خطبه 79 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(بعد فراغه من حرب الجمل في ذم النساء)

79 و من كلام له ع بعد فراغه من حرب الجمل في ذم النساء

مَعَاشِرَ النَّاسِ إِنَّ النِّسَاءَ نَوَاقِصُ الْإِيمَانِ- نَوَاقِصُ الْحُظُوظِ نَوَاقِصُ الْعُقُولِ- فَأَمَّا نُقْصَانُ إِيمَانِهِنَّ- فَقُعُودُهُنَّ عَنِ الصَّلَاةِ وَ الصِّيَامِ فِي أَيَّامِ حَيْضِهِنَّ- وَ أَمَّا نُقْصَانُ عُقُولِهِنَّ- فَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ مِنْهُنَّ كَشَهَادَةِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ- وَ أَمَّا نُقْصَانُ حُظُوظِهِنَّ- فَمَوَارِيثُهُنَّ عَلَى الْأَنْصَافِ مِنْ مَوَارِيثِ الرِّجَالِ- فَاتَّقُوا شِرَارَ النِّسَاءِ وَ كُونُوا مِنْ خِيَارِهِنَّ عَلَى حَذَرٍ- وَ لَا تُطِيعُوهُنَّ فِي الْمَعْرُوفِ حَتَّى لَا يَطْمَعْنَ فِي الْمُنْكَرِ جعل ع نقصان الصلاة نقصانا في الإيمان- و هذا هو قول أصحابنا إن الأعمال من الإيمان- و إن المقر بالتوحيد و النبوة- و هو تارك للعمل ليس بمؤمن- .

و قوله ع و لا تطيعوهن في المعروف- ليس بنهي عن فعل المعروف و إنما هو نهي عن طاعتهن- أي لا تفعلوه لأجل أمرهن لكم به بل افعلوه لأنه معروف- و الكلام ينحو نحو المثل المشهور- لا تعط العبد كراعا فيأخذ ذراعا- . و هذا الفصل كله رمز إلى عائشة- و لا يختلف أصحابنا في أنها أخطأت فيما فعلت- ثم تابت و ماتت تائبة و إنها من أهل الجنة- .

قال كل من صنف في السير و الأخبار- أن عائشة كانت من أشد الناس على عثمان- حتى إنها أخرجت ثوبا من ثياب رسول الله ص- فنصبته في منزلها و كانت تقول للداخلين إليها- هذا ثوب رسول الله ص لم يبل و عثمان قد أبلى سنته- . قالوا أول من سمى عثمان نعثلا عائشة- و النعثل الكثير شعر اللحية و الجسد- و كانت تقول اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا- .

و روى المدائني في كتاب الجمل قال- لما قتل عثمان كانت عائشة بمكة- و بلغ قتله إليها و هي بشراف- فلم تشك في أن طلحة هو صاحب الأمر- و قالت بعدا لنعثل و سحقا إيه ذا الإصبع- إيه أبا شبل إيه يا ابن عم- لكأني أنظر إلى إصبعه و هو يبايع له- حثوا الإبل و دعدعوها- . قال و قد كان طلحة حين قتل عثمان- أخذ مفاتيح بيت المال- و أخذ نجائب كانت لعثمان في داره ثم فسد أمره- فدفعها إلى علي بن أبي طالب ع

أخبار عائشة في خروجها من مكة إلى البصرة بعد مقتل عثمان

و قال أبو مخنف لوط بن يحيى الأزدي في كتابه- أن عائشة لما بلغها قتل عثمان و هي بمكة أقبلت مسرعة- و هي تقول إيه ذا الإصبع لله أبوك- أما إنهم وجدوا طلحة لها كفوا- فلما انتهت إلى شراف- استقبلها عبيد بن أبي سلمة الليثي فقالت له ما عندك- قال قتل عثمان قالت ثم ما ذا- قال ثم حارت بهم الأمور إلى خير محار بايعوا عليا- فقالت لوددت أن السماء انطبقت على الأرض إن تم هذا- ويحك انظر ما تقول قال- هو ما قلت لك يا أم المؤمنين فولولت- فقال لها ما شأنك يا أم المؤمنين-و الله ما أعرف بين لابتيها أحدا أولى بها منه و لا أحق- و لا أرى له نظيرا في جميع حالاته- فلما ذا تكرهين ولايته قال فما ردت عليه جوابا- .

قال و قد روي من طرق مختلفة- أن عائشة لما بلغها قتل عثمان و هي بمكة- قالت أبعده الله ذلك بما قدمت يداه- و ما الله بظلام للعبيد- . قال و قد روى قيس بن أبي حازم- أنه حج في العام الذي قتل فيه عثمان- و كان مع عائشة لما بلغها قتله فتحمل إلى المدينة قال- فسمعها تقول في بعض الطريق إيه ذا الإصبع- و إذا ذكرت عثمان قالت أبعده الله- حتى أتاها خبر بيعة علي فقالت- لوددت أن هذه وقعت على هذه- ثم أمرت برد ركائبها إلى مكة فردت معها- و رأيتها في سيرها إلى مكة تخاطب نفسها- كأنها تخاطب أحدا قتلوا ابن عفان مظلوما- فقلت لها يا أم المؤمنين أ لم أسمعك آنفا تقولين- أبعده الله و قد رأيتك قبل أشد الناس عليه- و أقبحهم فيه قولا فقالت لقد كان ذلك- و لكني نظرت في أمره فرأيتهم استتابوه- حتى إذا تركوه كالفضة البيضاء- أتوه صائما محرما في شهر حرام فقتلوه- .

قال و روي من طرق أخرى- أنها قالت لما بلغها قتله أبعده الله- قتله ذنبه و أقاده الله بعمله- يا معشر قريش لا يسومنكم قتل عثمان كما سام أحمر ثمود قومه- أن أحق الناس بهذا الأمر ذو الإصبع- فلما جاءت الأخبار ببيعة علي ع قالت- تعسوا تعسوا لا يردون الأمر في تيم أبدا- . كتب طلحة و الزبير إلى عائشة و هي بمكة كتابا- أن خذلي الناس عن بيعة علي- و أظهري الطلب بدم عثمان- و حملا الكتاب مع ابن أختها عبد الله بن الزبير- فلما قرأت الكتاب كاشفت و أظهرت الطلب بدم عثمان- و كانت أم سلمة رضي الله عنها بمكة في ذلك العام- فلما رأت صنع عائشة قابلتها بنقيض ذلك- و أظهرت موالاة علي ع- و نصرته على مقتضي العداوة المركوزة في طباع الصرتين- .

قال أبو مخنف جاءت عائشة إلى أم سلمة- تخادعها على الخروج للطلب بدم عثمان- فقالت لها يا بنت أبي أمية- أنت أول مهاجرة من أزواج رسول الله ص- و أنت كبيرة أمهات المؤمنين- و كان رسول الله ص يقسم لنا من بيتك- و كان جبريل أكثر ما يكون في منزلك- فقالت أم سلمة لأمر ما قلت هذه المقالة-

فقالت عائشة إن عبد الله أخبرني- أن القوم استتابوا عثمان- فلما تاب قتلوه صائما في شهر حرام- و قد عزمت على الخروج إلى البصرة- و معي الزبير و طلحة فاخرجي معنا- لعل الله أن يصلح هذا الأمر على أيدينا بنا- فقالت أم سلمة إنك كنت بالأمس تحرضين على عثمان- و تقولين فيه أخبث القول- و ما كان اسمه عندك إلا نعثلا- و إنك لتعرفين منزلة علي بن أبي طالب عند رسول الله ص- أ فأذكرك قالت نعم قالت أ تذكرين يوم أقبل ع و نحن معه- حتى إذا هبط من قديد ذات الشمال- خلا بعلي يناجيه فأطال- فأردت أن تهجمي عليهما فنهيتك فعصيتني- فهجمت عليهما فما لبثت أن رجعت باكية- فقلت ما شأنك-

فقلت إني هجمت عليهما و هما يتناجيان- فقلت لعلي ليس لي من رسول الله إلا يوم من تسعة أيام- أ فما تدعني يا ابن أبي طالب و يومي- فأقبل رسول الله ص علي و هو غضبان محمر الوجه- فقال ارجعي وراءك- و الله لا يبغضه أحد من أهل بيتي- و لا من غيرهم من الناس إلا و هو خارج من الإيمان- فرجعت نادمة ساقطة قالت عائشة نعم أذكر ذلك- قالت و أذكرك أيضا- كنت أنا و أنت مع رسول الله ص- و أنت تغسلين رأسه و أنا أحيس له حيسا- و كان الحيس يعجبه- فرفع رأسه و قال يا ليت شعري- أيتكن صاحبة الجمل الأذنب- تنبحها كلاب الحوأب فتكون ناكبة عن الصراط- فرفعت يدي من الحيس-

فقلت أعوذ بالله و برسوله من ذلك- ثم ضرب على ظهرك- و قال إياك أن تكونيها- ثم قال يا بنت أبي أمية إياك أن تكونيها يا حميراء- أما أنا فقد أنذرتك- قالت عائشة نعم أذكر هذا- قالت و أذكرك أيضا- كنت أنا و أنت مع رسول الله ص في سفر له- و كان علي يتعاهد نعلي رسول الله ص فيخصفها- و يتعاهد أثوابه فيغسلها فنقبت له نعل- فأخذها يومئذ يخصفها و قعد في ظل سمرة- و جاء أبوك و معه عمر فاستأذنا عليه- فقمنا إلى الحجاب و دخلا يحادثانه فيما أراد- ثم قالا يا رسول الله إنا لا ندري قدر ما تصحبنا- فلو أعلمتنا من يستخلف علينا- ليكون لنا بعدك مفزعا-

فقال لهما أما إني قد أرى مكانه- و لو فعلت لتفرقتم عنه- كما تفرقت بنو إسرائيل عن هارون بن عمران- فسكتا ثم خرجا- فلما خرجنا إلى رسول الله ص قلت له- و كنت أجرأ عليه منا- من كنت يا رسول الله مستخلفا عليهم فقال خاصف النعل- فنظرنا فلم نر أحدا إلا عليا- فقلت يا رسول الله ما أرى إلا عليا فقال هو ذاك- فقالت عائشة نعم أذكر ذلك- فقالت فأي خروج تخرجين بعد هذا فقالت- إنما أخرج للإصلاح بين الناس- و أرجو فيه الأجر إن شاء الله فقالت أنت و رأيك- فانصرفت عائشة عنها- و كتبت أم سلمة بما قالت و قيل لها إلى علي ع- .

فإن قلت فهذا نص صريح في إمامة علي ع- فما تصنع أنت و أصحابك المعتزلة به- قلت كلا إنه ليس بنص كما ظننت- لأنه ص لم يقل قد استخلفته- و إنما قال لو قد استخلفت أحدا لاستخلفته- و ذلك لا يقتضي حصول الاستخلاف-و يجوز أن تكون مصلحة المكلفين متعلقة بالنص عليه- لو كان النبي ص مأمورا بأن ينص على إمام بعينه من بعده- و أن يكون من مصلحتهم أن يختاروا لأنفسهم من شاءوا- إذا تركهم النبي ص و آراءهم و لم يعين أحدا- .

و روى هشام بن محمد الكلبي في كتاب الجمل- أن أم سلمة كتبت إلى علي ع من مكة أما بعد- فإن طلحة و الزبير و أشياعهم أشياع الضلالة- يريدون أن يخرجوا بعائشة إلى البصرة- و معهم عبد الله بن عامر بن كريز- و يذكرون أن عثمان قتل مظلوما و أنهم يطلبون بدمه- و الله كافيهم بحوله و قوته- و لو لا ما نهانا الله عنه من الخروج- و أمرنا به من لزوم البيت- لم أدع الخروج إليك و النصرة لك- و لكني باعثة نحوك ابني عدل نفسي عمر بن أبي سلمة- فاستوص به يا أمير المؤمنين خيرا- . قال فلما قدم عمر على علي ع أكرمه- و لم يزل مقيما معه حتى شهد مشاهده كلها- و وجهه أميرا على البحرين و قال لابن عم له- بلغني أن عمر يقول الشعر فابعث إلي من شعره- فبعث إليه بأبيات له أولها-

جزتك أمير المؤمنين قرابة
رفعت بها ذكري جزاء موفرا

 فعجب علي ع من شعره و استحسنه- . و من الكلام المشهور الذي قيل- إن أم سلمة رحمها الله كتبت به إلى عائشة- إنك جنة بين رسول الله ص و بين أمته- و إن الحجاب دونك لمضروب على حرمته- و قد جمع القرآن ذيلك فلا تندحيه- و سكن عقيراك فلا تصحريها- لو أذكرتك قوله من رسول الله ص تعرفينها- لنهشت بها نهش الرقشاء المطرقة- ما كنت‏ قائلة لرسول الله ص- لو لقيك ناصة قلوص قعودك من منهل إلى منهل- قد تركت عهيداه و هتكت ستره- إن عمود الدين لا يقوم بالنساء و صدعه لا يرأب بهن- حماديات النساء خفض الأصوات و خفر الأعراض- اجعلي قاعدة البيت قبرك حتى تلقينه- و أنت على ذلك- . فقالت عائشة ما أعرفني بنصحك و أقبلني لوعظك- و ليس الأمر حيث تذهبين ما أنا بعمية عن رأيك- فإن أقم ففي غير حرج- و إن أخرج ففي إصلاح بين فئتين من المسلمين- .

و قد ذكر هذا الحديث أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة- في كتابه المصنف في غريب الحديث في باب أم سلمة- على ما أورده عليك قال- لما أرادت عائشة الخروج إلى البصرة- أتتها أم سلمة فقالت لها- إنك سدة بين محمد رسول الله ص و بين أمته- و حجابك مضروب على حرمته- قد جمع القرآن ذيلك فلا تندحيه- و سكن عقيراك فلا تصحريها الله من وراء هذه الأمة- لو أراد رسول الله ص أن يعهد إليك عهدا علت علت- بل قد نهاك عن الفرطة في البلاد- إن عمود الإسلام لا يثأب بالنساء إن مال- و لا يرأب بهن إن صدع- حماديات النساء غض الأطراف- و خفر الأعراض و قصر الوهازة- ما كنت قائلة لو أن رسول الله ص عارضك بعد الفلوات- ناصة قلوصا من منهل إلى آخر- إن بعين الله مهواك و على رسوله تردين- و قد وجهت سدافته و يروى سجافته و تركت عهيداه- لو سرت مسيرك هذا ثم قيل لي ادخلي الفردوس- لاستحييت أن ألقى محمدا ص هاتكة حجابا و قد ضربه علي- اجعلي حصنك بيتك و وقاعة الستر قبرك حتى تلقينه- و أنت على تلك أطوع ما تكونين لله بالرقبة- و أنصر ما تكون للدين ما حلت عنه- لو ذكرتك قولا تعرفينه- لنهشت به نهش الرقشاء المطرقة- . فقالت عائشة ما أقبلني لوعظك و ليس الأمر كما تظنين- و لنعم المسير مسير فزعت فيه إلى فئتان متناجزتان- أو قالت متناحرتان إن أقعد ففي غير حرج- و إن أخرج فإلى ما لا بد لي من الازدياد منه- .

تفسير غريب هذا الخبر- السدة الباب-و منه حديث رسول الله ص أنه ذكر أول من يرد عليه الحوض- فقال الشعث رءوسا الدنس ثيابا- الذين لا تفتح لهم السدد- و لا ينكحون المتنعمات- و أرادت أم سلمة أنك باب بين النبي ص و بين الناس- فمتى أصيب ذلك الباب بشي‏ء- فقد دخل على رسول الله ص في حرمه و حوزته- و استبيح ما حماه تقول- فلا تكوني أنت سبب ذلك بالخروج الذي لا يجب عليك- فتحوجي الناس إلى أن يفعلوا ذلك- و هذا مثل قول نعمان بن مقرن للمسلمين في غزاة نهاوند- ألا و إنكم باب بين المسلمين و المشركين- إن كسر ذلك الباب دخل عليهم منه- .

و قولها قد جمع القرآن ذيلك فلا تندحيه- أي لا تفتحيه و لا توسعيه بالحركة و الخروج- يقال ندحت الشي‏ء إذا وسعته- و منه يقال فلان في مندوحة عن كذا أي في سعة- تريد قول الله تعالى وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ- و من روى تبدحيه بالباء- فإنه من البداح و هو المتسع من الأرض و هو معنى الأول- . و سكن عقيراك من عقر الدار و هو أصلها- أهل الحجاز يضمون العين و أهل نجد يفتحونها- و عقير اسم مبني من ذلك على صيغة التصغير- و مثله مما جاء مصغرا الثريا- و الحميا و هو سورة الشراب- قال ابن قتيبة و لم أسمع بعقيرا إلا في هذا الحديث- .

قولها فلا تصحريها أي لا تبرزيها و تجعليها بالصحراء- يقال أصحر كما يقال أنجد و أسهل و أحزن- . و قولها الله من وراء هذه الأمة- أي محيط بهم و حافظ لهم و عالم بأحوالهم- كقوله تعالى وَ اللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ- قولها لو أراد رسول الله ص الجواب محذوف- أي لفعل و لعهد و هذا كقوله تعالى- وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ- أي لكان هذا القرآن- . قولها علت علت أي جرت في هذا الخروج- و عدلت عن الجواب و العول الميل و الجور- قال تعالى ذلِكَ أَدْنى‏ أَلَّا تَعُولُوا- و من الناس من يرويه علت علت بكسر العين- أي ذهبت في البلاد و أبعدت السير- يقال عال فلان في البلاد أي ذهب و أبعد- و منه قيل للذئب عيال- .

قولها عن الفرطة في البلاد أي عن السفر و الشخوص- من الفرط و هو السبق و التقدم- و رجل فارط أتى الماء أي سابق- . قولها لا يثأب بالنساء- أي لا يرد بهن إن مال إلى استوائه- من قولك ثأب فلان إلى كذا أي عاد إليه- . قولها و لا يرأب بهن إن صدع أي لا يسد بهن و لا يجمع- و الصدع الشق- و يروى إن صدع بفتح الصاد و الدال- أجروه مجرى قولهم جبرت العظم فجبر- . قولها حماديات النساء يقال حماداك أن تفعل كذا- مثل قصاراك أن تفعل كذا أي جهدك و غايتك- .

و غض الأطراف جمعها و خفر الأعراض- الخفر الحياء و الأعراض جمع عرض و هو الجسد- يقال فلان طيب العرض أي طيب ريح البدن- و من رواه الأعراض بكسر الهمزة جعله مصدرا- من أعرض عن كذا- . قولها و قصر الوهازة- قال ابن قتيبة سألت عن هذا فقال لي من سألته- سألت عنه أعرابيا فصيحا- فقال الوهازة الخطوة- يقال للرجل إنه لمتوهز و متوهر إذا وطئ وطئا ثقيلا- . قولها ناصة قلوصا أي رافعة لها في السير- و النص الرفع و منه يقال حديث منصوص أي مرفوع- و القلوص من النوق الشابة- و هي بمنزلة الفتاة من النساء- . و المنهل الماء ترده الإبل- .

قولها إن بعين الله مهواك- أي إن الله يرى سيرك و حركتك- و الهوى الانحدار في السير من النجد إلى الغور- . قولها و على رسوله تردين أي تقدمين في القيامة- . قولها و قد وجهت سدافته- السدافة الحجاب و الستر- هي من أسدف الليل إذا ستر بظلمته- كأنه أرخى ستورا من الظلام و يروى بفتح السين- و كذلك القول في سجافته- إنه يروى بكسر السين و فتحها- و السدافة و السجافة بمعنى- . و وجهت أي نظمتها بالخرز- و الوجيهة خرزة معروفة و عادة العرب- أن تنظم على المحمل خرزات إذا كان للنساء- . قولها و تركت عهيداه لفظة مصغرة مأخوذة من العهد- مشابهة لما سلف من قولها- عقيراك و حماديات النساء- . قولها و وقاعة الستر- أي موقعه على الأرض إذا أرسلته- و هي الموقعة أيضا و موقعة الطائر- .

قولها حتى تلقينه و أنت على تلك- أي على تلك الحال فحذف- . قولها أطوع ما تكونين لله إذا لزمته- أطوع مبتدأ و إذا لزمته خبر المبتدأ- و الضمير في لزمته راجع إلى العهد و الأمر الذي أمرت به- . قولها لنهشت به نهش الرقشاء المطرقة- أي لعضك و نهشك ما أذكره لك- و أذكرك به كما تنهشك أفعى رقشاء- و الرقش في ظهرها هو النقط و الجرادة أيضا رقشاء- قال النابغة

فبت كأني ساورتني ضئيلة
من الرقش في أنيابها السم ناقع‏

و الأفعى يوصف بالإطراق- و كذلك الأسد و النمر و الرجل الشجاع- و كان معاوية يقول في علي ع- الشجاع المطرق و قال الشاعر و ذكر أفعى-

أصم أعمى ما يجيب الرقى
من طول إطراق و إسبات‏

قولها فئتان متناجزتان- أي تسرع كل واحدة منهما إلى نفوس الأخرى- و من رواه متناحرتان أراد الحرب و طعن النحور بالأسنة- و رشقها بالسهام- . و فزعت إلى فلان في كذا أي لذت به و التجأت إليه- . و قولها إن أقعد ففي غير حرج أي في غير إثم- و قولها فإن أخرج فإلى ما لا بد لي من الازدياد منه- كلام من يعتقد الفضيلة في الخروج- أو يعرف موقع الخطإ و يصر عليه- . لما عزمت عائشة على الخروج إلى البصرة- طلبوا لها بعيرا أيدا يحمل هودجها- فجاءهم يعلى بن أمية ببعيره المسمى عسكرا- و كان عظيم الخلق شديدا فلما رأته أعجبها- و أنشأ الجمال يحدثها بقوته و شدته- و يقول في أثناء كلامه عسكر- فلما سمعت هذه اللفظة استرجعت- و قالت ردوه لا حاجة لي فيه- و ذكرت حيث سئلت أن رسول الله‏ ص ذكر لها هذا الاسم- و نهاها عن ركوبه- و أمرت أن يطلب لها غيره فلم يوجد لها ما يشبهه- فغير لها بجلال غير جلاله- و قيل لها قد أصبنا لك أعظم منه خلقا و أشد قوة- و أتيت به فرضيت- .

قال أبو مخنف و أرسلت إلى حفصة- تسألها الخروج و المسير معها- فبلغ ذلك عبد الله بن عمر فأتى أخته فعزم عليها- فأقامت و حطت الرحال بعد ما همت- . كتب الأشتر من المدينة إلى عائشة و هي بمكة- أما بعد فإنك ظعينة رسول الله ص- و قد أمرك أن تقري في بيتك- فإن فعلت فهو خير لك- فإن أبيت إلا أن تأخذي منسأتك و تلقي جلبابك- و تبدي للناس شعيراتك- قاتلتك حتى أردك إلى بيتك- و الموضع الذي يرضاه لك ربك- .

فكتبت إليه في الجواب أما بعد- فإنك أول العرب شب الفتنة- و دعا إلى الفرقة و خالف الأئمة و سعى في قتل الخليفة- و قد علمت أنك لن تعجز الله حتى يصيبك منه بنقمة- ينتصر بها منك للخليفة المظلوم- و قد جاءني كتابك و فهمت ما فيه- و سيكفينيك الله- و كل من أصبح مماثلا لك في ضلالك و غيك إن شاء الله- . و قال أبو مخنف لما انتهت عائشة في مسيرها إلى الحوأب- و هو ماء لبني عامر بن صعصعة نبحتها الكلاب- حتى نفرت صعاب إبلها- فقال قائل من أصحابها أ لا ترون- ما أكثر كلاب الحوأب و ما أشد نباحها- فأمسكت زمام بعيرها- و قالت و إنها لكلاب الحوأب ردوني ردوني- فإني سمعت رسول الله ص يقول و ذكرت الخبر- فقال لها قائل مهلا يرحمك الله فقد جزنا ماء الحوأب- فقالت فهل من شاهد- فلفقوا لها خمسين أعرابيا جعلوا لهم جعلا فحلفوا لها- أن هذا ليس بماء الحوأب فسارت لوجهها- . لما انتهت عائشة و طلحة و الزبير- إلى حفر أبي موسى قريبا من البصرة- أرسل‏ عثمان بن حنيف- و هو يومئذ عامل علي ع على البصرة- إلى القوم أبا الأسود الدؤلي يعلم له علمهم- فجاء حتى دخل على عائشة فسألها عن مسيرها- فقالت أطلب بدم عثمان- قال إنه ليس بالبصرة من قتلة عثمان أحد- قالت صدقت و لكنهم مع علي بن أبي طالب بالمدينة- و جئت أستنهض أهل البصرة لقتاله- أ نغضب لكم من سوط عثمان- و لا نغضب لعثمان من سيوفكم- فقال لها ما أنت من السوط و السيف- إنما أنت حبيس رسول الله ص أمرك أن تقري في بيتك- و تتلي كتاب ربك و ليس على النساء قتال- و لا لهن الطلب بالدماء- و إن عليا لأولى بعثمان منك و أمس رحما- فإنهما ابنا عبد مناف- فقالت لست بمنصرفة حتى أمضي لما قدمت له- أ فتظن يا أبا الأسود أن أحدا يقدم على قتالي- قال أما و الله لتقاتلن قتالا أهونه الشديد- .

ثم قام فأتى الزبير- فقال يا أبا عبد الله عهد الناس بك- و أنت يوم بويع أبو بكر آخذ بقائم سيفك- تقول لا أحد أولى بهذا الأمر من ابن أبي طالب- و أين هذا المقام من ذاك فذكر له دم عثمان- قال أنت و صاحبك وليتماه فيما بلغنا- قال فانطلق إلى طلحة فاسمع ما يقول فذهب إلى طلحة- فوجده سادرا في غيه مصرا على الحرب و الفتنة- فرجع إلى عثمان بن حنيف- فقال إنها الحرب فتأهب لها- . لما نزل علي ع بالبصرة- كتبت عائشة إلى زيد بن صوحان العبدي- من عائشة بنت أبي بكر الصديق زوج النبي ص- إلى ابنها الخالص زيد بن صوحان- أما بعد فأقم في بيتك و خذل الناس عن علي- و ليبلغني عنك ما أحب- فإنك أوثق أهلي عندي و السلام- .

فكتب إليها من زيد بن صوحان إلى عائشة بنت أبي بكر- أما بعد فإن الله أمرك بأمر و أمرنا بأمر- أمرك أن تقري في بيتك- و أمرنا أن نجاهد و قد أتاني كتابك-فأمرتني أن أصنع خلاف ما أمرني الله- فأكون قد صنعت ما أمرك الله به- و صنعت ما أمرني الله به- فأمرك عندي غير مطاع و كتابك غير مجاب و السلام- .

روى هذين الكتابين شيخنا أبو عثمان عمرو بن بحر- عن شيخنا أبي سعيد الحسن البصري- . و ركبت عائشة يوم الحرب الجمل المسمى عسكرا في هودج- قد ألبس الرفرف ثم ألبس جلود النمر- ثم ألبس فوق ذلك دروع الحديد- . الشعبي عن مسلم بن أبي بكرة عن أبيه أبي بكرة- قال لما قدم طلحة و الزبير البصرة تقلدت سيفي- و أنا أريد نصرهما فدخلت على عائشة- و إذا هي تأمر و تنهى و إذا الأمر أمرها- فذكرت حديثا كنت سمعتهعن رسول الله ص لن يفلح قوم تدبر أمرهم امرأة- فانصرفت و اعتزلتهم- .

و قد روي هذا الخبر على صورة أخرى أن قوما يخرجون بعدي في فئة رأسها امرأة- لا يفلحون أبدا- . كان الجمل لواء عسكر البصرة لم يكن لواء غيره- . خطبت عائشة و الناس قد أخذوا مصافهم للحرب- فقالت أما بعد فإنا كنا نقمنا على عثمان ضرب السوط- و إمرة الفتيان و مرتع السحابة المحمية- ألا و إنكم استعتبتموه فأعتبكم- فلما مصتموه كما يماص الثوب الرحيض- عدوتم عليه فارتكبتم منه دما حراما- و ايم الله إن كان لأحصنكم فرجا و أتقاكم لله- .

خطب علي ع لما تواقف الجمعان- فقال لا تقاتلوا القوم حتى يبدءوكم- فإنكم بحمد الله على حجة- و كفكم عنهم حتى يبدءوكم حجة أخرى- و إذا قاتلتموهم فلا تجهزوا على جريح- و إذا هزمتموهم فلا تتبعوا مدبرا- و لا تكشفوا عورة و لا تمثلوا بقتيل- و إذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا سترا- و لا تدخلوا دارا و لا تأخذوا من أموالهم شيئا- و لا تهيجوا امرأة بأذى- و إن شتمن أعراضكم و سببن أمراءكم و صلحاءكم- فإنهن ضعاف القوى و الأنفس و العقول- لقد كنا نؤمر بالكف عنهن و إنهن لمشركات- و إن كان الرجل ليتناول المرأة بالهراوة و الجريدة- فيعير بها و عقبه من بعده- .

قتل بنو ضبة حول الجمل فلم يبق فيهم إلا من لا نفع عنده- و أخذت الأزد بخطامه- فقالت عائشة من أنتم قالوا الأزد- قالت صبرا فإنما يصبر الأحرار- ما زلت أرى النصر مع بني ضبة فلما فقدتهم أنكرته- فحرضت الأزد بذلك فقاتلوا قتالا شديدا- و رمي الجمل بالنبل- حتى صارت القبة عليه كهيئة القنفذ- .

قال علي ع لما فني الناس على خطام الجمل- و قطعت الأيدي و سالت النفوس- ادعوا لي الأشتر و عمارا فجاءا- فقال اذهبا فاعقرا هذا الجمل- فإن الحرب لا يبوخ ضرامها ما دام حيا- إنهم قد اتخذوه قبلة فذهبا و معهما فتيان من مراد- يعرف أحدهما بعمر بن عبد الله- فما زالا يضربان الناس حتى خلصا إليه- فضربه المرادي على عرقوبيه- فأقعى و له رغاء ثم وقع لجنبه و فر الناس من حوله- فنادى علي ع اقطعوا أنساع الهودج- ثم قال لمحمد بن أبي بكر اكفني أختك- فحملها محمد حتى أنزلها دار عبد الله بن خلف الخزاعي- .

بعث علي عبد الله بن عباس إلى عائشة- يأمرها بالرحيل إلى المدينة- قال فأتيتها فدخلت عليها- فلم يوضع لي شي‏ء أجلس عليه- فتناولت وسادة كانت في رحلها فقعدت عليها- فقالت يا ابن عباس أخطأت السنة- قعدت على وسادتنا في بيتنا بغير إذننا- فقلت ليس هذا بيتك الذي أمرك الله أن تقري فيه- و لو كان بيتك ما قعدت على وسادتك إلا بإذنك- ثم قلت إن أمير المؤمنين أرسلني إليك- يأمرك بالرحيل إلى المدينة- فقالت و أين أمير المؤمنين ذاك عمر- فقلت عمر و علي قالت أبيت- قلت أما و الله ما كان أبوك إلا قصير المدة- عظيم المشقة قليل المنفعة ظاهر الشؤم بين النكد- و ما عسى أن يكون أبوك- و الله ما كان أمرك إلا كحلب شاة حتى صرت- لا تأمرين و لا تنهين و لا تأخذين و لا تعطين- و ما كنت إلا كما قال أخو بني أسد-

ما زال إهداء الصغائر بيننا
نث الحديث و كثرة الألقاب‏

حتى نزلت كأن صوتك بينهم‏
في كل نائبة طنين ذباب‏

قال فبكت حتى سمع نحيبها من وراء الحجاب- ثم قالت إني معجلة الرحيل إلى بلادي إن شاء الله تعالى- و الله ما من بلد أبغض إلي من بلد أنتم فيه- قلت و لم ذاك فو الله لقد جعلناك للمؤمنين أما- و جعلنا أباك صديقا- قالت يا ابن عباس أ تمن علي برسول الله- قلت ما لي لا أمن عليك بمن لو كان منك لمننت به علي- . ثم أتيت عليا ع فأخبرته بقولها و قولي فسر بذلك- و قال لي ذرية بعضها من بعض و الله سميع عليم- و في رواية أنا كنت أعلم بك حيث بعثتك

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 6

خطبه 78 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(علم النجوم )

78 و من كلام له ع قاله لبعض أصحابه- لما عزم على المسير إلى الخوارج

و قد قال له إن سرت يا أمير المؤمنين في هذا الوقت- خشيت ألا تظفر بمرادك من طريق علم النجوم فَقَالَ ع: أَ تَزْعُمُ أَنَّكَ تَهْدِي إِلَى السَّاعَةِ- الَّتِي مَنْ سَارَ فِيهَا صُرِفَ عَنْهُ السُّوءُ- وَ تُخَوِّفُ مِنَ السَّاعَةِ الَّتِي مَنْ سَارَ فِيهَا حَاقَ بِهِ الضُّرُّ- فَمَنْ صَدَّقَكَ بِهَذَا فَقَدْ كَذَّبَ الْقُرْآنَ- وَ اسْتَغْنَى عَنِ الِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ- فِي نَيْلِ الْمَحْبُوبِ وَ دَفْعِ الْمَكْرُوهِ- وَ تَبْتَغِي فِي قَوْلِكَ لِلْعَامِلِ بِأَمْرِكَ- أَنْ يُولِيَكَ الْحَمْدَ دُونَ رَبِّهِ- لِأَنَّكَ بِزَعْمِكَ أَنْتَ هَدَيْتَهُ إِلَى السَّاعَةِ- الَّتِي نَالَ فِيهَا النَّفْعَ وَ أَمِنَ الضُّرَّ- ثُمَّ أَقْبَلَ ع عَلَى النَّاسِ فَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ- إِيَّاكُمْ وَ تَعَلُّمَ النُّجُومِ إِلَّا مَا يُهْتَدَى بِهِ فِي بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ- فَإِنَّهَا تَدْعُو إِلَى الْكَهَانَةِ- الْمُنَجِّمُ كَالْكَاهِنِ وَ الْكَاهِنُ كَالسَّاحِرِ وَ السَّاحِرُ كَالْكَافِرِ- وَ الْكَافِرُ فِي النَّارِ سِيرُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ حاق به الضر أي أحاط به قال تعالى- وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ- . و يوليك الحمد مضارع أولاك- و أولاك معدى بالهمزة من ولي- يقال ولي‏ الشي‏ء ولاية و أوليته ذلك- أي جعلته واليا له و متسلطا عليه- و الكاهن واحد الكهان- و هم الذين كانوا يخبرون عن الشياطين- بكثير من الغائبات
القول في أحكام النجوم 

و اعلم أن الناس قد اختلفوا في أحكام النجوم- فأنكرها جمهور المسلمين و المحققون من الحكماء- و نحن نتكلم هاهنا في ذلك و نبحث فيه بحثين- بحثا كلاميا و بحثا حكميا- . أما البحث الكلامي هو أن يقال- أما أن يذهب المنجمون إلى أن النجوم مؤثرة أو أمارات- . و الوجه الأول ينقسم قسمين-أحدهما أن يقال إنها تفعل بالاختيار-

و الثاني أن تفعل بالإيجاب- .و القول بأنها تفعل بالاختيار باطل- لأن المختار لا بد أن يكون قادرا حيا- و الإجماع من المسلمين حاصل- على أن الكواكب ليست حية و لا قادرة- و الإجماع حجة- و قد بين المتكلمون أيضا أن من شرط الحياة الرطوبة- و أن تكون الحرارة على قدر مخصوص- متى أفرط امتنع حلول الحياة في ذلك الجسم- فإن النار على صرافتها يستحيل أن تكون حية- و أن تحلها الحياة لعدم الرطوبة- و إفراط الحرارة فيها و اليبس- و الشمس أشد حرارة من النار- لأنها على بعدها تؤثره النار على قربها- و ذلك دليل على أن حرارتها أضعاف حرارة النار- و بينوا أيضا أنها لو كانت حية قادرة- لم يجز أن تفعل في غيرها ابتداء- لأن القادر بقدرة لا يصح منه الاختراع- و إنما يفعل في غيره على سبيل التوليد- و لا بد من وصلة بين الفاعل و المفعول فيه- و الكواكب غير مماسة لنا فلا وصلة بينها و بيننا- فيستحيل أن تكون فاعلة فينا- .

 

فإن ادعى مدع أن الوصلة هي الهواء فعن ذلك أجوبة- أحدها أن الهواء لا يجوز أن يكون وصلة و آلة- في الحركات الشديدة و حمل الأثقال- لا سيما إذا لم يتموج- . و الثاني أنه كان يجب أن نحس بذلك- و نعلم أن الهواء يحركنا و يصرفنا كما نعلم في الجسم- إذا حركنا و صرفنا بآلة موضع تحريكه لنا بتلك الآلة- .

و الثالث- أن في الأفعال الحادثة فينا ما لا يجوز أن يفعل بآلة- و لا يتولد عن سبب كالإرادات و الاعتقادات و نحوها- . و قد دلل أصحابنا أيضا- على إبطال كون الكواكب فاعلة للأفعال فينا- بأن ذلك يقتضي سقوط الأمر و النهي و المدح و الذم- و يلزمهم ما يلزم المجبرة- و هذا الوجه يبطل كون الكواكب فاعلة فينا بالإيجاب- كما يبطل كونها فاعلة بالاختيار- . و أما القول بأنها أمارات على ما يحدث و يتجدد- فيمكن أن ينصر بأن يقال- لم لا يجوز أن يكون الله تعالى أجرى العادة- بأن يفعل أفعالا مخصوصة عند طلوع كوكب- أو غروبه أو اتصاله بكوكب آخر- .

و الكلام على ذلك بأن يقال- هذا غير ممتنع لو ثبت سمع مقطوع به يقتضي ذلك- فإن هذا مما لا يعلم بالعقل- . فإن قالوا نعلم بالتجربة- . قيل لهم التجربة إنما تكون حجة إذا استمرت و اطردت- و أنتم خطؤكم فيما تحكمون به أكثر من صوابكم- فهلا نسبتم الصواب الذي- يقع منكم إلى الاتفاق و التخمين- فقد رأينا من أصحاب الزرق و التخمين- من يصيب أكثر مما يصيب المنجم- و هو من غير أصل صحيح و لا قاعدة معتمدة- و متى قلتم إنما أخطأ المنجم لغلطه في تسيير الكواكب-قيل لكم و لم لا يكون سبب الإصابة اتفاقا- و إنما يصح لكم هذا التأويل و التخريج- لو كان على صحة أحكام النجوم دليل قاطع- هو غير إصابة المنجم- .

فأما إذا كان دليل صحة الأحكام الإصابة- فهلا كان دليل فسادها الخطاء- فما أحدهما إلا في مقابلة صاحبه- . و مما قيل على أصحاب الأحكام إن قيل لهم في شي‏ء بعينه- خذوا الطالع و احكموا أ يؤخذ أم يترك- فإن حكموا بأحدهما خولفوا و فعل خلاف ما أخبروا به- و هذه المسألة قد أعضل عليهم جوابها- .

و قال بعض المتكلمين لبعض المنجمين أخبرني- لو فرضنا جادة مسلوكة- و طريقا يمشي فيها الناس نهارا و ليلا- و في تلك المحجة آبار متقاربة- و بين بعضها و بعض طريق يحتاج سالكه إلى تأمل و توقف- حتى يتخلص من السقوط في بعض تلك الآبار- هل يجوز أن تكون سلامة من يمشي بهذا الطريق من العميان- كسلامة من يمشي فيه من البصراء- و المفروض أن الطريق لا يخلو طرفة عين من مشاة- فيها عميان و مبصرون- و هل يجوز أن يكون عطب البصراء مقاربا لعطب العميان- .

فقال المنجم هذا مما لا يجوز- بل الواجب أن تكون سلامة البصراء أكثر- من سلامة العميان- . فقال المتكلم فقد بطل قولكم- لأن مسألتنا نظير هذه الصورة- فإن مثال البصراء هم الذين يعرفون أحكام النجوم- و يميزون مساعدها من مناحسها- و يتوقون بهذه المعرفة مضار الوقت و الحركات- و يتخطونها و يعتمدون منافعها و يقصدونها- و مثال العميان كل من لا يحسن علم النجوم- و لا يقولون به من أهل العلم و العامة- و هم أضعاف أضعاف عدد المنجمين- .و مثال الطريق الذي فيه الآبار- الزمان الذي مضى و مر على الخلق أجمعين- و مثال آباره مصائبه و محنه- . و قد كان يجب لو صح علم أحكام النجوم- أن سلامة المنجمين أكثر و مصائبهم أقل- لأنهم يتوقون المحن و يتخطونها لعلمهم بها قبل كونها- و أن تكون محن المعرضين عن علم أحكام النجوم- على كثرتهم أوفر و أظهر- حتى تكون سلامة كل واحد منهم هي الطريقة الغريبة- و المعلوم خلاف ذلك- فإن السلامة و المحن في الجميع- متقاربة متناسبة غير متفاوتة- .

و أما البحث الحكمي في هذا الموضع- فهو أن الحادث في عالم العناصر- عند حلول الكوكب المخصوص في البرج المخصوص- إما أن يكون المقتضي له مجرد ذلك الكوكب- أو مجرد ذلك البرج- أو حلول ذلك الكوكب في ذلك البرج فالأولان باطلان- و إلا لوجب أن يحدث ذلك الأمر قبل أن يحدث- و الثالث باطل أيضا- لأنه إما أن يكون ذلك البرج مساويا لغيره- من البروج في الماهية أو مخالفا- و الأول يقتضي حدوث ذلك الحادث- حال ما كان ذلك الكوكب حالا في غيره من البروج- لأن حكم الشي‏ء حكم مثله- و الثاني يقتضي كون كرة البروج- متخالفة الأجزاء في أنفسها- و يلزم في ذلك كونها مركبة- و قد قامت الدلالة على أنه لا شي‏ء من الأفلاك بمركب- .

و قد اعترض على هذا الدليل بوجهين أحدهما- أنه لم لا يجوز أن تختلف أفعال الكواكب المتحيرة- عند حلولها في البروج- لا لاختلاف البروج في نفسها- بل لاختلاف ما في تلك البروج من الكواكب- الثابتة المختلفة الطبائع- . الوجه الثاني لم لا يجوز أن يقال- الفلك التاسع مكوكب بكواكب صغار- لا نراها لغاية بعدها عنا- فإذا تحركت في كرات تداويرها سامتت مواضع مخصوصة- من كرة الكواكب الثابتة و هي فلك البروج- فاختلفت آثار الكواكب المتحيرة- عند حلولها في البروج- باعتبار اختلاف تلك الكواكب الصغيرة- و لم لا يجوز إثبات كرة بين الكرة الثامنة- و بين الفلك الأطلس المدبر لجميع الأفلاك- من المشرق إلى المغرب- و تكون تلك الكرة المتوسطة بينهما بطيئة الحركة- بحيث لا تفي أعمارنا بالوقوف على حركتها- و هي مكوكبة بتلك الكواكب الصغار المختلفة الطبائع- .

و أجيب عن الأول بأنه لو كان الأمر كما ذكر- لوجب أن تختلف بيوت الكواكب و أشرافها- و حدودها عند حركة الثوابت بحركة فلكها- حتى أنها تتقدم على مواضعها- في كل مائة سنة على رأي المتقدمين- أو في كل ست و ستين سنة على رأي المتأخرين درجة واحدة- لكن ليس الأمر كذلك فإن شرف القمر- كما أنه في زماننا في درجة الثالثة من الثور- فكذلك كان عند الذين- كانوا قبلنا بألف سنة و بألفي سنة- . و أما الوجه الثاني فلا جواب عنه- . و اعلم أن الفلاسفة قد عولت- في إبطال القول بأحكام النجوم على وجه واحد- و هو أن مبنى هذا العلم على التجربة- و لم توجد التجربة فيما يدعيه أرباب علم النجوم- فإن هاهنا أمورا لا تتكرر إلا في الأعمار المتطاولة- مثل الأدوار و الألوف التي زعم أبو معشر- أنها هي الأصل في هذا العلم- و مثل مماسة جرم زحل للكرة المكوكبة- و مثل انطباق معدل النهار على دائرة فلك البروج- فإنهم يزعمون أن ذلك يقتضي حدوث طوفان الماء- و إحاطته بالأرض من جميع الجوانب- مع أن هذه الأمور لا توجد إلا في ألوف الألوف من السنين- فكيف تصح أمثال هذه الأمور بالتجربة- .

و أيضا فإنا إذا رأينا حادثا- حدث عند حلول كوكب مخصوص في برج مخصوص-فكيف نعلم استناد حدوثه إلى ذلك الحلول- فإن في الفلك كواكب لا تحصى- فما الذي خصص حدوث ذلك الحدوث- بحلول ذلك الكوكب في ذلك البرج لا غيره- و بتقدير أن يكون لحلوله تأثير في ذلك- فلا يمكن الجزم قبل حلوله بأنه إذا حل في البرج المذكور- لا بد أن يحدث ذلك الحادث- لجواز أن يوجد ما يبطل تأثيره- نحو أن يحل كوكب آخر في برج آخر- فيدفع تأثيره و يبطل عمله- أو لعل المادة الأرضية لا تكون- مستعدة لقبول تلك الصورة و حدوث الحادث- كما يتوقف على حصول الفاعل يتوقف على حصول القابل- و إذا وقع الشك في هذه الأمور- بطل القول بالجزم بعلم أحكام النجوم- و هذه الحجة جيدة- إن كان المنجمون يطلبون القطع في علمهم- .

فإما أن كانوا يطلبون الظن فإن هذه الحجة لا تفسد قولهم- . فأما أبو البركات بن ملكا البغدادي- صاحب كتاب المعتبر- فإنه أبطل أحكام النجوم من وجه و أثبته من وجه- . قال أما من يريد تطبيق علم أحكام النجوم- على قاعدة العلم الطبيعي فإنه لا سبيل له إلى ذلك- فإنا لا نتعلق من أقوالهم- إلا بأحكام يحكمون بها من غير دليل- نحو القول بحر الكواكب و بردها أو رطوبتها- و يبوستها و اعتدالها كقولهم إن زحل بارد يابس- و المشتري معتدل- و الاعتدال خير و الإفراط شر- و ينتجون من ذلك أن الخير يوجب سعادة- و الشر يوجب منحسة- و ما جانس ذلك مما لم يقل به علماء الطبيعيين- و لم تنتجه مقدماتهم في أنظارهم- و إنما الذي أنتجته هو- أن الأجرام السماوية فعالة فيما تحويه و تشتمل عليه- و تتحرك حوله فعلا على الإطلاق- غير محدود بوقت و لا مقدر بتقدير- و القائلون بالأحكام ادعوا حصول علمهم بذلك- من توقيف و تجربة لا يطابق نظر الطبيعي- .

و إذا قلت بقول الطبيعي بحسب أنظاره- أن المشتري سعد و المريخ نحس- أو أن زحل‏ بارد يابس و المريخ حار يابس- و الحار و البارد من الملموسات و ما دل على هذا المس- و ما استدل عليه بلمس كتأثيره فيما يلمسه- فإن ذلك لم يظهر للحس في غير الشمس- حيث تسخن الأرض بشعاعها- و لو كان في السمائيات شي‏ء من طبائع الأضداد- لكان الأولى أن تكون كلها حارة- لأن كواكبها كلها منيرة- .

و متى يقول الطبيعي بتقطيع الفلك و تقسيمه إلى أجزاء- كما قسمه المنجمون قسمة وهمية إلى بروج و درج و دقائق- و ذلك جائز للمتوهم كجواز غيره- و ليس بواجب في الوجود و لا حاصل- فنقلوا ذلك التوهم الجائز- إلى الوجود الواجب في أحكامهم- و كان الأصل فيه على زعمهم حركة الشمس و الأيام و الشهور- فحصلوا منها قسمة وهمية- و جعلوها كالحاصلة الوجودية المثمرة بحدود و خطوط- كان الشمس بحركتها من وقت إلى مثله- خطت في السماء خطوطا و أقامت فيها جدرا أو حدودا- أو غيرت في أجزائها طباعا تغييرا يبقى- فيتقى به القسمة إلى تلك الدرج و الدقائق- مع جواز الشمس عنها و ليس في جوهر الفلك اختلاف- يتميز به موضع عن موضع سوى الكواكب- و الكواكب تتحرك عن أمكنتها- فبقيت الأمكنة على التشابه- فبما ذا تتميز بروجه و درجه- و يبقى اختلافها بعد حركة المتحرك في سمتها- و كيف يقيس الطبيعي على هذه الأصول- و ينتج منها نتائج و يحكم بحسبها أحكاما- و كيف له أن يقول بالحدود- و يجعل خمس درجات من برج الكوكب- و ستا لآخر و أربعا لآخر- و يختلف فيها البابليون و المصريون- و جعلوا أرباب البيوت كأنها ملاك- و البيوت كأنها أملاك تثبت لأربابها بصكوك- و أحكام الأسد للشمس و السرطان للقمر- و إذا نظر الناظر وجد الأسد أسدا- من جهة كواكب شكلوها بشكل الأسد- ثم انقلبت عن مواضعها- و بقي الموضع أسدا و جعلوا الأسد للشمس- و قد ذهبت منه الكواكب التي كان بها أسدا- كان ذلك الملك بيت للشمس- مع انتقال الساكن و كذلك السرطان للقمر- .

و من الدقائق في العلم النجومي الدرجات المدارة- و الغربية و المظلمة و النيرة- و الزائدة في السعادة و درجات الآثار- من جهة أنها أجزاء الفلك إن قطعوها و ما انقطعت- و مع انتقال ما ينتقل من الكواكب إليها و عنها- ثم أنتجوا من ذلك نتائج أنظارهم- من أعداد الدرج و أقسام الفلك فقالوا- إن الكوكب ينظر إلى الكواكب من ستين درجة نظر تسديس- لأنه سدس من الفلك- و لا ينظر إليه من خمسين و لا من سبعين- و قد كان قبل الستين بعشر درج- و هو أقرب من ستين و بعدها بعشر درج- و هو أبعد من ستين لا ينظر- . فليت شعري ما هذا النظر- أ ترى الكواكب تظهر للكوكب ثم تحتجب عنه- ثم شعاعه يختلط بشعاعه- عند حد لا يختلط به قبله و لا بعده- .

و كذلك التربيع من الربع الذي هو تسعون درجة- و التثليث من الثلث الذي هو مائة و عشرون درجة- فلم لا يكون التخميس و التسبيع- و التعشير على هذا القياس- ثم يقولون الحمل حار يابس ناري- و الثور بارد يابس أرضي- و الجوزاء حار رطب هوائي- و السرطان بارد رطب مائي- ما قال الطبيعي هذا قط و لا يقول به- . و إذا احتجوا و قاسوا- كانت مبادئ قياساتهم الحمل برج ينقلب- لأن الشمس إذا نزلت فيه- ينقلب الزمان من الشتاء إلى الربيع- و الثور برج ثابت- لأن الشمس إذا نزلت فيه ثبت الربيع على ربيعيته- .

و الحق أنه لا ينقلب الحمل و لا يثبت الثور- بل هما على حالهما في كل وقت- ثم كيف يبقى دهره منقلبا- مع خروج الشمس منه و حلولها فيه- أ تراها تخلف فيه أثرا أو تحيل منه طباعا- و تبقى تلك الاستحالة إلى أن تعود فتجددها- و لم لا يقول قائل إن السرطان حار يابس- لأن الشمس إذا نزلت فيه يشتد حر الزمان- و ما يجانس هذا مما لا يلزم لا هو و لا ضده- فليس في الفلك اختلاف يعرفه الطبيعي- إلا بما فيه من الكواكب- و هو في نفسه واحد متشابه الجوهر و الطبع- و لكنها أقوال قال بها قائل فقبلها قائل و نقلها ناقل- فحسن فيها ظن السامع- و اغتر بها من لا خبرة له و لا قدرة له على النظر- . ثم حكم بها الحاكمون بجيد و ردي‏ء- و سلب و إيجاب و بت و تجوز- فصادف بعضه موافقة الوجود فصدق- فيعتبر به المعتبرون- و لم يلتفتوا إلى ما كذب منه فيكذبوه- بل عذروا و قالوا إنما هو منجم- و ليس بنبي حتى يصدق في كل ما يقول- و اعتذروا له بأن العلم أوسع من أن يحيط به أحد- و لو أحاط به أحد لصدق في كل شي‏ء- و لعمر الله إنه لو أحاط به علما صادقا لصدق- و الشأن في أن يحيط به على الحقيقة- لا أن يفرض فرضا و يتوهم وهما- فينقله إلى الوجود و ينسب إليه و يقيس عليه- . قال و الذي يصح من هذا العلم و يلتفت إليه العقلاء- هي أشياء غير هذه الخرافات التي لا أصل لها- فما حصل توقيف- أو تجربة حقيقة كالقرانات و المقابلة- فإنها أيضا من جملة الاتصالات- كالمقارنة من جهة أن تلك غاية القرب و هذه غاية البعد- و نحو ممر كوكب من المتحيرة تحت كوكب من الثابتة- و نحوه ما يعرض للمتحيرة- من رجوع و استقامة و ارتفاع في شمال- و انخفاض في جنوب و أمثال ذلك- .

فهذا كلام ابن ملكا كما تراه يبطل هذا الفن من وجه- و يقول به من وجه- . و قد وقفت لأبي جعفر محمد بن الحسين الصنعاني- المعروف بالخازن صاحب كتاب زيج الصفائح- على كلام في هذا الباب مختصر له سماه كتاب العالمين- أنا ذاكره في هذا الموضع على وجهه لأنه كلام لا بأس به- قال إن بعض المصدقين بأحكام النجوم و كل المكذبين بها- قد زاغوا عن طريق الحق و الصواب فيها- فإن الكثير من المصدقين بها قد أدخلوا فيها ما ليس منها- و ادعوا ما لم يمكن إدراكه بها- حتى كثر فيها خطؤهم و ظهر كذبهم- و صار ذلك سببا لتكذيب أكثر الناس بهذا العلم- .

فأما المكذبون به فقد بلغوا من إنكار صحيحه- و رد ظاهره إلى أن قالوا إنه لا يصح منه شي‏ء أصلا- و نسبوا أهله إلى الرزق و الاحتيال و الخداع و التمويه- فلذلك رأينا أن نبتدئ بتبيين صحة هذه الصناعة- ليظهر فساد قول المكذبين لها بأسرها- ثم نبين ما يمكن إدراكه بها- ليبطل دعوى المدعين فيها ما يمتنع وجوده بها- . أما الوجوه التي بها تصح صناعة الأحكام فهي كثيرة- منها ما يظهر لجميع الناس من قبل الشمس- فإن حدوث الصيف و الشتاء- و ما يعرض فيهما من الحر و البرد و الأمطار و الرياح و نبات الأرض- و خروج وقت الأشجار و حملها الثمار- و حركة الحيوان إلى النسل و التوالد و غير ذلك- مما يشاكله من الأحوال- إنما يكون أكثر ذلك بحسب دنو الشمس- من سمت الرءوس في ناحية الشمال- و تباعدها منه إلى ناحية الجنوب- و بفضل قوة الشمس على قوة القمر- و قوى سائر الكواكب ظهر ما قلنا لجميع الناس- .

و قد ظهر لهم أيضا من قبل الشمس في تغيير الهواء كل يوم- عند طلوعها و عند توسطها السماء- و عند غروبها ما لا خفاء به من الآثار- . و من هذه الوجوه ما يظهر للفلاحين و الملاحين- بأدنى تفقد للأشياء التي تحدث- فإنهم يعلمون أشياء كثيرة من الآثار التي- يؤثرها القمر و أنوار الكواكب الثابتة- كالمد و الجزر و حركات الرياح و الأمطار- و أوقاتها عند الحدوث- و ما يوافق من أوقات الزراعات و ما لا يوافق- و أوقات اللقاح و النتاج- . و قد يظهر من آثار القمر في الحيوان الذي- يتوالد في الماء و الرطوبات ما هو مشهور لا ينكر- .

و منها جهات أخرى يعرفها المنجمون فقط- على حسب فضل علمهم و دقة نظرهم في هذاالعلم- و إذ قد وصفنا على سبيل الإجمال- ما يوجب حقيقة هذا العلم- فإنا نصف ما يمكن إدراكه به أو لا يمكن- فنقول لما كانت تغيرات الهواء- إنما تحدث بحسب أحوال الشمس و القمر- و الكواكب المتحيرة و الثابتة- صارت معرفة هذه التغيرات قد تدرك من النجوم- مع سائر ما يتبعها من الرياح و السحاب- و الأمطار و الثلج و البرد و الرعد و البرق- لأن الأشياء التي تلي الأرض- و تصل إليها هذه الآثار من الهواء المحيط بها- كانت الأعراض العامية التي- تعرض في هذه الأشياء تابعة لتلك الآثار- مثل كثرة مياه الأنهار و قلتها و كثرة الثمار و قلتها- و كثرة خصب الحيوان و قلته و الجدوبة و القحط- و الوباء و الأمراض التي تحدث في الأجناس و الأنواع- أو في جنس دون جنس أو في نوع دون نوع- و سائر ما يشاكل ذلك من الأحداث- .

و لما كانت أخلاق النفس تابعة لمزاج البدن- و كانت الأحداث التي ذكرناها مغيرة لمزاج البدن- صارت أيضا مغيرة للأخلاق- و لأن المزاج الأول الأصلي هو الغالب- على الإنسان في الأمر الأكثر- و كان المزاج الأصلي هو الذي- طبع عليه الإنسان في وقت كونه في الرحم- و في وقت مولده و خروجه إلى جو العالم- صار وقت الكون و وقت المولد- أدل الأشياء على مزاج الإنسان- و على أحواله التابعة للمزاج مثل خلقة البدن- و خلق النفس و المرض و الصحة و سائر ما يتبع ذلك- فهذه الأشياء و ما يشبهها من الأمور- التي لا تشارك شيئا من الأفعال الإرادية فيه- مما يمكن معرفته بالنجوم و أما الأشياء التي- تشارك الأمور الإرادية بعض المشاركة- فقد يمكن أن يصدق فيها هذا العلم على الأمر الأكثر- و إذا لم يستعمل فيه الإرادة- جرى على ما تقود إليه الطبيعة- .على أنه قد يعرض الخطاء و الغلط لأصحاب هذه الصناعة- من أسباب كثيرة- بعضها يختص بهذه الصناعة دون غيرها- و بعضها يعمها و غيرها من الصنائع- .

فأما ما يعم فهو- من قصور طبيعة الناس في معرفة الصنائع- أيا كانت عن بلوغ الغاية فيها- حتى لا يبقى وراءها غاية أخرى فكثرة الخطإ و قلته- على حسب تقصير واحد واحد من الناس- . و أما ما يخص هذه الصناعة- فهو كثير ما يحتاج صاحبها إلى معرفته- مما لا يمكنه أن يعلم كثيرا منه إلا بالحدس و التخمين- فضلا عن لطف الاستنباط و حسن القياس- و مما يحتاج إلى معرفة علم أحوال الفلك- و مما يحدث في كل واحد من تلك الأحوال- فإن كل واحد منها له فعل خاص- ثم يؤلف تلك الأحوال بعضها مع بعض- على كثرة فنونها و اختلافاتها- ليحصل من جميع ذلك قوة واحدة و فعل واحد- يكون عنه الحادث في هذا العالم و ذلك أمر عسير- فمتى أغفل من ذلك شي‏ء كان الخطأ الواقع- بحسب الشي‏ء الذي سها عنه و ترك استعماله- .

ثم من بعد تحصيل ما وصفناه- ينبغي أن يعلم الحال التي عليها يوافي- في تلك القوة الواحدة الأشياء- التي تعرض فيها تلك الأحداث- كأنه مثلا إذا دل ما في الفلك على حدوث حر- و كانت الأشياء التي يعرض فيها ما يعرض- قد مر بها قبل ذلك حر فحميت و سخنت- أثر ذلك فيها أثرا قويا فإن كان قد مر بها برد قبل ذلك- أثر ذلك فيها أثرا ضعيفا- و هذا شي‏ء يحتاج إليه في جميع الأحداث- التي تعمل في غيرها مما يناسب هذه المعرفة- .

و أما الأحداث التي تخص ناحية ناحية أو قوما قوما- أو جنسا جنسا أو مولودا واحدا من الناس- فيحتاج مع معرفتها إلى أن يعلم أيضا- أحوال البلاد و العادات و الأغذية و الأوباء- و سائر ما يشبه ذلك مما له فيه أثر و شركة- مثل ما يفعل الطبيب في المعالجة و في تقدمه المعرفة- ثم من بعد تحصيل هذه الأشياء كلها ينبغي- أن ينظر في الأمر الذي قد استدل على حدوثه- هل هو مما يمكن أن يرد أو يتلافى بما يبطله- أو بغيره من جهةالطب و الحيل أم لا- كأنه مثلا استدل على أنه- يصيب هذا الإنسان حرارة يحم منها- فينبغي أن يحكم بأنه يحم- أن لم يتلاف تلك الحرارة بالتبريد- فإنه إذا فعل ذلك أنزل الأمور منازلها- و أجراها مجاريها- . ثم إن كان الحادث قويا لا يمكن دفعه ببعض ما ذكرنا- فليس يلزم الحاجة إلى ما قلنا فإن الأمر يحدث لا محالة- و ما قوي و شمل الناس فإنه لا يمكن دفعه و لا فسخه- و إن أمكن فإنما يمكن في بعض الناس دون بعض- .

و أما أكثرهم فإنه يجري أمره على ما قد شمل و عم- فقد يعم الناس حر الصيف- و إن كان بعضهم يحتال في صرفه- بالأشياء التي تبرد و تنفى الحر- . فهذه جملة ما ينبغي أن يعلم و يعمل عليه- أمور هذه الصناعة- . قلت هذا اعتراف بأن جميع الأحداث المتعلقة- باختيار الإنسان و غيره من الحيوان- لا مدخل لعلم أحكام النجوم فيه- فعلى هذا لا يصح قول من يقول منهم لزيد مثلا- إنك تتزوج أو تشتري فرسا- أو تقتل عدوا أو تسافر إلى بلد و نحو ذلك- و هو أكثر ما يقولونه و يحكمون به- .

و أما الأمور الكلية الحادثة- لا بإرادة الحيوان و اختياره- فقد يكون لكلامهم فيه وجه من الطريق التي ذكرها- و هي تعلق كثير من الأحداث بحركة الشمس و القمر- إلا أن المعلوم ضرورة من دين رسول الله ص- إبطال حكم النجوم و تحريم الاعتقاد بها- و النهي و الزجر عن تصديق المنجمين- و هذا معنى قول أمير المؤمنين في هذا الفصل- فمن صدقك بهذا فقد كذب القرآن- و استغنى عن الاستعانة بالله- ثم أردف‏ ذلك و أكده بقوله- كان يجب أن يحمد المنجم دون الباري تعالى- لأن المنجم هو الذي- هدى الإنسان إلى الساعة التي ينجح فيها- و صده عن الساعة إلى يخفق و يكدي فيها- فهو المحسن إليه إذا- و المحسن يستحق الحمد و الشكر- و ليس للبارئ سبحانه- إلى الإنسان في هذا الإحسان المخصوص- فوجب ألا يستحق الحمد على ظفر الإنسان بطلبه- لكن القول بذلك و التزامه كفر محض

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ أبي ‏الحديد) ج 6 

خطبه 77 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(الدعاء)

77 و من كلمات كان ع يدعو بها

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي- فَإِنْ عُدْتُ فَعُدْ عَلَيَّ بِالْمَغْفِرَةِ- اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا وَأَيْتُ مِنْ نَفْسِي وَ لَمْ تَجِدْ لَهُ وَفَاءً عِنْدِي- اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا تَقَرَّبْتُ بِهِ إِلَيْكَ بِلِسَانِي- ثُمَّ خَالَفَهُ قَلْبِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي رَمَزَاتِ الْأَلْحَاظِ- وَ سَقَطَاتِ الْأَلْفَاظِ وَ سَهَوَاتِ الْجَنَانِ وَ هَفَوَاتِ اللِّسَانِ وأيت أي وعدت و الوأي الوعد- و رمزات الألحاظ الإشارة بها- و الألحاظ جمع لحظ بفتح اللام و هو مؤخر العين- و سقطات الألفاظ لغوها و سهوات الجنان غفلاته- و الجنان القلب و هفوات اللسان زلاته- . و في هذا الموضع يقال ما فائدة الدعاء عندكم- و القديم تعالى إنما يغفر الصغائر- لأنها تقع مكفرة فلا حاجة إلى الدعاء بغفرانها- و لا يؤثر الدعاء أيضا في أفعال الباري سبحانه- لأنه إنما يفعل بحسب المصالح- و يرزق المال و الولد و غير ذلك- و يصرف المرض و الجدب- و غيرهما بحسب ما يعلمه من المصلحة- فلا تأثير للدعاء في شي‏ء من ذلك- . و الجواب أنه لا يمتنع أن يحسن الدعاء بما يعلم- أن القديم يفعله لا محالة و يكون وجه حسنه- صدوره عن المكلف على سبيل الانقطاع إلى الخالق سبحانه- .

و يجوز أيضا أن يكون في الدعاء نفسه- مصلحة و لطف للمكلف- لقد حسن منا الاستغفار للمؤمنين- و الصلاة على الأنبياء و الملائكة- . و أيضا فليس كل أفعال البارئ سبحانه واجبة عليه- بل معظمها ما يصدر على وجه الإحسان و التفضل- فيجوز أن يفعله و يجوز ألا يفعله- . فإن قلت فهل يسمى فعل الواجب الذي لا بد للقديم تعالى- من فعله إجابة لدعاء المكلف- . قلت لا- و إنما يسمى إجابة إذا فعل سبحانه ما يجوز أن يفعله- و يجوز ألا يفعله كالتفضل- و أيضا فإن اللطف و المصلحة- قد يكون لطفا و مصلحة في كل حال- و قد يكون لطفا عند الدعاء- و لو لا الدعاء لم يكن لطفا- و ليس بممتنع في القسم الثاني أن يسمى إجابة للدعاء- لأن للدعاء على كل حال تأثيرا في فعله- . فإن قيل أ يجوز أن يدعو النبي ص بدعاء فلا يستجاب له- .

قيل إن من شرط حسن الدعاء- أن يعلم الداعي حسن ما طلبه بالدعاء- و إنما يعلم حسنه بألا يكون فيه وجه قبح ظاهر- و ما غاب عنه من وجوه القبح- نحو كونه مفسدة يجب أن يشترطه في دعائه- و يطلب ما يطلبه بشرط ألا يكون مفسدة- و إن لم يظهر هذا الشرط في دعائه وجب أن يضمره في نفسه- فمتى سأل النبي ربه تعالى أمرا فلم يفعله لم يجز أن يقال- إنه ما أجيبت دعوته- لأنه يكون قد سأل بشرط ألا يكون مفسدة- فإذا لم يقع ما يطلبه- فلأن المطلوب قد علم الله فيه- من المفسدة ما لم يعلمه النبي ص- فلا يقال إنه ما أجيب دعاؤه لأن دعاءه كان مشروطا- و إنما يصدق قولنا ما أجيب دعاؤه- على من طلب أمرا طلبا مطلقا غير مشروط فلم يقع- و النبي ص لا يتحقق ذلك في حقه‏

من أدعية رسول الله المأثورة

و نحن نذكر في هذا الموضع جملة- من الأدعية المأثورة طلبا لبركتها- و لينتفع قارئ الكتاب بهاكان من دعاء رسول الله ص إذا أصبح أن يقول أصبحنا و أصبح الملك و الكبرياء- و العظمة و الجلال و الخلق و الأمر و الليل و النهار- و ما يسكن فيهما لله عز و جل وحده لا شريك له- اللهم اجعل أول يومي هذا صلاحا- و أوسطه فلاحا و آخره نجاحا- اللهم إني أسألك خير الدنيا و الآخرة- يا أرحم الراحمين- اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا و بين معاصيك- و من طاعتنا ما تبلغنا به رحمتك- و من اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا- اللهم متعنا بأسماعنا و أبصارنا- و اجعلهما الوارث منا و انصرنا على من ظلمنا- و لا تجعل مصيبتنا في ديننا- و لا تجعل الدنيا أكبر همنا و لا مبلغ علمنا- و لا تسلط علينا من لا يرحمنا

من أدعية الصحيفة

و من دعاء أمير المؤمنين ع- و كان يدعو به زين العابدين علي بن الحسين ع- و هو من أدعية الصحيفة يا من يرحم من لا يرحمه العباد- و يا من يقبل من لا تقبله البلاد- و يا من لا يحتقر أهل الحاجة إليه- يا من لا يجبه بالرد أهل الإلحاح إليه- يا من لا يخفى عليه صغير ما يتحف به- و لا يضيع يسير ما يعمل له- يا من يشكر على القليل و يجازي بالجليل- يا من يدنو إلى من دنا منه- يا من يدعو إلى نفسه من أدبر عنه- يا من لا يغير النعمة و لا يبادر بالنقمة- يا من يثمر الحسنة حتى ينميها- و يتجاوز عن السيئة حتى يعفيها- انصرفت‏ دون مدى كرمك الحاجات- و امتلأت ببعض جودك أوعية الطلبات- و تفسخت دون بلوغ نعتك الصفات- فلك العلو الأعلى فوق كل عال- و الجلال الأمجد فوق كل جلال- كل جليل عندك حقير و كل شريف في جنب شرفك صغير- خاب الوافدون على غيرك- و خسر المتعرضون إلا لك و ضاع الملمون إلا بك- و أجدب المنتجعون إلا من انتجع فضلك- لأنك ذو غاية قريبة من الراغبين- و ذو مجد مباح للسائلين لا يخيب لديك الآملون- و لا يخفق من عطائك المتعرضون- و لا يشقى بنقمتك المستغفرون- رزقك مبسوط لمن عصاك و حلمك معرض لمن ناواك- و عادتك الإحسان إلى المسيئين- و سنتك الإبقاء على المعتدين- حتى لقد غرتهم أناتك عن النزوع- و صدهم إمهالك عن الرجوع- و إنما تأنيت بهم ليفيئوا إلى أمرك- و أمهلتهم ثقة بدوام ملكك- فمن كان من أهل السعادة ختمت له بها- و من كان من أهل الشقاوة خذلته لها- .

كلهم صائر إلى رحمتك و أمورهم آئلة إلى أمرك- لم يهن على طول مدتهم سلطانك- و لم تدحض لترك معاجلتهم حججك- حجتك قائمة و سلطانك ثابت- فالويل الدائم لمن جنح عنك- و الخيبة الخاذلة لمن خاب أمله منك- و الشقاء الأشقى لمن اغتر بك- ما أكثر تقلبه في عذابك و ما أعظم تردده في عقابك- و ما أبعد غايته من الفرج- و ما أثبطه من سهولة المخرج- عدلا من قضائك لا تجور فيه- و إنصافا من حكمك لا تحيف عليه- قد ظاهرت الحجج و أزلت الأعذار- و تقدمت بالوعيد و تلطفت في الترغيب- و ضربت الأمثال و أطلت الإمهال- و أخرت و أنت تستطيع المعاجلة- و تأنيت و أنت ملي‏ء بالمبادرة- لم تك أناتك عجزا و لا حلمك وهنا- و لا إمساكك لعلة و لا انتظارك لمداراة- بل لتكون حجتك الأبلغ و كرمك الأكمل- و إحسانك الأوفى و نعمتك الأتم-كل ذلك كان و لم يزل و هو كائن لا يزول- نعمتك أجل من أن توصف بكلها- و مجدك أرفع من أن يحد بكنهه- و إحسانك أكبر من أن يشكر على أقله- فقد أقصرت ساكتا عن تحميدك- و تهيبت ممسكا عن تمجيدك- لا رغبة يا إلهي عنك بل عجزا- و لا زهدا فيما عندك بل تقصيرا- و ها أنا ذا يا إلهي أؤمل بالوفادة- و أسألك حسن الرفادة فاسمع ندائي و استجب دعائي- و لا تختم عملي بخيبتي و لا تجبهني بالرد في مسألتي- و أكرم من عندك منصرفي إنك غير ضائق عما تريد- و لا عاجز عما تشاء و أنت على كل شي‏ء قدير

و من أدعيته ع

و هو من أدعية الصحيفة أيضا اللهم يا من برحمته يستغيث المذنبون- و يا من إلى إحسانه يفزع المضطرون- و يا من لخيفته ينتحب الخاطئون- يا أنس كل مستوحش غريب- يا فرج كل مكروب حريب- يا عون كل مخذول فريد- يا عائذ كل محتاج طريد- أنت الذي وسعت كل شي‏ء رحمة و علما- و أنت الذي جعلت لكل مخلوق في نعمتك سهما- و أنت الذي عفوه أعلى من عقابه- و أنت الذي رحمته أمام غضبه- و أنت الذي إعطاؤه أكبر من منعه- و أنت الذي وسع الخلائق كلهم بعفوه- و أنت الذي لا يرغب في غنى من أعطاه- و أنت الذي لا يفرط في عقاب من عصاه- . و أنا يا سيدي عبدك الذي أمرته بالدعاء- فقال لبيك و سعديك- و أنا يا سيدي عبدك الذي أوقرت الخطايا ظهره- و أنا الذي أفنت الذنوب عمره و أنا الذي بجهله عصاك- و لم يكن أهلا منه لذلك- فهل أنت يا مولاي راحم من دعاك فاجتهد في الدعاء- أم أنت غافر لمن بكى لك فأسرع في البكاء- أم أنت متجاوز عمن عفر لك وجهه متذللا- أم أنت مغن من شكا إليك فقره متوكلا-

اللهم فلا تخيب من لا يجد معطيا غيرك- و لا تخذل من لا يستغني عنك بأحد دونك- اللهم لا تعرض عني و قد أقبلت عليك- و لا تحرمني و قد رغبت إليك- و لا تجبهني بالرد و قد انتصبت بين يديك- أنت الذي وصفت نفسك بالرحمة- و أنت الذي سميت نفسك بالعفو فارحمني و اعف عني- فقد ترى يا سيدي فيض دموعي من خيفتك- و وجيب قلبي من خشيتك و انتفاض جوارحي من هيبتك- كل ذلك حياء منك بسوء عملي- و خجلا منك لكثرة ذنوبي- قد كل لساني عن مناجاتك- و خمد صوتي عن الدعاء إليك- يا إلهي فكم من عيب سترته علي فلم تفضحني- و كم من ذنب غطيت عليه فلم تشهر بي- و كم من عائبة ألممت بها فلم تهتك عني سترها- و لم تقلدني مكروها شنارها- و لم تبد علي محرمات سوآتها- فمن يلتمس معايبي من جيرتي و حسدة نعمتك عندي- ثم لم ينهني ذلك حتى صرت إلى أسوإ ما عهدت مني- فمن أجهل مني يا سيدي برشدك- و من أغفل مني عن حظه منك- و من أبعد مني من استصلاح نفسه- حين أنفقت ما أجريت علي من رزقك- فيما نهيتني عنه من معصيتك- و من أبعد غورا في الباطل- و أشد إقداما على السوء مني- حين أقف بين دعوتك و دعوة الشيطان- فأتبع دعوته على غير عمى عن المعرفة به- و لا نسيان من حفظي له- و أنا حينئذ موقن أن منتهى دعوتك الجنة- و منتهى دعوته النار- سبحانك فما أعجب ما أشهد به على نفسي- و أعدده من مكنون أمري- و أعجب من ذلك أناتك عني و إبطاؤك عن معاجلتي- و ليس ذلك من كرمي عليك- بل تأتيا منك بي و تفضلا منك علي- لأن أرتدع عن خطئي- و لأن عفوك أحب إليك من عقوبتي- بل أنا يا إلهي أكثر ذنوبا و أقبح آثارا و أشنع أفعالا- و أشد في الباطل تهورا- و أضعف عند طاعتك تيقظا- و أغفل لوعيدك انتباها- من أن أحصي لك عيوبي و أقدر على تعديد ذنوبي- و إنما أوبخ بهذا نفسي طمعا في رأفتك التي- بها إصلاح أمر المذنبين- و رجاء لعصمتك التي بها فكاك رقاب الخاطئين- اللهم و هذه رقبتي قد أرقتها الذنوب فأعتقها بعفوك- و قد أثقلتها الخطايا فخفف عنها بمنك-

اللهم إني لو بكيت حتى تسقط أشفار عيني- و انتحبت حتى ينقطع صوتي- و قمت لك حتى تنتشر قدماي- و ركعت لك حتى ينجذع صلبي- و سجدت لك حتى تتفقأ حدقتاي- و أكلت التراب طول عمري- و شربت ماء الرماد آخر دهري- و ذكرتك في خلال ذلك حتى يكل لساني- ثم لم أرفع طرفي إلى آفاق السماء استحياء منك- لما استوجبت بذلك محو سيئة واحدة من سيئاتي- فإن كنت تغفر لي حين أستوجب مغفرتك- و تعفو عني حين أستحق عفوك- فإن ذلك غير واجب لي بالاستحقاق- و لا أنا أهل له على الاستيجاب- إذ كان جزائي منك من أول ما عصيتك النار- فإن تعذبني فإنك غير ظالم-

إلهي فإن تغمدتني بسترك فلم تفضحني- و أمهلتني بكرمك فلم تعاجلني- و حلمت عني بتفضلك فلم تغير نعمك علي- و لم تكدر معروفك عندي- فارحم طول تضرعي و شدة مسكنتي و سوء موقفي- اللهم صل على محمد و آل محمد- و أنقذني من المعاصي و استعملني بالطاعة- و ارزقني حسن الإنابة و طهرني بالتوبة- و أيدني بالعصمة و استصلحني بالعافية- و ارزقني حلاوة المغفرة و اجعلني طليق عفوك- و اكتب لي أمانا من سخطك- و بشرني بذلك في العاجل دون الآجل بشرى أعرفها- و عرفني له علامة أتبينها- أن ذلك لا يضيق عليك في وجدك- و لا يتكاءدك في قدرتك- و أنت على كل شي‏ء قدير

و من أدعيته ع و هو من أدعية الصحيفة

اللهم يا ذا الملك المتأبد بالخلود و السلطان- الممتنع بغير جنود و المعز الباقي على مر الدهور- عز سلطانك عزا لا حد له و لا منتهى لآخره- و استعلى ملكك علوا سقطت الأشياء دون بلوغ أمده- و لا يبلغ أدنى ما استأثرت به من ذلك- نعوت أقصى نعت الناعتين ضلت فيك الصفات- و تفسخت دونك النعوت- و حارت في كبريائك لطائف الأوهام- كذلك أنت الله في أوليتك- و على ذلك أنت دائم لا تزول- و كذلك أنت الله في آخريتك- و كذلك أنت ثابت لا تحول- و أنا العبد الضعيف عملا الجسيم أملا- خرجت من يدي أسباب الوصلات إلى رحمتك- و تقطعت عني عصم الآمال إلا ما أنا معتصم به من عفوك- قل عندي ما أعتد به من طاعتك- و كثر عندي ما أبوء به من معصيتك- و لن يفوتك عفو عن عبدك و إن أساء فاعف عني-

اللهم قد أشرف على كل خطايا الأعمال علمك- و انكشف كل مستور عند خبرك- فلا ينطوي عنك دقائق الأمور- و لا يعزب عنك خفايا السرائر- و قد هربت إليك من صغائر ذنوب موبقة- و كبائر أعمال مردية- فلا شفيع يشفع لي إليك و لا خفير يؤمنني منك- و لا حصن يحجبني عنك و لا ملاذ ألجأ إليه غيرك- هذا مقام العائذ بك و محل المعترف لك- فلا يضيقن عني فضلك و لا يقصرن دوني عفوك- و لا أكون أخيب عبادك التائبين- و لا أقنط وفودك الآملين- و اغفر لي إنك خير الغافرين-

اللهم إنك أمرتني فغفلت و نهيتني فركبت- و هذا مقام من استحيا لنفسه منك- و سخط عليها و رضي عنك- و تلقاك بنفس خاشعة- و عين خاضعة و ظهر مثقل من الخطايا- واقفا بين الرغبة إليك و الرهبة منك- و أنت أولى من رجاه و أحق من خشيه و اتقاه-فأعطني يا رب ما رجوت و أمني ما حذرت- و عد علي بفضلك و رحمتك إنك أكرم المسئولين-

اللهم و إذ سترتني بعفوك- و تغمدتني بفضلك في دار الفناء- فأجرني من فضيحات دار البقاء عند مواقف الأشهاد- من الملائكة المقربين- و الرسل المكرمين و الشهداء الصالحين- من جار كنت أكاتمه سيئاتي- و من ذي رحم كنت أحتشم منه لسريراتي- لم أثق بهم في الستر علي و وثقت بك في المغفرة لي- و أنت أولى من وثق به و أعطى من رغب إليه- و أرأف من استرحم فارحمني-

اللهم إني أعوذ بك من نار تغلظت بها على من عصاك- و أوعدت بها من ضارك و ناواك و صدف عن رضاك- و من نار نورها ظلمة و هينها صعب و قريبها بعيد- و من نار يأكل بعضها بعضا و يصول بعضها على بعض- و من نار تذر العظام رميما و تسقي أهلها حميما- و من نار لا تبقى على من تضرع و لا ترحم من استعطفها- و لا تقدر على التخفيف عمن خشع لها و استبتل إليها- تلقى سكانها بأحر ما لديها- من أليم النكال و شديد الوبال-

اللهم بك أعوذ من عقاربها الفاغرة أفواهها- و حياتها الناهشة بأنيابها- و شرابها الذي يقطع الأمعاء و يذيب الأحشاء- و أستهديك لما باعد عنها و أنقذ منها- فأجرني بفضل رحمتك و أقلني عثرتي بحسن إقالتك- و لا تخذلني يا خير المجيرين- اللهم صل على محمد و آل محمد إذا ذكر الأبرار- و صل على محمد و آل محمد ما اختلف الليل و النهار- صلاة لا ينقطع مددها و لا يحصى عددها- صلاة تشحن الهواء و تملأ الأرض و السماء- صل اللهم عليه و عليهم حتى ترضى- و صل عليه و عليهم بعد الرضا صلاة لا حد لها و لا منتهى- يا أرحم الراحمين

و من دعائه ع و هو من أدعية الصحيفة

اللهم إني أعوذ بك من هيجان الحرص و سورة الغضب- و غلبة الحسد و ضعف الصبر- و قلة القناعة و شكاسة الخلق- و إلحاح الشهوة و ملكة الحمية و متابعة الهوى- و مخالفة الهدى و سنة الغفلة و تعاطي الكلفة- و إيثار الباطل على الحق و الإصرار على المآثم- و الاستكثار من المعصية و الإقلال من الطاعة- و مباهات المكثرين و الإزراء على المقلين- و سوء الولاية على من تحت أيدينا- و ترك الشكر لمن اصطنع العارفة عندنا و أن نعضد ظالما- أو نخذل ملهوفا أو نروم ما ليس لنا بحق- أو نقول بغير علم و نعوذ بك أن ننطوي على غش لأحد- و أن نعجب بأموالنا و أعمالنا و أن نمد في آمالنا- و نعوذ بك من سوء السريرة و احتقار الصغيرة- و أن يستحوذ علينا الشيطان أو يشتد لنا الزمان- أو يتهضمنا السلطان و نعوذ بك من حب الإسراف- و فقدان الكفاف و من شماتة الأعداء- و الفقر إلى الأصدقاء و من عيشة في شدة- أو موت على غير عدة- و نعوذ اللهم بك من الحسرة العظمى و المصيبة الكبرى- و من سوء المآب و حرمان الثواب و حلول العقاب- اللهم أعذنا من كل ذلك برحمتك و منك و جودك- إنك على كل شي‏ء قديرو من دعائه ع و تحميده-

و ذكره النبي ص- و هو من أدعية الصحيفة أيضا الحمد لله بكل ما حمده أدنى ملائكته إليه- و أكرم خلقه عليه و أرضى حامديه لديه- حمدا يفضل سائر الحمد كفضل ربنا جل جلاله على جميع خلقه- ثم له الحمد مكان كل نعمة له علينا- و على جميع عباده الماضين و الباقين- عدد ما أحاط به علمه و من جميع الأشياء أضعافا مضاعفة- أبدا سرمدا إلى يوم القيامة- و إلى ما لا نهاية له‏ من بعد القيامة- حمدا لا غاية لحده و لا حساب لعده- و لا مبلغ لأعداده و لا انقطاع لآماده- حمدا يكون وصلة إلى طاعته- و سببا إلى رضوانه و ذريعة إلى مغفرته- و طريقا إلى جنته و خفيرا من نقمته و أمنا من غضبه- و ظهيرا على طاعته و حاجزا عن معصيته- و عونا على تأدية حقه و وظائفه- حمدا نسعد به في السعداء من أوليائه- و ننتظم به في نظام الشهداء بسيوف أعدائه- و الحمد لله الذي من علينا بنبيه محمد ص- دون الأمم الماضية و القرون السالفة- لقدرته التي لا تعجز عن شي‏ء و إن عظم- و لا يفوتها شي‏ء و إن لطف-

اللهم فصل على محمد أمينك على وحيك- و نجيك من خلقك و صفيك من عبادك- إمام الرحمة و قائد الخير و مفتاح البركة- كما نصب لأمرك نفسه و عرض فيك للمكروه بدنه- و كاشف في الدعاء إليك حاسته و حارب في رضاك أسرته- و قطع في نصرة دينك رحمه- و أقصى الأدنين على عنودهم عنك- و قرب الأقصين على استجابتهم لك- و والى فيك الأبعدين و عاند فيك الأقربين- و أدأب نفسه في تبليغ رسالتك- و أتعبها في الدعاء إلى ملتك- و شغلها بالنصح لأهل دعوتك- و هاجر إلى بلاد الغربة و محل النأي عن موطن رحله- و موضع رجله و مسقط رأسه و مأنس نفسه- إرادة منه لإعزاز دينك و استنصارا على أهل الكفر بك- حتى استتب له ما حاول في أعدائك- و استتم له ما دبر في أوليائك- فنهد إلى المشركين بك مستفتحا بعونك- و متقويا على ضعفه بنصرك فغزاهم في عقر ديارهم- و هجم عليهم في بحبوحة قرارهم حتى ظهر أمرك- و علت كلمتك و قد كره المشركون- اللهم فارفعه بما كدح فيك- إلى الدرجة العليا من جنتك حتى لا يساوى في منزلة- و لا يكافأ في مرتبة- و لا يوازيه لديك ملك مقرب و لا نبي مرسل- و عرفه في أمته من‏حسن الشفاعة أجل ما وعدته- يا نافذ العدة يا وافي القول- يا مبدل السيئات بأضعافها من الحسنات- إنك ذو الفضل العظيم

من الأدعية المأثورة عن عيسى ع

و من الأدعية المروية عن عيسى ابن مريم ع اللهم أنت إله من في السماء و إله من في الأرض- لا إله فيهما غيرك- و أنت حكيم من في السماء و حكيم من في الأرض- لا حكيم فيهما غيرك- و أنت ملك من في السماء و ملك من في الأرض- لا ملك فيهما غيرك- قدرتك في السماء كقدرتك في الأرض- و سلطانك في السماء كسلطانك في الأرض- أسألك باسمك الكريم و وجهك المنير- و ملكك القديم أن تفعل بي كذا و كذا

من الأدعية المأثورة عن بعض الصالحين

و كان بعض الصالحين يدعو فيقول- اللهم لا تدخلنا النار بعد أن أسكنت قلوبنا توحيدك- و إني لأرجو ألا تفعل- و إن فعلت لتجمعن بيننا و بين قوم عاديناهم فيك- و من دعاء بعضهم- اللهم إنك لم تشرك في خلقنا غيرك- فلا تشرك في الإحسان إلينا غيرك- اللهم لا رب لنا غيرك فلا تجعل حاجتنا عند غيرك- اللهم إنا لا نعبد غيرك فلا تسلط علينا غيرك- قام أعرابي على قبر رسول الله ص فقال-بأبي أنت و أمي يا رسول الله- قلت فقبلنا و تلوت فوعينا ثم ظلمنا أنفسنا- و قرأنا فيما أتيتنا به عن ربنا- وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ- فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ- لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً-

اللهم إنا قد جئنا رسولك و نحن نستغفرك- و نسأل رسولك أن يستغفر لنا خطايانا- فاغفر لنا و تب علينا- . فيقال إن إنسانا حضر ذلك الدعاء- فرأى تلك الليلة رسول الله ص في منامه يقول له- أبلغ الأعرابي أن الله قد غفر له- . و من أدعية بعض الصالحين- اللهم إني لم آتك بعمل صالح قدمته- و لا شفاعة مخلوق رجوته- أتيتك مقرا بالظلم و الإساءة على نفسي أتيتك بلا حجة- أتيتك أرجو عظيم عفوك الذي عدت به على الخاطئين- ثم لم يمنعك عكوفهم على عظيم الجرم- أن جدت لهم بالمغفرة- فيا صاحب العفو العظيم اغفر الذنب العظيم- برحمتك يا أرحم الراحمين-

و روي أن عليا ع اعتمر- فرأى رجلا متعلقا بأستار الكعبة- و هو يقول يا من لا يشغله سمع عن سمع- يا من لا تقلقه المسائل و لا يبرمه إلحاح الملحين- أذقني برد عفوك و حلاوة مغفرتك- و عذوبة عافيتك و الفوز بالجنة و النجاة من النار- فقال علي ع و الذي نفسي بيده- إن قالها و عليه مثل السموات و الأرض- من الذنوب قولا مخلصا ليغفرن له- .

و دعا أعرابي عند الملتزم فقال- اللهم إن لك علي حقوقا فتصدق بها علي- و إن للناس قبلي تبعات فتحملها عني- و قد أوجبت لكل ضيف قرى و أنا ضيفك الليلة- فاجعل قراي الجنة- .

و دعا بعض الأعراب أيضا و قد خرج حاجا فقال-

اللهم إليك خرجت و ما عندك طلبت- فلا تحرمني خير ما عندك لشر ما عندي- اللهم إن كنت لم ترحم تعبي و نصبي- فإنها لمصيبة أصبت بها- فلا تحرمني أجر المصاب على المصيبة- . و دعا بعضهم فقال- اللهم إنك سترت علينا في الدنيا ذنوبا كثيرة- و نحن إلى سترها في الآخرة أحوج فاغفر لنا- . و من دعاء بعضهم اللهم اجعل الموت خير غائب ننتظره- و اجعل القبر خير بيت نعمره- و اجعل ما بعده خيرا لنا منه- اللهم إليك عجت الأصوات بصنوف اللغات- تسألك الحاجات- و حاجتي إليك أن تذكرني عند طول البلى- إذا نسيني أهل الدنيا- .

و قال بعضهم كنت أدعو الله بعد وفاة مالك بن دينار- أن أراه في منامي فرأيته بعد سنة- فقلت يا أبا يحيى علمني كيف أدعو- فقال قل اللهم يسر الجواز و سهل المجاز- . و قال الشعبي حسدت عبد الملك بن مروان- على دعاء كان يدعو به على المنبر- يقول اللهم إن ذنوبي كثيرة جلت أن توصف- و هي صغيرة في جنب عفوك فاعف عني- . و من دعاء بعض الزهاد- اللهم إني أعوذ بك من أهل يلهيني و من هوى يرديني- و من عمل يخزيني و من صاحب يغويني و من جار يؤذيني- و من غنى يطغيني و من فقر ينسيني- اللهم اجعلنا نستحييك و نتقيك و نخافك و نخشاك- و نرجوك و نطيعك في السر و العلانية- اللهم استرنا بالمعافاة و الغنى- أستعين الله على أموري و أستغفر الله لذنوبي- و أعوذ بك من شر نفسي- .

