عليه فى أنّه يفضّله أو لم يرضه بما يخالف ما يعلم من الشريعة إذ القائل و العاتب فى ذلك مفتر على اللّه و عاتب عليه و لقد وفى عليه السّلام بما وعدهم به من ذلك كما سنذكره فى قصّة أخيه عقيل لمّا استماحه صاعا من برّ أو شعير فحمى له حديدة و قرّبها منه فأنّ عقيل فقال له: ثكلتك الثواكل أتإنّ من حديدة حماها إنسان للعبة و لا تأنّ من نار أجّجها جبّار لغضبه. و لفظ الركوب مستعار لاستوائه على ما يعلم.

و قوله: و إن تركتمونى إلى آخره.
أى كنت كأحدكم فى الطاعة لأميركم بل لعلّى أكون أطوعكم له: أى لقوّة علمه بوجوب طاعته الإمام، و إنّما قال لعلّى لأنّه على تقدير أن يولّوا أحدا يخالف أمر اللّه لا يكون أطوعهم له بل أعصاهم و احتمال توليتهم لمن هو كذلك قايم فاحتمال طاعته و عدم طاعته له قائم فحسن إيراد لعلّ، و الواو فى قوله: و أنا. للحال، و وزيرا و أميرا حالان، و العامل ما تعلّق بهما الجار و المجرور، و أراد الوزير اللغوىّ و هو المعين و الظهير الحامل لوزر من يظاهره و ثقله، و ظاهر أنّه عليه السّلام كان وزيرا للمسلمين و عضدا لهم، و الخيريّة هاهنا تعود إلى سهولة الحال عليهم فى أمر الدنيا فإنّه إذا كان أميرا لهم حملهم على ما تكره طباعهم من المصابرة فى الحروب و التسوية فى العطايا و منعهم ما يطلبون ممّا فيه للشريعة أدنى منع، و لا كذلك إذا كان وزيرا لهم فإنّ حظّ الوزير ليس إلّا الشور و الرأى الصالح و المعاضدة فى الحروب و قد يخالف فى رأيه حيث لا يتمكّن من إلزام العمل به و إنّما كان هذا لتمنّع دوين الأوّل لأنّ قوله: إن أجبتكم. فيه إطماع لهم بالاجابة.و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 2 ، صفحه‏ى 386