نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 99 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 100 صبحی صالح

100- و من خطبة له ( عليه‏ السلام  ) في رسول اللّه و أهل بيته‏

الْحَمْدُ لِلَّهِ النَّاشِرِ فِي الْخَلْقِ فَضْلَهُ

وَ الْبَاسِطِ فِيهِمْ بِالْجُودِ يَدَهُ

نَحْمَدُهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ

وَ نَسْتَعِينُهُ عَلَى رِعَايَةِ حُقُوقِهِ

وَ نَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ

وَ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ

أَرْسَلَهُ بِأَمْرِهِ صَادِعاً

وَ بِذِكْرِهِ‏نَاطِقاً

فَأَدَّى أَمِيناً

وَ مَضَى رَشِيداً

وَ خَلَّفَ فِينَا رَايَةَ الْحَقِّ

مَنْ تَقَدَّمَهَا مَرَقَ

وَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا زَهَقَ

وَ مَنْ لَزِمَهَا لَحِقَ

دَلِيلُهَا مَكِيثُ الْكَلَامِ

بَطِي‏ءُ الْقِيَامِ

سَرِيعٌ إِذَا قَامَ

فَإِذَا أَنْتُمْ أَلَنْتُمْ لَهُ رِقَابَكُمْ

وَ أَشَرْتُمْ إِلَيْهِ بِأَصَابِعِكُمْ

جَاءَهُ الْمَوْتُ فَذَهَبَ بِهِ

فَلَبِثْتُمْ بَعْدَهُ مَا شَاءَ اللَّهُ حَتَّى يُطْلِعَ اللَّهُ لَكُمْ مَنْ يَجْمَعُكُمْ

وَ يَضُمُّ نَشْرَكُمْ

فَلَا تَطْمَعُوا فِي غَيْرِ مُقْبِلٍ

وَ لَا تَيْأَسُوا مِنْ مُدْبِرٍ

فَإِنَّ الْمُدْبِرَ عَسَى أَنْ تَزِلَّ بِهِ إِحْدَى قَائِمَتَيْهِ وَ تَثْبُتَ الْأُخْرَى

فَتَرْجِعَا حَتَّى تَثْبُتَا جَمِيعاً

أَلَا إِنَّ مَثَلَ آلِ مُحَمَّدٍ ( صلى ‏الله‏ عليه ‏وآله  )كَمَثَلِ نُجُومِ السَّمَاءِ

إِذَا خَوَى نَجْمٌ طَلَعَ نَجْمٌ

فَكَأَنَّكُمْ قَدْ تَكَامَلَتْ مِنَ اللَّهِ فِيكُمُ الصَّنَائِعُ

وَ أَرَاكُمْ مَا كُنْتُمْ تَأْمُلُونَ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج7  

و من اخرى و هى التاسعة و التسعون من المختار فى باب الخطب

خطب بها في الجمعة الثالثة من خلافته كما فى شرح المعتزلي: الحمد للّه النّاشر في الخلق فضله، و الباسط فيهم بالجود يده، نحمده في جميع أموره، و نستعينه على رعاية حقرقه، و نشهد أن لا إله غيره، و أنّ محمّدا عبده و رسوله، أرسله بأمره صادعا، و بذكره ناطقا، فأدّى أمينا، و مضى رشيد، و خلّف فينا راية الحقّ، من تقدّمها مرق، و من تخلّف عنها زهق، و من لزمها لحق، دليلهامكيث الكلام، بطي‏ء القيام، سريع إذا قام، فإذا أنتم ألنتم له رقابكم، و أشرتم إليه بأصابعكم، جاءه الموت فذهب به فلبثتم بعده ما شاء اللّه حتّى يطلع اللّه لكم من يجمعكم و يضمّ نشركم، «فلا تطعنوا في عين مقبل تايسوا خ» فلا تطمعوا في غير مقبل، و لا تيأسوا من مدبر، فإنّ المدبر عسى أن تزلّ إحدى قائمتيه و تثبت الاخرى فترجعا حتّى تثبتا جميعا، ألا إنّ مثل آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كمثل نجوم السّماء، إذا خوى نجم طلع نجم. فكأنّكم قد تكاملت من اللّه فيكم الصّنائع، و أراكم ما كنتم تأملون.

اللغة

(الرّشد) إصابة الصّواب و قيل الاستقامة على طريق الحقّ مع تصلّب فيه، و بهما فسّر قوله سبحانه: وَ لَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ (و مرق) السهم من الرّمية خرج عن المرمى و (زهق) الشّى‏ء من باب منع بطل و هلك و (المكيث) البطي‏ء و (خوى) النجم مال للمغيب و (الصنائع) جمع الصنيعة و هى الاحسان.

الاعراب

فضله و يده منصوبان على المفعولية، و غيره منصوب على الوصف، و صادعا و ناطقا حالان من مفعول ارسله و يحتمل كون الأول حالا من امره و الثّاني من ذكره على نحو قوله: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ.

و أمينا و رشيدا منصوبان على الحال أيضا، و جملة من تقدّمها في محل النّصب صفة للراية، و دليلها بالرفع مبتدا و مكيث الكلام خبره.

المعنى

اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة من جملة الأخبار الغيبيّة لأمير المؤمنين عليه السّلام أخبر فيها بما يكون بعده عليه السّلام من أمر الأئمة عليهم السّلام و أعلم النّاس بموته عليه السّلام بعد اشتهار أمره و اجتماع الخلق له، و افتتح بالحمد و الثّناء، و الشهادة بالتّوحيد و الرّسالة و ذكر وصف الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أولا فقال عليه السّلام: (الحمد للّه الناشر) أى المفرّق (في الخلق فضله) و احسانه (و الباسط فيهم بالجوديده) أى نعمته من باب اطلاق اسم السّبب على المسبّب أو بسط اليد كناية عن العطاء (نحمده) سبحانه (في جمع اموره) الصادرة عنه سواء كان من قبيل العطاء و النعمة أو البلاء و الشّدة، فانّ كلّ ما صدر عنه سبحانه نعمة كان أو غيرها جميل اختيارىّ يستحق به حمدا و ثناء، و لازم حقّ العبوديّة و مقتضى كمال المعرفة القيام بوظايف الحمد في كلّ باب، و الرّضاء بالقضاء على جميع الأحوال و لا حاجة إلى ما تمحّله الشّارح البحراني «ره» و تكلّفه من أنّ الحمد بالشّدايد اللّاحقة باعتبار كونها من نعمه أيضا فانها إذا قوبلت بصبر جميل استلزمت ثوابا جزيلا كما قال تعالى: و بشّر الصّابرين، و ظاهر أنّ أسباب النّعم نعم.

(و نستعينه على رعاية حقوقه) الواجبة و الاتيان بها سواء كانت حقوقا مالية كالخمس و الزّكاة و الحجّ و نحوها، أو غير مالية كساير ما أوجبه على عباده (و نشهد أن لا إله غيره و أنّ محمّدا) صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (عبده و رسوله) ذكر الشهادتين في هذه الخطبة كأكثر الخطب لما روى من أن كلّ خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء (أرسله) سبحانه (بأمره صادعا) أى مظهرا مجاهرا امتثالا لقوله سبحانه فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ.

(و بذكره ناطقا) اطاعة لما أمره بقوله: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ.

(فادى) ما حمّله (امينا) مؤتمنا (و مضى) إلى الحقّ (رشيدا) صائبا (و خلّف فينا راية الحقّ) المراد بها إما الثقلان المخلّفان أعنى كتاب اللّه و العترة، أو الثقل الأكبر فقط، و الاستعارة عنهما بالراية باعتبار أنهما يهتدى بهما السّالكون في سبيل اللّه كما أنّ الرّاية سبب الهداية في منازل الدّنيا (من تقدّمها) و لم يعتدّبها (مرق) من الدّين مروق السهم من الرّمية (و من تخلّف عنها) و لم يتابعها (زهق) و هلك في الوادى الضّلالة (و من لزمها) و لم يفارق عنها (لحق) بالحقّ و أصاب الصّواب في كلّ باب.

قال الشّارح البحراني: أشار براية الحقّ إلى كتاب اللّه و سنّته و أشار بتقدّمها و التّخلف عنها إلى طرفي الافراط و التفريط من فضيلة الاستقامة عليها أى أنّ من كان تحتها لاحقا بها فهو على حاقّ الوسط من الفضايل، و من تقدّمها كان على طرف الافراط و قد تعدّى في طلب الدّين و أغلى فيه على جهل منه كما فعلت الخوارج و من تخلّف عنها كان على طرف التفريط و التقصير فهلك في طرق الضّلال و الحيرة (دليلها) أى دليل تلك الراية، و أراد به حاملها، أو الدّليل الذي يكون قدام الراية و يتبعه حاملها فانّ المسافرين و القوافل ربما يكون معهم راية و دليل يتقدّمهم الدليل و يتبعه حامل الراية و يكون سيرها معه و يتبعهما المسافرون و يسيرون بهما، و الاحتمال الثّانى أظهر، و على كلّ تقدير فاستعار به عن نفسه الشريف سلام اللّه عليه و آله و وجه الاستعارة على الاحتمال الأوّل واضح، لأنه عليه السّلام حامل الكتاب و العالم بما فيه، و أمّا على الثّاني فلعلّه باعتبار أنّ الكتاب لا يفارقه و هو لا يفارق الكتاب كما يدلّ عليه اخبار الثقلين و أنّه عليه السّلام امام الكتاب، لكونه مفسّرا له مظهرا عمّا فيه.

و قوله: (مكيث الكلام) أى بطيئه يعني أنّه عليه السّلام ذو تدبّر و تثبّت في أقواله، فانّ قلّة الكلام من صفات المدح، و كثرته من صفات الذمّ، و من هنا قيل: لسان العاقل من وراء قلبه فاذا أراد الكلام تفكّر فان كان له قال و إن كان عليه سكت، و قلب الجاهل من وراء لسانه فان همّ بالكلام تكلّم به من غير تروّ سواء كان له أم عليه،و يأتي عنه عليه السّلام نظيره في أواخر الكتاب.

و قوله (بطى‏ء القيام) اشارة إلى تأنيّه في الامور فانّ التؤدة من صفات العقل و التسرّع من صفات الجهل.

روى في الوسائل عن الصّدوق باسناده عن أمير المؤمنين عليه السّلام في وصيته لمحمّد بن الحنفية قال عليه السّلام: من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطاء، و من تورّط في الامور غير ناظر في العواقب فقد تعرض لمفظعات النّوائب، و التدبير قبل العمل يؤمنك من الندم، و العاقل وعظه التجارب، و في التجارب علم مستأنف، و في تقلّب الأحوال علم تجارب الرّجال.

و فيه من مجالس الشيخ باسناده عن أبي قتادة القمّي قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام ليس لحاقن رأى، و لا لملول صديق، و لا لحسود غني، و ليس بحازم من لا ينظر في العواقب و النظر في العواقب تلقيح للقلوب.

و من محاسن البرقي مسندا عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: أتي رجل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: علّمني يا رسول اللّه فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: عليك باليأس ممّا في أيدى النّاس فانّه الغنى الحاضر، قال: زدني يا رسول اللّه، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ايّاك و الطمع فانّه الفقر الحاضر، قال: زدني يا رسول اللّه، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا هممت بأمر فتدبّر عاقبته فان يك خيرا و رشدا فاتبعه، و ان يك غيا فاجتنبه.

و الأخبار في هذا المعنى كثيرة، و فيه قال الشاعر:

و كلّ أناة في المواطن سودد
و لا كأناة من قدير محكم‏

و ما الرّاى الّا بعد طول تثبّت‏
و لا الحزم إلّا بعد طول تلوّم‏

و قوله عليه السّلام (سريع إذا قام) يعني انه إذا ظهر له بعد التثبّت و التروّى وجه المصلحة في القيام بأمر بادر إليه و قام به سريعا و انتهض الفرصة.

ثمّ أخذ عليه السّلام يذكّرهم بموته بقوله: (فاذا أنتم ألنتم له رقابكم) و هو كناية عن طاعتهم له و انقيادهم لأمره (و أشرتم إليه بأصابعكم) و هو كناية عن الاجلال (جاءه الموت فذهب به).

قال الشّارح المعتزلي: نقل أنّ أهل العراق لم يكونوا أشدّ اجتماعا عليه من الشهر الذى قتل فيه، و جاء في الأخبار أنّه عليه السّلام عقد للحسن عليه السّلام ابنه على عشرة آلاف، و لأبي أيّوب الأنصاري على عشرة آلاف، و لفلان و فلان حتّى اجتمع له مأئة ألف سيف، و أخرج مقدمته أمامه يريد الشّام فضربه اللعين ابن ملجم و كان من أمره ما كان و انقضت تلك الجموع و كانت كالغنم فقد راعيها (فلبثتم بعده ما شاء اللّه) عدم التعيين لمدّة اللبث إشارة إلى طولها (حتى يطلع اللّه) و يظهر (لكم من يجمعكم و يضمّ نشركم) أى تفرّقكم و أشار عليه السّلام به إلى الامام المنتظر أعنى المهدى صاحب الزّمان عليه السّلام، و قيل: أشار به إلى قائم بنى العباس بعد انقضاء دولة بني امية و الأوّل أظهر.

(فلا تطمعوا في غير مقبل) قال المجلسيّ (ره): أى من لم يقبل على طلب هذا الأمر ممّن هو أهله فلا تطمعوا فيه، فانّ ذلك لاختلال بعض شرايط الطلب كما كان شأن أكثر أئمتنا عليهم السّلام، و قيل: أراد بغير المقبل من انحرف عن الدّين بارتكاب منكر، فانه لا يجوز الطمع في أن يكون أميرا لكم، و في بعض النسخ فلا تطعنوا في عين مقبل أى من أقبل على هذا الأمر من أهل البيت فلا تدفعوه عما يريد.

(و لا تيأسوا من مدبر) قال المجلسىّ (ره): أى من أدبر عن طلب الخلافة ممّن هو أهل لها فلا تيأسوا من عوده و اقباله على الطّلب، فانّ ادباره يكون لفقد بعض الشّروط كقلّة الناصر (فانّ المدبر عسى أن تزلّ احدى قائمتيه) و هو كناية عن اختلال بعض الشروط (و تثبت الاخرى) و هو كناية عن وجود بعضها (فترجعا حتّى تثبتا جميعا) و هو كناية عن استكمال الشرائط، و لا ينافي النّهى عن الاياس النّهى عن الطّمع، لأنّ عدم اليأس هو التجويز، و الطّمع فوق التجويز، أو لأنّ النهى عن الطمع في حال عدم الشروط و الاعراض عن الطّلب لذلك أيضا، و النّهى عن الاياس لجواز حصول الشرائط هذا.

و قوله عليه السّلام: (ألا إنّ مثل آل محمّد كمثل نجوم السّماء) أراد به الأئمة الاثنى عشر سلام اللّه عليهم أجمعين، و تشبيههم بالنجوم إمّا من حيث أنهم يهتدى بهم في سبيل اللّه كما يهتدى بالنّجم في ظلمات البرّ و البحر قال سبحانه: وَ عَلاماتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ.

و يدلّ عليه ما في تفسير عليّ بن إبراهيم في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ.

قال: النّجوم آل محمّد، و قد مرّ توضيح ذلك بما لا مزيد عليه في شرح الخطبة الرّابعة، و إمّا من حيث أنّهم كلّما مضى منهم امام قام مقامه آخر كالنجوم (اذا خوى نجم) اى مال للمغيب (طلع نجم) آخر.

ثمّ بشّرهم بقوله: (فكأنّكم قد تكاملت من اللّه فيكم الصنائع) أى النّعم و الآلاء (و أراكم) اللّه (ما كنتم تاملون) أى لا تيأسوا عسى اللّه أن يأتي بالفرج عن قريب، و المتحقق الوقوع قريب و إن كان بعيدا، و يمكن أن يكون ارائة المخاطبين مأمولهم في الرّجعة، و اللّه العالم.

الترجمة

از جمله خطب شريفه ديگر آن امام أنام است كه فرموده: حمد و سپاس خداوند را سزاست كه پراكنده كننده است در ميان خلق فضل و اكرام خود را، و گستراننده در ميان ايشان بجود و بخشش احسان و انعام خود را حمد مى‏ كنيم او را در همه كارهاى او، و طلب يارى مى‏ كنيم از او بر رعايت حقّهاى او، و شهادت مى‏ دهيم آنكه نيست هيچ معبودى بحق غير از او، و آنكه محمّد بن عبد اللّه صلوات اللّه عليه و آله بنده و رسول او است، فرستاده او را در حالتي كه اظهار كننده بود امر او را، و گوينده بود ذكر او را، يا اين كه فرستاده او را بأمر خود در حالتى كه شكافنده بود آن امر بيضه شرك را، و بذكر خود در حالتى كه گوينده بود آن‏ ذكر حقّ را.

پس أدا نمود حضرت خاتم نبوّت أوامر و أحكام حق را در حالتى كه امين بود در تبليغ رسالت، و گذشت بسوى حقّ در حالتى كه راستكار يا مستقيم بود بر طريق هدايت، و واپس گذاشت در ميان ما علم حق را كه عبارت باشد از كتاب اللّه و عترت، چنان علمى كه هر كس بپيش افتاد از او خارج شد از دين و ملّت، و هر كس تخلّف نمود از آن هلاك شد در بيابانهاى ضلالت، و هر كه ملازم شد آنرا لاحق گرديد بارباب كمال و سعادت.

دليل و حامل آن علم صاحب تأنّي است در تكلّم نمودن، و صاحب بطوء است در ايستادن، يعنى كلام و قيام او با فكر و تدبير و با ملاحظه مآل كار و عاقبت انديشى است، و صاحب سرعت است آن وقتى كه ايستاد بأمرى از امور اسلام، و اينها همه اشاره است بنفس شريف خود آن امام عليه السّلام چنانچه مى‏فرمايد.

پس زمانى كه شما نرم نموديد براى او گردنهاى خود را باطاعت و تسليم، و اشاره نموديد بسوى آن بانگشتان خود از روى اجلال و تعظيم، بيايد بسوى او مرگ پس ببرد او را، پس درنگ نمائيد بعد از او بمقدارى كه خواهد خدا تا اين كه ظاهر سازد خداوند از براى شما كسى را كه جمع كند شما را و بهم آورد پراكنده‏گى شما را، پس طمع نكنيد در كسى كه اقبال ننمايد بخلافت، و مايوس و نااميد نشويد از كسى كه ادبار نمايد بخلافت از جهة اين كه اين ادبار كننده شايد كه بلغزد يكى از دو قائمه او، و اين كنايه است از انتفاء بعض شرائط، و ثابت شود قائمه ديگر او، و اين كنايه است از وجود بعض شرايط، پس رجوع نمايند هر دو قائمه تا اين كه ثابت شوند هر دو تا، و اين كنايه است از استكمال شروط.

آگاه باشيد بدرستى كه مثل أهل بيت پيغمبر صلوات اللّه عليه و آله مثل ستارهاى آسمانست هرگاه ميل كند بغروب ستاره طلوع نمايد ستاره ديگر پس گويا شما بتحقيق كامل شده از جانب خدا در حقّ شما نعمتها و احسانها، و نموده بشما چيزى را كه بوديد آرزو مى‏ كرديد آنرا و اين بشارت است مر ايشان را بقرب فرج و كرامت.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 98 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 99 صبحی صالح

99- و من خطبة له ( عليه ‏السلام  ) في التزهيد من الدنيا

نَحْمَدُهُ عَلَى مَا كَانَ

وَ نَسْتَعِينُهُ مِنْ أَمْرِنَا عَلَى مَا يَكُونُ

وَ نَسْأَلُهُ الْمُعَافَاةَ فِي الْأَدْيَانِ

كَمَا نَسْأَلُهُ الْمُعَافَاةَ فِي الْأَبْدَانِ

عِبَادَ اللَّهِ

أُوصِيكُمْ بِالرَّفْضِ لِهَذِهِ الدُّنْيَا التَّارِكَةِ لَكُمْ وَ إِنْ لَمْ تُحِبُّوا تَرْكَهَا

وَ الْمُبْلِيَةِ لِأَجْسَامِكُمْ وَ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ تَجْدِيدَهَا

فَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَ مَثَلُهَا كَسَفْرٍ

سَلَكُوا سَبِيلًا فَكَأَنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوهُ

وَ أَمُّوا عَلَماً فَكَأَنَّهُمْ قَدْ بَلَغُوهُ

وَ كَمْ عَسَى الْمُجْرِي إِلَى الْغَايَةِ أَنْ يَجْرِيَ إِلَيْهَا حَتَّى يَبْلُغَهَا

وَ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَقَاءُ مَنْ لَهُ يَوْمٌ لَا يَعْدُوهُ

وَ طَالِبٌ حَثِيثٌ مِنَ الْمَوْتِ يَحْدُوهُ

وَ مُزْعِجٌ فِي الدُّنْيَا حَتَّى يُفَارِقَهَا رَغْماً

فَلَا تَنَافَسُوا فِي عِزِّ الدُّنْيَا وَ فَخْرِهَا

وَ لَا تَعْجَبُوا بِزِينَتِهَا وَ نَعِيمِهَا

وَ لَا تَجْزَعُوا مِنْ ضَرَّائِهَا وَ بُؤْسِهَا

فَإِنَّ عِزَّهَا وَ فَخْرَهَا إِلَى انْقِطَاعٍ

وَ إِنَّ زِينَتَهَا وَ نَعِيمَهَا إِلَى زَوَالٍ

وَ ضَرَّاءَهَا وَ بُؤْسَهَا إِلَى‏نَفَادٍ

وَ كُلُّ مُدَّةٍ فِيهَا إِلَى انْتِهَاءٍ

وَ كُلُّ حَيٍّ فِيهَا إِلَى فَنَاءٍ

أَ وَ لَيْسَ لَكُمْ فِي آثَارِ الْأَوَّلِينَ مُزْدَجَرٌ

وَ فِي آبَائِكُمُ الْمَاضِينَ تَبْصِرَةٌ وَ مُعْتَبَرٌ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ

أَ وَ لَمْ تَرَوْا إِلَى الْمَاضِينَ مِنْكُمْ لَا يَرْجِعُونَ

وَ إِلَى الْخَلَفِ الْبَاقِينَ لَا يَبْقَوْنَ

أَ وَ لَسْتُمْ تَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْيَا يُصْبِحُونَ وَ يُمْسُونَ عَلَى أَحْوَالٍ شَتَّى

فَمَيِّتٌ يُبْكَى

وَ آخَرُ يُعَزَّى

وَ صَرِيعٌ مُبْتَلًى

وَ عَائِدٌ يَعُودُ

وَ آخَرُ بِنَفْسِهِ يَجُودُ

وَ طَالِبٌ لِلدُّنْيَا وَ الْمَوْتُ يَطْلُبُهُ

وَ غَافِلٌ وَ لَيْسَ بِمَغْفُولٍ عَنْهُ

وَ عَلَى أَثَرِ الْمَاضِي مَا يَمْضِي الْبَاقِي

أَلَا فَاذْكُرُوا هَاذِمَ اللَّذَّاتِ

وَ مُنَغِّصَ الشَّهَوَاتِ

وَ قَاطِعَ الْأُمْنِيَاتِ عِنْدَ الْمُسَاوَرَةِ لِلْأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ

وَ اسْتَعِينُوا اللَّهَ عَلَى أَدَاءِ وَاجِبِ حَقِّهِ

وَ مَا لَا يُحْصَى مِنْ أَعْدَادِ نِعَمِهِ وَ إِحْسَانِهِ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج7  

و من خطبة له عليه السّلام و هى الثامنة و التسعون من المختار فى باب الخطب

نحمده على ما كان، و نستعينه من أمرنا على ما يكون، و نسأله المعافاة في الأديان، كما نسأله المعافاة في الأبدان. عباد اللّه أوصيكم بالرّفض لهذه الدّنيا التّاركة لكم و إن لم تحبّوا تركها، و المبلية لأجسامكم و إن كنتم تحبّون تجديدها، فإنّما مثلكم و مثلها كسفر سلكوا سبيلا فكأنّهم قد قطعوه، و أمّوا علما فكأنّهم قد بلغوه، و كم عسى المجري إلى الغاية أن يجري إليها حتّى يبلغها، و ما عسى أن يكون بقاء من له يوم لا يعدوه، و طالب حثيث يجدوه في الدّنيا حتّى يفارقها، فلا تنافسوا في عزّ الدّنيا و فخرها، و لا تعجبوا بزينتها و نعيمها، و لا تجزعوا من ضرّآئها و بؤسها، فإنّ عزها و فخرها إلى انقطاع، و إنّ زينتها و نعيمها إلى زوال، و ضرّائها و بؤسها إلى نفاد، و كلّ مدّة فيها إلى انتهاء، و كلّ حيّ فيها إلى فناء، أو ليس لكم في آثار الأوّلين مزدجر، و في آبائكم الماضين تبصرة و معتبر إن كنتم تعقلون، أو لم تروا إلى الماضين منكم لا يرجعون، و إلى الخلف الباقين لا يبقون، أولستم ترون أهل الدّنيا يمسون‏ و يصبحون على أحوال شتّى: فميّت يبكى، و آخر يعزّى و صريع مبتلى و عايد يعود، و آخر بنفسه يجود، و طالب للدّنيا و الموت يطلبه، و غافل و ليس بمغفول عنه، و على أثر الماضي ما يمضي الباقي، ألا فاذكروا هادم اللّذّات، و منغّص الشّهوات، و قاطع الأمنيّات عند المساورة للأعمال القبيحة، و استعينوا اللّه على أداء واجب حقّه، و ما لا يحصى من أعداد نعمه و إحسانه.

اللغة

(عافاه) اللّه من المكروه معافاة و عافية وهب اللّه له العافية من العلل و البلاء كأعفاه و العافية دفاع اللّه عن العبد و (رفضت) الدّنيا رفضا من باب نصر و ضرب تركتها و (سفر) بسكون العين جمع سافر كركب و راكب و صحب و صاحب و (جرى) الفرس جريا و أجريته أنا أرسلته و حملته على السير و (حثثت) الانسان على الشي‏ء حثّا من باب قتل حرضته عليه و ذهب حثيثا أى مسرعا و (حدوت) بالابل حثثتها على السير بالحداء و زان غراب و هو الغناء لها و حدوثه على كذا بعثته عليه و (الصّريع) من الأغصان ما تهدّل و سقط إلى الأرض و منه قيل للقتيل صريع، و في بعض النّسخ ضريع بالضاد المعجمة من ضرع ضرعا وزان شرف ضعف، و أضرعته الحمى أوهنته و (المساورة) المواثبة.

الاعراب

قوله. و كم عسى المجرى، أما لفظة كم استفهاميّة للتحقير بمعنى أيّ مدّة، و عسى فعل من أفعال المقاربة مفيد للرجاء و الطمع، و المرفوع بعده في مثل عسى زيد أن يخرج اسمه و ان مع الفعل في محلّ النصب على الخبر أى رجا زيد الخروج و قال الكوفيّون: ان مع الفعل في محلّ رفع بدلا ممّا قبله بدل الاشتمال كقوله تعالى‏ لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ إلى قوله أَنْ تَبَرُّوهُمْ أى لا ينهيكم اللّه عن أن تبرّوهم و على هذا فمعنى عسى زيد أن يخرج يتوقّع و يرجا خروج زيد، و الأشهر الأوّل هذا.

و قد يقع ان مع الفعل فاعلا له مستغنا به عن الخبر لكونه حينئذ تامّا بمعنى قرب تقول عسى أن يخرج زيد أى قرب خروجه.

و قال الرّضي انّ من ذهب إلى أنّ أن مع الفعل في عسى زيد أن يخرج خبر عسى، جاز أن يقول في عسى أن يخرج زيد أنّ أن يخرج خبر أيضا و هو من باب التنازع يعنى يجوز في المثال جعل زيد اسما لعسى و أن مع الفعل خبرا مقدّما له في محلّ النّصب فيضمر فى الفعل ضمير عايد إلى زيد، كما يجوز جعل زيد فاعلا للفعل و جعل عسى مسندا إلى ان و الفعل مستغنى بهما عن الخبر.

إذا عرفت ذلك فأقول: إنّ لفظة عسى في قوله عليه السّلام كم عسى ناقصة و المجرى اسمها و ان يجرى إليها خبرها، و في قوله و ما عسى أن يكون بقاء من له يوم لا يعدوه تامّة وقعت بعد ما النافية و أن يكون فى محل الرّفع على الفاعل و يكون تامة أيضا بمعنى يوجد، و الواو في قوله و طالب آه للحال و الضمير في قوله عليه السّلام يحدوه عايد إلى من الموصولة و الفاء في قوله عليه السّلام: فلا تنافسوا فصيحة، و الهمزة في قوله عليه السّلام أو ليس لكم استفهام على سبيل الانكار الابطالى و يحتمل جعلها تقريرا بما بعد النفى كما ذهب إليه الزمخشرى في قوله: أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ.

و مثلها الهمزة في قوله أو لستم ترون آه، و ما في قوله عليه السّلام ما يمضى الباقي مصدرية أو زايدة.

المعنى

اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة مسوقة للوصيّة بالتّقوى و الأمر برفض الدّنياو التنفير عنها بذكر معايبها و مثالبها، و افتتح الكلام بحمد الملك المتعال و استعانة الربّ ذى الجلال لأنّ ذكره سبحانه مفتاح للمطالب، و وسيلة إلى المآرب فقال: (نحمده على ما كان و نستعينه من أمرنا على ما يكون) تخصيص الحمد بما كان و الاستعانة بما يكون من حيث إنّ الثّناء على النعمة موقوف و مترتب على وقوعها فيما مضى، و طلب العون على أمر لا يتصوّر إلّا فيما يأتي و ما هو بصدد أن يفعله (و نسأله المعافاة في الأديان كما نسأله المعافاة في الأبدان) فانّ الأديان لها سقم و شفاء كما للأبدان، و مرض الاولى أشدّ و آكد و تأثيره أكثر و أزيد، و لذلك قدّم طلب العافية لها، لأنّ مرض الأبدان عبارة عن انحراف المزاج الحيواني عن حدّ الاعتدال، و نقصانه يقع على الأعضا و الجوارح الظاهرة، و مرض الأديان عبارة عن ميل القلب عن الصراط المستقيم و المنهج القويم، و تأثيره يقع على القلب، و ضرره يعود إلى القوّة القدسيّة و نعم ما قيل:

و إذا مرضت من الذّنوب فداوها
بالذكر إنّ الذكر خير دواء

و السّقم في الأبدان ليس بضائر
و السّقم في الأديان شرّ بلاء

(عباد اللّه اوصيكم بالرفض لهذه الدّنيا التاركة لكم و ان لم تحبّوا تركها) أمر برفض الدّنيا و تركها و نفّر عنها بالتنبيه على أنّها تاركة لكم لا محالة، مفارقة إياكم و إن كانت محبوبة عندكم عزيزا عليكم فراقها، فانّ طبعها التّلطف في الاستدراج أوّلا و التّوصّل إلى الاهلاك آخرا، و هي كامرأة تتزيّن للخطاب حتّى إذا نكحوها ذبحتهم فمن كان ذا بصيرة لا يعقد قلبه على محبّة محبوبة كذلك، و لا يخاطب امرأة شأنها ذلك.

و قد روى أنّ الصادق عليه السّلام كان يقول لأصحابه: يا بني آدم اهربوا من الدّنيا إلى اللّه و أخرجوا قلوبكم عنها فانكم لا تصلحون لها و لا تصلح لكم و لا تبقون لها و لا تبقى لكم هى الخداعة الفجاعة المغرور من اغترّبها، و المفتون من اطمأنّ إليها، الهالك من أحبّها و أرادها.

و روى انّ عيسى عليه السّلام كوشف بالدّنيا فرآها في صورة عجوز هتماء«» عليها من كلّ زينة فقال عليه السّلام لها: كم تزوّجت قالت: لا احصيهم، قال فكلّهم مات عنك أم كلّهم طلّقك قالت: بل كلّهم قتلت، فقال عيسى عليه السّلام: بؤسا لأزواجك الباقين كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضين، و كيف تهلكينهم واحدا بعد واحد و لا يكونون منك على حذر.

ثمّ نبّه عليه السّلام على عيب لها آخر بقوله (و المبلية لأجسادكم و ان كنتم تحبّون تجديدها) و هذا الوصف أيضا منفّر عنها، لأنّ تجديد الأجساد و الأبدان إذا كان محبوبا للانسان و كانت الدّنيا حائلة بينه و بين محبوبه مانعة له عن نيله و وصوله بسهام الأسقام و نشاشيب الأمراض و الأوصاب فمن شأنها أن تبغض و ترفض و تجتنب و لا تحب.

قال بعض الحكماء: الأيّام سهام و النّاس أغراض و الدّهر يرميك كلّ يوم بسهامه، و يخترمك بلياليه و أيّامه، حتى يستغرق جميع أجزائك، فكيف بقاء لسلامتك مع وقوع الأيام بك، و سرعة الليالي في بدنك، لو كشف لك عما أحدثت الأيام فيك من النّقص لا ستوحشت من كلّ يوم يأتي عليك، و استثقلت ممرّ الساعات بك، و لكن تدبير اللّه فوق تدبير الاعتبار.

ثمّ ضرب عليه السّلام للدّنيا مثلا في قصر مدّتها بقوله (فانّما مثلكم و مثلها كسفر سلكوا سبيلا فكأنّهم قد قطعوه، و أمّوا علما فكأنهم قد بلغوه) جعل أهل الدّنيا و الكائنين فيها بمنزلة المسافرين، جعلها بمنزلة سبيل يسلكه المسافر، و جعل سرعة سيرهم و انتقالهم فيها و قربهم من الموت الذى هو آخر منازلها بمنزلة قطع المسافر منازله، و بلوغ قاصد علم و منار مقصده، يعنى أنهم في حالكونهم غير قاطعين له كأنّهم قاطعون له، و في حالكونهم غير بالغين له كأنهم بالغون له، لأنه لما قرب زمان احدى الحالتين من زمان الحالة الاخرى شبّهوا و هم في الحال الأولى بهم أنفسهم و هم على الحالة الثّانية و لنعم ما قيل

يا راقد اللّيل مسرورا بأوّلها
إنّ الحوادث قد يطرقن أسحارا

أفنى القرون التي كانت منعمّة
كرّ الجديدين إقبالا و إدبارا

كم قد أبادت صروف الدهر من ملك‏
قد كان في الدّهر نفّاعا و ضرّارا

يا من يعانق دنيا لا بقاء لها
يمسى و يصبح في دنياه سفارا

هلّا تركت من الدّنيا معانقة
حتّى تعانق في الفردوس أبكارا

إن كنت تبغى جنان الخلد تسكنها
فينبغي لك أن لا تأمن النّارا

(و كم عسى المجري إلى الغاية أن يجرى إليها حتّى يبلغها) يعني أىّ مدّة يرجو و يطمع المرسل مركوبه إلى وصول غاية ارساله إليها حتى يصلها، و الغرض منه تحقير ما يرجوه من مدّة الجرى و هي مدّة الحياة أى لا تظنّ لها طولا و لا تغترن بتماديها فانها عن قليل تنقضى و تنصرم، و في هذا المعنى قال عليه السّلام في الدّيوان:

إلا إنّما الدّنيا كمنزل راكب
أناخ عشيّا و هو في الصّبح راحل‏

(و ما عسى أن يكون بقاء من له يوم لا يعدوه) يعني ما قرب وجود البقاء لمن له يوم لا يجاوزه، و هو تحقير لما يؤمل من مدّة البقاء أى بقاء من له يوم ليس وراءه بقاء و هو يوم الموت ليس بشي‏ء يعتدّ به (و) الحال انه له (طالب حثيث يحدوه في الدّنيا حتى يفارقها) لعلّه أراد بالطالب الحثيث الموت و كنى بحدائه له عن سوق أسباب الموت و مقدّماته التي هي كرّ اللّيالي و مرّ الأيام له إليه.

و إذا كانت الدّنيا بهذه المثابة (فلا تنافسوا) أى لا تحاسدوا و لا تضنّوا (في عزّ الدّنيا و فخرها و لا تعجبوا بزينتها و نعيمها و لا تجزعوا من ضرّائها و بؤسها) نهى عن المنافسة فيها و الاعجاب بها و الجزع منها معلّلا وجوب الانتهاء عن الأوّل بقوله (فانّ عزّها و فخرها إلى انقطاع) و ما كان منقطعا لا يحرص عليه لبيب و لا ينافس فيه أريب، و علّل وجوب الانتهاء عن الثاني بقوله (و زينتها و نعيمها إلى زوال) و ما كان زائلا لا يرغب إليه العاقل و لا يعجب به إلّا جاهل، و عن الثّالث بقوله (و ضرّائها و بؤسها إلى نفاد) و ما كان نافدا فانيا أحرى بأن يصبر عليه و لا يجزع منه (و كلّ مدّة فيها إلى انتهاء) سواء كانت مدّة عزّ و منعة أو زينة و نعمة أو ضرّ و شدّة (و كلّ حىّ فيها إلى فناء) سواء كان ذى شرف و رفعة أو ذلّ و محنة أو ابتهاج و لذّة

  و كلّ شباب أو جديد إلى البلى
و كلّ امرء يوما إلى اللّه صائر

(أ و ليس لكم في آثار الأوّلين) من الاخوان و الأقران و الا لّاف و الأسلاف (مزدجر و في آبائكم الماضين) الأقربين منهم و الأبعدين (تبصرة و معتبر إن كنتم تعقلون) بلى في النظر إلى ادنى ما جرى عليهم تبصرة و اعتبار، و الفكر في أهون ما لا قوة تذكرة و انزجار عدالى ذكر المنقول إلى الثرى و المدفوع إلى هول ما ترى

هوى مصرعا في لحده و توزّعت
مواريثه أرحامه و الأواصر

و أنحوا على أمواله بخصومة «يخضمونها خ» فما حامد منهم عليها و شاكر

فيا عامر الدّنيا و يا ساعيا لها
و يا آمنا من أن تدور الدّوائر

كيف أمنت هذه الحالة و أنت صائر إليها لا محالة (أو لم تروا إلى الماضين منكم لا يرجعون) فما لهم يذهبون و لا يعودون، أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا فناموا (و إلى الخلق الباقين لا يبقون) بل يمضون ارسالا و يحتذون مثالا قال قسّ ابن ساعدة الأيادى:

في الأولين الذاهبين من القرون لنا بصائر
و رأيت قومي نحوها يمضي الأكابر و الأصاغر

لا يرجع الماضى إلىّ و لا من الباقين غابر
أيقنت أنى لا محالة حيث صار القوم صائر

و قال زهير بن أبي سلمى:

ألا ليت شعرى هل يرى الناس ما أرى
من الأمر أو يبدو لهم ما بداليا

بدى لى أنّ النّاس تفنى نفوسهم‏
و أموالهم و لا أرى الدّهر فانيا

و إني متى أهبط من الأرض تلعة«»
أجد أثرا قبلى جديدا و عافيا

أراني إذا أصبحت أصبحت ذا هوى‏
فثمّ إذا أمسيت أمسيت عاديا

إلى حفرة«» أهوى اليها مضمّة
يحثّ إليها سايق من ورائيا

كأنّي و قد خلّفت سبعين حجّة«»
خلعت بها ان منكبى ردائيا

بدالى انّي لست مدرك ما مضى
و لا سابق شيئا إذا كان جائيا

و ما أن أرى نفسي تقيها«» عزيمتي
و ما أن تقى نفسى كرائم ماليا

ألا لا أرى على الحوادث باقيا
و لا خالدا إلّا الجبال الرّواسيا

و إلّا السّماء و البلاد و ربّنا
و أيّامنا معدودة و اللّياليا

أراني إذا ما شئت لا قيت آية
تذكّرني بعض الذى كنت ناسيا

ألم تر أنّ اللّه أهلك تبعا
و أهلك لقمان بن عاد و عاديا

«» و أهلك ذا القرنين من قبل ما يرى‏
و فرعون جبّار معا و النّجاشيا

ألا لا أرى ذا امّة أصبحت به
فتتركه الأيام و هي كماهيا

ألم تر للنعمان كان بنجوة«»
من الشّر لو أنّ أمرء كان ناجيا

فغيّر عنه رشد عشرين حجّة
من الدّهر يوم واحد كان غاديا

فلم أر مسلوبا له مثل ملكه‏
أقلّ صديقا صافيا و مواليا

فأين الذي قد كان يعطى جياده«»
بأرسانهنّ و الحسان الحواليا«»

و أين الذين قد كان يعطيهم القرى‏
بغلّاتهنّ و المثين الغواليا«»

و أين الذين يحضرون جفانه
إذا قدّمت ألقوا عليها المراسيا«»

رأيتهم لم يشركوا«» بنفوسهم‏
منيّته لمّا رأوا انهاهيا

هذا و لمّا ارشد عليه السّلام إلى الاتّعاظ بأحوال السّلف الماضين و بفناء الغابرين الباقين نبّه على اختلاف حالات أهل الدّنيا ليستدلّ به السامعون على عدم بقائها و يستفيدوا به عبرة اخرى فقال (أو لستم ترون أهل الدّنيا يمسون و يصبحون على أحوال شتّى) و حالات مختلفة (ف) منهم (ميّت يبكى) عليه و يشقّ الجيوب لديه و يخرج‏من سعة قصره إلى ضيق قبره و يحثّون بأيديهم عليه التراب و يكثرون عنده التلدّد و الانتحاب (و آخر يعزّى) و يسلّى اذا يئس عن برء عليله أو جزم بموت خليله (و صريع مبتلى) بأنواع الأوجاع و الأسقام و طوارق الأمراض و الآلام (و عائد يعود) المريض عند المرض و يتحسّر عليه إذا شاهده على غصص الجرض (و آخر بنفسه يجود) ابلس عنه زوّاره و عوّاده و أسلمه أهله و أولاده و غضّوا بأيديهم عينيه و مدّوا الى جنبيه يديه و رجليه و هو في سكرة ملهثة و غمرة كارثة و أنّه موجعة و سوقة مكربة و جذبة متعبة.

(و) منهم (طالب للدّنيا) ساع لها (و الموت يطلبه) و يحثّه حتّى يدخله في حفرته (و) منهم (غافل) عمّا خلقه اللّه لأجله (و ليس بمغفول عنه) بل اللّه عالم به و مجزيه بأعماله (و على أثر الماضي ما يمضي الباقي) قال سيّد العابدين عليه السّلام في هذه المعنى:

إذا كان هذا نهج من كان قبلنا
فانّا على آثارهم نتلا حق‏

فكن عالما أن سوف تدرك من مضى‏
و لو عصمتك الرّاسيات الشّواهق‏

ثمّ أمرهم عليه السّلام بذكر الموت و وصفه بلوازمه المنفّرة عنه فقال عليه السّلام (ألا فاذكروا هادم اللّذات) الدنيوية (و منغّص الشهوات) النفسانية (و قاطع الامنيّات) و الآمال الباطلة (عند المساورة) و المواثبة (للأعمال القبيحة) لترتدعوا بذكره عنها (و استعينوا اللّه) سبحانه و اطلبوا منه التوفيق (على أداء واجب حقّه) الذى أوجبه عليكم و هو الاتيان بالطّاعات و القيام بوظايف العبادات (و) على أداء واجب (ما لا يحصى من أعداد نعمه و احسانه) الذي أنعمه عليكم و أحسنه إليكم و هو القيام بوظايف الحمد و الثبات بمراسم الثناء.

قال عليه السّلام في بعض كلماته: أيّها النّاس إنّ للّه في كلّ نعمة حقّا، فمن أدّاه زاده، و من قصّر عنه خاطر بزوال النعمة و تعجّل العقوبة، فليراكم اللّه من النعمة و جلين، كما يراكم من الذنوب فرقين.

الترجمة

از جمله خطب شريفه آن حضرت است كه متضمن تنفير از دنيا و از محبت آن غدّار بى‏ وفا است چنانچه فرموده: حمد مى ‏كنيم خداوند را بر آنچه بوده است از نعمتها، و استعانت مى ‏نمائيم از خدا از كارهاى خود بر آنچه مي باشد، و سؤال مى كنيم از او بذل عافيت را در بدنها همچنان كه سؤال مى‏ كنيم از او بذل عافيت را در دينها اى بندگان خدا وصيت مي كنم شما را بترك نمودن اين دنيائى كه ترك نماينده است شما را و اگر چه دوست نداريد ترك نمودن او را، و كهنه كننده است جسدهاى شما را و اگر چه دوست داريد تازگى آنها را، پس بدرستى كه مثل شما و مثل دنيا همچو مسافرانيست كه روند براهى پس گويا كه ايشان قطع نموده باشند آن راه را، و قصد نمايند نشانه و علامتي را پس گويا كه ايشان رسيده باشند بآن مقصد، و چه قدر مدت را اميد مى‏ گيرد شخصى كه جارى كننده است مركب خود را بسوى غايتى جارى نمودن آن را بسوى آن غايت تا برسد بآن، و چه چيز اميد گرفته مى‏ شود باقى ماندن كسى كه او راست يك روزى كه تجاوز نمى‏ نمايد از آن و حال آنكه او راست طلب كننده شتاباننده كه ميراند او را در دنيا تا اين كه مفارقت نمايد از آن.

پس حسد و بخل نكنيد بر يكديگر در عزّت دنيا و فخر آن، و خوشحال و دلشاد نشويد بزينت و نعمت آن، و جزع ننمائيد از دشوارى و سختى آن، از جهة اين كه عزّت و فخر آن منتهى مى‏ شود بانقطاع، و نعمت و زينت آن منتهى مى‏ شود بزوال و فنا، و دشوارى و سختى آن منجّر مى‏ شود بنيستى و نابودى، و هر مدّتى كه در او است مى‏ كشد بانتهاء، و هر زنده كه در او است باز مى‏ گردد بفناء آيا نيست مر شما را در اثرهاى پيشينيان و در پدران گذشتگان شما بينائى و عبرت اگر بوده باشيد تعقل كننده، آيا نگاه نمى‏ كنيد بسوى گذشتگان از خودتان كه باز نمى‏ گردند، و بسوى خلفهائى باقي ماندگان كه باقي نمى‏ مانند.

آيا نيستيد شما كه مى‏ بينيد أهل دنيا را كه شام و صباح مى ‏نمايند بر حالتهاى‏مختلفه: پس بعضى مرده است كه بر او گريه مي كنند، و بعضى را سر سلامتي مى ‏دهند، و بعضى ديگر ضعيف است مبتلا بأنواع مرضها، و برخى عيادت كننده است بيمار را كه مى‏ رود بعيادت، و ديگرى در حال جان دادنست، و يكى طلب كننده است دنيا را و حال آنكه مرگ طلب مى ‏كند او را، و يكى هست كه بيخبر است از آخرت و حال آنكه غفلت نشده از او در هيچ حالت، و بر اثر گذشته است گذشتن باقي مانده.

آگاه باشيد پس ياد آوريد مرگ را كه شكننده لذتها است و مكدّر نماينده شهوتها و قطع كننده آرزوها است در هنگام جستن براى أعمال قبيحه و حركات ناشايست، و طلب يارى نمائيد از خدا بر أدا كردن حق واجب او را و أدا كردن آن چيزى كه شمرده نمى ‏شود از شماره‏ هاى نعمتها و احسان بى‏ پايان آن. و اللّه أعلم بالصّواب.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 97 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 98 صبحی صالح

98- و من كلام له ( عليه ‏السلام  ) يشير فيه إلى ظلم بني أمية

وَ اللَّهِ لَا يَزَالُونَ حَتَّى لَا يَدَعُوا لِلَّهِ مُحَرَّماً إِلَّا اسْتَحَلُّوهُ

وَ لَا عَقْداً إِلَّا حَلُّوهُ

وَ حَتَّى لَا يَبْقَى بَيْتُ مَدَرٍ وَ لَا وَبَرٍ

إِلَّا دَخَلَهُ ظُلْمُهُمْ وَ نَبَا بِهِ سُوءُ رَعْيِهِمْ

وَ حَتَّى يَقُومَ الْبَاكِيَانِ يَبْكِيَانِ

بَاكٍ يَبْكِي لِدِينِهِ

وَ بَاكٍ يَبْكِي لِدُنْيَاهُ

وَ حَتَّى تَكُونَ نُصْرَةُ أَحَدِكُمْ‏

مِنْ أَحَدِهِمْ كَنُصْرَةِ الْعَبْدِ مِنْ سَيِّدِهِ

إِذَا شَهِدَ أَطَاعَهُ

وَ إِذَا غَابَ اغْتَابَهُ

وَ حَتَّى يَكُونَ أَعْظَمَكُمْ فِيهَا عَنَاءً أَحْسَنُكُمْ بِاللَّهِ ظَنّاً

فَإِنْ أَتَاكُمُ اللَّهُ بِعَافِيَةٍ فَاقْبَلُوا

وَ إِنِ ابْتُلِيتُمْ فَاصْبِرُوا

فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج7  

و من كلام له عليه السّلام و هو السابع و التسعون من المختار فى باب الخطب

و يستفاد من كتاب الغارات انه قاله بعد أمر الخوارج و النهروان و رواه في البحار عن المسيّب بن نجبة الفزارى نحوه و سنشير إليه إنشاء اللّه. و اللّه لا يزالون حتّى لا يدعوا للّه محرما إلّا استحلّوه، و لا عقدا إلّا حلوّه، و حتّى لا يبقى بيت مدر و لا وبر إلّا دخله ظلمهم، و نبا به سوء رعيهم، و حتّى يقوم الباكيان يبكيان: باك يبكي لدينه، و باك يبكي لدنياه، و حتّى يكون نصرة أحدكم من أحدهم كنصرة العبد من سيّده: إذا شهد أطاعه، و إذا غاب اغتابه، و حتّى يكون أعظمكم فيها عناء أحسنكم باللّه ظنّا، فإن أتاكم اللّه بعافية فأقبلوا، و إن ابتليتم فاصبروا، فإنّ العاقبة للمتّقين.

اللغة

(محرما) في أكثر النسخ و زان مقعد بفتح الميم و تخفيف الراء و هو ماحرّمه اللّه سبحانه و الجمع محارم، و عن بعضها محرّما بضم الميم و تشديد الرّاء و جمعه محارم و محرمات (و نبأ) منزله به بتقديم النون على الباء اذا لم يوافقه و (رعيهم) في أكثر النسخ بالياء المثناة التحتانية مصدر رعا يرعى بمعنى الحكومة و الامارة، و في بعض النسخ بالتاء الفوقانية مصدر ورع يقال ورع يرع بالكسر فيهما ورعا ورعة و هو التقوى و (ابتليتم) بالبناء على المفعول.

الاعراب

خبر زال محذوف أى لا يزالون على الجور أو ظالمين، و إضافة نصرة أحدكم و نصرة العبد من اضافة المصدر إلى فاعله، و أعظمكم بالنصب خبر كان قدّم على اسمها و هو أحسنكم و يروى برفع الأوّل و نصب الثاني على العكس و الأوّل أنسب

المعنى

اعلم أنّ المقصود بهذا الكلام الاشارة إلى شدّة طغيان بني اميّة و ما يصيب المسلمين منهم من الجور و الظلم و الأذية و صدّر الكلام بالقسم البار تحقيقا و تصديقا فقال (و اللّه لا يزالون) ظالمين (حتّى لا يدعو اللّه محرما إلّا استحلوه) أى عدّوه حلالا و استعملوه استعمال المحلّلات و لا يبالون به، و يشهد بذلك ما صدر منهم من القتل و اتلاف النّفوس الّتي لا تحصى، فاذا كان حالهم في أعظم الكباير ذلك فكيف بغيرها.

(و لا) يتركوا (عقدا إلّا حلّوه) و المراد به إمّا العقد و العهود المعاهدة بينهم و بين الناس فالمراد بحلّها نقضها، و أول ما وقع من ذلك ما كان من معاوية حيث نقض المعاهدة بينه و بين الحسن عليه السّلام، و إمّا العهود المأخوذة عليهم من اللّه تعالى و هو أحكام الدّين و قوانين الشرع المبين فيكون حلّها عبارة عن مخالفتها و عدم العمل بها (و حتّى لا يبقى بيت مدر و لا وبر إلّا دخله ظلمهم) أراد ببيت المدر ما يعمل من الطين و الجصّ و نحوه في القرى و البلدان، و ببيت الوبر الخباء و الخيم المتخذة من الشعر و الصوف و الوبر و نحوها في البوادى (و نبابه سوء رعيهم) أى‏ضره و خالفه سوء امارتهم أو سوء تقويهم.

(و حتّى يقوم الباكيان يبكيان باك يبكى لدينه و باك يبكى لدنياه) لعلّ المراد بالباكى لدينه من لم يكن متمكّنا من اظهار معالم الدّين من القيام بوظائف شرع سيّد المرسلين، و بالباكى لدنياه من كان مصابا بنهب الأموال و مبتلى بسوء الحال (و حتّى يكون نصرة أحدكم من أحدهم كنصرة العبد من سيّده إذا شهد أطاعه و إذا غاب اغتابه) الظاهر أنّ المراد بالنصرة في المقامين هو الانتصار فيكون المجرّد بمعنى المزيد و قد مرّ نظير هذه العبارة في الخطبة الثّانية و التّسعين و أوضحنا معناها هنالك.

قال الشّارح المعتزلي: و قد حمل قوم هذا المصدر أى نصرة أحدكم على الاضافة إلى المفعول، و كذلك نصرة العبد و تقدير الكلام حتى يكون نصرة أحد هؤلاء الولاة أحدكم كنصرة سيّد العبد السّى‏ء الطريقة إياه، و من في الموضعين مضافة إلى محذوف تقديره من جانب أحدهم و من جانب سيّده قال الشّارح: و هذا ضعيف لما فيه من الفصل بين العبد و بين قوله«» إذا شهد أطاعه، و هو الكلام الذي إذا استمر المعنى جعل حالا من العبد لقوله من سيّده.

أقول: لعلّ مراد الشّارح بما ذكره في وجه الضعف من استلزام الفصل هو اختلال نظام الكلام من حيث المعنى لا من حيث التركيب النحوى، فانّ الاتساع في الظروف و شبهها ممّا هو معروف، و الفصل بهما بين اجزاء الكلام بما لا يسوغ لغيرهما مشهور مأثور، نعم اختلال المعنى لا ريب فيه فانّ محصل معنى الكلام على ما ذكره القوم حتى يكون منصورية أحدكم من جانب أحدهم كمنصورية العبد من جانب سيده، و على ذلك فلا يلايمه قوله عليه السّلام: إذا شهد أطاعه «آه» فان ظاهر هذا الكلام يعطى كونه بيانا لحالة نصرة العبد سيّده بمعنى ناصريته له، لا لحالة منصوريته منه فافهم.

(و حتى يكون أعظمكم فيها) أى في هذه الفتنة المفهومة بسياق الكلام‏(عناء) و جهدا (أحسنكم باللّه ظنّا) لظهور أنّ حسن الظن باللّه من صفات المؤمنين و الأولياء الكاملين، و معلوم أنّ عداوتهم لهم تكون أشدّ، و عنائهم و تعبهم منهم يكون أكثر و آكد (فان أتاكم اللّه بعافية) و نجاة من تلك البلية (فاقبلو) ها بقبول حسن و اشكروا له سبحانه (و إن ابتليتم) و اصبتم بمصيبة (فاصبروا) عليها و تحاملوا بها (فانّ العاقبة للمتقين) و اللّه لا يضيع أجر المحسنين.

تنبيه

اعلم أنّ المستفاد من كتاب الغارات لابراهيم الثقفي على ما حكى عنه في البحار أنّ هذا الكلام قاله أمير المؤمنين عليه السّلام بعد واقعة النّهروان بعد ما رجع إلى الكوفة و أغار سفيان بن عوف العامرى بأمر معاوية على الانبار على ما تقدّم تفصيله في شرح الخطبة السّابعة و العشرين.

قال صاحب الغارات بعد ما أورد شطرا من الآثار في غارة سفيان: و عن ثعلبة بن يزيد الحماني أنّه قال: بينما أنا في السّوق إذ سمعت مناديا ينادى الصّلاة جامعة، فجئت اهرول و الناس يهرعون فدخلت الرّحبة فاذا علىّ عليه السّلام على منبر من طين مجصّص و هو غضبان قد بلغه أنّ اناسا قد أغاروا بالسّواد، فسمعته يقول: أما و ربّ السّماء و الأرض ثمّ ربّ السّماء و الأرض إنّه لعهد النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ الامّة ستغدر بى.

و عن المسيب بن نجبة الفزاري أنّه قال: سمعت عليّا عليه السّلام يقول: إنّي قد خشيت أن يدال هؤلاء القوم عليكم، بطاعتهم إمامهم و معصيتكم إمامكم، و بأدائهم الأمانة و خيانتكم، و بصلاحهم في أرضهم و فسادكم في أرضكم، و باجتماعهم على باطلهم و تفرقكم عن حقّكم حتّى تطول دولتهم و حتى لا يدعو اللّه محرما الّا استحلّوه حتى لا يبقى بيت و بر و لا بيت مدر إلّا دخله جورهم و ظلمهم حتى يقوم الباكيان باك يبكى لدينه و باك يبكى لدنياه، و حتّى لا يكون منكم إلّا نافعا لهم أو غير ضارّ بهم، و حتى يكون نصرة أحدكم منهم كنصرة العبد من سيّده إذا شهد أطاعه و إذا غاب سبّه، فان أتاكم اللّه بالعافية فاقبلوا و إن ابتلاكم فاصبروا، فانّ العاقبة للمتقين، هذا.

و أقول: لا يخفى على الناقد الخبير بالأخبار و المطلع على الآثار أنّ ما أخبر به أمير المؤمنين عليه السّلام و أشار إليه في هذا الكلام من عموم جور بنى اميّة، و انتهاكهم المحارم، و استحلالهم الدّماء و اضرارهم بالمسلمين، و سعيهم في اطفاء نور ربّ العالمين، فقد وقع كلّه مطابقا لما اخبربه.

فقد روى في البحار من كتاب سليم بن قيس الهلالي عن أبان عن سليم و عمر ابن أبي سلمة قالا: قدم معاوية لعنه اللّه حاجا في خلافته المدينة بعد ما قتل أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه و صالح الحسن عليه السّلام و في رواية اخرى بعد ما مات الحسن عليه السّلام و استقبله أهل المدينة فنظر فاذا الذي استقبله من قريش أكثر من الأنصار، فسأل عن ذلك فقيل: إنّهم محتاجون ليست لهم دواب فالتفت معاوية إلى قيس بن سعد بن عبادة فقال: يا معشر الأنصار مالكم لا تستقبلونى مع اخوانكم من قريش.

فقال قيس و كان سيّد الأنصار و ابن سيدهم: اقعدنا يا أمير المؤمنين ان لم يكن لنا دواب، قال معاوية: فأين النواضح، فقال قيس: أفنيناها يوم بدر و احد و ما بعدهما في مشاهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين ضربناك و أباك على الاسلام حتى ظهر أمر اللّه و أنتم كارهون، قال معاوية: اللّهم غفرا«».

قال قيس: اما إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال سترون بعدى أثرة، ثم قال: يا معاوية تعيّرنا بنواضحنا و اللّه لقد لقيناكم عليها يوم بدر و أنتم جاهدون على اطفاء نور اللّه و أن يكون كلمة الشّيطان هى العليا، ثمّ دخلت أنت و أبوك كرها في الاسلام الذي ضربناكم عليه، فقال معاوية: كأنّك تمنّ علينا بنصرتكم إيّانا فللّه و لقريش بذلك المنّ و الطّول، ألستم تمنّون علينا يا معشر الأنصار بنصرتكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو من قريش و هو ابن عمّنا و منّا فلنا المنّ و الطّول أن جعلكم اللّه أنصارناو أتباعنا فهداكم بنا.

و قال قيس: إنّ اللّه بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رحمة للعالمين، فبعثه إلى النّاس كافة و إلى الجنّ و الانس و الاسود و الأحمر و الأبيض، اختاره لنبوّته و اختصّه برسالته فكان أوّل من صدقه و آمن به ابن عمّه عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و أبو طالب يذبّ عنه و يمنعه و يحول بين كفّار قريش و بين أن يروعوه و يؤذوه، و أمر أن يبلغ رسالة ربه فلم يزل ممنوعا من الضيم و الأذى حتى مات عمّه أبو طالب و أمر ابنه بموازرته فوازره و نصره و جعل نفسه دونه في كلّ شدة و ضيق و كلّ خوف، و اختصّ اللّه بذلك عليّا عليه السّلام من بين قريش و أكرمه من بين جميع العرب و العجم، فجمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جميع بني عبد المطلب فيهم أبو طالب و أبو لهب و هم يومئذ أربعون رجلا، فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و نادمه عليّ عليه السّلام و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حجر عمّه أبي طالب فقال: ايّكم ينتدب أن يكون أخى و وزيرى و وصيّي و خليفتي في امّتي و وليّ كلّ مؤمن من بعدي، فأمسك القوم حتى أعادها ثلاثا فقال عليّ عليه السّلام: أنا يا رسول اللّه فوضع رأسه في حجره و تفل في فيه و قال: اللّهم املأ جوفه علما و فهما و حكما، ثمّ قال لأبي طالب: يا أبا طالب اسمع الآن لابنك و أطع فقد جعله اللّه من نبيّه بمنزلة هارون من موسى، و آخا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بين عليّ عليه السّلام و بين نفسه.

فلم يدع قيس شيئا من مناقبه عليه السّلام إلّا ذكرها و احتجّ بها، و قال: منهم جعفر ابن أبي طالب الطّيار في الجنّة بجناحين اختصّه اللّه بذلك من بين النّاس، و منهم حمزة سيّد الشّهداء، و منهم فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة، فاذا وضعت من قريش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أهل بيته و عترته الطيّبين فنحن و اللّه خير منكم يا معشر قريش و احبّ إلى اللّه و رسوله و إلى أهل بيته منكم، لقد قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاجتمعت الانصار إلى أبي ثمّ قالوا نبايع سعدا فجاءت قريش فخاصمونا بحجّة علىّ و أهل بيته و خاصمونا بحقّه و قرابته فما يعدو قريش أن يكونوا ظلموا الأنصار و ظلموا آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لعمرى ما لأحد من الأنصار و لا لقريش و لا لأحد من العرب و العجم في الخلافة حقّ مع عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و ولده من بعده.

فغضب معاوية و قال يابن سعد عمّن أخذت هذا و عمّن رويته و عمّن سمعته أبوك أخبرك بذلك و عنه أخذته فقال قيس: سمعته و أخذته ممّن هو خير من أبي و أعظم علىّ حقا من أبي، قال: من قال: عليّ بن أبي طالب عليه السّلام عالم هذه الامّة و صديقها الذي انزل اللّه فيه قُلْ كَفى‏ بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ.

فلم يدع آية نزلت في عليّ عليه السّلام إلّا ذكرها.

قال معاوية: فانّ صديقها أبو بكر و فاروقها عمر و الذى عنده علم الكتاب عبد اللّه بن سلام.

قال قيس: أحقّ هذه الاسماء و أولى بها الذي انزل اللّه فيه: أَ فَمَنْ كانَ عَلى‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ.

و الذي نصبه رسول اللّه بغدير خم فقال: من كنت مولاه أولى به من نفسه فعليّ أولى به من نفسه، و قال في غزوة تبوك أنت منّى بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي.

و كان معاوية يومئذ بالمدينة فعند ذلك نادى مناديه و كتب بذلك نسخة إلى أعماله الا برئت الذّمة ممن روى حديثا في مناقب عليّ و أهل بيته و قامت الخطبة في كلّ مكان على المنابر يلعن عليّ بن أبي طالب و البراءة منه و الوقيعة في أهل بيته و اللّعنة لهم بما ليس فيهم عليهم السّلام.

ثمّ انّ معاوية لعنه اللّه مرّ بحلقة من قريش فلمّا رأوه قاموا إليه غير عبد اللّه بن عبّاس، فقال له: يابن عبّاس ما منعك من القيام كما قام أصحابك إلّا لموجدة علىّ بقتالى إيّاكم يوم صفّين، يابن عبّاس إنّ عمّي عثمان قتل مظلوما، قال ابن عبّاس، فعمر بن الخطاب قد قتل قبله مظلوما، قال: فتسلم الأمر إلى ولده و هذا ابنه قال: إنّ عمر قتله مشرك، قال ابن عبّاس: فمن قتل عثمان قال: قتله المسلمون، قال: فذلك أدحض لحجّتك و أحلّ لدمه ان كان المسلمون قتلوه‏ و خذلوه فليس إلّا بحقّ.

قال: فانّا كتبنا في الآفاق ننهى عن ذكر مناقب عليّ و أهل بيته فكفّ لسانك يابن عبّاس و اربع على نفسك، قال: فتنهانا عن قراءة القرآن قال: لا، قال: فتنهانا عن تأويله قال: نعم، قال: فنقرأه و لا نسأل عمّا عنى اللّه به قال: نعم، قال: فأيّما أوجب علينا قراءته أو العمل به قال: العمل به، قال: فكيف نعمل حتى نعلم ما عنى اللّه بما انزل علينا قال: يسأل ممّن يتأوّله على غير ما تتأوله أنت و أهل بيتك، قال: إنّما نزل القرآن على أهل بيتي فأسأل عنه آل أبي سفيان و آل أبي معيط و اليهود و النّصارى و المجوس قال: فقد عدلتنى بهؤلاء قال: لعمرى ما اعدلك بهم إلّا إذا نهيت الامّة أن يعبدوا اللّه بالقرآن و بما فيه من أمر أو نهى أو حلال أو حرام أو ناسخ أو منسوخ أو عام أو خاص أو محكم أو متشابه و ان لم تسأل الامّة عن ذلك هلكوا و اختلفوا و تاهوا، قال: فاقرءوا القرآن و لا ترووا شيئا مما أنزل اللّه فيكم و مما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ارووا ما سوى ذلك.

قال: ابن عباس: قال اللّه تعالى في القرآن: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ.

قال معاوية: يابن عبّاس اكفنى عن نفسك و كفّ عنّى لسانك و ان كنت لا بدّ فاعلا فليكن سرّا و لا يسمعه أحد علانية، ثمّ رجع إلى منزله فبعث إليه بخمسين ألف درهم و في رواية اخرى مأئة الف درهم ثمّ اشتد البلاء بالامصار كلّها على شيعة عليّ عليه السّلام و أهل بيته و كان أشدّ النّاس بلية أهل الكوفة لكثرة من بها من الشّيعة و استعمل عليها زيادا ضمّها اليه مع البصرة و جمع له العراقين و كان يتبع الشيعة و هو بهم عالم، لأنّه كان منهم قد عرفهم و سمع كلامهم أوّل شي‏ء، فقتلهم تحت كلّ كوكب و تحت كلّ حجر و مدر، و أخافهم و قطع الأيدي و الأرجل منهم و صلبهم على جذوع النّخل و سمل أعينهم‏ و طردهم و شردهم حتى انتزحوا على العراق فلم يبق بها أحد منهم إلّا مقتول أو مصلوب أو طريد أو هارب.

و كتب معاوية إلى أعماله و ولاته في جميع الأرضين و الأمصار ألا يجيز و الأحد من شيعة علىّ و لا من أهل بيته و لا من أهل ولايته الذين يروون فضله و يتحدّثون بمناقبه شهادة.

و كتب إلى أعماله: انظروا من قبلكم من شيعة عثمان و محبّيه و أهل بيته و أهل ولايته الذين يروون فضله و يتحدّثون بمناقبه فادنوا مجالسهم و أكرموهم و قرّبوهم و شرّفوهم و اكتبوا إلىّ بما يروى كلّ واحد منهم فيه باسمه و اسم أبيه و ممّن هو.

ففعلوا ذلك حتّى أكثروا في عثمان الحديث و بعث إليهم بالصّلات و الكساء و أكثر لهم القطايع من العرب و الموالى فكثروا في كلّ مصر و تنافسوا في المنازل و الضياع و اتسعت عليهم الدّنيا فلم يكن أحد يأتي عامل مصر من الأمصار و لا قرية فيروى في عثمان منقبة أو يذكر له فضيلة إلّا كتب اسمه و قرب و شفع فمكثوا بذلك ما شاء اللّه.

ثمّ كتب إلى أعماله إنّ الحديث قد كثر في عثمان و فشا في كلّ مصر و من كلّ ناحية فاذا جائكم كتابي هذا فادعوهم إلى الرّواية في أبي بكر و عمر فانّ فضلهما و سوابقهما أحبّ الىّ و أقرّ لعيني و أدحض لحجّة أهل هذا البيت و أشدّ عليهم من مناقب عثمان و فضله، فقرأ كلّ قاض و أمير من ولاية كتابه على النّاس و أخذ النّاس في الرّوايات فيهم و في مناقبهم.

ثمّ كتب نسخة جمع فيها جميع ما روى فيهم من المناقب و الفضايل و أنفذهما إلى عماله و أمرهم بقراءتها على المنابر في كلّ كورة و في كلّ مسجد، و أمرهم أن ينفذوا إلى معلّمي الكتاتيب أن يعلّموها صبيانهم حتى يرووها و يتعلّموها كما يتعلّمون القرآن حتّى علّموها بناتهم و نسائهم و خدمهم و حشمهم فلبثوا بذلك ما شاء اللّه.

ثمّ كتب إلى عماله نسخة واحدة إلى جميع البلدان: انظروا من قامت عليه البينة أنه يحبّ عليّا و أهل بيته فامحوه من الدّيوان و لا تجيزوا له شهادة.

ثمّ كتب كتابا آخر: من اتّهمتموه و لم تقم عليه بيّنة فاقتلوه، فقتلوهم على التّهم و الظّن و الشّبه تحت كلّ كوكب حتّى لقد كان الرّجل يسقط بالكلمة فيضرب عنقه.

و لم يكن ذلك البلاء في بلد أشدّ و لا أكبر منه بالعراق و لا سيّما بالكوفة حتّى أنّ الرّجل من شيعة عليّ و ممّن بقى من أصحابه بالمدينة و غيرها ليأتيه من يثق به فيدخل بيته ثمّ يلقى عليه سترا فيخاف من خادمه و مملوكه فلا يحدّثه حتى يأخذ الأيمان المغلّظة عليه ليكتمنّ عليه.

و جعل الأمر لا يزداد إلّا شدة و كثر عندهم عدوّهم و أظهروا أحاديثهم الكاذبة في أصحابهم من الزور و البهتان فينشأ النّاس على ذلك و لا يتعلّمون إلّا منهم و مضى على ذلك قضاتهم و ولاتهم و فقهاؤهم.

و كان أعظم النّاس في ذلك بلاء و فتنة القرّاء المراءون المتصنّعون الذين يظهرون لهم الحزن و الخشوع و النّسك و يكذبون و يعلمون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم، و يدنو لذلك مجالسهم، و يصيبوا بذلك الأموال و القطايع و المنازل حتّى صارت أحاديثهم تلك و رواياتهم في أيدى من يحسب أنّها حقّ و أنها صدق فرووها و قبلوها و تعلّموها و علّموها و أحبّوا عليها و أبغضوا و صارت بأيدى النّاس الذين لا يستحلّون الكذب و يبغضون عليه أهله فقبلوها و هم يرون أنها حقّ و لو علموا أنّها باطل لم يرووها و لم يتديّنوا بها، فصار الحقّ في ذلك الزّمان باطلا، و الباطل حقا، و الصّدق كذبا، و الكذب صدقا.

و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليشملنكم فتنة يربو فيها الوليد، و ينشأ فيها الكبير يجرى الناس عليها و يتخذونها سنّة، فاذا غيّر منها شي‏ء قالوا أتى النّاس منكرا غيّرت السنّة.

لمّا مات الحسن بن عليّ عليه السّلام لم يزل البلاء و الفتنة يعظمان و يشتدّان فلم‏ يبق وليّ اللّه إلّا خائفا على دمه، و في رواية اخرى إلّا خائفا على دمه أنّه مقتول، و إلّا طريدا و شريدا، و لم يبق عدوّ اللّه إلّا مظهر الحجّة غير مستتر ببدعته و ضلالته الحديث.

ألا لعنة اللّه على القوم الظّالمين و سيعلم الّذين ظلموا آل محمّد صلّى اللّه عليه و عليهم أىّ منقلب ينقلبون.

الترجمة

از جمله كلام بلاغت نظام آن امام أنام است كه اشاره فرموده در آن بأعمال قبيحه بني اميه و گفته: بخدا سوگند كه هميشه باشند بنى اميه تا اين كه نگذارند مر خداوند عالم را حرامى مگر كه حلال شمارند آن را، و نه گرهى از گرههاى دين مگر اين كه بگشايند آن را، و تا اين كه باقى نماند خانه از كلوخ ساخته شده و نه خيمه از پشم بر پا بوده مگر اين كه داخل شود در او ظلم آنها، و متزلزل سازد آن را بدى حكومت و أمارت ايشان تا آنكه برخيزد دو شخص گريه كننده كه گريه كند يك گريه كننده گريه كند از براى دين خود، و گريه كننده ديگر گريه كند از براى دنياى خود، و تا اين كه باشد انتقام كشيدن يكى از شما از يكى از ايشان مثل انتقام كشيدن بنده از مولاى خود باين وجه كه اگر حاضر باشد نزد مولايش اطاعت او را مى ‏نمايد، و هرگاه غائب باشد از او غيبت او ميكند، تا آنكه باشد بزرگترين شما از روى مشقّت نيكوترين شما از روى گمان و اميدوارى بخدا پس اگر عطا كند خداوند شما را سلامتى و عافيتى پس قبول نمائيد، و اگر مبتلا شويد ببلائى پس صبر نمائيد پس بدرستي كه عاقبت كار پرهيزكاران راست.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 96 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 97 صبحی صالح

97- و من خطبة له ( عليه ‏السلام  ) في أصحابه و أصحاب رسول اللّه‏

أصحاب علي‏

وَ لَئِنْ أَمْهَلَ الظَّالِمَ فَلَنْ يَفُوتَ أَخْذُهُ

وَ هُوَ لَهُ بِالْمِرْصَادِ عَلَى مَجَازِ طَرِيقِهِ

وَ بِمَوْضِعِ الشَّجَا مِنْ مَسَاغِ رِيقِهِ

أَمَا وَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ

لَيَظْهَرَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ عَلَيْكُمْ

لَيْسَ لِأَنَّهُمْ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْكُمْ

وَ لَكِنْ لِإِسْرَاعِهِمْ إِلَى بَاطِلِ صَاحِبِهِمْ

وَ إِبْطَائِكُمْ عَنْ حَقِّي

وَ لَقَدْ أَصْبَحَتِ الْأُمَمُ تَخَافُ ظُلْمَ رُعَاتِهَا

وَ أَصْبَحْتُ أَخَافُ ظُلْمَ رَعِيَّتِي

اسْتَنْفَرْتُكُمْ لِلْجِهَادِ فَلَمْ تَنْفِرُوا

وَ أَسْمَعْتُكُمْ فَلَمْ تَسْمَعُوا

وَ دَعَوْتُكُمْ سِرّاً وَ جَهْراً فَلَمْ تَسْتَجِيبُوا

وَ نَصَحْتُ لَكُمْ فَلَمْ تَقْبَلُوا

أَ شُهُودٌ كَغُيَّابٍ

وَ عَبِيدٌ كَأَرْبَابٍ

أَتْلُو عَلَيْكُمْ الْحِكَمَ فَتَنْفِرُونَ‏

مِنْهَا

وَ أَعِظُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ الْبَالِغَةِ فَتَتَفَرَّقُونَ عَنْهَا

وَ أَحُثُّكُمْ عَلَى جِهَادِ أَهْلِ الْبَغْيِ فَمَا آتِي عَلَى آخِرِ قَوْلِي حَتَّى أَرَاكُمْ مُتَفَرِّقِينَ أَيَادِيَ سَبَا

تَرْجِعُونَ إِلَى مَجَالِسِكُمْ

وَ تَتَخَادَعُونَ عَنْ مَوَاعِظِكُمْ

أُقَوِّمُكُمْ غُدْوَةً وَ تَرْجِعُونَ إِلَيَّ عَشِيَّةً

كَظَهْرِ الْحَنِيَّةِ

عَجَزَ الْمُقَوِّمُ

وَ أَعْضَلَ الْمُقَوَّمُ

أَيُّهَا الْقَوْمُ الشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ

الْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ

الْمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ

الْمُبْتَلَى بِهِمْ أُمَرَاؤُهُمْ

صَاحِبُكُمْ يُطِيعُ اللَّهَ وَ أَنْتُمْ تَعْصُونَهُ

وَ صَاحِبُ أَهْلِ الشَّامِ يَعْصِي اللَّهَ وَ هُمْ يُطِيعُونَهُ

لَوَدِدْتُ وَ اللَّهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ صَارَفَنِي بِكُمْ صَرْفَ الدِّينَارِ بِالدِّرْهَمِ

فَأَخَذَ مِنِّي عَشَرَةَ مِنْكُمْ وَ أَعْطَانِي رَجُلًا مِنْهُمْ

يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ

مُنِيتُ مِنْكُمْ بِثَلَاثٍ وَ اثْنَتَيْنِ

صُمٌّ ذَوُو أَسْمَاعٍ

وَ بُكْمٌ ذَوُو كَلَامٍ

وَ عُمْيٌ ذَوُو أَبْصَارٍ

لَا أَحْرَارُ صِدْقٍ عِنْدَ اللِّقَاءِ

وَ لَا إِخْوَانُ ثِقَةٍ عِنْدَ الْبَلَاءِ

تَرِبَتْ أَيْدِيكُمْ

يَا أَشْبَاهَ الْإِبِلِ غَابَ عَنْهَا رُعَاتُهَا

كُلَّمَا جُمِعَتْ مِنْ جَانِبٍ تَفَرَّقَتْ مِنْ آخَرَ

وَ اللَّهِ لَكَأَنِّي بِكُمْ فِيمَا إِخَالُكُمْ

أَنْ لَوْ حَمِسَ الْوَغَى

وَ حَمِيَ الضِّرَابُ

قَدِ انْفَرَجْتُمْ عَنِ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ انْفِرَاجَ الْمَرْأَةِ عَنْ قُبُلِهَا

وَ إِنِّي لَعَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي

وَ مِنْهَاجٍ مِنْ نَبِيِّي

وَ إِنِّي لَعَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ أَلْقُطُهُ لَقْطاً

أصحاب رسول اللّه‏

انْظُرُوا أَهْلَ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ فَالْزَمُوا سَمْتَهُمْ

وَ اتَّبِعُوا أَثَرَهُمْ

فَلَنْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ هُدًى

وَ لَنْ يُعِيدُوكُمْ فِي رَدًى

فَإِنْ لَبَدُوا فَالْبُدُوا

وَ إِنْ نَهَضُوا فَانْهَضُوا

وَ لَا تَسْبِقُوهُمْ فَتَضِلُّوا

وَ لَا تَتَأَخَّرُوا عَنْهُمْ فَتَهْلِكُوا

لَقَدْ رَأَيْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )

فَمَا أَرَى أَحَداً يُشْبِهُهُمْ مِنْكُمْ

لَقَدْ كَانُوا يُصْبِحُونَ شُعْثاً غُبْراً

وَ قَدْ بَاتُوا سُجَّداً وَ قِيَاماً

يُرَاوِحُونَ بَيْنَ جِبَاهِهِمْ وَ خُدُودِهِمْ

وَ يَقِفُونَ عَلَى مِثْلِ الْجَمْرِ مِنْ ذِكْرِ مَعَادِهِمْ

كَأَنَّ بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ رُكَبَ الْمِعْزَى مِنْ طُولِ سُجُودِهِمْ

إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ هَمَلَتْ أَعْيُنُهُمْ حَتَّى تَبُلَّ جُيُوبَهُمْ

وَ مَادُوا كَمَا يَمِيدُ الشَّجَرُ يَوْمَ الرِّيحِ الْعَاصِفِ

خَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ

وَ رَجَاءً لِلثَّوَاب‏

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج7  

و من كلام له عليه السّلام و هو السادس و التسعون من المختار فى باب الخطب

و لئن أمهل اللّه الظّالم فلن يفوت أخذه، و هو له بالمرصاد على مجاز طريقه، و بموضع الشّجى من مساغ ريقه، أما و الّذي نفسي بيده ليظهرنّ هؤلاء القوم عليكم، ليس لأنّهم أولى بالحقّ منكم، و لكن لإسراعهم إلى باطل صاحبهم، و إبطائكم عن حقّي، و لقد أصبحت الامم يخاف ظلم رعاتها، و أصبحت أخاف ظلم رعيّتي، استنفرتكم للجهاد فلم تنفروا، و أسمعتكم فلم تسمعوا، و دعوتكم سرّا و جهرا فلم تستجيبوا، و نصحت لكم فلم تقبلوا، أشهود كغيّاب، و عبيد كأرباب، أتلو عليكم الحكم فتنفرون منها، و أعظكم بالموعظة البالغة فتتفرّقون عنها، و أحثّكم على جهاد أهل البغى فما أتى عليّ آخر قولي‏ حتّى أراكم متفرّقين أيادي سبا، ترجعون إلى مجالسكم، و تتخادعون عن مواعظكم، أقوّمكم غدوة، و ترجعون إليّ عشيّة كظهر الحنيّة، عجز المقوّم، و أعضل المقوّم. أيّها الشّاهدة أبدانهم، الغائبة عنهم عقولهم، المختلفة أهوائهم المبتلى بهم أمرائهم، صاحبكم يطيع اللّه و أنتم تعصونه، و صاحب أهل الشّام يعصي اللّه و هم يطيعونه، لوددت و اللّه إنّ معاوية صارفني بكم صرف الدّينار بالدّرهم، فأخذ منّي عشرة منكم و أعطاني رجلا منهم، يا أهل الكوفة منيت منكم بثلاث و إثنتين، صمّ ذوو أسماع، و بكم ذوو كلام، و عمي ذوو أبصار، لا أحرار صدق عند اللّقاء، و لا إخوان ثقة عند البلاء، تربت أيديكم، يا أشباه الإبل غاب عنها رعاتها، كلّما جمعت من جانب تفرّقت من آخر، و اللّه لكأنّي بكم فيما أخال أن لو حمس الوغى، و حمي الضّراب، قد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج المرأة عن قبلها، و إنّي لعلى بيّنة من ربّي، و منهاج من نبيّي، و إنّي لعلى الطّريق الواضح، ألقطه لقطا. أنظروا أهل بيت نبيّكم، فالزموا سمتهم، و اتّبعوا أثرهم، فلن يخرجوكم من هدى، و لن يعيدوكم في ردى، فإن لبدوا فالبدوا،و إن نهضوا فانهضوا، و لا تسبقوهم فتضلوّا، و لا تتأخّروا عنهم فتهلكوا، لقد رأيت أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فما أرى أحدا منكم يشبههم، لقد كانوا يصبحون شعثا غبرا، قد باتوا سجّدا و قياما، يراوحون بين جباههم و خدودهم، و يقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم، كأنّ بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم، إذا ذكر اللّه هملت أعينهم حتّى تبلّ جيوبهم، و مادوا كما يميد الشّجر يوم الرّيح العاصف، خوفا من العقاب، و رجاء للثّواب.

اللغة

(رصد) فلانا من باب نصر رقبه كترصده و المرصاد الطريق و المكان يرصد فيه العدوّ و (الشجى) ما ينشب في الحلق من عظم أو غيره و موضع الشجى هو الحلق نفسه و (المساغ) اسم مكان من ساغ الشّراب سوغا سهل مدخله قال الشاعر:

         و ساغ لي الشّراب و كنت قبلا            أكاد أغصّ بالماء الفرات‏

و يقال أيضا سغت الشّراب اسوغه أى أوصلته إلى المعدة باللزوم و التّعدية و (ظهر) عليه غلب و (الرعاة) كالرعاء بالهمز جمع الراعي و هو كلّ من ولي أمر قوم و القوم رعيّته و (الاستنفار) الاستنصار أو طلب النّفور و الاسراع إلى الجهاد و (تنفرون) منها من نفرت الدّابة نفورا من بابى نصر و ضرب شرد و (أيادي سبا) مثل يضرب للمتفرّقين و أصله قوله تعالى عن أهل سبا: و مزّقناهم كلّ ممزّق، و سبأ بالهمزة وزان جبل يصرف و لا يصرف و هو بلدة بلقيس و لقب ابن يشحب بن يعرب بن قحطان اسمه عبد شمس و (الأيادى) جمع الأيدى و هو جمع اليد، قال الرّضىّ: و هو كناية عن الابناء و الاسرة لأنّهم في التقوى و البطش بهم بمنزلة الأيدي، و يقال ذهبوا أيدى سبا و أيادى سبا الياء ساكنة و كذلك الألف‏ هكذا نقل المثل أى ذهبوا متفرّقين، و هما اسمان جعلا اسما واحدا مثل معدى كرب ضرب المثل بهم لأنّهم لما غرق مكانهم و ذهبت جنّاتهم تبدّدوا في البلاد.

روى الطبرسيّ في تفسير سورة سبا في قصة تفرّق أولاد سبا عن الكلبي عن أبي صالح قال: ألقت طريفة الكاهنة إلى عمرو بن عامر الذي يقال له مزيقيا بن ماء السّما و كانت قد رأت في كهانتها أنّ سدّ مارب سيخرب و أنّه سيأتي سيل العرم فيخرب الجنّتين، فباع عمرو بن عامر أمواله و سار هو و قومه حتّى انتهوا إلى مكة فأقاموا بها و ما حولها فأصابتهم الحمى، و كانوا ببلد لا يدرون فيه ما الحمى، فدعوا طريقة فشكوا إليها الذي أصابهم فقالت لهم: قد أصابني الذي تشكون و هو مفرّق بيننا، قالوا: فما ذا تأمرين قالت: من كان منكم ذاهمّ بعيد و جمل شديد و مزاد جديد فليلحق بقصر عمان المشيد و كانت ازدعمان«»، ثمّ قالت: من كان منكم ذا جلد و قسر و صبر على ازمات الدّهر فعليه بالاراك من بطن مرّ (نمر خ ل) و كانت خزاعة، ثمّ قالت: من كان منكم يريد الرّاسيات في الوحل المطعمات في المحل فليلحق بيثرب ذات النخل و كانت الأوس و الخزرج، ثمّ قالت: من كان منكم يزيد الخمر الخمير و الملك و التأمير و ملابس التّاج و الحرير فليلحق ببصرى و عوير، و هما من أرض الشّام و كان الذين سكنوها آل خفية بن غسان، ثمّ قالت: من كان منكم يريد الثياب الرقاق و الخيل العتاق و كنوز الأرزاق و الدّم المهراق فليلحق بأرض العراق و كان الذين سكنوها آل جذيمة الابرش و من كان بالحيرة و آل محرق (و تتخادعون) قال في القاموس: تخادع فلان أرى أنّه مخدوع و ليس به، «انتهى» و لا يجوز ارادة هذا المعنى في المقام بل الأظهر أنّه من قولهم سوق خادعة مختلفة متلونة و خلق خادع متلوّن أى تختلفون و تتلوّنون في قبول الوعظ و لكنه يبعده لفظة عن، اللّهم إلّا أن يضمن معنى الاعراض فافهم، و يأت له معنى آخر إنشاء اللّه.

و (الحنية) وزان غنية القوس و الجمع حنى و حنايا و (المقوّم) الأوّل‏ على زنة الفاعل و الثاني على زنة المفعول و (تربت) أيديكم كلمة يدعابها على الانسان قال في القاموس: ترب كثرت را به و صار في يده التّراب و لزق بالتراب و خسر و افتقر تربا و متربا و يداه لا أصاب خيرا، و عن النّهاية هذه الكلمة جارية على ألسن العرب لا يريدون بها الدّعاء على المخاطب و لا وقوع الأمر بها كما يقولون: قاتل اللّه و قيل: معناه للّه درّك، قال: و كثيرا يرد للعرب ألفاظ ظاهرها الذمّ و إنما يريدون بها المدح كقولهم لا أب لك و لا أمّ لك و لا أرض لك و نحو ذلك و (خال) الشي‏ء يخاله أى ظنّه و تقول خلت اخال بكسر الهمزة و بالفتح لغة بني أسد كما في أكثر النسخ و (حمس) كفرح اشتدّ و (حمى) كرضى اشتدّ حرّه و (القطه لقطا) في أكثر النسخ بالقاف المثناة و الطاء المهملة من الالتقاط و في بعضها الفظه لفظا بالفاء و الظاء المعجمة أى ابينه بيانا و (لبد) الشي‏ء بالأرض من باب نصر التصق بها و (الجمر) جمع جمرة و هي النّار الموقدة و (ركب المعزى) جمع الرّكبة بالضمّ فيهما و (هملت) عينه هملا من باب نصر و ضرب فاضت

الاعراب

قوله عليه السّلام: فلن يفوت أخذه برفع أخذه على الفاعلية و المفعول محذوف أى لن يفوته أخذه، و قوله: على مجاز طريقه بدل من قوله بالمرصاد، و قوله: ليظهرنّ منصوب بأن مضمرة في محلّ رفع على الابتداء، و جملة ليس لأنّهم مرفوعة المحلّ على الخبر و جملة المبتدأ و الخبر جواب القسم، و يحتمل أن يكون جملة ليظهرنّ فقط جواب القسم لا محلّ لها من الاعراب و جملة ليس لأنهم استينافا بيانيّا و قوله: أشهود كغيّاب استفهام تقريرى أو توبيخى و في بعض النّسخ بلا همز و عليه فهو خبر محذوف المبتدأ، و أيادى سبا منتصب على اقامته مقام المصدر أى متفرّقين تفرّق أيادى سبا، و يجوز أن يكون حالا مؤكدة بتقدير المضاف أى مثل أيادى سبا، و قوله: أيّها الشاهدة برفع الشاهدة صفة محذوف الموصوف و جملة كلّما جمعت بدل بعض من جملة غاب عنها آه على حدّ قوله سبحانه.

 أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَ بَنِينَ.

المعنى

اعلم أنّ المقصود بهذه الخطبة الشريفة ذمّ أصحابه عليه السّلام و توبيخهم على تثاقلهم من جهاد معاوية و أصحابه لعنهم اللّه، و صدّر الكلام بالتهديد و التعريض لأهل الشام أو لأصحابه كما سيأتي من نسبة الظلم إليهم فقال عليه السّلام (و لئن أمهل اللّه الظالم) و متّعه في دار الدّنيا (فلن يفوته أخذه) و عقوبته كما قال تعالى: وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ.

قال أبو القاسم البلخي معناه: و لا يحسبّن الذين كفروا أنّ إملاءنا لهم رضا بأفعالهم و قبول لها بل هو شرّ لهم لأنّا نملي لهم و هم يزدادون إثما يستحقّون به العذاب الأليم، فالمقصود أنه سبحانه و إن أمهل الظالم و هو مغمور في ظلمه مستبشر بجوره و لكنه مدركه لا محالة و آخذه بالنّكال العظيم و العذاب الأليم.

(و هو له بالمرصاد) و عليه طريق العباد فلا يفوته أحد و هو من ألفاظ الكتاب العزيز قال تعالى: إنّ ربك لبالمرصاد، قال الطبرسيّ: و المعنى أنّه لا يفوته شي‏ء من أعمالهم لأنّه يسمع و يرى جميع أقوالهم و أفعالهم كما لا يفوت من هو بالمرصاد و روى عن عليّ عليه السّلام أنّه قال: معناه إنّ ربّك قادر على أن يجزى أهل المعاصى جزائهم و عن الصّادق عليه السّلام أنّه قال: المرصاد قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة عبد، و قال عطا: يعني يجازي كلّ أحد و ينتصف من الظالم للمظلوم انتهى أقول: ما رواه عن الصادق عليه السّلام هو المعنى الحقيقى للمرصاد و ما رواه عن عليّ عليه السّلام بيان للمراد عن كونه سبحانه على المرصاد و محصّله أنه تعالى أجلّ و أعلى من أن يكون في المكان لأنّ ذلك من صفات الامكان فلا بد من حمل كونه بالمرصاد على التوسع و المجاز و إرادة عدم إمكان الهرب و الفوت منه كما لا يمكن الفوت ممن هو بالرّصد و الترقب و هذا هو المراد أيضا بقوله (على مجاز طريقه) و نظيره قوله (و بموضع الشجى من مساغ ريقه) أراد أنّه سبحانه يكاد أن يغصّه بشجي‏ء عقوباته و يشجوه بغصص نقماته بما هو عليه من رحب بلعومه و سوغه اللذائذ.

ثمّ أردف عليه السّلام ذلك بالقسم البارّ بظهور أهل الشّام عليهم و قال (أما و الذي نفسي بيده ليظهرنّ هؤلاء القوم عليكم) و نبّه على دفع ما لعلّهم يتوهّمون من كون علّة ظهورهم و غلبتهم كونهم على الحقّ و كون أصحابه عليه السّلام على الباطل بقوله: (ليس لأنهم أولى بالحقّ منكم) و أنتم أولى بالباطل منهم.

و أشار إلى علّة الظهور بقوله (و لكن لاسراعهم إلى باطل صاحبهم و إبطائكم عن حقّي) أراد بذلك أنّ ظهورهم عليكم ليس من جهة كونهم أهل حقّ و كونكم أهل باطل حتّى يوجب ذلك تخاذلكم عن جهادهم و إنما ظهورهم من أجل اتفاق كلمتهم و اجتماعهم على طاعة إمامهم الباطل و اختلاف آرائكم و تشتت أهوائكم فى طاعة الامام الحقّ، و من المعلوم أنّ مدار الفتح و الظفر و النصرة و الغلبة في الحرب على الاتفاق و الاجتماع بطاعة الجيش للرّئيس الموجب لانتظام أمرهم لا على حقيّة العقيدة و إلّا لما ظهر أهل الشرك على أهل التوحيد أصلا، و الوجدان كثيرا ما يشهد بخلافه.

و أوضح عليه السّلام هذا المعنى بقوله (و لقد أصبحت الامم يخاف ظلم رعاتها و أصبحت أخاف ظلم رعيّتي) و غرضه عليه السّلام بذلك الحاق التقصير و اللائمة في المغلوبيّة عليهم و الاشارة إلى أنّ له الحجّة على الحقّ لالهم عليه مع التنبيه على كونهم ظالمين في حقّه عاصين له، فانّ شأن الرعيّة الخوف من الوالي و به يستقيم له امور الولاية و ينتظم امور الرّعية، و أما إذا كان الأمر بالعكس فلا يكون له حينئذ في الرّعية رأى نافذ و يختلّ الأمر و يطمع فيه و في رعيّته غيره كما هو معلوم بالوجدان و مشاهد بالعيان.

و من كان خبيرا بأحواله عليه السّلام في خلافته و تأمل مجاري حالاته مع رعيّته عرف صدق هذا الكلام و ظهر له أنّه عليه السّلام كان المحجور عليه لا يتمكّن من إظهار ما في نفسه، إذ العارفون بحاله و المخلصون له كانوا قليلين، و كان السّواد الأعظم‏ لا يعتقدون فيه الأمر الذي يجب اعتقاده فيه، و كان يعامل معهم بالتقيّة، و يدارى معهم بحسن التدبير و السّلوك و الاناة مع ما كان يشاهده عليه السّلام منهم غير مرّة من التمرّد و العصيان كما أشار اليه بقوله (استنفرتكم للجهاد فلم تنفروا و أسمعتكم فلم تسمعوا و دعوتكم سرّا و جهرا فلم تستجيبوا) دعوتي (و نصحت لكم فلم تقبلوا) نصيحتي.

ثمّ شبّههم عليه السّلام بقوله (أشهود كغيّاب) بالغائبين مع كونهم شاهدين، لأنّ ثمرة المشاهدة هو الاستفادة و الانتفاع و مع عدمها فالشاهد و الغائب سواء.

و كذلك شبّههم بقوله عليه السّلام (و عبيد كأرباب) بالأرباب مع كونهم عبيدا، و هو إمّا من باب القلب و مبنيّ على المبالغة أى أنتم أرباب من صناديد العرب و رؤسائها و لكنكم كالعبيد في رزالة النفس و دنائة الهمة، أو المراد أنّكم عبيد و رعايالي مفترض طاعتي عليكم و لكنكم تأبون عنها و تمرّدون عنها كالسادات، و هذا أنسب بالفقرة السّابقة، أو أنّ أخلاقكم أخلاق العبيد من الخلاف و النفاق و دنائة الأنفس و التواني و التخاذل و أنتم مع ذلك تدّعون الاستقلال و تتكبّرون و تتغرّون و تستبدّون بالآراء كالأرباب و الأحرار.

ثمّ أشار عليه السّلام إلى وجوه تقصيرهم بقوله (أتلو عليكم الحكم) الحسنة (فتنفرون منها و أعظكم بالموعظة البالغة فتتفرّقون عنها و أحثكم على جهاد أهل البغى) أراد به أهل الشّام (فما اتى على آخر قولى حتّى اريكم متفرّقين) مثل تفرّق (أيادى سبا ترجعون إلى) بيوتكم و (مجالسكم و تتخادعون عن مواعظكم) أي تتلوّنون و تختلفون معرضين عن قبول المواعظ، و قال الشّارح المعتزلي: أى تمسكون عن الاتعاظ من قولهم: كان فلان يعطى ثمّ خدع أى امسك و اقلع، و قال الشّارح البحراني: المخادعة هي الاستغفال عن المصلحة أى أنّهم إذا رجعوا من مجلس وعظه أخذ كلّ منهم يستغفل صاحبه عن تذكّر الموعظة و يشغله بغير ذلك من الأحاديث و إن لم يكن عن قصد خداع بل تقع منهم صورة المخادعة.

(اقوّمكم غدوة) باصلاح أخلاقكم و إرشادكم إلى السّداد و الرشاد (و ترجعون‏ إلىّ عشيّة كظهر الحنيّة) أى معوّجين كظهر القوس منحرفين عن مكارم الأخلاق (عجز المقوّم) أراد به نفسه الشريف (و أعضل المقوّم) أراد به قومه أى أشكل تقويمهم و أعياني دائهم علاجا.

ثمّ ناداهم عليه السّلام بذكر معايبهم تنفيرا لهم عنها فقال: (أيها) الفئة (الشاهدة أبدانهم الغائبة عنهم عقولهم) لعلّ المراد بغيبة العقول ذهابها أو عدم قيامهم بما تقتضيها و الثاني أظهر (المختلفة أهوائهم المبتلى بهم أمراؤهم) اى ابتلى أمراؤهم بسبب نفاقهم بسوء الحال و عدم انتظام الأمر (صاحبكم يطيع اللّه و أنتم تعصونه) و هو إشارة إلى اتصافهم برذيلة مخالفة الأمر مع كون أميرهم مطيعا للّه سبحانه (و صاحب أهل الشّام يعصي اللّه و هم يطيعونه) و هو اشارة إلى اتصاف أهل الشّام بفضيلة الطاعة مع كون أميرهم عاصيا له تعالى و جعل ذلك مقايسة بينهم ليظهر الفرق فيدركهم الغيرة.

ثمّ أردفه لتحقيرهم و تفضيل عدّوهم عليهم في البأس و النجدة فقال (لوددت و اللّه إنّ معاوية) لعنه اللّه (صارفني بكم صرف الدّينار بالدرّهم فأخذ منّي عشرة منكم و أعطاني رجلا منهم) و لا يخفى ما في هذا الكلام من وجوه التحقير حيث جعل عليه السّلام أهل الشّام بمنزلة الذهب و جعل أصحابه بمنزلة الفضّة و رجّح واحدا منهم على عشرة من أصحابه حيث ودّ مبادلتهم به و أكّد ذلك بالقسم البارّ و اللّام و إنّ.

ثمّ نبّه على ما ابتلى به منهم فقال (يا أهل الكوفة منيت منكم بثلاث و اثنتين) أي ابتليت منكم بخمس خصال و إنّما لم يجمع الخمس لكون الثلاث من جنس و الاثنتين من آخر، أو لكون الثلاث ايجابية و الاثنتين سلبية.

أمّا الثلاث الأول فهو أنّكم (صمّ ذوو أسماع و بكم ذوو كلام و عمى ذوو أبصار) توصيفهم بها مع أضدادها وارد في مقام التعجّب و معرض التوبيخ حيث إنّ المقصود بخلق هذه الجوارح و الآلات في الانسان انتفاعه بها و صرفه لها في‏ المصالح الدينيّة و الدّنيوية لينتظم بها أمر معاشه و معاده و إذا لم تنتفع بها كان واجدها و فاقدها سواء، و أحرى أن يلحق بالبهائم و الأنعام بل هو أضلّ سبيلا.

و أما الثنتان الباقيتان فنبّه عليهما بقوله (لا أحرار صدق عند اللّقاء) أى لا يرى منكم عند الحرب و لقاء الأبطال ما يصدق حريّتكم من البأس و النّجدة و الشّجاعة، بل يشاهد منكم صفات العبد من التخاذل و دنائة الهمة و بقوله (و لا إخوان ثقة عند البلاء) أى لستم ممّن توثق باخوّتكم عند الابتلاء بالنوازل (تربت أيديكم) دعا بعدم إصابة الخير (يا أشباه الابل غاب عنها رعاتها كلّما جمعت من جانب تفرّقت من آخر) شبّههم عليه السّلام بالابل الموصوفة و عقّبه بذكر وجه الشبه و هو فقد الانتظام بفقدان الراعي الناظم و أشار به إلى عصيانهم له و كونهم مطلقى العنان بمنزلة من لا أمير لهم.

(و اللّه لكأني) أبصر (بكم فيما أخال) و أظنّ بظهور الامارات و المخايل التي توجب الظن (أن لو حمس الوغا) و عظم الحرب (و حمى الضراب) و اشتدّ حرّ الطّعان (قد) تفرّقتم و (انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج المرأة عن قبلها) قال الشّارح المعتزلي: أى وقت الولادة، و قال البحراني: شبّه انفراجهم عنه بانفراج المرأة عن قبلها ليرجعوا إلى الانفة و تسليم المرأة قبلها و انفراجها عنه إما وقت الولادة أو وقت الطعان «انتهى» و قيل: تسليم المرأة لقبلها و انفراجها عنه وقت الولادة أو وقت الطعان و التشبيه في العجز و الدّنائة و الغرض إرجاع القوم إلى الانفة و الحميّة و تنبيههم على الخطاء في تفرّجهم و عدم انقيادهم له عليه السّلام.

أقول: و جميع ما قالوه كما ترى مما ينفرّ عنه الذوق السّليم و يأباه الطبع المستقيم لا سيّما التأويل بوقت الطّعان أقبح سماجة و لعلّ الأظهر أن يجعل الانفراج عن القبل كناية عن الانفراج عن الولادة أو مجازا مرسلا بعلاقة كون القبل محلّ الولادة و يكون المراد بالتشبيه الاشارة إلى شدّة محبّتهم في الانفراج و منتهى رغبتهم في التفرّق عنه فانّ المرأة في حال المخاض على غاية الشدّة و الاضطراب لا شي‏ء أحبّ اليها من الطلق و الانفراج فاذا طلقت استراحت و رجعت إليها نفسها و سكن وجعها، و الغرض بذلك توبيخهم و لو مهم و تشبيه حالتهم عند حضور الجهاد و اشتغال نائرة الحرب بحالة المرأة التي أخذها المخاض و وجع الولادة، و حسن هذا المعنى مما لا يخفى على أولى الأذهان السليمة و الأفهام المستقيمة، هذا.

و يحتمل بعيدا أن يكون أصل الرواية عن قبلها بفتحتين و إن كان النسخ لا يساعده، في القاموس و القبل محركة ضرب من الخرز يؤخّذ بها«»، أو شي‏ء من عاج مستدير يتلأ لؤ يعلّق في صدر المرأة.

ثمّ عاد عليه السّلام في ذكر مناقبه الجميلة المحركة لهم الى اتّباعه و متابعته فقال عليه السّلام (و إنّي لعلى بيّنة) و حجّة واضحة (من ربّي) و هي الآيات الباهرة و الأدلة الزّاهرة المفيدة لمعرفته و توحيده سبحانه (و منهاج) و جادّة مستقيمة (من نبيّي) و هى السّنة النّبويّة و الطريقة المصطفويّة على صاحبها أفضل الصّلاة و السّلام و التحية (و انّي لعلى الطريق الواضح) و هو طريق الدّين و نهج الشّرع المبين (ألقطه) من بين الطرق الضلال (لقطا) و لعلّ في التعبير بلفظ اللقطة إشارة إلى غلبة طرق الضلال و كثرتها و تنبيها على أنّ سالك طريق الهدى يحتاج إلى الجدّ و الاجتهاد و الاهتمام حتّى يميّزه من بينها و يلتقطه من ههنا و ههنا، فانّ سالك طريقة مكتنفة بالشوك و القتاد من جانبيها يحتاج إلى أن يلتقط المنهج التقاطا.

ثمّ نبّه على وجوب طاعته و ملازمته فقال (انظروا أهل بيت نبيكم) أراد به نفسه الشريف و الطّيبين من أولاده الأئمة الأحد عشر (فالزموا سمتهم) أى جهتهم و طريقتهم (و اتّبعوا أثرهم) و علل وجوب الاقتداء و الايتمام لهم بقوله (فلن يخرجوكم من هدى و لن يعيدوكم في ردى) أى ردى الجاهلية و الضّلال القديم، فانّهم خير امّة اخرجت للنّاس يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر، و فيه تعريض على أنّ متابعة غيرهم توجب الخروج من الهدى و العود إلى الرّدى أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى‏ (فان لبدوا فالبدوا) أى إن قعدوا عن طلب الخلافة أو الجهاد و لزموا البيوت فتابعوهم (و إن نهضوا فانهضوا) أى إن قاموا بالخلافة فانصروهم (و لا تسبقوهم) فيما لم يأمروكم به و لا تفعلوا ذلك (فتضلّوا) لأنّ متقدّم الدّليل شأنه الضّلال عن القصد (و لا تتأخّروا عنهم) فيما يأمرونكم به و لا تخالفوهم (فتهلكوا) لأنّ المتخلف عن الهاد يتيه عن الرشاد فلا يدرى انه هلك في أيّ واد.

ثمّ نبّه عليه السّلام على بعض أوصاف الأصحاب الأنجاب للتهييج و الالهاب فقال عليه السّلام و (لقد رأيت أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و هم الذين أدركوا صحبته بالايمان و ماتوا بالايمان (فما أرى أحدا منكم يشبههم) في الزّهد و الورع و الخوف و الخشية من الحقّ سبحانه (لقد كانوا يصبحون شعثا غبرا) أى متغيّرى الشّعر و مغبّر الرّوؤس من غير استحداد و لا تنظف من قشف العبادة و كثرة الرياضة (قد باتوا) و أحيوا لياليهم (سجّدا و قياما يراوحون بين جباههم و خدودهم) أى يسجدون بالجبهة مرّة و بالخدود اخرى تذلّلا و خضوعا (و يقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم) كناية عن قلقهم و اضطرابهم من خوف المعاد (كانّ بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم) و أراد ببين أعينهم جباههم مجازا يعنى أن جباههم من طول السجود و كثرة مسّ الأرض صارت كركب المعزى و ثفنات البعير في الغلظة و الخشونة (إذا ذكر اللّه هملت أعينهم) و سالت (حتّى تبلّ جيوبهم) و في بعض النسخ جباههم بدل جيوبهم و بلّها ممكن في حال السّجود (و ما دوا كما يميد الشّجر) أى اضطربوا مثل اضطراب الشجر (يوم الريح العاصف خوفا من العقاب و رجاء للثواب) يعنى أنّ اضطرابهم تارة يكون من الخوف و الوجل و اخرى من الرجاء و الاشتياق و هذا هو شأن المؤمن المخلص الآخذ بين مرتبتى الخوف و الرجاء و الآمل من اللّه الحسنى إنّه الغفور الرّحيم ذو المنّ العظيم.

تكملة

هذا الكلام له عليه السّلام يشبه أن يكون ملتقطا من خطبة طويلة قدّمنا روايتها من كتاب الاحتجاج و الارشاد في شرح الخطبة التاسعة و العشرين، و تقدّم أيضا بعض‏ فقراتها في التنبيه الثاني من شرح الكلام السّابع و الثلاثين في ضمن رواية سليم ابن قيس الهلالي، فتذكر.

الترجمة

از جمله كلام آن قدوه أنام است مى‏ فرمايد: و اگر مهلت بدهد خداوند ظالم را پس هرگز فوت نمى‏ شود از او عقوبت او و حق تعالى مر ظالم را بر محل ترقب و نگهبانى است بر مكان گذشتن راه او و بموضع چيزهاى گلوگير است از جاى فرو بردن آب دهان او، آگاه باش قسم بآن خدائى كه نفس من در قبضه اقتدار او است هر آينه غالب شدن اين قوم كه عبارت باشند از أهل شام بشما نيست بجهة اين كه ايشان أقرب بحق انداز شما، و لكن بجهة شتافتن ايشانست بسوى باطل صاحب خودشان و اهمال نمودن شما است از حق من، و هر آينه بتحقيق كه صباح كردند امّتها در حالتى كه مى‏ترسند از ستم واليان خودشان، و صباح كردم من در حالتى كه مى‏ترسم از جور رعيّت خود طلب يارى كردم از شما بجهة جهاد پس يارى نكرديد، و شنواندم شما را قول حق را پس گوش نداديد، و خواندم شما را بحق در نهان و آشكار پس اجابت نكرديد، و نصيحت نمودم شما را پس قبول ننموديد آيا شما حاضران هستيد مثل غايبان، و غلامان هستيد مثل خواجه‏گان، تلاوت مي كنم بشما حكمتهاى حسنه را پس رم مى ‏كنيد از آن، و موعظه مي كنم شما را با موعظه بالغه پس پراكنده مى‏ شويد از آن، و ترغيب ميكنم شما را بر جهاد أهل بغى و ظلم پس نمى‏آيد بمن آخر گفتار خودم تا اين كه مى‏بينم شما را متفرّق مى‏ شويد مثل متفرّق شدن أولاد سبا، بر مى ‏گرديد بمجالس خودتان و اختلاف مى‏ نمائيد از مواعظ خودتان، راست مى‏ گردانم شما را در بامداد و باز مى‏ گرديد بسوى من در شبانگاه مانند پشت كمان كج شده، عاجز شد راست سازنده و مشكل شد راست شده.

اى جماعتى كه حاضر است بدنهاى ايشان و غايب است از ايشان عقلهاى ايشان مختلف است خواهشهاى ايشان مبتلا است بجهة ايشان اميران ايشان، صاحب شما اطاعت‏ مي كند خداى را و شما عصيان مى‏ نمائيد او را، و صاحب أهل شام نافرماني مي كند حق را و ايشان اطاعت مى ‏نمايند او را، هر آينه دوست مى‏ دارم قسم بخدا اين كه معاويه صرافي كند با من شما را مثل صرافي دينار بدرهم پس بگيرد از من ده نفر از شما را و عوض دهد بمن يك نفر از أهل شام را اى أهل كوفه مبتلا شدم من از شما بسه خصلت و دو خصلت أما سه خصلت اينست كه: هستيد كران صاحب گوشها، گنگان صاحب گفتار، كوران صاحب چشمها، أمّا دو خصلت اينست كه: نيستيد آزادگان راست در وقت ملاقات شجاعان و نه برادران محل وثوق و اطمينان هنگام ابتلاءات زمان، خاك آلود باد دستهاى شما اى أمثال شتران در حالتى كه غايب باشد از ايشان شتربانان ايشان كه هر وقت جمع كرده شوند از طرفي پراكنده شوند از طرف ديگر، قسم بخدا گوئيا مى‏بينم شما را در آنچه ظن و خيال ميكنم اين كه اگر شدّت بيابد جنگ و سخت شود حرارت كارزار بتحقيق كه منكشف شويد از پسر أبي طالب همچه منكشف شد زن از زائيدن خود، و بدرستى كه من بر حجّت و بيّنه هستم از جانب پروردگار خود، و بر جادّه مستقيمه هستم از جانب پيغمبر خود، و بدرستى كه من بر راه روشن مى‏باشم كه پيدا ميكنم آن راه را پيدا كردنى.

نظر نمائيد بسوى أهل بيت پيغمبر خودتان پس لازم شويد بسمت ايشان، و متابعت نمائيد أثر ايشان را، پس هرگز خارج نمى‏كنند ايشان شما را از هدايت، و هرگز بر نمى‏گردانند ايشان شما را بضلالت و هلاكت، پس اگر باز ايستند از طلب أمري باز ايستيد شما، و اگر بايستند بأمري بايستيد شما، و پيشى نگيريد بايشان پس گمراه شويد، و پس نيفتيد از ايشان پس هلاك شويد.

و بتحقيق ديدم من أصحاب حضرت رسالت مآب صلّى اللّه عليه و آله و سلّم را پس نديدم هيچيكى از شما را كه شبيه ايشان باشيد، بتحقيق كه بودند ايشان صباح مى‏ كردند ژوليده موى غبار آلوده سر بتحقيق كه شب را بروز مى ‏آوردند در حالتى كه سجده كنندگان و ايستاده‏گان بودند، راحت مى ‏نمودند ميان پيشانى و رخسارهاى خودشان را يعنى گاهى بپيشاني سجده مى‏ نمودند و گاهى رويشان را بزمين مى‏ نهادند، و مى ‏ايستادند بر مثال أخگر از ياد كردن قيامت و معاد خودشان گوئيا كه ميان چشمان ايشان زانوهاى بز است كه پينه بسته است از درازي سجده ايشان، هر گاه ذكر شود خداوند سبحانه ريزان مى‏ گرديد آب چشمهاى ايشان تا آنكه تر مى‏ شد گريبانهاى ايشان از اشك چشم، و مضطرب مى‏ شدند مثل مضطرب شدن و جنبيدن درخت در روز باد تند بسبب ترسيدن از عذاب، و بسبب اميدوارى بر ثواب.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 95 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 96 صبحی صالح

96- و من خطبة له ( عليه‏ السلام  ) في اللّه و في الرسول الأكرم‏

اللّه تعالى‏

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْأَوَّلِ فَلَا شَيْ‏ءَ قَبْلَهُ

وَ الْآخِرِ فَلَا شَيْ‏ءَ بَعْدَهُ

وَ الظَّاهِرِ فَلَا شَيْ‏ءَ فَوْقَهُ

وَ الْبَاطِنِ فَلَا شَيْ‏ءَ دُونَهُ

و منها في ذكر الرسول ( صلى ‏الله‏ عليه ‏وآله  )

مُسْتَقَرُّهُ خَيْرُ مُسْتَقَرٍّ

وَ مَنْبِتُهُ أَشْرَفُ مَنْبِتٍ

فِي مَعَادِنِ الْكَرَامَةِ

وَ مَمَاهِدِ السَّلَامَةِ

قَدْ صُرِفَتْ نَحْوَهُ أَفْئِدَةُ الْأَبْرَارِ

وَ ثُنِيَتْ إِلَيْهِ أَزِمَّةُ الْأَبْصَارِ

دَفَنَ اللَّهُ بِهِ الضَّغَائِنَ

وَ أَطْفَأَ بِهِ الثَّوَائِرَ

أَلَّفَ بِهِ إِخْوَاناً

وَ فَرَّقَ بِهِ أَقْرَاناً

أَعَزَّ بِهِ الذِّلَّةَ

وَ أَذَلَّ بِهِ الْعِزَّةَ

كَلَامُهُ بَيَانٌ

وَ صَمْتُهُ لِسَانٌ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج7  

و من اخرى و هى الخامسة و التسعون من المختار فى باب الخطب

الحمد للّه الأوّل فلا شي‏ء قبله، و الآخر فلا شي‏ء بعده، و الظّاهر فلا شي‏ء فوقه، و الباطن فلا شي‏ء دونه. منها في ذكر الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: مستقرّه خير مستقرّ، و منبته أشرف منبت، في معادن الكرامة، و مماهد السّلامة، قد صرفت نحوه أفئدة الأبرار، و ثنيت إليه أزمّة الأبصار، دفن به الضّغاين، و أطفأ به النّوائر، ألّف به إخوانا، و فرّق به أقرانا، أعزّ به الذّلّة، و أذلّ به العزّة، كلامه بيان، و صمته لسان.

اللغة

(المهد) و المهاد الفراش و موضع تهيّأ للصبىّ، و جمع الأوّل مهود كفلس و فلوس و جمع الثاني مهد ككتاب و كتب، و أمّا المماهد فلم يضبط فيما رأيته من كتب اللغة، قال الشّارح البحرانيّ: جمع ممهد و الميم زايدة، و قال الشّارح المعتزليّ: المهاد الفراش و لما قال عليه السّلام: في معادن و هي جمع معدن قال بحكم القرينة و الازدواج و مماهد و إن لم يكن الواحد منها ممهدا كما قالوا: الغدايا و العشايا و مأجورات و مأزورات و نحو ذلك (و ثنيت) الشي‏ء ثنيا من باب رمى إذا عطفته و رددته و (الضغائن) جمع الضّغينة و هي الحقد و (النواير) جمع النائرة و هي العداوة و المخاصمة.

الاعراب

قوله: في معادن الكرامة خبر بعد خبر، و يجوز كونه صفة أو حالا من الخبر لكونه نكرة غير محضة، و جملة قد صرفت في محلّ النّصب على الحال، و قد للتحقيق.

المعنى

صدر هذه الخطبة الشريفة مسوق للثناء على الواجب تعالى باعتبار نعوت العظمة و الجلال و صفات العزّة و الكمال، و ذيلها بمدح الرسول و الاشارة إلى فوايد البعثة فقال (الحمد للّه الأوّل فلا شي‏ء قبله و الآخر فلا شي‏ء بعده) و قد مرّ معنى الأوّل و الآخر في شرح الخطبة الرابعة و الستّين و في شرح الفصل الأوّل من فصول الخطبة التسعين بما لا مزيد عليه (و الظاهر فلا شي‏ء فوقه و الباطن فلا شي‏ء دونه) و قد مرّ معنى الظاهر و الباطن في شرح الخطبة الرابعة و السّتين أيضا و أقول هنا: يحتمل أن يكون المراد بالظاهر و الباطن كونه تعالى ظاهرا بآياته و آثار قدرته فلا شي‏ء فوقه من حيث الظهور و الجلاء، بل هو أجلى الأشياء و أظهرها، و باطنا من حيث ذاته و حقيقته فلا شي‏ء دونه من حيث البطون و الخفاء، و قد أوضحناه في شرح قوله عليه السّلام: كلّ ظاهر غيره غير باطن آه من الخطبة التي‏ أشرنا إليها، و أن يكون المراد بالظاهر الغالب القاهر على كلّ شي‏ء فكلّ شي‏ء مقهور دون قدرته، ذليل تحت عزّته، و بالباطن العالم بما بطن من خفيّات الامور فلا شي‏ء دونه أى أقرب منه سبحانه إليه، هذا.

قال السيّد (ره) (منها) أى ببعض فصول تلك الخطبة (في ذكر الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و بيان شرفه و مناقبه الجميلة و هو قوله (مستقرّه خير مستقرّ و منبته أشرف منبت) يمكن أن يكون المراد بالمستقرّ و المنبت الأصلاب الشامخة و الأرحام المطهّرة، و أن يكون المراد بالأول مكّة و بالثاني الطيبة (في معادن الكرامة) أى الرسالة أو ما هو أعمّ من هذه (و مماهد السّلامة) أى المهد المتّصفة بالسّلامة من الأدناس و الأرجاس، و البراءة من العيوب الظاهرة و الباطنة (قد صرفت نحوه أفئدة الأبرار) أى صرف اللّه سبحانه أفئدتهم إليه (و ثنيت إليه أزمّة الأبصار) أى عطفت إليه أزمّة مطايا البصاير و القلوب، و هذا كلّه كناية من التفات الخلق إليه و تلقّيهم له بقلوبهم و محبّة الأبرار له عليه السّلام إجابة لدعوة إبراهيم الخليل عليه السّلام حيث قال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ.

أى أسكنت بعض ولدى و هو إسماعيل عليه السّلام و من ولد منه، و عن العيّاشي عن الباقر عليه السّلام نحن هم و نحن بقية تلك الذرّية، و في المجمع عنه عليه السّلام أنّه قال نحن بقية تلك العترة. و قال كانت دعوة إبراهيم لنا خاصّة.

و قوله: فاجعل افئدة من الناس أراد بعضهم و هم المؤمنون الأبرار كما اشير في كلام الامام عليه السّلام و صرّح به الباقر عليه السّلام في رواية العياشي قال: أما أنه لم يعن الناس كلّهم أنتم أولئك و نظراؤكم إنما مثلكم في النّاس مثل الشعرة البيضاء في الثور الأسود أو مثل الشّعرة السّوداء في الثور الأبيض، ينبغي للناس أن يحجّوا هذا البيت و يعظموه لتعظيم اللّه إياه، و أن تلقونا حيث كنّا نحن الأدلّاء على اللّه.

و في الصّافي عن الكافي عنه عليه السّلام في قوله تعالى: تهوى إليهم، و لم يعن البيت فيقول إليه، فنحن و اللّه دعوة إبراهيم.

و عن الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السّلام و الأفئدة من الناس تهوى إلينا، و ذلك دعوة ابراهيم حيث قال افئدة من النّاس تهوى إليهم.

و روى عليّ بن إبراهيم عن الصّادق عليه السّلام أنه تعالى عنى بقوله: و ارزقهم من الثمرات، ثمرات القلوب أى أحبّهم إلى النّاس ليأتوا إليهم (دفن به الضغائن و أطفأ به النّوائر) أى أخفى بوجوده الشّريف الاحقاد العربيّة بعد أن كانت ظاهرة علانية، و أطفأ به نوائر العداوات و خصومات الجاهلية بعد أن كانت مشتعلة ملتهبة و (الف به) على الاسلام (اخوانا) كما كان بين أمير المؤمنين عليه السّلام و سلمان (و فرق به) على الشرك (أقرانا) كما كان بين حمزة و أبي لهب (أعزّ به الذلة و أذلّ به العزّة) أى أعزّ به ذلّة الاسلام و أذلّ به عزّة الكفر، فقد رفع الاسلام سلمان فارس و قد وضع الكفر أبا لهب (كلامه بيان) للأحكام (و صمته لسان) لحدود الحلال و الحرام، أراد أنّ سكوته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان كالتكلّم و البيان في الاشتمال على الفائدة، فانّ سكوت المعصوم في مقام التقرير حجّة كقوله و أيضا ربما كان يسكت عن بعض المطالب إفهاما للناس عدم جواز خوضهم فيها.

الترجمة

از جمله خطبه اى ديگر آن حضرتست حمد و ثنا خداوند را سزاست كه أوّلست پس نيست هيچ چيز پيش از او، و آخر است پس نيست هيچ چيز بعد از او، و ظاهريست پس نيست هيچ چيز بالاتر از او در ظهور و جلا، و باطنى است پس نيست هيچ چيز نزديكتر از او بأشياء.

و بعض ديگر از اين خطبه در ذكر رسالت مآب صلوات اللّه و سلامه عليه و آله است: محل استقرار او بهترين محل استقرارها است، و مكان روئيدن او شريفترين روئيدنها اسب، ثابت است در معدنهاى بزرگوارى و كرامت، و مواضع أمنيّت و سلامت، در حالتى كه گردانيده شده بطرف او قلبهاى نيكوكاران، و ميل داده شده‏ بسوى او مهارهاى بصيرتهاى مؤمنان، دفن كرد و بر طرف فرمود بوجود شريف او كينه‏ هاى ديرينه را، و خاموش نمود و زايل فرمود بسبب ذات او آتشهاى عداوت در سينه ‏هاى پر كينه، و الفت داد بواسطه او ميان برادران از أهل ايمان، و پراكنده ساخت بجهة او اقران را از مشركان، عزيز گردانيد بأو ذلّت اسلام را، و ذليل گردانيد بأو عزّت كفر را كلام او بيان شرايع و أحكام است، و سكوت او زبانيست حدود حلال و حرام را، از جهة اين كه تقرير معصوم مثل فعل او و قول او حجّت و سند شرعيست.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 94 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 95 صبحی صالح

95- و من خطبة له ( عليه ‏السلام  ) يقرر فضيلة الرسول الكريم‏

بَعَثَهُ وَ النَّاسُ ضُلَّالٌ فِي حَيْرَةٍ

وَ حَاطِبُونَ فِي فِتْنَةٍ

قَدِ اسْتَهْوَتْهُمُ الْأَهْوَاءُ

وَ اسْتَزَلَّتْهُمُ الْكِبْرِيَاءُ

وَ اسْتَخَفَّتْهُمُ الْجَاهِلِيَّةُ الْجَهْلَاءُ

حَيَارَى فِي زَلْزَالٍ مِنَ الْأَمْرِ

وَ بَلَاءٍ مِنَ الْجَهْلِ

فَبَالَغَ ( صلى‏الله‏عليه‏وآله  )فِي النَّصِيحَةِ

وَ مَضَى عَلَى الطَّرِيقَةِ

وَ دَعَا إِلَى الْحِكْمَةِ

 وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج7  

و من خطبة له عليه السّلام و هى الرابعة و التسعون من المختار فى باب الخطب

بعثه و النّاس ضلّال في حيرة، و خابطون في فتنة، قد استهوتهم الأهواء، و استزلّتهم الكبرياء، و استخفّتهم الجاهليّة الجهلاء، حيارى في زلزال من الأمر، و بلاء من الجهل، فبالغ صلّى اللّه عليه و آله في النّصيحة، و مضى على الطّريقة، و دعى إلى الحكمة و الموعظة الحسنة.

اللغة

(خابطون) بالخاء المعجمة و الباء الموحّدة بعدها الطاء من الخبط و هو السير على غير هدى، و في بعض النسخ حاطبون بالحاء المهملة بعدها الطّاء جمع حاطب‏ و هو الذي يجمع الحطب و (حيارى) بفتح الحاء و ضمّها جمع حاير من حار يحار حيرا و حيرة و حيرانا نظر إلى الشي‏ء فغشي عليه و لم يهتد لسبيله فهو حيران و حاير و هم حيارى.

الاعراب

الواو في قوله عليه السّلام: و الناس آه حالية، و في حيرة خبر بعد خبر أو متعلّق بضلال، و وصف الجاهلية بالجهلاء للتوكيد من قبيل ليل أليل و وتدواتد و داهية دهيا و قوله: حيارى حال من مفعول استخفتهم، و قوله: في زلزال من الأمر حال مؤكدة من فاعل حيارى على حدّ قوله: فتبسّم ضاحكا.

المعنى

اعلم أنّ المقصود بهذا الفصل تقرير فضيلة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و التنبيه على فوائد بعثته، و قد مضى بعض القول في ذلك المعنى في شرح الفصل السادس عشر من فصول الخطبة الاولى و في شرح الفصل الأوّل من فصول الخطبة السادسة و العشرين، و نقول هنا: قوله عليه السّلام.

(بعثه و النّاس ضلال في حيرة) أراد به أنه تعالى بعثه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حال كون الناس ضالّين عن طريق الحقّ في حيرة من أمر الدّين (و خابطون في فتنة) أى كانت حركاتهم على غير نظام و كانوا في فتنة و ضلال، و أما على رواية حاطبون فهو استعارة و المراد أنهم جامعون في ضلالهم و فتنتهم بين الغثّ و السمين مأخوذا من قولهم في المثل: فلان حاطب ليل أى يجمع بين الحقّ و الباطل و الصّواب و الخطاء، و أصله أنّ الحاطب كذلك يجمع في حبله ما لا يبصر.

(قد استهوتهم الأهواء) أى جذبتهم الأهواء الباطلة و الآراء العاطلة إلى مهاوى الهلاك إو إلى أنفسها (و استزلّتهم الكبرياء) أى قادهم التكبّر و التجبّر إلى الخطاء و الخطل و الهفوة و الزلل (و استخفّتهم الجاهلية الجهلاء) أى جعلتهم حالة الجاهلية أخفّاء العقول سفهاء الحلوم حالكونهم (حيارى) أى حائرين تائهين مغمورين (في زلزال) و اضطراب (من الأمر) لا يهتدون إلى وجوه مصالحهم‏(و بلاء من الجهل) أى ابتلاء بالقتل و الغارات ناشئا من جهالتهم لعواقب الأمورات (فبالغ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في النصيحة) للأمة (و مضى على الطريقة) المستقيمة (و دعا إلى الحكمة و الموعظة الحسنة) أى دعا إلى سبيل اللّه بهما امتثالا لأمر اللّه سبحانه و هو قوله: ادْعُ إِلى‏ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ قال الطبرسىّ أى ادع إلى دينه لأنّه السبيل إلى مرضاته، بالحكمة أى بالقرآن و سمّى القرآن حكمة لأنّه يتضمّن الأمر بالحسن و النهى عن القبيح و أصل الحكمة المنع و منه حكمة اللجام و إنّما قيل لها حكمة لأنها بمنزلة المانع من الفساد و ما لا ينبغي أن يختار و قيل: إنّ الحكمة هي المعرفة بمراتب الأفعال في الحسن و القبح و الصّلاح و الفساد، لأنّ بمعرفة ذلك يقع المنع من الفساد و الاستعمال للصّدق و الصّواب في الأفعال و الأقوال.

و الموعظة الحسنة، معناه الوعظ الحسن و هو الصّرف عن القبيح على وجه الترغيب في تركه و التزهيد في فعله، و في ذلك تليين القلوب بما يوجب الخشوع و قيل: إنّ الحكمة هي النبوّة و الموعظة الحسنة مواعظ القرآن.

و جادلهم بالتي هي أحسن، أى ناظرهم بالقرآن و بأحسن ما عندك من الحجج و تقديره بالكلمة التي هى أحسن، و المعنى اقتل المشركين و اصرفهم عما هم عليه من الشرك بالرفق و السكينة و لين الجانب في النصيحة ليكونوا أقرب إلى الاجابة، فانّ الجدل هو قتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج، و قيل: هو أن يجادلهم على قدر ما يحتملونه كما جاء في الحديث: أمرنا معاشر الأنبياء أن نكلّم النّاس على قدر عقولهم.

الترجمة

از جمله خطب شريفه در ذكر وصف خاتم نبوّت و بيان منافع بعثت مى‏ فرمايد كه‏ خداوند عز و جل مبعوث و برانگيخته فرمود حضرت خاتم الأنبياء محمّد مصطفى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم را و حال آنكه مردمان گمراه بودند در تحيّر و سرگرداني، و خبط كننده در فتنه و بلا، بتحقيق كه از راه برده بود ايشان را خواهشات نفسانيّة، و لغزانيده بود ايشان را غرور و نخوت شيطانيه، و سبك گردانيده بود ايشان را ناداني و جاهليت در حالتى كه حيران بودند، در اضطراب بودند از كار خود، و در ابتلا بودند از جهالت پس مبالغه فرمود حضرت خاتم الأنبياء عليه سلام الرّب الأعلى در نصيحت، و گذشت بر طريقه حضرت عزّت كه عبارتست از جادّه شريعت، و دعوت فرمود مردمان را بحكمت كه برهان وافى است، و بموعظه كه بيان شافى است و لنعم ما قيل:

         از ظلمات ضلال راه كه بردى برون            گر نشدى نور او شمع ره رهروان‏

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 93 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 94 صبحی صالح

94- و من خطبة له ( عليه ‏السلام  ) و فيها يصف اللّه تعالى

ثم يبين فضل الرسول الكريم و أهل بيته ثم يعظ الناس‏

اللّه تعالى‏

فَتَبَارَكَ اللَّهُ الَّذِي لَا يَبْلُغُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ

وَ لَا يَنَالُهُ حَدْسُ الْفِطَنِ

الْأَوَّلُ الَّذِي لَا غَايَةَ لَهُ فَيَنْتَهِيَ

وَ لَا آخِرَ لَهُ فَيَنْقَضِيَ

و منها في وصف الأنبياء

فَاسْتَوْدَعَهُمْ فِي أَفْضَلِ مُسْتَوْدَعٍ

وَ أَقَرَّهُمْ فِي خَيْرِ مُسْتَقَرٍّ

تَنَاسَخَتْهُمْ كَرَائِمُ الْأَصْلَابِ إِلَى مُطَهَّرَاتِ الْأَرْحَامِ

كُلَّمَا مَضَى مِنْهُمْ سَلَفٌ قَامَ مِنْهُمْ بِدِينِ اللَّهِ خَلَفٌ

رسول اللّه و آل بيته‏

حَتَّى أَفْضَتْ كَرَامَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى إِلَى مُحَمَّدٍ ( صلى الله‏ عليه‏ وآله  )

فَأَخْرَجَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْمَعَادِنِ مَنْبِتاً

وَ أَعَزِّ الْأَرُومَاتِ مَغْرِساً

مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي صَدَعَ مِنْهَا أَنْبِيَاءَهُ

وَ انْتَجَبَ مِنْهَا أُمَنَاءَهُ

عِتْرَتُهُ خَيْرُ الْعِتَرِ

وَ أُسْرَتُهُ خَيْرُ الْأُسَرِ

وَ شَجَرَتُهُ خَيْرُ الشَّجَرِ

نَبَتَتْ فِي حَرَمٍ

وَ بَسَقَتْ فِي كَرَمٍ

لَهَا فُرُوعٌ طِوَالٌ

وَ ثَمَرٌ لَا يُنَالُ

فَهُوَ إِمَامُ مَنِ اتَّقَى

وَ بَصِيرَةُ مَنِ اهْتَدَى

سِرَاجٌ لَمَعَ ضَوْؤُهُ

وَ شِهَابٌ سَطَعَ نُورُهُ

وَ زَنْدٌ بَرَقَ لَمْعُهُ

سِيرَتُهُ الْقَصْدُ

وَ سُنَّتُهُ الرُّشْدُ

وَ كَلَامُهُ الْفَصْلُ

وَ حُكْمُهُ الْعَدْلُ

أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ

وَ هَفْوَةٍ عَنِ الْعَمَلِ

وَ غَبَاوَةٍ مِنَ الْأُمَمِ

عظة الناس‏

اعْمَلُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ عَلَى أَعْلَامٍ بَيِّنَةٍ

فَالطَّرِيقُ نَهْجٌ‏

يَدْعُوا إِلى‏ دارِ السَّلامِ

وَ أَنْتُمْ فِي دَارِ مُسْتَعْتَبٍ عَلَى مَهَلٍ وَ فَرَاغٍ

وَ الصُّحُفُ مَنْشُورَةٌ

وَ الْأَقْلَامُ جَارِيَةٌ

وَ الْأَبْدَانُ صَحِيحَةٌ

وَ الْأَلْسُنُ مُطْلَقَةٌ

وَ التَّوْبَةُ مَسْمُوعَةٌ

وَ الْأَعْمَالُ مَقْبُولَةٌ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج7  

و من خطبة له عليه السّلام و هى الثالثة و التسعون من المختار فى باب الخطب

فتبارك اللّه الّذي لا يبلغه بعد الهم، و لا يناله حسن الفطن، الأوّل الّذي لا غاية له فينتهى، و لا آخر له فينقضي. منها: فاستودعهم في أفضل مستودع، و أقرّهم في خير مستقرّ،تناسختهم كرائم الأصلاب، إلى مطهّرات الأرحام، كلّما مضى منهم سلف، قام منهم بدين اللّه خلف، حتّى أفضت كرامة اللَّه سبحانه إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأخرجه من أفضل المعادن منبتا، و أعزّ الأرومات مغرسا، من الشّجرة الّتي صدع منها أنبياءه، و انتجب منها أمناءه، عترته خير العتر، و أسرته خير الأسر، و شجرته خير الشّجر، نبتت في حرم، و بسقت في كرم، لها فروع طوال، و ثمرة لا تنال، فهو إمام من اتّقى، و بصيرة من اهتدى، سراج لمع ضوئه، و شهاب سطع نوره، و زند برق لمعه، سيرته القصد، و سنّته الرّشد، و كلامه الفصل، و حكمه العدل، أرسله على حين فترة من الرّسل، و هفوة عن العمل، و غباوة من الامم، اعملوا رحمكم اللّه على أعلام بيّنة، فالطّريق نهج يدعو إلى دار السّلام، و أنتم في دار مستعتب، على مهل و فراغ، و الصّحف منشورة، و الأقلام جارية، و الأبدان صحيحة، و الألسن مطلقة، و التّوبة مسموعة، و الأعمال مقبولة.

اللغة

(تبارك اللّه) من البركة و هو كثرة الخير و زيادته يقال: بارك اللّه لك و فيك و عليك و باركك بالتعدية بنفسه و (النسخ) الازالة و النقل يقال: نسخت الشمس الظل أى أزالته و نسخت الكتاب و انتسخته و استنسخته أى نقلت ما فيه و المنقول‏ منه النسخة بالضمّ و (السلف) كلّ من تقدّمك من آبائك أو قرابتك و الجمع سلاف و أسلاف و (الخلف) بالتحريك الولد الصّالح و يقال: على من حضر من الحىّ و إذا كان الولد فاسدا يقال خلف بسكون اللّام و ربما استعمل كلّ منهما مكان الآخر و (الافضاء) إلى الشي‏ء الوصول و الانتهاء إليه و (المعدن) و زان مجلس منبت الجواهر من ذهب و نحوه و (الارومات) جمع الأرومة بفتح الهمزة و ضمّها أصل الشي‏ء و الجمع أيضا على الاروم و (غرس) الشجر يغرسه من باب ضرب اثبته في الأرض كأغرسه و (الصّدع) الشقّ في شي‏ء صلب و نبات الأرض قال سبحانه: و الأرض ذات الصّدع.

و (العترة) نسل الرجل و رهطه و عشيرته الأدنون من مضى و غبر كذا في القاموس و سيأتي تحقيق الكلام فيه و (اسرة) الرجل وزان غرفة رهطه و عشيرته الأدنون و أهل بيته و الجمع اسر كغرب و (بسق) النخل بسوقا من باب قعد طال قال سبحانه: وَ النَّخْلَ باسِقاتٍ و (الطوال) بالكسر جمع الطويل و الطوال بالضمّ و (الشهاب) كلّ شي‏ء مضي‏ء و (الزند) بالفتح فالسكون العود الذى يقدح به النّار و هو الأعلى و السفلى الزندة و (برقت) السماء بروقا و برقانا لمعت أو جاء ببرق و برق الشي‏ء برقا و بريقا و برقانا لمع و (الفترة) ما بين كلّ نبيّين و رسولين و (الغباوة) الجهل و قلّة الفطنة و (نهج) الطريق الواضح منه و (المستعتب) يجوز كونه مصدرا و مكانا من استعتبه أى استرضاء و طلب إليه العتبى أى الرّضا

الاعراب

يجوز في محلّ الموصول أعني قوله عليه السّلام: الذى لا يبلغه، الرفع على كونه تابعا للّه بكونه بدلا منه أو نعتأله، و النصب على تقدير المدح أى أعنى الذى او امدح الذي، و اضافة البعد إلى الهمم و الحسّ الى الفطن لامية و الأوّل إمّا خبر لمبتدأ محذوف أو تابع للّه.

و استشكل الشارح المعتزلي في الفاء العاطفة في قوله عليه السّلام: فينتهى فينقضى، بأنّ الفاء إنّما تدخل فيما إذا كان الثاني غير الأوّل كقولهم ما تأتينا فتحدّثنا و ليس‏ الثاني ههنا غير الأوّل لأنّ الانقضاء هو الآخرية بعينها فكأنّه قال: لا آخر له فيكون له آخر و كذلك القول في اللّفظة الاولى و أجاب بأنّ المراد لا آخر له بالامكان و القوّة فينقضى بالفعل فيما لا يزال، و لا هو أيضا ممكن الوجود فيما مضى فيلزم أن يكون وجوده مسبوقا بالعدم و هو معنى قوله فينتهى، بل هو واجب الوجود في الحالين فيما مضى و في المستقبل و هذان مفهومان متغايران و هما العدم و إمكان العدم فاندفع الاشكال انتهى كلامه أقول: و فيه نظر إذ الغالب في الفاء العاطفة لجملة على جملة على ما صرّح به علماء الأدب أن يكون مضمون الجملة الثّانية عقيب مضمون الجملة الاولى تقول قام زيد فقعد عمرو، و أمّا اشتراط التغاير بين الجملتين فممنوع، و قد تفيد الفاء كون المذكور بعدها كلاما مرتّبا في الذكر على ما قبلها لا أنّ مضمونه عقيب مضمون ما قبلها في الزمان كقوله تعالى: قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى و قوله: وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ.

فانّ ذكر ذمّ الشي‏ء و مدحه يصحّ بعد جرى ذكره و من هذا الباب عطف تفصيل المجمل على المجمل لأنّ موضع ذكر التفصيل بعد الاجمال قال سبحانه: وَ نادى‏ نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي.

و تقول أجبته فقلت لبيّك، و من هذا علم أنّ شرطية التغاير غير معتبرة فلا حاجة إلى ما تكلّفه في الجواب و إنّما مساق كلام الامام عليه السّلام مساق هذه الآية الشريفه و مساق قوله: وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً.

فانّ ذكر نفى الانتهاء للشي‏ء إنّما يصحّ بعد ذكر نفى النهاية و الغاية عنه، و كذا ذكر نفى الانقضاء يحسن بعد ذكر نفى الآخر عنه و سيأتي له مزيد توضيح في بيان المعنى، و جملة نبتت في حرم استينافية بيانية، و كذا جملة لها فروع طوال، و الفاء في قوله: فهو امام فصيحة، و الواو في قوله و أنتم في دار مستعتب حالية و دار في أكثر ما رأيناه من النسخ بالتنوين فلا بدّ من جعل مستعتب اسم مكان بدلا منه أو عطف بيان على ما هو الحقّ الذي ذهب إليه الكوفيّون من جواز البيان في النّكرات إلّا أنه يبعده و يبعد الوصفية أنّ الدار من المؤنثات السّماعيّة، فكان اللّازم أن يقال: مستعتبة بالتاء للزوم المطابقة بين الصفة و الموصوف و البيان و المبين في التذكير و التأنيث و إن امكن التصحيح بالتأويل في الموصوف أو عدم لزوم المطابقة في الصفة إذا كانت من أسماء المكان فليتأمل.

و في نسخة الشارح المعتزلي بلا تنوين على الاضافة و هو أولى، فيصحّ على ذلك جعل مستعتب مصدرا فيكون إضافة دار إليه لامية و جعله اسم مكان فتكون الاضافة بيانية، و على في قوله على مهل، للاستعلاء المجازى

المعنى

اعلم أنه صدّر هذه الخطبة بتقديس اللَّه سبحانه و تنزيهه عن صفات النّقص و الامكان، و عقّبه بذكر وصف الأنبياء و الأولياء، و ذيّله بالموعظة و النّصيحة، فقال سلام اللّه عليه و آله (فتبارك اللَّه) أى ثبت الخير و البركة عنده و في خزائنه و قيل: أى تعالى اللَّه لأنّ البركة ترجع معناها إلى الامتداد و الزيادة و كلّ ما زاد على الشي‏ء فقد علاه، و قيل أصله من البروك و هو الثبات فكأنه قال: و البقاء و الدّوام و الثّبات له فهو المستحقّ للتعظيم و الثّناء (الذي لا يبلغه بعد الهمم و لا يناله حسّ الفطن) قد مضى الكلام في شرح هذه الفقرة في الفصل الثّاني من فصول الخطبة الاولى و أقول هنا: إنّ نعوت الجلال و صفات الكمال للّه سبحانه المتعال لمّا كانت غير متناهية و لا محدودة نبّه عليه السّلام بذلك على عدم إمكان الوصول إليها و تعذّر إدراكها، إذ كلّ مدرك متناه محدود، فالمعنى أنه تعالى لا يبلغه الهمم و القصود على بعدها و علوّها، و لا يصل إليه إدراك الفطن و إن ذكت و اشتدّت في ذكائها و حدّتها و سرعة انتقالها من المبادي إلى المطالب، بل كلّ سابح في بحار جلاله غريق و كلّ مريد للوصول إلى أنوار جماله حريق.

(الأوّل الذي لا غاية له فينتهي و لا آخر له فينقضي) تقدّم تحقيق الكلام في أوليّته و آخريّته سبحانه في شرح الخطبة الرّابعة و السّتين و الفصل الأوّل من فصول الخطبة التسعين بما لا مزيد عليه، و المراد هنا أنه تعالى أول الأشياء لا غاية له في البداية فينتهي إليها، و لا آخر له في النهاية فيكون له الانصرام و الانقضاء عندها، بل هو أزليّ باق غير منقطع الوجود بداية و نهاية، و برهان ذلك أنّ الغاية و النهاية من عوارض الأجسام ذوات الأوضاع و المقادير تعرض لها بالذّات، و للواحقها كالأزمنة و الحركات، و للامور المتعلّقة بها كالقوى و الكيفيات بالعرض، و الأول سبحانه ليس بجسم و لا جسماني و لا متعلّق به ضربا من التّعلّق فهو منزّه عن الحدّ و النهاية.

قال السيد ره (منها) أى بعض فصول تلك الخطبة في شرح حال الأنبياء عليهم السّلام و هو قوله عليه السّلام: (فاستودعهم في أفضل مستودع) و هو أصلاب الآباء (و أقرّهم في خير مستقرّ) و هو أرحام الامّهات قال سبحانه: هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ.

(تناسختهم كرائم الأصلاب إلى مطهّرات الأرحام) أى نقلتهم الأصلاب الكريمة إلى الأرحام المطهرّة من السفاح كما لو وقع عقد النكاح على غير الوجه الشرعي لخلل في لفظ العقد أو في القصد بأن يقع على غير المقصود إنكاحه أو نكاحه أو بغير رضا الطرفين أو أحدهما أو من يعتبر رضاه أو لوقوعه على المحارم‏ و نحو ذلك. روى عن أمير المؤمنين عليه السّلام بطريق العامة عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في قوله تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ.

قال: نسبا و صهرا و حسبا ليس في آبائي من لدن آدم سفاح كلّنا بنكاح، قال الكلبي كتبت للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خمسمائة أمّ فما وجدت فيهنّ سفاحا و لا شيئا مما كان عليه أهل الجاهليّة هذا.

و قال الشّارح البحراني: و تناسخ الأصلاب لهم إلى مطهّرات الأرحام نقلهم إليها نطفا، و كرائم الأصلاب ما كرم منها، و حقّ لأصلاب سمحت بمثلهم أن توصف بالكرم، و مطهّرات الأرحام ما طهر منها، و حقّ لما استعدّ منها لا نتاج مثل هذه الأمزجة و قبولها أن تكون طاهرة من كدر الفساد، و الشّيعة يطهّرون اصول الأنبياء من طرف الآباء و الأمهات عن الشرك، و نحوه قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نقلنا من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الزكية.

و في حديث الجابر المرويّ في الفقيه في كيفية خلقة الانسان و ولادته قال: فقلت: يا رسول اللّه هذه حالنا فكيف حالك و حال الأوصياء بعدك في الولادة فسكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مليّا ثمّ قال: يا جابر لقد سألت عن أمر جسيم لا يحتمله إلّا ذو حظّ عظيم، إنّ الأنبياء و الأوصياء مخلوقون من نور عظمة اللّه جلّ ثناؤه يودع اللَّه أنوارهم أصلابا طيبة و أرحاما طاهرة يحفظها بملائكته، و يربّيها بحكمته و يغذوها بعلمه، فأمرهم يجلّ عن أن يوصف، و أحوالهم تدّق عن أن يعلم، لأنّهم نجوم اللّه في أرضه، و أعلامه في بريّته، و خلفاؤه على عباده، و أنواره في بلاده، و حججه على خلقه، هذا من مكنون العلم و مخزونه فاكتمه إلّا من أهله.

و بالجملة فالمراد أنه تعالى خلق الأنبياء عليهم السّلام و أودع أنوارهم في الأصلاب و الأرحام و أخرجهم إلى وجه الأرض على تعاقب الزمان و كرور الأيام، و أرسلهم تترى لمسيس الحاجة و اقتضاء المصلحة، و هو الدّلالة على التوحيد و المعرفة،و إكمال الدّين و الملّة، و لم يخل الخلق منهم بل (كلّما مضى منهم سلف) و ارتحلوا من الدّنيا إلى العقبا (قام منهم بدين اللّه) و نشر شرايعه و أحكامه (خلف حتى أفضت كرامة اللّه) و انتهت نبوّته (إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله) و بلغت بوجوده الشريف سلسلة النّبوة و الرسالة الغاية. و أشرقت وجه الأرض بنور جماله، و أضاءت الدّنيا بأشعّة كماله، و قد كان في عالم المعنى الأصلاب الشامخة و الأرحام المطهرة قشورا لذلك اللّب أحاطت به احاطة الأشعّة بالسراج، فهو مفارق لتلك المحالّ الشّريفة في التقدير و إن كان مقارنا لها في التدبير.

و لأجل هذا كان كلّ من انتقل إليه ذلك النّور أشرقت وجهه حتّى يعرف بذلك النور إلى أن ينتقل منه إلى رحم الطاهرة، فيسلب منه النور و يتلألأ بوجه الحامل إلى أن تضع الجنين فيخرج مشرقا بما فيه فيسلب اللّه النور.

روى الصدوق باسناده إلى أبي ذر قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو يقول: خلقت أنا و عليّ بن أبي طالب من نور واحد نسبّح اللّه يمنة العرش قبل أن يخلق آدم بألفي عام، فلما أن خلق اللّه آدم عليه السّلام جعل ذلك النور في صلبه و لقد سكن الجنة و نحن في صلبه، و لقد همّ بالخطيئة و نحن في صلبه، و لقد ركب نوح بالسفينة و نحن في صلبه، و لقد قذف إبراهيم عليه السّلام في النار و نحن في صلبه، فلم يزل ينقلنا اللّه عزّ و جل من أصلاب طاهرة إلى أرحام طاهرة حتى انتهى بنا إلى عبد المطلب، فقسمنا فجعلني في صلب عبد اللّه و جعل عليّا عليه السّلام في صلب أبي طالب و جعل فيّ النّبوة و البركة، و جعل في عليّ الفصاحة و الفروسية، و شقّ لنا اسمين عن أسمائه، فذوا العرش محمود و أنا محمّد. و اللّه العليّ الأعلى و هذا عليّ.

و عن المناقب لأحمد بن حنبل و النّسائى عن عليّ عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه خلق خلقه في ظلمة، ثمّ رشّ عليهم من نوره فمن أصابه من النّور شي‏ء اهتدى و من أخطأه ضلّ.

ثمّ فسّره عليّ عليه السّلام فقال: إنّ اللّه عزّ و جلّ حين شاء تقدير الخليقة و ذرء البريّة و إبداع المبدعات ضرب الخلق في صور كالهباء قبل وجود الأرض و السماء و هو سبحانه في انفراد ملكوته و توحّد جبروته، فأشاع نورا من نوره فلمع، و قبأ من ضيائه فسطع، ثمّ اجتمع ذلك النور في وسط تلك الصور الخفية فوافق صورة نبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال اللّه له: أنت المختار المنتخب و عندك ثابت نورى و أنت كنوز هدايتى، ثمّ أخفى الخليقه في غيبه و سترها في مكنون علمه، ثمّ وسّط العالم و بسط الزمان و موّج الماء و أثار الزبد و أفاج الرّيح، فطفى عرشه على الماء فسطح الأرض على ظهر الماء، ثمّ انشأ الملائكة من أنوار ابتدائها و أنوار اخترعها، و قرن بتوحيده نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ظاهرا فهو أبو الأرواح و يعسوبها كما أنّ آدم عليه السّلام أبو الأجساد و سببها، ثمّ انتقل النور في جميع العوالم عالما بعد عالم و طبقا بعد طبق و قرنا بعد قرن إلى أن ظهر محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالصورة و المعنى في آخر الزمان، و يطابق هذا الكلام قول عمّي العبّاس بن عبد المطلب رضى اللّه عنه قال: يا رسول اللّه أريد أن أمدحك قال: قل لا يفضض اللَّه فاك قال (ره):

من قبلها طبت في الظلال و في
مستودع حيث يخصف الورق‏

ثمّ انبطت البلاد لا بشر
أنت و لا مضغة و لا علق‏

بل نطفة تركب السّفين و قد
الجمت نسرا و أهله الغرق‏

وردت نار الخليل مكتتما
تجول فيها و لست تحترق‏

تنقل من صالب إلى رحم
إذا مضى عالم بدا طبق‏

حتّى احتوى بيتك المهيمن‏
من خندف«» عليا تحتها النّطق‏

و أنت لمّا ولدت أشرقت الأرض
و ضاءت بنورك الافق‏

فنحن في ذلك الضياء و في‏
النّور و سبل الرّشاد تحترق‏

(فأخرجه من أفضل المعادن منبتا و أعزّ الارومات مغرسا) يحتمل أن يكون المراد بذلك مكّة زادها اللّه شرفا لأنها لمّا سمحت بمثله صلوات اللّه و سلامه عليه صار أجدر بأن تكون أفضل المعادن و أعزّ الاصول، و يشعر به قوله الآتي: نبتت في حرم، فافهم.

و الأظهر أن يراد به إما إبراهيم خليل اللّه أو إسماعيل ذبيح اللّه، فانّ كلّا منهما لما كان محلا لجوهر الرسالة و أصلا لشجرة النبوّة صار حقيقا بأن يكون أفضل المعادن و أعزّ الاصول، و يستعار لهما هذان اللفظان.

و يناسب ذلك قوله عليه السّلام (من الشجرة التي صدع منها أنبيائه و انتجب منها أمنائه) فانّ الأظهر أنّ المراد بها أحدهما عليهما السّلام لكون الأنبياء من فروع تلك الشجرة المباركة و انتهاء سلسلة النبوة الخاصة لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اليهما، و يعرف ذلك بذكر نسبه الشريف و هو كما في البحار أنه: محمّد بن عبد اللّه بن عبد المطلب و اسمه شيبة بن الحمد بن هاشم، و اسمه عمرو بن عبد مناف، و اسمه المغيرة بن قصى«»، و اسمه زيد بن كلاب«» بن مرّة بن كعب بن لوى«» بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر، و هو قريش بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر«» بن نزار بن معد«» بن عدنان بن ادّ بن اود بن اليسع بن الهميسع بن سلامان بن نبت بن حمل بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السّلام ابن تارخ بن ناخور بن ساروع«» بن ارغوا بن فالغ (فالع خ ل) بن عابر، و هو هود بن شالح بن أرفحشد بن سام بن نوح بن ملك بن متوشلخ«» بن اخنوخ، و هو إدريس«» بن يارد بن مهلائيل بن قينان بن انوش بن شيث، و هو هبة اللّه بن‏ آدم أبي البشر عليهم السّلام جميعا.

روى مسلم عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ اللّه اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل، و اصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة، و اصطفى من بني كنانة قريشا و اصطفى من قريش بنى هاشم و اصطفاني من بني هاشم.

و (عترته خير العتر) و هم الذين أوصى فيهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال: إنّي مخلف فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي و أنهما، لن يفترقا حتى يردا علىّ الحوض كهاتين، و ضمّ سبابتيه فقام إليه جابر بن عبد اللّه الأنصاري فقال: يا رسول اللّه و من عترتك قال: عليّ و الحسن و الحسين و الأئمة من ولد الحسين عليهم السّلام إلى يوم القيامة رواه الصدوق في كتاب اكمال الدّين و معاني الأخبار باسناده عن الصّادق عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و قال الصّدوق (ره) في محكيّ كلامه حكى محمّد بن بحر الشيباني عن محمّد بن عبد الواحد صاحب أبي العبّاس تغلب في كتابه الذي سماه كتاب الياقوتة أنه قال حدّثنى أبو العبّاس تغلب قال: حدّثني ابن الأعرابي، قال: العترة قطاع المسك الكبار في النافجة و تصغيرها عتيرة، و العترة الريقة العذبة، و العترة شجرة تنبت على باب و جار الضبّ و أحسبه أراد و جار الضّبع لأنّ الذي للضبّ مكو و للضبع و جار، ثمّ قال: و إذا خرجت الضبّ من و جارها تمرّغت على تلك الشجرة فهي لذلك لا تنمو و لا تكبر، و العرب تضرب مثلا للذليل و الذلة فيقولون أقلّ من عترة، و العترة ولد الرّجل و ذريّته من صلبه، فلذلك سميت ذرّية محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من عليّ و فاطمة: عترة محمّد قال تغلب: فقلت لابن الأعرابي: فما معنى قول أبي بكر في السقيفة: نحن عترة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: أراد بلدته و بيضته، و عترة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا محالة ولد فاطمة عليها السلام، و الدّليل على ذلك ردّ أبي بكر و انفاذ عليّ عليه السّلام بسورة برائة و قوله عليه السّلام: امرت أن لا يبلغها عنّي إلّا أنا أو رجل منّي، فأخذها منه و دفعهاإلى من كان منه دونه فلو كان أبو بكر من العترة نسبا دون تفسير ابن الاعرابي أنه أراد البلدة لكان محالا أخذ سورة برائة منه و دفعها إلى عليّ عليه السّلام.

و قد قيل: إنّ العترة الصّخرة العظيمة يتّخذ الضبّ عندها جحرا يأوى إليه و هذا لقلّة هدايته، و قد قيل إنّ العترة أصل الشجرة المقطوعة التي تنبت من اصولها و عروقها، و العترة في غير هذا المعنى قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا فرعة و لا عتيرة قال الاصمعى: كان الرّجل في الجاهلية ينذر نذرا على أنه إذا بلغت غنمه مأئة أن يذبح رجبية«» و عتاير فكان الرّجل ربما بخل بشاته فيصيد الظباء يذبحها عن غنمه عن آلهتهم ليوفى بها نذره و أنشد الحرث بن حلزة:

  عننا باطلا ظلما كما
تعتر عن حجرة الربيض الظباء

يعني يأخذونها بذنب غيرها كما يذبح اولئك الظباء عن غنمهم، و قال الأصمعي: و العترة الريح و العترة أيضا شجرة كثيرة اللّبن صغيرة يكون (نحو القامة خ ل) و يقال: العترة الذكر و عتر يعتر عترا إذا الغظ و قال الرياشي سألت الاصمعي عن العترة فقال هو نبت مثل المرز نجوش ينبت متفرقا ثمّ قال الصّدوق: العترة عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و ذرّيته من فاطمة و سلالة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هم الذين نصّ اللّه بالامامة على لسان نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هم اثنا عشر أوّلهم عليّ عليه السّلام و آخرهم القائم عليهم السّلام على جميع ما ذهبت إليه العرب من معنى العترة.

و ذلك إنّ الأئمة عليهم السّلام من بين جميع بني هاشم و من بين جميع ولد أبي طالب كقطاع المسك الكبار في النافجة و علومهم العذبة عند أهل الحكمة و العقل، و هم الشجرة التي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أصلها و أمير المؤمنين فرعها و الأئمة من ولدها أغصانها و شيعتهم ورقها و علمهم ثمرتها، و هم عليهم السّلام اصول الاسلام على معنى البلدة و البيضة و هم عليهم السّلام الهداة على معنى الصخرة العظيمة التي يتّخذ الضبّ عندها جحرا يأوى إليه لقلّة هدايته، و هم أصل الشجرة المقطوعة لأنهم و تروا و ظلموا و جفوا و قطعوا و لم يوصلوا، فنبتوا من اصولهم و عروقهم لا يضرّهم قطع من قطعهم و إدبار من أدبر عنهم، إذ كانوا من قبل اللّه منصوصا عليهم على لسان نبيّ اللّه، و من معنى العترة هم المظلومون المؤاخذون بما لم يجرموه و لم يذنبوه و منافعهم كثيرة.

و هم عليهم السّلام ينابيع العلم على معنى الشجرة الكثيرة اللبن، و هم عليهم السّلام ذكر ان غير اناث على قول من قال إنّ العترة هم الذكر، و هم جند اللّه عزّ و جلّ و حزبه على معنى قول الاصمعى إنّ العترة الريح، قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الريح جند اللّه الأكبر في حديث مشهور عنه، و الريح عذاب على قوم و رحمة للآخرين، و هم عليهم السّلام كذلك كالقرآن المقرون إليهم بقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب اللّه و عترتي أهل بيتى قال اللّه عزّ و جلّ: وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً و قال عزّ و جلّ: وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ، وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَ ماتُوا وَ هُمْ كافِرُونَ.

و هم أصحاب المشاهد المتفرقة على المعنى الذي ذهب إليه من قال إنّ العترة هو نبت مثل المرز نجوش ينبت متفرقا و بركاتهم منبثة في المشرق و المغرب (و اسرته) أى رهطه و عشيرته (خير الاسر) و يدل عليه ما في تفسير الامام عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ للّه عزّ و جلّ خيارا من كلّ ما خلقه: فله من البقاع خيار و له من الليالى و الأيام خيار، و له من الشهور خيار، و له من عباده خيار، و له من خيارهم خيار.

فامّا خياره من البقاع فمكّة و المدينة و بيت المقدس و إنّ صلاتا في مسجدى هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلّا المسجد الحرام و المسجد الأقصى يعنى مكّة و بيت المقدّس، و أمّا خياره من اللّيالي فليالي الجمع و ليلة النصف من شعبان و ليلة القدر و ليلة العيد، و أما خياره من الأيام فأيّام الجمع و الأعياد، و أمّا خياره من الشهور فرجب و شعبان و شهر رمضان، و أما خياره من عباده فولد آدم عليه السّلام، و خياره من ولد آدم من اختاره على علم منه بهم فانّ اللّه عزّ و جلّ لما اختار خلقه اختار ولد آدم عليه السّلام، ثمّ اختار من ولد آدم العرب، ثمّ اختار من العرب مضر، ثمّ اختار من مضر، قريشا، ثمّ اختار من قريش هاشما، ثمّ اختارني من هاشم، و أهل بيتى كذلك، فمن أحبّ العرب فيحبّني و احبّهم و من أبغض العرب فيبغضني و ابغضهم و نعم ما قيل:

للّه في عالمه صفوة
و صفوة الخلق بنو هاشم‏

و صفوة الصفوة من هاشم‏
محمّد الطّهر أبو القاسم‏

و يشهد به أيضا ما روي بطريق العامة عن عايشة عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: أتاني جبرئيل فقال. قلبت مشارق الأرض و مغاربها فلم أر رجلا أفضل من محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لم أر ابن أب أفضل من بني هاشم.

و في رواية ابن عمر أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: إنّ اللّه اختار خلقه فاختار منهم بني آدم ثمّ اختار بني آدم فاختار منهم العرب، ثمّ اختار العرب فاختار منهم قريشا، ثمّ اختار قريشا فاختار منهم بني هاشم، ثمّ اختار بني هاشم فاختارني منهم، فلم ازل خيارا من خيار ألا من أحبّ العرب فيحبّني احبّهم و من ابغض العرب فيبغضنى ابغضهم (و شجرته خير الشجر) أى أصله خير الاصول، و أراد بها إمّا هاشما أو اسماعيل على سبيل الاستعارة، و يجوز أن يراد بها نفسه صلوات اللّه و سلامه عليه و آله على كون الاضافة بيانية و يدل عليه ما في البحار من معاني الأخبار باسناده عن جابر قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ:

 كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها.

قال عليه السّلام: أمّا الشجرة فرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و فرعها عليّ عليه السّلام، و غصن الشجرة فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ثمرها أولادها عليهم السّلام، و ورقها شيعتنا ثمّ قال عليه السّلام: إنّ المؤمن من شيعتنا ليموت فيسقط من الشجرة ورقة و إنّ المولود من شيعتنا ليولد فتورق الشجرة ورقة.

و بمعناه أخبار كثيرة، و قد نظم بعض الشعراء مضمونها و قال:

يا حبذا دوحة في الخلد نابتة
ما مثلها نبتت في الخلد من شجر

المصطفى أصلها و الفرع فاطمة
ثمّ اللّقاح عليّ سيّد البشر

و الهاشميّان سبطاه لها ثمر
و الشّيعة الورق الملتفّ بالثمر

هذا مقال رسول اللّه جاء به‏
أهل الرّواية في العالي من الخبر

و قيل: أراد بالشجرة إبراهيم الخليل و هو بعيد لمنافاته بظاهر قوله (نبتت في حرم) لظهوره في مكّة إلّا أن يراد به حرم العزّ و المنعة (و بسقت في كرم) أى طالت و ارتفعت في العزّ و الكرامة (لها فروع طوال) إن كان المراد بالشجرة إبراهيم أو إسماعيل فالمراد بالفروع الأنبياء من ذرّيتها، و إن كان المراد بها هاشم أو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأراد بها الأئمة عليهم السّلام و وصفها بالطول إشارة إلى بلوغها في الشّرف و الكمال منتهى النّهاية (و ثمرة لا تنال) كنّى بها عن علوم الأنبياء و الأئمة أو مكارم أخلاقهم و محاسن مآثرهم، و بعدم نيلها عن شرفها و غموض أسرارها يعني أنها لشرفها و علوّها لا يمكن الوصول اليها، أو أنها لغموضها و دقّتها لا تصل الأذهان اليها (فهو إمام من اتّقى و بصيرة من اهتدى) يعني أنّه صلوات اللّه عليه و آله قدوة المتقين و تبصرة المهتدين لهم فيه اسوة حسنة و هو (سراج لمع ضوئه و شهاب سطع نوره و زند برق لمعه) شبهه عليه السّلام بالسراج و الشهاب و الزند في كونه سبب هداية الخلق كما أنّ هذه الثلاثة كذلك، و رشح التشبيه الأول بلمعان الضوء، و الثّاني بارتفاع النّور، و الثالث ببروق اللّمع، و يحتمل أن يكون وجه الشبه في الثالث إثارة أنوار الهداية.

(سيرته القصد) و الاعتدال (و سنّته الرّشد) و الصواب (و كلامه الفصل) بين الحقّ و الباطل (و حكمه العدل) خال عن الحرف و الميل (أرسله على حين فترة من الرّسل) أى على حين سكون و انقطاع من الرّسل، و قد تقدّم توضيح ذلك في شرح الخطبة الثامنة و الثمانين فتذكر (و هفوة من العمل) أى زلّة منه (و غباوة من الامم) أى غفلة منها، و ذلك لأنّ خلوّ الزمان من الرسول موجب لكثرة الزلّات و تزايد الغفلات و فرط الجهالات، فتخصيص إرساله بذلك الزّمان و تلك الحال إشارة إلى كمال تلك النعمة و عظمة هذه الموهبة حيث هداهم بوجوده صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الضلالة و أنقذهم بمكانه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الجهالة، هذا.

و لمّا فرغ من شرح حال الرّسالة عقّبه بالذكرى و الموعظة فقال (اعملوا رحمكم اللّه على أعلام بيّنة) أى اعملوا الصّالحات على ما دلّت عليها الأعلام البيّنات و المنار الواضحات الظّاهرات، و كنّى بها عن أئمة الدّين و مصابيح اليقين فانهم علامات الهدى في غياهب الدّجى (فالطّريق) أى طريق الشريعة (نهج) واضح (يدعو) و يؤدّى (إلى دار السّلام و أنتم في دار مستعتب) أى يمكنكم فيها استعتاب الخالق سبحانه و استرضائه بصالح الأعمال و اصلاح الحال، لأنكم (على مهل و فراغ) أى على امهال و انظار و فراغ من عوائق الموت.

(و) الحال أنّ (الصّحف) أى صحايف أعمالكم (منشورة) لم تطو بعد (و الأقلام) اى أقلام كرام الكاتبين (جارية) لم تجف (و الأبدان صحيحة) و سالمة من الأمراض المانعة من القيام لوظايف العبودية (و الألسن مطلقه) من الخرس و الاعتقال (و التوبة مسموعة و الأعمال مقبولة) لانّكم في دار التكليف يمكنكم فيها تدارك ما فات و الورود على ما هو آت، و أما بعد طيّ الصخف و جفّ الاقلام و اعتقال اللسان و خروج الأرواح من الأبدان، فلا يمكنكم الاستزادة من صالح‏ العمل و لا الاستعتاب من سيّي‏ء الزّلل كما قال تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ.

الترجمة

از جمله خطبهاى شريفه آن جناب ولايت مآب است كه مى ‏فرمايد: پس بلند است معبود بحق آن معبودى كه نمى‏ رسد بأوهمّتهاى بعيده، و درك نمى ‏نمايد او را إدراك ذكاوتها، أوّلي كه هيچ غايتي نيست او را پس نهايت برسد، و آخرى ندارد او را تا اين كه منقضى شود، بعضى از اين خطبه در صفت انبيا است مى‏فرمايد: پس أمانت نهاد خداوند متعال ايشان را در أفضل محلّ أمانتها كه عبارتست از صلبهاى پدران، و برقرار فرمود ايشان را در بهترين مقرها كه عبارتست از رحمهاى مادران، نقل نمود آنها را صلبهاى كريمه پدرها برحمهاى پاكيزه مادرها، هرگاه گذشت از ايشان سلفى ايستاد بترويج دين خدا از ايشان خلفى تا اين كه منجرّ شد كرامت حق سبحانه و تعالى كه عبارتست از منصب نبوّت بمحمّد بن عبد اللّه صلوات اللّه و سلامه عليه و آله، پس بيرون آورد آن بزرگار را از بهترين معدنها از حيثيت روئيدن و عزيزترين أصلها از حيثيت نشاندن، از درختى كه شكافته و بيرون آورده از آن پيغمبران خود را، و برگزيده از آن امينان خود را.

عترت آن حضرت بهترين عترتها است، و قبيله آن حضرت بهترين قبيله‏ها است، و درخت آن حضرت بهترين درختها است در حالتى كه روئيده است آن درخت در حرم محترم، و بلند شده در مجد و كرم، مر آن درخت راست شاخهاى بلند، و ميوهائى كه دست نمى‏رسد بآن.

پس آن حضرت پيشواى كسيست كه متّصف است بصفت تقوى، و بينائى كسى است كه متّصف است بصفت اهتدا، چراغيست كه درخشانست روشنائى او، و ستاره‏ايست كه‏ظاهر است نور او، و آتش زنه‏ايست كه برق مى‏دهد لمعان او، روش آن حضرت ميانه روى است، و طريقه او رشادت است، و كلام او جدا كننده است ميان حقّ و باطل، و حكم او عدل است.

فرستاد حق تعالى او را در حين فتور و انقطاع از پيغمبران، و زمان لغزش عاملان از عمل، و وقوع غفلت از امتها، عمل نمائيد خدا رحمت كند بر شما بر طبق آنچه كه دلالت نموده بر آن علامات ظاهره، پس طريق حق واضح و روشن است كه دعوت مى‏ نمايد و مى‏ خواند بدار سلامت كه عبارتست از جنت، و حال آنكه شما در سرائى هستيد كه ممكن است شما را ترضيه پروردگار، و بر مهلت و فراغت ميباشد در حالتى كه نامهاى أعمال نشر كرده شده و پيچيده نيست، و قلمهاى كرام الكاتبين روان است، و بدنها صحيح است و زبانها روان است و گويان، و توبه شنوده شده است، و عملها مقبول است، پس فرصت را غنيمت شماريد و وقت را از دست مگذاريد.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 92 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 93 صبحی صالح

93- و من خطبة له ( عليه‏ السلام  ) و فيها ينبّه أمير المؤمنين على فضله و علمه و يبيّن فتنة بني أمية

أَمَّا بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ وَ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ

أَيُّهَا النَّاسُ

فَإِنِّي فَقَأْتُ عَيْنَ الْفِتْنَةِ

وَ لَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي

بَعْدَ أَنْ مَاجَ غَيْهَبُهَا وَ اشْتَدَّ كَلَبُهَا

فَاسْأَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي

فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْ‏ءٍ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ السَّاعَةِ

وَ لَا عَنْ فِئَةٍ تَهْدِي مِائَةً وَ تُضِلُّ مِائَةً إِلَّا أَنْبَأْتُكُمْ بِنَاعِقِهَا

وَ قَائِدِهَا وَ سَائِقِهَا

وَ مُنَاخِ رِكَابِهَا وَ مَحَطِّ رِحَالِهَا

وَ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَهْلِهَا قَتْلًا

وَ مَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ مَوْتاً

وَ لَوْ قَدْ فَقَدْتُمُونِي وَ نَزَلَتْ بِكُمْ كَرَائِهُ الْأُمُورِ وَ حَوَازِبُ الْخُطُوبِ

لَأَطْرَقَ كَثِيرٌ مِنَ السَّائِلِينَ

وَ فَشِلَ كَثِيرٌ مِنَ الْمَسْئُولِينَ

وَ ذَلِكَ إِذَا قَلَّصَتْ حَرْبُكُمْ

وَ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقٍ

وَ ضَاقَتِ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ ضِيقاً

تَسْتَطِيلُونَ مَعَهُ أَيَّامَ الْبَلَاءِ عَلَيْكُمْ

حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ لِبَقِيَّةِ الْأَبْرَارِ مِنْكُمْ

إِنَّ الْفِتَنَ إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ

وَ إِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ

يُنْكَرْنَ مُقْبِلَاتٍ

وَ يُعْرَفْنَ مُدْبِرَاتٍ

يَحُمْنَ حَوْمَ الرِّيَاحِ

يُصِبْنَ بَلَداً وَ يُخْطِئْنَ بَلَداً

أَلَا وَ إِنَّ أَخْوَفَ الْفِتَنِ عِنْدِي عَلَيْكُمْ فِتْنَةُ بَنِي أُمَيَّةَ

فَإِنَّهَا فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ مُظْلِمَةٌ عَمَّتْ خُطَّتُهَا

وَ خَصَّتْ بَلِيَّتُهَا

وَ أَصَابَ الْبَلَاءُ مَنْ أَبْصَرَ فِيهَا

وَ أَخْطَأَ الْبَلَاءُ مَنْ عَمِيَ عَنْهَا

وَ ايْمُ اللَّهِ لَتَجِدُنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَكُمْ أَرْبَابَ سُوءٍ بَعْدِي

كَالنَّابِ الضَّرُوسِ تَعْذِمُ بِفِيهَا

وَ تَخْبِطُ بِيَدِهَا

وَ تَزْبِنُ بِرِجْلِهَا

وَ تَمْنَعُ دَرَّهَا

لَا يَزَالُونَ بِكُمْ حَتَّى لَا يَتْرُكُوا مِنْكُمْ إِلَّا نَافِعاً لَهُمْ

أَوْ غَيْرَ ضَائِرٍ بِهِمْ

وَ لَا يَزَالُ بَلَاؤُهُمْ عَنْكُمْ حَتَّى لَا يَكُونَ انْتِصَارُ أَحَدِكُمْ مِنْهُمْ إِلَّا كَانْتِصَارِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ

وَ الصَّاحِبِ مِنْ مُسْتَصْحِبِهِ

تَرِدُ عَلَيْكُمْ فِتْنَتُهُمْ شَوْهَاءَ مَخْشِيَّةً

وَ قِطَعاً جَاهِلِيَّةً

لَيْسَ فِيهَا مَنَارُ هُدًى

وَ لَا عَلَمٌ يُرَى

نَحْنُ أَهْلَ الْبَيْتِ مِنْهَا بِمَنْجَاةٍ

وَ لَسْنَا فِيهَا بِدُعَاةٍ

ثُمَّ يُفَرِّجُهَا اللَّهُ عَنْكُمْ كَتَفْرِيجِ الْأَدِيمِ

بِمَنْ يَسُومُهُمْ خَسْفاً وَ يَسُوقُهُمْ عُنْفاً

وَ يَسْقِيهِمْ بِكَأْسٍ مُصَبَّرَةٍ لَا يُعْطِيهِمْ إِلَّا السَّيْفَ

وَ لَا يُحْلِسُهُمْ إِلَّا الْخَوْفَ

فَعِنْدَ ذَلِكَ تَوَدُّ قُرَيْشٌ بِالدُّنْيَا وَ مَا فِيهَا لَوْ يَرَوْنَنِي مَقَاماً وَاحِداً

وَ لَوْ قَدْرَ جَزْرِ جَزُورٍ

لِأَقْبَلَ مِنْهُمْ مَا أَطْلُبُ الْيَوْمَ بَعْضَهُ فَلَا يُعْطُونِيهِ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج7  

و من خطبة له عليه السّلام و هى الثانية و التسعون من المختار فى باب الخطب

خطب بها بعد انقضاء أمر النهروان، و هى من خطبه المشهورة رواها غير واحد حسبما تطلع عليه و شرحها في ضمن فصلين:

الفصل الاول

أمّا بعد أيّها النّاس فأنا فقأت عين الفتنة، و لم يكن ليجترئ عليهاأحد غيري بعد أن ماج غيهبها، و اشتد كلبّها، فاسئلوني قبل أن تفقدوني فو الّذي نفسي بيده لا تسألوني عن شي‏ء فيما بينكم و بين السّاعة، و لا عن فئة تهدي مأئة و تضلّ مأئة، إلّا أنبأتكم بناعقها، و قائدها، و سائقها و مناخ ركابها، و محطّ رحالها، و من يقتل من أهلها قتلا، و يموت منهم موتا، و لو قد فقد تموني و نزلت بكم كرائه الأمور، و حوازب الخطوب، لأطرق كثير من السّائلين، و فشل كثير من المسئولين، و ذلك إذا قلصت حربكم، و شمّرت عن ساق، و ضاقت الدّنيا عليكم ضيقا، تستطيلون أيام البلاء عليكم، حتّى يفتح اللّه لبقيّة الأبرار منكم، إنّ الفتن إذا أقبلت شبّهت، و إذا أدبرت نبّهت، ينكرن مقبلات، و يعرفن مدبرات، يحمن حوم الرّياح، يصبن بلدا، و يخطين بلدا.

اللغة

(فقأت) عين الفتنة من باب منع قلعتها و شققتها و (الغيهب) الظلمة و (كلب) الكلب كلبا فهو كلب من باب تعب و هوداء يشبه الجنون يأخذه فيعقر الناس و في القاموس الكلب بالتحريك صياح من عضّة الكلب الكلب و جنون الكلاب المعترى من أكل لحوم الانسان و شبه جنونها المعترى للانسان من عضّها و (نعق) بغنمه من باب منع و ضرب صاح بها لتعود إليه و زجرها و نعق الغراب صاح و (مناخ) الابل بضمّ الميم موضع اناختها أى مبركها، و في شرح المعتزلي يجوز جعله مصدرا كالمقام بالضّم بمعنى الاقامة و (الركاب) بالكسر المطى اى الابل التي يسار عليها و احدتها راحلة من غير لفظها و الجمع الرّكب ككتب‏ و (المحطّ) بفتح الميم قال الشارح المعتزلي يجوز كونه مصدرا كالمرد في قوله تعالى: و إنّ مردّنا إلى اللّه، و كونه موضعا كالمقتل و (الرّحال) كأرحل جمع الرّحل و هو مركب للبعير و يقال له را حول أيضا و (الحوازب) جمع الحازب من حزبه الأمر إذا اشتدّ عليه أو ضغطه و (الخطوب) جمع الخطب و هو معظم الأمر و (الاطراق) السّكوت و الاقبال بالبصر إلى الصّدر و (فشل) فشلا فهو فشل من باب تعب و هو الجبان الضّعيف القلب (إذا قلصت حربكم) بتخفيف اللّام من باب ضرب أى كثرت و تزايدت، و في المصباح قلصت شفته انزوت و قلص الثوب انزوى بعد غسله، و في بعض النسخ عن حربكم، و في بعض النسخ بالتشديد أى انضمّت و اجتمعت و (شبّهت) بالبناء على المعلوم اى جعلت أنفسها شبيهة بالحقّ أو على المجهول أى أشكل أمرها و التبس على الناس و (نبهته) من النوم أيقظته و (حام) الطائر حول الماء إذا دار و طاف لينزل عليه و (يخطين) من الخطو و هو المشى

الاعراب

جملة و لو قد فقد تموني إمّا استينافية أو قسمية بحذف المقسم به بدلالة السّياق، و لو الشرطية بمعنى ان مفيدة للتعليق في الاستقبال إلّا أنه جي‏ء، بالشرط و الجزاء بصيغة الماضي تنبيها على تحقّق وقوعهما لا محالة، و هو من المحسنات البيانية، و الحرب مؤنث سماعي و لذا انّث الفعل المسند إليه، و مفعول شمّرت محذوف أيضا، و ضاقت عطف على شمرت، و جملة تستطيلون حال من المجرور في عليكم، و جملة ينكرن مقبلات و يعرفن مدبرات بدل كلّ من جملة إذا أقبلت شبهت و إذا أدبرت نبهت كما في قوله تعالى: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ.

و جملة يحمن منصوب المحلّ على الحال

المعنى

اعلم أنّ هذا الفصل من كلامه عليه السّلام مسوق لاظهار مناقبه الجّمة و فضائله‏ الدثرة، و التنبيه على علو مقامه و رفعة مكانه و الغرض به التعريض على المخاطبين بغفلتهم عن سموّ شأنه و جهالتهم بقدره و عدم معرفتهم به حقّ المعرفة ليرقدوا بذلك عن نوم الغفلة و الجهالة و يعرفوه حقّ المعرفة، و يعظموا قدره و منزلته و يقيموا بوظايف طاعته على ما يليق به سلام اللّه عليه و آله و أشار عليه السّلام أوّلا إلى فضيلته و شجاعته و كمال مهابته بقوله (أما بعد أيّها النّاس فأنا فقأت عين الفتنة) أى شققتها و قلعتها بشحمها أو أدخلت الاصبع فيها، و هو استعارة لكسر ثورانها و إسكان هيجانها، و المراد بالفتنة إمّا خصوص فتنة أهل البصرة و النهروان كما وقع الاشارة إليه منه عليه السّلام في رواية إبراهيم الثقفي و سليم ابن قيس الهلالي الآتية في ذيل شرح الفصل الثاني، أو عموم فتن المنافقين و الكافرين و المصدر المحلّى باللام و إن لم يكن مفيدا للعموم بحسب الوضع اللّغوى حسبما قرّر في الاصول، إلّا أنّه لا ينافي إفادته له بقرينة الحال.

فقد ظهر و اتّضح لنا ظهور الشمس في رابعة النهار أنه عليه السّلام ردّ نخوة بأو الكفّار و اعتلائهم يوم بدر، و شموخ انفهم و سموّ غلوائهم يوم أحد، و كسر صولتهم يوم خيبر و فقأ أعينهم بقتل ابن عبدود يوم الأحزاب، و هكذا ساير الحروب و الخطوب فقد علمنا علما يقينا أنه لو لا سيفه عليه السّلام لما قام للاسلام عمود، و لا اخضرّ للايمان عود و لذلك قدّم المسند إليه على المسند ليفيد التخصيص، و جعل المسند جملة للتقوى كما قرّر في علم المعان، و أكده بقوله (و لم يكن ليجترئ عليها أحد غيرى) و تصديق ذلك أمّا في وقعة الجمل و النهروان فلأنّ الناس كانوا لا يتجاسرون على قتال أهل القبلة و يخافون من ذلك الاثم و العصيان، و كانوا حسن الظنّ بطلحة و الزبير مع كون زوجة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيهم و أهل النّهروان كانوا أهل قرآن و صلاة و اجتهاد و عبادة، و كان النّاس يهابون قتالهم و يقولون كيف نقاتل من يصلّى كصلاتنا و يؤذّن كأذاننا و يصوم كصومنا على ما عرفت في شرح الخطبة السادسة و الثلاثين و كذا التبس الأمر في وقعة صفين و لذلك أمسك مثل خزيمة بن ثابت الانصاري‏عن القتال حتّى قتل عمار فتيقّن ضلالة القاسطين و قاتل حتّى قتل كما مرّ مشروحا في تذييل الكلام الخامس و الستين و أمّا في ساير الوقايع و الحروب التي كانت في زمن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقد زاغَتِ الْأَبْصارُ وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ و ظنّوا باللّه الظّنونا و اضطرب المؤمنون وَ زُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً و دارت أعين المنافقين كَالَّذِي يُغْشى‏ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ و قالوا: ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً ف وَ رَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ بوجوده عليه السّلام وَ كانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً و انزل في حقه عليه السّلام و في عمّه حمزة و أخيه جعفر مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى‏ نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا.

و إلى شدّة تلك الفتن و ظلمتها أشار بقوله (بعد أن ماج غيهبها) و كنّى بتموّج، ظلمتها عن شمول ظلّ لها لأنّ الظلمة إذا تموجّت شملت أماكن كثيرة غير الأماكن التي تشملها لو كانت ساكنة و إلى غلبة شرّها و أذاها بقوله (و اشتدّ كلبها) ثمّ أشار إلى فضيلة علمه بقول ما زال يقوله و هو قوله: (فاسألوني قبل أن تفقدوني) قال الشارح المعتزلي روى صاحب كتاب الاستيعاب و هو أبو عمر محمّد بن عبد البر عن جماعة من الرّواة و المحدّثين قالوا لم يقل أحد من الصحابه عنهم سلونى إلّا عليّ ابن أبي طالب، و روى شيخنا أبو جعفر الاسكافي في كتاب نقض العثمانية عن عليّ بن الجعد عن ابن شبرمه قال: ليس لأحد من النّاس أن يقول على المنبر سلوني إلّا عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.

أقول: و ذلك لأنّ الأنواع السّؤلات غير محصورة و لا محصاة، و أصناف الطلبات غير معدودة و لا مستقصاة، فبعضها يتعلّق بالمعقول و بعضها بالمنقول، و بعضها بعالم الشهود و بعضها بعالم الغيب، و بعضها بما كان و بعضها بما يكون و بعضها بما هو كائن، و هكذا فلا يمكن الجواب عن هذا كلّه و لا يقدر على مثل ذلك إلّا من تأيّد بقوّة ربانيّة، و اقتدر بقدرة الهيّة، و نفث في روعه الرّوح الأمين، و تعلّم علوم الأولين و الآخرين، و صار منبع العلم و الحكمة، و ينبوع الكمال و المعرفة، و هو أمير المؤمنين و يعسوب الدين، و وارث علم النبيين و بغية الطّالبين، و حلّال مشكلات السائلين فلا ينصب نفسه في هذا المنصب إلّا جاهل، و لا يدّعى لنفسه هذا المقام إلّا تائه غافل، و في هذا المقام قال الشاعر:

و من ذا يساميه بمجد و لم يزل
يقول سلوني ما يحلّ و يحرم‏

سلوني ففي جنبي علم ورثته‏
عن المصطفى ما فات منّى به الفم‏

سلوني عن طرق السموات إننى
بها عن سلوك الطرق في الارض أعلم‏

و لو كشف اللّه الغطا لم أزد به‏
يقينا على ما كنت أدرى و أفهم‏

و قد روينا في التذييل الثاني من شرح الكلام الثالث و الأربعين أنّ ابن الجوزي قال يوما على منبره: سلوني قبل أن تفقدوني، فسألته امرئة عمّا روي أنّ عليّا سار في ليلة إلى سلمان فجهّزه و رجع، فقال: روى ذلك، قالت: فعثمان ثمّ ثلاثة أيّام منبوذا في المزابل و عليّ عليه السّلام حاضر، قال: نعم، فقالت: فقد لزم الخطاء لأحدهما، فقال: إن كنت خرجت من بيتك بغير اذن زوجك فعليك لعنة اللّه و إلّا فعليه، فقالت: خرجت عايشة إلى حرب عليّ باذن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أولا فانقطع و لم يحر جوابا و رووا أيضا أنّ قتاده دخل الكوفة فالتفت إليه الناس فقال: اسألوني عما شئتم و كان أبو حنيفة حاضرا و هو إذا غلام حدث السنّ، فقال: اسألوه عن نملة سليمان أ كان ذكرا أم أنثى، فسألوه فانقطع، فقال أبو حنيفة كانت انثى فقيل له: بم عرفت ذلك قال من كتاب اللّه و هو قوله تعالى قالت نملة و لو كان ذكرا لقال: قال نملة و ذلك لأنّ لفظ النملة يقع على الذكر و الانثى كلفظ الحمامة و الشاة«» و إنما يميّز بينهما بعلامة التأنيث.

فانظر إلى هذين المغرورين المعجبين كيف عييا عن جواب أدنى مسألة فكيف بهما إذا سئلا عن حجب الأسرار، و سرادقات الأنوار، و الغيب المكنون، و السرّ المكتوم، و عجائب الملكوت، و بدايع الجبروت، فاشهد أنّ عريف ذلك و الخبير بكلّ ذلك لم يكن إلّا أمير المؤمنين، و وصيّ رسول ربّ العالمين، و عنده علم الكتاب كلّه، و فيه خبر السّماء و خبر الأرض و خبر ما كان و ما يكون و ما هو كائن إلى يوم القيامة كما قال عزّ من قائل: وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ.

أى في إمام مبين و قد سئل عليه السّلام في مقامات شتى عن مسائل مشكلة متفرّقة فأجاب عنها بأجوبة شافية تاهت فيها العقول و دهشت بها القلوب حسبما نشير إلى بعضها بعد الفراغ عن شرح الفصل ثمّ اقسم عليه السّلام بالقسم البارّ انه عالم بما هو كائن إلى يوم القيامة و قال: (فو الذي نفسى بيده لا تسألوني عن شي‏ء فيما بينكم و بين الساعة) إلّا أنبئتكم به، و نحوه ما رواه في البحار من بصائر الدّرجات باسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سئل عليّ عليه السّلام عن علم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: علم النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم علم جميع النبيّين و علم و ما كان و علم ما هو كائن إلى قيام السّاعة، ثمّ قال عليه السّلام: و الذى نفسي بيده إنّى لأعلم علم النبيّ و علم ما كان و علم ما هو كائن فيما بيني و بين قيام السّاعة (و لا عن فئة تهدى مأئة و تضل مأئة) تخصيص هذا العدد بالبيان ليس لقصد الاختصاص و إنما هو جار على‏ سبيل المثل و إشارة إلى الكثرة إذا مادون مأئة حقير لا يعتدّ به قال الأعشى:

الواهب المأة الهجان و عبدها
عوذا يزجى خلفها أطفالها

و قال أيضا:

هو الواهب المأة المصطفاة
إمّا مخاضا و إمّا عشارا

و قد كثر في الأخبار ذكر السبعين على سبيل المثل، و قيل في قوله سبحانه إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ.

إنّ المقصود به نفى الغفران جملة و إنّما جاء السّبعون مجرى المثل للتكثير و كيف كان فمفهوم العدد ليس بحجّة كما قرّر في الاصول، و الغرض أنّه لا تسألونى عن جماعة هادية لطايفة كثيرة و مضلّة لطائفة كثيرة اخرى (إلّا أنبأتكم بناعقها) أى الداعي اليها و زاجرها (و قائدها و سائقها و مناخ ركابها و محطّ رحالها) قال الشارح البحراني: استعار عليه السّلام أوصاف الابل و رعائها و أصحابها من الناعق و القائد و السائق و المناخ و الرّكاب و الرّحال للفئة المهدية و الضالّة و من يهديهم و يضلّهم ملاحظة لشبههم بالابل في الاجتماع و الانقياد لقائد وراع (و من يقتل من أهلها) أى أهل الفئة المذكورة (قتلا و يموت منهم موتا) ثمّ نبّه عليه السّلام على أنّه أعظم نعمة أنعم اللّه سبحانه بوجوده عليهم و أنّ قدره مجهول عندهم و هم غافلون عن فوائد مقامه بين أظهرهم و أنهم سوف يعلمون إذا نزلت بهم الدّواهى و حلّت بهم الرزايا فقال: (و لو قد فقد تمونى و نزلت بكم كرائه الامور) أى المصائب التي تكرهها النفوس (و حوازب الخطوب) أى شدايد الأحوال (لأطرق كثير من السائلين) أى أرخوا أعينهم ينظرون إلى الأرض، و ذلك لصعوبة الأمر و شدّته حتى أنه يبهته عن السؤال و يتحير كيف يسأل (و فشل كثير من المسئولين) أى جبنوا عن ردّ الجواب لجهلهم بعواقب تلك الخطوب و ما يسألون عنه منها (و ذلك إذا قلصت حربكم) أى إطراق السائلين و فشل المسئولين إذا تزايدت حربكم و كثرت أوانضمّت و اجتمعت، و هو كناية عن شدّتها و صعوبتها، لأنّ الجيوش إذا اجتمعت كلها و اصطدم الفيلقان كان الأمر أصعب و أشدّ من أن تتفرّق و يحارب كلّ كتيبة كتيبة اخرى في بلاد متباعدة، و من روى قلصت عن حربكم فالمراد إذا انكشفت كرائه الامور و حوازب الخطوب عن حربكم.

(و شمّرت عن ساق) أى شمّرت الحرب و رفعت السّاتر عن ساقها و هو كناية عن اشتدادها و التحامها على سبيل الاستعارة، و الغرض تشبيه الحرب بالمجد في أمر الساعي فيه، فانّ الانسان أذا جدّ في السّعي شمّر عن ساقه و دفع ثوبه لئلّا يعوقه و يمنعه، و ربما قيل بأنه جار على الحقيقة، و معنى السّاق الشدّة، أى كشفت عن شدّة و مشقّة و به فسّر قوله سبحانه: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ.

(و ضاقت الدّنيا عليكم ضيقا) بطروق الخطوب و ابتلاء المصائب حالكونكم (تستطيلون أيام البلاء عليكم) و ذلك لأنّ أيام البلاء تكون في نظر الانسان طويلة و أيام السعة و الرّخاء قصيرة قال الشاعر:

         فأيّام الهموم مقصّصات            و أيّام السّرور تطير طيرا

(حتّى يفتح اللّه لبقيّة الأبرار منكم) يحتمل أن يكون المراد ببقية الأبرار أولادهم و إن لم يكونوا أبرارا في أنفسهم إن كان إشارة إلى ظهور دولة بني العباس إلّا أنّ الأظهر أنّ المراد هو ظهور الدّولة الحقّة القائميّة عجّل اللّه له الفرج و أقرّ اللّه عيون مواليه بظهوره عليه السّلام.

(إنّ الفتن إذا أقبلت شبّهت) أى جعلت نفسها أى الامور الباطنة شبيهة بالحقّ، أو أشكل أمرها و التبس على الناس (و إذا أدبرت نبهت) أى أيقظت القوم من نوم الجهالة و ظهرت بطلانها عليهم، ألا ترى أنّ الناس كانوا في بدو فتنة الجمل و النهروان في حيرة و اشتباه لا يدرون أنّ الحقّ في أيّ الجانبين، فلمّا انقضت الحرب و وضعت أوزارها ارتفع الاشتباه و تميّز الحقّ من الباطل و انتبه القوم من جهالتهم.

و أكد عليه السّلام هذا المعنى بقوله (ينكرن مقبلات) أى لا يعرف حالهنّ في حالة اقبالها (و يعرفن مدبرات) ثمّ وصفها بأنّها (يحمن حوم الرّياح) أى يطفن مثل طواف الرّياح (يصبن بلدا و يخطين بلدا).

تنبيهان الاول

قد قلنا إنّ قوله عليه السّلام: سلوني قبل أن تفقدوني كلام ما زال عليه السّلام يقول حتى أنه عليه السّلام كان يقوله بعد ما ضربه ابن ملجم لعنه اللّه و قبل وفاته بيوم كما مرّ في شرح الكلام التاسع و الستين، و نكتة ذلك أنّ اللّازم على امام الزّمان أن يبذل فيوضاته للمواد القابلة بقدر الامكان.

 لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى‏ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ.

روى الصدوق فى التّوحيد قال: حدثّنا أحمد بن الحسن القطان و عليّ بن أحمد بن محمّد بن عمران الدّقاق قال: حدّثنا أحمد بن يحيى بن زكريّا القطان قال: حدّثنا محمد بن العبّاس قال: حدّثنى محمد بن أبى السّرى قال: حدّثنا أحمد بن عبد اللّه بن يونس عن سعد الكناني عن الأصبغ بن نباته قال: لما جلس عليّ عليه السّلام على الخلافة و بايعه النّاس خرج إلى المسجد متعمّما بعمامة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا بسا بردة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم متنعّلا نعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم متقلّدا سيف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فصعد إلى المنبر فجلس عليه متمكنا ثمّ شبّك بين أصابعه فوضعها أسفل بطنه.

ثمّ قال: يا معشر النّاس سلوني قبل أن تفقدوني هذا سفط«» العلم هذا لعاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، هذا ما زقّني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم زقّا زقّا، سلوني فانّ عندي علم الأوّلين و الآخرين، أم و اللّه لو ثنيت لي الوسادة فجلست عليها لأفتيت أهل التّوراة بتوراتهم حتّى تنطق التّوراة فتقول: صدق عليّ ما كذب لقد أفتاكم بما أنزل اللّه في، و أفتيت أهل الانجيل بإنجيلهم حتى ينطق الانجيل فيقول: صدق‏عليّ ما كذب لقد أفتاكم بما أنزل اللّه فيّ، و أفتيت أهل القرآن بقرآنهم حتّى ينطق القرآن فيقول: صدق عليّ ما كذب لقد أفتاكم بما أنزل اللّه فيّ، و أنتم تتلون القرآن ليلا و نهارا فهل فيكم أحد يعلم ما انزل فيه، و لو لا آية في كتاب اللّه لأخبرتكم بما كان و ما يكون و ما هو كائن إلى يوم القيامة و هي هذه الآية: يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ.

ثمّ قال: سلوني قبل أن تفقدوني فو الّذي فلق الحبّة، و برء النّسمة لو سألتموني عن آية آية في ليل نزلت أو في نهار أنزلت مكّيها، و مدنيّها، سفريها، و حضريها، ناسخها، و منسوخها، محكمها، و متشابهها، و تأويلها، و تنزيلها، لأخبرتكم.

فقام إليه رجل يقال له: ذعلب و كان ذرب«» اللّسان بليغا في الخطب شجاع القلب فقال: لقد ارتقى ابن أبي طالب مرقاة صعبة لأخجلته اليوم لكم في مسألتي إيّاه فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربّك قال: و يلك يا ذعلب لم أكن بالّذي أعبد ربّا لم أره، قال: كيف رأيته صفه لنا، قال عليه السّلام: و يلك لم تره العيون بمشاهدة الأبصار و لكن رأته القلوب بحقايق الايمان، و يلك يا ذعلب إنّ ربّي لا يوصف بالبعد و لا بالحركة و لا بالسّكون و لا بقيام قيام انتصاب و لا بمجي‏ء و لا بذهاب، لطيف اللطافة لا يوصف باللّطف، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ، رؤوف الرحمة لا يوصف بالرقة، مؤمن لا بعبادة، مدرك لا بمحسّة، قائل لا بلفظ، هو في الأشياء على غير ممازجة، خارج منها على غير مباينة، فوق كلّ شي‏ء فلا يقال شي‏ء فوقه، و امام كلّ شي‏ء فلا يقال له امام، داخل في الأشياء لا كشي‏ء في شي‏ء داخل، و خارج منها لا كشي‏ء من شي‏ء خارج، فخرّ ذعلب مغشيا عليه ثمّ قال: تاللّه ما سمعت بمثل هذا الجواب و اللّه لا عدت إلى مثلها.

ثمّ قال عليه السّلام: سلوني قبل أن تفقدوني، فقام إليه الأشعث بن قيس فقال: يا أمير المؤمنين كيف يؤخذ من المجوس الجزية و لم ينزل عليهم كتاب و لم يبعث إليهم نبيّ قال عليه السّلام: بلى يا أشعث قد أنزل اللّه عليهم كتابا و بعث إليهم رسولا حتّى كان لهم ملك سكر ذات ليلة فدعا بابنته إلى فراشه فارتكبها فلما أصبح تسامع به قومه فاجتمعوا إلى بابه فقالوا: أيها الملك دنّست علينا ديننا و أهلكته فاخرج نطهرّك و نقيم عليك الحدّ، و قال لهم: اجتمعوا و اسمعوا كلامي فان يكن لي مخرج ممّا ارتكبت و إلّا فشأنكم، فاجتمعوا فقال لهم: هل علمتم أنّ اللّه لم يخلق خلقا أكرم عليه من أبينا آدم و أمّنا حوّا قالوا: صدقت أيها الملك، قال: أ فليس قد زوّج بنيه بناته و بناته من بنيه قالوا: صدقت هذا هو الدّين فتعاقدوا على ذلك فمحا اللّه تعالى ما في صدورهم من العلم و رفع عنهم الكتاب، فهم الكفرة يدخلون النّار بلا حساب، و المنافقون أشدّ حالا منهم قال الأشعث: و اللّه ما سمعت بمثل هذا الجواب و اللّه لا عدت إلى مثلها أبدا.

ثمّ قال: سلوني قبل أن تفقدوني: فقام رجل من أقصى المسجد متوكّئا على عصاه فلم يزل يتخطأ النّاس حتّى دنا منه فقال: يا أمير المؤمنين دلّني على عمل إذا أنا عملت نجاني اللّه من النّار.

قال له: اسمع يا هذا ثمّ افهم، ثمّ استيقن، قامت الدّنيا بثلاثة: بعالم ناطق مستعمل لعلمه، و بغنيّ لا يبخل بما له على أهل دين اللّه، و بفقير صابر، فاذا كتم العالم علمه و بخل الغني بما له و لم يصبر الفقير فعندها الويل و الثبور، و عندها يعرف العارفون أنّ الدّار قد رجعت إلى بديّها أى الكفر بعد الإيمان.

أيّها السّائل فلا تغترن بكثرة المساجد و جماعة أقوام أجسادهم مجتمعة و قلوبهم شتّى إنّما النّاس ثلاثة: زاهد، و راغب، و صابر، فاما الزاهد فلا يفرح بشي‏ء من الدّنيا أتاه و لا يحزن منها على شي‏ء فاته فاما الصابر فيتمناها بقلبه فان‏أدرك منها شيئا صرف عنها نفسه لما يعلم من سوء عاقبتها و أما الراغب فلا يبالي من حلّ أصابها أم من حرام، قال له يا أمير المؤمنين فما علامة المؤمن في ذلك الزّمان قال: ينظر إلى ما أوجب اللّه عليه من حقّ فيتولّاه و ينظر إلى ما خالفه فيتبرّء منه و إن كان حميما قريبا قال: صدقت و اللّه يا أمير المؤمنين، ثمّ غاب الرّجل فلم نره فطلبه الناس فلم يجدوه فتبسم عليّ عليه السّلام على المنبر ثمّ قال: مالكم هذا أخي الخضر عليه السّلام.

ثمّ قال: سلوني قبل أن تفقدوني، فلم يقم إليه أحد فحمد اللّه و أثنا عليه و صلّى على نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

ثمّ قال عليه السّلام للحسن: يا حسن قم فاصعد المنبر فتكلّم بكلام لا يجهلك قريش من بعدي فيقولون إنّ الحسن بن عليّ لا يحسن شيئا، قال الحسن عليه السّلام: يا أبه كيف أصعد و أتكلّم و أنت في النّاس تسمع و ترى قال له: بأبي و أمّي اوارى نفسي عنك و اسمع و أرى و لا تراني، فصعد الحسن عليه السّلام المنبر فحمد اللّه بمحامد بليغة شريفة و صلّى على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صلاة موجزة ثمّ قال: أيّها النّاس سمعت جدّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: أنا مدينة العلم و عليّ بابها و هل تدخل المدينة إلّا من بابها ثمّ نزل، فوثب إليه عليّ عليه السّلام فحمله و ضمّه إلى صدره ثمّ قال للحسين: يا بنيّ قم فاصعد المنبر و تكلّم بكلام لا يجهلك قريش من بعدى فيقولون إنّ الحسين بن عليّ لا يبصر شيئا و ليكن كلامك تبعا لكلام أخيك فصعد الحسين عليه السّلام المنبر فحمد اللّه و أثنا عليه و صلّى على نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صلاة موجزة ثمّ قال: معاشر النّاس سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو يقول: إنّ عليّا هو مدينة هدى فمن دخلها نجى و من تخلّف عنها هلك، فوثب إليه عليّ عليه السّلام فضمّه إلى صدره و قبّله ثمّ قال: معاشر النّاس اشهدوا أنهما فرخا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و وديعته التي استودعنيها و أنا أستودعكموها، معاشر الناس و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سائلكم عنهما.

الثاني

اعلم أنّ هذا الفصل من كلامه عليه السّلام متضمّن للتنبيه على علمه بالأخبار الغيبية و الوقايع الآتية و ما يكون بعده إلى يوم القيامة و قد تقدّم في شرح الكلام السادس و الخمسين شطر من تلك الوقايع و الأخبار.

و قال الشارح المعتزلي في شرح هذا الفصل: اعلم أنّه قد أقسم في هذا الفصل باللّه الذي نفسه بيده انّهم لا يسألون عن أمر يحدث بينهم و بين القيامة إلّا أخبرهم به و أنّه ما من طائفة من الناس تهتدى بها مأئة و تضلّ بها مأئة إلّا و هو مخبر لهم إن سألوه برعاتها و قائديها و سائقيها و مواضع نزول ركابها و خيولها و من يقتل منها قتلا و من يموت منها موتا، و هذه الدّعوى منه عليه السّلام ليست ادّعاء الرّبوبية و لا ادّعاء النبوّة و لكنه كان يقول إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخبره بذلك.

و لقد امتحنّا اخباره فوجدناه موافقا فاستدللنا بذلك على صدق الدّعوى المذكورة.

كإخباره عن الضربة التي يضرب في رأسه فتخضب لحيته، و إخباره عن قتل الحسين ابنه عليهما السّلام و ما قاله في كربلا حيث مرّ بها، و إخباره بملك معاوية الأمر من بعده، و إخباره عن الحجّاج و عن يوسف بن عمر، و ما أخبره من أمر الخوارج بالنهروان، و ما قدّمه إلى أصحابه من اخباره بقتل من يقتل منهم و صلب من يصلب و إخباره بقتال النّاكثين و القاسطين و المارقين، و اخباره بعدّة الجيش الوارد إليه من الكوفة لمّا شخص عليه السّلام إلى البصرة لحرب أهلها، و إخباره عن عبد اللّه بن الزّبير و قوله عليه السّلام فيه: خبّ ضبّ«» يروم أمراو لا يدركه ينصب حبالة الدّين لاصطياد الدّنيا«» و هو بعد مصلوب قريش.

و كإخباره عن هلاك البصرة بالغرق و هلاكها تارة اخرى بالزنج و هو الذى صحفه قوم فقالوا بالرّيح، و كإخباره عن الأئمة الذين ظهروا من ولده بطبرستان كالناصر«» و الداعى و غيرهما في قوله عليه السّلام: و إنّ لآل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالطالقان لكنزا سيظهره اللّه إذا شاء دعاة حتّى تقوم بإذن اللّه فتدعو إلى دين اللّه.

و كإخباره عن ظهور الرّايات السود من خراسان و تنصيصه على قوم من أهلها يعرفون ببنى رزيق بتقديم المهملة و هم آل مصعب منهم طاهر بن الحسين و إسحاق ابن إبراهيم و كانوا هم و سلفهم دعاة الدّولة العباسيّة، و كإخباره عن مقتل النّفس الزّكيّة«» بالمدينة و قوله عليه السّلام: انه يقتل عنده احجار الزيت، و كقوله عن أخيه إبراهيم المقتول يقتل بعد أن يظهر و يقهر بعد أن يقهر، و قوله عليه السّلام فيه أيضا يأتيه سهم عزب«» يكون فيه منيته فيا بؤس للرامي شلّت يده و وهن عضده.

و كإخباره عن قتلى فخّ و قوله عليه السّلام فيهم: هم خير أهل الأرض، أو من خير أهل الأرض و كإخباره عن المملكة العلويّة«» بالغرب و تصريحه بذكر كتائته«» و هم الذين نصروا أبا عبد اللّه الدّاعي المعلّم، و كقوله يشير إلى عبيد اللّه المهدى، و هو أوّلهم: ثمّ يظهر صاحب القيروان«» الغضّ البضّ«» ذو النسب المحض المنتجب من سلالة ذى البداء المسجّى بالرّدا، و كان عبيد اللّه المهدى مترفا مشربا رخص البدن تار الأطراف«»و ذو البداء إسماعيل بن جعفر بن محمّد عليهما السّلام لأنّ أباه أبا عبد اللّه جعفرا عليه السّلام سجّاه برداه لمّا مات و ادخل إليه وجوه الشيعة يشاهدونه ليعلموا موته و تزول عنهم الشبهة«» في أمره.

و كإخباره عن بني بويه و قوله عليه السّلام فيهم: و يخرج من ديلمان بنو الصياد، و كقوله فيهم: ثمّ يستشرى أمرهم حتّى يملكوا الزوراء و يخلعوا الخلفاء إشارة إليهم و كان أبوهم صياد السمك يصيد منه بيده ما يتقوت هو و عياله بثمنه فأخرج اللّه تعالى من ولده لصلبه ملوكا ثلاثة«» و نشر ذريتهم حتّى ضربت الأمثال بملكهم و كقوله عليه السّلام فيهم: و المترف بن الأجذم تقتله ابن عمه على دجلة،، و هو إشارة إلى عز الدّولة بختيار بن معزّ الدولة أبي الحسين و كان معزّ الدّولة أقطع اليد قطعت يده في الحرب و كان ابنه عزّ الدولة بختيار مترفا صاحب لهو و شرب، قتله عضد الدّولة فنّا خسرو ابن عمه بقصر الجصّ على دجلة في الحرب و سلبه ملكه، فأمّا خلعهم للخلفاء فانّ معز الدّولة خلع المستكفى و رتب عوضه المطيع، و بهاء الدولة أبا نصر بن عضد الدّولة خلع الطائع و رتّب عوضه القادر و كانت مدّة ملكهم كما أخبر به عليه السّلام.

و كإخباره لعبد اللّه بن العباس (ره) عن انتقال الأمر إلى أولاده، فان عليّ بن عبد اللّه لمّا ولد أخرجه أبوه عبد اللّه إلى عليّ عليه السّلام فأخذه و تفل في فيه و حنّكه بتمرة قد لاكها و دفعه إليه و قال: خذ إليك أبا الأملاك هكذا الرواية الصحيحة و هي التي ذكرها أبو العباس المبرّد في الكامل و ليست الرواية التي يذكر فيها العدد بصحيحة و لا منقولة من كتاب معتمد عليه.

و كم له عليه السّلام من الاخبار عن الغيوب الجارية هذا المجرى ممّا لو أردنا استقصائه لكسرنا له كراريس كثيرة و كتب السّير يشتمل عليها مشروحة

الترجمة

از جمله خطب شريفه آن امام مبين است كه اشاره فرموده در آن بكمالات نفسانيه و مقامات معنويه خود و بعضى از اخبار غيبيه باين نحو كه فرموده: أما بعد از حمد و ثناء الهى و درود نامعدود بر حضرت رسالت پناهي اى گروه خلايق پس من بر كندم چشم فتنه را و حال آنكه نبود هيچ كس كه جرأت نمايد بر دفع آن فتنه غير از من بعد از آنكه مضطرب شد ظلمت آن فتنه و سخت گرديد شرّ و أذيت آن، پس سؤال نمائيد از من از مسائل مشكله و مطالب معضله پيش از آنكه نيابيد مرا، پس قسم بخداوندى كه نفس من در قبضه اقتدار او است سؤال نمى‏نمائيد ار من از چيزى كه در ميان شما است و در ميان روز قيامت و نه از گروهى كه هدايت نمايند صد كس را و گمراه سازند صد كس ديگر را مگر اين كه خبر دهم شما را بخواننده آن و كشنده آن و راننده آن و محل فرود آمدن شتران بارگير ايشان و جاى فرود آوردن بارها با پالانهاى ايشان و به آن كه كشته مى‏شود از ايشان كشته شدنى و آنكه مى‏ميرد از ايشان مردنى و اگر مفقود كنيد مرا و نازل بشود بر شما امورات مكروهه و حالات شديده هر آينه سر در پيش اندازند بسيارى از سائلان و مى‏ترسند بسيارى از مسئولان، و اين آن زماني است كه درهم كشيده شود و جمع شود حرب شما و بردارد رخت را از ساق خود و تنگ باشد دنيا بشما تنگ شدني در حالتى كه دراز شماريد ايام بلا را برخودتان تا آنكه فتح كند خداوند از براى بقيّه نيكوكاران از شما بدرستى كه فتنه‏ها زماني كه رو آورند شبهه مى‏اندازند مردمان را و زمانى كه پشت برگردانند آگاه مى‏نمايند ايشان را، شناخته نمى‏شوند آن فتنه‏ها در حالتى كه اقبال ميكنند و شناخته مى‏شوند در حالتى كه ادبار مى‏نمايند، دوران ميكنند و بر مى‏گردند آنها مثل گرديدن بادها، مى‏رسند بشهرى و تخطي ميكنند و دور مى‏گذرند از شهرى ديگر.

الفصل الثاني

ألا إنّ أخوف الفتن عندي عليكم فتنة بني أميّة، فإنّها فتنة عمياء مظلمة، عمّت حظّتها، و خصّت بليّتها، و أصاب البلاء من أبصر فيها، و أخطأ البلاء من عمى عنها، و أيم اللّه لتجدنّ بني أميّة لكم أرباب سوء بعدي كالنّاب الضّروس، تعذم بفيها، و تخبط بيدها، و تزبن برجلها، و تمنع درّها، لا يزالون بكم حتّى لا يتركوا منكم إلّا نافعا لهم، أو غير ضائر بهم، و لا يزال بلائهم حتّى لا يكون انتصار أحدكم منهم إلّا مثل انتصار العبد من ربّه، و الصّاحب من مستصحبه، ترد عليكم فتنتهم شوهاء مخشيّة، و قطعا جاهليّة، ليس فيها منار هدى، و لا علم يرى، نحن أهل البيت منها بمنجاة، و لسنا فيها بدعاة، ثمّ يفرّج اللّه عنكم كتفريج الأديم بمن يسومهم خسفا، و يسوقهم عنفا، و يسقيهم بكأس مصبّرة، و لا يعطيهم إلّا السّيف، و لا يحلسهم إلّا الخوف، فعند ذلك تودّ قريش بالدّنيا و ما فيها لو يرونني مقاما واحدا و لو قدر جزر جزور، لأقبل منهم ما أطلب اليوم بعضه، فلا يعطونني.

اللغة

(الخطّة) بالضّم الأمر و الجهل و الخصلة و الحالة و شبه القصّة و (النّاب)الانثى المسنة من النوق و جمعها نيب و أنياب و (الضروس) الناقة السيئة الخلق تعضّ حالبها و (عدم) الفرس يعذم من باب ضرب عضّ أو أكل بجفاء و (خبط) البعير الأرض ضربها بيده و (زبنت) النّاقة حالبها زبنا من باب ضرب دفعته برجلها فهى زبون بالفتح فعول بمعنى فاعل و (الدرّ) اللّبن.

و (الصاحب من مستصحبه) قال في المصباح: صحبته أصحبه صحبة فأنا صاحب و الأصل في هذا الاطلاق لمن حصل له رؤية و مجالسة و كلّ شي‏ء لازم شيئا فقد استصحبه قاله ابن الفارس و غيره و (الشوه) قبح الخلقة و هو مصدر شوء من باب تعب و رجل أشوه قبيح المنظر و امرأة شوها، و الجمع شوه مثل أحمر و حمراء و حمر و شاهت الوجوه تشوه قبحت و (القطعة) الطائفة من الشي‏ء و القطع جمعها مثل سدرة و سدر و (المنجاة) مصدر بمعنى النجاة و اسم مكان و (سام) فلانا الأمر كلّفه إيّاه أو أولاه إيّاه كسوّمه و أكثر ما يستعمل في العذاب و الشرّ و (الخسف) الذّهاب في الأرض و الغيبة فيها و في القاموس سامه خسفا إذا أولاه ذلّا و (العنف) مثلّثة ضدّ الرفق.

و (المصبرة) الممزوجة بالصّبر و هو وزان كتف عصارة شجر مرّ و يجوز أن يكون المصبرة بمعنى المملوة إلى اصبارها، قال في القاموس ملاء الكاس إلى اصبارها أى رأسه و أخذه باصباره بجميعه و (حلس) البعير يحلسه غشاه بحلس و هو كساء يجعل على ظهر البعير تحت رحله و الجمع أحلاس كحمل و أحمال و (الجزور) الناقة التي تجزر أى تنحر.

الاعراب

كلمة ايمن اسم استعمل في القسم و التزم رفعه كما التزم رفع لعمر اللّه، و همزته عند البصريين وصل و اشتقاقه عندهم من اليمن و هو البركة قالوا و لم يأت في الأسماء همزة وصل مفتوحة غيرها و عند الكوفيين قطع لأنّه جمع يمين عندهم و قد يختصر عنه فيقال: و أيم اللّه بحذف النون، و يختصر ثانيا فيقال أم اللّه بضم الميم و كسرها و قد يدخل عليها اللّام لتأكيد الابتداء قال الشاعر:

         فقال فريق القوم لمّا نشدتهم            نعم و فريق ليمن اللّه ما ندرى‏

و رفعه بالابتداء و خبره محذوف وجوبا أى أيمن اللّه قسمى و إذا خاطبت به أحدا تقول: ليمنك كما تقول لعمرك، و قوله: لا يزالون بكم، الظرف متعلّق بمحذوف معلوم بقرينة المقام خبر لزال أي لا يزالون قائمين بكم أو موذين بكم أو نحو ذلك، و شوهاء منصوبة على الحالية من فاعل ترد و هو العامل فيها، و جاهليّة صفة لقطعا، و جملة ليس فيها آه إمّا استينافية بيانية أو مرفوعة المحلّ على كونها صفة لفتنتهم أو منصوبة على كونها صفة لقطعا و الباء في قوله بالدّنيا للبدل على حدّ قول الحماسي:

         فليت لى بهم قوما إذا ركبوا            شدّوا الاغارة فرسانا و ركبانا

و ما فيها عطف على الدّنيا، و ما موصولة و لفظة لو في قوله: لو يرونني، حرف مصدر بمعنى ان إلّا أنها لا تنصب كما تنصب ان قال سبحانه: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ.

و في قوله و لو قدر جزر جزور بمعنى إن الوصلية و حذف بعده كان كما هو الغالب و قوله: لأقبل متعلّق بتوّد و قوله: فلا يعطونني، فاعل يعطون ضمير قريش و ضمير المتكلّم مفعوله الأوّل و حذف مفعوله الثاني و في بعض النسخ فلا يعطوننيه باثبات المفعولين كليهما

المعنى

اعلم أنّ هذا الفصل من كلامه عليه السّلام متضمّن للاخبار عن فتن بني امية لعنهم اللّه قاطبة و ما يرد على الناس فيها من الشدائد و المكاره و عن انقراض دولتهم بعد سلطنتهم و استيلائهم كما قال عليه السّلام (ألا إنّ أخوف الفتن عندى عليكم فتنة بني امية) و إنّما كانت أخوف الفتن لشدّتها و كثرة بلوى أهل الدّين بها و عظم رزء المسلمين فيها و يكفي في عظمها هتكهم حرمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قتلهم سبطيه و هدمهم البيت الحرام و إسائتهم الأدب بالنسبة إلى أمير المؤمنين عليه السّلام على رءوس منابر الاسلام ثمانين سنة حتى‏راب عليه الصغير و هرم عليه الكبير و أمرهم للناس بالتبّرى منه عليه السّلام و قتلهم كلّ من امتنع من ذلك و استيصالهم و تخريب دورهم و تشريدهم من البلاد و جعلهم البدعة سنّة و السّنة بدعة.

كما يشير إلى ذلك كلّه قوله: (فانها فتنة عمياء مظلمة) أى فتنة موجبة للعمى و الظّلام لا يهتدى فيها إلى سبيل الحقّ كما لا يهتدي الأعمى و السالك في الظلمة إلى النّهج المطلوب.

و محصل المراد انها فتنة موجبة للضّلال و العدول عن منهج الحقّ، و يحتمل أن يكون من باب التشبيه المحذوف الأداة مبالغة أى فتنة بمنزلة العصياء في كون جريانها على غير استقامة و هي فتنة (عمّت خطّتها) لكونها رياسة كليّة و سلطنة عامّة (و خصّت بليّتها) بأئمّة الدّين و مواليهم المؤمنين و شيعتهم المخلصين من أهل التقوى و اليقين (و أصاب البلاء من أبصر فيها) أى من كان ذا بصيرة فيها و هو مصاب بأنواع البلاء لحزنه في نفسه بما يشاهد من أفعالهم السّوئى و قصدهم له بأصناف العقوبة و الأذى (و أخطأ البلاء من عمى عنها) أى من كان ذا عمى و جهالة عن تلك الفتنة فهو في أمن و سلامة من اصابة البلية لكونه منقادا لدعوتهم منساقا تحت رايتهم، مطيعا لأوامرهم ممتثلا لنواهيهم (و أيم اللّه لتجدنّ بني اميّة لكم أرباب سوء بعدي) يطلق الرّبّ على المالك و المنعم و السيّد و المتمّم و المدبّر و المربّي و يصحّ ارادة كلّ منها في المقام و لا يطلق على الاطلاق إلّا على اللّه سبحانه و بيّن جهة السّوء بقوله: (كالنّاب الضّروس تعذم بفيها و تخبط بيدها و تزبن برجلها و تمنع درّها) شبّههم عليه السّلام بالنّاقة السّيّئة الخلق المتّصفة بالأوصاف الرّدية المذكورة أراد عليه السّلام أنها كما تعضّ بفيها و تضرب بيدها و تدفع حالبها برجلها و تمنع الناس من لبنها فكذلك هؤلاء في أفعالهم الرّديّة و حركاتهم الموذية من قصد الناس بالقتل و الضرب و الأذية و منعهم ما يستحقّونه من بيت المال (لا يزالون) قائمين (بكم) مسلّطين عليكم قاصدين لكم (حتى لا يتركوا منكم) في الأرض و لا يبقوا (إلّا نافعا لهم) سالكا مسلكهم ينفعهم في مقاصدهم (أو غير ضائر بهم) بانكار المنكرات عليهم أى من لا يكون مضرا لهم في امور دولتهم (و لا يزال بلائهم) عليكم (حتى لا يكون انتصار أحدكم) أى انتقامه (منهم إلّا مثل انتصار العبد من ربّه) و انتقامه من مولاه (و) كانتصار (الصّاحب) الملازم التابع (من مستصحبه) أى ممن اتبعه و لزمه.

و الغرض بذلك إمّا نفى إمكان الانتقام رأسا فيكون المقصود بالاثبات هو النفي أى كما لا يمكن للعبد الانتقام من مولاه و للمستصحب الذي من شأنه الضّعف و عدم الاستقلال الانتصار من مستصحبه، فكذلك هؤلاء الموجودون في تلك الزمان الناجون من سيف البغي و العدوان لا يمكنهم الانتصار من بني اميّة و مروان، لكونهم أذلّاء مقهورين بمنزلة العبيد المملوكين، و إمّا إثبات الانتصار في الجملة عند الغيبة بمثل الغيبة و السّب و الذّم و نحوها مع الأمن من الوصول إلى المغتاب و المسلوب و المذموم مع إظهار الطّاعة و الانقياد عند الحضور، و يؤيّد ذلك ما يأتي في رواية الثقفي من الزّيادة و هو قوله عليه السّلام: حتى لا يكون انتصار أحدكم منهم إلّا مثل انتصار العبد من ربّه إذا رآه أطاعه و إذا توارى عنه شتمه.

(ترد عليكم فتنتهم شوهاء مخشيّة) أى حال كونها قبيحة عقلا و شرعا مخوّفة للنفوس مرعّبة للقلوب (و قطعا جاهليّة) أي طوايف و دفعات منسوبة إلى الجهالة متصفة بالضّلالة لكونها على غير قانون عدل، و ما يظهر من كلام الشراح من كون المراد بالجاهلية الحالة التي كانت العرب عليها قبل الاسلام من الجهل باللّه و رسوله و شرايع الدّين و المفاخرة بالأنساب و الكبر و التجبّر و التعصّب و الأخلاق الذّميمة، فيه أنّ معنى الجاهلية و إن كان ذلك إلّا أنّ ظاهر التركيب لا يساعد حمله على ذلك المعنى في المقام و لو كان مراده عليه السّلام ذلك لقال: و قطع الجاهليّة أى قطعا مثل قطع الجاهلية فافهم.

و قوله عليه السّلام: (ليس فيها منار هدى و لا علم يرى) بيان لوجه الجهالة أي ليس فيها إمام هدى يهتدى به و يستضاء بنوره، و لا قانون عدل يسلك به سبيل الحقّ.

ثمّ أشار عليه السّلام إلى برائة ساحتهم من تلك الفتنة بقوله (نحن أهل البيت منها بمنجاة و لسنا فيها بدعاة) أراد نجاتهم من الدخول فيها و من لحوق آثامها و تبعاتها و عدم كونهم من الداعين إليها و إلى مثلها، و ليس المراد نجاتهم من أذيّتها و خلاصهم من بليّتها لكونهم عليهم السّلام أعظم النّاس بليّة و أشدّهم أذيّة فيها، و كفى بذلك شاهدا شهادة الحسين عليه السّلام و أولاده و أصحابه و هتك حريمه و نهب أمواله و ما أصاب ساير أئمة الدّين من الطغاة الظالمين لعنهم اللّه أجمعين.

ثمّ بشّر بظهور الفرج بقوله: (ثمّ يفرّج اللّه) و يكشف عنكم (كتفريج الأديم) قيل أى ككشف الجلد عن اللّحم حتى يظهر ما تحته.

