نامه 49 شرح ابن میثم بحرانی

و من كتاب له عليه السّلام إلى أمرائه على الجيوش

مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى أَصْحَابِ الْمَسَالِحِ- أَمَّا بَعْدُ- فَإِنَّ حَقّاً عَلَى الْوَالِي أَلَّا يُغَيِّرَهُ عَلَى رَعِيَّتِهِ فَضْلٌ نَالَهُ- وَ لَا طَوْلٌ خُصَّ بِهِ- وَ أَنْ يَزِيدَهُ مَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ مِنْ نِعَمِهِ دُنُوّاً مِنْ عِبَادِهِ- وَ عَطْفاً عَلَى إِخْوَانِهِ- أَلَا وَ إِنَّ لَكُمْ عِنْدِي أَلَّا أَحْتَجِزَ دُونَكُمْ سِرّاً إِلَّا فِي حَرْبٍ- وَ لَا أَطْوِيَ دُونَكُمْ أَمْراً إِلَّا فِي حُكْمٍ- وَ لَا أُؤَخِّرَ لَكُمْ حَقّاً عَنْ مَحَلِّهِ- وَ لَا أَقِفَ بِهِ دُونَ‏ مَقْطَعِهِ- وَ أَنْ تَكُونُوا عِنْدِي فِي الْحَقِّ سَوَاءً- فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ وَجَبَتْ لِلَّهِ عَلَيْكُمُ النِّعْمَةُ- وَ لِي عَلَيْكُمُ الطَّاعَةُ- وَ أَلَّا تَنْكُصُوا عَنْ دَعْوَةٍ وَ لَا تُفَرِّطُوا فِي صَلَاحٍ- وَ أَنْ تَخُوضُوا الْغَمَرَاتِ إِلَى الْحَقِّ- فَإِنْ أَنْتُمْ لَمْ تَسْتَقِيمُوا لِي عَلَى ذَلِكَ- لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِمَّنِ اعْوَجَّ مِنْكُمْ- ثُمَّ أُعْظِمُ لَهُ الْعُقُوبَةَ وَ لَا يَجِدُ عِنْدِي فِيهَا رُخْصَةً- فَخُذُوا هَذَا مِنْ أُمَرَائِكُمْ- وَ أَعْطُوهُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ مَا يُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ أَمْرَكُمْ

اللغة

أقول: أحتجز: أمنع. و النكوص: الرجوع على الأعقاب. و الغمرة: الشدّة.

المعنى

و اعلم أنّه قدّم هاهنا ما يجب على الوالى المطلق لرعيّته بوجه كليّ كما هو عادة الخطيب. ثمّ ثنّى ببيان ما يجب عليه لهم تفصيلا لذلك الكلّيّ. ثمّ ما يجب عليهم. ثمّ أمرهم بلزوم ما أوجبه عليهم.

أمّا الأوّل: فقوله: أمّا بعد. إلى قوله: إخوانه. و أشار فيه إلى أمرين أحدهما. أن لا يغيّره عنهم ما اختصّ به من الفضل و الطول لأنّ تغيّره عنهم خروج عن شرائط الولاية. الثاني: أن يزيده تلك النعمة من اللّه دنّوا من عباده عطفا على إخوانه لأنّ ذلك من تمام شكر النعمة. و أمّا الثاني: فاشترط على نفسه لهم خمسة أمور: أحدها: أن لا يحتجز دونهم سرّا في الامور المصلحيّة إلّا في الحرب. و يحتمل ترك مشورتهم هناك أمرين: أحدهما: أنّ أكثرهم ربّما لا يختار الحرب فلو توقّف على المشورة فيه لما استقام أمره بها. و لذلك كان عليه السّلام كثيرا ما يحملهم على الجهاد و يتضجّر من تثاقلهم عليه، و هم له كارهون. كما سبق.

الثاني: أن يكتم ذلك خوف‏

انتشاره إلى العدوّ فيكون سبب استعداده و تأهّبه للحرب، و لذلك كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا أراد سفرا إلى الحرب ورّى بغيره كما روى أنّه لمّا نوى غزاة بدر كتب للسريّة كتابا و أمرهم أن يخرجوا من المدينة إلى صوب مكّة يومين أو ثلاثة. ثمّ ينظروا في الكتاب و يعملوا بما فيه فلمّا سار و المدّة نظروا فيه فإذا هو يأمرهم فيه بالخروج إلى نخلة محمود و أن يفعلوا كذا و كذا ففعلوا و خرج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله خلفهم إلى بدر و كان الظفر لهم. و لو أعلمهم عليه السّلام حين أمرهم بالخروج أنّه يسير إلى قريش لانتشر ذلك إلى قريش و كان استعدادهم لهم أقوى، و جاز أن يكون ذلك أيضا مانعا لبعض الصحابة عن النهوض خوفا من أهل مكّة و شوكتهم. الثاني: أنّه لا يطوي دونهم أمرا إلّا في حكم. استعار لفظ الطىّ لكتمان الأمر: أى لا يخفى عنكم أمرا إلّا أن يكون حكما من أحكام اللّه فإني أقضيه دونكم من غير مراقبة و مشاورة فيه كالحدود و غيرها.

الثالث: أن لا يؤخّر لهم حقّا عن محلّه كالعطاء و ساير الحقوق اللازمة له و لا يقف به دون مقطعه كالأحكام المتعلّقة بالمتخاصمين المحتاجة إلى الفصل. الرابع: أن يسوى بينهم في الحقّ. و الأوّلان مقتضى فضيلة الحكمة، و الثالث و الرابع مقتضى فضيلة العدل. و أمّا الأمر الثالث: ممّا تستحقّه عليهم فبدأ بوجوب حقّ اللّه تعالى أوّلا. إذ كان حكم قضائه بنصبه لهم إماما و فعله بهم ما ذكر من أتمّ نعمه تعالى عليهم. ثمّ ثنىّ بما يجب له و ذكر امورا: أحدها: بذل طاعته. إذ لا حجّة لهم عليه يكون سببا لعصيانهم. الثانيّ: أن لا ينكصوا عن دعوة له إذا دعاهم. و هو من تمام الطاعة. الثالث: أن لا يقفوا في حيّز التفريط في مصلحة يراها أو يبدو لهم. الرابع: أن يخوضوا الغمرات و يركبوا الشدائد في نصرة الحقّ و طلبه. ثمّ أردف ذلك بالوعيد لهم إن لم يستقيموا له على ما وجب له عليهم ممّا عدّده و توعّد بأمرين: أحدهما: هو ان المعوّج منهم عن طاعته عليه و سقوط منزلته. والثاني: إعظام العقوبة له و عدم الرخصة فيها عنده. و لمّا بيّن لهم ما وجب عليهم أمرهم أن يأخذوا ذلك البيان و النصح منه و من ساير أمراء العدل، و يعطوهم من أنفسهم ما يصلح اللّه به امورهم من الطاعة و فعل ما امروا به. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 5 ، صفحه‏ى 128

 

نامه 48 شرح ابن میثم بحرانی

و من كتاب له عليه السّلام إلى غيره

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الدُّنْيَا مَشْغَلَةٌ عَنْ غَيْرِهَا- وَ لَمْ يُصِبْ صَاحِبُهَا مِنْهَا شَيْئاً- إِلَّا فَتَحَتْ لَهُ حِرْصاً عَلَيْهَا وَ لَهَجاً بِهَا- وَ لَنْ يَسْتَغْنِيَ صَاحِبُهَا بِمَا نَالَ فِيهَا عَمَّا لَمْ يَبْلُغْهُ مِنْهَا- وَ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ فِرَاقُ مَا جَمَعَ وَ نَقْضُ مَا أَبْرَمَ- وَ لَوِ اعْتَبَرْتَ بِمَا مَضَى حَفِظْتَ مَا بَقِيَ وَ السَّلَامُ

اللغة

أقول: اللهج: الحرص الشديد.

و صدّر الكتاب بالتنبيه على معايب الدنيا ليقلّ الرغبة فيها و ذكر منها أمور:

الأوّل: كونها مشغله عن غيرها:
أي عن الآخرة و هو ظاهر ممّا مرّ.

الثاني: كونها لم يصب صاحبها منها شيئا إلّا كان ذلك معدّا للحرص عليها و اللهج بها،
و إليه الإشارة بقوله صلّى اللّه عليه و آله: لو كان لابن آدم و اديين من ذهب لابتغى لهما ثالثا. و لا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب.

الثالث: كونها لا يستغنى صاحبها بما نال فيها عمّا لم يبلغه منها،
و ذلك من لوازم العيب. الثاني فإنّ حصول بعضها إذا كان معدّا للفقر إليها لم يستغن طالبها أبدا منها.
ثمّ أردف ذلك بذكر امور للتنفير عنها أيضا:
أحدها: استعقابها لفراق ما جمع منها. الثاني: نقض ما أحكم من امورها، ثم نبّه على وجوب الاعتبار بما مضى من العمر أو من أحوال الدنيا و القرون الماضية لغاية حفظ ما بقى من العمر أن يضيّع في الباطل أو حفظ ما يبقى من السعادة الاخرويّة بالسعى في تحصيلها. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 5 ، صفحه‏ى 127

 

نامه 47 شرح ابن میثم بحرانی

و من كتاب له عليه السّلام إلى معاوية

فَإِنَّ الْبَغْيَ وَ الزُّورَ يُوتِغَانِ الْمَرْءَ فِي دِينِهِ وَ دُنْيَاهُ- وَ يُبْدِيَانِ خَلَلَهُ عِنْدَ مَنْ يَعِيبُهُ- وَ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ غَيْرُ مُدْرِكٍ مَا قُضِيَ فَوَاتُهُ- وَ قَدْ رَامَ أَقْوَامٌ أَمْراً بِغَيْرِ الْحَقِّ- فَتَأَلَّوْا عَلَى اللَّهِ فَأَكْذَبَهُمْ- فَاحْذَرْ يَوْماً يَغْتَبِطُ فِيهِ مَنْ أَحْمَدَ عَاقِبَةَ عَمَلِهِ- وَ يَنْدَمُ مَنْ أَمْكَنَ الشَّيْطَانَ مِنْ قِيَادِهِ فَلَمْ يُجَاذِبْهُ- وَ قَدْ دَعَوْتَنَا إِلَى حُكْمِ الْقُرْآنِ وَ لَسْتَ مِنْ أَهْلِهِ- وَ لَسْنَا إِيَّاكَ أَجَبْنَا وَ لَكِنَّا أَجَبْنَا الْقُرْآنَ فِي حُكْمِهِ- وَ السَّلَامُ

أقول: هذا الفصل من كتاب له إليه بعد التحكيم و تمسّك معاوية بما حكم به الحكمان، و يحتمل أن يكون عند إجابته إلى التحكيم.

اللغة

و الوتغ بالتحريك: الهلاك. و أوتغ فلان دينه بالإثم: أهلكه و أفسده، و في نسخة الرضى- رحمه اللّه- يذيعان: أى يظهران. و الغبطة: السرور، و الغبطة: تمنّى مثل حال الغير.

المعنى

و صدّر الفصل بذكر الظلم و الكذب و التنفير عنهما بما يلزمهما من إهلاك‏ دين المرء و دنياه، و يبديان خلله و عيبه لمن يعيبه. أمّا في دينه فلكونهما رذيلتين مضادّتين للعدل و العفّة و مجانبتين للإيمان و الدين، و أمّا في دنياه فلأنّ أعظم مطالب الدنيا للعقلاء الذكر الجميل و إنّما يحصل بظهور مكارم الأخلاق دون رذائلها، و أراد بما قضى فواته ما جعله معاوية شبهة له في محاربته و هو المطلب بدم عثمان و هو في قوّة صغرى ضمير احتجّ به على وجوب ترك المشاقّة، و تقدير كبراه: و كلّ من كان كذلك تعيّن عليه أن يترك ذلك الطلب. ثمّ أعلمه بحال من طلب أمرا باطلا و تأوّل على اللّه في ذلك. و الإشارة إلى أصحاب الجمل حيت كانوا طالبين للأمر و الملك فتأوّلوا على اللّه: أى على سلطان اللّه و هى الخلافة الحقّة فجعلوا لخروجهم و بغيهم عليها تأويلا و هو الطلب بدم عثمان، و نحوه من الشبه الباطلة. فأكذبهم اللّه بنصره عليهم و ردّ مقتضى شبههم. و الا كذاب كما يكون بالقول كذلك يكون بالفعل. و قال القطب الراوندىّ- رحمه اللّه- : معناه و قد طلب قوم أمر هذه الامّه فتأوّلو القرآن كقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ«» فسمّوا من نصبوه من الامراء أولى الأمر متحكّمين على اللّه فأكذبهم اللّه بكونهم ظالمين بغاة، و لا يكون الوالى من قبل اللّه كذلك. ثمّ حذّره يوم القيامة منبّها له على ما فيه من سرور الّذين حمدوا عاقبة أعمالهم بما حصلوا عليه من السعادة الباقية و اغتباط غيرهم لهم و تمنّى مثل مراتبهم، و ندم من أمكن الشيطان من قياده فصرفه كيف شاء و لم يجاذبه، و استعار لفظ التمكين من القياد لمطاوعة النفس الأمّارة. و غرض التحذير أن لا يكون كمن سبق من طالبى هذا الأمر بالتأويل على اللّه.