و يروى أن رجلا أعمى جاء إلى رسول الله ص فشكا إليه ذهاب بصره- فقال ص له قل يا سبوح يا قدوس- يا نور الأنوار يا نور السموات و الأرض- يا أول الأولين و يا آخر الآخرين و يا أرحم الراحمين- أسألك‏ أن تغفر لي الذنوب التي تغير النعم- و الذنوب التي تنزل النقم- و الذنوب التي تهتك العصم- و الذنوب التي توجب البلاء- و الذنوب التي تقطع الرجاء- و الذنوب التي تحبس الدعاء- و الذنوب التي تكشف الغطاء- و الذنوب التي تعجل الفناء- و الذنوب التي تظلم الهواء- و أسألك باسمك العظيم- و وجهك الكريم أن ترد علي بصري- فدعا بذلك فرد عليه بصره

و من الآثار المنقولة-

أن الله تعالى غضب على أمة فأنزل عليهم العذاب- و كان فيهم ثلاثة صالحون- فخرجوا و ابتهلوا إلى الله سبحانه- فقام أحدهم فقال- اللهم إنك أمرتنا أن نعتق أرقاءنا و نحن أرقاؤك- فاعتقنا ثم جلس و قام الثاني فقال- اللهم إنك أمرتنا أن نعفو عمن ظلمنا- و قد ظلمنا أنفسنا فاعف عنا ثم جلس- و قام الثالث فقال- اللهم أنا على ثقة أنك لم تخلق خلقا أوسع من مغفرتك- فاجعل لنا في سعتها نصيبا فرفع عنهم العذاب- .

قيل لسفيان بن عيينة ما حديث رويته عن رسول الله ص أفضل دعاء أعطيته أنا و النبيون قبلي- أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له- له الملك و له الحمد يحيي و يميت و هو حي لا يموت- بيده الخير و هو على كل شي‏ء قدير- كأنهم لم يروه دعاء فقال ما تنكرون من هذا-
ثم روي لهم قول رسول الله ص من تشاغل بالثناء على الله- أعطاه الله فوق رغبة السائلين- ثم قال هذا أمية بن أبي الصلت يقول لابن جدعان-

أ أذكر حاجتي أم قد كفاني
حياؤك إن شيمتك الحياء

إذا أثنى عليك المرء يوما
كفاه من تعرضه الثناء

و قال هذا مخلوق يقول لمخلوق فما ظنكم برب العالمين- .و من دعائه ص اللهم إني أعوذ بك من الفقر إلا إليك- و من الذل إلا لكو من دعائه ع اللهم ارزقني عينين هطالتين- تسقيان القلوب مذروف الدموع- قبل أن يكون الدمع دما و قرع الضرس ندماو من دعائه ع اللهم طهر لساني من الكذب و قلبي من النفاق- و عملي من الرياء و بصري من الخيانة- فإنك تعلم خائنة الأعين و ما تخفي الصدورو مما رواه أنس بن مالك لا تعجزوا عن الدعاء فإنه لن يهلك مع الدعاء أحدو من رواية جابر بن عبد الله لقد بارك الله للرجل في الحاجة بكثرة الدعاء فيها- أعطيها أو منعهاأبو هريرة يرفعه اللهم أصلح لي في ديني الذي هو عصمة أمري- و أصلح لي دنياي التي فيها معاشي- و أصلح لي آخرتي التي إليها معادي- و اجعل الحياة زيادة لي في كل خير- و الموت راحة لي من كل شر- .

قيل لأعرابي أ تحسن أن تدعو ربك فقال نعم- ثم دعا فقال اللهم إنك مننت علينا بالإسلام- من غير أن نسألك- فلا تحرمنا الجنة و نحن نسألك سمعت أعرابية تقول في دعائها- يا عريض الجفنة يا أبا المكارم يا أبيض الوجه- فزجرها رجل فقالت دعوني أصف ربي بما يستحقه- .و كان موسى بن جعفر ع يقول في سجوده آخر الليل إلهي عظم الذنب من عبدك- فليحسن العفو من عندك- . ذكر عند بعض الصالحين رجل قد أصابه بلاء عظيم- و هو يدعو فتبطئ عنه الإجابة- فقال بلغني أن الله تعالى يقول- كيف أرحم المبتلى من شي‏ء أرحمه به-قال طاوس إني لفي الحجر ليلة إذ دخل علي بن الحسين ع- فقلت رجل صالح من أهل بيت صالح لأسمعن دعاءه- فسمعته يقول في أثناء دعائه عبدك بفنائك- سائلك بفنائك مسكينك بفنائك- فما دعوت بهن في كرب إلا و فرج عني عمر بن ذر اللهم إن كنا عصيناك- فقد تركنا من معاصيك أبغضها إليك و هو الإشراك- و إن كنا قصرنا عن بعض طاعتك- فقد تمسكنا منها بأحبها إليك- و هو شهادة أن لا إله إلا أنت- و أن رسلك جاءت بالحق من عندك- .

أعرابي اللهم إنا نبات نعمتك- فلا تجعلنا حصائد نقمتك- . بعضهم اللهم إن كنت قد بلغت أحدا- من عبادك الصالحين درجة ببلاء فبلغنيها بالعافية- . حج أعرابي فكان لا يستغفر إذا صلى كما يستغفر الناس- فقيل له فقال كما أن تركي الاستغفار مع ما أعلم- من عفو الله و رحمته ضعف- فكذلك استغفاري مع ما أعلم من إصراري لؤم- . لما صاف قتيبة بن مسلم الترك و هاله أمرهم- سأل عن محمد بن واسع- فقيل هو في أقصى الميمنة جانحا على سية قوسه- مبصبصا بإصبعه نحو السماء- فقال قتيبة لتلك الإصبع القارورة- أحب إلي من مائة ألف سيف شهير و رمح طرير- . سمع مطرف بن الشخير صيحة الناس بالدعاء- فقال لقد هممت أن أحلف أن الله غفر لهم- ثم ذكرت أني فيهم فكففت- . كان المأمون إذا رفعت المائدة من بين يديه يقول- الحمد لله الذي جعل أرزاقنا أكثر من أقواتنا- . الحسن البصري من دخل المقبرة- فقال اللهم رب الأرواح العالية و الأجساد البالية-و العظام النخرة التي خرجت من الدنيا و هي مؤمنة بك- أدخل عليهم روحا منك و سلاما مني- كتب الله له بعدد من ولد- منذ زمن آدم إلى أن تقوم الساعة حسنات- .

علي ع الدعاء سلاح المؤمن و عماد الدين- و نور السموات و الأرض- . قيل إن فيما أنزله الله تعالى من الكتب القديمة- أن الله يبتلي العبد و هو يحبه- ليسمع دعاءه و تضرعه- . أبو هريرة اطلبوا الخير دهركم كله- و تعرضوا لنفحات من رحمة الله تعالى- فإن لله تعالى نفحات من رحمته- يصيب بها من يشاء من عباده- و اسألوا الله أن يستر عوراتكم و يؤمن روعاتكم- . صلى رجل إلى جنب عبد الله بن المبارك- فلما سلم الإمام سلم و قام عجلا- فجذب عبد الله بثوبه و قال أ ما لك إلى ربك حاجة- . قيل لعمر بن عبد العزيز جزاك الله عن الإسلام خيرا- فقال لا بل جزى الله الإسلام عني خيرا- .

علي ع الداعي بغير عمل كالرامي بغير وتر- . كان الزهري إذا فرغ من الحديث تلاه- فدعا اللهم إني أسألك خير ما أحاط به علمك- في الدنيا و الآخرة- و أعوذ بك من شر ما أحاط به علمك في الدنيا و الآخرة- . كان زبيد النامي يستتبع الصبيان إلى المسجد- و في كمه الجوز و يقول- من يتبعني منكم فأعطيه خمس جوزات- فإذا دخلوا المسجد قال ارفعوا أيديكم و قولوا- اللهم اغفر لزبيد فإذا دعوا- قال اللهم استجب لهم فإنهم لم يذنبوا- .

علي ع جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته- فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمته- و استمطرت شآبيب رحمته- فلا يقنطنك إبطاء إجابته- فإن العطية على قدر النية و ربما أخرت عنك الإجابة- ليكون ذلك أعظم لأجر السائل و أجزل لعطاء الآمل- و ربما سألت الشي‏ء فلا تؤتاه و أوتيت خيرا منه- أو صرف عنك بما هو لك خير-

و اعلم أنه رب أمر قد طلبت فيه هلاك دينك لو أوتيته و من الدعاء المرفوع اللهم من أراد بنا سوءا- فأحط به ذلك السوء كإحاطة القلائد بترائب الولائد- و أرسخه على هامته كرسوخ السجيل على قمم أصحاب الفيلسمع عمر رجلا يقول في دعائه اللهم اجعلني من الأقلين فقال ما أردت بهذا- قال قول الله عز و جل وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ- و قوله تعالى وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ- فقال عليكم من الدعاء بما عرف- .

قال سعيد بن المسيب مر بي صلة بن أشيم فقلت له ادع لي- فقال رغبك الله فيما يبقى و زهدك فيما يفنى- و وهب لك اليقين الذي لا تسكن النفوس إلا إليه- و لا تعول إلا عليه- . كان علي بن عيسى بن ماهان صاحب خراسان- و في أيامه عصام بن يوسف الزاهد فلقيه في الطريق- و سلم عليه علي فأعرض عنه و لم يرد عليه- فوقف علي و رفع يديه و أسبل عينيه- و قال اللهم إن هذا الرجل يتقرب إليك ببغضي- و أنا أتقرب إليك بحبه فإن كنت غفرت له ببغضي- فاغفر لي بحبه يا كريم ثم سار- .

قال الأصمعي سمعت أعرابيا يدعو و يقول- اللهم إن كان رزقي في السماء فأنزله- و إن كان في الأرض فأخرجه و إن كان بعيدا فقربه- و إن كان قريبا فيسره و إن كان قليلا فكثره- و إن كان كثيرا فبارك لي فيه- .

من دعاء عمرو بن عبيد اللهم أغنني بالافتقار إليك- و لا تفقرني بالاستغناء عنك- اللهم أعني على الدنيا بالقناعة و على الدين بالعصمة- .
شكا رجل إلى الحسن رحمه الله تعالى رجلا يظلمه- فقال له إذا صليت الركعتين بعد المغرب- فاسجد و قل يا شديد القوى- يا شديد المحال يا عزيز- أذللت لعزك جميع من خلقت- فصل على محمد و آل محمد- و اكفني مئونة فلان بما شئت- فدعا بها فلم يرعه إلا الواعية بالليل- فسأل فقيل مات فلان فجأةقال موسى ع يا رب إنك لتعطيني أكثر من أملي قال- لأنك تكثر من قول ما شاء الله لا قوة إلا بالله
– . كان بعض الصالحين يقول قبل الصلاة- يا محسن قد جاءك المسي‏ء- و قد أمرت المحسن أن يتجاوز عن المسي‏ء- فتجاوز عن قبيح ما عندي بجميل ما عندك- اللهم ارزقني عمل الخائفين و خوف العاملين- حتى أنعم بترك التنعم طمعا فيما وعدت- و خوفا مما أوعدت- .
و من الأدعية الجامعة اللهم أغنني بالعلم- و زيني بالحلم و جملني بالعافية و كرمني بالتقوى- . أحمد بن يوسف كاتب المأمون- إذا دخل عليه حياة بتحية أبرويز الملك- عشت الدهر و نلت المنى و جنبت طاعة النساء- .

و من الدعاء المروي عن رسول الله ص

اللهم اغفر لي ذنوبي و خطاياي كلها- اللهم أنعشني و أجزني و انصرني- و اهدني لصالح الأعمال و الأخلاق‏ إنه لا يهدي لصالحها- و لا يصرف عن سيئها إلا أنت- اللهم إني أسألك الثبات في الأمر- و العزيمة على الرشد- و أسألك شكر نعمتك و حسن عبادتك- و أسألك قلبا سليما و لسانا صادقا- و أسألك من خير ما تعلم و أعوذ بك من شر ما تعلم- و أستغفرك لما تعلم إنك أنت علام الغيوب

آداب الدعاء

قالوا و من آداب الدعاء أن ترصد له الأوقات الشريفة- كما بين الأذان و الإقامة- و كوقت السجود و وقت السحر- و يستحب أن يدعو مستقبل القبلة رافعا يديه-لما روى سلمان عن النبي ص أن ربكم كريم- يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا- و يستحب أن يمسح بهما وجهه بعد الدعاء- فإن ذلك قد روي عن رسول الله ص- . و يكره أن يرفع بصره إلى السماء-لقوله ع لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء عند الدعاء- أو لتخطفن أبصارهم- و قد رخص في ذلك للصديقين و الأئمة العادلين- و يستحب أن يخفض صوته لقوله تعالى- ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةًو قد روي أن عمر سمع رجلا يجهر بالدعاء فقال- لكن زكريا نادى ربه نداء خفيا- . و يكره أن يتكلف الكلام المسجوع- و يستحب الإتيان بالمطبوع منه-لقوله ص إياكم و السجع في الدعاء- بحسب أحدكم أن يقول اللهم إني أسألك الجنة- و ما قرب إليها من قول أو عمل- و أعوذ بك من النار و ما قرب إليها من قول أو عمل .

و قيل في الوصية الصالحة- ادع ربك بلسان الذلة و الاحتقار- لا بلسان الفصاحة و التشدق- . و قال سفيان بن عيينة- لا يمنعن أحدكم من الدعاء ما يعلمه من نفسه- فإن الله تعالى أجاب دعاء شر خلقه إبليس- حيث قال أَنْظِرْنِي- .النبي ص إذا سأل أحدكم ربه مسألة فتعرف الإجابة- فليقل الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات- و من أبطأ عنه شي‏ء من ذاك- فليقل الحمد لله على كل حال- . و من الآداب أن يفتتح بالذكر و إلا يبتدئ بالمسألة-كان رسول الله ص قبل أن يدعو يقول- سبحان ربي العلي الوهابأبو سليمان الداراني من أراد أن يسأل الله تعالى حاجته- فليبدأ بالصلاة على رسول الله ص ثم يسأل حاجته- ثم يختم بالصلاة على رسول الله ص- فإن الله تعالى يقبل الصلاتين- و هو أكرم من أن يدع ما بينهماو من دعاء علي ع اللهم صن وجهي باليسار و لا تبذل جاهي بالإقتار- فأسترزق طالبي رزقك و أستعطف شرار خلقك- و أبتلي بحمد من أعطاني و أفتتن بذم من منعني- و أنت من وراء ذلك كله ولي الإعطاء و المنع- إنك على كل شي‏ء قدير
و من دعاء الحسن رحمه الله تعالى اللهم إني أعوذ بك من قلب يعرف- و لسان يصف و أعمال تخالف و من دعاء أهل البيت ع-

و فيه رائحة من كلام أمير المؤمنين ع الذي نحن في شرحه اللهم إني أستغفرك لما تبت منه إليك ثم عدت فيه- و أستغفرك‏ لما وعدتك من نفسي ثم أخلفتك- و أستغفرك للنعم التي أنعمت بها علي- فتقويت على معصيتك- و أستغفرك من كل ذنب تمكنت منه بعافيتك- و نالته يدي بفضل نعمتك و انبسطت إليه بسعة رزقك- و احتجبت فيه عن الناس بسترك- و اتكلت فيه على أكرم عفوك- اللهم إني أعوذ بك أن أقول حقا ليس فيه رضاك- ألتمس به أحدا سواك- و أعوذ بك أن أتزين للناس بشي‏ء يشينني عندك- و أعوذ بك أن أكون عبرة لأحد من خلقك- و أن يكون أحد من خلقك أسعد بما علمتني مني- و أعوذ بك أن أستعين بمعصية لك على ضر يصيبني – . كان أبو مسلم الخولاني إذا أهمه أمر- قال يا مالك يوم الدين إياك نعبد و إياك نستعين- .

و من دعاء علي ع

اللهم إن تهت عن مسألتي و أعميت عن طلبتي- فدلني على مصالحي و خذ بقلبي إلى مراشدي- اللهم احملني على عفوك و لا تحملني على عدلك

شرح‏ نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی‏ الحدید) ج ۶ 

خطبه 76 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

76 و من كلام له ع

إِنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَيُفَوِّقُونَنِي تُرَاثَ مُحَمَّدِ ص تَفْوِيقاً- وَ اللَّهِ لَئِنْ بَقِيتُ لَهُمْ- لَأَنْفُضَنَّهُمْ نَفْضَ اللَّحَّامِ الْوِذَامَ التَّرِبَةَ قال الرضي رحمه الله- و يروى التراب الوذمة و هو على القلب- . و قوله ع ليفوقونني- أي يعطونني من المال قليلا كفواق الناقة- و هو الحلبة الواحدة من لبنها- . و الوذام التربة جمع وذمة- و هي الحزة من الكرش أو الكبد تقع في التراب فتنفض اعلم أن أصل هذا الخبر قد رواه- أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني في كتاب الأغاني- بإسناد رفعه إلى الحارث بن حبيش قال- بعثني سعيد بن العاص و هو يومئذ أمير الكوفة- من قبل عثمان بهدايا إلى المدينة- و بعث معي هدية إلى علي ع و كتب إليه- أني لم أبعث إلى أحد أكثر مما بعثت به إليك- إلا إلى أمير المؤمنين فلما أتيت عليا ع و قرأ كتابه-قال لشد ما يحظر علي بنو أمية تراث محمد ص أما و الله- لئن وليتها لأنفضنها نفض القصاب التراب الوذمة- .

قال أبو الفرج و هذا خطأ إنما هو الوذام التربة- . قال و قد حدثني بذلك أحمد بن عبد العزيز الجوهري- عن أبي زيد عمر بن شبة بإسناد ذكره في الكتاب- أن سعيد بن العاص حيث كان أمير الكوفة- بعث مع ابن أبي عائشة مولاه إلى علي بن أبي طالب ع بصلة-فقال علي ع و الله لا يزال غلام من غلمان بني أمية يبعث إلينا- مما أفاء الله على رسوله بمثل قوت الأرملة- و الله لئن بقيت لأنفضنها نفض القصاب الوذام التربة

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي‏ الحديد) ج 6 

خطبه 75 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

75 و من خطبة له ع

رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ حُكْماً فَوَعَى- وَ دُعِيَ إِلَى رَشَادٍ فَدَنَا وَ أَخَذَ بِحُجْزَةِ هَادٍ فَنَجَا- رَاقَبَ رَبَّهُ وَ خَافَ ذَنْبَهُ قَدَّمَ خَالِصاً وَ عَمِلَ صَالِحاً- اكْتَسَبَ مَذْخُوراً وَ اجْتَنَبَ مَحْذُوراً- رَمَى غَرَضاً وَ أَحْرَزَ عِوَضاً كَابَرَ هَوَاهُ وَ كَذَّبَ مُنَاهُ- جَعَلَ الصَّبْرَ مَطِيَّةَ نَجَاتِهِ وَ التَّقْوَى عُدَّةَ وَفَاتِهِ- رَكِبَ الطَّرِيقَةَ الْغَرَّاءَ لَزِمَ الْمَحَجَّةَ الْبَيْضَاءَ- اغْتَنَمَ الْمَهَلَ وَ بَادَرَ الْأَجَلَ وَ تَزَوَّدَ مِنَ الْعَمَلِ الحكم هاهنا الحكمة- قال سبحانه وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا- و وعى حفظ وعيت الحديث أعيه وعيا- و أذن واعية أي حافظة و دنا قرب و الحجزة معقد الإزار- و أخذ فلان بحجزة فلان إذا اعتصم به و لجأ إليه- . ثم حذف ع الواو في اللفظات الأخر فلم يقل و راقب ربه- و لا و قدم خالصا و كذلك إلى آخر اللفظات- و هذا نوع من الفصاحة كثير في استعمالهم- . و اكتسب بمعنى كسب- يقال كسبت الشي‏ء و اكتسبته بمعنى- .

و الغرض ما يرمى بالسهام- يقول رحم الله امرأ رمى غرضا- أي قصد الحق كمن يرمي غرضا يقصده- لا من يرمي في عمياء لا يقصد شيئا بعينه- .و العوض المحرز هاهنا هو الثواب- . و قوله كابر هواه أي غالبه- و روي كاثر بالثاء المنقوطة بالثلاث- أي غالب هواه بكثرة عقله- يقال كاثرناهم فكثرناهم أي غلبناهم بالكثرة- . و قوله و كذب مناه أي أمنيته- و الطريقة الغراء البيضاء و المهل النظر و التؤدة

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 6 

خطبه 74 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)( اتهام بني أمية له بالمشاركة في دم عثمان)

74 و من كلام له ع لما بلغه اتهام بني أمية له- بالمشاركة في دم عثمان

أَ وَ لَمْ يَنْهَ بَنِي أُمَيَّةَ عِلْمُهَا بِي عَنْ قَرْفِي- أَ وَ مَا وَزَعَ الْجُهَّالَ سَابِقَتِي عَنْ تُهَمَتِي- وَ لَمَا وَعَظَهُمُ اللَّهُ بِهِ أَبْلَغُ مِنْ لِسَانِي- أَنَا حَجِيجُ الْمَارِقِينَ وَ خَصِيمُ النَّاكِثِينَ الْمُرْتَابِينَ- وَ عَلَى كِتَابِ اللَّه تُعْرَضُ الْأَمْثَالُ- وَ بمَا في الصُّدُورِ تُجَازَى الْعِبَادُ القرف العيب قرفته بكذا أي عبته- و وزع كف و ردع و منه قوله لا بد للناس من وزعة جمع وازع- أي من رؤساء و أمراء- و التهمة بفتح الهاء هي اللغة الفصيحة- و أصل التاء فيه واو- . و الحجيج كالخصيم ذو الحجاج و الخصومة- يقول ع أ ما كان في علم بني أمية بحالي- ما ينهاها عن قرفي بدم عثمان و حاله التي أشار إليها- و ذكر أن علمهم بها يقتضي ألا يقرفوه بذلك- هي منزلته في الدين التي لا منزلة أعلى منها- و ما نطق به الكتاب الصادق من طهارته- و طهارة بنيه و زوجته في قوله- إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ- وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراًو قول النبي ص أنت مني بمنزلة هارون من موسى- و ذلك يقتضي عصمته عن الدم الحرام-كما أن هارون معصوم عن مثل ذلك- و ترادف الأقوال و الأفعال من رسول الله ص في أمره- التي يضطر معها الحاضرون لها و المشاهدون إياها- إلى أن مثله لا يجوز أن يسعى في إراقة دم أمير مسلم- لم يحدث حدثا يستوجب به إحلال دمه- .

و هذا الكلام صحيح معقول- و ذاك أنا نرى من يظهر ناموس الدين- و يواظب على نوافل العبادات- و نشاهد من ورعه و تقواه ما يتقرر- معه في نفوسنا استشعاره الدين و اعتقاده إياه- فيصرفنا ذلك عن قرفه بالعيوب الفاحشة- و نستبعد مع ذلك طعن من يطعن فيه- و ننكره و ناباه و نكذبه- فكيف ساغ لأعداء أمير المؤمنين ع- مع علمهم بمنزلته العالية في الدين- التي لم يصل إليها أحد من المسلمين- أن يطلقوا ألسنتهم فيه- و ينسبوه إلى قتل عثمان أو الممالاة عليه- لا سيما و قد اتصل بهم و ثبت عندهم- أنه كان من أنصاره لا من المجلبين عليه- و أنه كان أحسن الجماعة فيه قولا و فعلا- . ثم قال أ لم تزع الجهال و تردعهم سابقتي عن تهمتي- و هذا الكلام تأكيد للقول الأول- .

ثم قال إن الذي وعظهم الله تعالى به في القرآن- من تحريم الغيبة و القذف و تشبيه ذلك- بأكل لحم الميت أبلغ من وعظي لهم- لأنه لا عظة أبلغ من عظة القرآن- . ثم قال أنا حجيج المارقين و خصيم المرتابين- يعني يوم القيامة-روي عنه ع أنه قال أنا أول من يجثو للحكومة بين يدي الله تعالىو قد روي عن النبي ص مثل ذلك مرفوعا في قوله تعالى- هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ- و أنه ص سئل عنها- فقال علي و حمزة و عبيدة و عتبة و شيبة و الوليد- و كانت حادثتهم أول حادثة وقعت فيها- مبارزة أهل الإيمان لأهل الشرك- و كان المقتول الأول بالمبارزة الوليد بن عتبة- قتله علي ع ضربه على رأسه فبدرت عيناه على وجنته-فقال النبي ص فيه و في أصحابه ما قال- و كان علي ع يكثر من قوله أنا حجيج المارقين- و يشير إلى هذا المعنى- . ثم أشار إلى ذلك بقوله على كتاب الله تعرض الأمثال- يريد قوله تعالى هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ- .

ثم قال و بما في الصدور تجازى العباد- إن كنت قتلت عثمان أو مالأت عليه- فإن الله تعالى سيجازيني بذلك- و إلا فسوف يجازي بالعقوبة و العذاب من اتهمني به- و نسبه إلي- . و هذا الكلام يدل على ما يقوله أصحابنا- من تبرؤ أمير المؤمنين ع من دم عثمان- و فيه رد و إبطال لما يزعمه الإمامية- من كونه رضي به و أباحه- و ليس يقول أصحابنا أنه ع لم يكن ساخطا أفعال عثمان- و لكنهم يقولون إنه و إن سخطها و كرهها- و أنكرها لم يكن مبيحا لدمه و لا ممالئا على قتله- و لا يلزم من إنكار أفعال الإنسان إحلال دمه- فقد لا يبلغ الفعل في القبح إلى أن يستحل به الدم- كما في كثير من المناهي

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ أبي ‏الحديد) ج 6 

خطبه 73 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

73 و من كلام له ع لما عزموا على بيعة عثمان

لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَحَقُّ بِهَا مِنْ غَيْرِي- وَ وَ اللَّهِ لَأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ- وَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً- الْتِمَاساً لِأَجْرِ ذَلِكَ وَ فَضْلِهِ- وَ زُهْداً فِيمَا تَنَافَسْتُمُوهُ مِنْ زُخْرُفِهِ وَ زِبْرِجِهِ نافست في الشي‏ء منافسة و نفاسا- إذا رغبت فيه على وجه المباراة في الكرم- و تنافسوا فيه أي رغبوا- . و الزخرف الذهب ثم شبه به كل مموه مزور- قال تعالى حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها- و المزخرف المزين- . و الزبرج الزينة من وشي أو جوهر و نحو ذلك- و يقال الزبرج الذهب أيضا- .

يقول لأهل الشورى- إنكم تعلمون أني أحق بالخلافة من غيري و تعدلون عني- ثم أقسم ليسلمن و ليتركن المخالفة لهم- إذا كان في تسليمه و نزوله عن حقه سلامة أمور المسلمين- و لم يكن الجور و الحيف إلا عليه خاصة و هذا كلام مثله ع- لأنه إذا علم أو غلب على ظنه- أنه أن نازع و حارب دخل على الإسلام وهن و ثلم- لم يختر له المنازعة و إن كان‏ يطلب بالمنازعة ما هو حق- و إن علم أو غلب على ظنه بالإمساك عن طلب حقه- إنما يدخل الثلم و الوهن عليه خاصة- و يسلم الإسلام من الفتنة- وجب عليه أن يغضي و يصبر على ما أتوا إليه من أخذ حقه- و كف يده حراسة للإسلام من الفتنة- .

فإن قلت فهلا سلم إلى معاوية و إلى أصحاب الجمل- و أغضى على اغتصاب حقه حفظا للإسلام من الفتنة- . قلت إن الجور الداخل عليه من أصحاب الجمل- و من معاوية و أهل الشام لم يكن مقصورا عليه خاصة- بل كان يعم الإسلام و المسلمين جميعا- لأنهم لم يكونوا عنده ممن يصلح لرئاسة الأمة- و تحمل أعباء الخلافة- فلم يكن الشرط الذي اشترطه متحققا- و هو قوله و لم يكن فيه جور إلا علي خاصة- . و هذا الكلام يدل على أنه ع لم يكن- يذهب إلى أن خلافة عثمان كانت- تتضمن جورا على المسلمين و الإسلام- و إنما كانت تتضمن جورا عليه خاصة- و أنها وقعت على جهة مخالفة الأولى- لا على جهة الفساد الكلي و البطلان الأصلي- و هذا محض مذهب أصحابنا

كلام لعلي قبل المبايعة لعثمان

و نحن نذكر في هذا الموضع ما استفاض في الروايات- من مناشدته أصحاب الشورى- و تعديده فضائله و خصائصه التي بان بها منهم و من غيرهم- قد روى الناس ذلك فأكثروا- و الذي صح عندنا أنه لم يكن الأمر كما روي- من تلك التعديدات الطويلة-و لكنه قال لهم بعد أن بايع عبد الرحمن و الحاضرون عثمان- و تلكا هو ع عن البيعة- إن لنا حقا إن نعطه نأخذه- و إن نمنعه نركب أعجاز الإبل و إن طال السرى
– في كلام قد ذكره أهل السيرة- و قد أوردنا بعضه فيما تقدم-ثم قال لهم أنشدكم الله- أ فيكم أحد آخى رسول الله ص بينه و بين نفسه- حيث آخى بين بعض المسلمين و بعض غيري‏

فقالوا لا- فقال أ فيكم أحد قال له رسول الله ص- من كنت مولاه فهذا مولاه غيري فقالوا لا- فقال أ فيكم أحد قال له رسول الله ص- أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي غيري- قالوا لا قال أ فيكم من اؤتمن على سورة براءة- و قال له رسول الله ص إنه لا يؤدي عني إلا أنا- أو رجل مني غيري قالوا لا قال- أ لا تعلمون أن أصحاب رسول الله ص فروا عنه- في ماقط الحرب في غير موطن و ما فررت قط قالوا بلى-

قال أ لا تعلمون أني أول الناس إسلاما قالوا بلى قال- فأينا أقرب إلى رسول الله ص نسبا قالوا أنت- فقطع عليه عبد الرحمن بن عوف كلامه و قال يا علي- قد أبى الناس إلا على عثمان فلا تجعلن على نفسك سبيلا- ثم قال يا أبا طلحة ما الذي أمرك به عمر- قال أن أقتل من شق عصا الجماعة- فقال عبد الرحمن لعلي بايع اذن- و إلا كنت متبعا غير سبيل المؤمنين- و أنفذنا فيك ما أمرنا به فقال- لقد علمتم أني أحق بها من غيري و الله لأسلمن- الفصل إلى آخره ثم مد يده فبايع

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ أبي ‏الحديد) ج 6 

خطبه 72 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

72 و من كلام له ع قاله لمروان بن الحكم بالبصرة

قَالُوا: أُخِذَ مَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ أَسِيراً يَوْمَ الْجَمَلِ- فَاسْتَشْفَعَ الْحَسَنَ وَ الْحُسَيْنَ ع إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ع- فَكَلَّمَاهُ فِيهِ فَخَلَّى سَبِيلَهُ فَقَالَا لَهُ- يُبَايِعُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ ع- أَ وَ لَمْ يُبَايِعْنِي بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ- لَا حَاجَةَ لِي فِي بَيْعَتِهِ إِنَّهَا كَفٌ يَهُودِيَّةٌ- لَوْ بَايَعَنِي بِيَدِهِ لَغَدَرَ بِسَبَّتِهِ- أَمَا إِنَّ لَهُ إِمْرَةً كَلَعْقَةِ الْكَلْبِ أَنْفَهُ- وَ هُوَ أَبُو الْأَكْبَشِ الْأَرْبَعَةِ- وَ سَتَلْقَى الْأُمَّةُ مِنْهُ وَ مِنْ وُلْدِهِ يَوْماً أَحْمَرَ قد روي هذا الخبر من طرق كثيرة- و رويت فيه زيادة لم يذكرها صاحب نهج البلاغة-و هي قوله ع في مروان يحمل راية ضلالة بعد ما يشيب صدغاه- و إن له إمرة- إلى آخر الكلام- . و قوله فاستشفع الحسن و الحسين إلى أمير المؤمنين ع- هو الوجه يقال استشفعت فلانا إلى فلان- أي سألته أن يشفع لي إليه- و تشفعت إلى فلان في فلان- فشفعني فيه تشفيعا- و قول الناس استشفعت بفلان إلى فلان بالباء- ليس بذلك الجيد- . و قول أمير المؤمنين ع أ و لم يبايعني بعد قتل عثمان- أي و قد غدر و هكذا لو بايعني الآن- .

و معنى قوله إنها كف يهودية أي غادرة- و اليهود تنسب إلى الغدر و الخبث- و قال تعالى- لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ- . و السبة الاست بفتح السين- سبه يسبه أي طعنه في الموضع- و معنى الكلام محمول على وجهين- .

أحدهما أن يكون ذكر السبة إهانة له و غلظة عليه- و العرب تسلك مثل ذلك في خطبها و كلامها- قال المتوكل لأبي العيناء إلى متى تمدح الناس و تذمهم- فقال ما أحسنوا و أساءوا- ثم قال يا أمير المؤمنين- إن الله تعالى رضي عن واحد فمدحه- و سخط على آخر فهجاه و هجا أمه- قال نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ- و قال عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ- و الزنيم ولد الزنا- .

الوجه الثاني أن يريد بالكلام حقيقة لا مجازا- و ذلك لأن الغادر من العرب كان- إذا عزم على الغدر بعد عهد قد عاهده أو عقد قد عقده- حبق استهزاء بما كان- قد أظهره من اليمين و العهد و سخرية و تهكما- . و الإمرة الولاية بكسر الهمزة و قوله كلعقة الكلب أنفه يريد قصر المدة- و كذلك كانت مدة خلافة مروان فإنه ولي تسعة أشهر- . و الأكبش الأربعة بنو عبد الملك- الوليد و سليمان و يزيد و هشام- و لم يل الخلافة من بني أمية- و لا من غيرهم أربعة إخوة إلا هؤلاء- . و كل الناس فسروا الأكبش الأربعة بمن ذكرناه- و عندي أنه يجوز أن يعني به‏بني مروان لصلبه- و هم عبد الملك و عبد العزيز و بشر و محمد- و كانوا كباشا أبطالا أنجادا- أما عبد الملك فولي الخلافة- و أما بشر فولي العراق- و أما محمد فولي الجزيرة- و أما عبد العزيز فولي مصر- و لكل منهم آثار مشهورة- و هذا التفسير أولى- لأن الوليد و إخوته أبناء ابنه و هؤلاء بنوه لصلبه- .

و يقال لليوم الشديد يوم أحمر- و للسنة ذات الجدب سنة حمراء- . و كل ما أخبر به أمير المؤمنين ع في هذا الكلام وقع- كما أخبر به- و كذلك قوله- يحمل راية ضلالة بعد ما يشيب صدغاه- فإنه ولي الخلافة- و هو ابن خمسة و ستين في أعدل الروايات

مروان بن الحكم و نسبه و أخباره

و نحن ذاكرون في هذا الموضع نسبه- و جملا من أمره و ولايته للخلافة و وفاته على سبيل الاختصار- . هو مروان بن الحكم بن أبي العاص- بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف- و أمه آمنة بنت علقمة بن صفوان بن أمية الكناني- يكنى أبا عبد الملك ولد على عهد رسول الله ص- منذ سنة اثنتين من الهجرة و قيل عام الخندق- و قيل يوم أحد و قيل غير ذلك- و قال قوم بل ولد بمكة و قيل ولد بالطائف- ذكر ذلك كله أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب- . قال أبو عمر و ممن قال بولادته يوم أحد مالك بن أنس- و على قوله يكون‏ رسول الله ص قد توفي- و عمره ثمان سنين أو نحوها- .

و قيل إنه لما نفي مع أبيه إلى الطائف كان طفلا لا يعقل- و إنه لم ير رسول الله ص و كان الحكم أبوه قد طرده رسول الله عن المدينة- و سيره إلى الطائف فلم يزل بها حتى ولي عثمان- فرده إلى المدينة فقدمها هو و ولده في خلافة عثمان- و توفي فاستكتبه عثمان و ضمه إليه- فاستولى عليه إلى أن قتل- . و الحكم بن أبي العاص هو عم عثمان بن عفان- كان من مسلمة الفتح و من المؤلفة قلوبهم- و توفي الحكم في خلافة عثمان قبل قتله بشهور- .

و اختلف في السبب الموجب لنفي رسول الله ص- فقيل إنه كان يتحيل و يستخفي- و يتسمع ما يسره رسول الله ص إلى أكابر الصحابة- في مشركي قريش و سائر الكفار و المنافقين- و يفشي ذلك عنه حتى ظهر ذلك عنه- . و قيل كان يتجسس على رسول الله ص و هو عند نسائه- و يسترق السمع- و يصغي إلى ما يجري هناك- مما لا يجوز الاطلاع عليه- ثم يحدث به المنافقين على طريق الاستهزاء- .
و قيل كان يحكيه في بعض مشيته و بعض حركاته- فقد قيل إن النبي ص كان إذا مشى يتكفأ- و كان الحكم بن أبي العاص يحكيه- و كان شانئا له مبغضا حاسدا- فالتفت رسول الله ص يوما- فرآه يمشي خلفه يحكيه في مشيته-فقال له كذلك فلتكن يا حكم- فكان الحكم مختلجا يرتعش من يومئذ- فذكر ذلك عبد الرحمن بن حسان بن ثابت- فقال لعبد الرحمن بن الحكم يهجوه-

إن اللعين أبوك فارم عظامه
إن ترم ترم مخلجا مجنونا

يمشي خميص البطن من عمل التقى‏
و يظل من عمل الخبيث بطينا

قال صاحب الإستيعاب- أما قول عبد الرحمن بن حسان إن اللعين أبوك- فإنه روي عن عائشة من طرق ذكرها ابن أبي خيثمة و غيره- أنها قالت لمروان إذ قال في أخيها عبد الرحمن- إنه أنزل فيه وَ الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما- أَ تَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَ قَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي- وَ هُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ- فَيَقُولُ ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ- أما أنت يا مروان- فأشهد أن رسول الله ص لعن أباك و أنت في صلبه- .

و روى صاحب كتاب الإستيعاب بإسناد ذكره عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله ص قال يدخل عليكم رجل لعين- قال عبد الله و كنت قد رأيت أبي يلبس ثيابه- ليقبل إلى رسول الله ص- فلم أزل مشفقا أن يكون أول من يدخل- فدخل الحكم بن أبي العاصقال صاحب الإستيعاب و نظر علي ع يوما إلى مروان- فقال له ويل لك و ويل لأمة محمد منك- و من بنيك إذا شاب صدغاك- و كان مروان يدعى‏خيط باطل- قيل لأنه كان طويلا مضطربا- . و ضرب يوم الدار على قفاه فخر لفيه- فلما بويع له بالخلافة- قال فيه أخوه عبد الرحمن بن الحكم و كان ماجنا شاعرا محسنا و كان لا يرى رأي مروان-

فو الله ما أدري و إني لسائل
حليلة مضرب القفا كيف تصنع‏

لحا الله قوما أمروا خيط باطل‏
على الناس يعطي ما يشاء و يمنع‏

و قيل إنما قال له أخوه عبد الرحمن ذلك- حين ولاه معاوية إمرة المدينة- و كان كثيرا ما يهجوه و من شعره فيه-

وهبت نصيبي منك يا مرو كله
لعمرو و مروان الطويل و خالد

و رب ابن أم زائد غير ناقص‏
و أنت ابن أم ناقص غير زائد

و قال مالك بن الريب يهجو مروان بن الحكم-

لعمرك ما مروان يقضي أمورنا
و لكن ما يقضي لنا بنت جعفر

فيا ليتها كانت علينا أميره‏
و ليتك يا مروان أمسيت ذاحر

و من شعر أخيه عبد الرحمن فيه-

ألا من يبلغن مروان عني
رسولا و الرسول من البيان‏

بأنك لن ترى طردا لحر
كإلصاق به بعض الهوان‏

و هل حدثت قبلي عن كريم
معين في الحوادث أو معان‏

يقيم بدار مضيعة إذا لم‏
يكن حيران أو خفق الجنان‏

فلا تقذف بي الرجوين إني
أقل القوم من يغني مكاني‏

سأكفيك الذي استكفيت مني‏
بأمر لا تخالجه اليدان‏

فلو أنا بمنزلة جرينا
جريت و أنت مضطرب العنان‏

و لو لا أن أم أبيك أمي‏
و أن من قد هجاك فقد هجاني‏

لقد جاهرت بالبغضاء إني
إلى أمر الجهارة و العلان‏

و لما صار أمر الخلافة إلى معاوية ولى مروان المدينة- ثم جمع له إلى المدينة مكة و الطائف- ثم عزله و ولى سعيد بن العاص- فلما مات يزيد بن معاوية- و ولي ابنه أبو ليلى معاوية بن يزيد في سنة أربع و ستين- عاش في الخلافة أربعين يوما و مات- فقالت له أمه أم خالد بنت أبي هاشم- بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس- اجعل الخلافة من بعدك لأخيك فأبى و قال- لا يكون لي مرها و لكم حلوها- فوثب مروان عليها و أنشد-

إني أرى فتنة تغلي مراجلها
و الملك بعد أبي ليلى لمن غلبا

و ذكر أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني- في كتاب الأغاني- أن معاوية لما عزل مروان بن الحكم- عن إمرة المدينة و الحجاز و ولى مكانه سعيد بن العاص- وجه مروان أخاه عبد الرحمن بن الحكم أمامه إلى معاوية- و قال له ألقه قبلي فعاتبه لي و استصلحه- . قال أبو الفرج و قد روي أن عبد الرحمن كان بدمشق يومئذ- فلما بلغه خبر عزل مروان- و قدومه إلى الشام خرج و تلقاه- و قال له أقم حتى أدخل إلى أخيك- فإن كان عزلك عن موجدة دخلت إليه منفردا- و إن كان عن غير موجدة دخلت إليه مع الناس-فأقام مروان و مضى عبد الرحمن- فلما قدم على معاوية دخل إليه و هو يعشي الناس فأنشده-

أتتك العيس تنفخ في براها
تكشف عن مناكبها القطوع‏

بأبيض من أمية مضرحي‏
كأن جبينه سيف صنيع‏

فقال له معاوية أ زائرا جئت أم مفاخرا مكابرا- فقال أي ذلك شئت- فقال ما أشاء من ذلك شيئا- و أراد معاوية أن يقطعه عن كلامه الذي عن له- فقال له على أي ظهر جئتنا- فقال على فرس قال ما صفته قال أجش هزيم- يعرض بقول النجاشي في معاوية يوم صفين-

و نجا ابن حرب سابح ذو علالة
أجش هزيم و الرماح دوان‏

إذا قلت أطراف الرماح تناله‏
مرته له الساقان و القدمان‏

فغضب معاوية و قال- إلا أنه لا يركبه صاحبه في الظلم إلى الريب- و لا هو ممن يتسور على جاراته- و لا يتوثب بعد هجعة الناس على كنائنه- و كان عبد الرحمن يتهم بذلك في امرأة أخيه- فخجل عبد الرحمن و قال يا أمير المؤمنين- ما حملك على عزل ابن عمك الخيانة أوجبت ذلك- أم لرأي رأيته و تدبير استصلحته- قال بل لتدبير استصلحته قال فلا بأس بذلك- فخرج من عنده فلقي أخاه مروان- فأخبره بما دار بينه و بين معاوية- فاستشاط غيظا و قال لعبد الرحمن- قبحك الله ما أضعفك- عرضت للرجل بما أغضبه حتى إذا انتصر منك أحجمت عنه- ثم لبس حلته و ركب فرسه و تقلد سيفه و دخل على معاوية-

فقال له حين رآه و تبين الغضب في وجهه- مرحبا بأبي عبد الملك لقد زرتنا عند اشتياق منا إليك- فقال لا ها الله ما زرتك لذلك- و لا قدمت عليك فألفيتك إلا عاقا قاطعا- و الله ما أنصفتنا و لا جزيتنا جزاءنا- لقد كانت السابقة من بني عبد شمس لآل أبي العاص- و الصهر عن رسول الله ص لهم و الخلافة منهم- فوصلوكم يا بني حرب و شرفوكم و ولوكم- فما عزلوكم و لا آثروا عليكم- حتى إذا وليتم و أفضى الأمر إليكم أبيتم- إلا أثرة و سوء صنيعة و قبح قطيعة فرويدا رويدا- فقد بلغ بنو الحكم و بنو بنيه نيفا و عشرين- و إنما هي أيام قلائل حتى يكملوا أربعين- ثم يعلم امرؤ ما يكون منهم حينئذ- ثم هم للجزاء بالحسنى و السوء بالمرصاد- . قال أبو الفرج هذا رمز إلىقول رسول الله ص إذا بلغ بنو أبي العاص أربعين رجلا- اتخذوا مال الله دولا و عباد الله خولا- فكان بنو أبي العاص يذكرون- أنهم سيلون أمر الأمة إذا بلغوا هذه العدة- .

قال أبو الفرج فقال له معاوية مهلا أبا عبد الملك- إني لم أعزلك عن خيانة و إنما عزلتك لثلاثة- لو لم يكن منهن إلا واحدة لأوجبت عزلك- إحداهن أني أمرتك على عبد الله بن عامر- و بينكما ما بينكما فلن تستطيع أن تشتفي منه- و الثانية كراهيتك لإمرة زياد- و الثالثة أن ابنتي رملة- استعدتك على زوجها عمرو بن عثمان فلم تعدها- فقال مروان أما ابن عامر فإني لا أنتصر منه في سلطاني- و لكن إذا تساوت الأقدام علم أين موقعه- و أما كراهتي لإمرة زياد فإن سائر بني أمية كرهوه- و جعل الله لنا في ذلك الكره خيرا كثيرا- و أما استعداء رملة على عمرو- فو الله إنه ليأتي علي سنة أو أكثر و عندي بنت عثمان- فما أكشف لها ثوبا يعرض- بأن رملة إنما تستعدي على عمرو بن عثمان طلب النكاح- فغضب معاوية فقال يا ابن الوزغ لست هناك- فقال مروان هو ما قلت لك و إني الآن لأبو عشرة- و أخو عشرة و عم عشرة- و قد كاد ولد أبي أن يكملوا العدة يعني أربعين- و لو قد بلغوها لعلمت أين تقع مني فانخزل معاوية و قال-

فإن أك في شراركم قليلا
فإني في خياركم كثير

بغاث الطير أكثرها فراخا
و أم الصقر مقلات نزور

ثم استخذى معاوية في يد مروان و خضع- و قال لك العتبى و أنا رادك إلى عملك- فوثب مروان و قال كلا و عيشك لا رأيتني عائدا و خرج- . فقال الأحنف لمعاوية ما رأيت قط لك سقطة مثلها- ما هذا الخضوع لمروان- و أي شي‏ء يكون منه و من بني أبيه إذا بلغوا أربعين- و ما الذي تخشاه منهم فقال- ادن مني أخبرك ذلك فدنا الأحنف منه فقال له- إن الحكم بن أبي العاص كان أحد من قدم مع أختي أم حبيبة- لما زفت إلى رسول الله ص و هو يتولى نقلها إليه- فجعل رسول الله ص يحد النظر إليه- فلما خرج من عنده- قيل يا رسول الله لقد أحددت النظر إلى الحكم- فقال ابن المخزومية- ذاك رجل إذا بلغ بنو أبيه ثلاثين أو أربعين- ملكوا الأمر من بعدي- فو الله لقد تلقاها مروان من عين صافية- فقال الأحنف رويدا يا أمير المؤمنين- لا يسمع هذا منك أحد- فإنك تضع من قدرك و قدر ولدك بعدك- و إن يقض الله أمرا يكن- فقال‏معاوية اكتمها يا أبا بحر علي إذا- فقد لعمرك صدقت و نصحت- . و ذكر شيخنا أبو عثمان الجاحظ في كتاب- مفاخرة هاشم و عبد شمس- أن مروان كان يضعف- و أنه كان ينشد يوم مرج راهط و الرءوس تندر عن كواهلها-

و ما ضرهم غير حين النفوس
أي غلامي قريش غلب‏

قال و هذا حمق شديد و ضعف عظيم- قال و إنما ساد مروان و ذكر بابنه عبد الملك- كما ساد بنوه و لم يكن في نفسه هناك- . فأما خلافة مروان- فذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ- أن عبد الله بن الزبير لما أخرج بني أمية- عن الحجاز إلى الشام في خلافة يزيد بن معاوية- خرجوا و فيهم مروان و ابنه عبد الملك- و لم تطل مدة يزيد فتوفي- و مات ابنه بعده بأيام يسيرة- و كان من رأي مروان أن يدخل إلى ابن الزبير بمكة- فيبايعه بالخلافة فقدم عبيد الله بن زياد- و قد أخرجه أهل البصرة عنها بعد وفاة يزيد- فاجتمع هو و بنو أمية و أخبروه بما قد أجمع عليه مروان- فجاء إليه و قال- استجبت لك يا أبا عبد الملك فما يريد- أنت كبير قريش و سيدها تصنع ما تصنع- و تشخص إلى أبي خبيب فتبايعه بالخلافة- فقال مروان ما فات شي‏ء بعد فقام مروان- و اجتمع إليه بنو أمية و مواليهم- و عبيد الله بن زياد و كثير من أهل اليمن و كثير من كلب- فقدم دمشق و عليها الضحاك بن قيس الفهري- قد بايعه الناس على أن يصلي بهم و يقيم لهم أمرهم- حتى يجتمع‏ الناس على إمام- و كان هوى الضحاك مع ابن الزبير إلا أنه لم يبايع له بعد- و كان زفر بن الحارث الكلابي بقنسرين- يخطب لابن الزبير- و النعمان بن بشير الأنصاري بحمص يخطب لابن الزبير- و كان حسان بن مالك بن بحدل الكلبي بفلسطين- يهوى هوى بني أمية- ثم من بينهم بني حرب لأنه كان عاملا لمعاوية- ثم ليزيد بن معاوية من بعده- و كان حسان بن مالك مطاعا في قومه عظيما عندهم- فخرج عن فلسطين يريد الأردن- و استخلف على فلسطين روح بن زنباع الجذامي- فوثب عليه بعد شخوص حسان بن مالك- و ناتل بن قيس الجذامي أيضا- فأخرجه عن فلسطين و خطب لابن الزبير و كان له فيه هوى- فاستوثقت الشام كلها لابن الزبير ما عدا الأردن- فإن حسان بن مالك الكلبي كان يهوى هوى بني أمية- و يدعو إليهم فقام في أهل الأردن فخطبهم و قال لهم- ما شهادتكم على ابن الزبير و قتلى المدينة بالحرة- قالوا نشهد أن ابن الزبير كان منافقا- و أن قتلى أهل المدينة بالحرة في النار- قال فما شهادتكم على يزيد بن معاوية و قتلاكم بالحرة- قالوا نشهد أن يزيد بن معاوية كان مؤمنا- و كان قتلانا بالحرة في الجنة- قال و أنا أشهد أنه إن كان دين يزيد بن معاوية و هو حي حقا- إنه اليوم لعلى حق هو و شيعته- و إن كان ابن الزبير يومئذ هو و شيعته على باطل- إنه اليوم و شيعته على باطل قالوا صدقت- نحن نبايعك على أن نقاتل معك من خالفك من الناس- و أطاع ابن الزبير على أن تجنبنا ولاية هذين الغلامين- ابني يزيد بن معاوية و هما خالد و عبد الله- فإنهما حديثة أسنانهما- و نحن نكره أن يأتينا الناس بشيخ و نأتيهم بصبي- .

قال و قد كان الضحاك بن قيس يوالي ابن الزبير باطنا- و يهوى هواه و يمنعه إظهار ذلك بدمشق و البيعة له- أن بني أمية و كلبا كانوا بحضرته- و كلب أخوال يزيد بن معاوية و بنيه و يطلبون الإمرة لهم- فكان الضحاك يعمل في ذلك سرا- و بلغ حسان بن مالك بن بحدل ما أجمع عليه الضحاك- فكتب إليه كتابا يعظم فيه حق بني أمية- و يذكر الطاعة و الجماعة- و حسن بلاء بني أمية عنده و صنيعهم إليه- و يدعوه إلى بيعتهم و طاعتهم- و يذكر ابن الزبير و يقع فيه و يشتمه- و يذكر أن منافق قد خلع خليفتين- و أمره أن يقرأ كتابه على الناس- ثم دعا رجلا من كلب يقال له ناغضة- فسرح بالكتاب معه إلى الضحاك بن قيس- و كتب حسان نسخة ذلك الكتاب و دفعه إلى ناغضة- و قال له إن قرأ الضحاك كتابي على الناس- و إلا فقم أنت و اقرأ هذا الكتاب عليهم- و كتب حسان إلى بني أمية يأمرهم أن يحضروا ذلك- فقدم ناغضة بالكتاب على الضحاك فدفعه إليه- و دفع كتاب بني أمية إليهم سرا- .

فلما كان يوم الجمعة و صعد الضحاك على المنبر- و قدم إليه ناغضة فقال أصلح الله الأمير- ادع بكتاب حسان فاقرأه على الناس- فقال له الضحاك اجلس فجلس- ثم قام ثانية فتكلم مثل ذلك فقال له اجلس فجلس- ثم قام ثالثة و كان كالثانية و الأولى- فلما رآه ناغضة لا يقرأ الكتاب أخرج الكتاب الذي معه- فقرأه على الناس فقام الوليد بن عتبة بن أبي سفيان- فصدق حسان و كذب ابن الزبير و شتمه- و قام يزيد بن أبي النمس الغساني- فصدق مقالة حسان و كتابه و شتم ابن الزبير- و قام سفيان بن أبرد الكلبي- فصدق مقالة حسان و شتم ابن الزبير- و قام عمر بن يزيد الحكمي فشتم حسان- و أثنى على ابن الزبير- فاضطرب الناس و نزل الضحاك بن قيس- فأمر بالوليد بن عتبة و سفيان بن الأبرد- و يزيد بن أبي النمس الذين كانوا صدقوا حسان- و شتموا ابن الزبير فحبسوا- و جال الناس بعضهم في بعض- و وثبت كلب على عمر بن يزيد الحكمي- فضربوه و خرقوا ثيابه- و قد كان قام خالد بن يزيد بن معاوية- فصعد مرقاتين من المنبر و هو يومئذ غلام- .و الضحاك بن قيس فوق المنبر- فتكلم بكلام أوجز فيه لم يسمع بمثله ثم نزل- .

فلما دخل الضحاك بن قيس داره- جاءت كلب إلى السجن فأخرجوا سفيان بن أبرد الكلبي- و جاءت غسان فأخرجوا يزيد بن أبي النمس- و قال الوليد بن عتبة لو كنت من كلب أو غسان لأخرجت- فجاء ابنا يزيد بن معاوية خالد و عبد الله- و معهما أخوالهما من كلب فأخرجوه من السجن- . ثم إن الضحاك بن قيس خرج إلى مسجد دمشق فجلس فيه- و ذكر يزيد بن معاوية فوقع فيه- فقام إليه سنان من كلب و معه عصا فضربه بها- و الناس جلوس حلقا متقلدي السيوف- فقام بعضهم إلى بعض في المسجد فاقتتلوا- فكانت قيس عيلان قاطبة تدعو- إلى ابن الزبير و معهما الضحاك- و كلب تدعو إلى بني أمية- ثم إلى خالد بن يزيد فيتعصبون له- فدخل الضحاك دار الإمارة و أصبح الناس- فلم يخرج الضحاك إلى صلاة الفجر- .

فلما ارتفع النهار بعث إلى بني أمية فدخلوا عليه- فاعتذر إليهم و ذكر حسن بلائهم عنده- و أنه ليس يهوى شيئا يكرهونه- ثم قال تكتبون إلى حسان و نكتب- و يسير حسان من الأردن حتى ينزل الجابية- و نسير نحن و أنتم حتى نوافيه بها- فيجتمع رأي الناس على رجل منكم- فرضيت بذلك بنو أمية- و كتبوا إلى حسان و هو بالأردن- و كتب إليه الضحاك يأمره بالموافاة في الجابية- و أخذ الناس في الجهاز للرحيل- . و خرج الضحاك بن قيس من دمشق- و خرج الناس و خرجت بنو أمية- و توجهت الرايات يريدون الجابية- فجاء ثور بن معن يزيد بن الأخنس السلمي إلى الضحاك- فقال دعوتنا إلى طاعة ابن الزبير فبايعناك على ذلك- ثم أنت الآن تسير إلى هذا الأعرابي من كلب- لتستخلف ابن أخته خالد بن يزيد بن معاوية- فقال الضحاك فما الرأي قال- الرأي أن نظهر ما كنا نسر- و ندعو إلى طاعة ابن الزبير و نقاتل عليها- فمال الضحاك بمن معه من الناس- و انخزل من بني أمية و من معهم من قبائل اليمن- فنزل مرج راهط- .

قال أبو جعفر- و اختلف في أي وقت كانت الوقعة بمرج راهط- فقال الواقدي كانت في سنة خمس و ستين- و قال غيره في سنة أربع و ستين- . قال أبو جعفر- و سارت بنو أمية و لفيفها حتى وافوا حسان بالجابية- فصلى بهم أربعين يوما و الناس يتشاورن- و كتب الضحاك بن قيس من مرج راهط- إلى النعمان بن بشير الأنصاري و هو على حمص يستنجده- و إلى زفر بن الحارث و هو في قنسرين- و إلى ناتل بن قيس و هو على فلسطين ليستمدهم- و كلهم على طاعة ابن الزبير فأمدوه- فاجتمعت الأجناد إليه بمرج راهط- و أما الذين بالجابية فكانت أهواؤهم مختلفة- فأما مالك بن هبيرة السكوني- فكان يهوى هوى يزيد بن معاوية- و يحب أن تكون الخلافة في ولده- و أما حصين بن نمير السكوني فكان يهوى هوى بني أمية- و يحب أن تكون الخلافة لمروان بن الحكم- فقال مالك بن هبيرة للحصين بن نمير- هلم فلنبايع لهذا الغلام الذي نحن ولدنا أباه- و هو ابن أختنا فقد عرفت منزلتنا التي كانت من أبيه- إنك إن تبايعه يحملك غدا على رقاب العرب- يعني خالد بن يزيد فقال الحصين لا لعمر الله- لا يأتينا العرب بشيخ و نأتيها بصبي- فقال مالك أظن هواك في مروان- و الله إن استخلفت مروان- ليحسدنك على سوطك و شراك نعلك- و ظل شجرة تستظل بها- إن مروان أبو عشرة و أخو عشرة و عم عشرة- فإن بايعتموه كنتم عبيدا لهم- و لكن عليكم بابن أختكم خالد بن يزيد فقال الحصين- إني رأيت في المنام قنديلا معلقا من السماء- و إنه جاء كل من يمد عنقه إلى الخلافة ليتناوله- فلم يصل إليه و جاء مروان فتناوله و الله لنستخلفنه- .

فلما اجتمع رأيهم على بيعته- و استمالوا حسان بن بحدل إليها- قام روح بن زنباع الجذامي فحمد الله و أثنى عليه فقال- أيها الناس- إنكم تذكرون لهذا الأمر عبد الله بن عمر بن الخطاب- و تذكرون صحبته لرسول الله ص و قدمه في الإسلام- و هو كما تذكرون لكنه رجل ضعيف- و ليس صاحب أمة محمد بالضعيف- و أما عبد الله بن الزبير و ما يذكر الناس من أمره- و أن أباه حواري رسول الله ص- و أمه أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين- فهو لعمري كما تذكرون- و لكنه منافق قد خلع خليفتين يزيد و أباه معاوية- و سفك الدماء و شق عصا المسلمين- و ليس صاحب أمة محمد ص بالمنافق- و أما مروان بن الحكم فو الله ما كان في الإسلام صدع قط- إلا كان مروان ممن يشعب ذلك الصدع- و هو الذي قاتل عن عثمان بن عفان يوم الدار- و الذي قاتل علي بن أبي طالب يوم الجمل- و إنا نرى للناس أن يبايعوا الكبير و يستشبوا الصغير- يعني بالكبير مروان و بالصغير خالد بن يزيد- .

فاجتمع رأي الناس على البيعة لمروان- ثم لخالد بن يزيد من بعده- ثم لعمرو بن سعيد بن العاص بعدهما- على أن تكون في أيام خلافة مروان- إمرة دمشق لعمرو بن سعيد- و إمرة حمص لخالد بن يزيد- فلما استقر الأمر على ذلك- دعا حسان بن بحدل خالد بن يزيد فقال يا ابن أختي إن الناس قد أبوك لحداثة سنك- و إني و الله ما أريد هذا الأمر إلا لك و لأهل بيتك- و ما أبايع مروان إلا نظرا لكم- فقال خالد بل عجزت عنا- فقال لا و الله لم أعجز عنك- و لكن الرأي لك ما رأيت- . ثم إن حسان دعا مروان بن الحكم فقال له يا مروان إن الناس كلهم لا يرضون‏ بك فما ترى فقال مروان- إن يرد الله أن يعطينيها لم يمنعنها أحد من خلقه- و إن يرد أن يمنعنيها لا يعطينيها أحد من خلقه- فقال حسان صدقت- .

ثم صعد حسان المنبر فقال أيها الناس- إني مستخلف في غد أحدكم إن شاء الله- فاجتمع الناس بكرة الغد ينتظرون- فصعد حسان المنبر و بايع لمروان و بايع الناس- و سار من الجابية حتى نزل بمرج راهط- حيث الضحاك بن قيس نازل- فجعل مروان على ميمنته عمرو بن سعيد بن العاص- و على ميسرته عبيد الله بن زياد- و جعل الضحاك على ميمنته- زياد بن عمرو بن معاوية العتكي- و على ميسرته ثور بن معن السلمي- و كان يزيد بن أبي النمس الغساني بدمشق- لم يشهد الجابية و كان مريضا- فلما حصل الضحاك بمرج راهط- ثار بأهل دمشق في عبيده و أهله فغلب عليها- و أخرج عامل الضحاك منها- و غلب على الخزائن و بيت المال و بايع لمروان- و أمده من دمشق بالرجال و المال و السلاح- فكان ذلك أول فتح فتح لمروان- .

ثم وقعت الحرب بين مروان و الضحاك- فاقتتلوا بمرج راهط عشرين ليلة- فهزم أصحاب الضحاك و قتلوا- و قتل أشراف الناس من أهل الشام- و قتلت قيس مقتلة لم تقتل مثلها في موطن قط- و قتل ثور بن معن السلمي الذي رد الضحاك عن رأيه- . قال أبو جعفر- و روي أن بشير بن مروان كان صاحب الراية ذلك اليوم- و أنه كان ينشد

إن على الرئيس حقا حقا
أن يخضب الصعدة أو يندقا

و صرع ذلك اليوم عبد العزيز بن مروان ثم استنقذ- . قال و مر مروان برجل من محارب- و هو في نفر يسير من أصحاب مروان فقال له-لو انضممت إلى أصحابك رحمك الله فإني أراك في قلة- فقال إن معنا يا أمير المؤمنين من الملائكة مددا- أضعاف من تأمرنا بالانضمام إليهم قال- فضحك مروان و سر بذلك- و قال للناس ممن كان حوله أ لا تستمعون- قال أبو جعفر و كان قاتل الضحاك رجلا من كلب- يقال له زحنة بن عبد الله- فلما قتله و أحضر الرأس إلى مروان ظهرت عليه كآبة- و قال الآن حين كبرت سني و دق عظمي- و صرت في مثل ظم‏ء الحمار- أقبلت أضرب الكتائب بعضها ببعض- . قال أبو جعفر- و روي أن مروان أنشد لما بويع و دعا إلى نفسه-

لما رأيت الأمر أمرا نهبا
سيرت غسان لهم و كلبا

و السكسكيين رجالا غلبا
و طيئا تأباه إلا ضربا

و القين تمشي في الحديد نكبا
و من تنوخ مشمخرا صعبا

لا يملكون الملك إلا غصبا
و إن دنت قيس فقل لا قربا

قال أبو جعفر و خرج الناس منهزمين بعد قتل الضحاك- فانتهى أهل حمص إلى حمص و عليها النعمان بن بشير- فلما عرف الخبر خرج هاربا و معه ثقله و ولده- و تحير ليلته كلها- و أصبح و هو بباب مدينة حمص فرآه أهل حمص فقتلوه- و خرج زفر بن الحارث الكلابي من قنسرين هاربا- فلحق بقرقيسياء و عليها عياض بن أسلم الجرشي- فلم يمكنه من دخولها- فحلف له زفر بالطلاق و العتاق- أنه إذا دخل حمامها خرج منها- و قال له إن لي حاجة إلى دخول الحمام- فلما دخلها لم يدخل حمامها و أقام بها- و أخرج عياضامنها و تحصن فيها و ثابت إليه قيس عيلان- و خرج ناتل بن قيس الجذامي من فلسطين هاربا- فالتحق بابن الزبير بمكة- و أطبق أهل الشام على مروان و استوثقوا له- و استعمل عليهم عماله ففي ذلك يقول زفر بن الحارث-

أريني سلاحي لا أبا لك إنني
أرى الحرب لا تزداد إلا تماديا

أتاني عن مروان بالغيب أنه‏
مريق دمي أو قاطع من لسانيا

و في العيس منجاة و في الأرض مهرب
إذا نحن رفعنا لهن المبانيا

فقد ينبت المرعى على دمن الثرى‏
و تبقى حزازات النفوس كما هيا

أ تذهب كلب لم تنلها رماحنا
و تترك قتلى راهط هي ما هيا

لعمري لقد أبقت وقيعة راهط
لحسان صدعا بينا متنائيا

أ بعد ابن عمرو و ابن معن تتايعا
و مقتل همام أمنى الأمانيا

و لم تر مني نبوة قبل هذه‏
فراري و تركي صاحبي ورائيا

أ يذهب يوم واحد إن أسأته
بصالح أيامي و حسن بلائيا

فلا صلح حتى تنحط الخيل بالقنا
و تثأر من نسوان كلب نسائيا

و قال زفر بن الحارث أيضا و هو من شعر الحماسة-

أ في الله أما بحدل و ابن بحدل
فيحيا و أما ابن الزبير فيقتل‏

كذبتم و بيت الله لا تقتلونه‏
و لما يكن يوم أغر محجل‏

و لما يكن للمشرفية فوقكم
شعاع كقرن الشمس حين ترجل‏

 و أما وفاة مروان و السبب فيها أنه كان- قد استقر الأمر بعده لخالد بن يزيد بن معاوية- على ما قدمنا ذكره فلما استوثق له الأمر- أحب أن يبايع لعبد الملك و عبد العزيز ابنيه- فاستشار في ذلك- فأشير عليه أن يتزوج أم خالد بن يزيد- و هي ابنة أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة ليصغر شأنه- فلا يرشح للخلافة فتزوجها- ثم قال لخالد يوما في كلام- دار بينهما و المجلس غاص بأهله- اسكت يا ابن الرطبة فقال خالد أنت لعمري مؤتمن و خبير- .

ثم قام باكيا من مجلسه و كان غلاما حينئذ- فدخل على أمه فأخبرها فقالت له لا يعرفن ذلك فيك- و اسكت فأنا أكفيك أمره- فلما دخل عليها مروان قال لها ما قال لك خالد- قالت و ما عساه يقول قال أ لم يشكني إليك- قالت إن خالدا أشد إعظاما لك من أن يشتكيك- فصدقها ثم مكثت أياما- فنام عندها و قد واعدت جواريها- و قمن إليه فجعلن الوسائد و البراذع عليه- و جلسن عليه حتى خنقه و ذلك بدمشق في شهر رمضان- . و هو ابن ثلاث و ستين سنة في قول الواقدي- .

و أما هشام بن محمد الكلبي فقال ابن إحدى و ثمانين سنة- و قال كان ابن إحدى و ثمانين- عاش في الخلافة تسعة أشهر و قيل عشرة أشهر- و كان في أيام كتابته لعثمان بن عفان أكثر حكما- و أشد تلطفا و تسلطا منه في أيام خلافته- و كان ذلك من أعظم الأسباب- الداعية إلى خلع عثمان و قتله- . و قد قال قوم إن الضحاك بن قيس لما نزل مرج راهط- لم يدع إلى ابن الزبير و إنما دعا إلى نفسه- و بويع بالخلافة و كان قرشيا- و الأكثر الأشهر أنه كان يدعو إلى ابن الزبير

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي‏ الحديد) ج 6 

خطبه 71 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)( الناس الصلاة على النبي ص)

71 و من خطبة له ع علم فيها الناس الصلاة على النبي ص

اللَّهُمَّ دَاحِيَ الْمَدْحُوَّاتِ وَ دَاعِمَ الْمَسْمُوكَاتِ- وَ جَابِلَ الْقُلُوبِ عَلَى فِطَرَاتِهَا شَقِيِّهَا وَ سَعِيدِهَا- اجْعَلْ شَرَائِفَ صَلَوَاتِكَ- وَ نَوَامِيَ بَرَكَاتِكَ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَ رَسُولِكَ- الْخَاتِمِ لِمَا سَبَقَ وَ الْفَاتِحِ لِمَا انْغَلَقَ- وَ الْمُعْلِنِ الْحَقَّ بِالْحَقِّ وَ الدَّافِعِ جَيْشَاتِ الْأَبَاطِيلِ- وَ الدَّامِغِ صَوْلَاتِ الْأَضَالِيلِ- كَمَا حُمِّلَ فَاضْطَلَعَ قَائِماً بِأَمْرِكَ مُسْتَوْفِزاً فِي مَرْضَاتِكَ- غَيْرَ نَاكِلٍ عَنْ قُدُمٍ وَ لَا وَاهٍ فِي عَزْمٍ- وَاعِياً لِوَحْيِكَ حَافِظاً لِعَهْدِكَ- مَاضِياً عَلَى نَفَاذِ أَمْرِكَ حَتَّى أَوْرَى قَبَسَ الْقَابِسِ- وَ أَضَاءَ الطَّرِيقَ لِلْخَابِطِ- وَ هُدِيَتْ بِهِ الْقُلُوبُ بَعْدَ خَوْضَاتِ الْفِتَنِ وَ الآْثَامِ- وَ أَقَامَ بِمُوضِحَاتِ الْأَعْلَامِ وَ نَيِّرَاتِ الْأَحْكَامِ- فَهُوَ أَمِينُكَ الْمَأْمُونُ وَ خَازِنُ عِلْمِكَ الْمَخْزُونِ- وَ شَهِيدُكَ يَوْمَ الدِّينِ وَ بَعِيثُكَ بِالْحَقِّ- وَ رَسُولُكَ إِلَى الْخَلْقِ- اللَّهُمَّ افْسَحْ لَهُ مَفْسَحاً فِي ظِلِّكَ- وَ اجْزِهِ مُضَاعَفَاتِ الْخَيْرِ مِنْ فَضْلِكَ- اللَّهُمَّ وَ أَعْلِ عَلَى بِنَاءِ الْبَانِينَ بِنَاءَهُ- وَ أَكْرِمْ لَدَيْكَ مَنْزِلَتَهُ وَ أَتْمِمْ لَهُ نُورَهُ- وَ اجْزِهِ مِنِ ابْتِعَاثِكَ لَهُ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ- مَرْضِيَّ الْمَقَالَةِ ذَا مَنْطِقٍ عَدْلٍ وَ خُطْبَةٍ فَصْلٍ- اللَّهُمَّ اجْمَعْ بَيْنَنَا وَ بَيْنَهُ فِي بَرْدِ الْعَيْشِ وَ قَرَارِ النِّعْمَةِ- وَ مُنَى الشَّهَوَاتِ وَ أَهْوَاءِ اللَّذَّاتِ وَ رَخَاءِ الدَّعَةِ- وَ مُنْتَهَى الطُّمَأْنِينَةِ وَ تُحَفِ الْكَرَامَةِ

دحوت الرغيف دحوا بسطته- و المدحوات هنا الأرضون- . فإن قلت قد ثبت أن الأرض كرية- فكيف تكون بسيطة و البسيط هو المسطح- و الكري لا يكون مسطحا- . قلت الأرض بجملتها شكل كرة- و ذلك لا يمنع أن تكون كل قطعة منها مبسوطة- تصلح لأن تكون مستقرا و مجالا للبشر و غيرهم من الحيوان- فإن المراد بانبساطها هاهنا- ليس هو السطح الحقيقي الذي لا يوجد في الكرة- بل كون كل قطعة منها صالحة- لأن يتصرف عليها الحيوان لا يعني به غير ذلك- . و داحي المدحوات- ينتصب لأنه منادى مضاف- تقديره يا باسط الأرضين المبسوطات- قوله و داعم المسموكات- أي حافظ السموات المرفوعات- دعمت الشي‏ء إذا حفظته من الهوى بدعامه- و المسموك المرفوع قال-

إن الذي سمك السماء بنى لنا
بيتا دعائمه أعز و أطول‏

 و يجوز أن يكون عنى بكونها مسموكة كونها ثخينة- و سمك الجسم هو البعد- الذي يعبر عنه المتكلمون بالعمق- و هو قسيم الطول و العرض- و لا شي‏ء أعظم ثخنا من الأفلاك- . فإن قلت كيف قال- إنه تعالى دعم السموات و هي بغير عمد- . قلت إذا كان حافظا لها من الهوى بقدرته و قوته- فقد صدق عليه كونه داعما لها- لأن قوته الحافظة تجري مجرى الدعامة- . قوله و جابل القلوب أي خالقها- و الجبل الخلق و جبلة الإنسان خلقته- و فطراتها بكسر الفاء و فتح الطاء جمع فطرة و يجوز كسر الطاء- كما قالوا في سدرة سدرات و سدرات- و الفطرة الحالة التي يفطر الله عليها الإنسان- أي يخلقه عليها خاليا من الآراء-و الديانات و العقائد و الأهوية- و هي ما يقتضيه محض العقل- و إنما يختار الإنسان بسوء نظره ما يفضي به إلى الشقوة- و هذا معنىقول النبي ص كل مولود يولد على الفطرة- فإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه

– قوله شقيها و سعيدها بدل من القلوب و تقدير الكلام- و جابل الشقي من القلوب و السعيد على ما فطرت عليه- . و النوامي الزوائد- و الخاتم لما سبق أي لما سبق من الملل- و الفاتح لما انغلق من أمر الجاهلية- و المعلن الحق بالحق- أي المظهر للحق الذي هو خلاف الباطل بالحق- أي بالحرب و الخصومة- يقال حاق فلان فلانا فحقه أي خاصمه فخصمه- و يقال ما فيه حق أي خصومة- . قوله و الدافع جيشات الأباطيل جمع جيشة- من جاشت القدر إذا ارتفع غليانها- . و الأباطيل جمع باطل على غير قياس- و المراد أنه قامع ما نجم من الباطل- . و الدامغ المهلك من دمغه أي شجه حتى بلغ الدماغ- و مع ذلك يكون الهلاك- . و الصولات جمع صولة و هي السطوة- و الأضاليل جمع ضلال على غير قياس- . قوله كما حمل أي لأجل أنه يحمل- و العرب تستعمل هذه الكاف بمعنى التعليل- قال الشاعر

فقلت له أبا الملحاء خذها
كما أوسعتنا بغيا و عدوا

أي هذه الضربة لبغيك علينا و تعديك- . و قوله كما حمل يعني حمل أعباء الرسالة- فاضطلع أي نهض بها قويا فرس ضليع أي قوي- و هي الضلاعة أي القوة- . مستوفزا أي غبر بطي‏ء- بل يحث نفسه و يجهدها في رضا الله سبحانه- و الوفز العجلة و المستوفز المستعجل- .غير ناكل عن قدم أي غير جبان و لا متأخر عن إقدام- و المقدام المتقدم- يقال مضى قدما أي تقدم و سار و لم يعرج- . قوله و لا واه في عزم- وهى أي ضعف و الواهي الضعيف- . واعيا لوحيك أي فاهما- وعيت الحديث أي فهمته و عقلته- . ماضيا على نفاذ أمرك في الكلام حذف تقديره- ماضيا مصرا على نفاذ أمرك- كقوله تعالى فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى‏ فِرْعَوْنَ- و لم يقل مرسلا لأن الكلام يدل بعضه على بعض- . و قوله حتى أورى قبس القابس- يقال ورى الزند يري أي خرج ناره و أوريته أنا- و القبس شعله من النار- و المراد بالقبس هاهنا نور الحق- و القابس الذي يطلب النار- يقال قبست منه نارا- و أقبسني نارا أي أعطانيها- . و قال الراوندي أقبست الرجل علما- و قبسته نارا أعطيته- فإن كنت طلبتها له قلت أقبسته نارا- .

و قال الكسائي أقبسته نارا و علما سواء- قال و يجوز قبسته بغير همزة فيهما- . قوله و أضاء الطريق للخابط- أي جعل الطريق للخابط مضيئة- و الخابط الذي يسير ليلا على غير جادة واضحة- . و هذه الألفاظ كلها استعارات و مجازات- . و خوضات الفتن جمع خوضة- و هي المرة الواحدة من خضت الماء و الوحل أخوضهما- و تقدير الكلام و هديت به القلوب إلى الأعلام الموضحة- بعد أن خاضت في الفتن أطوارا- و الأعلام جمع علم- و هو ما يستدل به على الطريق كالمنارة و نحوها- . و الموضحة التي توضح للناس الأمور و تكشفها- و النيرات ذوات النور- . قوله فهو أمينك المأمون- أي أمينك على وحيك- و المأمون من ألقاب رسول الله ص قال كعب بن زهير-

سقاك أبو بكر بكأس روية
و انهلك المأمون منها و علكا

و خازن علمك المخزون بالجر صفة علمك- و العلم الإلهي المخزون- هو ما اطلع الله تعالى عليه و رسوله من الأمور الخفية- التي لا تتعلق بالأحكام الشرعية كالملاحم- و أحكام الآخرة و غير ذلك- لأن الأمور الشرعية لا يجوز أن تكون مخزونة عن المكلفين- . و قوله و شهيدك يوم الدين أي شاهدك- قال سبحانه فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ- وَ جِئْنا بِكَ عَلى‏ هؤُلاءِ شَهِيداً- . و البعيث المبعوث فعيل بمعنى مفعول- كقتيل و جريح و صريع و مفسحا مصدر أي وسع له مفسحا- . و قوله في ظلك يمكن أن يكون مجازا- كقولهم فلان يشملني بظله أي بإحسانه و بره- و يمكن أن يكون حقيقة- و يعني به الظل الممدود الذي ذكره الله تعالى- فقال وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ وَ ماءٍ مَسْكُوبٍ- .

و قوله و أعل على بناء البانين بناءه- أي اجعل منزلته في دار الثواب أعلى المنازل- . و أتمم له نوره- من قوله تعالى رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا- و قد روي أنه تطفأ سائر الأنوار إلا نور محمد ص- ثم يعطى المخلصون من أصحابه أنوارا يسيرة- يبصرون بها مواطئ الأقدام- فيدعون إلى الله تعالى بزيادة تلك الأنوار و إتمامها- ثم إن الله تعالى يتم نور محمد ص- فيستطيل حتى يملأ الآفاق فذلك هو إتمام نوره ص- . قوله من ابتعاثك له أي في الآخرة- . مقبول الشهادة- أي مصدقا فيما يشهد به على أمته و على غيرها من الأمم- .

و قوله ذا منطق عدل أي عادل- و هو مصدر أقيم مقام اسم الفاعل- كقولك رجل فطر و صوم أي مفطر و صائم- . و قوله و خطبة فصل أي يخطب خطبة فاصلة يوم القيامة- كقوله تعالى إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ- أي فاصل يفصل بين الحق و الباطل- و هذا هو المقام المحمود الذي- ذكره الله تعالى في الكتاب- فقال عَسى‏ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً- و هو الذي يشار إليه في الدعوات في قولهم- اللهم آت محمدا الوسيلة و الفضيلة و الدرجة الرفيعة- و ابعثه المقام المحمود- .

قوله في برد العيش- تقول العرب عيش بارد و معيشة باردة- أي لا حرب فيها و لا نزاع- لأن البرد و السكون متلازمان كتلازم الحر و الحركة- . و قرار النعمة أي مستقرها- يقال هذا قرار السيل أي مستقره- و من أمثالهم لكل سائلة قرار- . و منى الشهوات ما تتعلق به الشهوات من الأماني- و أهواء اللذات ما تهواه النفوس و تستلذه- و الرخاء المصدر من قولك- رجل رخى البال فهو بين الرخاء أي واسع الحال- . و الدعة السكون و الطمأنينة و أصلها الواو- .

و منتهى الطمأنينة غايتها التي ليس بعدها غاية- . و التحف جمع تحفة- و هي ما يكرم به الإنسان من البر و اللطف- و يجوز فتح الحاء معنى الصلاة على النبي و الخلاف في جواز الصلاة على غيره فإن قلت ما معنى الصلاة على الرسول ص- التي قال الله تعالى فيها-إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً- . قلت الصلاة من الله تعالى هي- الإكرام و التبجيل و رفع المنزلة- و الصلاة منا على النبي ص هي الدعاء له بذلك- فقوله سبحانه هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ- أي هو الذي يرفع منازلكم في الآخرة- و قوله وَ مَلائِكَتِهِ أي يدعون لكم بذلك- . و قيل جعلوا لكونهم مستجابي الدعوة- كأنهم فاعلون التعظيم للمؤمن و رفع المنزلة- و نظيره قوله حياك الله أي أحياك الله و أبقاك- و حييتك أي دعوت لك بأن يحييك- لأنك لاعتمادك على إجابة دعوتك و وثوقك بذلك- كأنك تحييه و تبقيه على الحقيقة- و هكذا القول في قوله سبحانه- إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ- .

و قد اختلف في الصلاة على النبي ص هل هي واجبة أم لا- . فمن الناس من لم يقل بوجوبها- و جعل الأمر في هذه الآية للندب و منهم من قال إنها واجبة- . و اختلفوا في حال وجوبها- فمنهم من أوجبها كلما جرى ذكره-و في الحديث من ذكرت عنده فلم يصل علي دخل النار و أبعده الله- و منهم من قال تجب في كل مجلس مرة واحدة و إن تكرر ذكره- و منهم من أوجبها في العمر مرة واحدة- و كذلك قال في إظهار الشهادتين- . و اختلف أيضا في وجوبها في الصلاة المفروضة- فأبو حنيفة و أصحابه لا يوجبونها فيها- و روي عن إبراهيم النخعي أنهم كانوا يكتفون- يعني الصحابة عنها بالتشهد- و هو السلام عليك أيها النبي و رحمة الله و بركاته- و أوجبها الشافعي و أصحابه- و اختلف أصحابه في وجوب الصلاة على آل محمد ص- فالأكثرون على أنها واجبة- و أنها شرط في صحة الصلاة- .

فإن قلت- فما تقول في الصلاة على الصحابة و الصالحين من المسلمين- . قلت القياس جواز الصلاة على كل مؤمن- لقوله تعالى هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ- و قوله وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ- و قوله أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ- و لكن العلماء قالوا- إذا ذكر أحد من المسلمين تبعا للنبي ع- فلا كلام في جواز ذلك- و أما إذا أفردوا أو ذكر أحد منهم- فأكثر الناس كرهوا الصلاة عليه- لأن ذلك شعار رسول الله فلا يشركه فيه غيره- . و أما أصحابنا من البغداديين فلهم اصطلاح آخر- و هو أنهم يكرهون إذا ذكروا عليا ع أن يقولوا- صلى الله عليه و لا يكرهون أن يقولوا صلوات الله عليه- و جعلوا اللفظة الأولى مختصة بالرسول ص- و جعلوا اللفظة الثانية مشتركة فيها بينهما ع- و لم يطلقوا لفظ الصلاة على أحد من المسلمين- إلا على علي وحده.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 6 

خطبه 70 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(ذم أهل العراق)

70 و من كلام له ع في ذم أهل العراق

أَمَّا بَعْدُ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ فَإِنَّمَا أَنْتُمْ كَالْمَرْأَةِ الْحَامِلِ- حَمَلَتْ فَلَمَّا أَتَمَّتْ أَمْلَصَتْ وَ مَاتَ قَيِّمُهَا- وَ طَالَ تَأَيُّمُهَا وَ وَرِثَهَا أَبْعَدُهَا- . أَمَا وَ اللَّهِ مَا أَتَيْتُكُمُ اخْتِيَاراً- وَ لَكِنْ جِئْتُ إِلَيْكُمْ سَوْقاً- وَ لَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تَقُولُونَ عَلِيٌّ يَكْذِبُ قَاتَلَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى- فَعَلَى مَنْ أَكْذِبُ أَ عَلَى اللَّهِ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ- أَمْ عَلَى نَبِيِّهِ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَ بِهِ- كَلَّا وَ اللَّهِ لَكِنَّهَا لَهْجَةٌ غِبْتُمْ عَنْهَا- وَ لَمْ تَكُونُوا مِنْ أَهْلِهَا- وَيْلُمِّهِ كَيْلًا بِغَيْرِ ثَمَنٍ لَوْ كَانَ لَهُ وِعَاءٌ- وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ أملصت الحامل ألقت ولدها سقاطا و قيمها بعلها- و تأيمها خلوها عن الأزواج- يقول لما شارفتم استئصال أهل الشام- و ظهرت أمارات الظفر لكم و دلائل الفتح- نكصتم و جنحتم إلى السلم- و الإجابة إلى التحكيم عند رفع المصاحف- فكنتم كالمرأة الحامل لما أتمت أشهر حملها- ألقت ولدها إلقاء غير طبيعي- نحو أن تلقيه لسقطة أو ضربة أو عارض- يقتضي أن تلقيه هالكا- . ثم لم يكتف لهم بذلك حتى قال- و مات بعلها و طال تأيمها و ورثها أبعدها- أي لم يكن لها ولد و هو أقرب المخلفين إلى الميت- و لم يكن لها بعل فورثها الأباعد عنها-كالسافلين من بني عم- و كالمولاة تموت من غير ولد و لا من يجري مجراه- فيرثها مولاها و لا نسب بينها و بينه- . ثم أقسم أنه لم يأتهم اختيارا- و لكن المقادير ساقته إليهم سوقا يعني اضطرارا- . و صدق ع- لأنه لو لا يوم الجمل لم يحتج- إلى الخروج من المدينة إلى العراق- و إنما استنجد بأهل الكوفة على أهل البصرة- اضطرارا إليهم لأنه لم يكن جيشه الحجازي وافيا- بأهل البصرة الذين أصفقوا على حربه و نكث بيعته- و لم يكن خروجه عن المدينة و هي دار الهجرة- و مفارقته لقبر رسول الله ص- و قبر فاطمة عن إيثار و محبة- و لكن الأحوال تحكم- و تسوق الناس إلى ما لا يختارونه ابتداء- .

و قد روي هذا الكلام على وجه آخر- ما أتيتكم اختيارا و لا جئت إليكم شوقا- بالشين المعجمة- . ثم قال بلغني أنكم تقولون يكذب- و كان كثيرا ما يخبر عن الملاحم و الكائنات- و يومئ إلى أمور أخبره بها رسول الله ص- فيقول المنافقون من أصحابه يكذب- كما كان المنافقون الأولون- في حياة رسول الله ص يقولون عنه يكذب- .

و روى صاحب كتاب الغارات عن الأعمش عن رجاله قال خطب علي ع فقال و الله لو أمرتكم فجمعتم من خياركم مائة- ثم لو شئت لحدثتكم من غدوة إلى أن تغيب الشمس- لا أخبرتكم إلا حقا- ثم لتخرجن فلتزعمن أني أكذب الناس و أفجرهمو قد روى صاحب هذا الكتاب و غيره من الرواة أنه قال إن أمرنا صعب مستصعب- لا يحمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل- أو عبد امتحن الله قبله للإيمان- .

و هذا الكلام منه كلام عارف عالم- بأن في الناس من لا يصدقه فيما يقول- و هذا أمر مركوز في الجبلة البشرية- و هو استبعاد الأمور الغريبة و تكذيب الأخبار بها- و إذا تأملت أحواله في خلافته كلها- وجدتها هي مختصرة من أحوال رسول الله ص في حياته- كأنها نسخة منتسخة منها في حربه و سلمه و سيرته و أخلاقه- و كثرة شكايته من المنافقين- من أصحابه و المخالفين لأمره- و إذا أردت أن تعلم ذلك علما واضحا فاقرأ سورة براءة- ففيها الجم الغفير من المعنى الذي أشرنا إليه

ذكر مطاعن النظام على الإمام علي و الرد عليه

و اعلم أن النظام لما تكلم في كتاب النكت- و انتصر لكون الإجماع ليس بحجة- اضطر إلى ذكر عيوب الصحابة- فذكر لكل منهم عيبا و وجه إلى كل واحد منهم طعنا- و قال في علي إنه لما حارب الخوارج يوم النهروان- كان يرفع رأسه إلى السماء تارة ينظر إليها- ثم يطرق إلى الأرض فينظر إليها تارة أخرى- يوهم أصحابه أنه يوحى إليه ثم يقول ما كذبت و لا كذبت- فلما فرغ من قتالهم و أديل عليهم- و وضعت الحرب أوزارها

قال الحسن ابنه يا أمير المؤمنين- أ كان رسول الله ص تقدم إليك في أمر هؤلاء بشي‏ء- فقال لا و لكن رسول الله ص أمرني بكل حق- و من الحق أن أقاتل الناكثين و القاسطين و المارقين- . قال النظام و قوله ما كذبت و لا كذبت- و رفعه رأسه أحيانا إلى السماء- و أطراقه إلى الأرض إيهام- أما لنزول الوحي عليه- أو لأنه قد أوصى من قبل في شأن الخوارج بأمر ثم هو يقول- ما أوصى فيهم على خصوصيتهم بأمر- و إنما أوصى بكل الحق و قتالهم من الحق- .

و هذا عجيب طريف- . فنقول إن النظام أخطأ عندنا- في تعريضه بهذا الرجل خطأ قبيحا- و قال قولا منكرا- نستغفر الله له من عقابه و نسأله عفوه عنه- و ليست الرواية التي رواها عن الحسن- و سؤاله لأبيه و جوابه له بصحيحة و لا معروفة- و المشهور المعروف المنقول نقلا- يكاد يبلغ درجة المتواتر من الأخبار- ما روي عن رسول الله ص في معنى الخوارج بأعيانهم- و ذكرهم بصفاتهمو قوله ص لعلي ع إنك مقاتلهم و قاتلهم- و إن المخدج ذا الثدية منهم- و إنك ستقاتل بعدي الناكثين و القاسطين و المارقين- فجعلهم أصنافا ثلاثة حسب ما وقعت الحال عليه- و هذا من معجزات الرسول ص- و إخباره عن الغيوب المفصلة- فما أعلم من أي كتاب نقل النظام هذه الرواية- و لا عن أي محدث رواها- و لقد كان رحمه الله تعالى بعيدا عن معرفة الأخبار و السير- منصبا فكره- مجهدا نفسه في الأمور النظرية الدقيقة- كمسألة الجزء و مداخلة الأجسام و غيرهما- و لم يكن الحديث و السير من فنونه و لا من علومه- و لا ريب أنه سمعها ممن لا يوثق بقوله فنقلها كما سمعها- .

فأما كونه ع كان ينظر تارة إلى السماء و تارة إلى الأرض- و قوله ما كذبت و لا كذبت فصحيح و موثوق بنقله- لاستقامته و شهرته و كثرة رواته- و الوجه في ذلك- أنه استبطأ وجود المخدج حيث طلبه في جملة القتلى- فلما طال الزمان و أشفق من دخول شبهة على أصحابه- لما كان قدمه إليهم من الأخبار قلق و اهتم- و جعل يكرر قوله ما كذبت و لا كذبت- أي ما كذبت على رسول الله ص- و لا كذبني رسول الله ص فيما أخبرني به- .

فأما رفعه رأسه إلى السماء تارة- و أطراقه إلى الأرض أخرى- فإنه حيث كان يرفع‏ رأسه- كان يدعو و يتضرع إلى الله في تعجيل الظفر بالمخدج- و حيث يطرق كان يغلبه الهم و الفكر فيطرق- . ثم حين يقول ما كذبت و لا كذبت- كيف ينتظر نزول الوحي- فإن من نزل عليه الوحي لا يحتاج أن يسند الخبر إلى غيره- و يقول ما كذبت فيما أخبرتكم به عن رسول الله ص- . و مما طعن به النظام عليه-أنه ع قال إذا حدثتكم عن رسول الله ص فهو كما حدثتكم- فو الله لأن أخر من السماء أحب إلي- من أن أكذب على رسول الله ص- و إذا سمعتموني أحدثكم فيما بيني و بينكم- فإنما الحرب خدعة- .

