خطبه 159 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

159 و من خطبة له ع

أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ- وَ طُولِ هَجْعَةٍ مِنَ الْأُمَمِ وَ انْتِقَاضٍ مِنَ الْمُبْرَمِ- فَجَاءَهُمْ بِتَصْدِيقِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ- وَ النُّورِ الْمُقْتَدَى بِهِ ذَلِكَ الْقُرْآنُ فَاسْتَنْطِقُوهُ- وَ لَنْ يَنْطِقَ وَ لَكِنْ أُخْبِرُكُمْ عَنْهُ- أَلَا إِنَّ فِيهِ عِلْمَ مَا يَأْتِي- وَ الْحَدِيثَ عَنِ الْمَاضِي- وَ دَوَاءَ دَائِكُمْ وَ نَظْمَ مَا بَيْنَكُمْ الهجعة النومة الخفيفة- و قد تستعمل في النوم المستغرق أيضا- و المبرم الحبل المفتول- و الذي بين يديه التوراة و الإنجيل- .

فإن قلت التوراة و الإنجيل قبله- فكيف جعلهما بين يديه- قلت أحد جزأي الصلة محذوف و هو المبتدأ- و التقدير بتصديق الذي هو بين يديه- و هو ضمير القرآن أي بتصديق الذي القرآن بين يديه- و حذف أحد جزأي الصلة هاهنا- ثم حذفه في قوله تعالى- تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَ تَفْصِيلًا- في قراءة من جعله اسما مرفوعا- و أيضا فإن العرب تستعمل بين يديه بمعنى قبل-

قال تعالى بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ أي قبله: مِنْهَا- فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَبْقَى بَيْتُ مَدَرٍ وَ لَا وَبَرٍ- إِلَّا وَ أَدْخَلَهُ الظُّلْمَةُ تَرْحَةً وَ أَوْلَجُوا فِيهِ نِقْمَةً- فَيَوْمَئِذٍ لَا يَبْقَى لَهُمْ فِي السَّمَاءِ عَاذِرٌ- وَ لَا فِي الْأَرْضِ نَاصِرٌ- أَصْفَيْتُمْ بِالْأَمْرِ غَيْرَ أَهْلِهِ وَ أَوْرَدْتُمُوهُ غَيْرَ مَوْرِدِهِ- وَ سَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِمَّنْ ظَلَمَ- مَأْكَلًا بِمَأْكَلٍ وَ مَشْرَباً بِمَشْرَبٍ- مِنْ مَطَاعِمِ الْعَلْقَمِ وَ مَشَارِبِ الصَّبِرِ وَ الْمَقِرِ- وَ لِبَاسِ شِعَارِ الْخَوْفِ وَ دِثَارِ السَّيْفِ- وَ إِنَّمَا هُمْ مَطَايَا الْخَطِيئَاتِ وَ زَوَامِلُ الآْثَامِ- فَأُقْسِمُ ثُمَّ أُقْسِمُ- لَتَنْخَمَنَّهَا أُمَيَّةُ مِنْ بَعْدِي كَمَا تُلْفَظُ النُّخَامَةُ- ثُمَّ لَا تَذُوقُهَا وَ لَا تَتَطَعَّمُ بِطَعْمِهَا أَبَداً- مَا كَرَّ الْجَدِيدَانِ الترحة الحزن- قال فحينئذ لا يبقى لهم أي يحيق بهم العذاب- و يبعث الله عليهم من ينتقم- و هذا إخبار عن ملك بني أمية بعده- و زوال أمرهم عند تفاقم فسادهم في الأرض- .

ثم خاطب أولياء هؤلاء الظلمة- و من كان يؤثر ملكهم فقال- أصفيتم بالأمرغير أهله- أصفيت فلانا بكذا خصصته به- و صفية المغنم شي‏ء كان يصطفيه الرئيس لنفسه من الغنيمة- . و أوردتموه غير ورده أنزلتموه عند غير مستحقه- ثم قال سيبدل الله مأكلهم اللذيذة الشهية- بمأكل مريرة علقمية- و المقر المر- و مأكلا منصوب بفعل مقدر أي يأكلون مأكلا- و الباء هاهنا للمجازاة الدالة على الصلة- كقوله تعالى فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ و كقول أبي تمام-

فبما قد أراه ريان مكسو
المعاني من كل حسن و طيب‏

و قال سبحانه- قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ- فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ- و جعل شعارهم الخوف- لأنه باطن في القلوب- و دثارهم السيف لأنه ظاهر في البدن- كما أن الشعار ما كان إلى الجسد و الدثار ما كان فوقه- . و مطايا الخطيات حوامل الذنوب- و زوامل الآثام جمع زاملة- و هي بعير يستظهر به الإنسان يحمل متاعه عليه- قال الشاعر-

زوامل أشعار و لا علم عندهم
بجيدها إلا كعلم الأباعر

و تنخمت النخامة إذا تنخعتها و النخامة النخاعة- . و الجديدان الليل و النهار- و قد جاء في الأخبار الشائعة المستفيضة- في كتب المحدثين- أن رسول الله ص أخبر أن بني أمية تملك الخلافة بعده- مع ذم منه ع‏لهم- نحو ما روي عنه في تفسير قوله تعالى- وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ- وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ- فإن المفسرين قالوا- إنه رأى بني أمية ينزون على منبره نزو القردة- هذا لفظ رسول الله ص الذي فسر لهم الآية به- فساءه ذلك ثم قال- الشجرة الملعونة بنو أمية و بنو المغيرة- و نحوقوله ص إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا- اتخذوا مال الله دولا و عباده خولا- و نحوقوله ص في تفسير قوله تعالى- لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ- قال ألف شهر يملك فيها بنو أمية- و ورد عنه ص من ذمهم الكثير المشهور

نحوقوله أبغض الأسماء إلى الله الحكم و هشام و الوليدوفي خبر آخر اسمان يبغضهما الله- مروان و المغيرةو نحوقوله إن ربكم يحب و يبغض كما يحب أحدكم و يبغض- و إنه يبغض بني أمية و يحب بني عبد المطلب- فإن قلت كيف قال ثم لا تذوقها أبدا- و قد ملكوا بعد قيام الدولة الهاشمية بالمغرب مدة طويلة- قلت الاعتبار بملك العراق و الحجاز- و ما عداهما من الأقاليم لا اعتداد به

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 9

خطبه 158 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

158 و من خطبة له ع

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ الْحَمْدَ مِفْتَاحاً لِذِكْرِهِ- وَ سَبَباً لِلْمَزِيدِ مِنْ فَضْلِهِ- وَ دَلِيلًا عَلَى آلَائِهِ وَ عَظَمَتِهِ- عِبَادَ اللَّهِ- إِنَّ الدَّهْرَ يَجْرِي بِالْبَاقِينَ كَجَرْيِهِ بِالْمَاضِينَ- لَا يَعُودُ مَا قَدْ وَلَّى مِنْهُ- وَ لَا يَبْقَى سَرْمَداً مَا فِيهِ- آخِرُ فَعَالِهِ كَأَوَّلِهِ مُتَشَابِهَةٌ أُمُورُهُ- مُتَظَاهِرَةٌ أَعْلَامُهُ- فَكَأَنَّكُمْ بِالسَّاعَةِ تَحْدُوكُمْ حَدْوَ الزَّاجِرِ بِشَوْلِهِ- فَمَنْ شَغَلَ نَفْسَهُ بِغَيْرِ نَفْسِهِ تَحَيَّرَ فِي الظُّلُمَاتِ- وَ ارْتَبَكَ فِي الْهَلَكَاتِ- وَ مَدَّتْ بِهِ شَيَاطِينُهُ فِي طُغْيَانِهِ- وَ زَيَّنَتْ لَهُ سَيِّئَ أَعْمَالِهِ- فَالْجَنَّةُ غَايَةُ السَّابِقِينَ وَ النَّارُ غَايَةُ الْمُفَرِّطِينَ- اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ- أَنَّ التَّقْوَى دَارُ حِصْنٍ عَزِيزٍ- وَ الْفُجُورَ دَارُ حِصْنٍ ذَلِيلٍ- لَا يَمْنَعُ أَهْلَهُ وَ لَا يُحْرِزُ مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ- أَلَا وَ بِالتَّقْوَى تُقْطَعُ حُمَةُ الْخَطَايَا- وَ بِالْيَقِينِ تُدْرَكُ الْغَايَةُ الْقُصْوَى- عِبَادَ اللَّهِ اللَّهَ اللَّهَ فِي أَعَزِّ الْأَنْفُسِ عَلَيْكُمْ وَ أَحَبِّهَا إِلَيْكُمْ- فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَوْضَحَ لَكُمْ سَبِيلَ الْحَقِّ وَ أَنَارَ طُرُقَهُ- فَشِقْوَةٌ لَازِمَةٌ أَوْ سَعَادَةٌ دَائِمَةٌ- فَتَزَوَّدُوا فِي أَيَّامِ الْفَنَاءِ لِأَيَّامِ الْبَقَاءِ- قَدْ دُلِلْتُمْ عَلَى الزَّادِ وَ أُمِرْتُمْ بِالظَّعَنِ- وَ حُثِثْتُمْ عَلَى الْمَسِيرِ- فَإِنَّمَا أَنْتُمْ كَرَكْبٍ وُقُوفٍ لَا يَدْرُونَ- مَتَى يُؤْمَرُونَ بِالسَّيْرِ- أَلَا فَمَا يَصْنَعُ بِالدُّنْيَا مَنْ‏ خُلِقَ لِلآْخِرَةِ- وَ مَا يَصْنَعُ بِالْمَالِ مَنْ عَمَّا قَلِيلٍ يُسْلَبُهُ- وَ تَبْقَى عَلَيْهِ تَبِعَتُهُ وَ حِسَابُهُ- عِبَادَ اللَّهِ- إِنَّهُ لَيْسَ لِمَا وَعَدَ اللَّهُ مِنَ الْخَيْرِ مَتْرَكٌ- وَ لَا فِيمَا نَهَى عَنْهُ مِنَ الشَّرِّ مَرْغَبٌ- عِبَادَ اللَّهِ- احْذَرُوا يَوْماً تُفْحَصُ فِيهِ الْأَعْمَالُ- وَ يَكْثُرُ فِيهِ الزِّلْزَالُ وَ تَشِيبُ فِيهِ الْأَطْفَالُ- اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ- أَنَّ عَلَيْكُمْ رَصَداً مِنْ أَنْفُسِكُمْ- وَ عُيُوناً مِنْ جَوَارِحِكُمْ- وَ حُفَّاظَ صِدْقٍ يَحْفَظُونَ أَعْمَالَكُمْ وَ عَدَدَ أَنْفَاسِكُمْ- لَا تَسْتُرُكُمْ مِنْهُمْ ظُلْمَةُ لَيْلٍ دَاجٍ- وَ لَا يُكِنُّكُمْ مِنْهُمْ بَابٌ ذُو رِتَاجٍ- وَ إِنَّ غَداً مِنَ الْيَوْمِ قَرِيبٌ يَذْهَبُ الْيَوْمُ بِمَا فِيهِ- وَ يَجِي‏ءُ الْغَدُ لَاحِقاً بِهِ- فَكَأَنَّ كُلَّ امْرِئٍ مِنْكُمْ- قَدْ بَلَغَ مِنَ الْأَرْضِ مَنْزِلَ وَحْدَتِهِ وَ مَخَطَّ حُفْرَتِهِ- فَيَا لَهُ مِنْ بَيْتِ وَحْدَةٍ- وَ مَنْزِلِ وَحْشَةٍ وَ مَفْرَدِ غُرْبَةٍ- وَ كَأَنَّ الصَّيْحَةَ قَدْ أَتَتْكُمْ- وَ السَّاعَةَ قَدْ غَشِيَتْكُمْ- وَ بَرَزْتُمْ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ- قَدْ زَاحَتْ عَنْكُمُ الْأَبَاطِيلُ- وَ اضْمَحَلَّتْ عَنْكُمُ الْعِلَلُ- وَ اسْتَحَقَّتْ بِكُمُ الْحَقَائِقُ- وَ صَدَرَتْ بِكُمُ الْأُمُورُ مَصَادِرَهَا- فَاتَّعِظُوا بِالْعِبَرِ- وَ اعْتَبِرُوا بِالْغِيَرِ وَ انْتَفِعُوا بِالنُّذُرِ جعل الحمد مفتاحا لذكره لأن أول الكتاب العزيز- الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ- و القرآن هو الذكر قال سبحانه- إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ‏

و سببا للمزيد- لأنه تعالى قال لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ- و الحمد هاهنا هو الشكر- و معنى جعله الحمد دليلا على عظمته و آلائه- أنه إذا كان سببا للمزيد- فقد دل ذلك على عظمة الصانع و آلائه- أما دلالته على عظمته- فلأنه دال على أن قدرته لا تتناهى أبدا- بل كلما ازداد الشكر ازدادت النعمة- و أما دلالته على آلائه- فلأنه لا جود أعظم من جود من يعطي من يحمده- لا حمدا متطوعا بل حمدا واجبا عليه- . قوله يجري بالباقين كجريه بالماضين- من هذا أخذ الشعراء و غيرهم ما نظموه في هذا المعنى- قال بعضهم-

مات من مات و الثريا الثريا
و السماك السماك و النسر نسر

و نجوم السماء تضحك منا
كيف تبقى من بعدنا و نمر

و قال آخر

فما الدهر إلا كالزمان الذي مضى
و لا نحن إلا كالقرون الأوائل‏

قوله لا يعود ما قد ولى منه كقول الشاعر-

ما أحسن الأيام إلا أنها
يا صاحبي إذا مضت لم ترجع‏

قوله و لا يبقى سرمدا ما فيه كلام مطروق المعنى- قال عدي-

ليس شي‏ء على المنون بباق
غير وجه المهيمن الخلاق‏

قوله آخر أفعاله كأوله يروى كأولها- و من رواه كأوله أعاد الضمير إلى الدهر- أي آخر أفعال الدهر كأول الدهر فحذف المضاف- . متشابهة أموره لأنه كما كان من قبل يرفع و يضع- و يغني و يفقر و يوجد و يعدم- فكذلك هو الآن أفعاله متشابهة- و روي متسابقة أي شي‏ء منها قبل شي‏ء- كأنها خيل تتسابق في مضمار- . متظاهرة أعلامه- أي دلالاته على سجيته- التي عامل الناس بها قديما و حديثا- متظاهرة يقوي بعضها بعضا- و هذا الكلام جار منه ع- على عادة العرب في ذكر الدهر- و إنما الفاعل على الحقيقة رب الدهر- .

و الشول النوق التي خف لبنها و ارتفع ضرعها- و أتى عليها من نتاجها سبعة أشهر أو ثمانية- الواحدة شائلة و هي جمع على غير القياس- و شولت الناقة أي صارت شائلة- فأما الشائل بغير هاء فهي الناقة تشول بذنبها للقاح- و لا لبن لها أصلا- و الجمع شول مثل راكع و ركع- قال أبو النجمكأن في أذنابهن الشول‏- . و الزاجر الذي يزجر الإبل يسوقها- و يقال حدوت إبلي و حدوت بإبلي- و الحدو سوقها و الغناء لها و كذلك الحداء- و يقال للشمال حدواء لأنها تحدو السحاب أي تسوقه- قال العجاج

حدواء جاءت من بلاد الطور

و لا يقال للمذكر أحدى- و ربما قيل للحمار إذا قدم أتنه حاد- قال ذو الرمة-حادي ثلاث من الحقب السماحيج‏ و المعنى أن سائق الشول يعسف بها- و لا يتقي سوقها و لا يدارك كما يسوق العشار- .

ثم قال ع من شغل نفسه بغير نفسه هلك- و ذلك أن من لا يوفي النظر حقه- و يميل إلى الأهواء و نصرة الأسلاف- و الحجاج عما ربي عليه بين الأهل و الأستاذين- الذين زرعوا في قلبه العقائد- يكون قد شغل نفسه بغير نفسه لأنه لم ينظر لها- و لا قصد الحق من حيث هو حق- و إنما قصد نصرة مذهب معين يشق عليه فراقه- و يصعب عنده الانتقال منه- و يسوؤه أن يرد عليه حجة تبطله فيسهر عينه- و يتعب قلبه في تهويس تلك الحجة- و القدح فيها بالغث و السمين- لا لأنه يقصد الحق- بل يقصد نصرة المذهب المعين و تشييد دليله- لا جرم أنه متحير في ظلمات لا نهاية لها- . و الارتباك الاختلاط ربكت الشي‏ء أربكه ربكا- خلطته فارتبك أي اختلط- و ارتبك الرجل في الأمر- أي نشب فيه و لم يكد يتخلص منه- .

قوله و مدت به شياطينه في طغيانه- مأخوذ من قوله تعالى- وَ إِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ- . و روي و مدت له شياطينه باللام- و معناه الإمهال مد له في الغي أي طول له- و قال تعالى قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا- . قوله و زينت له سيئ أعماله- مأخوذ من قوله تعالى- أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً- . قوله التقوى دار حصن عزيز- معناه دار حصانة عزيزة- فأقام الاسم مقام المصدر و كذلك في الفجور- . و يحرز من لجأ إليه يحفظ من اعتصم به- .

و حمة الخطايا سمها و تقطع الحمة- كما تقول قطعت سريان السم في بدن الملسوع- بالبادزهرات و الترياقات- فكأنه جعل سم الخطايا ساريا في الأبدان- و التقوى تقطع سريانه- . قوله و باليقين تدرك الغاية القصوى- و ذلك لأن أقصى درجات العرفان الكشف- و هو المراد هاهنا بلفظ اليقين- . و انتصب الله الله على الإغراء- و في متعلقة بالفعل المقدر- و تقديره راقبوا و أعز الأنفس عليهم أنفسهم- . قوله فشقوة لازمة مرفوع على أنه خبر مبتدإ محذوف- تقديره فغايتكم أو فجزاؤكم أو فشأنكم- و هذا يدل على مذهبنا في الوعيد- لأنه قسم الجزاء إلى قسمين- إما العذاب أبدا أو النعيم أبدا- و في هذا بطلان قول المرجئة- إن ناسا يخرجون من النار فيدخلون الجنة- لأن هذا لو صح لكان قسما ثالثا- .

قوله فقد دللتم على الزاد أي الطاعة- . و أمرتم بالظعن أي أمرتم بهجر الدنيا- و أن تظعنوا عنها بقلوبكم- و يجوز الظعن بالتسكين- . و حثثتم على المسير- لأن الليل و النهار سائقان عنيفان- . قوله و إنما أنتم كركب وقوف لا يدرون- متى يؤمرون بالسير- السير هاهنا هو الخروج من الدنيا إلى الآخرة بالموت- جعل الناس و مقامهم في الدنيا- كركب وقوف لا يدرون متى يقال لهم سيروا فيسيرون- لأن الناس لا يعلمون الوقت الذي يموتون فيه- فإن قلت كيف سمى الموت و المفارقة سيرا- .

قلت لأن الأرواح يعرج بها إما إلى عالمها و هم السعداء- أو تهوي إلى أسفل‏ السافلين و هم الأشقياء- و هذا هو السير الحقيقي لا حركة الرجل بالمشي- و من أثبت الأنفس المجردة- قال سيرها خلوصها من عالم الحس- و اتصالها المعنوي لا الأبدي ببارئها- فهو سير في المعنى لا في الصورة- و من لم يقل بهذا و لا بهذا قال- إن الأبدان بعد الموت تأخذ في التحلل و التزايل- فيعود كل شي‏ء منها إلى عنصره فذاك هو السير- . و ما في عما قليل زائدة و تبعته إثمه و عقوبته- .

قوله إنه ليس لما وعد الله من الخير مترك- أي ليس الثواب فيما ينبغي للمرء أن يتركه- و لا الشر فيما ينبغي أن يرغب المرء فيه- . و تفحص فيه الأعمال تكشف- و الزلزال بالفتح اسم للحركة الشديدة و الاضطراب- و الزلزال بالكسر المصدر قال تعالى- وَ زُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً- . قوله و يشيب فيه الأطفال- كلام جار مجرى المثل يقال في اليوم الشديد- إنه ليشيب نواصي الأطفال و قال تعالى- فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً- و ليس ذلك على حقيقته- لأن الأمة مجمعة على أن الأطفال- لا تتغير حالهم في الآخرة إلى الشيب- و الأصل في هذا أن الهموم و الأحزان- إذا توالت على الإنسان شاب سريعا- قال أبو الطيب

و الهم يخترم الجسيم نحافة
و يشيب ناصية الصبي و يهرم‏

قوله إن عليكم رصدا من أنفسكم- و عيونا من جوارحكم- لأن الأعضاء تنطق في القيامة بأعمال المكلفين- و تشهد عليهم- .و الرصد جمع راصد كالحرس جمع حارس- . قوله و حفاظ صدق يعني الملائكة الكاتبين- لا يعتصم منهم بسترة و لا ظلام ليل- و من هذا المعنى قول الشاعر-

إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل
خلوت و لكن قل علي رقيب‏

قوله و إن غدا من اليوم قريب- و منه قول القائل-فإن غدا لناظره قريب‏- . منه قولهغد ما غد ما أقرب اليوم من غد- . و منه قول الله عالى- إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ- و الصيحة نفخة الصور- . و زاحت الأباطيل بعدت و اضمحلت تلاشت و ذهبت- . قوله و استحقت أي حقت و وقعت- استفعل بمعنى فعل كقولك استمر على باطله أي مر عليه- . و صدرت بكم الأمور مصادرها- كل وارد فله صدر عن مورده- و صدر الإنسان عن موارد الدنيا الموت ثم البعث

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 9

خطبه 157 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

157 و قام إليه ع رجل فقال أخبرنا عن الفتنة-و هل سألت عنها رسول الله ص فقال ع- :

إِنَّهُ لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَوْلَهُ- الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا- أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ- عَلِمْتُ أَنَّ الْفِتْنَةَ لَا تَنْزِلُ بِنَا- وَ رَسُولُ اللَّهِ ص بَيْنَ أَظْهُرِنَا- فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الْفِتْنَةُ الَّتِي أَخْبَرَكَ اللَّهُ بِهَا- فَقَالَ يَا عَلِيُّ إِنَّ أُمَّتِي سَيُفْتَنُونَ بَعْدِي- فَقُلْتُ يَا رَسُولُ اللَّهِ- أَ وَ لَيْسَ قَدْ قُلْتَ لِي يَوْمَ أُحُدٍ- حَيْثُ اسْتُشْهِدَ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ- وَ حِيزَتْ عَنِّي الشَّهَادَةُ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيَّ- فَقُلْتَ لِي أَبْشِرْ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ وَرَائِكَ- فَقَالَ لِي إِنَّ ذَلِكَ لَكَذَلِكَ فَكَيْفَ صَبْرُكَ إِذاً- فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ هَذَا مِنْ مَوَاطِنِ الصَّبْرِ- وَ لَكِنْ مِنْ مَوَاطِنِ الْبُشْرَى وَ الشُّكْرِ- وَ قَالَ يَا عَلِيُّ إِنَّ الْقَوْمَ سَيُفْتَنُونَ بِأَمْوَالِهِمْ- وَ يَمُنُّونَ بِدِينِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ- وَ يَتَمَنَّوْنَ رَحْمَتَهُ وَ يَأْمَنُونَ سَطْوَتَهُ- وَ يَسْتَحِلُّونَ حَرَامَهُ بِالشُّبُهَاتِ الْكَاذِبَةِ- وَ الْأَهْوَاءِ السَّاهِيَةِ فَيَسْتَحِلُّونَ الْخَمْرَ بِالنَّبِيذِ- وَ السُّحْتَ بِالْهَدِيَّةِ وَ الرِّبَا بِالْبَيْعِ- فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ- فَبِأَيِّ الْمَنَازِلِ أُنْزِلُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ- أَ بِمَنْزِلَةِ رِدَّةٍ أَمْ بِمَنْزِلَةِ فِتْنَةٍ فَقَالَ بِمَنْزِلَةِ فِتْنَةٍ

قد كان ع يتكلم في الفتنة- و لذلك ذكر الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر- و لذلك قال فعليكم بكتاب الله- أي إذا وقع الأمر و اختلط الناس فعليكم بكتاب الله- فلذلك قام إليه من سأله عن الفتنة- و هذا الخبر مروي عن رسول الله صقد رواه كثير من المحدثين عن علي ع أن رسول الله ص قال له إن الله قد كتب عليك جهاد المفتونين- كما كتب علي جهاد المشركين- قال فقلت يا رسول الله- ما هذه الفتنة التي كتب علي فيها الجهاد- قال قوم يشهدون أن لا إله إلا الله- و أني رسول الله و هم مخالفون للسنة- فقلت يا رسول الله فعلام أقاتلهم و هم يشهدون كما أشهد- قال على الأحداث في الدين و مخالفة الأمر- فقلت يا رسول الله إنك كنت وعدتني الشهادة- فأسأل الله أن يعجلها لي بين يديك-

قال فمن يقاتل الناكثين و القاسطين و المارقين- أما إني وعدتك الشهادة و ستستشهد- تضرب على هذه فتخضب هذه فكيف صبرك إذا- قلت يا رسول الله ليس ذا بموطن صبر هذا موطن شكر- قال أجل أصبت فأعد للخصومة فإنك مخاصم- فقلت يا رسول الله لو بينت لي قليلا- فقال إن أمتي ستفتن من بعدي- فتتأول القرآن و تعمل بالرأي و تستحل الخمر بالنبيذ- و السحت بالهدية و الربا بالبيع- و تحرف الكتاب عن مواضعه- و تغلب كلمة الضلال فكن جليس بيتك حتى تقلدها- فإذا قلدتها جاشت عليك الصدور- و قلبت لك الأمور- تقاتل حينئذ على تأويل القرآن- كما قاتلت على تنزيله- فليست حالهم الثانية بدون حالهم الأولى- فقلت يا رسول الله- فبأي المنازل أنزل هؤلاء المفتونين من بعدك- أ بمنزلة فتنة أم بمنزلة ردة- فقال بمنزلة فتنة يعمهون فيها إلى أن يدركهم العدل- فقلت يا رسول الله أ يدركهم العدل منا أم من غيرنا- قال بل منا بنا فتح و بنا يختم- و بنا ألف الله بين القلوب‏بعد الشرك- و بنا يؤلف بين القلوب بعد الفتنة- فقلت الحمد لله على ما وهب لنا من فضله- .

و اعلم أن لفظه ع المروي في نهج البلاغة- يدل على أن الآية المذكورة و هي قوله ع- الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أنزلت بعد أحد- و هذا خلاف قول أرباب التفسير- لأن هذه الآية هي أول سورة العنكبوت- و هي عندهم بالاتفاق مكية- و يوم أحد كان بالمدينة- و ينبغي أن يقال في هذا- إن هذه الآية خاصة أنزلت بالمدينة- و أضيفت إلى السورة المكية فصارتا واحدة- و غلب عليها نسب المكي لأن الأكثر كان بمكة- و في القرآن مثل هذا كثير كسورة النحل- فإنها مكية بالإجماع- و آخرها ثلاث آيات أنزلت بالمدينة بعد يوم أحد- و هي قوله تعالى- وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ- وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ- وَ اصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ- وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ- إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ- . فإن قلت فلم قال- علمت أن الفتنة لا تنزل بنا و رسول الله بين أظهرنا- قلت لقوله تعالى وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ- . و قوله حيزت عني الشهادة أي منعت- . قوله ليس هذا من مواطن الصبر- كلام عال جدا يدل على يقين عظيم و عرفان تام- و نحوهقوله و قد ضربه ابن ملجم- فزت و رب الكعبة- .

قوله سيفتنون بعدي بأموالهم- من قوله تعالى- وَ اعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ- . قوله و يمنون بدينهم على ربهم- من قوله تعالى يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا- قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ- بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ- . قوله و يتمنون رحمته- من قوله أحمق الحمقى من أتبع نفسه هواها و تمنى على الله- . قوله و يأمنون سطوته من قوله تعالى- أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ- إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ- . و الأهواء الساهية الغافلة- و السحت الحرام و يجوز ضم الحاء- و قد أسحت الرجل في تجارته إذا اكتسب السحت- . و في قوله بل بمنزلة فتنة- تصديق لمذهبنا في أهل البغي- و أنهم لم يدخلوا في الكفر بالكلية بل هم فساق- و الفاسق عندنا في منزلة بين المنزلتين- خرج من الإيمان و لم يدخل في الكفر

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 9

خطبه 156 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

156 و من كلام له ع خاطب به أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم

فَمَنِ اسْتَطَاعَ عِنْدَ ذَلِكَ- أَنْ يَعْتَقِلَ نَفْسَهُ عَلَى اللَّهِ فَلْيَفْعَلْ- وَ إِنْ أَطَعْتُمُونِي- فَإِنِّي حَامِلُكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَلَى سَبِيلِ الْجَنَّةِ- وَ إِنْ كَانَ ذَا مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ وَ مَذَاقَةٍ مَرِيرَةٍ- وَ أَمَّا فُلَانَةُ فَأَدْرَكَهَا رَأْيُ النِّسَاءِ- وَ ضِغْنٌ غَلَا فِي صَدْرِهَا كَمِرْجَلِ الْقَيْنِ- وَ لَوْ دُعِيَتْ لِتَنَالَ مِنْ غَيْرِي مَا أَتَتْ إِلَيَّ لَمْ تَفْعَلْ- وَ لَهَا بَعْدُ حُرْمَتُهَا الْأَوْلَى وَ الْحِسَابُ عَلَى اللَّهِ يعتقل نفسه على الله يحبسها على طاعته- ثم ذكر أن السبيل التي حملهم عليها و هي سبيل الرشاد- ذات مشقة شديدة و مذاقة مريرة- لأن الباطل محبوب النفوس- فإنه اللهو و اللذة و سقوط التكليف- و أما الحق فمكروه النفس- لأن التكليف صعب و ترك الملاذ العاجلة- شاق شديد المشقة- . و الضغن الحقد و المرجل قدر كبيرة- و القين الحداد أي كغليان قدر من حديد

فصل في ترجمة عائشة و ذكر طرف من أخبارها

و فلانة كناية عن أم المؤمنين عائشة أبوها أبو بكر- و قد تقدم ذكر نسبه و أمها أم رومان ابنة عامر بن عويمر بن عبد شمس- بن عتاب بن أذينة بن سبيع بن دهمان- بن الحارث بن غنم بن مالك بن كنانة- تزوجها رسول الله ص قبل الهجرة بسنتين بعد وفاة خديجة- و هي بنت سبع سنين و بنى عليها بالمدينة- و هي بنت تسع سنين و عشرة أشهر- و كانت قبله تذكر لجبير بن مطعم و تسمى له- و كان رسول الله ص رأى في المنام عائشة- في سرقة من حرير عند متوفى خديجة فقال- إن يكن هذا من عند الله يمضه-

روي هذا الخبر في المسانيد الصحيحة- و كان نكاحه إياها في شوال- و بناؤه عليها في شوال أيضا- فكانت تحب أن تدخل النساء من أهلها- و أحبتها على أزواجهن في شوال و تقول- هل كان في نسائه أحظى مني و قد نكحني- و بنى علي في شوال- ردا بذلك على من يزعم من النساء- أن دخول الرجل بالمرأة بين العيدين مكروه- .

و توفي رسول الله ص عنها و هي بنت عشرين سنة- و استأذنت رسول الله ص في الكنية- فقال لها اكتني بابنك عبد الله بن الزبير يعني ابن أختها- فكانت تكنى أم عبد الله و كانت فقيهة راوية للشعر- ذات حظ من رسول الله ص و ميل ظاهر إليها- و كانت لها عليه جرأة و إدلال لم يزل ينمي و يستشري- حتى كان منها في أمره في قصة مارية- ما كان من الحديث‏الذي أسره إلى الزوجة الأخرى- و أدى إلى تظاهرهما عليه- و أنزل فيهما قرآنا يتلى في المحاريب- يتضمن وعيدا غليظا عقيب تصريح بوقوع الذنب و صغو القلب- و أعقبتها تلك الجرأة و ذلك الانبساط- و حدث منها في أيام الخلافة العلوية ما حدث- و لقد عفا الله تعالى عنها- و هي من أهل الجنة عندنا بسابق الوعد- و ما صح من أمر التوبة- .

وروى أبو عمر بن عبد البر في كتاب الاستيعاب في باب عائشة عن سعيد بن نصر عن قاسم بن أصبغ عن محمد بن وضاح عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع عن عصام بن قدامة عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله ص لنسائه- أيتكن صاحبة الجمل الأدبب يقتل حولها قتلي كثير- و تنجو بعد ما كادت- .

قال أبو عمر بن عبد البر- و هذا الحديث من أعلام نبوته ص- قال و عصام بن قدامة ثقة و سائر الإسناد- فثقة رجاله أشهر من أن تذكر- . و لم تحمل عائشة من رسول الله ص- و لا ولد له ولد من مهيرة إلا من خديجة و من السراري من مارية- . و قذفت عائشة في أيام رسول الله ص- بصفوان بن المعطل السلمي و القصة مشهورة- فأنزل الله تعالى براءتها في قرآن يتلى و ينقل- و جلد قاذفوها الحد- و توفيت في سنة سبع و خمسين للهجرة- و عمرها أربع و ستون سنة و دفنت بالبقيع‏في ملك معاوية- و صلى عليها المسلمون ليلا و أمهم أبو هريرة- و نزل في قبرها خمسة من أهلها عبد الله و عروة ابنا الزبير- و القاسم و عبد الله ابنا محمد بن أبي بكر- و عبد الرحمن بن أبي بكر- و ذلك لسبع عشرة خلت من شهر رمضان- من السنة المذكورة- .

فأما قوله فأدركها رأي النساء أي ضعف آرائهن- وقد جاء في الخبر لا يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأةوجاء إنهن قليلات عقل و دين- أو قال ضعيفات- و لذلك جعل شهادة المرأتين بشهادة الرجل الواحد- و المرأة في أصل الخلقة سريعة الانخداع سريعة الغضب- سيئة الظن فاسدة التدبير- و الشجاعة فيهن مفقودة أو قليلة و كذلك السخاء- و أما الضغن فاعلم أن هذا الكلام يحتاج إلى شرح- و قد كنت قرأته على الشيخ- أبي يعقوب يوسف بن إسماعيل اللمعاني رحمه الله- أيام اشتغالي عليه بعلم الكلام- و سألته عما عنده فيه فأجابني بجواب طويل- أنا أذكر محصوله بعضه بلفظه رحمه الله و بعضه بلفظي- فقد شذ عني الآن لفظه كله بعينه- قال أول بدء الضغن كان بينها و بين فاطمة ع- و ذلك لأن رسول الله ص تزوجها عقيب موت خديجة- فأقامها مقامها و فاطمة هي ابنة خديجة- و من المعلوم أن ابنة الرجل إذا ماتت أمها- و تزوج أبوها أخرى- كان بين الابنة و بين المرأة كدر و شنئان و هذا لا بد منه- لأن الزوجة تنفس عليها ميل الأب- و البنت تكره ميل أبيها إلى امرأة غريبة- كالضرة لأمها بل هي ضرة على الحقيقة- و إن كانت الأم ميتة- و لأنا لو قدرنا الأم حية- لكانت العداوة مضطرمة متسعرة- فإذا كانت قد ماتت ورثت ابنتها تلك العداوة- و في المثل عداوة الحماة و الكنة- و قال الراجز

إن الحماة أولعت بالكنة
و أولعت كنتها بالظنة

ثم اتفق أن رسول الله ص مال إليها و أحبها- فازداد ما عند فاطمة بحسب زيادة ميله- و أكرم رسول الله ص فاطمة إكراما عظيما- أكثر مما كان الناس يظنونه- و أكثر من إكرام الرجال لبناتهم- حتى خرج بها عن حد حب الآباء للأولاد- فقال بمحضر الخاص و العام مرارا لا مرة واحدة- و في مقامات مختلفة لا في مقام واحد- إنها سيدة نساء العالمين- و إنها عديلة مريم بنت عمران- و إنها إذا مرت في الموقف نادى مناد من جهة العرش- يا أهل الموقف غضوا أبصاركم لتعبر فاطمة بنت محمد- و هذا من الأحاديث الصحيحة- و ليس من الأخبار المستضعفة- و إن إنكاحه عليا إياها ما كان- إلا بعد أن أنكحه الله تعالى إياها في السماء- بشهادة الملائكة- وكم قال لا مرة يؤذيني ما يؤذيها و يغضبني ما يغضبها- و إنها بضعة مني يريبني ما رابها- فكان هذا و أمثاله يوجب زيادة الضغن عند الزوجة- حسب زيادة هذا التعظيم و التبجيل- و النفوس البشرية تغيظ على ما هو دون هذا فكيف هذا- .

ثم حصل عند بعلها ما هو حاصل عندها أعني عليا ع- فإن النساء كثيرا ما يجعلن الأحقاد في قلوب الرجال- لا سيما و هن محدثات الليل كما قيل في المثل- و كانت تكثر الشكوى من عائشة- و يغشاها نساء المدينة و جيران بيتها- فينقلن إليها كلمات عن عائشة- ثم يذهبن إلى بيت عائشة فينقلن إليها كلمات عن فاطمة- و كما كانت فاطمة تشكو إلى بعلها- كانت عائشة تشكو إلى أبيها- لعلمها أن بعلها لا يشكيها على ابنته- فحصل في نفس أبي بكر من ذلك أثر ما- ثم تزايد تقريظ رسول الله ص‏لعلي ع- و تقريبه و اختصاصه- فأحدث ذلك حسدا له و غبطة في نفس أبي بكر عنه- و هو أبوها- و في نفس طلحة و هو ابن عمها- و هي تجلس إليهما و تسمع كلامهما- و هما يجلسان إليها و يحادثانها- فأعدى إليها منهما كما أعدتهما- .

قال و لست أبرئ عليا ع من مثل ذلك- فإنه كان ينفس على أبي بكر سكون النبي ص إليه و ثناءه عليه- و يحب أن ينفرد هو بهذه المزايا- و الخصائص دونه و دون الناس أجمعين- و من انحرف عن إنسان انحرف عن أهله و أولاده- فتأكدت البغضة بين هذين الفريقين- ثم كان من أمر القذف ما كان- و لم يكن علي ع من القاذفين- و لكنه كان من المشيرين على رسول الله ص بطلاقها- تنزيها لعرضه عن أقوال الشنأة و المنافقين- . قال له لما استشاره إن هي إلا شسع نعلك- و قل له سل الخادم و خوفها و إن أقامت على الجحود فاضربها- و بلغ عائشة هذا الكلام كله- و سمعت أضعافه مما جرت عادة الناس- أن يتداولوه في مثل هذه الواقعة- و نقل النساء إليها كلاما كثيرا عن علي و فاطمة- و أنهما قد أظهرا الشماتة جهارا و سرا- بوقوع هذه الحادثة لها فتفاقم الأمر و غلظ- .