و قوله: و قد دعوتنا. إلى آخره. صورة سؤاله و الجواب عنه. و كونه ليس من أهله. إذ لم يكن صالحا للإمامة كما سبق بيانه مرارا، و حيث لم يكن أهلا لأن يجاب إلى الرضى بالتحكيم‏ أعلمه بذلك و أنّه إنّما أجاب القرآن إلى حكمه، و ذلك في قوله تعالى في حقّ الزوجين وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها«» الآية فجعل عليه السّلام هذا أصلا و قاس عليه بالطريق الأولى حال الامّة عند وقوع الشقاق بينهم. و بعين ذلك احتجّ ابن عباس- رضي اللّه عنه- على الخوارج حيث أنكروا التحكيم فقالوا: كيف يجوز لعليّ أن يحكّم في دين اللّه الرجال. فقال لهم: إنّ ذلك ليس بأمر عليّ عليه السّلام و إنّما هو بأمر من اللّه تعالى في كتابه. إذ يقول في حقّ الزوجين «و إن خفتم» الآية أ فترون أنّه أمر تعالى بذلك في حقّ الرجل و امراته مراعاة لمصلحتهما و لا يأمر بذلك في حقّ الأمّة رعيا لمصلحتهم فرجع كثير منهم إلى قوله. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 5 ، صفحه‏ى 125

نامه 46 شرح ابن میثم بحرانی

و من وصيّة له عليه السّلام للحسن و الحسين عليهما السّلام لما ضربه ابن ملجم لعنه اللّه

أُوصِيكُمَا بِتَقْوَى اللَّهِ وَ أَلَّا تَبْغِيَا الدُّنْيَا وَ إِنْ بَغَتْكُمَا- وَ لَا تَأْسَفَا عَلَى شَيْ‏ءٍ مِنْهَا زُوِيَ عَنْكُمَا- وَ قُولَا بِالْحَقِّ وَ اعْمَلَا لِلْأَجْرِ- وَ كُونَا لِلظَّالِمِ خَصْماً وَ لِلْمَظْلُومِ عَوْناً- أُوصِيكُمَا وَ جَمِيعَ وَلَدِي وَ أَهْلِي وَ مَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي- بِتَقْوَى اللَّهِ وَ نَظْمِ أَمْرِكُمْ‏ وَ صَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ- فَإِنِّي سَمِعْتُ جَدَّكُمَا ص يَقُولُ- صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلَاةِ وَ الصِّيَامِ- اللَّهَ اللَّهَ فِي الْأَيْتَامِ فَلَا تُغِبُّوا أَفْوَاهَهُمْ- وَ لَا يَضِيعُوا بِحَضْرَتِكُمْ- وَ اللَّهَ اللَّهَ فِي جِيرَانِكُمْ فَإِنَّهُمْ وَصِيَّةُ نَبِيِّكُمْ- مَا زَالَ يُوصِي بِهِمْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُمْ- وَ اللَّهَ اللَّهَ فِي الْقُرْآنِ- لَا يَسْبِقُكُمْ بِالْعَمَلِ بِهِ غَيْرُكُمْ- وَ اللَّهَ اللَّهَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا عَمُودُ دِينِكُمْ- وَ اللَّهَ اللَّهَ فِي بَيْتِ رَبِّكُمْ لَا تُخَلُّوهُ مَا بَقِيتُمْ- فَإِنَّهُ إِنْ تُرِكَ لَمْ تُنَاظَرُوا- وَ اللَّهَ اللَّهَ فِي الْجِهَادِ بِأَمْوَالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ- وَ أَلْسِنَتِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ- وَ عَلَيْكُمْ بِالتَّوَاصُلِ وَ التَّبَاذُلِ- وَ إِيَّاكُمْ وَ التَّدَابُرَ وَ التَّقَاطُعَ- لَا تَتْرُكُوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ- فَيُوَلَّى عَلَيْكُمْ شِرَارُكُمْ ثُمَّ تَدْعُونَ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ- ثُمَّ قَالَ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ- لَا أُلْفِيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ خَوْضاً- تَقُولُونَ قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ- أَلَا لَا تَقْتُلُنَّ بِي إِلَّا قَاتِلِي- انْظُرُوا إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِهِ هَذِهِ- فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ- وَ لَا تُمَثِّلُوا بِالرَّجُلِ- فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص يَقُولُ- إِيَّاكُمْ وَ الْمُثْلَةَ وَ لَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ

اللغة

أقول: بغيت كذا: أردته. و إغباب أفواههم: أن يطعموهم يوما و يتركوهم‏ يوما. و المناظرة: المحافظة و المراقبة. و التدابر: التقاطع و التعادى. و المثله التنكيل.

و قد أوصاهما بأمور:

أولها: تقوى اللّه
الّتي هى رأس كلّ خير.

الثاني: الزهد في الدنيا، و أن لا يريداها و إن أرادتهما:
أى أقبلت عليهما بما يعدّ فيها [عنها خ‏] خيرا، و استعار لفظ البغية لها باعتبار سهولتها عليهما عن توافق أسباب خيرها لهما فهى بذلك الاعتبار كالطالبة لها.

الثالث: أن لا يأسفا على ما قبض و غيّب عنهما
من خيراتها و هو من لوازم الزهد الحقيقىّ فيها.

الرابع: أن لا يقولا إلّا الحقّ
و هو ما ينبغي قوله من أوامر اللّه و نواهيه، و أن يعملا لأجر الآخرة: أى يكون أقوالهما و أعمالهما مقصورة على هذين.

الخامس: أن يكونا للظالم خصيما و للمظلوم عونا،
و ذلك من لوازم قول الحقّ و العمل له. إذ من كان على حاقّ العدل لابدّ أن يجانب الظالم المنحرف إلى طرف الجور و يخاصمه ليردّه إلى فضيلة العدل فيكون حينئذ عونا للمظلوم.
ثمّ عاد مؤكّدا لوصيّتهما مع جميع ولده و أهله و من بلغه كتابه من عباد اللّه بتقوى اللّه مكرّرا لها و مردفا بأوامر اخرى:
أحدها: صلاح ذات البين
و ذات كناية عن الحالة الموجبة للبين و الافتراق.
و قيل: هى الحالة بين الرجلين و القبيلتين أو الرجل و أهله. أمر بإصلاح ما بينهما من فساد. و قيل: يحتمل أن يريد بالبين هنا الوصل، و بالذات النفس: أى أصلحوا نفس وصلكم من فساد يقع فيه. و قيل: إنّ ذات هنا مقحمة زائدة، و نحوه قوله تعالى فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ«» و صلاح ذات البين من لوازم الالفة و المحبّة في اللّه، و هى فضيلة تحت العفّة. و رغّب في ذلك بما رواه سماعا عن‏ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من قوله: صلاح ذات البين أفضل من عامّة الصلاة و الصيام و وجه الأفضليّة هنا أنّك علمت فيما سلف أنّ أهمّ المطالب للشارع صلّى اللّه عليه و آله جمع الخلق على سلوك سبيل اللّه و انتظامهم في سلك دينه و لن يتمّ ذلك مع تنازعهم و تنافر طباعهم و ثوران الفتنة بينهم فكان صلاح ذات البين ممّا لا يتمّ أهمّ مطالب الشارع إلّا به، و هذا المعنى غير موجود في الصلاة و الصيام لإمكان المطلوب المذكور بدونهما فتحقّقت أفضليّته من هذه الجهة. و الخبر في قوّة صغرى ضمير تقدير كبراه: كلّما كان كذلك فواجب أن يفعل.

الثاني: حذّره من اللّه تعالى في الأيتام و نهى عن إجاعتهم:
و كنى عنها باغباب افواههم اذ هو مظنّة جوعهم. ثمّ عن إضاعتهم و استلزم ذلك النهى أمرهما ببرّهم و الإحسان إليهم و هو فضيلة تحت العفّة.

الثالث: الوصيّة في الجيران و التحذير من اللّه فيهم
و نبّه على حفظ قلوبهم و إكرامهم بوصيّة الرسول صلّى اللّه عليه و آله في حقّهم، و جعلهم نفس الوصيّة تأكيدا للمحافظة عليهم كالمحافظة على وصيّة رسول اللّه. و المجاز من باب إطلاق اسم المتعلّق. و قوله: ما زال. إلى قوله: سيورّثهم. تفسير للوصيّة المذكورة، و هى أيضا في قوّة صغرى ضمير تقدير كبراه: و كلّ من أوصى النبيّ في حقّه كذلك فواجب أن يحفظ.

الرابع: الوصيّة بما اشتمل عليه القرآن الكريم
من القوانين و القواعد، و التحذير من اللّه سبحانه في تركه، و النهى عن أن يسبقهم بذلك غيرهم المستلزم للأمر بالمسارعة و السبق إليه.

الخامس: الوصيّة بأمر الصلاة و التحذير من اللّه
في أمرها، و نبّه على فضيلتها بضمير صغراه قوله: فإنّها عمود الدين. و هو عين ما رويناه من الحديث قبل، و تقدير الكبرى: و كلّ ما كان كذلك فواجب أن يقام الدين بإقامته. ا

السادس: الوصيّة ببيت ربّهم و النهى عن ترك زيارته مدّة العمر
و قد سبق‏ سرّه، و نبّه على فضيلة اخرى له توجب ملازمته و هو ما يستلزمه تركه من عدم مناظرة اللّه لتاركيه و ترك محافظته عليهم و مراقبته لأنّ من لا يحفظ اللّه في بيته و لا يراقبه في مراعاة جانبه لم يحفظه اللّه و لم يراقبه، و يحتمل أن يريد لن يناظركم الأعداء و لم يراقبوكم. إذ في الإجماع إلى بيت اللّه و المحافظة عليه عزّ باللّه و اعتصام به يوجب مراقبة الخلق المعتصمين به و انفعال القلوب عنهم و عن كثرتهم و مناظرتهم.

السابع: الوصيّة بالجهاد في سبيل اللّه بالمال و النفس و اللسان و التحذير من اللّه في تركه
و هو ممّا علمت فضيلته.

الثامن: الوصيّة بالتواصل و التباذل:
أى يبذل كلّ منهم النصرة لصاحبه في سبيل اللّه.

التاسع: التحذير من التقاطع و التدابر.
و سرّه ظاهر.

العاشر: النهى عن ترك الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر
المستلزم للأمر بهما. و نفّر عن ذلك الترك بما يستلزمه و يعدّ له من تولّى الأشرار عليهم و عدم استجابة دعاء الداعين منهم، و وجه إعداده لذلك أنّ ترك الاجتماع على الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر يستلزم ثوران المنكر و قلّة المعروف من طباع الأشرار و يعدّ لاستيلائها و غلبتها و ولاية أهلها و ذلك يستلزم كثرة الشرّ و الأشرار و قلّة الصالحين و ضعف هممهم عن استنزال رحمة اللّه تعالى بأدعيتهم فيدعون فلا يستجاب لهم.

ثمّ عقّب ذلك بوصيّة أهل بيته من بنى عبد المطّلب بما يخصّه من أمر دمه. و الوصيّة بأمور:
أحدها: نهاهم عن إثارة الفتنة بسبب قتله
فقال: لا أجدنّكم تخوضون دماء المسلمين خوضا، و كنّى عن كثرة القتل.
و قوله: تقولون: قتل أمير المؤمنين. حكاية ما جرت به العادة أن يقوله طالب الثارحين هياجه إظهارا لعذره و السبب الحامل له على إثارة الفتنة.
الثاني: نهاهم أن يقتلوا إلّا قاتله.
إذ ذلك هو مقتضى العدل.
الثالث: نبّههم بقوله: انظروا. إلى قوله: هذه.
على أنّه لا يجوز قتله بمجرّدضربته إن لو حصل الموت بسبب غيرها إلّا أن يعلم أنّ موته كان بسبها.
الرابع: أمرهم أن يضربوه ضربة بضربة،
و ذلك مقتضى عدله عليه السّلام أيضا.
الخامس: نهى عن المثلة به معلّلا بما رواه سماعا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله
و ذلك لما في المثلة من تعدّي الواجب و قسوة القلب و شفاء الغيظ و كلّ ذلك رذائل يجب الانتهاء عنها، و هو في قوّة صغرى‏ ضمير تقدير كبراه: و كلّ ما نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عنه فوجب أن لا يفعل. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم ، ج 5 ، صفحه‏ى 120

 

نامه 45 شرح ابن میثم بحرانی

و من كتاب له عليه السّلام إلى بعض عماله

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكَ مِمَّنْ أَسْتَظْهِرُ بِهِ عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ- وَ أَقْمَعُ بِهِ نَخْوَةَ الْأَثِيمِ- وَ أَسُدُّ بِهِ لَهَاةَ الثَّغْرِ الْمَخُوفِ- فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ عَلَى مَا أَهَمَّكَ- وَ اخْلِطِ الشِّدَّةَ بِضِغْثٍ مِنَ اللِّينِ- وَ ارْفُقْ مَا كَانَ الرِّفْقُ أَرْفَقَ- وَ اعْتَزِمْ بِالشِّدَّةِ حِينَ لَا تُغْنِي عَنْكَ إِلَّا الشِّدَّةُ- وَ اخْفِضْ لِلرَّعِيَّةِ جَنَاحَكَ وَ ابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ- وَ أَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ- وَ آسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ وَ النَّظْرَةِ وَ الْإِشَارَةِ وَ التَّحِيَّةِ- حَتَّى لَا يَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ- وَ لَا يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ

اللغة

أقول: النخوة: الكبر. و الأثيم: الآثم. و الضغث: النصيب من الشي‏ء يختلط بغيره. و أصله القبضة من الحشيش المختلط من رطبه و يابسه. و اعتزم بكذا: أى لزمه و أخذ به.