قال النظام هذا يجري مجرى التدليس في الحديث- و لو لم يحدثهم عن رسول الله ص بالمعاريض- و على طريق الإيهام لما اعتذر من ذلك- . فنقول في الجواب- إن النظام قد وهم و انعكس عليه مقصد أمير المؤمنين- و ذلك أنه ع لشدة ورعه- أراد أن يفصل للسامعين بين ما يخبر به عن نفسه- و بين ما يرويه عن رسول الله ص- و ذلك لأن الضرورة ربما تدعوه إلى استعماله المعاريض- لا سيما في الحرب المبنية على الخديعة و الرأي- فقال لهم كلما أقول لكم قال لي رسول الله ص- فاعلموا أنه سليم من المعاريض- خال من الرمز و الكناية- لأني لا أستجيز و لا أستحل أن أعمي- أو ألغز في حديث رسول الله ص- . و ما حدثتكم به عن نفسي فربما أستعمل فيه المعاريض- لأن الحرب خدعة- .

و هذا كلام رجل قد استعمل التقوى و الورع في جميع أموره- و بلغ من تعظيم أمر الرسول عليه أفضل الصلاة و السلام- و إجلال قدره و احترام حديثه- ألا يرويه إلا بألفاظه لا بمعانيه- و لا بأمر يقتضي فيه إلباسا و تعمية- و لو كان مضطرا إلى ذلك- ترجيحا للجانب الذي على جانب مصلحته في خاص نفسه- فأما إذا هو قال كلاما يبتدئ به من نفسه- فإنه قد يستعمل فيه المعاريض- إذا اقتضت الحكمة و التدبير ذلك- فقد كان رسول الله ص باتفاق الرواة كافة- إذا أراد أن يغزو وجها ورى عنه بغيره- و لما خرج ع من المدينة لفتح مكة قال لأصحابه كلاما يقتضي- أنه يقصد بني بكر بن عبد مناة من كنانة- فلم يعلموا حقيقة حاله حتى شارف مكة- و قال حين هاجر و صحبه أبو بكر الصديق لأعرابي لقيهما- من أين أنت و ممن أنت- فلما انتسب لهما قال له الأعرابي- أما أنا فقد اطلعتكما طلع أمري- فممن أنت فقال من ماء لم يزده على ذلك- فجعل الأعرابي يفكر و يقول من أي ماء- من ماء بني فلان من ماء بني فلان فتركه و لم يفسر له- و إنما أراد ع أنه مخلوق من نطفة- .

فأما قول النظام- لو لم يحدث عن رسول الله ص بالمعاريض- لما اعتذر من ذلك فليس في كلامه اعتذار- و لكنه نفي أن يدخل المعاريض في روايته- و أجازها فيما يبتدئ به عن نفسه- و ليس يتضمن هذا اعتذارا- و قوله لأن أخر من السماء يدل- على أنه ما فعل ذلك و لا يفعله
– .

ثم قال على من أكذب- يقول كيف أكذب على الله و أنا أول المؤمنين به- و كيف أكذب على رسول الله و أنا أول المصدقين به- أخرجه مخرج الاستبعاد لدعواهم و زعمهم- . فإن قلت كيف يمكن أن يكون المكلف الذي- هو من أتباع الرسول كاذبا على الله- إلا بواسطة إخباره عن الرسول- لأنه لا وصلة و لا واسطة بينه و بين الله تعالى إلا الرسول- .و إذا لم يمكن كذبه على الله إلا بكذبه على الرسول- لم يبق لتقسيم الكذب- و قوله أ فأنا أكذب على الله أو على رسوله معنى- .

قلت يمكن أن يكذب الكاذب على الله- دون أن يكون كاذبا على الرسول و إن كان من أتباع الرسول- نحو أن يقول كنت مع الرسول ص ليلة في مقبرة- فأحيا الله تعالى فلانا الميت فقام و قال كذا أو يقول- كنت معه يوم كذا- فسمعت مناديا يناديه من السماء افعل كذا- أو نحو ذلك من الأخبار بأمور لا تستند إلى حديث الرسول- . ثم قال ع كلا و الله أي لا و الله- و قيل إن كلا بمعنى حقا و إنه إثبات- .

قال و لكنها لهجة غبتم عنها- اللهجة بفتح الجيم و هي آلة النطق- يقال له هو فصيح اللهجة و صادق اللهجة- و يمكن أن يعنى بها لهجة رسول الله ص- فيقول شهدت و غبتم- و يمكن أن يعنى بها لهجته هو- فيقول إنها لهجة غبتم عن منافعها- و أعدمتم أنفسكم ثمن مناصحتها- .

ثم قال ويلمه- الضمير راجع إلى ما دل عليه معنى الكلام من العلم- لأنه لما ذكر اللهجة و شهوده إياها- و غيبوبتهم عنها دل ذلك على علم له خصه به الرسول ع- فقال ويلمه و هذه كلمة تقال للتعجب و الاستعظام- يقال ويلمه فارسا- و تكتب موصولة كما هي بهذه الصورة- و أصله ويل أمه مرادهم التعظيم و المدح- و إن كان اللفظ موضوعا لضد ذلك كقوله ع فاظفر بذات الدين تربت يداك
– و كقولهم للرجل يصفونه و يقرظونه لا أبا له- .

و قال الحسن البصري و هو يذكر عليا ع- و يصف كونه على الحق‏ في جميع أموره- حتى قال فلما شارف الظفر وافق على التحكيم- و ما لك في التحكيم و الحق في يديك لا أبا لك- . قال أبو العباس المبرد هي كلمة فيها جفاء و خشونة- كانت الأعراب تستعملها فيمن يستعظمون أمره- قال و لما أنشد سليمان بن عبد الملك قول بعض الأعراب-

رب العباد ما لنا و ما لكا
قد كنت تسقينا فما بدا لكا
أنزل علينا الغيث لا أبا لكا

قال أشهد أنه لا أب له و لا صاحبة و لا ولد- فأخرجها أحسن مخرج- . ثم قال ع كيلا بغير ثمن لو كان له وعاء- انتصب كيلا لأنه مصدر في موضع الحال- و يمكن أن ينتصب على التمييز- كقولهم لله دره فارسا- يقول أنا أكيل لكم العلم و الحكمة كيلا- و لا أطلب لذلك ثمنا لو وجدت وعاء أي حاملا للعلم-و هذا مثل قوله ع ها إن بين جنبي علما جما لو أجد له حملة- . ثم ختم الفصل بقوله تعالى وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ- و هو أحسن ما ختم هذا الكلام به

خطبة الإمام علي بعد يوم النهروان

و روى المدائني في كتاب صفين قال خطب علي ع بعد انقضاء أمر النهروان- فذكر طرفا من الملاحم قال إذا كثرت فيكم الأخلاط و استولت الأنباط- دنا خراب العراق- ذاك إذا بنيت مدينة ذات أثل و أنهار- فإذا غلت فيها الأسعار و شيد فيها البنيان- و حكم فيها الفساق- و اشتد البلاء و تفاخر الغوغاء- دنا خسوف البيداء و طاب الهرب و الجلاء- و ستكون قبل الجلاء أمور- يشيب منها الصغير و يعطب الكبير- و يخرس الفصيح‏ و يبهت اللبيب- يعاجلون بالسيف صلتا- و قد كانوا قبل ذلك في غضارة من عيشهم يمرحون- فيا لها مصيبة حينئذ- من البلاء العقيم و البكاء الطويل- و الويل و العويل و شدة الصريخ- في ذلك أمر الله و هو كائن وقتا يريج- فيا بن حرة الإماء متى تنتظر- أبشر بنصر قريب من رب رحيم- ألا فويل للمتكبرين عند حصاد الحاصدين و قتل الفاسقين- عصاه ذي العرش العظيم فبأبي و أمي من عدة قليلة- أسماؤهم في الأرض مجهولة قد دنا حينئذ ظهورهم- و لو شئت لأخبرتكم بما يأتي- و يكون من حوادث دهركم و نوائب زمانكم- و بلايا أيامكم و غمرات ساعاتكم- و لكنه أفضيه إلى من أفضيه إليه- مخافة عليكم و نظرا لكم- علما مني بما هو كائن و ما يكون من البلاء الشامل- ذلك عند تمرد الأشرار و طاعة أولي الخسار- ذاك أوان الحتف و الدمار ذاك أدبار أمركم- و انقطاع أصلكم و تشتت ألفتكم- و إنما يكون ذلك عند ظهور العصيان و انتشار الفسوق- حيث يكون الضرب بالسيف أهون- على المؤمنين من اكتساب درهم حلال- حين لا تنال المعيشة إلا بمعصية الله في سمائه- حين تسكرون من غير شراب و تحلفون من غير اضطرار- و تظلمون من غير منفعة و تكذبون من غير إحراج- تتفكهون بالفسوق و تبادرون بالمعصية- قولكم البهتان و حديثكم الزور و أعمالكم الغرور- فعند ذلك لا تأمنون البيات- فيا له من بيات ما أشد ظلمته و من صائح ما أفظع صوته- ذلك بيات لا ينمي صاحبه- فعند ذلك تقتلون و بأنواع البلاء تضربون- و بالسيف تحصدون و إلى النار تصيرون- و يعضكم البلاء كما يعض الغارب القتب- يا عجبا كل العجب بين جمادى و رجب- من جمع أشتات و حصد نبات و من أصوات بعدها أصوات- ثم قال سبق القضاء سبق القضاء-

قال رجل من أهل البصرة لرجل من أهل الكوفة إلى جانبه- أشهد أنه كاذب على الله و رسوله- قال الكوفي و ما يدريك- قال فو الله ما نزل علي من المنبر حتى فلج الرجل- فحمل إلى منزله في شق محمل فمات من ليلته

من خطب الإمام علي أيضا

و روى المدائني أيضا قال خطب علي ع- فقال لو كسرت لي الوسادة- لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم- و بين أهل الإنجيل بإنجيلهم- و بين أهل الفرقان بفرقانهم- و ما من آية في كتاب الله أنزلت في سهل أو جبل- إلا و أنا عالم متى أنزلت و فيمن أنزلت- فقال رجل من القعود تحت منبره- يا لله و للدعوى الكاذبة و قال آخر إلى جانبه- أشهد أنك أنت الله رب العالمين

قال المدائني فانظر إلى هذا التناقض و التباين فيهو روى المدائني أيضا قال خطب علي ع فذكر الملاحم- فقال سلوني قبل أن تفقدوني- أما و الله لتشغرن الفتنة الصماء برجلها- و تطأ في خطامها- يا لها من فتنة شبت نارها بالحطب الجزل- مقبلة من شرق الأرض رافعة ذيلها- داعية ويلها بدجلة أو حولها- ذاك إذا استدار الفلك و قلتم مات أو هلك- بأي واد سلك- فقال قوم تحت منبره لله أبوه ما أفصحه كاذبا

و روى صاحب كتاب الغارات عن المنهال بن عمرو عن عبد الله بن الحارث‏قال سمعت عليا يقول على المنبر ما أحد جرت عليه المواسي إلا و قد أنزل الله فيه قرآنا- فقام إليه رجل فقال يا أمير المؤمنين- فما أنزل الله تعالى فيك قال يريد تكذيبه- فقام الناس إليه يلكزونه في صدره و جنبه- فقال دعوه أقرأت سورة هود قال نعم- قال أ قرأت قوله سبحانه- أَ فَمَنْ كانَ عَلى‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ- قال نعم قال صاحب البينة محمد و التالي الشاهد أنا

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ أبي ‏الحديد) ج 6 

خطبه 69 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

69 و قال ع في سحرة اليوم الذي ضرب فيه

مَلَكَتْنِي عَيْنِي وَ أَنَا جَالِسٌ- فَسَنَحَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ص فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ- مَا ذَا لَقِيتُ مِنْ أُمَّتِكَ مِنَ الْأَوَدِ وَ اللَّدَدِ فَقَالَ ادْعُ عَلَيْهِمْ- فَقُلْتُ أَبْدَلَنِيَ اللَّهُ بِهِمْ خَيْراً مِنْهُمْ- وَ أَبْدَلَهُمْ بِي شَرّاً لَهُمْ مِنِّي قال الرضي رحمه الله- يعني بالأود الاعوجاج و باللدد الخصام- و هذا من أفصح الكلام قوله ملكتني عيني من فصيح الكلام- يريد غلبني النوم- قوله فسنح لي رسول الله ص يريد مر بي كما تسنح الظباء- و الطير يمر بك و يعترض لك- . و ذا هاهنا بمعنى الذي كقوله تعالى ما ذا تَرى‏- أي ما الذي ترى يقول- قلت له ما الذي لقيت من أمتك- و ما هاهنا استفهامية كأي- و يقال ذلك فيما يستعظم أمره- كقوله سبحانه الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ- و شرا هاهنا لا يدل على أن فيه شرا- كقوله قُلْ أَ ذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ- لا يدل على أن في النار خيرا

خبر مقتل الإمام علي كرم الله وجهه

و يجب أن نذكر في هذا الموضع مقتله ع- و أصح ما ورد في ذلك- ما ذكره أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني- في كتاب مقاتل الطالبيين- . قال أبو الفرج علي بن الحسين- بعد أسانيد ذكرها مختلفة متفرقة- تجتمع على معنى واحد نحن ذاكروه- إن نفرا من الخوارج اجتمعوا بمكة- فتذاكروا أمر المسلمين- فعابوهم و عابوا أعمالهم عليهم- و ذكروا أهل النهروان فترحموا عليهم- و قال بعضهم لبعض لو أنا شرينا أنفسنا لله عز و جل- فأتينا أئمة الضلال و طلبنا غرتهم- و أرحنا منهم العباد و البلاد- و ثأرنا بإخواننا الشهداء بالنهروان- . فتعاقدوا عند انقضاء الحج- فقال عبد الرحمن بن ملجم أنا أكفيكم عليا- و قال واحد أنا أكفيكم معاوية- و قال الثالث أنا أكفيكم عمرو بن العاص- فتعاقدوا و تواثقوا على الوفاء- و ألا ينكل أحد منهم- عن صاحبه الذي يتوجه إليه و لا عن قتله- و اتعدوا لشهر رمضان- في الليلة التي قتل فيها ابن ملجم عليا- . قال أبو الفرج قال أبو مخنف قال أبو زهير العبسي- الرجلان الآخران البرك بن عبد الله التميمي- و هو صاحب معاوية- و عمرو بن بكر التميمي و هو صاحب عمرو بن العاص- . قال فأما صاحب معاوية فإنه قصده- فلما وقعت عينه عليه ضربه- فوقعت ضربته على أليته- و أخذ فجاء الطبيب إليه فنظر إلى الضربة- فقال إن السيف مسموم- فاختر إما أن أحمي لك حديدة- فأجعلها في الضربة فتبرأ- و إما أن أسقيك دواء فتبرأ و ينقطع نسلك- فقال أما النار فلا أطيقها- و أما النسل ففي يزيد و عبد الله ما تقر عيني و حسبي بهما- . فسقاه الدواء فعوفي و عالج جرحه حتى التأم- و لم يولد له بعد ذلك- .

و قال له البرك بن عبد الله إن لك عندي بشارة- قال و ما هي فأخبره خبر صاحبه- و قال له إن عليا قتل في هذه الليلة فاحتبسني عندك- فإن قتل فأنت ولي ما تراه في أمري- و إن لم يقتل أعطيتك العهود و المواثيق- أن أمضي إليه فأقتله ثم أعود إليك فأضع يدي في يدك- حتى تحكم في بما ترى فحبسه عنده- فلما أتي الخبر أن عليا قتل في تلك الليلة خلى سبيله- . هذه رواية إسماعيل بن راشد- و قال غيره من الرواة بل قتله من وقته- . و أما صاحب عمرو بن العاص- فإنه وافاه في تلك الليلة و قد وجد علة فأخذ دواء- و استخلف رجلا يصلي بالناس- يقال له خارجة بن أبي حبيبة أحد بني عامر بن لؤي- فخرج للصلاة- فشد عمرو بن بكر فضربه بالسيف فأثبته- و أخذ الرجل فأتي به عمرو بن العاص فقتله- و دخل من غد إلى خارجة و هو يجود بنفسه- فقال أما و الله يا أبا عبد الله ما أراد غيرك- قال عمرو و لكن الله أراد خارجة- . و أما ابن ملجم فإنه قتل عليا تلك الليلة- .

قال أبو الفرج و حدثني محمد بن الحسن الأشنانداني و غيره قال أخبرني علي بن المنذر الطريقي قال حدثنا ابن فضيل قال حدثنا فطر عن أبي الطفيل قال جمع علي ع الناس للبيعة- فجاء عبد الرحمن بن ملجم فرده علي مرتين أو ثلاثا- ثم مد يده فبايعه- فقال له علي ما يحبس أشقاها- فو الذي نفسي بيده لتخضبن هذه من هذه- ثم أنشد

اشدد حيازيمك للموت
فإن الموت لاقيكا

و لا تجزع من الموت‏
إذا حل بواديكا

قال أبو الفرج‏و قد روي لنا من طرق غير هذه أن عليا أعطى الناس فلما بلغ ابن ملجم أعطاه- و قال له

أريد حياته و يريد قتلي
عذيرك من خليلك من مراد

قال أبو الفرج و حدثني أحمد بن عيسى العجلي بإسناد- ذكره في الكتاب إلى أبي زهير العبسي قال- كان ابن ملجم من مراد و عداده في كندة- فأقبل حتى قدم الكوفة فلقي بها أصحابه و كتمهم أمره- و طوى عنهم ما تعاقد هو و أصحابه عليه بمكة- من قتل أمراء المسلمين مخافة أن ينتشر- و زار رجلا من أصحابه ذات يوم من بني تيم الرباب- فصادف عنده قطام بنت الأخضر من بني تيم الرباب- و كان علي قتل أخاها و أباها بالنهروان- و كانت من أجمل نساء أهل زمانها- فلما رآها شغف بها و اشتد إعجابه فخطبها- فقالت له ما الذي تسمي لي من الصداق- فقال احتكمي ما بدا لك- فقالت أحتكم عليك ثلاثة آلاف درهم و وصيفا و خادما- و أن تقتل علي بن أبي طالب- . فقال لها لك جميع ما سألت- و أما قتل علي فأنى لي بذلك- قالت تلتمس غرته- فإن أنت قتلته شفيت نفسي و هنأك العيش معي- و إن قتلت فما عند الله خير لك من الدنيا- فقال لها أما و الله ما أقدمني هذا المصر- و قد كنت هاربا منه لآمن أهله- إلا ما سألتني من قتل علي- .

قالت له- فأنا طالبة لك بعض من يساعدك على هذا و يقويك- ثم بعثت إلى وردان بن مجالد أحد بني تيم الرباب- فخبرته الخبر و سألته معاونة ابن ملجم- فتحمل لها ذلك و خرج ابن ملجم- فأتى رجلا من أشجع يقال له شبيب بن بجرة- و قال له يا شبيب- هل لك في شرف الدنيا و الآخرة قال و ما ذاك- قال تساعدني على قتل علي- و كان شبيب على رأي الخوارج- فقال له هبلتك الهبول- لقد جئت شيئا إدا- و كيف تقدر ويحك على ذلك- قال ابن ملجم نكمن له في المسجد الأعظم-فإذا خرج لصلاة الفجر فتكنا به- و شفينا أنفسنا منه و أدركنا ثأرنا- فلم يزل به حتى أجابه- . فأقبل به حتى دخلا على قطام- و هي معتكفة في المسجد الأعظم- قد ضربت لها قبة- فقالا لها قد أجمع رأينا على قتل هذا الرجل- قالت لهما فإذا أردتما ذلك- فالقياني في هذا الموضع فانصرفا من عندها- فلبثا أياما ثم أتياها و معهما وردان بن مجالد- الذي كلفته مساعدة ابن ملجم- و ذلك في ليلة الجمعة لتسع عشرة ليلة- خلت من رمضان سنة أربعين- .

قال أبو الفرج هكذا في رواية أبي مخنف- و في رواية أبي عبد الرحمن السلمي- أنها كانت ليلة سبع عشرة من شهر رمضان- فقال لها ابن ملجم هذه الليلة هي التي وعدت فيها صاحبي- و وعداني أن يقتل كل واحد منا صاحبه الذي يتوجه إليه- . قلت إنما تواعدوا بمكة- عبد الرحمن و البرك و عمرو على هذه الليلة- لأنهم يعتقدون أن قتل ولاة الجور قربة إلى الله- و أحرى القربات ما تقرب به- في الأوقات الشريفة المباركة- . و لما كانت ليلة الجمعة التاسعة عشرة- من شهر رمضان ليلة شريفة- يرجى أن تكون ليلة القدر- عينوها لفعل ما يعتقدونه قربة إلى الله- فليعجب المتعجب من العقائد- كيف تسري في القلوب و تغلب على العقول- حتى يرتكب الناس عظائم الأمور- و أهوال الخطوب لأجلها- قال أبو الفرج فدعت لهم بحرير فعصبت به صدورهم- و تقلدوا سيوفهم و مضوا- فجلسوا مقابل السدة التي كان- يخرج منها علي ع إلى الصلاة- .

قال أبو الفرج- و قد كان ابن ملجم أتى الأشعث بن قيس في هذه الليلة- فخلا به في بعض نواحي المسجد و مر بهما حجر بن عدي- فسمع الأشعث و هو يقول لابن ملجم- النجاء النجاء بحاجتك فقد فضحك الصبح- قال له حجر قتلته يا أعور و خرج مبادرا إلى علي- و قد سبقه ابن ملجم فضربه- فأقبل حجر و الناس يقولون قتل أمير المؤمنين- .

قال أبو الفرج و للأشعث بن قيس- في انحرافه عن أمير المؤمنين أخبار يطول شرحها-منها حديث حدثنيه محمد بن الحسين الأشنانداني قال حدثني إسماعيل بن موسى قال حدثنا علي بن مسهر عن الأجلح عن موسى بن أبي النعمان قال جاء الأشعث إلى علي يستأذن عليه فرده قنبر- فأدمى الأشعث أنفه- فخرج علي و هو يقول ما لي و لك يا أشعث- أما و الله لو بعبد ثقيف تمرست لاقشعرت شعيراتك- قيل يا أمير المؤمنين و من عبد ثقيف- قال غلام لهم لا يبقي أهل بيت من العرب- إلا أدخلهم ذلا- قيل يا أمير المؤمنين كم يلي أو كم يمكث- قال عشرين إن بلغهاقال أبو الفرج و حدثني محمد بن الحسين أيضا بإسناد ذكره أن الأشعث دخل على علي فكلمه فأغلظ علي له- فعرض له الأشعث أنه سيفتك به- فقال له علي أ بالموت تخوفني أو تهددني- فو الله ما أبالي وقعت على الموت أو وقع الموت علي- .

قال أبو الفرج قال أبو مخنف فحدثني أبي- عن عبد الله بن محمد الأزدي قال- إني لأصلي تلك الليلة في المسجد الأعظم- مع رجال من أهل المصر- كانوا يصلون في ذلك الشهر من أول الليل إلى آخره- إذ نظرت إلى رجال يصلون قريبا من السدة قياما و قعودا- و ركوعا و سجودا ما يسأمون- إذ خرج عليهم علي بن أبي طالب الفجر- فأقبل ينادي الصلاة الصلاة فرأيت بريق السيف- و سمعت قائلا يقول الحكم لله يا علي لا لك-ثم رأيت بريق سيف آخر- و سمعت صوت علي ع يقول لا يفوتنكم الرجل- .

قال أبو الفرج فأما بريق السيف الأول- فإنه كان شبيب بن بجرة ضربه فأخطأه- و وقعت ضربته في الطاق و أما بريق السيف الثاني- فإنه ابن ملجم ضربه فأثبت الضربة في وسط رأسه- و شد الناس عليهما من كل ناحية حتى أخذوهما- . قال أبو مخنف فهمدان تذكر أن رجلا منهم- يكنى أبا أدماء أخذ ابن ملجم- . و قال غيرهم بل أخذه المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب- طرح عليه قطيفة ثم صرعه- و أخذ السيف من يده و جاء به- .

قال و أما شبيب بن بجرة فإنه خرج هاربا- فأخذه رجل فصرعه و جلس على صدره- و أخذ السيف من يده ليقتله فرأى الناس يقصدون نحوه- فخشي أن يعجلوا عليه فوثب عن صدره- و خلاه و طرح السيف عن يده- و أما شبيب بن بجرة ففاته- فخرج هاربا حتى دخل منزله- فدخل عليه ابن عم له فرآه يحل الحرير عن صدره- فقال له ما هذا لعلك قتلت أمير المؤمنين- فأراد أن يقول لا فقال نعم- فمضى ابن عمه فاشتمل على سيفه- ثم دخل عليه فضربه حتى قتله- .

قال أبو مخنف فحدثني أبي عن عبد الله بن محمد الأزدي قال أدخل ابن ملجم على علي ع- و دخلت عليه فيمن دخل فسمعت عليا يقول- النفس بالنفس إن أنا مت فاقتلوه كما قتلني- و إن سلمت رأيت فيه رأيي- فقال ابن ملجم و لقد اشتريته بألف يعني السيف- و سممته بألف فإن خانني فأبعده الله- قال فنادته أم كلثوم يا عدو الله قتلت أمير المؤمنين- قال إنما قتلت أباك قالت يا عدو الله- إني لأرجوألا يكون عليه بأس- قال فأراك إنما تبكين عليا إذا و الله لقد ضربته ضربة- لو قسمت بين أهل الأرض لأهلكتهم- . قال أبو الفرج و أخرج ابن ملجم من بين يديه و هو يقول-

نحن ضربنا يا بنة الخير إذ طغى
أبا حسن مأمومة فتفطرا

و نحن حللنا ملكه من نظامه‏
بضربة سيف إذ علا و تجبرا

و نحن كرام في الصباح أعزة
إذا المرء بالموت ارتدى و تأزرا

قال و انصرف الناس من صلاة الصبح فأحدقوا بابن ملجم- ينهشون لحمه بأسنانهم كأنهم السباع- و يقولون يا عدو الله ما ذا صنعت أهلكت أمة محمد- و قتلت خير الناس و إنه لصامت ما ينطق- .

قال أبو الفرج و روى أبو مخنف عن أبي الطفيل أن صعصعة بن صوحان استأذن على علي ع- و قد أتاه عائدا لما ضربه ابن ملجم فلم يكن عليه إذن- فقال صعصعة للآذن قل له- يرحمك الله يا أمير المؤمنين حيا و ميتا- فلقد كان الله في صدرك عظما- و لقد كنت بذات الله عليما- فأبلغه الآذن مقالته- فقال قل له و أنت يرحمك الله- فلقد كنت خفيف المئونة كثير المعونة- .

قال أبو الفرج ثم جمع له أطباء الكوفة- فلم يكن منهم أحد- أعلم بجرحه من أثير بن عمرو بن هانئ السكوني- و كان متطببا صاحب كرسي يعالج الجراحات- و كان من الأربعين غلاما- الذين كان خالد بن الوليد أصابهم في عين التمر فسباهم- فلما نظر أثير إلى جرح أمير المؤمنين- دعا برئة شاة حارة فاستخرج منها عرقا- و أدخله في الجرح ثم نفخه ثم‏ استخرجه- و إذا عليه بياض الدماغ- فقال يا أمير المؤمنين اعهد عهدك- فإن عدو الله قد وصلت ضربته إلى أم رأسك- فدعا علي ع عند ذلك بدواة و صحيفة و كتب وصيته-هذا ما أوصى به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب- أوصى بأنه يشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا عبده و رسوله- أرسله بالهدى و دين الحق- ليظهره على الدين كله و لو كره المشركون- صلوات الله و بركاته عليه- إن صلاتي و نسكي و محياي و مماتي لله رب العالمين- لا شريك له و بذلك أمرت و أنا أول المسلمين- أوصيك يا حسن و جميع ولدي و أهل بيتي- و من بلغه كتابي هذا بتقوى الله ربنا و ربكم- و لا تموتن إلا و أنتم مسلمون- و اعتصموا بحبل الله جميعا و لا تفرقوا- فإني سمعت رسول الله يقول- صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة و الصيام- و إن المبيرة حالقة الدين إفساد ذات البين- و لا قوة إلا بالله العلي العظيم- انظروا إلى ذوي أرحامكم فصلوها- يهون الله عليكم الحساب- و الله الله في الأيتام فلا تغيرن أفواههم بجفوتكم- و الله الله في جيرانكم فإنها وصية رسول الله ص- فما زال يوصينا بهم حتى ظننا أنه سيورثهم الله- و الله الله في القرآن فلا يسبقنكم بالعمل به غيركم- و الله الله في الصلاة فإنها عماد دينكم- و الله الله في صيام شهر رمضان فإنه جنة من النار- و الله الله في الجهاد بأموالكم و أنفسكم- و الله الله في زكاة أموالكم- فإنها تطفئ غضب ربكم- و الله الله في أهل بيت نبيكم فلا يظلمن بين أظهركم- و الله الله في أصحاب نبيكم فإن رسول الله ص أوصى بهم- و الله الله في الفقراء و المساكين- فأشركوهم في معايشكم- و الله الله فيما ملكت أيمانكم- فإنه كانت آخر وصية رسول الله ص إذ قال- أوصيكم بالضعيفين فيما ملكت أيمانكم- ثم الصلاة الصلاة- لا تخافوا في الله لومة لائم- يكفكم من بغى عليكم و من أرادكم بسوء- قولوا للناس حسنا كما أمركم الله به- و لا تتركوا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر- فيتولى ذلك غيركم و تدعون فلا يستجاب لكم- عليكم بالتواضع و التباذل و التبار- و إياكم و التقاطع و التفرق‏و التدابر- تعاونوا على البر و التقوى- و لا تعاونوا على الإثم و العدوان- و اتقوا الله إن الله شديد العقاب- حفظكم الله من أهل بيت و حفظ فيكم نبيه- أستودعكم الله خير مستودع- و عليكم سلام الله و رحمته- .

قلت قوله و الله الله في الأيتام- فلا تغيرن أفواههم بجفوتكم- يحتمل تفسيرين أحدهما لا تجيعوهم- فإن الجائع يخلف فمه و تتغير نكهته- و الثاني لا تحوجوهم إلى تكرار الطلب و السؤال- فإن السائل ينضب ريقه و تنشف لهواته و يتغير ريح فمه- . و قوله حكاية عن رسول الله ص- أوصيكم بالضعيفين فيما ملكت أيمانكم- يعني به الحيوان الناطق و الحيوان الأعجم- .

قال أبو الفرج و حدثني أبو جعفر محمد بن جرير الطبري بإسناد ذكره في الكتاب عن أبي عبد الرحمن السلمي قال قال لي الحسن بن علي ع خرجت و أبي يصلي في المسجد فقال لي يا بني إني بت الليلة أوقظ أهلي- لأنها ليلة الجمعة صبيحة يوم بدر- لتسع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان- فملكتني عيناي فسنح لي رسول الله ص فقلت- يا رسول الله ما ذا لقيت من أمتك من الأود و اللدد- فقال لي ادع عليهم- فقلت اللهم أبدلني بهم خيرا منهم- و أبدلهم بي من هو شر مني- قال الحسن ع و جاء ابن أبي الساج فأذنه بالصلاة- فخرج فخرجت خلفه فاعتوره الرجلان- فأما أحدهما فوقعت ضربته في الطاق- و أما الآخر فأثبتها في رأسه- .

قال أبو الفرج قال حدثني أحمد بن عيسى قال- حدثنا الحسين بن نصر قال‏حدثنا زيد بن المعدل عن يحيى بن شعيب عن أبي مخنف عن فضيل بن خديج- عن الأسود الكندي و الأجلح قالا- توفي علي ع و هو ابن أربع و ستين سنة- في عام أربعين من الهجرة- ليلة لإحدى و عشرين ليلة الأحد مضت من شهر رمضان- و ولي غسله ابنه الحسن و عبد الله بن العباس- و كفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص- و صلى عليه ابنه الحسن فكبر عليه خمس تكبيرات- و دفن بالرحبة مما يلي أبواب كندة عند صلاة الصبح- . هذه رواية أبي مخنف- .

قال أبو الفرج و حدثني أحمد بن سعيد قال حدثنا يحيى بن الحسن العلوي قال حدثنا يعقوب بن زيد عن ابن أبي عمير عن الحسن بن علي الخلال عن جده قال قلت للحسين بن علي ع أين دفنتم أمير المؤمنين ع- قال خرجنا به ليلا من منزله- حتى مررنا به على منزل الأشعث بن قيس- ثم خرجنا به إلى الظهر بجنب الغري- .

قلت و هذه الرواية هي الحق و عليها العمل- و قد قلنا فيما تقدم- إن أبناء الناس أعرف بقبور آبائهم- من غيرهم من الأجانب- و هذا القبر الذي بالغري- هو الذي كان بنو علي يزورونه قديما و حديثا- و يقولون هذا قبر أبينا- لا يشك أحد في ذلك من الشيعة و لا من غيرهم- أعني بني علي من ظهر الحسن و الحسين و غيرهما من سلالته- المتقدمين منهم و المتأخرين- ما زاروا و لا وقفوا إلا على هذا القبر بعينه- .

و قد روى أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي- في تاريخه المعروف بالمنتظم- وفاة أبي الغنائم محمد بن علي بن ميمون النرسي- المعروف بأبي لجوده قراءته قال- توفي أبو الغنائم هذا في سنة عشر و خمسمائة- و كان محدثا من أهل الكوفة ثقة حافظا- و كان من قوام الليل و من أهل السنة- و كان يقول ما بالكوفة من هو على مذهب أهل السنة- و أصحاب الحديث غيري- و كان يقول مات بالكوفة ثلاثمائة صحابي- ليس قبر أحد منهم معروفا إلا قبر أمير المؤمنين- و هو هذا القبر الذي يزوره الناس الآن- جاء جعفر بن محمد ع و أبوه محمد بن علي بن الحسين ع إليه- فزاراه و لم يكن إذ ذاك قبرا معروفا ظاهرا- و إنما كان به سرح عضاه- حتى جاء محمد بن زيد الداعي صاحب الديلم فأظهر القبر- . و سألت بعض من أثق به من عقلاء شيوخ أهل الكوفة- عما ذكره الخطيب أبو بكر في تاريخه أن قوما يقولون- إن هذا القبر الذي تزوره الشيعة إلى جانب الغري- هو قبر المغيرة بن شعبة- فقال غلطوا في ذلك- قبر المغيرة و قبر زياد بالثوية من أرض الكوفة- و نحن نعرفهما و ننقل ذلك عن آبائنا و أجدادنا- و أنشدني قول الشاعر يرثي زيادا- و قد ذكره أبو تمام في الحماسة-

صلى الإله على قبر و طهره
عند الثوية يسفي فوقه المور

زفت إليه قريش نعش سيدها
فالحلم و الجود فيه اليوم مقبور

أبا المغيرة و الدنيا مفجعة
و إن من غرت الدنيا لمغرور

قد كان عندك للمعروف معرفة
و كان عندك للمنكور تنكير

و كنت تغشى و تعطى المال من سعة
فاليوم قبرك أضحى و هو مهجور

و الناس بعدك قد خفت حلومهم
كأنما نفخت فيه الأعاصير

 و سألت قطب الدين نقيب الطالبيين- أبا عبد الله الحسين بن الأقساسي- رحمه الله تعالى عن ذلك فقال- صدق من أخبرك نحن و أهلها كافة- نعرف مقابر ثقيف إلى الثوية- و هي إلى اليوم معروفة و قبر المغيرة فيها- إلا أنها لا تعرف و قد ابتلعها السبخ- و زبد الأرض و فورانها فطمست و اختلط بعضها ببعض- . ثم قال إن شئت أن تتحقق أن قبر المغيرة في مقابر ثقيف- فانظر إلى كتاب الأغاني لأبي الفرج علي بن الحسين- و المح ما قاله في ترجمة المغيرة- و أنه مدفون في مقابر ثقيف و يكفيك قول أبي الفرج- فإنه الناقد البصير و الطبيب الخبير- فتصفحت ترجمة المغيرة في الكتاب المذكور- فوجدت الأمر كما قاله النقيب- .

قال أبو الفرج كان مصقلة بن هبيرة الشيباني- قد لاحى المغيرة في شي‏ء كان بينهما منازعة- فضرع له المغيرة و تواضع في كلامه- حتى طمع فيه مصقلة فاستعلى عليه و شتمه- و قال إني لأعرف شبهي في عروة ابنك- فأشهد المغيرة على قوله هذا شهودا- ثم قدمه إلى شريح القاضي فأقام عليه البينة- فضربه شريح الحد- و آلى مصقلة ألا يقيم ببلدة فيها المغيرة- فلم يدخل الكوفة حتى مات المغيرة فدخلها- فتلقاه قومه فسلموا عليه- فما فرغ من السلام حتى سألهم عن مقابر ثقيف- فأرشدوه إليها فجعل قوم من مواليه‏ يلتقطون الحجارة- فقال لهم ما هذا- فقالوا نظن أنك تريد أن ترجم قبر المغيرة- فقال ألقوا ما في أيديكم- فانطلق حتى وقف على قبره- ثم قال و الله لقد كنت ما علمت نافعا لصديقك- ضارا لعدوك و ما مثلك إلا كما قال مهلهل في كليب أخيه-

إن تحت الأحجار حزما و عزما
و خصيما ألد ذا معلاق‏

حية في الوجار أربد لا ينفع‏
منه السليم نفثة راق‏

 قال أبو الفرج فأما ابن ملجم- فإن الحسن بن علي بعد دفنه أمير المؤمنين دعا به- و أمر بضرب عنقه- فقال له إن رأيت أن تأخذ علي العهود- أن أرجع إليك حتى أضع يدي في يدك- بعد أن أمضي إلى الشام- فأنظر ما صنع صاحبي بمعاوية- فإن كان قتله و إلا قتلته- ثم عدت إليك حتى تحكم في حكمك فقال هيهات- و الله لا تشرب الماء البارد حتى تلحق روحك بالنار- ثم ضرب عنقه- و استوهبت أم الهيثم بنت الأسود النخعية جثته منه- فوهبها لها فأحرقتها بالنار- . و قال ابن أبي مياس الفزاري و هو من الخوارج-

فلم أر مهرا ساقه ذو سماحة
كمهر قطام من غني و معدم‏

ثلاثة آلاف و عبد و قينة
و ضرب علي بالحسام المصمم‏

فلا مهر أغلى من علي و إن غلا
و لا فتك إلا دون فتك ابن ملجم‏

و قال عبد الله بن العباس بن عبد المطلب-

و هز علي بالعراقين لحية
مصيبتها جلت على كل مسلم‏

و قال سيأتيها من الله نازل‏
و يخضبها أشقى البرية بالدم‏

فعاجله بالسيف شلت يمينه
لشؤم قطام عند ذاك ابن ملجم‏

فيا ضربة من خاسر ضل سعيه
تبوأ منها مقعدا في جهنم‏

ففاز أمير المؤمنين بحظه‏
و إن طرقت إحدى الليالي بمعظم‏

ألا إنما الدنيا بلاء و فتنة
حلاوتها شيبت بصاب و علقم‏

 قال أبو الفرج و أنشدني عمي الحسن بن محمد قال- أنشدني محمد بن سعد لبعض بني عبد المطلب- يرثي عليا و لم يذكر اسمه-

يا قبر سيدنا المجن سماحة
صلى الإله عليك يا قبر

ما ضر قبرا أنت ساكنه‏
ألا يحل بأرضه القطر

فليندين سماح كفك بالثرى
و ليورقن بجنبك الصخر

و الله لو بك لم أجد أحدا
إلا قتلت لفاتني الوتر

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 6

خطبه 68 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(ذم أصحابه)

68 و من كلام له ع في ذم أصحابه

كَمْ أُدَارِيكُمْ كَمَا تُدَارَى الْبِكَارُ الْعَمِدَةُ- وَ الثِّيَابُ الْمُتَدَاعِيَةُ- كُلَّمَا حِيصَتْ مِنْ جَانِبٍ تَهَتَّكَتْ مِنْ آخَرَ- كُلَّمَا أَطَلَّ عَلَيْكُمْ مِنْسَرٌ مِنْ مَنَاسِرِ أَهْلِ الشَّامِ- أَغْلَقَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بَابَهُ- وَ انْجَحَرَ انْجِحَارَ الضَّبَّةِ فِي جُحْرِهَا وَ الضَّبُعِ فِي وِجَارِهَا- الذَّلِيلُ وَ اللَّهِ مَنْ نَصَرْتُمُوهُ- وَ مَنْ رُمِيَ بِكُمْ فَقَدْ رُمِيَ بِأَفْوَقَ نَاصِلٍ- إِنَّكُمْ وَ اللَّهِ لَكَثِيرٌ فِي الْبَاحَاتِ قَلِيلٌ تَحْتَ الرَّايَاتِ- وَ إِنِّي لَعَالِمٌ بِمَا يُصْلِحُكُمْ وَ يُقِيمُ أَوَدَكُمْ- وَ لَكِنِّي وَ اللَّهِ لَا أَرَى إِصْلَاحَكُمْ بِإِفْسَادِ نَفْسِي- أَضْرَعَ اللَّهُ خُدُودَكُمْ وَ أَتْعَسَ جُدُودَكُمْ- لَا تَعْرِفُونَ الْحَقَّ كَمَعْرِفَتِكُمُ الْبَاطِلَ- وَ لَا تُبْطِلُونَ الْبَاطِلَ كَإِبْطَالِكُمُ الْحَقَّ البكار جمع بكر و هو الفتى من الإبل- و العمدة التي قد انشدخت أسنمتها من داخل- و ظاهرها صحيح و ذلك لكثرة ركوبها- . و الثياب المتداعية الأسمال التي قد أخلقت- و إنما سميت متداعية لأن بعضها يتخرق- فيدعو بعضها إلى مثل حاله- . و حيصت خيطت و الحوص الخياطة و تهتكت تخرقت-و أطل عليكم أي أشرف- و روي أظل بالظاء المعجمة و المعنى واحد- . و منسر قطعة من الجيش تمر قدام الجيش الكثير- و الأفصح منسر بكسر الميم و فتح السين- و يجوز منسر بفتح الميم و كسر السين- .

و انجحر استتر في بيته- أجحرت الضب إذا ألجأته إلى جحره فانجحر- . و الضبة أنثى الضباب- و إنما أوقع التشبيه على الضبة- مبالغة في وصفهم بالجبن و الفرار- لأن الأنثى أجبن و أذل من الذكر و الوجار بيت الضبع- . و السهم الأفوق الناصل المكسور الفوق المنزوع النصل- و الفوق موضع الوتر من السهم- يقال نصل السهم إذا خرج منه النصل فهو ناصل- و هذا مثل يضرب لمن استنجد بمن لا ينجده- .

و الباحات جمع باحة و هي ساحة الدار- و الأود العوج أود الشي‏ء بكسر الواو يأود أودا أي أعوج- و تأود أي تعوج- و أضرع الله خدودكم أذل وجوهكم- . ضرع الرجل ذل و أضرعه غيره- و منه المثل الحمى أضرعته لك- . و أتعس جدودكم- أي أحال حظوظكم و سعودكم و أهلكها فجعلها إدبارا و نحسا- . و التعس الهلاك و أصله الكب و هو ضد الانتعاش- تعس الرجل بفتح العين يتعس تعسا- يقول كم أداريكم كما يداري راكب البعير- بعيره المنفضخ السنام- و كما يداري لابس الثوب السمل ثوبه المتداعي- الذي كلما خيط منه جانب تمزق جانب- . ثم ذكر خبئهم و ذلهم- و قلة انتصار من ينتصر بهم- و أنهم كثير في الصورة قليل في المعنى-

ثم قال إني عالم بما يصلحكم- يقول إنما يصلحكم في السياسة السيف و صدق- فإن كثيرا لا يصلح إلا عليه- كما فعل الحجاج بالجيش الذي تقاعد بالمهلب-فإنه نادى مناديه- من وجدناه بعد ثالثة لم يلتحق بالمهلب فقد حل لنا دمه- ثم قتل عمير بن ضابئ و غيره- فخرج الناس يهرعون إلى المهلب- . و أمير المؤمنين لم يكن ليستحل من دماء أصحابه- ما يستحله من يريد الدنيا- و سياسة الملك و انتظام الدولة-قال ع لكني لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي- أي بإفساد ديني عند الله تعالى- .

فإن قلت أ ليست نصرة الإمام واجبة عليهم- فلم لا يقتلهم إذ أخلوا بهذا الواجب- قلت ليس كل إخلال بواجب يكون عقوبته القتل- كمن أخل بالحج- و أيضا فإنه كان يعلم أن عاقبة القتل فسادهم عليه و اضطرابهم- فلو أسرع في قتلهم لشغبوا عليه شغبا- يفضي إلى أن يقتلوه و يقتلوا أولاده- أو يسلموه و يسلموهم إلى معاوية- و متى علم هذا أو غلب على ظنه لم يجز له- أن يسوسهم بالقتل الذي يفضي إلى هذه المفسدة- فلو ساسهم بالقتل و الحال هذه- لكان آثما عند الله تعالى و مواقعا للقبيح- و في ذلك إفساد دينه- كما قال لا تعرفون الحق كمعرفتكم الباطل- إلى آخر الفصل- فكأنه قال لا تعتقدون الصواب و الحق- كما تعتقدون الخطأ و الباطل- أي اعتقادكم الحق قليل و اعتقادكم الباطل كثير- فعبر عن الاعتقاد العام بالمعرفة الخاصة- و هي نوع تحت جنسه مجازا- . ثم قال و لا تسرعون في نقض الباطل سرعتكم- في نقض الحق و هدمه

طائفة من الأشعار الواردة في ذم الجبن

و اعلم أن الهجاء بالجبن و الذل الفرق كثير جدا- و نظير قوله إنكم لكثير في الباحات- قليل تحت الرايات قول معدان الطائي-

فأما الذي يحصيهم فمكثر
و أما الذي يطريهم فمقلل‏

و نحو قول قراد بن حنش و هو من شعر الحماسة-

و أنتم سماء يعجب الناس رزها
بآبدة تنحي شديد وئيدها

تقطع أطناب البيوت بحاصب‏
و أكذب شي‏ء برقها و رعودها

فويلمها خيلا بهاء و شارة
إذا لاقت الأعداء لو لا صدودها

– . و من شعر الحماسة في هذا المعنى-
لقد كان فيكم لو وفيتم بجاركم
لحى و رقاب عردة و مناخر

من الصهب أثناء و جذعا كأنها
عذارى عليها شارة و معاجر

و من الهجاء بالجبن و الفرار قول بعض بني طيئ- يهجو حاتما و هو من شعر الحماسة أيضا-

لعمري و ما عمري على بهين
لبئس الفتى المدعو بالليل حاتم‏

غداة أتى كالثور أحرج فاتقى‏
بجبهته أقتاله و هو قائم‏

كأن بصحراء المريط نعامة
تبادرها جنح الظلام نعائم‏

أعارتك رجليها و هافي لبها
و قد جردت بيض المتون صوارم‏

و نظير المعنى الأول أيضا قول بعضهم من شعر الحماسة-

كاثر بسعد إن سعدا كثيرة
و لا ترج من سعد وفاء و لا نصرا

يروعك من سعد بن عمرو جسومها
و تزهد فيها حين تقتلها خبرا

 و منه قول عويف القوافي-

و ما أمكم تحت الخوافق و القنا
بثكلى و لا زهراء من نسوة زهر

أ لستم أقل الناس عند لوائهم‏
و أكثرهم عند الذبيحة و القدر

و ممن حسن الجبن و الفرار بعض الشعراء في قوله-

أضحت تشجعني هند و قد علمت
أن الشجاعة مقرون بها العطب‏

لا و الذي حجت الأنصار كعبته‏
ما يشتهي الموت عندي من له أرب‏

للحرب قوم أضل الله سعيهم
إذا دعتهم إلى حوماتها وثبوا

و لست منهم و لا أهوى فعالهم‏
لا القتل يعجبني منها و لا السلب‏

و من هذا قول أيمن بن خريم الأسدي-

إن للفتنة ميطا بينا
و وريد الميط منها يعتدل‏

فإذا كان عطاء فابتدر
و إذا كان قتال فاعتزل‏

إنما يسعرها جهالها
حطب النار فدعها تشتعل‏

و ممن عرف بالجبن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد- عيره عبد الملك بن مروان فقال-

إذا صوت العصفور طار فؤاده
و ليث حديد الناب عند الثرائد

 و قال آخر-

يطير فؤاده من نبح كلب
و يكفيه من الزجر الصفير

 و قال آخر-

و لو أنها عصفورة لحسبتها
مسومة تدعو عبيدا و أزنما

أخبار الجبناء و ذكر نوادرهم

و من أخبار الجبناء ما رواه ابن قتيبة- في كتاب عيون الأخبار- قال رأى عمرو بن العاص معاوية يوما فضحك- و قال مم تضحك يا أمير المؤمنين أضحك الله سنك- قال أضحك من حضور ذهنك- عند إبدائك سوءتك يوم ابن أبي طالب- و الله لقد وجدته منانا كريما- و لو شاء أن يقتلك لقتلك- فقال عمرو يا أمير المؤمنين- أما و الله إني لعن يمينك حين دعاك إلى البراز- فأحولت عيناك و انفتح سحرك- و بدا منك ما أكره ذكره لك- فمن نفسك فاضحك أو فدع- قال ابن قتيبة و قدم الحجاج على الوليد بن عبد الملك- و عليه درع و عمامة سوداء و قوس عربية و كنانة- فبعثت أم البنين بنت عبد العزيز- بن مروان إلى الوليد و هي تحته يومئذ- من هذا الأعرابي المستلئم في الصلاح عندك على خلوة- و أنت في غلالة-فأرسل إليها الوليد أنه الحجاج- فأعادت عليه الرسول- و الله لأن يخلو بك ملك الموت أحب إلي- من أن يخلو بك الحجاج- فضحك و أخبر الحجاج بقولها و هو يمازحه- فقال الحجاج يا أمير المؤمنين- دع عنك مفاكهة النساء بزخرف القول- فإنما المرأة ريحانة و ليست بقهرمانة- فلا تطلعها على سرك و مكايدة عدوك- .

فلما انصرف الحجاج و دخل الوليد على امرأته- أخبرها بمقالة الحجاج فقالت يا أمير المؤمنين- حاجتي إليك اليوم أن تأمره غدا أن يأتيني مستلئما- ففعل ذلك و أتاها الحجاج فحجبته ثم أدخلته- و لم تأذن له في القعود فلم يزل قائما- ثم قالت إيه يا حجاج- أنت الممتن على أمير المؤمنين- بقتلك ابن الزبير و ابن الأشعث- أما و الله لو لا أن الله علم أنك شر خلقه- ما ابتلاك برمي الكعبة الحرام- و لا بقتل ابن ذات النطاقين أول مولود في الإسلام- و أما نهيك أمير المؤمنين عن مفاكهة النساء- و بلوغ لذاته و أوطاره- فإن كن ينفرجن عن مثلك فما أحقه بالقبول منك- و إن كن ينفرجن عن مثله فهو غير قابل لقولك- أما و الله لو نفض نساء أمير المؤمنين الطيب- من غدائرهن فبعنه في أعطية أهل الشام- حين كنت في أضيق من القرن- قد أظلتك الرماح و أثخنك الكفاح- و حين كان أمير المؤمنين أحب إليهم- من آبائهم و أبنائهم- فأنجاك الله من عدو أمير المؤمنين بحبهم إياه- قاتل الله القائل حين ينظر إليك- و سنان غزالة بين كتفيك-

أسد علي و في الحروب نعامة
ربداء تنفر من صفير الصافر

هلا برزت إلى غزالة في الوغى‏
أم كان قلبك في جناحي طائر

ثم قالت لجواريها أخرجنه فاخرج- .و من طريف حكايات الجبناء- ما ذكره ابن قتيبة أيضا في الكتاب المذكور- قال كان بالبصرة شيخ من بني نهشل بن دارم- يقال له عروة بن مرثد و يكنى أبا الأعز- ينزل في بني أخت له من الأزد في سكة بني مازن- فخرج رجالهم إلى ضياعهم في شهر رمضان- و خرج النساء يصلين في مسجدهم- و لم يبق في الدار إلا إماء فدخل كلب يتعسس- فرأى بيتا مفتوحا فدخله و انصفق الباب عليه- فسمع بعض الإماء الحركة- فظنوا أنه لص دخل الدار- فذهبت إحداهن إلى أبي الأعز فأخبرته- فقال أبو الأعز إلام يبتغي اللص عندنا و أخذ عصاه- و جاء حتى وقف بباب البيت و قال إيه يا فلان-

أما و الله إني بك لعارف فهل أنت من لصوص بني مازن- شربت حامضا خبيثا- حتى إذا دارت في رأسك منتك نفسك الأماني- و قلت أطرق دور بني عمرو و الرجال خلوف- و النساء يصلين في مسجدهن فأسرقهم سوءة لك- و الله ما يفعل هذا ولد الأحرار- و ايم الله لتخرجن أو لأهتفن هتفة مشئومة- يلتقي فيها الحيان عمرو و حنظلة- و تجي‏ء سعد عدد الحصى- و تسيل عليك الرجال من هنا و هنا- و لئن فعلت لتكونن أشأم مولود- . فلما رأى أنه لا يجيبه أخذه باللين- فقال اخرج بأبي أنت مستورا- و الله ما أراك تعرفني و لو عرفتني لقنعت بقولي- و اطمأننت إلى ابن أختي البار الوصول- أنا فديتك أبو الأعز النهشلي- و أنا خال القوم و جلدة بين أعينهم لا يعصونني- و لا تضار الليلة و أنت في ذمتي و عندي قوصرتان- أهداهما إلى ابن أختي البار الوصول- فخذ إحداهما فانبذها حلالا من الله و رسوله- . و كان الكلب إذا سمع الكلام أطرق- و إذا سكت أبو الأعز وثب يريد المخرج- فتهانف أبو الأعز ثم تضاحك- و قال يا ألأم الناس و أوضعهم- أ لا أراني لك منذ الليلة في واد و أنت لي في واد آخر- أقبلت السوداء و البيضاء فتصيح و تطرق- فإذا سكت عنك وثبت تريد الخروج- و الله لتخرجن أو لألجن عليك البيت- .

فلما طال وقوفه جاءت إحدى الإماء- فقالت أعرابي مجنون و الله ما أرى في البيت شيئا- فدفعت الباب فخرج الكلب شاردا- و حاد عنه أبو الأعز ساقطا على قفاه شائلة رجلاه- و قال تالله ما رأيت كالليلة هذه- ما أراه إلا كلبا و لو علمت بحاله لولجت عليه- . و نظير هذه الحكاية حكاية أبي حية النميري و كان جبانا- قيل كان لأبي حية سيف ليس بينه و بين الخشب فرق- كان يسميه لعاب المنية- فحكى عنه بعض جيرانه- أنه قال أشرفت عليه ليلة- و قد انتضاه و هو واقف بباب بيت في داره- و قد سمع فيه حسا- و هو يقول أيها المغتر بنا المجترئ علينا- بئس و الله ما اخترت لنفسك- خير قليل و سيف صقيل- لعاب المنية الذي سمعت به مشهورة صولته- و لا تخاف نبوته اخرج بالعفو عنك- لا أدخل بالعقوبة عليك-

إني و الله إن أدع قيسا تملأ الفضاء عليك خيلا و رجلا- سبحان الله ما أكثرها و أطيبها- و الله ما أنت ببعيد من تابعها- و الرسوب في تيار لجتها- . و قال وهبت ريح ففتحت الباب- فخرج كلب يشتد فلبط بأبي حية و أربد و شغر برجليه- و تبادرت إليه نساء الحي- فقلن يا أبا حية لتفرخ روعتك- إنما هو كلب فجلس و هو- يقول الحمد لله الذي مسخك كلبا و كفاني حربا- . و خرج مغيرة بن سعيد العجلي في ثلاثين رجلا ظهر الكوفة- فعطعطوا و خالد بن عبد الله القسري أمير العراق- يخطب على المنبر فعرق و اضطرب و تحير و جعل يقول- أطعموني ماء فهجاه ابن نوفل فقال-

أ خالد لا جزاك الله خيرا
و أيري في حرامك من أمير

تروم الفخر في أعراب قسر
كأنك من سراة بني جرير

جرير من ذوي يمن أصيل
كريم الأصل ذو خطر كبير

و أمك علجة و أبوك وغد
و ما الأذناب عدل للصدور

و كنت لدى المغيرة عبد سوء
تبول من المخافة للزئير

لأعلاج ثمانية و شيخ‏
كبير السن ليس بذي ضرير

صرخت من المخافة أطعموني
شرابا ثم بلت على السرير

 و قال آخر يعيره بذلك-

بل المنابر من خوف و من دهش
و استطعم الماء لما جد في الهرب‏

و من كلام ابن المقفع في ذم الجبن- الجبن مقتلة و الحرص محرمة- فانظر فيما رأيت و سمعت- من قتل في الحرب مقبلا أكثر أم من قتل مدبرا- و انظر من يطلب إليك بالإجمال و التكرم- أحق أن تسخو نفسك له بالعطية- أم من يطلب ذلك بالشره و الحرص

شرح ‏نهج‏ البلاغة(ابن‏ أبي ‏الحديد) ج 6

خطبه 67 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(ذكر محمد بن أبي بكر )

67 و من كلام له ع لما قلد محمد بن أبي بكر مصر- فملكت عليه و قتل

وَ قَدْ أَرَدْتُ تَوْلِيَةَ مِصْرَ هَاشِمَ بْنَ عُتْبَةَ- وَ لَوْ وَلَّيْتُهُ إِيَّاهَا لَمَا خَلَّى لَهُمُ الْعَرْصَةَ- وَ لَا أَنْهَزَهُمُ الْفُرْصَةَ- بِلَا ذَمٍّ لِمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ- فَلَقَدْ كَانَ إِلَيَّ حَبِيباً وَ كَانَ لِي رَبِيباً

ذكر محمد بن أبي بكر و ذكر ولده

أم محمد بن أبي بكر أسماء بنت عميس بن النعمان- بن كعب بن مالك بن قحافة بن خثعم- كانت تحت جعفر بن أبي طالب- و هاجرت معه إلى الحبشة- فولدت له هناك عبد الله بن جعفر الجواد- ثم قتل عنها يوم مؤتة فخلف عليها أبو بكر الصديق- فأولدها محمدا ثم مات عنها- فخلف عليها علي بن أبي طالب- و كان محمد ربيبه و خريجه- و جاريا عنده مجرى أولاده- رضع الولاء و التشيع مذ زمن الصبا فنشأ عليه- فلم يكن يعرف له أبا غير علي- و لا يعتقد لأحد فضيلة غيره حتى-قال علي ع محمد ابني من صلب أبي بكر- و كان يكنى أبا القاسم في قول ابن قتيبة- و قال غيره بل كان يكنى أبا عبد الرحمن- .

و كان محمد من نساك قريش- و كان ممن أعان على عثمان في يوم الدار- و اختلف هل باشر قتل عثمان أم لا- و من ولد محمد القاسم بن محمد بن أبي بكر- فقيه الحجاز و فاضلها- و من ولد القاسم عبد الرحمن بن القاسم بن محمد- كان من فضلاء قريش و يكنى أبا محمد- و من ولد القاسم أيضا أم فروة- تزوجها الباقر أبو جعفر محمد بن علي- فأولدها الصادق أبا عبد الله جعفر بن محمد ع- و إلى أم فروة أشار الرضي أبو الحسن بقوله-

يفاخرنا قوم بمن لم نلدهم
بتيم إذا عد السوابق أو عدي‏

و ينسون من لو قدموه لقدموا
عذار جواد في الجياد مقلد

فتى هاشم بعد النبي و باعها
لمرمي علا أو نيل مجد و سؤدد

و لو لا علي ما علوا سرواتها
و لا جعجعوا فيها بمرعى و مورد

أخذنا عليكم بالنبي و فاطم
طلاع المساعي من مقام و مقعد

و طلنا بسبطي أحمد و وصيه‏
رقاب الورى من متهمين و منجد

و حزنا عتيقا و هو غاية فخركم
بمولد بنت القاسم بن محمد

فجد نبي ثم جد خليفة
فأكرم بجدينا عتيق و أحمد

و ما افتخرت بعد النبي بغيره
يد صفقت يوم البياع على يد

قوله-
و لو لا علي ما علوا سرواتها

البيت- ينظر فيه إلى قول المأمون في أبيات يمدح فيها عليا- أولها

الأم على حبي الوصي أبا الحسن
و ذلك عندي من أعاجيب ذا الزمن‏

و البيت المنظور إليه منها قوله-

و لولاه ما عدت لهاشم إمرة
و كان مدى الأيام يعصى و يمتهن‏

هاشم بن عتبة بن أبي وقاص و نسبه

و أما هاشم بن عتبة بن أبي وقاص- مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة- بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب- فعمه سعد بن أبي وقاص أحد العشرة- و أبوه عتبة بن أبي وقاص- الذي كسر رباعية رسول الله ص يوم أحد- و كلم شفتيه و شج وجهه- فجعل يمسح الدم عن وجهه-و يقول كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم- و هو يدعوهم إلى ربهم- فأنزل الله عز و جل- لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ‏ءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ- فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ- . و قال حسان بن ثابت في ذلك اليوم-

إذا الله حيا معشرا بفعالهم
و نصرهم الرحمن رب المشارق‏

فهدك ربي يا عتيب بن مالك‏
و لقاك قبل الموت إحدى الصواعق‏

بسطت يمينا للنبي محمد
فدميت فاه قطعت بالبوارق‏

فهلا ذكرت الله و المنزل الذي‏
تصير إليه عند إحدى الصعائق‏

فمن عاذري من عبد عذرة بعد ما
هوى في دجوجي شديد المضايق‏

و أورث عارا في الحياة لأهله
و في النار يوم البعث أم البوائق‏

و إنما قال عبد عذرة- لأن عتبة بن أبي وقاص و إخوته و أقاربه في نسبهم كلام- ذكر قوم من أهل النسب أنهم من عذرة- و أنهم أدعياء في قريش- و لهم خبر معروف و قصة مذكورة في كتب النسب- . و تنازع عبد الله بن مسعود و سعد بن أبي وقاص- في أيام عثمان في أمر فاختصما- فقال سعد لعبد الله اسكت يا عبد هذيل فقال له عبد الله اسكت يا عبد عذرة- . و هاشم بن عتبة هو المرقال- سمي المرقال لأنه كان يرقل في الحرب إرقالا- و هو من شيعه علي و سنفصل مقتله- إذا انتهينا إلى فصل من كلامه يتضمن ذكر صفين- .

فأما قوله لما خلى لهم العرصة فيعني عرصة مصر- و قد كان محمد رحمه الله تعالى لما ضاق عليه الأمر- ترك لهم مصر و ظن أنه بالفرار ينجو بنفسه- فلم ينج و أخذ و قتل- . و قوله و لا أنهزهم الفرصة- أي و لا جعلهم للفرصة منتهزين و الهمزة للتعدية- يقال أنهزت الفرصة إذا أنهزتها غيري- . و نحن نذكر في هذا الموضع ابتداء أمر الذين- ولاهم علي ع مصر- إلى أن ننتهي إلى كيفية ملك معاوية لها- و قتل محمد بن أبي بكر- و ننقل ذلك من كتاب إبراهيم بن سعد بن هلال الثقفي- و هو كتاب الغارات‏ولاية قيس بن سعد على مصر ثم عزله
قال إبراهيم حدثنا محمد بن عبد الله بن عثمان الثقفي- قال حدثني علي بن محمد بن أبي سيف عن الكلبي- أن محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس- هو الذي حرض المصريين- على قتل عثمان و ندبهم إليه- و كان حينئذ بمصر فلما ساروا إلى عثمان و حصروه- وثب هو بمصر على عامل عثمان عليها- و هو عبد الله بن سعد بن أبي سرح أحد بني عامر بن لؤي- فطرده عنها و صلى بالناس- فخرج ابن أبي سرح من مصر- و نزل على تخوم أرضها مما يلي فلسطين- و انتظر ما يكون من أمر عثمان- فطلع عليه راكب فقال له يا عبد الله ما وراءك- ما خبر الناس بالمدينة قال قتل المسلمون عثمان- فقال ابن أبي سرح إنا لله و إنا إليه راجعون- ثم صنعوا ما ذا يا عبد الله- قال بايعوا ابن عم رسول الله علي بن أبي طالب- فقال ثانية إنا لله و إنا إليه راجعون- فقال الرجل أرى أن ولاية علي عدلت عندك قتل عثمان- قال أجل فنظر إليه متأملا له فعرفه- فقال أظنك عبد الله بن سعد بن أبي سرح أمير مصر قال أجل- قال إن كانت لك في الحياة حاجة فالنجاء النجاء- فإن رأي علي فيك و في أصحابك إن ظفر بكم قتلكم- أو نفاكم عن بلاد المسلمين و هذا أمير تقدم بعدي عليكم- قال و من الأمير قال قيس بن سعد بن عبادة- فقال ابن أبي سرح أبعد الله ابن أبي حذيفة- فإنه بغى على ابن عمه و سعى عليه- و قد كان كفله و رباه و أحسن إليه و أمن جواره- فجهز الرجال إليه حتى قتل و وثب على عامله- . و خرج ابن أبي سرح حتى قدم على معاوية بدمشق- .

قال إبراهيم و كان قيس بن سعد بن عبادة من شيعة علي و مناصحيه- فلما ولى الخلافة قال له سر إلى مصر فقد وليتكها- و اخرج إلى ظاهر المدينة- و اجمع ثقاتك و من‏أحببت أن يصحبك- حتى تأتي مصر و معك جند- فإن ذلك أرعب لعدوك و أعز لوليك- فإذا أنت قدمتها إن شاء الله فأحسن إلى المحسن- و اشتد على المريب- و ارفق بالعامة و الخاصة فالرفق يمن- .

فقال قيس رحمك الله يا أمير المؤمنين- قد فهمت ما ذكرت فأما الجند فإني أدعه لك- فإذا احتجت إليهم كانوا قريبا منك- و إن أردت بعثهم إلى وجه من وجوهك كان لك عدة- و لكني أسير إلى مصر بنفسي و أهل بيتي- و أما ما أوصيتني به من الرفق و الإحسان- فالله تعالى هو المستعان على ذلك- قال فخرج قيس في سبعة نفر من أهله حتى دخل مصر- فصعد المنبر و أمر بكتاب معه يقرأ على الناس- فيه من عبد الله علي أمير المؤمنين- إلى من بلغه كتابي هذا من المسلمين سلام عليكم- فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو- أما بعد فإن الله بحسن صنعه و قدره و تدبيره- اختار الإسلام دينا لنفسه و ملائكته و رسله- و بعث به أنبياءه إلى عباده- فكان مما أكرم الله عز و جل به هذه الأمة- و خصهم به من الفضل أن بعث محمدا ص إليهم- فعلمهم الكتاب و الحكمة و السنة و الفرائض- و أدبهم لكيما يهتدوا و جمعهم لكيلا يتفرقوا- و زكاهم لكيما يتطهروا- فلما قضى من ذلك ما عليه قبضه الله إليه- فعليه صلوات الله و سلامه و رحمته و رضوانه- ثم إن المسلمين من بعده استخلفوا أميرين منهم صالحين- فعملا بالكتاب و السنة و أحييا السيرة- و لم يعدوا السنة ثم توفيا رحمهما الله- فولي بعدهما وال أحدث أحداثا- فوجدت الأمة عليه مقالا فقالوا- ثم نقموا فغيروا ثم جاءوني فبايعوني- و أنا أستهدي الله الهدى و أستعينه على التقوى- ألا و إن لكم علينا العمل بكتاب الله و سنة رسوله- و القيام بحقه و النصح لكم بالغيب- و الله المستعان على ما تصفون- و حسبنا الله و نعم الوكيل-و قد بعثت لكم قيس بن سعد الأنصاري أميرا- فوازروه و أعينوه على الحق- و قد أمرته بالإحسان إلى محسنكم و الشدة على مريبكم- و الرفق بعوامكم و خواصكم- و هو ممن أرضى هديه و أرجو صلاحه و نصحه- نسأل الله لنا و لكم عملا زاكيا- و ثوابا جزيلا و رحمة واسعة- و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته- .

و كتبه عبد الله بن أبي رافع في صفر سنة ست و ثلاثين- . قال إبراهيم فلما فرغ من قراءة الكتاب- قام قيس خطيبا فحمد الله و أثنى عليه- و قال الحمد لله الذي جاء بالحق- و أمات الباطل و كبت الظالمين- أيها الناس- إنا بايعنا خير من نعلم من بعد نبينا محمد ص- فقوموا فبايعوا على كتاب الله و سنة رسوله- فإن نحن لم نعمل بكتاب الله و سنة رسوله- فلا بيعة لنا عليكم- . فقام الناس فبايعوا- و استقامت مصر و أعمالها لقيس و بعث عليها عماله- إلا أن قرية منها قد أعظم أهلها قتل عثمان- و بها رجل من بني كنانة يقال له يزيد بن الحارث- فبعث إلى قيس- إنا لا نأتيك فابعث عمالك فالأرض أرضك- و لكن أقرنا على حالنا حتى ننظر إلى ما يصير أمر الناس- . و وثب محمد بن مسلمة بن مخلد بن صامت الأنصاري- فنعى عثمان و دعا إلى الطلب بدمه- فأرسل إليه قيس ويحك أ علي تثب- و الله ما أحب أن لي ملك الشام و مصر و أني قتلتك- فاحقن دمك فأرسل إليه مسلمة- إني كاف عنك ما دمت أنت والي مصر- . و كان قيس بن سعد ذا رأي و حزم- فبعث إلى الذين اعتزلوا أني لا أكرهكم على البيعة- و لكني أدعكم و أكف عنكم- فهادنهم و هادن مسلمة بن مخلد و جبى الخراج- و ليس أحد ينازعه- .

قال إبراهيم- و خرج علي ع إلى الجمل و قيس على مصر- و رجع من البصرة إلى الكوفة و هو بمكانه- فكان أثقل خلق الله على معاوية- لقرب مصر و أعمالها من الشام- و مخافة أن يقبل علي بأهل العراق- و يقبل إليه قيس بأهل مصر فيقع بينهما- .

فكتب معاوية إلى قيس- و علي يومئذ بالكوفة قبل أن يسير إلى صفين- من معاوية بن أبي سفيان إلى قيس بن سعد سلام عليك- فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو- . أما بعد- فإنكم إن كنتم نقمتم على عثمان في أثرة رأيتموها- أو ضربة سوط ضربها أو في شتمه رجلا أو تعييره واحدا- أو في استعماله الفتيان من أهله- فإنكم قد علمتم إن كنتم تعلمون- أن دمه لم يحل لكم بذلك- فقد ركبتم عظيما من الأمر و جئتم شيئا إدا- فتب يا قيس إلى ربك إن كنت من المجلبين على عثمان- إن كانت التوبة قبل الموت تغني شيئا- و أما صاحبك فقد استيقنا أنه أغرى الناس بقتله- و حملهم على قتله حتى قتلوه- و أنه لم يسلم من دمه عظم قومك- فإن استطعت يا قيس أن تكون ممن يطلب بدم عثمان- فافعل و تابعنا على علي في أمرنا- هذا و لك سلطان العراقين إن أنا ظفرت ما بقيت- و لمن أحببت من أهل بيتك سلطان الحجاز ما دام لي سلطان- و سلني عن غير هذا مما تحب- فإنك لا تسألني شيئا إلا أتيته- و اكتب إلى رأيك فيما كتبت إليك- .

فلما جاء إليه كتاب معاوية أحب أن يدافعه- و لا يبدي له أمره و لا يعجل له حربه- فكتب إليه أما بعد فقد وصل إلي كتابك- و فهمت الذي ذكرت من أمر عثمان- و ذلك أمر لم أقاربه- و ذكرت أن صاحبي هو الذي أغرى الناس بعثمان- و دسهم إليه حتى قتلوه و هذا أمر لم أطلع عليه- و ذكرت لي أن عظم عشيرتي لم تسلم من دم عثمان- فلعمري إن أولىالناس كان في أمره عشيرتي- و أما ما سألتني من مبايعتك على الطلب بدمه- و ما عرضته علي فقد فهمته- و هذا أمر لي نظر فيه و فكر- و ليس هذا مما يعجل إلى مثله و أنا كاف عنك- و ليس يأتيك من قبلي شي‏ء تكرهه- حتى ترى و نرى إن شاء الله تعالى- و السلام عليك و رحمة الله و بركاته- . قال إبراهيم- فلما قرأ معاوية كتابه لم يره إلا مقاربا مباعدا- و لم يأمن أن يكون له في ذلك مخادعا مكايدا- فكتب إليه أما بعد فقد قرأت كتابك- فلم أرك تدنو فأعدك سلما- و لم أرك تتباعد فأعدك حربا أراك كحبل الجرور- و ليس مثلي يصانع بالخداع و لا يخدع بالمكايد- و معه عدد الرجال و أعنة الخيل- فإن قبلت الذي عرضت عليك فلك ما أعطيتك- و إن أنت لم تفعل ملأت مصر عليك خيلا و رجلا و السلام- .

فلما قرأ قيس كتابه- و علم أنه لا يقبل منه المدافعة و المطاولة- أظهر له ما في نفسه فكتب إليه- من قيس بن سعد إلى معاوية بن أبي سفيان- أما بعد فالعجب من استسقاطك رأيي- و الطمع في أن تسومني لا أبا لغيرك- الخروج من طاعة أولى الناس بالأمر- و أقولهم بالحق و أهداهم سبيلا- و أقربهم من رسول الله وسيلة- و تأمرني بالدخول في طاعتك- و طاعة أبعد الناس من هذا الأمر- و أقولهم بالزور و أضلهم سبيلا- و أدناهم من رسول الله وسيلة- و لديك قوم ضالون مضلون طواغيت من طواغيت إبليس- و أما قولك إنك تملأ علي مصر خيلا و رجلا- فلئن لم أشغلك عن ذلك حتى يكون منك- إنك لذو جد و السلام- . فلما أتى معاوية كتاب قيس أيس و ثقل مكانه عليه- و كان أن يكون مكانه غيره أحب إليه- لما يعلم من قوته و تأبيه و نجدته- و اشتداد أمره على معاوية- فأظهر للناس أن‏قيسا قد بايعكم فادعوا الله له- و قرأ عليهم كتابه الذي لان فيه و قاربه- و اختلق كتابا نسبه إلى قيس فقرأه على أهل الشام- . للأمير معاوية بن أبي سفيان من قيس بن سعد- .

أما بعد إن قتل عثمان كان حدثا في الإسلام عظيما- و قد نظرت لنفسي و ديني- فلم أر يسعني مظاهرة قوم قتلوا إمامهم- مسلما محرما برا تقيا فنستغفر الله سبحانه لذنوبنا- و نسأله العصمة لديننا- ألا و إني قد ألقيت إليكم بالسلام- و أجبتك إلى قتال قتلة إمام الهدى المظلوم- فاطلب مني ما أحببت من الأموال و الرجال- أعجله إليك إن شاء الله- و السلام على الأمير و رحمة الله و بركاته- . قال فشاع في الشام كلها أن قيسا صالح معاوية- و أتت عيون علي بن أبي طالب إليه بذلك- فأعظمه و أكبره و تعجب له- و دعا ابنيه حسنا و حسينا- و ابنه محمدا و عبد الله بن جعفر فأعلمهم بذلك- و قال ما رأيكم فقال عبد الله بن جعفر يا أمير المؤمنين- دع ما يريبك إلى ما لا يريبك اعزل قيسا عن مصر- قال علي و الله إني غير مصدق بهذا على قيس- فقال عبد الله اعزله يا أمير المؤمنين- فإن كان ما قد قيل حقا فلا يعتزل لك أن عزلته- قال و إنهم لكذلك إذ جاءهم كتاب من قيس بن سعد فيه- أما بعد فإني أخبر يا أمير المؤمنين- أكرمك الله و أعزك- إن قبلي رجالا معتزلين سألوني أن أكف عنهم- و أدعهم على حالهم حتى يستقيم أمر الناس فنرى و يرون- و قد رأيت أن أكف عنهم و لا أعجل بحربهم- و أن أتألفهم فيما بين ذلك- لعل الله أن يقبل بقلوبهم- و يفرقهم عن ضلالتهم إن شاء الله و السلام- . فقال عبد الله بن جعفر يا أمير المؤمنين- إنك إن أطعته في تركهم و اعتزالهم- استشرى الأمر و تفاقمت الفتنة- و قعد عن بيعتك كثير ممن تريده على الدخول فيها- و لكن مره بقتالهمفكتب إليه‏أما بعد فسر إلى القوم الذين ذكرت- فإن دخلوا فيما دخل فيه المسلمون و إلا فناجزهم و السلام قال فلما أتى هذا الكتاب قيسا فقرأه- لم يتمالك أن كتب إلى علي- أما بعد يا أمير المؤمنين- تأمرني بقتال قوم كافين عنك- و لم يمدوا يدا للفتنة و لا أرصدوا لها- فأطعني يا أمير المؤمنين و كف عنهم- فإن الرأي تركهم و السلام- . فلما أتاه هذا الكتاب قال عبد الله بن جعفر- يا أمير المؤمنين ابعث محمد بن أبي بكر إلى مصر- يكفك أمرها و اعزل قيسا- فو الله لبلغني أن قيسا يقول- إن سلطانا لا يتم إلا بقتل مسلمة بن مخلد لسلطان سوء- و الله ما أحب أن لي سلطان الشام مع سلطان مصر و أنني قتلت ابن مخلد- و كان عبد الله بن جعفر أخا محمد بن أبي بكر لأمه- و كان يحب أن يكون له إمرة و سلطان- فاستعمل علي ع محمد بن أبي بكر على مصر لمحبة له و لهوى عبد الله بن جعفر أخيه فيه- و كتب معه كتابا إلى أهل مصر فسار حتى قدمها- فقال له قيس ما بال أمير المؤمنين ما غيره- أ دخل أحد بيني و بينه- قال لا و هذا السلطان سلطانك- و كان بينهما نسب- كان تحت قيس قريبة بنت أبي قحافة- أخت أبي بكر الصديق- فكان قيس زوج عمته- فقال قيس لا و الله لا أقيم معك ساعة واحدة- و غضب حين عزله علي عنها- و خرج منها مقبلا إلى المدينة و لم يمض إلى علي بالكوفة- .

قال إبراهيم- و كان قيس مع شجاعته و نجدته جوادا مفضالا- فحدثني علي بن محمد بن أبي سيف عن هاشم- عن عروة عن أبيه قال- لما خرج قيس بن سعد من مصر- فمر بأهل بيت من بلقين فنزل بمائهم- فنحر له صاحب المنزل جزورا و أتاه بها- فلما كان الغد نحر له أخرى- ثم حبستهم السماء اليوم الثالث فنحر لهم ثالثة- ثم إن السماء أقلعت-فلما أراد قيس أن يرتحل- وضع عشرين ثوبا من ثياب مصر- و أربعة آلاف درهم عند امرأة الرجل- و قال لها إذا جاء صاحبك فادفعي هذه إليه ثم رحل- فما أتت عليه إلا ساعة- حتى لحقه الرجل صاحب المنزل على فرس و معه رمح- و الثياب و الدراهم بين يديه- فقال يا هؤلاء خذوا ثيابكم و دراهمكم- فقال قيس انصرف أيها الرجل فإنا لم نكن لنأخذها- قال و الله لتأخذنها- فقال قيس لله أبوك- أ لم تكرمنا و تحسن ضيافتنا فكافأناك- فليس بهذا بأس- فقال الرجل إنا لا نأخذ لقرى الأضياف ثمنا- و الله لا آخذها أبدا- فقال قيس أما إذ أبى ألا يأخذها فخذوها- فو الله ما فضلني رجل من العرب غيره- .

قال إبراهيم و قال أبو المنذر- مر قيس في طريقه برجل من بلي- يقال له الأسود بن فلان فأكرمه فلما أراد قيس أن يرتحل وضع عند امرأته ثيابا و دراهم- فلما جاء الرجل دفعته إليه- فلحقه فقال ما أنا بائع ضيافتي- و الله لتأخذن هذا أو لأنفذن الرمح بين جنبيك- فقال قيس ويحكم خذوه- . قال إبراهيم ثم أقبل قيس حتى قدم المدينة- فجاءه حسان بن ثابت شامتا به و كان عثمانيا- فقال له نزعك علي بن أبي طالب و قد قتلت عثمان- فبقي عليك الإثم و لم يحسن لك الشكر- فزجره قيس و قال يا أعمى القلب يا أعمى البصر- و الله لو لا ألقي بين رهطي و رهطك حربا لضربت عنقك- ثم أخرجه من عنده- . قال إبراهيم- ثم إن قيسا و سهل بن حنيف خرجا حتى قدما على علي الكوفة- فخبره قيس الخبر و ما كان بمصر فصدقه- و شهد مع علي صفين هو و سهل بن حنيف- قال إبراهيم و كان قيس طوالا أطول الناس و أمدهم قامة- و كان سناطا أصلع شيخا شجاعا- مجربا مناصحا لعلي و لولده- و لم يزل على ذلك إلى أن مات- .

قال إبراهيم حدثني أبو غسان- قال أخبرني علي بن أبي سيف قال- كان قيس بن سعد مع أبي بكر و عمر في سفر- في حياة رسول الله ص- فكان ينفق عليهما و على غيرهما و يفضل- فقال له أبو بكر إن هذا لا يقوم به مال أبيك فأمسك يدك- فلما قدموا من سفرهم قال سعد بن عبادة لأبي بكر- أردت أن تبخل ابني إنا لقوم لا نستطيع البخل- . قال و كان قيس بن سعد يقول في دعائه- اللهم ارزقني حمدا و مجدا و شكرا- فإنه لا حمد إلا بفعال و لا مجد إلا بمال- اللهم وسع علي فإن القليل لا يسعني و لا أسعه

ولاية محمد بن أبي بكر على مصر و أخبار مقتله

قال إبراهيم و كان عهد علي إلى محمد بن أبي بكر الذي قرئ بمصر- هذا ما عهد عبد الله علي أمير المؤمنين- إلى محمد بن أبي بكر حين ولاه مصر- أمره بتقوى الله في السر و العلانية- و خوف الله تعالى في المغيب و المشهد- و أمره باللين على المسلم و الغلظ على الفاجر- و بالعدل على أهل الذمة و بالإنصاف للمظلوم- و بالشدة على الظالم- و بالعفو عن الناس و بالإحسان ما استطاع- و الله يجزي المحسنين- و أمره أن يدعو من قبله إلى الطاعة و الجماعة- فإن لهم في ذلك من العاقبة و عظم المثوبة- ما لا يقدر قدره و لا يعرف كنهه- و أمره أن يجبي خراج الأرض على ما كانت تجبى عليه من قبل- و لا ينتقص و لا يبتدع- ثم يقسمه بين أهله كما كانوا يقسمونه عليه من قبل- و إن تكن لهم حاجة يواس بينهم في مجلسه و وجهه- ليكون القريب و البعيد عنده على سواء- و أمره أن يحكم بين الناس بالحق و أن يقوم بالقسط- و لا يتبع الهوى و لا يخاف في الله لومة لائم- فإن الله مع من اتقاه و آثر طاعته على من سواه و كتبه عبد الله بن أبي رافع مولى رسول الله- لغرة شهر رمضان سنة ست و ثلاثين- . قال إبراهيم ثم قام محمد بن أبي بكر خطيبا- فحمد الله و أثنى عليه و قال أما بعد- فالحمد لله الذي هدانا و إياكم لما اختلف فيه من الحق- و بصرنا و إياكم كثيرا مما عمي عند الجاهلون- ألا و إن أمير المؤمنين ولاني أموركم- و عهد إلي بما سمعتم و أوصاني بكثير منه مشافهة- و لن آلوكم خيرا ما استطعت- و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه أنيب- فإن يكن ما ترون آثاري و أعمالي طاعة لله و تقوى- فاحمدوا الله على ما كان من ذلك- فإنه هو الهادي إليه- فإن رأيتم من ذلك عملا بغير الحق- فارفعوه إلي و عاتبوني عليه- فإني بذلك أسعد و أنتم بذلك جديرون- وفقنا الله و إياكم لصالح العمل- .

قال إبراهيم و حدثني يحيى بن صالح عن مالك بن خالد الأسدي عن الحسن بن إبراهيم عن عبد الله بن الحسن بن الحسن قال كتب علي ع إلى أهل مصر- لما بعث محمد بن أبي بكر إليهم كتابا يخاطبهم به- و يخاطب محمدا أيضا فيه أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله في سر أمركم و علانيته- و على أي حال كنتم عليها- و ليعلم المرء منكم أن الدنيا دار بلاء و فناء- و الآخرة دار جزاء و بقاء- فمن استطاع أن يؤثر ما يبقى على ما يفنى فليفعل- فإن الآخرة تبقى و الدنيا تفنى- رزقنا الله و إياكم بصرا لما بصرنا و فهما لما فهمنا- حتى لا نقصر عما أمرنا و لا نتعدى إلى ما نهانا- و اعلم يا محمد- إنك و إن كنت محتاجا إلى نصيبك من الدنيا- إلا أنك إلى نصيبك من الآخرة أحوج- فإن عرض لك أمران- أحدهما للآخرة و الآخر للدنيا فابدأ بأمر الآخرة- و لتعظم رغبتك في الخير و لتحسن فيه نيتك- فإن الله عز و جل يعطي العبد على قدر نيته- و إذا أحب الخير و أهله و لم يعمله- كان إن شاء الله كمن عمله- فإن رسول الله ص قال حين رجع من تبوك- إن بالمدينة لأقواما ما سرتم من مسير- و لا هبطتم من واد إلاكانوا معكم ما حبسهم إلا المرض- يقول كانت لهم نية- ثم اعلم يا محمد إني قد وليتك أعظم أجنادي أهل مصر- و وليتك ما وليتك من أمر الناس- فأنت محقوق أن تخاف فيه على نفسك- و تحذر فيه على دينك و لو كان ساعة من نهار- فإن استطعت ألا تسخط ربك لرضا أحد من خلقه فافعل- فإن في الله خلفا من غيره و ليس في شي‏ء خلف منه- فاشتد على الظالم و لن لأهل الخير و قربهم إليك- و اجعلهم بطانتك و إخوانك و السلام

قال إبراهيم حدثني يحيى بن صالح عن مالك بن خالد عن الحسن بن إبراهيم عن عبد الله بن الحسن بن الحسن قال كتب علي إلى محمد بن أبي بكر و أهل مصر أما بعد- فإني أوصيكم بتقوى الله و العمل بما أنتم عنه مسئولون- فأنتم به رهن و إليه صائرون- فإن الله عز و جل يقول كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ- و قال وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ- و قال فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ- فاعلموا عباد الله- أن الله سائلكم عن الصغير من أعمالكم و الكبير- فإن يعذب فنحن الظالمون- و إن يغفر و يرحم فهو أرحم الراحمين- و اعلموا أن أقرب ما يكون العبد إلى الرحمة و المغفرة- حينما يعمل بطاعة الله و مناصحته في التوبة- فعليكم بتقوى الله عز و جل- فإنها تجمع من الخير ما لا يجمع غيرها- و يدرك بها من الخير ما لا يدرك بغيرها- خير الدنيا و خير الآخرة- يقول الله سبحانه وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ- قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ- وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَ لَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ- و اعلموا عباد الله- أن المؤمنين المتقين قد ذهبوا بعاجل الخير و آجله- شركوا أهل الدنيا في دنياهم-و لم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم- يقول الله عز و جل- قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ- وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ- قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا- خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ- سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت- و أكلوها بأفضل ما أكلت- شاركوا أهل الدنيا في دنياهم- فأكلوا من أفضل ما يأكلون- و شربوا من أفضل ما يشربون- و يلبسون من أفضل ما یلبسون- و يسكنون من أفضل ما يسكنون- أصابوا لذة أهل الدنيا مع أهل الدنيا- مع أنهم غدا من جيران الله عز و جل يتمنون عليه- لا يرد لهم دعوة و لا ينقص لهم لذة- أما في هذا ما يشتاق إليه من كان له عقل-

و اعلموا عباد الله أنكم إذا اتقيتم ربكم- و حفظتم نبيكم في أهل بيته فقد عبدتموه بأفضل ما عبد- و ذكرتموه بأفضل ما ذكر و شكرتموه بأفضل ما شكر- و أخذتم بأفضل الصبر و جاهدتم بأفضل الجهاد- و إن كان غيركم أطول صلاة منكم و أكثر صياما- إذا كنتم أتقى لله- و أنصح لأولياء الله من آل محمد ص و أخشع- و احذروا عباد الله الموت و نزوله و خذوله- فإنه يدخل بأمر عظيم خير لا يكون معه شر أبدا- أو شر لا يكون معه خير أبدا- و ليس أحد من الناس يفارق روحه جسده- حتى يعلم إلى أي المنزلتين يصير- إلى الجنة أم إلى النار أ عدو هو لله أم ولي له- فإن كان وليا فتحت له أبواب الجنة و شرع له طريقها- و نظر إلى ما أعد الله عز و جل لأوليائه فيها- فرغ من كل شغل و وضع عنه كل ثقل- و إن كان عدوا فتحت له أبواب النار و سهل له طريقها- و نظر إلى ما أعد الله فيها لأهلها- و استقبل كل مكروه و فارق كل سرور- قال الله تعالى الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ- فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ- بَلى‏ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ- فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها- فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ-

و اعلموا عباد الله أن الموت ليس منه فوت- فاحذروه و أعدوا له عدته فإنكمطرداء للموت- إن قمتم أخذكم و إن هربتم أدرككم- و هو ألزم لكم من ظلكم معقود بنواصيكم- و الدنيا تطوى من خلفكم- فأكثروا ذكر الموت عند ما- تنازعكم إليه أنفسكم من الشهوات- فإنه كفى بالموت واعظا- قال رسول الله ص- أكثروا ذكر الموت فإنه هادم اللذات- و اعلموا عباد الله أن ما بعد الموت أشد من الموت- لمن لم يغفر الله له و يرحمه- و احذروا القبر و ضمته و ضيقه و ظلمته- فإنه الذي يتكلم كل يوم أنا بيت التراب- و أنا بيت الغربة و أنا بيت الدود- و القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار- إن المسلم إذا مات قالت له الأرض مرحبا و أهلا- قد كنت ممن أحب أن تمشي على ظهري- فإذ وليتك فستعلم كيف صنعي بك فيتسع له مد بصره- و إذا دفن الكافر قالت له الأرض لا مرحبا و لا أهلا- قد كنت ممن أبغض أن تمشي على ظهري- فإذ وليتك فستعلم كيف صنعي بك- فتنضم عليه حتى تلتقي أضلاعه-

و اعلموا أن المعيشة الضنك التي- قال سبحانه فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً هي عذاب القبر- فإنه يسلط على الكافر في قبره حيات عظام- تنهش لحمه حتى يبعث- لو أن تنينا منها نفخ الأرض ما أنبت الزرع أبدا- اعلموا عباد الله- أن أنفسكم و أجسادكم الرقيقة الناعمة- التي يكفيها اليسير من العقاب ضعيفة عن هذا- فإن استطعتم أن ترحموا أنفسكم و أجسادكم- مما لا طاقة لكم به و لا صبر لكم عليه- فتعملوا بما أحب الله سبحانه- و تتركوا ما كره فافعلوا- و لا حول و لا قوة إلا بالله-

و اعلموا عباد الله أن ما بعد القبر أشد من القبر- يوم يشيب فيه الصغير و يسكر فيه الكبير- و تذهل كل مرضعة عما أرضعت- و احذروا يوما عبوسا قمطريرا كان شره مستطيرا- أما إن شر ذلك اليوم و فزعه استطار- حتى فزعت منه الملائكة الذين ليست لهم ذنوب- و السبع الشداد و الجبال الأوتاد و الأرضون المهاد- و انشقت السماء فهي يومئذ واهية- و تغيرت فكانت وردة كالدهان- و كانت الجبال سرابا بعد ما كانت صما صلابا- يقول الله سبحانه وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ- فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ- فكيف بمن يعصيه بالسمع و البصر و اللسان و اليد- و الفرج و البطن إن لم يغفر الله و يرحم- و اعلموا عباد الله أن ما بعد ذلك اليوم أشد و أدهى- نار قعرها بعيد و حرها شديد و عذابها جديد- و مقامعها حديد و شرابها صديد- لا يفتر عذابها و لا يموت ساكنها- دار ليست لله سبحانه فيها رحمة- و لا يسمع فيها دعوة- و مع هذا رحمة الله التي وسعت كل شي‏ء- لا تعجز عن العباد- و جنة عرضها كعرض السماء و الأرض- خير لا يكون بعده شر أبدا- و شهوة لا تنفد أبدا و لذة لا تفنى أبدا- و مجمع لا يتفرق أبدا قوم قد جاوروا الرحمن- و قام بين أيديهم الغلمان- بصحاف من ذهب فيها الفاكهة و الريحان- و إن أهل الجنة يزورون الجبار سبحانه في كل جمعة- فيكون أقربهم منه على منابر من نور- و الذين يلونهم على منابر من ياقوت- و الذين يلونهم على منابر من مسك- فبينا هم كذلك ينظرون الله جل جلاله- و ينظر الله في وجوههم إذ أقبلت سحابة تغشاهم- فتمطر عليهم من النعمة و اللذة و السرور و البهجة- ما لا يعلمه إلا الله سبحانه- و مع هذا ما هو أفضل منه رضوان الله الأكبر- أما إنا لو لم نخوف إلا ببعض ما خوفنا به- لكنا محقوقين أن يشتد خوفنا مما لا طاقةلنا به- و لا صبر لقوتنا عليه- و أن يشتد شوقنا إلى ما لا غنى لنا عنه و لا بد لنا منه- فإن استطعتم عباد الله أن يشتد خوفكم من ربكم فافعلوا-

فإن العبد إنما تكون طاعته على قدر خوفه- و إن أحسن الناس لله طاعة أشدهم له خوفا- و انظر يا محمد صلاتك كيف تصليها- فإنما أنت إمام ينبغي لك أن تتمها و أن تخففها- و أن تصليها لوقتها- فإنه ليس من إمام يصلى بقوم- فيكون في صلاته و صلاتهم نقص إلا كان إثم ذلك عليه- و لا ينقص من صلاتهم شيئا- و اعلم أن كل شي‏ء من عملك يتبع صلاتك- فمن ضيع الصلاة فهو لغيرها أشد تضييعا- و وضوءك من تمام الصلاة فأت به على وجهه- فالوضوء نصف الإيمان- أسأل الله الذي يرى و لا يرى و هو بالمنظر الأعلى- أن يجعلنا و إياك من المتقين الذين- لا خوف عليهم و لا هم يحزنون- فإن استطعتم يا أهل مصر أن تصدق أقوالكم أفعالكم- و أن يتوافق سركم و علانيتكم- و لا تخالف ألسنتكم قلوبكم فافعلوا- عصمنا الله و إياكم بالهدى- و سلك بنا و بكم المحجة الوسطى- و إياكم و دعوة الكذاب ابن هند- و تأملوا و اعلموا أنه لا سوى إمام الهدى و إمام الردى- و وصي النبي و عدو النبي- جعلنا الله و إياكم ممن يحب و يرضى- و لقد سمعت رسول الله ص يقول- إني لا أخاف على أمتي مؤمنا و لا مشركا- أما المؤمن فيمنعه الله بإيمانه- و أما المشرك فيخزيه الله بشركه- و لكني- أخاف عليهم كل منافق اللسان- يقول ما تعرفون و يفعل ما تنكرون-

و اعلم يا محمد- أن أفضل الفقه الورع في دين الله و العمل بطاعته- فعليك بالتقوى في سر أمرك و علانيته- أوصيك بسبع هن جوامع الإسلام- اخش الله و لا تخش الناس في الله- و خير القول ما صدقه العمل- و لا تقض في أمر واحد بقضاءين مختلفين- فيتناقض‏ أمرك و تزيغ عن الحق- و أحب لعامة رعيتك ما تحبه لنفسك- و اكره لهم ما تكره لنفسك و أصلح أحوال رعيتك- و خض الغمرات إلى الحق و لا تخف لومة لائم- و انصح لمن استشارك- و اجعل نفسك أسوة لقريب المسلمين و بعيدهم- جعل الله خلتنا و ودنا خلة المتقين و ود المخلصين- و جمع بيننا و بينكم في دار الرضوان إخوانا- على سرر متقابلين إن شاء الله- .