ثم إن رسول الله ص صالحها و رجع إليها- و نزل القرآن ببراءتها- فكان منها ما يكون من الإنسان ينتصر بعد أن قهر- و يستظهر بعد أن غلب و يبرأ بعد أن اتهم- من بسط اللسان و فلتات القول- و بلغ ذلك كله عليا ع و فاطمة ع- فاشتدت الحل و غلظت- و طوى كل من الفريقين قلبه على الشنئان لصاحبه- ثم كان بينها و بين علي ع- في حياة رسول الله ص أحوال و أقوال- كلها تقتضي تهييج ما في النفوس- نحو قولها له و قد استدناه رسول الله فجاء حتى قعد بينه‏و بينها و هما متلاصقان- أ ما وجدت مقعدا لكذا لا تكني عنه إلا فخذي- و نحو ما روي أنه سايره يوما و أطال مناجاته- فجاءت و هي سائرة خلفهما حتى دخلت بينهما- و قالت فيم أنتما فقد أطلتما- فيقال إن رسول الله ص غضب ذلك اليوم- و ما روي من حديث الجفنة من الثريد التي أمرت الخادم- فوقفت لها فأكفأتها- و نحو ذلك مما يكون بين الأهل و بين المرأة و أحمائها- .

ثم اتفق أن فاطمة ولدت أولادا كثيرة بنين و بنات- و لم تلد هي ولدا- و أن رسول الله ص كان يقيم بني فاطمة مقام بنيه- و يسمي الواحد منهما ابني و يقول- دعوا لي ابني و لا تزرموا على ابني و ما فعل ابني- فما ظنك بالزوجة إذا حرمت الولد من البعل- ثم رأت البعل يتمنى بني ابنته من غيرها- و يحنو عليهم حنو الوالد المشفق- هل تكون محبة لأولئك البنين و لأمهم و لأبيهم أم مبغضة- و هل تود دوام ذلك و استمراره أم زواله و انقضاءه- .

ثم اتفق أن رسول الله ص سد باب أبيها إلى المسجد- و فتح باب صهره ثم بعث أباها ببراءة إلى مكة- ثم عزله عنها بصهره فقدح ذلك أيضا في نفسها- و ولد لرسول الله ص إبراهيم من مارية- فأظهر علي ع بذلك سرورا كثيرا- و كان يتعصب لمارية- و يقوم بأمرها عند رسول الله ص ميلا على غيرها- و جرت لمارية نكبة مناسبة لنكبة عائشة- فبرأها علي ع منها و كشف بطلانها- أو كشفه الله تعالى على يده- و كان ذلك كشفا محسا بالبصر- لا يتهيأ للمنافقين أن يقولوا فيه ما قالوه- في القرآن المنزل ببراءة عائشة- و كل ذلك مما كان يوغر صدر عائشة عليه- و يؤكد ما في نفسها منه- ثم مات إبراهيم فأبطنت شماتة و إن أظهرت كآبة-

و وجم علي ع من ذلك و كذلك فاطمة- و كانا يؤثران و يريدان أن تتميز مارية عليها بالولد- فلم يقدر لهما و لا لمارية ذلك- و بقيت الأمور على ما هي عليه و في النفوس ما فيها- حتى مرض رسول الله ص المرض الذي توفي فيه- و كانت فاطمة ع و علي ع يريدان أن يمرضاه في بيتهما- و كذلك كان أزواجه كلهن- فمال إلى بيت عائشة بمقتضى المحبة القلبية- التي كانت لها دون نسائه- و كره أن يزاحم فاطمة و بعلها في بيتهما- فلا يكون عنده من الانبساط- لوجودهما ما يكون- إذا خلا بنفسه في بيت من يميل إليه بطبعه- و علم أن المريض يحتاج إلى فضل مداراة- و نوم و يقظة و انكشاف و خروج حدث- فكانت نفسه إلى بيته أسكن منها إلى بيت صهره و بنته- فإنه إذا تصور حياءهما منه استحيا هو أيضا منهما- و كل أحد يحب أن يخلو بنفسه- و يحتشم الصهر و البنت- و لم يكن له إلى غيرها من الزوجات مثل ذلك الميل إليها- فتمرض في بيتها فغبطت على ذلك- و لم يمرض رسول الله ص منذ قدم المدينة مثل هذا المرض-

و إنما كان مرضه الشقيقة يوما أو بعض يوم ثم يبرأ- فتطاول هذا المرض- و كان علي ع لا يشك أن الأمر له- و أنه لا ينازعه فيه أحد من الناس- و لهذا قال له عمه و قد مات رسول الله ص- امدد يدك أبايعك فيقول الناس- عم رسول الله ص بايع ابن عم رسول الله ص- فلا يختلف عليك اثنان- قال يا عم و هل يطمع فيها طامع غيري قال ستعلم- قال فإني لا أحب هذا الأمر من وراء رتاج- و أحب أن أصحر به فسكت عنه- فلما ثقل رسول الله ص في مرضه أنفذ جيش أسامة- و جعل فيه أبا بكر و غيره من أعلامالمهاجرين و الأنصار- فكان علي ع حينئذ بوصوله إلى الأمر- إن حدث برسول الله ص حدث أوثق- و تغلب على ظنه أن المدينة لو مات- لخلت من منازع ينازعه الأمر بالكلية- فيأخذه صفوا عفوا و تتم له البيعة- فلا يتهيأ فسخها لو رام ضد منازعته عليها- فكان من عود أبي بكر من جيش أسامة بإرسالها إليه- و إعلامه بأن رسول الله ص يموت ما كان- و من حديث الصلاة بالناس ما عرف- فنسب علي ع عائشة- أنها أمرت بلالا مولى أبيها أن يأمره فليصل بالناس- لأن رسول الله كما روي قال ليصل بهم أحدهم و لم يعين- و كانت صلاة الصبح- فخرج رسول الله ص و هو في آخر رمق- يتهادى بين علي و الفضل بن العباس- حتى قام في المحراب كما ورد في الخبر-

ثم دخل فمات ارتفاع الضحى- فجعل يوم صلاته حجة في صرف الأمر إليه و قال- أيكم يطيب نفسا أن يتقدم قدمين قدمهما رسول الله في الصلاة- و لم يحملوا خروج رسول الله ص إلى الصلاة لصرفه عنها- بل لمحافظته على الصلاة مهما أمكن- فبويع على هذه النكتة التي اتهمها علي ع على أنها ابتدأت منها- . و كان علي ع يذكر هذا لأصحابه في خلواته كثيرا و يقول- إنه لم يقل ص إنكن لصويحبات يوسف- إلا إنكارا لهذه الحال و غضبا منها- لأنها و حفصة تبادرتا إلى تعيين أبويهما- و أنه استدركها بخروجه و صرفه عن المحراب- فلم يجد ذلك و لا أثر- مع قوة الداعي الذي كان يدعو إلى أبي بكر- و يمهد له قاعدة الأمر- و تقرر حاله في نفوس الناس- و من اتبعه على ذلك من أعيان المهاجرين و الأنصار- و لما ساعد على ذلك من الحظ الفلكي و الأمر السمائي- الذي جمع عليه القلوب و الأهواء- فكانت هذه الحال عند علي أعظم من كل عظيم- و هي الطامة الكبرىو المصيبة العظمى- و لم ينسبها إلا إلى عائشة وحدها- و لا علق الأمر الواقع إلا بها- فدعا عليها في خلواته و بين خواصه و تظلم إلى الله منها- و جرى له في تخلفه عن البيعة ما هو مشهور حتى بايع- و كان يبلغه و فاطمة عنها كل ما يكرهانه- منذ مات رسول الله ص إلى أن توفيت فاطمة- و هما صابران على مضض و رمض- و استظهرت بولاية أبيها و استطالت و عظم شأنها- و انخذل علي و فاطمة و قهرا و أخذت فدك- و خرجت فاطمة تجادل في ذلك مرارا فلم تظفر بشي‏ء- و في ذلك تبلغها النساء و الداخلات- و الخارجات عن عائشة كل كلام يسوؤها- و يبلغن عائشة عنها و عن بعلها مثل ذلك- إلا أنه شتان ما بين الحالين- و بعد ما بين الفريقين- هذه غالبة و هذه مغلوبة و هذه آمرة و هذه مأمورة- و ظهر التشفي و الشماتة- و لا شي‏ء أعظم مرارة و مشقة من شماتة العدو- .

فقلت له رحمه الله أ فتقول أنت- إن عائشة عينت أباها للصلاة و رسول الله ص لم يعينه- فقال أما أنا فلا أقول ذلك و لكن عليا كان يقوله- و تكليفي غير تكليفه كان حاضرا و لكم أكن حاضرا- فأنا محجوج بالأخبار التي اتصلت بي- و هي تتضمن تعيين النبي ص لأبي بكر في الصلاة- و هو محجوج بما كان قد علمه- أو يغلب على ظنه من الحال التي كان حضرها- . قال ثم ماتت فاطمة- فجاء نساء رسول الله ص كلهن إلى بني هاشم في العزاء إلا عائشة- فإنها لم تأت و أظهرت مرضا- و نقل إلى علي ع عنها كلام يدل على السرور- .

ثم بايع علي أباها فسرت بذلك- و أظهرت من الاستبشار بتمام البيعة و استقرارالخلافة- و بطلان منازعة الخصم ما قد نقله الناقلون فأكثروا- و استمرت الأمور على هذا- مدة خلافة أبيها و خلافة عمر و عثمان- و القلوب تغلي و الأحقاد تذيب الحجارة- و كلما طال الزمان على علي تضاعفت همومه- و باح بما في نفسه إلى أن قتل عثمان- و قد كانت عائشة فيها أشد الناس عليه تأليبا و تحريضا- فقالت أبعده الله لما سمعت قتله- و أملت أن تكون الخلافة في طلحة- فتعود الإمرة تيمية كما كانت أولا- فعدل الناس عنه إلى علي بن أبي طالب- فلما سمعت ذلك صرخت وا عثماناه قتل عثمان مظلوما- و ثار ما في الأنفس- حتى تولد من ذلك يوم الجمل و ما بعده- . هذه خلاصة كلام الشيخ أبي يعقوب رحمه الله- و لم يكن يتشيع و كان شديدا في الاعتزال- إلا أنه في التفضيل كان بغداديا- .

فأما قوله ع- و لو دعيت لتنال من غيري مثل ما أتت إلي لم تفعل- فإنما يعني به عمر يقول- لو أن عمر ولي الخلافة بعد قتل عثمان- على الوجه الذي قتل عليه- و الوجه الذي أنا وليت الخلافة عليه- و نسب إلى عمر أنه كان يؤثر قتله أو يحرض عليه- و دعيت عائشة إلى أن تخرج عليه في عصابة من المسلمين- إلى بعض بلاد الإسلام- تثير فتنة و تنقض البيعة لم تفعل و هذا حق- لأنها لم تكن تجد على عمر ما تجده على علي ع- و لا الحال الحال- . فأما قوله و لها بعد حرمتها الأولى و الحساب على الله- فإنه يعني بذلك حرمتها بنكاح رسول الله ص لها- و حبه إياها و حسابها على الله- لأنه غفور رحيم لا يتعاظم عفوه زلة- و لا يضيق عن رحمته ذنب- .

فإن قلت هذا الكلام يدل على توقفه ع في أمرها- و أنتم تقولون إنها من أهل الجنة- فكيف تجمعون بين مذهبكم و هذا الكلام- . قلت يجوز أن يكون قال هذا الكلام- قبل أن يتواتر الخبر عنده بتوبتها- فإن أصحابنا يقولون- إنها تابت بعد قتل أمير المؤمنين و ندمت- و قالت لوددت أن لي من رسول الله ص عشرة بنين- كلهم ماتوا و لم يكن يوم الجمل- و إنها كانت بعد قتله تثني عليه و تنشر مناقبه- مع أنهم رووا أيضا أنها عقيب الجمل كانت تبكي- حتى تبل خمارها- و أنها استغفرت الله و ندمت- و لكن لم يبلغ أمير المؤمنين ع- حديث توبتها عقيب الجمل بلاغا- يقطع العذر و يثبت الحجة- و الذي شاع عنها من أمر الندم و التوبة شياعا مستفيضا-

إنما كان بعد قتله ع إلى أن ماتت و هي على ذلك- و التائب مغفور له و يجب قبول التوبة عندنا في العدل- و قد أكدوا وقوع التوبة- منها ماروي في الأخبار المشهورة أنها زوجة رسول الله ص في الآخرة- كما كانت زوجته في الدنيا- و مثل هذا الخبر إذا شاع أوجب علينا- أن نتكلف إثبات توبتها و لو لم ينقل- فكيف و النقل لها يكاد أن يبلغ حد التواتر: مِنْهُ- سَبِيلٌ أَبْلَجُ الْمِنْهَاجِ أَنْوَرُ السِّرَاجِ- فَبِالْإِيمَانِ يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحَاتِ- وَ بِالصَّالِحَاتِ يُسْتَدَلُّ عَلَى الْإِيمَانِ وَ بِالْإِيمَانِ يُعْمَرُ الْعِلْمُ- وَ بِالْعِلْمِ يُرْهَبُ الْمَوْتُ وَ بِالْمَوْتِ تُخْتَمُ الدُّنْيَا- وَ بِالدُّنْيَا تُحْرَزُ الآْخِرَةُ- وَ بِالْقِيَامَةِ تُزْلَفُ الْجَنَّةُ وَ تُبَرَّزُ الْجَحِيمُ‏لِلْغَاوِينَ- وَ إِنَّ الْخَلْقَ لَا مَقْصَرَ لَهُمْ عَنِ الْقِيَامَةِ- مُرْقِلِينَ فِي مِضْمَارِهَا إِلَى الْغَايَةِ الْقُصْوَى هو الآن في ذكر الإيمان و عنه قال- سبيل أبلج المنهاج أي واضح الطريق- .

ثم قال فبالإيمان يستدل على الصالحات- يريد بالإيمان هاهنا مسماه اللغوي لا الشرعي- لأن الإيمان في اللغة هو التصديق- قال سبحانه وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا أي بمصدق- و المعنى أن من حصل عنده التصديق بالوحدانية و الرسالة- و هما كلمتا الشهادة- استدل بهما على وجوب الأعمال الصالحة عليه أو ندبه إليها- لأن المسلم يعلم من دين نبيه ص- أنه أوجب عليه أعمالا صالحة- و ندبه إلى أعمال صالحة- فقد ثبت أن بالإيمان يستدل على الصالحات- .

ثم قال و بالصالحات يستدل على الإيمان- فالإيمان هاهنا مستعمل في مسماه الشرعي لا في مسماه اللغوي- و مسماه الشرعي هو العقد بالقلب- و القول باللسان و العمل بالجوارح- فلا يكون المؤمن مؤمنا حتى يستكمل فعل كل واجب- و يجتنب كل قبيح- و لا شبهة أنا متى علمنا أو ظننا من مكلف- أنه يفعل الأفعال الصالحة و يجتنب الأفعال القبيحة- استدللنا بذلك على حسن إطلاق لفظ المؤمن عليه- و بهذا التفسير الذي فسرناه نسلم من إشكال الدور- لأن لقائل أن يقول- من شرط الدليل أن يعلم قبل العلم بالمدلول- فلو كان كل واحد من الإيمان و الصالحات- يستدل به على الآخر- لزم تقدم العلم بكل واحد منهما- على العلم بكل واحد منهما فيؤدي إلى الدور- و لا شبهة أن هذا الدور غير لازم- على التفسير الذي فسرناه نحن- .

ثم قال ع و بالإيمان يعمر العلم- و ذلك لأن العالم و هو غير عامل بعلمه- غير منتفع بما علم بل مستضر به غاية الضرر- فكأن علمه خراب غير معمور- و إنما يعمر بالإيمان و هو فعل الواجب- و تجنب القبيح على مذهبنا- أو الاعتقاد و المعرفة على مذهب غيرنا- أو القول اللساني على قول آخرين- و مذهبنا أرجح- لأن عمارة العلم إنما تكون بالعمل من الأعضاء و الجوارح- و بدون ذلك يبقى العلم على خرابه كما كان- . ثم قال و بالعلم يرهب الموت هذا من قول الله تعالى- إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ- . ثم قال و بالموت تختم الدنيا- و هذا حق لأنه انقطاع التكليف- . ثم قال و بالدنيا تحرز الآخرة- هذا كقول بعض الحكماء- الدنيا متجر و الآخرة ربح و نفسك رأس المال- . ثم قال و بالقيامة تزلف الجنة للمتقين و تبرز الجحيم للغاوين- هذا من القرآن العزيز- و تزلف لهم تقدم لهم و تقرب إليهم- . و لا مقصر لي عن كذا لا محبس و لا غاية لي دونه- و أرقل أسرع و المضمار حيث تستبق الخيل: مِنْهَا- قَدْ شَخَصُوا مِنْ مُسْتَقَرِّ الْأَجْدَاثِ- وَ صَارُوا إِلَى مَصَايِرِ الْغَايَاتِ لِكُلِّ دَارٍ أَهْلُهَا-لَا يَسْتَبْدِلُونَ بِهَا وَ لَا يُنْقَلُونَ عَنْهَا- وَ إِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ- لَخُلُقَانِ مِنْ خُلُقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ- وَ إِنَّهُمَا لَا يُقَرِّبَانِ مِنْ أَجَلٍ- وَ لَا يَنْقُصَانِ مِنْ رِزْقٍ- وَ عَلَيْكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ- فَإِنَّهُ الْحَبْلُ الْمَتِينُ وَ النُّورُ الْمُبِينُ- وَ الشِّفَاءُ النَّافِعُ وَ الرِّيُّ النَّاقِعُ- وَ الْعِصْمَةُ لِلْمُتَمَسِّكِ وَ النَّجَاةُ لِلْمُتَعَلِّقِ- لَا يَعْوَجُّ فَيُقَامَ وَ لَا يَزِيغُ فَيُسْتَعْتَبَ- وَ لَا يُخْلِقُهُ كَثْرَةُ الرَّدِّ وَ وُلُوجُ السَّمْعِ- مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ وَ مَنْ عَمِلَ بِهِ سَبَقَ شخصوا من بلد كذا خرجوا- و مستقر الأجداث مكان استقرارهم بالقبور و هي جمع جدث- . و مصاير الغايات جمع مصير- و الغايات جمع غاية و هي ما ينتهى إليه- قال الكميتفالآن صرت إلى أمية و الأمور إلى مصاير- .

ثم ذكر أن أهل الثواب و العقاب- كل من الفريقين يقيم بدار لا يتحول منها- و هذا كماورد في الخبر أنه ينادي مناد- يا أهل الجنة سعادة لا فناء لها- و يا أهل النار شقاوة لا فناء لها- . ثم ذكر أن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر- خلقان من خلق الله سبحانه- و ذلك لأنه تعالى ما أمر إلا بمعروف- و ما نهى إلا عن منكر- و يبقى الفرق بيننا و بينه- أنا يجب علينا النهي عن المنكر بالمنع منه- و هو سبحانه لا يجب عليه ذلك- لأنه لو منع من إتيان المنكر لبطل التكليف- . ثم قال إنهما لا يقربان من أجل- و لا ينقصان من رزق و إنما قال ع‏ذلك- لأن كثيرا من الناس يكف عن نهي الظلمة عن المناكير- توهما منه أنهم أما إن يبطشوا به فيقتلوه- أو يقطعوا رزقه و يحرموه- فقال ع إن ذلك ليس مما يقرب من الأجل- و لا يقطع الرزق- .

و ينبغي أن يحمل كلامه ع على حال السلامة- و غلبة الظن بعدم تطرق الضرر- الموفي على مصلحة النهي عن المنكر- . ثم أمر باتباع الكتاب العزيز و وصفه بما وصفه به- . و ماء ناقع ينقع الغلة أي يقطعها و يروى منها- و لا يزيغ يميل فيستعتب يطلب منه العتبى هي الرضا- كما يطلب من الظالم يميل فيسترضى- . قال و لا يخلقه كثرة الرد و ولوج السمع- هذا من خصائص القرآن المجيد شرفه الله تعالى- و ذلك أن كل كلام منثور أو منظوم- إذا تكررت تلاوته و تردد ولوجه الأسماع- مل و سمج و استهجن- إلا القرآن فإنه لا يزال غضا طريا محبوبا غير مملول

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 9

خطبه 155 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(خلقة الخفاش)

155 و من خطبة له ع يذكر فيها بديع خلقة الخفاش

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي انْحَسَرَتِ الْأَوْصَافُ عَنْ كُنْهِ مَعْرِفَتِهِ- وَ رَدَعَتْ عَظَمَتُهُ الْعُقُولَ- فَلَمْ تَجِدْ مَسَاغاً إِلَى بُلُوغِ غَايَةِ مَلَكُوتِهِ- هُوَ اللَّهُ الْحَقُّ الْمُبِينُ- أَحَقُّ وَ أَبْيَنُ مِمَّا تَرَى الْعُيُونُ- لَمْ تَبْلُغْهُ الْعُقُولُ بِتَحْدِيدٍ فَيَكُونَ مُشَبَّهاً- وَ لَمْ تَقَعْ عَلَيْهِ الْأَوْهَامُ بِتَقْدِيرٍ فَيَكُونَ مُمَثَّلًا- خَلَقَ الْخَلْقَ عَلَى غَيْرِ تَمْثِيلٍ وَ لَا مَشُورَةِ مُشِيرٍ- وَ لَا مَعُونَةِ مُعِينٍ فَتَمَّ خَلْقُهُ بِأَمْرِهِ وَ أَذْعَنَ لِطَاعَتِهِ- فَأَجَابَ وَ لَمْ يُدَافِعْ وَ انْقَادَ وَ لَمْ يُنَازِعْ- وَ مِنْ لَطَائِفِ صَنَعْتِهِ وَ عَجَائِبِ خِلْقَتِهِ- مَا أَرَانَا مِنْ غَوَامِضِ الْحِكْمَةِ فِي هَذِهِ الْخَفَافِيشِ- الَّتِي يَقْبِضُهَا الضِّيَاءُ الْبَاسِطُ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ- وَ يَبْسُطُهَا الظَّلَامُ الْقَابِضُ لِكُلِّ حَيٍّ- وَ كَيْفَ عَشِيَتْ أَعْيُنُهَا عَنْ أَنْ تَسْتَمِدَّ- مِنَ الشَّمْسِ الْمُضِيئَةِ نُوراً تَهْتَدِي بِهِ فِي مَذَاهِبِهَا- وَ تَتَّصِلُ بِعَلَانِيَةِ بُرْهَانِ الشَّمْسِ إِلَى مَعَارِفِهَا- وَ رَدَعَهَا بِتَلَأْلُؤِ ضِيَائِهَا عَنِ الْمُضِيِّ فِي سُبُحَاتِ إِشْرَاقِهَا- وَ أَكَنَّهَا فِي مَكَامِنِهَا عَنِ الذَّهَابِ فِي بُلَجِ ائْتِلَاقِهَا- وَ هِيَ مُسْدَلَةُ الْجُفُونِ بِالنَّهَارِ عَلَى حِدَاقِهَا- وَ جَاعِلَةُ اللَّيْلِ سِرَاجاً تَسْتَدِلُّ بِهِ فِي الْتِمَاسِ أَرْزَاقِهَا- فَلَا يَرُدُّ أَبْصَارَهَا إِسْدَافُ ظُلْمَتِهِ- وَ لَا تَمْتَنِعُ مِنَ الْمُضِيِّ فِيهِ لِغَسَقِ دُجُنَّتِهِ- فَإِذَا أَلْقَتِ الشَّمْسُ قِنَاعَهَا وَ بَدَتْ أَوْضَاحُ نَهَارِهَا- وَ دَخَلَ مِنْ إِشْرَاقِ نُورِهَا عَلَى الضِّبَابِ فِي وِجَارِهَا- أَطْبَقَتِ الْأَجْفَانَ عَلَى مَآقِيهَا- وَ تَبَلَّغَتْ بِمَا اكْتَسَبَتْهُ مِنَ الْمَعَاشِ فِي ظُلَمِ لَيَالِيهَا-فَسُبْحَانَ مَنْ جَعَلَ اللَّيْلَ لَهَا نَهَاراً وَ مَعَاشاً- وَ النَّهَارَ سَكَناً وَ قَرَاراً- وَ جَعَلَ لَهَا أَجْنِحَةً مِنْ لَحْمِهَا- تَعْرُجُ بِهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إِلَى الطَّيَرَانِ- كَأَنَّهَا شَظَايَا الآْذَانِ غَيْرَ ذَوَاتِ رِيشٍ وَ لَا قَصَبٍ- إِلَّا أَنَّكَ تَرَى مَوَاضِعَ الْعُرُوقِ بَيِّنَةً أَعْلَاماً- لَهَا جَنَاحَانِ لَمَّا يَرِقَّا فَيَنْشَقَّا وَ لَمْ يَغْلُظَا فَيَثْقُلَا- تَطِيرُ وَ وَلَدُهَا لَاصِقٌ بِهَا لَاجِئٌ إِلَيْهَا- يَقَعُ إِذَا وَقَعَتْ وَ يَرْتَفِعُ إِذَا ارْتَفَعَتْ- لَا يُفَارِقُهَا حَتَّى تَشْتَدَّ أَرْكَانُهُ- وَ يَحْمِلَهُ لِلنُّهُوضِ جَنَاحُهُ- وَ يَعْرِفَ مَذَاهِبَ عَيْشِهِ وَ مَصَالِحَ نَفْسِهِ- فَسُبْحَانَ الْبَارِئِ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ خَلَا مِنْ غَيْرِهِ الخفاش واحد جمعه خفافيش- و هو هذا الطائر الذي يطير ليلا و لا يطير نهارا- و هو مأخوذ من الخفش- و هو ضعف في البصر خلقة و الرجل أخفش- و قد يكون علة و هو الذي يبصر بالليل لا بالنهار- أو في يوم غيم لا في يوم صحو- .

و انحسرت الأوصاف كلت و أعيت- و ردعت كفت و المساغ المسلك- . قال أحق و أبين مما ترى العيون- و ذلك لأن العلوم العقلية إذا كانت ضرورية- أو قريبة من الضرورية كانت أوثق من المحسوسات- لأن الحس يغلط دائما- فيرى الكبير صغيرا كالبعيد و الصغير كبيرا- كالعنبة في الماء ترى كالإجاصة و يرى الساكن متحركا- كجرف الشط إذا رآه راكب السفينة متصاعدا- و يرى المتحرك ساكنا كالظل- إلى غير ذلك من الأغاليط و القضايا العقلية الموثوق بها- لأنها بديهية أو تكاد فالغلط غير داخل عليها- قوله يقبضها الضياء أي يقبض أعينها- .

قوله و تتصل بعلانية برهان الشمس- كلام جيد في مذاهب الاستعارة- .و سبحات إشراقها جلاله و بهاؤه- و أكنها سترها و بلج ائتلافها جمع بلجة و هي أول الصبح- و جاء بلجة أيضا بالفتح- . و الحداق جمع حدقة العين- و الإسداف مصدر أسدف الليل أظلم- . و غسق الدجنة ظلام الليل- فإذا ألقت الشمس قناعها- أي سفرت عن وجهها و أشرقت- . و الأوضاح جمع وضح- و قد يراد به حلي يعمل من الدراهم الصحاح- و قد يراد به الدراهم الصحاح نفسها و إن لم يكن حليا- و الضباب جمع ضب و وجارها بيتها- و شظايا الآذان أقطاع منها و القصب هاهنا الغضروف- . و خلاصة الخطبة- التعجب من أعين الخفافيش التي تبصر ليلا و لا تبصر نهارا- و كل الحيوانات بخلاف ذلك- فقد صار الليل لها معاشا و النهار لها سكنا- بعكس الحال فيما عداها- ثم من أجنحتها التي تطير بها- و هي لحم لا ريش عليه و لا غضروف- و ليست رقيقة فتنشق و لا كثيفة فتثقلها عن الطيران- ثم من ولدها إذا طارت احتملته و هو لاصق بها- فإذا وقعت وقع ملتصقا بها هكذا- إلى أن يشتد و يقوى على النهوض فيفارقها

فصل في ذكر بعض غرائب الطيور و ما فيها من عجائب

و اعلم أنه ع قد أتى بالعلة الطبيعية- في عدم إبصارها نهارا- و هو انفعال حاسة بصرها عن الضوء الشديد- و قد يعرض مثل ذلك لبعض الناس- و هو المرض المسمى روز كور أي أعمى النهار- و يكون ذلك عن إفراط التحلل في الروح النوري- فإذا لقي حر النهار أصابه قمر- ثم يستدرك ذلك برد الليل فيزول فيعود الإبصار- .

و أما طيرانها من غير ريش- فإنه ليس بذلك الطيران الشديد- و إنما هو نهوض و خفة- أفادها الله تعالى إياه بواسطة الطبيعة- و التصاق الولد بها لأنها تضمه إليها بالطبع- و ينضم إليها كذلك- و تستعين على ضمه برجليها و بقصر المسافة- و جملة الأمر أنه تعجب من عجيب- و في الأحاديث العامية- قيل للخفاش لما ذا لا جناح لك- قال لأني تصوير مخلوق قيل فلما ذا لا تخرج نهارا- قال حياء من الطيور يعنون أن المسيح ع صوره- و أن إليه الإشارة بقوله تعالى- وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي- فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي- . و في الطير عجائب و غرائب- لا تهتدي العقول إليها- و يقال إن ضربين من الحيوان أصمان لا يسمعان- و هما النعام و الأفاعي- .

و تقول العرب إن الظليم يسمع بعينه و أنفه- لا يحتاج معهما إلى حاسة أخرى- و الكراكي يجمعها أمير لها كيعسوب النحل- و لا يجمعها إلا أزواجا- و العصافير آلفة للناس آنسة بهم- لا تسكن دارا حتى يسكنها إنسان- و متى سكنتها لم تقم فيها إذا خرج الإنسان منها- فبفراقه تفارق و بسكناه تسكن- و يذكر أهل البصرة- أنه إذا كان زمن الخروج إلى البساتين- لم يبق في البصرة عصفور إلا خرج إليها- إلا ما أقام على بيضه و فراخه- و قد يدرب العصفور فيستجيب من المكان البعيد و يرجع- .

و قال شيخنا أبو عثمان- بلغني أنه درب فيرجع من ميل- و ليس في الأرض رأس أشبه برأس الحية من رأس العصفور- و ليس في الحيوان الذي يعايش الناس أقصر عمرا منه- قيل لأجل السفاد الذي يستكثر منه- و يتميز الذكر من الأنثى في العصافير تميز الديك‏من الدجاجة- لأن له لحية و لا شي‏ء أحنى على ولده منه- و إذا عرض له شي‏ء صاح فأقبلت إليه العصافير يساعدنه- و ليس لشي‏ء في مثل جسم العصفور من شدة وطئه- إذا مشى أو على السطح ما للعصفور- فإنك إذا كنت تحت السطح و وقع- حسبت وقعته وقعة حجر- و ذكور العصافير لا تعيش إلا سنة- و كثيرا ما تجلب الحيات إلى المنازل- لأن الحيات تتبعها حرصا على ابتلاع بيضها و فراخها- .

و يقال إن الدجاجة إذا باضت بيضتين في يوم واحد- و تكرر ذلك ماتت- و إذا هرمت الدجاجة لم يكن لأواخر ما تبيضه صفرة- و إذا لم يكن للبيضة مح لم يخلق فيها فروج- لأن غذاءه المح ما دام في البيضة- و قد يكون للبيضة محان فتنفقص عن فروجين- يخلقان من البياض و يغتذيان بالمحين- لأن الفراريج تخلق من البياض و تغتذي بالصفرة- و كل ديك فإنه يلتقط الحبة- فيحذف بها إلى الدجاجة سماحا و إيثارا- و لهذا قالوا أسمح من لاقطة يعنون الديكة- إلا ديكة مرو بخراسان- فإنها تطرد دجاجها عن الحب و تنزعه من أفواهها فتبتلعه- .

و الحمامة بلهاء و في أمثالهم أحمق من حمامة- و هي مع حمقها مهتدية إلى مصالح نفسها و فراخها- . قال ابن الأعرابي قلت لشيخ من العرب- من علمك هذا قال علمني الذي علم الحمامة على بلهها تقليب بيضها- كي تعطي الوجهين جميعا نصيبهما من الحضن- .

و الهداية في الحمام لا تكون إلا في الخضر و السمر- فأما الأسود الشديد السواد فهو كالزنجي القليل المعرفة- و الأبيض ضعيف القوة- و إذا خرج الجوزل عن بيضته- علم أبواه أن حلقه لا يتسع للغذاء- فلا يكون لهما هم إلا أن ينفخا في حلقه الريح- لتتسع حوصلته بعد التحامها- ثم يعلمن أنه لا يحتمل في أول اغتذائه أن يزق بالطعم- فيزقانه باللعاب المختلطبقواهما و قوى الطعم- ثم يعلمان أن حوصلته تحتاج إلى دباغ- فيأكلان من شورج أصول الحيطان- و هو شي‏ء من الملح الخالص و التراب فيزقانه به- فإذا علما أنه قد اندبغ زقاه بالحب- الذي قد غب في حواصلهما- ثم بالذي هو أطرى فأطرى حتى يتعود- فإذا علما أنه قد أطاق اللقط منعاه بعض المنع- ليحتاج و يتشوف فتطلبه نفسه و يحرص عليه- فإذا فطماه و بلغا منتهى حاجته إليهما- نزع الله تلك الرحمة منهما- و أقبل بهما على طلب نسل آخر- .

و يقال إن حية أكلت بيض مكاء- فجعل المكاء يشرشر على رأسها- و يدنو منها حتى دلعت الحية لسانها- و فتحت فاها تريده و تهم به- فألقى فيها حسكة فأخذت بحلقها حتى ماتت- . و من دعاء الصالحين يا رزاق النعاب في عشه- و ذلك أن الغراب إذا فقص عن فراخه- فقص عنها بيض الألوان فينفر عنها و لا يزقها- فتنفتح أفواهها فيأتيها ذباب يتساقط في أفواهها- فيكون غذاءها إلى أن تسود- فينقطع الذباب عنها و يعود الغراب إليها فيأنس بها و يغذيها- . و الحبارى تدبق جناح الصقر بذرقها- ثم يجتمع عليه الحباريات فينتفن ريشه طاقة طاقة حتى يموت- و لذلك يحاول الحبارى العلو عليه- و يحاول هو العلو عليها- و لا يتجاسر أن يدنو منها متسفلا عنها- و يقال إن الحبارى تموت كمدا إذا انحسر عنها ريشها- و رأت صويحباتها تطير- .

و كل الطير يتسافد بالأستاه إلا الحجل- فإن الحجلة تكون في سفالة الريح و اليعقوب في علاوتها- فتلقح منه كما تلقح النخلة من الفحال بالريح- . و الحبارى شديد الحمق يقال إنها أحمق الطير- و هي أشد حياطة لبيضها و فراخها- . و العقعق مع كونه أخبث الطير و أصدقها خبثا- و أشدها حذرا- ليس في الأرض طائر أشد تضييعا لبيضه و فراخه منه- . و من الطير ما يؤثر التفرد كالعقاب- و منه ما يتعايش زوجا كالقطا- . و الظليم يبتلع الحديد المحمى- ثم يميعه في قانصته حتى يحيله كالماء الجاري- و في ذلك أعجوبتان التغذي بما لا يغذى به- و استمراؤه و هضمه شيئا لو طبخ بالنار أبدا لما انحل- .

و كما سخر الحديد لجوف الظليم فأحاله- سخر الصخر الأصم لأذناب الجراد- إذا أراد أن يلقي بيضه غرس ذنبه- في أشد الأرض صلابة فانصدع له- و ذلك من فعل الطبيعة بتسخير الصانع القديم سبحانه- كما أن عود الحلفاء الرخو الدقيق المنبت- يلقى في نباته الآجر و الخزف الغليظ فيثقبه- . و قد رأيت في مسناة سور بغداد- في حجر صلد نبعة نبات قد شقت و خرجت من موضع- لو حاول جماعة أن يضربوه بالبيارم الشديدة- مدة طويلة لم يؤثر فيه أثرا- .

و قد قيل إن إبرة العقرب أنفذ في الطنجير و الطست- . و في الظليم شبه من البعير من جهة المنسم- و الوظيف و العنق و الخزامة التي في أنفه-و شبه من الطائر من جهة الريش و الجناحين و الذنب و المنقار- ثم إن ما فيه من شبه الطير جذبه إلى البيض- و ما فيه من شبه البعير لم يجذبه إلى الولادة- . و يقال إن النعامة مع عظم عظامها- و شدة عدوها لا مخ فيها- و أشد ما يكون عدوها أن تستقبل الريح- فكلما كان أشد لعصوفها كان أشد لحضرها- تضع عنقها على ظهرها ثم تخرق الريح- و من أعاجيبها أن الصيف إذا دخل- و ابتدأ البسر في الحمرة ابتدأ لون وظيفها في الحمرة- فلا يزالان يزدادان حمرة إلى أن تنتهي حمرة البسر- و لذلك قيل للظليم خاضب- و من العجب أنها لا تأنس بالطير- و لا بالإبل مع مشاكلتها للنوعين- و لا يكاد يرى بيضها مبددا البتة- بل تصفه طولا صفا مستويا على غاية الاستواء- حتى لو مددت عليه خيط المسطر- لما وجدت لبعضه خروجا عن البعض- ثم تعطي لكل واحدة نصيبها من الحضن- .