و قال في البحار: يحتمل أن يكون المراد بالأديم الجلد الذي يلفّ الانسان فيه للتّعذيب لأنّه يضغطه شديدا إذا جفّ، و في تفريجه راحة، و كيف كان فالمقصود انفتاح باب الفرج لهم (بمن يسومهم خسفا) أي يكلّفهم و يولّيهم ذلّا و هوانا أو خسفا في الأرض (و يسوقهم عنفا) أي بعنف و شدّة (و يسقيهم بكأس مصبرة) ممزوجة بالصّبر أو المراد مملوة إلى اصبارها (و لا يعطيهم إلّا السّيف و لا يحلسهم إلّا الخوف) استعار لفظ الاحلاس بمشابهة جعلهم الخوف شعارا لهم غير منفكّ عنهم كالحلس الملازم للبعير الذي يكسى على ظهره و يلاصق جسده.

قال الشراح: و هذه الفقرات إشارة إلى انقراض دولة بني اميّة بظهور بني العباس و انّ بني العباس أولاهم ذلّا و هوانا و أذاقوهم كأس العذاب طعوما مختلفة و أروهم عيان الموت ألوانا شتّى كما هو مذكور في كتب السير و التواريخ.

أقول: و الأظهر بملاحظة الزيادات الآتية في رواية سليم بن قيس الهلالي و إبراهيم الثقفي أنها إشارة إلى ظهور السلطنة الالهية و الدولة القائميّة، و على هذا يكون قوله: يسومهم خسفا إشارة إلى خسف الأرض بجيش السفياني في البيداء كما هو مرويّ في أخبار الرجعة.

ثمّ أشار الى مآل حال الفرقة المنقلبة من قريش و منتهى ذلّتهم و ضعفهم بقوله:

(فعند ذلك تودّ قريش بالدّنيا و ما فيها لو يرونني مقاما واحدا و لو قدر جزر جزور لأقبل منهم ما أطلب اليوم بعضه فلا يعطونني) أى حينئذ يتمنّى قريش بدل الدّنيا و ما فيها أن يروني مقاما قصيرا بمقدار جزر جزور فيطيعوني اطاعة كاملة و قد رضيت منهم اليوم بأن يطيعوني إطاعة ناقصة فلم يقبلوا و يصدّق هذا ما روى في السّير أنّ مروان بن محمّد و هو آخر ملوك بني امية قال يوم الزاب«» لمّا شاهد عبد اللّه بن محمّد بن عليّ بن عبد اللّه بن العبّاس بازائه في صفّ خراسان: لوددت إنّ عليّ بن أبي طالب تحت هذه الرّاية بدلا من هذا الفتى، و على ما استظهرناه فيكون الاشارة بذلك إلى التمنّى عند قيام القائم عليه السّلام

تكملة

اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة ملتقطة من خطبة طويلة أوردها في البحار بزيادة و اختلاف كثير لما أورده السّيد (ره) في الكتاب أحببت أن اورد تمامها توضيحا للمرام و غيرة على ما أسقطه السيد (ره) اختصارا أو اقتصارا من عقايل الكلام فأقول: روى المحدّث العلّامة المجلسيّ (ره) من كتاب الغارات لابراهيم بن محمّدالثقفي، عن إسماعيل بن أبان عن عبد الغفار بن القسم عن المنصور بن عمر عن زربن حبيش، و عن أحمد بن عمران بن محمّد بن أبي ليلي عن أبيه عن ابن أبي ليلى عن المنهال ابن عمرو عن زرّبن حبيش قال خطب عليّ عليه السّلام بالنّهروان فحمد اللّه و أثنا عليه ثمّ قال: أيّها النّاس أما بعد أنا فقأت عين الفتنة لم يكن احد ليجترئ عليها غيري، و في حديث ابن أبي ليلي لم يكن ليقفاها أحد غيري و لو لم أك فيكم ما قوتل أصحاب الجمل و لا أهل صفّين و لا أهل النّهروان، و أيم اللّه لو لا ان تتكلّمو او تدعوا العمل لحدّثتكم بما قضى اللّه على لسان نبيّكم لمن قاتلهم مبصرا لضلالتهم عارفا للهدى الذى نحن عليه ثمّ قال: سلونى قبل أن تفقدوني سلوني عمّا شئتم سلوني قبل أن تفقدوني إني ميّت أو مقتول بلى (بل خ ل) قتل ما ينتظر أشقاها أن يخضبها من فوقها بدم، و ضرب بيده إلى لحيته، و الذي نفسى بيده لا تسألوني عن شي‏ء فيما بينكم و بين الساعة و لا عن فئة تضلّ مأئة أو تهدى مأئة إلّا نبأتكم بناعقها و سائقها فقام إليه رجل فقال: حدّثنا يا أمير المؤمنين عن البلاء، قال عليه السّلام: إنكم في زمان إذا سأل سائل فليعقل و إذا سئل مسئول فليثبت، ألا و إنّ من ورائكم امورا أتتكم جللا مزوجا و بلاء مكلحا، و الذي فلق الحبّة و برء النسمة أن لو فقدتموني و نزلت بكم كرايه الأمور و حقايق البلاء لقد أطرق كثير من السائلين و فشل كثير من المسئولين، و ذلك إذا قلصت حربكم و شمّرت عن ساق و كانت الدّنيا بلاء عليكم و على أهل بيتي حتّى يفتح اللّه لبقيّة الأبرار فانصروا أقواما كانوا أصحاب رايات يوم بدر و يوم حنين تنصروا و توجروا، و لا تسبقوهم فتصرعكم البلية.

فقام إليه رجل آخر فقال: يا أمير المؤمنين حدّثنا عن الفتن قال: إنّ الفتنة إذا اقبلت شبّهت و إذا أدبرت أسفرت يشبهن مقبلات و يعرفن مدبرات، إنّ الفتن تحوم كالرّياح يصبن بلدا و يخطين اخرى، ألا إنّ أخوف الفتن عندي عليكم فتنة بنى اميّة إنّها فتنة عمياء مظلمة مطينة عمّت فتنتها و خصّت بليتها و أصاب البلاء من أبصر فيهاو أخطا البلاء من عمى عنها، يظهر أهل باطلها على أهل حقّها حتى يملاء الأرض عدوانا و بدعا، و إنّ أوّل من يضع جبروتها و يكسر عمدها و ينزع أوتادها اللّه ربّ العالمين.

و أيم اللّه لتجدنّ بني اميّة أرباب سوء لكم بعدي كالناب الضّروس تعضّ بفيها و تخبط بيديها و تضرب برجليها و تمنع درّها لا يزالون بكم حتّى لا يتركوا في مصركم إلّا تابعا لهم أو غير ضارّ، و لا يزال بلائهم بكم حتى لا يكون انتصار أحدكم منهم إلّا مثل انتصار العبد من ربّه إذا رآه أطاعه، و إذا توارى عنه شتمه و أيم اللّه لو فرّقوكم تحت كلّ حجر لجمعكم اللّه شرّ يوم لهم ألا إنّ من بعدى جمّاع شتّى، ألا إنّ قبلتكم واحدة و حجّكم واحد و عمرتكم واحدة و القلوب مختلفة ثمّ أدخل أصابعه بعضها في بعض فقام رجل فقال: ما هذا يا أمير المؤمنين قال: هذا هكذا يقتل هذا هذا و يقتل هذا هذا قطعا جاهلية ليس فيها هدى و لا علم يرى، نحن أهل البيت منها بنجاة و لسنا فيها بدعاة.

فقام رجل فقال: يا أمير المؤمنين ما نصنع في ذلك الزّمان قال عليه السّلام: انظروا أهل بيت نبيكم فان لبدوا فالبدوا، و إن استصرخوكم فانصروهم توجروا، و لا تسبقوهم فتصرعكم البليّة.

فقام رجل آخر فقال: ثمّ ما يكون بعد هذا يا أمير المؤمنين قال عليه السّلام: ثمّ إنّ اللّه يفرج الفتن برجل منّا أهل البيت كتفريج الأديم، بأبى ابن خيرة الاماء يسومهم خسفا و يسقيهم بكأس مصبرة، و لا يعطيهم إلّا السّيف هرجا هرجا، يضع السّيف على عاتقه ثمانية أشهر، ودّت قريش عند ذلك بالدّنيا و ما فيها لو يرونى مقاما واحدا قد رحلب شاة أو جزر جزور لأقبل منهم بعض الذى يرد عليهم حتى تقول قريش لو كان هذا من ولد فاطمة لرحمنا، فيغريه اللّه ببني امية فجعلهم: مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلًا، سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا.

بيان

و رواه في البحار أيضا من كتاب سليم بن قيس الهلالى نحو ما رواه من كتاب الغارات مع زيادات كثيرة في آخره و لا حاجة لنا إلى ايرادها و إنما المهمّ تفسير بعض الالفاظ الغريبة في تلك الروّاية فأقول «الجلل» بالضم جمع جليّ وزان ربّي و هو الأمر العظيم و «مزوجا» في النسخه بالزّاء المعجمة و الظاهر انه تصحيف و الصحيح مروجا بالمهملة من راج الريح اختلطت و لا يدرى من أين تجي‏ء و يمكن تصحيحه بجعله من زاج بينهم يزوج زوجا إذا أفسد بينهم و حرش و «كلح» كلوحا تكثر في عبوس كتلكح و دهر كالح شديد و «طان» الرجل البيت و السطح يطينه من باب باع طلاه بالطين و طينه بالتثقيل مبالغة و تكثير و المطينة فاعل منه، و في رواية سليم بن قيس بدلها مطبقة و «جمّاع» النّاس كرمّان اخلاطهم من قبائل شتّى و من كلّ شي‏ء مجتمع اصله و كلّ ما تجمع و انضمّ بعضه إلى بعض و «لبد» بالمكان من باب نصر و فرح لبدا و لبودا أقام و لزق.

و قوله: «بابى ابن خيرة الاماء» اشارة إلى امام الزمان الغايب المنتظر عجّل اللّه فرجه و سهّل مخرجه و «هرجا هرجا» منصوبان على المصدر قال في القاموس هرج النّاس يهرجون وقعوا في فتنة و اختلاط و قتل، و في رواية سليم بن قيس حتّى يقولوا ما هذا من قريش لو كان هذا من قريش و من ولد فاطمة لرحمنا و «غرى» بالشي‏ء غرى من باب تعب أولع به من حيث لا يحمله عليه حامل و أغريته به إغراء.

الترجمة

آگاه باشيد و بدرستى كه ترسناك‏ترين فتنه ‏ها نزد من بر شما فتنه بنى أميه است پس بدرستى كه آن فتنه فتنه ايست كه باعث كورى و ظلمت است كه عامست حالة آن بجهة احاطه او بجميع مسلمانان و خاص است بليه آن بر خواص أهل ايمان و يقين، و رسيد بلاء آن بكسى كه صاحب بصيرتست در او و خطا نمود بلاء از كسى كه كور و بي بصيرت گشت از آن، و قسم بخدا هر اينه البتة مى‏يابيد بني اميّه را از براى خود صاحبان بد بعد از من مثل ناقه بد خلق گزنده در وقت دوشيدن‏ كه دندان مى‏ گيرد با دهان خود و مى‏ زند با دستهاى خود و لگد مى ‏زند با پاهاى خود و منع مى‏ نمايد از شير خود.

هميشه باشند اذيّت كننده بشما تا اين كه نگذارند از شما أحدى را مگر اين كه فايده دهنده بايشان يا ضرر نرساننده برايشان و هميشه باشد با شما بلاء ايشان تا اين كه نباشد انتقام يكى از شما از ايشان مگر مثل انتقام كشيدن غلام از آقاى خود و مثل انتقام كشيدن تابع از متبوع خود، وارد مى‏ شود بر شما فتنه ايشان در حالتى كه قبيح است و ترسيده شده و طايفه بطايفه كه منسوبست بجهالة كه نباشد در ميان آن فتنه ‏ها مناره هدايت و نه علامت ديده شده ما أهل بيت از آن فتنه در نجات هستيم و نيستيم در آن دعوت كننده بمثل آن، پس از آن بگشايد خداوند آن فتنه را از شما مثل شكافتن و جدا نمودن پوست از گوشت بدست آن كسى كه بنمايد بايشان ذلّت را، و براند ايشان را بدرشتى، و سيراب مى‏ نمايد ايشان را با كاسه كه تلخ شده باشد، و ندهد برايشان مگر شمشير خون آشام، و نمى ‏پوشاند برايشان مگر لباس خوف را پس نزد آن واقعه دوست مى‏دارد قريش عوض دنيا و ما فيها اين كه ببيند مرا در يك مكانى اگر چه بوده باشد آن زمان ديدن بقدر كشتن شتر قربانى تا اين كه قبول نمايم از ايشان آنچه را كه مى‏ خواهم از ايشان امروز بعض آنرا پس نمى‏ دهند آنرا بمن

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 91 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 92 صبحی صالح

92- و من كلام له ( عليه ‏السلام  ) لما أراده الناس على البيعة بعد قتل عثمان رضي الله عنه‏

دَعُونِي وَ الْتَمِسُوا غَيْرِي

فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَهُ وُجُوهٌ وَ أَلْوَانٌ

لَا تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ

وَ لَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْعُقُولُ

وَ إِنَّ الْآفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ

وَ الْمَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ.

وَ اعْلَمُوا أَنِّي إِنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ

وَ لَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وَ عَتْبِ الْعَاتِبِ

وَ إِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا كَأَحَدِكُمْ

وَ لَعَلِّي أَسْمَعُكُمْ وَ أَطْوَعُكُمْ لِمَنْ وَلَّيْتُمُوهُ أَمْرَكُمْ

وَ أَنَا لَكُمْ وَزِيراً خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيرا

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج7  

و من كلام له عليه السّلام لما اريد على البيعة و هو الواحد و التسعون من المختار فى باب الخطب

و قد رواه غير واحد من العامة و الخاصة حسبما نشير إليه دعوني و التمسوا غيري، فإنّا مستقبلون أمرا له وجوه و ألوان، لا تقوم له القلوب، و لا تثبت عليه العقول، و إنّ الآفاق قد أغامت، و المحجّة قد تنكّرت، و اعلموا أنّي إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، و لم أصغ إلى قول القائل، و عتب العاتب، و إن تركتموني فأنا كأحدكم، و لعلّي أسمعكم و أطوعكم لمن و ليتموه أمركم، و أنا لكم وزيرا خير لكم منّي أميرا.

اللغة

(غامت) الآفاق و أغامت و اغيمت و غيمت تغييما و تغيمت غطاها الغيم، و غيم اللّيل جاء كالغيم و (المحجّة) الطريق الواضح و (التنكّر) التّغير عن حال تسرّك إلى حال تكرهها و الاسم النّكير و (العتب) كالعتاب الملامة و (الوزير) حباء الملك أى جليسه الذى يحمل ثقله و يعينه برأيه

الاعراب

قوله عليه السّلام: و أنا لكم آه الواو للحال، و الجملة بعدها منصوبة المحلّ على الحاليّة، و أنا مبتدأ و خير خبره و الظرفان متعلّقان به، و وزيرا و أميرا منصوبان على الحال، و اختلف علماء الأدبية في عامل الحال إذا وقع في مثل هذا المثال، فمنهم من جعله أفعل التفضيل، و منهم من جعله كان محذوفة تامة صلة لاذا و التقدير أنا إذا كنت لكم وزيرا خير منّي لكم إذا كنت أميرا و تحقيق ذلك أنّهم بعد حكمهم على عدم جواز تقديم الحال على عامله إذا كان اسم تفضيل من حيث ضعفه في العمل لأجل شباهته بالفعل الجامد في عدم قبوله علامة التأنيث و التثنية و الجمع كما يقبلها أسماء الفاعلين و المفعولين و الصفة المشبهة فلا يتصرّف«» في معموله بالتقديم كما لا يتصرّف في الفعل الجامد، استثنوا من ذلك ما إذا كان اسم التفضيل عاملا في حالين احداهما مفضلة على الاخرى فانه يجب حينئذ تقديم الحال الفاضلة لخوف اللبس، و مثلوا له بقولهم هذا بسرا أطيب منه رطبا، قال سيبويه في المحكيّ عنه: انتصب بسرا على الحال من الضمير فى أطيب و انتصب رطبا على الحال أيضا من الضمير المجرور بمن، و العامل فيهما أطيب بما فيه من معنى المفاضلة بين شيئين، كأنه قال: هذا في حال كونه بسرا أطيب من نفسه‏ فى حالكونه رطبا، تريد أن تفضل البسر على الرطب، قال: فأطيب ناب مناب عاملين، لأنّ التقدير يزيد طيبه في حالكونه بسرا على طيبه في حالكونه رطبا و أشار بذلك«» إلى التمر، و المعنى بسره أطيب من رطبه انتهى و به قال غير واحد من النحاة كالمازني و الفارسي و ابن كيسان و ابن جنى و ابن هشام في التوضيح، و ذهب المبرّد و الزّجاج و ابن السّراج و السيّرافي إلى أنّ النّاصب في المثال كان محذوفة تامة صلة لإذا و إذا فان قلت ذلك و هو بلح فالمقدر اذا و ان قلته و هو تمر فالمقدر إذ، و الصاحبان المضمران في كان لا المضمر في أطيب، و المجرور بمن و قدم الظرف يعنى إذا و إذا على أطيب لاتساعهم في الظروف و لهذا جاز كلّ يوم لك ثوب و لم يجز زيد جالسا في الدّار و كيف كان فقد اتفق الفريقان بعد اختلافهم في عامل الحال على وجوب تقديم أحد الحالين على اسم التفضيل و تأخير الآخر ليظهر الفضل بين المفضّل و المفضّل عليه إذ لو أخّرا جميعا حصل الالتباس.

فان قيل: إن جعل أحدهما تاليا لأفعل لا يحصل الالتباس، قلنا يؤدّى إلى الفصل بين أفعل و بين من و مجرورها و هو غير جايز لكونهما بمنزلة الصّلة و الموصول فان قلت: فكيف فصّل بالظرف في كلام الامام عليه السّلام قلت: ذلك فصل جايز للاتّساع في الظروف بما لا يتّسع في غيره

المعنى

اعلم أنّ المستفاد من الروايات الآتية و غيرها في سبب هذا الكلام هو أنّ خلفاء الجور بعد ما غيّروا سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و سيرته التي كان يسيرها من العدل بالقسمة و المواساة بين الرّعية، ففضّلوا العرب على العجم، و الموالي على العبيد، و الرؤساء على السفلة، و آثر عثمان أقاربه من بني امية على ساير الناس و جرى على ذلك ديدنهم سنين عديدة، و اعتاد الناس ذلك أزمنة متطاولة حتّى نسوا سيرة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و كان غرض الطالبين لبيعته عليه السّلام أن يسير عليه السّلام فيهم مثل سيرة من سبق عليه من المتخلّفين من تفضيل الشريف على الوضيع، و كان عليه السّلام تفرّس ذلك منهم و عرفه من و جنات حالهم.

خاطبهم بهذا الكلام إتماما للحجّة و إعلاما لهم بأنّه عليه السّلام إن قام فيهم بالأمر لا يجيبهم إلى ما طمعوا فيه من الترجيح و التفضيل فقال عليه السّلام (دعوني و التمسوا غيرى) للبيعة (فانّا مستقبلون أمرا له وجوه و ألوان) و هو إنذار لهم بالحرب و إخبار عن ظهور الفتنة و اختلاف الكلمات و تشتّت الآراء و تفرّق الأهواء، يعنى أنّى إن أجبت إلى ملتمسكم فلا بدّ من ابتلاء أمر له أحكام صعبة و تكاليف شاقة من محاربة الناكثين و القاسطين و المارقين و التسوية في القسمة و العدل بين الرّعيّة الى غير ذلك و هو مما (لا تقوم له القلوب) أى لا تصبر عليه (و لا تثبت عليه العقول) بل تنكره (و انّ الآفاق قد أغامت) أى أظلمت بظهور البدع و خفاء شمس الحقّ تحت سحاب شبه أهل الباطل (و المحجّة قد تنكّرت) أراد به تغيّر الحنيفية البيضاء و الملّة الغرّاء و جهالة جادّة الحقّ (و اعلموا أنّي إن إن أجبتكم) إلى ما تلتمسونه منّي (ركبت بكم ما أعلم) أى جعلتكم راكبين على محض الحقّ و أسير فيكم بسيرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (و لم أصغ إلى قول القائل و عتب العاتب) أى لم يأخذني في اللّه لومة لائم (و إن تركتموني فأنا كأحدكم) يعنى إن تركتموني فهو أنفع لكم و أرفه لحالكم لأنّى حينئذ أكون مثل واحد منكم و المراد بتركهم إيّاه عدم طاعتهم له و اختيار غيره للبيعة حتى لا تتمّ شرايط الخلافة لعدم النّاصر كما قال في الخطبة الشقشقيّة: لو لا حضور الحاضر و قيام الحجّة بوجود النّاصر لألقيت حبلها على غاربها، و ليس الغرض ردعهم عن البيعة الواجبة بل إتمام للحجة و توطئة لابطال ما علم عليه السّلام منهم من ادعاء الاكراه بعد البيعة كما فعل طلحة و الزّبير بعد النّكث و قوله (و لعلّى أسمعكم و أطوعكم لمن و ليتموه أمركم) لعلّه عليه السّلام أراد أنه إذا تولى الغير أمر الامامة و لم تتم الشرائط في خلافته عليه السّلام لم يكن ليعدل عن مقتضى التقيّة فيكون أكثر الناس إطاعة لوالي الأمر بخلاف ساير النّاس فانّه يجوز عليهم الخطاء (و أنا لكم وزيرا خير لكم منّي أميرا) يعني وزارتي خير لكم من امارتي، لأنّ فيه موافقة الغرض أو سهولة الحال في الدنيا، فانّه على تقدير الامارة و بسط اليد يجب عليه القيام بمحض الحق و هو صعب على النفوس و لا يحصل به آمال الطامعين بخلاف ما إذا كان وزيرا فانّ تكليف الوزير هو الاشارة بالرأى مع تجويز التأثير في الأمير و عدم الخوف و نحوه من شرايط الأمر بالمعروف، و لعلّ الأمير الذي يولّونه الأمر يرى في كثير من الامور ما يوافق آمال القوم و يطابق أطماعهم و لا يعمل بما يشير الوزير فيكون وزارته أوفق لمقصود القوم فالحاصل أنّ ما قصد تموه و طمعتم فيه من بيعتي لا يتمّ لكم، و وزارتي أوفق لغرضكم، و المقصود إتمام الحجّة و إفهام حقيقة الأمر كيلا يعترضوا عليه بعد البيعة إذا لم يحصل غرضهم منه عليه السّلام و لا يقولوا: إنّا كنّا عن هذا غافلين، هذا.

و اعلم أنّ ما ذكرته في شرح هذا الكلام له عليه السّلام هو الذي ينبغي أن يحمل الكلام عليه و هو أقرب و أظهر ممّا قاله الشّارح البحراني «قد» من أنّ مراده عليه السّلام بكلامه ذلك هو التمنّع عليهم لتقوى رغبتهم إليه، فانّه لا بدّ لكلّ مطلوب على أمر من تعزّز فيه و تمنّع، و الحكمة في ذلك أنّ الطالب له يكون بذلك أرغب فيما يطلب فانّ الطبع حريص على ما منع، سريع النفرة عمّا سورع إلى اجابته فيه.

و أمّا الشّارح المعتزلي فقد تمشّى فيه على مذهبه و قال: هذا الكلام يحمله أصحابنا على ظاهره و يقولون: إنّه عليه السّلام لم يكن منصوصا عليه بالامامة من جهة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إن كان أولى النّاس بها و أحقّهم بمنزلتها، لأنه لو كان منصوصا عليه بالامامة من جهة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما جاز له أن يقول: دعونى و التمسوا غيرى، و لا أن يقول: و لعلّي أسمعكم و أطوعكم لمن و ليتموه أمركم، و لا أن يقول: و أنا لكم وزيرا خير لكم منّى أميرا.

ثمّ ذكر تأويل الامامية بأنّ الخطاب للطالبين منه أن يسير فيهم مثل سيرة الخلفاء بتفضيل بعضهم على بعض في القسمة و العطاء، فاستعفاهم و سألهم أن يطلبوا غيره ممن يسير بسيرتهما إلى أن قال: و قد حمل بعضهم كلامه عليه السّلام على محمل آخر فقال: هذا كلام مستزيد شاك من أصحابه يقول عليه السّلام لهم: دعوني و التمسوا غيري، على طريق التّضجر منهم و التّسخط لأفعالهم، لأنّهم كانوا عدلوا عنه من قبل و اختاروا غيره عليه فلما طلبوه بعد أجابهم جواب العاتب المتسخّط ثمّ قال: و حمل قوم منهم الكلام على وجه آخر فقالوا: إنّه أخرجه مخرج التّهكّم و السّخرية، أى أنا لكم وزيرا خير منّى لكم أميرا فيما تعتقدونه كما قال سبحانه: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ.

أى بزعمك و اعتقادك ثمّ قال: و اعلم أنّ ما ذكروه ليس ببعيد أن يحمل الكلام عليه لو كان الدّليل قد دلّ على ذلك، فأمّا إذا لم يدلّ عليه دليل فلا يجوز صرف اللّفظ عن ظاهره. و نحن نتمسّك بالظاهر إلى أن يقوم دلالة على مذهبهم تصدّنا عن حمل اللّفظ على ظاهره، و لو جاز أن يصرف الألفاظ عن ظواهرها لغير دليل قاهر يصدّ عنها لم يبق وثوق بكلام اللّه عزّ و جلّ و بكلام رسوله، انتهى كلامه هبط مقامه.

و أورد عليه المحدّث العلامة المجلسىّ طاب رمسه في المجلّد الثّامن من البحار بعد نقل كلامه بقوله: و لا يخفى على اللّبيب بعد الغماض عن الأدلّة القاهرة و النّصوص المتواترة لا فرق بين المذهبين في وجوب التّأويل و لا يستقيم الحمل على ظاهره إلّا على القول بأنّ إمامته عليه السّلام كان مرجوحا و أنّ كونه وزيرا كان أولى من كونه أميرا، و هو ينافي القول بالتفضيل الذي قال به، فانّه عليه السّلام إذا كان أحقّ بالامامة و بطل تفضيل المفضول على ما هو الحقّ و اختاره أيضا كيف يجوز للناس أن يعدلوا عنه إلى غيره و كيف يجوز له عليه السّلام أن يأمر الناس بتركه و العدول عنه‏ إلى غيره مع عدم ضرورة تدعو إلى ترك الامامة و مع وجود الضّرورة كما جاز ترك الامامة الواجبة بالدّليل جاز ترك الامامة المنصوص عليها، فالتأويل واجب على التقديرين و لا نعلم أحدا قال بتفضيل غيره عليه و رجحان العدول إلى أحد سواه في ذلك الزمان، على أنّ الظّاهر للمتأمّل في أجزاء الكلام حيث علّل الأمر بالتماس الغير باستقبال أمر لا تقوم له القلوب و لا تثبت عليه العقول و يتنكّر المحجة و أنّه إن أجابهم حملهم على محض الحقّ، هو أنّ السّبب في ذلك وجود المانع دون عدم النّص و أنّه لم يكن متعيّنا للامامة أو لم يكن أحقّ و أولى به و نحو ذلك

تنبيه

متضمّن لبعض الأخبار المناسبة للمقام، قال ابن الأثير في المحكيّ عنه في كتاب الكامل: لما قتل عثمان اجتمع أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من المهاجرين و الأنصار و فيهم طلحة و الزّبير فأتوا عليّا عليه السّلام فقالوا له لا بدّ للناس من إمام، قال: لا حاجة لي في أمركم فمن اخترتم رضيت به، فقالوا: ما نختار غيرك و تردّدوا إليه مرارا و قالوا في آخر ذلك: إنّا لا نعلم أحدا أحقّ به منك و لا أقدم سابقة و لا أقرب قرابة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال عليه السّلام: لا تفعلوا فاني أكون وزيرا خير من أن أكون أميرا، فقالوا، و اللّه ما نحن بفاعلين حتّى نبايعك.

قال عليه السّلام: ففي المسجد فانّ بيعتي لا يكون خفيّا و لا يكون إلّا في المسجد و كان عليه السّلام في بيته، و قيل: في حايط لبني عمرو بن منذر، فخرج إلى المسجد و عليه ازار و قميص و عمامة خز و نعلاه في يده متوكّئا على قوسه، فبايعه الناس فكان أوّل من بايعه طلحة بن عبيد اللّه، فنظر إليه حبيب بن ذويب فقال: إنّا للّه و إنّا إليه راجعون، أوّل من بدأ بالبيعة يد شلاء لا يتمّ هذا الأمر، و بايعه الزبير و قالا بعد ذلك: إنما صنعنا ذلك خشية على أنفسنا، و هربا إلى مكّة بعد قتل عثمان بأربعة أشهر و بايعه الناس و جاءوا بسعد بن أبي وقاص فقال عليّ عليه السّلام: بايع، قال: لا حتّى يبايع النّاس و اللّه ما عليك منّي بأس، فقال عليه السّلام: خلّوا سبيله، و جاءوا بابن عمر فقالوا: بايع‏

فقال: لا حتى يبايع الناس، قال: ائتني بكفيل قال، لا أرى كفيلا، قال الأشتر: دعنى أضرب عنقه قال عليه السّلام: دعوه أنا كفيله.

و بايعت الأنصار إلّا نفرا يسيرا منهم حسان بن ثابت، و كعب بن مالك، و مسلمة بن مخلد، و أبو سعيد الخدري، و محمّد بن مسلمة، و النعمان بن بشير، و زيد ابن ثابت، و كعب بن مالك، و رافع خديج، و فضالة بن عبيد، و كعب بن عجرة كانوا عثمانية فأمّا النعمان بن بشير فانه أخذ أصابع نائلة امرئة عثمان التي قطعت و قميص عثمان الذي قتل فيه، فلحق بالشام فكان معاوية يعلّق قميص عثمان و فيه الأصابع فاذا رأوا ذلك أهل الشام ازدادوا غيظا وجدّوا في أمرهم قال: و روى أنهم لمّا أتوا عليّا عليه السّلام ليبايعوه قال: دعوني و التمسوا غيري فانّا مستقبلون أمرا له وجوه و ألوان لا تقوم له القلوب و لا تثبت عليه العقول، فقالوا ننشدك اللّه ألا ترى ما نحن فيه ألا ترى الاسلام ألا ترى الفتنة ألا تخاف اللّه فقال: قد أجبتكم و اعلموا أني إن أجبتكم أركب بكم ما أعلم فان تركتموني فانما أنا كأحدكم إلّا أنّي من أسمعكم و أطوعكم لمن و ليتموه و روى الشّارح المعتزلي عن الطبري و غيره أنّ الناس غشوه و تكاثروا عليه يطلبون مبايعته و هو عليه السّلام يأبى ذلك و يقول: دعونى و التمسوا غيرى فانّا مستقبلون أمرا له وجوه و ألوان لا تثبت عليه العقول و لا تقوم له القلوب، قالوا: ننشدك اللّه ألا ترى الفتنة ألا ترى إلى ما حدث في الاسلام ألا تخاف اللّه فقال عليه السّلام: قد أجبتكم لما أرى منكم و اعلموا أنى إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم و إن تركتموني فانّما أنا كأحدكم بل أنا أسمعكم و أطوعكم لمن و ليتموه أمركم، فقالوا: ما نحن بتاركيك.

قال عليه السّلام: إن كان لا بدّ من ذلك ففي المسجد إنّ بيعتي لا يكون خفيّا و لا يكون إلّا عن رضاء المسلمين و في ملاء و جماعة، فقام و النّاس حوله فدخل المسجد و انثال عليه المسلمون فبايعوه و فيهم طلحة و الزبير و في البحار من المناقب في جمل أنساب الأشراف أنه قال الشعبي في خبر:

لما قتل عثمان أقبل الناس إلى عليّ عليه السّلام ليبايعوه و مالوا إليه فمدّوا يده فكفّها، و بسطوها فقبضها حتّى بايعوه و في ساير التواريخ أنّ أوّل من بايعه طلحة بن عبد اللّه و كانت أصبعه اصيبت يوم أحد فشلّت، فبصر بها أعرابيّ حين بايع فقال: ابتدأ هذا الأمريد شلاء لا يتمّ، ثمّ بايعه الناس فى المسجد، و يروى أنّ الرّجل كان عبيد بن ذويب فقال: يد شلاء و بيعة لا يتمّ و فى البحار و بويع يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجّة سنة خمس و ثلاثين من الهجرة، و عن المعلّى بن خنيس عن أبي عبد اللّه عليه السّلام انّ اليوم الذي بويع فيه أمير المؤمنين ثانية كان يوم النيروز، هذا و لمّا بويع عليه السّلام انشأ عطيّة هذه الأبيات:

رأيت عليّا خير من وطى‏ء الحصا
و أكرم خلق اللّه من بعد أحمد

وصيّ رسول المرتضى و ابن عمّه‏
و فارسه المشهور في كلّ مشهد

تخيّره الرّحمن من خير اسرة
لأطهر مولود و أطيب مولد

إذا نحن بايعنا عليّا فحسبنا

ببيعته بعد النبيّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم‏

و أنشأ خزيمة بن ثابت

إذا نحن بايعنا عليّا فحسبنا
أبو حسن ممّا نخاف من الفتن‏

وجدناه أولى النّاس بالنّاس انه‏
أطبّ قريش بالكتاب و بالسنن‏

و انّ قريشا لا تشقّ غباره
إذا ما جرى يوما على ضمر البدن‏

ففيه الذي فيهم من الخير كلّه‏
و ما فيهم مثل الذي فيه من حسن‏

وصيّ رسول اللّه من دون أهله
و فارسه قد كان في سالف الزّمن‏

و أوّل من صلّى من الناس كلّهم‏
سوى خيرة النسوان و اللّه ذى المنن‏

و صاحب كبش القوم في كلّ وقعة
يكون لها نفس الشجاع لدى الذقن‏

فداك الذي تثنى الخناصر باسمه‏
إمامهم حتّى اغيّب في الكفن‏

الترجمة

از جمله كلام بلاغت نظام آن إمام عالي مقام است وقتى كه اراده شد بر بيعت‏ بعد از كشته شدن عثمان بى‏ايمان مى‏فرمايد: ترك نمائيد مرا از اين كار و معاف بداريد و طلب كنيد غير مرا پس بدرستي كه ما استقبال نمايندگانيم كارى را كه مر او را است وجهها و رنگهاى گوناگون كه نمى‏ايستد و صبر نمى‏ نمايد آن كار را قلبها، و ثابت نمى ‏شود بر آن عقلها، و بدرستى كه آفاق و اطراف عالم را ظلمت گرفته و راه روشن شريعت تغيير يافته، و بدانيد اين كه بدرستي من اگر اجابت نمايم و قبول كنم حرف شما را سوار گردانم شما را به آن چه كه خودم مى‏ دانم و گوش نمى ‏دهم بگفتار گوينده و ملامت ملامت كننده، و اگر بگذاريد مرا بحال خود و معذور بداريد پس من مى ‏باشم مثل يكى از شماها، و شايد اين كه گوش دادن و اطاعت نمودن من بيشتر از شماها باشد بكسى كه والى امر خود قرار بدهيد، و من از براى شما در حالتى كه وزير باشم بهترم از براى شما از من در حالتى كه أمير باشم زيرا كه در حالت أمارت و بسط يد تكليف من قيام نمودنست بمحض حق و آن صعب است در حق أكثر مردم، و أما در حالت وزارت تكليف من نصيحت است و مشاورت و بس خواه و الى امر قبول نمايد و خواه قبول ننمايد

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 90/4 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)خطبة الأشباح -القسم الرابع

خطبه 91 صبحی صالح

91- و من خطبة له ( عليه ‏السلام  ) تعرف بخطبة الأشباح

و هي من جلائل خطبه ( عليه‏ السلام  )

روى مسعدة بن صدقة عن الصادق جعفر بن محمد ( عليهماالسلام  ) أنه قال:

خطب أمير المؤمنين بهذه الخطبة على منبر الكوفة

و ذلك أن رجلا أتاه فقال له يا أمير المؤمنين صف لنا ربنا مثل ما نراه عيانا لنزداد له حبا و به معرفة

فغضب و نادى الصلاة جامعة

فاجتمع الناس حتى غص المسجد بأهله

فصعد المنبر و هو مغضب متغير اللون

فحمد الله و أثنى عليه

و صلى على النبي ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  ) ثم قال

وصف اللّه تعالى‏

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يَفِرُهُ الْمَنْعُ وَ الْجُمُودُ

وَ لَا يُكْدِيهِ الْإِعْطَاءُ وَ الْجُودُ

إِذْ كُلُّ مُعْطٍ مُنْتَقِصٌ سِوَاهُ

وَ كُلُّ مَانِعٍ مَذْمُومٌ مَا خَلَاهُ

وَ هُوَ الْمَنَّانُ بِفَوَائِدِ النِّعَمِ

وَ عَوَائِدِ الْمَزِيدِ وَ الْقِسَمِ

عِيَالُهُ الْخَلَائِقُ

ضَمِنَ أَرْزَاقَهُمْ

وَ قَدَّرَ أَقْوَاتَهُمْ

وَ نَهَجَ سَبِيلَ الرَّاغِبِينَ إِلَيْهِ

وَ الطَّالِبِينَ مَا لَدَيْهِ

وَ لَيْسَ بِمَا سُئِلَ بِأَجْوَدَ مِنْهُ بِمَا لَمْ يُسْأَلْ

الْأَوَّلُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلٌ فَيَكُونَ شَيْ‏ءٌ قَبْلَهُ

وَ الْآخِرُ الَّذِي لَيْسَ لهُ بَعْدٌ فَيَكُونَ شَيْ‏ءٌ بَعْدَهُ

وَ الرَّادِعُ أَنَاسِيَّ الْأَبْصَارِ عَنْ أَنْ تَنَالَهُ أَوْ تُدْرِكَهُ

مَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ دَهْرٌ فَيَخْتَلِفَ مِنْهُ الْحَالُ

وَ لَا كَانَ فِي مَكَانٍ فَيَجُوزَ عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ

وَ لَوْ وَهَبَ مَا تَنَفَّسَتْ عَنْهُ مَعَادِنُ الْجِبَالِ

وَ ضَحِكَتْ عَنْهُ أَصْدَافُ الْبِحَارِ

مِنْ فِلِزِّ اللُّجَيْنِ وَ الْعِقْيَانِ

وَ نُثَارَةِ الدُّرِّ

وَ حَصِيدِ الْمَرْجَانِ

مَا أَثَّرَ ذَلِكَ فِي جُودِهِ

وَ لَا أَنْفَدَ سَعَةَ مَا عِنْدَهُ

وَ لَكَانَ عِنْدَهُ مِنْ ذَخَائِرِ الْأَنْعَامِ‏

مَا لَا تُنْفِدُهُ

مَطَالِبُ الْأَنَامِ

لِأَنَّهُ الْجَوَادُ الَّذِي لَا يَغِيضُهُ سُؤَالُ السَّائِلِينَ

وَ لَا يُبْخِلُهُ إِلْحَاحُ الْمُلِحِّينَ

صفاته تعالى في القرآن‏

فَانْظُرْ أَيُّهَا السَّائِلُ

فَمَا دَلَّكَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ مِنْ صِفَتِهِ فَائْتَمَّ بِهِ

وَ اسْتَضِئْ بِنُورِ هِدَايَتِهِ

وَ مَا كَلَّفَكَ الشَّيْطَانُ عِلْمَهُ مِمَّا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ عَلَيْكَ فَرْضُهُ

وَ لَا فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ ( صلى‏ الله‏ عليه ‏وآله  )وَ أَئِمَّةِ الْهُدَى أَثَرُهُ

فَكِلْ عِلْمَهُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ

فَإِنَّ ذَلِكَ مُنْتَهَى حَقِّ اللَّهِ عَلَيْكَ

وَ اعْلَمْ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ

هُمُ الَّذِينَ أَغْنَاهُمْ عَنِ اقْتِحَامِ السُّدَدِ

الْمَضْرُوبَةِ دُونَ الْغُيُوبِ

الْإِقْرَارُ بِجُمْلَةِ مَا جَهِلُوا تَفْسِيرَهُ مِنَ الْغَيْبِ الْمَحْجُوبِ

فَمَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى اعْتِرَافَهُمْ بِالْعَجْزِ عَنْ تَنَاوُلِ مَا لَمْ يُحِيطُوا بِهِ عِلْماً

وَ سَمَّى تَرْكَهُمُ التَّعَمُّقَ فِيمَا لَمْ يُكَلِّفْهُمُ الْبَحْثَ عَنْ كُنْهِهِ رُسُوخاً

فَاقْتَصِرْ عَلَى ذَلِكَ

وَ لَا تُقَدِّرْ عَظَمَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى قَدْرِ عَقْلِكَ

فَتَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ

هُوَ الْقَادِرُ الَّذِي

إِذَا ارْتَمَتِ الْأَوْهَامُ لِتُدْرِكَ مُنْقَطَعَ قُدْرَتِهِ

وَ حَاوَلَ الْفِكْرُ الْمُبَرَّأُ مِنْ خَطَرَاتِ الْوَسَاوِسِ

أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ فِي عَمِيقَاتِ غُيُوبِ مَلَكُوتِهِ

وَ تَوَلَّهَتِ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ

لِتَجْرِيَ فِي كَيْفِيَّةِ صِفَاتِهِ

وَ غَمَضَتْ مَدَاخِلُ الْعُقُولِ فِي حَيْثُ لَا تَبْلُغُهُ الصِّفَاتُ لِتَنَاوُلِ عِلْمِ ذَاتِهِ رَدَعَهَا

وَ هِيَ تَجُوبُ مَهَاوِيَ سُدَفِ الْغُيُوبِ

مُتَخَلِّصَةً إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ‏

فَرَجَعَتْ إِذْ جُبِهَتْ

مُعْتَرِفَةً بِأَنَّهُ لَا يُنَالُ بِجَوْرِ الِاعْتِسَافِ كُنْهُ مَعْرِفَتِهِ

وَ لَا تَخْطُرُ بِبَالِ أُولِي الرَّوِيَّاتِ خَاطِرَةٌ مِنْ تَقْدِيرِ جَلَالِ عِزَّتِه

الَّذِي ابْتَدَعَ الْخَلْقَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ امْتَثَلَهُ

وَ لَا مِقْدَارٍ احْتَذَى عَلَيْهِ مِنْ خَالِقٍ مَعْبُودٍ كَانَ قَبْلَهُ

وَ أَرَانَا مِنْ مَلَكُوتِ قُدْرَتِهِ

وَ عَجَائِبِ مَا نَطَقَتْ بِهِ آثَارُ حِكْمَتِهِ

وَ اعْتِرَافِ الْحَاجَةِ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى أَنْ يُقِيمَهَا بِمِسَاكِ قُوَّتِهِ

مَا دَلَّنَا بِاضْطِرَارِ قِيَامِ الْحُجَّةِ لَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ

فَظَهَرَتِ الْبَدَائِعُ الَّتِي أَحْدَثَتْهَا آثَارُ صَنْعَتِهِ

وَ أَعْلَامُ حِكْمَتِهِ

فَصَارَ كُلُّ مَا خَلَقَ حُجَّةً لَهُ وَ دَلِيلًا عَلَيْهِ

وَ إِنْ كَانَ خَلْقاً صَامِتاً

فَحُجَّتُهُ بِالتَّدْبِيرِ نَاطِقَةٌ

وَ دَلَالَتُهُ عَلَى الْمُبْدِعِ قَائِمَةٌ

فَأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ شَبَّهَكَ بِتَبَايُنِ أَعْضَاءِ خَلْقِكَ

وَ تَلَاحُمِ حِقَاقِ مَفَاصِلِهِمُ الْمُحْتَجِبَةِ لِتَدْبِيرِ حِكْمَتِكَ

لَمْ يَعْقِدْ غَيْبَ ضَمِيرِهِ عَلَى مَعْرِفَتِكَ

وَ لَمْ يُبَاشِرْ قَلْبَهُ الْيَقِينُ بِأَنَّهُ لَا نِدَّ لَكَ

وَ كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ تَبَرُّؤَ التَّابِعِينَ مِنَ الْمَتْبُوعِينَ

إِذْ يَقُولُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ

 إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ‏

كَذَبَ الْعَادِلُونَ بِكَ

إِذْ شَبَّهُوكَ بِأَصْنَامِهِمْ

وَ نَحَلُوكَ حِلْيَةَ الْمَخْلُوقِينَ بِأَوْهَامِهِمْ

وَ جَزَّءُوكَ تَجْزِئَةَ الْمُجَسَّمَاتِ بِخَوَاطِرِهِمْ

وَ قَدَّرُوكَ عَلَى الْخِلْقَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْقُوَى بِقَرَائِحِ عُقُولِهِمْ

وَ أَشْهَدُ أَنَّ مَنْ سَاوَاكَ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ خَلْقِكَ فَقَدْ عَدَلَ بِكَ

وَ الْعَادِلُ بِكَ كَافِرٌ بِمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ مُحْكَمَاتُ آيَاتِكَ

وَ نَطَقَتْ عَنْهُ‏

شَوَاهِدُ حُجَجِ بَيِّنَاتِكَ

وَ إِنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ الَّذِي لَمْ تَتَنَاهَ فِي الْعُقُولِ

فَتَكُونَ فِي مَهَبِّ فِكْرِهَا مُكَيَّفاً

وَ لَا فِي رَوِيَّاتِ خَوَاطِرِهَا فَتَكُونَ مَحْدُوداً مُصَرَّفاً

و منهاقَدَّرَ مَا خَلَقَ فَأَحْكَمَ تَقْدِيرَهُ

وَ دَبَّرَهُ فَأَلْطَفَ تَدْبِيرَهُ

وَ وَجَّهَهُ لِوِجْهَتِهِ

فَلَمْ يَتَعَدَّ حُدُودَ مَنْزِلَتِهِ

وَ لَمْ يَقْصُرْ دُونَ الِانْتِهَاءِ إِلَى غَايَتِهِ

وَ لَمْ يَسْتَصْعِبْ إِذْ أُمِرَ بِالْمُضِيِّ عَلَى إِرَادَتِهِ

فَكَيْفَ وَ إِنَّمَا صَدَرَتِ الْأُمُورُ عَنْ مَشِيئَتِهِ

الْمُنْشِئُ أَصْنَافَ الْأَشْيَاءِ بِلَا رَوِيَّةِ فِكْرٍ آلَ إِلَيْهَا

وَ لَا قَرِيحَةِ غَرِيزَةٍ أَضْمَرَ عَلَيْهَا

وَ لَا تَجْرِبَةٍ أَفَادَهَا مِنْ حَوَادِثِ الدُّهُورِ

وَ لَا شَرِيكٍ أَعَانَهُ عَلَى ابْتِدَاعِ عَجَائِبِ الْأُمُورِ

فَتَمَّ خَلْقُهُ بِأَمْرِهِ

وَ أَذْعَنَ لِطَاعَتِهِ

وَ أَجَابَ إِلَى دَعْوَتِهِ

لَمْ يَعْتَرِضْ دُونَهُ رَيْثُ الْمُبْطِئِ

وَ لَا أَنَاةُ الْمُتَلَكِّئِ

فَأَقَامَ مِنَ الْأَشْيَاءِ أَوَدَهَا

وَ نَهَجَ حُدُودَهَا

وَ لَاءَمَ بِقُدْرَتِهِ بَيْنَ مُتَضَادِّهَا

وَ وَصَلَ أَسْبَابَ قَرَائِنِهَا

وَ فَرَّقَهَا أَجْنَاساً مُخْتَلِفَاتٍ فِي الْحُدُودِ وَ الْأَقْدَارِ

وَ الْغَرَائِزِ وَ الْهَيْئَاتِ

بَدَايَا خَلَائِقَ أَحْكَمَ صُنْعَهَا

وَ فَطَرَهَا عَلَى مَا أَرَادَ وَ ابْتَدَعَهَا

و منها في صفة السماء

وَ نَظَمَ بِلَا تَعْلِيقٍ رَهَوَاتِ فُرَجِهَا

وَ لَاحَمَ صُدُوعَ انْفِرَاجِهَا

وَ وَشَّجَ بَيْنَهَا وَ بَيْنَ أَزْوَاجِهَا

وَ ذَلَّلَ لِلْهَابِطِينَ بِأَمْرِهِ

وَ الصَّاعِدِينَ بِأَعْمَالِ خَلْقِهِ حُزُونَةَ مِعْرَاجِهَا

وَ نَادَاهَا بَعْدَ إِذْ هِيَ دُخَانٌ

فَالْتَحَمَتْ عُرَى أَشْرَاجِهَا

وَ فَتَقَ بَعْدَ الِارْتِتَاقِ صَوَامِتَ أَبْوَابِهَا

وَ أَقَامَ رَصَداً مِنَ الشُّهُبِ الثَّوَاقِبِ عَلَى نِقَابِهَا

وَ أَمْسَكَهَا مِنْ أَنْ تُمُورَ فِي خَرْقِ الْهَوَاءِ بِأَيْدِهِ

وَ أَمَرَهَا أَنْ تَقِفَ مُسْتَسْلِمَةً لِأَمْرِهِ

وَ جَعَلَ شَمْسَهَا آيَةً مُبْصِرَةً لِنَهَارِهَا

وَ قَمَرَهَا آيَةً مَمْحُوَّةً مِنْ لَيْلِهَا

وَ أَجْرَاهُمَا فِي مَنَاقِلِ مَجْرَاهُمَا

وَ قَدَّرَ سَيْرَهُمَا فِي مَدَارِجِ دَرَجِهِمَا

لِيُمَيِّزَ بَيْنَ اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ بِهِمَا

وَ لِيُعْلَمَ عَدَدُ السِّنِينَ وَ الْحِسَابُ بِمَقَادِيرِهِمَا

ثُمَّ عَلَّقَ فِي جَوِّهَا فَلَكَهَا

وَ نَاطَ بِهَا زِينَتَهَا مِنْ خَفِيَّاتِ دَرَارِيِّهَا

وَ مَصَابِيحِ كَوَاكِبِهَا

وَ رَمَى مُسْتَرِقِي السَّمْعِ بِثَوَاقِبِ شُهُبِهَا

وَ أَجْرَاهَا عَلَى أَذْلَالِ تَسْخِيرِهَا

مِنْ ثَبَاتِ ثَابِتِهَا

وَ مَسِيرِ سَائِرِهَا

وَ هُبُوطِهَا وَ صُعُودِهَا

وَ نُحُوسِهَا وَ سُعُودِهَا

و منها في صفة الملائكة

ثُمَّ خَلَقَ سُبْحَانَهُ لِإِسْكَانِ سَمَاوَاتِهِ

وَ عِمَارَةِ الصَّفِيحِ الْأَعْلَى مِنْ مَلَكُوتِهِ

خَلْقاً بَدِيعاً مِنْ مَلَائِكَتِهِ

وَ مَلَأَ بِهِمْ فُرُوجَ فِجَاجِهَا

وَ حَشَا بِهِمْ فُتُوقَ أَجْوَائِهَا

وَ بَيْنَ فَجَوَاتِ تِلْكَ الْفُرُوجِ زَجَلُ الْمُسَبِّحِينَ مِنْهُمْ فِي حَظَائِرِ الْقُدُسِ

وَ سُتُرَاتِ الْحُجُبِ

وَ سُرَادِقَاتِ الْمَجْدِ وَ وَرَاءَ ذَلِكَ الرَّجِيجِ

الَّذِي تَسْتَكُّ مِنْهُ الْأَسْمَاعُ

سُبُحَاتُ نُورٍ تَرْدَعُ الْأَبْصَارَ عَنْ بُلُوغِهَا

فَتَقِفُ خَاسِئَةً عَلَى حُدُودِهَا.

وَ أَنْشَأَهُمْ عَلَى صُوَرٍ مُخْتَلِفَاتٍ

وَ أَقْدَارٍ مُتَفَاوِتَاتٍ

 أُولِي أَجْنِحَةٍ

تُسَبِّحُ جَلَالَ عِزَّتِهِ

لَا يَنْتَحِلُونَ مَا ظَهَرَ فِي الْخَلْقِ مِنْ صُنْعِهِ

وَ لَا يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَخْلُقُونَ شَيْئاً مَعَهُ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ

 بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ

 لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ‏

جَعَلَهُمُ اللَّهُ فِيمَا هُنَالِكَ أَهْلَ الْأَمَانَةِ عَلَى وَحْيِهِ

وَ حَمَّلَهُمْ إِلَى الْمُرْسَلِينَ وَدَائِعَ أَمْرِهِ وَ نَهْيِهِ

وَ عَصَمَهُمْ مِنْ رَيْبِ الشُّبُهَاتِ

فَمَا مِنْهُمْ زَائِغٌ عَنْ سَبِيلِ مَرْضَاتِهِ

وَ أَمَدَّهُمْ بِفَوَائِدِ الْمَعُونَةِ

وَ أَشْعَرَ قُلُوبَهُمْ تَوَاضُعَ إِخْبَاتِ السَّكِينَةِ

وَ فَتَحَ لَهُمْ أَبْوَاباً ذُلُلًا إِلَى تَمَاجِيدِهِ

وَ نَصَبَ لَهُمْ مَنَاراً وَاضِحَةً عَلَى أَعْلَامِ تَوْحِيدِهِ

لَمْ تُثْقِلْهُمْ مُؤْصِرَاتُ الْآثَامِ

وَ لَمْ تَرْتَحِلْهُمْ عُقَبُ اللَّيَالِي وَ الْأَيَّامِ

وَ لَمْ تَرْمِ الشُّكُوكُ بِنَوَازِعِهَا عَزِيمَةَ إِيمَانِهِمْ

وَ لَمْ تَعْتَرِكِ الظُّنُونُ عَلَى مَعَاقِدِ يَقِينِهِمْ

وَ لَا قَدَحَتْ قَادِحَةُ الْإِحَنِ فِيمَا بَيْنَهُمْ

وَ لَا سَلَبَتْهُمُ الْحَيْرَةُ مَا لَاقَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِضَمَائِرِهِمْ

وَ مَا سَكَنَ مِنْ عَظَمَتِهِ وَ هَيْبَةِ جَلَالَتِهِ فِي أَثْنَاءِ صُدُورِهِمْ

وَ لَمْ تَطْمَعْ فِيهِمُ الْوَسَاوِسُ فَتَقْتَرِعَ بِرَيْنِهَا عَلَى فِكْرِهِمْ

وَ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِي خَلْقِ الْغَمَامِ‏ الدُّلَّحِ

وَ فِي عِظَمِ الْجِبَالِ الشُّمَّخِ

وَ فِي قَتْرَةِ الظَّلَامِ الْأَيْهَمِ

وَ مِنْهُمْ مَنْ قَدْ خَرَقَتْ أَقْدَامُهُمْ تُخُومَ الْأَرْضِ السُّفْلَى

فَهِيَ كَرَايَاتٍ بِيضٍ

قَدْ نَفَذَتْ فِي مَخَارِقِ الْهَوَاءِ

وَ تَحْتَهَا رِيحٌ هَفَّافَةٌ تَحْبِسُهَا عَلَى حَيْثُ انْتَهَتْ مِنَ الْحُدُودِ الْمُتَنَاهِيَةِ

قَدِ اسْتَفْرَغَتْهُمْ أَشْغَالُ عِبَادَتِهِ

وَ وَصَلَتْ حَقَائِقُ الْإِيمَانِ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَعْرِفَتِهِ

وَ قَطَعَهُمُ الْإِيقَانُ بِهِ إِلَى الْوَلَهِ إِلَيْهِ

وَ لَمْ تُجَاوِزْ رَغَبَاتُهُمْ مَا عِنْدَهُ إِلَى مَا عِنْدَ غَيْرِهِ

قَدْ ذَاقُوا حَلَاوَةَ مَعْرِفَتِهِ

وَ شَرِبُوا بِالْكَأْسِ الرَّوِيَّةِ مِنْ مَحَبَّتِهِ

وَ تَمَكَّنَتْ مِنْ سُوَيْدَاءِ

قُلُوبِهِمْ وَشِيجَةُ خِيفَتِهِ

فَحَنَوْا بِطُولِ الطَّاعَةِ اعْتِدَالَ ظُهُورِهِمْ

وَ لَمْ يُنْفِدْ طُولُ الرَّغْبَةِ إِلَيْهِ مَادَّةَ تَضَرُّعِهِمْ

وَ لَا أَطْلَقَ عَنْهُمْ عَظِيمُ الزُّلْفَةِ رِبَقَ خُشُوعِهِمْ

وَ لَمْ يَتَوَلَّهُمُ الْإِعْجَابُ فَيَسْتَكْثِرُوا مَا سَلَفَ مِنْهُمْ

وَ لَا تَرَكَتْ لَهُمُ اسْتِكَانَةُ الْإِجْلَالِ نَصِيباً فِي تَعْظِيمِ حَسَنَاتِهِمْ

وَ لَمْ تَجْرِ الْفَتَرَاتُ فِيهِمْ عَلَى طُولِ دُءُوبِهِمْ

وَ لَمْ تَغِضْ رَغَبَاتُهُمْ فَيُخَالِفُوا عَنْ رَجَاءِ رَبِّهِمْ

وَ لَمْ تَجِفَّ لِطُولِ الْمُنَاجَاةِ أَسَلَاتُ أَلْسِنَتِهِمْ

وَ لَا مَلَكَتْهُمُ الْأَشْغَالُ فَتَنْقَطِعَ بِهَمْسِ الْجُؤَارِ إِلَيْهِ أَصْوَاتُهُمْ

وَ لَمْ تَخْتَلِفْ فِي مَقَاوِمِ الطَّاعَةِ مَنَاكِبُهُمْ

وَ لَمْ يَثْنُوا إِلَى رَاحَةِ التَّقْصِيرِ فِي أَمْرِهِ رِقَابَهُمْ.

وَ لَا تَعْدُو عَلَى عَزِيمَةِ جِدِّهِمْ بَلَادَةُ الْغَفَلَاتِ

وَ لَا تَنْتَضِلُ فِي هِمَمِهِمْ خَدَائِعُ الشَّهَوَاتِ

قَدِاتَّخَذُوا ذَا الْعَرْشِ ذَخِيرَةً لِيَوْمِ فَاقَتِهِمْ

وَ يَمَّمُوهُ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْخَلْقِ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ بِرَغْبَتِهِمْ

لَا يَقْطَعُونَ أَمَدَ غَايَةِ عِبَادَتِهِ

وَ لَا يَرْجِعُ بِهِمُ الِاسْتِهْتَارُ بِلُزُومِ طَاعَتِهِ

إِلَّا إِلَى مَوَادَّ مِنْ قُلُوبِهِمْ غَيْرِ مُنْقَطِعَةٍ مِنْ رَجَائِهِ وَ مَخَافَتِهِ

لَمْ تَنْقَطِعْ أَسْبَابُ الشَّفَقَةِ مِنْهُمْ

فَيَنُوا فِي جِدِّهِمْ

وَ لَمْ تَأْسِرْهُمُ الْأَطْمَاعُ فَيُؤْثِرُوا وَشِيكَ السَّعْيِ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ

لَمْ يَسْتَعْظِمُوا مَا مَضَى مِنْ أَعْمَالِهِمْ

وَ لَوِ اسْتَعْظَمُوا ذَلِكَ لَنَسَخَ الرَّجَاءُ مِنْهُمْ شَفَقَاتِ وَجَلِهِمْ

وَ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي رَبِّهِمْ بِاسْتِحْوَاذِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ

وَ لَمْ يُفَرِّقْهُمْ سُوءُ التَّقَاطُعِ

وَ لَا تَوَلَّاهُمْ غِلُّ التَّحَاسُدِ

وَ لَا تَشَعَّبَتْهُمْ مَصَارِفُ الرِّيَبِ

وَ لَا اقْتَسَمَتْهُمْ أَخْيَافُ الْهِمَمِ

فَهُمْ أُسَرَاءُ إِيمَانٍ

لَمْ يَفُكَّهُمْ مِنْ رِبْقَتِهِ زَيْغٌ وَ لَا عُدُولٌ وَ لَا وَنًى وَ لَا فُتُورٌ

وَ لَيْسَ فِي أَطْبَاقِ السَّمَاءِ مَوْضِعُ إِهَابٍ إِلَّا وَ عَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ

أَوْ سَاعٍ حَافِدٌ

يَزْدَادُونَ عَلَى طُولِ الطَّاعَةِ بِرَبِّهِمْ عِلْماً

وَ تَزْدَادُ عِزَّةُ رَبِّهِمْ فِي قُلُوبِهِمْ عِظَماً

و منها في صفة الأرض و دحوها على الماء

كَبَسَ الْأَرْضَ عَلَى مَوْرِ أَمْوَاجٍ مُسْتَفْحِلَةٍ

وَ لُجَجِ بِحَارٍ زَاخِرَةٍ

تَلْتَطِمُ أَوَاذِيُّ أَمْوَاجِهَا

وَ تَصْطَفِقُ مُتَقَاذِفَاتُ أَثْبَاجِهَا

وَ تَرْغُو زَبَداً كَالْفُحُولِ عِنْدَ هِيَاجِهَا

فَخَضَعَ جِمَاحُ الْمَاءِ الْمُتَلَاطِمِ لِثِقَلِ حَمْلِهَا

وَ سَكَنَ هَيْجُ ارْتِمَائِهِ إِذْ وَطِئَتْهُ‏ بِكَلْكَلِهَا

وَ ذَلَّ مُسْتَخْذِياً

إِذْ تَمَعَّكَتْ عَلَيْهِ بِكَوَاهِلِهَا

فَأَصْبَحَ بَعْدَ اصْطِخَابِ أَمْوَاجِهِ

سَاجِياً مَقْهُوراً

وَ فِي حَكَمَةِ الذُّلِّ مُنْقَاداً أَسِيراً

وَ سَكَنَتِ الْأَرْضُ مَدْحُوَّةً فِي لُجَّةِ تَيَّارِهِ

وَ رَدَّتْ مِنْ نَخْوَةِ بَأْوِهِ وَ اعْتِلَائِهِ

وَ شُمُوخِ أَنْفِهِ وَ سُمُوِّ غُلَوَائِهِ

وَ كَعَمَتْهُ عَلَى كِظَّةِ جَرْيَتِهِ

فَهَمَدَ بَعْدَ نَزَقَاتِهِ

وَ لَبَدَ بَعْدَ زَيَفَانِ وَثَبَاتِهِ

فَلَمَّا سَكَنَ هَيْجُ الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ أَكْنَافِهَا

وَ حَمْلِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ الشُّمَّخِ الْبُذَّخِ عَلَى أَكْتَافِهَا

فَجَّرَ يَنَابِيعَ الْعُيُونِ مِنْ عَرَانِينِ أُنُوفِهَا

وَ فَرَّقَهَا فِي سُهُوبِ بِيدِهَا وَ أَخَادِيدِهَا

وَ عَدَّلَ حَرَكَاتِهَا بِالرَّاسِيَاتِ مِنْ جَلَامِيدِهَا

وَ ذَوَاتِ الشَّنَاخِيبِ الشُّمِّ مِنْ صَيَاخِيدِهَا

فَسَكَنَتْ مِنَ الْمَيَدَانِ لِرُسُوبِ الْجِبَالِ فِي قِطَعِ أَدِيمِهَا وَ تَغَلْغُلِهَا

مُتَسَرِّبَةً فِي جَوْبَاتِ خَيَاشِيمِهَا

وَ رُكُوبِهَا أَعْنَاقَ سُهُولِ الْأَرَضِينَ وَ جَرَاثِيمِهَا

وَ فَسَحَ بَيْنَ الْجَوِّ وَ بَيْنَهَا

وَ أَعَدَّ الْهَوَاءَ مُتَنَسَّماً لِسَاكِنِهَا

وَ أَخْرَجَ إِلَيْهَا أَهْلَهَا عَلَى تَمَامِ مَرَافِقِهَا

ثُمَّ لَمْ يَدَعْ جُرُزَ الْأَرْضِ الَّتِي تَقْصُرُ مِيَاهُ الْعُيُونِ عَنْ رَوَابِيهَا

وَ لَا تَجِدُ جَدَاوِلُ الْأَنْهَارِ ذَرِيعَةً إِلَى بُلُوغِهَا

حَتَّى أَنْشَأَ لَهَا نَاشِئَةَ سَحَابٍ تُحْيِي مَوَاتَهَا

وَ تَسْتَخْرِجُ نَبَاتَهَا

أَلَّفَ غَمَامَهَا بَعْدَ افْتِرَاقِ لُمَعِهِ

وَ تَبَايُنِ قَزَعِهِ

حَتَّى إِذَا تَمَخَّضَتْ لُجَّةُالْمُزْنِ فِيهِ

وَ الْتَمَعَ بَرْقُهُ فِي كُفَفِهِ

وَ لَمْ يَنَمْ وَمِيضُهُ فِي كَنَهْوَرِ رَبَابِهِ

وَ مُتَرَاكِمِ سَحَابِهِ

أَرْسَلَهُ سَحّاً مُتَدَارِكاً

قَدْ أَسَفَّ هَيْدَبُهُ

تَمْرِيهِ الْجَنُوبُ دِرَرَ أَهَاضِيبِهِ

وَ دُفَعَ شَآبِيبِهِ.

فَلَمَّا أَلْقَتِ السَّحَابُ بَرْكَ بِوَانَيْهَا

وَ بَعَاعَ مَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ مِنَ الْعِبْ‏ءِ الْمَحْمُولِ عَلَيْهَا

أَخْرَجَ بِهِ مِنْ هَوَامِدِ الْأَرْضِ النَّبَاتَ

وَ مِنْ زُعْرِ الْجِبَالِ الْأَعْشَابَ

فَهِيَ تَبْهَجُ بِزِينَةِ رِيَاضِهَا

وَ تَزْدَهِي بِمَا أُلْبِسَتْهُ مِنْ رَيْطِ أَزَاهِيرِهَا

وَ حِلْيَةِ مَا سُمِطَتْ بِهِ مِنْ نَاضِرِ أَنْوَارِهَا

وَ جَعَلَ ذَلِكَ بَلَاغاً لِلْأَنَامِ

وَ رِزْقاً لِلْأَنْعَامِ

وَ خَرَقَ الْفِجَاجَ فِي آفَاقِهَا

وَ أَقَامَ الْمَنَارَ لِلسَّالِكِينَ عَلَى جَوَادِّ طُرُقِهَا

فَلَمَّا مَهَدَ أَرْضَهُ

وَ أَنْفَذَ أَمْرَهُ

اخْتَارَ آدَمَ ( عليه‏ السلام  )خِيرَةً مِنْ خَلْقِهِ

وَ جَعَلَهُ أَوَّلَ جِبِلَّتِهِ

وَ أَسْكَنَهُ جَنَّتَهُ

وَ أَرْغَدَ فِيهَا أُكُلَهُ

وَ أَوْعَزَ إِلَيْهِ فِيمَا نَهَاهُ عَنْهُ

وَ أَعْلَمَهُ أَنَّ فِي الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ التَّعَرُّضَ لِمَعْصِيَتِهِ

وَ الْمُخَاطَرَةَ بِمَنْزِلَتِهِ

فَأَقْدَمَ عَلَى مَا نَهَاهُ عَنْهُ

مُوَافَاةً لِسَابِقِ عِلْمِهِ

فَأَهْبَطَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ لِيَعْمُرَ أَرْضَهُ بِنَسْلِهِ

وَ لِيُقِيمَ الْحُجَّةَ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ

وَ لَمْ يُخْلِهِمْ بَعْدَ أَنْ قَبَضَهُ

مِمَّا يُؤَكِّدُ عَلَيْهِمْ حُجَّةَ رُبُوبِيَّتِهِ

وَ يَصِلُ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَعْرِفَتِهِ

بَلْ تَعَاهَدَهُمْ بِالْحُجَجِ عَلَى أَلْسُنِ الْخِيَرَةِ مِنْ أَنْبِيَائِهِ

وَ مُتَحَمِّلِي وَدَائِعِ رِسَالَاتِهِ

قَرْناً فَقَرْناً

حَتَّى تَمَّتْ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ( صلى‏ الله‏ عليه‏ وسلم  )حُجَّتُهُ

وَ بَلَغَ الْمَقْطَعَ عُذْرُهُ وَ نُذُرُهُ

وَ قَدَّرَ الْأَرْزَاقَ فَكَثَّرَهَا وَ قَلَّلَهَا

وَ قَسَّمَهَا عَلَى الضِّيقِ وَ السَّعَةِ فَعَدَلَ فِيهَا

لِيَبْتَلِيَ مَنْ أَرَادَ بِمَيْسُورِهَا وَ مَعْسُورِهَا

وَ لِيَخْتَبِرَ بِذَلِكَ الشُّكْرَ وَ الصَّبْرَ مِنْ غَنِيِّهَا وَ فَقِيرِهَا

ثُمَّ قَرَنَ بِسَعَتِهَا عَقَابِيلَ فَاقَتِهَا

وَ بِسَلَامَتِهَا طَوَارِقَ آفَاتِهَا

وَ بِفُرَجِ أَفْرَاحِهَا غُصَصَ أَتْرَاحِهَا

وَ خَلَقَ الْآجَالَ فَأَطَالَهَا وَ قَصَّرَهَا

وَ قَدَّمَهَا وَ أَخَّرَهَا

وَ وَصَلَ بِالْمَوْتِ أَسْبَابَهَا

وَ جَعَلَهُ خَالِجاً لِأَشْطَانِهَا

وَ قَاطِعاً لِمَرَائِرِ أَقْرَانِهَا

عَالِمُ السِّرِّ مِنْ ضَمَائِرِ الْمُضْمِرِينَ

وَ نَجْوَى الْمُتَخَافِتِينَ

وَ خَوَاطِرِ رَجْمِ الظُّنُونِ

وَ عُقَدِ عَزِيمَاتِ الْيَقِينِ

وَ مَسَارِقِ إِيمَاضِ الْجُفُونِ

وَ مَا ضَمِنَتْهُ أَكْنَانُ الْقُلُوبِ

وَ غَيَابَاتُ الْغُيُوبِ

وَ مَا أَصْغَتْ لِاسْتِرَاقِهِ مَصَائِخُ الْأَسْمَاعِ

وَ مَصَايِفُ الذَّرِّ

وَ مَشَاتِي الْهَوَامِّ

وَ رَجْعِ الْحَنِينِ مِنَ الْمُولَهَاتِ

وَ هَمْسِ الْأَقْدَامِ

وَ مُنْفَسَحِ الثَّمَرَةِ مِنْ وَلَائِجِ غُلُفِ الْأَكْمَامِ

وَ مُنْقَمَعِ الْوُحُوشِ مِنْ غِيرَانِ الْجِبَالِ وَ أَوْدِيَتِهَا

وَ مُخْتَبَإِ الْبَعُوضِ بَيْنَ سُوقِ الْأَشْجَارِ وَ أَلْحِيَتِهَا

وَ مَغْرِزِ الْأَوْرَاقِ مِنَ الْأَفْنَانِ

وَ مَحَطِّ الْأَمْشَاجِ مِنْ مَسَارِبِ الْأَصْلَابِ

وَ نَاشِئَةِ الْغُيُومِ وَ مُتَلَاحِمِهَا

وَ دُرُورِ قَطْرِ السَّحَابِ فِي مُتَرَاكِمِهَا

وَ مَا تَسْفِي الْأَعَاصِيرُ بِذُيُولِهَا

وَ تَعْفُو الْأَمْطَارُ بِسُيُولِهَا

وَ عَوْمِ بَنَاتِ الْأَرْضِ فِي كُثْبَانِ الرِّمَالِ

وَ مُسْتَقَرِّ ذَوَاتِ الْأَجْنِحَةِ بِذُرَا شَنَاخِيبِ الْجِبَالِ

وَ تَغْرِيدِ ذَوَاتِ الْمَنْطِقِ فِي دَيَاجِيرِ الْأَوْكَارِ

وَ مَا أَوْعَبَتْهُ الْأَصْدَافُ

وَ حَضَنَتْ عَلَيْهِ أَمْوَاجُ الْبِحَارِ

وَ مَا غَشِيَتْهُ سُدْفَةُ لَيْلٍ

أَوْ ذَرَّ عَلَيْهِ شَارِقُ نَهَارٍ

وَ مَا اعْتَقَبَتْ عَلَيْهِ أَطْبَاقُ الدَّيَاجِيرِ

وَ سُبُحَاتُ النُّورِ

وَ أَثَرِ كُلِّ خَطْوَةٍ

وَ حِسِّ كُلِّ حَرَكَةٍ

وَ رَجْعِ كُلِّ كَلِمَةٍ

وَ تَحْرِيكِ كُلِّ شَفَةٍ

وَ مُسْتَقَرِّ كُلِّ نَسَمَةٍ

وَ مِثْقَالِ كُلِّ ذَرَّةٍ وَ هَمَاهِمِ كُلِّ نَفْسٍ هَامَّةٍ

وَ مَا عَلَيْهَا مِنْ ثَمَرِ شَجَرَةٍ

أَوْ سَاقِطِ وَرَقَةٍ

أَوْ قَرَارَةِ نُطْفَةٍ

أَوْ نُقَاعَةِ دَمٍ وَ مُضْغَةٍ

أَوْ نَاشِئَةِ خَلْقٍ وَ سُلَالَةٍ

لَمْ يَلْحَقْهُ فِي ذَلِكَ كُلْفَةٌ

وَ لَا اعْتَرَضَتْهُ فِي حِفْظِ مَا ابْتَدَعَ مِنْ خَلْقِهِ عَارِضَةٌ

وَ لَا اعْتَوَرَتْهُ فِي تَنْفِيذِ الْأُمُورِ وَ تَدَابِيرِ الْمَخْلُوقِينَ مَلَالَةٌ وَ لَا فَتْرَةٌ

بَلْ نَفَذَهُمْ عِلْمُهُ

وَ أَحْصَاهُمْ عَدَدُهُ

وَ وَسِعَهُمْ عَدْلُهُ

وَ غَمَرَهُمْ فَضْلُهُ

مَعَ تَقْصِيرِهِمْ عَنْ كُنْهِ مَا هُوَ أَهْلُهُ

دعاء

اللَّهُمَّ أَنْتَ أَهْلُ الْوَصْفِ الْجَمِيلِ

وَ التَّعْدَادِ الْكَثِيرِ

إِنْ تُؤَمَّلْ فَخَيْرُ مَأْمُولٍ

وَ إِنْ تُرْجَ فَخَيْرُ مَرْجُوٍّ

اللَّهُمَّ وَ قَدْ بَسَطْتَ لِي فِيمَا لَا أَمْدَحُ بِهِ غَيْرَكَ

وَ لَا أُثْنِي بِهِ عَلَى أَحَدٍ سِوَاكَ

وَ لَا أُوَجِّهُهُ إِلَى مَعَادِنِ الْخَيْبَةِ وَ مَوَاضِعِ الرِّيبَةِ

وَ عَدَلْتَ بِلِسَانِي عَنْ مَدَائِحِ الْآدَمِيِّينَ وَ الثَّنَاءِ عَلَى الْمَرْبُوبِينَ الْمَخْلُوقِينَ

اللَّهُمَّ وَ لِكُلِّ مُثْنٍ عَلَى مَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ مَثُوبَةٌ مِنْ جَزَاءٍ

أَوْ عَارِفَةٌ مِنْ عَطَاءٍ

وَ قَدْ رَجَوْتُكَ دَلِيلًا عَلَى ذَخَائِرِ الرَّحْمَةِ وَ كُنُوزِ الْمَغْفِرَةِ

اللَّهُمَّ وَ هَذَا مَقَامُ مَنْ أَفْرَدَكَ بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ لَكَ

وَ لَمْ يَرَ مُسْتَحِقّاً لِهَذِهِ الْمَحَامِدِ وَ الْمَمَادِحِ غَيْرَكَ

وَ بِي فَاقَةٌ إِلَيْكَ لَا يَجْبُرُ مَسْكَنَتَهَا إِلَّا فَضْلُكَ

وَ لَا يَنْعَشُ مِنْ خَلَّتِهَا إِلَّا مَنُّكَ وَ جُودُكَ

فَهَبْ لَنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ رِضَاكَ

وَ أَغْنِنَا عَنْ مَدِّ الْأَيْدِي إِلَى سِوَاكَ

 إِنَّكَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج7  

الجزء السابع

تتمة باب المختار من خطب أمير المؤمنين ع و أوامره

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

تتمة خطبه نودم

الفصل السادس

منها فى صفة الارض و دحوها على الماء كبس الأرض على مور أمواج مستفحلة، و لجج بحار زاخرة، تلتطم أو اذيّ أمواجها، و تصطفق متقاذفات أثباجها، و ترغو زبدا كالفحول عند هياجها، فخضع جماح الماء المتلاطم لثقل حملها، و سكن هيج ارتمائه إذ وطئته بكلكلها، و ذلّ مستخذئا إذ تمعّكت عليه بكواهلها، فأصبح بعد اصطحاب أمواجه ساجيا مقهورا، و في حكمة الذّلّ منقادا أسيرا، و سكنت الأرض مدحوّة في لجّة تيّاره، و ردّت من نخوة بأوه و اعتلائه، و شموخ أنفه و سموّ غلوائه، و كعمته على‏ كظّة جريته، فهمد بعد نزقاته، و لبد بعد زيفان و ثباته، فلمّا سكن هيج الماء من تحت أكنافها، و حمل شواهق الجبال البذّخ على أكنافها، فجر ينابيع العيون من عرانين أنوفها، و فرّقها في سهوب بيدها و أخاديدها، و عدّل حركاتها بالرّاسيات من جلاميدها، و ذوات الشّناخيب الشّمّ من صيا خيدها، فسكنت من الميدان برسوب الجبال في قطع أديمها و تغلغلها، متسرّبة في جوبات خياشيمها و ركوبها أعناق سهول الأرضين و جراثيمها، و فسح بين الجوّ و بينها، و أعدّ الهواء متنسّما لساكنها، و أخرج إليها أهلها على تمام مرافقها، ثمّ لم يدع جرز الأرض الّتي تقصر مياه العيون عن روابيها، و لا تجد جداول الأنهار ذريعة إلى بلوغها، حتّى أنشأ لها ناشئة سحاب تحيي مواتها، و تستخرج نباتها، ألّف غمامها بعد افتراق لمعه، و تباين قزعه، حتّى إذا تمخّضت لجّة المزن فيه، و التمع برقه في كففه، و لم ينم و ميضه في كنهور ربابه، و متراكم سحابه، أرسله سحّا متداركا قد أسف هيدبه، تمريه الجنوب درر أهاضيبه، و دفع شئابيبه، فلمّا ألقت السّحاب برك بوانيها، و بعاع ما استقلت به من العب‏ء المحمول عليها، أخرج به من هو امد الأرض النّبات، و من زعر الجبال‏

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 4
الأعشاب فهى تبهج بزينة رياضها، و تزد هي بما ألبسته من ريط أزاهيرها، و حلية ما سمّطت به من ناضر أنوارها، و جعل ذلك بلاغا للأنام، و رزقا للأنعام، و خرق الفجاج في آفاقها، و أقام المنار للسّالكين في جوادّ طرقها.
اللغة
(دحا) اللّه الأرض يدحوها دحوا بسطها و دحيا لغة و (كبس) الرّجل رأسه في قميصه اذا أدخله فيه و كبس البئر و النهر اذا طنّها بالتراب و فى شرح المعتزلي كبس الأرض أى أدخلها الماء بقوّة و اعتماد شديد و (استفحل) الأمر تفاقم و اشتدّ و (اللّجج) جمع اللّجة و هي معظم الماء قال سبحانه: فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ و (الأواذى) جمع الآذى بالمدّ و التشديد و هو الموج الشديد و (الصفق) الضرب يسمع له صوت و الصرف و الرّد و (الثبج) بتقديم الثاء المثلّثة على الباء الموحّدة معظم البحر و الجمع أثباج كسبب و أسباب و فى شرح المعتزلي أصل الثبج ما بين الكاهل الى الظهر و المراد أعالى الأمواج و (ترغو زبدا) من الرغا و هو صوت الابل و قيل من الرّغوة مثلّثة و هى الزّبد يعلو الشي‏ء عند غليانه يقال: رغا اللّبن أى صارت له رغوة ففيه تجريد و (جماح) الماء غليانه من جمح الفرس اذا غلب فارسه و لم يملكه و (هيج) الماء ثورانه و فورته و (الارتماء) الترامى و التقاذف و أصل (الوطى) الدّوس بالقدم و (الكلكل) بالتخفيف الصدر قال امرء القيس:
فقلت له لما تمطّى بصلبه و أردف اعجازا و ناء بكلكل‏

و ربما جاء في ضرورة الشّعر بتشديد اللام الثانية و (ذلّ) أى صار ذليلا أو ذلو لا ضدّ الصّعب و فى بعض النسخ كلّ أى عرض له الكلال من كلّ السّيف اذا لم يقطع و (المستخذى) بغير همز كما فى النسخ الخاضع و المنقاد و قد يهمز على الأصل‏

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 5
و (تمعّكت) الدابة تمرّغت فى التراب و (الكاهل) ما بين الكتفين و (الاصطخاب) افتعال من الصخب و هو كثرة الصّياح و اضطراب الأصوات و (الحكمة) محرّكة وزان قصبة حديدة فى اللّجام تكون على حنك الفرس تذلّلها لراكبها حتّى تمنعها الجماح و نحوه مأخوذة من الحكم و هو المنع يقال: حكمت عليه بكذا اذا منعته من خلافه فلم يقدر على الخروج منه و (التيّار) الموج و قيل أعظم الموج، و لجّته أعمقه و (النخوة) الافتخار و التعظم و الانفة و الحمية و (البأو) الكبر و الفخر يقال بأى كسعى و كدعا قليل بأوا و بأواء فخر و تكبّر و نفسه رفعها و فخربها و (شمخ) الجبل شموخا علا و طال و الرّجل بأنفه تكبّر و (الغلواء) بضم الغين المعجمة و فتح اللّام و قد تسكن الغلو و أوّل الشّباب و سرعته و مثله الغلوان بالضمّ و (كعمت) البعير من باب منع شددت فاه بالكعام و هو على وزن كتاب شي‏ء يجعل فى فيه اذا هاج لئلّا يعضّ أويأ كل و (الكظة) شي‏ء يعترى الممتلى من الطعام يقول: كظه الطعام ملأه حتى لا يطيق التنفس و اكتظّ المسيل بالماء ضاق به لكثرته أو هو من الكظاظ وزان كتاب و هو الشدّة و التّعب و طول الملازمة و (الجرية) بكسر الجيم مصدر جرى الماء أو حالة الجريان و (همدت) الريح سكنت و همود النار خمودها و (نزق) الفرس من باب نصر و ضرب و سمع نزقا و نزوقا نزى و وثب و النزقات دفعاته و (لبد) بالأرض من باب نصر لبودا لزمها و أقام بها و منها اللبد وزان صرد و كتف لمن لا يبرح منزله و لا يطلب معاشا و (زاف) البعير يزيف زيفا و زيفانا تبختر فى مشيته و فى بعض النسخ بعد زفيان و ثباته بتقديم الفاء على الياء و هو شدّة هبوب الريح يقال: زفت الريح السحاب اذا طردته و (الوثبة) الطفرة و (الأكناف) بالنون جمع الكنف محركة كالأسباب و السبب و هو الجانب و الناحية و (شواهق) الجبال عواليها و (البذخ) جمع الباذخ و هو العالى و (الينبوع) ما انفجر من الأرض من الماء و قيل الجدول الكثير الماء و (عرنين الانف) أوّله تحت مجتمع الحاجبين و (السّهب) الفلاة البعيدة الأكناف و الأطراف و (البيد) بالكسر جمع بيداء و هى الفلاة التي تبيد سالكها

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 6
أى ينقطع و يهلك و (الأخاديد) جمع الأخدود و هو الشقّ فى الأرض قال تعالى: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ.
و (الراسيات) جمع الراسية من رسى السّفينة وقفت على البحر و ارسيته قال تعالى: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَ مُرْساها.
و (الجلاميد) جمع جلمدوزان جعفر و هو الصخر كالجلمود بضمّ و (الشناخيب) جمع شنخوب بالضّم أيضا و هو أعلى الجبل و (الشم) جمع الشميم أى المرتفع و (الصياخيد) جمع الصّيخود و هي الصخرة الصلبة (فى قطع) اديمها فى بعض النسخ وزان عنب جمع قطعة بالكسر و هى الطائفة من الشي‏ء تقطع و الطائفة من الأرض اذا كانت مفروزة و في بعضها بسكون الطاء وزان حبر و هي طنفسة«» يجعلها الراكب تحته و يغطى كتفي البعير و جمعه قطوع و أقطاع و (أديم) الأرض وجهها و الأديم أيضا الجلد المدبوغ و (التغلغل) الدخول و (السّرب) محركة بيت في الأرض لا منفذله يقال: تسرب الوحش و انسرب فى جحره أى دخل و (الجوبة) الحفرة و الفرجة و (الخيشوم) أقصى الانف و (جرثومة) الشي‏ء أصله و قيل التراب المجتمع في اصول الشجرة و هو الأنسب و (فسح) له من باب منع أى وسّع و (المتنسّم) موضع التنسّم و التّنفس من تنسّم اذ اطلب النسيم و استنشقه و (مرافق) الدّار ما يستعين به أهلها و يحتاج اليه في التعيش و في القاموس مرافق الدار مصاب الماء و نحوها و (الجرز) بضمتين الأرض التي لانبات بها و لا ماء و قال تعالى: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ و (الرابية) ما ارتفع من الأرض و كذلك الربوة بالضمّ و (الجدول) وزان جعفر النهر الصغير و (ناشئة) السّحاب أوّل ما ينشأ منه أى يبتدء ظهوره، و يقال: نشأت‏

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 7
السّحاب اذا ارتفعت و (الغمام) جمع غمامة بالفتح فيهما و هي السحابة البيضاء و (اللّمع) على وزن صرد جمع لمعة و هي فى الأصل قطعة من النبت اذا اخذت في اليبس كأنها تلمع و تضى‏ء من بين ساير البقاع و (القزع) جمع قزعة بالتحريك فيهما و هي القطعة من الغيم و في الحديث كأنهم قزع الخريف و (تمخضت) أى تحركت بقوّة من المخض و هو تحريك السقاء الذى فيه اللّبن ليخرج زبده و (المزن) بضم الميم جمع مزنة و هي السحابة و (كففه) حواشيه و جوانبه و طرف كل شي‏ء كفه بالضمّ و عن الاصمعى كلّ ما استطال كحاشية الثوب و الرّمل فهو كفة بالضمّ و كلّ ما استدار ككفة الميزان فهو كفة بالكسر و يجوز فيه الفتح و (و ميض) البرق لمعانه و (الكنهور) وزان سفرجل قطع من السحاب كالجبال أو المتراكم منه و (الرباب) السّحاب الأبيض جمع ربابة و في شرح المعتزلي يقال: أنه السحاب الذي تراه كأنه دون السحاب و قد يكون أسود و قد يكون أبيض و (المتراكم) و المرتكم المجتمع و (السحّ) الصب و السّيلان من فوق و (تدارك) القوم اذا لحق آخرهم أولهم و (اسفّ) الطائر دنا من الأرض و (الهيدب) السحاب المتدلي أو ذيله من هدبت العين طال هدبها و تدلّى أشفارها و (تمريه) الجنوب من مري الناقة يمريها اى مسح ضرعها فامرت هى أى درّ لبنها و عدّى ههنا إلى مفعولين و في بعض النسخ تمري بدون الضمير هكذا قال في البحار و الأنسب عندي أن يجعل تمري على تقدير وجود الضمير كما في اكثر النسخ بمعنى تستخرج يقال: مرى الشي‏ء اذا استخرجه و هو احد معانيه كما فى القاموس و (الدرر) كعنب جمع درّة بالكسر و هو الصبّ و الاندقاق و (الأهاضيب) جمع هضاب و هو جمع هضب و هو المطر و (دفع) جمع دفعة بضم الدال فيهما و هي المرة من المطر و (الشآبيب) جمع شؤبوب و هو ما ينزل من المطر دفعة بشدّة و قوّة و (البرك) الصدر و (البوانى) قوائم الناقة و في شرح المعتزلي بوانيها بفتح النون تثنية بوان على فعال بكسر الفاء و هو عمود الخيمة و الجمع بون، قال فى البحار في النسخ القديمة المصححة على صيغة الجمع و في النهاية فسّر البوانى بأركان البنية و فى القاموس بقوائم الناقة قال:

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 8

و البواني أضلاع الزور«» و قوائم الناقة«» و القي بوانيه أقام و ثبت (و البعاع) كالسحاب ثقلة من المطر و (استقلت) أى نهضت و ارتفعت و استقلت به حملته و رفعته و (العب) بالكسر وزان حبر الحمل و الثقل و (الهوامد) من الأرض التي لانبات بها و (زعر) الجبال بالضمّ جمع أزعر كحمر و أحمر و هى القليلة النبات و أصله من الزعر بالتحريك و هو قلة الشعر في الرأس يقال رجل أزعر و (الأعشاب) جمع عشب كقفل و هو الرطب من الكلاء و (بهج) يبهج من باب منع سرّ و فرح و في بعض النسخ بضمّ الهاء من باب شرف أى حسن و (تزدهى) افتعال من الزّهو و هو الكبر و الفخر و (البسته) في بعض النسخ بالبناء على الفاعل و في بعضها بالبناء على المفعول و (الريط) جمع ريطة بالفتح فيها و هي كلّ ملأة غير ذات لفقين اى قطعتين كلها نسج واحد و قطعة واحدة، أو كلّ ثوب رقيق ليّن و (الأزاهير) جمع أزهار جمع زهرة بالفتح و هي النبات أو نورها و قيل الأصفر منه و أصل الزهرة الحسن و البهجة و (الحلية) ما يتزيّن به من مصوغ الذهب و الفضة و المعدنيات و (سمّطت) بالسين المهملة على البناء للمفعول من باب التفعيل أى علّقت و في بعض النسخ الصحيحة بالشين المعجمة من الشمط محرّكة و هو بياض الرأس يخالط سواده فمن النبات ما يخالط سواده النور الأبيض و في القاموس شمطه يشمطه خلطه و الاناء ملأه و النخلة انتشر بسرها و الشجر انتشر ورقه و الشميط من النبات ما بعضه هائج و بعضه أخضر و (البلاغ) ما يبتلغ به و يتوسل إلى الشي‏ء المطلوب و (الفج) الطريق الواسع بين الجبلين و الفجاج جمعه و (الجادّة) وسط الطريق و معظمه
الاعراب
على في قوله عليه السّلام على مور بمعنى في كما في قوله تعالى: دخل المدينة على حين غفلة، و جملة تلتطم منصوبة المحلّ على الحالية، و او اذي بالرفع فاعله، و ترغو زبدا إن كان ترغو من الرغا فزبدا منصوب بمقدّر أى ترغو قاذفة زبدا، و إن كان من‏

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 9
الرّغوة فانتصابه به على التجريد أى ترمى زبدا و يشعر بتضمّنه معنى ترمى قوله عليه السّلام فى الخطبة الاولى: فرمى بالزّبد ركامه، فافهم و مدحوّة منصوبة على الحال، و فى لجّة إما للظر فئة أو بمعنى على و الأوّل أولى إذ الأصل الحقيقة و قوله: ردّت فاعله ضمير مستكن عايد إلى الأرض و مفعوله محذوف و هو الضمير الراجع إلى جماع الماء و الباء فى قوله، بالراسيات تحتمل الصلة و السّببية كما سنشير اليه، و ذوات الشناخيب بالكسر عطف على جلاميدها، و تغلغلها و ركوبها بالجرّ معطوفان على الرسوب، و قوله: متسربة حال مؤكدة من ضمير تغلغلها على حدّ قوله تعالى: ولّى مدبرا، و على في قوله على تمام مرافقها للاستعلاء متعلّق بمحذوف أى مستقرّين و متمكّنين على تمام مرافقها، و أرسله جواب إذا تمخضت، و سحّا حال من مفعول أرسل و المصدر بمعنى الفاعل و قوله: تمريه الجنوب در رءاها ضيبه، الضمير فى تمريه مفعول بالواسطة و الجنوب فاعله و الدّرر مفعول به أى تمري الجنوب منه درر أهاضيبه، و الاضافة في برك بوانيها لأدنى ملابسة
المعنى
اعلم أنّ هذا الفصل من كلامه عليه السّلام مسوق للاشارة إلى قدرته سبحانه و تدبيره في كيفيّة ايجاد الأرض و دحوها على الماء و خلقة الغمام و المطر و البرق و النبات و الأنهار و الأزهار و متضمّن لما أعدّ اللّه للناس فيها من المنافع العظيمة و الفوايد الجسيمة، و الرفد الروافغ، و النعم السوابغ و هو قوله عليه السّلام: (كبس الأرض على مور أمواج مستفحلة) استعار لفظ الكبس لخلقه لها غائصا معظمها في الماء كما يغوص و يكبس بعض الزقّ المنفوخ و نحوه في الماء بالاعتماد عليه، و وصف الأمواج بالاستفحال لشدّتها أو لكونها كالفحول في الصّولة (و لجج بحار زاخرة) أى كثيرة مائها مرتفعة أمواجها حال كونها (تلتطم أو اذي أمواجها) أى تضرب شدايد أمواجها بعضها بعضا (و تصطفق متقاذفات أثباجها) أى تردّ متراميات أمواجها العالية المعظمة (و ترغو زبدا كالفحول عند هياجها) أى تصوت قاذفة زبدا

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 10
أو ترمى زبدا عند اضطرابه و غليانه كالفحول الهايجة (فخضع جماح الماء المتلاطم لثقل حملها) استعار لفظ الجماع لغليان الماء و اضطرابه و جريانه على غير نسق كما يجمح الفرس الجموح بحيث لا يتمكن من ردّه و منعه يقول عليه السّلام: ذلّ اضطراب الماء لثقل حمل الأرض عليه (و سكن هيج ارتمائه إذ وطئته بكلكها) أى سكن ثوران تراميه و تقاذفه حين و طئته الأرض و داسته بصدرها تشبيها لها بالناقة و تخصيص الصدر بالذكر لقوته (و ذلّ مستخذيا إذ تمعّكت عليه بكواهلها) أى صار ذليلا منقادا حين تمرغت عليه الأرض كالدابة المتمرغة و تخصيص الكواهل بالذكر للقوّة أيضا (فأصبح بعد اصطخاب أمواجه) و اضطرابها (ساجيا مقهورا) أى ساكنا مغلوبا (و فى حكمة الذلّ منقادا اسيرا) كالدابة المذللة بالحكمة المنقادة لصاحبها، هذا و محصل كلامه عليه السّلام من قوله: فخضع إلى هنا أنّ هيجان الماء و غليانه و موجه سكن بوضع الأرض عليه و استشكل فيه بأنّ ذلك خلاف ما نشاهده و خلاف ما يقتضيه العقل لأنّ الماء السّاكن إذا جعل فيه جسم ثقيل اضطرب و تموّج و صعد علوّا فكيف الماء المتموّج يسكن بطرح الجسم الثقيل فيه و اجيب بأنّ الماء إذا كان تموّجه من قبل ريح هايجة جاز أن يسكن هيجانه بجسم يحول بينه و بين تلك الرّيح، و لذلك إذا جعلنا في الاناء ماء، و روّحناه بمروحة يموّجه فانه يتحرّك، فان جعلنا على سطح الماء جسما يملأ حافات الاناء و روّحناه بالمروحة فانّ الماء لا يتحرّك لأنّ ذلك الجسم قد حال بين الهواء المجتلب بالمروحة و بين سطح الماء، فمن الجائز أن يكون الماء الأوّل هائجا لاجل ريح محرّكة له فاذا وضعت الأرض عليه حال بين سطح الماء و بين تلك الريح و قد مرّ في كلامه عليه السّلام فى الفصل الثامن من فصول الخطبة الأولى ذكر هذه الرّيح و هو قوله عليه السّلام: ثمّ أنشأ سبحانه ريحا اعتقم مهبها و أدام مربها إلى أن قال:

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 11
أمرها بتصفيق الماء الزخّار و اثارة موج البحار فمخضه مخض السّقاء و عصفت به عصفها بالفضاء، إلى آخر ما مرّ قال المحدّث العلّامة المجلسيّ ره في البحار بعد ذكر هذا الاشكال و الجواب: و الأولى أن يقال: إنّ غرضه عليه السّلام ليس نفي التموّج مطلقا بل نفى الشديد الذى كان للماء اذ حمله سبحانه على متن الريح العاصفة و الزعزع القاصفة بقدرته الكاملة و أنشأ ريحا تمخّضه مخض السقاء فكانت كرة الماء تدفق من جميع الجوانب و ترد الرّيح أوّله على آخره و ساجيه على مائره كما مرّ في كلامه عليه السّلام أى فى الفصل المذكور من الخطبة الأولى، ثمّ لما كبس الأرض بحيث لم يحط الماء بجميعها فلا ريب فى انقطاع الهبوب و التمويج من ذلك الجانب المماسّ للأرض من الماء و أيضا لمّا منعت الأرض سيلان الماء من ذلك الجانب إذ ليست الأرض كالهواء المنفتق المتحرّك الذى كان ينتهي اليه ذلك الحدّ من الماء كان ذلك أيضا من أسباب ضعف التموّج و قلّة التّلاطم و أيضا لمّا تفرقت كرة الماء فى أطراف الأرض و مال الماء بطبعه الى المواضع المنخفضة من الأرض و صار البحر الواحد المجتمع بحارا متعدّدة و ان اتّصل بعضها ببعض و احاطت السواحل بأطراف البحار بحيث منعت الهبوب إلّا من جهة السّطح الظاهر سكنت الفورة الشديدة بذلك التفرّق و قلّة التعمّق و انقطاع الهبوب، و كلّ ذلك من أسباب السّكون الذى أشار اليه عليه السّلام و أقول: و ممّا يبيّن ذلك أنه إذا فرضنا حوضا يكون فرسخا في فرسخ و قدّرنا بناء عمارة عظيمة في وسطه فلا ريب في أنّه يقلّ بذلك أمواجه، و كلّما وصل موج من جانب من الجوانب اليه يرتدع و يرجع ثمّ إنّ هذه الوجوه إنما تبدى جريا على قواعد الطبيعيّين و خيالاتهم الواهية و إلّا فبعد ما ذكره عليه السّلام لا حاجة لنا الى إبداء وجه، بل يمكن أن يكون لخلق الأرض و كبسها في الماء نوع آخر من التأثير في سكونه لا تحيط به عقولنا الضعيفة كما قال عليه السّلام: (و سكنت الأرض) حال كونها (مدحوّة) مبسوطة (فى لجّة تياره)

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 12
أى أعمق موجه و معظمه (و ردّت الماء من نخوة بأوه و اعتلائه) أى فخره و ترفعه (و شموخ انفه و سمّو غلوائه) أى تكبّره و علوّ غلوّه و هذه كلّها استعارات للماء في هيجانه و اضطرابه بملاحظة مشابهته بالانسان المتجبّر المتكبّر التياه في حركاته و أفعاله و الغرض بيان سكون الأرض في الماء المتلاطم و منعها إيّاه من تموّجه و هيجانه (و كعمته على كظّة جريته) و المراد بكظّة الجرية ما يشاهد من الماء الكثير في جريانه من الثقل نحو ما يعتري المملي من الطعام، أو أراد به شدّة جريانه و طول ملازمته له، أو التعب العارض له من الجريان على سبيل الاستعارة تشبيها له بالانسان المتعب من كثرة المزاولة لفعل (فهمد بعد نزقاته) أراد به سكونه بعد و ثباته و (لبد بعد زيفان و ثباته) أى أقام بعد تبختره في طفراته (فلما سكن هيج الماء من تحت أكنافها) يعنى أطراف الأرض و جوانبها (و حمل شواهق الجبال البذخ على اكتافها) استعار عليه السّلام لفظ الاكتاف للأرض لكونها محلا لحمل ما يثقل من الجبال كما أنّ كتف الانسان و غيره من الحيوان محلّ، لحمل الأثقال (فجر ينابيع العيون) لعله عليه السّلام اعتبر في الينبوع الجريان بالفعل فيكون من قبيل اضافة الخاص الى العام، أو التكرير للمبالغة، و إن كان الينبوع بمعنى الجدول الكثير الماء على ما مرّ فهو مستغن عن التكلّف و قوله: (من عرانين انوفها) من باب الاستعارة تشبيها للجبال بالانسان و لأعاليها و رؤوسها بعرنينه و أنفه، و انما خصّ الجبال بتفجّر العيون فيها لأنّ العيون اكثر ما يتفجّر من الجبال و الأماكن المرتفعة و أثر القدرة فيها أظهر و نفعها أتمّ (و فرقها) أى الينابيع (فى سهوب بيدها و أخاديدها) المراد بالأخاديد مجارى الأنهار (و عدل حركاتها بالراسيات من جلاميدها) قال المحدّث المجلسيّ «قد» لعلّ تعديل الحركات بالراسيات أى الجبال الثابتات جعلها عذيلا للحركات بحيث لا تغلبه أسباب الحركة فيستفاد سكونها فالباء صلة

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 13
لا سببية، أو المعنى سوّى الحركات في الجهات أى جعل الميول متساوية بالجبال فسكنت لعدم المرجّح فالباء سببية، و يحتمل أن يكون المراد أنه جعلها بالجبال بحيث قد تتحرّك بالزلازل و قد لا تتحرّك و لم يجعل الحركة غالبة على السّكون مع احتمال كونها دائما متحرّكة بحركة ضعيفة غير محسوسة، و من ذهب الى استناد الحركة السريعة الى الأرض لا يحتاج إلى تكلّف و كيف كان فالمعنى أنه سبحانه عدل حركات الأرض بالجبال الثابته من صخورها و ب (ذوات الشناخيب الشمّ من صياخيدها) أى بصاحبات الرءوس المرتفعة من صخورها الصلبة (فسكنت) الأرض (من الميدان) و الاضطراب (برسوب الجبال فى قطع اديمها) أى دخولها في قطعات وجه الأرض و أعماقها (و تغلغلها متسربة في جوبات خياشيمها) أى دخولها حال كونها نافذة فى حفرات انوف الأرض و فرجاتها (و ركوبها أعناق سهول الأرضين و جراثيمها) استعار لفظ الركوب للجبال و الأعناق للأرضين كناية عن الحاقهما بالقاهر و المقهور و ذكر السّهول ترشيح، و لعلّ المراد بجراثيمها المواضع المرتفعة منها و مفاد هذه الفقرات أنّ الأرض كانت متحرّكة مضطربة قبل خلق الجبال فسكنت بها، و ظاهره أنّ لنفوذ الجبال فى أعماق الأرض و ظهورها و ارتفاعها عن الأرض كليهما مدخلا في سكونها و قد مرّ الكلام فى ذلك في شرح الفصل الثالث من فصول الخطبة الاولى فتذكر (و فسح بين الجوّ و بينها) لعلّ في الكلام تقدير مضاف أى وسّع بين منتهى الجوّ و بينها، أو المراد بالجوّ منتهاه إى السّطح المقعر للسماء (و أعدّ الهواء متنسّما لساكنها) أى جعل الهواء محلّا لطلب النسيم و استنشاقه و فائدته ترويح القلب حتّى لا يتأذّى بغلبة الحرارة (و أخرج اليها أهلها على تمام مرافقها) و المراد به ايجادهم و إسكانهم فيها بعد تهيئة ما يصلحهم لمعاشهم و التزوّد لمعادهم (ثمّ لم يدع) سبحانه و تعالى (جرز الأرض التي) لا نبات بها و لا ماء من حيث إنها (تقصر مياه العيون عن) سقى (روابيها) و مرتفعاتها (و لا تجدجد اول الأنهار ذريعة)

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 14
و وسيلة (الى بلوغها) و الوصول إليها (حتى أنشألها ناشئة سحاب تحيى مواتها) من باب المجاز في الاسناد (و) كذلك (تستخرج نباتها) لأنّ المحيى و المخرج هو اللّه سبحانه و السحاب سبب قال اللّه تعالى: وَ اللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ.
و قال: وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْ‏ءٍ.
(الف) تعالى (غمامها) الضمير راجع إلى الأرض كساير الضمائر و الاضافة لأدنى ملابسة و المراد أنه سبحانه ركب السحاب المعدّة لسقيها (بعد افتراق لمعه و تباين قزعه) أى بعد ما كانت أجزائها اللّامعة متفرّقة و قطعاتها متباينة متباعدة (حتى اذا تمخضت لجّة المزن فيه) الضمير راجع الى المزن أى حتى اذا تحرّكت اللجّة أى معظم الماء المستودع في الغيم و استعدّت للنّزول (و التمع برقه في كففه) أى أضاء البرق في جوانبه و حواشيه (و لم ينم و ميضه) أى لم ينقطع لمعان البرق (في كنهور ربابه) أى فى القطع العظيمة من سحابه البيض (و متراكم سحابه) أى المجتمع الذى ركب بعضه بعضا (أرسله) اللّه سبحانه (سحّامتدار كا) أى حالكونه يصبّ الماء صبّا متلاحقا (قد أسفّ هيدبه) و دنا من الأرض ما تدلّى منه حالكونه (تمريه الجنوب درر أهاضيبه) أى تستخرج منه الجنوب أمطاره المنصبّة، و الجنوب ريح مهبها من مطلع سهيل إلى مطلع الثريّا، و هى أدرّ للمطر و لذا خصّها بالذكر و قوله عليه السّلام (و دفع شآبيبه) أراد به الدّفعات من المطر المنزلة بشدّة و قوّة (فلما ألقت السحاب برك بوانيها) استعار عليه السّلام لفظ البرك و البوان للسحاب و اسند إليه الالقاء تشبيها لها بالجمل الذى أثقله الحمل فرمى بصدره الأرض، أو بالخيمة التي جرّ عمودها على اختلاف التفسرين المتقدّمين (و بعاع ما استقلّت به من العب‏ء

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 15
المحمول عليها) أى ثقل ما ارتفعت به من الحمل المحمول عليها يعنى المطر (أخرج) سبحانه (به) أى بذلك العب‏ء (من هو امد الأرض) التي لا حياة بها و لا عود (النبات) كما قال تعالى: وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ.
(و من زعر الجبال) أى المواضع القليلة النّبات منها (الأعشاب) و الرّطب من الكلا (فهى) أى الأرض (تبهج) و تفرح (بزينة رياضها) و مستنقع مياهها (و تزدهى) و تفتخر (بما البسته من ريط أزاهيرها) أى بأشجار البست الأرض إيّاها لباس انوارها و على ما فى بعض النسخ من كون البسته بصيغة المجهول فالمعنى أنّ الأرض تفتخر بما اكتسبت به من النبات و الأزهار و الأنوار فيكون لفظة من على هذا بيانا لما كما أنها على الأوّل صلة لألبسته، و الثاني أظهر (و) تتكبّر ب (حلية ما سمّطت) و علّقت (به من ناضر أنوارها) أى أنوارها المتصفة بالنضرة و الحسن و الطراوة (و جعل) اللّه سبحانه (ذلك) أى ما انبت من الأرض (بلاغا للأنام) يبتلغون به و يتوسلون إلى مقاصدهم و مطالبهم (و رزقا للأنعام) تأكل منه و ترعى عند جوعها و حاجتها قال تعالى: وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ.
(و خرق الفجاج فى آفاقها) أى خلق الطرق على الهيئة المخصوصة بين الجبال فى نواحى الأرض و أطرافها قال سبحانه: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَ جَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ و قال: وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً.

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 16

(و أقام المنار للسالكين فى جواد طرقها) و المراد بالمنار العلامات التي يهتدى بها السالكون من الجبال و التلال أو النجوم، و الأول أظهر بملاحظة المقام و اعلم أنّ هذا الفصل لمّا كان متضمّنا لبعض ما في عالم العناصر من دلائل القدرة و بدائع الحكمة و عجائب الصنعة و ما أودع اللّه سبحانه فيه من المنافع العامة و الفوائد التّامة لا جرم أحببت تذييل المقام بهدايات فيها دراية على مقتضى الترتيب الذّكري الّذي جرى عليه هذا الفصل فأقول: و باللّه التكلان و هو المستعان
الهداية الاولى فى دلايل القدرة في الأرض
و المنافع المعدّة فيها للخلق و هى كثيرة لا تحصى لكنّا نقتصر على البعض بما ورد فى الكتاب و أفاده أولو الألباب فمنها أنه سبحانه جعلها مدحوّة على الماء و بارزة منه مع اقتضاء طبعها الغوص فيه و إحاطة البحار بها، و ذلك لحكمة الافتراش و أن يكون بساطا للنّاس كما قال تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَ السَّماءَ بِناءً و قال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً و قال: اللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً.
فلو كانت غائصة فى الماء لبطل تلك الحكمة فأخرج سبحانه بعض جوانبها من الماء كالجزيرة البارزة حتى صلحت لأن تكون فراشا و مهادا و منها- كونها ساكنة فى حيزها الطبيعى و هو وسط الأفلاك لأنّ الأثقال بالطبع تميل إلى تحت كما أنّ الخفاف بالطبع تميل إلى فوق، و الفوق من جميع الجوانب مايلي السماء و التحت مايلي المركز، فكما أنه يستبعد حركة الارض فيما بيننا إلى جهة السماء فكذلك يستبعد هبوطها في مقابلة ذلك لأنّ ذلك الهبوط صعود أيضا إلى السماء فاذن لاحاجة فى سكون الأرض و قرارها إلى علاقة من فوقها

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 17
و لا دعامة من تحتها، بل يكفي في ذلك ما أعطاها فالقها، و ركز فيها من الميل الطبيعى إلى الوسط الحقيقى بقدرته إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَ لَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ.
و منها- توسّطها فى الصلابة و اللّين: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَناكِبِها.
اذ لو كانت في غاية الصلابة كالحجر لكان المشى و النوم عليها ممّا يولم البدن و لتعذرت الزراعة عليها و لا متنع إجراء الأنهار و حفر الآبار فيها و لم يمكن اتخاذ الأبنية و الآنية منها لتعذّر تركيبها، و لو كانت فى غاية اللين بحيث تغوص فيه الرّجل كالماء لا متنع الاستقرار و الافتراش و النوم و المشى و استحال الزرع و الحرث و منها أنه جعل لونها الغبراء لتكون قابلة للانارة و الضياء إذ ما كان فى غاية اللّطافة و الشفّافية لا يستقرّ النور عليه، و ما كان كذلك فانه لا يتسخّن بالشمس فكان يبرد جدّا و لا يمكن جواره، هكذا قال الرازى و صدر المتألهين. و الأولى ما فى شرح البحرانى «قد» من أنها لو كانت مخلوقة في غاية الشفافية و اللطافة فامّا أن تكون مع ذلك جسما سيّالا كالهواء لم يتمكن من الاستقرار عليه، أو يكون جسما ثابتا صقيلا براقا احترق الحيوان و ما عليها بسبب انعكاس أشعة الشمس عليها كما يحرق القطن إذا قرب من المرايا المحاذية للشّمس و البلور، لكنها خلقها غبراء ليستقرّ النّور على وجهها فيحصل فيها نوع من السخونة، و خلقها كثيفة لئلّا تنعكس الأشعة منها على ما فيها فتحرقه، فصارت معتدلة في الحرّ و البرد تصلح أن تكون فراشا و مسكنا للحيوان و منها كونها يتولّد منها النبات و الحيوان و المعادن وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مَوْزُونٍ.

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 18
و منها أن يتخمّر الرّطب بها فيحصل التماسك في أبدان المركبات و منها اختلاف بقاعها فمنها أرض رخوة و صلبة و رملة و سبخة و عذبة و حزنة و سهلة، و قال تعالى وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ.
و منها اختلاف ألوانها فأحمر و أبيض و أسود و رمادي اللّون و أغبر، قال سبحانه وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَ غَرابِيبُ سُودٌ و منها انصداعها بالنبات وَ الْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ و منها كونها خازنة للماء المنزّل من السماء وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّا عَلى‏ ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ.
و منها إجراء العيون و الأنهار فيها أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَ جَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً.
و منها أنّ لها طبع السماحة و الجود تدفع إليها حبّة واحدة و هي تردّها عليك سبعمائة كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ.
و منها موتها في الشّتآء و حياتها فى الرّبيع فَسُقْناهُ إِلى‏ بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ.

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 19
و منها انبثات الدّواب المختلفة فيها وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى‏ بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى‏ رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى‏ أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما.
و منها كونها مبدء الخلايق و منشأها مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى‏.
و جعل ظهرها مقرّ الأحيا و بطنها موطن الأموات أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً أَحْياءً وَ أَمْواتاً.
و منها ما فيها من النباتات المختلفة الألوان و الأنواع و المنافع وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ.
فبعضها للانسان و بعضها للحيوان كُلُوا وَ ارْعَوْا أَنْعامَكُمْ.
و ما للانسان بعضها طعام و بعضها إدام و بعضها فواكه و بعضها دواء و بعضها لباس كالقطن و الكتان و منها ما فيها من الأحجار المختلفة، فبعضها للزينة كالدّرّ و الياقوت و العقيق و نحوها، و بعضها للحاجة كما تستخرج منه النّار، فانظر الى قلّة الأوّل و كثرة الثاني، ثمّ انظر إلى قلّة المنفعة بذلك الخطير و كثرة المنفعة بذلك الحقير إلى غير ذلك من آثار القدرة و دلائل الصنع و العظمة و العجائب و الغرائب التي يعجز عن إدراك معشارها عقول البشر، و يحتار فى البلوغ إليها الأذهان و الفكر
الثانية في انفجار الينابيع و العيون من الأرض
المشار إليه بقوله عليه السّلام: فجر

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 20
ينابيع الأرض من عرانين انوفها، فأقول: ظاهر قوله سبحانه: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ و قوله: أَ فَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ.
هو كون ماء العيون و الأنهار هو الماء المنزل من السحاب، و به صرّح جمع من الأصحاب فى باب طهورية الماء بقول مطلق بعد الاستدلال عليها بقوله سبحانه: وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً.
و يدلّ عليه ما رواه علىّ بن إبراهيم فى تفسيره قال فى رواية أبى الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ.
فهي الأنهار و العيون و الآبار، و محصّل ذلك أنّ القادر المختار أنزل بقدرته الكاملة و حكمته البالغة من السّماء ماء فأسكنه فى الأرض و أخرج منه فى العيون و الآبار و القنى و الأنهار ما اقتضاه الحكمة و التدبير فى بقاء نوع الانسان و الحيوان و إصلاح النّباتات و الزراعات و غير ذلك من وجوه الحاجات، و إليه ذهب أبو البركات البغدادى حيث قال: إنّ هذه المياه متولّدة من أجزاء مائية متولّدة من أجزاء متفرّقة في ثقب أعماق الأرض و منافذها إذا اجتمعت، و يدلّ عليه أنّ مياه العيون و الأنهار تزيد بزيادة الثلوج و الأمطار و قالت الحكماء: إنّ البخار إذا احتبس في داخل من الأرض لما فيها من ثقب و فرج يميل إلى جهة فيبرد بها فينقلب مياها مختلطة بأجزاء بخارية، فاذا كثر لوصول مدد متدافع إليه بحيث لا تسعه الأرض أوجب انشقاق الأرض و انفجرت منه العيون.

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 21
أمّا الجارية على الولاء فهى إما لدفع تاليها سابقها أولا نجذابه إليه لضرورة عدم الخلاء بأن يكون البخار الذي انقلب ماء و فاض إلى وجه الأرض ينجذب إلى مكانه ما يقوم مقامه لئلّا يكون خلاء فينقلب هو أيضا ماء و يفيض، و هكذا استتبع كلّ جزء منه جزء آخر و أما العيون الرّاكدة فهي حادثة من أبخرة لم تبلغ من قوّتها و كثرة موادّها أن يحصل منها معاونة شديدة أو يدفع اللّاحق السابق و أما مياه القنى و الآبار فهى متولّدة من أبخرة ناقصة القوّة عن أن يشقّ الأرض، فاذا ازيل ثقل الأرض عن وجهها صادفت منفذا تندفع إليه بأدنى حركة فان لم يجعل هناك مسيل فهو البئر، و إن جعل فهو القناة، و نسبة القنا إلى الآبار كنسبة العيون السيالة إلى الراكدة، و إنما كثر تفجّر العيون فى الجبال و الأماكن المرتفعة لشدّة احتقان الأبخرة تحتها بالنسبة إلى ساير الأماكن الهابطة الرّخوة، فانّ الأرض إذا كانت رخوة نفضت «نفذت خ ل» فلا يكاد يجتمع منه قدر ما يعتدّ به و قال الشيخ: هذه الأبخرة إذا انبعث عيونا أمدّت البحار بصبّ الأنهار إليها ثمّ ارتفع من البحار و البطائح و الأنهار و بطون الجبال خاصة أبخرة اخرى، ثمّ قطرت ثانيا إليها فقامت بدل ما يتحلّل منها على الدّور دائما
الثالثة
في حكمة خلق الهواء المشار إليها بقوله: و أعدّا لهواء متنسما لساكنها، فأقول: فيه نفع عظيم للانسان و الحيوان، لأنّه من ضروريّات العيش لأنها مادّة النفس الذى لو انقطع ساعة عن الحيوان لمات، و قيل هنا: إنّ كلّ ما كانت الحاجة إليه أشدّ كان وجدانه أسهل و لمّا كان احتياج الانسان إلى الهواء أعظم الحاجات حتّى لو انقطع عنه لحظة لمات لا جرم كان وجدانه أسهل من وجدان كلّ شي‏ء، و بعد الهواء الماء، فانّ الحاجة إليه أيضا شديدة فلا جرم سهل أيضا وجدان الماء، و لكن وجدان الهواء أسهل لأنّ الماء لا بدّ فيه من تكلّف الاغتراف بخلاف الهواء

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 22
فانّ الآلات المهيّاة لجذبه حاضرة أبدا ثمّ بعد الماء الحاجة إلى الطعام شديدة و لكن دون الحاجة إلى الماء فلا جرم كان تحصيل الطعام أصعب من تحصيل الماء و بعد الطعام الحاجة إلى تحصيل المعاجين و الادوية النّادرة قليلة فلا جرم عزّت هذه الأشياء، و بعد المعاجين الحاجة إلى أنواع الجواهر من الياقوت و الزبرجد نادرة جدّا فلا جرم كانت فى نهاية العزّة، فثبت أنّ كلّ ما كان الاحتياج إليه أشدّ كان وجدانه أسهل و كلّ ما كان الحاجة إليه أقلّ كان وجدانه أصعب، و ما ذاك إلّا رحمة منه سبحانه على العباد قال الشاعر:
سبحان من خصّ القليل بعزّة و النّاس مستغنون عن أجناسه‏
و أذّل أنفاس الهواء و كلّ ذى‏
نفس لمحتاج الى انفاسه‏

الرابعة في دلايل القدرة و براهين الجلال و الجبروت
في خلق السّحاب و المطر و البرد و الثلج و الرّعد و البرق و الصواعق قال تعالى: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَ الْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَ يُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَ هُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَ هُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ.
قال الرازيّ: في كونها خوفا و طمعا وجوه الاول عند لمعان البرق يخاف وقوع الصّواعق و يطمع في نزول الغيث الثاني أنه يخاف من المطر من له فيه ضرر كالمسافر و كمن في خزينته التمر و الزبيب و يطمع فيه من له نفع الثالث أنّ كلّ شي‏ء يحصل فى الدنيا فهو خير بالنسبة إلى قوم و شرّ بالنسبة إلى آخر فكذلك المطر خير في حقّ من يحتاج في أوانه و شرّ في حقّ من يضرّه ذلك إما بحسب المكان أو بحسب الزّمان ثمّ اعلم أنّ حدوث البرق دليل عجيب على قدرة اللّه سبحانه و بيانه أنّ السحاب‏

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 23
لا شك أنه جسم مركب من أجزاء مائية و أجزاء هوائية «نارية ظ» و لا شكّ أنّ الغالب عليه الاجزاء المائية و الماء جسم بارد رطب و النّار جسم حارّ يابس، فظهور الضّد من الضدّ التام على خلاف العقل فلا بدّ من صانع مختار يظهر الضدّ من الضدّ فان قيل: لم لا يجوز أن يقال: إنّ الرّيح احتقن في داخل جرم السحاب و استولى البرد على ظاهره فانجمد السطح الظاهر منه، ثمّ إنّ ذلك الرّيح يمزقه تمزيقا عنيفا فيتولّد من ذلك التمزيق الشّديد حركة عنيفة و الحركة العنيفة موجبة للسخونة و هي البرق فالجواب أنّ كلّ ما ذكرتموه خلاف المعقول من وجوه: الأوّل أنه لو كان الأمر كذلك لوجب أن يقال أينما حصل البرق فلا بدّ و أن يحصل الرعد و هو الصوت الحاصل من تمزّق السحاب و معلوم أنه ليس الأمر كذلك فانه كثيرا ما يحدث البرق القوى من غير حدوث الرعد الثّانى أنّ السخونة الحاصلة بسبب قوّة الحركة مقابلة بالطبيعة المائية الموجبة للبرد، و عند حصول هذا المعارض القوى كيف تحدث النّارية بل نقول: النيران العظيمة ينتفي لصبّ الماء عليها و السّحاب كلّه ماء فكيف يمكن أن يحدث فيه شعلة ضعيفة نارية الثالث من مذهبكم أنّ النار الصرفة لا لون لها البتة فهب أنه حصلت النارية بسبب قوّة المحاكة الحاصلة في أجزاء السحاب، لكن من أين حدث ذلك اللّون الأحمر، فثبت أنّ السبب الذي ذكروه ضعيف و أنّ حدوث النّار الحاصلة فى جرم السحاب مع كونه ماء خالصا لا يمكن إلّا بقدرة القادر الحكيم و قال في قوله: و ينشى‏ء السحاب الثقال: السحاب اسم الجنس و الواحدة سحابة، و الثقال جمع ثقيلة أى الثقال بالماء و اعلم أنّ هذا أيضا من دلائل القدرة و العظمة، و ذلك لأنّ هذه الأجزاء المائية إمّا يقال إنّها حدثت في جوّ الهواء أو يقال إنها تصاعدت من وجه الأرض فان كان الأول وجب أن يكون حدوثها باحداث محدث حكيم قادر و هو المطلوب

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 24
و إن كان الثاني و هو أن يقال إنّ تلك الأجزاء تصاعدت من الأرض فلمّا وصلت إلى الطبقة الباردة من الهواء بردت فثقلت و رجعت إلى الأرض فنقول: هذا باطل، و ذلك لأنّ الأمطار مختلفة، فتارة تكون القطرات كبيرة، و تارة صغيرة، و تارة تكون متقاربة، و اخرى تكون متباعدة، و تارة تدوم مدّة نزول المطر زمانا طويلا، و تارة قليلا، فاختلاف الأمطار في هذه الصفات مع أنّ طبيعة الأرض واحدة و طبيعة الأشعّة المسخنة للبخارات واحدة لا بدّ و أن يكون بتخصيص الفاعل المختار و أيضا فالتجربة دلّت على أنّ للدّعاء و التضرّع في نزول الغيث أثرا عظيما و لذلك شرعت صلاة الاستسقاء فعلمنا أنّ المؤثّر فيه قدرة الفاعل لا الطبيعة الخاصة و في الصافي في قوله: وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ، روى عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه سئل عن الرعد فقال: ملك موكّل بالسحاب معه مخاريق من النّار يسوق بها السحاب و فى الفقيه روى أنّ الرّعد صوت ملك أكبر من الذباب و أصغر من الزنبور و فيه عن الصادق عليه السّلام أنّه بمنزلة الرجل يكون فى الابل فيزجرها هاى هاى كهيئة ذلك و قوله وَ الْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ من خوفه و اجلاله وَ يُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ من عباده فيهلكه وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَ.
حيث يكذبون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيما يصفه تعالى من التفرّد بالالوهيّة وَ هُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ.
أى المماحلة و المكايدة لأعدائه و قيل: من المحل أى شديد القوّة و قال عليّ بن إبراهيم القمّي أى شديد الغضب هذا و قال الرّازي في تفسير قوله سبحانه: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ‏
منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 25

مِنْ خِلالِهِ: قال أهل الطبايع: إنّ تكوّن السحاب و المطر و الثلج و البرد و الطلّ و الصقيع فى أكثر الأمر يكون من تكاثف البخار، و فى الأقلّ من تكاثف الهواء، أمّا الأول فالبخار الصّاعد أن كان قليلا و كان في الهواء، من الحرارة ما يحلّل ذلك البخار فحينئذ ينحلّ و ينقلب هواء، و أمّا إن كان البخار كثيرا و لم يكن فى الهواء من الحرارة ما يحلّله فتلك الأبخرة المتصاعدة إمّا أن يبلغ في صعودها إلى الطبقة الباردة من الهواء أولا تبلغ، فان بلغت فامّا أن يكون البرد قويّا أو لا يكون، فان لم يكن البرد هناك قويا تكاثف ذلك البخار بذلك القدر من البرد و اجتمع و تقاطر فالبخار المجتمع هو السحاب، و المتقاطر هو المطر و الديمة، و الوابل إنما يكون من أمثال هذه الغيوم و أمّا إن كان البرد شديدا فلا يخلو إمّا أن يصل البرد إلى الأجزاء البخارية قبل اجتماعها و انحلالها حبّات كبارا، أو بعد صيرورتها كذلك، فان كان على الوجه الأوّل نزل ثلجا، و إن كان على الوجه الثاني نزل بردا و أمّا إذا لم تبلغ الأبخرة إلى الطبقة فهي إمّا أن تكون قليلة أو تكون كثيرة، فان كانت كثيرة فهي تنعقد سحابا ماطرا و قد لا تنعقد، أمّا الأوّل فذاك لأحد أسباب خمسة أولها إذا منع هبوب الرّياح عن تصاعد تلك الأبخرة و ثانيها أن تكون الرّياح ضاغطة لها إلى اجتماع بسبب وقوف جبال قدام الرّيح و ثالثها أن تكون هناك رياح متقابلة متضادّة فتمتنع صعود الأبخرة حينئذ و رابعها أن يعرض للجزء المتقدم وقوف لثقله و بطوء حركته ثمّ تلتصق به سائر الأجزاء الكثيرة المدد و خامسها لشدّة برد الهواء القريب من الأرض فقد يشاهد البخار يصعد في بعض الجبال صعودا يسيرا حتى كأنّه مكبة موضوعة على و هدة و يكون الناظر إليها فوق تلك الغمامة و الذين يكونون تحت الغمامة يمطرون و الذين يكونون فوقها يكونون في الشمس أمّا إذا كانت الأبخرة القليلة الارتفاع قليلة لطيفة فاذا ضربها برد الليل‏

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 26
كثفها و عقدها ماء يكون محسوسا و نزل نزولا متفرّقا لا يحسّ به إلّا عند اجتماع شي‏ء يعتدّ به، فان لم يجمد كان طلّا، و إن جمد كان صقيعا و نسبة الصقيع إلى الطلّ نسبة الثلج إلى المطر و امّا أن تكون السحاب من انقباض الهواء و ذلك عند ما يبرد الهواء و ينقبض و حينئذ تحصل منه الأقسام المذكورة و الجواب انّا لما دللنا على حدوث الأجسام و توسّلنا بذلك إلى كونه قادرا مختارا يمكنه ايجاد الاجسام لم يمكنا القطع بما ذكرتموه، لاحتمال أنّه سبحانه خلق أجزاء السحاب دفعة لا بالطريق الذى ذكرتموه، و أيضا فهب أنّ الأمر كما ذكرتم و لكن الأجسام بالاتفاق ممكنة في ذواتها فلا بدّ لها من مؤثر، ثمّ إنّها متماثلة فاختصاص كلّ واحد منها بصفة معينّة من الصعود و الهبوط و اللّطافة و الكثافة و الحرارة و البرودة لا بدّ له من مخصّص، فاذا كان هو سبحانه خالقا لتلك الطبايع و تلك الطبايع مؤثّرة في هذه الأحوال و خالق السّبب و خالق المسبّب فكان سبحانه: هو الذي يزجى سحابا، لأنّه هو الذي خلق تلك الطبايع المحركة لتلك الأبخرة من باطن الأرض إلى جوّ الهواء، ثمّ إنّ تلك الأبخرة إذا ترادفت في صعودها و التصق بعضها بالبعض فهو سبحانه هو الذي: جعلها ركاما، فثبت على جميع التقريرات أنّ وجه الاستدلال بهذه الأشياء على القدرة و الحكمة ظاهر بيّن انتهى و تحقيق المقام هو ما ذكره بما لا مزيد عليه و أقول: دلائل القدرة في خلق السحاب مضافا إلى ما ذكره هو أنّ الماء بطبعه ثقيل يقتضي النزول فبقاؤه في الجوّ خلاف الطبع، و لذلك إذا انفصل منه قطرة نزلت دفعة فلا بدّ من قادر قاهر يمسكه في الجوّ على ثقله بقهره و قدرته و أيضا، لو دام السحاب لعظم ضرره حيث يسترضوء الشمس و تكثر الأمطار و تبتلّ المركبات فتفسد، و لو انقطع لعظم ضرره لافضائه الى القحط فيهلك المواشى و الانسان، فكان تقديره بالمقدار المعلوم مقتضى الحكمة و المصلحة

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 27
و أيضا ترى السّحاب يرشي الماء على الأرض و يرسله قطرات متفاضلة لا يدرك قطرة منها قطرة و لا يعلم عددها إلّا الذي أوجدها، ثمّ إنّ كلّ قطرة منها عيّنت لجزء من الأرض و لحيوان معيّن فيها من طيرو وحش و دود مكتوب عليها بخطّ غيبيّ غير محسوس أنه رزق الحيوان الفلاني في الموضع الفلاني في الوقت الفلاني هذا، مع ما في انعقاد البرد الصّلب من الماء اللّطيف و فى تناثر الثلوج كالقطن المندوف من العجائب التي لا تحصى، كلّ ذلك عناية من اللّه سبحانه و رحمة منه على العباد، و فيها هداية لمن استهدى و دراية لمن ابتغى الرشاد
الخامسة في دلايل القدرة و العظمة في إنبات النبات و الأشجار
قال سبحانه: وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ و قال وَ نَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَ حَبَّ الْحَصِيدِ، وَ النَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ، رِزْقاً لِلْعِبادِ وَ أَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ.
و دلايل القدرة في ذلك من وجوه: الأوّل أنّ الماء ثقيل بطبعه كما قلنا سابقا إنّه إذا انفصل قطرة منه من المزن تنزل إلى الأرض و لا تبقى في الجوّ بمقتضى طبعه فانظر الى قدرته تعالى كيف رقا الماء المصبوب في أسفل الأشجار مع هذا الطبع و الثقل إلى أعالى أغصانها، فهوى الى سفل ثمّ ارتفع إلى فوق فى داخل تجاويف الأشجار شيئا فشيئا بحيث ينتشر فى جميع الأوراق فغذاء كلّ جزء من كلّ ورقة تجرى إليه في تجاويف العروق، ففى كلّ ورقة عرق ممتد طولا و ينشعب منه عروق صغار كثيرة عرضا و طولا، فكان الكبير نهل و ما انشعب عنها جداول، ثمّ ينشعب من الجداول سواقي أصغر منها ثمّ ينتشر منها

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 28
خيوط عنكبوت دقيقة خارجة عن ادراك البصر حتى تنبسط فى جميع عرض الورق فيصل الماء فى أجوافها إلى ساير أجزاء الورق لتسقيها و تغذيها بمنزلة العروق المبثوثة في بدن الانسان و الحيوان لتوصل الغذاء إلى كلّ جزء منه و كذلك إلى ساير أجزاء الفواكه، فانّ الماء المتحرّك بطبعه إلى سفل كيف انجذب الى فوق من غير حامل أو قاسر، فعلم أنّ له جاذبا آخر و مجرّكا خارجا عن الحسّ ليسخّره و يدبّره و ينتهى بالأخرة إلى مدبّر السماوات و الأرض جلّت عظمته و تعالى شأنه.
الثاني أنّ أصناف النبات و الأشجار لما كانت محتاجة إلى الغذاء الدائم في بقاء نضرته و طراوته كحاجة الحيوان إلى الغذاء و لم يكن لها أفواه كأفواه الحيوان جعل لها أصول مركوزة في الأرض لتنزع منها الغذا فتؤدّيه اليها فصارت الأرض كالأمّ المرّبية و صارت اصولها كالأفواه الملتقمة للأرض، و أيضا لو لا تلك الأصول لما انتصب تلك الأشجار الطّوال العظام و لم يكن لها ثبات و دوام في الريح العاصف، فهي لها بمنزلة عمد الفساطيط و الخيم تمدّ بالأطناب من كلّ جانب لتثبت منتصبة فلا تسقط و لا تميل، ثمّ انظر إلى هذه العروق الصغار المنشعبة من الأصول المركوزة و أنها على دقّتها و ضعفها كيف تجرى فى أعماق الأرض و تسير فيها على صلبها عرضا و طولا الثالث إخراج أنواع مختلفه من النّبات و أصناف متشتّة من الأشجار من حبّ و عنب و قضب و زيتون و نخل و رمّان و فواكه كثيرة مختلفة الأشكال و الألوان و الطعوم و الروايح يفضل بعضها على بعض في الاكل مع أنّها جميعا يسقى بماء واحد و يخرج من أرض واحدة فان قلت: سبب اختلافها بذورها و حبوبها قلنا: هل يكفى ذلك في ترتّب هذه الآثار فانّ الحبوب على اختلافها متشابهة فى الصورة و الجوهر فكيف يصير بهذا الاختلاف موجبة لهذه الأنواع المتباعدة المتباينة في الصور الجوهرية و الكيفيّات و الخاصيّة، فهل كان في النواة نخلة مطوّقة بعنا قيد الرطب‏

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 29

سلّمنا أنّ اختلافها من المرجّحات لكن نسوق الكلام إلى موجد هذه الاختلافات و فاعلها، فانظر إلى اختلاف طبايع النبات و خواصها و منافعها فهذا يغذي و هذا يقوي، و هذا يقتل و هذا يحيي و هذا داء و هذا دواء و هذا يسخّن و هذا يبرّد، و هذا يسهل الصّفرا و هذا يولد السّوداء، و هذا يقمع البلغم و هذا يولده، و هذا يستحيل دما و هذا يطفيه، و هذا يسكر و هذا ينوم، و هذا يفرّح و هذا يضعف، إلى غير هذا ممّا لو أردنا استقصاء العجايب المودعة فيها انقضت الأيام و مع ذلك فالحكم الباطنة و المصالح الكامنة فيها أكثر جدّا مما وصلت اليه عقولنا القاصرة، فهذه هي دلائل القدرة و علامات العظمة و آثار الصنع و الحكمة في الأشياء المذكورة نبّهنا عليها على وجه الاختصار إذ الاستقصاء فيها خارج عن الطّوع و الاختيار، فسبحان من أقام الحجّة على مخلوقاته بما أراهم من بدايع آياته و جعلها تذكرة لاولى الألباب، و هو أعلم بالصواب
الترجمة
بعض ديگر از اين خطبه در صفت زمين و گسترانيدن او است بر روى آب مى‏فرمايد: فرو برد حضرت بارى تعالى زمين را بر بالاى موجهاى با شدّت و صولت و بر روى لجّه‏هاى درياهاى پر شدّت بر آمده در حالتى كه مى‏زدند موجهاى با شدّت آنها بعضى بعضى را و ردّ مى‏كردند يكديگر را دفع كننده‏هاى موجهاى بزرگ و بلند آنها، و مى‏انداختند كف را مانند شتران نر در وقت هيجان آنها، پس فروتنى نمود سركشى آب موج زننده و ردّ كننده يكديگر بجهة سنگينى باران زمين و ساكن گرديد هيجان مدافعه آن وقتى كه در نور ديد زمين آن آب را بسينه خود، و خوار شد آب در حالتى كه خاضع و فروتن بود وقتى كه غلطيد زمين بر او بدوشهاى خود مانند غلطيدن حيوان در خاك پس گرديد آب بعد از اضطراب و شدّة موجهاى او ساكن و ذليل و در حلقه‏

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 30
آهنين لجام ذلت گردن نهاده و گرفتار، و ساكن شد زمين در حالتى كه گسترانيده شده بود در ميان موج عميق آن آب، و باز گردانيد آبرا از نخوت فخر و بلندى آن و از پر بادى دماغ آن و بلندى از اندازه گذشتن آن، و ببست آبرا بر پرى روان شدن آن، پس ساكن شد آب بعد از سبكى و جهيدنهاى خود، و ايستاد بعد از تبختر كردن در جستنهاى خود، پس چون ساكن گرديد هيجان آب از زير أطراف زمين و بار فرمود حق تعالى كوههاى بلند بالا را بر دوشهاى زمين، روان گردانيد چشمهاى آبرا از بالاى بينيهاى زمين، و پراكنده ساخت آن چشمها را در بيابانهاى گشاده آن و مجارى نهرهاى آن، و تعديل فرمود حركتهاى زمين را بكوههاى ثابت شونده از سنگهاى آن، و بكوههائى كه صاحب سرهاى بلندند از سختيهاى سنگهاى آن پس ساكن شد زمين از اضطراب بجهة فرو رفتن كوهها در قطعهاى سطح آن، و بسبب در آمدن كوهها در عمق زمين در حالتى كه در آمده‏اند در خانهاى اندرون بينيهاى زمين بواسطه سوار شدن كوهها بر گردنهاى زمينهاى هموار و بر بلنديهاى آن، و فراخ كرد حق تعالى ميان هوا و ميان زمين را و مهيّا فرمود هوا را محل تنفس كشيدن از براى ساكنين آن، و بيرون آورد بسوى زمين اهل آنرا بر تماميت منافع و مصالح آن پس از آن ترك نكرد زمين بى‏گياه را كه قاصر باشد آبهاى چشمه‏ها از سيراب نمودن بلنديهاى آن زمين، و نمى‏يابد رودخانه‏ها وسيله رسيدن بدان زمين، تا اين كه ايجاد فرمود أز براى آن أبرى ظاهر شده كه زنده ميكند مردهاى آنرا و بيرون مى‏آورد گياه آنرا، جمع و تركيب فرمود ابرهاى سفيد آنرا بعد از تفرّق قطعهاى درخشان آن ابر و مباينت پارهاى آن تا اين كه چون متحرّك شد معظم ابرهاى سفيد در آن ابر، و درخشان گشت برق آن در جوانب و اطراف آن، و خواب نكرد يعنى ساكن نشد لمعان آن در

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 31
ميان پارهاى ابر سفيد آن، و ميان متراكم ابر كشيده آن فرستاد حق تعالى آن ابر را در حالتى كه ريزاننده آبست و دريابنده بعضى بعضى را بتحقيق كه نزديك شد بزمين ابريكه بواسطه ثقل مايل است بزمين كه بيرون مى‏آورد باد جنوب از ابر بارانهاى بهم ريخته او را، و دفعه دفعه‏هاى بارانهاى با شدّت او را پس چون افكند ابر سينه كه قريب باضلاع او است چون شتر گران بار كه سينه خود بر زمين نهد، و انداخت گرانى چيزى را كه بلند شده بود با او از باد گرانى كه بار شده بود بر آن، بيرون آورد بآن آب از موضع بى‏گياه زمين گياه روئيده را و از كوههاى كم گياه گياههاى تر و تازه را.
پس آن زمين بهجت مى‏نمايد بزينت مرغزارهاى خود، و تفاخر ميكند به آن چه كه پوشانيده شده باو از چادرهاى شكوفهاى نور دهنده خوش شكل خوش بوى خود، و تكبر مى‏نمايد بزيور آنچه كه معلّق شده بآن از شكوفهاى با نضرت و طراوت آن، و گردانيده است حق سبحانه و تعالى آنرا كه بيرون آورده از زمين مايه وصول عالميان بمقصود خودشان، و روزى از براى چهارپايان، و شكافت حضرت بارى راههاى گشاده را در اطراف زمين، و بر پا نمود نشانه‏ها از براى سالكين بر ميانهاى راههاى زمين
الفصل السابع
فلمّا مهّد أرضه، و أنفذ أمره، اختار آدم عليه السّلام خيرة من خلقه، و جعله أوّل جبّلته، و أسكنه جنّته، و أرغد فيها أكله، و أوعز إليه فيما نهاه عنه، و أعلمه أنّ فى الإقدام عليه التّعرّض لمعصيته، و المخاطرة بمنزلته، فأقدم على ما نهاه عنه موافاة لسابق علمه، فأهبطه بعد التّوبة ليعمر أرضه بنسله، و ليقيم الحجّة به على عباده، و لم يخلهم‏

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 32
بعد أن قبضه ممّا يؤكّد عليهم حجّة ربوبيّته، و يصل بينهم و بين معرفته، بل تعاهدهم بالحجج على ألسن الخيرة من أنبيائه، و متحمّلي و دائع رسالاته، قرنا فقرنا، حتّى تمّت بنبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حجّته، و بلغ المقطع عذره و نذره، و قدّر الأرزاق، فكثّرها و قلّلها، و قسّمها على الضّيق و السّعة، فعدل فيها، ليبتلي من أراد بميسورها و معسورها، و ليختبر بذلك الشّكر و الصّبر من غنيّها و فقيرها، ثمّ قرن بسعتها عقابيل فاقتها، و بسلامتها طوارق آفاتها، و بفرج أفراجها غصص أتراحها، و خلق الآجال، فأطالها و قصّرها، و قدّمها و أخّرها، و وصل بالموت أسبابها، و جعله خالجا لأشطانها، و قاطعا لمرائر أقرانها.
اللغة
(الخيرة) على وزن العنبة المختار، و قد يسكن الياء و في القاموس خار الرجل على غيره خيرة و خيرا و خيرة، فضّله على غيره كخيرة، و في شرح المعتزلي الخيرة اسم من اختاره اللّه يقال: محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خيرة اللّه و (الجبلّة) بكسر الجيم و الباء و تشديد اللّام الخلقة و الطبيعة و قيل في قوله تعالى: خَلَقَكُمْ وَ الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ.
أى ذوي الجبلّة، و يحتمل أن يكون من قبيل الخلق بمعنى المخلوق، و قيل الجبلّة الجماعة من الناس و (الاكل) بضمّتين الرزق و الحظّ قال تعالى: أُكُلُها دائِمٌ وَ ظِلُّها.

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 33
و (أوعزت) الى فلان فى فعل أو ترك أى تقدّمت و امرت و (خاطر) بنفسه و ماله أشفاهما على خطر و ألقاهما في المهلكة قال في المغرب: (تعهد) الصيغة و تعاهدها أتاها و أصلحها و حقيقته جدّد العهد بها و (القرن) أهل كلّ زمان مأخوذ من الاقتران فكأنّه المقدار الذى يقترن فيه أهل ذلك الزمان في أعمارهم و أحوالهم فقيل: أربعون سنة و قيل ثمانون سنة و قيل: مأئة و (مقطع) الشي‏ء منتهاه كأنه قطع من هناك و (العذر و النذر) إما مصدران بمعنى الاعذار و الانذار أو ما بيّن للمكلّفين من الأعذار في عقوبته لهم إن عصوه، و ما أنذرهم به من الحوادث و قوله: (فعدل) بالتخفيف و في بعض النسخ بالتشديد و (الميسور و المعسور) مصدران بمعنى اليسر و العسر كالمفتون بمعنى الفتنة، و يمتنع عند سيبويه مجي‏ء المصدر على وزن مفعول قال: الميسور الزمان الذى يوسر فيه و (العقابيل) جمع عقبول و عقبولة و هي قروح صغار تخرج غبّ الحمى بالشفة و (الفرج) جمع فرجة و هي التفصّى من الهمّ و (الغصص) جمع غصّة و هى ما اعترض في الحلق و (الاتراح) جمع الترح محركة كأسباب و سبب الهمّ و الهلاك و الانقطاع و (خلجه) يخلجه من باب نصر جذبه و (الأشطان) جمع الشطن بالتحريك و هو الحبل أو الطويل منه و (المرائر) جمع مرير و مريرة و هي الحبال المفتولة على اكثر من طاق و قيل: الحبال الشّديدة الفتل و قيل: الطوال الدّقاق منها و (الأقران) جمع قرن بالتحريك و هو حبل يجمع به البعيران.
الاعراب
قوله: خيرة منصوب إمّا على المصدر أو على كونه اسما منه كما حكيناه عن القاموس و عن شرح المعتزلي، فيكون المعنى اختاره اختيارا أى فضّله تفضيلا و اختاره خيارا، و انتصاب اسم المصدر بالفعل أيضا غير عزيز يقال: توضّأ وضوء و تطيّر طيرة و افتدى فدية، و على كونه بمعنى المختار فهو منصوب على الحال، و موافاة منصوب على الحدث بحذف العامل أى فوا فى المعصية موافاة و طابق بها سابق العلم مطابقة، و لا يجوز جعله مفعولا له حتى يكون علة للفعل لاستلزامه‏

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 34
كون علمه السّابق علّة لاقدامه على المعصية و هو لا يستقيم على اصول العدلية
المعنى
اعلم أنّ هذا الفصل متضمن لتمجيد اللّه سبحانه باعتبار خلقه آدم عليه السّلام و تفضيله على غيره و اتمام نعمته عليه و مقابلته بالعصيان و مقابلة عصيانه بقبول توبته و اهباطه إلى الأرض و إكرام ذرّيته بعده ببعث الأنبياء فيهم و قسمته بينهم معيشتهم و آجالهم بالقلّة و الكثرة و الضيق و السعة و ابتلائه لهم بذلك فقوله عليه السّلام (فلمّا مهّد أرضه) أى سوّاها و أصلحها أو بسطها على الماء و لعلّ المراد هنا إتمام خلق الأرض على ما تقتضيه المصلحة في نظام امور ساكنيها و فى شرح البحرانى أى جعلها مهادا كقوله تعالى: أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً.
أو جعلها مهدا كقوله تعالى: جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً.
و على التقدير الأوّل أراد أنه خلقها بحيث يسهل على العباد أن يتصرّفوا فيها بالقعود و القيام و الزراعة و ساير جهات المنفعة، و على التقدير الثاني يكون لفظ المهد استعارة لها بملاحظة تشبيهها بمهد الصبيّ في كونها محلّ الراحة و النوم (و انفذ أمره) أى أمضى أمره التكوينى في ايجاد المخلوقات و إتمامها و كان من تمامها خلقة نوع الانسان و ترجيحه على الأشباه و الأقران كما أشار إليه بقوله (اختار) أبا البشر (آدم) على نبيّنا و آله و عليه السّلام (خيرة من خلقه) و فضّله سبحانه و ذرّيته على ساير مخلوقاته كما قال عزّ من قائل: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى‏ آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ.
و قد اشير إلى بعض جهات التفضيل و الاصطفاء في الآيات الشريفة

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 35

فمنها أنه سبحانه شرّفه بالاستخلاف كما قال: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً.
و منها اضافة روحه إليه كما قال: وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي.
و منها اضافة خلقته إلى يديه كما قال: قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ.
و منها أمر الملائكة بالسجود له كما قال: وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ.
و منها تعليمه الأسماء و ايثاره بذلك على ملائكة السّماء كما قال: وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها.
و منها تكرمته و ذرّيته بما اشير إليه بقوله: وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى‏ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا.
و منها جعلهم قابلا لاتيان الطّاعات و حمل الأمانات كما قال: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ و منها تصويره لهم بالصور الحسنة كما قال: صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ.
و منها تعليمهم البيان كما قال:

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 36
خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ.
و منها تعديل الأعضاء و استقامة القامة كما قال: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ.
و منها التّعليم بالقلم كما قال: اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ.
و منها كونه نسخة جامعة لما في الملك و الملكوت و كتابا مبينا لاسرار القدرة و الجبروت، و لذلك عقّب بيان خلقته بقوله: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ.
و إلى هذا المعنى أشار أمير المؤمنين عليه السّلام فيما نسب اليه:
دوائك فيك فلا تبصر و دائك منك فلا تشعر
و أنت الكتاب المبين الذي‏
بأحرفه تظهر المضمر
أ تزعم أنك جرم صغير و فيك انطوى العالم الاكبر

فقد ظهر بذلك كلّه أنه سبحانه اختاره على غيره (و جعله أوّل جبلته) أى أوّل شخص من نوع الانسان و أوّل خليفة خلقت في الأرض. و فيه ردّ على من قال بقدم الأنواع المتوالدة (و أسكنه جنّته) و أبا جهاله بقوله: وَ قُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ.
(و أرغد فيها اكله) أى جعله واسعا طيّبا و قال له و لزوجته: كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما.
(و أوعز إليه فيما نهاه عنه) أى تقدّم إليه في الأكل من الشجرة و نهاه عن ذلك و عاهده في ذلك كما قال:

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 37
وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى‏ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً.
(و أعلمه أنّ في الاقدام عليه) أى على ما نهاه عنه (التعرّض لمعصيته) كما قال: وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ.
(و المخاطرة بمنزلته) أى اشراف منزلته على خطر و انحطاط درجته كما قال: فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى‏.
فالضمير في منزلته راجع إلى آدم، و يحتمل رجوعه إليه سبحانه كضمير معصيته على الظاهر (فأقدم على ما نهاه عنه) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَ طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَ عَصى‏ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى‏.
و قد مرّ تأويل تلك المعصية و أضرابها في شرح الفصل الثاني عشر و الفصل الثالث عشر من فصول الخطبة الأولى و لا حاجة إلى الاعادة و قوله: (موافاة لسابق علمه) أراد أنه وافى بالمعصية و طابق بها سابق العلم فأقدم على المنهيّ عنه بما قدر عليه و كتب في حقّه في القضاء الالهى السابق على وجوده يدلّ عليه ما ورد في بعض الأخبار أنّ آدم عليه السّلام حجّ لموسى عليه السّلام فقال موسى: أنت خلقك اللّه بيده و نفخ فيك من روحه و أسجد لك ملائكته و أسكنك جنّته فلم عصيته قال آدم عليه السّلام له: أنت موسى الذي اتّخذك اللّه كليما و أنزل عليك التّوراة قال له: نعم قال له: كم من سنة وجدت الذنب قدّر علىّ قبل فعله‏

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 38
قال: كتب عليك قبل أن تفعله بخمسين ألف عام، قال: يا موسى أ تلومني على أمر قد كتب علىّ فعله قبل أن أفعله بخمسين ألف سنة فان قلت: إذا كانت المعصية مكتوبة عليه مقدّرة في حقه ثابتة في العلم الالهى قبل وجوده، فلا بدّ أن يكون مجبورا فيها غير متمكن من تركها قلت: العلم ليس علّة للمعلوم بل حكاية له و كونها مقدّرة في حقّه لا يستلزم اضطراره إذا لم يكن ذلك قدرا حتما و قضاء لازما، و إلّا لما استحقّ اللّوم و العتاب بقوله: أَ لَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَ أَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ.
و لم ينسبا العصيان إلى أنفسهما و لم يقولا: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ.
فان قلت: كيف لم يكن قدرا حتما و المستفاد من بعض الأخبار أنّ أكلهما منها كانا بمشيّة حتم و إرادة ملزمة، و هو ما رواه في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن عليّ بن معبد عن واصل بن سليمان عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سمعته يقول: أمر اللّه و لم يشأ و شاء و لم يأمر، أمر إبليس أن يسجد لآدم عليه السّلام و شاء أن لا يسجد و لو شاء لسجد، و نهى آدم عليه السّلام من أكل الشجرة و شاء أن يأكل منها و لو لم يشأ لم يأكل و عن عليّ بن إبراهيم أيضا عن المختار بن محمّد الهمداني و محمّد بن الحسن عن عبد اللّه بن الحسن العلويّ جميعا عن الفتح بن يزيد الجرجاني عن أبي الحسن عليه السّلام قال: إنّ للّه إرادتين و مشيّتين: إرادة حتم، و إرادة عزم، ينهى و هو يشاء و يأمر و هو لا يشاء، أو ما رأيت أنّه نهى آدم و زوجته أن يأكلا من الشجرة و شاء ذلك، و لو لم‏

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 39
يشأ أن يأكلا لما غلبت شهوتهما مشية اللّه تعالى، و أمر إبراهيم عليه السّلام أن يذبح إسحاق و لم يشأ أن يذبحه و لو شاء لما غلبت مشيّة إبراهيم عليه السّلام مشيّة اللّه«» قلت: ظاهر الخبرين و إن كان يفيد أنّ صدور الأكل منهما إنّما كان عن مشيته الملزمة و أنّه لو لم يشإ الأكل أى شاء عدم الأكل لما امكن لهما الاقدام عليه و إلّا لزم غلبة مشيّتهما مشيّته سبحانه فيلزم منه العجز تعالى عن ذلك علوّا كبيرا، إلّا أنّه يمكن توجيههما على وجه يطابق الأصول العدليّة و لا ينافيها.
فنقول: أمّا الرّواية الأولى فقد وجّهت بوجوه: الأوّل حملها على التّقيّة لكونها موافقة لأصول الجبريّة«»
منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 40
الثاني أن يقال المراد بالمشيّة العلم فالمقصود أنه أمر بشي‏ء و لم يعلم وقوع ذلك الشي‏ء لعدم وقوعه فلا يتعلّق علمه بوقوعه، و شاء يعنى علم وقوع شي‏ء و لم يأمر به لكونه غير مرضيّ له الثالث أن يقال: المراد بمشية الطاعة هداياته و ألطافه الخاصة التي ليست من ضروريات التكليف، و بمشية المعصية خذلانه و عدم فعل تلك الألطاف بالنسبة إليه و شي‏ء منهما لا يوجب جبره على الفعل و الترك و لا ينافي استحقاق الثواب و العقاب الرابع ما قيل: إنّ المراد تهية أسباب فعل العبد بعد إرادة العبد ذلك الفعل الخامس أنه اسناد للفعل إلى العلّة البعيدة، فانّ العبد و قدرته و إرادته لما كانت مخلوقة للّه تعالى فهو جلّ و علا علّة بعيدة لجميع أفعاله السادس أن يقال: إنّ المراد بمشيّته عدم جبره على فعل الطاعة أو ترك المعصية، و بعبارة اخرى سمّى عدم المشية مشية العدم، فمعنى الحديث أنه أمر اللّه بشي‏ء على وجه الاختيار و أرادة على وجه التفويض و الاختيار، و لم يشأ ذلك الشي‏ء مشيّة جبر و لم يرد إرادة قسر، و شاء و لم يأمر يعنى شاء شيئا مشية تكليفيّة و أرادة إرادة تخييرية و لم يأمر به على وجه القسر و لم يرده على وجه الجبر ثمّ أوضح ذلك بقوله: أمر إبليس أن يسجد لآدم عليه السّلام على سبيل الاختيار و أراد منه السجود من غير القسر و الاجبار، و شاء أن لا يسجد بالجبر و القسر و لو شاء لسجد أى لو شاء سجوده لآدم على الجبر و القسر لسجد له، لأنّ الأفعال القسرية لا تخلف عن الفاعل و حيث لم يسجد علم انتفاء المشية القسرية و الارادة الجبرية، و نهى آدم عليه السّلام عن أكل الشجرة على وجه الاختيار و كره منه أكل ثمرتها من غير الالجاء و الاجبار و شاء أن يأكل منها أى شاء أن يكون الأكل أمرا اختياريا و أراد أن لا يكون مجبورا في تركه و في قبول النهى عنه، و لو لم يشأ لم يأكل أى لو لم يشأ أن يكون له اختيار في أكله و كان مجبورا على تركه لم يأكل، لأنّ المجبور على ترك الشي‏ء و مسلوب الاختيار عن فعله لا يقدر على الاتيان به، و حيث أكل علم أنه صاحب القدرة و الاختيار فيه و أنّه تعالى أراد أن يكون فعل العبد

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 41
و تركه بقدرته و اختياره حفظا لنظام التكليف و تحقيقا لمعنى الثواب و العقاب و أمّا الروّاية الثّانية فقد وجّهها الصدوق «ره» بمثل التوجيه السّادس في الرواية السّابقة قال ره في محكيّ كلامه عن كتاب التّوحيد بعد ايراد الرواية: إنّ اللّه تعالى نهى آدم و زوجته عن أن يأكلا من الشجرة و قد علم انهما يأكلان منها لكنه عزّ و جلّ شاء أن لا يحول بينهما و بين الأكل بالجبر و القدرة كما منعهما من الأكل منها بالنهى و الزجر، فهذا معنى مشيته فيهما، و لو شاء عزّ و جلّ منعهما عن الأكل بالجبر ثمّ أكلا منها لكان مشيّتهما قد غلبت مشيّة اللّه كما قال العالم عليه السّلام، تعالى اللّه عن العجز علوّا كبيرا انتهى.
أقول: و ساير الوجوه السّابقة جارية هنا أيضا كما لا يخفى، و لعلّنا نشبع الكلام على هذا المرام عند تحقيق مسألة الجبر و التفويض و الأمر بين الأمرين في مقام مناسب لذلك إنشاء اللّه، هذا.
و قوله عليه السّلام: (فأهبطه بعد التوبة) نصّ صريح في كون التوبة قبل الاهباط و هو المطابق للترتيب الذكرى في آية طه قال تعالى: فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَ طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَ عَصى‏ آدَمُ رَبَّهُ.
إلّا أنا استظهرنا في التنبيه الأوّل من تنبيهات الفصل الثالث عشر من فصول الخطبة الاولى أنّ الاهباط كان قبل التوبة لدلالة الأخبار الكثيرة على ذلك، و يمكن الجمع بين الأدلّة بحمل ما دلّ على تقدم التوبة على الهبوط على نفس التوبة، و ما دلّ على تأخّرها عنها على قبولها و يقال: بتأخّره عن التوبة، أو حمل ما دلّ على تأخّرها على التوبة الكاملة، و اللّه العالم و كيف كان فانما أهبطه سبحانه (ليعمر أرضه بنسله و ليقيم الحجّة به على عباده) قد مرّ كيفية ابتداء النسل في شرح الفصل الرابع عشر من الخطبة الأولى و أمّا إقامة الحجّة به على عباده فالمراد به كونه خليفة للّه سبحانه في أرضه‏

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 42
و حجّته على خلقه ممن كان معه من أولاده و من أتى بعده من الذين كانوا على شرعه و قال الشارح المعتزلي: المراد باقامة الحجّة به أنّه إذا كان أبوهم اخرج من الجنّة بخطيئة واحدة فأخلق بها أن لا يدخلها ذو خطايا جمّة، و الأظهر ما قلناه (و لم يخلهم بعد أن قبضه) اللّه سبحانه إليه (مما يؤكّد عليهم حجّة ربوبيّته و يصل بينهم و بين معرفته) أراد أنه لم يخل الخلق بعد قبض آدم اليه من الحجج المؤكّدة لأدلّة ربوبيّته و الموصلة للخلق إلى معرفته، و في الاتيان بلفظ التّاكيد إشارة إلى أنّ أدلّة الرّبوبيّة و آيات القدرة و براهين التّوحيد و شواهد التفريد للخالق تعالى ساطعة قائمة، و آثار الجلال و الجبروت في الأنفس و الآفاق للحقّ سبحانه نيّرة واضحة، و إنما الغرض من بعث الرّسل و إنزال الكتب محض التأكيد و التأييد، و إلّا فالأدلّة العقليّة في مقام الحجيّة كافية وافية.
و قوله: (بل تعاهدهم بالحجج على ألسن الخيرة من أنبيائه و متحمّلى و دائع رسالاته قرنا فقرنا) أى أصلحهم و جدّد العهد بهم في كلّ قرن قرن بالحجج الجارية على ألسن الأنبياء و الرّسل، و المودعة في الصحف و الكتب حسبما مرّ توضيحه في شرح الفصل الرّابع عشر من الخطبة الاولى في الرّواية الطويلة لأبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السّلام (حتّى تمّت بنبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حجّته) و أكمل به دينه و ختم به أنبيائه و رسله (و بلغ المقطع عذره و نذره) أى بلغ الغاية و النهاية اعذاره و انذاره، و قيل المراد بالعذر ما بيّن اللّه سبحانه للمكلّفين من الأعذار في عقوبته لهم إن عصوه، و بالنّذر ما أنذرهم به من الحوادث و خوّفهم به، و قد مرّ (و قدّر الأرزاق) في حقّ الخلايق و كتبها في أمّ الكتاب كما قال سبحانه: وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ.
قيل: أى في السّماء تقدير رزقكم أى ما قسّمه لكم مكتوب في اللّوح المحفوظ لأنّه في السّماء (فكثّرها و قلّلها) أى كثّرها في حقّ طائفة و قلّلها في حقّ‏

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 43
طائفة اخرى على ما يقتضيه الحكمة، أو كثّرها و قلّلها بالنسبة إلى شخص واحد بحسب اختلاف الأزمان و الحالات (و قسّمها على الضّيق و السّعة) لما كان المتبادر من القسمة البسط على التساوي بيّن ما أراده بذكر الضيق و السّعة، و لمّا كان ذلك موهما للجور أردفه بذكر العدل و قال: (فعدل فيها) أى في تلك القسمة ثمّ أشار إلى نكتة العدل و حكمته بقوله (ليبتلى من أراد بميسورها و معسورها و ليختبر بذلك الشكر و الصبر من غنيّها و فقيرها) نشر على ترتيب اللّف على الظاهر و الضمير فيهما راجع إلي الأرزاق و في الاضافة توسّع، و يحتمل عوده إلى الأشخاص المفهوم من المقام أو إلى الدّنيا أو إلى الأرض و لعلّ احداهما أنسب ببعض الضمائر الآتية، و قد مرّ تحقيق معنى اختبار اللّه سبحانه و ابتلائه في شرح الخطبة الثانية و الستين.
و محصّل المراد أنّه سبحانه يبسط الرّزق لمن يشاء من عباده و يقدر له و يجعل بعضهم غنيّا و بعضهم فقيرا و يختبر بذلك الشكر من الأغنياء و الصبر من الفقراء، لاعظام مثوباتهم و إعلاء درجاتهم إن شكروا و قنعوا، و تشديد عقوباتهم و احتطاط مقاماتهم إن كفروا و جزعوا، و يجي‏ء لذلك إنشاء اللّه مزيد توضيح في شرح الخطبة القاصعة (ثمّ قرن بسعتها عقابيل فاقتها) لا يخفى ما في تشبيه الفاقة و هى الفقر و الحاجة أو آثارها بالعقابيل من اللّطف، لكونها مما يقبح في المنظر و تخرج في العضو الذى لا يتيسّر ستره عن النّاس و تشتمل على فوائد خفيّة، و كذلك الفقر و ما يتبعه، و أيضا تكون غالبا بعد التلذّذ و التنعمّ (و بسلامتها طوارق آفاتها) أراد بها متجدّدات المصائب و ما يأتي بغتة من الطروق و هو الاتيان باللّيل (و بفرج أفراجها غصص أتراحها) أراد أنّ التفصّي من همومها مقارن لغصصها، و نشاطها معقّب لهلاكها قال الأعشى:
و لكن أرى الدّهر الذى هو خائن اذا صلحت كفاى عاد فأفسدا
شباب و شيب و افتقار و ثروة
فللّه هذا الدّهر كيف تردّدا

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 44
و قال الحريرىّ:
وقع الشّوائب شيّب و الدّهر بالناس قلّب‏
إن دان يوما لشخص‏
ففي غد يتغلّب‏
فلا تثق بوميض من برقه فهو خلّب‏

و قال آخر:
استقدر اللّه خيرا و ارضينّ به فبينما العسر إذ دارت مياسير
و بينما المرء في الأحياء مغتبط
إذ صار في الرّمس تعفوه الأعاصير

(و خلق الآجال فأطالها و قصّرها و قدّمها و أخّرها) قال في البحار: الأجل محرّكة مدّة الشي‏ء و غاية الوقت في الموت«» و حلول الدّين، و تعليق الاطالة و التقصير على الأوّل واضح، و أما التقديم و التأخير فيمكن أن يكون باعتبار أنّ لكلّ مدة غاية و حينئذ يرجع التقديم إلى التقصير و الاطالة إلى التأخير، و يكون العطف للتفسير تأكيدا، و يحتمل أن يكون المراد بالتقديم جعل بعض الأعمار سابقا على بعض و تقديم بعض الامم على بعض مثلا، فيكون تاسيسا، و يمكن أن يراد بتقديم الآجال قطع بعض الأعمار لبعض الأسباب كقطع الرّحم مثلا كما ورد في الأخبار و بتأخيرها مدّها لبعض الاسباب فيعود الضمير في قدّمها و أخّرها إلى الأجل بالمعنى الثاني على وجه الاستخدام أو نوع من التجوّز في التعليق كما مرّ (و وصل بالموت أسبابها) الضمير راجع إلى الآجال، و المراد باتّصال أسبابها به على كون الأجل بمعنى مدّة العمر هو اتصال أسباب انقضاء الآجال به، و على المعنى الثاني هو اتصال أسباب نفس الآجال به، و المراد بالأسباب على ذلك هى بعض الأمراض المفضية إلى الموت و نحوها من الأسباب المؤدّية إليه.
(و جعله خالجا لأشطانها) أى جعل الموت جاذبا لحبائل الآجال إليه و أراد بها الأعمار تشبيها لها بالأشطان في الطول و الامتداد، و استعار لفظ الخلج للموت‏

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 45
باعتبار استلزام الموت لقرب الأجل كما أنّ الجاذب يقرب المجذوب إلى نفسه (و قاطعا لمرائر أقرانها) قال المجلسيّ و لعلّ المراد بمرائر أقران الآجال الأعمار التي يرجى امتدادها لقوّة المزاج أو البنية و نحوها، و اللّه العالم
الترجمة
پس چون بسط فرمود و گسترانيد حقّ سبحانه و تعالى زمين خود را، و اجراء كرد امر خود را اختيار نمود جانب آدم عليه السّلام را اختيار كردنى، يا اين كه برگزيد او را برگزيده شده از ميان خلقان و گردانيد او را أوّل طبيعتى از نوع انسان و ساكن فرمود او را در بهشت خود و وسعت داد در آنجا رزق او را و مقدّم داشت بسوى وى در آنچه نهى كرد او را از آن يعنى أكل از شجره، و اعلام كرد او را كه در اقدام نمودن بر آن فعل متعرّض شدنست بمعصيت او و در خطر افكندن و ضايع ساختن است منزلت و مرتبت او، پس اقدام كرد جناب آدم بر آنچه كه نهى فرموده بود خدا از آن، و موافقت كرد اين موافقت نمودنى با علم سابق حضرت بارى پس فرود آورد او را بزمين بعد از توبه و انابت تا اين كه آباد نمايد زمين خود را با نسل او، و تا اين كه اقامه حجت نمايد با او به بندگان خود، و خالى نگذاشت بندگان خود را بعد از قبض فرمودن روح آدم عليه السّلام از چيزى كه مؤكّد شود حجت پروردگارى او را و وصل كند ميان ايشان و ميان معرفت او بلكه تجديد عهد فرمود با ايشان بحجتها و دليلها بر زبان برگزيدگان از پيغمبران خود و متحملان امانتهاى پيغامهاى خود در قرنى بعد از قرنى. تا اين كه تمام شد بپيغمبر ما كه محمّد بن عبد اللّه صلوات اللّه عليه و آله است حجّة بالغه او، و بنهايت رسيد عذر او در عذاب عاصيان و ترساندن او از آتش سوزان و مقدّر فرمود روزيها را پس بسيار گردانيد آنرا بر بعضى و كم گردانيد آنرا بر بعض آخر، و قسمت كرد آنها را بر تنگى و وسعت، پس عدالت كرد در آن قسمت تا اين كه امتحان نمايد هر كه را بخواهد با آسانى روزى و دشوارى آن و تا اين كه اختيار نمايد با اين شكر و صبر را از توانگر و درويش آن‏

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 46

پس از آن مقارن ساخت بفراخى روزيها تبخالهاى فقر و فاقه آن، و بسلامتيهاى آن مصيبتهاى ناگهان آنرا، و بگشادگيهاى شاديهاى آن غصّهاى هلاكتهاى آنرا و خلق كرد اجلها را پس دراز نمود آنرا و كوتاه گردانيد و مقدّم فرمود بعض آنرا و تأخير انداخت بعض ديگر را و چشانيد بمرگ اسباب اجلها را، و گردانيد مرگ را كشنده ريسمانهاى اجلها و برنده ريسمانهاى محكم پرتاب آنها
الفصل الثامن
عالم السّرّ من ضمائر المضمرين، و نجوى المتخافتين، و خواطر رجم الظنون، و عقد عزيمات اليقين، و مسارق إيماض الجفون، و ما ضمنته أكنان القلوب، و غيابات الغيوب، و ما أصغت لاستراقه مصائخ الأسماع، و مصائف الذّرّ، و مشاتى الهوامّ، و رجع الحنين من المولهات و همس الأقدام، و منفسح الثمرة من و لائج غلف الأكمام، و منقمع الوحوش من غيران الجبال و أوديتها، و مختبئ البعوض بين سوق الأشجار و ألحيتها، و مغرز الأوراق من الأفنان، و محطّ الأمشاج من مسارب الأصلاب، و ناشئة الغيوم و متلاحمها، و درور قطر السّحاب في متراكمها، و ما تسفى الأعاصير بذيولها، و تعفو الأمطار بسيولها، و عوم نبات الأرض في كثبان الرّمال، و مستقرّ ذوات الأجنحة بذرى شناخيب الجبال، و تغريد ذوات المنطق في دياجير الأوكار، و ما أوعته الأصداف و حضنت عليه أمواج البحار،

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 47
و ما غشيته سدفة ليل أو ذرّ عليه شارق نهار، و ما اعتقبت عليه أطباق الدّياجير و سبّحات النّور، و أثر كلّ خطوة، و حسّ كلّ حركة، و رجع كلّ كلمة، و تحريك كلّ شفة، و مستقرّ كلّ نسمة، و مثقال كلّ ذرّة، و هماهم كلّ نفس هامّة، و ما عليها من ثمر شجرة، أو ساقط ورقة، أو قرارة نطفة، أو نقاعة دم و مضغة، أو ناشئة خلق و سلالة، لم يلحقه في ذلك كلفة، و لا اعترضته في حفظ ما ابتدعه من خلقه عارضة، و لا اعتورته في تنفيذ الأمور و تدابير المخلوقين ملالة و لا فترة، بل نفذ فيهم علمه، و أحصيهم عدّه، و وسعهم عدله، و غمرهم فضله، مع تقصيرهم عن كنه ما هو أهله. أللّهمّ أنت أهل الوصف الجميل، و التّعداد الكثير، إن تؤمل فخير مأمول، و إن ترج فأكرم مرجوّ، ألّلهمّ و قد بسطت لي فيما لا أمدح به غيرك، و لا أثني به على أحد سواك، و لا أوجّهه إلى معادن الخيبة، و مواضع الرّيبة، و عدلت بلساني عن مدائح الآدميّين، و الثّنآء على المربوبين المخلوقين، ألّلهمّ و لكلّ مثن على من أثنى عليه مثوبة من جزاء، أو عارفة من عطاء، و قد رجوتك دليلا على ذخائر الرّحمة، و كنوز المغفرة.

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 48
ألّلهمّ و هذا مقام من أفردك بالتّوحيد الّذي هو لك، و لم ير مستحقّا لهذه المحامد و الممادح غيرك، و بي فاقة إليك، لا يجبر مسكنتها إلّا فضلك، و لا ينعش من خلّتها إلّا منّك وجودك، فهب لنا فى هذا المقام رضاك، و أغننا عن مدّ الأيدي إلى سواك، إنّك على كلّ شي‏ء قدير.
اللغة
(السر) هو ما يكتم و هو خلاف الاعلان و (ضمير) الانسان قلبه و باطنه و الجمع ضمائر على التشبيه بسريرة و سرائر لأنّ باب فعيل إذا كان اسما لمذكر يجمع كجمع رغيف و أرغفة و رغفان قاله الفيومى، و في القاموس الضمير السّر و داخل الخاطر و (النجوى) اسم مصدر بمعنى المسارة من انتجى القوم و تناجوا تسارّوا و (التخافت) كالاخفات خلاف الجهر قال الشّاعر:
أخاطب جهرا إذ لهنّ تخافت و شتّان بين الجهر و المنطق الخفت‏

و (الخاطر) ما يخطر في القلب من تدبير أمر و نحوه و (العقد) جمع عقده بالضمّ و عقدة كلّ شي‏ء الموضع الذي عقد منه و احكم و (أومضت) المرأة إذا سارقت النظر و أومض البرق إذا لمع لمعا خفيفا و أومض فلان أشار اشارة خفية و (الاكنان) و الاكنّة جمع الكنّ و هو اسم لكلّ ما يستتر فيه الانسان لدفع الحرّ و البرد من الأبنية و نحوها و ستر كلّ شي‏ء و وقائه قال تعالى: وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً.
قال الشّارح المعتزلي: و يروى أكنة القلوب و هى غلقها و اغطيتها قال تعالى وَ جَعَلْنا عَلى‏ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ.

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 49
و (غيابة) البئر قعره قال تعالى: وَ أَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ.
و غيابة كلّ شي‏ء ما يسترك منه و (استراق) السّمع الاستماع في خفيّة قال تعالى: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ.
و (الذّر) جمع ذرّة و هى صغار النّمل و (الهوام) جمع الهامّة و هو كلّ ذات سمّ يقتل كبعض الحيّات و ما لا يقتل فهو السّامة كالزنبور و قد يطلق الهوام على ما يدبّ من الحيوان كالحشرات و (منفسح) الثمرة بالنون و الحاء المهملة من باب الانفعال موضع انفساحها، و يروى متفسخ الثمرة بالتاء و السّين المشدّدة و الخاء المعجمة من باب التّفعل يقال: تفسّخ الشعر عن الجلد زال و (الولايج) المواضع السّاترة جمع و ليجة و هي كالكهف يستتر فيه المارّة من مطر أو غيره و يقال: أيضا في جمعه و لج و اولاج و (الغلف) بضمّة أو ضمّتين جمع غلاف ككتاب و يوجد في النّسخ على الوجهين و (الاكمام) جمع الكمّ بالكسر و هو وعاء الطلع و غطاء النّور و يجمع أيضا على الأكمة و كمام.
و (منقمع) الوحوش من باب الانفعال محلّ الانقماع و الاختفاء، و في بعض النسخ من باب التفعّل بمعناه و (الغيران) جمع غار و هو ما ينحت في الجبل شبه المغارة فاذا اتّسع قيل كهف، و قيل: الغار الجحر يأوى إليه الوحش أو كلّ مطمئنّ في الأرض أو المنخفض من الجبل و (الالحية) جمع اللّحاء ككساء و هي قشر الشجر و (الامشاج) قيل: مفرد و قيل جمع مشج بالفتح أو بالتحريك أو مشيج وزان يتيم و أيتام أى المختلط و (المسارب) المواضع الذي يتسرّب فيها المني أى يسيل أو يختفى من قولهم تسرب الوحش إذا دخل في سربه أى جحره و اختفى او مجاري المنى من السرب بمعنى الطريق، و تفسيرها بالاخلاط التي بتولّد منها المني كما احتمله الشّارح البحرانى بعيد (في متراكمها) في بعض النسخ و متراكمها بالواو

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 50
و (الأعاصير) جمع الأعصار و هو بالكسر الريح التي تهب صاعدا من الأرض نحو السّماء كالعمود و قيل: التي فيها نار و قيل: التي فيها العصار و هو الغبار الشديد و (العوم) السباحة و سير السّفينة و (بنات الأرض) بتقديم الباء على النون على ما في أكثر النسخ و في بعضها بالعكس و (ذرى) جمع ذروة بالكسر و الضمّ (و غرد) الطائر كفرح و غرّد تغريدا رفع صوته و طرب به و (الحضن) بالكسر ما دون الابط إلى الكشح أو الصدر و العضدان و ما بينهما، و حضن الصبيّ من باب نصر جعله في حضنه.
و (ذرت) الشمس تذر و ذروا أى طلعت و شرقت و (شرقت) الشمس و أشرقت أى أضاءت و (التّعداد) بالفتح مصدر للمبالغة و التكثير و قال الكوفيون أصله التفعيل الذي يفيد المبالغة قلبت ياؤه الفا و بالكسر شاذّ و (المحامد) جمع المحمدة بفتح العين و كسرها يقال: حمده كسمعه حمدا و محمدا و محمدا و محمدة و محمدة أثنا عليه
الاعراب
عالم السّر خبر لمبتدأ محذوف بدلالة المقام، و كلمة من في قوله: من ضماير المضمرين بيانية إن كان الضمير بمعنى السرّ و هو الأظهر و بمعنى في على حدّ قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ.
ان كان بمعنى القلب، و نجوى المتخافتين على كون من بيانيّة عطف على الضّماير، و على كونها بمعنى في يكون عطفا على السّر و الأوّل أظهر لأنّ نجوى المتخافتين و ما يتلوه من المعطوفات كلّها من قبيل الاسرار، و قوله: من ولايج غلف الاكمام حرف من بيانيّة أو تبعيضية على رواية منفسح بالنون و الحاء المهملة وصلة أو بيانية على روايته بالتاء و الخاء المعجمة، و إضافة الغلف إلى الاكمام من قبيل إضافة العام إلى الخاص لإفادة الاختصاص إذ كلّ كمّ غلاف دون العكس، و جملة لم يلحقه إما حال من فأعل عالم السرّ المصدر به الفصل أو استيناف بيانيّ و الثّاني أظهر

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 51
و قوله: فخير مأمول خبر لمبتدأ محذوف، و قوله: بسطت لى فيما لا أمدح كلمة في إما زائدة أو للظرفيّة المجازية، و مفعول بسطت محذوف أى بسطت لي القدرة أو اللّسان أو الكلام فيما لا أمدح، و الباء في قوله: عدلت بلساني للتعدية، و دليلا منصوب إمّا على الحال من مفعول رجوتك أو مفعول له، و من في قوله: من خلّتها زائدة، و الفاء في قوله: فهب لنا فصيحة
المعنى
اعلم أنّه عليه السّلام لما ذكر في الفصول السّابقة عجائب قدرته تعالى و بدايع صنعته و دلائل حكمته و براهين عظمته أردفها بهذا الفصل للتنبيه على عموم علمه سبحانه بجزئيات الامور و خفايا الأسرار، و قد مضى بعض الكلام في هذا المعنى في الخطبة الخامسة و الثمانين و الخطبة التاسعة و الأربعين، و مرّ تحقيق عموم علمه بجميع الأشياء في تنبيه الفصل السّابع من فصول الخطبة الاولى، إلّا أنّ هذا الفصل قد تضمن ما لم يتضمنه الخطب السابقة، فانّ فيه مع جزالة اللّفظ و عظم خطر المعنى و فصاحة العبارة و غزارة«» الفحوى الاشارة إلى أصناف خلقه و أنواع بريّته و عجائب ربوبيته، و قد أحصا عليه السّلام فيه من خفيّات المخلوقات و خبيّات الموجودات و مكنونات المصنوعات مالا يوجد في كلام غيره بل لا يقدر عليه«» سواه، تنبيها بذلك على برهان علمه تعالى بها، لأنّ خلقه لها و حفظه و تربيته لكلّ منها و إظهار بدايع الحكمة في كلّ صفة من أوصافها و حال من أحوالها لا يتعقّل إلّا ممّن هو عالم بها مدرك لحقايقها، كما قال عزّ من قائل: أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ.
قال الشّارح المعتزلي و لنعم ما قال: لو سمع أرسطاطالس القائل بأنه تعالى لا يعلم الجزئيات هذا الكلام له عليه السّلام لخشع قلبه وقفّ شعره و اضطرب فكره، ألا ترى ما عليه من الرّوا و المهابة و العظمة و الفخامة و المتانة و الجزالة مع ما قد اشرب‏

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 52
من الحلاوة و الطلاوة و اللطف و السلاسة، لا أرى كلاما يشبه هذا إلا أن يكون كلام الخالق سبحانه، فانّ هذا الكلام نبعة من تلك الشجرة، و جدول من ذلك البحر، و جذوة من تلك النار كأنّه شرح قوله تعالى: وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَ لا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ.
فلنعد إلى شرح كلامه عليه السّلام لعجز اللسان و قصور البيان عن احصاء فضائله و استقصاء خصائصه فأقول قوله: (عالم السّر من ضمائر المضمرين) أراد به أنه خبير بمكتوبات السرائر و محيط بمكنونات الضمائر، لا يعزب عن علمه شي‏ء منها كما قال عزّ من قائل: وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفى‏.
(و نجوى المتخافتين) أى مسارة الذين يسرّون المنطق كما قال تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى‏ ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَ لا أَدْنى‏ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ.
(و خواطر رجم الظنون) يعنى ما يخطر بالقلب ممّا يسبق إليه الظّنون من غير برهان (و عقد عزيمات اليقين) أى محكمات العقائد الناشئة عن اليقين التي عقد عليها القلب و اطمأنّ إليها النّفس (و مسارق ايماض الجفون) يعنى خفيات«» إشارة الجفون، أو المراد بالجفون العيون مجازا و بالمسارق النظرات الخفية التي للعيون كانّها تسرق النظر لاخفائها فيكون المقصود علمه بالنّظرات الخفيّة للعيون حين تومض أى تلمع لمعا خفيفا يبرز لمعانها تارة و يختفى اخرى عند فتح‏

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 53

الجفون و طبقها كوميض البرق (و ما ضمنته اكنان القلوب) أى أستارها و أغطيتها (و غيابات الغيوب) أى ستراتها و حجاباتها المانعة من ادراك ما فيها (و ما أصغت لاستراقه مصائخ الاسماع) يعنى تسمعت و مالت إلى استماعه خفية مخارق الاسماع التي تسمع و تصاخ بها (و مصائف الذرّ و مشاتي الهوام) يعنى المواضع التي يصيف فيها أى يقيم بالصّيف صغار النمل و المواضع التي تشتو فيها أى تأوى بالشتاء حشرات الأرض (و رجع الحنين من المولهات) أراد به ترجيع الصوت و ترديد شدة البكاء من النوق و كلّ انثى حيل بينها و بين أولادها (و همس الأقدام) أخفى ما يكون من صوتها (و منفسح الثمرة من ولايج غلف الأكمام) أى موضع نموّها أو محلّ انقطاعها من بطانة الأكمام و المواضع المستترة منها (و منقمع الوحوش) محلّ اختفائها (من غير ان الجبال) و أغوارها أى جحراتها التي تأوى إليها الوحش (و أوديتها) الضمير راجع إلى الجبال و في الاضافة توسع (و مختبئى البعوض) موضع اختفاء البق (بين سوق الأشجار و ألحيتها) أى بين جذعها و قشرها (و مغرز الأوراق من الأفنان) محلّ و صلها من الاغصان (و محط الامشاج من مسارب الأصلاب) اى انحدار الاخلاط أو محلّ انحدارها«» من مجارى الأصلاب و مسيلها أو مخفاها قيل في قوله تعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ.
أى أخلاط من الطبايع من الحرارة و البرودة و الرطوبة و اليبوسة، و قيل: من الأجزاء المختلفة في الاستعداد، و قيل: أمشاج أى أطوار طورا نطفة و طورا علقة و هكذا، و قيل: أى أخلاط من ماء الرجل و ماء المرأة و كلّ منهما مختلفة الاجزاء في الرقة و القوام و الخواص و لذلك يصير كلّ جزء منهما مادّة عضو و قيل: ألوان فانّ ماء الرّجل أبيض و ماء المرأة أصفر فاذا اختلطا اخضّرا، و كلامه عليه السّلام‏

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 54
يؤيد بعض الوجوه كما لا يخفى فيكون محطّ الأمشاج مقرّ النطفة من الرّحم أو من الأصلاب على بعض الوجوه في المسارب فافهم (و ناشئة الغيوم و متلاحمها) أراد أوّل ما ينشأ منها و لم يتكامل اجتماعها و ما يلتصق بعضها ببعض و يلتحم (و درور قطر السحاب في متراكمها) أى سيلان المطر في متكاثف السّحاب و مجتمعها (و ما تسفى الأعاصير) أى تذروه و تثيره من التراب و نحوه (بذيولها) بأطرافها التي تجرّها على الأرض و لطف الاستعارة ظاهر (و تعفو الأمطار بسيولها) اى تمحوه و تدرسه من الآثار بمائها الكثير السّائل (و عوم بنات الأرض في كثبان الرّمال) أراد عليه السّلام ببنات الأرض الحشرات و الهوام التي تكون في تلال الرّمال و تنشأ فيها، استعار لحركتها فيها لفظ العوم الذي هو السّباحة فى الماء بمشابهة عدم استقرارها أو غوصها فيها، و على ما في بعض النسخ من تقديم النون فلفظ العوم استعارة لحركة عروق النباتات فيها كأرجل السّابحين و أيديهم في الماء (و مستقرّ ذوات الأجنحة من الطيور بذرى شناخيب الجبال) و أعالى رؤوسها (و تغريد ذوات المنطق) أى تطريب صاحبات النطق من الأطيار و رفع أصواتها بالغناء (في دياجير الأوكار) و ظلماتها (و ما أوعته الأصداف) أى حفظته و جمعته من اللّئالي (و حضنت عليه أمواج البحار) من السمك و العنبر و غيرهما، استعار لفظ الحضن للأمواج في انطباقها بملاحظة شبهها و بالحواضن في ضمّ فرخها و بيضها إلى حضنها (و ما غشيته) و غطته (سدفة ليل) و ظلمتها (أو ذرّ عليه شارق نهار) أى طلع عليه الشّمس المضيئة بالنهار (و ما اعتقبت) و تعاقبت (عليه أطباق الدياجير) و أغطية الظلم (و سبحات النور) أى ما يجرى و يسبح عليه النور من سبح الفرس و هو جريه، و المراد بما تعاقب عليه النور و الظلمة ما تغطيه ظلمة بعد نور و نور بعد ظلمة، و يحتمل أن يراد تعاقب أفراد كلّ منهما (و أثر كلّ خطوة) أى علامة كلّ مشية تبقى فى الأرض (و حسّ كلّ حركة) و صوتها الخفى (و رجع كلّ كلمة) أراد به ما ترجع به من

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 55
الكلام إلى نفسك و تردّده في فكرك، أو جواب الكلمة أو ترديد الصوت و ترجيعه عند التلفظ بالكلمة أو إرجاع النفس للتلفظ بكلمة بعد الوقف على كلمة.
(و تحريك كلّ شفة و مستقر كلّ نسمة) أى كلّ انسان أو كلّ دابة فيها روح، و مستقرّها إما الصّلب أو الرّحم أو القبر أو مكانه في الدّنيا أو في الآخرة أو الأعم (و مثقال كلّ ذرّة) يعني وزنها لا المثقال المعروف كما قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.
(و هما هم كلّ نفس هامة) أراد عليه السّلام ترديدات الصّوت في الحلق أو تردّداته في الصدر من الهم و الحزن من كلّ نفس ذات همة تعزم على أمر (و ما عليها) أى على الأرض المفهومة بقرينة المقام و إن لم يسبق لها ذكر في الكلام على حدّ قوله تعالى: كلّ من عليها فان (من ثمرة شجرة أو ساقط ورقة أو قرارة نطفة) مستقرّها (أو نقاعة دم) أى نقرة يجتمع فيها الدّم (و مضغة) قطعة لحم بقدر ما يمضغ (أو ناشئة خلق) أى الصّورة ينشئها سبحانه في البدن أو الرّوح التي ينفخها فيه (و سلالة) و هي في الأصل ما استلّ و استخرج من شي‏ء و سمّي الولد و نطفة الانسان سلالة باعتبار أنّهما استلا منه، و في هذه الفقرات إشارة إلى قوله تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ.
ثمّ إنّه بعد بيان عموم علمه بالمخلوقات على اختلاف أنواعها و أصنافها نبّه على تنزّهه سبحانه في ذلك عن صفات البشر فقال (لم يلحقه في ذلك) أى في علمه بالجزئيات المذكورة أو في خلقه لها على اختلاف موادّها و ماهيّاتها و خواصّها و حالاتها (كلفة) و مشقّة (و لا اعترضته) و منعته (في حفظ ما ابتدع من خلقه‏

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 56
عارضة) أى حالة أو خصلة مانعة عن الحفظ (و لا اعتورته) قيل أحاطت به (في تنفيذ الامور) و إمضائها (و تدابير المخلوقين) و إجراء امورهم على وفق المصلحة و العلم بالعواقب (ملالة) و ضجر (و لا فترة) أى كسر بعد حدّة و لين بعد شدّة (بل نفذ فيهم علمه) و أحاط بطواهرهم و بواطنهم لا يعزب عنه شي‏ء منهم (و أحصاهم عدّه) و في بعض النسخ عدوه (و وسعهم عدله و غمرهم) أى غطاهم و شملهم و سترهم (فضله) و نواله (مع تقصيرهم عن كنه ما هو أهله) و حقيقة ما هو مستحقه من الثناء الجميل و الوصف على جهة التعظيم و التبجيل، و أن يعبد حقّ العبادة، و يعرف حقّ المعرفة و فيه تنبيه على حقارة ثنائهم و عبادتهم في جنب جلاله و عظمته و استحقاقه لما هو أهله ليدوم شكرهم و ثنائهم و لا يستكثروا شيئا من طاعاتهم و عباداتهم، ثمّ إنه لما حمد اللّه و أثنا عليه و وصفه بأوصاف الكمال و نعوت الكبرياء و الجلال أردفه بالدّعاء و السؤال و التضرّع و الابتهال فقال: (اللهمّ أنت أهل الوصف الجميل) دون غيرك لاتّصافك بالصّفات الحسنى و الأمثال العليا (و التعداد الكثير) من النعم و الآلاء و المنن و العطايا (إن تؤمل) للكرم و الامتنان (ف) أنت (خير مأمول و إن ترج) للرحمة و الغفران (ف) أنت (أكرم مرجوّ) لأنّ كرمك لا يضيق عن سؤال أحد و يدك بالعطاء أعلى من كلّ يد (اللّهمّ و قد بسطت لي) القدرة (فيما) كناية عن بلاغة الكلام و فصاحة البيان و عذوبة اللّسان (لا أمدح به غيرك و لا اثنى به على أحد سواك) لاختصاصك بالفضل و الكمال و تفرّدك بالعظمة و الجلال (و لا اوجّهه) أى لا أصرف ما أعطيتنى من الفصاحة و البلاغة في الحمد و المدح (إلى معادن الخيبة و مواضع الريبة) يعنى أني اقصر حمدى و ثنائى عليك و لا أصرفه إلى أحد غيرك من المخلوقين علما منّي بأنّهم معادن الخيبة و مظانّ الحرمان، لأنّ عطاياهم قليلة فانية، مع أنّهم لا يعطون غالبا فان اعطوا قلّوا و إن لم يعطوا ملّوا، و عرفانا منّى بأنهم مواضع الرّيبة و التهمة لعدم الاعتماد على إعطائهم و عدم الوثوق بمواعيدهم، لكونهم عاجزين

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 57
محتاجين مفتقرين مثل السّائلين عنهم، فمن توجّه بحاجة إليهم و أناخ مطايا الرجاء في بابهم فقد تعرّض للحرمان و استحقّ فوت الاحسان اللهمّ (و) قد (عدلت بلسانى عن مدايح الآدميين) إلى مدائحك (و الثناء على المربوبين المخلوقين) إلى الثناء عليك (اللّهم و لكلّ مثن) و مادح (على من) مدحه و (أثنا عليه مثوبة من جزاء) مكافاة على ثنائه (أو عارفة من عطاء) مقابلة لمدحه (و قد رجوتك) و قصرت رجائى عليك لكونك (دليلا على ذخائر الرحمة) موصلا إلى أسبابها بالتوفيق و التأييد و العناية و المراد بها عظايم العطايا المذخورة ليوم الحاجة و المعدّة لحال الفاقة (و) أملتك هاديا إلى (كنوز المغفرة) أراد بها خزاين الغفران و معادن الاحسان و كونه سبحانه هاديا و دليلا عليهما باعتبار أنه بيده مفاتيح الكرم و الجود و هو وليّ الرّحمة و المغفرة لكلّ موجد موجود (اللّهمّ و هذا) المقام الذى أنا فيه مشغول بتعظيمك و توحيدك و خطيب بمحاسن محامدك (مقام من أفردك بالتوحيد الذي هولك) و التمجيد الذى هو مختصّ بك (و لم ير مستحقّا لهذه المحامد و الممادح غيرك) لانحصار أوصاف الجمال و نعوت الكمال التي بها يستحقّ الحمد و الثناء فيك (و بي) فقر و (فاقة إليك) و هي الحاجة إلى كرمه و إحسانه و رحمته و غفرانه و مرضاته و رضوانه مما لا ينجحها أحد من المخلوقين و لا يقدر على رفعها إلّا ربّ العالمين و لذلك قصره عليه و قال: (لا يجبر مسكنتها إلّا فضلك و لا ينعش من خلّتها إلّا منّك وجودك) أى لا يصلح ذلّ تلك الفاقة و سوء حالها إلّا فضلك و لا يرفع خصاصتها إلّا منك (فهب لنا في هذا المقام رضاك، و أغننا عن مدّ الأيدي إلى سواك، إنّك على كلّ شي‏ء قدير) و بالاجابة حقيق جدير.
قال الشارح المسكين: و أنا أتأسّى في هذا المقام بجدّي أمير المؤمنين و سيد الوصيّين، و أتوسّل به إلى حضرة ذي الجلال، و اناديه بلسان التضرّع و الابتهال، و أقول:

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 58

يا ربّي و ربّ كلّ شي‏ء قد كثرت ذنوبي، و جمّت خطيئتي، و أوقرت الخطايا ظهري، و أنت الغفور الرّحيم، العزيز الكريم، و كثير ما أسألك يسير في وجدك و خطير ما أستوهبك حقير في وسعك، فاجعل ما أوضحته فى شرح هذه الخطبة الشريفة من دلائل توحيدك، و براهين تفريدك، و كشفت الغطاء عنه من شواهد ربوبيّتك، و أدلّة قدرتك، و أسرار تدبيرك و حكمتك، ذخيرة مأمولة ليوم فقري و فاقتي، و عدّة مرجوّة لحال مسكنتي و حاجتي، و ممحاة لكباير سيأتي، و وسيلة لارتفاع درجتي، و لا تقطع رجائي منك، و لا تبت سببى عنك، و تفضّل علىّ باتمام شرح الكتاب بمحمّد و آله الأطياب، إنّك أنت المفضّل الوهّاب.
الترجمة
خداوند تعالى عالم راز و سرّ است از ضميرهاى صاحبان ضمير، و از نجواى راز گويندگان، و از خاطرهاى انداخته شده ظن و گمان، يعني خاطرهائى كه سبقت نمايد بسوى أن ظنّها، و از آنچه منعقد مى‏شود در قلب از عزيمتهاى يقين، و از نظرهاى خفيه چشمها در وقت نگريستن، و از آنچه كه در بر گرفته است او را پردهاى قلبها و حجابهاى غيبها، و از آنچه كه گوش داده است از براى نهان شنيدن آن مواضع سوراخ گوشها، و از جايهاى تابستاني موران و از جاى‏هاى زمستانى جنبندگان، و از باز گردانيدن آواز آه و ناله از مادران جدا شده از فرزندان و از صوت نهان قدمها و از جاى روئيدن ميوه از مداخل و بواطن غلافهائى كه در آن ميوه مخلوق مى‏شود، و از محل اختفاء وحشها از غارهاى كوهها، و از رودخانهاى آنها، و از موضع پنهان شدن پشّها در ميان ساقهاى درختان و پوست‏هاى آنها، و از مكان رستن برگ‏ها از شاخها و از محلّ فرود آمدن اخلاط نطفه از مجاري صلبها، و از تازه بر آمده ابرها و بهم پيوسته آنها، و از ريزان شدن قطرها از أبرها و بهم بر نشسته آنها، و از آنچه كه مى‏پاشد آنرا گردبادها بدامنهاى خود، و محو مى‏كند آنرا بارانها بسيل‏هاى خود، و از فرو رفتن و سير نمودن حشرات الأرض در تلّهاى ريگها، و از محل استقرار صاحبان بال‏ها ببلندى‏هاى سرهاى كوه‏ها،

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 59
و از آواز گردانيدن بنغمات و سرود صاحبان نطق از مرغان در تاريكى‏هاى آشيان‏ها و از آنچه كه حفظ نموده است آنرا صدف‏ها، يعنى از لؤلؤ و مرواريد، و دايگى نموده است آنرا موج‏هاى درياها يعنى از عنبر و ماهى، و از آنچه كه پوشيده آنرا تاريكى شب يا طلوع نموده بر آن روشنى دهنده روز، و از آنچه كه پى در پى مى‏آيد بر او طبق‏هاى ظلمت‏ها و مجارى نور، و از علامت هركام، و از حسّ و حركت هر جسمى از اجسام، و از باز گردانيدن جواب هر كلمه، و از حركت دادن هر لب، و از قرارگاه هر آفريده، و از مقدار هر ذرّه، و از آوازهاى پنهان هر نفس صاحب همّت، و از آنچه كه بر زمين است از ميوه درختى يا از افتاده برگى يا از آرام گرفتن نطفه يا نقاعه كه محلّ اجتماع خونست و مضغه، يا صورتى كه آفريده شده در بدن و نطفه كه بيرون كشيده شده از پشت حيوان.
نرسيده است بذات بارى تعالى در اين چيزها كه آفريده مشقتى، و عارض نشده است او را در حفظ آنچه كه ايجاد فرموده از مخلوقات عارضه، و احاطه نكرده او را در اجراء امورات و تدبير مخلوقات ملالت و كدورتي، و نه ضعف و فتورى، بلكه نافذ شده در ايشان علم او، و بشماره در آورده ايشان را شمردن او، و فرا گرفته است ايشان را عدالت او، و پوشيده گناهان ايشان را فضل او با وجود تقصير كردن ايشان از پايان رسانيدن آنچه كه خداوند سبحانه سزاوار او است از مراتب معرفت و عبادت.
بار پروردگارا توئى سزاوار اوصاف حسنه بى‏شمار و اهل شمار نمودن شماره‏هاى بسيار اگر اميد گرفته شوى تو، پس تو بهترين اميد داشته شدهائى، و اگر رجا بتو باشد پس تو گرامى‏ترين رجا داشته شدگانى بار خدايا و بتحقيق كه گسترانيدى از براى من قدرت را در آنچه كه مدح نميكنم با او غير تو را، و ثنا نميكنم با او بر أحدى غير از تو، و متوجّه نميكنم مدح و ثناء خود را بسوى مخلوقين كه معدن‏هاى نوميدى و محل‏هاى تهمت مى‏باشند و باز داشته زبان مرا از مدحهاى آدميان و ثنا گفتن بر مخلوقان كه تربيت يافته‏

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 7 ، صفحه‏ى 60
نعمت تو اند.
بار خدايا هر ثنا كننده را بر كسى كه در حقّ او ثنا گفته ثوابى هست از پاداش آن يا خوبى از عطا كردن، و بتحقيق كه اميد گرفتم بتو از جهت اين كه تو رهنمائى بر ذخيرهاى بخشش، و خزانهاى مغفرت و آمرزش بار خدايا اين مقامى كه مشغول هستم بذكر حمد و ثناى تو مقام كسيست كه منحصر دانست تو را بيگانگى كه اختصاص دارد بتو، و نديد كسى را كه مستحق باشد مر اين ستايشها و ثناها را غير از ذات تو، و مراست حاجتى بسوى تو كه جبر و اصلاح نمى‏كند ذلّت آنرا مگر فضل تو، و بر نمى‏دارد فقر وفاقت آنرا مگر عطا وجود تو پس ببخش ما را در اين مقام رضا و خشنودى خود را، و مستغنى كن ما را از دراز نمودن دستها بسوى غير تو، بدرستى كه تو بر آن چه مى‏خواهى صاحب قدرت مى‏باشى.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 90/3 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)خطبة الأشباح -القسم الثالث

خطبه 91 صبحی صالح

91- و من خطبة له ( عليه ‏السلام  ) تعرف بخطبة الأشباح

و هي من جلائل خطبه ( عليه‏ السلام  )

روى مسعدة بن صدقة عن الصادق جعفر بن محمد ( عليهماالسلام  ) أنه قال:

خطب أمير المؤمنين بهذه الخطبة على منبر الكوفة

و ذلك أن رجلا أتاه فقال له يا أمير المؤمنين صف لنا ربنا مثل ما نراه عيانا لنزداد له حبا و به معرفة

فغضب و نادى الصلاة جامعة

فاجتمع الناس حتى غص المسجد بأهله

فصعد المنبر و هو مغضب متغير اللون

فحمد الله و أثنى عليه

و صلى على النبي ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  ) ثم قال

وصف اللّه تعالى‏

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يَفِرُهُ الْمَنْعُ وَ الْجُمُودُ

وَ لَا يُكْدِيهِ الْإِعْطَاءُ وَ الْجُودُ

إِذْ كُلُّ مُعْطٍ مُنْتَقِصٌ سِوَاهُ

وَ كُلُّ مَانِعٍ مَذْمُومٌ مَا خَلَاهُ

وَ هُوَ الْمَنَّانُ بِفَوَائِدِ النِّعَمِ

وَ عَوَائِدِ الْمَزِيدِ وَ الْقِسَمِ

عِيَالُهُ الْخَلَائِقُ

ضَمِنَ أَرْزَاقَهُمْ

وَ قَدَّرَ أَقْوَاتَهُمْ

وَ نَهَجَ سَبِيلَ الرَّاغِبِينَ إِلَيْهِ

وَ الطَّالِبِينَ مَا لَدَيْهِ

وَ لَيْسَ بِمَا سُئِلَ بِأَجْوَدَ مِنْهُ بِمَا لَمْ يُسْأَلْ

الْأَوَّلُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلٌ فَيَكُونَ شَيْ‏ءٌ قَبْلَهُ

وَ الْآخِرُ الَّذِي لَيْسَ لهُ بَعْدٌ فَيَكُونَ شَيْ‏ءٌ بَعْدَهُ

وَ الرَّادِعُ أَنَاسِيَّ الْأَبْصَارِ عَنْ أَنْ تَنَالَهُ أَوْ تُدْرِكَهُ

مَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ دَهْرٌ فَيَخْتَلِفَ مِنْهُ الْحَالُ

وَ لَا كَانَ فِي مَكَانٍ فَيَجُوزَ عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ

وَ لَوْ وَهَبَ مَا تَنَفَّسَتْ عَنْهُ مَعَادِنُ الْجِبَالِ

وَ ضَحِكَتْ عَنْهُ أَصْدَافُ الْبِحَارِ

مِنْ فِلِزِّ اللُّجَيْنِ وَ الْعِقْيَانِ

وَ نُثَارَةِ الدُّرِّ

وَ حَصِيدِ الْمَرْجَانِ

مَا أَثَّرَ ذَلِكَ فِي جُودِهِ

وَ لَا أَنْفَدَ سَعَةَ مَا عِنْدَهُ

وَ لَكَانَ عِنْدَهُ مِنْ ذَخَائِرِ الْأَنْعَامِ‏

مَا لَا تُنْفِدُهُ

مَطَالِبُ الْأَنَامِ

لِأَنَّهُ الْجَوَادُ الَّذِي لَا يَغِيضُهُ سُؤَالُ السَّائِلِينَ

وَ لَا يُبْخِلُهُ إِلْحَاحُ الْمُلِحِّينَ

صفاته تعالى في القرآن‏

فَانْظُرْ أَيُّهَا السَّائِلُ

فَمَا دَلَّكَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ مِنْ صِفَتِهِ فَائْتَمَّ بِهِ

وَ اسْتَضِئْ بِنُورِ هِدَايَتِهِ

وَ مَا كَلَّفَكَ الشَّيْطَانُ عِلْمَهُ مِمَّا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ عَلَيْكَ فَرْضُهُ

وَ لَا فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ ( صلى‏ الله‏ عليه ‏وآله  )وَ أَئِمَّةِ الْهُدَى أَثَرُهُ

فَكِلْ عِلْمَهُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ

فَإِنَّ ذَلِكَ مُنْتَهَى حَقِّ اللَّهِ عَلَيْكَ

وَ اعْلَمْ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ

هُمُ الَّذِينَ أَغْنَاهُمْ عَنِ اقْتِحَامِ السُّدَدِ

الْمَضْرُوبَةِ دُونَ الْغُيُوبِ

الْإِقْرَارُ بِجُمْلَةِ مَا جَهِلُوا تَفْسِيرَهُ مِنَ الْغَيْبِ الْمَحْجُوبِ

فَمَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى اعْتِرَافَهُمْ بِالْعَجْزِ عَنْ تَنَاوُلِ مَا لَمْ يُحِيطُوا بِهِ عِلْماً

وَ سَمَّى تَرْكَهُمُ التَّعَمُّقَ فِيمَا لَمْ يُكَلِّفْهُمُ الْبَحْثَ عَنْ كُنْهِهِ رُسُوخاً

فَاقْتَصِرْ عَلَى ذَلِكَ

وَ لَا تُقَدِّرْ عَظَمَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى قَدْرِ عَقْلِكَ

فَتَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ

هُوَ الْقَادِرُ الَّذِي

إِذَا ارْتَمَتِ الْأَوْهَامُ لِتُدْرِكَ مُنْقَطَعَ قُدْرَتِهِ

وَ حَاوَلَ الْفِكْرُ الْمُبَرَّأُ مِنْ خَطَرَاتِ الْوَسَاوِسِ

أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ فِي عَمِيقَاتِ غُيُوبِ مَلَكُوتِهِ

وَ تَوَلَّهَتِ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ

لِتَجْرِيَ فِي كَيْفِيَّةِ صِفَاتِهِ

وَ غَمَضَتْ مَدَاخِلُ الْعُقُولِ فِي حَيْثُ لَا تَبْلُغُهُ الصِّفَاتُ لِتَنَاوُلِ عِلْمِ ذَاتِهِ رَدَعَهَا

وَ هِيَ تَجُوبُ مَهَاوِيَ سُدَفِ الْغُيُوبِ

مُتَخَلِّصَةً إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ‏

فَرَجَعَتْ إِذْ جُبِهَتْ

مُعْتَرِفَةً بِأَنَّهُ لَا يُنَالُ بِجَوْرِ الِاعْتِسَافِ كُنْهُ مَعْرِفَتِهِ

وَ لَا تَخْطُرُ بِبَالِ أُولِي الرَّوِيَّاتِ خَاطِرَةٌ مِنْ تَقْدِيرِ جَلَالِ عِزَّتِه

الَّذِي ابْتَدَعَ الْخَلْقَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ امْتَثَلَهُ

وَ لَا مِقْدَارٍ احْتَذَى عَلَيْهِ مِنْ خَالِقٍ مَعْبُودٍ كَانَ قَبْلَهُ

وَ أَرَانَا مِنْ مَلَكُوتِ قُدْرَتِهِ

وَ عَجَائِبِ مَا نَطَقَتْ بِهِ آثَارُ حِكْمَتِهِ

وَ اعْتِرَافِ الْحَاجَةِ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى أَنْ يُقِيمَهَا بِمِسَاكِ قُوَّتِهِ

مَا دَلَّنَا بِاضْطِرَارِ قِيَامِ الْحُجَّةِ لَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ

فَظَهَرَتِ الْبَدَائِعُ الَّتِي أَحْدَثَتْهَا آثَارُ صَنْعَتِهِ

وَ أَعْلَامُ حِكْمَتِهِ

فَصَارَ كُلُّ مَا خَلَقَ حُجَّةً لَهُ وَ دَلِيلًا عَلَيْهِ

وَ إِنْ كَانَ خَلْقاً صَامِتاً

فَحُجَّتُهُ بِالتَّدْبِيرِ نَاطِقَةٌ

وَ دَلَالَتُهُ عَلَى الْمُبْدِعِ قَائِمَةٌ

فَأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ شَبَّهَكَ بِتَبَايُنِ أَعْضَاءِ خَلْقِكَ

وَ تَلَاحُمِ حِقَاقِ مَفَاصِلِهِمُ الْمُحْتَجِبَةِ لِتَدْبِيرِ حِكْمَتِكَ

لَمْ يَعْقِدْ غَيْبَ ضَمِيرِهِ عَلَى مَعْرِفَتِكَ

وَ لَمْ يُبَاشِرْ قَلْبَهُ الْيَقِينُ بِأَنَّهُ لَا نِدَّ لَكَ

وَ كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ تَبَرُّؤَ التَّابِعِينَ مِنَ الْمَتْبُوعِينَ

إِذْ يَقُولُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ

 إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ‏

كَذَبَ الْعَادِلُونَ بِكَ

إِذْ شَبَّهُوكَ بِأَصْنَامِهِمْ

وَ نَحَلُوكَ حِلْيَةَ الْمَخْلُوقِينَ بِأَوْهَامِهِمْ

وَ جَزَّءُوكَ تَجْزِئَةَ الْمُجَسَّمَاتِ بِخَوَاطِرِهِمْ

وَ قَدَّرُوكَ عَلَى الْخِلْقَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْقُوَى بِقَرَائِحِ عُقُولِهِمْ

وَ أَشْهَدُ أَنَّ مَنْ سَاوَاكَ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ خَلْقِكَ فَقَدْ عَدَلَ بِكَ

وَ الْعَادِلُ بِكَ كَافِرٌ بِمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ مُحْكَمَاتُ آيَاتِكَ

وَ نَطَقَتْ عَنْهُ‏

شَوَاهِدُ حُجَجِ بَيِّنَاتِكَ

وَ إِنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ الَّذِي لَمْ تَتَنَاهَ فِي الْعُقُولِ

فَتَكُونَ فِي مَهَبِّ فِكْرِهَا مُكَيَّفاً

وَ لَا فِي رَوِيَّاتِ خَوَاطِرِهَا فَتَكُونَ مَحْدُوداً مُصَرَّفاً

و منهاقَدَّرَ مَا خَلَقَ فَأَحْكَمَ تَقْدِيرَهُ

وَ دَبَّرَهُ فَأَلْطَفَ تَدْبِيرَهُ

وَ وَجَّهَهُ لِوِجْهَتِهِ

فَلَمْ يَتَعَدَّ حُدُودَ مَنْزِلَتِهِ

وَ لَمْ يَقْصُرْ دُونَ الِانْتِهَاءِ إِلَى غَايَتِهِ

وَ لَمْ يَسْتَصْعِبْ إِذْ أُمِرَ بِالْمُضِيِّ عَلَى إِرَادَتِهِ

فَكَيْفَ وَ إِنَّمَا صَدَرَتِ الْأُمُورُ عَنْ مَشِيئَتِهِ

الْمُنْشِئُ أَصْنَافَ الْأَشْيَاءِ بِلَا رَوِيَّةِ فِكْرٍ آلَ إِلَيْهَا

وَ لَا قَرِيحَةِ غَرِيزَةٍ أَضْمَرَ عَلَيْهَا

وَ لَا تَجْرِبَةٍ أَفَادَهَا مِنْ حَوَادِثِ الدُّهُورِ

وَ لَا شَرِيكٍ أَعَانَهُ عَلَى ابْتِدَاعِ عَجَائِبِ الْأُمُورِ

فَتَمَّ خَلْقُهُ بِأَمْرِهِ

وَ أَذْعَنَ لِطَاعَتِهِ

وَ أَجَابَ إِلَى دَعْوَتِهِ

لَمْ يَعْتَرِضْ دُونَهُ رَيْثُ الْمُبْطِئِ

وَ لَا أَنَاةُ الْمُتَلَكِّئِ

فَأَقَامَ مِنَ الْأَشْيَاءِ أَوَدَهَا

وَ نَهَجَ حُدُودَهَا

وَ لَاءَمَ بِقُدْرَتِهِ بَيْنَ مُتَضَادِّهَا

وَ وَصَلَ أَسْبَابَ قَرَائِنِهَا

وَ فَرَّقَهَا أَجْنَاساً مُخْتَلِفَاتٍ فِي الْحُدُودِ وَ الْأَقْدَارِ

وَ الْغَرَائِزِ وَ الْهَيْئَاتِ

بَدَايَا خَلَائِقَ أَحْكَمَ صُنْعَهَا

وَ فَطَرَهَا عَلَى مَا أَرَادَ وَ ابْتَدَعَهَا

و منها في صفة السماء

وَ نَظَمَ بِلَا تَعْلِيقٍ رَهَوَاتِ فُرَجِهَا

وَ لَاحَمَ صُدُوعَ انْفِرَاجِهَا

وَ وَشَّجَ بَيْنَهَا وَ بَيْنَ أَزْوَاجِهَا

وَ ذَلَّلَ لِلْهَابِطِينَ بِأَمْرِهِ

وَ الصَّاعِدِينَ بِأَعْمَالِ خَلْقِهِ حُزُونَةَ مِعْرَاجِهَا

وَ نَادَاهَا بَعْدَ إِذْ هِيَ دُخَانٌ

فَالْتَحَمَتْ عُرَى أَشْرَاجِهَا

وَ فَتَقَ بَعْدَ الِارْتِتَاقِ صَوَامِتَ أَبْوَابِهَا

وَ أَقَامَ رَصَداً مِنَ الشُّهُبِ الثَّوَاقِبِ عَلَى نِقَابِهَا

وَ أَمْسَكَهَا مِنْ أَنْ تُمُورَ فِي خَرْقِ الْهَوَاءِ بِأَيْدِهِ

وَ أَمَرَهَا أَنْ تَقِفَ مُسْتَسْلِمَةً لِأَمْرِهِ

وَ جَعَلَ شَمْسَهَا آيَةً مُبْصِرَةً لِنَهَارِهَا

وَ قَمَرَهَا آيَةً مَمْحُوَّةً مِنْ لَيْلِهَا

وَ أَجْرَاهُمَا فِي مَنَاقِلِ مَجْرَاهُمَا

وَ قَدَّرَ سَيْرَهُمَا فِي مَدَارِجِ دَرَجِهِمَا

لِيُمَيِّزَ بَيْنَ اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ بِهِمَا

وَ لِيُعْلَمَ عَدَدُ السِّنِينَ وَ الْحِسَابُ بِمَقَادِيرِهِمَا

ثُمَّ عَلَّقَ فِي جَوِّهَا فَلَكَهَا

وَ نَاطَ بِهَا زِينَتَهَا مِنْ خَفِيَّاتِ دَرَارِيِّهَا

وَ مَصَابِيحِ كَوَاكِبِهَا

وَ رَمَى مُسْتَرِقِي السَّمْعِ بِثَوَاقِبِ شُهُبِهَا

وَ أَجْرَاهَا عَلَى أَذْلَالِ تَسْخِيرِهَا

مِنْ ثَبَاتِ ثَابِتِهَا

وَ مَسِيرِ سَائِرِهَا

وَ هُبُوطِهَا وَ صُعُودِهَا

وَ نُحُوسِهَا وَ سُعُودِهَا

و منها في صفة الملائكة

ثُمَّ خَلَقَ سُبْحَانَهُ لِإِسْكَانِ سَمَاوَاتِهِ

وَ عِمَارَةِ الصَّفِيحِ الْأَعْلَى مِنْ مَلَكُوتِهِ

خَلْقاً بَدِيعاً مِنْ مَلَائِكَتِهِ

وَ مَلَأَ بِهِمْ فُرُوجَ فِجَاجِهَا

وَ حَشَا بِهِمْ فُتُوقَ أَجْوَائِهَا

وَ بَيْنَ فَجَوَاتِ تِلْكَ الْفُرُوجِ زَجَلُ الْمُسَبِّحِينَ مِنْهُمْ فِي حَظَائِرِ الْقُدُسِ

وَ سُتُرَاتِ الْحُجُبِ

وَ سُرَادِقَاتِ الْمَجْدِ وَ وَرَاءَ ذَلِكَ الرَّجِيجِ

الَّذِي تَسْتَكُّ مِنْهُ الْأَسْمَاعُ

سُبُحَاتُ نُورٍ تَرْدَعُ الْأَبْصَارَ عَنْ بُلُوغِهَا

فَتَقِفُ خَاسِئَةً عَلَى حُدُودِهَا.

وَ أَنْشَأَهُمْ عَلَى صُوَرٍ مُخْتَلِفَاتٍ

وَ أَقْدَارٍ مُتَفَاوِتَاتٍ

 أُولِي أَجْنِحَةٍ

تُسَبِّحُ جَلَالَ عِزَّتِهِ

لَا يَنْتَحِلُونَ مَا ظَهَرَ فِي الْخَلْقِ مِنْ صُنْعِهِ

وَ لَا يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَخْلُقُونَ شَيْئاً مَعَهُ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ

 بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ

 لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ‏

جَعَلَهُمُ اللَّهُ فِيمَا هُنَالِكَ أَهْلَ الْأَمَانَةِ عَلَى وَحْيِهِ

وَ حَمَّلَهُمْ إِلَى الْمُرْسَلِينَ وَدَائِعَ أَمْرِهِ وَ نَهْيِهِ

وَ عَصَمَهُمْ مِنْ رَيْبِ الشُّبُهَاتِ

فَمَا مِنْهُمْ زَائِغٌ عَنْ سَبِيلِ مَرْضَاتِهِ

وَ أَمَدَّهُمْ بِفَوَائِدِ الْمَعُونَةِ

وَ أَشْعَرَ قُلُوبَهُمْ تَوَاضُعَ إِخْبَاتِ السَّكِينَةِ

وَ فَتَحَ لَهُمْ أَبْوَاباً ذُلُلًا إِلَى تَمَاجِيدِهِ

وَ نَصَبَ لَهُمْ مَنَاراً وَاضِحَةً عَلَى أَعْلَامِ تَوْحِيدِهِ

لَمْ تُثْقِلْهُمْ مُؤْصِرَاتُ الْآثَامِ

وَ لَمْ تَرْتَحِلْهُمْ عُقَبُ اللَّيَالِي وَ الْأَيَّامِ

وَ لَمْ تَرْمِ الشُّكُوكُ بِنَوَازِعِهَا عَزِيمَةَ إِيمَانِهِمْ

وَ لَمْ تَعْتَرِكِ الظُّنُونُ عَلَى مَعَاقِدِ يَقِينِهِمْ

وَ لَا قَدَحَتْ قَادِحَةُ الْإِحَنِ فِيمَا بَيْنَهُمْ

وَ لَا سَلَبَتْهُمُ الْحَيْرَةُ مَا لَاقَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِضَمَائِرِهِمْ

وَ مَا سَكَنَ مِنْ عَظَمَتِهِ وَ هَيْبَةِ جَلَالَتِهِ فِي أَثْنَاءِ صُدُورِهِمْ

وَ لَمْ تَطْمَعْ فِيهِمُ الْوَسَاوِسُ فَتَقْتَرِعَ بِرَيْنِهَا عَلَى فِكْرِهِمْ

وَ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِي خَلْقِ الْغَمَامِ‏ الدُّلَّحِ

وَ فِي عِظَمِ الْجِبَالِ الشُّمَّخِ

وَ فِي قَتْرَةِ الظَّلَامِ الْأَيْهَمِ

وَ مِنْهُمْ مَنْ قَدْ خَرَقَتْ أَقْدَامُهُمْ تُخُومَ الْأَرْضِ السُّفْلَى

فَهِيَ كَرَايَاتٍ بِيضٍ

قَدْ نَفَذَتْ فِي مَخَارِقِ الْهَوَاءِ

وَ تَحْتَهَا رِيحٌ هَفَّافَةٌ تَحْبِسُهَا عَلَى حَيْثُ انْتَهَتْ مِنَ الْحُدُودِ الْمُتَنَاهِيَةِ

قَدِ اسْتَفْرَغَتْهُمْ أَشْغَالُ عِبَادَتِهِ

وَ وَصَلَتْ حَقَائِقُ الْإِيمَانِ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَعْرِفَتِهِ

وَ قَطَعَهُمُ الْإِيقَانُ بِهِ إِلَى الْوَلَهِ إِلَيْهِ

وَ لَمْ تُجَاوِزْ رَغَبَاتُهُمْ مَا عِنْدَهُ إِلَى مَا عِنْدَ غَيْرِهِ

قَدْ ذَاقُوا حَلَاوَةَ مَعْرِفَتِهِ

وَ شَرِبُوا بِالْكَأْسِ الرَّوِيَّةِ مِنْ مَحَبَّتِهِ

وَ تَمَكَّنَتْ مِنْ سُوَيْدَاءِ

قُلُوبِهِمْ وَشِيجَةُ خِيفَتِهِ

فَحَنَوْا بِطُولِ الطَّاعَةِ اعْتِدَالَ ظُهُورِهِمْ

وَ لَمْ يُنْفِدْ طُولُ الرَّغْبَةِ إِلَيْهِ مَادَّةَ تَضَرُّعِهِمْ

وَ لَا أَطْلَقَ عَنْهُمْ عَظِيمُ الزُّلْفَةِ رِبَقَ خُشُوعِهِمْ

وَ لَمْ يَتَوَلَّهُمُ الْإِعْجَابُ فَيَسْتَكْثِرُوا مَا سَلَفَ مِنْهُمْ

وَ لَا تَرَكَتْ لَهُمُ اسْتِكَانَةُ الْإِجْلَالِ نَصِيباً فِي تَعْظِيمِ حَسَنَاتِهِمْ

وَ لَمْ تَجْرِ الْفَتَرَاتُ فِيهِمْ عَلَى طُولِ دُءُوبِهِمْ

وَ لَمْ تَغِضْ رَغَبَاتُهُمْ فَيُخَالِفُوا عَنْ رَجَاءِ رَبِّهِمْ

وَ لَمْ تَجِفَّ لِطُولِ الْمُنَاجَاةِ أَسَلَاتُ أَلْسِنَتِهِمْ

وَ لَا مَلَكَتْهُمُ الْأَشْغَالُ فَتَنْقَطِعَ بِهَمْسِ الْجُؤَارِ إِلَيْهِ أَصْوَاتُهُمْ

وَ لَمْ تَخْتَلِفْ فِي مَقَاوِمِ الطَّاعَةِ مَنَاكِبُهُمْ

وَ لَمْ يَثْنُوا إِلَى رَاحَةِ التَّقْصِيرِ فِي أَمْرِهِ رِقَابَهُمْ.