قال إبراهيم بن سعد الثقفي- فحدثني عبد الله بن محمد بن عثمان- عن علي بن محمد بن أبي سيف عن أصحابه- أن عليا لما كتب إلى محمد بن أبي بكر هذا الكتاب- كان ينظر فيه و يتأدب بأدبه- فلما ظهر عليه عمرو بن العاص و قتله- أخذ كتبه أجمع فبعث بها إلى معاوية- فكان معاوية ينظر في هذا الكتاب و يتعجب منه- فقال الوليد بن عقبة و هو عند معاوية و قد رأى إعجابه به- مر بهذه الأحاديث أن تحرق- فقال معاوية مه لا رأي لك- فقال الوليد أ فمن الرأي أن يعلم الناس- أن أحاديث أبي تراب عندك تتعلم منها- قال معاوية ويحك- أ تأمرني أن أحرق علما مثل هذا- و الله ما سمعت بعلم هو أجمع منه و لا أحكم فقال الوليد- إن كنت تعجب من علمه و قضائه فعلام تقاتله- فقال لو لا أن أبا تراب قتل عثمان ثم أفتانا لأخذنا عنه- ثم سكت هنيهة ثم نظر إلى جلسائه- فقال إنا لا نقول إن هذه من كتب علي بن أبي طالب- و لكن نقول هذه من كتب أبي بكر الصديق- كانت عند ابنه محمد فنحن ننظر فيها و نأخذ منها- . قال فلم تزل تلك الكتب في خزائن بني أمية- حتى ولي عمر بن عبد العزيز- فهو الذي أظهر أنها من أحاديث علي بن أبي طالب ع- . قلت الأليق أن يكون الكتاب الذي كان معاوية- ينظر فيه و يعجب منه-و يفتي به و يقضي بقضاياه و أحكامه- هو عهد علي ع إلى الأشتر فإنه نسيج وحده- و منه تعلم الناس الآداب- و القضايا و الأحكام و السياسة- و هذا العهد صار إلى معاوية لما سم الأشتر- و مات قبل وصوله إلى مصر- فكان ينظر فيه و يعجب منه- و حقيق من مثله أن يقتنى في خزائن الملوك- .

قال إبراهيم فلما بلغ عليا ع- أن ذلك الكتاب صار إلى معاوية- اشتد عليه حزنا- .و حدثني بكر بن بكار عن قيس بن الربيع عن ميسرة بن حبيب عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة قال صلى بنا علي ع- فلما انصرف قال

لقد عثرت عثرة لا أعتذر
سوف أكيس بعدها و أستمر
و أجمع الأمر الشتيت المنتشر

فقلنا ما بالك يا أمير المؤمنين- فقال إني استعملت محمد بن أبي بكر على مصر- فكتب إلى أنه لا علم لي بالسنة- فكتبت إليه كتابا فيه أدب و سنة فقتل و أخذ الكتاب قال إبراهيم فحدثني عبد الله محمد- عن ابن أبي سيف المدائني قال- فلم يلبث محمد بن أبي بكر شهرا كاملا- حتى بعث إلى أولئك المعتزلين- الذين كان قيس بن سعد موادعا لهم- فقال يا هؤلاء- أما أن تدخلوا في طاعتنا و أما أن تخرجوا من بلادنا- فبعثوا إليه أنا لا نفعل- فدعنا حتى ننظر إلى ما يصير إليه أمر الناس- فلا تعجل علينا فأبى عليهم- فامتنعوا منه و أخذوا حذرهم- ثم كانت وقعة صفين و هم لمحمد هائبون- فلما أتاهم خبر معاوية و أهل الشام- ثم صار الأمر إلى الحكومة- و أن عليا و أهل العراق قد قفلوا- عن معاوية و الشام إلى عراقهم- اجترءوا على محمد بن أبي بكر و أظهروا المنابذة له- فلما رأى محمد ذلك بعث إليهم ابن جمهان البلوي- و معه يزيد بن الحارث الكناني فقاتلاهم‏ فقتلوهما- ثم بعث إليهم رجلا من كلب فقتلوه أيضا- و خرج معاوية بن حديج من السكاسك- يدعو إلى الطلب بدم عثمان- فأجابه القوم و ناس كثير آخرون- و فسدت مصر على محمد بن أبي بكر- فبلغ عليا توثبهم عليه- فقال ما أرى لمصر إلا أحد الرجلين- صاحبنا الذي عزلنا بالأمس- يعني قيس بن سعد بن عبادة- أو مالك بن الحارث الأشتر- و كان علي حين رجع عن صفين رد الأشتر إلى عمله بالجزيرة- و قال لقيس بن سعد- أقم أنت معي على شرطتي حتى نفرغ من أمر هذه الحكومة- ثم اخرج إلى آذربيجان فكان قيس مقيما على شرطته- فلما أن انقضى أمر الحكومة كتب علي إلى الأشتر- و هو يومئذ بنصيبين أما بعد فإنك ممن أستظهر به على إقامة الدين- و أقمع به نخوة الأثيم و أسد به الثغر المخوف- و قد كنت وليت محمد بن أبي بكر مصر- فخرجت عليه خوارج و هو غلام حدث السن- ليس بذي تجربة للحروب- فاقدم علي لننظر فيما ينبغي- و استخلف على عملك أهل الثقة و النصيحة من أصحابك- و السلام- .

فأقبل الأشتر إلى علي- و استخلف على عمله شبيب بن عامر الأزدي- و هو جد الكرماني الذي كان بخراسان صاحب نصر بن سيار- فلما دخل الأشتر على علي حدثه حديث مصر- و خبره خبر أهلها- و قال له ليس لها غيرك- فاخرج إليها رحمك الله- فإني لا أوصيك اكتفاء برأيك- و استعن بالله على ما أهمك و اخلط الشدة باللين- و ارفق ما كان الرفق أبلغ- و اعتزم على الشدة حين لا يغني عنك إلا الشدة- . فخرج الأشتر من عنده فأتي برحله- و أتت معاوية عيونه فأخبروه بولاية الأشتر مصر- فعظم ذلك عليه و قد كان طمع في مصر- فعلم أن الأشتر إن قدم عليها- كان أشد عليه من محمد بن أبي بكر- فبعث إلى رجل من أهل الخراج يثق به- و قال له إن الأشتر قد ولي مصر- فإن كفيتنيه لم آخذ منك خراجا ما بقيت و بقيت- فاحتل في هلاكه ما قدرت عليه- .

فخرج الأشتر حتى انتهى إلى القلزم- حيث تركب السفن من مصر إلى الحجاز فأقام به- فقال له ذلك الرجل و كان ذلك المكان مكانه- أيها الأمير هذا منزل فيه طعام و علف- و أنا رجل من أهل الخراج فأقم و استرح- و أتاه بالطعام حتى إذ طعم سقاه شربة عسل- قد جعل فيها سما فلما شربها مات- .

قال إبراهيم و قد كان أمير المؤمنين كتب على يد الأشتر- كتابا إلى أهل مصر- روى ذلك الشعبي عن صعصعة بن صوحان- من عبد الله علي أمير المؤمنين- إلى من بمصر من المسلمين سلام الله عليكم- فإني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو- أما بعد فإني قد بعثت إليكم عبدا من عباد الله- لا ينام أيام الخوف- و لا ينكل عن الأعداء حذار الدوائر- لا نأكل من قدم و لا واه في عزم- من أشد عباد الله بأسا و أكرمهم حسبا- أضر على الفجار من حريق النار- و أبعد الناس من دنس أو عار- و هو مالك بن الحارث الأشتر- حسام صارم لا نابي الضريبة- و لا كليل الحد حليم في السلم رزين في الحرب- ذو رأي أصيل و صبر جميل- فاسمعوا له و أطيعوا أمره- فإن أمركم بالنفر فانفروا- و إن أمركم أن تقيموا فأقيموا- فإنه لا يقدم و لا يحجم إلا بأمري- و قد آثرتكم به على نفسي نصيحة لكم- و شدة شكيمه على عدوكم- عصمكم الله بالهدى و ثبتكم بالتقوى- و وفقنا و إياكم لما يحب و يرضى- و السلام عليكم و رحمة الله- .

قال إبراهيم و روى جابر عن الشعبي قال- هلك الأشتر حين أتى عقبة أفيق- . قال إبراهيم و حدثنا وطبة بن العلاء بن المنهال الغنوي- عن أبيه عن عاصم‏ بن كليب عن أبيه- أن عليا لما بعث الأشتر إلى مصر واليا عليها- و بلغ معاوية خبره- بعث رسولا يتبع الأشتر إلى مصر و أمره باغتياله- فحمل معه مزودين فيهما شراب و صحب الأشتر- فاستسقى الأشتر يوما فسقاه من أحدهما- ثم استسقى يوما آخر منه- فسقاه من الآخر و فيه سم فشربه- فمالت عنقه و طلب الرجل ففاتهم- . قال إبراهيم و حدثنا محرز بن هشام- عن جرير بن عبد الحميد عن مغيرة الضبي- أن معاوية دس للأشتر مولى لآل عمر- فلم يزل المولى يذكر للأشتر فضل علي و بني هاشم- حتى اطمأن إليه و استأنس به- فقدم الأشتر يوما ثقله أو تقدم ثقله فاستسقى ماء- فقال له مولى آل عمر و هل لك في شربة سويق- فسقاه شربة سويق فيها سم فمات- . و قد كان معاوية قال لأهل الشام لما دس إليه مولى آل عمر- ادعوا على الأشتر فدعوا عليه- فلما بلغه موته قال أ لا ترون كيف استجيب لكم- .

قال إبراهيم قد روي من بعض الوجوه- أن الأشتر قتل بمصر بعد قتال شديد- . و الصحيح أنه سقى سما فمات قبل أن يبلغ مصر- . قال إبراهيم و حدثنا محمد بن عبد الله بن عثمان- عن علي بن محمد بن أبي سيف المدائني- أن معاوية أقبل يقول لأهل الشام أيها الناس- إن عليا قد وجه الأشتر إلى مصر- فادعوا الله أن يكفيكموه- فكانوا يدعون عليه في دبر كل صلاة- و أقبل الذي سقاه السم إلى معاوية فأخبره بهلاك الأشتر- فقام معاوية في الناس خطيبا فقال- أما بعد فإنه كان لعلي بن أبي طالب يدان يمينان- فقطعت إحداهما يوم صفين و هو عمار بن ياسر- و قد قطعت الأخرى اليوم و هو مالك الأشتر- .

قال إبراهيم فلما بلغ عليا موت الأشتر- قال إنا لله و إنا إليه راجعون- و الحمد لله رب العالمين- اللهم إني أحتسبه عندك فإن موته من مصائب الدهر- ثم قال رحم الله مالكا فلقد وفى بعهده- و قضى نحبه و لقي ربه- مع أنا قد وطنا أنفسنا أن نصبر على كل مصيبة- بعد مصابنا برسول الله ص فإنها من أعظم المصيبات- . قال إبراهيم و حدثنا محمد بن هشام المرادي- عن جرير بن عبد الحميد عن مغيرة الضبي قال- لم يزل أمر علي شديدا حتى مات الأشتر- و كان الأشتر بالكوفة أسود من الأحنف بالبصرة- .

قال إبراهيم و حدثنا محمد بن عبد الله عن ابن أبي سيف المدائني عن جماعة من أشياخ النخع قالوا دخلنا على أمير المؤمنين حين بلغه موت الأشتر- فوجدناه يتلهف و يتأسف عليه ثم قال- لله در مالك و ما مالك- لو كان من جبل لكان فندا- و لو كان من حجر لكان صلدا- أما و الله ليهدن موتك عالما و ليفرحن عالما- على مثل مالك فلتبك البواكي- و هل مرجو كمالك و هل موجود كمالك- .

قال علقمة بن قيس النخعي فما زال علي يتلهف و يتأسف- حتى ظننا أنه المصاب به دوننا- و عرف ذلك في وجهه أياما- .قال إبراهيم و حدثنا محمد بن عبد الله عن المدائني قال حدثنا مولى للأشتر قال لما هلك الأشتر أصيب في ثقله رسالة علي إلى أهل مصر- من عبد الله أمير المؤمنين إلى النفر من المسلمين- الذين غضبوا لله إذ عصي في الأرض- و ضرب الجور برواقه على البر و الفاجر- فلا حق يستراح إليه و لا منكر يتناهى عنه- سلام عليكم فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو-

أما بعد- فقد وجهت إليكم عبدا من عباد الله لا ينام في الخوف- و لا ينكل من الأعداء حذار الدوائر- أشد على الكافرين من حريق النار- و هو مالك بن الحارث الأشتر أخو مذحج- فاسمعوا له و أطيعوا فإنه سيف من سيوف الله- لا نابي الضريبة و لا كليل الحد- فإن أمركم أن تقيموا فأقيموا- و إن أمركم أن تنفروا فانفروا- و إن أمركم أن تحجموا فأحجموا- فإنه لا يقدم و لا يحجم إلا بأمري و قد آثرتكم به على نفسي- لنصيحته و شدة شكيمته على عدوه- عصمكم الله بالحق و ثبتكم بالتقوى- و السلام عليكم و رحمة الله و بركاتهقال إبراهيم و حدثنا محمد بن عبد الله عن المدائني عن رجاله أن محمد بن أبي بكر لما بلغه- أن عليا قد وجه الأشتر إلى مصر شق عليه- فكتب ع إليه عند مهلك الأشتر- أما بعد فقد بلغني موجدتك من تسريح الأشتر إلى عملك- و لم أفعل ذلك استبطاء لك عن الجهاد- و لا استزادة لك مني في الجد- و لو نزعت ما حوت يداك من سلطانك- لوليتك ما هو أيسر مئونة عليك و أعجب ولاية إليك- ألا إن الرجل الذي وليته مصر كان رجلا لنا مناصحا- و هو على عدونا شديد فرحمة الله عليه- فقد استكمل أيامه و لاقى حمامه و نحن عنه راضون- فرضي الله عنه و ضاعف له الثواب و أحسن له المآب- فاصحر لعدوك و شمر للحرب- و ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة- و أكثر ذكر الله و الاستعانة به و الخوف منه- يكفك ما همك و يعنك على ما ولاك- أعاننا الله و إياك على ما لا ينال إلا برحمته و السلام- .

قال فكتب محمد بن أبي بكر إليه جوابه-إلى عبد الله أمير المؤمنين من محمد بن أبي بكر- . سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو- أما بعد فقد انتهى إلي كتاب أمير المؤمنين- و فهمته و عرفت ما فيه- و ليس أحد من الناس أشد على عدو أمير المؤمنين- و لا أرأف و أرق لوليه مني- و قد خرجت فعسكرت و أمنت الناس- إلا من نصب لنا حربا و أظهر لنا خلافا- و أنا أتبع أمر أمير المؤمنين- و حافظ و لاجئ إليه و قائم به- و الله المستعان على كل حال- و السلام على أمير المؤمنين و رحمة الله و بركاته- .

قال إبراهيم فحدث محمد بن عبد الله بن عثمان- عن ابن سيف المدائني عن أبي جهضم الأزدي- أن أهل الشام لما انصرفوا عن صفين- كانوا ينتظرون ما يأتي به الحكمان- فلما انصرفا و تفرقا و بايع أهل الشام معاوية بالخلافة- لم يزدد معاوية إلا قوة- و اختلف أهل العراق على علي بن أبي طالب- فلم يكن هم معاوية إلا مصر- و قد كان لأهلها هائبا لقربهم منه- و شدتهم على من كان على رأي عثمان- و قد كان علم أن بها قوما قد ساءهم قتل عثمان- و خالفوا عليا- مع أنه كان يرجو أن يكون له فيها معاونة- إذا ظهر عليها على حرب علي لوفور خراجها- فدعا معاوية من كان معه من قريش- و هم عمرو بن العاص السهمي- و حبيب بن مسلمة الفهري- و بسر بن أبي أرطاة العامري و الضحاك بن قيس الفهري- و عبد الرحمن بن خالد بن الوليد المخزومي- و دعا من غير قريش نحو شرحبيل بن السمط الحميري- و أبي الأعور السلمي و حمزة بن مالك الهمداني فقال- أ تدرون لما ذا دعوتكم قالوا لا-

قال فإني دعوتكم لأمر هو لي مهم- و أرجو أن يكون الله عز و جل قد أعان عليه- فقال له القوم أو من قال له منهم- إن الله لم يطلع على غيبه أحدا و لسنا ندري ما تريد- فقال عمرو بن العاص- أرى و الله أن أمر هذه البلاد المصرية- لكثرة خراجها و عدد أهلها قد أهمك-فدعوتنا تسألنا عن رأينا في ذلك- فإن كنت لذلك دعوتنا و له جمعتنا فاعزم و اصرم- و نعم الرأي ما رأيت- إن في افتتاحها عزك و عز أصحابك- و ذل عدوك و كبت أهل الخلاف عليك- . قال معاوية أهمك ما أهمك يا ابن العاص- و ذلك أن عمرا كان بايع معاوية على قتال علي- و أن مصر له طعمه ما بقي- فأقبل معاوية على أصحابه و قال- إن هذا يعني ابن العاص قد ظن و حقق ظنه- قالوا و لكنا لا ندري و لعل أبا عبد الله قد أصاب- فقال عمرو و أنا أبو عبد الله- إن أفضل الظنون ما شابه اليقين- .

ثم إن معاوية حمد الله و أثنى عليه ثم قال أما بعد- فقد رأيتم كيف صنع الله لكم في حربكم هذه على عدوكم- و لقد جاءوكم و هم لا يشكون- أنهم يستأصلون بيضتكم و يجوزون بلادكم- ما كانوا يرون إلا أنكم في أيديهم- فردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا- و كفى الله المؤمنين القتال و كفاكم مئونتهم- . و حاكمتموهم إلى الله فحكم لكم عليهم- ثم جمع كلمتنا و أصلح ذات بيننا- و جعلهم أعداء متفرقين- يشهد بعضهم على بعض بالكفر- و يسفك بعضهم دم بعض- و الله إني لأرجو أن يتم الله لنا هذا الأمر- و قد رأيت أن أحاول حرب مصر فما ذا ترون- . فقال عمرو بن العاص قد أخبرتك عما سألت- و أشرت عليك بما سمعت- . فقال معاوية ما ترون فقالوا نرى ما رأى عمرو بن العاص- فقال معاوية إن عمرا قد عزم و صرم بما قال- و لم يفسر كيف ينبغي أن نصنع- .

قال عمرو فإني مشير عليك بما تصنع- أرى أن تبعث جيشا كثيفا- عليهم رجل صارم تأمنه و تثق به فيأتي مصر فيدخلها- فإنه سيأتينا من كان على مثل رأينا من أهلها- فنظاهره على من كان من عدونا- فإن اجتمع بها جندك و من كان بها من شيعتك- على من بها من أهل حربك- رجوت الله أن يعز نصرك و يظهر فلجك- .

فقال معاوية هل عندك شي‏ء غير هذا- نعمله فيما بيننا و بينهم قبل هذا قال ما أعلمه- . قال معاوية فإن رأيي غير هذا- أرى أن نكاتب من كان بها من شيعتنا- و من كان بها من عدونا- فأما شيعتنا فنأمرهم بالثبات على أمرهم- و نمنيهم قدومنا عليهم- و أما من كان بها من عدونا فندعوهم إلى صلحنا- و نمنيهم شكرنا و نخوفهم حربنا- فإن صلح لنا ما قبلهم من غير حرب و لا قتال- فذلك ما أحببنا و إلا فحربهم من وراء ذلك- . إنك يا ابن العاص لامرؤ بورك لك في العجلة- و بورك لي في التؤدة- .

قال عمرو فاعمل بما أراك الله- فو الله ما أرى أمرك و أمرهم يصير إلا إلى الحرب- . قال فكتب معاوية عند ذلك إلى مسلمة بن مخلد الأنصاري- و إلى معاوية بن حديج الكندي و كانا قد خالفا عليا- أما بعد فإن الله عز و جل قد ابتعثكما لأمر عظيم- أعظم به أجركما و رفع درجتكما و مرتبتكما في المسلمين- طلبتما بدم الخليفة المظلوم و غضبتما لله- إذ ترك حكم الكتاب و جاهدتما أهل الظلم و العدوان- فأبشرا برضوان الله و عاجلا نصرة أولياء الله- و المواساة لكما في دار الدنيا و سلطاننا- حتى ينتهي ذلك إلى ما يرضيكما و يؤدى به حقكما- فالزما أمركما و جاهدا عدوكما- و ادعوا المدبرين منكما إلى هداكما- فكان الجيش قد أظل عليكما- فاندفع كل ما تكرهان و دام كل ما تهويان- و السلام عليكما و رحمة الله- .

و بعث بالكتاب مع مولى له يقال له سبيع- فخرج بكتابه حتى قدم به عليهما بمصر-و محمد بن أبي بكر يومئذ أميرها- قد ناصبه هؤلاء النفر الحرب و هم هائبون الإقدام عليه- فدفع الكتاب إلى مسلمة بن مخلد- فقرأه فقال الق به معاوية بن حديج- ثم القني به حتى أجيب عني و عنه- فانطلق الرسول بكتاب معاوية فأقرأه إياه- ثم قال له إن مسلمة قد أمرني أن أرد الكتاب إليه- لكي يجيب عنك و عنه قال قل له فليفعل- فأتى مسلمة بالكتاب- فكتب الجواب عنه و عن معاوية بن حديج أما بعد- فإن هذا الأمر الذي قد ندبنا له أنفسنا- و ابتغيا الله به على عدونا- أمر نرجو به ثواب ربنا و النصر على من خالفنا- و تعجيل النقمة على من سعى على إمامنا- و طأطأ الركض في مهادنا- و نحن بهذه الأرض قد نفينا من كان بها من أهل البغي- و أنهضنا من كان بها من أهل القسط و العدل- و قد ذكرت موازرتك في سلطانك و ذات يدك- و بالله إنه لا من أجل مال نهضنا و لا إياه أردنا- فإن يجمع الله لنا ما نريد و نطلب أو يرينا ما تمنينا- فإن الدنيا و الآخرة لله رب العالمين- و قد يثوبهما الله جميعا عالما من خلقه- كما قال في كتابه- فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَ حُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ- وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ- عجل لنا بخيلك و رجلك- فإن عدونا قد كان علينا جريئا و كنا فيهم قليلا- و قد أصبحوا لنا هائبين و أصبحنا لهم منابذين- فإن يأتنا مدد من قبلك يفتح الله عليك- و لا قوة إلا بالله و هو حسبنا و نعم الوكيل- .

قال فجاء هذا الكتاب معاوية و هو يومئذ بفلسطين- فدعا النفر الذين سميناهم من قريش و غيرهم- و أقرأهم الكتاب و قال لهم ما ذا ترون- قالوا نرى أن تبعث إليهم جيشا من قبلك- فأنت مفتتحها إن شاء الله بإذن الله- . قال معاوية- فتجهز إليها يا أبا عبد الله يعني عمرو بن العاص- فبعثه في ستة آلاف‏ فخرج يسير و خرج معه معاوية يودعه- فقال له معاوية عند وداعه إياه- أوصيك بتقوى الله يا عمرو و بالرفق فإنه يمن- و بالتؤدة فإن العجلة من الشيطان و بأن تقبل من أقبل- و تعفو عمن أدبر أنظره فإن تاب و أناب قبلت منه- و إن أبى فإن السطوة بعد المعرفة أبلغ في الحجة- و أحسن في العاقبة و ادع الناس إلى الصلح و الجماعة- فإن أنت ظفرت فليكن أنصارك أبر الناس عندك- و كل الناس فأول حسنا- .

قال فسار عمرو في الجيش حتى دنا من مصر- فاجتمعت إليه العثمانية- فأقام و كتب إلى محمد بن أبي بكر- أما بعد فتنح عني بدمك يا ابن أبي بكر- فإني لا أحب أن يصيبك مني ظفر- و إن الناس بهذه البلاد قد اجتمعوا على خلافك- و رفض أمرك و ندموا على اتباعك- و هم مسلموك لو قد التقت حلقتا البطان- فاخرج منها فإني لك من الناصحين و السلام- . قال و بعث عمرو إلى محمد مع هذا الكتاب- كتاب معاوية إليه و هو- أما بعد فإن غب الظلم و البغي عظيم الوبال- و إن سفك الدم الحرام لا يسلم صاحبه- من النقمة في الدنيا و التبعة الموبقة في الآخرة- و ما نعلم أحدا كان أعظم على عثمان بغيا- و لا أسوأ له عيبا- و لا أشد عليه خلافا منك- سعيت عليه في الساعين و ساعدت عليه مع المساعدين- و سفكت دمه مع السافكين ثم تظن أني نائم عنك- فتأتي بلده فتأمن فيها و جل أهلها أنصاري- يرون رأيي و يرفضون قولك و يستصرخونني عليك-

و قد بعثت إليك قوما حناقا عليك يسفكون دمك- و يتقربون إلى الله عز و جل بجهادك- و قد أعطوا الله عهدا ليقتلنك- و لو لم يكن منهم إليك ما قالوا- لقتلك الله بأيديهم أو بأيدي غيرهم من أوليائه- و أنا أحذرك و أنذرك فإن الله مقيد منك- و مقتص لوليه و خليفته بظلمك له- و بغيك عليه‏ و وقيعتك فيه- و عداوتك يوم الدار عليه- تطعن بمشاقصك فيما بين أحشائه و أوداجه- و مع هذا فإني أكره قتلك و لا أحب أن أتولى ذلك منك- و لن يسلمك الله من النقمة أين كنت أبدا- فتنح و انج بنفسك و السلام- . قال فطوى محمد بن أبي بكر كتابيهما- و بعث بهما إلى علي ع و كتب إليه- أما بعد يا أمير المؤمنين- فإن العاصي ابن العاص قد نزل أداني مصر- و اجتمع إليه من أهل البلد من كان يرى رأيهم- و هو في جيش جرار- و قد رأيت ممن قبلي بعض الفشل- فإن كان لك في أرض مصر حاجة- فامددني بالأموال و الرجال- و السلام عليك و رحمة الله و بركاته- .

قال فكتب إليه علي أما بعد فقد أتاني رسولك بكتابك- تذكر أن ابن العاص قد نزل في جيش جرار- و أن من كان على مثل رأيه قد خرج إليه- و خروج من كان يرى رأيه خير لك من إقامته عندك- و ذكرت أنك قد رأيت ممن قبلك فشلا- فلا تفشل و إن فشلوا- حصن قريتك و اضمم إليك شيعتك- و أذك الحرس في عسكرك- و اندب إلى القوم كنانة بن بشر- المعروف بالنصيحة و التجربة و البأس- و أنا نادب إليك الناس على الصعب و الذلول- فاصبر لعدوك و امض على بصيرتك- و قاتلهم على نيتك و جاهدهم محتسبا لله سبحانه- و إن كانت فئتك أقل الفئتين- فإن الله تعالى يعين القليل و يخذل الكثير- و قد قرأت كتابي الفاجرين المتحابين على المعصية- و المتلائمين على الضلالة و المرتشيين على الحكومة- و المتكبرين على أهل الدين- الذين استمتعوا بخلاقهم- كما استمتع الذين من‏قبلهم بخلاقهم- فلا يضرنك إرعادهما و إبراقهما- و أجبهما إن كنت لم تجبهما بما هما أهله- فإنك تجد مقالا ما شئت و السلام-

قال فكتب محمد بن أبي بكر إلى معاوية جواب كتابه- أما بعد فقد أتاني كتابك- تذكر من أمر عثمان أمرا لا أعتذر إليك منه- و تأمرني بالتنحي عنك كأنك لي ناصح- و تخوفني بالحرب كأنك علي شفيق- و أنا أرجو أن تكون الدائرة عليكم- و أن يهلككم الله في الوقعة- و أن ينزل بكم الذل و أن تولوا الدبر- فإن يكن لكم الأمر في الدنيا فكم- و كم لعمري من ظالم قد نصرتم- و كم من مؤمن قد قتلتم و مثلتم به- و إلى الله المصير و إليه ترد الأمور- و هو أرحم الراحمين و الله المستعان على ما تصفون- .

قال و كتب محمد بن أبي بكر- إلى عمرو بن العاص جواب كتابه- أما بعد فهمت كتابك و علمت ما ذكرت- زعمت أنك تكره أن يصيبني منك ظفر- فأشهد بالله إنك لمن المبطلين- و زعمت أنك ناصح لي و أقسم أنك عندي ظنين- و قد زعمت أن أهل البلد قد رفضوني و ندموا على اتباعي- فأولئك حزبك و حزب الشيطان الرجيم- و حسبنا الله رب العالمين و نعم الوكيل- و توكلت على الله العزيز الرحيم رب العرش العظيم- . قال إبراهيم فحدثنا محمد بن عبد الله عن المدائني قال- فأقبل عمرو بن العاص يقصد قصد مصر- فقام محمد بن أبي بكر في الناس- فحمد الله و أثنى عليه ثم قال- أما بعد يا معشر المؤمنين- فإن القوم الذين كانوا ينتهكون الحرمة- و يغشون الضلالة و يستطيلون بالجبرية- قد نصبوا لكم العداوة- و ساروا إليكم بالجنود- فمن أراد الجنة و المغفرة فليخرج إلى هؤلاء القوم- فليجاهدهم في الله- انتدبوا رحمكم الله مع كنانة بن بشر- ثم ندب معه نحو ألفي رجل و تخلف محمد في ألفين- و استقبل عمرو بن العاص كنانة و هو على مقدمة محمد- فلما دنا عمرو من كنانة سرح إليه الكتائب- كتيبة بعد كتيبة فلم تأته من كتائب الشام كتيبة- إلا شد عليها بمن معه فيضربها حتى يلحقها بعمرو- ففعل ذلك مرارا- فلما رأى عمرو ذلك بعث إلى معاوية بن حديج الكندي- فأتاه في مثل الدهم- فلما رأى كنانة ذلك الجيش نزل عن فرسه- و نزل معه أصحابه فضاربهم بسيفه- و هو يقول- وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا- . فلم يزل يضاربهم بالسيف حتى استشهد رحمه الله- .

قال إبراهيم حدثنا محمد بن عبد الله عن المدائني- عن محمد بن يوسف أن عمرو بن العاص لما قتل كنانة- أقبل نحو محمد بن أبي بكر- و قد تفرق عنه أصحابه فخرج محمد متمهلا- فمضى في طريقه حتى انتهى إلى خربة فآوى إليها- و جاء عمرو بن العاص حتى دخل الفسطاط- و خرج معاوية بن حديج في طلب محمد- حتى انتهى إلى علوج على قارعة الطريق فسألهم- هل مر بهم أحد ينكرونه قالوا لا- قال أحدهم إني دخلت تلك الخربة فإذا أنا برجل جالس- قال ابن حديج هو هو و رب الكعبة فانطلقوا يركضون- حتى دخلوا على محمد فاستخرجوه و قد كاد يموت عطشا- فأقبلوا به نحو الفسطاط- . قال و وثب أخوه- عبد الرحمن بن أبي بكر إلى عمرو بن العاص و كان في جنده- فقال لا و الله لا يقتل أخي صبرا- ابعث إلى معاوية بن حديج فانهه- فأرسل عمرو بن العاص أن ائتني بمحمد فقال معاوية- أ قتلتم كنانة بن بشر ابن عمي و أخلي عن محمد- .

هيهات أَ كُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ- فقال محمد اسقوني قطرة من الماء- فقال له معاوية بن حديج- لا سقاني الله إن سقيتك قطرة أبدا- إنكم منعتم عثمان أن يشرب الماء- حتى قتلتموه صائما محرما- فسقاه الله من الرحيق المختوم- و الله لأقتلنك يا ابن أبي بكر و أنت ظمآن- و يسقيك الله من الحميم و الغسلين- فقال له محمد يا ابن اليهودية النساجة- ليس ذلك اليوم إليك و لا إلى عثمان- إنما ذلك إلى الله يسقي أولياءه و يظمئ أعداءه- و هم أنت و قرناؤك و من تولاك و توليته- و الله لو كان سيفي في يدي ما بلغتم مني ما بلغتم- فقال له معاوية بن حديج أ تدري ما أصنع بك- أدخلك جوف هذا الحمار الميت- ثم أحرقه عليك بالنار قال- إن فعلتم ذاك بي فطالما فعلتم ذاك بأولياء الله- و ايم الله إني لأرجو أن يجعل الله هذه النار التي- تخوفني بها بردا و سلاما- كما جعلها الله على إبراهيم خليله- و أن يجعلها عليك و على أوليائك- كما جعلها على نمرود و أوليائه- و إني لأرجو أن يحرقك الله و إمامك معاوية و هذا- و أشار إلى عمرو بن العاص بنار تلظى- كلما خبت زادها الله عليكم سعيرا-

فقال له معاوية بن حديج إني لا أقتلك ظلما- إنما أقتلك بعثمان بن عفان- قال محمد و ما أنت و عثمان- رجل عمل بالجور و بدل حكم الله و القرآن- و قد قال الله عز و جل وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ- فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ- فنقمنا عليه أشياء عملها- فأردنا أن يخلع من الخلافة علنا فلم يفعل- فقتله من قتله من الناس- .فغضب معاوية بن حديج فقدمه فضرب عنقه- ثم ألقاه في جوف حمار و أحرقه بالنار- . فلما بلغ ذلك عائشة جزعت عليه جزعا شديدا- و قنتت في دبر كل صلاة تدعو على معاوية بن أبي سفيان- و عمرو بن العاص و معاوية بن حديج- و قبضت عيال محمد أخيها و ولده إليها- فكان القاسم بن محمد من عيالها- . قال و كان ابن حديج ملعونا خبيثا يسب علي بن أبي طالب ع- .

قال إبراهيم و حدثني عمرو بن حماد بن طلحة القناد عن علي بن هاشم عن أبيه عن داود بن أبي عوف قال دخل معاوية بن حديج على الحسن بن علي في مسجد المدينة- فقال له الحسن ويلك يا معاوية- أنت الذي تسب أمير المؤمنين عليا ع- أما و الله لئن رأيته يوم القيامة و ما أظنك تراه- لترينه كاشفا عن ساق- يضرب وجوه أمثالك عن الحوض ضرب غرائب الإبل قال إبراهيم و حدثني محمد بن عبد الله بن عثمان- عن المدائني عن عبد الملك بن عمير- عن عبد الله بن شداد قال- حلفت عائشة لا تأكل شواء أبدا بعد قتل محمد- فلم تأكل شواء حتى لحقت بالله- و ما عثرت قط إلا قالت تعس معاوية بن أبي سفيان- و عمرو بن العاص و معاوية بن حديج- .

قال إبراهيم و قد روى هاشم أن أسماء بنت عميس- لما جاءها نعي محمد ابنها و ما صنع به- قامت إلى مسجدها و كظمت غيظها حتى تشخبت دما- . قال إبراهيم و روى ابن عائشة التيمي- عن رجاله عن كثير النواء- أن أبا بكر خرج‏ في حياة رسول الله ص في غزاة- فرأت أسماء بنت عميس و هي تحته- كأن أبا بكر مخضب بالحناء رأسه و لحيته- و عليه ثياب بيض فجاءت إلى عائشة فأخبرتها- فقالت إن صدقت رؤياك فقد قتل أبو بكر- إن خضابه الدم و إن ثيابه أكفانه ثم بكت- فدخل النبي ص و هي كذلك- فقال ما أبكاها فقالوا يا رسول الله ما أبكاها أحد- و لكن أسماء ذكرت رؤيا رأتها لأبي بكر فأخبر النبي صفقال ليس كما عبرت عائشة و لكن يرجع أبو بكر صالحا- فيلقى أسماء فتحمل منه بغلام فتسميه محمدا- يجعله الله غيظا على الكافرين و المنافقين- .

قال فكان كما أخبر ص- . قال إبراهيم حدثنا محمد بن عبد الله عن المدائني قال- فكتب عمرو بن العاص إلى معاوية بن أبي سفيان- عند قتل محمد بن أبي بكر و كنانة بن بشر أما بعد- فإنا لقينا محمد بن أبي بكر- و كنانة بن بشر في جموع من أهل مصر- فدعوناهم إلى الكتاب و السنة فعصوا الحق- فتهولوا في الضلال فجاهدناهم- و استنصرنا الله جل و عز عليهم- فضرب الله وجوههم و أدبارهم و منحنا أكتافهم- فقتل محمد بن أبي بكر و كنانة بن بشر- و الحمد لله رب العالمين- .

قال إبراهيم و حدثني محمد بن عبد الله عن المدائني عن الحارث بن كعب بن عبد الله بن قعين عن حبيب بن عبد الله قال و الله إني لعند علي جالس- إذ جاءه عبد الله بن معين و كعب بن عبد الله- من قبل محمد بن أبي بكر يستصرخانه قبل الوقعة- فقام علي فنادى في الناس الصلاة جامعة- فاجتمع الناس فصعد المنبر- فحمد الله و أثنى‏ عليه- و ذكر رسول الله ص فصلى عليه- ثم قال أما بعد- فهذا صريخ محمد بن أبي بكر و إخوانكم من أهل مصر- قد سار إليهم ابن النابغة عدو الله و عدو من والاه- و ولي من عادى الله- فلا يكونن أهل الضلال إلى باطلهم- و الركون إلى سبيل الطاغوت أشد اجتماعا- على باطلهم و ضلالتهم منكم على حقكم- فكأنكم بهم و قد بدءوكم و إخوانكم بالغزو- فاعجلوا إليهم بالمواساة و النصر عباد الله- إن مصر أعظم من الشام و خير أهلا فلا تغلبوا على مصر- فإن بقاء مصر في أيديكم عز لكم و كبت لعدوكم- اخرجوا إلى الجرعة- قال و الجرعة بين الحيرة و الكوفة- لنتوافى هناك كلنا غدا إن شاء الله- .

قال فلما كان الغد خرج يمشى فنزلها بكرة- فأقام بها حتى انتصف النهار- فلم يوافه مائة رجل فرجع- فلما كان العشي بعث إلى الأشراف فجمعهم- فدخلوا عليه القصر و هو كئيب حزين-فقال الحمد لله على ما قضى من أمر و قدر من فعل- و ابتلاني بكم أيها الفرقة التي لا تطيع إذا أمرتها- و لا تجيب إذا دعوتها لا أبا لغيركم- ما ذا تنتظرون بنصركم و الجهاد على حقكم- الموت خير من الذل في هذه الدنيا لغير الحق- و الله إن جاءني الموت و ليأتيني- لتجدنني لصحبتكم جدا قال- أ لا دين يجمعكم أ لا حمية تغضبكم- أ لا تسمعون بعدوكم ينتقص بلادكم و يشن الغارة عليكم- أ و ليس عجبا أن معاوية يدعو الجفاة الطغام الظلمة- فيتبعونه على غير عطاء و لا معونة- و يجيبونه في السنة المرة و المرتين و الثلاث- إلى أي وجه شاء ثم أنا أدعوكم- و أنتم أولو النهى و بقية الناس- تختلفون و تفترقون عني و تعصونني و تخالفون علي-فقام إليه مالك بن كعب الأرحبي فقال- يا أمير المؤمنين اندب الناس معي- فإنه لا عطر بعد عروس- و إن الأجر لا يأتي إلا بالكرة- ثم التفت إلى الناس- و قال اتقوا الله و أجيبوا دعوة إمامكم و انصروا دعوته- و قاتلوا عدوكم إنا نسير إليهم يا أمير المؤمنين- فأمر علي سعدا مولاه أن ينادي- ألا سيروا مع مالك بن كعب إلى مصر- و كان وجها مكروها فلم يجتمعوا إليه شهرا- فلما اجتمع له منهم ما اجتمع خرج بهم مالك بن كعب فعسكر بظاهر الكوفة و خرج معه علي- فنظر فإذا جميع من خرج نحو من ألفين- فقال علي سيروا و الله ما أنتم- ما إخالكم تدركون القوم حتى ينقضي أمرهم- .

فخرج مالك بهم و سار خمس ليال- و قدم الحجاج بن غزية الأنصاري على علي و قدم عليه عبد الرحمن بن المسيب الفزاري من الشام- فأما الفزاري فكان عينا لعلي ع لا ينام- و أما الأنصاري فكان مع محمد بن أبي بكر- فحدثه الأنصاري بما عاين و شاهد و أخبره بهلاك محمد- و أخبره الفزاري أنه لم يخرج من الشام- حتى قدمت البشرى من قبل عمرو بن العاص- يتبع بعضها بعضا بفتح مصر و قتل محمد بن أبي بكر- و حتى أذن معاوية بقتله على المنبرو قال يا أمير المؤمنين- ما رأيت يوما قط سرورا- مثل سرور رأيته بالشام- حين أتاهم قتل محمد بن أبي بكر- فقال علي أما إن حزننا على قتله على قدر سرورهم به- لا بل يزيد أضعافا- .

قال فسرح علي عبد الرحمن بن شريح إلى مالك بن كعب- فرده من الطريققال و حزن علي على محمد بن أبي بكر حتى رئي ذلك فيه- و تبين في وجهه و قام في الناس خطيبا- فحمد الله و أثنى عليه- ثم قال ألا و إن مصر قد افتتحها الفجرةأولياء الجور و الظلم- الذين صدوا عن سبيل الله و بغوا الإسلام عوجا- ألا و إن محمد بن أبي بكر قد استشهد رحمة الله عليه- و عند الله نحتسبه- أما و الله لقد كان ما علمت- ينتظر القضاء و يعمل للجزاء- و يبغض شكل الفاجر و يحب سمت المؤمن- إني و الله لا ألوم نفسي على تقصير و لا عجز- و إني بمقاساة الحرب لجد بصير- إني لأقدم على الحرب و أعرف وجه الحزم- و أقوم بالرأي المصيب- فأستصرخكم معلنا و أناديكم مستغيثا- فلا تسمعون لي قولا و لا تطيعون إلى أمرا- حتى تصير الأمور إلى عواقب المساءة- و أنتم القوم لا يدرك بكم الثأر- و لا تنقض بكم الأوتار- دعوتكم إلى غياث إخوانكم منذ بضع و خمسين ليلة- فجرجرتم علي جرجرة الجمل الأسر- و تثاقلتم إلى الأرض تثاقل من لا نية له في الجهاد- و لا رأي له في الاكتساب للأجر- ثم خرج إلي منكم جنيد متذائب ضعيف- كأنما يساقون إلى الموت و هم ينظرون فأف لكم- ثم نزل فدخل رحله  قال إبراهيم فحدثنا محمد بن عبد الله عن المدائني قال كتب علي إلى عبد الله بن عباس و هو على البصرة- من عبد الله علي أمير المؤمنين ع- إلى عبد الله بن عباس سلام عليك و رحمة الله و بركاته- أما بعد فإن مصر قد افتتحت- و قد استشهد محمد بن أبي بكر فعند الله عز و جل تحتسبه- و قد كنت كتبت إلى الناس- و تقدمت إليهم في بدء الأمر- و أمرتهم بإغاثته‏قبل الوقعة- و دعوتهم سرا و جهرا و عودا و بدءا- فمنهم الآتي كارها و منهم المتعلل كاذبا- و منهم القاعد خاذلا- أسأل الله أن يجعل لي منهم فرجا- و أن يريحني منهم عاجلا- فو الله لو لا طمعي عند لقاء عدوي في الشهادة- و توطيني نفسي عند ذلك- لأحببت ألا أبقى مع هؤلاء يوما واحدا- عزم الله لنا و لك على تقواه و هداه إنه على كل شي‏ء قدير- و السلام عليك و رحمة الله و بركاته- .

قال فكتب إليه عبد الله بن عباس- لعبد الله علي أمير المؤمنين من عبد الله بن عباس- سلام على أمير المؤمنين و رحمة الله و بركاته- . أما بعد فقد بلغني كتابك- تذكر فيه افتتاح مصر و هلاك محمد بن أبي بكر- و إنك سألت الله ربك أن يجعل لك من رعيتك- التي ابتليت بها فرجا و مخرجا- و أنا أسأل الله أن يعلى كلمتك- و أن يغشيك بالملائكة عاجلا- و اعلم أن الله صانع لك و معز دعوتك و كابت عدوك- و أخبرك يا أمير المؤمنين- أن الناس ربما تباطئوا ثم نشطوا- فارفق بهم يا أمير المؤمنين و دارهم و منهم- و استعن بالله عليهم كفاك الله الهم- و السلام عليك و رحمة الله و بركاته- . قال إبراهيم و روي عن المدائني- أن عبد الله بن عباس قدم من البصرة على علي- فعزاه عن محمد بن أبي بكر- .

و روى المدائني أن عليا قال رحم الله محمدا كان غلاما حدثا- لقد كنت أردت أن أولي المرقال هاشم بن عتبة مصر- فإنه و الله لو وليها- لما خلى لابن العاص و أعوانه العرصة- و لا قتل إلا و سيفه في يده بلا ذم لمحمد- فلقد أجهد نفسه فقضى ما عليه قال المدائني و قيل لعلي ع- لقد جزعت على محمد بن أبي بكر يا أمير المؤمنين- فقال و ما يمنعني أنه كان لي ربيبا- و كان لبني أخا و كنت له والدا أعده ولدا
خطبة للإمام علي بعد مقتل محمد بن أبي بكر

و روى إبراهيم عن رجاله عن عبد الرحمن بن جندب عن أبيه قال خطب علي ع بعد فتح مصر- و قتل محمد بن أبي بكر فقال أما بعد فإن الله بعث محمدا نذيرا للعالمين- و أمينا على التنزيل و شهيدا على هذه الأمة- و أنتم معاشر العرب يومئذ على شر دين و في شر دار- منيخون على حجارة خشن و حيات صم- و شوك مبثوث في البلاد- تشربون الماء الخبيث و تأكلون الطعام الخبيث- تسفكون دماءكم و تقتلون أولادكم و تقطعون أرحامكم- و تأكلون أموالكم بينكم بالباطل- سبلكم خائفة و الأصنام فيكم منصوبة- و لا يؤمن أكثرهم بالله إلا و هم مشركون- .

فمن الله عز و جل عليكم بمحمد- فبعثه إليكم رسولا من أنفسكم- فعلمكم الكتاب و الحكمة و الفرائض و السنن- و أمركم بصلة أرحامكم و حقن دمائكم و صلاح ذات البين- و أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها و أن توفوا بالعهد- و لا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها- و أن تعاطفوا و تباروا و تراحموا- و نهاكم عن التناهب و التظالم- و التحاسد و التباغي و التقاذف- و عن شرب الخمر و بخس المكيال و نقص الميزان- و تقدم إليكم فيما يتلى عليكم- ألا تزنوا و لا تربوا و لا تأكلوا أموال‏ اليتامى ظلما- و أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها- و لا تعثوا في الأرض مفسدين- و لا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين- و كل خير يدني إلى الجنة- و يباعد عن النار أمركم به- و كل شر يدني إلى النار و يباعد عن الجنة نهاكم عنه- فلما استكمل مدته توفاه الله إليه سعيدا حميدا- فيا لها مصيبة خصت الأقربين و عمت المسلمين- ما أصيبوا قبلها بمثلها- و لن يعاينوا بعدها أختها- فلما مضى لسبيله ص تنازع المسلمون الأمر بعده- فو الله ما كان يلقى في روعي و لا يخطر على بالي- أن العرب تعدل هذا الأمر بعد محمد عن أهل بيته- و لا أنهم منحوه عني من بعده- فما راعني إلا انثيال الناس على أبي بكر- و إجفالهم إليه ليبايعوه فأمسكت يدي- و رأيت أني أحق بمقام محمد ص في الناس- ممن تولى الأمر من بعده- فلبثت بذاك ما شاء الله- حتى رأيت راجعة من الناس رجعت عن الإسلام- يدعون إلى محق دين الله و ملة محمد ص- فخشيت إن لم أنصر الإسلام و أهله أن أرى فيه ثلما و هدما- يكون المصاب بهما علي أعظم من فوات ولاية أموركم- التي إنما هي متاع أيام قلائل- ثم يزول ما كان منها كما يزول السراب- و كما يتقشع السحاب- فمشيت عند ذلك إلى أبي بكر فبايعته- و نهضت في تلك الأحداث حتى زاغ الباطل و زهق- و كانت كلمة الله هي العليا و لو كره الكافرون- فتولى أبو بكر تلك الأمور فيسر و سدد- و قارب و اقتصد و صحبته مناصحا- و أطعته فيما أطاع الله فيه جاهدا- و ما طمعت أن لو حدث به حادث و أنا حي- أن يرد إلي الأمر الذي نازعته فيه طمع مستيقن- و لا يئست منه يأس من لا يرجوه- و لو لا خاصة ما كان بينه و بين عمر- لظننت أنه لا يدفعها عني- فلما احتضر بعث إلى عمر فولاه- فسمعنا و أطعنا و ناصحنا-و تولى عمر الأمر فكان مرضي السيرة ميمون النقيبة- حتى إذا احتضر فقلت في نفسي- لن يعدلها عني ليس يدافعها عني- فجعلني سادس ستة- فما كانوا لولاية أحد منهم أشد كراهة لولايتي عليهم- كانوا يسمعون عند وفاة رسول الله ص لجاج أبي بكر- و أقول يا معشر قريش إنا أهل البيت أحق بهذا الأمر منكم- ما كان فينا من يقرأ القرآن- و يعرف السنة و يدين بدين الحق- فخشي القوم إن أنا وليت عليهم- ألا يكون لهم من الأمر نصيب ما بقوا- فأجمعوا إجماعا واحدا- فصرفوا الولاية إلى عثمان- و أخرجوني منها رجاء أن ينالوها- و يتداولوها إذ يئسوا أن ينالوا بها من قبلي- ثم قالوا هلم فبايع و إلا جاهدناك- فبايعت مستكرها و صبرت محتسبا-

فقال قائلهم يا ابن أبي طالب إنك على هذا الأمر لحريص- فقلت أنتم أحرص مني و أبعد أينا أحرص- أنا الذي طلبت ميراثي- و حقي الذي جعلني الله و رسوله أولى به- أم أنتم إذ تضربون وجهي دونه- و تحولون بيني و بينه فبهتوا- و الله لا يهدي القوم الظالمين- اللهم إني أستعديك على قريش- فإنهم قطعوا رحمي- و أضاعوا إياي و صغروا عظيم منزلتي- و أجمعوا على منازعتي حقا كنت أولى به منهم فسلبونيه- ثم قالوا ألا إن في الحق أن تأخذه و في الحق أن تمنعه- فاصبر كمدا أو مت أسفا حنقا- فنظرت فإذا ليس معي رافد و لا ذاب- و لا ناصر و لا ساعد إلا أهل بيتي- فضننت بهم عن المنية و أغضيت على القذى- و تجرعت ريقي على الشجا- و صبرت من كظم الغيظ علي أمر من العلقم- و آلم للقلب من حز الشفار- حتى إذا نقمتم على عثمان أتيتموه فقتلتموه- ثم جئتموني لتبايعوني فأبيت عليكم- و أمسكت يدي فنازعتموني و دافعتموني- و بسطتم يدي فكففتها و مددتموها فقبضتها- و ازدحمتم علي حتى ظننت- أن بعضكم قاتل بعضكم أو أنكم قاتلي-

فقلتم بايعنا لا نجد غيرك و لا نرضى إلا بك- بايعنالا نفترق و لا تختلف كلمتنا- فبايعتكم و دعوت الناس إلى بيعتي- فمن بايع طوعا قبلته- و من أبى لم أكرهه و تركته- فبايعني فيمن بايعني طلحة و الزبير- و لو أبيا ما أكرهتهما كما لم أكره غيرهما- فما لبثا إلا يسيرا حتى بلغني أنهما- خرجا من مكة متوجهين إلى البصرة- في جيش ما منهم رجل إلا قد أعطاني الطاعة- و سمح لي بالبيعة فقدما على عاملي و خزان بيت مالي- و على أهل مصري الذين كلهم على بيعتي و في طاعتي- فشتتوا كلمتهم و أفسدوا جماعتهم- ثم وثبوا على شيعتي من المسلمين- فقتلوا طائفة منهم غدرا و طائفة صبرا- و منهم طائفة غضبوا لله و لي- فشهروا سيوفهم و ضربوا بها- حتى لقوا الله عز و جل صادقين-

فو الله لو لم يصيبوا منهم إلا رجلا واحدا متعمدين لقتله- لحل لي به قتل ذلك الجيش بأسره- فدع ما أنهم قد قتلوا من المسلمين أكثر- من العدة التي دخلوا بها عليهم و قد أدال الله منهم- فبعدا للقوم الظالمين- ثم إني نظرت في أمر أهل الشام- فإذا أعراب أحزاب و أهل طمع جفاة طغاة- يجتمعون من كل أوب- من كان ينبغي أن يؤدب و أن يولى عليه و يؤخذ على يده- ليسوا من الأنصار و لا المهاجرين و لا التابعين بإحسان- فسرت إليهم فدعوتهم إلى الطاعة و الجماعة- فأبوا إلا شقاقا و فراقا- و نهضوا في وجوه المسلمين ينضحونهم بالنبل- و يشجرونهم بالرماح- فهناك نهدت إليهم بالمسلمين فقاتلتهم- فلما عضهم السلاح و وجدوا ألم الجراح- رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها- فأنبأتكم أنهم ليسوا بأهل دين و لا قرآن- و أنهم رفعوها مكيدة و خديعة و وهنا و ضعفا- فامضوا على حقكم و قتالكم- فأبيتم علي و قلتم اقبل منهم- فإن أجابوا إلى ما في الكتاب جامعونا- على ما نحن عليه منالحق- و إن أبوا كان أعظم لحجتنا عليهم- فقبلت منهم و كففت عنهم إذ ونيتم و أبيتم- فكان الصلح بينكم و بينهم على رجلين- يحييان ما أحيا القرآن و يميتان ما أمات القرآن- فاختلف رأيهما و تفرق حكمهما- و نبذا ما في القرآن و خالفا ما في الكتاب- فجنبهما الله السداد و دلاهما في الضلالة- فانحرفت فرقة منا فتركناهم ما تركونا- حتى إذا عثوا في الأرض يقتلون و يفسدون- أتيناهم فقلنا ادفعوا إلينا قتلة إخواننا- ثم كتاب الله بيننا و بينكم قالوا- كلنا قتلهم و كلنا استحل دماءهم- و شدت علينا خيلهم و رجالهم- فصرعهم الله مصارع الظالمين-

فلما كان ذلك من شأنهم- أمرتكم أن تمضوا من فوركم ذلك إلى عدوكم- فقلتم كلت سيوفنا و نفدت نبالنا- و نصلت أسنة رماحنا و عاد أكثرها قصدا- فارجع بنا إلى مصرنا لنستعد بأحسن عدتنا- فإذا رجعت زدت في مقاتلتنا عدة من هلك منا و فارقنا- فإن ذلك أقوى لنا على عدونا فأقبلت بكم- حتى إذا أطللتم على الكوفة أمرتكم- أن تنزلوا بالنخيلة و أن تلزموا معسكركم- و أن تضموا قواصيكم و أن توطنوا على الجهاد أنفسكم- و لا تكثروا زيارة أبنائكم و نسائكم- فإن أهل الحرب المصابروها- و أهل التشمير فيها الذين لا ينقادون من سهر ليلهم- و لا ظمإ نهارهم و لا خمص بطونهم و لا نصب أبدانهم- فنزلت طائفة منكم معي معذرة- و دخلت طائفة منكم المصر عاصية- فلا من بقي منكم صبر و ثبت- و لا من دخل المصر عاد و رجع-

فنظرت إلى معسكري و ليس فيه خمسون رجلا- فلما رأيت ما أتيتم دخلت إليكم- فلم أقدر على أن تخرجوا معي إلى يومنا هذا فما تنتظرون- أ ما ترون أطرافكم قد انتقصت و إلى مصر قد فتحت- و إلى شيعتي بها قد قتلت- و إلى مسالحكم تعرى و إلى بلادكم تغزى- و أنتم ذوو عدد كثيرو شوكة و بأس شديد فما بالكم- لله أنتم من أين تؤتون و ما لكم تؤفكون و أنى تسحرون- و لو أنكم عزمتم و أجمعتم لم تراموا- إلا أن القوم تراجعوا و تناشبوا و تناصحوا- و أنتم قد ونيتم و تغاششتم و افترقتم- ما إن أنتم إن ألممتم عندي على هذا بسعداء- فانتهوا بأجمعكم و أجمعوا على حقكم- و تجردوا لحرب عدوكم و قد أبدت الرغوة عن الصريح- و بين الصبح لذي عينين إنما تقاتلون الطلقاء- و أبناء الطلقاء و أولي الجفاء و من أسلم كرها- و كان لرسول الله ص أنف الإسلام كله حربا- أعداء الله و السنة و القرآن و أهل البدع و الأحداث- و من كان بوائقه تتقى و كان عن الإسلام منحرفا- أكلة الرشا و عبدة الدنيا- لقد أنهي إلي أن ابن النابغة لم يبايع معاوية حتى أعطاه- و شرط له أن يؤتيه ما هي أعظم مما في يده من سلطانه- ألا صفرت يد هذا البائع دينه بالدنيا- و خزيت أمانة هذا المشتري نصرة فاسق- غادر بأموال المسلمين- و إن فيهم من قد شرب فيكم الخمر و جلد الحد- يعرف بالفساد في الدين و الفعل السيئ- و إن فيهم من لم يسلم حتى رضخ له رضيخه- فهؤلاء قادة القوم- و من تركت ذكر مساوئه من قادتهم مثل من ذكرت منهم- بل هو شر- و يود هؤلاء الذين ذكرت لو ولوا عليكم- فأظهروا فيكم الكفر و الفساد و الفجور و التسلط بجبرية- و اتبعوا الهوى و حكموا بغير الحق- و لأنتم على ما كان فيكم من تواكل و تخاذل- خير منهم و أهدى سبيلا- فيكم العلماء و الفقهاء و النجباء و الحكماء- و حملة الكتاب و المتهجدون بالأسحار- و عمار المساجد بتلاوة القرآن- أ فلا تسخطون و تهتمون أن ينازعكم الولاية عليكم سفهاؤكم- و الأشرار الأراذل منكم-

فاسمعوا قولي و أطيعوا أمري- فو الله لئن أطعتموني لا تغوون- و إن عصيتموني لا ترشدون- خذوا للحرب أهبتها و أعدوا لها عدتها- فقد شبت نارها و علا سنانها- و تجرد لكم فيها الفاسقون- كي يعذبوا عباد الله و يطفئوا نور الله- ألا إنه ليس أولياء الشيطان- من أهل الطمع و المكر و الجفاء بأولى في الجد- في غيهم و ضلالتهم من أهل البر- و الزهادة و الإخبات في حقهم و طاعة ربهم- إني و الله لو لقيتهم فردا و هم ملأ الأرض- ما باليت و لا استوحشت- و إني من ضلالتهم التي هم فيها و الهدى الذي نحن عليه- لعلى ثقة و بينة و يقين و بصيرة- و إني إلى لقاء ربي لمشتاق و لحسن ثوابه لمنتظر- و لكن أسفا يعتريني و حزنا يخامرني- أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها و فجارها- فيتخذوا مال الله دولا و عباده خولا و الفاسقين حزبا- و ايم الله لو لا ذلك لما أكثرت تأنيبكم و تحريضكم- و لتركتكم إذ ونيتم و أبيتم حتى ألقاهم بنفسي- متى حم لي لقاؤهم- فو الله إني لعلى الحق و إني للشهادة لمحب- فانفروا خفافا و ثقالا- و جاهدوا بأموالكم و أنفسكم في سبيل الله- ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون- و لا تثاقلوا إلى الأرض فتقروا بالخسف- و تبوءوا بالذل و يكن نصيبكم الخسران- إن أخا الحرب اليقظان و من ضعف أودى- و من ترك الجهاد كان كالمغبون المهين- اللهم اجمعنا و إياهم على الهدى- و زهدنا و إياهم في الدنيا- و اجعل الآخرة خيرا لنا و لهم من الأولى

خبر مقتل محمد بن أبي حذيفة

قال إبراهيم- و حدثني محمد بن عبد الله بن عثمان عن المدائني- أن محمد بن أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس- أصيب لما فتح عمرو بن العاص مصر- فبعث به‏ إلى معاوية بن أبي سفيان و هو يومئذ بفلسطين- فحبسه معاوية في سجن له- فمكث فيه غير كثير ثم هرب و كان ابن خال معاوية- فأرى معاوية الناس أنه كره انفلاته من السجن- و كان يحب أن ينجو- فقال لأهل الشام من يطلبه- فقال رجل من خثعم يقال له عبيد الله بن عمرو بن ظلام- و كان شجاعا و كان عثمانيا أنا أطلبه- فخرج في خيل فلحقه بحوارين- . و قد دخل بغار هناك فجاءت حمر فدخلته- فلما رأت الرجل في الغار فزعت و نفرت- فقال حمارون كانوا قريبا من الغار- إن لهذه الحمر لشأنا- ما نفرها من هذا الغار إلا أمر فذهبوا ينظرون- فإذا هم به فخرجوا به- فوافاهم عبد الله بن عمرو بن ظلام- فسألهم و وصفه لهم فقالوا ها هو هذا فجاء حتى استخرجه- و كره أن يصير به إلى معاوية فيخلي سبيله- فضرب عنقه رحمه الله تعالى

 

شرح‏ نهج‏ البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 6 

خطبه 66 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(يوم السقيفة)

الجزء السادس

تتمة الخطب و الأوامر

بسم الله الرحمن الرحيم- الحمد لله رب العالمين- و الصلاة و السلام على خير خلقه محمد و آله الطاهرين

66 و من كلام له ع في معنى الأنصار

 قَالُوا: لَمَّا انْتَهَتْ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ع أَنْبَاءُ السَّقِيفَةِ- بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ ص- قَالَ ع مَا قَالَتِ الْأَنْصَارُ- قَالُوا قَالَتْ مِنَّا أَمِيرٌ وَ مِنْكُمْ أَمِيرٌ- قَالَ ع فَهَلَّا احْتَجَجْتُمْ عَلَيْهِمْ- بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص وَصَّى بِأَنْ يُحْسَنَ إِلَى مُحْسِنِهِمْ- وَ يُتَجَاوَزَ عَنْ مُسِيئِهِمْ- قَالُوا وَ مَا فِي هَذَا مِنَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ- فَقَالَ ع لَوْ كَانَ الْإِمَامَةُ فِيهِمْ لَمْ تَكُنِ الْوَصِيَّةُ بِهِمْ- ثُمَّ قَالَ ع فَمَا ذَا قَالَتْ قُرَيْشٌ- قَالُوا احْتَجَّتْ بِأَنَّهَا شَجَرَةُ الرَّسُولِ ص- فَقَالَ ع‏احْتَجُّوا بِالشَّجَرَةِ وَ أَضَاعُوا الثَّمَرَةَ قد ذكرنا فيما تقدم طرفا من أخبار السقيفة- فأما هذا الخبر الوارد في الوصية بالأنصار فهو خبر صحيح- أخرجه الشيخان محمد بن إسماعيل البخاري- و مسلم بن الحجاج القشيري في مسنديهما- عن أنس بن مالك قال- مر أبو بكر و العباس رضي الله تعالى عنهما- بمجلس من الأنصار- في مرض رسول الله ص و هم يبكون- فقالا ما يبكيكم قالوا ذكرنا محاسن رسول الله ص- فدخلا على النبي ص و أخبراه بذلك- فخرج ص و قد عصب على رأسه حاشية برده فصعد المنبر- و لم يصعده بعد ذلك اليوم فحمد الله و أثنى عليه-ثم قال أوصيكم بالأنصار فإنهم كرشي و عيبتي- و قد قضوا الذي عليهم و بقي الذي لهم- فاقبلوا من محسنهم و تجاوزوا عن مسيئهم- .

فأما كيفية الاحتجاج على الأنصار فقد ذكرها علي ع- و هي أنه لو كان ص ممن يجعل الإمامة فيهم- لأوصى إليهم و لم يوص بهم- . و إلى هذا نظر عمرو بن سعيد بن العاص- و هو المسمى بالأشدق- فإن أباه لما مات خلفه غلاما- فدخل إلى معاوية فقال إلى من أوصى بك أبوك- فقال إن أبي أوصى إلي و لم يوص بي- فاستحسن معاوية منه ذلك- فقال إن هذا الغلام لأشدق فسمي الأشدق- . فأما قول أمير المؤمنين- احتجوا بالشجرة و أضاعوا الثمرة- فكلام قد تكرر منه‏ع أمثاله-نحو قوله إذا احتج عليهم المهاجرون بالقرب من رسول الله ص- كانت الحجة لنا على المهاجرين بذلك قائمة- فإن فلجت حجتهم كانت لنا دونهم- و إلا فالأنصار على دعوتهم- . و نحو هذا المعنى قول العباس لأبي بكر- و أما قولك نحن شجرة رسول الله ص- فإنكم جيرانها و نحن أغصانها

يوم السقيفة

و نحن نذكر خبر السقيفة- روى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري- في كتاب السقيفة- قال أخبرني أحمد بن إسحاق قال حدثنا أحمد بن سيار- قال حدثنا سعيد بن كثير بن عفير الأنصاري- أن النبي ص لما قبض- اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة- فقالوا إن رسول الله ص قد قبض- فقال سعد بن عبادة لابنه قيس أو لبعض بنيه- إني لا أستطيع أن أسمع الناس كلامي لمرضي- و لكن تلق مني قولي فأسمعهم- فكان سعد يتكلم- و يستمع ابنه و يرفع به صوته ليسمع قومه- فكان من قوله بعد حمد الله و الثناء عليه أن قال- إن لكم سابقة إلى الدين- و فضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب- أن رسول الله ص لبث في قومه بضع عشرة سنة- يدعوهم إلى عبادة الرحمن و خلع الأوثان- فما آمن به من قومه إلا قليل- و الله ما كانوا يقدرون أن يمنعوا رسول الله-و لا يعزوا دينه و لا يدفعوا عنه عداه- حتى أراد الله بكم خير الفضيلة- و ساق إليكم الكرامة و خصكم بدينه- و رزقكم الإيمان به و برسوله- و الإعزاز لدينه و الجهاد لأعدائه- فكنتم أشد الناس على من تخلف عنه منكم- و أثقله على عدوه من غيركم- حتى استقاموا لأمر الله طوعا و كرها- و أعطى البعيد المقادة صاغرا داخرا- حتى أنجز الله لنبيكم الوعد و دانت لأسيافكم العرب- ثم توفاه الله تعالى و هو عنكم راض و بكم قرير عين- فشدوا يديكم بهذا الأمر- فإنكم أحق الناس و أولاهم به- . فأجابوا جميعا أن وفقت في الرأي و أصبت في القول- و لن نعدو ما أمرت نوليك هذا الأمر- فأنت لنا مقنع و لصالح المؤمنين رضا- .

ثم إنهم ترادوا الكلام بينهم- فقالوا إن أبت مهاجرة قريش- فقالوا نحن المهاجرون- و أصحاب رسول الله ص الأولون- و نحن عشيرته و أولياؤه- فعلام تنازعوننا هذا الأمر من بعده- فقالت طائفة منهم إذا نقول منا أمير و منكم أمير- لن نرضى بدون هذا منهم أبدا- لنا في الإيواء و النصرة ما لهم في الهجرة- و لنا في كتاب الله ما لهم- فليسوا يعدون شيئا إلا و نعد مثله- و ليس من رأينا الاستئثار عليهم- فمنا أمير و منهم أمير- . فقال سعد بن عبادة هذا أول الوهن- . و أتى الخبر عمر فأتى منزل رسول الله ص- فوجد أبا بكر في الدار و عليا في جهاز رسول الله ص- و كان الذي أتاه بالخبر معن بن عدي فأخذ بيد عمر و قال قم- فقال عمر إني عنك مشغول- فقال إنه لا بد من قيام فقام معه- فقال له إن هذا الحي من الأنصار- قد اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة- معهم سعد بن عبادة يدورون حوله- و يقولون أنت المرجى و نجلك المرجى- و ثم أناس من‏أشرافهم و قد خشيت الفتنة- فانظر يا عمر ما ذا ترى- و اذكر لإخوتك من المهاجرين و اختاروا لأنفسكم- فإني انظر إلى باب فتنة- قد فتح الساعة إلا أن يغلقه الله- ففزع عمر أشد الفزع- حتى أتى أبا بكر فأخذ بيده فقال قم- فقال أبو بكر إني عنك مشغول- فقال عمر لا بد من قيام و سنرجع إن شاء الله- . فقام أبو بكر مع عمر فحدثه الحديث- ففزع أبو بكر أشد الفزع- و خرجا مسرعين إلى سقيفة بني ساعدة- و فيها رجال من أشراف الأنصار- و معهم سعد بن عبادة و هو مريض بين أظهرهم- فأراد عمر أن يتكلم و يمهد لأبي بكر- و قال خشيت أن يقصر أبو بكر عن بعض الكلام- فلما نبس عمر كفه أبو بكر و قال على رسلك- فتلق الكلام ثم تكلم بعد كلامي بما بدا لك- فتشهد أبو بكر ثم قال- .

إن الله جل ثناؤه بعث محمدا بالهدى و دين الحق- فدعا إلى الإسلام- فأخذ الله بقلوبنا و نواصينا إلى ما دعانا إليه- و كنا معاشر المسلمين المهاجرين أول الناس إسلاما- و الناس لنا في ذلك تبع- و نحن عشيرة رسول الله ص و أوسط العرب أنسابا- ليس من قبائل العرب إلا و لقريش فيها ولادة- و أنتم أنصار الله و أنتم نصرتم رسول الله ص- ثم أنتم وزراء رسول الله ص- و إخواننا في كتاب الله و شركاؤنا في الدين- و فيما كنا فيه من خير- فأنتم أحب الناس إلينا و أكرمهم علينا- و أحق الناس بالرضا بقضاء الله- و التسليم لما ساق الله إلى إخوانكم من المهاجرين- و أحق الناس ألا تحسدوهم- فأنتم المؤثرون على أنفسهم حين الخصاصة و أحق الناس- ألا يكون انتفاض هذا الدين و اختلاطه على أيديكم- و أنا أدعوكم إلى أبي عبيدة و عمر- فكلاهما قد رضيت لهذا الأمر و كلاهما أراه له أهلا- .

فقال عمر و أبو عبيدة- ما ينبغي لأحد من الناس أن يكون فوقك- أنت صاحب الغار ثاني اثنين- و أمرك رسول الله بالصلاة- فأنت أحق الناس بهذا الأمر- . فقال الأنصار و الله ما نحسدكم على خير ساقه الله إليكم- و لا أحد أحب إلينا و لا أرضى عندنا منكم- و لكنا نشفق فيما بعد هذا اليوم- و نحذر أن يغلب على هذا الأمر من ليس منا و لا منكم- فلو جعلتم اليوم رجلا منكم بايعنا و رضينا- على أنه إذا هلك اخترنا واحدا من الأنصار- فإذا هلك كان آخر من المهاجرين أبدا ما بقيت هذه الأمة- كان ذلك أجدر أن نعدل في أمة محمد ص- فيشفق الأنصاري أن يزيغ فيقبض عليه القرشي- و يشفق القرشي أن يزيغ فيقبض عليه الأنصاري- .

فقام أبو بكر فقال إن رسول الله ص لما بعث- عظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم فخالفوه و شاقوه- و خص الله المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه- و الإيمان به و المواساة له و الصبر معه على شدة أذى قومه- و لم يستوحشوا لكثرة عدوهم- فهم أول من عبد الله في الأرض- و هم أول من آمن برسول الله و هم أولياؤه و عترته- و أحق الناس بالأمر بعده لا ينازعهم فيه إلا ظالم- و ليس أحد بعد المهاجرين فضلا و قدما في الإسلام مثلكم- فنحن الأمراء و أنتم الوزراء- لا نمتاز دونكم بمشورة و لا نقضي دونكم الأمور- . فقام الحباب بن المنذر بن الجموح- فقال يا معشر الأنصار املكوا عليكم أيديكم- إنما الناس في فيئكم و ظلكم- و لن يجترئ مجترئ على خلافكم- و لا يصدر الناس إلا عن أمركم- أنتم أهل الإيواء و النصرة و إليكم كانت الهجرة- و أنتم أصحاب الدار و الإيمان- و الله ما عبد الله علانية إلا عندكم و في بلادكم-و لا جمعت الصلاة إلا في مساجدكم- و لا عرف الإيمان إلا من أسيافكم- فاملكوا عليكم أمركم- فإن أبى هؤلاء فمنا أمير و منهم أمير- . فقال عمر هيهات لا يجتمع سيفان في غمد- إن العرب لا ترضى أن تؤمركم و نبيها من غيركم- و ليس تمتنع العرب- أن تولى أمرها من كانت النبوة فيهم- و أولو الأمر منهم- لنا بذلك الحجة الظاهرة على من خالفنا- و السلطان المبين على من نازعنا- من ذا يخاصمنا في سلطان محمد و ميراثه- و نحن أولياؤه و عشيرته- إلا مدل بباطل أو متجانف لإثم أو متورط في هلكة- .

فقام الحباب و قال يا معشر الأنصار- لا تسمعوا مقالة هذا و أصحابه- فيذهبوا بنصيبكم من الأمر- فإن أبوا عليكم ما أعطيتموهم فاجلوهم عن بلادكم- و تولوا هذا الأمر عليهم- فأنتم أولى الناس بهذا الأمر- إنه دان لهذا الأمر بأسيافكم من لم يكن يدين له- أنا جذيلها المحكك و عذيقها المرجب- إن شئتم لنعيدنها جذعة- و الله لا يرد أحد علي ما أقول إلا حطمت أنفه بالسيف- .

قال فلما رأى بشير بن سعد الخزرجي- ما اجتمعت عليه الأنصار من تأمير سعد بن عبادة- و كان حاسدا له و كان من سادة الخزرج قام فقال- أيها الأنصار إنا و إن كنا ذوي سابقة- فإنا لم نرد بجهادنا و إسلامنا إلا رضا ربنا و طاعة نبينا- و لا ينبغي لنا أن نستطيل بذلك على الناس- و لا نبتغي به عوضامن الدنيا- إن محمدا ص رجل من قريش- و قومه أحق بميراث أمره- و ايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر- فاتقوا الله و لا تنازعوهم و لا تخالفوهم- . فقام أبو بكر و قال هذا عمر و أبو عبيدة- بايعوا أيهما شئتم فقالا و الله لا نتولى هذا الأمر عليك- و أنت أفضل المهاجرين و ثاني اثنين- و خليفة رسول الله ص على الصلاة و الصلاة أفضل الدين- ابسط يدك نبايعك- . فلما بسط يده و ذهبا يبايعانه- سبقهما بشير بن سعد فبايعه- فناداه الحباب بن المنذر يا بشير عقك عقاق- و الله ما اضطرك إلى هذا الأمر إلا الحسد لابن عمك- . و لما رأت الأوس أن رئيسا من رؤساء الخزرج قد بايع- قام أسيد بن حضير و هو رئيس الأوس- فبايع حسدا لسعد أيضا و منافسة له أن يلي الأمر- فبايعت الأوس كلها لما بايع أسيد- و حمل سعد بن عبادة و هو مريض فأدخل إلى منزله- فامتنع من البيعة في ذلك اليوم و فيما بعده- و أراد عمر أن يكرهه عليها فأشير عليه ألا يفعل- و أنه لا يبايع حتى يقتل و أنه لا يقتل حتى يقتل أهله- و لا يقتل أهله حتى يقتل الخزرج- و إن حوربت الخزرج كانت الأوس معها- .

و فسد الأمر فتركوه فكان لا يصلي بصلاتهم- و لا يجمع بجماعتهم و لا يقضي بقضائهم- و لو وجد أعوانا لضاربهم- فلم يزل كذلك حتى مات أبو بكر- ثم لقي عمر في خلافته و هو على فرس و عمر على بعير- فقال له عمر هيهات يا سعد- فقال سعد هيهات يا عمر- فقال أنت صاحب من أنت صاحبه قال نعم أنا ذاك- ثم قال لعمر- و الله ما جاورني أحد هو أبغض إلي جوارا منك- قال عمر فإنه من كره جوار رجل انتقل عنه- فقال سعد إني لأرجو أن أخليها لك عاجلا- إلى جوار من هو أحب إلي‏ جوارا منك و من أصحابك- فلم يلبث سعد بعد ذلك إلا قليلا حتى خرج إلى الشام- فمات بحوران و لم يبايع لأحد- لا لأبي بكر و لا لعمر و لا لغيرهما- . قال و كثر الناس على أبي بكر- فبايعه معظم المسلمين في ذلك اليوم- و اجتمعت بنو هاشم إلى بيت علي بن أبي طالب- و معهم الزبير و كان يعد نفسه رجلا من بني هاشم- كان علي يقول ما زال الزبير منا أهل البيت- حتى نشأ بنوه فصرفوه عنا- .

و اجتمعت بنو أمية إلى عثمان بن عفان- و اجتمعت بنو زهرة إلى سعد و عبد الرحمن- فأقبل عمر إليهم و أبو عبيدة- فقال ما لي أراكم ملتاثين- قوموا فبايعوا أبا بكر- فقد بايع له الناس و بايعه الأنصار- فقام عثمان و من معه و قام سعد و عبد الرحمن و من معهما- فبايعوا أبا بكر- . و ذهب عمر و معه عصابة إلى بيت فاطمة- منهم أسيد بن حضير و سلمة بن أسلم- فقال لهم انطلقوا فبايعوا فأبوا عليه- و خرج إليهم الزبير بسيفه- فقال عمر عليكم الكلب فوثب عليه سلمة بن أسلم- فأخذ السيف من يده فضرب به الجدار- ثم انطلقوا به و بعلي و معها بنو هاشم-و علي يقول أنا عبد الله و أخو رسول الله ص- حتى انتهوا به إلى أبي بكر- فقيل له بايع- فقال أنا أحق بهذا الأمر منكم- لا أبايعكم و أنتم أولى بالبيعة لي- أخذتم هذا الأمر من الأنصار- و احتججتم عليهم بالقرابة من رسول الله- فأعطوكم المقادة و سلموا إليكم الإمارة- و أنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار- فأنصفونا إن كنتم تخافون الله من أنفسكم- و اعرفوا لنا من الأمر مثل ما عرفت الأنصار لكم- و إلا فبوءوا بالظلم و أنتم تعلمون- .

فقال عمر إنك لست متروكا حتى تبايع- فقال له علي احلب يا عمر حلبا لك شطره- اشدد له اليوم أمره ليرد عليك غدا- ألا و الله لا أقبل قولك و لا أبايعه- فقال له أبو بكرفإن لم تبايعني لم أكرهك- فقال له أبو عبيدة يا أبا الحسن إنك حديث السن- و هؤلاء مشيخة قريش قومك- ليس لك مثل تجربتهم و معرفتهم بالأمور- و لا أرى أبا بكر إلا أقوى على هذا الأمر منك- و أشد احتمالا له و اضطلاعا به- فسلم له هذا الأمر و ارض به- فإنك إن تعش و يطل عمرك- فأنت لهذا الأمر خليق و به حقيق- في فضلك و قرابتك و سابقتك و جهادك- .

فقال علي يا معشر المهاجرين الله الله- لا تخرجوا سلطان محمد عن داره- و بيته إلى بيوتكم و دوركم- و لا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس و حقه- فو الله يا معشر المهاجرين- لنحن أهل البيت أحق بهذا الأمر منكم- أ ما كان منا القارئ لكتاب الله- الفقيه في دين الله العالم بالسنة- المضطلع بأمر الرعية- و الله إنه لفينا فلا تتبعوا الهوى- فتزدادوا من الحق بعدا- .

فقال بشير بن سعد- لو كان هذا الكلام سمعته منك الأنصار يا علي- قبل بيعتهم لأبي بكر ما اختلف عليك اثنان- و لكنهم قد بايعوا- و انصرف علي إلى منزله و لم يبايع- و لزم بيته حتى ماتت فاطمة فبايع- . قلت هذا الحديث يدل- على بطلان ما يدعى من النص على أمير المؤمنين و غيره- لأنه لو كان هناك نص صريح لاحتج به و لم يجر للنص ذكر- و إنما كان الاحتجاج منه و من أبي بكر- و من الأنصار بالسوابق و الفضائل و القرب- فلو كان هناك نص على أمير المؤمنين أو على أبي بكر- لاحتج به أبو بكر أيضا على الأنصار- و لاحتج به أمير المؤمنين على أبي بكر- فإن هذا الخبر و غيره من الأخبار المستفيضة- يدل على أنه قد كان كاشفهم- و هتك القناع بينه و بينهم- أ لا تراه كيف نسبهم إلى التعدي عليه و ظلمه- و تمنع من طاعتهم-و أسمعهم من الكلام أشده و أغلظه- فلو كان هناك نص لذكره- أو ذكره بعض من كان من شيعته و حزبه لأنه لا عطر بعد عروس- .

و هذا أيضا يدل على أن الخبر المروي في أبي بكر- في صحيحي البخاري و مسلم غير صحيح-و هو ما روي من قوله ع لعائشة في مرضه ادعي لي أباك حتى أكتب لأبي بكر كتابا- فإني أخاف أن يقول قائل أو يتمنى متمن- و يأبى الله و المؤمنون إلا أبا بكر- و هذا هو نص مذهب المعتزلة- .

و قال أحمد بن عبد العزيز الجوهري أيضا حدثنا أحمد و قال حدثنا ابن عفير قال حدثنا أبو عوف عبد الله بن عبد الرحمن عن أبي جعفر محمد بن علي رضي الله عنهما أن عليا حمل فاطمة على حمار- و سار بها ليلا إلى بيوت الأنصار يسألهم النصرة- و تسألهم فاطمة الانتصار له- فكانوا يقولون يا بنت رسول الله- قد مضت بيعتنا لهذا الرجل- لو كان ابن عمك سبق إلينا أبا بكر ما عدلنا به- فقال علي أ كنت أترك رسول الله ميتا في بيته لا أجهزه- و أخرج إلى الناس أنازعهم في سلطانه- و قالت فاطمة ما صنع أبو حسن إلا ما كان ينبغي له- و صنعوا هم ما الله حسبهم عليه و قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز و حدثنا أحمد قال حدثني سعيد بن كثير قال حدثني ابن لهيعة أن رسول الله ص لما مات و أبو ذر غائب- و قدم و قد ولي أبو بكر- فقال أصبتم قناعه و تركتم قرابه- لو جعلتم هذا الأمر في أهل بيت نبيكم- لما اختلف عليكم اثنانقال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد عمر بن شبة قال حدثنا أبو قبيصة محمد بن حرب قال لما توفي النبي ص- و جرى في السقيفة ما جرى تمثل علي

و أصبح أقوام يقولون ما اشتهوا
و يطغون لما غال زيدا غوائله‏

قصيدة أبي القاسم المغربي و تعصبه للأنصار على قريشو حدثني أبو جعفر يحيى بن محمد- بن زيد العلوي نقيب البصرة قال- لما قدم أبو القاسم علي بن الحسين المغربي- من مصر إلى بغداد- استكتبه شرف الدولة أبو علي بن بويه- و هو يومئذ سلطان الحضرة- و أمير الأمراء بها و القادر خليفة- ففسدت الحال بينه و بين القادر- و اتفق لأبي القاسم المغربي أعداء سوء- أوحشوا القادر منه- و أوهموه أنه مع شرف الدولة في القبض عليه- و خلعه من الخلافة- فأطلق لسانه في ذكره بالقبيح- و أوصل القول فيه و الشكوى منه- و نسبه إلى الرفض و سب السلف و إلى كفران النعمة- و أنه هرب من يد الحاكم صاحب مصر بعد إحسانه إليه- . قال النقيب أبو جعفر رحمه الله تعالى فأما الرفض فنعم- و أما إحسان الحاكم إليه فلا كان الحاكم- قتل أباه و عمه و أخا من إخوته- و أفلت منه أبو القاسم بخديعة الدين- و لو ظفر به لألحقه بهم- .