و الذئب لا يعرض لبيض النعام- ما دام الأبوان حاضرين- فإنهما متى نقفاه ركبه الذكر فطحره- و أدركته الأنثى فركضته- ثم أسلمته إلى الذكر و ركبته عوضه- فلا يزالان يفعلان به ذلك- حتى يقتلاه أو يعجزهما هربا- و النعام قد يتخذ في الدور و ضرره شديد- لأن النعامة ربما رأت في أذن الجارية قرطا- فيه حجر أو حبة لؤلؤ- فخطفته و أكلته و خرمت الأذن- أو رأت ذلك في لبتها فضربت بمنقارها اللبة فخرقتها

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 9

خطبه 154 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

154 و من خطبة له ع

وَ نَاظِرُ قَلْبِ اللَّبِيبِ بِهِ يُبْصِرُ أَمَدَهُ- وَ يَعْرِفُ غَوْرَهُ وَ نَجْدَهُ- دَاعٍ دَعَا وَ رَاعٍ رَعَى- فَاسْتَجِيبُوا لِلدَّاعِي وَ اتَّبِعُوا الرَّاعِي يقول إن قلب اللبيب له عين يبصر بها غايته- التي يجري إليها- و يعرف من أحواله المستقبلة ما كان مرتفعا أو منخفضا ساقطا- و النجد المرتفع من الأرض- و منه قولهم للعالم بالأمور طلاع أنجد- . ثم قال داع دعا موضع داع رفع لأنه مبتدأ محذوف الخبر- تقديره في الوجود داع دعا و راع رعى- و يعني بالداعي رسول الله ص و بالراعي نفسه ع: قَدْ خَاضُوا بِحَارَ الْفِتَنِ- وَ أَخَذُوا بِالْبِدَعِ دُونَ السُّنَنِ- وَ أَرَزَ الْمُؤْمِنُونَ وَ نَطَقَ الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ – نَحْنُ الشِّعَارُ وَ الْأَصْحَابُ وَ الْخَزَنَةُ وَ الْأَبْوَابُ- وَ لَا تُؤْتَى الْبُيُوتُ إِلَّا مِنْ أَبْوَابِهَا- فَمَنْ أَتَاهَا مِنْ غَيْرِ أَبْوَابِهَا سُمِّيَ سَارِقاً

هذا كلام متصل بكلام لم يحكه الرضي رحمه الله- و هو ذكر قوم من أهل الضلال قد كان أخذ في ذمهم- و نعى عليهم عيوبهم- . و أرز المؤمنون أي انقبضوا- و المضارع يأرز بالكسر أرزا و أروزا- و رجل أروز أي منقبض- وفي الحديث إن الإسلام ليأرز إلى المدينة- كما تأرز الحية إلى جحرها- أي ينضم إليها و يجتمع- . ثم قال نحن الشعار و الأصحاب يشير إلى نفسه- و هو أبدا يأتي بلفظ الجمع و مراده الواحد- . و الشعار ما يلي الجسد من الثياب- فهو أقرب من سائرها إليه- و مراده الاختصاص برسول الله ص- .

و الخزنة و الأبواب- يمكن أن يعني به خزنة العلم و أبواب العلم-لقول رسول الله ص أنا مدينة العلم و علي بابها- فمن أراد الحكمة فليأت الباب- . و قوله فيه خازن علمي و قال تارة أخرى عيبة علمي- و يمكن أن يريد خزنة الجنة و أبواب الجنة- أي لا يدخل الجنة إلا من وافى بولايتنا- فقد جاء في حقه الخبر الشائع المستفيض- أنه قسيم النار و الجنة- و ذكر أبو عبيد الهروي في الجمع بين الغريبين- أن قوما من أئمة العربية فسروه فقالوا- لأنه لما كان محبه من أهل الجنة- و مبغضه من أهل النار- كأنه بهذا الاعتبار قسيم النار و الجنة- قال أبو عبيد و قال غير هؤلاء- بل هو قسيمها بنفسه في الحقيقة- يدخل قوما إلى الجنة و قوما إلى النار- و هذا الذي ذكره أبو عبيد أخيرا- هو ما يطابق الأخبار الواردة فيه- يقول للنار هذا لي فدعيه و هذا لك فخذيه- .

ثم ذكر أن البيوت لا تؤتى إلا من أبوابها- قال الله تعالى- وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُواالْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها- وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى‏ وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها- . ثم قال من أتاها من غير أبوابها سمي سارقا- و هذا حق ظاهرا و باطنا- أما الظاهر- فلأن من يتسور البيوت من غير أبوابها هو السارق- و أما الباطن فلأن من طلب العلم من غير أستاذ محقق- فلم يأته من بابه فهو أشبه شي‏ء بالسارق

ذكر الأحاديث و الأخبار الواردة في فضائل علي

و اعلم أن أمير المؤمنين ع لو فخر بنفسه- و بالغ في تعديد مناقبه و فضائله بفصاحته- التي آتاه الله تعالى إياها و اختصه بها- و ساعده على ذلك فصحاء العرب كافة- لم يبلغوا إلى معشار ما نطق به الرسول الصادق ص في أمره- و لست أعني بذلك الأخبار العامة الشائعة- التي يحتج بها الإمامية على إمامته- كخبر الغدير و المنزلة و قصة براءة- و خبر المناجاة و قصة خيبر- و خبر الدار بمكة في ابتداء الدعوة- و نحو ذلك بل الأخبار الخاصة التي رواها فيه أئمة الحديث- التي لم يحصل أقل القليل منها لغيره- و أنا أذكر من ذلك شيئا يسيرا- مما رواه علماء الحديث الذين لا يتهمون فيه- و جلهم قائلون بتفضيل غيره عليه- فروايتهم فضائله توجب من سكون النفس- ما لا يوجبه رواية غيرهم- .

الخبر الأول يا علي إن الله قد زينك بزينة- لم يزين العباد بزينة أحب إليه منها- هي زينة الأبرار عند الله تعالى الزهد في الدنيا- جعلك لا ترزأ من الدنيا شيئا- و لا ترزأ الدنيا منك شيئا و وهب لك حب المساكين- فجعلك ترضى بهم أتباعا و يرضون بك إمامارواه أبو نعيم الحافظ في كتابه المعروف ب حلية الأولياء- و زاد فيه أبو عبد الله أحمد بن حنبل في المسند فطوبى لمن أحبك و صدق فيك- و ويل لمن أبغضك و كذب فيك الخبر الثاني قال لوفد ثقيف- لتسلمن أو لأبعثن إليكم رجلا مني- أو قال عديل نفسي فليضربن أعناقكم و ليسبين ذراريكم- و ليأخذن أموالكم- قال عمر فما تمنيت الإمارة إلا يومئذ- و جعلت أنصب له صدري رجاء أن يقول هو هذا- فالتفت فأخذ بيد علي و قال هو هذا مرتين- .

رواه أحمد في المسند ورواه في كتاب فضائل علي ع

أنه قال لتنتهن يا بني وليعة أو لأبعثن إليكم رجلا كنفسي- يمضي فيكم أمري يقتل المقاتلة و يسبي الذرية قال أبو ذر فما راعني إلا برد كف عمر في حجزتي من خلفي- يقول من تراه يعني فقلت إنه لا يعنيك- و إنما يعني خاصف النعل و إنه قال هو هذا الخبر الثالث إن الله عهد إلي في علي عهدا- فقلت يا رب بينه لي قال اسمع- إن عليا راية الهدى و إمام أوليائي و نور من أطاعني- و هو الكلمة التي ألزمتها المتقين- من أحبه فقد أحبني و من أطاعه فقد أطاعني- فبشره بذلك فقلت قد بشرته يا رب- فقال أنا عبد الله و في قبضته- فإن يعذبني فبذنوبي لم يظلم شيئا- و إن يتم لي ما وعدني فهو أولى- و قد دعوت له فقلت اللهم اجل قلبه- و اجعل ربيعه الإيمان بك- قال قد فعلت ذلك غير أني مختصه بشي‏ء من البلاء- لم أختص به أحدا من أوليائي فقلت رب أخي و صاحبي- قال إنه سبق في علمي أنه لمبتل و مبتلى ذكره أبو نعيم الحافظ في حلية الأولياء عن أبي برزة الأسلمي ثم رواه بإسناد آخر بلفظ آخر عن أنس بن مالك أن رب العالمين عهد في علي إلي عهدا- أنه راية الهدى و منار الإيمان و إمام أوليائي- و نور جميع من أطاعني- إن عليا أميني غدا في القيامة و صاحب رايتي- بيد علي مفاتيح خزائن رحمة ربيالخبر الرابع من أراد أن ينظر إلى نوح في عزمه- و إلى آدم في علمه و إلى إبراهيم في حلمه- و إلى موسى في فطنته و إلى عيسى في زهده- فلينظر إلى علي بن أبي طالب

رواه أحمد بن حنبل في المسند و رواه أحمد البيهقي في صحيحه

الخبر الخامس من سره أن يحيا حياتي و يموت ميتتي- و يتمسك بالقضيب من الياقوتة التي خلقها الله تعالى بيده- ثم قال لها كوني فكانت فليتمسك بولاء علي بن أبي طالبذكره أبو نعيم الحافظ في كتاب حلية الأولياء و رواه أبو عبد الله بن حنبل في المسند في كتاب فضائل علي بن أبي طالب و حكاية لفظ أحمد رضي الله عنه من أحب أن يتمسك بالقضيب الأحمر- الذي غرسه الله في جنة عدن بيمينه- فليتمسك بحب علي بن أبي طالبالخبر السادس و الذي نفسي بيده- لو لا أن تقول طوائف من أمتي فيك- ما قالت النصارى في ابن مريم لقلت اليوم فيك مقالا- لا نمر بملإ من المسلمين- إلا أخذوا التراب من تحت قدميك للبركة

ذكره أبو عبد الله أحمد بن حنبل في المسند

الخبر السابع خرج ص على الحجيج عشية عرفة- فقال لهم إن الله قدباهى بكم الملائكة عامة و غفر لكم عامة- و باهى بعلي خاصة و غفر له خاصة- إني قائل لكم قولا غير محاب فيه لقرابتي- إن السعيد كل السعيد حق السعيد- من أحب عليا في حياته و بعد موته

رواه أبو عبد الله أحمد بن حنبل في كتاب فضائل علي ع و في المسند أيضا

الخبر الثامن رواه أبو عبد الله أحمد بن حنبل في الكتابين المذكورين أنا أول من يدعى به يوم القيامة- فأقوم عن يمين العرش في ظله ثم أكسى حلة- ثم يدعى بالنبيين بعضهم على أثر بعض- فيقومون عن يمين العرش و يكسون حللا- ثم يدعى بعلي بن أبي طالب لقرابته مني و منزلته عندي- و يدفع إليه لوائي لواء الحمد- آدم و من دونه تحت ذلك اللواء- ثم قال لعلي- فتسير به حتى تقف بيني و بين إبراهيم الخليل- ثم تكسى حلة و ينادي مناد من العرش- نعم العبد أبوك إبراهيم و نعم الأخ أخوك علي- أبشر فإنك تدعى إذا دعيت- و تكسى إذا كسيت و تحيا إذا حييت

الخبر التاسع يا أنس اسكب لي وضوءا ثم قام فصلى ركعتين- ثم قال أول من يدخل عليك من هذا الباب إمام المتقين- و سيد المسلمين و يعسوب الدين- و خاتم الوصيين و قائد الغر المحجلين- قال أنس فقلت اللهم اجعله رجلا من الأنصار- و كتبت دعوتي فجاء علي فقال ص- من جاء يا أنس فقلت علي- فقام إليه مستبشرا فاعتنقه- ثم جعل يمسح عرق وجهه- فقال علي يا رسول الله صلى الله عليك و آلك- لقد رأيت منك اليوم تصنع بي شيئا ما صنعته بي قبل- قال و ما يمنعني و أنت تؤدي عني و تسمعهم صوتي- و تبين لهم ما اختلفوا فيه بعدي:

رواه أبو نعيم الحافظ في حلية الأولياء:

الخبر العاشر ادعوا لي سيد العرب عليا- فقالت عائشة أ لست سيد العرب- فقال أنا سيد ولد آدم و علي سيد العرب- فلما جاء أرسل إلى الأنصار فأتوه- فقال لهم يا معشر الأنصار- أ لا أدلكم على ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبدا- قالوا بلى يا رسول الله قال هذا علي- فأحبوه بحبي و أكرموه بكرامتي- فإن جبرائيل أمرني بالذي قلت لكم عن الله عز و جلرواه الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء

الخبر الحادي عشر مرحبا بسيد المؤمنين و إمام المتقين- فقيل لعلي ع كيف شكرك- فقال أحمد الله على ما آتاني- و أسأله الشكر على ما أولاني- و أن يزيدني مما أعطاني

ذكره صاحب الحلية أيضا

الخبر الثاني عشر من سره أن يحيا حياتي و يموت مماتي- و يسكن جنة عدن التي غرسها ربي- فليوال عليا من بعدي و ليوال وليه- و ليقتد بالأئمة من بعدي فإنهم عترتي- خلقوا من طينتي و رزقوا فهما و علما- فويل للمكذبين من أمتي القاطعين فيهم صلتي- لا أنالهم الله شفاعتي

ذكره صاحب الحلية أيضا

الخبر الثالث عشر بعث رسول الله ص خالد بن الوليد في سرية- و بعث عليا ع في سرية أخرى و كلاهما إلى اليمن- و قال إن اجتمعتما فعلي على الناس- و إن افترقتما فكل واحد منكما على جنده- فاجتمعا و أغارا و سبيا نساء و أخذا أموالا و قتلا ناسا- و أخذ علي جارية فاختصها لنفسه- فقال خالد لأربعة من المسلمين منهم بريدة الأسلمي- اسبقوا إلى رسول الله ص فاذكروا له كذا- و اذكروا له كذا لأمور عددها على علي فسبقوا إليه- فجاء واحد من جانبه فقال إن عليا فعل كذا فأعرض عنه- فجاء الآخر من الجانب الآخر- فقال إن عليا فعل كذا فأعرض عنه- فجاء بريدة الأسلمي فقال يا رسول الله- إن عليا فعل ذلك فأخذ جارية لنفسه فغضب ص حتى احمر وجهه و قال- دعوا لي عليا يكررها إن عليا مني و أنا من علي- و إن حظه في الخمس أكثر مما أخذ- و هو ولي كل مؤمن من بعدي رواه أبو عبد الله أحمد في المسند غير مرة و رواه في كتاب فضائل علي و رواه أكثر المحدثين الخبر الرابع عشر كنت أنا و علي نورا بين يدي الله عز و جل- قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام- فلما خلق آدم قسم ذلك فيه- و جعله جزءين فجزء أنا و جزء علي

رواه أحمد في المسند و في كتاب فضائل علي ع

وذكره صاحب كتاب الفردوس و زاد فيه ثم انتقلنا حتى صرنا في عبد المطلب- فكان لي النبوة و لعلي الوصيةالخبر الخامس عشر النظر إلى وجهك يا علي عبادة- أنت سيد في الدنيا و سيد في الآخرة من أحبك أحبني- و حبيبي حبيب الله و عدوك عدوي و عدوي عدو الله- الويل لمن أبغضكرواه أحمد في المسند قال و كان ابن عباس يفسره و يقول- إن من ينظر إليه يقول سبحان الله- ما أعلم هذا الفتى سبحان الله ما أشجع هذا الفتى- سبحان الله ما أفصح هذا الفتى‏الحديث السادس عشر لما كانت ليلة بدر قال رسول الله ص من يستقي لنا ماء- فأحجم الناس فقام علي فاحتضن قربة- ثم أتى بئرا بعيدة القعر مظلمة فانحدر فيها- فأوحى الله إلى جبريل و ميكائيل و إسرافيل- أن تأهبوا لنصر محمد و أخيه و حزبه فهبطوا من السماء لهم لغط يذعر من يسمعه- فلما حاذوا البئر سلموا عليه من عند آخرهم إكراما له و إجلالا

رواه أحمد في كتاب فضائل علي ع

و زاد فيه في طريق أخرى عن أنس بن مالك لتؤتين يا علي يوم القيامة بناقة من نوق الجنة فتركبها- و ركبتك مع ركبتي و فخذك مع فخذي حتى تدخل الجنةالحديث السابع عشر خطب ص يوم جمعة فقال أيها الناس قدموا قريشا و لا تقدموها- و تعلموا منها و لا تعلموها- قوة رجل من قريش تعدل قوة رجلين من غيرهم- و أمانة رجل من قريش تعدل أمانة رجلين من غيرهم- أيها الناس أوصيكم بحب ذي قرباها- أخي و ابن عمي علي بن أبي طالب- لا يحبه إلا مؤمن و لا يبغضه إلا منافق- من أحبه فقد أحبني و من أبغضه فقد أبغضني- و من أبغضني عذبه الله بالنار

رواه أحمد رضي الله عنه في كتاب فضائل علي ع

الحديث الثامن عشر الصديقون ثلاثة- حبيب النجار الذي جاء من أقصى المدينة يسعى- و مؤمن آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه- و علي بن أبي طالب و هو أفضلهم

رواه أحمد في كتاب فضائل علي ع

الحديث التاسع عشر أعطيت في علي خمسا هن أحب إلي من الدنيا و ما فيها- أما واحدة فهو كاب بين يدي الله عز و جل- حتى يفرغ من حساب الخلائق- و أما الثانيةفلواء الحمد بيده آدم و من ولد تحته- و أما الثالثة فواقف على عقر حوضي- يسقي من عرف من أمتي- و أما الرابعة فساتر عورتي و مسلمي إلى ربي- و أما الخامسة فإني لست أخشى عليه أن يعود كافرا بعد إيمان- و لا زانيا بعد إحصان

رواه أحمد في كتاب الفضائل

الحديث العشرون كانت لجماعة من الصحابة أبواب شارعة- في مسجد الرسول ص- فقال ع يوما- سدوا كل باب في المسجد إلا باب علي فسدت- فقال في ذلك قوم حتى بلغ رسول الله ص فقام فيهم- فقال إن قوما قالوا في سد الأبواب و تركي باب علي- إني ما سددت و لا فتحت و لكني أمرت بأمر فاتبعته

رواه أحمد في المسند مرارا و في كتاب الفضائل

الحديث الحادي و العشرون دعا ص عليا في غزاة الطائف فانتجاه- و أطال نجواه حتى كره قوم من الصحابة ذلك- فقال قائل منهم لقد أطال اليوم نجوى ابن عمه- فبلغه ع ذلك فجمع منهم قوما- ثم قال إن قائلا قال لقد أطال اليوم نجوى ابن عمه- أما إني ما انتجيته و لكن الله انتجاه

رواه أحمد رحمه الله في المسند

الحديث الثاني و العشرون أخصمك يا علي بالنبوة فلا نبوة بعدي- و تخصم الناس بسبع لا يجاحد فيها أحد من قريش- أنت أولهم إيمانا بالله و أوفاهم بعهد الله- و أقومهم بأمر الله و أقسمهم بالسوية- و أعدلهم في الرعية و أبصرهم بالقضية- و أعظمهم عند الله مزية

رواه أبو نعيم الحافظ في حلية الأولياء

الخبر الثالث و العشرون قالت فاطمة إنك زوجتني فقيرا لا مال له- فقال زوجتك أقدمهم سلما و أعظمهم حلما و أكثرهم علما- أ لا تعلمين أن الله اطلع إلى الأرض اطلاعة- فاختار منها أباك- ثم اطلع إليها ثانية فاختار منها بعلك

رواه أحمد في المسند

الحديث الرابع و العشرون لما أنزل إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ- بعد انصرافه ع من غزاة حنين- جعل يكثر من سبحان الله أستغفر الله- ثم قال يا علي إنه قد جاء ما وعدت به جاء الفتح- و دخل الناس في دين الله أفواجا- و إنه ليس أحد أحق منك بمقامي- لقدمك في الإسلام و قربك مني و صهرك- و عندك سيدة نساء العالمين- و قبل ذلك ما كان من بلاء أبي طالب عندي حين نزل القرآن- فأنا حريص على أن أراعي ذلك لولده

رواه أبو إسحاق الثعلبي في تفسير القرآن

و اعلم أنا إنما ذكرنا هذه الأخبار هاهنا- لأن كثيرا من المنحرفين عنه ع إذا مروا على كلامه- في نهج البلاغة- و غيره المتضمن التحدث بنعمة الله عليه من اختصاص الرسول له ص- و تميزه إياه عن غيره ينسبونه إلى التيه و الزهو و الفخر- و لقد سبقهم بذلك قوم من الصحابة- قيل لعمر ول عليا أمر الجيش و الحرب- فقال هو أتيه من ذلك- و قال زيد بن ثابت ما رأينا أزهى من علي و أسامة- . فأردنا بإيراد هذه الأخبار هاهنا عند تفسير قوله- نحن الشعار و الأصحاب و نحن الخزنة و الأبواب- أن ننبه على عظم منزلته عند الرسول ص- و أن من قيل‏ في حقه ما قيل- لو رقي إلى السماء و عرج في الهواء- و فخر على الملائكة و الأنبياء تعظما و تبجحا- لم يكن ملوما بل كان بذلك جديرا- فكيف و هو ع لم يسلك قط مسلك التعظم و التكبر- في شي‏ء من أقواله و لا من أفعاله- و كان ألطف البشر خلقا و أكرمهم طبعا- و أشدهم تواضعا و أكثرهم احتمالا- و أحسنهم بشرا و أطلقهم وجها- حتى نسبه من نسبه إلى الدعابة و المزاح- و هما خلقان ينافيان التكبر و الاستطالة-

و إنما كان يذكر أحيانا ما يذكره من هذا النوع- نفثة مصدور و شكوى مكروب و تنفس مهموم- و لا يقصد به إذا ذكره إلا شكر النعمة- و تنبيه الغافل على ما خصه الله به من الفضيلة- فإن ذلك من باب الأمر بالمعروف- و الحض على اعتقاد الحق و الصواب في أمره- و النهي عن المنكر الذي هو تقديم غيره عليه في الفضل- فقد نهى الله سبحانه عن ذلك فقال- أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ- أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى‏- فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَمِنْهَا- فِيهِمْ كَرَائِمُ الْإِيمَانِ وَ هُمْ كُنُوزُ الرَّحْمَنِ- إِنْ نَطَقُوا صَدَقُوا وَ إِنْ صَمَتُوا لَمْ يُسْبَقُوا- فَلْيَصْدُقْ رَائِدٌ أَهْلَهُ وَ لْيُحْضِرْ عَقْلَهُ- وَ لْيَكُنْ مِنْ أَبْنَاءِ الآْخِرَةِ- فَإِنَّهُ مِنْهَا قَدِمَ وَ إِلَيْهَا يَنْقَلِبُ- فَالنَّاظِرُ بِالْقَلْبِ الْعَامِلُ بِالْبَصَرِ- يَكُونُ مُبْتَدَأُ عَمَلِهِ أَنْ يَعْلَمَ أَ عَمَلُهُ عَلَيْهِ أَمْ لَهُ- فَإِنْ كَانَ لَهُ مَضَى فِيهِ وَ إِنْ كَانَ عَلَيْهِ وَقَفَ عَنْهُ- فَإِنَّ الْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ- فَلَا يَزِيدُهُ بُعْدُهُ عَنِ الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ‏إِلَّا بُعْداً مِنْ حَاجَتِهِ- وَ الْعَامِلُ بِالْعِلْمِ كَالسَّائِرِ عَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ- فَلْيَنْظُرْ نَاظِرٌ أَ سَائِرٌ هُوَ أَمْ رَاجِعٌ قوله فيهم يرجع إلى آل محمد ص الذين عناهم بقوله- نحن الشعار و الأصحاب و هو يطلق دائما هذه الصيغ الجمعية- و يعني نفسه و في القرآن كثير من ذلك- نحو قوله تعالى- الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ- إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً- وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ- . و كرائم الإيمان جمع كريمة و هي المنفسات منه قال الشاعر

ماض من العيش لو يفدى بذلت له
كرائم المال من خيل و من نعم‏

فإن قلت أ يكون في الإيمان كرائم و غير كرائم- قلت نعم لأن الإيمان عند أكثر أصحابنا- اسم للطاعات كلها واجبها و نفلها- فمن كانت نوافله أكثر كانت كرائم الإيمان عنده أكثر- و من قام بالواجبات فقط من غير نوافل- كان عنده الإيمان و لم يكن عنده كرائم الإيمان- . فإن قلت فعلى هذا تكون النوافل أكرم من الواجبات- . قلت هي أكرم منها باعتبار- و الواجبات أكرم منها باعتبار آخر- أما الأول فلأن صاحبها إذا كان قد قام بالواجبات- كان أعلى مرتبة في الجنة ممن اقتصر على الواجبات فقط- و أما الثاني فلأن المخل بها لا يعاقب- و المخل بالواجبات يعاقب- . قوله و هم كنوز الرحمن- لأن الكنز مال يدخر لشديدة أو ملمة تلم بالإنسان- و كذلك هؤلاء قد ذخروا- لإيضاح المشكلات الدينية على المكلفين- .

ثم قال إن نطقوا صدقوا- و إن سكتوا لم يكن سكوتهم عن عي يوجب كونهم مسبوقين- لكنهم ينطقون حكما و يصمتون حلما- . ثم أمر ع بالتقوى و العمل الصالح- و قال ليصدق رائد أهله- الرائد الذاهب من الحي يرتاد لهم المرعى- و في أمثالهم الرائد لا يكذب أهله- و المعنى أنه ع أمر الإنسان بأن يصدق نفسه- و لا يكذبها بالتسويف و التعليل قال الشاعر

أخي إذا خاصمت نفسك فاحتشد
لها و إذا حدثت نفسك فاصدق‏

و في المثل المتشبع بما لا يملك كلابس ثوبي زور- . فإنه منها قدم قد قيل- إن الله تعالى خلق أرواح البشر قبل أجسادهم- و الخبر في ذلك مشهور و الآية أيضا و هي قوله- وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ- و يمكن أن يفسر على وجه آخر- و ذلك أن الآخرة اليوم عدم محض- و الإنسان قدم من العدم و إلى العدم ينقلب- فقد صح أنه قدم من الآخرة و يرجع إلى الآخرة- .

و روي أن العالم بالبصر أي بالبصيرة- فيكون هو و قوله فالناظر بالقلب سواء و إنما قاله تأكيدا- و على هذا الوجه لا يحتاج إلى تفسير و تأويل- فأما الرواية المشهورة فالوجه في تفسيرها أن يكون قوله- فالناظر مبتدأ و العامل صفة له- و قوله بالبصر يكون مبتدأ عمله- جملة مركبة من مبتدأ و خبر موضعها رفع- لأنها خبر المبتدأ الذي هو فالناظر- و هذه الجملة المذكورة قد دخلت عليها كان- فالجار و المجرور و هو الكلمة الأولى منها منصوبة الموضع- لأنها خبر كان- و يكون قوله فيما بعد أن يعلم منصوب‏ الموضع- لأنه بدل من البصر الذي هو خبر يكون- و المراد بالبصر هاهنا البصيرة- فيصير تقدير الكلام فالناظر بقلبه- العامل بجوارحه يكون مبتدأ عمله بالفكر و البصيرة- بأن يعلم أ عمله له أم عليه- . و يروى كالسابل على غير طريق و السابل طالب السبيل- و قد جاء في الخبر المرفوع من عمل بغير هدى لم يزدد من الله إلا بعدا- و في كلام الحكماء العامل بغير علم كالرامي من غير وتر:

وَ اعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ ظَاهِرٍ بَاطِناً عَلَى مِثَالِهِ- فَمَا طَابَ ظَاهِرُهُ طَابَ بَاطِنُهُ- وَ مَا خَبُثَ ظَاهِرُهُ خَبُثَ بَاطِنُهُ- وَ قَدْ قَالَ الرَّسُولُ الصَّادِقُ ص- إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ وَ يُبْغِضُ عَمَلَهُ- وَ يُحِبُّ الْعَمَلَ وَ يُبْغِضُ بَدَنَهُ هذا الكلام مشتق من قوله تعالى- وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ- وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً- و هو تمثيل ضربه الله تعالى- لمن ينجع فيه الوعظ و التذكير من البشر- و لمن لا يؤثر ذلك فيه- مثله بالأرض العذبة الطيبة تخرج النبت- و الأرض السبخة الخبيثة لا تنبت- و كلام أمير المؤمنين ع إلى هذا المعنى يومئ- يقول إن لكلتا حالتي الإنسان الظاهرة- أمرا باطنا يناسبها من أحواله- و الحالتان الظاهرتان ميله إلى العقل و ميله إلى الهوى- فالمتبع لمقتضى عقله يرزق السعادة و الفوز- فهذا هو الذي طاب‏ظاهره و طاب باطنه- و المتبع لمقتضى هواه و عادته و دين أسلافه- يرزق الشقاوة و العطب- و هذا هو الذي خبث ظاهره و خبث باطنه- .

فإن قلت فلم قال فما طاب و هلا قال فمن طاب- و كذلك في خبث- قلت كلامه في الأخلاق و العقائد و ما تنطوي عليه الضمائر- يقول ما طاب من هذه الأخلاق و الملكات- و هي خلق النفس الربانية المريدة للحق من حيث هو حق- سواء كان ذلك مذهب الآباء و الأجداد أو لم يكن- و سواء كان ذلك مستقبحا مستهجنا عند العامة أو لم يكن- و سواء نال به من الدنيا حظا أو لم ينل- يستطيب باطنه يعني ثمرته و هي السعادة- و هذا المعنى من مواضع ما لا من مواضع من- .

فأما الخبر المروي فإنه مذكور في كتب المحدثين- و قد فسره أصحابنا المتكلمون فقالوا- إن الله تعالى قد يحب المؤمن و محبته له إرادة إثابته- و يبغض عملا من أعماله و هو ارتكاب صغيرة من الصغائر- فإنها مكروهة عند الله- و ليست قادحة في إيمان المؤمن لأنها تقع مكفرة- و كذلك قد يبغض العبد بأن يريد عقابه- نحو أن يكون فاسقا لم يتب- و يحب عملا من أعماله- نحو أن يطيع ببعض الطاعات و حبه لتلك الطاعة- هي إرادته تعالى أن يسقط عنه بها- بعض ما يستحقه من العقاب المتقدم:

وَ اعْلَمْ أَنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ نَبَاتاً- وَ كُلُّ نَبَاتٍ لَا غِنَى بِهِ عَنِ الْمَاءِ- وَ الْمِيَاهُ مُخْتَلِفَةٌ فَمَا طَابَ سَقْيُهُ طَابَ غَرْسُهُ وَ حَلَتْ ثَمَرَتُهُ- وَ مَا خَبُثَ سَقْيُهُ خَبُثَ غَرْسُهُ وَ أَمَرَّتْ ثَمَرَتُهُ السقي مصدر سقيت و السقي بالكسر النصيب من الماء- . و أمر الشي‏ء أي صار مرا- . و هذا الكلام مثل في الإخلاص و ضده- و هو الرياء و حب السمعة- فكل عمل يكون مدده الإخلاص لوجهه تعالى لا غير- فإنه زاك حلو الجنى- و كل عمل يكون الرياء و حب الشهرة مدده فليس بزاك و تكون ثمرته مرة المذاق

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 9

خطبه 153 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

153 و من خطبة له ع

وَ هُوَ فِي مُهْلَةٍ مِنَ اللَّهِ يَهْوِي مَعَ الْغَافِلِينَ- وَ يَغْدُو مَعَ الْمُذْنِبِينَ بِلَا سَبِيلٍ قَاصِدٍ وَ لَا إِمَامٍ قَائِدٍ يصف إنسانا من أهل الضلال غير معين- بل كما تقول رحم الله امرأ اتقى ربه و خاف ذنبه- و بئس الرجل رجل قل حياؤه و عدم وفاؤه- و لست تعني رجلا بعينه- . و يهوي يسقط- و السبيل القاصد الطريق المؤدية إلى المطلوب- .

و الإمام إما الخليفة و إما الأستاذ أو الدين أو الكتاب- على كل من هؤلاء تطلق هذه اللفظة: مِنْهَا- حَتَّى إِذَا كَشَفَ لَهُمْ عَنْ جَزَاءِ مَعْصِيَتِهِمْ- وَ اسْتَخْرَجَهُمْ مِنْ جَلَابِيبِ غَفْلَتِهِمْ- اسْتَقْبَلُوا مُدْبِراً وَ اسْتَدْبَرُوا مُقْبِلًا- فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِمَا أَدْرَكُوا مِنْ طَلِبَتِهِمْ- وَ لَا بِمَا قَضَوْا مِنْ وَطَرِهِمْ-وَ إِنِّي أُحَذِّرُكُمْ وَ نَفْسِي هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ- فَلْيَنْتَفِعِ امْرُؤٌ بِنَفْسِهِ- فَإِنَّمَا الْبَصِيرُ مَنْ سَمِعَ فَتَفَكَّرَ- وَ نَظَرَ فَأَبْصَرَ وَ انْتَفَعَ بِالْعِبَرِ- ثُمَّ سَلَكَ جَدَداً وَاضِحاً يَتَجَنَّبُ فِيهِ الصَّرْعَةَ فِي الْمَهَاوِي- وَ الضَّلَالَ فِي الْمَغَاوِي- وَ لَا يُعِينُ عَلَى نَفْسِهِ الْغُوَاةَ بِتَعَسُّفٍ فِي حَقٍّ- أَوْ تَحْرِيفٍ فِي نُطْقٍ أَوْ تَخَوُّفٍ مِنْ صِدْقٍ- فَأَفِقْ أَيُّهَا السَّامِعُ مِنْ سَكْرَتِكَ- وَ اسْتَيْقِظْ مِنْ غَفْلَتِكَ وَ اخْتَصِرْ مِنْ عَجَلَتِكَ- وَ أَنْعِمِ الْفِكْرَ فِيمَا جَاءَكَ- عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ ص مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ- وَ لَا مَحِيصَ عَنْهُ- وَ خَالِفْ مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ- وَ دَعْهُ وَ مَا رَضِيَ لِنَفْسِهِ وَ ضَعْ فَخْرَكَ- وَ احْطُطْ كِبْرَكَ وَ اذْكُرْ قَبْرَكَ فَإِنَّ عَلَيْهِ مَمَرَّكَ- وَ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ وَ كَمَا تَزْرَعُ تَحْصُدُ- وَ مَا قَدَّمْتَ الْيَوْمَ تَقْدَمُ عَلَيْهِ غَداً- فَامْهَدْ لِقَدَمِكَ وَ قَدِّمْ لِيَوْمِكَ- فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ أَيُّهَا الْمُسْتَمِعُ وَ الْجِدَّ الْجِدَّ أَيُّهَا الْغَافِلُ- وَ لا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ فاعل كشف هو الله تعالى و قد كان سبق ذكره في الكلام- و إنما كشف لهم عن جزاء معصيتهم بما أراهم حال الموت- من دلائل الشقوة و العذاب-فقد ورد في الخبر الصحيح أنه لا يموت ميت حتى يرى مقره من جنة أو نار
– .

و لما انفتحت أعين أبصارهم عند مفارقة الدنيا- سمى ذلك ع استخراجا لهم من جلابيب غفلتهم- كأنهم كانوا من الغفلة و الذهول في لباس نزع عنهم- . قال استقبلوا مدبرا أي استقبلوا أمرا- كان في ظنهم و اعتقادهم مدبرا عنهم- و هو الشقاء و العذاب- و استدبروا مقبلا تركوا وراء ظهورهم ما كانوا خولوه- من الأولاد و الأموال و النعم- و في قوة هذا الكلام أن يقول- عرفوا ما أنكروه و أنكروا ما عرفوه-.

و روي أحذركم و نفسي هذه المزلة مفعلة من الزلل- و في قوله و نفسي لطافة رشيقة- و ذلك لأنه طيب قلوبهم- بأن جعل نفسه شريكة لهم في هذا التحذير- ليكونوا إلى الانقياد أقرب- و عن الإباء و النفرة أبعد بطريق جدد لاحب- . و المهاوي جمع مهواة و هي الهوة يتردى فيها- . و المغاوي جمع مغواة- و هي الشبهة التي يغوى بها الناس أي يضلون- . يصف الأمور التي يعين بها الإنسان- أرباب الضلال على نفسه- و هي أن يتعسف في حق يقوله أو يأمر به فإن الرفق أنجح- و أن يحرف المنطق فإن الكذب لا يثمر خيرا- و أن يتخوف من الصدق في ذات الله قال سبحانه- إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ- فذم من لا يصدق و يجاهد في الحق- .

قوله و اختصر من عجلتك- أي لا تكن عجلتك كثيرة- بل إذا كانت لك عجلة فلتكن شيئا يسيرا- . و تقول أنعمت النظر في كذا أي دققته- من قولك أنعمت سحق الحجر و قيل إنه مقلوب أمعن- . و النبي الأمي- إما الذي لا يحسن الكتابة- أو المنسوب إلى أم القرى و هي مكة- . و لا محيص عنه لا مفر و لا مهرب- حاص أي تخلص من أمر كان شب فيه- . قوله فإن عليه ممرك أي ليس القبر بدار مقام- و إنما هو ممر و طريق إلى الآخرة- .

و كما تدين تدان- أي كما تجازي غيرك تجازى بفعلك و بحسب ما عملت- و منه قوله سبحانه- إِنَّا لَمَدِينُونَ أي مجزيون- و منه الديان في صفة الله تعالى- . قوله و كما تزرع تحصد- معنى قد قاله الناس بعده كثيرا قال الشاعر-

إذا أنت لم تزرع و أدركت حاصدا
ندمت على التقصير في زمن البذر

 و من أمثالهم من زرع شرا حصد ندما- . فامهد لنفسك أي سو و وطئ- . وَ لا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ من القرآن العزيز- أي و لا يخبرك بالأمور أحد على حقائقها- كالعارف بها العالم بكنهها: إِنَّ مِنْ عَزَائِمِ اللَّهِ فِي الذِّكْرِ الْحَكِيمِ- الَّتِي عَلَيْهَا يُثِيبُ وَ يُعَاقِبُ وَ لَهَا يَرْضَى وَ يَسْخَطُ- أَنَّهُ لَا يَنْفَعُ عَبْداً- وَ إِنْ أَجْهَدَ نَفْسَهُ وَ أَخْلَصَ فِعْلَهُ- أَنْ يَخْرُجَ مِنَ الدُّنْيَا لَاقِياً رَبَّهُ- بِخَصْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخِصَالِ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا- أَنْ يُشْرِكَ بِاللَّهِ فِيمَا افْتَرَضَ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادَتِهِ- أَوْ يَشْفِيَ غَيْظَهُ بِهَلَاكِ نَفْسٍ- أَوْ يَعُرَّ بِأَمْرٍ فَعَلَهُ غَيْرُهُ- أَوْ يَسْتَنْجِحَ حَاجَةً إِلَى النَّاسِ بِإِظْهَارِ بِدْعَةٍ فِي دِينِهِ- أَوْ يَلْقَى النَّاسَ بِوَجْهَيْنِ أَوْ يَمْشِيَ فِيهِمْ بِلِسَانَيْنِ- اعْقِلْ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمِثْلَ دَلِيلٌ عَلَى شِبْهِهِ- إِنَّ الْبَهَائِمَ هَمُّهَا بُطُونُهَا- وَ إِنَّ السِّبَاعَ هَمُّهَا الْعُدْوَانُ عَلَى غَيْرِهَا- وَ إِنَّ النِّسَاءَ هَمُّهُنَّ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ الْفَسَادُ فِيهَا- إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ مُسْتَكِينُونَ- إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ مُشْفِقُونَ إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ خَائِفُونَ‏

عزائم الله هي موجباته و الأمر المقطوع عليه- الذي لا ريب فيه و لا شبهة- قال ع إن من الأمور التي نص الله تعالى عليها- نصا لا يحتمل التأويل و هي من العزائم التي يقطع بها- و لا رجوع فيها و لا نسخ لها- أن من مات و هو على ذنب من هذه الذنوب المذكورة- و لو اكتفى بذلك ع لأغناه عن قوله لم يتب- إلا أنه ذكر ذلك تأكيدا و زيادة في الإيضاح- فإنه لا ينفعه فعل شي‏ء من الأفعال الحسنة و لا الواجبة- و لا تفيده العبادة- و لو أجهد نفسه فيها بل يكون من أهل النار- و الذنوب المذكورة- هي أن يتخذ مع الله إلها آخر فيشركه في العبادة- أو يقتل إنسانا بغير حق بل ليشفي غيظه- أو يقذف غيره بأمر قد فعله هو- .