المعنى

و قد استماله أوّلا بأمور ثلاثة أعلمه بها من نفسه و أعدّه لقبول أوامره،
و هى كونه ممّن يستظهر به على إقامة الدين، و يقمع به نخوة الأثيم، و يسدّ به الثغر المخوف. و استعار لفظ اللهاة لما عساه ينفتح من مفاسد الثغر فيحتاج إلى سدّه‏ بالعسكر و السلاح ملاحظة الشبهه بالأسد الفاتح فاه للافتراس.
ثمّ أردف ذلك بما أمره به من مكارم الأخلاق.
أوّلها: أن يستعين باللّه على ما أهمّه
من اموره فإنّ الفزع إليه و الاستعانة به أفضل ما أعان على حصول المهمّات.
الثاني: أن يمزج الشدّة بضرب من اللين
و يضع كلامه موضعه فيرفق و يلين ما كان الرفق أولى و أوفق له و يأخذ بالشدّة حين لا يغنى إلّا الشدّة.
الثالث: أن يخفض جناحه لرعيّته،
و هو كناية عن التواضع.
الرابع: أن يبسط لهم وجهه،
و هو كناية عن لقائهم بالبشاشة و البشر و ترك العبوس و التقطيب.
الخامس: أن يلين لهم جانبه،
و هو كناية عن المساهلة معهم و عدم التشدّد عليهم.
السادس: أن يواسى بينهم في اللحظة و النظرة و الإشارة و التحيّة،
و اللحظة أخصّ من النظرة و هو أمر بفضيلة العدل بين الرعيّة لئلّا يطمع عظيمهم في حيفه على الضعيف فيتسلّط عليه، و لا ييأس الضعيف من عدله على القوىّ فيضعف نفسه و يكلّ عمّا هو بصدده من الأعمال المصلحيّة، و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 5 ، صفحه‏ى 118

 

نامه 44 شرح ابن میثم بحرانی

و من كتاب له عليه السّلام إلى عثمان بن حنيف الأنصارى، و هو عامله على البصرة

و قد بلغه أنه دعى إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها أَمَّا بَعْدُ يَا ابْنَ حُنَيْفٍ- فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ- دَعَاكَ إِلَى‏ مَأْدُبَةٍ فَأَسْرَعْتَ إِلَيْهَا- تُسْتَطَابُ لَكَ الْأَلْوَانُ وَ تُنْقَلُ إِلَيْكَ الْجِفَانُ- وَ مَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُجِيبُ إِلَى طَعَامِ قَوْمٍ- عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ وَ غَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ- فَانْظُرْ إِلَى مَا تَقْضَمُهُ مِنْ هَذَا الْمَقْضَمِ- فَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ عِلْمُهُ فَالْفِظْهُ- وَ مَا أَيْقَنْتَ بِطِيبِ وُجُوهِهِ فَنَلْ مِنْهُ- أَلَا وَ إِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ- وَ يَسْتَضِي‏ءُ بِنُورِ عِلْمِهِ- أَلَا وَ إِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ- وَ مِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ- أَلَا وَ إِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ- وَ لَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَ اجْتِهَادٍ وَ عِفَّةٍ وَ سَدَادٍ- فَوَاللَّهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبْراً- وَ لَا ادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً- وَ لَا أَعْدَدْتُ لِبَالِي ثَوْبِي طِمْراً- بَلَى كَانَتْ فِي أَيْدِينَا فَدَكٌ مِنْ كُلِّ مَا أَظَلَّتْهُ السَّمَاءُ- فَشَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ- وَ سَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ آخَرِينَ- وَ نِعْمَ الْحَكَمُ اللَّهُ- وَ مَا أَصْنَعُ بِفَدَكٍ وَ غَيْرِ فَدَكٍ- وَ النَّفْسُ مَظَانُّهَا فِي غَدٍ جَدَثٌ تَنْقَطِعُ فِي ظُلْمَتِهِ آثَارُهَا- وَ تَغِيبُ أَخْبَارُهَا- وَ حُفْرَةٌ لَوْ زِيدَ فِي فُسْحَتِهَا وَ أَوْسَعَتْ يَدَا حَافِرِهَا- لَأَضْغَطَهَا الْحَجَرُ وَ الْمَدَرُ- وَ سَدَّ فُرَجَهَا التُّرَابُ الْمُتَرَاكِمُ- وَ إِنَّمَا هِيَ نَفْسِي أَرُوضُهَا بِالتَّقْوَى- لِتَأْتِيَ آمِنَةً يَوْمَ الْخَوْفِ الْأَكْبَرِ- وَ تَثْبُتَ عَلَى جَوَانِبِ الْمَزْلَقِ وَ لَوْ شِئْتُ لَاهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ إِلَى مُصَفَّى هَذَا الْعَسَلِ- وَ لُبَابِ هَذَا الْقَمْحِ وَ نَسَائِجِ هَذَا الْقَزِّ- وَ لَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ- وَ يَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الْأَطْعِمَةِ- وَ لَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَةِ مَنْ لَا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ- وَ لَا عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ- أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَ حَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى- وَ أَكْبَادٌ حَرَّى أَوْ أَكُونَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ-
وَ حَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَةٍ وَ حَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلَى الْقِدِّ

أَ أَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ- هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ- وَ لَا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ- أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ- فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ- كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا- أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا- تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلَافِهَا وَ تَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا- أَوْ أُتْرَكَ سُدًى أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً- أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ الضَّلَالَةِ أَوْ أَعْتَسِفَ طَرِيقَ الْمَتَاهَةِ وَ كَأَنِّي بِقَائِلِكُمْ يَقُولُ- إِذَا كَانَ هَذَا قُوتُ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ- فَقَدْ قَعَدَ بِهِ الضَّعْفُ عَنْ قِتَالِ الْأَقْرَانِ- وَ مُنَازَلَةِ الشُّجْعَانِ- أَلَا وَ إِنَّ الشَّجَرَةَ الْبَرِّيَّةَ أَصْلَبُ عُوداً- وَ الرَّوَاتِعَ الْخَضِرَةَ أَرَقُّ جُلُوداً- وَ النَّابِتَاتِ الْعِذْيَةَ أَقْوَى وَقُوداً وَ أَبْطَأُ خُمُوداً- . وَ أَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ كَالضَّوْءِ مِنَ الضَّوْءِ- وَ الذِّرَاعِ مِنَ الْعَضُدِ- وَ اللَّهِ لَوْ تَظَاهَرَتِ الْعَرَبُ عَلَى قِتَالِي لَمَا وَلَّيْتُ عَنْهَا- وَ لَوْ أَمْكَنَتِ الْفُرَصُ مِنْ رِقَابِهَا لَسَارَعْتُ إِلَيْهَا- وَ سَأَجْهَدُ فِي أَنْ أُطَهِّرَ الْأَرْضَ مِنْ هَذَا الشَّخْصِ الْمَعْكُوسِ- وَ الْجِسْمِ الْمَرْكُوسِ-

حَتَّى تَخْرُجَ الْمَدَرَةُ مِنْ بَيْنِ حَبِّ الْحَصِيدِ إِلَيْكِ عَنِّي يَا دُنْيَا فَحَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ- قَدِ انْسَلَلْتُ مِنْ مَخَالِبِكِ- وَ أَفْلَتُّ مِنْ حَبَائِلِكِ- وَ اجْتَنَبْتُ الذَّهَابَ فِي مَدَاحِضِكِ- أَيْنَ الْقُرُونُ الَّذِينَ غَرَرْتِهِمْ بِمَدَاعِبِكِ- أَيْنَ الْأُمَمُ الَّذِينَ فَتَنْتِهِمْ بِزَخَارِفِكِ- فَهَا هُمْ رَهَائِنُ الْقُبُورِ وَ مَضَامِينُ اللُّحُودِ- وَ اللَّهِ لَوْ كُنْتِ شَخْصاً مَرْئِيّاً وَ قَالَباً حِسِّيّاً- لَأَقَمْتُ عَلَيْكِ حُدُودَ اللَّهِ فِي عِبَادٍ غَرَرْتِهِمْ بِالْأَمَانِيِّ- وَ أُمَمٍ أَلْقَيْتِهِمْ فِي الْمَهَاوِي- وَ مُلُوكٍ أَسْلَمْتِهِمْ إِلَى التَّلَفِ- وَ أَوْرَدْتِهِمْ مَوَارِدَ الْبَلَاءِ إِذْ لَا وِرْدَ وَ لَا صَدَرَ- هَيْهَاتَ مَنْ وَطِئَ دَحْضَكِ زَلِقَ- وَ مَنْ رَكِبَ لُجَجَكِ غَرِقَ- وَ مَنِ ازْوَرَّ عَنْ حَبَائِلِكِ وُفِّقَ- وَ السَّالِمُ مِنْكِ لَا يُبَالِي إِنْ ضَاقَ بِهِ مُنَاخُهُ- وَ الدُّنْيَا عِنْدَهُ كَيَوْمٍ حَانَ انْسِلَاخُهُ اعْزُبِي عَنِّي فَوَاللَّهِ لَا أَذِلُّ لَكِ فَتَسْتَذِلِّينِي- وَ لَا أَسْلَسُ لَكِ فَتَقُودِينِي- وَ ايْمُ اللَّهِ يَمِيناً أَسْتَثْنِي فِيهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ- لَأَرُوضَنَّ نَفْسِي رِيَاضَةً تَهِشُّ مَعَهَا إِلَى الْقُرْصِ- إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهِ مَطْعُوماً- وَ تَقْنَعُ بِالْمِلْحِ مَأْدُوماً- وَ لَأَدَعَنَّ مُقْلَتِي كَعَيْنِ مَاءٍ نَضَبَ مَعِينُهَا- مُسْتَفْرِغَةً دُمُوعَهَا- أَ تَمْتَلِئُ السَّائِمَةُ مِنْ رِعْيِهَا فَتَبْرُكَ- وَ تَشْبَعُ الرَّبِيضَةُ مِنْ عُشْبِهَا فَتَرْبِضَ- وَ يَأْكُلُ عَلِيٌّ مِنْ زَادِهِ فَيَهْجَعَ- قَرَّتْ إِذاً عَيْنُهُ إِذَا اقْتَدَى بَعْدَ السِّنِينَ الْمُتَطَاوِلَةِ- بِالْبَهِيمَةِ الْهَامِلَةِ وَ السَّائِمَةِ الْمَرْعِيَّةِ- طُوبَى لِنَفْسٍ أَدَّتْ إِلَى رَبِّهَا فَرْضَهَا- وَ عَرَكَتْ بِجَنْبِهَا بُؤْسَهَا وَ هَجَرَتْ فِي اللَّيْلِ غُمْضَهَا- حَتَّى إِذَا غَلَبَ الْكَرَى عَلَيْهَا افْتَرَشَتْ أَرْضَهَا- وَ تَوَسَّدَتْ كَفَّهَا- فِي مَعْشَرٍ أَسْهَرَ عُيُونَهُمْ خَوْفُ مَعَادِهِمْ- وَ تَجَافَتْ عَنْ مَضَاجِعِهِمْ جُنُوبُهُمْ- وَ هَمْهَمَتْ بِذِكْرِ رَبِّهِمْ شِفَاهُهُمْ- وَ تَقَشَّعَتْ بِطُولِ اسْتِغْفَارِهِمْ ذُنُوبُهُمْ- أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ- فَاتَّقِ اللَّهَ يَا ابْنَ حُنَيْفٍ وَ لْتَكْفُفْ أَقْرَاصُكَ- لِيَكُونَ مِنَ النَّارِ خَلَاصُكَ«»

اللغة

أقول: المأدبة بالضمّ: الطعام يدعى إليه. و العائل: الفقير. و القضم: الأكل بأدنى الفم. و الطمر: الثوب الخلق. و الوفر: المال الكثير. و فدك: اسم قرية كانت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله. و الجدث: القبر. و أضغطها: ضيّقها. و القمح: الحنطة. و النسائج: جمع نسجة بمعنى منسوجة. و الجشع. أشدّ الحرص على الطعام. و المبطان: عظيم البطن لكثرة الأكل. و غرثى: جايعة. و البطنة: الكظّة و هي الامتلاء من الطعام و التقمّم: تتبّع القمامة و هي الكناسة. و تكترش: تملأ كرشها. و اسدى: الملقى المهمل. و الروائع: الأشجار الّتي تروع بنضارتها. و البدويّة: النباتات الّتي لا يسقيها إلّا ماء المطر. و المركوس: المردود مقلوبا كالمنكوس. و المداحض: المزالق، و ازورّ أخذ جانبا. و اعزبي. ابعدي. يقال: عزب الرجل- بالفتح- : إذا بعد. و سلس الرجل يسلس بكسر اللام في المستقبل: سهل قياده. و الرياضة: التأديب و التعويد. و الربيضة: الجماعة الرابضة من الغنم. و تجافت: أي بانت و ارتفعت. و الهمهمة: الصوت الخفيّ.

و في الكتاب مقاصد:

الأوّل: أشار إلى ما يريد عتابه عليه
و هو إجابته إلى المأدبة مسرعا يستطاب له الألوان و تنقل إليه الجفان، و أعلمه أنّه بلغه ذلك مقرّرا له ليحسن توبيخه، و ذلك في قوله: أمّا بعد. إلى قوله: الجفان.

الثاني: أشار على وجه المعاتبة إلى تخطئته في ذلك
بقوله: و ما ظننت أنّك إلى كذا: أى كان ظنّي فيك من الورع أنّك تنزّه نفسك عن الإجابة إلى طعام قوم لا يلتفتون إلى فقرائهم، و يقصرون الدعوة و الكرامة على أغنيائهم و امرائهم، و وجه الخطاء في إجابة داعي هؤلاء أنّ تخصيصهم الأغنياء دون الفقراء بالكرامة و الدعوة دليل واضح على أنّهم إنّما يريدون بذلك الدنيا و السمعة و الرئاء دون وجه اللّه تعالى، و من كان كذلك فإجابته موافقة له على ذلك و رضى بفعله، و ذلك خطاء كبير خصوصا من أمراء الدين المتمكّنين من إنكار المنكرات.

الثالث: أمره أن يحترز فيما يتّفق له أن يقع فيه من ذلك
بالنظر إلى ما يحضر من الطعام فما وجد فيه شبهة حرام و لم يحقّق حاله فليتركه، و ما تيقّن حلّه و طيب وجه اكتسابه ببراءة عن الشبهة فينال منه، و كنّى عنه بالمقضم تحقيرا له و تقليلا، و يفهم منه بحسب التأديب الأوّل أنّ التنزّه عن هذا المباح أفضل له من تناوله.

الرابع: نبّهه بعد ذلك بقوله: ألا و إنّ. إلى قوله: علمه. على أنّ له إماما يجب أن يقتدى به
و هو تمثيل في قوّة قياس كامل حذفت صغراه. فأصل التمثيل مطلق الإمام و المأموم، و علّته كونهما إماما و مأموما، و فرعه هو عليه السّلام و عامله، و حكمه وجوب الاقتداء. و تقدير القياس: أنّك مأموم لإمام، و كلّ مأموم لإمام فيجب عليه أن يقتدي بإمامه، ينتج أنّه يجب عليك أن تقتدي بإمامك و يستضي‏ء بنور علمه.

الخامس: أردف ذلك بالبيّنة على ما يجب أن يقتدي به فيه من حاله في دنياه

و هو اكتفاؤه من ملبوسها بما يستر بدنه من طمريه: و من مطعومها بما يسدّ به فورة جوعه من قرصيه غير ملتفت فيما لبسه إلى زينته فإنّ طمريه كانا عمامة و مدرعة قد استحيا من راقعها، و لا مكترث فيما طعمه بلذّة و طيب فإنّ قرصيه كانا من شعير غير منخول واحد بالغداة واحد بالعشيّ.