قال أبو جعفر و كان أبو القاسم المغربي ينسب في الأزد- و يتعصب لقحطان على عدنان و للأنصار على قريش- و كان غاليا في ذلك مع تشيعه- و كان أديبا فاضلا شاعرا مترسلا و كثير الفنون عالما- و انحدر مع شرف الدولة إلى واسط- فاتفق أن حصل بيد القادر كتاب بخطه شبه مجموع- قد جمعه من خطه و شعره و كلامه مسود- أتحفه به بعض من كان يشنأ أبا القاسم و يريد كيده- فوجد القادر في ذلك المجموع قصيدة من شعره- فيها تعصب شديد للأنصار على المهاجرين- حتى خرج إلى نوع من الإلحاد و الزندقة لإفراط غلوه-و فيها تصريح بالرفض مع ذلك- فوجدها القادر تمرة الغراب- و أبرزها إلى ديوان الخلافة- فقرئ المجموع و القصيدة بمحضر من أعيان الناس- من الأشراف و القضاة و المعدلين و الفقهاء- و يشهد أكثرهم أنه خطه- و أنهم يعرفونه كما يعرفون وجهه- و أمر بمكاتبة شرف الدولة بذلك- فإلى أن وصل الكتاب إلى شرف الدولة بما جرى- اتصل الخبر بأبي القاسم- قبل وصول الكتاب إلى شرف الدولة- فهرب ليلا و معه بعض غلمانه- و جارية كان يهواها و يتحظاها- و مضى إلى البطيحة ثم منها إلى الموصل- ثم إلى الشام و مات في طريقه- فأوصى أن تحمل جثته إلى مشهد علي فحملت في تابوت- و معها خفراء العرب حتى دفن بالمشهد بالقرب منه ع- . و كنت برهة أسأل النقيب أبا جعفر عن القصيدة- و هو يدافعني بها حتى أملأها علي بعد حين- و قد أوردت هاهنا بعضها- لأني لم أستجز و لم أستحل إيرادها على وجهها- فمن جملتها و هو يذكر في أولها رسول الله ص- و يقول إنه لو لا الأنصار لم تستقم لدعوته دعامة- و لا أرست له قاعدة في أبيات فاحشة كرهنا ذكرها-

نحن الذين بنا استجار فلم يضع
فينا و أصبح في أعز جوار

بسيوفنا أمست سخينة بركا
في بدرها كنحائر الجزار

و لنحن في أحد سمحنا دونه
بنفوسنا للموت خوف العار

فنجا بمهجته فلو لا ذبنا
عنه تنشب في مخالب ضار

و حمية السعدين بل بحماية السدين
يوم الجحفل الجرار

في الخندق المشهور إذ ألقى بها
بيد و رام دفاعها بثمار

قالا معاذ الله إن هضيمه
لم نعطها في سالف الأعصار

ما عندنا إلا السيوف و أقبلا
نحو الحتوف بها بدار بدار

و لنا بيوم حنين آثار متى‏
تذكر فهن كرائم الآثار

لما تصدع جمعه فغدا بنا
مستصرخا بعقيرة و جؤار

عطفت عليه كماتنا فتحصنت‏
منا جموع هوازن بفرار

و فدته من أبناء قيلة عصبة
شروى النقير و جنة البقار

أ فنحن أولى بالخلافة بعده‏
أم عبد تيم حاملو الأوزار

ما الأمر إلا أمرنا و بسعدنا
زفت عروس الملك غير نوار

لكنما حسد النفوس و شحها
و تذكر الأذحال و الأوتار

أفضى إلى هرج و مرج فانبرت
عشواء خابطة بغير نهار

و تداولتها أربع لو لا أبو
حسن لقلت لؤمت من إستار

من عاجز ضرع و من ذي غلظة
جاف و من ذي لوثة خوار

ثم ارتدى المحروم فضل ردائها
فغلت مراجل إحنة و نفار

فتأكلت تلك الجذى و تلمظت
تلك الظبا و رقا أجيج النار

تالله لو ألقوا إليه زمامها
لمشى بهم سجحا بغير عثار

و لو أنها حلت بساحة مجده
بادي بدا سكنت بدار قرار

هو كالنبي فضيلة لكن ذا
من حظه كاس و هذا عار

و الفضل ليس بنافع أربابه
إلا بمسعدة من الأقدار

ثم امتطاها عبد شمس فاغتدت‏
هزؤا و بدل ربحها بخسار

و تنقلت في عصبة أموية
ليسوا بأطهار و لا أبرار

ما بين مأفون إلى متزندق
و مداهن و مضاعف و حمار

فهذه الأبيات هي نظيف القصيدة- التقطناها و حذفنا الفاحش- و في الملتقط المذكور أيضا ما لا يجوز- و هو قوله نحن الذين بنا استجار- و قوله ألقى بها بيد- و قوله فنجا بمهجته البيت- و قوله عن أبي بكر عبد تيم- و قوله لو لا علي لقلت في الأربعة أنهم إستار لؤم- و ذكره الثلاثة رضي الله عنهم بما ذكرهم و نسبهم إليه- و قوله إن عليا كالنبي في الفضيلة- و قوله إن النبوة حظ أعطيه و حرمه علي ع- . فأما قوله في بني أمية ما بين مأفون البيت- فمأخوذ من قول عبد الملك بن مروان- و قد خطب فذكر الخلفاء من بني أمية قبله- فقال إني و الله لست بالخليفة المستضعف- و لا بالخليفة المداهن و لا بالخليفة المأفون- عنى بالمستضعف عثمان و بالمداهن معاوية- و بالمأفون يزيد بن معاوية- فزاد هذا الشاعر فيهم اثنين و هما المتزندق- و هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك- و الحمار و هو مروان بن محمد بن مروان
أمر المهاجرين و الأنصار بعد بيعة أبي بكرو روى الزبير بن بكار في الموفقيات- قال لما بايع بشير بن سعد أبا بكر- و ازدحم الناس على أبي بكر فبايعوه- مر أبو سفيان بن حرب بالبيت- الذي فيه علي بن أبي طالب ع- فوقف و أنشد

بني هاشم لا تطمعوا الناس فيكم
و لا سيما تيم بن مرة أو عدي‏

فما الأمر إلا فيكم و إليكم‏
و ليس لها إلا أبو حسن علي‏

أبا حسن فاشدد بها كف حازم
فإنك بالأمر الذي يرتجى ملي‏

و أي امرئ يرمي قصيا و رأيها
منبع الحمى و الناس من غالب قصي‏

فقال علي لأبي سفيان إنك تريد أمرا لسنا من أصحابه- و قد عهد إلي رسول الله ص عهدا فأنا عليه- فتركه أبو سفيان- و عدل إلى العباس بن عبد المطلب في منزله- فقال يا أبا الفضل أنت أحق بميراث ابن أخيك- امدد يدك لأبايعك- فلا يختلف عليك الناس بعد بيعتي إياك- فضحك العباس و قال- يا أبا سفيان يدفعها علي و يطلبها العباس- فرجع أبو سفيان خائبا- . قال الزبير و ذكر محمد بن إسحاق- أن الأوس تزعم أن أول من بايع أبا بكر بشير بن سعد- و تزعم الخزرج أن أول من بايع أسيد بن حضير- . قلت بشير بن سعد خزرجي و أسيد بن حضير أوسي- و إنما تدافع الفريقان الروايتين- تفاديا عن سعد بن عبادة و كراهية كل حي منهما- أن يكون نقض أمره جاء من جهة صاحبه- فالخزرج هم أهله و قرابته- لا يقرون أن بشير بن سعد هو أول من بايع أبا بكر- و أبطل أمر سعد بن عبادة- و يحيلون بذلك على أسيد بن حضير- لأنه من الأوس أعداء الخزرج- و أما الأوس فتكره أيضا أن ينسب أسيد- إلى أنه أول من نقض أمر سعد بن عبادة- كي لا يرموه بالحسد للخزرج- لأن سعد بن عبادة خزرجي- فيحيلون بانتقاض أمره على قبيلته و هم الخزرج- و يقولون إن أول من بايع أبا بكر- و نقض دعوة سعد بن عبادة بشير بن سعد و كان بشير أعور- . و الذي ثبت عندي أن أول من بايعه عمر- ثم بشير بن سعد ثم أسيد بن حضير- ثم أبو عبيدة بن الجراح ثم سالم مولى أبي حذيفة- .

قال الزبير و قد كان مالأ أبا بكر و عمر على نقض أمر سعد- و إفساد حاله رجلان من الأنصار ممن شهد بدرا- و هما عويم بن ساعدة و معن بن عدي- . قلت- كان هذان الرجلان ذوي حب لأبي بكر في حياة رسول الله ص- و اتفق مع ذلك بغض و شحناء- كانت بينهما و بين سعد بن عبادة و لها سبب مذكور في كتاب القبائل لأبي عبيدة معمر بن المثنى- فليطلب من هناك- . و عويم بن ساعدة هو القائل لما نصب الأنصار سعدا- يا معشر الخزرج إن كان هذا الأمر فيكم دون قريش- فعرفونا ذلك و برهنوا حتى نبايعكم عليه- و إن كان لهم دونكم فسلموا إليهم- فو الله ما هلك رسول الله ص- حتى عرفنا أن أبا بكر خليفة حين أمره أن يصلي بالناس- فشتمه الأنصار و أخرجوه- فانطلق مسرعا حتى التحق بأبي بكر- فشحذ عزمه على طلب الخلافة- .

ذكر هذا بعينه الزبير بن بكار في الموفقيات- . و ذكر المدائني و الواقدي أن معن بن عدي اتفق هو و عويم بن ساعدة- على تحريض أبي بكر و عمر على طلب الأمر و صرفه عن الأنصار- قالا و كان معن بن عدي يشخصهما إشخاصا- و يسوقهما سوقا عنيفا إلى السقيفة- مبادرة إلى الأمر قبل فواته- . قال الزبير بن بكار فلما بويع أبو بكر- أقبلت الجماعة التي بايعته- تزفه زفا إلى مسجد رسول الله ص- فلما كان آخر النهار افترقوا إلى منازلهم- فاجتمع قوم من الأنصار و قوم من المهاجرين- فتعاتبوا فيما بينهم-

فقال عبد الرحمن بن عوف يا معشر الأنصار- إنكم و إن كنتم أولي فضل و نصر و سابقة- و لكن ليس فيكم مثل أبي بكر- و لا عمر و لا علي و لا أبي عبيدة- فقال زيد بن أرقم إنا لا ننكر فضل من ذكرت‏يا عبد الرحمن- و إن منا لسيد الأنصار سعد بن عبادة- و من أمر الله رسوله أن يقرئه السلام- و أن يأخذ عنه القرآن أبي بن كعب- و من يجي‏ء يوم القيامة أمام العلماء معاذ بن جبل- و من أمضى رسول الله ص شهادته بشهادة رجلين- خزيمة بن ثابت- و إنا لنعلم أن ممن سميت من قريش- من لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد علي بن أبي طالب- . قال الزبير فلما كان من الغد قام أبو بكر فخطب الناس- و قال أيها الناس إني وليت أمركم و لست بخيركم- فإذا أحسنت فأعينوني و إن أسأت فقوموني- إن لي شيطانا يعتريني- فإياكم و إياي إذا غضبت- لا أوثر في أشعاركم و أبشاركم- الصدق أمانة و الكذب خيانة- و الضعيف منكم قوي حتى أرد إليه حقه- و القوي ضعيف حتى آخذ الحق منه- إنه لا يدع قوم الجهاد إلا ضربهم الله بالذل- و لا تشيع في قوم الفاحشة إلا عمهم البلاء- أطيعوني ما أطعت الله- فإذا عصيت فلا طاعة لي عليكم- قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله- . قال ابن أبي عبرة القرشي-

شكرا لمن هو بالثناء حقيق
ذهب اللجاج و بويع الصديق‏

من بعد ما زلت بسعد نعله‏
و رجا رجاء دونه العيوق‏

حفت به الأنصار عاصب رأسه
فأتاهم الصديق و الفاروق‏

و أبو عبيدة و الذين إليهم‏
نفس المؤمل للقاء تتوق‏

كنا نقول لها علي و الرضا
عمر و أولاهم بذاك عتيق‏

فدعت قريش باسمه فأجابها
إن المنوه باسمه الموثوق‏

قل للألى طلبوا الخلافة زلة
لم يخط مثل خطاهم مخلوق‏

إن الخلافة في قريش ما لكم‏
فيها و رب محمد معروق‏

و روى الزبير بن بكار قال- روى محمد بن إسحاق- أن أبا بكر لما بويع افتخرت تيم بن مرة- قال و كان عامة المهاجرين و جل الأنصار لا يشكون- أن عليا هو صاحب الأمر بعد رسول الله ص- فقال الفضل بن العباس يا معشر قريش- و خصوصا يا بني تيم- إنكم إنما أخذتم الخلافة بالنبوة و نحن أهلها دونكم- و لو طلبنا هذا الأمر الذي نحن أهله- لكانت كراهة الناس لنا أعظم من كراهتهم لغيرنا- حسدا منهم لنا و حقدا علينا- و إنا لنعلم أن عند صاحبنا عهدا هو ينتهي إليه- . و قال بعض ولد أبي لهب بن عبد المطلب بن هاشم شعرا-

ما كنت أحسب أن الأمر منصرف
عن هاشم ثم منها عن أبي حسن‏

أ ليس أول من صلى لقبلتكم‏
و أعلم الناس بالقرآن و السنن‏

و أقرب الناس عهدا بالنبي و من
جبريل عون له في الغسل و الكفن‏

ما فيه ما فيهم لا يمترون به‏
و ليس في القوم ما فيه من الحسن‏

ما ذا الذي ردهم عنه فنعلمه
ها إن ذا غبننا من أعظم الغبن‏

قال الزبير فبعث إليه علي فنهاه و أمره ألا يعود-و قال سلامة الدين أحب إلينا من غيرهقال الزبير و كان خالد بن الوليد شيعة لأبي بكر- و من المنحرفين عن علي فقام خطيبا فقال أيها الناس- إنا رمينا في بدء هذا الدين بأمر ثقل علينا و الله محمله- و صعب علينا مرتقاه- و كنا كأنا فيه على أوتار- ثم و الله ما لبثنا أن خف علينا ثقله و ذل لنا صعبه- و عجبنا ممن شك فيه بعد عجبنا ممن آمن به- حتى أمرنا بما كنا ننهى عنه- و نهينا عما كنا نأمر به- و لا و الله ما سبقنا إليه بالعقول و لكنه التوفيق- ألا و إن الوحي لم ينقطع حتى أحكم- و لم يذهب النبي ص فنستبدل بعده نبيا- و لا بعد الوحي وحيا- و نحن اليوم أكثر منا أمس- و نحن أمس خير منا اليوم- من دخل في هذا الدين كان ثوابه على حسب عمله- و من تركه رددناه إليه- و إنه و الله ما صاحب الأمر يعني أبا بكر بالمسئول عنه- و لا المختلف فيه و لا الخفي الشخص و لا المغموز القناة- . فعجب الناس من كلامه- و مدحه حزن بن أبي وهب المخزومي- و هو الذي سماه رسول الله ص سهلا- و هو جد سعيد بن المسيب الفقيه و قال-

و قامت رجال من قريش كثيره
فلم يك منهم في الرجال كخالد

ترقي فلم يزاق به صدر نعله‏
و كف فلم يعرض لتلك الأوابد

فجاء بها غراء كالبدر ضوءها
فسميتها في الحسن أم القلائد

أ خالد لا تعدم لؤي بن غالب‏
قيامك فيها عند قذف الجلامد

كساك الوليد بن المغيرة مجده
و علمك الأشياخ ضرب القماحد

تقارع في الإسلام عن صلب دينه‏
و في الشرك عن أحساب جد و والد

و كنت لمخزوم بن يقظة جنة
يعدك فيها ماجدا و ابن ماجد

إذا ما سما في حربها ألف فارس‏
عدلت بألف عند تلك الشدائد

و من يك في الحرب المثيرة واحدا
فما أنت في الحرب العوان بواحد

إذا ناب أمر في قريش مخلج‏
تشيب له رءوس العذارى النواهد

توليت منه ما يخاف و إن تغب
يقولوا جميعا حظنا غير شاهد

قال الزبير- و حدثنا محمد بن موسى الأنصاري المعروف بابن مخرمة- قال حدثني إبراهيم بن سعد بن إبراهيم- بن عبد الرحمن بن عوف الزهري قال- لما بويع أبو بكر و استقر أمره- ندم قوم كثير من الأنصار على بيعته و لام بعضهم بعضا- و ذكروا علي بن أبي طالب و هتفوا باسمه- و إنه في داره لم يخرج إليهم- و جزع لذلك المهاجرون و كثر في ذلك الكلام- . و كان أشد قريش على الأنصار نفر فيهم- و هم سهيل بن عمرو- أحد بني عامر بن لؤي و الحارث بن هشام- و عكرمة بن أبي جهل المخزوميان- و هؤلاء أشراف قريش الذين حاربوا النبي ص- ثم دخلوا في الإسلام و كلهم موتور قد وتره الأنصار- أما سهيل بن عمرو فأسره مالك بن الدخشم يوم بدر- و أما الحارث بن هشام فضربه عروة بن عمرو- فجرحه يوم بدر و هو فار عن أخيه- و أما عكرمة بن أبي جهل فقتل أباه ابنا عفراء- و سلبه درعه يوم بدر زياد بن لبيد و في أنفسهم ذلك- .

فلما اعتزلت الأنصار تجمع هؤلاء- فقام سهيل بن عمرو فقال يا معشر قريش- إن هؤلاء القوم قد سماهم الله الأنصار- و أثنى عليهم في القرآن فلهم بذلك حظ عظيم و شأن غالب- و قد دعوا إلى أنفسهم و إلى علي بن أبي طالب- و علي‏ في بيته لو شاء لردهم- فادعوهم إلى صاحبكم و إلى تجديد بيعته- فإن أجابوكم و إلا قاتلوهم- فو الله إني لأرجو الله أن ينصركم عليهم كما نصرتم بهم- . ثم قام الحارث بن هشام- فقال إن تكن الأنصار تبوأت الدار و الإيمان من قبل- و نقلوا رسول الله ص إلى دورهم من دورنا فآووا و نصروا- ثم ما رضوا حتى قاسمونا الأموال و كفونا العمل- فإنهم قد لهجوا بأمر إن ثبتوا عليه- فإنهم قد خرجوا مما وسموا به- و ليس بيننا و بينهم معاتبة إلا السيف- و إن نزعوا عنه فقد فعلوا الأولى بهم و المظنون معهم- .

ثم قام عكرمة بن أبي جهل فقال و الله لو لا قول رسول الله ص الأئمة من قريش- ما أنكرنا أمره الأنصار و لكانوا لها أهلا- و لكنه قول لا شك فيه و لا خيار- و قد عجلت الأنصار علينا- و الله ما قبضنا عليهم الأمر و لا أخرجناهم من الشورى- و إن الذي هم فيه من فلتات الأمور و نزغات الشيطان- و ما لا يبلغه المنى و لا يحمله الأمل- أعذروا إلى القوم فإن أبوا فقاتلوهم- فو الله لو لم يبق من قريش كلها إلا رجل واحد- لصير الله هذا الأمر فيه- .

قال و حضر أبو سفيان بن حرب فقال يا معشر قريش- إنه ليس للأنصار أن يتفضلوا على الناس- حتى يقروا بفضلنا عليهم- فإن تفضلوا فحسبنا حيث انتهى بها- و إلا فحسبهم حيث انتهى بهم- و ايم الله لئن بطروا المعيشة و كفروا النعمة- لنضربنهم على الإسلام كما ضربوا عليه- فأما علي بن أبي طالب فأهل- و الله أن يسود على قريش و تطيعه الأنصار- . فلما بلغ الأنصار قول هؤلاء الرهط- قام خطيبهم ثابت بن قيس بن شماس فقال يا معشر الأنصار- إنما يكبر عليكم هذا القول لو قاله أهل الدين من قريش- فأما إذا كان من أهل الدنيا- لا سيما من أقوام كلهم موتور فلا يكبرن عليكم- إنما الرأي‏و القول مع الأخيار المهاجرين- فإن تكلمت رجال قريش- و الذين هم أهل الآخرة مثل كلام هؤلاء- فعند ذلك قولوا ما أحببتم و إلا فأمسكوا- . و قال حسان بن ثابت يذكر ذلك-

تنادي سهيل و ابن حرب و حارث
و عكرمة الشاني لنا ابن أبي جهل‏

قتلنا أباه و انتزعنا سلاحه‏
فأصبح بالبطحا أذل من النعل‏

فأما سهيل فاحتواه ابن دخشم
أسيرا ذليلا لا يمر و لا يحلي‏

و صخر بن حرب قد قتلنا رجاله‏
غداة لوا بدر فمرجله يغلي‏

و راكضنا تحت العجاجة حارث
على ظهر جرداء كباسقه النخل‏

يقبلها طورا و طورا يحثها
و يعدلها بالنفس و المال و الأهل‏

أولئك رهط من قريش تبايعوا
على خطة ليست من الخطط الفضل‏

و أعجب منهم قابلو ذاك منهم‏
كانا اشتملنا من قريش على ذحل‏

و كلهم ثان عن الحق عطفه
يقول اقتلوا الأنصار يا بئس من فعل‏

نصرنا و آوينا النبي و لم نخف‏
صروف الليالي و البلاء على رجل‏

بذلنا لهم أنصاف مال أكفنا
كقسمة أيسار الجزور من الفضل‏

و من بعد ذاك المال أنصاف دورنا
و كنا أناسا لا نعير بالبخل‏

و نحمي ذمار الحي فهر بن مالك
و نوقد نار الحرب بالحطب الجزل‏

فكان جزاء الفضل منا عليهم‏
جهالتهم حمقا و ما ذاك بالعدل‏

فبلغ شعر حسان قريشا- فغضبوا و أمروا ابن أبي عزة شاعرهم أن يجيبه- فقال

معشر الأنصار خافوا ربكم
و استجيروا الله من شر الفتن‏

إنني أرهب حربا لاقحا
يشرق المرضع فيها باللبن‏

جرها سعد و سعد فتنة
ليت سعد بن عباد لم يكن‏

خلف برهوت خفيا شخصه‏
بين بصرى ذي رعين و جدن‏

ليس ما قدر سعد كائنا
ما جرى البحر و ما دام حضن‏

ليس بالقاطع منا شعرة
كيف يرجى خير أمر لم يحن‏

ليس بالمدرك منها أبدا
غير أضغاث أماني الوسن‏

 قال الزبير لما اجتمع جمهور الناس لأبي بكر- أكرمت قريش معن بن عدي و عويم بن ساعدة- و كان لهما فضل قديم في الإسلام- فاجتمعت الأنصار لهما في مجلس و دعوهما- فلما أحضرا أقبلت الأنصار عليهما- فعيروهما بانطلاقهما إلى المهاجرين- و أكبروا فعلهما في ذلك فتكلم معن- فقال يا معشر الأنصار- إن الذي أراد الله بكم خير مما أردتم بأنفسكم- و قد كان منكم أمر عظيم البلاء و صغرته العاقبة- فلو كان لكم على قريش ما لقريش عليكم- ثم أردتموهم لما أرادوكم به- لم آمن عليهم منكم مثل من آمن عليكم منهم- فإن تعرفوا الخطأ فقد خرجتم منه و إلا فأنتم فيه- . قلت قوله و قد كان منكم أمر عظيم البلاء و صغرته العاقبة- يعني عاقبة الكف و الإمساك- يقول قد كان منكم أمر عظيم و هو دعوى الخلافة لأنفسكم- و إنما جعل البلاء معظما له- لأنه لو لم يتعقبه الإمساك لأحدث فتنة عظيمة- و إنما صغره سكونهم و رجوعهم إلى بيعة المهاجرين- .

و قوله و كان لكم على قريش إلى آخر الكلام- معناه لو كان لكم الفضل على قريش كفضل قريش عليكم- و ادعت قريش الخلافة لها- ثم أردتم منهم الرجوع عن دعواهم- و جرت بينكم و بينهم من المنازعة مثل هذه المنازعة- التي جرت الآن بينكم لم آمن عليهم منكم أن تقتلوهم- و تقدموا على سفك دمائهم- و لم يحصل لي من سكون النفس إلى‏حلمكم عنهم- و صبركم عليهم مثل ما أنا آمن عليكم منهم- فإنهم صبروا و حلموا- و لم يقدموا على استباحة حربكم و الدخول في دمائكم- .

قال الزبير ثم تكلم عويم بن ساعدة فقال يا معشر الأنصار- إن من نعم الله عليكم- أنه تعالى لم يرد بكم ما أردتم بأنفسكم- فاحمدوا الله على حسن البلاء و طول العافية- و صرف هذه البلية عنكم- و قد نظرت في أول فتنتكم و آخرها- فوجدتها جاءت من الأماني و الحسد و احذروا النقم- فوددت أن الله صير إليكم هذا الأمر بحقه فكنا نعيش فيه- . فوثبت عليهما الأنصار فاغلظوا لهما و فحشوا عليهما- و انبرى لهما فروة بن عمرو فقال أ نسيتما قولكما لقريش- إنا قد خلفنا وراءنا قوما قد حلت دماؤهم بفتنتهم- هذا و الله ما لا يغفر و لا ينسى- قد تصرف الحية عن وجهها و سمها في نابها- فقال معن في ذلك-

و قالت لي الأنصار إنك لم تصب
فقلت أ ما لي في الكلام نصيب‏

فقالوا بلى قل ما بدا لك راشدا
فقلت و مثلي بالجواب طبيب‏

تركتكم و الله لما رأيتكم
تيوسا لها بالحرتين نبيب‏

تنادون بالأمر الذي النجم دونه‏
ألا كل شي‏ء ما سواه قريب‏

فقلت لكم قول الشفيق عليكم
و للقلب من خوف البلاء وجيب‏

دعوا الركض و اثنوا من أعنة بغيكم‏
و دبوا فسير القاصدين دبيب‏

و خلوا قريشا و الأمور و بايعوا
لمن بايعوه ترشدوا و تصيبوا

أراكم أخذتم حقكم بأكفكم
و ما الناس إلا مخطئ و مصيب‏

فلما أبيتم زلت عنكم إليهم‏
و كنت كأني يوم ذاك غريب‏

فإن كان هذا الأمر ذنبي إليكم
فلي فيكم بعد الذنوب ذنوب‏

فلا تبعثوا مني الكلام فإنني‏
إذا شئت يوما شاعر و خطيب‏

و إني لحلو تعتريني مرارة
و ملح أجاج تارة و شروب‏

لكل امرئ عندي الذي هو أهله‏
أفانين شتى و الرجال ضروب‏

و قال عويم بن ساعدة في ذلك-

و قالت لي الأنصار أضعاف قولهم
لمعن و ذاك القول جهل من الجهل‏

فقلت دعوني لا أبا لأبيكم‏
فإني أخوكم صاحب الخطر الفصل‏

أنا صاحب القول الذي تعرفونه
أقطع أنفاس الرجال على مهل‏

فإن تسكتوا أسكت و في الصمت راحة
و إن تنطقوا أصمت مقالتكم تبلي‏

و ما لمت نفسي في الخلاف عليكم
و إن كنتم مستجمعين على عذلي‏

أريد بذاك الله لا شي‏ء غيره‏
و ما عند رب الناس من درج الفضل‏

و ما لي رحم في قريش قريبة
و لا دارها داري و لا أصلها أصلي‏

و لكنهم قوم علينا أئمة
أدين لهم ما أنفذت قدمي نعلي‏

و كان أحق الناس أن تقنعوا به
و يحتملوا من جاء في قوله مثلي‏

لأني أخف الناس فيما يسركم‏
و فيما يسوء لا أمر و لا أحلي‏

قال فروة بن عمر و كان ممن تخلف عن بيعة أبي بكر- و كان ممن جاهد مع‏ رسول الله و قاد فرسين في سبيل الله- و كان يتصدق من نخله بألف وسق في كل عام- و كان سيدا و هو من أصحاب علي و ممن شهد معه يوم الجمل- قال فذكر معنا و عويما و عاتبهما على قولهما- خلفنا وراءنا قوما قد حلت دماؤهم بفتنتهم-

ألا قل لمعن إذا جئته
و ذاك الذي شيخه ساعده‏

بأن المقال الذي قلتما
خفيف علينا سوى واحده‏

مقالكم إن من خلفنا
مراض قلوبهم فاسده‏

حلال الدماء على فتنة
فيا بئسما ربت الوالده‏

فلم تأخذا قدر أثمانها
و لم تستفيدا بها فائده‏

لقد كذب الله ما قلتما
و قد يكذب الرائد الواعده‏

قال الزبير- ثم إن الأنصار أصلحوا بين هذين الرجلين و بين أصحابهما- ثم اجتمعت جماعة من قريش يوما- و فيهم ناس من الأنصار و أخلاط من المهاجرين- و ذلك بعد انصراف الأنصار عن رأيها و سكون الفتنة- فاتفق ذلك عند قدوم عمرو بن العاص من سفر كان فيه- فجاء إليهم- فأفاضوا في ذكر يوم السقيفة و سعد و دعواه الأمر- فقال عمرو بن العاص- و الله لقد دفع الله عنا من الأنصار عظيمة- و لما دفع الله عنهم أعظم- كادوا و الله أن يحلوا حبل الإسلام كما قاتلوا عليه- و يخرجوا منه من أدخلوا فيه- و الله لئن كانوا سمعواقول رسول الله ص الأئمة من قريش- ثم ادعوها لقد هلكوا و أهلكوا- و إن كانوا لم يسمعوها فما هم كالمهاجرين و لا كأبي بكر- و لا المدينة كمكة- و لقد قاتلونا أمس فغلبونا على البدء- و لو قاتلناهم اليوم لغلبناهم على العاقبة- فلم يجبه أحد و انصرف إلى منزله و قد ظفر فقال-

ألا قل لأوس إذا جئتها
و قل كلما جئت للخزرج‏

تمنيتم الملك في يثرب‏
فأنزلت القدر لم تنضج‏

و أخدجتم الأمر قبل التمام
و أعجب بذا المعجل المخدج‏

تريدون نتج الحيال العشار
و لم تلقحوه فلم ينتج‏

عجبت لسعد و أصحابه
و لو لم يهيجوه لم يهتج‏

رجا الخزرجي رجاء السراب‏
و قد يخلف المرء ما يرتجي‏

فكان كمنح على كفه
بكف يقطعها أهوج‏

فلما بلغ الأنصار مقالته و شعره- بعثوا إليه لسانهم و شاعرهم النعمان بن العجلان- و كان رجلا أحمر قصيرا تزدريه العيون- و كان سيدا فخما- فأتى عمرا و هو في جماعة من قريش- فقال و الله يا عمرو ما كرهتم من حربنا- إلا ما كرهنا من حربكم- و ما كان الله ليخرجكم من الإسلام بمن أدخلكم فيهإن كان النبي ص قال الأئمة من قريش- فقد قال لو سلك الناس شعبا- و سلك الأنصار شعبا- لسلكت شعب الأنصار– و الله ما أخرجناكم من الأمر إذ قلنا- منا أمير و منكم أمير- و أما من ذكرت فأبو بكر لعمري خير من سعد- لكن سعدا في الأنصار أطوع من أبي بكر في قريش- فأما المهاجرون و الأنصار فلا فرق بينهم أبدا- و لكنك يا ابن العاص- وترت بني عبد مناف بمسيرك إلى الحبشة- لقتل جعفر و أصحابه- و وترت بني مخزوم بإهلاك عمارة بن الوليد- ثم انصرف فقال-

فقل لقريش نحن أصحاب مكة
و يوم حنين و الفوارس في بدر

و أصحاب أحد و النضير و خيبر
و نحن رجعنا من قريظة بالذكر

و يوم بأرض الشام أدخل جعفر
و زيد و عبد الله في علق يجري‏

و في كل يوم ينكر الكلب أهله‏
نطاعن فيه بالمثقفة السمر

و نضرب في نقع العجاجة أرؤسا
ببيض كأمثال البروق إذا تسري‏

نصرنا و آوينا النبي و لم نخف‏
صروف الليالي و العظيم من الأمر

و قلنا لقوم هاجروا قبل مرحبا
و أهلا و سهلا قد أمنتم من الفقر

نقاسمكم أموالنا و بيوتنا
كقسمة أيسار الجزور على الشطر

و نكفيكم الأمر الذي تكرهونه
و كنا أناسا نذهب العسر باليسر

و قلتم حرام نصب سعد و نصبكم‏
عتيق بن عثمان حلال أبا بكر

و أهل أبو بكر لها خير قائم
و إن عليا كان أخلق بالأمر

و كان هوانا في علي و إنه‏
لأهل لها يا عمرو من حيث لا تدري‏

فذاك بعون الله يدعو إلى الهدى
و ينهى عن الفحشاء و البغي و النكر

وصي النبي المصطفى و ابن عمه‏
و قاتل فرسان الضلالة و الكفر

و هذا بحمد الله يهدي من العمى
و يفتح آذانا ثقلن من الوقر

نجي رسول الله في الغار وحده‏
و صاحبه الصديق في سالف الدهر

فلو لا اتقاء الله لم تذهبوا بها
و لكن هذا الخير أجمع للصبر

و لم نرض إلا بالرضا و لربما
ضربنا بأيدينا إلى أسفل القدر

فلما انتهى شعر النعمان و كلامه إلى قريش- غضب كثير منها- و ألفى ذلك قدوم خالد بن سعيد بن العاص من اليمن- و كان رسول الله استعمله عليها- و كان له و لأخيه أثر قديم‏ عظيم في الإسلام- و هما من أول من أسلم من قريش و لهما عبادة و فضل- فغضب للأنصار- و شتم عمرو بن العاص و قال يا معشر قريش- إن عمرا دخل في الإسلام حين لم يجد بدا من الدخول فيه- فلما لم يستطع أن يكيده بيده كاده بلسانه- و إن من كيده الإسلام تفريقه- و قطعه بين المهاجرين و الأنصار- و الله ما حاربناهم للدين و لا للدنيا- لقد بذلوا دماءهم لله تعالى فينا- و ما بذلنا دماءنا لله فيهم- و قاسمونا ديارهم و أموالهم و ما فعلنا مثل ذلك بهم- و آثرونا على الفقر و حرمناهم على الغنى- و لقد وصى رسول الله بهم و عزاهم عن جفوة السلطان- فأعوذ بالله أن أكون و إياكم الخلف المضيع- و السلطان الجاني- .

قلت هذا خالد بن سعيد بن العاص- هو الذي امتنع من بيعة أبي بكر- و قال لا أبايع إلا عليا- و قد ذكرنا خبره فيما تقدم- . و أما قوله في الأنصار و عزاهم عن جفوة السلطان- فإشارة إلى قول النبي ص ستلقون بعدي أثرة- فاصبروا حتى تقدموا علي الحوضو هذا الخبر- هو الذي يكفر كثير من أصحابنا معاوية بالاستهزاء به- و ذلك أن النعمان بن بشير الأنصاري- جاء في جماعة من الأنصار إلى معاوية فشكوا إليه فقرهم- وقالوا لقد صدق رسول الله ص في قوله لنا ستلقون بعدي أثرة فقد لقيناها- قال معاوية فما ذا قال لكم- قالوا قال لنا فاصبروا حتى تردوا علي الحوض- قال فافعلوا ما أمركم به- عساكم تلاقونه غدا عند الحوض كما أخبركم- و حرمهم و لم يعطهم شيئا- . قال الزبير و قال خالد بن سعيد بن العاص في ذلك-

تفوه عمرو بالذي لا نريده
و صرح للأنصار عن شنأة البغض‏

فإن تكن الأنصار زلت فإننا
نقيل و لا نجزيهم بالقرض‏

فلا تقطعن يا عمرو ما كان بيننا
و لا تحملن يا عمرو بعضا على بعض‏

أ تنسى لهم يا عمرو ما كان منهم‏
ليالي جئناهم من النفل و الفرض‏

و قسمتنا الأموال كاللحم بالمدى
و قسمتنا الأوطان كل به يقضي‏

ليالي كل الناس بالكفر جهرة
ثقال علينا مجمعون على البغض‏

فساووا و آووا و انتهينا إلى المنى
و قر قرارانا من الأمن و الخفض‏

قال الزبير- ثم إن رجالا من سفهاء قريش و مثيري الفتن منهم- اجتمعوا إلى عمرو بن العاص- فقالوا له إنك لسان قريش- و رجلها في الجاهلية و الإسلام- فلا تدع الأنصار و ما قالت- و أكثروا عليه من ذلك فراح إلى المسجد- و فيه ناس من قريش و غيرهم- فتكلم و قال إن الأنصار ترى لنفسها ما ليس لها- و ايم الله لوددت أن الله خلى عنا و عنهم- و قضى فيهم و فينا بما أحب- و لنحن الذين أفسدنا على أنفسنا أحرزناهم عن كل مكروه- و قدمناهم إلى كل محبوب حتى أمنوا المخوف- فلما جاز لهم ذلك صغروا حقنا- و لم يراعوا ما أعظمنا من حقوقهم- . ثم التفت فرأى الفضل بن العباس بن عبد المطلب- و ندم على قوله- للخئولة التي بين ولد عبد المطلب و بين الأنصار- و لأن الأنصار كانت تعظم عليا- و تهتف باسمه حينئذ- فقال الفضل يا عمرو- إنه ليس لنا أن نكتم ما سمعنا منك- و ليس لنا أن نجيبك و أبو الحسن شاهد بالمدينة- إلا أن يأمرنا فنفعل- .

ثم رجع الفضل إلى علي فحدثه فغضب و شتم عمرا- و قال آذى الله و رسوله ثم قام فأتى المسجد- فاجتمع إليه كثير من قريش و تكلم مغضبا-فقال يا معشر قريش إن حب الأنصار إيمان و بغضهم نفاق- و قد قضوا ما عليهم‏و بقي ما عليكم- و اذكروا أن الله رغب لنبيكم عن مكة- فنقله إلى المدينة و كره له قريشا- فنقله إلى الأنصار ثم قدمنا عليهم دارهم- فقاسمونا الأموال و كفونا العمل- فصرنا منهم بين بذل الغني و إيثار الفقير- ثم حاربنا الناس فوقونا بأنفسهم- و قد أنزل الله تعالى فيهم آية من القرآن- جمع لهم فيها بين خمس نعم- فقال وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَ الْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ- يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ- وَ لا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا- وَ يُؤْثِرُونَ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ- وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ- . ألا و إن عمرو بن العاص قد قام مقاما- آذى فيه الميت و الحي- ساء به الواتر و سر به الموتور- فاستحق من المستمع الجواب و من الغائب المقت- و إنه من أحب الله و رسوله أحب الأنصار- فليكفف عمرو عنا نفسه- .

قال الزبير فمشت قريش عند ذلك إلى عمرو بن العاص- فقالوا أيها الرجل أما إذا غضب علي فاكفف- . و قال خزيمة بن ثابت الأنصاري يخاطب قريشا-

أيا ل قريش أصلحوا ذات بيننا
و بينكم قد طال حبل التماحك‏

فلا خير فيكم بعدنا فارفقوا بنا
و لا خير فينا بعد فهر بن مالك‏

كلانا على الأعداء كف طويلة
إذا كان يوم فيه جب الحوارك‏

فلا تذكروا ما كان منا و منكم‏
ففي ذكر ما قد كان مشي التساوك‏

قال الزبير و قال علي للفضل- يا فضل انصر الأنصار بلسانك و يدك- فإنهم منك و إنك منهم
– فقال الفضل-

قلت يا عمرو مقالا فاحشا
إن تعد يا عمرو و الله فلك‏

إنما الأنصار سيف قاطع
من تصبه ظبة السيف هلك‏

و سيوف قاطع مضربها
و سهام الله في يوم الحلك‏

نصروا الدين و آووا أهله
منزل رحب و رزق مشترك‏

و إذا الحرب تلظت نارها
بركوا فيها إذا الموت برك‏

و دخل الفضل على علي فأسمعه شعره ففرح به- و قال وريت بك زنادي يا فضل أنت شاعر قريش و فتاها- فأظهر شعرك و ابعث به إلى الأنصار- فلما بلغ ذلك الأنصار- قالت لا أحد يجيب إلا حسان الحسام- فبعثوا إلى حسان بن ثابت فعرضوا عليه شعر الفضل- فقال كيف أصنع بجوابه إن لم أتحر قوافيه فضحني- فرويدا حتى أقفو أثره في القوافي- فقال له خزيمة بن ثابت اذكر عليا و آله يكفك عن كل شي‏ء- فقال

جزى الله عنا و الجزاء بكفه
أبا حسن عنا و من كأبي حسن‏

سبقت قريشا بالذي أنت أهله‏
فصدرك مشروح و قلبك ممتحن‏

تمنت رجال من قريش أعزة
مكانك هيهات الهزال من السمن‏

و أنت من الإسلام في كل موطن‏
بمنزلة الدلو البطين من الرسن‏

غضبت لنا إذ قام عمرو بخطبة
أمات بها التقوى و أحيا بها الإحن‏

فكنت المرجى من لؤي بن غالب‏
لما كان منهم و الذي كان لم يكن‏

حفظت رسول الله فينا و عهده
إليك و من أولى به منك من و من‏

أ لست أخاه في الهدى و وصيه‏
و أعلم منهم بالكتاب و بالسنن‏

فحقك ما دامت بنجد وشيجة
عظيم علينا ثم بعد على اليمن‏

قال الزبير و بعثت الأنصار بهذا الشعر إلى علي بن أبي طالب- فخرج إلى المسجدو قال لمن به من قريش و غيرهم- يا معشر قريش إن الله جعل الأنصار أنصارا- فأثنى عليهم في الكتاب فلا خير فيكم بعدهم- إنه لا يزال سفيه من سفهاء قريش وتره الإسلام- و دفعه عن الحق و أطفأ شرفه و فضل غيره عليه- يقوم مقاما فاحشا فيذكر الأنصار- فاتقوا الله و ارعوا حقهم- فو الله لو زالوا لزلت معهم- لأن رسول الله قال لهم أزول معكم حيثما زلتم- فقال المسلمون جميعا رحمك الله يا أبا الحسن- قلت قولا صادقا- . قال الزبير و ترك عمرو بن العاص المدينة- و خرج عنها حتى رضي عنه علي و المهاجرون- قال الزبير ثم إن الوليد بن عقبة بن أبي معيط- و كان يبغض الأنصار لأنهم أسروا أباه يوم بدر- و ضربوا عنقه بين يدي رسول الله- قام يشتم الأنصار و ذكرهم بالهجر- فقال إن الأنصار لترى لها من الحق علينا ما لا نراه- و الله لئن كانوا آووا لقد عزوا بنا- و لئن كانوا آسوا لقد منوا علينا- و الله ما نستطيع مودتهم- لأنه لا يزال قائل منهم يذكر ذلنا بمكة و عزنا بالمدينة- و لا ينفكون يعيرون موتانا و يغيظون أحياءنا- فإن أجبناهم قالوا غضبت قريش على غاربها- و لكن قد هون علي ذلك منهم حرصهم على الدين أمس- و اعتذارهم من الذنب اليوم- ثم قال

تباذخت الأنصار في الناس باسمها
و نسبتها في الأزد عمرو بن عامر

و قالوا لنا حق عظيم و منة
على كل باد من معد و حاضر

فإن يك للأنصار فضل فلم تنل
بحرمته الأنصار فضل المهاجر

و إن تكن الأنصار آوت و قاسمت‏
معايشها من جاء قسمة جازر

فقد أفسدت ما كان منها بمنها
و ما ذاك فعل الأكرمين الأكابر

إذا قال حسان و كعب قصيدة
بشتم قريش غنيت في المعاشر

و سار بها الركبان في كل وجهة
و أعمل فيها كل خف و حافر

فهذا لنا من كل صاحب خطبة
يقوم بها منكم و من كل شاعر

و أهل بأن يهجو بكل قصيدة
و أهل بأن يرموا بنبل فواقر

 قال ففشا شعره في الناس فغضبت الأنصار- و غضب لها من قريش قوم- منهم ضرار بن الخطاب الفهري و زيد بن الخطاب- و يزيد بن أبي سفيان فبعثوا إلى الوليد فجاء- . فتكلم زيد بن الخطاب فقال يا ابن عقبة بن أبي معيط- أما و الله لو كنت من الفقراء المهاجرين الذين- أخرجوا من ديارهم و أموالهم- يبتغون فضلا من الله و رضوانا لأحببت الأنصار- و لكنك من الجفاة في الإسلام البطاء عنه- الذين دخلوا فيه بعد أن ظهر أمر الله و هم كارهون- إنا نعلم أنا أتيناهم و نحن فقراء فأغنونا- ثم أصبنا الغنى فكفوا عنا و لم يرزءونا شيئا- فأما ذكرهم ذلة قريش بمكة و عزها بالمدينة- فكذلك كنا و كذلك قال الله تعالى- وَ اذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ- تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ- فنصرنا الله تعالى بهم و آوانا إلى مدينتهم- . و أما غضبك لقريش فإنا لا ننصر كافرا- و لا نواد ملحدا و لا فاسقا و لقد قلت- و قالوا فقطعك الخطيب و ألجمك الشاعر- .

و أما ذكرك الذي كان بالأمس فدع المهاجرين و الأنصار- فإنك لست من ألسنتهم في الرضا- و لا نحن من أيديهم في الغضب- . و تكلم يزيد بن أبي سفيان- فقال يا ابن عقبة الأنصار أحق بالغضب لقتلى أحد- فاكفف لسانك فإن من قتله الحق لا يغضب له- . و تكلم ضرار بن الخطاب- فقال أما و الله لو لاأن رسول الله ص قال‏الأئمة من قريش- لقلنا الأئمة من الأنصار و لكن جاء أمر غلب الرأي- فاقمع شرتك أيها الرجل و لا تكن امرأ سوء- فإن الله لم يفرق بين الأنصار و المهاجرين في الدنيا- و كذلك الله لا يفرق بينهم في الآخرة- . و أقبل حسان بن ثابت مغضبا- من كلام الوليد بن عقبة و شعره- فدخل المسجد و فيه قوم من قريش- فقال يا معشر قريش- إن أعظم ذنبنا إليكم قتلنا كفاركم- و حمايتنا رسول الله ص- و إن كنتم تنقمون منا منة كانت بالأمس- فقد كفى الله شرها فما لنا و ما لكم- و الله ما يمنعنا من قتالكم الجبن و لا من جوابكم العي- إنا لحي فعال و مقال و لكنا قلنا إنها حرب- أولها عار و آخرها ذل- فأغضينا عليها عيوننا و سحبنا ذيولنا حتى نرى و تروا- فإن قلتم قلنا و إن سكتم سكتنا- . فلم يجبه أحد من قريش- ثم سكت كل من الفريقين عن صاحبه- و رضي القوم أجمعون و قطعوا الخلاف و العصبية- .

انتهى ما ذكره الزبير بن بكار في الموفقيات- و نعود الآن إلى ذكر ما أورده أبو بكر- أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة- . قال أبو بكر حدثني أبو يوسف يعقوب بن شيبة- عن بحر بن آدم عن رجاله عن سالم بن عبيد قال- لما توفي رسول الله و قالت الأنصار منا أمير و منكم أمير- أخذ عمر بيد أبي بكر- و قال سيفان في غمد واحد إذا لا يصلحان- ثم قال من له هذه الثلاث- ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ من هما- إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ من صاحبه- إِنَّ اللَّهَ مَعَنا مع من- ثم بسط يده إلى أبي بكر فبايعه- فبايعه الناس أحسن بيعة و أجملها- .

قال أبو بكر حدثنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي- عن أبي بكر بن عياش عن زيد بن عبد الله قال- إن الله تعالى نظر في قلوب العباد- فوجد قلب محمد ع خير قلوب العباد- فاصطفاه لنفسه و ابتعثه برسالته- ثم نظر في قلوب الأمم بعد قلبه- فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد- فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون عن دينه- فما رأى المسلمون حسنا فهو عند الله حسن- و ما رأى المسلمون سيئا فهو عند الله سيئ- . قال أبو بكر بن عياش- و قد رأى المسلمون أن يولوا أبا بكر بعد النبي ص- فكانت ولايته حسنة- .

قال أبو بكر و حدثنا يعقوب بن شيبة قال- لما قبض رسول الله ص- و قال الأنصار منا أمير و منكم أمير- قال عمر أيها الناس- أيكم يطيب نفسا أن يتقدم قدمين- قدمهما رسول الله ص في الصلاة- رضيك الله لديننا أ فلا نرضاك لدنيانا- قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد عمر بن شبة قال- حدثني زيد بن يحيى الأنماطي قال- حدثنا صخر بن جويرية عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه- قال أخذ أبو بكر بيد عمر و يد رجل من المهاجرين- يرونه أبا عبيدة حتى انطلقوا إلى الأنصار- و قد اجتمعوا عند سعد في سقيفة بني ساعدة- فقال عمر قلت لأبي بكر دعني أتكلم- و خشيت جد أبي بكر و كان ذا جد-

فقال أبو بكر لا بل أنا أتكلم- فما هو و الله إلا أن انتهينا إليهم- فما كان في نفسي شي‏ء أريد أن أقوله إلا أتى أبو بكر عليه- فقال لهم يا معشر الأنصار ما ينكر حقكم مسلم- إنا و الله ما أصبنا خيرا قط إلا شركتمونافيه- لقد آويتم و نصرتم و آزرتم و واسيتم- و لكن قد علمتم أن العرب لا تقر- و لا تطيع إلا لامرئ من قريش- هم رهط النبي ص أوسط العرب وشيجة رحم- و أوسط الناس دارا- و أعرب الناس ألسنا و أصبح الناس أوجها- و قد عرفتم بلاء ابن الخطاب في الإسلام و قدمه- هلم فلنبايعه- . قال عمر بل إياك نبايع- قال عمر فكنت أول الناس مد يده إلى أبي بكر فبايعه إلا رجلا من الأنصار- أدخل يده بين يدي و يد أبي بكر فبايعه قبلي- و وطئ الناس فراش سعد فقيل قتلتم سعدا- فقال عمر قتل الله سعدا فوثب رجل من الأنصار- فقال أنا جذيلها المحكك و عذيقها المرجب- فأخذ و وطئ في بطنه و دسوا في فيه التراب- .

قال أبو بكر و حدثني يعقوب عن محمد بن جعفر- عن محمد بن إسماعيل عن مختار اليمان عن عيسى بن زيد قال- لما بويع أبو بكر جاء أبو سفيان إلى علي- فقال أ غلبكم على هذا الأمر أذل بيت من قريش و أقلها- أما و الله لئن شئت لأملأنها على أبي فصيل خيلا و رجلا- و لأسدنها عليه من أقطارها- فقال علي يا أبا سفيان طالما كدت الإسلام و أهله- فما ضرهم شيئا أمسك عليك- فإنا رأينا أبا بكر لها أهلا- . قال أبو بكر و حدثنا يعقوب عن رجاله قال- لما بويع أبو بكر تخلف علي فلم يبايع- فقيل لأبي بكر إنه كره إمارتك- فبعث إليه أ كرهت إمارتي قال لا- و لكن القرآن خشيت أن يزاد فيه- فحلفت ألا أرتدي رداء حتى أجمعه- اللهم إلا إلى صلاة الجمعة- .

فقال أبو بكر لقد أحسنت- قال فكتبه ع كما أنزل بناسخه و منسوخه- . قال أبو بكر حدثنا يعقوب عن أبي النضر- عن محمد بن راشد عن مكحول- أن رسول الله ص استعمل خالد بن سعيد بن العاص على عمل- فقدم بعد ما قبض رسول الله ص- و قد بايع الناس أبا بكر فدعاه إلى البيعة فأبى- فقال عمر دعني و إياه- فمنعه أبو بكر حتى مضت عليه سنة- ثم مر به أبو بكر و هو جالس على بابه- فناداه خالد يا أبا بكر هل لك في البيعة قال نعم- قال فادن فدنا منه- فبايعه خالد و هو قاعد على بابه- .

قال أبو بكر و حدثنا أبو يوسف يعقوب بن شيبة عن خالد بن مخلد عن يحيى بن عمر قال حدثني أبو جعفر الباقر قال جاء أعرابي إلى أبي بكر على عهد رسول الله ص- و قال له أوصني فقال لا تأمر على اثنين- ثم إن الأعرابي شخص إلى الربذة- فبلغه بعد ذلك وفاة رسول الله ص- فسأل عن أمر الناس من وليه فقيل أبو بكر- فقدم الأعرابي إلى المدينة- فقال لأبي بكر- أ لست أمرتني ألا أتأمر على اثنين- قال بلى قال فما بالك- فقال أبو بكر لم أجد لها أحدا غيري أحق مني- قال ثم رفع أبو جعفر الباقر يديه و خفضهما فقال صدق صدق- .

قال أبو بكر- و قد روي هذا الخبر برواية أتم من هذه الرواية- حدثنا يعقوب بن شيبة قال حدثنا يحيى بن حماد قال- حدثنا أبو عوانة عن سليمان الأعمش عن سليمان بن ميسرة- عن طارق بن شهاب عن رافع بن أبي رافع الطائي قال- بعث رسول الله ص جيشا- فأمر عليهم عمرو بن العاص و فيهم أبو بكر و عمر- و أمرهم‏ أن يستنفروا من مروا به- فمروا علينا فاستنفرونا- فنفرنا معهم في غزاة ذات السلاسل- و هي التي تفخر بها أهل الشام- فيقولون استعمل رسول الله ص عمرو بن العاص- على جيش فيه أبو بكر و عمر قال فقلت- و الله لأختارن في هذه الغزاة لنفسي رجلا- من أصحاب رسول الله ص أستهديه- فإني لست أستطيع إتيان المدينة- فاخترت أبا بكر و لم آل- و كان له كساء فدكي يخله عليه إذا ركب- و يلبسه إذا نزل- و هو الذي عيرته به هوازن بعد النبي ص- و قالوا لا نبايع ذا الخلال- قال فلما قضينا غزاتنا قلت له يا أبا بكر- إني قد صحبتك و إن لي عليك حقا- فعلمني شيئا أنتفع به فقال- قد كنت أريد ذلك لو لم تقل لي- تعبد الله لا تشرك به شيئا- و تقيم الصلاة المكتوبة- و تؤدي الزكاة المفروضة و تحج البيت- و تصوم شهر رمضان و لا تتأمر على رجلين-

فقلت أما العبادات فقد عرفتها- أ رأيت نهيك لي عن الإمارة- و هل يصيب الناس الخير و الشر إلا بالإمارة- فقال إنك استجهدتني فجهدت لك- إن الناس دخلوا في الإسلام طوعا و كرها- فأجارهم الله من الظلم- فهم جيران الله و عواد الله و في ذمة الله- فمن يظلم منكم إنما يحقر ربه- و الله إن أحدكم ليأخذ شويهة جاره أو بعيره- فيظل عمله بأسا بجاره و الله من وراء جاره- قال فلم يلبث إلا قليلا حتى أتتنا وفاة رسول الله ص- فسألت من استخلف بعده قيل أبو بكر- قلت أ صاحبي الذي كان ينهاني عن الإمارة- فشددت على راحلتي فأتيت المدينة- فجعلت أطلب خلوته حتى قدرت عليها- فقلت أ تعرفني أنا فلان بن فلان- أ تعرف وصية أوصيتني بها- قال نعم إن رسول الله قبض- و الناس حديثو عهد بالجاهلية- فخشيت أن يفتتنوا و أن أصحابي حملونيها- فما زال يعتذر إلي حتى عذرته- و صار من أمري بعد أن صرت عريفا- قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد عمر بن شبة عن رجاله عن الشعبي قال قام الحسن بن علي ع إلى أبي بكر و هو يخطب على المنبر- فقال له انزل عن منبر أبي فقال‏ أبو بكر صدقت- و الله إنه لمنبر أبيك لا منبر أبي- فبعث علي إلى أبي بكر إنه غلام حدث و إنا لم نأمره- فقال أبو بكر صدقت إنا لم نتهمك- .

قال أبو بكر و روى أبو زيد- عن حباب بن يزيد عن جرير عن المغيرة- أن سلمان و الزبير و بعض الأنصار- كان هواهم أن يبايعوا عليا بعد النبي ص- فلما بويع أبو بكر قال سلمان للصحابة أصبتم الخير- و لكن أخطأتم المعدن- قال و في رواية أخرى أصبتم ذا السن منكم- و لكنكم أخطأتم أهل بيت نبيكم- أما لو جعلتموها فيهم ما اختلف منكم اثنان- و لأكلتموها رغدا- . قلت هذا الخبر هو الذي- رواه المتكلمون في باب الإمامة عن سلمان أنه قال- كرديد و نكرديد تفسره الشيعة- فتقول أراد أسلمتم و ما أسلمتم و يفسره أصحابنا- فيقولون معناه أخطأتم و أصبتم- . قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال- حدثنا محمد بن يحيى قال حدثنا غسان بن عبد الحميد قال- لما أكثر في تخلف علي عن البيعة- و اشتد أبو بكر و عمر في ذلك خرجت أم مسطح بن أثاثة- فوقفت عند قبر النبي ص و نادته يا رسول الله-

قد كان بعدك أنباء و هينمة
لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب‏

إنا فقدناك فقد الأرض وابلها
فاختل قومك فاشهدهم و لا تغب‏

قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز- و سمعت أبا زيد عمر بن شبة- يحدث رجلا بحديث لم أحفظ إسناده قال- مر المغيرة بن شعبة بأبي بكر و عمر- و هما جالسان على باب النبي حين قبض فقال- ما يقعدكما قالا ننتظر هذا الرجل يخرج فنبايعه- يعنيان عليا- فقال أ تريدون أن تنظروا حبل الحبلة من أهل هذا البيت- وسعوها في قريش تتسع- .قال فقاما إلى سقيفة بني ساعدة أو كلاما هذا معناه- .

قال أبو بكر و أخبرنا أبو جعفر محمد بن عبد الملك الواسطي عن يزيد بن هارون عن سفيان بن حسين عن الزهري عن أنس بن مالك قال لما مرض رسول الله مرضه الذي مات فيه- أتاه بلال يؤذنه بالصلاة فقال بعد مرتين- يا بلال قد أبلغت فمن شاء فليصل بالناس و من شاء فليدع- .

قال و رفعت الستور عن رسول الله- فنظرنا إليه كأنه ورقة بيضاء و عليه خميصة له- فرجع إليه بلال فقال مروا أبا بكر فليصل بالناس- قال فما رأيناه بعد ذلك ع- . و قال أبو بكر- و حدثني أبو الحسن علي بن سليمان النوفلي قال- سمعت أبيا يقول- ذكر سعد بن عبادة يوما عليا بعد يوم السقيفة- فذكر أمرا من أمره نسيه أبو الحسن يوجب ولايته- فقال له ابنه قيس بن سعد- أنت سمعت رسول الله ص- يقول هذا الكلام في علي بن أبي طالب ثم تطلب الخلافة- و يقول أصحابك منا أمير و منكم أمير- لا كلمتك و الله من رأسي بعد هذا كلمة أبدا- .

قال أبو بكر و حدثني أبو الحسن علي بن سليمان النوفلي قال حدثني أبي قال حدثني شريك بن عبد الله عن إسماعيل بن خالد عن زيد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جده قال قال علي كنت مع الأنصار لرسول الله ص على السمع و الطاعة- له في المحبوب و المكروه- فلما عز الإسلام و كثر أهله قال يا علي زد فيها- على أن تمنعوا رسول الله و أهل بيته- مما تمنعون منه أنفسكم و ذراريكم- قال فحملها على ظهور القوم- فوفى بها من وفى و هلك من هلك- .

قلت هذا يطابق ما رواه أبو الفرج الأصفهاني في كتاب مقاتل الطالبيين أن‏جعفر بن محمد ع وقف مستترا في خفية- يشاهد المحامل التي حمل عليها عبد الله بن الحسن- و أهله في القيود و الحديد من المدينة إلى العراق- فلما مروا به بكى- و قال ما وفت الأنصار و لا أبناء الأنصار لرسول الله ص- بايعهم على أن يمعنوا محمدا و أبناءه و أهله و ذريته- مما يمنعون منه أنفسهم و أبناءهم و أهلهم و ذراريهم- فلم يفوا اللهم اشدد وطأتك على الأنصارقال أبو بكر و حدثنا أبو سعيد عبد الرحمن بن محمد قال حدثنا أحمد بن الحكم قال حدثنا عبد الله بن وهب عن ليث بن سعد قال تخلف علي عن بيعة أبي بكر- فأخرج ملببا يمضى به ركضا- و هو يقول معاشر المسلمين- علام تضرب عنق رجل من المسلمين- لم يتخلف لخلاف و إنما تخلف لحاجة- فما مر بمجلس من المجالس إلا يقال له انطلق فبايعقال أبو بكر و حدثنا علي بن جرير الطائي قال حدثنا ابن فضل عن الأجلح عن حبيب بن ثعلبة بن يزيد قال سمعت عليا يقول أما و رب السماء و الأرض ثلاثا- إنه لعهد النبي الأمي إلي- لتغدرن بك الأمة من بعدي- .

قال أبو بكر- و حدثنا أبو زيد عمر بن شبة بإسناد رفعه إلى ابن عباس- قال إني لأماشي عمر في سكة من سكك المدينة يده في يدي- فقال يا ابن عباس ما أظن صاحبك إلا مظلوما- فقلت في نفسي و الله لا يسبقني بها- فقلت يا أمير المؤمنين فاردد إليه ظلامته- فانتزع يده من يدي- ثم مر يهمهم ساعة ثم وقف فلحقته- فقال لي يا ابن عباس- ما أظن القوم منعهم من صاحبك إلا أنهم استصغروه- فقلت في نفسي هذه شر من الأولى- فقلت و الله ما استصغره الله- حين أمره أن يأخذ سورة براءة من أبي بكر

ذكر أمر فاطمة مع أبي بكر

فأما ما رواه البخاري و مسلم في الصحيحين- من كيفية المبايعة لأبي بكر بهذا اللفظ- الذي أورده عليك-و لإسناد إلى عائشة أن فاطمة و العباس أتيا أبا بكر- يلتمسان ميراثهما من النبي ص- و هما حينئذ يطلبان أرضه من فدك و سهمه من خيبر- فقال لهما أبو بكر إني سمعت رسول الله ص يقول- إنا معشر الأنبياء لا نورث- ما تركناه صدقة إنما يأكل آل محمد من هذا المال- و إني و الله لا أدع أمرا- رأيت رسول الله ص يصنعه إلا صنعته- فهجرته فاطمة و لم تكلمه في ذلك حتى ماتت- فدفنها علي ليلا و لم يؤذن بها أبا بكر- و كان لعلي وجه من الناس في حياة فاطمة- فلما توفيت فاطمة انصرفت وجوه الناس عن علي- فمكثت فاطمة ستة أشهر ثم توفيت- فقال رجل للزهري و هو الراوي لهذا الخبر عن عائشة- فلم يبايعه على ستة أشهر- قال و لا أحد من بني هاشم حتى بايعه علي فلما رأى ذلك ضرع إلى مبايعة أبي بكر- فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا و لا يأت معك أحد- و كره أن يأتيه عمر لما عرف من شدته- فقال عمر لا تأتهم وحدك- فقال أبو بكر و الله لآتينهم وحدي و ما عسى أن يصنعوا بي- فانطلق أبو بكر حتى دخل على علي و قد جمع بني هاشم عنده-فقام علي فحمد الله و أثنى عليه بما هو أهله- ثم قال أما بعد- فإنه لم يمنعنا أن نبايعك يا أبا بكر إنكار لفضلك- و لا منافسة لخير ساقه الله إليك- و لكنا كنا نرى أن لنا في هذا الأمر حقا- فاستبددتم به علينا- و ذكر قرابته من رسول الله ص و حقه- فلم يزل علي يذكر ذلك حتى بكى أبو بكر- فلما صمت علي تشهد أبو بكر- فحمد الله و أثنى عليه بما هو أهله- ثم قال أما بعدفو الله لقرابة رسول الله ص أحب إلي- أن أصلها من قرابتي- و إني و الله ما آلوكم من هذه الأموال- التي كانت بيني و بينكم إلا الخير-و لكني سمعت رسول الله ص يقول لا نورث ما تركناه صدقة- و إنما يأكل آل محمد في هذا المال- و إني و الله لا أترك أمرا- صنعه رسول الله ص إلا صنعته إن شاء الله- قال علي موعدك العشية للبيعة- فلما صلى أبو بكر الظهر- أقبل على الناس ثم عذر عليا ببعض ما اعتذر به- ثم قام علي فعظم من حق أبي بكر و ذكر فضله و سابقته- ثم مضى إلى أبي بكر فبايعه فأقبل الناس إلى علي- فقالوا أصبت و أحسنت- و كان علي قريبا إلى الناس حين قارب الأمر بالمعروف- . و روى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز قال- حدثني أبو زيد عمر بن شبة قال- حدثني إبراهيم بن المنذر قال حدثنا ابن وهب- عن ابن لهيعة عن أبي الأسود قال- غضب رجال من المهاجرين في بيعة أبي بكر بغير مشورة- و غضب علي و الزبير فدخلا بيت فاطمة معهما السلاح- فجاء عمر في عصابة فيهم أسيد بن حضير- و سلمة بن سلامة بن قريش و هما من بني عبد الأشهل- فاقتحما الدار فصاحت فاطمة و ناشدتهما الله- فأخذوا سيفيهما فضربوا بهما الحجر حتى كسروهما- فأخرجهما عمر يسوقهما حتى بايعا- . ثم قام أبو بكر فخطب الناس فاعتذر إليهم- و قال إن بيعتي كانت فلتة وقى الله شرها و خشيت الفتنة- و ايم الله ما حرصت عليها يوما قط- و لا سألتها الله في سر و لا علانية قط- و لقد قلدت أمرا عظيما ما لي به طاقة و لا يدان- و لقد وددت أن أقوى الناس عليه مكاني- .

فقبل المهاجرون- و قال علي و الزبير ما غضبنا إلا في المشورة- و إنا لنرى أبا بكر أحق الناس بها- إنه لصاحب الغار و ثاني اثنين و إنا لنعرف له سنه- و لقد أمره رسول الله ص بالصلاة و هو حي- . قال أبو بكر و ذكر ابن شهاب بن ثابت- أن قيس بن شماس أخا بني الحارث من الخزرج- كان مع الجماعة الذين دخلوا بيت فاطمة- . قال و روى سعد بن إبراهيم- أن عبد الرحمن بن عوف كان مع عمر ذلك اليوم- و أن محمد بن مسلمة كان معهم- و أنه هو الذي كسر سيف الزبير- . قال أبو بكر و حدثني أبو زيد عمر بن شبة عن رجاله قال- جاء عمر إلى بيت فاطمة في رجال من الأنصار- و نفر قليل من المهاجرين فقال- و الذي نفسي بيده لتخرجن إلى البيعة- أو لأحرقن البيت عليكم- فخرج إليه الزبير مصلتا بالسيف- فاعتنقه زياد بن لبيد الأنصاري و رجل آخر- فندر السيف من يده فضرب به عمر الحجر فكسره- ثم أخرجهم بتلابيبهم يساقون سوقا عنيفا- حتى بايعوا أبا بكر- .

قال أبو زيد و روى النضر بن شميل قال- حمل سيف الزبير لما ندر من يده إلى أبي بكر- و هو على المنبر يخطب فقال اضربوا به الحجر- قال أبو عمرو بن حماس- و لقد رأيت الحجر و فيه تلك الضربة- و الناس يقولون هذا أثر ضربة سيف الزبير- . قال أبو بكر و أخبرني أبو بكر الباهلي- عن إسماعيل بن مجالد عن الشعبي- قال- قال أبو بكر يا عمر أين خالد بن الوليد- قال هو هذا- فقال انطلقا إليهما يعني عليا و الزبير فأتياني بهما- فانطلقا فدخل عمر و وقف خالد على الباب من خارج- فقال عمر للزبير ما هذا السيف- قال أعددته لأبايع عليا- قال و كان في البيت ناس كثير- منهم المقداد بن الأسود و جمهور الهاشميين- فاخترط عمر السيف فضرب به صخرة في البيت‏ فكسره- ثم أخذ بيد الزبير فأقامه ثم دفعه فأخرجه- و قال يا خالد دونك هذا فأمسكه خالد- و كان خارج البيت مع خالد جمع كثير من الناس- أرسلهم أبو بكر ردءا لهما- ثم دخل عمر فقال لعلي قم فبايع- فتلكأ و احتبس فأخذ بيده- و قال قم فأبى أن يقوم- فحمله و دفعه كما دفع الزبير- ثم أمسكهما خالد و ساقهما عمر و من معه سوقا عنيفا- و اجتمع الناس ينظرون- و امتلأت شوارع المدينة بالرجال-و رأت فاطمة ما صنع عمر فصرخت و ولولت- و اجتمع معها نساء كثير من الهاشميات و غيرهن- فخرجت إلى باب حجرتها- و نادت يا أبا بكر- ما أسرع ما أغرتم على أهل بيت رسول الله- و الله لا أكلم عمر حتى ألقى الله- .

قال فلما بايع علي و الزبير و هدأت تلك الفورة- مشى إليها أبو بكر بعد ذلك فشفع لعمر- و طلب إليها فرضيت عنه- . قال أبو بكر و حدثني المؤمل بن جعفر قال- حدثني محمد بن ميمون قال حدثني داود بن المبارك قال- أتينا عبد الله بن موسى بن عبد الله بن حسن- بن حسن بن علي بن أبي طالب ع- و نحن راجعون من الحج في جماعة فسألناه عن مسائل- و كنت أحد من سأله فسألته عن أبي بكر و عمر- فقال أجيبك بما أجاب به جدي عبد الله بن الحسن- فإنه سئل عنهما فقال كانت أمنا صديقة ابنة نبي مرسل- و ماتت و هي غضبى على قوم فنحن غضاب لغضبها- . قلت قد أخذ هذا المعنى بعض شعراء الطالبيين من أهل الحجاز- أنشدنيه النقيب جلال الدين عبد الحميد- بن محمد بن عبد الحميد العلوي قال- أنشدني هذا الشاعر لنفسه- و ذهب عني اسمه- قال

يا أبا حفص الهوينى و ما كنت
مليا بذاك لو لا الحمام‏

أ تموت البتول غضبى و نرضى
ما كذا يصنع البنون الكرام‏

يخاطب عمر و يقول له مهلا و رويدا يا عمر- أي ارفق و اتئد و لا تعنف بنا و ما كنت مليا- أي و ما كنت أهلا لأن تخاطب بهذا و تستعطف- و لا كنت قادرا على ولوج دار فاطمة- على ذلك الوجه الذي ولجتها عليه- لو لا أن أباها الذي كان بيتها يحترم و يصان لأجله مات- فطمع فيها من لم يكن يطمع- ثم قال أ تموت أمنا و هي غضبى و نرضى نحن إذا لسنا بكرام- فإن الولد الكريم يرضى لرضا أبيه و أمه و يغضب لغضبهما- . و الصحيح عندي أنها ماتت و هي واجدة على أبي بكر و عمر- و أنها أوصت ألا يصليا عليها- و ذلك عند أصحابنا من الأمور المغفورة لهما- و كان الأولى بهما إكرامها و احترام منزلها- لكنهما خافا الفرقة و أشفقا من الفتنة- ففعلا ما هو الأصلح بحسب ظنهما- و كانا من الدين و قوة اليقين بمكان مكين لا شك في ذلك- و الأمور الماضية يتعذر الوقوف على عللها و أسبابها- و لا يعلم حقائقها إلا من قد شاهدها و لابسها- بل لعل الحاضرين المشاهدين لها يعلمون باطن الأمر- فلا يجوز العدول عن حسن الاعتقاد فيهما بما جرى- و الله ولي المغفرة و العفو- فإن هذا لو ثبت أنه خطأ لم يكن كبيرة- بل كان من باب الصغائر التي لا تقتضي التبرؤ- و لا توجب زوال التولي- . قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد عمر بن شبة قال- حدثنا محمد بن حاتم عن رجاله عن ابن عباس قال- مر عمر بعلي و أنا معه بفناء داره فسلم عليه- فقال له علي أين تريد قال البقيع- قال أ فلا تصل صاحبك و يقوم معك قال بلى- فقال لي علي قم معه فقمت فمشيت إلى جانبه- فشبك أصابعه في أصابعي و مشينا قليلا- حتى إذا خلفنا البقيع قال لي يا ابن عباس أما و الله- إن صاحبك هذا لأولى الناس بالأمر بعد رسول الله ص- إلا أنا خفناه على اثنين- قال ابن عباس فجاء بكلام لم أجد بدا من‏ مسألته عنه- فقلت ما هما يا أمير المؤمنين- قال خفناه على حداثة سنه و حبه بني عبد المطلب- . قال أبو بكر و حدثني أبو زيد قال حدثني محمد بن عباد قال- حدثني أخي سعيد بن عباد عن الليث بن سعد عن رجاله- عن أبي بكر الصديق أنه قال- ليتني لم أكشف بيت فاطمة و لو أعلن علي الحرب- .

قال أبو بكر و حدثنا الحسن بن الربيع عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن علي بن عبد الله بن العباس عن أبيه قال لما حضرت رسول الله ص الوفاة- و في البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب- قال رسول الله ص ائتوني بدواة و صحيفة- أكتب لكم كتابا لا تضلون بعدي– فقال عمر كلمة- معناها أن الوجع قد غلب على رسول الله ص- ثم قال عندنا القرآن حسبنا كتاب الله- فاختلف من في البيت و اختصموا- فمن قائل يقول القول ما قال رسول الله ص- و من قائل يقول القول ما قال عمر- فلما أكثروا اللغط و اللغو و الاختلاف غضب رسول الله-فقال قوموا إنه لا ينبغي لنبي أن يختلف عنده هكذا- فقاموا فمات رسول الله ص في ذلك اليوم-فكان ابن عباس يقول إن الرزية كل الرزية- ما حال بيننا و بين كتاب رسول الله ص- يعني الاختلاف و اللغط- . قلت هذا الحديث قد خرجه الشيخان- محمد بن إسماعيل البخاري- و مسلم بن الحجاج القشيري في صحيحيهما- و اتفق المحدثون كافة على روايته- .

قال أبو بكر و حدثنا أبو زيد عن رجاله عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله‏ ص إن تولوها أبا بكر تجدوه ضعيفا في بدنه قويا في أمر الله- و إن تولوها عمر تجدوه قويا في بدنه قويا في أمر الله- و إن تولوها عليا و ما أراكم فاعلين تجدوه هاديا مهديا- يحملكم على المحجة البيضاء و الصراط المستقيمقال أبو بكر و حدثنا أحمد بن إسحاق بن صالح عن أحمد بن سيار عن سعيد بن كثير الأنصاري عن رجاله عن عبد الله بن عبد الرحمن أن رسول الله ص في مرض موته- أمر أسامة بن زيد بن حارثة على جيش- فيه جلة المهاجرين و الأنصار- منهم أبو بكر و عمر و أبو عبيدة بن الجراح- و عبد الرحمن بن عوف و طلحة و الزبير- و أمره أن يغير على مؤتة حيث قتل أبوه زيد- و أن يغزو وادي فلسطين- فتثاقل أسامة و تثاقل الجيش بتثاقله- و جعل رسول الله ص في مرضه يثقل و يخف- و يؤكد القول في تنفيذ ذلك البعث- حتى قال له أسامة بأبي أنت و أمي- أ تأذن لي أن أمكث أياما حتى يشفيك الله تعالى-

فقال اخرج و سر على بركة الله- فقال يا رسول الله إن أنا خرجت و أنت على هذه الحال- خرجت و في قلبي قرحة منك- فقال سر على النصر و العافية- فقال يا رسول الله إني أكره أن أسأل عنك الركبان- فقال انفذ لما أمرتك به- ثم أغمي على رسول الله ص- و قام أسامة فتجهز للخروج- فلما أفاق رسول الله ص سأل عن أسامة و البعث- فأخبر أنهم يتجهزون- فجعل يقول انفذوا بعث أسامة لعن الله من تخلف عنه و كرر ذلك- فخرج أسامة و اللواء على رأسه و الصحابة بين يديه- حتى إذا كان بالجرف نزل و معه أبو بكر و عمر و أكثر المهاجرين و من الأنصار أسيد بن حضير- و بشير بن سعد و غيرهم من الوجوه- فجاءه رسول أم أيمن يقول له- ادخل فإن رسول الله يموت فقام من فوره- فدخل المدينة و اللواء معه- فجاء به حتى ركزه بباب رسول الله- و رسول الله قد مات في تلك الساعة- . قال فما كان أبو بكر و عمر يخاطبان أسامة- إلى أن ماتا إلا بالأمير

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي‏ الحديد) ج 6 

خطبه 65 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(من أخبار يوم صفين)

65 و من كلام له ع كان يقوله لأصحابه في بعض أيام صفين

مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ اسْتَشْعِرُوا الْخَشْيَةَ- وَ تَجَلْبَبُوا السَّكِينَةَ وَ عَضُّوا عَلَى النَّوَاجِذِ- فَإِنَّهُ أَنْبَى لِلسُّيُوفِ عَنِ الْهَامِ وَ أَكْمِلُوا اللَّامَةَ- وَ قَلْقِلُوا السُّيُوفَ فِي أَغْمَادِهَا قَبْلَ سَلِّهَا- وَ الْحَظُوا الْخَزْرَ وَ اطْعُنُوا الشَّزْرَ- وَ نَافِحُوا بِالظُّبَى وَ صِلُوا السُّيُوفَ بِالْخُطَا- وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ بِعَيْنِ اللَّهِ وَ مَعَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ- فَعَاوِدُوا الْكَرَّ وَ اسْتَحْيُوا مِنَ الْفَرِّ- فَإِنَّهُ عَارٌ فِي الْأَعْقَابِ وَ نَارٌ يَوْمَ الْحِسَابِ- وَ طِيبُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ نَفْساً- وَ امْشُوا إِلَى الْمَوْتِ مَشْياً سُجُحاً- وَ عَلَيْكُمْ بِهَذَا السَّوَادِ الْأَعْظَمِ وَ الرِّوَاقِ الْمُطَنَّبِ- فَاضْرِبُوا ثَبَجَهُ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ كَامِنٌ فِي كِسْرِهِ- وَ قَدْ قَدَّمَ لِلْوَثْبَةِ يَداً وَ أَخَّرَ لِلنُّكُوصِ رَجُلًا- فَصَمْداً صَمْداً حَتَّى يَنْجَلِيَ لَكُمْ عَمُودُ الْحَقِّ- وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَ اللَّهُ مَعَكُمْ وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ قوله استشعروا الخشية- أي اجعلوا الخوف من الله تعالى من شعاركم- و الشعار من الثياب ما يكون دون الدثار- و هو يلي الجلد و هو ألصق ثياب الجسد- و هذه استعارة حسنة- و المراد بذلك أمرهم بملازمة الخشية و التقوى- كما أن الجلد يلازم الشعار- .

قوله و تجلببوا السكينة- أي اجعلوا السكينة و الحلم و الوقار جلبابا لكم- و الجلباب الثوب المشتمل على البدن- . قوله و عضوا على النواجذ جمع ناجذ- و هو أقصى الأضراس- و للإنسان أربعة نواجذ في كل شق- و النواجذ بعد الأرحاء- و يسمى الناجذ ضرس الحلم- لأنه ينبت بعد البلوغ و كمال العقل- و يقال إن العاض على نواجذه- ينبو السيف عن هامته نبوا ما- و هذا مما يساعد التعليل الطبيعي عليه- و ذلك أنه إذا عض على نواجذه- تصلبت الأعصاب و العضلات المتصلة بدماغه- و زال عنها الاسترخاء- فكانت على مقاومة السيف أقدر- و كان تأثير السيف فيها أقل- . و قوله فإنه أنبى- الضمير راجع إلى المصدر الذي دل الفعل عليه- تقديره فإن العض أنبى- كقولهم من فعل خيرا كان له خيرا أي كان فعله خيرا- و أنبى أفعل من نبا السيف إذا لم يقطع- . قال الراوندي هذا كلام ليس على حقيقته- بل هو كناية عن الأمر بتسكين القلب- و ترك اضطرابه و استيلاء الرعدة عليه- إلى أن قال ذلك أشد إبعادا لسيف العدو عن هامتكم- . قوله و أكملوا اللأمة- اللأمة بالهمزة الدرع- و الهمزة ساكنة على فعلة- مثل النأمة للصوت- و إكمالها أن يزاد عليها البيضة و السواعد و نحوها- و يجوز أن يعبر باللأمة عن جميع أداة الحرب- كالدرع و الرمح و السيف- يريد أكملوا السلاح الذي تحاربون العدو به- . قوله و قلقلوا السيوف في أغمادها قبل سلها- يوم الحرب- لئلا يدوم مكثها في الأجفان- فتلحج فيها فيستصعب سلها وقت الحاجة إليها- . و قوله و الحظوا الخزر- الخزر أن ينظر الإنسان بعينه- و كأنه ينظر بمؤخرها و هي أمارة الغضب- و الذي أعرفه الخزر بالتحريك- قال الشاعر

إذا تخازرت و ما بي من خزر
ثم كسرت العين و ما بي من عور

ألفيتني ألوى بعيد المستمر
أحمل ما حملت من خير و شر

فإن كان قد جاء مسكنا- فتسكينه جائز للسجعة الثانية- و هي قوله و اطعنوا الشزر- و الطعن شزرا هو الطعن عن اليمين و الشمال- و لا يسمى الطعن تجاه الإنسان شزرا- و أكثر ما تستعمل لفظة الشزر في الطعن- لما كان عن اليمين خاصة- و كذلك إدارة الرحى- و خزرا و شزرا صفتان لمصدرين محذوفين- تقديره الحظوا لحظا خزرا- و اطعنوا طعنا شزرا- و عين اطعنوا مضمومة- يقال طعنت بالرمح اطعن بالضم- و طعنت في نسبه أطعن بالفتح أي قدحت- قال

يطوف بي عكب في معد
و يطعن بالصملة في قفيا

قوله نافحوا بالظبى- أي ضاربوا نفحة بالسيف أي ضربة- و نفحت الناقة برجلها أي ضربت- و الظبى جمع ظبة و هي طرف السيف- . قوله و صلوا السيوف بالخطا مثل قول الشاعر-

إذا قصرت أسيافنا كان وصلها
خطانا إلى أعدائنا فنضارب‏

قالوا بكسر نضارب- لأنه معطوف على موضع جزاء الشرط الذي هو إذا- . و قال آخر

نصل السيوف إذا قصرن بخطونا
يوما و نلحقها إذا لم تلحق‏

و أنشدني شيخنا أبو القاسم الحسين بن عبد الله العكبري- و لم يسم قائله- و وجدته بعد لنابغة بني الحارث بن كعب-

إن تسألي عنا سمي فإنه
يسمو إلى قحم العلا أدنانا

و تبيت جارتنا حصانا عفة
ترضى و يأخذ حقه مولانا

و نقوم إن رق المنون بسحرة
لوصاة والدنا الذي أوصانا

ألا نفر إذا الكتيبة أقبلت
حتى تدور رحاهم و رحانا

و تعيش في أحلامنا أشياخنا
مردا و ما وصل الوجوه لحانا

و إذا السيوف قصرن طولها لنا
حتى تناول ما نريد خطانا

و قال حميد بن ثور الهلالي-

إلى أن نزلنا بالفضاء و ما لنا
به معقل إلا الرماح الشواجر

و وصل الخطا بالسيف و السيف بالخطا
إذا ظن أن المرء ذا السيف قاصر

و هذه الأبيات من قطعة لحميد جيدة- و من جملتها

قضى الله في بعض المكاره للفتى
برشد و في بعض الهوى ما يحاذر

أ لم تعلمي أني إذا الإلف قادني‏
إلى الجور لا انقاد و الإلف جائر

و قد كنت في بعض الصباوة أتقي
أمورا و أخشى أن تدور الدوائر

و أعلم أني أن تغطيت مرة
من الدهر مكشوف غطائي فناظر

و من المعنى الذي نحن في ذكره- ما روي أن رجلا من الأزد رفع إلى المهلب سيفا له- فقال يا عم كيف ترى سيفي هذا- فقال إنه لجيد لو لا أنه قصير- قال أطوله يا عم بخطوتي- فقال و الله يا ابن أخي- أن المشي إلى الصين أو إلى آذربيجان- على أنياب الأفاعي أسهل من تلك الخطوة- و لم يقل المهلب ذلك جبنا- بل قال ما توجبه الصورة- إذ كانت‏ تلك الخطوة قريبة للموت- قال أبو سعد المخزومي في هذا المعنى-

رب نار رفعتها و دجى الليل
على الأرض مسبل الطيلسان‏

و أمون نحرتها لضيوف‏
و ألوف نقدتهن لجاني‏

و حروب شهدتها جامع القلب
فلم تنكر الكمأة مكاني‏

و إذا ما الحسام كان قصيرا
طولته إلى العدو بناني‏

من الناس من يرويها في ديوانه لجاني بالجيم- أي حملت الحمالة عنه- و منهم من يرويها بالحاء يعني الخمار- . و من المعنى المذكور أولا قول بعض الشعراء- يمدح صخر بن عمرو بن الشريد الأسلمي-

إن ابن عمرو بن الشريد
له فخار لا يرام‏

و حجا إذا عدم الحجا
و ندى إذا بخل الغمام‏

يصل الحسام بخطوة
في الروع إن قصر الحسام‏

و مثله قول الراجز

يخطو إذا ما قصر العضب الذكر
خطوا ترى منه المنايا تبتدر

و مثله

و إنا لقوم ما نرى القتل سبة
إذا ما رأته عامر و سلول‏

يقصر ذكر الموت آجالنا لنا
و تكرهه آجالهم فتطول‏

و منها

و إن قصرت أسيافنا كان وصلها
خطانا إلى أعدائنا فتطول‏

و مثله قول وداك بن ثميل المازني-

مقاديم وصالون في الروع خطوهم
بكل رقيق الشفرتين يماني‏

إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم‏
لأية حرب أم بأي مكان‏

و قال آخر

إذا الكمأة تنحوا أن يصيبهم
حد السيوف وصلناها بأيدينا

و قال آخر

وصلنا الرقاق المرهفات بخطونا
على الهول حتى أمكنتنا المضارب‏

و قال بعض الرجاز

الطاعنون في النحور و الكلى
و الواصلون للسيوف بالخطا

قوله ع و اعلموا أنكم بعين الله- أي يراكم و يعلم أعمالكم- و الباء هاهنا كالباء في قوله- أنت بمرأى مني و مسمع- . قوله فعاودوا الكر- أي إذا كررتم على العدو كره فلا تقتصروا عليها- بل كروا كرة أخرى بعدها- ثم قال لهم- و استحيوا من الفرار فإنه عار في الأعقاب- أي في الأولاد- فإن الأبناء يعيرون بفرار الآباء- و يجوز أن يريد بالأعقاب جمع عقب- و هو العاقبة و ما يئول إليه الأمر- قال سبحانه خَيْرٌ ثَواباً وَ خَيْرٌ عُقْباً- أي خير عاقبة- فيعنى على هذا الوجه أن الفرار عار في عاقبة أمركم- و ما يتحدث به الناس في مستقبل الزمان عنكم- .

ثم قال و نار يوم الحساب- لأن الفرار من الزحف ذنب عظيم- و هو عندأصحابنا المعتزلة من الكبائر- قال الله تعالى وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ- إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى‏ فِئَةٍ- فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ- و الجهاد بين يدي الإمام كالجهاد بين يدي الرسول ع- . قوله ع و طيبوا عن أنفسكم نفسا- لما نصب نفسا على التمييز وحده- لأن التمييز لا يكون إلا واحدا- و إن كان في معنى الجمع- تقول انعموا بالا- و لا تضيقوا ذرعا- و أبقى الأنفس على جمعها- لما لم يكن به حاجة إلى توحيدها- يقول وطنوا أنفسكم على الموت و لا تكرهوه- و هونوه عليكم- تقول طبت عن مالي نفسا إذا هونت ذهابه- . و قوله و امشوا إلى الموت مشيا سجحا أي سهلا- و السجاحة السهولة- يقال في أخلاق فلان سجاحة- و من رواه سمحا أراد سهلا أيضا- . و السواد الأعظم يعني به جمهور أهل الشام- .

قوله و الرواق المطنب- يريد به مضرب معاوية ذا الأطناب- و كان معاوية في مضرب عليه قبة عالية- و حوله صناديد أهل الشام- و ثبجه وسطه- و ثبج الإنسان ما بين كاهله إلى ظهره- . و الكسر جانب الخباء- و قوله فإن الشيطان كامن في كسره- يحتمل وجهين- أحدهما أن يعنى به الشيطان الحقيقي- و هو إبليس- و الثاني أن يعنى به معاوية- و الثاني هو الأظهر للقرينة التي تؤيده- و هي قوله قد قدم للوثبة يدا- و أخر للنكوص رجلا- أي إن جبنتم وثب- و إن شجعتم نكص أي تأخر و فر- و من حمله على الوجه الأول جعله من باب المجاز- أي إن إبليس كالإنسان- الذي يعتوره دواع مختلفة بحسب المتجددات- فإن أنتم صدقتم عدوكم القتال فر عنكم بفرار عدوكم- و إن تخاذلتم و تواكلتم طمع فيكم بطمعه- و أقدم عليكم بإقدامه- .

و قوله ع فصمدا صمدا- أي اصمدوا صمدا صمدا- صمدت لفلان أي قصدت له- . و قوله حتى ينجلي لكم عمود الحق- أي يسطع نوره و ضوءه- و هذا من باب الاستعارة- و الواو في قوله و أنتم الأعلون واو الحال- . و لن يتركم أعمالكم أي لن ينقصكم- و هاهنا مضاف محذوف تقديره جزاء أعمالكم- و هو من كلام الله تعالى رصع به خطبته ع- . و هذا الكلام خطب به أمير المؤمنين ع- في اليوم الذي كانت عشيته ليلة الهرير- في كثير من الروايات- . و في رواية نصر بن مزاحم- أنه خطب به في أول أيام اللقاء و الحرب بصفين- و ذلك في صفر من سنة سبع و ثلاثين.

من أخبار يوم صفين

قال نصر كان علي ع يركب بغلة له يستلذها- قبل أن يلتقي الفئتان بصفين- فلما حضرت الحرب و بات تلك الليلة- يعبئ الكتائب حتى أصبح- قال ائتوني بفرس- فأتي بفرس له ذنوب أدهم- يقاد بشطنين يبحث الأرض بيديه جميعا- له حمحمةو صهيل- فركبه و قال- سبحان الذي سخر لنا هذا و ما كنا له مقرنين- لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيمقال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر الجعفي قال كان علي ع إذا سار إلى قتال- ذكر اسم الله قبل أن يركب- كان يقول الحمد لله على نعمه علينا و فضله- سبحان الذي سخر لنا هذا و ما كنا له مقرنين- و إنا إلى ربنا لمنقلبون- ثم يستقبل القبلة- و يرفع يديه إلى السماء و يقول- اللهم إليك نقلت الأقدام- و أتعبت الأبدان و أفضت القلوب- و رفعت الأيدي و شخصت الأبصار- رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ- وَ أَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ- ثم يقول سيروا على بركة الله- ثم يقول الله أكبر الله أكبر- لا إله إلا الله الله أكبر- يا الله يا أحد يا صمد- يا رب محمد اكفف عنا بأس الظالمين- الحمد لله رب العالمين- الرحمن الرحيم مالك يوم الدين- إياك نعبد و إياك نستعين- بسم الله الرحمن الرحيم- و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم- قال و كانت هذه الكلمات شعاره بصفين

قال و روى سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة قال ما كان علي ع في قتال إلا نادى يا كهيعصقال نصر و حدثنا قيس بن الربيع عن عبد الواحد بن حسان العجلي عمن حدثه أنه سمع عليا ع يقول- يوم لقائه أهل الشام بصفين- اللهم إليك رفعت الأبصار- و بسطت الأيدي و نقلت الأقدام- و دعت الألسن و أفضت القلوب- و تحوكم إليك في الأعمال- فاحكم بيننا و بينهم بالحق و أنت خير الفاتحين- اللهم إنا نشكو إليك غيبة نبينا- و قلة عددنا و كثرة عدونا- و تشتت أهوائنا و شدة الزمان و ظهور الفتن- فأعنا على ذلك بفتح منك تعجله- و نصر تعز به سلطان الحق و تظهره

قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن سلام بن سويد عن علي ع في قوله وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى‏- قال هي لا إله إلا الله- و في قوله الله أكبر قال هي آية النصرقال سلام- كانت شعاره ع يقولها في الحرب- ثم يحمل فيورد و الله من اتبعه- و من حاده حياض الموت- . قال نصر و حدثنا عمر بن سعد- عن عبد الرحمن بن جندب عن أبيه- قال لما كان غداة الخميس لسبع خلون من صفر- من سنة سبع و ثلاثين- صلى علي ع الغداة فغلس- ما رأيت عليا غلس بالغداة أشد من تغليسه يومئذ- و خرج بالناس إلى أهل الشام فزحف نحوهم- و كان هو يبدؤهم فيسير إليهم- فإذا رأوه قد زحف استقبلوه بزحوفهم- .

قال نصر فحدثني عمر بن سعد عن مالك بن أعين عن زيد بن وهب قال لما خرج علي ع إليهم غداة ذلك اليوم فاستقبلوه- رفع يديه إلى السماء و قال- اللهم رب هذا السقف المحفوظ المكفوف- الذي جعلته محيطا بالليل و النهار- و جعلت فيه مجرى الشمس و القمر- و منازل الكواكب و النجوم- و جعلت سكانه سبطا من الملائكة لا يسأمون العبادة- و رب هذه الأرض- التي جعلتها قرارا للأنام و الهوام و الأنعام- و ما لا يحصى مما يرى و مما لا يرى من خلقك العظيم- و رب الفلك التي تجري في البحر المحيط- بما ينفع الناس- و رب السحاب المسخر بين السماء و الأرض- و رب البحرالمسجور المحيط بالعالمين- و رب الجبال الرواسي التي جعلتها للأرض أوتادا- و للخلق متاعا إن أظهرتنا على عدونا- فجنبنا البغي و سددنا للحق- و إن أظهرتهم علينا فارزقنا الشهادة- و اعصم بقية أصحابي من الفتنة- .

قال فلما رأوه قد أقبل تقدموا إليه بزحوفهم- و كان على ميمنته يومئذ عبد الله بن بديل- بن ورقاء الخزاعي- و على ميسرته عبد الله بن العباس بن عبد المطلب- و قراء العراق مع ثلاثة نفر- عمار بن ياسر و قيس بن سعد بن عبادة و عبد الله بن بديل- و الناس على راياتهم و مراكزهم- و علي ع في القلب في أهل المدينة جمهورهم الأنصار- و معه من خزاعة و من كنانة عدد حسن- .