عره بكذا يعره عرا أي عابه و لطخه- أو يروم بلوغ حاجة من أحد بإظهار بدعة في الدين- كما يفعل أكثر الناس في زماننا أو يكون ذا وجهين- و هو أيضا قوله أو يمشي فيهم بلسانين و إنما أعاده تأكيدا- . لما نصب معاوية ابنه يزيد لولاية العهد- أقعده في قبة حمراء و أدخل الناس يسلمون على معاوية- ثم يميلون إلى قبة يزيد فيسلمون عليه بولاية العهد- حتى جاء رجل ففعل ذلك ثم رجع إلى معاوية- فقال يا أمير المؤمنين أما إنك لو لم تول هذا أمور المسلمين لأضعتها- و كان الأحنف جالسا- فلما خف الناس قال معاوية- ما بالك لا تقول يا أبا بحر قال أخاف الله إن كذبتك- و أخافك إن صدقتك فما ذا أقول- فقال جزاك الله عن الطاعة خيرا و أمر له بصلة جزيلة- فلما خرج لقيه ذلك الرجل بالباب فقال- يا أبا بحر إني لأعلم أن شر من خلق الله هذا الرجل- و لكن هؤلاءقد استوثقوا من هذه الأموال- بالأبواب و الأقفال- فلسنا نطمع في استخراجها إلا بما سمعت- فقال يا هذا أمسك عليك- فإن ذا الوجهين خليق ألا يكون وجيها عند الله غدا- .

ثم أمر ع بأن يعقل ما قاله و يعلم باطن خطابه- و إنما رمز بباطن هذا الكلام إلى الرؤساء يوم الجمل- لأنهم حاولوا أن يشفوا غيظهم- بإهلاكه و إهلاك غيره من المسلمين- و عروه ع بأمر هم فعلوه و هو التأليب على عثمان و حصره- و استنجحوا حاجتهم إلى أهل البصرة- بإظهار البدعة و الفتنة- و لقوا الناس بوجهين و لسانين- لأنهم بايعوه و أظهروا الرضا به ثم دبوا له الخمر- فجعل ذنوبهم هذه مماثلة للشرك بالله سبحانه- في أنها لا تغفر إلا بالتوبة- و هذا هو معنى قوله اعقل ذلك- فإن المثل دليل على شبهه- و روي فإن المثل واحد الأمثال- أي هذا الحكم بعدم المغفرة لمن أتى شيئا من هذه الأشياء عام- و الواحد منها دليل على ما يماثله و يشابهه- .

فإن قلت- فهذا تصريح بمذهب الإمامية في طلحة و الزبير و عائشة- . قلت كلا فإن هذه الخطبة خطب بها و هو سائر إلى البصرة- و لم تقع الحرب إلا بعد تعدد الكبائر- و رمز فيها إلى المذكورين و قال إن لم يتوبوا- و قد ثبت أنهم تابوا- و الأخبار عنهم بالتوبة كثيرة مستفيضة- . ثم أراد ع أن يومئ إلى ذكر النساء- للحال التي كان وقع إليها من استنجاد أعدائه بامرأة- فذكر قبل ذكر النساء أنواعا من الحيوان- تمهيدا لقاعدة ذكر النساء فقال- إن البهائم همها بطونها كالحمر و البقر و الإبل و الغنم- و إن السباع همها العدوان‏على غيرها- كالأسود الضارية و النمور و الفهود و البزاة و الصقور- ثم قال و إن النساء همهن زينة الحياة الدنيا و الفساد فيها- . نظر حكيم إلى امرأة مصلوبة على شجرة- فقال ليت كل شجرة تحمل مثل هذه الثمرة- . و مرت امرأة بسقراط و هو يتشرق في الشمس فقالت- ما أقبحك أيها الشيخ- فقال لو أنكن من المرائي الصدئة- لغمني ما بان من قبح صورتي فيكن- . و رأى حكيم امرأة تعلم الكتابة- فقال سهم يسقى سما ليرمي به يوما ما- .

و رأى بعضهم جارية تحمل نارا- فقال نار على نار و الحامل شر من المحمول- . و قيل لسقراط أي السباع أحسن قال المرأة- . و تزوج بعضهم امرأة نحيفة فقيل له في ذلك- فقال اخترت من الشر أقله- . و رأى بعض الحكماء امرأة غريقة قد احتملها السيل- فقال زادت الكدر كدرا و الشر بالشر يهلك- . ثم ذكر ع خصائص المؤمن- فقال إن المؤمنين مستكينون- استكان الرجل أي خضع و ذل- . إن المؤمنين مشفقون- التقوى رأس الإيمان كما ورد في الخبر- .ثم قال إن المؤمنين خائفون- هو الأول و إنما أكده و التأكيد مطلوب في باب الخطابة

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 9 

خطبه 152 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

152 و من خطبة له ع

الْحَمْدُ لِلَّهِ الدَّالِّ عَلَى وُجُودِهِ بِخَلْقِهِ- وَ بِمُحْدَثِ خَلْقِهِ عَلَى أَزَلِيَّتِهِ- وَ بِاشْتِبَاهِهِمْ عَلَى أَنْ لَا شَبَهَ لَهُ- لَا تَسْتَلِمُهُ الْمَشَاعِرُ وَ لَا تَحْجُبُهُ السَّوَاتِرُ- لِافْتِرَاقِ الصَّانِعِ وَ الْمَصْنُوعِ- وَ الْحَادِّ وَ الْمَحْدُودِ وَ الرَّبِّ وَ الْمَرْبُوبِ- الْأَحَدِ بِلَا تَأْوِيلِ عَدَدٍ- وَ الْخَالِقِ لَا بِمَعْنَى حَرَكَةٍ وَ نَصَبٍ- وَ السَّمِيعِ لَا بِأَدَاةٍ وَ الْبَصِيرِ لَا بِتَفْرِيقِ آلَةٍ- وَ الشَّاهِدِ لَا بِمُمَاسَّةٍ وَ الْبَائِنِ لَا بِتَرَاخِي مَسَافَةٍ- وَ الظَّاهِرِ لَا بِرُؤْيَةٍ وَ الْبَاطِنِ لَا بِلَطَافَةٍ- بَانَ مِنَ الْأَشْيَاءِ بِالْقَهْرِ لَهَا وَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا- وَ بَانَتِ الْأَشْيَاءُ مِنْهُ بِالْخُضُوعِ لَهُ وَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِ- مَنْ وَصَفَهُ فَقَدْ حَدَّهُ وَ مَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ- وَ مَنْ عَدَّهُ فَقَدْ أَبْطَلَ أَزَلَهُ- وَ مَنْ قَالَ كَيْفَ فَقَدِ اسْتَوْصَفَهُ- وَ مَنْ قَالَ أَيْنَ فَقَدْ حَيَّزَهُ- عَالِمٌ إِذْ لَا مَعْلُومٌ وَ رَبٌّ إِذْ لَا مَرْبُوبٌ- وَ قَادِرٌ إِذْ لَا مَقْدُورٌ

أبحاث كلامية

في هذا الفصل أبحاث- أولها في وجوده تعالى و إثبات أن للعالم صانعا- و هاتان طريقتان في الدلالة على وجوده الأول سبحانه- .إحداهما الطريقة المذكورة في هذا الفصل- و هي طريقة المتكلمين- و هي إثبات أن الأجسام محدثة- و لا بد للمحدث من محدث- . و الثانية إثبات وجوده تعالى من النظر في نفس الوجود- .

و ذلك لأن الوجود ينقسم بالاعتبار الأول إلى قسمين- واجب و ممكن- و كل ممكن لا بد أن ينتهي إلى الواجب- لأن طبيعة الممكن يمتنع من أن يستقل بنفسه في قوامه- فلا بد من واجب يستند إليه- و ذلك الواجب الوجود الضروري الذي لا بد منه- هو الله تعالى- .

و ثانيها إثبات أزليته و بيانه ما ذكره في هذا الفصل- و هو أن العالم مخلوق له سبحانه حادث من جهته- و المحدث لا بد له من محدث- فإن كان ذلك المحدث محدثا- عاد القول فيه كالقول في الأول و يتسلسل- فلا بد من محدث قديم و ذلك هو الله تعالى- .

و ثالثها أنه لا شبيه له أي ليس بجسم كهذه الأجسام- و بيانه ما ذكر أيضا أن مخلوقاته متشابهة- يعني بذلك ما يريده المتكلمون من قولهم- الأجسام متماثلة في الجسمية- و أن نوع الجسمية واحد- أي لا يخالف جسم جسما بذاته- و إذا كانت متماثلة صح على كل واحد منها ما صح على الآخر- فلو كان له سبحانه شبيه منها أي لو كان جسما مثلها- لوجب أن يكون محدثا كمثلها أو تكون قديمة مثله- و كلا الأمرين محال- .

و رابعها أن المشاعر لا تستلمه و روي لا تلمسه- و المشاعر الحواس و بيانه أنه تعالى ليس بجسم لما سبق- و ما ليس بجسم استحال أن تكون المشاعر لامسة له- لأن إدراك المشاعر مدركاته مقصور على الأجسام و هيئاتها- و الاستلام في اللغة لمس الحجر باليد و تقبيله- و لا يهمز لأن أصله من السلام و هي الحجارة- كما يقال استنوق الجمل و بعضهم يهمزه-

و خامسها أن السواتر لا تحجبه- و بيانه أن السواتر و الحجب إنما تحجب ما كان في جهة- و ذلك لأنها ذوات أين و وضع فلا نسبة لها- إلى ما ليس من ذوات الأين و الوضع- . ثم قال ع لافتراق الصانع و المصنوع- إشارة إلى أن المصنوع من ذوات الجهة- و الصانع منزه عن ذلك بري‏ء عن المواد- فلا يلزم فيه ما يلزم في ذوات المادة و الجهة- .

و سادسها معنى قولنا إنه أحد- أنه ليس بمعنى العدد كما يقوله الناس- أول العدد أحد و واحد- بل المراد بأحديته كونه لا يقبل التجزؤ- و باعتبار آخر كونه لا ثاني له في الربوبية- .

و سابعها أنه خالق لا بمعنى الحركة و النصب و هو التعب- و ذلك لأن الخالقين منا يحتاجون إلى الحركة- من حيث كانوا أجساما تفعل بالآلات- و البارئ سبحانه ليس بجسم و لا يفعل بالآلة- بل كونه قادرا إنما هو لذاته المقدسة- لا لأمر زائد عليها فلم يكن فاعلا بالحركة- .

و ثامنها أنه سميع لا بأداة- و ذلك لأن حاجتنا إلى الحواس إنما كانت لأمر يخصنا- و هو كوننا أحياء بحياة حالة في أبعاضنا- و البارئ تعالى حي لذاته- فلم يحتج في كونه مدركا إلى الأداة و الجارحة- .

و تاسعها أنه بصير لا بتفريق آلة- و المراد بتفريق الآلة هاهنا- الشعاع الذي باعتباره يكون الواحد منا مبصرا- فإن القائلين بالشعاع يقولون- إنه يخرج من العين أجسام لطيفة هي الأشعة- و تكون آلة للحي في إبصار المبصرات فيتفرق عليها- فكل جسم يقع عليه ذلك الشعاع يكون مبصرا- و البارئ تعالى بصير- لا بشعاع يجعله آلة في الإدراك- و يتفرق على المرئياتفيدركها به- و ذلك لما قدمناه من أنه حي لذاته لا بمعنى- فلا يحتاج إلى آلة و أداة- و وصلة تكون كالواسطة بينه و بين المدركات- .

و عاشرها أنه الشاهد لا بمماسة- و ذلك لأن الشاهد منا هو الحاضر بجسمه عند المشهود- أ لا ترى أن من في الصين- لا يكون شاهدا من في المغرب- لأن الحضور الجسماني يفتقر إلى القرب- و القرب من لوازم الجسمية فما ليس بجسم- و هو عالم بكل شي‏ء- يكون شاهدا من غير قرب و لا مماسة و لا أين مطلوب- .

و حادي عشرها أنه البائن لا بتراخي مسافة- بينونة المفارق عن المادة بينونة ليست أينية- لأنه لا نسبة لأحدهما إلى الآخر بالجهة- فلا جرم كان البارئ تعالى مباينا عن العالم- لا بمسافة بين الذاتين- .

و ثاني عشرها- أنه الظاهر لا برؤية و الباطن لا بلطافة- و ذلك لأن الظاهر من الأجسام ما كان مرئيا بالبصر- و الباطن منها ما كان لطيفا جدا- إما لصغره أو لشفافيته- و البارئ تعالى ظاهر للبصائر لا للأبصار- باطن أي غير مدرك بالحواس- لأن ذاته لا تقبل المدركية- إلا من حيث كان لطيف الحجم أو شفاف الجرم- .

و ثالث عشرها أنه قال- بان من الأشياء بالقهر لها و القدرة عليها- و بانت الأشياء منه بالخضوع له و الرجوع إليه- هذا هو معنى قول المتكلمين و الحكماء- و الفرق بينه و بين الموجودات كلها- أنه واجب الوجود لذاته- و الأشياء كلها ممكنة الوجود بذواتها- فكلها محتاجة إليه لأنها لا وجود لها إلا به- و هذا هو معنى خضوعها له و رجوعها إليه- و هو سبحانه غني عن كل شي‏ء- و مؤثر في كل شي‏ء إما بنفسه- أو بأن يكون مؤثرا فيما هو مؤثر في ذلك الشي‏ء كأفعالنا- فإنه يؤثر فينا و نحن نؤثر فيها- فإذا هو قاهر لكل شي‏ء و قادر على كل شي‏ء- فهذه هي البينونة بينه و بين الأشياء كلها- .

و رابع عشرها أنه لا صفة له زائدة على ذاته- و نعني بالصفة ذاتا موجودة قائمة بذاته- و ذلك لأن من أثبت هذه الصفة له فقد حده- و من حده فقد عده و من عده فقد أبطل أزله- و هذا كلام غامض- و تفسيره أن من أثبت له علما قديما أو قدرة قديمة- فقد أوجب أن يعلم بذلك العلم معلومات محدودة- أي محصورة- و كذلك قد أوجب أن يقدر بتلك القدرة- على مقدورات محدودة- و هذه المقدمة في كتب أصحابنا المتكلمين- مما يذكرونه في تقرير- أن العلم الواحد لا يتعلق بمعلومين- و أن القدرة الواحدة- لا يمكن أن تتعلق في الوقت الواحد من الجنس الواحد- في المحل الواحد إلا بجزء واحد- و سواء فرض هذان المعنيان قديمين أو محدثين- فإن هذا الحكم لازم لهما- فقد ثبت أن من أثبت المعاني القديمة- فقد أثبت البارئ تعالى محدود العالمية و القادرية- و من قال بذلك فقد عده- أي جعله من جملة الجثة المعدودة- فيما بيننا كسائر البشر و الحيوانات- و من قال بذلك فقد أبطل أزله- لأن كل ذات مماثلة لهذه الذوات المحدثة- فإنها محدثة مثلها و المحدث لا يكون أزليا- .

و خامس عشرها أن من قال كيف فقد استوصفه- أي من قال لزيد كيف الله- فقد استدعى أن يوصف الله بكيفية من الكيفيات- و البارئ تعالى لا تجوز الكيفيات عليه- و الكيفيات هي الألوان و الطعوم و نحوها- و الأشكال و المعاني و ما يجري مجرى ذلك- و كل هذا لا يجوز إلا على الأجسام- . فإن قلت ينبغي أن يقول فقد وصفه- و لا يقال فقد استوصفه- لأن السائل لم يستوصف الله- و إنما استوصف صاحبه الذي سأله عن كيفية الله- . قلت استوصف هاهنا بمعنى وصف- كقولك استغنى زيد عن عمرو أي غني عنه- و استعلى عليه أي علا و مثله كثير- .

و سادس عشرها أن من قال أين فقد حيزه- لأن أين سؤال عن المكان و ليس الله تعالى في مكان- و يأتي أنه في كل مكان بمعنى العلم و الإحاطة- .

و سابع عشرها- أنه عالم إذ لا معلوم و رب إذ لا مربوب- و قادر إذ لا مقدور- و كل هذا صحيح و مدلول عليه- لأنه عالم فيما لم يزل و ليس شي‏ء من الأشياء بموجود- و هو رب كل شي‏ء قبل أن يخلقه- كما تقول أنه سميع بصير قبل أن يدرك المسموعات و المبصرات- أي قبل أن يخلقها و قادر على الأشياء قبل كونها- لأنه يستحيل حال كونها أن تكون مقدوره- لاستحالة إيجاد الموجود- .

و قد شرحنا كل هذه المسائل التوحيدية- في كتبنا المصنفة في علم الكلاممِنْهَا- قَدْ طَلَعَ طَالِعٌ وَ لَمَعَ لَامِعٌ وَ لَاحَ لَائِحٌ- وَ اعْتَدَلَ مَائِلٌ وَ اسْتَبْدَلَ اللَّهُ بِقَوْمٍ قَوْماً وَ بِيَوْمٍ يَوْماً- وَ انْتَظَرْنَا الْغِيَرَ انْتِظَارَ الْمُجْدِبِ الْمَطَرَ- وَ إِنَّمَا الْأَئِمَّةُ قُوَّامُ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ- وَ عُرَفَاؤُهُ عَلَى عِبَادِهِ- وَ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ عَرَفَهُمْ وَ عَرَفُوهُ- وَ لَا يَدْخُلُ النَّارَ إِلَّا مَنْ أَنْكَرَهُمْ وَ أَنْكَرُوهُ- إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّكُمْ بِالْإِسْلَامِ وَ اسْتَخْلَصَكُمْ لَهُ- وَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ اسْمُ سَلَامَةٍ وَ جِمَاعُ كَرَامَةٍ- اصْطَفَى اللَّهُ تَعَالَى مَنْهَجَهُ وَ بَيَّنَ حُجَجَهُ- مِنْ ظَاهِرِ عِلْمٍ وَ بَاطِنِ حُكْمٍ- لَا تَفْنَى غَرَائِبُهُ وَ لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ- فِيهِ مَرَابِيعُ النِّعَمِ وَ مَصَابِيحُ الظُّلَمِ- لَا تُفْتَحُ الْخَيْرَاتُ إِلَّا بِمَفَاتِيحِهِ- وَ لَا تُكْشَفُ الظُّلُمَاتُ إِلَّا بِمَصَابِيحِهِ- قَدْ أَحْمَى حِمَاهُ وَ أَرْعَى مَرْعَاهُ- فِيهِ شِفَاءُ الْمُشْتَفِي وَ كِفَايَةُ الْمُكْتَفِي‏

هذه خطبة خطب بها بعد قتل عثمان- حين أفضت الخلافة إليه- . قد طلع طالع يعني عود الخلافة إليه- و كذلك قوله و لمع لامع و لاح لائح- كل هذا يراد به معنى واحد- . و اعتدل مائل- إشارة إلى ما كانت الأمور عليه من الاعوجاج- في أواخر أيام عثمان- و استبدل الله بعثمان و شيعته عليا و شيعته- و بأيام ذاك أيام هذا- .

ثم قال و انتظرنا الغير انتظار المجدب المطر- و هذا الكلام يدل على أنه قد كان يتربص بعثمان الدوائر- و يرتقب حلول الخطوب بساحته ليلي الخلافة- . فإن قلت أ ليس هو الذي طلق الدنيا- فأين هذا القول من طلاقها- قلت إنه طلق الدنيا أن يقبل منها حظا دنيويا- و لم يطلقها أن ينهى فيها عن المنكرات- التي أمره الله تعالى بالنهي عنها- و يقيم فيها الدين الذي أمره الله بإقامته- و لا سبيل له إلى النهي عن المنكر و الأمر بالمعروف- إلا بولاية الخلافة

عقيدة علي في عثمان و رأي المعتزلة في ذلك

فإن قلت أ يجوز على مذهب المعتزلة أن يقال- إنه ع كان ينتظر قتل عثمان انتظار المجدب المطر- و هل هذا إلا محض مذهب الشيعة- . قلت إنه ع لم يقل و انتظرنا قتله و إنما انتظر الغير- فيجوز أن يكون أراد انتظار خلعه و عزله عن الخلافة- فإن عليا ع عند أصحابنا- كان يذهب إلى أن عثمان استحق الخلع بإحداثه- و لم يستحق القتل- و هذا الكلام إذا حمل على انتظار الخلع- كان موافقا لمذهب أصحابنا- .

فإن قلت أ تقول المعتزلة إن عليا كان يذهب إلى فسق عثمان- المستوجب لأجله الخلع- قلت كلا حاش لله أن تقول المعتزلة ذلك- و إنما تقول إن عليا كان يرى- أن عثمان يضعف عن تدبير الخلافة- و أن أهله غلبوا عليه- و استبدوا بالأمر دونه- و استعجزه المسلمون و استسقطوا رأيه- فصار حكمه حكم الإمام إذا عمي- أو أسره العدو فإنه ينخلع من الإمامة.

ثم قال ع الأئمة قوام الله على خلقه- أي يقومون بمصالحهم و قيم المنزل هو المدبر له- . قال و عرفاؤه على عباده جمع عريف- و هو النقيب و الرئيس- يقال عرف فلان بالضم عرافة بالفتح- مثل خطب خطابة أي صار عريفا- و إذا أردت أنه عمل ذلك قلت- عرف فلان علينا سنين يعرف عرافة بالكسر- مثل كتب يكتب كتابة- .

قال و لا يدخل الجنة إلا من عرفهم و عرفوه- و لا يدخل النار إلا من أنكرهم و أنكروه- هذا إشارة إلى قوله تعالى- يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ- قال المفسرون ينادى في الموقف- يا أتباع فلان و يا أصحاب فلان- فينادى كل قوم باسم إمامهم- يقول أمير المؤمنين ع لا يدخل الجنة يومئذ- إلا من كان في الدنيا عارفا بإمامه- و من يعرفه إمامه في الآخرة- فإن الأئمة تعرف أتباعها يوم القيامة- و إن لم يكونوا رأوهم في الدنيا- كما أن النبي ص يشهد للمسلمين و عليهم- و إن لم يكن رأى أكثرهم قال سبحانه- فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ- وَ جِئْنا بِكَ عَلى‏ هؤُلاءِ شَهِيداً وجاء في الخبرالمرفوع من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية- و أصحابنا كافة قائلون بصحة هذه القضية- و هي أنه لا يدخل الجنة إلا من عرف الأئمة- أ لا ترى أنهم يقولون- الأئمة بعد رسول الله ص فلان و فلان- و يعدونهم واحدا واحدا- فلو أن إنسانا لا يقول بذلك لكان عندهم فاسقا- و الفاسق لا يدخل الجنة عندهم أبدا أعني من مات على فسقه- فقد ثبت أن هذه القضية- و هي قوله ع لا يدخل الجنة إلا من عرفهم- قضية صحيحة على مذهب المعتزلة- و ليس قوله و عرفوه بمنكر عند أصحابنا- إذا فسرنا قوله تعالى- يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ- على ما هو الأظهر و الأشهر من التفسيرات و هو ما ذكرناه- .

و بقيت القضية الثانية ففيها الإشكال- و هي قوله ع و لا يدخل النار إلا من أنكرهم و أنكروه- و ذلك أن لقائل أن يقول قد يدخل النار من لم ينكرهم- مثل أن يكون إنسان يعتقد صحة إمامة القوم- الذين يذهب أنهم أئمة عند المعتزلة- ثم يزني أو يشرب الخمر من غير توبة فإنه يدخل النار- و ليس بمنكر للأئمة- فكيف يمكن الجمع بين هذه القضية و بين الاعتزال- فالجواب أن الواو في قوله و أنكروه بمعنى أو- كما في قوله تعالى- فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ- فالإنسان المفروض في السؤال- و إن كان لا ينكر الأئمة إلا أنهم ينكرونه- أي يسخطون يوم القيامة أفعاله- يقال أنكرت فعل فلان أي كرهته- فهذا هو تأويل الكلام على مذهبنا- فأما الإمامية فإنهم يحملون ذلك على تأويل آخر- و يفسرون قوله و لا يدخل النار فيقولون- أراد و لا يدخل النار دخولا مؤبدا- إلا من ينكرهم و ينكرونه- .

ثم ذكر ع شرف الإسلام و قال- إنه مشتق من السلامة و إنه جامع للكرامة- و إن الله قد بين حججه أي الأدلة على صحته- . ثم بين ما هذه الأدلة فقال- من ظاهر علم و باطن حكم أي حكمه- من هاهنا للتبيين و التفسير- كما تقول دفعت إليه سلاحا من سيف و رمح و سهم- و يعني بظاهر علم و باطن حكم- و القرآن أ لا تراه كيف أتى بعده بصفات و نعوت- لا تكون إلا للقرآن- من قوله لا تفنى عزائمه أي آياته المحكمة- و براهينه العازمة أي القاطعة و لا تنقضي عجائبه- لأنه مهما تأمله الإنسان استخرج منه- بفكر غرائب عجائب لم تكن عنده من قبل- . فيه مرابيع النعم- المرابيع الأمطار التي تجي‏ء في أول الربيع- فتكون سببا لظهور الكلأ- و كذلك تدبر القرآن سبب للنعم الدينية و حصولها- .

قوله قد أحمى حماه و أرعى مرعاه- الضمير في أحمى يرجع إلى الله تعالى- أي قد أحمى الله حماه أي عرضه لأن يحمى- كما تقول أ قتلت الرجل أي عرضته لأن يقتل- و أ ضربته أي عرضته لأن يضرب- أي قد عرض الله تعالى حمى القرآن و محارمه- لأن يجتنب و مكن منها- و عرض مرعاه لأن يرعى- أي مكن من الانتفاع بما فيه من الزواجر و المواعظ- لأنه خاطبنا بلسان عربي مبين- و لم يقنع ببيان ما لا نعلم إلا بالشرع- حتى نبه في أكثره على أدلة العقل

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 9

خطبه 151 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

151 و من خطبة له ع

وَ أَسْتَعِينُهُ عَلَى مَدَاحِرِ الشَّيْطَانِ وَ مَزَاجِرِهِ- وَ الِاعْتِصَامِ مِنْ حَبَائِلِهِ وَ مَخَاتِلِهِ وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ وَ نَجِيبُهُ وَ صَفْوَتُهُ- لَا يُؤَازَى فَضْلُهُ وَ لَا يُجْبَرُ فَقْدُهُ- أَضَاءَتْ بِهِ الْبِلَادُ بَعْدَ الضَّلَالَةِ الْمُظْلِمَةِ- وَ الْجَهَالَةِ الْغَالِبَةِ وَ الْجَفْوَةِ الْجَافِيَةُ- وَ النَّاسُ يَسْتَحِلُّونَ الْحَرِيمَ- وَ يَسْتَذِلُّونَ الْحَكِيمَ- يَحْيَوْنَ عَلَى فَتْرَةٍ وَ يَمُوتُونَ عَلَى كَفْرَةٍ- ثُمَّ إِنَّكُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ أَغْرَاضُ بَلَايَا قَدِ اقْتَرَبَتْ- فَاتَّقُوا سَكَرَاتِ النِّعْمَةِ وَ احْذَرُوا بَوَائِقَ النِّقْمَةِ- وَ تَثَبَّتُوا فِي قَتَامِ الْعِشْوَةِ وَ اعْوِجَاجِ الْفِتْنَةِ- عِنْدَ طُلُوعِ جَنِينِهَا وَ ظُهُورِ كَمِينِهَا- وَ انْتِصَابِ قُطْبِهَا وَ مَدَارِ رَحَاهَا- تَبْدَأُ فِي مَدَارِجَ خَفِيَّةٍ وَ تَئُولُ إِلَى فَظَاعَةٍ جَلِيَّةٍ- شِبَابُهَا كَشِبَابِ الْغُلَامِ وَ آثَارُهَا كَآثَارِ السِّلَامِ- يَتَوَارَثُهَا الظَّلَمَةُ بِالْعُهُودِ أَوَّلُهُمْ قَائِدٌ لآِخِرِهِمْ- وَ آخِرُهُمْ مُقْتَدٍ بِأَوَّلِهِمْ يَتَنَافَسُونَ فِي دُنْيَا دَنِيَّةٍ- وَ يَتَكَالَبُونَ عَلَى جِيفَةٍ مُرِيحَةٍ- وَ عَنْ قَلِيلٍ يَتَبَرَّأُ التَّابِعُ مِنَ الْمَتْبُوعِ- وَ الْقَائِدُ مِنَ الْمَقُودِ فَيَتَزَايَلُونَ بِالْبَغْضَاءِ- وَ يَتَلَاعَنُونَ عِنْدَ اللِّقَاءِ-

ثُمَّ يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ طَالِعُ الْفِتْنَةِ الرَّجُوفِ- وَ الْقَاصِمَةِ الزَّحُوفِ فَتَزِيغُ قُلُوبٌ بَعْدَ اسْتِقَامَةٍ- وَ تَضِلُّ رِجَالٌ بَعْدَ سَلَامَةٍ- وَ تَخْتَلِفُ الْأَهْوَاءُ عِنْدَ هُجُومِهَا- وَ تَلْتَبِسُ الآْرَاءُ عِنْدَ نُجُومِهَا-مَنْ أَشْرَفَ لَهَا قَصَمَتْهُ وَ مَنْ سَعَى فِيهَا حَطَمَتْهُ- يَتَكَادَمُونَ فِيهَا تَكَادُمَ الْحُمُرِ فِي الْعَانَةِ- قَدِ اضْطَرَبَ مَعْقُودُ الْحَبْلِ وَ عَمِيَ وَجْهُ الْأَمْرِ- تَغِيضُ فِيهَا الْحِكْمَةُ وَ تَنْطِقُ فِيهَا الظَّلَمَةُ- وَ تَدُقُّ أَهْلَ الْبَدْوِ بِمِسْحَلِهَا- وَ تَرُضُّهُمْ بِكَلْكَلِهَا يَضِيعُ فِي غُبَارِهَا الْوُحْدَانُ- وَ يَهْلِكُ فِي طَرِيقِهَا الرُّكْبَانُ تَرِدُ بِمُرِّ الْقَضَاءِ- وَ تَحْلُبُ عَبِيطَ الدِّمَاءِ وَ تَثْلِمُ مَنَارَ الدِّينِ- وَ تَنْقُضُ عَقْدَ الْيَقِينِ- يَهْرُبُ مِنْهَا الْأَكْيَاسُ وَ يُدَبِّرُهَا الْأَرْجَاسُ- مِرْعَادٌ مِبْرَاقٌ كَاشِفَةٌ عَنْ سَاقٍ تُقْطَعُ فِيهَا الْأَرْحَامُ- وَ يُفَارَقُ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ بَرِيئُهَا سَقِيمٌ وَ ظَاعِنُهَا مُقِيمٌ مداحر الشيطان الأمور التي يدحر بها أي يطرد و يبعد- دحرته أدحره دحورا- قال تعالى دُحُوراً وَ لَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ- و قال سبحانه اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً أي مقصى- .

و مزاجره الأمور يزجر بها جمع مزجر و مزجرة- و كثيرا ما يبني ع من الأفعال مفعلا و مفعلة و يجمعه- و إذا تأملت كلامه عرفت ذلك- . و حبائل الشيطان- مكايده و أشراكه التي يضل بها البشر- و مخاتله الأمور التي يختل بها بالكسر أي يخدع- . لا يؤازى فضله لا يساوى و اللفظة مهموزة- آزيت فلانا حاذيته و لا يجوز وازيته- .

و لا يجبر فقده لا يسد أحد مسده بعده- و الجفوة الجافية غلظ الطبع و بلادة الفهم- . و يستذلون الحكيم- يستضيمون العقلاء و اللام هاهنا للجنس- كقوله وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا- . يحيون على فترة على انقطاع الوحي ما بين نبوتين- . و يموتون على كفرة بالفتح واحد الكفرات- كالضربة واحدة الضربات- . و يروى ثم إنكم معشر الناس و الأغراض الأهداف- و سكرات النعمة- ما تحدثه النعم عند أربابها من الغفلة المشابهة للسكر- قال الشاعر

خمس سكرات إذا مني المرء
بها صار عرضة للزمان‏

سكرة المال و الحداثة و العشق‏
و سكر الشراب و السلطان‏

و من كلام الحكماء- للوالي سكرة لا يفيق منها إلا بالعزل- و البوائق الدواهي جمع بائقة- يقال باقتهم الداهية بوقا أي أصابتهم- و كذلك باقتهم بئوق على فعول- و ابتاقت عليهم بائقة شر مثل انباحت أي انفتقت- و انباق عليهم الدهر هجم بالداهية- كما يخرج الصوت من البوق- وفي الحديث لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه- أي غوائله و شره- . و القتام بفتح القاف الغبار- و الأقتم الذي يعلوه قتمة- و هو لون فيه غبرة و حمرة- . و العشوة بكسر العين ركوب الأمر على غير بيان و وضوح- و يروى و تبينوا في قتام العشوة- كما قرئ إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا و فتثبتوا- .

و اعوجاج الفتنة- أخذها في غير القصد و عدولها عن المنهج- . ثم كنى عن ظهور المستور المخفي منها بقوله- عند طلوع جنينها و ظهور كمينها- . و الجنين الولد ما دام في البطن و الجمع أجنة- و يجوز ألا يكون الكلام كناية بل صريحا- أي عند طلوع ما استحن منها- أي استتر و ظهور ما كمن أي ما بطن- . و كنى عن استحكام أمر الفتنة بقوله- و انتصاب قطعها و مدار رحاها- .

ثم قال إنها تبدو يسيرة ثم تصير كثيرة- . و الفظاعة مصدر فظع بالضم- فهو فظيع أي شديد شنيع تجاوز المقدار- و كذلك أفظع الرجل فهو مفظع- و أفظع الرجل على ما لم يسم فاعله- نزل به أمر عظيم و أفظعت الشي‏ء وجدته فظيعا و مثله استفظعته- و هذا المعنى كما قال الشاعر-

و لربما هاج الكبير
و من الأمور لك الصغير

و في المثل و الشر تبدؤه صغاره- و قال الشاعر-

فإن النار بالعودين تذكى
و إن الحرب أولها كلام‏

و قال أبو تمام

رب قليل جدا كثيرا
كم مطر بدؤه مطير

و قال أيضا-

لا تذيلن صغير همك و انظر
كم بذي الأسل دوحة من قضيب‏

قوله شبابها كشباب الغلام بالكسر- مصدر شب الفرس و الغلام يشب و يشب شبابا و شبيبا- إذا قمص و لعب و أشببته أنا أي هيجته- .و السلام الحجارة جمع واحده سلمة بكسر اللام- يذكر الفتنة و يقول إنها تبدو في أول الأمر- و أربابها يمرحون و يشبون كما يشب الغلام و يمرح- ثم تئول إلى أن تعقب فيهم آثارا- كآثار الحجارة في الأبدان قال الشاعر-

و الحب مثل الحرب أولها
التخيل و النشاط

و ختامها أم الربيق‏
النكر و الضرب القطاط

ثم ذكر أن هذه الفتنة يتوارثها قوم من قوم- و كلهم ظالم أولهم يقود آخرهم- كما يقود الإنسان القطار من الإبل- و هو أمامها و هي تتبعه- و آخرهم يقتدي بأولهم أي يفعل فعله و يحذو حذوه- . و جيفة مريحة منتنة أراحت ظهر ريحها- و يجوز أن تكون من أراح البعير أي مات- و قد جاء في أراح بمعنى أنتن راح بلا همز- . ثم ذكر تبرؤ التابع من المتبوع يعني يوم القيامة- .

فإن قلت إن الكتاب العزيز- إنما ذكر تبرؤ المتبوع من التابع في قوله- إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا- وَ رَأَوُا الْعَذابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ- و هاهنا قد عكس ذلك فقال إن التابع يتبرأ من المتبوع- قلت إنه قد ورد في الكتاب العزيز مثل ذلك- في قوله أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً- فقولهم لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً هو التبرؤ- و هو قوله حكاية عنهم- وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ و هذا هو التبرؤ- .

ثم ذكر ع أن القائد يتبرأ من المقود- أي يتبرأ المتبوع من التابع- فيكون كل من الفريقين تبرأ من صاحبه- كما قال سبحانه ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ- وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً- . و يتزايلون يتفرقون- . قوله ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرجوف- طالعها مقدماتها و أوائلها- و سماها رجوفا لشدة الاضطراب فيها- .

فإن قلت أ لم تكن قلت- إن قوله عن قليل يتبرأ التابع من المتبوع- يعني به يوم القيامة- فكيف يقول ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة- و هذا إنما يكون قبل القيامة- قلت إنه لما ذكر تنافس الناس- على الجيفة المنتنة و هي الدنيا أراد أن يقول بعده بلا فصل- ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرجوف- لكنه لما تعجب من تزاحم الناس و تكالبهم على تلك الجيفة- أراد أن يؤكد ذلك التعجب- فأتى بجملة معترضة بين الكلامين- تؤكد معنى تعجبه منهم فقال- إنهم على ما قد ذكرنا من تكالبهم عليها- عن قليل يتبرأ بعضهم من بعض و يلعن بعضهم بعضا- و ذلك أدعى لهم لو كانوا يعقلون- إلى أن يتركوا التكالب- و التهارش على هذه الجيفة الخسيسة- ثم عاد إلى نظام الكلام فقال- ثم يأتي بعد ذلك طالع الفتنة الرجوف- و مثل هذا الاعتراض في الكلام كثير- و خصوصا في القرآن و قد ذكرنا منه فيما تقدم طرفا- .