وَ لَا تَعْدُو عَلَى عَزِيمَةِ جِدِّهِمْ بَلَادَةُ الْغَفَلَاتِ

وَ لَا تَنْتَضِلُ فِي هِمَمِهِمْ خَدَائِعُ الشَّهَوَاتِ

قَدِاتَّخَذُوا ذَا الْعَرْشِ ذَخِيرَةً لِيَوْمِ فَاقَتِهِمْ

وَ يَمَّمُوهُ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْخَلْقِ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ بِرَغْبَتِهِمْ

لَا يَقْطَعُونَ أَمَدَ غَايَةِ عِبَادَتِهِ

وَ لَا يَرْجِعُ بِهِمُ الِاسْتِهْتَارُ بِلُزُومِ طَاعَتِهِ

إِلَّا إِلَى مَوَادَّ مِنْ قُلُوبِهِمْ غَيْرِ مُنْقَطِعَةٍ مِنْ رَجَائِهِ وَ مَخَافَتِهِ

لَمْ تَنْقَطِعْ أَسْبَابُ الشَّفَقَةِ مِنْهُمْ

فَيَنُوا فِي جِدِّهِمْ

وَ لَمْ تَأْسِرْهُمُ الْأَطْمَاعُ فَيُؤْثِرُوا وَشِيكَ السَّعْيِ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ

لَمْ يَسْتَعْظِمُوا مَا مَضَى مِنْ أَعْمَالِهِمْ

وَ لَوِ اسْتَعْظَمُوا ذَلِكَ لَنَسَخَ الرَّجَاءُ مِنْهُمْ شَفَقَاتِ وَجَلِهِمْ

وَ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي رَبِّهِمْ بِاسْتِحْوَاذِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ

وَ لَمْ يُفَرِّقْهُمْ سُوءُ التَّقَاطُعِ

وَ لَا تَوَلَّاهُمْ غِلُّ التَّحَاسُدِ

وَ لَا تَشَعَّبَتْهُمْ مَصَارِفُ الرِّيَبِ

وَ لَا اقْتَسَمَتْهُمْ أَخْيَافُ الْهِمَمِ

فَهُمْ أُسَرَاءُ إِيمَانٍ

لَمْ يَفُكَّهُمْ مِنْ رِبْقَتِهِ زَيْغٌ وَ لَا عُدُولٌ وَ لَا وَنًى وَ لَا فُتُورٌ

وَ لَيْسَ فِي أَطْبَاقِ السَّمَاءِ مَوْضِعُ إِهَابٍ إِلَّا وَ عَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ

أَوْ سَاعٍ حَافِدٌ

يَزْدَادُونَ عَلَى طُولِ الطَّاعَةِ بِرَبِّهِمْ عِلْماً

وَ تَزْدَادُ عِزَّةُ رَبِّهِمْ فِي قُلُوبِهِمْ عِظَماً

و منها في صفة الأرض و دحوها على الماء

كَبَسَ الْأَرْضَ عَلَى مَوْرِ أَمْوَاجٍ مُسْتَفْحِلَةٍ

وَ لُجَجِ بِحَارٍ زَاخِرَةٍ

تَلْتَطِمُ أَوَاذِيُّ أَمْوَاجِهَا

وَ تَصْطَفِقُ مُتَقَاذِفَاتُ أَثْبَاجِهَا

وَ تَرْغُو زَبَداً كَالْفُحُولِ عِنْدَ هِيَاجِهَا

فَخَضَعَ جِمَاحُ الْمَاءِ الْمُتَلَاطِمِ لِثِقَلِ حَمْلِهَا

وَ سَكَنَ هَيْجُ ارْتِمَائِهِ إِذْ وَطِئَتْهُ‏ بِكَلْكَلِهَا

وَ ذَلَّ مُسْتَخْذِياً

إِذْ تَمَعَّكَتْ عَلَيْهِ بِكَوَاهِلِهَا

فَأَصْبَحَ بَعْدَ اصْطِخَابِ أَمْوَاجِهِ

سَاجِياً مَقْهُوراً

وَ فِي حَكَمَةِ الذُّلِّ مُنْقَاداً أَسِيراً

وَ سَكَنَتِ الْأَرْضُ مَدْحُوَّةً فِي لُجَّةِ تَيَّارِهِ

وَ رَدَّتْ مِنْ نَخْوَةِ بَأْوِهِ وَ اعْتِلَائِهِ

وَ شُمُوخِ أَنْفِهِ وَ سُمُوِّ غُلَوَائِهِ

وَ كَعَمَتْهُ عَلَى كِظَّةِ جَرْيَتِهِ

فَهَمَدَ بَعْدَ نَزَقَاتِهِ

وَ لَبَدَ بَعْدَ زَيَفَانِ وَثَبَاتِهِ

فَلَمَّا سَكَنَ هَيْجُ الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ أَكْنَافِهَا

وَ حَمْلِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ الشُّمَّخِ الْبُذَّخِ عَلَى أَكْتَافِهَا

فَجَّرَ يَنَابِيعَ الْعُيُونِ مِنْ عَرَانِينِ أُنُوفِهَا

وَ فَرَّقَهَا فِي سُهُوبِ بِيدِهَا وَ أَخَادِيدِهَا

وَ عَدَّلَ حَرَكَاتِهَا بِالرَّاسِيَاتِ مِنْ جَلَامِيدِهَا

وَ ذَوَاتِ الشَّنَاخِيبِ الشُّمِّ مِنْ صَيَاخِيدِهَا

فَسَكَنَتْ مِنَ الْمَيَدَانِ لِرُسُوبِ الْجِبَالِ فِي قِطَعِ أَدِيمِهَا وَ تَغَلْغُلِهَا

مُتَسَرِّبَةً فِي جَوْبَاتِ خَيَاشِيمِهَا

وَ رُكُوبِهَا أَعْنَاقَ سُهُولِ الْأَرَضِينَ وَ جَرَاثِيمِهَا

وَ فَسَحَ بَيْنَ الْجَوِّ وَ بَيْنَهَا

وَ أَعَدَّ الْهَوَاءَ مُتَنَسَّماً لِسَاكِنِهَا

وَ أَخْرَجَ إِلَيْهَا أَهْلَهَا عَلَى تَمَامِ مَرَافِقِهَا

ثُمَّ لَمْ يَدَعْ جُرُزَ الْأَرْضِ الَّتِي تَقْصُرُ مِيَاهُ الْعُيُونِ عَنْ رَوَابِيهَا

وَ لَا تَجِدُ جَدَاوِلُ الْأَنْهَارِ ذَرِيعَةً إِلَى بُلُوغِهَا

حَتَّى أَنْشَأَ لَهَا نَاشِئَةَ سَحَابٍ تُحْيِي مَوَاتَهَا

وَ تَسْتَخْرِجُ نَبَاتَهَا

أَلَّفَ غَمَامَهَا بَعْدَ افْتِرَاقِ لُمَعِهِ

وَ تَبَايُنِ قَزَعِهِ

حَتَّى إِذَا تَمَخَّضَتْ لُجَّةُالْمُزْنِ فِيهِ

وَ الْتَمَعَ بَرْقُهُ فِي كُفَفِهِ

وَ لَمْ يَنَمْ وَمِيضُهُ فِي كَنَهْوَرِ رَبَابِهِ

وَ مُتَرَاكِمِ سَحَابِهِ

أَرْسَلَهُ سَحّاً مُتَدَارِكاً

قَدْ أَسَفَّ هَيْدَبُهُ

تَمْرِيهِ الْجَنُوبُ دِرَرَ أَهَاضِيبِهِ

وَ دُفَعَ شَآبِيبِهِ.

فَلَمَّا أَلْقَتِ السَّحَابُ بَرْكَ بِوَانَيْهَا

وَ بَعَاعَ مَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ مِنَ الْعِبْ‏ءِ الْمَحْمُولِ عَلَيْهَا

أَخْرَجَ بِهِ مِنْ هَوَامِدِ الْأَرْضِ النَّبَاتَ

وَ مِنْ زُعْرِ الْجِبَالِ الْأَعْشَابَ

فَهِيَ تَبْهَجُ بِزِينَةِ رِيَاضِهَا

وَ تَزْدَهِي بِمَا أُلْبِسَتْهُ مِنْ رَيْطِ أَزَاهِيرِهَا

وَ حِلْيَةِ مَا سُمِطَتْ بِهِ مِنْ نَاضِرِ أَنْوَارِهَا

وَ جَعَلَ ذَلِكَ بَلَاغاً لِلْأَنَامِ

وَ رِزْقاً لِلْأَنْعَامِ

وَ خَرَقَ الْفِجَاجَ فِي آفَاقِهَا

وَ أَقَامَ الْمَنَارَ لِلسَّالِكِينَ عَلَى جَوَادِّ طُرُقِهَا

فَلَمَّا مَهَدَ أَرْضَهُ

وَ أَنْفَذَ أَمْرَهُ

اخْتَارَ آدَمَ ( عليه‏ السلام  )خِيرَةً مِنْ خَلْقِهِ

وَ جَعَلَهُ أَوَّلَ جِبِلَّتِهِ

وَ أَسْكَنَهُ جَنَّتَهُ

وَ أَرْغَدَ فِيهَا أُكُلَهُ

وَ أَوْعَزَ إِلَيْهِ فِيمَا نَهَاهُ عَنْهُ

وَ أَعْلَمَهُ أَنَّ فِي الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ التَّعَرُّضَ لِمَعْصِيَتِهِ

وَ الْمُخَاطَرَةَ بِمَنْزِلَتِهِ

فَأَقْدَمَ عَلَى مَا نَهَاهُ عَنْهُ

مُوَافَاةً لِسَابِقِ عِلْمِهِ

فَأَهْبَطَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ لِيَعْمُرَ أَرْضَهُ بِنَسْلِهِ

وَ لِيُقِيمَ الْحُجَّةَ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ

وَ لَمْ يُخْلِهِمْ بَعْدَ أَنْ قَبَضَهُ

مِمَّا يُؤَكِّدُ عَلَيْهِمْ حُجَّةَ رُبُوبِيَّتِهِ

وَ يَصِلُ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَعْرِفَتِهِ

بَلْ تَعَاهَدَهُمْ بِالْحُجَجِ عَلَى أَلْسُنِ الْخِيَرَةِ مِنْ أَنْبِيَائِهِ

وَ مُتَحَمِّلِي وَدَائِعِ رِسَالَاتِهِ

قَرْناً فَقَرْناً

حَتَّى تَمَّتْ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ( صلى‏ الله‏ عليه‏ وسلم  )حُجَّتُهُ

وَ بَلَغَ الْمَقْطَعَ عُذْرُهُ وَ نُذُرُهُ

وَ قَدَّرَ الْأَرْزَاقَ فَكَثَّرَهَا وَ قَلَّلَهَا

وَ قَسَّمَهَا عَلَى الضِّيقِ وَ السَّعَةِ فَعَدَلَ فِيهَا

لِيَبْتَلِيَ مَنْ أَرَادَ بِمَيْسُورِهَا وَ مَعْسُورِهَا

وَ لِيَخْتَبِرَ بِذَلِكَ الشُّكْرَ وَ الصَّبْرَ مِنْ غَنِيِّهَا وَ فَقِيرِهَا

ثُمَّ قَرَنَ بِسَعَتِهَا عَقَابِيلَ فَاقَتِهَا

وَ بِسَلَامَتِهَا طَوَارِقَ آفَاتِهَا

وَ بِفُرَجِ أَفْرَاحِهَا غُصَصَ أَتْرَاحِهَا

وَ خَلَقَ الْآجَالَ فَأَطَالَهَا وَ قَصَّرَهَا

وَ قَدَّمَهَا وَ أَخَّرَهَا

وَ وَصَلَ بِالْمَوْتِ أَسْبَابَهَا

وَ جَعَلَهُ خَالِجاً لِأَشْطَانِهَا

وَ قَاطِعاً لِمَرَائِرِ أَقْرَانِهَا

عَالِمُ السِّرِّ مِنْ ضَمَائِرِ الْمُضْمِرِينَ

وَ نَجْوَى الْمُتَخَافِتِينَ

وَ خَوَاطِرِ رَجْمِ الظُّنُونِ

وَ عُقَدِ عَزِيمَاتِ الْيَقِينِ

وَ مَسَارِقِ إِيمَاضِ الْجُفُونِ

وَ مَا ضَمِنَتْهُ أَكْنَانُ الْقُلُوبِ

وَ غَيَابَاتُ الْغُيُوبِ

وَ مَا أَصْغَتْ لِاسْتِرَاقِهِ مَصَائِخُ الْأَسْمَاعِ

وَ مَصَايِفُ الذَّرِّ

وَ مَشَاتِي الْهَوَامِّ

وَ رَجْعِ الْحَنِينِ مِنَ الْمُولَهَاتِ

وَ هَمْسِ الْأَقْدَامِ

وَ مُنْفَسَحِ الثَّمَرَةِ مِنْ وَلَائِجِ غُلُفِ الْأَكْمَامِ

وَ مُنْقَمَعِ الْوُحُوشِ مِنْ غِيرَانِ الْجِبَالِ وَ أَوْدِيَتِهَا

وَ مُخْتَبَإِ الْبَعُوضِ بَيْنَ سُوقِ الْأَشْجَارِ وَ أَلْحِيَتِهَا

وَ مَغْرِزِ الْأَوْرَاقِ مِنَ الْأَفْنَانِ

وَ مَحَطِّ الْأَمْشَاجِ مِنْ مَسَارِبِ الْأَصْلَابِ

وَ نَاشِئَةِ الْغُيُومِ وَ مُتَلَاحِمِهَا

وَ دُرُورِ قَطْرِ السَّحَابِ فِي مُتَرَاكِمِهَا

وَ مَا تَسْفِي الْأَعَاصِيرُ بِذُيُولِهَا

وَ تَعْفُو الْأَمْطَارُ بِسُيُولِهَا

وَ عَوْمِ بَنَاتِ الْأَرْضِ فِي كُثْبَانِ الرِّمَالِ

وَ مُسْتَقَرِّ ذَوَاتِ الْأَجْنِحَةِ بِذُرَا شَنَاخِيبِ الْجِبَالِ

وَ تَغْرِيدِ ذَوَاتِ الْمَنْطِقِ فِي دَيَاجِيرِ الْأَوْكَارِ

وَ مَا أَوْعَبَتْهُ الْأَصْدَافُ

وَ حَضَنَتْ عَلَيْهِ أَمْوَاجُ الْبِحَارِ

وَ مَا غَشِيَتْهُ سُدْفَةُ لَيْلٍ

أَوْ ذَرَّ عَلَيْهِ شَارِقُ نَهَارٍ

وَ مَا اعْتَقَبَتْ عَلَيْهِ أَطْبَاقُ الدَّيَاجِيرِ

وَ سُبُحَاتُ النُّورِ

وَ أَثَرِ كُلِّ خَطْوَةٍ

وَ حِسِّ كُلِّ حَرَكَةٍ

وَ رَجْعِ كُلِّ كَلِمَةٍ

وَ تَحْرِيكِ كُلِّ شَفَةٍ

وَ مُسْتَقَرِّ كُلِّ نَسَمَةٍ

وَ مِثْقَالِ كُلِّ ذَرَّةٍ وَ هَمَاهِمِ كُلِّ نَفْسٍ هَامَّةٍ

وَ مَا عَلَيْهَا مِنْ ثَمَرِ شَجَرَةٍ

أَوْ سَاقِطِ وَرَقَةٍ

أَوْ قَرَارَةِ نُطْفَةٍ

أَوْ نُقَاعَةِ دَمٍ وَ مُضْغَةٍ

أَوْ نَاشِئَةِ خَلْقٍ وَ سُلَالَةٍ

لَمْ يَلْحَقْهُ فِي ذَلِكَ كُلْفَةٌ

وَ لَا اعْتَرَضَتْهُ فِي حِفْظِ مَا ابْتَدَعَ مِنْ خَلْقِهِ عَارِضَةٌ

وَ لَا اعْتَوَرَتْهُ فِي تَنْفِيذِ الْأُمُورِ وَ تَدَابِيرِ الْمَخْلُوقِينَ مَلَالَةٌ وَ لَا فَتْرَةٌ

بَلْ نَفَذَهُمْ عِلْمُهُ

وَ أَحْصَاهُمْ عَدَدُهُ

وَ وَسِعَهُمْ عَدْلُهُ

وَ غَمَرَهُمْ فَضْلُهُ

مَعَ تَقْصِيرِهِمْ عَنْ كُنْهِ مَا هُوَ أَهْلُهُ

دعاء

اللَّهُمَّ أَنْتَ أَهْلُ الْوَصْفِ الْجَمِيلِ

وَ التَّعْدَادِ الْكَثِيرِ

إِنْ تُؤَمَّلْ فَخَيْرُ مَأْمُولٍ

وَ إِنْ تُرْجَ فَخَيْرُ مَرْجُوٍّ

اللَّهُمَّ وَ قَدْ بَسَطْتَ لِي فِيمَا لَا أَمْدَحُ بِهِ غَيْرَكَ

وَ لَا أُثْنِي بِهِ عَلَى أَحَدٍ سِوَاكَ

وَ لَا أُوَجِّهُهُ إِلَى مَعَادِنِ الْخَيْبَةِ وَ مَوَاضِعِ الرِّيبَةِ

وَ عَدَلْتَ بِلِسَانِي عَنْ مَدَائِحِ الْآدَمِيِّينَ وَ الثَّنَاءِ عَلَى الْمَرْبُوبِينَ الْمَخْلُوقِينَ

اللَّهُمَّ وَ لِكُلِّ مُثْنٍ عَلَى مَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ مَثُوبَةٌ مِنْ جَزَاءٍ

أَوْ عَارِفَةٌ مِنْ عَطَاءٍ

وَ قَدْ رَجَوْتُكَ دَلِيلًا عَلَى ذَخَائِرِ الرَّحْمَةِ وَ كُنُوزِ الْمَغْفِرَةِ

اللَّهُمَّ وَ هَذَا مَقَامُ مَنْ أَفْرَدَكَ بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ لَكَ

وَ لَمْ يَرَ مُسْتَحِقّاً لِهَذِهِ الْمَحَامِدِ وَ الْمَمَادِحِ غَيْرَكَ

وَ بِي فَاقَةٌ إِلَيْكَ لَا يَجْبُرُ مَسْكَنَتَهَا إِلَّا فَضْلُكَ

وَ لَا يَنْعَشُ مِنْ خَلَّتِهَا إِلَّا مَنُّكَ وَ جُودُكَ

فَهَبْ لَنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ رِضَاكَ

وَ أَغْنِنَا عَنْ مَدِّ الْأَيْدِي إِلَى سِوَاكَ

 إِنَّكَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج6  

الفصل الخامس

منها في صفة الملائكة ثمّ خلق سبحانه لإسكان سماواته، و عمارة الصّفيح الأعلى من ملكوته، خلقا بديعا من ملائكته، ملأ بهم فروج فجاجها، و حشابهم فتوق أجوائها، و بين فجوجات تلك الفروج زجل المسبّحين منهم في حظاير القدس، و سترات الحجب، و سرادقات المجد، و وراء ذلك الرّجيج الّذي تستك منه الأسماع سبحات نور تردع الأبصار عن بلوغها، فتقف خاسئة على حدودها، أنشأهم على صور مختلفات، و أقدار متفاوتات، أولي أجنحة تسبّح جلال عزّته، لا ينتحلون ما ظهر في الخلق من صنعه، و لا يدّعون أنّهم يخلقون شيئا معه ممّاانفرد به، بل عباد مكرمون، لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون. جعلهم فيما هنا لك أهل الأمانة على وحيه، و حمّلهم إلى المرسلين و دائع أمره و نهيه، و عصمهم من ريب الشّبهات، فما منهم زائغ من سبيل مرضاته، و أمدّهم بفوائد المعونة، و أشعر قلوبهم تواضع إخبات السّكينة، و فتح لهم أبوابا ذللا إلى تماجيده، و نصب لهم منارا واضحة على أعلام توحيده، لم تثقلهم موصرات الاثام، و لم ترتحلهم عقب اللّيالي و الأيّام، و لم ترم الشّكوك بنوازعها عزيمة إيمانهم، و لم تعترك الظّنون على معاقد يقينهم، و لا قدحت قادحة الأحن فيما بينهم، و لا سلبتهم الحيرة ما لاق من معرفته بضمائرهم، و ما سكن من عظمته و هيبة جلالته في أثناء صدورهم، و لم تطمع فيهم الوساوس فتقترع برينها على فكرهم منهم من هو في خلق الغمام الدّلّح، و في عظم الجبال الشّمّخ، و في قترة الظّلام الأيهم، و منهم من قد خرقت أقدامهم تخوم الأرض السّفلى، فهي كرايات بيض قد نفذت في مخارق الهواء، و تحتها ريح هفّافة تحبسها على حيث انتهت من الحدود المتناهية، قد استفرغتهم أشغال عبادته، و وصلت حقايق الإيمان بينهم و بين معرفته، و قطعهم الإيقان به إلى الوله إليه، و لم تجاوز رغباتهم ما عنده إلى ما عند غيره.

قد ذاقوا حلاوة معرفته، و شربوا بالكأس الرّويّة من محبّته، و تمكّنت من سويداء قلوبهم و شيجة خيفته، فحنوا بطول الطّاعة اعتدال ظهورهم، و لم ينفد طول الرّغبة إليه مادّة تضرّعهم، و لا أطلق عنهم عظيم الزّلفة ربق خشوعهم، و لم يتولّهم الإعجاب فيستكثروا ما سلف منهم و لا تركت لهم استكانة الإجلال نصيبا في تعظيم حسناتهم، و لم تجر الفترات فيهم على طول دؤوبهم، و لم تغض رغباتهم فيخالفوا عن رجاء ربّهم، و لم تجفّ لطول المناجاة أسلات ألسنتهم، و لا ملكتهم الأشغال فتنقطع بهمس الجؤار إليه أصواتهم، و لم تختلف في مقاوم الطّاعة مناكبهم، و لم يثنوا إلى راحة التّقصير في أمره رقابهم، و لا تعدوا على عزيمة جدّهم بلادة الغفلات، و لا تنتصل في هممهم خدائع الشّهوات. قد اتّخذوا ذا العرش ذخيرة ليوم فاقتهم، و يمّموه عند انقطاع الخلق إلى المخلوقين برغبتهم، لا يقطعون أمد غاية عبادته، و لا يرجع بهم الاستهتار بلزوم طاعته، إلّا إلى موادّ من قلوبهم غير منقطعة من رجائه و مخافته، لم تنقطع أسباب الشّفقة منهم فينوا في جدّهم، و لم تأسرهم الأطماع فيؤثروا و شيك السّعي على اجتهادهم، و لم يستعظموا ما مضى من أعمالهم، و لو استعظموا ذلك لنسخ الرّجآء منهم شفقات وجلهم و لم يختلفوا في ربّهم باستحواذ الشّيطان عليهم، و لم يفرّقهم سوء التّقاطع، و لا تولّاهم غلّ التّحاسد، و لا شعّبتهم مصارف الرّيب، و لا اقتسمتهم أخياف الهمم، فهم أسراء إيمان لم يفكّهم من ربقته زيغ و لا عدول، و لا ونا و لا فتور، و ليس في أطباق السّموات موضع إهاب إلّا و عليه ملك ساجد، أو ساع حافد، يزدادون على طول الطّاعة بربّهم علما، و تزداد عزّة ربّهم في قلوبهم عظما.

اللغة

(عمارة) المنزل جعله أهلا ضدّ الخراب الذى لا أهل له يقال عمره اللَّه منزلك عمارة و أعمره جعله أهلا و (الصفيح) السّماء و وجه كلّ شي‏ء عريض قاله فى القاموس، و وصفه بالأعلى بالنسبة إلى الأرض لأنه الصفيح الأسفل، فما في شرح المعتزلي من تفسيره بسطح الفلك الأعظم ليس بشي‏ء بل مخالف لكلام الامام عليه السّلام مضافا إلى مخالفته لتفسير أهل اللغة إذ كلامه هنا و في الخطبة الاولى صريح في عدم اختصاص مسكن الملائكة بالفلك الأعظم، حيث قال ثمّة: ثمّ فتق ما بين السّماوات العلى فملأهنّ أطوارا من ملائكته، و ذكر هنا أنه تعالى ملأ بهم فروج فجاجها و حشابهم فتوق أجوائها.

و (الملكوت) كرهبوت العزّ و السلطان، قال بعض اللّغويين: إنّ أهل التحقيق يستعملون الملك في العالم الظاهر و الملكوت في العالم الباطن، و قال: إنّ الواو و التاء فيه كما في رهبوت و رغبوت و جبروت و تربوت زيدتا للمبالغة فيكون معنى الملكوت الملك العظيم و (الفجاج) بكسر الفاء جمع فجّ بفتحها قال سبحانه:

 

                         منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 6    ، صفحه‏ى 372

 مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ و هو الطريق الواسع بين الجبلين و (حشوت) الوسادة بالقطن جعلتها مملوّة منه و (الفجوات) جمع فجوة و هي الفرجة و الموضع المتّسع بين الشيئين و (الزجل) محرّكة رفع الصّوت مصدر زجل كفرح و (الحظيرة) بالحاء المهملة و الظاء المعجمة الموضع الذى يحاط عليه لتأوى إليه الابل و الغنم و غيرهما ليقيها من الحرّ و البرد و (القدس) بسكون الدّال و ضمّها الطهر و (السترات) بضمّتين جمع سترة بالضمّ و هو ما يستتر به كالسّتارة و (السرادق) الذى يمدّ فوق صحن البيت و البيت من الكرسف و (المجد) الشرف و العظمة و (الرجيج) الزلزلة و الاضطراب و منه رجيج البحر و (استكّت) المسامع ضاقت و صمت قال الشّاعر:

         و نبّئت خير النّاس أنّك لمتنى            و تلك التي تستكّ منه المسامع‏

 

و (السّبحات) بضمّتين النور و البهاء و الجلال و العظمة و قيل: سبحات الوجه محاسنه لأنّك إذا رأيت الوجه الحسن قلت سبحان اللَّه تعجّبا و (ردعه) كمنعه كفّه وردّه و (خسأ) البصر كلّ من باب منع و الخاسئ من الكلاب و نحوها المبعد الذى لا يترك أن يدنو من النّاس و (تسبّح) من التّسبيح و في بعض النسخ تسبح من السّباحة و في هذه النسخة (خلال) بالخاء المعجمة المكسورة و هو وسط الشّي‏ء أو جمع خلل بالتحريك و هو الفرجة بين الشيئين، و في بعضها جلال بحار عزّته و (انتحل) الشّي‏ء إذا ادّعاه لنفسه و هو لغيره و (حمّلهم) بتشديد الميم و (الزّيغ) العدول عن الحق قال سبحانه: ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى‏ و (استعنت به) فأعاننى و قد يتعدّى بنفسه فيقال استعنته فأعاننى و الاسم منه العون و المعانة و المعونة بفتح الميم و ضمّ الواو على وزن مكرمة و بضمّ العين أيضا و اتباع الواو على وزن مقولة.

قال الفيومى: وزن المعونة مفعلة بضمّ العين و بعضهم يجعل الميم أصلية و يقول‏

 

                         منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 6    ، صفحه‏ى 373

هي مأخوذة من الماعون و يقول هي فعولة و (اشعر) قلوبهم من شعرت بالشّي‏ء شعورا من باب قعد علمت و قيل مأخوذ من الشعار و هو ما يلبس تحت الدّثار أى الزم قلوبهم تشبيها بلزوم الشعار للبدن و (أخبت) الرجل خضع للّه و خشع قلبه و (السكينة) الوقار و الطمأنينة و المهابة و (الذّلل) بضمّتين جمع الذّلول و هو ضدّ الصّعب و (مجدّه) تمجيدا عظّمه و أثنا عليه و الجمع للدّلالة على الأنواع و (الأعلام) جمع علم بالتحريك و هو الجبل الطويل قال الشّاعر:

         ربما اوفيت في علم            ترفعن ثوبي شمالات‏

 

و (الاصر) الثقل و (العقب) جمع العقبة كغرف و غرفة و هي النوبة و اللّيل و النّهار يتعاقبان أى يتناوبان و يجي‏ء كلّ منهما بعد الآخر و (نوازعها) في بعض النسخ بالعين المهملة من نزع في القوس إذا مدّها و في بعضها بالغين المعجمة من نزغ الشيطان بين القوم أى أفسد و (الاعتراك) الازدحام و (قدح) بالزند من باب منع أى رام الايراء به و هو استخراج النّار و (أحن) الرّجل من باب تعب حقد و أضمر العداوة، و الاحنة اسم منه و الجمع احن كسدرة و سدر و (لاق) الشّي‏ء بغيره أى لزق و منه الليقة للصوق المداد بها و (الاقتراع) الضرب بالقرعة و الاختيار.

و في شرح المعتزلي هو من الاقتراع بالسهام بأن يتناوب كلّ من الوساوس عليها، و الأنسب أن يجعل المزيد بمعنى المجرّد يقال قرعته بالمقرعة ضربته بها، و في بعض النسخ فتفترع بالفاء من فرعه أى علاه و الأول أنسب بالطبع و (الرّين) بالنون كما في بعض النسخ و هو الدنس و الطبع و الغطاء و ران ذنبه على قلبه رينا غلب، و في بعضها بالباء الموحّدة بمعنى الشّك.

و (الغمام) جمع الغمامة و (الدلّح) بالحاء المهملة جمع دالح كراكع و ركّع يقاب سحاب دالح أى ثقيل بكثرة مائه و (الشمّخ) بالخاء المعجمة جمع الشامخ و هو المرتفع العالى و (القترة) بالضمّ بيت الصايد الذي يستتر به عند تصيده من خصّ و نحوه، و الجمع قتر مثل غرفة و غرف و (الايهم) الذى لا يهتدى فيه و منه فلاة يهماء و (تخوم) الأرض بالضمّ حدودها و معالمها، قال الفيومى: التخم حدّ الأرض‏

 

                         منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 6    ، صفحه‏ى 374

و الجمع تخوم مثل فلس و فلوس، و قال ابن الاعرابى و ابن السّكيت الواحد تخوم و الجمع تخم مثل رسول و رسل.

و (ريح هفافة) طيبة ساكنة و (وصلت) في بعض النسخ بالسين المهملة المشدّدة يقال و سلّ إلى اللَّه توسيلا و توسّل أى عمل عملا يقرب به إليه و (الوله) محركة شدّة الوجد أو ذهاب العقل و (شربوا بالكأس) بتثليث الرّاء و الكأس مؤنثة و (الرّوية) المرويّة التي تزيل العطش و (سويداء) القلب و سوداؤه حبّته و (الوشيجة) في الأصل عرق الشجرة يقال: و شجت العروق و الأغصان أى اشتبكت و (حنيت) العود ثنّيته و حنّيت ضلعي عوّجته و يقال للرّجل إذا انحنى من الكبر: حناه الدّهر.

و (اعجب) زيد بنفسه على البناء للمفعول إذا ترفّع و سرّ بفضائله و أعجبنى حسن زيد إذا أعجبت منه قال الفيومى: و التعجّب على وجهين أحدهما ما يحمده الفاعل و معناه الاستحسان و الاخبار عن رضاه به، و الثاني ما يكرهه و معناه الانكار و الذّم له ففي الاستحسان يقال أعجبني بالألف و في الذّم و الانكار عجبت و زان تعبت و (الفترات) جمع الفترة مصدر بنيت للمرّة من فتر الشي‏ء فتورا سكن بعد حدّة و لان بعد شدّة.

و (دأب) في عمله من باب منع دأبا و دابا بالتحريك و دؤبا بالضمّ جدّ و تعب.

و (غاض) الماء غيضا من باب سار قلّ و نقص و (اسلة) اللسان طرفه و مستدقّه و (الهمس) محرّكة الصّوت الخفىّ و (الجؤار) و زان غراب رفع الصّوت بالدّعاء و التضرّع و (المقاوم) جمع مقام و (ثنا) الشي‏ء يثنى و يثنو من باب رمى و دعا ردّ بعضه على بعض و ثنيته أيضا أى صرفته إلى حاجته و (بلد) الرّجل بالضمّ بلادة فهو بليد أى غير فطن و لا ذكي و (ناضلته) مناضلة راميته فنضلته نضلا من باب قتل غلبته في الرّمى و انتضل القوم رموا للسبق و (الهمة) ما همّ به من أمر ليفعل و (يمّمته) قصدته و (الأمد) المنتهى و قد يكون بمعنى امتداد المسافة و (رجع) يكون لازما و متعدّ يا تقول رجع زيد و رجعته أنا و (اهتر)

                         منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 6    ، صفحه‏ى 375

فلان بكذا و استهتر بالبناء للمفعول فهو مهتر و مستهتر بالفتح أولع به لا يتحدّث بغيره و لا يفعل غيره، و الاستهتار الولع بالشى‏ء لا يبالي بما فعل فيه و شتم له.

و (الوني) الضّعف و الفتور من وني في الأمر من باب تعب و وعدو (الوشيك) القريب و السّريع و (نسخ) الشي‏ء إزالته و إبطاله و (استحوذ) عليه الشيطان استولى و (التقاطع) التعادي و ترك البرّ و الاحسان و (تولّيت) الأمر قمت به و (الغلّ) الحقد و (الشعبة) من كلّ شي‏ء الطائفة منه و شعّبهم أى فرّقهم و فى بعض النّسخ تشعبّتهم على التفعّل و الأوّل أظهر و (الرّيب) جمع الرّيبة و هو الشّك.

و (أخياف) الهمم اختلافها و أصله من الخيف بالتحريك مصدر من باب تعب و هو أن يكون إحدى العينين من الفرس زرقاء و الاخرى كحلاء، فالفرس أخيف و النّاس أخياف أى مختلفون، و منه قيل لاخوة الامّ: أخياف لاختلافهم من حيث الأب و (الاهاب) ككتاب الجلد و (الحافد) المسرع و الخفيف في العمل و يجمع على حفد بالتحريك و يطلق على الخدم لاسراعه في الخدمة و (العظم) وزان عنب خلاف الصّغر مصدر عظم و فى بعض النّسخ بالضّم و زان قفل و هو اسم من تعظّم أى تكبّر.

الاعراب

قوله: و بين فجوات آه الجملة حال من مفعول حشا، و قوله: و وراء ذلك خبر قدّم على مبتدئه و هو سبحات، و الابصار في بعض النسخ بالنصب على أنّه مفعول تردع و فاعله راجع إلى سبحات، و في بعضها بالرّفع على بناء تردع للمفعول، و أنشأهم عطف على ملاء بهم، و أولى أجنحة حال من مفعول أنشأ، و جملة تسبح صفة لأولى أجنحة أو لأجنحة، و جملة لا ينتحلون حال، و اللّام في قوله: بالقول عوض عن المضاف إليه أى لا يسبقون اللَّه بقولهم.

و قوله إلى المرسلين متعلّق بحملهم على تضمين معنى البعث أو الارسال أو نحوه، و ودائع أمره بالنصب مفعول حمّلهم، و جملة لم تثقلهم استيناف بيانى، و الباء

 

                         منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 6    ، صفحه‏ى 376

 

في قوله عليه السّلام: و شربوا بالكأس إمّا للاستعانة، أو بمعنى من و ربما يضمن الشّرب معنى الالتذاذ ليتعدّى بالباء و كلمة من في قوله عليه السّلام: من قلوبهم ابتدائية أى إلى موادّ ناشئة من قلوبهم، و في قوله عليه السّلام، من رجائه بيانيّة، فالمراد الخوف و الرجاء الباعثان لهم على لزوم الطاعة، و يحتمل أن يكون الاولى بيانية أو ابتدائية و الثانية صلة للانقطاع.

المعنى

اعلم أنّ هذا الفصل من كلامه عليه السّلام متضمّن لبيان صفات الملائكة و كيفية خلقتهم و حالة عبوديّتهم و خشوعهم و ذلّتهم لمعبودهم، و قد مضى شطر واف من الكلام على هذا العنوان في شرح الفصل التاسع من فصول الخطبة الأولى، و تقدّم ثمّة ما ينفعك في هذا المقام و لما كان الغرض من هذه الخطبة الاشارة إلى عظمة اللَّه سبحانه و قدرته و الابانة عن الصّفات الجمالية و الجلالية له تعالى، و كان ملائكة السماوات من أفضل الموجودات و أشرف المجعولات و عجائب الخلايق و بدايع الصّنايع و عظم المخلوق كان دالا على عظم الخالق و بديع صنعة المصنوع كان دليلا على كمال قدرة الصّانع و تدبيره و حكمته، لا جرم ساق عليه السّلام هذا الفصل لبيان حالهم و ضمنه ذكر أوصافهم المختلفة و شئوناتهم المتفاوتة بعبارات رائقة و بدائع فائقة.

قال الشّارح المعتزلي و لنعم ما قال: إذا جاء هذا الكلام الرّباني و اللّفظ القدسي بطلت فصاحة العرب و كانت نسبة الفصيح من كلامها إليه نسبة التراب إلى النضار الخالص، و لو فرضنا أنّ العرب تقدر على الألفاظ الفصيحة المناسبة أو المقاربة لهذه الألفاظ من أين لهم المادّة التي عبرت هذه الألفاظ عنها و من أين تعرف الجاهلية بل الصحابة المعاصرون لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله هذه المعاني الغامضة السّمائية ليتهيّأ لها التعبير عنها.

أما الجاهلية فانّهم إنما كانت تظهر فصاحتهم في صفة بعير أو فرس أو حمار وحش أو ثور فلاة أو صفة جبال أو فلوات و نحو ذلك.

و أما الصّحابة المذكورون منهم بفصاحة إنما كان منتهى فصاحة أحدهم كلمات‏

 

                         منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 6    ، صفحه‏ى 377

لا يتجاوز السطرين أو الثلاثة إما في موعظة تتضمّن ذكر الموت أو ذمّ الدّنيا و ما يتعلّق بحرب و قتال من ترغيب أو ترهيب.

فأمّا الكلام في الملائكة و صفاتها و عبادتها و تسبيحها و معرفتها بخالقها و حبّها له و ولهها إليه و ما جرى مجرى ذلك ممّا تضمّنه هذا الفصل بطوله فانّه لم يكن معروفا عندهم على هذا التّفصيل، نعم ربّما علموه جملة غير مقسّمة هذا التقسيم و لا مرتّبة هذا الترتيب بما سمعوه من ذكر الملائكة في القرآن العظيم، فثبت أنّ هذه الامور الدقيقة مثل هذه العبارة الفصيحة لم تحصل إلّا لعليّ عليه السّلام وحده، و اقسم أنّ هذا الكلام إذا تأمّله اللّبيب اقشعرّ جلده و رجف قلبه و استشعر عظمة اللَّه العظيم في روعه و خلده و هام نحوه و غلب الوجد عليه و كاد أن يخرج من مسكه شوقا و أن يفارق هيكله صبابة و وجدا.

إذا عرفت ذلك فلنعد إلى شرح كلامه عليه السّلام فأقول: قال عليه السّلام (ثمّ خلق سبحانه لإمكان سماواته و عمارة الصّفيح الأعلى من ملكوته خلقا بديعا من ملائكته) ظاهر كلمة ثمّ المفيد للترتيب الحقيقي كون خلق الملائكة بعد خلقة السّماوات، و يدلّ عليه أخبار كثيرة إلّا أنّ في بعض الرّوايات سبق خلقة الملائكة على خلقة السّماوات، و يمكن الجمع بالتخصيص ههنا بسكان السّماوات الذين لا يفارقونها، و المراد بالصفيح الأعلى سطح كلّ سماء، و يقابله الصفيح الأسفل الذى هو الأرض، و يظهر من ذلك عدم تلاصق السّماوات على ما ذهبت إليه الفلاسفة من غير دليل يعتمد عليه.

و أمّا ما في شرح البحراني من أنّه يحتمل أن يشير عليه السّلام بالصّفيح الأعلى إلى الفلك التاسع و هو العرش لكونه أعظم الأجرام و أعلاها و سكانه الملائكة المدبّرون له، فمبنىّ على اصول الفلاسفة مخالف للأخبار و كلام أهل اللغة حسبما عرفت آنفا في ترجمة لفظ الصفيح، و مخالف أيضا لظاهر قوله عليه السّلام (فملأ بهم فروج فجاجها و حشابهم فتوق أجوائها) إذ المستفاد من ذلك أنّ ما بين السّماوات مملوّة بهم فيكون السّطوح المحدّبة منها محلّ إسكان الملائكة و مكان عبادتهم للّه سبحانه‏

 

                         منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 6    ، صفحه‏ى 378

بأنواع العبادة و يستفاد منه أيضا تجسم الملائكة و هو المستفاد من الأخبار المتواترة معنى.

و العجب أنّ شارح البحراني أوّل ذلك أيضا بناء على الاصول الفاسدة بأنه عليه السّلام استعار لفظ الفروج و الفجاج و الفتوق لما يتصوّر بين أجزاء الفلك من التباين لولد الملائكة الذين هم أرواح الأفلاك و بها قام وجودها، و بقاء جواهرها محفوظة بها، و وجه المشابهة ظاهر، و رشح تلك الاستعارة بذكر الملاء و الحشو، و أما فجاجها و فروجها فاشارة إلى ما يعقل بين أجزائها و أجوائها المنتظمة على التباس لو لا الناظم لها بوجود الملائكة، فيكون حشو تلك الفرج بالملائكة كناية عن نظامها بوجودها و جعلها مدبّرة لها انتهى.

و قد مضى فساد ذلك و بطلانه في شرح الفصل التاسع من فصول الخطبة الأولى فتذكّر (و بين فجوات تلك الفروج) و متّسعاتها (زجل المسّبحين منهم) و أصواتهم الرفيعة العالية بالتضرّع و الابتهال و المسكنة (في حظاير القدس و سترات الحجب و سرادقات المجد) لعلّ المراد بها المواضع المعدّة لعبادة الملائكة بين أطباق السّماوات و وصفها بالقدس من حيث اتصافها بالطهارة و النزاهة من الأدناس و الأرجاس و يمكن أن يكون الاشارة بها إلى ما فوق السماء السّابعة من الحجب و السّرادقات النورانية.

ففي الخبر أنّ ما فوق السّماء السابعة صحارى من نور، و لا يعلم فوق ذلك إلّا اللَّه.

و عن وهب بن منبه فوق السّماوات حجب فيها ملائكة لا يعرف بعضهم بعضا لكثرتهم يسبّحون اللَّه تعالى بلغات مختلفة و أصوات كالرّعد العاصف، هذا.

و قد أشار عليه السّلام إلى تفصيل الحجب و السرادقات فيما رواه الصّدوق في التوحيد باسناده عن زيد بن وهب قال: سئل أمير المؤمنين عليه السّلام عن الحجب، فقال عليه السّلام: أوّل الحجب سبعة غلظ كلّ حجاب منها مسيرة خمسمائة عام و بين كلّ حجابين مسيرة خمسمائة عام، و الحجاب الثاني سبعون حجابا بين كلّ حجابين مسيرة خمسمائة

 

                         منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 6    ، صفحه‏ى 379

 

عام و طوله خمسمائة عام حجبة كلّ حجاب منها سبعون ألف ملك قوّة كلّ ملك منهم قوّة الثّقلين، منها ظلمة، و منها نور، و منها نار، و منها دخان، و منها سحاب، و منها برق، و منها مطر، و منها رعد، و منها ضوء، و منها رمل، و منها جبل، و منها عجاج، و منها ماء، و منها أنهار، و هي حجب مختلفة غلظ كلّ حجاب مسيرة سبعين ألف عام.

ثمّ سرادقات الجلال و هي ستّون «سبعون» سرادقا في كلّ سرادق سبعون ألف ملك بين كلّ سرادق و سرادق مسيرة خمسمائة عام، ثمّ سرادقات العزّ، ثمّ سرادق الكبرياء، ثمّ سرادق العظمة، ثمّ سرادق القدس، ثمّ سرادق الجبروت، ثمّ سرادق الفخر، ثمّ سرادق النور الأبيض، ثمّ سرادق الوحدانية، و هو مسيرة سبعين ألف عام في سبعين ألف عام، ثمّ الحجاب الأعلى و انقضى كلامه عليه السّلام و سكت، فقال له عمر: لا بقيت ليوم لا أراك فيه يا أبا الحسن.

قال المجلسيُّ (ره) بعد رواية ذلك في البحار: قوله عليه السّلام: منها ظلمة، لعلّ المراد من مطلق الحجب لا من الحجب المتقدّمة كما يدلّ عليه قوله غلظ كلّ حجاب اه (و وراء ذلك الرجيج الذى تستكّ منه الأسماع) و الزجل الذى تنسدّ منه الآذان (سبحات نور تردع الأبصار عن بلوغها) و تمنع الأعين عن وصولها لشدّة ضيائها و فرط بهائها (فتقف) الأبصار (خاسئة) حسيرة (على حدودها) أى حدود تلك السبحات، و يستفاد من شرح المعتزلي رجوع الضمير إلى الأبصار، قال: أى تقف حيث تنتهى قوّتها، لأنّ قوّتها متناهية فاذا بلغت حدّها وقفت هذا.

و المراد بسبحات النور إما الأنوار التي تغشي العرش.

و يدلّ عليه ما روى عن ميسرة قال: لا تستطيع الملائكة الذين يحملون العرش أن ينظروا إلى ما فوقهم من شعاع النور.

و عن زاذان قال: حملة العرش أرجلهم في التخوم لا يستطيعون أن يرفعوا أبصارهم من شعاع النور.

و في حديث المعراج قال: و رأيت في علّيين بحارا و أنوارا و حجبا و غيرها

 

                         منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 6    ، صفحه‏ى 380

لو لا تلك لاحترق كلّ ما تحت العرش من نور العرش، و إمّا حجب النّور التي دون العرش، و يؤيّده ما في الحديث أنّ جبرئيل عليه السّلام قال للّه سبحانه: دون العرش سبعون حجابا لو دنونا من أحدها لاحترقتنا سبحات وجه ربّنا، و في حديث آخر من طرق المخالفين حجابه النّور و النّار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كلّ شي‏ء أدركه بصره.

و قال الشّارح البحراني (ره) أشار عليه السّلام بسبحات النّور التي وراء ذلك الرّجيج إلى جلال وجه اللَّه و عظمته و تنزيهه أن يصل إليه أبصار البصاير، و نبّه بكون ذلك وراء رجيجهم على أنّ معارفهم لا تتعلّق به كما هو، بل وراء علومهم و عباداتهم أطوار اخرى من جلاله تقصر معارفهم عنها و تردع أبصار البصاير عن ادراكها فترجع حسيرة متحيّرة واقفة عند حدودها و غاياتها من الادراك.

أقول: و هو لا ينافي ما ذكرناه إذ ما ذكرته تفسير للظّاهر و ما ذكره الشّارح تأويل للباطن، و قد تقدّم في شرح الخطبة التي قبل هذه الخطبة«» ما ينفعك ذكره في هذا المقام (أنشأهم على صور مختلفات و أقدار متفاوتات اولى أجنحة تسبّح جلال عزّته) قال الشّارح البحراني اختلاف صورهم كناية عن اختلافهم بالحقايق و تفاوت أقدارهم تفاوت مراتبهم في الكمال و القرب منه، و لفظ الاجنحة مستعار لقواهم التي بها حصلوا على المعارف الالهيّة و تفاوتها بالزيادة و النّقصان كما قال تعالى: أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ كناية عن تفاوت ادراكهم لجلال اللَّه و علومهم بما ينبغي له، و لذلك جعل الأجنحة هي التي تسبّح جلال عزّته فانّ علمهم بجلاله منزّه عمّا لا ينبغي لكرم وجهه و لا يناسب جلال عزّته.

أقول: تسليط يد التّأويل على الظواهر من غير دليل هدم لأساس الشّريعة و حمل اللّفظ على المجازات إنّما هو عند تعذّر إرادة الحقيقة، و امّا مع إمكانها

 

                         منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 6    ، صفحه‏ى 381

و دلالة الدّليل عليها فهو خلاف السيرة المستمرة مناف لمقتضى الاصول اللفظية المتداولة بين أهل اللّسان من العرب و من حذاحذوهم من علماء الاصول و الأدب.

بل المراد انشاءهم على صور مختلفة و أشكال متشتّتة فبعضهم على صورة الانسان و بعضهم على صورة الحيوان من الأسد و الثور و الدّيك و غيرها من أصناف الحيوان على ما ورد في الأخبار، و بعضهم أولى أجنحة مثنى و ثلاث و رباع يزيد سبحانه عليها ما يشاء على وفق حكمته و مقتضى تدبيره و إرادته.

و ايجادهم على أقدار متفاوتة في الصغر و الكبر و الطّول و القصر، روى عليّ ابن إبراهيم القمّي (ره) في تفسير قوله سبحانه: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى‏ وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ عن الصّادق عليه السّلام أنّه قال: خلق اللَّه الملائكة مختلفين، و قد رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم جبرئيل و له ستّمأة جناح على ساقه الدّر مثل القطر على البقل قد ملأ ما بين السّماء و الأرض، و قال: إذا أمر اللَّه ميكائيل بالهبوط إلى الدّنيا صارت رجله اليمنى في السّماء السّابعة و الأخرى في الأرض السّابعة، و أنّ للَّه ملائكة أنصافهم من برد و أنصافهم من نار يقولون: يا مؤلّفا بين البرد و النّار ثبّت قلوبنا على طاعتك، و قال: إنّ اللَّه ملكا بعد ما بين شحمة اذنه إلى عينه مسير خمسمائة عام بخفقان الطير، و قال عليه السّلام: إنّ الملائكة لا يأكلون و لا يشربون و لا ينكحون و إنما يعيشون بنسيم العرش و إنّ للّه ملائكة ركّعا إلى يوم القيامة و إنّ للَّه ملائكة سجّدا إلى يوم القيامة ثمّ قال أبو عبد اللَّه عليه السّلام ما من شي‏ء ممّا خلق اللَّه أكثر من الملائكة و أنّه ليهبط في كلّ يوم أو في كلّ ليلة سبعون ألف ملك فيأتون البيت الحرام فيطوفون به ثمّ يأتون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم ثمّ يأتون أمير المؤمنين عليه السّلام فيسلّمون عليه ثمّ يأتون الحسين عليه السّلام فيقيمون عنده، فاذا كان وقت السّحر وضع لهم معراج إلى السّماء ثمّ لا يعودون أبدا.

و في التّوحيد بإسناده عن زيد بن وهب قال: سئل أمير المؤمنين عليّ بن‏

 

                         منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 6    ، صفحه‏ى 382

أبي طالب عليه السّلام عن قدرة اللَّه جلّت عظمته، فقام خطيبا فحمد اللَّه و أثنا عليه ثمّ قال: إنّ اللَّه تبارك و تعالى ملائكة لو أنّ ملكا منهم هبط إلى الأرض ما وسعته لعظمة خلقته و كثرة أجنحته، و منهم من لو كلّفت الجنّ و الانس أن يصفوه ما وصفوه لبعد ما بين مفاصله و حسن تركيب صورته، و كيف يوصف من ملائكته من سبعمائة عام ما بين منكبيه و شحمة اذنيه، و منهم من يسدّ الافق بجناح من أجنحته دون عظم بدنه، و منهم من السّماوات إلى حجزته«»، و منهم من قدمه على غير قرار في جوّ الهواء الأسفل و الأرضون إلى ركبتيه، و منهم من لو ألقى في نقرة ابهامه جميع المياه لوسعتها، و منهم من لو القيت السفن في دموع عينه لجرت دهر الداهرين فتبارك اللَّه أحسن الخالقين.

و فيه بإسناده عن ابن عباس عن النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم قال: إنّ للَّه تبارك و تعالى ديكا رجلاه في تخوم الأرض السّابعة و رأسه عند«» العرش ثاني عنقه تحت العرش «إلى أن قال:» و لذلك الدّيك جناحان إذا نشرهما جاوز المشرق و المغرب، فاذا كان في آخر اللّيل نشر جناحيه و خفق بهما و صرخ بالتسبيح يقول: سبحان الملك القدّوس الكبير المتعال لا إله إلّا اللَّه الحيّ القيّوم، فاذا فعل ذلك سبّحت ديكة الأرض كلّها و خفقت بأجنحتها و أخذت في الصّراخ، فاذا سكن ذلك الدّيك في السّماء سكنت الديكة في الأرض فإذا كان في بعض السحر نشر جناحيه فجاوز بهما المشرق و المغرب و خفق بهما و صرخ بالتسبيح سبحان اللَّه العظيم «سبحان خ» العزيز القهار سبحان اللَّه ذي العرش المجيد سبحان اللَّه ربّ العرش الرّفيع، فاذا فعل ذلك سبّحت ديكة الأرض فاذا هاج هاجت الدّيكة في الأرض تجاوبه بالتسبيح و التقديس للّه عزّ و جلّ و لذلك الدّيك ريش أبيض كأشدّ بياض رأيته قطّ و له زعبا«» خضر تحت ريشه الأبيض كأشدّ خضرة رأيتها قطّ فما زلت مشتاقا إلى أن أنظر إلى ريش ذلك الدّيك.

 

                         منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 6    ، صفحه‏ى 383

و بهذا الإسناد عن النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم قال: إنّ للَّه تبارك و تعالى ملكا من الملائكة نصف جسده الأعلى نار و نصفه الأسفل ثلج، فلا النّار تذيب الثلج و لا الثلج تطفئ النّار و هو قائم ينادى بصوت رفيع: سبحان اللَّه الذي كفّ حرّ هذه النّار فلا يذيب الثلج و كفّ برد هذا الثلج فلا يطفى‏ء حرّ النّار اللّهمّ يا مؤلّفا بين الثلج و النّار ألّف بين قلوب عبادك المؤمنين على طاعتك هذا.

و بقى الكلام في قوله عليه السّلام اولى أجنحة تسبح جلال عزّته، فأقول: إن كان تسبح بالتخفيف و الخلال بالخاء المعجمة فالمراد سباحتهم و سيرهم في اطباق السّماوات و فوقها أو نزولهم و صعودهم لأداء الرّسالات و غيرها أو سيرهم في مراتب القرب بالعبادة و التسبيح.

و أمّا على رواية التشديد و كون الجلال بالجيم فالجملة إما صفة لاولى أجنحة فالتأنيث باعتبار الجماعة و المقصود أنهم يسبّحونه و يقدّسون جلاله و عظمته و عزّته و قوّته سبحانه من النقائص.

و إمّا صفة لأجنحة فالمقصود بالتسبيح إمّا التنزيه و التقديس بلسان الحال إذ كلّ جناح من اجنحتهم بل كلّ ذرّة من ذرّات وجودهم ناطقة بلسان حالها شارحة لعظمة بارئها و مبدعها، برهان صدق على قدرته و قوّته و كماله، و دليل متين على تدبيره و حكمته و جلاله، و هذا عام لجميع الملائكة.

و إمّا التنزيه بلسان المقال و هو مخصوص ببعض الملائكة.

و يشهد به ما رواه في التوحيد باسناده عن ابن عباس عن النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله قال: إنّ اللَّه تبارك و تعالى ملائكة ليس شي‏ء من أطباق أجسادهم إلّا و هو يسبّح اللَّه عزّ و جلّ و يحمده من ناحية بأصوات مختلفة لا يرفعون رؤوسهم إلى السماء و لا يخفضونها إلى أقدامهم من البكاء و الخشية للَّه عزّ و جل.

و عن جميل بن درّاج قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السّلام هل في السماء بحار قال عليه السّلام: نعم أخبرني أبي عن أبيه عن جدّه عليهم السّلام قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: إنّ في‏

 

                         منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 6    ، صفحه‏ى 384

 

السماوات السبع لبحارا عمق أحدها مسيرة خمسمائة عام فيها ملائكة قيام منذ خلقهم اللَّه عزّ و جلّ و الماء إلى ركبهم ليس فيهم ملك إلّا و له ألف و أربع مأئة جناح في كلّ جناح أربعة وجوه في كلّ وجوه «وجه خ» أربعة ألسن ليس فيها جناح و لا وجه و لا لسان و لا فم إلّا و هو يسبّح اللَّه عزّ و جلّ بتسبيح لا يشبه نوع منه صاحبه، و اللَّه أعلم بحقايق ملكه و ملكوته، و آثار جلاله و جبروته.

ثمّ وصف عليه السّلام الملائكة بأنهم (لا ينتحلون ما ظهر في الخلق من صنعه و لا يدعون أنهم يخلقون شيئا معه مما انفرد به) أي لا يدّعون الرّبوبية لأنفسهم كما يدّعيه البشر لهم و لأنفسهم فالفقرة الأولى لنفى ادّعاء الاستبداد و الثانية لنفى ادّعاء المشاركة أو الاولى لنفى ادّعائهم الخالقية فيما هم و سايط وجوده و لهم مدخل فيه بأمره سبحانه و الثانية لنفى ذلك فيما خلقه اللَّه سبحانه بمجرّد أمره من دون توسط الوسايل (بل) هم (عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون) و هو اقتباس من قوله سبحانه في سورة الأنبياء.

 وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ» الآية قيل: نزلت في خزاعة حيث قالت: الملائكة بنات اللَّه، فنزّه اللَّه سبحانه نفسه عن ذلك و قال سبحانه أنفة له: بل هؤلاء الّذين زعموا أنهم ولد اللَّه ليسوا أولاده، بل هم عباد مكرمون أكرمهم اللَّه و اصطفاهم لا يسبقونه بالقول و لا يتكلّمون إلّا بما يأمرهم به ربّهم، فكلّ أقوالهم طاعة لربّهم و يكفى بذلك جلالة قدرهم، و هم بأمره يعملون، و من كان بهذه الصفة لا يوصف بأنه ولد.

(جعلهم) اللَّه (فيما هنالك أهل الأمانة على وحيه، و حملهم إلى المرسلين ودايع أمره و نهيه) لعلّ هذا الوصف مختصّ ببعض الملائكة و يشهد به قوله سبحانه اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا

                         منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 6    ، صفحه‏ى 385

و يكفى للنسبة إلى الجميع كون بعضهم كذلك و ما هنالك عبارة عن مراتب الملائكة و يدلّ على الاختصاص بالبعض أيضا قوله عليه السّلام في الفصل التاسع من الخطبة الأولى: و منهم امناء على وحيه و ألسنة إلى رسله و مختلفون بقضائه و أمره، و قد تقدّم في شرح ذلك الفصل ما ينفعك ذكره في المقام و بيّنا ثمّة وجه الحاجة في أداء الامانة إلى وجود الواسطة من الملائكة و أشرنا إلى جهة وصفهم بالامانة.

و محصّله أنّه لما كان ذو الامانة هو الحافظ لما ائتمن عليه ليؤدّيه إلى مستحقّه و كانت الرّسالات النازلة بواسطة الملائكة نازلة كما هي محفوظة عن الخلل الصادر عن سهو لعدم أسباب السّهو هناك أو عن عمد لعدم الدّاعي إليه لقوله تعالى: يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ صدق أنهم أهل الامانة على وحيه و رسالاته (و عصمهم من ريب الشبهات فما منهم زائغ عن سبيل مرضاته) هذا الوصف عام لجميع الملائكة لأنهم معصومون من الشكّ و الاشتباه الناشى من معارضة النفس الأمارة للقوّة العاقلة إذ ليس لهم هذه النفس فلا يتصوّر في حقّهم العدول عن سبيل رضوان اللَّه و الانحراف عن القصد لانتفاء سببه الذى هو وجود هذه النفوس.

(و أمدّهم بفوائد المعونة و أشعر قلوبهم تواضع اخبات السّكينة) لعلّ المراد أنّه سبحانه أعطاهم المدد و القوّة و أيّدهم بأسباب الطاعات و القربات و الألطاف و المعارف الصّارفة لهم عن المعصية و أنه ألزم قلوبهم التواضع و الذلّة و الخضوع و الاستكانة لزوم الشعار للجسد أو أنه أعلمهم ذلك، و محصّله عدم انفكاكهم عن الخوف و الخشوع و قد مرّ بعض الأخبار فيه في شرح الفصل التاسع من الخطبة الاولى.

(و فتح لهم أبوابا ذللا إلى تماجيده) أى فتح لهم أبوابا سهلة إلى تعظيماته و الثناء عليه، و الجمع باعتبار أنواع التحيات و فتح الأبواب كناية عن إلهامها

 

                         منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 6    ، صفحه‏ى 386

عليهم و تسهيلها لهم لعدم معارضة شيطان أو نفس أمارة بالسوء، بل خلقهم خلقة يلتذّون بها كما ورد: أنّ شرابهم التّسبيح و طعامهم التقديس.

(و نصب لهم منارا واضحة على أعلام توحيده) استعار لفظ الأعلام لأدلّة التّوحيد و براهين التفريد و وجه المشابهة ايصال كلّ منهما إلى المطلوب، و لعلّه أراد بالمنار الواضحة المنصوبة على تلك الأعلام ما يوجب لهم الاهتداء إلى تلك الأدلّة من الوحى و الالهام.

و ربما قيل في شرح ذلك: إنه استعار المنار الواضحة للوسائط من الملائكة المقرّبين بينهم و بين الحقّ سبحانه إذ إخباره عن الملائكة السّماوية و لفظ الاعلام لصور المعقولات في ذواتهم المستلزمة لتوحيده و تنزيهه عن الكثرة، و وجه المشابهة أنّ المنار و الأعلام كما يكون وسايط في حصول العلم بالمطلوب كذلك الملائكة المقرّبون و المعارف الحاصلة بواسطتهم يكون وسايط في الوصول إلى المطلوب الأول محرّك الكلّ عزّ سلطانه، و هو قريب مما قلناه إلّا أنّ ما قلناه أظهروا أشبه هذا.

و أمّا توصيف المنار بوصف الوضوح فمن أجل وفور أسباب الهداية و كثرة الدلائل في حقهم لقربهم من سياحة عزّ و ملكوته و مشاهدتهم ما يخفى علينا من آثار ملكه و جبروته.

(لم تثقلهم موصرات الآثام) أى مثقلاتها و أشار عليه السّلام بذلك إلى عصمتهم من المعاصي لعدم خلق الشهوات فيهم و انتفاء النفس الامارة الداعية إلى المعصية (و لم ترتحلهم عقب اللّيالى و الأيام) أى لم يزعجهم تعاقبهما و لم يوجب رحيلهم عن دارهم، و المقصود تنزيههم عما يعرض للبشر من ضعف القوى أو القرب من الموت بكرور اللّيالى و مرور الأيام.

(و لم ترم الشّكوك بنوازعها عزيمة ايمانهم) عزيمة ايمانهم ما لزم ذواتهم من التّصديق بمبدعهم و ما ينبغي له، و المراد أنه لم ترم الشكوك بمحركاتها و هي شهواتها ما عزموا عليه من الايمان و التّصديق، هذا على رواية نوازعها بالعين المهملة

 

                         منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 6    ، صفحه‏ى 387

و أما على روايتها بالغين المعجمة فالمقصود عدم انبعاث نفوسهم الأمّارة بالشكوكات و الشبهات و القائها الخواطر الفاسدة إلى أنفسهم المطمئنة.

(و لم تعترك الظنون على معاقد يقينهم) المراد بالظنّ إمّا الاعتقاد الراجح غير الجازم أو الشّك أو ما يشملهما، و لعلّ الأخير أظهر هنا، فالمقصود نفى ازدحام الظنون و الأوهام على قلوبهم التي هي معاقد عقائدهم اليقينية (و لا قدحت قادحة الاحن فيما بينهم) أى لا تثير الأحقاد و العداوات بينهم فتنة كما تثير النّار قادحتها لتنزّهم من القوّة الغضبيّة (و لا سلبتهم الحيرة ما لاق من معرفته بضمائرهم و سكن من عظمته و هيبة جلاله في أثناء صدورهم) لمّا كان الحيرة عبارة عن عدم الاهتداء إلى وجه الصواب من حيث تردّد العقل في أنّ أىّ الأمرين أولى بالطلب و الاختيار، و كان منشأ ذلك معارضة الوهم و الخيال للعقل و لم يكن لهم و هم و لا خيال، لا جرم لا حيرة تخالط عقايدهم و تزيل هيبة عظمته من صدورهم.

قال المجلسي (ره): و يحتمل أن يكون المراد بالحيرة الوله لشدّة الحبّ و كمال المعرفة كما سيأتي، فالمعنى أنّ شدّة و لهم لا يوجب نقصا في معرفتهم و غفلة عن ملاحظة العظمة و الجلال كما في البشر، و على هذا فالسلب في كلامه عليه السّلام راجع إلى المحمول كما أنه على ما قلناه راجع إلى الموضوع (و لم تطمع فيهم الوساوس فتقترع برينها على فكرهم) أى لم تطمع فيهم الوساوس الشّيطانية و النّفسانية فتتناوب أو تضرب بأدناسها على قلوبهم، و الغرض نفى عروض الوساوس على عقولهم كما تعرض للبشر لانتفاء أسبابها في حقّهم.

(منهم) أى من مطلق الملائكة (من هو في خلق الغمام الدّلح) أى السحاب الثقيلة بالمطر، و المراد بذلك الصّنف هم الّذين مكانهم السحاب و هم خزّان المطر و زواجر السحاب المشار إليهم بقوله سبحانه: و الزاجرات زجرا قال ابن عباس: يعنى الملائكة الموكّلين بالسحاب فيشمل لمشيعي الثلج و البرد و الهابطين مع قطر المطر إذا نزل و إن كان السحاب مكانهم قبل النّزول قال سيّد

 

                         منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 6    ، صفحه‏ى 388

السّاجدين عليه السّلام في دعائه في الصّلاة على حملة العرش و ساير الملائكة من الصحيفة الكاملة: و خزّان المطروز واجر السحاب و الّذى بصوت زجره يسمع زجل الرعود و إذا سبحت به حفيفة السحاب التمعت صواعق البروق و مشيعى الثّلج و البرد و الهابطين مع قطر المطر إذا نزل، هذا.

و يحتمل أن يكون المقصود تشبيههم في لطافة الجسم بالسحاب، فيكون المعنى أنهم في الخلقة مثل خلق الغمام.

و كذلك قوله عليه السّلام (و في عظم الجبال الشّمخ) يحتمل أن يراد به الملائكة الموكّلون بالجبال للحفظ و ساير المصالح، و أن يراد به تشبيههم بالجبال في عظمة الخلقة.

و هكذا قوله (و في قترة الظلام الايهم) محتمل لأن يراد به الملائكة السّاكنون في الظلمات لهداية الخلق و حفظهم أو غير ذلك، و لأن يراد به تشبيههم في السّواد بالظلمة.

(و منهم من قد خرقت أقدامهم تخوم الأرض السّفلى، فهى كرايات بيض قد نفذت في مخارق الهواء و تحتها ريح هفّافة تحبسها على حيث انتهت من الحدود المتناهية) لعلّ المراد بهم الملائكة الموكّلون بالأرض يقول عليه السّلام: إنهم قد خرقت أقدامهم حدود الأرض السفلى و معالمها و أقدامهم بمنزلة أعلام بيض قد نفذت في مخارق الهواء، و أراد بها المواضع التي تمكنت فيها تلك الأعلام بخرق الهواء، و تحت هذه الأعلام ريح طيّبة ساكنة أى ليست بمضطربة فتموج تلك الرّايات تحسبها حيث انتهت هذا.

و قال الشّارح البحراني: يشبه أن يكون هذا القسم من الملائكة السّماوية أيضا و استعار لفظ الأقدام لعلومهم المحيطة بأقطار الأرض السفلى و نهاياتها، وجه الشبه كون العلوم قاطعة للمعلوم و سارية فيه واصلة إلى نهايته كما أنّ الأقدام تقطع الطريق و تصل إلى الغاية منها.

و تشبيهها بالرّايات البيض من وجهين احدهما في البياض لأنّ البياض لما استلزم‏

 

                         منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 6    ، صفحه‏ى 389

 

الصّفاء عن الكدر و السّواد كذلك علومهم صافية عن كدورات الباطل و ظلمات الشبه، الثاني في نفوذها في أجزاء المعلوم كما تنفذ الرّايات في الهواء، و أشار بالريح التي تحبس الاقدام الى حكمة اللَّه التي اعطت كلّا ما يستحقّه و قصرت كلّ موجود على حدّه و بهفوفها الى لطف تصرّفها و جريانها في المصنوعات.

أقول: و لا بأس به و إن كان خروجا عن الظاهر.

ثمّ أشار إلى استغراقهم في العبادة و ثباتهم في المعرفة و المحبّة بقوله: (قد استفرغتهم أشغال عبادته) أى جعلتهم فارغين عن غيرها (و وصلت حقايق الايمان بينهم و بين معرفته) أراد بحقايق الايمان العقائد اليقينية تحقّ أن تسمّى إيمانا أو البراهين الموجبة له، و كونها وصلة بينهم و بين معرفته من حيث إنّ التّصديق بوجود الشّي‏ء الواجب تحصيله أقوى الأسباب الباعثة على طلبه فصار الايمان و التصديق الحق بوجوده جامع بينهم و بين معرفته و وسيلة لهم إليه.

(و قطعهم الايقان به الى الوله إليه) أى صرفهم اليقين بوجوب وجوده عن التوجه و الالتفات إلى غيره إلى و لهم إليه و تحيّرهم من شدّة الوجد (و لم تجاوز رغباتهم ما عنده إلى ما عند غيره) أى رغباتهم مقصورة على ما عنده سبحانه من قربه و ثوابه و كرمه، فانه منتهى رغبة الراغبين و هو غاية قصد الطالبين.

(قد ذاقوا حلاوة معرفته) استعار عليه السّلام لفظ الذّوق لتعقّلاتهم و رشّحه بذكر الحلاوة و كنّى بها عن كمال ما يجدونه من اللذّة بمعرفته كما يلتذّ ذايق الحلاوة بها (و شربوا بالكأس الرّوية من محبّته) استعار لفظ الشرب لما تمكن في ذواتهم من كمال المحبّة و رشّحه بذكر الكأس الروّية أى من شانها أن تروى و تزيل العطش (و تمكنت من سويداء قلوبهم وشيجة خيفته) لما كان كمال استقرار العوارض القلبيّة من الحبّ و الخوف و نحوهما عبارة عن بلوغها إلى سويداء القلب و تمكنها فيها عبّر عليه السّلام بها مبالغة و أشار عليه السّلام بوشيجة خيفته إلى جهات الخوف المتشعبّة في ذواتهم الناشئة من زيادة معرفتهم بعزّته و قدرته و مقهوريّتهم تحت قوّته.

(فحنوا بطول الطاعة اعتدال ظهورهم) أى عوّجوا ظهورهم المعتدلة المستقيمة بطاعاتهم الطويلة، و هو كناية عن كمال خضوعهم.

 

                         منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 6    ، صفحه‏ى 390

(و لم ينفد طول الرّغبة إليه مادّة تضرّعهم) أراد به عدم إفناء طول رغبتهم إليه دواعي تضرّعهم له سبحانه كما في البشر فانّ أحدنا إذا كان له رغبة في أمر و أراد الوصول إليه من عند أحد تضرّع إليه و ابتهل و إذا طال رغبته و لم ينل إلى مطلوبه حصل له الملال و الكلال انقطع دواعى نفسه و ميول قلبه و ينعدم ما كان سببا لتضرّعه و ابتهاله، و لمّا كان الملال و الكلال من عوارض المركبات العنصرية و كانت الملائكة السماوية منزّهة عنها لا جرم حسن سلبها عنهم.

(و لا اطلق عنهم عظيم الزلفة ربق خشوعهم) لما كان من شأن مقرّبي الملوك و السّلاطين أنهم كلّما ازداد زلفاهم و قرباهم إليهم انتقص خضوعهم و خشوعهم و تواضعهم من أجل أنه يخفّ هيبتهم و سطوتهم في نظرهم لكونهم بشرا مثلهم و لم يكن كذلك حال من كان مقرّبي الحضرة الرّبوبيّة بل هم كلّما ازدادوا قربا ازدادوا خشوعا من حيث عدم انتهاء السّلطنة الألهيّة و عدم انتهاء مراتب العرفان و اليقين الدّاعيين إلى التضرّع و العبادة و عدم وقوفها على حدّ، لا جرم لم يطلق عظم قربهم أعناق ذلّهم عن ربقة الابتهال، فهم بقدر صعودهم في مدارج الطاعة يزداد قربهم، و كلّما ازداد قربهم تضاعف علمهم بعظمته فيحصل بزيادة العلم بالعظمة كمال الخشوع و الذلّة.

(و لم يتولهم الاعجاب فيستكثروا ما سلف منهم، و لا تركت لهم استكانة الاجلال نصيبا في تعظيم حسناتهم) المراد بذلك نفى استيلاء العجب عليهم و الاشارة إلى أنهم لا يستعظمون ما سلف منهم من العبادات، و لا يستكثرون ما تقدّم منهم من الطاعات، و أنهم لم يترك لهم خضوعهم الناشي عن ملاحظة جلال اللَّه و ولههم النّاشي من شدّة المحبّة إليه نصيبا في تعظيم الحسنات و حظا في إعظام القربات، لأنّ منشأ العجب هو النّفس الأمارة و هو من أحكام الأوهام و الملائكة السماوية مبرّؤون منها و منزّهون عنها.

(و لم تجر الفترات فيهم على طول دؤوبهم) يعنى أنهم على طول جدّهم في العبادة لا يحصل لهم فتور و لا قصور، و قد مضى بيان ذلك في شرح الفصل التاسع من الخطبة الاولى قال زين العابدين و سيّد السّاجدين عليه السّلام في الصلاة على حملة العرش‏

اللّهمّ و حملة عرشك الذين لا يفترون عن تسبيحك و لا يملّون عن تقديسك.
و العجب من الشارح البحراني حيث قال في شرح هذه الفقرة: قد ثبت أنّ الملائكة السّماوية دائمة التّحريك لأجرامها حركة لا يتخلّلها سكون و لا يكلّها و يفترها إعياء و تعب، و لبيان ذلك بالبراهين اصول ممهّدة في مواضعها و امّا بالقرآن فلقوله تعالى: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ انتهى أقول: و هو تأويل من غير دليل مقبول مبتن على اصول الفلاسفة الجاعلين الملائكة بالنسبة إلى أجرام السّماء بمنزلة النفوس الناطقة بالنّسبة إلى أبدان البشر القائلين بكونها مدّبرة لأمرها كما أن النّفوس مدبّرة للأبدان، و هو مخالف للاصول الشّرعية موجب لطرح ظواهر الأدلّة من الكتاب و السّنة، فالأولى الاعراض عنه و الرّجوع إلى ما قاله المفسّرون في تفسير الآية الشريفة.

قال الطبرسيُّ: أى ينزّهون اللَّه عن جميع ما لا يليق بصفاته على الدّوام في اللّيل و النهار لا يضعفون عنه، قال كعب جعل لهم التسبيح كما جعل لكم النّفس في السّهولة، و قيل: معنى لا يفترون لا يتخلل تسبيحهم فترة أصلا بفراغ أو بشغل آخر، و اورد عليه أنهم قد يشتغلون باللّعن كما قال تعالى: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ و اجيب بأنّ التّسبيح لهم كالتنفس لنا لا يمنعهم عنه الاشتغال بشي‏ء آخر.
و اعترض بأنّ آلة التّنفس لنا مغايرة لآلة التكلّم فلهذا صحّ اجتماع التنفس و التّكلّم، و اجيب بأنّه لا يستبعد أن يكون لهم ألسن كثيرة أو يكون المراد بعدم الفترة أنهم لا يتركون التسبيح في أوقاته اللّايقة به.

(و لم تغض رغباتهم فيخالفوا عن رجاء ربّهم) أى لم تنقص رغباتهم إلى ما عنده فيعدلوا عن الرّجاء إليه، و ذلك لأنّ أشواقهم إلى كمالاتهم دائمة و علمهم بعظمة خالقهم و بحاجتهم إليه و بأنّه مفيض الكمالات و واهب الخيرات لا يتطرّق‏ إليه نقص فلا ينقطع رجائهم عنه و لا ييأسون من فضله.

(و لم تجفّ لطول المناجاة أسلات ألسنتهم) أراد عليه السّلام به عدم عروض الفتور و الكلال عليهم في مناجاتهم كما يعرض علينا و يجفّ ألسنتنا بسبب طول المناجاة (و لا ملكتهم الأشغال فتنقطع بهمس الجؤار إليه أصواتهم) أى ليست لهم أشغال خارجة عن العبادة حتّى تنقطع لأجلها أصواتهم بسبب خفاء تضرّعهم إليه، و بعبارة اخرى ليست لهم أشغال خارجة فتكون لأجلها أصواتهم المرتفعه خافية ساكنة.
(و لم يختلف في مقاوم الطاعة مناكبهم) أى لم ينحرف مناكبهم أو لم يتقدّم بعضهم على بعض في مقامات الطاعة و صفوف العبادة (و لم يثنوا إلى راحة التقصير في أمره رقابهم) يعني لم يصرفوا رقابهم من أجل تعب العبادات و كثرتها إلى الرّاحة الحاصلة باقلال العبادة أو تركها بعد التّعب فيقصروا في أوامره، و المقصود نفى اتصافهم بالتعب و الرّاحة لكونهما من عوارض الأجسام البشريّة و توابع المزاج الحيواني.

(و لا تعدو على عزيمة جدّهم بلادة الغفلات) المراد أنهم لا تغلب على عزيمتهم و جدّهم في العبادة بلادة و لا غفلة لكونهما من عوارض هذا البدن (و لا تنتصل في هممهم خدايع الشهوات) أى لا ترمى الشهوات بسهام خدايعها هممهم، و المقصود نفى توارد وساوس الشّهوات الصارفة عن العبادة و تتابعها عنهم لبرائتهم من القوّة الشهويّة.

(قد اتّخذوا ذا العرش ذخيرة ليوم فاقتهم) ذو العرش هو اللَّه سبحانه كما في غير واحدة من الآيات القرآنية، و المراد بيوم فاقتهم يوم حاجتهم و هو يوم قبض أرواحهم كما يظهر من بعض الأخبار.

قال المجلسيُّ (ره) و لا يبعد أن يكون لهم نوع من الثّواب على طاعاتهم بازدياد القرب و افاضة المعارف و ذكره سبحانه لهم و تعظيمه إيّاهم و غير ذلك، فيكون إشارة إلى يوم جزائهم (و يمّموه عند انقطاع الخلق إلى المخلوقين برغبتهم) أي قصدوه بتضرّعهم إليه سبحانه عند انصراف الخلق و انقطاعهم منه إلى المخلوقين‏ و يحتمل رجوع ضمير رغبتهم إلى الخلق و إليهم و إلى الملائكة على سبيل التنازع.
(لا يقطعون أمد غاية عبادته) أراد أنّه لا يمكنهم الوصول إلى منتهى نهاية عبادته الذي هو عبارة عن كمال معرفته، و ذلك لكون مراتب العرفان و درجاته غير متناهية فلا يمكنهم قطعها (و لا يرجع بهم الاستهتار بلزوم طاعته إلّا إلى موادّ من قلوبهم غير منقطعة من رجائه و مخافته) أى لا يرجعهم الولع بلزوم طاعته سبحانه إلّا إلى موادّ ناشئة من قلوبهم غير منقطعة و هذه الموادّ هو رجائه و مخافته الباعثان لهم على لزوم طاعته، و الغرض إثبات دوام خوفهم و رجائهم الموجبين لعدم انفكاكهم عن الطاعة بل لزيادتها كما يشعر به لفظ الموادّ.

قال الشّارح البحراني: لما كانوا غرقى فى محبّته عالمين بكمال عظمته و أنّ ما يرجونه من جوده أشرف المطالب و أربح المكاسب و ما يخشى من انقطاع جوده و نزول حرمانه أعظم المهالك و المعاطب، لا جرم دام رجائهم له و خضوعهم في رقّ الحاجة إليه و الفزع من حرمانه، و كان ذلك الخوف و الرّجاء هو مادّة استهتارهم بلزوم طاعته التي يرجعون إليها من قلوبهم فلم ينقطع استهتارهم بلزومها.
(لم تنقطع أسباب الشفقّة منهم فينوا في جدّهم) أى لم تنقطع أسباب الخوف منهم فيفتروا في الجدّ في العبادة و أسباب الخوف هي حاجتهم إليه سبحانه و افتقارهم إلى إفاضته وجوده، فانّ الحاجة الضّرورية إلى الغير في مطلوب يستلزم الخوف منه في عدم قضائه و يوجب الاقبال على الاستعداد بجوده بلزوم طاعته و القيام بوظايف عبادته.

(و لم يأسرهم الأطماع فيؤثروا وشيك السّعى على اجتهادهم) أى لم تجعلهم الأطماع اسراء و ليسوا مأسورين في ربقة الطمع حتّى يختاروا السّعى القريب في تحصيل المطموع من الدّنيا الفانية على اجتهادهم الطويل في تحصيل السّعادة الباقية كما هو شأن البشر، و ذلك لكون الملائكة منزّهين عن الشهوات و ما يلزمها من الاطماع الكاذبة.

(و لم يستعظموا ما مضى من ذلك) قد مرّ معناه في شرح قوله: و لم يتولهم الاعجاب آه و إنّما أعاد ذلك مع إغناء السّابق عنه و كفايته في الدلالة على نفى العجب للاشارة إلى دليله و هو قوله (و لو استعظموا ذلك لنسخ الرجاء منهم شفقات و جلهم) يعني أنهم لو استعظموا سالف أعمالهم لأوجب ذلك اغترارهم و زيادة رجائهم لثواب أعمالهم فيبطل ذلك و يزيل ما دات وجلهم و خوفهم، ألا ترى أن الانسان إذا عمل لبعض الملوك عملا يستعظمه فانه يرى في نفسه استحقاق أجزل جزاء له و يجد التّطاول به فيهون ذلك ما يجده من خوفه، و كلّما ازداد استعظامه لخدمته ازداد اعتقاده في قربه من الملك قوّة و بمقدار ذلك ينقص خوفه و يقلّ هيبته في نظره، لكن الملائكة خائفون دائما لقوله سبحانه: وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ فينتج أنّهم لا يستعظمون سالف عباداتهم (و لم يختلفوا في ربّهم باستحواذ الشيطان عليهم) أى لم يختلفوا فيه من حيث الاثبات و النفى أو التعيين أو الصّفات كالتّجرّد و التجسّم و كيفيّة العلم و غير ذلك، و قيل: أى في استحقاق كمال العبادة، و المقصود نفى الاختلاف عنهم باستيلاء الشّيطان كما هو في الانسان لأنّه: لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى‏ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ«» (و لم يفرقهم سوء التقاطع) و التعادي و ترك البرّ و الاحسان (و لا تولّاهم غلّ التحاسد) الناشي من النفس الامارة بالحقد و العدوان (و لا شعّبتهم مصارف الرّيب) و وجوهات شكوك الأذهان (و لا اقتسمتهم أخياف الهمم) و اختلافاتها لانحصار همّهم في طاعة اللَّه الرّحيم الرّحمن (فهم اسراء الايمان لم يفكهم من ربقته زيغ) و جور (و لا عدول و لاونا) و وهن (و لا فتور)ثمّ أشار عليه السّلام إلى كثرة الملائكة بقوله: (و ليس في أطباق السموات موضع اهاب) و جلد (إلّا و عليه ملك ساجد) خاشع لربّه (أوساع) مسرع (حافد) في طاعة معبوده (يزدادون على طول الطاعة بربّهم علما) و يقينا (و تزداد عزّة ربّهم في قلوبهم عظما) و كمالا.

قال الشّارح البحراني: اعلم أنّ للسماء ملائكة مباشرة لتحريكها، و ملائكة أعلى رتبة من اولئك هم الآمرون لهم بالتحريك، فيشبه أن يكون الاشارة بالساجدين منهم إلى الآمرين، و السجود كناية عن كمال عبادتهم كناية بالمستعار، و يكون الاشارة بالساعين المسرعين إلى المتولّين للتحريك، فأمّا زيادتهم بطول طاعتهم علما بربّهم فلما ثبت أنّ حركاتهم إنما هو شوقيّة للتشبّه بملائكة أعلى رتبة منهم في كمالهم بالمعارف الالهية و ظهور ما في ذواتهم بالقوّة إلى الفعل، و زيادة عزّة ربّهم عندهم عظما بحسب زيادة معرفتهم له تابعة لها.
أقول: و قد مضى الاشارة منّا إلى أنّ هذا كلّه مبنيّ على الاصول الحكميّة و عدول عن طريق الشريعة النبويّة على صادعها آلاف الصّلاة و السّلام و التحيّة و قدّمنا الأخبار المناسبة للمقام في شرح الفصل التّاسع من الخطبة الاولى فتذكّر

و ينبغي تذييل المقام بأمرين مهمّين: أحدهما فى عصمة الملائكة

و هو مذهب أصحابنا الاماميّة رضوان اللَّه عليهم و عليه دلّت الآيات القرآنيّة و الأخبار الكثيرة من طرقنا، و لنقتصر على رواية واحدة، و هو: ما رواه في الصّافي قال: قال الرّاوي: قلت لأبي محمّد عليه السّلام: فانّ قوما عندنا يزعمون أنّ هاروت و ماروت ملكان اختارتهما الملائكة لما كثر عصيان بني آدم، و أنزلهما اللَّه مع ثالث لهما إلى الدّنيا، و أنهما افتتنا بالزّهرة و أراد الزنا و شربا الخمر و قتلا النفس المحرّمة و أن اللَّه يعذّبهما ببابل، و أنّ السحرة منهما يتعلّمون السّحر و أنّ اللَّه مسخ تلك المرأة هذا الكوكب الذي هو الزّهرة.

فقال الامام عليه السّلام: معاذ اللَّه من ذلك إنّ ملائكة اللَّه معصومون محفوظون من الكفر و القبايح بألطاف اللَّه تعالى قال اللَّه فيهم: لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ و قال: وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَنْ عِنْدَهُ يعني الملائكة لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ و قال في الملائكة أيضا: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ إلى قوله مُشْفِقُونَ و مثله في البحار عن يوسف بن محمّد بن زياد و عليّ بن محمّد بن سيّار عن أبويهما أنهما قالا: فقلنا للحسن أبي القائم عليهما السّلام: فانّ قوما إلى آخر الخبر، و رواه أيضا في الاحتجاج عن أبي محمّد العسكري عليه السّلام مثله.

نعم في بعض الرّوايات ما يدلّ على خلاف ذلك، و هو ما رواه عليّ بن إبراهيم القميّ (ره) عن أبيه عن الحسن بن محبوب عن عليّ بن رئاب عن محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليه السّلام قال: سأله عطا و نحن بمكّة عن هاروت و ماروت، فقال عليه السّلام: إنّ الملائكة كانوا ينزلون من السّماء إلى الأرض في كلّ يوم و ليلة يحفظون أعمال أوساط أهل الأرض من ولد آدم عليه السّلام و الجنّ و يسطرونها و يعرجون بها إلى السّماء قال: فضجّ أهل السّماء من معاصي أوساط أهل الأرض فتوامروا فيما بينهم ممّا يسمعون و يرون من افترائهم الكذب على اللَّه تبارك و جرأتهم عليه و نزّهوا اللَّه تعالى ممّا يقول فيه خلقه و يصفون، فقال طائفة من الملائكة: يا ربّنا ما تغضب مما يعمل خلقك في أرضك و ممّا يصفون فيك الكذب و يقولون الزّور و يرتكبون المعاصي، و قد نهيتهم عنها، ثمّ أنت تحلم عنهم و هم في قبضتك و قدرتك و خلال عافيتك، قال عليه السّلام: فأحبّ اللَّه عزّ و جلّ أن يرى الملائكة سابق علمه في جميع خلقه و يعرّفهم‏ ما منّ به عليهم ممّا عدل به عنهم من صنع خلقه و ما طبعهم عليه من الطاعة و عصمهم به من الذّنوب.

قال عليه السّلام: فأوحى اللَّه إلى الملائكة أن انتدبوا منكم ملكين حتّى اهبطهما إلى الأرض ثمّ أجعل فيهما من طبايع المطعم و المشرب و الشّهوة و الحرص و الأمل مثل ما جعلته في ولد آدم، ثمّ اختبرهما في الطّاعة، قال عليه السّلام: فندبوا لذلك هاروت و ماروت و كانا أشدّ الملائكة قولا في العيب لولد آدم و استيثار غضب اللَّه عليهم.

قال عليه السّلام: فأوحى اللَّه إليهما أن اهبطا إلى الأرض فقد جعلت فيكما من طبايع المطعم و المشرب و الشّهوة و الحرص و الأمل مثل ما جعلت في ولد آدم قال عليه السّلام ثمّ أوحى اللَّه إليهما: انظرا أن لا تشركا بي شيئا و لا تقتلا النّفس الّتي حرّم اللَّه و لا تزنيا و لا تشربا الخمر.

قال عليه السّلام: ثمّ كشط«» عن السّماوات السّبع ليريهما قدرته، ثمّ اهبطا إلى الأرض في صورة البشر و لباسهم، فهبطا ناحية بابل فرفع لهما بناء مشرف فأقبلا نحوه فاذا بحضرته امرأة جميلة حسناء مزيّنة معطّرة مسفرة مقبلة.
قال عليه السّلام فلمّا نظرا إليها و ناطقاها و تأملاها وقعت في قلوبهما موقعا شديدا لموضع الشّهوة التي جعلت فيهما، فرجعا إليها رجوع فتنة و خذلان و راوداها عن نفسها، فقالت لهما: إنّ لي دينا أدين به و ليس أقدر في ديني على أن اجيبكما إلى ما تريدان إلّا أن تدخلا في ديني الذي أدين به، فقالا لها: و ما دينك قالت: لي إله من عبده و سجد له كان لى السبيل إلى أن اجيبه إلى كلّ ما سألني، فقالا لها: و ما إلهك قالت: إلهي هذا الصّنم.

قال عليه السّلام: فنظر أحدهما إلى صاحبه فقال: هاتان خصلتان مما نهينا عنها الشّرك و الزّنا، لأنّا إن سجدنا لهذا الصّنم و عبدناه أشركنا باللّه و إنّما نشرك باللّه لنصل‏ إلى الزّنا و هو ذا نحن نطلب الزّنا فليس نعطى إلّا بالشّرك.
فقال عليه السّلام: فائتمرا بينهما فغلبتهما الشّهوة التي جعلت فيهما، فقالا لها نجيبك إلى ما سألت، فقالت: فدونكما فاشربا هذا الخمر فانّه قربان لكما و به تصلان إلى ما تريدان، فائتمرا بينهما فقالا: هذه ثلاث خصال ممّا نهينا ربّنا عنها: الشرك و الزّنا، و شرب الخمر، و إنّما ندخل في شرب الخمر و الشّرك حتّى نصل إلى الزّنا، فائتمرا بينهما فقالا: ما أعظم البليّة بك قد أجبناك الى ما سألت، قالت: فدونكما فاشربا من هذا الخمر، و اعبدا هذا الصّنم، و اسجدا له، فشربا الخمر و عبدا الصّنم ثمّ راوداها عن نفسها.

فلمّا تهيّأت لهما و تهيّآ لها دخل عليها سائل يسأل هذه، فلمّا رآهما و رأياه ذعرا«» منه، فقال لهما: إنكما لامرء آن ذعران، فدخلتما بهذه المرأة المعطّرة الحسناء إنكما لرجلا سوء، و خرج عنهما، فقالت لهما: و إلهى ما تصلان الآن إلىّ و قد اطلع هذا الرجل على حالكما و عرف مكانكما، و يخرج الآن و يخبر بخبر كما و لكن بادرا إلى هذا الرجل فاقتلاه قبل أن يفضحكما و يفضحني ثمّ دونكما فاقضيا حاجتكما و أنتما مطمئنّان آمنان.

قال عليه السّلام: فقاما إلى الرّجل فأدركاه فقتلاه ثمّ رجعا إليها فلم يرياها و بدت لهما سوآتهما و نزع عنهما رياشهما و اسقطا«» في أيديهما، فأوحى اللَّه إليهما أن اهبطتكما إلى الأرض مع خلقي ساعة من النّهار فعصيتماني بأربع من معاصي كلّها قد نهيتكما عنها و تقدّمت إليكما فيها فلم تراقباني و لم تستحييا منى، و قد كنتما أشدّ من نقم على أهل الأرض بالمعاصي و استجرّ أسفى و غضبي عليهم لما جعلت فيكما من طبع خلقي و عصمتي إيّاكما من المعاصي فكيف رأيتما موضع خذلاني فيكما.

اختارا عذاب الدّنيا أو عذاب الآخرة، فقال أحدهما لصاحبه: نتمتّع من‏ شهواتنا في الدّنيا إذ صرنا إليها إلى أن نصير إلى عذاب الآخرة، فقال الآخر: إنّ عذاب الدّنيا له مدّة و انقطاع و عذاب الآخرة قائم لا انقطاع له فلسنا نختار عذاب الآخرة الشديد الدّائم على عذاب الدّنيا المنقطع الفاني.

قال عليه السّلام: فاختارا عذاب الدّنيا فكانا يعلّمان النّاس السّحر في أرض بابل ثمّ لما علّما النّاس السّحر رفعا من الأرض إلى الهواء، فهما معذّبان منكّسان معلّقان في الهواء إلى يوم القيامة، و رواه في البحار عن العيّاشى عن محمّد بن قيس مثله، و بمعناه أخبار اخر، و يمكن حملها على التقيّة، و يشعر به كون السائل في هذه الرّواية من علماء العامة.

و ما رواه في البحار عن العلل عن الصّادق عليه السّلام في حديث قال: و أمّا الزّهرة فانّها كانت امرئة تسمّى ناهيد (ناهيل خ ل) و هي الّتي تقول الناس إنّه افتتن بها هاروت و ماروت، فانّ في نسبة افتتانهما إلى النّاس إشارة إلى ما ذكرناه كما لا يخفى.

و قال بعض أهل العرفان بعد ما أورد الرّوايات الدّالّة على تكذيب أمر هاروت و ماروت و الرّوايات الدّالّة على صحّة قصّتهما: و الوجه في الجمع و التوفيق أن يحمل روايات الصّحة على كونها من مرموزات الأوائل و إشاراتهم، و أنّهم عليه السّلام لمّا رأوا أنّ حكاتها كانوا يحملونها على ظاهرها كذّبوها ثمّ قال: و أمّا حلّها فلعلّ المراد بالملكين الرّوح و العقل فانّهما من العالم الرّوحاني اهبطا إلى العالم الجسمانى لاقامة الحقّ فافتتنا بزهرة الحياة الدّنيا، و وقعا في شبكة الشهوة، فشربا خمر الغفلة، و عبدا صنم الهوى، و قتلا عقلهما النّاصح لهما بمنع تغذيته بالعلم و التقوى، و محو أثر نصحه عن أنفسهما، و تهيّئا للزّنا ببغى الدّنيا الدّنيّة التي تلى تربية النشاط و الطرب فيها الكوكب المسمّى بالزّهرة، فهربت الدّنيا منهما و فاتتهما لما كان من عادتهما أن تهرب من طالبيها لأنّها متاع الغرور و بقي اشراق حسنها في موضع مرتفع بحيث لا تنالها ايدى طالبها ما دامت الزّهرة باقية في السّماء و حملهما حبّها في قلبهما إلى أن وضعها طرائق مر السّحر و هو ما لطف مأخذه و دقّ، فخيّرا للتخلّص منها فاختارا بعد التنبّه و عود العقل إليهما أهون العذابين، ثمّ رفعا إلى البرزخ معذّبين و رأسهما بعد الى أسفل إلى يوم القيامة.
هذا ما خطر بالبال في حلّ هذا الرّمز و اللّه الهادي.

الثاني
اختلف المسلمون في أنّ الأنبياء و الملائكة أيّهم أفضل أى أكثر ثوابا، فذهب أكثر الأشاعرة إلى أنّ الأنبياء أفضل، و قال المعتزلة كما في شرح المعتزلي إنّ نوع الملائكة أفضل من نوع البشر، و الملائكة المقرّبون أفضل من نوع الأنبياء و ليس كلّ ملك عند الاطلاق أفضل من محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، بل بعض المقرّبين أفضل منه، و هو صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أفضل من ملائكة اخرى غير الأوّلين.
و لا خلاف بين علماء الاماميّة قدّس اللّه أرواحهم في أنّ الأنبياء و الأئمّة صلوات اللّه عليهم أفضل من جميع الملائكة، و أخبارهم على ذلك مستفيضة، و قد حقّقوا ذلك في كتب الاصول و لا حاجة لنا الآن إلى بسط الكلام في ذلك المقام، و إنّما نقتصر على رواية واحدة توضيحا للمرام.

و هو ما رواه الصّدوق في كتاب إكمال الدّين و إتمام النّعمة قال: حدّثنا الحسن بن محمّد بن سعيد الهاشمي، قال: حدّثنا فرات بن إبراهيم بن فرات الكوفي قال: حدّثنا محمّد بن علىّ بن أحمد الهمداني، قال: حدّثنى أبو الفضيل العبّاس ابن عبد اللّه البخاري، قال: حدّثنا محمّد بن القاسم بن إبراهيم بن عبد اللّه بن القاسم بن محمّد بن أبي بكر، قال: حدّثنا عبد السّلام بن صالح الهروي عن عليّ بن موسى الرّضا عليه السّلام عن أبيه موسى بن جعفر عن أبيه جعفر بن محمّد عن أبيه محمّد بن عليّ عن أبيه عليّ بن الحسين عن أبيه الحسين بن عليّ عن أبيه عليّ بن أبي طالب عليهم السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما خلق اللّه خلقا أفضل منّي و لا أكرم عليه منّي قال عليّ عليه السّلام: فقلت: يا رسول اللّه فأنت أفضل أم جبرئيل فقال: إنّ اللّه تبارك و تعالى‏

فضّل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقزّبين و فضّلني على جميع النّبيّين و المرسلين و الفصل بعدي لك يا عليّ و الأئمّة من بعدك، فانّ الملائكة لخدّامنا و خدّام محبّينا يا عليّ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ… وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا» بولايتنا، يا عليّ لو لا نحن ما خلق اللّه آدم عليه السّلام و لا حوّا و لا الجنّة و لا النّار و لا السّماء و لا الأرض، و كيف لا نكون أفضل من الملائكة و قد سبقناهم إلى التّوحيد و معرفة ربّنا عزّ و جلّ و تسبيحه و تقديسه و تهليله، لأنّ أوّل ما خلق اللّه عزّ و جلّ أرواحنا، فأنطقنا بتوحيده و تمجيده ثمّ خلق الملائكة فلمّا شاهدوا أرواحنا نورا واحدا استعظموا امورنا فسبّحنا لتعلم الملائكة أنّا خلق مخلوقون و أنّه منزّه عن صفاتنا فسبّحت الملائكة لتسبيحنا و نزهته عن صفاتنا.

فلمّا شاهد و اعظم شأننا هلّلنا لتعلم الملائكة أن لا إله إلّا اللّه فلمّا شاهدوا كبر محلّنا كبّرنا اللّه لتعلم الملائكة أنّ اللّه أكبر من أن تنال و أنّه عظيم المحلّ فلمّا شاهدوا ما جعل اللّه لنا من القدرة و القوّة قلنا: لا حول و لا قوّة إلّا باللّه العليّ العظيم، لتعلم الملائكة أن لا حول و لا قوّة إلّا باللّه.

فلمّا شاهدوا ما أنعم اللّه به علينا و أوجبه من فرض الطاعة قلنا: الحمد للّه، لتعلم الملائكة ما يحقّ اللّه تعالى ذكره علينا من الحمد على نعمه فقالت الملائكة الحمد للّه فبنا اهتدوا إلى معرفة اللّه و تسبيحه و تهليله و تحميده، ثمّ إنّ اللّه تبارك و تعالى خلق آدم عليه السّلام و أودعنا صلبه و أمر الملائكة بالسّجود له تعظيما لنا و إكراما، و كان سجودهم للّه عزّ و جلّ عبوديّة و لآدم إكراما و طاعة لكونه في صلبه فكيف لا نكون أفضل من الملائكة و قد سجدوا لآدم عليه السّلام كلّهم أجمعون.
و أنّه لما عرج بي إلى السّماء أذّن جبرئيل عليه السّلام مثنى مثنى ثمّ قال: تقدّم يا محمّد، فقلت: يا جبرئيل تقدّم عليك فقال: نعم لأنّ اللّه تبارك و تعالى‏

اسمه فضّل أنبيائه على ملائكته أجمعين و فضّلك خاصّة، فتقدّمت و صلّيت بهم و لا فخر فلمّا انتهينا إلى حجب النّور قال لي جبرئيل عليه السّلام: تقدّم يا محمّد و تخلّف عني، فقلت: يا جبرئيل في مثل هذا الموضع تفارقني فقال: يا محمّد إنّ هذا انتهاء حدّي الّذي وضعه اللَّه لي في هذا المكان فان تجاوزته احترقت أجنحتي لتعدّى حدود ربّي جلّ جلاله، فزّج بي ربّي زجّة في النّور حتّى انتهيت إلى حيث ما شاء اللّه عزّ و جلّ من ملكوته.

فنوديت: يا محمّد، فقلت: لبّيك ربّي و سعديك تباركت و تعاليت فنوديت يا محمّد أنت عبدي و أنا ربّك فإيّاى فاعبد و علىّ فتوكّل فانّك نوري في عبادي و رسولي إلى خلقي و حجّتي فى بريّتي، لمن تبعك خلقت جنّتي و لمن عصاك و خالفك خلقت ناري، و لأوصيائك أوجبت كرامتي، و لشيعتك أوجبت ثوابي.

فقلت: يا رب و من أوصيائي فنوديت: يا محمّد إنّ أوصيائك المكتوبون على ساق العرش، فنظرت و أنا بين يدي ربّي إلي ساق العرش فرأيت اثنا عشر نورا في كلّ نور سطر أخضر مكتوب عليه اسم كلّ وصيّ من أوصيائي أوّلهم عليّ بن أبي طالب و آخرهم مهديّ أمّتي.
فقلت: يا ربّ هؤلاء أوصيائي من بعدي فنوديت: يا محمّد هؤلاء أوليائي و أحبّائي و أصفيائي حجّتي بعدك على بريّتي، و هم أوصياؤك و خلفاؤك و خير خلقي بعدك، و عزّتي و جلالي لاظهرنّ بهم ديني، و لأعلينّ بهم كلمتي و لاطهّرنّ الأرض بآخرهم من أعدائي، و لا ملكنّه مشارق الأرض و مغاربها، و لأسخّرنّ له الرّياح و لاذللنّ الرّقاب الصّغار، و لا رقبه في الأسباب، و لأنصرنّه بجندي، و لأمدّنه بملائكتي حتّى يعلو دعوتي و يجمع الخلق على توحيدي، ثمّ لأديمنّ ملكه و لأداولنّ الأيام بين أوليائي إلى يوم القيامة.

و الحمد للّه ربّ العالمين و الصّلاة على نبيّنا محمّد و آله الطّيبين الطاهرين و سلّم تسليما و إنّما ذكرت الرّواية بطولها مع كون ذيلها خارجا عن الغرض لتضمّنه مناقب أهل البيت الأطهار، و كونه نصّا في خلافة الأئمة الأبرار و لعا منّى بايراد فضايلهم و مناقبهم ما تعاقب على اللّيل و النّار، سلام اللّه عليهم أجمعين، و لعنة اللّه على أعدائهم و منكري فضائلهم إلى يوم الدّين.

الترجمة

بعضي ديگر از اين خطبه شريفه در صفة ملائكه است مى‏ فرمايد: بعد از خلق آسمان بيافريد حق سبحانه و تعالى از براى ساكن فرمودن در آسمانهاى خود و معمور ساختن صفحه پهن بلند از ملكوت خود خلقي عجيب از ملائكه خود پس پرساخت بايشان فرجهاى كشادگيهاى آسمانرا، و مملوّ نمود بايشان كشادگيهاى فضاهاى آنرا، و ميان وسعتهاى اين كشادگيها است صوتهاى بلند تسبيح كنندگان از ايشان در حرمهاى قدس و طهارت و پرده‏هاى حجابهاى عظمت و سراپردهاى بزرگي و عزّت و در پس اين زلزله و اضطرابى كه كر مى‏ شود از آن گوشها، اشراقات نورى است كه بازميدارد ديدها را از رسيدن بآن، پس مى‏ايستد آن ديدها ذليل و متحيّر بر حدود آن.

آفريد خداوند متعال آن ملائكه را بر صورتهاى مختلفه و اندازهاى متفاوته در حالتى كه صاحبان بالها هستند كه تسبيح مي كنند بزرگى عزّت او را، در حالتى كه بخود نمى ‏بندند آنچه كه ظاهر شده در مخلوقات از صنع قدر او، و ادّعا نمى‏ كنند اين كه ايشان مى‏ آفرينند چيزى را با آفريدگار از آن چيزى كه يگانه است او سبحانه بآفريدن آن، بلكه ايشان بندگاني هستند گرامى داشته شده در حالتي كه پيشى نمى‏گيرند بخدا در گفتار خودشان، و ايشان بفرمان او سبحانه عمل مى‏ نمايند.

گردانيد حق تعالى ايشان را در آنجا كه هستند، يعنى در مقامات خودشان كه حظاير قدس است أهل أمانت بروحى خود و تحميل نمود ايشان را در حالتى كه ارسال مي شوند بسوى پيغمبران أمانتهاى أوامر و نواهي خود را، و معصوم ساخت ايشان را از شك كردن در شبهها، پس نيست از ايشان ميل كننده از راه رضاى او، و مدد نمود ايشان را بفايده ‏هاى اعانت بسوى طاعات، و لازم فرمود قلبهاى ايشان را تواضع خضوع وقار را، و گشود بجهت ايشان درهاى سهل و آسان بسوى تمجيدات‏ خود، و بر پا نمود از براى ايشان منارهاى آشكار بر نشانهاى توحيد خود.

گران نكرد ايشان را گران سازنده‏هاى گناهها، و ضعيف ننمود ايشان را تعاقب و تناوب شبها و روزها، و نينداخت شكها بمحرّكات فاسده خود محكمى ايمان ايشان را، و عارض نشد ظنّها و وهمها بر مواضع عقد يقين ايشان، و بر نيفروخت بر افروزندگيهاى حقد و حسد در ميان ايشان، و سلب نكرد از ايشان حيرت چيزى را كه چسبيده از معرفت او بقلب ايشان، و ساكن شده از عظمت و هيبت او در ميان سينهاى ايشان، و طمع ننموده در ايشان وسوسه ‏ها تا اين كه بكوبد با استيلاى خود يا اين كه تناوب نمايد با چرك خود بفكرهاى ايشان.
بعضى از ايشان آنانند كه قرار گرفته در أبرهاى مخلوق شده گران بار بباران، و در كوههاى بزرك بلند، و در سياهى تاريكى كه هدايت يافته نمى‏شود در آن، و بعضى ديگر آنانند كه دريده است قدمهاى ايشان حدود زمين پائين را، پس آن قدمها بمنزله علمهاى سفيدند كه فرو رفته باشند در مواضع خرق هوا و شكاف آن، و در زير آن علمها است بادى كه ساكن است و پاكيزه كه بازداشته است آن علمها را بر مكاني كه منتهى شده آن علمها از حدود بنهايت رسيده.

بتحقيق كه فارغ نموده ايشان را از ما سوا شغلهاى عبادت او سبحانه، و وصل نموده است حقيقتهاى ايمان ميان ايشان و ميان معرفت آنرا، و بريده است ايشان را يقين و اذعان بخدا از غير آن، و مايل ساخته ايشان را بسوى حيراني او، و در نگذشته است رغبتهاى ايشان از آن چيزى كه نزد او است بسوى آن چيزى كه نزد غير او است.

بتحقيق كه چشيده‏اند شيرينى معرفت او را، و آشاميده‏اند با كاسه سيراب كننده از شراب محبّت او، و متمكّن و برقرار شده از ته دلهاى ايشان رگهاى خوف و خشيت او، پس خم كرده‏اند بدرازى عبادت راستى پشت‏هاى خودشان را، و تمام نكرده درازى رغبت بسوى او مادّه تضرّع ايشان را، و رها نكرده از گردنهاى ايشان بزرگى قرب و منزلت بحضرت ربّ العزّة ريسمان خشوع و ذلّترا و غالب نشده بر ايشان عجب و خودپسندى تا اين كه بسيار شمارند آنچه كه پيش‏ گذشته از ايشان از طاعات و عبادات، و نگذاشته از براى ايشان خوارى كه ناشي شده از ملاحظه جلال پروردگار نصيب و بهره در تعظيم و بزرگ دانستن حسنات خودشان، و جارى نشده سستيها در ايشان با درازى جدّ و جهد ايشان.

و ناقص نگشته رغبتهاى ايشان تا مخالفت كنند و عدول نمايند از اميدوارى پروردگار خودشان، و خشك نگشته بجهة طول راز و نياز اطراف زبانهاى ايشان و مالك نشده است ايشان را شغلهاى خارج از عبادت تا اين كه منقطع شود بسبب پنهاني تضرّع ايشان بسوى او آوازهاى بلند ايشان، و مختلف نشده در صفهاى عبادت دوشهاى ايشان، و ملتفت نساخته‏اند بسوى راحتى كه باعث تقصير در امر او است گردنهاى خودشان را، و غالب نمى‏شود بر عزم جدّ و جهد ايشان بيخردي غفلتها، و تير نمى‏اندازند در همّتهاى ايشان فريب دهندگان شهوتها.

بتحقيق كه اخذ نموده‏اند صاحب عرش را ذخيره بجهة روز حاجت‏شان، و قصد كرده‏ اند او را نزد بريده شدن خلق بسوى مخلوقات برغبتشان، قطع نمى‏توانند كنند پايان غايه عبادت او را، و باز نمى‏گرداند ايشان را حرص و محبّت بلزوم طاعت او مگر بسوى مادّهائي كه بريده نمى‏شوند آن مادّها كه از دل ايشانست كه عبارت‏اند از خوف و رجا آن، بريده نشده اسباب ترس از ايشان تا سست شوند در جدّ و جهد خودشان: و أسير ننموده ايشان را طمعهاى دنيوي تا اين كه اختيار نمايند سعى نزديك در تحصيل دنيا را بر كوشش خودشان در تحصيل سعادت آخرت، و بزرگ نمى‏ شمارند آنچه كه گذشته از اعمال ايشان، و اگر بزرك شمارند أعمال خودشان هر آينه باطل و زايل مى‏نمايد رجاء و اميدواري ايشان ترسهاى ايشان را، و اختلاف نمى‏نمايند در ذات و صفات پروردگار بسبب غلبه شيطان بر ايشان، و پراكنده نساخته ايشان را بدى بريدن از يكديگر، و مالك نشده ايشان را خيانت حسد بردن بيكديگر، و متفرّق نساخته ايشان را مواضع صرف شكّ و كمان، و منقسم نگردانيده ايشان را اختلافهاى همّتها.

پس ايشان أسيران ايمانند كه رها ننموده ايشان را از بند ايمان ميل نمودن از حق و نه عدول كردن از منهج صدق و نه سستى در عبادت و نه كاهلى در طاعت، و نيست در طبقهاى آسمان جاى پوستى مگر كه بر او است ملك سجد، كننده يا سعى نماينده شتابنده كه زياده مى‏گردانند بر درازى طاعت بپروردگار خودشان علم و يقين را، و افزون مى‏گرداند عزّت كردگار ايشان در دلهاى ايشان عطم و شأن را.
هذا آخر الجزء السادس من هذه الطبعة النفيسة و قد تمّ تصحيحه و تهذيبه بيد العبد «السيد ابراهيم الميانجى» عفى عنه و عن والديه فى اليوم الثاني من شهر ذى الحجة الحرام سنة 1379 و يليه انشاء اللّه الجزء السابع و اوله: «الفصل السادس» من المختار التسعين و الحمد للَّه أولا و آخرا.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 90/2 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)خطبة الأشباح -القسم الثانی

خطبه 91 صبحی صالح

91- و من خطبة له ( عليه ‏السلام  ) تعرف بخطبة الأشباح

و هي من جلائل خطبه ( عليه‏ السلام  )

روى مسعدة بن صدقة عن الصادق جعفر بن محمد ( عليهماالسلام  ) أنه قال:

خطب أمير المؤمنين بهذه الخطبة على منبر الكوفة

و ذلك أن رجلا أتاه فقال له يا أمير المؤمنين صف لنا ربنا مثل ما نراه عيانا لنزداد له حبا و به معرفة

فغضب و نادى الصلاة جامعة

فاجتمع الناس حتى غص المسجد بأهله

فصعد المنبر و هو مغضب متغير اللون

فحمد الله و أثنى عليه

و صلى على النبي ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  ) ثم قال

وصف اللّه تعالى‏

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يَفِرُهُ الْمَنْعُ وَ الْجُمُودُ

وَ لَا يُكْدِيهِ الْإِعْطَاءُ وَ الْجُودُ

إِذْ كُلُّ مُعْطٍ مُنْتَقِصٌ سِوَاهُ

وَ كُلُّ مَانِعٍ مَذْمُومٌ مَا خَلَاهُ

وَ هُوَ الْمَنَّانُ بِفَوَائِدِ النِّعَمِ

وَ عَوَائِدِ الْمَزِيدِ وَ الْقِسَمِ

عِيَالُهُ الْخَلَائِقُ

ضَمِنَ أَرْزَاقَهُمْ

وَ قَدَّرَ أَقْوَاتَهُمْ

وَ نَهَجَ سَبِيلَ الرَّاغِبِينَ إِلَيْهِ

وَ الطَّالِبِينَ مَا لَدَيْهِ

وَ لَيْسَ بِمَا سُئِلَ بِأَجْوَدَ مِنْهُ بِمَا لَمْ يُسْأَلْ

الْأَوَّلُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلٌ فَيَكُونَ شَيْ‏ءٌ قَبْلَهُ

وَ الْآخِرُ الَّذِي لَيْسَ لهُ بَعْدٌ فَيَكُونَ شَيْ‏ءٌ بَعْدَهُ

وَ الرَّادِعُ أَنَاسِيَّ الْأَبْصَارِ عَنْ أَنْ تَنَالَهُ أَوْ تُدْرِكَهُ

مَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ دَهْرٌ فَيَخْتَلِفَ مِنْهُ الْحَالُ

وَ لَا كَانَ فِي مَكَانٍ فَيَجُوزَ عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ

وَ لَوْ وَهَبَ مَا تَنَفَّسَتْ عَنْهُ مَعَادِنُ الْجِبَالِ

وَ ضَحِكَتْ عَنْهُ أَصْدَافُ الْبِحَارِ

مِنْ فِلِزِّ اللُّجَيْنِ وَ الْعِقْيَانِ

وَ نُثَارَةِ الدُّرِّ

وَ حَصِيدِ الْمَرْجَانِ

مَا أَثَّرَ ذَلِكَ فِي جُودِهِ

وَ لَا أَنْفَدَ سَعَةَ مَا عِنْدَهُ

وَ لَكَانَ عِنْدَهُ مِنْ ذَخَائِرِ الْأَنْعَامِ‏

مَا لَا تُنْفِدُهُ

مَطَالِبُ الْأَنَامِ

لِأَنَّهُ الْجَوَادُ الَّذِي لَا يَغِيضُهُ سُؤَالُ السَّائِلِينَ

وَ لَا يُبْخِلُهُ إِلْحَاحُ الْمُلِحِّينَ

صفاته تعالى في القرآن‏

فَانْظُرْ أَيُّهَا السَّائِلُ

فَمَا دَلَّكَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ مِنْ صِفَتِهِ فَائْتَمَّ بِهِ

وَ اسْتَضِئْ بِنُورِ هِدَايَتِهِ

وَ مَا كَلَّفَكَ الشَّيْطَانُ عِلْمَهُ مِمَّا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ عَلَيْكَ فَرْضُهُ

وَ لَا فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ ( صلى‏ الله‏ عليه ‏وآله  )وَ أَئِمَّةِ الْهُدَى أَثَرُهُ

فَكِلْ عِلْمَهُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ

فَإِنَّ ذَلِكَ مُنْتَهَى حَقِّ اللَّهِ عَلَيْكَ

وَ اعْلَمْ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ

هُمُ الَّذِينَ أَغْنَاهُمْ عَنِ اقْتِحَامِ السُّدَدِ

الْمَضْرُوبَةِ دُونَ الْغُيُوبِ

الْإِقْرَارُ بِجُمْلَةِ مَا جَهِلُوا تَفْسِيرَهُ مِنَ الْغَيْبِ الْمَحْجُوبِ

فَمَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى اعْتِرَافَهُمْ بِالْعَجْزِ عَنْ تَنَاوُلِ مَا لَمْ يُحِيطُوا بِهِ عِلْماً

وَ سَمَّى تَرْكَهُمُ التَّعَمُّقَ فِيمَا لَمْ يُكَلِّفْهُمُ الْبَحْثَ عَنْ كُنْهِهِ رُسُوخاً

فَاقْتَصِرْ عَلَى ذَلِكَ

وَ لَا تُقَدِّرْ عَظَمَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى قَدْرِ عَقْلِكَ

فَتَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ

هُوَ الْقَادِرُ الَّذِي

إِذَا ارْتَمَتِ الْأَوْهَامُ لِتُدْرِكَ مُنْقَطَعَ قُدْرَتِهِ

وَ حَاوَلَ الْفِكْرُ الْمُبَرَّأُ مِنْ خَطَرَاتِ الْوَسَاوِسِ

أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ فِي عَمِيقَاتِ غُيُوبِ مَلَكُوتِهِ

وَ تَوَلَّهَتِ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ

لِتَجْرِيَ فِي كَيْفِيَّةِ صِفَاتِهِ

وَ غَمَضَتْ مَدَاخِلُ الْعُقُولِ فِي حَيْثُ لَا تَبْلُغُهُ الصِّفَاتُ لِتَنَاوُلِ عِلْمِ ذَاتِهِ رَدَعَهَا

وَ هِيَ تَجُوبُ مَهَاوِيَ سُدَفِ الْغُيُوبِ

مُتَخَلِّصَةً إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ‏

فَرَجَعَتْ إِذْ جُبِهَتْ

مُعْتَرِفَةً بِأَنَّهُ لَا يُنَالُ بِجَوْرِ الِاعْتِسَافِ كُنْهُ مَعْرِفَتِهِ

وَ لَا تَخْطُرُ بِبَالِ أُولِي الرَّوِيَّاتِ خَاطِرَةٌ مِنْ تَقْدِيرِ جَلَالِ عِزَّتِه

الَّذِي ابْتَدَعَ الْخَلْقَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ امْتَثَلَهُ

وَ لَا مِقْدَارٍ احْتَذَى عَلَيْهِ مِنْ خَالِقٍ مَعْبُودٍ كَانَ قَبْلَهُ

وَ أَرَانَا مِنْ مَلَكُوتِ قُدْرَتِهِ

وَ عَجَائِبِ مَا نَطَقَتْ بِهِ آثَارُ حِكْمَتِهِ

وَ اعْتِرَافِ الْحَاجَةِ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى أَنْ يُقِيمَهَا بِمِسَاكِ قُوَّتِهِ

مَا دَلَّنَا بِاضْطِرَارِ قِيَامِ الْحُجَّةِ لَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ

فَظَهَرَتِ الْبَدَائِعُ الَّتِي أَحْدَثَتْهَا آثَارُ صَنْعَتِهِ

وَ أَعْلَامُ حِكْمَتِهِ

فَصَارَ كُلُّ مَا خَلَقَ حُجَّةً لَهُ وَ دَلِيلًا عَلَيْهِ

وَ إِنْ كَانَ خَلْقاً صَامِتاً

فَحُجَّتُهُ بِالتَّدْبِيرِ نَاطِقَةٌ

وَ دَلَالَتُهُ عَلَى الْمُبْدِعِ قَائِمَةٌ

فَأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ شَبَّهَكَ بِتَبَايُنِ أَعْضَاءِ خَلْقِكَ

وَ تَلَاحُمِ حِقَاقِ مَفَاصِلِهِمُ الْمُحْتَجِبَةِ لِتَدْبِيرِ حِكْمَتِكَ

لَمْ يَعْقِدْ غَيْبَ ضَمِيرِهِ عَلَى مَعْرِفَتِكَ

وَ لَمْ يُبَاشِرْ قَلْبَهُ الْيَقِينُ بِأَنَّهُ لَا نِدَّ لَكَ

وَ كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ تَبَرُّؤَ التَّابِعِينَ مِنَ الْمَتْبُوعِينَ

إِذْ يَقُولُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ

 إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ‏

كَذَبَ الْعَادِلُونَ بِكَ

إِذْ شَبَّهُوكَ بِأَصْنَامِهِمْ

وَ نَحَلُوكَ حِلْيَةَ الْمَخْلُوقِينَ بِأَوْهَامِهِمْ

وَ جَزَّءُوكَ تَجْزِئَةَ الْمُجَسَّمَاتِ بِخَوَاطِرِهِمْ

وَ قَدَّرُوكَ عَلَى الْخِلْقَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْقُوَى بِقَرَائِحِ عُقُولِهِمْ

وَ أَشْهَدُ أَنَّ مَنْ سَاوَاكَ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ خَلْقِكَ فَقَدْ عَدَلَ بِكَ

وَ الْعَادِلُ بِكَ كَافِرٌ بِمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ مُحْكَمَاتُ آيَاتِكَ

وَ نَطَقَتْ عَنْهُ‏

شَوَاهِدُ حُجَجِ بَيِّنَاتِكَ

وَ إِنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ الَّذِي لَمْ تَتَنَاهَ فِي الْعُقُولِ

فَتَكُونَ فِي مَهَبِّ فِكْرِهَا مُكَيَّفاً

وَ لَا فِي رَوِيَّاتِ خَوَاطِرِهَا فَتَكُونَ مَحْدُوداً مُصَرَّفاً

و منهاقَدَّرَ مَا خَلَقَ فَأَحْكَمَ تَقْدِيرَهُ

وَ دَبَّرَهُ فَأَلْطَفَ تَدْبِيرَهُ

وَ وَجَّهَهُ لِوِجْهَتِهِ

فَلَمْ يَتَعَدَّ حُدُودَ مَنْزِلَتِهِ

وَ لَمْ يَقْصُرْ دُونَ الِانْتِهَاءِ إِلَى غَايَتِهِ

وَ لَمْ يَسْتَصْعِبْ إِذْ أُمِرَ بِالْمُضِيِّ عَلَى إِرَادَتِهِ

فَكَيْفَ وَ إِنَّمَا صَدَرَتِ الْأُمُورُ عَنْ مَشِيئَتِهِ

الْمُنْشِئُ أَصْنَافَ الْأَشْيَاءِ بِلَا رَوِيَّةِ فِكْرٍ آلَ إِلَيْهَا

وَ لَا قَرِيحَةِ غَرِيزَةٍ أَضْمَرَ عَلَيْهَا

وَ لَا تَجْرِبَةٍ أَفَادَهَا مِنْ حَوَادِثِ الدُّهُورِ

وَ لَا شَرِيكٍ أَعَانَهُ عَلَى ابْتِدَاعِ عَجَائِبِ الْأُمُورِ

فَتَمَّ خَلْقُهُ بِأَمْرِهِ

وَ أَذْعَنَ لِطَاعَتِهِ

وَ أَجَابَ إِلَى دَعْوَتِهِ

لَمْ يَعْتَرِضْ دُونَهُ رَيْثُ الْمُبْطِئِ

وَ لَا أَنَاةُ الْمُتَلَكِّئِ

فَأَقَامَ مِنَ الْأَشْيَاءِ أَوَدَهَا

وَ نَهَجَ حُدُودَهَا

وَ لَاءَمَ بِقُدْرَتِهِ بَيْنَ مُتَضَادِّهَا

وَ وَصَلَ أَسْبَابَ قَرَائِنِهَا

وَ فَرَّقَهَا أَجْنَاساً مُخْتَلِفَاتٍ فِي الْحُدُودِ وَ الْأَقْدَارِ

وَ الْغَرَائِزِ وَ الْهَيْئَاتِ

بَدَايَا خَلَائِقَ أَحْكَمَ صُنْعَهَا

وَ فَطَرَهَا عَلَى مَا أَرَادَ وَ ابْتَدَعَهَا

و منها في صفة السماء

وَ نَظَمَ بِلَا تَعْلِيقٍ رَهَوَاتِ فُرَجِهَا

وَ لَاحَمَ صُدُوعَ انْفِرَاجِهَا

وَ وَشَّجَ بَيْنَهَا وَ بَيْنَ أَزْوَاجِهَا

وَ ذَلَّلَ لِلْهَابِطِينَ بِأَمْرِهِ

وَ الصَّاعِدِينَ بِأَعْمَالِ خَلْقِهِ حُزُونَةَ مِعْرَاجِهَا

وَ نَادَاهَا بَعْدَ إِذْ هِيَ دُخَانٌ

فَالْتَحَمَتْ عُرَى أَشْرَاجِهَا

وَ فَتَقَ بَعْدَ الِارْتِتَاقِ صَوَامِتَ أَبْوَابِهَا

وَ أَقَامَ رَصَداً مِنَ الشُّهُبِ الثَّوَاقِبِ عَلَى نِقَابِهَا

وَ أَمْسَكَهَا مِنْ أَنْ تُمُورَ فِي خَرْقِ الْهَوَاءِ بِأَيْدِهِ

وَ أَمَرَهَا أَنْ تَقِفَ مُسْتَسْلِمَةً لِأَمْرِهِ

وَ جَعَلَ شَمْسَهَا آيَةً مُبْصِرَةً لِنَهَارِهَا

وَ قَمَرَهَا آيَةً مَمْحُوَّةً مِنْ لَيْلِهَا

وَ أَجْرَاهُمَا فِي مَنَاقِلِ مَجْرَاهُمَا

وَ قَدَّرَ سَيْرَهُمَا فِي مَدَارِجِ دَرَجِهِمَا

لِيُمَيِّزَ بَيْنَ اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ بِهِمَا

وَ لِيُعْلَمَ عَدَدُ السِّنِينَ وَ الْحِسَابُ بِمَقَادِيرِهِمَا

ثُمَّ عَلَّقَ فِي جَوِّهَا فَلَكَهَا

وَ نَاطَ بِهَا زِينَتَهَا مِنْ خَفِيَّاتِ دَرَارِيِّهَا

وَ مَصَابِيحِ كَوَاكِبِهَا

وَ رَمَى مُسْتَرِقِي السَّمْعِ بِثَوَاقِبِ شُهُبِهَا

وَ أَجْرَاهَا عَلَى أَذْلَالِ تَسْخِيرِهَا

مِنْ ثَبَاتِ ثَابِتِهَا

وَ مَسِيرِ سَائِرِهَا

وَ هُبُوطِهَا وَ صُعُودِهَا

وَ نُحُوسِهَا وَ سُعُودِهَا

و منها في صفة الملائكة

ثُمَّ خَلَقَ سُبْحَانَهُ لِإِسْكَانِ سَمَاوَاتِهِ

وَ عِمَارَةِ الصَّفِيحِ الْأَعْلَى مِنْ مَلَكُوتِهِ

خَلْقاً بَدِيعاً مِنْ مَلَائِكَتِهِ

وَ مَلَأَ بِهِمْ فُرُوجَ فِجَاجِهَا

وَ حَشَا بِهِمْ فُتُوقَ أَجْوَائِهَا

وَ بَيْنَ فَجَوَاتِ تِلْكَ الْفُرُوجِ زَجَلُ الْمُسَبِّحِينَ مِنْهُمْ فِي حَظَائِرِ الْقُدُسِ

وَ سُتُرَاتِ الْحُجُبِ

وَ سُرَادِقَاتِ الْمَجْدِ وَ وَرَاءَ ذَلِكَ الرَّجِيجِ

الَّذِي تَسْتَكُّ مِنْهُ الْأَسْمَاعُ

سُبُحَاتُ نُورٍ تَرْدَعُ الْأَبْصَارَ عَنْ بُلُوغِهَا

فَتَقِفُ خَاسِئَةً عَلَى حُدُودِهَا.

وَ أَنْشَأَهُمْ عَلَى صُوَرٍ مُخْتَلِفَاتٍ

وَ أَقْدَارٍ مُتَفَاوِتَاتٍ

 أُولِي أَجْنِحَةٍ

تُسَبِّحُ جَلَالَ عِزَّتِهِ

لَا يَنْتَحِلُونَ مَا ظَهَرَ فِي الْخَلْقِ مِنْ صُنْعِهِ

وَ لَا يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَخْلُقُونَ شَيْئاً مَعَهُ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ

 بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ

 لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ‏

جَعَلَهُمُ اللَّهُ فِيمَا هُنَالِكَ أَهْلَ الْأَمَانَةِ عَلَى وَحْيِهِ

وَ حَمَّلَهُمْ إِلَى الْمُرْسَلِينَ وَدَائِعَ أَمْرِهِ وَ نَهْيِهِ

وَ عَصَمَهُمْ مِنْ رَيْبِ الشُّبُهَاتِ

فَمَا مِنْهُمْ زَائِغٌ عَنْ سَبِيلِ مَرْضَاتِهِ

وَ أَمَدَّهُمْ بِفَوَائِدِ الْمَعُونَةِ

وَ أَشْعَرَ قُلُوبَهُمْ تَوَاضُعَ إِخْبَاتِ السَّكِينَةِ

وَ فَتَحَ لَهُمْ أَبْوَاباً ذُلُلًا إِلَى تَمَاجِيدِهِ

وَ نَصَبَ لَهُمْ مَنَاراً وَاضِحَةً عَلَى أَعْلَامِ تَوْحِيدِهِ

لَمْ تُثْقِلْهُمْ مُؤْصِرَاتُ الْآثَامِ

وَ لَمْ تَرْتَحِلْهُمْ عُقَبُ اللَّيَالِي وَ الْأَيَّامِ

وَ لَمْ تَرْمِ الشُّكُوكُ بِنَوَازِعِهَا عَزِيمَةَ إِيمَانِهِمْ

وَ لَمْ تَعْتَرِكِ الظُّنُونُ عَلَى مَعَاقِدِ يَقِينِهِمْ

وَ لَا قَدَحَتْ قَادِحَةُ الْإِحَنِ فِيمَا بَيْنَهُمْ

وَ لَا سَلَبَتْهُمُ الْحَيْرَةُ مَا لَاقَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِضَمَائِرِهِمْ

وَ مَا سَكَنَ مِنْ عَظَمَتِهِ وَ هَيْبَةِ جَلَالَتِهِ فِي أَثْنَاءِ صُدُورِهِمْ

وَ لَمْ تَطْمَعْ فِيهِمُ الْوَسَاوِسُ فَتَقْتَرِعَ بِرَيْنِهَا عَلَى فِكْرِهِمْ

وَ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِي خَلْقِ الْغَمَامِ‏ الدُّلَّحِ

وَ فِي عِظَمِ الْجِبَالِ الشُّمَّخِ

وَ فِي قَتْرَةِ الظَّلَامِ الْأَيْهَمِ

وَ مِنْهُمْ مَنْ قَدْ خَرَقَتْ أَقْدَامُهُمْ تُخُومَ الْأَرْضِ السُّفْلَى

فَهِيَ كَرَايَاتٍ بِيضٍ

قَدْ نَفَذَتْ فِي مَخَارِقِ الْهَوَاءِ

وَ تَحْتَهَا رِيحٌ هَفَّافَةٌ تَحْبِسُهَا عَلَى حَيْثُ انْتَهَتْ مِنَ الْحُدُودِ الْمُتَنَاهِيَةِ

قَدِ اسْتَفْرَغَتْهُمْ أَشْغَالُ عِبَادَتِهِ

وَ وَصَلَتْ حَقَائِقُ الْإِيمَانِ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَعْرِفَتِهِ

وَ قَطَعَهُمُ الْإِيقَانُ بِهِ إِلَى الْوَلَهِ إِلَيْهِ

وَ لَمْ تُجَاوِزْ رَغَبَاتُهُمْ مَا عِنْدَهُ إِلَى مَا عِنْدَ غَيْرِهِ

قَدْ ذَاقُوا حَلَاوَةَ مَعْرِفَتِهِ

وَ شَرِبُوا بِالْكَأْسِ الرَّوِيَّةِ مِنْ مَحَبَّتِهِ

وَ تَمَكَّنَتْ مِنْ سُوَيْدَاءِ

قُلُوبِهِمْ وَشِيجَةُ خِيفَتِهِ

فَحَنَوْا بِطُولِ الطَّاعَةِ اعْتِدَالَ ظُهُورِهِمْ

وَ لَمْ يُنْفِدْ طُولُ الرَّغْبَةِ إِلَيْهِ مَادَّةَ تَضَرُّعِهِمْ

وَ لَا أَطْلَقَ عَنْهُمْ عَظِيمُ الزُّلْفَةِ رِبَقَ خُشُوعِهِمْ

وَ لَمْ يَتَوَلَّهُمُ الْإِعْجَابُ فَيَسْتَكْثِرُوا مَا سَلَفَ مِنْهُمْ

وَ لَا تَرَكَتْ لَهُمُ اسْتِكَانَةُ الْإِجْلَالِ نَصِيباً فِي تَعْظِيمِ حَسَنَاتِهِمْ

وَ لَمْ تَجْرِ الْفَتَرَاتُ فِيهِمْ عَلَى طُولِ دُءُوبِهِمْ

وَ لَمْ تَغِضْ رَغَبَاتُهُمْ فَيُخَالِفُوا عَنْ رَجَاءِ رَبِّهِمْ

وَ لَمْ تَجِفَّ لِطُولِ الْمُنَاجَاةِ أَسَلَاتُ أَلْسِنَتِهِمْ

وَ لَا مَلَكَتْهُمُ الْأَشْغَالُ فَتَنْقَطِعَ بِهَمْسِ الْجُؤَارِ إِلَيْهِ أَصْوَاتُهُمْ

وَ لَمْ تَخْتَلِفْ فِي مَقَاوِمِ الطَّاعَةِ مَنَاكِبُهُمْ

وَ لَمْ يَثْنُوا إِلَى رَاحَةِ التَّقْصِيرِ فِي أَمْرِهِ رِقَابَهُمْ.

وَ لَا تَعْدُو عَلَى عَزِيمَةِ جِدِّهِمْ بَلَادَةُ الْغَفَلَاتِ

وَ لَا تَنْتَضِلُ فِي هِمَمِهِمْ خَدَائِعُ الشَّهَوَاتِ

قَدِاتَّخَذُوا ذَا الْعَرْشِ ذَخِيرَةً لِيَوْمِ فَاقَتِهِمْ

وَ يَمَّمُوهُ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْخَلْقِ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ بِرَغْبَتِهِمْ

لَا يَقْطَعُونَ أَمَدَ غَايَةِ عِبَادَتِهِ

وَ لَا يَرْجِعُ بِهِمُ الِاسْتِهْتَارُ بِلُزُومِ طَاعَتِهِ

إِلَّا إِلَى مَوَادَّ مِنْ قُلُوبِهِمْ غَيْرِ مُنْقَطِعَةٍ مِنْ رَجَائِهِ وَ مَخَافَتِهِ

لَمْ تَنْقَطِعْ أَسْبَابُ الشَّفَقَةِ مِنْهُمْ

فَيَنُوا فِي جِدِّهِمْ

وَ لَمْ تَأْسِرْهُمُ الْأَطْمَاعُ فَيُؤْثِرُوا وَشِيكَ السَّعْيِ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ

لَمْ يَسْتَعْظِمُوا مَا مَضَى مِنْ أَعْمَالِهِمْ

وَ لَوِ اسْتَعْظَمُوا ذَلِكَ لَنَسَخَ الرَّجَاءُ مِنْهُمْ شَفَقَاتِ وَجَلِهِمْ

وَ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي رَبِّهِمْ بِاسْتِحْوَاذِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ

وَ لَمْ يُفَرِّقْهُمْ سُوءُ التَّقَاطُعِ

وَ لَا تَوَلَّاهُمْ غِلُّ التَّحَاسُدِ

وَ لَا تَشَعَّبَتْهُمْ مَصَارِفُ الرِّيَبِ

وَ لَا اقْتَسَمَتْهُمْ أَخْيَافُ الْهِمَمِ

فَهُمْ أُسَرَاءُ إِيمَانٍ

لَمْ يَفُكَّهُمْ مِنْ رِبْقَتِهِ زَيْغٌ وَ لَا عُدُولٌ وَ لَا وَنًى وَ لَا فُتُورٌ

وَ لَيْسَ فِي أَطْبَاقِ السَّمَاءِ مَوْضِعُ إِهَابٍ إِلَّا وَ عَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ

أَوْ سَاعٍ حَافِدٌ

يَزْدَادُونَ عَلَى طُولِ الطَّاعَةِ بِرَبِّهِمْ عِلْماً

وَ تَزْدَادُ عِزَّةُ رَبِّهِمْ فِي قُلُوبِهِمْ عِظَماً

و منها في صفة الأرض و دحوها على الماء

كَبَسَ الْأَرْضَ عَلَى مَوْرِ أَمْوَاجٍ مُسْتَفْحِلَةٍ

وَ لُجَجِ بِحَارٍ زَاخِرَةٍ

تَلْتَطِمُ أَوَاذِيُّ أَمْوَاجِهَا

وَ تَصْطَفِقُ مُتَقَاذِفَاتُ أَثْبَاجِهَا

وَ تَرْغُو زَبَداً كَالْفُحُولِ عِنْدَ هِيَاجِهَا

فَخَضَعَ جِمَاحُ الْمَاءِ الْمُتَلَاطِمِ لِثِقَلِ حَمْلِهَا

وَ سَكَنَ هَيْجُ ارْتِمَائِهِ إِذْ وَطِئَتْهُ‏ بِكَلْكَلِهَا

وَ ذَلَّ مُسْتَخْذِياً

إِذْ تَمَعَّكَتْ عَلَيْهِ بِكَوَاهِلِهَا

فَأَصْبَحَ بَعْدَ اصْطِخَابِ أَمْوَاجِهِ

سَاجِياً مَقْهُوراً

وَ فِي حَكَمَةِ الذُّلِّ مُنْقَاداً أَسِيراً

وَ سَكَنَتِ الْأَرْضُ مَدْحُوَّةً فِي لُجَّةِ تَيَّارِهِ

وَ رَدَّتْ مِنْ نَخْوَةِ بَأْوِهِ وَ اعْتِلَائِهِ

وَ شُمُوخِ أَنْفِهِ وَ سُمُوِّ غُلَوَائِهِ

وَ كَعَمَتْهُ عَلَى كِظَّةِ جَرْيَتِهِ

فَهَمَدَ بَعْدَ نَزَقَاتِهِ

وَ لَبَدَ بَعْدَ زَيَفَانِ وَثَبَاتِهِ

فَلَمَّا سَكَنَ هَيْجُ الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ أَكْنَافِهَا

وَ حَمْلِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ الشُّمَّخِ الْبُذَّخِ عَلَى أَكْتَافِهَا

فَجَّرَ يَنَابِيعَ الْعُيُونِ مِنْ عَرَانِينِ أُنُوفِهَا

وَ فَرَّقَهَا فِي سُهُوبِ بِيدِهَا وَ أَخَادِيدِهَا

وَ عَدَّلَ حَرَكَاتِهَا بِالرَّاسِيَاتِ مِنْ جَلَامِيدِهَا

وَ ذَوَاتِ الشَّنَاخِيبِ الشُّمِّ مِنْ صَيَاخِيدِهَا

فَسَكَنَتْ مِنَ الْمَيَدَانِ لِرُسُوبِ الْجِبَالِ فِي قِطَعِ أَدِيمِهَا وَ تَغَلْغُلِهَا

مُتَسَرِّبَةً فِي جَوْبَاتِ خَيَاشِيمِهَا

وَ رُكُوبِهَا أَعْنَاقَ سُهُولِ الْأَرَضِينَ وَ جَرَاثِيمِهَا

وَ فَسَحَ بَيْنَ الْجَوِّ وَ بَيْنَهَا

وَ أَعَدَّ الْهَوَاءَ مُتَنَسَّماً لِسَاكِنِهَا

وَ أَخْرَجَ إِلَيْهَا أَهْلَهَا عَلَى تَمَامِ مَرَافِقِهَا

ثُمَّ لَمْ يَدَعْ جُرُزَ الْأَرْضِ الَّتِي تَقْصُرُ مِيَاهُ الْعُيُونِ عَنْ رَوَابِيهَا

وَ لَا تَجِدُ جَدَاوِلُ الْأَنْهَارِ ذَرِيعَةً إِلَى بُلُوغِهَا

حَتَّى أَنْشَأَ لَهَا نَاشِئَةَ سَحَابٍ تُحْيِي مَوَاتَهَا

وَ تَسْتَخْرِجُ نَبَاتَهَا

أَلَّفَ غَمَامَهَا بَعْدَ افْتِرَاقِ لُمَعِهِ

وَ تَبَايُنِ قَزَعِهِ

حَتَّى إِذَا تَمَخَّضَتْ لُجَّةُالْمُزْنِ فِيهِ

وَ الْتَمَعَ بَرْقُهُ فِي كُفَفِهِ

وَ لَمْ يَنَمْ وَمِيضُهُ فِي كَنَهْوَرِ رَبَابِهِ

وَ مُتَرَاكِمِ سَحَابِهِ

أَرْسَلَهُ سَحّاً مُتَدَارِكاً

قَدْ أَسَفَّ هَيْدَبُهُ

تَمْرِيهِ الْجَنُوبُ دِرَرَ أَهَاضِيبِهِ

وَ دُفَعَ شَآبِيبِهِ.

فَلَمَّا أَلْقَتِ السَّحَابُ بَرْكَ بِوَانَيْهَا

وَ بَعَاعَ مَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ مِنَ الْعِبْ‏ءِ الْمَحْمُولِ عَلَيْهَا

أَخْرَجَ بِهِ مِنْ هَوَامِدِ الْأَرْضِ النَّبَاتَ

وَ مِنْ زُعْرِ الْجِبَالِ الْأَعْشَابَ

فَهِيَ تَبْهَجُ بِزِينَةِ رِيَاضِهَا

وَ تَزْدَهِي بِمَا أُلْبِسَتْهُ مِنْ رَيْطِ أَزَاهِيرِهَا

وَ حِلْيَةِ مَا سُمِطَتْ بِهِ مِنْ نَاضِرِ أَنْوَارِهَا

وَ جَعَلَ ذَلِكَ بَلَاغاً لِلْأَنَامِ

وَ رِزْقاً لِلْأَنْعَامِ

وَ خَرَقَ الْفِجَاجَ فِي آفَاقِهَا

وَ أَقَامَ الْمَنَارَ لِلسَّالِكِينَ عَلَى جَوَادِّ طُرُقِهَا

فَلَمَّا مَهَدَ أَرْضَهُ

وَ أَنْفَذَ أَمْرَهُ

اخْتَارَ آدَمَ ( عليه‏ السلام  )خِيرَةً مِنْ خَلْقِهِ

وَ جَعَلَهُ أَوَّلَ جِبِلَّتِهِ

وَ أَسْكَنَهُ جَنَّتَهُ

وَ أَرْغَدَ فِيهَا أُكُلَهُ

وَ أَوْعَزَ إِلَيْهِ فِيمَا نَهَاهُ عَنْهُ

وَ أَعْلَمَهُ أَنَّ فِي الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ التَّعَرُّضَ لِمَعْصِيَتِهِ

وَ الْمُخَاطَرَةَ بِمَنْزِلَتِهِ

فَأَقْدَمَ عَلَى مَا نَهَاهُ عَنْهُ

مُوَافَاةً لِسَابِقِ عِلْمِهِ

فَأَهْبَطَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ لِيَعْمُرَ أَرْضَهُ بِنَسْلِهِ

وَ لِيُقِيمَ الْحُجَّةَ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ

وَ لَمْ يُخْلِهِمْ بَعْدَ أَنْ قَبَضَهُ

مِمَّا يُؤَكِّدُ عَلَيْهِمْ حُجَّةَ رُبُوبِيَّتِهِ

وَ يَصِلُ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَعْرِفَتِهِ

بَلْ تَعَاهَدَهُمْ بِالْحُجَجِ عَلَى أَلْسُنِ الْخِيَرَةِ مِنْ أَنْبِيَائِهِ

وَ مُتَحَمِّلِي وَدَائِعِ رِسَالَاتِهِ

قَرْناً فَقَرْناً

حَتَّى تَمَّتْ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ( صلى‏ الله‏ عليه‏ وسلم  )حُجَّتُهُ

وَ بَلَغَ الْمَقْطَعَ عُذْرُهُ وَ نُذُرُهُ

وَ قَدَّرَ الْأَرْزَاقَ فَكَثَّرَهَا وَ قَلَّلَهَا

وَ قَسَّمَهَا عَلَى الضِّيقِ وَ السَّعَةِ فَعَدَلَ فِيهَا

لِيَبْتَلِيَ مَنْ أَرَادَ بِمَيْسُورِهَا وَ مَعْسُورِهَا

وَ لِيَخْتَبِرَ بِذَلِكَ الشُّكْرَ وَ الصَّبْرَ مِنْ غَنِيِّهَا وَ فَقِيرِهَا

ثُمَّ قَرَنَ بِسَعَتِهَا عَقَابِيلَ فَاقَتِهَا

وَ بِسَلَامَتِهَا طَوَارِقَ آفَاتِهَا

وَ بِفُرَجِ أَفْرَاحِهَا غُصَصَ أَتْرَاحِهَا

وَ خَلَقَ الْآجَالَ فَأَطَالَهَا وَ قَصَّرَهَا

وَ قَدَّمَهَا وَ أَخَّرَهَا

وَ وَصَلَ بِالْمَوْتِ أَسْبَابَهَا

وَ جَعَلَهُ خَالِجاً لِأَشْطَانِهَا

وَ قَاطِعاً لِمَرَائِرِ أَقْرَانِهَا

عَالِمُ السِّرِّ مِنْ ضَمَائِرِ الْمُضْمِرِينَ

وَ نَجْوَى الْمُتَخَافِتِينَ

وَ خَوَاطِرِ رَجْمِ الظُّنُونِ

وَ عُقَدِ عَزِيمَاتِ الْيَقِينِ

وَ مَسَارِقِ إِيمَاضِ الْجُفُونِ

وَ مَا ضَمِنَتْهُ أَكْنَانُ الْقُلُوبِ

وَ غَيَابَاتُ الْغُيُوبِ

وَ مَا أَصْغَتْ لِاسْتِرَاقِهِ مَصَائِخُ الْأَسْمَاعِ

وَ مَصَايِفُ الذَّرِّ

وَ مَشَاتِي الْهَوَامِّ

وَ رَجْعِ الْحَنِينِ مِنَ الْمُولَهَاتِ

وَ هَمْسِ الْأَقْدَامِ

وَ مُنْفَسَحِ الثَّمَرَةِ مِنْ وَلَائِجِ غُلُفِ الْأَكْمَامِ

وَ مُنْقَمَعِ الْوُحُوشِ مِنْ غِيرَانِ الْجِبَالِ وَ أَوْدِيَتِهَا

وَ مُخْتَبَإِ الْبَعُوضِ بَيْنَ سُوقِ الْأَشْجَارِ وَ أَلْحِيَتِهَا

وَ مَغْرِزِ الْأَوْرَاقِ مِنَ الْأَفْنَانِ

وَ مَحَطِّ الْأَمْشَاجِ مِنْ مَسَارِبِ الْأَصْلَابِ

وَ نَاشِئَةِ الْغُيُومِ وَ مُتَلَاحِمِهَا

وَ دُرُورِ قَطْرِ السَّحَابِ فِي مُتَرَاكِمِهَا

وَ مَا تَسْفِي الْأَعَاصِيرُ بِذُيُولِهَا

وَ تَعْفُو الْأَمْطَارُ بِسُيُولِهَا

وَ عَوْمِ بَنَاتِ الْأَرْضِ فِي كُثْبَانِ الرِّمَالِ

وَ مُسْتَقَرِّ ذَوَاتِ الْأَجْنِحَةِ بِذُرَا شَنَاخِيبِ الْجِبَالِ

وَ تَغْرِيدِ ذَوَاتِ الْمَنْطِقِ فِي دَيَاجِيرِ الْأَوْكَارِ

وَ مَا أَوْعَبَتْهُ الْأَصْدَافُ

وَ حَضَنَتْ عَلَيْهِ أَمْوَاجُ الْبِحَارِ

وَ مَا غَشِيَتْهُ سُدْفَةُ لَيْلٍ

أَوْ ذَرَّ عَلَيْهِ شَارِقُ نَهَارٍ

وَ مَا اعْتَقَبَتْ عَلَيْهِ أَطْبَاقُ الدَّيَاجِيرِ

وَ سُبُحَاتُ النُّورِ

وَ أَثَرِ كُلِّ خَطْوَةٍ

وَ حِسِّ كُلِّ حَرَكَةٍ

وَ رَجْعِ كُلِّ كَلِمَةٍ

وَ تَحْرِيكِ كُلِّ شَفَةٍ

وَ مُسْتَقَرِّ كُلِّ نَسَمَةٍ

وَ مِثْقَالِ كُلِّ ذَرَّةٍ وَ هَمَاهِمِ كُلِّ نَفْسٍ هَامَّةٍ

وَ مَا عَلَيْهَا مِنْ ثَمَرِ شَجَرَةٍ

أَوْ سَاقِطِ وَرَقَةٍ

أَوْ قَرَارَةِ نُطْفَةٍ

أَوْ نُقَاعَةِ دَمٍ وَ مُضْغَةٍ

أَوْ نَاشِئَةِ خَلْقٍ وَ سُلَالَةٍ

لَمْ يَلْحَقْهُ فِي ذَلِكَ كُلْفَةٌ

وَ لَا اعْتَرَضَتْهُ فِي حِفْظِ مَا ابْتَدَعَ مِنْ خَلْقِهِ عَارِضَةٌ

وَ لَا اعْتَوَرَتْهُ فِي تَنْفِيذِ الْأُمُورِ وَ تَدَابِيرِ الْمَخْلُوقِينَ مَلَالَةٌ وَ لَا فَتْرَةٌ

بَلْ نَفَذَهُمْ عِلْمُهُ

وَ أَحْصَاهُمْ عَدَدُهُ

وَ وَسِعَهُمْ عَدْلُهُ

وَ غَمَرَهُمْ فَضْلُهُ

مَعَ تَقْصِيرِهِمْ عَنْ كُنْهِ مَا هُوَ أَهْلُهُ

دعاء

اللَّهُمَّ أَنْتَ أَهْلُ الْوَصْفِ الْجَمِيلِ

وَ التَّعْدَادِ الْكَثِيرِ

إِنْ تُؤَمَّلْ فَخَيْرُ مَأْمُولٍ

وَ إِنْ تُرْجَ فَخَيْرُ مَرْجُوٍّ

اللَّهُمَّ وَ قَدْ بَسَطْتَ لِي فِيمَا لَا أَمْدَحُ بِهِ غَيْرَكَ

وَ لَا أُثْنِي بِهِ عَلَى أَحَدٍ سِوَاكَ

وَ لَا أُوَجِّهُهُ إِلَى مَعَادِنِ الْخَيْبَةِ وَ مَوَاضِعِ الرِّيبَةِ

وَ عَدَلْتَ بِلِسَانِي عَنْ مَدَائِحِ الْآدَمِيِّينَ وَ الثَّنَاءِ عَلَى الْمَرْبُوبِينَ الْمَخْلُوقِينَ

اللَّهُمَّ وَ لِكُلِّ مُثْنٍ عَلَى مَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ مَثُوبَةٌ مِنْ جَزَاءٍ

أَوْ عَارِفَةٌ مِنْ عَطَاءٍ

وَ قَدْ رَجَوْتُكَ دَلِيلًا عَلَى ذَخَائِرِ الرَّحْمَةِ وَ كُنُوزِ الْمَغْفِرَةِ

اللَّهُمَّ وَ هَذَا مَقَامُ مَنْ أَفْرَدَكَ بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ لَكَ

وَ لَمْ يَرَ مُسْتَحِقّاً لِهَذِهِ الْمَحَامِدِ وَ الْمَمَادِحِ غَيْرَكَ

وَ بِي فَاقَةٌ إِلَيْكَ لَا يَجْبُرُ مَسْكَنَتَهَا إِلَّا فَضْلُكَ

وَ لَا يَنْعَشُ مِنْ خَلَّتِهَا إِلَّا مَنُّكَ وَ جُودُكَ

فَهَبْ لَنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ رِضَاكَ

وَ أَغْنِنَا عَنْ مَدِّ الْأَيْدِي إِلَى سِوَاكَ

 إِنَّكَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج6  

الفصل الثالث

منها قدّر ما خلق فأحكم تقديره، و دبّره فألطف تدبيره، و وجّهه لوجهته فلم يتعدّ حدود منزلته، و لم يقصر دون الانتهاء إلى غايته، و لم يستصعب إذ أمر بالمضيّ على إرادته، و كيف و إنّما صدرت الامور عن مشيّة المنشي‏ء أصناف الأشياء بلا رويّة فكر آل إليها، و لا قريحة غريزة أضمر عليها، و لا تجربة أفادها من حوادث الدّهور، و لا شريك أعانه على ابتداع عجائب الامور، فتمّ خلقه و أذعن لطاعته، و أجاب إلى دعوته، و لم يعترض دونه ريث المبطى، و لا أناة المتلكِّي، فأقام من الأشياء أودها، و نهج حدودها، و لائم بقدرته بين متضادّها، و وصل أسباب قرائنها، و فرّقها أجناسا مختلفات، في الحدود و الأقدار و الغرائز و الهيئات، بدايا (برايا خ ل) خلايق أحكم صنعها، و فطرها على ما أراد و ابتدعها.

اللغة

(التدبير) في الامور النّظر إلى ما يؤل إليه عاقبتها و (وجهة) الشي‏ء بالكسر جهة الشّي‏ء يتوجّه اليها قال تعالى: وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها.

و (قصر) السهم عن الهدف إذا لم يبلغه و قصرت عن الشي‏ء أى عجزت عنه و (دون) الشّي‏ء أى قريبا منه و قبل الوصول إليه و (آل) إليه رجع و (الغريزة) الطبيعة و (قريحة الغريزة) ما يستنبطه الذّهن.

قال الجوهريّ: القريحة أوّل ما يستنبط من البئر و منه قولهم: لفلان قريحة جيّدة يراد استنباط العلم بجودة الطبع و (أضمر عليها) أى بلغ الغاية و استقصى عليها من الاضمار بمعنى الاستقصاء، و قيل: من الاضمار بمعنى الاخفاء و ليس بشي‏ء لتعدّيه بنفسه يقال أضمره و أخفاه و لا يقال: أخفى و أضمر عليه و (الافادة) الاستفادة و (اعترض) الشي‏ء دون الشي‏ء حال، و اعترض صار كالخشبة المعترضة في النهر و (الريث) الابطاء و (الاناة) كقتاة: الحلم و الوقار مأخوذ من تأنّي في الأمر أى تثبّت و (تلكّاء) عليه اعتلّ و عنه أبطأ و (الاود) محركة الاعوجاج و (قرائنها) جمع القرينة و هي الأنفس و يحتمل أن يراد بها مقارنات الأشياء كما تطلع عليه.

قال الشّارح المعتزلي: و (بدايا) ههنا جمع بدية و هي الحالة العجيبة بدأ الرّجل إذا جاء بالأمر البدى‏ء أى المعجب و البدية أيضا الحالة المبتكرة المبتدئة و منه قولهم فعله بادى بدي‏ء على وزن فعل أي أوّل كلّ شي‏ء.

الاعراب

قوله: و كيف استفهام على سبيل الانكار و إنما صدرت جملة حالية و العامل محذوف أى كيف يستصعب و إنّما صدرت الامور، و جملة لم يعترض حال أيضا من فاعل المصدر أعني دعوته، قوله: أجناسا حال من مفعول فرّق أو منصوب بنزع‏ الخافض أي فرّقها بأجناس أو على أجناس مختلفة، و قوله: بدايا خلايق خبر لمبتدأ محذوف أى هي بدايا خلايق، و اضافة بدايا إلى خلايق من باب اضافة الصّفة إلى موصوفها، قال الشّارح المعتزلي: و يجوز أن لا يكون بدايا إضافة إليها بل يكون بدلا من اجناسا.

أقول: فعلى هذا الاحتمال تكون بدايا صفة ثانية لأجناسا و ما ذكرناه أظهر فتدبّر.

المعنى

اعلم أنّ هذا الفصل من الخطبة متضمن لتنزيه اللَّه سبحانه في كيفية ايجاده للأشياء و خلقه لها عن صفات المصنوعين، و فيه تنبيه على كون المخلوقين مذلّين لانقياد حكمه، مطيعين لأمره، ماضين على ارادته، غير متمرّدين عن طاعته كما قال عليه السّلام: (قدّر ما خلق فأحكم تقديره) يعني أنّ كلّ مخلوق قدّره في الوجود فعلى وفق حكمته بحيث لو زاد على ذلك المقدار أو نقص منه لاختلّت مصلحة ذلك المقدّر و تغيّرت جهة المنفعة فيه (و دبّره فألطف تدبيره) يعني أنّه أوجد الأشياء على وفق المصلحة و نظام الخير فتصرّف فيها تصرّفات كلّية و جزئيّة من غير شعور غيره ذلك.

(و وجّهه لوجهته فلم يتعدّ حدود منزلته و لم يقصر دون الانتهاء إلى غايته) أراد أنّه سبحانه وجّه كلّ ما خلق إلى الجهة التي وجّهه إليها، و ألهم كلّا و يسّره لما خلق له، كالسحاب للمطر و الحمار للحمل و النّحل للشمع و العسل و هكذا فلم يتجاوز شي‏ء منها مرسوم تلك المنزلة المحدودة له المعيّنة في حقّه، و لم يقصر دون الانتهاء إلى الغاية التي كتبت له في اللّوح المحفوظ و إلّا لزم التّغيّر في علمه و عدم النفاذ في أمره و هما محالان.

(و لم يستصعب إذ أمر بالمضيّ على إرادته) أى لم يستصعب أحد من المخلوق التّوجّه إلى الجهة التي وجّهه إليها، و لم يمكنه التّخلّف من المضيّ اليها على وفق إرادته و حكمته بعد أمره له بذلك أمر تكوين لا تشريع.

(و كيف) يستصعب و يتخلّف (و إنّما صدرت الامور عن مشيّة المنشي أصناف الأشياء) يعني أنّ جميع الآثار مستند إلى مشيّة إذ كلّ أثر فهو واجب عن مؤثّره و الكلّ منته في سلسلة الحاجة إلى إرادته فهو واجب عنها.

و يدلّ عليه ما رواه في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن اذينة عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: خلق اللَّه المشيّة بنفسها ثمّ خلق الأشياء بالمشيّة.

و سيأتي تحقيق الكلام في ذلك بعد الفراغ من شرح الفصل، هذا و قوله عليه السّلام (بلا رويّة فكر آل إليها و لا قريحة غريزة أضمر عليها و لا تجربة أفادها من حوادث الدّهور و لا شريك أعانه على ابتداع عجائب الامور) إشارة إلى تنزّهه في ايجاد المخلوقات عن الافتقار إلى هذه الامور، و أنّ ذاته بذاته مصدر جميع الامور و أنّ خلقه سبحانه لها غير موقوف على شي‏ء منها.

أمّا رويّة الفكر فلأنها عبارة عن حركة القوّة المفكّرة في تحصيل المطالب من المبادي و انتقالها منها إليها و هي محال على اللَّه سبحانه: «أمّا أوّلا» فلكون القوّة المفكّرة من خواصّ نوع الانسان «و أمّا ثانيا» فلأنّ فايدتها تحصيل المطالب المجهولة من المعلومات و الجهل محال في حقه تعالى و أمّا قريحة الغريزة فلانّها على ما عرفت عبارة عن استنباط العلم بجودة الذهن، و استحالته على اللَّه واضحة إذ العلم عين ذاته و هو تعالى غير فاقد له حتّى يكون محتاجا إلى التّعمق و الاستنباط و النظر في موارده و مصادره و الاستقصاء عليه و بلوغ الغاية فيه و أمّا التجربة فلأنّها عبارة عن حكم العقل بأمر على أمر بواسطة مشاهدات متكرّرة معدّة لليقين بسبب انضمام قياس خفيّ إليها، و هو أنّه لو كان هذا الأمر اتفاقيّا لما كان دائما أو أكثريّا و استحالتها على اللَّه من وجهين: أحدهما أنّها، مركبة من مقتضى الحسّ و العقل، و ذلك أنّ الحسّ يشاهد وقوع الاسهال مثلا عقيب شرب الدّواء مرّة بعد مرّة فينتزع العقل من تلك المشاهدة حكما كلّيا بأنّ ذلك الدّواء مسهل و معلوم أنّ اجتماع الحسّ و العقل من خصايص نوع الانسان و ثانيهما أنّ التّجربة إنما تفيد علما لم يكن قبل فالمحتاج إلى التجربة لاستفادة العلم بها ناقص بذاته مستكمل بها و المستكمل بالغير محتاج إليه فيكون ممكنا و أمّا الشريك المعين فلانتفاء الشريك أوّلا كما مرّ في شرح الفصل الرابع من فصول الخطبة الاولى، و لانتفاء مبدء الاستعانة ثانيا لأنّ مبدئها هو العجز من الفعل و العجز عبارة عن تناهي القوّة و القدرة، و قدس الحقّ منزّه عن ذلك.

فقد وضح و اتّضح بذلك كلّ الوضوح أنّ اللَّه سبحانه غير محتاج في ابداع الخلايق و ايجادها إلى الفكر و الرّوية، و لا قريحة الطّبيعة و لا تجربة و لا مشاركة و إنّما مستند الايجاد نفس الارادة و المشيّة و أنّه سبحانه إِذا قَضى‏ أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.

(فتمّ خلقه) بمشيّته (و أذعن) الكلّ (لطاعته) بمقتضا امكانه و حاجته (و أجاب) الجميع (إلى دعوته) حيث دعاهم إلى بساط الوجود بمقتضا عموم الافاضة و الجود (و) الحال انّه (لم يعترض دونه ريث المبطئ و لا أناة المتلكّى) أى لم يحل دون نفاذ أمره إبطاء المبطئ و لا تثبّت المتوقّف المعتلّ بل انقاد له جميع الأشياء و أسرعوا إلى أمره عند الدّعاء من غير تعلّل و لا إبطاء لكون الكلّ مقهورا تحت قدرته أذلّة تحت عزّته كما قال عزّ من قائل: بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِذا قَضى‏ أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.

يعنى أنّه إذا أراد فعله و خلقه يقول له ذلك بلا لفظ و لا نطق بلسان و لا همة و لا تفكّر، فقوله كن اشارة إلى هبة ما ينبغي لذلك المأمور و بذل ما يعدّه لاجابة أمره بالكون في الوجود، و قوله: فيكون إشارة إلى وجوده، و الفاء المقتضية للتعقيب بلا مهلة دليل على اللّزوم و عدم التأخّر، هذا.

و يحتمل أن يكون المراد بنفي اعتراض الرّيث و الاناة نفي اعتراضهما بالنّظر إلى ذاته من حيث فاعليته، فيكون المقصود بذلك تنزيهه من أن يعرض له شي‏ء من هذه الكيفيّات كما يعزض على أحدنا إذا أردنا فعل شي‏ء من حيث قصور قدرتنا و ضعف قوّتنا (فأقام من الأشياء أودها) و اعوجاجها، و إقامتها كناية عن اعداده ما ينبغي لها و إفاضته الكمال بالنسبة إليها (و نهج حدودها) و غاياتها أراد به ايضاحه لكلّ شي‏ء وجهته و تيسيرها له (و لائم بقدرته بين متضادّها) كما جمع بين العناصر الأربعة على تضادّ كيفيّتها في مزاج واحد (و وصل أسباب قرائنها) و نفوسها بتعديل أمزجتها لأنّ اعتدال المزاج سبب بقائها.

قال الشارح البحراني: و يحتمل أن يكون معنى الوصول لأسبابها هدايتها إلى عبادته و ما هو الأولى بها في معاشها و معادها و سوقها إلى ذلك، إذ المفهوم من قول القائل: وصل الملك أسباب فلان إذا علّقه عليه و وصله إلى برّه و انعامه، هذا إن جعلنا القراين بمعنى الأنفس و إن كانت بمعنى مقارنات الشي‏ء فهو إشارة إلى أنّ الموجودات لا تنفكّ عن أشياء يقترن بها من هيئة أو شكل أو غريزة و نحوها، و اقتران الشيئين لا محالة مستلزم لاقتران أسبابهما، لاستحالة قيام الموجود بدون أسبابه، و ذلك الاقتران و الاتّصال مستند إلى كمال قدرته إذ هو مسبب الأسباب.

(و فرّقها أجناسا مختلفات في الحدود و الاقدار و الغرايز و الهيئات) أى جعلها أقساما مختلفة النهايات و المقادير متفاوتة الطبايع و الصفات، فجعل بعضها طويلا و بعضها قصيرا و بعضها صغيرا و بعضها كبيرا، و جعل سجيّة بعضها شجاعا و بعضها جبانا و بعضها شحيحة و بعضها كريمة و هيئة بعضها حسنة و بعضها قبيحة و هكذا، هذا ان كان الحدود في كلامه عليه السّلام بمعنى النهايات قال الشارح البحرانيّ: و إن حملنا الحدود على ما هو المتعارف كان حسنا،فانّ حكمة الخالق سبحانه اقتضت تميّز بعض الموجودات عن بعض بحدودها و حقايقها، و بعضها بأشكالها و هيئاتها و مقاديرها و غرائزها و اخلاقها كما يقتضيه نظام الوجود و أحكام الصّنع و حكم الارادة الالهيّة.

(بدايا خلايق أحكم صنعها و فطرها على ما أراد و ابتدعها) أى هي مخلوقات عجيبة أو مبتكرة غير محتذى بها حذو خالق سابق، جعل صنعها محكما متقنا، و أوجدها على وفق ارادته و أبدعها من العدم المحض إلى الوجود من دون أن تكون لها مادّة أصلا لها كما زعمت الفلاسفة من أنّ الأجسام لها أصل أزلىّ هي المادّة فهو المخترع للممكنات بما فيها من المقادير و الأشكال و الهيآت، و المبتدع للموجودات بمالها من الحدود و الغايات و النّهايات بمحض القدرة على وفق الارادة و مقتضى الحكمة.

تنبيه

اعلم أنّه لما جرى في هذا الفصل ذكر حديث صدور الأشياء عن مشيّته سبحانه أحببت تنقيح ذلك المرام و عزمت على تحقيق الكلام في هذا المقام لكونه من مزالّ الأقدام.

فأقول: و باللّه التكلان و هو المستعان إنّ الكلام في هذا الباب يقع في مقامات ثلاثة.

المقام الاول

في معنى المشيّة، و قد فسّرها أهل اللغة بالارادة قال في القاموس: شئته إشائه شيئا و مشيئة و مشائة و مشائية أرادته، و في مجمع البحرين: و المشيّة الارادة من شاء زيد يشاء من باب قال أراد، و في المصباح شاء زيد الأمر يشائه شيئا من باب قال أراده، و المشيئة اسم منه بالهمز، و الادغام غير سايغ إلّا على قياس من يحمل الأصلى على الزّايد لكنّه غير منقول و نحوها في ساير كتب اللغة.

و أما في الأخبار و أحاديث أئمّتنا الأبرار الأخيار فتارة اطلقتا على معنى‏ واحد مثل ما رواه الطريحي عن الرّضا عليه السّلام ان الابداع و المشية و الارادة معناها واحد و الأسماء ثلاثة، و اخرى و هو الأكثر على معنيين مختلفين يجعل مرتبة المشية متقدّمة على مرتبة الارادة و كون نسبتها إليها نسبة القوّة إلى الضعف.

و يدلّ عليه ما رواه المحدّث المجلسيّ من المحاسن للبرقي قال: حدثني أبي عن يونس عن أبي الحسن الرّضا عليه السّلام قال: قلت: لا يكون إلّا ما شاء اللَّه و أراد و قضى فقال عليه السّلام: لا يكون إلّا ما شاء اللَّه و قدّر و قضى، قلت: فما معنى شاء قال: ابتداء الفعل، قلت: فما معنى أراد قال عليه السّلام: الثبوت عليه، قلت: فما معنى قدّر قال: تقدير الشي‏ء من طوله و عرضه، قلت: فما معنى قضى قال عليه السّلام: إذا قضى أمضاه فذلك الذي لا مردّ له.

و رواه في الكافي مسندا عن عليّ بن إبراهيم الهاشمي عن أبي الحسن موسى ابن جعفر عليهما السّلام نحوه إلّا أنّه ليس فيه قوله: قلت: فما معنى أراد قال الثبوت عليه، و لعلّه سقط من الكتاب و الظّاهر أنّ مراده منه هو ما ذكرنا كما فهمه شرّاح الحديث.

قال في مرآت العقول: قوله عليه السّلام: ابتداء الفعل أى أوّل الكتابة في اللّوح المحفوظ أو أوّل ما يحصل من جانب الفاعل و يصدر عنه ممّا يؤدّي إلى وجود المعلول و على ما في المحاسن يدلّ على أنّ الارادة تأكّد المشيّة و في اللَّه سبحانه تكون عبارة عن الكتابة في الألواح و تسبيب أسباب وجوده، و قوله: تقدير الشي‏ء، أى تعيين خصوصيّاته في اللّوح أو تعيين بعض الأسباب المؤدّية إلى تعيين المعلول و تحديده و خصوصيّاته إذا قضى أمضاه، أى إذا أوجبه باستكمال شرايط وجوده و جميع ما يتوقّف عليه المعلول أوجده، و ذلك الذي لا مردّ له لاستحالة تخلّف المعلول عن الموجب التّام.

و قال الصّالح المازندراني في شرحه على أصول الكافي: لما كان قوله عليه السّلام: لا يكون شي‏ء إلّا ما شاء اللَّه، دالّا بحسب الظاهر على أنّ المعاصي تقع بمشيّته تعالى و إرادته و هذا لا يستقيم على المذهب الحقّ، سأل السائل عن معنى المشيّة حتى يظهر له وجه الاستقامة، فأجاب عليه السّلام بأنّ المشيّة ابتداء الفعل و أوله، و لعلّ المراد بابتداء الفعل أنّ مشيّته تعالى أوّل فعل من الأفعال، و كلّ فعل غيرها يتوقّف عليها و يصدر بعدها كما يدلّ عليه ما عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: خلق اللَّه المشيّة بنفسها ثمّ خلق الأشياء بالمشيّة، يعني خلق أفعاله بها و كذا خلق أفعال عباده لكن بتوسط مشيّة جازمة صادرة منهم، فاذا سلسلة جميع الأفعال منتهية إلى مشيّته تعالى، و المراد به أنّ مشيّته أوّل المشيئات، و كلّ مشيّة سواها تابعة لها، كما أنّه تعالى هو الفاعل الأوّل و كلّ فاعل بعدها فاعل ثانوى يسند فعله إليه بلا واسطة، و إلى الفاعل الأوّل بواسطة، و هذا معنى مشيّته تعالى لأفعال العباد و معنى اسناد فعلهم إلى مشيّته.

و في محاسن البرقي بعد هذا السؤال و الجواب قلت: فما معنى أراد قال: الثبوت عليه، يعنى على ابتداء الفعل و من ههنا فسرّ بعضهم الارادة تارة بأنّها عزيمة على المشيّة، و تارة بأنها الاتمام لها، و تارة بأنّها الجدّ عليها.

و قال صدر المتألّهين: نسبة المشيّة إلى الارادة كنسبة الضعف إلى القوّة و نسبة الظنّ إلى الجزم، فانّك ربما تشاء أشياء و لا تريده، فظهر أنّ المشيّة ابتداء العزم على الفعل هذا.

و في الكافي عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد بن خالد عن أبيه و محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد بن عيسى عن الحسين بن سعيد و محمّد بن خالد جميعا عن فضالة بن أيوب عن محمّد بن عمارة عن حريز بن عبد اللَّه و عبد اللَّه بن مسكان جميعا عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: لا يكون شي‏ء في الأرض و لا في السّماء إلّا بهذه الخصال السّبع: بمشيّة، و إرادة، و قدر، و قضاء، و اذن، و كتاب، و أجل، فمن زعم أنّه يقدر على نقص واحدة فقد كفر.

قال في مرآت العقول: يمكن حمل الخصال السبع على اختلاف مراتب التقدير في الألواح السّماويّة، أو اختلاف مراتب تسبب الأسباب السّماويّة و الأرضيّة، أو يكون بعضها في الامور التكوينيّة و بعضها في الأحكام التكليفيّة، أو كلّها في‏الامور التكوينيّة.

فالمشيّة و هي العزم و الارادة و هي تأكّدها في الأمور التكوينيّة ظاهرتان و أمّا في التكليفيّة فلعلّ عدم تعلّق الارادة الحتميّة بالترك عبّر عنه بارادة الفعل مجازا.

و الحاصل أنّ الارادة متعلّقة بالأشياء كلّها لكن تعلّقها بها على وجوه مختلفة إذ تعلّقها بأفعال نفسه بمعنى ايجادها و الرضا بها و الأمر بها، و بالمباحاة بمعنى الرّخصة بها، و بالمعاصي إرادة أن لا يمنع منها بالجبر لتحقّق الابتلاء و التكليف كما قال تعالى: وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا.

أو يقال تعلّقها بأفعال العباد على سبيل التجوّز باعتبار ايجاد الآلة و القدرة عليها و عدم المنع منها فكانّه أرادها.

و بالقدر تقدير الموجودات طولا و عرضا و كيلا و وزنا و حدّا و وصفا و كمّا و كيفا، و بالقضاء الحكم عليها بالثواب و العقاب أو تسبيب أسبابه البعيدة كما مرّ و المراد بالاذن إما العلم أو الأمر في الطّاعات أو رفع الموانع، و بالكتاب الكتابة في الألواح السّماوية أو الفرض و الايجاب كما قال تعالى: كتب عليكم الصّيام، و كتب على نفسه الرّحمة، و بالأجل الأمد المعيّن و الوقت المقدّر عنده تعالى.

و في الكافي أيضا عن الحسين بن محمّد عن معلّى بن محمّد قال: سئل العالم عليه السّلام كيف علم اللَّه قال: علم و شاء و أراد و قدّر و قضى و أمضى، فأمضى ما قضى و قضى ما قدّر و قدّر ما أراد، فبعلمه كانت المشيّة، و بمشيّته كانت الارادة، و بارادته كان التقدير، و بتقديره كان القضاء، و بقضائه كان الامضاء الحديث.

قال صدر المتألّهين في شرحه: هذا السّائل سأله عليه السّلام عن كيفيّة علمه تعالى بالجزئيات الزّمانيّة و المكانيّة، فأجابه عليه السّلام عنها بما أفاده من المراتب السّتة المرتّب بعضها على بعض.

أوّلها العلم، لأنه المبدأ الأوّل لجميع الأفعال الاختياريّة، فانّ الفاعل المختار لا يصدر عنه فعل إلّا بعد القصد و الارادة، و لا يصدر عنه القصد و الارادة إلّا بعد تصوّر ما يدعوه إلى ذلك الميل و تلك الارادة و التّصديق به تصديقا جازما أو ظنا راجحا، فالعلم مبدء مبادى الأفعال الاختياريّة، و اعلم أنّ المراد بهذا العلم المقدّم على المشيّة و الارادة و ما بعدهما بحسب الاعتبار أو التحقّق هو العلم الأزلىّ الذاتي الالهيّ أو القضائي المحفوظ عن التغيّر، فينبعث منه ما بعده و أشار إليه بقوله: علم، أى علم دائما عن غير زوال و تبدّل.

و ثانيها المشيّة، و المراد بها مطلق الارادة سواء بلغت حدّ العزم و الاجماع أم لا، و قد ينفكّ المشيّة فينا عن الارادة الجازمة كما نشتاق أو نشتهى شيئا و لا نعزم على فعله لمانع عقليّ أو شرعيّ و إليها أشار بقوله: و شاء و ثالثها الارادة، و هي العزم على الفعل أو الترك بعد تصوّره و تصوّر غاية المترتبة عليه من خير أو نفع أو لذّة، لكنّ اللَّه برى‏ء عن أن يفعل لأجل غرض يعود إلى ذاته و إليها الاشارة بقوله: أراد.

و رابعها التقدير، فانّ الفاعل لفعل جزئيّ من أفعال طبيعة واحدة مشتركة إذا عزم على تكوينه في الخارج كما إذا عزم الانسان على بناء بيت فلا بدّ قبل الشروع أن يعيّن مكانه الذي يبنى عليه، و زمانه الذي يشرع فيه، و مقداره الذي يكوّنه عليه من كبر أو صغر أو طول أو عرض، و شكله و وصفه و لونه و غير ذلك من صفاته و أحواله، و هذه كلّها داخلة في التقدير.

و خامسها القضاء، و المراد هنا ايجاب الفعل و اقتضاء الفعل من القوّة الفاعلة المباشرة، فانّ الشي‏ء ما لم يجب لم يوجد، و هذه القوّة الموجبة بوقوع الفعل منّا هي القوّة التي تقوم في العضلة و العصب من العضو الذي توقع القوّة الفاعلة فيها قبضا و تشنّجا أو بسطا و إرخاء أوّلا فيتبعه حركة العضو فتتبعه صورة الفعل في الخارج من كتابة أو بناء أو غيرهما، و الفرق بين هذا الايجاب و بين وجود الفعل في العين كالفرق بين الميل الذي في المتحرّك و بين حركته، و قد ينفكّ الميل كما تحسّ‏ يدك من الحجر المسكن باليد في الهواء، و معنى هذا الايجاب و الميل من القوّة المحرّكة أنه لو لا هناك اتفاق مانع أو دافع من خارج لوقعت الحركة ضرورة إذ لم يبق من جانب الفاعل شي‏ء منتظر فقوله عليه السّلام: و قضى، إشارة إلى هذا الاقتضاء و الايجاب الذي ذكرنا أنه لا بدّ من تحقّقه قبل الفعل قبليّة بالذّات لا بالزّمان إلّا أن يدفعه دافع من خارج، و ليس المراد منه القضاء الأزلي لأنه نفس العلم، و مرتبة العلم قبل المشيّة و الارادة و التقدير.

و سادسها نفس الايجاد و هو أيضا متقدّم على وجود الشي‏ء المقدّر في الخارج و لهذا يعدّه أهل العلم و التحقيق من المراتب السّابقة على الوجود الممكن في الخارج فيقال أوجب فوجب. فأوجد فوجد.

فان قلت: أليس الايجاد و الوجود و كذا الايجاب و الوجوب متضايفين و المتضايفان معان في الوجود قلت: المتضايفان و إن كانا من حيث مفهوميهما الاضافيّين و من حيث اتّصاف الذاتين بهما معا كما ذكرت، لكنّ المراد ههنا ليس حال المفهومين، فانّ كلّا من الموجد بالفعل أو المقتضى أو المحرّك قد يراد به المعنى الاضافي و المفهوم النّسبي و حكمه كما ذكرت من كون تحقّقه مع تحقّق ما اضيف إليه من حيث إنه اضيف إليه، و قد يراد به كون الشي‏ء بحيث يكون وجوده مستتبعا لوجود شي‏ء آخر و هذا الكون لا محالة متقدّم على كون شي‏ء آخر هو تابعه و مقتضاه الموجود بسبب هذا الاقتضاء أو الايجاد.

كما في تحريك اليد بحركتها للمفتاح، تقول: تحرّك اليد فتحرّك المفتاح فانّ الفاء يدلّ على الترتيب و إن كانا معا في الزّمان و ربما يتقدّم المقتضي على المقتضي زمانا في عالم الاتفاقات إذا كان هناك مانع من خارج كما في المثال الذي ذكرناه و كما في اقتضاء الشمس لاضائة ما يحاذيها من وجه الأرض فحال بينهما حائل، فعدم استضاءة ذلك الموضع ليس لأجل فتور أو نقصان في جانب المقتضي، لأنّ حاله في الاقتضاء و الاضائة لم يتغيّر عما كان، و إنّما التخلّف في الاستضائة لأجل شي‏ء من جانب القابل، فقوله عليه السّلام: فأمضى، اشارة إلى هذا الايجاد الذي بيّنا أنه قبل الوجود و الصدور.

المقام الثاني

في تحقيق أنّ المشية و الارادة من صفات الفعل لا من صفات الذات، و توضيح ذلك موقوف على رسم مقدّمة متضمنة لقاعدة كلّية بها يعرف الفرق بين صفات الذات و صفات الفعل، و قد أشار إليها ثقة الاسلام الكليني عطّر اللَّه مضجعه في الكافي أيضا و هي: أنّ الفرق بينهما من وجوه ثلاثة: الأوّل أنّ كلّ صفة وجودية لها مقابل وجوديّ فهي من صفات الفعل لا من صفات الذات، لأنّ صفاته الذاتية كلّها عين ذاته و ذاته مما لا ضدّ له، فكذلك كلّما هو عين ذاته، مثال ذلك أنّك تقول: إنّ اللَّه سبحانه رضي و سخط و أحبّ و أبغض و أحيى و أمات، و هكذا و لا يجوز أن تقول: علم و جهل و قدر و عجز و عزّ و ذلّ، فبذلك يعرف أنّ الحبّ و الاحياء و الرّضا من صفات الفعل لأنّ البغض و الاماتة و السّخط مقابلاتها ناقضات لها، فلو كانت من صفات الذّات لزم أن يكون مقابلاتها ناقضات للذّات الأحدية و هو محال، لأنّه لا ضدّ له كما لا ندّ له فاتصاف ذاته بصفتين ذاتيّتين متقابلتين محال.

الثّاني أنّ كلّ صفة صحّ تعلّق القدرة بها فهي من صفات الفعل و كلّما لا تصحّ تعلّقها بها فهي صفة الذات، و ذلك لأنّ القدرة صفة ذاتيّة تتعلّق بالممكنات لا غير، فلا تتعلّق بالواجب و لا بالممتنع، فكلّ ما هو صفة الذات فهو أزليّ غير مقدور و كلّما هو صفة الفعل فهو ممكن مقدور فيصح أن تقول: يقدر أن يخلق و أن لا يخلق و يقدر أن يميت و يحيى و أن يثيب و يعاقب و هكذا، و لا يصحّ أن تقول: يقدر أن يعلم و أن لا يعلم، لأنّ علمه بالأشياء ضروريّ واجب بالذّات، و عدم علمه بها محال ممتنع بالذات و مصحّح المقدوريّة هو الامكان، و مثله صفة الملك و العزّة و العظمة و الكبرياء و الجلال و الجمال و الجبروت و أمثالها.

الثّالث أنّ كلّ صفة صحّ تعلّق الارادة بها فهي صفة فعل، و ما لا يصحّ تعلّقها بها فهي صفة الذّات، و ذلك لأنّ الارادة من توابع القدرة إذ هي عبارة عن اختيار أحد طرفي المقدور و العزم عليه لأجل تحقّق الدّاعي، فما لا يكون مقدورا لا يكون مرادا، و أيضا الارادة صفة فعل حادثة و الحادث لا يؤثر في القديم.

إذا عرفت هذه المقدّمة الشريفة فأقول:

إنّ الارادة كما حقّقه صدر المتألّهين في شرح الكافي تطلق على معنيين:

أحدهما ما يفهمه الجمهور

و هو الذي ضدّه الكراهة، و هي التي قد تحصل فينا عقيب تصوّر الشي‏ء الملايم و عقيب التردّد حتى يترجّح عندنا الأمر الداعي إلى الفعل أو الترك فيصدر أحدهما منا، و هذا المعنى فينا من الصفات النفسانية، و هى و الكراهة فينا كالشهوة و الغضب فينا، و هذا المعنى لا يجوز على اللَّه سبحانه، بل ارادته نفس صدور الأفعال الحسنة منه من جهة علمه بوجه الخير و كراهته عدم صدور الفعل القبيح من جهة علمه بقبحه.

كما قال المفيد (ره): إنّ الارادة من اللَّه جلّ اسمه نفس الفعل و من الخلق الضمير و أشباهه مما لا يجوز إلّا على ذوى الحاجة و النقص و ذلك لأنّ العقول شاهدة بأنّ القصد لا يكون إلّا بقلب كما لا تكون الشهوة و المحبّة إلّا لذي قلب و لا تصحّ النيّة و الضمير و العزم إلّا على ذيخاطر يضطرّ معه في الفعل الذى يقلب عليه إلى الارادة له و النّية فيه و العزم و لما كان اللَّه تعالى يجلّ عن الحاجات و يستحيل عليه الوصف بالجوارح و الأدوات و لا يجوز عليه الدّواعى و الخطرات، بطل أن يكون محتاجا في الأفعال إلى القصود و العزمات، و ثبت أنّ وصفها بالارادة مخالف في معناه لوصف العباد و أنها نفس فعله الأشياء و بذلك جاء الخبر عن أئمة الهدى.

ثمّ اورد رواية صفوان بن يحيى قال: قلت لأبي الحسن عليه السّلام: أخبرني عن الارادة من اللَّه و من الخلق قال: فقال عليه السّلام: الارادة من الخلق الضمير«» و ما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، و أما من اللَّه تعالى فارادته إحداثه لا غير ذلك، لأنّه تعالى‏ لا يروّي و لا يتفكّر و لا يهمّ و هذه الصّفات منتفية عنه و هي صفات الخلق فارادة اللَّه تعالى الفعل يقول له كن فيكون بلا لفظ و لا نطق بلسان و لا همة و لا تفكر و لا كيف لذلك كما لا كيف له تعالى.

المعنى الثاني للارادة

كون ذاته سبحانه بحيث يصدر عنه الأشياء لأجل علمه بنظام الخير فيها التابع لعلمه بذاته، لا كاتباع الضؤ للمضي‏ء و السخونة للمسخن، و لا كفعل الطبايع لا عن علم و شعور، و لا كفعل المجبورين و المسّخرين، و لا كفعل المختارين بقصد زايد أو ارادة ظنيّة يحتمل الطرف المقابل.

و قد تحقّقت أنّ قيّوم الكلّ إنّما يفعل الكلّ عن علم هو نفس ذاته العليم الذي هو أتمّ العلوم، فاذا هو سبحانه فاعل للأشياء كلّها بارادة ترجع إلى علمه بذاته المستتبع لعلمه بغيره المقتضى لوجود غيره في الخارج لا لغرض زايد و جلب منفعة أو طلب محمدة أو ثناء أو التخلّص من مذمّة، بل غاية فعله محبة ذاته فهذه الأشياء الصادرة عنه كلّها مرادة لأجل ذاته لأنها من توابع ذاته و علمه بذاته، فلو كنت تعشق شيئا لكان جميع ما يصدر عنه معشوقا لك لأجل ذلك الشّي‏ء.

و إليه الاشارة بما ورد في الحديث الالهي عن نفسه: كنت كنزا مخفيّا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لأعرف.

و إذا ظهر لك ذلك اتّضح عندك أنّ الارادة بالمعنى الثاني لا غبار على كونها من صفات الذّات لكونها عبارة اخرى للعلم بالأصلح و النّظام الخير و العلم صفة ذات له سبحانه، و بالمعنى الأول هي صفة فعل و لذلك صحّ سلبها عنه سبحانه.

و يشهد به ما رواه في الكافي باسناده عن عاصم بن حميد عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: قلت: لم يزل اللَّه مريدا قال: إنّ المريد لا يكون إلّا المراد معه، لم يزل اللَّه عالما قادرا ثم أراد.

فانّه كما ترى يدلّ على كونها من الصّفات الاضافيّة المتجدّدة كخالقيّته تعالى و رازقيّته، و يشهد به أخبار اخر أيضا لا حاجة إلى إيرادها بعد وضوح المراد.

المقام الثالث

في تحقيق الحديث المعروف المرويّ في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن اذينة عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: خلق اللَّه المشيّة بنفسها ثمّ خلق الأشياء بالمشيّة.

و قد ذكروا في تأويله وجوها أشار إليها المحدّث العلّامة المجلسيّ طاب رمسه في مرآت العقول.

الأوّل أن لا يكون المراد بالمشيّة الارادة بل احدى مراتب التّقديرات التي اقتضت الحكمة جعلها من أسباب وجود الشّي‏ء، كالتّقدير في اللّوح مثلا و الاثبات فيه، فانّ اللّوح و ما أثبت فيه لم يحصل بتقدير اخر فى لوح سوى ذلك اللّوح و إنما وجد ساير الأشياء بما قدّر في ذلك اللّوح و ربما يلوح هذا المعنى من بعض الأخبار، و على هذا المعنى يحتمل أن يكون الخلق بمعنى التقدير.

الثّاني أن يكون خلق المشيّة بنفسها كناية عن كونها لازمة لذاته تعالى غير متوقّفه على تعلّق إرادة اخرى بها، فيكون نسبة الخلق إليها مجازا عن تحقّقها بنفسها منتزعة عن ذاته تعالى بلا توقّف على مشيّة اخرى، أو أنه كناية عن أنّه اقتضى علمه الكامل و حكمته الشّاملة كون جميع الأشياء حاصلة بالعلم بالأصلح، فالمعنى أنه لما اقتضى كمال ذاته أن لا يصدر عنه شي‏ء إلّا على الوجه الأصلح و الأكمل فلذا لا يصدر شي‏ء عنه تعالى إلّا بارادته المقتضية لذلك.

الثالث ما ذكره السيّد داماد قدّس اللَّه روحه و هو: أنّ المراد بالمشيّة هنا مشيّة العباد لأفعالهم الاختيارية، لتقدّسه تعالى عن مشيّة مخلوقة زايدة على ذاته عزّ و جلّ و بالأشياء أفاعيلهم المترتّب وجودها على تلك المشيّة، و بذلك تنحلّ شبهة ربما اوردت ههنا، و هي: أنه لو كانت أفعال العباد مسبوقة بارادتهم لكانت الارادة مسبوقة بارادة اخرى و تسلسلت الارادات لا إلى نهاية.

الرّابع ما ذكره بعض الأفاضل و هو: أنّ للمشيّة معنيين أحدهما متعلّق بالشّائى و هي صفة كمالية قديمية هي نفس ذاته سبحانه، و هي كون ذاته سبحانه‏ بحيث يختار ما هو الخير و الصّلاح و الاخر يتعلّق بالمشي‏ء و هو حادث بحدوث المخلوقات لا تتخلّف المخلوقات عنه، و هو ايجاده سبحانه إيّاها بحسب اختياره، و ليست صفة زايدة على ذاته عزّ و جلّ و على المخلوقات بل هي نسبة بينهما تحدث بحدوث المخلوقات لفرعيّتها على المنتسبين معا فنقول إنه لما كان ههنا مظنّة شبهة هي: أنه إن كان اللَّه عزّ و جلّ خلق الأشياء بالمشيّة فبم خلق المشيّة أبمشيّة اخرى فيلزم أن تكون قبل كلّ مشيّة مشيّة إلى ما لا نهاية له، فأفاد الامام عليه السّلام أنّ الأشياء مخلوقة بالمشيّة و أما المشيّة نفسها فلا يحتاج خلقها إلى مشيّة اخرى، بل هي مخلوقة بنفسها لأنها إضافة و نسبة بين الشائي و المشى‏ء تتحصّل بوجوديهما العيني و العلمي، و لذا أضاف خلقها إلى اللَّه سبحانه لأنّ كلّ الوجودين له و فيه و منه، و في قوله: بنفسها، دون أن يقول بنفسه إشارة لطيفة إلى ذلك، نظير ذلك ما يقال: إنّ الأشياء إنما توجد بالوجود و أما الوجود نفسه فلا يفتقر على وجود آخر بل إنما يوجد بنفسه.

الخامس ما ذكره بعض المحقّقين بعد ما حقّق: أنّ إرادة اللَّه المتحقّقه المتجدّدة هي نفس أفعاله المتجدّدة الكائنة الفاسدة، فارادته لكلّ حادث بالمعنى الاضافي يرجع إلى ايجاده، و بمعنى المراديّة ترجع إلى وجوده.

قال: نحن إذا فعلنا شيئا بقدرتنا و اختيارنا فاردناه أوّلا ثمّ فعلناه بسبب الارادة فالارادة نشأت من أنفسنا بذاتها لا بارادة اخرى و إلّا لتسلسل الأمر لا إلى نهاية فالارادة مرادة لذاتها و الفعل مراد بالارادة، و كذا الشهوة في الحيوان مشتهاة لذاتها لذيذة بنفسها و ساير الأشياء مرغوبة بالشهوة.

فعلى هذا المثال حال مشيّة اللَّه المخلوقة و هي وجودات الأشياء، فانّ الوجود خير و مؤثر لذاته و مجعول بنفسه و الأشياء بالوجود موجودة و الوجود مشي‏ء بالذات و الأشياء مشيئة بالوجود، و كما أنّ الوجود حقيقة واحدة متفاوتة بالشدّة و الضعف و الكمال و النقص، فكذا الخيرية و المشيئة، و ليس الخير المحض الذي لا يشوبه شرّ إلّا الوجود البحت الذى لا يمازجه عدم و نقص، و هو ذات الباري جلّ مجده فهو المراد الحقيقى إلى آخر ما حقّقه.

قال المحدّث المجلسيّ (ره) بعد ايراد هذه الوجوه: و الأوفق بأصولنا هو الوجه الأوّل.

أقول: بل ما سوى الوجه الأخير كلّها أوفق و إن كانت متفاوتة بالقرب و البعد، و إنما الوجه الأخير الذى مرجعه إلى القول بوحدة الوجود مخالف للأخبار و اصول الأئمة الأطهار سلام اللَّه عليهم ما تعاقب اللّيل و النّهار، و اللَّه العالم بحقايق صفاته و المتعالى عن مجانسة مخلوقاته.

الترجمة

بعضى ديگر از آن خطبه شريفه اينست كه فرموده: تقدير كرده خداوند تعالى هر چيزى را كه آفريده پس محكم گردانيده اندازه و تقدير آنرا و تدبير نموده هر چيزى را كه خلق فرموده، پس لطيف گردانيده تدبير آنرا و توجيه نموده هر شي‏ء را بسوى جهت خود، پس تجاوز ننمود آن شي‏ء از حدّ و سدّ مكان خود، و قاصر نشد نزد منتهى نشدن بغايت خود، و صعب و دشوار نشمرد آنچه كه ايجاد فرمود مضى بر وفق اراده او را وقتى كه مأمور شد باين، و چه طور ميباشد كه دشوار شمارد و حال آنكه جميع امور صادر شده از مشيّة قاهره خداوندى كه انشاء و ايجاد فرموده أصناف و احساس اشياء را بدون روية و فكرى كه رجوع نمايد بآن، و بدون استنباط طبيعتى كه اضمار نمايد و بغايت برسد در آن، و بدون تجربه كه استفاده نموده باشد آن را از حوادثات روزگار و بيشتر يك و معاونى كه اعانت و يارى نمايد او را بر ايجاد عجائب امورات.

پس تمام شد مخلوق او سبحانه و گردن نهاد بفرمان‏بردارى او، و اجابت نمود بسوى دعوت او در حالتى كه حايل نشد نزد نفاذ امر او دير كردن دير كننده، و نه توقف نمودن توقف نماينده، پس راست فرمود از اشياء كجى آن‏ها را، و روشن نمود حدود آنها را، و الفت داد با قدرت خويش در ميان اضداد آنها، و متصل ساخت‏

اسباب نفوس آن‏ها را، و متفرّق نمود آن‏ها را بأقسام مختلفه گوناگون در نهايات و مقادير و در طبيعتها و هيئتها، عجايب مخلوقاتى كه محكم گردانيد صنعت آن‏ها را و آفريد آنها را بر وجهى كه اراده كرده، و ابداع فرموده آنها را از كتم عدم با قدرت كامله و حكمت شامله.

و الفصل الرابع

منها في صفّة السّماء: و نظم بلا تعليق رهوات فرجها، و لاحم صدوع انفراجها، و وشّج بينها و بين أزواجها، و ذلّل للهابطين بأمره و الصّاعدين بأعمال خلقه حزونة معراجها، و ناديها بعد إذ هي دخان فالتحمت عرى أشراجها، و فتق بعد الارتتاق صوامت أبوابها، و أقام رصدا من الشّهب الثّواقب على نقابها، و أمسكها من أن تمور في خرق الهواء بأيده، و أمرها أنْ ثقف مستسلمة لأمره، و جعل شمسها آية مبصرة لنهارها، و قمرها آية ممحوّة من ليلها، و أجريهما في مناقل مجريهما، و قدّر مسيرهما في مدارج درجهما، ليميّز بين اللّيل و النّهار بهما، و ليعلم عدد السّنين و الحساب بمقاديرهما، ثمّ علّق في جوّها فلكها، و ناط بها زينتها من خفيّات دراريّها، و مصابيح كواكبها، و رمى مسترق السّمع بثواقب شهبها، و أجريها على أذلال تسخيرها، من ثبات ثابتها، و مسير سائرها، و هبوطها و صعودها، و نحوسها و سعودها.

اللغة

(الرّهوات) جمع رهوة و هي المكان المرتفع و المنخفض أيضا يجتمع فيه ماء المطر، و هو من الأضداد، و عن النهاية تفسيرها بالمواضع المنفتحة، و هو مأخوذ من قولهم رها رجليه رهوا أى فتح و (الفرج) جمع الفرجة و هي المكان الخالي و (لاحم) الصق و (الصدع) الشقّ و (وشّج) بتشديد الشين فالجيم المعجمة شبّك و (ذلل) البعير جعله ذلولا و هو ضدّ الصّعب الذي لا ينقاد من الذلّ بالكسر و هو اللّين و (الحزونة) خلاف السّهولة و (المعراج) السّلّم و المصعد و (العروة) من الدّلو و الكوز المقبض و من الثوب اخت زرّه كالعرى و يكسر و (الأشراج) جمع الشّرج محرّكة كالأسباب و السّبب، و هي العروة للعيبة و قيل و قد تطلق الاشراج على حروف العيبة التي تخاط و هو الأنسب في المقام.

قال الشارح المعتزلي: و تسمّى مجرّة السّماء شرجا تشبيها بشرج العيبة و اشراج الوادي ما انفسح منه و انشقّ و (فتق) الثوب فتقا شقّه و نقض خياطته حتّى انفصل بعضه عن بعض و (الرتق) ضدّ الفتق و (صوامت) الأبواب مغلقاتها و (الرصد) جمع راصد كخدم و خادم او اسم جمع و يكون مصدرا كالرّصد بالفتح، و الرّاصد هو القاعد على الطريق منتظرا لغيره للاستلاب أو المنع، و المرصاد الطريق و المكان يرصد فيه العدوّ و ارصدت له اعددت.

و (النقاب) بالكسر جمع نقب كسهام و سهم و هو الثقب و الخرق و الطريق في الجبل و (المور) الموج و الاضطراب و الحركة قال تعالى: يوم تمور السّماء مورا و (الخرق) يكون بمعنى الثقب في الحائط و الشقّ فى الثوب و غيره، و هو في الأصل مصدر خرقته إذا قطعته و مزقته، يكون بمعنى القفر و الأرض الواسعة تتخرّق فيها الرّياح أى تهب و تشتدّ و (الهواء) يقال: للجسم الذي هو أحد العناصر و يقال: لكلّ خال قال سبحانه: و افئدتهم هواء، أى خالية من العقل أو الخير و (الأيد) القوّة و (المنقل) في الأصل الطريق في الجبل و (المدارج) جمع المدرج و هو المسلك و (درج) الصّبي دروجا و درجانا مشى و درجهما بالتّحريك الطريق،و في بعض النسخ درجيهما بصيغة التثنية، و في نسخة الشارح البحراني درجتهما بالتّاء الفوقانية.

و (الجوّ) الهواء و (النياط) التعليق و (الدّراري) الكواكب المضيئة جمع الدّرى بتثليث الدّال نسبت إلى الدّر لبياضها، و عن الفراء الكوكب الدّرى عند العرب عظيم المقدار، و قيل: هو أحد الكواكب الخمسة السيارة، و لا يخفى أنّ وصفه عليه السّلام الدّرارى بالخفيات ينافي القولين ظاهرا و (مسترق السمع) المستمع مختفيا، و في النسخ مسترقى السّمع بصيغة الجمع و (الأذلال) بفتح الالف و الذال المعجمة جمع الذلّ بالكسر يقال: امور اللَّه جارية أذلالها بالنصب و على اذلالها أى مجاريها و يقال: دعه على اذلاله أى حاله بلا واحد و جاء على اذلاله أى وجهه.

الاعراب

قوله عليه السّلام: و ناداها بعد إذ هي دخان، قال الشارح المعتزلي: روى باضافة بعد إلى إذ، و روى بضمّ بعد أى و ناداها بعد ذلك إذ هى دخان و الأوّل أحسن و أصوب، لأنّها على الضّم تكون دخانا بعد فتور رهوات فروجها و ملائمة صدوعها و الحال تقتضى أنّ دخانيّتها قبل ذلك لا بعده اه.

و قوله: و أمسكها من أن تمور في خرق الهواء بأيده الظرف الأوّل أعنى في خرق الهواء يجوز تعلّقه بأمسك و يجوز تعلّقه بتمور، و أما الثاني فهو متعلّق بالامساك لا غير، و من في قوله من ليلها إما لابتداء الغاية أو لبيان الجنس و تتعلّق بممحوّة أو بجعل، و قوله عليه السّلام ثمّ علّق في جوّها فلكها، الظاهر كون ثمّ هنا للترتيب الذكرى، و من خفيات دراريها إما متعلّق بناط أو بيان للزينة.

المعنى

اعلم أنه عليه السّلام لما ذكر في الفصل السّابق عظمة قدرة اللَّه سبحانه في الخلق و التقدير و اللّطف و التدبير و كمال حكمته في الفطر و الابداع و الايجاد و الاختراع على نحو الاجمال و الاطلاق، عقّبه بهذا الفصل المتضمّن لعجيب خلقة السماء و بديع‏ ما أودعه فيها لدلالتها المخصوصة على عظمة بارئها، و شهادتها المحسوسة على قدرة صانعها و كفايتها للمستبصر و غنيتها للمستهدي، و قد مرّ في تذييلات الفصل الثامن من فصول الخطبة الاولى ما فيه كفاية لشرح هذا المقام و دراية لذوى الأفهام إلّا أنّا نعيد هنا بعض ما قدّمناه هناك و نزيد ههنا بعض ما لم نورده ثمة باقتضاء المقام و توضيحا لكلام الامام عليه السّلام فأقول: قال: (و نظم بلا تعليق رهوات فرجها) اى جمع و ألف أجزاء السماء المنفرجة المتصفة بالارتفاع و الانخفاض فسوّاها بقدرته الكاملة من غير أن يعلّق بعضها ببعض بخياطة و علاقة كما ينظم الانسان ثوبا بثوب أو نحوهما بالقيد و التعليق، و هو مناسب لما مرّ في شرح الخطبة الاولى من أنّ مادّتها الدّخان المرتفع من الماء إذ مثل ذلك يكون قطعا ذات فرج.

و أما ما في شرح البحراني من تأويل ذلك بتباين أجزاء المركّب لو لا التركيب و التأليف، أو بالفواصل التي كانت بين أطباق السماوات فخلقها اللَّه سبحانه اكرا متماسّة لا خلا بينها، فمبنىّ على قواعد الفلاسفة و تقليدهم (و لاحم صدوع انفراجها) هذا العطف بمنزلة التفسير و التّوكيد للجملة السابقة أى الصق أجزائها ذوات الصدوع بعضها ببعض و اضافة الصّدوع إلى الانفراج من اضافة الخاصّ إلى العامّ (و وشّج بينها و بين أزواجها) أي شبّك بينهما.

قال الشارح البحراني: أراد بأزواجها نفوسها التي هي الملائكة السّماوية بمعنى قرائنها و كلّ قرين زوج أى ربط ما بينها و بين نفوسها بقبول كلّ جرم سماويّ لنفسه التي لا يقبلها غيره.

و أورد عليه المحدّث العلامة المجلسىّ (ره) بأنّ القول بكون السّماوات حيوانات ذات نفوس مخالف للمشهور بين أهل الاسلام، بل نقل السيّد المرتضى رضى اللَّه عنه اجماع المسلمين على أنّ الأفلاك لا شعور لها و لا إرادة، بل هى أجسام جمادية يحرّكها خالقها.

ثمّ قال (ره): و يمكن أن يراد بالأزواج الملائكة الموكلون بها، أو القاطنون‏ فيها، أو المراد أشباهها من الكواكب و الأفلاك الجزئية، و يمكن أن يكون المراد أشباهها في الجسمية و الامكان من الأرضيات و يناسب ما جرى على الألسن من تشبيه العلويات بالآباء و السّفليّات بالامهات (و ذلّل لها بطين بأمره و الصاعدين بأعمال خلقه حزونة معراجها) أى ذلّل للملائكة النّازلين بأمره التّكوينيّ و التشريعي و للكرام الكاتبين الصّاعدين بأعمال خلقه حزونة المعراج إلى السماء و قد تقدّم شرح حال الفرقة الاولى أعنى المدبّرات أمرا في شرح الفصل التاسع من فصول الخطبة الاولى و شرح حال الفرقة الثانية في شرح الفصل الأوّل من الخطبة الثانية و العشرين في المقام الثاني من تكملة ذلك الفصل، هذا.

و قال الشارح البحراني في شرح هذه الفقرة: قد سبقت الاشارة إلى أنّ الملائكة ليست أجساما كساير الحيوان، فاذن ليس هبوطها و صعودها الهبوط و الصعود المحسوسين، و إلّا لكان الباري جلّ قدسه عن أوهام المتوهّمين في جهة إليه يصعد و عنه ينزل، فاذن هو استعارة لفظ النزول من الجهة المحسوسة إلى أسفل للنزول المعقول من سماء جود الالهى إلى أراضى الموادّ القابلة للافاضات العالية، و بذلك المعنى يكون هبوط الملائكة عبارة عن ايصالها إلى كلّ ما دونها كماله متوسطة بينه و بين مبدعه و موجده و هم المرسلون من الملائكة بالوحى و غيره، و كذلك الصاعدون بأعمال الخلق هم الملائكة أيضا.

و أما معنى الصّعود بها فيعود إلى كونها منقوشة في ذوات الصّاعدين بها، و قد لاح فيما سبق أنّ علمه تعالي بمعلولاته البعيدة كالزمانيات و المعدومات التي من شأنها أن توجد في وقت و تتعلّق بزمان يكون بارتسام صورها المعقولة في تلك الألواح، و هو أيضا مستعار كلفظ الهبوط للمعنى الذى ذكرناه من أراضى النفوس إلى الألواح.

فامّا الانفراج الذى ذلل حزونته لهم و سهّل عليهم سلوكه فيعود إلى عدم حجبها و منعها لنفوذ علوم الملائكة بأعمال الخلايق و ما يجرى في هذا العالم، و كما أنّ الجسم المتصدّع لا يمنع نفوذ جسم آخر فيه من حيث هو متصدّع و الوصول‏ إلى ما ورائه، كذلك السّماء لا تحجب علوم الملائكة أن تتعلّق بما في هذا العالم من الموجودات، فجرت مجرى المنفرج من الأجسام فاطلق عليه لفظ الانفراج و تذليله لحزونة ذلك الانفراج لهم هو كونها غير مانعة بوجه لجريان علوم الملائكة المقرّبين في هذا العالم.

أقول: و أنت خبير بما فيه، فانّ ما ذكره كلّه تأويل لا داعي إليه موجب لطرح ظواهر الآيات المتوافرة و نصوص الأخبار المتواترة المثبتة للهبوط و الصعود المحسوسين للملائكة، بعيد عن لسان الشريعة، و إنما دعاه إلى ذلك استيناسه بحكمة الفلاسفة المخالفة للكتاب و السّنة.

(و ناداها بعد إذ هي دخان فالتحمت عرى أشراجها) المراد بندائها حكمه و أمره التكويني النافذ فيها بالوجود و بالتحام عرى أشراجها تمام خلقها و فيضان الصور السماوية عليها، و ذلك باعتبار تركيبها و انضمام جزئها الصورى إلى جزئها المادّى كما يلتحم طرفا العيبة تبشريج عراها، و فيه تلميح إلى قوله سبحانه: ثُمَّ اسْتَوى‏ إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فقوله عليه السّلام: و ناداها إشارة إلى قوله: ائتيا طوعا أو كرها، و قوله عليه السّلام: بعد إذ هى دخان، موافق لقوله: و هي دخان، و قوله عليه السّلام: فالتحمت اه مساوق لقوله: فقضيهنّ الآية.

قال البيضاوى في تفسيرها: قصد نحو السماء و هي دخان أمر ظلماني، و لعلّه أراد به مادّتها و الاجزاء المتفرّقة التي ركبت منها، فقال لها و للأَرض ائتيا بما خلقت فيكما من التأثير و التأثّر و ابراز ما أودعتكما من الأوضاع المختلفة و الكاينات المتنوّعة أو ائتيا في الوجود أو اتيان السماء حدوثها و إتيان الأرض أن تصير مدحوّة، طوعا أو كرها شئتما ذلك أو أبيتما، و المراد إظهار قدرته و وجوب وقوع مراده لا إثبات الطلوع و الكره لهما، قالتا أتينا طائعين منقادين بالذات و الأظهر أنّ المراد تصوير تأثير قدرته فيهما و تأثّرهما بالذات عنها و تمثيلها بأمر المطاع و إجابة المطيع الطائع كقوله: كن فيكون، فقضيهنّ سبع سموات خلقهنّ حلقا إبداعيّا و أتقن أمرهنّ.

و قال الطبرسي في مجمع البيان أى ثمّ قصد إلى خلق السماء و كانت السماء دخانا، و قال ابن عباس كانت بخار الأرض و أصل الاستواء الاستقامة، و القصد التدبير المستقيم تسوية له: فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ قال ابن عباس أتت السماء بما فيها من الشمس و القمر و النجوم، و أتت الأرض بما فيها من الأنهار و الأشجار و الثمار و ليس هناك أمر بالقول على الحقيقة و لا جواب لذلك القول بل أخبر اللَّه سبحانه عن اختراعه السّماوات و الأرض و إنشائه لهما من غير تعذّر و لا كلفة و لا مشقّة بمنزلة ما يقال للمأمور افعل فيفعل من غير تلبّث و لا توقّف فعبّر عن ذلك بالأمر و الطاعة و هو كقوله: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.

و إنما قال أتينا طائعين و لم يقل أتينا طائعتين لأنّ المعنى أتينا بمن فينا من العقلاء فغلب حكم العقلاء و قيل إنه لما خوطبن خطاب من يعقل جمعن جمع من يعقل كما قال: وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ.

(و فتق بعد الارتتاق صوامت أبوابها) و هو إما كناية عن ايجاد الأبواب فيها و خرقها بعد ما كانت رتقا لا باب فيها، أو فتح الأبواب المخلوقة فيها حين ايجادها، و هذه الأبواب هي التي منها عروج الملائكة و هبوطها و صعود أعمال العباد و أدعيتهم و أرواحهم كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ أو التي تنزل منها الأمطار كما أشار إليه بقوله:

فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ و يؤيّد الأخير ما رواه الطبرسيّ (ره) في تفسير قوله سبحانه: أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما عن أبي جعفر و أبي عبد اللَّه عليهما السّلام و عكرمة و عطية و ابن زيد أنّ السماء كانت رتقا لا تمطر و الأرض رتقا لا تنبت ففتقنا السماء بالمطر و الأرض بالنّبات، هذا.

و لا يخفى عليك أنه بعد دلالة كلام الامام عليه السّلام كغير واحد من الآيات و الأخبار على أنّ للسماء أبوابا لا يعبأ بما قاله الفلاسفة من استحالة الخرق و الالتيام على الفلك المبتنية على قواعدهم الفاسدة و عقولهم الكاسدة.

و لعلّ الشارح البحراني ألجأه التقليد بهم إلى تأويل كلامه عليه السّلام في هذا المقام بما لا ينافي اصولهم حيث قال: و افتتاق صوامت أبوابها بعد الارتتاق هو جعلها أسبابا لنزول رحمته و مدبرات تنزل بواسطة حركاتها على هذا العالم أنواع رحمة اللَّه فكانت حركاتها تشبه الأبواب إذ هى أبواب رحمته و مفاتيح جوده.

و مثله ما ذكره في شرح قوله عليه السّلام: (و أقام رصدا من الشهب الثواقب على نقابها) حيث قال إنه استعار لفظ النقاب لكونها بحيث لا يمنع تعلّق العلوم بما ورائها من الأجسام و المجرّدات، و أنت خبير بأنّ كلّ ذلك تكلّف لا داعي إليه و الأدلّة على امكان الخرق و وجود الأبواب فوق حدّ الاحصاء، و لعلّنا نشبع الكلام في ذلك في مقام مناسب، و المهمّ الآن شرح معنى كلامه عليه السّلام على مقتضى اسلوبنا و سليقتنا المفادة من الآيات و الأخبار فأقول: مراده عليه السّلام بنقابها طرائقها كما قال سبحانه: وَ السَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ فالمقصود بذلك إقامة الشّهب و إرصادها على المرصاد لطرد الشياطين عن استراق‏ السّمع كما حكى اللَّه ذلك في سورة الجنّ بقوله: وَ أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَ شُهُباً وَ أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً.

قال الطبرسيُّ: ثمّ حكى اللَّه الجنّ و قولهم: وَ أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ أى مسّنّاها، و قيل: طلبنا الصعود إلى السّماء فعبّر عن ذلك بالمسّ مجازا.

فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً أي حفظة من الملائكة شدادا وَ شُهُباً و التقدير ملئت السّماء من الحرس و الشهب و هو جمع شهاب و هو نور يمتدّ من السّماء كالنار.

وَ أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ أى لاستراق السّمع أى كان يتهيّأ لنا فيما قبل القعود في مواضع الاستماع فنسمع صوت الملائكة و كلامهم: فَمَنْ يَسْتَمِعِ» منّا «الْآنَ» ذلك «يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً» يرمي به و يرصد له، و شهابا مفعول به و رصدا صفته قال معمّر: قلت للزّهرى أ كان يرمي بالنجوم في الجاهليّة قال: نعم قلت: أ فرأيت قوله: أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها الآية قال: غلّظ و شدّد أمرها حين بعث النّبي صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم (و أمسكها من أن تمور في خرق الهواء بأيده) أى أمسكها بقدرته و قوّته من الحركة و الاضطراب في الهواء الذى هو أحد العناصر إذ لا دليل على انحصاره في الذي بين السماء و الأرض في المكان‏ الخالى الموهوم أو الموجود طبعا أو قسرا، و المراد حركة أجزائها فيما بين السماء و الأرض و يؤيّده قوله سبحانه: وَ يُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ (و أمرها أن تقف مستسلمة لأمره) أى أمرها بالوقوف و القيام و أراد منها ذلك منقادة لارادته كما قال تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ بِأَمْرِهِ قال الطبرسيّ: بلا دعامة تدعمهما و لا علاقة تتعلّق بهما بأمره لهما بالقيام كقوله تعالى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ‏ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ و قيل بأمره أى بفعله و إمساكه إلّا أنّ أفعال اللَّه عزّ اسمه مضاف إليه بلفظ الأمر لأنه أبلغ في الاقتدار فانّ قول القائل أراد فكان أو أمر فكان أبلغ في الدلالة على الاقتدار من أن يقول فعل فكان، و معنى القيام الثبات و الدّوام (و جعل شمسها آية مبصرة لنهارها، و قمرها آية ممحوّة من ليلها) هو مأخوذ من قوله سبحانه في سورة الاسرى: وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ وَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا و فيه قولان: أحدهما أن يراد أنّ اللّيل و النهار آيتان في أنفسهما فتكون الاضافة في آية الليل و آية النهار للتّبيين كإضافة العدد إلى المعدود، أى فمحونا الآية التي هي اللّيل فكانت مظلمة و جعلنا الآية التي هي النهار مبصرة و الثاني أن يراد: و جعلنا آيتي اللّيل و النّهار أى نيّريهما آيتين، فيكون المراد بهما الشمس و القمر و ظاهر كلام الامام عليه السّلام ربما يشعر بهذا القول، و يدلّ على القولين قوله سبحانه:

وَ مِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَ النَّهارُ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ وَ اسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ أمّا كون الأوّلين آيتين فلأنّ كلّ واحد منهما مضاد للآخر معاند له، فكونهما متعاقبين على الدوام من أقوى الدّلائل على أنّهما غير موجودين بالذات بل لا بدّ لهما من فاعل يدبِّرهما و يقدّرهما بالمقادير المخصوصة، مضافا إلى أنّ مقتضى التّضادّ بين الشيئين أن يتفاسد الا أن يتعاونا على سبيل المصالح، و هما مع تضادّهما و تنافيهما متعاونان على تحصيل منافع الخلق و مصالحهم، فلو لا اللّيل لما حصل السكون و الراحة، و لو لا النهار لما أمكن الكسب و المعيشة، و لو لا الليل لفسدت الزراعات بالحرارة، و لو لا النّهار لفسدت بالبرودة، فهما من أقوى الآيات و أظهر البيّنات.

و أمّا كون الآخرين آيتين للصانع و دليلين على وجود القادر المختار فلأنّ الأجسام متماثلة فاختصاصهما بالحركة الدّائمة دون السّكون لا بدّ له من مخصّص، و أيضا انّ كلّ واحدة من تلك الحركات مختصّة بكيفيّة معيّنة من البطوء و السّرعة فلا بدّ له أيضا من مخصّص على أنّ تقدير تلك الحركات بمقادير مخصوصة على وجه تحصل عوداتها و دوراتها متساوية بحسب المدّة حالة عجيبة و صنعة بديعة لا بدّ لها من مدبّر مقدّر و مبدع مقتدر، هذا.

و أما المقصود بمحو آية اللّيل فلهم فيه قولان: أحدهما أنه هو ما يظهر في القمر من الزّيادة و النقصان في النور فيبدو في أوّل الأمر في صورة الهلال ثمّ لا يزال يتزايد نوره حتّى يصير بدرا كاملا، ثمّ يأخذ في الانتقاص قليلا قليلا و ذلك هو المحو إلى أن يعود إلى المحاق.

و الثاني أنه هو الكلف في وجه القمر و كونه مطموس النّور، فانه بعد ما كان مساويا للشمس في الضوء و النّور أرسل اللَّه جبرئيل فأمرّ جناحه على وجهه فطمس عنه الضوء، و معنى المحو في اللّغة إذهاب الأثر، و قد استظهرنا هذا القول في التذييل‏

السادس من تذييلات الفصل الثامن من فصول الخطبة الاولى ببعض الأخبار التي أوردناها هناك.

و ربما يستظهر القول الأوّل بقوله سبحانه: لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ لأنّ المحو إنما يؤثّر في ابتغاء فضل اللَّه إذا حملناه على زيادة نور القمر و نقصانه، فانّ أهل التجارب تبيّنوا أنّ اختلاف أحوال القمر في مقادير النور له أثر عظيم في أحوال هذا العالم و مصالحها، مثل أحوال البحار في المدّ و الجزر و مثل أحوال البحرانات على ما يذكره الأطباء في كتبهم و أيضا بسبب زيادة نور القمر و نقصانه تحصل الشهور و بسبب معاودة الشهور تحصل السنون العربية المبنيّة على رؤية الأهلّة.

و أمّا المراد بجعل آية النهار مبصرة ففيه أيضا قولان: أحدهما أنّ معنى كونها مبصرة كونها مضيئة نيّرة، قال الكسائي: العرب تقول: أبصر النّهار إذا أضاء أقول: و لعلّ ذلك من حيث إنّ الاضائة لما كان سببا للابصار فاطلق اسم الابصار على الاضائة إطلاقا لاسم المسبّب على السّبب.

و ثانيهما أنّ المبصرة التي أهلها بصراء فيها قال أبو عبيدة يقال: قد أبصر النّهار إذا صار النّاس يبصرون فيه، كقولهم رجل مخبت إذا كان أصحابه خبتاء و رجل مضعف إذا كان دوابه ضعفاء، هذا.

و بقى الكلام في إضافة اللّيل و النّهار إلى السماء في كلامه عليه السّلام، و وجهها أنّ استنادهما لما كان إلى حركة الفلك أضافهما إليها لتلك المناسبة (و أجراهما في مناقل مجريهما و قدّر سيرهما في مدارج درجيهما) أراد بالمناقل و المدارج منازل الشمس و القمر.

قال ابن عباس: للشمس مأئة و ثمانون منزلا كلّ يوم لها منزل و ذلك في ستّة أشهر ثمّ إنها تعود إلى واحد واحد منها في ستّة أشهر مرّة اخرى، و القمر له ثمانية و عشرون منزلا.

و تحقيق المقام أنهم قسّموا دور الفلك الذي يسير فيه الكواكب اثنا عشر قسما و سمّوا كلّ قسم برجا كما قال سبحانه: وَ السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ و قال: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً قال الرازي البروج هي القصور العالية سمّيت بروج الكواكب لأنها لهذه الكواكب كالمنازل لسكّانها، ثمّ إنّهم قسّموا كلّ برج ثلاثين قسما و سمّوا كلّ قسم درجة و سمّوا البروج بهذه الأسماء: الحمل، الثور، الجوزا، السرطان، الاسد: السنبلة، الميزان، العقرب، القوس، الجدى، الدلو، الحوت، و الشّمس تسير كلّ برج منها في شهر واحد، فتحصل تمام دورتها لتلك البروج في سنة كاملة و به تحصل السّنة و هي ثلاثمأة و خمسة و ستّون يوما و شي‏ء تنزل كلّ يوم في منزل و ما قاله ابن عباس في كلامه الذي حكيناه لعلّه مبنىّ على ما هو الشّايع في ألسنة النّاس من تقدير السنّة بثلاثمأة و ستّين يوما و إن لم يكن مطابقا لشي‏ء من حركتي الشّمس و القمر فتأمل، هذا و ما ذكرناه في سير الشمس انّما هو بحسب حركتها الذاتية، و أما حركتها بسبب حركة الفلك الأعظم فتتمّ في اليوم بليلته، و أمّا القمر فيسير كلّ برج في أزيد من يومين و نقص من ثلاثة أيّام و تمام دورتها في ثمانية و عشرين ليلة، و له في كلّ ليلة منزل.

فمنازله ثمانية و عشرون مسمّاة بتلك الأسماء: الشرطين، البطين، الثريا، الدبران، الهقعة، الهنعة، الذراع، النثرة، الطرفة، الجبهة، الدبرة، الصرفة، العواء، السماك، الغفر، الزبانا، الاكليل، القلب، الشولة، النعايم، البلدة، سعد الذابح، سعد بلع، سعد السعود، سعد الاخبية، فرغ الدلو المقدم، فرغ الدلو المؤخر، الرشا، و هو بطن الحوت و إلى تلك المنازل اشير في قوله سبحانه:

وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ أى قدّرنا مسيره منازل أو سيره في منازل ينزل كلّ ليلة في واحدة منها، فاذا كان في آخر منازله دقّ و استقوس حتّى عاد كالعرجون أى كالشمراخ المعوج القديم العتيق.

قال نصير الملّة و الدّين (ره) في محكيّ كلامه من التذكرة: و أمّا منازل القمر فهي من الكواكب القريبة من منطقة البروج جعلها العرب علامات الاقسام الثمانية و العشرين التي قسّمت المنطقة بها لتكون مطابقة لعدد أيام دور القمر.

و قال الخفرى في شرحه: و المراد من المنزل المسافة التي يقطعها القمر في يوم بليلته، و منازل القمر عند الهند سبعة و عشرون يوما بليلة و ثلث، فحذفوا الثلث لكونه أقل من النّصف كما هو عادة أهل التنجيم.

و أما عند العرب فهي ثمانية و عشرون، لا لأنّهم تمّموا الثلث واحدا كما قال البعض، بل لأنّه لمّا كان سنوهم لكونها باعتبار الأهلّة مختلفة الأوائل بوقوعها في وسط الصّيف تارة و في وسط الشّتاء أخرى، احتاجوا إلى ضبط سنة الشّمس لمعرفة فصول السنة حتّى يشتغلوا في استقبال كلّ فصل منها بما يهمّهم، فنظروا إلى القمر فوجدوه يعود إلى وضع له من الشّمس في قريب من ثلاثين يوما و يختفى في هذا الشّهر ليلتين أو أكثر أو أقلّ فأسقطوا يومين من الثلاثين فبقى ثمانية و عشرون و هو الزّمان الواقع في الأغلب بين رؤيته في العشيّات في أوّل الشّهر و رؤيته بالغدوات في آخره، فقسّموا دور الفلك عليه، فكان كلّ منزل اثنتي عشرة درجة و احدى و خمسين دقيقة تقريبا أى ستّة أسباع درجة فتصيب كلّ برج منزلان و ثلث.

ثمّ وجدوا الشّمس تقطع كلّ منزل في ثلاثة عشر يوما في التقريب فسار المنازل في ثلاثمأة و أربعة و ستّين يوما، لكن عود الشمس إلى كلّ منزل إنّما يكون في ثلاثمأة و خمسة و ستّين يوما، فزادوا يوما في أيّام منازل غفر و قد يحتاج‏ إلى زيادة للكبيسة حتّى تصير أيّامه خمسة عشر و يكون انقضاء أيّام السنة الشّمسية مع انقضاء أيّام المنازل و رجوع الأمر إلى منزل جعل مبدء.

ثمّ إنّهم جعلوا علامات المنازل من الكواكب الظاهرة القريبة من المنطقة مما يقارب ممرّ القمر أو يحاذيه، فيرى كلّ ليلة نازلا بقرب أحدها فان سترها يقال كفحه فكافحه أى واجهه فغلبه و لا يتفأل به و إن لم يستره يقال: عدل القمر و يتفأل به.

و قوله (ليميز بين اللّيل و النّهار بهما و ليعلم عدد السنين و الحساب بمقاديرهما) الظاهر كون التميز و العلم غايتين لمجموع الأفعال السابقة على حدّ قوله سبحانه في سورة الاسرى: وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ و قوله في سورة يونس: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً وَ قَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ و يحتمل كون التميز غاية للأوّل و العلم غاية للأخير أو الأخيرين فيكون نشرا على ترتيب اللّف، و معناه على ذلك أنّه تعالى جعل الشمس آية مبصرة و القمر آية ممحوّة ليحصل التميز بين الليل و النّهار بهما، و أجرى الشمس و القمر في منازلهما و قدّر سيرهما في مناقلهما ليحصل العلم بعدد السّنين و الحساب بمقادير سيرهما و تفاوت أحوالهما، هذا.

و المراد بالحساب حساب ما يحتاج إليه النّاس في امور دينهم و دنياهم ليتمكّنوا بذلك من إتيان الحجّ و الصّوم و الصّلوات في أوقاتها، و يعرفوا عدّة المطلقة و المتوفّى عنها زوجها، و مدّة حلول آجال الدّيون و انقضائها، و يرتّبوا معاشهم بالزراعة و الحراثة و الفلاحة في ساعاتها و يهيّئوا مهمّات الشّتاء و الصّيف و ضروريّات العيش‏ في آنائها إلى غير هذه ممّا يحتاجون إليها في الدّنيا و الدّين إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (ثمّ علّق في جوّها فلكها) هذه العبارة من مشكلات كلامه عليه السّلام.

وجهة الاشكال فيها من ثلاثة وجوه: أحدها أنّه عليه السّلام قال في صدر هذا الفصل: و نظم بلا تعليق رهوات فرجها، فنفى التعليق في نظم الأجزاء ثمّة ينافي إثباته هنا و ثانيها أنّ الجوّ عبارة عن ما بين السّماء و الأرض من الهواء فما معنى تعليق الفلك فيه، ثمّ ما معنى الاضافة، و ثالثها أنّ المشهور أنّ الفلك هو السّماء و الاضافة في كلامه عليه السّلام يفيد التغاير و يرفع الاشكال عن الأوّل بحمل التّعليق المنفيّ فيما سبق على التعليق بالعلايق المحسوسة و التعليق المثبت هنا على التّعليق بالقدرة، و عن الثّاني بحمل الجوّ على الفضاء الواسع الموهوم أو الموجود الذي هو مكان الفلك و وجه اضافته إليها واضح، و عن الثّالث بجعل المراد بالفلك مدار النّجوم كما فسّره به في القاموس.

و قال الشّارح المعتزلي: أراد به دائرة معدّل النهار، و قيل: المراد به سماء الدّنيا، و هو مبنيّ على كون النّجوم فيها على وفق قوله سبحانه إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ و على المشهور من عدم كون جميعها في السّماء الدّنيا فلعلّ الأظهر أن يراد بالفلك ما ارتكز فيه من السّماوات كوكب يتحرّك بحركته، قاله في البحار ثمّ قال: و يمكن على طريقة الاستخدام أو بدونه أن يراد بضمير السّماء الذي أحاط بجميع ما ارتكزت فيه الكواكب المدبّر لها فكون فلكها في جوّها ظاهر أو يراد بالسّماء الأفلاك الكلّية و بالفلك الأفلاك الجزئية الواقعة في جوفها (و ناط بها زينتها من خفيّات دراريها و مصابيح كواكبها) أى علّق بالسّماء ما يزيّنها من الكواكب الخفيّة الّتي هي كالدّر في الصّفاء و الضياء، و الكواكب التي هي بمنزلة المصباح يضي‏ء و كونها زينة لها إمّا بضوئها أو باشتمالها على الأشكال‏ المختلفة العجيبة (و رمى مسترق السّمع بثواقب شهبها) و فيه تلميح إلى قوله سبحانه إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ أى إلّا من حاول أخذ مسموع من السّماء في خفية فلحقه شعلة نار ظاهر لأهل الأرض بيّن لمن رآه، و إلى قوله سبحانه: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ قال الطبرسيُّ: و التقدير لا يتسمّعون إلى الملائكة إلّا من وثب الوثبة إلى قريب من السّماء فاختلس خلسة من الملائكة و استلب استلابا بسرعة فلحقه و أصابه نار مضيئة محرقة، و الثاقب النيّر المضي‏ء.