قال نصر و كان علي ع رجلا ربعة أدعج العينين- كان وجهه القمر ليلة البدر حسنا- ضخم البطن عريض المسربة- شثن الكفين ضخم الكسور- كأن عنقه إبريق فضة أصلع من خلفه شعر خفيف- لمنكبه مشاش كمشاش الأسد الضاري- إذا مشى تكفأ و مار به جسده- و لظهره سنام كسنام الثور لا يبين عضده من ساعده- قد أدمجت إدماجا- لم يمسك بذراع رجل قط إلا أمسك بنفسه- فلم يستطع أن يتنفس- و لونه إلى سمرة ما و هو أذلف الأنف- إذا مشى إلى الحرب هرول- قد أيده الله تعالى في حروبه بالنصر و الظفر- .

قال نصر و رفع معاوية قبة عظيمة- و ألقى عليها الكرابيس و جلس تحتها- . قال نصر و قد كان لهم قبل هذا اليوم أيام ثلاثة- و هي الرابع من صفر هذا- و اليوم الخامس و اليوم السادس- كانت فيها مناوشات و قتال ليس بذلك الكثير- فأما اليوم الرابع- فأن محمد بن الحنفية ع- خرج في جمع من أهل العراق- فأخرج إليه معاوية عبيد الله بن عمر بن الخطاب- في جمع من أهل الشام- فاقتتلوا- ثم إن عبيد الله بن عمر أرسل إلى محمد بن الحنفية- أن اخرج إلي أبارزك فقال نعم- ثم خرج إليه فبصر بهما علي ع- فقال من هذان المتبارزان- قيل محمد بن الحنفية و عبيد الله بن عمر- فحرك دابته ثم دعا محمدا إليه- فجاءه فقال أمسك دابتي فأمسكها- فمشى راجلا بيده سيفه نحو عبيد الله- و قال له أنا أبارزك فهلم إلي- فقال عبيد الله لا حاجة بي إلى مبارزتك- قال بلى فهلم إلي قال لا أبارزك- ثم رجع إلى صفه فرجع علي ع- فقال ابن الحنفية يا أبت لم منعتني من مبارزته- فو الله لو تركتني لرجوت أن أقتله- قال يا بني لو بارزته أنا لقتلته- و لو بارزته أنت لرجوت لك أن تقتله- و ما كنت آمن أن يقتلك- فقال يا أبت أ تبرز بنفسك- إلى هذا الفاسق اللئيم عدو الله- و الله لو أبوه يسألك المبارزة لرغبت بك عنه- فقال يا بني لا تذكر أباه- و لا تقل فيه إلا خيرا رحم الله أباه- .

قال نصر و أما اليوم الخامس- فإنه خرج فيه عبد الله بن العباس- فخرج إليه الوليد بن عقبة- فأكثر من سب بني عبد المطلب- و قال يا ابن عباس قطعتم‏ أرحامكم و قتلتم إمامكم- فكيف رأيتم صنع الله بكم- لم تعطوا ما طلبتم و لم تدركوا ما أملتم- و الله إن شاء مهلككم و ناصرنا عليكم- فأرسل إليه عبد الله بن العباس- أن ابرز إلي فأبى أن يفعل- و قاتل ابن عباس ذلك اليوم قتالا شديدا- ثم انصرفوا و كل غير غالب- .

قال نصر و خرج في ذلك اليوم- شمر بن أبرهة بن الصباح الحميري- فلحق بعلي ع في ناس من قراء أهل الشام- ففت ذلك في عضد معاوية و عمرو بن العاص- و قال عمرو يا معاوية- إنك تريد أن تقاتل بأهل الشام رجلا- له من محمد ص قرابة قريبة- و رحم ماسة و قدم في الإسلام لا يعتد أحد بمثله- و حده في الحرب لم تكن لأحد من أصحاب محمد ص- و إنه قد سار إليك بأصحاب محمد المعدودين- و فرسانهم و قرائهم و أشرافهم- و قدمائهم في الإسلام- و لهم في النفوس مهابة- فبادر بأهل الشام مخاشن الأوعار و مضايق العياض- و احملهم على الجهد- و ائتهم من باب الطمع قبل أن ترفههم- فيحدث عندهم طول المقام مللا- فتظهر فيهم كآبة الخذلان- و مهما نسيت فلا تنس أنك على باطل- و أن عليا على حق- فبادر الأمر قبل اضطرابه عليك- فقام معاوية في أهل الشام خطيبا- فقال أيها الناس أعيرونا جماجمكم و أنفسكم- لا تقتتلوا و لا تتجادلوا- فإن اليوم يوم خطار و يوم حقيقة و حفاظ- إنكم لعلى حق و بأيديكم حجة- إنما تقاتلون من نكث البيعة و سفك الدم الحرام- فليس له في السماء عاذر- . قدموا أصحاب السلاح المستلئمة- و أخروا الحاسر و احملوا بأجمعكم- فقد بلغ الحق مقطعه و إنما هو ظالم و مظلوم- .

قال نصر و خطب علي ع أصحابه فيما حدثنا به عمر بن سعد عن أبي يحيى عن محمد بن طلحة عن أبي سنان عن أبيه قال كأني أنظر إليه متوكئا على قوسه- و قد جمع أصحاب رسول الله ص عنده- فهم يلونه كأنه أحب أن يعلم الناس- أن الصحابة متوافرون معه- فحمد الله و أثنى عليه و قال- أما بعد فإن الخيلاء من التجبر- و إن النخوة من التكبر- و إن الشيطان عدو حاضر يعدكم الباطل- ألا إن المسلم أخو المسلم فلا تنابذوا و لا تخاذلوا- ألا إن شرائع الدين واحدة و سبله قاصده- من أخذ بها لحق و من فارقها محق و من تركها مرق- ليس المسلم بالخائن إذا اؤتمن- و لا بالمخلف إذا وعد و لا بالكذاب إذا نطق- نحن أهل بيت الرحمة و قولنا الصدق- و فعلنا القصد و منا خاتم النبيين- و فينا قادة الإسلام و فينا حملة الكتاب- ألا إنا ندعوكم إلى الله و إلى رسوله- و إلى جهاد عدوه و الشدة في أمره- و ابتغاء مرضاته و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة- و حج البيت و صيام شهر رمضان- و توفير الفي‏ء على أهله- ألا و إن من أعجب العجائب- أن معاوية بن أبي سفيان الأموي- و عمرو بن العاص السهمي- أصبحا يحرضان الناس على طلب الدين بزعمهما- و لقد علمتم أني لم أخالف رسول الله ص قط- و لم أعصه في أمر- أقيه بنفسي في المواطن التي ينكص فيها الأبطال- و ترعد فيها الفرائص- بنجدة أكرمني الله سبحانه بها و له الحمد- و لقد قبض رسول الله ص و إن رأسه لفي حجري- و لقد وليت غسله بيدي وحدي- تقلبه الملائكة المقربون معي- و ايم الله ما اختلفت أمة قط بعد نبيها- إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها إلا ما شاء الله قال أبو سنان الأسلمي فأشهد لقد سمعت عمار بن ياسر يقول للناس أما أمير المؤمنين فقد أعلمكم- أن الأمة لم تستقم عليه أولا- و أنها لن تستقيم عليه آخرا- .

قال ثم تفرق الناس- و قد نفذت أبصارهم في قتال عدوهم- فتأهبوا و استعدوا-قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن مالك بن أعين عن زيد بن وهب أن عليا ع قال في هذه الليلة- حتى متى لا نناهض القوم بأجمعنا- ثم قام في الناس فقال- الحمد لله الذي لا يبرم ما نقض و لا ينقض ما أبرم- و لو شاء ما اختلف اثنان من هذه الأمة و لا من خلقه- و لا تنازع البشر في شي‏ء من أمره- و لا جحد المفضول ذا الفضل فضله- و قد ساقتنا و هؤلاء القوم الأقدار- حتى لفت بيننا في هذا الموضع- و نحن من ربنا بمرأى و مسمع- و لو شاء لعجل النقمة و لكان منه النصر- حتى يكذب الله الظالم و يعلم الحق أين مصيره- و لكنه جعل الدنيا دار الأعمال- و الآخرة دار الجزاء و القرار- لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا- وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى- ألا إنكم لاقوا العدو غدا إن شاء الله- فأطيلوا الليلة القيام و أكثروا تلاوة القرآن- و اسألوا الله الصبر و النصر- و ألقوهم بالجد و الحزم و كونوا صادقين- .

قال فوثب الناس- إلى رماحهم و سيوفهم و نبالهم يصلحونها- و خرج ع فعبى الناس ليلته تلك كلها حتى أصبح- و عقد الألوية و أمر الأمراء و كتب الكتائب- و بعث إلى أهل الشام مناديا نادى فيهم- اغدوا على مصافكم- فضج أهل الشام في معسكرهم- و اجتمعوا إلى معاوية فعبى خيله- و عقد ألويته و أمر أمراءه و كتب كتائبه- و أحاط به أهل حمص في راياتهم- و عليهم أبو الأعور السلمي- و أهل الأردن في راياتهم عليهم عمرو بن العاص- و أهل قنسرين و عليهم زفر بن الحارث الكلابي- و أهل دمشق و هم القلب-و عليهم الضحاك بن قيس الفهري- فأطافوا كلهم بمعاوية- و كان أهل الشام أكثر من أهل العراق بالضعف- و سار أبو الأعور و عمرو بن العاص و من معهما- حتى وقفا بحيال أهل العراق فنظرا إليهم- و استقلا جمعهم و طمعا فيهم- و نصب لمعاوية منبر فقعد عليه في قبة ضربها- ألقي عليها الثياب و الأرائك- و أحاط به أهل يمن- و قال لا يقربن هذا المنبر أحد لا تعرفونه- إلا قتلتموه كائنا من كان- .

قال نصر و أرسل عمرو إلى معاوية- قد عرفت ما بيننا من العهد و العقد- فاعصب برأسي هذا الأمر- و أرسل إلى أبي الأعور فنحه عني و دعني و القوم- فأرسل معاوية إلى أبي الأعور- أن لأبي عبد الله رأيا و تجربة ليست لي و لا لك- و قد وليته أعنة الخيل- فسر أنت حتى تقف بخيلك على تل كذا و دعه و القوم- . فسار أبو الأعور- و بقي عمرو بن العاص فيمن معه- واقفا بإزاء عسكر العراق- فنادى عمرو ابنيه عبد الله و محمدا- فقال لهما قدما هؤلاء الدرع و أخرا هؤلاء الحسر- و أقيما الصف قص الشارب- فإن هؤلاء قد جاءوا بخطة قد بلغت السماء- . فمشيا برايتهما فعدلا الصفوف- و سار بينهما عمرو فأحسن الصف ثانية- ثم حمل قيسا و كليبا و كنانة على الخيول- و رجل سائر الناس- . قال نصر و بات كعب بن جعيل التغلبي- شاعر أهل الشام تلك الليلة يرتجز و ينشد-

أصبحت الأمة في أمر عجب
و الملك مجموع غدا لمن غلب‏

أقول قولا صادقا غير كذب‏
إن غدا يهلك أعلام العرب‏

غدا نلاقي ربنا فنحتسب
غدا يصيرون رمادا قد ذهب‏

بعد الجمال و الحياء و الحسب
يا رب لا تشمت بنا و لا تصب‏

من خلع الأنداد طرا و الصلب‏

قال نصر و قال معاوية- من في ميسرة أهل العراق فقيل ربيعة- فلم يجد في الشام ربيعة فجاء بحمير- فجعلها بإزاء ربيعة على قرعة- أقرعها بين حمير و عك- فقال ذو الكلاع الحميري- باستك من سهم لم تبغ الضراب- كأنه أنف عن أن تكون حمير بإزاء ربيعة- فبلغ ذلك حجدرا الحنفي- فحلف بالله إن عاينه ليقتلنه أو ليموتن دونه- فجاءت حمير حتى وقفت بإزاء ربيعة- و جعل السكاسك و السكون بإزاء كندة- و عليهما الأشعث بن قيس- و جعل بإزاء همدان العراق الأزد- و بإزاء مذحج العراق عكا- . و قال راجز من أهل الشام-

ويل لأم مذحج من عك
و أمهم قائمة تبكي‏

نصكهم بالسيف أي صك‏
فلا رجال كرجال عك‏

قال و طرحت عك حجرا بين أيديهم و قالوا لا نفر حتى يفر هذا الحكر بالكاف- و عك تقلب الجيم كافا- و صف القلب خمسة صفوف- و فعل أهل العراق أيضا مثل ذلك- و نادى عمرو بن العاص بأعلى صوته-

يا أيها الجند الصليب الإيمان
قوموا قياما و استعينوا الرحمن‏

إني أتاني خبر ذو ألوان‏
إن عليا قتل ابن عفان‏

ردوا علينا شيخنا كما كان‏

فرد عليه أهل العراق و قالوا-

أبت سيوف مذحج و همدان
بأن ترد نعثلا كما كان‏

خلقا جديدا مثل خلق الرحمن‏
ذلك شأن قد مضى و ذا شان‏

ثم نادى عمرو بن العاص ثانية برفع صوته-

ردوا علينا شيخنا ثم بجل
أو لا تكونوا جزرا من الأسل‏

فرد عليه أهل العراق

كيف نرد نعثلا و قد قحل
نحن ضربنا رأسه حتى انجفل‏

و أبدل الله به خير بدل‏
أعلم بالدين و أزكى بالعمل‏

و قال إبراهيم بن أوس بن عبيدة من أهل الشام-

لله در كتائب جاءتكم
تبكي فوارسها على عثمان‏

تسعون ألفا ليس فيهم قاسط
يتلون كل مفصل و مثان‏

يسلون حق الله لا يعدونه
و مجيبكم للملك و السلطان‏

فأتوا ببينة على ما جئتم‏
أو لا فحسبكم من العدوان‏

و أتوا بما يمحو قصاص خليفة
لله ليس بكاذب خوان‏

قال نصر و بات علي ع ليلته يعبئ الناس- حتى إذا أصبح زحف بهم- و خرج إليه معاوية في أهل الشام فجعل يقول- من هذه القبيلة و من هذه القبيلة- يعني قبائل أهل الشام- فيسمون له حتى إذا عرفهم و عرف مراكزهم- قال للأزد اكفوني الأزد- و قال لخثعم اكفوني خثعما- و أمر كل قبيلة من العراق- أن تكفيه أختها من أهل الشام- إلا قبيلة ليس منهم بالعراق إلا القليل مثل بجيلة- فإن لخما كانت بإزائها- ثم تناهض القوم يوم الأربعاء سادس صفر- و اقتتلوا إلى آخر نهارهم و انصرفوا عند المساء- و كل غير غالب- .

قال نصر فأما اليوم السابع- فكان القتال فيه شديدا و الخطب عظيما- و كان عبد الله بن بديل الخزاعي على ميمنة العراق- فزحف نحو حبيب بن مسلمة و هو على ميسرة أهل الشام- فلم يزل يحوزه و يكشف خيله- حتى اضطر بهم إلى قبة معاوية وقت الظهر- . قال نصر فحدثنا عمر بن سعد قال- حدثنا مالك بن أعين عن زيد بن وهب- أن عبد الله بن بديل قام في أصحابه فخطبهم- فقال ألا إن معاوية ادعى ما ليس له- و نازع الأمر أهله و من ليس مثله- و جادل بالباطل ليدحض به الحق- و صال عليكم بالأعراب و الأحزاب- و زين لهم الضلالة و زرع في قلوبهم حب الفتنة- و لبس عليهم الأمور و زادهم رجسا إلى رجسهم- و أنتم و الله على نور و برهان مبين- قاتلوا الطغاة الجفاة قاتلوهم و لا تخشوهم- و كيف تخشونهم- و في أيديكم كتاب من ربكم ظاهر مبين- أَ تَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ- قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ-وَ يُخْزِهِمْ وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ- وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ- و لقد قاتلتهم مع النبي ص- و الله ما هم في هذه بأزكى و لا أتقى و لا أبر- انهضوا إلى عدو الله و عدوكم- .

قال نصر و حدثنا عمر بن سعد- قال حدثني عبد الرحمن عن أبي عمرو عن أبيه- أن عليا ع خطب في ليلة هذا اليوم- فقال معاشر المسلمين استشعروا الخشية- و تجلببوا السكينة و عضوا على النواجذ- فإنه أنبى للسيوف عن الهام…- الفصل بطوله إلى آخره- و هو المذكور في الكتاب- .

و روى نصر أيضا بالإسناد المذكور أن عليا ع خطب ذلك اليوم و قال- أيها الناس إن الله تعالى ذكره- قد دلكم على تجارة تنجيكم من العذاب- و تشفي بكم على الخير- إيمان بالله و رسوله و جهاد في سبيله- و جعل ثوابه مغفرة الذنوب- و مساكن طيبة في جنات عدن- و رضوان من الله أكبر- و أخبركم بالذي يحب فقال- إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا- كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ- فسووا صفوفكم كالبنيان المرصوص- و قدموا الدارع و أخروا الحاسر- و عضوا على الأضراس- فإنه أنبى للسيوف عن الهام- و أربط للجأش و أسكن للقلوب- و أميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل و أولى بالوقار- و التووا في أطراف الرماح فإنه أمور للأسنة- و رايتكم فلا تميلوها و لا تزيلوها- و لا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم المانعي الذمار- و الصبر عند نزول الحقائق- أهل الحفاظ الذين يحفون برايتكم و يكتنفونها- يضربون خلفها و أمامها و لا تضيعوها- أجزاء كل امرئ وقذ قرنه- و واسى أخاه بنفسه و لم يكل قرنه إلى أخيه- فيجمع عليه قرنه و قرن أخيه- فيكسب بذلك من الإثم و يأتي به دناءة- أنى هذا و كيف يكون هكذا- هذا يقاتل اثنين و هذا ممسك يده- قد خلى قرنه إلى أخيه هاربا منه أو قائما ينظر إليه- من يفعل هذا يمقته الله فلا تعرضوا لمقت الله- فإنما مردكم إلى الله- قال الله تعالى لقوم عابهم- لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ- وَ إِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا- و ايم الله لئن فررتم من سيف العاجلة- لا تسلمون من سيف الآخرة- استعينوا بالصدق و الصبر- فإنه بعد الصبر ينزل النصر- .

قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر- عن جابر عن الشعبي- عن مالك بن قدامة الأرحبي- قال قام سعيد بن قيس يخطب أصحابه بقناصرين- فقال الحمد لله الذي هدانا لدينه و أورثنا كتابه- و امتن علينا بنبيه فجعله رحمة للعالمين- و سيدا للمرسلين و قائدا للمؤمنين و خاتما للنبيين- و حجة الله العظيم على الماضين و الغابرين- ثم كان فيما قضى الله و قدره- و له الحمد على ما أحببنا و كرهنا- أن ضمنا و عدونا بقناصرين- فلا يجمل بنا اليوم الحياص- و ليس هذا بأوان انصراف- و لات حين مناص- و قد خصنا الله منه برحمة لا نستطيع أداء شكرها- و لا نقدر قدرها- إن أصحاب محمد المصطفين الأخيار معناو في حيز- فو الله الذي هو بالعباد بصير- أن لو كان قائدنا رجلا مجدعا- إلا أن معنا من البدريين سبعين رجلا- لكان ينبغي لنا أن تحسن بصائرنا و تطيب أنفسنا- فكيف و إنما رئيسنا ابن عم نبينا بدري صدق- صلى صغيرا و جاهد مع نبيكم كثيرا- و معاوية طليق من وثاق الإسار و ابن طليق- ألا إنه أغوى جفاة فأوردهم النار و أوردهم العار- و الله محل بهم الذل و الصغار- ألا إنكم ستلقون عدوكم غدا- فعليكم بتقوى الله- من الجد و الحزم و الصدق و الصبر- فإن الله مع الصابرين- ألا إنكم تفوزون بقتلهم و يشقون بقتلكم- و الله لا يقتل رجل منكم رجلا منهم- إلا أدخل الله القاتل جنات عدن- و أدخل المقتول نارا تلظى- لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ- عصمنا الله و إياكم بما عصم به أولياءه- و جعلنا و إياكم ممن أطاعه و اتقاه- و أستغفر الله العظيم لي و لكم و للمؤمنين- . ثم قال الشعبي و لقد صدق فعله ما قال في خطبته- .

قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر- عن جابر عن أبي جعفر و زيد بن الحسن قالا- طلب معاوية إلى عمرو بن العاص- أن يسوي صفوف أهل الشام- فقال له عمرو على أن لي حكمي- أن قتل الله ابن أبي طالب- و استوثقت لك البلاد- فقال أ ليس حكمك في مصر- قال و هل مصر تكون عوضا عن الجنة- و قتل ابن أبي طالب ثمنا لعذاب النار- الذي لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ- فقال معاوية إن لك حكمك أبا عبد الله- إن قتل ابن أبي طالب- رويدا لا يسمع أهل الشام كلامك- فقام عمرو فقال معاشر أهل الشام- سووا صفوفكم قص الشارب- و أعيرونا جماجمكم ساعة- فقد بلغ الحق مقطعه فلم يبق إلا ظالم أو مظلوم- . قال نصر و أقبل أبو الهيثم بن التيهان- و كان من أصحاب رسول الله ص- بدريا نقيبا عقبيا- يسوي صفوف أهل العراق و يقول- يا معشر أهل العراق- إنه ليس بينكم و بين الفتح في العاجل- و الجنة في الآجل- إلا ساعة من النهار- فأرسوا أقدامكم و سووا صفوفكم- و أعيروا ربكم جماجمكم- استعينوا بالله إلهكم- و جاهدوا عدو الله و عدوكم- و اقتلوهم قتلهم الله و أبادهم- و اصبروا فإن الأرض لله- يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتقين- .

قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر عن الفضل بن أدهم عن أبيه أن الأشتر قام يخطب الناس بقناصرين- و هو يومئذ على فرس أدهم- مثل حلك الغراب فقال- الحمد لله الذي خلق السموات العلى- الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى‏- لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ- وَ ما بَيْنَهُما وَ ما تَحْتَ الثَّرى‏- أحمده على حسن البلاء و تظاهر النعماء- حمدا كثيرا بكرة و أصيلا- من هداه الله فقد اهتدى و من يضلل فقد غوى- أرسل محمدا بالصواب و الهدى- فأظهره على الدين كله و لو كره المشركون صلى الله عليه و سلم- ثم قد كان مما قضى الله سبحانه- و قدر أن ساقتنا المقادير إلى أهل هذه البلدة من الأرض- فلفت بيننا و بين عدو الله و عدونا- فنحن بحمد الله و نعمه و منه و فضله- قريرة أعيننا طيبة أنفسنا- نرجو بقتالهم حسن الثواب و الأمن من العقاب- معنا ابن عم نبينا- و سيف من سيوف الله علي بن أبي طالب- صلى مع رسول الله- لم يسبقه إلى الصلاةذكر حتى كان شيخا- لم تكن له صبوة و لا نبوة و لا هفوة و لا سقطة- فقيه في دين الله تعالى عالم بحدود الله- ذو رأي أصيل و صبر جميل و عفاف قديم- فاتقوا الله و عليكم بالحزم و الجد- و اعلموا أنكم على الحق و أن القوم على الباطل- إنما تقاتلون معاوية- و أنتم مع البدريين قريب من مائة بدري- سوى من حولكم من أصحاب محمد- أكثر ما معكم رايات قد كانت مع رسول الله- و مع معاوية رايات- قد كانت مع المشركين على رسول الله- فما يشك في قتال هؤلاء إلا ميت القلب- أنتم على إحدى الحسنيين إما الفتح و إما الشهادة- عصمنا الله و إياكم بما عصم به من أطاعه و اتقاه- و ألهمنا و إياكم طاعته و تقواه- و أستغفر الله لي و لكم- .

قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر- عن جابر عن الشعبي عن صعصعة بن صوحان- عن زامل بن عمرو الجذامي- قال طلب معاوية إلى ذي الكلاع- أن يخطب الناس و يحرضهم على قتال علي ع- و من معه من أهل العراق- فعقد فرسه و كان من أعظم أصحاب معاوية خطرا- و خطب الناس فقال- الحمد لله حمدا كثيرا ناميا واضحا منيرا- بكرة و أصيلا- أحمده و أستعينه و أومن به- و أتوكل عليه و كفى بالله وكيلا- و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له- و أشهد أن محمدا عبده و رسوله- أرسله بالفرقان إماما و بالهدى و دين الحق- حين ظهرت المعاصي و درست الطاعة- و امتلأت الأرض جورا و ضلالة- و اضطرمت الدنيا نيرانا و فتنة- و ورك عدو الله إبليس- على أن يكون قد عبد في أكنافها- و استولى على جميع أهلها- فكان محمد ص هو الذي أطفأ الله به نيرانها- و نزع به أوتادها و أوهن به‏قوى إبليس- و آيسه مما كان قد طمع فيه من ظفره بهم- و أظهره على الدين كله و لو كره المشركون- ثم كان من قضاء الله- أن ضم بيننا و بين أهل ديننا بصفين- و إنا لنعلم أن فيهم قوما- قد كانت لهم مع رسول الله ص سابقة- ذات شأن و خطر عظيم- و لكني ضربت الأمر ظهرا و بطنا- فلم أر يسعني أن يهدر دم عثمان صهر نبينا ص- الذي جهز جيش العسرة- و ألحق في مصلى رسول الله ص بيتا- و بنى سقاية بايع له نبي الله بيده اليمنى على اليسرى- و اختصه بكريمتيه أم كلثوم و رقية- فإن كان قد أذنب ذنبا فقد أذنب من هو خير منه- قال الله سبحانه لنبيه- لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ- و قتل موسى نفسا ثم استغفر الله فغفر له- و قد أذنب نوح ثم استغفر الله فغفر له- و قد أذنب أبوكم آدم ثم استغفر الله فغفر له- و لم يعر أحدكم من الذنوب- و إنا لنعلم أنه قد كانت لابن أبي طالب سابقة حسنة- مع رسول الله ص- فإن لم يكن مالأ على قتل عثمان فلقد خذله- و إنه لأخوه في دينه و ابن عمه و سلفه و ابن عمته- ثم قد أقبلوا من عراقهم حتى نزلوا شامكم- و بلادكم و بيضتكم- و إنما عامتهم بين قاتل و خاذل- فاستعينوا بالله و اصبروا- فلقد ابتليتم أيتها الأمة- و لقد رأيت في منامي في ليلتي هذه- لكانا و أهل العراق اعتورنا مصحفا نضربه بسيوفنا- و نحن في ذلك جميعا ننادي- ويحكم الله و مع أنا و الله لا نفارق العرصة حتى نموت- فعليكم بتقوى الله و لتكن النيات لله- فإني سمعت عمر بن الخطاب يقول سمعت رسول الله ص يقول إنما يبعث المقتتلون على النيات – أفرغ الله علينا و عليكم الصبر و أعز لنا و لكم النصر- و كان لنا و لكم في كل أمر- و أستغفر الله لي و لكم- .

قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر- عن ابن عامر عن صعصعة العبدي- عن أبرهة بن الصباح قال- قام يزيد بن أسد البجلي في أهل الشام- يخطب الناس بصفين- و عليه قباء من خز و عمامة سوداء- آخذا بقائم سيفه- واضعا نصل السيف في الأرض متوكئا عليه- قال صعصعة فذكر لي أبرهة- أنه كان يومئذ من أجمل العرب و أكرمها و أبلغها- فقال الحمد لله الواحد الفرد- ذي الطول و الجلال العزيز الجبار- الحكيم الغفار الكبير المتعال- ذي العطاء و الفعال و السخاء و النوال- و البهاء و الجمال و المن و الإفضال- مالك اليوم الذي لا بيع فيه و لا خلال- أحمده على حسن البلاء و تظاهر النعماء- و في كل حال من شدة أو رخاء- أحمده على نعمه التؤام و آلائه العظام- حمدا يستنير بالليل و النهار- و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له- كلمة النجاة في الحياة و عند الوفاة- و فيها الخلاص يوم القصاص- و أشهد أن محمدا عبده و رسوله- النبي المصطفى و إمام الهدى ص- ثم كان من قضاء الله أن جمعنا و أهل ديننا- في هذه الرقعة من الأرض- و الله يعلم أني كنت كارها لذلك- و لكنهم لم يبلعونا ريقنا- و لم يتركونا نرتاد لأنفسنا- و ننظر لمعادنا حتى نزلوا بين أظهرنا- و في حريمنا و بيضتنا- و قد علمنا أن في القوم أحلاما و طغاما- و لسنا نأمن من طغامهم على ذرارينا و نسائنا- و لقد كنا نحب ألا نقاتل أهل ديننا- فأخرجونا حتى صارت الأمور- إلى أن قاتلناهم غدا حمية- فإنا لله و إنا إليه راجعون و الحمد لله رب العالمين- .

أما و الذي بعث محمدا بالرسالة- لوددت أني مت منذ سنة- و لكن الله إذا أراد أمرا لم يستطع العباد رده- فنستعين بالله العظيم و أستغفر الله لي و لكم- . قال نصر و حدثنا عمرو عن أبي روق الهمداني- أن يزيد بن قيس الأرحبي- حرض أهل العراق بصفين يومئذ- فقال إن المسلم السليم من سلم دينه و رأيه- و إن هؤلاء القوم- و الله ما أن يقاتلوننا على إقامة دين رأونا ضيعناه- و لا على إحياء حق رأونا أمتناه- و لا يقاتلوننا إلا على هذه الدنيا- ليكونوا فيها جبابرة و ملوكا- و لو ظهروا عليكم- لا أراهم الله ظهورا و لا سرورا- إذا لوليكم مثل سعيد- و الوليد و عبد الله بن عامر السفيه- يحدث أحدهم في مجلسه بذيت و ذيت- و يأخذ مال الله و يقول لا إثم علي فيه- كأنما أعطي تراثه من أبيه- كيف إنما هو مال الله- أفاءه علينا بأسيافنا و رماحنا- قاتلوا عباد الله القوم الظالمين- الحاكمين بغير ما أنزل الله- و لا تأخذكم فيهم لومة لائم- إنهم أن يظهروا عليكم- يفسدوا عليكم دينكم و دنياكم- و هم من قد عرفتم و جربتم- و الله ما أرادوا باجتماعهم عليكم إلا شرا- و أستغفر الله العظيم لي و لكم- . قال نصر و ارتجز عمرو بن العاص و أرسل بها إلى علي-

لا تأمننا بعدها أبا حسن
إنا نمر الأمر إمرار الرسن‏

و يروى
خذها إليك و اعلمن أبا حسن‏

لتصبحن مثلها أم لبن
طاحنة تدقكم دق الحفن‏

قال فأجابه شاعر من شعراء أهل العراق-

ألا احذروا في حربكم أبا حسن
ليثا أبا شبلين محذور فطن‏

يدقكم دق المهاريس الطحن‏
لتغبنن يا جاهلا أي غبن‏

حتى تغض الكف أو تقرع سن‏

قال نصر فحدثنا عمرو بن شمر عن جابر- عن الشعبي أن أول فارسين التقيا في هذا اليوم- و هو اليوم السابع من صفر- و كان من الأيام العظيمة في صفين- ذا أهوال شديدة حجر الخير و حجر الشر- أما حجر الخير فهو حجر بن عدي- صاحب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ع- و أما حجر الشر فابن عمه كلاهما من كندة- و كان من أصحاب معاوية- فأطعنا برمحيهما و خرج رجل من بني أسد يقال له خزيمة- من عسكر معاوية- فضرب حجر بن عدي ضربة برمحه- فحمل أصحاب علي ع فقتلوا خزيمة الأسدي- و نجا حجر الشر هاربا فالتحق بصف معاوية- ثم برز حجر الشرثانية- فبرز إليه الحكم بن أزهر من أهل العراق- فقتله حجر الشر- فخرج إليه رفاعة بن ظالم الحميري من صف العراق- فقتله و عاد إلى أصحابه يقول- الحمد لله الذي قتل حجر الشر بالحكم بن أزهر- .

ثم إن عليا ع دعا أصحابه- إلى أن يذهب واحد منهم بمصحف كان في يده- إلى أهل الشام- فقال من يذهب إليهم- فيدعوهم إلى ما في هذا المصحف- فسكت الناس و أقبل فتى اسمه سعيد- فقال أنا صاحبه فأعاد القول ثانية- فسكت الناس و تقدم الفتى فقال أنا صاحبه- فسلمه إليه فقبضه بيده- ثم أتاهم فأنشدهم الله- و دعاهم إلى ما فيه فقتلوه- فقال علي ع لعبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي- احمل عليهم الآن- فحمل عليهم بمن معه من أهل الميمنة- و عليه يومئذ سيفان و درعان- فجعل يضرب بسيفه قدما و يقول-

لم يبق غير الصبر و التوكل
و الترس و الرمح و سيف مقصل‏

ثم التمشي في الرعيل الأول‏
مشى الجمال في حياض المنهل‏

 فلم يزل يحمل حتى انتهى إلى معاوية- و الذين بايعوه إلى الموت- فأمرهم أن يصمدوا لعبد الله بن بديل- و بعث إلى حبيب بن مسلمة الفهري و هو في الميسرة- أن يحمل عليه بجميع من معه- و اختلط الناس و اضطرم الفيلقان- ميمنة أهل العراق و ميسرة أهل الشام- و أقبل عبد الله بن بديل يضرب الناس بسيفه قدما- حتى أزال معاوية عن موقفه و جعل ينادي- يا ثارات عثمان و إنما يعني أخا له قد قتل- و ظن معاوية و أصحابه أنه يعني عثمان بن عفان- و تراجع معاوية عن مكانه القهقرى كثيرا- و أشفق على نفسه- و أرسل إلى حبيب بن مسلمة مرة ثانية و ثالثة- يستنجده و يستصرخه- و يحمل حبيب حملة شديدة- بميسرة معاوية على ميمنة العراق- فكشفها حتى لم يبق مع ابن بديل- إلا نحو مائة إنسان من القراء- فاستند بعضهم إلى بعض يحمون أنفسهم- و لجج ابن بديل في الناس و صمم على قتل معاوية- و جعل يطلب موقفه و يصمد نحوه حتى انتهى إليه- و مع معاوية عبد الله بن عامر واقفا- فنادى معاوية في الناس- ويلكم الصخر و الحجارة إذا عجزتم عن السلاح- فرضخه الناس بالصخر و الحجارة حتى أثخنوه فسقط- فأقبلوا عليه بسيوفهم فقتلوه- . و جاء معاوية و عبد الله بن عامر حتى وقفا عليه- فأما عبد الله بن عامر فألقى عمامته على وجهه- و ترحم عليه و كان له أخا صديقا من قبل- فقال معاوية اكشف عن وجهه- فقال لا و الله لا يمثل به و في روح- فقال معاوية اكشف عن وجهه- فإنا لا نمثل به قد وهبناه لك- فكشف ابن عامر عن وجهه- فقال معاوية هذا كبش القوم و رب الكعبة- اللهم أظفرني بالأشتر النخعي و الأشعث الكندي- و الله ما مثل هذا إلا كما قال الشاعر-

أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها
و إن شمرت عن ساقها الحرب شمرا

و يحمي إذا ما الموت كان لقاؤه‏
قدى الشبر يحمي الأنف أن يتأخرا

كليث هزبر كان يحمي ذماره
رمته المنايا قصدها فتقطرا

ثم قال إن نساء خزاعة- لو قدرت على أن تقاتلني فضلا عن رجالها لفعلت- . قال نصر فحدثنا عمرو عن أبي روق- قال استعلى أهل الشام عند قتل ابن بديل- على أهل العراق يومئذ- و انكشف أهل العراق من قبل الميمنة- و أجفلوا إجفالا شديدا- فأمر علي ع سهل بن حنيف- فاستقدم من كان معه ليرفد الميمنة و يعضدها- فاستقبلهم جموع أهل الشام في خيل عظيمة- فحملت عليهم فألحقتهم بالميمنة- و كانت ميمنة أهل العراق متصلة بموقف علي ع- في القلب في أهل اليمن- فلما انكشفوا انتهت الهزيمة إلى علي ع- فانصرف يمشي نحو الميسرة- فانكشف مضر عن الميسرة أيضا- فلم يبق مع علي ع من أهل العراق- إلا ربيعة وحدها في الميسرة- . قال نصر فحدثنا عمرو قال- حدثنا مالك بن أعين عن زيد بن وهب قال- لقد مر علي ع يومئذ و معه بنوه نحو الميسرة- و معه ربيعة وحدها- و إني لأرى النبل يمر بين عاتقه و منكبيه- و ما من بنيه إلا من يقيه بنفسه- فيكره علي ع ذلك- فيتقدم عليه و يحول بينه و بين أهل الشام- و يأخذه بيده إذا فعل ذلك فيلقيه من ورائه- و يبصر به أحمر مولى بني أمية و كان شجاعا- و قال علي ع و رب الكعبة- قتلني الله إن لم أقتلك فأقبل نحوه- فخرج إليه كيسان مولى علي ع- فاختلفا ضربتين فقتله أحمر- و خالط عليا ليضربه بالسيف و ينتهزه علي- فتقع يده في جيب درعه فجذبه عن فرسه- فحمله على عاتقه- فو الله لكأني أنظر إلى رجلي أحمر- تختلفان على عنق علي- ثم ضرب به الأرض فكسر منكبه و عضديه- و شد ابنا علي حسين و محمد- فضرباه بأسيافهما حتى برد- فكأني أنظر إلى علي قائما- و شبلاه يضربان الرجل حتى إذا أتيا عليه- أقبلا على أبيهما- و الحسن قائم معه فقال له علي يا بني- ما منعك أن تفعل كما فعل أخواك- فقال كفياني يا أمير المؤمنين- .

قال ثم إن أهل الشام دنوا منه يريدونه- و الله ما يزيده قربهم منه- و دنوهم إليه سرعة في مشيته- فقال له الحسن ما ضرك لو أسرعت- حتى تنتهي إلى الذين صبروا لعدوك من أصحابك- قال يعني ربيعة الميسرة- فقال علي يا بني إن لأبيك يوما- لن يعدوه و لا يبطئ به عند السعي- و لا يقربه إليه الوقوف- إن أباك لا يبالي- أن وقع على الموت أو وقع الموت عليه- .

قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر عن أبي إسحاق قال خرج علي ع يوما من أيام صفين و في يده عنزة- فمر على سعيد بن قيس الهمداني- فقال له سعد أ ما تخشى يا أمير المؤمنين- أن يغتالك أحد و أنت قرب عدوك- فقال علي ع إنه ليس من أحد إلا و عليه من الله حفظة- يحفظونه من أن يتردى في قليب- أو يخر عليه حائط أو تصيبه آفة- فإذا جاء القدر خلوا بينه و بينه- .

قال نصر و حدثنا عمرو عن فضيل بن خديج قال- لما انهزمت ميمنة العراق يومئذ- أقبل علي ع نحو الميسرة يركض- يستثيب الناس و يستوقفهم- و يأمرهم بالرجوع نحو الفزع-فمر بالأشتر فقال يا مالك- قال لبيك يا أمير المؤمنين- قال ائت هؤلاء القوم فقل لهم- أين فراركم من الموت الذي لن تعجزوه- إلى الحياة التي لا تبقى لكم- فمضى الأشتر فاستقبل الناس منهزمين- فقال لهم الكلمات و ناداهم- إلى أيها الناس أنا مالك بن الحارث يكررها- فلم يلو أحد منهم عليه- و ظن أن‏الأشتر أعرف في الناس- من مالك بن الحارث- فجعل ينادي ألا أيها الناس- فأنا الأشتر- فانقلب نحوه طائفة و ذهبت عنه طائفة- فقال عضضتم بهن أباكم- ما أقبح و الله ما فعلتم اليوم- أيها الناس غضوا الأبصار و عضوا على النواجذ- و استقبلوا القوم بهامكم- و شدوا عليهم شدة قوم موتورين- بآبائهم و أبنائهم و إخوانهم- حنقا على عدوهم- قد وطنوا على الموت أنفسهم كي لا يسبقوا بثأر- إن هؤلاء القوم و الله لن يقاتلوكم إلا عن دينكم- ليطفئوا السنة و يحيوا البدعة- و يدخلوكم في أمر قد أخرجكم الله منه بحسن البصيرة- فطيبوا عباد الله نفسا بدمائكم دون دينكم- فإن الفرار فيه سلب العز و الغلبة على الفي‏ء- و ذل المحيا و الممات و عار الدنيا و الآخرة- و سخط الله و أليم عقابه- .

ثم قال أيها الناس أخلصوا إلى مذحجا- فاجتمعت إليه مذحج- فقال لهم عضضتم بصم الجندل- و لله ما أرضيتم اليوم ربكم و لا نصحتم له في عدوه- و كيف ذلك و أنتم أبناء الحرب و أصحاب الغارات- و فتيان الصباح و فرسان الطراد- و حتوف الأقران و مذحج الطعان- الذين لم يكونوا سبقوا بثأرهم و لم تطل دماؤهم- و لم يعرفوا في موطن من المواطن بخسف- و أنتم سادة مصركم و أعز حي في قومكم- و ما تفعلوا في هذا اليوم فهو مأثور بعد اليوم- فاتقوا مأثور الحديث في غد- و اصدقوا عدوكم اللقاء- فإن الله مع الصابرين- و الذي نفس مالك بيده ما من هؤلاء- و أشار بيده إلى أهل الشام- رجل على مثل جناح البعوضة من دين الله- لله أنتم ما أحسنتم اليوم القراع- احبسوا سواد وجهي يرجع فيه دمي- عليكم هذا السواد الأعظم- فإن الله لو قد فضه تبعه من بجانبيه- كما يتبع السيل مقدمه- .

فقالوا خذ بنا حيث أحببت- فصمد بهم نحو عظمهم- و استقبله أشباههم من همدان- و هم نحو ثمانمائة مقاتل قد انهزموا آخر الناس- و كانوا قد صبروا في ميمنة علي ع- حتى قتل منهم مائة و ثمانون رجلا- و أصيب منهم أحد عشر رئيسا- كلما قتل منهم رئيس أخذ الراية آخر- و هم بنو شريح الهمدانيون- و غيرهم من رؤساء العشيرة- فأول من أصيب منهم كريب بن شريح- و شرحبيل بن شريح و مرثد بن شريح- و هبيرة بن شريح و هريم بن شريح- و شهر بن شريح و شمر بن شريح- قتل هؤلاء الإخوة الستة في وقت واحد- . ثم أخذ الراية سفيان بن زيد ثم كرب بن زيد- ثم عبد بن زيد- فقتل هؤلاء الإخوة الثلاثة أيضا- ثم أخذ الراية عمير بن بشر ثم أخوه الحارث بن بشر- فقتلا جميعا- ثم أخذ الراية أبو القلوص وهب بن كريب- فقال له رجل من قومه- انصرف يرحمك الله بهذه الراية- ترحها الله فقد قتل الناس حولها- فلا تقتل نفسك و لا من بقي معك- فانصرفوا و هم يقولون- ليت لنا عديدا من العرب يحالفوننا على الموت- ثم نستقدم نحن و هم فلا ننصرف حتى نظفر أو نقتل- فمروا بالأشتر و هم يقولون هذا القول- فقال لهم الأشتر- أنا أحالفكم و أعاقدكم على ألا نرجع أبدا- حتى نظفر أو نهلك- فوقفوا معه على هذه النية و العزيمة- فهذا معنى قول كعب بن جعيل-
و همدان زرق تبتغي من تحالف- .

قال و زحف الأشتر نحو الميمنة- و ثاب إليه أناس تراجعوا- من أهل الصبر و الوفاءو الحياء- فأخذ لا يصمد لكتيبة إلا كشفها- و لا لجمع إلا حازه و رده- فإنه لكذلك إذا مر بزياد بن النضر مستلحما- فقال الأشتر هذا و الله الصبر الجميل- هذا و الله الفعل الكريم إلي- و قد كان هو و أصحابه في ميمنة العراق- فتقدم فرفع رايته لهم فصبروا و قاتل حتى صرع- ثم لم يلبث الأشتر إلا يسيرا كلا شي‏ء- حتى مر بهم يزيد بن قيس الأرحبي- مستلحما أيضا محمولا- فقال الأشتر من هذا قالوا يزيد بن قيس- لما صرع زياد بن النضر دفع رايته لأهل الميمنة- فقاتل تحتها حتى صرع- فقال الأشتر هذا و الله الصبر الجميل- هذا و الله الفعل الكريم- أ لا يستحيي الرجل أن ينصرف أ يقتل- و لم يقتل و لم يشف به على القتل- . قال نصر و حدثنا عمرو عن الحارث بن الصباح- قال كان بيد الأشتر يومئذ صفيحة له يمانية- إذا طأطأها خلت فيها ماء ينصب- و إذا رفعها يكاد يعشي البصر شعاعها- و مر يضرب الناس بها قدما و يقول-الغمرات ثم ينجلينا- .

قال فبصر به الحارث بن جمهان الجعفي- و الأشتر مقنع في الحديد فلم يعرفه- فدنا منه و قال له جزاك الله منذ اليوم- عن أمير المؤمنين و عن جماعة المسلمين خيرا- فعرفه الأشتر فقال يا ابن جمهان- أ مثلك يتخلف اليوم عن مثل موطني هذا- فتأمله ابن جمهان فعرفه- و كان الأشتر من أعظم الرجال و أطولهم- إلا أن في لحمه خفة قليلة- فقال له جعلت فداك لا و الله- ما علمت مكانك حتى الساعة- و لا و الله لا أفارقك حتى أموت- . قال نصر و حدثنا عمرو عن الحارث بن الصباح- قال رأى الأشتر يومئذ منقذا و حميرا ابني قيس اليقظيان- فقال منقذ لحمير ما في العرب رجل مثل هذا- إن كان ما أرى من قتاله على نية- فقال له حمير و هل النية إلا ما ترى- قال إني أخاف أن يكون يحاول ملكا- . قال نصر و حدثنا عمرو- عن فضيل بن خديج عن مولى الأشتر قال- لما اجتمع مع الأشتر عظم من كان انهزم من الميمنة- حرضهم فقال لهم- عضوا على النواجذ من الأضراس- و استقبلوا القوم بهامكم- فإن الفرار من الزحف فيه ذهاب العز- و الغلبة على الفي‏ء و ذل المحيا و الممات- و عار الدنيا و الآخرة- .ثم حمل على صفوف أهل الشام حتى كشفهم- فألحقهم بمضارب معاوية و ذلك بين العصر و المغرب- .

قال نصر و حدثنا عمرو عن مالك بن أعين عن زيد بن وهب أن عليا ع لما رأى ميمنته- قد عادت إلى موقفها و مصافها- و كشفت من بإزائها- حتى ضاربوهم في مواقفهم و مراكزهم- أقبل حتى انتهى إليهم فقال- إني قد رأيت جولتكم و انحيازكم من صفوفكم- يحوزكم الجفاة الطغاة و أعراب أهل الشام- و أنتم لهاميم العرب و السنام الأعظم- و عمار الليل بتلاوة القرآن- و أهل دعوة الحق إذ ضل الخاطئون- فلو لا إقبالكم بعد إدباركم و كركم بعد انحيازكم- وجب عليكم ما وجب على المولي يوم الزحف دبره- و كنتم فيما أرى من الهالكين- و لقد هون علي بعض وجدي- و شفى بعض لاعج نفسي- إني رأيتكم بأخرة حزتموهم كما حازوكم- و أزلتموهم عن مصافهم كما أزالوكم- تحشونهم بالسيوف- يركب أولهم آخرهم كالإبل المطرودة الهيم- فالآن فاصبروا نزلت عليكم السكينة- و ثبتكم الله باليقين- و ليعلم المنهزم أنه يسخط ربه و يوبق نفسه- و في الفرار موجدة الله عليه- و الذل اللازم له و فساد العيش- و أن الفار لا يزيد الفرار في عمره و لا يرضي ربه- فموت الرجل محقا قبل إتيان هذه الخصال- خير من الرضا بالتلبس بها و الإصرار عليها- .

قال نصر و حدثنا عمرو- قال حدثنا أبو علقمة الخثعمي- أن عبد الله بن حنش الخثعمي رأس خثعم الشام- أرسل إلى أبي كعب الخثعمي رأس خثعم العراق- إن شئت تواقفنا فلم نقتتل- فإن ظهر صاحبكم كنا معكم- و إن ظهر صاحبنا كنتم معنا- و لا يقتل‏بعضنا بعضا- فأبى أبو كعب ذلك- فلما التقت خثعم و خثعم- و زحف الناس بعضهم إلى بعض- قال عبد الله بن حنش لقومه يا معشر خثعم- إنا قد عرضنا على قومنا من أهل العراق الموادعة- صلة لأرحامها و حفظا لحقها فأبوا إلا قتالنا- و قد بدءونا بالقطيعة- فكفوا أيديكم عنهم حفظا لحقهم أبدا ما كفوا عنكم- فإن قاتلوكم فقاتلوهم- فخرج رجل من أصحابه فقال- إنهم قد ردوا عليك رأيك- و أقبلوا إليك يقاتلونك- ثم برز فنادى رجل يا أهل العراق- فغضب عبد الله بن حنش- قال اللهم قيض له وهب بن مسعود- يعني رجلا من خثعم الكوفة- كان شجاعا يعرفونه في الجاهلية- لم يبارزه رجل قط إلا قتله- فخرج إليه وهب بن مسعود فقتله- ثم اضطربوا ساعة و اقتتلوا أشد قتال- فجعل أبو كعب يقول لأصحابه- يا معشر خثعم خدموا- أي اضربوا موضع الخدمة و هي الخلخال- يعني اضربوهم في سوقهم- فناداه عبد الله بن حنش- يا أبا كعب الكل قومك فأنصف-.

قال إي و الله و أعظم و اشتد قتالهم- فحمل شمر بن عبد الله الخثعمي- من خثعم الشام على أبي كعب فطعنه فقتله- ثم انصرف يبكي- و يقول يرحمك الله أبا كعب- لقد قتلتك في طاعة قوم أنت أمس بي رحما منهم- و أحب إلي منهم نفسا- و لكني و الله لا أدري ما أقول- و لا أرى الشيطان إلا قد فتننا- و لا أرى قريشا إلا و قد لعبت بنا- قال و وثب كعب بن أبي كعب إلى راية أبيه- فأخذها ففقئت عينه و صرع- ثم أخذها شريح بن مالك الخثعمي- فقاتل القوم تحتها- حتى صرع منهم حول رايتهم نحو ثمانين رجلا- و أصيب من خثعم الشام مثلهم- ثم ردها شريح بن مالك بعد ذلك إلى كعب بن أبي كعب- . قال نصر و حدثنا عمرو- قال حدثنا عبد السلام بن عبد الله بن جابر- أن راية بجيلة في صفين مع أهل العراق- كانت في أحمس مع أبي شداد- قيس بن المكشوح بن‏هلال بن الحارث بن عمرو بن عوف- بن عامر بن علي بن أسلم بن أحمس بن الغوث بن أنمار- قالت له بجيلة خذ رايتنا- فقال غيري خير لكم مني- قالوا لا نريد غيرك- قال فو الله لئن أعطيتمونيها- لا أنتهي بكم دون صاحب الترس المذهب- قالوا و كان على رأس معاوية رجل قائم معه ترس مذهب- يستره من الشمس- فقالوا اصنع ما شئت- فأخذها ثم زحف بها و هم حوله يضربون الناس- حتى انتهى إلى صاحب الترس المذهب- و هو في خيل عظيمة من أصحاب معاوية- و كان عبد الرحمن بن خالد بن الوليد- فاقتتل الناس هناك قتالا شديدا- و شد أبو شداد بسيفه نحو صاحب الترس- فتعرض له رومي من دونه لمعاوية- فضرب قدم أبي شداد فقطعها- و ضرب أبو شداد ذلك الرومي فقتله- و أسرعت إليه الأسنة- فقتل فأخذ الراية بعده عبد الله بن قلع الأحمسي- و ارتجز و قال-

لا يبعد الله أبا شداد
حيث أجاب دعوة المنادي‏

و شد بالسيف على الأعادي‏
نعم الفتى كان لدى الطراد
و في طعان الخيل و الجلاد

ثم قاتل حتى قتل- فأخذها بعده أخوه عبد الرحمن بن قلع فقاتل حتى قتل- ثم أخذها عفيف بن إياس الأحمسي- فلم تزل بيده حتى تحاجز الناس- .

قال نصر و حدثنا عمرو قال حدثنا عبد السلام- قال قتل يومئذ من بني أحمس حازم بن أبي حازم- أخو قيس بن أبي حازم- و نعيم بن شهيد بن التغلبية- فأتى سميه- ابن عمه نعيم بن الحارث بن التغلبية معاوية- و كان من أصحابه- فقال إن هذا القتيل ابن عمي فهبه لي أدفنه- فقال لا تدفنوهم فليسوا لذلك بأهل- و الله ما قدرنا على دفن عثمان بينهم إلا سرا- قال و الله لتأذنن لي في دفنه- أو لألحقن بهم و لأدعنك- قال ويحك ترى أشياخ العرب لا نواريهم- و أنت تسألني في دفن ابن عمك- ادفنه إن شئت- أو دعه فأتاه فدفنه- .

قال نصر و حدثنا عمرو- قال حدثنا أبو زهير العبسي- عن النضر بن صالح- أن راية غطفان العراق كانت مع عياش بن شريك- بن حارثة بن جندب بن زيد بن خلف بن رواحة- فخرج رجل من آل ذي الكلاع فسأل المبارزة- فبرز إليه قائد بن بكير العبسي- فبارزه فشد عليه الكلاعي فأوهطه- فقال أبو سليم عياش بن شريك لقومه- إني مبارز هذا الرجل- فإن أصبت فرأسكم الأسود بن حبيب بن جمانة- بن قيس بن زهير- فإن أصيب فرأسكم هرم بن شتير بن عمرو بن جندب- فإن أصيب فرأسكم عبد الله بن ضرار- من بني حنظلة بن رواحة- ثم مشى نحو الكلاعي فلحقه هرم بن شتير فأخذ بظهره- و قال ليمسك رحم لا تبرز إلى هذا الطوال- فقال هبلتك الهبول و هل هو إلا الموت- قال و هل الفرار إلا منه- قال و هل منه بد و الله لأقتلنه- أو ليلحقنيبقائد بن بكير- فبرز له و معه حجفة من جلود الإبل فدنا منه- فإذا الحديد مفرغ على الكلاعي- لا يبين من نحره- إلا مثل شراك النعل من عنقه بين بيضته و درعه- فضربه الكلاعي فقطع جحفته إلا نحوا من شبر- فضربه عياش على ذلك الموضع- فقطع نخاعه فقتله- و خرج ابن الكلاعي ثائرا بأبيه- فقتله بكير بن وائل- .

قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر- عن الصلت بن زهير النهدي أن راية بني نهد بالعراق- أخذها مسروق بن الهيثم بن سلمة فقتل- ثم أخذها صخر بن سمي فارتث- ثم أخذها علي بن عمير- فقاتل حتى ارتث- ثم أخذها عبد الله بن كعب فقتل- ثم أخذها سلمة بن خذيم بن جرثومة- فارتث و صرع- ثم أخذها عبد الله بن عمرو بن كبشة فارتث- ثم أخذها أبو مسبح بن عمرو فقتل- ثم أخذها عبد الله بن النزال فقتل- ثم أخذها ابن أخيه عبد الرحمن بن زهير فقتل- ثم أخذها مولاه مخارق فقتل- حتى صارت إلى عبد الرحمن بن مخنف الأزدي- . قال نصر فحدثنا عمرو- قال حدثنا الصلت بن زهير- قال حدثني عبد الرحمن بن مخنف- قال صرع يزيد بن المغفل إلى جنبي- فقتلت قاتله و قمت على رأسه- ثم صرع أبو زينب بن عروة فقتلت قاتله- و قمت على رأسه و جاءني سفيان بن عوف- فقال أ قتلتم يزيد بن المغفل- فقلت إي و الله‏إنه لهذا الذي تراني قائما على رأسه- قال و من أنت حياك الله- قلت أنا عبد الرحمن بن مخنف- فقال الشريف الكريم- حياك الله و مرحبا بك يا ابن عم- أ فلا تدفعه إلي فأنا عمه سفيان بن عوف بن المغفل- فقلت مرحبا بك- أما الآن فنحن أحق به منك- و لسنا بدافعيه إليك- و أما ما عدا ذلك فلعمري أنت عمه و وارثه- .

قال نصر حدثنا عمرو- قال حدثنا الحارث بن حصين عن أشياخ الأزد- أن مخنف بن سليم خطب- لما ندبت أزد العراق إلى قتال أزد الشام- فقال الحمد لله و الصلاة على محمد رسوله- ثم قال إن من الخطب الجليل و البلاء العظيم- إنا صرفنا إلى قومنا و صرفوا إلينا- و الله ما هي إلا أيدينا نقطعها بأيدينا- و ما هي إلا أجنحتنا نحذفها بأسيافنا- فإن نحن لم نفعل لم نناصح صاحبنا- و لم نواس جماعتنا و إن نحن فعلنا- فعزنا آلمنا و نارنا أخمدنا- . و قال جندب بن زهير الأزدي- و الله لو كنا آباؤهم ولدناهم- أو كانوا آباؤنا ولدونا- ثم خرجوا عن جماعتنا و طعنوا على إمامنا- و وازروا الظالمين الحاكمين بغير الحق- على أهل ملتنا و ديننا- ما افترقنا بعد إن اجتمعنا- حتى يرجعوا عما هم عليه- و يدخلوا فيما ندعوهم إليه- أو تكثر القتلى بيننا و بينهم- .

فقال مخنف أعزبك الله في التيه- و الله ما علمتك صغيرا و لا إلا كبيرا مشئوما- و الله ما ميلنا في الرأي بين أمرين قط- أيهما نأتي و أيهما ندع في جاهلية و لا إسلام-إلا اخترت أعسرهما و أنكدهما- اللهم أن تعافينا أحب إلي من أن تبتلينا- اللهم أعط كل رجل منا ما سألك- . فتقدم جندب بن زهير- فبارز أزديا من أزد الشام فقتله الشامي- . قال نصر و حدثنا عمرو عن الحارث بن حصين عن أشياخ الحي- أن عتبة بن جويرة قال يوم صفين لأهله و أصحابه- ألا إن مرعى الدنيا قد أصبح هشيما- و أصبح شجرها حصيدا و جديدها سملا و حلوها مرا- ألا و إني أنبئكم نبأ امرئ صادق- أني قد سئمت الدنيا و عزفت نفسي عنها- و لقد كنت أتمنى الشهادة و أتعرض لها في كل حين- فأبى الله إلا أن يبلغني هذا اليوم- إلا و إني متعرض ساعتي هذه لها- و قد طمعت ألا أحرمها- فما تنظرون عباد الله من جهاد أعداء الله- أخوف الموت القادم عليكم الذاهب بنفوسكم- أو من ضربة كف أو جبين بالسيف- أ تستبدلون الدنيا بالنظر إلى وجه الله- و مرافقة النبيين و الصديقين و الشهداء- و الصالحين في دار القرار- ما هذا بالرأي السديد- .

ثم قال يا إخوتاه- إني قد بعت هذه الدار بالدار التي أمامها- و هذا وجهي إليها لا يبرح الله وجوهكم- و لا يقطع أرحامكم- . فتبعه أخواه عبد الله و عوف- فقالا لا نطلب ورق العيش دونك قبح الله الدنيا بعدك- اللهم إنا نحتسب أنفسنا عندك- . فاستقدموا جميعا و قاتلوا حتى قتلوا- .

قال نصر و حدثنا عمرو قال- حدثني رجل من آل الصلت بن خارجة- أن تميما لما ذهبت لتهزم ذلك اليوم- ناداهم مالك بن حري النهشلي- ضاع الضراب اليوم و الذي إنا له عبد يا بني تميم- فقالوا أ لا ترى الناس قد انهزموا- فقال ويحكم أ فرارا و اعتذارا- ثم نادى بالأحساب فجعل يكررها- فقال له قوم منهم أ تنادي بنداء الجاهلية- إن هذا لا يحل فقال الفرار ويلكم أقبح- إن لم تقاتلوا على الدين و اليقين فقاتلوا على الأحساب- ثم جعل يقاتل و يرتجز فيقول-

إن تميما أخلفت عنك ابن مر
و قد أراهم و هم الحي الصبر
فإن يفروا أو يخيموا لا أفر

فقتل مالك ذلك اليوم- أخوه نهشل بن حري التميمي يرثيه-

تطاول هذا الليل ما كاد ينجلي
كليل التمام ما يريد انصراما

و بت بذكرى مالك بكآبة
أؤرق من بعد العشاء نياما

أبى جزعي في مالك غير ذكره
فلا تعذليني إن جزعت أماما

فأبكي أخي ما دام صوت حمامة
يؤرق من وادي البطاح حماما

و أبعث أنواحا عليه بسحرة
و تذرف عيناي الدموع سجاما

و أدعو سراة الحي تبكي لمالك‏
و أبعث نوحا يلتدمن قياما

يقلن ثوى رب السماحة و الحجا
و ذو عزة يأبى بها أن يضاما

و فارس خيل لا تنازل خيله‏
إذا اضطرمت نار العدو ضراما

و أحيا عن الفحشاء من ذات كلة
يرى ما يهاب الصالحون حراما

و أجرأ من ليث بخفان مخدر
و أمضي إذا رام الرجال صداما

و قال أيضا يرثيه-
بكى الفتى الأبيض البهلول سنته
عند النداء فلا نكسا و لا ورعا

بكى على مالك الأضياف إذ نزلوا
حين الشتاء و عز الرسل فانقطعا

و لم يجد لقراهم غير مربعة
من العشار تزجي تحتها ربعا

أهوى لها السيف صلتا و هي راتعة
فأوهن السيف عظم الساق فانجذعا

فجاءهم بعد رفد الناس أطيبها
و أشبعت منهم من نام و اضطجعا

يا فارس الروع يوم الروع قد علموا
و صاحب العزم لا نكسا و لا طبعا

و مدرك التبل في الأعداء يطلبه
و إن طلبت بتبل عنده منعا

قالوا أخوك أتى الناعي بمصرعه‏
فانشق قلبي غدة القول فانصدعا

ثم ارعوى القلب شيئا بعد طربته
و النفس تعلم أن قد أثبتت وجعا

قال نصر و حدثنا عمرو قال- حدثني يونس بن أبي إسحاق قال- قال لنا أدهم‏بن محرز الباهلي و نحن معه بأذرح- هل رأى أحد منكم شمر بن ذي الجوشن- فقال عبد الله بن كبار النهدي- و سعيد بن حازم البلوي نحن رأيناه- قال فهل رأيتما ضربة بوجهه قالا نعم- قال أنا و الله ضربته تلك الضربة بصفين- .

قال نصر و حدثنا عمرو قال- قد كان خرج أدهم بن محرز من أصحاب معاوية- إلى شمر بن ذي الجوشن في هذا اليوم- فاختلفا ضربتين فضربه أدهم على جبينه- فأسرع فيه السيف حتى خالط العظم- و ضربه شمر فلم يصنع شيئا فرجع إلى عسكره- فشرب ماء و أخذ رمحا ثم أقبل و هو يقول-

إني زعيم لأخي باهله
بطعنة إن لم أمت عاجله‏

و ضربة تحت الوغى فاصله‏
شبيهة بالقتل أو قاتله‏

ثم حمل على أدهم و هو يعرف وجهه- و أدهم ثابت له لم ينصرف فطعنه- فوقع عن فرسه و حال أصحابه دونه- فانصرف شمر و قال هذه بتلك- . قال نصر و خرج سويد بن قيس بن يزيد الأرحبي- من عسكر معاوية يسأل المبارزة- فخرج إليه من عسكر العراق- أبو العمرطة قيس بن عمرو بن عمير بن يزيد- و هو ابن عم سويد- و كان كل منهما لا يعرف صاحبه- فلما تقاربا تعارفا و تواقفا و تساءلا- و دعا كل واحد منهما صاحبه إلى دينه- فقال أبو العمرطة أما أنا فو الله الذي لا إله إلا هو- لئن استطعت لأضربن بسيفي هذه القبة البيضاء- يعني القبة التي كان فيها معاوية- ثم انصرف كل واحد منهما إلى أصحابه- .

قال نصر ثم خرج رجل من عسكر الشام- من أزد شنوءه يسأل المبارزة- فخرج إليه رجل من أهل العراق فقتله الأزدي- فخرج إليه الأشتر فما ألبثه أن قتله- فقال قائل كان هذا ريحا فصارت إعصارا- . قال نصر و قال رجل من أصحاب علي ع- أما و الله لأحملن على معاوية حتى أقتله- فركب فرسا ثم ضربه حتى قام على سنابكه- ثم دفعه فلم ينهنهه شي‏ء عن الوقوف على رأس معاوية- فهرب معاوية و دخل خباء- فنزل الرجل عن فرسه و دخل عليه- فخرج معاوية من جانب الخباء الآخر- فخرج الرجل في أثره- فاستصرخ معاوية بالناس فأحاطوا به و حالوا بينهما- فقال معاوية ويحكم- إن السيوف لم يؤذن لها في هذا- و لو لا ذلك لم يصل إليكم فعليكم بالحجارة- فرضخوه بالحجارة حتى همد فعاد معاوية إلى مجلسه- قال نصر و حمل رجل من أصحاب علي ع يدعى أبا أيوب- و ليس بأبي أيوب الأنصاري على صف أهل الشام- ثم رجع فوافق رجلا من أهل الشام صادرا- قد حمل على صف أهل العراق ثم رجع فاختلفا ضربتين- فنفحه أبو أيوب بالسيف- فأبان عنقه فثبت رأسه على جسده كما هو- و كذب الناس أن يكون هو ضربه فأرابهم ذلك- حتى إذا أدخلته فرسه في صف أهل الشام ندر رأسه- و وقع ميتا- فقال علي ع- و الله لأنا من ثبات رأس الرجل أشد تعجبا من الضربة- و إن كان إليها ينتهي وصف الواصفين- . و جاء أبو أيوب فوقف بين يدي علي ع- فقال له أنت و الله كما قال الشاعر-

و علمنا الضرب آباؤنا
و نحن نعلم أيضا بنينا

قال نصر فلما انقضى هذا اليوم بما فيه- أصبحوا في اليوم الثامن من صفين و الفيلقان متقابلان- فخرج رجل من أهل الشام فسأل المبارزة- فخرج إليه رجل من أهل العراق-فاقتتلا بين الصفين قتالا شديدا- ثم إن العراقي اعتنقه فوقعا جميعا و غار الفرسان- ثم إن العراقي قهره فجلس على صدره- و كشف المغفر عنه يريد ذبحه- فإذا هو أخوه لأبيه و أمه- فصاح به أصحاب علي ع ويحك أجهز عليه- قال إنه أخي قالوا فاتركه- قال لا و الله حتى يأذن أمير المؤمنين- فأخبر علي ع بذلك فأرسل إليه أن دعه فتركه- فقام فعاد إلى صف معاوية- . قال نصر و حدثنا محمد بن عبيد الله عن الجرجاني قال- كان فارس معاوية- الذي يعده لكل مبارز و لكل عظيم حريث مولاه- و كان يلبس سلاح معاوية متشبها به- فإذا قاتل قال الناس ذاك معاوية- و إن معاوية دعاه فقال له يا حريث اتق عليا- و ضع رمحك حيث شئت- فأتاه عمرو بن العاص فقال يا حريث- إنك و الله لو كنت قرشيا لأحب لك معاوية أن تقتل عليا- و لكن كره أن يكون لك حظها- فإن رأيت فرصة فاقتحم- قال و خرج علي ع في هذا اليوم أمام الخيل- فحمل عليه حريث- .

قال نصر فحدثني عمرو بن شمر عن جابر قال برز حريث مولى معاوية هذا اليوم- و كان شديدا أيدا ذا بأس لا يرام- فصاح يا علي هل لك في المبارزة- فأقدم أبا حسن إن شئت- فأقبل علي ع و هو يقول-

أنا علي و ابن عبد المطلب
نحن لعمر الله أولى بالكتب‏

 

منا النبي المصطفى غير كذب
أهل اللواء و المقام و الحجب‏
نحن نصرناه على كل العرب‏

ثم خالطه فما أمهله أن ضربه ضربة واحدة فقطعه نصفين- . قال نصر فحدثنا محمد بن عبيد الله قال- حدثني الجرجاني قال- جزع معاوية على حريث جزعا شديدا- و عاتب عمرا في إغرائه إياه بعلي ع- و قال في ذلك شعرا-

حريث أ لم تعلم و جهلك ضائر
بأن عليا للفوارس قاهر

و أن عليا لم يبارزه فارس‏
من الناس إلا أقصدته الأظافر

أمرتك أمرا حازما فعصيتني
فجدك إذ لم تقبل النصح عاثر

و دلاك عمرو و الحوادث جمة
غرورا و ما جرت عليك المقادر

و ظن حريث أن عمرا نصيحه
و قد يهلك الإنسان من لا يحاذر

قال نصر فلما قتل حريث برز عمرو بن الحصين السكسكي- فنادى يا أبا حسن هلم إلى المبارزة- فأومأ ع إلى سعيد بن قيس الهمداني- فبارزه فضربه بالسيف فقتله- .و قال نصر و كان لهمدان بلاء عظيم في نصره علي ع في صفين- و من الشعر الذي لا يشك أن قائله علي ع لكثرة الرواة له-

دعوت فلباني من القوم عصبة
فوارس من همدان غير لئام‏

فوارس من همدان ليسوا بعزل‏
غداة الوغى من شاكر و شبام‏

بكل رديني و عضب تخاله
إذا اختلف الأقوام شعل ضرام‏

لهمدان أخلاق كرام تزينهم‏
و بأس إذا لاقوا و حد خصام‏

و جد و صدق في الحروب و نجدة
و قول إذا قالوا بغير أثام‏

متى تأتهم في دارهم تستضيفهم‏
تبت ناعما في خدمة و طعام‏

جزى الله همدان الجنان فإنها
سمام العدا في كل يوم زحام‏

فلو كنت بوابا على باب جنة
لقلت لهمدان ادخلوا بسلام‏

قال نصر فحدثني عمرو بن شمر قال- ثم قام علي ع بين الصفين و نادى يا معاوية يكررها- فقال معاوية سلوه ما شأنه- قال أحب أن يظهر لي فأكلمه كلمة واحدة- فبرز معاوية و معه عمرو بن العاص- فلما قارباه لم يلتفت إلى عمرو- و قال لمعاوية ويحك علام يقتل الناس بيني و بينك- و يضرب بعضهم بعضا- ابرز إلي فأينا قتل صاحبه فالأمر له- فالتفت معاوية إلى عمرو فقال ما ترى يا أبا عبد الله- قال قد أنصفك الرجل- و اعلم أنك إن نكلت عنه لم يزل سبه عليك و على عقبك- ما بقي على ظهر الأرض عربي- فقال معاوية يا ابن العاص ليس مثلي يخدع عن نفسه- و الله ما بارز ابن أبي طالب شجاع قط إلا و سقي الأرض من دمه- ثم انصرف معاوية راجعا- حتى انتهى إلى‏ آخر الصفوف و عمرو معه- فلما رأى علي ع ذلك ضحك و عاد إلى موقفه- . قال نصر و في حديث الجرجاني أن معاوية قال لعمرو- ويحك ما أحمقك تدعوني إلى مبارزته- و دوني عك و جذام و الأشعرون- . قال نصر قال و حقدها معاوية على عمرو باطنا- و قال له ظاهرا- ما أظنك قلت ما قلته يا أبا عبد الله إلا مازحا- فلما جلس معاوية مجلسه- أقبل عمرو يمشي حتى جلس إلى جانبه فقال معاوية-

يا عمرو إنك قد قشرت لي العصا
برضاك لي وسط العجاج برازي‏

يا عمرو إنك قد أشرت بظنة
حسب المبارز خطفة من بازي‏

و لقد ظننتك قلت مزحة مازح
و الهزل يحمله مقال الهازي‏

فإذا الذي منتك نفسك حاكيا
قتلي جزاك بما نويت الجازي‏

و لقد كشفت قناعها مذمومة
و لقد لبست بها ثياب الخازي‏

فقال عمرو أيها الرجل أ تجبن عن خصمك و تتهم نصيحك- و قال مجيبا له

معاوي إن نكلت عن البراز
و خفت فإنها أم المخازي‏

معاوي ما اجترمت إليك ذنبا
و لا أنا في الذي حدثت خازي‏

و ما ذنبي بأن نادى علي
و كبش القوم يدعى للبراز

و لو بارزته بارزت ليثا
حديد الناب يخطف كل بازي‏

و تزعم أنني أضمرت غشا
جزاني بالذي أضمرت جازي‏

 و روى ابن قتيبة في كتابه المسمى عيون الأخبار قال- قال أبو الأغر التميمي- بينا أنا واقف بصفين مر بي العباس- بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب- مكفرا بالسلاح و عيناه تبصان من تحت المغفر- كأنهما عينا أرقم و بيده صفيحة يمانية يقلبها- و هو على فرس له صعب- فبينا هو يمغثه و يلين من عريكته- هتف به هاتف من أهل الشام يعرف بعرار بن أدهم- يا عباس هلم إلى البراز- قال العباس فالنزول إذا فإنه إياس من القفول- فنزل الشامي و هو يقول-

إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا
أو تنزلون فإنا معشر نزل‏

 و ثنى العباس رجله و هو يقول-

و يصد عنك مخيلة الرجل العريض
موضحة عن العظم‏

بحسام سيفك أو لسانك و الكلم‏
الأصيل كأرغب الكلم‏

ثم عصب فضلات درعه في حجزته- و دفع فرسه إلى غلام له أسود يقال له أسلم-كأني و الله أنظر إلى فلافل شعره- ثم دلف كل واحد منهما إلى صاحبه- فذكرت قول أبي ذؤيب-

فتنازلا و تواقفت خيلاهما
و كلاهما بطل اللقاء مخدع‏

 و كفت الناس أعنة خيولهم ينظرون ما يكون من الرجلين- فتكافحا بسيفيهما مليا من نهارهما- لا يصل واحد منهما إلى صاحبه لكمال لأمته- إلى أن لحظ العباس وهنا في درع الشامي- فأهوى إليه بيده فهتكه إلى ثندوته- ثم عاد لمجاولته و قد أصحر له مفتق الدرع- فضربه العباس ضربة انتظم بها جوانح صدره- فخر الشامي لوجهه- و كبر الناس تكبيرة ارتجت لها الأرض من تحتهم- و سما العباس في الناس فإذا قائل يقول من ورائي- قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ- وَ يُخْزِهِمْ وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ- وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ- وَ يُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ- فالتفت فإذا أمير المؤمنين-

فقال لي يا أبا الأغر من المنازل لعدونا- قلت هذا ابن أخيكم هذا العباس بن ربيعة- فقال و إنه لهو يا عباس أ لم أنهك و ابن عباس- أن تخلا بمراكزكما و أن تباشرا حربا- قال إن ذلك كان قال فما عدا مما بدا- قال يا أمير المؤمنين أ فأدعى إلى البراز فلا أجيب- قال نعم طاعة إمامك أولى من إجابة عدوك- ثم تغيظ و استطار حتى قلت الساعة الساعة- ثم سكن و تطامن و رفع يديه مبتهلا فقال- اللهم اشكر للعباس مقامه و اغفر ذنبه- إني قد غفرت له فاغفر له- قال و لهف معاوية على عرار و قال- متى ينتطح فحل لمثله أ يطل دمه لاها الله إذا- ألا رجل يشري نفسه لله يطلب بدم عرار- فانتدب له رجلان من لخم‏

فقال لهما اذهبا فأيكما قتل العباس برازا فله كذا- فأتياه فدعواه للبراز- فقال إن لي سيدا أريد أن أؤامره- فأتى عليا ع فأخبره الخبر-
فقال ع و الله لود معاوية أنه ما بقي من بني هاشم نافخ ضرمة- إلا طعن في بطنه- إطفاء لنور الله و يأبى الله إلا أن يتم نوره- و لو كره المشركون- أما و الله ليملكنهم منا رجال و رجال يسومونهم الخسف- حتى يحتفروا الآبار و يتكففوا الناس- و يتوكلوا على المساحي- ثم قال يا عباس ناقلني سلاحك بسلاحي فناقله و وثب على فرس العباس و قصد اللخميين- فما شكا أنه هو فقالا إذن لك صاحبك- فحرج أن يقول نعم فقال- إذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا- و إن الله على نصرهم لقدير- فبرز إليه أحدهما فكأنما اختطفه- ثم برز له الآخر فألحقه بالأول ثم أقبل و هو يقول- الشهر الحرام بالشهر الحرام و الحرمات قصاص- فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم- ثم قال يا عباس خذ سلاحك و هات سلاحي- فإن عاد لك أحد فعد إلي- . قال فنمي الخبر إلى معاوية فقال قبح الله اللجاج- إنه لقعود ما ركبته قط إلا خذلت- .

فقال عمرو بن العاص- المخذول و الله اللخميان لا أنت- فقال اسكت أيها الرجل و ليست هذه من ساعاتك- قال و إن لم يكن فرحم الله اللخميين و ما أراه يفعل- قال فإن ذاك و الله أخسر لصفقتك و أضيق لحجزتك- . قال قد علمت ذاك و لو لا مصر لركبت المنجاة منها- قال هي أعمتك و لولاها ألقيت بصيرا- .

قال نصر بن مزاحم و حدثنا عمرو قال- حدثني فضيل بن خديج قال- خرج رجل من أهل الشام يدعو إلى المبارزة- فخرج إليه عبد الرحمن بن محرز الكندي ثم الطمحي- فتجاولا ساعة- ثم إن عبد الرحمن حمل على الشامي- فطعنه في نقرة نحره فصرعه- ثم نزل إليه فسلبه درعه و سلاحه- فإذا هو عبد أسود- فقال إنا لله أخطرت نفسي بعبد أسود- قال و خرج رجل من عك فسأل البراز- فخرج إليه قيس بن فهران الكندي- فما ألبثه أن طعنه فقتله و قال-

لقد علمت عك بصفين أننا
إذا ما تلاقى الخيل نطعنها شزرا

و نحمل رايات القتال بحقها
فنوردها بيضا و نصدرها حمرا

قال و حمل عبد الله بن الطفيل البكائي على صفوف أهل الشام- فلما انصرف حمل عليه رجل من بني تميم- يقال له قيس بن فهد الحنظلي اليربوعي- فوضع الرمح بين كتفي عبد الله- فاعترضه يزيد بن معاوية البكائي- ابن عم عبد الله بن الطفيل فوضع الرمح بين كتفي التميمي- و قال و الله لئن طعنته لأطعننك- فقال عليك عهد الله- لئن رفعت السنان عن ظهر صاحبك لترفعنه عن ظهري- قال نعم لك العهد و الميثاق بذلك- فرفع السنان عن ظهر عبد الله- فرفع يزيد السنان عن التميمي- فوقف التميمي و قال ليزيد ممن أنت قال من بني عامر- قال جعلني الله فداكم أينما لقيناكم كراما- أما و الله إني لآخر أحد عشر رجلا من بني تميم- قتلتموهم اليوم- . قال نصر- فبعد ذلك بدهر عتب يزيد على عبد الله بن الطفيل- فأذكره ما صنع معه يوم صفين فقال-

أ لم ترني حاميت عنك مناصحا
بصفين إذ خلاك كل حميم‏

و نهنهت عنك الحنظلي و قد أتى‏
على سابح ذي ميعة و هزيم‏

 قال نصر و خرج ابن مقيدة الحمار الأسدي- و كان ذا بأس و شجاعة و هو من فرسان الشام- فطلب البراز فقام المقطع العامري و كان شيخا كبيرا- فقال علي ع له اقعد- فقال يا أمير المؤمنين لا تردني- إما أن يقتلني فأتعجل الجنة- و أستريح من الحياة الدنيا في الكبر و الهرم- أو أقتله فأريحك منه- . و قال له ع ما اسمك فقال المقطع- قال ما معنى ذلك- قال كنت أدعى هشيما فأصابتني جراحة منكرة- فدعيت المقطع منها- فقال له ع اخرج إليه و أقدم عليه- اللهم انصر المقطع على ابن مقيدة الحمار- فحمل على ابن مقيدة الحمار فأدهشه لشدة الحملة- فهرب و هو يتبعه حتى مر بمضرب معاوية حيث يراه- و المقطع على أثره فجاوزا معاوية بكثير- فلما رجع المقطع و رجع ابن مقيدة الحمار- ناداه معاوية لقد شمص بك العراقي- قال أما إنه قد فعل أيها الأمير- ثم عاد المقطع فوقف في موقفه- .

قال نصر فلما كان عام الجماعة و بايع الناس معاوية- سأل عن المقطع العامري حتى أدخل عليه و هو شيخ كبير- فلما رآه قال آه لو لا أنك على مثل هذه الحال لما أفلت مني- قال نشدتك الله إلا قتلتني و أرحتني من بؤس الحياة- و أدنيتني إلى لقاء الله- قال إني لا أقتلك و إن بي إليك لحاجة- قال ما هي قال أحب أن تؤاخيني- قال أنا و إياكم افترقنا في الله- فلا نجتمع حتى يحكم الله بيننا في الآخرة- .

قال فزوجني ابنتك- قال قد منعتك ما هو أهون علي من ذلك- قال فاقبل مني صلة قال لا حاجة لي فيما قبلك- . قال فخرج من عنده و لم يقبل منه شيئا- . قال نصر ثم التقى الناس فاقتتلوا قتالا شديدا- و حاربت طيئ مع أمير المؤمنين ع حربا عظيما- و تداعت و ارتجزت فقتل منها أبطال كثيرون- و فقئت عين بشر بن العوس الطائي- و كان من رجال طيئ و فرسانها- فكان يذكر بعد ذلك أيام صفين فيقول- وددت أني كنت قتلت يومئذ- و وددت أن عيني هذه الصحيحة فقئت أيضا- و قال

ألا ليت عيني هذه مثل هذه
و لم امش بين الناس إلا بقائد

و يا ليت رجلي ثم طنت بنصفها
و يا ليت كفي ثم طاحت بساعدي‏

و يا ليتني لم أبق بعد مطرف
و سعد و بعد المستنير بن خالد

فوارس لم تغد الحواضن مثلهم‏
إذا هي أبدت عن خدام الخرائد

 قال نصر- و أبلت محارب يومئذ مع أمير المؤمنين ع بلاء حسنا- و كان عنتر بن عبيد بن خالد بن المحاربي- أشجع الناس يومئذ- فلما رأى أصحابه متفرقين ناداهم- يا معشر قيس أ طاعة الشيطان أبر عندكم من طاعة الرحمن- ألا إن الفرار فيه معصية الله و سخطه- و إن الصبر فيه طاعة و رضوانه- أ فتختارون سخط الله على رضوانه و معصيته على طاعته- ألا إنما الراحة بعد الموت لمن مات محتسبا لنفسه- ثم يرتجز فيقول-

لا وألت نفس امرئ ولى الدبر
أنا الذي لا أنثني و لا أفر
و لا يرى مع المعازيل الغدر

 و قاتل حتى ارتث- . قال نصر- و قاتلت النخع مع علي ع ذلك اليوم قتالا شديدا- و قطعت رجل علقمة بن قيس النخعي و قتل أخوه أبي بن قيس- فكان علقمة يقول بعد- ما أحب أن رجلي أصح ما كانت لما أرجو بها من حسن الثواب- و كان يقول لقد كنت أحب أن أبصر أخي في نومي- فرأيته فقلت له يا أخي ما الذي قدمتم عليه- فقال لي التقينا نحن و أهل الشام بين يدي الله سبحانه- فاحتججنا عنده فحججناهم- فما سررت بشي‏ء منذ عقلت سروري بتلك الرؤيا- .

قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن سويد بن حبة البصري- عن الحضين بن المنذر الرقاشي قال إن ناسا أتوا عليا ع قبل الوقعة في هذا اليوم- فقالوا له إنا لا نرى خالد بن المعمر السدوسي- إلا قد كاتب معاوية و قد خشينا أن يلتحق به و يبايعه- فبعث إليه علي ع و إلى رجال من أشراف ربيعة- فجمعهم فحمد الله و أثنى عليه- و قال يا معشر ربيعة أنتم أنصاري و مجيبو دعوتي- و من أوثق أحياء العرب في نفسي- و قد بلغني أن معاوية قد كاتب صاحبكم هذا- و هو خالد بن المعمر و قد أتيت به- و جمعتكم لأشهدكم عليه و تسمعوا مني و منه- ثم أقبل عليه فقال يا خالد بن المعمر- إن كان ما بلغني عنك حقا- فإني أشهد من حضرني من المسلمين أنك آمن- حتى تلحق بالعراق أو بالحجاز- أو بأرض لا سلطان لمعاوية فيها- و إن كنت مكذوبا عليك- فأبر صدورنا بإيمان نطمئن إليها- فحلف له‏ خالد بالله ما فعل- و قال رجال منا كثير- و الله يا أمير المؤمنين لو نعلم أنه فعل لقتلناه- .

و قال شقيق بن ثور السدوسي- ما وفق الله خالد بن المعمر- حين ينصر معاوية و أهل الشام- على علي و أهل العراق و ربيعة- فقال له زياد بن خصفة- يا أمير المؤمنين استوثق من ابن المعمر بالأيمان- لا يغدر بك- فاستوثق منه ثم انصرفوا- . فلما تصاف الناس في هذا اليوم و حمل بعضهم على بعض- تضعضعت ميمنة أهل العراق- فجاءنا علي ع و معه بنوه حتى انتهى إلينا- فنادى بصوت عال جهير لمن هذه الرايات- فقلنا رايات ربيعة- فقال بل هي رايات الله عصم الله أهلها- و صبرهم و ثبت أقدامهم- ثم قال لي و أنا حامل راية ربيعة يومئذ يا فتى- أ لا تدني رايتك هذه ذراعا- فقلت بلى و الله و عشرة أذرع ثم ملت بها هكذا فأدنيتها- فقال لي حسبك مكانك- . قال نصر و حدثنا عمرو قال- حدثني يزيد بن أبي الصلت التيمي قال- سمعت أشياخ الحي من بني تيم بن ثعلبة يقولون- كانت راية ربيعة كلها كوفيتها و بصريتها- مع خالد بن المعمر السدوسي من ربيعة البصرة- ثم نافسه في الراية شقيق بن ثور- من بكر بن وائل من أهل الكوفة- فاصطلحا على أن يوليا الراية- لحضين بن المنذر الرقاشي و هو من أهل البصرة أيضا- و قالوا هذا فتى له حسب- تعطيه الراية إلى أن نرى رأينا- و كان الحضين يومئذ شابا حدث السن- .

قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر قال أقبل الحضين بن المنذر يومئذ- و هو غلام يزحف براية ربيعة و كانت حمراء- فأعجب عليا ع زحفه و ثباته- فقال‏

لمن راية حمراء يخفق ظلها
إذا قيل قدمها حضين تقدما

و يدنو بها في الصف حتى يزيرها
حمام المنايا تقطر الموت و الدما

تراه إذا ما كان يوم عظيمة
أبى فيه إلا عزة و تكرما

جزى الله قوما صابروا في لقائهم‏
لدى الناس حرا ما أعف و أكرما

و أحزم صبرا يوم يدعى إلى الوغى
إذا كان أصوات الكمأة تغمغما

ربيعة أعني إنهم أهل نجدة
و بأس إذا لاقوا خميسا عرمرما

و قد صبرت عك و لحم و حمير
لمذحج حتى لم يفارق دم دما

و نادت جذام يا ل مذحج ويحكم‏
جزى الله شرا أينا كان أظلما

أ ما تتقون الله في حرماتكم
و ما قرب الرحمن منها و عظما

أذقنا ابن حرب طعننا و ضرابنا
بأسيافنا حتى تولى و أحجما

و فر ينادى الزبرقان و ظالما
و نادى كلاعا و الكريب و أنعما

و عمرا و سفيانا و جهما و مالكا
و حوشب و الغاوي شريحا و أظلما

و كرز بن تيهان و عمرو بن جحدر
و صباحا القيني يدعو و أسلما

قلت هكذا روى نصر بن مزاحم- و سائر الرواة رووا له ع الأبيات الستة الأولى- و رووا باقي الأبيات من قوله و قد صبرت عك- للحضين بن المنذر صاحب الراية- . قال نصر و أقبل ذو الكلاع في حمير و من لف لفها- و معهم عبيد الله بن عمربن الخطاب في أربعة آلاف- من قراء أهل الشام- و ذو الكلاع في حمير في الميمنة- و عبيد الله في القراء في الميسرة- فحملوا على ربيعة و هم في ميسرة أهل العراق- و فيهم عبيد الله بن العباس حملة شديدة- فتضعضعت رايات ربيعة- . ثم إن أهل الشام انصرفوا فلم يمكثوا إلا قليلا- حتى كروا ثانية و عبيد الله بن عمر في أوائلهم- يقول يا أهل الشام هذا الحي من العراق- قتله عثمان بن عفان و أنصار علي بن أبي طالب- و لئن هزمتم هذه القبيلة أدركتم ثأركم من عثمان- و هلك علي و أهل العراق- فشدوا على الناس شدة عظيمة فثبتت لهم ربيعة- و صبرت صبرا حسنا إلا قليلا من الضعفاء- .

فأما أهل الرايات و ذوو البصائر منهم و الحفاظ- فثبتوا و قاتلوا قتالا شديدا- و أما خالد بن المعمر فإنه لما رأى بعض أصحابه قد انصرفوا انصرف معهم- فلما رأى أهل الرايات ثابتين صابرين رجع إليهم- و صاح بمن انهزم و أمرهم بالرجوع- فكان من يتهمه من قومه يقول إنه فر- فلما رآنا قد ثبتنا رجع إلينا- و قال هو لما رأيت رجالا منا قد انهزموا- رأيت أن أستقبلهم ثم أردهم إلى الحرب فجاء بأمر مشتبه- .

قال نصر- و كان في جملة ربيعة من عنزة وحدها أربعة آلاف مجفف- . قلت لا ريب عند علماء السيرة- أن خالد بن المعمر كان له باطن سوء مع معاوية- و أنه انهزم هذا اليوم ليكسر الميسرة على علي ع- ذكر ذلك الكلبي و الواقدي و غيرهما- و يدل على باطنه هذا- أنه لما استظهرت ربيعة على معاوية- و على صفوف أهل الشام في اليوم الثاني من هذا- أرسل معاوية إلى خالد بن المعمر- أن كف عني و لك إمارة خراسان ما بقيت- فكف عنه فرجع بربيعة و قد شارفوا أخذه من مضربه- و سيأتي ذكر ذلك- .

قال نصر- فلما رجع خالد بن المعمر و استوت صفوف ربيعة كما كانت- خطبهم فقال يا معشر ربيعة- إن الله تعالى قد أتى بكل رجل منكم من منبته و مسقط رأسه- فجمعكم في هذا المكان جمعا لم تجتمعوا مثله قط- منذ أفرشكم الله الأرض- و إنكم إن تمسكوا أيديكم- و تنكلوا عن عدوكم و تحولوا عن مصافكم- لا يرضى الرب فعلكم- و لا تعدموا معيرا يقول فضحت ربيعة الذمار- و خاموا عن القتال و أتيت من قبلهم العرب- فإياكم أن يتشاءم بكم اليوم المسلمون- و إنكم إن تمضوا مقدمين و تصبروا محتسبين- فإن الإقدام منكم عادة و الصبر منكم سجية- فاصبروا و نيتكم صادقة تؤجروا- فإن ثواب من نوى ما عند الله- شرف الدنيا و كرامة الآخرة- و الله لا يضيع أجر من أحسن عملا- . فقام إليه رجل من ربيعة و قال- قد ضاع و الله أمر ربيعة حين جعلت أمرها إليك- تأمرنا ألا نحول و لا نزول- حتى نقتل أنفسنا و نسفك دماءنا- .