قوله و القاصمة الزحوف القاصمة الكاسرة- و سماها زحوفا تشبيها لمشيها قدما- بمشي الدبى الذي يهلك الزروع و يبيدها- و الزحف السير على تؤدة كسير الجيوش بعضها إلى بعض- .قوله و تزيغ قلوب أي تميل- و هذه اللفظة و التي بعدها دالتان- على خلاف ما تذهب إليه الإمامية من أن المؤمن لا يكفر- و ناصرتان لمذهب أصحابنا- . و نجومها مصدر نجم الشر إذا ظهر- . من أشرف لها من صادمها و قابلها- و من سعى فيها أي في تسكينها و إطفائها- و هذا كله إشارة إلى الملحمة الكائنة في آخر الزمان- . و التكادم التعاض بأدنى الفم كما يكدم الحمار- و يقال كدم يكدم و المكدم المعض- .

و العانة القطيع من حمر الوحش و الجمع عون- . تغيض فيها الحكمة تنقض- . فإن قلت ليس قوله و تنطق فيها الظلمة- واقعا في نقيض قوله تغيض فيها الحكمة- فأين هذا من الخطابة التي هو فيها نسيج وحده- قلت بل المناقضة ظاهرة- لأن الحكمة إذا غاضت فيها لم ينطق بها أحد و لا بد من نطق ما- فإذا لم تنطق الحكماء- وجب أن يكون النطق لمن ليس من الحكماء- فهو من الظلمة فقد ثبت التناقض- . و المسحل المبرد- يقول تنحت أهل البدو و تسحتهم- كما يسحت الحديد أو الخشب بالمبرد- و أهل البدو أهل البادية- و يجوز أن يريد بالمسحل الحلقة- التي في طرف شكيم اللجام المعترضة- بإزاء حلقة أخرى في الطرف الآخر- و تدخل إحداهما في الأخرى- بمعنى أن هذه الفتنة تصدم أهل البدو بمقدمة جيشها- كما يصدم الفارس الراجل أمامه بمسحل لجام فرسه- . و الكلكل الصدر و ترضهم تدقهم دقا جريشا- .

قوله تضيع في غبارها الوحدان جمع واحد- مثل شاب و شبان و راع و رعيان- و يجوز الأحدان بالهمز- أي من كان يسير وحده فإنه يهلك بالكلية في غبارها- و أما إذا كانوا جماعة ركبانا فإنهم يضلون- و هو أقرب من الهلاك- و يجوز أن يكون الوحدان جمع أوحد- يقال فلان أوحد الدهر و هؤلاء الوحدان أو الأحدان- مثل أسود و سودان أي يضل في هذه الفتنة- و ضلالها الذي كنى عنه بالغبار فضلاء عصرها و علماء عهدها- لغموض الشبهة و استيلاء الباطل على أهل وقتها- و يكون معنى الفقرة الثانية على هذا التفسير- أن الراكب الذي هو بمظنة النجاة لا ينجو- و الركبان جمع راكب و لا يكون إلا ذا بعير- قوله ترد بمر القضاء- أي بالبوار و الهلاك و الاستئصال- . فإن قلت أ يجوز أن يقال للفتنة القبيحة إنها من القضاء- .

قلت نعم لا بمعنى الخلق بل بمعنى الإعلام- كما قال سبحانه- وَ قَضَيْنا إِلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ- أي أعلمناهم أي ترد هذه الفتنة بإعلام الله تعالى- لمن يشاء إعلامه من المكلفين أنها أم اللهيم- التي لا تبقي و لا تذر- فذلك الإعلام هو المر الذي لا يبلغ الوصف مرارته- لأن الأخبار عن حلول المكروه- الذي لا مدفع عنه و لا محيص منه مر جدا- . قوله و تحلب عبيط الدماء- أي هذه الفتنة يحلبها الحالب دما عبيطا- و هذه كناية عن الحرب- و قد قال ع في موضع آخر- أما و الله ليحلبنها دما و ليتبعنها ندما- و العبيط الدم الطري الخالص- . و ثلمت الإناء أثلمه بالكسر- . و الأكياس العقلاء- .

و الأرجاس جمع رجس و هو القذر و النجس- و المراد هاهنا الفاسقون- فإما أن يكون على حذف المضاف- أي و يدبرها ذوو الأرجاس- أو أن يكون جعلهم الأرجاس أنفسها- لما كانوا قد أسرفوا في الفسق- فصاروا كأنهم الفسق و النجاسة نفسها- كما يقال رجل عدل و رجل رضا- . قوله مرعاد مبراق أي ذات وعيد و تهدد- و يجوز أن يعني بالرعد صوت السلاح و قعقعته- و بالبرق لونه و ضوءه- . و كاشفة عن ساق عن شدة و مشقة- . قوله بريئها سقيم- يمكن أن يعني بها أنها لشدتها- لا يكاد الذي يبرأ منها و ينفض يده عنها يبرأ بالحقيقة- بل لا بد أن يستثني شيئا من الفسق و الضلال- أي لشدة التباس الأمر- و اشتباه الحال على المكلفين حينئذ- .

و يمكن أن يعني به أن الهارب منها غير ناج- بل لا بد أن يصيبه بعض معرتها و مضرتها- . و ظاعنها مقيم- أي ما يفارق الإنسان من أذاها و شرها- فكأنه غير مفارق له- لأنه قد أبقى عنده ندوبا- و عقابيل من شرورها و غوائلها: مِنْهَا- بَيْنَ قَتِيلٍ مَطْلُولٍ وَ خَائِفٍ مُسْتَجِيرٍ- يَخْتِلُونَ بِعَقْدِ الْأَيْمَانِ وَ بِغُرُورِ الْإِيمَانِ- فَلَا تَكُونُوا أَنْصَابَ الْفِتَنِ وَ أَعْلَامَ الْبِدَعِ-وَ الْزَمُوا مَا عُقِدَ عَلَيْهِ حَبْلُ الْجَمَاعَةِ- وَ بُنِيَتْ عَلَيْهِ أَرْكَانُ الطَّاعَةِ- وَ اقْدَمُوا عَلَى اللَّهِ مَظْلُومِينَ وَ لَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ ظَالِمِينَ- وَ اتَّقُوا مَدَارِجَ الشَّيْطَانِ وَ مَهَابِطَ الْعُدْوَانِ- وَ لَا تُدْخِلُوا بُطُونَكُمْ لُعَقَ الْحَرَامِ- فَإِنَّكُمْ بِعَيْنِ مَنْ حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَعْصِيَةَ- وَ سَهَّلَ لَكُمْ سُبُلَ الطَّاعَةِ يقال طل دم فلان فهو مطلول أي مهدر لا يطلب به- و يجوز أطل دمه و طله الله و أطله أهدره- و لا يقال طل دم فلان بالفتح- و أبو عبيدة و الكسائي يقولانه- . و يختلون- يخدعون بالأيمان التي يعقدونها و يقسمون بها- و بالإيمان الذي يظهرونه و يقرون به- .

ثم قال فلا تكونوا أنصار الفتن و أعلام البدع- أي لا تكونوا ممن يشار إليكم في البدع- كما يشار إلى الأعلام المبنية القائمة- و
جاء في الخبر المرفوع كن في الفتنة كابن اللبون لا ظهر فيركب و لا ضرع فيحلب- و هذه اللفظة يرويها كثير من الناس لأمير المؤمنين ع- . قوله و اقدموا على الله مظلومين-جاء في الخبر كن عبد الله المقتول- . و مدارج الشيطان- جمع مدرجة و هي السبيل التي يدرج فيها- و مهابط العدوان محاله التي يهبط فيها- . و لعق الحرام جمع لعقة بالضم و هي اسم لما تأخذه الملعقة- و اللعقة بالفتح المرة الواحدة- . قوله فإنكم بعين من حرم يقال أنت بعين فلان- أي أنت بمرأى منه- و قدقال ع في موضع آخر بصفين فإنكم بعين الله و مع ابن عم رسول الله- و هذا من باب الاستعارة- قال سبحانه وَ لِتُصْنَعَ عَلى‏ عَيْنِي- و قال تَجْرِي بِأَعْيُنِنا

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 9

خطبه 150 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

150 و من خطبة له ع و يومئ فيها إلى الملاحم

وَ أَخَذُوا يَمِيناً وَ شِمَالًا ظَعْناً فِي مَسَالِكِ الْغَيِّ- وَ تَرْكاً لِمَذَاهِبِ الرُّشْدِ- فَلَا تَسْتَعْجِلُوا مَا هُوَ كَائِنٌ مُرْصَدٌ- وَ لَا تَسْتَبْطِئُوا مَا يَجِي‏ءُ بِهِ الْغَدُ- فَكَمْ مِنْ مُسْتَعْجِلٍ بِمَا إِنْ أَدْرَكَهُ وَدَّ أَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْهُ- وَ مَا أَقْرَبَ الْيَوْمَ مِنْ تَبَاشِيرِ غَدٍ- يَا قَوْمِ هَذَا إِبَّانُ وُرُودِ كُلِّ مَوْعُودٍ- وَ دُنُوٌّ مِنْ طَلْعَةِ مَا لَا تَعْرِفُونَ- أَلَا وَ إِنَّ مَنْ أَدْرَكَهَا مِنَّا يَسْرِي فِيهَا بِسِرَاجٍ مُنِيرٍ- وَ يَحْذُو فِيهَا عَلَى مِثَالِ الصَّالِحِينَ- لِيَحُلَّ فِيهَا رِبْقاً- وَ يُعْتِقَ فِيهَا رِقّاً وَ يَصْدَعَ شَعْباً- وَ يَشْعَبَ صَدْعاً فِي سُتْرَةٍ عَنِ النَّاسِ- لَا يُبْصِرُ الْقَائِفُ أَثَرَهُ وَ لَوْ تَابَعَ نَظَرَهُ- ثُمَّ لَيُشْحَذَنَّ فِيهَا قَوْمٌ شَحْذَ الْقَيْنِ النَّصْلَ- تُجْلَى بِالتَّنْزِيلِ أَبْصَارُهُمْ- وَ يُرْمَى بِالتَّفْسِيرِ فِي مَسَامِعِهِمْ- وَ يُغْبَقُونَ كَأْسَ الْحِكْمَةِ بَعْدَ الصَّبُوحِ يذكر ع قوما من فرق الضلال أخذوا يمينا و شمالا- أي ضلوا عن الطريق الوسطى- التي هي منهاج الكتاب و السنة- و ذلك لأن كل فضيلة و حق- فهو محبوس بطرفين خارجين عن العدالة- و هما جانبا الإفراط و التفريط- كالفطانة التي هي محبوسةبالجربزة و الغباوة- و الشجاعة التي هي محبوسة بالتهور و الجبن- و الجود المحبوس بالتبذير و الشح- فمن لم يقع على الطريق الوسطى- و أخذ يمينا و شمالا فقد ضل- .

ثم فسر قوله أخذ يمينا و شمالا- فقال ظعنوا ظعنا في مسالك الغي- و تركوا مذاهب الرشد تركا- و نصب تركا و ظعنا على المصدرية- و العامل فيهما من غير لفظهما و هو قوله أخذوا- . ثم نهاهم عن استعجال ما هو معد- و لا بد من كونه و وجوده- و إنما سماه كائنا لقرب كونه كما قال تعالى- إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ- و نهاهم أن يستبطئوا ما يجي‏ء في الغد لقرب وقوعه- كما قالو إن غدا للناظرين قريب‏- . و قال الآخرغد ما غد ما أقرب اليوم من غد- . و قال تعالى إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ- . ثم قال كم من مستعجل أمرا و يحرص عليه- فإذا حصل ود أنه لم يحصل قال أبو العتاهية-

من عاش لاقى ما يسوء
من الأمور و ما يسر

و لرب حتف فوقه‏
ذهب و ياقوت و در

و قال آخر

فلا تتمنين الدهر شيئا
فكم أمنية جلبت منية

و قال تعالى وَ عَسى‏ أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ- وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ- و تباشير الصبح أوائله- . ثم قال يا قوم قد دنا وقت القيامة- و ظهور الفتن التي تظهر أمامها- . و إبان الشي‏ء بالكسر و التشديد وقته و زمانه- و كنى عن تلك الأهوال بقوله- و دنو من طلعة ما لا تعرفون- لأن تلك الملاحم و الأشراط الهائلة غير معهود مثلها- نحو دابة الأرض و الدجال و فتنته- و ما يظهر على يده من المخاريق و الأمور الموهمة- و واقعة السفياني و ما يقتل فيها من الخلائق- الذين لا يحصى عددهم- . ثم ذكر أن مهدي آل محمد ص- و هو الذي عنى بقوله- و إن من أدركها منا يسري في ظلمات هذه الفتن بسراج منير- و هو المهدي و أتباع الكتاب و السنة- .

و يحذو فيها يقتفي و يتبع مثال الصالحين ليحل في هذه الفتن- و ربقا أي حبلا معقودا- . و يعتق رقا أي يستفك أسرى- و ينقذ مظلومين من أيدي ظالمين- و يصدع شعبا أي يفرق جماعة من جماعات الضلال- و يشعب صدعا- يجمع ما تفرق من كلمة أهل الهدى و الإيمان- . قوله ع في سترة عن الناس- هذا الكلام يدل على استتار هذا الإنسان المشار إليه- و ليس ذلك بنافع للإمامية في مذهبهم- و إن ظنوا أنه تصريح بقولهم- و ذلك لأنه من الجائز أن يكون هذا الإمام- يخلقه الله تعالى في آخر الزمان- و يكون مستترا مدة و له دعاة يدعون إليه- و يقررون أمره ثم يظهر بعد ذلك الاستتار- و يملك الممالك‏و يقهر الدول و يمهد الأرض- كما ورد في قوله لا يبصر القائف- أي هو في استتار شديد لا يدركه القائف- و هو الذي يعرف الآثار و الجمع قافة- و لا يعرف أثره و لو استقصى في الطلب- و تابع النظر و التأمل- . و يقال شحذت السكين أشحذه شحذا أي حددته- يريد ليحرضن في هذه الملاحم قوم على الحرب و قتل أهل الضلال- و لتشحذن عزائمهم كما يشحذ الصيقل السيف- و يرقق حده- .

ثم وصف هؤلاء القوم المشحوذي العزائم- فقال تجلى بصائرهم بالتنزيل- أي يكشف الرين و الغطاء عن قلوبهم بتلاوة القرآن- و إلهامهم تأويله و معرفة أسراره- . ثم صرح بذلك فقال و يرمى بالتفسير في مسامعهم- أي يكشف لهم الغطاء و تخلق المعارف في قلوبهم- و يلهمون فهم الغوامض و الأسرار الباطنة- و يغبقون كأس الحكم بعد الصبوح- أي لا تزال المعارف الربانية و الأسرار الإلهية- تفيض عليهم صباحا و مساء- فالغبوق كناية عن الفيض الحاصل لهم في الآصال- و الصبوح كناية عما يحصل لهم منه في الغدوات- و هؤلاء هم العارفون- الذين جمعوا بين الزهد و الحكمة و الشجاعة- و حقيق بمثلهم أن يكونوا أنصارا لولي الله الذي يجتبيه- و يخلقه في آخر أوقات الدنيا فيكون خاتمة أوليائه- و الذي يلقى عصا التكليف عنده:

مِنْهَا- وَ طَالَ الْأَمَدُ بِهِمْ لِيَسْتَكْمِلُوا الْخِزْيَ وَ يَسْتَوْجِبُوا الْغِيَرَ حَتَّى إِذَا اخْلَوْلَقَ‏ الْأَجَلُ- وَ اسْتَرَاحَ قَوْمٌ إِلَى الْفِتَنِ- وَ اشْتَالُوا عَنْ لَقَاحِ حَرْبِهِمْ- لَمْ يَمُنُّوا عَلَى اللَّهِ بِالصَّبْرِ- وَ لَمْ يَسْتَعْظِمُوا بَذْلَ أَنْفُسِهِمْ فِي الْحَقِّ- حَتَّى إِذَا وَافَقَ وَارِدُ الْقَضَاءِ انْقِطَاعَ مُدَّةِ الْبَلَاءِ- حَمَلُوا بَصَائِرَهُمْ عَلَى أَسْيَافِهِمْ- وَ دَانُوا لِرَبِّهِمْ بِأَمْرِ وَاعِظِهِمْ هذا الكلام يتصل بكلام قبله- لم يذكره الرضي رحمه الله- و هو وصف فئة ضالة قد استولت و ملكت- و أملى لها الله سبحانه- قال ع و طال الأمد بهم ليستكملوا الخزي- و يستوجبوا الغير- أي النعم التي يغيرها بهم من نعم الله سبحانه- كما قال وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها- فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً- و كما قال تعالى سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ- .

حتى إذا اخلولق الأجل- أي قارب أمرهم الانقضاء- من قولك اخلولق السحاب أي استوى- و صار خليقا بأن يمطر- و اخلولق الرسم استوى مع الأرض- . و استراح قوم إلى الفتن- أي صبا قوم من شيعتنا- و أوليائنا إلى هذه الفئة- و استراحوا إلى ضلالها و فتنتها و اتبعوها- . و اشتالوا عن لقاح حربهم- أي رفعوا أيديهم و سيوفهم- عن أن يشبوا الحرب بينهم و بين هذه الفئة- مهادنة لها و سلما و كراهية للقتال- يقال شال فلان كذا أي رفعه و اشتال افتعل هو في نفسه- كقولك حجم زيد عمرا و احتجم هو نفسه- و لقاح حربهم هو بفتح اللام مصدر من لقحت الناقة- .

قوله لم يمنوا هذا جواب قوله حتى إذا- و الضمير في يمنوا راجع إلى‏العارفين- الذين تقدم ذكرهم في الفصل السابق ذكره- يقول حتى إذا ألقى هؤلاء السلام إلى هذه الفئة عجزا عن القتال- و استراحوا من منابذتهم- بدخولهم في ضلالتهم و فتنتهم- إما تقية منهم أو لشبهة دخلت عليهم- أنهض الله تعالى هؤلاء العارفين الشجعان- الذين خصهم بحكمته- و أطلعهم على أسرار ملكوته فنهضوا- و لم يمنوا على الله تعالى بصبرهم- و لم يستعظموا أن يبذلوا في الحق نفوسهم- قال حتى إذا وافق قضاء الله تعالى و قدره- كي ينهض هؤلاء بقضاء الله و قدره- في انقضاء مدة تلك الفئة- و ارتفاع ما كان شمل الخلق من البلاء بملكها و إمرتها- حمل هؤلاء العارفون بصائرهم على أسيافهم- و هذا معنى لطيف- يعني أنهم أظهروا بصائرهم و عقائدهم و قلوبهم للناس- و كشفوها و جردوها من أجفانها- مع تجريد السيوف من أجفانها- فكأنها شي‏ء محمول على السيوف يبصره من يبصر السيوف- و لا ريب أن السيوف المجردة من أجلى الأجسام للأبصار- فكذلك ما يكون محمولا عليها- و من الناس من فسر هذا الكلام فقال- أراد بالبصائر جمع بصيرة و هو الدم- فكأنه أراد طلبوا ثأرهم- و الدماء التي سفكتها هذه الفئة- و كأن تلك الدماء المطلوب ثأرها- محمولة على أسيافهم التي جردوها للحرب- و هذا اللفظ قد قاله بعض الشعراء المتقدمين بعينه-

راحوا بصائرهم على أكتافهم
و بصيرتي يعدو بها عتد وأى‏

و فسره أبو عمرو بن العلاء فقال- يريد أنهم تركوا دم أبيهم و جعلوه خلفهم- أي لم يثأروا به و أنا طلبت ثأري- و كان أبو عبيدة معمر بن المثنى يقول في هذا البيت- البصيرة الترس أو الدرع و يرويه حملوا بصائرهم‏:

حَتَّى إِذَا قَبَضَ اللَّهُ رَسُولَهُ رَجَعَ قَوْمٌ عَلَى الْأَعْقَابِ- وَ غَالَتْهُمُ السُّبُلُ وَ اتَّكَلُوا عَلَى الْوَلَائِجِ- وَ وَصَلُوا غَيْرَ الرَّحِمِ- وَ هَجَرُوا السَّبَبَ الَّذِي أُمِرُوا بِمَوَدَّتِهِ- وَ نَقَلُوا الْبِنَاءَ عَنْ رَصِّ أَسَاسِهِ فَبَنَوْهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ- مَعَادِنُ كُلِّ خَطِيئَةٍ وَ أَبْوَابُ كُلِّ ضَارِبٍ فِي غَمْرَةٍ- قَدْ مَارُوا فِي الْحَيْرَةِ وَ ذَهَلُوا فِي السَّكْرَةِ- عَلَى سُنَّةٍ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ- مِنْ مُنْقَطِعٍ إِلَى الدُّنْيَا رَاكِنٍ- أَوْ مُفَارِقٍ لِلدِّينِ مُبَايِنٍ رجعوا على الأعقاب تركوا ما كانوا عليه- قال سبحانه وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى‏ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً- . و غالتهم السبل أهلكهم اختلاف الآراء و الأهواء- غاله كذا أي أهلكه و السبل الطرق- .

و الولائج جمع وليجة- و هي البطانة يتخذها الإنسان لنفسه- قال سبحانه وَ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لا رَسُولِهِ- وَ لَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً- . و وصلوا غير الرحم أي غير رحم رسول الله ص- فذكرها ع‏ذكرا مطلقا غير مضاف للعلم بها- كما يقول القائل أهل البيت- فيعلم السامع أنه أراد أهل بيت الرسول- . و هجروا السبب يعني أهل البيت أيضا- و هذه إشارة إلىقول النبي ص خلفت فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي أهل بيتي- حبلان ممدودان من السماء إلى الأرض- لا يفترقان حتى يردا علي الحوض- فعبر أمير المؤمنين عن أهل البيت بلفظ السبب- لما كان النبي ص قال حبلان- و السبب في اللغة الحبل- .

عنى بقوله أمروا بمودته قول الله تعالى- قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى‏- . قوله و نقلوا البناء عن رص أساسه- الرص مصدر رصصت الشي‏ء أرصه أي ألصقت بعضه ببعض- و منه قوله تعالى كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ- و تراص القوم في الصف أي تلاصقوا- فبنوه في غير موضعه- و نقلوا الأمر عن أهله إلى غير أهله- .

ثم ذمهم ع و قال- إنهم معادن كل خطيئة و أبواب كل ضارب في غمرة- الغمرة الضلال و الجهل- و الضارب فيها الداخل المعتقد لها- . قد ماروا في الحيرة مار يمور إذا ذهب و جاء- فكأنهم يسبحون في الحيرة كما يسبح الإنسان في الماء- . و ذهل فلان بالفتح يذهل- على سنة من آل فرعون أي على طريقة و آل فرعون أتباعه- قال تعالى أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ-من منقطع إلى الدنيا لا هم له غيرها- راكن مخلد إليها- قال الله تعالى وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا- أو مفارق للدين مباين مزايل- . فإن قلت أي فرق بين الرجلين- و هل يكون المنقطع إلى الدنيا إلا مفارقا للدين- قلت قد يكون في أهل الضلال- من هو مفارق للدين مباين- و ليس براكن إلى الدنيا و لا منقطع إليها- كما نرى كثيرا من أحبار النصارى و رهبانهم- .

فإن قلت أ ليس هذا الفصل صريحا في تحقيق مذهب الإمامية- قلت لا بل نحمله على أنه عنى ع- أعداءه الذين حاربوه من قريش و غيرهم من أفناء العرب- في أيام صفين و هم الذين نقلوا البناء- و هجروا السبب و وصلوا غير الرحم- و اتكلوا على الولائج و غالتهم السبل- و رجعوا على الأعقاب كعمرو بن العاص- و المغيرة بن شعبة و مروان بن الحكم- و الوليد بن عقبة و حبيب بن مسلمة- و بسر بن أرطاة و عبد الله بن الزبير- و سعيد بن العاص و حوشب و ذي الكلاع- و شرحبيل بن السمط و أبي الأعور السلمي- و غيرهم ممن تقدم ذكرنا له- في الفصول المتعلقة بصفين و أخبارها- فإن هؤلاء نقلوا الإمامة عنه ع إلى معاوية- فنقلوا البناء عن رص أصله إلى غير موضعه- .

فإن قلت لفظ الفصل يشهد بخلاف ما تأولته- لأنه قال ع حتى إذا قبض الله رسوله رجع قوم على الأعقاب- فجعل رجوعهم على الأعقاب عقيب قبض الرسول ص- و ما ذكرته أنت كان بعد قبض الرسول بنيف و عشرين سنة- . قلت ليس يمتنع أن يكون هؤلاء المذكورون رجعوا على الأعقاب- لما مات رسول الله ص- و أضمروا في أنفسهم مشاقة أمير المؤمنين و أذاه- و قد كان فيهم من‏ يتحكك به- في أيام أبي بكر و عمر و عثمان- و يتعرض له- و لم يكن أحد منهم و لا من غيرهم يقدم على ذلك- في حياة رسول الله- و لا يمتنع أيضا أن يريد برجوعهم على الأعقاب- ارتدادهم عن الإسلام بالكلية- فإن كثيرا من أصحابنا- يطعنون في إيمان بعض من ذكرناه- و يعدونهم من المنافقين- و قد كان سيف رسول الله ص يقمعهم- و يردعهم عن إظهار ما في أنفسهم من النفاق- فأظهر قوم منهم بعده ما كانوا يضمرونه من ذلك- خصوصا فيما يتعلق بأمير المؤمنين الذي ورد في حقه- ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله- إلا ببغض علي بن أبي طالب- و هو خبر محقق مذكور في الصحاح- .

فإن قلت يمنعك من هذا التأويل قوله- و نقلوا البناء عن رص أساسه فجعلوه في غير موضعه- و ذلك لأن إذا ظرف- و العامل فيها قوله رجع قوم على الأعقاب- و قد عطف عليه قوله و نقلوا البناء- فإذا كان الرجوع على الأعقاب واقعا في الظرف المذكور- و هو وقت قبض الرسول- وجب أن يكون نقل البناء إلى غير موضعه- واقعا في ذلك الوقت أيضا- لأن أحد الفعلين معطوف على الآخر- و لم ينقل أحد وقت قبض الرسول ص- البناء إلى معاوية عن أمير المؤمنين ع- و إنما نقل عنه إلى شخص آخر- و في إعطاء العطف حقه إثبات مذهب الإمامية صريحا- .

قلت إذا كان الرجوع على الأعقاب واقعا وقت قبض النبي ص- فقد قمنا بما يجب من وجود عامل في الظرف- و لا يجب أن يكون نقل البناء إلى غير موضعه واقعا- في تلك الحال أيضا- بل يجوز أن يكون واقعا في زمان آخر- إما بأن تكون الواو للاستئناف لا للعطف- أو بأن تكون للعطف في مطلق الحدث- لا في وقوع الحدث في عين ذلك الزمان المخصوص- كقوله تعالى حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها- فَأَبَوْا أَنْ‏يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً- يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ- فالعامل في الظرف استطعما- و يجب أن يكون استطعامهما- وقت إتيانهما أهلها لا محالة- و لا يجب أن تكون جميع الأفعال المذكورة المعطوفة واقعة- حال الإتيان أيضا- أ لا ترى أن من جملتها فأقامه- و لم يكن إقامة الجدار حال إتيانهما القرية- بل متراخيا عنه بزمان ما- اللهم إلا أن يقول قائل أشار بيده إلى الجدار فقام- أو قال له قم فقام- لأنه لا يمكن أن يجعل إقامة الجدار مقارنا للإتيان- إلا على هذا الوجه- و هذا لم يكن و لا قاله مفسر- و لو كان قد وقع على هذا الوجه لما قال له- لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً- لأن الأجر إنما يكون على اعتمال عمل فيه مشقة- و إنما يكون فيه مشقة إذا بناه بيده- و باشره بجوارحه و أعضائه- .

و اعلم أنا نحمل كلام أمير المؤمنين ع- على ما يقتضيه سؤدده الجليل- و منصبه العظيم و دينه القويم- من الإغضاء عما سلف ممن سلف- فقد كان صاحبهم بالمعروف برهة من الدهر- فإما أن يكون ما كانوا فيه حقهم أو حقه- فتركه لهم رفعا لنفسه عن المنازعة- أو لما رآه من المصلحة- و على كلا التقديرين فالواجب علينا- أن نطبق بين آخر أفعاله و أقواله بالنسبة إليهم و بين أولها- فإن بعد تأويل ما يتأوله من كلامه- ليس بأبعد من تأويل أهل التوحيد و العدل- الآيات المتشابهة في القرآن- و لم يمنع بعدها من الخوض في تأويلها- محافظة على الأصول المقررة فكذلك هاهنا

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 9

خطبه 149 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(قبل موته)

149 و من كلام له ع قبل موته

أَيُّهَا النَّاسُ- كُلُّ امْرِئٍ لَاقٍ مَا يَفِرُّ مِنْهُ فِي فِرَارِهِ- الْأَجَلُ مَسَاقُ النَّفْسِ وَ الْهَرَبُ مِنْهُ مُوَافَاتُهُ- كَمْ أَطْرَدْتُ الْأَيَّامَ أَبْحَثُهَا عَنْ مَكْنُونِ هَذَا الْأَمْرِ- فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا إِخْفَاءَهُ هَيْهَاتَ عِلْمٌ مَخْزُونٌ- أَمَّا وَصِيَّتِي فَاللَّهَ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً- وَ مُحَمَّداً ص فَلَا تُضَيِّعُوا سُنَّتَهُ- أَقِيمُوا هَذَيْنِ الْعَمُودَيْنِ- وَ أَوْقِدُوا هَذَيْنِ الْمِصْبَاحَيْنِ- وَ خَلَاكُمْ ذَمٌّ مَا لَمْ تَشْرُدُوا- حُمِّلَ كُلُّ امْرِئٍ مِنْكُمْ مَجْهُودَهُ- وَ خُفِّفَ عَنِ الْجَهَلَةِ- رَبٌّ رَحِيمٌ وَ دِينٌ قَوِيمٌ وَ إِمَامٌ عَلِيمٌ- أَنَا بِالْأَمْسِ صَاحِبُكُمْ- وَ أَنَا الْيَوْمَ عِبْرَةٌ لَكُمْ وَ غَداً مُفَارِقُكُمْ- غَفَرَ اللَّهُ لِي وَ لَكُمْ- إِنْ ثَبَتَتِ الْوَطْأَةُ فِي هَذِهِ الْمَزَلَّةِ فَذَاكَ- وَ إِنْ تَدْحَضِ الْقَدَمُ فَإِنَّا كُنَّا فِي أَفْيَاءِ أَغْصَانٍ- وَ مَهَبِّ رِيَاحٍ وَ تَحْتَ ظِلِّ غَمَامٍ- اضْمَحَلَّ فِي الْجَوِّ مُتَلَفَّقُهَا وَ عَفَا فِي الْأَرْضِ مَخَطُّهَا- وَ إِنَّمَا كُنْتُ جَاراً جَاوَرَكُمْ بَدَنِي أَيَّاماً- وَ سَتُعْقَبُونَ مِنِّي جُثَّةً خَلَاءً- سَاكِنَةً بَعْدَ حَرَاكٍ وَ صَامِتَةً بَعْدَ نُطْقٍ- لِيَعِظَكُمْ هُدُوئِي وَ خُفُوتُ إِطْرَاقِي وَ سُكُونُ أَطْرَافِي- فَإِنَّهُ أَوْعَظُ لِلْمُعْتَبِرِينَ مِنَ الْمَنْطِقِ الْبَلِيغِ- وَ الْقَوْلِ الْمَسْمُوعِ-وَدَاعِي لَكُمْ وَدَاعُ امْرِئٍ مُرْصِدٍ لِلتَّلَاقِي- غَداً تَرَوْنَ أَيَّامِي وَ يَكْشِفُ لَكُمْ عَنْ سَرَائِرِي- وَ تَعْرِفُونَنِي بَعْدَ خُلُوِّ مَكَانِي وَ قِيَامِ غَيْرِي مَقَامِي أطردت الرجل إذا أمرت بإخراجه و طرده- و طردته إذا نفيته و أخرجته- فالإطراد أدل على العز و القهر من الطرد- و كأنه ع جعل الأيام أشخاصا يأمر بإخراجهم و إبعادهم عنه- أي ما زلت أبحث عن كيفية قتلي- و أي وقت يكون بعينه- و في أي أرض يكون يوما يوما- فإذا لم أجده في اليوم أطردته و استقبلت غده- فأبحث فيه أيضا فلا أعلم فأبعده و أطرده- و أستأنف يوما آخر هكذا حتى وقع المقدور- و هذا الكلام يدل على أنه لم يكن يعرف حال قتله- معرفة مفصلة من جميع الوجوه- و أن رسول الله ص أعلمه بذلك علما مجملا- لأنه قد ثبت-أنه ص قال له ستضرب على هذه و أشار إلى هامته- فتخضب منها هذه و أشار إلى لحيته- و ثبتأنه ص قال له أ تعلم من أشقى الأولين قال نعم عاقر الناقة- فقال له أ تعلم من أشقى الآخرين قال لا- قال من يضربك هاهنا فيخضب هذه- .

و كلام أمير المؤمنين ع- يدل على أنه بعد ضرب ابن ملجم له- لا يقطع على أنه يموت من ضربته أ لا تراه يقول- إن ثبتت الوطأة في هذه المزلة فذاك- و إن تدحض فإنما كنا في أفياء أغصان- و مهاب رياح أي إن سلمت فذاك الذي تطلبونه- يخاطب أهله و أولاده- و لا ينبغي أن يقال فذاك ما أطلبه- لأنه ع كان يطلب الآخرةأكثر من الدنيا- و في كلامه المنقول عنه ما يؤكد ما قلناه- و هو قوله إن عشت فأنا ولي دمي و إن مت فضربة بضربة- .

و ليس قوله ع- و أنا اليوم عبرة لكم و غدا مفارقكم- و ما يجري مجراه من ألفاظ الفصل بناقض لما قلناه- و ذلك لأنه لا يعني غدا بعينه بل ما يستقبل من الزمان- كما يقول الإنسان الصحيح أنا غدا ميت- فما لي أحرص على الدنيا- و لأن الإنسان قد يقول في مرضه الشديد لأهله و ولده- ودعتكم و أنا مفارقكم و سوف يخلو منزلي مني- و تتأسفون على فراقي و تعرفون موضعي بعدي- كله على غلبة الظن- و قد يقصد الصالحون به العظة و الاعتبار- و جذب السامعين إلى جانب التقوى- و ردعهم عن الهوى و حب الدنيا- . فإن قلت فما تصنع بقوله ع لابن ملجم-

أريد حباءه و يريد قتلي
عذيرك من خليلك من مراد

و قول الخلص من شيعته فهلا تقتله- فقال فكيف أقتل قاتلي- و تارة قال إنه لم يقتلني فكيف أقتل من لم يقتل- و كيف قال في البط الصائح خلفه في المسجد ليلة ضربه ابن ملجم-

دعوهن فإنهن نوائح
و كيف قال تلك الليلة

إني رأيت رسول الله ص فشكوت إليه و قلت- ما لقيت من أمتك من الأود و اللدد- فقال ادع الله عليهم- فقلت اللهم أبدلني بهم خيرا منهم- و أبدلهم بي شرا مني- و كيف قال إني لا أقتل محاربا و إنما أقتل فتكا و غيلة- يقتلني رجل خامل الذكر- . و قد جاء عنه ع من هذا الباب آثار كثيرة- . قلت كل هذا لا يدل على أنه كان يعلم الأمر- مفصلا من جميع الوجوه- أ لا ترى أنه‏ليس في الأخبار و الآثار- ما يدل على الوقت الذي يقتل فيه بعينه- و لا على المكان الذي يقتل فيه بعينه- و أما ابن ملجم- فمن الجائز أن يكون علم أنه هو الذي يقتله- و لم يعلم علما محققا- أن هذه الضربة تزهق نفسه الشريفة منها- بل قد كان يجوز أن يبل و يفيق منها- ثم يكون قتله فيما بعد على يد ابن ملجم- و إن طال الأمد- و ليس هذا بمستحيل و قد وقع مثله- فإن عبد الملك جرح عمرو بن سعيد الأشدق- في أيام معاوية على منافرة كانت بينهما فعفا عمرو عنه- ثم كان من القضاء و القدر- أن عبد الملك قتل عمرا أيضا بيده ذبحا- كما تذبح الشاة- .

و أما قوله في البط دعوهن فإنهن نوائح- فلعله علم أنه تلك الليلة يصاب و يجرح- و إن لم يعلم أنه يموت منه- و النوائح قد ينحن على المقتول- و قد ينحن على المجروح- و المنام و الدعاء لا يدل على العلم بالوقت بعينه- و لا يدل على أن إجابة دعائه- تكون على الفور لا محالة- . ثم نعود إلى الشرح- أما قوله كل امرئ لاق ما يفر منه في فراره- أي إذا كان مقدورا- و إلا فقد رأينا من يفر من الشي‏ء و يسلم لأنه لم يقدر- و هذا من قوله تعالى- وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ- و قوله لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى‏ مَضاجِعِهِمْ- و من قوله تعالى- قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ- و في القرآن العزيز مثل هذا كثير- . قوله و الأجل مساق النفس- أي الأمر الذي تساق إليه و تنتهي عنده- و تقف إذا بلغته فلا يبقى له حينئذ أكلة في الدنيا- .

قوله و الهرب منه موافاته- هذا كلام خارج مخرج المبالغة في عدم النجاة- و كون الفرار غير مغن و لا عاصم من الموت- يقول الهرب بعينه من الموت موافاة للموت- أي إتيان إليه- كأنه لم يرتض بأن يقول- الهارب لا بد أن ينتهي إلى الموت- بل جعل نفس الهرب هو ملاقاة الموت- .

قوله أبحثها أي أكشفها- و أكثر ما يستعمل بحث معدى بحرف الجر- و قد عداه هاهنا إلى الأيام بنفسه- و إلى مكنون الأمر بحرف الجر- و قد جاء بحثت الدجاجة التراب أي نبشته- . قوله فأبى الله إلا إخفاءه هيهات علم مخزون- تقديره هيهات ذلك مبتدأ و خبره هيهات اسم للفعل- معناها بعد أي علم هذا العيب علم مخزون مصون- لم أطلع عليه- . فإن قلت ما معنى قوله كم أطردت الأيام أبحثها- و هل علم الإنسان بموته كيف يكون- و في أي وقت يكون و في أي أرض يكون- مما يمكن استدراكه بالنظر و الفكر و البحث- . قلت مراده ع أني كنت في أيام رسول الله ص- أسأله كثيرا عن هذا الغيب- فما أنبأني منه إلا بأمور إجمالية غير مفصلة- و لم يأذن الله تعالى في اطلاعي على تفاصيل ذلك- . قوله فالله لا تشركوا به شيئا- الرواية المشهورة فالله بالنصب- و كذلك محمدا بتقدير فعل- لأن الوصية تستدعي الفعل بعدها أي وحدوا الله- و قد روي بالرفع و هو جائز على المبتدأ و الخبر- .