السادس: نبّه أصحابه على أنّ رياضته تلك لا يستطاع لهم
فإنّها قوّة مشروطة باستعداد لم يصلوا إليه. ثمّ أمرهم إذ كانت الحال كذلك أن يقصروا فى معونته على أنفسهم و رياضته بالورع، و أراد به هنا الكفّ عن المحارم ثمّ بالاجتهاد في الطاعة، و يحتمل أن يريد بالورع لزوم الأعمال الجميلة. ثمّ الاجتهاد فيها.

السابع: نبّه بالقسم البارّ على ردّ ما عساه يعرض لبعض الأذهان الفاسدة في حقّه عليه السّلام أنّ زهده في الدنيا مشوب برياء و سمعة
و أنّ وراءه محبّتها و جمعها و ادّخارها خصوصا و هو إمام الوقت و خليفة الأرض فعدّد أنواع ما أفاء اللّه على المسلمين منها ثمّ أقسم أنّه لم يأخذ منه إلّا قوته، و شبّهه في القلّة و الحقارة بقوت الأتان الدبرة، و خصّها لأنّ ضعفها بالدبر و شغلها بألمه يقلّل قوتها. ثمّ بالغ فى وصف حقارة دنياهم عنده فأخبر أنّها في نظره و اعتباره أهون من عفصة مقرة، و ظاهر أنّ من كان كذلك كيف يتصوّر محبّته للدنيا و عمله لها.

الثامن: أنّه لمّا قال فيما أقسم عليه من الدنيا: و لا حزت من أرضها شبرا.
استثنى من ذلك فدك
بقوله: بلى قد كانت لنا فدك من كلّ ما أظلّته السماء. و ذكرها في معرض حكاية حاله و حال القوم معه على سبيل التشكّي و التظلّم ممن أخذها منهم إلى اللّه سبحانه و تسليم الأمر له و الرضا بكونه حكما. و اعلم أنّ فدك كانت خاصّة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ذلك أنّه لمّا فرغ من أمر خيبر قذف اللّه في قلوب أهل فدك الرعب فبعثوا إليه صلّى اللّه عليه و آله يصالحونه على النصف فقبل ذلك منهم فكانت له خاصّة إذ لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب، و روى أنّه صالحهم على كلّها. ثمّ المشهور بين الشيعة و المتّفق عليه عندهم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أعطاها فاطمة عليها السّلام، و رووا ذلك من طرق مختلفة: منها عن أبي سعيد الخدري قال:

لمّا أنزلت وَ آتِ ذَا الْقُرْبى‏ حَقَّهُ أعطى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاطمة عليها السّلام فدك فلمّا تولّى ابو بكر الخلافة عزم على أخذها منها. فأرسلت إليه تطالبه بميراثها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تقول: إنّه أعطاني فدكا في حياته و استشهدت على ذلك عليّا عليه السّلام و أمّ أيمن فشهدا لها بها. فأجابها عن الميراث بخبر رواه هو: نحن معاشر الأنبياء لا نورّث فما تركناه فهو صدقة، و عن دعوى فدك أنّها لم تكن للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و إنّما كانت مالا للمسلمين في يده يحمل به الرجال و ينفقه في سبيل اللّه و أنا أليه كما كان يليه.

فلمّا بلغها ذلك لاثت خمارها و أقبلت في لمّة من حفدتها و نساء قومها تطأ في ذيولها حتّى دخلت عليه و معه جلّ المهاجرين و الأنصار فضربت بينها و بينهم قطيفة. ثمّ أنّت أنّة أجهش لها القوم بالبكاء. ثمّ أمهلت طويلا حتّى سكتوا من فورتهم«» و قالت: أبتدء بحمد من هو أولى بالحمد و الطول و المجد الحمد للّه على ما أنعم و له الشكر بما ألهم. ثمّ خطبت خطبة طويلة قالت في آخرها: فاتّقوا اللّه حقّ تقاته و أطيعوه فيما أمركم فإنّما يخشى اللّه من عباده العلماء، و احمدوا اللّه الّذي بعظمته و نوره يبتغى من في السماوات و من في الأرض إليه الوسيلة، و نحن وسيلته في خلقه، و نحن خاصّته و محلّ قدسه، و نحن حجّته في غيبه، و نحن ورثة أنبيائه.

ثمّ قالت أنا فاطمة بنت محمّد. أقول عودا على بدء ما أقول ذلك شرفا و لا شططا فاسمعوا بأسماع واعية. ثمّ قالت: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. فإن تعزوه تجدوه أبى دون آبائكم و أخا ابن عمّى دون رجالكم. ثمّ قالت: ثمّ أنتم تزعمون أن لا إرث لأبى أ فحكم الجاهلية تبغون و من أحسن من اللّه حكما لقوم يوقنون ايها معشر الملّة. أفى كتاب اللّه أن ترث يا ابن أبي قحافة أباك و لا أرث أبى لقد جئت شيئا فريّا فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك فنعم الحكم اللّه و الزعيم محمّد و الموعد القيامة، و عندالساعة يخسر المبطلون، و لكلّ نبأ مستقرّ و سوف تعلمون من يأتيه عذاب مقيم قال: ثمّ التفتت إلى قبر أبيها فتمثّلت بقول هند بنت أمامة:
قد كان بعدك أنباء و هنبثة لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب‏
أبدت رجال لنا نجوى صدورهم‏
لمّا قضيت و حالت دونك الترب‏
تجهّمتنا رجال و استخفّ بنا إذ غبت عنّا فنحن اليوم مغتصب‏

قال فلم ير الناس أكثر باكيا و باكية منهم يومئذ. ثمّ عدلت إلى مسجد الأنصار، و قالت: يا معشر الأنصار و أعضاد الملّة و حضنة الإسلام ما هذه الفترة عن نصرتى و الونية عن معونتي و الغميزة في حقّى و السنة عن ظلامتي أمّا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: المرء يحفظ في ولده. سرعان ما أحدثتم، و عجلان ما آتيتم ألأن مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمتّم دينه. ها إنّ موته لعمرى خطب جليل استوسع وهيه و استنهر فتقه، و فقد راتقه، و أظلمت الأرض له، و خشعت الجبال، و أكدت الآمال. اضيع بعده الحريم و هتكت الحرمة و أزيلت المصونة، و تلك نازلة أعلن بها كتاب اللّه قبل موته و أنبأكم بها قبل وفاته فقال: و ما محمّد إلّا رسول قد خلت من قبله الرسل أ فإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم و من ينقلب على عقبيه فلن يضرّ اللّه شيئا و سيجزي اللّه الشاكرين. ايها بنى قبيلة أ اهضم تراث أبى و أنتم بمرأى و مسمع تبلغكم الدعوة و تشملكم الصوت، و فيكم العدّة و العدد، و لكم الدار و الجنن، و أنتم نجبة اللّه الّتى انتجت، و خيرة اللّه الّتي اختار. فاديتم العرب، و ناطحتم الامم، و كافحتم البهم حتّى دارت بكم رحى الإسلام، و درّ حلبه و خبت نيران الحرب، و سكنت فورة الشرك، و هدأت دعوة الهرج، و استوثق نظام الدين. أفتأخّرتم بعد الإقدام، و جبنتم بعد الشجاعة عن قوم نكثوا أيمانهم من بعد إيمانهم و طعنوا في دينكم. فقاتلوا أئمّة الكفر إنّهم لا أيمان لهم لعلّهم ينتهون.

ألا و قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض و ركنتم إلى الدعة و جحدتم الدين و وسّعتم الّذي سوّغتم. و إن تكفروا أنتم و من في الأرض جميعا فإنّ اللّه غنىّ حميد. ألا و قد قلت ما قلت على معرفة منّى بالخذلة الّتي خامرتكم و خور القنا و ضعف اليقين فدونكموها فاحتبقوها مدبرة الظهور ناقبة الخفّ‏ باقية العار موسومة الشنار موصولة بنار اللّه الموقدة الّتى تطّلع على الأفئدة فبعين اللّه ما تعملون. و سيعلم الذين ظلموا أىّ منقلب ينقلبون. ثمّ رجعت إلى بيتها و أقسمت أن لا تكلّم أبا بكر و لتدعونّ اللّه عليه، و لم تزل كذلك حتّى حضرتها الوفاة فأوصت أن لا يصلّى عليها فصلّى عليها العبّاس و دفنت ليلا، و روي أنّه لمّا سمع كلامها أحمد اللّه و أثنى عليه و صلّى على رسوله، ثمّ قال: يا خيرة النساء و ابنة خير الآباء و اللّه ما عدوت رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لا عملت إلّا بأمره، و إنّ الرائد لا يكذب أهله قد قلت فأبلغت و أغلظت فأهجرت فغفر اللّه لنا و لك أمّا بعد فقد دفعت ألّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و دابّته و حذاه إلى علىّ عليه السّلام، و أمّا ما سوى ذلك فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: إنّا معاشر الأنبياء لا نورّث ذهبا و لا فضّة و لا أرضا و لا عقارا و لا دارا و لكنّا نورّث الإيمان و الحكمة و العلم و السنّة، و قد عملت بما أمرنى و سمعت. فقالت: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد وهبها لي. قال: فمن يشهد بذلك. فجاء عليّ بن أبي طالب و أمّ أيمن فشهدا لها بذلك فجاء عمر بن الخطاب و عبد الرحمن بن عوف فشهدا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقسّمها. فقال: أبو بكر صدقت يا ابنة رسول اللّه و صدق علىّ و صدقت أمّ أيمن و صدق عمر و صدق عبد الرحمن، و ذلك أنّ لك ما لأبيك كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يأخذ من فدك قوتكم و يقسّم الباقى و يحمل منه في سبيل اللّه، و لك على اللّه أن أصنع بها كما كان يصنع. فرضيت بذلك و أخذت العهد عليه به. و كان يأخذ غلّتها فيدفع إليهم منها ما يكفيهم. ثمّ فعلت الخلفاء بعده كذلك إلى أن ولّى معاوية فأقطع مروان ثلثها بعد الحسن عليه السّلام. ثمّ خلصت له في خلافته و تداولها أولاده إلى أن انتهت إلى عمر بن عبد العزيز فردّها في خلافته على أولاد فاطمة عليها السّلام قالت الشيعه: فكانت أوّل ظلامة ردّها. و قالت السنّة: بل استخلصها في ملكه ثمّ وهبها لهم. ثمّ اخذت منهم بعده إلى أن انقضت دولة بني أميّة فردّها عليهم أبو العبّاس السفّاح. ثمّ قبضها المنصور. فردّها ابنه المهدى. ثمّ قبضها ولداه موسى و هرون. فلم يزل في أيدى بنى العبّاس إلى زمن المأمون فردّها إليهم و بقبت إلى عهد المتوكّل فأقطعها عبد اللّه بن عمر البازيار، و روى أنّه كان فيها إحدى عشرة نخلة غرسها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيده فكانت بنو فاطمة يهدون ثمرها إلى الحاجّ فيصلونهم عن ذلك بمال جليل فبعث البازيار رجلا فصرمها و عاد إلى البصرة ففلج، و في هذه القصّة خبط كثير بين الشيعة و مخالفيهم، و لكلّ من الفريقين كلام طويل. و لنرجع إلى المتن.

فنقول: أشار بالنفوس الّتي شحّت بها إلى أبي بكر و عمر و أتباعهما، و بالنفوس الّتي سمحت بها إلى وجوه بنى هاشم و من مال ميلهم.

التاسع: استفهم عمّا يصنع بفدك و غيرها من القينات الدنيويّة
استفهام إنكار لوجه حاجته إليها تسلية لنفسه عنها و جذبا له عن الدنيا إلى الأعمال الصالحة بذكر غاية النفوس منها، و هي صيرورتها إلى الجدث، و لوازم تلك الغاية من انقطاع الآثار و غيبة الأخبار فيها و ساير ما عدّده من صفات الجدث، و إنّما عدّد هذه الأمور لأنّ الأوهام تنفر عنها و تخشع القلوب لذكرها. فتفزع إلى اللّه تعالى و يجذب إلى الأعمال الصالحة الّتي بها الخلاص من أهوال الموت و ما بعده.
و الواو في قوله: و النفس. للحال.