فان قلت: تقدّم ذكر الشهب في قوله: و أقام رصدا من الشّهب الثواقب على نقابها فما وجه إعادتها قلنا: إنّه عليه السّلام ذكر سابقا أنه أقامها رصدا، و نبّه ههنا على أنّ إرصادها لرمى مسترق السّمع، روى عن ابن عباس أنه كان في الجاهليّة كهنة و مع كلّ واحد شيطان فكان يقعد من السّماء مقاعد للسّمع فيستمع من الملائكة ما هو كائن في الأرض فينزل و يخبر به الكاهن فيفشيه الكاهن إلى النّاس، فلما بعث اللَّه عيسى عليه السّلام منعوا من ثلاث سماوات، و لمّا بعث محمّد صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم منعوا من السّماوات كلّها و حرست السّمآء بالنّجوم و الشّهاب من معجزات نبيّنا صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم لأنّه لم ير قبل زمانه، و قيل: إنّ الشهاب يقتل الشياطين، و قيل لا يقتلهم.

قال الفخر الرّازي بعد ما عدّد جملة من منافع النجوم: و منها أنه تعالى جعلها رجوما للشياطين الذين يخرجون الناس من نور الايمان إلى ظلمة الكفر، يروي أنّ السّبب في ذلك أنّ الجنّ كانت تسمع بخبر السّماء، فلما بعث محمّدا صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم حرست السماء و رصدت الشياطين فمن جاء منهم مسترقا للسّمع رمي بشهاب‏ فأحرقه لئلّا ينزل به إلى الأرض فيلقيه إلى الناس فيخلط على النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم أمره و يرتاب الناس بخبره، و هذا هو السّبب في انقضاض الشّهب، فهذا هو المراد من قوله تعالى و جعلناها رجوما للشّياطين.

و من الناس من طعن في هذا من وجوه: أحدها أنّ انقضاض الكواكب مذكورة في كتب قدماء الفلاسفة قالوا: إنّ الأرض إذا سخّنت بالشّمس ارتفع منها بخار يابس فاذا بلغ النار التي دون الفلك احترق بها فتلك الشعلة هي الشّهاب.

و ثانيها أنّ هؤلاء الجنّ كيف يجوز أن يشاهدوا واحدا و ألفا من جنسهم يسترقون السّمع فيحرقون ثمّ إنهم مع ذلك يعودون لمثل صفتهم فانّ العاقل إذا رأى الهلاك في شي‏ء مرّة و مرارا امتنع أن يعود إليه من غير فائدة.

و ثالثها أنه يقال: في ثخن السّماء مسيرة خمسمائة عام فهؤلاء الجنّ إن نفذوا في جرم السّماء و خرقوا له فهذا باطل لأنّه تعالى نفى أن يكون فيها فطور على ما قال: فارجع البصر هل ترى من فطور، و إن كانوا لا ينفذون في جرم السّماء فكيف يمكنهم أن يسمعوا أسرار الملائكة من ذلك البعد العظيم فلم لا يسمعون كلام الملائكة حالكونهم في الأرض.

و رابعها أنّ الملائكة إنما اطلعوا على الأحوال المستقبلة إما لأنّهم طالعوها من اللّوح المحفوظ، أو لأنّهم يتلقّونها من وحى اللَّه تعالى إليهم، و على التّقديرين فلم لا يمسكوا عن ذكرها حتّى لا يتمكنّ الجنّ عن الوقوف عليها.

و خامسها أنّ الشّياطين مخلوقون من النّار و النار لا تحرق النّار بل تقويها فكيف يحتمل أن يقال: الشّيطان زجر من استراق السّمع بهذه الشهب.

و سادسها أنه إن كان هذا القذف لأجل النّبوّة فلم دام بعد وفات الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم.

و سابعها أنّ هذه الرّجوم إنما تحدث بالقرب من الأرض بدليل أنّا نشاهد حركاتها بالغة و لو كانت قريبة من الفلك لما شاهدنا حركاتها كما لم نشاهد حركات‏ الكواكب، و إذا ثبت أنّ هذه الشهب إنما تحدث بالقرب من الأرض كيف يقال إنّها تمنع الشّياطين من الوصول إلى الفلك.

و ثامنها أنّ هؤلاء الشّياطين لو كان يمكنهم أن ينقلوا أخبار الملائكة من المغيبات إلى الكهنة فلم لا ينقلون أسرار المؤمنين إلى الكفّار حتّى يتوسّل الكفار بواسطة وقوفهم على أسرارهم إلى إلحاق الضّرر بهم.

و تاسعها لم لم يمنعهم اللَّه ابتداء من الصعود إلى السّماء حتّى لا يحتاج في دفعهم عن السماء إلى هذه الشهب و الجواب عن السؤال الأوّل أنا لا ننكر أنّ هذه الشهب كانت موجودة قبل مبعث النّبي صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و قد يوجد بسبب آخر و هو دفع الجنّ و زجرهم، يروى أنّه قيل للزّهرى أ كان يرمي في الجاهلية قال: نعم قال: أ فرأيت قوله تعالى: أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً قال: غلظت و شدّد أمرها حين بعث النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم.

و الجواب عن السّؤال الثاني أنه إذا جاء القدر عمى البصر، فاذا قضى اللَّه على طائفة منهم الحرق لطغيانها و ضلالها قيّض له من الدواعي المطمعة في درك المقصود ما عندها يقدم على العمل المفضى إلى الهلاك و البوار.

و الجواب عن السؤال الثالث أنّ البعد بين السّماء و الأرض مسيرة خمسمائة عام فأما ثخن الفلك فلعلّه لا يكون عظيما.

و الجواب عن السؤال الرابع ما روى الزهرى عن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام عن ابن عباس (ره) قال بينا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم جالس فى نفر من أصحابه إذ رمى بنجم فاستنار فقال صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: ما كنتم تقولون في الجاهليّة إذا حدث مثل هذا قالوا: كنا نقول: يولد عظيم أو يموت عظيم، قال النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: فانها لا ترمى لموت أحد و لا لحياته و لكن ربّنا تعالى إذا قضى الأمر في السماء سبّحت‏ حملة العرش ثمّ سبّح أهل السّماء و سبّح كلّ سماء حتّى ينتهى التّسبيح إلى هذا السّماء و يستخبر أهل السّماء حملة العرش ما ذا قال ربّكم فيخبرونهم و لا يزال ينتهى ذلك الخبر من سماء إلى سماء حتّى ينتهى الخبر إلى هذه السماء و يتخطّف الجنّ فيرمون. فما جاءوا به فهو حقّ و لكنّهم يزيدون فيه و الجواب عن السؤال الخامس أنّ النّار قد تكون أقوى من نار اخرى فالأقوى يبطل الأضعف.

و الجواب عن السّؤال السادس أنه إنما دام لأنّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم أخبر ببطلان الكهنة فلو لم يدم هذا القذف لعادت الكهانة و ذلك يقدح في خبر الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم عن بطلان الكهانة.

و الجواب عن السؤال السّابع أنّ البعد على مذهبنا غير مانع من السّماع فلعلّه تعالى أجرى عادته بأنهم إذا وقعوا في تلك المواضع سمعوا كلام الملائكة.

و الجواب عن السؤال الثامن لعلّه تعالى أقدرهم على استماع الغيوب عن الملائكة و أعجزهم عن ايصال أسرار المؤمنين إلى الكافرين.

و الجواب عن السّؤال التاسع أنه تعالى يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد، فهذا ما يتعلّق بهذا الباب على سبيل الاختصار انتهى.

و قال المحدّث المجلسيّ (ره) بعد نقل كلام الرازى و أجوبته: أقول الأصوب في الجواب عن الثالث أن يقال: قد ظهر أنّ للسماء أبوابا يصعد منها الملائكة و صعد منها نبيّنا صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و عيسى و إدريس عليه السّلام بل أجساد ساير الأنبياء و الأوصياء بعد وفاتهم على قول، و قد ورد في الأخبار أنّ الجنّ كانوا يصعدون قبل عيسى عليه السّلام إلى ما تحت العرش و بعد بعثته كانوا يصعدون إلى الرابعة و بعد بعثة النّبي صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم منعوا عن صعود السماء مطلقا بالشّهب، فصعودهم إمّا من أبوابها أو لكونهم اجساما لطيفة يمكنهم النفوذ في جرمها و لعلّ«» المراد بالفطور فيها أن ترى فيها شقوق و ثقب أو تنهدم و تنحلّ أجزائها فلا إشكال في ذلك.

(و أجراها على اذلال تسخيرها) أى على مجارى تسخيرها أو وجوه مقهوريّتها و فيه تلميح إلى قوله تعالى: وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ قال الطبرسيُّ (ره): أى مذلّلات جاريات في مجاريهنّ بتدبيره و صنعه خلقهنّ لمنافع العباد.

و قال الفخر الرازيّ، كون الشّمس و القمر و النّجوم مسخرّات بأمره يحتمل وجوها: أحدها أنا قد دللنا أنّ الأجسام متماثلة، و متى كان كذلك كان اختصاص جسم الشمس بذلك النور المخصوص و الضوء الباهر و التسخين الشّديد و التّدبيرات العجيبة فى العالم العلوى و السّفلى لا بدّ و أن يكون لأجل أنّ الفاعل الحكيم و المقدّر العليم خصّ ذلك الجسم بهذه الصّفات، فجسم كلّ واحد من الكواكب و النّيرات كالمسخّر في قبول تلك القوى و الخواصّ عن قدرة المدبّر العليم.

و ثانيها أن يقال: إنّ لكلّ واحد من أجرام الشمس و القمر و الكواكب سيرا خاصّا بطيئا من المغرب إلى المشرق و سيرا آخر سريعا بسبب حركة الفلك الأعظم، فالحقّ سبحانه خصّ جرم الفلك الأعظم بقوّة زايدة على أجرام ساير الأفلاك و باعتبارها صارت مستولية عليها قادرة على تحريكها على سبيل القهر من المشرق إلى المغرب، فأجرام الأفلاك و الكواكب صارت كالمسخّرة لهذا القهر و القسر ثمّ ذكر باقي الوجوه و لا طائل تحتها.

و قوله عليه السّلام: (من ثبات ثابتها و مسير سائرها) بيان لوجه تسخيرها و ثبات الثوابت بالنسبة إلى سير السيارات.

و المراد بالسيارات الكواكب السبعة و هي: القمر، و عطارد، و زهرة، و الشمس و المرّيخ، و المشترى، و الزّحل، و يسمّى الشمس و القمر بالنّيرين، و الخمسة الباقية بالمتحيّرة لأنّ لكلّ واحد منها استقامة ثمّ وقوفا ثمّ رجوعا ثمّ وقوفا ثانيا ثمّ عودا إلى الاستقامة و ليس للنّيرين غير الاستقامة، و المراد بالثّوابت إمّا ساير الكواكب على السماء غير هذه السّبعة أو خصوص ما في كرة البروج.

و في توحيد المفضّل قال: قال الصّادق عليه السّلام: فكّر يا مفضّل في النّجوم و اختلاف مسيرها فبعضها لا تفارق مراكزها من الفلك و لا تسير إلّا مجتمعة، و بعضها تنتقل في البروج و تفترق في مسيرها، فكلّ واحد منها يسير سيرين مختلفين، أحدهما عامّ مع الفلك نحو المغرب، و الآخر خاصّ لنفسه نحو المشرق كالنملة التي تدور على الرّحا، فالرّحا تدور ذات اليمين و النّملة تدور ذات الشمال و النّملة تتحرّك في تلك حركتين مختلفتين، إحداهما بنفسه فتتوجّه أمامها، و الاخرى مستكرهة مع الرّحا تجذبها إلى خلفها، فاسأل الزّاعمين أنّ النّجوم صارت على ما هي عليه بالاهمال من غير عمد و لا صانع لها ما منعها كلّها أن تكون راتبة أو تكون كلّها متنقّلة فانّ الاهمال معنى واحد فكيف صار يأتي بحركتين مختلفتين على وزن و تقدير ففي هذا بيان أنّ مسير الفريقين على ما يسيران عليه بعمد و تدبير و حكمة و تقدير و ليس باهمال كما تزعمه المعطلة.

فان قال قائل: و لم صار بعض النّجوم راتبا و بعضها متنقّلا قلنا: إنّها لو كانت كلّها راتبة لبطلت الدلالات التي يستدلّ بها من تنقّل المتنقّلة و مسيرها في كلّ برج من البروج كما قد يستدلّ على أشياء ممّا يحدث في العالم بتنقّل الشّمس و النّجوم في منازلها، و لو كانت كلّها متنقّلة لم يكن لمسيرها منازل تعرف و لا رسم يوقف عليه، لأنّه انما يوقف بمسير المتنقّلة منها لتنقلها في البروج الرّاتبة كما يستدلّ على سير السّاير على الأرض بالمنازل يجتاز عليها، و لو كان تنقّلها بحال واحدة لاختلط نظامها و بطلت المآرب فيها و لساغ لقائل أن يقول: إنّ كينونيّتها على حال واحدة توجب عليها الاهمال من الجهة التي وصفنا. ففي اختلاف سيرها و تصرّفها و ما في ذلك من المآرب و المصلحة أبين دليل على العمد و التدبير فيها.

(و هبوطها و صعودها و نحوسها و سعودها) المراد بالهبوط إما مقابل الشرف كما هو مصطلح المنجّمين، أو التوجّه إلى حضيض الحامل فانّ للكواكب صعودا في الأوج و هبوطا في الحضيض أو التوجّه إلى الغروب فيكون الهبوط حسّا و يقابله الصعود فيما ذكر.

و المراد بالسعود و النحوس كون اتصالات الكواكب أسبابا لصلاح حال شي‏ء من الأشياء من أحوال هذا العالم و أسبابا لفساده.

قال المنجّمون: زحل و المريخ نحسان أكبرهما زحل، و المشتري و الزّهرة سعدان أكبرهما المشتري، و عطارد سعد مع السعود و نحس مع النحوس، و النيّران سعدان من التثليث و التسديس نحسان من المقابلة و التربيع و المقارنة، و الرّأس سعد و الذنب و الكبد نحسان، و اللَّه العالم بحقايق ملكه و ملكوته.

الترجمة

بعض ديگر از اين خطبه در صفت آسمان است مى‏ فرمايد: ترتيب داد حق سبحانه و تعالى بدون قيد و علاقه پست و بلندي فرجه ‏هاي آنرا و ملتئم نمود و بهم در آورد شكافهاى گشادگى آنرا و بهم پيوست ميان آنها و ميان زوجهاى آنها، و ذليل و آسان نمود بجهة ملائكه كه نزول كننده‏اند بأمر او سبحانه و صعود نماينده‏اند با عملهاى بندگان او دشوارى نردبانهاى آسمانها را، و ندا نمود آنها را بعد از اين كه بود دود پس بهم آمد بندهاى ريسمانهاى آنها و گشود بعد از بهم پيوستن درهاى بسته آنها را، و بر پا نمود ديده ‏بانها از شهابهاى درخشان بر راهها و منفذهاى آنها، و نگه داشت آنها را از اين كه حركت نمايند و مضطرب گردند در شكاف هوا با قوت خود، و أمر كرد آنها را باين كه بايستند در حالتي كه انقياد و تسليم نمايند فرمان او را.

و گردانيد آفتاب آسمان را آشكار براى روز آن، و ماه آنرا علامتي محو شده از شب آن، و جارى فرمود مهر و ماه را در مواضع انتقال كه جاى جريان ايشانست، و مقدّر كرد سير ايشان را در راههاى درجه ‏هاى ايشان تا تميز دهد شب‏ و روز را بآن مهر و ماه و تا دانسته شود شماره سالها و حسابها بمقدار حركات اين دو كوكب، پس از آن در آويخت در فضاى آسمان فلك را كه محل دوران كوكب است، و منوط ساخت بآن زينت آنرا از ستارگان پنهان كه مثل درّند در صفا و از چراغهاى ستارها و انداخت بسوى شياطين كه بدزدى و سرقت گوش دهندگانند تا اين كه أسرار ملائكه را مطّلع شوند بشهابهاى درخشنده سوراخ كننده و جارى ساخت ستارگان را بر مجارى تسخير و مقهوريت آنها از ثبات كواكب ثابته و سير كردن ستارگان رونده، و از هبوط كردن ايشان بحضيض حامل، و صعود نمودن ايشان بأوج حامل و از سعادت آنها و نحوست آنها.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 90/1 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)خطبة الأشباح -القسم الاول

خطبه 91 صبحی صالح

91- و من خطبة له ( عليه ‏السلام  ) تعرف بخطبة الأشباح

و هي من جلائل خطبه ( عليه‏ السلام  )

روى مسعدة بن صدقة عن الصادق جعفر بن محمد ( عليهماالسلام  ) أنه قال:

خطب أمير المؤمنين بهذه الخطبة على منبر الكوفة

و ذلك أن رجلا أتاه فقال له يا أمير المؤمنين صف لنا ربنا مثل ما نراه عيانا لنزداد له حبا و به معرفة

فغضب و نادى الصلاة جامعة

فاجتمع الناس حتى غص المسجد بأهله

فصعد المنبر و هو مغضب متغير اللون

فحمد الله و أثنى عليه

و صلى على النبي ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  ) ثم قال

وصف اللّه تعالى‏

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يَفِرُهُ الْمَنْعُ وَ الْجُمُودُ

وَ لَا يُكْدِيهِ الْإِعْطَاءُ وَ الْجُودُ

إِذْ كُلُّ مُعْطٍ مُنْتَقِصٌ سِوَاهُ

وَ كُلُّ مَانِعٍ مَذْمُومٌ مَا خَلَاهُ

وَ هُوَ الْمَنَّانُ بِفَوَائِدِ النِّعَمِ

وَ عَوَائِدِ الْمَزِيدِ وَ الْقِسَمِ

عِيَالُهُ الْخَلَائِقُ

ضَمِنَ أَرْزَاقَهُمْ

وَ قَدَّرَ أَقْوَاتَهُمْ

وَ نَهَجَ سَبِيلَ الرَّاغِبِينَ إِلَيْهِ

وَ الطَّالِبِينَ مَا لَدَيْهِ

وَ لَيْسَ بِمَا سُئِلَ بِأَجْوَدَ مِنْهُ بِمَا لَمْ يُسْأَلْ

الْأَوَّلُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلٌ فَيَكُونَ شَيْ‏ءٌ قَبْلَهُ

وَ الْآخِرُ الَّذِي لَيْسَ لهُ بَعْدٌ فَيَكُونَ شَيْ‏ءٌ بَعْدَهُ

وَ الرَّادِعُ أَنَاسِيَّ الْأَبْصَارِ عَنْ أَنْ تَنَالَهُ أَوْ تُدْرِكَهُ

مَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ دَهْرٌ فَيَخْتَلِفَ مِنْهُ الْحَالُ

وَ لَا كَانَ فِي مَكَانٍ فَيَجُوزَ عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ

وَ لَوْ وَهَبَ مَا تَنَفَّسَتْ عَنْهُ مَعَادِنُ الْجِبَالِ

وَ ضَحِكَتْ عَنْهُ أَصْدَافُ الْبِحَارِ

مِنْ فِلِزِّ اللُّجَيْنِ وَ الْعِقْيَانِ

وَ نُثَارَةِ الدُّرِّ

وَ حَصِيدِ الْمَرْجَانِ

مَا أَثَّرَ ذَلِكَ فِي جُودِهِ

وَ لَا أَنْفَدَ سَعَةَ مَا عِنْدَهُ

وَ لَكَانَ عِنْدَهُ مِنْ ذَخَائِرِ الْأَنْعَامِ‏

مَا لَا تُنْفِدُهُ

مَطَالِبُ الْأَنَامِ

لِأَنَّهُ الْجَوَادُ الَّذِي لَا يَغِيضُهُ سُؤَالُ السَّائِلِينَ

وَ لَا يُبْخِلُهُ إِلْحَاحُ الْمُلِحِّينَ

صفاته تعالى في القرآن‏

فَانْظُرْ أَيُّهَا السَّائِلُ

فَمَا دَلَّكَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ مِنْ صِفَتِهِ فَائْتَمَّ بِهِ

وَ اسْتَضِئْ بِنُورِ هِدَايَتِهِ

وَ مَا كَلَّفَكَ الشَّيْطَانُ عِلْمَهُ مِمَّا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ عَلَيْكَ فَرْضُهُ

وَ لَا فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ ( صلى‏ الله‏ عليه ‏وآله  )وَ أَئِمَّةِ الْهُدَى أَثَرُهُ

فَكِلْ عِلْمَهُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ

فَإِنَّ ذَلِكَ مُنْتَهَى حَقِّ اللَّهِ عَلَيْكَ

وَ اعْلَمْ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ

هُمُ الَّذِينَ أَغْنَاهُمْ عَنِ اقْتِحَامِ السُّدَدِ

الْمَضْرُوبَةِ دُونَ الْغُيُوبِ

الْإِقْرَارُ بِجُمْلَةِ مَا جَهِلُوا تَفْسِيرَهُ مِنَ الْغَيْبِ الْمَحْجُوبِ

فَمَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى اعْتِرَافَهُمْ بِالْعَجْزِ عَنْ تَنَاوُلِ مَا لَمْ يُحِيطُوا بِهِ عِلْماً

وَ سَمَّى تَرْكَهُمُ التَّعَمُّقَ فِيمَا لَمْ يُكَلِّفْهُمُ الْبَحْثَ عَنْ كُنْهِهِ رُسُوخاً

فَاقْتَصِرْ عَلَى ذَلِكَ

وَ لَا تُقَدِّرْ عَظَمَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى قَدْرِ عَقْلِكَ

فَتَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ

هُوَ الْقَادِرُ الَّذِي

إِذَا ارْتَمَتِ الْأَوْهَامُ لِتُدْرِكَ مُنْقَطَعَ قُدْرَتِهِ

وَ حَاوَلَ الْفِكْرُ الْمُبَرَّأُ مِنْ خَطَرَاتِ الْوَسَاوِسِ

أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ فِي عَمِيقَاتِ غُيُوبِ مَلَكُوتِهِ

وَ تَوَلَّهَتِ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ

لِتَجْرِيَ فِي كَيْفِيَّةِ صِفَاتِهِ

وَ غَمَضَتْ مَدَاخِلُ الْعُقُولِ فِي حَيْثُ لَا تَبْلُغُهُ الصِّفَاتُ لِتَنَاوُلِ عِلْمِ ذَاتِهِ رَدَعَهَا

وَ هِيَ تَجُوبُ مَهَاوِيَ سُدَفِ الْغُيُوبِ

مُتَخَلِّصَةً إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ‏

فَرَجَعَتْ إِذْ جُبِهَتْ

مُعْتَرِفَةً بِأَنَّهُ لَا يُنَالُ بِجَوْرِ الِاعْتِسَافِ كُنْهُ مَعْرِفَتِهِ

وَ لَا تَخْطُرُ بِبَالِ أُولِي الرَّوِيَّاتِ خَاطِرَةٌ مِنْ تَقْدِيرِ جَلَالِ عِزَّتِه

الَّذِي ابْتَدَعَ الْخَلْقَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ امْتَثَلَهُ

وَ لَا مِقْدَارٍ احْتَذَى عَلَيْهِ مِنْ خَالِقٍ مَعْبُودٍ كَانَ قَبْلَهُ

وَ أَرَانَا مِنْ مَلَكُوتِ قُدْرَتِهِ

وَ عَجَائِبِ مَا نَطَقَتْ بِهِ آثَارُ حِكْمَتِهِ

وَ اعْتِرَافِ الْحَاجَةِ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى أَنْ يُقِيمَهَا بِمِسَاكِ قُوَّتِهِ

مَا دَلَّنَا بِاضْطِرَارِ قِيَامِ الْحُجَّةِ لَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ

فَظَهَرَتِ الْبَدَائِعُ الَّتِي أَحْدَثَتْهَا آثَارُ صَنْعَتِهِ

وَ أَعْلَامُ حِكْمَتِهِ

فَصَارَ كُلُّ مَا خَلَقَ حُجَّةً لَهُ وَ دَلِيلًا عَلَيْهِ

وَ إِنْ كَانَ خَلْقاً صَامِتاً

فَحُجَّتُهُ بِالتَّدْبِيرِ نَاطِقَةٌ

وَ دَلَالَتُهُ عَلَى الْمُبْدِعِ قَائِمَةٌ

فَأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ شَبَّهَكَ بِتَبَايُنِ أَعْضَاءِ خَلْقِكَ

وَ تَلَاحُمِ حِقَاقِ مَفَاصِلِهِمُ الْمُحْتَجِبَةِ لِتَدْبِيرِ حِكْمَتِكَ

لَمْ يَعْقِدْ غَيْبَ ضَمِيرِهِ عَلَى مَعْرِفَتِكَ

وَ لَمْ يُبَاشِرْ قَلْبَهُ الْيَقِينُ بِأَنَّهُ لَا نِدَّ لَكَ

وَ كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ تَبَرُّؤَ التَّابِعِينَ مِنَ الْمَتْبُوعِينَ

إِذْ يَقُولُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ

 إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ‏

كَذَبَ الْعَادِلُونَ بِكَ

إِذْ شَبَّهُوكَ بِأَصْنَامِهِمْ

وَ نَحَلُوكَ حِلْيَةَ الْمَخْلُوقِينَ بِأَوْهَامِهِمْ

وَ جَزَّءُوكَ تَجْزِئَةَ الْمُجَسَّمَاتِ بِخَوَاطِرِهِمْ

وَ قَدَّرُوكَ عَلَى الْخِلْقَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْقُوَى بِقَرَائِحِ عُقُولِهِمْ

وَ أَشْهَدُ أَنَّ مَنْ سَاوَاكَ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ خَلْقِكَ فَقَدْ عَدَلَ بِكَ

وَ الْعَادِلُ بِكَ كَافِرٌ بِمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ مُحْكَمَاتُ آيَاتِكَ

وَ نَطَقَتْ عَنْهُ‏

شَوَاهِدُ حُجَجِ بَيِّنَاتِكَ

وَ إِنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ الَّذِي لَمْ تَتَنَاهَ فِي الْعُقُولِ

فَتَكُونَ فِي مَهَبِّ فِكْرِهَا مُكَيَّفاً

وَ لَا فِي رَوِيَّاتِ خَوَاطِرِهَا فَتَكُونَ مَحْدُوداً مُصَرَّفاً

و منهاقَدَّرَ مَا خَلَقَ فَأَحْكَمَ تَقْدِيرَهُ

وَ دَبَّرَهُ فَأَلْطَفَ تَدْبِيرَهُ

وَ وَجَّهَهُ لِوِجْهَتِهِ

فَلَمْ يَتَعَدَّ حُدُودَ مَنْزِلَتِهِ

وَ لَمْ يَقْصُرْ دُونَ الِانْتِهَاءِ إِلَى غَايَتِهِ

وَ لَمْ يَسْتَصْعِبْ إِذْ أُمِرَ بِالْمُضِيِّ عَلَى إِرَادَتِهِ

فَكَيْفَ وَ إِنَّمَا صَدَرَتِ الْأُمُورُ عَنْ مَشِيئَتِهِ

الْمُنْشِئُ أَصْنَافَ الْأَشْيَاءِ بِلَا رَوِيَّةِ فِكْرٍ آلَ إِلَيْهَا

وَ لَا قَرِيحَةِ غَرِيزَةٍ أَضْمَرَ عَلَيْهَا

وَ لَا تَجْرِبَةٍ أَفَادَهَا مِنْ حَوَادِثِ الدُّهُورِ

وَ لَا شَرِيكٍ أَعَانَهُ عَلَى ابْتِدَاعِ عَجَائِبِ الْأُمُورِ

فَتَمَّ خَلْقُهُ بِأَمْرِهِ

وَ أَذْعَنَ لِطَاعَتِهِ

وَ أَجَابَ إِلَى دَعْوَتِهِ

لَمْ يَعْتَرِضْ دُونَهُ رَيْثُ الْمُبْطِئِ

وَ لَا أَنَاةُ الْمُتَلَكِّئِ

فَأَقَامَ مِنَ الْأَشْيَاءِ أَوَدَهَا

وَ نَهَجَ حُدُودَهَا

وَ لَاءَمَ بِقُدْرَتِهِ بَيْنَ مُتَضَادِّهَا

وَ وَصَلَ أَسْبَابَ قَرَائِنِهَا

وَ فَرَّقَهَا أَجْنَاساً مُخْتَلِفَاتٍ فِي الْحُدُودِ وَ الْأَقْدَارِ

وَ الْغَرَائِزِ وَ الْهَيْئَاتِ

بَدَايَا خَلَائِقَ أَحْكَمَ صُنْعَهَا

وَ فَطَرَهَا عَلَى مَا أَرَادَ وَ ابْتَدَعَهَا

و منها في صفة السماء

وَ نَظَمَ بِلَا تَعْلِيقٍ رَهَوَاتِ فُرَجِهَا

وَ لَاحَمَ صُدُوعَ انْفِرَاجِهَا

وَ وَشَّجَ بَيْنَهَا وَ بَيْنَ أَزْوَاجِهَا

وَ ذَلَّلَ لِلْهَابِطِينَ بِأَمْرِهِ

وَ الصَّاعِدِينَ بِأَعْمَالِ خَلْقِهِ حُزُونَةَ مِعْرَاجِهَا

وَ نَادَاهَا بَعْدَ إِذْ هِيَ دُخَانٌ

فَالْتَحَمَتْ عُرَى أَشْرَاجِهَا

وَ فَتَقَ بَعْدَ الِارْتِتَاقِ صَوَامِتَ أَبْوَابِهَا

وَ أَقَامَ رَصَداً مِنَ الشُّهُبِ الثَّوَاقِبِ عَلَى نِقَابِهَا

وَ أَمْسَكَهَا مِنْ أَنْ تُمُورَ فِي خَرْقِ الْهَوَاءِ بِأَيْدِهِ

وَ أَمَرَهَا أَنْ تَقِفَ مُسْتَسْلِمَةً لِأَمْرِهِ

وَ جَعَلَ شَمْسَهَا آيَةً مُبْصِرَةً لِنَهَارِهَا

وَ قَمَرَهَا آيَةً مَمْحُوَّةً مِنْ لَيْلِهَا

وَ أَجْرَاهُمَا فِي مَنَاقِلِ مَجْرَاهُمَا

وَ قَدَّرَ سَيْرَهُمَا فِي مَدَارِجِ دَرَجِهِمَا

لِيُمَيِّزَ بَيْنَ اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ بِهِمَا

وَ لِيُعْلَمَ عَدَدُ السِّنِينَ وَ الْحِسَابُ بِمَقَادِيرِهِمَا

ثُمَّ عَلَّقَ فِي جَوِّهَا فَلَكَهَا

وَ نَاطَ بِهَا زِينَتَهَا مِنْ خَفِيَّاتِ دَرَارِيِّهَا

وَ مَصَابِيحِ كَوَاكِبِهَا

وَ رَمَى مُسْتَرِقِي السَّمْعِ بِثَوَاقِبِ شُهُبِهَا

وَ أَجْرَاهَا عَلَى أَذْلَالِ تَسْخِيرِهَا

مِنْ ثَبَاتِ ثَابِتِهَا

وَ مَسِيرِ سَائِرِهَا

وَ هُبُوطِهَا وَ صُعُودِهَا

وَ نُحُوسِهَا وَ سُعُودِهَا

و منها في صفة الملائكة

ثُمَّ خَلَقَ سُبْحَانَهُ لِإِسْكَانِ سَمَاوَاتِهِ

وَ عِمَارَةِ الصَّفِيحِ الْأَعْلَى مِنْ مَلَكُوتِهِ

خَلْقاً بَدِيعاً مِنْ مَلَائِكَتِهِ

وَ مَلَأَ بِهِمْ فُرُوجَ فِجَاجِهَا

وَ حَشَا بِهِمْ فُتُوقَ أَجْوَائِهَا

وَ بَيْنَ فَجَوَاتِ تِلْكَ الْفُرُوجِ زَجَلُ الْمُسَبِّحِينَ مِنْهُمْ فِي حَظَائِرِ الْقُدُسِ

وَ سُتُرَاتِ الْحُجُبِ

وَ سُرَادِقَاتِ الْمَجْدِ وَ وَرَاءَ ذَلِكَ الرَّجِيجِ

الَّذِي تَسْتَكُّ مِنْهُ الْأَسْمَاعُ

سُبُحَاتُ نُورٍ تَرْدَعُ الْأَبْصَارَ عَنْ بُلُوغِهَا

فَتَقِفُ خَاسِئَةً عَلَى حُدُودِهَا.

وَ أَنْشَأَهُمْ عَلَى صُوَرٍ مُخْتَلِفَاتٍ

وَ أَقْدَارٍ مُتَفَاوِتَاتٍ

 أُولِي أَجْنِحَةٍ

تُسَبِّحُ جَلَالَ عِزَّتِهِ

لَا يَنْتَحِلُونَ مَا ظَهَرَ فِي الْخَلْقِ مِنْ صُنْعِهِ

وَ لَا يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَخْلُقُونَ شَيْئاً مَعَهُ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ

 بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ

 لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ‏

جَعَلَهُمُ اللَّهُ فِيمَا هُنَالِكَ أَهْلَ الْأَمَانَةِ عَلَى وَحْيِهِ

وَ حَمَّلَهُمْ إِلَى الْمُرْسَلِينَ وَدَائِعَ أَمْرِهِ وَ نَهْيِهِ

وَ عَصَمَهُمْ مِنْ رَيْبِ الشُّبُهَاتِ

فَمَا مِنْهُمْ زَائِغٌ عَنْ سَبِيلِ مَرْضَاتِهِ

وَ أَمَدَّهُمْ بِفَوَائِدِ الْمَعُونَةِ

وَ أَشْعَرَ قُلُوبَهُمْ تَوَاضُعَ إِخْبَاتِ السَّكِينَةِ

وَ فَتَحَ لَهُمْ أَبْوَاباً ذُلُلًا إِلَى تَمَاجِيدِهِ

وَ نَصَبَ لَهُمْ مَنَاراً وَاضِحَةً عَلَى أَعْلَامِ تَوْحِيدِهِ

لَمْ تُثْقِلْهُمْ مُؤْصِرَاتُ الْآثَامِ

وَ لَمْ تَرْتَحِلْهُمْ عُقَبُ اللَّيَالِي وَ الْأَيَّامِ

وَ لَمْ تَرْمِ الشُّكُوكُ بِنَوَازِعِهَا عَزِيمَةَ إِيمَانِهِمْ

وَ لَمْ تَعْتَرِكِ الظُّنُونُ عَلَى مَعَاقِدِ يَقِينِهِمْ

وَ لَا قَدَحَتْ قَادِحَةُ الْإِحَنِ فِيمَا بَيْنَهُمْ

وَ لَا سَلَبَتْهُمُ الْحَيْرَةُ مَا لَاقَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِضَمَائِرِهِمْ

وَ مَا سَكَنَ مِنْ عَظَمَتِهِ وَ هَيْبَةِ جَلَالَتِهِ فِي أَثْنَاءِ صُدُورِهِمْ

وَ لَمْ تَطْمَعْ فِيهِمُ الْوَسَاوِسُ فَتَقْتَرِعَ بِرَيْنِهَا عَلَى فِكْرِهِمْ

وَ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِي خَلْقِ الْغَمَامِ‏ الدُّلَّحِ

وَ فِي عِظَمِ الْجِبَالِ الشُّمَّخِ

وَ فِي قَتْرَةِ الظَّلَامِ الْأَيْهَمِ

وَ مِنْهُمْ مَنْ قَدْ خَرَقَتْ أَقْدَامُهُمْ تُخُومَ الْأَرْضِ السُّفْلَى

فَهِيَ كَرَايَاتٍ بِيضٍ

قَدْ نَفَذَتْ فِي مَخَارِقِ الْهَوَاءِ

وَ تَحْتَهَا رِيحٌ هَفَّافَةٌ تَحْبِسُهَا عَلَى حَيْثُ انْتَهَتْ مِنَ الْحُدُودِ الْمُتَنَاهِيَةِ

قَدِ اسْتَفْرَغَتْهُمْ أَشْغَالُ عِبَادَتِهِ

وَ وَصَلَتْ حَقَائِقُ الْإِيمَانِ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَعْرِفَتِهِ

وَ قَطَعَهُمُ الْإِيقَانُ بِهِ إِلَى الْوَلَهِ إِلَيْهِ

وَ لَمْ تُجَاوِزْ رَغَبَاتُهُمْ مَا عِنْدَهُ إِلَى مَا عِنْدَ غَيْرِهِ

قَدْ ذَاقُوا حَلَاوَةَ مَعْرِفَتِهِ

وَ شَرِبُوا بِالْكَأْسِ الرَّوِيَّةِ مِنْ مَحَبَّتِهِ

وَ تَمَكَّنَتْ مِنْ سُوَيْدَاءِ

قُلُوبِهِمْ وَشِيجَةُ خِيفَتِهِ

فَحَنَوْا بِطُولِ الطَّاعَةِ اعْتِدَالَ ظُهُورِهِمْ

وَ لَمْ يُنْفِدْ طُولُ الرَّغْبَةِ إِلَيْهِ مَادَّةَ تَضَرُّعِهِمْ

وَ لَا أَطْلَقَ عَنْهُمْ عَظِيمُ الزُّلْفَةِ رِبَقَ خُشُوعِهِمْ

وَ لَمْ يَتَوَلَّهُمُ الْإِعْجَابُ فَيَسْتَكْثِرُوا مَا سَلَفَ مِنْهُمْ

وَ لَا تَرَكَتْ لَهُمُ اسْتِكَانَةُ الْإِجْلَالِ نَصِيباً فِي تَعْظِيمِ حَسَنَاتِهِمْ

وَ لَمْ تَجْرِ الْفَتَرَاتُ فِيهِمْ عَلَى طُولِ دُءُوبِهِمْ

وَ لَمْ تَغِضْ رَغَبَاتُهُمْ فَيُخَالِفُوا عَنْ رَجَاءِ رَبِّهِمْ

وَ لَمْ تَجِفَّ لِطُولِ الْمُنَاجَاةِ أَسَلَاتُ أَلْسِنَتِهِمْ

وَ لَا مَلَكَتْهُمُ الْأَشْغَالُ فَتَنْقَطِعَ بِهَمْسِ الْجُؤَارِ إِلَيْهِ أَصْوَاتُهُمْ

وَ لَمْ تَخْتَلِفْ فِي مَقَاوِمِ الطَّاعَةِ مَنَاكِبُهُمْ

وَ لَمْ يَثْنُوا إِلَى رَاحَةِ التَّقْصِيرِ فِي أَمْرِهِ رِقَابَهُمْ.

وَ لَا تَعْدُو عَلَى عَزِيمَةِ جِدِّهِمْ بَلَادَةُ الْغَفَلَاتِ

وَ لَا تَنْتَضِلُ فِي هِمَمِهِمْ خَدَائِعُ الشَّهَوَاتِ

قَدِاتَّخَذُوا ذَا الْعَرْشِ ذَخِيرَةً لِيَوْمِ فَاقَتِهِمْ

وَ يَمَّمُوهُ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْخَلْقِ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ بِرَغْبَتِهِمْ

لَا يَقْطَعُونَ أَمَدَ غَايَةِ عِبَادَتِهِ

وَ لَا يَرْجِعُ بِهِمُ الِاسْتِهْتَارُ بِلُزُومِ طَاعَتِهِ

إِلَّا إِلَى مَوَادَّ مِنْ قُلُوبِهِمْ غَيْرِ مُنْقَطِعَةٍ مِنْ رَجَائِهِ وَ مَخَافَتِهِ

لَمْ تَنْقَطِعْ أَسْبَابُ الشَّفَقَةِ مِنْهُمْ

فَيَنُوا فِي جِدِّهِمْ

وَ لَمْ تَأْسِرْهُمُ الْأَطْمَاعُ فَيُؤْثِرُوا وَشِيكَ السَّعْيِ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ

لَمْ يَسْتَعْظِمُوا مَا مَضَى مِنْ أَعْمَالِهِمْ

وَ لَوِ اسْتَعْظَمُوا ذَلِكَ لَنَسَخَ الرَّجَاءُ مِنْهُمْ شَفَقَاتِ وَجَلِهِمْ

وَ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي رَبِّهِمْ بِاسْتِحْوَاذِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ

وَ لَمْ يُفَرِّقْهُمْ سُوءُ التَّقَاطُعِ

وَ لَا تَوَلَّاهُمْ غِلُّ التَّحَاسُدِ

وَ لَا تَشَعَّبَتْهُمْ مَصَارِفُ الرِّيَبِ

وَ لَا اقْتَسَمَتْهُمْ أَخْيَافُ الْهِمَمِ

فَهُمْ أُسَرَاءُ إِيمَانٍ

لَمْ يَفُكَّهُمْ مِنْ رِبْقَتِهِ زَيْغٌ وَ لَا عُدُولٌ وَ لَا وَنًى وَ لَا فُتُورٌ

وَ لَيْسَ فِي أَطْبَاقِ السَّمَاءِ مَوْضِعُ إِهَابٍ إِلَّا وَ عَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ

أَوْ سَاعٍ حَافِدٌ

يَزْدَادُونَ عَلَى طُولِ الطَّاعَةِ بِرَبِّهِمْ عِلْماً

وَ تَزْدَادُ عِزَّةُ رَبِّهِمْ فِي قُلُوبِهِمْ عِظَماً

و منها في صفة الأرض و دحوها على الماء

كَبَسَ الْأَرْضَ عَلَى مَوْرِ أَمْوَاجٍ مُسْتَفْحِلَةٍ

وَ لُجَجِ بِحَارٍ زَاخِرَةٍ

تَلْتَطِمُ أَوَاذِيُّ أَمْوَاجِهَا

وَ تَصْطَفِقُ مُتَقَاذِفَاتُ أَثْبَاجِهَا

وَ تَرْغُو زَبَداً كَالْفُحُولِ عِنْدَ هِيَاجِهَا

فَخَضَعَ جِمَاحُ الْمَاءِ الْمُتَلَاطِمِ لِثِقَلِ حَمْلِهَا

وَ سَكَنَ هَيْجُ ارْتِمَائِهِ إِذْ وَطِئَتْهُ‏ بِكَلْكَلِهَا

وَ ذَلَّ مُسْتَخْذِياً

إِذْ تَمَعَّكَتْ عَلَيْهِ بِكَوَاهِلِهَا

فَأَصْبَحَ بَعْدَ اصْطِخَابِ أَمْوَاجِهِ

سَاجِياً مَقْهُوراً

وَ فِي حَكَمَةِ الذُّلِّ مُنْقَاداً أَسِيراً

وَ سَكَنَتِ الْأَرْضُ مَدْحُوَّةً فِي لُجَّةِ تَيَّارِهِ

وَ رَدَّتْ مِنْ نَخْوَةِ بَأْوِهِ وَ اعْتِلَائِهِ

وَ شُمُوخِ أَنْفِهِ وَ سُمُوِّ غُلَوَائِهِ

وَ كَعَمَتْهُ عَلَى كِظَّةِ جَرْيَتِهِ

فَهَمَدَ بَعْدَ نَزَقَاتِهِ

وَ لَبَدَ بَعْدَ زَيَفَانِ وَثَبَاتِهِ

فَلَمَّا سَكَنَ هَيْجُ الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ أَكْنَافِهَا

وَ حَمْلِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ الشُّمَّخِ الْبُذَّخِ عَلَى أَكْتَافِهَا

فَجَّرَ يَنَابِيعَ الْعُيُونِ مِنْ عَرَانِينِ أُنُوفِهَا

وَ فَرَّقَهَا فِي سُهُوبِ بِيدِهَا وَ أَخَادِيدِهَا

وَ عَدَّلَ حَرَكَاتِهَا بِالرَّاسِيَاتِ مِنْ جَلَامِيدِهَا

وَ ذَوَاتِ الشَّنَاخِيبِ الشُّمِّ مِنْ صَيَاخِيدِهَا

فَسَكَنَتْ مِنَ الْمَيَدَانِ لِرُسُوبِ الْجِبَالِ فِي قِطَعِ أَدِيمِهَا وَ تَغَلْغُلِهَا

مُتَسَرِّبَةً فِي جَوْبَاتِ خَيَاشِيمِهَا

وَ رُكُوبِهَا أَعْنَاقَ سُهُولِ الْأَرَضِينَ وَ جَرَاثِيمِهَا

وَ فَسَحَ بَيْنَ الْجَوِّ وَ بَيْنَهَا

وَ أَعَدَّ الْهَوَاءَ مُتَنَسَّماً لِسَاكِنِهَا

وَ أَخْرَجَ إِلَيْهَا أَهْلَهَا عَلَى تَمَامِ مَرَافِقِهَا

ثُمَّ لَمْ يَدَعْ جُرُزَ الْأَرْضِ الَّتِي تَقْصُرُ مِيَاهُ الْعُيُونِ عَنْ رَوَابِيهَا

وَ لَا تَجِدُ جَدَاوِلُ الْأَنْهَارِ ذَرِيعَةً إِلَى بُلُوغِهَا

حَتَّى أَنْشَأَ لَهَا نَاشِئَةَ سَحَابٍ تُحْيِي مَوَاتَهَا

وَ تَسْتَخْرِجُ نَبَاتَهَا

أَلَّفَ غَمَامَهَا بَعْدَ افْتِرَاقِ لُمَعِهِ

وَ تَبَايُنِ قَزَعِهِ

حَتَّى إِذَا تَمَخَّضَتْ لُجَّةُالْمُزْنِ فِيهِ

وَ الْتَمَعَ بَرْقُهُ فِي كُفَفِهِ

وَ لَمْ يَنَمْ وَمِيضُهُ فِي كَنَهْوَرِ رَبَابِهِ

وَ مُتَرَاكِمِ سَحَابِهِ

أَرْسَلَهُ سَحّاً مُتَدَارِكاً

قَدْ أَسَفَّ هَيْدَبُهُ

تَمْرِيهِ الْجَنُوبُ دِرَرَ أَهَاضِيبِهِ

وَ دُفَعَ شَآبِيبِهِ.

فَلَمَّا أَلْقَتِ السَّحَابُ بَرْكَ بِوَانَيْهَا

وَ بَعَاعَ مَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ مِنَ الْعِبْ‏ءِ الْمَحْمُولِ عَلَيْهَا

أَخْرَجَ بِهِ مِنْ هَوَامِدِ الْأَرْضِ النَّبَاتَ

وَ مِنْ زُعْرِ الْجِبَالِ الْأَعْشَابَ

فَهِيَ تَبْهَجُ بِزِينَةِ رِيَاضِهَا

وَ تَزْدَهِي بِمَا أُلْبِسَتْهُ مِنْ رَيْطِ أَزَاهِيرِهَا

وَ حِلْيَةِ مَا سُمِطَتْ بِهِ مِنْ نَاضِرِ أَنْوَارِهَا

وَ جَعَلَ ذَلِكَ بَلَاغاً لِلْأَنَامِ

وَ رِزْقاً لِلْأَنْعَامِ

وَ خَرَقَ الْفِجَاجَ فِي آفَاقِهَا

وَ أَقَامَ الْمَنَارَ لِلسَّالِكِينَ عَلَى جَوَادِّ طُرُقِهَا

فَلَمَّا مَهَدَ أَرْضَهُ

وَ أَنْفَذَ أَمْرَهُ

اخْتَارَ آدَمَ ( عليه‏ السلام  )خِيرَةً مِنْ خَلْقِهِ

وَ جَعَلَهُ أَوَّلَ جِبِلَّتِهِ

وَ أَسْكَنَهُ جَنَّتَهُ

وَ أَرْغَدَ فِيهَا أُكُلَهُ

وَ أَوْعَزَ إِلَيْهِ فِيمَا نَهَاهُ عَنْهُ

وَ أَعْلَمَهُ أَنَّ فِي الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ التَّعَرُّضَ لِمَعْصِيَتِهِ

وَ الْمُخَاطَرَةَ بِمَنْزِلَتِهِ

فَأَقْدَمَ عَلَى مَا نَهَاهُ عَنْهُ

مُوَافَاةً لِسَابِقِ عِلْمِهِ

فَأَهْبَطَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ لِيَعْمُرَ أَرْضَهُ بِنَسْلِهِ

وَ لِيُقِيمَ الْحُجَّةَ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ

وَ لَمْ يُخْلِهِمْ بَعْدَ أَنْ قَبَضَهُ

مِمَّا يُؤَكِّدُ عَلَيْهِمْ حُجَّةَ رُبُوبِيَّتِهِ

وَ يَصِلُ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَعْرِفَتِهِ

بَلْ تَعَاهَدَهُمْ بِالْحُجَجِ عَلَى أَلْسُنِ الْخِيَرَةِ مِنْ أَنْبِيَائِهِ

وَ مُتَحَمِّلِي وَدَائِعِ رِسَالَاتِهِ

قَرْناً فَقَرْناً

حَتَّى تَمَّتْ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ( صلى‏ الله‏ عليه‏ وسلم  )حُجَّتُهُ

وَ بَلَغَ الْمَقْطَعَ عُذْرُهُ وَ نُذُرُهُ

وَ قَدَّرَ الْأَرْزَاقَ فَكَثَّرَهَا وَ قَلَّلَهَا

وَ قَسَّمَهَا عَلَى الضِّيقِ وَ السَّعَةِ فَعَدَلَ فِيهَا

لِيَبْتَلِيَ مَنْ أَرَادَ بِمَيْسُورِهَا وَ مَعْسُورِهَا

وَ لِيَخْتَبِرَ بِذَلِكَ الشُّكْرَ وَ الصَّبْرَ مِنْ غَنِيِّهَا وَ فَقِيرِهَا

ثُمَّ قَرَنَ بِسَعَتِهَا عَقَابِيلَ فَاقَتِهَا

وَ بِسَلَامَتِهَا طَوَارِقَ آفَاتِهَا

وَ بِفُرَجِ أَفْرَاحِهَا غُصَصَ أَتْرَاحِهَا

وَ خَلَقَ الْآجَالَ فَأَطَالَهَا وَ قَصَّرَهَا

وَ قَدَّمَهَا وَ أَخَّرَهَا

وَ وَصَلَ بِالْمَوْتِ أَسْبَابَهَا

وَ جَعَلَهُ خَالِجاً لِأَشْطَانِهَا

وَ قَاطِعاً لِمَرَائِرِ أَقْرَانِهَا

عَالِمُ السِّرِّ مِنْ ضَمَائِرِ الْمُضْمِرِينَ

وَ نَجْوَى الْمُتَخَافِتِينَ

وَ خَوَاطِرِ رَجْمِ الظُّنُونِ

وَ عُقَدِ عَزِيمَاتِ الْيَقِينِ

وَ مَسَارِقِ إِيمَاضِ الْجُفُونِ

وَ مَا ضَمِنَتْهُ أَكْنَانُ الْقُلُوبِ

وَ غَيَابَاتُ الْغُيُوبِ

وَ مَا أَصْغَتْ لِاسْتِرَاقِهِ مَصَائِخُ الْأَسْمَاعِ

وَ مَصَايِفُ الذَّرِّ

وَ مَشَاتِي الْهَوَامِّ

وَ رَجْعِ الْحَنِينِ مِنَ الْمُولَهَاتِ

وَ هَمْسِ الْأَقْدَامِ

وَ مُنْفَسَحِ الثَّمَرَةِ مِنْ وَلَائِجِ غُلُفِ الْأَكْمَامِ

وَ مُنْقَمَعِ الْوُحُوشِ مِنْ غِيرَانِ الْجِبَالِ وَ أَوْدِيَتِهَا

وَ مُخْتَبَإِ الْبَعُوضِ بَيْنَ سُوقِ الْأَشْجَارِ وَ أَلْحِيَتِهَا

وَ مَغْرِزِ الْأَوْرَاقِ مِنَ الْأَفْنَانِ

وَ مَحَطِّ الْأَمْشَاجِ مِنْ مَسَارِبِ الْأَصْلَابِ

وَ نَاشِئَةِ الْغُيُومِ وَ مُتَلَاحِمِهَا

وَ دُرُورِ قَطْرِ السَّحَابِ فِي مُتَرَاكِمِهَا

وَ مَا تَسْفِي الْأَعَاصِيرُ بِذُيُولِهَا

وَ تَعْفُو الْأَمْطَارُ بِسُيُولِهَا

وَ عَوْمِ بَنَاتِ الْأَرْضِ فِي كُثْبَانِ الرِّمَالِ

وَ مُسْتَقَرِّ ذَوَاتِ الْأَجْنِحَةِ بِذُرَا شَنَاخِيبِ الْجِبَالِ

وَ تَغْرِيدِ ذَوَاتِ الْمَنْطِقِ فِي دَيَاجِيرِ الْأَوْكَارِ

وَ مَا أَوْعَبَتْهُ الْأَصْدَافُ

وَ حَضَنَتْ عَلَيْهِ أَمْوَاجُ الْبِحَارِ

وَ مَا غَشِيَتْهُ سُدْفَةُ لَيْلٍ

أَوْ ذَرَّ عَلَيْهِ شَارِقُ نَهَارٍ

وَ مَا اعْتَقَبَتْ عَلَيْهِ أَطْبَاقُ الدَّيَاجِيرِ

وَ سُبُحَاتُ النُّورِ

وَ أَثَرِ كُلِّ خَطْوَةٍ

وَ حِسِّ كُلِّ حَرَكَةٍ

وَ رَجْعِ كُلِّ كَلِمَةٍ

وَ تَحْرِيكِ كُلِّ شَفَةٍ

وَ مُسْتَقَرِّ كُلِّ نَسَمَةٍ

وَ مِثْقَالِ كُلِّ ذَرَّةٍ وَ هَمَاهِمِ كُلِّ نَفْسٍ هَامَّةٍ

وَ مَا عَلَيْهَا مِنْ ثَمَرِ شَجَرَةٍ

أَوْ سَاقِطِ وَرَقَةٍ

أَوْ قَرَارَةِ نُطْفَةٍ

أَوْ نُقَاعَةِ دَمٍ وَ مُضْغَةٍ

أَوْ نَاشِئَةِ خَلْقٍ وَ سُلَالَةٍ

لَمْ يَلْحَقْهُ فِي ذَلِكَ كُلْفَةٌ

وَ لَا اعْتَرَضَتْهُ فِي حِفْظِ مَا ابْتَدَعَ مِنْ خَلْقِهِ عَارِضَةٌ

وَ لَا اعْتَوَرَتْهُ فِي تَنْفِيذِ الْأُمُورِ وَ تَدَابِيرِ الْمَخْلُوقِينَ مَلَالَةٌ وَ لَا فَتْرَةٌ

بَلْ نَفَذَهُمْ عِلْمُهُ

وَ أَحْصَاهُمْ عَدَدُهُ

وَ وَسِعَهُمْ عَدْلُهُ

وَ غَمَرَهُمْ فَضْلُهُ

مَعَ تَقْصِيرِهِمْ عَنْ كُنْهِ مَا هُوَ أَهْلُهُ

دعاء

اللَّهُمَّ أَنْتَ أَهْلُ الْوَصْفِ الْجَمِيلِ

وَ التَّعْدَادِ الْكَثِيرِ

إِنْ تُؤَمَّلْ فَخَيْرُ مَأْمُولٍ

وَ إِنْ تُرْجَ فَخَيْرُ مَرْجُوٍّ

اللَّهُمَّ وَ قَدْ بَسَطْتَ لِي فِيمَا لَا أَمْدَحُ بِهِ غَيْرَكَ

وَ لَا أُثْنِي بِهِ عَلَى أَحَدٍ سِوَاكَ

وَ لَا أُوَجِّهُهُ إِلَى مَعَادِنِ الْخَيْبَةِ وَ مَوَاضِعِ الرِّيبَةِ

وَ عَدَلْتَ بِلِسَانِي عَنْ مَدَائِحِ الْآدَمِيِّينَ وَ الثَّنَاءِ عَلَى الْمَرْبُوبِينَ الْمَخْلُوقِينَ

اللَّهُمَّ وَ لِكُلِّ مُثْنٍ عَلَى مَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ مَثُوبَةٌ مِنْ جَزَاءٍ

أَوْ عَارِفَةٌ مِنْ عَطَاءٍ

وَ قَدْ رَجَوْتُكَ دَلِيلًا عَلَى ذَخَائِرِ الرَّحْمَةِ وَ كُنُوزِ الْمَغْفِرَةِ

اللَّهُمَّ وَ هَذَا مَقَامُ مَنْ أَفْرَدَكَ بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ لَكَ

وَ لَمْ يَرَ مُسْتَحِقّاً لِهَذِهِ الْمَحَامِدِ وَ الْمَمَادِحِ غَيْرَكَ

وَ بِي فَاقَةٌ إِلَيْكَ لَا يَجْبُرُ مَسْكَنَتَهَا إِلَّا فَضْلُكَ

وَ لَا يَنْعَشُ مِنْ خَلَّتِهَا إِلَّا مَنُّكَ وَ جُودُكَ

فَهَبْ لَنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ رِضَاكَ

وَ أَغْنِنَا عَنْ مَدِّ الْأَيْدِي إِلَى سِوَاكَ

 إِنَّكَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج6  

و من خطبة له عليه السّلام تعرف بخطبة الاشباح و هى التسعون من المختار فى باب الخطب

و هي من خطبه المشهورة روى بعض فقراتها المحدّث العلّامة المجلسي (ره) في البحار من كتاب مطالب السّؤول لمحمّد بن طلحة الشّافعي، و رواها الصّدوق في التّوحيد مسندا باختصار و اختلاف كثير لما أورده السّيد (ره) في الكتاب.

قال: حدّثني عليّ بن أحمد بن محمّد بن عمران الدّقاق ره، قال: حدّثنا محمّد بن أبي عبد اللَّه الكوفي، قال: حدّثنا محمّد بن إسماعيل البرمكيّ، قال: حدّثني عليّ بن العبّاس، قال: حدّثنى إسماعيل بن مهران الكوفيّ عن إسماعيل بن إسحاق الجهني عن فرج بن فروة عن مسعدة بن صدقة قال: سمعت أبا عبد اللَّه عليه السّلام يقول: بينا أمير المؤمنين عليه السّلام يخطب على المنبر بالكوفة إذ قام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين صف لنا ربّك تبارك و تعالى لنزداد له حبّا و به معرفة، فغضب أمير المؤمنين و نادى:

الصّلاة«» جامعة فاجتمع النّاس حتّى غصّ المسجد بأهله ثمّ قام متغيّر اللّون فقال: الحمد للّه إلى آخر ما رواه هذا، و شرح ما أورده السيّد ره هنا في ضمن فصول:

الفصل الاول

قال السيّد ره: و هي من جلايل خطبه عليه السّلام و كان سأله سائل أن يصف اللَّه له حتّى كأنّه يره عيانا، فغضب عليه السّلام لذلك: الحمد للّه الّذي لا يفره المنع و الجمود، و لا يكديه الإعطاء و الجود. إذ كلّ معط منتقص سواه، و كلّ مانع مذموم ما خلاه، هو المنّان بفوائد النّعم، و عوائد المزيد و القسم، عياله الخلق، ضمن أرزاقهم، و قدّر أقواتهم و نهج سبيل الرّاغبين إليه، و الطّالبين ما لديه، و ليس بما سئل بأجود منه بما لم يسئل، الأوّل الّذي لم يكن له قبل فيكون شي‏ء قبله، و الآخر الّذي ليس له بعد فيكون شي‏ء بعده، و الرّادع أناسيّ الأبصار عن أن تناله أو تدركه، ما اختلف عليه دهر فيختلف منه الحال، و لا كان في مكان فيجوز عليه الانتقال، و لو وهب ما تنفّست عنه معادن الجبال، و ضحكت عنه أصداف البحار من فلزّ اللّجين و العقيان، و نثارة الدّرّ و حصيد المرجان، ما أثّر ذلك في جوده، و لا أنفد سعة ما عنده، و لكان عنده من ذخاير الأنعام، ما لا تنفده مطالب الأنام،لأنّه الجواد الّذي لا يغيضه سؤال السّائلين، و لا يبخله إلحاح الملحّين.

اللغة

(الأشباح) جمع الشّبح و هو الشّخص كالأسباب و السبب و (وفر) الشي‏ء يفر من باب وعد وفورا تمّ و كمل، و وفرته وفرا من باب وعد أيضا أتممته و أكملته يتعدّى و لا يتعدّى و المصدر فارق و (أكدى) الرّجل إذا بخل أو قلّ خيره أو قلل عطائه قال سبحانه: وَ أَعْطى‏ قَلِيلًا وَ أَكْدى‏.

و أصله كدى كرمى و منه أرض كادئة بطيئة الانبات و (الأناسي) جمع الانسان و هو المثال الذى يرى في سواد العين و (الأصداف) جمع الصدف بالتّحريك و هو غشاء الدّر و (الفلز) بكسر الفاء و اللام و تشديد الزاء و كعتلّ قال في القاموس: نحاس أبيض تجعل منه القدور المفرغة أو خبث الحديد أو الحجارة أو جواهر الأرض كلّها أو ما ينفيه الكير من كلّ ما يذاب منها و (العقيان) الذّهب الخالص و يقال هو ما ينبت نباتا و ليس ممّا يحصل من الحجارة و (نثارة) الدّر ما تناثر منه.

قال الشّارح المعتزلي: و تأتي فعالة تارة للجيّد المختار و تارة للسّاقط المتروك فالأوّل نحو الخلاصة و الثاني نحو القلامة و (الدّر) جمع الدّرة و هى اللّؤلؤة العظيمة و (غاض) الماء نقص و غاضه اللَّه كأغاضه أنقصه يتعدّى بنفسه و بالهمز و (أبخلته) وجدته بخيلا.

الاعراب

قوله عليه السّلام: و كلّ مانع مذموم ما خلاه الأصل في خلا أنه لازم يتعدّى إلى المفعول بمن نحو خلت الدار من الانيس، و قد تضمن معنى جاوز فيتعدّى بنفسه كقولهم افعل هذا و خلاك ذمّ أى جاوزك.

قال الرّضى: و الزموها هذا التضمن في باب الاستثناء فيكون ما بعدها في صورة المستثنى بالّا التي هي أمّ الباب و لهذا الغرض التزموا إضمار فاعله إلى أن‏ قال: و فاعل خلا عند النحاة بعضهم، و فيه نظر لأنّ المقصود في جائنى القوم خلا زيدا أنّ زيدا لم يكن معهم أصلا و لا يلزم من مجاوزة بعض القوم إياه و خلوّ بعضهم منه مجاوزة الكلّ و خلوّ الكلّ، و الأولى أن يضمر فيه ضمير راجعا إلي مصدر الفعل المتقدّم أى جائنى القوم خلا مجيئهم زيدا، كقوله تعالى: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى‏.

فيكون مفسر الضمير سياق القول هذا.

و ما فيه مصدرية و لذلك التزم انتصاب ما بعده لأنّ ماء المصدرية تدخل على الفعلية غالبا، و الاسمية قليلا و ليس بعدها اسمية فتعين الفعلية فتعين أن يكون فعلا فوجب النصب و المضاف محذوف أى وقت ما خلا مجيئهم زيدا، و ذلك انّ الحين كثيرا ما يحذف مع ماء المصدرية نحو: ما ذرّ شارق و نحوه ذكر ذلك كلّه نجم الأئمة الرضيّ (ره).

قال: و جوّز الجرمى الجرّ بعد ما خلا و ما عدا على أنّ ما زايدة، و لم يثبت انتهى.

أقول: حمل ما على الزيادة في كلام الامام عليه السّلام على تقدير ثبوته أقرب إلى المعنى كما لا يخفى، و حملها على المصدرية محتاج إلى التكلّف كما هو غير خفيّ على الفطن العارف، و اضافة الفوائد إلى النعم بيانية، و في قوله و عوائد المزيد من قبيل إضافة الموصوف إلى الصفة، و القسم عطف على العوائد، و جملة ضمن في محل النصب على الحالية من ضمير عياله

المعنى

اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة كما ذكره السيد (ره) من جلائل خطبه عليه السّلام و مشاهرها و تسمى بخطبة الأشباح لاشتمالها على ذكر الأشباح و الأشخاص من الملائكة و كيفية خلقهم و بيان أقسامهم، و لعلّ غضبه عليه السّلام على السائل من أجل أنّ غرض السائل كان وصفه تعالى بصفات الأجسام و زعمه جواز معرفته سبحانه‏ بالاكتناه كما يشهد به قوله: كأنه يراه عيانا، فغضب عليه السّلام لذلك و تغيّر لونه لأجل ذلك و وصفه بأوصاف العزّ و الكمال و صفات الجبروت و الجلال فقال: (الحمد للّه الذى لا يفره المنع و الجمود) أى لا يوجب وفور ماله المنع و الامساك (و لا يكديه الاعطاء و الجود) أى لا يقلل اعطائه البذل و الاحسان يقول عليه السّلام إنه سبحانه ليس كملوك الدنيا يتزيد بالامساك و ينتقص بالانفاق إذ مقدوراته سبحانه غير متناهية و ما عنده لا يدخله نقص و لا فناء، بل يدخلان الفاني المحدود و يشهد به ما مرّ في شرح الخطبة السابقة من الحديث القدسي: يا عبادي لو أنّ أولكم و آخركم و انسكم و جنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كلّ انسان مسألته ما نقص ذلك مما عندى شيئا إلّا كما ينقص المخيط إذا دخل البحر أى لا ينقص شيئا.

و إلى ما ذكرنا أشار عليه السّلام بقوله: (إذ كلّ معط منتقص سواه) و بحار فضله لا ينقص بالافضال، و خزائن كرمه لا تقلّ بالانعام و النوال.

و لما نبّه عليه السّلام على عدم إمكان دخول النقصان في بحر فضله وجوده أردف ذلك بنفى لحوق الذّم بمنعه على وجوده بقوله: (و كلّ مانع مذموم ما خلاه) و ذلك لأنّ كلّ مانع غيره إنما يمنع لخوف الضيق و المسكنة و خشية الفقر و الفاقة أو بخل نفسه الامارة، فحرىّ أن يلحقه المذمّة و الملامة و أمّا اللَّه القدّوس السبحان فلما كان منزها عن صفات النقصان و محالا أن يلحقه طوارى الامكان، فليس منعه لضيق أو بخل، و إنما يمنع بمقتضا حكمة بالغة و داعى مصلحة خفية أو ظاهرة، فمنعه في الحقيقة عين الفضل و الاحسان و العطاء و الامتنان.

كما ورد في الحديث القدسي: إنّ من عبادى من لا يصلحه إلّا الفقر و لو أغنيته لأفسده ذلك و في حديث آخر: و إنّ من عبادى المؤمنين لعبادا لا يصلح لهم أمر دينهم إلّا بالفاقة و المسكنة و القسم في أبدانهم فأبلوهم بالفاقة و المسكنة و القسم فصلح‏ إليهم أمر دينهم و أنا أعلم بما يصلح عليه أمر دين عبادي المؤمنين (هو المنان بفوائد النعم) أى كثير الانعام على العباد و المعطى لهم ابتداء من غير سبق سؤال، و به فسّره الفيروز آبادي.

و يدلّ عليه ما رواه الطريحي قال: و في حديث عليّ عليه السّلام و قد سئل عن الحنّان و المنّان فقال: الحنّان هو الذي يقبل على من أعرض عنه، و المنّان هو الذي يبدء بالنّوال قبل السؤال.

و بذلك ظهر أنّ جعل المنّان مبالغة في المنّة و إظهار الاصطناع كما في شرح البحراني ممّا لا وجه له بل هو تفسير بالرأى في مقابلة النصّ، و لا بأس بذكر كلامه لتوضيح مرامه.

قال في شرح هذه الفقرة: المنة تذكير المنعم للمنعم عليه بنعمته و التطاول عليه بها كقوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ في غير موضع من كتابه و هي صفة مدح للحقّ سبحانه و إن كان صفة ذمّ لخلقه.

و السّبب الفارق أنّ كلّ منعم سواه يحتمل أن يتوقّع لنعمته جزاء و يستفيد كمالا يعود إليه ممّا أفاده، و أيسره توقّع الذكر و يقبح ممّن يعامل بنعمته و يتوقّع جزاء أن يمنّ بها لما يستلزمه المن من التّطاول و الكبر و توقّع الجزاء و الحاجة إليه مع التّطاول و الكبر مما لا يجتمعان في العرف، إذ التّطاول و الكبر إنما يليقان بالغنى عن ثمرة ما تطاول به إلى آخر ما ذكره.

أقول: أمّا قبح الامتنان من المخلوق فممّا لا ريب فيه، لكونه ناشئا من خسّة النّفس و دنائة الهمّة و لذلك مدح اللَّه سبحانه عباده المتّقين بما حكى عنهم بقوله: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً كما أنه لا ريب في جوازه على اللَّه سبحانه، و يدلّ عليه صريح الكتاب و السنّة، و أما جعل المنّان من أسمائه سبحانه بذلك المعنى فلا دليل عليه، بل الدليل قائم على‏خلافه حسبما عرفت، مع أنّ إرادة هذا المعنى في هذا المقام أعنى كلام الامام عليه السّلام على فرض ثبوت أصله ممّا يأبى عنه الذوق السّليم و الطبع المستقيم إذ المعنى الذي ذكرنا أولى بالتمدّح منه كما لا يخفى، هذا.

و ما أبعد ما بين ما ذكره الشّارح و ما ذهب إليه السيّد عليخان شارح الصحيفة السّجادية من نفي جواز المنة على اللَّه رأسا كعدم جوازه على الخلق حيث قال في شرح دعاء طلب الحوائج عند شرح قوله عليه السّلام: يا من لا يبيع نعمه بالأثمان، و يا من لا يكدّر عطاياه بالامتنان: الامتنان افتعال من المنّ و هو إظهار الاصطناع و اعتداد الصنائع كان تقول: ألم أعطك كذا، ألم أحسن إليك، ألم أعنك و هو تعبير يكدّر المعروف و ينغصه فلهذا نهى الشّارع عنه بقوله: لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى‏.

و من هنا قيل: سيّان من منح النائل و منّ، و من منع السّائل و ضنّ، و المراد بنفي تكديره تعالى عطاياه بالامتنان نفي الامتنان عنه رأسا فهو من باب نفي الشي‏ء بلازمه أى لا امتنان فلا تكدير.

ثمّ لما كان الامتنان بالمعنى المذكور ذيلة ناشئة عن دنائة النّفس و صغر الهمة و استعظام النعمة و الاحسان كان تعالى منزّه عن الامتنان، لأنّ كلّ نعمة من نعمه تعالى و إن عظمت و كلّ عطيّة من عطاياه و إن جلّت بالنّسبة إلى العبد المعطى و المنعم عليه فهى حقيرة بالنّسبة إلى عظمته جلّت قدرته، و شأنه تعالى أجلّ من أن يكون لها عنده موقع فيمنّ بها و يعتدّ بها على من أعطاه و أنعم عليه، و قول بعض العلماء إنّ المنّة بالمعنى المذكور صفة مدح للحقّ سبحانه و إن كان صفة ذمّ للمخلوق ليس بشي‏ء و عبارة الدّعاء تشهد ببطلانه، انتهى.

أقول: و الانصاف أنّ نفي الامتنان عنه سبحانه رأسا لا وجه له مع نصّ الآية الشّريفة أعنى قوله:

 يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ بخلافه«» و دلالة الآيات الواردة في مقام الامتنان عليه بل المنفيّ عنه هو الامتنان المتصوّر في الخلايق.

بيان ذلك أنّ الامتنان من المنعم على المنعم عليه تارة يكون لارادة مكافاة الأنعام و طلب العوض من الثّواب الآجل و الثناء العاجل، و بعبارة أخرى لتوقّع منفعة عايدة على المنعم بانعامه، و أخرى إرادة تذكّر المنعم عليه للنّعمة و استعداده بذلك لقبول نعمة اخرى و تحصيل منفعة ثانية من دون أن يكون للمنعم فيه تحصيل فايدة و اكتساب منفعة لنفسه أصلا.

فالامتنان على الوجه الأوّل هو القبيح و إليه يعود منّة الخلايق، و أمّا الثاني فلا قبح فيه أصلا بل هو حسن يشهد به الوجدان فلا غبار على جوازه على اللَّه سبحانه و على ما حقّقته فمعنى قوله عليه السّلام: يا من لا يكدّر عطاياه بالامتنان: أنّ امتنانه لا يوجب التكدّر كما يوجبه امتنان غيره إذ غرضه تعالى منه ليس إلّا محض التّفضل و التّطول و إيصال نعمة أخرى إلى الممتنّ عليه، و غرض غيره منه تحصيل منفعة لنفسه فمنّته يكشف عن عدم خلوص إحسانه و كونه مشوبا بالاغراض النّفسانية، و على ذلك فالمنفىّ في كلام الامام عليه السّلام هو التكدير لا أصل الامتنان و إلّا امتنع الجمع بينه و بين الادلّة الدالّة على الامتنان و يكون مناقضا صريحا لها، فافهم و اغتنم، و اللَّه العالم.

و قوله (و عوائد المزيد و القسم) قال البحرانيّ: أى معتادهما، و هو سهو إذ العوائد جمع العايدة لا العادة حتّى يكون بمعنى المعتاد، و العائدة كما في القاموس المعروف و الصّلة و العطف و المنفعة، و المزيد مصدر إما بمعنى الفاعل أو المفعول‏ و إضافة العايدة إليه من باب إضافة الموصوف إلى صفته لا بالعكس كما هو لازم ما فسّره البحراني، و المراد أنّه سبحانه منّان على العباد بصلاته و عطوفاته الزائدة أو المزيد و قسمه المقدرة.

(عياله الخلق ضمن أرزاقهم و قدّر أقواتهم) لما كان عيال الرّجل عبارة عمن يمونه و ينفق عليه و يصلح حاله استعار لفظه للخلايق بالنّسبة إلى ربّهم لخلقه لهم و تربيته في حقّهم و إصلاحه حالهم في المعاش و المعاد.

قال البحراني: و استعار لفظ الضّمان لما وجب في الحكمة الالهيّة من وجود ما لا بدّ منه في تدبير إصلاح حالهم من الأقوات و الأرزاق و تقدير أقواتهم إعطاء كلّ ما كتب له في اللّوح المحفوظ من زائد و ناقص، انتهى، و هذا هو المشار إليه بقوله سبحانه: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا.

و اعلم أنّ الرزق في اللّغة هو العطاء و يطلق على النصيب المعطى، و أمّا في العرف فقالت الأشاعرة هو مطلق ما ينتفع به حيّ مباحا كان أو حراما بالتغذّي أو بغيره، و ذهب أصحابنا كالمعتزلة إلى أنه ما صحّ انتفاع الحيوان به و ليس لأحد منعه منه فلا يكون الحرام رزقا، لأنّ اللَّه سبحانه منع من الانتفاع به و أمر بالزّجر عنه و لا بأس بذكر أدلّة الظرفين ليتّضح الحقّ من البين.

فأقول: استدلّ الأشاعرة بما رووه عن صفوان بن اميّة قال: كنّا عند رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم إذ جاء عمر بن قرّة فقال: يا رسول اللَّه إنّ اللَّه كتب علىّ الشّقوة فلا أراني أرزق إلّا من دفّي«» بكفّي فأذن لي في الغناء، فقال صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم لا آذن لك و لا كرامة و لا نعمة كذبت أى عدوّ اللَّه و اللَّه لقد رزقك اللَّه حلالا طيبا، فاخترت ما حرّم اللَّه عليك مكان ما أحلّ اللَّه لك من حلاله، و بقوله تعالى: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها.

تقريب الاستدلال ما ذكره الفخر الرّازي في التفسير الكبير حيث قال: تعلّق أصحابنا بهذه الآية في إثبات أنّ الرّزق قد يكون حراما قالوا: لأنّه ثبت أنّ إيصال الرّزق إلى كلّ حيوان واجب على اللَّه تعالى بحسب الوعد و بحسب الاستحقاق، و اللَّه تعالى لا يخلّ بالواجب، ثمّ قد نرى انسانا لا يأكل من الحلال طول عمره فلو لم يكن الحرام رزقا لكان اللَّه تعالى ما أوصل رزقه إليه فيكون تعالى قد أخلّ بالواجب و ذلك محال، فعلمنا أنّ الحرام قد يكون رزقا.

و اجيب عن الأوّل تارة بالطّعن في السّند، و أخرى بأنّه على تقدير صحّته لا بدّ من تأويله بأنّ إطلاق الرّزق على الحرام فيه لمشاكلة قوله فلا أراني ارزق، على حدّ قوله: و مكروا و مكر اللَّه، و باب المشاكلة و إن كان نوعا من المجاز لكنه واسع كثير الورود في الكتاب و السنة معروف الاستعمال في نظم البلغاء و نثرهم فلا بدّ من المصير إليه جمعا بين الأدلّة.

و عن الثّاني بمنع وجود مادّة النقض إذ لا نسلّم وجود حيوان لا يرزق إلّا بالحرام مدّة عمره، أمّا غير الانسان فواضح إذ لا يتصوّر بالنّسبة إليه حلّ و لا حرمة.

أمّا الانسان فلأنّه في أيّام الصّبا و عدم التّكليف لا يتّصف ما يأكله بالحرمة كعدم اتصافه بالاباحة، بل هو كالحيوان في عدم اتصاف أفعاله بشي‏ء من الأحكام الخمسة.

و أمّا بعد البلوغ فلأنّه بعد ما كان الرّزق أعمّ من الغذاء باتفاق المعتزلة و الأشاعرة يشمل التنفّس في الهوا و معلوم أنه مباح في حقّه قطعا فلم يوجد حيوان لا يرزق إلّا بالحرام طول عمره، و يوضحه أنّه لو مات انسان قبل أن يأكل شيئا حلالا أو حراما لزم أن يكون غير مرزوق فما هو جواب الأشاعرة فهو جوابنا.

و استدلّ المعتزلة على المذهب المختار بقوله سبحانه: وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ حيث مدحهم بانفاقهم من رزقة فلا بدّ أن يكون الرّزق حلالا إذ الانفاق من الحرام بمعزل عن إيجاب المدح.

أقول: و لا يخفى ما فيه: إذ يجوز جعل من تبعيضيّة فيكون معنى الآية أنّهم ينفقون بعض ما رزقهم اللَّه، و مدحهم بذلك يستلزم أن يكون ما أنفقوه حلالا و لا يستلزم أن يكون جميع ما رزقهم اللَّه حلالا، و هو واضح.

و استدلّ بعض أصحابنا بما رواها العامة و الخاصّة من خطبته صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم في حجّة الوداع و هي صريحة غير قابلة للتّأويل. و رواها الكلينيّ باسناده إلى الامام أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه السّلام قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم في حجّة الوداع: ألّا إنّ الرّوح الأمين نفث في روعى أنه لا تموت نفس حتّى تستكمل رزقها، فاتّقوا اللَّه و أجملوا في الطلب و لا يحملنكم استبطاء شي‏ء من الرّزق أن تطلبوه بشي‏ء من معصية اللَّه، فانّ اللَّه تعالى قسّم الأرزاق بين خلقه حلالا و لم يقسّمها حراما، فمن اتّقى اللَّه و صبر أتاه رزقه من حلّه، و من هتك حجاب ستر اللَّه و عجّل و أخذه من غير حلّه قصّ به من رزقه الحلال و حوسب عليه يوم القيامة، هذا.

و بقى الكلام في أنّ الرزق هل يقبل الزيادة و النّقصان بالسّعى و عدمه ظاهر بعض الأخبار العدم، و هو ما رواه في الكافى باسناده إلى أمير المؤمنين عليه السّلام أنه قال: ايّها النّاس اعلموا أنّ كمال الدّين طلب العلم و العمل به ألا و إنّ طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال إنّ المال مقسوم مضمون لكم قد قسّمه عادل بينكم و ضمنه و سيفى لكم، و العلم مخزون عند أهله و قد امرتم بطلبه من أهله فاطلبوه.

و في دعاء الصّحيفة السجادية على صاحبها آلاف الصّلاة و السّلام و التّحية جعل لكلّ روح منهم قوتا معلوما مقسوما من رزقة لا ينقص من زاده ناقص و لا يزيد من نقص منهم زائد، يعنى أنّ من زاد اللَّه رزقه منهم لا ينقصه ناقص، و من نقصه سبحانه‏ لا يزيده زايد، و تقديم المفعول في الفقرتين لمزيد الاعتناء ببيان فعله من الزيادة و النقصان و هو نصّ في أنّ غيره تعالى لا يستطيع أن يتصرّف في الرزق المقسوم بالزيادة و النّقص.

و في رواية اخرى: إنّ أرزاقكم تطلبكم كما تطلبكم آجالكم فلن تفوتوا الأرزاق كما لم تفوتوا الآجال.

و المستفاد من الأدلّة الاخر مدخلية الطلب و السّعى فيها، مثل ما رواه في الوسائل من كنز الفوائد للكراجكى قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: الدّنيا دول فاطلب حظك منها بأجمل الطلب.

و فيه عن شيخنا الطوسي قدّس اللَّه روحه باسناده عن عليّ بن عبد العزيز قال: قال أبو عبد اللَّه عليه السّلام: ما فعل عمر بن مسلم قلت: جعلت فداك أقبل على العبادة و ترك التجارة، فقال: ويحه أما علم أنّ تارك الطلب لا يستجاب له دعوة، إنّ قوما من أصحاب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم لما نزلت: وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ.

اغلقوا الأبواب و أقبلوا على العبادة و قالوا: قد كفينا، فبلغ ذلك النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم فأرسل اليهم فقال: ما حملكم على ما صنعتم فقالوا: يا رسول اللَّه تكفّل اللَّه لنا بأرزاقنا فأقبلنا على العبادة، فقال: إنّه من فعل ذلك لم يستجب له عليكم بالطلب.

و عن الكلينيّ باسناده عن عمر بن يزيد قال: قال أبو عبد اللَّه عليه السّلام: أرأيت لو أنّ رجلا دخل بيته و أغلق بابه أ كان يسقط عليه شي‏ء من السّماء و عن أحمد بن فهد في عدّة الدّاعي عن عمر بن يزيد عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: إنى لأركب في الحاجة التي كفانيها اللَّه، ما أركب فيها إلّا لالتماس أن يراني اللَّه اضحى في طلب الحلال أما تسمع قول اللَّه عزّ و جلّ: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ‏ أرأيت لو أنّ رجلا دخل بيتا و طين عليه بابه و قال: رزقى ينزل علىّ كاين يكون هذا أما أنّه يكون أحد الثّلاثة الذين لا يستجاب لهم دعوة، قلت: من هؤلاء قال عليه السّلام: رجل عنده المرأة فيدعو عليها فلا يستجاب له، لأنّ عصمتها في يده و لو شاء أن يخلّى سبيلها، و الرّجل يكون له الحقّ على الرجل فلا يشهد عليه فيجحد حقّه فيدعو عليه فلا يستجاب له لأنّه ترك ما امر به، و الرجل يكون عنده الشّي‏ء فيجلس في بيته فلا ينتشر و لا يطلب و لا يلتمس الرّزق حتّى يأكله فيدعو فلا يستجاب له، و بمعناها روايات اخر.

و يمكن الجمع بينها و بين الأخبار السّابقة بجعل الرزق على قسمين: أحدهما ما ليس للطلب و السعى مدخلية فيه، و الثاني ما لا ينال إلّا بالطلب فيحمل الأخبار السّابقة على القسم الأوّل، و الأدلّة الأخيرة على القسم الثّاني.

و يشهد على هذا الجمع ما رواه في الوسائل من مقنعة المفيد قال: قال الصادق عليه السّلام: الرزق مقسوم على ضربين: أحدهما و اصل إلى صاحبه و إن لم يطلبه، و الآخر معلّق بطلبه فالذى قسّم للعبد على كلّ حال آتيه و إن لم يسع له و الذي قسّم له بالسّعى فينبغي أن يلتمسه من وجوهه و هو ما أحلّه اللَّه دون غيره، فان طلبه من جهة الحرام فوجده حسب عليه برزقه و حوسب به.

(و نهج سبيل الراغبين إليه و الطالبين ما لديه) كما قال سبحانه: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً.

أراد أنّه تعالى أوضح السّبيل للراغبين إلى النظر إلى وجهه الكريم، و الطالبين لما عنده من الفوز العظيم بما وضعه لهم من الشرع القويم و الدين المستقيم (و ليس بما سئل بأجود منه بما لم يسأل) تنزيه له سبحانه عن صفات الخلق فانّهم يتحركون بالسؤال و تهزهم الطلبات فيكونون بما سألهم السائل أجود منهم بما لم يسألوا، لكونه أسهل عندهم و أقرب إلى الانجاح، إذ السائل لا يسأل ما ليس في وسع المسئول عنه و ما هو أعزّ عنده و لذلك كانوا بما سئلوا أجود، و أما اللَّه تبارك و تعالى‏ فليس في عموم جوده و خزانة كرمه تفاوت بين المسئول و غير المسئول.

بيان ذلك على ما حقّقه الشّارح البحراني (ره) أنّ فيضان ما صدر عنه سبحانه له اعتبار ان: أحدهما بالنظر إلى جوده، و هو من تلك الجهة غير مختلف في جميع الموجودات بل نسبتها إليه على سواء بذلك الاعتبار فلا يقال: هو بكذا أجود منه بكذا و إلّا لاستلزم ذلك أن يكون ببعض الأشياء أبخل أو اليها أحوج فيلزمه النقصان تعالى اللَّه عن ذلك علوّا كبيرا.

الثّانى بالنظر إلى الممكن نفسه، و الاختلاف الواقع في القرب و البعد إلى جوده إنّما هو من تلك الجهة فكلّ ممكن كان أتمّ استعدادا و أقبل للوجود و أقلّ شرطا و معاندا كان أقرب إلى جوده.

إذا عرفت ذلك ظهر لك أنّ السّائل إن حصل له ما سأله من اللَّه دون ما لم يسأل فليس حرمانه مما لم يسأل لعزّته عند اللَّه، و ليس بينه و بين المسئول بالنسبة إلى جوده تفاوت، بل إنّما خصّ بالمسئول لوجوب وجوده له عند تمام قبوله له بسؤاله دون ما لم يسأله و لو سأل ما لم يسأله و استحقّ وجوده لما كان في الجود الالهى بخل به و لا منع في حقه، و ان عظم خطره و جلّ قدره و لم يكن له أثر نقصان في خزائن ملكه و عموم جوده.

(الأوّل الذي لم يكن له قبل فيكون شي‏ء قبله، و الآخر الذى ليس له بعد فيكون شي‏ء بعده) قد سبق في شرح الخطبة الرابعة و الستين معنى أوليّته و آخريته تعالى و ظهر لك هناك أن أوليّته لا ينافي آخريّته، و آخريّته لا ينافي أوليّته و نزيد هنا بيانا و نقول: إنّ الأشياء في سلسلة الوجود بداية و نهاية منتهية إليه سبحانه، فهو أوّل الأشياء و آخرها ليس شي‏ء قبله و لا شي‏ء بعده.

قال النيسابوري في تفسيره: معنى الأول و الآخر أنه أوّل في ترتيب الوجود و آخر إذا عكس الترتيب، فانه ينطبق على السلسلة المترتبة من العلل إلى المعلولات و من الأشرف إلى الأخسّ و على الاخذ من الوحدة إلى الكثرة مما يلي الأزل‏ إلى ما يلي الأبد و مما يلي المحيط إلى ما يقرب من المركز، فهو تعالى أوّل بالترتيب الطبيعى و آخر بالترتيب المنعكس، انتهى.

و مراده بالترتيب المنعكس أنّ الأشياء إذا نسبت إلى أسبابها وقفت عنده، و ذلك انّك إذا نظرت إلى وجود شي‏ء و فتّشت عن سببه ثمّ عن سبب سببه و هكذا فتنتهى بالأخرة إليه تعالى، لأنّه آخر ما ينحلّ إليه اجتماع أسباب الشّي‏ء، فظهر بذلك أن كونه أوّلا و آخرا إنّما هو بالنّظر إلى ذاته المقدّس لا باعتبار تقدّمه زمانا و تأخّره زمانا، لكون الزمان متأخّرا عنه تعالى إذ هو من لواحق الحركة المتأخّرة عن الجسم المتأخّر عن علّته، فلا يلحقه القبليّة و البعديّة الزمانية فضلا أن تسبق عليه أو تلحق به، فلم يكن شي‏ء قبله و لا بعده لا من الزمانيات و لا من غيرها.

و ذكر الشّارح المعتزلي في المقام وجها آخر و هو أن يكون المراد أنه الذى لم يكن محدثا أى موجودا قد سبقه عدم فيقال إنه مسبوق بشي‏ء من الأشياء اما المؤثر فيه او الزمان المقدّم عليه و أنه ليس بذات يمكن فناؤها و عدمها فيما لا يزال فيقال إنه ينقضي و ينصرف فيكون بعده شي‏ء من الأشياء الزمان أو غيره.

(و الرادع اناسىّ الأبصار عن أن تناله أو تدركه) أراد به امتناع رؤيته سبحانه لكونه تعالى منزها عن الجهة و المكان، و الباصرة لا تتعلّق إلّا بما كان فيهما و قد تقدّم تفصيل ذلك و تحقيقه بما لا مزيد عليه في شرح الخطبة التاسعة و الأربعين و هذا اللّفظ و إن كان بظاهره يعطي مذهب الأشاعرة من أنّ اللَّه يجوز إداركه و رؤيته و لكنه خلق في الأبصار مانعا عن إدراكه، إلّا أنّه لا بدّ من تأويله و حمله على ما ذكرنا بعد قيام الأدلّة القاطعة من العقل و النقل على استحالة إدراكه من حيث ذاته.

(ما اختلف عليه دهر فيختلف منه الحال) أراد بذلك كونه منزّها عن لحوق الزمان و عن التغيّرات الجارية على الزّمانيات فانّ مبدء التّغيرات و الاختلاف في الأحوال هو الزمان، فلما كان متعاليا عن الزمان كان منزّها عن اختلاف الحالات الذي هو من لواحق الامكان.

و يوضح ذلك ما رواه في الكافي باسناده عن ابن أبي يعفور قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السّلام عن قول اللَّه عزّ و جلّ: هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ.

و قلت: أمّا الأوّل فقد عرفناه، و أمّا الآخر فبيّن لنا تفسيره، فقال: إنه ليس شي‏ء إلّا يبيد أو يتغيّر أو يدخله التغيّر و الزوال أو ينتقل من لون إلى لون و من هيئة إلى هيئة و من صفة إلى صفة و من زيادة إلى نقصان و من نقصان إلى زيادة إلّا ربّ العالمين فانّه لم يزل و لا يزال بحالة واحدة، هو الأوّل قبل كلّ شي‏ء و هو الآخر على ما لم يزل، و لا يختلف عليه الصفات و الأسماء كما تختلف على غيره مثل الانسان الذي يكون ترابا مرّة، و مرّة لحما و دما و مرّة رفاتا و رميما، و كالبسر الذي يكون مرّة بلحا«»، و مرّة بسرا، و مرّة تمرا، فتتبدّل عليه الأسماء و الصّفات و اللَّه عزّ و جلّ بخلاف ذلك.

(و لا كان في مكان فيجوز عليه الانتقال) أراد بذلك تنزيهه عن الكون في المكان لاستلزامه الافتقار الذي هو من صفات الامكان و إذا لم يكن في مكان فلا يجوز عليه الانتقال منه إلى غيره، إذ جواز الانتقال انما هو من شأن ذي المكان بل: هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ.

و نسبة جميع الأمكنة إليه تعالى على سواء: وَ هُوَ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ.

و قد مرّ تحقيق ذلك في شرح الفصل الخامس و السّادس من فصول الخطبة الأولى فتذكر.

(و لو وهب ما تنفّست عنه معادن الجبال و ضحكت عنه أصداف البحار من‏ فلزّ اللّجين و العقيان و نثارة الدّر و حصيد المرجان ما أثّر ذلك في جوده) أشار عليه السّلام بذلك إلى سعة جوده سبحانه و عموم كرمه و كمال قدرته و عدم تناهي مقدوراته، و لا يخفى ما فيه من فخامة اللفظ مع عظم المعنى، حيث إنه عليه السّلام شبّه المعادن بحيوان يتنفّس فيخرج من جوفه الهواء، و كذلك المعادن يخرج من بطونها الفلزات، ثمّ شبّه الأصداف بانسان يضحك و أثبت لها الضّحك بملاحظة أنّ الصّدف أوّل ما ينشقّ و ينفتح و يبد و منه اللؤلؤ يشبه بفم الانسان الضاحك و اللؤلؤ فيه يشبه بالاسنان و اللّحمة فيه تشبه اللّسان في رقّة طرفه و لطافته.

و لما ذكر ما يخرج من المعادن و الأصداف مجملا، فصّل بقوله: من فلزّ اللّجين و العقيان، و هو تفسير لما يخرج من معادن الجبال و إنما خصّهما بالذكر مع عدم الاختصاص لأنّهما أعظم ما يتنافس فيه المتنافسون و يغتنمه أبناء الزمان، و لا عبرة بالنحاس و الرّصاص و نحوهما في جنبهما.

و بقوله: و نثارة الدّر و حصيد المرجان، و هو بيان لما يخرج من الأصداف و الدّر كبار اللؤلؤ و المرجان صغاره و لصغره شبهه عليه السّلام بالحبّ الحصيد و ربما يطلق المرجان على الخرز الأحمر المعروف قال الشاعر:

         أدمى لها المرجان صفحة خدّه            و بكى عليها اللّؤلؤ المكنون‏

هو خرز يخرج من البحر أيضا، و ربما فسّر به قوله: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ… يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ.

و لكنه ليس مرادا في كلام الامام عليه السّلام و لا يمكن حمله عليه كما هو ظاهر.

و كيف كان فالمقصود أنه سبحانه لو بذل جميع ما في الأرض من الكنوز و المعادن البرّية و البحرية لأحد لم يؤثر ذلك في جوده (و لا أنفد سعة ما عنده) من خزائن كرمه (و لكان عنده من ذخائر الأنعام ما لا تنفده مطالب الأنام) و ذلك لعدم إمكان إحصاء ما عنده بعدّ، و عدم وقوفه و انتهائه إلى حدّ (لأنه الجواد الذي‏ لا يغيضه سؤال السّائلين و لا يبخله الحاح الملحّين) يعنى لا يوجب سؤال السّائلين على كثرته نقصانا في جوده و لا إصرار المصرّين بخلا في كرمه، لأنّ البخل و النقصان من توابع المزاج و لو احق الامكان، و هو منزّه عن ذلك بالضرورة و العيان، بل عنده نيل السؤلات و إنجاح الحاجات، و ما يسأله السائلون على كثرته يسير في جوده، و ما يستوهبه الطالبون على خطره حقير في وسعه و كرمه لا يضيق عن سؤال أحد، و يده بالعطاء أعلى من كلّ يد.

الترجمة

از جمله خطب آن حضرتست كه معروف است بخطبه اشباح، و اين از خطبه هاى جليله او است و بود سؤال نمود سائلى از او اين كه وصف كند پروردگار عالم را از براى او باندازه كه گويا آنرا آشكارا مى ‏بيند پس غضب كرد آن حضرت از اين جهة و فرمود: حمد و ثنا خدائى را سزاست كه بسيار نمى ‏گرداند مال او را منع و امساك نمودن، و كم نمى‏ گرداند عطاء او را بذل و بخشش كردن از جهت اين كه هر عطا كننده كم كننده است مال خود را سوى او، و هر منع نماينده مذموم است غير از حضرت او سبحانه.

او است بسيار احسان كننده بفوايد نعمتها و بمنفعتهاى زايده و قسمتهاى مقدره، عيال او است مخلوقات، ضامن شده است بروزيهاى ايشان و مقدر فرموده است قوتهاى ايشان را، واضح نموده است راه راغبان را بسوى خود و راه طالبان را به آن چه نزد او است، و نيست او به آن چه كه سؤال كرده شده با جودتر از او به آن چه كه درخواسته نشده.

أوّلى است كه نيست او را پيش تا اين كه باشد چيزى قبل از او، و آخرى است كه نيست او را بعد تا اين كه شود چيزى پس از آن، منع كننده است مردمك هاى ديده‏ها را از اين كه برسد بذات او يا درك نمايد او را، مختلف نشده است بر او روزگار پس مختلف شود از او حال، و نبوده است در مكان تا جايز باشد براو انتقال.

و اگر ببخشد آنچه كه نفس كشيده است از او معدنهاى كوهها و خنديده است از او صدفهاى درياها كه عبارت باشد از گداخته نقره و طلا و از پاشيده درّ در ديده مرجان، اثر نمى‏كند اين همه در جود واجب الوجود، و تمام نمى‏سازد وسعت آنچه را كه نزد او است، و هر آينه هست نزد او از ذخيرهاى نعمت‏ها آن قدرى كه بپايان نمى‏رساند آنرا مطلوبهاى خلايق از جهت آنكه او است جواد و بخشنده كه ناقص نمى‏نمايد جود او را سؤال سؤال كننده‏ها، و بخيل نمى‏سازد او را اصرار و مبالغه نمودن مبالغه كننده‏ها.

الفصل الثاني

فانظر أيّها السّائل فما دلّك القرآن عليه من صفته فائتمَّ به، و استضي‏ء بنور هدايته، و ما كلّفك الشّيطان علمه ممّا ليس في الكتاب عليك فرضه، و لا في سنّة النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و أئمّة الهدى أثره، فكل علمه إلى اللَّه سبحانه، فإنّ ذلك منتهى حقّ اللَّه عليك، و اعلم أنّ الرّاسخين في العلم هم الّذين أغناهم عن اقتحام السّدد المضروبة دون الغيوب، الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فمدح اللَّه اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما، و سمّى تركهم التعمّق فيما لم يكلّفهم البحث عن كهنه رسوخا، فاقتصر على ذلك، و لا تقدّر عظمة اللَّه سبحانه على قدر عقلك، فتكون من الهالكين.

هو القادر الّذي إذا ارتمت الأوهام لتدرك منقطع قدرته، و حاول الفكر المبرّء من خطرات الوساوس أن يقع عليه في عميقات غيوب ملكوته، و تولّهت القلوب إليه لتجري في كيفيّة صفاته، و غمضت مداخل العقول في حيث لا تبلغه الصّفات لتنال علم ذاته، ردعها و هي تجوب مهاوي سدف الغيوب، متخلّصة إليه سبحانه فرجعت إذ جبهت معترفة بأنّه لا ينال بجور الاعتساف كنه معرفته، و لا تخطر ببال أولي الرّويّات خاطرة من تقدير جلال عزّته، الّذي ابتدع الخلق على غير مثال امتثله، و لا مقدار احتذى عليه، من خالق معبود كان قبله، و أرانا من ملكوت قدرته و عجايب ما نطقت به آثار حكمته و اعتراف الحاجة من الخلق إلى أن يقيمها بمساك قوّته، ما دلّنا باضطرار قيام الحجّة له على معرفته، و ظهرت في البدائع الّتي أحدثها آثار صنعته، و أعلام حكمته، فصار كلّ ما خلق حجّة له، و دليلا عليه، و إن كان خلقا صامتا فحجّته بالتّدبير ناطقة، و دلالته على المبدع قائمة. و أشهد أنّ من شبّهك بتباين أعضاء خلقك، و تلاحم حقاق مفاصلهم المحتجبة لتدبير حكمتك، لم يعقد غيب ضميره على معرفتك، و لم يباشر قلبه اليمين «اليقين خ» بأنّه لا ندَّ لك، و كأنّه لم يسمع تبرّء التّابعين‏ من المتبوعين، إذ يقولون: «تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ، إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ» كذب العادلون بك إذ شبّهوك بأصنامهم، و نحلوك حلية المخلوقين بأوهامهم، و جزّأوك تجزئة المجسّمات بخواطرهم، و قدّروك على الخلقة المختلفة القوى بقرائح عقولهم، و أشهد أنّ من ساواك بشي‏ء من خلقك فقد عدل بك، و العادل بك كافر بما تنزّلت به محكمات آياتك، و نطقت عنه شواهد حجج بيّناتك، و أنّك أنت اللَّه الّذي لم تتناه في العقول فتكون في مهبّ فكرها مكيفا، و لا في رويّات خواطرها فتكون محدودا مصرّفا.

اللغة

(رسخ) في العلم يرسخ من باب منع رسوخا إذا ثبت فيه و (الاقتحام) الدّخول في الشّي‏ء مغالبة و بشدّة من غير رويّة و (السّدد) جمع السدّة كغرف و غرفة و هي كالسّقيفة فوق باب الدار ليقيها من المطر، و قيل: هي الباب نفسه و منه حديث أمّ سلمه أنّها قالت لعايشة لما أرادت الخروج إلى البصرة إنّك سدّة بين رسول اللَّه و بين امّته فمتى اصيب ذلك الباب شي‏ء فقد دخل على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم في حريمه.

و (التعمّق) في الأمر المبالغة لطلب أقصى غايته و (ارتمى) القوم بالنّبل اى تراموا و (خطرات الوساوس) ما تقع في البال و في بعض النسخ خطر الوساوس و هو بسكون الطاء الهاجس«» كالخاطر و (تولّهت) القلوب إليه أصابها الوله‏ و هو بالتحريك التحيّر أو ذهاب العقل و (غمض) الحق غموضا من باب قعد خفى مأخذه و غمض بالضم لغة و (علم ذاته) قال الشّارح المعتزلي: أنكر قوم جواز إطلاق الذّات على اللَّه سبحانه لأنّها لفظة تأنيث و الباري سبحانه منزّه عن الأسماء و الصّفات المؤنثة، و أجاز آخرون إطلاقها عليه و استعمالها فيه لوجهين: أحدهما أنها جاءت في الشعر القديم قال جنيب الصخار عند صلبه:

و ذلك في ذات الاله و ان يشاء
يبارك على أوصال شلو«» موزّع«»

و يروى ممرّغ أى مفرّق و قال النابغة:

محلّتهم ذات الاله و دينهم
قديم فما يخشون غير العواقب‏

و الثّاني أنها لفظة اصطلاحية لأنها على مؤنّث لكنها تستعمل ارتجالا في مسمّاها الذي عبّر عنه بها أرباب النّظر الالهى كما استعملوا لفظ الجوهر و العرض في غير ما كان أهل اللّغة يستعملونها فيه.

و (جاب) الأرض يجوبها جوبا قطعها و (المهاوى) جمع المهواة و هي ما بين الجبلين و (السّدف) جمع السدفة و هي الظلمة و (جبهه) كمنعه ضرب جبهته و ردّها و (عسف) عن الطّريق مال و عدل كاعتسف و تعسّف أو خبط على غير هداية و (المثال) المقدار يقال: هذا على مثاله أى على اره و صفة الشي‏ء يقال هذا على مثال ذاك أى على صفته و (امتثله) و تمثّل به أى اقتداه و اتّبعه يقال: امتثل طريقته إذا تبعها فلم يعدها و (حذا) النعل بالنعل أى قطعها و قدرها عليها و حذا حذو زيد إذا فعل فعله.

و (المساك) ما يمسك به و (التلاحم) كالالتحام التلائم و الالتئام لفظا و معنى يقال: تلاحم الجرح و التحم للبرء إذا التأم و (الحقاق) جمع حقه يقال: إنه لنزع الحقاق أى منازع في صغار الأشياء مأخوذ من حقاق العرفط«» و هي صغاره‏ و (المحتجبة) بصيغة المفعول المستترة أى المستورة و في أكثر النسخ بصيغة الفاعل أى المتخذة لأنفسها حجابا ففائدة الافتعال الاتحاد و (اليمين) إما بمعنى القوّة أو بمعنى القسم و في بعض النسخ اليقين بدله و هو أظهر إلّا أنّ الأوّل أبلغ كما تطلع عليه و (النّد) المثل و (العادلون بك) من العدل و هو المثل و النظير و منه: عدلوا باللّه، أى أشركوا و جعلوا له مثلا و (النحلة) النسبة بالباطل و منه انتحال المبطلين و (الخلقة) بالكسر الفطرة كالخلق.

الاعراب

الاقرار بالضمّ فاعل أغناهم، و علما منصوب على التميز، و رسوخا مفعول ثان لسمّى، و ردعها جواب اذا ارتمت، و جملة و هي تجوب في محل النصب على الحال و العامل ردع، و متخلّصة حال أيضا إما من مفعول ردع أو فاعل تجوب، و معترفة حال من فاعل رجعت، و من خالق متعلّق بمقدّر صفة بمقدار أى صادر من خالق أو مأخوذ من خالق.

و جملة و أرانا عطف على ابتدع، و اعتراف بالجرّ عطف على عجائب، و إلى أن متعلّق بالحاجة، و ما دلّنا مفعول ثان لأرانا، و جملة و ظهرت عطف على ابتدع أيضا، و لم يعقد بالبناء على الفاعل خبران، و غيب ضميره بالنصب مفعوله، و في بعض النسخ بالبناء على المفعول فيكون غيب ضميره بالرفع سادا مسدّ الفاعل و الباء في قوله بما تنزّلت سببية.

المعنى

اعلم أنه عليه السّلام لما حمد اللَّه سبحانه و أثنى عليه في الفصل السّابق بما يليق ذاته تعالى من صفات الجمال و نعوت الجلال، عقّبه بهذا الفصل المتضمّن لتنبيه السّائل على خطائه في سؤاله الناشي عن توهّمه جواز معرفة اللَّه سبحانه على وجه تكون بمنزلة الرّؤية بالعيان، و لما كان ذلك محالا في حقّ اللَّه القدّوس السّبوح السّبحان أوجب ذلك السؤال غضبه و تغيّر لونه عليه السّلام كما تقدّم ذكره سابقا.

و هذا الفصل مشتمل على مقاصد ثلاثة.

المقصد الاول

متضمّن لتأديب السّائل و لساير النّاس من الحاضرين و الغائبين في وصفهم للّه سبحانه و لتعليمهم كيفية السلوك في مدح اللَّه و الثناء عليه بما هو أهله، و للنّهي عن التعمّق و الخوض في ذات اللَّه و صفاته، و التّكلف فيها بما فوق الاستطاعة، و الخطاب فيه و إن كان مخصوصا بالسّائل إلّا أنّه عام لجميع النّاس، إذا لعبرة بعموم الغرض لا بخصوص الخطاب و المخاطب و لذلك نادى: الصّلاة جامعة و قصد اجتماع النّاس.

و كيف كان و إلى ما ذكرنا نبّه بقوله: (فانظر أيّها السّائل فما دلّك القرآن عليه من صفته فائتمّ به و استضي‏ء بنور هدايته) أمر عليه السّلام بالرّجوع إلى القرآن الكريم و الكتاب الحكيم و الاقتداء به و الاستضائة بأنوار هدايته و الأخذ بأوصاف القدس و الجلال و نعوت العظمة و الكمال المدرجة فيه، فانه أدلّ دليل و أوضح سبيل و هو كلام الحقّ سبحانه و هو أعلم بصفاته من غيره فما وصف به فيه نفسه فهو الحقّ أحقّ أن يتّبع، و ما نزّه ذاته عنه فهو الباطل ينبغي تنزيهه منه.

 إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ.

و قد دلّت الآيات الكريمة على أنّه تعالى ربّ، رحمان، رحيم، شهيد، عليم، حكيم، قادر، قاهر، قديم، خالق، رازق، كريم، سميع، بصير، خبير، غفور، شكور، مجير، عزيز، متكبّر، جبار، قوى، منتقم، قهار، إلى غير هذه ممّا فيها من الأسماء الحسنى و الأمثال العليا، و قد تضمّنت مضافا إلى ذلك أنه «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ» «وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً» «وَ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ».

فانّ هذه الآيات الثلاث نصّ في عدم إمكان معرفته حقّ المعرفة و عدم جواز إدراكه‏ بالأبصار و بمشاهدة العيان أما الاية الاولى فظاهرة و أما الثانية فلأنّ كلّ من أبصر شيئا فقد أحاط به علما لا خلاف لأحد فيه و أما الثالثة فلأنّ الابصار عبارة عن حصول صورة الشي‏ء في حسّ البصر فما لا مثل له لا يمكن حصول صورته في الحسّ و حيث إنه ليس كمثله شي‏ء امتنع تعلّق الأبصار به فظهر من كلّ ذلك بطلان ما توهّمه السّائل.

و نظير إرشاده عليه السّلام للسّائل إلى الرجوع إلى القرآن و الائتمام به إرشاد أبي الحسن الرّضا عليه السّلام لأبي هاشم الجعفري إلى الرجوع إليه و الأخذ به على ما رواه في الكافي عن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد عن أبي هاشم الجعفري عن أبي الحسن الرّضا عليه السّلام قال: سألته عن اللَّه هل يوصف فقال عليه السّلام: أما تقرء القرآن قلت: بلى، قال: أما تقرء قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ.

قال: فتعرفون الأبصار قلت: بلى، قال: ما هي قلت: أبصار العيون قال عليه السّلام: إنّ أوهام القلوب أكبر من أبصار العيون، فهو لا يدركه الأوهام و هو يدرك الأوهام.

فانّ السّائل لما استفهم عن جواز وصفه تعالى بالرّؤية أراد عليه السّلام التنبيه و الارشاد له على نفي الرّؤية مطلقا عنه تعالى بآية القرآن، و لما ظهر من حال السّائل أنه قرء القرآن و قرء قوله تعالى: لا تدركه الأبصار، و لم يعرف من الأبصار إلّا أبصار العيون عرّفه عليه السّلام أنّ أوهام القلوب أكبر و أقوى في باب الادراك من أبصار العيون، لسعة دائرة الاولى و قصور دائرة الثانية من حيث إنّ الوهم رئيس الحواس الظّاهرة و الباطنة و مستخدمها و مستعملها، كما أنّ القلب أعنى العقل رئيس الوهم و مخدومه، فالأولى أن يكون معنى الآية لا تدركه الأوهام ليدلّ على نفي الادراك مطلقا إذ كلّ ما يدركه الوهم لا يدركه البصر بخلاف العكس.

و في الكافي باسناده عن عبد الرحيم بن عتيك القصير قال: كتبت على يدي عبد الملك بن أعين إلى أبي عبد اللَّه عليه السّلام: إنّ قوما بالعراق يصفون اللَّه تعالى‏ بالصورة و التخطيط، فان رأيت جعلنى اللَّه فداك أن تكتب إلىّ بالمذهب الصحيح من التّوحيد فكتب إلىّ: سألت رحمك اللَّه عن التّوحيد و ما ذهب إليه من قبلك فتعالى اللَّه الذي ليس كمثله شي‏ء و هو السّميع البصير، تعالى عما يصفه الواصفون المشبّهون للّه بخلقه المفترين على اللَّه، فاعلم رحمك اللَّه أنّ المذهب الصحيح في التّوحيد ما نزل به القرآن من صفات اللَّه تعالى، فانف عن اللَّه تعالى البطلان و التشبيه فلا نفى و لا تشبيه هو اللَّه الثابت الموجود تعالى اللَّه عمّا يصفه الواصفون و لا تعدّوا القرآن فتضلّوا بعد البيان.

قال صدر المتألهين: في شرح الحديث: قوله عليه السّلام: فانف عن اللَّه البطلان و التشبيه أمر بنفى التعطيل و التشبيه فان جماعة ارادوا تنزيه اللَّه عن مشابهة المخلوقات فوقعوا في التعطيل و نفي الصفات رأسا و جماعة اخرى أرادوا أن يصفوه بصفاته العليا و أسمائه الحسنى فأثبتوا له صفات زايدة على ذاته فشبّهوه بخلقه فأكثر النّاس إلّا القليل النادر منهم بين المعطل و المشبّه.

قوله عليه السّلام: فلا نفي و لا تشبيه، أى يجب على المسلم أن لا يقول بنفى الصفات و لا باثباتها على وجه التشبيه، و قوله: هو اللَّه الثابت الموجود، إشارة إلى نفي التعطيل و البطلان، و قوله تعالى عمّا يصفه الواصفون إشارة إلى نفي التشبيه، فانّ الواصفين هم الذين يصفون اللَّه بصفات زايدة و يقال لهم: الصّفاتية و كلُ من أثبت للّه صفة زايدة فهو مشبّه لا محالة.

و قوله عليه السّلام: فلا تعدّوا القرآن فتضلّوا بعد البيان، أى فلا تجاوزوا ما في القرآن بأن تنفوا عن اللَّه ما ورد في القرآن حتّى تقعوا في ضلالة التعطيل و اللَّه يقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ‏ءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أو تثبتو اللَّه من الصّفات ما يجب التنزيه عنها حتّى تقعوا في زيغ التشبيه و اللَّه يقول: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ هذ.

و لما أمر عليه السّلام بالرجوع إلى القرآن و الاقتداء به و الاستضائة بأنواره و الأخذ بما ورد فيه من صفات الحقّ تعالى شأنه و تقدّس ذاته أردفه بقوله: (و ما كلّفك الشّيطان علمه ممّا ليس في الكتاب عليك فرضه و لا في سنّة النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و أئمة الهدى أثره فكل علمه إلى اللَّه سبحانه فانّ ذلك منتهى حقّ اللَّه عليك) و مراده عليه السّلام بذلك المنع من تكلّف ما لم يفرض علمه على المكلّفين، و الرّدع عن الخوض فيما لم يثبت وجوب معرفته على العباد في الكتاب المبين، و لا في سنّة النّبيّ الأمين و أئمة الدّين سلام اللَّه عليهم أجمعين معلّلا بأنّ منتهى حقّ اللَّه على العباد أن يقولوا بما دلّ عليه القرآن، و يصفوه بالأوصاف الثّابتة في الفرقان، و ينتهوا عما رفع علمه عنهم و يكلوا علمه و يفوّضوه إلى اللَّه السّبحان مشيرا إلى أن تكلّف ما يزيد على ذلك من تكليفات الشّيطان اللّعين و تدليساته و وساوسه ليضلّ به عن النهج القويم و الصّراط المستقيم.

و ان شئت توضيح ذلك فأقول: إنّ الكتاب الكريم قد دلّ على أنّه سبحانه عالم و أنه بكلّ شي‏ء محيط، فيجب لنا الاذعان بذلك و عقد القلب عليه، و أمّا البحث عن كيفيّة علمه و أنه على أىّ نحو هو فلا يجب علينا، و ربما يؤدّى التعمق فيه إلى الضّلال كما ضلّ فيه كثير من الحكماء.

فمنهم من تحيّر في معرفته فنفاه رأسا، و منهم من ضاق به الخناق إلى الاطلاق فنفى علمه بالجزئيات، و منهم من قرّره على وجه أوجب القول بكون الذّات فاعلا و قابلا و بكونه متّصفا بصفات غير سبلبية و لا اضافية إلى غير ذلك من المفاسد التي نشأت من كثرة البحث فيه على ما مرّ تفصيلا في تنبيه الفصل السّابع من فصول الخطبة الاولى.

و كذلك قد ورد في القرآن أنّه تعالى خالق الأشياء و مبدعها، فيجب لنا الاعتقاد به و ليس بفرض علينا أن نتكلّف البحث في كيفيّة الخلقة حتّى نقع في‏ الضلال البعيد كما وقع فيه الفلاسفة المثبتة للعقولات العشرة المبتنية على ما ذهبوا إليه من أنّ الواحد لا يصدر منه إلّا الواحد، فانّهم لمّا ذهبوا إلى أنّ الواحد لا يصدر منه إلّا الواحد ألجأهم ذلك و اضطرّهم إلى القول بالعقولات مع أنه مخالف لاصول الشّريعة و لم يرد به كتاب و لا سنّة.

و هكذا البحث و التعمق في ساير الصفات، و مثله البحث في متشابهات الآيات مثل قوله سبحانه: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى‏ و قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا.

و غير ذلك، فالواجب في كلّ ذلك و كول علمه إلى اللَّه سبحانه و ردّه عليه كما أبان عنه الكتاب العزيز في سورة آل عمران حيث قال: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ.

روى أبو بصير عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: سمعته يقول: إنّ القرآن زاجر و آمر يأمر بالجنّة و يزجر عن النّار و فيه محكم و متشابه، فأمّا المحكم فيؤمن به و يعمل به و يدين به و أمّا المتشابه فيؤمن به و لا يعمل به و هو قول اللَّه: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ الآية هذا.

(و اعلم أنّ الرّاسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السّدد المضروبة دون الغيوب الاقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب) يعني أنّ‏الرّاسخين في العلم إذا وصلوا إلى المتشابهات و إلى ما جهلوا كشف القناع و الغطاء عنها وقفوا عندها و اعترفوا بها إجمالا كما حكى اللَّه عنهم بقوله: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا.

و لا يتعدّون عن ذلك حتى يقتحموا في المهالك.

فان قلت: من المراد بالرّاسخين في العلم و ما المراد بالغيب المحجوب و ما ذا أراد عليه السّلام بالسّدد المضروبة دون الغيوب قلت: أما الرّاسخون في العلم فهم الثابتون فيه و الضابطون له كأئمة الدّين و أولياء اليقين الحاملين لأسرار النّبوة و أعباء الولاية و بعض خواصّهم المقتبسين من أنوار الهداية و المهتدين بنور الامامة.

و أمّا المراد بالغيب المحجوب فهو ما غاب عن الخلق علمه و خفى مأخذه إما لعدم الاستعداد و القابليّة و قصور الطبيعة عن الادراك كذات اللَّه و صفاته الذّاتية، و إمّا لاقتضاء الحكمة و المصلحة للاخفاء، كعلم السّاعة و ما في الأرحام و نحوهما ممّا حجب اللَّه علمه عن العباد، و من ذلك القبيل الآيات المتشابهة.

و أمّا المراد بالسّدد المضروبة فهي الحجب المانعة من الوصول إلى الغيب، و هي بالنسبة إلى الغيب المحجوب بها على قسمين: احدهما ما هي قابلة للارتفاع إمّا بالرّياضيات و المجاهدات كما يحصل للبعض فيعرف ضماير بعض العباد و يطلع على بعض المخبيات و يخبر عن بعض المغيبات، و إمّا بتعليم من اللَّه سبحانه كما كان في حق الأنبياء و الأولياء فانّ عمدة معجزاتهم كانت من قبيل معرفتهم بالغيب و إخبارهم من المغيبات، و إليه الاشارة في قوله تعالى: وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ.

يعني أنّه عالم بكلّ شي‏ء من مبتدءات الامور و عواقبها، و أنّه الذي يفتح باب العلم و يرفع الحجاب عن الغيب لمن يريد من الأنبياء و الأولياء، لأنّه لا يعلم الغيب‏ سواه، و لا يقدر أحد أن يفتح باب العلم به للعباد الّا اللَّه، و قال سبحانه: عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ أراد أنّ من ارتضاه و اختاره للنبوّة و الرّسالة فانّه يطلعه على ما شاء من غيبه على حسب ما يراه من المصلحة.

و عن الخرائج عن الرّضا عليه السّلام في تفسير هذه الآية فرسول اللَّه عند اللَّه مرتضى، و نحن ورثة ذلك الرّسول الذي اطلعه اللَّه على ما يشاء من غيبه فعلمنا ما كان و ما يكون إلى يوم القيامة.

و من هذا الباب معرفتهم بالمتشابهات و علمهم بتأويلها بسبب تعليمه تعالى بوحي أو الهام، و لا منافاة بين إقرارهم بجملة ما جهلوا تفسيره منها من تلقاء نفسهم و وكول ذلك إلى ربّهم كما حكاه اللَّه و حكاه عليه السّلام عن الرّاسخين و بين معرفتهم الحاصلة بتعليمه سبحانه بل ربما يشير إليه قوله سبحانه: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَ لا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى‏ إِلَيَّ فافهم جيّدا.

القسم الثاني ما هي غير قابلة للارتفاع كحجب النور المانعة من الوصول إلىّ الحق و الاكتناه في ذاته.

بيان ذلك: أنّ اللَّه سبحانه متجلّ لذاته بذاته و محتجب عن مخلوقاته، و احتجابه ليس لخفاء ذاته بل لشدّة نوره و غاية ظهوره و كمال ذاته، فغاية ظهوره أوجب بطونه، و شدّة نوره أوجب اختفائه و احتجابه، من حيث قصور عقول البشر عن إدراكه كمثال نور الشّمس و بصر الخفاش على ما حقّقناه في شرح الخطبة الرّابعة و الستّين، و على هذا فلا سبيل إلى معرفة الحقّ سبحانه إلّا بواسطة صفاته السّلبية و الاضافية، و لا نهاية لهذه الصّفات و لمراتبها، فالعبد لا يزال‏ يكون مترقّيا فيها فان وصل إلى درجة و بقى فيها كان استغراقه في مشاهدة تلك الدّرجة حجابا له عن الترقي إلى ما فوقها.

و لما كان لا نهاية لهذه الدّرجات كان العبد دائما في السير و الانتقال بحسب قوّة عقله و استعداد ذاته إلى أن يبلغ إلى مقام عجز عن التّرقي إلى ما فوقه، و يقصر عن إدراكه، و هذا شأن الرّاسخين السّالكين في مقام السّلوك بقدمي العرفان المترقين في مقام المعرفة من مرتبة إلى مرتبة حتّى يقصروا عن الترقى إلى ما فوقها فيغنيهم حينئذ عن اقتحام السدد المضروبة اعترافهم بجملة ما جهلوا تفسيره على ما أشار إليه الامام عليه السّلام (فمدح اللَّه اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما و سمّى تركهم التعمّق فيما لم يكلّفهم البحث عن كنهه رسوخا).

عجز الواصفون عن صفتك
اعتصام الورى بمغفرتك‏

تب علينا فانّنا بشر
ما عرفناك حقّ معرفتك‏

(فاقتصر) أيّها السّائل (على ذلك) أى على ما دلّ عليه الكتاب العزيز من صفته (و لا تقدّر عظمة اللَّه سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين) الذين اعتقدوا أنّ عقلهم قدّره سبحانه و أحاط به علما، و صغّروا عظمته سبحانه بحسب عقلهم الضعيف مع أنّ عظمته تعالى أجلّ و أعظم من أن يضبطها عقل بشرى، و إنما منشأ ذلك الحكم لمن حصل له هو الوهم الحاكم لمثليّة اللَّه لمدركاته من الأجسام و الجسمانيات، و ذلك في الحقيقة كفر لاعتقاد غير الصّانع صانعا، و ضلال عن طريق معرفة اللَّه، مستلزم للهلاك الدّائم، و الخزي العظيم.

المقصد الثاني

متضمن للتنبيه على عجز العقول عن الاكتناه في ذاته تعالى و عن معرفتها به حقّ المعرفة، و لبيان أنّ حقّها و حظّها الاستدلال عليه بآيات العظمة و آثار الصّنع و القدرة و دلائل الملك و الملكوت.

اما الاول فهو قوله: (هو القادر الذي إذا ارتمت الأوهام لتدرك منقطع‏ قدرته و حاول الفكر المبرء من خطرات الوسواس ان يقع عليه في عميقات غيوب ملكوته و تولّهت القلوب إليه لتجري في كيفيّة صفاته و غمضت مداخل العقول في حيث لا تبلغه الصّفات لتنال علم ذاته ردعها) و هذه الجملة أعنى قوله عليه السّلام إذا ارتمت إلى الآخر شرطية متصلة متعدّدة المقدم متّحدة التّالى و هو ردعها، و هي بمنزلة شرطيّات متعدّدة.

و المقصود بذلك أنّ الأوهام إذا ترامت و استرسلت مجدّة في التفتيش عن منتهى قدرته، نكصت عن ذلك، لأنّ قدرته تعالى متعلّق بجميع المقدورات لا نهاية له حتّى يبلغ الأوهام إلى غايته و منتهاه.

و إنّ الفكر الصافي الخالي عن وساوس الشّيطان و شوائب الأوهام إذا قصد أن يقع على ذاته و يستثبتها بكلّ ما ينبغي لها من الكمالات في عميقات مغيبات عزّته و سلطانه و مملكته، كلّ و حسر لقصوره عن إدراك ما لا نهاية له.

و انّ القلوب إذا اشتدّ شوقها إليه و تولهت نحوه لتقف على كيفيّة صفاته عجزت، و ذلك لأنّ صفاته كذاته قديمة و الكيف مهيّة امكانيّة مفتقرة إلى الجعل حادثة و هو سبحانه منزّه عن كونه محلّا للحوادث فليس لذاته و صفاته كيفيّة حتّى يقف عليها العقول و لذلك قال أبو عبد اللَّه عليه السّلام: و كيف أصفه بالكيف و هو الذى كيّف الكيف حتّى صار كيفا، فعرّف الكيف بما كيّف لنا من الكيف.

و أنّ العقول إذا غمضت مداخلها أى خفيت مواقع دخولها في دقايق العلوم النّظرية الالهية بحيث لا توصف لدقتها طالبة ان تعلم حقيقة ذاته انقطعت و أعيت لقصور العقول عن الوصول إلى حقيقة ما ليس بذى حدّ و لا تركيب.

و محصّل الكلام أنّ هذه القوى التي هي أعظم المشاعر الانسانية لو حاولت التعمّق و الاستقصاء في معرفة ذات اللَّه الأعلى و صفاته الحسنى و أرادت الخوض في بحار ملكه و ملكوته، وقفت خاسئة و رجعت حسيرة، لقصورها عن إدراك هذه المطالب العظيمة و ردعها اللَّه تعالى عن ذلك و منعها من أن تحوم حول ذلك.

(و هي تجوب مهاوى سدف الغيوب متخلّصة إليه سبحانه) أى تقطع مهاوي‏ ظلمات الغيوب حال كونها متوجّهة بكلّيتها إليه سبحانه في طلب إدراكه تعالى (فرجعت إذ جبهت) و ردّت (معترفة) و مذعنة (بأنّه لا ينال بجور الاعتساف كنه معرفته) أى لا ينال باعتساف المسافات التي بينها و بينه و بشدّة الجولان في تلك المنازل إلى كنه معرفته سبحانه.

إذ بينه و بين خلقه منازل غير متناهية، و معارج غير مستقصاة بعضها نورانيّة و بعضها ظلمانيّة لا بدّ للسّالك من قطع جميعها حتّى يصل إلى باب الرّبوبية، و أنّى له بذلك و أين التراب من ربّ الأرباب فجور الاعتساف غير نافع في تحصيل ما لا يمكن.

(و) لذلك اعترفت العقول بأنّه لا ينال بذلك كنه معرفته كما اعترفت بأنه (لا تخطر ببال اولى الرّويات خاطرة من تقدير جلال عزّته) إذ كلّ ما يخطر ببال أرباب الفكر و كلّ ما يتصوّره اولو النظر في حقّه سبحانه و إن كان جليلا عظيما فهو أجلّ و أعظم من ذلك، لأنّ ذلك صفة الواصفين لا صفة الرّب العظيم.

قال فضيل بن يسار فيما رواه عنه في الكافي: سمعت أبا عبد اللَّه عليه السّلام يقول: إنّ اللَّه لا يوصف و كيف يوصف و قد قال في كتابه: وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.

فلا يوصف بقدر إلّا كان أعظم من ذلك.

و روى عن محمّد بن عليّ الباقر عليه السّلام أنّ كلّ ما تصوّره أحد في عقله أو وهمه أو خياله فاللّه سبحانه غيره و ورائه، لأنّه مخلوق و المخلوق لا يكون من صفات الخالق.

(الذى ابتدع الخلق على غير مثال امتثله و لا مقدار احتذى عليه من خالق معبود كان قبله) أراد بذلك التنبيه على كون ايجاده للعالم بمحض الابداع و الاختراع و عدم كونه مستفادا من الغير.

بيان ذلك أن الصّنايع البشريّة إنما تحصل بعد أن يرتسم في القوّة المتخيلة صورة المصوع بل و كلّ فعل لا يصدر إلّا بعد تصوّر وصفه و كيفيته أولا.

و هذه التصورات تارة تحصل عن أمثلة للمصنوع و مقادير خارجيّة له يشاهدها الصّانع و يحذو حذوها كما يفعل التلميذ في الصّباغة شيئا قد مثل له استاده هيئته و صورته فيفعل نظيره.

و تارة بمحض الالهام و الافاضة على قلبه كما يفاض على أذهان كثير من الأذكياء و المصوّرين صورة شكل لم يسبق إليه غيره، فيصوّره في قلبه و يبرز صورته في الخارج على طبق ما افيض على قلبه، و كيفيّة صنع اللَّه سبحانه منزّهة عن كونها على أحد الوجهين.

اما الوجه الأوّل فلما مرّ في شرح الفصل السّابق من أنه سبحانه قبل القبل بلا قبل فليس قبله خالق مثل مثالا فاتّبعه سبحانه، و لا قدر مقدارا فقطع على قدره و احتذى عليه تعالى شأنه.

و أما الوجه الثاني فلأنّ الصورة المفاضة و المثال الملهم مستندان إلى المفيض و الملهم مستفادان من الغير فعلان له، و ليس قبله تعالى غير حتّى يستفيد و يستفيض منه مضافا إلى استلزامه الافتقار تعالى اللَّه عن ذلك علوّا كبيرا، هذا.

و اما الثاني أعني بيان جواز الاستدلال عليه تعالى و إمكان معرفته بآيات القدرة و أدلة العظمة فهو قوله (و أرانا من ملكوت قدرته) أى من ملكها كما قال اللَّه: فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ.

أى بقدرته و نسبته إلى القدرة لكون القدرة مبدء الوجود كلّه فهي مبدء المالكيّة (و عجائب ما نطقت به آثار حكمته) أى عجائب ما أفصحت عنه الأفعال و الأحكام الصادرة عن وجه الحكمة و المصلحة على أحسن ترتيب و نظام، و تمام إتقان و انتظام.

(و اعتراف الحاجة من الخلق إلى أن يقيمها بمساك قوّته) الموجود في النسخ التي رأيناها يقيمها بضمير التأنيث فلا بدّ من رجوعه إلى الخلق باعتبار ملاحظة المعنى، إذ المراد المخلوقات بجميعها، و يحتمل رجوعه إلى الحاجة على تكلّف، و المقصود اقرار الخلايق و اعترافهم بالاحتياج و الافتقار إلى أن يقيمهم و يجبر فاقتهم بقدرته و قوته الماسكة التي تمسك السّماء و الأرض أن تزولا، و اعتراف بعضهم بلسان الحال و بعضهم بلسان الحال و المقال.

(ما دلّنا باضطرار قيام الحجّة له على معرفته) أى أرانا من ملكوت القدرة و آثار الحكمة و اعتراف الموجودات بالحاجة دليلا وافيا و برهانا كافيا دلّنا على معرفته سبحانه، بسبب قيام الحجّة له تعالى بالضّرورة و البداهة.

و بعبارة اخرى أرانا ممّا ذكر ما كان لنا دليلا على معرفته من أجل ضرورية الحجة القائمة له على الخلايق في باب المعرفة و بداهتها (و ظهرت في البدائع التي أحدثها آثار صنعته و أعلام حكمته) أى ظهرت في الحوادث البديعة المعجبة التي أحدثها و أوجدها آثار تدلّ على صانعيّته و علامات يستدلّ بها على حكمته (فصار كلّ ما خلق) في الأنفس و الآفاق (حجّة له و دليلا عليه و إن كان خلقا صامتا) لأنّ افتقاره الذاتي دليل على حاجته إلى المؤثر المبدع و إن لم يكن مفصحا عنه بلسانه، إما لعدم كونه ذا لسان كالجماد و النبات و إما لكفره و إلحاده كبعض أفراد الانسان.

(فحجّته بالتّدبير ناطقة و دلالته على المبدع قائمة) يحتمل رجوع الضمير في حجّته و دلالته إلى الخلق الصامت، و يحتمل رجوعه إلى اللَّه سبحانه، و الثاني أظهر، و المراد أنّ حجّته تعالى ناطقة بكونه مدبّرا، و دليله قائم على كونه مبدعا مؤثّرا.

فحاصل الكلام و فذلكة المرام أنّ في ما أبدعه سبحانه في عالم الكون و أحدثه في الأنفس و الآفاق شواهد متظاهرة و آيات متناصرة ناطقة بلسان حالها مفصحة عن جلالة بارئها، معربة عن كمال حكمته و تدبيره فيها، منادية لأرباب القلوب بنغماتها، قائلة: أ ما تراني و ما ترى صورتي و تركيبي و صفاتي و منافعي و اختلاف أحوالى و كثرة فوائدي، أ تظنّ أنى خلقت بنفسي أو خلقني أحد من جنسي، و فعلت هذه الأفاعيل و ما يترتّب عليها من المنافع بطبعي و ذاتي‏ أو ما تستحيي تنظر إلى كلمة مرقومة في ثلاثة أحرف فتقطع أنه صنعة آدمي عالم قادر مريد متكلّم ثمّ تنظر إلى عجائب هذه الخطوط المرقومة على وجه الانسان بالقلم الالهي الذى لا يدرك الابصار ذاته و لا حركته و لا اتصاله بمحلّ الخطّ ثمّ ينفكّ قلبك من جلالة صانعه و كذلك النطفة التي كأنها قطرة من الماء المتشابه الأجزاء يقول لمن له قلب أو ألقى السّمع و هو شهيد لا الّذينهم عن السّمع لمعزولون: توهّمني في ظلمة الأحشاء مغموسا في دم الحيض في الوقت الذي يظهر التخطيط و التصوير على وجهي، و قد نقش النقاش حدقتي و أجفاني و جبهتي و خدّى و شفتي، فترى النقوش يظهر شيئا فشيئا على التدريج و لا ترى داخل الرّحم و لا خارجة أحدا و لا خبر منها للّام و لا للأب و لا للنطفة و لا للرّحم فما هذا النقاش أفلم يكن بأعجب ممّن يشاهده ينقش بقلمه صورة عجيبة لو نظر إليها مرّتين أو أكثر لتعلّمه فهل يقدر أن يتعلّم هذا الجنس من النقش الذي يعمّ ظاهر النطفة و باطنها و جميع أجزائها من غير ملامسة النطفة و من غير اتّصال بها لا من داخل و لا من خارج فان كنت لا تتعجّب من هذه العجائب و لا تعلم أنّ الذى صوّر و نقش هذه النقوش و الأشكال و الصّور و الأمثال مما لا شبه له و لا ندّ و لا شريك له و لا ضدّ، كما أنّ صنعه و نقشه لا يساويه نقش و صنع و التباعد و المباينة بين الفاعلين كما بين الفعلين فعدم تعجّبك أعجب من كلّ عجيب، فانّ الذى أعمى بصيرتك مع هذا الوضوح و منعك اليقين مع هذا البيان جدير بأن يتعجّب منه: فَسُبْحانَ مَنْ أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى‏ و أضلّ و أغوى، و فتح بصائر أحبائه فشاهدوه و هم به مؤمنون و أعمى قلوب أعدائه فقال فيهم صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ فله الخلق و الأمر لا معقّب لحكمه و لاراد لقضائه.

المقصد الثالث

متضمن للشهادة بالتنزيه و التقديس و أنه سبحانه تعالى شأنه عن مشابهة مصنوعاته و مجانسة مخلوقاته و هو قوله: (و أشهد أنّ من شبّهك بتباين أعضاء خلقك و تلاحم حقاق مفاصلهم المحتجبة لتدبير حكمتك لم يعقد غيب ضميره على معرفتك و لم يباشر قلبه اليمين بأنّه لا ندّ لك) و لا يخفى ما فيه من المحسّنات البيانيّة.

أوّلها أنّه عليه السّلام غيّر اسلوب الكلام و التفت من الغيبة إلى الخطاب على حدّ قوله تعالى: إيّاك نعبد، لأنّ الكلام إذا نقل من اسلوب إلى اسلوب آخر كان أحسن تطرئة لنشاط السّامع، و أكثر ايقاظا للاصغاء إلى ذلك الكلام.

و ثانيها أنّ التشبيه يعتمد على أركان: المشبّه، و المشبّه، و المشبّه به، فالمشبّه في هذا المقام هو القايس له سبحانه على خلقه، و المشبّه هو اللَّه العزيز المتعال، و المشبّه به في الحقيقة هو الخلق المتباينة الأعضاء و المتلائمة حقاق المفاصل إلّا أنه عليه السّلام جعل المشبّه به تباين الأعضاء و تلاحم الحقاق تعريضا على ذمّ المشبّه و توبيخه، و تنبيها على غلطه في تشبيهه، و ذلك لأنّ تباين الأعضاء و تلاحمها من لوازم المشبّه به، و هما مستلزمان للتركيب و اجتماع المفردات المستلزمين للافتقار إلى المركب و الجامع، فمن كان ملزوما للحاجة و الافتقار كيف يجوز أن يشبه به العزيز الغني المتكبر الجبّار، فجعلها نفس المشبّه به تنبيها على كونهما بمنزلة الوسط في لزوم التركيب للمشبّه به الحقيقي حتّى يظهر بذلك تقدّسه عن التّشبه به.

و ثالثها أنّه وصف المفاصل بكونها محتجبة معلّلا احتجابها بأنه من تدبيرات حكمته تعالى و مقتضياتها، و ذلك لأنها لو لم تحتجب و خلقت بارزة عريّة عن الغطاء و الغشاء ليبست رباطاتها و قست فيعذر تصرّف الحيوان بها كما هو الآن مضافا إلى كونها معرضة للآفات المفسدة لها و غير ذلك من خفيّ تدبيره و لطيف حكمته.

و رابعها أنه عليه السّلام شهد في حقّ المشبّهة بعدم عقد ضميرهم المكنون على معرفة اللَّه سبحانه و عدم اعتقادهم و يقينهم بأنه لا مثل له تعالى، و إنّما عبّر عن عدم اليقين‏ بعدم اليمين إشعارا بأنّ اللازم على العبد في مقام تنزيهه سبحانه عن المثل و النّظير أن يكون تنزيهه له صادرا عن وجه كمال اليقين بحيث لو أراد الحلف بذلك أمكنه ذلك.

هذا إن جعلنا اليمين بمعنى القسم، و إن كان بمعنى القوّة فالمقصود الاشعار بأن يكون تنزيهه صادرا عن قوّة القلب و لا يكون مضطربا فيه.

و لما شهد عليه السّلام في حقّ المشبّه بأنّه لم يعقد قلبه على معرفة اللَّه سبحانه و لم يتيقّن تنزيهه عن المثل أكّد ذلك بقوله (و كأنه) أى المشبّه للّه بخلقه (لم يسمع تبرّء التّابعين) و هم عبدة الأصنام و الأوثان (من المتبوعين) أى من آلهتهم يوم القيامة (إذ يقولون) حين القوا «في الْجَحيمِ فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَ الْغاوُونَ وَ جُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ… (تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا) أى قد كنُّا (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) وَ ما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فانّ المشبّهين لو سمعوا ذلك و عرفوا بذلك أى بتبرّء التّابعين من المتبوعين و بما حكى اللَّه عنهم في الكتاب المبين، لعقدوا قلبهم على المعرفة، و نزّهوه سبحانه عن المثل و الصفة، كيلا يقعوا في الضّلالة الدّائمة و الحسرة الباقية، كما وقع فيها التّابعون بتلك الجهة.

فانّهم شهدوا على أنفسهم بالقسم البارّ بأنّهم في ضلال مبين، و تحسّروا بأنهم ليس لهم من شافعين و لا صديق حميم. و تمنّوا الرّجوع إلى الدّنيا ليكونوا من المؤمنين، كلّ ذلك من أجل تشبيههم الخالق بالخلايق و إبدائهم المساواة بين معبوداتهم الباطلة و بين ربّ العالمين، و عدم كونهم بعلوّ شأنه سبحانه و جلالة قدره موقنين مذعنين‏ (كذب العادلون بك) أى الجاعلون لك عديلا و مثلا (إذ شبّهوك بأصنامهم) الباطلة (و نحلوك حلية المخلوقين بأوهامهم) الفاسدة (و جزّؤوك تجزئة المجسّمات بخواطرهم) الكاسدة (و قدّروك على الخلقة المختلفة القوى بقرائح عقولهم) الجامدة أمّا كذبهم في تشبيههم له سبحانه بالأصنام فواضح، حيث اعترفوا بأنّهم في ضلال مبين من جهة تسويتهم الأصنام بربّ العالمين و أمّا كذبهم في نحلتهم له حلية المخلوقين، و تجزيتهم له تجزئة المجسّمات و تقديرهم له على الخلقة المختلفة القوى كقولهم: بأنّه في صورة غلام أمرد في رجليه نعلان من ذهب، و قولهم: بأنّه أجوف من فيه إلى صدره و ما سوى ذلك فصمت، و غير ذلك من هذياناتهم فأشدّ وضوحا إذ الأعضاء المختلفة إنّما تتولّد و تكمل بواسطة قوى طبيعيّة و نباتيّة و حيوانيّة و غيرها، و هي قوى مختلفة بحقايقها متضادّة في أفعالها محتاجة إلى المركّب و الجامع، و الاحتياج مستحيل على واجب الوجود، تعالى عمّا يقول الظّالمون علوّا كبيرا (و أشهد أنّ من ساواك بشي‏ء من خلقك فقد عدل بك و العادل بك كافر بما تنزّلت به محكمات آياتك و نطقت عنه شواهد حجج بيّناتك) شهادة ثانية على كفر المشبّهة متفرّعة على ما سبق.

وجهة كفرهم أنهم لمّا شبّهوه بخلقه و سووه به حيث اعتقدوا أنّ خالقهم و صانعهم هو ما توهّموه بأوهامهم الفاسدة و وصفوه بعقولهم الكاسدة مع عدم كونه خالقهم بل هو مخلوق لهم مصنوع مثلهم لا جرم كانوا بذلك متّخذين غير الخالق خالقا جاعلين للّه سبحانه ندّا و عديلا، و هو الكفر و الضّلال كما شهدت به محكمات الآيات و أفصحت عنه شواهد أدلّة البيّنات قال سبحانه في سورة البقرة: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ إلى أن قال إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ‏ اتَّبَعُوا وَ رَأَوُا الْعَذابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ و في سورة إبراهيم: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَ بِئْسَ الْقَرارُ وَ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ و في سورة الزّمر: وَ جَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ و في سورة فصّلت: قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ.

إلى غير هذه من الآيات الباهرة و الحجج القاهرة (و) أشهد (أنّك أنت اللَّه الذي لم تتناه في العقول فتكون في مهبّ فكرها مكيّفا، و لا في رويّات خواطرها فتكون محدودا مصرّفا) و هي شهادة ثالثة على تنزّهه من إحاطة العقول البشريّة فنفاها بنفي ما يترتّب عليها من كونه تعالى ذا نهاية، إذ معنى الاحاطة بالشي‏ء هو إدراكه بكنهه و معرفته بجميع جهاته و بلوغ العقل غايته و نهايته بحيث لا يكون وراء ما أدركه شي‏ء آخر و نفي انتهائه بنفي ما يترتّب عليه من كونه ذا كيفيّة تكيّفه بها القوى المتخيّلة لتثبته بها العقول، و كونه محدودا أى ذا حدّ و نهاية أو محدودا بحدّ يحدّه و يعرّفه إذ إدراك العقول للحقايق بكنهها إنّما هو من حدودها و معرّفاتها.

و هذا مبنيّ على كون المحدود مأخوذا من الحدّ الذى هو معرّف الشي‏ء و القول الشارح له كما أنّ الاوّل مبنيّ على أخذه من الحدّ بمعنى النهاية، و هو بكلا المعنيين محال على اللَّه سبحانه و كونه مصرّفا أى ذا تصريف و تقليب مأخوذ من تصريف الرّياح و هو تحويلها من وجه إلى وجه و من حال إلى حال لأنّه إذا كان العقول و الفكر متعلّقة به لا بدّ أن يتصرّف فيه العقول و الأفكار، و تحوّله من وجه إلى وجه لتبلغ غايته و تعرفه بكنهه و هو معنى كونه مصرّفا و لما كان هذه اللوازم كلّها باطلة مستحيلة في حقّه تعالى كان ملزومها و هو إحاطة العقول به و تناهيه فيها محالا أمّا بطلان اللّازم الأول فلأنّ الكيف حادث بالذات ممكن الوجود مفتقر إلى جاعل يوجده برى‏ء الذات من الاتصاف به، أما حدوثه فلكونه عرضا قائما بالمحلّ فهو مفتقر إلى جاعل و ينتهى افتقاره بالأخرة إلى الحقّ تعالى، و امّا برائة ذات المحدث من الاتصاف به فلأنّ موجد الشي‏ء مقدّم عليه بالوجود فيستحيل أن يكون المكيّف بالكسر أى موجد الكيف و جاعله مكيّفا أى منفعلا ذا كيفيّة و إلّا لزم تقدّم الشي‏ء على نفسه و كون الشي‏ء الواحد فاعلا قابلا و هو محال و أمّا بطلان الّلازم الثّاني و هو كونه محدودا إى ذا نهاية فلأنه لا غاية لوجوده و لا منتهى لذاته، لأنّ وجوده وراء ما لا يتناهى مدّة و عدّة بما لا يتناهى قوّة و شدّة و أمّا إن جعلنا الحدّ بالمعنى الثّاني الذي أشرنا إليه فلأنّ حدّ الشي‏ء عبارة عن معرّفه المركب من الجنس و الفصل و اللَّه سبحانه بسيط الذّات لا جزء له و ما لا جزء له لا جنس له و ما ليس له جنس ليس له حدّ و قول شارح يعرّف به، و ما ليس له حدّ لا يكون محدودا و أمّا بطلان اللازم الثالث أعني كونه مصرّفا فلاستحالة التغيّر و الانتقال من حال إلى حال على اللَّه تعالى شأنه.

الترجمة

پس نظر كن أى سؤال كننده از صفات پروردگار پس آن چيزى كه دلالت دارد قرآن بر آن از صفت حضرت آفريدگار پس اقتدا كن بآن و طلب روشنائى كن بنور هدايت او، و آنچه كه تكليف كرده آنرا شيطان ملعون دانستن او را از چيزى كه نيست در قرآن بر تو فرض آن و نه در سنّت پيغمبر خدا صلّى اللَّه عليه و آله و نه أئمه هدى‏ علامت و نشانه او پس واگذار دانستن آن را بخداى تعالى، پس بدرستى كه اين منتهاى حق خداوند است بر تو و زياده از اين بر تو لازم نيست.

و بدان كه جماعتى كه رسوخ دارند در علم و استوارند در دانش، ايشان كساني هستند كه بى‏نياز ساخته ايشان را از بى‏فكر داخل شدن حجاباتي كه زده شده در پيش غيبها، اقرار و اعتراف ايشان بإجمال آنچه كه جاهل شده‏اند بتفسير و توضيح آن از غيبي كه پوشيده است، پس مدح فرموده حق سبحانه و تعالى اعتراف بعجز كردن ايشان را از أخذ نمودن آنچه كه احاطه نكرده‏اند بآن از حيثيت علم و نام نهاده ترك تعمّق و خوض كردن ايشان را در چيزى كه تكليف نكرده بر ايشان بحث نمودن از حقيقت آن را برسوخ.

پس قناعت كن ايسائل در باب معرفت باين مقدار و تقدير مكن عظمت پروردگار را باندازه عقل خود تا اين كه شوى از هالكين.

او سبحانه قادريست كه اگر مجدّ شوند و همهاتا دريابند نهاية توانائى آنرا، و طلب كند فكري كه مبرّاست از خطرات وساوس شيطانيّه آنكه واقع شود در اسرار عميقه پادشاهى او، و واله و متحيّر باشند قلبها بسوى او تا اين كه جارى شوند در چگونگى صفتهاى او، و غامض و خفى باشد محلّ دخول عقلها باندازه كه خارج از وصف باشد بجهة طلب علم بذات او سبحانه ردع ميكند و باز دارد خداوند تعالى آن عقول و اوهام را از معرفت بذات و صفات خود و حال آنكه قطع كند آن اوهام و عقول مواضع هلاك تاريكيهاى غيبها را در حالتى كه رهيده باشد از غير و نزديكى جويند بسوى حق سبحانه.

پس برگشتند زمانى كه باز داشته شدند در حالتى كه اعتراف كننده باشند باين كه رسيده نمى‏شود بشدة جولان در بيداء جلال و عزّت و حقيقت معرفت او، و باين كه خطور نمى‏كند بدل صاحبان فكرها خطور كننده از اندازه كردن بزرگي عزّت او.

آن خداوندى كه ايجاد كرد مخلوقات را بدون سبق مثالى كه متابعت‏ كرده باشد بر آن، و بي‏تقدّم مقدار و اندازه كه عمل كرده باشد بر وفق آن كه صادر شده باشد آن مثال و مقدار از خالق معبودي كه بوده باشد قبل از او، و بنمود ما را از پادشاهى قدرت خود و از عجايب آن چيزى كه گويا شده است بآن نشانهاى حكمت او و از اعتراف نمودن خلايق باحتياج خودشان باين كه اقامه نمايد و بپا داشته باشد ايشان را بنگه داشته قوّة خود دليل وافي و برهان شافي ما را بسبب ضروري و بديهى بودن حجتى كه قائم است مر او را بمعرفت او و ظاهر گرديد در اشياء بديعة كه ايجاد فرموده نشانهاى صنعت أو و علامتهاى حكمت او.

پس گرديد هر چيزى كه خلق فرموده برهان قاطع مرا الوهيت آن را، و دليل ساطع بر وجوب وجود آن و اگر چه بوده باشد آن مخلوق خلق غير ناطق و جماد ساكت، پس حجت حق تعالى بتدبير حكمت او گويا است و دليل او بر وجود مبدع برپا.

پس شهادت مى‏دهم بر اين كه كسى كه تشبيه كرده تو را باعضاى متباينه مخلوقات تو، و خورده‏هاى بهم پيوسته مفاصل ايشان كه پوشيده شده است بتدبير حكمت تو عقد ننموده فكر باطني خود را بر معرفت تو، و مباشر نكرده بقلب خودش يقين را باين كه نيست هيچ مثلى تو را.

و گويا كه نشنيده آن تشبيه كننده بيزاري جستن تابعان را از متبوعان در روز قيامت، و زمان انداخته شدن ايشان بر آتش وقتى كه گويند: قسم بخدا كه هر آينه بوديم ما در ضلالت هويدا، در وقتى كه برابر كرديم ما شما را با پروردگار عالميان.

دروغ گفتند كسانى كه بتو مثل و عديل قرار دادند وقتى كه تشبيه كردند تو را به بتهاي خودشان و بخشيدند بتو صفات مخلوقات را بوهمهاي خود، و تجزيه كردند تو را همچه مجزّا كردن أشياء مجسّمه با خواطرهاي خود، و اندازه كردند تو را بر هيكلي و شكلى كه مختلف است قوتهاي او با عقلهاي خود.

پس شهادت مى ‏دهم بر اين كه هر كس كه مساوي ساخت تو را با چيزي ازمخلوق تو پس بتحقيق كه عديل قرار داد ترا و هر كس كه عديل قرار داد بتو كافر است بحكم آن چيزي كه نازل شده با آن آيات محكمات تو، و بحكم آن چيزى كه ناطق شد از آن گواهان حجتهاي واضحه تو.

و شهادت مى‏ دهم بر اين كه توئى معبود بحق كه پايان نداري در عقلها تا اين كه باشى در محلّ ورزيدن انديشهاى آن عقول مكيّف با كيفيتي، و نه در انديشهاى خاطرهاى آن عقول صاحب حدّ و نهايتى و موصوف بتغيير از حالت بحالتى

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 89 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 90 صبحی صالح

90- و من خطبة له ( عليه ‏السلام  ) و تشتمل على قدم الخالق و عظم مخلوقاته، و يختمها بالوعظ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ

وَ الْخَالِقِ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ

الَّذِي لَمْ يَزَلْ قَائِماً دَائِماً

إِذْ لَا سَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ

وَ لَا حُجُبٌ ذَاتُ إِرْتَاجٍ

وَ لَا لَيْلٌ دَاجٍ

وَ لَا بَحْرٌ سَاجٍ

وَ لَا جَبَلٌ ذُو فِجَاجٍ

وَ لَا فَجٌّ ذُو اعْوِجَاجٍ

وَ لَا أَرْضٌ ذَاتُ مِهَادٍ

وَ لَا خَلْقٌ ذُو اعْتِمَادٍ

ذَلِكَ مُبْتَدِعُ الْخَلْقِ وَ وَارِثُهُ

وَ إِلَهُ الْخَلْقِ وَ رَازِقُهُ

وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ دَائِبَانِ فِي مَرْضَاتِهِ

يُبْلِيَانِ كُلَّ جَدِيدٍ

وَ يُقَرِّبَانِ كُلَّ بَعِيدٍ

قَسَمَ أَرْزَاقَهُمْ

وَ أَحْصَى آثَارَهُمْ وَ أَعْمَالَهُمْ

وَ عَدَدَ أَنْفُسِهِمْ

وَ خَائِنَةَ أَعْيُنِهِمْ

وَ مَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ مِنَ الضَّمِيرِ

وَ مُسْتَقَرَّهُمْ وَ مُسْتَوْدَعَهُمْ مِنَ الْأَرْحَامِ

وَ الظُّهُورِ إِلَى أَنْ تَتَنَاهَى بِهِمُ الْغَايَاتُ

هُوَ الَّذِي اشْتَدَّتْ نِقْمَتُهُ عَلَى أَعْدَائِهِ فِي سَعَةِ رَحْمَتِهِ

وَ اتَّسَعَتْ رَحْمَتُهُ لِأَوْلِيَائِهِ فِي شِدَّةِ نِقْمَتِهِ

قَاهِرُ مَنْ عَازَّهُ

وَ مُدَمِّرُ مَنْ شَاقَّهُ

وَ مُذِلُّ مَنْ نَاوَاهُ

وَ غَالِبُ مَنْ عَادَاهُ

مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ

وَ مَنْ سَأَلَهُ أَعْطَاهُ

وَ مَنْ أَقْرَضَهُ قَضَاهُ

وَ مَنْ شَكَرَهُ جَزَاهُ

عِبَادَ اللَّهِ

زِنُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُوزَنُوا

وَ حَاسِبُوهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تُحَاسَبُوا

وَ تَنَفَّسُوا قَبْلَ ضِيقِ الْخِنَاقِ

وَ انْقَادُوا قَبْلَ عُنْفِ السِّيَاقِ

وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ لَمْ يُعَنْ عَلَى نَفْسِهِ حَتَّى يَكُونَ لَهُ مِنْهَا وَاعِظٌ وَ زَاجِرٌ

لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ غَيْرِهَا لَا زَاجِرٌ وَ لَا وَاعِظٌ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج6                      

و من خطبة له عليه السّلام و هى التاسعة و الثمانون من المختار فى باب الخطب

الحمد للّه المعروف من غير رؤية، و الخالق من غير رويّة، الّذي‏ لم يزل قائما دائما، إذ لا سماء ذات أبراج، و لا حجب ذات أرتاج، و لا ليل داج، و لا بحر ساج، و لا جبل ذو فجاج، و لا فجّ ذو اعوجاج، و لا أرض ذات مهاد، و لا خلق ذو اعتماد، ذلك مبتدع الخلق و وارثه، و إله الخلق و رازقه، و الشّمس و القمر دائبان في مرضاته، يبليان كلّ جديد، و يقرّبان كل بعيد، قسّم أرزاقهم، و أحصى آثارهم و أعمالهم و عدد أنفاسهم و خائنة أعينهم و ما تخفي صدورهم من الضّمير، و مستقرّهم و مستودعهم من الأرحام و الظّهور، إلى أن تتناهى بهم الغايات، هو الّذي اشتدّت نقمته على أعدائه في سعة رحمته، و اتّسعت رحمته لأوليائه في شدّة نقمته، قاهر من عازّه، و مدمِّر من شاقّه، و مذلّ من ناواه، و غالب من عاداه، من توكّل عليه كفاه، و من سأله أعطاه، و من أقرضه قضاه، و من شكره جزاه، عباد اللَّه زنوا أنفسكم من قبل أن توزنوا و حاسبوها من قبل أن تحاسبوا، و تنفّسوا قبل ضيق الخناق، و انقادوا قبل عنف السّياق، و اعلموا أنّه من لم يعن على نفسه حتّى يكون له منها واعظ و زاجر، لم يكن له من غيرها زاجر و لا واعظ.

اللغة

(الرّوية) من روات في الأمر أى تفكّرت فيه و أصلها رؤيته و استعمالها في لسان العرب بغير همز و مثلها برية و (الأبراج) جمع البرج كالأركان و الرّكن لفظا و معنى و (الارتاج) إما مصدر باب الأفعال من ارتج الباب أغلقه أو جمع الرّتج محرّكة كالاسباب و السّبب و هو الباب العظيم.«» قال الشّارح المعتزلي: و يبعد رواية من رواه ذات ارتاج لأنّ فعالا قلّ أن يجمع على أفعال «انتهى» و أراد به أن أرتاج على تقدير جمعيّته واحدة رتاج و جمعه عليه قليل، و فيه أنه يرتفع الاستبعاد بجعله جمعا للرتج حسبما قلنا و هو كثير.

و (دجى) اللّيل دجّوا و دجوا أظلم فهو داج و ليلة داجية و (سجى) البحر سجوا سكن و (الفجاج) جمع الفجّ فهو الطريق الواسع بين جبلين و (المهاد) الفراش و (عازه) معازة غالبه قال سبحانه: و عزّني في الخطاب أى غلبني و (دمّره) تدميرا أهلكه و (شاقّه) مشاقّة و شقاقا خالفه و عاداه و (ناواه) أى عاداه و اللفظة مهموزة و إنما لينها لملاحظة السّجع و أصلها من النواء و هو النّهوض لأنّ كلّ المتعاديين ينهض إلى قتال الآخر و (العسف) بالضمّ ضدّ الرفق.

الاعراب

قوله: إذ لا سماء إذ ظرف للزمان الماضي و ملازم للاضافة إلى الجمل، و لا بمعنى ليس، و سماء اسمها و خبرها محذوف منصوبا على الاعمال كما هو مذهب أهل الحجاز، أو سماء مرفوع على الابتداء و خبره موجود بالرّفع على الاهمال و هو مذهب بني تميم و الأوّل أقوى، و جملة و الشّمس و القمراه مستأنفة، و جملة يبليان في محلّ النّصب على الحال من ضمير دائبان، و عدد أنفاسهم في بعض النسخ بجرّ أنفاسهم على إضافة العدد إليها و كونه اسما فيكون عطفا على آثارهم و في بعضها بنصبها على كونه مفعولا لعدد و جعله فعلا مجرّدا من باب قتل أو مزيدا من باب التفعيل أى أحصى أنفاسهم و على هذا فتكون الجملة معطوفة على الجملة السّابقة، و خائنة بالنّصب عطف على آثارهم أو أنفاسهم على الاحتمال الثّاني أو عدد على الاحتمال الأوّل، و كذلك مستقرّهم و مستودعهم، و من الأرحام و الظّهور متعلّق بالمستقرّ و المستودع على إرادة التّكرار و قوله: حتّى يكون قيد للمنفيّ أعنى يعن دون النفى.

المعنى

اعلم أنّه عليه السّلام صدّر هذه الخطبة الشّريفة بجملة من الصّفات الجمالية و الجلالية الالهية، و ذيّلها بالموعظة و النّصيحة و الحثّ على التزوّد و الاستعداد للآخرة فقال عليه السّلام: (الحمد للّه المعروف من غير رؤية) يعني أنّه سبحانه معروف بدلائل الملك و الملكوت و آثار القدرة و الجبروت و مدرك بحقايق الايمان من غير رؤية و مشاهدة بالعيان، لكونها من لواحق الامكان كما مرّ توضيحا و تحقيقا في شرح الخطبة التاسعة و الأربعين (و الخالق من غير روية) أراد أنّه تعالى خالق للأشياء بنفس قدرته التّامة الكاملة غير محتاج في خلقها إلى رويّة و فكرة كما يحتاج إليها نوع الانسان في إيجاد شي‏ء، و ذلك انّ فايدة القوّة المفكّرة تحصيل المطالب المجهولة من المبادي المعلومة و الجهل محال على اللَّه سبحانه (الذي لم يزل قائما دائما) أمّا دوامه سبحانه فلأنّ وجوب الوجود يستحيل عليه العدم في الأزل و الأبد، و أمّا قيامه فالمراد به إما الدّوام و البقاء و إمّا القيام بأمور العالم و القيمومة على كلّ شي‏ء بمراعاة حاله و درجة كماله و الحافظ لكلّ شي‏ء و المدبّر لأمره أو الرّقيب على كلّ شي‏ء و الحافظ عليه و به فسرّ قوله سبحانه: أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى‏ كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ و الأوّل أنسب بقوله (إذ لا سماء ذات أبراج) لأنّ القيمومة بالمعنى الأوّل من صفات الذّات و بالمعنى الثاني من صفات الفعل و بعد السّماء و وجود العالم لأنّه إذا لم يكن العالم مخلوقا بعد لم يصدق عليه أنه قائم بأمره إلّا بالقوّة لا بالفعل فافهم و المراد بالابراج إمّا الأركان كما هي معناها في اللغة و إمّا ما فسّر به قوله تعالى: «وَ السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ».

و لهم في تفسيره ثلاثة أقوال:

أحدها أنها هي البروج الاثنا عشر التي فيها عجيب الحكمة إذ سير الشّمس فيها و مصالح العالم السّفلى مرتبطة بسير الشّمس‏

و ثانيها أن البروج هي منازل القمر

و ثالثها أنّها هي عظام الكواكب سميّت بروجا لظهورها و سيأتي تفصيل الكلام في ذلك في شرح الفصل الرابع من الخطبة الآتية (و لا حجب ذات ارتاج) أى ذات أبواب أو ذات أغلاق.

و اعلم أنّه قد كثر في الأخبار العاميّة و الخاصيّة ذكر الحجب و السّرادقات و تظافرت الأخبار في وجودها و من جملة تلك الرّوايات رواية الحسن البكري التي تقدّمت في التذييل الأوّل من تذييلات الفصل الثامن من فصول الخطبة الأولى.

و منها ما في البحار من الدّر المنثور للسيوطي عن سهل بن سعد و عبد اللَّه بن عمر قالا: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: دون اللَّه سبعون ألف حجاب من نور و ظلمة ما يسمع من نفس من حسن تلك الحجب إلّا زهقت نفسه.

و منها ما فيه عن شرح النهج للكيدرى عن النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم في حديث المعراج قال: فخرجت من سدرة المنتهى حتّى وصلت إلى حجاب من حجب العزّة ثمّ إلى حجاب آخر حتّى قطعت سبعين حجابا و أنا على البراق و بين كلّ حجاب و حجاب مسيرة خمسمائة سنة إلى أن قال: و رأيت في علّيّين بحارا و أنوارا و حجبا غيرها لو لا تلك لاحترق كلّ ما تحت العرش من نور العرش.

قال: و في الحديث أنّ جبرئيل عليه السّلام: قال: للّه دون العرش سبعون حجابا لو دنونا من أحدها لاحترقتنا سبحات وجه ربّنا.

أقول: قال النّوويّ في المحكىّ عن شرح صحيح مسلم: سبحات بضم السّين و الباء أى نوره و أراد بالوجه الذّات، و قال في البحار: سبحات اللَّه جلاله و عظمته و هي في الأصل جمع سبحة، و قيل: أضواء وجهه، و قيل: سبحات الوجه محاسنه لأنك إذا رأيت الوجه الحسن قلت سبحان اللَّه هذا.

و الأخبار في هذا المعنى كثيرة روى شطرا منها في البحار و قال بعد روايتها: و التحقيق أنّ لتلك الأخبار ظهرا و بطنا و كلاهما حقّ.

فأما ظهرها فانّه سبحانه كما خلق العرش و الكرسي مع عدم احتياجه إليهما كذلك‏ خلق عندهما حجبا و أستارا و سرادقات، و حشاها من أنواره الغريبة المخلوقة له ليظهر لمن يشاهدها من الملائكة و بعض النّبيّين و لمن يسمعها من غيرهم عظمة قدرته و جلال هيبته وسعة فيضه و رحمته، و لعلّ اختلاف الأعداد باعتبار أنّ في بعض الاطلاقات اعتبرت الأنواع، و في بعضها الأصناف و الأشخاص أو ضمّ بعضها إلى بعض في بعض التعبيرات أو اكتفى بذكر بعضها في بعض الرّوايات.

و أمّا بطنها فلأنّ الحجب المانعة عن وصول الخلق إلى معرفة كنه ذاته و صفاته سبحانه امور كثيرة: منها ما يرجع إلى نقص المخلوق و قواه و مداركه بسبب الامكان و الافتقار و الاحتياج و الحدوث و ما يتبع ذلك من جهات النّقص و العجز و هي الحجب الظلمانية.

و منها ما يرجع إلى نوريّته و تجرّده و تقدّسه و وجوب وجوده و كمال عظمته و جلاله و ساير ما يتبع ذلك و هي الحجب النورانية و ارتفاع تلك الحجب بنوعيه محال، فلو ارتفعت لم يبق بغير ذات الحق شي‏ء، أو المراد بكشفها رفعها في الجملة بالتخلّى عن الصفات الشهوانية و الأخلاق الحيوانيّة و التخلّق بالأخلاق الرّبانية بكثرة العبادات و الرّياضات و المجاهدات و ممارسة العلوم الحقّة، فترتفع الحجب بينه و بين اللَّه سبحانه في الجملة فيحرق ما يظهر عليهم من أنوار جلاله تعيّناتهم و إراداتهم و شهواتهم فيرون بعين اليقين كما له سبحانه و نقصهم، و بقائه و فنائهم، و عزّه، و ذلّهم، و غناه و افتقارهم، بل يرون وجودهم المستعار في جنب وجوده الكامل عدما، و قدرتهم الناقصة في جنب قدرته الكاملة عجزا بل يتخلّون عن إرادتهم و علمهم و قدرتهم فيتصرّف فيهم إرادته و قدرته و علمه سبحانه، فلا يشاءون إلّا أن يشاء اللَّه، و لا يريدون سوى ما أراد اللَّه، و يتصرّفون في الأشياء بقدرة اللَّه، فيحيون الموتى و يردّون الشمس و يشقّون القمر كما قال أمير المؤمنين عليه السّلام: ما قلعت باب خيبر بقوّة جسمانيّة بل بقوّة ربانيّة، و المعنى الذي يمكن فهمه و لا ينافي أصول الدّين من الفناء في اللَّه و البقاء باللّه هو هذا المعنى.

و بعبارة اخرى الحجب النّورانية الموانع التي للعبد عن الوصول إلى قربه و غاية ما يمكنه من معرفته سبحانه من جهة العبادات كالرّياء و العجب و السّمعة و أشباهها و الظلمانية ما يحجبه من المعاصى عن الوصول إليه، فاذا ارتفعت تلك الحجب تجلّى اللَّه له في قلبه و أحرق محبّته ما سواه حتّى نفسه عن نفسه، و كلّ ذلك لا يوجب عدم الايمان بظواهرها، إلّا بمعارضة نصوص صحيحة صريحة صارفة عنها، و أوّل الالحاد سلوك التأويل من غير دليل و اللَّه الهادى إلى سواء السّبيل، انتهى كلامه رفع مقامه هذا.

و الأشبه أن يراد بقوله عليه السّلام: و لا حجب ذات ارتاج المعاني الظاهرة لها و إن أمكن إرادة معانيها الباطنة في الجملة، و أما احتمال أن يراد بالحجب السّماوات كما في شرحي المعتزلي و البحراني فبعيد مع سبق قوله عليه السّلام إذ لا سماء ذات ابراج (و لا ليل داج) اى مظلم (و لا بحر ساج) اى ساكن (و لا جبل ذو فجاج و لا فجّ ذو اعوجاج) و هو مأخوذ من قوله سبحانه: وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً أى طرقا واسعة، و قيل: طرقا مختلفة عن ابن عبّاس، و قيل: سبلا في الصّحارى و فجاجا في الجبال (و لا أرض ذات مهاد) و هو ماخوذ من قوله سبحانه: وَ الْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ أى مهّدناها ليستقرّوا عليها فنعم الماهدون نحن، و في سورة النّباء.

 أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً أى وطا و قرارا و مهيئا للتصرّف فيه من غير أذيّة، و المصدر بمعنى المفعول أو الحمل على المبالغة أو المعنى ذات مهاد (و لا خلق ذو اعتماد) أى صاحب قوّة و بطش.

(ذلك) المتّصف بالصّفات الأزليّة و الموصوف بأوصاف السّر مديّة (مبتدع‏ الخلق) و مخترعه على غير مثال سبق أو موجده من العدم المحض (و وارثه) الباقى بعد فنائه (و إله الخلق) و معبوده (و رازقه) بجميل آلائه و جزيل نعمائه (و الشمس و القمر دائبان في مرضاته) هو مأخوذ من قوله سبحانه: وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ دائِبَيْنِ و أصل الدئب هو مرور الشي‏ء في العمل على عادة مطّردة أراد عليه السّلام أنّ الشّمس و القمر يدأبان في سيرهما و إنارتهما و تأثيرهما في إزالة الظلمة و في إصلاح النبات و الحيوان على ما فيه رضاؤه سبحانه و يقتضيه حكمته البالغة و يرتضيه تدبيره التام الكامل (يبليان كلّ جديد و يقرّبان كلّ بعيد) نسبة إبلاء الجديد و تقريب البعيد إليهما باعتبار كون حركاتهما من الأسباب المعدّة لحدوث الحوادث في هذا العالم و فيهما تنبيه على وجوب التّجافي عن الدّنيا و الاستعداد للآخرة، و إشارة إلى أنّ ما يتجدّد و يحدث من لذات الدنيا و زخارفها فهو في معرض البلى و الزّوال و أنّ ما يستبعده أهل الغفلة من الموت و الفناء قريب إليه و إن كان بعيدا في نظره (قسّم أرزاقهم) بينهم على وفق ما جرى عليه قلم التقدير و كتبه يد التّدبير في الكتاب المكنون و اللّوح المحفوظ كما قال سبحانه: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا.

(و أحصى آثارهم و أعمالهم) و إحصائهما كناية عن العلم بهما كما قال سبحانه: وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَ آثارَهُمْ أى ما قدَّموا من الأَعمال و ما سنّوه بعدهم حسنة كانت أو قبيحة و منه: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَ أَخَّرَتْ و قيل آثارهم أى أقدامهم في الأرض و أراد مشيهم إلى العبادة و خطاهم إلى المساجد (و عدد أنفاسهم و خائنة أعينهم و ما تخفى صدورهم من الضمير) و هو اقتباس من قوله تعالى:

 يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَ ما تُخْفِي الصُّدُورُ قال في مجمع البيان: أى خيانتها و هى مسارقة النظر إلى ما لا يحلّ النّظر إليه و الخائنة مصدر كما أنّ الكاذبة و اللاغية بمعنى الكذب و اللّغو و قيل إنّ تقديره يعلم الأعين الخائنة، و قيل هو الرمز بالعين و فيه أقوال اخر (و مستقرّهم و مستودعهم من الأرحام و الظهور) و فيه ملامحة إلى قوله سبحانه: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَ مُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ.

أى يعلم موضع قرارها و الموضع الذى أودعها فيه من أرحام الأمّهات و أصلاب الآباء و ظهورهم، و يعلم كلّ أحوالهم من حين ابتدائهم (إلى أن تتناهى بهم الغايات) و يقف كلّ عند غايته المكتوبة من خير أو شرّ (هو الذى اشتدّت نقمته على أعدائه في سعة رحمته و اتّسعت رحمته لأوليائه في شدّة نقمته) لا يخفى ما في هذه القرينة من حسن المقابلة.

قال الشارح البحراني: و أشار بذلك إلى كمال ذاته بالنّسبة إلى ملوك الدنيا مثلا، فانّ أحدهم في حالة غضبه على عدوّه لا يتّسع لرحمة و لا رحمة غيره، و كذلك في رحمته لأوليائه لا يجتمع معها غضبه عليهم و لمّا ثبت أنه تعالى هو الغنّى المطلق المنزّة عن صفات المخلوقين و أنّه المعطي لكلّ قابل ما يستحقّه من غير توقّف في وجوده على أمر من ذاته، و كان أعداء اللَّه مستعدّون ببعدهم عنه لقبول سخطه و شدّة نقمته في الآخرة، لا جرم أولاهم ذلك و ان كانوا في الدّنيا في سعة رحمته و شمول نعمته، و كذلك أولياؤه لما استعدّ و القبول رحمته و شمول نعمته أفاضها عليهم فهم في حظيرة قدسه على غاية من البهجة و السّعادة و ضروب الكرامة و إن كانوا بأجسادهم في ضروب من العذاب و شقاوة الفقر و الضنك في الدّنيا، و ذلك لا يملكه إلّا حليم لا يشغله غضب عن رحمته، عدل حكيم لا تمنعه رحمته عن انزال‏ عقوبته سبحانه ليس إلّا هو.

(قاهر من عازه) أى غالبه و عتى عن أمره كفرعون إذ قال أنا ربّكم الأعلى فأخذه اللَّه نكال الآخرة و الأولى و غيره من العتاة و الطغاة، حيث قصم اللَّه سبحانه ظهرهم و كسر عظمهم و قهرهم بالموت و الاذلال، و أنزل عليهم شديد النكال (و مد مرّ من شاقه) أى مهلك من كان مشاقا له و منحرفا عن طريق الهدى إلى سمت الرّدى (و مذلّ من ناواه) يجعله محتاجا إلى غيره (و غالب من عاداه) أى المستولى عليه بقهره (من توكّل عليه كفاه) كما قال في كتابه العزيز: وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ أى الكافي له يكفيه أمر دنياه و آخرته (و من سأله أعطاه) إذ لا تفنى خزائنه السؤال، و لا تدخل عليها نقص و لا زوال.

و في الحديث القدسي: يا عبادي لو أنّ أوّلكم و آخركم و انسكم و جنّكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كلّ إنسان مسألته ما نقص ذلك ممّا عندي شيئا إلّا كما ينقص المخيط إذا دخل البحر.

أى لا ينقص شيئا و إنما ضرب المثل بالمخيط و البحر لأنّه و إن كان يرجع شي‏ء قليل محسوس لكن لقلّته بالنّسبة إلى أعظم المرئيات عيانا لا يرى و لا يعدّ شيئا فكأنّه لم ينقص منه شي‏ء.

(و من أقرضه قضاه) أى من أنفق ماله في سبيله و طاعته أعطاه اللَّه عوض ما انفق و إنّما سمّى الانفاق قرضا تلطفا للدّعاء إلى فعله و تأكيدا للجزاء عليه، فانّ القرض يوجب الجزاء و هو مأخوذ من قوله سبحانه في سورة البقرة: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَ اللَّهُ يَقْبِضُ وَ يَبْصُطُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.

روى الطبرسيّ عن الصادق عليه السّلام أنه قال: لما نزلت هذه الآية: «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها.

قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: ربّ زدنى فأنزل اللَّه: «مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها» فقال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله: زدني فأنزل اللَّه سبحانه: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً.

و الكثير عند اللَّه لا يحصى.

قال الكلبي في سبب نزول هذه الآية: إنّ النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم قال: من تصدّق بصدقة فله مثلاها في الجنّة، فقال أبو الدحداح الأنصارى و اسمه عمرو بن الدحداح: يا رسول اللَّه إنّ لى حديقتين إن تصدقت باحديهما فانّ لي مثليها في الجنّة: قال: نعم، قال: و أمّ الدّحداح معى قال: نعم، قال: و الصبية معى قال: نعم، فتصدّق بأفضل حديقته فدفعها إلى رسول اللَّه فنزلت الآية فضاعف اللَّه له صدقته ألفى ألف، و ذلك قوله أضعافا كثيرة قال: فرجع أبو الدحداح فوجد أمّ الدّحداح و الصّبية في الحديقة التي جعلها صدقة فقام على باب الحديقة و تحرّج أن يدخلها فنادى يا أمّ الدّحداح، قالت: لبيك يا أبا الدّحداح، قال إنّى جعلت حديقتى هذه صدقة و اشتريت مثليها في الجنّة و أمّ الدّحداح معي و الصّبية معي قالت: بارك اللَّه لك فيما شريت و فيما اشتريت فخرجوا منها و أسلموا الحديقة إلى النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم فقال النبيّ: كم من نخلة متدلّ عذوقها لأبي الدحداح في الجنّة.

و في منهج الصادقين قال النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: كم من عذق«» رواح و دار فياح في الجنّة لأبي الدّحداح.

(و من شكره جزاه) أى من اعترف بنعمته سبحانه و فعل ما يجب فعله من الطاعة و ترك ما يجب تركه من المعصية أعطاه اللَّه سبحانه بشكره الجزاء الجميل‏ و الثواب الجزيل.

ثمّ إنه بعد ما ذكر جملة من النعوت الجلالية و الصفات الجمالية للّه سبحانه أردف ذلك بالعظة و النصيحة فقال: (عباد اللَّه زنوا أنفسكم من قبل أن توزنوا) أى زنوها في الدنيا قبل الوزن في الآخرة فأما الوزن في الدّنيا فهو اعتبار الأعمال و ضبطها بميزان العدل أى مراعاة الاستقامة على حاقّ الوسط المصون من طرفى التفريط و الافراط، فانّ اليمين و الشمال مضلّة و الطريق الوسطى هي الجادّة، و أمّا الوزن الأخروى فقد أشير إليه في قوله سبحانه: وَ الْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ.

قال الطبرسيّ في معناه قيل: إنّ الوزن عبارة عن العدل في الآخرة و أنه لا ظلم فيها و قيل: إنّ اللَّه ينصب ميزانا له لسان و كفّتان يوم القيامة فيوزن به أعمال العباد الحسنات و السيئات، ثمّ اختلفوا في كيفيّة الوزن لأنّ الأعمال أعراض لا يجوز وزنها فقيل: توزن صحايف الأعمال، و قيل: يظهر علامات الحسنات و السّيئآت في الكفّتين فيراها الانسان، و قيل: تظهر الحسنات في صورة حسنة و السيّئآت في صورة سيئة، و قيل: توزن نفس المؤمن و نفس الكافر، و قيل: المراد بالوزن ظهور مقدار المؤمن في العظم و مقدار الكافر في الذلّة كما قال سبحانه: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً.

(و حاسبوها من قبل أن تحاسبوا) أى حاسبوها في الدّنيا قبل المحاسبة في الآخرة أما المحاسبة الاخروية فقد مرّ في شرح الكلام الحادى و الثمانين تحقيق الكلام فيها و أما المحاسبة الدّنيوية فهي عبارة عن ضبط الانسان على نفسه أعمالها الخيرية و الشّرية ليزكّيها بما ينبغي لها و يعاقبها على فعل ما لا ينبغي و ستطلع على مزيد توضيح لها في ضمن الأخبار الآتية (و تنفّسوا قبل ضيق الخناق) و هو استعارة لانتهاز الفرصة للعمل قبل تعذّره بطول الأجل و تعلّق حبائل الموت و انشاب أظفار المنيّة و الفوت (و انقادوا) لأوامر اللَّه سبحانه و نواهيه (قبل عنف السياق) أى قبل السّوق العنيف و هو سوق ملك الموت بالجذبة المكربة التي تقدّمت الاشارة إليها في شرح الفصل السّابع من فصول الخطبة الثّانية و الثمانين.

(و اعلموا أنّه من لم يعن على نفسه حتى يكون له منها واعظ و زاجر لم يكن له من غيرها زاجر و لا واعظ) يعني من لم يعنه اللَّه سبحانه على نفسه حتّى يجعل له منها واعظا و زاجرا لم ينفعه الزّجر و الوعظ من غيرها.

و المراد باعانة اللَّه له أن يعدّ نفسه النّاطقة لقبول الخيرات و يؤيّدها على نفسه الأمّارة بالسّوء حتى تكون مقهورة عندها فيحصل له الاستعداد لقبول المواعظ و الزواجر و يكمل له الانتفاع بها.

روى في الوسائل عن محمّد بن إدريس في السّرائر نقلا من كتاب المشيخة للحسن بن محبوب عن أبي حمزة الثمالي قال: كان عليّ بن الحسين عليه السّلام يقول: ابن آدم إنّك لا تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك، و ما كانت المحاسبة من همّتك، و ما كان الخوف لك شعارا و الحزن لك دثارا، ابن آدم إنّك ميّت و مبعوث و موقوف بين يدي اللَّه عزّ و جلّ فأعدّ جوابا.

ايقاظ فى ذكر نبذ من الاخبار الواردة فى محاسبة النفس و بيان كيفية المحاسبة فأقول:

روى في الوسائل من الكافي باسناده عن إبراهيم بن عمر اليماني عن أبي الحسن الماضي عليه السّلام قال: ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كلّ يوم، فان عمل حسنا استزاد اللَّه و إن عمل سيّئا استغفر اللَّه منه و تاب إليه.

و من الخصال و معاني الأخبار للصدوق مسندا عن عطا عن أبي ذر «ره» في حديث قال: قلت: يا رسول اللَّه فما كانت صحف إبراهيم قال صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: كانت أمثالا كلّها أيها الملك المبتلى المغرور إنّي لم ابعثك لتجمع الدّنيا بعضها على بعض،و لكن بعثتك لتردّ عنّي دعوة المظلوم فانّي لا أردّها و إن كانت من كافر، و على العاقل ما لم يكن مغلوبا أن تكون له ساعات: ساعة يناجي فيها ربّه، و ساعة يحاسب فيها نفسه، و ساعة يتفكّر فيها صنع اللَّه إليه، و ساعة يخلو فيها بحظّ نفسه من الحلال فانّ هذه الساعة عون لتلك السّاعات و استجمام للقلوب و تفريغ لها.

و من مجالس الشيخ باسناده عن أبي ذر «ره» في وصيّة النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم أنه قال: يا أبا ذر حاسب نفسك قبل أن تحاسب فانّه أهون لحاسبك غدا، وزن نفسك قبل أن توزن، و تجهّز للعرض الأكبر يوم تعرض لا تخفى على اللَّه خافية إلى أن قال: يا أبا ذر لا يكون الرّجل من المتّقين حتّى يحاسب نفسه أشدّ من محاسبة الشريك شريكه فيعلم من أين مطعمه و من أين مشربه و من أين ملبسه من حلال أو من حرام، يا أبا ذر من لم يبال من أين اكتسب المال لم يبال اللَّه من أين أدخله النّار.

و من تفسير العسكري عن آبائه عن عليّ عن النّبيّ سلام اللَّه عليه و عليهم قال عليه السّلام: أكيس الكيّسين من حاسب نفسه و عمل لما بعد الموت، فقال رجل يا أمير المؤمنين كيف يحاسب نفسه قال: إذا أصبح ثمّ أمسى رجع إلى نفسه و قال: يا نفس إنّ هذا يوم مضى عليك لا يعود إليك أبدا و اللَّه يسألك عنه بما أفنيته فما الذي عملت فيه أذكرت اللَّه أم حمدته أقضيت حوائج مؤمن فيه أنفسّت عنه كربة أحفظته بظهر الغيب في أهله و ولده أحفظته بعد الموت في مخلفيه أكففت عن غيبة أخ مؤمن أعنت مسلما ما الذي صنعت فيه فيذكر ما كان منه فان ذكر أنه جرى منه خير حمد اللَّه و كبّره على توفيقه، و إن ذكر معصية أو تقصيرا استغفر اللَّه و عزم على ترك معاودته.

و عن عليّ بن موسى بن طاوس في كتاب محاسبة النّفس قال: و رأيت في كتاب مسعدة بن زياد من اصول الشيعة فيما رواه عن الصّادق عليه السّلام عن أبيه قال: اللّيل إذا أقبل نادى مناد بصوت يسمعه الخلايق إلّا الثقلين يابن آدم إنّي خلق جديد إنّي على ما فيّ شهيد فخذ منّي فانّي لو طلعت الشّمس لم أرجع إلى الدّنيا و لم تزدد فيّ من حسنة و لم تستعتب فيّ من سيئة، و كذلك يقول النّهار إذا أدبر اللّيل، و باللّه التّوفيق.

الترجمة

از جمله خطب شريفه آن امام أنام است عليه الصّلاة و السّلام كه فاتحه‏ اش متضمّن است بعض صفات كماليه الهيّه را و خاتمه ‏اش مشتمل است بر موعظه و نصيحت مى‏ فرمايد: حمد و ثنا خداوند معبود بحقى را سزاست كه شناخته شده است بى حسّ و بصر، و خلق نموده بى ‏فكر و نظر، آن چنان پروردگارى كه دايم است با لذات و متصف است ببقا و ثبات در وقتى كه نبود هيچ آسمان صاحب برجها، و نه حجابهاى صاحب درها، و نه شب تاريك، و نه بحر ساكن غير متحرك، و نه كوهى كه صاحب راههاى فراخ است، و نه راههاى فراخ كه متصف است باعوجاج و كجى، و نه زمينى كه صاحب فرش است و قرار، و نه خلقى كه صاحب قوّتست و اقتدار.

اين ذات موصوف بصفات كمالات آفريننده خلايق است و وارث ايشان، و معبود مخلوقاتست و رزق دهنده ايشان، و آفتاب تابنده و ماه درخشنده حركت كننده‏اند بعادت مستمره بر طبق رضاى او در حالتى كه فانى ميكنند هر جديد را، و نزديك مى‏نمايند هر بعيد را، قسمت فرموده است روزى‏هاى خلق را، و شمرده است اثرها و عملهاى ايشان را، و تعداد نموده نفسهاى ايشان را، و عالم است بخيانت چشمهاى ايشان و به آن چه پنهان مي كند سينه ‏هاى ايشان از آنچه كه در دل مى ‏گيرند از قصد عصيان و غير آن، و دانا است بقرارگاه و محلّ وديعه ايشان از ارحام ما دران و أصلاب پدران تا آنكه بنهايت مى ‏رسد ايشان را غايتها، يعنى خبير است بجميع احوال و اعمال ايشان از ابتداء تا انتهاء.

آن خداوندى كه شديد است عقوبت او بر اعداء خود در وسعت رحمت او، و وسعت دارد رحمت او بر اولياء خود در شدّت عقوبت او، قهر كننده كسيست كه غلبگى جويد بر او، و هلاك كننده كسيست كه نزاع كند با او، و ذليل كننده كسى است كه عناد ورزد با او، و غلبه كننده كسيست كه عداوت نمايد او را، هر كه توكل‏ كرد بر او كفايت نمود او را، و هر كس سؤال كرد از او عطا فرمود او را، و هر كه قرض داد باو و مال خود را در راه او صرف نمود عوض داد باو، و هر كه شكرانه نعمت او را بجا آورد جزاى خير داد باو.

اى بندگان خدا بسنجيد نفسهاى خود را بميزان عدل در دنيا پيش از آنكه سنجيده شويد بميزان عمل در آخرت، و محاسبه كنيد با نفسهاى خود پيش از آنكه بمقام محاسبه آورده شويد در قيامت، و نفس زنيد و فرصت غنيمت شماريد پيش از تنگ شدن گلو، و مطيع و منقاد باشيد پيش از رانده شدن با مشقت بسوى آخرت.

و بدانيد آن كسى كه اعانت فرموده نشده بر نفس خود تا آنكه باشد او را از آن نفس پند دهنده، و زجر كننده نيست او را از غير نفس او زجر كننده و نه پند دهنده، يعنى كسى كه اعانت نفرموده باشد خداوند او را بر غلبه نفس أمّاره او تا اين كه مستعد و قابل شود بر قبول موعظه و نصيحت از پيش خود، ثمرى نمى ‏بخشد او را موعظه و نصيحت ديگران، و اللَّه أعلم.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 88 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 89 صبحی صالح

89- و من خطبة له ( عليه‏ السلام  ) في الرسول الأعظم ( صلى ‏الله‏ عليه‏ وآله  ) و بلاغ الإمام عنه‏

أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ

وَ طُولِ هَجْعَةٍ مِنَ الْأُمَمِ

وَ اعْتِزَامٍ مِنَ الْفِتَنِ

وَ انْتِشَارٍ مِنَ الْأُمُورِ

وَ تَلَظٍّ مِنَ الْحُرُوبِ

وَ الدُّنْيَا كَاسِفَةُ النُّورِ

ظَاهِرَةُ الْغُرُورِ

عَلَى حِينِ اصْفِرَارٍ مِنْ وَرَقِهَا

وَ إِيَاسٍ مِنْ ثَمَرِهَا

وَ اغْوِرَارٍ مِنْ مَائِهَا

قَدْ دَرَسَتْ مَنَارُ الْهُدَى

وَ ظَهَرَتْ أَعْلَامُ الرَّدَى

فَهِيَ مُتَجَهِّمَةٌ لِأَهْلِهَا

عَابِسَةٌ فِي وَجْهِ طَالِبِهَا

ثَمَرُهَا الْفِتْنَةُ

وَ طَعَامُهَا الْجِيفَةُ

وَ شِعَارُهَا الْخَوْفُ

وَ دِثَارُهَا السَّيْفُ.

فَاعْتَبِرُوا عِبَادَ اللَّهِ

وَ اذْكُرُوا تِيكَ الَّتِي آبَاؤُكُمْ وَ إِخْوَانُكُمْ بِهَا مُرْتَهَنُونَ

وَ عَلَيْهَا مُحَاسَبُونَ

وَ لَعَمْرِي مَا تَقَادَمَتْ بِكُمْ وَ لَا بِهِمُ الْعُهُودُ

وَ لَا خَلَتْ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمُ الْأَحْقَابُ وَ الْقُرُونُ

وَ مَا أَنْتُمُ الْيَوْمَ مِنْ يَوْمَ كُنْتُمْ فِي أَصْلَابِهِمْ بِبَعِيدٍ.

وَ اللَّهِ مَا أَسْمَعَكُمُ الرَّسُولُ شَيْئاً إِلَّا وَ هَا أَنَا ذَا مُسْمِعُكُمُوهُ

وَ مَا أَسْمَاعُكُمُ الْيَوْمَ بِدُونِ أَسْمَاعِكُمْ بِالْأَمْسِ

وَ لَا شُقَّتْ لَهُمُ الْأَبْصَارُ

وَ لَا جُعِلَتْ لَهُمُ الْأَفْئِدَةُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ

إِلَّا وَ قَدْ أُعْطِيتُمْ مِثْلَهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ

وَ وَ اللَّهِ مَا بُصِّرْتُمْ بَعْدَهُمْ شَيْئاً جَهِلُوهُ

وَ لَا أُصْفِيتُمْ بِهِ وَ حُرِمُوهُ

وَ لَقَدْ نَزَلَتْ بِكُمُ الْبَلِيَّةُ جَائِلًا خِطَامُهَا

رِخْواً بِطَانُهَا

فَلَا يَغُرَّنَّكُمْ مَا أَصْبَحَ فِيهِ أَهْلُ الْغُرُورِ

فَإِنَّمَا هُوَ ظِلٌّ مَمْدُودٌ إِلَى أَجَلٍ مَعْدُودٍ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج6  

و من خطبة له عليه السّلام و هى الثامنة و الثمانون من المختار فى باب الخطب

و أوّل فقراتها مرويّة في الكافي و في ديباجة تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي أيضا باختلاف تطلع عليه.

أرسله على حين فترة من الرّسل، و طول هجعة من الامم، و اعتزام من الفتن، و انتشار من الامور، و تلظّ من الحروب، و الدّنيا كاسفة النّور، ظاهرة الغرور، على حين اصفرار من ورقها، و إياس من ثمرها، و اغورار من مائِها، قد درست منار الهدى، و ظهرت أعلام الرّدى، فهي متهجّمة لأهلها، عابسة في وجه طالبها، ثمرتها الفتنة، و طعامها الجيفة، و شعارها الخوف، و دثارها السّيف، فاعتبروا عباد اللَّه و اذكروا تيك الّتي آباؤكم و إخوانكم بها مرتهنون، و عليها محاسبون، و لعمري ما تقادمت بكم و لا بهم العهود، و لا خلت فيما بينكم و بينهم الأحقاب و القرون، و ما أنتم اليوم من يوم كنتم في أصلابهم ببعيد، و اللَّه ما أسمعهم الرّسول شيئا إلّا وها أنا ذا اليوم مسمعكموه، و ما أسماعكم اليوم بدون أسماعهم بالأمس، و لا شقّت لهم الأبصار، و لا جعلت لهم الأفئدة في ذلك الأوان إلّا و قد أعطيتم مثلها في هذا الزّمان، و و اللَّه ما بصرّتم بعدهم شيئا جهلوه، و لا أصفيتم به و حرموه، و لقد نزلت بكم البليّة جائلا خطامها، رخوا بطانها،فلا يغرّنّكم ما أصبح فيه أهل الغرور، فإنّما هو ظلّ ممدود إلى أجل معدود.

اللغة

(الفترة) ما بين الرّسولين من رسل اللَّه و (الهجعة) بفتح الها و سكون الجيم النومة ليلا من الهجوع بالضّم كالجلسة من الجلوس و (الاعتزام) العزم من اعتزمه و عليه و تعزم أراد فعله و قطع عليه و يروى و اعترام بالراء المهملة من عرام الجيش بالضمّ كغراب حدّتهم و شدّتهم و كثرتهم و العرام من الرّجل الشراسة و الاذى و (التّلظى) التلهب و (كسف) الشمس و القمر كسو فاذهب نورهما و احتجبا و (اغورّ) الماء اغورارا كاحمرّ و تغوّر ذهب في الأرض و اغورّت الشمس غابت قال سبحانه: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ.

أى صار مائكم غايرا (فهي متهجّمة) من هجم عليه هجوما انتهى إليه بغتة و هجم البيت انهدم و في بعض النّسخ متجهّمة بتقديم الجيم على الهاء من تجهّمه فلان استقبله بوجه كريه، و بهما روى بيت الصّديقة الطّاهرة سلام اللَّه عليها و على أبيها و بعلها و بينيها عند غصب فدك:

تهجّمتنا رجال و استخفّ بنا            لمّا فقدت و كلّ الأرض مغتصب‏

و (الأحقاب) جمع حقب بضمّ الحاء و القاف و بسكون القاف أيضا ثمانون سنة أو أكثر و قيل الدّهر و قيل السّنة و قيل السنون و (القرون) جمع القرن قال الفيروز آبادي أربعون سنة أو عشرة أو عشرون أو ثلاثون أو خمسون أو ستّون أو سبعون أو ثمانون أو مأئة أو مأئة و عشرون (و لا أصفيتم) على البناء للمفعول من باب الافعال، قال سبحانه: أَ فَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ.

أى آثركم و (جائلا خطامها) أى مضطربا غير مستقرّ من الجولان و الخطام من الدّابة بالخاء المعجمة و الطاء المهملة مقدم أنفها و فمها، و يطلق على الزمام، و هو المراد هنا باعتبار أنه يقع على الفم أو الأنف و ما يليه، و منه الحديث كان خطام جمله عليه السّلام ليف و (البطان) حزام القتب يقال أبطن البعير أى سدّ بطانه.

الاعراب

على حين فترة للاستعلاء المجازى، و جملة و الدّنيا كاسفة النّور، منصوبة المحلّ على الحاليّة من ضمير أرسله، و على حين اصفرار ظرف مستقرّ خبر ثان للدّنيا و يحتمل الحال أيضا و جملة قد درست حال أيضا، و لعمرى جملة قسميّة، و قوله و ما أنتم اليوم ما حجازيّة عاملة عمل ليس، و أنتم اسمها و ببعيد خبرها زيد فيه الباء كما تزاد في خبر ليس مطّردا، و اليوم متعلّق به، و كذلك من يوم و جملة جهلوه صفة لشيئا.

و جملة و حرموه حال من ضمير به و فيه دليل على عدم لزوم قد في الجملة الحالية الماضوية المثبتة كما عليه جمهور علماء الأدبية، اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ الجملة في معنى النفي إذ مقصوده عليه السّلام نفى الاصفاء عن المخاطبين و المحرومية عن الغائبين معا و لذلك جي‏ء بالواو و الضمير، و الفاء في قوله فلا يغرّنّكم فصيحة

المعنى

اعلم أنّ مقصوده عليه السّلام بهذه الخطبة هو التذكير و الموعظة و التّنبيه عن نوم الغفلة و التحذير من الغرور و الفتنة، و مهّد أوّلا مقدّمة متضمّنة للاشارة إلى حالة النّاس حين البعثة و أيّام الفترة و أنّه سبحانه أرسل إليهم رسولا يزكّيهم و يعلّمهم الكتاب و الحكمة و آثرهم بتلك النّعمة العظيمة و الموهبة الجسيمة بعد ما كانوا في شدّة الابتلاء و المحنة و منتهى الاضطراب و الخشية و سوء الحال و الكابة، ليتذكّر السّامعون بتلك النّعمة العظمى و المنحة الكبرى فيشكروا للّه و يلازموا طاعة اللَّه و يسلكوا سبيل اللَّه سبحانه فقال عليه السّلام: (أرسله) أى محمّدا صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم (على حين فترة من الرّسل) أى على حين سكون‏ و انقطاع من الرّسل و ذلك أنّ الرسل إلى وقت رفع عيسى كانت متواترة و بعد رفعه (ع) انقطع الوحى و الرّسالة خمسمائة سنة على ما في بعض روايات أصحابنا أو ستّمأة سنة كما عن البخاري عن سلمان، و الأوّل أشهر و أقوى و يأتي حديث آخر في ذلك إنشاء اللَّه في شرح الفصل السّادس من الخطبة المأة و الحادية و التسعين و هي الخطبة المعروفة بالقاصعة ثمّ بعث اللَّه محمّدا صلّى اللَّه عليه و آله و إنّما قيّد عليه السّلام نعمة الإرسال و الانزال بتلك الحال و ما يتلوها من الأحوال بيانا للواقع و إظهارا لجلالة تلك النعمة و جزالة تلك الموهبة حسبما أشرنا إليه فانّ النعمة يتزايد قدرها بحسب تزايد منافعها، و لا ريب أنّ خلوّ الزمان عن الرّسول يستلزم ظهور الفساد و الشّرور و انتشار البغى و الفجور و كثرة الهرج و المرج، و تلك أحوال مذمومة و أفعال مشئومة توجب تبدّل النّظام و اختلال الأحكام و الانهماك في الجهالات و التّورّط في الضّلالات و لحوق الذّم بهم بمقدار ما يلحقهم من المدح في حال الطاعة و القيام بوظايف العبادة المتفرّعة على وجود الدليل و بعث الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم (و طول هجعة من الامم) استعار لفظ الهجعة التي هي عبارة من النّوم في اللّيل لانغماسهم في ظلمة الجهالة و الضّلالة، و رشحها بذكر الطول الذي هو من ملايمات المستعار منه على حدّ قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى‏ فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ.

(و اعتزام من الفتن) نسبة الاعتزام إلى الفتن مجاز كنّى به عن وقوعها بينهم كأنّها قاصدة لهم مريدة إيّاهم و على رواية الاعترام بالرّاء المهملة فالمراد كثرتها و شدّتها و تأذّى الناس بها (و انتشار من الأمور) أى تفرّق امور الخلق في معاشهم و عدم جريانها على قانون منتظم (و تلظّ من الحروب) شبّه الحرب بالنّار في الافساد و الاهلاك و أسند إليها التّلظّى الذي هو الاشتعال و الالتهاب على سبيل الاستعارة و كنّى به عن هيجانها و ثورانها أيّام الفترة ففي الكلام استعارة مكنيّة و تخييليّة(و الدّنيا كاسفة النّور) استعار النور للعلم المقتبس من الأنبياء و الحجج بشباهة أنّ كلّا منهما سبب لهداية الأنام في الضّلالة و الظلام، و رشّحها بذكر الكسف الذى من ملايمات النّور و أراد به عدم وجود هذا النّور في ذلك الزمان (ظاهرة الغرور) أراد ظهور اغترار النّاس بها و شيوع افتتانهم بشهواتها و لذاتها (على حين اصفرار من ورقها و اياس من ثمرها و اغورار من مائها) شبّه عليه السّلام الدنيا بشجرة مثمرة مورقة في اشتمالها على ما تشتهيه الأنفس و تلذّ الأعين على سبيل الاستعارة بالكناية و ذكر الورق و الثمر و الماء تخييل. و إثبات الاصفرار و الاياس و الاغورار ترشيح، و أراد بتلك الترشيحات بيان خلوّ الدنيا يومئذ عن آثار العلم و الهداية و ما يوجب السعادة في البداية و النهاية.

و يمكن جعله مركّبا من استعارات متعدّدة و يكون المراد بيان خلوّ الدنيا حينئذ من الأمن و الرّفاهية و المنافع الدّنيوية ليكون ما يذكر بعده تأسيسا.

و توضيح ذلك الوجه ما ذكره الشارح البحراني حيث قال استعار لفظ الثمرة و الورق لمتاعها و زينتها و لفظ الاصفرار لتغيّر تلك الزينة عن العرب في ذلك الوقت و عدم طراوة عيشهم اذا و خشونة مطاعمهم كما يذهب حسن الشّجرة باصفرار ورقها فلا يلتذّ بالنّظر إليها، و عنى بالاياس من ثمرها انقطاع مآل العرب اذا من الملك و الدّولة و ما يستلزمه من الحصول على طيبات الدّنيا.

و كذلك استعار لفظ الماء لموادّ متاع الدّنيا و طرق لذّاتها و لفظ الاغورار لعدم تلك الموادّ من ضعف التجارات و المكاسب و عدم التملّك للأمصار و كلّ ذلك لعدم النظام العدلى بينهم و كلّها استعارات بالكناية و وجه الاستعارة الاولى أنّ الورق كما أنّه زينة الشّجر و به كماله كذلك لذّات الدّنيا و زينتها، و وجه الثّانية أنّ الثمر كما أنّه مقصود الشجرة غالبا و غايتها كذلك متاع الدّنيا و الانتفاع به هو مقصودها المطلوب منها لأكثر الخلق، و وجه الثّالثة أنّ الماء كما أنّه مادّة الشجرة و به حياتها و قيامها في الوجود كذلك موادّ تلك اللّذّات هي المكاسب و التجارات و الصّناعات، و قد كانت العرب خالية من ذلك و وجوه باقي الاستعارات ظاهرة.

(قد درست منار الهدى) كناية عن فقدان حجج الدّين و انتفاء أدلّة الحقّ (و ظهرت أعلام الرّدى) كناية عن غلبة أدلّة الباطل و ظهور أئمّة الضّلال (فهى متهجّمة لأهلها) أى داخلة عليهم عنفا لكونها غير موافقة لرضاهم أو منهدمة عليهم غير باقية في حقّهم أو ملاقية لهم بوجه كريه و هو على رواية متجهّمة بتقديم الجيم على الهاء (عابسة في وجه طالبها) أراد به عدم حصول بغية الطالبين منها كما لا تحصل من الرّجل المنقبض الوجه الذى يلوى بشرته قال سبحانه: عَبَسَ وَ تَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى‏.

(ثمرتها الفتنة) أى الضّلال عن طريق الحقّ و التيه في ظلمة الباطل و فيه استعارة مكنية و تخييليّة حيث شبّه الدنيا بشجرة مثمرة و أثبت الثّمرة لها و جعل ثمرتها الفتنة إمّا من باب التهكم أو من حيث إنّ الثمرة كما أنّها الغاية المقصودة من الشجرة فكذلك غاية الدّنيا عند أهلها هي الفتنة و الضّلال (و طعامها الجيفة) يحتمل أن يكون المراد بالجيفة الميتة و الحيوان الغير المزكى ممّا كان العرب يأكلها في أيّام الفترة حتى حرّمتها الآية الشريفة أعنى قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ.

أى المضروبة بالخشب حتى تموت و يبقى الدّم فيها فيكون أطيب كما زعمه المجوس «وَ الْمُتَرَدِّيَةُ» أى التي تردّت من علوّ فماتت و قد مرّ في شرح الخطبة السّادسة و العشرين أنّ أكثر طعام العرب كان الخشب و الخبائث، و يجوز أن يراد بالجيفة الاعمّ من ذلك أعني مطلق ما لا يحلّ في الشريعة المطهّرة سواء كان من قبيل الخبائث و الميتات أو من قبيل الأموال المغصوبة المأخوذة بالنّهب‏ و الغارة و السّرقة و نحوها على ما جرت عليه عادة العرب و كانت دابا لهم (و شعارها الخوف و دثارها السّيف) الشّعار ما يلي شعر الجسد من الثّياب و الدّثار ما فوق الشّعار من الأثواب و مناسبة الخوف بالشّعار و السّيف بالدّثار غير خفيّة على ذوي الأنظار.

ثمّ إنّه بعد ما مهّد المقدّمة الشريفة و فرغ من بيان حالة العرب في أيّام الفترة شرع في الموعظة و النّصيحة بقوله: (فاعتبروا عباد اللَّه) بما كانت عليه الاخوان و الآباء و الأقران و الأقرباء (و اذكروا تيك) الأعمال القبيحة و الأحوال الذميمة (التي آبائكم و اخوانكم بها مرتهنون) و محبوسون و عليها محاسبون و مأخوذون.

ثمّ اشار عليه السّلام إلى تقارب الأزمان و تشابه الأحوال بين الماضين و الغابرين بقوله: (و لعمري ما تقادمت بكم و لا بهم العهود) حتّى تغفلوا (و لا خلت فيما بينكم و بينهم الأحقاب و القرون) حتّى تذهلوا (و ما أنتم اليوم من يوم كنتم في أصلابهم ببعيد) حتّى تنسوا و لا تعتبروا فلكم اليوم بالقوم اعتبار و فيما جرت عليهم تبصرة و تذكار.

(و اللَّه ما أسمعهم الرّسول شيئا إلّا و ها أناذا مسمعكموه) فليس لكم علىّ حجّة بعدم الابلاغ و الاسماع (و ما إسماعكم اليوم بدون إسماعهم بالأمس) فليس لكم معذرة بالوقر في الآذان و الأسماع (و لاشقت لهم الأبصار) المبصرة (و لا جعلت لهم الأفئدة) المتدبّرة (في ذلك الأوان إلّا و قد أعطيتم مثلها في هذا الزّمان) فلا يمكن لكم أن تقولوا إنّا كنّا في عمى من هذا و كنّا به جاهلين، و لا أن تعتذروا بأنّه لم يجعل لنا أفئدة و كنّا منه غافلين.

(و واللَّه ما بصّرتم بعدهم شيئاً جهلوه) بل علّموا ما علّمتم (و لا اصفيتم) و اوثرتم (به و حرموه) بل منحوا ما بذلتم فلم يبق بينكم و بينهم فرق في شي‏ء من الحالات و كنتم مثلهم في جميع الجهات فإذا انتفى الفارق فما بالكم لا تسمعون و لا تبصرون‏ و لا تفهمون و لا تذكّرون، و قد اسمع اسلافكم فسمعوا، و بصّروا فتبصّروا و ذكّروا فتذكّروا و عمّروا فنعموا، و علّموا ففهموا.

ثمّ حذرهم و أنذرهم بإشراف الابتلاء و المحنة و نزول البلية بقوله (و لقد نزلت بكم البليّة) لعلّه أراد بها فتنة معاوية و دولة بني أميّه (جائلا خطامها رخواً بطانها) استعارة بالكناية عن خطرها و صعوبة حال من يعتمد عليها و يركن إليها كما أنّ من ركن إلى النّاقة التي جال خطامها و لم‏تستقرّ في وجهها و انفها و ارتخى حزامها فركبها كان في معرض السّقوط و الهلاك.

ثمّ أردف ذلك بالنّهى عن الاغترار بالدّنيا فقال (و لا يغرنّكم ما أصبح فيه أهل الغرور) من الاغترار بزخارفها و لذّاتها و الانهماك في شهواتها و طيّباتها بظنّ دوامها و ثباتها (فانّما هو ظلّ ممدود إلى أجل) محدود (معدود) بينا ترونه سابغا حتّى قلص و زيداً حتّى نقص.

تكملة

قد اشرنا سابقا إلى أنّ أوّل فقرات هذه الخطبة مرويّة في الكافي باختلاف لما هنا فأحببت أن اوردها على ما هود يدننا في الشّرح فأقول: روى الكلينيّ عن محمّد بن يحيى عن بعض أصحابه عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام أيّها النّاس إنّ اللَّه تبارك و تعالى أرسل إليكم الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله و سلمّ، و أنزل عليه الكتاب و أنتم اميّون عن الكتاب و من أنزله و عن الرّسول و من أرسله على حين فترة من الرّسل، و طول هجعة من الأمم، و انبساط من الجهل، و اعتراض من الفتنة، و انتقاض عن المبرم، و عمى عن الحقّ، و اعتساف من الجور، و امتحاق من الدّين، و تلظّ من الحروب، على حين اصفرار من رياض جنّات الدّنيا، و يبس من اغصانها، و انتشار من ورقها، و اياس من ثمرها، و اغورار من مائها.

قد درست أعلام الهدى، و ظهرت أعلام الردى، فالدّنيا متهجّمة «متجهّمة ح» في وجوه أهلها مكفهرّة مدبرة غير مقبلة، ثمرتها الفتنة، و طعماها الجيفة،و ثمارها الخوف، و دثارها السّيف، و مزّقتم كلّ ممزّق، و قد أعمت عيون أهلها، و أظلمت عليها أيّامها، قد قطعوا أرحامهم، و سفكوا دمائهم، و دفنوا في التّراب الموؤدة بينهم من أولادهم، يجتاز دونهم طبيب العيش و رفاهية خفوض الدّنيا، لا يرجون من اللَّه ثوابا، و لا يخافون و اللَّه منه عقابا.

حيّهم أعمى نجس، و ميّتهم في النّار مبلس، فجاءهم صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم بنسخة ما في الصحف الأولى و تصديق الذي بين يديه و تفصيل الحلال من ريب الحرام، ذلك القرآن فاستنطقوه و لن ينطق لكم اخبركم عنه أنّ فيه علم ما مضى و علم ما يأتي إلى يوم القيامة و حكم ما بينكم و بيان ما أصبحتم فيه تختلفون، فلو سألتموني عنه لعلّمتكم.

و رواه عليّ بن إبراهيم القمي أيضا في ديباجة تفسيره نحوه و لقلّة موارد الاختلاف لم نطل بروايتها.

بيان

قال في النهاية: إنّا امّة اميّة لا نكتب و لا نحسب أراد أنّهم على أصل ولادة امّهم لم‏يتعلّموا الكتاب و الحساب فهم على جبلّتهم الأولى، و قيل: الأمّي الذي لا يكتب و منه الحديث بعثت إلى أمّة أميّة قيل للعرب: أميّون لأنّ الكتابة كانت فيهم عزيزة أو عديمة انتهى.

قال بعض شراح الحديث و لعلّ المراد هنا من لا يعرف الكتابة و الخط و العلم و المعارف و ضمن معنى ما يعدي كالنّوم و الغفلة، و قوله: و اعتراض من الفتنة يحتمل أن يكون عروضها و انتشارها في الآفاق، قوله: و انتقاض عن المبرم المبرم المحكم و قد أشار به إلى ما كان الخلق على من استحكام أمورهم بمتابعة الأنبياء و أراد بانتقاضه فساده.

و المكفهرّ من الوجوه من اكفهرّ على وزن اقشعرّ القليل اللّحم العليظ الذي لا يستحيي و المتعبّس، قوله: مزّقتم كلّ ممزّق التفات من الغيبة إلى الخطاب و الممزّق مصدر بمعنى التمزيق و هو التفريق و التّقطيع، و المراد به تفرّقهم في‏البلدان للخوف أو تفرّقهم في الأديان و الآراء، و الموءودة البنت المدفونة حيّة و كانوا يفعلون ذلك في الجاهليّة ببناتهم لخوف الاملاق أو العار كما قال سبحانه: وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ.

يجتاز دونهم طيب العيش و رفاهيّة خوفض الدّنيا، يجتاز بالجيم و الزاء المعجمة من الاجتياز و هو المرور و التجاوز، و الرفاهية السعة في المعاش، و الخفوض جمع الخفض و هي الدعة و الرّاحة أى يمرّ طيب العيش و الرّفاهية التي هي خفض الدّنيا أو في خفوضها متجاوزا عنهم من غير تلبّث عندهم، قوله: أعمى نجس بالنّون و الجيم و في بعض النسخ بالحاء المهملة من النّحوسة و المبلس من الابلاس و هو الاياس من رحمة اللَّه و منه سمّي ابليس، قوله: بما في الصّحف الاولى أى التوراة و الانجيل و الزبور و غيرها من الكتب المنزّلة و هو المراد بالذي بين يديه كما قال تعالى: وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ.

و قوله: فاستنطقوه الأمر للتعجير، و ساير الفقرات واضحة ممّا قدّمنا.

الترجمة

از جمله خطب شريفه آن حضرتست كه متضمّن مي باشد بعثت حضرت خاتم رسالت را در ايّام فترت و بيان حالت خلق را در ايّام جاهليت و مشتمل است به موعظه و نصيحت و تنبيه از نوم غفلت و جهالت مى‏ فرمايد: فرستاد حق سبحانه و تعالى پيغمبر آخر الزّمان را در حين فتور و انقطاع از پيغمبران، و در زمان درازى خواب غفلت از امّتان، و در هنگام عزم از فتنه ‏ها، و در وقت انتشار از كارها، و در حين اشتعال از نائره حروب و كارزارها، و در حالتي كه دنيا منكسف بود نور او، ظاهر بود غرور او، ثابت بود بر زردى برك خود، و مأيوسى از ثمر خود، و فرو رفتن آب خود، بتحقيق كه مندرس شده بود علم‏ هاى هدايت، و ظاهر گشته بود نشانهاى ضلالت.

پس دنيا هجوم آورنده بود بر أهل خود، و عبوس بود در روى طالبان خود، ميوه او فتنه بود، و طعام او جيفه، و پوشش او ترس بود از دشمنان، و لباس بيرونى او شمشير برّان، پس عبرت برداريد اى بندگان خدا و ياد آوريد آن حالت را كه بود پدران شما و برادران شما بسبب آن حالت مرهون و محبوس، و بجهت آن محاسب و مأخوذ، و قسم بزندگانى خود كه دير نشده است بشما و نه بايشان عهدها و زمانها، و نگذشته است در ما بين شما و ايشان روزگارها و قرنها، و ينستيد شما امروز از روزى كه بوديد در پشت‏هاى ايشان دور، يعنى مدتى نيست كه شما در اصلاب آباء خود بوديد ايشان با ساير خويشان از شما مفارقت كردند و شما هم در اندك زمانى بايشان ملحق خواهيد شد.

بخدا سوگند كه نشنوانيد بشما رسول خدا عليه التّحية و الثناء چيزى را مگر اين كه من شنواننده‏ام بشما آنرا، و نيست سمعهاى شما امروز كم از سمع‏هاى ايشان ديروز، و شكافته نشد ايشان را ديده‏ها، و گردانيده نشد ايشان را قلبها در آن زمان مگر اين كه عطا شديد شما مثل آنرا در اين زمان.

و بخدا قسم كه نموده نشديد شما بعد از ايشان چيزى را كه ايشان جاهل آن بوده باشند، و برگزيده نشديد بچيزى در حالتى كه ايشان محروم بوده باشند از او، و بتحقيق كه فرود آمد بشما بلاها در حالتى كه جولان كننده است مهار آن، سست بى ثبات است تنك آن، پس مغرور نسازد شما را آنچه كه صباح كرد در آن اهل غرور و ارباب شرور، پس اينست و جز اين نيست كه آن دنيا سايه ايست كشيده شده تا مدت شمرده شده، مشحون بانواع قصور و محتوى بكمال ضعف و فتور.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 87 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 88 صبحی صالح

88- و من خطبة له ( عليه ‏السلام  ) و فيها بيان للأسباب التي تهلك الناس‏

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَقْصِمْ جَبَّارِي دَهْرٍ قَطُّ

إِلَّا بَعْدَ تَمْهِيلٍ وَ رَخَاءٍ

وَ لَمْ يَجْبُرْ عَظْمَ أَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ إِلَّا بَعْدَ أَزْلٍ وَ بَلَاءٍ

وَ فِي دُونِ مَا اسْتَقْبَلْتُمْ مِنْ عَتْبٍ

وَ مَا اسْتَدْبَرْتُمْ مِنْ خَطْبٍ مُعْتَبَرٌ

وَ مَا كُلُّ ذِي قَلْبٍ بِلَبِيبٍ

وَ لَا كُلُّ ذِي سَمْعٍ بِسَمِيعٍ

وَ لَا كُلُّ نَاظِرٍ بِبَصِيرٍ

فَيَا عَجَباً

وَ مَا لِيَ لَا أَعْجَبُ مِنْ خَطَإِ هَذِهِ الْفِرَقِ عَلَى اخْتِلَافِ حُجَجِهَا فِي دِينِهَا

لَا يَقْتَصُّونَ أَثَرَ نَبِيٍّ

وَ لَا يَقْتَدُونَ بِعَمَلِ وَصِيٍّ

وَ لَا يُؤْمِنُونَ بِغَيْبٍ

وَ لَا يَعِفُّونَ عَنْ عَيْبٍ

يَعْمَلُونَ فِي الشُّبُهَاتِ

وَ يَسِيرُونَ فِي الشَّهَوَاتِ

الْمَعْرُوفُ فِيهِمْ مَا عَرَفُوا

وَ الْمُنْكَرُ عِنْدَهُمْ مَا أَنْكَرُوا

مَفْزَعُهُمْ فِي الْمُعْضِلَاتِ إِلَى أَنْفُسِهِمْ

وَ تَعْوِيلُهُمْ فِي الْمُهِمَّاتِ عَلَى آرَائِهِمْ

كَأَنَّ كُلَّ امْرِئٍ مِنْهُمْ إِمَامُ نَفْسِهِ

قَدْ أَخَذَ مِنْهَا فِيمَا يَرَى بِعُرًى ثِقَاتٍ

وَ أَسْبَابٍ مُحْكَمَاتٍ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج6  

و من خطبة له عليه السّلام و هى السّابعة و الثمانون من المختار فى باب الخطب

و هي مرويّة في كتاب الرّوضة من الكافي باختلاف كثير تطلع عليه إنشاء اللَّه بعد الفراغ من شرح ما أورده السيد (ره) في الكتاب و هو قوله عليه السّلام: أمّا بعد فإنّ اللَّه سبحانه لم يقصم جبّاري دهر قطُّ إلّا بعد تمهيل و رخاء، و لم يجبر عظم أحد من الامم إلّا بعد أزل و بلاء، و فى دون ما استقبلتم من عتب، و استدبرتم من خطب معتبر، و ما كلّ ذي قلب بلبيب، و لا كلّ ذي سمع بسميع، و لا كلّ ذي ناظر ببصير، فيا عجبا و ما لي لا أعجب من خطاء هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها، لا يقتصّون أثر نبيّ، و لا يقتدون بعمل وصي، لا يؤمنون بغيب، و لا يعفون عن عيب، يعملون في الشّبهات، و يسيرون في الشّهوات، المعروف فيهم ما عرفوا، و المنكر عندهم ما أنكروا، مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم، و تعويلهم في المبهمات على آرائهم، كأنّ كلّ امرى‏ء منهم إمام نفسه، قد أخذ منها فيما يرى بعرى و ثقات و أسباب محكمات.

اللغة

(قصمه) يقصمه من باب ضرب كسره و ابانه أو كسره و ان لم يبن و (الجبار) كلّ عات و (مهّله) تمهيلا أجّله و (رخى) العيش و رخو بالياء و الواو رخاوة من باب تعب و قرب إذا اتّسع فهو رخيّ على وزن فعيل و الرّخا اسم منه، و في بعض النسخ الارجاء بالجيم من باب الافعال و هو التّأخير فيكون عطفه على التّمهيل من باب التوضيح و التّفسير و (جبرت) العظم جبرا من باب قتل أصلحته و (الأزل) الضّيق و الشّدة و (العتب) بالسّكون الموجدة و يروى بفتح التّاء و هو الشدّة و الأمر الكريه و (الخطب) الأمر المعظم كما في قوله: فما خطبك يا سامريّ، و يروى من خصب بالصاد المهملة و هو السّعة و رخاء العيش.

و في بعض النّسخ استقبلتم من خطب و استدبرتم من عتب، و في بعض النسخ فيا عجبي بالاضافة إلى ياء المتكلّم (يقتصّون) و ما بعده من الأفعال في بعض النسخ بصيغة المذكر باعتبار المعنى و في بعضها بصيغة التأنيث باعتبار ملاحظة لفظ الفرقة و عود الضمير فيها إليها و (عفّ) يعفّ من باب ضرب عفّا و عفافا و عفافة بفتحهنّ‏ و عفّة بالكسر فهو عفّ و عفيف كفّ عما لا يحلّ و امتنع عنه.

و في بعض النسخ يعفون بسكون العين و التخفيف من العفو و هو الفصح و ترك عقوبة المستحق و (المعضلات) في النسخ بفتح الضاد و كذلك في الخطبة السابقة و المضبوط في القاموس و الأوقيانوس بصيغة الفاعل و هي الشدائد من أعضل الأمر إذا اشتدّو (العرى) جمع العروة كمدية و مدى و هو ما يستمسك به الشي‏ء و منه عروة الكوز لمقبضه و اذنه و (السبب) الحبل و ما يتوصّل به إلى الاستعلاء «الغير ظ» ثمّ استعير لكلّ شي‏ء يتوصّل به الى أمر من الأمور.

الاعراب

قطّ من ظروف الزّمان و معناه الوقت الماضي عموما و لا يستعمل إلّا بمعنى أبدا و الغالب استعماله في الماضي المنفيّ و قد يستعمل بدون النّفى لفظا و معنى، نحو كنت أراه قطّ أى دائما و قد استعمل بدونه لفظا لا معنى، نحو هل رأيت الذّئب قطّ و هو مبنيّ لأنّ بعض لغاته على وضع الحروف و بنائه على الضمّ حملا على أخيه عوض لأنّ عوض للمستقبل المنفيّ و هو للماضي المنفيّ و بنى عوض على الضمّ لانقطاعه عن الاضافة كقبل و بعد قال الرّضي: الأولى أن يقال بنى لتضمّنه لام الاستغراق لزوما لاستغراقه جميع الماضى بخلاف أبدا فليس الاستغراق لازما لمعناه، ألا ترى إلى قولهم: طال الأبد على أبد، و دون ظرف مبنيّ على الفتح يقال هذا دون ذلك أى أقرب منه، و منه المثل دونه خرط القتاد، و عجبا إما منصوب على النّداء و التنوين عوض عن المضاف إليه أى يا عجبي احضر، أو منتصب على المصدر أى يا نفس أعجب عجبا، و ما استفهامية و من خطاء إما متعلّق بعجبا أو أعجب على سبيل التنازع، و على اختلاف إما بمعنى اللّام كما في قوله: وَ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى‏ ما هَداكُمْ.

فتكون علّة للخطاء، و إمّا بمعنى مع كما في قوله تعالى: وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى‏ حُبِّهِ.

بناء على عود الضّمير في حبّه إلى الطعام دون اللَّه سبحانه، و يحتمل أن يكون للاستعلاء المجازي و المتعلّق محذوف و التقدير من خطاء هذه الفرق مبنيّا على اختلاف حججها، و في دينها متعلّق بالخطاء، و جملة لا يقتصّون استيناف بيانيّ مسوق لبيان جهة الخطاء أو جهة الاختلاف على سبيل منع الخلوّ فافهم جيّدا، و تحتمل الحالية و الأوّل أظهر، و كانّ كلّ امرء من حروف المشبّهة و في بعض النّسخ بحذفها و اسقاطها، قال الشّارح المعتزلي و هو حسن أقول: بل اثباتها أحسن و يظهر وجهه بالتّامّل.

المعنى

اعلم أنّ مقصوده عليه السّلام بهذه الخطبة توبيخ النّاس و ذمّهم على اختلافهم في الدّين و عدولهم عن الامام المبين و استبدادهم بالآراء و اعتمادهم على الأهواء فمهّد عليه السّلام أوّلا مقدّمة متضمّنة للتّخويف و التّحذير و التّنبيه و التّذكير و قال: (أمّا بعد) حمد اللَّه و الثّناء عليه و الصلاة على رسوله و آله (فانّ) عادة (اللَّه سبحانه) قد جرت في القرون الخالية و الامم الماضية على أنّه (لم يقصم حبّاري دهر قط) و لم يكسر عظام أحد منهم و لم يهلكهم (إلّا بعد تمهيل و رخاء) أفلم تر أولاد سبا فلقد آتاهم اللَّه سوابغ الآلاء و روافغ النّعماء و كان لهم في مسكنهم جنتان.

 كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا.

فأرسل عليهم سيل العرم و مزّقهم بما كفروا كلّ ممزّق.

 إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ.

أ و لم تر إلى شدّاد بن عاد كيف بنى: إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ… وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ الذي طغى في البلاد و من حذا حذوهما ممّن ملك الرّقاب و تسلّط على العباد فأكثر فيهم الفساد.

 فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ.