فقام إليه رجال من قومه فتناولوه بقسيهم- و لكزوه بأيديهم- و قالوا لخالد بن المعمر أخرجوا هذا من بينكم- فإن هذا أن بقي فيكم ضركم- و إن خرج منكم لم ينقصكم عددا- هذا الذي لا ينقص العدد و لا يملأ البلد- ترحك الله من خطيب قوم- لقد جنبك الخير قبح الله ما جئت به- .

قال نصر و اشتد القتال بين ربيعة و حمير- و عبيد الله بن عمر حتى كثرت القتلى- و جعل عبيد الله يحمل و يقول أنا الطيب ابن الطيب- فتقول له ربيعة بل أنت الخبيث ابن الطيب- . ثم خرج نحو خمسمائة فارس أو أكثر من أصحاب علي ع- على رءوسهم البيض و هم غائصون في الحديد- لا يرى منهم إلا الحدق- و خرج إليهم من أهل الشام نحوهم في العدة- فاقتتلوا بين الصفين و الناس وقوف تحت راياتهم- فلم يرجع من هؤلاء و لا من هؤلاء مخبر- لا عراقي و لا شامي قتلوا جميعا بين الصفين- . قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر عن تميم قال- نادى منادي أهل الشام- ألا إن معنا الطيب ابن الطيب عبيد الله بن عمر- فنادى منادي أهل العراق بل هو الخبيث ابن الطيب- و نادى منادي أهل العراق- ألا إن معنا الطيب ابن الطيب محمد بن أبي بكر- فنادى منادي أهل الشام بل الخبيث ابن الطيب- . قال نصر و كان بصفين تل تلقى عليه جماجم الرجال- فكان يدعى تل الجماجم- فقال عقبة بن مسلم الرقاشي من أهل الشام-

و لم أر فرسانا أشد حفيظة
و امنع منا يوم تل الجماجم‏

غداة غدا أهل العراق كأنهم‏
نعام تلافى في فجاج المخارم‏

إذا قلت قد ولوا تثوب كتيبة
ململمة في البيض شمط المقادم‏

و قالوا لنا هذا علي فبايعوا
فقلنا صه بل بالسيوف الصوارم‏

و قال شبث بن ربعي التميمي-

وقفنا لديهم يوم صفين بالقنا
لدن غدوة حتى هوت لغروب‏

و ولى ابن حرب و الرماح تنوشه‏
و قد أرضت الأسياف كل غضوب‏

نجالدهم طورا و طورا نشلهم
على كل محبوك السراة شبوب‏

فلم أر فرسانا أشد حفيظة
إذا غشي الآفاق رهج جنوب‏

أكر و أحمى بالغطاريف و القنا
و كل حديد الشفرتين قضوب‏

 قال نصر ثم ذهب هذا اليوم بما فيه- فأصبحوا في اليوم التاسع من صفر- و قد خطب معاوية أهل الشام و حرضهم فقال- إنه قد نزل بكم من الأمر ما ترون و حضركم ما حضركم- فإذا نهدتم إليهم إن شاء الله فقدموا الدارع- و أخروا الحاسر و صفوا الخيل و أجنبوها- و كونوا كقص الشارب و أعيرونا جماجمكم ساعة- فإنما هو ظالم أو مظلوم و قد بلغ الحق مقطعه- . قال نصر و روى الشعبي- قال قام معاوية فخطب الناس بصفين في هذا اليوم- فقال الحمد لله الذي دنا في علوه و علا في دنوه- و ظهر و بطن و ارتفع فوق كل ذي‏ منظر- هو الأول و الآخر و الظاهر و الباطن- يقضي فيفصل و يقدر فيغفر و يفعل ما يشاء- إذا أراد أمرا أمضاه و إذا عزم على شي‏ء قضاه- لا يؤامر أحدا فيما يملك- و لا يسأل عما يفعل و هم يسألون- و الحمد لله رب العالمين على ما أحببنا و كرهنا- و قد كان فيما قضاه الله إن ساقتنا المقادير- إلى هذه البقعة من الأرض- و لف بيننا و بين أهل العراق- فنحن من الله بمنظر- و قد قال الله سبحانه وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا- وَ لكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ- . انظروا يا أهل الشام- إنكم غدا تلقون أهل العراق- فكونوا على إحدى ثلاث خصال- إما أن تكونوا قوما- طلبتم ما عند الله في قتال قوم بغوا عليكم- فأقبلوا من بلادهم حتى نزلوا في بيضتكم- و إما أن تكونوا قوما تطلبون بدم خليفتكم و صهر نبيكم- و إما أن تكونوا قوما تذبون عن نسائكم و أبنائكم- فعليكم بتقوى الله و الصبر الجميل- أسأل الله لنا و لكم النصر- و أن يفتح بيننا و بين قومنا بالحق و هو خير الفاتحين- . فقام ذو الكلاع فقال- يا معاوية إنا نحن الصبر الكرام لا ننثني عند الخصام- بنو الملوك العظام ذوي النهى و الأحلام- لا يقربون الآثام- . فقال معاوية صدقت- .

قال نصر- و كانت التعبية في هذا اليوم كالتعبية في الذي قبله- و حمل عبيد الله بن عمر في قراء أهل الشام- و معه ذو الكلاع في حمير على ربيعة- و هي في ميسرة علي ع فقاتلوا قتالا شديدا- فأتى زياد بن خصفة إلى عبد القيس- فقال لهم لا بكر بن وائل بعد اليوم- إن ذا الكلاع و عبيد الله أبادا ربيعة- فانهضوا لهم و إلا هلكوا- فركبت عبد القيس و جاءت كأنها غمامة سوداء- فشدت أزر الميسرة فعظم القتال- فقتل ذو الكلاع الحميري- قتله رجل من بكر بن وائل اسمه خندف- و تضعضعت أركان حمير- و ثبتت بعد قتل ذي الكلاع تحارب مع عبيد الله بن عمر- و أرسل عبيد الله إلى الحسن بن علي ع- أن لي إليك حاجة فالقني فلقيه الحسن ع- فقال له عبيد الله إن أباك قد وتر قريشا أولا و آخرا- و قد شنئه الناس- فهل لك في خلعه و أن تتولى أنت هذا الأمر- فقال كلا و الله لا يكون ذلك ثم قال يا ابن الخطاب- و الله لكأني أنظر إليك مقتولا في يومك أو غدك- أما إن الشيطان قد زين لك و خدعك- حتى أخرجك مخلقا بالخلوق ترى نساء أهل الشام موقفك- و سيصرعك الله و يبطحك لوجهك قتيلا- .

قال نصر فو الله ما كان إلا بياض ذلك اليوم- حتى قتل عبيد الله- و هو في كتيبة رقطاء و كانت تدعى الخضرية- كانوا أربعة آلاف عليهم ثياب خضر- فمر الحسن ع فإذا رجل متوسد برجل قتيل- قد ركز رمحه في عينه و ربط فرسه برجله- فقال الحسن ع لمن معه انظروا من هذا- فإذا رجل من همدان- و إذا القتيل عبيد الله بن عمر بن الخطاب- قد قتله الهمداني في أول الليل- و بات عليه حتى أصبح- . قال نصر و قد اختلف الرواة في قاتل عبيد الله- فقالت همدان نحن قتلناه- قتله هانئ بن الخطاب الهمداني و ركز رمحه في عينه- و ذكر الحديث- و قالت حضرموت نحن قتلناه قتله مالك بن عمرو الحضرمي- و قالت بكر بن وائل نحن قتلناه- قتله محرزبن الصحصح من بني تيم اللات بن ثعلبة- و أخذ سيفه الوشاح- . فلما كان عام الجماعة- طلب معاوية السيف من ربيعة الكوفة فقالوا- إنما قتله رجل من ربيعة البصرة- يقال له محرز بن الصحصح- فبعث إليه معاوية فأخذ السيف منه- . قال نصر و قد روي أن قاتله حريث بن جابر الحنفي- و كان رئيس بني حنيفة يوم صفين مع علي ع- حمل عبيد الله بن عمر على صف بني حنيفة و هو يقول-

أنا عبيد الله ينميني عمر
خير قريش من مضى و من غبر

إلا رسول الله و الشيخ الأغر
قد أبطأت عن نصر عثمان مضر

و الربعيون فلا أسقوا المطر
و سارع الحي اليمانون الغرر
و الخير في الناس قديما يبتدر

فحمل عليه حريث بن جابر الحنفي و قال-

قد سارعت في نصرها ربيعة
في الحق و الحق لها شريعة

فاكفف فلست تارك الوقيعة
في العصبة السامعة المطيعة
حتى تذوق كأسها الفظيعة

و طعنه فصرعه- . قال نصر فقال كعب بن جعيل التغلبي يرثي عبيد الله- و كان كعب شاعر أهل الشام-

ألا إنما تبكي العيون لفارس
بصفين أجلت خيله و هو واقف‏

تبدل من أسماء أسياف وائل‏
و أي فتى لو أخطأته المتالف‏

تركتم عبيد الله في القاع مسلما
يمج دماء و العروق نوازف‏

ينوء و تغشاه شآبيب من دم‏
كما لاح في جيب القميص الكفائف‏

دعاهن فاستسمعن من أين صوته
فأقبلن شتى و العيون ذوارف‏

تحللن عنه زر درع حصينة
و ينكر منه بعد ذاك معارف‏

و قرت تميم سعدها و ربابها
و خالفت الخضراء فيمن يخالف‏

و قد صبرت حول ابن عم محمد
لدى الموت شهباء المناكب شارف‏

بمرج ترى الرايات فيه كأنها
إذا جنحت للطعن طير عواكف‏

فما برحوا حتى رأى الله صبرهم‏
و حتى أسرت بالأكف المصاحف‏

جزى الله قتلانا بصفين خير ما
أثيب عباد غادرتها المواقف‏

 قلت هذا الشعر نظمه كعب بن جعيل- بعد رفع المصاحف و تحكيم الحكمين- يذكر فيه ما مضى لهم من الحرب على عادة شعراء العرب- و الضمير في قوله دعاهن فاستسمعن من أين صوته- يرجع إلى نساء عبيد الله- و كانت تحته أسماء بنت عطارد بن حاجب بن زرارة التميمي و بحرية بنت هانئ بن قبيصة الشيباني- و كان عبيد الله قد أخرجهما معه إلى الحرب ذلك اليوم- لينظرا إلى قتاله فوقفتا راجلتين- و إلى أسماء بنت عطارد أشار كعب بن جعيل بقوله- تبدل من أسماء أسياف وائل- . و الشعر يدل على أن ربيعة قتلته لا همدان و لا حضرموت- . و يدل أيضا على ذلك ما رواه إبراهيم بن ديزيل الهمداني- في كتاب صفين قال شدت‏ ربيعة الكوفة و عليها زياد بن خصفة- على عبيد الله بن عمر ذلك اليوم- و كان معاوية قد أقرع بين الناس- فخرج سهم عبيد الله بن عمر على ربيعة فقتلته- فلما ضرب فسطاط زياد بن خصفة- بقي طنب من الأطناب لم يجدوا له وتدا- فشدوه برجل عبيد الله بن عمر- و كان ناحية فجروه حتى ربطوا الطنب برجله- و أقبلت امرأتاه حتى وقفتا عليه فبكتا عليه و صاحتا- فخرج زياد بن خصفة فقيل له- هذه بحرية ابنة هانئ بن قبيصة الشيباني ابنة عمك- فقال لها ما حاجتك يا ابنة أخي قالت تدفع زوجي إلي- فقال نعم خذيه فجي‏ء ببغل فحملته عليه- فذكروا أن يديه و رجليه خطتا بالأرض عن ظهر البغل- . قال نصر و مما رثى به كعب بن جعيل عبيد الله بن عمر قوله-

يقول عبيد الله لما بدت له
سحابة موت تقطر الحتف و الدما

ألا يا لقومي فاصبروا إن صبركم‏
أعف و أحجى عفة و تكرما

فلما تدانى القوم خر مجدلا
صريعا تلاقى الترب كفيه و الفما

و خلف أطفالا يتامى أذلة
و عرسا عليه تسكب الدمع أيما

حلالا لها الخطاب لا يمنعنهم
و قد كان يحمي غيره أن تكلما

و قال الصلتان العبدي يذكر مقتل عبيد الله- و أن حريث بن جابر الحنفي قتله-
ألا يا عبيد الله ما زلت مولعا
ببكر لها تهدي القرى و التهددا

و كنت سفيها قد تعودت عادة
و كل امرئ جار على ما تعودا

فأصبحت مسلوبا على شر آلة
صريع القنا تحت العجاجة مفردا

تشق عليك جيبها ابنة هانئ
مسلبة تبدي الشجا و التلددا

و كانت ترى ذا الأمر قبل عيانه‏
و لكن حكم الله أهدى لك الردى‏

و قالت عبيد الله لا تأت وائلا
فقلت لها لا تعجلي و انظري غدا

فقد جاء ما قد مسها فتسلبت‏
عليك و أمسى الجيب منها مقددا

حباك أخو الهيجا حريث بن جابر
بجياشة تحكي بها النهر مزبدا

كان حماة الحي بكر بن وائل‏
بذي الرمث أسد قد تبوأن غرقدا

 قال نصر فأما ذو الكلاع فقد ذكرنا مقتله- و أن قاتله خندف البكري- . و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر قال- لما حمل ذو الكلاع ذلك اليوم بالفيلق العظيم من حمير- على صفوف أهل العراق- ناداهم أبو شجاع الحميري و كان من ذوي البصائر مع علي ع- فقال يا معشر حمير تبت أيديكم- أ ترون معاوية خيرا من علي ع أضل الله سعيكم- ثم أنت يا ذا الكلاع قد كنا نرى أن لك نية في الدين- فقال ذو الكلاع إيها يا أبا شجاع- و الله إني لأعلم ما معاوية بأفضل من علي ع- و لكني أقاتل على دم عثمان- قال فأصيب ذو الكلاع حينئذ- قتله خندف بن بكر البكري في المعركة- . قال نصر فحدثنا عمرو قال- حدثنا الحارث بن حصيرة أن ابن ذي الكلاع-أرسل إلى الأشعث بن قيس رسولا- يسأله أن يسلم إليه جثة أبيه- فقال الأشعث إني أخاف أن يتهمني أمير المؤمنين في أمره- فأطلبه من سعيد بن قيس فهو في الميمنة- فذهب إلى معاوية فاستأذنه أن يدخل إلى عسكر علي ع- يطلب أباه بين القتلى- فقال له إن عليا قد منع أن يدخل أحد منا إلى معسكره- يخاف أن يفسد عليه جنده- فخرج ابن ذي الكلاع- فأرسل إلى سعيد بن قيس الهمداني يستأذنه في ذلك- فقال سعيد إنا لا نمنعك من دخول العسكر- إن أمير المؤمنين لا يبالي من دخل منكم إلى معسكره- فأدخل فدخل من قبل الميمنة فطاف فلم يجده- ثم أتى الميسرة فطاف فلم يجده- ثم وجده و قد ربطت رجله بطنب- من أطناب بعض فساطيط العسكر- فجاء فوقف على باب الفسطاط- فقال السلام عليكم يا أهل البيت- فقيل له و عليك السلام- فقال أ تأذنون لنا في طنب من أطناب فسطاطكم و معه عبد أسود لم يكن معه غيره- فقالوا قد أذنا لكم- و قالوا له معذرة إلى الله و إليكم- أما إنه لو لا بغيه علينا ما صنعنا به ما ترون- فنزل ابنه إليه فوجده قد انتفخ- و كان من أعظم الناس خلقا فلم يطق احتماله- فقال هل من فتى معوان فخرج إليه خندف البكري- فقال تنحوا عنه- فقال ابنه و من الذي يحمله إذا تنحينا عنه- قال يحمله قاتله- فاحتمله خندف حتى رمى به على ظهر بغل- ثم شده بالحبال فانطلقا به- . قال نصر و قال معاوية لما قتل ذو الكلاع- لأنا أشد فرحا بقتل ذي الكلاع مني بفتح مصر لو فتحتها- قال لأن ذا الكلاع- كان يحجر على معاوية في أشياء كان يأمر بها- . قال نصر فلما قتل ذو الكلاع اشتدت الحرب- و شدت عك و لخم و جذام و الأشعريون من أهل الشام على مذحج من أهل العراق- جعلهم معاوية بإزائهم و نادى منادي عك-

ويل لأم مذحج من عك
لنتركن أمهم تبكي‏

نقتلهم بالطعن ثم الصك‏
بكل قرن باسل مصك‏
فلا رجال كرجال عك‏

فنادى منادي مذحج يا لمذحج خدموا- أي اضربوا السوق مواضع الخدمة و هي الخلاخيل- فاعترضت مذحج سوق القوم فكان فيه بوار عامتهم- و نادى منادي جذام حين طحنت رحى القوم- و خاضت الخيل و الرجال في الدماء- . الله الله في جذام أ لا تذكرون الأرحام- أفنيتم لخما الكرام و الأشعرين و آل ذي حمام- أين النهى و الأحلام هذي النساء تبكي الأعلام- . و نادى منادي عك- يا عك أين المفر اليوم تعلم ما الخبر- لأنكم قوم صبر كونوا كمجتمع المدر- لا تشمتن بكم مضر حتى يحول ذا الخبر- . و نادى منادي الأشعريين- يا مذحج من للنساء غدا إذا أفناكم الردى- الله الله في الحرمات أ ما تذكرون نساءكم و البنات- أ ما تذكرون فارس و الروم و الأتراك- لقد أذن الله فيكم بالهلاك- .

قال و القوم ينحر بعضهم بعضا و يتكادمون بالأفواه- . قال نصر و حدثني عمرو بن الزبير- لقد سمعت الحضين بن المنذر يقول- أعطاني‏ علي ع ذلك اليوم راية ربيعة- و قال باسم الله سر يا حضين- و اعلم أنه لا تخفق على رأسك راية مثلها أبدا- هذه راية رسول الله ص- قال فجاء أبو عرفاء جبلة بن عطية الذهلي إلى الحضين- و قال هل لك أن تعطيني الراية أحملها لك- فيكون لك ذكرها و يكون لي أجرها- فقال الحضين و ما غناي يا عم عن أجرها مع ذكرها- قال إنه لا غنى بك عن ذلك- و لكن أعرها عمك ساعة فما أسرع ما ترجع إليك- قال الحضين فقلت إنه قد استقتل- و إنه يريد أن يموت مجاهدا- فقلت له خذها فأخذها- ثم قال لأصحابه إن عمل الجنة كره كله و ثقيل- و إن عمل النار خف كله و خبيث- إن الجنة لا يدخلها إلا الصابرون- الذين صبروا أنفسهم على فرائض الله و أمره- و ليس شي‏ء مما افترض الله على العباد أشد من الجهاد- هو أفضل الأعمال ثوابا عند الله- فإذا رأيتموني قد شددت فشدوا- ويحكم أ ما تشتاقون إلى الجنة- أ ما تحبون أن يغفر الله لكم- فشد و شدوا معه فقاتلوا قتالا شديدا- فقتل أبو عرفاء رحمه الله تعالى- و شدت ربيعة بعده شدة عظيمة- على صفوف أهل الشام فنقضتها- و قال مجزاة بن ثور-

أضربهم و لا أرى معاوية
الأبرج العين العظيم الحاويه‏

هوت به في النار أم هاويه‏
جاوره فيها كلاب عاويه‏
أغوى طغاما لا هدته هاديه‏

قال نصر و كان حريث بن جابر- يومئذ نازلا بين الصفين في قبة له حمراء- يسقي أهل العراق اللبن و الماء و السويق- و يطعمهم اللحم و الثريد- فمن شاء أكل و من شاء شرب- ففي ذلك يقول شاعرهم-

فلو كان بالدهنا حريث بن جابر
لأصبح بحرا بالمفازة جاريا

قلت هذا حريث بن جابر- هو الذي كتب معاوية إلى زياد في أمره بعد عام الجماعة- و حريث عامل لزياد على همدان- أما بعد فاعزل حريث بن جابر عن عمله- فما ذكرت مواقفه بصفين إلا كانت حزازة في صدري فكتب إليه زياد خفض عليك يا أمير المؤمنين- فإن حريثا قد بلغ من الشرف مبلغا لا تزيده الولاية- و لا ينقصه العزل- . قال نصر فاضطرب الناس يومئذ بالسيوف- حتى تقطعت و تكسرت و صارت كالمناجل- و تطاعنوا بالرماح حتى تقصفت و تناثرت أسنتها- ثم جثوا على الركب فتحاثوا بالتراب- يحثو بعضهم التراب في وجه بعض- ثم تعانقوا و تكادموا بالأفواه- ثم تراموا بالصخر و الحجارة ثم تحاجزوا- فكان الرجل من أهل العراق يمر على أهل الشام- فيقول كيف آخذ إلى رايات بني فلان- فيقولون هاهنا لا هداك الله- و يمر الرجل من أهل الشام على أهل العراق- فيقول كيف آخذ إلى راية بني فلان- فيقولون هاهنا لا حفظك الله و لا عافاك- .

قال نصر و قال معاوية لعمرو بن العاص- أ ما ترى يا أبا عبد الله إلى ما قد دفعنا- كيف ترى أهل العراق غدا صانعين- إنا لبمعرض خطر عظيم- فقال له إن أصبحت غدا ربيعة و هم متعطفون حول علي ع- تعطف الإبل حول فحلها- لقيت منهم جلادا صادقا و بأسا شديدا- و كانت التي لا يتعزى لها- فقال معاوية أ يجوز أنك تخوفنا يا أبا عبد الله- قال إنك سألتني فأجبتك- فلما أصبحوا في اليوم العاشر أصبحوا- و ربيعة محدقة بعلي ع إحداق بياض العين بسوادها- .

قال نصر فحدثني عمرو قال- لما أصبح علي ع هذا اليوم- جاء فوقف بين رايات ربيعة فقال عتاب بن لقيط البكري- من بني قيس بن ثعلبة يا معشر ربيعة- حاموا عن علي منذ اليوم فإن أصيب فيكم افتضحتم- أ لا ترونه قائما تحت راياتكم- و قال لهم شقيق بن ثور يا معشر ربيعة- ليس لكم عذر عند العرب إن وصل إلى علي و فيكم رجل حي- فامنعوه اليوم و اصدقوا عدوكم اللقاء- فإنه حمد الحياة تكسبونه- فتعاهدت ربيعة و تحالفت بالأيمان العظيمة منها- تبايع سبعة آلاف على ألا ينظر رجل منهم خلفه- حتى يردوا سرادق معاوية- فقاتلوا ذلك اليوم قتالا شديدا لم يكن قبله مثله- و أقبلوا نحو سرادق معاوية- فلما نظر إليهم قد أقبلوا قال-

إذا قلت قد ولت ربيعة أقبلت
كتائب منها كالجبال تجالد

ثم قال لعمرو يا عمرو ما ترى- قال أرى ألا تحنث أخوالي اليوم- فقام معاوية و خلى لهم سرادقه و رحله و خرج فارا عنه- لائذا ببعض مضارب العسكر في أخريات الناس فدخله- و انتهبت ربيعة سرادقه و رحله- و بعث إلى خالد بن المعمر إنك قد ظفرت- و لك إمرة خراسان أن لم تتم فقطع خالد القتال و لم يتمه- و قال لربيعة قد برت أيمانكم فحسبكم- فلما كان عام الجماعة و بايع الناس معاوية- أمره معاوية على خراسان و بعثه إليها- فمات قبل أن يبلغها- . قال نصر في حديث عمرو بن سعد- أن عليا ع صلى بهم هذا اليوم صلاة الغداة- ثم زحف بهم- فلما أبصروه قد خرج استقبلوه بزحوفهم- فاقتتلوا قتالا شديدا- ثم إن خيل أهل الشام حملت على خيل أهل العراق- فاقتطعوا من أصحاب علي ع ألف رجل أو أكثر- فأحاطوا بهم و حالوا بينهم و بين أصحابهم فلم يروهم- فنادى‏ علي ع يومئذ- أ لا رجل يشري نفسه لله و يبيع دنياه بآخرته- فأتاه رجل من جعف يقال له عبد العزيز بن الحارث- على فرس أدهم كأنه غراب مقنع في الحديد- لا يرى منه إلا عيناه- فقال يا أمير المؤمنين مرني بأمرك- فو الله لا تأمرني بشي‏ء إلا صنعته- فقال علي ع

سمحت بأمر لا يطاق حفيظة
و صدقا و إخوان الوفاء قليل‏

جزاك إله الناس خيرا فإنه‏
لعمرك فضل ما هناك جزيل‏

 يا أبا الحارث شد الله ركنك احمل على أهل الشام- حتى تأتي أصحابك فتقول لهم- إن أمير المؤمنين يقرأ عليكم السلام- و يقول لكم هللوا و كبروا من ناحيتكم- و نهلل نحن و نكبر من هاهنا- و احملوا من جانبكم و نحمل نحن من جانبنا على أهل الشام- فضرب الجعفي فرسه حتى إذا أقامه على أطراف سنابكه- حمل على أهل الشام المحيطين بأصحاب علي ع- فطاعنهم ساعة و قاتلهم- فأفرجوا له حتى خلص إلى أصحابه- فلما رأوه استبشروا به و فرحوا- و قالوا ما فعل أمير المؤمنين- قال صالح يقرئكم السلام و يقول لكم- هللوا و كبروا و احملوا حملة شديدة من جانبكم- و نهلل نحن و نكبر و نحمل من جانبنا- ففعلوا ما أمرهم به و هللوا و كبروا- و هلل علي ع و كبر هو و أصحابه- و حمل على أهل الشام و حملوا هم من وسط أهل الشام- فانفرج القوم عنهم و خرجوا- و ما أصيب منهم رجل واحد- و لقد قتل من فرسان الشام يومئذ زهاء سبعمائة إنسان- قال علي ع من أعظم الناس اليوم غناء- فقالوا أنت يا أمير المؤمنين- فقال كلا و لكنه الجعفي- .

قال نصر- و كان علي ع لا يعدل بربيعة أحدا من الناس- فشق ذلك على مضر و أظهروا لهم القبيح و أبدوا ذات أنفسهم- فقال الحضين بن المنذر الرقاشي شعرا أغضبهم به- من جملته

أرى مضرا صارت ربيعة دونها
شعار أمير المؤمنين و ذا الفضل‏

فأبدوا لنا مما تجن صدورهم‏
هو السوء و البغضاء و الحقد و الغل‏

فأبلوا بلانا أو أقروا بفضلنا
و لن تلحقونا الدهر ما حنت الإبل‏

فقام أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني- و عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة التميمي- و قبيصة بن جابر الأسدي و عبد الله بن الطفيل العامري- في وجوه قبائلهم فأتوا عليا ع- فتكلم أبو الطفيل فقال أنا و الله يا أمير المؤمنين- ما نحسد قوما خصهم الله منك بخير- و إن هذا الحي من ربيعة قد ظنوا أنهم أولى بك منا- فاعفهم عن القتال أياما- و اجعل لكل امرئ منا يوما يقاتل فيه- فإنا إذا اجتمعنا اشتبه عليك بلاؤنا- فقال علي ع نعم أعطيكم ما طلبتم- و أمر ربيعة أن تكف عن القتال- و كانت بإزاء اليمن من صفوف أهل الشام- فغدا أبو الطفيل عامر بن واثلة في قومه من كنانة- و هم جماعة عظيمة فتقدم أمام الخيل- و يقول طاعنوا و ضاربوا ثم حمل و ارتجز فقال-

قد ضاربت في حربها كنانه
و الله يجزيها به جنانه‏

من أفرغ الصبر عليه زانه‏
أو غلب الجبن عليه شانه‏

أو كفر الله فقد أهانه
غدا يعض من عصى بنانه‏

 

فاقتتلوا قتالا شديدا- ثم انصرف أبو الطفيل إلى علي ع- فقال يا أمير المؤمنين إنك أنبأتنا أن أشرف القتل الشهادة- و أحظى الأمر الصبر و قد و الله صبرنا حتى أصبنا- فقتيلنا شهيد و حينا سعيد- فليطلب من بقي ثأر من مضى- فإنا و إن كنا قد ذهب صفونا و بقي كدرنا- فإن لنا دينا لا يميل به الهوى و يقينا لا تزحمه الشبهة- فأثنى علي ع عليه خيرا- . ثم غدا في اليوم الثاني عمير بن عطارد بجماعة من بني تميم- و هو يومئذ سيد مضر الكوفة- فقال يا قوم إني أتبع آثار أبي الطفيل- فاتبعوا آثار كنانة- ثم قدم رايته و ارتجز فقال-

قد ضاربت في حربها تميم
إن تميما خطبها عظيم‏

لها حديث و لها قديم‏
إن الكريم نسله كريم‏

دين قويم و هوى سليم
إن لم تردهم رايتي فلوموا

ثم طعن برايته حتى خضبها- و قاتل أصحابه قتالا شديدا حتى أمسوا- و انصرف عمير إلى علي ع و عليه سلاحه- فقال يا أمير المؤمنين قد كان ظني بالناس حسنا- و قد رأيت منهم فوق ظني بهم قاتلوا من كل جهة- و بلغوا من عفوهم جهد عدوهم و هم لهم إن شاء الله- . ثم غدا في اليوم الثالث- قبيصة بن جابر الأسدي في بني أسد- و قال لأصحابه يا بني أسد أما أنا فلا أقصر دون صاحبي- و أما أنتم فذاك إليكم- ثم تقدم برايته و قال-

قد حافظت في حربها بنو أسد
ما مثلها تحت العجاج من أحد

أقرب من يمن و أنأى من نكد
كأننا ركنا ثبير أو أحد

لسنا بأوباش و لا بيض البلد
لكننا المحة من ولد معد

فقاتل القوم إلى أن دخل الليل ثم انصرفوا- . ثم غدا في اليوم الرابع- عبد الله بن الطفيل العامري في جماعة هوازن- فحارب بهم حتى الليل ثم انصرفوا- . قال نصر فانتصفوا المضرية من الربعية- و ظهر أثرها و عرف بلاؤها- و قال أبو الطفيل

و حامت كنانة في حربها
و حامت تميم و حامت أسد

و حامت هوازن يوم اللقا
فما خام منا و منهم أحد

لقينا الفوارس يوم الخميس
و العيد و السبت ثم الأحد

لقينا قبائل أنسابهم‏
إلى حضرموت و أهل الجند

فأمدادهم خلف آذانهم
و ليس لنا من سوانا مدد

فلما تنادوا بآبائهم‏
دعونا معدا و نعم المعد

فظلنا نفلق هاماتهم
و لم نك فيها ببيض البلد

و نعم الفوارس يوم اللقا
فقل في عديد و قل في عدد

و قل في طعان كفرغ الدلاء
و ضرب عظيم كنار الوفد

و لكن عصفنا بهم عصفة
و في الحرب يمن و فيها نكد

طحنا الفوارس وسط العجاج
و سقنا الزعانف سوق النقد

و قلنا علي لنا والد
و نحن له طاعة كالولد

 قال نصر و حدثنا عمرو- عن الأشعث بن سويد عن كردوس قال- كتب عقبة بن مسعود عامل علي على الكوفة- إلى سليمان بن صرد الخزاعي- و هو مع علي بصفين- أما بعد فإنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم- أو يعيدوكم في ملتهم و لن تفلحوا إذا أبدا- فعليك بالجهاد و الصبر مع أمير المؤمنين و السلام- .

قال نصر و حدثنا عمرو بن سعد و عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر قال قام علي ع فخطب الناس بصفين فقال- الحمد لله على نعمه الفاضلة على جميع من خلق- من البر و الفاجر- و على حججه البالغة على خلقه من أطاعه فيهم و من عصاه- أن يرحم فبفضله و منه و إن عذب فبما كسبت أيديهم- و إن الله ليس بظلام للعبيد- أحمده على حسن البلاء و تظاهر النعماء- و أستعينه على ما نابنا من أمر الدنيا و الآخرة- و أتوكل عليه و كفى بالله وكيلا- ثم إني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له- و أشهد أن محمدا عبده و رسوله- أرسله بالهدى و دين الحق- ارتضاه لذلك و كان أهله- و اصطفاه لتبليغ رسالته و جعله رحمة منه على خلقه- فكان علمه فيه رءوفارحيما- أكرم خلق الله حسبا و أجملهم منظرا و أسخاهم نفسا- و أبرهم لوالد و أوصلهم لرحم- و أفضلهم علما و أثقلهم حلما- و أوفاهم لعهد و آمنهم على عقد- لم يتعلق عليه مسلم و لا كافر بمظلمة قط- بل كان يظلم فيغفر و يقدر فيصفح- حتى مضى ص مطيعا لله صابرا على ما أصابه- مجاهدا في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين ص- فكان ذهابه أعظم المصيبة على أهل الأرض البر و الفاجر- ثم ترك فيكم كتاب الله يأمركم بطاعة الله- و ينهاكم عن معصيته- و قد عهد إلى رسول الله عهدا فلست أحيد عنه- و قد حضرتم عدوكم و علمتم أن رئيسهم منافق- يدعوهم إلى النار- و ابن عم نبيكم معكم و بين أظهركم- يدعوكم إلى الجنة و إلى طاعة ربكم- و العمل بسنة نبيكم- و لا سواء من صلى قبل كل ذكر- لم يسبقني بصلاة مع رسول الله أحد- و أنا من أهل بدر و معاوية طليق و ابن طليق- و الله أنا على الحق و إنهم على الباطل- فلا يجتمعن على باطلهم و تتفرقوا عن حقكم- حتى يغلب باطلهم حقكم- قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم- فإن لم تفعلوا يعذبهم بأيدي غيركم- فقام أصحابه فقالوا يا أمير المؤمنين- انهض بنا إلى عدونا و عدوك إذا شئت- فو الله ما نريد بك بدلا- بل نموت معك و نحيا معك- فقال لهم و الذي نفسي بيده- لنظر إلى النبي ص أضرب بين يديه بسيفي هذا- فقال لا سيف إلا ذو الفقار و لا فتى إلا علي- و قال لي يا علي أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي‏و موتك و حياتك يا علي معي- و الله ما كذب و لا كذبت و لا ضل و لا ضللت- و لا ضل بي و لا نسيت ما عهد إلى- و إني على بينة من ربي و على الطريق الواضح- ألقطه لقطا- .

ثم نهض إلى القوم- فاقتتلوا من حين طلعت الشمس حتى غاب الشفق الأحمر- و ما كانت صلاة القوم في ذلك اليوم إلا تكبيرا- . قال و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر- عن الشعبي عن صعصعة بن صوحان قال- برز في بعض أيام صفين رجل من حمير- من آل ذي يزن اسمه كريب بن الصباح- ليس في الشام يومئذ رجل أشهر بالبأس و النجدة منه- فنادى من يبارز- فخرج إليه المرتفع بن الوضاح الزبيدي فقتله- ثم نادى من يبارز فخرج إليه الحارث بن الجلاح فقتله- ثم نادى من يبارز- فخرج إليه عابد بن مسروق الهمداني فقتله- ثم رمى بأجسادهم بعضها فوق بعض- و قام عليها بغيا و اعتداء و نادى من يبارز- فخرج إليه علي و ناداه ويحك يا كريب- إني أحذرك الله و بأسه و نقمته- و أدعوك إلى سنة الله و سنة رسوله- ويحك لا يدخلنك معاوية النار- فكان جوابه له أن قال- ما أكثر ما قد سمعت منك هذه المقالة- و لا حاجة لنا فيها أقدم إذا شئت- من يشتري سيفي و هذا أثره- فقال علي لا حول و لا قوة إلا بالله- ثم مشى إليه فلم يمهله أن ضربه ضربة- خر منها قتيلا يشحط في دمه- ثم نادى من يبرز- فبرز إليه الحارث بن وداعة الحميري فقتله- ثم نادى من يبرز- فبرز إليه المطاع بن مطلب العنسي‏ فقتله- ثم نادى من يبرز فلم يبرز إليه أحد- فنادى يا معشر المسلمين- الشهر الحرام بالشهر الحرام و الحرمات قصاص- فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم- و اتقوا الله و اعلموا أن الله مع المتقين- ويحك يا معاوية هلم إلي فبارزني- و لا يقتلن الناس فيما بيننا- فقال عمرو بن العاص اغتنمه منتهزا- قد قتل ثلاثة من أبطال العرب- و إني أطمع أن يظفرك الله به- فقال معاوية و الله لن تريد إلا أن أقتل فتصيب الخلافة بعدي- اذهب إليك عني فليس مثلي يخدع- .

قال نصر و حدثنا عمرو قال- حدثنا خالد بن عبد الواحد الجريري قال- حدثني من سمع عمرو بن العاص قبل الوقعة العظمى بصفين- و هو يحرض أهل الشام- و قد كان منحنيا على قوس فقال- الحمد لله العظيم في شأنه القوي في سلطانه- العلي في مكانه الواضح في برهانه- أحمده على حسن البلاء و تظاهر النعماء- في كل رزية من بلاء أو شدة أو رخاء- و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له- و أن محمدا عبده و رسوله- ثم إنا نحتسب عند الله رب العالمين- ما أصبح في أمة محمد ص من اشتعال نيرانها- و اضطراب حبلها و وقوع بأسها بينها- فإنا لله و إنا إليه راجعون و الحمد لله رب العالمين- أ و لا تعلمون أن صلاتنا و صلاتهم- و صيامنا و صيامهم و حجنا و حجهم- و قتلنا و قتلهم‏ و ديننا و دينهم واحد- و لكن الأهواء مختلفة- اللهم أصلح هذه الأمة بما أصلحت به أولها- و احفظ في ما بينها- مع أن القوم قد وطئوا بلادكم و نعوا عليكم- فجدوا في قتال عدوكم- و استعينوا بالله ربكم و حافظوا على حرماتكم- ثم جلس-

قال نصر و خطب عبد الله بن العباس- أهل العراق يومئذ فقال- الحمد لله رب العالمين- الذي دحا تحتنا سبعا و سمك فوقنا سبعا- و خلق فيما بينهن خلقا و أنزل لنا منهن رزقا- ثم جعل كل شي‏ء قدرا يبلى و يفنى غير وجهه الحي القيوم- الذي يحيا و يبقى- إن الله تعالى بعث أنبياء و رسلا- فجعلهم حججا على عباده عذرا أو نذرا- لا يطاع إلا بعلمه و إذنه- يمن بالطاعة على من يشاء من عباده ثم يثيب عليها- و يعصى بعلم منه فيعفو و يغفر بحلمه- لا يقدر قدره و لا يبلغ شي‏ء مكانه- أحصى كل شي‏ء عددا و أحاط بكل شي‏ء علما- و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له- و أشهد أن محمدا عبده و رسوله- إمام الهدى و النبي المصطفى- و قد ساقنا قدر الله إلى ما ترون- حتى كان مما اضطرب من حبل هذه الأمة و انتشر من أمرها- أن معاوية بن أبي سفيان وجد من طغام الناس أعوانا- على علي ابن عم رسول الله و صهره و أول ذكر صلى معه- بدري قد شهد مع رسول الله ص كل مشاهدة- التي فيها الفضل- و معاوية مشرك كان يعبد الأصنام- و الذي ملك الملك وحده و بان به و كان أهله- لقد قاتل علي بن أبي طالب مع رسول الله- و هو يقول صدق الله و رسوله- و معاوية يقول كذب الله و رسوله- فعليكم بتقوى الله و الجد و الحزم و الصبر- و الله إنا لنعلم‏إنكم لعلى حق و إن القوم لعلى باطل- فلا يكونن أولى بالجد على باطلهم منكم في حقكم- و إنا لنعلم أن الله سيعذبهم بأيديكم أو بأيدي غيركم- اللهم أعنا و لا تخذلنا- و انصرنا على عدونا و لا تحل عنا- و افتح بيننا و بين قومنا بالحق و أنت خير الفاتحين

قال نصر و حدثنا عمرو قال حدثنا عبد الرحمن بن جندب عن جندب بن عبد الله قال قام عمار يوم صفين فقال انهضوا معي عباد الله- إلى قوم يزعمون أنهم يطلبون بدم ظالم- إنما قتله الصالحون المنكرون للعدوان- الآمرون بالإحسان- فقال هؤلاء الذين لا يبالون- إذا سلمت لهم دنياهم و لو درس هذا الدين- لم قتلتموه فقلنا لإحداثه- فقالوا إنه لم يحدث شيئا- و ذلك لأنه مكنهم من الدنيا فهم يأكلونها و يرعونها- و لا يبالون لو انهدمت الجبال- و الله ما أظنهم يطلبون بدم- و لكن القوم ذاقوا الدنيا فاستحلوها و استمرءوها- و علموا أن صاحب الحق- لو وليهم لحال بينهم و بين ما يأكلون و يرعون منها- إن القوم لم يكن لهم سابقة في الإسلام- يستحقون بها الطاعة و الولاية- فخدعوا أتباعهم بأن قالوا قتل إمامنا مظلوما- ليكونوا بذلك جبابرة و ملوكا- تلك مكيدة قد بلغوا بها ما ترون- و لولاها ما بايعهم من الناس رجل- اللهم إن تنصرنا فطالما نصرت- و إن تجعل‏لهم الأمر- فادخر لهم بما أحدثوا لعبادك العذاب الأليم- ثم مضى و مضى معه أصحابه فدنا من عمرو بن العاص- فقال يا عمرو بعت دينك بمصر فتبا لك- و طالما بغيت للإسلام عوجا- ثم قال اللهم إنك تعلم- أني لو أعلم أن رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلت- اللهم إنك تعلم- أني لو أعلم أن رضاك أن أضع ظبة سيفي في بطني- ثم انحنى عليه حتى يخرج من ظهري لفعلت- اللهم إني أعلم مما علمتني- أني لا أعمل عملا صالحا هذا اليوم- هو أرضى من جهاد هؤلاء الفاسقين- و لو أعلم اليوم عملا هو أرضى لك منه لفعلته- .

قال نصر و حدثني عمرو بن سعيد عن الشعبي قال- نادى عمار عبد الله بن عمرو بن العاص فقال له- بعت دينك بالدنيا من عدو الله و عدو الإسلام معاوية- و طلبت هوى أبيك الفاسق- فقال لا و لكني أطلب بدم عثمان الشهيد المظلوم- قال كلا أشهد على علمي فيك- أنك أصبحت لا تطلب بشي‏ء من فعلك وجه الله- و أنك إن لم تقتل‏اليوم فستموت غدا- فانظر إذا أعطى الله العباد على نياتهم ما نيتك- . و روى ابن ديزيل في كتاب صفين عن صيف الضبي قال- سمعت الصعب بن حكيم بن شريك بن نملة المحاربي- يروي عن أبيه عن جده شريك قال- كان الناس من أهل العراق و أهل الشام- يقتتلون أيام صفين و يتزايلون- فلا يستطيع الرجل أن يرجع إلى مكانه- حتى يسفر الغبار عنه- فاقتتلوا يوما و تزايلوا و أسفر الغبار- فإذا علي تحت رايتنا يعني بني محارب-فقال هل من ماء فأتيته بإداوة فخنثتها له ليشرب- فقال لا إنا نهينا أن نشرب من أفواه الأسقية- ثم علق سيفه و إنه لمخضب بالدم من ظبته إلى قائمه- فصببت له على يديه فغسلهما حتى أنقاهما- ثم شرب بيديه حتى إذا روى رفع رأسه- ثم قال أين مضر- فقلت أنت فيهم يا أمير المؤمنين- فقال من أنتم بارك الله فيكم- فقلنا نحن بنو محارب- فعرف موقفه ثم رجع إلى موضعه- . قلت خنثت الإداوة إذا ثنيت فاها إلى خارج- و إنما نهى رسول الله ص عن اختناث الأسقية- لأن رجلا اختنث سقاء فشرب- فدخل إلى جوفه حية كانت في السقاء- .

قال ابن ديزيل و روى إسماعيل بن أبي أويس قال حدثني عبد الملك بن قدامة بن إبراهيم بن حاطب الجمحي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال لي رسول الله ص- كيف بك يا عبد الله إذا بقيت في حثالة من الناس- قد مرجت عهودهم و مواثيقهم و كانوا هكذا- و خالف بين أصابعه- فقلت تأمرني بأمرك يا رسول الله- قال تأخذ مما تعرف و تدع ما تنكر- و تعمل بخاصة نفسك و تدع الناس و هوام أمرهم- .

قال فلما كان يوم صفين قال له أبوه عمرو بن العاص- يا عبد الله اخرج فقاتل- فقال‏يا أبتاه أ تأمرني أن أخرج فأقاتل- و قد سمعت ما سمعت يوم عهد إلى رسول الله ص ما عهد- فقال أنشدك الله يا عبد الله- أ لم يكن آخر ما عهد إليك رسول الله ص- أن أخذ بيدك فوضعها في يدي فقال أطع أباك- فقال اللهم بلى- قال فإني أعزم عليك أن تخرج فتقاتل- فخرج عبد الله بن عمرو فقاتل يومئذ متقلدا سيفين- قال و إن من شعر عبد الله بن عمرو بعد ذلك يذكر عليا بصفين-

فلو شهدت جمل مقامي و مشهدي
بصفين يوما شاب منها الذوائب‏

عشية جا أهل العراق كأنهم‏
سحاب ربيع رفعته الجنائب‏

إذا قلت قد ولت سراعا بدت لنا
كتائب منهم و ارجحنت كتائب‏

و جئناهم فرادى كأن صفوفنا
من البحر مد موجه متراكب‏

فدارت رحانا و استدارت رحاهم
سراة النهار ما تولى المناكب‏

فقالوا لنا إنا نرى أن تبايعوا
فقلنا بلى إنا نرى أن تضاربوا

 و روى ابن ديزيل عن يحيى بن سليمان الجعفي قال- حدثنا مسهر بن عبد الملك بن سلع الهمداني قال- حدثني أبي عن عبد خير الهمداني قال- كنت أنا و عبد خير في سفر قلت يا أبا عمارة- حدثني عن بعض ما كنتم فيه بصفين- فقال لي يا ابن أخي و ما سؤالك- فقلت أحببت أن أسمع منك شيئا- فقال يا ابن أخي إنا كنا لنصلي الفجر- فنصف و يصف أهل الشام- و نشرع الرماح إليهم و يشرعون بها نحونا- أما لو دخلت تحتها لأظلتك- و الله يا ابن أخي- إنا كنا لنقف و يقفون في الحرب لا نفتر و لا يفترون- حتى نصلي‏العشاء الآخرة- ما يعرف الرجل منا طول ذلك اليوم- من عن يمينه و لا من عن يساره- من شدة الظلمة و النقع إلا بقرع الحديد بعضه على بعض- فيبرز منه شعاع كشعاع الشمس- فيعرف الرجل من عن يمينه و من عن يساره- حتى إذا صلينا العشاء الآخرة- جررنا قتلانا إلينا فتوسدناهم حتى نصبح- و جروا قتلاهم فتوسدوهم حتى يصبحوا- قال قلت له يا أبا عمارة هذا و الله الصبر- .

و روى ابن ديزيل قال- كان عمرو بن العاص إذا مر عليه رجل من أصحاب علي- فسأل عنه فأخبر به فقال- يرى علي و معاوية أنهما بريئان من دم هذا- . قال ابن ديزيل و روى ابن وهب عن مالك بن أنس قال- جلس عمرو بن العاص بصفين في رواق- و كان أهل العراق يدفنون قتلاهم- و أهل الشام يجعلون قتلاهم في العباء و الأكسية- يحملونهم فيها إلى مدافنهم- فكلما مر عليه برجل قال من هذا- فيقال فلان فقال عمرو كم من رجل أحسن في الله- عظيم الحال لم ينج من قتله فلان و فلان- قال يعني عليا و معاوية- .

قلت ليت شعري لم برأ نفسه و كان رأسا في الفتنة- بل لولاه لم تكن- و لكن الله تعالى أنطقه بهذا الكلام و أشباهه- ليظهر بذلك شكه و أنه لم يكن على بصيرة من أمره- . و روى نصر بن مزاحم قال حدثني يحيى بن يعلى قال- حدثني صباح المزني عن الحارث بن حصن- عن زيد بن أبي رجاء عن أسماء بن حكيم الفزاري قال- كنا بصفين مع علي تحت راية عمار بن ياسر- ارتفاع الضحى و قد استظللنا برداء أحمر- إذ أقبل رجل يستقري الصف حتى انتهى إلينا- فقال أيكم عمار بن ياسر فقال عمار أنا عمار- قال أبو اليقظان قال نعم- قال إن لي إليك حاجة أ فأنطق بهاسرا أو علانية- قال اختر لنفسك أيهما شئت- قال لا بل علانية قال فانطق- قال إني خرجت من أهلي مستبصرا في الحق- الذي نحن عليه- لا أشك في ضلالة هؤلاء القوم و أنهم على الباطل- فلم أزل على ذلك مستبصرا حتى ليلتي هذه- فإني رأيت في منامي مناديا تقدم- فأذن و شهد أن لا إله إلا الله- و أن محمدا رسول الله ص- و نادى بالصلاة و نادى مناديهم مثل ذلك- ثم أقيمت الصلاة فصلينا صلاة واحدة- و تلونا كتابا واحدا و دعونا دعوة واحدة- فأدركني الشك في ليلتي هذه- فبت بليلة لا يعلمها إلا الله تعالى حتى أصبحت- فأتيت أمير المؤمنين فذكرت ذلك له- فقال هل لقيت عمار بن ياسر قلت لا- قال فالقه فانظر ما ذا يقول لك عمار فاتبعه- فجئتك لذلك فقال عمار- تعرف صاحب الراية السوداء المقابلة لي- فإنها راية عمرو بن العاص- قاتلتها مع رسول الله ص ثلاث مرات- و هذه الرابعة فما هي بخيرهن و لا أبرهن- بل هي شرهن و أفجرهن- أ شهدت بدرا و أحدا و يوم حنين- أو شهدها أب لك فيخبرك عنها قال لا- قال فإن مراكزنا اليوم على مراكز رايات رسول الله ص- يوم بدر و يوم أحد و يوم حنين- و إن مراكز رايات هؤلاء- على مراكز رايات المشركين من الأحزاب- فهل ترى هذا العسكر و من فيه- و الله لوددت أن جميع من فيه- ممن أقبل مع معاوية يريد قتالنا- مفارقا للذي نحن عليه كانوا خلقا واحدا- فقطعته و ذبحته- و الله لدماؤهم جميعا أحل من دم عصفور- أ فترى دم عصفور حراما قال لا بل حلال- قال فإنهم حلال كذلك- أ تراني بينت لك قال قد بينت لي- قال فاختر أي ذلك أحببت- .

فانصرف الرجل فدعاه عمار ثم قال- أما إنهم سيضربونكم بأسيافهم- حتى يرتاب المبطلون منكم- فيقولوا لو لم يكونوا على حق ما أظهروا علينا- و الله ما هم من الحق على ما يقذى عين ذباب- و الله لو ضربونا بأسيافهم حتى يبلغونا سعفات هجر- لعلمنا أنا على حق و أنهم على باطل- .

قال نصر و حدثنا يحيى بن يعلى عن الأصبغ بن نباتة قال جاء رجل إلى علي فقال- يا أمير المؤمنين هؤلاء القوم الذين نقاتلهم- الدعوة واحدة و الرسول واحد- و الصلاة واحدة و الحج واحد فما ذا نسميهم- قال سمهم بما سماهم الله في كتابه- قال ما كل ما في الكتاب أعلمه- قال أ ما سمعت الله تعالى يقول- تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ- إلى قوله وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ- مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ- وَ لكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ- فلما وقع الاختلاف- كنا نحن أولى بالله و بالكتاب و بالنبي و بالحق- فنحن الذين آمنوا و هم الذين كفروا- و شاء الله قتالهم فقاتلهم بمشيئته و إرادته

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ أبي‏ الحديد) ج 5

خطبه 64 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

64 و من خطبة له ع

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْ لَهُ حَالٌ حَالًا- فَيَكُونَ أَوَّلًا قَبْلَ أَنْ يَكُونَ آخِراً- وَ يَكُونَ ظَاهِراً قَبْلَ أَنْ يَكُونَ بَاطِناً- كُلُّ مُسَمًّى بِالْوَحْدَةِ غَيْرَهُ قَلِيلٌ- وَ كُلُّ عَزِيزٍ غَيْرَهُ ذَلِيلٌ وَ كُلُّ قَوِيٍّ غَيْرَهُ ضَعِيفٌ- وَ كُلُّ مَالِكٍ غَيْرَهُ مَمْلُوكٌ وَ كُلُّ عَالِمٍ غَيْرَهُ مُتَعَلِّمٌ- وَ كُلُّ قَادِرٍ غَيْرَهُ يَقْدِرُ وَ يَعْجِزُ- وَ كُلُّ سَمِيعٍ غَيْرَهُ يَصَمُّ عَنْ لَطِيفِ الْأَصْوَاتِ- وَ يُصِمُّهُ كَبِيرُهَا وَ يَذْهَبُ عَنْهُ مَا بَعُدَ مِنْهَا- وَ كُلُّ بَصِيرٍ غَيْرَهُ يَعْمَى عَنْ خَفِيِّ الْأَلْوَانِ وَ لَطِيفِ الْأَجْسَامِ- وَ كُلُّ ظَاهِرٍ غَيْرَهُ غَيْرُ بَاطِنٍ وَ كُلُّ بَاطِنٍ غَيْرَهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ- لَمْ يَخْلُقْ مَا خَلَقَهُ لِتَشْدِيدِ سُلْطَانٍ- وَ لَا تَخَوُّفٍ مِنْ عَوَاقِبِ زَمَانٍ- وَ لَا اسْتِعَانَةٍ عَلَى نِدٍّ مُثَاوِرٍ وَ لَا شَرِيكٍ مُكَاثِرٍ وَ لَا ضِدٍّ مُنَافِرٍ- وَ لَكِنْ خَلَائِقُ مَرْبُوبُونَ وَ عِبَادٌ دَاخِرُونَ- لَمْ يَحْلُلْ فِي الْأَشْيَاءِ فَيُقَالَ هُوَ فِيهَا كَائِنٌ- وَ لَمْ يَنْأَ عَنْهَا فَيُقَالَ هُوَ مِنْهَا بَائِنٌ- لَمْ يَؤُدْهُ خَلْقُ مَا ابْتَدَأَ- وَ لَا تَدْبِيرُ مَا ذَرَأَ وَ لَا وَقَفَ بِهِ عَجْزٌ عَمَّا خَلَقَ- وَ لَا وَلَجَتْ عَلَيْهِ شُبْهَةٌ فِيمَا قَضَى وَ قَدَّرَ- بَلْ قَضَاءٌ مُتْقَنٌ وَ عِلْمٌ مُحْكَمٌ- وَ أَمْرٌ مُبْرَمٌ الْمَأْمُولُ مَعَ النِّقَمِ- الْمَرْهُوبُ مَعَ النِّعَمِ يصم بفتح الصاد لأن الماضي صممت يا زيد- و الصمم فساد حاسة السمع و يصمه بكسرها- يحدث الصمم عنده و أصممت زيدا- .

و الند المثل و النظير و المثاور المواثب- و الشريك المكاثر المفتخر بالكثرة- و الضد المنافر المحاكم في الحسب- نافرت زيدا فنفرته أي غلبته- و مربوبون مملوكون- و داخرون ذليلون خاضعون- . و لم ينأ لم يبعد و لم يؤده لم يتعبه- و ذرأ خلق و ولجت عليه الشبهة بفتح اللام أي دخلت- و المرهوب المخوف- .

فأما قوله الذي لم يسبق له حال حالا- فيكون أولا قبل أن يكون آخرا- فيمكن تفسيره على وجهين- أحدهما أن معنى كونه أولا أنه لم يزل موجودا- و لا شي‏ء من الأشياء بموجود أصلا- و معنى كونه آخرا أنه باق لا يزال- و كل شي‏ء من الأشياء يعدم عدما محضا- حسب عدمه فيما مضى- و ذاته سبحانه ذات- يجب لها اجتماع استحقاق هذين الاعتبارين- معا في كل حال- فلا حال قط إلا و يصدق على ذاته- أنه يجب كونها مستحقة للأولية و الآخرية- بالاعتبار المذكور استحقاقا ذاتيا ضروريا- و ذلك الاستحقاق ليس على وجه وصف الترتيب- بل مع خلاف غيره من الموجودات الجسمانية- فإن غيره مما يبقى زمانين فصاعدا- إذا نسبناه إلى ما يبقى دون زمان بقائه- لم يكن استحقاقه الأولية و الآخرية- بالنسبة إليه على هذا الوصف- بل إما يكون استحقاقا بالكلية- بأن يكون استحقاقا قريبا- فيكون إنما يصدق عليه أحدهما- لأن الآخر لم يصدق عليه- أو يكونا معا يصدقان عليه مجتمعين غير مرتبين- لكن ليس ذلك لذات الموصوف بالأولية و الآخرية- بل إنما ذلك الاستحقاق لأمر خارج عن ذاته- .

الوجه الثاني أن يريد بهذا الكلام- أنه تعالى لا يجوز أن يكون موردا للصفات المتعاقبة- على ما يذهب إليه قوم من أهل التوحيد- قالوا لأنه واجب لذاته- و الواجب لذاته‏ واجب من جميع جهاته- إذ لو فرضنا جواز اتصافه بأمر جديد ثبوتي أو سلبي- لقلنا إن ذاته لا تكفي في تحققه- و لو قلنا ذلك لقلنا إن حصول ذلك الأمر أو سلبه عنه- يتوقف على حصول أمر خارج عن ذاته- أو على عدم أمر خارج عن ذاته- فتكون ذاته لا محالة متوقفة على حضور ذلك الحصول أو السلب- و المتوقف على المتوقف على الغير متوقف على الغير- و كل متوقف على الغير ممكن- و الواجب لا يكون ممكنا- فيكون معنى الكلام على هذا التفسير- نفي كونه تعالى ذا صفة بكونه أولا و آخرا- بل إنما المرجع بذلك إلى إضافات- لا وجود لها في الأعيان- و لا يكون ذلك من أحوال ذاته- الراجعة إليها كالعالمية و نحوها- لأن تلك أحوال ثابتة- و نحن إنما ننفي عنه بهذه الحجة الأحوال المتعاقبة- .

و أما قوله أو يكون ظاهرا قبل أن يكون باطنا- فإن للباطل و الظاهر تفسيرا على وجهين- أحدهما أنه ظاهر بمعنى أن أدلة وجوده- و أعلام ثبوته و إلهيته جلية واضحة- و معنى كونه باطنا أنه غير مدرك بالحواس الظاهرة- بل بقوة أخرى باطنة و هي القوة العقلية- . و ثانيهما أنا نعني بالظاهر الغالب- يقال ظهر فلان على بني فلان أي غلبهم- و معنى الباطن العالم يقال بطنت سر فلان أي علمته- و القول في نفيه عنه سبحانه أن يكون ظاهرا قبل كونه باطنا- كالقول فيما تقدم من نفيه عنه سبحانه- كونه أولا قبل كونه آخرا- .

و أما قوله كل مسمى بالوحدة غيره قليل- فلأن الواحد أقل العدد- و معنى كونه واحدا يباين ذلك- لأن معنى كونه واحدا إما نفي الثاني في الإلهية- أو كونه يستحيل عليها الانقسام- و على كلا التفسيرين يسلب عنها مفهوم القلة- . هذا إذا فسرنا كلامه على التفسير الحقيقي- و إن فسرناه على قاعدة البلاغة و صناعة الخطابة- كان ظاهرا لأن الناس يستحقرون القليل لقلته- و يستعظمون الكثير لكثرته- قال الشاعر

تجمعتم من كل أوب و وجهة
على واحد لا زلتم قرن واحد

و أما قوله و كل عزيز غيره ذليل فهو حق- لأن غيره من الملوك و إن كان عزيزا- فهو ذليل في قبضة القضاء و القدر- و هذا هو تفسير قوله و كل قوى غيره ضعيف- و كل مالك غيره مملوك- . و أما قوله و كل عالم غيره متعلم فهو حق- لأنه سبحانه مفيض العلوم على النفوس- فهو المعلم الأول جلت قدرته- . و أما قوله و كل قادر غيره يقدر و يعجز فهو حق- لأنه تعالى قادر لذاته و يستحيل عليه العجز- و غيره قادر لأمر خارج عن ذاته- أما لقدرة كما قاله قوم- أو لبنية و تركيب كما قاله قوم آخرون- و العجز على من عداه غير ممتنع و عليه مستحيل- .

و أما قوله ع- و كل سميع غيره يصم عن لطيف الأصوات- و يصمه كبيرها و يذهب عنه ما بعد منها- فحق لأن كل ذي سمع من الأجسام- يضعف سمعه عن إدراك خفي الأصوات- و يتأثر من شديدها و قويها- لأنه يسمع بآلة جسمانية- و الآلة الجسمانية ذات قوة متناهية- واقفة عند حد محدود- و الباري تعالى بخلاف ذلك- . و اعلم أن أصحابنا اختلفوا- في كونه تعالى مدركا للمسموعات و المبصرات- فقال شيخنا أبو علي و أبو هاشم و أصحابهما- إن كونه مدركا صفة زائدة على كونه عالما- و قالا إنا نصف الباري تعالى- فيما لم يزل بأنه سميع بصير- و لا نصفه بأنه سامع مبصر- و معنى كونه سامعا مبصرا- أنه مدرك للمسموعات و المبصرات- .

و قال شيخنا أبو القاسم و أبو الحسين و أصحابهما- أن معنى كونه تعالى مدركا هو أنه عالم بالمدركات- و لا صفة له زائدة على صفته بكونه عالما- و هذا البحث مشروح- في كتبي الكلامية لتقرير الطريقين- و في شرح الغرر و غيرهما- .

و القول في شرح قوله- و كل بصير غيره يعمى عن خفي الألوان- و لطيف الأجسام- كالقول فيما تقدم في إدراك السمع- . و أما قوله و كل ظاهر غيره غير باطن- و كل باطن غيره غير ظاهر فحق- لأن كل ظاهر غيره على التفسير الأول- فليس بباطن كالشمس و القمر و غيرهما- من الألوان الظاهرة- فإنها ليست إنما تدرك بالقوة العقلية- بل بالحواس الظاهرة- و أما هو سبحانه فإنه أظهر وجودا من الشمس- لكن ذلك الظهور لم يمكن إدراكه- بالقوى الحاسة الظاهرة- بل بأمر آخر- إما خفي في باطن هذا الجسد- أو مفارق ليس في الجسد- و لا في جهة أخرى غير جهة الجسد- .

و أما على التفسير الثاني- فلأن كل ملك ظاهر على رعيته- أو على خصومه و قاهر لهم- ليس بعالم ببواطنهم و ليس مطلعا على سرائرهم- و البارئ تعالى بخلاف ذلك- و إذا فهمت شرح القضية الأولى- فهمت شرح الثانية- و هي قوله و كل باطن غيره غير ظاهر

اختلاف الأقوال في خلق العالم

فأما قوله لم يخلق ما خلقه لتشديد سلطانه- إلى قوله عباد داخرون- فاعلم أن‏ الناس- اختلفوا في كمية خلقه تعالى للعالم ما هي على أقوال-

القول الأول قول الفلاسفة- قال محمد بن زكريا الرازي عن أرسطاطاليس- إنه زعم أن العالم كان عن البارئ تعالى- لأن جوهره و ذاته جوهر- و ذات مسخرة للمعدوم أن يكون مسخرا موجودا- . قال و زعم ابن قيس أن علة وجود العالم وجود البارئ- . قال و على كلا القولين يكون العالم قديما- أما على قول أرسطو- فلأن جوهر ذات البارئ لما كان قديما لم يزل- وجب أن يكون أثرها و معلولها قديما- و أما على قول ابن قيس فلأن البارئ موجود لم يزل- لأن وجوده من لوازم ذاته- فوجب أن يكون فيضه و أثره أيضا لم يزل هكذا- .

قال ابن زكريا- فأما الذي يقول أصحاب أرسطاطاليس الآن في زماننا- فهو أن العالم لم يجب عن الله سبحانه عن قصد و لا غرض- لأن كل من فعل فعلا- لغرض كان حصول ذلك الغرض له- أولى من لا حصوله- فيكون كاملا لحصول ذلك الغرض- و واجب الوجود لا يجوز أن يكون كاملا- بأمر خارج عن ذاته- لأن الكامل لا من ذاته ناقص من ذاته- . قالوا لكن تمثل نظام العالم في علم واجب الوجود- يقتضي فيض ذلك النظام منه- قالوا و هذا معنى قول الحكماء الأوائل- إن علمه تعالى فعلي لا انفعالي- و إن العلم على قسمين- أحدهما ما يكون المعلوم سببا له- و الثاني ما يكون هو سبب المعلوم- مثال الأول أن نشاهد صورة فنعلمها- و مثال الثاني- أن يتصور الصائغ أو النجار أو البناء كيفية العمل- فيوقعه في الخارج على حسب ما تصوره- .

قالوا و علمه تعالى من القسم الثاني- و هذا هو المعنى المعبر عنه بالعناية- و هو إحاطة علم الأول الحق سبحانه بالكل- و بالواجب أن يكون عليه الكل- حتى يكون على أحسن النظام- و بأن ذلك واجب عن إحاطته- فيكون الموجود وفق المعلوم- من غير انبعاث قصد و طلب عن الأول الحق سبحانه- فعلمه تعالى بكيفية الصواب في ترتيب الكل- هو المنبع لفيضان الوجود في الكل- .

القول الثاني- قول حكاه أبو القاسم البلخي عن قدماء الفلاسفة- و إليه كان يذهب محمد بن زكريا الرازي من المتأخرين- . و هو أن علة خلق البارئ للعالم- تنبيه النفس على أن ما تراه من الهيولى- و تريده غير ممكن لترفض محبتها إياها و عشقها لها- و تعود إلى عالمها الأول غير مشتاقة إلى هذا العالم- .

و اعلم أن هذا القول هو القول المحكي عن الحرنانية- أصحاب القدماء الخمسة- و حقيقة مذهبهم إثبات قدماء خمسة- اثنان منهم حيان فاعلان و هما البارئ تعالى و النفس- و مرادهم بالنفس ذات هي مبدأ لسائر النفوس- التي في العالم كالأرواح البشرية- و القوى النباتية و النفوس الفلكية- و يسمون هذه الذات النفس الكلية- و واحد من الخمسة منفعل غير حي و هو الهيولى- و اثنان لا حيان و لا فاعلان و لا منفعلان- و هما الدهر و القضاء- قالوا و البارئ تعالى هو مبدأ العلوم و المنفعلات- و هو قائم العلم و الحكمة- كما أن النفس مبدأ الأرواح و النفوس- فالعلوم و المنفعلات تفيض من البارئ سبحانه- فيض النور عن قرص الشمس- و النفوس و الأرواح تفيض عن النفس الكلية- فيض النور عن القرص- إلا أن النفوس جاهلة- لا تعرف الأشياء إلا على أحد وجهين- إما أن يفيض فيض البارئ تعالى عليها تعقلا و إدراكا- و إما أن تمارس غيرها و تمازجه- فتعرف ما تعرف باعتبار الممارسة و المخالطة- معرفة ناقصة- و كان البارئ تعالى في الأزل عالما- بأن النفس تميل إلى التعلق بالهيولى و تعشقها- و تطلب اللذة الجسمانية- و تكره مفارقة الأجسام و تنسى نفسها- و لما كان البارئ سبحانه قائم العلم و الحكمة- اقتضت حكمته تركب الهيولى- لما تعلقت النفس بها ضروبا مختلفة من التراكيب- فجعل منها أفلاكا و عناصر و حيوانات و نباتات- فأفاض على النفوس تعقلا و شعورا- جعله سببا لتذكرها عالمها الأول- و معرفتها أنها ما دامت في هذا العالم- مخالطة للهيولى- لم تنفك عن الآلام- فيصير ذلك مقتضيا شوقها إلى عالمها الأول- الذي لها فيه اللذات الخالية عن الآلام- و رفضها هذا العالم الذي هو سبب أذاها و مضرتها- .

القول الثالث قول المجوس– إن الغرض من خلق العالم- أن يتحصن الخالق جل اسمه من العدو- و أن يجعل العالم شبكة له ليوقع العدو فيه- و يجعله في ربط و وثاق- و العدو عندهم هو الشيطان- و بعضهم يعتقد قدمه و بعضهم حدوثه- . قال قوم منهم إن البارئ تعالى استوحش- ففكر فكرة رديئة فتولد منها الشيطان- . و قال آخرون بل شك شكا رديئا- فتولد الشيطان من شكه- . و قال آخرون بل تولد من عفونة رديئة قديمة- و زعموا أن الشيطان حارب البارئ سبحانه- و كان في الظلم لم يزل بمعزل عن سلطان البارئ سبحانه- فلم يزل يزحف حتى رأى النور فوثب وثبة عظيمة- فصار في سلطان الله تعالى في النور- و أدخل معه الآفات و البلايا و السرور- فبنى الله سبحانه هذه الأفلاك- و الأرض و العناصر شبكة له- و هو فيها محبوس- لا يمكنه الرجوع إلى سلطانه الأول- و صار في الظلمة- فهو أبدا يضطرب و يرمي الآفات على خلق الله سبحانه- فمن أحياه الله رماه الشيطان بالموت- و من أصحه رماه الشيطان بالسقم- و من سره رماه بالحزن و الكآبة- فلا يزال كذلك و كل يوم ينتقص سلطانه و قوته- لأن الله تعالى يحتال له كل يوم- و يضعفه إلى أن تذهب قوته كلها-و تجمد و تصير جمادا لا حراك به- فيضعه الله تعالى حينئذ في الجو- و الجو عندهم هو الظلمة و لا منتهى له- فيصير في الجو جمادا جامدا هوائيا- و يجمع الله تعالى أهل الأديان- فيعذبهم بقدر ما يطهرهم- و يصفيهم من طاعة الشيطان و يغسلهم من الأدناس- ثم يدخلهم الجنة- و هي جنة لا أكل فيها و لا شرب و لا تمتع- و لكنها موضع لذة و سرور- .

القول الرابع قول المانوية- و هو أن النور لا نهاية له من جهة فوق- و أما من جهة تحت فله نهاية- و الظلمة لا نهاية لها من جهة أسفل- و أما من جهة فوق فلها نهاية- و كان النور و الظلمة هكذا قبل خلق العالم- و بينهما فرجة- و أن بعض أجزاء النور اقتحم تلك الفرجة- لينظر إلى الظلمة فأسرته الظلمة- فأقبل عالم كثير من النور- فحارب الظلمة ليستخلص المأسورين من تلك الأجزاء- و طالت الحرب- و اختلط كثير من أجزاء النور بكثير من أجزاء الظلمة- فاقتضت حكمة نور الأنوار- و هو البارئ سبحانه عندهم- أن عمل الأرض من لحوم القتلى و الجبال من عظامهم- و البحار من صديدهم و دمائهم و السماء من جلودهم- و خلق الشمس و القمر و سيرهما- لاستقصاء ما في هذا العالم من أجزاء النور- المختلطة بأجزاء الظلمة- و جعل حول هذا العالم خندقا خارج الفلك الأعلى- يطرح فيه الظلام المستقصى- فهو لا يزال يزيد و يتضاعف و يكثر في هذا الخندق- و هو ظلام صرف قد استقصى نوره- و أما النور المستخلص- فيلحق بعد الاستقصاء بعالم الأنوار من فوق- فلا تزال الأفلاك متحركة- و العالم مستمرا إلى أن يتم استقصاء النور الممتزج- و حينئذ يبقى من النور الممتزج شي‏ء يسير- فينعقد بالظلمة لا تقدر النيران على استقصائه- فعند ذلك تسقط الأجسام العالية و هي الأفلاك- على الأجسام السافلة و هي الأرضون- و تثور نار و تضطرم في تلك الأسافل-و هي المسماة بجهنم- و يكون الاضطرام مقدار ألف و أربعمائة سنة- فتحلل بتلك النار تلك الأجزاء المنعقدة من النور- الممتزجة بأجزاء الظلمة- التي عجز الشمس و القمر عن استقصائها- فيرتفع إلى عالم الأنوار و يبطل العالم حينئذ- و يعود النور كله إلى حالة الأولى قبل الامتزاج- فكذلك الظلمة- .

القول الخامس قول متكلمي الإسلام- و هو على وجوه- أولها قول جمهور أصحابنا- إن الله تعالى إنما خلق العالم- للإحسان إليهم و الإنعام على الحيوان- لأن خلقه حيا نعمة عليه- لأن حقيقة النعمة موجودة فيه- و ذلك أن النعمة هي المنفعة المفعولة للإحسان- و وجود الجسم حيا منفعة مفعولة للإحسان- أما بيان كون ذلك منفعة- فلأن المنفعة هي اللذة و السرور و دفع المضار المخوفة- و ما أدى إلى ذلك و صححه- أ لا ترى أن من أشرف على أن يهوى من جبل- فمنعه بعض الناس من ذلك- فإنه يكون منعما عليه- و من سر غيره بأمر و أوصل إليه لذة- يكون قد أنعم عليه- و من دفع إلى غيره مالا يكون قد أنعم عليه- لأنه قد مكنه بدفعه إليه من الانتفاع و صححه له- و لا ريب أن وجودنا أحياء يصحح لنا اللذات- و يمكننا منها- لأنا لو لم نكن أحياء لم يصح ذلك فينا- قالوا و إنما قلنا إن هذه المنفعة مفعولة للإحسان- لأنها إما أن تكون مفعولة لا لغرض أو لغرض- و الأول باطل لأن ما يفعل لا لغرض عبث- و البارئ سبحانه لا يصح أن تكون أفعاله عبثا- لأنه حكيم- .

و أما الثاني فإما أن يكون ذلك الغرض- عائدا عليه سبحانه بنفع أو دفع ضرر- أو يعود على غيره- و الأول باطل لأنه غني لذاته- يستحيل عليه المنافع و المضار- و لا يجوز أن يفعله لمضرة يوصلها إلى غيره- لأن القصد إلى الإضرار بالحيوان- من غير استحقاق و لا منفعة- يوصل إليها بالمضرة قبيح تعالى الله عنه- فثبت أنه سبحانه إنما خلق الحيوان‏ لنفعه- و أما غير الحيوان فلو لم يفعله لينفع به الحيوان- لكان خلقه عبثا و البارئ تعالى لا يجوز عليه العبث- فإذا جميع ما في العالم إنما خلقه لينفع به الحيوان- .

فهذا هو الكلام في علة خلق العالم عندهم- و أما الكلام في وجه حسن تكليف الإنسان- فذاك مقام آخر لسنا الآن في بيانه- و لا الحاجة داعية إليه- . و ثانيها قول قوم من أصحابنا البغداديين- إنه خلق الخلق ليظهر به لأرباب العقول صفاته الحميدة- و قدرته على كل ممكن و علمه بكل معلوم- و ما يستحقه من الثناء و الحمد- قالوا و قد ورد الخبر أنه تعالى قال: كنت كنزا لا أعرف فأحببت أن أعرف – و هذا القول ليس بعيدا- . و ثالثها للمجبرة إنه خلق الخلق لا لغرض أصلا- و لا يقال لم كان كل شي‏ء لعلة و لا علة لفعله- و مذهب الأشعري و أصحابه أن إرادته القديمة- تعلقت بإيجاد العالم- في الحال التي وجد فيها لذاتها- و لا لغرض و لا لداع- و ما كان يجوز ألا يوجد العالم حيث وجد- لأن الإرادة القديمة- لا يجوز أن تتقلب و تتغير حقيقتها- و كذلك القول عندهم في أجزاء العالم- المجددة من الحركات و السكنات- و الأجسام و سائر الأعراض- . و رابعها قول بعض المتكلمين- إن البارئ تعالى إنما فعل العالم- لأنه ملتذ بأن يفعل- و أجاز أرباب هذا القول عليه اللذة و السرور و الابتهاج- قالوا و البارئ سبحانه- و إن كان قبل أن يخلق العالم ملتذا- بكونه قادرا على خلق العالم- إلا أن لذة الفعل أقوى من لذة القدرة على الفعل- كان يلتذ بأنه قادر على أن يكتب خطا مستحسنا- أو يبنى بيتا محكما- فإنه إذا أخرج تلك الصناعة من القوة إلى الفعل- كانت لذته أتم و أعظم- قالوا و لم يثبت بالدليل العقلي- استحالة اللذة عليه- و قد ورد في الآثار النبوية أن الله تعالى يسر- و اتفقت الفلاسفة على أنه ملتذ بذاته و كماله- .

و عندي في هذا القول نظر- و لي في اللذة و الألم رسالة مفردة- و أما قوله لم يحلل في الأشياء- فيقال لا هو فيها كائن و لا منها مباين- فينبغي أن يحمل على أنه أراد أنه لم ينأ عن الأشياء- نأيا مكانيا- فيقال هو بائن بالمكان- هكذا ينبغي أن يكون مراده- لأنه لا يجوز إطلاق القول بأنه ليس ببائن عن الأشياء- و كيف و المجرد بالضرورة بائن عن ذي الوضع- و لكنها بينونة بالذات لا بالجهة- و المسلمون كلهم متفقون- على أنه تعالى يستحيل أن يحل في شي‏ء- إلا من اعتزى إلى الإسلام من الحلولية- كالذين قالوا بحلوله في علي و ولده- و كالذين قالوا بحلوله في أشخاص- يعتقدون فيها إظهاره كالحلاجية و غيرهم- و الدليل على استحالة حلوله سبحانه في الأجسام- أنه لو صح أن يحل فيها لم يعقل منفردا بنفسه أبدا- كما أن السواد لا يعقل كونه غير حال في الجسم- لأنه لو يعقل غير حال في الجسم لم يكن سوادا- و لا يجوز أن يكون الله تعالى حالا أبدا- و لا أن يلاقي الجسم- إذ ذلك يستلزم قدم الأجسام- و قد ثبت أنها حادثة- . فأما قوله لم يؤده خلق ما ابتدأ- إلى قوله عما خلق فهو حق- لأنه تعالى قادر لذاته- و القادر لذاته لا يتعب و لا يعجز- لأنه ليس بجسم- و لا قادر بقدرة يقف مقدورها عند حد و غاية- بل إنما يقدر على شي‏ء لأنه تعالى ذات مخصوصة- يجب لها أن تقدر على الممكنات- فيكون كل ممكن- داخلا تحت هذه القضية الكلية- و الذات التي تكون هكذا لا تعجز- و لا تقف مقدوراتها عند حد و غاية أصلا- و يستحيل عليها التعب- لأنها ليست ذات أعضاء و أجزاء- . و أما قوله و لا ولجت عليه شبهة- إلى قوله و أمر مبرم فحق- لأنه تعالى عالم لذاته- أي إنما علم ما علمه- لا بمعنى أن يتعلق بمعلوم دون معلوم- بل إنما علم أي شي‏ء أشرت إليه- لأنه ذات مخصوصة- و نسبة تلك الذات إلى غير ذلك الشي‏ء المشار إليه-كنسبتها إلى المشار إليه- فكانت عالمة بكل معلوم- و استحال دخول الشبهة عليها فيما يقضيه و يقدره- . و أما قوله المأمول مع النقم المرهوب مع النعم- فمعنى لطيف و إليه وقعت الإشارة بقوله تعالى- أَ فَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى‏ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً- وَ هُمْ نائِمُونَ- أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى‏ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى- وَ هُمْ يَلْعَبُونَ- و قوله سبحانه سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ- و قوله تعالى فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً- إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً- و قوله سبحانه فَعَسى‏ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً- وَ يَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً- و إليه نظر الشاعر في قوله-

من عاش لاقى ما يسوء
من الأمور و ما يسر

و لرب حتف فوقه‏
ذهب و ياقوت و در

و قال البحتري

يسرك الشي‏ء قد يسوء و كم
نوه يوما بخامل لقبه‏

لا ييئس المرء أن ينجيه‏
ما يحسب الناس أنه عطبه‏

و قال آخر

رب غم يدب تحت سرور
و سرور يأتي من المحذور

 و قال سعيد بن حميد-

كم نعمة مطوية
لك بين أثناء النوائب‏

و مسرة قد أقبلت
من حيث تنتظر المصائب‏

 و قال آخر

أنتظر الروح و أسبابه
أيأس ما كنت من الروح‏

و قال آخر

ربما تجزع النفوس من الأمر
له فرجة كحل العقال‏

و قال آخر

العسر أكرمه ليسر بعده
و لأجل عين ألف عين تكرم‏

و المرء يكره يومه و لعله‏
يأتيه فيه سعادة لا تعلم‏

و قال الحلاج

و لربما هاج الكبير
من الأمور لك الصغير

و لرب أمر قد تضيق‏
به الصدور و لا يصير

 و قال آخر

يا راقد الليل مسرورا بأوله
إن الحوادث قد يطرقن أسحارا

 و قال آخر

كم مرة حفت بك المكاره
خار لك الله و أنت كاره‏

و من شعري الذي أناجي به البارئ سبحانه في خلواتي- و هو فن أطويه و أكتمه عن الناس- و إنما ذكرت بعضه في هذا الموضع- لأن المعنى ساق إليه- و الحديث ذو شجون-

يا من جفاني فوجدي بعده عدم
هبني أسأت فأين العفو و الكرم‏

أنا المرابط دون الناس فاجف و صل
و اقبل و عاقب و حاسب لست انهزم‏

إن المحب إذا صحت محبته‏
فما لوقع المواضي عنده ألم‏

و حق فضلك ما استيأست من نعم
تسري إلي و إن حلت بي النقم‏

و لا أمنت نكالا منك أرهبه‏
و إن ترادفت الآلاء و النعم‏

حاشاك تعرض عمن في حشاشته
نار لحبك طول الدهر تضطرم‏

أ لم تقل إن من يدنو إلي قدر الذراع‏
أدنو له باعا و أبتسم‏

و الله و الله لو عاقبتني حقبا
بالنار تأكلني حطما و تلتهم‏

ما حلت عن حبك الباقي فليس على‏
حال بمنصرم و الدهر ينصرم‏

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 5 

خطبه 63 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

63 و من خطبة له ع

فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ وَ بَادِرُوا آجَالَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ- وَ ابْتَاعُوا مَا يَبْقَى لَكُمْ بِمَا يَزُولُ عَنْكُمْ- وَ تَرَحَّلُوا فَقَدْ جُدَّ بِكُمْ- وَ اسْتَعِدُّوا لِلْمَوْتِ فَقَدْ أَظَلَّكُمْ- وَ كُونُوا قَوْماً صِيحَ بِهِمْ فَانْتَبَهُوا- وَ عَلِمُوا أَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ لَهُمْ بِدَارٍ فَاسْتَبْدَلُوا- فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثاً وَ لَمْ يَتْرُكْكُمْ سُدًى- وَ مَا بَيْنَ أَحَدِكُمْ وَ بَيْنَ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ- إِلَّا الْمَوْتُ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ- وَ إِنَّ غَايَةً تَنْقُصُهَا اللَّحْظَةُ وَ تَهْدِمُهَا السَّاعَةُ- لَجَدِيرَةٌ بِقِصَرِ الْمُدَّةِ- وَ إِنَّ غَائِباً يَحْدُوهُ الْجَدِيدَانِ- اللَّيْلُ وَ النَّهَارُ لَحَرِيٌّ بِسُرْعَةِ الْأَوْبَةِ- وَ إِنَّ قَادِماً يَقْدَمُ بِالْفَوْزِ أَوِ الشِّقْوَةِ- لَمُسْتَحِقٌّ لِأَفْضَلِ الْعُدَّةِ- فَتَزَوَّدُوا فِي الدُّنْيَا مِنَ الدُّنْيَا- مَا تُحْرِزُونَ بِهِ أَنْفُسَكُمْ غَداً- فَاتَّقَى عَبْدٌ رَبَّهُ نَصَحَ نَفْسَهُ وَ قَدَّمَ تَوْبَتَهُ وَ غَلَبَ شَهْوَتَهُ- فَإِنَّ أَجَلَهُ مَسْتُورٌ عَنْهُ وَ أَمَلَهُ خَادِعٌ لَهُ- وَ الشَّيْطَانُ مُوَكَّلٌ بِهِ يُزَيِّنُ لَهُ الْمَعْصِيَةَ لِيَرْكَبَهَا- وَ يُمَنِّيهِ التَّوْبَةَ لِيُسَوِّفَهَا- إِذَا هَجَمَتْ مَنِيَّتُهُ عَلَيْهِ أَغْفَلَ مَا يَكُونُ عَنْهَا- فَيَا لَهَا حَسْرَةً عَلَى ذِي غَفْلَةٍ أَنْ يَكُونَ عُمُرُهُ عَلَيْهِ حُجَّةً- وَ أَنْ تُؤَدِّيَهُ أَيَّامُهُ إِلَى الشِّقْوَةِ- نَسْأَلُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ- أَنْ يَجْعَلَنَا وَ إِيَّاكُمْ مِمَّنْ لَا تُبْطِرُهُ نِعْمَةٌ- وَ لَا تُقَصِّرُ بِهِ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ غَايَةٌ- وَ لَا تَحُلُّ بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ نَدَامَةٌ وَ لَا كَآبَةٌ

بادروا آجالكم بأعمالكم أي سابقوها و عاجلوها- البدار العجلة- و ابتاعوا الآخرة الباقية بالدنيا الفانية الزائلة- . و قوله فقد جد بكم أي حثثتم على الرحيل- يقال جد الرحيل و قد جد بفلان- إذا أزعج و حث على الرحيل- . و استعدوا للموت يمكن أن يكون بمعنى أعدوا- فقد جاء استفعل بمعنى أفعل- كقولهم استجاب له أي أجابه- . و يمكن أن يكون بمعنى الطلب- كما تقول استطعم أي طلب الطعام- فيكون بالاعتبار الأول كأنه قال أعدوا للموت عدة- و بمعنى الاعتبار الثاني كأنه قال اطلبوا للموت عدة- . و أظلكم قرب منكم كأنه ألقى عليهم ظله- و هذا من باب الاستعارة- . و العبث اللعب أو ما لا غرض فيه- أو ما لا غرض صحيح فيه- .

و قوله و لم يترككم سدى أي مهملين- . و قوله أن ينزل به موضعه رفع لأنه بدل من الموت- و الغائب المشار إليه هو الموت- . و يحدوه الجديدان يسوقه الليل و النهار- و قيل الغائب هنا هو الإنسان يسوقه الجديدان- إلى الدار التي هي داره الحقيقية و هي الآخرة- و هو في الدنيا غائب على الحقيقة عن داره التي خلق لها- و الأول أظهر- . و قوله فتزودوا في الدنيا من الدنيا كلام فصيح- لأن الأمر الذي به يتمكن المكلف- من إحراز نفسه في الآخرة- إنما هو يكتسبه في الدنيا منها- و هو التقوى و الإخلاص و الإيمان- . و الفاء في قوله فاتقى عبد ربه- لبيان ماهية الأمر الذي يحرز الإنسان به نفسه-و لتفصيل أقسامه و أنواعه- كما تقول فعل اليوم فلان أفعالا جميلة- فأعطى فلانا و صفح عن فلان و فعل كذا- و قد روي اتقى عبد ربه بلا فاء- بتقدير هلا و معناه التحضيض- .

و قد روي ليسوفها بكسر الواو و فتحها- و الضمير في الرواية الأولى يرجع إلى نفسه- و قد تقدم ذكرها قبل بكلمات يسيرة- و يجوز أن يعنى به ليسوف التوبة- كأنه جعلها مخاطبة يقول لها سوف أوقعك- و التسويف أن يقول في نفسه سوف أفعل- و أكثر ما يستعمل للوعد الذي لا نجاز له- و من روى بفتح الواو جعله فعل ما لم يسم فاعله- و تقديره و يمنيه الشيطان التوبة- أي يجعلها في أمنيته ليكون مسوفا إياها- أي يعد من المسوفين المخدوعين- . و قوله فيا لها حسرة يجوز أن يكون نادى الحسرة- و فتحة اللام على أصل نداء المدعو كقولك يا للرجال- و يكون المعنى هذا وقتك أيتها الحسرة فاحضري- و يجوز أن يكون المدعو غير الحسرة- كأنه قال يا للرجال للحسرة- فتكون لامها مكسورة نحو الأصل لأنها المدعو إليه- إلا أنها لما كانت للضمير فتحت- أي أدعوكم أيها الرجال لتقضوا العجب من هذه الحسرة

عظة للحسن البصري

و هذا الكلام من مواعظ أمير المؤمنين البالغة- و نحوه من كلام الحسن البصري- ذكره شيخنا أبو عثمان في البيان و التبيين-ابن آدم بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعا- و لا تبع آخرتك بدنياك فتخسرهما جميعا- و إذا رأيت الناس في الخير فقاسمهم فيه- و إذا رأيتهم في الشر فلا تغبطهم عليه- البقاء هاهنا قليل و البقاء هناك طويل- أمتكم آخر الأمم و أنتم آخر أمتكم- و قد أسرع بخياركم فما تنتظرون المعاينة- فكأن قد هيهات هيهات ذهبت الدنيا بحاليها- و بقيت الأعمال قلائد في الأعناق- فيا لها موعظة لو وافقت من القلوب حياة- ألا إنه لا أمة بعد أمتكم و لا نبي بعد نبيكم- و لا كتاب بعد كتابكم- أنتم تسوقون الناس و الساعة تسوقكم- و إنما ينتظر بأولكم أن يلحق آخركم- من رأى محمدا ص فقد رآه غاديا رائحا- لم يضع لبنة على لبنة و لا قصبة على قصبة- رفع له علم فسما إليه فالوحى الوحى النجاء النجاء- على ما ذا تعرجون- ذهب أماثلكم و أنتم ترذلون كل يوم فما تنتظرون- .

إن الله بعث محمدا على علم منه اختاره لنفسه- و بعثه برسالته و أنزل إليه كتابه- و كان صفوته من خلقه و رسوله إلى عباده- ثم وضعه من الدنيا موضعا ينظر إليه أهل الأرض- فآتاه فيها قوتا و بلغة- ثم قال لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ- فركن أقوام إلى غير عيشته- و سخطوا ما رضي له ربه فأبعدهم و أسحقهم- . يا ابن آدم طأ الأرض بقدمك فإنها عن قليل قبرك- و اعلم أنك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك- رحم الله امرأ نظر فتفكر و تفكر فاعتبر- و اعتبرفأبصر و أبصر فأقصر- فقد أبصر أقوام و لم يقصروا- ثم هلكوا فلم يدركوا ما طلبوا- و لا رجعوا إلى ما فارقوا- . يا ابن آدم اذكر قوله عز و جل- وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ- وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً- اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى‏ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً- عدل و الله عليك من جعلك حسيب نفسك- .