قوله أقيموا هذين العمودين- و أوقدوا هذين المصباحين- و خلاكم ذم ما لم تشردوا- كلام داخل في باب الاستعارة- شبه الكتاب و السنة بعمودي الخيمة- و بمصباحين‏يستضاء بهما- و خلاكم ذم كلمة جارية مجرى المثل- معناها و لا ذم عليكم فقد أعذرتم- و ذم مرفوع بالفاعلية معناه عداكم و سقط عنكم- .

فإن قلت إذا لم يشركوا بالله- و لم يضيعوا سنة محمد ص فقد قاموا بكل ما يجب- و انتهوا عن كل ما يقبح- فأي حاجة له إلى أن يستثني و يقول ما لم تشردوا- و إنما كان يحتاج إلى هذه اللفظة لو قال- وصيتي إليكم أن توحدوا الله- و تؤمنوا بنبوة محمد ص- كان حينئذ يحتاج إلى قوله ما لم تشردوا- و يكون مراده بها فعل الواجبات و تجنب المقبحات- لأنه ليس في الإقرار بالوحدانية و الرسالة العمل- بل العمل خارج عن ذلك- فوجب إذا أوصى أن يوصي بالاعتقاد و العمل- كما قال عمر لأبي بكر في واقعة أهل الردة- كيف تقاتلهم و هم مقرون بالشهادتين- وقد قال رسول الله ص أمرت بأن أقاتل الناس- حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله- فقال أبو بكر إنه قال تتمة هذا- فإذا هم قالوها- عصموا مني دماءهم و أموالهم إلا بحقها- و أداء الزكاة من حقها- .

قلت مراده بقوله ما لم تشردوا- ما لم ترجعوا عن ذلك فكأنه قال- خلاكم ذم إن وحدتم الله و اتبعتم سنة رسوله- و دمتم على ذلك و لا شبهة أن هذا الكلام منتظم- و أن اللفظتين الأوليين- ليستا بمغنيتين عن اللفظة الثالثة- و بتقدير أن يغنيا عنه- فإن في ذكره مزيد تأكيد- و إيضاح غير موجودين لو لم يذكر- و هذا كقوله تعالى- وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَخْشَ اللَّهَ وَ يَتَّقْهِ- فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ- و ليس لقائل أن يقول- من لا يخشى الله لا يكون مطيعا لله و الرسول- و أي حاجة به إلى ذكر ما قد أغنى اللفظ الأول عنه- قوله حمل كل امرئ مجهوده و خفف عن الجهلة- هذا كلام متصل بما قبله-لأنه لما قال ما لم تشردوا- أنبأ عن تكليفهم كل ما وردت به السنة النبوية- و أن يدوموا عليه- و هذا في الظاهر تكليف أمور شاقة- فاستدرك بكلام يدل على التخفيف فقال- إن التكاليف على قدر المكلفين- فالعلماء تكليفهم غير تكليف العامة- و أرباب الجهل و المبادئ- كالنساء و أهل البادية و طوائف من الناس- الغالب عليهم البلادة و قلة الفهم- كأقاصي الحبشة و الترك و نحوهم- و هؤلاء عند المكلفين غير مكلفين- إلا بحمل التوحيد و العدل- بخلاف العلماء الذين تكليفهم الأمور المفصلة- و حل المشكلات الغامضة- و قد روي حمل على صيغة الماضي و مجهوده بالنصب- و خفف على صيغة الماضي أيضا- و يكون الفاعل هو الله تعالى المقدم ذكره- و الرواية الأولى أكثر و أليق- .

ثم قال رب رحيم أي ربكم رب رحيم- و دين قويم أي مستقيم- و إمام عليم يعني رسول الله ص- و من الناس من يجعل رب رحيم فاعل خفف- على رواية من رواها فعلا ماضيا و ليس بمستحسن- لأن عطف الدين عليه يقتضي أن يكون الدين أيضا مخففا- و هذا لا يصح- . ثم دعا لنفسه و لهم بالغفران- . ثم قسم الأيام الماضية و الحاضرة- و المستقبلة قسمة حسنة- فقال أنا بالأمس صاحبكم و أنا اليوم عبرة لكم- و غدا مفارقكم- إنما كان عبرة لهم لأنهم يرونه بين أيديهم- ملقى صريعا بعد أن صرع الأبطال- و قتل الأقران فهو كما قال الشاعر-

أكال أشلاء الفوارس بالقنا
أضحى بهن و شلوه مأكول‏

 و يقال دحضت قدم فلان أي زلت و زلقت- . ثم شبه وجوده في الدنيا بأفياء الأغصان- و مهاب الرياح و ظلال الغمام- لأن ذلك كله سريع الانقضاء لا ثبات له- .

قوله اضمحل في الجو متلفقها و عفا في الأرض مخطها- اضمحل ذهب و الميم زائدة- و منه الضحل و هو الماء القليل- و اضمحل السحاب تقشع و ذهب- و في لغة الكلابيين امضحل الشي‏ء بتقديم الميم- و متلفقها مجتمعها أي ما اجتمع من الغيوم في الجو- و التلفيق الجمع و عفا درس- و مخطها أثرها كالخطة- . قوله و إنما كنت جارا جاوركم بدني أياما- في هذا الكلام- إشعار بما يذهب إليه أكثر العقلاء من أمر النفس- و أن هوية الإنسان شي‏ء غير هذا البدن- .

و قوله ستعقبون مني- أي إنما تجدون عقيب فقدي جثة- يعني بدنا خلاء أي لا روح فيه- بل قد أقفر من تلك المعاني التي كنتم تعرفونها- و هي العقل و النطق و القوة و غير ذلك- ثم وصف تلك الجثة فقال- ساكنة بعد حراك بالفتح أي بعد حركة- و صامتة بعد نطق- و هذا الكلام أيضا يشعر بما قلناه من أمر النفس- بل يصرح بذلك أ لا تراه قال ستعقبون مني جثة- أي تستبدلون بي جثة صفتها كذا- و تلك الجثة جثته ع- و محال أن يكون العوض و المعوض عنه واحدا- فدل على أن هويته ع- التي أعقبنا منها الجنة غير الجثة- . قوله ليعظكم هدوي أي سكوني- و خفوت إطراقي مثله خفت خفوتا سكن- و خفت خفاتا مات فجأة- و إطراقه إرخاؤه عينيه ينظر إلى الأرض- لضعفه عن رفع جفنه- و سكون أطرافه يداه و رجلاه و رأسه ع- .

قال فإنه أوعظ للمعتبرين من المنطق البليغ- و القول المسموع و صدق ع- فإن خطبا أخرس ذلك اللسان- و هد تلك القوى لخطب جليل- و يجب أن يتعظ العقلاء به- و ما عسى يبلغ قول الواعظين- بالإضافة إلى من شاهد تلك الحال- بل بالإضافة إلى من سمعها و أفكر فيها- فضلا عن مشاهدتها عيانا- و في هذا الكلام شبه من كلام الحكماء- الذين تكلموا عند تابوت الإسكندر- فقال أحدهم حركنا بسكونه-و قال الآخر قد كان سيفك لا يجف- و كانت مراقيك لا ترام و كانت نقماتك لا تؤمن- و كانت عطاياك يفرح بها- و كان ضياؤك لا ينكشف فأصبح ضوؤك قد خمد- و أصبحت نقماتك لا تخشى- و عطاياك لا ترجى- و مراقيك لا تمنع و سيفك لا يقطع- .

و قال الآخر انظروا إلى حلم المنام كيف انجلى- و إلى ظل الغمام كيف انسلى- و قال آخر ما كان أحوجه إلى هذا الحلم- و إلى هذا الصبر و السكون أيام حياته- و قال آخر- القدرة العظيمة التي ملأت الدنيا العريضة الطويلة- طويت في ذراعين- . و قال الآخر- أصبح آسر الأسراء أسيرا و قاهر الملوك مقهورا- كان بالأمس مالكا فصار اليوم هالكا- . ثم قال ع- ودعتكم وداع امرئ مرصد للتلاقي- أرصدته لكذا أي أعددته له- و في الحديث إلا أن أرصده لدين علي- و التلاقي هاهنا لقاء الله- و يروى وداعيكم أي وداعي إياكم- و الوداع مفتوح الواو- . ثم قال غدا ترون أيامي و يكشف لكم عن سرائري- و تعرفونني بعد خلو مكاني و قيام غيري مقامي- هذا معنى قد تداوله الناس قديما و حديثا- قال أبو تمام

راحت وفود الأرض عن قبره
فارغة الأيدي ملاء القلوب‏

قد علمت ما رزئت إنما
يعرف قدر الشمس بعد الغروب‏

و قال أبو الطيب

و نذمهم و بهم عرفنا فضله
و بضدها تتبين الأشياء

و من أمثالهمالضد يظهر حسنة الضد- . و منها أيضا لو لا مرارة المرض لم تعرف حلاوة العافية- . و إنما قال ع و يكشف لكم عن سرائري- لأنهم بعد فقده و موته يظهر لهم- و يثبت عندهم إذا رأوا و شاهدوا إمرة من بعده- أنه إنما كان يريد بتلك الحروب العظيمة وجه الله تعالى- و ألا يظهر المنكر في الأرض- و إن ظن قوم في حياته أنه كان يريد الملك و الدنيا

خطبه 148 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(في ذكر أهل البصرة)

148 و من كلام له ع في ذكر أهل البصرة

كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرْجُو الْأَمْرَ لَهُ- وَ يَعْطِفُهُ عَلَيْهِ دُونَ صَاحِبِهِ- لَا يَمُتَّانِ إِلَى اللَّهِ بِحَبْلٍ- وَ لَا يَمُدَّانِ إِلَيْهِ بِسَبَبٍ- كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَامِلُ ضَبٍّ لِصَاحِبِهِ- وَ عَمَّا قَلِيلٍ يَكْشِفُ قِنَاعَهُ بِهِ- وَ اللَّهِ لَئِنْ أَصَابُوا الَّذِي يُرِيدُونَ- لَيَنْتَزِعَنَّ هَذَا نَفْسَ هَذَا- وَ لَيَأْتِيَنَّ هَذَا عَلَى هَذَا- قَدْ قَامَتِ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ فَأَيْنَ الْمُحْتَسِبُونَ- قَدْ سُنَّتَ لَهُمُ السُّنَنُ وَ قُدِّمَ لَهُمُ الْخَبَرُ- وَ لِكُلِّ ضَلَّةٍ عِلَّةٌ وَ لِكُلِّ نَاكِثٍ شُبْهَةٌ- وَ اللَّهِ لَا أَكُونُ كَمُسْتَمِعِ اللَّدْمِ- يَسْمَعُ النَّاعِيَ وَ يَحْضُرُ الْبَاكِيَ ثُمَّ لَا يَعْتَبِرُ ضمير التثنية راجع إلى طلحة و الزبير رضي الله عنهما- و يمتان يتوسلان الماضي ثلاثي مت يمت بالضم- و الضب الحقد- و المحتسبون طالبو الحسبة و هي الأجر- و مستمع اللدم كناية عن الضبع- تسمع وقع الحجر بباب جحرها من يد الصائد- فتنخذل و تكف‏ جوارحها إليها- حتى يدخل عليها فيربطها- يقول لا أكون مقرا بالضيم راغنا- أسمع الناعي المخبر عن قتل عسكر الجمل لحكيم بن جبلة و أتباعه- فلا يكون عندي من التغيير و الإنكار لذلك- إلا أن أسمعه و أحضر الباكين على قتلاهم- .

و قوله لكل ضلة علة و لكل ناكث شبهة- هو جواب سؤال مقدر كأنه يقول- إن قيل لأي سبب خرج هؤلاء- فإنه لا بد أن يكون لهم تأويل في خروجهم- و قد قيل إنهم يطالبون بدم عثمان- فهو ع قال كل ضلالة فلا بد لها من علة اقتضتها- و كل ناكث فلا بد له من شبهة يستند إليها- .

و قوله لينتزعن هذا نفس هذا- قول صحيح لا ريب فيه- لأن الرئاسة لا يمكن أن يدبرها اثنان معا- فلو صح لهما ما أراداه لوثب أحدهما على الآخر فقتله- فإن الملك عقيم- و قد ذكر أرباب السيرة- أن الرجلين اختلفا من قبل وقوع الحرب- فإنهما اختلفا في الصلاة- فأقامت عائشة محمد بن طلحة و عبد الله بن الزبير- يصلي هذا يوما و هذا يوما إلى أن تنقضي الحرب- . ثم إن عبد الله بن الزبير- ادعى أن عثمان نص عليه بالخلافة يوم الدار- و احتج في ذلك بأنه استخلفه على الصلاة- و احتج تارة أخرى بنص صريح زعمه و ادعاه- و طلب طلحة من عائشة أن يسلم الناس عليه بالإمرة- و أدلى إليها بالتيمية- و أدلى الزبير إليها بأسماء أختها- فأمرت الناس أن يسلموا عليهما معا بالإمرة- . و اختلفا في تولي القتال فطلبه كل منهما أولا- ثم نكل كل منهما عنه و تفادى منه- و قد ذكرنا في الأجزاء المتقدمة- قطعة صالحة من أخبار الجمل‏

من أخبار يوم الجمل

وروى أبو مخنف قال لما تزاحف الناس يوم الجمل و التقوا- قال علي ع لأصحابه لا يرمين رجل منكم بسهم- و لا يطعن أحدكم فيهم برمح حتى أحدث إليكم- و حتى يبدءوكم بالقتال و بالقتل- فرمى أصحاب الجمل عسكر علي ع بالنبل- رميا شديدا متتابعا- فضج إليه أصحابه و قالوا- عقرتنا سهامهم يا أمير المؤمنين- و جي‏ء برجل إليه و إنه لفي فسطاط له صغير- فقيل له هذا فلان قد قتل- فقال اللهم اشهد ثم قال أعذروا إلى القوم- فأتي برجل آخر فقيل و هذا قد قتل- فقال اللهم اشهد أعذروا إلى القوم- ثم أقبل عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي- و هو من أصحاب رسول الله ص يحمل أخاه عبد الرحمن بن بديل- قد أصابه سهم فقتله فوضعه بين يدي علي ع و قال- يا أمير المؤمنين هذا أخي قد قتل- فعند ذلك استرجع علي ع- و دعا بدرع رسول الله ص ذات الفضول فلبسها- فتدلت بطنه فرفعها بيده و قال لبعض أهله- فحزم وسطه بعمامة و تقلد ذا الفقار- و دفع إلى ابنه محمد راية رسول الله ص السوداء- و تعرف بالعقاب- و قال لحسن و حسين ع- إنما دفعت الراية إلى أخيكما- و تركتكما لمكانكما من رسول الله ص- .

قال أبو مخنف و طاف علي ع على أصحابه- و هو يقرأ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ- وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ- مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرَّاءُ- وَ زُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ- مَتى‏ نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ-ثم قال أفرغ الله علينا و عليكم الصبر- و أعز لنا و لكم النصر- و كان لنا و لكم ظهيرا في كل أمر- ثم رفع مصحفا بيده فقال- من يأخذ هذا المصحف فيدعوهم إلى ما فيه و له الجنة- فقام غلام شاب اسمه مسلم عليه قباء أبيض- فقال أنا آخذه فنظر إليه علي و قال- يا فتى إن أخذته فإن يدك اليمنى تقطع- فتأخذه بيدك اليسرى فتقطع- ثم تضرب بالسيف حتى تقتل فقال لا صبر لي على ذلك- فنادى علي ثانية فقام الغلام و أعاد عليه القول- و أعاد الغلام القول مرارا حتى قال الغلام- أنا آخذه و هذا الذي ذكرت في الله قليل فأخذه و انطلق- فلما خالطهم ناداهم هذا كتاب الله بيننا و بينكم- فضربه رجل فقطع يده اليمنى- فتناوله باليسرى فضربه أخرى فقطع اليسرى- فاحتضنه فضربوه بأسيافهم- حتى قتل
فقالت أم ذريح العبدية في ذلك-

يا رب إن مسلما أتاهم
بمصحف أرسله مولاهم‏

للعدل و الإيمان قد دعاهم‏
يتلو كتاب الله لا يخشاهم‏

فخضبوا من دمه ظباهم
و أمهم واقفة تراهم‏
تأمرهم بالغي لا تنهاهم‏

 قال أبو مخنف- فعند ذلك أمر علي ع ولده محمدا أن يحمل الراية- فحمل و حمل معه الناس- و استحر القتل في الفريقين و قامت الحرب على ساق

مقتل طلحة و الزبير

قال فأما طلحة فإن أهل الجمل لما تضعضعوا قال مروان- لا أطلب ثار عثمان من طلحة بعد اليوم- فانتحى له بسهم فأصاب ساقه فقطع أكحله- فجعل الدم يبض فاستدعى من مولى له بغلة- فركبها و أدبر و قال لمولاه ويحك- أ ما من مكان أقدر فيه على النزول فقد قتلني الدم- فيقول له مولاه انج و إلا لحقك القوم- فقال بالله ما رأيت مصرع شيخ أضيع من مصرعي هذا- حتى انتهى إلى دار من دور البصرة فنزلها و مات بها- . و قد روي أنه رمي قبل أن يرميه مروان- و جرح في غير موضع من جسده- .

وروى أبو الحسن المدائني أن عليا ع مر بطلحة و هو يكيد بنفسه فوقف عليه و قال- أما و الله إن كنت لأبغض- أن أراكم مصرعين في البلاد- و لكن ما حتم واقع ثم تمثل-

و ما تدري إذا أزمعت أمرا
بأي الأرض يدركك المقيل‏

و ما يدري الفقير متى غناه‏
و لا يدري الغني متى يعيل‏

و ما تدري إذا ألقحت شولا
أ تنتج بعد ذلك أم تحيل‏

و أما الزبير فقتله ابن جرموز غيلة بوادي السباع- و هو منصرف عن الحرب نادم على ما فرط منه- و تقدم ذكر كيفية قتله فيما سبق- . و روى الكلبي قال كان العرق الذي أصابه السهم- إذا أمسكه طلحة بيده استمسك- و إذا رفع يده عنه سال- فقال طلحة هذا سهم أرسله الله تعالى- و كان أمر الله قدرا مقدورا- ما رأيت كاليوم دم قرشي أضيع- .

قال و كان الحسن البصري إذا سمع هذا و حكي له يقول- ذق عقعق- . و روى أبو مخنف عن عبد الله بن عون عن نافع- قال سمعت مروان بن الحكم يقول أنا قتلت طلحة- . و قال أبو مخنف و قد قال عبد الملك بن مروان- لو لا أن أبي أخبرني أنه رمى طلحة فقتله- ما تركت تيميا إلا قتلته بعثمان- قال يعني أن محمد بن أبي بكر و طلحة قتلاه و كانا تيميين- .

قال أبو مخنف و حدثنا عبد الرحمن بن جندب- عن أبيه جندب بن عبد الله قال- مررت بطلحة و إن معه عصابة يقاتل بهم- و قد فشت فيهم الجراح و كثرهم الناس- فرأيته جريحا- و السيف في يده و أصحابه يتصدعون عنه رجلا فرجلا- و اثنين فاثنين و أنا أسمعه و هو يقول- عباد الله الصبر الصبر- فإن بعد الصبر النصر و الأجر-فقلت له النجاء النجاء ثكلتك أمك- فو الله ما أجرت و لا نصرت- و لكنك وزرت و خسرت ثم صحت بأصحابه- فانذعروا عنه و لو شئت أن أطعنه لطعنته- فقلت له أما و الله لو شئت لجدلتك في هذا الصعيد- فقال و الله لهلكت هلاك الدنيا و الآخرة إذن- فقلت له و الله لقد أمسيت و إن دمك لحلال- و إنك لمن النادمين فانصرف و معه ثلاثة نفر- و ما أدري كيف كان أمره- إلا أني أعلم أنه قد هلك- .

و روي أن طلحة قال ذلك اليوم- ما كنت أظن أن هذه الآية نزلت فينا- وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً- . و روى المدائني قال- لما أدبر طلحة و هو جريح يرتاد مكانا ينزله- جعل يقول لمن يمر به من أصحاب علي ع- أنا طلحة من يجيرني يكررها- قال فكان الحسن البصري إذا ذكر ذلك يقول- لقد كان في جوار عريض

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 9

خطبه 147 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

147 و من خطبة له ع

فَبَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّداً ص بِالْحَقِّ- لِيُخْرِجَ عِبَادَهُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ إِلَى عِبَادَتِهِ- وَ مِنْ طَاعَةِ الشَّيْطَانِ إِلَى طَاعَتِهِ- بِقُرْآنٍ قَدْ بَيَّنَهُ وَ أَحْكَمَهُ- لِيَعْلَمَ الْعِبَادُ رَبَّهُمْ إِذْ جَهِلُوهُ- وَ لِيُقِرُّوا بِهِ بَعْدَ إِذْ جَحَدُوهُ- وَ لِيُثْبِتُوهُ بَعْدَ إِذْ أَنْكَرُوهُ- فَتَجَلَّى لَهُمْ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ- مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونُوا رَأَوْهُ بِمَا أَرَاهُمْ مِنْ قُدْرَتِهِ- وَ خَوَّفَهُمْ مِنْ سَطْوَتِهِ- وَ كَيْفَ مَحَقَ مَنْ مَحَقَ بِالْمَثُلَاتِ- وَ احْتَصَدَ مَنِ احْتَصَدَ بِالنَّقِمَاتِ الأوثان جمع وثن و هو الصنم- و يجمع أيضا على وثن مثل أسد و آساد و أسد- و سمي وثنا لانتصابه و بقائه على حال واحدة- من قولك وثن فلان بالمكان فهو واثن- و هو الثابت الدائم- . قوله فتجلى سبحانه لهم- أي ظهر من غير أن يرى بالبصر- بل بما نبههم عليه في القرآن من قصص الأولين- و ما حل بهم من النقمة عند مخالفة الرسل- . و المثلات بضم الثاء العقوبات- .

فإن قلت ظاهر هذا الكلام- أن الرسول ع بعث إلى الناس ليقروا بالصانع و يثبتوه- و هذا خلاف قول المعتزلة- لأن فائدة الرسالة عندهم- هي إلطاف‏المكلفين بالأحكام الشرعية المقربة- إلى الواجبات العقلية- و المبعدة من المقبحات العقلية- و لا مدخل للرسول في معرفة البارئ سبحانه- لأن العقل يوجبها و إن لم يبعث الرسل- . قلت إن كثيرا من شيوخنا أوجبوا بعثة الرسل- إذا كان في حثهم المكلفين على ما في العقول فائدة- و هو مذهب شيخنا أبي علي رحمه الله- فلا يمتنع أن يكون إرسال محمد ص إلى العرب و غيرهم- لأن الله تعالى علم أنهم مع تنبيهه إياهم- على ما هو واجب في عقولهم من المعرفة- أقرب إلى حصول المعرفة- فحينئذ يكون بعثه لطفا و يستقيم كلام أمير المؤمنين:

وَ إِنَّهُ سَيَأْتِي عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِي زَمَانٌ- لَيْسَ فِيهِ شَيْ‏ءٌ أَخْفَى مِنَ الْحَقِّ- وَ لَا أَظْهَرَ مِنَ الْبَاطِلِ- وَ لَا أَكْثَرَ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ- وَ لَيْسَ عِنْدَ أَهْلِ ذَلِكَ الزَّمَانِ سِلْعَةٌ أَبْوَرَ مِنَ الْكِتَابِ- إِذَا تُلِيَ حَقَّ تِلَاوَتِهِ- وَ لَا أَنْفَقَ مِنْهُ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ- وَ لَا فِي الْبِلَادِ شَيْ‏ءٌ أَنْكَرَ مِنَ الْمَعْرُوفِ- وَ لَا أَعْرَفَ مِنَ الْمُنْكَرِ- فَقَدْ نَبَذَ الْكِتَابَ حَمَلَتُهُ وَ تَنَاسَاهُ حَفَظَتُهُ- فَالْكِتَابُ يَوْمَئِذٍ وَ أَهْلُهُ طَرِيدَانِ مَنْفِيَّانِ- وَ صَاحِبَانِ مُصْطَحِبَانِ فِي طَرِيقٍ وَاحِدٍ لَا يُؤْوِيهِمَا مُؤْوٍ- فَالْكِتَابُ وَ أَهْلُهُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ فِي النَّاسِ وَ لَيْسَا فِيهِمْ- وَ مَعَهُمْ وَ لَيْسَا مَعَهُمْ- لِأَنَّ الضَّلَالَةَ لَا تُوَافِقُ الْهُدَى وَ إِنِ اجْتَمَعَا- فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ عَلَى الْفُرْقَةِ- وَ افْتَرَقُوا عَنِ الْجَمَاعَةِ كَأَنَّهُمْ أَئِمَّةُ الْكِتَابِ- وَ لَيْسَ الْكِتَابُ إِمَامَهُمْ- فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَهُمْ مِنْهُ إِلَّا اسْمُهُ- وَ لَا يَعْرِفُونَ إِلَّا خَطَّهُ وَ زَبْرَهُ- وَ مِنْ قَبْلُ مَا مَثَلُوا بِالصَّالِحِينَ كُلَّ مُثْلَةٍ- وَ سَمَّوْا صِدْقَهُمْ عَلَى اللَّهِ فِرْيَةً وَ جَعَلُوا فِي الْحَسَنَةِ عُقُوبَةَ السَّيِّئَةِ- وَ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِطُولِ آمَالِهِمْ وَ تَغَيُّبِ آجَالِهِمْ- حَتَّى نَزَلَ بِهِمُ الْمَوْعُودُ الَّذِي تُرَدُّ عَنْهُ الْمَعْذِرَةُ- وَ تُرْفَعُ عَنْهُ التَّوْبَةُ وَ تَحُلُّ مَعَهُ الْقَارِعَةُ وَ النِّقْمَةُ أخبر ع أنه سيأتي على الناس زمان- من صفته كذا و كذا- و قد رأيناه و رآه من كان قبلنا أيضا- قال شعبة إمام المحدثين تسعة أعشار الحديث كذب- .

و قال الدارقطني ما الحديث الصحيح في الحديث- إلا كالشعرة البيضاء في الثور الأسود- و أما غلبة الباطل على الحق حتى يخفى الحق عنده فظاهرة- . و أبور أفسد من بار الشي‏ء أي هلك- و السلعة المتاع و نبذ الكتاب ألقاه- و لا يؤويهما لا يضمهما إليه و ينزلهما عنده- . و الزبر مصدر زبرت أزبر بالضم أي كتبت- و جاء يزبر بالكسر و الزبر بالكسر الكتاب و جمعه زبور- مثل قدر و قدور و قرأ بعضهم وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً أي كتبا- و الزبور بفتح الزاي الكتاب المزبور فعول بمعنى مفعول- و قال الأصمعي سمعت أعرابيا يقول أنا أعرف بزبرتي- أي خطي و كتابتي- . و مثلوا بالصالحين بالتخفيف نكلوا بهم- مثلت بفلان أمثل بالضم مثلا بالفتح و سكون الثاء- و الاسم المثلة بالضم- و من روى مثلوا بالتشديد أراد جدعوهم بعد قتلهم- . و على في قوله و سموا صدقهم على الله فرية- ليست متعلقة بصدقهم بل بفرية-أي و سموا صدقهم فرية على الله- فإن امتنع أن يتعلق حرف الجر به لتقدمه عليه و هو مصدر- فليكن متعلقا بفعل مقدر دل عليه هذا المصدر الظاهر- و روي و جعلوا في الحسنة العقوبة السيئة- و الرواية الأولى بالإضافة أكثر و أحسن- . و الموعود هاهنا الموت- و القارعة المصيبة تقرع أي تلقى بشدة و قوة: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّهُ مَنِ اسْتَنْصَحَ اللَّهَ وُفِّقَ- وَ مَنِ اتَّخَذَ قَوْلَهُ دَلِيلًا هُدِيَ لِلَّتِي هِيَ أَقُومُ- فَإِنَّ جَارَ اللَّهِ آمِنٌ وَ عَدُوَّهُ خَائِفٌ- وَ إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِمَنْ عَرَفَ عَظَمَةَ اللَّهِ أَنْ يَتَعَظَّمَ- فَإِنَّ رِفْعَةَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا عَظَمَتُهُ أَنْ يَتَوَاضَعُوا لَهُ- وَ سَلَامَةَ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ مَا قُدْرَتُهُ أَنْ يَسْتَسْلِمُوا لَهُ- فَلَا تَنْفِرُوا مِنَ الْحَقِّ نِفَارَ الصَّحِيحِ مِنَ الْأَجْرَبِ- وَ الْبَارِئِ مِنْ ذِي السَّقَمِ- وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَعْرِفُوا الرُّشْدَ- حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي تَرَكَهُ- وَ لَنْ تَأْخُذُوا بِمِيثَاقِ الْكِتَابِ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي نَقَضَهُ- وَ لَنْ تَمَسَّكُوا بِهِ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي نَبَذَهُ- فَالْتَمِسُوا ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ- فَإِنَّهُمْ عَيْشُ الْعِلْمِ وَ مَوْتُ الْجَهْلِ- هُمُ الَّذِينَ يُخْبِرُكُمْ حُكْمُهُمْ عَنْ عِلْمِهِمْ- وَ صَمْتُهُمْ عَنْ مَنْطِقِهِمْ وَ ظَاهِرُهُمْ عَنْ بَاطِنِهِمْ- لَا يُخَالِفُونَ الدِّينَ وَ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ- فَهُوَ بَيْنَهُمْ شَاهِدٌ صَادِقٌ وَ صَامِتٌ نَاطِقٌ مناستنصح الله- من أطاع أوامره و علم أنه يهديه إلى مصالحه- و يرده عن مفاسده و يرشده إلى ما فيه نجاته- و يصرفه عما فيه عطبه- .و التي هي أقوم- يعني الحالة و الخلة التي اتباعها أقوم- و هذا من الألفاظ القرآنية قال سبحانه- إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ- و المراد بتلك الحالة المعرفة بالله و توحيده و وعد له- .

ثم نهى ع عن التكبر و التعظم و قال- إن رفعة القوم الذين يعرفون عظمة الله أن يتواضعوا له- و ما هاهنا بمعنى أي شي‏ء- و من روى بالنصب جعلها زائدة- و قد ورد في ذم التعظم و التكبر ما يطول استقصاؤه- و هو مذموم على العباد- فكيف بمن يتعظم على الخالق سبحانه- و إنه لمن الهالكين- وقال رسول الله ص لما افتخر أنا سيد ولد آدم- ثم قال و لا فخر- فجهر بلفظة الافتخار ثم أسقط استطالة الكبر- و إنما جهر بما جهر به- لأنه أقامه مقام شكر النعمة و التحدث بها- وفي الحديث المرفوع عنه ص أن الله قد أذهب عنكم حمية الجاهلية و فخرها بالآباء- الناس بنو آدم و آدم من تراب- مؤمن تقي و فاجر شقي- لينتهين أقوام يفخرون برجال- إنما هم فحم من فحم جهنم- أو ليكونن أهون على الله من جعلان تدفع النتن بأنفها- .

قوله و اعلموا أنكم لن تعرفوا الرشد- حتى تعرفوا الذي تركه- فيه تنبيه على أنه يجب البراءة من أهل الضلال- و هو قول أصحابنا جميعهم- فإنهم بين مكفر لمن خالف أصول التوحيد و العدل- و هم الأكثرون- أو مفسق و هم الأقلون- و ليس أحد منهم معذورا عند أصحابنا و إن ضل بعد النظر- كما لا نعذر اليهود و النصارى إذا ضلوا بعد النظر- . ثم قال ع فالتمسوا ذلك عند أهله- هذا كناية عنه ع و كثيرا ما يسلك هذا المسلك- و يعرض هذا التعريض- و هو الصادق الأمين العارف بأسرار الإلهية- .

ثم ذكر أن هؤلاء الذين أمر باتباعهم- ينبئ حكمهم عن علمهم- و ذلك لأن الامتحان يظهر خبيئة الإنسان- . ثم قال و صمتهم عن نطقهم- صمت العارف أبلغ من نطق غيره- و لا يخفى فضل الفاضل و إن كان صامتا- . ثم ذكر أنهم لا يخالفون الدين لأنهم قوامه و أربابه- و لا يختلفون فيه- لأن الحق في التوحيد و العدل واحد- فالدين بينهم شاهد صادق يأخذون بحكمه- كما يؤخذ بحكم الشاهد الصادق- . و صامت ناطق- لأنه لا ينطق بنفسه بل لا بد له من مترجم- فهو صامت في الصورة و هو في المعنى أنطق الناطقين- لأن الأوامر و النواهي و الآداب كلها مبنية عليه- و متفرعة عليه

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 9

خطبه 146 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

146 و من كلام له ع- و قد استشاره عمر في الشخوص لقتال الفرس بنفسه

إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَمْ يَكُنْ نَصْرُهُ- وَ لَا خِذْلَانُهُ بِكَثْرَةٍ وَ لَا بِقِلَّةٍ- وَ هُوَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي أَظْهَرَهُ- وَ جُنْدُهُ الَّذِي أَعَدَّهُ وَ أَمَدَّهُ- حَتَّى بَلَغَ مَا بَلَغَ وَ طَلَعَ حَيْثُمَا طَلَعَ- وَ نَحْنُ عَلَى مَوْعُودٍ مِنَ اللَّهِ- وَ اللَّهُ مُنْجِزٌ وَعْدَهُ وَ نَاصِرٌ جُنْدَهُ- وَ مَكَانُ الْقَيِّمِ بِالْأَمْرِ مَكَانُ النِّظَامِ مِنَ الْخَرَزِ- يَجْمَعُهُ وَ يَضُمُّهُ- فَإِنِ انْقَطَعَ النِّظَامُ تَفَرَّقَ وَ ذَهَبَ- ثُمَّ لَمْ يَجْتَمِعْ بِحَذَافِيرِهِ أَبَداً- وَ الْعَرَبُ الْيَوْمَ وَ إِنْ كَانُوا قَلِيلًا- فَهُمْ كَثِيرُونَ بِالْإِسْلَامِ- عَزِيزُونَ بِالِاجْتِمَاعِ- فَكُنْ قُطْباً وَ اسْتَدِرِ الرَّحَى بِالْعَرَبِ- وَ أَصْلِهِمْ دُونَكَ نَارَ الْحَرْبِ- فَإِنَّكَ إِنْ شَخَصْتَ مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ- انْتَقَضَتْ عَلَيْكَ الْعَرَبُ مِنْ أَطْرَافِهَا وَ أَقْطَارِهَا- حَتَّى يَكُونَ مَا تَدَعُ وَرَاءَكَ مِنَ الْعَوْرَاتِ- أَهَمَّ إِلَيْكَ مِمَّا بَيْنَ يَدَيْكَ- إِنَّ الْأَعَاجِمَ إِنْ يَنْظُرُوا إِلَيْكَ غَداً يَقُولُوا- هَذَا أَصْلُ الْعَرَبِ فَإِذَا اقْتَطَعْتُمُوهُ اسْتَرَحْتُمْ- فَيَكُونُ ذَلِكَ أَشَدَّ لِكَلْبِهِمْ عَلَيْكَ وَ طَمَعِهِمْ فِيكَ- فَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ مَسِيرِ الْقَوْمِ إِلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ- فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ هُوَ أَكْرَهُ لِمَسِيرِهِمْ مِنْكَ- وَ هُوَ أَقْدَرُ عَلَى تَغْيِيرِ مَا يَكْرَهُ- وَ أَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ عَدَدِهِمْ- فَإِنَّا لَمْ نَكُنْ نُقَاتِلُ فِيمَا مَضَى بِالْكَثْرَةِ- وَ إِنَّمَا كُنَّا نُقَاتِلُ بِالنَّصْرِ وَ الْمَعُونَةِ

نظام العقد الخيط الجامع له- و تقول أخذته كله بحذافيره أي بأصله- و أصل الحذافير أعالي الشي‏ء و نواحيه الواحد حذفار- . و أصلهم نار الحرب اجعلهم صالين لها- يقال صليت اللحم و غيره أصليه صليا- مثل رميته أرميه رميا إذا شويته- و في الحديث أنه ص أتي بشاة مصلية أي مشوية- و يقال أيضا- صليت الرجل نارا إذا أدخلته النار و جعلته يصلاها- فإن ألقيته فيها إلقاء كأنك تريد الإحراق- قلت أصليته بالألف و صليته تصلية- و قرئ وَ يَصْلى‏ سَعِيراً- و من خفف فهو من قولهم صلى فلان بالنار بالكسر- يصلى صليا احترق قال الله تعالى- هُمْ أَوْلى‏ بِها صِلِيًّا- و يقال أيضا صلى فلان بالأمر- إذا قاسى حره و شدته قال الطهوي-

و لا تبلى بسالتهم و إن هم
صلوا بالحرب حينا بعد حين‏

و على هذا الوجه يحمل كلام أمير المؤمنين ع- و هو مجاز من الإحراق- و الشي‏ء الموضوع لها هذا اللفظ حقيقة- . و العورات- الأحوال التي يخاف انتقاضها في ثغر أو حرب- قال تعالى يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ- و الكلب الشر و الأذى

يوم القادسية

و اعلم أن هذا الكلام قد اختلف في الحال- التي قاله فيها لعمر- فقيل قاله له في‏غزاة القادسية- و قيل في غزاة نهاوند- و إلى هذا القول الأخير- ذهب محمد بن جرير الطبري في التاريخ الكبير- و إلى القول الأول ذهب المدائني في كتاب الفتوح- و نحن نشير إلى ما جرى في هاتين الوقعتين- إشارة خفيفة على مذهبنا في ذكر السير و الأيام- . فأما وقعة القادسية فكانت في سنة أربع عشرة للهجرة- استشار عمر المسلمين في أمر القادسية فأشار عليه علي بن أبي طالب في رواية أبي الحسن علي بن محمد بن سيف المدائني ألا يخرج بنفسه- و
قال إنك إن تخرج لا يكن للعجم همة إلا استئصالك- لعلمهم أنك قطب رحى العرب- فلا يكون للإسلام بعدها دولة- و أشار عليه غيره من الناس أن يخرج بنفسه- فأخذ برأي علي ع- .