و مقصوده عليه السّلام بهذا الكلام إنذار من قصده بالافهام من أهل زمانه و تحذيرهم من الانغماس في الغفلة و الافتتان بالرخاء و الدّعة و الاغترار ببضاضة الشّباب و غضارة الصّحة كيلا يلحقهم ما لحق من قبلهم و لا يأخذهم ربّهم بسوء فعلهم فيكونوا عبرة لمن بعدهم (و لم يجبر عظم أحد من الامم) و لم يظهرهم على عدوّهم (إلّا بعد أزل و بلاء) و ضيق و عنا.

و تصديق ذلك في الامم الماضية بما وقع لبني اسرائيل من فرعون حيث جعلهم في الأرض شيعا يذبّح أبنائهم و يستحيى نسائهم و فيه بلاء مبين فلما تمّت البليّة و عظمت الرزية جبر اللَّه كسرهم و شدّ أزرهم و أغرق فرعون و جنوده أجمعين و منّ على الّذين استضعفوا في الأرض و جعلهم أئمّة و جعلهم الوارثين.

و في الأمة المرحومة بما وقع يوم الأحزاب عند اجتماع العرب الأتراب إذ زاغت الأبصار و بلغت القلوب الحناجر و ابتلى المؤمنون و زلزلوا زلزالا شديدا و قالوا هذا ما وعدنا اللَّه و رسوله و صدق اللَّه و رسوله و ما زادهم إلّا إيمانا و تسليما و قال المنافقون ما وعدنا اللَّه و رسوله إلّا غرورا فلما ابتلوا بذاك و أيقنوا بالقتل و الهلاك أنعم اللَّه عليهم و أعانهم بريح و جنود لم يروها و كان اللَّه قويّا عزيزا.

و في هذا الكلام تنبيه على الثبات و الصبر و رجاء الظّفر و النّصر و عدم اليأس من روح اللَّه و القنوط من رحمة اللَّه عند ضيق المسالك و التقحّم في المهالك، هذا.

و يحتمل أن يكون مقصوده عليه السّلام بالفقرة الأولى أعنى قوله: لم يقصم جبّاري‏ دهراه الاشارة إلى مآل حال معاوية و أمثاله من جبابرة دهره عليه السّلام و الباغين عليه من طلحة و الزّبير و من حذا حذوهما من العتاة، و التنبيه على أنّ اللَّه يقصم ظهرهم و يكسر صولتهم و يسلبهم ملكهم و دولتهم و إن طالت مدّتهم و شوكتهم كما قال تعالى: أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ ما أَغْنى‏ عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ.

و بالفقرة الثانية أعنى قوله و لم يجبر عظم أحداه تسلّي همّ أصحابه و كأبتهم بالوهن و الضعف و الضّنك و الضّيق الذي أصابهم من المتخلّفين و معاوية و أصحابه و حثّهم على الاتفاق و الايتلاف و تحذيرهم من التّفرق و الاختلاف، إذ في الاجتماع رجاء النّصرة و الاختلاف مظنة المغلوبية.

و يؤيد هذا الاحتمال في الفقرتين و يعاضده التّأمل في ساير فقرات الخطبة على رواية الرّوضة الآتية (و في دون ما استقبلتم من عتب و استدبرتم من خطب معتبر) يحتمل أن يكون المراد بالعتب الذى استقبلوه عتابه عليه السّلام و موجدته عليهم بتشتّت الآراء و تفرّق الأهواء، و هو على رواية العتب بسكون التّاء، و بالخطب الذى استدبروه الامور المعظمة و الملاحم التي وقعت بعد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم يوم السّقيفة و يوم الشورى و يوم الدّار و أن يكون المراد بالعتب الشدائد و الكرايه التي أصابتهم من المتخلّفين و هو على رواية العتب بفتح التّاء و بالخطب الأهوال التي كانوا يرونها من المشركين في بدء الاسلام حيث كانوا قليلين و كان المشركون كثيرين فأيّدهم اللَّه بنصره بالتأليف بين قلوب المؤمنين و أظهرهم على الكافرين.

(و) كيف كان فهو عليه السّلام يقول: إنّ فيما استقبلتم و استدبرتم من الامور المفيدة للاتّعاظ و الاعتبار لعبرة لأولي الفهم و العقل و الذكاء، و موعظة لذوي الأبصار و الأسماع، و إنّما يتذكر اولو الألباب، و يعتبر السّميع البصير المميّز للقشر من اللّباب، لأنّهم‏ المنتفعون بالعبر و الحائزون قصب السّبق في مضمار الاعتبار بصحيح النّظر إذ (ما كلّ ذي قلب بلبيب و لا كلّ ذي سمع بسميع و لا كلّ ذي ناظر ببصير) فربّ قوم لهم أرجل لا يمشون بها، و لهم أيد لا يبطشون بها، و لهم عقول لا يفقهون بها، و لهم آذان لا يسمعون بها، و لهم أعين لا يبصرون بها، و في ذلك تحريص على الاتّعاظ و الاعتبار و ترغيب في الازدجار و الادّكار (فيا عجبا و ما لى لا أعجب من خطاء هذه الفرق على اختلاف حججها) و أدلّتها (في دينها) تعجّب عليه السّلام من اختلاف الفرق و خطائهم في الدّين و افتراقهم في شرع سيّد المرسلين اعتمادا منهم على أدلّتهم المتشتّتة و حججهم المختلفة، و اتّكالا على اصولهم الّتي أصّلوها و قواعدهم التي فصّلوها، و استبدادا منهم بعقولهم الفاسدة و آرائهم الكاسدة.

و بيّن عليه السّلام جهة الخطاء و الاختلاف بأنّهم (لا يقتصّون أثر نبيّ) لأنّهم لو اقتصّوه و اتّبعوه لما اختلفوا إذ ما جاء به النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم واحد و شرعه واحد و كتابه واحد فلو اقتفوه لا تّفقوا و أصابوا حسبما مرّ توضيحه في الكلام الثّامن عشر و شرحه (و لا يقتدون بعمل وصيّ) إذ الوصيّ مقتد في عمله بالنّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم فلو اقتدوا به لكانوا مقتدين بالنّبيّ و به مهتدين و لم يكن هناك اختلاف و خطاء حسبما عرفت آنفا و حيث اختلفوا علم أنّهم كانوا تاركين اثره غير مقتدين عمله و يوضح ذلك ما في غاية المرام من أمالي الشّيخ مسندا عن المجاشعى عن الرّضا عن آبائه عليه السّلام قال: سمعت عليّا عليه السّلام يقول لرأس اليهود: على كم افترقتم فقال: على كذا و كذا فرقة، فقال عليّ عليه السّلام: كذبت، ثمّ أقبل على الناس و قال: و اللَّه لو ثنّيت لى الوسادة لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم و بين أهل الانجيل بإنجيلهم و بين أهل القرآن بقرآنهم، افترقت اليهود على أحد و سبعين فرقة سبعون منها في النّار و واحدة ناجية في الجنة و هى التي اتّبعت يوشع بن نون وصيّ موسى، و افترقت النّصارى على اثنتين و سبعين فرقة إحدى و سبعون فرقة في النّار و واحدة في الجنة و هي التي اتّبعت شمعون وصيّ عيسى (ع)، و تفترق هذه الامّة على ثلاث‏ و سبعين اثنتان و سبعون فرقة في النار و واحدة في الجنّة و هي الّتي اتّبعت وصيّ محمّد صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و ضرب بيده على صدره ثمّ قال عليه السّلام ثلاث عشرة فرقة من الثلاث و سبعين فرقة كلّها تنتحل مودّتي و حبّى واحدة منها في الجنّة و هم النمط الأوسط و اثنتا عشرة في النّار.

و (لا يؤمنون بغيب) المراد بالغيب إمّا القرآن الّذي يصدّق بعضه بعضا.

 وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً و إمّا مطلق ما غاب من الحواسّ من توحيد اللَّه و نبوّة الأنبياء و ولاية الأوصياء و الرجعة و البعث و الحساب و الجنّة و النّار و ساير الأمور التي يلزم الإيمان بها ممّا لا يعرف بالمشاهدة و إنّما يعرف بالبراهين و الأدلّة الّتي نصبها اللَّه عليه، و على أىّ تقدير فانتفاء الايمان بالغيب أيضا من أسباب اختلاف الفرق و جهات خطائها في المذاهب إذ لو كانوا يؤمنون بالغيب و به مذعنين لكانوا مهتدين إلى الحقّ و الصّواب في كلّ باب فان: هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ و ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ.

(و لا يعفون عن عيب) إذ ملكة العفاف و الوقوف عند المحرّمات و الشّبهات مانعة عن الاستبداد بالآراء التي نشأت منها الفرقة و الاختلاف موجبة للفحص عن الحقّ و الاهتداء إلى صوب الصّواب، و حيث لم يكن لهم عفاف و حايطة في الدّين لم يبالوا في أىّ واد يهيمون، و على رواية لا يعفون بالتخفيف فالمراد به عدم العفو عن عيوب النّاس، و على هذه الرّواية فهو من فروعات الخطاء في الدّين إذ العفو عن عيوب المذنبين من صفات المتّقين و المصيبين من المؤمنين كما شهد به الكتاب المبين: وَ سارِعُوا إِلى‏ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ‏ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَ الْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.

(يعملون في الشّبهات) أى لا يقفون في ما اشتبه عليهم أمره و لا يبحثون عن وجه الحقّ فيه بل يعملون فيه بما أدىّ هواهم إليه و إليه الاشارة في قوله تعالى: وَ الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ و في قوله: هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً.

روى في الوسائل من تفسير عليّ بن إبراهيم عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام في تفسير الآية الأولى قال عليه السّلام: هؤلاء أهل البدع و الشّبهات و الشّهوات يسوّد اللَّه وجوههم يوم يلقونه.

و عنه عن أبي جعفر عليه السّلام في تفسير الآية الثّانية قال: هم النّصارى و القسّيسون و الرّهبان و أهل الشّبهات و الأهواء من أهل القبلة و الحروريّة و أهل البدع.

(و يسيرون في الشّهوات) لما لاحظ عليه السّلام ميل طباعهم إلى اللّذات الدّنيوية و انهماكهم في الشّهوات النفسانية قاطعين مراحل الأوقات بالتّلذّذ بتلك اللّذات و الشّهوات لا جرم جعل الشّهوات بمنزلة طرق مسلوكة و جعل اشتغالهم بها بمنزلة السّير في تلك الطرق (المعروف فيهم ما عرفو) ه بعقولهم الفاسدة و إن لم يكن معروفا في الشريعة (و المنكر عندهم ما أنكروا) ه بآرائهم الكاسدة و إن لم يكن منكرا في الحقيقة (مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم) دون الأئمّة الذين يهدون بالحقّ و به يعدلون (و تعويلهم في المبهمات على آرائهم) دون أهل الذكر الذين أمر بسؤالهم بقوله: فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (كان كلّ امرى‏ء منهم امام نفسه) و كأنّ دليل كلّ واحد منهم رأيه و هواه (قد أخذ منها فيما يرى) و يظنّ (بعرى و ثقات) لا انفصام لها (و اسباب محكمات) لا يضلّ من تمسّك بها و إنّما مثلهم في ذلك: «كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَ إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» «وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ»

تكلمة

هذه الخطبة مرويّة في كتاب الرّوضة من الكافي باختلاف كثير عن أحمد بن محمّد الكوفي عن جعفر بن عبد اللَّه المحمّدي عن أبي روح فرج بن قرة عن جعفر بن عبد اللَّه عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال خطب أمير المؤمنين عليه السّلام بالمدينة فحمد اللَّه فأثنى عليه و صلّى على النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله ثمّ قال عليه السّلام: أمّا بعد فانّ اللَّه تبارك و تعالى لم يقصم جبّارى دهر إلّا من بعد تمهيل و رخاء، و لم يجبر كسر عظم من الامم إلّا بعد أزل و بلاء، أيّها النّاس في دون ما استقبلتم من خطب و استدبرتم من خطب معتبر، و ما كلّ ذي قلب بلبيب، و لا كلّ ذي سمع بسميع، و لا كلّ ذي ناظر عين ببصير.

عباد اللَّه أحسنوا فيما يعنيكم النّظر فيه ثمّ انظروا إلى عرصات من قد أفاده اللَّه بعلمه كانوا على سنّة من آل فرعون أهل جنّات و عيون و زروع و مقام كريم، ثمّ انظروا بما ختم اللَّه لهم من النّضرة و السّرور و الأمر و النّهى و لمن صبر منكم العاقبة في الجنان و اللَّه مخلّدون و للّه عاقبة الأمور.

فيا عجبا و ما لى لا أعجب من خطاء هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها لا يقتفون أثر نبيّ و لا يقتدون بعمل وصيّ و لا يؤمنون بغيب و لا يعفون عن عيب، المعروف فيهم ما عرفوا، و المنكر عندهم ما أنكروا، و كلّ امرء منهم امام نفسه و اخذ منها فيما يرى بعرى وثيقات و أسباب محكمات فلا يزالون بجور و لم «لن-  خ ل» يزدادوا إلّا خطاء لا ينالون تقرّبا و لن يزدادوا إلّا بعدا من اللَّه عزّ و جلّ انس بعضهم ببعض و تصديق بعضهم لبعض، كلّ ذلك وحشة مما ورّث النّبيّ الأمّي صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و نفورا ممّا أدّى إليهم من أخبار فاطر السّماوات و الأرض.

أهل حسرات و كهوف شبهات، و أهل عشوات و ضلالة و ريبة، من و كله اللَّه إلى نفسه و رأيه فهو مأمون عند من يجهله غير المتّهم عند من لا يعرفه، فما أشبه هؤلاء بأنعام قد غاب عنها رعاؤها.

و وا أسفا من فعلات شيعتي من بعد قرب مودّتها اليوم كيف يستذلّ بعدى بعضها بعضا، و كيف يقتل بعضها بعضا، المتشتّتة غدا عن الأصل النّازلة بالفرع المؤمّلة الفتح من غير جهة، كلّ حزب منهم آخذ بغصن أينما مال الغصن مال معه.

إنّ اللَّه و له الحمد سيجمع هؤلاء لشرّ يوم لبني أميّة كما يجمع قزع الخريف يؤلّف بينهم ثمّ يجعلهم ركاما كركام السّحاب، ثمّ يفتح لهم أبوابا يسيلون من مستثارهم كسيل الجنّتين سيل العرم، حيث بعث عليهم فارة فلم يثبت عليه اكمّة و لم يردّ سننه رضّ طود يذعذهم اللَّه في بطون أودية ثمّ يسلكهم ينابيع في الأرض يأخذ بهم من قوم حقوق قوم، و يمكّن من قوم لديار قوم، تشريدا لبني اميّة، و لكيلا يغتصبوا ما غصبوا، يضعضع اللَّه بهم ركنا و ينقض اللَّه بهم طىّ الجنادل من ارم و يملاء منهم بطنان الزّيتون.

فو الذي فلق الحبّة و برء النسمة ليكوننّ ذلك و كأنّي أسمع صهيل خيلهم و طمطمة رجالهم و أيم اللَّه ليذوبنّ ما في أيديهم بعد العلوّ و التّمكين في البلاد كما تذوب الالية على النّار، من مات منهم مات ضالّا و اللَّه عزّ و جلّ يقضي منهم من درج و يتوب اللَّه عزّ و جلّ على من تاب، و لعلّ اللَّه يجمع شيعتي بعد التّشتت لشرّ يوم لهؤلاء، و ليس لأحد على اللَّه عزّ ذكره الخيرة بل للّه الخيرة و الأمر جميعا أيّها النّاس إنّ المنتحلين للامامة من غير أهلها كثير و لو لم تتخاذلوا عن مرّالحقّ و لم تهنوا عن توهين الباطل لم يتشجّع عليكم من ليس مثلكم، و لم يقومن قوى عليكم على هضم الطاعة و ازوائها عن أهلها، لكن تهتم كما تاهت بنو اسرائيل على عهد موسى عليه السّلام، و لعمرى ليضاعفنّ عليكم البتّة بعدي أضعاف ما تاهت بنو اسرائيل و لعمرى أن لو قد استكملتم من بعدى مدّة سلطان بني اميّة لقد اجتمعتم على سلطان الداعي إلى الضّلالة و أحييتم الباطل و خلّفتم الحقّ وراء ظهوركم، و قطعتم الأدنى من أهل بدر و وصلتم الأ بعد من أبناء الحرب لرسول اللَّه.

و لعمرى أن لو قد ذاب ما في أيديهم لدنا التمحيص للجزاء و قرب الوعد و انقضت المدّة و بدا لكم النجم ذو الذّنب من قبل المشرق، و لاح لكم القمر المنير، فاذا كان ذلك فراجعوا التّوبة و اعلموا أنّكم ان اتّبعتم طالع المشرق سلك بكم مناهج الرسول صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم فتداويتم من العمى و الصّمم و البكم، و كفيتم مؤنة الطلب و التعسّف و نبذتم الثقل الفادح من الأعناق، و لا يبعد اللَّه إلّا من أبى و ظلم و اعتسف و أخذ ما ليس له وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ». هذا.

و رواها المفيد في الارشاد عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام إلى قوله بل للّه الخيرة و الأمر جميعا باختلاف كثير و زيادات كثيرة على رواية الروضة، و روى قوله عليه السّلام لو لم تتخاذلوا عن نصرة الحقّ إلى آخر رواية الروضة في ضمن خطبة اخرى رواها عن مسعدة عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال انه خطبها بالكوفة و بينها و بين رواية الروضة أيضا اختلاف كثير من أراد الاطلاع فليراجع الارشاد.

توضيح

«العرصات» جمع العرصة و هي كلّ بقعة من الدّور واسعة ليس فيها بناء «أفاده اللَّه بعلمه» في بعض النسخ بالفاء من أفدت المال أعطيته و في بعضها بالقاف‏ من أفاده خيلا أعطاه ليقودها و لعلّ المعنى أنه أعطاه اللَّه زينة الحياة الدنيا مع علمه بحاله بحسب اقتضاء حكمته و مقتضى عدالته كما قال في سورة هود عليه السّلام: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ زِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَ هُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ، أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ الآية.

و المراد بمن أفاده اللَّه هو المتخلّفون الغاصبون للخلافة، و في رواية الارشاد أباده بدل أفاده و هو الأنسب و عليه فالضّمير في بعلمه راجع إلى من اى كان علمه سببا للهلاكة «و السنّة» الطريقة أى كانوا على طريقة من طرايق آل فرعون و «أهل جنات» بالكسر عطف بيان لآل فرعون.

و قوله «في الجنان» متعلّق بقوله مخلّدون، و القسم معترض بين الظرف و متعلّقه «فلا يزالون بجور» الباء إمّا بمعنى في أو للمصاحبة و الملابسة «كلّ ذلك» بالنّصب مفعول به للفعل المحذوف و «وحشةً» مفعول له أى ارتكبوا كلّ ذلك وحشة.

و المراد بما ورث النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم ما ورثه آله المعصومين من الخلافة و الولاية «و الفاطر» المخترع «أهل حسرات» خبر محذوف المبتدأ أى هم أهل حسرات في الآخرة و «الكهوف» جمع كهف و هو الغار الواسع في الجبل، و في بعض النسخ كفوف شبهات و هو جمع كف و الكلام جار على الاستعارة و النّاقة «العشواء» لا تبصر امامها و «من وكله اللَّه» مبتدا و خبره «فهو مأمون» و وكله إلى نفسه تركه إليها، و في هذا كلّه تعريض على الخلفاء كما لا يخفى «و الرّعا» بكسر الرّاء جمع الرّاعي و «الفعلات» جمع الفعلة و هي العادة «المتشتّتة» إما بالجرّ صفة لشيعتي و إمّا بالرّفع على أنّه خبر حذف مبتدئه أى هم المتشتّته.

و لعلّ المراد بتشتّتهم عن الأصل و بنزولهم بالفرع ما صدر من بعض الشيعة كالزّيدية و الافطحية و الاسماعيلية و نحوهم حيث عدلوا عن الامام الأصل و تعلّقوا بالفرع و أملوا الفتح من غير جهة فأخطئوا و «القزع» محركة قطع من السحاب‏ و الواحدة قزعة و «الرّكام» الأوّل بالضّم من الرّكم و هو جمع شي‏ء فوق آخر، و الثّاني بالفتح و هو السحاب المتراكم و «المستثار» محل الاستثارة من الثور و هو الهيجان و الوثوب و نهوض القطا و الجراد.

و «سيل العرم» جمع عرمة كفرحة و هو سدّ يعترض به الوادي جمع عرم او هو جمع بلا واحدا و هو الاحباس تبني في البادية الأودية و الجرذ الذكر و المطر الشّديد و واد و بكلّ فسر قوله تعالى سيل العرم و «الاكمة» كالقصبة التلّ الصّغير و «لم يردّ سننه» من سنّ الماء صبّها أو من سنّ الطّريقة سارها و «الرض» هنا الحجارة و «الطّود» الجبل أو عظيمه و «ذعذع» المال و غيره فرقّه و بدّده و «ضعضعه» هدمه حتّى الأرض و «ينقض اللَّه» من النقض بالضاد المعجمة.

و لعلّه عليه السّلام كنّى ب «طىّ الجنادل من ارم» القصور و البساتين المشرفة المطوّية بالحجارات المسنّدة التي كانت لبني اميّة و «بطنان الزيتون» كناية عن الشّام كما في قوله تعالى و التّين و الزّيتون و «الطمطمة» العجمة في اللّسان و «درج» يدرج من باب قعد و سمع درجا و دروجا مشى و «المنتحلين للامامة» المدّعين لها لنفسه و هو لغيره و «من غير أهلها» بيان للمنتحلين و «ازوائها عن أهلها» اى صرفها وطيّها عنه و «التمحيص» بالصاد المهملة الابتلاء.

و اعلم أنّ هذه الخطبة الشّريفة متضمّنة لجملة من الأخبار الغيبيّة و فقراتها الأخيرة من قبيل المتشابهات و علمها موكول إليهم عليهم السّلام إذ أهل البيت أدرى بما فيه إلّا أنا نورد في تفسيرها على سبيل الاحتمال ما أورده الخليل القزويني في شرحه على الروضة بتغيير يسير منّا، فأقول: لعلّ مراده عليه السّلام بقوله مع أنّ اللَّه و له الحمد-  اه أنّه سبحانه يجمع هذه الفرق المختلفة على اختلافهم لاستيصال بني اميّة و هو شرّ يوم لهم و قد كان ذلك في سنة اثنتين و ثلاثين و مأئة حسبما أخبر عليه السّلام به حيث انقرضت سلطنة بني اميّة لعنهم اللَّه لظهور دولة العبّاسيّة و اجتماع الجنود من خراسان على أبي مسلم المروزيّ لكن‏ دفعوا الفاسد بالأفسد.

و شبّه عليه السّلام اجتماعهم باجتماع سحاب الخريف المتراكم يقول عليه السّلام: إنّ اللَّه يفتح لهم بعد اجتماعهم أبوابا يهيجون من مكانهم، كسيل الجنّتين اللّتين كانتا لأولاد سبا، و هو سيل العرم حيث بعث اللَّه الجرذ و هو الفارة الكبيرة على السّد الذي كان لهم فقلع الصّخر منهم و خرب السّد فسال الماء و غشيهم السّيل و خرب دور اولاد سبا و قصورهم و بساتينهم و لم يثبت عليه التّلال و لم يردّه أحجار الجبال.

و كذلك هؤلاء يخرجون على كثرتهم و احتشامهم لاستيصال بني امية و تخريب الدور و القصور منهم من مستثارهم و هو خراسان و قد وقع ذلك على ما أخبر عليه السّلام حيث اجتمع الجيش و اتفقوا على أبى مسلم المروزى و جعلوه أميرا لهم و توجّهوا نحو مروان الحمار و هو آخر خلفاء بني اميّة.

و قوله عليه السّلام يذعذعهم اللَّه-  اه إشارة إلى تفرّقهم في الأودية و كونهم كتائب مختلفة يسلكون فيها سلوك الينابيع في الأرض و جريانها فيها.

يأخذ بهم من قوم حقوق قوم-  اه أى يأخذ اللَّه ببني العبّاس من بني اميّة حقوق بنى هاشم و يقاصّ بهم منهم و يجزيهم بهم جزاء ما ظلموا في حق آل محمّد صلّى اللَّه عليه و آله و إن لم يصل الحقّ إليهم و يمكّن بهم عليهم السّلام لقوم من بنى العباس في ديار قوم من بنى اميّة كلّ ذلك طردا لبنى اميّة و ابعادا لهم، و لكيلا يغتصبوا ما غصبوا من بنى هاشم و بنى عباس و غيرهم يهدم اللَّه بهم أركان بنى امية و يكسر بهم قصور هم المسنّدة المطويّة بالأحجار التي كانت بالشّام و يملاء من جيوشهم بلاد الشّام.

فو اللَّه الفالق البارى انّ ذلك لكائن لا محالة و كأنّي أسمع أصوات خيولهم و طمطمة رجالهم، أى كلماتهم العجمية و ذلك أنّ لسانهم كان لسان العجم.

و قوله عليه السّلام: و أيم اللَّه ليذوبنّ اه بيان لحال بنى العبّاس بعد القهر و الغلبة يقول عليه السّلام: إنّهم بعد العلوّ و التمكّن في البلاد و قوام الأمر و تمام السلطنة ينقرضون و يفنون كما تفنى و تذوب الالية على النّار، و قد كان ذلك في سنة خمسين و ستمائة حيث قتل المستعصم و هو آخر خلفاء العباسيّة على يدهلا كو و يحتمل أن يكون إشارة إلى حال بنى امية.

و قوله عليه السّلام: و اللَّه عزّ و جلّ يفضي منهم من درج، في النسخ بالفاء و الظاهر أن يكون تحريفا و يكون بالقاف أى اللَّه يميت من سعى من بنى امية فيكون كناية عن أنّ من أراد الخروج منهم يقتله اللَّه، و في بعض النّسخ و إلى اللَّه يقضي و هو الصحيح أى و إلى اللَّه ينتهى منهم من درج فيكون كناية عن ما ذكرنا و إشارة إلى أنّ من تاب منهم تاب ضالا و أمره إلى اللَّه يعذّبه كيف يشاء و يتوب على من تاب كمعاوية بن يزيد و نحوه من بني اميّة.

و لعلّ اللَّه يجمع شيعتي بعد التشتّت، لعلّه إشارة إلى ظهور دولة الحقّة القائميّة و لا يلزم اتّصالها بملكهم.

و ليس لأحدّ إلى قوله-  جميعا إشارة إلى كون هذه الأمور سهلا بيد اللَّه سبحانه إذ هو القاهر القادر فوق عباده و هو المختار الفعّال لما يشاء ليس لأحد معه الاختيار و هو على كلّ شي‏ء قدير.

و قوله عليه السّلام أيّها النّاس اه إشارة إلى اغتصاب الخلافة و توبيخ لهم على التثاقل و التخاذل يقول عليه السّلام: إنّ المدّعين للخلافة من الّذين لم يكونوا أهلا لها كثير و لو لم يكن منكم التّخاذل يوم السّقيفة و الشورى عن إقامة الحقّ و الوهن عن توهين الباطل لم يجسر عليكم أحد و لم يقدر على غلبة الطّاعة و صرفها عن أهلها و لكنكم تحيّرتم بعد رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم كما تحيّرت بنو إسرائيل على عهد موسى بن عمران عليه السّلام و ليكوننّ تحيّركم بعدي أضعاف ما تحيّرت بنو إسرائيل.

و قوله: لقد اجتمعتم على سلطان الدّاعي إلى الضّلالة، أراد به اجتماعهم على بنى العبّاس و دعائهم إلى الضّلالة لترويجهم مذهب الزنادقة.

و قطعتم الادنى من أهل بدر، أراد به أولاده المعصومين عليهم السّلام حيث إنّ الظّفر في بدر لم يكن إلّا بأبيهم سلام اللَّه عليه و كان أقرب النّاس إلى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و كذلك أولاده عليهم السّلام.

و وصلتم الّا بعد من أبناء الحرب-  اه أراد به بني العباس حيث أنّ أباهم كان من جملة المحاربين لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم في غزوة بدر ثمّ تاب و أسلم و المراد بقطع الأوّلين و وصل الآخرين أخذهم بنى العباس خلفاء لهم دون الأئمة عليهم السّلام.

ثمّ قال: و لعمري أن لو قد ذاب ما في أيديهم، أي أيدى بني اميّة و هو الشام و ما والاها و أشار عليه السّلام بذوبانها إلى قتل وليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان لعنهم اللَّه و اختلاف أهل الشام و اضطراب دولة بنى اميّة و قد كان ذلك في السنّة ست و عشرين و مأئة و امتدّت سلطنتهم بعد ذلك إلى ستّ سنين بمنتهى التزلزل و الاضطراب و لذلك قال عليه السّلام لدنى التمحيص للجزاء، أى قرب ابتلائهم بجزاء أعمالهم و ذلك بقتل الاحياء منهم و إخراج الأموات منهم من القبور كما هو في السّير مشهور و في الكتب مسطور.

و انقضت المدّة، أراد به المدّة المقدّرة لبني امية و كانت ألف شهر.

و بدا لكم النجم ذو الذّنب، أراد به أبا مسلم المروزى حيث خرج من خراسان و هو من بلاد المشرق مع جنوده نحو الشّام و تسميته بالنجم لكونه كالنجم يرمى به الشياطين من بنى اميّة و توصيفه بذى الذنب لكون ظهوره لانتصار بنى العباس دون آل محمّد سلام اللَّه عليهم.

و لاح لكم القمر المنير، أراد به أبا الحسن عليّ بن موسى الرّضا عليه و على آبائه آلاف التّحيّة و الثّناء فقد طلع في المشرق و انتشر أنوار علمه في الآفاق ثمّ غاب هناك بغدر المأمون الملعون.

فاذا كان ذلك، أى ذوبان ما في أيديهم أو انقضاء المدّة أو طلوع القمر المنير، فراجعوا التوبة.

ثمّ قال عليه السّلام: و اعلموا أنّكم إن اتّبعتم طالع المشرق، أراد به القمر المنير سلك بكم منهج الطّريقة البيضاء و الصّراط المستقيم، فتداويتم من الضّلالة و الغواية و كفيتم مؤنة طلب العلم من غير مظانه، و سلمتم من التعسّف و الأخذ على غير الطريق المستقيم، و نبذتم ثقل استنباط التكاليف الشّرعية. من اعناقكم حيث انّكم تأخذونها من أهلها فيكفيكم مؤنتها و لا يبعد اللَّه من رحمته إلّا من أبى من قبول الحقّ و ظلم أهل الحقّ و أخذ على غير الطريق و انتحل ما ليس له بحقّ.

 وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ هذا.

و بنحو ما قلناه في شرح هذا الحديث الشريف فسّره المحدّث العلامّة المجلسي ره في البحار إلّا أنّه خالفنا في شرح الفقرات الأخيرة حيث قال: قوله عليه السّلام: لو قد ذاب ما في أيديهم أى ذهب ملك بني العبّاس، لدنى التمحيص للجزاء أى قرب قيام القائم عليه السّلام و فيه التّمحيص و الابتلاء ليجزى الكافرين و يعذّبهم في الدّنيا، و قرب الوعد أى وعد الفرج، و انقضت المدّة أى قرب انقضاء مدّة أهل الباطل، و النجم ذو الذنب من علامات ظهور القائم عليه السّلام، و المراد بالقمر المنير القائم عليه السّلام، و كذا طالع المشرق إذ مكة شرقية بالنسبة إلى المدينة، أو لأنّ اجتماع العساكر إليه عليه السّلام و توجّهه إلى فتح البلاد من الكوفة و هي كالشرقية بالنسبة إلى الحرمين و لا يبعد أن يكون ذكر القمر ترشيحا للاستعارة أى القمر الطّالع من مشرقه.

و الثقل الفادح الدّيون المثقلة و المظالم أو بيعة أهل الجور و طاعتهم و ظلمهم إلّا من أبى أى من طاعة القائم عليه السّلام أو الرّب تعالى، و اعتسف أى مال عن طريق الحقّ إلى غيره أو ظلم على غيره انتهى كلامه فيكون هذه الفقرات على ما ذكره أيضا إشارة إلى ظهور دولة الحقّة و اللَّه العالم.

الترجمة

اين خطبه شريفه متضمن توبيخ و مذمت خلق است بجهت اختلاف ايشان در دين و تشتّت آراءشان در احكام شرع مبين و عدول ايشان از تمسك حبل المنين كه عبارتست از امام زمان و زمين مى‏فرمايد: أمّا بعد از حمد و ثناى الهى و صلوات بر حضرت. رسالت پناهى پس بدرستى كه خداوند تعالى نشكست هرگز گردنكشان روزگار را مگر بعد از مهلت و وسعت در حيات، و اصلاح نفرموده است استخوان شكسته احدى را از امّتهاى پيغمبران مگر بعد از شدّت و تنگى و امتحان، و در نزد آنچه استقبال نموديد از ملامت و عتاب من و استدبار كرديد از أهوال و كارهاى بزرك زمن عبرتست صاحب عبرت و بصيرت را، و نيست هر صاحب قلب عاقل و دانا، و نه هر صاحب گوش سميع و شنوا و نه هر صاحب نظر بصير و بينا.

پس اى نفس تعجب كن و چيست مرا كه تعجب نكنم از خطاى اين فرقهاى بى‏ادب بر اختلاف حجّتهاى ايشان در دين و مذهب كه متابعت نمى‏كنند بر اثر خير البشر، و اقتدا نمى‏نمايند بر عمل وصيّ پيغمبر، ايمان نمى‏آورند بغيب، و عفت نمى‏ورزند از گناه و عيب، عمل ميكنند در شبهها، و سير مى‏نمايند در شهوتها، معروف در ميان ايشان چيزى است كه خود شناخته‏اند او را بميل طبيعت، و منكر نزد ايشان چيزيست كه خود انكار كرده‏اند آنرا نه بمقتضاى شريعت.

مرجع ايشان در شدايد بنفس خودشان است نه بر أئمه، و اعتماد ايشان در مبهمات برأى خودشان است نه بعترت خير البشر، گويا هر مردى از ايشان امام و مقتداى خودش هست در دين، بتحقيق كه تمسك نموده است از نفس خود در چيزى كه ظن ميكند به بندهاى استوار و ريسمانهاى محكم تابدار، يعنى اعتقادش اينست آنچه اخذ نموده است آنرا از نفس خود در احكام در استحكام مانند حكم الهى است.

سلك بكم منهج الطّريقة البيضاء و الصّراط المستقيم، فتداويتم من الضّلالة و الغواية و كفيتم مؤنة طلب العلم من غير مظانه، و سلمتم من التعسّف و الأخذ على غير الطريق المستقيم، و نبذتم ثقل استنباط التكاليف الشّرعية. من اعناقكم حيث انّكم تأخذونها من أهلها فيكفيكم مؤنتها و لا يبعد اللَّه من رحمته إلّا من أبى من قبول الحقّ و ظلم أهل الحقّ و أخذ على غير الطريق و انتحل ما ليس له بحقّ.

 وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ هذا.

و بنحو ما قلناه في شرح هذا الحديث الشريف فسّره المحدّث العلامّة المجلسي ره في البحار إلّا أنّه خالفنا في شرح الفقرات الأخيرة حيث قال: قوله عليه السّلام: لو قد ذاب ما في أيديهم أى ذهب ملك بني العبّاس، لدنى التمحيص للجزاء أى قرب قيام القائم عليه السّلام و فيه التّمحيص و الابتلاء ليجزى الكافرين و يعذّبهم في الدّنيا، و قرب الوعد أى وعد الفرج، و انقضت المدّة أى قرب انقضاء مدّة أهل الباطل، و النجم ذو الذنب من علامات ظهور القائم عليه السّلام، و المراد بالقمر المنير القائم عليه السّلام، و كذا طالع المشرق إذ مكة شرقية بالنسبة إلى المدينة، أو لأنّ اجتماع العساكر إليه عليه السّلام و توجّهه إلى فتح البلاد من الكوفة و هي كالشرقية بالنسبة إلى الحرمين و لا يبعد أن يكون ذكر القمر ترشيحا للاستعارة أى القمر الطّالع من مشرقه.

و الثقل الفادح الدّيون المثقلة و المظالم أو بيعة أهل الجور و طاعتهم و ظلمهم إلّا من أبى أى من طاعة القائم عليه السّلام أو الرّب تعالى، و اعتسف أى مال عن طريق الحقّ إلى غيره أو ظلم على غيره انتهى كلامه فيكون هذه الفقرات على ما ذكره أيضا إشارة إلى ظهور دولة الحقّة و اللَّه العالم.

الترجمة

اين خطبه شريفه متضمن توبيخ و مذمت خلق است بجهت اختلاف ايشان در دين و تشتّت آراءشان در احكام شرع مبين و عدول ايشان از تمسك حبل المنين كه عبارتست از امام زمان و زمين مى‏ فرمايد: أمّا بعد از حمد و ثناى الهى و صلوات بر حضرت. رسالت پناهى پس بدرستى كه خداوند تعالى نشكست هرگز گردنكشان روزگار را مگر بعد از مهلت و وسعت در حيات، و اصلاح نفرموده است استخوان شكسته احدى را از امّتهاى پيغمبران مگر بعد از شدّت و تنگى و امتحان، و در نزد آنچه استقبال نموديد از ملامت و عتاب من و استدبار كرديد از أهوال و كارهاى بزرك زمن عبرتست صاحب عبرت و بصيرت را، و نيست هر صاحب قلب عاقل و دانا، و نه هر صاحب گوش سميع و شنوا و نه هر صاحب نظر بصير و بينا.

پس اى نفس تعجب كن و چيست مرا كه تعجب نكنم از خطاى اين فرقهاى بى‏ادب بر اختلاف حجّتهاى ايشان در دين و مذهب كه متابعت نمى‏كنند بر اثر خير البشر، و اقتدا نمى‏نمايند بر عمل وصيّ پيغمبر، ايمان نمى‏آورند بغيب، و عفت نمى‏ورزند از گناه و عيب، عمل ميكنند در شبهها، و سير مى‏ نمايند در شهوتها، معروف در ميان ايشان چيزى است كه خود شناخته‏اند او را بميل طبيعت، و منكر نزد ايشان چيزيست كه خود انكار كرده ‏اند آنرا نه بمقتضاى شريعت.

مرجع ايشان در شدايد بنفس خودشان است نه بر أئمه، و اعتماد ايشان در مبهمات برأى خودشان است نه بعترت خير البشر، گويا هر مردى از ايشان امام و مقتداى خودش هست در دين، بتحقيق كه تمسك نموده است از نفس خود در چيزى كه ظن ميكند به بندهاى استوار و ريسمانهاى محكم تابدار، يعنى اعتقادش اينست آنچه اخذ نموده است آنرا از نفس خود در احكام در استحكام مانند حكم الهى است.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 86/2 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی») خطبة المتقين فصل الثانی

خطبه 87 صبحی صالح

87- و من خطبة له ( عليه‏السلام  ) و هي في بيان صفات المتقين

و صفات الفساق

و التنبيه إلى مكان العترة الطيبة

و الظن الخاطئ لبعض الناس

عِبَادَ اللَّهِ

إِنَّ مِنْ أَحَبِّ عِبَادِ اللَّهِ إِلَيْهِ عَبْداً أَعَانَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ

فَاسْتَشْعَرَ الْحُزْنَ

وَ تَجَلْبَبَ الْخَوْفَ

فَزَهَرَ مِصْبَاحُ الْهُدَى فِي قَلْبِهِ

وَ أَعَدَّ الْقِرَى لِيَوْمِهِ النَّازِلِ بِهِ فَقَرَّبَ عَلَى نَفْسِهِ الْبَعِيدَ

وَ هَوَّنَ الشَّدِيدَ

نَظَرَ فَأَبْصَرَ

وَ ذَكَرَ فَاسْتَكْثَرَ

وَ ارْتَوَى مِنْ عَذْبٍ فُرَاتٍ سُهِّلَتْ لَهُ مَوَارِدُهُ

فَشَرِبَ نَهَلًا

وَ سَلَكَ سَبِيلًا جَدَداً

قَدْ خَلَعَ سَرَابِيلَ الشَّهَوَاتِ

وَ تَخَلَّى مِنَ الْهُمُومِ إِلَّا هَمّاً وَاحِداً انْفَرَدَ بِهِ

فَخَرَجَ مِنْ صِفَةِ الْعَمَى

وَ مُشَارَكَةِ أَهْلِ الْهَوَى

وَ صَارَ مِنْ مَفَاتِيحِ أَبْوَابِ الْهُدَى

وَ مَغَالِيقِ أَبْوَابِ الرَّدَى

قَدْ أَبْصَرَ طَرِيقَهُ

وَ سَلَكَ سَبِيلَهُ

وَ عَرَفَ مَنَارَهُ

وَ قَطَعَ غِمَارَهُ

وَ اسْتَمْسَكَ مِنَ الْعُرَى بِأَوْثَقِهَا

وَ مِنَ الْحِبَالِ بِأَمْتَنِهَا

فَهُوَ مِنَ الْيَقِينِ عَلَى مِثْلِ ضَوْءِ الشَّمْسِ

قَدْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فِي أَرْفَعِ الْأُمُورِ

مِنْ إِصْدَارِ كُلِّ وَارِدٍ عَلَيْهِ

وَ تَصْيِيرِ كُلِّ فَرْعٍ إِلَى أَصْلِهِ

مِصْبَاحُ ظُلُمَاتٍ

كَشَّافُ‏ عَشَوَاتٍ

مِفْتَاحُ مُبْهَمَاتٍ

دَفَّاعُ مُعْضِلَاتٍ

دَلِيلُ فَلَوَاتٍ

يَقُولُ فَيُفْهِمُ

وَ يَسْكُتُ فَيَسْلَمُ

قَدْ أَخْلَصَ لِلَّهِ فَاسْتَخْلَصَهُ

فَهُوَ مِنْ مَعَادِنِ دِينِهِ

وَ أَوْتَادِ أَرْضِهِ

قَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْعَدْلَ

فَكَانَ أَوَّلَ عَدْلِهِ نَفْيُ الْهَوَى عَنْ نَفْسِهِ

يَصِفُ الْحَقَّ وَ يَعْمَلُ بِهِ

لَا يَدَعُ لِلْخَيْرِ غَايَةً إِلَّا أَمَّهَا

وَ لَا مَظِنَّةً إِلَّا قَصَدَهَا

قَدْ أَمْكَنَ الْكِتَابَ مِنْ زِمَامِهِ

فَهُوَ قَائِدُهُ وَ إِمَامُهُ

يَحُلُّ حَيْثُ حَلَّ ثَقَلُهُ

وَ يَنْزِلُ حَيْثُ كَانَ مَنْزِلُهُ

صفات الفساق‏

وَ آخَرُ قَدْ تَسَمَّى عَالِماً وَ لَيْسَ بِهِ

فَاقْتَبَسَ جَهَائِلَ مِنْ جُهَّالٍ

وَ أَضَالِيلَ مِنْ ضُلَّالٍ

وَ نَصَبَ لِلنَّاسِ أَشْرَاكاً مِنْ حَبَائِلِ غُرُورٍ

وَ قَوْلِ زُورٍ

قَدْ حَمَلَ الْكِتَابَ عَلَى آرَائِهِ

وَ عَطَفَ الْحَقَّ عَلَى أَهْوَائِهِ

يُؤْمِنُ النَّاسَ مِنَ الْعَظَائِمِ

وَ يُهَوِّنُ كَبِيرَ الْجَرَائِمِ

يَقُولُ أَقِفُ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ وَ فِيهَا وَقَعَ

وَ يَقُولُ أَعْتَزِلُ الْبِدَعَ وَ بَيْنَهَا اضْطَجَعَ

فَالصُّورَةُ صُورَةُ إِنْسَانٍ

وَ الْقَلْبُ قَلْبُ حَيَوَانٍ

لَا يَعْرِفُ بَابَ الْهُدَى فَيَتَّبِعَهُ

وَ لَا بَابَ الْعَمَى فَيَصُدَّ عَنْهُ

وَ ذَلِكَ مَيِّتُ الْأَحْيَاءِ

عترة النبي‏

 فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ‏

وَ أَنَّى تُؤْفَكُونَ‏

وَ الْأَعْلَامُ قَائِمَةٌ

وَ الْآيَاتُ وَاضِحَةٌ

وَ الْمَنَارُ مَنْصُوبَةٌ

فَأَيْنَ يُتَاهُ بِكُمْ

وَ كَيْفَ تَعْمَهُونَ

وَ بَيْنَكُمْ عِتْرَةُ نَبِيِّكُمْ

وَ هُمْ أَزِمَّةُ الْحَقِّ

وَ أَعْلَامُ الدِّينِ

وَ أَلْسِنَةُ الصِّدْقِ

فَأَنْزِلُوهُمْ بِأَحْسَنِ مَنَازِلِ الْقُرْآنِ

وَ رِدُوهُمْ وُرُودَ الْهِيمِ الْعِطَاشِ

أَيُّهَا النَّاسُ

خُذُوهَا عَنْ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ ( صلى‏ الله ‏عليه‏ وآله‏ وسلم  )

إِنَّهُ يَمُوتُ مَنْ مَاتَ مِنَّا وَ لَيْسَ بِمَيِّتٍ

وَ يَبْلَى مَنْ بَلِيَ مِنَّا وَ لَيْسَ بِبَالٍ

فَلَا تَقُولُوا بِمَا لَا تَعْرِفُونَ

فَإِنَّ أَكْثَرَ الْحَقِّ فِيمَا تُنْكِرُونَ

وَ اعْذِرُوا مَنْ لَا حُجَّةَ لَكُمْ عَلَيْهِ وَ هُوَ أَنَا

أَ لَمْ أَعْمَلْ فِيكُمْ بِالثَّقَلِ الْأَكْبَرِ

وَ أَتْرُكْ فِيكُمُ الثَّقَلَ الْأَصْغَرَ

قَدْ رَكَزْتُ فِيكُمْ رَايَةَ الْإِيمَانِ

وَ وَقَفْتُكُمْ عَلَى حُدُودِ الْحَلَالِ وَ الْحَرَامِ

وَ أَلْبَسْتُكُمُ الْعَافِيَةَ مِنْ عَدْلِي

وَ فَرَشْتُكُمُ الْمَعْرُوفَ مِنْ قَوْلِي وَ فِعْلِي

وَ أَرَيْتُكُمْ كَرَائِمَ الْأَخْلَاقِ مِنْ نَفْسِي

فَلَا تَسْتَعْمِلُوا الرَّأْيَ فِيمَا لَا يُدْرِكُ قَعْرَهُ الْبَصَرُ

وَ لَا تَتَغَلْغَلُ إِلَيْهِ الْفِكَرُ

ظن خاطئ‏

و منهاحَتَّى يَظُنَّ الظَّانُّ أَنَّ الدُّنْيَا مَعْقُولَةٌ عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ

تَمْنَحُهُمْ دَرَّهَا

وَ تُورِدُهُمْ صَفْوَهَا

وَ لَا يُرْفَعُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَوْطُهَا وَ لَا سَيْفُهَا

وَ كَذَبَ الظَّانُّ لِذَلِكَ

بَلْ هِيَ مَجَّةٌ مِنْ لَذِيذِ الْعَيْشِ يَتَطَعَّمُونَهَا بُرْهَةً

ثُمَّ يَلْفِظُونَهَا جُمْلَةً

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج6  

و من خطبة له عليه السّلام و هى السادسة و الثمانون من المختار فى باب الخطب

الفصل الثالث

فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ، و أَنّى‏ تُؤفَكُونَ، وَ الْأَعْلامُ قائِمَةٌ، وَ الْآياتُ‏ واضحة، و المنار منصوبة، فأين يتاه بكم، بل كيف تعمهون، و بينكم عترة نبيّكم، و هم أزمّة الحقّ، و أعلام الدّين، و ألسنة الصّدق، فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن، و ردوهم ورود اليهم العطاش، أيّها النّاس خذوها عن خاتم النّبيّين صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّه يموت من مات منّا و ليس بميّت، و يبلى من بلى منّا و ليس ببال، فلا تقولوا بما لا تعرفون، فإنّ أكثر الحقّ فيما تنكرون، و أعذروا من لا حجّة لكم عليه، و أنا هو، ألم أعمل فيكم بالثّقل الأكبر، و أترك فيكم الثّقل الأصغر، و ركزت فيكم راية الإيمان، و وقّفتكم على حدود الحلال و الحرام، و ألبستكم العافية من عدلي، و فرشتكم المعروف من قولي و فعلي، و أريتكم كرائم الأخلاق من نفسي، فلا تستعملوا الرّأي فيما لا يدرك قعره البصر، و لا يتغلغل إليه الفكر.

اللغة

(أفك) افكا كذب و افكه عنه صرفه و قلبه أو قلب رأيه و (المنار) العلم المنصوب في الطريق ليهتدى به الضّال و الموضع المرتفع الذي يوقد في أعلاه النّار و (تاه) تيها و تيهانا ضلّ و تحيّروتاه في الأرض ذهب متحيّرا و منه قوله تعالى: يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ.

أى يحارون و يضلّون و (عمه) في طغيانه عمها من باب تعب إذا تردّد متحيّرا قال سبحانه: فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ.

و رجل عمه و عامه أى متحيّر حاير عن الطريق و (ورد) البعير و غيره الماء وردا و ورودا بلغه و وافاه من غير دخول و قد يحصل دخول فيه و (الهيم) بالكسر الابل العطاش و (بلى) الثوب يبلى من باب رضى بلىّ بالكسر و القصر و بلاء بالضمّ و المدّ و (الثقل الأكبر) في بعض نسخ الكتاب بكسر الثّاء و سكون القاف و (الثقل الأصغر) بالتحريك قال بعض شراح الحديث في شرح قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إنّي تارك فيكم الثّقلين كتاب اللّه و عترتي: إنه من الثقيل سمّيا بذلك لكون العمل بهما ثقيلا و الأكثر على أنّه من الثّقل محرّكة قال في القاموس و الثقل محرّكة متاع المسافر و حشمه و كلّ شي‏ء نفيس مصون، و منه الحديث إنّي تارك فيكم الثّقلين آه و (ركزت الرمح) و نحوه ركزا من باب قتل أثبته بالأرض فارتكز و (فرشت) البساط و غيره فرشا من باب قتل و ضرب بسطته و (تغلغل) تغلغلا أسرع.

الاعراب

أين اسم استفهام سؤال عن المكان، و أنّى تؤفكون بمعنى كيف كما فسّر به قوله فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ.

و المقصود بالاستفهام التوبيخ، و الواو في قوله عليه السّلام: و الأعلام قائمة للحال، و كذلك في قوله و بينكم، و الفاء في قوله فأنزلوهم فصيحة، و الضمير في قوله خذوها راجع إلى ما يفهم من المقام من الفايدة و الرّواية و نحوهما على حدّ قوله: تورات بالحجاب و قوله ألم أعمل إمّا استفهام تقريرىّ لما بعد النّفى أو إنكار إبطالىّ و هو الأظهر، و جملة أنه يموت آه بدل من مفعول خذوها، فانّ المشهور جواز إبدال الظاهر من الضمير إذا كان غايبا.

المعنى

اعلم أنّه عليه السّلام لما شرح في الفصلين السّابقين حال المتّقين و الفاسقين‏

و ذكر في بيان صفات الفسّاق انهم أخذ و الجهالة و الضّلالة من الجهّال و الضّلال عقّب ذلك بالأمر بملازمة أئمّة الدّين و أعلام اليقين لكونهم القادة الهداة أدّلاء على طريق النّجاة و كون لزومهم باعثا على التّقوى و محصّلا للقربى و وبّخ المخاطبين أوّلا بصدّهم عن الحقّ و ميلهم إلى الباطل و عدولهم عن أئمة الأنام عليهم الصّلاة و السّلام بقوله: (فأين تذهبون) أى أىّ طريق تسلكون أبين من طريق الحقّ و هذه الجملة مأخوذة من قوله سبحانه في سورة التكوير: وَ ما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ، وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ، وَ ما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ، وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ، فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ، لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ.

روى عليّ بن إبراهيم في تفسير هذه الآية عن جعفر بن محمّد عليه السّلام قال: حدّثنا عبد اللّه بن موسى عن الحسن بن عليّ بن أبي حمزة عن أبيه عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت: قوله: وَ ما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ قال: يعني النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ما هو بمجنون في نصبه أمير المؤمنين عليه السّلام علما للنّاس قلت قوله: وَ ما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ قال ما هو تبارك و تعالى على نبيّه بغيبه بضنين عليه قلت: وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ قال: كهنة الّذين كانوا في قريش فنسب كلامهم إلى كلام الشّيطان الّذين كانوا معهم يتكلّمون على ألسنتهم فقال: و ما هو بقول شيطان رجيم مثل أولئك قلت. فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ‏

قال عليه السّلام أين تذهبون في عليّ يعني ولايته أين تفرّون منها إن هو إلّا ذكر للعالمين أخذ اللّه ميثاقه على ولايته قلت قوله: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ.

قال في طاعة عليّ و الأئمة عليه السّلام من بعده (و أنّى تؤفكون) أى تصرفون عن عبادة اللّه إلى عبادة غيره و تقلبون عن طريق الهدى إلى سمت الضلالة و الرّدى كما قال تعالى في سورة الأنعام: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى‏ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ» و في سورة الملائكة: يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ و في سورة المؤمن: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ.

قال الطبرسيّ في تفسير هذه الآية أى الّذى أظهر هذه الدّلالات و أنعم بهذه النّعم هو اللّه خالقكم و مالككم خالق كلّ شي‏ء من السّماوات و الأرض و ما بينهما لا يستحقّ العبادة سواه فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره مع وضوح الدّلالة على توحيده هذا.

و لا يخفى عليك أنّ ما ذكرته في شرح هذه الفقرة إنّما هو أخذا بظاهر كلامه عليه السّلام و لكنّ الأظهر بمقتضى السّياق أنّه عليه السّلام أراد بها توبيخ المخاطبين على العدول عنه فيكون معنى قوله: أنّى تؤفكون أنّى تقلبون عنّي و عن ولايتي و ملازمتي.

و مثل ذلك قوله عليه السّلام (و الأعلام قائمة و الآيات واضحة و المنار منصوبة) فانه يجوز أن يراد به أعلام القدرة و آيات المقدرة و آثار التوحيد و منار التفريد و أدلّة الوجود من المهاد الموضوع و السّماء المرفوع و اختلاف اللّيل و النّهار و الفلك الجاري في البحر الزخّار و المطر النّازل من السحاب الذي أحيى به الأرض بعد موتها و بثّ فيها من الدّواب إلى غير هذه من دلايل التوحيد و الجلال و علائم الكمال و الجمال.

إلّا أنّ الأظهر أنّ المراد بها هو أعلام الدّين و آيات اليقين و منار الهدى و أئمة الورى، و يشهد بذلك ما ورد في حديث وصفهم عليه السّلام: جعلتهم أعلاما لعبادك و منارا في بلادك أى هداة يهتدى بهم.

و يدلّ عليه الأخبار الواردة في أنّهم عليه السّلام آيات اللّه و بيّناته، مثل ما في البحار من تفسير عليّ بن إبراهيم مسندا عن أبي حمزة قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ: وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَ بُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَ مَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى‏ صِراطٍ.

قال أبو جعفر عليه السّلام: نزلت في الذين كذّبوا في أوصيائهم صمّ و بكم كما قال اللّه في الظّلمات من كان من ولد إبليس فانّه لا يصدق بالأوصياء و لا يؤمن بهم أبدا، و هم الذين أضلّهم اللّه و من كان من ولد آدم عليه السّلام آمن بالأوصياء و هم على صراط مستقيم قال: و سمعته يقول: كذبوا بآياتنا كلّها في بطن القرآن ان كذّبوا بالأوصياء كلّهم، و منه في قوله: وَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ.

قال: أمير المؤمنين عليه السّلام و الأئمة صلوات اللّه عليهم، و الدّليل على ذلك قول أمير المؤمنين عليه السّلام: ما للّه آية أكبر منّى.

و منه باسناده عن داود بن كثير الرّقي قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه: وَ ما تُغْنِي الْآياتُ وَ النُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ.

قال عليه السّلام: الآيات الأئمة و النّذر الأنبياء عليه السّلام.

و منه عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قوله: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ قال تخضع رقابهم يعني بني أميّة، و هي الصّيحة من السّماء باسم صاحب الأمر عليه السّلام إلى غير ذلك مما ورد عنهم عليهم السّلام في تفسير الآيات القرآنيّة مما لا نطيل بروايتها، فقد ظهر بذلك كلّه أنهم المراد بالآيات الواضحة فيكون إطلاقها عليهم باعتبار أنهم علامات جليلة واضحة لعظمة اللّه و قدرته و علمه و لطفه و رحمته.

فما آية للّه أكبر منهم
فهم آية من دونهم كلّ آية

سرى سرّهم في الكائنات جميعها
فمن سرّهم لم يخل مثقال ذرّة

هذا و قوله (فأين يتاه بكم بل كيف تعمهون) تأكيد لقوله فأين تذهبون و أنّى تؤفكون، فانّه لمّا سألهم عن إفكهم و ذهابهم و وبّخهم عليه أكّده بذلك مشيرا به إلى أنّ الافك و الذّهاب موجب لتيههم و تحيّرهم و عمههم و ضلالتهم.

و أكّد الجملة الحالية السّابقة أعني قوله: و الأعلام قائمة إلخ بقوله (و بينكم عترة نبيّكم) مشيرا به إلى أنّهم المراد بالأعلام و الآيات، و المراد بعترة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الأئمة عليهم السّلام.

و يدلّ عليه ما في البحار من العيون و معاني الأخبار عن الهمداني عن عليّ عن أبيه عن ابن أبي عمير عن غياث بن إبراهيم عن الصّادق عن آبائه عليهم السّلام قال: سئل أمير المؤمنين عليه السّلام عن معنى قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّى مخلف فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي من العترة فقال: أنا و الحسن و الحسين و الأئمة التسعة من ولد الحسين عليهم السّلام تاسعهم مهديهم و قائمهم لا يفارقون كتاب اللّه و لا يفارقهم حتّى يردوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حوضه.

و سيأتي في شرح الخطبة الثّالثة و التسعين مزيد تحقيق في معنى العترة إنشاء اللّه (و هم أزمّة الحقّ و ألسنة الصدق) يعني أنّهم عليهم السّلام القائدون يقودون الخلق إلى الحقّ كما تقاد النّاقة بالزمام إلى الطريق، و هم تراجمة الوحي كما أنّ اللّسان ترجمان النفس و يدلّ على الأوّل وصفهم في فقرات الزيارة الجامعة بقوله: و قادة الأمم، يعني أنهم عليهم السّلام قادة الأمم إلى معرفة اللّه و دينه يقودونهم بدعائهم و تعريفهم و أمرهم و ترغيبهم إلى المعرفة و الدّين، فمن أجاب قادوه إلى الجنة و من أناب ساقوه إلى النّار كما قال عليه السّلام: أنا قسيم الجنّة و النّار، و هو نعمة اللّه على الأبرار و نقمته على الفجّار.

و يدلّ على الثاني وصفهم عليهم السّلام في فقرات الزيارة المذكورة بقوله: و تراجمة لوحيه، يعني أنّهم المؤدّون من الحقّ إلى الخلق فلا يخفى ما بين القرينتين في كلامه عليه السّلام من الحسن و اللّطف حيث إنّ محصّل معناهما أنهم عليهم السّلام دلائل للخلق على الحقّ و وسايط للحقّ إلى الخلق هذا.

و يجوز أن يكون المراد بقوله: و هم أزمّة الحقّ أنّ زمام الحقّ بيدهم عليهم السّلام فيكون مساقه مساق قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الحقّ مع عليّ و هو مع الحقّ أينما دار.

و من طرق الخاصة متواترا عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الأئمة صلوات اللّه و سلامه عليه و عليهم: الحقّ مع الأئمة الاثنى عشر، و في فقرات الزيارة الجامعة: و الحقّ معكم و فيكم و منكم و إليكم و أنتم أهله و معدنه.

و أن يكون المراد بقوله عليه السّلام و ألسنة الصدق أنهم لا يقولون إلّا صدقا و حقّا فيكون تصديقا لدعاء إبراهيم حيث إنّه دعا ربّه بما حكاه اللّه عنه بقوله في سورة الشعراء: وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ.

أى اجعل صادقا من ذرّيتي يجد أصل ديني و يدعو النّاس إلى ما كنت أدعوهم إليه، فاستجاب اللّه دعوته و اصطفى من ذريّته محمّدا و آله صلوات اللّه و سلامه عليه‏ و عليهم و جعلهم لسان صدق له.

و يؤيّد ذلك ما في تفسير القمّي عند قوله: وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ.

قال: هو أمير المؤمنين عليه السّلام و في مجمع البيان في تفسير قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ قال الطّبرسيّ أى اتّقوا معاصي اللّه و اجتنبوا و كونو مع الصّادقين الذين يصدقون في أخبارهم و لا يكذبون، و معناه كونوا على مذهب من يستعمل الصدق في أقواله و أفعاله و صاحبوهم و رافقوهم و قد وصف اللّه الصّادقين في سورة البقرة بقوله: وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ إلى قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ.

فأمر سبحانه بالاقتداء بهؤلاء، و قيل: المراد بالصّادقين هم الّذين ذكرهم اللّه في كتابه و هو قوله: رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى‏ نَحْبَهُ.

يعني حمزة بن عبد المطلب و جعفر بن أبي طالب.

 وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ يعني عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.

و روى الكلينيّ عن أبي صالح عن ابن عبّاس قال: كونوا مع الصّادقين مع عليّ عليه السّلام و أصحابه.

و روى جابر عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله و كونوا مع الصّادقين، قال: مع آل محمّد سلام اللّه عليهم.

ثمّ إنّه عليه السّلام بعد توصيف العترة الطّاهرة بأنّهم أزمّة الحقّ و ألسنة الصدق أمر بتعظيمهم و إجلالهم بقوله (فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن) قال الشّارح المعتزلي في شرحه إنّه عليه السّلام أمر المكلّفين أن يحروا العترة في إجلالها و إعظامهاو الانقياد و الطّاعة لأوامرها مجرى القرآن.

و قال الشّارح البحراني: اعلم أنّ للقرآن منازل: الاولى القلب و هو فيه بمنزلتين: إحداهما منزلة الاكرام و التّعظيم، و الثانية منزلة التصوّر فقط، الثالثة منزلته في الوجود اللّساني بالتلاوة، الرابعة منزلته في الدفاتر و الكتب، و أحسن منازله هي الأولى فالمراد إذن الوصية باكرامهم و محبّتهم و تعظيمهم كما يكرم القرآن بالمحبّة و التّعظيم.

أقول: فعلى ما ذكراه يكون معنى كلامه عليه السّلام أنزلوهم بأحسن المنازل التي كانت للقرآن، و الأظهر عندي أنّ معناه أنزلوهم بأحسن المنازل التي أثبتها القرآن لهم، فانّ المنازل الثابتة لهم عليهم السّلام بالآيات القرآنيّة متفاوتة مختلفة في العلوّ و الرفعة فأمر عليه السّلام بانزالهم بأحسن المنازل و أسنى المراتب، و هو بأن يستمسكوا بأظهر الآيات دلالة على رفعة شأنهم و علوّ مقامهم مثل قوله سبحانه: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ الدّال على خلافتهم و ولايتهم (ع) و قوله: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً الدّال على عصمتهم و طهارتهم و قوله: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى‏ الدّال على ملازمتهم و مودّتهم روى الطّبرسيّ في مجمع البيان في تفسير الآية الأخيرة من كتاب شواهد التنزيل مرفوعا إلى أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه خلق الأنبياء من أشجار شتّى و خلقت أنا و عليّ من شجرة واحدة فأنا أصلها و عليّ فرعها و الحسن و الحسين ثمارها و شيعتنا أوراقها، فمن تعلّق بغصن من أغصانها نجا، و من زاغ هوى، و لو أنّ عبدا عبد اللّه بين الصّفا و المروة ألف عام ثمّ ألف عام ثمّ ألف عام حتّى يصير كالشنّ البالي ثمّ لم يدرك محبّتنا أكبّه اللّه على منخريه في النّار ثمّ تلا: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى‏.

قال الطبرسيّ و روى زاذان عن عليّ عليه السّلام قال: فينا في ال حم آية لا يحفظ مودّتنا إلّا كلّ مؤمن ثمّ قرء هذه الآية و إلى هذا أشار الكميت في قوله:

         وجدنا لكم في آل حم آية. تأوّلها منّا تقىّ و معرب‏

و في البحار ذكر أبو حمزة الثّمالي في تفسيره حدّثنى عثمان بن عمير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين قدم المدينة و استحكم الاسلام قالت الأنصار فيما بينهم: نأتي رسول اللَّه فنقول له إنه تعروك امور فهذه أموالنا فاحكم فيها غير حرج و لا محظور عليك، فأتوه في ذلك فنزل: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى‏ فقرأها عليهم فقال تودّون قرابتي من بعدي، فخرجوا من عنده مسلّمين لقوله، فقال المنافقون: إنّ هذا الشي‏ء افتراه في مجلسه أراد بذلك أن يذلّلنا لقرابته من بعده فنزلت: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى‏ عَلَى اللَّهِ كَذِباً.

فأرسل إليهم فتلاها عليهم فبكوا و اشتدّ عليهم فأنزل اللّه: (وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) الآية.

فأرسل في أثرهم فبشّرهم و قال: و يستجيب اللّه الّذين آمنوا و هم الّذين سلّموا لقوله ثمّ قال سبحانه: وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً.

أى من فعل طاعة نزد له في تلك الطاعة حسنا بأن نوجب له الثواب.

و ذكر أبو حمزة الثمالي عن السّدى أنّه قال: اقتراف الحسنة المودّة لآل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و صحّ عن الحسن بن عليّ عليه السّلام أنّه خطب النّاس فقال في خطبته: أنا من أهل البيت الذين افترض اللّه مودّتهم على كلّ مسلم فقال: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى‏ وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً).

فاقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت.

و روى اسماعيل بن عبد الخالق عن أبي عبد اللّه عليه السّلام انّه قال: إنّها نزلت فينا أهل البيت أصحاب الكساء انتهى كلامه رفع مقامه.

و قال الفخر الرّازي في التفسير الكبير نقل صاحب الكشاف عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: من مات على حبّ آل محمّد مات شهيدا، ألا و من مات على حبّ آل محمّد مات مغفورا له، ألا و من مات على حبّ آل محمّد مات تائبا، ألا و من مات على حبّ آل محمّد مات مؤمنا مستكمل الايمان، ألا و من مات على حبّ آل محمّد بشّره ملك الموت بالجنّة ثمّ منكر و نكير، ألا و من مات على حبّ آل محمّد يزفّ إلى الجنّة كما يزفّ العروس إلى بيت زوجها، ألا و من مات على حبّ آل محمّد فتح له في قبره بابان إلى الجنة، ألا و من مات على حبّ آل محمّد جعل اللّه قبره مزار ملائكة الرّحمة، ألا و من مات على حبّ آل محمّد مات على السنّة و الجماعة.

ألا و من مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة اللّه، ألا و من مات على بغض آل محمّد مات كافرا، ألا و من مات على بغض آل محمّد لم يشمّ رايحة الجنّة، قال: هذا هو الذي رواه صاحب الكشّاف.

و أنا أقول: آل محمّد صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم هم الذين يؤول أمرهم إليه فكلّ من كان أمرهم إليه أشدّ و أكمل كانوا هم الآل و لا شكّ أنّ فاطمة و عليّا و الحسن و الحسين كان التعلّق بينهم و بين رسول اللَّه أشدّ التّعلّقات، و هذا كالمعلوم بالنّقل المتواتر فوجب أن يكونوا هم الآل، و أيضا اختلف النّاس في الآل فقيل هم الأقارب، و قيل هم امّته فان حملناه على القرابة فهم الآل و إن حملناه على الامّة الذين قبلوا دعوته فهم أيضا آل، فثبت أنّ على جميع التقديرات هم الآل و أمّا غيرهم فهل يدخلون تحت لفظ الآل فمختلف فيه.

قال: و روى صاحب الكشاف أنّه لمّا نزلت هذه الآية قيل يا رسول اللَّه من قرابتك هؤلاء الّذين وجبت علينا مودّتهم فقال صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم عليّ و فاطمة و ابناهما، فثبت أنّ هؤلاء الأربعة أقارب النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و إذا ثبت هذا وجب أن يكونوا مخصوصين بمزيد التّعظيم و يدلّ عليه وجوه: الأوّل قوله تعالى «إلّا المودّة في القربى» و الثّاني لا شكّ أنّ النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم كان يحبّ فاطمة عليها السلام قال صلّى اللَّه عليه و آله: فاطمة بضعة منّي يؤذيني ما يؤذيها، و ثبت بالنّقل المتواتر من محمّد صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم أنّه كان يحبّ عليّا و الحسن و الحسين، و إذا ثبت ذلك وجب على كلّ الامّة مثله لقوله: (وَ اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) و لقوله: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) و لقوله: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) و لقوله سبحانه: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.

الثّالث أنّ الدعاء للآل منصب عظيم و لذلك جعل هذا الدّعاء خاتمة التشهّد في الصّلاة و هو قوله: اللّهمّ صلّ على محمّد و على آل محمّد و ارحم محمّدا و آل محمّد، و هذا التّعظيم لم يوجد في حقّ غير الآل فكلّ ذلك يدلّ على أن حبّ آل محمّد واجب، و قال الشّافعي:

يا راكبا قف بالمحصّب من منى
و اهتف بساكن خيفها و النّاهض‏

سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى‏
فيضا كما نظم الفرات الفائض‏

إن كان رفضا حبّ آل محمّد
فليشهد الثّقلان أنّي رافضي‏

انتهى كلام الرازي خذله اللَّه اقول: و لا يكاد ينقضي عجبى من هذا النّاصب أنّه مع نقله تلك الأخبار المستفيضة المتفق عليها بين الفريقين و اقراره بهذه الفضايل للآل كيف يتعصّب في حقّ أئمته و يرضى بخلافتهم و يذعن بامامتهم مع أنّ دلالة هذه الأخبار على كفرهم و شقاوتهم غير خفيّة إذ بغضهم لأهل بيت الرّسول في حياته و بعد وفاته ظاهر، و أذاهم لبضعته في إحراق بابها و إسقاط جنينها و غصب فدك منها واضح، و تسليطهم بني اميّة و بني أبي معيط على رقاب أهل البيت و ما جرى من الظلم و الجور بسبب ذلك عليهم عليهم السّلام غني عن البيان، و إنما أنطق اللَّه لسانه على الحقّ إتماما للحجّة و إكمالا للبيّنة لئلا يقول يوم القيامة: (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ» «وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ» «وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ.

ثمّ إنّ الشّارح المعتزلي قال في شرح هذه الفقرة أعني قوله عليه السّلام: فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن بعد كلامه الذي قدّمنا ذكره: فان قلت: فهذا القول منه عليه السّلام يشعر بأنّ العترة معصومة فما قول أصحابكم في ذلك قلت: نصّ أبو محمّد بن مثنويه في كتاب الكفاية على أنّ عليّا عليه السّلام معصوم و إن لم يكن واجب العصمة و لا العصمة شرط في الامامة لكن أدلّة النّصوص قد دلّت على عصمته و القطع على باطنه و نفسه و إنّ ذلك أمر اختصّ هو به دون غيره من الصّحابة، و الفرق ظاهر بين قولنا زيد معصوم و بين قولنا زيد واجب العصمة، لأنّه امام و من شرط الامام أن يكون معصوما فالاعتبار الأوّل مذهبنا و الاعتبار الثّاني‏ مذهب الاماميّة انتهى كلامه هبط مقامه.

و فيه أنّك قد عرفت في مقدّمات شرح الخطبة الشقشقيّة بما لا مزيد عليه و في غيرها أيضا أنّ العصمة شرط في الامامة، و محصّل ما قلناه هناك: أنّ غير المعصوم لا يؤمن منه الخطأ و الضّلال فكيف يأمنه النّاس في ضلالته و خطائه، و إن شئت زيادة الاستبصار فارجع ثمّة.

و أمّا قوله عليه السّلام (و ردوهم ورود اليهم العطاش) فأشار به إلى اقتباس العلوم و اكتساب الأنوار منهم، فانهم (ع) لما كانوا ينابيع العلوم و كان علمهم بمنزلة العذب الفرات و كان الخلق محتاجين إليهم في ذلك حسن منه عليه السّلام أن يأمرهم بورودهم و يشبّه ورودهم بورود الابل الظّمآن على الماء و هو نظير قوله سبحانه.

 (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

قال الحارث سألت أمير المؤمنين عليه السّلام عن هذه الآية قال: و اللَّه إنّا لنحن أهل الذّكر نحن أهل العلم نحن معدن التأويل و التنزيل.

ثمّ إنّه عليه السّلام لما ذكر فضايل الآل و مناقبهم عقّب ذلك و أكّده بذكر منقبة أخرى و فضيلة عظمى رواها عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم فقال (أيّها الناس خذوها عن خاتم النّبييّن) و سيّد المرسلين (صلّى اللَّه عليه و آله) أجمعين (أنّه يموت من مات منّا و ليس بميّت و يبلى من بلى منّا و ليس ببال) اعلم أنّ هذا الحديث من مشكلات الأحاديث و متشابهاتها و قد اختلف في توجيهه أنظار الشّراح و تأوّله كلّ بما يقتضيه سليقته و مذاقه، و أعظمهم خبطا و أشدّهم و هما الشارح البحراني مع فضله و ذكائه و براعته في علم الحكمة حسبما تطلع عليه و لا غرو فيه فانّ الحكمة بعيدة عن مذاق الأخبار و حاجبة من اقتباس الأنوار و الأسرار المودعة في كنوز أحاديث الأئمة الأطهار.

و أنا أتمسّك في شرح المقام بحبل العناية الأزليّة و أستمدّ من الحضرة الالهيّة و أستمسك بذيل أهل بيت العصمة و الطّهارة، و أبيّن أوّلا جهة الاشكال و هو أنّ كلامه عليه السّلام بظاهره متناقض حيث إنّه نفى الموت و البلا عنهم بعد إثباتها عليهم و الايجاب يناقض السلب و السّلب للايجاب، و أيضا أنهم عليهم الصّلاة و السّلام هل يحكم بموتهم و بلاهم في الواقع و نفس الأمر على ما هو مقتضى الشطر الايجابيّ من القضيّتين أولا يحكم بشي‏ء منهما في حقّهم على ما يقتضيه الجزء السّلبيّ منهما، فأقول و باللّه التوفيق: إنّ حلّ الاشكال في المقام موقوف على تحقيق الكلام في كلّ من القضيّتين و به يرتفع التناقض من البين.

فأمّا القضيّة الأولى فمحصّل القول فيها أنّ النّبيّ و الأئمة صلوات اللَّه و سلامه عليه و عليهم إلّا الحجّة المنتظر عجّل اللَّه فرجه قد انتقلوا من دار الدّنيا إلى دار الآخرة و خرجت أرواحهم من أبدانهم و جرى الموت عليهم حقيقة كما هو نصّ الجزء الايجابي من هذه القضيّة، و نفى الموت عنهم إنما هو من مفتريات عبد اللَّه ابن سبا و من حذا حذوه من الغلاة مخالف لاجماع الامة و لنصّ الكتاب و السنّة و قد قال سبحانه: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) و قال: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى‏ أَعْقابِكُمْ.

و أمّا سلب الموت عنهم عليهم السّلام في الجزء الثّاني من القضيّة فهو محمول على حياتهم بأجسادهم المثالية كما هو مذهب جمع من أصحابنا على ما حكى عنهم الطّبرسيّ في مجمع البيان في تفسير قوله: (وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ.

و إليه ذهب المحدّث المجلسيّ في كتاب حقّ اليقين و نسبه فيه على ما ببالي إلى المفيد (ره).

و قال في البحار في المجلّد الرابع عشر منه: و نحن لا ننكر الأجساد المثالية و تعلّق الأرواح بها بعد الموت بل نثبتها لدلالة الأحاديث المعتبرة عليها، بل لا يبعد عندى وجودها قبل الموت أيضا فتتعلّق بها الأرواح في حال النوم و شبهه من الأحوال لضعف تعلّقها بالأجساد الأصلية فيسير بها في عوالم الملك و الملكوت و لا أستبعد في الأرواح القويّة تعلّقها بالأجساد المثالية الكثيرة، و تصرّفها في جميعها في حاله فلا يستبعد حضورهم عليهم السّلام في آن واحد عند جمع كثير من المحتضرين و غيرهم.

و قال (ره) في المجلّد التاسع منه بعد نقله رواية البرسى في مشارق الأنوار استقبال أمير المؤمنين و حضوره جنازة نفسه في ظهر الكوفة عند تشييع الحسنين عليهما السّلام لها: و لا أردّ هذه الرّواية لورود الأخبار الكثيرة الدالّة على ظهورهم عليهم السّلام بعد موتهم في أجسادهم المثالية كما نقلنا عنه في شرح الكلام التاسع و الستّين، و لا بعد في ذلك أى في ثبوت الأجساد المثالية لهم، فقد ثبت ذلك في حقّ المؤمنين الّذينهم من فاضل طينتهم و أشعّة أنوارهم فكيف و هو عليه السّلام أمير المؤمنين و هو و أولاده المعصومون سادات أهل الايمان و اليقين بهم سعد من سعدو بولايتهم فاز من فاز و كلّ الكمالات فيهم و منهم و بهم و إليهم.

روى الكلينيّ في الكافي باسناده عن القاسم بن محمّد عن الحسين بن أحمد عن يونس بن ظبيان قال: كنت عند أبي عبد اللَّه عليه السّلام فقال: ما يقول النّاس في أرواح المؤمنين فقلت: يقولون تكون في حواصل طيور خضر في قناديل تحت العرش، فقال أبو عبد اللَّه عليه السّلام: سبحان اللَّه المؤمن أكرم على اللَّه من أن يجعل روحه في حوصلة طير، يا يونس إذا كان ذلك أتاه محمّد صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و الملائكة المقرّبون عليهم السّلام فاذا قبضه اللَّه عزّ و جلّ صيّر تلك الروح في قالب كقالبه في الدّنيا فيأكلون و يشربون، فاذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصّورة الّتي كانت في الدّنيا.

و رواه في مجمع البيان عن تهذيب الأحكام للشيخ عن القاسم بن محمّد نحوه.

و في الكافي باسناده عن أبي بصير قال قلت لأبي عبد اللَّه عليه السّلام: إنّا نتحدّث عن أرواح‏ المؤمنين أنّها في حواصل طيور خضر ترعى في الجنّة و تأوى إلى قناديل تحت العرش فقال عليه السّلام: لا إذن ما هى في حواصل طير، قلت: فأين هي فقال عليه السّلام في روضة كهيئة الأجساد في الجنة.

و في مجمع البيان و الصافي من التهذيب عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السّلام عن أرواح المؤمنين، فقال: في الجنّة على صور أبدانهم لو رأيته لقلت فلان.

و كيف كان فلا غبار على ذلك، و إطباق المشايخ على القدح في يونس بن ظبيان و نسبتهم له إلى الغلوّ و الكذب مع مدح بعضهم له و تلقّى جمع منهم روايته هذه بالقبول و بنائهم على مضمونها مع اعتضادها بالرّوايات الاخر لا يقدح في روايته هذه و العمل عليها، هذا هو الذي يقتضيه النظر الجليل في توجيه سلب الموت عنهم (ع).

و أمّا الذي يقتضيه النظر الدقيق فهو أن يقال بحياتهم بعد موتهم بأجسادهم الأصلية التي كانت في الدّنيا، و لا غرو فيه بعد دلالة الأخبار المعتبرة عليه.

مثل ما في الوسائل في باب كراهة الاشراف على قبر النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله من فوق عن الكلينيّ عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد البرقي عن جعفر بن المثنى الخطيب قال: كنت بالمدينة و سقف المسجد الذي يشرف على القبر قد سقط، و الفعلة يصعدون و ينزلون و نحن جماعة، فقلت لأصحابنا: من منكم له موعد يدخل على أبي عبد اللَّه عليه السّلام الليلة فقال مهران بن أبي نصر: أنا، و قال إسماعيل بن عمّار الصّيرفي: أنا فقلنا: سلاه عن الصّعود لنشرف على قبر النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم، فلما كان من الغد لقيناهما فاجتمعنا جميعا، فقال اسماعيل: قد سألناه لكم عمّا ذكرتم فقال: ما أحبّ لأحد منهم أن يعلوه فوقه و لا آمنه أن يرى منه شيئا يذهب منه بصره أو يراه قائما يصلّي أو يراه مع بعض أزواجه.

و في البحار من المناقب لابن شهر آشوب عن عبد اللَّه بن سليمان و زياد بن المنذر و الحسن العباس بن حريش كلّهم عن أبي جعفر عليه السّلام و أبان بن تغلب و معاوية ابن عمّار و أبو سعيد المكاري كلّهم عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام لقى الأوّل فاحتجّ عليه ثمّ قال: أترضى برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله بيني و بينك فقال:و كيف بذلك فأخذ بيده فأتى به مسجد قبا فاذا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم فيه فقضى له على الأوّل.

و فيه من إرشاد القلوب عن الصّادق عليه السّلام في حديث طويل ذكر فيه احتجاج أمير المؤمنين عليه السّلام على أبي بكر بحديث الغدير و غيره فقال أبو بكر: لقد ذكرتني يا أمير المؤمنين أمرا لو يكون رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم شاهدا فأسمعه منه، فقال أمير المؤمنين: اللَّه و رسوله عليك من الشّاهدين يا أبا بكر إذا رأيت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله حيّا و يقول لك إنّك ظالم لي في أخذ حقّي الّذي جعله اللَّه لي و لرسوله دونك و دون المسلمين أ تسلّم هذا الأمر إلىّ و تخلع نفسك منه فقال أبو بكر: يا أبا الحسن و هذا يكون أرى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله حيّا بعد موته يقول لي ذلك. فقال أمير المؤمنين: نعم يا أبا بكر، قال: فأرنى ذلك إن كان حقّا، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: اللَّه و رسوله عليك من الشّاهدين إنّك تفى بما قلت قال أبو بكر: نعم فضرب أمير المؤمنين عليه السّلام على يده و قال: تسعى معي نحو مسجد قبا فلمّا ورداه تقدّم أمير المؤمنين عليه السّلام فدخل المسجد و أبو بكر من ورائه فاذا برسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم في قبلة المسجد، فلمّا رآه أبو بكر سقط لوجهه كالمغشيّ عليه فناداه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: ارفع رأسك أيّها الضّليل المفتون، فرفع أبو بكر رأسه و قال: لبّيك يا رسول اللَّه أحياة بعد الموت يا رسول اللَّه فقال صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: ويلك يا أبا بكر (إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى‏ إِنَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ) الحديث و نحوها أخبار اخر.

و أنت بعد ذلك لو سنحت بخاطرك سوانح الشبهات و خالجتك الشّكوك و احتملت تأويل هذه الأخبار بالأجساد المثالية و أردت أن يطمئن قلبك بجواز الحياة على الأجساد الأصلية فراجع إلى ما رواه في البحار من المناقب عن أبان بن تغلب و الحسين بن معاوية و سليمان الجعفري و إسماعيل بن عبد اللَّه بن جعفر كلّهم عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام‏

قال: لمّا حضر رسول اللَّه المماة دخل عليه عليّ عليه السّلام فأدخل رأسه معه ثمّ قال: يا علي إذا أنا متّ فغسّلني و كفنّي ثمّ اقعدني و سائلني و اكتب و من تهذيب الأحكام فخذ بمجامع كفني ثمّ اسألني عما شئت فو اللَّه لا تسألني عن شي‏ء إلّا أجبتك.

و رواه فيه من البصاير و الكافي و الخرائج عن البزنطي عن فضيل عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام مثله، و فيه و في رواية أبي عوانه باسناده قال عليّ عليه السّلام ففعلت فأنبأني بما هو كائن إلى يوم القيامة.

و في البحار أيضا من الخرائج عن إسماعيل بن عبد اللَّه بن جعفر عن أبيه عليه السّلام قال: قال عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: أمرني رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله إذا توفّى أن استسقي سبع قرب من بئر غرس فأغسله بها، فاذا غسلته و فرغت من غسله أخرجت من في البيت قال: فاذا اخرجتهم فضع فاك على فيّ ثمّ سلني عمّا هو كائن إلى أن تقوم الساعة من أمر الفتن، قال عليّ عليه السّلام: ففعلت ذلك فأنبأني بما يكون إلى أن تقوم الساعة، و ما من فئة تكون إلّا و أنا أعرف أهل ضلالها من أهل حقّها.

و من الخرائج أيضا عن حفص بن البخترى عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم لأمير المؤمنين: إذا أنا متّ فغسّلني و كفّنّى و ما املي عليك فاكتب قلت: ففعل قال: نعم.

و يزيد توضيحا لذلك الأخبار الواردة في كتب المقاتل من أنّ الرّأس الأطيب الأطهر الأنور للسيّد الشّهداء روحي و جسمى له الفداء كان ينظر و يتحرّك و يتكلّم بعد قتله عليه السّلام فيكبّر تارة و يحوقل أخرى و يقرأ من القرآن آية الكهف و غيرها على السّنان و يخبر عن ما سنح بخاطر ابن وكيدة بالكوفة، إلى غير هذه ممّا شوهدت منه من المعجزات و الكرامات، أ فيمكن لك أن تقول إنّ ذلك لم يكن رأسه الأصلي و إنّما كان رأسه المثالي فاذا جاز الحياة على الرأس الذي هو جزء من البدن الشريف سلام اللَّه عليه فكيف بالبدن تمامه.

و قد روى غير واحد من أرباب المقاتل المعتبرة جلوس الجسد المذبوح عند وداع أهل بيته عليه السّلام له و معانقته لبنته الصغيرة و وصيّته إليها بأن يقول لشيعته:

شعتي ما إن شربتم ماء عذب فاذكرونى
أو سمعتم بغريب أو شهيد فاندبوني‏

إلى آخر الأبيات الّتي خرجت من الحلقوم الشّريف لعن اللَّه قاتليه و ظالميه أبد الآبدين و دهر الداهرين.

فحاصل الكلام و فذلكة المرام أنّي لا أمنع من تصرّفات أرواحهم الكلّيّة في أجسادهم الأصليّة كتصرّفها فى الأجساد المثاليّة على ما عليه أساطين العلماء باقدار من اللَّه سبحانه و إفاضة منه الحياة عليهم بعد موتهم إظهارا لشرفهم و رفعتهم و كرامتهم و إتماما للحجّة في بعض المقامات (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى‏ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ).

و لا أرى مانعا من ذلك إلّا ما في المجلس التّاسع عشر من كتاب أسرار الشّهادات من أنّ القول بتعلّق الأرواح بالأجساد الدّنيويّة الأصليّة قبل قيام الساعة أو قبل الرّجعة ممّا قام الاجماع على بطلانه و لكنّك خبير بما فيه إذ المسألة غير معنونة في كلام الأصحاب فكيف يمكن دعوى الاجماع و بعد الغضّ عن ذلك غايته أنّه إجماع منقول بخبر الواحد و هو على القول بحجّيته لا يكافؤ الأخبار المستفيضة الدّالّة على خلافه.

و يؤيّد ما ذكرته و يقرّبه ما في مجمع البيان في تفسير الآية السّابقة أعنى قوله: (وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ) فانّه بعد ما اشكل في حياة الشهداء بقوله: فان قيل: فنحن نرى جثّة الشهداء مطروحة على الأرض لا تنصرف و لا يرى فيه شي‏ء من علامات الأحياء، قال (ره) ما نصّ عبارته: فالجواب أمّا على مذهب من يقول من أصحابنا أنّ الانسان هو النّفس إنّ اللَّه يجعل لهم أجساما كأجسامهم في دار الدّنيا يتنعّمون فيها دون أجسامهم التي في القبور فانّ النّعيم و العذاب إنما يحصل عنده إلى النّفس التي هي الانسان المكلّف‏ عنده دون الجثة إلى أن قال: فأمّا على مذهب من قال من أصحابنا إنّ الانسان هذه الجمل المشاهدة و إنّ الرّوح هو النّفس المتردّد في مخارق الحيوان و هو أجزاء الجوّ فالقول أنه يلطف أجزاء من الانسان لا يمكن أن يكون الحىّ حيّا بأقلّ مما يوصل إليها النّعيم و إن لم تكن تلك الجملة بكمالها، لأنّه لا يعتبر الأطراف و أجزاء السّمن في كون الحىّ حيّا، فانّ الحىّ لا يخرج بمفارقتها من كونه حيّا.

و ربّما قيل: بأنّ الجثّة يجوز ان يكون مطروحة في الصورة و لا يكون ميتة فتصل إليها اللّذات كما أنّ النّائم حىّ و تصل إليه اللّذات مع أنه لا يحسّ و لا يشعر بشي‏ء من ذلك، فيرى في النوم ما يجد به السّرور و الالتذاذ حتّى يودّ أن يطول نومه فلا ينتبه.

و قد جاء في الحديث أنّه يفسح له مدّ بصره و يقال له نم نومة العروس، و قريب منه ما في التّفسير الكبير للفخر الرّازي حيث قال: فان قيل: نحن نشاهد أجسادهم ميتة في القبور فكيف يصحّ ما ذهبتم إليه قلنا: أما عندنا فالبنية ليست شرطا في الحياة و لا امتناع في أن يعيد اللَّه الحياة إلى كلّ واحد من تلك الذّرات و الأجزاء الصّغيرة من غير حاجة إلى التركيب و التأليف، و أمّا عند المعتزلة فلا يبعد أن يعيد اللَّه إلى الأجزاء التي لا بدّ منها في ماهية الحىّ و لا يعتبر بالأطراف و يحتمل أيضا ان يحييهم إذا لم يشاهدوا.

و بالجملة فقد تقرّر ممّا ذكرنا جواز الحياة على الأبدان الأصلية في الجملة و ارتفع بعد ذلك في نظرك بما نسبه الطبرسيّ إلى جمع من أصحابنا و الفخر الرّازي إلى المعتزلة مع أنه لا يعبؤ باستبعاد العقول بعد دلالة نصّ الآية و قيام الأخبار المستفيضة عليه هذا.

و أمّا القضية الثانية أعنى قوله: و يبلى من بلى منّا و ليس ببال، فقد ظهر تحقيق الكلام فيها مما سبق إذ بعد القول بحياة الأبدان على الوجه الذي قلناه‏ لا يتصوّر البلى لمنافاتها له، نعم لا ينافيها على الوجه الذي اختاره الأشاعرة و الوجه الذي ذهب إليه المعتزلة و جمع من أصحابنا على ما عرفت في نقل كلامهم.

و يدلّ على ذلك أى على عدم البلى ظواهر الأخبار السّابقة مضافة إلى ما في الكافي عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد عن عليّ بن الحكم عن زياد بن أبي الجلال عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: ما من نبيّ و لا وصيّ نبيّ يبقى في الأرض أكثر من ثلاثة أيّام حتّى ترفع روحه و عظمه إلى السّماء و إنما يؤتى مواضع آثارهم و يبلغونهم من بعيد السّلام و يسمعونهم في مواضع آثارهم من قريب.

و في الوسائل عن الشيخ باسناده عن محمّد بن سنان عن المفضل بن عمر قال: دخلت على أبي عبد اللّه عليه السّلام فقلت له: إنّي اشتاق إلى الغرّى فقال: ما شوقك إليه فقلت: له إنّي أحبّ أن أزور أمير المؤمنين عليه السّلام، فقال عليه السّلام: هل تعرف فضل زيارته قلت: لا إلّا أن تعرّفني، فقال عليه السّلام: إذا زرت أمير المؤمنين عليه السّلام فاعلم أنّك زائر عظام آدم و بدن نوح و جسم عليّ بن أبي طالب عليه السّلام الحديث.

و ما في شرح المعتزلي عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله أنّ الأرض لم تسلّط عليّ و أنها لا تأكل لي لحما و لا تشرب لي دما.

و في الفقيه عن الصّادق عليه السّلام إنّ اللّه عزّ و جلّ حرّم عظامنا على الأرض و حرّم لحومنا على الدّود أن يطعم منها شيئا.

و قال النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم حياتي خير لكم و مماتي خير لكم، قالوا: يا رسول اللّه و كيف ذلك قال عليه السّلام: أما حياتي فانّ اللّه عزّ و جلّ يقول: و ما كان اللّه ليعذّبهم و أنت فيهم، و أمّا مفارقتي إيّاكم فانّ أعمالكم تعرض علىّ كلّ يوم فما كان من حسن استزدت اللّه لكم و ما كان من قبيح استغفرت اللّه لكم، قالوا: و قد رحمت يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يعنون صرت رميما فقال عليه السّلام: كلّا إنّ اللّه تبارك و تعالى حرّم لحومنا على الأرض أن يطعم منها شيئا، هذا.

و مقتضى الجمع بين هذه الأخبار و الأخبار الدالّة على نقل عظام آدم عليه السّلام‏ إلى الغريّ و عظام يوسف إلى الأرض المقدّسة هو اختصاص حكم عدم البلى بهذه الشجرة المباركة أعني خاتم النبيّين و أوصيائه المعصومين سلام اللّه عليهم أجمعين.

فان قلت: فاذا قلت بعدم البلى على ما يقتضيه قوله عليه السّلام ليس ببال فكيف التوفيق بينه و بين قوله و يبلى من بلى منّا المقتضي لثبوت البلى قلت: ذلك محمول على زعم أغلب الخلق فانّ اسراء عالم الحواسّ من الناس لمّا زعموا أنّ الموت ملازم للبلى و قاسوا أولياء اللّه و عباده المصطفين بساير الخلق و لم يعرفوا أنّهم لا يقاس بهم أحد فأثبتوا البلى في حقّهم و لذلك عقّب عليه السّلام الايجاب بالسّلب كما أنّ اللّه سبحانه ردّ حسبان الخلق و زعمهم لكون القتل مستلزما للموت في سورة البقرة بقوله: (وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ) و في سورة آل عمران بقوله: (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) فان قوله: (وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ).

في الآية الاولى دليل على أنهم لم يكن لهم شعور بحياتهم فاذا لم يكن لهم شعور بذلك فلا يكون لهم شعور بعدم البلى البتة من حيث الملازمة بينه و بين الموت في نظرهم كملازمة الموت للقتل عندهم، هذا.

و أما حمل البلى على بلى الأكفان فبعيد، و أبعد منه حمله على بلى الأبدان و حمل عدم البلى على عدمه للأرواح كما يظهر من شرح البحراني حيث قال في شرح هاتين الفقرتين ما نصّ عبارته: و إشارة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله بهذه الكلمة تقرير لقوله تعالى: (وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) الآية.

لما اتفقت عليه كلمة العلماء و نطقت به البراهين العقلية أنّ أولياء اللّه لا يموتون و لا يبلون و إن بليت أجسادهم.

قال بعض الخائضين فيما لا يعنيه: قوله: و يبلى من بلى منّا، نصّ جلّى على أنّ أجساد الأولياء تبلى، و ذلك يخالف ما يعتقده النّاس من أنّ أجسادهم باقية إلى يوم القيامة.

قلت: الاعتقاد المذكور لبعض الناس إنّما نشأ من قول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في قتلى بدر: زمّلوهم بكلومهم و دمائهم فانهم يحشرون يوم القيامة و أوداجهم تشخب دما، و قوله تعالى: و لا تحسبنّ الّذين قتلوا، الآية و ليس و لا واحد منهما بدال على أن الأجساد لا تموت و لا تبلى.

أمّا الخبر فليس مقتضاه أنها تبقى صحيحة تشخب دما إلى يوم القيامة، بل ذلك ممّا يشهد ببطلانه الحسّ، بل يحمل على أنّها كما تعاد يوم القيامة تعاد مجروحة تشخب جراحها دما كهيئتها يوم موتها.

و أمّا الآية فالذي أجمع عليه علماء المفسّرين أنّ الحياة المذكورة فيها هي حياة النّفوس، و هو ظاهر في سبب نزولها عن ابن عباس (رض) قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لما اصيبت إخوانكم باحد جعل اللّه أرواحهم في أجواف طيور خضر ترد أنهار الجنّة و تأكل من ثمارها و تأوى إلى قناديل من ذهب معلّقة في ظلّ العرش، فلمّا وجد و اطيب مأكلهم و مشربهم و مقيلهم قالوا من يبلغ إخواننا عنّا أنّا في الجنّة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد و لا يتكلّموا عند الحرب فقال اللّه عزّ و جلّ: أنا ابلّغهم عنكم فنزلت: و لا تحسبنّ الّذين قتلوا، الآية.

فاذن لا منافاة بين كلامه عليه السّلام و ما ورد في القرآن و الخبر، و مقصوده عليه السّلام بهذه الكلمة تقرير فضيلتهم و أنّهم أولياء باقون عند ربّهم في ظلّ كرامته انتهى كلامه.

و قد تحصّل منه أنه (ره) يحمل الموت و البلى في كلامه عليه السّلام على بلى الأجساد و موتها و يحمل عدم الموت و البلى فيه على حياة النفوس و الأرواح و بقائها و أنت‏خبير بما فيه.

أمّا أوّلا فلأنّ القول ببلى أجساد الأئمة و موتها خلاف ما هو المستفاد من الأخبار المستفيضة السّابقة.

و ثانيا أنّ الامام عليه السّلام إنّما أتى بالحديث النّبويّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إظهارا للرفعة و الكرامة و مقصوده عليه السّلام به المفاخرة و بيان فضيلة و منقبة مختصّة بهم عليه السّلام، و من المعلوم أنّ بقاء الأرواح مع بلى الأجساد ليس فضيلة مخصوصة بأهل بيت الرسالة بل هي جارية في حقّ ساير النّاس من المؤمنين و الكفّار، و قد مرّ في شرح الخطبة الثّانية و الثمانين أنّ أرواح المؤمنين في وادي السّلام و أرواح الكفّار في البرهوت، فأىّ معنى لحمل عدم البلى فيه علي عدم بلى الأرواح، مع أنّ استعمال لفظ البلى و عدم البلى إنّما هو مصطلح فى الأجساد و الأجسام دون الأنفس و الأرواح و هو واضح لا يخفى، بل الأرواح لا يتصوّر في حقّها البلى فلا معنى لنفى البلى عنها إلّا على وجه السالبة بانتفاء الموضوع

و ثالثا قوله ره: قلت: الاعتقاد المذكور إنّما نشأ من قول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آه فيه أنّ سند الاعتقاد المذكور ليس منحصرا فيما ذكره بل قد دلّ عليه ما قدّمناه من الأدلّة.

و رابعا أنّ دعوى اتّفاق المفسّرين على كون الحياة المذكورة في الآية هي حياة النفوس ممنوعة، لما عرفت سابقا اختلاف المفسّرين فيها، فمنهم من يحملها على الحياة بالأجساد المثالية، و منهم من يحملها على الحياة بالأبدان الأصليّة، و منهم من يحملها على حياة النفوس فكيف يمكن مع هذا الخلاف دعوى الاتفاق، و ما أبعد ما بين هذه الدّعوى و بين إنكار البعض حديث الأرواح مستدّلا بكون الروح عرضا لا يتنعّم، فانّ دعوى الشارح للاتفاق واقع في طرف الافراط كما أنّ انكار هذا البعض في جانب التفريط من حيث أنّ الروح جسم لطيف هوائيّ حسّاسة فعّالة و ليس عرضا كما توهّمه فيجوز أن يتنعّم و يلتذّ.

و خامسا أنّ الحديث الذي نقله عن ابن عباس في مقام الاستظهار به قد عرفت ردّ الصادق عليه السّلام له في روايتي يونس بن ظبيان و أبي بصير المتقدّمتين، و اللّه العالم بحقايق الامور، و المحصّل لما في الصدور و انّما أطنبت الكلام في المقام لكونه من مزالق الأقدام محتاجا إلى كشف الحجاب عن المرام و قد وضح لك فيه ما اقتضت الأدلّة من الكتاب و السّنة و من اللّه سبحانه أسأل العصمة و السداد من الخطاء في القول و الاعتقاد بمحمد و آله الأطهار الأمجاد.

ثمّ إنّه عليه السّلام لمّا ذكر مناقب آل العباء و من خصّه اللّه بالولاية و الولاء و أكّده بحديث سلب الموت و البلى و كان ذلك بعيدا عن مذاق العوام و أمرا عجيبا عند العقول و الأوهام و مظنة للردّ و الانكار لا جرم أردفه بقوله (و لا تقولوا بما لا تعرفون فانّ أكثر الحقّ فيما تنكرون) و هو نهى لهم عن القول في حقّ العترة بما لا يعرفون و عن التسرّع إلى ردّ ما يستعجبون معلّلا بأنّ أكثر الحقّ فيما ينكرون و المقصود به أنّ صاحب الولاية لا يقاس بالنّاس إذ شئونات الولاية المطلقة بعيدة عن الوهم و القياس و إدراكات الخلق أغلبها مقصورة على عالم الحواس، و الجاهل ربما ينكر بداء جهالته الحقّ إذا خالف طبعه أو عجز عن إدراكه فهمه أو سبق إليه اعتقاده ضدّه بشبهة أو تقليد أو بما انقدح في وهمه من شكّ و ترديد، فلا يجوز الخوض في اللّجاج و العناد بمجرّد الاستغراب و الاستبعاد.

و قوله: (و اعذروا من لا حجّة لكم عليه و أنا هو)، إمّا من الاعذار بمعنى الانصاف من أعذر الرّجل إذا أنصف، أو من الاعذار بمعنى إثبات العذر و هو الانسب الأظهر، فالمقصود به على ذلك أنّه عليه السّلام كان مأمورا من اللّه سبحانه و من رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالابلاغ و التذكير و الانذار و التحذير، و قد بلّغ و ذكّر و أنذر و حذّر، فكان له الحجّة على المخاطبين و ثبت له العذر في مقام السئوال كما أنّ للّه و كذلك لرسوله الحجّة على جميع الخلايق حيث احتجّ بما نهج و أعذر بما أنذر، و هذا بخلاف ما لو فرّط عليه السّلام و قصّر في الابلاغ و التذكار فيكون حينئذ لهم الحجّة عليه و يثبت لهم العذر فيما يلحقهم من العذاب بأن يقولوا:

(رَبَّنا إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) و به جاهلين، فلا يجوز لك أن تؤاخذنا بما لم نعلم و تعذّبنا بما لم نفهم، فطلب عليه السّلام منهم أن يثبتوا له العذر فيما يلحقهم من العذاب و نكال العقاب لا لأنفسهم حيث أوضح لهم المحجّة البيضاء و دلّهم على الطريقة الوسطى و هداهم إلى الشريعة الغرّاء.

كما أفصح عليه السّلام عن ذلك بقوله (ألم أعمل فيكم بالثقل الأكبر و أترك فيكم الثقل الأصغر) و هو استفهام تقريرىّ يقول عليه السّلام إنّي قد عملت فيكم بكتاب اللّه و بما فيه من الحلال و الحرام و الحدود و الأحكام، و تركت فيكم عترة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و حفظت وصيّته بالاعزاز و الاكرام، و عبّر عنهما بالثقلين تبعا للحديث النبوىّ صلّى اللّه عليه و آله المعروف بين الفريقين.

و إنما سمّيا بذلك إمّا لعظم خطرهما و جلالة قدرهما من الثقل و هو المتاع النفيس، و إمّا لكون العمل بهما ثقيلا«» و إمّا لأجل أنّ الثقل متاع المسافر و حشمه فكانّه عليه السّلام لما شارف الانتقال إلى جوار ربّه تعالى جعل نفسه كالمسافر الذي ينتقل من منزل إلى منزل و جعل الكتاب و العترة كمتاعه و حشمه، لأنّهما أخصّ الأشياء به، قاله الشارح المعتزلي.

و الأظهر ما قلناه إذ متاع المسافر و حشمه يكونان معه و لا يخلفان بعده، هذا.

و أمّا تسمية القرآن بالأكبر و العترة بالأصغر مع كون العترة أفضل من القرآن عندنا و كونهم قيّمين له فقد قال الشارح البحراني: أشار بكونه أكبر إلى أنّه الأصل المتّبع المقتدى به.

أقول: و ليس بشي‏ء إذ العترة أيضا أصل متّبع مقتدى، و يحتمل أن يكون و صفه به من جهة أنّه لما كان معجزا للرسالة و سندا لها و الولاية و أساسا للدّين و سنادا للشرع المبين و لولاه لم يثبت رسالة و لا شريعة و لا ولاية و لا دين و لا ايمان‏ لا جرم وصفه به.

و يمكن استظهار ذلك ممّا رواه أبو سعيد الخدرى قال: قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّي تارك فيكم الثّقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، و عترتى أهل بيتي لن يفترقا حتّى يردا علىّ الحوض.

و أظهر منه ما في رواية أبي جعفر عليه السّلام عن جابر بن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يا أيّها النّاس إنّي تارك فيكم الثقلين: الثقل الأكبر و الثقل الأصغر إن تمسكتم بهما لن تضلّوا و لن تبدّلوا، فانّى سألت اللّه اللّطيف الخبير لا يفترقان حتّى يردا علىّ الحوض فاعطيت، فقيل: فما الثقل الأكبر و ما الثقل الأصغر فقال: الثقل الأكبر كتاب اللّه عزّ و جلّ سبب طرفه بيد اللّه عزّ و جلّ و طرف بأيديكم و الثقل الأصغر عترتي أهل بيتي.

و يمكن أن يقال: إنّ كتاب اللّه لما كان حجّة على عموم الخلق من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة عليه السّلام و امّتهم، و حجّية العترة كانت مخصوصة بالامّة فقط جعله أكبر لذلك هذا.

و في قوله عليه السّلام ألم أعمل فيكم آه تعريض و إشعار بعدم عمل غيره به و هو كذلك.

و يوضحه ما في غاية المرام من تفسير عليّ بن إبراهيم قال حدّثني أبي عن صفوان بن يحيى عن أبي الجارود عن عمران بن ميثم عن مالك بن ضمره عن أبي ذر (ره) قال: لما نزلت هذه الآية: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ) قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ترد علىّ امتي يوم القيامة على خمس رايات: فراية مع عجل هذه الأمة فأسألهم ما فعلتم بالثقلين من بعدي: فيقولون: أمّا الأكبر فحرّفناه و نبذناه وراء ظهورنا، و أمّا الأصغر فعاديناه و أبغضناه و ظلمناه فأقول: ردّوا إلى النّار ظمأ مظمئين مسودّة وجوهكم.

ثمّ ترد علىّ راية مع فرعون هذه الامّة فأقول لهم ما فعلتم بالثقلين من بعدي فيقولون: أمّا الأكبر فحرّفناه و مزّقناه و خالفناه، و أمّا الأصغر فعاديناه و قاتلناه، فأقول: ردّوا إلى النّار ظمأ مظمئين مسودّة وجوهكم.

ثمّ ترد علىّ راية هي مع سامريّ هذه الأمّة فأقول لهم: ما فعلتم بالثقلين من بعدي فيقولون: أمّا الأكبر فعصيناه و تركناه، و أما الأصغر فخذلناه و ضيّعناه فأقول: ردّوا إلى النّار ظمأ مظمئين مسودّة وجوهكم.

ثمّ ترد علىّ راية ذي الثدية مع أوّل الخوارج و آخرهم و أسألهم: ما فعلتم بالثقلين من بعدي فيقولون: أمّا الأكبر فمزّقناه و برئنا منه و أمّا الأصغر فقاتلناه و قتلناه فأقول: ردّوا إلى النّار ظمأ مظمئين مسوّدة وجوهكم.

ثمّ ترد علىّ راية مع إمام المتّقين و سيّد المسلمين و قائد الغرّ المحجّلين و وصيّ رسول ربّ العالمين فأقول لهم: ما فعلتم بالثقلين من بعدى فيقولون: أمّا الأكبر فاتّبعناه و أطعناه، و أمّا الأصغر فأحببناه و واليناه و زرناه و نصرناه حتّى اهريقت فيهم دمائنا، فأقول: ردّوا إلى الجنّة رواء مرويّين مبيضّة وجوهكم ثمّ تلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَ أَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

و قد أخذ السيّد إسماعيل الحميريّ مضمون هذا الحديث في أبيات من قصيدته المعروفة و هي هذه الأبيات:

و النّاس يوم الحشر راياتهم
خمس فمنها هالك أربع‏

فراية العجل و فرعونها
و سامريّ الأمّة المشنع‏

و راية يقدمها أبكم
عبد لئيم لكّع أكوع‏

و راية يقدمها نعثل
لا برّد اللّه له مضجع‏

و راية يقدمها حبتر
للزّور و البهتان قد أبدع‏

و راية يقدمها حيدر
و وجهه كالشمس اذ تطلع‏

مولى له الجنّة معمورة
و النّار من إجلاله يفزغ‏

إمام صدق و له شيعة
يرووا من الحوض و لم يمنعوا

بذاك جاء الوحى من ربّنا
يا شيعة الحقّ فلا تجزعوا

ثمّ قال عليه السّلام (و ركزت فيكم راية الايمان) شبّه عليه السّلام الايمان بالراية لأنه يهتدى به إلى سلوك سبيل الحقّ كما يهتدى بالراية أمام الجيش و نحوها، و ذكر الركز ترشيح للتشبيه و المقصود أني أثبت فيكم الايمان (و وقّفتكم على حدود الحلال و الحرام) أى جعلتكم واقفين عليهما مطلعين على جماتهما (و ألبستكم العافية من عدلي) أراد بالعافية السلامة من الظلم و من أذى الظالمين و استعار لفظ اللّباس لها (و فرشتكم المعروف من قولي و فعلى) المعروف اسم لكلّ ما عرف من طاعة اللّه و التّقرب إليه و الاحسان إلى النّاس و كلّ ما يندب إليه الشرع من المحسّنات و المقبّحات، و إن شئت قلت: المعروف اسم لكل فعل يعرف حسنه بالشرع و العقل يقول عليه السّلام: بسطت لكم بساط المعروف بالأقوال و الأفعال (و أريتكم كرايم الأخلاق من نفسي) أى أوضحتها لكم و شاهدتموها مني متكرّرة.

و قد سئل الصّادق عليه السّلام عن مكارم الأخلاق فقال عليه السّلام العفو عمّن ظلمك، وصلة من قطعك، و إعطاء من حرمك، و قول الحقّ و لو على نفسك.

و في حديث آخر في الكافي عن الصّادق عليه السّلام قال إنّ اللّه عزّ و جلّ خصّ رسله بمكارم الأخلاق فامتحنوا أنفسكم فان كانت فيكم فاحمدوا اللّه و اعلموا أنّ ذلك من خير و إلّا تكن فيكم فاسألوا اللّه و ارغبوا إليه فيها فذكرها عشرة: اليقين و القناعة، و الصبر، و الشكر، و الحلم، و حسن الخلق، و السخاء، و الغيرة، و الشجاعة، و المروة و فى الدّيوان المنسوب إليه عليه السّلام

إنّ المكارم أخلاق مطهّرة
فالدّين أوّلها و العقل ثانيها

و العلم ثالثها و الحلم رابعها
و الجود خامسها و الفضل سادسها

و البرّ سابعها و الصّبر ثامنها
و الشكر تاسعها و اللين باقيها

و النفس تعلم أنّي لا أصادقها
و لست أرشد إلّا حين أعصيها

و كيف كان فكونه عليه السّلام مبدء مكارم الأخلاق و منشأ محاسن الآداب مما لا ريب فيه بل ذلك غنيّ عن البيان، و لا بأس بالاشارة إلى بعض ما ورد في حسن خلقه و بشره و حلمه و عفوه و إشفاقه و عطفه صلوات اللّه عليه تيّمنا و توضيحا.

ففى البحار من مناقب ابن شهر آشوب عن مختار التّمار عن أبي مطر البصري أنّ أمير المؤمنين مرّ بأصحاب التّمر فاذا هو بجارية تبكي فقال: يا جارية ما يبكيك فقالت: بعثنى مولاى بدرهم فابتعت من هذا تمرا فأتيتهم به فلم يرضوه فلمّا أتيته به أبى أن يقبله، قال عليه السّلام: يا عبد اللّه انّها خادم ليس لها أمر فاردد إليها درهمها و خذ التمر، فقام إليه الرّجل فلكزه فقال النّاس هذا أمير المؤمنين عليه السّلام فربا الرّجل و اصفرّ و أخذ التمر و ردّ إليها درهمها، ثمّ قال يا أمير المؤمنين ارض عني فقال: ما أرضانى عنك أن أصلحت أمرك.

و في فضايل أحمد إذا وفيت النّاس حقوقهم«» و دعا غلاما له مرارا فلم يجبه فخرج فوجده على باب البيت فقال عليه السّلام: ما حملك على ترك إجابتي قال: كسلت اجابتك و أمنت عقوبتك، فقال عليه السّلام الحمد للّه الذي جعلني ممّن تأمنه خلقه امض فأنت حرّ لوجه اللّه.

و جاءه أبو هريرة و كان تكلّم فيه و أسمعه في اليوم الماضي و سأله حوائجه فقضيها فعاتبه أصحابه على ذلك فقال عليه السّلام: إنّي لأستحيي أن يغلب جهله علمي و ذنبه عفوى و مسألته جودي.

و لما ادرك عمرو بن عبدود لم يضربه فوقعوا في عليّ فردّ عنه حذيفة فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: مه يا حذيفة فانّ عليّا سيذكر سبب وقفته ثمّ إنّه ضربه فلما جاء سأله النّبيّ عن ذلك فقال عليه السّلام: قد كان شتم بي و تفل في وجهي فخشيت أن أضربه بحظّ نفسي فتركته حتّى سكن ما بي ثمّ قتلته في اللّه.

و كان عليه السّلام بشره دايم و ثغره باسم غيث لمن رغب و غياث لمن ذهب مآل الآمل و ثمال الأرامل يتعطف على رعيته و يتصرّف على مشيته و يكفّه بحجّته و تكفيه بمهجته.

و نظر إلى امرئه على كتفها قربة ماء فأخذ منها القربة فحملها إلى موضعها و سألها عن حالها فقالت بعث عليّ بن أبي طالب زوجى إلى بعض الثغور فقتل و ترك علىّ صبيانا يتامى و ليس عندي شي‏ء فقد ألجأتني الضّرورة إلى خدمة النّاس، فانصرف عليه السّلام و بات ليلته قلقا فلما اصبح حمل زنبيلا فيه طعام فقال بعضهم: أعطني أحمله عنك، فقال عليه السّلام: من يحمل و زرى عنّي يوم القيامة فأتى و قرع الباب فقالت من هذا قال: أنا ذلك العبد الذى حمل معك القربة فافتحي فانّ معي شيئا للصّبيان فقالت: رضى اللَّه عنك و حكم بينى و بين عليّ بن أبي طالب، فدخل و قال: إنّي أحببت اكتساب الثواب فاختاري بين أن تعجنين و تخبزين و بين أن تعلّلين الصبيان لأخبز أنا فقالت أنا بالخبز أبصر و عليه أقدر و لكن شأنك و الصّبيان فعلّلهم حتّى أفرغ من الخبز.

قال: فعمدت إلى الدّقيق فعجنه و عمد عليّ عليه السّلام إلى اللّحم فطبخه و جعل يلقم الصبيان من اللّحم و التمر و غيره، فكلّما ناول الصبيان من ذلك شيئا قال له: يا بنيّ اجعل عليّ بن أبي طالب في حلّ ممّا أمر في أمرك فلما اختمر العجين قالت: يا عبد اللَّه اسجر التنّور، فبادر عليه السّلام بسجره فلما أشعله و لقح في وجهه يقول: ذق يا علىّ هذا جزاء من ضيّع الأرامل و اليتامى، فرأته امرأة تعرفه عليه السّلام، فقالت: ويحك هذا أمير المؤمنين عليه السّلام، قال: فبادرت المرأة و هي تقول و احيائي منك يا أمير المؤمنين، فقال عليه السّلام بل و احيائي منك يا أمة اللَّه فيما قصرت في أمرك.

ثمّ إنّه عليه السّلام بعد ما أشار إلى جملة من فضايله و مناقبه أردفه بقوله: (فلا تستعملوا الرّأى فيما لا يدرك قعره البصر و لا يتغلغل) اى لا يسرع و لا يدخل (إليه الفكر) و المقصود بذلك النهى عن استعمال الرأى فيما ذكره عليه السّلام من خصايص العترة الطّاهرة و عجايب ما خصّهم اللَّه به من الأنوار الباهرة.

يقول عليه السّلام إنّ أمرنا صعب لا يهتدى إليه العقول و الأنظار، و لا تدرك قعره الأبصار، و لا تغلغل فيه الأفكار، فلا يجوز المبادرة إلى ردّ ما تأبى عنه العقول و الأفهام في حقّهم عليهم السّلام، فانّ حديثهم صعب مستصعب لا يحتمله إلّا ملك مقرّب أو نبيّ مرسل أو عبد مؤمن امتحن اللَّه قلبه للايمان.

تنبيه

لما كان هذا الفصل من كلامه عليه السّلام مسوقا لاظهار مناقب الآل و مشتملا على فضايل العترة الطّاهرين سلام اللَّه عليهم أجمعين أحببت أن أورد هنا شطرا من كراماتهم و معجزاتهم و عجائب شئوناتهم المرويّة بالأسانيد الغريبة.

فمنها ما في المجلّد التاسع من البحار

وجادة في بعض الكتب قال: حدّثنا محمّد بن زكريا العلا قال: حدّثنا محمد بن الحسن الصّفار المعروف بابن المعافا عن وكيع عن زاذان عن سلمان الفارسي رضى اللَّه عنه قال: كنا مع مولانا أمير المؤمنين فقلت يا أمير المؤمنين أحبّ أن أرى من معجزاتك شيئا، قال صلوات اللَّه عليه: أفعل إن شاء اللَّه عزّ و جلّ، ثمّ قام و دخل منزله و خرج إلىّ و تحته فرس أدهم و عليه قباء أبيض و قلنسوة بيضاء، ثمّ نادى يا قنبر اخرج إلىّ ذلك الفرس فأخرج فرس آخر أدهم فقال عليه السّلام اركب يا با عبد اللَّه.

قال سلمان: فركبته فاذا له جناحان ملتصقان إلى جنبه قال: فصاح به الامام صلوات اللَّه عليه فتعلّق في الهواء و كنت أسمع خفيف أجنحة الملائكة و تسبيحها تحت العرش، ثمّ خطونا على ساحل بحر عجاج مغطمط«» الأمواج فنظر إليه الامام شزرا فسكن البحر من غليانه فقلت له: يا مولاى سكن البحر من غليانه من نظرك إليه، فقال صلوات اللَّه عليه: يا سلمان خشى أن آمر فيه بأمر.

ثمّ قبض على يدي و سار على وجه الماء و الفرسان تتبعان لا يقودهما أحد، فو اللَّه ما ابتلّت أقدامنا و لا حوافر الخيل.

قال سلمان: فعبرنا ذلك البحر فدفعنا إلى جزيرة كثيرة الأشجار و الأثمار و الأطيار و الأنهار، و إذا شجرة عظيمة بلا صدع و لا زهر فهزّها صلوات اللَّه عليه بقضيب كان في يده فانشقّت و خرج منها ناقة طولها ثمانون ذراعا و عرضها أربعون ذراعا و خلفها قلوص فقال صلوات اللَّه عليه: ادن منها و اشرب من لبنها.

قال سلمان: فدنوت منها و شربت حتى رويت و كان لبنها أعذب من الشهد و ألين من الزّبد و قد اكتفيت قال صلوات اللَّه عليه: هذا حسن يا سلمان، فقلت: مولاى حسن فقال: صلوات اللَّه عليه تريد أن اريك ما هو أحسن منه قلت: نعم يا أمير المؤمنين.

قال سلمان: فنادى مولاى أمير المؤمنين اخرجي يا حسناء قال: فخرجت ناقة طولها عشرون و مائة ذراع و عرضها ستّون ذراعا و رأسها من الياقوت الأحمر و صدرها من العنبر الأشهب و قوائمها من الزبرجد الأخضر و زمامها من الياقوت الأصفر و جنبها الأيمن من الذّهب و جنبها الأيسر من الفضّة و عرفها من اللّؤلؤ الرطب فقال صلوات اللَّه عليه يا سلمان اشرب من لبنها.

قال سلمان: فالتقمت الضّرع فاذا هي تحلب عسلا صافيا مخلصا، فقلت يا سيّدي هذه لمن قال عليه السّلام: لك و لك و لساير الشيعة من أوليائي، ثمّ قال ارجعي إلى الصّخرة و رجعت من الوقت و ساربي في تلك الجزيرة حتّى ورد بي إلى شجرة عظيمة عليها طعام يفوح منه رايحة المسك فاذا بطاير في صورة النسر العظيم.

قال سلمان رضي اللَّه عنه: فوثب ذلك الطّاير فسلّم عليه صلوات اللَّه عليه و رجع إلى موضعه فقلت: يا أمير المؤمنين ما هذه المائدة فقال عليه السّلام: هذه منصوبة في هذا المكان للشيعة من موالىّ إلى يوم القيامة فقلت: ما هذا الطّاير قال صلوات اللَّه عليه: ملك موكّل بها إلى يوم القيامة فقلت: وحده يا سيّدي، فقال عليه السّلام: يجتاز به الخضر عليه السّلام في كلّ يوم مرّة.

ثمّ قبض عليه السّلام على يدي و سار إلى بحرثان فعبرنا و إذا جزيرة عظيمة فيهاقصر لبنة من ذهب و لبنة من فضة بيضاء شرفها من عقيق أصفر و على كلّ ركن من القصر سبعون صفا من الملائكة فأتوا و سلّموا، ثمّ اذن لهم فرجعوا إلى مواضعهم.

قال سلمان رحمه اللَّه تعالى: ثمّ دخل أمير المؤمنين عليه السّلام القصر فاذا أشجار و أثمار و أنهار و أطيار و ألوان النبات فجعل الامام عليه السّلام يمشى فيه حتّى وصل إلى آخره فوقف عليه السّلام على بركة كانت في البستان ثمّ صعد إلى قصر فاذا كرسيّ من الذّهب الأحمر فجلس عليه صلوات اللَّه عليه و أشرفنا على القصر فاذا بحر أسود يغطمط أمواجه كالجبال الرّاسيات، فنظر صلوات اللَّه عليه شزرا فسكن من غليانه حتّى كان كالمذنب.

فقلت: يا سيّدي سكن البحر من غليانه لما نظرت إليه فقال عليه السّلام خشى أن آمر فيه بأمر أ تدرى يا سلمان أىّ بحر هذا فقلت: لا يا سيّدي، فقال: هذا الذي غرق فيه فرعون و ملائه المذنبة حملها جناح جبرئيل عليه السّلام ثمّ زجّها في هذا البحر فهو يهوى لا يبلغ قراره إلى يوم القيامة.

فقلت يا أمير المؤمنين هل سرنا فرسخين فقال عليه السّلام: يا سلمان سرت خمسين ألف فرسخ و درت حول الدّنيا عشر مرّات.

فقلت: يا سيّدي و كيف هذا قال عليه السّلام إذا كان ذو القرنين طاف شرقها و غربها و بلغ إلى سدّ يأجوج و مأجوج فأنا يتعذر علىّ و أنا أمير المؤمنين و خليفة ربّ العالمين، يا سلمان أما قرأت قول اللَّه عزّ و جلّ حيث يقول: (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ) فقلت: بلى يا أمير المؤمنين فقال عليه السّلام: أنا ذلك المرتضى من الرسول الذي أظهره اللَّه عزّ و جلّ على غيبه أنا العالم الرّبانيّ أنا الذي هوّن اللَّه له الشّدايد فطوى له البعيد.

قال سلمان رضي اللَّه عنه: فسمعت صائحا يصيح في السّماء أسمع الصوت و لا أرى الشخص و هو يقول: صدقت صدقت أنت الصّادق المصدّق صلوات اللَّه عليك.

قال: ثمّ نهض صلوات اللَّه عليه فركب الفرس و ركبت معه و صاح بهما فطارا في الهواء ثمّ خطونا على باب الكوفة هذا كلّه و قد مضى من اللّيل ثلاث ساعات.

فقال صلوات اللَّه عليه لى: يا سلمان الويل كلّ الويل لمن لا يعرفنا حقّ معرفتنا و أنكر ولايتنا أيّما أفضل محمّد صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم أم سليمان عليه السّلام قلت: بل محمّد صلّى اللَّه عليه و آله ثمّ قال عليه السّلام: فهذا آصف بن برخيا قدر أن يحمل عرش بلقيس من فارس بطرفة و عنده علم من الكتاب و لا أفعل أنا ذلك و عندى مأئة كتاب و أربعة و عشرون كتابا أنزل اللَّه تعالى على شيث بن آدم عليه السّلام خمسين صحيفة، و على إدريس النّبي عليه السّلام ثلاثين صحيفة، و على إبراهيم عليه السّلام عشرين صحيفة، و التوراة، و الانجيل، و الزّبور و الفرقان.

فقلت: صدقت يا أمير المؤمنين هكذا يكون الامام صلوات اللَّه عليه، فقال عليه السّلام إنّ الشّاك في أمورنا و علومنا كالممترى في معرفتنا و حقوقنا، قد فرض اللَّه عزّ و جلّ في كتابه في غير موضع، و بيّن فيه ما وجب العمل به، و هو غير مكشوف.

و منها ما فيه أيضا من الكتاب المذكور

قال: روى الاصبغ بن نباته قال: كنت يوما مع مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام إذ دخل عليه نفر من أصحابه منهم أبو موسى الأشعري و عبد اللَّه بن مسعود و أنس بن مالك و أبو هريرة و المغيرة بن شعبة و حذيفة ابن اليمان و غيرهم، فقالوا: يا أمير المؤمنين أرنا شيئا من معجزاتك الّتي خصّك اللَّه بها.

فقال عليه السّلام: ما أنتم و ذلك و ما سؤالكم عمّا لا ترضون به و اللَّه تعالى يقول و عزّتي و جلالى و ارتفاع مكاني إنّي لا اعذّب أحدا من خلقي إلّا بحجّة و برهان و علم و بيان، لأنّ رحمتي سبقت غضبى و كتبت الرّحمة علىّ فأنا الرّاحم الرّحيم و الودود العليّ، و أنا المنّان العظيم، و أنا العزيز الكريم، فاذا أرسلت رسولا أعطيته برهانا و أنزلت عليه كتابا فمن آمن بي و برسولي فأولئك هم المفلحون الفائزون‏ و من كفر بى و برسولي فأولئك هم الحاسرون الّذين استحقّوا عذابي فقالوا: يا أمير المؤمنين نحن آمنّا باللّه و برسوله و توكّلنا عليه.

فقال عليّ عليه السّلام اللّهم اشهد على ما يقولون و أنا العليم الخبير بما يفعلون، ثمّ قال: قوموا على اسم اللَّه و بركاته، قال: فقمنا معه حتّى أتى بالجبانة و لم يكن في ذلك الموضع ماء قال: فنظرنا فاذا روضة خضراء ذات ماء، و إذا في الروضة غدران و في الغدران حيتان، فقلنا و اللَّه إنّها لدلالة الامامة فأرنا غيرها يا أمير المؤمنين و إلّا قد أدركنا بعض ما أردنا.

فقال عليه السّلام: حسبى اللَّه و نعم الوكيل ثمّ أشار عليه السّلام بيده العليا نحو الجبّانة فاذا قصور كثيرة مكلّلة بالدّرّ و الياقوت و الجواهر و أبوابها من الزّبرجد الأخضر و إذا في القصور حور و غلمان و أنهار و أشجار و طيور و نبات كثير، فبقينا متحيّرين متعجّبين و إذا وصايف و جوارى و ولدان و غلمان كاللّؤلؤ المكنون فقالوا: يا أمير المؤمنين لقد اشتدّ شوقنا إليك و إلى شيعتك و أوليائك، فأومأ إليهم بالسّكون.

ثمّ ركض الأرض برجله عليه السّلام فانفلقت الأرض من منبر من ياقوت أحمر فارتقى إليه فحمد اللَّه و أثنى عليه و صلّى على نبيّه صلّى اللَّه عليه و آله.

ثمّ قال عليه السّلام: غمّضوا أعينكم فغمضنا أعيننا فسمعنا حفيف أجنحة الملائكة بالتّسبيح و التّهليل و التحميد و التعظيم و التقديس، ثمّ قاموا بين يديه قالوا: مرنا بأمرك يا أمير المؤمنين و خليفة ربّ العالمين صلوات اللَّه عليك.

فقال عليه السّلام يا ملائكة ربّي ائتوني بابليس الأبالسة و فرعون الفراعنة قال: فو اللَّه ما كان بأسرع من طرفة عين حتّى أحضروه عنده فقال عليه السّلام: ارفعوا أعينكم، قال: فرفعنا أعيننا و نحن لا نستطيع أن ننظر إليه من شعاع نور الملائكة، فقلنا: يا أمير المؤمنين اللَّه اللَّه في أبصارنا فما ننظر شيئا البتة و سمعنا صلصلة السّلاسل و اصطكاك الاغلال و هبّت ريح عظيمة فقالت الملائكة يا خليفة اللَّه زد الملعون لعنة و ضاعف عليه العذاب فقلنا يا أمير المؤمنين اللَّه اللَّه في أبصارنا و مسامعنا فو اللَّه ما نقدر على احتمال هذا السّر و القدر قال: فلمّاجرّه بين يديه قام و قال واويلاه من ظلم آل محمّد صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و اويلاه من اجترائى عليهم ثمّ قال: يا سيّدي ارحمني فانّي لا أحتمل هذا العذاب فقال عليه السّلام: لا رحمك اللَّه و لا غفر لك أيّها الرّجس النّجس الخبيث المخبث الشّيطان.

ثمّ التفت عليه السّلام إلينا و قال: تعرفون هذا باسمه و حسبه قلنا: نعم يا أمير المؤمنين فقال: سلوه حتّى يخبركم من هو، فقالوا: من أنت فقال: أنا إبليس الأبالسة و فرعون هذه الأمة، أنا الّذي جحدت سيّدي و مولاى أمير المؤمنين و خليفة ربّ العالمين و أنكرت آياته و معجزاته.

ثمّ قال أمير المؤمنين: غمّضوا أعينكم فغمضنا، فتكلّم عليه السّلام بكلام أخفى فاذا نحن في الموضع الذي كنا فيه لا قصور و لا ماء و لا غدران و لا أشجار.

قال الاصبغ بن نباتة رضي اللَّه عنه: و الّذى أكرمني بما رأيت من تلك الدلايل و المعجزات ما تفرّق القوم حتّى ارتابوا و شكّوا و قال بعضهم: سحر و كهانة و افك فقال أمير المؤمنين: إنّ بني إسرائيل لم يعاقبوا و لم يمسخوا إلّا بعد ما سألوا الآيات و الدّلالات فقد حلّت عقوبة اللَّه بهم و الآن حلّت لعنته فيكم و عقوبته عليكم، قال الأصبغ بن نباتة رضى اللَّه عنه: إنّي أيقنت أنّ العقوبة حلّت بتكذيبهم الدّلالات و المعجزات.

و منها ما في المجلد السّابع من البحار

من كتاب الاختصاص عن ابن أبي الخطاب عن موسى بن سعدان عن حفص الأبيض التّمار قال: دخلت على أبي عبد اللَّه عليه السّلام أيّام قتل المعلّى بن خنيس و صلبه (ره) فقال عليه السّلام: يا حفص إنّي أمرت لمعلّى بن خنيس بأمر فخالفني فابتلى بالحديد: إنّى نظرت إليه يوما و هو كئيب حزين فقلت مالك يا معلّى كأنّك ذكرت أهلك و مالك و عيالك فقال: أجل فقلت: ادن منّي فدنى منّى فمسحت وجهه فقلت: أين تراك فقال: أراني في بيتي هذا زوجتي و هؤلاء ولدي فتركته حتّى تملاء منهم و استترت منه حتّى نال ما ينال الرّجل من أهله.

ثمّ قلت له: ادن مني، فمسحت وجهه فقلت أين تراك فقال: أراني معك بالمدينة و هذا بيتك فقلت له: يا معلّى إنّ لنا حديثا من حفظه علينا حفظه اللَّه عليه دينه و دنياه، يا معلّى لا تكونوا اسراء في أيدى النّاس بحديثنا إن شاءوا منّوا عليكم و إن شاءوا قتلوكم، يا معلّى إنّ من كتم الصّعب من حديثنا جعله اللَّه نورا بين عينيه و رزقه اللَّه العزّة في النّاس، و من أذاع الصّعب من حديثنا لم يمت حتّى يعضّه السّلاح أو يموت بخيل، يا معلّى فأنت مقتول فاستعدّ.

و منها ما فيه من الخرائج

قال: روى أبو القاسم بن قولويه عن محمّد بن يعقوب عن محمّد بن إدريس عن محمّد بن حسان عن عليّ بن خالد قال: كنت بالعسكر فبلغني أنّ هناك رجلا محبوسا أتى من ناحية الشام مكبولا و قالوا: إنّه تنبّأ، فأتيت الباب و داريت البوّابين حتّى وصلت إليه فاذا رجل له فهم و عقل فقلت له: ما قصّتك قال: إنّي كنت بالشّام أعبد اللَّه في الموضع الذي يقال إنّه نصب فيه رأس الحسين عليه السّلام، فبينما أنا ذات ليلة في موضعي مقبل على المحراب أذكر اللَّه إذ نظرت شخصا بين يدي فنظرت إليه، فقال لي: قم، فقمت معه فمشى بي قليلا فاذا أنا في مسجد الكوفة قال: أتعرف هذا المسجد قلت: نعم هذا مسجد الكوفة فصلّى و صلّيت معه ثمّ خرج و خرجت معه فمشى بي قليلا و إذا نحن بمسجد الرّسول صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم، فسلّم على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و سلّمت و صلّى و صلّيت معه، ثمّ خرج و خرجت معه فمشى بي قليلا و إذا نحن بمكّة و طاف بالبيت فطفت معه فخرج و مشى بي قليلا فاذا أنا في موضعي الذي كنت أعبد اللَّه فيه بالشّام و غاب الشخص عن عينى فتعجّبت ممّا رأيت.

فلمّا كان في العام المقبل رأيت ذلك الشخص فاستبشرت به و دعاني فأجبته و فعل كما فعل في العام الأوّل فلمّا أراد مفارقتى بالشام قلت: سألتك بالّذي أقدرك على ما رأيت من أنت قال: أنا محمّد بن عليّ بن موسى بن جعفر، فحدّثت من كان يصير إلىّ بخبره‏ فرقى ذلك إلى محمّد بن عبد الملك الزّيات فبعث إلىّ فاجلدني و كبّلني في الحديد و حملني إلى العراق و حبست كما ترى و ادّعى علىّ المحال فقلت: أرفع عنك القصة إليه قال: ارفع فكتبت عنه قصّته شرحت امره فيها و دفعتها إلى الزّيات فوقّع في ظهرها: قل للّذي أخرجك من الشّام في ليلة إلى الكوفة إلى المدينة إلى مكة أن يخرجك من حبسى.

قال عليّ بن خالد: فغمّني ذلك من أمره و رققت له و انصرفت محزونا فلمّا أصبحت باكرت الحبس لاعلمه بالحال و آمره بالصّبر و العزاء فوجدت الجند و الحراس و صاحب السجن و خلقا كثيرا من النّاس يهرعون، فسألت عنهم و عن الحال فقيل إنّ المحمول من الشام المتنبّى فقد البارحة من الحبس فلا يدرى خسف به الأرض أو اختطفته الطير و كان هذا المرسل أعنى عليّ بن خالد زيديّا فقال بالامامة، و حسن اعتقاده.

و منها حديث البساط المعروف

و رويته من نسخة قديمة عندي قال الرّاوي: خبر من خزانة مولانا مفترض الطاعة على الخلق أجمعين أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.

حدّثنا أبو عبد اللَّه بن زكريّا عن ابن جوهر بن الأسود عن محمّد بن سابغ يرفعه إلى سلمان الفارسي (رض) أنّه قال: كنا جلوسا عند مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام ذات يوم أنا و ولديه الحسن و الحسين عليهما السّلام و محمّد بن حنفية و محمّد بن أبي بكر و عمّار بن ياسر و مقداد بن أسود الكندي فاذا التفت إليه الحسن عليه السّلام و قال: يا أمير المؤمنين إنّ سليمان بن داود قال: فهب لي من لدنك ملكا لا ينبغي لأحد من النّاس و أعطاه اللَّه تعالى ذلك، فهل ملكت شيئا من ملك سليمان فقال له أمير المؤمنين: و الّذي فلق الحبّة و برء النّسمة لقد ملك أبوك ملكا لا يملك أحد قبله و لا بعده، فقال الحسن عليه السّلام: إنّا نحبّ أن ننظر مما ملّكه اللَّه إيّاك من الملكوت ليزداد النّاس إيمانهم.

فقال عليه السّلام: نعم و كرامة و قام و صلّى ركعتين ثمّ ذهب إلى صحن داره و نحن نراه، فمدّيده نحو المغرب حتّى بان لنا من كفّه سحابة و هو يمدّها حتّى أوقفها على الدّار، و إلى جانب تلك السحابة سحابة أخرى، ثمّ أشار إلى ريح و قال اهبطى الينا أيّتها الرّيح فو اللَّه العظيم لقد رأينا السّحاب و الرّيح قد هبطا يقولان: نشهد أن لا إله إلّا اللَّه وحده لا شريك له و نشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله و نشهد أنّك وصيّ رسول كريم محمّد رسول اللَّه و أنت وليّه، من شكّ فيك فقد هلك و من تمسّك بك فقد سلك سبيل النّجاة.

ثمّ تطاطات السّحابتان حتّى صارتا كأنهما بساطان و رائحتهما كالمسك الأذفر فقال لنا أمير المؤمنين عليه السّلام: اجلسوا على الغمام فجلسنا و أخذنا مواضعنا.

ثمّ قال سلمان: إنّ أمير المؤمنين قال: أيّتها الرّيح ارفعينا، فرفعتنا رفعا رفيعا فاذا نحن و أمير المؤمنين في تلك على كرسيّ من نور و عليه ثوبان أصفران و على رأسه تاج من ياقوتة صفراء و في رجليه شراك من ياقوت يتلألأ و في يده خاتم من درّة بيضاء يكاد نور وجهه يذهب الأبصار.

فقال له: يا أبتاه إنّ سليمان بن داود كان يطاع بخاتمه و أمير المؤمنين عليه السّلام بما ذا يطاع فقال عليه السّلام يا ولدى أنا وجه اللَّه، و عين اللَّه، و لسان اللَّه، و أنا وليّ اللَّه، و أنا نور اللَّه، و أنا كنز اللَّه في الأرض، و أنا القدرة المقدّرة، و أنا الجنّة و النّار، و أنا سيّد الفريقين.

يا ولدى أتحبّ أن اريك خاتم سليمان بن داود قال: نعم، فأدخل يده تحت ثيابه و استخرج خاتما عليه فصّ من ياقوت مكتوب عليها أربعة أسطر، و قال: هذا و اللَّه خاتم سليمان بن داود.

قال سلمان: فبقينا متعجّبا من ذلك فقال عليه السّلام من أيّ تعجبون و ما هذا العجب إنّي لأريناكم اليوم ما لم يره أحد قبلي إلى بعدي.

فقال الحسن عليه السّلام: يا أمير المؤمنين إنّا نحبّ أن ترينا يأجوج و مأجوج و السّد فقال عليه السّلام: للرّيح سيرى، فقال سلمان: فو اللَّه لمّا سمعت الريح قوله دخلت تلك‏ السّحاب و رفعنا إلى الهواء حتّى أتينا إلى جبل شامخ في الهواء و عليه شجرة جافة و تساقط أوراقها فقلنا: ما بال هذه الشجرة قد جفّت و ماتت، قال: سلوها فانها تخبركم فقال الحسن عليه السّلام: ما بالك أيّتها الشجرة قد حلّ بك ما نراه منك فما أجابت، فقال لها أمير المؤمنين: بحقّي عليك أيّتها الشجرة أجبهم.

قال سلمان: فو اللَّه لقد سمعناها و هى تقول لبّيك لبّيك يا وصيّ رسول اللَّه و خليفته من بعده حقّا، فقال للحسن: يا با محمّد إنّ أباك أمير المؤمنين يجيئني في كلّ ليلة و يسبّح عندى للّه عزّ و جلّ و يستظلّ بي فاذا فرغ من تسبيحه جائته غمامة بيضاء تفوح منها مسك و عليها كرسيّ فيجلس عليها ثمّ يسير به فلا أراه إلى وقته ذلك، و كان يتعاهدني كلّ ليلة و كنت أعيش من رائحته فقطعني منذ أربعين ليلة لم أعرف له خبرا و الذي تراه منّي ممّا أنكرته من فقده و الغمّ و الحزن فاسأله يا سيدى حتّى يتعاهدني بجلوسه عندي فقد عشت من رائحته في هذا الوقت و بنظرى إليه، قال: فبقينا متعجّبا من ذلك فقام عليه السّلام و مسح يده المباركة عليها قال سلمان: و اللَّه الذي نفسى بيده لقد سمعت لها أنينا و أنا أراه و هي تخضر حتّى أنبتت ورقا و أثمرت بقدرة اللَّه عزّ و جلّ و ببركاته عليه السّلام، فأكلنا فكانت أحلى من السّكر، فقلنا: يا أمير المؤمنين هذا عجب فقال عليه السّلام الّذي ترون بعدها أعجب ثمّ عاد عليه السّلام إلى موضعه و قال للرّيح: سيرى بنا، فدخلت الريح تحت السّحابة و رفعنا حتى رأينا الدّنيا بمثل دور الرأس و رأينا في الهواء ملكا رأسه تحت الشمس و رجلاه في قعر البحور و يده في المغرب و الأخرى في المشرق فلما خبرنا به قال: لا إله إلّا اللَّه وحده لا شريك له و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله و أنّك وصيّه حقّا لا شكّ فيك و من شكّ فيك فهو كافر.

فقلنا: يا أمير المؤمنين من هذا الملك و ما بال يده في المغرب و أخرى في المشرق فقال عليه السّلام أنا أقمته باذن اللَّه ههنا و وكلته بظلمات الليل و ضوء النّهار و لا يزال كذلك إلى يوم القيامة و إنّى أدبّر أمر الدّنيا و أصنع ما أريد باذن اللَّه و أمره و اعمال الخلايق إلىّ و أنا أدفعها إلى اللَّه عزّ و جل.

ثمّ سار بنا حتى وقفنا على يأجوج و مأجوج فقال عليه السّلام للريح اهبطي تحت هذا الجبل و أشار بيده إلى جبل شامخ إلى قرب السّد ارتفاعه مدّ البصر و إذا به سواد كانه قطعة ليلة يفور منه دخان فقال عليه السّلام: يا با محمّد أنا صاحب هذا السّد على هؤلاء العبد.

فقال سلمان: فرأيتهم ثلاثة أصناف: صنف طوله مأئة و عشرون ذراعا من عرض ستّين ذراعا، و الصّنف الثاني طوله مأئة و سبعون ذراعا من عرض ثمانين ذراعا، و الصّنف الثالث أحدهم يفرش اذنه تحته و الأخرى فوقه.

ثمّ قال للريح: سيرى بنا إلى قاف فسارت بنا إلى جبل من ياقوته خضراء و هو محيط بالدّنيا و عليه ملك في صورة بني آدم و هذا الموكل بقاف فلما نزل الملك إلى أمير المؤمنين عليه السّلام قال تريد أن تسألني أن آذن لك فقد أذنت فأسرع الملك و قال: بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم ثمّ طار.

قال سلمان و طفنا في ذلك حتى انتهينا إلى شجرة جافة من الشجرة الأولى فقلنا: يا أمير المؤمنين ما بال هذه الشّجرة قد ماتت فقال سلوها قال الحسن عليه السّلام: و قمت و دنوت أنا و أبي عليه السّلام و قلت لها اقسمت عليك بحقّ أمير المؤمنين أن تخبرينا ما بالك و أنت في هذا المكان قال سلمان: فكلّمت بلسان طلق و هي تقول: يا با محمّد إنّي كنت أفتخر على الأشجار فصارت الأشجار تفتخر علىّ و ذلك أنّ أباك كان يجيئني في كلّ ليلة عند الثلث الأوّل من اللّيل يستظلّ بي ساعة ثمّ يأتيه فرس أدهم فيركبه و يمضي فلا أراه إلى وقته و كنت أعيش من رائحته و أفتخر به فقطعني منذ أربعين ليلة فغمّني ذلك فصرت كما ترى.

فقلنا: يا أمير المؤمنين اسأل اللَّه في ردّها كما كانت فمسح يده المباركة ثمّ قال: يا شاه شاهان فسمعنا لها أنينا و هي تقول أشهد أنّك أمين هذه الأمّة و وصيّ رسول اللَّه من تمسّك بك فقد نجا و من خالفك فقد غوى، ثمّ اخضرّت و اورقت فجلسنا تحتها و هي خضرة نضرة.

فقلنا اين ذهب هذا الملك الموكّل بقاف قال عليه السّلام: إلى زيارة الملك الموكل‏ على ظلمات اللّيل و ضوء النّهار فقلنا يا أمير المؤمنين ما يزالون عن مواضعهم إلّا باذنك فقال عليه السّلام: و الذي رفع السّماء بغير عمد ما أظنّ أحدا يزول عن موضعه بغير إذني إلّا احترق.

فقلنا: يا أمير المؤمنين كنت معنا جالسا في منزلك فأىّ وقت كنت في قاف فقال عليه السّلام لنا: غمّضوا أعينكم فغمضناها ثمّ قال عليه السّلام: افتحوها، ففتحناها فاذا نحن قد بلغنا مكّة، فقال عليه السّلام: لقد بلغنا و لم يشعر أحد فكذلك كنت بقاف و لم يشعر أحد منكم.

فقلنا: يا أمير المؤمنين هذا العجب من وصيّ رسول اللَّه فقال: و اللَّه إنّي أملك من الملكوت ما لو عاينتموه لقلتم أنت أنت أنت، و أنا أنا و أنا عبد اللَّه مخلوق من الخلايق آكل و أشرب.

ثمّ أتينا إلى روضة نضرة كأنّها من رياض الجنّة فاذا نحن بشاب يصلّي بين قبرين، فقلنا يا أمير المؤمنين من هذا الشّاب فقال أخي صالح و هذان قبر أبويه يعبد اللَّه بينهما، فلمّا نظر إلينا صالح أتى إلى أمير المؤمنين عليه السّلام و هو يبكي، فلمّا فرغ من بكائه فقلنا ممّا تبكي فقال: إنّ أمير المؤمنين كان يمرّ بي كلّ يوم عند الصّبح و كنت آنس به و أزداد في العبادة فقطعني منذ أربعين يوما فأهمّنى ذلك و لم أملك من شدّة شوقي إليه و أصابني ما تراه، فقلنا: يا أمير المؤمنين هذا هو العجب من كلّ ما رأينا أنت معنا في كلّ يوم و تأتي إلى هذا الفتى.

فقال عليه السّلام: أتحبّون أن ارينكم سليمان بن داود فقلنا: نعم، فقام عليه السّلام و قمنا معه فمشينا حتى دخلنا إلى بستان لم نر قطّ مثله و فيه من جميع الفاكهة و الأنهار تجرى و الأطيار تتغنّي، فلما نظرت الأطيار إلى أمير المؤمنين عليه السّلام جعلت تظلّ على رأسه.

فاذا نحن بسرير عليه شابّ ملقى على ظهره و ليس في يده خاتم و عند رأسه ثعبان و عند رجليه ثعبان فلمّا نظرا إلى أمير المؤمنين عليه السّلام انكبّا على قدميه يمرغان وجوههما على التراب ثمّ صارا كالتّراب فقلنا:

يا أمير المؤمنين هذا هو سليمان قال: نعم و هذا خاتمه ثمّ اخرج من يده الخاتم و جعله في يد سليمان ثمّ قال: قم يا سليمان باذن من يحيى العظام و هي رميم و هو اللَّه الذى لا إله إلّا هو الحىّ القيّوم القهّار ربّ السّماوات و الأرضين ربّي و ربّ آبائنا الأوّلين.

قال سلمان: فسمعنا سليمان يقول: أشهد أن لا إله إلّا اللَّه وحده لا شريك له و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله أرسله بالهدى و دين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه و لو كره المشركون، و أشهد أنّك وصيّ رسول اللَّه الأمين الهادي، و إنّي سألت ربّي عزّ و جلّ أن أكون من شيعتك و لو لا ذلك ما ملكت شيئا.

قال سلمان: فلما سمعت ذلك و ثبت و قبّلت أقدام أمير المؤمنين عليه السّلام ثمّ نام سليمان و قمنا ندور في قاف فسألته ما وراء قاف فقال عليه السّلام وراءه أربعين دنيا كلّ دنيا مثل الدّنيا التي جئنا أربعين مرّة، فقلت له: يا أمير المؤمنين كيف علمك بذلك قال عليه السّلام: كعلمى بهذه الدّنيا و من فيها و بطرف السّماوات و الأرضين.

يا سلمان كتبت على اللّيل فأظلم، و على النهار فأضاء، أنا المحنة الواقعة على الأعداء الطامّة الكبرى، أسماؤنا كتبت على العرش حتّى استند، و على السّماوات فقامت، و كتبت على الأرض فسكنت، و على الرّياح فذرت، و على البرق فلمع، و على النّور فسطع، و على الرّعد فخشع، و أسماؤنا مكتوبة على جبهة اسرافيل الّذي جناحه في المشرق و المغرب و هو يقول: سبّوح قدّوس ربّ الملائكة و الرّوح.

ثمّ قال عليه السّلام لمّا اغمضوا أعينكم فغمضنا ثمّ قال عليه السّلام: افتحوها ففتحنا فاذا نحن بمدينة لم نر أكبر منها و إذا الأسواق بايرة و أهلها قوم لم نر أطول منهم خلقا كلّ واحد كالنخلة، فقلنا من هؤلاء القوم فما رأينا أعظم منهم خلقا قال عليه السّلام: هؤلاء قوم عاد و هم كفّار لا يؤمنون بيوم الميعاد و بمحمّد صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم، فأحببت أن ارينكم إيّاهم في هذا الموضع و لقد مضيت بقدرة اللَّه تعالى، و اقتلعت مدينتهم و هي مداين الشّرق و أتيتكم بها و أنتم لا تشعرون، و أحببت أن أقاتل بين يديكم.

ثمّ دنا منهم فدعاهم إلى الايمان فأبوا فحمل عليه السّلام عليهم و حملوا عليه و نحن نراهم و لا يرونا فتباعد عنهم و دنا منا فمسح يده عليه السّلام على أبداننا و قلوبنا و قال: ثبتوا على الايمان ثمّ مشى إليهم و دعاهم ثانية إلى الايمان و نحن نراهم فأبوا ثمّ زعق زعقة.

قال سلمان: فو الّذي نفسي بيده لقد ظننت أنّ الأرض قد انقلبت و الجبال قد تدكدكت و رأيتهم صرعى كأعجاز نخل خاوية قال: لا اضعف ايمانكم.

قال لنا أتحبّون أن ارينكم ما هو أعجب من هذا فقلنا: يا أمير المؤمنين مالنا قوّة و الحمد للّه الذي هدانا لهذا و ما كنّا لنهتدى لو لا أن هدانا اللَّه، فعلى من لا يؤمن بك لعنة اللَّه و لعنة الملائكة و النّاس أجمعين.

ثمّ صاح عليه السّلام بالغمامة فاذا هي قد أقبلت فقال اجلسوا على السحابة فجلسنا و جلس هو على الأخرى ثمّ تكلّم بما لم نفهمه فما استتمّ كلامه حتّى طارت بنا في الهواء، ثمّ رفعتنا حتى رأينا الدّنيا مثل دور الدراهم ثمّ حططنا دار أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام في أقلّ من طرفة عين و أنزلنا و المؤذّن يؤذّن للظّهر و كنا مضينا عند طلوع الشمس، فقلنا هذا هو العجب كنّا في قاف و قطعنا و رجعنا في خمس ساعات، فقال أمير المؤمنين لو أردت أطوف بكم الدّنيا و جميع السماوات و الأرض في أقلّ من مدّ البصر لفعلت بقدرة اللَّه تعالى و جلاله و بركة رسوله صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و أنا وصيّة و لكنّ أكثر النّاس لا يعلمون.

فقال سلمان: قلنا: لعن اللَّه من جحدك و غصب حقّك و ضاعف عليهم العذاب الأليم و جعلنا ممّن لا يفارق منك ساعة في الدّنيا و الآخرة بمحمّد و آله عليهم السّلام.

أقول: و رواه المحدّث العلّامة المجلسي طاب ثراه في المجلّد السابع من البحار من كتاب المحتضر للشيخ حسن بن سليمان من كتاب منهج التحقيق إلى سوء الطريق لبعض علماء الامامية باسناده عن سلمان الفارسي نحو ما رويناه و قال بعد ما أورده:

أقول: هذا خبر غريب لم نره في الاصول التي عندنا و لا نردّها و نردّ علمها إليهم عليهم السّلام،

و منها ما في المجلّد الثّامن من البحار

من كتاب المحتضر عن بعض العلماء في كتابه عن جابر بن عبد اللَّه الأنصاري قال: إنّ أمير المؤمنين كان يخرج في كلّ جمعة ظاهر المدينة و لا يعلم أحد أين يمضى، قال فبقى على ذلك برهة من الزّمان، فلما كان في بعض الليالي قال عمر بن الخطاب: لا بدّ من أن أخرج و ابصر أين يمضى عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.

قال: فقعد له عند باب المدينة حتى خرج و مضى على عادته فتبعه عمر و كان كلّما وضع عليّ عليه السّلام قدمه في موضع وضع عمر رجله مكانها، فما كان إلّا قليلا حتى وصل إلى بلدة عظيمة ذات نخل و شجر و مياه غزيرة ثمّ إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام دخل إلى حديقة بها ماء جار فتوضّأ و وقف بين النخل يصلّى إلى أن مضى من اللّيل أكثره.

و أمّا عمر فانّه نام فلما قضى أمير المؤمنين عليه السّلام وطره من الصّلاة عاد و رجع إلى المدينة حتى وقف خلف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و صلّى معه الفجر فانتبه عمر فلم يجد أمير المؤمنين في موضعه فلما أصبح رأى موضعا لا يعرفه و قوما لا يعرفهم و لا يعرفونه فوقف على رجل منهم.

فقال له الرجل: من أنت و من أين أنت فقال عمر: من يثرب مدينة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم فقال له الرّجل: يا شيخ تأمل أمرك و ابصر ما تقول فقال: هذا الذي أقوله لك قال الرّجل: متى خرجت من المدينة قال: البارحة قال له: اسكت لا يسمع الناس منك فتقتل أو يقولون هذا مجنون، فقال: الّذي أقول حقّ.

فقال له الرّجل: حدّثني كيف حالك و مجيئك إلى ههنا فقال عمر: كان عليّ بن أبي طالب في كلّ ليلة جمعة يخرج من المدينة و لا نعلم أين يمضى فلمّا كان في هذه اللّيلة تبعته و قلت اريد أن أبصر أين يمضى فوصلنا إلى ههنا فوقف‏يصلي و نمت و لا أدرى ما صنع.

فقال له الرّجل: ادخل هذه المدينة و أبصر الناس و اقطع أيامك إلى ليلة الجمعة فما لك أن يحملك إلى الموضع الّذي جئت منه إلّا الرّجل الذي جاء بك، فبيننا و بين المدينة أزيد من مسيرة سنتين فاذا رأينا من يرى المدينة و رأى رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم تتبرّك به و نزوره و في بعض الاحيان نرى من أتى بك فتقول أنت قد جئتك في بعض ليلة من المدينة.

فدخل عمر إلى المدينة فرأى النّاس كلّهم يلعنون ظالمي أهل بيت محمّد صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و يسمّونهم بأسمائهم واحدا واحدا و كلّ صاحب صناعة يقول ذلك و هو على صناعته، فلما سمع عمر ذلك ضاقت عليه الأرض بما رحبت و طالت عليه الأيّام.

حتّى جاء ليلة الجمعة فمضى إلى ذلك المكان فوصل أمير المؤمنين عليه السّلام إليه على عادته فكان عمر يترقّبه حتى مضى معظم اللّيل و فرغ من صلاته و همّ بالرّجوع فتبعه عمر حتّى و صلا الفجر المدينة، فدخل أمير المؤمنين عليه السّلام المسجد و صلّى خلف رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و صلّى عمر أيضا ثمّ التفت النّبيّ إلى عمر فقال: يا عمر أين كنت اسبوعا لا نراك عندنا فقال عمر: يا رسول اللَّه كان من شأني كذا و كذا و قصّ عليه ما جرى له فقال النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم لا تنس ما شاهدت بنظرك فلمّا سأله من سأله عن ذلك فقال نفذ فيّ سحر بني هاشم.

قال المجلسى (ره) أقول: هذا حديث غريب لم أره إلّا في الكتاب المذكور، هذا.

و غرايب شئوناتهم عليهم السّلام متجاوزة عن حدّ الاحصاء و لو أردت ذكر يسير من كثير لصار كتابا كبير الحجم و فيما أوردته كفاية للمستبصر و هداية للمهتدي، و اللَّه العالم الخبير بمقامات حججه و أوليائه الكرام عليهم الصّلاة و السّلام.

الترجمة

پس كدام راه مى‏رويد اى مردمان گمراه، و كجا بازگردانيده مى‏شويد اى خلق تباه، و حال آنكه علامات هدايت برپا است، و آيات قدرت روشن و هويداست و مغارهاى بلند پايه بجهت هدايت مركوز و منصوبست، پس كجا حيران گردانيده مى‏شويد در تباهى، بلكه چگونه متردّد مى‏باشيد در گمراهى و حال آنكه در ميان‏ شما است اهل بيت پيغمبر شما و ايشان زمامهاى حق‏اند و زبانهاى صدق، پس نازل نمائيد ايشان را در نيكوترين منزلهاى قرآن، و وارد شويد بايشان مثل وارد شدن شتران عطشان بآب فرات و روان.

اى مردمان اخذ نمائيد اين روايت را از حضرت خاتم الأنبياء عليه التحية و الثّناء، بدرستى كه مى‏ميرد كسى كه مرد از ما و حال آنكه مرده نيست بحقيقت و مى‏پوسد آنكه پوسيده از ما و حال آنكه پوسيده نيست در واقع، پس قائل نشويد بچيزى كه معرفت نداريد بآن زيرا كه أكثر حق در آن چيزيست كه شما انكار مى‏نمائيد آنرا و معذور داريد شخصى را كه حجت نيست شما را بر او و منم آن شخص.

آيا عمل نكردم در ميان شما ببار گران بزرگتر كه عبارت است از قرآن، و آيا نگذاشتم در ميان شما بار گران كوچكتر كه عبارتست از عترت سيّد البشر، و مركوز ساختم در ميان شما رايت ايمان و اسلام را، و واقف گردانيدم شما را بحدود حلال و حرام، و پوشانيدم بشما لباس عافيت را از عدل و انصاف خود، و گسترانيدم از براى شما بساط امر معروفرا از گفتار و كردار خود، و بنمودم بشما خلقهاى پسنديده از نفس خود، پس استعمال نكنيد رأى‏هاى خود را در آنچه كه درك نمى‏نمايد نهايت آنرا بصر، و سرعت نمى‏تواند كند بسوى آن فكرهاى ارباب فكر و نظر، و آن عبارتست از مقامات نورانيّه ائمه أنام عليهم الصلاة و السّلام.

الفصل الرابع

منها حتّى يظنّ الظّانّ إنّ الدّنيا معقولة على بني أميّة، تمنحهم درّها، و توردهم صفوها، و لا يرفع عن هذه الامّة سوطها و لا سيفها، و كذب الظّانّ لذلك، بل هي مجّة من لذيذ العيش يتطعّمونها برهة، ثمّ يلفظونها جملة.

اللغة

(عقلت) البعير عقلا من باب ضرب حبسته بعقال و (منح) زيد عمرا يمنح من باب منع أعطاه و منه المنحة بالكسر و هي الشاة أو النّاقة المعادة للبنها و (الدّر) في الأصل اللّبن ثمّ استعمل في كلّ خير و نفع و منه قولهم: للّه درّه و (مجّ) الشّراب من فيه محبّا قذفه و رماه و انمجّت نقطة من القلم ترششت، و المجّة في النسخ بفتح الميم و الأنسب أن يكون بالضّم و هو على ما في القاموس نقط العسل على الحجارة و (البرهة) مدّة من الزّمان لها طول.

الاعراب

حتّى لانتهاء الغاية و قد حذف المغيّا و ترك ذكره في الكتاب، و الواو في قوله: و كذب الظّان حالية، و جملة يتطعّمونها في محلّ الرفع صفة لمجّة.

المعنى

اعلم أنّ المستفاد من شرح المعتزلي أنّ هذه الخطبة ملتقطة من خطبة طويله حذف السيّد منها كثيرا و لم أعثر بعد على تمامها، و هذا الفصل من جملة أخباره الغيبيّة مسوق لبيان حال بني أميّة لعنهم اللَّه و ابتلاء الخلق بهم، و لعلّ ما قبل هذا الفصل انّه: يليكم ولاة سوء يتمادون في الطّغيان و الغفلة، و يكون النّاس بهم في طول عناء و شدّة (حتّى يظنّ الظانّ أنّ الدّنيا معقولة على بني أميّة) أى محبوسة في أيديهم لا تتجاوز عنهم إلى غيرهم كالناقة المحبوسة بالعقال (تمنحهم درّها و توردهم صفوها) أى تعطيهم منفعتها و تبذلهم صافي فوايدها كما أنّ المنحة تعطي لبنها لحالبها و تبذله له (و لا يرفع عن هذه الامة سوطها و لا سيفها) أى لا يرفع عن الامّة عذاب الدّنيا بهم و تجوّز بلفظ السوط و السّيف عن القتل و الاستيصال و العذاب لكونهما آلتين لهما (و كذب الظّانّ لذلك) في ظنّه و زعمه (بل هي مجّة من‏لذيذ العيش) اى حقيرة قليلة كالريقة التي تمجّ من الفم (يتطعّمونها برهة) من الزمان و يلتذّون بها مدّة ملكهم و امارتهم (ثمّ يلفظونها جملة) أى يرمونها بكلّيتها و هو كناية عن زوالها عنهم بالمرّة.

أقول: و قد كان الأمر على ما أخبر به الامام عليه السّلام فانّ بني اميّة قد تسلّطوا على العباد، و تملّكوا البلاد، و نهبوا الأموال، و قتلوا الرّجال، و أراقوا دماء الشّيعة بكلّ بلدة، و قطعوا الأيدي و الأرجل على الظّنة، و لم يخرج عليهم خارج إلّا و ظفروا عليه و قهروه، و لم يقم لازالة ملكهم قائم إلّا و غلبوا عليه و قتلوه، حتّى ظنّ الناس أنّ الدّنيا معقولة عليهم، و سلطنتها دائمة في حقّهم، فأذن اللَّه في هلاكهم و أراد زوال ملكهم فاختلفت كلمتهم و تضعضع أمرهم فزالت دولتهم: كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ و قد كانت مدّة ملك السّلطنة ألف شهر على ما أخبر اللَّه به نبيّه صلّى اللَّه عليه و آله.

كما قال الصّادق عليه السّلام في رواية الكافي: أري رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم في منامه أنّ بني أميّة يصعدون على منبره من بعده و يضلّون النّاس عن الصراط القهقري فأصبح كئيبا حزينا قال عليه السّلام: فهبط عليه جبرئيل فقال: يا رسول اللَّه ما لي أراك كئيبا حزينا قال: يا جبرئيل إنّي رأيت بني أميّة في ليلتي هذه يصعدون منبري يضلّون الناس عن الصّراط القهقرى، فقال: و الّذي بعثك بالحقّ نبيّا إني ما اطلعت فعرج إلى السّماء فلم يلبث أن نزل عليه بآى من القرآن يونسه بها: قالَ أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ ما أَغْنى‏ عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ و أنزل عليه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ.

ملك بني اميّة و بمعناه أخبار اخر.

الترجمة

اين فصل متضمن اخبار از ابتلاء اهل روزگار به بني اميّة كجرفتار و زوال ملك از آن طايفه بدكردار است مى‏فرمايد: تا اين كه گمان ميكند گمان كننده اين كه دنيا محبوس است و مربوط به بني أميه در حالتى كه نشان مى‏دهد بايشان منفعت خود را، و وارد ميكند ايشان را بآب صافي خود، و رفع نمى‏شود از اين امت تازيانه دنيا و نه شمشير آن و حال آنكه دروغ گفت گمان برنده آن يعنى ظن او بدوام دولت بني أميّة فاسد است بلكه آن دولت ايشان چيز قليل و حقيرى است از لذت زندگانى بمنزله آبى كه از دهن مى‏اندازند، ملتذ ميشوند با آن زمانى پس بيندازند آنرا بالمرّه چون انداختن لقمه از دهان، و اين كنايه است از زوال ملك ايشان بالكلّية.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 86/1 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی») خطبة المتقين فصل الاول

خطبه 87 صبحی صالح

87- و من خطبة له ( عليه‏السلام  ) و هي في بيان صفات المتقين

و صفات الفساق

و التنبيه إلى مكان العترة الطيبة

و الظن الخاطئ لبعض الناس

عِبَادَ اللَّهِ

إِنَّ مِنْ أَحَبِّ عِبَادِ اللَّهِ إِلَيْهِ عَبْداً أَعَانَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ

فَاسْتَشْعَرَ الْحُزْنَ

وَ تَجَلْبَبَ الْخَوْفَ

فَزَهَرَ مِصْبَاحُ الْهُدَى فِي قَلْبِهِ

وَ أَعَدَّ الْقِرَى لِيَوْمِهِ النَّازِلِ بِهِ فَقَرَّبَ عَلَى نَفْسِهِ الْبَعِيدَ

وَ هَوَّنَ الشَّدِيدَ

نَظَرَ فَأَبْصَرَ

وَ ذَكَرَ فَاسْتَكْثَرَ

وَ ارْتَوَى مِنْ عَذْبٍ فُرَاتٍ سُهِّلَتْ لَهُ مَوَارِدُهُ

فَشَرِبَ نَهَلًا

وَ سَلَكَ سَبِيلًا جَدَداً

قَدْ خَلَعَ سَرَابِيلَ الشَّهَوَاتِ

وَ تَخَلَّى مِنَ الْهُمُومِ إِلَّا هَمّاً وَاحِداً انْفَرَدَ بِهِ

فَخَرَجَ مِنْ صِفَةِ الْعَمَى

وَ مُشَارَكَةِ أَهْلِ الْهَوَى

وَ صَارَ مِنْ مَفَاتِيحِ أَبْوَابِ الْهُدَى

وَ مَغَالِيقِ أَبْوَابِ الرَّدَى

قَدْ أَبْصَرَ طَرِيقَهُ

وَ سَلَكَ سَبِيلَهُ

وَ عَرَفَ مَنَارَهُ

وَ قَطَعَ غِمَارَهُ

وَ اسْتَمْسَكَ مِنَ الْعُرَى بِأَوْثَقِهَا

وَ مِنَ الْحِبَالِ بِأَمْتَنِهَا

فَهُوَ مِنَ الْيَقِينِ عَلَى مِثْلِ ضَوْءِ الشَّمْسِ

قَدْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فِي أَرْفَعِ الْأُمُورِ

مِنْ إِصْدَارِ كُلِّ وَارِدٍ عَلَيْهِ

وَ تَصْيِيرِ كُلِّ فَرْعٍ إِلَى أَصْلِهِ

مِصْبَاحُ ظُلُمَاتٍ

كَشَّافُ‏

عَشَوَاتٍ

مِفْتَاحُ مُبْهَمَاتٍ

دَفَّاعُ مُعْضِلَاتٍ

دَلِيلُ فَلَوَاتٍ

يَقُولُ فَيُفْهِمُ

وَ يَسْكُتُ فَيَسْلَمُ

قَدْ أَخْلَصَ لِلَّهِ فَاسْتَخْلَصَهُ

فَهُوَ مِنْ مَعَادِنِ دِينِهِ

وَ أَوْتَادِ أَرْضِهِ

قَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْعَدْلَ

فَكَانَ أَوَّلَ عَدْلِهِ نَفْيُ الْهَوَى عَنْ نَفْسِهِ

يَصِفُ الْحَقَّ وَ يَعْمَلُ بِهِ

لَا يَدَعُ لِلْخَيْرِ غَايَةً إِلَّا أَمَّهَا

وَ لَا مَظِنَّةً إِلَّا قَصَدَهَا

قَدْ أَمْكَنَ الْكِتَابَ مِنْ زِمَامِهِ

فَهُوَ قَائِدُهُ وَ إِمَامُهُ

يَحُلُّ حَيْثُ حَلَّ ثَقَلُهُ

وَ يَنْزِلُ حَيْثُ كَانَ مَنْزِلُهُ

صفات الفساق‏

وَ آخَرُ قَدْ تَسَمَّى عَالِماً وَ لَيْسَ بِهِ

فَاقْتَبَسَ جَهَائِلَ مِنْ جُهَّالٍ

وَ أَضَالِيلَ مِنْ ضُلَّالٍ

وَ نَصَبَ لِلنَّاسِ أَشْرَاكاً مِنْ حَبَائِلِ غُرُورٍ

وَ قَوْلِ زُورٍ

قَدْ حَمَلَ الْكِتَابَ عَلَى آرَائِهِ

وَ عَطَفَ الْحَقَّ عَلَى أَهْوَائِهِ

يُؤْمِنُ النَّاسَ مِنَ الْعَظَائِمِ

وَ يُهَوِّنُ كَبِيرَ الْجَرَائِمِ

يَقُولُ أَقِفُ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ وَ فِيهَا وَقَعَ

وَ يَقُولُ أَعْتَزِلُ الْبِدَعَ وَ بَيْنَهَا اضْطَجَعَ

فَالصُّورَةُ صُورَةُ إِنْسَانٍ

وَ الْقَلْبُ قَلْبُ حَيَوَانٍ

لَا يَعْرِفُ بَابَ الْهُدَى فَيَتَّبِعَهُ

وَ لَا بَابَ الْعَمَى فَيَصُدَّ عَنْهُ

وَ ذَلِكَ مَيِّتُ الْأَحْيَاءِ

عترة النبي‏

 فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ‏

وَ أَنَّى تُؤْفَكُونَ‏

وَ الْأَعْلَامُ قَائِمَةٌ

وَ الْآيَاتُ وَاضِحَةٌ

وَ الْمَنَارُ مَنْصُوبَةٌ

فَأَيْنَ يُتَاهُ بِكُمْ

وَ كَيْفَ تَعْمَهُونَ

وَ بَيْنَكُمْ عِتْرَةُ نَبِيِّكُمْ

وَ هُمْ أَزِمَّةُ الْحَقِّ

وَ أَعْلَامُ الدِّينِ

وَ أَلْسِنَةُ الصِّدْقِ

فَأَنْزِلُوهُمْ بِأَحْسَنِ مَنَازِلِ الْقُرْآنِ

وَ رِدُوهُمْ وُرُودَ الْهِيمِ الْعِطَاشِ

أَيُّهَا النَّاسُ

خُذُوهَا عَنْ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ ( صلى‏ الله ‏عليه‏ وآله‏ وسلم  )

إِنَّهُ يَمُوتُ مَنْ مَاتَ مِنَّا وَ لَيْسَ بِمَيِّتٍ

وَ يَبْلَى مَنْ بَلِيَ مِنَّا وَ لَيْسَ بِبَالٍ

فَلَا تَقُولُوا بِمَا لَا تَعْرِفُونَ

فَإِنَّ أَكْثَرَ الْحَقِّ فِيمَا تُنْكِرُونَ

وَ اعْذِرُوا مَنْ لَا حُجَّةَ لَكُمْ عَلَيْهِ وَ هُوَ أَنَا

أَ لَمْ أَعْمَلْ فِيكُمْ بِالثَّقَلِ الْأَكْبَرِ

وَ أَتْرُكْ فِيكُمُ الثَّقَلَ الْأَصْغَرَ

قَدْ رَكَزْتُ فِيكُمْ رَايَةَ الْإِيمَانِ

وَ وَقَفْتُكُمْ عَلَى حُدُودِ الْحَلَالِ وَ الْحَرَامِ

وَ أَلْبَسْتُكُمُ الْعَافِيَةَ مِنْ عَدْلِي

وَ فَرَشْتُكُمُ الْمَعْرُوفَ مِنْ قَوْلِي وَ فِعْلِي

وَ أَرَيْتُكُمْ كَرَائِمَ الْأَخْلَاقِ مِنْ نَفْسِي

فَلَا تَسْتَعْمِلُوا الرَّأْيَ فِيمَا لَا يُدْرِكُ قَعْرَهُ الْبَصَرُ

وَ لَا تَتَغَلْغَلُ إِلَيْهِ الْفِكَرُ

ظن خاطئ‏

و منهاحَتَّى يَظُنَّ الظَّانُّ أَنَّ الدُّنْيَا مَعْقُولَةٌ عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ

تَمْنَحُهُمْ دَرَّهَا

وَ تُورِدُهُمْ صَفْوَهَا

وَ لَا يُرْفَعُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَوْطُهَا وَ لَا سَيْفُهَا

وَ كَذَبَ الظَّانُّ لِذَلِكَ

بَلْ هِيَ مَجَّةٌ مِنْ لَذِيذِ الْعَيْشِ يَتَطَعَّمُونَهَا بُرْهَةً

ثُمَّ يَلْفِظُونَهَا جُمْلَةً

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج6  

و من خطبة له عليه السّلام و هى السادسة و الثمانون من المختار فى باب الخطب

و شرحها في ضمن فصول:

الفصل الاول

عباد اللَّه إنّ من أحبّ عباد اللَّه إليه عبدا أعانه اللَّه على نفسه، فاستشعر الحزن و تجلبب الخوف، فزهر مصباح الهدى في قلبه، و أعدّ القرى ليومه النّازل به، فقرّب على نفسه البعيد، و هوّن الشّديد، نظر فأبصر، و ذكر فاستكثر، و ارتوى من عذب فرات سهّلت له موارده، فشرب نهلا، و سلك سبيلا جددا، قد خلع سرابيل الشّهوات، و تخلّى من الهموم إلّا همّا واحدا انفرد به، فخرج من صفة العمى و مشاركة أهل الهوى، و صار من مفاتيح أبواب الهدى و مغاليق أبواب الرّدي، قد أبصر طريقه، و سلك سبيله، و عرف مناره، و قطع غماره، و استمسك من العرى بأوثقها، و من الحبال بأمتنها، فهو من اليقين‏ على مثل ضوء الشّمس، قد نصب نفسه للّه سبحانه في أرفع الأمور، من إصدار كلّ وارد عليه، و تصير كلّ فرع إلى أصله، مصباح ظلمات، كشاف عشوات، مفتاح مبهمات، دفّاع معضلات، دليل فلوات، يقول فيفهم، و يسكت فيسلم، قد أخلص للّه فاستخلصه، فهو من معادن دينه، و أوتاد أرضه، قد ألزم نفسه العدل، فكان أوّل عدله نفي الهوى عن نفسه، يصف الحقّ و يعمل به، و لا يدع للخير غاية إلّا أمّها، و لا مظنّة إلّا قصدها، قد أمكن الكتاب من زمامه، فهو قائده و إمامه، يحلّ حيث حلّ ثقله، و ينزل حيث كان منزله.

اللغة

(الشّعار) من الثوب مايلى شعر الجسد و (الجلباب) القميص أو غيره ممّا مضى في شرح الكلام الخامس و الستين و (زهر) الشي‏ء يزهر من باب منع صفا لونه و أضاء و (القرى) من قرى الضّيف من باب رمى قرى بالكسر و القصر و الفتح و المدّ أضافه، و في المصباح قرى بالكسر و القصر و الاسم القراء بالفتح و المدّ و (فرات) الماء العذب و باللام اسم نهر معروف.

و (نهل) البعير نهلا من باب تعب شرب الشّرب الأوّل حتّى روى و (الجدد) بالتحريك المستوى من الأرض و (السّربال) القميص و (الغمار) بالكسر إما جمع الغمر كالغمور و هو الماء الكثير و معظم البحر أو جمع الغمرة كالغمرات و هى الشدة و الزحمة و (العرى) بالقصر مثل العروة من الدّلو و الكوز و نحوهما مقبضها و (عشوات) بالتحريك جمع العشوة بالتّثليث و هى الأمر الملتبس.

(و المعضلات) الشدائد و الأمور التي لا تهدى لوجهها من أعضل الأمر إذااشتدّ و (المعادن) جمع معدن كمجلس و هو محل الجوهر و (أمّه) أمّا من باب قتل قصده و (مظنة) الشي‏ء المكان الذي يظنّ فيه وجوده و (الثقل) متاع المسافر و حشمه و الجمع أثقال كسبب و أسباب.

الاعراب

الفاء في قوله فاستشعر الحزن عاطفة مشعرة بسببية ما قبلها لما بعدها كما في قولك يقوم زيد فيغضب عمرو، و كذلك أكثر الفاءات بعدها، و قوله فهو من اليقين على مثل آه هو مبتداء و على مثل خبر له و من اليقين حال إمّا من المبتدأ و العامل فيه الخبر و هو مبنيّ على جواز الاختلاف بين عامل الحال و عامل صاحبه، و إمّا من الضمير المستكن في الخبر فيتّحد العاملان و إنّما قدّمت الحال على عاملها لتوسّعهم في الظروف قالوا: و من ذلك البرّ الكرّ بستّين أى الكرّ منه بستّين فمنه حال و العامل فيه بستّين.

و قوله عليه السّلام: مصباح ظلمات بالرفع خبر بعد خبر، و قوله فكان أوّل عدله نفى الهوى يجوز جعل أوّل اسما و نفى الهوى خبرا و بالعكس إلّا أنّ مقتضى الاعراب الموجود في نسخ الكتاب هو الأوّل حيث اعراب الأوّل مرفوعا و النفى منصوبا و هو أيضا مقتضى الأصل.

المعنى

اعلم أنّ هذا الفصل من كلامه عليه السّلام مسوق بشرح حال المتّقين و بيان صفات العارفين الكمّلين من عباد اللَّه الصّالحين، و في الحقيقة و المعنى هو شرح لحال نفسه الشريف و حال أولاده المعصومين صلوات اللَّه عليهم أجمعين، إذ الأوصاف الآتية لم تجمع إلّا فيهم و لم تشاهد إلّا منهم.

و هم المتّصفون بالفناء في اللَّه و البقاء باللّه، و المبتغون لمرضاة اللَّه و هم أحبّ النّاس إلى اللَّه و اللَّه أحبّ إليهم و أولى بهم من أنفسهم، فهم التّامّون في محبّة اللَّه و المخلصون في توحيد اللَّه و المظهرون لأمر اللَّه و نهيه و عباده المكرمون‏ الَّذينَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ.

إذا عرفت هذا فأقول قوله عليه السّلام (إنّ من أحبّ عباد اللّه إليه عبدا أعانه اللَّه على نفسه) أراد بمحبّته سبحانه له إفاضته الكمالات النّفسانية عليه المعدّة له بالقرب إليه تعالى و القبول بفضله و جوده، و يأتي في شرح المختار المأتين و الخامس و العشرين إنشاء اللّه تفصيل الكلام في معنى محبّته تعالى، و معنى إعانته له على نفسه اعانته جنود عقله على جنود جهله و تقوية عقله على قهر نفسه الأمّارة، فاذا قوى عقله و اعين له اتّصف بأوصاف أشار عليه السّلام إليها.

أوّلها أنّه (استشعر الحزن) أي أتّصف بالحزن و جعله ملازما له لزوم الشّعار للجسد، و إنّما صار محزونا لما صدر منه في الأيّام الماضية من التفريط في جنب اللّه حيث لم يكتسب فيها من موجبات القرب و الاختصاص اضعاف ما اكتسبه

(و) الثّاني انه (تجلبب الخوف) أي جعله لازما له لزوم الجلباب للبدن، و قد مضى تحقيق الكلام في الخوف و في أقسامه في شرح الخطبة الخامسه و السّبعين

و الثّالث أنّه حيث اتّصف بالحزن و الخوف (ف) استعدّ بذلك لأن (زهر مصباح الهدى في قلبه) أى أضاء أنوار المعارف الحقّة الالهيّة في قلبه فصار سببا لاهتدائه و وصوله إلى مقام القرب.

(و) الرابع انّه (أعدّ القرى ليومه النّازل به) شبّه يوم الموت و ما بعده بالضّيف المتوقّع نزوله و كما أنّ من توقّع نزول ضيف به يهيّأ له قرى ليبيض به وجهه عند الضيف و يكسب به المحمدة منه و لا ينفعل منه عند نزوله، فكذلك الرّجل الموصوف لمّا توقّع نزول الموت و علم أنّه قادم لا محالة أعدّ له من وظايف الطّاعات و العبادات ما يكون موجبا لبياض (لابيضاض خ) وجهه عند نزوله و اكتسابه المحمدة و الثّناء، و ذلك أيضا من ثمرات الخوف المقدّم ذكره و من شئوناته.

و الخامس أنه حيث أعدّ قرى ضيفه (فقرّب على نفسه البعيد) و الظّاهر أنّ‏ المراد بالبعيد هو الموت الذي يراه الغافلون بعيدا و بتقريبه على نفسه هو مبادرته إليه و جعله له نصب عينيه و ترقّبه له و عدم غفلته عنه صباحا و مساء، لأنّه بعد ما هيّأ أسبابه و أعدّ القرى له لا يبالي أوقع على الموت أم وقع الموت عليه و أمّا ما ذكره الشّارح البحراني من احتمال كون المراد بالبعيد هو رحمة اللّه البعيد عن مستحقّها، و بتقريبه تحسين العمل أو كون المراد به أمله الطّويل في الدنيا و بتقريبه تقصير الأمل فمضافا إلى بعده في نفسه غير ملايم لظاهر العطف بالفاء و إن أمكن توجيهه بتكلّف.

(و) السادس أنّه (هوّن الشديد) يحتمل أن يكون المراد بالشديد شدايد الموت و دواهيه و ما يتلو ذلك، فيكون المراد بتهوينها تسهيلها بالأعمال الصّالحة و هو من ثمرات اعداده القرى للموت، و أن يكون المراد به شدايد الطاعات و كلفة المجاهدات و الرّياضيات، فيكون المراد بتهوينها تحملها و الصّبر لها و حبس النّفس عليها، و هو من فروع شروق مصباح الهدى في قلبه.

و السّابع انّه (نظر فأبصر) أى تفكّر في الملك و الملكوت فصار ذا معرفة و بصيرة كما قال سبحانه: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ

(و) الثّامن أنّه (ذكر فاستكثر) أى ذكر اللَّه فاستكثر من ذكره إذ بذكره تسكن النّفوس كما قال سبحانه: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ».و بكثرة ذكره تنال المحمدة و الثّناء عند اللّه كما قال تعالى: رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ

(و) التّاسع أنه (ارتوى من عذب فرات سهلت له موارده) شبّه عليه السّلام العلوم الحقّة و المعارف الالهيّة المفاضة على العارف بالماء الصّافي العذب الزّلال فاستعاره لها و رشّحه بذكر الارتواء كما أنّه استعار في الكلام السّابع عشر للعقايد الباطلة و الآراء الفاسدة لفظ الآجن حيث قال عليه السّلام في ذكر أوصاف القضاة السوء: حتّى إذا ارتوى من آجن، و المراد بسهولة موارده عدم كونها ردغة و حلة و هو كناية عن سرعة استعداده لقبول تلك العلوم المفاضة من محالّها و مواردها أعني الألواح السّماويّة و ألسن الملائكة و لسان النّبي صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و الرّوع في القلب و النّكث في القلوب و نحوها إن كان المراد بالموصوف الأئمة عليهم السّلام على ما قدّمنا، و النّبي و الأَئمة سلام اللَّه عليه و عليهم إن كان المقصود به مطلق العارف هذا و قوله عليه السّلام (فشرب نهلا) إشارة إلى أنّه لما شرب من العذب الفرات و ارتوى اكتفى بذلك و صار شربه الأوّل كافيا و لم يحتج بعده إلى الشّرب الثّاني لأنه شرب من رحيق التحقيق و من عين التوفيق شربة لاظمأ بعدها أبدا.

(و) العاشر أنّه (سلك سبيلا جدداً) أى طريقاً مستوية عدلا مصونة عن طرفي الافراط و التفريط إذ اليمين و الشّمال مضلّة و الطريق الوسطى هي الجادّة الموصلة لسالكها إلى خطيرة القدس، و قد مضى تفصيلًا و تحقيقاً في شرح الفصل الثاني من الكلام السادس عشر فتذكر.

و الحادي عشر أنّه (قد خلق سرابيل الشّهوات) أى نزع لباس الشهوات و خلى نفسه منها لكونها موجبة لصداء مرآت القلب مانعة عن انطباع صور الحقّ فيها.

(و) الثاني عشر أنه قد (تخلّى من الهموم) أى هموم الدّنيا كلّها لكونها مجانبة للحقّ شاغلة عنه (إلا همّا واحداً انفرد به) و هو همّه بالوصول إلى مولاه الّذي به لذّته و بالانفراد بذكره و مناجاته سروره و بهجته و بمطالعة جلاله و كبريائه شعفه و فرحته.

و الثّالث عشر أنّه حيثما تخلّى من الهموم و انحصر همّه في الهمّ الواحد (فخرج به من صفة العمى و) عن (مشاركة أهل الهوى) أراد أنه باتّصافه بفضيلة العلم و الحكمة خرج من صفة الجهالة و عن مشاركة أهل الهوى و الشّهوة لكون الاشتراك معهم موجباً للضّلالة، و إليه الإشارة بقوله سبحانه: «وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى‏ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى‏.

(و) الرابع عشر أنّه من أجل اتّصافه بالعلم و الحكمة أيضا (صار من مفاتيح أبواب الهدى و مغاليق أبواب الرّدى) فبه ينفتح أبواب الرّشاد و الهداية للمهتدين، و ينغلق أبواب الغوى و الضّلالة للجاهلين، لكونه فاتحا لباب المعروف سادّا لباب المنكر فبنور وجوده يهتدى الجاهلون، و بكمال ذاته يرتدع الضّالّون.

و الخامس عشر أنه (قد أبصر طريقه و سلك سبيله) أى أبصر بنور بصيرته طريقه المأمور بسلوكها فسلكها، و إلى هذا السّبيل و الطريق أشير في قوله: وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ و في قوله: وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا كما مضى مشروحا في شرح الفصل الثاني من الكلام السّادس عشر فتذكر.

(و) السّادس عشر أنّه (عرف مناره) أصل المنار هو العلم المنصوب على الطّريق ليأمن به المارّة من الخروج عن الجادّة فمن عرف مناره أمن الضّلالة، و المراد به هنا هم أئمة الدّين الّذينهم أعلام اليقين، فالسّالك إلى اللّه بقدمي الصّدق و العرفان إذا عرفهم و لزمهم و أخذ بحجزتهم أمن من الضّلال و وصل إلى حظيرة القدس و الجلال التي هي منتهى الآمال، هذا إن كان الموصوف بالصّفات مطلق العارف و إن كان المقصود به هم عليه السّلام حسبما أشرنا إليه سابقا فالمراد بالمنار هو النّبيُّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

(و) السابع عشر أنّه (قطع غماره) أشار بالغمار إلى ما كان مغمورا فيه من مشاق الدّنيا و همومها و التّألّم بسبب فقدها و مجاذبة أهلها لها و تزاحمهم عليها، فانّ العارف بمعزل عن ذلك و إنّما هو شأن الجاهلين الّذين هم في غمرة ساهون.

(و) الثامن عشر أنّه (استمسك من العرى بأوثقها و من الحبال بأمتنها) و المراد بأوثق العرى و أمتن الحبال ما اشير إليها في سورة البقرة بقوله: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى‏ لَا انْفِصامَ لَها و في سورة آل عمران بقوله: وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا.

و قد فسّر العروة في الظاهر بالايمان و الحبل به و بالقرآن، و قد فسّرا في الباطن بالولاية، روى في البحار من كنز جامع الفوائد و تأويل الآيات قال: ذكر صاحب نهج الايمان في تأويل قوله: فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى‏ روى أبو عبد اللّه الحسين بن جبير في كتاب نخب المناقب لآل أبي طالب حديثا مسندا إلى الرّضا عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من أحبّ أن يستمسك بالعروة الوثقى فليستمسك بحبِّ عليِّ بن أبي طالب عليه السّلام، و روى أيضا في الكتاب المذكور مسندا عن أبان بن تغلب عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام قال: نحن حبل اللّه الذي قال اللّه تعالى: وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا.

و الأخبار في هذا المعنى متظافرة.

و التاسع عشر أنّه لما استمسك بالعروة الوثقى و الحبل الأمتن فترقّى بذلك إلى أعلى مدارج العلم و العرفان (ف) كان (هو من اليقين على مثل ضوء الشمس) يعني أنّه رأى بعين اليقين الحقائق و شاهد دقايق الملك و الملكوت لا يختلجه في ذلك شكّ و وهم كما يرى بصره نور الشمس في الوضوح و الجلا.

و العشرون أنه لكمال ذاته (قد نصب نفسه) و عيّنها (ل) أجل ابتغاء مرضات (اللَّه سبحانه في أرفع الأمور من إصدار كل وارد عليه و تصيير كلّ فرع إلى أصله) أراد عليه السّلام أنه لما كمل ذاته نصب نفسه لأرفع الأمور من هداية الخلق و ارشادهم إلى‏ ما فيه رشادهم فقام باصدار الأجوبة عن كلّ ما ورد عليه من الأسئلة و نهض بردّ كلّ فرع من فروع العلم إلى أصله المتشعّب عنه، و فيه إشعار و تنبيه على جواز الاجتهاد و استنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلّتها التفصيلية كما عليه بناء المجتهدين من أصحابنا، خلافا لأصحابنا الأخبارييّن و التفصيل معنون في الأصول.

و الحادى و العشرون أنّه (مصباح ظلمات) يقتبس منه العالمون أنوار العلم و يهتدى به التائهون في ظلمات الجهل.

و الثّاني و العشرون أنّه (كشّاف عشوات) يكشف به و يميّز الأمور الملتبسة و في بعض النسخ غشوات بالغين المعجمة فالمراد أنه يكشف النقاب عن وجه الحقّ.

و الثالث و العشرون أنّه (مفتاح مبهمات) به يفتح أبواب الأحكام المبهمة المغلقة.

و الرّابع و العشرون أنّه (دفّاع معضلات) يعني أنه يدفع الأعضال عن المسائل المعضلة الشرعية و يرفع الاشكال عن الأحكام المشكلة الأصليّة و الفرعيّة بكلامه الوافي و بيانه الشافي.

و الخامس و العشرون أنّه (دليل فلوات) أراد عليه السّلام أنّ السّالك في مسالك الفلوات كما لا يهتدي إليها إلّا بدلالة الأدلاء الّذين اعتادوا سلوكها و ضبطوا مراحلها و منازلها، فكذلك السّاير في فلوات المعقولات الطالب لطيّ مراحلها الباغي للنّزول إلى ساحة الحقّ و الوصول إلى حظيرة القدس لا يهتدي إليها و لا يمكنه النّزول فيها إلّا بهداية دليل هاد و إرشاد مرشد يرشد إلى الرشاد، و هو العارف المعتاد بسلوك تلك المسالك فمن لم يسلك بدلالته فهو ضالّ و هالك.

و السادس و العشرون أنّه (يقول فيفهم و يسكت فيسلم) يعني أنه يقول: إذا اقتضت الحال فيفهم لمخاطبة المقال و يسكت في مقام السّكوت فيسلم من عثرات اللّسان.

و السابع و العشرون أنّه (قد أخلص للّه فاستخلصه) أى أخلص علمه للّه و جعله خالصا عن شوب الرّياء و الشّرك على ما مضى في شرح الفصل الرّابع من فصول الخطبة الأولى، و حيث إنه أخلص للّه فاستخلصه اللّه و اختاره و اختصّه من بين أبناء جنسه بالرّضا عنه و إفاضة الكمالات عليه و إدنائه إلى مقام القدس.

و الثّامن و العشرون أنّه إذا اتّصف بالاخلاص و الاستخلاص (ف) صار (هو من معادن دينه و أوتاد أرضه) شبّهه عليه السّلام من حيث كونه محلّا للدّين و مستقرّا له بالمعدن الّذى يستقرّ فيه الجوهر فكما أنّ المعدن يستخرج منه الجوهر و ينتزع منه، فكذلك الدّين الّذي هو جوهر عقلائي يستفاد من ذلك الموصوف و يكتسب منه، و أمّا معنى كونه من أوتاد أرضه فهو أنّك قد عرفت في شرح الفصل الثالث من فصول الخطبة الأولى أنّه سبحانه و تدّ بالصّخور و الجبال ميدان أرضه و اضطرابه و أنت إذا أخذت بين مجامع هذا الكلام و ما تقدّم ظهر لك أنّه عليه السّلام جعل الموصوف بمنزلة جبل يكون وتداً للأرض مانعا لها عن الاضطراب، و هو إمّا جار على الحقيقة إن أراد بالموصوف نفسه الشّريف و من هو بمنزلته من أولاده المعصومين الّذين لولاهم لماجت الأرض بأهلها و ساخت، و إمّا على المجاز بأن يكون المراد به العموم فانّ الرّجل الموصوف لما كان سببا لانتظام أمر الدّنيا و عدم اضطراب أحوال أهلها كان كالوتد للأرض فافهم.

و التّاسع و العشرون أنه (قد ألزم نفسه العدل فكان أوّل عدله نفى الهوى عن نفسه) لما كان العدالة ملكة تصدر بها عن النفس الأفعال الفاضلة خلقا لا تخلّقا و اصولها عبارة عن الحكمة و العفّة و الشجاعة، و ساير الفضايل فروعا لها و كان العارف قد أرضى نفسه بالعبادة و غيرها حتّى حصل على هذه الفضايل الخلقيّة لا جرم كان بسعيه في حصولها قد ألزم نفسه العدل.

قال الشّارح البحراني: و لما كان العدل في القوّة الشّهوية الّذي هو أن يصير عفيفا لا خامد الشهوة و لا فاجرا أصعب«» من العدل على ساير القوى لكثرة موارد الشّهوة و ميلها بالانسان إلى طرف الافراط، و لذلك قال أكثر المناهي الواردة في الشريعة هى موارد الشهوة لا جرم«» كان مقتضي المدح أن يبدء بذكر نفى الهوى عن نفسه، و لأنّ السّالك أوّل ما يبدء في تكميل القوّة العمليّة باصلاح القوّة الشهويّة فيقف عند حدود اللّه و لا يتجاوزها في مأكول أو منكوح أو كسب و نحوه.

و الثّلاثون أنّه (يصف الحقّ و يعمل به) أى يطابق فعله قوله و يوافق قوله عمله فانّ من يأمر و لا يأتمر و ينهى و لا يزدجر لا يؤثّر وعظه و لا يثمر إرشاده فانّ الموعظة إذا صدرت عن اللّسان لا يتجاوز الآذان و إذا خرجت من القلب وقع في القلب، و قد ذمّ اللّه أقواما خالفت أفعالهم أقوالهم بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ.

(و) الحادى و الثلاثون أنّه (لا يدع للخير غاية إلّا أمّها و لا مظنّة إلّا قصدها) يعني أنّ همّته مقصورة على سلوك مسالك الخير و قصد مظانّ البرّ ليفوز غايته و يدرك نهايته.

و الثّانى و الثّلاثون أنّه (قد أمكن الكتاب) أى كتاب اللّه (من زمامه) أدّى زمام نفسه إلى الكتاب و فوّضه إليه و مكّنه منه و هو كناية عن كونه منقادا له مطيعا لما اشتمل عليه من الأوامر و النواهى (فهو قائده و امامه) يقوده إلى اللّه و يأمّه في سلوك سبيل رضوان اللّه (يحلّ حيث حلّ ثقله و ينزل حيث كان منزله) قال الشارح البحراني: استعار عليه السّلام و صفى الحلول و النّزول الّذين هما من صفات المسافر و كنّى بحلوله حيث حلّ عن لزوم أثره و العمل بمقتضاه و متابعته له في طريق سفره إلى اللّه بحيث لا ينفكّ عنه وجودا و عدما.

أقول: هذا إن كان المراد بالموصوف نفسه الشّريف و من حذا حذوه،و أمّا إن اريد به مطلق العارف فالمراد بمحلّ القرآن و منزله هو بيت الرّسالة و الامامة أعني مهبط الوحى و معدن الذكر، فيكون المقصود بحلول الموصوف و نزوله فيه كالقرآن كونه مقتديا بالرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة مقتبسا لهداهم آخذا بولايتهم صلوات اللّه و تحيّاته عليه و عليهم أجمعين.

الترجمة

از جمله خطب شريفه آن امام زمان و مقتداى عالميان است در وصف حال متّقين فرموده كه: اى بندگان خدا بدرستى از محبوبترين بندگان خدا است بسوى او بنده كه اعانت فرمود و غالب نمود خداى تعالى او را بر نفس خود پس شعار خود گردانيد حزن را، و سرپوش خود نمود ترس را، پس روشن شد چراغ هدايت در قلب او، و مهيا نمود مهماني را براى روزى كه فرود آيد باو پس نزديك گردانيد بر نفس خود دور را كه عبارتست از موت و احوال آخرت، و آسان نمود كار سخت را كه عبارتست از كلفت و مشاقّ عبادت، نگاه كرد بديده عبرت بملك و ملكوت، پس شد صاحب معرفت و بصيرت، و ذكر كرد خداوند را پس بسيار نمود از ذكر ربّ العزّت، و سيراب شد از آب خوش شيرين كه آسان گردانيده شد از براى او موارد آن پس آشاميد آبرا أول بار و سبقت نمود بر سايرين و محتاج نشد بآشاميدن دوّيمين و سلوك كرد راه راست محفوظ از تفريط و افراط را.

بتحقيق كه بر كند از خود پيراهن‏هاى شهوتها را، و خالى شد از همه همّها و غمّها مگر همّ واحدى كه منفرد شده است باو كه عبارتست از همّ وصول بقرب حق، پس بيرون آمد از صفت كورى و از مشاركت أهل هوا و غفلت، و گرديد از كليدهاى درهاى هدايت و از آلتهاى بستن درهاى هلاكت.

بتحقيق كه ديد راه صواب خود را و سلوك نمود در راه راست خود و شناخت نشان هدايت خود را از دلايل واضحات، و بريد از خود آنچه فرو رفته بود در آن از شهوات، و چنگ زد از بندها بمحكم‏ترين آنها و از ريسمانها باستوارترين آنهاپس او از يقين بر مثال نور آفتابست در تابندگى و درخشندگى، پس نصب كرد نفس خود را از براى خداوند در بلندترين كارها كه عبارت باشد از بازگردانيدن جواب هر وارد كننده سؤال بر او و از ردّ نمودن هر فرع از فروع علوم بسوى اصل خود چراغ تاريكيها است، كشف كننده امرهاى مشتبه است، راهنماى بيابانها است سخن مى‏گويد پس مى‏فهماند، و ساكت مى‏شود پس بسلامت مى‏ماند.

بتحقيق كه خالص نمود عبادت را از براى خدا پس خالص نمود خداوند او را از براى خود و برگزيد او را با بناى جنس بافاضه فيوضات و كمالات، پس او از معدنهاى دين خدا است و از ميخهاى زمين حق تعالى است.

بتحقيق كه لازم گردانيده بر نفس خود عدل را پس هست اوّل عدالت او دور نمودن هوا و هوس از نفس خود، تعريف ميكند حق را و عمل مي كند بآن، ترك نمى‏نمايد عمل خير را هيچ غايتى مگر اين كه قصد ميكند آن را، و نمى‏ گذارد مظنه خيرى مگر اين كه آهنگ مى‏ نمايد آن را.

بتحقيق كه متمكّن ساخت كتاب اللّه المجيد را از مهار خود، و جلو خود را بدست او واگذار نمود، پس كتاب عزيز قائد و پيشواى او است، حلول ميكند هر جا كه حلول ميكند بار نفيس كتاب، و نزول مى‏نمايد هر مكانى كه منزل نموده در آن كتاب، و اللّه أعلم بالصّواب.

الفصل الثاني

و آخر قد تسمّى عالما و ليس به، فاقتبس جهائل من جهّال، و أضاليل من ضلّال، و نصب للنّاس أشراكا من حبائل غرور، و قول زور، قد حمل الكتاب على آرائه، و عطف الحقّ على أهوائه، يؤمّن النّاس من العظائم، و يهوّن كبير الجرائم، يقول أقف عند الشّبهات‏

و فيها وقع، و يقول أعتزل البدع و بينها اضطجع، فالصّورة صورة إنسان، و القلب قلب حيوان، لا يعرف باب الهدى فيتّبعه، و لا باب العمى فيصدّ عنه، و ذلك ميّت الأحياء.

اللغة

(قد تسمّى) تسمّى بفتح التّاء المثناة الفوقانيّة قال في القاموس تسمّى بكذا و بالقوم و إليهم انتسب، و في بعض النسخ يسمّى بصيغة المضارع المجهول من باب فعل و هو الأظهر (الجهائل) جمع الجهالة كالعلائق و العلاقة و (الأضاليل) من الضّلال جمع لا واحد له من لفظه و (ضلّال) بضم الضّاد جمع ضالّ كجاهل و جهّال و عامر و عمّار و (الأشراك) جمع الشّرك محرّكة و هو ما يصطاد به و (الزّور) الكذب و مزخرف الكلام قال تعالى: و اجتنبوا قول الزّور و (ضجعت) ضجوعا من باب نفع وضعت جنبي بالأرض و اضطجعت مثله.

الاعراب

قوله: و آخر بالرّفع صفة لمحذوف معطوف على محلّ اسم انّ السّابق في أوّل الفصل السّابق، قوله: و ليس به، من زيادة الباء في الخبر و اسم ليس ضمير مستتر، و اللّام في الصورة و القلب إمّا عوض عن الضمير المضاف إليه كما هو مذهب الكوفيّين و بعض البصريّين أى صورته صورة إنسان و قلبه قلب حيوان و عليه خرج الكوفيّون قوله سبحانه: فإنّ الجنّة هي المأوى، و المانعون يقولون في مثل ذلك إنّ اللّام للعهد و الضمير محذوف أى الصورة له أو منه و قالوا في الآية: هي المأوى له.

المعنى

اعلم أنّه لما شرح حال أحبّ العباد إلى اللّه سبحانه في الفصل السّابق أردف ذلك بشرح حال المبغوضين عنده تعالى فقال (و آخر قد تسمّى عالما و ليس به) أى و عبد آخر قد انتسب إلى أهل العلم و نسب نفسه إليهم و ليس هو بذلك أو سمّاه‏ العوام عالما (فاقتبس جهائل من جهّال و أضاليل من ضلّال) أى تعلّم جهالات مركّبة و عقايد باطلة من أهل الجهالة و اكتسب الآراء الموجبة للانحراف عن قصد السّبيل عن أهل الضّلالة فحذا حذوهم و سلك سبيلهم و صار جاهلا ضالّا مثلهم (و نصب للنّاس أشراكا من حبائل غرور و قول زور) يعني أنه يغرّ الخلق بأقواله الباطلة و أفعاله المزخرفة و يجذبهم بها إليه و يوقعهم في شركه و حبالته كما يغرّ الصيّاد الصّيد يخدعه حتّى يوقعه في شركه الّذي نصبه له (قد حمل الكتاب على آرائه) أراد عليه السّلام أنه حمل كتاب اللّه على مقتضى رأيه و هواه، و ذلك لجهله بفحواه و معناه و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من فسّر القرآن برأيه فليتبوّء مقعده من النّار، و كفى بكلامه عليه السّلام شاهدا أنّ كلّا من الفرق المختلفة كالمشّبهة و المجسّمة و الكراميّة و الأشعريّة و المعتزلة و غيرها على كثرتها قد تعلّق في إثبات مذهبه بالقرآن، فكلّ يأوّله على رأيه و يخرجه على معتقده مع أنّ قول الكلّ باطل و تأويل الجميع فاسد. وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ. و قوله عليه السّلام (و عطف الحقّ على أهوائه) عطف تفسير و توضيح إذ الكتاب حقّ و ما فيه حقّ و من حمله على رأيه فقد عطف الحقّ على هواه و جعل هواه حقّا بتأويل ما. وَ لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ (يؤمّن الناس من العظائم و يهوّن) في نظرهم (كبير الجرائم) بذكر الآيات الدّالة على الوعد و الأحاديث المحصّلة للطمع و الرّجا كقوله تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً

و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: حبّ عليّ حسنة لا يضرّ معها سيئة، و نحو ذلك و إنّما يهوّنها في نظرهم و يؤمّنهم منها استجلا با لقلوبهم و طلبا للوقع عند الجهّال من الأمرا و أرباب المناصب و نحوهم من المنهمكين في الشّهوات و الباغين للّذّات و المقتحمين في الشبهات و المحرّمات الذين لا يبالون في شي‏ء منها طمعا في أنه سبحانه قابل التّوبات و غافر الخطيئات و ما حيّ السّيئآت. و هذا من تسويلات الشّيطان اللّعين و تدليسات ذلك الفاسق المتوسّم بسمة العالم إذ الخوف توأم الرجاءِ و الوعد ردف الوعيد، و هو تعالى قهّار كما أنّه غفّار، فاللّازم للعالم أن يلاحظ المقام و ينظر مواقع الكلام فيورد أدلّة الرّجاء في مجالس الخائفين، و آيات الخوف في مجالس الآمنين كيلا ييأس الخائف من روح اللّه و لا يأمن الآمن من غضب اللّه. (يقول أقف عند الشّبهات) توقّيا و تورّعا (و فيها وقع) لجهله بها و غفلته عنها و الوقوف عندها فرع العلم (و يقول أعتزل البدع) المخالفة للقوانين الشرعية (و بينها اضطجع) لجهله بها أيضا (فالصّورة صورة إنسان) تامّ الأعضاء و الأركان بهيّ الهيئة عذب اللسان (و القلب قلب حيوان) له اذنان محجوب عن إدراك حقايق العرفان.

و كاين ترى من صامت لك معجب
زيادته أو نقصه في التّكلّم‏

لسان الفتى نصف و نصف فؤاده‏
فلم يبق إلّا صورة اللّحم و الدّم‏

(لا يعرف باب الهدى فيتّبعه و لا باب العمى فيصدّ عنه) يعني أنه بسبب جهله المركب لا يعرف قانون الهداية إلى الرّشاد فيلزمه، و لا واجه الدّخول في الباطل فيتركه، و ذلك لأنّ الجاهل المركّب لمّا ألحد عن سبيل اللّه و اعتقد بخلاف الواقع امتنع مع ذلك أن يعرف باب الهدى و مبدء الدّخول إليه فلا يمكن له اتّباعه، و لمّا اعتقد أنّ ما جزم به من الباطل هو الحقّ امتنع معه أن يعرف مبدء دخوله في الجهل و هو باب العمى فامتنع منه أن يصدّ عنه. (فذلك ميّت الأحياء) يعني أنّه ميّت في سلك الأحياء، و إنّما كان ميّتاإذ المقصود بالحياة في الحقيقة هو استكمال النّفس و اكتساب الفضايل الّتى هي سبب السّعادة الأبدية و العناية السّرمديّة، و لما كان الجاهل بمعزل عن ذلك فكان بمنزلة الميّت بل ميّتا في الحقيقة قال الشّاعر:

         ليس من مات فاستراح بميّت            إنّما الميت ميّت الأحياء

تنبيه

هذا الفصل من كلام الامام عليه آلاف التحية و السّلام كاف في ذمّ العلماء السوء و القدح عليهم و الطّعن فيهم، و أعنى بالعلماء السوء المتّصفين بالأوصاف المذكورة في هذا الفصل، و هم العلماء الآخذون بالبدع و الآراء، و العاملون بالمقائيس و الأهواء، كعلماء العامّة و قضاتها الّذين لم يأخذوا العلم من ينابيعه، و لم يتعلّموا القرآن من أهله و استغنوا عن عترة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و آله و حيث ضاق بهم المجال في الوصول إلى حقيقة الحال اضطرّوا إلى الأخذ بالرّأى و القياس ففسّروا القرآن بآرائهم، و عطفوا الحقّ على أهوائهم، و عملوا في مسائل الحلال و الحرام و الحدود و الأحكام بأقيستهم، فأبدعوا في الدّين، و غيّروا شرع سيّد المرسلين صلوات اللّه عليه و آله أجمعين هذا. و مثلهم في استحقاق الذّم و الطّعن العلماء السوء منّا، و هم الذين تعلّموا العلم من أهله، و أخذوه من أحاديث الأئمة، و رجعوا في تفسير القرآن إلى تفسير خير الامة إلّا أنّهم لم يعملوا بعلمهم، و وصفوا الحقّ فخالف فعلهم قولهم، و هم علماء الدّنيا الذين قصدهم من العلم التّنعم بالدّنيا و التوصّل إلى الجاه و المنزلة عند أهلها. و الآيات و الأخبار في ذمّ هؤلاء و تشديد الأمر عليهم فوق حدّ الاحصاء و متجاوزة مرتبة الاستقصاء، و ينبغي أن نورد هنا شطرا منها ممّا يناسب المقام.

فأقول: روى ثقة الاسلام الكلينيّ في الكافي عن سليم بن قيس الهلالي قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السّلام يقول: قال رسول اللَّه صلّى اللّه عليه و آله سلّم: منهومان لا يشبعان: طالب‏دنيا، و طالب علم، فمن اقتصر من الدّنيا على ما أحلّ اللّه له سلم، و من تناولها من غير حلّها هلك إلّا أن يتوب أو يراجع، و من أخذ العلم من أهله و عمل بعلمه نجا، و من أراد الدّنيا فهي حظّها. و عن أبي خديجة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من أراد الحديث لمنفعة الدّنيا لم يكن له في الآخرة نصيب، و من أراد به خير الآخرة أعطاه اللّه خير الدّنيا و الآخرة. و عن حفص بن غياث عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إذا رأيتم العالم محبّا لدنياه فاتّهموه على دينكم، فانّ كلّ محبّ شي‏ء يحوط ما أحبّ و قال عليه السّلام: أوحى اللّه إلى داود عليه السّلام لا تجعل بيني و بينك عالما مفتونا بالدّنيا فيصدّك عن طريق محبّتي، فانّ أولئك قطّاع طريق عبادي المريدين إلىّ، إنّ أدنى ما أنا صانع بهم أن أنزع حلاوة مناجاتي من قلوبهم. و عن ربعي بن عبد اللّه عمّن حدّثه عن أبي جعفر عليه السّلام قال: من طلب العلم ليباهي به العلماء أو يمارى به السّفهاء أو يصرف به وجوه النّاس إليه فليتبوّء مقعده من النّار، إنّ الرّياسة لا تصلح إلّا لأهلها.

و عن حفص بن غياث عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال: يا حفص يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد. و عن حفص أيضا قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: قال عيسى بن مريم عليه السّلام: ويل للعلماء السوء كيف تلظّى عليهم النّار. و عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَ الْغاوُونَ. قال: هم قوم وصفوا عدلا بألسنتهم ثمّ خالفوه إلى غيره. و عن سليم بن قيس الهلالي قال: سمعت أمير المؤمنين عليه السّلام يحدّث عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال في كلام له: العلماء رجلان: رجل عالم أخذ بعلمه فهذا ناج، و عالم‏ تارك لعلمه فهذا هالك، و إنّ أهل النّار ليتأذّون من ريح العالم التّارك لعلمه، و إنّ أشدّ أهل النّار ندامة و حسرة رجل دعا عبدا إلى اللّه فاستجاب له و قبل منه فأطاع اللّه فأدخله اللّه الجنة فأدخل الداعى النّار بترك علمه و اتّباعه الهوى و طول الأمل، أمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحق و أمّا طول الأمل فينسي الآخرة و عن عبد اللّه بن القاسم الجعفرى عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ العالم إذا لم يعمل بعلمه زلّت موعظته عن القلوب كما يزلّ المطر عن الصّفا. أقول: و نعم ما قيل في هذا المعنى:

يا واعظ النّاس قد أصبحت متّهما
إذ عبت منهم امورا أنت تأتيها

أصبحت تنصحهم بالوعظ مجتهدا
فالموبقات لعمرى أنت جائيها

تعيب دنيا و ناسا راغبين لها
و أنت أكثر منهم رغبة فيها

و فيه عن عليّ بن هاشم بن البريد عن أبيه قال: جاء رجل إلى عليّ بن الحسين عليه السّلام فسأله عن مسائل فأجاب ثمّ عاد ليسأل عن مثلها فقال عليّ بن الحسين عليه السّلام: مكتوب في الانجيل لا تطلبوا علم ما لا تعلمون و لمّا تعملوا بما علمتم فانّ العلم إذا لم يعمل به لم يزدد صاحبه إلّا كفرا و لم يزدد من اللّه إلّا بعدا. و عن المفضّل بن عمر عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت له: بم يعرف النّاجي قال عليه السّلام: من كان فعله لقوله موافقا فاثبت له الشهادة، و من لم يكن فعله لقوله موافقا فانّما ذلك مستودع. أقول: قال الشاعر:

 لاتنه عن خلق و تأتي مثله            عار عليك إذا فعلت عظيم‏

هذا و الأخبار العامية فى ذلك الباب كثيرة جدّا و قد أكثر أبو حامد الغزالي في احياء العلوم من روايتها. ففيه قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه اللّه بعلمه. و عنه صلّى اللّه عليه و آله انّه قال: لا يكون المرء عالما حتّى يكون بعلمه عاملا، و قال: صلّى اللّه عليه و آله العلم علمان علم على اللّسان فذلك حجّة اللّه على خلقه و علم في القلب فذلك العلم النّافع‏ و قال عليه السّلام إنّ العالم ليعذّب عذابا يطيف به أهل النّار استعظاما لشدّة عذابه و قال اسامة بن زيد سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يقول يؤتى بالعالم يوم القيامة فيلقى في النّار فتندلق أقتابه فيدور بها كما يدور الحمار بالرّحى فيطيف به أهل النّار فيقولون مالك فيقول: كنت آمر بالخير و لا آتيه، و أنهى عن الشّر و آتيه.

و روى معاذ بن جبل موقوفا و مرفوعا في رواية عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من فتنة العالم أن يكون الكلام أحبّ إليه من الاستماع، و في الكلام تنميق و زيادة و لا يؤمن على صاحبه الخطاء، و في الصّمت سلامة و علم. و من العلماء من يخزن علمه فلا يحبّ أن يوجد عند غيره فذلك في الدّرك الأول من النّار، و من العلماء من يكون في علمه بمنزلة السّلطان إن ردّ عليه شي‏ء من علمه أو تهوّن بشي‏ء من حقّه غضب، فذلك في الدّرك الثاني من النار، و من العلماء من يجعل علمه و غرايب حديثه لأهل الشرف و اليسار و لا يرى أهل الحاجة له أهلا فذلك في الدّرك الثالث من النّار، و من العلماء من ينصب نفسه للفتيا فيفتى بالخطاء و اللّه تعالى يبغض المتكلّفين، فذلك في الدّرك الرّابع من النّار، و من العلماء من يتكلّم بكلام اليهود و النّصارى ليعزّز به علمه، فذلك في الدّرك الخامس من النّار، و من العلماء من يتّخذ علمه مروّة و نيلا و ذكرا في النّاس، فذلك في الدّرك السادس من النّار، و من العلماء من يستفزّه الزّهو و العجب فان وعظ أنف، فذلك في الدّرك السّابع من النار، إلى غير هذه مما رواه فيه، و هى كافية في الدّلالة على عظم وزر العالم في معاصيه و كون عذابه أشدّ و حسرته أدوم.

و سرّ ذلك أمران: الاول أنّ العالم إذا عصى يزلّ بعصيانه خلق كثير كما قيل: إذا فسد العالم فسد العالم، فمن تناول شيئا من المحرّمات و قال للنّاس لا تتناولوه سخر به النّاس و استهزءوه و زاد حرصهم على ما نهوا عنه، فيقولون لو لا أنّه أطيب شي‏ء و ألذّه لما كان يستأثر به نفسه و يقدم عليه فيقتدي به الخلق في سوء عمله و يتّبعونه فيلحق به مثل وزرهم، مضافا إلى وزر نفسه كما قال: من سنّ سنّة سيّئة كان له مثل وزر من عمل بها. و عن أمير المؤمنين عليه السّلام قصم ظهرى رجلان: عالم متهتّك، و جاهل متنسّك‏ فالجاهل يغرّ النّاس بتنسّكه و العالم يغرّهم بتهتّكه.

و الثاني أنّ عصيان العالم مع اتّصافه بصفة العلم كاشف عن منتهى خبث طينته و سوء سريرته و غاية جرئته على مولاه، و ذلك بخلاف الجاهل فانه إمّا جاهل ساذج فلا تكليف في حقّه إذ الجهل مانع من أن يتوجّه إليه حكم أو خطاب، فليس في حقّه أمر و لا نهى فلا ثواب و لا عقاب، و إمّا جاهل في الجملة فليس له معرفة مثل المعرفة الّتي للعالم و لذلك جعل اللّه سبحانه ثواب المطيعات من نساء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و العاصيات منهنّ ضعف ما لغيرهنّ، لكونهنّ عارفات عالمات بادراكهنّ حضور النّبي صلّى اللّه عليه و آله و صحبته كما قال عزّ من قائل: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً، وَ مَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَ أَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً و قال سبحانه: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ. لأنّهم جحدوا بعد العلم و جعل اليهود شرّا من النّصارى مع أنّهم ما جعلوا اللّه تعالى ولدا و لا قالوا: إنّه سبحانه ثالث ثلاثة إلّا أنّهم أنكروا بعد المعرفة إذ قال اللّه: يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ و قال: فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ و في سورة الجمعة: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. إذا ظهر لك أيّها العالم ذلك فلا يغرّنّك الشّيطان و لا يصدّنّك عن سبيل ربّك و لا ينبغي لك أن تعرّض نفسك للهوان و لغضب الرّحمن، و لا يجوز لك أن تؤثر دنياك على آخرتك و لا أن تتّبع هوى نفسك أو تأمر النّاس بالبرّ و تنسى نفسك«»، أو تقول ما لا تفعل، فقد كبر مقتا عند اللّه أن تقولوا ما لا تفعلون«» فالويل كلّ الويل لمن اتّبع هواه و باع آخرته بدنياه.

عجبت لمبتاع الضّلالة بالهدى
و من يشترى دنياه بالدّين أعجب‏

و أعجب من هذين من باع دينه‏
بدنيا سواه فهو من ذين أعجب‏

الترجمة

و شخصى ديگرى هست كه نسبت داده شده بأهل علم و حال آنكه عالم نيست پس كسب نمود جهالتها را از جهال روزگار و ضلالتها را از گمراهان نابكار، و نصب نمود از جهة فريفتن مردم دامهاى حيلها را از ريسمانهاى فريب و از گفتار دروغ، بتحقيق كه حمل كرده كتاب مجيد را بر رأيهاى باطل خود، و ميل داده حق را بر آرزوهاى عاطل خود، أيمن مى‏ گرداند مردم را از گناهان عظيم و آسان مى‏ گرداند جرمهاى بزرك را. مى ‏گويد كه وقوف مي كنم و باز مى ايستم از شبهه‏ ها و حال آنكه در آنها افتاده، و مى‏ گويد كه اعتزال مي كنم و كناره‏جوئى مى‏ نمايم از بدعتها و حال آنكه در ميان آنها خواب كرده، پس صورت آن مثل صورت انسان است و قلب آن مثل قلب حيوان، پس نمى ‏شناسد باب هدايت را تا پيروى كند آن را، و نه باب ضلالت را پس باز ايستد از آن، پس اين شخص كذائي مرده زنده است چه متّصف است بجهل ابدى كه موت است در صورة حياة.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 85 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 86 صبحی صالح

86- و من خطبة له ( عليه ‏السلام  ) و فيها بيان صفات الحق جل جلاله،

ثم عظة الناس بالتقوى و المشورة

قَدْ عَلِمَ السَّرَائِرَ

وَ خَبَرَ الضَّمَائِرَ

لَهُ الْإِحَاطَةُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ

وَ الْغَلَبَةُ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ

وَ الْقُوَّةُ عَلَى كُلِّ شَيْ‏ءٍ

عظة الناس‏

فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُ مِنْكُمْ فِي أَيَّامِ مَهَلِهِ

قَبْلَ إِرْهَاقِ أَجَلِهِ

وَ فِي فَرَاغِهِ قَبْلَ أَوَانِ شُغُلِهِ

وَ فِي مُتَنَفَّسِهِ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ بِكَظَمِهِ

وَ لْيُمَهِّدْ لِنَفْسِهِ وَ قَدَمِهِ

وَ لْيَتَزَوَّدْ مِنْ دَارِ ظَعْنِهِ لِدَارِ إِقَامَتِهِ

فَاللَّهَ اللَّهَ‏

أَيُّهَا النَّاسُ فِيمَا اسْتَحْفَظَكُمْ مِنْ كِتَابِهِ

وَ اسْتَوْدَعَكُمْ مِنْ حُقُوقِهِ

فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثاً

وَ لَمْ يَتْرُكْكُمْ سُدًى

وَ لَمْ يَدَعْكُمْ فِي جَهَالَةٍ وَ لَا عَمًى

قَدْ سَمَّى آثَارَكُمْ

وَ عَلِمَ أَعْمَالَكُمْ

وَ كَتَبَ آجَالَكُمْ

وَ أَنْزَلَ عَلَيْكُمُ الْكِتَابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ

وَ عَمَّرَ فِيكُمْ نَبِيَّهُ أَزْمَاناً

حَتَّى أَكْمَلَ لَهُ وَ لَكُمْ فِيمَا أَنْزَلَ مِنْ كِتَابِهِ دِينَهُ الَّذِي رَضِيَ لِنَفْسِهِ

وَ أَنْهَى إِلَيْكُمْ عَلَى لِسَانِهِ مَحَابَّهُ

مِنَ الْأَعْمَالِ وَ مَكَارِهَهُ

وَ نَوَاهِيَهُ وَ أَوَامِرَهُ

وَ أَلْقَى إِلَيْكُمُ الْمَعْذِرَةَ

وَ اتَّخَذَ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةَ

وَ قَدَّمَ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ

وَ أَنْذَرَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ

فَاسْتَدْرِكُوا بَقِيَّةَ أَيَّامِكُمْ

وَ اصْبِرُوا لَهَا أَنْفُسَكُمْ

فَإِنَّهَا قَلِيلٌ فِي كَثِيرِ الْأَيَّامِ

الَّتِي تَكُونُ مِنْكُمْ فِيهَا الْغَفْلَةُ

وَ التَّشَاغُلُ عَنِ الْمَوْعِظَةِ

وَ لَا تُرَخِّصُوا لِأَنْفُسِكُمْ

فَتَذْهَبَ بِكُمُ الرُّخَصُ مَذَاهِبَ الظَّلَمَةِ

وَ لَا تُدَاهِنُوا

فَيَهْجُمَ بِكُمُ الْإِدْهَانُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ

عِبَادَ اللَّهِ

إِنَّ أَنْصَحَ النَّاسِ لِنَفْسِهِ أَطْوَعُهُمْ لِرَبِّهِ

وَ إِنَّ أَغَشَّهُمْ لِنَفْسِهِ أَعْصَاهُمْ لِرَبِّهِ

وَ الْمَغْبُونُ مَنْ غَبَنَ نَفْسَهُ

وَ الْمَغْبُوطُ مَنْ سَلِمَ لَهُ دِينُهُ

وَ السَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ

وَ الشَّقِيُّ مَنِ انْخَدَعَ لِهَوَاهُ وَ غُرُورِهِ

وَ اعْلَمُوا أَنَّ يَسِيرَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ

وَ مُجَالَسَةَ أَهْلِ الْهَوَى مَنْسَاةٌ لِلْإِيمَانِ

وَ مَحْضَرَةٌ لِلشَّيْطَانِ

جَانِبُوا الْكَذِبَ فَإِنَّهُ مُجَانِبٌ لِلْإِيمَانِ

الصَّادِقُ عَلَى شَفَا مَنْجَاةٍ وَ كَرَامَةٍ

وَ الْكَاذِبُ عَلَى شَرَفِ مَهْوَاةٍ وَ مَهَانَةٍ

وَ لَاتَحَاسَدُوا

فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْإِيمَانَ

كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ

وَ لَا تَبَاغَضُوا فَإِنَّهَا الْحَالِقَةُ

وَ اعْلَمُوا أَنَّ الْأَمَلَ يُسْهِي الْعَقْلَ

وَ يُنْسِي الذِّكْرَ

فَأَكْذِبُوا الْأَمَلَ فَإِنَّهُ غُرُورٌ

وَ صَاحِبُهُ مَغْرُورٌ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج6  

و من خطبة له عليه السلام و هى الخامسة و الثمانون من المختار فى باب الخطب

قد علم السّرائر، و خبر الضّمائر، له الإحاطة بكلّ شي‏ء، و الغلبة لكلّ شي‏ء، و القوّة على كلّ شي‏ء، فليعمل العامل منكم في أيّام مهله قبل إرهاق أجله، و في فراغه قبل أوان شغله، و في متنفسّه قبل أن يؤخذ بكظمه، و ليمهّد لنفسه و قدمه، و ليتزوّد من دار ظغنه لدار إقامته. فاللّه اللّه أيّها النّاس فيما استحفظكم من كتابه، و استودعكم من حقوقه، فإنّ اللّه لم يخلقكم عبثا، و لم يترككم سدى، و لم يدعكم في جهالة و لا عمّى، قد سمّى آثاركم، و علم أعمالكم، و كتب آجالكم‏ و أنزل عليكم الكتاب تبيانا، و عمّر فيكم نبيّه أزمانا، حتّى أكمل له و لكم فيما أنزل من كتابه دينه الّذي رضي لنفسه، و أنهى إليكم على لسانه محابّه من الأعمال و مكارهه، و نواهيه و أوامره، فألقى إليكم المعذرة، و اتّخذ عليكم الحجّة، و قدّم إليكم بالوعيد، و أنذركم بين يدي عذاب شديد، فاستدركوا بقيّة أيّامكم، و اصبروا لها أنفسكم، فإنّها قليل في كثير الأيّام الّتي تكون منكم «فيها خ» الغفلة، و التّشاغل عن الموعظة، و لا ترخّصوا لأنفسكم، فتذهب بكم الرّخص فيها مذاهب الظّلمة، و لا تداهنوا فيهجم بكم الإدهان على المعصية. عباد اللّه إنّ أنصح النّاس لنفسه أطوعهم لربّه، و إنّ أغشّهم لنفسه أعصاهم لربّه، و المغبون من غبن نفسه، و المغبوط من سلم له دينه، و السّعيد من وعظ بغيره، و الشّقيّ من انخدع لهواه، و اعلموا أنّ يسير الرّياء شرك، و مجالسة أهل الهوى منسأة للإيمان، و محضرة للشّيطان جانبوا الكذب فإنّه مجانب للإيمان، الصّادق على شفا منجاة و كرامة، و الكاذب على شرف مهواة و مهانة، و لا تحاسدوا فإنّ الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النّار الحطب، و لا تباغضوا فإنّها الحالقة، و اعلموا أنّ الأمل يسهى العقل، و ينسى الذّكر، فأكذبوا الأمل فإنّه غرور،و صاحبه مغرور.