العاشر: لمّا نبّه على أنّ فدك و غيرها من قينات الدنيا لا حاجة إليها
أشار إلى حصر حاجته و غايته لنفسه و هى رياضتها بالتقوى، و الضمير كهو في قوله فيما سبق: و إنّما هى الكوفة. و التقدير: و إنّما همّتى و حاجتى رياضة نفسى بالتقوى.
و اعلم أنّ رياضة النفس تعود إلى نهيها عن هواها و أمرها بطاعة مولاها و هى مأخوذة من رياضة البهيمة و هى منعها عن الإقدام على حركات غير صالحة لصاحبها و لا موافقة لمراده، و تمرينها على ما يوافق مراده من الحركات، و القوّة الحيوانيّة الّتى هى مبدأ الإدراكات و الأفاعيل الحيوانيّة في الإنسان إذا لم يكن لها طاعة القوّة العاقلة ملكة كانت بمنزلة بهيمة لم ترض فهى تتبع الشهوة تارة و الغضب اخرى، و غالب أحوالها أن تخرج في حركاتها عن العدل إلى أحد طرفى الإفراط و التفريط بحسب الدواعى المختلفة المتخيّلة و المتوهّمة و يستخدم القوّة العاقلة في تحصيل مراداتها فتكون هى أمّارة و العاقلة مؤتمرة لها. أمّا إذا راضتها القوّة العاقلة و منعتها عن‏ التخيّلات و التوهّمات و الإحساسات و الأفاعيل المثيرة للشهوة و الغضب و مرّنتها على ما يقتضيه العقل العمليّ و أدّبتها على طاعته بحيث يأتمر بأمرها و ينتهى لها كانت العقليّة مطمئنّة لا تفعل أفعالا مختلفة المبادي و كانت باقى القوى مؤتمرة

مسالمة لها. إذا عرفت ذلك فنقول: لمّا كان الغرض الأقصى من الرياضة إنّما هو نيل الكمال الحقيقىّ، و كان ذلك موقوفا على الاستعداد له، و كان حصول ذلك الاستعداد موقوفا على زوال الموانع الخارجيّة و الداخليّة كان للرياضة أغراض ثلاثة: أحدها: حذف كلّ محبوب و مرغوب عدا الحقّ الأوّل سبحانه عن درجة الاعتبار و مستنّ الايثار. و هى الموانع الخارجيّة. و الثاني: تطويع النفس الأمّارة للنفس المطمئنّة ليجذب التخيّل و التوهّم عن الجانب السفلى إلى العلوى و يتبعهما ساير القوى فيزول الدواعى الحيوانيّة المذكورة. و هى الموانع الداخليّة. الثالث: بعث السرّ و توجيهه إلى الجنّة العالية لتلقّى السوانح الإلهيّة و تهيّئه لقبولها. و يعين على الغرض الأوّل الزهد الحقيقى و هي الإعراض عن متاع الدنيا و طيّباتها بالقلب، و على الثاني العبادة المشفوعة بالفكر في ملكوت السماوات و الأرض و ما خلق اللّه من شي‏ء و عظمة الخالق سبحانه و الأعمال الصالحة المنويّة لوجهه خالصا. و عبّر عليه السّلام بالتقوى الّتي روّض بها نفسه عن هذه الامور المعيّنة و الأسباب المعدّة، و نبّه على غرضه الأقصى من الرياضة و هو الكمال الحقيقى و اللذّة به بذكر بعض لوازمه و هى أن يأتي نفسه آمنة من الفزع يوم الخوف الأكبر و هو يوم القيامة، و أن يثبت على جوانب المزلق و هو الصراط المستقيم فلا تميل به الدواعي المختلفة عنه إلى أبواب جهنّم و مهاوى الهلاك. و استعار لفظ المزالق: لمظانّ زلل أقدام العقول في الطريق إلى اللّه و جذب الميول الشهويّة و الغضبيّة عنها إلى الرذائل الموبقة.

الحادي عشر: نبّه على أنّ زهده في الدنيا و اقتصاره منها
على الطمرين و القرصين‏ و ترك ما سوى ذلك ليس عن عجزه عن تحصيل طيّبات مطعوماتها و ملبوساتها، و أنّه لو شاء لاهتدى إلى تحصيل تلك الطيّبات و لباب القمح و مصفّى العسل لأنّ الهريسة و العسل من أشهر الطيّبات بمكّة و الحجاز، و إنّما تركه مع القدرة عليه رياضة لنفسه و إعدادا لها لتحصيل الكمالات الباقية. و استثنى هنا نقيض الملزوم و هو عدم غلبة هواه لعقله و عدم قود جشعه له إلى تخيّر الأطعمة، و نبّه عن ذلك العدم بقوله: هيهات. فإنّ ما استبعد وقوعه من نفسه و أنكره فقد نفاه عنها و حكم بعدمه.

و أمّا أنّ ذلك العدم هو نقيض الملزوم بعينه فلأنّ الملزوم هنا هو المشيئة لتخيّر الطيّبات و غلبة الهوى للعقل على مقتضى رأيه في تركها و التنزّه عنها وقود الشهوة له إلى الموافقة على استعمالها، و المستثنى هاهنا هو عدم ذلك بعينه، و أمّا جواز استثنائه لنقيض المقدّم فلأنّ مشيئة تلك شرط مسا و لتخيّر الطيّبات و الاهتداء إليها، و كان عدمه مستلزما لعدم مشروطه و أكثر استعمال لو في لغة العرب على وجه أنّ الملزوم علّة للازمه أو شرط مساو له، و يستثنى نقيض الملزوم. و الواو في قوله: و لعلّ. للحال: أى هيهات أن يغلبني هواى إلى تخيّر الأطعمة حال ما يحتمل أن يكون بالحجاز و اليمامة من هو بصفة كذا. و قوله: أو أبيت. عطف على يقودني داخل فيما استبعده من نفسه. و الواو في قوله: و حولي. للحال، و العامل أبيت، و كذلك قوله: أو أن أكون. عطف على أبيت، و هما لازمان من لوازم نتيجة القياس الاستثنائى فإنّ عدم إرادته لتخيّر الطيّبات لمّا استلزمه هنا عدم تناولها و استمتاعه بها استلزم ذلك أن لا يبيت مبطانا و حوله أكباد جائعة و أن لا يلحقه عار بذلك. و البيت تمثيل. غرضه التنفير عن العار اللازم عن الاستمتاع بالطيّبات مع وجود ذوى الحاجة إلى يسير الطعام، و نبّه على حسن هذه اللوازم بما قارن نقايضها من الأحوال المذكورة. و البيت لحاتم بن عبد اللّه الطائي من قطعة أوّلها:
أيا ابنة عبد اللّه و ابنة مالك و يا ابنة ذى البردين و الفرس النهد

إذا ما صنعت الزاد فالتمسى له أكيلا فإنّى لست آكله و حدى‏
قصيّا بعيدا أو قريبا فإنّني‏
أخاف إذا متّ الأحاديث من بعدى‏
كفى بك عارا أن تبيت ببطنة و حولك أكباد تحنّ إلى القدّ
و إنّي لعبد الضيف ما دام نازلا
و ما فيّ لولا هذه شيمة العبد

و يروى حسبك داء. و أطلق عليه اسم الداء باعتبار أنّه رذيلة تنفيرا عنه، و روى قوله: أو أبيت و قوله: أو أكون. مرفوعين، و الوجه فيه أن لا يكون أو حرف عطف بل تكون الهمزة للاستفهام. و الواو بعدها متحرّكة كالفاء في قوله «أ فأصفاكم ربّكم بالبين» و يكون استفهام إنكار لبيانه مبطانا و لكونه كما قال القائل، و كذلك الاستفهام في قوله: و أقنع من نفسي. في معرض الإنكار لرضاء نفسه بأن يدعى أمير المؤمنين و لا يشاركهم في مكاره الدهر و جشوبة المطعم. و الواو في قوله: و لا. للحال. و أو أكون عطف على اشاركهم في حكم النفى.

الثاني عشر: نبّه على بعض العلل الحاملة له على ترك الطيّبات و الزهد في الدنيا.
و هو كونه لم يخلق ليشغله أكل الطيّبات عمّا يراد منه، و ذلك في قوله: فما خلقت. إلى قوله: المتاهة، و نفّر عن الاشتغال بأكل الطيّبات بذكر ما يلزم المشتغل بذلك من مشابهة البهيمة، و أشار إلى وجه الشبه بقوله: همّها علفها. إلى قوله: يراد بها. و ذلك أنّ المشتغل بها إن كان غنيّا أشبه البهيمة المعلوفة في اهتمامه بما يعتلفه من طعامه الحاضر، و إن كان فقيرا كان اهتمامه بما يكسبه و يقمّمه من حطام الدنيا ثمّ تعليفه، و يملأ كرشه مع غفلته عمّا يراد منه كالسائمة الّتي همّها الاكتراش لقممه من الكناسات مع غفلتها عمّا يؤول إليه حالها و يراد بها من ذبح و استخدام، و استعار لفظ الحبل و جرّه، و كنّى بذلك عن الاهمال و الإرسال كما ترسل البهيمة.

الثالث عشر: أشار إلى بعض ما عساه يعرض للأذهان الضعيفة من الشبهة،
و هي اعتقاد ضعفه عن قتال الأقران بسبب ذلك القوت النزر، و ذلك بقوله: و كأنّي.
إلى قوله: الشجعان.
ثمّ نبّه على الجواب عن ذلك من خمسة أوجه:

الأوّل: التمثيل بالشجرة البريّة
قياس نفسه عليها في القوّة. فالأصل هو الشجرة البريّة، و الفرع هو عليه السّلام، و المشترك الجامع بينهما هو قلّة الغذاء و جشوبة المطعم كقلّة غذاء الشجرة البريّة و سوء رعيها، و الحكم عن ذلك هو صلابة أعضائه و قوّته كصلابة عود الشجرة البريّة و قوّتها. ذلك دافع للشبهة المذكورة.
الثاني: تمثيل خصومه و أقرانه كمعاوية بالروائع الخضرة
و هي الأصل في هذا التمثيل، و الفرع هو خصومه و أقرانه، و المشترك الجامع بينهما هو الخضرة و النضارة الحاصلة عن الترفّه و لين المطعم، و الحكم اللازم عن ذلك هو رقّة الجلود و لينها و الضعف عن المقاومة و قلّة الصبر على المنازلة و الميل إلى الدعة و الرفاهيّة، و الغرض أن يعلم كون أقرانه أضعف منه. فيندفع الشبهة.
الثالث: تمثيله بالنباتات العذية
و هو كتمثيله بالشجرة البرّيّة و الحكم هنا هو كونه أقوى على سعير نار الحرب و أصبر على وقدها و أبطأ فتورا فيها و خمودا كالنباتات العذية في النار.
الرابع: تمثيله نفسه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالضوء من الضوء.
و أصل هذا التمثيل هو الضوء من الضوء و فرعه نسبة نفسه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و علّته الجامعة هي كون علومه و كمالاته النفسانيّة المشرقة مستفادة و مقتبسة من مصباح علم النبوّة و كمالاتها كالمعلول من العلّة و المصباح من الشعلة.
الخامس: تمثيله منه صلّى اللّه عليه و آله بالذراع من العضد.
و الأصل فيه الذراع مع نسبته إلى العضد، و الفرع هو عليه السّلام منسوبا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و العلّة الجامعة هي قربه منه و قوّته به و كونه ظهيرا له و وسيلة إلى حصول مقصوده من تمام الدين و كماله، و كون الرسول صلّى اللّه عليه و آله أصلا في ذلك كقرب الذراع من العضد، و كون العضد أصلا له، و كون الذراع وسيلة إلى التصرّف و البطش بالعضد، و الحكم في هذين التمثيلين واحد و هو كونه عليه السّلام لا يضعف عن قتال الأقران و منازلة الشجعان، و وجه لزوم هذا الحكم عن المشترك الأوّل أنّه لمّا كانت علومه اليقينيّة و بصيرته في الدين يناسب بصيرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذلك أعظم أمر يشجّعه و يقوّيه على قتال الأقران حمية للدين، و كذلك عن المشترك الثاني.
ثمّ لمّا أثبت ذلك الحكم و نفى عنه الضعف المتوهّم فيه أكدّ ذلك بالقسم البارّ أنّه لو تعاونت العرب على قتاله لما ولّى عنها، و لو أمكنت الفرصة من رقابها يسارع إليها: أي حين القتال و استحقاقهم للقتل بعداوتهم للدين و قبح العفو عنهم ملاحظة تشبّهه برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ذلك في مبدء الإسلام فإنّه لم يكن ليضع العفو إلّا في موضعه، و روي أنّه قتل في يوم واحد ألف إنسان صبرا في مقام واحد لما رأى في ذلك من مصلحة الدين.

الرابع عشر: تواعد أن يجتهد في تطهير الأرض من هذا الشخص المعكوس و الجسم المركوس
و أراد معاوية، و إنّما قال: شخصا و جسما ترجيحا لجانب البدن على النفس باعتبار عنايته بكمال بدنه دون كمال نفسه فكأنّه جسم و شخص فقط، و أشار بكونه معكوسا و مركوسا إلى التفاته عن الجنبة العالية و انتكاسه عن تلقّى الكمالات الروحانيّة إلى الجنبة السافلة و ارتكاسه في الدنيا و انعكاس وجه عقله إلى تحصيلها لذاتها و الاعتناء بجمعها [بجميعها خ‏] فإن غرض العناية الإلهيّة من خلق الإنسان أن يترقّى في مدارج الكمال بعد حفظ فطرته الأصليّة عن الدنس برذائل الأخلاق فإذا جذبته دواعى الأمّارة إلى الدنيا و غرّته بحبّها حتّى التفت إليها لم يزل ينحطّ في دركات محبّتها و بحسب ذلك يكون انتكاسه عن مراتب الكمال و ارتكاسه في الرذائل و مهاوى الضلال، و تقيّده فيها بالسلاسل و الأغلال. و قوله: حتّى تخرج المدرة من بين حبّ الحصيد. إشعار لفظ المدرة لمعاوية و حبّ الحصيد للمؤمنين، و وجه المشابهة أنّه مخلص المؤمنين من وجود معاوية بينهم ليزكوا إيمانهم و يستقيم دينهم. إذ كان وجوده فيهم سببا عظيما لفساد عقائدهم و هلاك دينهم كما يفعل أهل البيادر من تصفية الغلال و إخراج ما يشوبها و يفسدها من المدر و غيره. و قال الشارح عبد الحميد بن أبي- الحديد كما أنّ الزرّاع يجتهدون في إخراج المدر و الحجر و الشوك و نحوه من بين الزرع كيلا يفسد منابته فيفسد ثمرته. و فيه نظر لأنّه لا معنى لإخراج الطين من‏ الزرع، و لأنّ لفظ حبّ الحصيد لا يفهم منه ذلك.

الخامس عشر: تمثّل الدنيا بصورة من يعقل
و خاطبها بخطاب العقلاء ليكون ذلك أوقع في النفوس لغرابته. ثمّ أمرها بالتنحّى و البعد عنه كالمطلّق لها. و حبلك على غاربك كناية عن الطلاق تمثيل. و أصله: أنّ الناقة إذا أريد إهمالها لترعى وضع حبلها على غاربها فضرب مثلا لكلّ من اهمل و اطلق عن الحكم. ثمّ جعلها ذات مخالب استعارة بالكناية عن كونها كالأسد في جذبها للإنسان بما فيها من الشهوات و القينات إلى الهلاك الأبد كما يجرّ الأسد فريسته، و كذلك جعلها ذات حبائل، و كنّى بهذا الوصف المستعار عن كونها تصيد قلوب الرجال بشهواتها الوهميّة فهي لها كحبائل الصايد، و استعار لفظ مداحضها لشهواتها و ملذّاتها أيضا باعتبار كونها مزالق أقدام العقول عن طريق اللّه و مصارع لها، و عبّر بجميع ذلك عن زهده فيها و إبعادها فيها عن نفسه. ثمّ أخذ في سؤالها عن القوم الّذين غرّتهم بمداعبها و الامم الّذين فتنتهم بزخارفها سؤالا على سبيل التوبيخ لها و الذمّ على فعلها ذلك بهم في معرض التنفير عنها، و هو من قبيل تجاهل العارف، و استعار لها لفظ المداعب جمع مدعبة بمعنى دعابة، و وجه المشابهة أنّها عند صفاء لذّاتها للخلق و اغترارهم بها ثمّ كرّها عليهم بعد ذلك بالأمر الجدّ يشبه من يمزح مع غيره و ينبسط معه بالأقوال و الأفعال الليّنة ليغترّ به ثمّ يأتيه بعد ذلك بالأمر الجدّ فيؤذيه أو يهلكه، و إنّما نسب الغرور إليها لكونها سببا مادّيا لذلك. و في نسخة الرضي- رحمه اللّه- غرّرتيهم بإثبات الياء، و وجهه أنّها حدثت من إشباع الكسرة.