و روى غير المدائني- أن هذا الرأي أشار به عبد الرحمن بن عوف- قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري- لما بدا لعمر في المقام- بعد أن كان عزم على الشخوص بنفسه- أمر سعد بن أبي وقاص على المسلمين- و بعث يزدجرد رستم الأرمني أميرا على الفرس- فأرسل سعد النعمان بن مقرن رسولا إلى يزدجرد- فدخل عليه و كلمه بكلام غليظ- فقال يزدجرد لو لا أن الرسل لا تقتل لقتلتك- ثم حمله وقرا من تراب على رأسه- و ساقه حتى أخرجه من باب من أبواب المدائن و قال- ارجع إلى صاحبك- فقد كتبت إلى رستم أن يدفنه و جنده من العرب في خندق القادسية- ثم لأشغلن العرب بعدها بأنفسهم- و لأصيبنهم بأشد مما أصابهم به سابور ذو الأكتاف- فرجع النعمان إلى سعد فأخبره- فقال لا تخف فإن الله قد ملكنا أرضهم تفاؤلا بالتراب- .

قال أبو جعفر و تثبط رستم عن القتال و كرهه و آثر المسالمة- و استعجله يزدجرد مرارا و استحثه على الحرب- و هو يدافع بها و يرى المطاولة- و كان عسكره مائة و عشرين ألفا-و كان عسكر سعد بضعا و ثلاثين ألفا- و أقام رستم بريدا من الرجال الواحد منهم إلى جانب الآخر- من القادسية إلى المدائن- كلما تكلم رستم كلمة أداها بعضهم إلى بعض- حتى تصل إلى سمع يزدجرد في وقتها- و شهد وقعة القادسية مع المسلمين طليحة بن خويلد- و عمرو بن معديكرب و الشماخ بن ضرار- و عبدة بن الطبيب الشاعر و أوس بن معن الشاعر- و قاموا في الناس ينشدونهم الشعر و يحرضونهم- و قرن أهل فارس أنفسهم بالسلاسل لئلا يهربوا- فكان المقرنون منهم نحو ثلاثين ألفا- و التحم الفريقان في اليوم الأول- فحملت الفيلة التي مع رستم على الخيل فطحنتها- و ثبت لها جمع من الرجالة- و كانت ثلاثة و ثلاثين فيلا- منها فيل الملك و كان أبيض عظيما- فضربت الرجال خراطيم الفيلة بالسيوف فقطعتها- و ارتفع عواؤها و أصيب في هذا اليوم- و هو اليوم الأول خمسمائة من المسلمين و ألفان من الفرس- و وصل في الثاني أبو عبيدة بن الجراح من الشام- في عساكر من المسلمين- فكان مددا لسعد- و كان هذا اليوم على الفرس أشد من اليوم الأول- قتل من المسلمين ألفان- و من المشركين عشرة آلاف- و أصبحوا في اليوم الثالث على القتال- و كان عظيما على العرب و العجم معا و صبر الفريقان- و قامت الحرب ذلك اليوم و تلك الليلة جمعاء لا ينطقون- كلامهم الهرير فسميت ليلة الهرير- .

و انقطعت الأخبار و الأصوات عن سعد و رستم- و انقطع سعد إلى الصلاة و الدعاء و البكاء- و أصبح الناس حسرى لم يغمضوا ليلتهم كلها- و الحرب قائمة بعد إلى وقت الظهر- فأرسل الله تعالى ريحا عاصفا في اليوم الرابع- أمالت الغبار و النقع على العجم فانكسروا- و وصلت العرب إلى سرير رستم- و قد قام عنه ليركب جملا و على رأسه العلم- فضرب هلال بن علقمة الحمل الذي رستم فوقه- فقطع حباله و وقع على هلال أحد العدلين- فأزال فقار ظهره و مضى رستم نحو العتيق- فرمى نفسه فيه و اقتحم هلال عليه فأخذبرجله- و خرج به يجره حتى ألقاه تحت أرجل الخيل- و قد قتله و صعد السرير فنادى- أنا هلال أنا قاتل رستم فانهزمت الفرس- و تهافتوا في العقيق فقتل منهم نحو ثلاثين ألفا- و نهبت أموالهم و أسلابهم و كانت عظيمة جدا- و أخذت العرب منهم كافورا كثيرا- فلم يعبئوا به لأنهم لم يعرفوه- و باعوه من قوم بملح كيلا بكيل- و سروا بذلك و قالوا أخذنا منهم ملحا طيبا- و دفعنا إليهم ملحا غير طيب- و أصابوا من الجامات من الذهب و الفضة- ما لا يقع عليه العد لكثرته- فكان الرجل منهم يعرض جامين من ذهب على صاحبه- ليأخذ منه جاما واحدا من فضة يعجبه بياضها و يقول- من يأخذ صفراوين ببيضاء- . و بعث سعد بالأنفال و الغنائم إلى عمر- فكتب إلى سعد لا تتبع الفرس- و قف مكانك و اتخذه منزلا- فنزل موضع الكوفة اليوم و اختط مسجدها- و بنى فيها الخطط للعرب

يوم نهاوند

فأما وقعة نهاوند- فإن أبا جعفر محمد بن جرير الطبري ذكر في كتاب التاريخ- أن عمر لما أراد أن يغزو العجم- و جيوش كسرى و هي مجتمعة بنهاوند- استشار الصحابة فقام عثمان فتشهد- فقال أرى يا أمير المؤمنين أن تكتب إلى أهل الشام- فيسيروا من شامهم- و تكتب إلى أهل اليمن فيسيروا من يمنهم- ثم تسير أنت بأهل هذين الحرمين إلى المصرين- البصرة و الكوفة- فتلقى جمع المشركين بجمع المسلمين- فإنك إذا سرت‏ بمن معك و من عندك- قل في نفسك ما تكاثر من عدد القوم- و كنت أعز عزا و أكثر- إنك لا تستبقي من نفسك بعد اليوم باقية- و لا تمتع من الدنيا بعزيز- و لا تكون منها في حرز حريز- إن هذا اليوم له ما بعده- فاشهد بنفسك و رأيك و أعوانك و لا تغب عنه- .

قال أبو جعفر و قام طلحة فقال- أما بعد يا أمير المؤمنين فقد أحكمتك الأمور- و عجمتك البلايا و حنكتك التجارب- و أنت و شأنك و أنت و رأيك- لا ننبو في يديك و لا نكل أمرنا إلا إليك- فأمرنا نجب و ادعنا نطع و احملنا نركب- و قدنا ننقد فإنك ولي هذا الأمر- و قد بلوت و جربت و اختبرت- فلم ينكشف شي‏ء من عواقب الأمور لك إلا عن خيار- .

فقال علي بن أبي طالب ع أما بعد- فإن هذا الأمر لم يكن نصره و لا خذلانه بكثرة و لا قلة- إنما هو دين الله الذي أظهره- و جنده الذي أعزه و أمده بالملائكة حتى بلغ ما بلغ- فنحن على موعود من الله- و الله منجز وعده و ناصر جنده- و إن مكانك منهم مكان النظام من الخرز- يجمعه و يمسكه- فإن انحل تفرق ما فيه و ذهب- ثم لم يجتمع بحذافيره أبدا- و العرب اليوم و إن كانوا قليلا- فإنهم كثير عزيز بالإسلام- أقم مكانك و اكتب إلى أهل الكوفة- فإنهم أعلام العرب و رؤساؤهم- و ليشخص منهم الثلثان و ليقم الثلث- و اكتب إلى أهل البصرة أن يمدوهم ببعض من عندهم- و لا تشخص الشام و لا اليمن- إنك إن أشخصت أهل الشام من شامهم- سارت الروم إلى ذراريهم- و إن أشخصت أهل اليمن من يمنهم- سارت الحبشة إلى ذراريهم- و متى شخصت من هذه الأرض- انتقضت عليك العرب من أقطارها و أطرافها- حتى يكون ما تدع وراءك أهم إليك مما بين يديك- من العورات و العيالات- إن الأعاجم إن ينظرواإليك غدا قالوا- هذا أمير العرب و أصلهم- فكان ذلك أشد لكلبهم عليك- و أما ما ذكرت من مسير القوم فإن الله هو أكره لسيرهم منك- و هو أقدر على تغيير ما يكره- و أما ما ذكرت من عددهم- فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة- و إنما كنا نقاتل بالصبر و النصر- .

فقال عمر أجل هذا الرأي- و قد كنت أحب أن أتابع عليه- فأشيروا علي برجل أوليه ذلك الثغر- قالوا أنت أفضل رأيا فقال أشيروا علي به- و اجعلوه عراقيا قالوا أنت أعلم بأهل العراق- و قد وفدوا عليك فرأيتهم و كلمتهم- قال أما و الله لأولين أمرهم رجلا يكون عمدا لأول الأسنة- قيل و من هو يا أمير المؤمنين- قال النعمان بن مقرن قالوا هو لها- . و كان النعمان يومئذ بالبصرة- فكتب إليه عمر فولاه أمر الجيش- .

قال أبو جعفر كتب إليه عمر سر إلى نهاوند- فقد وليتك حرب الفيروزان- و كان المقدم على جيوش كسرى- فإن حدث بك حدث فعلى الناس حذيفة بن اليمان- فإن حدث به حدث فعلى الناس نعيم بن مقرن- فإن فتح الله عليكم فاقسم على الناس ما أفاء الله عليهم- و لا ترفع إلي منه شيئا- و إن نكث القوم فلا تراني و لا أراك- و قد جعلت معك طليحة بن خويلد- و عمرو بن معديكرب لعلمهما بالحرب- فاستشرهما و لا تولهما شيئا- .

قال أبو جعفر فسار النعمان بالعرب حتى وافى نهاوند- و ذلك في السنة السابعة من خلافة عمر- و تراءى الجمعان و نشب القتال- و حجزهم المسلمون في خنادقهم- و اعتصموا بالحصون و المدن و شق على المسلمين ذلك- فأشار طليحة عليه فقال- أرى أن تبعث خيلا ببعض القوم و تحمشهم- فإذا استحمشوا خرج بعضهم و اختلطوا بكم-فاستطردوا لهم فإنهم يطمعون بذلك- ثم تعطف عليهم حتى يقضي الله بيننا و بينهم بما يحب- .

ففعل النعمان ذلك فكان كما ظن طليحة- و انقطع العجم عن حصونهم بعض الانقطاع- فلما أمعنوا في الانكشاف للمسلمين حمل النعمان بالناس- فاقتتلوا قتالا شديدا لم يسمع السامعون مثله- و زلق بالنعمان فرسه فصرع و أصيب- و تناول الراية نعيم أخوه- فأتى حذيفة لها فدفعها إليه- و كتم المسلمون مصاب أميرهم- و اقتتلوا حتى أظلم الليل- و رجعوا و المسلمون وراءهم- فعمي عليهم قصدهم فتركوه- و غشيهم المسلمون بالسيوف- فقتلوا منهم ما لا يحصى- و أدرك المسلمون الفيروزان و هو هارب- و قد انتهى إلى ثنية مشحونة ببغال موقرة عسلا- فحبسته على أجله فقتل- فقال المسلمون إن لله جنودا من عسل- .

و دخل المسلمون نهاوند فاحتووا على ما فيها- و كانت أنفال هذا اليوم عظيمة- فحملت إلى عمر فلما رآها بكى- فقال له المسلمون إن هذا اليوم يوم سرور و جذل- فما بكاؤك قال ما أظن أن الله تعالى زوي هذا عن رسول الله ص- و عن أبي بكر إلا لخير أراده بهما- و لا أراه فتحه علي إلا لشر أريد بي- إن هذا المال لا يلبث أن يفتن الناس- . ثم رفع يده إلى السماء يدعو و يقول- اللهم اعصمني و لا تكلني إلى نفسي- يقولها مرارا ثم قسمه بين المسلمين عن آخره

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 9

خطبه 145 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

145 و من خطبة له ع

أَيُّهَا النَّاسُ- إِنَّمَا أَنْتُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا غَرَضٌ تَنْتَضِلُ فِيهِ الْمَنَايَا- مَعَ كُلِّ جَرْعَةٍ شَرَقٌ وَ فِي كُلِّ أَكْلَةٍ غَصَصٌ- لَا تَنَالُونَ مِنْهَا نِعْمَةً إِلَّا بِفِرَاقِ أُخْرَى- وَ لَا يُعَمَّرُ مُعَمَّرٌ مِنْكُمْ يَوْماً مِنْ عُمُرِهِ- إِلَّا بِهَدْمِ آخَرَ مِنْ أَجَلِهِ- وَ لَا تُجَدَّدُ لَهُ زِيَادَةٌ فِي أَكْلِهِ إِلَّا بِنَفَادِ مَا قَبْلَهَا مِنْ رِزْقِهِ- وَ لَا يَحْيَا لَهُ أَثَرٌ إِلَّا مَاتَ لَهُ أَثَرٌ- وَ لَا يَتَجَدَّدُ لَهُ جَدِيدٌ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَخْلَقَ لَهُ جَدِيدٌ- وَ لَا تَقُومُ لَهُ نَابِتَةٌ إِلَّا وَ تَسْقُطُ مِنْهُ مَحْصُودَةٌ- وَ قَدْ مَضَتْ أُصُولٌ نَحْنُ فُرُوعُهَا- فَمَا بَقَاءُ فَرْعٍ بَعْدَ ذَهَابِ أَصْلِهِ الغرض ما ينصب ليرمى و هو الهدف و تنتضل فيه المنايا- تترامى فيه للسبق- و منه الانتضال بالكلام و بالشعر- كأنه يجعل المنايا أشخاصا تتناضل بالسهام- من الناس من يموت قتلا و منهم من يموت غرقا- أو يتردى في بئر أو تسقط عليه حائط- أو يموت على فراشه- .

ثم قال مع كل جرعة شرق- و في كل أكلة غصص بفتح الغين- مصدر قولك غصصت يا فلان بالطعام- و روي غصص جمع غصة و هي الشجا- و هذا مثل قول بعضهم المنحة فيها مقرونة بالمحنة- و النعمة مشفوعة بالنقمة-و قد بالغ بعض الشعراء في الشكوى- فأتى بهذه الألفاظ لكنه أسرف فقال- .

حظي من العيش أكل كله غصص
مر المذاق و شرب كله شرق‏

 و مراد أمير المؤمنين ع بكلامه- أن نعيم الدنيا لا يدوم- فإذا أحسنت أساءت و إذا أنعمت أنقمت- . ثم قال لا ينالون منها نعمة إلا بفراق أخرى- هذا معنى لطيف و ذلك أن الإنسان لا يتهيأ له- أن يجمع بين الملاذ الجسمانية كلها في وقت- فحال ما يكون آكلا لا يكون مجامعا- و حال ما يشرب لا يأكل- و حال ما يركب للقنص و الرياضة- لا يكون جالسا على فراش وثير ممهد- و على هذا القياس لا يأخذ في ضرب من ضروب الملاذ- إلا و هو تارك لغيره منها- .

ثم قال و لا يعمر معمر منكم يوما من عمره- إلا بهدم آخر من أجله- و هذا أيضا لطيف- لأن المسرور ببقائه إلى يوم الأحد- لم يصل إليه إلا بعد أن قضى يوم السبت و قطعه- و يوم السبت من أيام عمره- فإذا قد هدم من عمره يوما- فيكون قد قرب إلى الموت- لأنه قد قطع من المسافة جزءا- .

ثم قال و لا تجدد له زيادة في أكله- إلا بنفاد ما قبلها من رزقه- و هذا صحيح فإن فسرنا الرزق بما وصل إلى البطن- على أحد تفسيرات المتكلمين- فإن الإنسان لا يأكل لقمة- إلا و قد فرغ من اللقمة التي قبلها- فهو إذا لا يتجدد له زيادة في أكله- إلا بنفاد ما قبلها من رزقه- . ثم قال و لا يحيا له أثر إلا مات له أثر- و ذلك أن الإنسان في الأعم الأغلب- لا ينتشر صيته و يشيع فضله إلا عند الشيخوخة- و كذلك لا تعرف أولاده و يصير لهم اسم في الدنيا- إلا بعد كبره و علو سنه- فإذا ما حيي له أثر إلا بعد أن مات له أثر- و هو قوته و نشاطه و شبيبته- و مثله قوله و لا يتجدد له جديد إلا بعد أن يخلق له جديد- .

ثم قال و لا تقوم له نابتة إلا و تسقط منه محصودة- هذه إشارة إلى ذهاب الآباء- عند حدوث أبنائهم في الأعم الأغلب- و لهذا قال و قد مضت أصول نحن فروعها- فما بقاء فرع بعد ذهاب أصله- و قد نظر الشعراء إلى هذا المعنى فقالوا فيه و أكثروا- نحو قول الشاعر-

فإن أنت لم تصدقك نفسك فانتسب
لعلك تهديك القرون الأوائل‏

فإن لم تجد من دون عدنان والدا
و دون معد فلتزعك العواذل‏

و قال الشاعر-

فعددت آبائي إلى عرق الثرى
فدعوتهم فعلمت أن لم يسمعوا

لا بد من تلف مصيب فانتظر
أ بأرض قومك أم بأخرى تصرع‏

– و قد صرح أبو العتاهية بالمعنى فقال-

كل حياة إلى ممات
و كل ذي جدة يحول‏

كيف بقاء الفروع يوما
و قد ذوت قبلها الأصول‏

مِنْهَا- وَ مَا أُحْدِثَتْ بِدْعَةٌ إِلَّا تُرِكَ بِهَا سُنَّةٌ- فَاتَّقُوا الْبِدَعَ وَ الْزَمُوا الْمَهْيَعَ- إِنَّ عَوَازِمَ الْأُمُورِ أَفْضَلُهَا- وَ إِنَّ مُحْدَثَاتِهَا شِرَارُهَاالبدعة كل ما أحدث مما لم يكن على عهد رسول الله ص- فمنها الحسن كصلاة التراويح- و منها القبيح كالمنكرات- التي ظهرت في أواخر الخلافة العثمانية- و إن كانت قد تكلفت الأعذار عنها- . و معنى قوله ع ما أحدثت بدعة إلا ترك بها سنة- أن من السنة ألا تحدث البدعة- فوجود البدعة عدم للسنة لا محالة- . و المهيع الطريق الواضح- من قولهم أرض هيعة أي مبسوطة واسعة- و الميم مفتوحة و هي زائدة- . و عوازم الأمور ما تقادم منها- من قولهم عجوز عوزم أي مسنة- قال الراجز

لقد غدوت خلق الثياب
أحمل عدلين من التراب‏

لعوزم و صبية سغاب‏
فآكل و لاحس و آبي‏

 و يجمع فوعل على فواعل كدورق و هوجل- و يجوز أن يكون عوازم جمع عازمة- و يكون فاعل بمعنى مفعول أي معزوم عليها- أي مقطوع معلوم بيقين صحتها- و مجي‏ء فاعلة بمعنى مفعولة كثير- كقولهم عيشة راضية بمعنى مرضية و الأول أظهر عندي- لأن في مقابلته قوله و إن محدثاتها شرارها- و المحدث في مقابلة القديم

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 9

خطبه 144 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

144 و من خطبة له ع

بَعَثَ رُسُلَهُ بِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ وَحْيِهِ- وَ جَعَلَهُمْ حُجَّةً لَهُ عَلَى خَلْقِهِ- لِئَلَّا تَجِبَ الْحُجَّةُ لَهُمْ بِتَرْكِ الْإِعْذَارِ إِلَيْهِمْ- فَدَعَاهُمْ بِلِسَانِ الصِّدْقِ إِلَى سَبِيلِ الْحَقِّ- أَلَا إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَشَفَ الْخَلْقَ كَشْفَةً- لَا أَنَّهُ جَهِلَ مَا أَخْفَوْهُ مِنْ مَصُونِ أَسْرَارِهِمْ- وَ مَكْنُونِ ضَمَائِرِهِمْ- وَ لَكِنْ لِيَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا- فَيَكُونَ الثَّوَابُ جَزَاءً وَ الْعِقَابُ بَوَاءً- أَيْنَ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ دُونَنَا- كَذِباً وَ بَغْياً عَلَيْنَا أَنْ رَفَعَنَا اللَّهُ وَ وَضَعَهُمْ- وَ أَعْطَانَا وَ حَرَمَهُمْ وَ أَدْخَلَنَا وَ أَخْرَجَهُمْ- بِنَا يُسْتَعْطَى الْهُدَى وَ يُسْتَجْلَى الْعَمَى- إِنَّ الْأَئِمَّةَ مِنْ قُرَيْشٍ- غُرِسُوا فِي هَذَا الْبَطْنِ مِنْ هَاشِمٍ لَا تَصْلُحُ عَلَى سِوَاهُمْ- وَ لَا تَصْلُحُ الْوُلَاةُ مِنْ غَيْرِهِمْ أول الكلام مأخوذ من قوله سبحانه- رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ- لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ- و قوله تعالى وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا- .

فإن قلت فهذا يناقض مذهب المعتزلة- في قولهم بالواجبات عقلا و لو لم تبعث الرسل- . قلت صحة مذهبهم تقتضي أن تحمل عموم الألفاظ- على أن المراد بها الخصوص- فيكون التأويل- لئلا يكون للناس على الله حجة- فيما لم يدل العقل على وجوبه و لا قبحه كالشرعيات- و كذلك وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا- على ما لم يكن العقل دليلا عليه حتى نبعث رسولا- . الإعذار تقديم العذر ثم قال- إن الله تعالى كشف الخلق بما تعبدهم به- من الشرعيات على ألسنة الأنبياء- و لم يكن أمرهم خافيا عنه- فيحتاج إلى أن يكشفهم بذلك- و لكنه أراد ابتلاءهم و اختبارهم- ليعلم أيهم أحسن عملا- فيعاقب المسي‏ء و يثيب المحسن- .

فإن قلت الإشكال قائم- لأنه إذا كان يعلم أيهم يحسن و أيهم يسي‏ء- فما فائدة الابتلاء و هل هو إلا محض العبث- قلت فائدة الابتلاء إيصال نفع إلى زيد- لم يكن ليصح إيصاله إليه إلا بواسطة هذا الابتلاء- و هو ما يقوله أصحابنا- إن الابتلاء بالثواب قبيح- و الله تعالى يستحيل أن يفعل القبيح- . قوله و للعقاب بواء أي مكافأة- قالت ليلى الأخيلية-

فإن تكن القتلى بواء فإنكم
فتى ما قتلتم آل عوف بن عامر

و أبأت القاتل بالقتيل و استبأته أيضا إذا قتلته به- و قد باء الرجل بصاحبه أي قتل به-و في المثل باءت عرار بكحل و هما بقرتان- قتلت إحداهما بالأخرى و قال مهلهل لبجير لما قتل- بؤ بشسع نعل كليب- . قوله ع أين الذين زعموا- هذا الكلام كناية و إشارة إلى قوم من الصحابة- كانوا ينازعونه الفضل- فمنهم من كان يدعي له أنه أفرض- و منهم من كان يدعي له أنه أقرأ- و منهم من كان يدعي له أنه أعلم بالحلال و الحرام- هذا مع تسليم هؤلاء له أنه ع أقضى الأمة- و أن القضاء يحتاج إلى كل هذه الفضائل- و كل واحدة منها لا تحتاج إلى غيرها- فهو إذن أجمع للفقه و أكثرهم احتواء عليه- إلا أنه ع لم يرض بذلك- و لم يصدق الخبر الذي قيل- أفرضكم فلان إلى آخره- فقال إنه كذب و افتراء حمل قوما على وضعه الحسد- و البغي و المنافسة لهذا الحي من بني هاشم- أن رفعهم الله على غيرهم و اختصهم دون من سواهم- .

و أن هاهنا للتعليل أي لأن- فحذف اللام التي هي أداة التعليل على الحقيقة- قال سبحانه- لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ- أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ- و قال بعض النحاة لبعض الفقهاء- الزاعمين أن لا حاجة للفقه إلى النحو- ما تقول لرجل قال لزوجته- أنت طالق إن دخلت الدار- فقال لا يقع إلا بالدخول- فقال فإن فتح الهمزة قال كذلك- فعرفه أن العربية نافعة في الفقه- و أن الطلاق منجز لا معلق- إن كان مراده تعليل الطلاق بوقوع الدخول لاشتراطه به- . ثم قال بنا يستعطى الهدى أي يطلب أن يعطى- و كذلك يستجلى أي يطلب جلاؤه- .ثم قال إن الأئمة من قريش إلى آخر الفصل‏

اختلاف الفرق الإسلامية في كون الأئمة من قريش

و قد اختلف الناس في اشتراط النسب في الإمامة- فقال قوم من قدماء أصحابنا- إن النسب ليس بشرط فيها أصلا- و إنها تصلح في القرشي و غير القرشي- إذا كان فاضلا مستجمعا للشرائط المعتبرة- و اجتمعت الكلمة عليه و هو قول الخوارج- . و قال أكثر أصحابنا و أكثر الناس- إن النسب شرط فيها- و إنها لا تصلح إلا في العرب خاصة- و من العرب في قريش خاصة- و قال أكثر أصحابنا معنى
قول النبي ص الأئمة من قريش- أن القرشية شرط إذا وجد في قريش من يصلح للإمامة- فإن لم يكن فيها من يصلح- فليست القرشية شرطا فيها- . و قال بعض أصحابنا- معنى الخبر أنه لا تخلو قريش أبدا ممن يصلح للإمامة- فأوجبوا بهذا الخبر وجود من يصلح من قريش لها- في كل عصر و زمان- .

و قال معظم الزيدية- إنها في الفاطميين خاصة من الطالبيين- لا تصلح في غير البطنين- و لا تصح إلا بشرط أن يقوم بها- و يدعو إليها فاضل زاهد عالم عادل شجاع سائس- و بعض الزيدية يجيز الإمامة في غير الفاطميين من ولد علي ع- و هو من أقوالهم الشاذة- . و أما الراوندية فإنهم خصصوها بالعباس رحمه الله- و ولده من بين بطون قريش كلها- و هذا القول هو الذي ظهر في أيام المنصور و المهدي- و أما الإمامية فإنهم جعلوها سارية في ولد الحسين ع- في أشخاص مخصوصين- و لا تصلح عندهم لغيرهم- . و جعلها الكيسانية في محمد بن الحنفية و ولده- و منهم من نقلها منه إلى ولد غيره- .

فإن قلت إنك شرحت هذا الكتاب- على قواعد المعتزلة و أصولهم- فما قولك في هذاالكلام- و هو تصريح بأن الإمامة لا تصلح من قريش- إلا في بني هاشم خاصة- و ليس ذلك بمذهب للمعتزلة- لا متقدميهم و لا متأخريهم- . قلت هذا الموضع مشكل و لي فيه نظر- و إن صح أن عليا ع قاله- قلت كما قال لأنه ثبت عنديأن النبي ص قال إنه مع الحق و أن الحق يدور معه حيثما دار- و يمكن أن يتأول و يطبق على مذهب المعتزلة- فيحمل على أن المراد به كمال الإمامة- كما حملقوله ص لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد

على نفي الكمال- لا على نفي الصحة

مِنْهَا- آثَرُوا عَاجِلًا وَ أَخَّرُوا آجِلًا- وَ تَرَكُوا صَافِياً وَ شَرِبُوا آجِناً- كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى فَاسِقِهِمْ وَ قَدْ صَحِبَ الْمُنْكَرَ فَأَلِفَهُ- وَ بَسِئَ بِهِ وَ وَافَقَهُ حَتَّى شَابَتْ عَلَيْهِ مَفَارِقُهُ- وَ صُبِغَتْ بِهِ خَلَائِقُهُ- ثُمَّ أَقْبَلَ مُزْبِداً كَالتَّيَّارِ لَا يُبَالِي مَا غَرَّقَ- أَوْ كَوَقْعِ النَّارِ فِي الْهَشِيمِ لَا يَحْفِلُ مَا حَرَّقَ- أَيْنَ الْعُقُولُ الْمُسْتَصْبِحَةُ بِمَصَابِيحِ الْهُدَى- وَ الْأَبْصَارُ اللَّامِحَةُ إِلَى مَنَازِلِ التَّقْوَى- أَيْنَ الْقُلُوبُ الَّتِي وُهِبَتْ لِلَّهِ وَ عُوقِدَتْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ- ازْدَحَمُوا عَلَى الْحُطَامِ وَ تَشَاحُّوا عَلَى الْحَرَامِ- وَ رُفِعَ لَهُمْ عَلَمُ الْجَنَّةِ وَ النَّارِ- فَصَرَفُوا عَنِ الْجَنَّةِ وُجُوهَهُمْ- وَ أَقْبَلُوا إِلَى النَّارِ بِأَعْمَالِهِمْ- وَ دَعَاهُمْ رَبُّهُمْ فَنَفَرُوا وَ وَلَّوْا- وَ دَعَاهُمُ الشَّيْطَانُ فَاسْتَجَابُوا وَ أَقْبَلُوا

آثروا اختاروا و أخروا تركوا الآجن- الماء المتغير أجن الماء يأجن و يأجن- . و بسئ به ألفه و ناقة بسوء ألفت الحالب و لا تمنعه- و شابت عليه مفارقه طال عهده به مذ زمن الصبا حتى صار شيخا- و صبغت به خلائقه ما صارت طبعا لأن العادة طبيعة ثانية- . مزبدا أي ذو زبد- و هو ما يخرج من الفم كالرغوة- يضرب مثلا للرجل الصائل المقتحم- . و التيار معظم اللجة و المراد به هاهنا السيل- و الهشيم دقاق الحطب- . و لا يحفل بفتح حرف المضارعة- لأن الماضي ثلاثي أي لا يبالي- . و الأبصار اللامحة الناظرة- و تشاحوا تضايقوا كل منهم يريد ألا يفوته ذلك- و أصله الشح و هو البخل- .

فإن قلت هذا الكلام يرجع إلى الصحابة- الذين تقدم ذكرهم في أول الخطبة- . قلت لا و إن زعم قوم أنه عناهم- بل هو إشارة إلى قوم ممن يأتي من الخلف بعد السلف- أ لا تراه قال- كأني أنظر إلى فاسقهم قد صحب المنكر فألفه- و هذا اللفظ إنما يقال في حق من لم يوجد بعد- كما قال في حق الأتراك- كأني أنظر إليهم قوما كأن وجوههم المجان- و كما قال في حق صاحب الزنج- كأني به يا أحنف قد سار في الجيش- و كما قال في الخطبة التي ذكرناها آنفا- كأني به قد نعق بالشام يعني به عبد الملك- و حوشي ع أن يعني بهذا الكلام الصحابة- لأنهم ما آثروا العاجل و لا أخروا الآجل- و لا صحبوا المنكر و لا أقبلوا كالتيار- لا يبالي ما غرق و لا كالنار لا تبالي ما أحرقت- و لا ازدحموا على الحطام و لا تشاحوا على الحرام- و لا صرفوا عن الجنة وجوههم- و لا أقبلواإلى النار بأعمالهم- و لا دعاهم الرحمن فولوا- و لا دعاهم الشيطان فاستجابوا- و قد علم كل أحد حسن سيرتهم- و سداد طريقتهم و إعراضهم عن الدنيا و قد ملكوها- و زهدهم فيها و قد تمكنوا منها- و لو لا قوله كأني أنظر إلى فاسقهم- لم أبعد أن يعني بذلك قوما ممن عليه اسم الصحابة- و هو ردي‏ء الطريقة- كالمغيرة بن شعبة و عمرو بن العاص- و مروان بن الحكم و معاوية- و جماعة معدودة أحبوا الدنيا و استغواهم الشيطان- و هم معدودون في كتب أصحابنا- و من اشتغل بعلوم السيرة و التواريخ عرفهم بأعيانهم

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 9

خطبه 143 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)( الاستسقاء)

143 و من خطبة له ع في الاستسقاء

إِلَّا وَ إِنَّ الْأَرْضَ الَّتِي تَحْمِلُكُمْ- وَ السَّمَاءَ الَّتِي تُظِلُّكُمْ مُطِيعَتَانِ لِرَبِّكُمْ- وَ مَا أَصْبَحَتَا تَجُودَانِ لَكُمْ بِبَرَكَتِهِمَا تَوَجُّعاً لَكُمْ- وَ لَا زُلْفَةً إِلَيْكُمْ وَ لَا لِخَيْرٍ تَرْجُوَانِهِ مِنْكُمْ- وَ لَكِنْ أُمِرَتَا بِمَنَافِعِكُمْ فَأَطَاعَتَا- وَ أُقِيمَتَا عَلَى حُدُودِ مَصَالِحِكُمْ فَقَامَتَا- إِنَّ اللَّهَ يَبْتَلِي عِبَادَهُ عِنْدَ الْأَعْمَالِ السَّيِّئَةِ- بِنَقْصِ الثَّمَرَاتِ وَ حَبْسِ الْبَرَكَاتِ- وَ إِغْلَاقِ خَزَائِنِ الْخَيْرَاتِ لِيَتُوبَ تَائِبٌ- وَ يُقْلِعَ مُقْلِعٌ وَ يَتَذَكَّرَ مُتَذَكِّرٌ وَ يَزْدَجِرَ مُزْدَجِرٌ- وَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الِاسْتِغْفَارَ سَبَباً- لِدُرُورِ الرِّزْقِ وَ رَحْمَةِ الْخَلْقِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ- اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً- يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً- وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ- وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً- فَرَحِمَ اللَّهُ امْرَأً اسْتَقْبَلَ تَوْبَتَهُ- وَ اسْتَقَالَ خَطِيئَتَهُ وَ بَادَرَ مَنِيَّتَهُ- اللَّهُمَّ إِنَّا خَرَجْنَا إِلَيْكَ مِنْ تَحْتِ الْأَسْتَارِ وَ الْأَكْنَانِ- وَ بَعْدَ عَجِيجِ الْبَهَائِمِ وَ الْوِلْدَانِ- رَاغِبِينَ فِي رَحْمَتِكَ وَ رَاجِينَ فَضْلَ نِعْمَتِكَ- وَ خَائِفِينَ مِنْ عَذَابِكَ وَ نِقْمَتِكَ-

اللَّهُمَّ فَاسْقِنَا غَيْثَكَ وَ لَا تَجْعَلْنَا مِنَ الْقَانِطِينَ- وَ لَا تُهْلِكْنَا بِالسِّنِينَ- وَ لَا تُؤَاخِذْنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ- اللَّهُمَّ إِنَّا خَرَجْنَا إِلَيْكَ- نَشْكُو إِلَيْكَ مَا لَا يَخْفَى عَلَيْكَ- أَلْجَأَتْنَا الْمَضَايِقُ الْوَعْرَةُ وَ أَجَاءَتْنَا الْمَقَاحِطُ الْمُجْدِبَةُ- وَ أَعْيَتْنَا الْمَطَالِبُ الْمُتَعَسِّرَةُ- وَ تَلَاحَمَتْ عَلَيْنَا الْفِتَنُ الْمَسْتَصْعَبَةُ- اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَلَّا تَرُدَّنَا خَائِبِينَ- وَ لَا تَقْلِبَنَا وَاجِمِينَ وَ لَا تُخَاطِبَنَا بِذُنُوبِنَا- وَ لَا تُقَايِسَنَا بِأَعْمَالِنَا- اللَّهُمَّ انْشُرْ عَلَيْنَا غَيْثَكَ وَ بَرَكَتِكَ- وَ رِزْقَكَ وَ رَحْمَتَكَ وَ اسْقِنَا سُقْيَا نَاقِعَةً مُرْوِيَةً مُعْشِبَةً- تُنْبِتُ بِهَا مَا قَدْ فَاتَ وَ تُحْيِي بِهَا مَا قَدْ مَاتَ- نَافِعَةَ الْحَيَا كَثِيرَةَ الْمُجْتَنَى تُرْوِي بِهَا الْقِيعَانَ- وَ تُسِيلُ الْبُطْنَانَ وَ تَسْتَوْرِقُ الْأَشْجَارَ- وَ تُرْخِصُ الْأَسْعَارَ إِنَّكَ عَلَى مَا تَشَاءُ قَدِيرٌ

تظلكم تعلو عليكم- و قد أظلتني الشجرة و استظللت بها- و الزلفة القربة يقول إن السماء و الأرض إذا جاءتا بمنافعكم- أما السماء فبالمطر و أما الأرض فبالنبات- فإنهما لم تأتيا بذلك تقربا إليكم و لا رحمة لكم- و لكنهما أمرتا بنفعكم فامتثلتا الأمر- لأنه أمر من تجب طاعته- و لو أمرتا بغير ذلك لفعلتاه- و الكلام مجاز و استعارة لأن الجماد لا يؤمر- و المعنى أن الكل مسخر تحت القدرة الإلهية- و مراده تمهيد قاعدة الاستسقاء كأنه يقول- إذا كانت السماء و الأرض أيام الخصب- و المطر و النبات لم يكن ما كان منهما محبة لكم- و لا رجاء منفعة منكم- بل طاعة الصانع الحكيم سبحانه فيما سخرهما له-فكذلك السماء و الأرض أيام الجدب- و انقطاع المطر و عدم الكلأ ليس ما كان منهما بغضا لكم- و لا استدفاع ضرر يخاف منكم- بل طاعة الصانع الحكيم سبحانه فيما سخرهما له- و إذا كان كذلك- فبالحري ألا نأمل السماء و لا الأرض- و أن نجعل آمالنا معلقة بالملك الحق المدبر لهما- و أن نسترحمه و ندعوه و نستغفره- لا كما كانت العرب في الجاهلية يقولون- مطرنا بنوء كذا- و قد سخط النوء الفلاني على بني فلان فأمحلوا- .

ثم ذكر ع أن الله تعالى يبتلي عباده عند الذنوب- بتضييق الأرزاق عليهم- و حبس مطر السماء عنهم- و هذا الكلام مطابق للقواعد الكلامية- لأن أصحابنا يذهبون إلى أن الغلاء قد يكون عقوبة على ذنب- و قد يكون لطفا للمكلفين في الواجبات العقلية- و هو معنى قوله ليتوب تائب إلى آخر الكلمات- و يقلع يكف و يمسك- .

ثم ذكر أن الله سبحانه جعل الاستغفار سببا في درور الرزق- و استدل عليه بالآية- التي أمر نوح ع فيها قومه بالاستغفار- يعني التوبة عن الذنوب- و قدم إليهم الموعد بما هو واقع في نفوسهم- و أحب إليهم من الأمور الآجلة- فمناهم الفوائد العاجلة- ترغيبا في الإيمان و بركاته- و الطاعة و نتائجها كما قال سبحانه للمسلمين- وَ أُخْرى‏ تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَ فَتْحٌ قَرِيبٌ- فوعدهم بمحبوب الأنفس- الذي يرونه في العاجل عيانا و نقدا لا جزاء و نسيئة- و قال تعالى في موضع آخر- وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا- لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ- و قال سبحانه وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ- وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ- لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ-و قال تعالى وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ- لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاًالثواب و العقاب عند المسلمين و أهل الكتابو كل ما في التوراة من الوعد و الوعيد- فهو لمنافع الدنيا و مضارها- أما منافعها فمثل أن يقول إن أطعتم باركت فيكم- و كثرت من أولادكم و أطلت أعماركم- و أوسعت أرزاقكم و استبقيت اتصال نسلكم- و نصرتكم على أعدائكم- و إن عصيتم و خالفتم اخترمتكم و نقصت من آجالكم- و شتت شملكم و رميتكم بالجوع و المحل- و أذللت أولادكم و أشمت بكم أعداءكم- و نصرت عليكم خصومكم و شردتكم في البلاد- و ابتليتكم بالمرض و الذل و نحو ذلك- .