اللغة

(السّرّ و السّريرة) ما يكتم و جمع الأوّل أسرار و الثاني السّراير (خبرت) الشي‏ء من باب قتل علمته و امتحنته، و في القاموس خبر ككرم و في بعض النسخ خبر الضّماير بكسر الباء، قال الشارح المعتزلي: خبر الضمايرا متحنها و ابتلاها و من رواه بكسر الباء أراد علم انتهى فافهم.

و (ضمير) الانسان قلبه و باطنه كما فى المصباح و الجمع الضّماير، و فى القاموس الضمير السّر و داخل الخاطر، و على ذلك فهو إمّا حقيقة في الأوّل مجاز في الثاني أو بالعكس بعلاقة الحال و المحل و (المهل) محركة المهلة و (الارهاق) الاعجال و (الكظم) محركة مخرج النفس و (الظعن) الارتحال و (الانهاء) الاعلام و الابلاغ و (الرّخصة) التّسهيل في الأمر و الجمع رخص كغرفة و غرف و (الادهان) و المداهنة اظهار خلاف ما تضمر و الغشّ.

و (المنساة) و (المحضرة) محلّ النسيان و الحضور، و التاء فيهما للتكثير كما يقال أرض مسبعة أى كثير فيها السّباع و (الشفا) طرف كلّ شي‏ء و (الشرف) محركة المكان العالى و (المهواة) محلّ السقوط و (المهانة) الذلة و الحقارة و (الحالقة) الخصلة التي فيها حلق اى شؤم قال في القاموس: و الحالق المشئوم كالحالقة فالتاء للمبالغة و في القاموس أيضا الحالقة قطيعة الرّحم و التي تحلق رأسها في المصيبة، قال شارح القاموس و منه الحديث دبّ اليكم داء الامم البغضاء الحالقة، و هى قطيعة الرّحم انتهى.

و أمّا تفسير الحالقة بالمستأصلة للشعر كما في شرح المعتزلي و البحراني فلم أجده في كتب اللّغة و كذلك لم أجد تفسير الحالق بما يحلق به الشّعر بل المستفاد من القاموس خلافه حيث ذكر للحالق معاني و لم يذكر ذلك فيها، و قال: المحلق كمنبر الموسى فيفهم منه أن ما يحلق به الشعر و يستأصل به على وزن مفعل لا على وزن الفاعل و الفاعلة.

الاعراب

الفاء في قوله: فليعمل فصيحة، فاللّه اللّه منصوب على الاغراء أى فاتقوا اللّه، و تكرير اللّفظ نيابة عن الفعل المقدّر، و تبيانا منصوب على الحالية، و ازمانا على الظرفية، و الباء في قوله بالوعيد زايدة، و بقيّة أيّامكم منصوب على الظرف، و اصبروا لها اللّام بمعنى على بدليل قوله: فما أصبرهم على النّار، و قوله فانّها قليل أى شي‏ء قليل فحذف الموصوف كما حذف في قوله تعالى: وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً.

أى قبيلا رفيقا، و نفسه بالنّصب مفعول غبن، و دينه بالرفع فاعل سلم.

المعنى

اعلم أنّ هذه الخطبة مسوقة للتذكير و الموعظة، و المقصود بها جذب الخلق إلى طرف الحقّ و صدّرها بالاشارة إلى بعض أوصافه سبحانه لتكون مقدّمة للمقصد فقال عليه السّلام (قد علم السّرائر) و هو كقوله سبحانه: وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفى‏ و قوله تعالى: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ.

و قد مضى القول في ذلك في شرح الخطبة التاسعة و الأربعين، و تمام القول في علمه تعالى بالكليّات و الجزئيات و السرّ و الاعلان في تنبيهات الفصل السّابع من فصول الخطبة الاولى و نقول هنا مضافا إلى ما سبق: انّ عموم علمه سبحانه مما اتّفق عليه المتكلّمون و الحكماء.

أمّا المتكلّمون فظاهر لأنّهم تابعون للشّرع و الشرع قد ورد بذلك حسبما عرفت مفصلا فى شرح الخطبتين المذكورتين.

و أمّا الحكماء فملخّص كلامهم على ما في شرح البحراني أنّه يعلم ذاته بذاته و يتّحد هناك المدرك و المدرّك و الادراك و لا يتعدّد إلا بحسب الاعتبارات العقلية التي تحدثها العقول البشرية، و أمّا علمه بمعلولاته القريبة منه فيكون بأعيان ذواتها،و يتّحد هناك المدرك و الادراك و لا يتعدّدان إلّا بالاعتبار العقلي و يعايرهما المدرك و أمّا بمعلولاته البعيدة كالمادّيات و المعدومات التي من شأنها إمكان أن توجد في وقت أو تتعلّق بموجود فيكون بارتسام صورها المعقولة من المعلولات القريبة التي هي المدركات لها أوّلا و بالذّات و كذلك ينتهى إلى ادراك المحسوسات بارتسامها في آلات مدركاتها.

قالوا: و ذلك لأنّ الموجود في الحاضر حاضر و المدرك للحاضر مدرك لما يحضر معه فاذا لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في السّموات و لا في الأرض و لا أصغر من ذلك و لا أكبر، لكون ذوات معلولاته القريبة مرتسمة بجميع الصور، و هي التي يعبّر عنها تارة بالكتاب المبين، و تارة باللّوح المحفوظ، و تسمّى عندهم عقولا فعّالة.

هذا ما حقّقه محقّقو الحكماء في كيفيّة علمه سبحانه، إلّا أنّ الكلام بعد في صحّة القول بالارتسام، و قد مضى ما فيها في شرح الفصل السّابع من الخطبة الاولى، و كيف كان فلا ريب في عموم علمه و ان لم نعلم كيفيّة ذلك و لم نعرفه بكنهه (و خبر الضّمائر) اى امتحن القلوب بالخير و الشرّ أو أنّه عالم بالقلوب و بما فيها من الأسرار و خبير بما في الصّدور على الاختلاف المتقدّم في بيان اللّغة قال سبحانه: أَ فَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ وَ حُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ.

قال بعض المحقّقين: الخبير هو الّذي لا تعزب عنه الأخبار الباطنة فلا يجري في الملك و الملكوت شي‏ء و لا تتحرّك ذرّة و لا تسكن و لا تضطرب نفس و لا تطمئنّ إلّا و يكون عنده خبرة، و هو بمعنى العليم لكنّ العلم إذا اضيف إلى الخفايا الباطنة سمّى خبرة و سمّى صاحبها خبيرا فهو أخصّ من مطلق العلم (له الاحاطة بكلّ شي‏ء) أى علما و حفظا، أو استيلاء و قدرة كما قال تعالى: أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُحِيطٌ.

و قد مضى تفسيرها في شرح الفصل السابع من الخطبة الأولى (و الغلبة لكلّ شي‏ء) كما قال سبحانه: وَ اللَّهُ غالِبٌ عَلى‏ أَمْرِهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.

و قد مرّ بعض القول في غالبيّته في شرح الخطبة الرابعة و السّتين و أقول هنا إنّ معنى غلبته بكلّ شي‏ء يعود إلى تمام قدرته عليه و كونه قاهرا على جميع الأشياء، و ليس قهره تعالى و غلبته على نحو ما يتصوّر فينا، بل على معنى آخر.

كما أشار إليه أبو الحسن الرّضا عليه السّلام في حديث الكافي بقوله: و أمّا القاهر فليس على معنى نصب و علاج و احتيال و مداراة و مكر كما يقهر العباد بعضهم بعضا و المقهور منهم يعود قاهرا و القاهر يعود مقهورا، و لكن ذلك من اللّه تعالى على أنّ جميع ما خلق ملبّس به الذلّ لفاعله و قلّة الامتناع لما أراد به لم يخرج منه طرفة عين أن يقول له كن فيكون و القاهر منّا على ما ذكرت و وصفت.

توضيحه أنّ اللّه سبحانه لا يحتاج في قهره و غلبته إلى عمل و آلة و مدافعة و تعب و خديعة و مخالطة و حيلة كما يحتاج العباد في قهر بعضهم بعضا إلى ذلك، إذ هذه كلّها من صفات النّقص و زايدة على الذّات و من العوارض الّتي يجوز انفكاكها عن المعروض فيجوز أن يكون القاهر في وقت ما لوقوع تدبيره على وفق مطلوبه مقهورا في وقت آخر لعدم وقوع تدبيره على وفق مقصوده أو لوقوع تدبير المقهور على نحو ارادته و غلبته على تدبير القاهر كما هو المشاهد في تدبيرات السّلاطين و الملوك و ساير النّاس.

بل قاهريّته سبحانه عبارة عن ذلّ الخلايق لفاعلهم القديم و دخولهم في استكانة الامكان تحت غلبته و احتياجهم في اسر الحاجة إلى كمال قدرته بحيث لا يقدرون على الامتناع لما أراد من ذواتهم و صفاتهم و هيئاتهم و مقاديرهم و كمالاتهم و نفعهم‏ و ضرّهم و خيرهم و شرّهم للزوم حاجتهم في الذّوات و الصّفات و جميع الحالات إليه و رفع أيدي الامكان و الافتقار لهم من جميع الجهات بين يديه.

و لعلّ لفظ القلّة في الحديث اشارة إلى صدور الامتناع عن بعضهم قليلا فيما أراد منهم من أفعالهم الاختيارية، و ليس ذلك لقهرهم و غلبتهم عليه، بل لأنه تركهم على حالهم و لم يجبرهم تحقيقا لمعنى التّكليف و الاختيار.

و قوله عليه السّلام لم يخرج منه طرفة عين أن يقول أه حال عن فاعله أو عن فاعل أراد، و ضمير منه راجع إليه، و أن يقول فاعل لم يخرج يعني لم يخرج منه سبحانه في سلطانه على الخلق و قهره عليهم طرفة عين قول كن فيكون، فهو إشارة إلى أنّه قاهر دائما و لا يصير مقهورا أبدا، و فيه تنبيه على أنّ الممكن في بقائه يحتاج إليه سبحانه كما يحتاج إليه في وجوده.

قال بهمنيار في محكّى كلامه: إنّ كلّ ممكن بالقياس إلى ذاته باطل و به تعالى حقّ يرشد إليه قوله: كلّ شي‏ء هالك إلّا وجهه فهو آنافآنا يحتاج إلى أن يقول له الفاعل الحقّ كن و يفيض عليه الوجود بحيث لو أمسك عنه هذا القول و الافاضة طرفة عين لعاد إلى البطلان الذاتي و الزّوال الأصلي كما أنّ ضوء الشمس لو زال عن سطح المستضي‏ء لعاد الى ظلمته الأصليّة.

(و القوّة على كلّ شي‏ء) و هو أيضا يعود إلى تمام القدرة، و ليس المراد به قوّة البطش المعروف من المخلوق الذي هو الأخذ الشديد عند ثوران الغضب و التناول عند الصّولة أو قوّة التّعلّق بالشي‏ء و أخذه على الشّدة، لأنّ القوّة بهذا المعنى من الصّفات الجسمانية كالقوّة الشّهوية و الغضبيّة و قابلة للزّيادة و النقصان، فلا يمكن اتّصاف الواجب القديم بذلك بالبديهة و العيان، لكونه من صفات الامكان كما مرّ تفصيلا و تحقيقا في شرح الخطبة الرّابعة و الستين.

ثمّ إنّه عليه السّلام لمّا أشار إلى أنّه سبحانه عالم بما فى الصّدور و غالب على كلّ مقدور و كان ذلك مقتضيا لانجذاب الخلق إليه ليفوزوا بما لديه علما منهم بأنّه سبحانه طالب كلّ راغب و مدرك كلّ هارب أمر بعد ذلك بالطاعات و حذّر عن‏ الخطيئات فقال: (فليعمل العامل منكم في أيّام مهله قبل إرهاق أجله) و هو أمر بالمبادرة إلى العمل قبل حلول الأجل، لأنّ الموت إذا حلّ ارتفع التّكليف و بطل، فليبادر في أيّام المهل قبل أن يحلّ الموت و ينزل و قبل أن يحول بينه و بين العمل.

(و في فراغه) من شدايد الأهوال (قبل أوان شغله) بفجايع الآجال (و في متنفّسه) أى سعة نفسه و خلاقه«» (قبل أن يؤخذ بكظمه) و خناقه«» (و ليمهّد لنفسه و قدمه) قبل أن لا ينفعه ندمه (و ليتزوّد من دار ظعنه) و رحلته (لدار إقامته) و محلّ فاقته، و إنّما أمر بذلك لأنّ سفر الآخرة مهول و السّبيل طويل و الخطر جليل فمن لم يمهّد لنفسه زادا يتقوّى به و لا لقدمه محلا يضعها عليه مع حزونة الطّريق و خشونته صعب له الوصول إلى المحلّ بل تاه في المهامه«» و ضلّ.

(فاللّه اللَّه عباد اللَّه فيما استحفظكم من كتابه) و طلب منكم تدبّر ما فيه من تكليفه و خطابه (و استودعكم من حقوقه) المؤدّية إلى ثوابه و عقابه (فانّ اللَّه سبحانه لم يخلقكم عبثا) لعبا (و لم يترككم سدى) هملا كالابل الرّتاع و الجمل الرّعاع، و انّما خلقكم على وجه الحكمة و الصّواب و جعلكم عاقلا قابلا للتّكليف و الخطاب لتستفيدوا محاسن الآداب، و تنافسوا في المكارم، و تسارعوا في المغانم و تحصّلوا المعارف و الطّاعات، و تنتهوا عن المعاصي و السّيئات.

فانه قد نصب لكم أعلام الهدى (و لم يدعكم في جهالة و لا عمى) فمن خبط بعد ذلك و طغى فقد ضلّ و غوى، و من أطاع فاتّقى فلسوف يعطيه ما يرضى و (قد سمّى آثاركم) خيرها و شرّها و رفع أخباركم نفعها و ضرّها (و علم أعمالكم) صغيرها و كبيرها (و كتب آجالكم) طويلها و قصيرها (و أنزل عليكم الكتاب‏ تبيانا) و برهانا (و عمّر فيكم نبيّه) صلّى اللَّه عليه و آله آونة و (أزمانا) لانتظام معاشكم و اصلاح معادكم و اقامة للحجّة عليكم لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى‏ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ».

(حتّى أكمل له صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و لكم فيما أنزل من كتابه دينه الّذي رضى لنفسه) و أتمّ عليكم نعمته الّتي اختارها له و لكم من اسلامه و شرعه كما قال عزّ من قائل: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ.

(و أنهى إليكم) و أعلمكم (على لسانه) سلام اللَّه عليه و آله (محابّه من الأعمال) الحسنة (و مكارهه) من الأفعال القبيحة (و نواهيه) الموجبة للشّقاوة (و أوامره) المحصّلة للسعادة (فألقى إليكم المعذرة) أى العذر في عقوبتكم يوم القيامة حتّى لا يكون لكم الحجّة عليه بل يكون له الحجّة عليكم (و اتّخذ عليكم الحجّة) بما أنزله في كتابه لئلا تكونوا عن آياته في غفلة (و قدّم اليكم بالوعيد و أنذركم بين يدي عذاب شديد) أى قدّم إليكم الوعيد و خوّفكم أمام العذاب الشّديد ليكون الوعيد قبل حلول العقاب و الانذار قبل نزول العقاب، لأنّ العقاب من دون بيان قبيح و التأديب بعد التّكليف حسن و مليح كما قال تعالى شأنه: وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا.

فأرسل سبحانه رسله مبشّرين و منذرين و بعث رسوله بالكتاب المبين كيلا تقولوا يوم القيامة: إنّا كنّا عن هذا غافلين (فاستدركوا بقيّة أيّامكم و أصبروا لها أنفسكم) أى تداركوا ما أسلفتم من الذّنوب و الخطيئات فيما بقي لكم من الأوقات و احبسوا أنفسكم عليها بتحمّل مشاقّ الطاعات.

و في الحديث الصّبر صبران صبر على ما تكره و صبر عمّا تحبّ، فالصّبر الأوّل مقاومة النّفس للمكاره الواردة عليها و ثباتها و عدم انفعالها، و قد يسمّى سعة الصّدر و هو داخل تحت الشجاعة، و الصّبر الثاني مقاومة النّفس لقوّتها الشهوية و هو فضيلة داخلة تحت العفّة (فانّها قليل في كثير الأيام التي تكون منكم الغفلة و التشاغل عن الموعظة) يعني أنّ الأيام الباقية الّتي يمكن فيها الاستدراك و التدارك قليلة في جنب الأيام الّتي تكون فيها الغفلة و التّشاغل و هي كثيرة بالنسبة إليها.

و لعلّ الاتيان بلفظة تكون دون كانت للاشعار بأنّ غفلتهم ليست مختصّة بما مضى، بل ربما تكون فيما يأتي أيضا، و ذلك لما علم من حالهم أنّهم لا يستغرقون أوقاتهم الآتية بالتدارك و الطاعة فأمر عليه السّلام بالتدارك فيما هو آت إذ ما مضى قد فات فافهم.

(و لا ترخّصوا لأنفسكم فتذهب بكم الرّخص فيها مذاهب الظلمة) أى مسالكها، و الظاهر أنّ المراد بالترخيص للنفوس المسامحة و المساهلة لها، فيكون المقصود بالنّهى المواظبة عليها و مجاهدتها.

روى الكلينيّ باسناده عن السّكوني عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام أنّ النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم بعث سرية فلمّا رجعوا قال عليه السّلام: مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر و بقي عليهم الجهاد الأكبر فقيل: يا رسول اللَّه ما الجهاد الأكبر قال: جهاد النّفس.

و في الوسايل عن الصّدوق باسناده عن شعيب العقرقوفي عن الصّادق عليه السّلام قال: من ملك نفسه إذا رغب و إذا رهب و إذا اشتهى و إذا غضب و إذا رضى حرّم اللَّه جسده على النّار.

و عن الكلينيّ عن عدّة من أصحابنا عن محمّد بن محمّد بن خالد رفعه قال: قال أبو عبد اللَّه عليه السّلام أقصر نفسك عمّا يضرّها من قبل أن تفارقك، واسع في فكاكها كما تسعى في طلب معيشتك فانّ نفسك رهينة بعملك، هذا.

و يحتمل أن يكون المراد به الترخيص في الشبهات المؤدّى إلى الاقتحام في الهلكات فيكون مساقه مساق ما وراه الصّدوق عنه عليه السّلام قال: إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام خطب الناس فقال في كلام ذكره: حلال بيّن و حرام بيّن و شبهات بين ذلك، فمن ترك ما اشتبه عليه من الاثم فهو لما استبان له أترك، و المعاصي حمى اللَّه فمن‏ يرتع حولها يوشك أن يدخلها.

و نظيره ما رواه في الوسائل عن الكراجكي في كتاب كنز الفوايد مسندا عن سلام بن المستنير عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام قال: قال جدّي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم أيّها النّاس حلالي حلال إلى يوم القيامة و حرامي حرام إلى يوم القيامة ألا و قد بيّنهما اللَّه عزّ و جلّ في الكتاب و بيّنتهما لكم في سنّتي و سيرتي، و بينهما شبهات من الشّيطان و بدع بعدي من تركها صلح له أمر دينه و صلحت له مروّته و عرضه، و من تلبّس بها و وقع فيها و اتّبعها كان كمن رعى غنمه قرب الحمى، و من رعى ماشيته قرب الحمى نازعته نفسه إلى أن يرعى‏ها في الحمى، ألا و إنّ لكلّ ملك حمى ألا و إنّ حمى اللَّه عزّ و جلّ محارمه فتوقوا حمى اللَّه و محارمه، الحديث.

(و لا تداهنوا فيهجم بكم الادهان على المعصية) و المراد بالمداهنة إمّا المساهلة للنفس فيكون هذه الجملة تأكيدا للجملة السّابقة، و إمّا ترك المناصحة و الصّدق و إظهار خلاف ما تضمر أعني النفاق و هو الأظهر.

و منه الحديث القدسي لعيسى عليه السّلام قال لمن تمرّد علىّ بالعصيان و عمل بالادهان ليتوقّع عقوبتي.

و مثله في حديث الباقر عليه السّلام قال: أوحى اللَّه عزّ و جلّ إلى شعيب النبيّ عليه السّلام انّى معذّب من قومك مأئة ألف أربعين ألفا من شرارهم، و ستّين ألفا من خيارهم فقال: يا ربّ هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار فأوحى إليه داهنوا أهل المعاصي و لم يغضبوا لغضبي.

(عباد اللَّه إنّ أنصح النّاس لنفسه أطوعهم لربّه) و ذلك لأنّه لما كان مقصود النّاصح بنصحه ايصال المنفعة إلى المنتصح و كان أعظم المنافع و أجلّها هو السّعادة الأبدية و العناية السّرمدية المستفادة من طاعة الحضرة الرّبوبيّة، لا جرم كان أنصح النّاس لنفسه أكثرهم طاعة لربّه.

(و إنّ أغشّ النّاس لنفسه أعصاهم لربّه) و الغشّ خلاف النّصح و هو عبارة عن عدم الخلوص و عن اظهار خلاف ما يضمر، و لما كان غرض الغاشّ من غشّه ايصال الضّرر إلى المستغشّ‏ و كان أعظم المضارّ هو الشّقاوة الأبديّة و العقوبة الدّائمة الناشية من عصيان الحضرة الالهيّة، لا جرم كان أغشّ النّاس لنفسه أكثرهم معصية لربّه.

و في هاتين الجملتين من الأمر بالطاعة و التحذير عن المعصية ما لا يخفى، إذ أحبّ الأشياء إلى الانسان نفس الانسان فهو دائما طالب لمحابّها و منافعها.

هارب عن مضارّها و مكارهها، فيلزم له الاتيان بالطّاعة و الحذر عن المعصية لكون الاولى جالبة للمحبوب و الأخرى كاسبة للمكروه.

(و المغبون من غبن نفسه) أصل الغبن هو الخداع فالغابن خادع و المغبون مخدوع و الغبن في البيع هو بيع الكثير بالقليل، و لمّا كانت الشّهوات الدّنيوية و اللّذايذ العاجلة زهيدة قليلة في جنب الثّمرات الأخرويّة و المنافع الآجلة، و كان المشتغل باللّذات الدّنية و الصّارف عمره في الشّهوات الخسيسة قد فوّت على نفسه المنافع الكثيرة و النّعم الخطيرة، فكأنّه قد باع الكثير بالقليل و فوّت على نفسه الخطير بالحقير، لا جرم كان هو غابنا لنفسه و خادعا لها حيث بخسها ما تستحقّه من ثواب اللَّه و رضوانه، و منه قوله تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ.

قال الطبرسي في تفسيره: هو تفاعل من الغبن و هو أخذ شرّ و ترك خير أو أخذ خير و ترك شرّ فالمؤمن ترك حظه من الدّنيا و أخذ حظه من الآخرة فترك ما هو شرّ له و أخذ ما هو خير له فكان غابنا، و الكافر ترك حظّه من الآخرة و أخذ حظّه من الدّنيا فترك الخير و أخذ الشرّ فيكون مغبونا، فيظهر في ذلك اليوم الغابن و المغبون هذا.

و لما كان السعادات الاخرويّة أنفس متاع لا متاع فوقه، و الغبن فيها أعظم غبن لا غبن مثلّه، لذلك حصر عليه السّلام المغبون فيمن غبن في ذلك و قال: المغبون من غبن نفسه على طريق المبالغة، و مثله قوله عليه السّلام (و المغبوط من سلم له دينه) فان سلامة الدّين لما كانت أعظم نعمة لا نعمة فوقها كان المنعم بذلك أحقّ بأن يغبط و يتمنّي مثل ماله من غير أن تريد زواله، و بهذا القيد يفترق الغبطة من الحسد حسبما ستعرف.

(و السعيد من وعظ بغيره) أى السّعيد في الآخرة من لاحظ حال الغير فاتّعظ به بأن ينظر إلى حال الصّالحين و ما لهم و ما أعدّ اللَّه لهم و بشّرهم به في كتابه الكريم من الجنان و الغلمان و الحور العين و الشراب من الكوثر و التّسنيم فيحذو حذوهم و يسلك مسالكهم و يلاحظ مصير المجرمين و مقرّهم و ما هيّأ اللَّه لهم و أنذهم به من الجحيم و ظلّ من يحموم و شراب من الزّقوم و الحميم فيعدل عن جادّتهم و يتنحّى عن قدّتهم.

(و الشّقىّ من انخدع لهواه) و غروره كما قال سبحانه: وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» و قال أيضا: وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ أي الخداع الذي لا حقيقة له و هو المتاع الرّدي الذي يدلّس به على طالبه حتّى يشتريه ثمّ يتبيّن له ردائته و الشّيطان هو المدلّس (و اعلموا أنّ يسير الرّيا سرك) فكيف بكثيره كما مضى تفصيلا في شرح الخطبة الثالثة و العشرين بما لا مزيد عليه (و مجالسة أهل الهوى منساة للايمان و محضرة للشّيطان) أراد بمجالسة أهل الهوى مجالسة أهل المعاصي و قد مضى بعض الأخبار النّاهية عنها في شرح كلامه الثالث عشر.

و أقول هنا: إنّ كون مجالسة أهل المعصية و مخالطتهم موجبة لنسيان الايمان و لحضور الشّيطان واضح، لأنّ الفساق باقبالهم إلى اللّعب و اللّهو و الفسق و الفجور و السيّئآت بما فيهم من دواعي الهوى و الشّهوات يسوّد ألواح خاطرهم و يرين وجه قلوبهم فيغفلون بذلك عن ذكر الحقّ و تذكّر الآخرة و يزيد الغفلة شيئا فشيئا و يشتدّ فيخرج نور الايمان من قلوبهم و يضمحلّ و يمحو و يحضر الشيطان في مجالسهم لاغوائهم و إضلالهم، فمن جالس معهم و خالطهم يكون المجالسة و المخالطة لا محالة مؤثّرة فيه، إذ المرء على دين خليله و قرينه فيقتدى بهم‏ و يحذو حذوهم و يعمل عملهم فيكون ناسي الايمان و قرين الشّيطان مثلهم.

و يدلّ على ذلك الأخبار المستفيضة بل المتواترة ففي الوسائل عن الكلينيّ مسندا عن غياث بن إبراهيم عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام في حديث قال: ما اجتمع ثلاثة من الجاحدين إلّا حضرهم عشرة أضعافهم من الشّياطين، فان تكلّموا تكلّم الشّياطين بنحو كلامهم، و إذا ضحكوا ضحكوا معهم، فاذا نالوا من أولياء اللَّه نالوا معهم، فمن ابتلى من المؤمنين بهم فاذا خاضوا في ذلك فليقم و لا يكن شرك شيطان و لا جليسه، فانّ غضب اللَّه لا يقوم له شي‏ء و لعنته لا يردّها شي‏ء ثمّ قال: فان لم يستطع فلينكر بقلبه و ليقم و لو حلب شاة أو فواق ناقة.

و عن عمرو بن يزيد عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام أنّه قال: لا تصحبوا أهل البدع و لا تجالسوهم فتصيروا عند النّاس كواحد منهم قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: المرء على دين خليله و قرينه.

و عن أبي حمزة عن عليّ بن الحسين عليه السّلام في حديث طويل إيّاكم و صحبة العاصين و معونة الظّالمين و مجاورة الفاسقين، احذروا فتنتهم و تباعدوا من ساحتهم.

و فيه من علل الشرائع مسندا عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عن أبيه عليه السّلام قال: قال عليّ بن الحسين عليه السّلام ليس لك أن تقعد مع من شئت لأنّ اللَّه تبارك و تعالى يقول: وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى‏ مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ الحديث.

و من كتاب صفات الشيعة معنعنا عن محمّد بن قيس عن أبي جعفر عن آبائه عن عليّ سلام اللَّه عليه و عليهم قال: مجالسة الأشرار تورث سوء الظّن بالأخيار، و مجالسة الأخيار تلحق الأشرار بالأخيار، و مجالسة الفجّار للأبرار تلحق الفجّار بالأبرار فمن اشتبه عليكم أمره و لم تعرفوا دينه فانظروا إلى خلطائه، فان كانوا أهل دين اللَّه فهو على دين اللَّه، و إن لم يكن على دين اللَّه فلا حظّ لهم في دين اللَّه، إنّ رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم كان يقول: من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر فلا يواخينّ كافرا و لا يخالطنّ فاجرا، و من آخى كافرا أو خالط فاجرا كان فاجرا كافرا و لنعم ما قيل في هذا المعنى:

 عن المرء لا تسأل و سل عن قرينه
فكلّ قرين بالمقارن يقتدي‏

و من مجالس الشّيخ حسن ابن شيخنا الطّوسي قدّس اللَّه رمسهما مسندا عن أبي الخير قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله: أربعة مفسدة للقلوب: الخلوة بالنّساء، و الاستمتاع منهنّ، و الأخذ برأيهنّ، و مجالسة الموتى فقيل: يا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و ما مجالسة الموتى قال: كلّ ضالّ عن الايمان و جائر «حائر ظ» عن الأحكام، و الأخبار في هذا المعنى كثيرة و لا حاجة إلى الزّيادة.

ثمّ أمر بمجانبة الكذب بقوله: (جانبوا الكذب) و قد مرّ الكلام في قبحه عقلا و شرعا في شرح كلامه الثالث و الثمانين و يأتي تفصيل أقسامه في التذنيب الآتي، و علّل عليه السّلام قبحه هنا بقوله: (فانّه مجانب للايمان) و أراد عليه السّلام بذلك أنّ كلّا من الكذب و الايمان مجانب من الآخر و أن بينهما تباعدا و تجانبا.

و ذلك على القول بكون الايمان عبارة عن مجموع المعرفة و ما يتبعها من الأعمال الصّالحة واضح، لأنّ الصّدق على ذلك جزء للايمان و الكذب مضادّ له فيكون مضادّا للايمان، و أمّا على كونه عبارة عن نفس المعرفة فلأنّ الايمان من أعظم الفضايل المنجية و الكذب من أخس الرّذايل المهلكة و التباعد بين الفضيلة و الرّذيلة و الانجاء و الاهلاك أيضا ظاهر.

كما أشار إلى ذلك و أوضحه بقوله: (الصّادق على شفا منجاة و كرامة) أى على طرف من النجاة و الكرامة و مشارف عليهما أو على طرف من محلّ النّجاة و قريب منها يكاد أن يقع فيها و في الكرامة الدنيوية و الاخروية (و الكاذب على شرف مهواة و مهانة) أى على مكان عال من الهوى و الهوان أو مشارف لمحلّ السقوط و الذّلّة يكاد أن يسقط منها إلى الجحيم و يقع في العذاب الأليم قال الشّاعر:

لا يكدب المرء إلّا من مهانته
أو عادة السّوء أو من قلّة الأدب‏

لعفن جيفة كلب خير رايحة
من كذبة المرء في جدّ و في لعب‏

ثمّ نهى عن الحسد بقوله: (و لا تحاسدوا) و هو من أعظم الموبقات على ما ستعرف تفصيلا في التذنيب الآتي إنشاء اللَّه، و علّله بقوله (فانّ الحسد يأكل الايمان كما تأكل النّار الحطب) و هذا التعليل ممّا تظافرت الأخبار به عن النّبي صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم و أولاده المعصومين سلام اللَّه عليهم.

و قد اتّفق الأخبار ككلام علمائنا الأبرار على أنّ الحسد مضرّ بالنّفس و الجسد.

أمّا بالنّفس فقد قال الصّادق عليه السّلام: الحاسد مضرّ بنفسه قبل أن يضرّ بالمحسود كابليس لعنه اللَّه أورث بحسده له اللّعنة و لآدم عليه السّلام الاجتباء و الهدى و الرّفع إلى محلّ حقايق العهد و الاصطفاء، فكن محسودا و لا تكن حاسدا، فانّ ميزان الحاسد أبدا خفيف يثقل ميزان المحسود، و الرّزق مقسوم فما ذا ينفع الحسد الحاسد و ما ذا يضرّ المحسود الحسد و قال العلماء: إنّ الحسد يذهل نفس الحاسد و يغرق فكره بالاهتمام بأمر المحسود حتّى لا يبقى له فراغ بتحصيل المنافع العايدة إليها بل و يمحو ما حصلت لها من الملكات الخيريّة و الحسنات المنقوشة في جوهرها بطول تعوّد الحسد و تمادى اشتغال الفكر فيه و كثرة الحزن و الهمّ، لأنّ نعم اللَّه سبحانه على عباده غير معدودة، و فيوضاته غير متناهية، فاذا كان حسد الحاسد على الخلق بتلك الآلاء و النعم دام عليه الهمّ و الغمّ فيضيق وقته بل ينقطع عن اتيان الحسنات و يلقي نفسه في المهلكات و هو معنى قولهم عليهم السّلام: إنّه يأكل الايمان كما تأكل النّار الحطب، أى يستأصله و يفنيه و يبطله مثل استيصال النّار للحطب و إفنائها له.

و أمّا بالجسد فقد قال أمير المؤمنين عليه السّلام فيما يرويه السيّد «ره» في الكتاب:

صحّة الجسد من قلّة الحسد.

و سرّه أنّ الحسود إذا دام عليه الحزن و الغمّ بتواتر الآلاء و النعم على المنعم أورث ذلك له طول السهر و تمادى الفكر و ضيق العيش و ضنك المعيشة و قلّة الراحة و مضيق الباحة، فينقطع عنه الابتهاج و يؤدّي ذلك إلى فساد المزاج.

ثمّ نهى عن العداوة و البغضاء بقوله (و لا تباغضوا فانّها الحالقة) أى البغضاء خصلة مشؤمة كما أنّ المحبة و الالفة ميمونة، أو أنّها موجبة لقطيعة الرّحم، و على تفسير الخالقة بما تحلق الشّعر و تستأصله من موسى و نحوه كما في شرحي المعتزلي و البحراني و إن لم أجده في كتب اللّغة فالكلام مبنيّ على الاستعارة، يعني أنها مستأصلة للخلق أو للدّين أو كليهما كما أنّ موسى مستأصلة للشّعر.

نعم يدلّ على تفسيرهما ما رواه الغزالي في كتاب إحياء العلوم في باب ذمّ الحسد عن رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم قال: و قال: دبّ إليكم داء الامم قبلكم الحسد و البغضاء و البغضة هي الحالقة لا أقول حالقة الشّعر و لكن حالقة الدّين و الذي نفس محمّد بيده لا تدخلون الجنّة حتّى تؤمنوا، و لن تؤمنوا حتّى تحابّوا ألا أنبئكم بما يثبت ذلك لكم أفشوا السّلام بينكم.

و مثله في الكافي باسناده عن مسمع بن عبد الملك عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم في حديث: ألا إنّ في التباغض الحالقة لا أعنى حالقه الشّعر و لكن حالقة الدّين.

و كيف كان فيدلّ على كراهة هذه الصّفة و شؤمها و إيجابها للقطيعة و لاستيصال النفوس و الدّين و الايمان أنّ نوع الانسان مدنيّ بالطّبع يحتاج في انتظام أمر معاشه و معاده إلى الاجتماع و الايتلاف و التعاون و التظافر، و كان أقوى أسباب الاجتماع و التعاون هو المودّة و المحبّة و المؤاخاة، و لذلك آخا رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله بين الأصحاب و حثّ على الجمعة و الجماعة لتصفو الالفة و تخلص المحبّة، و نهى عن التباغض لما يستلزمه من التقاطع و عدم التعاون و تسلّط أيادي الحاسدين عليهم و تحكم آراء المعاندين و أهوائهم فيهم، بل ربما ينجرّ إلى حسد بعضهم بعضا و بغى بعضهم على‏ بعض، فلا تسلم لهم نعمة و لا تصفو لهم لذّة، و لا يكون لهم فراغ العبادة، بل يكون بذلك بوارهم و هلاكهم في الدّنيا و الآخرة.

و لذلك ورد في غير واحد من الأخبار النّهي عنها و الحثّ على التّحابّ و الالفة.

مثل ما رواه الغزالي قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: سيصيب امّتي داء الامم، قالوا: و ما داء الامم قال عليه السّلام: الأشر و البطر و التكاثر و التّنافس في الدّنيا و التباعد و التحاسد حتّى يكون البغى ثمّ الهرج.

و في الكافي باسناده عن مالك بن أعين الجهني عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إنّ المؤمنين إذا التقيا فتصافحا أدخل اللَّه عزّ و جلّ يده بين أيديهما و أقبل بوجهه على أشدّهما حبّا لصاحبه، فاذا أقبل اللَّه بوجهه عليهما تحاتت عنهما الذّنوب كما يتحات الورق من الشّجر.

و عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله: من زار أخاه في بيته قال اللَّه عزّ و جلّ: أنت ضيفي و زائري علىّ قراك و قد أوجبت لك الجنّة بحبّك إيّاه.

و عن عدّة من أصحابنا عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: المؤمن مألوف لا خير فيمن لا يألف و لا يؤلف.

و عن حبيب الخثعمي عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم فاضلكم أحسنكم أخلاقا الموطئون اكنافا الّذين يألفون و يؤلفون و توطأ رحالهم.

و عن أبي بصير عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: سمعته يقول: المتحابّون في اللَّه يوم القيامة على منابر من نور قد أضاء نور وجوههم و نور أجسادهم و نور منابرهم كلّ شي‏ء حتى يعرفوا به فيقال: هولاء المتحابّون في اللَّه.

و عن سماعة بن مهران عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: إنّ المسلمين يلتقيان فأفضلهما أشدّهما حبّا لصاحبه.

و عن أبي عبد الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: المتحابّون في اللَّه يوم القيامة على أرض زبرجدة خضراء في ظلّ عرشه عن يمينه و كلتا يديه‏ يمين، وجوههم أشدّ بياضا و أضوء من الشّمس الطالعة، يغبطهم بمنزلتهم كلّ ملك مقرّب و كلّ نبيّ مرسل يقول النّاس: من هؤلاء فيقال: هؤلاء المتحابّون في اللَّه.

و عن أبي حمزة الثمالي عن عليّ بن الحسين عليه السّلام قال: إذا جمع اللَّه الأوّلين و الآخرين فنادى مناد يسمع النّاس فيقول: أين المتحابّون في اللَّه قال: فيقوم عنق من النّاس فيقال لهم: اذهبوا إلى الجنّة بغير حساب، قال: فتلقّيهم الملائكة فيقولون: إلى أين فيقولون: إلى الجنّة بغير حساب، قال: فيقولون: فأىّ ضرب أنتم من النّاس فيقولون: نحن المتحابّون في اللَّه، قال: فيقولون: و أىّ شي‏ء كانت أعمالكم قالوا: كنا نحبّ في اللَّه و نبغض في اللَّه قال عليه السّلام: فيقولون: نعم أجر العاملين.

و عن جابر الجعفي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إذا أردت أن تعلم أنّ فيك خيرا فانظر إلى قلبك، فان كان يحبّ أهل طاعة اللَّه و يبغض أهل معصيته ففيك خير و اللَّه يحبّك، و إذا كان يبغض أهل طاعة اللَّه و يحبّ أهل معصيته فليس فيك خير و اللَّه يبغضك و المرء مع من أحبّ، هذا.

و بهذه الأخبار يعلم أنّ المقصود بالحبّ و البعض في الأخبار المطلقة الآمرة بالأوّل و الناهية عن الثّاني هو حبّ المؤمن و بغضه، فيجب تقييد اطلاقها بذلك و إلّا فقد علمت أنّ بغض المنافق و الكافر و العاصي مطلوب كحبّ المؤمن و بغضه منهىّ عنه كحبّهم، فالمدار في الحبّ و البغض على ما كان للّه و في اللَّه.

ثمّ إنّه نبّه على مفاسد طول الأمل و نهى عنه بقوله (و اعلموا أنّ) طول (الأمل) في الدّنيا (يسهى العقل) و يغفله عمّا يجذبه إلى اللَّه (و ينسى الذكر) أى يوجب نسيان ذكر الموت و الآخرة و ما هو نافع فيها.

و ذلك لأنّ طويل الأمل لافتتانه بالدّنيا و لذّاتها و شهواتها و حبّه لها و تمنّيه طول البقاء فيها يكون أوقاته مستغرقة في ذكرها و حديثها، و همّته مصروفة إلى تهيّة مقتضيات هواه، و نظره مقصورا في تحصيل مآربه و مناه، فيوجب ذلك غفلة العقل و نسيان الذكر إذ من أحبّ شيئا كره الفكر فيما يضادّه و يعانده و مضادّة العقل للهوى و ذكر الآخرة لذكر الدّنيا واضح لاغبار عليها كما قد مضى مفصّلا في شرح الخطبة الثّانية و الأربعين.

(فاكذبوا الأمل) بكثرة ذكر الموت و دوام اخطاره بالبال في الأيام و اللّيال، و ملاحظة أهوال المعاد و شدايد يوم التّناد، فانّ ذلك يوجب ردّ الأمل و تكذيبه.

و إنّما سمّى ردّ الأمل تكذيبا له، لأنّ النفس حال تمنّيها للمأمول تحكم حكما و هميّا بنيله و إدراكه، فاذا رجعت إلى صرف العقل و جوّزت بحكمه إمكان نزول الأجل قبل بلوغ الأمل كان تجويزها ذلك مكذّبا لما جزم به الوهم من الأحكام ورادّا له عن ذلك.

و علّل تكذيبه بقوله (فانّه غرور و صاحبه مغرور) يعني أنّ الأمل موجب للغرور و الغفلة و لا أصل له و لا حقيقة إذ ربّ شي‏ء تأمله النّفس تنقطع دونه فهو في الحقيقة و نفس الأمر: كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَ وَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ.

تذنيبان

الاول فى الكذب

و قد مرّ شطر من الكلام في قبحه عقلا و شرعا مع طائفة من الأخبار الواردة فيه في شرح الكلام الثالث و الثمانين، و أردنا هنا اشباع الكلام فيه و في تفصيل أقسامه و أحكامه.

فأقول: إنّ الكذب من قبايح الذّنوب و فواحش العيوب و يترتّب عليه من المفاسد الدّينية و الدّنيويّة ما لا يحصى، مثل كونه خرّابا للايمان، و جلّا بالسخط الرّحمن، و موجبا لاهراق الدّماء و انتهاب الأموال، و باعثا على تحليل الفرج‏ الحرام و تحريم فرج الحلال.

إذ من دنائة الكذب أنّه يردّ شهادة صاحبه و إن كان صادقا، و من شرافة الصّدق أنّه يقبل شهادة المتّصف به و إن كان كاذبا، و منشأ الكذب دنائة الهمّة و قلّة المروّة و غلبة الحرص و الخسّة، و منشأ الصّدق ارتفاع الهمّة و غلبة المروّة و كمال الفتوّة و الكذب شعار خلق، و مورد رنق، و أدب سيّي‏ء، و خلق رديّ، و عادة خسيسة، و صفة خبيثة، و قلّ ما يجلب به الالفة، و قلّ من ألفه إلّا أتلفه، و الصّدق لباس بهيّ و جوهر درّي و صفة و صيفة، و حالة شريفة، جالبة للالفة، كاسبة للمودّة، خدمته القلوب بالمحبّة، لحظته العيون بالمهابة.

و كفى لقبحه شرعا لو لم يرد به خبر إلّا قول أمير المؤمنين في رواية الكافي عن أصبغ بن نباتة عنه عليه السّلام لا يجد عبد طعم الايمان حتى يترك الكذب هزله و جدله «جدّه ظ» و كيف بذلك و الأخبار الواردة فيه فوق حدّ الاستفاضة كما مضى سابقا.

و يزيد على ساير المعاصي بأنّ أصحاب الكباير ربّما يلحقهم الحياء و الخجل من سوء عملهم، و يرجعون عن عملهم القبيح و يتوبون عنه، و أمّا الكاذب فلا يستحيى من كذبه لكونه كثير الاستعمال و مأنوسا مرفوع القبح عن نظره، و من تعوّد نفسه بذلك قلّ أن يرتدع عنه.

و من هنا قيل رأيت شريب خمر نزع، و لصّا أقلع، و صاحب فواحش ارتدع و ما رأيت كاذبا رجع.

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ الكذب على قسمين: شرعىّ و غير شرعيّ، و أعنى بالشّرعي ما يجوز في الشّرع جوازا بالمعنى الأعم، و بالغير الشرعي خلافه و أعني به الحرام و هو على قسمين جليّ و خفيّ

أما الجلى فهو على قسمين.

أحدهما الكذب في حقّ النّاس

أو في حقّ نفسه أو غيرهما، بأن يقول: وعدني فلان كذا مع أنّه لم يعده بشي‏ء أو يقول أعطيت فلانا كذا مع أنّه لم يعطه شيئا، أو أنّي عالم بكذا مع أنّه جاهل به، أو نحو ذلك.

و محصّله أن يخبر عن نفسه أو عن الغير كائنا ما كان بخبر مخالف للواقع، و أكثر الأخبار الواردة فيه محمول على هذا القسم و يزيد شناعته بأن يكذب ثمّ يروّج كذبه بالحلف باللّه، و هو الّذي بارز اللَّه بالمحاربة و يمينه هذه تذر الدّيار بلاقع من أهلها و تثقل الرّحم و توجب انقطاع النّسل و تدخل النّار و تبعث غضب الجبّار كما ورد في غير واحد من الأخبار، و قد عقد في الوسائل بابا عليها.

و ثانيهما الكذب على اللَّه و رسوله و الأئمّة

قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ.

و من هذا القسم الأخبار الموضوعة و الأحاديث المجعولة في زمن النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و بعده في زمن بني اميّة و بني العبّاس لعنهم اللَّه.

قال أمير المؤمنين عليه السّلام في رواية الكافي الطّويلة: و قد كذب على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله في عهده حتّى قام خطيبا فقال: أيّها النّاس قد كثرت علىّ الكذّابة فمن كذب علىّ متعمّدا فليتبوّء مقعده من نار، هذا.

و أوّل من فتح باب هذا الكذب بعد النبيّ هم المتخلّفون الثلاثة حيث إنّهم قالوا إنّ النبيّ مات و لم يوص في الخلافة بشي‏ء فاغتصبوا بذلك الخلافة و رووا حديثا مجعولا من النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم فنهبوا حقّ فاطمة سلام اللَّه عليها و غصبوا فدك و لحقهم التابعون و حذوا حذوهم.

و من عجيب ما روى أنّ علم الهدى (قده) وقع بينه و بين علماء العامّة مناظرة فانجرّ الكلام إلى الأخبار التي وضعوها في فضايل مشايخهم قال (ره): إنّ هذه الأخبار كلّها موضوعة فقالوا من يقدر أن يكذب على رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله فقال لهم: قد ورد في الرواية عنه أنه صلّى اللَّه عليه و آله قال في حياته: ستكثر علىّ الكذّابة بعد موتى‏ فمن كذب علىّ متعمّدا فليتبوء مقعده من النّار، فهذا الحديث إمّا صدق أو كذب و على التّقديرين يثبت المطلوب.

و كيف كان فأكثر من ابتلاء بهذا القسم من الكذب العلماء السّوء، و يلحق به ما اعتاده الناس في محاوراتهم من أنّهم يكذبون ثمّ يقولون: اللَّه و رسوله أعلم.

روى في الوسائل من الكافي باسناده عن وهب بن عبد ربّه عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: من قال: اللَّه يعلم فيما لا يعلم اهتزّ لذلك عرشه إعظاما له.

و عن أبان بن تغلب قال: قال أبو عبد اللَّه عليه السّلام: إذا قال العبد: علم اللَّه و كان كاذبا قال اللَّه: و ما وجدت أحدا تكذب عليه غيري.

و هذا القسم من الكذب أعنى الكذب على اللَّه و رسوله و الأئمّة صلوات اللَّه و سلامه عليهم ممّا ورد في الأخبار أنّه ينقض الوضوء و الصّوم.

أمّا نقضه الصّوم فهو المشهور بين علمائنا الأخيار.

و أمّا نقضه الوضوء فليس بذلك، و حملها الشّيخ قدّس اللَّه روحه على نقضه الفضل و الكمال و الوجه الذي يستحقّ به الثواب، و بعض من قال بإبطاله الصّوم ربّما عمّمه بكونه في الدّنيا و الدّين سواء كان في الأحكام أو في الفتاوى، و سواء أسنده إلى اللَّه و إليهم عليه السّلام أم لا، و سواء كان الإخبار بالقول أم بالكتابة أم الاشارة و التفصيل في كتب الفقه.

و أما الكذب الخفى

فهو أن تخبر عن نفسك أو تخاطب ربّك بما لا حقيقة له و لا أصل أو تقول شيئا و أنت تعمل بخلافه مثل أن تقول: أستغفر اللَّه و أتوب إليه فانّك تظهر التّوبة و أنت غير راجع عن الخطيئة و لا قالع عن المعصية.

و لذلك روى عن ربيع بن خثيم أنّه قال: لا تقل أستغفر اللَّه و أتوب إليه، فانه كذب بل قل أستغفر اللَّه و أسأله التّوبة.

أو تقوم بين يدي ربّك في كلّ يوم و ليلة و تقرء فاتحة الكتاب في صلواتك و أقلّه عشر مرّات و تقول لربّك الحمد و الثّناء لك أيّها المربّي لنا الرّحمن الرّحيم‏ بنا المالك لأمورنا في يوم وفودنا عليك فنحن نخصّك بالعبادة لا نعبد سواك، فإنّا لو رجعنا إلى أنفسنا و أنصفنا نعرف أنّنا كاذب في ذلك المقال و خاطئ في تلك الدّعوى، و كيف نكون صادقا مع ما نحن عليه من إطاعة الشّيطان و عبادته و انقياد أمره و نهيه و انفاذ حكمه و العمل بما يريده، و من إطاعة النّفس الأمّارة و القيام بما تهويه و تشتهيه مضافا إلى الرّيا و الشّرك الّذي نخفيه.

و نعم ما قال ابن عبّاس في تفسير قوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ.

إنّه تعالى نهاك عن الاثنين و أنت اتّخذت الألوف فما أقلّ حياؤك و قال تعالى: أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا.

فقد جعل سبحانه إرادة النّفس و امنيّاتها الباطلة إلها، و إذا كان هذه حالنا فكيف يصحّ منّا دعوى تخصيصه تعالى بالعبادة، و كيف نجترى‏ء على مواجهته بذلك الخطاب الكاذب مع علمه بما في الصّدور و الضّماير و إحاطته بالبواطن و السّراير، فكأنه ظننّا أنه سبحانه أعجز من جميع الالهة حتّى خصّصناه بالكذب.

و مثله قولنا: إيّاك نستعين، على طريق الحصر فانّا إذا رجعنا إلى وجداننا و لاحظنا حالنا عرفنا أنّا نستعين في أمورنا من كلّ من سواه سبحانه نعم إذا آيسنا من الخلق رجعنا إلى الخالق فكيف نخصّصه بالاستعانة و نطلب منه الاعانة و لو تأمّلنا في هذا الكذب الخفىّ وجدناه أضرّ بأحوالنا من الكذب الجليّ لمانعيّته من قبول الطّاعات و من التأهّل للقيام على بساط المناجاة، و إيراثه الحسرة و الندامة و ملامة النّفس اللوّامة يوم القيامة.

فوا حسرتاه على ما فرّطنا في جنب اللَّه، و و أطول كربتاه على ما استخففنا في عبادة اللَّه.

أيّها النّفس الخاطئ و القلب الجاهل القاسي بأنّك لو واجهت أحدا من النّاس و قلت له: إنّى لا أتردّد إلّا إلى بيتك، و لا ثقة لي إلّا بك، و لا عون لي سواك، و لا رجاء لي غيرك، و لا صديق لي دونك، مع علمك بأنه يعلم أنّك تتردّد إلى كلّ أحد و تثق بكلّ أحد و تستعين من غيره أكثر من التردّد و الوثوق و الاستعانة منه، و لك أصدقاء كثيرون سواه، لاستحييت من عندك و كنت خجلا من هذا الكذب الذي واجهته به و تنفعل من ملاقاته و المراجعة إليه إلّا بعد زمان طويل و مدّة متطاولة و أنت هنا إذ كان أوّل النّهار قلت إيّاك نستعين، ثمّ إذا جاء الظّهر قلت مثل ذلك، و هكذا مع أنّك تعمل بين هذين القولين و فيهما و بعدهما بخلاف ما قلت و تستعين الخلق و تأملهم و ترجو منهم.

أفلا تعلم أنّ من توجّه بحاجته إلى الخلق أو جعله سبب نجحها فقد تعرّض للحرمان و استحقّ من عنده سبحانه الخسران و فوات الاحسان.

فان شئت أن تعرف ذلك بعين اليقين فانظر إلى موسى بن عمران فانّه توسّل بالفقر إلى الحقّ و قال: رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ.

فقيّض اللَّه له شعيبا عليه السّلام حتّى دعاه و آواه و زوّجه بنته و أعطاه العصا و اليد البيضاء و بلغ أمره إلى ما بلغ.

و انظر إلى يوسف بن يعقوب كيف خاب حيث استعان من المخلوق.

 وَ قالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ.

روى في الكافي عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام أنه قرء في بعض الكتب انّ اللَّه تعالى يقول: و عزّتي و جلالي و مجدي و ارتفاعي على عرشي لاقطعنّ أمل كلّ مؤمّل من الناس أمل غيري باليأس، و لأكسونّه ثوب المذلّة عند النّاس، و لا نحينّه من‏ قربى، و لابعدّنه من و صلي أيؤمّل غيري في الشّدايد و الشّدايد بيدي، و يرجو غيري و يقرع بالكفر باب غيري و بيدي مفاتيح الأبواب و هي مغلقة و بابي مفتوح لمن دعاني، فمن ذا الّذي أمّلني لنوائبه فقطعته دونها، و من ذا الّذي رجاني لعظيمة فقطعت رجائه منّي، جعلت آمال عبادي عندي محفوظة فلم يرضوا بحفظي، و ملأت سماواتي ممّن لا يملّ من تسبيحي، و أمرتهم أن لا يغلقوا الأبواب بيني و بين عبادي، فلم يثقوا بقولي ألم يعلم من طرقته نائبة من نوائبي أنّه لا يملك كشفها أحد غيري إلّا من بعد إذني، فمالي أراه لاهيا عنّي أعطيته بجودي ما لا يسألني ثمّ انتزعته عنه فلم يسألني ردّه و سأل غيري، أ فيراني أبدأ بالعطاء قبل المسألة ثمّ اسأل فلا أجيب سائلي أ بخيل أنا فيبخلني عبدي، أو ليس الجود و الكرم لي أو ليس العفو و الرحمة بيدى أو ليس أنا محلّ الآمال فمن يقطعها دوني أفلا يخشى المؤمّلون أن يؤمّلوا غيري فلو أنّ أهل سماواتي و أهل أرضي أمّلوا جميعا ثمّ اعطيت كلّ واحد منهم مثل ما أمّل الجميع ما انتقص من ملكي مثقال ذرّة، و كيف ينقص ملك أنا قيّمه فيا بؤسا للقانطين من رحمتي، و يا بؤسا لمن عصاني و لم يراقبني هذا.

و بقي الكلام في الكذب الشرعي و أعنى ما هو سايغ في الشرع المطّهر و تحقيقه يحتاج إلى تمهيد مقدّمة و هي: إنا قد حقّقنا في الأصول أنّ الأحكام الشّرعية تابعة للمصالح و المفاسد الواقعيّة و بيّنا هناك أنّ حكم الشّارع المقدّس بوجوب شي‏ء أو حرمته من جهة أنه أدرك فيه حسنا ملزما واقعيا فحكم بوجوبه، أو قبحا ملزما واقعيّا فحكم بحرمته، خلافا للأشاعرة القائلين بأنّ الحسن و القبح إنّما هو تابع للأمر و النّهى و بأنّ الصّلاة مثلا إنّما هي حسنة لتعلّق الأمر بها و الكذب قبيح لتعلّق النّهى عليه، و أنّه لو نهى الشارع عن الأولى و أمر بالثّاني لكان الأولى قبيحة و الثّاني حسنا، و قد حقّقنا بطلان هذا المذهب و فساد هذا القول في الأصول بما لا مزيد عليه.

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ حرمة الكذب إنّما هي من أجل ما فيه من المفسدة الواقعيّة، كالضّرر على المخاطب أو غيره أو نحو ذلك ممّا قدّمنا، و أقلّ‏ درجات تلك المفسدة هو إلقاء المخاطب في بيداء الجهالة و اعتقاده للشي‏ء على خلاف ما هو عليه، فتلك المفسدة فيه صارت مقتضية لحرمته.

فلو فرضنا أنّ هذه المفسدة الواقعيّة كانت متعارضة بجهة حسن و مصلحة في الظاهر متداركة بها تلك المفسدة كالكذب المتضمّن لانجاء نفس محترمة من القتل مثلا ارتفعت الحرمة قطعا، لانتفاء سببها.

و مثله المصلحة الواقعيّة الّتي في الصّدق، فانها اقتضت وجوبها، فلو فرضنا معارضتها لمفسدة ظاهريّة راجحة عليها كالصدق المتضمّن لقتل نبيّ مثلا تبدّل حكم الوجوب فيه بالحرمة فيكون الصدق حينئذ حراما.

ثم أقول: إنّ جهات المفسدة الواقعية في الكذب لو كانت مساوية لجهات المصلحة الظاهرية فيه كان الكذب حينئذ مباحا، لتساوي مقتضيات الحسن و القبح، و ذلك كالكذب في الوعد للأهل و الأولاد على ما سيأتي في الأخبار، و لو كانت جهة المفسدة راجحة فهو حينئذ باق على حرمته.

و لو كانت جهة المصلحة راجحة فامّا أن تكون ملزمة له فيكون حينئذ واجبا كالكذب و الخديعة في الحرب توصّلا إلى قتل الكافر الواجب و إمّا أن لا تكون ملزمة فيكون حينئذ مستحبّا كالكذب لاصلاح ذات البين.

و إذا ظهر لك ذلك فاعلم أنّه قد رخّص لنا أهل البيت الأطهار سلام اللَّه و صلواته عليهم ما تعاقب اللّيل و النّهار في بعض أقسام الكذب في أخبارهم المأثورة و لا بأس بالاشارة إليها.

فأقول: روى ثقة الاسلام الكلينيّ في الكافي عن محمّد بن يحيى عن أحمد بن محمّد ابن عيسى عن أبي يحيى الواسطي عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: الكلام ثلاثة: صدق و كذب و إصلاح بين الناس، قال: قيل له: جعلت فداك ما الاصلاح بين النّاس قال: تسمع من الرّجل كلاما يبلغه فيخبث نفسه فتلقاه فتقول قد سمعت منّ فلان قال فيك من الخير كذا و كذا خلاف ما سمعت منه.

و عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن صفوان عن أبي مخلد السّراج عن عيسى بن‏ حسان قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: كلّ كذب مسئول عنه صاحبه يوما إلّا كذبا في ثلاثة: رجل كايد في حربه فهو موضوع عنه، و رجل أصلح بين اثنين يلقي هذا بغير ما يلقي به هذا يريد بذلك الاصلاح بينهما، و رجل وعد أهله شيئا و هو لا يريد أن يتمّ لهم.

بل المستفاد من الأخبار الأخر جواز الحلف باليمين الكاذبة لدفع ظلم الظّالم عن نفسه أو ماله أو نفس أخيه المؤمن أو ماله.

مثل ما رواه في الوسائل عن الصدوق باسناده عن ابن بكير عن زرارة قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: نمرّ بالمال على العشّار فيطلبون منّا أن نحلف لهم فيخلّون سبيلنا و لا يرضون منّا إلّا بذلك، قال عليه السّلام فاحلف لهم فهو أحلى «أحلّ خ» من التمر و الزّبد، قال: و قال أبو عبد اللَّه عليه السّلام: التّقية في كلّ ضرورة و صاحبها أعلم بها حين تنزل.

و عنه باسناده عن الحلبيّ أنه سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام: عن الرّجل يحلف لصاحب العشور يحرز بذلك ماله، قال: نعم.

قال: و قال الصّادق عليه السّلام: اليمين على وجهين إلى أن قال: فأمّا الذي يوجر عليها الرّجل إذا حلف كاذبا و لم تلزمه الكافرة فهو أن يحلف الرّجل في خلاص امرء مسلم أو خلاص ماله من متعدّ يتعدّى عليه من لصٌ أو غيره.

و فيه عن الشّيخ باسناده عن السّكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه عن عليّ عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: احلف باللّه كاذبا و نجّ أخاك من القتل.

إلى غيره مما رواه فيه و عقد عليه بابا، و اللّه الهادي و هو العاصم من هفوات الجنان و سقطات اللّسان.

الثاني فى الحسد

و هو من أعضل الدّاء و أكبر المعاصي و أفسدها للقلب و جرح لا يبرء، و الكلام فيه في مقامات:

المقام الاول فى حده

و قد عرّف بأنه انبعاث القوّة الشهوية إلى تمنّي مال الغير و حاله التي هو عليها و زوالها عن ذلك الغير، و هو مستلزم لحركة القوّة الغضبيّة و عرّفه الغزالي في احياء العلوم بأنّه كراهة النّعمة و حبّ زوالها من المنعم عليه، و يقابله الغبطة و هو أن لا تحبّ زوال النعمة و لا تكره وجودها و دوامها و لكن تشتهى لنفسك مثلها، و الثاني أعمّ من الأول لشموله ما لو أحبّ زوال النّعمة عن المنعم عليه و إن كان لا يتمنّاها لنفسه، و هو ناش عن غاية خبث الطّينة و سوء السّريرة و أشدّ مما لو أحبّ زوالها عنه و انتقالها إليه فالحدّ الثّاني أولىالثاني في الآيات و الأخبار الواردة فيه

فأقول قال سبحانه: وَ مِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ.

فقد أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالاستعاذة من شرّ الحاسد بعد أن أمره بالاستعاذة من شرّ السّاحر فأنزله منزلته، و قال في معرض التوبيخ: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى‏ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ و قال: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها».

فانّ مسائتهم من إصابة الحسنة و فرحهم باصابة السّيّئة دليل على حسدهم و قال: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ.

و في الكافي عن داود الرّقي قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: اتّقوا اللّه و لا يحسد بعضكم بعضا إنّ عيسى بن مريم عليه السّلام كان من شرايعه السيح في البلاد فخرج في بعض سيحه و معه رجل من أصحابه قصير و كان كثير اللّزوم لعيسى عليه السّلام فلما انتهى عيسى إلى البحر قال: بسم اللّه، بصحّة يقين منه فمشى على ظهر الماء، فقال الرّجل القصير حين نظر إلى عيسى عليه السّلام جازه: بسم اللّه بصحّة يقين منه‏ فمشى على الماء و لحق بعيسى عليه السّلام فدخل العجب بنفسه فقال: هذا عيسى عليه السّلام روح اللّه يمشي على الماء و أنا أمشى على الماء فما فضله علىّ قال: فرمس فى الماء فاستغاث بعيسى عليه السّلام فتناوله من الماء فأخرجه ثمّ قال عليه السّلام له: ما قلت يا قصير.

قال: قلت: هذا روح اللّه يمشى على الماء و أنا أمشى على الماء فدخلنى من ذلك عجب فقال له عيسى عليه السّلام: لقد وضعت نفسك في غير الموضع الذي وضعك اللّه فيه فمقتك اللّه على ما قلت فتب إلى اللّه عزّ و جلّ ممّا قلت قال عليه السّلام: فتاب الرّجل و عاد إلى مرتبته الّتي وضعه اللّه فيها فاتّقوا اللّه و لا يحسدنّ بعضكم بعضا.

و عن معاوية بن وهب قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام آفة الدّين الحسد و العجب و الفخر.

و عن داود الرقّي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وسلّم: قال اللّه تعالى لموسى بن عمران: لا تحسدنّ النّاس على ما آتيتهم من فضلي و لا تمدّنّ عينيك إلى ذلك و لا تتبعه نفسك فانّ الحاسد ساخط لنعمي صاد لقسمي الّذي قسمت بين عبادي و من كان كذلك فلست منه و ليس منّي.

و عن فضيل بن عياض عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ المؤمن يغبط و لا يحسد و المنافق يحسد و لا يغبط.

و عن محمّد بن مسلم قال: قال أبو جعفر عليه السّلام: إنّ الرّجل ليأتي بأدنى بادرة فيكفر و إنّ الحسد ليأكل الايمان كما تأكل النّار الحطب.

و في الوسايل من المجالس مسندا عن أبي بصير قال: قال أبو عبد اللّه الصّادق عليه السّلام أصول الكفر ثلاثة: الحرص، و الاستكبار، و الحسد.

و في الأنوار النّعمانيّة للسيّد المحدّث الجزايري قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ستّة يدخلون النّار قبل الحساب بستّة: الأمراء بالجور، و العرب بالعصبيّة و الدّهاقين بالكبر، و التجار بالخيانة، و أهل الرّستاق بالجهالة، و العلماء بالحسد قال و في حديث آخر إنّ الحسد عشرة أجزاء منها تسعة بين العلماء و واحد في النّاس و لهم من ذلك الجزء الحظّ الأوفر، و روى ما رواه أولا الغزالي في‏ احياء العلوم عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله مثله إلى غير هذه ممّا وردت فيه.

و قد استفيد منها و من الآيات السّابقة حرمته و كونه من أعظم الموبقات مضافا إلى اجماع علماء الاسلام عليه.

فان قلت: فكيف التّوفيق بين هذه الأدلّة و بين حديث رفع التسعة المعروف بين الفريقين، و المرويّ في الوسايل عن الصّدوق في التّوحيد و الخصال بسند صحيح عن حريز بن عبد اللّه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: رفع عن أمتي تسعة أشياء: الخطاء، و النسيان، و ما اكرهوا عليه، و ما لا يعلمون، و ما لا يطيقون و ما اضطرّو إليه، و الحسد، و الطيرة، و التّفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة، فانّ المراد برفع تلك الأمور إمّا رفع جميع آثارها التي منها المؤاخذة عليها، أو رفع خصوص المؤاخذة، و على التقديرين فيدلّ على رفع المؤاخذة على الحسد و عدم كونه معصية فينا في الأدلّة السابقة.

قلت: قد جمع بينهما شيخنا العلّامة المرتضى الأنصاري (قد) في الرّسائل بحمله على ما لم يظهر الحاسد أثر حسده بلسان أو غيره بجعل عدم النطق باللّسان قيدا له.

قال (ره): و يؤيّده تأخير الحسد عن الكلّ في مرفوعة الهندي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام المرويّة في أواخر أبواب الكفر و الايمان من أصول الكافي قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: وضع عن أمّتي تسعة أشياء: الخطاء، و النسيان، و ما لا يعلمون و ما لا يطيقون، و ما اضطرّوا إليه، و ما استكرهوا عليه، و الطيرة، و الوسوسة في التفكّر في الخلق، و الحسد ما لم يظهر بلسان أويد الحديث.

قال (ره): و لعلّ الاقتصار في النبويّ الأوّل على قوله ما لم ينطق لكونه أدنى مراتب الاظهار.

قال: و روى ثلاثة لا يسلم منها أحد: الطيرة، و الحسد، و الظّن، قيل: فما نصنع قال: إذا تطيّرت فامض، و إذا حسدت فلا تبغ، و إذا ظننت فلا تحقّق، و البغى عبارة عن استعمال الحسد.

قال: و لأجل ذلك عدّ في الدّروس من الكبائر في باب الشّهادات إظهار الحسد لا نفسه، و في الشرائع إنّ الحسد معصية و كذا بغض المؤمن و التظاهر بذلك قادح في العدالة، ثمّ قال: و الانصاف أنّ في كثير من أخبار الحسد إشارة إلى ذلك انتهى كلامه رفع مقامه.

أقول: أمّا استشهاده بكلام صاحب الشّريع ففيه ما لا يخفى لصراحتها في كون نفس الحسد معصية، و كون التظاهر به قادحا في العدالة إنّما هو لأجل كونه طريقا إليه لا من حيث موضوعيّته فيه، و لعلّ ذلك أيضا مراد الشّهيد في الدّروس فانظر ما ذا ترى.

و أمّا ما قاله من أنّ في كثير من أخبار الحسد إشارة إلى ذلك فهو صحيح و من جملة تلك الأخبار، ما رواه في الوسائل من مجالس الشّيخ حسن ابن شيخنا الطوسي (ره) معنعنا عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عن أبيه عن جدّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ذات يوم لأصحابه: ألا إنّه قد دبّ اليكم داء الامم من قبلكم و هو الحسد ليس بحالق الشعر لكنه حالق الدّين و ينجى فيه أن يكفّ الانسان يده و يخزن لسانه و لا يكون ذا غمر على أخيه المؤمن.

قال صاحب الوسائل بعد روايته: و تقدّم ما يدلّ على العفو عن الحسد الّذي لا يظهر أثره.

و فيه من الكافي باسناده عن حمزة بن حمران عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: ثلاثة لم ينج منها نبيّ فمن دونه: التّفكّر في الوسوسة في الخلق، و الطيرة، و الحسد إلّا أنّ المؤمن لا يستعمل حسده هذا.

و قال شيخنا السيّد قدّس اللّه روحه في مجلس الدّرس: الأقرب حمل رفع المؤاخذة على الحسد في حديث رفع التّسعة على ما كان من قبيل الخطرات القلبيّة الزائلة بسرعة و حمل ما دلّ على حرمته و كونه من الكباير على ما عداه ممّا اشتدّ و تأكّد.

الثالث فى اسباب الحسد

و هي كثيرة و حصرها الغزالي في إحياء العلوم في سبعة: العداوة، و التعزّز و التكبّر، و التعجّب، و الخوف من فوت المقاصد المحبوبة، و حبّ الرياسة، و خبث النّفس.

أمّا العداوة و هى أشدّ الأسباب و معناها أن تكره النّعمة على غيرك لكونه عدوّا لك و كونك مبغضا له فانّ البغض إذا رسخ في النّفس يقتضي التشفّي و الانتقام و ربما يعجز المبغض عن أن يتشفى بنفسه فيتمنّى زوال النعمة من المبغوض و يكون زوالها منه موجبا لفرحه كما أنّه يفرح إذا ابتلى ببليّة أو أصابته مصيبة و يكون ذلك تشفّيا لخاطره، و قد وصف اللّه سبحانه الكفار بهذه الصّفة في قوله: وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَ ما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ و قوله: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها.

و هذا القسم من الحسد ربما يفضى إلى القتال و الجدال و استغراق العمر في إزالة النعمة بالحيل و السّعاية و طلب أسباب زوالها على كلّ حال.

و أمّا التعزّز فهو أن يثقل عليه ترفّع غيره عليه فاذا أصاب بعض نظرائه و أمثاله ولاية أو علما أو مالا خاف من تكبّره عليه و هو يشقّ عليه ذلك و لا يسمح نفسه تحمّل ذلك فلا يرضى بكونه منعما عليه بتلك النّعمة حذرا من ذلك، و محصّله الخوف من تفاخر الغير عليه لا حبّ تفاخره على الغير و ربما يرضى بمساواته له.

و أمّا التّكبّر فهو أن يكون في طبعه أن يتكبّر على الغير و يترفّع عليه و يكون الغير منقادا له مطيعا لأمره و نهيه صاغرا عنده، فاذا نال نعمة خاف من عدم إطاعته و انقياده له و عدم إمكان ترفّعه عليه كما كان أو ترقّيه إلى مقام يترفّع هو عليه فيكون مطيعا بعد ما كان مطاعا، و متكبّرا عليه بعد ما كان متكبّرا، و من هذا الباب كان حسد كفّار قريش في حقّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا قالوا كيف يتقدّم علينا غلام يتيم و يكون رسولا علينا و نكون مطيعا له كما حكى اللَّه عنهم بقوله: وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى‏ رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ و أرادوا بذلك نزوله على الوليد بن المغيرة لعنه اللّه أو أبي مسعود عروة بن مسعود الثقفي أو غيرهما لأجل كون هؤلاء من رؤساء القبايل و ذوي الأموال الجسيمة و عظيم المنزلة عندهم لا يثقل عليهم التّواضع و الطاعة لهم كما كان يثقل عليهم طاعته صلّى اللّه عليه و آله.

و أمّا التّعجب فهو أن تكون النّعمة عظيمة و المنصب جليلا فيتعجّب من فوز مثله بمثل تلك النعمة كما حكى اللّه سبحانه عن الامم السّابقة بقوله.

إِذْ قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَ قالُوا أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَ لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ.

فتعجّبوا من أن يفوز برتبة الرسالة و الوحى و الزلفى من اللّه بشر مثلهم فحسدوا و أحبّوا زوال النبوّة عنهم إشفاقا من أن يفضل عليهم من هو مثلهم في البشريّة و لم يكن مقصودهم إظهار كبر و لا طلب رياسة و لابينهم سابقة عداوة أو نحو ذلك من ساير أسباب الحسد.

و أمّا الخوف من فوت المقاصد العظيمة فهو يختصّ بمتزاحمين على مقصود واحد، فانّ كلّ واحد منهما يحسد صاحبه و يريد انفراده بذلك المقصود، و من هذا الباب تحاسد الضرّات في مقاصد الزّوجية و تحاسد الاخوة من أجل تزاحمهم على نيل المنزلة في قلب الأبوين للتوصّل إلى مقاصد الكرامة و الشرافة أو المال و العزّة كما وقع من اخوة يوسف عليه السّلام في حقّه و من قابيل في حقّ هابيل، و منه أيضا تحاسد الواعظين و الرّاثين و نحوهما.

و أمّا حبّ الرّياسة فمنشأه حبّ الاختصاص بنعمة لا يشاركه فيها غيره، و حبّ‏ ثناء النّاس له و فرحه بتفرّده بها، فاذا رأى مشاركا له فيها سائه ذلك، و هو غالب في العلماء السّوء فانّهم يحبّون أن يكونوا مرجعا للنّاس و ملجئا، و يكون تردّدهم إليهم و لا يرضون بمشاركة الغير لهم.

و من هذا الباب كان حسد علماء اليهود لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فانّهم كانوا ينكرون معرفته و لا يؤمنون به خيفة من أن تبطل رياستهم و استتباعهم مهما نسخ علمهم.

و منه أيضا كان حسد الخلفاء الثلاثة لأمير المؤمنين عليه السّلام مضافا إلى العداوة و البغضاء التي كانت فيهم و غير ذلك من الأسباب السابقة، إذ لا امتناع في اجتماع الأسباب المتعدّدة.

و الفرق بين هذا القسم و سابقه اشتراط التّزاحم على المقصود في السّابق دون ذلك، إذ ربّما ترى عالما أو صانعا يختصّ بفنّ مخصوص من العلم أو الصّناعة يمدحه النّاس بأنه فريد دهره و وحيد عصره في ذلك الفنّ أو الصّناعة، فانّه لو سمع في أقصى البلاد بنظير له فيه لساءه ذلك و أحبّ موته أو زوال النّعمة عنه.

و أمّا خبث النّفس فالحسد بذلك خارج عن جميع الأقسام السّابقة، فانّك ترى من النّاس من ليس غرضه في رياسة و لا تعزّز و لا تكبّر إذا وصف عنده حال عبد من عباد اللّه فيما أنعم اللّه به عليه يشقّ عليه ذلك و إذا وصف له اضطراب أمور النّاس و إدبارهم يفرح بذلك، فهو دائما يحبّ الادبار لغيره و يبخل بنعم اللّه على عباده كانّهم يأخذونها من ملكه و خزانته، و ليس لذلك سبب ظاهر إلّا خبث النّفس و شقائها و رذالة الطبع و دنائته و معالجته شديدة إذ الحسد الثابت بساير الأسباب أسبابه عارضة يتصوّر زوالها و يرجى إزالته، و هذا ناش من خبث الطّينة و سوء السريرة فيعسر زواله و إلى ذلك ينظر ما قيل.

         كلّ العداوة قد ترجى إماطتها«»            إلّا عداوة من عاداك من حسد

و هذه هي أسباب الحسد و قد يجتمع بعضها أو أكثرها أو جميعها في شخص فيشتدّ حسده و يتضاعف، و أكثر المحاسدات تجتمع فيها جملة من هذه الأسباب و قلّمايتجرّد سبب واحد منها، نعوذ باللّه من شرور النفس و شحّ الأنفس.

الرابع

في بيان سبب كثرة الحسد بين العلماء على ما أخبر به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من أنّه عشرة أجزاء منها تسعة بين العلماء و واحد في النّاس و لهم من ذلك الجزء الحظّ الأوفر.

فأقول: العلماء إمّا علماء الدّنيا أو علماء الآخرة، و المراد بالأوّل من كان غرضه من العلم هو الدّنيا و تحصيل رياستها و حبّ شهواتها و قنياتها و طلب الوقع في قلوب النّاس و ابتغاء إقبالهم إليه، و بالثّاني هم العارفون باللّه و الراغبون في الآخرة و الزّاهدون في الدّنيا المعرضون عنها.

و الحسد إنّما هو بين الطائفة الاولى، و سببه تزاحمهم على غرض واحد إذ كلّ منهم يريد الفضل لنفسه دون صاحبه، و يتمنّى الاشتهار و المرجعيّة و الرّياسة و صداء النّعلين و نحو ذلك، و يريد ذلك بعينه غيره من أبناء جنسه فيتزاحمان على غرض واحد.

و من أجل التّزاحم أيضا ينشأ الحسد بين أفراد جنس واحد و أبناء نوع واحد كالتّاجر للتّاجر، و الواعظ للواعظ، و البزّاز للبزّاز و هكذا، فانّ الغالب أنّ البزّاز يحسد للبزّاز دون العطار و دون الواعظ، و العالم يحسد العالم دون الصّانع و لما ذكرناه ترى الحسد بين علماء بلدة واحدة أكثر مما بين علماء بلدتين و ما بين البلدتين القريبتين أكثر ممّا بين البلدتين النائيتين لزيادة التزاحم في الأولى على الثّانية، و منشأ ذلك كلّه هو حبّ الدّنيا، فانّ الدّنيا هي الّتي تضيق على المتزاحمين.

و أمّا علماء الآخرة العارفون باللّه و المبتهجون بمعرفته سبحانه فلا يكون بينهم تحاسد، لأنّ غرضهم هو الآخرة و مقصدهم هو المعرفة و لا ضيق في شي‏ء منهما كالدّنيا ألا ترى أنّ من أحبّ معرفته سبحانه و معرفة صفاته و أفعاله من عجائب ملكوت سمائه و أرضه لا يعادي و لا يبغض غيره ممّن كان يحبّ معرفة ذلك أيضا و ذلك لسعة بحر المعرفة و عدم الضّيق فيه، بل المعلوم الواحد يعلمه ألف ألف عالم و يفرح بمعرفته و يلتذّ به و لا ينتقص لذّة أحدهم بسبب غيره، بل يحصل بكثرة العارفين ثمرة الافادة و الاستفادة و الانس و الصّحبة، و غرضهم إنّما هو تحصيل المنزلة عند اللّه و الزّلفى لديه و ما عند اللّه أعظم من أن يضيق على الطّالبين و لا يسع الرّاغبين، إذ البحر لا ينفد بالقطر، و الشّمس لا ينقص بالذّر، و ليس كمال الدّنيا إذا وقع في يد أحد خلت عنه يد الآخر أو كجاهها إذا اتّصف به شخص حرم عنه غيره، إذا لجأه عبارة عن ملك القلوب و مهما امتلاء قلب شخص بتعظيم عالم انصرف عن تعظيم الآخر أو نقص عنه لا محالة فيكون سببا للمحاسدة.

و بالجملة فنعمة العارف و جنّته معرفته الّتي هي صفة ذاته، و هو دائما يجنى ثمارها و يغتذي بفواكهها، و هي فاكهة غير مقطوعة و لا ممنوعة بل قطوفها دانية و إن غمض العين الظاهرة فروحه ترتع كلّ الأوقات في جنّة عالية و رياض زاهرة و كثرتهم لا يوجب تحاسدهم بل كانوا كما قال ربّ العالمين: وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى‏ سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ و هذا حالهم و هم في الدّنيا فما ظنّك بهم إذا انكشف عنهم الغطاء و شاهدوا المحبوب في العقبى فأهل العرفان و اليقين برآء من الحسد في الدّنيا و الآخرة جميعا، بل الحسد من صفات المبعدين عن سعة علّيين إلى ضيق سجّين، و لذلك و سم به الشّيطان اللّعين، حيث أظهر الحسد و البغضاء لما رأى اختصاص آدم بالخلافة و الاحتباء و لمّا دعى إلى السجود استكبر و أبى، و تمرّد و عصى، فاستحقّ الجحيم و قيل له: قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ.

و إذا عرفت أنّ منشأ الحسد هو التّوارد على مقصود يضيق عن الوفاء لمن ابتغى فعليك بمقصد لا تزاحم فيه أصلا و لذّة لانفاد لها و نعمة لا زحمة فيها و لا يوجد ذلك في الدّنيا إلّا في معرفة الحقّ تعالى و معرفة صفاته العلياء و إن لم تكن تشتاق.

إلى ذلك و لا تجد لذّة لذلك فأنت في ذلك معذور لأنّك في يد هواك مغمور مقهور و الصّبي لا يعرف لذّة الملك و السّلطنة، و إنّما لذّته في اللّهو و اللّعبة، فانّ هذه لذّة يختص بإدراكها الرّجال دون الصّبيان و الأطفال، و المعرفة مختصّة بأهل الكمال و هم الّذين لا غرض لهم إلّا اللَّه و هم رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ.

و لا يشتاق إلى هذه اللّذة غيرهم، لأنّ الشّوق بعد الذّوق، و من لم يذق لم يعرف و من لم يعرف لم يشتق، و من لم يشتق لم يطلب، و من لم يطلب لم يدرك، و من لم يدرك بقى مع المحرومين في أسفل السّافلين.

 وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ.

الخامس

في معالجة الحسد الّذي هو من موبقات الذّنوب و من الأمراض العظيمة للقلوب، و الدّواء النّافع له هو أن تعرف أنّه مضرّ عليك في الدّنيا و الدّين و غير مضرّ بالمحسود في الدّنيا و الدّين، بل نافع له فيهما، و مهما عرفت هذا عن بصيرة و كنت صديقا لنفسك شفيقا لها و لم تكن عدوّا و مبغضا لها فارقت الحسد لا محالة.

أمّا كونه مضرّا عليك في الدّين فلما مرّ في الأخبار السّابقة من كونه سببا لسخط الجبّار و آكلا للايمان أكل الحطب للنّار، بل الحاسد في الحقيقة ساخط لقضاء اللَّه و غضبان على قدر اللَّه كاره للنّعم الّتي قسّمت بين عباد اللَّه، و حسده في الحقيقة اعتراض على الخالق فيما منحه على الخلايق و ايراد على الحكمة و جناية على حدقة التّوحيد، و فيه متابعة الشّيطان اللّعين و أوليائه من الكفّار و المنافقين حيث إنّه حسد و قال: أ أسْجُدُ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ طينٍ فَ أَبى‏ وَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ‏ و كذلك أولياؤه لم يزالوا حاسدين معاندين للمؤمنين، مبغضين لهم و بعداوتهم معلنين متألّمين بفرحهم و بتألّمهم مسرورين، فمن كان حاسدا فهو للشّيطان و أوليائه قرين، و هو معهم في أسفل السّافلين.

و أمّا كونه مضرّا عليك في الدّنيا فلأنّك تتألّم بحسدك فيها و تتعذّب به دائما و لا تزال في همّ و غمّ، إذ نعم اللَّه سبحانه في الدّنيا في حقّ البرّ و الفاجر و المؤمن و الكافر غير معدودة، و فيوضاته غير متناهية و أنت كلّما رأيت تنعّم المحسود بنعمة تألّمت و تأثّرت، فلا يحصل لك خلاص من الحزن و الألم لعدم انقطاع الآلاء و النّعم، و لا يكون لك فراغ من الكفر و يطول عليك الهجود و السّهر فليطرق عليك النّصب و الآلام، و يتراكم عليك الأوصاب و الأسقام، لسراية المرض من القلب إلى البدن و من الخلد إلى الجسد.

و لذلك قال أمير المؤمنين عليه السّلام: صحّة الجسد من قلّة الحسد، و قيل الحسد يضرّ بنفس الحاسد قبل إضراره بالمحسود.

و قد روي أنّ رجلا كان يغشي بعض الملوك فيقوم بحذاء الملك فيقول: أحسن إلى المحسن باحسانه فانّ المسي‏ء سيكفيكه إسائته، فحسده رجل على ذلك المقام و الكلام فسعى به إلى الملك فقال: إنّ هذا الذي يقوم بحذائك و يقول ما يقول يزعم أنّ الملك أبخر، فقال الملك و كيف يصحّ ذلك عندي قال: تدعوه إليك فانّه إذا دنا منك وضع يده على أنفه لئلّا يشمّ ريح البخر فقال له: انصرف حتّى أنظر.

فخرج من عند الملك فدعى الرّجل إلى منزله فأطعمه طعاما فيه ثوم، فخرج الرّجل من عنده فقام بحذاء الملك على عادته فقال: أحسن إلى المحسن باحسانه فانّ المسي‏ء سيكفيكه إسائته، فقال له الملك: ادن منّي، فدنا منه فوضع يده على فيه حذرا من أن يشمّ الملك منه رايحة الثّوم فقال الملك: ما أرى فلانا إلّا قد صدق و كان الملك لا يكتب بخطّه إلّا بجايزة أوصلة، فكتب له كتابا بخطّه إلى عامل من عمّاله:

إذا أتاك حامل كتابي هذا فاذبحه و اسلخه و حشّ جلده تبنا و ابعث به إلىّ، فأخذ الكتاب و خرج، فلقاه الرّجل الذي سعى به فقال: ما هذا الكتاب قال: خطّ الملك لي بجايزة، فقال: هبه لي فوهبه له، فأخذه و مضى إلى العامل فقال العامل في كتابك أن أذبحك و أسلخك، قال: إنّ الكتاب ليس هو لي فاللّه اللَّه في أمرى حتّى تراجع الملك، فقال: ليس لكتاب الملك مراجعة، فذبحه و سلخه و حشي جلده تبنا و بعث به.

ثمّ عاد الرّجل كعادته إلى الملك و قال مثل قوله، فتعجّب الملك و قال: ما فعلت الكتاب فقال لقاني فلان فاستوهبه منّي فوهبته له، قال الملك: إنّه ذكر لي أنّك تزعم أنّي أبخر، قال: ما قلت ذلك، قال: فلم وضعت يدك على فيك قال: لأنّه أطعمني طعاما فيه ثوم فكرهت أن تشمّه، قال: صدقت ارجع إلى مكانك فقد كفاك المسي‏ء إسائته.

و أمّا عدم كونه مضرّا بالمحسود في الدّنيا و الدّين فواضح.

أمّا الدّنيا فلأنّ النعمة لا تزول عنه بحسدك، بل ما قدّره اللَّه في حقّه من النعمة و الاقبال و من طيب العيش و حسن الحال لا بدّ أن يدوم إلى أجل معلوم، لارادّ لحكمه و لا دافع لقضائه، إذ كلّ شي‏ء عنده بمقدار، و لكلّ أجل كتاب و مهما لم تزل النعمة بالحسد لم يكن على المحسود ضرر.

و لعلّك تقول: ليت النعمة كانت تزول عن المحسود بحسدي فهذا غاية الجهالة و السفاهة لأنّه بلاء تشتهيه أوّلا لنفسك، فانّك أيضا لا تخلو من حاسد يحسدك فلو كانت النعمة تزول بالحسد للزم أن تنقطع عنك النعم و عن كلّ أحد بل يزول الايمان عن المؤمنين لأنّ الكفّار حاسدون لهم في ذلك محبّون ارتفاعه عنهم كما قال سبحانه: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ.

و ان اشتهيت أن تزول النعمة عن محسودك بحسدك و لا تزول عنك بحسد حاسدك، فهذا غاية الغباوة و الحماقة، لأنّ كلّ واحد من الحسّاد يشتهى الاختصاص بهذا الخاصيّة فأىّ ترجيح لك على غيرك فان قلت: سلّمنا هذا كلّه و لكن ما تقول فيما رواه في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن النّوفلي عن السّكوني عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: كاد الفقر أن يكون كفرا و كاد الحسد أن يغلب القدر، فانّ المستفاد من هذه الرّواية أنّ الحسد له تأثير في زوال النعمة.

قلت: هذه لا تكافي‏ء الأدلّة السّابقة، لعدم سلامة سندها و قلّتها بالنسبة إليها، مع إمكان الجمع بينهما بأن يقال بتأثير الحسد في الجملة كالعين الصائبة إلّا أنه لا يوجب زوال النعمة بالمرّة فيمكن أن يزول النعمة التي صارت سببا لحسد الحاسد عن المحسود ثمّ ينتقل المحسود إلى نعمة أخرى أشرف و أجل ممّا زالت منه، لما قد روي في الأخبار من أنّ الرّزق مقسوم، و من قوله صلّى اللَّه عليه و آله لن تموت نفس حتّى تستكمل رزقها فاتّقوا اللَّه و أجملوا في الطلب فتأمّل.

و أمّا عدم كونه مضرّا بالمحسود في الدّين فواضح مستغن عن البيان.

و أمّا انتفاعه به في الدّين و الدّنيا فظاهر أيضا.

أمّا الدّين فلأنّه مظلوم من جهتك و أنت ظالم له و ميزانه ثقيل و ميزانك خفيف كما مرّ في الأخبار، و أيضا فانّه بصبره و تحمّله على أذاك يفوز فوزا عظيما و يدرك ما أعدّ اللَّه من عظيم الأجر للصّابرين كما يشهد به ما في الوسائل عن الصّدوق باسناده عن معاوية بن وهب عن الصّادق جعفر بن محمّد عليه السّلام قال: اصبر على أعداء النّعم فانّك لن تكافى‏ء من عصى اللَّه فيك بأفضل من أن تطيع اللَّه فيه، و مثله رواية عمّار بن مروان عن أبي الحسن الأوّل عليه السّلام و نحوهما أخبار اخر.

و أمّا انتفاعه به في الدّنيا فهو إنّ أهمّ أغراض الخلق مسائة الأعداء و ألذّ عيشهم أن يكون أعداؤهم معذّبين، و لا عذاب أشد ممّا أنت فيه من ألم الحسد و غاية أماني أعدائك أن يكونوا في نعمة و أن تكون في غمّ و حسرة بسببهم، و قد فعلت بنفسك ما هو مرادهم، و لذلك لا يشتهي عدوّك موتك بل يشتهى طول حياتك لتنظر ما أنعم اللَّه به عليه و ينقطع نياط قلبك حسدا كلّما رأيته، و لذلك قيل:

لا مات أعداؤك بل خلّدوا
حتّى يروا فيك الّذي يكمد

لا زلت محسودا على نعمة
فانّما الكامل من يحسد

و إن شئت زيادة وضوح إضرار الحاسد بنفسه و انتفاع المحسود بحسده فاختبر ذلك بقصّة يوسف عليه السّلام و اخوته حيث حسدوه و قالوا: اقْتُلُوهُ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ فَ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ.

فأدركه العناية الأزليّة و الرّحمة الالهيّة و اعطي بمحسوديّته الملك و المملكة و العزّ و السّلطنة و ابتلوا بحاسديّتهم بالفقر و الفاقة و الضّر و المسكنة حتّى صاروا محتاجين إليه بسوء الأعمال فدخلوا عليه و نادوه بلسان الابتهال: يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ و سوء الحال فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ فاصبحوا بفضله مذعنين و عن علوّ شأنه مفصحين بقوله: تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَ إِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ…، وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً بعد أن كانوا له حسّدا و أنت أيّها النّاقد البصير و الذّكيُّ الخبير إذا أحطت خبرا بما تلوناه عليك و عرفت مضارّ الحسد و مفاسده فراقب الانصاف و جانب الاعتساف و لاحظ نفسك و امحض لها نصحك و لا تكسب لها الخسارة في الحال و لا تجلب لها الشّقاوة في المآل، و لا تبخس حظّك عند الخالق، و لا تسقط وقعك من قلوب الخلايق، و نعمة المحسود دائمة شئت أم أبيت، باقية كرهت أم رضيت، فلا تكن للشّيطان‏ وليّا و لا لنفسك عدوّا و لا للمؤمنين خصيما، فلا تفت على نفسك فوايد المحبّة، و لا تحرمها من منافع الالفة و المودّة، و لا توقعها في مضارّ البغضاء و العداوة، أ فما دريت في شرح هذه الخطبة أنّها حالقة للدّين و الايمان، ساخطة للرّحمن، و باللّه أستعيذ من خبث النفس و شرور الأنفس، و به أعتصم من مكايد الشّيطان و موبقات الايمان، و منه التوفيق و عليه التكلان و هو المستعان.

الترجمة

از جمله خطب شريفه آن امام انامست كه فرمود: بتحقيق كه عالم است حقّ سبحانه و تعالى بسرّها و خبير است بضميرها، مر او راست احاطه بجميع أشياء از حيثيّت علم و حفظ و غلبه بجميع مخلوقات با قهر و سلطنت، و قوّة بهمه موجودات با كمال اقتدار و قدرت، پس بايد عمل نمايد عمل كننده از شما در أيّام مهلت پيش از سرعت اجل او، و در زمان فراغت قبل از اشتغال او، و در زمان وسعت نفس زدن پيش از آنكه گرفته شود راه نفس او، و بايست مهيّا نمايد از براى نفس خود توشه طاعات و از براى استوارى قدم خود بر صراط، و بايد توشه بردارد از سراى رحلت خود براى سراى اقامت خود.

پس بترسيد از خدا اى بندگان خدا در آنچه كه خواسته است از شما حفظ كردن آن را از كتاب خود، و در آنچه امانت نهاده پيش شما از حقوق خود، پس بدرستى خداوند عالم خلق نفرموده شما را بعبث، و فرو نگذاشته است شما را مهمل و نگذاشته است شما را در جهالت و كورى.

بتحقيق كه بلند نموده است خبرهاى شما را، و عالم است عملهاى شما را، و نوشته است اجلهاى شما را، و نازل كرد بر شما كتاب را بجهة بيان هر شي‏ء، و زندگاني داد در ميان شما پيغمبر خود را زمانى چند تا آنكه كامل ساخت از براى او و از براى شما در آنچه كه نازل فرموده بود از كتاب خود دين خود را كه پسنديده بود از براى خود، و اعلام نمود بشما بزبان پيغمبر خود محبوب‏ها و مكروههاى خود را از عملها و كارها و نواهى خود را و اوامر خود را.

پس القا كرد بسوى شما معذرت خود را در عقوبت شما، و أخذ نمود بر شما حجّت خود را، و پيش انداخت بسوى شما تهديد و وعيد را، و ترسانيد شما را پيش از عذاب شديد.

پس تدارك نمائيد در بقيّه روزگار خود و باز داريد در بقيّه أيّام نفس خود را از عمل ناشايست، و متحمل باشيد بمشقت عبادت پس بدرستى كه آن بقيه ايام كم است در ميان روزگار بسيار كه مي باشد از شما غفلت و بى ‏خبرى و مشغول شدن از پندگيرى و رخصت ندهيد نفسهاى خود را تا اين كه ببرد شما را آن رخصتها در راههاى ظالمان و ستمكاران، و مداهنه و مسامحه ننمائيد با فاسقان تا اين كه بياورد شما را آن مداهنه بمعصيت.

اى بندگان خدا بدرستى كه نصيحت كننده ‏ترين خلق بر نفس سركش خود اطاعت كننده ‏ترين ايشانست پروردگار خود را، و بدرستى كه فريب دهنده ‏ترين خلق نفس خود را عاصى ‏ترين ايشان است بر آفريدگار خود، و زيان كار كسى است كه زيان رساند نفس خود را، و سودمند كسى است كه سالم شود از براى او دين او، و صاحب سعادت آن كسى است كه پند گيرد بحال غير خود، و صاحب شقاوت آن كسى است كه فريب خورد بهوا و غرور خود.

و بدانيد كه اندكى از ريا شركست بخدا، و همنشينى أهل معصيت و هوا محل فراموشى ايمانست و مكان حضور شيطان، و كناره جوئى كنيد از كذب و بهتان كه آن بيگانه است از ايمان، راستگو بر كناره نجاتست و بزرگوارى، و دروغ‏گو بر گوشه هوس است و خوارى، و بر يكديگر حسد مبريد، پس بدرستى كه مى‏ خورد حسد دين را همچنان كه مى‏ خورد آتش هيزم را.

بيت

هر كه را پيشه بود حقد و حسد
هرگز از آتش دوزخ نرهد

كينه از سينه خود بيرون كن‏
زين عمل قدر و شرف افزون كن‏

بيخ حقد و حسد از دل بر كن
بر فلك ساز چه عيسى مسكن‏

و دشمنى نكنيد بر يكديگر پس بدرستى كه عداوت تراشنده ايمان است و بدانيد كه آرزوى دور و دراز باعث سهو عقل مى ‏شود و سبب نسيان ذكر، پس تكذيب نمائيد آرزوى خود را از جهت اين كه آمال و امانى دروغ است و فريب، و صاحب آن مغرور است و مفتون.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 84 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 85 صبحی صالح

85- و من خطبة له ( عليه ‏السلام  ) و فيها صفات ثمان من صفات الجلال‏

وَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ

الْأَوَّلُ لَا شَيْ‏ءَ قَبْلَهُ

وَ الْآخِرُ لَا غَايَةَ لَهُ

لَا تَقَعُ الْأَوْهَامُ لَهُ عَلَى صِفَةٍ

وَ لَا تُعْقَدُ الْقُلُوبُ مِنْهُ عَلَى كَيْفِيَّةٍ

وَ لَا تَنَالُهُ التَّجْزِئَةُ وَ التَّبْعِيضُ

وَ لَا تُحِيطُ بِهِ الْأَبْصَارُ وَ الْقُلُوبُ

و منهافَاتَّعِظُوا عِبَادَ اللَّهِ بِالْعِبَرِ النَّوَافِعِ

وَ اعْتَبِرُوا بِالْآيِ السَّوَاطِعِ

وَ ازْدَجِرُوا بِالنُّذُرِ الْبَوَالِغِ

وَ انْتَفِعُوا بِالذِّكْرِ وَ الْمَوَاعِظِ

فَكَأَنْ قَدْ عَلِقَتْكُمْ مَخَالِبُ الْمَنِيَّةِ

وَ انْقَطَعَتْ مِنْكُمْ عَلَائِقُ الْأُمْنِيَّةِ

وَ دَهِمَتْكُمْ مُفْظِعَاتُ الْأُمُورِ

وَ السِّيَاقَةُ إِلَى الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ

فَ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَ شَهِيدٌ

سَائِقٌ يَسُوقُهَا إِلَى مَحْشَرِهَا

وَ شَاهِدٌ يَشْهَدُ عَلَيْهَا بِعَمَلِهَا

و منها في صفة الجنة

دَرَجَاتٌ مُتَفَاضِلَاتٌ

وَ مَنَازِلُ مُتَفَاوِتَاتٌ

لَا يَنْقَطِعُ نَعِيمُهَا

وَ لَا يَظْعَنُ مُقِيمُهَا

وَ لَا يَهْرَمُ خَالِدُهَا

وَ لَا يَبْأَسُ سَاكِنُهَا

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج6  

و من خطبة له عليه السّلام و هى الرابعة و الثمانون من المختار في باب الخطب

و أشهد أن لا إله إلّا اللَّه وحده لا شريك له، الأوّل لا شي‏ء قبله و الآخر لا غاية له، لا تقع الأوهام له على صفة، و لا تعقد القلوب منه‏ على كيفيّة، و لا تناله التّجزية و التّبعيض، و لا تحيط به الأبصار و القلوب. منها فاتّعظوا عباد اللَّه بالعبر النّوافع، و اعتبروا بالاي السّواطع، و ازدجروا بالنّذر البوالغ، و انتفعوا بالذّكر و المواعظ، فكأن قد علقتكم مخالب المنيّة، و انقطعت منكم علائق الامنيّة، و دهمتكم مفظعات الأمور، و السّياقة إلى الورد المورود، و كلّ نفس معها سائق و شهيد، سائق يسوقها إلى محشرها، و شاهد يشهد عليها بعملها. و منها في صفة الجنة درجات متفاضلات، و منازل متفاوتات، لا ينقطع نعيمها، و لا يظعن مقيمها، و لا يهرم خالدها، و لا يبأس «يبأس خ ل» ساكنها.

اللغة

(العبر) جمع عبرة و هي ما يعتبر به أى يتّعظ و (الآى) جمع آية و هي العلامة و آية القرآن كلّ كلام متصل إلى انقطاعه، و قيل ما يحسن السّكوت عليه و (سطع) الشي‏ء يسطع من باب منع ارتفع و (النّذر) بضمّتين جمع نذير و هو المنذ رأى المخوف، قال الشّارح المعتزلي: و الأحسن أن يكون النذر هي الانذارات نفسها، لأنّه قد وصف ذلك بالبوالغ و بوالغ لا تكون في الأكثر إلّا صفة المؤنث.

أقول: و عليه حمل قوله سبحانه: «فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ».

أى كيف رأيتم انتقامي منهم و انذاري إيّاهم مرّة بعد اخرى فالجمع للمصدر باعتبار اختلاف الأجناس و الأنواع و (علق) الشوك بالثوب من باب تعب إذا نشب و (المخلب) من الحيوان بمنزله الظفر للانسان و (مفظعات الأمور) بالفاء و الظاء المعجمة شدايدها الشنيعة و (ظعن) ظعنا من باب نفع ارتحل (و لا يبأس) بالباء الموحدة مضارع بئس كسمع يقال بئس فلان إذا أصاب بؤسا و هو الضّر و الشدّة، و في بعض النّسخ لا ييأس بالياء المثناة التحتانية من اليأس بمعنى القنوط يقال يأس ييأس من باب منع، و من باب ضرب شاذّ و في لغة كحسب.

الاعراب

قوله: فكأن قد علقتكم مخفّفة كأنّ و ملغاة عن العمل على الاستعمال الفصيح لفوات مشابهة الفعل بفوات فتحه الآخر و لذلك ارتفع بمدها الاسم في قوله:

         و نحر مشرق اللّون كأن ثدياه حقّان.

و ان أعملتها قلت ثدييه لكنه استعمال غير فصيح و مثله قوله:

         و يوما توافينا بوجه مقسّم            كأن ظبية تعطو إلى وارق السّلم‏

برفع ظبية على الاهمال و نصبها على الأعمال و يروى جرّها على جعل أن زايدة أى كظبية و إذا لم تعملها ففيه ضمير شأن مقدّر كما في ان المخففة و يجوز أن يقال بعدم التقدير لعدم الدّاعي عليها، ثمّ هل هي في قوله للتحقيق كما قاله الكوفيّون في قوله:

         فأصبح بطن مكة مقشعرّا            كأنّ الأرض ليس بها هشام‏

أو للتقريب كما في قولهم: كأنّك بالشتاء مقبل، و كأنّك بالدّنيا لم تكن و بالآخرة لم تزل، الوجهان محتملان و ان كان الأظهر هو الأوّل و قوله عليه السّلام: لا ينقطع نعيمها إما في محلّ النّصب على الحال أو في محلّ الرّفع على الوصف.

المعنى

اعلم أنّ هذه الخطبة كما يظهر من الكتاب مأخوذة و ملتقطة من خطبة طويلة و لم نعثر بعد على أصلها و ما أورده السيد «ره» هنا يدور على فصول ثلاثة.

الفصل الاول

في الشّهادة بالتّوحيد و ذكر بعض صفات الجمال و الجلال و هو قوله: (و أشهد أن لا إله إلّا اللَّه وحده) في ذاته و صفاته (لا شريك له) في أفعاله و مخلوقاته، و قد مضى تحقيق الكلام في ذلك في شرح الفصل الثّاني من فصول الخطبة الثانية فلا حاجة إلى الاعادة (الأوّل) بالأزليّة ف (لا شي‏ء قبله و الآخر) بالأبديّة ف (لا غاية له) قد مضى تحقيق الأول و الآخر في شرح الخطبة الرّابعة و الستّين، و قدّمنا هناك أنّ أوليّته سبحانه لا تنافي آخريته، و آخريّته لا تنافي أوّليّته كما تتنافيان في غيره سبحانه.

و نقول هنا مضافا إلى ما سبق: أنّه سبحانه أوّل الأشياء و قبل كلّ شي‏ء فلا يكون شي‏ء قبله، و ذلك لاستناد جميع الموجودات على تفاوت مراتبها و كمالاتها إليه، و هو مبدء كلّ موجود فلم يكن قبله أوّل بل هو الأوّل الّذي لم يكن قبله شي‏ء.

قال النّيسابورى في محكيّ كلامه: و هو سبحانه متقدّم على ما سواه بجميع أقسام التقدّمات الخمسة التي هي تقدّم التّأثير و الطبع و الشرف و المكان و الزمان، أمّا بالتّأثير فظاهر، و أمّا بالطّبع فلأنّ ذات الواجب من حيث هو لا يفتقر إلى الممكن من حيث هو و حال الممكن بالخلاف، و أمّا بالشّرف فظاهر، و أمّا بالمكان فلأنّه وراء كلّ الأماكن و معها كقوله تعالى: وَ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ».

و قد جاء في الحديث لو دليتم بحبل إلى الأرض السّفلى لهبط إلى اللَّه ثمّ قرأ: هو الأوّل و الآخر، و أمّا بالزّمان فأظهر.

و أمّا آخريّته فلأنه هو الباقي بعد فناء وجود الممكنات و إليه ينتهى كلّ الموجودات فهو غاية الغايات فلا يكون له غاية.

قال بعض العارفين: هو الآخر بمعنى أنه غاية القصوى تطلبها الأشياء و الخير الأعظم الّذي يتشوّقه الكلّ و يقصده طبعا و إرادة، و العرفاء المتألّهون حكموا بسريان نور المحبّة له و الشوق إليه سبحانه في جميع المخلوقات على تفاوت طبقاتهم و أنّ الكاينات السّفلية كالمبدعات العلويّة على اغتراف شوق من هذا البحر العظيم و اعتراف شاهد مقرّ بوحدانيّة الحقّ القديم.

فهو الأوّل الذي ابتدء أمر العالم حتّى انتهى إلى أرض الأجسام و الأشباح و هو الآخر الذي ينساق إليه وجود الأشياء حتى يرتقى إلى سماع العقول و الأرواح و هو آخر أيضا بالاضافة إلى سير المسافرين، فانهم لا يزالون مترقّين من رتبة إلى رتبة حتى يقع الرجوع إلى تلك الحضرة بفنائهم عن ذواتهم و اندكاك جبال هويّاتهم، فهو تعالى أوّل من حيث الوجود، و آخر من حيث الوصول و الشهود، و قيل أوليّته أخبار عن قدمه و آخريّته اخبار عن استحالة عدمه.

و في الكافي بإسناده عن ميمون البان قال: سمعت أبا عبد اللَّه عليه السّلام و قد سئل عن الأوّل و الآخر فقال عليه السّلام: الأوّل لاعن أوّل قبله و لا عن بدى‏ء سبقه، و الآخر لا عن نهاية كما يعقل عن صفات المخلوقين و لكن قديم أوّل آخر لم يزل و لا يزول بلا بدى‏ء و لا نهاية لا يقع عليه الحدوث و لا يحول من حال إلى حال، خالق كلّ شي‏ء و يأتي إنشاء اللَّه شرح هذا الحديث في شرح الخطبة المأة.

(لا تقع الأوهام له على صفة) أراد عليه السّلام أنه لا تناله الأوهام و لا تلحقه فتقع منه على صفة إذ الوهم لا يدرك إلّا ما كان ذا وضع و مادّة، فأمّا الأمور المجرّدة عن الوضع و المادّة فالوهم ينكر وجودها فضلا أن يصدق في اثبات صفة لها، و الباري سبحانه مع بساطه ذاته و تجرّده ليس له صفة زايدة حتّى يدركه الأوهام أو تصفه بصفة، و قد مرّ بعض القول في ذلك في شرح الفصل الثّاني من الخطبة الاولى.

(و لا تعقد القلوب منه على كيفيّة) إذ ليس لذاته تعالى كيفيّة حتّى تعقد عليها القلوب فلا يعرف بالكيفوفية، و تحقيق ذلك يتوقّف على معرفة معنى الكيف فنقول: إنّ الكيف كما قيل هي هيئة قارّة في المحلّ لا يوجب اعتبار وجودها فيه نسبة إلى أمر خارج عنه و لا قسمة في ذاته و لا نسبة واقعة في اجزائه، و بهذه القيود تفارق الأعراض الثمانية الباقية.

و أقسام الكيفيّات و أوايلها أربعة، لأنّها إمّا أن تختصّ بالكميّات من جهة ما هى كمّ كالمثلّثيّة و المربّعيّة للأشكال، و الاستقامة و الانحناء للخطوط، و الزوجية و الفردية للأعداد و إمّا أن لا تختصّ بها و هي إمّا أن تكون مدركة بالحسّ راسخة كانت كصفرة الذهب و حلاوة العسل، أو غير راسخة كحمرة الخجل و صفرة الوجل و إمّا أن لا تكون مدركة بالحسّ و هي إمّا استعدادات للكمالات كالاستعداد للمقاومة و الدّفع و للانفعال و تسمّى قوّة طبيعية كالصّلابة و المصحاحية، أو للنّقايص كالاستعداد بسرعة للانفعال و تسمّى ضعفا و لا قوّة طبيعيّة كاللين و الممراضية و إمّا أن لا تكون استعدادا للكمالات و النقائص بل تكون في أنفسها كمالات أو نقايص فما كان منها ثابتا يسمى ملكة كالعلم و القدرة و الشّجاعة، و ما كان سريع الزوال يسمّى حالا كغضب الحليم و حلم الغضبان فهذه أقسام الكيف و اجناسها و يتدرج تحتها أنواع كثيرة.

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ من المحال أن يتّصف سبحانه بها لكونها حادثة بالذّات ممكنة الوجود مفتقرة إلى جاعل يوجدها برى‏ء الذّات عن الاتّصاف بها، أمّا حدوثها و إمكانها فلكونها ذات ماهيّة غير الوجود فكونها عرضا قائما بمحلّه فهي مفتقرة إلى جاعل و ينتهى افتقارها بالأخرة إلى اللَّه سبحانه، و أمّا برائة ذاته سبحانه من الاتّصاف بها فلأنّ موجد الشي‏ء متقدّم عليه بالوجود فيستحيل أن يكون المكيّف بالكسر أى جاعل الكيف مكيّفا بالفتح أى منفعلا و إلّا لزم تقدّم الشي‏ء على نفسه و كون الشي‏ء الواحد فاعلا و قابلا لشي‏ء واحد.

(و لا تناله التجزية و التبعيض) عطف التبعيض على التجزية إمّا من باب التأكيد أو المراد بالأول نفى الأجزاء العقليّة كالجنس و الفصل و بالثاني نفى الأجزاء الخارجية كما في الأجسام، و على كلّ تقدير فالمقصود به نفى التركيب عنه إذ كلّ مركّب ممكن.

و أمّا ما قاله الشّارح البحراني: من أنّه اشارة إلى نفى الكميّة عنه إذ كانت التجزية و التبعيض من لواحقها و قد علمت أنّ الكمّ من لواحق الجسم و البارى تعالى ليس بجسم و ليس بكمّ.

ففيه أنّه خلاف الظاهر إذ التّجزية أعمّ من التجزية العقليّة و الخارجيّة و لا دليل على التّخصيص بالثانيّة لو لم تكن ظاهرة في الأولى حسب ما أشرنا إليه فيكون مفادها على ذلك مفاد قوله عليه السّلام في الخطبة الأولى: فمن وصف اللَّه سبحانه فقد قرنه و من قرنه فقد ثنّاه و من ثنّاه فقد جزّاه.

(و لا تحيط به الأبصار و القلوب) و قد مرّ تحقيق ذلك في شرح الخطبة الثالثة و الأربعين بما لا مزيد عليه و في شرح الفصل الثاني من الخطبة الاولى.

الفصل الثاني

(منها) في التذكير و الموعظة و هو قوله عليه السّلام (فاتّعظوا عباد اللَّه بالعبر النوافع) اى اعتبروا بالعبر النافعة و اتّعظوا بما حلّ بأهل القرون الخالية كيف صارت أجسادهم شحبة بعد بضّتها، و عظامهم نحرة بعد قوّتها، و كيف انجلوا عن الرّباع و الدّور و ارتحلوا عن الضياع و القصور، و طوّحت بهم طوايح الزّمن و هجرتهم «و أزعجتهم خ ل» عن الأموال و الأولاد و الوطن (و اعتبروا بالآى السّواطع) من آثار القدرة و علامات الجلال و الجبروت و العزّة أو بالآيات القرآنية المعذرة و المنذرة و براهينها السّاطعة المشرقة.

(و ازدجروا بالنّذر البوالغ) أى بالانذارات الكاملة و التّخويفات البالغة الواردة في الكتاب و السنّة (و انتفعوا بالذكر و المواعظ) النافعة التي تضمّنتها آيات الكتاب المبين و أخبار سيّد المرسلين (فكأن قد علقتكم مخالب المنيّة) شبّه المنيّة بالسّبع من باب الاستعارة بالكناية و اثبات المخالب تخييل و ذكر العلوق ترشيح (و انقطعت منكم علائق الامنية) لأنّ الأجل إذا حلّ و الموت إذا نزل انقطع الأهل و ضلّ الحيل و تنغّص اللذات و انتقض الشّهوات (و دهمتكم مفظعات‏ الامور) أى الامور الموجبة للفظع و الدّواهي الموقعة في الفزع من سكرات الموت و غمرات الفوت و الجذبة المكربة و السوقة المتعبة و الهجرة إلى دار الوحدة و بيت الوحشة و ما يليها من شدايد البرزخ و أهوال القيامة.

(و السّياقة إلى الورد المورود) أى المكان الذي يرده الخلايق و عليه محشرها و منشرها (و كلّ نفس معها سائق و شهيد) اقتباس من الآية في سورة ق و هو قوله: وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَ شَهِيدٌ.

أى تجي‏ء كلّ نفس من المكلّفين يوم الوعيد و معها (سائق) من الملائكة (يسوقها إلى محشرها) أى يحثّها على السّير إليه (و شاهد) منهم أو من الأنبياء و الرّسل و الأئمة على ما سبق في شرح الخطبة الواحدة و السّبعين أو من الأعضاء و الجوارح كما ورد في غير واحد من الآيات و يأتي التصريح به في الكلام المأة و الثّامن و التّسعين إنشاء اللَّه (يشهد عليها بعملها) و بما يعلم من حالها.

الفصل الثالث

(منها في صفة الجنة) و هو قوله (درجات متفاضلات و منازل متفاوتات) كما قال سبحانه: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ» و قال: هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ و قال: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ».

و تفاوت الدّرجات و تفاضل المنازل إنّما هو بتفاوت أهل الايمان في مراتب المعرفة و الكمال، فالمؤمنون الكاملون في مراتب العمل و الاخلاص ذوو الدّرجات العلى و النّاقصون فيهما ذوو الدّرجات السّفلى و قد جاء في الخبر أنّ أهل الجنّة ليرون‏ أهل علّيّن كما يرى النجم في افق السّماء.

و في الحديث إنّ في الجنّة مأئة درجة بين كلّ درجتين منها مثل ما بين السّماء و الأرض و أعلى درجاتها الفردوس و عليها يكون العرش و هى أوسط شي‏ء في الجنّة و منها تفجر أنهار الجنّة فاذا سألتم اللّه فاسألوه الفردوس.

و في بعض الرّوايات إنّ اقلّ ما يعطي المؤمن فيها ما يقابل الدّنيا و أشرف المنازل و أرفع المراتب هو مرتبة الرّضوان كما قال سبحانه: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».

أى رضاء اللّه عنهم و محبّته أيّاهم أكبر من كلّ لذّات الجنّة، و هذه اللّذة لا يدركها كلّ أحد و إنما هى مختصّة بالأولياء التّامين في مقام المحبّة الكاملين في العبودية و في رواية زرارة الواردة في ثواب البكاء على الحسين عليه السّلام عن الصّادق عليه السّلام و ما من عبد يحشر إلّا و عيناه باكية إلّا الباكين على جدّي فانه يحشر و عينه قريرة و البشارة تلقّاه و السّرور على وجهه و الخلق يعرضون و هم حدّاث الحسين تحت العرش و في ظلّ العرش لا يخافون سوء الحساب يقال لهم: ادخلوا الجنّة فيأبون و يختارون مجلسه و حديثه، و أنّ الحور لترسل إليهم إنّا قد اشتقناكم مع الولدان المخلّدين فما يرفعون رؤوسهم لما يرون في مجلسهم من السّرور و الكرامة الحديث.

فلا تظنن أنّ أعلى الدّرجات هو أعالي الجنان و الجلوس مع الحور و الغلمان فانّ هذا من لذات البدن و الرّضوان من لذّات الرّوح، و لذا كان مطمح نظر الأئمة عليهم آلاف الصّلاة و التحيّة تلك اللّذة المعنويّة كما يشير إليه قول أمير المؤمنين عليه السّلام ما عبدتك خوفا من نارك و لا طمعا في جنّتك و لكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك و تقابل هذه المرتبة أعني مرتبة الرّضوان لأهل السّعادة مرتبة الخذلان لأهل‏ الشقاوة كما يشير إليه قوله تعالى حكاية عنهم: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ».

فانّ قولهم أخزيته دون أحرقته أو عذّبته دليل على أنّ ألم الخزى عندهم أشدّ و أفظع من ألم الاحتراق بالنار، و ذلك لأنّ الخزى عذاب روحانيّ و عذاب الاحتراق و الأفاعى و العقارب و ساير ما اعدّ في جهنّم عذاب جسمانيّ، و لا شكّ أنّ الأوّل أشدّ و آكد.

ثم أشار عليه السّلام إلى دوام نعيم الجنّة بقوله: (لا ينقطع نعيمها) و قد أشير إلى ذلك في غير واحدة من الآيات مثل قوله سبحانه: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَ ظِلُّها و قوله: وَ أَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ، فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ، وَ طَلْحٍ مَنْضُودٍ، وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ، وَ ماءٍ مَسْكُوبٍ، وَ فاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ، لا مَقْطُوعَةٍ وَ لا مَمْنُوعَةٍ» و قوله: إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ و إنّما لم يكن لنعمها نفاد و انقطاع لأنّ استحقاق تلك النّعيم إنّما نشأ من ملكات ثابتة في جوهره لا تتغيّر و لا تتبدّل و مهما دام الاستحقاق القابل للنعمة و الجود وجب دوام الافاضة و الانعام من واجب الوجود، إذ هو الجواد المطلق الذي لا بخل من جهته و لا نفاد في خزانته (و لا يظعن مقيمها) أي لا يسير عنها و المراد به إمّا نفى سيره عنها إلى الخارج فيكون المقصود به الاشارة إلى أنّها دار خلود و دوام و على ذلك فهذه الجملة تأكيد للجملة السّابقة، و إمّا نفى السير عن مقامه إلى مقام آخر فيها طلبا لما هو أحسن منه و إلى الأوّل أشير في قوله تعالى: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها الآية و على الثّاني اشير في قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ‏ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا، خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا قال في مجمع البيان: أى دائمين فيها لا يطلبون عن تلك الجنّات تحوّلا إلى موضع آخر يطلبها و حصول مرادهم فيها (و لا يهرم خالدها و لا يبأس ساكنها) لأنّ الهرم و البؤس متلازمان للتعب و النّصب المنفيّين في حقّ أهل الجنّة كما قال سبحانه حكاية عنهم: وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ، الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ.

أى لا يمسّنا فيها عناء و مشقّة و لا يصيبنا فيها اعياء و متعبة

الترجمة

از جمله خطبه اى آن حضرتست كه مشتمل است بسه فصل فصل اول در مقام شهادت بتوحيد مى‏ فرمايد: و گواهى مى ‏دهم كه نيست هيچ معبودى بسزا بجز خدا در حالتي كه يگانه است و نيست شريك او را، أوّلى است كه نيست هيچ چيزى پيش از او در بداية، و آخريست كه نيست مر او را غاية و نهايت، واقع نمى‏ شود و همها از براى او بر صفتى، و بسته نمى‏ شود عقلها از او بر كيفيّتى، از جهة اين كه او منزّه است از صفة زايده بر ذات، و مبرّاست از كيفية و چگونگى حالات، و نمى ‏رسد بدايره ذات او تجزّى و تبعّض بجهة اتصاف او بوحدت، و نمى‏ تواند احاطه كند باو أبصار و قلوب و ادراك كنند او را بحقيقت.

فصل دوم در مقام موعظه و نصيحت مى‏ فرمايد: پس قبول موعظه نمائيد أى بندگان خدا با عبرتهاى نافعه، و عبرت برداريد بآيات باهره، و منزجر بشويد با ترسانيدنهاى بى ‏پايان، و منتفع باشيد بذكر متذكران و موعظهاى واعظان، پس گويا فرو رفته است بشما چنگالهاى مرگ خون‏آشام، و بريده شده است از شما علاقه اى آرزوها بناكام، و رسيده است ناگهان بشما فظع آورنده كارها، و راندن بسوى محشر كه محلّ ورود خلايق است آنجا، و هر نفس او راست راننده و گواهى دهنده كه گواهى مى‏ دهد بعمل ناپسنديده او.

فصل سيم در صفة جنّت مى‏ فرمايد: درجه‏ هاى بهشت بعضى تفاضل دارد ببعضى و بعض ديگر منازل آن با تفاوتست با يكديگر، بريده نمى‏ شود نعيم بهشت و رحلت نمى‏ كند مقيم بهشت، و پير نمى‏ شود كسى كه مخلّد است در آن، و محزون نمى‏ شود يا مأيوس نمى‏ گردد كسى كه ساكن است در آن بلكه ساكنان آن جوانان تازه و رعنا است، و مقيمان آن ملتذّند با لذائذ بى حدّ و انتها.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 83 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 84 صبحی صالح

84- و من خطبة له ( عليه‏ السلام  ) في ذكر عمرو بن العاص‏

عَجَباً لِابْنِ النَّابِغَةِ

يَزْعُمُ لِأَهْلِ الشَّامِ أَنَّ فِيَّ دُعَابَةً

وَ أَنِّي امْرُؤٌ تِلْعَابَةٌ

أُعَافِسُ وَ أُمَارِسُ

لَقَدْ قَالَ بَاطِلًا

وَ نَطَقَ آثِماً

أَمَا وَ شَرُّ الْقَوْلِ الْكَذِبُ

إِنَّهُ لَيَقُولُ فَيَكْذِبُ

وَ يَعِدُ فَيُخْلِفُ

وَ يُسْأَلُ فَيَبْخَلُ

وَ يَسْأَلُ فَيُلْحِفُ

وَ يَخُونُ الْعَهْدَ

وَ يَقْطَعُ الْإِلَّ

فَإِذَا كَانَ عِنْدَ الْحَرْبِ فَأَيُّ زَاجِرٍ وَ آمِرٍ هُوَ مَا لَمْ تَأْخُذِ السُّيُوفُ مَآخِذَهَا

فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَانَ أَكْبَرُ (أَكْبَرَ) مَكِيدَتِهِ أَنْ يَمْنَحَ الْقَرْمَ سَبَّتَهُ

أَمَا وَ اللَّهِ إِنِّي لَيَمْنَعُنِي مِنَ اللَّعِبِ ذِكْرُ الْمَوْتِ

وَ إِنَّهُ لَيَمْنَعُهُ مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ نِسْيَانُ الْآخِرَةِ

إِنَّهُ لَمْ يُبَايِعْ مُعَاوِيَةَ حَتَّى شَرَطَ أَنْ يُؤْتِيَهُ أَتِيَّةً

وَ يَرْضَخَ لَهُ عَلَى تَرْكِ الدِّينِ رَضِيخَةً

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج6  

و من كلام له عليه السلام في ذكر عمرو بن العاص و هو الثالث و الثمانون من المختار في باب الخطب

و قد رواه غير واحد من المحدّثين على اختلاف تطلع عليه في التّذنيب الثاني إن شاء اللّه.

عَجَباً لابْن النّابِغَةِ يَزْعَمُ لِأَهلِ الشّامِ أنَّ فِيَّ دُعابَةٌ وَ إِنِّي امْرءٌ تِلْعابَةٌ أُعافِسُ وَ أُمارِسُ، لَقَدْ قالَ باطِلًا، وَ نَطَقَ آثِماً، أَما وَ شَرُّ الْقَول الْكِذْبُ، إِنَّهُ لَيَقُولُ فَيَكْذِبُ، وَ يَعِد فَيُخْلِفُ، وَ يَسْئَلُ فَيُلْحِفُ، وَ يُسْئَلُ فَيَبْخَلُ، وَ يَخُونُ الْعَهْدَ، وَ يَقْطعُ الْإلَّ، فَإذا كانَ عِنْدَ الْحَرْبِ فَأَيُّ زاجِرٍ وَ آمرٍ هُوَ ما لَمْ يَأْخُذِ السُّيُوفُ مَآخِذَها، فَإذا كانَ ذلِكَ كانَ أَكْبَرُ مَكيدَتِهِ أَنْ يَمْنَحَ الْقَوْمَ سَبَّتَهُ، أَما وَ اللَّه إِنَّهُ ليَمْنَعُني مِنَ اللَّعَبِ ذِكْرُ الْمَوْتِ، وَ إِنَّهُ ليَمْنَعَهُ مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ نِسْيانُ الْآخِرَةِ، إِنَّهُ لَمْ يُبايِعْ مُعوِيَةَ حَتَّى‏ شَرَطَ لَهُ أَنْ يُؤْتِيهُ أَتِيِّةً، وَ يَرْضَخَ لَهُ عَلى‏ تَرْكِ الدِّينِ رَضيخَةً.

اللغة

(النّابغة) أمّ عمرو بن العاص سمّيت بها لظهورها و شهرتها بالبغى، مأخوذة من نبغ الشي‏ء نبوغا أى ظهر و (يزعم) بمعنى يقول، قال الفيومي: و عليه قوله تعالى: «أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ» أى كما أخبرت قال المرزوقي: أكثر ما يستعمل الزّعم فيما كان باطلا أو فيه ارتياب، قال الحطاني: و لهذا قيل زعم مطيّة الكذب و زعم غير مزعم قال غير مقول صالح و ادّعى ما لا يمكن، و قال أبو البقاء: الزّعم بالضمّ اعتقاد الباطل بلا تقوّل و بالفتح اعتقاد الباطل بتقوّل، و قيل: بالفتح قول مع الظنّ و بالضمّ ظنّ بلا قول، و من عادة العرب أنّ من قال كلاما و كان عندهم كاذبا قالوا: زعم فلان قال شريح: لكلّ شي‏ء كنية و كنية الكذب زعم، و قد جاء في القرآن في كلّ موضع ذمّا للقائلين.

و (الدعابة) بضمّ الدّال المزاح من دعب يدعب مثل مزح يمزح و زنا و معنى و في لغة من باب تعب و في الحديث قلت: و ما الدّعابة قال: هي المزاح و ما يستملح و (التلعابة) بكسر التّاء كثير اللعب و المزاح و التّاء للمبالغة، و التّلعاب بالفتح مصدر لعب و (العافسة) المعالجة في الصراع من العفس و هو الجذب إلى الأرض في ضغط شديد و الضرب على الأرض بالرِّجل و (الممارسة) المعالجة و المزاولة و (ألحف) السائل إلحافاً ألحّ و (الالّ) العهد و القرابة قال تعالى: «لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَ لا ذِمَّةً» و (السبة) الاست و (الاتية) كالعطية لفظا و معنى و (الرضيخة) الرّشوة من رضخ له رضخاً من باب نفع و ضيخة أعطاه شيئاً ليس بالكثير.

الإعراب

عجباً منصوب على المصدرية بحذف عامله، و جملة يزعم إمّا في محل النّصب على الحال من ابن النابغة لكونه مفعولًا بالواسطة، أو لا محلّ لها من الإعراب لكونها استينافاً بيانيا، فكأنّه عليه السّلام سئل عن علّة التعجب فأجاب بأنّه يزعم و هو الأظهر و جملة أعافس و أمارس في محل الرّفع صفة بعد صفة لامرء و هي في المعنى تأكيد لقوله تلعابة و لكمال الاتّصال بينهما ترك حرف العطف و هو من المحسّنات البيانية و جملة لقد قال باطلا قسمية و باطلا صفة لمصدر محذوف، و آثماً منصوب على الحال و يحتمل أن يكون صفة لمحذوف أيضا أى نطق نطقاً آثماً فيكون اسناد آثماً إليه من باب التّوسع.

قوله فأيّ زاجر و آمر هو، لفظة أيّ منصوبة على الحالية و حذف عاملها للقرينة و هي اسم موضوع للدّلالة على معنى الكمال و يستعمل في مقام التّعجب، تقول: مررت برجل أىّ رجل، أى كامل في الرّجولية و بزيد أىّ رجل أى كاملًا فيها قالوا: إنّه إذا وقع بعد المعرفة فحال و إذا وقع بعد النكرة فصفة، و تقدير كلامه عليه السّلام فهو زاجر أيّ زاجر.

قال الرّضي في شرح الكافية بعد ما حكى عنهم كون أيّ اسماً موضوعاً للدلالة على معنى في متبوعه: و الذي يقوي عندي أنّ أىّ رجل لا يدلّ بالوضع على معنى في متبوعه، بل هو منقول عن أىّ الاستفهاميّة، و ذلك أنّ الاستفهاميّة للسؤال عن التّعيين، و ذلك لا يكون إلّا عند جهالة المسئول عنه فاستعيرت لوصف الشّي‏ء بالكمال في معنى من المعاني و التّعجب من حاله، و الجامع بينهما أنّ الكامل البالغ غاية الكمال بحيث يتعجّب منه يكون مجهول الحال بحيث يحتاج إلى السؤال عنه.

المعنى

اعلم أنّ عمرو بن العاص اللّعين ابن اللّعين لمّا كان عدوّا لأمير المؤمنين سلام اللَّه عليه و آله، معلناً بعداوته كما كان أبوه العاص بن وائل عدواً لرسول اللّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم لا جرم كان همّة اللّعين مصروفة في الكذب و الافتراء عليه عليه السّلام و كان يروم بذلك أن يعيبه عند النّاس و يسقط محلّته عليه السّلام من القلوب و من جملة ما افترى عليه كذبا أنّه قال لأهل الشّام: إنّما أخّرنا علياً لأنّ فيه هزلا لا جدّ معه، فنسبه عليه السّلام إلى الدّعابة و كثرة المزاح كما نسبه عليه السّلام إلى ذلك عمر بن الخطاب و هذه النسبة من عمرو سيّئة من سيّئات عمر.

فأراد عليه السّلام بكلامه ذلك دفع هذه النسبة و اثبات أنه افتراء و بهتان في حقه و ذكر أوّلا ما قاله ابن العاص ثمّ اتبعه بردّه فقال: (عجباً لابن النّابغة) و إنّما كنى عنه بامّه إذ من عادة العرب النسبة إلى الأمّ إذا كانت مشهورة بالخسّة و الدّنائة يريدون بذلك ذمة و القدح فيه، و قد ينسبونه إليها إذا كانت معروفة بالشّرف يريدون بذلك شرفه و مدحه (يزعم لأهل الشّام) و يقول لهم قصدا للقدح و التّعييب (انّ فيّ) مزاح و (دعابة و اني امرء تلعابة) و كثير الممازحة حتّى أنّي (أعافس) و أصارع (و أمارس) و أعالج فعل من اتّصف بفراغ القلب فاستغرق أوقاته باللّهو و اللّعب، و اللَّه (لقد قال) قولا (باطلا و نطق) عاصيا (آثماً) لأنّه كذب فاذنب و افترى فعصى (أما و شرّ القول الكذب) و الافتراء من حيث العقل و النّقل و الدّين و الدّنيا كما ستطّلع عليه فيما عليك يتلى.

و هذا الملعون قد اتّصف بذلك و بغيره ممّا يوقعه في المهالك و لقد كان جامعا لجملة من الصّفات الخبيثة الشّيطانية و متصفا بجمّة من الرّذايل الخسيسة النّفسانية مضافة إلى ما فيه من فساد الاعتقاد و الكفر و العناد و هي على ما نبّه عليها أمور: أول (انه ليقول فيكذب) و رذالة هذه الصّفة و قباحته معلومة من حيث العقل و النّقل.

أمّا العقل فلأنّ الوجدان شاهد بأنّ الكذب يوجب اسوداد لوح القلب و يمنعه من انتقاش صور الحقّ و الصّدق فيه و يفسد المنامات و الالهامات، و ربما يكون سببا لخراب البلاد و فساد أمر العباد، جالبا للعداوة و البغضاء، باعثا على سفك الدّماء و لذلك اتفق العقلاء من المليّين و غيرهم على قبحه، و قالت المعتزلة: قبحه معلوم بالضرورة.

و أمّا النّقل فقد قال سبحانه: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» و قال في صفة المؤمنين: «وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً».

و قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: إيّاكم و الكذب «فانَّ الكذب ظ» يهدى إلى الفجور و الفجور يهدي إلى النّار-  رواه في جامع الأخبار.

و فيه عن أنس قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: المؤمن إذا كذب من غير عذر لعنه سبعون ألف ملك و خرج من قلبه نتن حتّى يبلغ العرش فيلعنه حملة العرش و كتب اللَّه عليه بتلك الكذبة سبعين زنية أهونها كمن يزني مع أمّه.

و قال موسى عليه السّلام: يا ربّ أيّ عبادك خير عملا قال: من لا يكذب لسانه و لا يفجر قلبه و لا يزني فرجه.

و قال العسكري عليه السّلام: جعلت الخبائث كلّها في بيت و جعل مفتاحها الكذب و في عقاب الأعمال عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ اللَّه عزّ و جلّ جعل للشّر أقفالا و جعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب و الشّر من الشراب الكذب.

و في الوسائل من الكافي بإسناده عن الفضيل بن يسار عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إنّ أوّل من يكذّب الكذّاب اللَّه عزّ و جلّ ثمّ الملكان اللّذان معه ثمّ هو يعلم أنه كاذب.

و عن عبد الرّحمن بن أبي ليلى عن أبيه عمّن ذكره عن أبي جعفر عليه السّلام قال: الكذب هو خرّاب الإيمان.

و عن عبيد بن زرارة قال: سمعت أبا عبد اللَّه عليه السّلام يقول: إنّ مما أعان اللَّه به على الكذّابين النسيان.

و عن محسن بن طريف عن أبيه عمّن ذكره عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: قال عيسى بن مريم عليه السّلام: من كثر كذبه ذهب بهاؤه.

و الأخبار في هذا المعنى كثيرة و فيما أوردناه كفاية لمن له دراية و سيأتي تحقيق الكلام فيه و في أقسامه في شرح الخطبة الخامسة و الثّمانين فانتظر.

(و) الثاني أنّه (يعد فيخلف) و هذا أيضاً من شئونات الكذب ففيه ما فيه و زيادة، و يقابله الوفاء و هو توأم الصدق كما قد مرّ مشروحاً في الخطبة الحادية و الأربعين (و) الثالث أنه (يسأل فيلحف) و دنائة هذه الصّفة أيضاً واضحة إذ الإصرار في المطالبة و الالحاح في السّوال من أوصاف الأرذال موجبة للابتذال لا محالة (و) الرابع انّه (يسأل فيبخل) يعنى أنّه يمنع السّائل و ينهره و يبخل من أداء الحقوق الواجبة و صرفها في جهتها، و قد قال سبحانه: «وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ» و قال أيضاً: «وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ» و قال في موضع آخر: «وَ أَمَّا مَنْ بَخِلَ وَ اسْتَغْنى‏ وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنى‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى‏» و في سورة آل عمران: «وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» و في سورة التّوبة: «وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ، يَوْمَ يُحْمى‏ عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى‏ بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ».

روى في الوسائل من الكافي بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن جعفر عن آبائه عليهم السّلام أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام سمع رجلا يقول: إنّ الشحيح أعذر من الظالم، فقال له: كذبت إنّ الظالم قد يتوب و يستغفر و يردّ الظلامة على أهلها، و الشّحيح إذا شحّ منع الزكاة و الصّدقة و صلة الرّحم و قرى الضيف و النفقة في سبيل اللّه و أبواب البرّ، و حرام على الجنّة أن يدخلها شحيح.

و فيه عن عبد العليّ بن أعين عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: إنّ البخيل من كسب‏ مالا من غير حلّه و أنفقه في غير حقه.

و عن إسماعيل بن جابر عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام في قول اللَّه عزّ و جلّ: «وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ» أ هو سوى الزّكاة فقال: هو الرّجل يؤتيه اللَّه الثروة من المال فيخرج منه الألف و الألفين و الثلاثة و الأقلّ و الأكثر فيصل به رحمه و يحمل به الكلّ عن قومه.

و يجي‏ء اشباع الكلام في هذا المقام زيادة على ذلك في شرح المأة و التّسع من المختار في باب الخطب انشاء اللَّه (و) الخامس أنّه (يخون العهد) و هي رذيلة داخلة تحت الفجور، و يقابلها الوفاء قال سبحانه: «وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَ لا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا…، وَ لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً».

و قد مضى تفصيل الكلام فيه في شرح كلماته السّابعة و السّبعين (و) السادس أنه (يقطع الالّ) إن كان المراد بالالّ العهد فالعطف بمنزلة التّفسير و إن كان المراد به القراب كما هو الأظهر فالمقصود به قطع الرّحم، و يقابله الصّلة و قد مضى الكلام فيهما في الفصل الثاني من الخطبة الثالثة و العشرين.

و السابع الجبن و يقابله الشّجاعة و إليه أشار عليه السّلام بقوله (فاذا كان عند الحرب فأيّ زاجر و آمر هو) بالقتال و براز الأبطال (ما لم يأخذ السّيوف مأخذها) و الرّماح مراكزها (فاذا كان ذلك) و التحم الحرب و شبّ لظاها و علا سناها (كان أكبر مكيدته) في الذّب عنه و أعظم حيلته في الخلاص عن حدّ السّيف و النجاة منه (أن يمنح القوم سبّته) كما ستطلع عليه في التّذنيب الآتي.

ثمّ إنّه عليه السّلام رجع إلى ابطال دعوى عمرو و بيّن وجه البطلان بأمرين: أحدهما راجع إليه عليه السّلام و هو قوله (أما و اللّه إنّه ليمنعني من اللّعب ذكر الموت)فانّ مذاكرة الموت و مراقبة الاخرة تكون شاغلة عن الدّنيا معرضة عن الالتفات إليها و إلى شهواتها من اللّعب و نحوه لكونه و جلا من اللّه و مترصّدا لهجوم الموت و هو واضح بالمشاهدة و العيان و يشهد عليه البداهة و الوجدان، و ثانيها راجع إلى عمرو و هو قوله (و انه ليمنعه من قول الحق نسيان الآخرة) فانّ نسيان الآخرة يوجب صرف الهمة إلى الدّنيا و طول الأمل فيها و يبعث على الانهماك في الشّهوات و الانغمار في اللّذات و من كان هذه حاله لا يبالي بما قال و ما يقول و يقدّم بدواعي شهواته الكذب على الصدق و الباطل على الحقّ ليصل غرضه و ينال مناه.

ثمّ نبّه عليه السّلام على بعض ما ترتب على نسيان الآخرة بقوله (انّه لم يبايع معاوية حتى شرط له أن يؤتيه على البيعة أتيّة و يرضخ له على ترك الدّين) و العدول عن الحقّ (رضيخة) فأعطاه مصر ثمنا و طعمة على ما قد مضى مفصّلا في شرح الفصل الثالث من فصول الخطبة السّادسة و العشرين.

تذنيبات

الاول في ذكر نسب عمرو بن العاص

اللّعين ابن اللّعين عليه لعنة اللّه و الملائكة و النّاس أجمعين أبد الأبدين و بيان بعض حالاته الدالة على كفره و شقاوته مع الاشارة إلى ما صدر عنه في صفين من كشف سوئته فأقول: اعلم أنّ العاص بن وائل أباه كان من المستهزئين برسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم و المعالنين له بالعداوة و الأذى، و فيه و في أصحابه نزل قوله تعالى.إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ.

و كان يلقّب في الاسلام بالأبتر لأنّه قال لقريش: سيموت هذا الأبتر غدا فينقطع ذكره، يعني رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم و يشتمه و يضع في طريقه الحجارة، لأنّه صلى اللّه عليه و آله و سلم كان يخرج من منزله ليلا فيطوف بالكعبة فكان يجعل الحجارة في طريقه ليعثر بها، و هو أحد القوم الذين خرجوا إلى زينب ابنة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم لما خرجت من مكة مهاجرة إلى المدينة فروّعوها و قرعوا هودجها بكعوب الرّماح حتى اجهضت جنينا ميتا من أبي العاص بن الرّبيع بعلها، فلمّا بلغ ذلك رسول اللّه نازل منه و شقّ عليه مشقّة شديدة و لعنهم، رواه الشّارح المعتزلي عن الواقدي.

و روي عنه و عن غيره من أهل الحديث أنّ عمرو بن العاص هجا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله هجا كثيرا كان تعلمه صبيان مكة فينشدونه و يصيحون رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم إذا مرّ بهم رافعين أصواتهم بذلك الهجاء فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم و هو يصلّي بالحجر: اللهمّ إنّ عمرو بن العاص هجانى و لست بشاعر فالعنه بعدد ما هجاني.

قال: و روى أهل الحديث أنّ النّضر بن الحارث و عقبة بن أبي معيط و عمرو بن العاص عمدوا إلى سلا«» جمل فرفعوه بينهم و وضعوا على رأس رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم و هو ساجد بفناء الكعبة فسال عليه فصبر و لم يرفع رأسه و بكى في سجوده و دعا عليهم فجاءت ابنته فاطمة عليها السلام و هي باكية فاحتضنت ذلك السلا فرفعته عنه فألقته و قامت على رأسه تبكى فرفع رأسه صلى اللّه عليه و آله و سلم قال: اللهم عليك بقريش قالها ثلاثا، ثمّ قال صلى اللّه عليه و آله رافعا صوته: إنّي مظلوم فانتصر، قالها ثلاثا، ثمّ قال فدخل منزله و ذلك بعد وفات عمّه أبي طالب بشهرين.

قال: و لشدّة عداوة عمرو بن العاص رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أرسله أهل مكّة إلى النّجاشي ليزهده في الدّين و ليطرد عن بلاده مهاجرة حبشة و ليقتل جعفر بن أبي طالب عنده إن أمكنه قتله، فكان منه في أمر جعفر هناك ما هو مذكور مشهور في السّير.

فاما النابغة فقد ذكر الزمخشري في الكتاب ربيع الأبرار قال: كانت النّابغة أمّ عمرو بن العاص أمة لرجل من عنزة فسبيت فاشتراها عبد اللّه بن جذعان التّيمي بمكة فكانت بغيّا، ثمّ اعتقها فوقع عليها أبو لهب بن عبد المطلب و اميّة بن خلف الجهمي و هشام بن المغيرة المخزومي و أبو سفيان بن الحرب و العاص بن وائل السهمى في طهر واحد فولدت عمرا فادّعاه كلّهم فحكمت امّه فيه فقالت: هو من العاص.

ابن وائل، و ذلك لأنّ العاص بن وائل ينفق عليها كثيرا، قالوا: و كان أشبه بأبي سفيان.

قال: و روى أبو عبيدة معمّر بن المثنّى في كتاب الأنساب أنّ عمرا اختصم فيه يوم ولادته رجلان: أبو سفيان بن الحرب و العاص بن وائل، فقيل: لتحكم امّه فقالت امّه: من العاص بن وائل، فقال أبو سفيان: أما أنى لا أشكّ أني وضعته في بطن (رحم خ ل) امّه فأبت إلّا العاص فقيل لها: أبو سفيان أشرف نسبا، فقالت: إنّ العاص بن وائل كثير النّفقة علىّ و أبو سفيان شحيح، ففي ذلك يقول حسان بن ثابت لعمرو بن العاص حيث هجاء مكافتا له عن هجاء رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم:

أبوك أبو سفيان لا شكّ قد بدت
لنا فيك منه بينات الشّمائل‏

ففاخر به إمّا فخرت و لا تكن‏
تفاخر بالعاص الهجين بن وائل‏

و إنّ التي في ذاك يا عمرو حكمت
فقالت رجاء عند ذاك لنايل‏

من العاص عمرو تخبر الناس كلّما
تجمّعت الأقوام عند المحافل‏

و في البحار من الاحتجاج في حديث طويل قال الحسن عليه السّلام مخاطبا لابن العاص: و أما أنت يا عمرو بن العاص الشّاني اللّعين الأبتر فانما أنت كلب أوّل أمرك امّك لبغية أنّك ولدت على فراش مشترك فتحاكمت فيك رجال قريش منهم أبو سفيان بن حرب و الوليد بن المغيرة و عثمان بن الحارث و النّضر بن الحارث بن كلدة و العاص بن وائل كلّهم يزعم أنّك ابنه فغلبهم عليك من بين قريش ألأمهم حسبا و أخبثهم منصبا و أعظمهم بغية ثمّ قمت خطيبا و قلت أنا شانئ محمّد، و قال العاص ابن وائل: إن محمّدا رجل أبتر لا ولد له فلو قد مات انقطع ذكره فأنزل اللّه تبارك و تعالى إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ.

و كانت امّك تمشي إلى عبد قيس يطلب البغة تأتيهم في دورهم و في رحالهم و بطون أوديتهم، ثم كنت في كلّ مشهد يشهده رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم من عدوّه أشدّهم له عداوة و أشدّهم له تكذيبا، الحديث.

و في البحار من كتاب سليم بن قيس الهلالى عن أبان بن أبي عيّاش عن سليم‏

قال: إن عمرو بن العاص خطب النّاس بالشّام فقال: بعثني رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله على جيش فيه أبو بكر و عمر فظننت أنّه إنّما بعثني لكرامتي عليه فلمّا قدمت قلت يا رسول اللّه أي النّاس أحبّ إليك فقال صلى اللّه عليه و آله و سلم: عايشة، فقلت: من الرّجال قال: أبوها، و هذا علىّ يطعن على أبي بكر و عمر و عثمان، و قد سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم يقول: إنّ اللّه ضرب بالحقّ على لسان عمر و قلبه، و قال في عثمان: إنّ الملائكة تستحي من عثمان.

و قد سمعت عليّا و إلّا فسمّتا يعني اذنيه يروى على عهد عمر إنّ نبي اللّه نظرا إلى أبى بكر و عمر مقبلين، فقال: يا عليّ هذان سيّدا كهول أهل الجنّة من الأوّلين و الآخرين ما خلا النّبيين منهم و المرسلين و لا تحدّثهما بذلك فيهلكا.

فقام عليّ عليه السّلام فقال: العجب لطغاة أهل الشّام حيث يقبلون قول عمرو و يصدّقونه و قد بلغ من حديثه و كذبه و قلّة ورعه أن يكذب على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و لعنه رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم سبعين لعنة و لعن صاحبه الذي يدعو إليه في غير موطن.

و ذلك انّه هجا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله بقصيدة سبعين بيتا فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله: اللّهم إنّي لا أقول الشّعير و لا احلّه فالعنه أنت و ملائكتك بكلّ بيت لعنة تترى على عقبه إلى يوم القيامة.

ثمّ لما مات إبراهيم ابن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فقال: إن محمّدا قد صار أبتر لا عقب له و إنّي لأشنا الناس له و أقولهم فيه سوء فأنزل فيه: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ.

يعني هو الأبتر من الايمان من كلّ خير ما لقيت من هذه الامة من كذا بيها و منافقيها لكأنّى بالقرّاء الضعفة المتهجدين رووا حديثه و صدّقوه فيه و احتجّوا علينا أهل البيت بكذبه: انا نقول خير هذه الامة أبو بكر و عمر و لو شئت لسمّيت الثالث، و اللّه ما أراد بقوله في عايشة و انتهى الارضاء معاوية بسخط اللّه عزّ و جلّ، و لقد استرضاه بسخط اللّه.

و أمّا حديثه الذي يزعم انّه سمعه منّي فلا و الذي فلق الحبّة و برى‏ء النسمة ليعلم أنّه قد كذب علي يقينا و انّ اللّه لم يسمعه منّي سرّا و لا جهرا، اللهمّ العن عمرا و العن معاوية بصدّهما عن سبيلك و كذبهما على كتابك و استخفافهما نبيّك صلى اللّه عليه و آله و كذبهما عليه و عليّ.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي دخل رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله المسجد و فيه عمرو ابن العاص و الحكم بن أبي العاص قال عمرو: يا أبا الأبتر و كان الرّجل في الجاهليّة إذا لم يكن له ولد سمّى ابتر ثمّ قال عمرو: إنّي لأشنأ محمّدا أي ابغضه فأنزل اللّه على رسوله صلى اللّه عليه و آله: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ إلى قوله: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ.

اي مبغضك عمرو بن العاص لا دين له و لا حسب، و بما ذكر كلّه ظهر كفر ابن العاص اللّعين و كفر أبيه كما ظهر عداوته لأمير المؤمنين عليه السّلام و بغضه و هو ليس ببعيد من أولاد الزنا و لنعم ما قال الشّاعر:

بحبّ علي تزول الشّكوك
و تزكوا النّفوس و تصفو البخار

و مهما رأيت محبّا له‏
فثمّ الذّكاء (الزكاة) و ثمّ الفخار

و مهما رأيت عدوّا له
ففي أصله نسب مستعار

فلا تعذلوه على فعله‏
فحيطان دار أبيه قصار

و أمّا خبر عمرو في صفين ففي البحار من المناقب و برز أمير المؤمنين عليه السّلام و دعا معاوية قال: و أسألك أن تحقن الدماء و تبرز إلى و أبرز إليك فيكون الأمر لمن غلب، فبهت معاوية و لم ينطق بحرف، فحمل أمير المؤمنين عليه السّلام على الميمنة فأزالها، ثمّ حمل على المسيرة فطحنها، ثمّ حمل على القلب و قتل منهم جماعة و أنشد

فهل لك في أبي حسن علي
لعلّ اللّه يمكن من قفاكا

دعاك إلى البراز فعكت عنه‏
و لو بارزته تربت يداكا

فانصرف أمير المؤمنين عليه السّلام ثمّ برز متنكّرا فخرج عمرو بن العاص مرتجزا

يا قادة الكوفة من أهل الفتن
يا قاتلي عثمان ذاك المؤتمن‏

كفى بهذا حزنا عن الحزن‏
أضربكم و لا أرى أبا الحسن‏

فتناكل عنه عليّ عليه السّلام حتى تبعه عمرو ثمّ ارتجز:

أنا الغلام القرشي المؤتمن
الماجد الأبيض ليث كالشّطن‏

يرضى به السادة من أهل اليمين‏
أبو الحسين فاعلمن أبو الحسن‏

فولى عمرو هاربا فطعنه أمير المؤمنين عليه السّلام فوقعت في ذيل درعه فاستلقا على قفاء و أبدا عورته فصفح عليه السّلام استحياء و تكرّما، فقال معاوية: أحمد اللّه عافاك و احمد استك الذى و قال، قال أبو نواس:

فلا خير في دفع الرّدى بمذلّة
كما ردّها يوما بسوءته عمرو

قال و برز عليّ عليه السّلام و دعا معاوية فنكل عنه فخرج بسر بن أرطاة يطمع في علي عليه السّلام فصرعه أمير المؤمنين فاستلقى على قفاه و كشف عن عورته فانصرف عنه علي عليه السّلام فقالوا: وليكم يا أهل الشّام أما تستحيون من معاملة المخانيت لقد علّمكم رأس المخانيت عمرو، و لقد روى هذه السّيرة عن أبيه عن جدّه في كشف الاستاه وسط عرصة الحروب.

قال الشّارح المعتزلي: و للشراء فيهما أشعار مذكورة في موضعها من ذلك الكتاب منها فيما ذكر الكلبي و المدايني قول الحرث بن نضر الخثعمي و كان عدوّا لعمرو بن العاص و بسر بن أرطاة:

أفي كلّ يوم فارس ليس يتّقى (ينتهى خ ل)
و عورته وسط العجاجة بادية

يكفّ لها عنه عليّ سنانه‏
و يضحك منه في الخلاء معاوية

بدت أمس من عمرو فقنّع رأسه
و عورة بسر مثلها حذ و حاذية

فقولا لعمرو ثمّ بسر ألا انظرا
سبيلكما لا تلقيا اللّيث ثانية

و لا تحمدا إلّا الحيا و خصاكما
هما كانتا و اللّه للنّفس واقية

و لو لا هما لم تنجوا من ستانه‏
و تلك بما فيها من العود ماهية

متى تلقيا الخيل المشيحة صيحة
و فيها عليّ فاتركا الخيل ناحية

و كونا بعيدا حيث لا يبلغ القنا
نحور كما إنّ التجارب كافية

قال نضر بن مزاحم: حدّثنا عمرو بن شمر عن النخعي عن ابن عبّاس قال:

تعرض عمرو بن العاص لعلي عليه السّلام يوما من أيّام صفّين و ظنّ أنّه يطمع منه في غرّة فيصيبه فحمل علي عليه السّلام فلما كاد أن يخالطه اذرى نفسه عن فرسه و دفع ثوبه و شفر برجله فبدت عورته فضرب عليه السّلام وجهه عنه و قام معفرا بالتراب هازما على رجليه معتصما بصفوفه فقال أهل العراق: يا أمير المؤمنين أفلت الرّجل، فقال عليه السّلام أ تدرون من هو قالوا: لا، قال عليه السّلام: فانّه عمرو بن العاص تلقاني بسوءة فصرفت وجهي عنه، و رجع عمرو إلى معاوية فقال: ما صنعت يا أبا عبد اللّه فقال: لقيني عليّ فصر عني قال: احمد اللّه و عورتك، و اللّه إنّي لأظنّك لو عرفته لما أقمحت عليه، و قال معاوية في ذلك:

ألا للّه من هفوات عمرو
يعاتبني على تركي برازي‏

. فقد لا قى أبا حسن عليّا
فآب الوائليّ مآب خازى‏

فلو لم يبد عورته لطارت
بمهجته قوادم أىّ بازي‏

فان تكن المنيّة أخطأته‏
فقد غنّى بها أهل الحجاز

و روى الواقدي قال: قال معاوية يوما بعد استقرار الخلافة لعمرو بن العاص يا با عبد اللّه لا أراك إلّا و يغلبني الضّحك، قال: بما ذا قال: أذكر يوم حمل عليك أبو تراب في صفّين فاذريت نفسك فرقا من شبا سنانه و كشف سوئتك له، فقال عمرو: أنا منك أشدّ ضحكا إنّي لأذكر يوم دعاك إلى البراز فانفتح منخرك و ربا لسانك في فمك و عصب ريقك و ارتعدت فرائصك و بدا منك ما أكره ذلك، فقال معاوية: لم يكن هذا كلّه و كيف يكون و دوني عمّك و الأشعرون، قال: انّك لتعلم أنّ الذي وضعت دون ما أصابك و قد نزل ذلك بك و دونك عمك و الأشعرون فكيف كانت حالك لو جمعكما مآقط الحرب قال: يا با عبد اللّه خض بنا الهزل إلى الجدّ إنّ الجبن و الفرار من عليّ لاعار على أحد فيهما.

الثاني

اعلم أنّ ما رواه السيد (ره) من كلامه عليه السّلام مرويّ في غير واحد من الكتب‏ المعتبرة، ففي الاحتجاج مثل الكتاب، و في البحار من أمالي المفيد عن محمّد بن عمران عن الحسن بن عليّ عن أحمد بن سعيد عن الزبير بن بكار عن عليّ بن محمّد قال: كان عمرو بن العاص يقول: إنّ في عليّ دعابة، فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليه السّلام فقال: زعم ابن النابغة أنّى تلعابة مزاحة ذو دعابة اعافس و امارس، هيهات يمنع من العفاس و المراس ذكر الموت و خوف البعث و الحساب و من كان له قلب ففي هذا عن هذا له واعظ و زاجر، أما و شرّ القول الكذب و انّه ليحدّث فيكذب و يعد فيخلف فاذا كان يوم البأس فأي زاجر و أين هو ما لم يأخذ السيوف هام الرّجال، فاذا كان ذلك فأعظم مكيدته في نفسه أن يمنح القوم استه.

و فيه من كتاب الغارات لإبراهيم بن محمّد الثقفي قال: بلغ عليّا عليه السّلام أنّ ابن العاص ينتقصه عند أهل الشام، فصعد المنبر فحمد اللّه و أثنى عليه ثمّ قال: يا عجبا عجبا لاينقضى لابن النّابغة يزعم لأهل الشّام، الى آخر الكلام و جمع بين الروايتين.

و كيف كان فقد ظهر و تحقّق من هذه الرّوايات و ممّا قدّمناه في التذنيب الأوّل أنّ نسبة ابن العاص له عليه السّلام إلى الدعابة كان منشاها شدّة العناد و العداوة كما قد ظهر كذب اللّعين ابن اللّعين في ذلك بتكذيبه له عليه السّلام مع ما ذكره عليه السّلام من البيّنة و البرهان على كذبه، و هو أنّ من كان قلبه مستغرقا بذكر الآخرة و ما فيها لا يكون له فراغ إلى التلفّت إلى الدّنيا و مالها.

قال الشّارح المعتزلي: و أنت إذا تأمّلت حال علي عليه السّلام فى أيّام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وجدته بعيدا عن أن ينسب إلى الدّعابة و المزاح لأنّه لم ينقل عنه شي‏ء من ذلك أصلا لا في الشّيعة و لا في كتب المحدّثين، و كذلك إذا تأمّلت حاله في أيام أبي بكر و عمر لم تجد في كتب السيرة حديثا واحدا يمكن أن يتعلّق به متعلّق في دعابته و مزاحه إلى أن قال: و لعمر اللّه لقد كان أبعد من ذلك و أىّ وقت كان يتّسع لعليّ عليه السّلام حتّى يكون فيه على الصّفات، فان زمانه كلّها في العبادة و الذكر و الصّلاة و الفتاوى‏ و العلم و اختلاف النّاس إليه في الأحكام و تفسير القرآن، و نهاره كلّه أو معظمه مشغول بالصّوم، و ليله كلّه أو معظمه مشغول بالصّلاة، هذا في أيّام سلمه فأمّا أيّام حربه فالسّيف الشّهير و النشّاب الطّرير و ركوب الخيل وقود الجيش و مباشرة الحروب.

و لقد صدق عليه السّلام في قوله إنّه ليمنعني من اللّعب ذكر الموت و لكن الرّجل الشريف النبيل الذي لايستطيع أعداؤه أن يذكروا له عيبا أو يعدوا عليه وصمة لا بدّ أن يحتالوا و يبذلوا جهدهم في تحصيل أمرّ ما و إن ضعف يجعلون عذرا له في دمه و يتوسلون به على أتباعهم في تحسينهم لهم مفارقته و الانحراف عنه، و ما زال المشركون و المنافقون يضعون لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الموضوعات و ينسبون إليه ما قد برأه اللّه عنه من العيوب و المطاعن في حياته و يعد وفاته إلى زماننا هذا، و ما يزيده اللّه سبحانه إلّا رفعة و علوّا.

فغير منكر أن يعيب عليا عليه السّلام عمرو بن العاص و أمثاله من أعدائه بما إذا تأمّله المتأمّل علم أنّهم باعتمادهم و تعلّقهم به قد اجتهدوا في مدحه و الثناء عليه لأنهم لو وجدوا غيره عيبا لذكروه.

أقول: و لعلّه إلى ذلك ينظر الشاعر في قوله:

و اذا أتتك مذمّتي من ناقص
فهي الشهادة لي بأنّي كامل‏

و لعمرى انّه لابيان فوق ما أتى به الشارح من البيان في توضيح برائة ساحته عليه السّلام مما قاله ابن العاص في حقّه من الكذب و البهتان إلّا أنّه لو انصف لعلم أنّ كلّ الصّيد في جوف الفراو أنّ أوّل من فتح أمثال ذلك الباب لابن العاص و نظرائه هو عمر بن الخطاب إذ هو أوّل من صدر عنه هذه اللّفظة فحذا ابن العاص حذوه كما سبق ذلك في التذييل الثاني من تذييلات الفصل الثالث من فصول الخطبة الثالثة المعروفة بالشقشقيّة.

و قد اعترف به الشّارح نفسه أيضا ههنا حيث قال: و أمّا ما كان يقوله عمرو بن العاص في عليّ لأهل الشام: إنّ فيه دعابة يروم أن يعيبه بذلك عندهم‏ فأصل ذلك كلمة قالها عمر فتلقفها أعداؤه حتّى جعلها أعداؤه عيبا له و طعنا عليه.

و استند في ذلك إلى رواية أحمد بن يحيى في كتاب الأمالي قال: كان عبد اللّه ابن عبّاس عند عمر فتنّفس عمر نفسا عاليا قال ابن عبّاس حتّى ظننت أنّ أضلاعه قد انفرجت فقلت له: ما أخرج هذا النّفس منك يا أمير المؤمنين إلّا همّ شديد قال: اى و اللّه يا بن عبّاس فكرت فلم أدر فيمن أجعل هذا الأمر بعدي، ثمّ قال: لعلّك ترى صاحبك لها أهلا قلت: و ما يمنعه من ذلك من جهاده و سابقته و قرابته و علمه قال: صدقت و لكنه امرء فيه دعابة ثمّ ذكر الخمسة الباقية من أمر أهل الشورى و ثبت لكلّ منهم عيبا نحو ما تقدّم ذكره في شرح الخطبة الشقشقية ثمّ قال: إنّ أحراهم أن يحملهم على كتاب ربّهم و سنّة نبيّهم لصاحبك و اللّه لئن وليها ليحملنّهم على المحجّة البيضاء و الصّراط المستقيم.

ثمّ اعتذر الشارح عن جانب عمر بأنّ عمر لما كان شديد الغلظة، وعر الجانب خشن الملمس، دايم العبوس، كان يعتقد أنّ ذلك هو الفضيلة و أنّ خلافه نقص و لو كان سهلا طلقا مطبوعا على البشاشة و سماحة الخلق لكان يعتقد أنّ ذاك هو الفضيلة و أنّ خلافة نقص حتى لو قدّرناا أنّ خلقه حاصل لعليّ و خلق عليّ عليه السّلام حاصل له لقال في عليّ لو لا شراسة فيه، فهو غير ملوم عندي فيما قاله و لا منسوب إلى أنّه أراد الغص من عليّ عليه السّلام و القدح فيه و لكنه أخبر عن خلقه ظانّا أنّ الخلافة لاتصلح إلّا للشديد الشّكيمة العظيم الوعورة.

إلى أن قال: و جملة الأمر أنّه لم يقصد عيب عليّ عليه السّلام و لا كان عنده معيبا و لا منقوصا، ألا ترى أنه قال في آخر الخبر إنّ أحراهم أن يحملهم على كتاب اللّه و سنّة رسوله لصاحبك، ثمّ أكدّ ذلك بأن قال لئن وليهم ليحملنّهم على المحجّة البيضاء و الصراط المستيم، فلو كان أطلق تلك اللّفظة و عنى بها ما حملها عليه الخصوم لم يقل في خاتمة كلامه ما قاله، انتهى ما أردنا ايراده من كلامه.

و أقول: لا أدرى إلى م يتعصّب هذا الرّجل حقّ عمر و حتّام يستصلح‏ عثراته و أيّ شي‏ء رأى منه حتّى اغترّ به و أىّ داع له إلى تأويل كلامه فانّ لفظة الدّعابة في كلام ابن العاص و ابن الخطاب واحدة فلم يبقيها في حقّ ابن العاص على ظاهرها و يجريها على أقبح وجها و يأوّلها في حق ابن الخطاب و يخرّجها على أحسن وجهها مع أنّ الشمس لا يستر بالحجاب و الحقّ لايخفى على أولى الألباب.

و أهل المعرفة يعرف أنّ كلّ ما يتوجّه في هذا الباب على ابن العاص يتوجّه على ابن الخطاب بل و زيادة إذ هو أوّل من صدر عنه هذا التشنيع و أوّل من اتّهمه عليه السّلام بهذا الأمر الفظيع.

ثمّ أقول: كيف خفي عن الشارح النتاقض في كلام عمر مع وضوحه حيث إنّه صدق ابن عبّاس أوّلا في كون أمير المؤمنين عليه السّلام أهلا للخلافة إلّا أنّه استدرك بقوله: و لكنه فيه دعابة فجعل الدعابة مانعة له عنها موجبة لسقوطه عن أهليّتها و ذلك يناقض صريحا قوله في آخر الرّواية لئن وليها ليحملنّهم على المحجّة البيضاء و بعبارة أخرى إن كانت الدّعابة التي نسبها إليه عليه السّلام أمرا خارجا عن حدّ الاعتدال مخالفا للشريعة الغراء كيف يمكن معها حمل الناس على المحجّة البيضاء و على الكتاب و السنّة و الطريقة المستقيمة و إن لم يكن أمرا منافيا لحملهم على ما ذكر فأيّ مانعية له عن استحقاق الخلافة و الولاية.

و أمّا ما اعتذر به الشارح من أنّ عمر إنّما قال ذلك بمقتضى شدّة غلظته و خشونة جبلته ظانا أنّ الخلافة لا تصلح إلا للشديد الشكيمة العظيم الوعورة.

ففيه أنّ الشدّة و الغلظة لو كانت شرطا للخلافة كما ظنه عمر لوجب أن يكون شرطا للنّبوة بطريق أولى مع أنّه سبحانه قال: «فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ» و مدح نبيَّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: «وَ إِنَّكَ لَعَلى‏ خُلُقٍ عَظِيمٍ».

فاللّازم لعمر الّذي جعلوه خليفتهم أن يكون سيره و سلوكه على طبق الكتاب‏ لا أن ينبذ الكتاب وراء ظهره و يتكلّم بمقتضى طبيعته و يجانب الاقتداء بنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم في أفعاله و أعماله «و أخلاقه خ ل».

و الانصاف أنّ من لاحظ وجنات حال عمر يعرف أنّ كلّ ما صدر عنه من الأقوال و الأفعال أو أغلبه كان ناشئا من فرط قوته الغضبية و الشّهوية و مقتضى هوى نفسه الأمارة، و لم يكن ملاحظا جانب الشريعة و مقدّما لها على دواعي نفسه و مقتضى جبلته، بل من راجع محاوراته عرف أنّه كان مثل حيّة سمّه في لسانه تلسع المخالف و المؤالف، و عقرب عوجاء لا تفرق بين البرّ و الفاجر.

و كفى بذلك شاهدا ما قاله لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم حين وفاته صلّى اللّه عليه و آله و سلم على ما قدّمناه مفصّلا في شرح الكلام السّادس و السّتين في التّنبيه الثاني منه، و ما قاله لأهل الشّورى حين وصيّته كما مرّ في ثاني تذييلات الفصل الثالث من شرح الخطبة الثّالثة، و ما توعد به جبلة بن الأيهم حتى عاد إلى النّصرانية حسب ما مرّ في شرح الفصل الثّاني من الخطبة الثالثة و مرّ هناك أيضا أنّ ابن عبّاس أضمر بطلان القول بالعول في حياته و أظهره بعد وفاته خوفا منه و أنّه أساء الأدب في الكلام بالنسبة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في صلح الحديبيّة إلى غير ذلك ممّا لو أردنا إشباع الكلام فيها لطال.

و يؤيد ذلك كلّه ما رواه الشّارح في شرح هذا الكلام من أنه إذا غضب على أهله لم يسكن غضبه حتّى يعضّ يده عضّا شديدا حتّى يدميها.

و بعد ذلك كلّه لا يكاد ينقضي عجبي من الشّارح و أمثاله حيث إنّهم يوردون مثل ما أوردناه في كتبهم و يذكرون مثالب عمر و مطاعنه ثمّ يغمضون عنها و لا يعرفون مع فضلهم و ذكائهم في العلوم أنّ أدنى شي‏ء من ذلك يوجب سقوط الرّجل عن مرتبة الكمال و عن درجة القبول و الاعتبار فكيف بذلك كلّه و كيف بمرتبة الخلافة و منصب الولاية.

و لا أدرى بأيّ مناقبه يجعلونه قابلا لولاية اللّه، و مستحقا لخلافة رسول اللّه، و لايقاً لرياسة الدّين، و أهلا لأمارة المؤمنين أ بحسن حاله أم مزيد كماله أم‏ شرافة نسبه أم كرامة حسبه أم عذوبة لسانه أم فصاحة بيانه أم علوّ قدره أم طهارة مولده أم كثرة علمه أم وفور فضله «وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَ وَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ.

الثالث

في تحقيق الكلام في جواز المزاح و عدمه فأقول إنّ الأخبار في طرفي النفى و الاثبات كثيرة جدا إلّا أنّ مقتضى الجمع بينها هو حمل أدلّة النّفى على الكثير منه الخارج عن حدّ الاعتدال و أدلّة الجواز على القليل كما قال الشّاعر:

أفد طبعك المصدود بالجدّ راحة
يجمّ«» و علّله بشي‏ء من المزح‏

و لكن إذا أعطيته المزح فليكن‏
بمقدار ما يعطى الطّعام من الملح‏

و يدلّ على هذا الجمع الأدلّة المفصلة و السّيرة المستمرة، فانّ المشاهد من حالات النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة أنهم كانوا قد يمزحون إدخالا للسّرور في قلب المؤمنين و مداراة للخلق و مخالطة معهم أو نحو ذلك، و كذلك نوّابهم القائمون مقامهم من المجتهدين و العلماء العاملين، فانّهم مع كثرة زهدهم و شدّة ورعهم ربما يمزحون و يدعبون.

و بالجملة فالحقّ في المقام هو الجواز في الجملة للأدلّة الدّالة على ذلك قولا و فعلا و تقريرا.

فمنها ما في الوسائل عن الكلينيّ باسناده عن معمّر بن خلاد قال: سألت أبا الحسن عليه السّلام فقلت جعلت فداك الرّجل يكون مع القوم فيجري بينهم كلام يمزحون و يضحكون، فقال، لا بأس ما لم يكن، فظننت أنه عنى الفحش ثمّ قال: إنّ رسول‏ اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يأتيه الأعرابي فيأتي إليه الهدية ثمّ يقول مكانه أعطنا ثمن هديتنا فيضحك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كان إذا اغتمّ يقول ما فعل الأعرابي ليته أتانا.

و عن إبراهيم بن مهزم عمّن ذكره عن أبي الحسن الأوّل عليه السّلام قال: كان يحيى بن زكريّا يبكي و لا يضحك، و كان عيسى بن مريم يضحك و يبكي، و كان الّذي يصنع عيسى عليه السّلام أفضل من الّذي كان يصنع يحيى عليه السّلام.

و عن الفضل بن أبي قرة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال: ما من مؤمن إلّا و فيه دعابة، قلت: و ما الدّعابة قال: المزاح.

و عن يونس بن الشيباني قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: كيف مداعبة بعضكم بعضا قلت: قليل قال: فلا تفعلوا فانّ المداعبة من حسن الخلق و إنّك لتدخل بها السّرور على أخيك، و لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يداعب الرّجل يريد أن يسرّه.

أقول: و يستفاد من هذه الرّواية استحبا بها لشمول أدلّة استحباب حسن الخلق و إدخال السّرور في قلب المؤمن عليها.

روى في الوسائل عن الصّدوق في المجالس مسندا عن محمّد بن عليّ الرّضا عن آبائه عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام إنكم لن تسعوا النّاس بأموالكم فسعوهم بطلاقة الوجه و حسن اللّقاء فاني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول إنّكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوها بأخلاقكم.

و في شرح المعتزلي روى الناس قاطبة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال إني أمزح و لا أقول إلّا حقا.

و فيه أتت عجوز من الأنصار إليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فسألته أن يدعو اللّه تعالى لها بالجنّة فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ الجنّة لا تدخلها العجز، فصاحت فتبسّم عليه السّلام فقال: «إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً قال و كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يمازح ابني بنته مزاحا مشهورا و كان يأخذ الحسين عليه السّلام فيجعله على بطنه و هو صلّى اللّه عليه و آله نائم على ظهره و يقول ترقّه ترقّه ترقّ عين بقّة.

قال: و جاء في الخبر أن يحيى عليه السّلام لقي عيسى عليه السّلام و عيسى متبسّم فقال يحيى: ما لي أراك لاهيا كأنّك آمن فقال أراك عابسا كأنّك آيس فقال: لا نبرح حتى ينزل علينا الوحى فأوحى اللّه إليهما أحبّكما إلىّ الطّلق البسّام أحسنكم ظنّا بي.

قال: و رأى نعيمان يبيع أعرابي عكّة عسل فاشتراها منه فجاءها إلى بيت عايشة في يومها، و قال خذوها فظنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّه أهداها إليه و مضى نعيمان فنزل الأعرابيّ على الباب فلما طال قعوده نادى يا هؤلاء إمّا أن تعطونا ثمن العسل أو تردّوه علينا، فعلم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالقصة و أعطى الأعرابي الثمن و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لنعيمان: ما حملك على ما فعلت قال: رأيتك يا رسول اللّه تحبّ العسل و رأيت العكّة مع الأعرابي، فضحك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لم ينكر.

و في زهر الرّبيع تأليف السيّد نعمة اللّه الجزايري «قده» روي أنّه كان يأكل رطبا مع ابن عمّه أمير المؤمنين عليه السّلام و كان يضع النوى قدام عليّ عليه السّلام فلما فرغا من الأكل كان النّوى مجتمعا عنده، فقال صلّى اللّه عليه و آله: يا علي إنّك لأكول، فقال: يا رسول اللّه الأكول من يأكل الرطب و النواة.

و روى أنه أتته امرئة في حاجة لزوجها فقال لها: و من زوجك قالت: فلان فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الّذي في عينه بياض فقالت: لا، فقال: بلى فانصرفت عجلا إلى زوجها و جعلت تتأمّل عينه فقال لها: ما شأنك فقالت: أخبرني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ في عينك بياضا، فقال: أما ترين بياض عيني أكثر من سواده قال: و استدبر صلّى اللّه عليه و آله رجلا من ورائه و أخذ بعضده و قال من يشترى هذا العبد يعني أنه عبد اللّه.

و قال: قال صلّى اللّه عليه و آله لرجل: لا تنس ياذا الاذنين.

و رأى جملا يمشي و عليه حنطة فقال عليه السّلام: تمشي الهريسة.

و جاء أعرابيّ فقال: يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بلغنا أنّ الدّجال يأتي بالثريد و قد هلكوا جميعا جوعا أفترى بأبي أنت و أمّي أن أكفّ عن ثريده تعفّفا فضحك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثمّ قال: بل يغنيك اللّه بما يغني به المؤمنين.

و قبّل خالد القسري خدّ امرئة فكشت إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فارسل إليه فاعترف و قال: إن شائت أن تقتصّ فلتقتصّ فانّ من دينك القصاص فتبسّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أصحابه و قال: أ و لا تعود فقال: لا و اللّه يا رسول اللّه فعفى صلّى اللّه عليه و آله.

و قال رجل: احملني يا رسول اللّه، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنا حاملوك على ولد ناقة فقال: ما أصنع بولد ناقة قال صلّى اللّه عليه و آله: و هل يلد الابل إلّا النّوق.

الرابع في طايفة من طرايف الكلم و ظرايف الحكم و نوادر الأخبار، و غرائب الآثار

أردت أن اوردها هنا ليرتفع بها الكلال و يرجع اليها عند الملال، فانّ القلوب قد تملّ و الأرواح تكلّ كما تكلّ الأبدان فتحتاج إلى التنزّه و الارتياح و التّفرّج و السّراح.

فأقول: روى إنّ أبا حنيفة قال يوما لمؤمن الطاق: يا با جعفر أنت قائل بالرّجعة قال: نعم، قال: فاقرض لي خمسمائة دينار اؤدّيك في الرّجعة، فأجاب «ره» إنّ من جملة أحكام الرجعة عندنا أنّ بعض مبغضي آل محمّد سلام اللّه عليه و عليهم يرجعون بصورة الكلاب و الخنازير فلا بدّ أن تؤتيني ضامنا على أنّك ترجع بصورة الانسان و أخاف أن ترجع بصورة الخنزير.

و قال أيضا له يوما: يا با جعفر لو كان لعليّ حقّ في الخلافة فلم لم يطالبها قال: خاف أن يقتلها الأجنّة بحماية أبي بكر و عمر كما قتلت سعد بن عبادة.

قال الراغب في المحاضرات: إنّ بقزوين قرية أهلها متناهون بالتشيّع فمرّ بهم رجل فسألوه عن اسمه فقال: عمر، فضربوه ضربا شديدا، فقال: ليس اسمى عمر بل عمران، فقالوا: هذا أشدّ من الأوّل فانّ فيه عمر و حرفان من عثمان فهو أحقّ بالضّرب.

و مضى رجل إلى بغداد فاتّهموه بسبّ الشّيخين فأخذوه إلى القاضي فسأله القاضي، فقال: كذبوا علىّ أنا رجل عاقل أعرف أنّ هذه البلاد بلاد أهل الخلاف لا ينبغي اللعن و السبّ و الطّعن فيها هذا شي‏ء يجوز في بلادنا أمّا هذه البلاد فلا و كان القاضي منصفا فضحك و خلّاه.

روى في حواشي المغني عن أبي بكر الأنباري بسنده إلى هشام بن الكلبيّ قال: عاش عبيد بن شرية الجرهمي ثلاث مأئة سنة و أدرك الاسلام فأسلم و دخل على معاوية بالشّام و هو خليفة، فقال: حدّثني بأعجب ما رأيت، فقال: مررت ذات يوم بقوم يدفنون ميّتا لهم فلما انتهيت إليهم اغرورقت عيناى بالدّموع فتمثّلت بقول الشّاعر:

يا قلب إنّك من أسماء مغرور
فاذكر و هل ينفعنك اليوم تذكير

قد بحت بالحبّ ما تخفيه من أحد
حتّى جرت لك اطلاقا محاضير

تبغي امورا فما تدري أعاجلها
أدنى لرشدك أم ما فيه تأخير

فاستقدر اللّه خيرا و ارضينّ به‏
فبينما العسر إذ دارت مياسير

و بينما المرء في الاحياء مغتبط
إذ صار فى الرّمس يعفوه الأعاصير

يبكي عليه الغريب ليس يعرفه‏
و ذو قرابته في الحىّ مسرور

قال: فقال: لي رجل: أتعرف من قال هذا الشعر قلت: لا، قال: إنّ قائله هو الذي دفنّاه السّاعة و أنت الغريب تبكي عليه و لا تعرفه، و هذا الذي خرج من قبره أمسّ الناس رحما به و أسرّهم بموته فقال له معاوية: لقد رأيت عجبا فمن الميّت قال: هو عنتر بن لبيد الغدري.

روى أنّ مؤمن الطاق كان بينه و بين أبي حنيفة مزاح و كان يمشي معه يوما فنادى رجل: من يدلّني على صبّي ضالّ فقال مؤمن الطّاق أمّا الصبيّ الضالّ فلا أدري إن كنت تبغي الشيخ الضالّ فهو هذا. و أشار إلى أبي حنيفة، و قيل إنّ أبا حنيفة كان جالسا مع أصحابه فجاء مؤمن الطاق فقال أبو حنيفة لأصحابه: جائكم الشيطان و سمعه مؤمن الطّاق فقرأ.أَ لَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى«»

أقول: مؤمن الطاق لقب هشام بن الحكم عند الشّيعة و هو من أصحاب الصّادق عليه السّلام و يسمّونه المخالفون شيطان الطاق و له بسطة يد في المناظرات.

قيل: مكتوب في خاتمة التوراة هذه الكلمات: كلّ غنيّ لا زاحة له من ماله فهو و الأجير سواء، و كلّ امرئة لا تجالس في بيتها فهي و الأمة سواء، و كلّ فقير تواضع الأغنياء لغناه فهو و الكلب سواء، و كلّ ملك لا عدل له فهو و فرعون سواء و كلّ عالم لا يعمل بعلمه فهو و إبليس سواء.

المدايني، رأيت رجلا يطوف بين الصّفا و المروة على بغل ثمّ رأيته راجلا في سفر فقلت له: تمشي و يركب الناس فقال: ركبت حيث يمشي الناس و حقّ على اللّه أن يرجلني حيث يركب النّاس.

ارسطاطاليس، حركة الاقبال بطيئة حركة الادبار سريعة لأنّ المقبل كالصّاعد من مرقاة إلى مرقاة و المدبر كالمقذوف به من علوّ إلى سفل.

أرسل رجل سنّي إلى شيعي مقدارا من الحنطة و كانت حنطة عتيقة فردّها عليه ثمّ أرسل إليه عوضا جديدة و لكن فيها تراب فقبلها و كتب إليه بهذا الشّعر:

بعثت لنا بدال البرّ برّا
رجاء للجزيل من الثّواب‏

رفضناه عتيقا و ارتضينا
به إذ جاء و هو أبو تراب‏

أقول: و غير خفيّ لطفه فانّ عتيق اسم أبي بكر و أبو تراب كنية أمير المؤمنين عليه السّلام سئل نصرانيّ عسيى عليه السّلام أفضل أم موسى فقال: إنّ عيسى يحيى الموتى و موسى و كز رجلا فقضى عليه، و عيسى تكلّم في المهد صبيّا و موسى قال بعد ثمانين سنة: و احلل عقدة من لساني فانظر أيّهما أفضل.

نقل انّه لما مات عمر بن عبد العزيز و تخلّف بعده يزيد بن عبد الملك قال لوزرائه: دلّوني على خزائن ابن عبد العزيز فدلّوه على حجرة كان يخلو فيها، فلمّا فتحوا قفلها رأوها قاعا بيضاء و في وسطها تراب متحجّر من بكائه و فيها ثياب خشنة و غلّ من الحديد يضعه في عنقه و يبكى إذا تفرّد بنفسه قيل إنّ أهل خراسان علموا بموته بالشام يوم وفاته قالوا: كنّا نرى الذّئب‏ مع الغنم و السباع مع الانعام حتى افترقت ذات يوم من الأيّام فعلمنا أنه قد مات و قال الشّيخ الرّئيس: النساء من ثلاث إلى عشر سنين لعبة اللّاعبين، و من عشرة إلى خمسة عشرهنّ حور عين، و من خمسة عشر إلى عشرين هنّ لحم و شحم و لين، و من عشرين إلى ثلاثين هنّ امّهات البنات و البنين، و من ثلاثين إلى أربعين هنّ عجوز في الغابرين، و من أربعين إلى خمسين اقتلوهنّ بالسّكين، و من خمسين إلى ستّين عليهنّ لعنة اللّه و الملائكة و النّاس أجمعين.

قيل دخلت امرئة على داود النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالت: يا نبيّ اللّه ربّك عادل أم ظالم فقال عليه السّلام: ويحك هو العدل الّذي لا يجوز ثمّ قال لها: ما قصّتك قالت: انّى امرئة أرملة و عندى ثلاث بنات و إنّي أقوم عليهنّ من غزل يدي فلمّا كان أمس شدّيت غزلى في خرقة حمراء و أردت أن أذهب به إلى السوق و أبيعه فأشترى الطعام للأطفال فاذا بطاير قد انقضّ علىّ و أخذ الخرقة و الغزل و طار، و بقيت حزينة مالي شي‏ء أبلغ به أطفالي.

قال الراوي فبينما المرأة مع داود عليه السّلام في الكلام فاذا بطارق يطرق الباب فأذن داود عليه السّلام بالدّخول و إذاهم عشرة من التجار و مع كلّ واحد مأئة دينار فقالوا: يا نبيّ اللّه بمستحقّها فقال عليه السّلام لهم و ما سبب إخراجكم هذا المال قالوا: كنّا في مركب فهاجت علينا الريح فعاب المركب و أشرفنا على الغرق و إذا نحن بطاير قد ألقى إلينا خرقة حمراء و فيها غزل فسددنا به عيب المركب فانسدّ و نذرنا أن يصدّق كلّ واحد منّا مأئة دينار من ماله، و هذا المال بين يدك تصدّق به على من أردت، فالتفت داود إلى المرأة و قال عليه السّلام: ربّك يتّجر لك في البحر و تجعلينه ظالما ثمّ أعطاها الألف دينار و قال: اذهبي بها و أنفقيها على أطفالك و اللّه أعلم بحالك.

حكى إنّ جماعة من المصرّيين لعنهم اللّه نقبوا في جوار روضة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قصدوا إخراج جسده الشريف و نقله إلى مصر و كان ذلك في نصف اللّيل فسمع أهل المدينة من الجوّ: احفظوا نبيّكم صلّى اللّه عليه و آله، فأوقدوا السّراج و طافو فرأوا ذلك النقب‏ في الجدار و حوله الجماعة موتى.

قال السّيد الجزايري: حكى لي جماعة من الثقات أنّه في بعض السّنين نزلت صاعقة فيها نار من السّماء على الضّريح المقدّس النبويّ صلّى اللّه عليه و آله في المدينة فاحرقت طرفا منه فقال بعض النواصب شعرا:

لم يحترق حرم النبيّ لحادث
و لكلّ شي‏ء مبتدا و إزار

لكنّما أيدي الرّوافض لامست‏
ذاك الجناب فطهّرته النّار

فقال بعض الشّيعة في الجواب:

لم يحترق حرم النبيّ لحادث
و لكلّ شي‏ء مبتدا و عواقب‏

لكنّ شيطانين قد نزلا به‏
و لكلّ شيطان شهاب ثاقب‏

روى في البحار انّ يحيى بن خالد البرمكي سأل مؤمن الطّاق هشام بن الحكم بمحضر من الرّشيد فقال: أخبرني يا هشام هل يكون الحقّ في جهتين مختلفتين قال هشام: الظاهر لا قال فأخبرني عن رجلين اختصما في حكم في الدّين و تنازعا هل يخلو من أن يكونا محقّين أو مبطلين أو أن يكون أحدهما محقّا و الآخر مبطلا فقال هشام: لا يخلو من ذلك.

قال يحيى: فأخبرني عن عليّ و العبّاس لمّا اختصما إلى أبي بكر في الميراث أيّهما كان المحقّ و من المبطل إذ كنت لا تقول أنّهما كانا محقّين و لا مبطلين قال هشام: فنظرت فاذا انّني إن قلت إنّ عليّا عليه السّلام كان مبطلا كفرت و خرجت من مذهبي، و إن قلت: إنّ العبّاس كان مبطلا ضرب الرّشيد عنقي و وردت عليّ مسألة لم اكن سئلت عنها قبل ذلك الوقت و لا أعددت لها جوابا.

فذكرت قول أبي عبد اللّه عليه السّلام يا هشام لا تزال مؤيّدا بروح القدس ما نصرتنا بلسانك فعلمت أنّي لا اخذل و عنّ لي الجواب في الحال فقلت له: لم يكن لأحدهما خطاء حقيقة و كانا جميعا محقّين و لهذا نظير قد نطق به القرآن في قصّة داود عليه السّلام يقول اللّه عزّ و جلّ: وَ هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا إلى قوله: خَصْمانِ بَغى‏ بَعْضُنا عَلى‏ بَعْضٍ.

فأيّ الملكين كانا مخطئا و أيّهما كان مصيبا أم تقول انهما كانا مخطئين فجوابك في ذلك جوابي فقال يحيى: لست أقول إنّ الملكين أخطا بل أقول إنهما أصابا و ذلك إنّهما لم يختصما في الحقيقة و لم يختلفا في الحكم و إنّهما أظهرا ذلك لينبّها على داود عليه السّلام في الخطيئة و يعرّفاه الحكم و يوقفاه عليه.

قال هشام: قلت له: كذلك عليّ عليه السّلام و العبّاس لم يختلفا في الحكم و لم يختصما في الحقيقة و إنما أظهرا الاختلاف و الخصومة لينبّها أبا بكر على خطائه و يدلّاه على أنّ لهما في الميراث حقّا و لم يكونا في ريب من أمرهما و إنما كان ذلك منهما على حدّ ما كان من الملكين، فاستحسن الرّشيد ذلك الجواب.

صلّى أعرابي خلف إمام فقرأ.إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى‏ قَوْمِهِ.

ثمّ وقف و جعل يردّدها، فقال الأَعرابيّ: أرسل غيره يرحمك اللّه و أرحنا و أرح نفسك و صلّى آخر خلف إمام فقرأ.

فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي.

فوقف و جعل يردّدها، فقال الأعرابيّ: يا فقيه إن لم يأذن لك أبوك في هذه اللّيلة نظلّ نحن وقوفا إلى الصّباح ثمّ تركه و انصرف.

في الأثر انّ الجاحظ كان من العلماء النّواصب و هو قبيح الصّورة حتّى قال الشّاعر:

لو يمسخ الخنزير مسخا ثانيا
ما كان إلّا دون قبح الجاحظ

قال يوما لتلامذته: ما أخجلني إلّا امرئة أتت بي إلى صائغ فقالت: مثل هذا، فبقيت حائرا في كلامها، فلمّا ذهبت سألت الصّائغ فقال: استعملتني لأصوغ لهاصورة جنّي فقلت: لا أدرى كيف صورته فأتت بك.

في الحديث إنّ شيطانا سمينا لقى شيطانا مهزولا فقال: لم صرت مهزولا قال: إنّي مسلّط على رجل إذا أكل أو شرب أو أتى أهله يقول: بسم اللّه فحرمت المشاركة معه فصرت مهزولا، و أنت لم صرت سمينا قال: إنّي مسلّط على رجل غافل عن التّسمية يأكل و يشرب و يأتي أهله غافلا فشاركته فيها كما قال تعالى وَ شارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ.

حكي إنّ عالما سئل عن مسألة فقال: لا أدرى فقال السّائل: ليس هذا مكان الجهّال، فقال العالم: المكان لمن يعلم شيئا و لا يعلم شيئا فأمّا الّذي يعلم كلّ شي‏ء فلا مكان له.

و سئل أبو بكر الواعظ عن مسألة فقال: لا أدرى قيل له: ليس المنبر موضع الجهّال، فقال: إنّما علوت بقدر علمي و لو علوت بقدر جهلي لبلغت السّماء.

دخل لصّ دار رجل يسرق طحينا في اللّيل فبسط ردائه و مضى إلى الطّحين ففطن به صاحب المنزل و مدّ يده و جرّا لرداء إليه فأتى اللّصُّ بالطّحين و وضعه يظن أنّه فوق الرّداء و إذا هو في الأرض فصاح به صاحب الدّار سارق سارق فانفلت اللّصّ هاربا و هو يقول قد علم أيّنا السّارق أنا أو أنت.

قال الأصمعي: دخلت البادية و معي كيس فأودعته عند امرئة منهم فلما طلبته أنكرته فقدمتها إلى شيخ فأقامت على إنكارها، فقال: ليس عليها إلّا يمين فقلت كأنّك لم تسمع قوله تعالى:

و لا تقبل لسارقة يمينا
و لو حلفت بربّ العالمينا

فقال: صدقت ثمّ تهدّدها فأقرّت و ردّت إلىّ مالي ثمّ التفت إلىّ الشّيخ فقال في أىّ سورة تلك الآية فقلت في سورة.

ألا هبّي بصحنك فاصبحينا
و لا تبقي خمور الأندرينا

قال: سبحان اللّه لقد كنت ظننت أنها في سورة إنّا فتحنا لك فتحا مبينا.

و نظيره انّ رجلا احضر ولده إلى القاضي فقال: يا مولانا إنّ ولدي هذا يشرب الخمر و لا يصلّى، فأنكر ولده ذلك فقال أبوه: أتكون صلاه بغير قراءة فقال الولد إنّي أقرء القرآن و أعرف القرائة فقال له القاضي: اقرء حتى أسمع فقال:

علق القلب ربابا
بعد ما شابت و شابا

إنّ دين اللّه حقّ‏
لا ترى فيه ارتيابا

فقال له أبوه: إنّه لم يتعلّم هذا إلّا البارحة سرق مصحف الجيران و حفظ هذا منه فقال له القاضي: قاتلكم اللّه يتعلّم أحدكم القرآن و لا يعمل به.

قيل: ما وضعت سرّى عند أحد فأفشاه فلمته لأنّى أحقّ باللّوم منه اذ كنت أضيق صدرا منه قال الشّاعر:

إذ المرء أفشا سرّه بلسانه
فصدر الّذي يستودع السرّ أضيق‏

إذا ضاق صدر المرء عن سرّ نفسه‏
و لام عليه آخرا فهو أحمق‏

رأى الحسن عليه السّلام يهوديّ فى أبهى زيّ و أحسنه و اليهودي في حال ردىّ و حال رثة، فقال: أليس قال رسولكم: الدّنيا سجن المؤمن و جنّة الكافر قال عليه السّلام نعم، فقال: هذا حالي و هذا حالك، فقال عليه السّلام: غلطت يا أخا اليهودي و لو رأيت ما وعدني اللّه من الثّواب و ما أعدّ لك من العقاب لعلمت أنّك في الجنّة و انّي في السّجن.

حكى صاحب الأغاني قال: صلّى دلّال يوما خلف إمام بمكّة فقال: وَ ما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي.

فقال: ما أدرى و اللّه، فضحك النّاس و قطعوا الصّلاة، فلمّا فرغوا عاتبه الامام و قال: ويلك لا تدع الجنون و السّفه قال: كنت عندي أنّك تعبد اللّه فلمّا سمعتك تستفهم ظننت أنّك قد شككت في ربّك فتب إليه.

قيل: دخل أعرابيّ في الجامع ليصلّي و كان اسمه موسى و وجد في طريقه‏ كيسا فيه دنانير فقرأ الامام: «و ما تلك بيمينك يا موسى» فرمى إليه الكيس و قال: و اللّه انّك لساحر.

حكى انّ بعضهم تمنّى في منزله و قال: يكون عندنا لحم فنطبخه على مرق فما لبث أن جاء جاره بصحن فقال: اغرفوا لنافيه قليلا من المرق، فقال. إنّ جيراننا يشمّون رايحة الأماني.

قال أبو عليّ بن سينا في رسالة المعراج: إنّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام مركز الحكمة و فلك الحقيقة و خزانة العقل، و لقد كان بين الصحابة كالمعقول بين المحسوس.

روى ان طايفة من العامة تناظروا مع شيخنا بهاء الملّة و الدّين فقالوا: كيف تجوّزون قتل عثمان مع ما ورد من قوله: صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مثل أصحابي كمثل النّجوم بايّهم اقتديتم اهتديتم فقال: جوّزنا قتله بهذا الحديث لأنّ بعض الصّحابة افتى بقتله و بعضهم باشر قتله.

قال الحجّاج يوما لرجل: اقرء شيئا من القرآن فقال: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ وَ رَأَيْتَ النَّاسَ «يَخْرُجُونَ مِنْ» دينِ اللَّهِ أَفْواجاً».

فقال: ليس كذلك بل هى يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ، قال: ذلك قبل ولايتك و لكنّهم الآن يخرجون بسببك، فضحك و أعطاه.

صلّى معروف الكرخي خلف إمام فلمّا فرغ من صلاته قال الامام لمعروف من أين تأكل قال: اصبر حتى اعيد صلاتي خلفك لأنّ من شكّ في رزقه شكّ في خالقه.

قال في مجمع البيان في ذكر حكم لقمان: إنّ مولاه دعاه فقال اذبح شاة فأتني بأطيب مضغتين منها، فذبح شاة و أتاه بالقلب و اللسان، فسأله عن ذلك فقال: إنّهما أطيب شي‏ء إذا طابا و أخبث شي‏ء إذا خبثا.

و فيه قال عبد اللّه بن دينار: قدم لقمان من سفر فلقى غلامه في الطّريق فقال: ما فعل أبي قال: مات، قال: ملكت أمري، قال: ما فعلت امرأتي قال: ماتت، قال: جدّد فراشي، قال: ما فعلت اختي قال: ماتت، قال: سترت عورتي، قال: ما فعل أخي قال: مات، قال: انقطع ظهري.

عن كشكول البهائي (ره) إنّ أباه حسين بن عبد الصّمد الحارثي وجد في مسجد الكوفة فصّ عقيق مكتوب عليه:

أنا درّ من السّماء نثروني
يوم تزويج والد السّبطين‏

كنت أصفى من اللّجين بياضا
صبغتني دماء نحر الحسين‏

قال نعمة اللّه الموسوي الجزايري (ره): وجدنا في نهر تستر«» صخرة صغيرة صفراء أخرجها الحفّارون من تحت الأرض و عليها مكتوب بخط من لونها: بسم اللّه الرّحمن الرّحيم لا إله إلّا اللّه محمّد رسول اللّه عليّ وليّ اللّه لمّا قتل الحسين بن عليّ بن أبي طالب بأرض كربلا كتب دمه على أرض حصباء: و سيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون.

في رياض الجنّة تأليف بعض أصحابنا انّ البارى عزّ و جلّ قال لعزرائيل: هل رحمت أحدا و هل هبت من أحد فقال: يا ربّ أنت أعلم، فقال سبحانه تعالى صدقت يا عزرائيل و لكن احبّ أن تقول ذلك، فقال عزرائيل: إنّي يا ربّ رحمت طفلا يرتضع ثدي امّه و كان هو و امّه في مركب في البحر فغرق المركب فأمرتني ان أقبض روح امّه فقبضتها و بقى الولد في البحر طايفا على صدر امّه فرحمته، و إنّي يا ربّ خفت (هبت خ ل) من رجل أمرتني أن أقبض روحه و كان ذا سلطان و مملكة و غلمان كثيرة و هو جالس على سريره في نهاية العافية فلما اردت قبض روحه دخلني خوف و رعب، فقال البارى سبحانه: يا عزرائيل الذي رحمته هو الذي خفت منه، ثمّ قال: المشهور أنّ الرّجل المذكور هو الشّداد المعروف، و العلم عند اللّه.

و فيه و في غيره أنّ بهلول وقت جنونه مرّ يوما على باب دار أبي حنيفة فوقف عند الباب ساعة فسمع أبا حنيفة يحدّث أصحابه و يقول: إنّ جعفر بن محمّد الصّادق عليه السّلام يقول: إنّ اللّه لا يمكن رؤيته و محال عليه الرؤية، و أيضا إنّ العبد فاعل مختار يفعل فعله بالاختيار، و يقول: إنّ الشّيطان يعذّب بالنار و هذه الأقوال الثّلاثة غير معقولة عندي.

أمّا الأوّل فلأنّ اللّه تعالى موجود و كلّ موجود يمكن رؤيته، و الثّاني إنّ العبد لا اختيار له، و الثالث إنّ الشّيطان خلق من النّار فلا يعذّب إذ النّار لا يعذّب بعضها بعضا.

فلمّا سمع البهلول ذلك الكلام اغتاظ و أخذ مدرا من الأرض فضرب أبا حنيفة فأصاب رأسه و أوجعه و مضى يعدو، فتلاحقه أصحاب أبي حنيفة و جاءوا به إليه و لأجل قرابته من المنصور الخليفة لم يقدروا أن يصلوا إليه بشي‏ء من الضرب قال أبو حنيفة: اذهبوا به إلى الخليفة و أخبروه بما فعل، فلما اخبر المنصور بالقصّة عاتبه و قال له: لم فعلت ذلك و طلب أبا حنيفة يعتذر إليه بحضرة البهلول، فطلب البهلول الرخصة منه في التّكلم مع أبي حنيفة فأذن له.

فقال: يا با حنيفة ما أصابك منّي قال: ضربتني بالمدر فوجع رأسي، فقال البهلول: أرني الوجع حتّى أنظر اليه، فقال أبو حنيفة: يا مجنون الوجع كيف يرى و كيف يمكن أن تنظر اليه فقال بهلول: يا ملعون الوجع موجود أم لا قال: بل موجود، قال بهلول: إنّك ادّعيت أنّ اللّه يرى لأنّه موجود و الوجع أيضا موجود فلم لا يرى فلمّا سمع أبو حنيفة ذلك أطرق رأسه و افحم.

ثمّ قال: يا با حنيفة ينبغي أن لا يوجع المدر رأسك لأنّك خلقت من التّراب و هو تراب، ثمّ قال: يا با حنيفة العبد لا فعل له و لا اختيار حسب ما زعمت فلأىّ شي‏ء تؤاخذني بما صدر منّي و لا قدرة لي عليه فلما سمع الخليفة أقواله استحسن مقاله و رخصه في الانصراف بغير عتاب.

في زهر الرّبيع انّ أبا العلي المعرّي كان يتعصّب لأبي الطيب فحضر يوما مجلس المرتضى «ره» فذكر أبو الطيب فأخذ المرتضى في ذمّه و الازراء عليه‏ فقال المعرّى: لو لم يكن له من الشعر إلّا قصيدته الّلامية و هي:

لك يا منازل في القلوب منازل
أقفرت أنت و هنّ منك أواهل‏

لكفى في فضله، فغضب المرتضى و أمر بحسب المعرّي فسحب و ضرب، فلما اخرج قال المرتضى لمن بحضرته: هل تدرون ما عنى الأعمى إنّما عنى قول المتنبّي في اثناء قصيدته:

و إذا أتتك مذمّتي من ناقص
فهى الشّهادة لي بأنّي كامل‏

و لمّا بلغ الخبر إلى أبي العلى قال: قاتله اللّه ما أشدّ فهمه و زكاه، و اللّه ما عنيت غيره.

أقول: أبو العلى ذلك كان من النّواصب فصار من الزنادقه و معروف أنّ المرتضى «ره» أمر بقلع عينيه و له اعتراضات على الشريعة و حكمة اللّه سبحانه و من جملتها قوله:

يد بخمس مئين عسجد وديت
ما باله قطعت في ربع دينار

و أجابه المرتضى بقوله:

عزّ الامانة أغلاها و أرخصها
ذلّ الخيانة فانظر حكمة البارى‏

و ربما ينسب هذا الجواب إلى أخيه الرضي «ره».

في البحار من كتاب الفردوس عن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا رأيت حية في الطّريق فاقتلها فانّي قد شرطت على الجنّ أن لا يظهروا في صورة الحيات فمن ظهر فقد أحلّ بنفسه.

أقول: و يناسب ذلك و يؤيّده ما ذكره شارح ديوان أمير المؤمنين في فواتحه عن استاده جلال الدّين الدّواني عن السيّد صفيّ الدّين عبد الرحمن اللايجي أنه قال: ذكر لي العالم الفاضل المتّقي شيخ أبو بكر عن الشّيخ برهان الدّين الموصلي و هو رجل عالم فاضل ورع أنا توجّهنا من مصر إلى مكّة نريد الحجّ و نزلنا منزلا و خرج عليه ثعبان فثار الناس إلى قتله فقتله ابن عمّي فاختطف و نحن نرى سعيه و تبادر النّاس على الخيل و الركاب يريدون ردّه فلم يقدروا على ذلك فحصل للناس‏ من ذلك أمر عظيم.

فلما كان آخر النّهار جاء و عليه السّكينة و الوقار فسألناه ما شأنك فقال: ما هو إلّا أن قتلت هذا الثّعبان الذي رأيتموه فصنع بي ما رأيتم، فاذا أنا بين قوم من الجنّ يقول بعضهم قتلت أبي و بعضهم قتلت ابن عمّي فتكاثروا علىّ و إذا رجل لصق بي و قال لي قل: أنا أرضي باللّه و بالشريعة المحمدية صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقلت ذلك فأشار إليهم أن سيروا إلى الشّرع فسرنا حتّى وصلنا إلى شيخ كبير على مصطبة، فلما صرنا بين يديه قال: خلّوا سبيله و ادّعوا عليه فقال الأولاد ندّعى عليه أنّه قتل أبانا فقلت: حاشا للّه انا نحن وفد بيت اللّه الحرام نزلنا هذا المنزل فخرج علينا ثعبان فتبادر النّاس إلى قتله فضربته فقتلته فلما سمع الشّيخ مقالتي قال: خلّوا سبيله سمعت ببطن نخل عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من تزيّا بغير زيّه فقتل فلا دية و لا قود.

في البحار عن حيوة الحيوان، روى البيهقي في دلائل النّبوّة عن أبي دجانة و اسمه سماك بن خرشة قال: شكوت إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّي نمت في فراشي فسمعت صريرا كصرير الرحى و دويّا كدويّ النحل و لمعانا كلمعان البرق فرفعت رأسي فاذا أنا بظلّ أسود يعلو و يطول بصحن داري فمسست جلده فاذا هو كجلد القنفذ فرمى فى وجهي مثل شرر النّار فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: عامر دارك يا با دجانة ثمّ طلب دواتا و قرطاسا و أمر عليّا عليه السّلام أن يكتب: بسم اللّه الرّحمن الرّحيم هذا كتاب من رسول ربّ العالمين إلى من طرق الدار من العمار و الزوار إلّا طارقا يطرق بخير أمّا بعد فانّ لنا و لكم في الحقّ سعة فان يكن عاشقا مولعا فاجرا مقتحما فهذا كتاب اللّه ينطق علينا و عليكم إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون إنّ رسلنا يكتبون ما تمكرون، اتركوا صاحب كتابى هذا و انطلقوا إلى عبدة الأصنام و إلى من يزعم أنّ مع اللّه الها آخر لا إله الّا هو كلّ شي‏ء هالك إلّا وجهه له الحكم و إليه ترجعون حم لا ينصرون حمعسق تفرق أعداء اللّه و بلغت حجّة اللّه و لا حول و لا قوّة إلّا باللّه فسيكفيكهم اللّه و هو السّميع العليم.

قال أبو دجانة فأخذت الكتاب و أدرجته و حملته إلى داري و جعلته تحت رأسي فبت ليلتي فما انتبهت إلّا من صراخ صارخ يقول: يا با دجانه أحرقتنا هذه الكلمات فبحقّ صاحبك إلّا ما رفعت عنا هذا الكتاب فلا عود لنا في دارك و لا في جوارك و لا في موضع يكون فيه هذا الكتاب قال أبو دجانه: لا أرفعه حتّى استأذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

قال أبو دجانه و لقد طالت علىّ ليلتي ممّا سمعت من أنين الجنّ و صراخهم و بكائهم حتّى أصبحت فغدوت فصلّيت الصّبح مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أخبرته بما سمعت من الجنّ و ما قلت لهم فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا با دجانه ارفع عن القوم فو الذي بعثني بالحقّ نبيّا إنّهم ليجدون ألم العذاب إلى يوم القيامة.

في المحاسن مسندا عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إذا ضللت في الطريق فناد: يا صالح يا با صالح أرشدونا إلى الطريق رحمكم اللّه، قال عبد اللّه: فأصابنا ذلك فامرنا بعض من معنا أن يتنحّى و ينادى كذلك قال: فتنحّى فنادى ثمّ أتانا فأخبرنا أنّه سمع صوتا برز دقيقا يقول: الطريق يمنة أو قال يسرة، فوجدناه كما قال.

في البحار قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا أصاب أحدا منكم وحشة أو نزل بأرض مجنّة فليقل: أعوذ بكلمات اللّه التّامات التي لا يجاوزهنّ برّ و لا فاجر من يشرّ ما يلج في الأرض و ما يخرج منها و ما ينزل من السّماء و ما يعرج فيها و من فتن اللّيل و من طوارق النهار إلّا طارقا يطرق بخير

إذا قلّ مال المرء قلّ بهاؤه
و ضاقت عليه أرضه و سماؤه‏

إذا قلّ مال المرء لم يرض عقله‏
بنوه و لم يعصب له أولياؤه‏

فيل كلّ عضو من الأعضاء فرد فهو مذكّر إلّا الكبد و الطحال، و كلّ ما كان في الجسد اثنين فهو مؤنث إلّا الحاجب و الخدّ و الجنب.

في الأثر انّ الرّبيع بن خثيم حفر في داره قبرا فكان إذا وجد من قلبه قسوة اضطجع فيه فمكث ما شاء ثمّ يقول ربّ ارجعون لعلّى أعمل صالحا فيما تركت‏ ثمّ يردّ على نفسه فيقول قد ارجعتك فجدّ.

قيل كان ملك يسير و معه نديم له فبيناهما كذلك إذا بكلب بال على قبر فقال الملك: لعلّ هذا قبر رافضيّ يبول عليه الكلب، فقال نديمه: ان كان هذا رافضيّا فالكلب لا بدّ أن يكون سنيّا.

قال الرّشيد للبهلول: أتحبّ أن تكون خليفة قال: لا، و ذلك إنّي رأيت موت ثلاث خلفاء و لم ير الخليفة موت بهلولين.

و في زهر الرّبيع دخل رجل من أهل حمص إلى بلد فرأى فيها منارة فقال لصاحبه: ما أطول قامة من بنا هذه المنارة، فقال له صاحبه: يا أخى هل في الدّنيا من يكون قامته مثل هذه المنارة و إنّما بنوها في الأرض و هي نائمة ثمّ أقاموها.

في زهر الرّبيع رأيت رسالة في المشهد الرّضوي على مشرّفه السّلام سنة ثمان بعد المأة و الألف للامام الجويني من أكابر علماء مذهب الشّافعي ردّ بها على مذهب الحنفية و ذكر فيها أشياء كثيرة من أكاذيب أبي حنيفة و زخارفه و خلافه على ملّة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و ذكر من جملة الطّعون عليه: أنّ السّلطان محمود بن سبكتكين كان على مذهب أبي حنيفة و كان مولعا بعلم الحديث يقرأ بين يديه و هو يسمع فوجد الأحاديث أكثرها موافقا لمذهب الشّافعي فالتمس من العلماء الكلام في ترجيح أحد المذهبين فوقع الاتفاق على أن يصلّوا بين يديه ركعتين على مذهب الشافعي و ركعتين على مذهب أبي حنيفة لينظر فيه السّلطان و يتفكّر و يختار ما هو أحسن فصلّى القفال المروزي من أصحاب الشّافعي ركعتين على مذهب الشّافعيّ بالأركان و الأذكار و الطّمأنينة و الطّهارة ممّا لم يجوّزه غير الشّافعي، ثمّ أمر القفال أن يصلّي بين يديه ركعتين على ما يجوّزه أبو حنيفة، فقام و ليس جلد كلب مدبوغ و لطخ ربعه بالنجاسة لأنّ أبا حنيفة يجوّز الصّلاة على هذا الحال، و توضّأ بنبيذ التّمر فاجتمع عليه الذّباب و توضّأ معكوسا منكوسا ثمّ استقبل القبلة فأحرم بالصّلاة من غير نيّة و أتى بالتكبير بالفارسيّة ثمّ قرء آية بالفارسيّة دو برك سبز«» ثمّ نقر نقرتين كنقر الدّيك من غير فصل و من غير ركوع و تشهّد.

فقال القفال أيّها السّلطان هذه صلاة أبي حنيفة فقال السّلطان ان لم تكن هذه لقتلتك فأنكر أصحاب أبي حنيفة هذه صلاته فأمر القفال باحضار كتب العراقيين و أمر السّلطان نصرانيّا يقرأ كتب المذهبين فوجدت الصّلاة على مذهب أبي حنيفة كما حكاه القفال فعدل السلطان إلى مذهب الشّافعي و هذه المقالة نقلها عليّ بن سلطان الهروي الحنفي.

ثمّ عارض الشّافعية بأنّهم يقولون: إذا كان جماعة معهم من الماء قلتين و ذلك لا يكفيهم لطهارتهم و لو كمّلوه ببولهم لكفاهم فانّه يجب عليهم تكميله بالبول أو الغائط و هذا ممّا تمجّه العقول و تدفعه النقول.

ثمّ عارض تلك الصّلاة بما جوّزه الشّافعي في الصّلاة فقال: إنّ واحدا منهم إذا اجتمع عندهم ماء بالوعة نجس حتّى صار قلّتين فتمضمض به و استنشق منه ثمّ قال نويت ان اطهّر بهذا الماء الطاهر المطهّر للصّلاة ثمّ غسل وجهه و يديه و مسح برأسه على شعرة أو شعرتين ثلاثا أو مرّتين و غسل رجليه ثمّ انغمس فيه معكوسا و منكوسا لكمال الطّهارة و مع هذا رعف وقاء و فصد و احتجم و لبس جلد خنزير بحريّ، و تحنى في اليدين و الرّجلين مشبّها بالمخانيث و النّساء، و لطخ جميع بدنه و ثيابه بماء مني منفصل عن ذنب حمار حتى اجتمع عليه الذّباب و هو فوق جبل أبي قبيس يقتدي بامام عند الكعبة، و مع هذا همز اللَّه أو أكبر ثمّ وقف و الامام انتقل من ركن إلى ركن و هو يقول: بس بس بسمى اللَّه و نحوه و هو جاهل بالقرآن غير عالم بمخارج الحروف ثمّ يقول: ملك يوم الدّين باسكان اللام و المستقيم بالغين و الذين بالزا و أنعمت بتحريك النون و يختم بقوله غير المغضوب عليهم و لا الضّالّين بالقاف عوض الغين أو بالذال بدل الضّاد هذه صفة صلاة الشّافعي و أطال في التشنيع‏

عليه قال الشّاعر:

و مصطنع المعروف من غير أهله
يلاقي كما لاقى مغيث أمّ عامر

قيل«» إنّ أمّ عامر كنية الضبع و انّ صيّادا أراد صيدها فطردها فالتجأت إلى بيت أعرابي فأجارها فلما جاء اللّيل أطعمها و أنامها فقامت في اللّيل إلى صبيّ فمزّقت بطنه و أكلت رأسه و خرجت ليلا قال أبو الطيب:

و وضع النّدى في موضع السيف بالعلى
مضرّ كوضع السّيف في موضع النّدى‏

قال بعض الخلفاء لبعض الزّهاد: إنّك لعظيم الزّهد، فقال: إنّك أزهد منّى لأنّك زهدت في نعيم الآخرة و هو نعيم دائم عظيم و زهدت أنا في نعيم الدّنيا الحقير المنقطع.

كان بعضهم في أيّام صغره أشدّ منه ورعا في أيّام كبره فقال:

عصيت هوى نفسي صغيرا و عند ما
أتتني اللّيالي بالمشيب و بالكبر

أطعت الهوى عكس القضية ليتني‏
خلقت كبيرا ثمّ عدت إلى الصّغر

الترجمة

از جمله كلام آن جناب ولايت مآب است در ذكر عمرو بن عاص بى اخلاص مى‏ فرمايد: تعجب مي كنم تعجب كردنى به پسر نابغه باغيه مى‏ گويد باهل شام بدرستى كه در من است مزاحى و بدرستى كه من مردى هستم بسيار بازى كننده شوخى مي كنم و بازى مى ‏نمايم، بتحقيق كه گفته است آن روسياه حرف باطل و تباه را، و گويا شده است در حالتى كه گناه كننده است.

آگاه باشيد كه بدترين گفتار دروغ است و بدرستى آن بد بنياد حرف مى‏زند پس دروغ مى‏گويد و وعده مى‏دهد پس خلف وعده ميكند، و سؤال ميكند پس اصرار مى‏نمايد در سؤال، و سؤال كرده مى‏شود پس بخل مى‏ورزد از قضاء آمال، و خيانت ميكند در عهد و پيمان، و قطع رحم ميكند از خويشان، پس اگر واقع شود آن بد خصال در نزد قتال و جدال پس چه بزرگ نهى كننده است و امر نماينده مادامى كه شمشيرها شروع نكرده‏اند در محل شروع خود.

يعنى ما دامى كه نايره حرب مشتعل نشده است دعوى سر كردگى ميكند و مشغول امر و نهى مى‏شود، پس چون زمان ضرب و شست رسيد و شجاعان روزگار مشغول كارزار گرديد ميباشد بزرگترين حيله آن با تزوير اين كه بذل كند بمردمان دبر خود را و باين واسطه و تدبير از دم شمشير آبدار نجات يابد چنانچه در جنگ صفين امام عالميان قصد آن بدبخت بى‏دين را نمود و او خودش را از اسب بزمين انداخت و آن مردود ابتر علاجى از مرگ بغير از كشف از قبل و دبر خويش نيافت پس آن معدن حيا و عفت از سوئت آن بدبخت رو بتافت و بازگشت.