السادس عشر: أشار إلى غايتهم الّتى صاروا إليها
و هي كونهم رهائن القبور و مضامين اللحود، و نبّه في ذلك على أنّ غرورهم و فتنتهم بما لم يخلصهم من هذه الغاية كلّ ذلك الغرض التنفير عنها. و ها للتنبيه، و استعار لفظ الرهائن لهم عتبار كونهم موثّقين في القبور بأعمالهم كالرهن، و يحتمل أن‏ يكون حقيقة، و يكون رهينة بمعنى راهنة و هى الأشخاص المقيمة بقبورها.

السابع عشر: أقسم أنّها لو كانت شخصا مرئيّا و قالبا حسّيّا
لأقام عليها حدود اللّه في عباد غرّتهم بالأمانيّ و أوردتهم موارد البلاء حيث لا ورد و لا صدر: أي أنّ تلك الموارد ليس من شأنها أن يكون إليها ورود و عنها صدر. ثمّ لمّا كان في هذا الخطاب كالمعلم لها أنّه قد اطّلع على خداعها و غرورها قال كالمؤيس لها من نفسه هيهات: أي بعد اغترارى بك و ركوني إليك. ثمّ نبّه على بعض العلل الحاملة على على البعد عنها و النفرة عن قربها و هي ما يلزم وطى‏ء دحضها من الزلق، و ركوب لججها من الغرق، و الازورار عن حبائلها من التوفيق للسلامة، و ما يلزم السالم منها من عدم مبالاته بضيق مناخه، و كلّ مناخ أناخ به من فقر و سجن و مرض و بلاء بعد السلامة منها فهو فسيح رحب بالقياس إلى ما يستلزم التفسّح فى سعتها و الجرى فى في ميادين شهواتها من العذاب الأليم في الآخرة، و هى عنده في القصر و عدم الالتفات إليها كيوم حان انسلاخه. و ألفاظ المداحض و اللجج و الحبال مستعار لشهواتها و لذّاتها.

فالأوّل: باعتبار كون شهواتها مظنّة أن تحبّ فينجرّ الإنسان عند استعمالها إلى الاستكثار منها أو تجاوز القدر المعتدل إلى المحرّم فتزّل قدم نفسه عن صراط اللّه فيقع في مهاوى الهلاك و المئاثم. و الثاني: باعتبار أنّ مطالبها و الآمال فيها غير متناهيه فمن لوازم المشتغل بها و المنهمك فى الدنيا أن يغرق نفسه فى بهر لا ساحل له منها فينقطع عن قبول رحمة الله الى الهلاك الابدى كالملقى نفسه فى بحر لجى. الثالث: باعتبار أن الانسان إذا اغترّ بها و حصل في محبّة مشتهياتها عاقته عن النهوض و التخلّص إلى جناب اللّه و منعته أن يطير بجناحي قوّته العقليّة في حضرة قدس اللّه و منازل أوليائه الأبرار كما تعوق حبائل الصائد جناح الطائر. و لفظ الوطى و الركوب و الزلق و الغرق ترشيح. ثمّ كرّر الأمر لها بالبعد عنه و أقسم أنّه لا يذلّ لها فيستذلّه و لا يسلس لها قياده فيقوده، و فيه تنبيه على أنّها لا يذلّ فيها إلّا من أذلّ نفسه و عبّدها لها و لا يملك إلّا قياد من أسلس لها قياده و هو ظاهر. إذ الإنسان ما دام قامعا لقوّته الحيوانيّة مصرفا لها بزمام عقله فإنّه من المحال أن‏ يذلّه الدنيا و يستعبده أهلها و مهما اتّبع شهوته فيما تمثّل إليه فإنّها تذلّه أشدّ إذلال و تستعبده أقوى استعباد كما قال عليه السّلام: عبد الشهوة أذلّ من عبد الرق. و استعار وصف إسلاس القياد للتسهيل في متابعة النفس العاقلة للنفس الأمّارة و عدم التشدّد في ضبطها باستعمال العقل عن متابعتها.

الثامن عشر: أقسم ليوقّعن ما صمّم عزمه عليه
و هو بصدده من رياضة نفسه. و وصف تلك الرياضة في قوّتها باستلزام أمرين: أحدهما: كون نفسه يهشّ معها إلى القرص و ترضى به إذا قدرت عليه مطعوما و تقنع بالملح مأدوما. و تلك رياضة القوّة الشهويّة، و لمّا كانت عدوّا للنفس و أكثر الفساد يلحق بسبها خصّها بالذكر و قوّة العزم، و يحتمل أن يريد رياضة جميع القوى و إنّما وصفها بكون النفس تهش معها إلى القرص لأنّ ضبط الشهوة أعظم من ضبط سائر القوى و أصعب و كانت الإشارة إلى ضبطها إلى الحدّ المذكور أبلغ في وصف الرياضة بالشدّة، و استثنى في يمينه بمشيئة اللّه أدبا لقوله تعالى وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْ‏ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ«» و تنبيها على استناد جميع الامور في سلسلة الحاجة إلى اللّه تعالى. الثاني: كونه يدع مقلته في تلك الرياضة كعين ماء نضب ماؤها، و وجه الشبه أن يفنى دموعها و يستفرغها بالبكاء شوقا إلى الملأ الأعلى و ما اعدّ لأولياء اللّه من السعادة الأبديّة و خوفا من حرمانها. و من كان في مقام الغربة و محلّ الوحشة كيف لا يشتاق إلى وطنه الأصليّ و مقام انسه الأوّلىّ. و مطعوما و مأدوما و مستفرغة أحوال. ثمّ أخذ في تمثيل نفسه بالسائمة و الربيضة على تقدير أن يرضى بمثل حالهما و غايتهما من الدنيا في معرض الإنكار لذلك الرضا من نفسه، و الأصل في ذلك التمثيل البهيمة، و الفرع هو عليه السّلام، و المشترك الجامع هو الرعى و الشبع و البروك و النوم و الراحة. و لمّا كان الأصل المقيس عليه في غاية من الخسّة بالقياس إلى‏ الإنسان الكامل استلزم ذلك التشبيه به قوّة النفرة عمّا يستلزم التشبيه من الصفات. و قوله: قرّت إذن عينه. إخبار في معرض الإنكار و الاستهزاء باللذّة كقوله تعالى ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ«»،

التاسع عشر: نبّه على أنّ النفس إذا كانت بالصفات المذكورة فلها استحقاق طوبى.
و جمع في تلك الصفات أكثر مكارم الأخلاق: فالاولى: القيام بواجب طاعة اللّه و ما افترضه عليها. الثانية: قوله: و عركت بجنبها بؤسها. كناية عن الصبر على نزول المصائب.
يقال: عرك فلان بجنبه الأذى، إذا أغضى عمّن يؤذيه و صبر على فعله به. و يلازم ذلك عدّة فضائل كالحلم و الكرم و العفو و الصفح و التجاوز و كظم الغيظ و احتمال المكروه و العفّة و نحوها. الثالثة: أن تهجر بالليل غمضها، و هو كناية عن إحياء ليلها بعبادة ربّها و اشتغالها بذكره حتّى إذا غلب النوم عليها افترشت أرضها و توسّدت كفّها: أى لم يكن لها كلفة في تهيّة فراش و طيب و ساد بل كانت بريّة عن كلّ كلفة عريّة عن كلّ قينة منزّهة عن كلّ ترفة. و قوله: في معشر. يصلح تعلّقه بكلّ من أفعال النفس المذكورة: أى فعلت هذه الأفعال في جملة معشر من شأنهم كذا. و عرّفهم بصفات أربع: أحدها: كونهم أسهر عيونهم خوف معادهم. الثاني: و تجافت جنوبهم من مضاجعهم. و هو كناية عن اشتغالهم ليلا بعبادة ربّهم كقوله تعالى تَتَجافى‏ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ«». الثالث: و همهمت بذكر ربّهم شفاهم كقوله تعالى يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً«».الرابع: و تقشّعت بطول استغفارهم ذنوبهم، و هو لازم عن الثلاثة الاولى أو ثمرة لها، و استعار لفظ التقشّع لانمحاء ذنوبهم، و وجه المشابهة أنّ الذنوب و الهيئات البدنيّة في تسويدها لألواح النفوس و تغطيتها و حجبها لها عن قبول أنوار اللّه يشبه المتراكم الحاجب لوجه الأرض عن قبول نور الشمس و الاستعداد بها للنبات و غيره فاستعار لزوالها و انمحائها من ألواح النفوس لفظ التقشّع. كلّ ذلك للترغيب في طاعة اللّه و الجذب إلى الدخول في زمرة أوليائه و باللّه التوفيق.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 5 ، صفحه‏ى 99

نامه 43 شرح ابن میثم بحرانی

و من كتاب له عليه السّلام إلى زياد بن أبيّه، و قد بلغه أن معاوية كتب إليه يريد خديعته باستلحاقه

وَ قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَيْكَ- يَسْتَزِلُّ لُبَّكَ وَ يَسْتَفِلُّ غَرْبَكَ- فَاحْذَرْهُ فَإِنَّمَا هُوَ الشَّيْطَانُ- يَأْتِي الْمَرْءَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ- وَ عَنْ‏ يَمِينِهِ وَ عَنْ شِمَالِهِ- لِيَقْتَحِمَ غَفْلَتَهُ وَ يَسْتَلِبَ غِرَّتَهُ- وَ قَدْ كَانَ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَلْتَةٌ- مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ- وَ نَزْغَةٌ مِنْ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ- لَا يَثْبُتُ بِهَا نَسَبٌ وَ لَا يُسْتَحَقُّ بِهَا إِرْثٌ- وَ الْمُتَعَلِّقُ بِهَا كَالْوَاغِلِ الْمُدَفَّعِ وَ النَّوْطِ الْمُذَبْذَبِ

فلما قرأ زياد الكتاب قال: شهد بها و ربِّ الكعبه، و لم تزل فى نفسه حتى ادعاه معاوية. قال الرضى: قوله عليه السلام «الواغل»: هو الذى يهجم على الشَّرب ليشرب معهم، و ليس منهم، فلايزال مدفَّعا محاجزا. و «النوط المذبذب»: هو ما يناط برحل الراكب من قعب او قذح أو ما اشبه ذلك، فهو أبدا يتقلقل إذا حث ظهره و استعجل سيره. أقول: زياد هذا هو دعىّ أبي سفيان، و يقال: زياد بن عبيد. فمن الناس من يقول عبيد بن فلان الثقفى. و الأكثرون على أنّه كان عبدا و أنّه بقى إلى أيّام زياد فابتاعه و أعتقه، و أمّا ادّعاء أبي سفيان له فروى أنّه تكلّم يوما بحضرة عمر فأعجب الحاضرين كلامه فقال عمرو بن العاص: للّه أبوه لو كان قرشيّا لساق العرب بعصاه. فقال أبو سفيان: أمّا و اللّه أنّه لقرشىّ و لو عرفته لعرفت أنّه من خير أهلك.
فقال: و من أبوه فقال: أنا و اللّه وضعته في رحم امّه. قال: فهلّا تستلحقه. قال: اخاف هذا العمير الجالس أن يخرق علىّ إهابي يعنى عمر، و لمّا ولّى علىّ عليه السّلام الخلافة ولّى زيادا فارس فضبطها ضبطا صالحا و حماها. فكتب إليه معاويه يخدعه باستلحاقه أخا له: من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان أمّا بعد فإنّ المرء ربّما طرحه الهوى في مطارح العطب، و إنّك للمرء المضروب به المثل قاطع الرحم و واصل العدوّ، حملك‏ سوء ظنّك بي و بغضك لى على أن عققت قرابتى و قطعت رحمي، و ثبت نسبي و حرمتى كأنّك لست أخي و ليس صخر بن حرب أباك و أبي، و سيّان بينى و بينك أطلب بدم أبي العاص و أنت تقاتلنى، و لكن أدركك عرق الرخاوة من قبل النساوة فكنت كتاركة بيضها بالعراء و ملحقة بيض اخرى جناحا، و قد رأيت أن أعطف عليك و لا أؤاخذ بسوء سعيك و أن أصل رحمك و أبتغى الثواب في أمرك. و اعلم أبا المغيرة أنّك لو خضت البحر في طاعة القوم تضرب بالسيف حتّى ينقطع متنه لما ازددت منهم إلّا بعدا فإنّ بني عبد شمس أبغض إلى بني هاشم من الشفرة إلى الثور الصريع و قد اوثق للذبح. فارجع رحمك اللّه إلى أصلك و اتّصل بقومك و لا تكن كالموصول يطير بريش غيره فقد أصبحت ضالّ النسب. و لعمرى ما فعل ذلك بك إلّا اللجاج فدعه عنك فقد أصبحت على بيّنة من أمرك و وضوح من حجّتك فإن أحببت جانبي و وثقت بي فاتمر بأمرى و إن كرهت جانبي و لم تثق بقولي ففعل جميل لا علىّ و لا لى. و السّلام. و حمل الكتاب مع المغيرة بن شعبة إليه، و كان ذلك سبب فساده على الحسن بعد علىّ عليهما السّلام و انضيافه إلى معاوية. و لمّا بلغ عليّا عليه السّلام ذلك كتب إليه: أمّا بعد فإنّي ولّيتك ما ولّيتك و أنا أراك لذلك أهلا، و قد عرفت أنّ معاوية. إلى آخر الكتاب. و لنرجع إلى المتن فنقول:

اللغة

غرب السيف: حدّ. و الاستقلال: طلب الفلّ و هو ثلم الحدّ.