و لم يأت في التوراة وعد و وعيد بأمر يتعلق بما بعد الموت- و أما المسيح ع فإنه صرح بالقيامة و بعث الأبدان- و لكن جعل العقاب روحانيا و كذلك الثواب- أما العقاب فالوحشة و الفزع و تخيل الظلمة- و خبث النفس و كدرها و خوف شديد- و أما الثواب فما زاد على أن قال- إنهم يكونون كالملائكة و ربما قال- يصعدون إلى ملكوت السماء- و ربما قال أصحابه و علماء ملته- الضوء و اللذة و السرور و الأمن من زوال اللذة الحاصلة لهم- هذا هو قول المحققين منهم- و قد أثبت بعضهم نارا حقيقية- لأن لفظة النار وردت في الإنجيل- فقال محققوهم نار قلبية أي نفسية روحانية- و قال الأفلون نار كهذه النار- و منهم من أثبت عقابا غير النار و هو بدني- فقال الرعدة و صرير الأسنان- فأما الجنة بمعنى الأكل و الشرب و الجماع- فإنه لم يقل منهم قائل به أصلا- و الإنجيل صرح بانتفاء ذلك في القيامة تصريحا- لا يبقى بعده ريب لمرتاب- و جاء خاتم الأنبياء محمدص فأثبت المعاد على وجه محقق كامل- أكمل مما ذكره الأولان فقال- إن البدن و النفس معا مبعوثان- و لكل منهما حظ في الثواب و العقاب- .

و قد شرح الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا- هذا الموضع في رسالة له في المعاد- تعرف بالرسالة الأصحوبة شرحا جيدا- فقال إن الشريعة المحمدية أثبتت في القيامة رد النفس إلى البدن- و جعلت للمثاب و المعاقب ثوابا و عقابا- بحسب البدن و النفس جميعا- فكان للمثاب لذات بدنية من حور عين- و ولدان مخلدين و فاكهة يشتهون- و كأس لا يصدعون عنها و لا ينزفون- و جنات تجري من تحتها الأنهار- من لبن و عسل و خمر و ماء زلال- و سرر و أرائك و خيام و قباب- فرشها من سندس و إستبرق و ما جرى مجرى ذلك- و لذات نفسانية من السرور- و مشاهدة الملكوت و الأمن من العذاب- و العلم اليقيني بدوام ما هم فيه- و أنه لا يتعقبه عدم و لا زوال- و الخلو عن الأحزان و المخاوف و للمعاقب عقاب بدني- و هو المقامع من الحديد و السلاسل- و الحريق و الحميم و الغسلين و الصراخ- و الجلود التي كلما نضجت بدلوا جلودا غيرها- و عقاب نفساني من اللعن و الخزي و الخجل- و الندم و الخوف الدائم و اليأس من الفرج- و العلم اليقيني بدوام الأحوال السيئة التي هم عليها- .

قال فوفت الشريعة الحكمة حقها من الوعد الكامل- و الوعيد الكامل و بهما ينتظم الأمر و تقوم الملة- فأما النصارى و ما ذهبوا إليه من أمر بعث الأبدان- ثم خلوها في الدار الآخرة- من المطعم و الملبس و المشرب و المنكح- فهو أرك ما ذهب إليه أرباب الشرائع و أسخفه- و ذلك أنه إن كان السبب في البعث- هو أن الإنسان هو البدن- أو أن البدن شريك النفس في الأعمال الحسنة و السيئة- فوجب أن يبعث فهذا القول بعينه إن أوجب ذلك- فإنه يوجب أن يثاب البدن- و يعاقب بالثواب و العقاب البدني المفهوم عند العالم- و إن كان الثواب و العقاب روحانيا- فما الغرض في بعث الجسد- ثم ما ذلك‏ الثواب و العقاب الروحانيان- و كيف تصور العامة ذلك حتى يرغبوا و يرهبوا- كلا بل لم تصور لهم الشريعة النصرانية من ذلك شيئا- غير أنهم يكونون في الآخرة كالملائكة- و هذا لا يفي بالترغيب التام- و لا ما ذكروه من العقاب الروحاني- و هو الظلمة و خبث النفس كاف في الترهيب- و الذي جاءت به شريعة الإسلام حسن لا زيادة عليه- انقضى كلام هذا الحكيم- .

فأما كون الاستغفار سببا لنزول القطر و درور الرزق- فإن الآية بصريحها ناطقة به- لأنها أمر و جوابه قال- اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً- يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً- كما تقول قم أكرمك أي إن قمت أكرمتك- و عن عمر أنه خرج يستسقي- فما زاد على الاستغفار فقيل له ما رأيناك استسقيت- فقال لقد استسقيت بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر- . و عن الحسن أن رجلا شكا إليه الجدب- فقال استغفر الله- فشكا آخر إليه الفقر و آخر قلة النسل- و آخر قلة ريع أرضه- فأمرهم كلهم بالاستغفار- فقال له الربيع بن صبيح رجال أتوك يشكون أبوابا- و يشكون أنواعا فأمرتهم كلهم بالاستغفار- فتلا له الآية- .

قوله استقبل توبته أي استأنفها و جددها- و استقال خطيئته طلب الإقالة منها و الرحمة- و بادر منيته سابق الموت قبل أن يدهمه- .قوله ع لا تهلكنا بالسنين جمع سنة- و هي الجدب و المحل قال تعالى- وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وقال النبي ص يدعو على المشركين- اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف- و السنة لفظ محذوف منه حرف- قيل إنه الهاء و قيل الواو- فمن قال المحذوف هاء قال أصله سنهة مثل جبهة- لأنهم قالوا نخلة سنهاء- أي تحمل سنة و لا تحمل أخرى- و قال بعض الأنصار-

فليست بسنهاء و لا رجبية
و لكن عرايا في السنين الجوائح‏

و من قال أصلها الواو- احتج بقولهم أسنى القوم يسنون إسناء- إذا لبثوا في المواضع سنة- فأما التصغير فلا يدل على أحد المذهبين بعينه- لأنه يجوز سنية و سنيهة- و الأكثر في جمعها بالواو و النون سنون- بكسر السين كما في هذه الخطبة- و بعضهم يقول سنون بالضم- . و المضايق الوعرة بالتسكين و لا يجوز التحريك- و قد وعر هذا الشي‏ء بالضم وعورة- و كذلك توعر أي صار وعرا- و استوعرت الشي‏ء استصعبته- . و أجاءتنا ألجأتنا قال تعالى- فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى‏ جِذْعِ النَّخْلَةِ- . و المقاحط المجدبة السنون الممحلة جمع مقحطة- . و تلاحمت اتصلت- . و الواجم الذي قد اشتد حزنه حتى أمسك عن الكلام- و الماضي وجم بالفتح يجم وجوما- .

قوله و لا تخاطبنا بذنوبنا و لا تقايسنا بأعمالنا- أي لا تجعل جواب دعائنا لك ما تقتضيه ذنوبنا- كأنه يجعله كالمخاطب لهم- و المجيب عما سألوه إياه- كما يفاوض الواحدمنا صاحبه و يستعطفه- فقد يجيبه و يخاطبه بما يقتضيه ذنبه- إذا اشتدت موجدته عليه و نحوه- . و لا تقايسنا بأعمالنا- قست الشي‏ء بالشي‏ء إذا حذوته و مثلته به- أي لا تجعل ما تجيبنا به مقايسا و مماثلا لأعمالنا السيئة- . قوله سقيا ناقعة هي فعلى مؤنثة غير مصروفة- .

و الحيا المطر و ناقعة مروية مسكنة للعطش- نقع الماء العطش نقعا و نقوعا سكنه- و في المثل الرشف أنقع- أي أن الشراب الذي يرشف قليلا قليلا أنجع و أقطع للعطش و إن كان فيه بطء- . و كثيرة المجتنى أي كثيرة الكلأ- و الكلأ الذي يجتنى و يرعى و القيعان جمع قاع و هو الفلاة- . و البطنان جمع بطن- و هو الغامض من الأرض مثل ظهر و ظهران و عبد و عبدان

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 9

خطبه 142 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

142 و من كلام له ع

وَ لَيْسَ لِوَاضِعِ الْمَعْرُوفِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ- وَ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ مِنَ الْحَظِّ فِيمَا أَتَى إِلَّا مَحْمَدَةُ اللِّئَامِ- وَ ثَنَاءُ الْأَشْرَارِ وَ مَقَالَةُ الْجُهَّالَ- مَا دَامَ مُنْعِماً عَلَيْهِمْ مَا أَجْوَدَ يَدَهُ- وَ هُوَ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ بِخَيْلٌ- فَمَنْ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَلْيَصِلْ بِهِ الْقَرَابَةَ- وَ لْيُحْسِنْ مِنْهُ الضِّيَافَةَ وَ لْيَفُكَّ بِهِ الْأَسِيرَ وَ الْعَانِيَ- وَ لْيُعْطِ مِنْهُ الْفَقِيرَ وَ الْغَارِمَ- وَ لْيَصْبِرْ نَفْسَهُ عَلَى الْحُقُوقِ وَ النَّوَائِبِ ابْتِغَاءَ الثَّوَابِ- فَإِنَّ فَوْزاً بِهَذِهِ الْخِصَالِ شَرَفُ مَكَارِمِ الدُّنْيَا- وَ دَرْكُ فَضَائِلِ الآْخِرَةِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ هذا الكلام يتضمن ذم من يخرج ماله- إلى الفتيان و الأقران و الشعراء و نحوهم- و يبتغي به المدح و السمعة- و يعدل عن إخراجه في وجوه البر و ابتغاء الثواب- قال ع ليس له من الحظ إلا محمدة اللئام و ثناء الأشرار- و قولهم ما أجود يده أي ما أسمحه- و هو بخيل بما يرجع إلى ذات الله- يعني الصدقات و ما يجري مجراها من صلة الرحم و الضيافة- و فك الأسير و العاني و هو الأسير بعينه- و إنما اختلف اللفظ- .و الغارم من عليه الديون- و يقال صبر فلان نفسه على كذا مخففا أي حبسها- قال تعالى وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ- . و قال عنترة يذكر حربا-

فصبرت عارفة لذلك حرة
ترسو إذا نفس الجبان تطلع‏

وفي الحديث النبوي في رجل أمسك رجلا و قتله آخر- فقال ع اقتلوا القاتل و اصبروا الصابر- أي احبسوا الذي حبسه للقتل إلى أن يموت- . و قوله فإن فوزا أفصح من أن يقول- فإن الفوز أو فإن في الفوز كما قال الشاعر-

إن شواء و نشوة
و خبب البازل الأمون‏

من لذة العيش و الفتى‏
للدهر و الدهر ذو شئون‏

 و لم يقل إن الشواء و النشوة- و السر في هذا- أنه كأنه يجعل هذا الشواء شخصا من جملة أشخاص- داخلة تحت نوع واحد و يقول- إن واحدا منها أيها كان فهو من لذة العيش- و إن لم يحصل له كل أشخاص ذلك النوع- و مراده تقرير فضيلة هذه الخصال في النفوس- أي متى حصل للإنسان فوز ما بها- فقد حصل له الشرف- و هذا المعنى و إن أعطاه لفظة الفوز بالألف و اللام- إذا قصد بها الجنسية- إلا أنه قد يسبق إلى الذهن منها الاستغراق لا الجنسية- فأتى بلفظة لا توهم الاستغراق و هي اللفظة المنكرة- و هذا دقيق و هو من لباب علم البيان

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 9

خطبه 141 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

141 و من كلام له ع

أَيُّهَا النَّاسُ- مَنْ عَرَفَ مِنْ أَخِيهِ وَثِيقَةَ دِينٍ وَ سَدَادَ طَرِيقٍ- فَلَا يَسْمَعَنَّ فِيهِ أَقَاوِيلَ الرِّجَالِ- أَمَا إِنَّهُ قَدْ يَرْمِي الرَّامِي- وَ تُخْطِئُ السِّهَامُ وَ يُحِيلُ الْكَلَامُ- وَ بَاطِلُ ذَلِكَ يَبُورُ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ وَ شَهِيدٌ- أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الْحَقِّ وَ الْبَاطِلِ إِلَّا أَرْبَعُ أَصَابِعَ- فَسُئِلَ ع عَنْ مَعْنَى قَوْلِهِ هَذَا- فَجَمَعَ أَصَابِعَهُ وَ وَضَعَهَا بَيْنَ أُذُنِهِ وَ عَيْنِهِ ثُمَّ قَالَ- الْبَاطِلُ أَنْ تَقُولَ سَمِعْتُ- وَ الْحَقُّ أَنْ تَقُولَ رَأَيْتُ هذا الكلام هو نهي عن التسرع إلى التصديق- بما يقال من العيب و القدح في حق الإنسان المستور الظاهر- المشتهر بالصلاح و الخير و هو خلاصة قوله سبحانه- إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا- أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ- فَتُصْبِحُوا عَلى‏ ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ- ثم ضرب ع لذلك مثلا- فقال قد يرمي الرامي فلا يصيب الغرض- و كذلك قد يطعن الطاعن فلا يكون طعنه صحيحا- و ربما كان لغرض فاسد أو سمعه ممن له غرض‏ فاسدا- كالعدو و الحسود- و قد يشتبه الأمر فيظن المعروف منكرا- فيعجل الإنسان بقول لا يتحققه- كمن يرى غلام زيد يحمل في إناء مستور مغطى خلا- فيظنه خمرا- .

قال ع و يحيل الكلام- أي يكون باطلا أحال الرجل في منطقه- إذا تكلم الذي لا حقيقة له- و من الناس من يرويه و يحيك الكلام بالكاف- من قولك ما حاك فيه السيف- و يجوز أحاك بالهمزة أي ما أثر- يعني أن القول يؤثر في العرض و إن كان باطلا- و الرواية الأولى أشهر و أظهر- . و يبور يفسد و قوله و باطل ذلك يبور- مثل قولهم للباطل جولة و للحق دولة- و هذا من قوله تعالى- وَ قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ- إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً- . و الإصبع مؤنثة و لذلك قال أربع أصابع فحذف الهاء- .

فإن قلت كيف يقول ع- الباطل ما يسمع و الحق ما يرى- و أكثر المعلومات إنما هي من طريق السماع- كعلمنا الآن بنبوة محمد ص بما بلغنا من معجزاته التي لم نرها- و إنما سمعناها- . قلت ليس كلامه في المتواتر من الأخبار- و إنما كلامه في الأقوال الشاذة الواردة من طريق الآحاد- التي تتضمن القدح فيمن قد غلبت نزاهته- فلا يجوز العدول عن المعلوم بالمشكوك

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 9

خطبه 140 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(النهي عن غيبة الناس)

140 و من كلام له ع في النهي عن غيبة الناس

وَ إِنَّمَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعِصْمَةِ وَ الْمَصْنُوعِ إِلَيْهِمْ فِي السَّلَامَةِ- أَنْ يَرْحَمُوا أَهْلَ الذُّنُوبِ وَ الْمَعْصِيَةِ- وَ يَكُونَ الشُّكْرُ هُوَ الْغَالِبَ عَلَيْهِمْ- وَ الْحَاجِزَ لَهُمْ عَنْهُمْ- فَكَيْفَ بِالْعَائِبِ الَّذِي عَابَ أَخَاهُ وَ عَيَّرَهُ بِبَلْوَاهُ- أَ مَا ذَكَرَ مَوْضِعَ سَتْرِ اللَّهِ عَلَيْهِ مِنْ ذُنُوبِهِ- مِمَّا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي عَابَهُ بِهِ- وَ كَيْفَ يَذُمُّهُ بِذَنْبٍ قَدْ رَكِبَ مِثْلَهُ- فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَكِبَ ذَلِكَ الذَّنْبَ بِعَيْنِهِ- فَقَدْ عَصَى اللَّهَ فِيمَا سِوَاهُ مِمَّا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ- وَ ايْمُ اللَّهِ لَئِنْ لَمْ يَكُنْ عَصَاهُ فِي الْكَبِيرِ- وَ عَصَاهُ فِي الصَّغِيرِ لَجُرْأَتُهُ عَلَى عَيْبِ النَّاسِ أَكْبَرُ- يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَعْجَلْ فِي عَيْبِ أَحَدٍ بِذَنْبِهِ- فَلَعَلَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ وَ لَا تَأْمَنْ عَلَى نَفْسِكَ صَغِيرَ مَعْصِيَةٍ- فَلَعَلَّكَ مُعَذَّبٌ عَلَيْهِ- فَلْيَكْفُفْ مَنْ عَلِمَ مِنْكُمْ عَيْبَ غَيْرِهِ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ عَيْبِ نَفْسِهِ- وَ لْيَكُنِ الشُّكْرُ شَاغِلًا لَهُ عَلَى مُعَافَاتِهِ مِمَّا ابْتُلِيَ غَيْرُهُ بِهِ ليس في هذا الفصل من غريب اللغة ما نشرح‏

أقوال مأثورة في ذم الغيبة و الاستماع إلى المغتابينو نحن نذكر مما ورد في الغيبة لمعا نافعة- على عادتنا في ذكر الشي‏ء عند مرورنا على ما يقتضيه و يستدعيه- . و قد ورد في الكتاب العزيز ذم الغيبة- قال سبحانه وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وقال رسول الله ص لا تحاسدوا و لا تباغضوا و لا يغتب بعضكم بعضا- و كونوا عباد الله إخواناوروى جابر و أبو سعيد عنه ص إياكم و الغيبة فإن الغيبة أشد من الزنا- إن الرجل يزني فيتوب الله عليه- و إن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبهوروى أنس عنه ص مررت ليلة أسري بي- فرأيت قوما يخمشون وجوههم بأظافيرهم- فسألت جبريل عنهم فقال هؤلاء الذين يغتابون الناسوفي حديث سلمان قلت يا رسول الله علمني خيرا ينفعني الله به-

قال لا تحقرن من المعروف شيئا- و لو أرفضت من دلوك في إناء المستقي- و الق أخاك ببشر حسن و لا تغتابنه إذا أدبروفي حديث البراء بن عازب خطبنا رسول الله ص حتى أسمع العواتق في بيوتهن- فقال ألا لا تغتابوا المسلمين و لا تتبعوا عوراتهم- فإنه من يتتبع عورة أخيه تتبع الله عورته- و من يتتبع الله عورته يفضحه في جوف بيتهوفي حديث أنس أن رسول الله ص قال في يوم صوم- إن فلانة و فلانة كانتا تأكلان اليوم شحم امرأة مسلمة- يعني الغيبة- فمرهما فلتتقيئا فقاءت كل واحدة منهما علقة دموفي الصحاح المجمع عليها أنه ع مر بقبرين جديدين- فقال إنهما ليعذبان و ما يعذبان بكبير- أما أحدهما فكان يغتاب الناس- و أما الآخر فكان لا يتنزه من البول- و دعا بجريدة رطبة فكسرها اثنتين- أو قال دعا بجريدتين ثم غرسهما في القبرين-

و قال أما إنه سيهون من عذابهما ما دامتا رطبتين وفي حديث ابن عباس أن رجلين من أصحابه- اغتابا بحضرته رجلا و هو يمشي ع و هما يمشيان معه- فمر على جيفة فقال انهشا منها فقالا يا رسول الله- أ و ننهش الجيفة- فقال ما أصبتما من أخيكما أنتن من هذهوفي حديث أبي هريرة من أكل لحم أخيه حيا قرب إليه لحمه في الآخرة- فقيل له كله ميتا كما أكلته حيا- فيأكله و يضج و يكلحو روي أن رجلين كانا عند باب المسجد- فمر بهما رجل كان مخنثا فترك ذلك- فقالا لقد بقي عنده منه شي‏ء فأقيمت الصلاة- فصليا مع الناس و ذلك يجول في أنفسهما فأتيا عطاء بن أبي رباح- فسألاه فأمرهما أن يعيدا الوضوء و الصلاة- و إن كانا صائمين أن يقضيا صيام ذلك اليوم- . و عن مجاهد وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ- الهمزة الطعان في الناس و اللمزة النمام- . و عن الحسن- و الله للغيبة أسرع في دين المؤمن من الأكلة في الجسد- .

بعضهم أدركنا السلف- و هم لا يرون العبادة في الصوم و لا في الصلاة- و لكن في الكف عن أعراض الناس- . ابن عباس إذا أردت أن تذكر عيوب صاحبك- فاذكر عيوبك و هذا مشتق من كلام أمير المؤمنين ع- . أبو هريرة يبصر أحدهما القذى في عين أخيه- و لا يبصر الجذع في عين نفسه و هذا كالأول- . الحسن يا ابن آدم إنك إن قضيت حقيقة الإيمان- فلا تعب الناس بعيب هو فيك- حتى تبدأ بإصلاح ذلك العيب من نفسك- فإذا فعلت ذلك كان شغلك في خاصة نفسك- و أحب العباد إلى الله من كان هكذا- .

ويروى أن المسيح ع مر على جيفة كلب- فقال بعض التلامذة ما أشد نتنه- فقال المسيح ما أشد بياض أسنانه- كأنه نهاهم عن غيبة الكلب و نبههم- إلى أنه لا ينبغي أن يذكر من كل شي‏ء إلا أحسنه- . وسمع علي بن الحسين ع رجلا يغتاب آخر- فقال إن لكل شي‏ء إداما و إدام كلاب الناس الغيبةوفي خطبة حجة الوداع أيها الناس إن دماءكم و أموالكم- و أعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا- في شهركم هذا في بلدكم هذا- إن الله حرم الغيبة كما حرم المال و الدمعمر: ما يمنعكم إذا رأيتم من يخرق أعراض الناس- أن تعربوا عليه أي تقبحوا- قالوا نخاف سفهه و شره- قال ذلك أدنى ألا تكونوا شهداءأنس يرفعه من مات على الغيبة- حشر يوم القيامة مزرقة عيناه- ينادى بالويل و الندامة يعرف أهله و لا يعرفونهو قال هشام بن عبد الملك في بعض ولد الوليد بن عقبة-

أبلغ أبا وهب إذا ما لقيته
بأنك شر الناس غيبا لصاحب‏

فتبدي له بشرا إذا ما لقيته‏
و تلسعه بالغيب لسع العقارب‏

مر الشعبي بقوم يغتابونه في المسجد- و فيهم بعض أصدقائه فأخذ بعضادتي الباب و قال-

هنيئا مريئا غير داء مخامر
لعزة من أعراضنا ما استحلت‏

و من كلام بعض الحكماء- أبصر الناس بالعوار المعوار- هذا مثل قول الشاعر-

و أجرأ من رأيت بظهر غيب
على عيب الرجال ذوو العيوب‏

قيل لشبيب بن شبة بن عقال- ما بال عبد الله بن الأهتم يغتابك و ينتقصك- قال لأنه شقيقي في النسب- و جاري في البلد و شريكي في الصنعة- . دخل أبو العيناء على المتوكل و عنده جلساؤه فقال له- يا محمد كلهم كانوا في غيبتك منذ اليوم- و لم يبق أحد لم يذممك غيري فقال-

إذا رضيت عني كرام عشيرتي
فلا زال غضبان علي لئامها

قال بعضهم بت بالبصرة ليلة مع المسجديين- فلما كان وقت السحر حركهم واحد- فقال إلى كم هذا النوم عن أعراض الناس- و قيل لشاعر وصله بعض الرؤساء- و أنعم عليه ما صنع بك فلان قال ما وفت نعمته بإساءته- منعني لذة الثلب و حلاوة الشكوى- . أعرابي من عاب سفلة فقد رفعه- و من عاب شريفا فقد وضع نفسه- .

نظر بعض السلف إلى رجل يغتاب رجلا- و قال يا هذا إنك تملي على حافظيك كتابا فانظر ما ذا تقول- . ابن عباس ما الأسد الضاري على فريسة- بأسرع من الدني‏ء في عرض السري- بعضهم

و مطروفة عيناه عن عيب نفسه
فإن لاح عيب من أخيه تبصرا

و قالت رابعة العدوية- إذا نصح الإنسان لله أطلعه الله تعالى على مساوئ عمله- فتشاغل بها عن ذكر مساوئ خلقه- . قال عبد الله بن عروة بن الزبير لابنه- يا بني عليك بالدين- فإن الدنيا ما بنت شيئا إلا هدمه الدين- و إذا بنى الدين شيئا لم تستطع الدنيا هدمه- أ لا ترى علي بن أبي طالب- و ما يقول فيه خطباء بني أمية من ذمه و عيبه و غيبته- و الله لكأنما يأخذون بناصيته إلى السماء- أ لا تراهم كيف يندبون موتاهم و يرثيهم شعراؤهم- و الله لكأنما يندبون جيف الحمر- .

و من كلام بعض الصالحين- الورع في المنطق أشد منه في الذهب و الفضة- لأنك إذا استودعك أخوك مالا- لم تجد بك نفسك لخيانة فيه- و قد استودعك عرضه و أنت تغتابه و لا تبالي- . كان محمد بن سيرين قد جعل على نفسه- كلما اغتاب أحدا أن يتصدق بدينار- و كان إذا مدح أحدا قال- هو كما يشاء الله و إذا ذمه قال هو كما يعلم الله- . الأحنف في خلتان لا أغتاب جليسي إذا قام عني- و لا أدخل بين القوم فيما لم يدخلوني فيه- . قيل لرجل من العرب من السيد فيكم- قال الذي إذا أقبل هبناه و إذا أدبر اغتبناه- .قيل للربيع بن خيثم ما نراك تعيب أحدا- فقال لست راضيا على نفسي فأتفرغ لذكر عيوب الناس ثم قال-

لنفسي أبكي لست أبكي لغيرها
لنفسي في نفسي عن الناس شاغل‏

عبد الله بن المبارك قلت لسفيان- ما أبعد أبا حنيفة من الغيبة ما سمعته يغتاب عدوا- قال هو و الله أعقل من أن يسلط على حسناته ما يذهب بها- . سئل فضيل عن غيبة الفاسق فقال لا تشتغل بذكره- و لا تعود لسانك الغيبة أشغل لسانك بذكر الله- و إياك ذكر الناس فإن ذكر الناس داء و ذكر الله دواء- . بعض الشعراء

و لست بذي نيرب في الصديق
خئون العشيرة سبابها

و لا من إذا كان في مجلس‏
أضاع القبيلة و اغتابها

و لكن أبجل ساداتها
و لا أتعلم ألقابها

و كان يقال الغيبة فاكهة القراء- و قيل لإسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة- أي اللحمان أطيب قال لحوم الناس- هي و الله أطيب من لحوم الدجاج و الدراج يعني الغيبة- . ابن المغيرة لا تذكر الميت بسوء- فتكون الأرض أكتم عليه منك- . و كان عبد الملك بن صالح الهاشمي إذا ذكر عنده الميت بسوء- يقول كفوا عن أسارى الثرى- . وفي الأثر سامع الغيبة أحد المغتابين- .أبو نواس

ما حطك الواشون من رتبة
عندي و ما ضرك مغتاب‏

كأنهم أثنوا و لم يعلموا
عليك عندي بالذي عابوا

الحسن ذم الرجل في السر مدح له في العلانية- .علي ع الغيبة جهد العاجز- أخذه المتنبي فقالو أكبر نفسي عن جزاء بغيبةو كل اغتياب جهد من ما له جهد- . بلغ الحسن أن رجلا اغتابه- فأهدى إليه طبقا من رطب فجاءه الرجل معتذرا- و قال أصلحك الله اغتبتك فأهديت لي- قال إنك أهديت إلي حسناتك فأردت أن أكافئك- .

أتى رجل عمرو بن عبيد الله فقال له- إن الأسواري لم يزل أمس يذكرك و يقول- عمرو الضال فقال له يا هذا- و الله ما رعيت حق مجالسة الرجل حين نقلت إلينا حديثه- و لا رعيت حقي حين بلغت عن أخي ما أكرهه- أعلمه أن الموت يعمنا و البعث يحشرنا و القيامة تجمعنا- و الله يحكم بيننا

حكم الغيبة في الدين

و اعلم أن العلماء ذكروا في حد الغيبة- أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه- سواء ذكرت نقصانا في بدنه- مثل أن تقول الأقرع أو الأعور أو في نسبه نحو أن تقول- ابن النبطي و ابن الإسكاف أو الزبال أو الحائك أو خلقه- نحو سيئ الخلق أو بخيل‏ أو متكبر- أو في أفعاله الدنيئة نحو قولك- كذاب و ظالم و متهاون بالصلاة- أو الدنيوية نحو قولك قليل الأدب متهاون بالناس- كثير الكلام كثير الأكل- أو في ثوبه كقولك وسخ الثياب كبير العمامة طويل الأذيال- .

و قد قال قوم لا غيبة في أمور الدين- لأن المغتاب إنما ذم ما ذمه الله تعالى- و احتجوا بما روي أنه ذكر لرسول الله ص امرأة و كثرة صومها و صلاتها- و لكنها تؤذي جارتها فقال هي في النار- و لم ينكر عليهم غيبتهم إياها- .و روي أن امرأة ذكرت عنده ع بأنها بخيلة- فقال فما خيرها إذن- . و أكثر العلماء على أن الغيبة في أمور الدين محرمة أيضا- و ادعوا الإجماع على أن من ذكر غيره بما يكرهه فهو مغتاب- سواء أ كان في الدين أو في غيره- قالوا و المخالف مسبوق بهذا الإجماع- و قالوا وقد روي عن النبي ص أنه قال هل تدرون ما الغيبة قالوا الله و رسوله أعلم- قال ذكرك أخاك بما يكرهه- فقائل قال أ رأيت يا رسول الله إن كان ذلك في أخي- قال إن كان فيه فقد اغتبته و إن لم يكن فقد بهته- .

قالوا وروى معاذ بن جبل أن رجلا ذكر عند رسول الله ص- فقال قوم ما أعجزه فقال ع اغتبتم صاحبكم- فقالوا قلنا ما فيه فقال إن قلتم ما ليس فيه فقد بهتموه- . قالوا و ما احتج به الزاعمون أن لا غيبة في الدين- ليس بحجة لأن الصحابة- إنما ذكرت ذلك في مجلس رسول الله ص لحاجتها- إلى تعرف الأحكام بالسؤال و لم يكن غرضها التنقص- .

و اعلم أن الغيبة ليست مقصورة على اللسان فقط- بل كل ما عرفت به صاحبك‏ نقص أخيك فهو غيبة- فقد يكون ذلك باللسان- و قد يكون بالإشارة و الإيماء و بالمحاكاة- نحو أن تمشي خلف الأعرج متعارجا- و بالكتاب فإن القلم أحد اللسانين- . و إذا ذكر المصنف شخصا في تصنيفه- و هجن كلامه فهو غيبة- فأما قوله قال قوم كذا فليس بغيبة لأنه لم يعين شخصا بعينه- .

وكان رسول الله ص يقول ما بال أقوام يقولون كذا- فكان لا يعين- و يكون مقصوده واحدا بعينه و أخبث أنواع الغيبة غيبة القراء المراءين- و ذلك نحو أن يذكر عندهم إنسان فيقول قائلهم- الحمد لله الذي لم يبلنا بدخول أبواب السلطان- و التبذل في طلب الحطام- و قصده أن يفهم الغير عيب ذلك الشخص- فتخرج الغيبة في مخرج الحمد و الشكر لله تعالى- فيحصل من ذلك غيبة المسلم و يحصل منه الرياء- و إظهار التعفف عن الغيبة و هو واقع فيها- و كذلك يقول لقد ساءني ما يذكر به فلان- نسأل الله أن يعصمه و يكون كاذبا في دعوى أنه ساءه- و في إظهار الدعاء له- بل لو قصد الدعاء له لأخفاه في خلوة عقب صلواته- و لو كان قد ساءه لساءه أيضا إظهار ما يكرهه ذلك الإنسان- .

و اعلم أن الإصغاء إلى الغيبة على سبيل التعجب كالغيبة- بل أشد لأنه إنما يظهر التعجب ليزيد نشاط المغتاب في الغيبة- فيندفع فيها حكاية يستخرج الغيبة منه بذلك- و إذا كان السامع الساكت شريك المغتاب- فما ظنك بالمجتهد في حصول الغيبة- و الباعث على الاستزادة منها- و قد روي أن أبا بكر و عمر ذكرا إنسانا عند رسول الله- فقال أحدهما إنه لنئوم ثم أخرج رسول الله ص خبزا قفارا- فطلبا منه أدما فقال قد ائتدمتما قالا ما نعلمه- قال بلى بما أكلتما من لحم صاحبكما فجمعهما في الإثم- و قد كان أحدهما قائلا و الآخر مستمعا- فالمستمع لا يخرج من إثم الغيبة إلا بأن ينكر بلسانه- فإن خاف فبقلبه و إن قدر على القيام- أو قطع الكلام بكلام آخر لزمه ذلك- فإن قال بلسانه اسكت و هو مريد للغيبة بقلبه فذلك نفاق- و لا يخرجه عن الإثم إلا أن يكرهه بقلبه- و لا يكفي أن يشير باليد أي اكفف أو بالحاجب و العين- فإن ذلك استحقار للمذكور بل ينبغي أن يذب عنه صريحا-فقد قال رسول الله ص من أذل عنده مؤمن- و هو يقدر على أن ينصره فلم ينصره- أذله الله يوم القيامة على رءوس الخلائق

فصل في الأسباب الباعثة على الغيبة

و اعلم أن الأسباب الباعثة على الغيبة على أمور- منها شفاء الغيظ- و ذلك أن يجري من الإنسان سبب يغضب به عليه آخر- فإذا هاج غضبه تشفى بذكر مساوئه- و سبق إليها لسانه بالطبع إن لم يكن هناك دين وازع- و قد يمنع تشفي الغيظ عند الغضب- فيحتقن الغضب في الباطن- فيصير حقدا ثابتا فيكون سببا دائما لذكر المساوئ- . و منها موافقة الأقران و مساعدتهم على الكلام- فإنهم إذا اجتمعوا ربما أخذوا يتفكهون بذكر الأعراض- فيرى أنه لو أنكر أو قطع المجلس استثقلوه- و نفروا عنه فيساعدهم و يرى ذلك من حسن المعاشرة- و يظن أنه مجاملة في الصحبة- و قد يغضب رفقاؤه من أمر فيحتاج إلى أن يغضب لغضبهم- إظهارا للمساهمة في السراء و الضراء- فيخوض معهم في ذكر العيوب و المساوئ- .

و منها أن يستشعر من إنسان أنه سيذمه- و يطول لسانه فيه و يقبح حاله عند بعض الرؤساء- أو يشهد عليه بشهادة فيبادره قبل أن يقبح حاله- فيطعن فيه ليسقط أثر شهادته عليه- . و قد يبتدئ بذكر بعض ما فيه صادقا- ليكذب عليه بعد ذلك- فيروج كذبه بالصدق الأول- . و منها أن ينسب إلى أمر فيريد التبرؤ منه- فيذكر الذي فعله و كان من حقه أن يبرئ نفسه- و لا يذكر الذي فعله- لكنه إنما يذكر غيره تأكيدا لبراءة نفسه- و كيلا يكون تبرؤا مبتورا- و ربما يعتذر بأن يقول فلان فعله- و كنت شريكا في بعض الأمر ليبرئ نفسه بعض البراءة- . و منها المباهاة و حب الرئاسة مثل أن يقول- كلام فلان ركيك و معرفته بالفن الفلاني ناقصة- و غرضه إظهار فضله عليه- .

و منها الحسد- و إرادة إسقاط قدر من يمدحه الناس بذكر مساوئه- لأنه يشق عليه ثناء الناس عليه- و لا يجد سبيلا إلى سد باب الثناء عليه إلا بذكر عيوبه- . و منها اللعب و الهزل و المطايبة- و تزجية الوقت بالضحك و السخرية- فيذكر غيره بما يضحك الحاضرين على سبيل الهزء و المحاكاة- .

و اعلم أن الذي يقوى في نفسي- أن الغيبة لا تكون محرمة- إلا إذا كانت على سبيل القصد- إلى تنقص الإنسان فقط و غض قدره- فأما إذا خرجت مخرجا آخر فليست بحرام- كمن يظلمه القاضي و يأخذ الرشوة على إسقاط حقوقه- فإن له أن يذكر حاله للسلطان متظلما من حيف الحاكم عليه- إذ لا يمكنه استيفاء حقوقه إلا بذلك-فقد قال ص مطل الغني ظلموقال لي الواجد يحل عقوبته و عرضهو كذلك النهي عن المنكر واجب- و قد يحتاج الإنسان إلى الاستعانة بالغير على تغييره- و رد القاضي إلى منهج الصلاح- فلا بد له أن يشرح للغير- حال ذلك الإنسان المرتكب المنكر- و من ذكر الإنسان بلقب مشهور فعرف عن عيبه- كالأعرج و الأعمش المحدثين- لم يكن مغتابا إذا لم يقصد الغض و النقص- .

و الصحيح أن المجاهر بالفسق لا غيبة له- كصاحب الماخور و المخنث- و من يدعو الناس إلى نفسه أبنة و كالعشار و المستخرج بالضرب- فإن هؤلاء غير كارهين لما يذكرون به- و ربما تفاخروا بذلك- وقد قال النبي ص من ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غيبة له- و قال عمر ليس لفاجر حرمة- و أراد المجاهر بالفسق دون المستتر- . و قال الصلت بن طريف قلت للحسن رحمه الله- الرجل الفاجر المعلن بالفجور غير مراقب- هل ذكري له بما فيه غيبة فقال لا و لا كرامة له

طريق التوبة من الغيبة

و اعلم أن التوبة من الغيبة تكفر عقابها- و التوبة منها هي الندم عليها و العزم على ألا يعود- فإن لم يكن الشخص المذكور قد بلغته الغيبة- فلا حاجة إلى الاستحلال منه- بل لا يجوز إعلامه بذلك- هكذا قال شيخنا أبو الحسين رحمه الله لأنه لم يؤلمه- فيحتاج إلى أن يستوهب منه إثم ذلك الإيلام- و في إعلامه تضييق صدره و إدخال مشقة عليه- و إن كان الشخص المذكور قد بلغته الغيبة- وجب عليه أن يستحله و يستوهبه- فإن كان قد مات سقط بالتوبة- عقاب ما يختص بالبارئ سبحانه من ذلك الوقت- و بقي ما يختص بذلك الميت لا يسقط- حتى يؤخذ العوض له من المذنب يوم القصاص

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 9