پس مى‏فرمايد آگاه باشيد بخدا سوگند كه بازميدارد مرا از بازى كردن ذكر موت، و بازميدارد ابن نابغه را از گفتار حق فراموشى آخرت، و بدرستى كه آن بيعت نكرد بمعاويه تا اين كه شرط كرد از براى وى كه عطا كند باو عطاء قليلى و ببخشد او را بر ترك دين رشوت حقيرى كه عبارت باشد از حكومت دو روزه مصر.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 82/4 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)«الخطبة الغراء»

خطبه 83 صبحی صالح

83- و من خطبة له ( عليه‏ السلام ) و هي الخطبة العجيبة تسمى «الغراء»
و فيها نعوت اللّه جل شأنه،
ثم الوصية بتقواه
ثم التنفير من الدنيا،
ثم ما يلحق من دخول القيامة،
ثم تنبيه الخلق إلى ما هم فيه من الأعراض،
ثم فضله ( عليه ‏السلام ) في التذكير

صفته جل شأنه‏

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَلَا بِحَوْلِهِ
وَ دَنَا بِطَوْلِهِ
مَانِحِ كُلِّ غَنِيمَةٍ وَ فَضْلٍ
وَ كَاشِفِ كُلِّ عَظِيمَةٍ وَ أَزْلٍ
أَحْمَدُهُ عَلَى عَوَاطِفِ كَرَمِهِ
وَ سَوَابِغِ نِعَمِهِ
وَ أُومِنُ بِهِ أَوَّلًا بَادِياً
وَ أَسْتَهْدِيهِ قَرِيباً هَادِياً
وَ أَسْتَعِينُهُ قَاهِراً قَادِراً
وَ أَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ كَافِياً نَاصِراً
وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً ( صلى ‏الله ‏عليه‏ وآله )عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ
أَرْسَلَهُ لِإِنْفَاذِ أَمْرِهِ
وَ إِنْهَاءِ عُذْرِهِ
وَ تَقْدِيمِ نُذُرِهِ

الوصية بالتقوى‏

أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي ضَرَبَ الْأَمْثَالَ
وَ وَقَّتَ لَكُمُ الْآجَالَ
وَ أَلْبَسَكُمُ الرِّيَاشَ
وَ أَرْفَغَ لَكُمُ الْمَعَاشَ
وَ أَحَاطَ بِكُمُ الْإِحْصَاءَ
وَ أَرْصَدَ لَكُمُ الْجَزَاءَ
وَ آثَرَكُمْ بِالنِّعَمِ السَّوَابِغِ

وَ الرِّفَدِ الرَّوَافِغِ
وَ أَنْذَرَكُمْ بِالْحُجَجِ الْبَوَالِغِ
فَأَحْصَاكُمْ عَدَداً
وَ وَظَّفَ لَكُمْ مُدَداً
فِي قَرَارِ خِبْرَةٍ
وَ دَارِ عِبْرَةٍ
أَنْتُمْ مُخْتَبَرُونَ فِيهَا
وَ مُحَاسَبُونَ عَلَيْهَا
التنفير من الدنيا
فَإِنَّ الدُّنْيَا رَنِقٌ مَشْرَبُهَا
رَدِغٌ مَشْرَعُهَا
يُونِقُ مَنْظَرُهَا
وَ يُوبِقُ مَخْبَرُهَا
غُرُورٌ حَائِلٌ
وَ ضَوْءٌ آفِلٌ
وَ ظِلٌّ زَائِلٌ
وَ سِنَادٌ مَائِلٌ
حَتَّى إِذَا أَنِسَ نَافِرُهَا
وَ اطْمَأَنَّ نَاكِرُهَا
قَمَصَتْ بِأَرْجُلِهَا
وَ قَنَصَتْ بِأَحْبُلِهَا
وَ أَقْصَدَتْ بِأَسْهُمِهَا
وَ أَعْلَقَتِ الْمَرْءَ أَوْهَاقَ الْمَنِيَّةِ
قَائِدَةً لَهُ إِلَى ضَنْكِ الْمَضْجَعِ
وَ وَحْشَةِ الْمَرْجِعِ
وَ مُعَايَنَةِ الْمَحَلِّ
وَ ثَوَابِ الْعَمَلِ.
وَ كَذَلِكَ الْخَلَفُ بِعَقْبِ السَّلَفِ
لَا تُقْلِعُ الْمَنِيَّةُ اخْتِرَاماً
وَ لَا يَرْعَوِي الْبَاقُونَ اجْتِرَاماً
يَحْتَذُونَ مِثَالًا
وَ يَمْضُونَ أَرْسَالًا
إِلَى غَايَةِ الِانْتِهَاءِ وَ صَيُّورِ الْفَنَاءِ

بعد الموت البعث‏

حَتَّى إِذَا تَصَرَّمَتِ الْأُمُورُ
وَ تَقَضَّتِ الدُّهُورُ
وَ أَزِفَ النُّشُورُ
أَخْرَجَهُمْ مِنْ ضَرَائِحِ الْقُبُورِ
وَ أَوْكَارِ الطُّيُورِ
وَ أَوْجِرَةِ السِّبَاعِ
وَ مَطَارِحِ الْمَهَالِكِ
سِرَاعاً إِلَى أَمْرِهِ
مُهْطِعِينَ إِلَى مَعَادِهِ
رَعِيلًا صُمُوتاً
قِيَاماً صُفُوفاً
يَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ
وَ يُسْمِعُهُمُ‏ الدَّاعِي
عَلَيْهِمْ لَبُوسُ الِاسْتِكَانَةِ وَ ضَرَعُ الِاسْتِسْلَامِ وَ الذِّلَّةِ
قَدْ ضَلَّتِ الْحِيَلُ وَ انْقَطَعَ الْأَمَلُ وَ هَوَتِ الْأَفْئِدَةُ كَاظِمَةً
وَ خَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ مُهَيْنِمَةً
وَ أَلْجَمَ الْعَرَقُ
وَ عَظُمَ الشَّفَقُ
وَ أُرْعِدَتِ الْأَسْمَاعُ لِزَبْرَةِ الدَّاعِي
إِلَى فَصْلِ الْخِطَابِ
وَ مُقَايَضَةِ الْجَزَاءِ
وَ نَكَالِ الْعِقَابِ
وَ نَوَالِ الثَّوَابِ

تنبيه الخلق‏

عِبَادٌ مَخْلُوقُونَ اقْتِدَاراً
وَ مَرْبُوبُونَ اقْتِسَاراً
وَ مَقْبُوضُونَ احْتِضَاراً
وَ مُضَمَّنُونَ أَجْدَاثاً
وَ كَائِنُونَ رُفَاتاً
وَ مَبْعُوثُونَ أَفْرَاداً
وَ مَدِينُونَ جَزَاءً
وَ مُمَيَّزُونَ حِسَاباً
قَدْ أُمْهِلُوا فِي طَلَبِ الْمَخْرَجِ وَ هُدُوا سَبِيلَ الْمَنْهَجِ
وَ عُمِّرُوا مَهَلَ الْمُسْتَعْتِبِ
وَ كُشِفَتْ عَنْهُمْ سُدَفُ الرِّيَبِ
وَ خُلُّوا لِمِضْمَارِ الْجِيَادِ
وَ رَوِيَّةِ الِارْتِيَادِ
وَ أَنَاةِ الْمُقْتَبِسِ الْمُرْتَادِ فِي مُدَّةِ الْأَجَلِ وَ مُضْطَرَبِ الْمَهَلِ

فضل التذكير

فَيَا لَهَا أَمْثَالًا صَائِبَةً
وَ مَوَاعِظَ شَافِيَةً
لَوْ صَادَفَتْ قُلُوباً زَاكِيَةً
وَ أَسْمَاعاً وَاعِيَةً
وَ آرَاءً عَازِمَةً
وَ أَلْبَاباً حَازِمَةً
فَاتَّقُوا اللَّهَ تَقِيَّةَ مَنْ سَمِعَ فَخَشَعَ
وَ اقْتَرَفَ فَاعْتَرَفَ
وَ وَجِلَ فَعَمِلَ
وَ حَاذَرَ فَبَادَرَ
وَ أَيْقَنَ فَأَحْسَنَ
وَ عُبِّرَ فَاعْتَبَرَ
وَ حُذِّرَ فَحَذِرَ
وَ زُجِرَ فَازْدَجَرَ
وَ أَجَابَ فَأَنَابَ
وَ رَاجَعَ فَتَابَ
وَ اقْتَدَى‏فَاحْتَذَى
وَ أُرِيَ فَرَأَى
فَأَسْرَعَ طَالِباً
وَ نَجَا هَارِباً فَأَفَادَ ذَخِيرَةً
وَ أَطَابَ سَرِيرَةً
وَ عَمَّرَ مَعَاداً
وَ اسْتَظْهَرَ زَاداً لِيَوْمِ رَحِيلِهِ وَ وَجْهِ سَبِيلِهِ
وَ حَالِ حَاجَتِهِ وَ مَوْطِنِ فَاقَتِهِ
وَ قَدَّمَ أَمَامَهُ لِدَارِ مُقَامِهِ
فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ جِهَةَ مَا خَلَقَكُمْ لَهُ
وَ احْذَرُوا مِنْهُ كُنْهَ مَا حَذَّرَكُمْ مِنْ نَفْسِهِ
وَ اسْتَحِقُّوا مِنْهُ مَا أَعَدَّ لَكُمْ بِالتَّنَجُّزِ لِصِدْقِ مِيعَادِهِ
وَ الْحَذَرِ مِنْ هَوْلِ مَعَادِهِ

التذكير بضروب النعم‏

و منهاجَعَلَ لَكُمْ أَسْمَاعاً لِتَعِيَ مَا عَنَاهَا
وَ أَبْصَاراً لِتَجْلُوَ عَنْ عَشَاهَا
وَ أَشْلَاءً جَامِعَةً لِأَعْضَائِهَا
مُلَائِمَةً لِأَحْنَائِهَا فِي تَرْكِيبِ صُوَرِهَا وَ مُدَدِ عُمُرِهَا
بِأَبْدَانٍ قَائِمَةٍ بِأَرْفَاقِهَا
وَ قُلُوبٍ رَائِدَةٍ لِأَرْزَاقِهَا

فِي مُجَلِّلَاتِ نِعَمِهِ
وَ مُوجِبَاتِ مِنَنِهِ
وَ حَوَاجِزِ عَافِيَتِهِ
وَ قَدَّرَ لَكُمْ أَعْمَاراً سَتَرَهَا عَنْكُمْ
وَ خَلَّفَ لَكُمْ عِبَراً مِنْ آثَارِ الْمَاضِينَ قَبْلَكُمْ
مِنْ مُسْتَمْتَعِ خَلَاقِهِمْ
وَ مُسْتَفْسَحِ خَنَاقِهِمْ
أَرْهَقَتْهُمُ الْمَنَايَا دُونَ الْآمَالِ
وَ شَذَّبَهُمْ عَنْهَا تَخَرُّمُ الْآجَالِ
لَمْ يَمْهَدُوا فِي سَلَامَةِ الْأَبْدَانِ
وَ لَمْ يَعْتَبِرُوا فِي أُنُفِ الْأَوَانِ
فَهَلْ يَنْتَظِرُ أَهْلُ بَضَاضَةِ الشَّبَابِ إِلَّا حَوَانِيَ الْهَرَمِ
وَ أَهْلُ غَضَارَةِ الصِّحَّةِ إِلَّا نَوَازِلَ السَّقَمِ
وَ أَهْلُ مُدَّةِ الْبَقَاءِ إِلَّا آوِنَةَ الْفَنَاءِ
مَعَ قُرْبِ الزِّيَالِ
وَ أُزُوفِ الِانْتِقَالِ
وَ عَلَزِ الْقَلَقِ
وَ أَلَمِ الْمَضَضِ
وَ غُصَصِ الْجَرَضِ
وَ تَلَفُّتِ‏ الِاسْتِغَاثَةِ بِنُصْرَةِ الْحَفَدَةِ وَ الْأَقْرِبَاءِ وَ الْأَعِزَّةِ وَ الْقُرَنَاءِ
فَهَلْ دَفَعَتِ الْأَقَارِبُ
أَوْ نَفَعَتِ النَّوَاحِبُ
وَ قَدْ غُودِرَ فِي مَحَلَّةِ الْأَمْوَاتِ رَهِيناً
وَ فِي ضِيقِ الْمَضْجَعِ وَحِيداً
قَدْ هَتَكَتِ الْهَوَامُّ جِلْدَتَهُ
وَ أَبْلَتِ النَّوَاهِكُ جِدَّتَهُ
وَ عَفَتِ الْعَوَاصِفُ آثَارَهُ
وَ مَحَا الْحَدَثَانُ مَعَالِمَهُ
وَ صَارَتِ الْأَجْسَادُ شَحِبَةً بَعْدَ بَضَّتِهَا
وَ الْعِظَامُ نَخِرَةً بَعْدَ قُوَّتِهَا
وَ الْأَرْوَاحُ مُرْتَهَنَةً بِثِقَلِ أَعْبَائِهَا
مُوقِنَةً بِغَيْبِ أَنْبَائِهَا
لَا تُسْتَزَادُ مِنْ صَالِحِ عَمَلِهَا
وَ لَا تُسْتَعْتَبُ مِنْ سَيِّئِ زَلَلِهَا
أَ وَ لَسْتُمْ أَبْنَاءَ الْقَوْمِ وَ الْآبَاءَ وَ إِخْوَانَهُمْ وَ الْأَقْرِبَاءَ
تَحْتَذُونَ أَمْثِلَتَهُمْ
وَ تَرْكَبُونَ قِدَّتَهُمْ
وَ تَطَئُونَ جَادَّتَهُمْ
فَالْقُلُوبُ قَاسِيَةٌ عَنْ حَظِّهَا
لَاهِيَةٌ عَنْ رُشْدِهَا
سَالِكَةٌ فِي غَيْرِ مِضْمَارِهَا
كَأَنَّ الْمَعْنِيَّ سِوَاهَا
وَ كَأَنَّ الرُّشْدَ فِي إِحْرَازِ دُنْيَاهَا

التحذير من هول الصراط

وَ اعْلَمُوا أَنَّ مَجَازَكُمْ عَلَى الصِّرَاطِ وَ مَزَالِقِ دَحْضِهِ
وَ أَهَاوِيلِ زَلَلِهِ
وَ تَارَاتِ أَهْوَالِهِ
فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ تَقِيَّةَ ذِي لُبٍّ شَغَلَ التَّفَكُّرُ قَلْبَهُ
وَ أَنْصَبَ الْخَوْفُ بَدَنَهُ
وَ أَسْهَرَ التَّهَجُّدُ غِرَارَ نَوْمِهِ
وَ أَظْمَأَ الرَّجَاءُ هَوَاجِرَ يَوْمِهِ
وَ ظَلَفَ الزُّهْدُ شَهَوَاتِهِ
وَ أَوْجَفَ الذِّكْرُ بِلِسَانِهِ
وَ قَدَّمَ الْخَوْفَ لِأَمَانِهِ
وَ تَنَكَّبَ الْمَخَالِجَ عَنْ وَضَحِ السَّبِيلِ
وَ سَلَكَ أَقْصَدَ الْمَسَالِكِ إِلَى‏النَّهْجِ الْمَطْلُوبِ
وَ لَمْ تَفْتِلْهُ فَاتِلَاتُ الْغُرُورِ
وَ لَمْ تَعْمَ عَلَيْهِ مُشْتَبِهَاتُ الْأُمُورِ
ظَافِراً بِفَرْحَةِ الْبُشْرَى
وَ رَاحَةِ النُّعْمَى
فِي أَنْعَمِ نَوْمِهِ
وَ آمَنِ يَوْمِهِ
وَ قَدْ عَبَرَ مَعْبَرَ الْعَاجِلَةِ حَمِيداً
وَ قَدَّمَ زَادَ الْآجِلَةِ سَعِيداً
وَ بَادَرَ مِنْ وَجَلٍ
وَ أَكْمَشَ فِي مَهَلٍ
وَ رَغِبَ فِي طَلَبٍ
وَ ذَهَبَ عَنْ هَرَبٍ
وَ رَاقَبَ فِي يَوْمِهِ غَدَهُ
وَ نَظَرَ قُدُماً أَمَامَهُ
فَكَفَى بِالْجَنَّةِ ثَوَاباً وَ نَوَالًا
وَ كَفَى بِالنَّارِ عِقَاباً وَ وَبَالًا
وَ كَفَى بِاللَّهِ مُنْتَقِماً وَ نَصِيراً
وَ كَفَى بِالْكِتَابِ حَجِيجاً وَ خَصِيماً

الوصية بالتقوى‏

أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي أَعْذَرَ بِمَا أَنْذَرَ
وَ احْتَجَّ بِمَا نَهَجَ
وَ حَذَّرَكُمْ عَدُوّاً نَفَذَ فِي الصُّدُورِ خَفِيّاً
وَ نَفَثَ فِي الْآذَانِ نَجِيّاً فَأَضَلَّ وَ أَرْدَى
وَ وَعَدَ فَمَنَّى
وَ زَيَّنَ سَيِّئَاتِ الْجَرَائِمِ
وَ هَوَّنَ مُوبِقَاتِ الْعَظَائِمِ
حَتَّى إِذَا اسْتَدْرَجَ قَرِينَتَهُ
وَ اسْتَغْلَقَ رَهِينَتَهُ
أَنْكَرَ مَا زَيَّنَ
وَ اسْتَعْظَمَ مَا هَوَّنَ
وَ حَذَّرَ مَا أَمَّنَ

و منها في صفة خلق الإنسان‏

أَمْ هَذَا الَّذِي أَنْشَأَهُ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْحَامِ
وَ شُغُفِ الْأَسْتَارِ
نُطْفَةً دِهَاقاً
وَ عَلَقَةً مِحَاقاً
وَ جَنِيناً وَ رَاضِعاً وَ وَلِيداً وَ يَافِعاً
ثُمَّ مَنَحَهُ قَلْباً حَافِظاً
وَ لِسَاناً لَافِظاً
وَ بَصَراً لَاحِظاً
لِيَفْهَمَ مُعْتَبِراً
وَ يُقَصِّرَ مُزْدَجِراً
حَتَّى إِذَا قَامَ اعْتِدَالُهُ
وَ اسْتَوَى‏مِثَالُهُ
نَفَرَ مُسْتَكْبِراً
وَ خَبَطَ سَادِراً
مَاتِحاً فِي غَرْبِ هَوَاهُ
كَادِحاً سَعْياً لِدُنْيَاهُ فِي لَذَّاتِ طَرَبِهِ وَ بَدَوَاتِ أَرَبِهِ
ثُمَّ لَا يَحْتَسِبُ رَزِيَّةً
وَ لَا يَخْشَعُ تَقِيَّةً
فَمَاتَ فِي فِتْنَتِهِ غَرِيراً
وَ عَاشَ فِي هَفْوَتِهِ يَسِيراً
لَمْ يُفِدْ عِوَضاً
وَ لَمْ يَقْضِ مُفْتَرَضاً
دَهِمَتْهُ فَجَعَاتُ الْمَنِيَّةِ فِي غُبَّرِ جِمَاحِهِ
وَ سَنَنِ مِرَاحِهِ
فَظَلَّ سَادِراً
وَ بَاتَ سَاهِراً فِي غَمَرَاتِ الْآلَامِ
وَ طَوَارِقِ الْأَوْجَاعِ وَ الْأَسْقَامِ
بَيْنَ أَخٍ شَقِيقٍ
وَ وَالِدٍ شَفِيقٍ
وَ دَاعِيَةٍ بِالْوَيْلِ جَزَعاً
وَ لَادِمَةٍ لِلصَّدْرِ قَلَقاً
وَ الْمَرْءُ فِي سَكْرَةٍ مُلْهِثَةٍ وَ غَمْرَةٍ كَارِثَةٍ
وَ أَنَّةٍ مُوجِعَةٍ
وَ جَذْبَةٍ مُكْرِبَةٍ
وَ سَوْقَةٍ مُتْعِبَةٍ
ثُمَّ أُدْرِجَ فِي أَكْفَانِهِ مُبْلِساً
وَ جُذِبَ مُنْقَاداً سَلِساً
ثُمَّ أُلْقِيَ عَلَى الْأَعْوَادِ رَجِيعَ وَصَبٍ
وَ نِضْوَ سَقَمٍ
تَحْمِلُهُ حَفَدَةُ الْوِلْدَانِ
وَ حَشَدَةُ الْإِخْوَانِ إِلَى دَارِ غُرْبَتِهِ وَ مُنْقَطَعِ زَوْرَتِهِ وَ مُفْرَدِ وَحْشَتِهِ
حَتَّى إِذَا انْصَرَفَ الْمُشَيِّعُ
وَ رَجَعَ الْمُتَفَجِّعُ
أُقْعِدَ فِي حُفْرَتِهِ نَجِيّاً لِبَهْتَةِ السُّؤَالِ
وَ عَثْرَةِ الِامْتِحَانِ
وَ أَعْظَمُ مَا هُنَالِكَ بَلِيَّةً نُزُولُ الْحَمِيمِ
وَ تَصْلِيَةُ الْجَحِيمِ
وَ فَوْرَاتُ السَّعِيرِ
وَ سَوْرَاتُ الزَّفِيرِ
لَا فَتْرَةٌ مُرِيحَةٌ
وَ لَا دَعَةٌ مُزِيحَةٌ
وَ لَا قُوَّةٌ حَاجِزَةٌ
وَ لَا مَوْتَةٌ نَاجِزَةٌ

وَ لَا سِنَةٌ مُسَلِّيَةٌ
بَيْنَ أَطْوَارِ الْمَوْتَاتِ
وَ عَذَابِ السَّاعَاتِ
إِنَّا بِاللَّهِ عَائِذُونَ
عِبَادَ اللَّهِ أَيْنَ الَّذِينَ عُمِّرُوا فَنَعِمُوا
وَ عُلِّمُوا فَفَهِمُوا
وَ أُنْظِرُوا فَلَهَوْا
وَ سُلِّمُوا فَنَسُوا
أُمْهِلُوا طَوِيلًا
وَ مُنِحُوا جَمِيلًا
وَ حُذِّرُوا أَلِيماً
وَ وُعِدُوا جَسِيماً
احْذَرُوا الذُّنُوبَ الْمُوَرِّطَةَ
وَ الْعُيُوبَ الْمُسْخِطَةَ
أُولِي الْأَبْصَارِ وَ الْأَسْمَاعِ
وَ الْعَافِيَةِ وَ الْمَتَاعِ
هَلْ مِنْ مَنَاصٍ أَوْ خَلَاصٍ
أَوْ مَعَاذٍ أَوْ مَلَاذٍ
أَوْ فِرَارٍ أَوْ مَحَارٍ أَمْ لَا
فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ‏
أَمْ أَيْنَ تُصْرَفُونَ
أَمْ بِمَا ذَا تَغْتَرُّونَ
وَ إِنَّمَا حَظُّ أَحَدِكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ذَاتِ الطُّوْلِ وَ الْعَرْضِ قِيدُ قَدِّهِ
مُتَعَفِّراً عَلَى خَدِّهِ
الْآنَ عِبَادَ اللَّهِ وَ الْخِنَاقُ مُهْمَلٌ
وَ الرُّوحُ مُرْسَلٌ فِي فَيْنَةِ الْإِرْشَادِ
وَ رَاحَةِ الْأَجْسَادِ
وَ بَاحَةِ الِاحْتِشَادِ
وَ مَهَلِ الْبَقِيَّةِ
وَ أُنُفِ الْمَشِيَّةِ
وَ إِنْظَارِ التَّوْبَةِ
وَ انْفِسَاحِ الْحَوْبَةِ
قَبْلَ الضَّنْكِ وَ الْمَضِيقِ وَ الرَّوْعِ وَ الزُّهُوقِ
وَ قَبْلَ قُدُومِ الْغَائِبِ الْمُنْتَظَرِ
وَ إِخْذَةِ الْعَزِيزِ الْمُقْتَدِرِ
قال الشريف و في الخبر أنه لما خطب بهذه الخطبة اقشعرت لها الجلود
و بكت العيون و رجفت القلوب
و من الناس من يسمي هذه الخطبة الغراء

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج6

 الفصل السابع منها فى صفة خلق الانسان 

أم هذا الّذي أنشأءه في ظلمات الأرحام و شغف الأستار نطفة دهاقا، و علقة محاقا، و جنينا و راضعا، و وليدا و يافعا، ثمّ منحه قلبا حافظا، و لسانا لافظا، و بصرا لاحظا، ليفهم معتبرا، و يقصر مزدجرا حتّى إذا قام اعتداله، و استوى مثاله، نفر مستكبرا، و خبط سادرا ماتحا في غرب هواه، كادحا سعيا لدنياه، في لذّات طربه، و بدوات أربه، لا يحتسب رزيّة، و لا يخشع تقيّة، فمات في فتنته غريرا، و عاش‏ فى هفوته يسيرا، لم يفد عوضا، و لم يقض مفترضا، دهمته فجعات المنيّة في غبَّر جماحه، و سنن مراحه، فظلّ سادرا، و بات ساهرا، في غمرات الآلام، و طوارق الأوجاع و الأسقام، بين أخ شقيق، و والد شفيق، و داعية بالويل جزعا، و لا دمة للصّدر قلقا، و المرء في سكرة ملهثة، و غمرة كارثة، و أنّة موجعة، و جذبة مكربة، و سوقة متعبة، ثمّ أدرج في أكفانه مبلسا، و جذب منقادا سلسا، ثمّ ألقي على الأعواد رجيع و صب، و نضو سقم، تحمله حفدة الولدان، و حشدة الإخوان، إلى دار غربته، و منقطع زورته، حتّى إذا انصرف المشيِّع، و رجع المتفجّع، أقعد في حفرته نجيّا لبهتة السّؤال، و عثرة الامتحان، و أعظم ما هنا لك بليَّة نزل الحميم، و تصلية الجحيم، و فورات السّعير، و سورات الزّفير، لا فترة مريحة، و لا دعة مزيحة، و لا قوّة حاجزة، و لا موتة ناجزة، و لا سنة مسلية، بين أطوار الموتات، و عذاب السّاعات، إنّا باللّه عائذون.

اللغة

(الشّغف) بضمتين جمع شغاف كسحاب و هو غلاف القلب و (الدّهاق) بالدال المهملة من دهق الماء أفرغه إفراغا شديدا، و في بعض النّسخ دفاقا من دفق الماء دفقا من باب قتل انصب لشدّة و يقال أيضا دفقت الماء أي صببته يتعدّى فهو دافق و مدفوق، و أنكر الأصمعي استعماله لازما قال: و أمّا قوله تعالى من ماء دافق فهو على اسلوب أهل الحجاز و هو أنّهم يحوّلون المفعول فاعلا إذا كان في موضع نعت و المعنى من ماء مدفوق، و قال ابن القوطبة ما يوافقه سرّ كاتم أى‏ مكتوم و عارف اى معروف و عاصم اى معصوم.

و (المحاق) بضم الميم و الكسر لغة قال الفيومي: محقه محقا من باب نفع نقصه و أذهب منه بركة، و قيل هو ذهاب الشي‏ء كلّه حتى لا يرى له أثر منه و يمحق اللّه الربا و انمحق الهلال الثلاث ليال في آخر الشّهر لا يكاد يرى لخفائه و الاسم المحاق بالضم و الكسر لغة. و في القاموس المحاق مثلّثة آخر الشهر أو ثلاث ليال من آخره أو أن يستتر القمر فلا يرى غدوة و لا عشية سمّى به لأنه طلع مع الشّمس فمحقته.

و غلام (يافع) و يفع و يفعة مرتفع و (السادر) المتحير و الذى لا يهتمّ و لا يبالي ما صنع و (الماتح) الذي يستسق الماء من البئر و هو على رأسها و المايح الذي نزل البئر إذا قلّ ماؤها فيملاء الدلاء فالفرق بين المعنيين كالفرق بين النقطتين و (الغرب) الدلو العظيم و (كدح) في العمل من باب منع سعى و (بدا) بدوا و بدوّا و بداء و بدوءً و بداوة ظهر، و بداوة الشّي‏ء أول ما يبدو منه، و بادى الرأى ظاهره، و بدا له في الأمر بدوا و بداءة نشأله فيه رأى و هو ذو بدوات.

قال الفيومى و (الارب) بفتحتين و الاربة بالكسر و المأربة بفتح الراء و ضمّها الحاجة، و الجمع المآرب، و الارب في الأصل مصدر من باب تعب يقال ارب الرّجل إلى الشي‏ء إذا احتاج إليه فهو ارب على فاعل و (دهمه) الشي‏ء من باب سمع و منع غشيه و (غبّر) الشي‏ء بضم الغين و تشديد الباء بقاياه جمع غابر كركّع و راكع و (جمح) الفرس جمحا و جماحا بالكسر اغترّ فارسه و غلبه و جمح الرّجل ركب هواه و (سنن) الطريق مثلّثة و بضمّتين نهجه و جهته و (مرح) مرحا من باب فرح نشط و تبختر و المراح ككتاب اسم منه.

و (غمرة) الشي‏ء شدّته و مزدحمه و الجمع غمرات و غمار و (لهث) لهثا من باب سمع و لهاثا بالضمّ أخرج لسانه عطشا و تعبا أو اعياء، و في بعض النسخ و سكرة ملهية بالباء أى مشغلة و (كرثه) الغمّ يكرثه من باب نصر اشدّ عليه و بلغ المشقّة و هو كريث الأمر إذا ضعف و جبن و (أنّ) المريض انا إذا تأوّه‏ و (ابلس) يئس و تحيّر و منه سمّى إبليس و ناقة (رجع) سفر و رجيع سفر قد رجع فيه مرارا و (الوصب) محرّكة المرض و الوجع.

و (النضو) بالكسر المهزول من الابل و غيره و (السّقم) كالجبل المرض و (الحشدة) جمع حاشد من حشدت القوم من باب قتل و ضرب و حشد القوم يعدي و لا يعدى إذا دعوا فأجابوا مسرعين أو اجتمعوا الأمر واحد و حفّوا فى التعاون و (البهت) بالفتح الأخذ بغتة و التحيّر و الانقطاع و (النزل) بضمتين طعام النزيل الذى يهيى‏ء له قال سبحانه: هذا نزلهم يوم الدّين.
و (الحميم) الماء الحارّ و (تصلية) النار تسخينها و (السورة) الحدّة و الشدّة و (زفر) النّار تسمع لتوقّدها صوت و (الدّعة) السعة في العيش و السكون و (الازاحة) الازالة.

الاعراب

اختلف الشراح في كلمة أم في قوله أم هذا الذي أنشأه، ففي شرح المعتزلي أم ههنا إمّا استفهامية على حقيقتها كأنه قال: أعظكم و اذكركم بحال الشيطان و اغوائه أم بحال الانسان منذ ابتداء وجوده إلى حين مماته، و إمّا أن يكون منقطعة بمعنى بل كأنه قال عادلا و تاركا لما و عظهم به بل أتلو عليهم نبأ هذا الانسان الذي حاله كذا و كذا.

و في شرح البحراني أم للاستفهام و هو استفهام في معرض التقريع للانسان و أمره باعتبار حال نفسه و دلالة خلقته على جزئيات نعم اللّه عليه مع كفرانه لها و كان أم معادلة لهمزة الاستفهام قبلها، و التقدير أليس فيما أظهره اللّه لكم من عجايب مصنوعاته عبرة أم هذا الانسان و تقلّبه فى أطوار خلقته و حالته الى يوم نشوره.

أقول: لا يخفى ما فى ما ذكره من الاغلاق و الابهام بل عدم خلوّه من الفساد، إذ لم يفهم من كلامه أنّ أم متصلة أم منفصلة، فانّ قوله: أم للاستفهام مع قوله: و كان أم معادلة لهمزة الاستفهام يفيد كون أم متصلة إلّا أنه ينافيه قوله هو استفهام في معرض التّقريع لأنّ أم المتّصلة لا بدّ أن تقع بعد همزة التسوية نحو قوله تعالى:

«سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ» أو بعد همزة الاستفهام الّتي يطلب بها و بأم التعيين مثل أزيد عندك أم عمرو، و لا بدّ أن يكون الاستفهام على حقيقة لتكون معادلة لها في افادة الاستفهام كمعادلتها لهمزة التسوية في إفادة التّسوية و لذلك أيضا سمّيت متّصلة لاتصالها بالهمزة حتّى صارتا في إفادة الاستفهام بمنزلة كلمة واحدة، ألا ترى أنهما جميعا بمعنى أى و ينافيه أيضا قوله و التقدير أليس فيما أظهره آه بظهوره في كون الاستفهام للانكار التوبيخي و إن جعل أم منفصلة فلا يحتاج إلى المعادل الذي ذكره، فالأولى ما ذكره الشارح المعتزلي و إن كان هو أيضا لا يخلو عن شي‏ء.

و التحقيق عندي هو أنّ أم يجوز جعلها متّصلة مسبوقة بهمزة الاستفهام أى ء أذكركم و أعظكم بما ذكرته و شرحته لكم أم اذكركم بهذا الذي حاله كذا و كذا، و يجوز جعلها منفصلة مسبوقة بالهمزة للاستفهام الانكاري الابطالي، و التقدير أليس فيما ذكرته تذكرة للمتذكر و تبصرة للمتبصر، بل في هذا الانسان الذي حاله فلان فيكون من قبيل قوله سبحانه: «أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها» و هذا كلّه مبنىّ على عدم كون الخطبة ملتقطة و أن لا يكون قبل قوله عليه السّلام أم هذا آه، حذف و إسقاط من السيّد، و إلّا فمعرفة حال أم موقوفة على الاطلاع و العثور بتمام الخطبة، هذا و المنصوبات الاثنان و العشرون أعني نطفة و علقة و جنينا و راضعا و وليدا و يافعا و معتبرا و مزدجرا و مستكبرا و سادرا و ماتحا و كادحا و لا يحسب و لا يخشع و غريرا و ميلسا و منقادا و سلسا و رجيع و صب و نضوسقم و نجيّا، كلّها أحوال، و العامل في كلّ حال ما قبله من الأفعال.

و سعيا مصدر بغير لفظ عامله من قبيل أ فنضرب عنكم الذكر صفحا، و في لذّات طربه متعلّق بقوله كادحا، و يحتمل الحاليّة، و تقيّة مفعول لأجله، و يسيرا صفة للظرف المحذوف بقرينة المقام اى زمانا يسيرا، و جزعا و قلقا منصوبان على المفعول له.

المعنى

اعلم أنّه لما وعظ المخاطبين بالحكم و المواعظ الحسنة عقّب ذلك و أكّده بذكر حال الانسان و ما أنعم اللّه به عليه من النعم الظاهرة و الباطنة بعد أن لم يكن شيئا مذكورا حتّى أنّه إذا كبر و بلغ أشدّه نفر و استكبر و لم يأت ما امر و لم ينته عما ازدجر ثمّ أدركه الموت في حال عتوّه و غروره فصار في محلّة الأموات رهين أعماله مأخوذا بأفعاله مبتلا بشدايد البرزخ و أهواله كما قال عليه السّلام: (أم هذا الذي أنشأه) اللّه سبحانه بقدرته الكاملة و حكمته التامة الجامعة (في ظلمات الأرحام و شغف الاستار) العطف كالتفسير، و المراد بالظلمات هى ما اشيرت إليها في قوله سبحانه ««يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ»» و هى إمّا ظلمة البطن و الرحم و المشيمة أو الصلب و الرحم و البطن و الأوّل رواه الطبرسيّ عن أبي جعفر عليه السّلام (نطفة دهاقا) أى مفرغة إفراغا شديدا (و علقة محاقا) أى ناقصة لم تتصوّر بعد بصورة الانسانية في الاتيان بهذه الأوصاف تحقيرا للإنسان كما أومى إليه بالاشارة (و جنينا و راضعا و وليدا و يافعا) و هذه الأوصاف الأربعة كسابقيها مسوقة على الترتب الطبيعي المشار إليه بقوله سبحانه: «ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً» فانّه سبحانه قد خلق الانسان أولا عناصر ثمّ مركبات يغذي الانسان ثمّ أخلاطا ثمّ نطفة ثمّ علقه ثمّ مضغة ثمّ عظاما و لحوما كما قال «و لقد خلقنا الانسان من سلالة من طين ثمّ جعلناه نطفة في قرار مكين ثمّ خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثمّ أنشأناه خلقا آخر فتبارك اللّه أحسن الخالقين».

ثمّ إنّه ما دام في الرّحم يسمّى جنينا كما قال: ««وَ إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ‏ حُرِّمَتْ»» و بعد ولادته يكون راضعا يرضع امّه اى يمتصّ ثديها، ثمّ يكون وليدا أى فطيما فاذا ارتفع قيل يافع.

قال في سرّ الأدب في ترتيب أحوال الانسان: هو ما دام في الرحم جنين فاذا ولد فوليد: ثمّ ما دام يرضع فرضيع، ثمّ إذا قطع منه اللّبن فهو فطيم، ثمّ إذ ادبّ و نمى فهو دارج، فاذا بلغ طوله خمسة أشبار فهو خماسي، فاذا سقطت رواضعه فهو مشغور، فاذا نبتت أسنانه بعد السّقوط فهو مثغر«»، فاذا تجاوز العشر أو جاوزها فهو مترعرع و ناشى، فإذا كاد يبلغ الحلم أو بلغه فهو يافع و مراهق، فاذا احتلم و اجتمعت قوّته فهو حرّ، و اسمه في جميع هذه الأحول غلام فاذا اخضّر شاربه قيل قد بقل وجهه، فاذا صار فتاة فهو فتى و شارح، فاذا اجتمعت لحيته و بلغ غاية شبابه فهو مجتمع، ثمّ ما دام بين الثلاثين و الأربعين فهو شابّ، ثمّ هو كهل إلى أن يستوفى الستين و قيل إذا جاوز أربعا و ثلاثين إلى إحدى و خمسين، فاذا جاوزها فهو شيخ.

إذا عرفت ذلك فلنعد إلى شرح قوله عليه السّلام (ثمّ منحه قلبا حافظا و لسانا لافظا و بصرا لاحظا) أى أعطاه عقلا و نطقا و نظرا و منحه ذلك و منّ عليه بذلك (ليفهم معتبرا و يقصر مزدجرا) أى ليعتبر بحال الماضين و ما نزل بساحة العاصين و ينتهى عما يفضيه إلى أليم النّكال و شديد الوبال، و ليفهم دلايل الصنع و القدرة و يستدلّ بشواهد الربوبية على وجوب الطاعة و الانتهاء عن المعصية فينزجر عن الخلاف و العصيان و يتخلّص عن الخيبة و الخسران.

(حتّى إذا قام اعتداله) بالتناسب و الاستقامة و التوسّط بين الحالين في كم أو كيف أى تمّ خلقته و صورته و تناسب أعضاؤه و خلت عن الزّيادة و النّقصان و كمل قواه المحتاج إليها (و استوى مثاله) أى اعتدل مقداره و صفته و يقال استوى الرجل إذا بلغ أشدّه أى قوّته و هو ما بين ثمانية عشر إلى ثلاثين (نفر) و فرّعن امتثال‏ الأحكام الشّرعيّة و التّكاليف الالهيّة (مستكبرا) و متعنّتا (و خبط) أى سلك و سار على غير هداية (سادرا) لا يبالى ما صنع (ما تحافي غرب هواه) شبّه الهوا بالغرب لأنّ ذي الغرب إنما يستسقى بغرب الماء ليروى غلله و كذلك صاحب الهوى يجلب بهواه ما تشتهيه نفسه و تلتذّ به و تروى به غليل صدره و ذكر المتح ترشيح للتشبيه.

و أمّا ما قاله البحراني من أنّه استعار الغرب لهواه الذي يملاء به صحايف أعماله من المآثم كما يملاء ذو الغرب غربه من الماء و رشح تلك الاستعارة بذكر المتح فليس بشي‏ء، أمّا أوّلا فلأنّ طرفي التشبيه مذكور في كلامه عليه السّلام فكيف يكون استعارة بل هو تشبيه بليغ، و أمّا ثانيا فلأنّ الهوى الذي يكون سببا لملاه صحايف الأعمال لا ربط له بالغرب الذي يملاء فيه الماء إذ المملوّ بالماء هو الغرب و المملو بالمآثم هو الصحايف لا الهوا نفسه، و كذلك لا مناسبة بين الاثم و الماء و الوجه ما ذكرناه فافهم جيّبدا.

و قوله (كادحا سعيا لدنياه) أى كان سعيه و همّته من جميع جهاته مقصورة في دنياه غير مراقب بوجه لآخرته (في لذّات طربه و بدوات اربه) أى حاجته التي تبدو له و تظهر و تختلف فيها آرائه و دواعيه (لا يحتسب رزيّة و لا يخشع تقيّة) يعني لم يكن يظنّ أن ينزل عليه مصيبة و لم يكن يخشع و يخاف من اللّه لأجل تقيّة و ذلك من فرط اغتراره بالدّنيا و شدّة تماديه في الشّهوات.

(فمات في فتنته) أى في ضلالته (غريرا) و مغرورا (و عاش في هفوته) و زلّته زمانا (يسيرا) قليلا (لم يفد عوضا و لم يقض مفترضا) أى لم يستفد و لم يكتسب من الكمالات و الخيرات عوضا ممّا أنعم اللّه سبحانه به عليه، و لم يأت شيئا من الطاعات و التكاليف التي فرض اللّه تعالى عليه.

(دهمته فجعات المنيّة في غبّر جماحه و سنن مراحه) يعني فاجأته دواهى الموت في بقاياى كوبه هواه و في طرق نشاطه (فظلّ سادرا) متحيّرا (و بات ساهرا في غمرات الآلام) و شدايدها (و طوارق الأوجاع و الأسقام) و نوازلها (بين أخ شقيق) عطوف (و والد شفيق) رؤوف و شقّ الشّي‏ء و شقيقه هو نصفه.

و توصيف الأخ بالشّقيق لكونه كالشقّ منه و بمنزلة جزء بدنه و قلبه (و داعية بالويل جزعا) من النّساء و الاماء (و لا دمة للصدر قلقا) من البنات و الأمُّهات و هذا كلّه تشريح لحال أهل الميّت فانّه، إذا يئس عنه الطّبيب و ابلى الحبيب فهنا لك خفّ عنه عوّاده و أسلمه أهله و أولاده، فشقّت جيوبها نساؤه، و لطمت صدورها اماؤه، و اعول لفقده جيرانه، و توجّع لرزيّته إخوانه، و غضّوا بأيديهم عينيه، و مدّوا عند خروج نفسه يديه و رجليه.

فكم موجع يبكي عليه تفجّعا
و مستنجدا صبرا و ما هو صابر

و مسترجع داع له اللّه مخلصا
يعدّ و منه خير ما هو ذاكر

و كم شامت مستبشر بوفاته
و عما قليل كالّذي صار صائر

هذا حالهم، و أمّا حال الميّت فقد أشار إليه بقوله (و المرء في سكرة ملهثة) يلوك لسانه و يخرجه تعبا و عطشا (و غمرة كارثة) أى شدّة بلغ الغاية من المشقّة.

روى في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن عبد اللّه بن المغيرة عن السّكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ الميت إذا حضره الموت أو ثقه ملك الموت و لو لا ذلك استقرّ«» (و أنّه موجعة) أي تأوّه موجب لوجع الحاضرين و السّامعين (و جذبة مكربة و سوقة متعبة) و المراد بهما جذب الملائكة للرّوح و سوقهم له إلى خارج البدن كما قال تعالى: «وَ لَوْ تَرى‏ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَ الْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَ كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ».

قال الطّبرسي: أي في شدايد الموت عند النّزع و الملائكة الذين يقبضون الأرواح باسطو أيديهم لقبض أرواحهم يقولون أخرجوا أنفسكم من أجسادكم عند معاينة الموت ازهاقا لهم و تغليظا عليهم و إن كان إخراجها من فعل غيرهم.

و قال الشّارح البحراني: اعلم أنّ تلك الجذبة يعود إلى ما يجده الميّت حال النّزع و هو عبارة عن ألم ينزل بنفس الرّوح يستغرق جميع أجزائه المنتشرة في أعماق البدن و ليس هو كساير ما يجده الرّوح المحتصّ ببعض الأعضاء كعضو شاكته شوكة و نحوها، لاختصاص ذلك بموضع واحد فألم النّزع يهجم على نفس الرّوح و يستغرق جميع أجزائه و هو المجذوب من كلّ عرق و عصب و جزء من الأجزاء و من أصل كلّ شعرة و بشرة لا تسألنّ عن بدن يجذب منه كلّ عرق من عروقه، و قد يتمثّل ذلك بشجرة شوك كانت داخل البدن ثمّ جذبت منه فهي الجذبة المكربة، و لمّا كان موت كلّ عضو عقيب الأمراض التي ربّما طالت تدريجا فتلك هى السّوقة المتغبة (ثمّ ادرج في أكفافه مبلسا) أي آيسا أو حزينا (و جذب) من وطنه إلى الخارج (منقادا سلسا) اي سهلا ليّنا (ثمّ القي على الأعواد) أي الأسرّة حالكونه (رجيع و صب و نضوسقم) يعني أنّه من جهة ابتلائه بتارات الأمراض و تردّده في أطوار الأتعاب و الأوصاب صار كالإبل الرّجيع الذي يردّد في الأسفار مرّة بعد اخرى و لأجل نحول جسمه من الأسقام كان الجمل النّضو الذي يهزل من كثرة الأحمال و الأثقال (تحمله حفدة الولدان و حشدة الاخوان) يعني أنّه بعد الفراغ من تغسيله و تكفينه و حمله على سريره أقبلوا على جهازه و شمّروا لابرازه و حمله أعوانه و ولدانه و أحبّاؤه و إخوانه.

فظلّ أحبّ القوم كان لقربه
يحثّ على تجهيزه و يبادر

و شمّر من قد أحضروه لغسله‏
و وجّه لما فاظ«» للقبر حافر

و كفّن في ثوبين فاجتمعت
له مشيّعة إخوانه و العشاير

ثمّ اخرج من بين صحبته«» (إلى دار غربته و) من محلّ عزته إلى (منقطع زورته) و من سعة قصره إلى ضيق قبره فحثّوا بأيديهم التراب و أكثروا التلدّد و الانتحاب، و وقفوا ساعة عليه و قد يئسوا من النّظر إليه، ثمّ رجعوا عنه معولين، و ولّوا مدبرين (حتّى إذا انصرف المشيّع و رجع المتفجّع) انتبه من نومته و أفاق من غشيته و (اقعد في حفرته نجيّا لبهتة السّؤال) و دهشته (و عثرة الامتحان) و زلّته.

و لعلّ المراد به أنّه يقعد في قبره مناجيا للمنكر و ا لنكير أي مخاطبا و مجاوبا لهما سرّا لعدم قدرته على الاعلان من أجل الدّهشة و الحيرة العارضة له من سؤالهما و العثرة التي ظهرت منه بسبب اختيارهما، أو المراد أنّه يناجي ربّه في تلك الحال من هول الامتحان و السؤال و يقول ربّ ارجعون لعلّي أعمل صالحا (و أعظم ما هنا لك بليّة) و ابتلاء (نزل الحميم و تصلية الجحيم) كما قال تعالى: «وَ إِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَ غَسَّاقٌ «و في سورة النَّبَأ «لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَ لا شَراباً إِلَّا حَمِيماً وَ غَسَّاقاً» قال بعض المفسّرين: إنّ الغسّاق عين في جهنّم يسيل إليها سمّ كلّ ذات حمة من حيّة و عقرب، و قيل هو ما يسيل من دموعهم يسقونه من الحميم، و قيل هو القيح الذي يسيل منهم يجمع و يسقونه، و قيل إنّ الحميم الماء الحارّ الذي انتهت حرارته و الغسّاق الماء البارد الذي انتهت برودته فهذا يحرق ببرده و ذاك يحرق بحرّه.

و قال الطّريحي: الحميم الماء الحارّ الشّديد الحرارة يسقى منه أهل النار أو يصبّ على أبدانهم، و عن ابن عبّاس لو سقطت منه نقطة على جبال الدّنيا لأذابتها، و كيف كان فقوله عليه السّلام مأخوذ من الآية الشّريفة في سورة الواقعة قال سبحانه: «وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَ تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ» و أمّا قوله (و فورات السّعير) فأراد به شدّة غليان نار الجحيم و لهبها، و كذلك أراد بقوله (و سورات الزّفير) شدّة صوت توقد النّار (لا فترة مريحة) لهم من العذاب (و لا دعة مزيحة) عنهم العقاب كما قال سبحانه: «إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ» (و لا قوّة حاجزة) تمنعه عن النّكال (و لا موتة ناجزة) أي عاجلة تريحة من ألم الوبال إذ الموت ربّما يكون نعمة و يعده الانسان راحة كما قال مجنون العامري و نعم ما قال: فلا ملك الموت المريح يريحني (و لا سنة مسلية) لهمّه و نومة منسية لغمّه و في الحديث إنّ اللّه ألقى على عباده السّلوة بعد المصيبة لو لا ذلك لانقطع النّسل (بين أطوار الموتات و عذاب السّاعات) أراد بالموتات الآلام الشّديدة و المشاق العظيمة مجازا فلاينا في قوله عليه الصّلاة و السّلام: و لا موتة ناجزة، فانّ المراد به الحقيقة (إنا باللّه عائذون) أي ملتجئون من شرّ المآل و سوء الحال،. و قد راعى في أكثر فقرات هذا الفصل السّجع المتوازي، هذا
و ينبغي تذييل المقام بامور مهمة

الاول فى تحقيق بدو خلق الانسان فاقول:قال سبحانه في سورة المؤمنين: «وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ» و هذه الآية الشّريفة أجمع الآيات لأدوار الخلقة و أشملها لمراتب الفطرة، و هذه المراتب على ما اشيرت إليها فيها سبع.
المرتبة الأولى ما أشار إليه بقوله: «وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ» أي من خلاصة من طين و هو مبدء نشو الآدمي لتولد النّطفة منها، و ذلك لأنّ النّطفة إنّما تتولّد من فضل الهضم الرّابع، و هو إنّما يتولّد من الأغذية، و هي إمّا حيوانية و إمّا نباتية، و الحيوانية تنتهي إلى النباتية و النّبات إنّما يتولّد من صفو الأرض و الماء، فالانسان بالحقيقة يكون متولّدا من سلالة من طين.

المرتبة الثّانية أنّ السّلالة بعد ما تواردت عليها أدوار الفطرة تكون نطفة في أصلاب الآباء فتقذف بالجماع إلى أرحام النّساء التي هي قرار مكين لها و إليه أشار سبحانه بقوله: «خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ»

المرتبة الثّالثة أنّ النّطفة بعد ما استقرّت في الرّحم أربعين يوما تصير علقة و هي الدّم الجامد.

المرتبة الرّابعة أنّ العلقة بعد ما مكثت في الرّحم أربعين يوما أيضا تصير مضغة أي قطعة لحم حمراء كأنّها مقدار ما يمضغ.
المرتبة الخامسة أنّ المضغة تمكث فيه أربعين ثالثة و يجعلها اللّه صلبا فتكون عظاما.

المرتبة السّادسة ما أشار إليه بقوله: فكسونا العظام لحما أى ممّا بقى من المضغة أو ممّا أنبته عليها ممّا يصل إليها و إنّما جعل اللحم كسوة لستره العظم كما يستر اللّباس البدن.

المرتبة السّابعة ما أشار إليه بقوله: ثمّ أنشأناه خلقا آخر أى خلقا متباينا للخلق الأوّل باضافة الرّوح إليه مباينا ما أبعدها، و ذلك بعد تمام ثلاثة أربعين أي كمال أربعة أشهر فكان حيوانا بعد ما كان جمادا، و حيّا بعد ما كان ميتا، و ناطقا و كان أبكم، و سميعا و كان أصم، و بصيرا و كان أعمى، و أودع باطنه و ظاهره بل كلّ عضو من أعضائه عجايب صنعته و بدايع حكمته التي لا يحيط بها وصف الواصفين و لا شرح الشّارحين، فتبارك اللّه أحسن الخالقين هذا.

و روى الصّدوق (ره) في الفقيه عن محمّد بن عليّ الكوفيّ، عن إسماعيل بن مهران، عن مرازم، عن جابر بن يزيد، عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: إذا وقع الولد في جوف أمّه صار وجهه قبل ظهر أمّه إن كان ذكرا و إن كان انثى صار وجهها قبل بطن أمّها و يداه على و جنتيه و ذقنه على ركبتيه كهيئة الحزين المهموم، فهو كالمصرور منوط بعماء من سرّته إلى سرّة امّه، فبتلك السرّة يغتذي من طعام امّه و شرابها إلى الوقت المقدّر لولادته، فيبعث اللّه عزّ و جلّ ملكا إليه فيكتب على جبهته: شقيّ أو سعيد، مؤمن أو كافر غنيّ أو فقير، و يكتب أجله و رزقه و سقمه و صحّته.

فاذا انقطع الرّزق المقدّر له من سرّة امّه زجره الملك زجرة فانقلب فزعا من الزّجرة و صار رأسه قبل الفرج، فاذا وقع إلى الأرض وقع إلى هول عظيم و عذاب أليم إن أصابته ريح أو مشقّة أو مسّته يد وجد لذلك من الألم ما يجد المسلوخ عنه جلده.
يجوع فلا يقدر على الاستطعام، و يعطش فلا يقدر على الاستسقاء، و يتوجّع فلا يقدر على الاستغاثة، فيوكّل اللّه تبارك و تعالى برحمته و الشّفقة عليه و المحبّة له أمّه فتقيه الحرّ و البرد بنفسها، و تكاد تفديه بروحها، و تصير من التّعطف عليه‏بحال لا تبالي أن تجوع إذا شبع و تعطش إذا روى، و تعرى إذا كسى.

و جعل اللّه تعالى ذكره رزقه في ثدي أمّه في إحداهما شرابه و في الاخرى طعامه، حتّى إذا رضع أتاه اللّه عزّ و جلّ في كلّ يوم بما قدر له فيه من رزق، فاذا أدرك فهمّه الأهل و المال و الشّره و الحرص، ثمّ هو مع ذلك معرض الآفات و العاهات و البليّات من كلّ وجه، و الملائكة ترشده و تهديه، و الشّياطين تضلّه و تغويه، فهو هالك إلّا أن ينجيه اللّه عزّ و جلّ، و قد ذكر اللّه تعالى ذكره نسبة الانسان في محكم كتابه فقال عزّ و جلّ: «وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ» قال جابر بن عبد اللّه الأنصارى: فقلت: يا رسول اللّه هذه حالنا فكيف حالك و حال الأوصياء بعدك في الولادة فسكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم مليّا ثمّ قال: يا جابر لقد سألت عن أمر جسيم لا يحتمله إلّا ذو حظ عظيم، إنّ الأنبياء و الأوصياء مخلوقون من نور عظمة اللّه عزّ و جلّ ثناؤه يودع اللّه أنوارهم أصلابا طيّبة و أرحاما طاهرة يحفظها بملائكته و يربّيها بحكمته و يغذوها بعلمه، فأمرهم يجلّ عن أن يوصف، و أحوالهم تدّق عن أن تعلم، لأنّهم نجوم اللّه في أرضه، و أعلامه في بريّته، و خلفاؤه على عباده، و أنواره في بلاده، و حججه على خلقه، يا جابر هذا من مكنون العلم و مخزونه فاكتمه إلّا من أهله.

و في توحيد المفضّل عن الصّادق عليه السّلام قال. و سنبتدئ يا مفضّل بذكر خلق الانسان فاعتبر به، فأوّل ذلك ما يدبّر به الجنين في الرّحم و هو محجوب في ظلمات ثلاث: ظلمة البطن، و ظلمة الرّحم، و ظلمة المشيمة، حيث لا حيلة عنده‏ في طلب غذاء و لا دفع أذى و لا استجلاب منفعة و لا دفع مضرّة، فإنّه يجرى إليه من دم الحيض ما يغذوه كما يغذ و الماء النّبات فلا يزال ذلك غذاه.

حتّى إذا كمل خلقه و استحكم بدنه و قوى اديمه على مباشرة الهواء و بصره على ملاقات الضّياء هاج الطّلق بأمّه فازعجه أشدّ إزعاج و أعنفه حتّى يولد، فاذا ولد صرف ذلك الدّم الّذي كان يغذوه من دم امّه إلى ثدييها، فانقلب الطّعم و اللّون إلى ضرب آخر من الغذاء، و هو أشدّ موافقة للمولود من الدّم فيوافيه في وقت حاجته إليه فحين يولد قد تلمط و حرّك شفتيه طلبا للرّضاع فهو يحدى ثدى أمّه كالاداوتين المعلّقتين لحاجته، فلا يزال يغتذي باللّبن ما دام رطب البدن رقيق الأمعاء ليّن الأعضاء.

حتّى إذا تحرّك و احتاج إلى غذاء فيه صلابة ليشتدّ و يستوي بدنه و طلعت له الطّواحين «من الاسنان خ» و الأضراس ليمضغ به الطعام فيلين عليه و يسهل له إساغته فلا يزال كذلك حتّى يدرك، فاذا أدرك و كان ذكرا طلع الشّعر في وجهه فكان ذلك علامة الذّكر و عزّ الرّجل الذي يخرج به عن حدّ الصّبا و شبه النّساء و إن كانت انثى يبقى وجهها نقيّا من الشّعر لتبقى لها البهجة و النّضارة التي تحرّك الرّجال لما فيه دوام النّسل و بقاؤه، الحديث.

الثاني في تحقيق السؤال في القبر و ذكر شبهة المنكرين له و دفعها

اعلم أنّ كلام الامام عليه السّلام في هذا الفصل صريح في ثبوت السؤال في القبر و هو حقّ يجب الايمان و الاذعان به، و عليه قد انعقد إجماع المسلمين بل هو من ضروريات الدّين، و منكره كافر خالد في الجحيم لا يفترّ عنه العذاب الأليم، و لم يخالف فيه إلّا بعض من انتسب إلى الاسلام كضرار بن عمر و طايفة من المعتزلة و جمع من الملاحدة مموّهين على العوام الّذين يصغون إلى كلّ ناعق بأنّ الميّت بعد وضعه في قبره إن حشى فمه بالجصّ و نحوه و دفن ثمّ يؤتى إليه في اليوم الآخر و ينبش قبره فانّك تراه على حاله لم يتغيّر فلو كان في القبر سؤال و حساب لتغيّرت حالته و لا نفتح فمه و سقط الجصّ، و أيضا فانا لا نسمع عذابه في القبر مع شدّته و صعوبته.
و فساد ذلك الكلام غنيّ عن البيان، لأنّ هذه العين و الأذن لا تصلحان لمشاهدة الأمور الملكوتيّة و سماعها، و كلّ ما يتعلّق بالآخرة فهو من عالم الملكوت.

ألا ترى أنّ الصّحابة كانوا يجلسون عند النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم حين نزول جبرئيل عليه و هو يراه و يتكلّم معه في حضورهم و النّاس لا يرونه و لا يسمعون كلامه و كذلك ملكا القبر لا يمكن للنّاس أن يدركوا سؤالهما و جواب الميّت لهما بهذه الحواسّ، و كذلك الحيّات و العقارب في القبر ليس من جنس الحيّات و العقارب في هذا العالم حتّى تدرك بالحسّ.

و يوضح ذلك أنّ النّائم بحضور الجالسين قد يشاهد في نومه الحيّات و العقارب و ساير المولمات و الموذيات تؤلمه و تؤذيه و تلدغه فيتألم و يتأذي بحيث يرشح جبينه و يعرق و يبكي في نومه من شدّة الألم و الأذى و مع ذلك كلّه فلا يرى الحاضرون ممّا يرى و يسمع شيئا.

و بالجملة فلا يعتدّ بهذه التّرّهات و التمويهات، و المنكر قد وجد جزاء إنكاره و هو الآن في قبره مقرّ بما أنكر مذعن بما كفر مدرك لما أنكره بالسّمع و البصر، و الحمد للّه الذي منّ علينا بالايمان بالغيب، و خلّص قلوبنا من الشّك و الرّيب.
قال الصّادق عليه السّلام في رواية الصّدوق: ليس من شيعتنا من أنكر ثلاثة: المعراج، و سؤال القبر، و الشفاعة.
و في كتاب السّماء و العالم للمحدّث المجلسي عن الكافي عن بعض أصحابه عن عليّ بن العبّاس عن الحسن بن عبد الرّحمن عن أبي الحسن الأوّل قال: إنّ الأحلام لم تكن فيما مضى في أوّل الخلق و إنّما حدثت، فقلت: و ما العلّة في ذلك‏

فقال عليه السّلام: إنّ اللّه عزّ ذكره بعث رسولا إلى أهل زمانه فدعاهم إلى عبادة اللّه و طاعته سبحانه فقالوا: إن فعلنا ذلك فمالنا فو اللّه ما أنت باكثرنا مالا و لا بأعزّنا عشيرة قال لهم: إنّكم إن أطعتموني أدخلكم اللّه الجنّة، و إن عصيتموني أدخلكم اللّه النّار، فقالوا: و ما الجنّة و ما النّار فوصف لهم ذلك، فقالوا: متى نصير إلى ذلك فقال: إذا متم، فقالوا: لقد رأينا أمواتنا صاروا عظاما و رفاتا فازدادوا له تكذيبا و به استخفافا، فأحدث اللّه عزّ و جلّ فيهم الأحلام فأتوا فأخبروه بما رأوا و ما أنكروا من ذلك، فقال لهم: إنّ اللّه سبحانه أراد أن يحتجّ عليكم بهذا، هكذا تكون أرواحكم إذا متّم و إن بليت أبدانكم تصيرا لأرواح إلى عقاب حتّى تبعث الأبدان، هذا.

و بقى الكلام في عموم سؤال القبر قال العلّامة المجلسي (ره) المشهور بين متكلّمي الاماميّة عدم عمومه و اختصاصه بمحض المؤمن و محض الكافر و أنّه ليس على المستضعفين و لا على الصّبيان و المجانين سؤال، و حكى عن الشّهيد (ره) انّه قال: إنّ السؤال حقّ اجماعا إلّا في من يلقّن حجّته.

أقول: و يدلّ على ذلك و على اختصاصه بالمؤمن و الكافر المحض الأخبار المتظافرة في الكافي و غيره و سيجي‏ء بعضها في ضمن الأخبار الآتية.

الثالث في حالات الميت حين اشرف على الموت و حين ازهاق روحه و عند الغسل و التكفين و حمله على سريره و اذا وضع فى قبره و كيفية السؤال فى القبر و ضغطة القبر و بعض عقوباته فى البرزخ و مثوباته
و نحن نشرح كلّ ذلك بما وصل إلينا في ذلك الباب من الأخبار المرويّة عن أئمّتنا الأطياب الأطهار سلام اللّه عليهم ما تعاقب اللّيل و النّهار، فأقول:

أما حالة الاحتضار

و أعني بها حالة إشراف الميّت على الموت فهي حالة يلهو المرء فيها بكليّته‏ عن الدّنيا و يكون توجّهه إلى الآخرة، و يحضر حينئذ عنده رسول اللّه و الأئمة سلام اللّه عليهم و الملائكة الموكّلون بقبض روحه كما يحضر عنده أهله و عياله و أحبّاؤه و أقرباؤه فتارة يكون مخاطبته مع الأوّلين و أخرى مع الآخرين.

روى عليّ بن إبراهيم القمّي في تفسير قوله: «يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ» باسناده عن سويد بن الغفلة عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: إنّ ابن آدم إذا كان في آخر يوم من الدّنيا و أوّل يوم من الآخرة مثّل له أهله و ماله و ولده و عمله، فينظر إلى ماله فيقول: و اللّه إنّي كنت عليك لحريصا شحيحا فما ذا عندك فيقول: خذ منّي كفنك، ثم يلتفت إلى ولده فيقول: و اللّه إنّي كنت لكم لمحبّا و إنى كنت عليكم لمحاميا فما ذا عندكم فيقولون: نؤدّيك إلى حفرتك و نواريك فيها، ثمّ يلتفت إلى عمله فيقول: و اللّه إنّى كنت من الزّاهدين فيك و إنّك كنت علىّ ثقيلا فما ذا عندك فيقول: أنا قرينك في قبرك و يوم حشرك حتّى اعرض أنا و أنت على ربّك.

فان كان للّه وليّا أتاه أطيب النّاس ريحا و أحسنهم منظرا و أزينهم رياشا فيقول: ابشر بروح من اللّه و ريحان و جنّة النّعيم قد قدمت خير مقدم فيقول: من أنت قال: أنا عملك الصّالح ارتحل من الدّنيا إلى الجنّة و أنّه ليعرف غاسله و يناشد حامله أن يعجّله.

فاذا ادخل قبره أتاه ملكان و هما فتّان القبر يجرّان أشعارهما و يبحثان الأرض بأنيابهما و أصواتهما كالرّعد القاصف و أبصارهما كالبرق الخاطف فيقولان له: من ربّك، و من نبيّك و ما دينك فيقول: اللّه ربّى و محمّد نبيّي و الاسلام ديني فيقولان له: ثبّتك اللّه بما تحبّ و ترضى و هو قول اللّه: «يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ» الآية فيفسحان له في قبره مدّ بصره و يفتحان له بابا إلى الجنّة و يقولان له: نم قرير العين نوم الشّابّ النّاعم، و هو قوله: «أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَ أَحْسَنُ مَقِيلًا» و إذا كان لربّه عدوّا فانّه يأتيه أقبح من خلق اللّه رياشا و أنتنه ريحا فيقول: من أنت فيقول: عملك فيقول: ابشر بنزل من حميم و تصلية جحيم، و انّه ليعرف غاسله و يناشد حامله أن يحبسه.

فاذا ادخل قبره أتياه ممتحنا القبر فألقيا أكفانه ثمّ قالا له: من ربّك، و من نبيّك، و ما دينك فيقول: لا أدري، فيقولان: لا دريت و لا هديت، فيضربانه بمرزبة ضربة ما خلق اللّه دابّة إلّا و تذعر لها ما خلا الثّقلين، ثمّ يفتحان له بابا إلى النّار، ثمّ يقولان له: نم بشرّ حال.
فهو من الضيق مثل ما فيه القنا«» من الزّج حتّى أنّ دماغه يخرج من ما بين ظفره و لحمه، و يسلّط اللّه عليه حيّات الأرض و عقاربها و هوامّها فتنهشه حتّى يبعث اللّه من قبره. و أنّه ليتمنّى قيام السّاعة ممّا هو فيه من الشّر.

و رواه في الكافي عن عليّ بن إبراهيم مسندا عن سويد بن غفلة عنه عليه السّلام مثله.
و في الكافي عن أبي اليقظان عمّار الأسدي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لو أنّ مؤمنا أقسم على ربّه أن لا يميته ما أماته أبدا، و لكن إذا كان ذلك أو إذا حضر أجله بعثه اللّه عزّ و جلّ إليه ريحين: ريحا يقال لها المنسية و ريحا يقال المسخية، فأمّا المنسية فانّها تنسيه أهله و ماله، و أمّا المسخية فانّها تسخي نفسه عن الدّنيا حتّى يختار ما عند اللّه.

و عن أبي خديجة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: ما من أحد يحضره الموت إلّا وكّل به إبليس من شياطينه من يأمره بالكفر و يشكّكه في دينه حتّى يخرج نفسه، فمن كان مؤمنا لم يقدر عليه فاذا حضرتم موتاكم فلقّنوهم شهادة أن لا إله‏ إلّا اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه حتّى يموت.

و في رواية أخرى قال صلّى اللّه عليه و آله: فلقّنه كلمات الفرج و الشّهادتين و يسمّى له الاقرار بالأئمة عليهم السّلام واحدا بعد واحد حتّى يتقطع عنه الكلام.

و عن سدير قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: جعلت فداك يابن رسول اللّه هل يكره المؤمن على قبض روحه قال عليه السّلام: لا و اللّه إنّه إذا أتاه ملك الموت لقبض روحه جزع عند ذلك فيقول له ملك الموت: يا وليّ اللّه لا تجزع فو الّذي بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله لأنا أبرّ بك و أشفق عليك من والد رحيم لو حضرك، افتح عينيك فانظر قال: و يمثّل له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمة من ذريّتهم عليهم السّلام فيقال له: هذا رسول اللَّه و أمير المؤمنين و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمة عليهم السّلام رفقاؤك، قال: فيفتح عينيه فينادى روحه مناد من قبل ربّ العزّة فيقول: «يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ» إِلى محمّد و أهل بيته «ارْجِعِي إِلى‏ رَبِّكِ راضِيَةً» بالولاية «مَرْضِيَّةً» بالثّواب «فَادْخُلِي فِي عِبادِي» يعني محمّداً و أهل بيته «وَ ادْخُلِي جَنَّتِي» فما شي‏ء أحبّ إليه من استلال روحه.

و عن عليّ بن عقبة عن أبيه قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا عقبة لا يقبل اللّه من العباد يوم القيامة إلّا هذا الأمر الذي أنتم عليه، و ما بين أحدكم و بين أن يرى ما يقرّبه عينه إلّا أن تبلغ نفسه إلى هذه، ثمّ أهوى بيده إلى الوريد، ثمّ اتّكى.

و كان معي المعلّى فغمزني أن أسأله فقلت: يابن رسول اللّه فاذا بلغت نفسه هذه أيّ شي‏ء يرى فقلت له بضعة عشر مرّة: أيّ شي‏ء يرى، فقال في كلّها: يرى، لا يزيد عليها، ثمّ جلس في آخرها فقال: يا عقبة، فقلت: لبيّك و سعديك، فقال: أبيت إلّا أن تعلم فقلت: نعم يابن رسول اللّه إنّما ديني مع دينك فاذا ذهب ديني‏ كان ذلك كيف لي بك يا بن رسول اللّه كلّ ساعة و بكيت، فرقّ لي فقال: يراهما و اللّه، فقلت: بأبي و أمّي من هما قال: ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلمّ و علي عليه السّلام يا عقبة لن تموت نفس مؤمنة أبدا حتّى تراهما قلت: فاذا نظر إليهما المؤمن أ يرجع إلى الدّنيا فقال: لا، يمضى أمامه اذا نظر اليهما مضى أمامه فقلت له: يقولان شيئا قال: نعم يدخلان جميعا على المؤمن، فيجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عند رأسه و عليّ عليه السّلام عند رجليه فيكبّ عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيقول: يا وليّ اللّه ابشر أنا رسول اللّه إنّي «أناخ» خير لك ممّا تركت من الدّنيا.

ثمّ ينهض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيقوم عليّ عليه السّلام حتّى يكبّ عليه فيقول: يا وليّ اللّه ابشر أنا عليّ بن أبي طالب الذي كنت تحبّ أنا لأنفعنك، ثمّ قال عليه السّلام: إنّ هذا في كتاب اللّه عزّ و جل، فقلت: أين جعلني اللّه فداك هذا من كتاب اللّه قال: في يونس قول اللّه عزّ و جلّ ههنا: «الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى‏ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» و عن أبي بصير قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام إذا حيل بينه و بين الكلام أتاه رسول اللّه و من شاء اللّه فجلس رسول اللّه عن يمينه و الآخر عن يساره فيقول له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أمّا ما كنت ترجو فهو ذا أمامك، و أمّا ما كنت تخاف منه فقد أمنت منه.

ثمّ يفتح له باب إلى الجنّة فيقول هذا منزلك من الجنّة فان شئت رددناك إلى الدّنيا و لك فيها ذهب و فضّة، فيقول: لا حاجة لي في الدّنيا فعند ذلك يبيض لونه و يرشح جبينه و تقلص شفتاه و تنتشر منخراه و تدمع عينه اليسرى فأىّ هذه العلامات رأيت فاكتف بها، فاذا خرجت النفس من الجسد فيعرض عليها كما عرض عليه و هي في الجسد فتختار الآخرة الحديث.

أقول: و الأخبار في رؤية النّبيّ و الأئمّة صلوات اللّه عليه و عليهم كثيرة كادت‏ تبلغ حدّ التواتر، و يأتي بعضها بعد ذلك، و بتلك الأخبار يطيب نفوسنا و يسكن قلوبنا إلى الموت، و بها أيضا يعلم أنّ كراهة المؤمن للموت على ما في الحديث القدسي من قول اللّه سبحانه: ما تردّدت في شي‏ء أنا فاعله كتردّدي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت و أكره مسائته إنّما هي قبل الاستبشار برؤيتهم عليهم السّلام، و أمّا بعد معاينتهم فليس شي‏ء أحبّ إليه من الموت كما عرفت في الرّوايات.

و يدلّ عليه صريحا ما في الكافي عن عبد الصّمد بن بشير عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت: أصلحك اللَّه من أحبّ لقاء اللّه أحبّ اللّه لقاءه و من أبغض لقاء اللّه أبغض اللّه لقاءه قال عليه السّلام: نعم، قلت: فو اللّه إنّا لنكره الموت، فقال عليه السّلام: ليس ذلك حيث تذهب إنّما ذلك عند المعاينة إذا رأى ما يحبّ فليس شي‏ء أحبّ إليه من أن يتقدّم و اللّه تعالى يحبّ لقاءه و هو يحبّ لقاء اللّه حينئذ و إذا رأى ما يكره فليس شي‏ء أبغض إليه من لقاء اللّه و اللّه يبغض لقاءه.

و فيه عن يحيى بن سابور قال: سمعت أبا عبد اللَّه عليه السّلام يقول: في الميّت تدمع عيناه عند الموت فقال عليه السّلام: ذلك عند معاينة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيرى ما يسرّه، ثمّ قال عليه السّلام: أما ترى الرّجل يرى ما يسرّه و ما يحبّ فتدمع عينه لذلك و يضحك.

و أما صفة ملك الموت و كيفية قبض الروح

فروى السيّد السّند السيّد نعمة اللّه الجزائري أنّ الخليل عليه السّلام قال لملك الموت يوما: يا ملك الموت احبّ أن أراك على الصّورة التّي تقبض فيها روح المؤمن، فقال: يا إبراهيم اعرض عنّي بوجهك حتّى أتصوّر على تلك الصّورة، فلمّا رآه إبراهيم عليه السّلام رأى صورة شابّ حسن الوجه أبيض اللون تعلوه الأنوار في أحسن ما يتخيّل من الهيئة فقال: يا إبراهيم في هذه الصّورة اقبض روح المؤمن فقال عليه السّلام: يا ملك الموت لو لم يلق المؤمن إلّا لقائك لكفاه راحة.

ثمّ قال عليه السّلام: اريد أن أراك على الصّفة التي تقبض فيها روح الكافر، فقال:

يا إبراهيم لا تقدر، فقال: أحبّ ذلك، فقال: أعرض بوجهك فأعرض بوجهه ثمّ قال: انظر فنظر إليه فاذا هو أسود كاللّيل المظلم و قامته كالنّخل الطّويل و النار و الدّخان يخرجان من منخريه و فمه إلى عنان السّماء.
فلمّا نظر إليه غشي على إبراهيم عليه السّلام فرجع ملك الموت إلى حالته فلمّا أفاق الخليل عليه السّلام قال: يا ملك الموت لو لم يكن للكافر هول من الموت إلّا رؤيتك لكفاه عن ساير الأهوال.

فاذا أتى إلى المؤمن سلّ روحه سلّا رقيقا لطيفا حتّى أنّه يحصل له الرّاحة من ذلك السّلّ لما يشاهده من مكانه في الجنّة و إن كان كافرا أتى إليه بحديدة محميّة بنار جهنّم فأدخلها في حلقومه و جذب روحه بها يخيل إليه أنّ أطباق السّماوات و الأرض قد وقعت عليه و طبقته حتّى يخرج زبدة على فمه كالبعير.

أقول: و يدلّ عليه ما في الكافي عن ابن الفضيل عن أبي حمزة قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: إنّ آية المؤمن إذا حضره الموت بياض وجهه أشدّ من بياض لونه و يرشح جبينه و يسيل من عينيه كهيئة الدّموع فيكون ذلك خروج نفسه، و إنّ الكافر يخرج نفسه سلّا من شدقه«» كزبد البعير أو كما يخرج نفس البعير.

و فيه باسناده عن عمّار بن مروان قال: حدّثني من سمع أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: منكم و اللّه يقبل، و لكم و اللّه يغفر إنّه ليس بين أحدكم و بين أن يغتبط و يرى السّرور و قرّة العين إلّا أن تبلغ نفسه ههنا و أومى بيده إلى حلقه.

ثمّ قال عليه السّلام: إنّه إذا كان ذلك و احتضر حضره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عليّ عليه السّلام و جبرئيل و ملك الموت فيدنو منه عليّ عليه السّلام فيقول: يا رسول اللّه إنّ هذا كان يحبّنا أهل البيت فأحبّه، و يقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا جبرئيل إنّ هذا يحبّ اللّه و رسوله و أهل بيت رسوله فأحبّه، و يقول جبرئيل عليه السّلام: يا ملك الموت إنَّ هذايحبّ اللّه و رسوله و أهل بيت رسوله فأحبّه و ارفق به.

فيدنو منه ملك الموت فيقول: يا عبد اللّه أخذت فكاك رقبتك أخذت أمان براتك تمسّكت بالعصمة الكبرى في الحياة الدّنيا قال: فيوفّقه اللّه عزّ و جلّ فيقول: نعم، فيقول: و ما ذاك فيقول: ولاية عليّ بن أبي طالب عليه السّلام فيقول: صدقت أمّا الذي كنت تحذره فقد آمنك اللّه منه، و أمّا الذي كنت ترجوه فقد أدركته ابشر بالسّلف الصّالح مرافقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عليّ و فاطمة عليهم السّلام.
ثمّ يسلّ نفسه سلّا رفيقا، ثمّ ينزل بكفنه من الجنّة و حنوطه من الجنّة بمسك أذفر فيكفن بذلك الكفن و يحنط بذلك الحنوط، ثمّ يكسى حلّة صفراء من حلل الجنّة.

فاذا وضع في قبره فتح له باب من أبواب الجنّة يدخل عليه من روحها و ريحانها، ثمّ يفتح له عن أمامه مسيرة شهر و عن يمينه و عن يساره، ثمّ يقال له: نم نومة العروس على فراشها ابشر بروح و ريحان و جنّة نعيم و ربّ غير غضبان.

ثمّ يزور آل محمّد سلام اللّه عليهم في جنان رضوى فيأكل معهم من طعامهم، و يشرب معهم من شرابهم، و يتحدّث معهم في مجالسهم حتّى يقوم قائمنا فاذا قام قائمنا بعثهم اللّه تعالى فأقبلوا معه يلبّون زمرا زمرا و عند ذلك يرتاب المبطلون و يضمحلّ المحلّون و قليل ما يكونون هلكت المحاضرون و نجا المقرّون. «بون خ» من أجل ذلك قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السّلام أنت أخي و ميعاد ما بيني و بينك وادي السّلام.

قال عليه السّلام و إذا احتضر الكافر حضره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عليّ عليه السّلام و جبرئيل و ملك الموت فيدنو منه عليّ عليه السّلام فيقول: يا رسول اللّه إنّ هذا كان يبغضنا أهل البيت فأبغضه و يقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا جبرئيل إنّ هذا كان يبغض اللّه و رسوله و أهل بيت رسوله فأبغضه، فيقول جبرئيل عليه السّلام: يا ملك الموت إنّ هذا كان يبغض اللّه و رسوله و أهل بيت رسوله فأبغضه و اعنف عليه.

فيدنو منه ملك الموت فيقول: يا عبد اللّه أخذت فكاك رهانك و أمان براتك‏تمسّكت بالعصمة الكبرى في الحياة الدّنيا فيقول: لا، فيقول: ابشر يا عدوّ اللّه بسخط اللّه عزّ و جلّ و عذابه و النّار، أمّا الذي كنت تحذر فقد نزل بك.
ثمّ يسلّ نفسه سلا عنيفا ثمّ يوكّل بروحه ثلاثمأة شيطان كلّهم يبزق في وجهه و يتأذى بروحه فاذا وضع في قبره فتح له باب من أبواب النّار فيدخل عليه من فيحها و لهبها.

و عن الهيثم بن واقد عن رجل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على رجل من أصحابه و هو يجود بنفسه فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلم: يا ملك الموت أرفق بصاحبي فانّه مؤمن، فقال: ابشر يا محمّد فانّي بكلّ مؤمن رفيق.

و اعلم يا محمّد أنّي اقبض روح ابن آدم فيجزع أهله فأقوم في ناحية من دارهم فأقول ما هذا الجزع فو اللّه ما تعجلناه قبل أجله و ما كان لنا في قبضه من ذنب فان تحتسبوه و تصبروا توجروا، و إن تجزعوا تأثموا و توزروا، و اعلموا أنّ لنافيكم عودة ثمّ عودة فالحذر ثم الحذر إنّه ليس في شرقها و لا في غربها أهل بيت مدر و لا وبر إلّا و أنا أتصفّحهم في كلّ يوم خمس مرّات و لأنا أعلم بصغيرهم و كبيرهم منهم بأنفسهم و لو أردت قبض روح بعوضة ما قدرت عليها حتّى يأمرني ربّي بها.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: إنّما يتصفّحهم في مواقيت الصّلاة فان كان ممّن يواظب عليها عند مواقيتها لقّنه شهادة أن لا إله إلّا اللّه و نحىّ عنه ملك الموت إبليس.
و عن السّكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ الميّت إذا حضره الموت أو ثقه ملك الموت و لو لا ذلك ما استقرّ.

و أما التغسيل و التكفين

فقد ورد في الرّوايات أن الرّوح بعد خروجه من الجسد يكون مطلّا على الجسد و أنّه ليرى ما يفعل به.
و في رواية اصبغ بن نباتة أنّه يناشد الغاسل و يقول له عند تغسيله: باللّه عليك يا عبد اللّه رفقا بالبدن الضّعيف فو اللّه ما خرجت من عرق إلّا انقطع، و لا من عضو إلّا انصدع، فو اللّه لو سمع الغاسل ذلك القول لما غسل ميّتا أبدا.

و في جامع الأخبار قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: فو الذي نفس محمّد بيده لو يرون مكانه و يسمعون كلامه لذهبوا عن ميّتهم و لبكوا على نفوسهم حتّى إذا حمل الميّت على نعشه رفرف روحه فوق النّعش و هو ينادي: يا أهلى و يا ولدي لا تلعبن بكم الدّنيا كما لعبت بي، الحديث هذا.

و في الوسائل في عدّة روايات الأمر باجادة الأكفان و المغالات في أثمانها معلّلا بأنّ الموتى يبعثون بها و بأنّهم يتباهون بأكفانهم.
و فيه أنّ موسى بن جعفر عليهما السّلام كفن في حبرة استعملت له بمبلغ خمسمائة دينار عليها القرآن كلّه.

و فيه عن يونس بن يعقوب عن أبي الحسن الأوّل عليه السّلام قال: سمعته يقول: إنّي كفنت أبي في ثوبين شطويين كان يحرم فيهما و قميص من قمصه و عمامة كانت لعليّ بن الحسين عليهما السّلام و في برد اشتريته بأربعين دينارا، و لو كان اليوم ساوى أربعمائة دينار.

و أما حالته اذا حمل على سريره

فهو أنّه إن كان مؤمنا خرج روحه يمشى بين يدي القوم قدما و تلقاه أرواح المؤمنين و يبشّرونه بما أعدّ اللّه له جلّ ثناؤه من النّعيم.
و إن كان عدوّا اللّه سبحانه فهو كما ورد في رواية الكلينيّ عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام عن جابر بن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: إذا حمل عدوّ اللّه إلى قبره نادى حملته ألا تسمعون يا اخوتاه إنّي أشكو إليكم ما وقع فيه أخوكم الشّقيّ إنّ عدوّ اللّه خدعني فأوردني ثمّ لم يصدرني و أقسم لي أنّه ناصح لي فغشّني و أشكو إليكم دنيا غرّتني حتّى إذا اطمأننت إليها صرعتني، و أشكو إليكم أخلّاء الهوى منّوني ثمّ تبرّؤوا منّي و خذلوني، و أشكو إليكم أولادا حميت عنهم و آثرتهم على نفسي فأكلوا مالي و أسلموني.
و أشكو إليكم مالا ضيّعت فيه حقّ اللّه سبحانه فكان و باله علىّ و كان نفعه لغيري، و أشكو إليكم دارا أنفقت عليها حربيتي«» و صار سكّانها غيري‏أشكو إليكم طول الثواء في قبري ينادي أنا بيت الدّود و أنا بيت الظلمة و الوحشة و الضّيق.

يا اخوتاه فاحبسوني ما استطعتم و احذروا مثل ما لقيت فانّي قد بشّرت بالنّار و بالذّل و الصّغار و غضب العزيز الجبّار، و احسرتاه على ما فرّطت في جنب اللّه و يا طول عولناه فمالي من شفيع يطاع و لا صديق يرحمني فلو أنّ لي كرّة فأكون من المؤمنين.
و في رواية إنّ أبي جعفر عليه السّلام كان يبكي إذا ذكر هذا الحديث.

ثمّ إنّه إذا أتيت بالميّت إلى شفير قبره فأمهله ساعة فانّه يأخذ اهبته للسّؤال كما وردت رواية أبي الحسن موسى عليه السّلام.
و إذا حضر المؤمنون للصّلاة عليه و شهدوا له بالخير و الصّلاح فقد ورد في الخبر انّ اللّه سبحانه يجيز شهادتهم و يكتبه عنده من الأخيار و إن كان في علمه عزّ و جلّ من الأشرار.

قال الصّادق عليه السّلام: إذا حضر الميت أربعون رجلا فقالوا: اللّهم إنّا لا نعلم منه إلّا خيرا، قال اللّه تعالى: قد قبلت شهادتكم له و غفرت له ما علمت ممّا لا تعلمون.

قال السيّد الجزايري في الأنوار النّعمانيّة روى الشّيخ الكلينيّ قدّس اللّه روحه باسناده إلى الامام أبي عبد اللّه جعفر بن محمّد الصّادق عليه السّلام قال: كان في بني إسرائيل عابد فأوحى اللّه تعالى إلى داود على نبيّنا و عليه السّلام إنّه مرائي قال: ثمّ إنّه مات فلم يشهد جنازته داود، فقام أربعون من بني إسرائيل فقالوا: اللهمّ إنا لا نعلم منه إلّا خيرا و أنت أعلم به منّا فاغفر له «قال فلمّا غسل أتى إليه أربعون غير الأربعين و قالوا: اللّهمّ إنّا لا نعلم منه إلّا خيرا فأنت أعلم به منّا فاغفر له خ ل» قال عليه السّلام فأوحى اللّه إلى داود: ما منعك أن تصلّي قال داود: للذي أخبرتني به، قال: فأوحى اللّه إليه انّه قد شهد له قومه فأجزت شهادتهم و غفرت له و عملت ما لم تعلموا.

و اما حاله بعد وضعه فى قبره

ففي الحديث إنّ الرّوح يدخل إلى حقويه و يسمع لفظ أيدى القوم من تراب قبره فعند ذلك ينظر يمينا و شمالا فلا يرى إلّا ظلمات ثلاث: ظلمة الأرض، و ظلمة العمل، و ظلمة الوحشة فيا لها من داهية عظيمة و رزيّة جسيمة، و أوّل ملك يدخل عليه يسمّى رومان فتان القبور، و في رواية اصبغ بن نباته يسمّي منبّه.

قال السيّد الجزائري رحمه اللّه: روى عبد اللّه بن سلام أنّه قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم عن أوّل ملك يدخل في القبر على الميّت قبل منكر و نكير، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ملك يتلألأ وجهه كالشّمس اسمه رمان«» يدخل على الميّت ثمّ يقول له: اكتب ما عملت من حسنة و من سيّئة، فيقول: بأيّ شي‏ء أكتب أين قلمي و دواتي و مدادي فيقول له: ريقك مدادك و قلمك اصبعك، فيقول: على أىّ شي‏ء أكتب و ليس معى صحيفة قال: صحيفتك كفنك فاكتبه فيكتب ما عمله في الدّنيا خيرا.

فاذا بلغ سيئآته يستحي منه فيقول له الملك: يا خاطى ما تستحى من خالقك حين عملتها في الدّنيا و تستحى الآن، فيرفع الملك العمود ليضربه فيقول العبد: ارفع عني حتّى أكتبها، فيكتب فيها جميع حسناته و سيئاته ثمّ يأمره أن يطوى و يختم فيقول له: بأيّ شي‏ء اختمه و ليس معى خاتم فيقول له: اختمه بظفرك و علّقه في عنقك إلى يوم القيامة كما قال تعالى: وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً و في رواية اخرى أنّه يأتي إلى الميّت فيسمه فان عرف منه خيرا أخبر منكرا و نكيرا حتّى يرفقا به وقت السؤال، و إن عرف منه شرّا أخبرهما حتّى يشدّدا عليه الحال و العذاب.

و أما السؤال عنه

فقد علمت سابقا أنّه من ضروريّات الدّين و عليه اتّفاق المسلمين و في‏ الأخبار الكثيرة أنّ للّه سبحانه ملكين يسمّى أحدهما منكرا و الآخر نكيرا و كلّ تعالى السؤال إليهما.

و في بعض الرّوايات أنّهما بالنّسبة إلى المؤمن مبشّر و بشير، و بالنّسبة إلى الكافر منكر و نكير، لأنّهما يأتيان إلى المؤمن بصورة حسنة و يبشّرانه بالثواب و النّعيم، و يأتيان إلى الكافر و المخالف بصورة نكرة مهيبة و يوعدانه بالعذاب و الجحيم.
روى في الكافي باسناده عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ المؤمن إذا اخرج من بيته شيّعته الملائكة إلى قبره و يزدحمون عليه حتّى إذا انتهى به إلى قبره قالت له الأرض مرحبا بك و أهلا أما و اللّه لقد كنت احبّ أن يمشى علىّ مثلك لترينّ ما أصنع بك فيوسع له مدّ بصره و يدخل عليه ملكا القبر و هما قعيدا القبر منكر و نكير فيلقيان فيه الرّوح إلى حقويه فيقعدانه و يسألانه فيقولان له: من ربّك فيقول: اللّه تعالى، فيقولان: ما دينك فيقول: الاسلام، فيقولان: و من نبيّك فيقول: محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم فيقولان: و من امامك فيقول: فلان، قال: فينادى مناد من السّماء صدق عبدي افرشوا له في قبره من الجنّة و افتحوا له في قبره بابا إلى الجنّة و البسوه من ثياب الجنّة حتّى يأتينا و ما عندنا خير له، ثمّ يقال له: نم نومة عروس نم نومة لا حلم فيها.

قال عليه السّلام: و إن كان كافرا خرجت الملائكة شيّعته إلى قبره تلعنونه حتّى إذا انتهى به إلى قبره قالت له الأرض: لا مرحبا بك و لا أهلا أما و اللّه لقد كنت أبغض أن يمشي علىّ مثلك لا جرم لتريّن ما أصنع بك اليوم، فتضيق عليه حتّى تلتقى جوانحه.
قال عليه السّلام: ثمّ يدخل عليه ملكا القبر و هما قعيدا القبر منكر و نكير.
قال أبو بصير: جعلت فداك يدخلان على المؤمن و الكافر في صورة واحدة فقال عليه السّلام: لا.

قال فيقعدانه فيلقيان فيه الرّوح إلى حقويه فيقولان له: من ربّك فيتلجلج«» و يقول: قد سمعت النّاس يقولون، فيقولان له. لا دريت، و يقولان له: ما دينك فيتلجلج فيقولان له: لادريت، و يقولان له من نبيّك فيقول: قد سمعت النّاس يقولون فيقولان له: لادريت و يسأل عن إمام زمانه.

قال عليه السّلام و ينادي مناد من السّماء كذب عبدي افرشوا له في قبره من النّار و افتحوا له بابا إلى النّار حتّى يأتينا و ما عندنا شرّ له فيضر بانه بمرزبة ثلاث ضربات ليس منها ضربة إلّا و يتطاير منها قبره نارا لو ضرب بتلك المرزبة جبال تهامة لكانت رميما.

و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: و يسلّط اللّه عليه في قبره الحيّات تنهشه نهشا و الشّيطان يغمّه غمّا، قال و يسمع عذابه من خلق اللّه إلّا الجنّ و الانس، و قال عليه السّلام إنّه ليسمع خفق نعالهم و نفض أيديهم و هو قول اللّه عزّ و جلّ: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ.

و عن إبراهيم بن أبي البلاد عن بعض أصحابه عن أبي الحسن موسى عليه السّلام قال: يقال للمؤمن في قبره: من ربّك قال: فيقول: اللّه، فيقال له: ما دينك فيقول: الاسلام، فيقال: من نبيّك فيقول: محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم، فيقال: من امامك فيقول: فلان فيقال: كيف علمت بذلك فيقول: أمر هداني اللّه له و ثبّتني عليه، فيقال له: نم نومة لا حلم فيها نومة العروس، ثمّ يفتح له باب إلى الجنّة فيدخل إليه من روحها و ريحانها ليقول: يا ربّ عجّل قيام السّاعة لعليّ أرجع إلى أهلي و مالي.

و يقال للكافر: من ربّك فيقول: اللّه، فيقال: من نبيّك فيقول: محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم فيقال: ما دينك فيقول: الاسلام، فيقال: من أين علمت ذلك فيقول: سمعت النّاس يقولون فقلته، فيضربانه بمرزبة لو اجتمع عليه الثّقلان الانس و الجنّ لم‏ يطيقوها.

قال عليه السّلام فيذوب كما يذوب الرّصاص، ثمّ يعيدان فيه الرّوح فيوضع قلبه بين لوحين من نار فيقول. يا ربّ أخّر قيام السّاعة و عن جابر قال قال أبو جعفر عليه السّلام: قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم: إنّي كنت أنظر إلى الابل و الغنم و أنا أرعاها و ليس من نبيّ إلّا و قد رعى الغنم، و كنت أنظر إليها قبل النبوّة و هي متمكّنة في «ممتلية من خ» المكينة ما حولها شي‏ء يهيّجها حتّى تذعر فتطير فأقول ما هذا و أعجب، حتّى حدّثني جبرئيل عليه السّلام أنّ الكافر يضرب ضربة ما خلق اللّه شيئا إلّا سمعها و يذعر لها إلّا الثّقلين فقلنا: ذلك لضربة الكافر، فنعوذ باللّه من عذاب القبر.

و عن بشير الدّهان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: يجي‏ء الملكان منكر و نكير إلى الميّت حين يدفن أصواتهما كالرّعد القاصف و أبصارهما كالبرق الخاطف، يخطان الأرض بأنيابهما و يطآن في شعورهما فيسألان الميّت من ربّك و ما دينك قال عليه السّلام: فاذا كان مؤمنا قال: اللّه ربّي، و ديني الاسلام، فيقولان له: ما تقول في هذا الرّجل الذي خرج بين ظهرانيكم فيقول: أعن محمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم تسألاني فيقولان: تشهد أنّه رسول اللّه فيقول: أشهد أنّه رسول اللّه، فيقولان له: نم نومة لا حلم فيها و يفسح له في قبره تسعة أذرع و يفتح له باب إلى الجنّة و يرى مقعده فيها و إذا كان الرّجل كافرا دخلا عليه و أقيم الشّيطان بين يديه عيناه من نحاس فيقولان له: من ربّك و ما دينك و ما تقول في هذا الرّجل الذي خرج من بين ظهرانيكم فيقول: لا أدري فيخلّيان بينه و بين الشّيطان، فيسلّط عليه في قبره تسعة و تسعين تنينا لو أن تنينا واحدا منها نفخت في الأرض ما أنبتت شجرا ابدا، و يفتح له بابا إلى النّار و يرى مقعده فيها.

و عن محمّد بن أحمد الخراساني عن أبيه رفعه قال قال أبو عبد اللّه عليه السّلام يسأل الميّت في قبره عن خمس، عن صلاته و زكاته و حجّه و صيامه و ولايته إيّانا أهل البيت‏فتقول الولاية من جانب القبر للأربع: ما دخل فيكنّ من نقص فعلىّ تمامه.

و في الوسائل عن جابر بن يزيد عن أبي جعفر عليه السّلام ما على أحدكم إذا دفن ميّته و سوّى عليه و انصرف عن قبره أن يتخلّف عند قبره ثمّ يقول: يا فلان بن فلان أنت على العهد الذي عهدناك به من شهادة أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه و أنّ عليّا أمير المؤمنين إمامك، و فلان و فلان حتّى يأتي آخرهم، فانّه إذا فعل ذلك قال أحد الملكين لصاحبه: قد كفينا الوصول إليه و مسألتنا إيّاه فانّه قد لقّن حجّته فينصرفان عنه و لا يدخلان إليه.

و فيه عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: ينبغي أن يتخلّف عند قبر الميّت أولى النّاس به بعد انصراف عنه و يقبض على التّراب بكفّيه و يلقّنه برفيع صوته، فاذا فعل ذلك كفى الميّت المسألة في قبره.
و في الكافي باسناده عن أبي بكر الحضرمي قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: لا يسأل في القبر إلّا من محض الايمان محضا أو محض الكفر محضا و الآخرون يلهون عنه.

و نحوه أخبار أخر فيه عنه عليه السّلام، و ظاهر الكلينيّ كالصّدوق هو الأخذ بظواهر هذه الأخبار لروايتهما لها من غير تمرّض لتأويلها، و قد حكى ذلك عن الشّيخ البهائي (ره).

و قال الشّهيد (ره) في محكيّ كلامه: إنّ هذا الخبر محمول على سؤال خاصّ ليوافق الأخبار العامّة في سؤال القبر و قال السيّد الجزايري رحمه اللّه و يمكن أن يراد بالملهوّ عنهم الذين وردت الأخبار في شأنهم أنّهم يكلّفون يوم القيامة بأن تؤجّج لهم نار فيؤمروا بالدّخول فيها مثل البله و المجانين و من كان في فطرات «فترات ظ» الأنبياء و الشّيخ الفاني و العجوز الفانية و نحوهم، و هؤلاء لم يمحضوا الايمان و هو ظاهر، و لم يمحضوا الكفر أيضا لقصورهم عن ورود الموردين فيبقون على حالتهم في قبورهم حتّى يمنحهم اللّه سبحانه في القيامة قوّة إدراك التّكاليف و العقل القابل له.

و أما ضغطة القبر و ضمته

ففي الكافي باسناده عن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: ما من موضع قبر إلّا و هو ينطق كلّ يوم ثلاث مرّات: أنا بيت التّراب أنا بيت البلاء أنا بيت الدّود، قال عليه السّلام فاذا دخله عبد مؤمن قال: مرحبا و أهلا أما و اللّه لقد كنت احبّك و أنت تمشى على ظهري فكيف إذا دخلت بطني فسترى ذلك.

قال عليه السّلام: فيفسح له مدّ البصر و يفتح له باب يرى مقعده من الجنّة، قال عليه السّلام: و يخرج من ذلك رجل لم تر عيناه شيئا قطّ أحسن منه فيقول: يا عبد اللّه ما رأيت شيئا قطّ أحسن منك فيقول: أنا رأيك الحسن الذي كنت عليه و عملك الصالح الذي كنت تعمله.
قال عليه السّلام: ثمّ تؤخذ روحه فتوضع في الجنّة حيث رأى منزله، ثمّ يقال له: نم قرير العين فلا تزال نفحة من الجنّة تصيب جسده و يجد لذّتها و طيبها حتّى يبعث.

قال عليه السّلام: و إذا دخل الكافر قبره قالت: لا مرحبا بك و لا أهلا أما و اللّه لقد كنت ابغضك و أنت تمشى على ظهري فكيف إذا دخلت بطني سترى ذلك.
قال: فتضمّ عليه فتجعله رميما و يعاد كما كان و يفتح له باب إلى النّار فيرى مقعده من النّار، ثمّ قال: ثمّ انّه يخرج منه رجل أقبح من رأى قطّ قال: فيقول يا عبد اللّه من أنت ما رأيت شيئا أقبح منك، قال: فيقول: أنا عملك السيّى‏ء الذي كنت تعمله و رأيك الخبيث.
قال ثمّ تؤخذ روحه فتوضع حيث رأى مقعده من النّار، ثمّ لم تزل نفحة من النّار تصيب جسده فيجد ألمها و حرّها في جسده إلى يوم يبعث، و يسلّط اللّه على روحه تسعة و تسعين تنّينا تنهشه ليس فيها تنّين ينفخ على ظهر الأرض فتنبت شيئا.

و هذه الضّغطة هى التي ضمنها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم لفاطمة بنت أسد أمّ أمير المؤمنين عليه السّلام.
و قد روى أنّه لمّا حفر لها قبر اضطجع فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقيل له صلّى اللّه عليه و آله و سلم في ذلك فقال: إنّي ذكرت ضغطة القبر عندها يوما و ذكرت شدّتها فقالت: و اضعفاه‏ ليس لي طاقة عليها فقلت لها: إنّي أضمن لك على اللّه فاضطجعت في قبرها لذلك.

و في الكافي عن أبي بصير قال: قلت: لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أ يفلت من ضغطة القبر أحد قال: فقال عليه السّلام: نعوذ باللّه منها ما أقلّ من يفلت من ضغطة القبر، إنّ رقيّة لمّا قتلها عثمان وقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم على قبرها فرفع رأسه إلى السّماء فدمعت عيناه و قال للنّاس: ذكرت هذه و ما لقيت فرققت لها و استوهبتها من ضمّة القبر، قال: فقال: اللّهمّ هب لي رقيّة من ضمّة القبر فوهبها اللّه له.

قال عليه السّلام و إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خرج في جنازة سعد و قد شيّعه سبعون ألف ملك فرفع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رأسه إلى السّماء ثمّ قال: مثل سعد يضمّ قال: قلت جعلت فداك: إنا نحدّث أنّه كان يستخفّ بالبول، فقال عليه السّلام: معاذ اللّه إنّما كان من زعارة«» في خلقه على أهله قال: فقالت أمّ سعد هنيئا لك يا سعد، قال: فقال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا امّ سعد لا تحتمي على اللّه.

و عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: يسأل و هو مضغوط.
قال المحدّث المجلسي «ره» في حقّ اليقين: يفهم من الأحاديث المعتبرة أنّ ضغطة القبر للبدن الأصلي و أنّها تابعة للسؤال، فمن لا سؤال عنه لا ضغطة له و فيه عن الصّدوق عن الصّادق عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إنّ ضغطة القبر للمؤمن كفّارة عمّا صدر عنه من تضييع نعم اللّه سبحانه.

و في الكافي عن يونس قال: سألته عن المصلوب يعذّب عذاب القبر قال: فقال: نعم إنّ اللّه عزّ و جلّ يأمر الهواء أن يضغطه.
و في رواية اخرى سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن المصلوب يصيبه عذاب القبر، فقال عليه السّلام: إنّ ربّ الأرض هو ربّ الهواء فيوحي اللّه عزّ و جلّ إلى الهواء فيضغطه ضغطة هو أشدّ من ضغطة القبر.

و فيه في رواية أبي بصير التي تقدّم صدرها في ذكر حالة الاحتضار عن أبي‏ عبد اللَّه عليه السّلام، فاذا ادرج في أكفانه و وضع على سريره خرجت روحه تمشي بين أيدي القوم قدما و تلقاه أرواح المؤمن و يبشّرونه بما أعدّ اللَّه له جلّ ثناؤه من النّعيم، فاذا وضع في قبره ردّ إليه الرّوح إلى و ركيه ثمّ يسأل عمّا يعلم فاذا جاء بما يعلم فتح له ذلك الباب الذي أراه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم، فيدخل عليه من نورها و بردها و طيب ريحها.

قال: قلت جعلت فداك فأين ضغطة القبر فقال عليه السّلام: هيهات ما على المؤمنين منها شي‏ء و اللَّه إنّ هذه الأرض لتفتخر على هذه فيقول: وطى‏ء على ظهري مؤمن و لم يطاء على ظهرك مؤمن، و اللَّه لقد كنت احبّك و أنت تمشي على ظهري فأما إذا وليتك فستعلم ما ذا أصنع بك فتفسح له مدّ بصره، هذا.

و في الحقّ اليقين بعد ايراده الأخبار الواردة في الضغطة ممّا قدّمنا روايتها و ما لم يتقدّم قال: و الجمع بين هذه الأخبار في غاية الاشكال إذ لو حملنا المؤمن فيها على المؤمن الكامل فأيّ كامل أكمل من فاطمة بنت أسد و رقيّة ابنة النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلم و سعد بن معاذ.

اللّهمّ إلّا أن يحمل ما في فاطمة و رقيّة على الاحتياط و الاطمينان و حصول الاضطجاع و الدّعاء أو يقال المراد بالمؤمن المعصوم و من يتلو مرتبة العصمة كسلمان و أبي ذر و نظرائهما، و يمكن حمل أخبار عدم الضغطة للمؤمن على عدم الضّغطة الشّديدة أو حمل أخبار عدم الضّغطة له على ما تكون على وجه الغضب، و ما تدلّ عليها على ما تكون على وجه اللطف و ليكون قابلا لدخول الجنّة كما أنّ ابتلاءه بمحن الدّنيا و بلاياها كان لذلك.

و يمكن أن يقال: إنّها كانت في صدر الاسلام عامّة للمؤمن و غيره، ثمّ اختصّت بغيرهم بشفاعة الرّسول و الأئمة صلوات اللَّه و سلامه عليه و عليهم هذا.
و بقي الكلام فيما يوجب ارتفاع الضّغطة و الأمن من بعض عقوبات البرزخ و هي امور كثيرة.

منها رشّ الماء على القبر فقد روي في الكافي عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام أنّه قال: يتجافى عنه العذاب ما دام النّدى في التّراب.
و منها الجريدتان ففى الوسائل عن الصّدوق باسناده إلى زرارة قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: أرأيت الميّت إذا مات لم تجعل معه الجريدتان فقال عليه السّلام يتجافى عنه العذاب أو الحساب ما دام العود رطبا إنّما العذاب و الحساب كلّه في يوم واحد في ساعة واحدة قدر ما يدخل القبر و يرجع القوم و إنّما جعلت السعفتان لذلك فلا يصيبه عذاب و لا حساب بعد جفوفهما إنشاء اللَّه.

و منها الوفاة ليلة الجمعة أو يومها ففي الأنوار للسيّد الجزائري رحمه اللَّه قد ورد في الأخبار المعتبرة، أنّ من مات من المؤمنين ليلة الجمعة أو يومها أمن من ضغطة القبر، قال «ره» و ربّما ورد أنّ بعض أعمال البرّ و الأدعية المأثورة تدفعها أيضا، و هو ليس ببعيد فانّ رحمة اللَّه قريب من المحسنين.

و منها الدّفن في وادي السّلام فقد روى في الأنوار أيضا من كتاب إرشاد القلوب في فضل المشهد الشّريف الغروي و ما لتربته و الدّفن فيها من المزيّة و الشّرف.
روي عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام أنّه قال: الغري قطعة من الجبل الذي كلّم اللَّه موسى عليه تكليما، و قدّس عليه تقديسا و اتّخذ عليه إبراهيم خليلا، و محمّدا صلّى اللَّه عليه و آله حبيبا و جعله للنّبيّين مسكنا.

و روي أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام نظر إلى ظهر الكوفة فقال: ما أحسن منظرك و أطيب قعرك، اللّهمّ اجعل قبري بها.
قال: و من خواصّ تربته اسقاط عذاب القبر و ترك محاسبة منكر و نكير من المدفون هناك كما وردت به الأخبار الصّحيحة عن أهل البيت عليهم السّلام.
أقول: و نظير ما رواه عن أمير المؤمنين عليه السّلام ما رواه في الكافي عن حبّة العرني قال: خرجت مع أمير المؤمنين عليه السّلام إلى الظهر فوقف بوادي السّلام كأنّه مخاطب‏ لأقوام، فقمت بقيامه حتّى أعييت، ثمّ جلست حتّى مللت، ثمّ قمت حتّى نالني مثل ما نالني أوّلا، ثمّ جلست حتّى مللت.

ثمّ قمت و جمعت ردائي فقلت يا أمير المؤمنين إنّي قد أشفقت عليك من طول القيام فراحة ساعة، ثمّ طرحت الرّداء ليجلس عليه. فقال لي: يا حبة إن هو إلّا محادثة مؤمن أو مؤانسته قال: قلت: يا أمير المؤمنين و إنّهم كذلك قال: نعم، و لو كشف لرأيتهم حلقا حلقا محتبين يتحادثون، فقلت: أجساد أم أرواح فقال لي: أرواح و ما من مؤمن يموت في بقعة من بقاع الأرض إلّا قيل: ألحقي بوادي السّلام و إنّها لبقعة من جنّة عدن.

و المستفاد من هذه الرّواية و كثير من الأخبار المعتبرة أنّها جنّة الدّنيا و أنّ أرواح المؤمنين فيها كما أنّ أرواح الكفّار في بئر البرهوت.
فقد روي في الكافي عن أحمد بن عمر رفعه عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: قلت له: إنّ أخي ببغداد و أخاف أن يموت بها، فقال عليه السّلام: ما يبالي حيث ما مات أما أنّه لا يبقى في شرق الأرض و غربها إلّا حشر اللَّه روحه إلى وادي السّلام، قال: قلت له: و أين وادي السّلام قال عليه السّلام: ظهر الكوفة أما أنّي كأنّي بهم حلق حلق قعود يتحدّثون.

و عن محمّد بن أحمد باسناد له قال قال أمير المؤمنين عليه السّلام: شرّ بئر في النّار البرهوت الّذي فيه أرواح الكفّار.
و عن السّكوني عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: شرّ ماء على وجه الأرض ماء برهوت، و هو واد بحضر موت ترد عليه هام الكفّار.

و الأخبار في هذا المعنى كثيرة و لا حاجة إلى ذكرها نعم في المقام خبر يستلذّ النّفس و يسرّ القلب به و هو ما رواه في الأنوار عن القاضي بن بدر الهمداني الكوفي و كان رجلا صالحا متعبّدا.

قال: كنت في جامع الكوفة ذات ليلة مطيرة فدقّ باب مسلم جماعة ففتح لهم و ذكر بعضهم أنّ معهم جنازة فأدخلوها و جعلوها على الصّفة التي تجاه باب‏ مسلم بن عقيل، ثمّ إنّ أحدهم نعس فنام فرأى في منامه قائلا يقول لآخر: ما تبصره حتّى نبصر هل لنا معه حساب أم لا، فكشف عن وجه الميّت و قال لصاحبه بل لنا معه حساب و ينبغي أن نأخذه معجّلا قبل أن يتعدّي الرّصافة فما يبقى لنا معه طريق.
فانتبه و حكى لهم المنام و قال: خذوه عجلا فأخذوه و مضوا به في الحال إلى المشهد الشّريف صلوات اللَّه و سلامه على مشرّفها.
أقول: رزقنا اللَّه سبحانه و إخواني المؤمنين مجاورة حضرت مولاي و مولى العالمين عليه الصّلاة و السّلام حيّا و ميّتا، و أنا أوصي خليفتي و وليّ أمري بعدي أن يدفنني في ذلك المقام الشّريف.

و أقول له:

إذا متّ فادفنّي إلى جنب حيدر
أبي شبر أكرم به و شبير

فلست أخاف النّار عند جواره‏
و لا أتّقى من منكر و نكير

فعار على حامي الحمى و هو في الحمي
إذا ضلّ فى البيدا عقال بعير

ثم أقول:

ولايتي لأمير النّحل تكفيني
عند الممات و تغسيلي و تكفيني‏

و طينتي عجنت من قبل تكويني‏
بحبّ حيدر كيف النّار تكويني‏

ثم اناجى ربى و أقول:

وفدت على الكريم بغير زاد
من الحسنات و القلب السليم‏

فحمل الزّاد أقبح كلّ شي‏ء
إذا كان الوفود على الكريم‏

الترجمة

و بعض ديگر از اين خطبه شريفه در صفت خلقت انسانست كه مى‏فرمايد: آيا ياد آوري نمايم شما را باين انساني كه ايجاد فرمود او را صانع حكيم در ظلمتهاى رحمها و در غلافهاى پرده‏ها در حالتى كه نطفه بود ريخته شده و علقه ناقص گشته و بچه پنهان در شكم زنان و طفل شيرخواره و از شير بازگرفته و بسنّ احتلام رسيده.

پس از آن عطا فرمود او را قلب حفظ كننده، و زبان گوينده، و ديده نگرنده تا فهم كند در حالتى كه عبرت گيرنده باشد و باز ايستد از معصيت در حالتى كه نفس خود را زجر كننده شود، تا اين كه قايم شد حدّ اعتدال او، و راست شد پيكر و مثال او، رميد و نفرت نمود از حق در حالتى كه گردن‏كش بود، و خبط كرد در حالتى كه بى‏باك بود.

آب كشنده بود در دلو بزرگ هوس و هواى خود، رنج كشنده بود و سعى كننده از براى دنياى خود در لذّتهاى شاديش و در حاجتهاى خطور كننده قلب خويش در حالتى كه گمان نمى‏نمود مصيبتى كه برسد باو، و نمى‏ترسيد از محذورى كه وارد شود باو پس مرد در ضلالت خود در حالتى كه غافل بود از غضب مالك الملك، و زندگانى كرد در لغزيدن خود در زمان اندك.

كسب ننمود عوض نعمتها را در دنيا، و بجا نياورد فرايض لازمه برخود را، هجوم آور شد بر او اندوههاى مرگ در بقاياى سوارى او بر هواى خود، و در راههاى سرور و شادى خود، پس متحيّر گشت و شب را بر بيدارى بروز آورد در شدّتهاى دردها و نازل شده‏هاى المها و بيماريها در ميان برادر كه شقّه‏ايست از جان و پدر مهربان و مادر و اويلا گوينده از روى جزع و خواهر بسينه زننده از روى اضطراب و فزع و حال آنكه آن مرد در سكرات موتست مشتمله بر تعب و شدت، و در غمرات مرگست متّصفه با نهايت مشقّت، و در نالهاى درد آورنده، و در كشش روح اندوه آورنده، و راندن رنجاننده.

پس پيچيده شد در كفنهاى خود در حالتى كه مأيوس بود و حزين، و كشيده شد در حالتى كه اطاعت كننده بود آسان و ليّن، پس انداخته شد در چوبهاى نعش مثل شتر مردّد در اسفار، و همچو شتر لاغر از كثرت بار، در حالتى كه بردارند او را فرزندان يارى دهنده، و برادران جمع شونده بسوى قبر كه سراى غربت اوست و جاى بريدن زيارت از اوست. «ج 4»

تا آنكه چون رجوع كند تشييع كننده و بر مى‏گردد اندوه خورنده نشانده مى‏شود در قبر در حالتى كه راز گوينده باشد از جهة بهت و حيرتى كه حاصل مى‏شود او را از سؤال، و بجهة لغزش در امتحانى كه او راست در عقايد و اعمال، و بزرگترين چيزى كه آن جاست از حيثيت بلا پيشكش آب گرم و جوشانست، و در آوردن اوست در آتش سوزان، و جوششهاى آتش سرخ شده، و شدّتهاى صداى نار موقده.
نيست آنجا سستى كه راحت كننده از عذاب باشد، و نه آرميدنى كه زايل كننده عقاب باشد، و نه مرگ حاضر كه باعث استراحت او شود، و نه خواب اندك كه سبب فراموشى زحمت او گردد، بلكه هميشه در ميان أنواع مرگ‏ها باشد، و در ميان عذابهاى ساعت بساعت، بدرستى كه پناه مى‏بريم بخدا از اين عذاب و عنا.

الفصل الثامن

عباد اللَّه، أين الّذين عمّروا فنعموا، و علّموا ففهموا، و أنظروا فلهوا، و سلّموا فنسوا، أمهلوا طويلا، و منحوا جميلا، و حذّروا أليما، و وعدوا جسيما، أحذروا الذّنوب المورطة، و العيوب المسخطة، أولي الأبصار و الأسماع، و العافية و المتاع، هل من مناص أو خلاص، أو معاذ أو ملاذ، أو فرار أو محار، أم لا فأنّى تؤفكون، أم أين تصرفون، أم بماذا تغترّون، و إنّما حظّ أحدكم من الأرض، ذات الطّول و العرض، قيد قدّه، منعفرا على خدّه، الان عباد اللَّه و الخناق مهمل، و الرّوح مرسل، في فينة الإرشاد، و راحة الأجساد، و باحةالاحتشاد، و مهل البقيّة، و أنف المشيّة، و إنظار التّوبة، و انفساح الحوبة، قبل الضّنك و المضيق، و الرّوع و الزّهوق، و قبل قدوم الغائب المنتظر، و أخذة العزيز المقتدر. قال السّيّد (ره) و في الخبر أنّه عليه السّلام لمّا خطب بهذه الخطبة اقشعرّت لها الجلود و بكت العيون و رجفت القلوب، و من النّاس من يسمّى هذه الخطبة الغرّاء.

اللغة

(احذروا) أمر من حذر بالكسر من باب علم و (الورطة) الهلكة و أرض مطمئنّة لا طريق فيها و أورطه ألقاه فيها و (المناص) الملجأ و (المحار) المرجع من حار يحور أي رجع قال تعالى: إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ و (أفك) من باب ضرب و علم أفكا بالفتح و الكسر و التّحريك كذب و افكه عنه يأفكه صرفه و قلبه أو قلب رأيه و (القيد) كالقاد المقدار و (المعفر) محرّكة التّراب و عفره في التّراب يعفره من باب ضرب و عفّره فانعفر و تعفّر مرّغه فيه أودسّه و (الخناق) ككتاب حبل يخنق به و يقال أخذ بخناقه أى بحلقه لأنّه موضع الخناق فالطلق عليه مجازا و (فينة) السّاعة و الحين يقال لقيتة الفينة بعد الفينة و قد يحذف اللّام و يقال لقيته فينة بعد فينة.

و في بعض النّسخ الارتياد بدل (الارشاد) و هو الطّلب و (الباحة) السّاحة و الفضاء و (الاحتشاد) الاجتماع و (انف) الشي‏ء بضمّتين أوّله و (الانفساح) من الفسحة و هو السّعة و (الحوبة) الحالة و الحاجة و (و الضّنك) و الضّيق بمعنى واحد و (المضيق) ما ضاق من المكان و المراد هنا القبر و (الرّوع) الفزع و (زهق) نفسه من باب منع و سمع زهوقا خرجت و زهق الشي‏ء بطل و هلك.
و «اقشعرّ جلده» أخذته قشعريرة أي رعدة و «رجفت القلوب» اضطربت‏و «الخطبة الغرّاء» بالغين المعجمة أي المتّصفة بالغرّة قال في القاموس: و الغرّة من المتاع خياره و من القوم شريفهم و من الرّجل وجهه و كلّ ما بدا لك من ضوء أو صبح فقد بدت غرّته.

الاعراب

قوله عباد اللَّه منصوب على النّداء بحذف حرفه، و كذلك قوله عليه السّلام: اولى الأبصار، و قوله: هل من مناص استفهام على سبيل الانكار و الابطال، و أم في قوله أم لا منقطعة بمعنى بل فهى مثل أم في قوله: هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى‏ وَ الْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَ النُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ» و الشّاهد في الثّانية فانّه سبحانه بعد إبطال استواء الأعمى و البصير و الظلمات و النّور أضرب عن ذلك و أخبر عن حالهم بأنّهم جعلوا للَّه شركاء، و كذلك الامام عليه السّلام بعد إنكار المناص و الخلاص و إبطاله أضرب عن ذلك و أخبر بأنّه ليس هناك مناص و لا خلاص.

و قوله: فأنّى تؤفكون، أنّى بمعنى كيف أو بمعنى أين و من مقدّرة قبلها أى من أين تؤفكون، صرّح به نجم الأئمة الرّضى في مبحث الظروف من شرح الكافية، و ذا في قوله أم بماذا تغترون إمّا زايدة و هو الأظهر أو بمعنى الذي كما في ما ذا لقيت، و منعفرا حال من الضّمير في قدّه.

و قوله: الآن من ظروف الزّمان مبنىّ على الفتح و اختلفوا في علّة البناء و الأظهر ما قاله أبو عليّ من أنّه متضمّن لمعنى ال الحضوري لأنّ معناه الزّمن الحاضر، و اللّام فيه زايدة لازمة و ليست للتّعريف كما توهّم السّيرافي و ابن عصفور إذ لا تعرف انّ التي للتّعريف تكون لازمة و هذه لازمة لأنّ الآن لم يسمع مجرّدا عنها، و كيف فهو مفعول فيه و العامل محذوف، و التّقدير اعملوا و اغتنموا الفرصة الآن.

و جملة و الخناق مهمل، في محلّ الانتصاب على الحال من عباد اللَّه و العامل النّداء المحذوف لكونه في معنى الفعل، و اللام في الخناق عوض عن المضاف إليه أى خناقكم على حدّ و علّم آدم الأسماء، أي أسماء المسمّيات، و كذا في الرّوح و قوله في فينة الارشاد، متعلّق بقوله مرسل و في للظرفية المجازيّة، و قيل الضنك ظرف للفعل المحذوف الذي جعلناه العامل في الآن.

المعنى

اعلم أنّ هذا الفصل متضمّن للتذكير بحال السّلف و للأمر بالكفّ عن المعاصي و للحثّ على التّدارك للذنوب قبل الموت بتحصيل التوبة و الانابة و هو قوله: (عباد اللَّه أين الذين عمّروا فنعموا) أى أعطاهم اللَّه العمر فصاروا ناعمين أى صاحبى سعة في العيش و الغذاء (و علّموا ففهموا) أى علّمهم الأحكام ففهموا الحلال و الحرام (و أنظروا) في مدّة الأجل (فلهوا) بطول الأمل (و سلّموا) في العاجلة (فنسوا) العاجلة (أمهلوا) زمانا (طويلا) و أمدا بعيدا (و منحوا) عطاء (جميلا) و عيشا رغيدا (و حذروا عذابا أليما) و جحيما (و وعدوا) ثوابا (جسيما) و عظيما (احذروا الذنوب المورطة) أي المعاصي الموقعة في ورطة الهلاكة و العقاب (و العيوب المسخطة) أي المساوي الموجبة لغضب ربّ الأرباب.

(أولي الأبصار و الأسماع و العافية و المتاع) و إنّما خصّ هؤلاء بالنّداء و خصّصهم بالخطاب لأنهم القابلون للاتعاظ و الاذكار و اللائقون للانتهار و الانزجار بما أعطاهم اللَّه من الأبصار و البصاير منحهم من الأسماع و الضمائر و بذل لهم من الصّحّة و السّلامة في الأجساد و منّ به عليهم من المتاع و الأموال و الأولاد الموجبة للاعراض عن العقبا و الرّغبة إلى الدّنيا و الباعثة على ترك سبيل الرّحمن و سلوك سبيل الشّيطان و الداعية إلى ترك الطّاعات و الاقتحام في الهلكات.

ثمّ استفهم على سبيل التكذيب و الانكار بقوله: (هل من مناص) من العذاب (أو خلاص) من العقاب (أو معاذ) من الوبال (أو ملاذ) من النكال (أو فرار) من الحميم (أو محار) من الجحيم (أم لا و ليس فانّى تؤفكون) و تنقلبون (أم أين‏تصرفون) و تلفتون (أم بماذا تغترّون) و تفتنون (و انّما حظّ أحدكم من الأرض) الغبراء (ذات الطول و العرض) و الارجاء (قيد قدّه) و قامته (منعفرا على خدّه) و وجنته.

اعملوا (الآن) و اغتنموا الفرصة فيهذا الزّمان يا (عباد اللَّه و الخناق مهمل و الرّوح مرسل) أي أعناق نفوسكم مهملة من الأخذ بخناق الموت و أرواحكم متروكة من الجذب بحبال الفناء و الفوت (في فينة الارشاد) و الهداية إلى الجنان (و راحة الاجساد) و استراحة الأبدان (و باحة الاحتشاد) أي ساحة اجتماع الأشباه و الاقران (و مهل البقية و انف المشيّة) أي مهملة بقيّة الحياة و أوّل أزمنة الارادات.

و أشار بذلك إلى أنّ اللّازم على الانسان أن يجعل أوّل زمان إرادته و ميل خاطره إلى اكتساب الفضائل و اجتناب الرّذايل و يكون همّته يومئذ مصروفة في اتيان الطاعات و اقتناء الحسنات ليكون ما يرد على لوح نفسه من الكمالات و اردا على لوح صاف من الكدورات سالم عن رين الشّبهات إذ لو انعكس الأمر و جعل أوائل ميوله و إرادته منصرفة إلى اتيان المعاصي و الخطيئات تسوّد وجه نفسه بسوء الملكات فلم يكد يقبل بعد ذلك الاستضائة بنور الحقّ و الاهتداء إلى الخيرات.

(و انظار التّوبة و انفساح الحوبة) أراد به إمهال اللَّه لهم لأجل تحصيل التوبة و إعطائه لهم اتساع الحالة و وسعة المجال لاكتساب الحسنات الأعمال (قبل الضّنك و المضيق) أي قبل ضيق الزّمان و مضيق المكان (و الرّوع و الزّهوق) أى الفزع و خروج الرّوح من الأبدان (و قبل قدوم) الموت الذي هو (الغائب المنتظر و أخذة) الذي هو (العزيز) الغالب (المقتدر) فانّه إذا قدم الموت بطل التكليف و استحال تدارك الذنوب و لا ينفع النّدامة.

و لذلك قال أبو جعفر عليه السّلام: قال رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم: الموت الموت ألا و لا بدّ من الموت، جاء الموت بما فيه جاء بالرّوح و الرّاحة و الكرّة المباركة إلى جنّة عالية لأهل دار الخلود الذين كان لها سعيهم و فيها رغبتهم، و جاء الموت بما فيه‏بالشّقوة و النّدامة و الكرّة الخاسرة إلى نار حامية لأهل دار الغرور الذين كان لها سعيهم و فيها رغبتهم.

ثمّ قال: و قال إذا استحقّت ولاية اللّه و السّعادة جاء الأجل بين العينين و ذهب الأمل وراء الظهر، و إذا استحقت ولاية الشّيطان جاء الأمل بين العينين و ذهب الأجل وراء الظهر.
قال عليه السّلام: و سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أيّ المؤمنين أكيس فقال: أكثرهم ذكرا للموت و أشدّهم له استعدادا.
قال السّيد (ره) و في الخبر أنّه لمّا خطب بهذه الخطبة اقشعرّت لها الجلود و ارعدت و بكت العيون و اسكبت«» و رجفت القلوب و اضطربت و من النّاس من يسمّى هذه الخطبة الغرّاء.

أقول: و هى حقيقة بهذه التسمية لكونها من خيار خطبه و شرايفها و وجوهها لما تضمّنه معناها من الحكمة و الموعظة الحسنة و هى كافية في الهداية و الارشاد للطّالب الرّاغب إلى الثّواب و وافية في مقام التحذير و الانذار للهارب الرّاهب من العقاب.
و لما اشتملت عليه الفاظها من انواع المحسّنات البيانيّة و البديعيّة من الانسجاء و الترصيع و التنجيس و السّجع و المقابلة و الموازنة و المجاز و الاستعارة و الكناية و غيرها.

و ناهيك حسنا قوله عليه السّلام في هذا الفصل: هل من مناص أو خلاص أو معاذ أو ملاذ أو فرار أو محار، و قوله فى الفصل الرّابع، فاتقوا اللّه تقيّة من سمع فخشع و اقترف فاعترف و وجل فعمل إلى آخر ما قاله.
فانّك إذا لا حظت كلّ لفظة منها وجدتها آخذة برقبة قرينتها، جاذبة لها إليها دالّة عليها بذاتها و محسّنات كلامه غنيّة عن الاظهار غير محتاجة إلى التّذكار إذ تكلّف الاستدلال على أنّ الشّمس مضيئة يتعب و صاحبه ينسب إلى‏السّفه و ليس جاحدا لأمور المعلومة بالضّرورة بأشدّ سفها ممّن رام الاستدلال عليها

تكملة

اعلم أنّ بعض فصول هذه الخطبة مرويّ في البحار من كتاب عيون الحكمة و المواعظ لعليّ بن محمّد الواسطي باختلاف يسير لما هنا، و هو من الفصل الخامس إلى آخرها و لا حاجة لنا إلى ايراده نعم روى كلام آخر له عليه السّلام فيه من الكتاب الذي اشرنا إليه بعض فصول هذه الخطبة مدرّج فيه و أحببت ايراده لاقتضاء المقام ذلك.
قال (ره) و من كلام له عليه السّلام إنّكم مخلوقون اقتدارا، و مربوبون ايتسارا إلى آخر ما يأتي إنشاء اللّه في تكملة الشّرح الخطبة المأتين و الرّابعة و العشرين

الترجمة

أى بندگان خدا كجايند آن كسانيكه معمّر شدند پس منعم شدند بناز و نعمت، و تعليم شدند پس فهميدند بذكاء و فطنت، و مهلت داده شدند پس غفلت ورزيدند از طاعات، و سالم گردانيده شدند پس فراموشى اختيار كردند بر تذكيرات حذر نمائيد از ذنوبى كه مى‏اندازد بورطه هلاكت، و از عيوبى كه باعث مى‏شود بخشم حضرت عزّت.

اى صاحبان ديده‏هاى بينا و گوشهاى شنوا و خداوندان سلامتى و متاع دنيا آيا هيچ پناه‏گاهى هست از عذاب، يا خلاصي هست از عقاب، يا هيچ ملجائى هست از شدّت، يا ملاذي هست از عقوبت، يا هيچ گريزى هست از آتش جحيم، يا مرجعى هست از عذاب أليم، يا اين كه چاره و علاج نيست و مفرّ و مناص نه پس چگونه گردانيده مى‏شويد از فرمان خدا، يا كجا صرف كرده مى‏شويد يا بچه چيز مغرور مى‏باشيد و جز اين نيست كه نصيب هر يكى از شما از زميني كه صاحب طولست و عرض مقدار قامت اوست در حالتى كه خاك آلوده باشد بر رخسار خود.

عمل بكنيد و فرصت غنيمت شماريد الآن اى بندگان خدا و حال آنكه‏آن چيزى كه بآن أخذ كرده مى‏شود گردنهاى نفوس شما كه مرگست واگذاشته شده است، و روحهاى شما ترك كرده شده است در ساعت رشادت يعني كسب كردن چيزهائى كه باعث رشد است و در راحت بدنها و در مهلت بقيه حياة و در اوّل ازمنه ارادات و در مهلت دادن بجهت تحصيل توبه و در وسعت و فراخي حالت پيش از زمان كوتاه و مكان تنك، و قبل از ترس و رفتن جان از بدن و پيش از آمدن غايب انتظار كشيده شده كه عبارتست از موت، و پيش از اخذ نمودن خداى غالب صاحب قدرت او را در سلسله عقوبت.

قال الشارح عفى اللّه عنه: و ليكن هذا آخر ما أردنا ايراده في هذا المجلّد و هو المجلّد الثّانى«» من مجلّدات منهاج البراعة في شرح النّهج، و يتلوه إنشاء اللّه المجلّد الثّالث إن ساعدنا الوقت و المجال بتوفيق اللّه الملك المتعال، و هذه هي النسخة الأصل التي كتبتها بيميني و أرجو من اللّه سبحانه أن يثبتها في صحايف أعمالي و يرجّح بها ميزان حسناتي و أن يؤتيها بيميني كما أمليتها بيميني إنّه على كلّ شي‏ء قدير و بالاجابة جدير، و كان الفراغ منه في فجر العشرين من شهر ربيع الآخر 1303.

بسم اللّه الرحمن الرحيم و به نستعين الحمد للّه الذي هدانا لهذا و ما كنّا لنهتدى لو لا أن هدانا اللّه، و الصّلاة و السّلام على عبده و رسوله محمّد حبيب اللّه، و على آله الذين فضّلهم على العالمين و جعلهم أفضل عبدا اللّه و اختصّهم بالامامة و الولاية فصاروا أئمة الدّين و أولياء اللّه، و أهل بيته الذين أذهب اللّه عنهم الرّجس و طهّرهم تطهيرا، و لعنة اللّه على أعدائهم الذين جعل مأواهم جهنّم لهم فيها زفير و شهيق و سائت مقاما و مصيرا.

و بعد فهذا هو المجلّد الثالث من مجلّدات منهاج البراعة املاء راجي عفو ربّه الغنيّ «حبيب الله بن محمد بن هاشم الهاشمى العلوى الموسوى» أعطاه اللّه كتابه.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 82/3 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)«الخطبة الغراء»

خطبه 83 صبحی صالح

83- و من خطبة له ( عليه‏ السلام ) و هي الخطبة العجيبة تسمى «الغراء»
و فيها نعوت اللّه جل شأنه،
ثم الوصية بتقواه
ثم التنفير من الدنيا،
ثم ما يلحق من دخول القيامة،
ثم تنبيه الخلق إلى ما هم فيه من الأعراض،
ثم فضله ( عليه ‏السلام ) في التذكير

صفته جل شأنه‏

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَلَا بِحَوْلِهِ
وَ دَنَا بِطَوْلِهِ
مَانِحِ كُلِّ غَنِيمَةٍ وَ فَضْلٍ
وَ كَاشِفِ كُلِّ عَظِيمَةٍ وَ أَزْلٍ
أَحْمَدُهُ عَلَى عَوَاطِفِ كَرَمِهِ
وَ سَوَابِغِ نِعَمِهِ
وَ أُومِنُ بِهِ أَوَّلًا بَادِياً
وَ أَسْتَهْدِيهِ قَرِيباً هَادِياً
وَ أَسْتَعِينُهُ قَاهِراً قَادِراً
وَ أَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ كَافِياً نَاصِراً
وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً ( صلى ‏الله ‏عليه‏ وآله )عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ
أَرْسَلَهُ لِإِنْفَاذِ أَمْرِهِ
وَ إِنْهَاءِ عُذْرِهِ
وَ تَقْدِيمِ نُذُرِهِ

الوصية بالتقوى‏

أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي ضَرَبَ الْأَمْثَالَ
وَ وَقَّتَ لَكُمُ الْآجَالَ
وَ أَلْبَسَكُمُ الرِّيَاشَ
وَ أَرْفَغَ لَكُمُ الْمَعَاشَ
وَ أَحَاطَ بِكُمُ الْإِحْصَاءَ
وَ أَرْصَدَ لَكُمُ الْجَزَاءَ
وَ آثَرَكُمْ بِالنِّعَمِ السَّوَابِغِ

وَ الرِّفَدِ الرَّوَافِغِ
وَ أَنْذَرَكُمْ بِالْحُجَجِ الْبَوَالِغِ
فَأَحْصَاكُمْ عَدَداً
وَ وَظَّفَ لَكُمْ مُدَداً
فِي قَرَارِ خِبْرَةٍ
وَ دَارِ عِبْرَةٍ
أَنْتُمْ مُخْتَبَرُونَ فِيهَا
وَ مُحَاسَبُونَ عَلَيْهَا
التنفير من الدنيا
فَإِنَّ الدُّنْيَا رَنِقٌ مَشْرَبُهَا
رَدِغٌ مَشْرَعُهَا
يُونِقُ مَنْظَرُهَا
وَ يُوبِقُ مَخْبَرُهَا
غُرُورٌ حَائِلٌ
وَ ضَوْءٌ آفِلٌ
وَ ظِلٌّ زَائِلٌ
وَ سِنَادٌ مَائِلٌ
حَتَّى إِذَا أَنِسَ نَافِرُهَا
وَ اطْمَأَنَّ نَاكِرُهَا
قَمَصَتْ بِأَرْجُلِهَا
وَ قَنَصَتْ بِأَحْبُلِهَا
وَ أَقْصَدَتْ بِأَسْهُمِهَا
وَ أَعْلَقَتِ الْمَرْءَ أَوْهَاقَ الْمَنِيَّةِ
قَائِدَةً لَهُ إِلَى ضَنْكِ الْمَضْجَعِ
وَ وَحْشَةِ الْمَرْجِعِ
وَ مُعَايَنَةِ الْمَحَلِّ
وَ ثَوَابِ الْعَمَلِ.
وَ كَذَلِكَ الْخَلَفُ بِعَقْبِ السَّلَفِ
لَا تُقْلِعُ الْمَنِيَّةُ اخْتِرَاماً
وَ لَا يَرْعَوِي الْبَاقُونَ اجْتِرَاماً
يَحْتَذُونَ مِثَالًا
وَ يَمْضُونَ أَرْسَالًا
إِلَى غَايَةِ الِانْتِهَاءِ وَ صَيُّورِ الْفَنَاءِ

بعد الموت البعث‏

حَتَّى إِذَا تَصَرَّمَتِ الْأُمُورُ
وَ تَقَضَّتِ الدُّهُورُ
وَ أَزِفَ النُّشُورُ
أَخْرَجَهُمْ مِنْ ضَرَائِحِ الْقُبُورِ
وَ أَوْكَارِ الطُّيُورِ
وَ أَوْجِرَةِ السِّبَاعِ
وَ مَطَارِحِ الْمَهَالِكِ
سِرَاعاً إِلَى أَمْرِهِ
مُهْطِعِينَ إِلَى مَعَادِهِ
رَعِيلًا صُمُوتاً
قِيَاماً صُفُوفاً
يَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ
وَ يُسْمِعُهُمُ‏ الدَّاعِي
عَلَيْهِمْ لَبُوسُ الِاسْتِكَانَةِ وَ ضَرَعُ الِاسْتِسْلَامِ وَ الذِّلَّةِ
قَدْ ضَلَّتِ الْحِيَلُ وَ انْقَطَعَ الْأَمَلُ وَ هَوَتِ الْأَفْئِدَةُ كَاظِمَةً
وَ خَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ مُهَيْنِمَةً
وَ أَلْجَمَ الْعَرَقُ
وَ عَظُمَ الشَّفَقُ
وَ أُرْعِدَتِ الْأَسْمَاعُ لِزَبْرَةِ الدَّاعِي
إِلَى فَصْلِ الْخِطَابِ
وَ مُقَايَضَةِ الْجَزَاءِ
وَ نَكَالِ الْعِقَابِ
وَ نَوَالِ الثَّوَابِ

تنبيه الخلق‏

عِبَادٌ مَخْلُوقُونَ اقْتِدَاراً
وَ مَرْبُوبُونَ اقْتِسَاراً
وَ مَقْبُوضُونَ احْتِضَاراً
وَ مُضَمَّنُونَ أَجْدَاثاً
وَ كَائِنُونَ رُفَاتاً
وَ مَبْعُوثُونَ أَفْرَاداً
وَ مَدِينُونَ جَزَاءً
وَ مُمَيَّزُونَ حِسَاباً
قَدْ أُمْهِلُوا فِي طَلَبِ الْمَخْرَجِ وَ هُدُوا سَبِيلَ الْمَنْهَجِ
وَ عُمِّرُوا مَهَلَ الْمُسْتَعْتِبِ
وَ كُشِفَتْ عَنْهُمْ سُدَفُ الرِّيَبِ
وَ خُلُّوا لِمِضْمَارِ الْجِيَادِ
وَ رَوِيَّةِ الِارْتِيَادِ
وَ أَنَاةِ الْمُقْتَبِسِ الْمُرْتَادِ فِي مُدَّةِ الْأَجَلِ وَ مُضْطَرَبِ الْمَهَلِ

فضل التذكير

فَيَا لَهَا أَمْثَالًا صَائِبَةً
وَ مَوَاعِظَ شَافِيَةً
لَوْ صَادَفَتْ قُلُوباً زَاكِيَةً
وَ أَسْمَاعاً وَاعِيَةً
وَ آرَاءً عَازِمَةً
وَ أَلْبَاباً حَازِمَةً
فَاتَّقُوا اللَّهَ تَقِيَّةَ مَنْ سَمِعَ فَخَشَعَ
وَ اقْتَرَفَ فَاعْتَرَفَ
وَ وَجِلَ فَعَمِلَ
وَ حَاذَرَ فَبَادَرَ
وَ أَيْقَنَ فَأَحْسَنَ
وَ عُبِّرَ فَاعْتَبَرَ
وَ حُذِّرَ فَحَذِرَ
وَ زُجِرَ فَازْدَجَرَ
وَ أَجَابَ فَأَنَابَ
وَ رَاجَعَ فَتَابَ
وَ اقْتَدَى‏فَاحْتَذَى
وَ أُرِيَ فَرَأَى
فَأَسْرَعَ طَالِباً
وَ نَجَا هَارِباً فَأَفَادَ ذَخِيرَةً
وَ أَطَابَ سَرِيرَةً
وَ عَمَّرَ مَعَاداً
وَ اسْتَظْهَرَ زَاداً لِيَوْمِ رَحِيلِهِ وَ وَجْهِ سَبِيلِهِ
وَ حَالِ حَاجَتِهِ وَ مَوْطِنِ فَاقَتِهِ
وَ قَدَّمَ أَمَامَهُ لِدَارِ مُقَامِهِ
فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ جِهَةَ مَا خَلَقَكُمْ لَهُ
وَ احْذَرُوا مِنْهُ كُنْهَ مَا حَذَّرَكُمْ مِنْ نَفْسِهِ
وَ اسْتَحِقُّوا مِنْهُ مَا أَعَدَّ لَكُمْ بِالتَّنَجُّزِ لِصِدْقِ مِيعَادِهِ
وَ الْحَذَرِ مِنْ هَوْلِ مَعَادِهِ

التذكير بضروب النعم‏

و منهاجَعَلَ لَكُمْ أَسْمَاعاً لِتَعِيَ مَا عَنَاهَا
وَ أَبْصَاراً لِتَجْلُوَ عَنْ عَشَاهَا
وَ أَشْلَاءً جَامِعَةً لِأَعْضَائِهَا
مُلَائِمَةً لِأَحْنَائِهَا فِي تَرْكِيبِ صُوَرِهَا وَ مُدَدِ عُمُرِهَا
بِأَبْدَانٍ قَائِمَةٍ بِأَرْفَاقِهَا
وَ قُلُوبٍ رَائِدَةٍ لِأَرْزَاقِهَا

فِي مُجَلِّلَاتِ نِعَمِهِ
وَ مُوجِبَاتِ مِنَنِهِ
وَ حَوَاجِزِ عَافِيَتِهِ
وَ قَدَّرَ لَكُمْ أَعْمَاراً سَتَرَهَا عَنْكُمْ
وَ خَلَّفَ لَكُمْ عِبَراً مِنْ آثَارِ الْمَاضِينَ قَبْلَكُمْ
مِنْ مُسْتَمْتَعِ خَلَاقِهِمْ
وَ مُسْتَفْسَحِ خَنَاقِهِمْ
أَرْهَقَتْهُمُ الْمَنَايَا دُونَ الْآمَالِ
وَ شَذَّبَهُمْ عَنْهَا تَخَرُّمُ الْآجَالِ
لَمْ يَمْهَدُوا فِي سَلَامَةِ الْأَبْدَانِ
وَ لَمْ يَعْتَبِرُوا فِي أُنُفِ الْأَوَانِ
فَهَلْ يَنْتَظِرُ أَهْلُ بَضَاضَةِ الشَّبَابِ إِلَّا حَوَانِيَ الْهَرَمِ
وَ أَهْلُ غَضَارَةِ الصِّحَّةِ إِلَّا نَوَازِلَ السَّقَمِ
وَ أَهْلُ مُدَّةِ الْبَقَاءِ إِلَّا آوِنَةَ الْفَنَاءِ
مَعَ قُرْبِ الزِّيَالِ
وَ أُزُوفِ الِانْتِقَالِ
وَ عَلَزِ الْقَلَقِ
وَ أَلَمِ الْمَضَضِ
وَ غُصَصِ الْجَرَضِ
وَ تَلَفُّتِ‏ الِاسْتِغَاثَةِ بِنُصْرَةِ الْحَفَدَةِ وَ الْأَقْرِبَاءِ وَ الْأَعِزَّةِ وَ الْقُرَنَاءِ
فَهَلْ دَفَعَتِ الْأَقَارِبُ
أَوْ نَفَعَتِ النَّوَاحِبُ
وَ قَدْ غُودِرَ فِي مَحَلَّةِ الْأَمْوَاتِ رَهِيناً
وَ فِي ضِيقِ الْمَضْجَعِ وَحِيداً
قَدْ هَتَكَتِ الْهَوَامُّ جِلْدَتَهُ
وَ أَبْلَتِ النَّوَاهِكُ جِدَّتَهُ
وَ عَفَتِ الْعَوَاصِفُ آثَارَهُ
وَ مَحَا الْحَدَثَانُ مَعَالِمَهُ
وَ صَارَتِ الْأَجْسَادُ شَحِبَةً بَعْدَ بَضَّتِهَا
وَ الْعِظَامُ نَخِرَةً بَعْدَ قُوَّتِهَا
وَ الْأَرْوَاحُ مُرْتَهَنَةً بِثِقَلِ أَعْبَائِهَا
مُوقِنَةً بِغَيْبِ أَنْبَائِهَا
لَا تُسْتَزَادُ مِنْ صَالِحِ عَمَلِهَا
وَ لَا تُسْتَعْتَبُ مِنْ سَيِّئِ زَلَلِهَا
أَ وَ لَسْتُمْ أَبْنَاءَ الْقَوْمِ وَ الْآبَاءَ وَ إِخْوَانَهُمْ وَ الْأَقْرِبَاءَ
تَحْتَذُونَ أَمْثِلَتَهُمْ
وَ تَرْكَبُونَ قِدَّتَهُمْ
وَ تَطَئُونَ جَادَّتَهُمْ
فَالْقُلُوبُ قَاسِيَةٌ عَنْ حَظِّهَا
لَاهِيَةٌ عَنْ رُشْدِهَا
سَالِكَةٌ فِي غَيْرِ مِضْمَارِهَا
كَأَنَّ الْمَعْنِيَّ سِوَاهَا
وَ كَأَنَّ الرُّشْدَ فِي إِحْرَازِ دُنْيَاهَا

التحذير من هول الصراط

وَ اعْلَمُوا أَنَّ مَجَازَكُمْ عَلَى الصِّرَاطِ وَ مَزَالِقِ دَحْضِهِ
وَ أَهَاوِيلِ زَلَلِهِ
وَ تَارَاتِ أَهْوَالِهِ
فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ تَقِيَّةَ ذِي لُبٍّ شَغَلَ التَّفَكُّرُ قَلْبَهُ
وَ أَنْصَبَ الْخَوْفُ بَدَنَهُ
وَ أَسْهَرَ التَّهَجُّدُ غِرَارَ نَوْمِهِ
وَ أَظْمَأَ الرَّجَاءُ هَوَاجِرَ يَوْمِهِ
وَ ظَلَفَ الزُّهْدُ شَهَوَاتِهِ
وَ أَوْجَفَ الذِّكْرُ بِلِسَانِهِ
وَ قَدَّمَ الْخَوْفَ لِأَمَانِهِ
وَ تَنَكَّبَ الْمَخَالِجَ عَنْ وَضَحِ السَّبِيلِ
وَ سَلَكَ أَقْصَدَ الْمَسَالِكِ إِلَى‏النَّهْجِ الْمَطْلُوبِ
وَ لَمْ تَفْتِلْهُ فَاتِلَاتُ الْغُرُورِ
وَ لَمْ تَعْمَ عَلَيْهِ مُشْتَبِهَاتُ الْأُمُورِ
ظَافِراً بِفَرْحَةِ الْبُشْرَى
وَ رَاحَةِ النُّعْمَى
فِي أَنْعَمِ نَوْمِهِ
وَ آمَنِ يَوْمِهِ
وَ قَدْ عَبَرَ مَعْبَرَ الْعَاجِلَةِ حَمِيداً
وَ قَدَّمَ زَادَ الْآجِلَةِ سَعِيداً
وَ بَادَرَ مِنْ وَجَلٍ
وَ أَكْمَشَ فِي مَهَلٍ
وَ رَغِبَ فِي طَلَبٍ
وَ ذَهَبَ عَنْ هَرَبٍ
وَ رَاقَبَ فِي يَوْمِهِ غَدَهُ
وَ نَظَرَ قُدُماً أَمَامَهُ
فَكَفَى بِالْجَنَّةِ ثَوَاباً وَ نَوَالًا
وَ كَفَى بِالنَّارِ عِقَاباً وَ وَبَالًا
وَ كَفَى بِاللَّهِ مُنْتَقِماً وَ نَصِيراً
وَ كَفَى بِالْكِتَابِ حَجِيجاً وَ خَصِيماً

الوصية بالتقوى‏

أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي أَعْذَرَ بِمَا أَنْذَرَ
وَ احْتَجَّ بِمَا نَهَجَ
وَ حَذَّرَكُمْ عَدُوّاً نَفَذَ فِي الصُّدُورِ خَفِيّاً
وَ نَفَثَ فِي الْآذَانِ نَجِيّاً فَأَضَلَّ وَ أَرْدَى
وَ وَعَدَ فَمَنَّى
وَ زَيَّنَ سَيِّئَاتِ الْجَرَائِمِ
وَ هَوَّنَ مُوبِقَاتِ الْعَظَائِمِ
حَتَّى إِذَا اسْتَدْرَجَ قَرِينَتَهُ
وَ اسْتَغْلَقَ رَهِينَتَهُ
أَنْكَرَ مَا زَيَّنَ
وَ اسْتَعْظَمَ مَا هَوَّنَ
وَ حَذَّرَ مَا أَمَّنَ

و منها في صفة خلق الإنسان‏

أَمْ هَذَا الَّذِي أَنْشَأَهُ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْحَامِ
وَ شُغُفِ الْأَسْتَارِ
نُطْفَةً دِهَاقاً
وَ عَلَقَةً مِحَاقاً
وَ جَنِيناً وَ رَاضِعاً وَ وَلِيداً وَ يَافِعاً
ثُمَّ مَنَحَهُ قَلْباً حَافِظاً
وَ لِسَاناً لَافِظاً
وَ بَصَراً لَاحِظاً
لِيَفْهَمَ مُعْتَبِراً
وَ يُقَصِّرَ مُزْدَجِراً
حَتَّى إِذَا قَامَ اعْتِدَالُهُ
وَ اسْتَوَى‏مِثَالُهُ
نَفَرَ مُسْتَكْبِراً
وَ خَبَطَ سَادِراً
مَاتِحاً فِي غَرْبِ هَوَاهُ
كَادِحاً سَعْياً لِدُنْيَاهُ فِي لَذَّاتِ طَرَبِهِ وَ بَدَوَاتِ أَرَبِهِ
ثُمَّ لَا يَحْتَسِبُ رَزِيَّةً
وَ لَا يَخْشَعُ تَقِيَّةً
فَمَاتَ فِي فِتْنَتِهِ غَرِيراً
وَ عَاشَ فِي هَفْوَتِهِ يَسِيراً
لَمْ يُفِدْ عِوَضاً
وَ لَمْ يَقْضِ مُفْتَرَضاً
دَهِمَتْهُ فَجَعَاتُ الْمَنِيَّةِ فِي غُبَّرِ جِمَاحِهِ
وَ سَنَنِ مِرَاحِهِ
فَظَلَّ سَادِراً
وَ بَاتَ سَاهِراً فِي غَمَرَاتِ الْآلَامِ
وَ طَوَارِقِ الْأَوْجَاعِ وَ الْأَسْقَامِ
بَيْنَ أَخٍ شَقِيقٍ
وَ وَالِدٍ شَفِيقٍ
وَ دَاعِيَةٍ بِالْوَيْلِ جَزَعاً
وَ لَادِمَةٍ لِلصَّدْرِ قَلَقاً
وَ الْمَرْءُ فِي سَكْرَةٍ مُلْهِثَةٍ وَ غَمْرَةٍ كَارِثَةٍ
وَ أَنَّةٍ مُوجِعَةٍ
وَ جَذْبَةٍ مُكْرِبَةٍ
وَ سَوْقَةٍ مُتْعِبَةٍ
ثُمَّ أُدْرِجَ فِي أَكْفَانِهِ مُبْلِساً
وَ جُذِبَ مُنْقَاداً سَلِساً
ثُمَّ أُلْقِيَ عَلَى الْأَعْوَادِ رَجِيعَ وَصَبٍ
وَ نِضْوَ سَقَمٍ
تَحْمِلُهُ حَفَدَةُ الْوِلْدَانِ
وَ حَشَدَةُ الْإِخْوَانِ إِلَى دَارِ غُرْبَتِهِ وَ مُنْقَطَعِ زَوْرَتِهِ وَ مُفْرَدِ وَحْشَتِهِ
حَتَّى إِذَا انْصَرَفَ الْمُشَيِّعُ
وَ رَجَعَ الْمُتَفَجِّعُ
أُقْعِدَ فِي حُفْرَتِهِ نَجِيّاً لِبَهْتَةِ السُّؤَالِ
وَ عَثْرَةِ الِامْتِحَانِ
وَ أَعْظَمُ مَا هُنَالِكَ بَلِيَّةً نُزُولُ الْحَمِيمِ
وَ تَصْلِيَةُ الْجَحِيمِ
وَ فَوْرَاتُ السَّعِيرِ
وَ سَوْرَاتُ الزَّفِيرِ
لَا فَتْرَةٌ مُرِيحَةٌ
وَ لَا دَعَةٌ مُزِيحَةٌ
وَ لَا قُوَّةٌ حَاجِزَةٌ
وَ لَا مَوْتَةٌ نَاجِزَةٌ

وَ لَا سِنَةٌ مُسَلِّيَةٌ
بَيْنَ أَطْوَارِ الْمَوْتَاتِ
وَ عَذَابِ السَّاعَاتِ
إِنَّا بِاللَّهِ عَائِذُونَ
عِبَادَ اللَّهِ أَيْنَ الَّذِينَ عُمِّرُوا فَنَعِمُوا
وَ عُلِّمُوا فَفَهِمُوا
وَ أُنْظِرُوا فَلَهَوْا
وَ سُلِّمُوا فَنَسُوا
أُمْهِلُوا طَوِيلًا
وَ مُنِحُوا جَمِيلًا
وَ حُذِّرُوا أَلِيماً
وَ وُعِدُوا جَسِيماً
احْذَرُوا الذُّنُوبَ الْمُوَرِّطَةَ
وَ الْعُيُوبَ الْمُسْخِطَةَ
أُولِي الْأَبْصَارِ وَ الْأَسْمَاعِ
وَ الْعَافِيَةِ وَ الْمَتَاعِ
هَلْ مِنْ مَنَاصٍ أَوْ خَلَاصٍ
أَوْ مَعَاذٍ أَوْ مَلَاذٍ
أَوْ فِرَارٍ أَوْ مَحَارٍ أَمْ لَا
فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ‏
أَمْ أَيْنَ تُصْرَفُونَ
أَمْ بِمَا ذَا تَغْتَرُّونَ
وَ إِنَّمَا حَظُّ أَحَدِكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ذَاتِ الطُّوْلِ وَ الْعَرْضِ قِيدُ قَدِّهِ
مُتَعَفِّراً عَلَى خَدِّهِ
الْآنَ عِبَادَ اللَّهِ وَ الْخِنَاقُ مُهْمَلٌ
وَ الرُّوحُ مُرْسَلٌ فِي فَيْنَةِ الْإِرْشَادِ
وَ رَاحَةِ الْأَجْسَادِ
وَ بَاحَةِ الِاحْتِشَادِ
وَ مَهَلِ الْبَقِيَّةِ
وَ أُنُفِ الْمَشِيَّةِ
وَ إِنْظَارِ التَّوْبَةِ
وَ انْفِسَاحِ الْحَوْبَةِ
قَبْلَ الضَّنْكِ وَ الْمَضِيقِ وَ الرَّوْعِ وَ الزُّهُوقِ
وَ قَبْلَ قُدُومِ الْغَائِبِ الْمُنْتَظَرِ
وَ إِخْذَةِ الْعَزِيزِ الْمُقْتَدِرِ
قال الشريف و في الخبر أنه لما خطب بهذه الخطبة اقشعرت لها الجلود
و بكت العيون و رجفت القلوب
و من الناس من يسمي هذه الخطبة الغراء

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج5  

الجزء السادس

تتمة باب المختار من خطب أمير المؤمنين ع و أوامره

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

تتمه خطبه هشتاد و دوم

الفصل السادس

و اعلموا أنّ مجازكم على الصّراط و مزالق دحضه، و أهاويل زلله، و تارات أهواله، فاتّقوا اللّه تقيّة ذي لبّ شغل التّفكّر قلبه«» و أنصب الخوف بدنه، و أسهر التهجّد غرار نومه، و أظماء الرّجاء هواجر يومه، و ظلف الزّهد شهواته، و أوجف الذّكر بلسانه، و قدّم الخوف لأمانه، و تنكّب المخالج عن وضح السّبيل، و سلك أقصد المسالك إلى النّهج المطلوب، و لم تفتله فاتلات الغرور، و لم تعم عليه مشتبهات الأمور، ظافرا بفرحة البشرى، و راحة النّعمى، في أنعم‏ نومه، و آمن يومه، قد عبر معبر العاجلة حميدا، و قدّم زاد «قدم خ» الآجلة سعيدا، و بادر من وجل، و أكمش في مهل، و رغب في طلب، و ذهب عن هرب، و راقب في يومه غده، و نظر قدما أمامه، فكفى بالجنّة ثوابا و نوالا«»، و كفى بالنّار عقابا و وبالا، و كفى باللّه منتقما و نصيرا، و كفى بالكتاب حجيجا و خصيما، أوصيكم بتقوى اللّه الّذي أعذر بما أنذر، و احتج بما نهج، و حذّركم عدوّا نفذ في الصّدور خفيّا، و نفث في الآذان نجيّا، فأضلّ و أردى، و وعد فمنّى، و زيّن سيّئات الجرائم، و هوّن موبقات العظائم، حتّى إذا استدرج قرينته، و استغلق رهينته، أنكر ما زيّن، و استعظم ما هوّن، و حذّر ما آمن «أمّن خ».

اللغة

(المزالق) جمع المزلق و هو الموضع الذي يزلق فيه القدم و لا تثبت و مكان (دحض) و يحرّك زلق و (التّارات) جمع تارة و هي المرّة و الحين و (النّصب) التّعب و (هجد و تهجّد) نام و هجد و تهجّد سهروا استيقظ فهو من الأضداد و (الغرار) بكسر الغين المعجمة القليل من النّوم و (الظماء) العطش و (الهواجر) جمع الهاجرة و هو نصف النّهار عند اشتداد الحرّ يقال أتينا أهلنا مهجرين أى سايرين في الهاجرة و (ظلف) نفسه عنه يظلفها من باب ضرب منعها من أن تفعله أو تأتيه أو كفّها عنه و (أوجف) في سيره أسرع و الوجيف ضرب من سير الابل و الخيل.
(و قدّم الخوف لأمانه) هكذا في نسختين للمعتزلي و البحراني و في بعض النّسخ لابانه بالباء الموحّدة المشدّدة بعد الهمزة المكسورة و بعد الباء بالنّون‏ قال في القاموس ابّان الشي‏ء بالكسر حينه أو أوّله و الأوّل أظهر و أوفق و (نكب) عنه من باب نصر و فرح نكيا و نكبا و نكوبا عدل كنكب و تنكّب و نكبه تنكيبا لازم متعدّ و طريق منكوب على غير قصد.

و (المخالج) المشاغل من خلج يخلج اى شغل و جذب و (الوضح) محجّة الطريق و (فتله) يفتله من باب ضرب لواه و فتل وجهه عنهم صرف و (النّعمى) و النّعيم الخفض و الدّعة و المال كالنّعمة، و أنعم اللّه صباحك من النّعومة جعله ذار فاهيّة و (أكمش) أسرع و (القدم) بالضمّ و بضمّتين و القدمة كالقدم محرّكة السّابقة في الأمر و (نفث) ينفث من باب نصر و ضرب من النّفث و هو كالنّفخ و منه.
النّفّاثات في العقد و نفث الشّيطان في قلبه ألقاه و (استدرجه) خدعه و أدناه و قرين الشّيطان و (قرينته) التّابع لرأيه.
قال الشّارح المعتزلي: القرينة ههنا الانسان الذي قارنه الشّيطان و لفظه لفظ التّأنيث و هو مذكّر أراد القرين و (غلق) الرّهن من باب فرح اذا استحقّه المرتهن و ذلك إذا لم يفتكك في الوقت المشروط.

الأعراب

شهواته منصوب بنزع الخافض، و أوجف الذّكر في كثير من النّسخ بنصب الذّكر فيكون الباء في قوله بلسانه للاستعانة و في بعض النّسخ بالرّفع فيكون الباء زائدة كان المعنى حرك الذّكر لسانه مسرعا، و قدم الخوف لأمانه اللّام للتّليل، و عن وضح السّبيل متعلّق بالمخالج، و حميدا و سعيدا حالان من فاعل عبر و زاد، قوله: و بادر من وجل، كلمة تعليليّة كما في قوله ممّا خطيئاتهم اغرقوا، و الباء في قوله بالجنّة و بالنّار و باللّه و بالكتاب زائدة، و ثوابا و نوالا و عقابا و وبالا منصوبات على التميز، و منتقما و نصيرا و حجيجا و خصيما منصوبات على الحال.

المعنى

اعلم أنّ هذا الفصل متضمّن للانذار بالصّراط و التّحذير من أهواله و الأمربالتّقوى تأكيدا لأوامره السّابقة فأنذر أوّلا بالصّراط حيث قال (و اعلموا أنّ مجازكم على الصّراط) الذي هو جسر جهنّم و عليه ممرّ جميع الخلائق حسبما تعرفه تفصيلا (و مزالق دحضه و أهاويل زلله) لكونه أدقّ من الشّعر و أحدّ من السّيف كما يأتي في الأخبار الآتية.

و في النّبوي قال صلّى اللّه عليه و آله و سلم: ثلاث مواطن لا يذكر أحد أحدا: عند الميزان حتّى يعلم أيخفّ ميزانه أو يثقل، و عند تطاير الصّحف حتّى يعلم أيقع كتابه في يمينه أم شماله أم من وراء ظهره، و عند الصّراط إذا وضع بين ظهر جهنّم حتّى يجوز.
قال الشّارح المعتزلي (و تارات أهواله) هو كقولك دفعات أهواله و إنّما جعل أهواله تارات لأنّ الأمور الهائلة إذا استمرّت لم يكن في الازعاج و التّرويع كما يكون إذا طرئت تارة و سكنت تارة.

ثمّ أمر عليه السّلام بملازمة التّقوى و تحصيله في أقصى مراتب كماله مثل تقوى من كمل في مقام العبوديّة و استجمع صفات الايمان فقال عليه السّلام (فاتّقوا اللّه عباد اللّه تقيّة ذي لبّ شغل التّفكّر) في اللّه و في صنعه (قلبه) من التّوجّه و الالتفات إلى الدّنيا و أباطيلها (و أنصب الخوف) من اللّه و من عذابه (بدنه) حتّى صار ناحل الجسم من ذكر النّار و أهاويلها (و اسهر التّهجّد) و عبادة اللّيل (غرار نومه) فلم تترك له نوما حتّى كان قائم اللّيل (و أظمأ الرّجاء) رجاء ما أعدّ لأولياء اللّه (هواجر يومه) فأكثر صوما حتّى كان صائم النّهار.

و نسبة السّهر إلى الغرار و الظّماء إلى الهواجر من باب التّوسّع و المجاز على حدّ قولهم: قام ليله و صام نهاره، فاقيم الظرف مقام المظروف أي أسهره التّهجّد من غرار نومه و أظمأه الرّجاء في هواجر يومه.

روى في الوسائل عن سهل بن سعد قال: جاء جبرئيل إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا محمّد عش ما شئت فانّك ميّت، و احبب ما شئت فانّك مفارقه، و اعمل ما شئت فانّك تجزى به، و اعلم أنّ شرف الرّجل قيامه باللّيل، و عزّه استغناؤه عن النّاس.
و فيه أيضا عن المفيد في المقنعة قال: روى أنّ صلاة اللّيل تدرّ الرّزق‏ و تحسّن الوجه و ترضى الرّبّ و تنفي السّيئات.

قال: و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا قام العبد من لذيذ مضجعه و النّعاس في عينيه ليرضى ربّه بصلاة ليله باهى اللّه به الملائكة و قال تعالى: اشهدوا أنّي قد غفرت له قال: و قال: كذب من زعم أنّه يصلّي باللّيل و يجوع بالنّهار.

و قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّ البيوت التي تصلّى فيها باللّيل و بتلاوة القرآن تضي‏ء لأهل السّماء كما تضي‏ء نجوم السّماء لأهل الأرض.
و فيه أيضا عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام قال: المال و البنون زينة الحياة الدّنيا، و ثمان ركعات في آخر اللّيل و الوتر زينة الآخرة، و يأتي أخبار اخر في هذا المعنى إنشاء اللّه في شرح المختار المأة و الثاني و الثمانين (و ظلف الزّهد) في الدّنيا (شهواته) و كفّه منها (و أوجف) إلى (الذّكر بلسانه) و لم يبطى فيه أو أسرع الذّكر لسانه فلم يسكت عنه قال تعالى: وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً وَ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ وَ لا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ».

(و قدّم الخوف) من اللّه (لأمانه) أي ليأمن به من عذابه الأليم (و نكب المخالج عن وضح السّبيل) أي نحاه الشّواغل و الصّوارف عن صراطه المستقيم (و سلك أقصد المسالك) و أعدلها (إلى النّهج المطلوب) الذي هو منهج الشّرع القويم (و لم تفتله فاتلات الغرور) من الاتيان بالطاعات (و لم تعم عليه مشتبهات الأمور) فيقتحم في الهلكات (ظافرا بفرحة البشرى و راحة النّعمى) اى مستبشرا بخطاب بشريكم اليوم جنّات تجرى من تحتها الأنهار، و مستريحا بسعة العيشة و لذّة النّعمة في دار القرار (في أنعم نومه و آمن يومه) أى في أطيب راحته و آمن أوقاته و اطلاق اسم النّوم على الرّاحة من باب اطلاق اسم الملزوم على اللّازم و إلى الأمن و الاستراحة أشير في الآية قال سبحانه:

«إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى‏ سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَ ما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ» أى يقال لهم ادخلوا الجنّات بسلامة من الآفات و برائة من المكاره و المضرّات آمنين من الاخراج منها ساكني النّفس إلى انتفاء الضرر فيها (قد عبر معبر العاجلة حميدا و قدّم زاد الآجلة سعيدا) أي جاز مجاز الدّنيا العاجلة حميدا في فعاله، و قدم الزاد الآخرة سعيدا في أحواله.

و المقصود بذلك أنّه زهد في الدّنيا فترك العيش العاجل و رغب في الآخرة فنال الثواب الآجل (و بادر من وجل و اكمش في مهل) يعني عليه السّلام بادر إلى الطاعات من أجل الخوف من العقوبة و أسرع إلى العبادات في أيّام الرّفق و المهلة (و رغب في طلب و ذهب عن هرب) أى كان طلبه للحقّ و سعيه إليه عن شوق و رغبة، و ذهابه عن الباطل و بعده عنه عن خوف و رهبة.

قال المحقّق الطوسيّ في محكيّ كلامه عن أوصاف الأشراف في تفسير الرّهبة: هو تألّم النّفس من العقاب بسبب ارتكاب المنهيّات و التّقصير في الطاعات كما في أكثر الخلق، و قد يحصل بمعرفة عظمة الحقّ و مشاهدة هيبته كما في الأنبياء و الأولياء.

و فرّق بعض العارفين بين الخوف و الرّهبة فقال: الخوف هو توقّع الوعيد و هو سوط اللّه يقوّم به الشّاردين عن بابه و يسير بهم على صراطه حتّى يستقيم به أمر من كان مغلوبا على رشده، و من علامته قصر الأمل و طول البكاء، و الرّهبة هى انصباب إلى وجهة الهرب بل هى الهرب رهب و هرب مثل جبذ و جذب، فصاحبها يهرب أبدا لتوقّع العقوبة و من علاماتها حركة القلب إلى الانقباض من داخل و هربه و انزعاجه عن انبساطه حتّى أنّه يكاد أن يبلغ الرّهابة في الباطن مع‏ ظهور الكمد«» و الكابة على الظاهر انتهى.
و الرّهابة كسحابة عظم في الصّدر مشرف على البطن (و راقب في يومه غده و نظر قدما أمامه) أى لا حظ في دنياه آخرته فادّخر لها و نظر في سابقة أمره إلى ما بين يديه و لم يلتفت إلى غيره.

ثمّ قال عليه السّلام (فكفى بالجنّة ثوابا و نوالا) و هو ترغيب إلى السّعى إليها (و كفى بالنّار عقابا و وبالا) و هو تنبيه على وجوب الهرب منها (و كفى باللّه منتقما و نصيرا) و هو إشارة إلى لزوم قصر الخشية و الاستعانة عليه سبحانه (و كفى بالكتاب حجيجا و خصيما) أي كفى كتاب اللّه محاجّا و مخاصما، و هو إشارة إلى وجوب تعليم القرآن و تعلّمه و إكرامه و حرمة إضاعته و إهانته.
قال الشّارح البحراني و نسب الاحتجاج و الخصام إلى الكتاب مجازا.

أقول: بل هو حقيقة إذ المستفاد من الأخبار أنّه يؤتى به يوم القيامة في صورة إنسان فيكون بنفسه حجيجا خصيما.
فقد روى في الوسائل عن محمّد بن يعقوب الكلينيّ معنعنا عن سعد الخفاف عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: يا سعد تعلّموا القرآن فانّ القرآن يأتي يوم القيامة في أحسن صورة نظر إليها الخلق «إلى أن قال» حتّى ينتهى إلى ربّ العزّة فيناديه تبارك و تعالى يا حجّتي في الأرض و كلامي الصّادق النّاطق ارفع رأسك و سل تعط و اشفع تشفّع كيف رأيت عبادي فيقول: يا ربّ منهم من صاننى و حافظ عليّ، و منهم من ضيّعني و استخفّ بي و كذب بي و أنا حجّتك على جميع خلقك، فيقول اللّه عزّ و جلّ: و عزّتي و جلالي و ارتفاع مكاني لاثيبنّ اليوم عليك أحسن الثّواب، و لأعاقبنّ عليك اليوم أليم العقاب الحديث.

و باسناده عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: يجي‏ء القرآن يوم القيامة في أحسن منظور إليه صورة «إلى أن قال» حتّى ينتهى إلى ربّ العزّة فيقول: يا رب فلان بن فلان أظمأت هو اجره و أسهرت ليله في دار الدّنيا، و فلان بن فلان لم‏اظم هو اجره و لم اسهر ليله، فيقول تبارك و تعالى: ادخلهم الجنّة على منازلهم فيقوم فيتبعونه فيقول للمؤمن: اقرء و ارقه، قال عليه السّلام: فيقرأ و يرقا حتّى بلغ كلّ رجل منهم منزلته التي هي له فينزلها.

و الأخبار في هذا المعنى كثيرة و فيما أوردناه كفاية في المقام و الزّيادة على ذلك تطلب في شرح المأة و الخامسة و السبعين، و نروى تمام رواية الخفاف السّالفة هناك إنشاء اللّه من أصل كتاب الكلينيّ ثمّ عاد عليه السّلام إلى الحثّ على التّقوى أيضا بقوله (أوصيكم بتقوى اللّه الذى أعذر بما أنذر) أى أزال العذر عنه بما أنذركم به من العقوبات (و احتجّ بما نهج) أى أقام الحجّة عليكم بما أوضحه لكم من الأدلّة و الآيات (و حذّركم عدوّا نفذ في الصّدور خفيّا و نفث في الآذان نجيّا) أراد به تحذير اللّه سبحانه و تعالى في غير واحدة من آيات كتابه الكريم من عداوة الشيطان اللّعين كما قال في سورة البقرة وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ و في سورة يوسف: إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ و في سورة يس: أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ إلى غير ذلك و توصيفه بالنّفوذ في الصّدور و النّفث في الاذان إشارة إلى أنّه ليس مثل ساير الأعداء يرى بالأبصار و يدرك بالعيان، بل هو عدوّ ينفذ في القلوب و يجري من ابن آدم مجرى الدّم في العروق، و يلقى في الآذان زخرف القول و غروره، و يمكن أن يراد بالعدوّ الأعمّ من شيطان الجنّ و الانس فيكون الوصف بالنّفوذ بالنظر إلى شيطان الجنّ، و الوصف بالنّفث بالنظر إلى شيطان الانس كما قال سبحانه مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ قال المفسّر أى من شرّ ذي الوسواس الذي وسوس في الصّدور، ثمّ فسّره بقوله من الجنّة و النّاس كما يقال نعوذ باللّه من شرّ كلّ مارد من الجنّ و الانس، و على هذا فيكون وسواس الجنّة هو وسواس الشّيطان، و وسواس الانس إغواء من يغويه من النّاس، فشيطان الجنّ يوسوس و شيطان الانس يأتي علانية و يرى أنه ينصح و قصده الشرّ و يموّه و يلقى في سمعه زخرف القول الذي يستحسن ظاهره و يقبح باطنه.

(فأضل و أردى و وعد فمنى) أى أضلّ بنفوذه في الصدور و وسوسته في القلوب عن طريق الهداية و أوقع في أودية الهلاكة أعني هلاكة الآخرة الموجبة لاستحقاق النار و لغضب الجبار و وعدهم بالمواعيد الكاذبة و منّا هم الأمانى الباطلة كما قال سبحانه: «وَ مَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ لا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً».

أي يمنّيهم الأهواء الباطلة و يلقيها في قلب الانسان فيمنّيه طول البقاء و أنّه ينال من الدّنيا مقصوده و يستولى على أعدائه و يوقع في نفسه أنّ الدّنيا دول فربّما تيسّرت لي كما تيسّرت لغيري، و يشوّش بذلك فكره في استخراج الحيل الدّقيقة و الوسائل اللّطيفة في تحصيل مطالبه الشّهويّة و الغضبيّة، فيصدّه عن الطاعة و يوقعه في المعصية و تسويف التّوبة.

و هذه الأماني إنّما تنشأ من الثّقة بقوله و الوثوق بوعده، و وعده تارة يكون بالقاء الخواطر الفاسدة و اخرى بألسنة أوليائه من شياطين الانس، فربّما يعد بالمغفرة مع الكبيرة كما قال تعالى: يأخذون عرض هذا الأدنى و يقولون سيغفر لنا، و ربّما يعد أنّه لا قيامة و لا حساب و لا ثواب و لا عقاب و يقول للإنسان اجتهد في استيفاء اللّذات العاجلة و اغتنم الحياة الزّائلة.

(و زيّن سيئات الجرائم و هوّن موبقات العظائم) أي زيّن في نظر الانسان‏ قبايح المعاصي و هوّن مهلكات الكبائر و منشأ تزيينه للسّيئات كتهوينه الموبقات أيضا مواعيده الكاذبة و أمانيه الباطلة فما لم يثق بقوله و لا يطمئنّ بوعده لا يهوّن الانسان ما هوّن، و لا يميل إلى ما زيّن.

توضيح ذلك و تحقيقه أنّ مقصود الشّيطان هو التّرغيب في الاعتقاد الباطل و العمل الباطل و التنفير عن اعتقاد الحقّ و عمل الحقّ، و معلوم أنّ التّرغيب في الشي‏ء لا يمكن إلّا بان يقرّر عنده أنّه لا مضرّة في فعله، و مع ذلك فانّه يفيد المنافع العظيمة و التّنفير عن الشي‏ء لا يمكن إلّا بأن يقرّر عنده أنّه لا فائدة في فعله و مع ذلك فيفيد المضارّ العظيمة.

إذا ثبت هذا فنقول إنّ الشّيطان إذا دعا إلى المعصية فلا بدّ و أن يقرّر أوّلا أنّه لا مضرّة في فعله البتّة، و ذلك لا يمكن إلّا إذا قال لا معاد و لا جنّة و لا نار و لا حياة بعد هذه الحياة، فهذا الطريق يقرّر عنده أنّه لا مضرّة البتّة في فعل هذه المعاصي و إذا فرغ من هذا المقام قرّر عنده و زيّن في نظره أن هذا الفعل يفيد أنواعا من اللّذة و السّرور و لا حياة للانسان إلّا في هذه الدّنيا فتفويتها غبن و حسرة.

و أمّا طريق التّنفير عن الطاعات فهو أن يقرّر أوّلا عنده أنّه لا فايدة فيها من وجهين الاول أنّه لا جنّة و لا نار و لا ثواب و لا عقاب و الثاني أنّ هذه العبادات لا فائدة فيها للعابد و لا للمعبود فكانت عبثا محضا، و إذا فرغ من هذا المقام قال: إنّها توجب التّعب و المحنة و ذلك أعظم المضارّ فهذه مجامع تلبيس إبليس و توضيح و عده و أمانيه و تزيينه و تهوينه.

(حتّى إذا استدرج قرينته و استغلق رهينته) أي إذا خدع قرينه و تابعه بتزيين الباطل في نظره و تنفيره عن الحقّ و أوقعه في الغلق بالذّنوب التي اكتسبها كالرّهن المغلق في مقابل المال (أنكر ما زيّن و استعظم ما هوّن و حذّر ما آمن) كما قال سبحانه في سورة الأنفال: «وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَ قالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ‏ النَّاسِ وَ إِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى‏ عَقِبَيْهِ وَ قالَ إِنِّي بَرِي‏ءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى‏ ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ»

قال الطبرسي: أى اذكر اذ زيّن الشّيطان للمشركين أعمالهم أي أحسنها في نفوسهم و ذلك أنّ إبليس حسّن لقريش مسيرهم إلى بدر لقتال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم، و قال: لا يغلبكم أحد من النّاس لكثرة عددكم و قوّتكم و إنّى مع ذلك جار لكم أي ناصر لكم و دافع عنكم السّوء، و إنّي عاقد لكم عقد الامان من عدوّكم، فلمّا التقت الفرقتان نكص على عقبيه، أي رجع القهقرى منهرما ورائه، و قال: إنّي بري‏ء منكم، أي رجعت عمّا ضمنت لكم من الأمان و السّلامة لأنى أرى من الملائكة الذين جاءوا لنصر المسلمين ما لا ترون، و كان إبليس يعرف الملائكة و هم كانوا يعرفونه، إنّي أخاف اللّه، أي أخاف عذاب اللّه على أيدى من أراهم، و اللّه شديد العقاب، لا يطاق عقابه و في سورة الحشر: «كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِي‏ءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ».

أي مثل المنافقين في إغراء اليهود أي بني النّضير للقتال كمثل الشّيطان في إغرائه للانسان، فانّه أبدا يدعو الانسان إلى الكفر ثمّ يتبرّء منه وقت الحاجة مخافة أن يشاركه في العذاب و يقول: إنّي أخاف اللّه رب العالمين، و لا ينفعه ذلك كما قال: فكان عاقبتهما أي الدّاعى و المدعوّ من الشّيطان و من أغواه، أنّهما معذّبان في النّار.

قال ابن عبّاس: إنّ المراد بالانسان في هذه الآية هو عابد بني إسرائيل قال: إنه كان في بنى اسرائيل عابد اسمه برصيصا عبد اللّه زمانا من الدّهر حتّى كان يؤتى بالمجانين يداويهم و يعوّذهم فيبرءون على يده، و أنّه أتي بامرأة في شرف قد جنّت و كان لها اخوة فأتوه بها فكانت عنده فلم يزل به الشّيطان يزيّن له حتّى وقع عليها فحملت، فلمّااستبان حملها قتلها و دفنها، فلمّا فعل ذلك ذهب الشّيطان حتّى لقى أحد إخوتها فأخبره بالذي فعل الرّاهب و أنّه دفنها في مكان كذا.

ثمّ أتى بقيّة إخوتها رجلا رجلا فذكر ذلك له فجعل الرّجل يلقى أخاه فيقول و اللّه لقد أتانى آت فذكر لي شيئا يكبر عليّ ذكره، فذكر بعضهم لبعض حتّى بلغ ذلك ملكهم فصار الملك و النّاس، فاستنزلوه فأقرّ لهم بالّذي فعل فأمر الملك به فصلب، فلمّا رفع على خشبته تمثّل له الشّيطان فقال: أنا الّذي ألقيتك في هذا فهل أنت مطيعي فيما أقول اخلّصك ممّا أنت فيه قال: نعم، قال: اسجد لي سجدة واحدة، فقال: كيف أسجد لك و أنا على هذه الحالة فقال: اكتفي منك بالايماء، فأومى له بالسّجود فكفر باللّه و قتل الرّجل، فهو قوله: كمثل الشّيطان إذ قال للانسان اكفر.

اللّهم إنّا نعوذ بك من خداع إبليس و من شرور الأنفس و من سوء الخاتمة.

تنبيهات ثلاثة متضمنة لتحقيق بعض ما تضمنه هذا الفصل

الاول فى تحقيق الصراط و بيانه

فأقول: إنّ الصّراط ممّا يجب الايمان به و هو من جملة ضروريّات الدّين و هو جسر جهنّم.
قال الصدوق (ره) في محكىّ كلامه عن اعتقاداته: اعتقادنا في الصّراط أنه حقّ و أنه جسر جهنّم و أنّ عليه ممرّ جميع الخلق قال اللّه تعالى: «وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى‏ رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا» قال (ره): و الصراط في وجه آخر اسم حجج اللّه فمن عرفهم في الدّنيا و أطاعهم‏أعطاه اللّه جوازا على الصراط الذي هو جسر جهنّم قال (ره) و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم لعليّ عليه السّلام: يا عليّ إذ كان يوم القيامة أقعد أنا و أنت و جبرئيل على الصراط و لا يجوز على الصراط أحد إلّا من كان معه برائة بولايتك و قال المفيد «ره»: الصراط بمعنى الطريق و لذلك يقال على ولاية أمير المؤمنين و الأئمة من ذريتهم عليهم السّلام: الصراط، لكونها طريق النجاة.
أقول: الصراط بهذين المعنيين مما اشير إليه في غير واحد من الأخبار، ففي الصافي و البحار من معاني الأخبار و تفسير الامام عليه السّلام في تفسير قوله: «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ».

عن الصّادق عليه السّلام يعني أرشدنا للزوم الطريق المؤدِّي إلى محبّتك و المبلّغ إلى جنّتك و المانع من أن نتّبع أهوائنا فنعطب أو أن نأخذ بآرائنا فنهلك.
و عنه أيضا هي الطريق إلى معرفة اللّه و هما صراطان صراط في الدّنيا و صراط في الآخرة، فأمّا الصراط في الدّنيا فهو الامام المفترض الطاعة من عرفه في الدّنيا و اقتدى بهداه مرّ على الصّراط الذي هو جسر جهنّم في الآخرة، و من لم يعرفه في الدّنيا زلّت قدمه عن الصّراط في الآخرة فتردى في نار جهنّم، و في رواية نحن الصّراط المستقيم.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي عن حفص بن غياث قال: وصف أبو عبد اللّه عليه السّلام الصّراط فقال: ألف سنة صعود و ألف سنة هبوط و ألف سنة حذال.

و فيه عن سعد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن الصّراط فقال: هو أدقّ من الشّعر و أحدّ من السّيف، فمنهم من يمرّ عليه مثل البرق، و منهم من يمرّ عليه مثل الفرس، و منهم من يمرّ عليه ماشيا، و منهم من يمرّ عليه حبوا«»، و منهم من يمرّ عليه متعلّقا فتأخذ النّار بعضه و تترك بعضه.

و فيه قال: حدّثني أبي عن عمر بن عثمان عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: لمّا نزلت هذه الآية:«وَ جِي‏ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ».

سئل عن رسول اللّه فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلم: أخبرني الرّوح الأمين أنّ اللّه لا إله غيره إذا برز الخلائق و جمع الأوّلين و الآخرين أتى بجهنّم تقاد بألف زمام أخذ بكلّ زمام مأئة ألف ملك تقودها من الغلاظ الشّداد لها هدّة و غضب و زفير و شهيق و أنّها لتزفر الزّفرة فلو لا أنّ اللّه أخّرهم للحساب لأهلكت الجميع، ثم يخرج منها عنق فيحيط بالخلائق البرّ و الفاجر ما خلق اللّه عبدا من عباد اللّه ملكا و لا نبيّا إلّا ينادي ربّ نفسي نفسي و أنت يا نبي اللّه تنادي أمّتي أمّتي، ثمّ يوضع عليها الصراط أدقّ من حدّ السّيف عليها ثلاث قناطر فأمّا واحدة فعليها الأمانة و الرّحم، و الثّانية فعليها الصّلاة، و الثالثة فعليها ربّ العالمين‏لا إله غيره فيكلّفون بالعمرّ عليها فيحبسهم الرّحم و الأمانة فان نجوا منها حبستهم الصّلاة فان نجوا منها كان المنتهى إلى ربّ العالمين«» و هو قوله: «إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ».

و النّاس على الصراط فمتعلّق بيد و تزلّ قدم و تستمسك بالقدم و الملائكة حولها ينادون حولها يا حليم اعف و اصفح و عد بفضلك و سلّم سلّم و النّاس يتهافتون في النّار كالفراش فيها فاذا نجى ناج برحمة اللّه مرّ بها فقال: الحمد للّه و بنعمته تتمّ الصّالحات و تزكو الحسنات و الحمد للّه الّذي نجاني منك بعد اياس بمنّه و فضله إنّ‏ربّنا لغفور شكور.

و في غاية المرام للسيّد هاشم البحراني من طريق العامة عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال: إذا كان يوم القيامة أمر اللّه مالكا أن يسعر النّيران السّبع و أمر رضوان أن يزخرف الجنان الثّمان و يقول: يا ميكائيل مدّ الصّراط على متن جهنّم و يقول: يا جبرائيل انصب ميزان العدل تحت العرش و ينادى يا محمّد: قرّب امّتك للحساب.

ثمّ يأمر اللّه تعالى أن يعقد على الصّراط سبع قناطر طول كلّ قنطرة سبع عشر ألف فرسخ، و على كلّ قنطرة سبعون ألف ملك قيام فيسألون هذه الامّة نسائهم و رجالهم على القنطرة الأولى عن ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام و حبّ أهل بيت محمّد صلّى اللّه عليه و آله فمن أتى به جاز على القنطرة الأولى كالبرق الخاطف و من لم يحبّ أهل بيت نبيّه صلّى اللّه عليه و آله سقط على أمّ رأسه على قعر جهنّم و لو كان معه من أعمال البرّ عمل سبعين صدّيقا.

و على القنطرة الثّانية فيسألون عن الصّلاة، و على الثّالثة يسألون عن الزكاة، و على الرّابعة عن الصيام، و على الخامسة عن الحجّ، و على السّادسة عن الجهاد، و على السّابعة عن العدل فمن أتى بشي‏ء من ذلك جاز على الصّراط كالبرق الخاطف و من لم يأت عذّب و ذلك قوله تعالى «وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ» يعنى معاشر الملائكة قفوهم يعنى العباد على القنطرة الأولى انّهم مسئولون عن ولاية عليّ عليه السّلام و حبّ أهل البيت عليهم السّلام.

و في البحار من تفسير الامام عليه السّلام المفسر باسناده إلى أبي محمّد العسكري عليه السّلام في قوله: «اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ».
قال: أدم لنا توفيقك الذي به أطعناك في ماضي أيّامنا حتّى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا، و الصّراط المستقيم هو صراطان: صراط في الدّنيا، و صراط في الآخرة فأمّا الصّراط المستقيم في الدنيا فهو ما قصر عن الغلوّ و ارتفع عن التقصير و استقام فلم يعدل‏ إلى شي‏ء من الباطل و أمّا الطريق الآخر فهو طريق المؤمنين إلى الجنّة الذي هو مستقيم لا يعدلون عن الجنّة إلى النّار و لا إلى غير النّار سوى الجنّة.

الثاني فى تحقيق الذكر و المستفاد من قوله عليه السّلام: و اوجف الذكر بلسانه الحث و الترغيب عليهفأقول إنّ ذكر اللّه عزّ و جلّ على أقسام الاول أن يذكره تعالى عند إرادة المعصية الّتي يريد ارتكابها فيتركها له الثاني ذكره عند الطاعة فيسهل عليه مشقّة العبادة الثالث ذكره عند الرّفاهية و النّعمة فيذكره و يؤدّي شكره الرابع ذكره عند الابتلاء و المحنة فيتضرّع له لصرف البلاء و الصّبر عليه الخامس ذكره بالقلب بأن يتفكّر في صفاته الجلالية و نعوته الجماليّة و غيرها من العلوم و معارف الحقّة السادس الذكر باللّسان بأن يسبّح له و يقدّسه و يمجّده و يشتغل بذكر فضائل أهل البيت و تعليم القرآن و تدريس العلوم الشّرعيّة و أنحائها.

و كلّ ذلك ممّا ورد الحثّ عليه في الأخبار و الآيات قال سبحانه: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصارُ». و قال أيضا: «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ» و قال: «وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً وَ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ وَ لا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ».

قال الطبرسيّ (ره) هو عام في الأذكار و قراءة القرآن و الدّعاء و التّسبيح و التهليل و تضرّعا و خيفة أي متضرّعا و خايفا، و دون الجهر من القول، أى و متكلّما كلاما دون الجهر، لأنّ الاخفاء أدخل في الاخلاص و أبعد من الرّيا و أقرب إلى القبول و في الكافي و عدّة الدّاعي لأحمد بن فهد الحلّي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال: مكتوب في التّوراة الّتي لم تغير أن موسى سأل ربّه فقال: يا ربّ أ قريب أنت فأناجيك أم بعيد فأناديك فأوحى اللّه إليه يا موسى أنا جليس من ذكرني، فقال موسى: فمن في سترك يوم لا ستر إلّا سترك فقال تعالى: الّذين يذكروني فأذكرهم و يتحابّون لي فاحبّهم فأولئك الّذين إذا أردت أن اصيب أهل الأرض بسوء ذكرتهم فدفعت عنهم بهم.
و في عدّة الدّاعي عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم ما جلس قوم يذكرون اللّه إلّا قعد معهم عدّة من الملائكة.

و روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: ما اجتمع قوم في مجلس لم يذكرو اللّه و لم يذكرونا إلّا كان ذلك المجلس عليهم حسرة يوم القيامة، ثمّ قال: قال أبو جعفر عليه السّلام إنّ ذكرنا من ذكر اللّه و ذكر عدوّنا من ذكر الشّيطان.

و روى الحسن بن الحسن الدّيلمي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّ الملائكة يمرّون على حلق الذّكر فيقومون على رؤوسهم و يبكون لبكائهم و يؤمّنون لدعائهم، فاذا صعدوا إلى السّماء يقول اللّه تعالى: يا ملائكتي أين كنتم و هو أعلم، فيقولون: يا ربّنا إنّا حضرنا مجلسا من مجالس الذكر فرأينا أقواما يسبّحونك و يمجّدونك و يقدّسونك و يخافون نارك، فيقول اللّه سبحانه: يا ملائكتي أذودها عنهم و اشهدكم أنّي قد غفرت لهم و أمنتهم ممّا يخافون، فيقولون: ربّنا إنّ فيهم فلانا و إنّه لم يذكرك فيقول تعالى: قد غفرت له بمجالسته لهم، الحديث.

و عنه أيضا من ذكر اللّه في السّوق مخلصا عند غفلة النّاس و شغلهم كتب اللّه له ألف حسنة و يغفر اللّه له يوم القيامة مغفرة لم تخطر على قلب بشر.
و في عدّة الدّاعي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ موسى عليه السّلام انطلق ينظر إلى اعمال‏العبّاد فأتى رجلا من أعبد النّاس فلمّا أمسى حرّك الرّجل شجرة إلى جنبه فاذا فيه رمّانتان قال فقال: يا عبد اللّه من أنت إنّك عبد صالح أنا ههنا منذ ما شاء اللّه ما أجد في هذه الشّجرة إلّا رمّانة واحدة و لو لا أنّك عبد صالح ما وجدت رمّانتين قال أنا رجل أسكن أرض موسى بن عمران.

قال: فلمّا أصبح قال تعلم أحدا أعبد منك قال: نعم فلان الفلاني، قال: فانطلق إليه فاذا هو أعبد منه كثيرا فلمّا أمسى أوتي برغيفين و ماء فقال: يا عبد اللّه من أنت إنّك عبد صالح أنا ههنا منذ ما شاء اللّه و ما اوتى إلّا برغيف واحد و لو لا أنّك عبد صالح ما اوتيت برغيفين قال أنا رجل أسكن أرض موسى بن عمران.

ثمّ قال موسى: هل تعلم أحدا أعبد منك قال: نعم فلان الحداد في مدينة كذا و كذا، قال: فأتاه فنظر إلى رجل ليس بصاحب العبادة بل إنّما هو ذاكر للّه تعالى و إذا دخل وقت الصّلاة قام فصلّى فلمّا أمسى نظر إلى غلّته فوجدها قد اضعفت قال يا عبد اللّه من أنت إنّك عبد صالح أنا ههنا منذ ما شاء اللّه غلّتي قرب بعضها من بعض و اللّيلة قد اضعفت فمن أنت قال: أنا رجل أسكن في أرض موسى بن عمران.
قال: فأخذ ثلث غلّته فتصدّق بها، و ثلثا أعطى مولى له، و ثلثا اشترى له طعاما فأكل هو و موسى، قال: فتبسّم موسى عليه السّلام فقال: من أىّ شي‏ء تبسّمت قال: دلّني نبيّ بني إسرائيل على فلان فوجدته من أعبد الخلق فدلّني على فلان فوجدته أعبد منه فدلّني فلان عليك و زعم أنّك أعبد منه و لست أراك شبه القوم.

قال: أنا رجل مملوك أليس تراني ذاكر اللّه تعالى أ و ليس تراني اصلّى الصّلاة لوقتها و إن أقبلت إلى الصّلاة أضررت بغلّة مولاى و أضررت بعمل النّاس أ تريد أن تأتى بلادك قال: نعم.

قال فمرّت به سحابة فقال الحدّاد: يا سحابة تعالى، قال: فجاءت، قال: اين تريدين فقالت: اريد كذا و كذا، قال: انصرفي ثمّ مرّت به اخرى قال: يا سحابة تعالى فجاءت فقال: اين تريدين فقالت اريد ارض كذا و كذا، قال: انصرفي ثمّ مرّت به اخرى قال: يا سحابة تعالى فجاءته فقال اين تريدين قالت أريد أرض موسى بن‏ مران قال: تعالى و احملي هذا حمل دقيق وضعيه في أرض موسى بن عمران وضعا دقيقا.
قال فلمّا بلغ موسى عليه السّلام بلاده قال: يا ربّ بما بلّغت هذا ما أرى قال تعالى: إنّ عبدي هذا يصبر على بلائي و يرضى بقضائي، و يشكر على نعمائي.

و في البحار من تفسير الامام عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: الا فاذكروا يا امّة محمّد محمّدا و آله عند نوائبكم و شدائدكم لينصرنّ اللّه بهم ملائكتكم على الشّياطين الّذين يقصدونكم، فانّ كلّ واحد منكم معه ملك عن يمينه يكتب حسناته و ملك عن يساره يكتب سيئاته، و معه شيطانان من عند إبليس يغويانه.

فاذا وسوسا في قلبه ذكر اللّه و قال: لا حول و لا قوّة إلّا باللّه العليّ العظيم و صلّى اللّه على محمّد و آله حبس الشّيطانان ثمّ صارا إلى إبليس فشكواه و قالا له: قد أعيانا أمره فامددنا بالمردة و لا يزال يمدّهما حتّى يمدّهما بألف مارد فيأتونه فكلّما راموه ذكر اللّه و صلّى على محمّد و آله الطّيّبين لم يجدوا عليه طريقا و لا منفذا.

قالوا لابليس ليس له غيرك تباشره بجنودك فتغلبه فتغويه فيقصده إبليس بجنوده، فيقول اللّه تبارك و تعالى للملائكة: هذا إبليس قد قصد عبدي فلانا، أو أمتي فلانة بجنوده ألا فقاتلوه، فيقاتلوه بازاء كلّ شيطان رجيم منهم مأئة ألف ملك و هم على افراس من نار بأيديهم سيوف من نار و رماح من نار و قسىّ و نشاشيب«» و سكاكين و أسلحتهم من نار.

فلا يزالون يجرحونهم و يقتلونهم بها و يأسرون إبليس فيضعون عليه تلك الأسلحة فيقول: يا ربّ وعدك وعدك قد أجّلتني إلى يوم الوقت المعلوم، فيقول اللّه تبارك و تعالى للملائكة: وعدته أن لا اميته و لم أعده أن لا اسلّط عليه السّلاح و العذاب و الآلام اشتقوا منه ضربا بأسلحتكم فانّي لا اميته فيسخنونه بالجراحات ثمّ يدعونه، فلا يزال سخين العين«» على نفسه و أولاده المقتولين‏المقتّلين«» و لا يندمل شي‏ء من جراحاته، إلّا بسماعه أصوات المشركين بكفرهم فان بقى هذا المؤمن على طاعة اللّه و ذكره و الصّلاة على محمّد و آله بقى إبليس على تلك الجراحات، فان زال العبد عن ذلك و انهمك في مخالفة اللّه عزّ و جلّ و معاصيه اندملت جراحات إبليس ثمّ قوى على ذلك العبد حتّى يلجمه و يسرج على ظهره و يركبه ثمّ ينزل عنه و يركب ظهره شيطانا من شياطينه و يقول لأصحابه أما تذكرون ما أصابنا من شأن هذا ذلّ و انقاد لنا الآن حتّى صار يركبه هذا ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم فان أردتم أن تديموا على إبليس سخنة عينه و ألم جراحاته فداوموا على طاعة اللّه و ذكره و الصّلاة على محمّد و آله، و إن زلتم عن ذلك كنتم اسراء إبليس فيركب أقفيتكم«» بعض مردته هذا، و اللّه المستعان و به الاعتصام في النّجاة من مكايد الشّيطان.

الثالث فى تحقيق معنى الرجاء و الخوف على فى ما شرح البحرانى اخذا من احياء العلوم لابى حامد الغزالى بتغيير و تصرف يسير
فاعلم أنّ الرّجاء من جملة مقامات السالكين و حالات الطالبين، و هو ارتياح النّفس لانتظار ما هو محبوب عندها فهو حالة لها تصدر عن علم و تقتضي عملا بيان ذلك أنّ ما يتصوّره النّفس من محبوب أو مكروه فامّا أن يكون موجودا في الماضي أو في الحال أو يوجد في الاستقبال، و الأوّل يسمّى ذكرا و تذكيرا، و الثّاني يسمّى وجدا لأنّها حالة تجدها من نفسك، و الثّالث و هو أن يغلب على ظنّك وجود شي‏ء في الاستقبال لنفسك به تعلق يسمّى ذلك انتظاراو توقّعا، فان كان مكروها حدث منه في القلب تألم يسمّى خوفا و اشتفاقا، و إن كان محبوبا حصل من انتظاره و تعلّق القلب به لذّة للنفس و ارتياح باخطار وجوده بالبال يسمّى ذلك الاتياح رجاء.

و لكن ذلك المحبوب المتوقّع لا بدّ و أن يكون له سبب، فان كان توقّعه لأجل حصول أكثر أسبابه فاسم الرجاء عليه صادق، و إن كان انتظاره مع العلم بانتفاء أسبابه فاطلاق اسم الغرور و الحمق عليه أصدق من اسم الرجاء، و إن كانت الأسباب غير معلومة الوجود و لا معلومة العدم فاسم التمنّى أصدق على انتظاره.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ أرباب القلوب و العرفان قد علموا أنّ الدّنيا مزرعة الآخرة، فالقلب كالأرض و البذر هو الايمان و المعارف الألهيّة و تأثر القلب بالمواعظ و النّصايح و الإتيان بالطّاعات جار مجرى تقليب الأرض و اصلاحها و مجرى سياق الماء إليها و اعدادها للزراعة.
و القلب المستغرق بحبّ الدّنيا و الميل إليها كالأرض الصلبة أو السبخة التي لا تقبل الزّرع و الانبات و لا ينمو فيها البذر لصلب الأرض أو لمخالطة الأجزاء الملحية، و يوم القيامة يوم الحصاد و لا حصاد إلّا من زرع، و لا زرع إلّا من بذر و كما لا ينفع الزّرع في أرض صلبه سبخة كذلك لا ينفع إيمان مع حبّ القلب و قساوته و سوء الأخلاق.

فينبغي أن يقاس رجاء العبد لمغفرة اللَّه و رضوانه برجاء صاحب الزّرع و كما أنّ من طلب أرضا طيّبة و قلّبها و القى فيها بذراً جيّدا غير متعفّن و لا مسوس ثمّ أمدّه بالماء العذب و ساير ما يحتاج إليه في أوقاته، ثمّ طهّره عن مخالطة ما يمنع نباته من الشّوك و الحشيش و نحوهما، ثمّ جلس منتظراً من فضل اللَّه رفع الصواعق و الآفات المفسدة إلى أن يتمّ الزّرع و يبلغ غايته كان ذلك رجاء في موضعه و استحقّ اسم الرجاء إذا كان في مظنّة أن يفوز بمقصده من ذلك الزّرع.

و من بذر في أرض كذلك إلّا أنّه بذر في اخريات النّاس و لم يبادر إليه في‏أوّل الأوقات أو قصر في بعض أسبابه مع حصول غالب الأسباب، ثمّ أخذ ينتظر ثمرة ذلك الزّرع و يرجو اللّه سبحانه في سلامة له فهو من جملة الرّاجين أيضا.

و من لم يحصل بذرا أو بذر في أرض سبخة أو صلبة غير قابلة للانبات، ثمّ أخذ ينتظر الحصاد فذلك الانتظار حمق فكان اسم الرجاء إنّما يصدق على انتظار ما حصل جميع أسبابه أو غالبها الداخلة تحت اختيار العبد و لم يبق إلّا ما لا يدخل تحت اختياره و هو فضل اللّه تعالى بصرف المضّار و المفسدات.

كذلك حال العبد إن بذر المعارف الالهية في قلبه في وقته و هو انف البلوغ و مبدء التكليف و دام على سقيه بماء الطاعات و اجتهد في تطهير نفسه عن شوك الأخلاق الردية التي تمنع نماء العلم و زيادة الايمان و انتظر من فضل اللّه أن يثبته على ذلك إلى زمان وصوله و حصاد عمله فذلك الانتظار هو الرجاء الحقيقي المحمود و هو درجة السّابقين.

و إن ألقى بذر الايمان في نفسه لكنه قصر في بعض الأسباب إما بتأخير في البذر أو تسامح في السقي في الجملة ثمّ أخذ ينتظر وقت الحصاد و يتوقع من فضل اللّه تعالى أن يبارك له و يعتمد عليه على أنه الرّزاق ذو القوة المتين فيصدق عليه أنه راج أيضا لحصول اكثر الأسباب.

و أما من لم يزرع من قواعد الايمان في قلبه شيئا أو زرع و لم يسقه بماء الطاعة أو لم يطهر نفسه من رزايل الأخلاق و اشتغل بالسّيئآت أو انهمك في الشهوات ثمّ انتظر المغفرة و الفضل من اللّه فانتظاره حمق و غرور.

قال سبحانه: «خلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى و يقولون سيغفر لنا» و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الأحمق من اتبع نفسه هواها و تمنّى على اللّه الجنّة،

قال الشّاعر:

إذا انت لم تزرع و عاينت حاصدا
ندمت على التفريط في زمن البذر

فأعظم الحمق و الاغترار التمادي
في الذنوب مع رجاء العفو من غير ندامة

و توقع القرب من اللّه تعالى بغير طاعة، و انتظار زرع الجنّة ببذر النّار و طلب دار المطيعين بالمعاصي و انتظار الجزاء بغير عمل و التمنّى على اللّه مع الافراط و التجرّي.

ترجو النّجاة و لم تسلك مسالكها إنّ السّفينة لا تجري على اليبس‏

الترجمة

و بدانيد اى مردمان كه عبور شما بر صراط است و بر محلّهاى لغزش اوست و خوفهاى لغزيدن اوست و هولهاى مكرر اوست، پس بپرهيزيد از خدا همچو پرهيز نمودن شخصى كه مشغول نمايد تفكر در معارف حقه قلب او را، و بر تعب اندازد ترس خدا بدن او را، و بيدار گردانيده باشد عبادت شب خواب اندك او را، و تشنه ساخته باشد رجاء بخدا روزهاى گرم او را.

مانع شده باشد زهد از شهوت آن و سرعت نمايد ذكر بزبان آن، و مقدم بدارد خوف را بجهة امن از عقوبت، و كناره‏جوئى كند از چيزهائى كه شاغلست از راه روشن هدايت، و سلوك نمايد در أعدل راهها بسوى منهج مطلوب كه عبارتست از ثواب و جزاء مرغوب، و صارف نشود صوارف نخوت و غرور، و پوشيده نشود بر او مشتبهات امور در حالتى كه فايز است بشادى بشارت و راحت نعمت در آسوده ترين خواب و ايمن‏ترين وقت.

بتحقيق كه گذشته باشد از گذرگاه دنيا در حالتى كه پسنديده است و مقدم داشته باشد توشه آخرت را در حالتى كه سعيد است، و شتافته است بعمل خير از ترس خداوندگار، و سرعت نموده است بكردار خوب در مهلت روزگار، و رغبت نموده در طلب خشنودى و رضاى پروردگار، و در رفته از باطل بجهة خوف از كردگار، و ملاحظه كرده در دنياى خود آخرت خود را، و نظر كرده در اول امر خود پيش روى خود را.

پس كفايت است بهشت از حيثيت عطا و ثواب، و كافيست جهنم از حيثيت عذاب و وبال، و كافيست خداوند در حالتى كه انتقام كشنده است و يارى كننده، و كافيست كتاب خدا در حالتى كه حجت آرنده است و خصومت كننده.

وصيت ميكنم شما را بپرهيزكارى خدا، آن خدائى كه عذر را زايل نمود از خود با آنچه كه ترسانيد خلايق را بآن از انواع عقوبات، و اقامه حجت نمود بر ايشان با آنچه كه روشن نمود از براهين و بينات، و ترسانيده شما را از دشمنى كه نفوذ كرد و روان شد در سينه ‏ها در حالتى كه پنهانست از نظر، و ديد در گوشها در حالتى كه نجوى كننده است بسر، پس گمراه كرد تابع خود را و بهلاكت انداخت و وعده كرد مطيع خود را.

پس آرزومند نمود و زينت داد بديهاى جرمها را در نظر او، و آسان كرد مهلكات معصيتها را در نزد او تا آنكه چون خدعه نمود قرين و همنشين خود را و بغلق انداخت و فرو بست رهين خود را انكار كرد آن چيزى را كه زينت داده بود در نظر او، و بزرگ شمرد آن چيز را كه آسان كرده بود در نزد او، و ترسانيد از آن چيزى كه ايمن كرده بود او را از آن.

و مقصود از همه اين تحذير است از مكايد شيطان لعين و از تدليسات آن عدوّ مبين كه انسان را بارتكاب معاصى جرى مي كند و بعد از ارتكاب از او تبرّى مى‏ نمايد.

بيت

غافل مشو كه مركب مردان راه را
در سنگلاخ وسوسه پى ‏ها بريده ‏اند

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 82/2 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)«الخطبة الغراء»

خطبه 83 صبحی صالح

83- و من خطبة له ( عليه‏ السلام ) و هي الخطبة العجيبة تسمى «الغراء»
و فيها نعوت اللّه جل شأنه،
ثم الوصية بتقواه
ثم التنفير من الدنيا،
ثم ما يلحق من دخول القيامة،
ثم تنبيه الخلق إلى ما هم فيه من الأعراض،
ثم فضله ( عليه ‏السلام ) في التذكير

صفته جل شأنه‏

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَلَا بِحَوْلِهِ
وَ دَنَا بِطَوْلِهِ
مَانِحِ كُلِّ غَنِيمَةٍ وَ فَضْلٍ
وَ كَاشِفِ كُلِّ عَظِيمَةٍ وَ أَزْلٍ
أَحْمَدُهُ عَلَى عَوَاطِفِ كَرَمِهِ
وَ سَوَابِغِ نِعَمِهِ
وَ أُومِنُ بِهِ أَوَّلًا بَادِياً
وَ أَسْتَهْدِيهِ قَرِيباً هَادِياً
وَ أَسْتَعِينُهُ قَاهِراً قَادِراً
وَ أَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ كَافِياً نَاصِراً
وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً ( صلى ‏الله ‏عليه‏ وآله )عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ
أَرْسَلَهُ لِإِنْفَاذِ أَمْرِهِ
وَ إِنْهَاءِ عُذْرِهِ
وَ تَقْدِيمِ نُذُرِهِ

الوصية بالتقوى‏

أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي ضَرَبَ الْأَمْثَالَ
وَ وَقَّتَ لَكُمُ الْآجَالَ
وَ أَلْبَسَكُمُ الرِّيَاشَ
وَ أَرْفَغَ لَكُمُ الْمَعَاشَ
وَ أَحَاطَ بِكُمُ الْإِحْصَاءَ
وَ أَرْصَدَ لَكُمُ الْجَزَاءَ
وَ آثَرَكُمْ بِالنِّعَمِ السَّوَابِغِ

وَ الرِّفَدِ الرَّوَافِغِ
وَ أَنْذَرَكُمْ بِالْحُجَجِ الْبَوَالِغِ
فَأَحْصَاكُمْ عَدَداً
وَ وَظَّفَ لَكُمْ مُدَداً
فِي قَرَارِ خِبْرَةٍ
وَ دَارِ عِبْرَةٍ
أَنْتُمْ مُخْتَبَرُونَ فِيهَا
وَ مُحَاسَبُونَ عَلَيْهَا
التنفير من الدنيا
فَإِنَّ الدُّنْيَا رَنِقٌ مَشْرَبُهَا
رَدِغٌ مَشْرَعُهَا
يُونِقُ مَنْظَرُهَا
وَ يُوبِقُ مَخْبَرُهَا
غُرُورٌ حَائِلٌ
وَ ضَوْءٌ آفِلٌ
وَ ظِلٌّ زَائِلٌ
وَ سِنَادٌ مَائِلٌ
حَتَّى إِذَا أَنِسَ نَافِرُهَا
وَ اطْمَأَنَّ نَاكِرُهَا
قَمَصَتْ بِأَرْجُلِهَا
وَ قَنَصَتْ بِأَحْبُلِهَا
وَ أَقْصَدَتْ بِأَسْهُمِهَا
وَ أَعْلَقَتِ الْمَرْءَ أَوْهَاقَ الْمَنِيَّةِ
قَائِدَةً لَهُ إِلَى ضَنْكِ الْمَضْجَعِ
وَ وَحْشَةِ الْمَرْجِعِ
وَ مُعَايَنَةِ الْمَحَلِّ
وَ ثَوَابِ الْعَمَلِ.
وَ كَذَلِكَ الْخَلَفُ بِعَقْبِ السَّلَفِ
لَا تُقْلِعُ الْمَنِيَّةُ اخْتِرَاماً
وَ لَا يَرْعَوِي الْبَاقُونَ اجْتِرَاماً
يَحْتَذُونَ مِثَالًا
وَ يَمْضُونَ أَرْسَالًا
إِلَى غَايَةِ الِانْتِهَاءِ وَ صَيُّورِ الْفَنَاءِ

بعد الموت البعث‏

حَتَّى إِذَا تَصَرَّمَتِ الْأُمُورُ
وَ تَقَضَّتِ الدُّهُورُ
وَ أَزِفَ النُّشُورُ
أَخْرَجَهُمْ مِنْ ضَرَائِحِ الْقُبُورِ
وَ أَوْكَارِ الطُّيُورِ
وَ أَوْجِرَةِ السِّبَاعِ
وَ مَطَارِحِ الْمَهَالِكِ
سِرَاعاً إِلَى أَمْرِهِ
مُهْطِعِينَ إِلَى مَعَادِهِ
رَعِيلًا صُمُوتاً
قِيَاماً صُفُوفاً
يَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ
وَ يُسْمِعُهُمُ‏ الدَّاعِي
عَلَيْهِمْ لَبُوسُ الِاسْتِكَانَةِ وَ ضَرَعُ الِاسْتِسْلَامِ وَ الذِّلَّةِ
قَدْ ضَلَّتِ الْحِيَلُ وَ انْقَطَعَ الْأَمَلُ وَ هَوَتِ الْأَفْئِدَةُ كَاظِمَةً
وَ خَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ مُهَيْنِمَةً
وَ أَلْجَمَ الْعَرَقُ
وَ عَظُمَ الشَّفَقُ
وَ أُرْعِدَتِ الْأَسْمَاعُ لِزَبْرَةِ الدَّاعِي
إِلَى فَصْلِ الْخِطَابِ
وَ مُقَايَضَةِ الْجَزَاءِ
وَ نَكَالِ الْعِقَابِ
وَ نَوَالِ الثَّوَابِ

تنبيه الخلق‏

عِبَادٌ مَخْلُوقُونَ اقْتِدَاراً
وَ مَرْبُوبُونَ اقْتِسَاراً
وَ مَقْبُوضُونَ احْتِضَاراً
وَ مُضَمَّنُونَ أَجْدَاثاً
وَ كَائِنُونَ رُفَاتاً
وَ مَبْعُوثُونَ أَفْرَاداً
وَ مَدِينُونَ جَزَاءً
وَ مُمَيَّزُونَ حِسَاباً
قَدْ أُمْهِلُوا فِي طَلَبِ الْمَخْرَجِ وَ هُدُوا سَبِيلَ الْمَنْهَجِ
وَ عُمِّرُوا مَهَلَ الْمُسْتَعْتِبِ
وَ كُشِفَتْ عَنْهُمْ سُدَفُ الرِّيَبِ
وَ خُلُّوا لِمِضْمَارِ الْجِيَادِ
وَ رَوِيَّةِ الِارْتِيَادِ
وَ أَنَاةِ الْمُقْتَبِسِ الْمُرْتَادِ فِي مُدَّةِ الْأَجَلِ وَ مُضْطَرَبِ الْمَهَلِ

فضل التذكير

فَيَا لَهَا أَمْثَالًا صَائِبَةً
وَ مَوَاعِظَ شَافِيَةً
لَوْ صَادَفَتْ قُلُوباً زَاكِيَةً
وَ أَسْمَاعاً وَاعِيَةً
وَ آرَاءً عَازِمَةً
وَ أَلْبَاباً حَازِمَةً
فَاتَّقُوا اللَّهَ تَقِيَّةَ مَنْ سَمِعَ فَخَشَعَ
وَ اقْتَرَفَ فَاعْتَرَفَ
وَ وَجِلَ فَعَمِلَ
وَ حَاذَرَ فَبَادَرَ
وَ أَيْقَنَ فَأَحْسَنَ
وَ عُبِّرَ فَاعْتَبَرَ
وَ حُذِّرَ فَحَذِرَ
وَ زُجِرَ فَازْدَجَرَ
وَ أَجَابَ فَأَنَابَ
وَ رَاجَعَ فَتَابَ
وَ اقْتَدَى‏فَاحْتَذَى
وَ أُرِيَ فَرَأَى
فَأَسْرَعَ طَالِباً
وَ نَجَا هَارِباً فَأَفَادَ ذَخِيرَةً
وَ أَطَابَ سَرِيرَةً
وَ عَمَّرَ مَعَاداً
وَ اسْتَظْهَرَ زَاداً لِيَوْمِ رَحِيلِهِ وَ وَجْهِ سَبِيلِهِ
وَ حَالِ حَاجَتِهِ وَ مَوْطِنِ فَاقَتِهِ
وَ قَدَّمَ أَمَامَهُ لِدَارِ مُقَامِهِ
فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ جِهَةَ مَا خَلَقَكُمْ لَهُ
وَ احْذَرُوا مِنْهُ كُنْهَ مَا حَذَّرَكُمْ مِنْ نَفْسِهِ
وَ اسْتَحِقُّوا مِنْهُ مَا أَعَدَّ لَكُمْ بِالتَّنَجُّزِ لِصِدْقِ مِيعَادِهِ
وَ الْحَذَرِ مِنْ هَوْلِ مَعَادِهِ

التذكير بضروب النعم‏

و منهاجَعَلَ لَكُمْ أَسْمَاعاً لِتَعِيَ مَا عَنَاهَا
وَ أَبْصَاراً لِتَجْلُوَ عَنْ عَشَاهَا
وَ أَشْلَاءً جَامِعَةً لِأَعْضَائِهَا
مُلَائِمَةً لِأَحْنَائِهَا فِي تَرْكِيبِ صُوَرِهَا وَ مُدَدِ عُمُرِهَا
بِأَبْدَانٍ قَائِمَةٍ بِأَرْفَاقِهَا
وَ قُلُوبٍ رَائِدَةٍ لِأَرْزَاقِهَا

فِي مُجَلِّلَاتِ نِعَمِهِ
وَ مُوجِبَاتِ مِنَنِهِ
وَ حَوَاجِزِ عَافِيَتِهِ
وَ قَدَّرَ لَكُمْ أَعْمَاراً سَتَرَهَا عَنْكُمْ
وَ خَلَّفَ لَكُمْ عِبَراً مِنْ آثَارِ الْمَاضِينَ قَبْلَكُمْ
مِنْ مُسْتَمْتَعِ خَلَاقِهِمْ
وَ مُسْتَفْسَحِ خَنَاقِهِمْ
أَرْهَقَتْهُمُ الْمَنَايَا دُونَ الْآمَالِ
وَ شَذَّبَهُمْ عَنْهَا تَخَرُّمُ الْآجَالِ
لَمْ يَمْهَدُوا فِي سَلَامَةِ الْأَبْدَانِ
وَ لَمْ يَعْتَبِرُوا فِي أُنُفِ الْأَوَانِ
فَهَلْ يَنْتَظِرُ أَهْلُ بَضَاضَةِ الشَّبَابِ إِلَّا حَوَانِيَ الْهَرَمِ
وَ أَهْلُ غَضَارَةِ الصِّحَّةِ إِلَّا نَوَازِلَ السَّقَمِ
وَ أَهْلُ مُدَّةِ الْبَقَاءِ إِلَّا آوِنَةَ الْفَنَاءِ
مَعَ قُرْبِ الزِّيَالِ
وَ أُزُوفِ الِانْتِقَالِ
وَ عَلَزِ الْقَلَقِ
وَ أَلَمِ الْمَضَضِ
وَ غُصَصِ الْجَرَضِ
وَ تَلَفُّتِ‏ الِاسْتِغَاثَةِ بِنُصْرَةِ الْحَفَدَةِ وَ الْأَقْرِبَاءِ وَ الْأَعِزَّةِ وَ الْقُرَنَاءِ
فَهَلْ دَفَعَتِ الْأَقَارِبُ
أَوْ نَفَعَتِ النَّوَاحِبُ
وَ قَدْ غُودِرَ فِي مَحَلَّةِ الْأَمْوَاتِ رَهِيناً
وَ فِي ضِيقِ الْمَضْجَعِ وَحِيداً
قَدْ هَتَكَتِ الْهَوَامُّ جِلْدَتَهُ
وَ أَبْلَتِ النَّوَاهِكُ جِدَّتَهُ
وَ عَفَتِ الْعَوَاصِفُ آثَارَهُ
وَ مَحَا الْحَدَثَانُ مَعَالِمَهُ
وَ صَارَتِ الْأَجْسَادُ شَحِبَةً بَعْدَ بَضَّتِهَا
وَ الْعِظَامُ نَخِرَةً بَعْدَ قُوَّتِهَا
وَ الْأَرْوَاحُ مُرْتَهَنَةً بِثِقَلِ أَعْبَائِهَا
مُوقِنَةً بِغَيْبِ أَنْبَائِهَا
لَا تُسْتَزَادُ مِنْ صَالِحِ عَمَلِهَا
وَ لَا تُسْتَعْتَبُ مِنْ سَيِّئِ زَلَلِهَا
أَ وَ لَسْتُمْ أَبْنَاءَ الْقَوْمِ وَ الْآبَاءَ وَ إِخْوَانَهُمْ وَ الْأَقْرِبَاءَ
تَحْتَذُونَ أَمْثِلَتَهُمْ
وَ تَرْكَبُونَ قِدَّتَهُمْ
وَ تَطَئُونَ جَادَّتَهُمْ
فَالْقُلُوبُ قَاسِيَةٌ عَنْ حَظِّهَا
لَاهِيَةٌ عَنْ رُشْدِهَا
سَالِكَةٌ فِي غَيْرِ مِضْمَارِهَا
كَأَنَّ الْمَعْنِيَّ سِوَاهَا
وَ كَأَنَّ الرُّشْدَ فِي إِحْرَازِ دُنْيَاهَا

التحذير من هول الصراط

وَ اعْلَمُوا أَنَّ مَجَازَكُمْ عَلَى الصِّرَاطِ وَ مَزَالِقِ دَحْضِهِ
وَ أَهَاوِيلِ زَلَلِهِ
وَ تَارَاتِ أَهْوَالِهِ
فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ تَقِيَّةَ ذِي لُبٍّ شَغَلَ التَّفَكُّرُ قَلْبَهُ
وَ أَنْصَبَ الْخَوْفُ بَدَنَهُ
وَ أَسْهَرَ التَّهَجُّدُ غِرَارَ نَوْمِهِ
وَ أَظْمَأَ الرَّجَاءُ هَوَاجِرَ يَوْمِهِ
وَ ظَلَفَ الزُّهْدُ شَهَوَاتِهِ
وَ أَوْجَفَ الذِّكْرُ بِلِسَانِهِ
وَ قَدَّمَ الْخَوْفَ لِأَمَانِهِ
وَ تَنَكَّبَ الْمَخَالِجَ عَنْ وَضَحِ السَّبِيلِ
وَ سَلَكَ أَقْصَدَ الْمَسَالِكِ إِلَى‏النَّهْجِ الْمَطْلُوبِ
وَ لَمْ تَفْتِلْهُ فَاتِلَاتُ الْغُرُورِ
وَ لَمْ تَعْمَ عَلَيْهِ مُشْتَبِهَاتُ الْأُمُورِ
ظَافِراً بِفَرْحَةِ الْبُشْرَى
وَ رَاحَةِ النُّعْمَى
فِي أَنْعَمِ نَوْمِهِ
وَ آمَنِ يَوْمِهِ
وَ قَدْ عَبَرَ مَعْبَرَ الْعَاجِلَةِ حَمِيداً
وَ قَدَّمَ زَادَ الْآجِلَةِ سَعِيداً
وَ بَادَرَ مِنْ وَجَلٍ
وَ أَكْمَشَ فِي مَهَلٍ
وَ رَغِبَ فِي طَلَبٍ
وَ ذَهَبَ عَنْ هَرَبٍ
وَ رَاقَبَ فِي يَوْمِهِ غَدَهُ
وَ نَظَرَ قُدُماً أَمَامَهُ
فَكَفَى بِالْجَنَّةِ ثَوَاباً وَ نَوَالًا
وَ كَفَى بِالنَّارِ عِقَاباً وَ وَبَالًا
وَ كَفَى بِاللَّهِ مُنْتَقِماً وَ نَصِيراً
وَ كَفَى بِالْكِتَابِ حَجِيجاً وَ خَصِيماً

الوصية بالتقوى‏

أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي أَعْذَرَ بِمَا أَنْذَرَ
وَ احْتَجَّ بِمَا نَهَجَ
وَ حَذَّرَكُمْ عَدُوّاً نَفَذَ فِي الصُّدُورِ خَفِيّاً
وَ نَفَثَ فِي الْآذَانِ نَجِيّاً فَأَضَلَّ وَ أَرْدَى
وَ وَعَدَ فَمَنَّى
وَ زَيَّنَ سَيِّئَاتِ الْجَرَائِمِ
وَ هَوَّنَ مُوبِقَاتِ الْعَظَائِمِ
حَتَّى إِذَا اسْتَدْرَجَ قَرِينَتَهُ
وَ اسْتَغْلَقَ رَهِينَتَهُ
أَنْكَرَ مَا زَيَّنَ
وَ اسْتَعْظَمَ مَا هَوَّنَ
وَ حَذَّرَ مَا أَمَّنَ

و منها في صفة خلق الإنسان‏

أَمْ هَذَا الَّذِي أَنْشَأَهُ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْحَامِ
وَ شُغُفِ الْأَسْتَارِ
نُطْفَةً دِهَاقاً
وَ عَلَقَةً مِحَاقاً
وَ جَنِيناً وَ رَاضِعاً وَ وَلِيداً وَ يَافِعاً
ثُمَّ مَنَحَهُ قَلْباً حَافِظاً
وَ لِسَاناً لَافِظاً
وَ بَصَراً لَاحِظاً
لِيَفْهَمَ مُعْتَبِراً
وَ يُقَصِّرَ مُزْدَجِراً
حَتَّى إِذَا قَامَ اعْتِدَالُهُ
وَ اسْتَوَى‏مِثَالُهُ
نَفَرَ مُسْتَكْبِراً
وَ خَبَطَ سَادِراً
مَاتِحاً فِي غَرْبِ هَوَاهُ
كَادِحاً سَعْياً لِدُنْيَاهُ فِي لَذَّاتِ طَرَبِهِ وَ بَدَوَاتِ أَرَبِهِ
ثُمَّ لَا يَحْتَسِبُ رَزِيَّةً
وَ لَا يَخْشَعُ تَقِيَّةً
فَمَاتَ فِي فِتْنَتِهِ غَرِيراً
وَ عَاشَ فِي هَفْوَتِهِ يَسِيراً
لَمْ يُفِدْ عِوَضاً
وَ لَمْ يَقْضِ مُفْتَرَضاً
دَهِمَتْهُ فَجَعَاتُ الْمَنِيَّةِ فِي غُبَّرِ جِمَاحِهِ
وَ سَنَنِ مِرَاحِهِ
فَظَلَّ سَادِراً
وَ بَاتَ سَاهِراً فِي غَمَرَاتِ الْآلَامِ
وَ طَوَارِقِ الْأَوْجَاعِ وَ الْأَسْقَامِ
بَيْنَ أَخٍ شَقِيقٍ
وَ وَالِدٍ شَفِيقٍ
وَ دَاعِيَةٍ بِالْوَيْلِ جَزَعاً
وَ لَادِمَةٍ لِلصَّدْرِ قَلَقاً
وَ الْمَرْءُ فِي سَكْرَةٍ مُلْهِثَةٍ وَ غَمْرَةٍ كَارِثَةٍ
وَ أَنَّةٍ مُوجِعَةٍ
وَ جَذْبَةٍ مُكْرِبَةٍ
وَ سَوْقَةٍ مُتْعِبَةٍ
ثُمَّ أُدْرِجَ فِي أَكْفَانِهِ مُبْلِساً
وَ جُذِبَ مُنْقَاداً سَلِساً
ثُمَّ أُلْقِيَ عَلَى الْأَعْوَادِ رَجِيعَ وَصَبٍ
وَ نِضْوَ سَقَمٍ
تَحْمِلُهُ حَفَدَةُ الْوِلْدَانِ
وَ حَشَدَةُ الْإِخْوَانِ إِلَى دَارِ غُرْبَتِهِ وَ مُنْقَطَعِ زَوْرَتِهِ وَ مُفْرَدِ وَحْشَتِهِ
حَتَّى إِذَا انْصَرَفَ الْمُشَيِّعُ
وَ رَجَعَ الْمُتَفَجِّعُ
أُقْعِدَ فِي حُفْرَتِهِ نَجِيّاً لِبَهْتَةِ السُّؤَالِ
وَ عَثْرَةِ الِامْتِحَانِ
وَ أَعْظَمُ مَا هُنَالِكَ بَلِيَّةً نُزُولُ الْحَمِيمِ
وَ تَصْلِيَةُ الْجَحِيمِ
وَ فَوْرَاتُ السَّعِيرِ
وَ سَوْرَاتُ الزَّفِيرِ
لَا فَتْرَةٌ مُرِيحَةٌ
وَ لَا دَعَةٌ مُزِيحَةٌ
وَ لَا قُوَّةٌ حَاجِزَةٌ
وَ لَا مَوْتَةٌ نَاجِزَةٌ

وَ لَا سِنَةٌ مُسَلِّيَةٌ
بَيْنَ أَطْوَارِ الْمَوْتَاتِ
وَ عَذَابِ السَّاعَاتِ
إِنَّا بِاللَّهِ عَائِذُونَ
عِبَادَ اللَّهِ أَيْنَ الَّذِينَ عُمِّرُوا فَنَعِمُوا
وَ عُلِّمُوا فَفَهِمُوا
وَ أُنْظِرُوا فَلَهَوْا
وَ سُلِّمُوا فَنَسُوا
أُمْهِلُوا طَوِيلًا
وَ مُنِحُوا جَمِيلًا
وَ حُذِّرُوا أَلِيماً
وَ وُعِدُوا جَسِيماً
احْذَرُوا الذُّنُوبَ الْمُوَرِّطَةَ
وَ الْعُيُوبَ الْمُسْخِطَةَ
أُولِي الْأَبْصَارِ وَ الْأَسْمَاعِ
وَ الْعَافِيَةِ وَ الْمَتَاعِ
هَلْ مِنْ مَنَاصٍ أَوْ خَلَاصٍ
أَوْ مَعَاذٍ أَوْ مَلَاذٍ
أَوْ فِرَارٍ أَوْ مَحَارٍ أَمْ لَا
فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ‏
أَمْ أَيْنَ تُصْرَفُونَ
أَمْ بِمَا ذَا تَغْتَرُّونَ
وَ إِنَّمَا حَظُّ أَحَدِكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ذَاتِ الطُّوْلِ وَ الْعَرْضِ قِيدُ قَدِّهِ
مُتَعَفِّراً عَلَى خَدِّهِ
الْآنَ عِبَادَ اللَّهِ وَ الْخِنَاقُ مُهْمَلٌ
وَ الرُّوحُ مُرْسَلٌ فِي فَيْنَةِ الْإِرْشَادِ
وَ رَاحَةِ الْأَجْسَادِ
وَ بَاحَةِ الِاحْتِشَادِ
وَ مَهَلِ الْبَقِيَّةِ
وَ أُنُفِ الْمَشِيَّةِ
وَ إِنْظَارِ التَّوْبَةِ
وَ انْفِسَاحِ الْحَوْبَةِ
قَبْلَ الضَّنْكِ وَ الْمَضِيقِ وَ الرَّوْعِ وَ الزُّهُوقِ
وَ قَبْلَ قُدُومِ الْغَائِبِ الْمُنْتَظَرِ
وَ إِخْذَةِ الْعَزِيزِ الْمُقْتَدِرِ
قال الشريف و في الخبر أنه لما خطب بهذه الخطبة اقشعرت لها الجلود
و بكت العيون و رجفت القلوب
و من الناس من يسمي هذه الخطبة الغراء

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج5  

الفصل الرابع

عباد مخلوقون اقتدارا، و مربوبون اقتسارا، و مقبوضون احتضارا، و مضمّنون أجداثا، و كائنون رفاتا، و مبعوثون أفرادا، و مدينون جزاء، و مميّزون حسابا، قد أمهلوا في طلب المخرج، و هدوا سبيل المنهج، و عمّروا مهل المستعتب، و كشفت عنهم سدّف الرّيب، و خلّوا لمضمار الجياد، و رويّة الارتياد، و أناة المقتبس المرتاد، في مدّة الأجل، و مضطرب المهل، فيا لها أمثالا صائبة، و مواعظ شافية، لو صادفت قلوبا زاكية، و أسماعا واعية، و آرآء عازمة، و ألبابا حازمة، فاتّقوا اللّه تقيّة من سمع فخشع، و اقترب فاعترف، و وجل فعمل، و حاذر فبادر، و أيقن فأحسن، و عبّرفاعتبر، و حذّر فازدجر، و أجاب فأناب، و راجع فتاب، و اقتدى فاحتذى، و أري فرأى، فأسرع طالبا، و نجا هاربا، فأفاد ذخيرة، و أطاب سريرة، و عمر معادا، و استظهر زادا، ليوم رحيله، و وجه سبيله، و حال حاجته، و موطن فاقته، و قدّم أمامه لدار مقامه، فاتّقوا اللّه عباد اللّه جهة ما خلقكم له، و احذروا منه كنه ما حذّركم من نفسه، و استحقّوا منه ما أعدّ لكم بالتّنجّز لصدق ميعاده، و الحذر من هول معاده.