و مدار الكتاب على إعلامه بما علمه من كتاب معاوية إليه. ثمّ تنبيهه على قصده من ذلك الكتاب و هو أن يستزلّ عقله و يستغفله عمّا هو عليه من الرأي الصحيح في نصرة الحقّ و ولائه له عليه السّلام و يكسر حدّته في ذلك، و استعار لفظ الغرب لعقله و رأيه، و لفظ الاستفلال لطلب صرفه عن ذلك الرأي الصالح ملاحظة لشبهه بالسيف. ثمّ حذّره عنه بقوله: فإنّما هو الشيطان. باعتبار وسوسته و صدّه عن الحقّ على وجه الشبه بقوله: يأتي الإنسان. إلى قوله: شماله. و هو كقوله تعالى لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ. إلى قوله: شَمائِلِهِمْ«» أي أنّه يأتي الإنسان من كلّ جهة كما يأتي الشيطان، و خصّ الجهات الأربع لأنّها الجهات الّتي يعتاد الإتيان منها.

و قال بعض المفسّرين: من بين أيديهم يطمعهم في العفو و يغريهم بالعصيان، و من خلفهم يذكّرهم خلفهم و يحسّن لهم جمع المال و تركه لهم، و عن أيمانهم يحسّن لهم الرياسة و الثناء، و عن شمائلهم يحبّب إليهم اللهو و اللذّات. و عن شقيق قال: ما من صباح إلّا و يقعد إلىّ الشيطان على أربعة مراصد من بين يدي فيقول: لا تخف إنّ اللّه غفور رحيم. فأقرأ إنّي لغفّار لمن تاب و آمن و عمل صالحا ثمّ اهتدى. و أمّا من خلفي فيخوّفني الضيعة على من خلفي فأقرء و ما من دابّة في الأرض إلّا على اللّه رزقها، و أمّا من قبل يميني فيأتيني من جهة الثناء فأقرء: و العاقبة للمتّقين، و أمّا من قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات. فأقرء: و حيل بينهم و بين ما يشتهون، ثمّ نبّهه على وجه فساد حيلة معاوية، و ذلك أنّ معاوية إنّما أراد استغفاله باستلحاقه إيّاه أخا فنبّهه عليه السّلام على أنّ ذلك الاستلحاق إنّما يتمّ بصحّة استلحاق أبي سفيان له ابنا و لم يصحّ تلك الدعوى، و إنّما كان قوله: أنا كذا و كذا. فلتة من حديث النفس وقع منه من غير ثبت و لا رويّة، و إقرار بالزنا في قوله: أنا وضعته في رحم امّه. و ذلك نزغة من نزغات الشيطان ألقاها على لسانه فلا يثبت بها نسب و لا يستحقّ بها إرث لقوله صلّى اللّه عليه و آله: الولد للفراش و للعاهر الحجر. ثمّ شبّه المتعلّق في نسبه بهذه الفلتة و النزغة بالواغل المدفّع، و وجه الشبه كونه لا يزال مدفّعا، و بالنوط المذبذب و وجه الشبه اضطراب أمره و عدم لحوقه بنسب معيّن و عدم استقراره كما يضطرب النوط و لا يستقرّ. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 5 ، صفحه‏ى 96

نامه 42 شرح ابن میثم بحرانی

و من كتاب له عليه السّلام إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني، و هو عامله على أردشير خرة

بَلَغَنِي عَنْكَ أَمْرٌ إِنْ كُنْتَ فَعَلْتَهُ فَقَدْ أَسْخَطْتَ إِلَهَكَ- وَ عَصَيْتَ إِمَامَكَ- أَنَّكَ تَقْسِمُ فَيْ‏ءَ الْمُسْلِمِينَ- الَّذِي حَازَتْهُ رِمَاحُهُمْ وَ خُيُولُهُمْ وَ أُرِيقَتْ عَلَيْهِ دِمَاؤُهُمْ- فِيمَنِ اعْتَامَكَ مِنْ أَعْرَابِ قَوْمِكَ- فَوَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَ بَرَأَ النَّسَمَةَ- لَئِنْ كَانَ ذَلِكَ حَقّاً- لَتَجِدَنَّ لَكَ عَلَيَّ هَوَاناً وَ لَتَخِفَّنَّ عِنْدِي مِيزَاناً- فَلَا تَسْتَهِنْ بِحَقِّ رَبِّكَ- وَ لَا تُصْلِحْ دُنْيَاكَ بِمَحْقِ دِينِكَ- فَتَكُونَ مِنَ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا- أَلَا وَ إِنَّ حَقَّ مَنْ قِبَلَكَ وَ قِبَلَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ- فِي قِسْمَةِ هَذَا الْفَيْ‏ءِ سَوَاءٌ- يَرِدُونَ عِنْدِي عَلَيْهِ وَ يَصْدُرُونَ عَنْهُ وَ السَّلامُ

اللغة

أقول: اعتامك: اختارك من بين الناس،

المعنى

و قد أعلمه بما بلغه من الأمر الصادر عنه إجمالا ليتنبّه له، و أشعره أنّه أمر مكروه بما يلزمه و هو سخط إلهه و غضب إمامه، و نبّه بقوله: إن كنت فعلته. على عدم تحقّقه لذلك. ثمّ بيّن له ذلك و هو عطاؤه مال المسلمين لمن اختاره رئيسا من أعراب قومه. و وصف ذلك الفى‏ء بكونه حيازة رماحهم و خيولهم، و عليه اريقت دماؤهم ليتأكّد في النفوس و يتبيّن وجه استحقاقهم له. و بقدر ذلك يتأكّد قبح قسمته في غيرهم. ثمّ أقسم قسمه المعتاد في معرض الوعيد إن كان ذلك منه حقّا أن يلحقه به هو ان و حقارة عنده و يخفّ وزنه في اعتباره، و كنّى به عن صغر منزلته. و ميزانا نصب على التمييز. ثمّ نهاه عن استهانته بحقّ ربّه و عن إصلاح دنياه بفساد دينه تنبيها على عظمة اللّه و وجوب المحافظة على طاعته، و نبّهه على ما يلزم من ذلك من دخوله في زمرة الأخسرين أعمالا الّذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا و هم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا. ثمّ نبّهه على قبح ما فعل من تخصيص قومه بذلك المال بقوله: ألا و إنّ. إلى قوله: سواء، و هو في قوّة صغرى ضمير، و قوله: يردون إليه و يصدرون عنه تأكيد لتساويهم في الاستحقاق و أنّه لهم كالشريعة المشتركة، و تقدير كبراه: و كلّ حقّ سواء بين المسلمين فلا يجوز تخصيص بعضهم به. و قد ذكرنا حال مصقلة من قبل. و باللّه التوفيق.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 5 ، صفحه‏ى 95

 

نامه 41 شرح ابن میثم بحرانی

و من كتاب له عليه السّلام إلى عمر بن أبى سلمة المخزومى، و كان عامله على البحرين فعزله، و استعمل نعمان بن عجلان الزرقى مكانه

أَمَّا بَعْدُ- فَإِنِّي قَدْ وَلَّيْتُ النُّعْمَانَ بْنِ عَجْلَانَ الزُّرَقِيَّ عَلَى الْبَحْرَيْنِ- وَ نَزَعْتُ يَدَكَ بِلَا ذَمٍّ لَكَ وَ لَا تَثْرِيبٍ عَلَيْكَ- فَلَقَدْ أَحْسَنْتَ الْوِلَايَةَ وَ أَدَّيْتَ الْأَمَانَةَ- فَأَقْبِلْ غَيْرَ ظَنِينٍ وَ لَا مَلُومٍ- وَ لَا مُتَّهَمٍ وَ لَا مَأْثُومٍ- فَلَقَدْ أَرَدْتُ الْمَسِيرَ إِلَى ظَلَمَةِ أَهْلِ الشَّامِ- وَ أَحْبَبْتُ أَنْ تَشْهَدَ مَعِي- فَإِنَّكَ مِمَّنْ أَسْتَظْهِرُ بِهِ عَلَى جِهَادِ الْعَدُوِّ- وَ إِقَامَةِ عَمُودِ الدِّينِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏

أقول: عمر هذا هو ربيب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و امّه امّ سلمة و أبوه أبو سلمة ابن عبد الأسد بن هلال بن عمر بن مخزوم، و أمّا النعمان بن عجلان فمن سادات الأنصار من بني زريق.

اللغة

و التثريب: التعنيف و استقصاء اللوم. و الظنين: المتهمّ. و استظهرت بفلان: اتّخذته ظهيرا.

و مدار الكتاب على إعلام عمر بن أبي سلمة بإنفاذ النعمان عوضا منه.
ثمّ إعلامه بأنّ ذلك لم يكن عن ذنب صدر منه يستحقّ به الذمّ و العزل، و أنّه شاكر له بكونه أحسن ولايته و أدّى أمانته. ثمّ إعلامه بغرضه من عزله و استدعائه و هو الاستعانة به على عدوّه كلّ ذلك ليطمئنّ قلبه و يفارق الولاية عن طيب نفس، و نبّهه على وجه رغبته في حضوره معه بقوله: فإنّك. إلى آخره، و هو في قوّة صغرى ضمير تقدير كبراه: و كلّ من أستظهر به على العدوّ و إقامة عمود الدين فواجب أن أرغب في حضوره و يشهد معى، و لفظ العمود مستعار للاصول الّتي بحفظها و قيامها يقوم كالعمود للبيت: و باللّه التوفيق.

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 5 ، صفحه‏ى 94

نامه 41 شرح ابن میثم بحرانی

و من كتاب له عليه السّلام إلى عمر بن أبى سلمة المخزومى، و كان عامله على البحرين فعزله، و استعمل نعمان بن عجلان الزرقى مكانه

أَمَّا بَعْدُ- فَإِنِّي قَدْ وَلَّيْتُ النُّعْمَانَ بْنِ عَجْلَانَ الزُّرَقِيَّ عَلَى الْبَحْرَيْنِ- وَ نَزَعْتُ يَدَكَ بِلَا ذَمٍّ لَكَ وَ لَا تَثْرِيبٍ عَلَيْكَ- فَلَقَدْ أَحْسَنْتَ الْوِلَايَةَ وَ أَدَّيْتَ الْأَمَانَةَ- فَأَقْبِلْ غَيْرَ ظَنِينٍ وَ لَا مَلُومٍ- وَ لَا مُتَّهَمٍ وَ لَا مَأْثُومٍ- فَلَقَدْ أَرَدْتُ الْمَسِيرَ إِلَى ظَلَمَةِ أَهْلِ الشَّامِ- وَ أَحْبَبْتُ أَنْ تَشْهَدَ مَعِي- فَإِنَّكَ مِمَّنْ أَسْتَظْهِرُ بِهِ عَلَى جِهَادِ الْعَدُوِّ- وَ إِقَامَةِ عَمُودِ الدِّينِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏

أقول: عمر هذا هو ربيب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و امّه امّ سلمة و أبوه أبو سلمة ابن عبد الأسد بن هلال بن عمر بن مخزوم، و أمّا النعمان بن عجلان فمن سادات الأنصار من بني زريق.

اللغة

و التثريب: التعنيف و استقصاء اللوم. و الظنين: المتهمّ. و استظهرت بفلان: اتّخذته ظهيرا.

و مدار الكتاب على إعلام عمر بن أبي سلمة بإنفاذ النعمان عوضا منه.
ثمّ إعلامه بأنّ ذلك لم يكن عن ذنب صدر منه يستحقّ به الذمّ و العزل، و أنّه شاكر له بكونه أحسن ولايته و أدّى أمانته. ثمّ إعلامه بغرضه من عزله و استدعائه و هو الاستعانة به على عدوّه كلّ ذلك ليطمئنّ قلبه و يفارق الولاية عن طيب نفس، و نبّهه على وجه رغبته في حضوره معه بقوله: فإنّك. إلى آخره، و هو في قوّة صغرى ضمير تقدير كبراه: و كلّ من أستظهر به على العدوّ و إقامة عمود الدين فواجب أن أرغب في حضوره و يشهد معى، و لفظ العمود مستعار للاصول الّتي بحفظها و قيامها يقوم كالعمود للبيت: و باللّه التوفيق.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 5 ، صفحه‏ى 94

 