اللغة

(قسره) على الأمر قسرا من باب ضرب قهره و اقتسره كذلك و (حضره) الموت و احتضره اشرف عليه فهو في النّزع و هو محضور و محتضر بالفتح.
قال الطريحي: و في الحديث ذكر الاحتضار و هو السوق سمّي به قيل لحضور الموت و الملائكة الموكلين به و إخوانه و أهله عنده، و فلان محتضر أى قريب من الموت و منه إذا احتضر الانسان وجه يعنى جهة القبلة و (الاجداث) جمع الجدث كأسباب و سبب و هو القبر و هذه لغة أهل تهامة و أمّا أهل نجد فيقولون جدف بالفاء و (الرفات) كالفتات بالضّم لفظا و معنا و هو ما تناشر من كلّ شي‏ء و (المنهج) كالنهج و المنهاج الطريق الواضح و (العتبى) بالضّم الرّضا و استعتبه أعطاه العتبى كأعتبه و طلب إليه العتبى من الأضداد.
قال الفيومي عتب عليه عتبا من بابي ضرب و قتل لامه في تسخط و أعتبني الهمزة للسبب أى أزال الشكوى و العتاب و استعتب طلب الاعتاب و العتبى اسم من الاعتاب و (السّدف) جمع سدفة، كغرفة و غرف و هي الظلمة و (ضمر) الفرس ضمورا من‏ باب قعد و ضمر ضمرا من باب قرب قلّ لحمه و هزل، و ضمرته و أضمرته أعددته للسباق و هو أن تعلفه قوتا بعد السّمن أى يعلف حتّى يسمن ثمّ يرد إلى قوته الأوّل ليخفّ لحمه و ذلك في أربعين يوما، و المضمار الموضع الذي تضمر فيه الخيل.

و (الرّوية) الفكر و التّدبر و هي كلمة جرت على ألسنتهم بغير همز تخفيفا و هي من روأت في الأمر بالهمز أى نظرت فيه و (الارتياد) الطلب و (تأنّى) في الأمر تمكث و لم يعجل و الاناة و زان حصاة اسم منه و (المقتبس) كالقابس هو طالب العلم و النار و (صاب) السّهم الغرض صوبا من باب قال و صابه يصيبه من باب باع كأصابه وصل الغرض و ما أخطاه، و في المثل و في الخواطي سهم صائب و (حزم) فلان رأيه حزما أتقنه و (التقية) كالتّقوى اسم من اتقيت اللّه اتقاء و (اقترف) لأهله اقترافا اكتسب من مال حلال أو حرام و (حذر) الشّي‏ء و حاذره خافه.

و يحتمل أن يراد من حاذر كثرة الخوف بناء على أن زيادة المبنى تدلّ على زيادة المعنى و (عبر) أى أرى العبر كثيرا بناء على أنّ التّشديد دليل المبالغة و (زجره) زجرا منعه و نهاه كازدجر فانزجر و ازدجر فازدجر يستعمل مطاوع ازدجر و هو غريب و (أفاد) المال استفاده و أعطاه و هو من الأضداد و (استظهرت) به استعنت و (المقام) بضمّ الميم مصدر كالاقامة يقال قام بالمكان اقامة و مقاما و (كنه) الشّي‏ء حقيقته و غايته و نهايته يقال عرفته كنه المعرفة.

و (نجز) الوعد نجزا من باب قتل تعجل و النّجز مثل قفل اسم منه و يعدّى بالهمزة و الحرف فيقال أنجزته و نجزت به إذا أعجلته و استنجز حاجته و تنجّزها طلب قضاءها ممّن وعده إيّاها.

الاعراب

عباد خبر مبتداء محذوف، و اقتدارا و اقتسارا منصوبان على التّميز، و احتضارا منصوب على الحال المؤكدة من قبيل قوله ولّى مدبرا فيئول بالمشتقّ أى مقبوضون محتضرين، مثل قولهم اجتهد وحدك أى منفردا، و أجداثا مفعول فيه و هو و إن لم يكن من ظروف المكان المبهمة أعنى الجهات السّت و ما أشبهها من عند ولدي‏ و نحوهما إلا أنّه قد انتصب بفي مقدّرة لما في الكلام من معنى الاستقرار كما قال الرّضىّ.

و أما انتصاب نحو قعدت مقعده و جلست مكانه و نمت مبيته فلكونه متضمّنا لمصدر معناه الاستقرار في ظرف فمضمونه مشعر بكونه ظرفا لحدث بمعنى الاستقرار كما أنّ نفسه ظرف لمضمونه بخلاف نحو المضرب و المقتل فلا جرم لم ينصبه على الظرفية إلّا ما فيه معنى الاستقرار اه، و إفرادا منصوب على الحال كانتصاب فردا في قوله تعالى: وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً.

و جزاء مصدر على غير لفظ فعله و حسابا منصوب بنزع الخافض و ما قاله البحرانى من انه مصدر منصوب بغير فعله ليس بشي‏ء و في طلب المخرج في للظرفيّة المجازية كما في قولهم في نفس المؤمنة مأئة من الابل أى في قتلها، فالسّبب الذى هو القتل متضمّن للدّية تضمّن الظرف للمظروف، و هذه هي التي يقال إنّها للسّببية.

و مهل المستعتب بحذف الموصوف مفعول مطلق مجازي من غير المصادر أى امهلوا و عمروا مثل مهل المستعتب، و ما توهّمه الشّارح البحراني من أنّه مصدر فاسد، و قوله في مدّة الأجل متعلق بقوله خلوا، و قوله فيا لها أمثالا صائبة منادي تفخيم و تعجّب، و انتصاب أمثالا على التميز من الضمير المبهم.

قال الرّضيّ في باب التميز من شرح الكافية: و قد يكون الاسم في نفسه تاما لا لشي‏ء آخر أعنى لا يجوز إضافته فينصب عنه التميز و ذلك في شيئين: أحدهما الضمير و هو الأكثر و ذلك في الأغلب فيما فيه معنى المبالغة و التفخيم كمواضع التعجّب نحو يا له رجلا و يالها قصّة و يا لك ليلا إلى آخر ما قال، و ذخيرة و سريرة منصوبان على المفعول به.

و قوله: جهة ما خلقكم اه قال الشّارح المعتزلي نصب جهة بفعل مقدّر تقديره و اقصدوا جهة ما خلقكم له يعنى العبادة فحذف الفعل و استغنى عنه بقوله‏ فاتّقوا اللّه لأنّ التّقوى ملازمة لقصد المكلّف العبادة فدلّت عليه و استغنى بها عن إظهاره.
قيل و يجوز انتصابها على الظرفية أى اجعلوا تقواكم فى تلك الجهة أى نظرا إلى تلك الجهة لا للرّياء و السمعة، و الحذر بالجرّ عطف على التّنجّز.

المعنى

اعلم أنّ هذا الفصل مسوق لشرح حال النّاس و الكشف عن أوصافهم و التّنبيه على ما خلقوا لأجله و ما يصير أمرهم إليه و استدرج ذلك بمواعظ شافية و نصايح وافية، و المقصود بذلك كلّه تنبّههم عن نوم الغفلة و الجهالة و افاقتهم من سكر الحيرة و الضّلالة.
فقوله (عباد مخلوقون اقتدارا) يعني أنّ النّاس الذين شرحنا حالهم و ذكرنا كيفيّة حشرهم و معادهم هم عباد خلقهم اللّه سبحانه من قدرته التّامّة الكاملة و حكمته الجامعة البالغة و ليس خلقهم لذواتهم و من اتّصف بذلك لا يجوز له العصيان لخالقه و بارئه.

(و مربوبون اقتسارا) أى مملوكون من قهر و غلبة و ربّاهم اللّه سبحانه من صغرهم إلى كبرهم لا عن اختيار منهم حتّى يكون لهم الخيرة في معصية ربّهم و مالكهم (و مقبوضون احتضارا) أى مقبوضون بالموت محتضرين إلى حضرة ذي العزّة فيجازيهم بالحسنة و السّيئة (و مضمّنون أجداثا) أى في قبور هي دار الوحدة و الوحشة (و كائنون رفاتا) و عظاما فتاتا أى أجزاء شتاتا (و مبعوثون افرادا) أى وحدانا لا مال لهم و لا ولد كما فسّر بذلك قوله تعالى: وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى‏ كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَ ما نَرى‏ مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ.

قال في مجمع البيان: أى جئتمونا وحدانا لا مال لكم و لا خول و لا ولد و لا حشم و قيل واحدا واحدا عليحده و قيل كلّ واحد منكم منفردا من شريكه في الغيّ و شفيقه كما خلقناكم أوّل مرّة أى خلقناكم في بطون امّهاتكم لا ناصر لكم و لا معين و قيل معناه ما روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: تحشرون حفاتا عراتا عزلا، و العزل هم الغلف.

و روى إنّ عايشة قالت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين سمعت ذلك: و اسوأتاه ينظر بعضهم إلى سوءة بعض من الرّجال و النّساء قال: صلّى اللّه عليه و آله: لكلّ امرء منهم يومئذ شأن يغنيه و يشغل بعضهم عن بعض.

و تركتم ما خوّلناكم وراء ظهوركم، معناه تركتم ما ملّكناكم في الدّنيا ممّا كنتم تتباهون به من الأموال خلف ظهوركم، و المراد تركتم الأموال في الدّنيا و حملتم من الذّنوب الأحمال و استمتع غيركم بما خلفتم و حوسبتم عليه فيا لها حسرة (و مدينون جزاء) أى مجزيّون بأعمالهم جزاء إن خيرا فخيرا و إن شرّا فشرّا.

مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى‏ إِلَّا مِثْلَها وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ.
(و مميزون حسابا) أى في حساب يعني بتميّز المؤمن من المجرم و التقيّ من الشّقيّ و الجيّد من الرّديّ في يوم الحساب و مقام المحاسبة كما قال سبحانه: وَ امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ.
أي اعتزلوا من أهل الجنّة و كونوا فرقة على حدة.

نقل أنّه إذا جمع اللّه الخلق يوم القيامة بقوا قياما على أقدامهم حتّى يلجمهم العرق فينادون يا ربّنا حاسبنا و لو إلى النار فيبعث اللّه رياحا فتضرب بينهم و ينادى مناد: و امتازوا اليوم أيّها المجرمون، فتميّز بينهم فصار المجرمون إلى النار و من كان فى قلبه ايمان صار إلى الجنّة.

(قد امهلوا في طلب المخرج) يعنى أنّ اللّه سبحانه أمهلهم في دار الدّنيا لطلب نجاتهم و خلاصهم من الظلمات إلى النور و خروجهم من الضلالة إلى السداد و من الغواية إلى الرشاد (و هدوا سبيل المنهج) أى هداهم اللّه تعالى بما جعل لهم من العقول و بعث إليهم من الأنبياء و الرّسل إلى المنهج القويم و الصّراط المستقيم الموصل لسالكه إلى حظيرة القدس و جنّة الفردوس.

(و عمرو امهل المستعتب) يعني أعطاهم اللّه العمرو أمهلهم في الدّنيا مثل مهل من يطلب رضائه و اعتابه أى إزالة اللّوم و الشكوى عنه و لما كان من يطلب إزالة اللّوم عنه و يقصد رجوعه عن غيّه بمهل طويلا و يداري شبّه عليه السّلام مهلة اللّه لخلقه مدّة أعمارهم ليرجعوا إلى طاعته و يعملوا صالحا بذلك فافهم جيّدا.

(و كشفت عنهم سدف الرّيب) أى ازيلت عنهم ظلمات الشّكوكات و الشّبهات بما منحهم اللّه من العقول مؤيدا بالرّسل (و خلّو المضمار الجياد) أى خلاهم اللّه و تركهم في الدّنيا ليضمروا أنفسهم و يستعدّوا السّباق في الآخرة كما يترك الجياد من الخيل في المضمار و تضمر ليحصل لها الاستعداد للمسابقة و يحاز بها قصب السّبق و يؤخذ بها السّبق.

و في الاتيان بلفظة الجياد تنبيه على أن يكونوا من جياد مضمارهم و قد مرّ توضيح تشبيه الدّنيا بالمضمار في شرح الخطبة السابعة و العشرين فليراجع (و) كذلك خلّوا ل (روية الارتياد و أناة المقتبس المرتاد) أى للتّفكر في طلب الحق و ليتأنوا أناة المتعلّم للعلوم الحقّة المحتاج في تعلّمه إلى التأنّي و المهلة الطالب للأنوار الالهيّة ليهتدى بها في ظلمات الجهل و الغفلة (في مدّة الأجل) الذي عيّنه سبحانه لهم (و مضطرب المهل) الذي قدّر في حقّهم.

ثمّ نبّه عليه السّلام على كمال كلامه و فضل موعظته و عرّض على عدم القلوب الحاملة لها بقوله (فيا لها أمثالا صائبة و مواعظ شافية) أى أمثالا مطابقة لممثلاتها متّصفة بالصّواب خالية عن الخطاء و مواعظ شافية لأمراض الجهل مبرئة عن آلام الهوى (لو صادفت) تلك الأمثال و المواعظ (قلوبا) طاهرة (زاكية و أسماعا) حافظة (واعية) أى قلوبا مستعدّة لقبول الهداية و أسماعا قابلة لحفظ النّصيحة (و آراء عازمة) قاصدة على الرّشد و السّداد (و ألبابا حازمة) متقنة لما فيه الصّلاح و الرّشاد.

و عن معاني الأخبار: الحزم أن تنتظر فرصتك و تعاجل ما أمكنك.

و في الحديث: الحزم بضاعة و التّواني اضاعة و فيه: الظفر بالحزم و الحفر «الحزم ظ» باجالة الرّأى و الرأى بتحصين الأسرار.
قال بعض شرّاح الحديث أشار إلى أسباب الظفر القريب و المتوسّط و البعيد فالحزم أن تقدم العمل للحوادث الممكنة قبل وقوعها بما هو أبعد عن الغرور و أقرب إلى السّلامة، و هو السبب الأقرب للظفر بالمطالب و المتوسط هو إجالة الرّأى و إعماله في تحصيل الوجه الأحزم و هو سبب أقرب للحزم، و الأبعد هو اسرار ما يطلب و هو سبب أقرب للرّأى الصّالح إذ قلّ ما يتمّ رأى و يظفر بمطلوب مع ظهور إرادته، هذا.
و في رواية الحزم في القلب و الرّحمة و الغلظ في الكبد، و الحياء في الرّية.

ثمّ إنّه عليه السّلام بعد التّنبيه على فضل موعظته و الاشارة إلى أسباب قبول الموعظة حثّ على التّقوى أيضا و رغّب فيها لكونها الغرض الأصلي من هذه الخطبة فقال.
(فاتّقوا اللّه) تقيّة مثل (تقيّة من سمع) نداء اللّه (فخشع) قلبه للّه (و اقترف) الاثم و الشّقاء (فاعترف) بالتّقصير و الخطاء (و وجل) العقبى (فعمل) الحسنى (و حاذر) العقوبة (فبادر) المثوبة (و أيقن) أجله (فأحسن) عمله (و عبّر) بما فيه اتّعاظ و اعتبار (فاعتبر) و حصل له انابة و انزجار (و حذر) بالسّخط و النّكال (فازدجر) و انزجر عن سوء الأعمال (و أجاب) دعوة الدّاع إذا دعاه (فأناب) إلى ربّه حين ناداه (و راجع) عقله و تفكر (فتاب) عمّا فرط و قصر (و اقتدى) بالأنبياء و المرسلين (فاحتذى) حذ و عباد اللّه المتّقين (وارى) الآيات في الآفاق و الأنفس (فرأى) الحقيقة بعيان الحس.

(فأسرع) إلى الخير (طالبا) راغبا (و نجى) من الشرّ (هاربا) راهبا(فافاد ذخيرة) لسلوك سبيل الرّحمن (و أطاب سريرة) من الرّجس و دنس الشّيطان (و عمر معادا) بصالح الأعمال (و استظهر زادا) من التّقى و مكارم الخصال (ليوم رحيله) من الدّنيا (و وجه سبيله) إلى العقبى (و حال حاجته) في الحشر و المعاد (و مواطن فاقته) يوم التّاد (و قدم) التّقوى (أمامه) ليكون عدّة (لدار) مقيله و (مقامه فاتّقوا اللّه) سبحانه يا (عباد اللّه) و اقصدوا (جهة ما خلقكم له) من تحصيل العرفان و اليقين و تكميل الاخلاص في الدّين كما قال عزّ من قائل وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.

(و احذروا منه كنه ما حذّركم من نفسه) بقوله: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ و قوله: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ.

(و استحقّوا منه) تعالى (ما أعدّ) ه (لكم) و هيأه في حقّكم و يشير به بقوله لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ.

و استحقاق ذلك إمّا (بالتّنجزّ لصدق ميعاده) أي بطلب انجاز وعده الصّادق و التماس وفائه بالجزاء اللائق، و ذلك الطلب إنّما هو بعد الاقبال بالطاعات و الاجتهاد في إتيان الصّالحات (و) إمّا با (الحذر من هول معاده) و هو إنّما يكون بالارتداع من الخطيئات و الازدجار عن السّيئآت، وفّقنا اللّه سبحانه للاقبال و الابتهال و للانتهار و الانزجار و أنّى لنا بذلك مع ما نحن عليه من الاغترار بالدّنيا و لذّاتها و الافتتان‏ بشهواتها.

كانّا نرى أن لا نشور و أنّنا
سدى مالنا بعد الفناء بصائر

ألا لا و لكنّا نغرّ نفوسنا
و تشغلنا اللذّات عمّا نحاذر

و كيف يلذّ العيش من هو موقن
بموقف عدل حين تبلى السرائر

الترجمة

ايشان بندگانند مخلوق شده از روى قدرت فاعل مختار، و مملوك از روى قهر و جبر بى‏اختيار، و قبض كرده شده در حالتى كه محتضرند و مرتحل بدار قرار، و نهاده شده‏اند در درون قبور و گرديده‏اند اجزاء متفرّقه چون هباء منثور، و مبعوث شده‏اند در حالتى كه منفردند از أهل و مال، و جزا داده شده‏اند جزا دادنى بحسب اعمال، و تميز داده شده‏اند در مقام حساب ربّ الأرباب.

بتحقيق كه مهلت داده شده‏اند در دنيا بجهة طلب خروج از ظلمت جهالت و راه نموده شده‏اند براه راست رشادت و معمّر شده‏اند و مهلت داده شده همچو مهلت كسى كه طلب كننده باشد رضا و ازاله ملامت حضرت عزّت را از خود بتوبه و انابت و زايل گردانيده شده است از ايشان ظلمات شك و گمان با بيّنه و برهان، و واگذاشته شده‏اند در دنيا از براى رياضت دادن نفس أمّاره بواسطه حمل كردن بأسباب تقوى و أثقال طاعت چون رياضت دادن و لاغر نمودن اسبهاى خوب از براى سبقت در ميدان مسابقت.

و همچنين واگذاشته شده‏اند از براى تفكّر در طلب حق و از براى تأنّى كردن همچو تأنّي كردن طالب نور الهى بتحصيل سعادت و جوينده آن بكسب كمالات در مدت اجلى كه معين شده است بر ايشان و محل اضطراب مهلتى كه مقدر شده است در حقّ ايشان، پس أ يقوم تعجب نمائيد از اين پندها از حيثيت مثلهاى موصوفه بدرستى و صواب و نصيحتهاى شفا دهنده بأمراض ناداني و جهالت اگر برسد بقلوب متّصفه بجودت و ذكاوت، و بگوشهاى حفظ كننده نصيحت، و برأيهاى صاحب عزم و علوّ همت، و بعقلهاى صاحب حزم و بلند مرتبت.

پس بپرهيزيد از خدا همچو پرهيز نمودن كسى كه شنيد امر خدا را پس فروتنى نمود بخدا و كسب گناه كرد پس اعتراف بتقصير نمود و ترسيد از آخرت پس عمل شايسته نمود و حذر نمود از عقوبت پس بشتافت بسوى طاعت، و يقين كرد بأجل پس نيكو كرد عمل را و عبرت داده شد پس قبول عبرت نمود و ترسانيده شد از عذاب و سخط پس منزجر شد از معصيت و إجابت نمود دعوت را پس رجوع نمود بزبان معذرت، و مراجعه نمود به عقل خود پس توبه كرد از خطيئت و اقتدا نمود بأنبياء و مرسلين پس تابع شد بسلف صالحين.
و نموده شد به وى آيات قدرت پس معرفت رساند بحقيقت پس سرعت كرد بسوى خير در حالتى كه طالب و راغب بود و نجات يافت از شر در حالتى كه گريزان و هارب بود، پس كسب نمود ذخيره را از براى سلوك سبيل رحمان، و پاكيزه نمود باطن خود را از رجس و شرك شيطان، و معمور نمود معاد خود را بصالح اعمال، و پشت قوى كرد بتوشه برداشتن از تقوى و محاسن خصال از براى رحلت خود در دنيا و جهت راه خود به عقبى و براى حال احتياج خود و موضع درويشى خود و فرستاد پيش از خود توشه طاعت از براى سراى اقامت.

پس بپرهيزيد از خدا اى بندگان خدا، و قصد نمائيد جهت آنچه را كه خلق نمود شما را از براى آن كه عبارت است از تحصيل معرفت و عبادت با اخلاص نيّت، و بترسيد از خدا بنهايت آنچه ترسانيد شما را از نفس خود و استحقاق پيدا كنيد از او آن چيزى را كه مهيا كرده است از براى شما با طلب وفا نمودن مر وعده صادق او را و با حذر نمودن از هول معاد او.
و معلوم است كه اين طلب وفا و اين حذر متصوّر نمى‏شود مگر با اقبال بطاعات، و با ارتداع از سيئات، اللهمّ وفّقنا بحقّ محمّد سيد السادات.

الفصل الخامس

جعل لكم أسماعا لتعي ما عناها، و أبصارا لتجلو عن عشاها، و أشلاء جامعة لأعضائها، ملائمة لأحنائها، في تركيب صورها، و مدد عمرها، بأبدان قائمة بأرفاقها، و قلوب رائدة لأرزاقها، في مجلّلات نعمه، و موجبات مننه، و حواجز عافيته، و قدّر لكم أعمارا سترها عنكم، و خلّف لكم عبرا من آثار الماضين قبلكم من مستمتع خلاقهم، و مستفسح خناقهم، أرهقتهم المنايا دون الآمال، و شذّبهم عنها تخرّم الآجال، لم يمهّدوا في سلامة الأبدان، و لم يعتبروا في أنف الأوان، فهل ينتظر أهل بضاضة الشّباب إلّا حواني الهرم، و أهل غضارة الصّحّة إلّا نوازل السّقم، و أهل مدّة البقاء إلّا آونة الفناء مع قرب الزّيال، و أزوف الانتقال، و علز القلق، و ألم المضض، و غصص الجرض، و تلفّت الإستغاثة بنصرة الحفدة و الأقرباء، و الأعزّة و القرناء، فهل دفعت الأقارب أو نفعت النّواحب و قد غودر في محلّة الأموات رهينا، و في ضيق المضجع وحيدا، قد هتكت الهوامّ جلدته، و أبلت النّواهك جدّته، و عفت العواصف آثاره، و محى الحدثان معالمه، و صارت الأجساد شحبة بعد بضّتها، و العظام نخرة بعد قوّتها، و الأرواح مرتهنة بثقل أعبائها، موقنة بغيب أنبائها، لا تستزاد من صالح عملها، و لا تستعتب من سيّى‏ء زللها، أ و لستم أبناء القوم‏ و الآباء و إخوانهم و الأقرباء تحتذون أمثلتهم، و تركبون قدّتهم و تطاون جادّتهم، فالقلوب قاسية عن حظّها، لاهية عن رشدها، سالكة في غير مضمارها، كأنّ المعنيّ سواها، و كأنّ الرّشد في إحراز دنياها.

اللغة

(عنيته) عنيا من باب رمى قصدته و عناه الأمر أهمّه و (عشى) عشا من باب تعب ضعف بصره و أبصر نهارا و لم يبصر ليلا فهو أعشا و المرأة عشواء و (الأشلاء) جمع الشّلو مثل أحمال و حمل و هو العضو و قال في القاموس الشّلو بالكسر العضو و الجسد من كلّ شي‏ء.
و (الحنو) بالفتح و الكسر كلّ ما فيه اعوجاج من البدن كعظم الحجاج و اللّحى و الضلع و من غيره كالقف و الحقف و كلّ عود معوج في القتب و الرحل و السّرج و الحنو أيضا الجانب و عن النهاية ملائمة لا حنائها إى معاطفها و (الرّفق) النّفع يقال ارتفقت به اى انتفعت و قال في القاموس: الرّفق بالكسر ما استعين به، و يروى بارماقها بدل بارفاقها و هو جمع الرمق بقيّة الرّوح.

و (مجلّلات النعم) ما تعم الخلق من جلل الشي‏ء تجليلا أي عم، و منه السحاب المجلّل و هو الذي يجلّل الأرض بماء المطر أي يعمه و في حديث الكافي و العيون الامام كالشّمس الطالعة المجلّلة بنورها للعالم و (المستمتع) اسم مكان من استمتعت بكذا انتفعت به و (الخلاق) بالفتح النّصيب و (المستفسح) محلّ الفسحة و هى السّعة (و الخناق) ككتاب الحبل الذي يخنق به يقال خنقة يخنقه خنيقا ككتف إذا عصر حلقه حتّى يموت فهو خانق و خناق، و ربّما يطلق الخناق على الحلق يقال اخذه بخناقه و مخنقه أى بحلقه.

و (أرهقت) الشّي‏ء أدركته و أرهقت الرّجل أمرا يتعدّى إلى مفعولين أعجلته و كلفته حمله و (الأنف) بضّمتين أوّل الأمر و (بضض) الرّجل بالفتح و الكسر بضاضة و بضوضة فهو بضّ أى رخص الجسد رقيق الجلد ممتلى و (الحوانى) جمع الحانية و هي العلة التي تحنى شطاط«» الجسد و تمنعه عن الاستقامة و (الهرم) محركة أقصى الكبر و (الغضارة) طيب العيش و السّعة و النّعمة و (الاونة) جمع أوان كأزمنة و زمان و (العلز) بالتّحريك خفّة و هلع يصيب المريض و الأسير و المحتضر و رجل علز أى هلع لا ينام و (المضض) محرّكة وجع المصيبة (جرض) بريقه ابتلعه بالجهد على همّ و حزن و أجرضه اللّه بريقه أغصّه و (التّلفت) و الالتفات بمعنى و هو الانصراف يقال التفت إلىّ التفاتا انصرف بوجهه نحوى و التّلفت أكثر منه و (الحفدة) الأعوان و الخدم، و قيل أولاد الأولاد.

و النساء (النّواحب) اللّاتى يرفعن أصواتهنّ بالبكاء من النّحب و هو شدّة البكاء و يروى النّوادب بدلها و (غادره) مغادرة تركه و بقاه و (هتك) السّتر و غيره جذبه فقطعه من موضعه و (الهامة) من الحيوان ماله سمّ يقتل كالحيّات و الجمع الهوام كدابّة و دواب و ربّما يطلق على ما لا يقتل كالحشرات و (نهكته) الحمى نهكا من باب ضرب هزلته و جهدته و أضنته«» و نهكه السّلطان بالغ في عقوبته و النّاهك و النهيك المبالغ في الأشياء و (الجدة) بكسر الجيم مصدر يقال جد يجد من باب ضرب يضرب جدة إذا صار جديدا و هو ضدّ البلى و (عفت) بالتّخفيف و يروى بالتّشديد و (شحب) لونه من باب جمع و نصر و كرم شحوبا و شحوبة تغير من هزال أو جوع أو سفر و (تستعتب) بالبناء على المفعول و (القدّة) بكسر القاف و الدّال المهملة الطريقة و (المعني) بالتّشديد و المعنى و المعناه و المعنية بمعنى واحد.

الاعراب

لفظة عن في قوله لتجلو عن عشاها إمّا زايدة أو بمعنى بعد كما جوزه الشّارح المعتزلي مستشهدا بقول الشّاعر لعجب حرب وائل عن حيال اى بعد حيال فيكون قد حذف المفعول و التّقدير لتجلو الاذى بعد عشاها، و الأظهر ما قاله الشارح‏ البحراني من أنّ عن ليست بزايدة لأنّ الجلاء يستدعى مجلوا و المجلوّ عنه فذكر المجلوّ و أقامه مقام المجلوّ عنه فكانّه عليه السّلام قال لتجلو عن قواها عشاها، و في تركيب صورها متعلّق بملائمة، و قوله: بأبدان متعلّق بجعل و الباء للمصاحبة، و الباء في بأرفاقها للصّلة و على رواية بأرماقها إمّا للسّببيّة أو للاستعانة.

و قوله في مجلّلات نعمه متعلّق بمقدّر حال من فاعل جعل أو من ضمير الخطاب في لكم أى جعل لكم الأسماع حالكونكم في مجلّلات نعمه، و من مستمتع خلاقهم بيان للعبر، و دون في قوله دون الآمال بمعنى عند، و جملة لم يمهدوا في محلّ النّصب على الحال من مفعول أرهقتهم.

فهل ينتظراه استفهام انكاريّ توبيخيّ من قبيل قوله سبحانه: أ تعبدون ما تنحتون، و كلمة إلّا في المواقع الثّلاثة أعنى قوله: إلّا حوانى الهرم، و إلّا نوازل السّقم، و إلّا آونة الفناء إن كانت للاستثناء فيتوجه عليه أنّ الاستثناء المفرّغ غير جايز في الكلام الموجب، و إن كانت بمعنى غير كما يظهر من شرح البحراني ففيه أنّ إلّا بمعنى غير لا يجوز حذف موصوفها كما يجوز حذف موصوف غير يقال جائنى غير زيد و لا يصحّ أن يقال جائني إلّا زيد كما صرّح به ابن هشام و غيره، و بذلك فرّقوا بين إلّا و كلمة غير.

و يمكن توجيهه بأن يقال إنّ إلّا للاستثناء و إنّ جواز التّفريغ هنا لاستقامة المعنى و حصول الفايدة كما جوّزوه في قولهم قرأت إلّا يوم كذا معلّلين بأنّه لا يبعد أن يقرأ في جميع الأيام إلّا اليوم المعيّن، فعلى هذا التّوجيه يكون المراد بالكلام أنّه ينتظر هؤلاء جميع اللذائذ الدّنيويّة و الشّهوات النّفسانية إلّا حوانى الهرم و نوازل السّقم فافهم.

و الباء في قوله بنصرة الحفدة، متعلّق بالاستغاثة، و قوله فهل دفعت الأقارب استفهام انكاري إبطالي على حدّ قوله أ فأصفاكم ربّكم بالبنين، و قوله و قد غودر في محلّ النصب على الحال و العامل نفعت، و كذلك رهينا و وحيدا منتصبان على الحال و العامل غودر، و هكذا جملة قد هتكت و أبلت و عفت و محى اه، و قوله: و صارت عطف‏على غودر، و جملة لاتستزاد و لا تستعتب في محلّ النّصب أيضا على الحالية، و قوله أولستم استفهام تقريريّ.

المعنى

اعلم أنّ صدر هذا الفصل تذكير لعباد اللّه بضروب نعم اللّه سبحانه و منّته عليهم و تنبيه على الغاية من تلك النّعم، و ذيله مسوغ لبيان حال السّلف ليعتبر به الخلف فقوله عليه السّلام (جعل لكم أسماعا لتعى ما عناها و أبصارا لتجلو عن عشاها) إشارة إلى النّعمتين العظيمتين اللتين أعطاهما اللّه سبحانه لخلقه مع الاشارة إلى ما هو الغرض منهما.

فالمقصود أنّه سبحانه خلق لانتفاعكم قوّة سامعة لتحفظ ما أهمّها و قوّة باصرة لتجلو العشا عن الابصار، فعلى هذا يكون قوله و أبصارا اه من باب الاستخدام حيث اريد بالابصار القوّة و بضمير عشاها الراجع إليه العضو المحسوس المخلوق من الشّحم المركب من السّواد و البياض، فبتلك القوة حصل له الادراك و الابصار بعد ما لم يكن في نفسه مبصرا مدركا فكانت جلاء عن عشاها.

و يوضح ذلك ما رواه في البحار من المناقب لابن شهر آشوب مما أجاب الرّضا عليه السّلام بحضرة المأمون لضباع بن نصر الهندي و عمران الصّابي عن مسائلهما قال عمران: العين نور مركبة أم الرّوح تبصر الأشياء من منظرها قال عليه السّلام: العين شحمة و هو البياض و السّواد و النّظر للرّوح دليله إنك تنظر فيه و ترى صورتك في وسطه و الانسان لا يرى صورته إلّا في ماء أو مرآة و ما اشبه ذلك.
قال ضباع إذا عميت العين كيف صارت الرّوح قائمة و النظر ذاهب قال عليه السّلام كالشّمس طالعة يغشاها الظلام، قالا: أين تذهب الرّوح قال عليه السّلام، أين يذهب الضوء الطالع من الكوة في البيت إذا سدّت الكوة، قالا: أوضح لنا ذلك، قال عليه السّلام الرّوح مسكنها في الدّماغ و شعاعها منبثّ في الجسد بمنزلة الشمس دارتها«» في السّمآءو شعاعها منبسط على الأرض فاذا غابت الدّارة فلا شمس و إذا قطعت الرّاس«» فلا روح.

فانّ غرض السّائل أنّ المدرك هو العضو أمّ الرّوح تبصر الأشياء و هذا منظره، فاختار عليه السّلام الثاني و علله بأنّ العضو مثل ساير الأجسام الصقيلة يري فيها الوجه كالماء و المرآة فكما أنّها ليست مدركة لما ينطبع فيها فكذا العين و غيرها من المشاعر هذا.
و قد اشير إلى منافع السمع و البصر و بعض حكمهما في حديث المفضل المعروف عن الصادق عليه السّلام حيث قال: انظر يا مفضّل إلى هذه الحواس الخمس التي خصّ بها الانسان في خلقه و شرف بها على غيره كيف جعلت العينان في الرّأس كالمصابيح فوق المنارة ليتمكّن من مطالعة الأشياء و لم تجعل في الأعضاء التي تحتهنّ كاليدين و الرّجلين فتعرضها الآفات و يصيبها من مباشرة العمل و الحركة ما يعلّلها و يؤثّر فيها و ينقص منها، و لا في الأعضاء التي وسط البدن كالبطن و الظهر فيعسر تقلّبها و اطلاعها نحو الأشياء.

فلمّا لم يكن لها في شي‏ء من هذه الأعضاء موضع كان الرأس أسنى المواضع للحواسّ و هو بمنزلة الصّومعة لها، فجعل الحواسّ خمسا تلقى خمسا لكيلا يفوتها شي‏ء من المحسوسات فخلق البصر ليدرك الألوان فلو كانت الألوان و لم يكن بصر يدركها لم يكن فيها منفعة.
و خلق السّمع ليدرك الأصوات فلو كانت الأصوات و لم يكن سمع يدركها لم يكن فيها ارب و كذلك ساير الحواسّ. ثمّ يرجع هذا متكافئا فلو كان بصر و لم يكن الألوان لما كان للبصر معنى، و لو كان سمع و لم يكن أصوات لم يكن للسّمع موضع فانظر كيف قدر بعضها يلقى بعضا فجعل لكلّ حاسة محسوسا يعمل فيه و لكلّ محسوس حاسّة تدركه.

و مع هذا فقد جعلت أشياء متوسّطة بين الحواس و المحسوسات لا يتمّ الحواسّ إلّا بها كمثل الضياء و الهواء فانّه لو لم يكن ضياء يظهر اللون للبصر لم يكن البصر يدرك اللون، و لو لم يكن هواء يؤدّي الصّوت إلى السّمع لم يكن يدرك الصوت فهل يخفى على من صحّ نظره و اعمل فكره انّ مثل هذا الذي وصفت من تهيئة الحواس و المحسوسات بعضها يلقى بعضا و تهيئة أشياء اخر بها يتمّ الحواسّ لا يكون إلّا بعمد و تقدير من لطيف خبير فكّر يا مفضل فيمن عدم البصر من النّاس و ما يناله من الخلل في اموره فانّه لا يعرف موضع قدمه و لا يبصر ما بين يديه فلا يفرق بين الألوان و بين المنظر الحسن و القبيح فلا يرى حفرة إن هجم عليها و لا عدوّا إن هوى إليه بسيف، و لا يكون له سبيل إلى أن يعمل شيئا من هذه الصّناعات مثل الكتابة و التّجارة و الصّياغة حتّى أنّه لو لا نفاد ذهنه لكان كالحجر الملقى.

و كذلك من عدم السّمع يختلّ في امور كثيرة فانّه يفقد روح المخاطبة و المحاورة و يعدم لذّة الأصوات و اللحون الشّجية المطربة، و تعظم المؤنة على النّاس في محاورته حتّى تبرّموا به و لا يسمع شيئا من اخبار النّاس و أحاديثهم حتّى يكون كالغايب و هو شاهد و كالميّت و هو حىّ.

و قوله (و أشلاء جامعة لاعضائها) الظاهر أنّ المراد بالشّلو هنا العضو و ليس كناية عن الجسد كما زعمه البحراني إذا لأبدان مذكورة بعد ذلك فيلزم التكرار مع أنّ ارادة الجسد على تقدير صحّتها لا حاجة فيها إلى الكناية لما قد عرفت من اشتراكه لغة بين الجسد و العضو.
فان قلت: إرادة العضو ينافيها قوله عليه السّلام جامعة لأعضائها، إذ الشي‏ء لا يجمع نفسه.

قلت: يمكن توجيهه بما وجّهه الشّارح المعتزلي من جعل المراد بالأشلاء الأعضاء الظاهرة و بالأعضاء الأعضاء الباطنة و لا ريب أنّ الأعضاء الظاهرة تجمع الأعضاء الباطنة (ملائمة لأحنائها فى تركيب صورها و مدد عمرها) أي جعل الأعضاء مناسبة موافقة للجهات و الجوانب التي جعلت فيها ملائمة لها في صورها التركيبيّة.

مثلا جعل اليدين في اليمين و اليسار أنسب من كونهما في الرّأس، و كون العينين في الرّأس أولى من كونهما في الظهر أو البطن و كذلك كون ثقب الأنف في أسفله أنسب و أحسن من كونه في أعلاه، و كون المثانة و المعدة في أسافل البدن أليق و هكذا و قد مرّ حكمة بعض ذلك في رواية المفضّل و ستعرف البعض في التّبصرة الآتية مضافا إلى الحسن و البهجة و الالتيام و المناسبة المقرّرة في هذه الصّور المجعولة ألا ترى أنّ من لم يكن له حاجب فوق عينه أو سقطت الأشفار من طرف عينه كيف يكون قبيح الصّورة كريه المنظر، و هكذا ساير الأعضاء، هذا كلّه لو كان الحنوفي كلامه بمعنى الجانب و الجهة، و لو جعلناه بمعنى العضو المعوج فيكون المراد أنّه تعالى جعل الأعضاء المستقيمة من البدن ملائمة للأعضاء المعوّجة في صورها المركبة فلا يناسب المستقيمة موضع المعوّجة و لا المعوّجة موضع المستقيمة و لا يصادم حسن الاستقامة للاعوجاج و لا الاعوجاج للاستقامة، إذ كلّ منهما في موقعهما حسن و أحسن فتبارك اللّه أحسن الخالقين.

و أمّا قوله عليه السّلام: و مدد عمرها، فالظاهر أنّه أراد به أنّ اللّه جعل مدد عمر كلّ من الأعضاء ملائمة للآخر مقارنة له بحيث لا يفنى بعض الأعضاء قبل فناء الآخر فيكون الكلام محمولا على الغالب فافهم.

و قوله عليه السّلام (بأبدان قائمة بأرفاقها و قلوب رائدة لأرزاقها) أى قائمة بمصالحها و منافعها أو أنّ قوامها باستعانة أرواحها على الرّواية الاخرى السّالفة في بيان اللغة و قلوب طالبة لأرزاقها جالبة لها إليها.

و الضمير في أرزاقها يحتمل رجوعه إلى الأبدان و رجوعه إلى نفس القلوب، و على الأوّل فالمراد بالرّزق الرّزق الجسماني، و على الثّاني فالمراد به الرزق الرّوحاني أعنى العلوم الحقّة و المعارف الشرعية و العقائد الالهيّة الموجبة للسّعادة في الدّارين، و المحصلة للعزّة في النّشأتين، فانّ القلب هو الطالب الجالب لتلك الأرزاق إلى نفسها كما أنّه هو الطالب الجالب للأرزاق إلى البدن و لو بتوسط الآلات البدنيّة.

إذ هو العالم باللّه، و هو المتقرّب إلى اللّه، و هو المحصّل لرضوان اللّه، و هو السّاعي إلى اللّه، و هو المكاشف بما عند اللّه، و هو في الحقيقة سلطان مملكة البدن يستخدم الآلات و الجوارح يأمرها و ينهيها و يستعملها استعمال المالك لعبده و السّلطان لرعيّته، و تحقيق ذلك موقوف على شرح حال القلب و معرفة عجائب صفاته.

فأقول: إنّ القلب كما حقّقه الغزالي يطلق على معنيين: أحدهما اللحم الصّنوبري الشّكل المودع فى الجانب الأيسر من الصّدر، و هو لحم مخصوص و في باطنه تجويف و في ذلك التجويف دم أسود هو منبع الرّوح و معدنه، و هو بهذا المعنى موجود للانسان و الحيوان و الحىّ و الميّت، و مرئي بحسّ العيان و يدركه الحيوان بحاسّة البصر كما يدركه الانسان و لا يتعلّق به غرضنا في المقام.

الثّاني هو جوهرة لطيفة ربّانيّة نورانيّة روحانيّة لها تعلّق بالقلب الجسماني الذي ذكرناه و هي حقيقة الانسان و بها تمامه و كماله و هو المدرك العالم العارف و هو المخاطب و المطالب، و له جنود و أعوان و أنصار فمن تلك الجنود ما يرى بالأبصار كالأعضاء الظاهرة من اليد و الرّجل و العين و الاذن و اللسان و نحوها، و ما لا يرى بالابصار كالحواس الباطنة و الشّهوة و الغضب و نحوها، فجميعها خادمة للقلب منقادة لحكمه مسخّرة له و قد خلقت مجبولة على طاعته لا تستطيع له خلافا و لا عليه تمرّدا.

فاذا أمر العين بالانفتاح انفتحت و بالانطباق انطبقت و الرّجل بالحركة تحرّكت و بالسّكون امتثلت و اللسان بالكلام تكلّم و بالسّكوت أمسك، و كذا ساير الأعضاء.

و إنّما افتقر إلى هذه الجنود من حيث افتقاره إلى المركب و الزّاد لسفره الذي يجب له سلوكه و لأجل مسيره خلق، و هو السّفر إلى اللّه و قطع المنازل إلى لقائه و مركبه البدن و زاده المعرفة و الأسباب التي توصله إلى الزّاد و تمكّنه من التّزوّد هو العمل الصالح.

فليس يمكن العبد أن يصل إلى اللّه ما لم يسكن البدن و لم يجاوز الدّنيا، فانّ المنزل الأدنى لا بدّ من قطعه للوصول إلى المنزل الأقصى، فالدّنيا مزرعة الآخرة و هي منزل من منازل الهدى و إنّما سمّيت الدّنيا لكونها أدنى المنزلتين فاضطرّ إلى أن يتزوّد من هذا العالم.

فالبدن مركبه الذي يصل به إلى هذا العالم فافتقر إلى تعهّد البدن و حفظه و إنّما يحفظ البدن بأن يجلب إليه ما يوافقه من الغذاء و يطلب له ما يناسبه من الرّزق و أن يدفع عنه ما ينافيه و يضارّه من أسباب الهلاك، فافتقر لأجل جلب الغذا إلى جندين باطن و هو الشّهوة، و ظاهر و هو الأعضاء الجالبة للغذا من اليد و نحوها.

فخلق في القلب من الشّهوات ما كان محتاجا إليه و خلقت الأعضاء لكونها آلة للشّهوة و افتقر لأجل دفع المضارّ و المهلكات أيضا إلى جندين: باطن و هو الغضب الذي به يدفع المهلكات و ينتقم من الأعداء و ظاهر و هو الجوارح التي بها يعمل بمقتضى الغضب من اليد و الرّجل و نحوهما.

ثمّ المحتاج إلى الغذا ما لم يعرف الغذا لم يحصل له شهوة الغذاء فافتقر للمعرفة إلى جندين، باطن و هو إدراك السّمع و البصر و الشّم و اللمس و الذّوق، و ظاهر و هو العين و الاذن و الأنف و غيرها.

فجملة جنود القلب منحصرة في ثلاثة أصناف: صنف باعث و مستحثّ إمّا إلى جلب النّافع الموافق كالشهوة، و إمّا إلى دفع الضار المنافي كالغضب، و قد يعبّر عن هذا الباعث بالارادة، و الصّنف الثّاني هو المحرّك للأعضاء إلى تحصيل هذه المقاصد و يعبّر عنه بالقدرة و هى مبثوثة في ساير الأعضاء لا سيّما العضلات منها و الأوتار، و الصّنف الثّالث هو المدرك المتعرف للأشياء كالجواسيس و هي قوّة البصر و السّمع و الشمّ و الذّوق و اللمس المبثوثة في الأعضاء المعيّنة و قوّة التخيل و التّحفظ و التفكر و نحوها المودعة في تجاويف الدّماغ.
و هذه كلّها ممّا قد أنعم اللّه بها على ساير أصناف الحيوان سوى الآدمي إذ للحيوان أيضا الشّهوة و الغضب و الحواس الظاهرة و الباطنة فكلاهما شريكان فيها و إنّما اختصّ الانسان بما لأجله عظم شرفه و علا قدره و استأهل القرب.

و هو راجع إلى علم و إرادة أمّا العلم فهو العلم بالامور الدّنيويّة و الاخرويّة و الحقائق العقلية و هذه امور وراء المحسوسات و لا يشاركه فيها الحيوانات بل العلوم الكليّة الضّروريّة من خواص العقل إذ يحكم الانسان بأنّ الشّخص الواحد لا يتصوّر أن يكون في مكانين في حالة واحدة، و هذا حكم منه على كلّ شخص و معلوم أنّه لم يدرك بالحسّ إلّا بعض الأشخاص فحكمه على الجميع زايد على ما أدركه الحسّ، و إذا فهمت هذا في العلم الظاهر الضّرورى فهو في ساير النّظريّات أظهر.

و أمّا الارادة فانّه إذا أدرك بالعقل عاقبة الأمر وجهة المصلحة فيه انبعث من ذاته شوق إلى جهة المصلحة و إلى تعاطي أسبابها و الارادة لها، و ذلك غير إرادة الشّهوة و إرادة الحيوانات، بل ربّما يكون على ضدّ الشّهوة.

ألا ترى أنّ الشّهوة تنفر عن الفصد و الحجامة، و العقل يريدها و يطلبها و يبذل لها المال، و الشّهوة تميل حين المرض إلى لذايذ الأطعمة و العقل يردعها عنها، و لو خلق اللّه العقل العارف بعواقب الامور و لم يخلق هذا الباعث المحرّك للأعضاء على العمل بمقتضى حكم العقل لكان حكم العقل ضايعا على التّحقيق.

فاذا اختصّ قلب الانسان بعلم و ارادة يمتاز بهما من ساير الحيوان، و من هذه الجملة ظهر أن خاصيّة الانسان العلم و الحكمة، و للعلم مراتب و درجات لا تحصى من حيث كثرة المعلومات و قلّتها و شرف المعلوم و خسّته، و من حيث إنّ حصوله قد يكون بالهام ربّانيّ على سبيل المكاشفة كما للأنبياء و الأولياء و قد يكون بطريق الكسب و الاستدلال، و في الكسب أيضا قد يكون سريع الحصول و قد يكون بطي‏ء الحصول.

و في هذا المقام تتباين منازل العلماء و الحكماء و الأولياء و الأنبياء، فدرجات الترقي غير محصورة إذ معلومات اللّه سبحانه غير متناهية و مراقي هذه الدّرجات‏ هي منازل السّايرين إلى اللّه و لا حصر لتلك المنازل و إنّما يعرف كلّ سالك منزله الذي بلغه في سلوكه فيعرفه و يعرف ما خلفه من المنازل.

و أمّا ما بين يديه فلا يحيط به علما كما لا يعرف الجنين حال الطفل، و لا الطفل حال المميّز و لا المميّز حال المراهق، و لا المراهق حال العاقل و ما اكتسبه من العلوم النّظرية، فكذا لا يعرف العاقل ما افتتح اللّه على أوليائه و أنبيائه من مزايا لطفه و رحمته «ما يفتح اللّه للنّاس من رحمة فلا ممسك لها» و هذه الرّحمة مبذولة بحكم الجود و الكرم من اللّه سبحانه غير مضنون بها على أحد و لكن إنّما تظهر في القلوب المتعرضة لنفحات الرّحمة كما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ لرّبكم في أيّام دهركم لنفحات ألا فتعرّضوها، و التعرّض لها إنّما هو بتطهير القلب و تزكيته من الكدر و الخبث الحاصلين من الأخلاق المذمومة.

فظهر بذلك معنى تمام الانسان و كماله و خاصّته التي بها امتاز عن ساير أفراد الحيوان و تحقّق أنّ البدن مركب للقلب، و القلب محلّ للعلم، و العلم هو مقصود الانسان و أنّ العلم و المعرفة هو الذي خلق الانسان لأجله كما قال: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ.
أى ليعرفون كما ظهر لك معنى رزق البدن و زاد القلب، و اتّضح أنّ القلب هو الطالب الجالب للرّزق و الزاد لاصلاح المعاش و المعاد.
و قوله عليه السّلام (في مجلّلات نعمه و موجبات مننه) العطف بمنزلة التّفسير يعنى أنكم متنعّمون بنعمه العامة الشّاملة و آلائه التّامة الكاملة الموجبة لمنّته سبحانه عليكم فالمراد بمجلّلات النّعم ما أنعم بها على جميع الموجودات و المخلوقات بمقتضى رحمته الرّحمانيّة كما قال سبحانه: أَعْطى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى‏.

و بموجبات المنن أنّ تلك النّعم موجبة لمنة اللّه سبحانه عليهم فلا بدّ أن يقوم العبد بلوازم الشّكر و الامتنان، و لا يقابل بالطغيان و الكفران، و أعظم ما منّ اللّه به على عباده أن هداهم للاسلام و الايمان و أرشدهم إلى سلوك سبيل الجنان و بعث فيهم‏رسولا يدلّهم على الهدى و ينجيهم من الرّدى كما قال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ.

و قوله (و حواجز عافيته) قال الشّارح المعتزلي: أى في عافية تحجز و تمنع عنكم المضار.
أقول: و هو مبنىّ على كون الاضافة من قبيل إضافة الصّفة إلى الموصوف، و الأظهر الأقوى أنّ الاضافة لاميّة، و المراد الموانع التي تمنع العافية عن الزّوال و العدم، و تكون عائقة عن طريان المضارّ و الآلام و عروض الأوجاع و الأسقام على الأبدان و الأجسام، و على أىّ تقدير فالمراد بها نعمة الصّحة و السّلامة التي هى من أعظم نعم اللّه سبحانه، بل هى رأس كلّ نعمة و بها يدرك كلّ لذّة و بهجة.

ثمّ قال (و قدّر لكم أعمارا سترها عنكم) و هذا أيضا من أعظم ما أنعم اللّه تعالى به على خلقه إذ في إظهار مدّة العمر عليهم مفاسد لا تحصى كما أنّ في إخفائها منافع جاوزت حدّ الاستقصاء كما أشار إليها سادس الأئمة و صادق الامّة أبو عبد اللّه جعفر بن محمّد سلام اللّه عليهما و على آبائهما و أولادهما الطّبين الطاهرين حيث قال في حديث المفضّل: تامّل الآن يا مفضّل ما ستر عن الانسان علمه من مدّة حياته، فانّه لو عرف مقدار عمره و كان قصيرا لم يتهنّأ بالعيش مع ترقّب الموت و توقّعه لوقت قد أعرفه، بل كان يكون بمنزلة من قد فنى ماله أو قارب الفناء، فقد استشعر الفقر و الوجل من فناء ماله و خوف الفقر على أنّ الذي يدخل على الانسان من فناء العمر أعظم ممّا يدخل عليه من فناء المال لأنّ من يقلّ ماله يأمل أن يستخلف منه فيسكن إلى ذلك و من أيقن بفناء العمر استحكم عليه اليأس.

و إن كان طويل العمر ثمّ عرف ذلك وثق بالبقاء و انهمك في اللذات و المعاصي و عمل علي أنّه يبلغ من ذلك شهوته ثمّ يتوب في آخر عمره و هذا مذهب لا يرضاه‏ اللّه من عباده و لا يقبله ألا ترى لو أنّ عبدا لك عمل على أنّه يسخطك سنة و يرضيك يوما أو شهرا لم تقبل ذلك منه و لم يحلّ عندك محلّ العبد الصالح دون أن يضمر طاعتك و نصحك في كلّ الامور في كلّ الأوقات على تصرّف الحالات.
فان قلت: أو ليس قد يقيم الانسان على المعصية حينا ثمّ يتوب قبل توبته قلنا: إنّ ذلك شي‏ء يكون من الانسان لغلبة الشّهوات له و تركه و تركه مخالفتها من غير أن يقدّره في نفسه و يبنى عليه أمره فيصفح اللّه عنه و يتفضّل عليه بالمغفرة.

فأمّا من قدّر أمره على أن يعصى ما بدا له ثمّ يتوب آخر ذلك فانّما يحاول خديعا من لا يخادع«» أن يتسلّف التلذّذ في العاجل و يعد و يمنّى نفسه التّوبة في الآجل و لأنّه لا يفي بما يعد من ذلك، فانّ النزوع من الترفّه و التلذّذ و معاناة«» التّوبة و لا سيما عند الكبر و ضعف البدن أمر صعب و لا يؤمن على الانسان مع مدافعة التوبة أن يرهقه الموت فيخرج من الدّنيا غير تائب كما قد يكون على الواحد دين و قد يقدر على قضائه فلا يزال يدافع بذلك حتّى يحلّ الأجل و قد نفد المال فيبقى الدّين قائما عليه.

فكان خير الأشياء للانسان أن يستر عنه مبلغ عمره فيكون طول عمره يترقّب الموت فيترك المعاصي و يؤثر العمل الصّالح.
فان قلت: و ما هو الآن قد ستر عنه مقدار حياته و صار يترقّب الموت في كلّ ساعة يقارف الفواحش و ينتهك المحارم.

قلنا: إنّ وجه التّدبير في هذا الباب هو الذي جرى عليه الأمر فيه، فان كان الانسان مع ذلك لا يرعوي و لا ينصرف عن المساوى فانّما ذلك من مرحه و من قساوة لا من خطاء في التدبير كما أنّ الطبيب قد يصف للمريض ما ينتفع به فان كان المريض مخالفا لقول الطبيب لا يعمل بما أمره و لا ينتهى عمّا ينهاه عنه و لم ينتفع بصفته لم يكن‏ الاسائة في ذلك للطبيب بل للمريض حيث لم يقبل منه.

و لئن كان الانسان مع ترقبه الموت كلّ ساعة لا يمتنع عن المعاصي فانّه لو وثق بطول البقاء كان أحرى أن يخرج إلى الكباير الفظيعة فترقّب الموت على كلّ حال خير له من الثقة بالبقاء.

و إن كان صنف من النّاس ينهون عنه و لا يتّعظون به فقد يتّعظ به صنف آخر منهم و ينزعون عن المعاصي و يؤثرون العمل الصالح و يجودون بالأموال و العقايل النفيسة و الصّدقة على الفقراء و المساكين فلم يكن من العدل أن يحرم هؤلاء الانتفاع بهذه الخصلة ليضيع أولئك حظّهم.

و بالجملة فقد وضح، و اتضح كلّ الوضوح أنّ سترمدد الأعمار عن الخلق من جلايل النعم و أعظم ما منّ اللّه سبحانه به عليهم.
و مثله نعمة اخرى هي أيضا من أسبغ الآلاء و أسنى النّعماء من حيث كونها موجبة للتّجافي عن دار الغرور جاذبة إلى دار السّرور باعثة على السّعادة الأبديّة موقعة في العناية السّرمديّة (و) هى أنّه سبحانه (خلف لكم عبرا) تعتبرون بها و أبقى آثارا تتذكّرون منها (من آثار الماضين قبلكم) من الأهلين و الأقربين و الأولين و الآخرين و ممّن كان أطول منكم أعمارا و أشدّ بطشا و أعمر ديارا (من مستمتع خلاقهم و مستفسح خناقهم) أى الدّنيا التي كانت محلّ استمتاعهم بخلاقهم و انتفاعهم بحظوظهم و انصبائهم و محلّ الفسحة لأعناقهم من ضيق حبائل الموت و دار امهالهم من انشاب مخالب الفناء و الفوت.

فأنتم فيها كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَ أَكْثَرَ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَ خُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا«» أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ«» (أرهقتهم المنايا دون الآمال و شذّبهم عنها تخرّم الآجال) اى اخترمتهم أيدي المنون«» من قرون بعد قرون فحالت بينهم و بين الآمال و فرّقتهم من الأولاد و الأموال:

تخرّمهم ريب المنون«» فلم تكن
لتنفعهم جنّاتهم و الحدائق«»

و لا حملتهم حين ولّوا بجمعهم‏
نجائبهم و الصّافنات السّوابق‏

و زاحوا«» عن الأموال صفرا و خلّفوا
ذخايرهم بالرّغم منهم و فارقوا

(لم يمهّدوا في سلامة الأبدان و لم يعتبروا في انف الأوان) أى لم يهيئوا في حال الصّحة و السّلامة ليوم المعاد و لم يعتبروا في أوّل الأزمنة بالعبر النّافعة بل الكلّ مال عنها و حاد، فالشّباب للهرم و الصّحة للسّقم و الوجود للعدم بذلك جرى في اللوح القلم.
(فهل ينتظر أهل بضاضة الشّباب إلّا حواني الهرم، و أهل غضارة الصّحة إلّا نوازل السّقم، و أهل مدّة البقاء إلّا آونة الفناء) و العدم استفهام على سبيل الانكار و التّوبيخ عما ينتظر الشّبان النّاعمة الجسد الرّقيقة الجلد غير حوانى الهرم التي تحنى ظهورهم و عما ينتظر أهل النعمة و الصّحة غير نوازل السّقم التي تنزل عليهم و عمّا ينتظر المعمرون بطول أعمارهم غير الفناء و العدم الذى يفنيهم.

و إنّما و بخّهم على ذلك لأنّ من كان مصير أمره إلى الهرم و السّقم و الفناء و الزّوال ينبغي أن يأخذ العدة و الذّخيرة لنفسه و ينتظر ما يصير أمره إليه و يراقبه و لا يشتغل بغيره.

فهؤلاء لما قصروا هممهم في غير ذلك و أوقعوا أنفسهم في مطارح المهالك‏ و بّخهم عليه السّلام بذلك و أكّد بقوله (مع قرب الزيال) و ازوفه (و ازوف الانتقال) و قربه (و علزا لقلق) و هلعه (و ألم المضض) و وجعه (و غصص الجرض) و شجاه (و تلفت الاستغاثة بنصرة الحفدة و الأقرباء و الأعزّة و القرناء) أراد أنّهم في حال سكرات الموت يلتفتون إلى أهلهم و أولادهم و يقلّبون وجوههم ذات اليمين و ذات الشّمال إلى أحبّتهم و عوّادهم يستغيثونهم و يستنصرونهم فلا يقدرون على النصرة و الاغاثة و يستعينونهم و يستنجدونهم فلا يستطيعون الانجاد و الاعانة:

أحاطت به آفاته و همومه
و أبلس لما أعجزته المعاذر

فليس له من كربة الموت فارج‏
و ليس له مما يحاذر ناصر

و قد حشات خوف المنية نفسه
تردّدها دون اللّهاة الحناجر

(فهل دفعت الأقارب أو نفعت النّواحب)
أو انتفع بسلطانه أو ذبّ الموت عنه جنوده و أعوانه.

فما صرفت كفّ المنيّة إذ أتت
مبادرة تهوى إليه الذّخاير«»

و لا دفعت عنه الحصون التي بنا
و حفّ بها أنهارها و الدّساكر«»

و لا قارعت عنه المنيّة خيله
و لا طمعت في الذّب عنه العساكر

(و قد غودر في محلّة الأموات رهينا و في ضيق المضجع وحيدا)
و التحق بمن مضى من أسلافه و من وارته الأرض من الافه.

و أضحوا رميما في التراب و أقفرت
مجالس منهم عطلت و مقاصر

و حلّوا بدار لا تزاور بينهم
و أنّى لسكّان القبور التّزاور

فما أن ترى إلّا جثى قد ثووا بها
مسنّمة تسفى عليه الأعاصر

(قد هتكت الهوام جلدته و ابلت النّواهك جدته) أى قطع هو ام الأرض جلده و صار طعمة للعقارب و الحيّات و الحشرات الموذيات و اخلقت مبالغات الدّهر التي أجهدته و أضننته و هزلته جدته و نضرة شبابه، فصار خلقا باليا بعد ما كان جديد اغضيضا طريّا بمصائب الدّهر و نوائبه و أوصابه و أتعابه (و عفت) الرّياح (العواصف آثاره و محى) النوائب و (الحدثان معالمه) فلم يبق في وجه الارض منه خبر و لا عن قبره عين و لا أثر، حيث فقدته العيون و توالت عليه السّنون (و صارت الأجساد شحبة) متغيّرة هزلة (بعد بضّتها) و نعومتها و امتلائها (و العظام نخرة) بالية متفتتة (بعد قوّتها) و شدّتها (و الأرواح مرتهنة) مقبوضة (بثقل أعمالها) و أحمالها كما قال تعالى: كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ.

أى محبوس بعمله حتّى يعامل بما يستحقّه و يجازي بما عمله إن عمل طاعة اثيب و إن عمل معصية عوقب، و في سورة المدّثر كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ قال الطبرسيّ: أى مرهونة بعملها محبوسة به مطالبة بما كسبته من طاعة أو معصية، فالرّهن أخذ الشي‏ء بأمر على أن لا يرد إلّا بالخروج منه فكذلك هؤلاء الضّلال قد اخذوا برهن لافكاك له، و الكسب هو كلّ ما يجتلب به نفع أو يدفع به‏ضرر و يدخل فيه الفعل و الا يفعل.

ثمّ استثنى سبحانه أصحاب اليمين فقال: إلّا أصحاب اليمين، و هم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم قال الباقر عليه السّلام: نحن و شيعتنا أصحاب اليمين، و قوله (موقنة بغيب أنبائها) أى متيقّنة بالأخبار الغيبية التي أخبر بها الرّسل و أنبأ بها الكتب من أخبار القيامة من البرزخ و البعث و الحساب و الكتاب و الجنّة و النّار و ساير ما كانت غايبة عنه مختفية له حتّى رآها بحسّ العين فحصل له اليقين بعد ما كانت منها في ريب و ظنّ، كما قال تعالى: وَ إِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ السَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَ ما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ.

و قال سبحانه حكاية عن الكفّار و المجرمين: قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَ كُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ.

أى كنّا نكذّب يوم الجزاء حتّى جاءنا العلم اليقين بأن عاينّاه، و قال سبحانه في حقّ المتّقين: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ، وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ.
قال الطبرسي و إنّما خصّهم بالأيقان بالآخرة و إن كان الايمان بالغيب قد شملها لما كان من كفر المشركين بها و جحدهم ايّاها في نحو ما حكى عنهم في قوله وَ قالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا.

فكان في تخصيصهم بذلك مدح عظيم (لا تستزاد من صالح عملها و لا تستعتب من سيّى‏ء زللها) أى لا يطلب منها زيادة في العمل الصّالح و لا يطلب منها التّوبة من العمل القبيح كما كان يطلب ذلك منها في الدّنيا و ذلك لأنّ التّكليف و العمل إنّما هو في الدّنيا و الآخرة دار الجزاء لا تكليف فيها كما قال تعالى في سورة الجاثية: فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ.

أى لا يخرجون من النّار و لا يطلب منهم الاعتاب و الاعتذار لما قلناه من أنّ التكليف قد زال، و في سورة الرّوم: فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ.

و كما أنّهم لا يطلب منهم التّوبة و المعذرة فكذلك لا ينفعهم الاعتذار و الانابة كما قال سبحانه: فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَ إِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ.
أى إن يطلبوا إزالة اللوم و العقوبة و يسألوا رضا اللّه عنهم فليس لهم طريق إلى الاعتاب و لا لهم نجاة من العقاب.

بلى أوردته«» بعد عزّ و منعة
موارد سوء ما لهنّ مصادر

فلمّا رأى أن لا نجاة و أنّه‏
هو الموت لا ينجيه منه الموازر

تندّم لو يغنيه طول ندامة
عليه و أبكته الذّنوب الكبائر

وَ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ.
(أ و لستم أبناء القوم) الذين و صفنا حالهم و شرحنا مالهم (و الآباء و إخوانهم و الأقرباء) و أمثالهم.

فهم في بطون الأرض بعد ظهورها
محاسنهم فيها بوال دواثر

خلت دورهم منهم و أقوت عراصهم‏
و ساقتهم نحو المنايا المقادر

و خلّوا عن الدّنيا و ما جمعوا لها
و ضمّنهم تحت التراب الحفاير

فلكم اليوم بالقوم اعتبار، و سوف تحلّون مثلهم دار البوار، فالبدار البدار و الحذار الحذار من الدّنيا و مكايدها و ما نصبت لكم من مصايدها، و تجلّى لكم من زينتها و استشرف لكم من فتنتها

و في دون ما عاينت من فجعاتها
إلى رفضها داع و بالزّهد آمر

فجدّ و لا تغفل فعيشك زائل‏
و أنت إلى دار المنيّة صائر

فهل يحرص عليها لبيب، أو يسرّ بلذّتها أريب، و هو على ثقة من فنائها و غير طامع في بقائها، أم كيف تنام عين من يخشى البيات أو تسكن نفس من يتوقّع الممات أم كيف (تحتذون أمثلتهم و تركبون قدتهم و تطئون جادّتهم) تفعلون مثل أفعالهم و تقتفون آثارهم و تسلكون مسالكهم و تقولون: «إنّا وجدنا آبائنا على أمّة و إنّا على آثارهم مقتدون» (فالقلوب قاسية عن حظّها) جافية عن إدراك نصيبها الذي ينبغي لها إدراكه (لاهية عن رشدها) غافلة عن طلب هدايتها (سالكة في غير مضمارها) الذي يلزم عليها سلوكه.

يعني أنّ اللّازم على القلوب تحصيل المعارف اليقينيّة و العقائد الحقّة و التفكّر في آثار الجبروت و القدرة و الاتّعاظ بالحكم و الموعظة الحسنة فهى لقسوتها و جفاوتها بكثرة الذّنوب التي اقترفتها لم يبق لها قابليّة و استعداد لادراك حظّها و نصيبها الذي ذكرناه و غفلت عن الاهتداء بالأنوار الالهية و سلكت في غير جادّة الشريعة (كأنّ المعنيّ) و المقصود بالأحكام الشّرعيّة و التّكاليف الالهيّة (سواها و كأنّ الرّشد) الّذى امرت به (في إحراز دنياها).

فيا عاقلا راحلا و لبيبا جاهلا و متيقظا غافلا ما هذه الحيرة و السبيل واضح و المشير ناصح، و الصّواب لائح، عقلت فاغفلت و أعرفت فأنكرت، و علمت فامهلت «فاهملت ظ» هذا هو الدّاء الذي عزّ دواؤه، و المرض الذي لا يرجى شفاؤه، إلى كم ذا التشاغل بالتّجاير و الأرباح إلى كم ذا التّهوّر بالسّرور و الأفراح، و حتّام التّغرير بالسّلامة في مراكب النّياح، كيف تتهنّأ بحياتك و هي مطيّتك إلى مماتك أم كيف تسيغ طعامك و أنت منتظر حمامك«»

و لم تتزوّد للرّحيل و قد دنا
و أنت على حال و شيكا مسافر

تخرّب ما يبقى و تعمر فانيا
و لا ذاك موفور و لا ذاك عامر

و هل لك إن وافاك حتفك بغتة
و لم تكتسب خير لدى اللّه عاذر

أ ترضى بأن تفنى الحياة و تنقضي‏
و دينك منقوص و مالك وافر

فيا ويح نفسى كم أسوّف توبتي
و عمرى فان و الرّدى لي ناظر

و كلّ الذي أسلفت في الصّحف مثبت‏
يجازي عليه عادل الحكم قاهر

مليك عزيز لا يردّ قضاؤه
عليم حكيم نافذ الأمر قادر

عنى كلّ ذى عزّ بعزّة وجهه‏
فكلّ عزيز للمهيمن صاغر

لقد خشعت و استسلمت
و تضاءلت لعزّة ذى العرش الملوك الجبابر

فبك إلهنا نستجير يا عليم يا خبير، من نؤمل لفكاك رقابنا غيرك، و من نرجو بغفران ذنوبنا سواك، و أنت المتفضّل المنّان القائم الدّيان العائد علينا بالاحسان بعد الاسائة منّا و العصيان، يا ذا العزّة و السّلطان و القوّة و البرهان أجرنا من عذابك الأليم و اجعلنا من سكان دار النعيم يا أرحم الراحمين.

تبصرة

لما كان صدر هذا الفصل متضمّنا للاشارة إلى بعض الحكم و المصالح فيما جعله اللّه سبحانه للانسان من الأعضاء و الجوارح و كان توضيح ذلك موقوفا على التشريح أحببت أن اورد هنا شطرا يسيرا من ذلك مما صدر عن مصدر الولاية إذ تشريح جميع الأعضاء على ما حقّقه الحكماء و الأطبّاء مما يوجب الطول و يخرج عن الغرض و فيما نورده هداية للمسترشد و كفاية للطالب.

فأقول: روى في البحار من العلل و الخصال عن محمّد بن إبراهيم الطالقاني عن الحسن ابن عليّ العدوي عن عباد بن صهيب بن عباد بن صهيب عن أبيه عن جدّه عن الرّبيع صاحب المنصور قال: حضر أبو عبد اللّه عليه السّلام مجلس المنصور يوما و عنده رجل من الهند يقرأ كتب الطب فجعل أبو عبد اللّه عليه السّلام ينصت لقرائته، فلما فرغ الهندي قال له يا أبا عبد اللّه أ تريد ممّا معى شيئا قال عليه السّلام: لا، فانّ معي ما هو خير ممّا معك قال: و ما هو قال عليه السّلام: اداوى الحارّ بالبارد و البارد بالحارّ و الرّطب باليابس و اليابس بالرّطب، و اورد الأمر كلّه إلى اللّه عزّ و جلّ و أستعمل ما قاله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و اعلم أنّ المعدة«» بيت الداء و الحمية هى الدواء و اعود البدن ما اعتاد، فقال الهندي: و هل الطبّ إلّا هذا.

فقال الصّادق عليه السّلام: أ فتراني من كتب الطبّ أخذت قال: نعم قال عليه السّلام: لا و اللّه ما أخذت إلّا عن اللّه سبحانه فأخبرني أنا أعلم بالطبّ أم أنت قال الهندي: لا بل أنا، قال الصّادق عليه السّلام: فأسألك شيئا قال: سل، قال الصّادق عليه السّلام: أخبرني يا هندي لم كان في الرّأس شئون«» قال: لا أعلم، قال عليه السّلام: فلم جعل الشّعر عليه من فوق قال: لا أعلم.

قال عليه السّلام: فلم خلت الجبهة من الشّعر قال: لا أعلم قال عليه السّلام: فلم كان لها التّخطيط و أسارير«» قال: لا أعلم، قال عليه السّلام: فلم كان الحاجبان من فوق العينين قال: لا أعلم، قال عليه السّلام: فلم جعل العينان كاللوزتين قال: لا أعلم، قال عليه السّلام: فلم جعل الأنف بينهما قال: لا أعلم.

قال عليه السّلام: فلم كان ثقب الأنف في أسفله قال: لا أعلم، قال عليه السّلام: فلم جعلت الشّفة و الشّارب من فوق الفم، قال: لا أعلم، قال عليه السّلام: فلم أحدّ السن«» و عرض الضرس و الناب قال: لا أعلم قال عليه السّلام: فلم جعلت اللحية للرّجال قال: لا أعلم، قال عليه السّلام: فلم خلت الكفان من الشّعر قال: لا أعلم، قال عليه السّلام: فلم خلا الظفر و الشعر من الحياة قال: لا أعلم، قال عليه السّلام: فلم كان القلب كحبّ الصنوبر قال: لا أعلم.

قال عليه السّلام: فلم كانت الرّية قطعتين و جعل حركتها في موضعها قال: لا أعلم قال عليه السّلام: فلم كانت الكبد حدباء«» قال: لا أعلم، قال عليه السّلام: فلم كانت الكلية كحبّ اللّوبيا قال: لا أعلم، قال عليه السّلام: فلم جعل طىّ الركبة إلى خلف قال: لا أعلم، قال: فلم آن حضرت«» القدم قال: لا أعلم، فقال الصّادق عليه السّلام: لكنّي أعلم، قال: فأجب.

فقال الصّادق عليه السّلام: كان في الرّأس شئون لأن المجوّف إذا كان بلا فصل أسرع إليه الصداع فاذا جعل ذا فصول كان الصداع منه أبعد، و جعل الشعر من فوقه ليوصل بوصوله«» الادهان إلى الدماغ و يخرج بأطرافه البخار منه و يرد الحرّ و البرد الواردين عليه و خلت الجبهة من الشّعر لأنها مصبّ النور إلى العينين و جعل فيها التخطيط و الأسارير ليحبس العرق الوارد من الرّأس عن العين قدر ما يميطه«» الانسان من نفسه كالأنهار في الأرض التي تحبس المياء.

و جعل الحاجبان من فوق العينين ليوردا من النّور عليهما قدر الكفاية ألا ترى يا هندي إنّ من غلبه النّور جعل يده بين عينيه ليرد عليهما قدر كفايتهما منه، و جعل الأنف فيما بينهما ليقسم النّور قسمين إلى كلّ عين سواء و كانت العين كاللّوزة ليجرى فيها الميل بالدواء و يخرج منها الداء، و لو كانت مرّبعة أو مدوّرة ما جرى فيها الميل و ما وصل إليها دواء و لا خرج منها داء.

و جعل ثقب الانف في أسفله لينزل منه الأوداء المنحدرة من الدّماغ و يصعد فيها الأراييح«» إلى المشام و لو كان في أعلاه لما ينزل داء و لا وجد رائحة، و جعل الشّارب و الشّفة فوق الفم لحبس ما ينزل من الدّماغ عن الفم لئلّا يتنغّص على الانسان طعامه و شرابه فيميطه«» عن نفسه و جعلت اللّحية للرّجل ليستغنى بها عن الكشف«» في المنظر«» و يعلم بها الذكر و الأنثى.

و جعل السنّ حادا لأنّ به يقع العضّ و جعل الضرس عريضا لأنّ به يقع الطحن و المضغ و كان الناب«» طويلا ليشدّ الأضراس و الأسنان كالاسطوانة، في البناء، و خلا الكفّان من الشعر لأنّ بهما يقع اللمس فلو كان بهما شعر مادرى‏ الانسان ما يقابله«» و يلمسه، و خلا الشعر و الظفر من الحياة لأنّ طولهما سمج يقبح و قصهما حسن فلو كان فيهما حياة لآلم الانسان لقصّهما.

و كان القلب كحبّ الصنوبر لأنه منكس فجعل رأسه رقيقا ليدخل في الرّية فيتروح عنه ببردها لئلا يشيط«» الدماغ بحرّه، و جعلت الرّية قطعتين ليدخل مصاعظها«» فتروح عنه بحركتها، و كانت الكبد حدباء ليثقل المعدة و تقع جميعه عليها فتعصرها فيخرج ما فيها من البخار.

و جعلت الكلية كحبّ اللوبيان لأنّ عليها مصبّ المنى نقطة«» بعد نقطة فلو كانت مرّبعة أو مدوّرة لاحتبست النقطة الاولى الثانية فلا يلتذّ بخروجها الحىّ إذ المني ينزل من فقار الظهر الى الكلية فهى كالدّودة تنقبض و تنبسط ترميه أوّلا فأوّلا إلى المثانة كالبندقة من القوس.
و جعل طىّ الرّكبة إلى خلف لأنّ الانسان يمشى إلى ما بين يديه«» فتعدل الحركات و لولا ذلك لسقط في المشي، و جعلت القدم متحضرة لأنّ الشّي‏ء إذا وقع على الأرض جميعه نقل«» ثقل حجر الرّحى و إذا كان على حرفه دفعه الصّبى‏ و إذا وقع على وجهه صعب ثقله على الرجل.

فقال الهندى: من أين لك هذا العلم فقال عليه السّلام: أخذته عن آبائي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن جبرئيل عن ربّ العالمين جلّ جلاله الذي خلق الأجساد و الأرواح، فقال الهندي: صدقت و أنا أشهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه و أنّك أعلم من أهل زمانك.

الترجمة

گردانيد حق سبحانه و تعالى از براى شما گوشها را تا اين كه حفظ نمايند و نگه بدارند آنچه كه مهمّ باشد ايشان را و ضرورى، و آفريد چشمها را تا اين كه روشنى بخشند از شب كورى، و خلق فرمود اعضاء ظاهره كه جمع كننده اعضاى باطنه بودند در حالتى كه مناسب و موافق بودند با اطراف و جوانب متناهيه خود در تركيب صورتهاى آنها و مدتهاى عمرهاى آنها با بدنهائى كه قائمند بمنافع خود و با قلبهايى كه طالبند مر رزقهاى خود را در حالتى كه شما در توى نعمت‏هاى كامله مى باشيد و أسباب منتهاى شامله و موانع صحّت بدن از أمراض و محن.

و مقدّر فرمود از براى شما عمرها كه پوشانيد آنها را از شما و باقى گذاشت از براى شما عبرتها از آثار گذشتگان پيش از شما از محل لذت يافتن ايشان با نصيب خودشان و از مكان گشاده بودن ريسمان مرگ از گردن ايشان.

شتاب نمود ايشان را مرگ‏ها بى‏رسيدن بآرزوها، و متفرق ساخت ايشان را از آرزوها بريده شدن أجلها در حالتى كه مهيا نساختند از عمل‏هاى شايسته در سلامتى بدنها، و عبرت نگرفتند از عبرت‏هاى نافعه در اول زمانها.

پس آيا انتظار مى‏كشند أهل قوت و امتلاء جوانى مگر قد خم كنندهاى پيرى و ناتوانى را، و أهل خوشى صحت و تن درستى مگر نازل شوندهاى بيمارى را، و أهل مدت بقا مگر زمانهاى فنا و نابودى را با وجود نزديكى مفارقت و قرب‏ انتقال بسوى آخرت و با وجود جزع اضطراب و درد مصيبت و بسيار بگلو ماندن آب دهان از اندوه و محنت و با وجود اين طرف و آن طرف نگريستن براى فرياد رس خواستن بيارى دادن اعوان و خويشان و اولاد و عزيزان.

پس آيا دفع نمود مرگ را از او خويشان، يا نفع بخشيد گريه گريه كنندگان و حال آنكه ترك كرده شد در محله مردگان محبوس گناه و در تنگى خوابگاه بى يار و همراه بتحقيق كه پاره نمود حشرات الأرض پوست تن او را و كهنه نمود لاغر كنندگان تازگى بدن او را، و مندرس نمود بادهاى سخت جهنده اثرهاى او را و محو نمود حوادث روزگار علامتهاى او را، و بگرديد بدنها متغيّر و لاغر بعد از تازگى و قوّت، و استخوانها پوسيده و متفرّق بعد از توانائى و شدّت.

و روحها گرد كرده شد ببار گران گناهان در حالتى كه يقين كننده باشند باخبار غايبه از ايشان، طلب نمى‏شود از آنها زياده كردن از اعمال صالحه، و طلب نمى‏شود از ايشان راضى كردن حق از اعمال باطله، آيا نيستيد شما پسران قوم خود و پدران ايشان، و برادران قوم خود و خويشان ايشان، اندازه مى‏گيريد در كارها بر مثلهاى آنها، و سوار مى‏شويد بر طريقه ايشان در اقوال و افعال، و سلوك مى‏كنيد در راههاى ايشان بهمه حال.

پس قلبها سختند از قبول بهره سودمند خود، غافلند از طلب هدايت خود سالكند در غير ميدان با منفعت خود، گويا كه مخاطب و مقصود بأوامر و نواهى غير از آن دلهاست، و گويا كه رشادت و مصلحت آنها در حفظ متاع دنياست.

هذا آخر الجزء الخامس من هذه الطبعة الجديدة الثمينة القيمة، تم تصحيحه و تهذيبه و ترتيبه بيد العبد «السيد ابراهيم الميانجى» عفى عنه و عن والديه و وقع الفراغ فى العشر الاول من شهر رجب الاصب 1379 و يليه ان شاء الله الجزء السادس و اوله: «الفصل السادس» من المختار الثاني و الثمانين، و الحمد للّه رب العالمين

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 82/1 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)«الغراء»

خطبه 83 صبحی صالح

83- و من خطبة له ( عليه‏ السلام ) و هي الخطبة العجيبة تسمى «الغراء»
و فيها نعوت اللّه جل شأنه،
ثم الوصية بتقواه
ثم التنفير من الدنيا،
ثم ما يلحق من دخول القيامة،
ثم تنبيه الخلق إلى ما هم فيه من الأعراض،
ثم فضله ( عليه ‏السلام ) في التذكير

صفته جل شأنه‏

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَلَا بِحَوْلِهِ
وَ دَنَا بِطَوْلِهِ
مَانِحِ كُلِّ غَنِيمَةٍ وَ فَضْلٍ
وَ كَاشِفِ كُلِّ عَظِيمَةٍ وَ أَزْلٍ
أَحْمَدُهُ عَلَى عَوَاطِفِ كَرَمِهِ
وَ سَوَابِغِ نِعَمِهِ
وَ أُومِنُ بِهِ أَوَّلًا بَادِياً
وَ أَسْتَهْدِيهِ قَرِيباً هَادِياً
وَ أَسْتَعِينُهُ قَاهِراً قَادِراً
وَ أَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ كَافِياً نَاصِراً
وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً ( صلى ‏الله ‏عليه‏ وآله )عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ
أَرْسَلَهُ لِإِنْفَاذِ أَمْرِهِ
وَ إِنْهَاءِ عُذْرِهِ
وَ تَقْدِيمِ نُذُرِهِ

الوصية بالتقوى‏

أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي ضَرَبَ الْأَمْثَالَ
وَ وَقَّتَ لَكُمُ الْآجَالَ
وَ أَلْبَسَكُمُ الرِّيَاشَ
وَ أَرْفَغَ لَكُمُ الْمَعَاشَ
وَ أَحَاطَ بِكُمُ الْإِحْصَاءَ
وَ أَرْصَدَ لَكُمُ الْجَزَاءَ
وَ آثَرَكُمْ بِالنِّعَمِ السَّوَابِغِ

وَ الرِّفَدِ الرَّوَافِغِ
وَ أَنْذَرَكُمْ بِالْحُجَجِ الْبَوَالِغِ
فَأَحْصَاكُمْ عَدَداً
وَ وَظَّفَ لَكُمْ مُدَداً
فِي قَرَارِ خِبْرَةٍ
وَ دَارِ عِبْرَةٍ
أَنْتُمْ مُخْتَبَرُونَ فِيهَا
وَ مُحَاسَبُونَ عَلَيْهَا
التنفير من الدنيا
فَإِنَّ الدُّنْيَا رَنِقٌ مَشْرَبُهَا
رَدِغٌ مَشْرَعُهَا
يُونِقُ مَنْظَرُهَا
وَ يُوبِقُ مَخْبَرُهَا
غُرُورٌ حَائِلٌ
وَ ضَوْءٌ آفِلٌ
وَ ظِلٌّ زَائِلٌ
وَ سِنَادٌ مَائِلٌ
حَتَّى إِذَا أَنِسَ نَافِرُهَا
وَ اطْمَأَنَّ نَاكِرُهَا
قَمَصَتْ بِأَرْجُلِهَا
وَ قَنَصَتْ بِأَحْبُلِهَا
وَ أَقْصَدَتْ بِأَسْهُمِهَا
وَ أَعْلَقَتِ الْمَرْءَ أَوْهَاقَ الْمَنِيَّةِ
قَائِدَةً لَهُ إِلَى ضَنْكِ الْمَضْجَعِ
وَ وَحْشَةِ الْمَرْجِعِ
وَ مُعَايَنَةِ الْمَحَلِّ
وَ ثَوَابِ الْعَمَلِ.
وَ كَذَلِكَ الْخَلَفُ بِعَقْبِ السَّلَفِ
لَا تُقْلِعُ الْمَنِيَّةُ اخْتِرَاماً
وَ لَا يَرْعَوِي الْبَاقُونَ اجْتِرَاماً
يَحْتَذُونَ مِثَالًا
وَ يَمْضُونَ أَرْسَالًا
إِلَى غَايَةِ الِانْتِهَاءِ وَ صَيُّورِ الْفَنَاءِ

بعد الموت البعث‏

حَتَّى إِذَا تَصَرَّمَتِ الْأُمُورُ
وَ تَقَضَّتِ الدُّهُورُ
وَ أَزِفَ النُّشُورُ
أَخْرَجَهُمْ مِنْ ضَرَائِحِ الْقُبُورِ
وَ أَوْكَارِ الطُّيُورِ
وَ أَوْجِرَةِ السِّبَاعِ
وَ مَطَارِحِ الْمَهَالِكِ
سِرَاعاً إِلَى أَمْرِهِ
مُهْطِعِينَ إِلَى مَعَادِهِ
رَعِيلًا صُمُوتاً
قِيَاماً صُفُوفاً
يَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ
وَ يُسْمِعُهُمُ‏ الدَّاعِي
عَلَيْهِمْ لَبُوسُ الِاسْتِكَانَةِ وَ ضَرَعُ الِاسْتِسْلَامِ وَ الذِّلَّةِ
قَدْ ضَلَّتِ الْحِيَلُ وَ انْقَطَعَ الْأَمَلُ وَ هَوَتِ الْأَفْئِدَةُ كَاظِمَةً
وَ خَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ مُهَيْنِمَةً
وَ أَلْجَمَ الْعَرَقُ
وَ عَظُمَ الشَّفَقُ
وَ أُرْعِدَتِ الْأَسْمَاعُ لِزَبْرَةِ الدَّاعِي
إِلَى فَصْلِ الْخِطَابِ
وَ مُقَايَضَةِ الْجَزَاءِ
وَ نَكَالِ الْعِقَابِ
وَ نَوَالِ الثَّوَابِ

تنبيه الخلق‏

عِبَادٌ مَخْلُوقُونَ اقْتِدَاراً
وَ مَرْبُوبُونَ اقْتِسَاراً
وَ مَقْبُوضُونَ احْتِضَاراً
وَ مُضَمَّنُونَ أَجْدَاثاً
وَ كَائِنُونَ رُفَاتاً
وَ مَبْعُوثُونَ أَفْرَاداً
وَ مَدِينُونَ جَزَاءً
وَ مُمَيَّزُونَ حِسَاباً
قَدْ أُمْهِلُوا فِي طَلَبِ الْمَخْرَجِ وَ هُدُوا سَبِيلَ الْمَنْهَجِ
وَ عُمِّرُوا مَهَلَ الْمُسْتَعْتِبِ
وَ كُشِفَتْ عَنْهُمْ سُدَفُ الرِّيَبِ
وَ خُلُّوا لِمِضْمَارِ الْجِيَادِ
وَ رَوِيَّةِ الِارْتِيَادِ
وَ أَنَاةِ الْمُقْتَبِسِ الْمُرْتَادِ فِي مُدَّةِ الْأَجَلِ وَ مُضْطَرَبِ الْمَهَلِ

فضل التذكير

فَيَا لَهَا أَمْثَالًا صَائِبَةً
وَ مَوَاعِظَ شَافِيَةً
لَوْ صَادَفَتْ قُلُوباً زَاكِيَةً
وَ أَسْمَاعاً وَاعِيَةً
وَ آرَاءً عَازِمَةً
وَ أَلْبَاباً حَازِمَةً
فَاتَّقُوا اللَّهَ تَقِيَّةَ مَنْ سَمِعَ فَخَشَعَ
وَ اقْتَرَفَ فَاعْتَرَفَ
وَ وَجِلَ فَعَمِلَ
وَ حَاذَرَ فَبَادَرَ
وَ أَيْقَنَ فَأَحْسَنَ
وَ عُبِّرَ فَاعْتَبَرَ
وَ حُذِّرَ فَحَذِرَ
وَ زُجِرَ فَازْدَجَرَ
وَ أَجَابَ فَأَنَابَ
وَ رَاجَعَ فَتَابَ
وَ اقْتَدَى‏فَاحْتَذَى
وَ أُرِيَ فَرَأَى
فَأَسْرَعَ طَالِباً
وَ نَجَا هَارِباً فَأَفَادَ ذَخِيرَةً
وَ أَطَابَ سَرِيرَةً
وَ عَمَّرَ مَعَاداً
وَ اسْتَظْهَرَ زَاداً لِيَوْمِ رَحِيلِهِ وَ وَجْهِ سَبِيلِهِ
وَ حَالِ حَاجَتِهِ وَ مَوْطِنِ فَاقَتِهِ
وَ قَدَّمَ أَمَامَهُ لِدَارِ مُقَامِهِ
فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ جِهَةَ مَا خَلَقَكُمْ لَهُ
وَ احْذَرُوا مِنْهُ كُنْهَ مَا حَذَّرَكُمْ مِنْ نَفْسِهِ
وَ اسْتَحِقُّوا مِنْهُ مَا أَعَدَّ لَكُمْ بِالتَّنَجُّزِ لِصِدْقِ مِيعَادِهِ
وَ الْحَذَرِ مِنْ هَوْلِ مَعَادِهِ

التذكير بضروب النعم‏

و منهاجَعَلَ لَكُمْ أَسْمَاعاً لِتَعِيَ مَا عَنَاهَا
وَ أَبْصَاراً لِتَجْلُوَ عَنْ عَشَاهَا
وَ أَشْلَاءً جَامِعَةً لِأَعْضَائِهَا
مُلَائِمَةً لِأَحْنَائِهَا فِي تَرْكِيبِ صُوَرِهَا وَ مُدَدِ عُمُرِهَا
بِأَبْدَانٍ قَائِمَةٍ بِأَرْفَاقِهَا
وَ قُلُوبٍ رَائِدَةٍ لِأَرْزَاقِهَا

فِي مُجَلِّلَاتِ نِعَمِهِ
وَ مُوجِبَاتِ مِنَنِهِ
وَ حَوَاجِزِ عَافِيَتِهِ
وَ قَدَّرَ لَكُمْ أَعْمَاراً سَتَرَهَا عَنْكُمْ
وَ خَلَّفَ لَكُمْ عِبَراً مِنْ آثَارِ الْمَاضِينَ قَبْلَكُمْ
مِنْ مُسْتَمْتَعِ خَلَاقِهِمْ
وَ مُسْتَفْسَحِ خَنَاقِهِمْ
أَرْهَقَتْهُمُ الْمَنَايَا دُونَ الْآمَالِ
وَ شَذَّبَهُمْ عَنْهَا تَخَرُّمُ الْآجَالِ
لَمْ يَمْهَدُوا فِي سَلَامَةِ الْأَبْدَانِ
وَ لَمْ يَعْتَبِرُوا فِي أُنُفِ الْأَوَانِ
فَهَلْ يَنْتَظِرُ أَهْلُ بَضَاضَةِ الشَّبَابِ إِلَّا حَوَانِيَ الْهَرَمِ
وَ أَهْلُ غَضَارَةِ الصِّحَّةِ إِلَّا نَوَازِلَ السَّقَمِ
وَ أَهْلُ مُدَّةِ الْبَقَاءِ إِلَّا آوِنَةَ الْفَنَاءِ
مَعَ قُرْبِ الزِّيَالِ
وَ أُزُوفِ الِانْتِقَالِ
وَ عَلَزِ الْقَلَقِ
وَ أَلَمِ الْمَضَضِ
وَ غُصَصِ الْجَرَضِ
وَ تَلَفُّتِ‏ الِاسْتِغَاثَةِ بِنُصْرَةِ الْحَفَدَةِ وَ الْأَقْرِبَاءِ وَ الْأَعِزَّةِ وَ الْقُرَنَاءِ
فَهَلْ دَفَعَتِ الْأَقَارِبُ
أَوْ نَفَعَتِ النَّوَاحِبُ
وَ قَدْ غُودِرَ فِي مَحَلَّةِ الْأَمْوَاتِ رَهِيناً
وَ فِي ضِيقِ الْمَضْجَعِ وَحِيداً
قَدْ هَتَكَتِ الْهَوَامُّ جِلْدَتَهُ
وَ أَبْلَتِ النَّوَاهِكُ جِدَّتَهُ
وَ عَفَتِ الْعَوَاصِفُ آثَارَهُ
وَ مَحَا الْحَدَثَانُ مَعَالِمَهُ
وَ صَارَتِ الْأَجْسَادُ شَحِبَةً بَعْدَ بَضَّتِهَا
وَ الْعِظَامُ نَخِرَةً بَعْدَ قُوَّتِهَا
وَ الْأَرْوَاحُ مُرْتَهَنَةً بِثِقَلِ أَعْبَائِهَا
مُوقِنَةً بِغَيْبِ أَنْبَائِهَا
لَا تُسْتَزَادُ مِنْ صَالِحِ عَمَلِهَا
وَ لَا تُسْتَعْتَبُ مِنْ سَيِّئِ زَلَلِهَا
أَ وَ لَسْتُمْ أَبْنَاءَ الْقَوْمِ وَ الْآبَاءَ وَ إِخْوَانَهُمْ وَ الْأَقْرِبَاءَ
تَحْتَذُونَ أَمْثِلَتَهُمْ
وَ تَرْكَبُونَ قِدَّتَهُمْ
وَ تَطَئُونَ جَادَّتَهُمْ
فَالْقُلُوبُ قَاسِيَةٌ عَنْ حَظِّهَا
لَاهِيَةٌ عَنْ رُشْدِهَا
سَالِكَةٌ فِي غَيْرِ مِضْمَارِهَا
كَأَنَّ الْمَعْنِيَّ سِوَاهَا
وَ كَأَنَّ الرُّشْدَ فِي إِحْرَازِ دُنْيَاهَا

التحذير من هول الصراط

وَ اعْلَمُوا أَنَّ مَجَازَكُمْ عَلَى الصِّرَاطِ وَ مَزَالِقِ دَحْضِهِ
وَ أَهَاوِيلِ زَلَلِهِ
وَ تَارَاتِ أَهْوَالِهِ
فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ تَقِيَّةَ ذِي لُبٍّ شَغَلَ التَّفَكُّرُ قَلْبَهُ
وَ أَنْصَبَ الْخَوْفُ بَدَنَهُ
وَ أَسْهَرَ التَّهَجُّدُ غِرَارَ نَوْمِهِ
وَ أَظْمَأَ الرَّجَاءُ هَوَاجِرَ يَوْمِهِ
وَ ظَلَفَ الزُّهْدُ شَهَوَاتِهِ
وَ أَوْجَفَ الذِّكْرُ بِلِسَانِهِ
وَ قَدَّمَ الْخَوْفَ لِأَمَانِهِ
وَ تَنَكَّبَ الْمَخَالِجَ عَنْ وَضَحِ السَّبِيلِ
وَ سَلَكَ أَقْصَدَ الْمَسَالِكِ إِلَى‏النَّهْجِ الْمَطْلُوبِ
وَ لَمْ تَفْتِلْهُ فَاتِلَاتُ الْغُرُورِ
وَ لَمْ تَعْمَ عَلَيْهِ مُشْتَبِهَاتُ الْأُمُورِ
ظَافِراً بِفَرْحَةِ الْبُشْرَى
وَ رَاحَةِ النُّعْمَى
فِي أَنْعَمِ نَوْمِهِ
وَ آمَنِ يَوْمِهِ
وَ قَدْ عَبَرَ مَعْبَرَ الْعَاجِلَةِ حَمِيداً
وَ قَدَّمَ زَادَ الْآجِلَةِ سَعِيداً
وَ بَادَرَ مِنْ وَجَلٍ
وَ أَكْمَشَ فِي مَهَلٍ
وَ رَغِبَ فِي طَلَبٍ
وَ ذَهَبَ عَنْ هَرَبٍ
وَ رَاقَبَ فِي يَوْمِهِ غَدَهُ
وَ نَظَرَ قُدُماً أَمَامَهُ
فَكَفَى بِالْجَنَّةِ ثَوَاباً وَ نَوَالًا
وَ كَفَى بِالنَّارِ عِقَاباً وَ وَبَالًا
وَ كَفَى بِاللَّهِ مُنْتَقِماً وَ نَصِيراً
وَ كَفَى بِالْكِتَابِ حَجِيجاً وَ خَصِيماً

الوصية بالتقوى‏

أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي أَعْذَرَ بِمَا أَنْذَرَ
وَ احْتَجَّ بِمَا نَهَجَ
وَ حَذَّرَكُمْ عَدُوّاً نَفَذَ فِي الصُّدُورِ خَفِيّاً
وَ نَفَثَ فِي الْآذَانِ نَجِيّاً فَأَضَلَّ وَ أَرْدَى
وَ وَعَدَ فَمَنَّى
وَ زَيَّنَ سَيِّئَاتِ الْجَرَائِمِ
وَ هَوَّنَ مُوبِقَاتِ الْعَظَائِمِ
حَتَّى إِذَا اسْتَدْرَجَ قَرِينَتَهُ
وَ اسْتَغْلَقَ رَهِينَتَهُ
أَنْكَرَ مَا زَيَّنَ
وَ اسْتَعْظَمَ مَا هَوَّنَ
وَ حَذَّرَ مَا أَمَّنَ
و منها في صفة خلق الإنسان‏
أَمْ هَذَا الَّذِي أَنْشَأَهُ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْحَامِ
وَ شُغُفِ الْأَسْتَارِ
نُطْفَةً دِهَاقاً
وَ عَلَقَةً مِحَاقاً
وَ جَنِيناً وَ رَاضِعاً وَ وَلِيداً وَ يَافِعاً
ثُمَّ مَنَحَهُ قَلْباً حَافِظاً
وَ لِسَاناً لَافِظاً
وَ بَصَراً لَاحِظاً
لِيَفْهَمَ مُعْتَبِراً
وَ يُقَصِّرَ مُزْدَجِراً
حَتَّى إِذَا قَامَ اعْتِدَالُهُ
وَ اسْتَوَى‏مِثَالُهُ
نَفَرَ مُسْتَكْبِراً
وَ خَبَطَ سَادِراً
مَاتِحاً فِي غَرْبِ هَوَاهُ
كَادِحاً سَعْياً لِدُنْيَاهُ فِي لَذَّاتِ طَرَبِهِ وَ بَدَوَاتِ أَرَبِهِ
ثُمَّ لَا يَحْتَسِبُ رَزِيَّةً
وَ لَا يَخْشَعُ تَقِيَّةً
فَمَاتَ فِي فِتْنَتِهِ غَرِيراً
وَ عَاشَ فِي هَفْوَتِهِ يَسِيراً
لَمْ يُفِدْ عِوَضاً
وَ لَمْ يَقْضِ مُفْتَرَضاً
دَهِمَتْهُ فَجَعَاتُ الْمَنِيَّةِ فِي غُبَّرِ جِمَاحِهِ
وَ سَنَنِ مِرَاحِهِ
فَظَلَّ سَادِراً
وَ بَاتَ سَاهِراً فِي غَمَرَاتِ الْآلَامِ
وَ طَوَارِقِ الْأَوْجَاعِ وَ الْأَسْقَامِ
بَيْنَ أَخٍ شَقِيقٍ
وَ وَالِدٍ شَفِيقٍ
وَ دَاعِيَةٍ بِالْوَيْلِ جَزَعاً
وَ لَادِمَةٍ لِلصَّدْرِ قَلَقاً
وَ الْمَرْءُ فِي سَكْرَةٍ مُلْهِثَةٍ وَ غَمْرَةٍ كَارِثَةٍ
وَ أَنَّةٍ مُوجِعَةٍ
وَ جَذْبَةٍ مُكْرِبَةٍ
وَ سَوْقَةٍ مُتْعِبَةٍ
ثُمَّ أُدْرِجَ فِي أَكْفَانِهِ مُبْلِساً
وَ جُذِبَ مُنْقَاداً سَلِساً
ثُمَّ أُلْقِيَ عَلَى الْأَعْوَادِ رَجِيعَ وَصَبٍ
وَ نِضْوَ سَقَمٍ
تَحْمِلُهُ حَفَدَةُ الْوِلْدَانِ
وَ حَشَدَةُ الْإِخْوَانِ إِلَى دَارِ غُرْبَتِهِ وَ مُنْقَطَعِ زَوْرَتِهِ وَ مُفْرَدِ وَحْشَتِهِ
حَتَّى إِذَا انْصَرَفَ الْمُشَيِّعُ
وَ رَجَعَ الْمُتَفَجِّعُ
أُقْعِدَ فِي حُفْرَتِهِ نَجِيّاً لِبَهْتَةِ السُّؤَالِ
وَ عَثْرَةِ الِامْتِحَانِ
وَ أَعْظَمُ مَا هُنَالِكَ بَلِيَّةً نُزُولُ الْحَمِيمِ
وَ تَصْلِيَةُ الْجَحِيمِ
وَ فَوْرَاتُ السَّعِيرِ
وَ سَوْرَاتُ الزَّفِيرِ
لَا فَتْرَةٌ مُرِيحَةٌ
وَ لَا دَعَةٌ مُزِيحَةٌ
وَ لَا قُوَّةٌ حَاجِزَةٌ
وَ لَا مَوْتَةٌ نَاجِزَةٌ

وَ لَا سِنَةٌ مُسَلِّيَةٌ
بَيْنَ أَطْوَارِ الْمَوْتَاتِ
وَ عَذَابِ السَّاعَاتِ
إِنَّا بِاللَّهِ عَائِذُونَ
عِبَادَ اللَّهِ أَيْنَ الَّذِينَ عُمِّرُوا فَنَعِمُوا
وَ عُلِّمُوا فَفَهِمُوا
وَ أُنْظِرُوا فَلَهَوْا
وَ سُلِّمُوا فَنَسُوا
أُمْهِلُوا طَوِيلًا
وَ مُنِحُوا جَمِيلًا
وَ حُذِّرُوا أَلِيماً
وَ وُعِدُوا جَسِيماً
احْذَرُوا الذُّنُوبَ الْمُوَرِّطَةَ
وَ الْعُيُوبَ الْمُسْخِطَةَ
أُولِي الْأَبْصَارِ وَ الْأَسْمَاعِ
وَ الْعَافِيَةِ وَ الْمَتَاعِ
هَلْ مِنْ مَنَاصٍ أَوْ خَلَاصٍ
أَوْ مَعَاذٍ أَوْ مَلَاذٍ
أَوْ فِرَارٍ أَوْ مَحَارٍ أَمْ لَا
فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ‏
أَمْ أَيْنَ تُصْرَفُونَ
أَمْ بِمَا ذَا تَغْتَرُّونَ
وَ إِنَّمَا حَظُّ أَحَدِكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ذَاتِ الطُّوْلِ وَ الْعَرْضِ قِيدُ قَدِّهِ
مُتَعَفِّراً عَلَى خَدِّهِ
الْآنَ عِبَادَ اللَّهِ وَ الْخِنَاقُ مُهْمَلٌ
وَ الرُّوحُ مُرْسَلٌ فِي فَيْنَةِ الْإِرْشَادِ
وَ رَاحَةِ الْأَجْسَادِ
وَ بَاحَةِ الِاحْتِشَادِ
وَ مَهَلِ الْبَقِيَّةِ
وَ أُنُفِ الْمَشِيَّةِ
وَ إِنْظَارِ التَّوْبَةِ
وَ انْفِسَاحِ الْحَوْبَةِ
قَبْلَ الضَّنْكِ وَ الْمَضِيقِ وَ الرَّوْعِ وَ الزُّهُوقِ
وَ قَبْلَ قُدُومِ الْغَائِبِ الْمُنْتَظَرِ
وَ إِخْذَةِ الْعَزِيزِ الْمُقْتَدِرِ
قال الشريف و في الخبر أنه لما خطب بهذه الخطبة اقشعرت لها الجلود
و بكت العيون و رجفت القلوب
و من الناس من يسمي هذه الخطبة الغراء

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج5  

و من خطبة له عليه السلام عجيبة و هى الثانية و الثمانون من المختار فى باب الخطب

و شرحها في ضمن فصول و بعض فصولها مروىّ في البحار بتفاوت و اختلاف لما في الكتاب تطلع عليه عند الفراغ من شرح الخطبة في التّكملة الآتية فانتظر.

الفصل الاول

الحمد للّه الّذي علا بحوله، و دنا بطوله، مانح كلّ غنيمة و فضل و كاشف كلّ عظيمة و أزل، أحمده على عواطف كرمه، و سوابغ نعمه، و أو من به أوّلا باديا، و استهديه قريبا هاديا، و استعينه قاهرا قادرا، و أتوكّل عليه كافيا ناصرا، و أشهد أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله عبده و رسوله، أرسله لإنفاذ أمره، و إنهاء عذره، و تقديم نذره.

اللغة

(الحول) القوّة و (الطول) الفضل و السّعة و (منحه) أعطاه و (الأزل) بفتح الهمزة و سكون الزّاء المعجمة الشّدة و الضّيق و (عطفته) عطفا ثنّيته و (أسبع نعمه) عليكم أى أتمّه و (البادى) الظاهر و منه قوله تعالى: بادى الرّأى، أى ظاهره يقال بدا يبدو بدوا أى ظهر فهو باد أو من البداية مقابل النّهاية (و الانهاء) الابلاغ و (العذر) و (النّذر) فى قوله تعالى عذرا أو نذرا، أى حجة و تخويفا أو إعذارا و إنذارا، أى تخويفا و وعيدا.

الاعراب

أولا و باديا إما منصوب على الظرفية فتكون متعلقا باو من و عليه فيكون‏باديا من البدائة أى او من به ابتداء قبل كلّ شي‏ء أو منصوبان على الحالية من الضّمير في به فيكونان في المعنى و صفين للّه سبحانه، و هذا هو الأظهر من حيث السياق لأنّ المنصوبات السّتة بعدهما من أوصاف اللّه تعالى إلّا أنّ الأوّل أقرب من حيث المعنى فافهم و تأمل.

المعنى

اعلم أنّ هذه الخطبة له عليه السّلام كما ذكره السّيد من الخطب العجيبة مشتملة على نكات بديعة و مطالب أنيقة حسبما تعرف إليها الاشارة، و هذا الفصل منها مسوغ للثناء على اللّه سبحانه باعتبار نعوت جلاله و صفات كماله.
فقوله (الحمد للّه الّذي علا بحوله) إشارة إلى علوّه عزّ و جلّ على كلّ شي‏ء لكن لا بالمعنى المتعارف في الخلق من الفوقية الحسيّة و الخيالية بل العلوّ بالغلبة و القهر و الاستعلاء بالقدرة و القوّة، و قوله (و دنا بطوله) إشارة إلى قربه من كلّ شي‏ء لكن لا بالمعنى المتعارف في الأجسام المتقارنة بل القرب بالفضل و السعة و الدنوّ بالاحسان و العطية.
و قد قدّمنا الكلام في علوّه سبحانه و دنوّه بما لا مزيد عليه في شرح الفصل الخامس و السادس من فصول الخطبة الاولى، و في شرح الخطبة التاسعة و الأربعين أيضا، و لئن رجعت إلى ما حقّقناه هناك عرفت أن علوّه سبحانه على الأشياء لا ينافي قربه منها، و أنّ قربه بها لا ينافي بعده عنها، فهو تعالى في كمال علوّه على خلقه منهم قريب، و في منتهى قربه إلى الخلق عنهم بعيد.

و هو سبحانه (مانح كلّ غنيمة و فضل و كاشف كلّ) داهية (عظيمة و أزل) لأنّ كلّ نعمة مبدئها وجوده، و كلّ عطية منشؤها كرمه وجوده، فهو منزل النّعم الجسام و منفس الكرب العظام، و هو الصّارف لطارق البلاء و الدافع للبأساء و الضرّاء و هو مجيب المضطرّ إذا دعاه و كاشف السوء عنه حين ناداه.
وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ،ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ«».

(أحمده على عواطف كرمه) و الكريم من أسمائه تعالى و هو الجواد المعطى الذى لا ينفد عطاؤه، و يفيض الخير عنه من غير بخل و منع على كلّ قابل بقدر قابليته، و عواطف كرمه سبحانه عبارة عن فيوضاته العائدة إلى العباد مرّة بعد اخرى و عن خيراته النازلة إليهم تترى فانه تعالى لا يفتقر عن كثرة العطاء و لا تعجز عن الجزاء، وجوده يعلو كلّ جواد و به جاد كلّ من جاد: وَ مَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ«».

(و) نشكره على (سوابغ نعمه) أى نعمه التامة الكاملة و آلائه الظاهرة و الباطنة كما قال عزّ من قائل: أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لا هُدىً وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ«».

قال الطبرسي: النعمة الظاهرة ما لا يمكنكم جحده من خلقكم و إحيائكم و إقداركم و خلق الشّهوة فيكم و غيرها من ضروب النعم، و الباطنة ما لا يعرفها إلّا من أمعن النظر فيها. و عن ابن عباس الباطنة مصالح الدين و الدنيا مما يعلمه اللّه و غاب عن العباد علمه.

و عنه قال سألت النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عنه فقال: يابن عباس أمّا ما ظهر فالاسلام و سوى اللّه من خلقك و ما أفاض عليك من الرزق، و أماما بطن فستر مساوي عملك و لم يفضحك به يابن عباس إنّ اللّه تعالى يقول ثلاثة جعلتهنّ للمؤمن و لم تكن له: صلاة المؤمنين عليه من بعد انقطاع عمله، و جعلت له ثلث ماله يكفر خطاياه، و الثالثة سترت مساوي عمله فلم افضحه بشي‏ء منه و لو أبديتها عليه لنبذه أهله فمن سواهم.

و قيل الظاهرة تخفيف الشرائع و الباطنة الشفاعة و قيل الظاهرة نعم الدنيا و الباطنة نعم الآخرة و قيل الظاهرة ظهور الاسلام و النصر على الأعداء و الباطنة الامداد بالملائكة و قيل الظاهرة نعم الجوارح و الباطنة نعم القلب.
و قال الرازي في التفسير الكبير: الظاهرة هي ما في الأعضاء من السّلامة، و الباطنة ما في القوى فانّ العضو ظاهر و فيه قوّة باطنة ألا ترى أنّ العين و الاذن شحم و غضروف ظاهر و اللسان و الأنف لحم و عظم ظاهر و في كلّ واحد معنى باطن من الابصار و السمع و الذوق و الشمّ و كذلك كلّ عضو و قد تبطل القوّة و يبقى عضو قائما.

أقول و الكلّ لا بأس به إذ الجميع من نعم اللّه على عباده، و في تفسير أهل البيت عليهم السّلام النعمة الظاهرة الرّسالة، و النعمة الباطنة الولاية (و أو من به أولا باديا) أى اصدّق به و أعتقد بالهيته و وحدانيّته أوّلا و ابتداء قبل الاستهداء و الاستعانة منه و مقدما على التوكّل عليه إذ ما لم يؤمن به و لم يصدق لا يمكن الاستهداء و الاستعانة و التوكّل، لأنّ ذلك كلّه فرع المعرفة و الايمان و هو ظاهر بالعيان، و على جعل انتصابهما على الحال فالاشارة بهما إلى الجهة التي هي مبدء الايمان إذ باعتبار أوّلية وجب وجوده و باعتبار كونه باديا أظهر الموجودات و ظهر منه الآيات في الأنفس و الآفاق، فكان ظاهرا باديا في العقل بظهور آثاره و وضوح آياته فباعتبار ظهوره مع أولية يجب الايمان بوجوب وجوده و الاذعان بالهيّته.

(و أستهديه قريبا هاديا) و الاشارة بهذين الوصفين كما في سابقيهما إذ من لا يتّصف بالهداية كيف يتصوّر الاستهداء منه و من كان بعيدا كيف يطلب منه الارشاد إلى الرشاد و الدلالة على السداد (و أستعينه قاهرا قادرا) و الكلام فيهما كما في سوابقهما إذ العاجز و الضعيف لا يتمكّن من نفسه فكيف يكون معاونا للغير أو يطلب منه الاعانة (و أتوكّل عليه كافيا ناصرا) و الكلام فيهما أيضا كما فيما تقدّم إذ التوكّل عبارة عن الوكول و الاعتماد فيما يخاف و يرجى على الغير فلا بدّ من اتصاف المعتمد عليه بالكفاية و النصرة ليكفى المعتمد فيما رجاه و ينصره فيما يخاف.

و إليه يرجع ما عن معانى الأخبار مرفوعا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هو أنّه جاء جبرئيل إليه فقال له: يا جبرئيل و ما التّوكّل قال: العلم بأنّ المخلوق لا يضرّ و لا ينفع و لا يعطي و لا يمنع و استعمال الياس من النّاس، فاذا كان العبد كذلك لم يعتمد على أحد سوى اللّه و لم يرج و لم يخف سوى اللّه، و لم يطمع على أحد سوى اللّه و قال سبحانه: وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدْراً.

يعني من يفوّض أمره إليه سبحانه و وثق بحسن تدبيره فهو كافيه يكفيه أمر الدّنيا و الآخرة أنّه يبلغ أمره و ما أراده من قضاياه و تدابيره على ما أراده و لا يقدر أحد على منعه ممّا أراده، لارادّ لقضائه و لا مبدّل لحكمه، و قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ التّوكل من شئونات الايمان و من فروع المعرفة، و لذلك وصف سبحانه المؤمنين بذلك حيث قال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَ عَلى‏ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ.

(و أشهد أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله عبده و رسوله) قد تقدّم الكلام في ثواب الشّهادة بالرّسالة في شرح الخطبة الثّانية و مضى تحقيق معنى العبد و الرّسول في شرح الخطبة الحادية و السّبعين فليراجع.
ثمّ أشار إلى بعض دواعي الرّسالة بقوله (أرسله لانفاذ أمره) يعني أرسله اللّه سبحانه لاجراء أحكامه الشرعيّة و احكام قوانينه العدليّة في الخلق ليقرّوا له بالعبوديّة و ليمحّضوا له بالطاعة (و انهاء عذره) أى اعلام معذرته و ابلاغ عذره إلى الخلق في تعذيبهم إن عصوه، و قد مضى تحقيق ذلك في شرح الخطبة الثّمانين (و تقديم نذره) اى ليقدّم انذار اللّه إلى الخلق و تخويفه لهم من عقابه و ليبلّغهم ذلك قبل يوم لقائه ليكون ذلك جاذ بالهم إلى الطاعة رادعا لهم عن المعصية.

الترجمة

از جمله خطبه ‏هاى عجيبه آن حضرتست: حمد و ثنا مر معبود بحق را سزاست كه بلند است بر همه خلق با قدرة و قوّة، و نزديك است از همه بافضل و عظمة، و عطا كننده هر منفعت است و زايل سازنده هر بلاى بزرگ و شدّة.
حمد مى‏ نمايم او را بر متكرّرات كرم او و بر تمامهاى نعم او، و ايمان مى آورم باو سبحانه در حالتي كه اوّلست و هويدا، و طلب هداية مى‏ كنم از او در حالتى كه نزديكست و راهنما، و طلب يارى مي كنم از او در حالتى كه غالب است و قادر، و توكل مي كنم باو در حالتى كه كفاية كننده است و ناصر، و گواهى مى‏ دهم باين كه محمّد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بنده برگزيده اوست و رسول پسنديده او كه فرستاد او را بجهت اجراء امر شريعت او و اعلام عذر و معذرت او و مقدم داشتن ترسانيدن از عقوبت او پيش از لقاء روز آخرت.

الفصل الثاني

أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه الّذي ضرب لكم الأمثال، و وقّت‏ لكم الآجال، و ألبسكم الرّياش، و أرفغ لكم المعاش، و أحاط بكم الإحصاء، و أرصد لكم الجزاء، و آثركم بالنّعم السّوابغ، و الرّفد الرّوافع، و أنذركم بالحجج البوالغ، فأحصاكم عددا، و وظّف لكم مددا، في قرار خبرة، و دار عبرة، أنتم مختبرون فيها، و محاسبون عليها، فإنّ الدّنيا رنق مشربها، ردغ مشرعها، يونق منظرها، و يوبق مخبرها، غرور حائل، وضوء آفل، و ظلّ زائل، و سناد مائل، حتّى إذا أنس نافرها، و اطمئنّ ناكرها، قمصت بأرجلها، و قنصت بأحبلها، و أقصدت بأسهمها، و أعلقت المرء أوهاق المنيّة، قائدة له إلى ضنك المضجع، و وحشة المرجع، و معاينة المحلّ، و ثواب العمل، و كذلك الخلف بعقب السّلف، لا تقلع المنيّة اختراما، و لا يرعوي الباقون اجتراما، يحتذون مثالا، و يمضون أرسالا، إلى غاية الانتهاء، و صيّور الفناء.

اللغة

(الرّياش) و الريش واحد قال تعالى: و ريشا و لباس التقوى، و هو ما ظهر من اللّباس الفاخر، و في المصباح الرّيش الخير و الرّياش بالكسر المال و الحالة الجميلة.
أقول: و منه قولهم ارتاش فلان أى حسنت حاله و (ارفغ) بالغين المعجمة من الرّفغ و هو السّعة و الخصب يقال رفغ عيشه بالضمّ رفاغة اتّسع و (الرّفد) جمع‏ رفدة و هي العطية و الصّلة و (و التّوظيف) التّعيين و (القرار) و القرارة ما قرّ فيه و المطمئنّ من الأرض و (الخبرة) بالضمّ و الكسر اسم من الاختبار كالعبرة من الاعتبار يقال اختبرت فلانا و اعتبرته امتحنته، قال و يكون الاعتبار بمعنى الاتعاظ و منه قوله تعالى «فاعتبروا يا أولي الأبصار» قال الخليل العبرة و الاعتبار بما مضى اى الاتّعاظ و التّذكر و (رنق) الماء من باب فرح و نصر رنقا و رنقا و رنوقا كدر فهو رنق و رنق و رنق كعدل و كتف و جبل و مكان (ردغ) ككتف كثير الوحل و (يونق) مضارع باب الافعال يقال آنقنى الشّي‏ء أعجبنى و المجرّد أنق كفرح يقال انق الشي‏ء انقا أى راق حسنه و أعجب و (يوبق) من باب الافعال أيضا و المجرّد و بق من باب وعد و وجل و ورث يقال و بق الرّجل و يبق و يوبق و بوقا هلك و (المخبر) كالمنظر مصدر او اسم مكان و (الغرور) بالفتح من غرّته الدّنيا غرورا من باب قعد خدعته بزينتها فهى غرور مثل رسول اسم فاعل مبالغة و (الحائل) المتغيّر اللّون و (أفل) افولا من باب ضرب و نصر و علم غاب و (السّناد) و السّند بفتحتين ما استندت إليه من حايط و نحوه.

و (انس) به انسا من باب علم و في لغة من باب ضرب و الانس بالضمّ اسم منه و استأنست به و تأنّست به إذا سكن القلب و لم ينفر و رجل (ناكر) و نكر فاعل من نكر الأمر من باب فرح أى انكره و (قمص) الفرس و غيره عند الرّكوب قمصا من باب ضرب و قتل و هو أن يرفع يديه معا و يضعهما معا و (قنصه) يقنصه صاده فهو قانص و قنيص و قناص و (أقصد) السهم أصاب فقتل مكانه و فلانا طعنه فلم يخطئه و (الاوهاق) جمع وهق محرّكة و يسكن و هو الحبل يرمى في عنق الشخص يؤخذ به و يوثق و أصله للدّواب و يقال في طرفه النشوطة، و هي بالضمّ ربطة دون العقدة إذا مدّت بأحد طرفيها انفتحت.

و (الضنك) بسكون النون الضّيق و (ضجع) ضجعا و ضجوعا من باب منع وضع جنبه بالأرض كاضطجع و المضجع كمقعد موضع الضجع و (المرجع) كمنزل مصدر من رجع رجوعا كالمرجعة و هما شاذان لأنّ المصادر من فعل يفعل بالفتح‏و كذلك الخلف بعقب السّلف (العقب) بكسر القاف و بسكونها للتخفيف يقال جائني عقبه و أصل الكلمة جاء زيد يطأ عقب عمرو، و المعنى كلما رفع عمرو قدما وضع زيد قدمه مكانها، ثمّ كثر حتّى قيل جاء عقبه ثمّ كثر حتّى استعمل بمعنيين: أحدهما المتابعة و الموالاة فاذا قيل جاء في عقبه فالمعني في اثره قال ابن السّكيت بنو فلان يسقى ابلهم عقب بني فلان أى بعدهم، و قال ابن فارس فرس ذو عقب أى جرى بعد جرى، و ذكر تصاريف الكلمة ثمّ قال و الباب كلّه يرجع إلى اصل واحد و هو أن يجي‏ء الشي‏ء بعقب الشي‏ء أى متأخّرا عنه و منه قولهم خلف فلان بعقبى أى أقام بعدي و عقبت زيدا عقبا و عقوبا من باب قتل جئت بعده.

و المعنى الثّاني إدراك جزء من المذكور معه يقال جاء في عقب شهر رمضان إذا جاء و قد بقى منه بقيّة و يقال إذا برأ المريض و قد بقى شي‏ء من المرض هو في عقب المرض.
إذا عرفت ذلك فمعنى قوله عليه السّلام (و كذلك الخلف بعقب السّلف) كذلك جاء الخلف متأخّرا عن السّلف و بعدهم أو جاءوا و قد بقى منهم بقيّة، و في بعض النّسخ يعقب السّلف بصيغة المضارع أى يجي‏ء بعد السّلف و يتأخّر عنهم أو مع بقاء بقيّة منهم و (قلعه) قلعا من باب منع انتزعه من اصله و الاقلاع عن الأمر الكفّ عنه و (اخترمته) المنيّة أخذته و القوم استأصلتهم و اقتطعتهم و (ارعوى) عن القبيح ارتدع و (الاجترام) اكتساب الجرم و الذنب و (احتذيت) به إذا اقتديت به في اموره و اصله من حذوت النّعل بالنّعل قدرتها بها و قطعتها على مثالها و قدرها و (الأرسال) جمع رسل بفتحتين مثل سبب و أسباب و هو القطيع من الابل و شبّه به النّاس فقيل جاءوا أرسالا أى متتابعا و (صير) الأمر بالكسر و يفتح مسيره و عاقبته كالصّيّور و الصّيّورة.

الاعراب

قوله عليه السّلام و أحاط بكم الاحصاء قال الشّارح المعتزلي يمكن أن ينصب الاحصاء على أنّه مصدر فيه اللام و العامل فيه غير لفظه، و يجوز أن ينصب بأنّه مفعول به و يكون‏ ذلك على وجهين: أحدهما أن يكون من حاط ثلاثيا تقول حاط فلان كرمه أي جعل عليه حائطا فكأنّه جعل الاحصاء و العدّ كالحائط المدار عليهم لأنّهم لا يعدونه و لا يخرجون عنه الثّاني أن يكون من حاط يحوط بالواو بمعنى جمع فادخل الهمزة كأنّه جعل الاحصاء يحوطهم و يجمعهم تقول ضربت زيدا و اضربته أى جعلته ذا ضرب كأنّه جعل الاحصاء ذا تحويط عليهم بالاعتبار الاولى أو جعله ذا جمع لهم بالاعتبار الثّاني و يمكن فيه وجه آخر و هو أن يكون الاحصاء مفعولا له و يكون في الكلام محذوف تقديره و أحاط بكم حفظته و ملائكته للاحصاء و دخول اللّام في المفعول له كثير انتهى.

و الأظهر هو الانتصاب بالمصدر، و مثله قوله عليه السّلام و أحصاكم عددا فانّه أيضا مصدر بغير لفظة الفعل على ما ذهب إليه الزّجاج من تجويز كون العدد مصدرا مستدلا بقوله تعالى سنين عددا و على هذا فيكون أصل كلامه أحصاكم و عدّكم عددا على حدّ قوله تعالى: لقد أحصيهم و عدّهم عدّا.

و أمّا على مذهب المشهور و هو الحقّ من كون العدد كالعديد اسم مصدر فهو تمييز منقول من المفعول به كقوله تعالى: و فجّرنا الأرض عيونا، و الأصل أحصا عددكم، و يمكن أن يكون حالّا أى أحصاكم معدودا محصورا.
و جوّز هذا الوجه مع الوجه الأوّل صاحب الكشّاف في قوله و أحاط بما لديهم و أحصى كلّ شي‏ء عددا حيث قال: عددا حال أى و ضبط كلّ شي‏ء معدودا محصورا أو مصدر في معنى الاحصاء.

قوله و أعلقت المرء أوهاق المنيّة بنصب المرء و الأوهاق على المفعوليّة و الفاعل الضمير الرّاجع إلى الدّنيا و الباء في قوله بعقب السّلف بمعنى في كما في قوله بالبكاء الكثير بالاطلال، و اختراما و اجتراما منصوبان بنزع الخافض أى لا تكف عن اخترام و لا يرتدعون عن اجترام، و أرسالا منتصب على الحال.

المعنى

اعلم أنّ هذا الفصل من الخطبة مسوق للوصيّة بالتّقوى و الخشية من اللّه و متضمّن للتنفّر عن الدّنيا بذكر معايبها و مثالبها فأمر أوّلا بالتّقوى بقوله (أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه الذى ضرب لكم الأمثال) أى ضربها لكم في القرآن للتذكرة و الموعظة كما قال تعالى: وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ اي ليتذكّروا بتلك الأمثال و يتدبّروا فيها فيعتبروا، و الأمثال التي ضربها لهم فيه كثيرة منها قوله تعالى بعد الآية السّابقة.

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَ رَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ.
فانّه مثل ضربه سبحانه لعبدة الأصنام و للمخلصين بتوحيده، و يعني بقوله رجلا فيه شركاء أنّه يعبد آلهة مختلفة و أصناما، و هم متشاجرون متعاسرون هذا يأمره و هذا ينهاه و يريد كلّ واحد منهم أن يفرّده بالخدمة ثمّ يكل كلّ منهم أمره إلى الآخر ويكل الآخر إلى آخر فيبقى هو خاليا من المنافع و هذا حال من يخدم جماعة مختلفة الآراء و الأهواء و هو مثل الكافر.

و أمّا مثل المؤمن الموحّد فرجل سلم أي خالص يخدم مالكا واحدا لا يشوب بخدمته خدمة غيره و لا يأمل سواه و من كان بهذه الصفة نال ثمرة خدمته لا سيّما إذا كان المخدوم قادرا كريما حكيما.
و منها قوله تعالى في سورة يونس: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ‏الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَ الْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَ ازَّيَّنَتْ وَ ظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فانّ هذا مثل ضربه اللّه للتّزهيد في الدّنيا و التّرغيب في الآخرة فقد قيل إنّ المقصود بهذه الآية تشبيه الحياة الدّنيا بالماء فيما يكون به من الانتفاع ثمّ الانقطاع و قيل إنّ المشبّه به النّبات على ما وصفه من الاغترار به ثمّ المصير إلى الزّوال و قيل إنّ المقصود تشبيه الحياة الدنيا بحياة مقدّرة على هذه الأوصاف.

و على أىّ تقدير فمعنى الآية أنّ مثل الحياة الدّنيا مثل الماء النّازل من السّماء المختلط بسببه نبات الأرض بعضه ببعض حتّى إذا أخذت الأرض حسنها و بهجتها و تزيّنت في نظر أهلها و ظنّ مالكها أنّهم قادرون على الانتفاع بها باقتطاعها و حصادها أتاها أمر اللّه سبحانه أى عذابه و بلاؤه من برد أو برد فصارت محصودة مقلوعة يابسة كأن لم تقم على تلك الصّفة بالأمس.

و نحوه في سورة الكهف: وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَ كانَ اللَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مُقْتَدِراً.

و نحوهما قوله سبحانه في سورة الحديد: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَ فِي‏الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ.
و منها قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي السَّماءِ تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ.

فانّه تعالى شبّه الكلمة الطيبة أعنى شهادة أن لا إله الّا اللّه أو كلّ كلام أمر به اللّه بالشّجرة الطيبة التي أصلها ثابت راسخ في الأرض و أغصانها في السّماء، و أراد به المبالغة في الارتفاع تخرج هذه الشّجرة ما يؤكل منها في كلّ ستّة أشهر أو في كلّ سنة أو كلّ غدوة و عشيّة.

و شبّه الكلمة الخبيثة و هي كلمة الكفر و الشّرك أو كلّ كلام في معصية اللّه بالشّجرة الخبيثة اقتلعت جثّتها من الأرض مالها من ثبات يعنى أنّ الكلمة الطيبة مثل الشّجرة الطيبة ينتفع بها صاحبها عاجلا و آجلا، و الكلمة الخبيثة كالشّجرة الخبيثة لا ينتفع بها صاحبها و لا يثبت له منها نفع و لا ثمر.

و في تفسير أهل البيت عليهم السّلام«» أنّ الشّجرة الطيبة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و فرعها عليّ عليه السّلام و عنصر الشّجرة فاطمة و ثمرتها أولادها و أغصانها و أوراقها شيعتنا ثمّ قال: إنّ الرّجل من شيعتنا ليموت فيسقط من الشّجرة ورقة و إنّ المولود من شيعتنا ليولد فيورق مكان تلك الورقة، و على هذا فالمراد بقوله سبحانه: تؤتى أكلها كلّ حين ما يفتى به الأئمة من آل محمّد شيعتهم في الحلال و الحرام.

و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله: كلمة خبيثة كشجرة خبيثة، إنّ هذا مثل بني اميّة، و كيف كان فانّ المقصود من هذه الأمثال المضروبة في القرآن و نحوها ممّا هي فوق حدّ الاحصاء هو تنبيه الخلق و تذكيرهم‏و ايقاظهم من نوم الغفلة و الجهالة و حثّهم و ترغيبهم على ملازمة المعرفة و التقوى و الطاعة.

و لذلك قال عليه السّلام اوصيكم بتقوى اللّه الذى ضرب لكم الأمثال، فانّ في التّعبير بهذه اللفظة إشارة إلى أنّ ضربها للتّقوى مما يجرى أن يتّقيه الخلق، و كذلك المقصود بالأوصاف التي يذكرها بعد ذلك هو الجذب إليه«» و الحثّ عليه أعنى قوله (و وقّت لكم الآجال) أى عيّنها لكم و كتبها بقلم القضاء في أمّ الكتاب كما قال تعالى: وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ.

فمن علم أنّ له أجلا إذا جاء لا يؤخّر و أنّ له إيابا إلى ربّه الذي يؤاخذ بما قدّم و أخّر فأجدر أن يخاف منه و يحذر (و ألبسكم الرّياش و أرفغ لكم المعاش) أى أنزل عليكم لباسا يوارى سوآتكم و ريشا و لباس التقوى«» و أوسع عيشكم و رزقكم من الطيبات لتطيعوه في السر و الاعلان و لا تجاهروه بالكفر و العدوان كمال قال: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ.

(و أحاط بكم الاحصاء و أرصد لكم الجزاء) يعنى أنّه سبحانه محيط بكم عالم بعدد نفوسكم لا يشذّه منكم أحد، و هو تعالى أعدّ لكم جزاء أعمالكم«» مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ، وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (و آثركم بالنّعم السّوابغ و الرفدالروافع) أى أنّه تعالى اختاركم بنعمه التامة الكاملة وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً«» و أعطاكم الصّلات الجليلة الرّفيعة العالية (و أنذركم بالحجج البوالغ) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَ هُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى‏ وَ الرَّكْبُ أَسْفَلَ«» و لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً«» (فأحصاكم عددا و وظّف لكم مددا) يعنى انّه أحصا عددكم و عيّن مدّة عمركم.

و إنّما أعاد عليه السّلام ذكر هذين الوصفين مع اغناء قوله: و وقّت لكم الآجال و أحاط بكم الاحصاء عنه، للتّاكيد و المبالغة، لأنّ ذكر توقيت المدد و توظيف الآجال من أشدّ الجواذب إلى التّقوى، و كذلك المعرفة باحاطة علمه بجزئيات النّفوس و عدم شذوذ شي‏ء منها عنه رادعة لها عن المهالك و المعاطب.

فان قيل: أىّ نكتة في الاتيان بالتّمييز أعنى عددا بعد لفظ الاحصاء مع أنّه لا ابهام فيه و لا خفاء بل هو مغن عنه قلت: السّر في ذلك كما في قوله تعالى: و أحصى كلّ شي‏ء عددا، و هو بيان أنّ علمه تعالى بالأشياء ليس على وجه اجماليّ بل على وجه تفصيلى، فانّ الاحصاء قد يراد به الاحاطة الاجماليّة كما قال تعالى: و إن تعدّوا نعمة اللّه لا تحصوها، أى لا تقدر و اعلى حصرها إجمالا فضلا عن التّفصيل.

و ذلك لأنّ أصل الاحصاء أنّ الحاسب إذ بلغ عقدا معيّنا من عقود الأعداد كالعشرة و المأة و الألف وضع حصاة ليحفظ بها كميّة ذلك العقد فيبنى على ذلك حسابه و قوله (في قرار خبرة و دار عبرة) أراد به أنّه سبحانه عيّن لكم المدد في مقرّ البلاء و الاختيار و دار الاتّعاظ و الاعتبار.

و هى الدّار التي (أنتم مختبرون فيها) بما أعطاكم اللّه فيها لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ و المفسد من المصلح حتّى يزيد في إحسان المحسن و يؤاخذ بعصيان المسي‏ء(و محاسبون عليها) أى على نعيمها كلّا أو بعضا على ما مضى تحقيقا و تفصيلا في شرح كلامه الثمانين و مضى هناك أيضا توضيح الاتعاظ بالدّنيا و الاعتبار فيها فليراجع ثمّة.

ثمّ إنّه عليه السّلام لما وصّى بالتّقوى و أمر بلزومه بذكر بعض الجواذب إليه أكّده و علّله بقوله: (فانّ الدّنيا رنق مشربها) و هو كناية من كدر لذّاتها من حيث شوبها بالتّعب و المصائب و الهموم و الأحزان (ردغ مشرعها) لأنّ مواردتنا و لها و الشّروع فيها من مزالق الاقدام عن سواء الصّراط إلى طرفي التفريط و الافراط، و ذلك لكثرة الشبهات و غلبة المشتبهات (يونق منظرها) لما في ظاهرها من الحسن و البهجة و الرّدغ و النضرة الموجبة لاعجاب الناظرين إليها و التذاذهم بها (و يوبق مخبرها) لما في باطنها من السمّ القاتل الباعث على و بوق المتناولين لها و هلاك المفتتنين بها، و وقوعهم في الخزي العظيم و العذاب الأليم.

و هى (غرور حائل) لأنّها تغرّ الخلق و تخدعهم بزخرفها و زبرجها فيتوهّمون دوامها و ثباتها ثمّ تنتقل عنهم و تتغيّر في زمان يسير و مدّة قليلة (وضوء آفل) استعار لفظ الضوء لما يظهر منها من الحسن في عيون الغافلين من قولهم على فلان ضوء إذا كان حسن المنظر يعنى إنّها ذو حسن و ضياء إلّا أنّ حسنها قليل لا يدوم و يغيب فلا يبقى (و ظلّ زائل) أى يستريح فيها أهلها و يستظلّون بها إلّا أنّها في معرض الفناء و الزّوال (و سناد مائل) يستند إليها الغافلون و يعتمدون عليها مع أنّها لاثبات لها و لاقرار.

(حتّى إذا أنس نافرها و اطمئنّ ناكرها) أى إذا استأنس بها من كان باقتضاء عقله نافرا عنها و سكن إليها من كان بمقتضى فطرته منكرا لها (قمصت بأرجلها) كالدّابة القامصة الممتنعة عن ركوب الانسان المولّية عنه.
و قمصها كناية عن امتناعها على الانسان حين حضور أجله كأنّها تدفعه برجليها مثل الدّابة الموصوفة، و الاتيان بصيغة الجمع مع أنّ الدّابة لها رجلان من باب التغليب و اعتبار اليدين و إنّما عبّر بالرّجل دون اليد لكون القمص إلى الرّجل أنسب.

(و قنصت بأحبلها) كالقناص الذي يقنص الصيد و يصيده بشركه و حبائله و هو كناية عن تمكن العلايق الدّنيويّة و حبائل محبتها و الهيآت الرّديّة المكتسبة عنها في عنقة بحيث لا يتمكّن من الامتناع و التجنّب عنها كالصّيد الواقع في الشّرك (و أقصدت بأسهمها) كالرّامي الذي يرمي بسهامه فيصيب الغرض و لا يخطئه و أسهمها كناية عن الأمراض و أسباب الموت.

(و أعلقت المرء أوهاق المنيّة) أى أعلقته حبالها يعنى ما تجذب بها إلى الموت من ساير أسبابه أيضا (قائدة) بتلك الحبال (له إلى ضنك المضجع) و ضيق القبر (و وحشة المرجع) و هو إشارة إلى ما يجده أهل الدّنيا من الوحشة عند مفارقة الأموال و الأولاد و الأحبّة (و معاينة المحلّ) أى مشاهدة الموضع الذي يحلّ به بعد الموت و هو دار الآخرة (و ثواب العمل) أى جزائه من خير أو شرّ لا الجزاء بالمعنى الأخصّ الذي هو عوض الطاعة.

(و كذلك الخلف بعقب السلف) أى هكذا حال الخلف بعد السّلف يفعل الدّنيا بهم مثل ما فعلت بأسلافهم، و كذلك هم في الدّنيا يعملون مثل ما عمله آبائهم (فلا نقلع المنية) منهم (اختراما و لا يرعوي الباقون اجتراما) يعنى لا يكفّ المنيّة عن إهلاكهم و استيصال نفوسهم و لا يرتدع الباقون منهم عن جرمهم و جرائرهم بل (يحتذون مثالا) و يقتدون بأمثالهم الماضين في الأعمال و الأفعال (و يمضون) على ذلك (أرسالا) و متتابعا (إلى غاية الانتهاء و صيور الفناء) أى الى منتهى ما يسيرون إليه بمطايا الأبدان و عاقبة ما يكون أمرهم عليه من الفناء و العرض على الملك الدّيان أقول: و نرجو من اللّه سبحانه عند ذلك الرّحمة و الغفران بالكرم و الامتنان.

الترجمة

وصيت مي كنم شما را أي بندگان خدا بتقوى و پرهيزكاري خدا چنان خدائي كه بيان فرمود از براى شما مثل‏ها، و معين كرد از براى شما أجل‏ها و بپوشانيد شما را لباس‏هاى فاخر و وسعت داد بشما با طعام‏هاى طيّب و طاهر، و احاطه كرد بشما احاطه كردنى و مهيا نمود از براي شما جزاي عمل‏هاى شما را و برگزيد شما را بنعمت‏هاى تامه كامله و عطاياى جليله عاليه، و ترساند شما را با حجت هاى واضحه بالغه و شمرد شما را شمردنى و تعيين نمود از براى شما مدتهاى أعمار در مقرّ امتحان و اختبار و در سراى اعتبار.

شما امتحان شدگانيد در دار فانى و حساب كرده شدگانيد در آن بنعمت‏ها و زندگانى، پس بدرستى دنيا ناصاف است محلّ آبخوردن آن گل آلود است محلّ آب برداشتن آن تعجب مى‏آورد در نظر جاهلان تماشاگاه آن و هلاك مى‏سازد محل آزمايش آن در وقت التذاذ بلذات آن، و آن فريبنده است تغيير يابنده، و صاحب حسن است فرو رونده، و سايه‏اي است زائل شونده و تكيه گاهى است ميل نمايند.

تا زمانى كه انس گيرد بأو نفرت كننده از او و خواطر جمع شود بأو انكار كننده او، بر جهد بپاهاي خود كه بيندازد او را بر زمين مذلت، و شكار كند او را بدامهاي خود تا گرفتار شود به مشقت و محنت، و برساند باو تيرهاي مرگ و هلاكت در حالتى كه كشنده باشد او را بضيق و تنگى خوابگاه و وحشت بازگشت و به مشاهده كردن جاى جزا و ثواب كردار.

و همچنين است حال پس آيندگان بعد از پيش رفتگان و رحلت نمايندگان نه امساك مى‏كند مرگ از استيصال نمودن، و نه باز مى‏ايستند باقى ماندگان از جرم و گناه كردن، بلكه اقتدا مى‏كنند بر مثال گذشتگان و مى‏گذرند پياپى تا بغايت نهايت كه عبارتست از موت و عاقبت امر كه عبارتست از فنا و فوت.

الفصل الثالث

حتّى إذا تصرّمت الامور، و تقضّت الدّهور، و أزف النّشور، أخرجهم من ضرائح القبور، و أوكار الطّيور، و أوجرة السّباع، و مطارح المهالك، سراعا إلى أمره، مهطعين إلى معاده، رعيلا صموتا،قياما صفوفا، ينفذهم البصر، و يسمعهم الدّاعي، عليهم لبوس الاستكانة، و ضرع الإستسلام و الذّلّة، قد ضلّت الحيل، و انقطع الأمل، و هوت الأفئدة كاظمة، و خشعت الأصوات مهينمة، و ألجم العرق، و عظم الشّفق، و أرعدت الأسماع لزبرة الدّاعي إلى فصل الخطاب، و مقايضة الجزاء و نكال العقاب، و نوال الثّواب.

اللغة

(صرمت) النّخل قطعته و انصرم اللّيل و تصرّم ذهب و (قضّ) الشي‏ء يقضّه قطعه و (أزف) شخوص فلان يأزف أزفا من باب تعب قرب و دنا و منه قوله: أزفت الآزفة، أى قربت القيامة و دنت، سمّيت بذلك لأنّ كلّ ما هو آت قريب و (نشر) الموتى نشورا من باب قعد حيّوا و نشرهم اللّه يتعدّي و لا يتعدّى، و قد يتعدّي بالهمزة يقال أنشرهم اللّه و قال تعالى: و إذا شاء أنشره، أى أحياه بعد إماتته.

و (الضّريح) الشّق في وسط القبر في جانب فعيل بمعنى مفعول و (اوجرة) السّباع جمع و جار بالكسر و هو جحرها الذي تأوى إليه و (هطع) يهطع من باب منع أسرع مقبلا و أهطع فى عدوه أسرع و منه قوله تعالى: مهطعين إلى الدّاع، أى مسرعين إليه في خوف.

و (الرّعيل) القطعة من الخيل و الجماعة من النّاس و (الصّموت) جمع صامت كالصّمت و الصّمات مصدر بمعنى السّكوت من صمت يصمت من باب قتل و (اللّبوس) بفتح اللّام ما يلبس قال تعالى: و علّمناه صنعة لبوس، يعني الدّرع و (الاستكانه) الخضوع و (ضرع) له يضرع من باب منع ضراعة ذلّ و خضع، و ضرع ضرعا من باب تعب لغة و ضرع ضرعا و زان شرف ضعف، و تضرّع إلى اللّه ابتهل و (كظم) يكظم كظما من باب ضرب و سكت و رجل كظيم و مكظوم مكروب.

و (الهينمة) الصّوت الخفىّ و (الجم العرق) بلغ الفم فصار كاللجام و (الشفق) الخوف و (ارعدت الاسماع) بالبناء على المجهول أخذتها الرّعدة و (الزّبرة) من زبره زبرا من باب ضرب زجره و نهره و (قايضته) به بالياء المثناة التّحتانيّة عارضته عرضا بعرض و (نكل) به تنكيلا صنع به صنعا يحذر غيره، و النّكال اسم منه أو هو العقوبة و (النّوال) العطا.

الاعراب

سراعا، منتصب على الحال من مفعول أخرج و كذلك المنصوبات بعده، و لبوس الاستكانة مرفوع على الابتداء قدّم عليه خبره للتّوسع، و قوله إلى فصل الخطاب متعلّق بالدّاعي.

المعنى

اعلم أنّ هذا الفصل من الكلام قد ساقه عليه السّلام لبيان ما يحلّ على النّاس بعد الموت و يلحق بهم من شدايد القيامة و أهوالها و أشار به إلى النّشر و المعاد فقال (حتّى إذا تصرّمت الامور و تقضت الدّهور) أى تعطلت امور النّاس بموتهم و انقضت الازمان و تقطعت (و أزف النّشور) أى دنى و قرب وقت احيائهم بعد إماتتهم أمر اللّه سبحانه بنفخ الصّور فنشرهم و حشرهم.

و (أخرجهم من ضرايح القبور) ان كانوا مدفونين فيها (و أو كار الطيور) ان كانوا أكيل طير (و أوجرة السّباع) إن كانوا فريسة سبع (و مطارح المهالك) ان قتلوا في معركة حرب و نحو ذلك و بالجملة ينشرهم اللّه و يأتي بهم جميعا أينما كانوا (سراعا إلى أمره) و قضائه غير لابثين (مهطعين الى معاده) غير مماكسين كما قال تعالى في سورة ق يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ أى يسرعون إلى أمره بلا مكث و تأخير، و فى سورة القمر: يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى‏ شَيْ‏ءٍ نُكُرٍ خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذايَوْمٌ عَسِرٌ.

(رعيلا صموتا قياما صفوفا) أى جماعة ساكتين قائمين صافين لا يقدرون على الكلام و لا يرخّص لهم في القعود كما قال تعالى في سورة النّبأ يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ أي بنو آدم على أحد التّفاسير وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً و فيها أيضا يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً.

روى في المجمع عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه سئل عن هذه الآية فقال: يحشر عشرة أصناف من امّتي أشتاتا قد ميّزهم اللّه من المسلمين و بدّل صورهم فبعضهم على صورة القردة، و بعضهم على صورة الخنازير، و بعضهم منكوسون أرجلهم من فوق و وجوههم من تحت ثمّ يسحبون عليها، و بعضهم عمى يتردّدون، و بعضهم صمّ بكم لا يعقلون، و بعضهم يمضغون ألسنتهم يسيل القيح من أفواههم لعابا يتقذّرهم أهل الجمع، و بعضهم مقطّعة أيديهم و أرجلهم، و بعضهم مصلّبون على جذوع من النّار، و بعضهم أشدّ نتنا من الجيف، و بعضهم يلبسون جبابا سابغة من قطران لازقة بجلودهم.

فأمّا الذين على صورة القردة فالقتاة من النّاس، و أمّا الذين على صورة الخنازير فأهل السّحت، و أمّا المنكوسون على رؤوسهم فآكلة الرّبا، و العمى الجائرون في الحكم، و الصمّ البكم المعجبون بأعمالهم، و الذين يمضغون ألسنتهم العلماء و القضاة الذين خالف أعمالهم أقوالهم، و المقطّعة أيديهم و أرجلهم الذين يؤذون الجيران، و المصلّبون على جذوع من نار فالسّعاة بالنّاس إلى السلطان، و الذين أشدّنتنا من الجيف فالذين يتمتّعون بالشّهوات و اللذات و يمنعون حقّ اللّه في أموالهم، و الذين هم يلبسون الجباب فأهل الفخر و الخيلاء.

(ينفذهم البصر) بصر الجبّار تعالى أى لا يخفى أحد منهم مع كثرتهم عن ادراكه سبحانه و لا يعزب عن علمه كما قال في سورة الحاقة: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى‏ مِنْكُمْ‏ خافِيَةٌ (و يسمعهم الدّاعي) يعني أنّهم مع هذه الكثرة أيضا يشملهم و يحيط بهم عموم دعاء الدّاعى إلى فصل الخطاب و يسمع آخرهم كما يسمع أوّلهم نداء المنادي إلى الموقف و الحساب، و إليه الاشارة بقوله تعالى في سورة ق. يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ.

قال الطبرسي: و إنّما قال من مكان قريب لأنّه يسمعه الخلايق كلّهم على حدّ واحد فلا يخفى على أحد قريب و لا بعيد فكأنّهم نودوا من مكان يقرب منهم (عليهم لبوس) الخضوع و الخشوع و (الاستكانة و ضرع) التذلل و (الاستسلام و الذلة) من هول هذا اليوم و فزعه كما قال سبحانه في سورة طه: وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَ قَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً.

قال الطبرسي أى خضعت و ذلت خضوع الأسير في يد من قهره و المراد خضع أرباب الوجوه و استسلموا الحكم للحيّ الذي لم يمت و لا يموت، و إنّما اسند الفعل إلى الوجوه لأنّ أثر الذّلّ يظهر عليها، و قيل المراد بالوجوه الرّؤساء و القادة و الملوك أى يذلّون و ينسلخون عن ملكهم و عزّهم، و في سورة المعارج: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى‏ نُصُبٍ يُوفِضُونَ خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ.

أى يخرجون من القبور مسرعين كأنّهم يسعون إلى علم نصب لهم خاضعة أبصارهم لا يستطيعون النّظر من هول ذلك اليوم و تغشيهم المذلّة (قد ضلّت الحيل) أى الحيل الدّنيويّة فلا يستطيعون الخلاص ممّا هم فيه بالحيلة و التّدبير كما كانوا يخلصون من بعض آلام الدّنيا بها (و انقطع الأمل) أى أملهم في الدّنيا لامتناع عودهم إليها و انقطاع طمعهم عنها (و هوت الأفئدة كاظمة) أى خلت من الفرح و السّرور بل و من كلّ شي‏ء حال كونها ساكتة أو مكروبة و محزونة و هو مأخوذ من قوله تعالى‏في سورة إبراهيم: مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَ أَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ.

قال الطبرسي: مهطعين أى مسرعين و قيل يريد دائمي النظر إلى ما يرون لا يطرفون مقنعي رؤوسهم أى رافعي رؤوسهم إلى السّماء حتّى لا يرى الرّجل مكان قدمه من شدّة رفع الرأس و ذلك من هول يوم القيامة و قال مورج: معناه ناكسي رؤوسهم بلغة قريش لا ير إليهم طرفهم أى لا يرجع إليهم أعينهم و لا يطبقونها و لا يغمضونها و إنّما هو نظر دائم و أفئدتهم هواء أى قلوبهم خالية من كلّ شي‏ء و قيل خالية من كلّ سرور و طمع في الخير لشدّة ما يرون من الأهوال كالهواء الذي بين السّماء و الأرض و قيل معناه و أفئدتهم زائلة عن مواضعها قد ارتفعت إلى حلوقهم لا تخرج و لا تعود إلى أماكنها بمنزلة الشي‏ء الذاهب في جهات مختلفة المتردّد في الهواء و قيل معناه خالية عن عقولهم (و خشعت الأصوات مهينمة) أى حال كونها ذات هينمة و خفاء قال: وَ خَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً.

قال في مجمع البيان: أى خضعت الأصوات بالسّكون لعظمة الرّحمن، و الهمس هو صوت الاقدام أى لا تسمع من صوت الاقدام أى لا تسمع من صوت أقدامهم إلّا صوتا خفيّا كما يسمع من أخفاف الابل عند سيرها و قيل الهمس إخفاء الكلام و قيل معناه إنّ الأصوات العالية بالأمر و النّهى في الدّنيا ينخفض و يذلّ أصحابها فلا يسمع منهم إلّا الهمس (و الجم العرق) أى بلغ أفواههم، قال الشّارح المعتزلي: و في الحديث أنّ العرق ليجرى منهم حتّى أنّ منهم من يبلغ ركبتيه، و منهم من يبلغ صدره، و منهم من يلجمه و هم أعظمهم مشقّة.

أقول: و عن الارشاد عن الصّادق عليه السّلام في حديث إنّ الغنى ليوقف للحساب و يسيل منه العرق حتّى لو شرب منه أربعون بعيرا لصدر، و يأتي لهذا مزيد تفصيل في شرح المختار المأة و التّاسع و الثمانين إنشاء اللّه (و عظم الشّفق) و في بعض الرّوايات أنّ شعر رأس النّاس و بدنهم يبيض من شدّة الخوف و الاشفاق بعد ماكان أسود«» (و ارعدت الاسماع لزبرة الدّاعي إلى فصل الخطاب) أى أخذتها الرّعدة و الاضطراب من زجر الدّاعي و نهره و هيبة صوته قال الطبرسي في تفسير قوله وَ اسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ.

قيل إنّه يناد المناد من صخرة بيت المقدّس أيتها العظام البالية و الأوصال المنقطعة و اللحوم المتمزّقة قومي لفصل القضاء و ما أعدّ اللّه لكم من الجزاء و قيل إنّ المنادى هو إسرافيل يقول يا معشر الخلائق قوموا للحساب (و مقايضة الجزاء) مبادلتها و معاوضتها (و نكال العقاب) إن كسبت يداه في الدّنيا سيئة (و نوال الثّواب) إن اقترف فيها حسنة.
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ

تنبيه و تحقيق

اعلم أنّ هذا الفصل من الخطبة كبعض الخطب الآتية نصّ صريح في ثبوت المعاد الجسماني و عليه قد دلّت الآيات القرآنيّة مما ذكرناها و ما لم يذكر، و السّنن‏ النّبوية المتواترة بل هو ضروري الدين و عليه اتفاق المسلمين و مع ذلك كلّه لايعباء بخلاف الحكماء و منعهم منه بناء على امتناع اعادة المعدوم من حيث امتناع عود أسبابه بعينها من الوقت و الدّورة الفلكية المعيّنة و غيرهما و ربّما قال بعض الحكماء أى حكماء الاسلام بجواز عود المثل و ربّما قلّد بعضهم ظاهر الشّريعة في أمر المعاد الجسماني، و إثبات السّعادة و الشقاوة البدنيّة مع الرّوحانيّة.

قال الصّدر الشّيرازى في شرح الهداية للميبدي: و اعلم أنّه قد زعمت الفلاسفة الطبيعيّون و اوساخ الدّهرية الذين لا اعتداد بأقوالهم و آرائهم في الملّة و لا في الفلسفة انكار المعاد مطلقا للانسان زعما منهم أنّه متكوّن من مزج و امتزاج لهذا الهيكل المحسوس بما له من القوى و الأعراض و ذلك يفنى بالموت و لا يبقى فيه إلّا الموادّ العنصرية و لا اعادة للمعدوم فمهما فسد لا يرجى له عايدة فحكموا بأنّه إذا مات مات و نيل سعادته أو شقاوته قد فات كما حكى اللّه عنهم في كتابه المجيد: ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا مثل العشب و المرعى فيصير غثاء أهوى فلهذا السّبب أنكروا النبّوة المنذرة بالبعث و فوايدها و أصرّوا صريحا على منع نشر موايدها، و في هذا تكذيب العقل على ما يراه المحقّقون من أهل الفلسفة و الشّرع على ما قرّره المحقّقون من أهل الملّة.

و اتّفق المحقّقون من الفلاسفة و الملّيين على ثبوت المعاد و حقيّته لكنّهم اختلفوا في كيفيّته.
فذهب جمهور المسلمين على أنّه جسمانيّ فقط، لأنّ الرّوح عندهم جسم سار في البدن سريان الزّيت في الزّيتون و ماء الورد في الورد و النّار في الفحم.
و ذهب جمهور الفلاسفة إلى أنّه روحانيّ فقط، لأنّ البدن ينعدم بصوره و أعراضه فلا يعاد و النّفس جوهر مجرّد باق لا سبيل إليه للفساد.
و ما تزيّن به كثير من علماء الاسلام كأصحابنا الاماميّة و الشّيخ الغزالي‏ و الكعبي و الحلبي و الرّاغب الاصفهاني هو القول بالمعادين: الرّوحاني و الجسماني جميعا ذهابا إلى أن النّفس جوهر مجرّد يعود إلى البدن، و هذا رأى كثير من الصّوفيّة و الكراميّة و به يقول جمهور النّصارى و التّناسخيّة.

قال الامام الرّازي إلّا أنّ الفرق أنّ المسلمين يقولون بحدوث الأرواح و ردّها إلى البدن لا في هذا العالم بل في الآخرة، و التّناسخيّة بقدمها و ردّها إليه في هذا العالم و ينكرون الآخرة و الجنّة و النّار.
أقول: و ممّن قال بالمعادين الشّيخ الرّئيس أبو عليّ بن سينا قال في محكىّ كلامه من الشفا: يجب أن يعلم أنّ المعاد منه ما هو مقبول من الشّرع و لا سبيل إلى إثباته إلّا من طريق الشّريعة و تصديق خبر النبوّة و هو الذي للبدن عند البعث و خيرات البدن و شروره معلومة لا تحتاج أن تعلم، و قد بسطت الشّريعة الحقة التي أتانا بها سيّدنا و مولينا محمّد صلّى اللّه عليه و آله حال السّعادة و الشّقاوة اللتين بحسب البدن.

و منه ما هو مدرك بالعقل و القياس البرهاني و قد صدّقه النبوّة و هو السّعادة و الشّقاوة البالغتان الثابتتان بالمقائيس اللتان للأنفس و إن كانت الأوهام منّا تقصر عن تصوّرها الآن، لما نوضح من العلل و الحكماء الالهيّون رغبتهم في اصابة هذه السّعادة أعظم من رغبتهم في إصابة السّعادة البدنيّة بل كأنّهم لا يلتفتون إلى تلك و ان اعطوها و لا يستعظمونها في جنب هذه السّعادة التي هى مقاربة الحقّ الأوّل انتهى كلامه.

و قال المحقّق الشّيرازي أيضا في شرح الهداية: اعلم أنّ إعادة النّفس إلى بدن مثل بدنها الذي كان لها فى الدّنيا مخلوق من سنخ هذا البدن بعد مفارقتها عنه في القيامة كما نطقت به الشّريعة من نصوص التّنزيل و روايات كثيرة متظافرة لأصحاب العصمة و الهداية غير قابلة للتّأويل كقوله تعالى: وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى‏ رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بَلى‏ قادِرِينَ عَلى‏ أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ أمر ممكن غير مستحيل فوجب التّصديق بها لكونها من ضروريّات الدّين و إنكاره كفر مبين و لا استبعاد أيضا فيها بل الاستبعاد و التّعجب من تعلّق النّفس إليه في أوّل الأمر أظهر من تعجّب عوده إليه إلى أن قال: و لا يضرّنا أيضا كون البدن المعاد غير البدن الأوّل بحسب الشّخص لاستحالة كون المعدوم بعينه معادا و ما شهد من النّصوص من كون أهل الجنّة صردا مردا، و كون ضرس الكافر مثل جبل أحد، و كذا ما روى من قوله يحشر بعض النّاس يوم القيامة على صورة يحسن عندها القردة و الخنازير، يعضد ذلك، و كذا قوله: كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلودا غيرها.

فان قيل فعلى هذا يكون المثاب و المعاقب باللذات و الآلام الجسمانيّة غير من صدرت منه الطاعات و الخيرات و ارتكب المعاصى و الشّرور.
قلنا: العبرة في ذلك الجوهر المدرك و هو النّفس و لو بواسطة الآلات و هي باقية بعينها و كذا المادّة و السنخ كالأجزاء الأصليّة في البدن أو غيرها و لهذا يقال للشّخص مع انتقاله من الصّبا إلى الشّيخوخيّة و التّجدّدات و الاستحالات الواقعة فيما بين أنّه هو بعينه و إن تبدّلت الصّور و الهيآت و كثير من الأعضاء و الآلات و لا يقال لمن جنى في الشّباب و عوقب في المشيب أنّه عقاب بغير الجاني انتهى.

و أنت إذا أحطت خبرا بالأقوال في المسألة فلا بأس بالاشارة إلى بعض شبه المنكرين مع إبطال شبههم حسبما اشير إليه في الكتاب العزيز قال سبحانه: أَ وَ لَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ، وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ، قُلْ‏ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ.

روى أنّ امية بن خلف أو العاص بن وائل السّهمى أو أبي بن خلف و هو المرويّ عن الصّادق عليه السّلام أيضا جاء بعظم بال متفتّت و قال: يا محمّد أ تزعم أنّ اللّه يبعث هذا فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: نعم و يدخلك جهنّم فنزلت الآية، و هو المراد بالانسان في الآية و إن كان الحكم جاريا في حقّ كل من ينكر البعث و الحشر إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السّبب على ما تقرّر في الاصول فالمعنى: أو لم يعلم الانسان أنا خلقناه من نطفة، ثمّ نقلناه من النّطفة إلى العلقة، و من العلقة إلى المضغة، و من المضغة إلى العظام، و كسونا العظام لحما، ثمّ أنشأناه خلقا آخر كامل العقل و الفهم، فاذا كمل عقله و فهمه صار متكلّما مخاصما، فمن قدر على مثل هذا فكيف لا يقدر على الاعادة و الاحياء مع أنّها أسهل من الانشاء و الابتداء ثمّ أكّد سبحانه الانكار عليه فقال: و ضرب لنا مثلا، أى ضرب المثل في إنكار البعث بالعظم البالي وفتّه بيده، و نسي خلقه، أى ترك النّظر في خلق نفسه مع أنّه من أدلّ الدلائل على جواز البعث و إمكانه، لما ذكرناه من أنّه مخلوق من نطفة متشابهة الأجزاء مع كونه مختلف الأعضاء إذ لو كان خلقه من أشياء مختلفة الصّور لأمكن أن يقال العظم خلق من جنس صلب و اللحم من جنس رخو و كذلك الحال في كلّ عضو، و لما كان خلقه من متشابهة الأجزاء مع اختلاف صوره كان ذلك دليلا على كمال الاختيار و القدرة.

مضافا إلى القوّة العاقلة و الفاهمة و الناطقة التي أعطاها اللّه له و أبدعها فيه فقدر معها على المخاصمة و الاحتجاج مع أنّ تلك القوّة لم تكن في النطفة أصلا و لم تكن من مقتضياتها و دلالة ذلك على الاختيار و الاقتدار أقوى.
ثمّ إنّ المنكرين للبعث منهم من لم يذكر فيه دليلا و لا شبهة و إنّما اكتفى‏بمجرّد الاستبعاد و ادّعى الضرورة و البداهة في استحالة المعاد و هم الأكثرون و يدلّ عليه ما حكاه تعالى عنهم في غير موضع كما قال: و قالوا أ إذا ظللنا في الأرض ء إنّا لفى خلق جديد، أ إذا متنا و كنا ترابا و عظاما ء إنّا لمبعثون، ءإنّك لمن المصدّقين أ إذا متنا و كنّا ترابا و عظاما ءإنّا لمدينون إلى غير ذلك.

و مثلها ما حكاه هنا بقوله: قال من يحيى العظام و هى رميم، على طريق الاستبعاد، و هو المراد بالمثل الذي ضربه الانسان المذكور و لما كان استبعاده من جهة التفتّت و التفرق اختار العظم للذكر لبعده عن الحياة لعدم الاحساس فيه و وصفه بما يقوى جانب الاستبعاد من البلا و التفتّت و قال: هى رميم، و قد دفع اللّه سبحانه بقوله: و نسى خلقه، إذ لو كان تدبّر في خلقه و عرف قدرة خالقه و اختياره و علمه لما استبعد ذلك.

و منهم من ذكر شبهة و إن كان مرجعها بالأخرة إلى الاستبعاد أيضا و هى على وجهين: أحدهما أنّه بعد العدم لا يبقى شي‏ء فكيف يصحّ على المعدوم الحكم بالوجود و دفعها بقوله. قل يحيها الّذي أنشأها أوّل مرّة، يعنى كما خلق الانسان و لم يكن شيئا مذكورا كذلك يعيده و إن لم يبق شيئا مذكورا.

و ثانيهما أنّ من تفرّق أجزاؤه في مشارق الأرض و مغاربها و صار بعضه في أبدان السباع، و بعضه في جدران الرّباع و بعضه في ضرايح القبور و بعضه في أو كار الطيور كيف يجمع.
و أبعد من ذلك أنّه قد يأكل الانسان سبع و يأكل السّبع طاير و يأكل الطائر إنسان آخر، و من المعلوم أنّ أجزاء المأكول يصير جزء بدن الآكل فاذا حشر الانسان و الحيوان على ما هو المذهب الحقّ فتلك الأجزاء المفروضة إمّا أن تعاد في بدن الآكل أو في بدن المأكول أو هما معا، فان اعيدت في بدن الآكل لزم أن لا يعاد المأكول، و إن اعيد المأكول لزم أن لا يعاد الآكل و إن كان الثالث لزم المحال، لأنّ الجزء الواحد لا يكون في موضعين.

فقال تعالى في إبطال هذه الشّبهة: و هو بكلّ خلق عليم، و توضيحه أنّ في‏بدن الآكل أجزاء أصليّة و أجزاء فضليّة، و في المأكول كذلك، فاذا أكل الانسان سبع صار الأصلى من أجزاء المأكول فضليا من أجزاء الآكل و الأجزاء الأصليّة للآكل هي ما كان له قبل الاكل، و اللّه بكلّ خلق عليم، يعلم الأصلى من الفضلى فيجمع الأجزاء الاصليّة للآكل و ينفخ فيها روحه، و يجمع الأجزاء الاصليّة للمأكول فينفخ فيها روحه، و كذلك يجمع الأجزاء المتفرقة من البقاع و الأصقاع بحكمته الشّاملة و قدرته الكاملة.

ثمّ بالغ سبحانه في إبطال إنكارهم بقوله: الذي جعل لكم من الشّجر الأخضر نارا فاذا أنتم منه توفدون، و وجه المبالغة هو أنّ الانسان مشتمل على جسم يحسّ به و حياة سارية فيه و هي كحرارة جارية فيه، فان استبعدتم وجود حرارة و حياة فيه فلا تستبعدوه فانّ النار في الشّجر الأخضر الذي يقطر منه الماء أعجب و أغرب و أنتم تشهدونه حيث إنّكم منه توقدون.

و إذا حقّقت ما ذكرناه و وضح لك صحّة المعاد الجسماني وضوح الشّمس في رابعة النّهار: ظهر لك فساد ما ربّما قيل أو يقال: من أنّ الآيات المشعرة بالمعاد الجسماني ليست أكثر و أظهر من الآيات المفيدة للتّجسّم و التّشبه و الجبر و القدر و نحو ذلك و قد وجب تأويلها قطعا و صرفها عن ظواهرها.

قلنا دلّ هذه الآيات أيضا إلى بيان المعاد الرّوحاني و أحوال سعادة النّفس و شقاوتها بعد مفارقة الأبدان و الأجسام على وجه يفهمه العوام، فانّ الأنبياء مبعوثون إلى كافّة الخلق للارشاد بقدر الاستعداد إلى سبيل الحقّ و تكميل النفوس بحسب القوّة النظرية و العملية و تبقية النظام المفضى إلى صلاح الكلّ.

و ذلك بالتّرغيب و التّرهيب بالوعد و الوعيد و البشارة بما يعتقدونه لذّة و كمالا و الانذار عمّا تعدونه ألما و نقصانا و أكثرهم عوام تقصر عقولهم لا يفهمون عالم الأشباح و المحسوسات عن ذات المبدأ الأوّل و الشّريعة تحاكيها بمثالاتها المأخوذة من المبادى الجسمانية و تحاكى الأفعال الالهية بأفعال المباد المدنيّة من الملوك و السلاطين القهارين و هكذا.

فوجب أن يخاطبهم الأنبياء في باب المعاد بما هو مثال للمعاد الحقيقي ترغيبا و ترهيبا للعوام و تتميما للنظام و لهذا قيل إنّ الكلام مثل و أشباح للفلسفة.
وجه ظهور الفساد أنّ الذّهاب إلى المجاز إنّما هو عند تعذّر إرادة الحقيقة و المصير إلى التأويل عند عدم إمكان الظاهر كما في آيات الجبر و القدر و التجسّم، و ما نحن فيه ليس من هذا القبيل إذ لا تعذّر ههنا سيّما على قول من يقول بكون البدن المعاد مثل الأوّل لا عينه.

و حمل كلام الشريعة و نصوص الكتاب على الأمثال و الأشباح و الاشارة إلى معاد النفس و الرّعاية لمصلحة العامّة التوجب «توجب ظ» نسبة المتصدّعين للشرع إلى الكذب فيما يتعلّق بالتبليغ و القصد إلى تضليل أكثر الخلائق و التعصّب طول العمر لترويج الباطل و إخفاء الحقّ لأنهم لا يفهمون من الكلام إلّا ظاهره الّذي لا حقيقة له على ما زعمه هذا القائل، و ما هذه إلّا فرية بيّنة و بهتان عظيم.

و بذلك كلّه ظهر أنّ ما حكاه في شرح البحراني من تأويل بعض الفضلاء كلام الامام عليه السّلام في هذا الفصل على ما يناسب مذهب القائلين بالمعاد الروحاني مما لا طائل تحته بل تطويل الكتاب بمثل تلك التأويلات الباردة الفاسدة موجب لتفويت الوقت و تضييع القوّة القدسيّة.

عصمنا اللّه سبحانه من هفوات الجنان، و عثرات اللسان بحق محمّد و آله البررة الكرام عليه و عليهم السّلام إلى يوم البعث و القيام.

هداية و ارشاد

في الاشارة إلى معنى الحشر على ما حقّقه صدر المتألّهين في كتابه المسمّى بمفاتح الغيب و ايراد بعض الأخبار الواردة في ذلك و ما يناسب ذلك.

فاعلم أنّ الزّمان علّة التّغير و التعاقب و الاحتجاب بوجه، و المكان علّة التفرّق و التكثّر و الاغتياب بوجه، فهما سببان لاختفاء الموجودات و احتجاب بعضها عن بعض، فاذا ارتفعا في القيامة ارتفع الحجب بين الخلائق فيجتمع الخلائق كلّهم و الأوّلون و الآخرون قل إنّ الأوّلين و الآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم فهي يوم الجمع‏ ذلك يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن.

و بوجه آخر، ذلك يوم الفصل لأنّ الدّنيا دار مغالطة و اشتباه يتشابك فيها الحقّ و الباطل و يتعانق فيها الوجود و العدم و الخير و الشرّ و النور و الظلمة و في الآخرة يتقابل المتخاصمان و يتفرّق المتخالفان، و يوم تقوم الساعة يومئذ يتفرّقون.

و فيها يتميّز التشابهان، ليميز الخبيث من الطيّب، و ينفصل الخصمان، ليحقّ الحقّ و يبطل الباطل، ليهلك من هلك عن بيّنة و يحيى من حىّ عن بيّنة.
و لا منافاة بين هذا الفصل و ذلك الجمع بل هذا يوجب ذلك، هذا يوم الفصل جمعناكم و الأوّلين، و الحشر أيضا بمعنى الجمع، و حشرناهم فلم نغادر منهم أحدا إذا عرفت ذلك فأقول قال سبحانه: وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى‏ فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ، وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَ وُضِعَ الْكِتابُ وَ جِي‏ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَداءِ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ، وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ.

قال الطبرسيّ في تفسير الصور: و هو قرن ينفخ فيه إسرافيل و وجه الحكمة في ذلك أنها علامة جعلها اللّه ليعلم بها العقلا آخر أمرهم في دار التكليف ثمّ تجديد الخلق فشبه ذلك بما يتعارفونه من بوق الرحيل و النزول و لا يتصوّره النفوس بأحسن من هذه الطريقة، و قوله: فصعق من في السموات و من في الأرض، أى يموت من شدّة تلك الصّيحة التي تخرج من الصّور جميع من السموات و الأرض يقال: صعق فلان إذا مات بحال هائلة شبيهة بالصيحة العظيمة.
و اختلف في المستثنى بقول إلّا من شاء اللّه، و في المجمع روى مرفوعا هم جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل و ملك الموت و في رواية أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله سأل جبرئيل‏ عن هذه الآية من ذا الذي لم يشاء اللّه أن يصعقهم قال: هم الشهداء متقلّدون أسيافهم حول العرش.

و قوله: ثمّ نفخ فيه اخرى فاذا هم قيام ينظرون، أراد النفخة الثانية و يسمّى النفخة الاولى بنفخة الصعق، و الثانية بنفخة البعث أى ثمّ نفخ فيه نفخة اخرى فاذا هم قائمون من قبورهم يقلّبون أبصارهم في الجوانب، و قال الطبرسي أى ينتظرون ما يفعل بهم و ما يؤمرون به.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي باسناده عن ثوير بن أبي فاخته عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام قال: سئل عن النفختين كم بينهما قال: ما شاء اللّه، فقيل له فأخبرني يا بن رسول اللّه كيف ينفخ فيه فقال: أما النّفخة الاولى فانّ اللّه يأمر اسرافيل فيهبط إلى الأرض و معه الصّور و للصّور رأس واحد و طرفان و بين رأس كلّ طرف منهما إلى الآخر ما بين السماء و الأرض، فاذا رأت الملائكة إسرافيل و قد هبط إلى الدّنيا و معه الصور قالوا: قد أذن اللّه في موت أهل الأرض و في موت أهل السّماء.

قال: فهبط إسرافيل بحظيرة القدس و هو مستقبل الكعبة فاذا رأوه أهل الأرض قالوا: قد أذن اللّه عزّ و جلّ في موت أهل الأرض، فينفخ فيه نفخة فيخرج الصّوت من الطرف الذي يلي الأرض فلا يبقى في الأرض ذو روح إلّا صعق و مات، و يخرج الصّوت من الطرف الذي يلي السّماوات، فلا يبقى في السّماوات ذو روح إلّا صعق و مات إلّا إسرافيل.
قال: فيقول اللّه لاسرافيل: يا إسرافيل مت، فيموت إسرافيل فيمكثون في ذلك ما شاء اللّه، ثمّ يأمر السّماوات فتمور و يأمر الجبال فتسير و هو قوله: يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً وَ تَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً.

يعني يبسط و يبدّل الأرض غير الأرض يعني بأرض لم تكسب عليها الذنوب بارزة ليس عليها جبال و لا نبات كما دحاها أوّل مرّة و يعيد عرشه على الماء كما كان أوّل مرّة مستقلّا بعظمته و قدرته.

قال: فعند ذلك ينادي الجبّار جلّ جلاله بصوت من قبله جوهرى (جهورى خ ل) يسمع أقطار السّماوات و الأرضين: لمن الملك اليوم فلا يجبه مجيب، فعند ذلك يقول الجبّار عزّ و جلّ مجيبا لنفسه: للّه الواحد القهّار، و أنا قهرت الخلائق كلّهم و أمّتهم إنّي أنا اللّه لا إله إلّا أنا وحدي لا شريك لي و لا وزير و أنا خلقت خلقي بيدى و أنا أمّتهم بمشيّتي و أنا أحياهم بقدرتي.

قال: فينفخ الجبّار نفخة اخرى في الصّور فيخرج الصّوت من أحد الطرفين الذي يلي السّماء فلا يبقى في السّموات أحد إلّا حىّ و قام كما كان، و يعود حملة العرش، و يحضر الجنّة و النّار و يحشر الخلائق للحساب.
قال الرّاوى: فرأيت عليّ بن الحسين يبكى عند ذلك بكاء شديدا.

فان قلت إذا فنت الأجساد و انعدمت الأجسام فما الفائدة في خطاب لمن الملك قلنا: ما يصدر عن الحكيم العليم لا بدّ و أن يكون متضمّنا للحكمة و المصلحة و إن كانت مختفية عندنا، و يمكن أن يكون فيه اللطف بالنّسبة إلى المكلّفين من حيث إنّ المخبر الصّادق إذا أخبرهم بوقوع ذلك الخطاب يوجب ذلك حقارة الدّنيا في نظرهم و عدم اغترارهم بملكها و سلطنتها و يوجب زيادة علمهم بقدرة اللّه و عزّته و بتفرّده في تدبير العالم، تعالى علوا كبيرا هذا.

و روى عليّ بن إبراهيم أيضا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: و أتى جبرئيل رسول اللّه و أخذ بيده و أخرجه إلى البقيع فانتهى به إلى قبر فصوت بصاحبه فقال: قم باذن اللّه فخرج منه رجل أبيض الرّأس و اللحية يمسح التّراب عن وجهه و هو يقول: الحمد للّه و اللّه أكبر، فقال جبرئيل: عد باذن اللّه تعالى، ثمّ انتهى به إلى قبر آخر فقال: قم باذن اللّه، فخرج منه رجل مسوّد الوجه و هو يقول: يا حسرتاه يا ثبوراه، ثمّ قال له جبرئيل: عد إلى ما كنت فيه باذن اللّه تعالى، فقال: يا محمّد هكذا يحشرون يوم القيامة، فالمؤمنون يقولون هذا القول و هؤلاء يقولون ما ترى.

و في الأنوار النّعمانية للسيد الجزائري قال روى شيخنا الكلينيّ قدّس اللّه روحه و تغمّده اللّه برحمته في الصحيح عن يعقوب الأحمر قال: دخلنا على أبي عبد اللّه عليه السّلام نعزّيه باسماعيل فترحّم عليه ثمّ قال: إنّ اللّه تعالى نعى إلى نبيّه نفسه فقال: إنك ميّت و إنّهم ميّتون، و كلّ نفس ذائقة الموت ثمّ أنشأ عليه السّلام يحدّث فقال: إنه يموت أهل الأرض حتّى لا يبقى أحد، ثمّ يموت أهل السماء حتّى لا يبقى أحد إلّا ملك الموت و حملة العرش و جبرئيل و ميكائيل.

قال: فيجي‏ء ملك الموت حتّى يقف بين يدي اللّه تعالى فيقول له، من بقى و هو أعلم، فيقول: يا ربّ لم يبق إلّا ملك الموت و حملة العرش و جبرئيل و ميكائيل فيقال له قل لجبرئيل و ميكائيل فليموتا فتقول الملائكة عند ذلك يا ربّ رسوليك و أمينيك، فيقول تعالى: إنّى قضيت على كلّ نفس فيها الرّوح الموت.

ثمّ يجي‏ء ملك الموت حتّى يقف بين يدي اللّه عزّ و جلّ فيقول له: من بقى و هو أعلم، فيقول: يا ربّ لم يبق إلّا ملك الموت و حملة العرش، فيقول: قل لحملة العرش فليموتوا، ثمّ يجي‏ء كئيبا حزينا لا يرفع طرفه فيقول له من بقى و هو أعلم، فيقول: يا ربّ لم يبق إلّا ملك الموت، فيقول له: مت يا ملك الموت، فيموت.

ثمّ يأخذ الأرض بيمينه و السّماوات بشماله فيقول: أين الذين كانوا يدعون معى شريكا أين الذين يجعلون معى الها آخر و في الأنوار أيضا إنّ النّفخة الأولى هي اللّتى للهلاك تأتي النّاس بغتة و هم فى أسواقهم و طلب معايشهم فاذا سمعوا صوت الصّور تقطعت قلوبهم و أكبادهم من شدّته فيموتوا دفعة واحدة، فيبقى الجبّار جلّ جلاله فيأمر عاصفة فتقلع الجبال من أماكنها و تلقاها في البحار و تفور مياه البحار و كلّما في الأرض و تسطح الأرض كلّها للحساب فلا يبقى جبل و لا شجر و لا بحر و لا وهدة و لا تلعة فتكون أرضا بيضاء حتّى أنّه روى لو وضعت بيضة في المشرق رايت في المغرب، فيبقى سبحانه على هذا الحال مقدار أربعين سنة.

فاذا أراد أن يبعث الخلق قال مولينا الصّادق عليه السّلام أمطر السّماء على الأرض‏ أربعين صباحا فاجتمعت الأوصال و نبتت اللحوم و يأمر اللّه تعالى ريحا حتّى تجمع التّراب الذي كان لحما و اختلط بعضه ببعض و تفرّق في البرارى و البحار و في بطون السّباع فتجمعه تلك الريح في القبر.

فعند ذلك يجي‏ء إسرافيل و صوره معه و يأمره بالنفخة الثانية، و ينفخ فيه النفخة الثّانية فاذا نفخ تركّبت اللّحوم و الأعضاء و أعيدت الأرواح إلى أبدانها و انشقّت القبور فخرج النّاس خائفين من تلك الصّيحة ينفضون التّراب عن رؤوسهم، فيجي‏ء إلى كلّ واحد ملكان عند خروجه من القبر يقبض كلّ واحد منهما عضدا منه فيقولان له: أجب ربّ العزّة، فيتحيّر من لقائهما و يأخذه الخوف و الفزع حتّى أنّه في تلك الساعة يبيض شعر رأسه و بدنه بعد ما كان أسود.

و عند ذلك يكثر في الأرض الزلزال حتّى يخرج ما فيها من الأثقال و يشيب كلّ الأطفال و تضع كلّ ذات حمل حملها و ترى النّاس سكارى و ما هم بسكارى و لكن عذاب اللّه شديد.

و في روضة الكافي باسناده عن ثوير بن أبي فاختة قال: سمعت عليّ بن الحسين عليهما السّلام يحدّث في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: حدّثنى أبي أنّه سمع أباه عليّ بن أبي طالب عليه السّلام يحدّث النّاس.
قال إذا كان يوم القيامة بعث اللّه تبارك و تعالى النّاس من حفرهم عزلّا مهلاجردا في صعيد واحد يسوقهم النّور و يجمعهم الظلمة حتّى يقفوا على عقبة المحشر، فيركب بعضهم بعضا و يزدحمون دونها فيمنعون من المضي فيشتدّ أنفاسهم و يكثر عرقهم و يضيق بهم أمورهم، و يشتدّ ضجيجهم و يرتفع أصواتهم.

قال عليه السّلام و هو أوّل هول من أهوال القيامة قال: فتشرف الجبّار تبارك و تعالى عليهم من فوق عرشه في ظلال من الملائكة فيأمر ملكا من الملائكة فينادي فيهم: يا معشر الخلائق انصتوا و استمعوا مناد الجبّار، قال: فيسمع آخرهم كما يسمع أوّلهم.

قال: فتتكسر أصواتهم عند ذلك و يخشع أبصارهم و يضطرب فرايصهم و تفزع‏ قلوبهم و يرفعون رؤوسهم إلى ناحية الصّوت مهطعين إلى الداعى قال: فعند ذلك يقول الكافر: هذا يوم عسر.
قال: فيشرف الجبّار عزّ ذكره عليهم فيقول: أنا اللّه لا إله إلّا أنا الحكم العدل الذي لا يجور اليوم أحكم بينكم بعدلى و قسطي لا يظلم اليوم عندى أحد، اليوم آخذ للضعيف من القويّ بحقّه و لصاحب المظلمة بالمظلمة بالقصاص من الحسنات و السّيئآت و اثيب على الهبات و لا يجوز هذه العقبة عندى ظالم و لا أحد عنده مظلمة إلّا مظلمة يهبها لصاحبها و اثيبه عليها و آخذ له بها عند الحساب فتلازموا أيّها الخلايق و اطلبوا بمظالمكم عند من ظلمكم بها في الدّنيا، و أنا شاهد لكم عليهم و كفى لي شهيدا.

قال: فيتعارفون و يتلازمون فلا يبقى لأحد له عند أحد مظلمة أو حقّ إلّا لزمه بها.
قال: فيمكثون ما شاء اللّه فيشتدّ حالهم و يكثر عرقهم و يشتدّ غمّهم و يرتفع أصواتهم بضجيج شديد فيتمنّون المخلص منه بترك مظالمهم لأهلها.
قال: و يطلع اللّه عزّ و جلّ على جهدهم فينادى مناد من عند اللّه تبارك يسمع آخرهم كما يسمع أولهم: يا معشر الخلايق انصتو الداعى اللّه تبارك و تعالى و اسمعوا إنّ اللّه تبارك و تعالى يقول: أنا الوهّاب إن أحببتم أن تواهبوا فواهبوا و إن لم تواهبوا أخذت لكم بمظالمكم.
قال: فيفرحون بذلك لشدّة جهدهم و ضيق مسلكهم و تزاحمهم.
قال عليه السّلام فيهب بعضهم مظالمهم رجاء أن يتخلّصوا مما هم فيه و يبقى بعضهم فيقول: يا ربّ مظالمنا أعظم من أن نهبها.
قال عليه السّلام فينادى مناد من تلقاء العرش أين رضوان خازن الجنان جنان الفردوس قال: فيأمر اللّه عزّ و جلّ أن يطلع من الفردوس قصر من فضّة بما فيه من الآنية و الخدم قال: فيطلعه عليهم في حفافة القصر الوصايف و الخدم.
قال فينادي مناد من عند اللّه تبارك و تعالى: يا معشر الخلايق ارفعوا رؤوسكم فانظروا إلى هذا القصر، قال: فيرفعون رؤوسهم فكلّهم يتمنّاه، قال: فينادى مناد من عند اللّه يا معشر الخلايق هذا لكلّ من عفى عن مؤمن، قال: فيعفون كلّهم إلّا القليل.

قال: فيقول اللّه عزّ و جلّ لا يجوز إلى جنّتي اليوم ظالم و لا يجوز إلى ناري اليوم ظالم، و لا أحد من المسلمين عنده مظلمة حتّى يأخذها منه عند الحساب أيّها الخلايق استعدّوا للحساب.
قال: ثمّ يخلّى سبيلهم فينطلقون إلى العقبة يلوذ بعضهم بعضا حتّى ينتهوا إلى العرصة و الجبار تبارك و تعالى على العرش قد نشرت الدواوين و نصبت الموازين احضر النبيّون و الشهداء و هم الأئمة يشهد كلّ إمام على أهل عالمه بأنّهم قد قام فيهم بأمر اللّه عزّ و جلّ و دعاهم إلى سبيل اللّه.

قال: فقال له رجل من قريش: يابن رسول اللّه إذا كان للرّجل المؤمن عند الرّجل الكافر مظلمة أىّ شي‏ء يأخذ من الكافر و هو من أهل النّار قال: فقال له عليّ بن الحسين عليهما السّلام: تطرح من المسلم من سيئآته بقدر ما له على الكافر فيعذب الكافر بها مع عذابه بكفره عذابا بقدر ما للمسلم قبله من مظلمة.
قال: فقال له القرشيّ فاذا كانت المظلمة لمسلم عند مسلم كيف يؤخذ مظلمته من المسلم قال: يؤخذ للمظلوم من الظالم من حسناته بقدر حقّ المظلوم فيزاد على حسنات المظلوم.
قال: فقال له القرشيّ: فان لم يكن للظالم حسنات، قال: للمظلوم سيئات يؤخذ من سيئات المظلوم فيزاد على سيئات الظالم.

الترجمة

تا آنكه چون بريده شود كارها و بسر آيد روزگارها و نزديك شود زنده شدن مردها، خارج مى‏ نمايد ايشان را خداى تبارك و تعالى از ميانهاى قبرها و از آشيان‏هاى مرغ‏ها و ماواهاى درنده‏ها و محل افتادن و هلاكشدن آنها، در حالتى كه شتابان باشند بسوى أمر پروردگار سرعت كننده باشند بمعاد آفريدگار جمع شوندگان ساكت شدگان ايستادگان صف كشيدگان.

نافذ مى ‏شود در ايشان نظر ربّ الارباب مى‏ شنواند ايشان را خواننده بسوى فصل خطاب، بر ايشانست لباس خضوع و فروتنى و زارى تسليم و خوارى بتحقيق كه كم شده باشد در آن روز حيل‏ها و بريده شود آرزوها.
و خالى مى‏ شود قلبها از فرح و سرور در حالتي كه ساكت باشند و ترسان باشد صوتها در حالتي كه نهان باشند و رسيده شود عرق بدهان و بزرگ شود ترس از گناهان و مضطرب مى‏باشد گوشها بجهت زجر و هيبت صوت ندا كننده بسوى حكم و خطاب فاصل در ميان حق و باطل و به عوض دادن جزا به آن چه كرده‏اند از خير و شر در دنيا، و گرفتار شدن حذرناك عذاب و عقاب و عطا كردن أصناف ثواب.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 81 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 82 صبحی صالح

82- و من كلام له ( عليه‏ السلام ) في ذم صفة الدنيا
مَا أَصِفُ مِنْ دَارٍ أَوَّلُهَا عَنَاءٌ
وَ آخِرُهَا فَنَاءٌ
فِي حَلَالِهَا حِسَابٌ
وَ فِي حَرَامِهَا عِقَابٌ
مَنِ اسْتَغْنَى فِيهَا فُتِنَ
وَ مَنِ افْتَقَرَ فِيهَا حَزِنَ
وَ مَنْ سَاعَاهَا فَاتَتْهُ
وَ مَنْ قَعَدَ عَنْهَا وَاتَتْهُ
وَ مَنْ أَبْصَرَ بِهَا بَصَّرَتْهُ
وَ مَنْ أَبْصَرَ إِلَيْهَا أَعْمَتْهُ

قال الشريف أقول و إذا تأمل المتأمل قوله ( عليه ‏السلام ) و من أبصر بها بصرته
وجد تحته من المعنى العجيب
و الغرض البعيد
ما لا تبلغ غايته و لا يدرك غوره
لا سيما إذا قرن إليه قوله و من أبصر إليها أعمته
فإنه يجد الفرق بين أبصر بها و أبصر إليها
واضحا نيرا و عجيبا باهرا

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج5  

و من كلام له عليه السلام فى صفة الدنيا و هو الحادى و الثمانون من المختار فى باب الخطب

ما أصف من دار أوّلها عناء، و آخرها فناء، في حلالها حساب، و في حرامها عقاب، من استغنى فيها فتن و من افتقر فيها حزن، و من ساعاها فاتته، و من قعد عنها و اتته، و من أبصر بها بصّرته، و من أبصر إليها أعمته. قال السّيد: أقول: و إذا تأمّل المتأمل قوله عليه السّلام: من أبصر بها بصّرته، وجد تحته من المعنى العجيب و الغرض البعيد ما لا يبلغ غايته و لا يدرك غوره، و لا سيّما اذا قرن إليه قوله: و من أبصر إليها أعمته، فانّه يجد الفرق بين أبصر بها و أبصر اليها واضحا نيّرا و عجيبا باهرا.

اللغة

(العناء) بالمدّ التّعب و المشقة و (فتن) بالبناء على المجهول من الفتنة بمعنى الضلالة و (حزن) بالبناء على المعلوم من باب فرح (و اتته) من المواتاة قال الطريحى: و هو حسن المطاوعة و الموافقة و أصله الهمزة خفف و كثر حتى يقال بالواو الخالصة و منه الحديث: خير النساء المواتية لزوجها، و في المصباح اتيته على الأمر وافقته و في لغة لأهل اليمن تبدل الهمزة واوا فيقال و اتيته على الأمر مواتاة و هي المشهورة على ألسنة الناس و (الغور) بالفتح من كلّ شي‏ء قعره.

الاعراب

الضمير في قوله فاتته منصوب المحلّ بنزع الخافض أى فاتت منه، و الباء في قوله من أبصر بها للاستعانة أعني الداخلة على آلة الفعل، و تعدية أبصر بالحرف في قوله و من أبصر إليها مع كون الفعل في أصله متعدّيا بنفسه إمّا من أجل تضمينه معنى التّوجه و الالتفات، أو من أجل تضمين معنى النظر و الأوّل أنسب و أقرب لزيادة ظهور الفرق الذي أشار اليه السّيد بين الفعلين أعني الجملتين على ذلك، و ان كان الثّاني صحيحا أيضا، و غايته و غوره إمّا بالرفع على النيابة عن الفاعل و إمّا بالنّصب على كون الفعلين مبنيّا للمعلوم و فاعلهما الضّمير المستتر الرّاجع إلى المتأمل.

المعنى

اعلم أنّ هذا الكلام له عليه السّلام مسوق للتنفير عن الدّنيا و الذمّ لها و قد ذكر من أوصافها امورا عشرة.
الأوّل قوله (ما أصف من دار أوّلها عناء) أى مشقّة و تعب و ذلك لأنّ مبدء نشور الانسان على ما حقّق في الطب هو الماء الدافق يخرج من بين الصّلب و التّرائب، و ذلك الماء إذا وقع في الرّحم اختلط بماء المرأة و دمها و غلظ ثمّ الرّيح يمخض ذلك الماء حتّى يتركه كالرّائب الغليظ، ثمّ يقسمه في الأعضاء، فان كان ذكرا فوجهه قبل ظهر امّه، و إن كان انثى فوجهها قبل بطن امّها و ذقنه على ركبتيه و يداه على جنبيه مقبض في المشيمة كأنّه مصرور في صرّة و يتنفّس من متنفّس شاقّ و ليس منه عضو الّا كأنه مقموط«» فوقه حرّ البطن و تحته ما تحته، و هو منوط بمعاء من سرّته إلى سرّة امّه و منها يمتصّ و يعيش من طعام امّه و شرابها.

فهو بهذه الحالة في الغمّ و الظلمات و الضيق حتّى إذا كان وقت ولادته سلط اللّه الرّيح على بطن امّه و قوى عليه التحريك فتصوب رأسه قبل المخرج فيجد من ضيق المخرج و عصره ما يجده صاحب الرّهق، فاذا وقع على الأرض فأصابته ريح أو مسّته‏ يد وجد من ذلك من الألم ما لا يجده من سلخ جلده.

ثمّ هو في ألوان من العذاب إن جاع فليس له استطعام و إن عطش فليس له استسقاء أو وجع فليس له استغاثة مع ما يلقاه من الرفع و الوضع و اللف و الحلّ إذا انيم على ظهره لا يستطيع تقلبا أو اقعد لا يستطيع تمدّدا.

فلا يزال في أصناف هذا العذاب ما دام رضيعا فاذا أفلت من ذلك اخذ بعذاب الأدب فاذيق منه ألوانا، و إذا أدرك فهم المال و الأولاد و الشّره و الحرص و مخاطرة الطلب و السعى.
و كلّ هذا يتقلّب فيها معه أعدائه الأربعة: المرّة و البلغم و الدّم و الرّيح، و السم المميت و الحيات اللاذعة مع خوف السّباع و الناس و خوف البرد و الحرّ ثمّ ألوان أوصاب الهرم إن بلغه.
(و) الثاني انّ (آخرها فناء) إذ كلّ نفس ذائقة الموت، مشرفة على الفوت و مفارقة للأهل و الأولاد مهاجرة عن الوطن و البلاد، و كلّ شي‏ء هالك إلّا وجهه و كلّ إنسان ملاق ربه.
و الثالث أنّه (في حلالها حساب) قال سبحانه: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ و قال أيضا وَ إِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَ كَفى‏ بِنا حاسِبِينَ و قال وَ وَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ.
قال الطبرسى لا يشغله حساب عن حساب فيحاسب الجميع على أفعالهم في حالة واحدة و سئل أمير المؤمنين عليه السّلام كيف يحاسبهم في حالة واحدة فقال: كما يرزقهم في حالة واحدة.

و اعلم أنّ الحساب في القيامة مما يجب أن يؤمن به و أما أنّ المحاسب عليه و المسئول عنه ما ذا فقد اختلف فيه الأخبار فبعضها كالآيات واردة على نحو العموم أو الاطلاق و بعضها مخصوصة أو مقيّدة.

ففى النبوىّ المعروف بين الخاصّة و العامّة قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا يزال قدم عبد يوم القيامة من بين يدي اللّه عزّ و جلّ حتى يسأل عن أربع خصال: عمرك فيما أفنيته و جسدك فيما أبليته، و مالك من أين اكتسبته و أين وضعته، و عن حبّنا أهل البيت، فقال عمر بن الخطاب: و ما علامة حبّكم يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: محبّة هذا، و وضع يده على رأس أمير المؤمنين عليه السّلام.

و روى الصّدوق باسناده عن ابراهيم بن العباس الصّولي قال: كنّا بين يدي عليّ بن موسى الرّضا عليهما السلام فقال: ليس في الدّنيا نعيم حقيقىّ، فقال له بعض الفقهاء ممن بحضرته: قول اللّه عزّ و جلّ: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ.
أما هذا النعيم في الدّنيا و هو الماء البارد، فقال له الرّضا عليه السّلام و علا صوته، هكذا فسّرتموه أنتم و جعلتموه على ضروب فقالت طائفة: هو البارد من الماء، و قال غيرهم هو الطعام الطيب، و قال آخرون: هو النوم الطيب.
و لقد حدّثنى أبى عن أبيه أبي عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله إنّ أقوالكم هذه ذكرت عنده في قوله تعالى: لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ.

فغضب و قال: إنّ اللّه تعالى لا يسأل عباده عمّا تفضّل عليهم به و لا يمنّ بذلك عليهم و الامتنان مستقبح من المخلوقين فكيف يضاف إلى الخالق عزّ و جلّ ما لا يرضى به للمخلوقين، و لكن النعيم حبّنا أهل البيت و موالاتنا يسأل اللّه عنه بعد التّوحيد و النبوّة لأنّ العبد إذا وافى بذلك أداه الى نعيم الجنّة الذى لا يزول.
و لقد حدّثنى بذلك أبى عن محمّد بن علىّ عن أبيه عن الحسين بن عليّ عن أبيه عليهم السلام أنّه قاله و قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا علي أول ما يسأل عنه العبد بعد موته شهادة أن لا إله إلا اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه و أنك وليّ المؤمنين بما جعله اللّه «فجعلته خ» لك فمن أقرّ بذلك و كان معتقده صار إلى النّعيم الذي لا زوال له.

و فى جامع الأخبار و غيره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إذا كان يوم القيامة أمر اللّه تعالى مناديا فينادى أين الفقراء فيقوم عنق من النّاس فيؤمر بهم إلى الجنّة فيقول خزنة الجنّة قبل الحساب. فيقولون ما اعطونا شيئا فيحاسبونا عليه، فيقول اللّه تعالى: صدقوا عبادى ما أفقرتكم هو انابكم و لكن ادّخرت بهذا لكم بهذا اليوم، انظروا او تصفّحوا وجوه النّاس فمن أتى إليكم معروفا فخذوا بيده و ادخلوا الجنّة.

و عن الارشاد عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تدخل الفقراء على الجنّة قبل الأغنياء بنصف يوم و مقداره خمسمائة عام هذا.

و قال المحدّث المجلسي في كتاب حقّ اليقين: إنّ المعلوم من الآيات و الأخبار أنّ الحساب و السّؤال حقّ و أما الخصوصيّة في المسئول و المسئول عنه و المحاسب و المحاسب عليه فغير معلومة.

فذهب جمع إلى أنّ السّؤال من جميع النّعم و الأموال الدّنيوية، و يدلّ عليه الأخبار الخاصيّة و العاميّة الدّالة على أنّ في حلالها حسابا و في حرامها عقابا، و المستفاد من طائفة من الرّوايات أنّ المؤمن لا حساب عليه، و في بعضها أنّه لا حساب في المأكول و الملبوس و المنكوح، و يستفاد من بعض الأخبار أنّ قوما يدخلون الجنّة بغير حساب كما مرّ في رواية جامع الأخبار و من بعضها أنّ بعض الأعمال الصّالحة يوجب دخول صاحبه على الجنة بلا حساب، فهذه مخصوصة لعمومات أدلّة الحساب.

و يمكن الجمع بين الرّوايات بوجهين.

أحدهما حمل الأخبار النّافية للحساب على انتفائه في حقّ المؤمن و الأخبار المثبتة على ثبوته فى حقّ غير المؤمن.
و الثاني حمل الأخبار الاولة على عدمه في الامور الضّرورية مثل الثلاثة السّابقة و حمل الأخبار الثّانية على وجوده في غير الامور الضّرورية كالاسراف و التّبذير و الصّرف في المحرّمات و الكسب من غير الوجوه المشروعة أو زايدا على‏ قدر الحاجة الموجب تحصيله لتضييع العمر و تفويت الزّمان فافهم.
(و) الرّابع أنّه (في حرامها عقاب) و هو واضح لا غبار عليه، و إلى هذا الوصف و سابقه نظر الشّاعر في قوله:

الدّهر يومان فيوم مضى عنك
بما فيه و يوم جديد

حلال يوميك حساب و في‏
حرام يوميك عقاب شديد

تجمع ما يأكله وارث
و أنت في القبر وحيد فريد

انّى لغير واعظ تارك‏
نفسى و قولى من فعالى بعيد

حلاوة الدّنيا و لذّاتها
تكلّف العاقل ما لا يريد

الخامس انّ (من استغنى فيها فتن) لأنّ الاستغناء شاغل عن ذكر اللّه مضلّ عن سبيل اللّه فهو بلاء ابتلاه اللّه به كما نطق به القرآن الكريم.
وَ اعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ أَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ.
(و) السّادس انّ (من افتقر فيها حزن) لظهور أنّ الافتقار فيها لطالبها موجب لشدّة المحنة و منتهى الحزن و الكأبة.
و في جامع الأخبار قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الفقر أشدّ من القتل، و قال أوحى اللّه إلى إبراهيم فقال يا إبراهيم خلقتك و ابتليتك بنار نمرود فلو ابتليتك بالفقر و رفعت عنك الصبر فما تصنع قال إبراهيم: يا ربّ الفقر إلىّ أشدّ من نار نمرود قال اللّه تعالى: فبعزّتى و جلالي ما خلقت في السّماء و الأرض أشدّ من الفقر الحديث.

و قال صلّى اللّه عليه و آله الفقر الموت الأكبر، و قال لو لا رحمة ربّي علي فقراء امّتي كاد الفقر أن يكون كفرا هذا.
و لشدّته دعا سيد العابدين و زين السّاجدين سلام اللّه عليه و على آبائه الطاهرين أن يصرفه اللّه عنه و لا يبتليه به حيث قال: اللهمّ لا طاقة لي بالجهد و لا صبر لي على البلاء و لا قوّة لي على الفقر فلا تخطر علىّ رزقي و لا تكلني إلى خلقك بل تفرّد بحاجتي و تولّ كفايتى و انظر الىّ و انظر لي في جميع‏اموري فانّك إن وكلتني إلى نفسى عجزت عنها و لم اقم ما فيه مصلحتها و إن وكلتني إلى خلقك تجهموا لى و إن ألجأتني إلى قرابتي حرموني و إن أعطونى اعطونى قليلا نكدا و منّوا علىّ طويلا و ذمّوا كثيرا فبفضلك اللهمّ فأغنني و بعظمتك فانعشنى، و بسعتك فابسط يدي و بما عندك فاكفني.

(و) السابع انّ (من ساعاها فاتته و) الثامن انّ (من قعد عنها واتته) و علّلهما الشّارح البحراني بأنّ أقوى أسباب هذا الفوات أنّ تحصيلها أكثر ما يكون بمنازعة أهلها عليها و مجاذبتهم«» إيّاها و قد علمت ثوران الشّهوة و الغضب و الحرص عند المجاذبة للشي‏ء و قوّة منع الانسان له و تجاذب الخلق للشي‏ء و عزّته عندهم سبب لتفويت بعضهم له على بعض، و القعود عنها و تركها و إن كان الغرض منهما المواتاة سبب لمواتاتها كما يفعله أهل الزّهد الظاهري المشوب بالرّيا الذي ترك الدّنيا للدّنيا، فانّ الزّهد الظاهري أيضا مطلوب الشّارع إذ كان وسيلة إلى الزهد الحقيقي كما قال الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الرّيا قنطرة الاخلاص.

أقول و الأظهر عندي غير هذا المعنى و هو أن يكون المراد بفواتها في حقّ السّاعين لها عدم بقائها في حقّهم لسرعة زوالها و فنائها فيصبحون مع شدّة رغبتهم إليها و طلبهم إياها و أيديهم عارية من حطامها خالية من زبرجها و زخرفها لحلول الموت و نزول الفوت.

و يحتمل إرادة فواتهما عنهم في حال الحياة فيكون كلامه عليه السّلام محمولا على الغالب فانّ أكثر النّاس و أغلبهم مع كونهم تابعين للدّنيا راغبين عن الآخرة لا يقع الدّنيا في أيديهم و إن خلعوا عن أعينهم الكرى و طال لهم السّهر، و هذا بخلاف التّاركين لها و الزّاهدين فيها زهدا حقيقيا، فانّ الدّنيا مطيعة لهم مقبلة إليهم و هم معرضون عنها غير ناظرين إليها.

ألا ترى إلى قول أمير المؤمنين عليه السّلام يا دنيا إليك عنّي أبي تعرّضت أم إلىّ تشوقت لا حان حينك هيهات غريّ غيرى لا حاجة فيك قد طلّقتك ثلاثا لا رجعة فيها.

و في النبويّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ اللّه جلّ جلاله أوحى إلى الدّنيا أن اتعبي من خدمك و اخدمي من رفضك.

و في رواية اخرى الزّاهد في الدّنيا يريح قلبه و بدنه، و الرّاغب فيها يتعب قلبه و بدنه.
التاسع و العاشر ما أشار إليه بقوله (و من أبصر بها بصّرته و من أبصر إليها أعمته) يعنى من جعلها آلة لابصاره و مرآتا للوصول إلى الغير يجعلها الدّنيا صاحب بصيرة و من كان نظره و توجّهه إليها و همّته معطوفا عليها يجعلها الدّنيا أعمى.

توضيح ذلك أنّ النظر إلى الدّنيا يتصوّر على وجهين.

أحدهما أن يكون المطلوب بالذّات من ذلك النّظر هو الدّنيا نفسها و لا شكّ أنّ الدنيا حينئذ تكون شاغلة له عن ذكر اللّه صارفة عن سلوك سبيل الحقّ، فيكون ضالّا عن الصّراط المستقيم ناكبا عن قصد الهدى، و هو المراد بكونه أعمى يعنى أنّ الدّنيا حينئذ تكون موجبة لعماء عين قلبه عن إدراك المطالب الحقّة و عن الاهتداء إلى سلوك سبيل الآخرة و لذلك خاطب اللّه سبحانه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ظاهرا و أراد امّته باطنا بقوله: وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى‏ ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ.

و الثاني أن يكون الغرض بالنظر إلى الدّنيا هو التبصّر بها و الاهتداء إلى المبدأ و المعاد إذ ما من شي‏ء فيها إلّا و هو من آثار الصنع و أدلّة القدرة و علامة العزّة و السّلطنة.

ففى كلّ شي‏ء له آية تدلّ على أنّه واحد

و سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ فبالنّظر إلى الأنفس و الآفاق يحصل البصيرة و الكمال، و يتمكن من المعرفة و الوصول إلى حضرت ذي الجلال كما يهتدى إلى الآخرة و يرغب عن الدّنيا بالنّظر إلى الامم الماضية و القرون الفانية و الملوك‏ العاتية كيف انتسفتهم الأيّام فأفناهم الحمام فامتحت من الدّنيا آثارهم و بقيت فيها أخبارهم.

تكملة

يستفاد من كشف الغمة أنّ هذا الكلام له عليه السّلام ملتقط من كلام طويل أسقط السّيد بعض فقراته على عادته قال: قال عليّ عليه السّلام يوما و قد أحدق به النّاس: أحذّركم الدّنيا فانّها منزل قلعة و ليست بدار نجعة هانت على ربّها فخلط شرّها بخيرها و حلوها بمرّها، لم يصفها اللّه لأوليائه و لم يضنّ بها على أعدائه، و هي دار ممرّ لا دار مستقرّ، و النّاس فيها رجلان رجل باع نفسه فأوبقها و رجل ابتاع نفسه فأعتقها، إن اعذو ذب جانب منها فحلّا أمرّ منها جانب فأوبى، أوّلها عناء و آخرها فناء، من استغنى فيها فتن و من افتقر فيها حزن، و من ساعا فاتته و من قعد عنها و اتته و من أبصر بها بصّرته و من أبصر إليها أعمته، فالانسان فيها غرض المنايا مع كلّ جرعة شرق، و مع كلّ اكلة غصص، لا ينال منها نعمة إلّا بفراق أخرى.

الترجمة

از جمله كلام آن حضرتست در مقام ذمّ دنيا و تنفير از آن كه مى‏ فرمايد: چه تعريف كنم سرائى را كه أول آن رنج است و عنا، و آخر آن فوتست و فنا، در حلال آن حسابست و در حرام آن عذاب، هر كس غنى شد در آن مبتلا شد بانواع بلا و افتاد در فتنه و ضلال، و هر كس محتاج گرديد در او گرفتار شد باندوه و ملال، و هر كه سعي نمود و شتافت بسوى آن فوت شد از آن بسبب حلول موت، و هر كه قدم پس نهاد و ترك كرد آنرا موافقت نمود او را و مساعدت، و هر كه دنيا را آلت بصيرت و واسطه معرفت خود گردانيد دنيا او را صاحب بصيرت نمود، و هر كه نظر همت خود را بدنيا مصروف داشت كور نمود دنيا او را.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 80 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 81 صبحی صالح

81- و من كلام له ( عليه‏ السلام  ) في الزهد

أَيُّهَا النَّاسُ الزَّهَادَةُ قِصَرُ الْأَمَلِ

وَ الشُّكْرُ عِنْدَ النِّعَمِ

وَ التَّوَرُّعُ عِنْدَ الْمَحَارِمِ

فَإِنْ عَزَبَ ذَلِكَ عَنْكُمْ فَلَا يَغْلِبِ الْحَرَامُ صَبْرَكُمْ

وَ لَا تَنْسَوْا عِنْدَ النِّعَمِ شُكْرَكُمْ

فَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ بِحُجَجٍ مُسْفِرَةٍ ظَاهِرَةٍ

وَ كُتُبٍ بَارِزَةِ الْعُذْرِ وَاضِحَةٍ

82- و من كلام له ( عليه‏السلام  ) في ذم صفة الدنيا

مَا أَصِفُ مِنْ دَارٍ أَوَّلُهَا عَنَاءٌ

وَ آخِرُهَا فَنَاءٌ

فِي حَلَالِهَا حِسَابٌ

وَ فِي حَرَامِهَا عِقَابٌ

مَنِ اسْتَغ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج5  

و من خطبة له عليه السلام و هى الثمانون من المختار فى باب الخطب

أيّها النّاس الزّهادة قصر الأمل، و الشّكر عند النّعم، و الورع عند المحارم، فإن عزب ذلك عنكم فلا يغلب الحرام صبركم، و لا تنسوا عند النّعم شكركم، فقد أعذر اللّه إليكم بحجج مسفرة و كتب بارزة العذر واضحة.

اللغة

(الزّهادة) كسعادة و الزّهد بمعنى و هو ترك الميل إلى الشي‏ء و في الاصطلاح‏ إعراض النّفس عن الدّنيا و طيّباتها، و قيل: هو ترك راحة الدّنيا طلبا لراحة الآخرة و (عزب) الشي‏ء بالعين المهملة و الزّاء المعجمة غاب و ذهب و (أعذر اللّه إليكم) أظهر عذره و الأظهر أن يكون الهمزة للسلب كما قيل في الحديث: أعذر اللّه إلى من بلغ من العمر ستّين سنة، أى أزال عذره قال في النّهاية أى لم يبق فيه موضعا للاعتذار حيث أمهله طول هذه المدّة و لم يعتذر.

الاعراب

الواو في قوله و الشكر و الورع عاطفة تفيد الجمع مع المصاحبة، قوله: و كتب بارزة العذر واضحة، اعلم أنّه قد حقّق في الأدبيّة أنّ النعت لا بدّ أن يطابق منعوته في وجوه الاعراب الثلاثة الرّفع و النّصب و الجرّ و في التّعريف و التنكير تقول جاء زيد الفاضل بالرّفع فيهما و جائنى رجل فاضل كذلك و هكذا.

و أن يطابقه فى الافراد و التّثنية و الجمع و التذكير و التّأنيث أيضا إن اسند النّعت إلى ضمير المنعوت حقيقة أو تأويلا و نعنى بالاسناد الحقيقى ان يجرى النعت على من هوله، تقول جائتنى امرأة كريمة و رجل كريم و رجلان كريمان و رجال كرام و هكذا، ففي الوصف في الجميع ضمير مستتر عايد إلى الموصوف باعتبار حاله في التأنيث و نقيضه و الافراد و نقيضيه، و نعنى بالاسناد التأويلي أن يجرى النعت على غير من هو له إذا حوّل الاسناد عن الظاهر إلى ضمير المنعوت.

و جرّ الظاهر بالاضافة إن كان معرفة و نصب على التميز إن كان نكرة تقول جائتنى امرأة كريمة الاب بالاضافة أو كريمة أبا بالتميز و جائني رجلان كريما الاب أو كريمان ابا و رجال كرام الآباء أو كرام آباء فانّ الوصف في جميع ذلك رافع ضمير الموصوف تحويلا و تأويلا.

و ان اسند النّعت إلى الاسم الظاهر أو إلى الضّمير البارز لا يلاحظ حال المنعوت في الافراد و نقيضيه و التذكير و نقيضه بل يعطى الوصف حكم الفعل تقول: مررت برجل قائمة امّه و بامرئة قائم أبوها كما تقول قامت امّه و قام أبوها و هكذا تقول أيضا جائني غلام امرئة ضاربة هي و أمة رجل ضاربها هو، كما تقول ضربته هى‏ و ضربه هو و هكذا.

إذا عرفت ذلك فأقول: إنّ قوله عليه السّلام بارزة العذر صفة للكتب مسند إلى ضمير موصوفه تأويلا، و قوله واضحة صفة أيضا لكنها مسندة إلى الضمير حقيقة أو محذوفة الفاعل بقرينة المذكور و لذلك وافقتا مع الموصوف في الاعراب و التأنيث و التّنكير و انّما اتى بهما مفردا إمّا باعتبار فاعلهما أو باعتبار تأويل الموصوف بالمفرد فافهم.

المعنى

اعلم أنّ مقصوده بهذه الخطبة بيان معنى الزّهد و التنبيه على لزومه لكونه من عظائم مكارم الصالحين و جلايل صفات المتّقين و عمدة مقامات السالكين إلى اللّه تعالى بقدمي الطاعة و اليقين، و الرّغبة ضدّه و الأوّل من جنود العقل و الثّاني من جنود الجهل و قد فسّره بقوله (أيّها النّاس الزّهادة قصر الامل و الشّكر عند النّعم و الورع عن المحارم) و هذه الثّلاثة من لوازم الزّهد فيكون تعريفا بالخاصّة المركبة و إنّما قلنا إنّها من لوازمه لأنّ الزّهد في الحقيقة عبارة عن اعراض النّفس عن الدّنيا و إقبالها إلى الآخرة، و من هنا قيل إنّه جعل القلب حيّا بمشاهدة أحوال الآخرة و ميّتا في طمع الدّنيا، و من المعلوم أن إعراض النّفس عن الدّنيا مستلزم لقصر الأمل فيها، و الاقبال إلى الآخرة مستلزم للشّكر إذ الكفران موجب للعذاب باعث للسّخط و العقاب كما قال تعالى: وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ.

و كذلك يلزمه الورع عن المحارم و الكفّ عنها إذ لا ينال ما عند اللّه إلّا بالورع قال الصّادق عليه السّلام في رواية الوسايل: عليكم بالورع فانّه الدّين الذي نلازمه و ندين اللّه تعالى به و نريده ممّن يوالينا لا تتعبونا بالشّفاعة.

و في حديث أبي ذر قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا أبا ذر من لم يأت يوم القيامة بثلاث فقد خسر، قلت: و ما الثلاث فداك أبي و امّي قال: ورع يحجزه عمّا حرّم اللّه عزّ و جلّ عليه، و حلم يردّ به جهل السّفيه، و خلق يدارى به النّاس، هذا.

و لما كان ملازمة هذه الامور الثلاثة بأجمعها شاقّة صعبة في حقّ الأغلب من النّاس لا جرم رخّص لهم في طول الأمل بقوله (فان عزب) و بعد (ذلك عنكم فلا يغلب الحرام صبركم و لا تنسوا عند النّعم شكركم) يعنى أنّكم إن لم تتمكّنوا من الاتيان بالامور الثلاثة فلا محالة لا تتركوا الاثنين إذ ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه، و إنما رخّص في ترك طول الأمل و لم يرخّص في ترك الشّكر أو الورع لأنّ طول الأمل ليس محرما بالذّات و إن كان ينجرّ إلى المحرم احيانا بخلاف الكفران و التّقحم في المحارم، فانّهما محرّمان بالذّات و التّرخيص فيهما موجب للاغراء بالقبيح.

ثمّ اكد ملازمة الزّهادة و علل لزومها بقوله (فقد أعذر اللّه اليكم بحجج مسفرة و كتب بارزة العذر واضحة) يعنى أظهر عذره إليكم في تعذيبكم لو خالفتم تكاليفه باقامة الحجج الظاهرة المضيئة و إنزال الكتب الواضحة التي أبرز فيها عذره، إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَ هُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى‏ وَ الرَّكْبُ أَسْفَلَ، و لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ.

أو أنّه سبحانه أزال عذره باقامة البراهين العقليّة و النقلية و الحجج الباطنيّة و الظاهرية فلم يبق لكم مقام للاعتذار و أن تقولوا يوم القيامة وَ لَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا.

تبصرة

ينبغي أن نشير الى بعض ما ورد في فضيلة صفة الزهادة و ذمّ نقيضها أعنى الرغبة من الآيات و الأخبار و نردف ذلك بذكر اقسام الزّهد.

فأقول قال سبحانه: فَخَرَجَ عَلى‏ قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ، وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ لا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ.

فنسب الزّهد إلى العلماء و وصف أهله بالعلم، و هو غاية المدح و الثناء و قال: وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى‏ ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَ رِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ أَبْقى‏ و قال مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ.

و أما الاخبار ففي الكافي في باب ذم الدّنيا و الزّهد فيها باسناده عن الهيثم بن واقد الحريرى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من زهد في الدّنيا أثبت اللّه الحكمة في في قلبه و أنطق بها لسانه و بصّره عيوب الدّنيا دائها و دوائها و أخرجه من الدّنيا سالما إلى دار السّلام.

و عن حفص بن غياث عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سمعته يقول جعل الخير كلّه في بيت و جعل مفتاحه الزّهد في الدّنيا.

و عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام إنّ من أعون الأخلاق على الدّين الزّهد في الدّنيا.

و عن عليّ بن هاشم بن البريد عن أبيه أنّ رجلا سأل عليّ بن الحسين عليهما السّلام عن الزّهد فقال: عشرة أشياء فأعلى درجة الزّهد أدنى درجة الورع، و أعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين، و أعلى درجة اليقين أدنى درجة الرّضا ألا و إنّ الزّهد في آية من كتاب اللّه عزّ و جلّ: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى‏ ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ.

و عن سفيان بن عيينة قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام و هو يقول: كلّ قلب فيه شكّ أو شرك فهو ساقط، و إنّما أرادوا بالزّهد في الدّنيا لتفرغ قلوبهم في الآخرة و عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام إنّ علامة الرّاغب في ثواب الآخرة زهده في عاجل زهرة الحياة الدّنيا، أما إنّ زهد الزّاهد في هذه الدّنيا لا ينقصه ممّا قسم اللّه عزّ و جلّ له فيها و إن زهد، و إنّ حرص الحريص على عاجل زهرة الدّنيا لا يزيده فيها و إن حرص، فالمغبون من حرّم حظّه من الآخرة.

الى غير ما في هذا المعنى من الرّوايات، و قد عقد في الكافي با بالها و مضى شطر منها في شرح الخطبة الثامنة و العشرين اذا عرفت ذلك فلنذكر اقسام الزّهد.

فأقول انّه ينقسم على ما ذكره أبو حامد الغزالى في احياء العلوم، تارة بالنظر الى نفسه، و اخرى بالنّظر الى المرغوب فيه، و ثالثة بالنّظر الى المرغوب عنه.

اما الاول فهو انّه يتفاوت بحسب الشدّة و الضّعف و الكمال و النقصان على مراتب ثلاث.

المرتبة الاولى و هى السّفلى أن يزهد في الدّنيا و هو لها راغب و القلب اليها مايل و نفسه لها مشتهية و لكنّه يجاهدها و يكفّها و هذا يسمّى المتزّهد.

المرتبة الثّانية ترك الدّنيا طوعا لاستحقاره إيّاها بالاضافة إلى ما طمع فيه كالذي يترك درهما لأجل درهمين فانّه لا يشقّ عليه ذلك و إن كان يحتاج إلى انتظار قليل و لكن هذا الزّاهد لا محالة يرى زهده و يلتفت إليه، و يكون معجبا بنفسه و يزهده و يظن في نفسه أنّه ترك شيئا له قدر لما هو أعظم قدرا منه.

المرتبة الثالثة و هي العليا الزّهد طوعا و الزّهد في الزهد بأن لا يرى زهده إذ لا يرى أنّه ترك شيئا لمعرفته بأنّ الدنيا لا شي‏ء كمن ترك قذرة و أخذ جوهرة فلا يرى ذلك معاوضة و لا يرى نفسه تاركا شيئا إذا لدنيا بالنّسبة الى الآخرة أخسّ من قذرة بالنّسبة إلى الجوهرة فهذا هو الكمال في الزّهد و سببه كمال المعرفة.

و اما الثاني فهو أنّه ينقسم بالنّسبة إلى المرغوب فيه أيضا على ثلاث مراتب.

المرتبة الاولى أن يكون المرغوب فيه النّجاة من النّار و من ساير الآلام‏ كعذاب القبر و طول الحساب و خطر الصراط و ساير ما بين يدي الانسان من الأهوال على ما وردت في الأخبار.

المرتبة الثانية أن يكون المرغوب فيه اللذائذ الموعودة و النعم الموجودة في الجنّة من الحور و القصور و الأنهار و الأثمار و ساير ما أعدّت للمتقين و هذا زهد الراجين فانّهم لم يتركوا الدنيا قناعة بالعدم و خلاصا من الألم و إنّما تركوها رغبة في وجود دائم و طمعا في نعمة غير منقطعة.

المرتبة الثالثة أن لا يكون له رغبة إلّا في اللّه و في لقائه فلا يكون له توجّه إلى الآلام ليقصد الخلاص منها، و لا التفات إلى النعم ليقصد الفوز بها، بل هو مستغرق الهمّ باللّه و هو الذي أصبح و همّه هم واحد، و هو الموحّد الحقيقي الذي لا يطلب غير اللّه إذ طلب غيره سبحانه لا يخلو من شرك خفيّ.

و هذه المرتبة مختصّة بالتّأمين في المحبة و الكاملين في مقام الرّضا، و ليس غرضهم إلّا تحصيل الرّضوان و لا لهم نظر إلى الحور و القصور و ساير اللذائذ الموجودة في الجنان لأنّ لذايذ الجنّة كلّها عندهم بالنسبة إلى لذّة الاستغراق و الفناء مثل لذّة اللعب بالعصفور و الاستيلاء عليه بالنّسبة إلى لذّة الملك و الاستيلاء على أطراف الأرض و رقاب الخلق، و الطالبون لنعيم الجنة عند أهل المعرفة و الكمال كالصبىّ الطالب للّعب بالعصفور التارك للذّة السّلطنة و الملك من حيث قصوره عن ادراك هذه اللذة و إلى هذه أشير في قوله: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ.

اى الرّضوان من اللّه اكبر من جميع ما في الجنات من اللذات و هو الفوز العظيم اذ هو غاية كلّ لذّة و منتهى كلّ سعادة يستحقر دونه كلّ بهجة.

و اما الثالث أعنى الانقسام بالنّسبة إلى المرغوب عنه فنقول: إنّ الأقسام بالنّسبة إلى ذلك كثيرة غير محصورة إلّا أنّ هناك مجامع محيطة بها إجمالا و هى أيضا متفاوتة المراتب بعضها أجمل و بعضها أشرح لآحاد الأقسام و أقرب إلى التفصيل.

أمّا الاجمال في الدّرجة الأولى فهو كلّ ما سوى اللّه فينبغى أن يزهد فيه حتّى يزهد في نفسه أيضا.

و أمّا الاجمال في الدّرجة الثّانية فهو أن يزهد في كلّ صفة للنّفس فيها تمتع و شهوة، و هذا يتناول جميع مقتضيات الطبع من الشهوة و الغضب و الكبر و الرّياسة و المال و الجاه و غيرها.

و أمّا الاجمال في الدّرجة الثّالثة فهو أن يزهد في المال و الجاه و أسبابهما إذ إليهما ترجع جميع حظوظ النّفس.

و أما الاجمال في الدّرجة الرّابعة فهو أن يزهد في العلم و القدرة و الدّينار و الدرهم و الجاه إذ الأموال و إن كثرت أصنافها فيجمعها الدّينار و الدرهم، و الجاه و إن كثرت أسبابه فيرجع الى العلم و القدرة و أعنى به كلّ علم و قدرة يتعلّق بملك القلوب فانّ المقصود بالجاه ملك القلوب و القدرة و الاستيلاء عليها مع الشّعور بذلك كما أنّ المقصود بالمال ملك الأعيان و القدرة عليها، فان جاوزنا عن هذا التفصيل الاجمالي إلى شرح و تفصيل أبلغ من ذلك يكاد يخرج ما فيه الزّهد عن الحصر، و قد ذكر اللّه تعالى في آية واحدة سبعة منها فقال: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْأَنْعامِ وَ الْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ.

ثمّ ردّها في آية اخرى إلى خمسة فقال عزّ و جلّ: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَ.

ثمّ ردّها في موضع آخر الى اثنين فقال تعالى: إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ.

ثمّ ردّ الكلّ الى واحد فقال: وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى‏ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى‏.

فالهوى لفظ جامع لجميع حظوظ النّفس في الدّنيا فينبغي أن يكون الزّهد فيه، فأعلى مراتب الزهد بالنّسبة إلى المرغوب عنه هو الزّهد عن ما سوى اللّه، و بعدها الزّهد عن حظوظ النّفس و أدناها الزّهد عن المحرمات الشّرعيّة، و اللّه ولىّ التّوفيق.

الترجمة

از جمله خطب آن مقتداى عالميان است كه ترغيب فرموده مردم را بآن بورع و زهادت و شكر و سپاس حضرت عزت باين نحو كه: أى مردمان زاهد بودن كوتاهى آرزوهاست و شكر كردن است بر نعمتها و پرهيزكاريست از حرامها، پس اگر بعيد باشد استجماع اين امور از شما پس لازم است كه غالب نشود حرام صبر شما را و فراموش ننمائيد نزد نعمتها شكر گذارى خود را، پس به تحقيق كه اظهار فرمود حضرت كردگار عذر خود را بسوى شما در تعذيب شما بحجتهاى روشن و نمايان و كتابهاى سماويه كه عذر آن ظاهر است و عيان در ميان مردمان.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»