نامه 40 شرح ابن میثم بحرانی

و من كتاب له عليه السّلام إلى بعض عماله

أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي كُنْتُ أَشْرَكْتُكَ فِي أَمَانَتِي- وَ جَعَلْتُكَ شِعَارِي وَ بِطَانَتِي- وَ لَمْ‏ يَكُنْ فِي أَهْلِي رَجُلٌ أَوْثَقَ مِنْكَ فِي نَفْسِي- لِمُوَاسَاتِي وَ مُوَازَرَتِي وَ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ إِلَيَّ- فَلَمَّا رَأَيْتَ الزَّمَانَ عَلَى ابْنِ عَمِّكَ قَدْ كَلِبَ- وَ الْعَدُوَّ قَدْ حَرِبَ وَ أَمَانَةَ النَّاسِ قَدْ خَزِيَتْ- وَ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَدْ فَنَكَتْ وَ شَغَرَتْ- قَلَبْتَ لِابْنِ عَمِّكَ ظَهْرَ الْمِجَنِّ- فَفَارَقْتَهُ مَعَ الْمُفَارِقِينَ وَ خَذَلْتَهُ مَعَ الْخَاذِلِينَ- وَ خُنْتَهُ مَعَ الْخَائِنِينَ- فَلَا ابْنَ عَمِّكَ آسَيْتَ وَ لَا الْأَمَانَةَ أَدَّيْتَ- وَ كَأَنَّكَ لَمْ تَكُنِ اللَّهَ تُرِيدُ بِجِهَادِكَ- وَ كَأَنَّكَ لَمْ تَكُنْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكَ- وَ كَأَنَّكَ إِنَّمَا كُنْتَ تَكِيدُ هَذِهِ الْأُمَّةَ عَنْ دُنْيَاهُمْ- وَ تَنْوِي غِرَّتَهُمْ عَنْ فَيْئِهِمْ- فَلَمَّا أَمْكَنَتْكَ الشِّدَّةُ فِي خِيَانَةِ الْأُمَّةِ أَسْرَعْتَ الْكَرَّةَ- وَ عَاجَلْتَ الْوَثْبَةَ وَ اخْتَطَفْتَ مَا قَدَرْتَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمُ- الْمَصُونَةِ لِأَرَامِلِهِمْ وَ أَيْتَامِهِمُ- اخْتِطَافَ الذِّئْبِ الْأَزَلِّ دَامِيَةَ الْمِعْزَى الْكَسِيرَةَ- فَحَمَلْتَهُ إِلَى الْحِجَازِ رَحِيبَ الصَّدْرِ بِحَمْلِهِ- غَيْرَ مُتَأَثِّمٍ مِنْ أَخْذِهِ- كَأَنَّكَ لَا أَبَا لِغَيْرِكَ- حَدَرْتَ إِلَى أَهْلِكَ تُرَاثَكَ مِنْ أَبِيكَ وَ أُمِّكَ- فَسُبْحَانَ اللَّهِ أَ مَا تُؤْمِنُ بِالْمَعَادِ- أَ وَ مَا تَخَافُ نِقَاشَ الْحِسَابِ- أَيُّهَا الْمَعْدُودُ كَانَ عِنْدَنَا مِنْ أُولِي الْأَلْبَابِ- كَيْفَ تُسِيغُ شَرَاباً وَ طَعَاماً- وَ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ تَأْكُلُ حَرَاماً وَ تَشْرَبُ حَرَاماً- وَ تَبْتَاعُ الْإِمَاءَ وَ تَنْكِحُ النِّسَاءَ- مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَ الْمَسَاكِينِ وَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُجَاهِدِينَ- الَّذِينَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْأَمْوَالَ- وَ أَحْرَزَ بِهِمْ هَذِهِ الْبِلَادَ- فَاتَّقِ اللَّهَ وَ ارْدُدْ إِلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَمْوَالَهُمْ- فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ ثُمَّ أَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْكَ- لَأُعْذِرَنَّ إِلَى اللَّهِ فِيكَ- وَ لَأَضْرِبَنَّكَ بِسَيْفِي الَّذِي مَا ضَرَبْتُ بِهِ أَحَداً- إِلَّا دَخَلَ النَّارَ- وَ وَ اللَّهِ لَوْ أَنَّ الْحَسَنَ وَ الْحُسَيْنَ فَعَلَا مِثْلَ الَّذِي فَعَلْتَ- مَا كَانَتْ لَهُمَا عِنْدِي هَوَادَةٌ وَ لَا ظَفِرَا مِنِّي بِإِرَادَةٍ- حَتَّى آخُذَ الْحَقَّ مِنْهُمَا وَ أُزِيحَ الْبَاطِلَ عَنْ مَظْلَمَتِهِمَا- وَ أُقْسِمُ بِاللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- مَا يَسُرُّنِي أَنَّ مَا أَخَذْتَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ حَلَالٌ لِي- أَتْرُكُهُ مِيرَاثاً لِمَنْ بَعْدِي فَضَحِّ رُوَيْداً- فَكَأَنَّكَ قَدْ بَلَغْتَ الْمَدَى وَ دُفِنْتَ تَحْتَ الثَّرَى- وَ عُرِضَتْ عَلَيْكَ أَعْمَالُكَ بِالْمَحَلِّ- الَّذِي يُنَادِي الظَّالِمُ فِيهِ بِالْحَسْرَةِ- وَ يَتَمَنَّى الْمُضَيِّعُ فِيهِ الرَّجْعَةَ وَ لاتَ حِينَ مَناصٍ

أقول: المشهور أنّ هذا الكتاب إلى عبد اللّه بن عبّاس حين كان واليا له على البصرة، و ألفاظ الكتاب تنبّه على ذلك كقوله: قلبت لابن عمّك ظهر المجنّ و قوله: فلا ابن عمك آسيت، و كذلك ما روى أنّ ابن عبّاس كتب إليه جوابا عن هذا الكتاب: أما بعد فقد أتاني كتابك تعظم فيه ما أصبت من بيت مال البصرة و لعمرى إنّ حقّى في بيت المال لأكثر ممّا أخذت و السّلام.
فكتب عليه السّلام جواب ذلك: أمّا بعد فإنّ من العجب أن تزيّن لك نفسك أنّ لك في بيت المال من الحقّ أكثر ما لرجل من المسلمين فقد أفلحت إن كان تمنّيك الباطل و ادّعاك ما لا يكون تنجيك من المأثم و تحلّ لك المحارم. لأنت المهدىّ السعيد إذن. و قد بلغنى أنّك اتّخذت مكّة وطنا. و ضربت بها عطنا تشترى بها مولّدات مكّة و المدينة و الطائف تختارهنّ على عينك و تعطي فيهن مال غيرك فارجع هداك اللّه إلى رشدك و تب إلى اللّه ربّك و اخرج إلى المسلمين من أموالهم فعمّا قليل تفارق من ألفت، و تترك‏ ما جمعت و تغيب في صدع من الأرض غير موسّد و لا ممهّد قد فارقت الأحباب و سكنت التراب و واجهت غنيّا عمّا خلقت و فقيرا إلى ما قدّمت. و السّلام. و أنكر قوم ذلك و قالوا: إنّ عبد اللّه بن عبّاس لم يفارق عليّا عليه السّلام و لا يجوز أن يقول في حقّه ما قال القطب الراوندى- رحمه اللّه- يكون المكتوب إليه هو عبيد اللّه.
و حمله على ذلك أشبه و هو به أليق.
و اعلم أنّ هذين القولين لا مستند لهما: أمّا: الأوّل: فهو مجرّد استبعاد أن يفعل ابن عبّاس ما نسب إليه، و معلوم أنّ ابن عبّاس لم يكن معصوما و علىّ عليه السّلام لم يكن ليراقب في الحقّ أحدا و لو كان أعزّ أولاده كما تمثّل بالحسن و الحسين عليهما السّلام في ذلك فكيف بابن عمّه بل يجب أن يكون الغلظة على الأقرباء في هذا الأمر أشدّ ثمّ إنّ غلظته عليه و عتابه له لا يوجب مفارقته إيّاه لأنّه عليه السّلام كان إذا فعل أحد من أصحابه ما يستحقّ به المؤاخذة أخذه به سواء كان عزيزا أو ذليلا قريبا منه أو بعيدا فإذا استوفى حقّ اللّه منه أو تاب إليه ممّا فعل عاد في حقّه إلى ما كان عليه كما قال: العزيز عندى ذليل حتّى آخذ الحقّ منه، و الذليل عندى عزيز حتّى آخذ الحقّ له. فلا يلزم إذن من غلظته على ابن عبّاس و مقابلته إيّاه بما يكره مفارقته له و شقاقه على ما بينهما من المحبّة الوكيدة و القرابة، و أمّا القول الثاني: فإنّ عبد اللّه كان عاملا له عليه السّلام باليمن و لم ينقل عنه مثل ذلك. و لنرجع إلى المتن فنقول:

اللغة
الشعار: ما يلي الجسد من الثياب. و بطانة الرجل: خاصّته. و كلب الزمان: شدّته. و حرب العدوّ: اشتدّ غضبه. و الفتك: القتل على غرّة. و شغرت: تفرّقت. و المجنّ: الترس. و الأزلّ: خفيف الوركين. و الهوادة: المصالحة و المصانعة. و ضحّ رويدا: كلمة يقال لمن يؤمر بالتؤودة، و أصله الرجل يطعم إبله ضحى و يسيرها مسرعا للسير فلا يشبعها. فيقال له: ضحّ رويدا. و المناص: المهرب و المخلص. و النوص: الهرب و التخلّص.

و في هذا الكتاب مقاصد:

الأوّل: أنّه ذكّر بإحسانه إليه في معرض الامتنان عليه من وجوه:
الأوّل: إشراكه إيّاه في أمانته الّتي ائتمنه اللّه عليها، و هي ولاية أمر الرعيّة و القيام بإصلاح أمورهم في معاشهم و معادهم.

الثاني: جعله من خاصّته و ملازميه، و استعار له بذلك الاعتبار لفظ الشعار لمباشرته و ملازمته الجسد. الثالث: كونه أوثق أهله في نفسه و أدناهم منه لمواساته و موازرته، و أداء الأمانة إليه.
المقصود الثاني: أنّه بعد تذكيره بإحسانه إليه ذكر مقابلته بذلك بالإساءة إليه
في مفارقته إيّاه و خذلانه و خيانته لما تحت يديه من الأمانة عند رؤيته شدّة الزمان عليه و قيام العدوّ في وجهه و تفرّق كلمة الإمامة عن الحقّ لتبيّن أنّه قابل إحسانه بالكفران ليحسن ذمّه على ذلك و توبيخه فيذمّه و يوبّخه، و أراد مفارقته له في الطريقة و لزوم حدّ الأمانة. و قوله: قلبت لابن عمّك ظهر المجنّ. يضرب مثلا لمن يكون مع أخيه فيتغيّر عليه و يصير خصما له، و أصله أنّ الرجل إذا كان سلما لأخيه يكون بطن ترسه إليه فإذا فارقه و صار حربا له يقلب له ظهر ترسه ليدفع به عن نفسه ما يلقاه من شرّه. فجعل ذلك كناية عن العداوة بعد الصداقة. و ضرب مثلا لمن فعل ذلك.

المقصود الثالث الأخذ في تعنيفه و توبيخه. و حكاية حاله في خيانته في معرض التوبيخ.
و ذلك قوله: فلا ابن عمّك. إلى قوله: هذه البلاد. و شبّهه بمن لم يرد اللّه بجهاده بل الدنيا، و بمن لم يكن على بيّنة من ربّه بل هو جاهل به و بوعده و وعيده. و وجه الشبه مشاركته لطالبى غير اللّه و الجاهلين به في طلب غيره و الإعراض عنه، و كذلك شبّهه بمن لم يكن له غرض من عبادته إلّا خدعة المسلمين عن دنياهم، و أشار إلى وجه الشبه بقوله: فلمّا أمكنتك الشدّة. إلى قوله: الكبيرة، أى فكما أنّ عرض الّذي يكيد غيره عن شي‏ء أن يترصّد الفرصة في أخذه و ينتهزها إذا وجدها فكذلك أنت في إسراعك بالوثوب على الخيانة و شبّه اختطافه لما أخذه من المال باختطاف الذئب الأزلّ دامية المعزى الكسيرة، و وجه الشبه سرعة أخذه له و خفّته له في ذلك، و خصّ الذئب الأزل لأنّ خفّة الوركين يعينه على سرعة الوثبة و الاختطاف، و دامية المعزى الكسيرة لأنّها أمكن للاختطاف لعدم الممانعة. ثمّ أخبر في معرض التوبيخ أنّه حمله إلى وطنه بمكّة، و كنّى بكونه رحيب الصدر به إمّا عن سروره و فرحه به أو عن كثرة ما حمل منه لأنّ من العادة إذا أراد الإنسان حمل شي‏ء في صدره و باعه حوى منه ما أمكنه حمله. و نصب رحيب و غير على الحال، و إضافة رحيب في تقدير الانفصال. ثمّ شبّهه في معرض التوبيخ و التقريع في حمله بمن حمل تراثه إلى أهله من والديه، و استفهم على سبيل التعجّب من حاله و الإنكار عليه على أمرين: أحدهما: عن إيمانه بالمعاد و خوفه من مناقشة اللّه في الحساب تذكيرا له، و نبّهه على أنّه كان معدودا في نظره من ذوى العقول. و أدخله في حيّز كان تنبيها له على أنّه لم يبق عنده كذلك. الثاني: عن كيفيّة إساغته للشراب و الطعام مع علمه أنّ ما يأكله و يشربه و ينكح به من هذا المال حرام لكونه مال المسلمين اليتامى منهم و المساكين و المجاهدين أفاء اللّه عليهم ليحرز به عباده و بلاده استفهام إنكار و تقريع بذكر معصية اللّه.

المقصود الرابع: أمره بعد التوبيخ الطويل بتقوى اللّه و ردّ أموال المسلمين عليهم، و توعّده إن لم يفعل
ثمّ أمكن اللّه منه أن يعذر إلى اللّه فيه: أى يبلغ إليه بالعذر فيه و بقتله، و ذكر الضرب بالسيف الموصوف بالصفة المذكورة اغلظ في الوعيد و أبلغ في الزجر.

المقصود الخامس: أقسم أنّ ولديه على قربهما منه و كرامتهما عليه لو فعلا كفعله من الخيانة لم يراقبهما في ذلك
حتّى يأخذ الحقّ منهما و يزيح الباطل عن مظلمتهما من مال أو غيره، و مراده أنّ غيرهم بطريق أولى في عدم المراقبة له. ثمّ أقسم القسم البارّ أنّه ما يسرّه أن يكون ما أخذه ابن عبّاس من أموال المسلمين‏ حلالا له يخلفه ميراثا لمن بعده لما علمت أنّ جمع المال و ادّخاره سبب العذاب في الآخرة كما قال تعالى وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ«» الآية، و قسمه الأوّل كالعذر له في شدّة إنكاره عليه، و الثاني لتحقير ما أخذه، و بيان أنّه لو كان أخذه على وجه حلال فلا يصلح للقنية فكيف به و هو حرام، و ذلك ليتركه و يخرج عنه إلى أهله.

السادس: أمره بالإمهال على سبيل التهديد بقرب الوصول إلى الغاية الّتي هى الموت و الدفن و عرض أعماله عليه
بالمحلّ الّذي ينادي فيه الظالم بالحسرة و يتمنّى فيه مضيّعوا أمر اللّه و العمل الصالح الرجعة إلى الدنيا حين لا مخلص لهم ممّا هم فيه. و ذلك المحلّ هو عرصة القيامة. و ذكر النداء بالحسرة حين لا رجعة ليتأكّد التخويف و التهديد بتعداد الامور المنفّرة، و أمّا قوله: و لات حين مناص شبّهوا لات بليس و أضمروا فيها اسم الفاعل. و لا يستعمل لات إلّا مع حين، و قد جاءت حين مرفوعة بأنّها اسم لات، و قيل: إنّ التاء زائدة كهى في ثمّت و ربّت. و قد مرّ ذلك قبل.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 5 ، صفحه‏ى 88