خذوا صفوة الدنيا و دعوا كدرها- و دعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم- ظهر الجفاء و قلت العلماء و عفت السنة و شاعت البدعة- لقد صحبت أقواما ما كانت صحبتهم- إلا قرة عين لكل مسلم و جلاء الصدور- و لقد رأيت أقواما كانوا من حسناتهم أن ترد عليهم- أشفق منكم من سيئاتكم أن تعذبوا عليها- و كانوا مما أحل الله لهم من الدنيا أزهد منكم- فيما حرم عليكم منها- . ما لي أسمع حسيسا و لا أرى أنيسا- ذهب الناس و بقي النسناس- لو تكاشفتم ما تدافنتم- تهاديتم الأطباق و لم تتهادوا النصائح- أعدوا الجواب فإنكم مسئولون- إن المؤمن من لا يأخذ دينه عن رأيه و لكن عن ربه- ألا إن الحق قد أجهد أهله- و حال بينهم و بين شهواتهم- و ما يصبر عليه إلا من عرف فضله و رجا عاقبته- فمن حمد الدنيا ذم الآخرة- و لا يكره لقاء الله إلا مقيم على ما يسخطه- إن الإيمان ليس بالتمني و لا بالتشهي- و لكن ما وقر في القلوب و صدقته الأعمال- . و هذا كلام حسن و موعظة بالغة- إلا أنه في الجزالة و الفصاحة- دون كلام أمير المؤمنين ع بطبقات

من خطب عمر بن عبد العزيز

و من خطب عمر بن عبد العزيز- إن لكل سفر زادا لا محالة- فتزودوا لسفركم من الدنيا إلى الآخرة- فكونوا كمن عاين ما أعد الله تعالى من ثوابه و عقابه- فرغبوا و رهبوا- و لا يطولن عليكم الأمر فتقسو قلوبكم- و تنقادوا لعدوكم فإنه و الله ما بسط من لا يدري- لعله لا يصبح بعد إمسائه و لا يمسي بعد إصباحه- و ربما كانت بين ذلك خطفات المنايا- فكم رأينا و أنتم من كان بالدنيا مغترا- فأصبح في حبائل خطوبها و مناياها أسيرا- و إنما تقر عين من وثق بالنجاة من عذاب الله- و إنما يفرح من أمن من أهوال يوم القيامة- فأما من لا يبرأ من كلم- إلا أصابه جارح من ناحية أخرى فكيف يفرح- أعوذ بالله أن أخبركم بما أنهى عنه نفسي- فتخيب صفقتي و تظهر عورتي- و تبدو مسكنتي في يوم يبدو فيه الغني و الفقير- و الموازين منصوبة و الجوارح ناطقة- لقد عنيتم بأمر لو عنيت به النجوم لانكدرت- و لو عنيت به الجبال لذابت أو الأرض لانفطرت- أ ما تعلمون أنه ليس بين الجنة و النار منزلة- و أنكم صائرون إلى أحدهما- . و من خطب عمر بن عبد العزيز- أيها الناس إنكم لم تخلقوا عبثا و لم تتركوا سدى- و إن لكم معادا يبين الله لكم فيه الحكم و الفصل بينكم- فخاب و خسر من خرج من رحمة الله التي وسعت كل شي‏ء- و حرم الجنة التي عرضها السموات و الأرض- .

و اعلموا أن الأمان لمن خاف الله- و باع قليلا بكثير و فانيا بباق- أ لا ترون أنكم في أسلاب الهالكين- و سيسلبها بعدكم الباقون- حتى ترد إلى خير الوارثين- ثم إنكم في كل يوم تشيعون غاديا- و رائحا إلى الله عز و جل- قد قضى نحبه و بلغ أجله- تغيبونه في صدع من الأرض- ثم تدعونه غير ممهد و لا موسد- قد صرم الأسباب و فارق الأحباب- و واجه الحساب و صار في التراب- غنيا عما ترك فقيرا إلى ما قدم

من خطب ابن نباتة

و من خطب ابن نباتة الجيدة في ذكر الموت- أيها الناس ما أسلس قياد من كان الموت جريره- و أبعد سداد من كان هواه أميره- و أسرع فطام من كانت الدنيا ظئره- و أمنع جناب من أضحت التقوى ظهيره- فاتقوا الله عباد الله حق تقواه- و راقبوه مراقبة من يعلم أنه يراه- و تأهبوا لوثبات المنون- فإنها كامنة في الحركات و السكون- بينما ترى المرء مسرورا بشبابه- مغرورا بإعجابه مغمورا بسعة اكتسابه- مستورا عما خلق له لما يغرى به- إذ أسعرت فيه الأسقام شهابها- و كدرت له الأيام شرابها- و حومت عليه المنية عقابها- و أعلقت فيه ظفرها و نابها فسرت فيه أوجاعه- و تنكرت عليه طباعه و أظل رحيله و وداعه- و قل عنه منعه و دفاعه فأصبح ذا بصر حائر- و قلب طائر و نفس غابر في قطب هلاك دائر- قد أيقن بمفارقة أهله و وطنه- و أذعن بانتزاع روحه عن بدنه- حتى إذا تحقق منه اليأس و حل به المحذور و البأس- أومأ إلى خاص عواده موصيا لهم بأصاغر أولاده- جزعا عليهم من ظفر أعدائه و حساده-و النفس بالسياق تجذب و الموت بالفراق يقرب- العيون لهول مصرعه تسكب- و الحامة عليه تعدد و تندب- حتى تجلى له ملك الموت من حجبه- فقضى فيه قضاء أمر ربه فعافه الجليس- و أوحش منه الأنيس و زود من ماله كفنا- و حصر في الأرض بعمله مرتهنا- وحيدا على كثرة الجيران بعيدا على قرب المكان- مقيما بين قوم كانوا فزالوا- و حوت عليهم الحادثات فحالوا- لا يخبرون بما إليه آلوا و لو قدروا على المقال لقالوا- قد شربوا من الموت كأسا مرة- و لم يفقدوا من أعمالهم ذرة- و آلى عليهم الدهر ألية برة- ألا يجعل لهم الدنيا كرة كأنهم لم يكونوا للعيون قرة- و لم يعدوا في الأحياء مرة أسكتهم الذي أنطقهم- و أبادهم الذي خلقهم و سيوجدهم كما خلقهم- و يجمعهم كما فرقهم- يوم يعيد الله العالمين خلقا جديدا- و يجعل الله الظالمين لنار جهنم وقودا- يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً- وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ- تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ أبي‏ الحديد) ج 5

خطبه 62 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

62 و من خطبة له ع

أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا دَارٌ لَا يُسْلَمُ مِنْهَا إِلَّا فِيهَا- وَ لَا يُنْجَى بِشَيْ‏ءٍ كَانَ لَهَا- ابْتُلِيَ النَّاسُ بِهَا فِتْنَةً- فَمَا أَخَذُوهُ مِنْهَا لَهَا أُخْرِجُوا مِنْهُ وَ حُوسِبُوا عَلَيْهِ- وَ مَا أَخَذُوهُ مِنْهَا لِغَيْرِهَا قَدِمُوا عَلَيْهِ وَ أَقَامُوا فِيهِ- فَإِنَّهَا عِنْدَ ذَوِي الْعُقُولِ كَفَيْ‏ءِ الظِّلِّ- بَيْنَا تَرَاهُ سَابِغاً حَتَّى قَلَصَ وَ زَائِداً حَتَّى نَقَصَ تقدير الكلام- أن الدنيا دار لا يسلم من عقاب ذنوبها إلا فيها- و هذا حق لأن العقاب المستحق- إنما يسقط بأحد أمرين- إما بثواب على طاعات تفضل على ذلك العقاب المستحق- أو بتوبة كاملة الشروط- . و كلا الأمرين لا يصح من المكلفين- إيقاعه إلا في الدنيا- فإن الآخرة ليست دار تكليف- ليصح من الإنسان فيها عمل الطاعة- و التوبة عن المعصية السالفة- فقد ثبت إذا أن الدنيا دار لا يسلم منها إلا فيها- . إن قيل بينوا أن الآخرة ليست بدار تكليف- .

قيل قد بين الشيوخ ذلك بوجهين- أحدهما الإجماع على المنع- من تجويز استحقاق ثواب أو عقاب في الآخرة- . و الثاني أن الثواب يجب أن يكون خالصا من المشاق- و التكليف يستلزم المشقة- لأنها شرط في صحته- فبطل أن يجوز استحقاق ثواب في الآخرة- للمكلفين المثابين في الآخرة-لأجل تكاليفهم في الآخرة- و أما المعاقبون فلو كانوا مكلفين- لجاز وقوع التوبة منهم و سقوط العقاب بها- و هذا معلوم فساده ضرورة من دين الرسول ع- . و هاهنا اعتراضان- أحدهما أن يقال فما قولكم في قوله تعالى- كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ- و هذا أمر و خطاب لأهل الجنة و الأمر تكليف- . و الثاني أن الإجماع حاصل على أن أهل الجنة- يشكرون الله تعالى و الشكر عبادة- و ذلك يستدعى استحقاق الثواب- .

و الجواب عن الأول أن قوله كُلُوا وَ اشْرَبُوا- عند شيخنا أبي علي رحمه الله تعالى- ليس بأمر على الحقيقة و إن كانت له صورته- كما في قوله تعالى كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً- . و أما الشيخ أبو هاشم فعنده أن قوله كُلُوا وَ اشْرَبُوا- أمر لكنه زائد في سرور أهل الجنة- إذا علموا أن الله تعالى أراد منهم الأكل و أمرهم به- و لكنه ليس بتكليف- لأن الأمر إنما يكون تكليفا إذا انضمت إليه المشقة- . و أما الجواب عن الثاني- فإن الشكر الذي بالقلب رجوعه إلى الاعتقادات- و الله تعالى يفعل في أهل الجنة المعارف كلها- فلا وجوب إذا عليهم- و أما الشكر باللسان فيجوز أن يكون لهم فيه لذة- فيكون بذلك غير مناف للثواب الحاصل لهم- . و بهذا الوجه نجيب عن قول من يقول- أ ليس زبانية النار يعالجون أهل العذاب في جهنم- أعاذنا الله منها- و هل هذا إلا محض تكليف- لأنا نقول إنه يجوز- أن يكون للزبانية في ذلك لذة عظيمة- فلا يثبت التكليف معها- كما لا يكون الإنسان مكلفا في الدنيا- بما يخلص إليه شهوته و لا مشقة عليه فيه- .

إن قيل هذا الجواب ينبئ- على أن معارف أهل الآخرة ضرورية- لأنكم أجبتم عن مسألة الشكر- بأن الله تعالى يفعل المعارف في أهل الجنة- فدللوا على ذلك- بل يجب عليكم أن تدللوا أولا على أن أهل الآخرة- يعرفون الله تعالى- . قيل أما الدليل على أنهم يعرفونه تعالى- فإن المثاب لا بد أن يعلم وصول الثواب إليه- على الوجه الذي استحقه- و لا يصح ذلك إلا مع المعرفة بالله تعالى- ليعلم أن ما فعله به هو الذي لمستحقه- و القول في المعاقب كالقول في المثاب- . و أيضا فإن من شرط الثواب- مقارنة التعظيم و التبجيل له من فاعل الثواب- لأن تعظيم غير فاعل الثواب لا يؤثر- و التعظيم لا يعلم إلا مع العلم بالقصد إلى التعظيم- و يستحيل أن يعلموا قصده تعالى و لا يعلموه- و القول في العقاب و كون الاستحقاق و الإهانة- تقارنه تجري هذا المجرى- .

فأما بيان أن هذه المعرفة ضرورية- فلأنها لو كانت من فعلهم- لكانت إما أن تقع عن نظر يتحرون فيه- و يلجئون إليه أو عن تذكر نظر- أو بأن يلجئوا إلى نفس المعرفة من غير تقدم نظر- و الأول باطل لأن ذلك تكليف و فيه مشقة- و قد بينا سقوط التكليف في الآخرة- و لا يجوز أن يلجئوا إلى النظر- لأنهم لو ألجئوا إلى النظر- لكان إلجاؤهم إلى المعرفة أولا- و إلجاؤهم إلى المعرفة يمنع من إلجائهم إلى النظر- و لا يجوز وقوعها عند تذكر النظر- لأن المتذكر للنظر تعرض له الشبه- و يلزمه دفعها و في ذلك عود الأمر إلى التكليف- و ليس معاينة الآيات بمانع عن وقوع الشبه- كما لم تمنع معاينة المعجزات و الأعلام عن وقوعها- و لا يجوز أن يكون الإلجاء إلى المعرفة- لأن الإلجاء إلى أفعال القلوب- لا يصح إلا من الله تعالى- فيجب أن يكون الملجأ إلى المعرفة- عارفا بهذه القضية- و في ذلك استغناؤه بتقدم هذه المعرفة على الإلجاء إليها- . إن قيل إذا قلتم إنهم مضطرون إلى المعارف- فهل تقولون إنهم مضطرون إلى الأفعال- .

قيل لا لأنه تعالى قال وَ فاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ- و لأن من تدبر ترغيبات القرآن في الجنة و الثواب- علم قطعا أن أهل الجنة غير مضطرين إلى أفعالهم- كما يضطر المرتعش إلى الرعشة- . إن قيل فإذا كانوا غير مضطرين- فلم يمنعهم من وقوع القبيح منهم- . قيل لأن الله تعالى قد خلق فيهم علما- بأنهم متى حاولوا القبيح منعوا منه- و هذا يمنع من الإقدام على القبيح بطريق الإلجاء- . و يمكن أيضا أن يعلمهم استغناءهم بالحسن عن القبيح- مع ما في القبيح من المضرة- فيكونون ملجئين إلى ألا يفعلوا القبيح- . فأما قوله ع و لا ينجى بشي‏ء كان لها- فمعناه أن أفعال المكلف التي يفعلها لأغراضه الدنيوية- ليست طريقا إلى النجاة في الآخرة- كمن ينفق ماله رئاء الناس- و ليست طرق النجاة إلا بأفعال البر- التي يقصد فيها وجه الله تعالى لا غير- و قد أوضح ع ذلك- بقوله فما أخذوه منها لها أخرجوا منه و حوسبوا عليه- و ما أخذوه منها لغيرها قدموا عليه و أقاموا فيه- . فمثال الأول من يكتسب الأموال و يدخرها لملاذه- و مثال الثاني من يكسبها- لينفقها في سبيل الخيرات و المعروف- . ثم قال ع- و إنها عند ذوي العقول كفي‏ء الظل…- إلى آخر الفصل- و إنما قال كفي‏ء الظل- لأن العرب تضيف الشي‏ء إلى نفسه- قال تأبط شرا

إذا حاص عينيه كرى النوم لم يزل
له كالئ من قلب شيحان فاتك‏

و يمكن أن يقال الظل أعم من الفي‏ء- لأن الفي‏ء لا يكون إلا بعد الزوال- و كل في‏ء ظل و ليس كل ظل فيئا- فلما كان فيهما تغاير معنوي بهذا الاعتبار- صحت الإضافة- . و السابغ التام و قلص أي انقبض- . و قوله ع بينا تراه- أصل بينا بين فأشبعت الفتحة- فصارت بينا على وزن فعلى- ثم تقول بينما فتزيد ما و المعنى واحد- تقول بينا نحن نرقبه أتانا- أي بين أوقات رقبتنا إياه أتانا- و الجمل تضاف إليها أسماء الزمان- كقولك أتيتك زمن الحجاج أمير- ثم حذفت المضاف الذي هو أوقات- و ولي الظرف الذي هو بين الجملة- التي أقيمت مقام المضاف إليه- كقوله وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ- . و كان الأصمعي يخفض ببينا- إذا صلح في موضعه بين- و ينشد بيت أبي ذؤيب بالجر-

بينا تعنقه الكمأة و روغه
يوما أتيح له جري‏ء سلفع‏

و غيره يرفع ما بعد بينا و بينما- على الابتداء و الخبر- و ينشد هذا البيت على الرفع- . و هذا المعنى متداول قال الشاعر-

ألا إنما الدنيا كظل غمامة
أظلت يسيرا ثم خفت فولت‏

و قال

ظل الغمام و أحلام المنام فما
تدوم يوما لمخلوق على حال‏

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 5 

خطبه 61 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

61 و من كلام له ع لما خوف من الغيلة

وَ إِنَّ عَلَيَّ مِنَ اللَّهِ جُنَّةً حَصِينَةً- فَإِذَا جَاءَ يَوْمِي انْفَرَجَتْ عَنِّي وَ أَسْلَمَتْنِي- فَحِينَئِذٍ لَا يَطِيشُ السَّهْمُ وَ لَا يَبْرَأُ الْكَلْمُ الغيلة القتل على غير علم و لا شعور- و الجنة الدرع و ما يجن به- أي يستتر من ترس و غيره- و طاش السهم إذا صدف عن الغرض- و الكلم الجرح و يعني بالجنة هاهنا الأجل- و على هذا المعنى الشعر المنسوب إليه ع-

من أي يومي من الموت أفر
أ يوم لم يقدر أم يوم قدر

فيوم لا يقدر لا أرهبه‏
و يوم قد قدر لا يغني الحذر

 و منه قول صاحب الزنج-

و إذا تنازعني أقول لها قري
موت يريحك أو صعود المنبر

ما قد قضى سيكون فاصطبري له‏
و لك الأمان من الذي لم يقدر

و مثله

قد علم المستأخرون في الوهل
أن الفرار لا يزيد في الأجل‏

و الأصل في هذا كله قوله تعالى- وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا-و قوله تعالى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ- لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ- . و قوله سبحانه تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ- و في القرآن العزيز كثير من ذلك

اختلاف الناس في الآجال

و اختلف الناس في الآجال- فقالت الفلاسفة و الأطباء- لا أجل مضروب لأحد من الحيوان كله- من البشر و لا من غيرهم- و الموت عندهم على ضربين قسري و طبيعي- . فالقسري الموت بعارض إما من خارج الجسد- كالمتردي و الغريق و المقتول و نحو ذلك- أو من داخل الجسد كما يعرض من الأمراض القاتلة- مثل السل و الاستسقاء و السرسام و نحو ذلك- . و الموت الطبيعي ما يكون بوقوف القوة الغاذية- التي تورد على البدن عوض ما يتحلل منه- و هذه القوة المستخدمة للقوى الأربع- الجاذبة و الدافعة و الماسكة و الهاضمة- و البدن لا يزال في التحلل دائما- من الحركات الخارجية و من الأفكار و الهموم- و ملاقاة الشمس و الريح و العوارض الطارئة- و من الجوع و العطش- و القوة الغاذية تورد على البدن- عوض الأجزاء المتحللة- فتصرفها في الغذاء المتناول- و استخدام القوى الأربع المذكورة- .

و منتهى بقاء هذه القوة في الأعم الأغلب للإنسان- مائة و عشرون سنة- و قد رأيت في كتب بعض الحكماء- أنها تبقى مائة و ستين سنة- و لا يصدق هؤلاء بما يروى من بقاء المعمرين- فأما أهل الملل فيصدقون بذلك- .

و اختلف المتكلمون في الآجال- فقالت المعتزلة- ينبغي أولا أن نحقق مفهوم قولنا أجل- ليكون البحث في التصديق بعد تحقق التصور- فالأجل عندنا هو الوقت الذي يعلم الله- أن حياة ذلك الإنسان أو الحيوان تبطل فيه- كما أن أجل الدين هو الوقت الذي يحل فيه- فإذا سألنا سائل فقال هل للناس آجال مضروبة- قلنا له ما تعني بذلك- أ تريد هل يعلم الله تعالى الأوقات- التي تبطل فيها حياة الناس- أم تريد بذلك- أنه هل يراد بطلان حياة كل حي- في الوقت الذي بطلت حياته فيه- .

فإن قال عنيت الأول- قيل له نعم للناس آجال مضروبة بمعنى معلومة- فإن الله تعالى عالم بكل شي‏ء- . و إن قال عنيت الثاني- قيل لا يجوز عندنا إطلاق القول بذلك- لأنه قد تبطل حياة نبي أو ولي بقتل ظالم- و البارئ تعالى لا يريد عندنا ذلك- . فإن قيل فهل تقولون- إن كل حيوان يموت و تبطل حياته بأجله- قيل نعم لأن الله قد علم الوقت الذي تبطل حياته فيه- فليس تبطل حياته إلا في ذلك الوقت- لا لأن العلم ساق إلى ذلك- بل إنما تبطل حياته بالأمر الذي اقتضى بطلانه- و البارئ تعالى يعلم الأشياء على ما هي عليه- فإن بطلت حياته بقتل ظالم فذلك ظلم و جور- و إن بطلت حياته من قبل الله تعالى فذلك حكمة و صواب- و قد يكون ذلك لطفا لبعض المكلفين- .

و اختلف الناس لو لم يقتل القاتل المقتول- هل كان يجوز أن يبقيه الله تعالى- فقطع الشيخ أبو الهذيل على موته- لو لم يقتله القاتل- و إليه ذهب الكرامية- قال محمد بن الهيصم- مذهبنا أن الله تعالى قد أجل لكل نفس أجلا- لن ينقضي عمره دون بلوغه و لا يتأخر عنه- و معنى الأجل هو الوقت الذي علم الله- أن الإنسان يموت فيه- و كتب ذلك في اللوح المحفوظ- و ليس يجوز أن يكون الله تعالى قد أجل له أجلا- ثم يقتل قبل بلوغه أو يخترم دونه- و لا أن‏ يتأخر عما أجل له- ليس على معنى أن القاتل مضطر إلى قتله- حتى لا يمكنه الامتناع منه- بل هو قادر على أن يمتنع من قتله- و لكنه لا يمتنع منه- إذ كان المعلوم أنه يقتله لأجله بعينه- و كتب ذلك عليه- .و لو توهمنا في التقدير أنه يمتنع من قتله- لكان الإنسان يموت لأجل ذلك- لأنهما أمران مؤجلان بأجل واحد- فأحدهما قتل القاتل إياه- و الثاني تصرم مدة عمره و حلول الموت به- فلو قدرنا امتناع القاتل من قتله- لكان لا يجب بذلك ألا يقع المؤجل الثاني- الذي هو حلول الموت به- بل كان يجب أن يموت بأجله- . قال و بيان ذلك من كتاب الله- توبيخه المنافقين على قولهم- لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا- فقال تعالى لهم قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ- إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ- فدل على أنهم لو تجنبوا مصارع القتل- لم يكونوا ليدرءوا بذلك الموت عن أنفسهم- .

و قالت الأشعرية و الجهمية و الجبرية كافة- إنها آجال مضروبة محدودة- و إذا أجل الأجل و كان في المعلوم أن بعض الناس يقتله- وجب وقوع القتل منه لا محالة- و ليس يقدر القاتل على الامتناع من قتله- و تقدير انتفاء القتل ليقال- كيف كانت تكون الحال تقدير أمر محال- كتقدير عدم القديم و إثبات الشريك- و تقدير الأمور المستحيلة لغو و خلف من القول- . و قال قوم من أصحابنا البغداديين رحمهم الله- بالقطع على حياته لو لم يقتله القاتل- و هذا عكس مذهب أبي الهذيل و من وافقه- و قالوا لو كان المقتول يموت في ذلك الوقت- لو لم يقتله القاتل لما كان القاتل مسيئا إليه- إذ لم يفوت عليه حياة لو لم يبطلها لبقيت- و لما استحق‏ القود- و لكان ذابح الشاة بغير إذن مالكها- قد أحسن إلى مالكها- لأنه لو لم يذبحها لماتت فلم يكن ينتفع بلحمها- . قالوا و الذي احتج به من كونهما مؤجلين بأجل واحد- فلو قدرنا انتفاء أحد الأمرين في ذلك الوقت- لم يجب انتفاء الآخر- ليس بشي‏ء- لأن أحدهما علة الآخر- فإذا قدرنا انتفاء العلة- وجب أن ينتفي في ذلك التقدير انتفاء المعلول- فالعلة قتل القاتل و المعلول بطلان الحياة- و إنما كان يستمر و يصلح ما ذكروه- لو لم يكن بين الأمرين علية العلية و المعلولية- .

قالوا و الآية التي تعلقوا فيها لا تدل على قولهم- لأنه تعالى لم ينكر ذلك القول إنكار حاكم- بأنهم لو لم يقتلوا لماتوا- بل قال كل حي ميت أي لا بد من الموت- إما معجلا و إما مؤجلا- . قالوا فإذا قال لنا قائل- إذا قلتم إنه يبقى لو لم يقتله القاتل- أ لستم تكونون قد قلتم إن القاتل قد قطع عليه أجله- . قلنا له إنما يكون قاطعا عليه أجله- لو قتله قبل الوقت الذي علم الله تعالى- أن حياته تبطل فيه و ليس الأمر كذلك- لأن الوقت الذي علم الله تعالى أن حياته تبطل فيه- هو الوقت الذي قتله فيه القاتل- و لم يقتله القاتل قبل ذلك- فيكون قد قطع عليه أجله- . قالوا فإذا قال لنا- فهل تقولون إنه قطع عليه عمره- . قلنا له إن الزمان الذي كان يعيش فيه- لو لم يقتله القاتل لا يسمى عمرا- إلا على طريق المجاز باعتبار التقدير- و لسنا نطلق ذلك إلا مقيدا لئلا يوهم- و إنما قلنا إنا نقطع على أنه لو لم يقتل لم يمت- و لا نطلق غير ذلك- .

و قال قدماء الشيعة الآجال تزيد و تنقص- و معنى الأجل الوقت الذي علم الله تعالى- أن الإنسان يموت فيه إن لم يقتل قبل ذلك- أو لم يفعل فعلا يستحق به الزيادة و النقصان في عمره- . قالوا و ربما يقتل الإنسان- الذي ضرب له من الأجل خمسون سنة- و هو ابن عشرين سنة- و ربما يفعل من الأفعال ما يستحق به الزيادة- فيبلغ مائة سنة- أو يستحق به النقيصة فيموت و هو ابن ثلاثين سنة- . قالوا فمما يقتضي الزيادة صلة الرحم- و مما يقتضي النقيصة الزنا و عقوق الوالدين- و تعلقوا بقوله تعالى- وَ ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ- .و ربما قال قوم منهم- إن الله تعالى يضرب الأجل لزيد خمسين سنة- أو ما يشاء- فيرجع عن ذلك فيما بعد- و يجعله أربعين أو ثلاثين أو ما يشاء- و بنوه على قولهم في البداء- .

و قال أصحابنا هذا يوجب أن يكون الله تعالى- قد أجل الآجال على التخمين دون التحقيق- حيث أجل لزيد خمسين فقتل لعشرين- و أفسدوا أن يعلم الله تعالى الشي‏ء بشرط- و أن يبدو له فيما يقضيه و يقدره- بما هو مشهور في كتبهم- . و قالوا في الآية- إن المراد بها أن ينقص سبحانه بعض الناس- عن مقدار أجل المعمر- بأن يكون انتقص منه عمرا- ليس أنه ينقص من عمر ذلك المعمر- . فأما مشايخنا أبو علي و أبو هاشم فتوقفا في هذه المسألة- و شكا في حياة المقتول و موته- و قالا لا يجوز أن يبقى لو لم يقتل و يجوز أن يموت- قالا لأن حياته و موته مقدوران لله عز و جل- و ليس في العقل ما يدل على قبح واحد منهما- و لا في الشرع ما يدل على حصول واحد منهما- فوجب الشك فيهما إذ لا دليل يدل على واحد منهما- .

قالوا فأما احتجاج القاطعين على موته- فقد ظهر فساده بما حكي من الجواب عنه- . قالوا و مما يدل على بطلانه من الكتاب العزيز- قوله تعالى وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ- فحكم سبحانه بأن إثباته القصاص- مما يزجر القاتل عن القتل- فتدوم حياة المقتول- فلو كان المقتول يموت لو لم يقتله القاتل- ما كان في إثبات القصاص حياة- . قالوا و أما احتجاج البغداديين- على القطع على حياته بما حكي عنهم- فلا حجة فيه- أما إلزام القاتل القود و الغرامة- فلأنا غير قاطعين على موت المقتول لو لم يقتل- بل يجوز أن يبقى و يغلب ذلك على ظنوننا- لأن الظاهر من حال الحيوان الصحيح- ألا يموت في ساعته و لا بعد ساعته و ساعات- فنحن نلزم القاتل القود و الغرامة- لأن الظاهر أنه أبطل ما لو لم يبطله لبقي- .

و أيضا فموت المقتول لو لم يقتله القاتل- لا يخرج القاتل من كونه مسيئا- لأنه هو الذي تولى إبطال الحياة- أ لا ترى أن زيدا لو قتل عمرا- لكان مسيئا إليه- و إن كان المعلوم أنه لو لم يقتله لقتله خالد- في ذلك الوقت- . و أيضا فلو لم يقتل القاتل المقتول- و لم يذبح الشاة حتى ماتا- لكان يستحق المقتول و مالك الشاة- من الأعواض على البارئ سبحانه- أكثر مما يستحقانه على القاتل و الذابح- فقد أساء القاتل و الذابح- حيث فوتا على المقتول و مالك الشاة زيادة الأعواض- . فأما شيخنا أبو الحسين- فاختار الشك أيضا في الأمرين إلا في صورة واحدة- فإنه قطع فيها على دوام الحياة- و هي أن الظالم قد يقتل في الوقت الواحد- الألوف الكثيرة في المكان الواحد- و لم تجر العادة بموت مثلهم- في حالة واحدة في المكان الواحد- و اتفاق ذلك نقض العادة و ذلك لا يجوز- .

قال الشيخ ليس يمتنع أن يقال في مثل هؤلاء- إنه يقطع على أن جميعهم ما كانوا يموتون- في ذلك المكان في ذلك الوقت- لو لم يقتلهم القاتل- إن كان الوقت وقتا لا يجوز انتقاض العادات فيه- و لكن يجوز أن يموت بعضهم دون بعض- لأنه ليس في موت الواحد و الاثنين في وقت واحد- في مكان واحد نقض عادة- و لا يمتنع هذا الفرض من موتهم بأجمعهم- في زمان نبي من الأنبياء- . و قد ذكرت في كتبي المبسوطة في علم الكلام- في هذا الباب ما ليس هذا الشرح موضوعا لاستقصائه

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 5

خطبه 60 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

60 و قال ع في الخوارج

لَا تُقَاتِلُوا الْخَوَارِجَ بَعْدِي- فَلَيْسَ مَنْ طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ- كَمَنْ طَلَبَ الْبَاطِلَ فَأَدْرَكَهُ قال الرضي رحمه الله- يعني معاوية و أصحابه مراده أن الخوارج ضلوا بشبهة دخلت عليهم- و كانوا يطلبون الحق- و لهم في الجملة تمسك بالدين- و محاماة عن عقيدة اعتقدوها و إن أخطئوا فيها- و أما معاوية فلم يكن يطلب الحق و إنما كان ذا باطل- لا يحامي عن اعتقاد قد بناه على شبهة- و أحواله كانت تدل على ذلك- فإنه لم يكن من أرباب الدين- و لا ظهر عنه نسك و لا صلاح حال- و كان مترفا يذهب مال الفي‏ء في مآربه و تمهيد ملكه- و يصانع به عن سلطانه- و كانت أحواله كلها مؤذنة بانسلاخه عن العدالة- و إصراره على الباطل- و إذا كان كذلك لم يجز أن ينصر المسلمون سلطانه- و تحارب الخوارج عليه و إن كانوا أهل ضلال- لأنهم أحسن حالا منه- فإنهم كانوا ينهون عن المنكر- و يرون الخروج على أئمة الجور واجبا- .

و عند أصحابنا أن الخروج على أئمة الجور واجب- و عند أصحابنا أيضا أن الفاسق المتغلب‏ بغير شبهة- يعتمد عليها لا يجوز أن ينصر على من يخرج عليه- ممن ينتمي إلى الدين- و يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر- بل يجب أن ينصر الخارجون عليه- و إن كانوا ضالين في عقيدة اعتقدوها- بشبهة دينية دخلت عليهم- لأنهم أعدل منه و أقرب إلى الحق- و لا ريب في تلزم الخوارج بالدين- كما لا ريب في أن معاوية لم يظهر عنه مثل ذلك‏

عود إلى أخبار الخوارج و ذكر رجالهم و حروبهم

ذكر أبو العباس المبرد في الكتاب الكامل- أن عروة بن أدية أحد بني ربيعة بن حنظلة- و يقال إنه أول من حكم- حضر حرب النهروان و نجا فيها فيمن نجا- فلم يزل باقيا مدة من خلافة معاوية- ثم أخذ فأتي به زياد و معه مولى له- فسأله عن أبي بكر و عمر فقال خيرا- فقال له فما تقول في عثمان و في أبي تراب- فتولي عثمان ست سنين من خلافته- ثم شهد عليه بالكفر- و فعل في أمر علي ع مثل ذلك إلى أن حكم- ثم شهد عليه بالكفر- ثم سأله عن معاوية فسبه سبا قبيحا- ثم سأله عن نفسه- فقال أولك لريبة و آخرك لدعوة- و أنت بعد عاص ربك- فأمر فضربت عنقه ثم دعا مولاه- فقال صف لي أموره- فقال أ أطنب أم أختصر قال بل اختصر- قال ما أتيته بطعام في نهار قط- و لا فرشت له فراشا في ليل قط- .

قال و حدثت أن واصل بن عطاء أبا حذيفة أقبل في رفقة- فأحسوا بالخوارج- فقال واصل لأهل الرفقة- إن هذا ليس من شأنكم فاعتزلوا- و دعوني و إياهم و قد كانوا قد أشرفوا على العطب- فقالوا شأنك فخرج إليهم- فقالوا ما أنت و أصحابك- فقال قوم مشركون مستجيرون بكم- ليسمعوا كلام الله و يفهموا حدوده- فقالوا قد أجرناكم قال فعلمونا- فجعلوا يعلمونهم أحكامهم- و واصل يقول قد قبلت أنا و من معي- قالوا فامضوا مصاحبين فإنكم إخواننا- فقال ليس ذاك إليكم- قال الله و عز و جل وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ- حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ-

فأبلغونا مأمننا- فنظر بعضهم إلى بعض ثم قالوا ذاك لكم- فساروا معهم بجمعهم حتى أبلغوهم المأمن- . و قال أبو العباس أتي عبد الملك بن مروان- برجل من الخوارج- فبحثه فرأى منه ما شاء فهما و علما- ثم بحثه فرأى منه ما شاء أدبا و ذهنا- فرغب فيه فاستدعاه إلى الرجوع عن مذهبه- فرآه مستبصرا محققا فزاده في الاستدعاء- فقال تغنيك الأولى عن الثانية- و قد قلت و سمعت فاسمع أقل- قال قل فجعل يبسط من قول الخوارج- و يزين له من مذهبهم بلسان طلق- و ألفاظ بينة و معان قريبة- فقال عبد الملك بعد ذلك على معرفته و فضله- لقد كاد يوقع في خاطري أن الجنة إنما خلقت لهم- و أني أولى العباد بالجهاد منهم- ثم رجعت إلى ما ثبت الله علي من الحجة- و قرر في قلبي من الحق- فقلت له الدنيا و الآخرة لله- و قد سلطنا الله في الدنيا و مكن لنا فيها- و أراك لست تجيبنا إلى ما نقول- و الله لأقتلنك إن لم تطع- فأنا في ذلك إذ دخل علي بابني مروان- .

قال أبو العباس- و كان مروان أخا يزيد بن عبد الملك لأمه- أمهما عاتكة بنت يزيد بن معاوية- و كان أبيا عزيز النفس- فدخل به على أبيه في هذا الوقت- باكيا لضرب المؤدب إياه- فشق ذلك على عبد الملك- فأقبل عليه الخارجي و قال له- دعه يبك فإنه أرحب لشدقه و أصح لدماغه- و أذهب لصوته و أحرى ألا تأبى عليه عينه- إذا حضرته طاعة و استدعى عبرتها- .

فأعجب ذلك من قوله عبد الملك- و قال له متعجبا أ ما يشغلك ما أنت فيه و يعرضك عن هذا- فقال ما ينبغي أن يشغل المؤمن عن قول الحق شي‏ء- فأمر بحبسه و صفح عن قتله- و قال بعد معتذرا إليه- لو لا أن تفسد بألفاظك أكثر رعيتي ما حبستك- ثم قال عبد الملك لقد شككني و وهمني- حتى مالت بي عصمة الله- و غير بعيد أن يستهوي من بعدي

مرداس بن حدير

قال أبو العباس- و كان من المجتهدين من الخوارج البلجاء- و هي امرأة من بني حرام- بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم- . و كان مرداس بن حدير أبو بلال- أحد بني ربيعة بن حنظلة ناسكا تعظمه الخوارج- و كان كثير الصواب في لفظه مجتهدا- فلقيه غيلان بن خرشة الضبي فقال يا أبا بلال- إني سمعت الأمير البارحة يعني عبيد الله بن زياد- يذكر البلجاء و أحسبها ستؤخذ- فمضى إليها أبو بلال فقال- إن الله قد وسع على المؤمنين في التقية فاستتري- فإن هذا المسرف على نفسه الجبار العنيد قد ذكرك- قالت إن يأخذني فهو أشقى به- فأما أنا فما أحب أن يعنت إنسان بسببي- فوجه إليها عبيد الله بن زياد فأتي بها- فقطع يديها و رجليها و رمى بها في السوق- فمر بها أبو بلال و الناس مجتمعون- فقال ما هذا قالوا البلجاء- فعرج إليها فنظر ثم عض على لحيته و قال لنفسه- لهذه أطيب نفسا من بقية الدنيا منك يا مرداس- .

قال ثم إن عبيد الله أخذ مرداسا فحبسه- فرأى صاحب السجن منه شدة اجتهاده و حلاوة منطقه- فقال له إني أرى لك مذهبا حسنا- و إني لأحب أن أوليك معروفا- أ فرأيتك إن تركتك- تنصرف ليلا إلى بيتك أ تدلج إلي قال نعم- فكان يفعل ذلك به- . و لج عبيد الله في حبس الخوارج و قتلهم- و كلم في بعضهم فأبى و قال أقمع النفاق قبل أن ينجم- لكلام هؤلاء أسرع إلى القلوب من النار إلى اليراع- . فلما كان ذات يوم قتل رجل من الخوارج- رجلا من الشرطة- فقال ابن زياد ما أدري ما أصنع بهؤلاء- كلما أمرت رجلا بقتل رجل منهم فتكوا بقاتله- لأقتلن من في حبسي منهم- و أخرج السجان مرداسا إلى منزله كما كان يفعل- فأتى مرداسا الخبر- فلما كان في السحر تهيأ للرجوع إلى السجن- فقال له أهله اتق الله في نفسك- فإنك إذا رجعت قتلت- فأبى و قال و الله ما كنت لألقى الله غادرا- فرجع إلى السجان- فقال إني قد علمت ما عزم عليه صاحبك- قال أعلمت ثم جئت- .

قال أبو العباس و يروى أن مرداسا مر بأعرابي- يهنأ بعيرا له فهرج البعير- فسقط مرداس مغشيا عليه- فظن الأعرابي أنه صرع فقرأ في أذنه- فلما أفاق قال له الأعرابي إني قرأت في أذنك- فقال مرداس ليس بي ما خفته علي- و لكني رأيت بعيرا هرج من القطران- فذكرت به قطران جهنم فأصابني ما رأيت- فقال الأعرابي لا جرم و الله لا أفارقك أبدا- .

قال أبو العباس- و كان مرداس قد شهد مع علي ع صفين- ثم أنكر التحكيم- و شهد النهروان و نجا فيمن نجا- ثم حبسه ابن زياد كما ذكرناه- و خرج من حبسه فرأى جد ابن زياد في طلب الشراة- فعزم على الخروج فقال لأصحابه- إنه و الله ما يسعنا المقام مع هؤلاء الظالمين- تجري علينا أحكامهم مجانبين للعدل مفارقين للقصد- و الله إن الصبر على هذا لعظيم- و إن تجريد السيف و إخافة الناس لعظيم- و لكنا ننتبذ عنهم و لا نجرد سيفا- و لا نقاتل إلا من قاتلنا- فاجتمع إليه أصحابه زهاء ثلاثين رجلا- منهم حريث بن حجل و كهمس بن طلق الصريمي- و أرادوا أن يولوا أمرهم حريثا فأبى- فولوا أمرهم مرداسا- فلما مضى بأصحابه لقيه عبد الله بن رباح الأنصاري- و كان له صديقا فقال يا أخي أين تريد- قال أريد أن أهرب بديني و دين أصحابي- من أحكام هؤلاء الجورة- فقال أ علم بكم أحد قال لا قال فارجع- قال أ و تخاف علي نكرا قال نعم و أن يؤتى بك- قال لا تخف فإني لا أجرد سيفا و لا أخيف أحدا- و لا أقاتل إلا من قاتلني- .

ثم مضى حتى نزل آسك و هي ما بين رامهرمز و أرجان- فمر به مال يحمل إلى ابن‏ زياد- و قد قارب أصحابه الأربعين فحط ذلك المال- و أخذ منه عطاءه و عطاء أصحابه- و رد الباقي على الرسل- و قال قولوا لصاحبكم إنا قبضنا أعطياتنا- فقال بعض أصحابه علام ندع الباقي- فقال إنهم يقيمون هذا الفي‏ء- كما يقيمون الصلاة فلا نقاتلهم على الصلاة- . قال أبو العباس- و لأبي بلال مرداس في الخروج أشعار اخترت منها قوله-

أ بعد ابن وهب ذي النزاهة و التقى
و من خاض في تلك الحروب المهالكا

أحب بقاء أو أرجي سلامة
و قد قتلوا زيد بن حصن و مالكا

فيا رب سلم نيتي و بصيرتي
و هب لي التقى حتى ألاقي أولئكا

قال أبو العباس- ثم إن عبيد الله بن زياد ندب جيشا إلى خراسان- فحكى بعض من كان في ذلك الجيش- قال مررنا بآسك فإذا نحن بهم ستة و ثلاثين رجلا- فصاح بنا أبو بلال أ قاصدون لقتالنا أنتم- قال و كنت أنا و أخي قد دخلنا زربا- فوقف أخي ببابه فقال السلام عليكم- فقال مرداس و عليكم السلام- ثم قال لأخي أ جئتم لقتالنا قال لا إنما نريد خراسان- قال فأبلغوا من لقيتم أنا لم نخرج لنفسد في الأرض- و لا لنروع أحدا- و لكن هربا من الظلم- و لسنا نقاتل إلا من يقاتلنا- و لا نأخذ من الفي‏ء إلا أعطياتنا- ثم قال أ ندب لنا أحد قلنا نعم أسلم بن زرعة الكلابي-

قال فمتى ترونه يصل إلينا قلنا يوم كذا و كذا- فقال أبو بلال حسبنا الله و نعم الوكيل- . قال أبو العباس- و جهز عبيد الله بن زياد أسلم بن زرعة في أسرع مدة- و وجهه إليهم‏ في ألفين- و قد تتام أصحاب مرداس أربعين رجلا- فلما صار أسلم إليهم صاح به أبو بلال اتق الله يا أسلم- فإنا لا نريد فسادا في الأرض و لا نحتجر فيئا- فما الذي تريد قال أريد أن أردكم إلى ابن زياد- قال إذن يقتلنا قال و إن قتلكم- قال تشرك في دمائنا- قال إني أدين بأنه محق و أنتم مبطلون- فصاح به حريث بن حجل أ هو محق- و هو يطيع الفجرة و هو أحدهم- و يقتل بالظنة و يخص بالفي‏ء و يجور في الحكم- أ ما علمت أنه قتل بابن سعاد أربعة برآء- و أنا أحد قتلته و قد وضعت في بطنه دراهم كانت معه- .

ثم حملوا على أسلم حملة رجل واحد- فانهزم هو و أصحابه من غير قتال- و كاد يأسره معبد أحد الخوارج- فلما عاد إلى ابن زياد غضب عليه غضبا شديدا- و قال ويلك أ تمضي في ألفين فتهزم بهم من حملة أربعين- فكان أسلم يقول لأن يذمني ابن زياد و أنا حي- أحب إلي أن يمدحني و أنا ميت- . و كان إذا خرج إلى السوق أو مر بصبيان صاحوا به أبو بلال وراءك- و ربما صاحوا به يا معبد خذه- حتى شكا إلى ابن زياد- فأمر الشرط أن يكفوا الناس عنه- ففي ذلك يقول عيسى بن فاتك- من بني تيم اللات بن ثعلبة أحد الخوارج-

فلما أصبحوا صلوا و قاموا
إلى الجرد العتاق مسومينا

فلما استجمعوا حملوا عليهم‏
فظل ذوو الجعائل يقتلونا

بقية يومهم حتى أتاهم
سواد الليل فيه يراوغونا

يقول نصيرهم لما أتاهم‏
فإن القوم ولوا هاربينا

أ ألفا مؤمن فيكم زعمتم
و يهزمكم بآسك أربعونا

كذبتم ليس ذاك كما زعمتم
و لكن الخوارج مؤمنونا

هم الفئة القليلة غير شك‏
على الفئة الكثيرة ينصرونا

قال أبو العباس أما قول حريث بن حجل- أ ما علمت أنه قتل بابن سعاد أربعة برآء- و أنا أحد قتلته- فابن سعاد هو المثلم بن مسروح الباهلي- و سعاد اسم أمه- و كان من خبره أنه ذكر لعبيد الله بن زياد- رجل من سدوس يقال له خالد بن عباد أو ابن عبادة- و كان من نساك الخوارج فوجه إليه فأخذه- فأتاه رجل من آل ثور فكذب عنه- و قال هو صهري و في ضمني- فخلى عنه فلم يزل الرجل يتفقده حتى تغيب- فأتى ابن زياد فأخبره- فلم يزل يبعث إلى خالد بن عباد حتى ظفر به فأخذه-

فقال أين كنت في غيبتك هذه- قال كنت عند قوم يذكرون الله و يسبحونه- و يذكرون أئمة الجور فيتبرءون منهم- قال ادللني عليهم قال إذن يسعدوا و تشقى- و لم أكن لأروعهم- قال فما تقول في أبي بكر و عمر فقال خيرا- قال فما تقول في عثمان و في معاوية أ تتولاهما- فقال إن كانا وليين لله فلست معاديهما- فأراغه مرارا ليرجع عن قوله فلم يفعل- فعزم على قتله- فأمر بإخراجه إلى رحبة تعرف برحبة الرسي و قتله بها- فجعل الشرطة يتفادون من قتله و يروغون عنه توقيا- لأنه كان متقشفا عليه أثر العبادة- حتى أتى المثلم بن مسروح الباهلي و كان من الشرطة- فتقدم فقتله فائتمر به الخوارج أن يقتلوه- و كان مغرما باللقاح يتبعها- فيشتريها من مظانها و هم في تفقده- فدسوا إليه رجلا في هيئة الفتيان عليه ردع‏ زعفران- فلقيه بالمربد و هو يسأل عن لقحة صفي-

فقال له الفتى- إن كنت تبتغي فعندي ما يغنيك عن غيره فامض معي- فمضى المثلم معه على فرسه- يمشي الفتى أمامه حتى أتى به بني سعد فدخل دارا- و قال له أدخل علي فرسك- فلما دخل و توغل في الدار أغلق الباب- و ثارت به الخوارج- فاعتوره حريث بن حجل و كهمس بن طلق الصريمي فقتلاه- و جعلا دراهم كانت معه في بطنه- و دفناه في ناحية الدار- و حكا آثار الدم و خليا فرسه في الليل- فأصيب في الغد في المربد و تجسس عنه الباهليون- فلم يروا له أثرا فاتهموا بني سدوس به- فاستعدوا عليهم السلطان و جعل السدوسية يحلفون- فتحامل ابن زياد مع الباهليين- فأخذ من السدوسيين أربع ديات- و قال ما أدري ما أصنع بهؤلاء الخوارج- كلما أمرت بقتل رجل اغتالوا قاتله- فلم يعلم بمكان المثلم حتى خرج مرداس و أصحابه- فلما واقفهم ابن زرعة الكلابي صاح بهم حريث- و قال أ هاهنا من باهلة أحد قالوا نعم- قال يا أعداء الله- أخذتم للمثلم من بني سدوس أربع ديات- و أنا قتلته و جعلت دراهم كانت معه في بطنه- و هو في موضع كذا مدفون- فلما انهزم ابن زرعة و أصحابه صاروا إلى الدار- فأصابوا أشلاءه- ففي ذلك يقول أبو الأسود

و آليت لا أغدو إلى رب لقحة
أساومه حتى يئوب المثلم‏

قال أبو العباس فأما ما كان من مرداس- فإن عبيد الله بن زياد ندب إليه الناس- فاختار عباد بن أخضر المازني- و ليس بابن أخضر بل هو عباد بن علقمة المازني- و كان أخضر زوج أمه- و غلب عليه- فوجهه إلى مرداس و أصحابه في أربعة آلاف فارس- و كانت الخوارج قد تنحت من موضعها- بدارابجرد من أرض فارس- فصار إليهم عباد فكان التقاؤهم في يوم جمعة- فناداه أبو بلال اخرج إلي يا عباد- فإني أريد أن أحاورك- فخرج إليه فقال ما الذي تبغي- قال أن آخذ بأقفيتكم- فأردكم إلى الأمير عبيد الله بن زياد- قال أ و غير ذلك إن نرجع- فإنا لا نخيف سبيلا و لا نذعر مسلما- و لا نحارب إلا من يحاربنا- و لا نجبي إلا ما حمينا- فقال عباد الأمر ما قلت لك- فقال له حريث بن حجل- أ تحاول أن ترد فئة من المسلمين إلى جبار عنيد ضال- فقال لهم أنتم أولى بالضلال منه و ما من ذاك من بد- .

قال و قدم القعقاع بن عطية الباهلي من خراسان- يريد الحج- فلما رأى الجمعين قال ما هذا قالوا الشراة- فحمل عليهم و نشبت الحرب بينهم- فأخذت الخوارج القعقاع أسيرا- فأتوا به أبا بلال فقال له من أنت- قال ما أنا من أعدائك إنما قدمت للحج- فحملت و غررت فأطلقه- فرجع إلى عباد و أصلح من شأنه- و حمل على الخوارج ثانية و هو يقول-

أقاتلهم و ليس علي بعث
نشاطا ليس هذا بالنشاط

أكر على الحروريين مهري‏
لأحملهم على وضح الصراط

فحمل عليه حريت بن حجل السدوسي- و كهمس بن طلق الصريمي- فأسراه و قتلاه و لم يأتيا به أبا بلال- و لم يزل القوم يجتلدون حتى جاء وقت صلاة الجمعة- فناداهم أبو بلال يا قوم هذا وقت الصلاة- فوادعونا حتى نصلي و تصلوا- قالوا لك ذاك فرمى القوم‏أجمعون بأسلحتهم- و عمدوا للصلاة- فأسرع عباد و من معه و قضوا صلاتهم- و الحرورية مبطئون- فيهم ما بين راكع و ساجد و قائم في الصلاة و قاعد- حتى مال عليهم عباد و من معه- فقتلوهم جميعا و أتي برأس أبي بلال- . قال و يرى الشراة- أن مرداسا أبا بلال لما عقد على أصحابه- و عزم على الخروج رفع يديه فقال- اللهم إن كان ما نحن فيه حقا فأرنا آية فرجف البيت- . و قال آخرون فارتفع السقف- . و يقال إن رجلا من الخوارج- ذكر ذلك لأبي العالية الرياحي- يعجبه من الآية و يرغبه في مذهب القوم-

فقال أبو العالية كاد الخسف ينزل بهم- ثم أدركتهم نظرة من الله- . قال فلما فرغ عباد من الجماعة- أقبل بهم فصلب رءوسهم- و فيهم داود بن شبيب و كان ناسكا- و فيهم حبيبة البكري من عبد القيس و كان مجتهدا- و يروى عنه أنه قال لما عزمت على الخروج فكرت في بناتي- فقلت ذات ليلة لأمسكن عن نفقتهن حتى أنظر- فلما كان في جوف الليل استسقت بنية لي- فقالت يا أبت اسقني فلم أجبها- و أعادت فقامت أخت لها فسقتها- فعلمت أن الله عز و جل غير مضيعهن فأتممت عزمي- . و كان في القوم كهمس و كان من أبر الناس بأمه- فقال لها يا أمه لو لا مكانك لخرجت- فقالت يا بني وهبتك لله- . ففي مقتلهم يقول عيسى بن فاتك الخطي-

ألا في الله لا في الناس سالت
بداود و إخوته الجذوع‏

مضوا قتلا و تمزيقا و صلبا
تحوم عليهم طير وقوع‏

إذا ما الليل أظلم كابدوه
فيسفر عنهم و هم ركوع‏

أطار الخوف نومهم فقاموا
و أهل الأرض في الدنيا هجوع‏

و قال عمران بن حطان-

يا عين بكي لمرداس و مصرعه
يا رب مرداس اجعلني كمرداس‏

تركتني هائما أبكي لمرزئه‏
في منزل موحش من بعد إيناس‏

أنكرت بعدك من قد كنت أعرفه
ما الناس بعدك يا مرداس بالناس‏

إما شربت بكأس دار أولها
على القرون فذاقوا جرعة الكأس‏

فكل من لم يذقها شاربا عجلا
يسقى بأنفاس ورد بعد أنفاس‏

و قال أيضا

لقد زاد الحياة إلي بغضا
و حبا للخروج أبو بلال‏

أحاذر أن أموت على فراشي‏
و أرجو الموت تحت ذرا العوالي‏

فمن يك همه الدنيا فإني
لها و الله رب البيت قال‏

عمران بن حطان

و قال أبو العباس و عمران هذا- أحد بني عمرو- بن يسار بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة- بن صعب بن عك بن بكر بن وائل- و كان رأس القعد من الصفرية- و فقيههم و خطيبهم و شاعرهم- و شعره هذا بخلاف شعر أبي خالد القناني- و كان من قعد الخوارج أيضا- و قد كان كتب قطري بن الفجاءة المازني- يلومه على القعود-

أبا خالد أيقن فلست بخالد
و ما جعل الرحمن عذرا لقاعد

أ تزعم أن الخارجي على الهدى‏
و أنتم مقيم بين لص و جاحد

فكتب إليه أبو خالد-

لقد زاد الحياة إلي حبا
بناتي إنهن من الضعاف‏

أحاذر أن يرين الفقر بعدي‏
و أن يشربن رنقا بعد صاف‏

و أن يعرين إن كسي الجواري
فتنبو العين عن كرم عجاف‏

و لو لا ذاك قد سومت مهري‏
و في الرحمن للضعفاء كاف‏

و قال أبو العباس- و مما حدثني به العباس بن أبي الفرج الرياشي- عن محمد بن سلام- أن عمران بن حطان لما طرده الحجاج- جعل يتنقل في القبائل- و كان إذا نزل بحي انتسب نسبا يقرب منهم- ففي ذلك يقول

نزلنا في بني سعد بن زيد
و في عك و عامر عوبثان‏

و في لخم و في أدد بن عمرو
و في بكر و حي بني الغدان‏

ثم خرج حتى لقي روح بن زنباع الجذامي- و كان روح يقري الأضياف- و كان مسايرا لعبد الملك بن مروان أثيرا عنده- و قال ابن عبد الملك فيه- من أعطي مثل ما أعطي أبو زرعة- أعطي فقه الحجاز- و دهاء أهل العراق و طاعة أهل الشام- . و انتمى عمران إليه أنه من الأزد- فكان روح لا يسمع شعرا نادرا- و لا حديثا غريباعند عبد الملك- فيسأل عنه عمران إلا عرفه و زاد فيه- فقال روح لعبد الملك إن لي ضيفا- ما أسمع من أمير المؤمنين خبرا و لا شعرا- إلا عرفه و زاد فيه-

فقال أخبرني ببعض أخباره فأخبره و أنشده- فقال إن اللغة لغة عدنانية- و لا أحسبه إلا عمران بن حطان- حتى تذاكروا ليلة البيتين اللذين أولهما يا ضربة…- . فلم يدر عبد الملك لمن هما- فرجع روح فسأل عمران عنهما- فقال هذا الشعر لعمران بن حطان- يمدح عبد الرحمن بن ملجم- فرجع روح إليه فأخبره- فقال ضيفك عمران بن حطان فاذهب فجئني به- فرجع إليه فقال أمير المؤمنين قد أحب أن يراك- فقال له عمران قد أردت أن أسألك ذاك فاستحييت منك- فاذهب فإني بالأثر فرجع روح إلى عبد الملك فخبره- فقال أما إنك سترجع فلا تجده- فرجع فوجد عمران قد احتمل و خلف رقعة فيها-

يا روح كم من أخي مثوى نزلت به
قد ظن ظنك من لخم و غسان‏

حتى ذا خفته زايلت منزله‏
من بعد ما قيل عمران بن حطان‏

قد كنت جارك حولا لا يروعني
فيه طوارق من إنس و لا جان‏

حتى أردت بي العظمى فأدركني‏
ما أدرك الناس من خوف ابن مروان‏

فاعذر أخاك ابن زنباع فإن له
في الحادثات هنات ذات ألوان‏

يوما يمان إذا لاقيت ذا يمن‏
و إن لقيت معديا فعدناني‏

لو كنت مستغفرا يوما لطاغية
كنت المقدم في سري و إعلاني‏

لكن أبت ذاك آيات مطهرة
عند التلاوة في طه و عمران‏

ثم ارتحل حتى نزل بزفر بن الحارث- أحد بني عمرو بن كلاب- فانتسب له أوزاعيا- و كان عمران يطيل الصلاة- فكان غلمان بني عامر يضحكون منه- فأتاه رجل ممن كان عند روح فسلم عليه- فدعاه زفر فقال له من هذا- فقال رجل من الأزد رأيته ضيفا لروح بن زنباع- فقال له زفر يا هذا أزديا مرة و أوزاعيا أخرى- إن كنت خائفا أمناك و إن كنت فقيرا جبرناك- فلما أمسى خلف في منزله رقعة و هرب فوجدوا فيها-

إن التي أصبحت يعيا بها زفر
أعيت عياء على روح بن زنباع‏

ما زال يسألني حولا لأخبره‏
و الناس ما بين مخدوع و خداع‏

حتى إذا انقطعت مني وسائله
كف السؤال و لم يولع بإهلاع‏

فاكفف لسانك عن لومي و مسألتي‏
ما ذا تريد إلى شيخ بلا راع‏

فاكفف كما كف عني إنني رجل
إما صميم و إما فقعة القاع‏

أما الصلاة فإني غير تاركها
كل امرئ للذي يعنى به ساع‏

أكرم بروح بن زنباع و أسرته‏
قوم دعا أوليهم للعلا داع‏

جاورتهم سنة مما أسر به
عرضي صحيح و نومي غير تهجاع‏

فاعمل فإنك منعي بواحدة
حسب اللبيب بهذا الشيب من داع‏

ثم ارتحل حتى أتى عمان- فوجدهم يعظمون أمر أبي بلال- و يظهر فيهم فأظهر أمره فيهم- فبلغ ذلك الحجاج فكتب فيه إلى أهل عمان- فهرب حتى أتى قوما من الأزد في سواد الكوفة- فنزل بهم فلم يزل عندهم حتى مات- و في نزوله فيهم يقول-

نزلنا بحمد الله في خير منزل
نسر بما فيه من الأنس و الخفر

نزلنا بقوم يجمع الله شملهم‏
و ليس لهم دعوى سوى المجد يعتصر

من الأزد إن الأزد أكرم أسوة
يمانية طابوا إذا انتسب البشر

فأصبحت فيهم آمنا لا كمعشر
أتوني فقالوا من ربيعة أو مضر

أم الحي قحطان فتلكم سفاهة
كما قال لي روح و صاحبه زفر

و ما منهما إلا يسر بنسبة
تقربني منه و إن كان ذا نفر

فنحن عباد الله و الله واحد
و أولى عباد الله بالله من شكر

قال أبو العباس و من الخوارج من مشى في الرمح- و هو في صدره خارجا من ظهره- حتى خالط طاعنه فضربه بالسيف فقتله- و هو يقول و عجلت إليك رب لترضى- . و منهم الذي سأل عليا ع يوم النهروان المبارزة في قوله-

أطعنهم و لا أرى عليا
و لو بدا أوجرته الخطيا

فخرج إليه علي فضربه بالسيف فقتله- فلما خالطه السيف قال يا حبذا الروحة إلى الجنة- . و منهم ابن ملجم و قطع الحسن بن علي يديه و رجليه- و هو في ذلك يذكر الله- ثم عمد إلى لسانه فقطعه فجزع فقيل له في ذلك- قال أحببت ألا يزال لساني رطبا من ذكر الله- . و منهم القوم الذين وثب رجل منهم على رطبة- سقطت من نخلة- فوضعها في فيه فلفظها تورعا- . و منهم أبو بلال مرداس الذي ينحله من الفرق- لتقشفه و تصرمه و صحة عبادته و صلابة نيته- . أما المعتزلة فتنتحله و تقول- إنه خرج منكرا لجور السلطان داعيا إلى الحق- و إنه من أهل العدل- و يحتجون لذلك بقوله لزياد- و قد كان قال في خطبته على المنبر- و الله لآخذن المحسن بالمسي‏ء- و الحاضر بالغائب و الصحيح بالسقيم- فقام إليه مرداس فقال- قد سمعنا ما قلت أيها الإنسان- و ما هكذا قال الله تعالى لنبيه إبراهيم- إذ يقول‏وَ إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‏- ثم خرج عليه عقيب هذا اليوم- . و أما الشيعة فتنتحله- و تزعم أنه كتب إلى الحسين بن علي- إني و الله لست من الخوارج و لا أرى رأيهم- و إني على دين أبيك إبراهيم

المستورد السعدي

و منهم المستورد أحد بني سعد بن زيد بن مناة- كان ناسكا مجتهدا- و هو أحد من ترأس على الخوارج في أيام علي- و له الخطبة المشهورة- التي أولها أن رسول الله ص أتانا بالعدل- تخفق راياته و تلمع معالمه- فبلغنا عن ربه و نصح لأمته- حتى قبضه الله تعالى مخيرا مختارا- . و نجا يوم النخيلة من سيف علي- فخرج بعد مدة على المغيرة بن شعبة و هو والي الكوفة- فبارزه معقل بن قيس الرياحي فاختلفا ضربتين- فخر كل واحد منهما ميتا- . و من كلام المستورد لو ملكت الدنيا بحذافيرها- ثم دعيت إلى أن أستفيد بها خطيئة ما فعلت- . و من كلامه إذا أفضيت بسري إلى صديقي- فأفشاه لم ألمه لأني كنت أولى بحفظه- . و من كلامه كن أحرص على حفظ سرك منك على حقن دمك- . و كان يقول- أول ما يدل على عيب عائب الناس معرفته بالعيوب- و لا يعيب إلا معيب- .و كان يقول المال غير باق عليك- فاشتر به من الحمد و الأجر ما يبقى عليك

حوثرة الأسدي

قال أبو العباس- و خرج من الخوارج على معاوية بعد قتل علي- حوثرة الأسدي و حابس الطائي خرجا في جمعهما- فصارا إلى مواضع أصحاب النخيلة- و معاوية يومئذ بالكوفة قد دخلها في عام الجماعة- و قد نزل الحسن بن علي و خرج يريد المدينة- فوجه إليه معاوية و قد تجاوز في طريقه- يسأله أن يكون المتولي لمحاربة الخوارج- فكان جواب الحسن- و الله لقد كففت عنك لحقن دماء المسلمين- و ما أحسب ذاك يسعني- أ فأقاتل عنك قوما أنت و الله أولى بالقتال منهم- .

قلت هذا موافق لقول أبيه- لا تقاتلوا الخوارج بعدي- فليس من طلب الحق فأخطأه مثل من طلب الباطل فأدركه- و هو الحق الذي لا يعدل عنه و به يقول أصحابنا- فإن الخوارج عندهم أعذر من معاوية و أقل ضلالا- و معاوية أولى بأن يحارب منهم- . قال أبو العباس فلما رجع الجواب إلى معاوية- أرسل إلى حوثرة الأسدي أباه- و قال له اذهب فاكفني أمر ابنك- فصار إليه أبوه فدعاه إلى الرجوع فأبى- فماراه فصمم فقال يا بني أجيئك بابنك- فلعلك تراه فتحن إليه-

فقال يا أبت أنا و الله إلى طعنة نافذة- أتقلب فيها على كعوب الرمح أشوق مني إلى ابني- .فرجع إلى معاوية فأخبره- فقال يا أبا حوثرة لقد عتا بحق هذا جدا- ثم وجه إليه جيشا أكثره أهل الكوفة- فلما نظر إليهم حوثرة قال لهم يا أعداء الله- أنتم بالأمس تقاتلون معاوية لتهدوا سلطانه- و أنتم اليوم تقاتلون معه لتشدوا سلطانه- فخرج إليه أبوه فدعاه إلى البراز- فقال يا أبت لك في غيري مندوحة- و لي في غيرك مذهب- ثم حمل على القوم و هو يقول-

أكرر على هذي الجموع حوثرة
فعن قليل ما تنال المغفرة

فحمل عليه رجل من طيئ فقتله- فلما رأى أثر السجود قد لوح جبهته ندم على قتلهالرهين المراديو قال الرهين المرادي أحد فقهاء الخوارج و نساكها-

يا نفس قد طال في الدنيا مراوغتي
لا تأمنن لصرف الدهر تنغيصا

إني لبائع ما يفنى لباقية
إن لم يعقني رجاء العيش تربيصا

و أسأل الله بيع النفس محتسبا
حتى ألاقي في الفردوس حرقوصا

و ابن المنيح و مرداسا و إخوته‏
إذ فارقوا هذه الدنيا مخاميصا

قال أبو العباس و أكثرهم لم يكن يبالي بالقتل- و شيمتهم استعذاب الموت و الاستهانة بالمنية- . و منهم الهازئ بالأمراء و قد قدم إلى السيف- ولى زياد شيبان بن عبد الله الأشعري- صاحب مقبرة بني شيبان- باب عثمان و ما يليه بالبصرة- فجد في طلب الخوارج و أخافهم- فلم‏ يزل على ذلك حتى أتاه ليلة- و هو متكئ بباب داره رجلان من الخوارج- فضرباه بأسيافهما فقتلاه- فأتي زياد بعد ذلك برجل من الخوارج- فقال اذهبوا به فاقتلوه متكئا- كما قتل شيبان متكئا- فصاح به الخارجي يا عدلاه يهزأ به

عباد بن أخضر المازني

قال- و أما عباد بن أخضر قاتل أبي بلال مرداس بن أدية- و قد ذكرنا قصته- فإنه لم يزل بعد قتله مرداسا محمودا في المصر- موصوفا بما كان منه- حتى ائتمر جماعة من الخوارج أن يقتلوه- فذمر بعضهم بعضا على ذلك- فجلسوا له يوم جمعة بعد أن أقبل على بغلته- و ابنه رديفه- فقام إليه رجل منهم فقال له أسألك عن مسألة- قال قل قال رأيت رجلا قتل رجلا بغير حق- و للقاتل جاه و قدر و ناحية من السلطان- و لم يعد عليه السلطان لجوره- أ لولي ذلك المقتول أن يقتل القاتل إن قدر عليه- فقال بل يرفعه إلى السلطان- قال إن السلطان لا يعدي عليه لمكانه منه- و لعظم جاهه عنده- قال أخاف عليه إن فتك به فتك به السلطان- قال دع ما تخافه من السلطان- أ يلحقه تبعة فيما بينه و بين الله قال لا- فحكم هو و أصحابه ثم خبطوه بأسيافهم- و رمى عباد بابنه فنجا- و تنادي الناس قتل عباد فاجتمعوا فأخذوا أفواه الطرق- و كان مقتل عباد في سكة بني مازن- عند مسجد بني كليب بن يربوع- فجاء معبد بن أخضر أخو عباد- و هو معبدبن علقمة و أخضر زوج أمهما- في جماعة من بني مازن- و صاحوا بالناس دعونا و ثارنا- فأحجم الناس فتقدم المازنيون- فحاربوا الخوارج حتى قتلوهم جميعا- لم يفلت منهم أحد إلا عبيدة بن هلال- فإنه خرق خصا و نفذ فيه- ففي ذلك يقول الفرزدق-

لقد أدرك الأوتار غير ذميمة
إذا ذم طلاب الترات الأخاضر

هم جردوا الأسياف يوم ابن أخضر
فنالوا التي ما فوقها نال ثائر

أقادوا به أسدا لها في اقتحامها
إذا برزت نحو الحروب بصائر

ثم هجا كليب بن يربوع رهط جرير بن الخطفى- لأنه قتل بحضرة مسجدهم و لم ينصروه- فقال في كلمته هذه-

كفعل كليب إذ أخلت بجارها
و نصر اللئيم معتم و هو حاضر

و ما لكليب حين تذكر أول‏
و ما لكليب حين تذكر آخر

قال و كان مقتل عباد بن أخضر و عبيد الله بن زياد بالكوفة- و خليفته على البصرة عبيد الله بن أبي بكرة- فكتب إليه يأمره ألا يدع أحدا يعرف بهذا الرأي- إلا حبسه- فجد في طلب من تغيب عنه- و جعل يتبعهم و يأخذهم- فإذا شفع إليه أحد منهم كفله- إلى أن يقدم به على ابن زياد- حتى أتوه بعروة بن أدية فأطلقه- و قال أنا كفيلك- فلما قدم ابن زياد أخذ من في الحبس- فقتلهم جميعا و طلب الكفلاء بمن كفلوا به- فكل من جاء بصاحبه أطلقه و قتل الخارجي- و من لم يأت بمن كفل به منهم قتله- .

ثم قال لابن أبي بكرة هات عروة بن أدية- قال لا أقدر عليه قال إذا و الله أقتلك فإنك كفيله- فلم يزل يطلبه حتى دل عليه- في سرب العلاء بن سوية المنقري- فكتب بذلك إلى عبيد الله بن زياد فقرأ عليه كتابه- فقال إنا قد أصبناه في شرب‏العلاء- فتهانف به عبيد الله و قال صحفت و لؤمت- إنما هو في سرب العلاء- و لوددت أنه كان ممن شرب النبيذ- فلما أقيم عروة بين يديه-

قال لم جهزت أخاك علي يعني أبا بلال- فقال و الله لقد كنت به ضنينا- و كان لي عزا و لقد أردت له ما أريد لنفسي- فعزم عزما فمضى عليه- و ما أحب لنفسي إلا المقام و ترك الخروج- فقال له أ فأنت على رأيه- قال كلنا نعبد ربا واحدا- قال أما و الله لأمثلن بك- قال اختر لنفسك من القصاص ما شئت- فأمر به فقطعوا يديه و رجليه- ثم قال له كيف ترى قال أفسدت علي دنياي- و أفسدت عليك آخرتك- فأمر به فصلب على باب داره

أبو الوازع الراسبي

قال أبو العباس- و كان أبو الوازع الراسبي من مجتهدي الخوارج- و نساكها- و كان يذم نفسه و يلومها على القعود- و كان شاعرا و كان يفعل ذلك بأصحابه- فأتى نافع بن الأزرق و هو في جماعة من أصحابه- يصف لهم جور السلطان و فساد العامة- و كان نافع ذا لسان عضب و احتجاج و صبر على المنازعة- فأتاه أبو الوازع فقال له يا نافع- إنك‏أعطيت لسانا صارما و قلبا كليلا- فلوددت أن صرامة لسانك كانت لقلبك- و كلال قلبك كان للسانك- أ تحض على الحق و تقعد عنه- و تقبح الباطل و تقيم عليه- فقال نافع يا أبا الوازع- إنما ننتظر الفرص- إلى أن تجمع من أصحابك من تنكئ به عدوك- فقال أبو الوازع-

لسانك لا تنكي به القوم إنما
تنال بكفيك النجاة من الكرب‏

فجاهد أناسا حاربوا الله و اصطبر
عسى الله أن يجزي غوي بني حرب‏

يعني معاوية- ثم قال و الله لا ألومك و نفسي ألوم- و لأغدون غدوة لا أنثني بعدها أبدا- ثم مضى فاشترى سيفا- و أتى صيقلا كان يذم الخوارج- و يدل على عوارتهم فشاوره في السيف- فحمده ثم قال اشحذه- فشحذه حتى إذا رضيه خبط به الصيقل فقتله- و حمل على الناس فهربوا منه حتى أتى مقبرة بني يشكر- فدفع عليه رجل حائط ستره فشدخه- و أمر ابن زياد بصلبه

عمران بن الحارث الراسبي

قال أبو العباس- و من نساكهم الذين قتلوا في الحرب- عمران بن الحارث الراسبي- قتل يوم دولاب- التقى هو و الحجاج بن باب الحميري- و كان الأمير يومئذ على أهل البصرة و صاحب رايتهم- فاختلفا ضربتين فخرا ميتين- فقالت أم عمران ترثيه-

الله أيد عمرانا و طهره
و كان يدعو الله في السحر

يدعوه سرا و إعلانا ليرزقه
شهادة بيدي ملحادة غدر

ولى صحابته عن حر ملحمة
و شد عمران كالضرغامة الذكر

قال- و ممن قتل من رؤسائهم يوم دولاب نافع بن الأزرق- و كان خليفتهم- خاطبوه بإمرة المؤمنين- فقال رجل منهم يرثيه-

شمت ابن بدر و الحوادث جمة
و الجائرون بنافع بن الأزرق‏

و الموت حتم لا محالة واقع‏
من لا يصبحه نهارا يطرق‏

فئن أمير المؤمنين أصابه
ريب المنون فمن يصبه يغلق‏

و قال قطري بن الفجاءة يذكر يوم دولاب-

لعمرك إني في الحياة لزاهد
و في العيش ما لم ألق أم حكيم‏

من الخفرات البيض لم ير مثلها
شفاء لذي بث و لا لسقيم‏

لعمرك إني يوم ألطم وجهها
على نائبات الدهر جد لئيم‏

فلو شهدتنا يوم دولاب شاهدت‏
طعان فتى في الحرب غير ذميم‏

غداة طفت علماء بكر بن وائل
و عجنا صدور الخيل نحو تميم‏

و كان بعبد القيس أول جدنا
و أحلافها من يحصب و سليم‏

و ظلت شيوخ الأزد في حومة الوغى
تعوم فمن مستنزل و هزيم‏

فلم أر يوما كان أكثر مقعصا
يمج دما من فائظ و كليم‏

و ضاربة خدا كريما على فتى
أغر نجيب الأمهات كريم‏

أصيب بدولاب و لم تك موطنا
له أرض دولاب و أرض حميم‏

فلو شهدتنا يوم ذاك و خيلنا
تبيح الكفار كل حريم‏

رأت فتية باعوا الإله نفوسهم
بجنات عدن عنده و نعيم‏

عبد الله بن يحيى طالب الحق

و من رؤساء الخوارج و كبارهم عبد الله بن يحيى الكندي- الملقب طالب الحق- و صاحبه المختار بن عوف الأزدي صاحب وقعة قديد- و نحن نذكر ما ذكره أبو الفرج الأصفهاني من قصتهما- في كتاب الأغاني مختصرا- محذوفا منه ما لا حاجة بنا في هذا الموضع إليه- . قال أبو الفرج كان عبد الله بن يحيى من حضرموت- و كان مجتهدا عابدا- و كان يقول قبل أن يخرج لقيني رجل فأطال النظر إلي- و قال ممن أنت قلت من كندة-

فقال من أيهم فقلت من بني شيطان- فقال و الله لتملكن و تبلغن وادي القرى- و ذلك بعد أن تذهب إحدى عينيك- و قد ذهبت و أنا أتخوف ما قال و أستخير الله- . فرأى باليمن جورا ظاهرا و عسفا شديدا- و سيرة في الناس قبيحة- فقال لأصحابه إنه لا يحل لنا المقام على ما نرى- و لا الصبر عليه- و كتب إلى جماعة من الإباضية بالبصرة و غيرها- يشاورهم في الخروج- فكتبوا إليه إن استطعت ألا تقيم يوما واحدا فافعل-فإن المبادرة بالعمل الصالح أفضل- و لست تدري متى يأتي أجلك- و لله بقية خير من عباده- يبعثهم إذا شاء بنصر دينه- و يختص بالشهادة منهم من يشاء- . و شخص إليه أبو حمزة المختار بن عوف الأزدي- و بلج بن عقبة المسعودي في رجال من الإباضية- فقدموا عليه حضرموت فحرضوه على الخروج- و أتوه بكتب أصحابه يوصونه و يوصون أصحابه- إذا خرجتم فلا تغلوا و لا تغدروا- و اقتدوا بسلفكم الصالحين و سيروا بسيرتهم- فقد علمتم أن الذي أخرجهم على السلطان- العيب لأعمالهم- .

فدعا عبد الله أصحابه فبايعوه و قصدوا دار الإمارة- و على حضرموت يومئذ- إبراهيم بن جبلة بن مخرمة الكندي- فأخذه فحبسه يوما ثم أطلقه فأتى صنعاء- و أقام عبد الله بحضرموت و كثر جمعه- و سموه طالب الحق- .و كتب إلى من كان من أصحابه بصنعاء- أني قادم عليكم- ثم استخلف على حضرموت عبد الله بن سعيد الحضرمي- و توجه إلى صنعاء- و ذلك في سنة تسع و عشرين و مائة في ألفين- و العامل على صنعاء يومئذ القاسم بن عمرو- أخو يوسف بن عمرو الثقفي- فجرت بينه و بين عبد الله بن يحيى حروب و مناوشات- كانت الدولة فيها و النصرة لعبد الله بن يحيى- فدخل إلى صنعاء- و جمع ما فيها من الخزائن و الأموال فأحرزها- .

فلما استولى على بلاد اليمن خطب- فحمد الله و أثنى عليه و صلى على رسوله و ذكر و حذر- ثم قال إنا ندعوكم أيها الناس إلى كتاب الله و سنة نبيه- و إجابة من دعا إليهما- الإسلام ديننا و محمد نبينا و الكعبة قبلتنا- و القرآن إمامنا- رضينا بالحلال حلالا لا نبتغي به بدلا- و لا نشتري به ثمنا و حرمنا الحرام و نبذناه وراء ظهورنا- و لا حول و لا قوة إلا بالله- و إلى الله المشتكى و عليه المعول- من زنى فهو كافر و من سرق فهو كافر- و من شرب الخمر فهو كافر- و من شك في أنه كافر فهو كافر- ندعوكم إلى فرائض بينات و آيات محكمات-و آثار نقتدي بها و نشهد أن الله صادق فيما وعد- و عدل فيما حكم و ندعو إلى توحيد الرب- و اليقين بالوعد و الوعيد و أداء الفرائض- و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر- و الولاية لأهل ولاية الله- و العداوة و لأعداء الله- أيها الناس إن من رحمة الله- أن جعل في كل فترة بقايا من أهل العلم- يدعون من ضل إلى الهدى- و يصبرون على الألم في جنب الله- و يقتلون على الحق في سالف الأيام- شهداء فما نسيهم ربهم و ما كان ربك نسيا- أوصيكم بتقوى الله- و حسن القيام على ما وكلتم بالقيام عليه- و قابلوا الله حسنا في أمره و زجره- أقول قولي هذا و أستغفر الله لي و لكم- .

قال و أقام عبد الله بن يحيى بصنعاء أشهرا- يحسن السيرة في الناس- و يلين جانبه لهم و يكف الأذى عنهم- و كثر جمعه و أتته الشراة من كل جانب- فلما كان في وقت الحج- وجه أبا حمزة المختار بن عوف و بلج بن عقبة- و أبرهة بن الصباح إلى مكة- و الأمير عليهم أبو حمزة في ألف- و أمره أن يقيم بمكة إذا صدر الناس- و يوجه بلجا إلى الشام- فأقبل المختار إلى مكة يوم التروية- و عليها و على المدينة عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك- في خلافة مروان بن محمد بن مروان- و أم عبد الواحد بنت عبد الله بن خالد بن أسيد- فكره عبد الواحد قتالهم- و فزع الناس منهم حين رأوهم- و قد طلعوا عليهم بعرفة- و معهم أعلام سود في رءوس الرماح- و قالوا لهم ما لكم و ما حالكم- فأخبروهم بخلافهم مروان و آل مروان- و التبري منهم- فراسلهم عبد الواحد في ألا يعطلوا على الناس حجتهم- فقال أبو حمزة نحن بحجنا أضن و عليه أشح- فصالحهم على أنهم جميعا آمنون بعضهم من بعض- حتى ينفر الناس النفر الأخير- و أصبحوا من الغد و وقفوا بحيال عبد الواحد بعرفة- و دفع عبد الواحد بالناس- فلما كانوا بمنى قيل لعبد الواحد قد أخطأت فيهم- و لو حملت عليهم الحاج ما كانوا إلا أكلة رأس- .

و بعث عبد الواحد إلى أبي حمزة عبد الله- بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب- و محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان- و عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر- و عبيد الله بن عمر بن حفص العمري- و ربيعة بن عبد الرحمن- و رجالا أمثالهم- فلما قربوا من أبي حمزة أخذتهم مسالحه- فأدخلوا على أبي حمزة فوجدوه جالسا- و عليه إزار قطري قد ربطه بحوره في قفاه- فلما دنوا تقدم إليه عبد الله بن الحسن العلوي- و محمد بن عبد الله العثماني- فنسبهما فلما انتسبا له عبس في وجوههما- و أظهر الكراهية لهما- ثم تقدم إليه بعدهما البكري و العمري- فنسبهما فانتسبا له- فهش إليهما و تبسم في وجوههما- و قال و الله ما خرجنا إلا لنسير سيرة أبويكما-

فقال له عبد الله بن حسن- و الله ما جئناك لتفاخر بين آبائنا- و لكن الأمير بعثنا إليك برسالة- و هذا ربيعة يخبركها- فلما أخبره ربيعة قال له- إن الأمير يخاف نقض العهد- قال معاذ الله أن ننقض العهد- أو نخيس به- و الله لا أفعل و لو قطعت رقبتي هذه- و لكن إلى أن تنقضي الهدنة بيننا و بينكم- . فخرجوا من عنده فأبلغوا عبد الواحد- فلما كان النفر الأخير نفر عبد الواحد- و خلى مكة لأبي حمزة فدخل بغير قتال- فقال بعض الشعراء يهجو عبد الواحد-

زار الحجيج عصابة قد خالفوا
دين الإله ففر عبد الواحد

ترك الإمارة و المواسم هاربا
و مضى يخبط كالبعير الشارد

فلو أن والده تخير أمه
لصفت خلائقه بعرق الوالد

ثم مضى عبد الواحد حتى دخل المدينة- و دعا بالديوان فضرب على الناس البعث- و زادهم في العطاء عشرة عشرة- و استعمل على الجيش عبد العزيز بن عبد الله- بن عمرو بن عثمان بن عفان- فخرجوا فلقيتهم جزر منحورة- فتشاءم الناس بها- فلما كانوا بالعقيق علق لواء عبد العزيز بسمرة- فانكسر الرمح فتشاءموا بذلك أيضا- . ثم ساروا حتى نزلوا قديدا- فنزل بها قوم معتزلون ليسوا بأصحاب حرب- و أكثرهم تجار أغمار- قد خرجوا في المصبغات و الثياب الناعمة و اللهو- لا يظنون أن للخوارج شوكة- و لا يشكون في أنهم في أيديهم- . و قال رجل منهم من قريش- لو شاء أهل الطائف لكفونا أمر هؤلاء- و لكنهم داهنوا في دين الله- و الله لنظفرن و لنسيرن إلى أهل الطائف فلنسبينهم- ثم قال من يشتري مني من سبي أهل الطائف- .

قال أبو الفرج فكان هذا الرجل أول المنهزمين- فلما وصل المدينة و دخل داره- أراد أن يقول لجاريته أغلقي الباب- قال لها غاق باق دهشا- فلقبه أهل المدينة بعد ذلك غاق باق- و لم تفهم الجارية قوله حتى أومأ إليها بيده- فأغلقت الباب- . قال و كان عبد العزيز يعرض الجيش بذي الحليفة- فمر به أمية بن عنبسة بن سعيد بن العاص- فرحب به و ضحك إليه- ثم مر به عمارة بن حمزة بن مصعب بن الزبير- فلم يكلمه و لم يلتفت إليه- فقال له عمران بن عبد الله بن مطيع و كان ابن خالته- أما هما ابنتا عبد الله بن خالد بن أسيد- سبحان الله مر بك شيخ من شيوخ قريش- فلم تنظرإليه و لم تكلمه- و مر بك غلام من بني أمية فضحكت إليه و لاطفته- أما و الله لو التقى الجمعان لعلمت أيهما أصبر- . قال فكان أمية بن عنبة أول من انهزم- و ركب فرسه و مضى- و قال لغلامه يا مجيب- أما و الله لئن أحرزت هذه الأكلب- من بني الشراة إني لعاجز- . و أما عمارة بن حمزة بن مصعب بن الزبير- فقاتل يومئذ حتى قتل- و كان يحمل و يتمثل-

و إني إذا ضن الأمير بإذنه
على الإذن من نفسي إذا شئت قادر

و الشعر للأغر بن حماد اليشكري- . قال فلما بلغ أبا حمزة إقبال أهل المدينة إليه- استخلف على مكة أبرهة بن الصباح- و شخص إليهم و على مقدمته بلج بن عقبة- . فلما كان في الليلة التي وافاهم في صبيحتها- و أهل المدينة نزول بقديد- قال لأصحابه إنكم ملاقو القوم غدا- و أميرهم فيما بلغني ابن عثمان- أول من خالف سنة الخلفاء و بدل سنة رسول الله ص- و قد وضح الصبح لذي عينين- فأكثروا ذكر الله و تلاوة القرآن- و وطنوا أنفسكم على الموت- و صبحهم غداة الخميس لتسع خلون من صفر- سنة ثلاثين و مائة- .

قال أبو الفرج- و قال عبد العزيز لغلامه في تلك الليلة- ابغنا علفا قال هو غال- فقال ويحك البواكي علينا غدا أغلى- و أرسل أبو حمزة إليهم بلج بن عتبة ليدعوهم- فأتاهم في ثلاثين راكبا فذكرهم الله- و سألهم أن يكفوا عنهم و قال لهم- خلوا سبيلنا إلى الشام لنسيرإلى من ظلمكم- و جار في الحكم عليكم- و لا تجعلوا حدنا بكم فإنا لا نريد قتالكم- فشتمهم أهل المدينة- و قالوا يا أعداء الله أ نحن نخليكم- و نترككم تفسدون في الأرض- .

فقالت الخوارج يا أعداء الله أ نحن نفسد في الأرض- إنما خرجنا لنكف الفساد- و نقاتل من قاتلنا منكم و استأثر بالفي‏ء- فانظروا لأنفسكم- و اخلعوا من لم يجعل الله له طاعة- فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق- فادخلوا في السلم و عاونوا أهل الحق- . فناداه عبد العزيز ما تقول في عثمان- قال قد برئ منه المسلمون قبلي- و إنا متبع آثارهم و مقتد بهم- قال ارجع إلى أصحابك فليس بيننا و بينكم إلا السيف- فرجع إلى أبي حمزة فأخبره- فقال كفوا عنهم- و لا تقاتلوهم حتى يبدءوكم بالقتال- فواقفوهم و لم يقاتلوهم- فرمى رجل من أهل المدينة بسهم- في عسكر أبي حمزة- فجرح منهم رجلا- فقال أبو حمزة شأنكم الآن فقد حل قتالهم- فحملوا عليهم فثبت بعضهم لبعض- و راية قريش مع إبراهيم بن عبد الله بن مطيع- ثم انكشف أهل المدينة فلم يتبعوهم- و كان على عامتهم صخر بن الجهم بن حذيفة العدوي- فكبر و كبر الناس معه فقاتلوا قليلا- ثم انهزموا فلم يبعدوا حتى كبر ثانية- فثبت معه ناس و قاتلوا- ثم انهزموا هزيمة لم يبق بعدها منهم باقية- فقال علي بن الحصين لأبي حمزة اتبع آثار القوم- أو دعني أتبعهم فأقتل المدبر- و أذفف على الجريح- فإن هؤلاء شر علينا من أهل الشام- و لو قد جاءك أهل الشام غدا لرأيت من هؤلاء ما تكره- قال لا أفعل و لا أخالف سيرة أسلافنا- .

و أخذ جماعة منهم أسرا و أراد إطلاقهم- فمنعه علي بن الحصين و قال إن لكل‏زمان سيرة- و هؤلاء لم يؤسروا و هم هراب- و إنما أسروا و هم يقاتلون- و لو قتلوا في ذلك الوقت لم يحرم قتلهم- فهكذا الآن قتلهم حلال و دعا بهم- فكان إذا رأى رجلا من قريش قتله- و إذا رأى رجلا من الأنصار أطلقه- . قال أبو الفرج و ذلك لأن قريشا كانوا أكثر الجيش- و بهم كانت الشوكة- و أتى محمد بن عبد العزيز بن عمرو بن عثمان فنسبه- فقال أنا رجل من الأنصار- فسأل الأنصار فأقرت بذلك فأطلقه- فلما ولى قال- و الله إني لأعلم أنه قرشي و لكن قد أطلقته- . قال و قد بلغت قتلى قديد- ألفين و مائتين و ثلاثين رجلا- منهم من قريش أربعمائة و خمسون رجلا- و من الأنصار ثمانون رجلا- و من الموالي و سائر الناس ألف و سبعمائة رجل- .

قال و كان في قتلى قريش- من بني أسد بن عبد العزى بن قصي- أربعون رجلا- . قال و قتل يومئذ أمية بن عبد الله بن عمرو بن عثمان- خرج مقنعا فلم يكلم أحدا- و قاتل حتى قتل- و دخل بلج المدينة بغير حرب- فدخلوا في طاعته و كف عنهم- و رجع إلى ملكه- و كان على شرطته أبو بكر بن عبد الله بن عمر- من آل سراقة- فكان أهل المدينة يقولون لعن الله السراقي- و لعن الله بلجا العراقي- و قالت نائحة أهل المدينة تبكيهم-

ما للزمان و ما ليه
أفنت قديد رجاليه‏

فلأبكين سريرة
و لأبكين علانية

و لأبكين على قديد
بسوء ما أولانيه‏

و لأعوين إذا خلوت‏
مع الكلاب العاوية

أبو حمزة الشاري

قال أبو الفرج- و لما سار عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك إلى الشام- و خلف المدينة لبلج- أقبل أبو حمزة من مكة حتى دخلها- فرقي المنبر فحمد الله و قال يا أهل المدينة- سألناكم عن ولاتكم هؤلاء- فأسأتم لعمري و الله القول فيهم- و سألناكم هل يقتلون بالظن فقلتم نعم- و سألناكم- هل يستحلون المال الحرام و الفرج الحرام فقلتم نعم- فقلنا لكم تعالوا نحن و أنتم- فأنشدوا الله وحده أن يتنحوا عنا و عنكم- ليختار المسلمون لأنفسهم- فقلتم لا نفعل- فقلنا لكم تعالوا نحن و أنتم نلقاهم- فإن نظهر نحن و أنتم- يأت من يقيم لنا كتاب الله و سنة نبيه- و يعدل في أحكامكم و يحملكم على سنة نبيكم- فأبيتم و قاتلتمونا فقاتلناكم و قتلناكم- فأبعدكم الله و أسحقكم يا أهل المدينة- مررت بكم في زمن الأحول هشام بن عبد الملك- و قد أصابتكم عاهة في ثماركم- فركبتم إليه تسألونه أن يضع خراجكم عنكم- فكتب بوضعه عن قوم من ذوي اليسار منكم- فزاد الغني غنى و الفقير فقرا- و قلتم جزاه الله خيرا فلا جزاه خيرا و لا جزاكم- .

قال أبو الفرج- فأما خطبتا أبي حمزة المشهورتان- اللتان خطب بهما في المدينة- فإن إحداهما قوله- تعلمون يا أهل المدينة- أنا لم نخرج من ديارنا و أموالنا أشرا و لا بطرا- و لا عبثا و لا لهوا- و لا لدولة ملك نريد أن نخوض فيه- و لا لثأر قديم نيل منا- و لكنا لما رأينا مصابيح الحق قد أطفئت- و معالم العدل قد عطلت و عنف القائم بالحق- و قتل القائم بالقسط- ضاقت علينا الأرض بما رحبت- و سمعنا داعيا يدعو إلى طاعة الرحمن- و حكم القرآن فأجبنا داعي الله- وَ مَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ-

فأقبلنا من قبائل شتى- النفر منا على البعير الواحد و عليه زادهم- يتعاورون لحافا واحدا- قليلون مستضعفون في الأرض- فآوانا الله و أيدنا بنصره- و أصبحنا و الله المحمود من أهل فضله و نعمته- ثم لقينا رجالكم بقديد- فدعوناهم إلى طاعة الرحمن و حكم القرآن- فدعونا إلى طاعة الشيطان و حكم مروان- فشتان لعمر الله ما بين الغي و الرشد- ثم أقبلوا يزفون و يهرعون- قد ضرب الشيطان فيهم بجرانه- و صدق عليهم إبليس ظنه- و أقبل أنصار الله عصائب و كتائب- بكل مهند ذي رونق- فدارت رحانا و استدارت رحاهم- بضرب يرتاب منه المبطلون- . و ايم الله يا أهل المدينة- إن تنصروا مروان و آل مروان- فيسحتكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا- و يشف صدور قوم مؤمنين- .

يا أهل المدينة الناس منا و نحن منهم- إلا مشركا عباد وثن- أو كافرا من أهل الكتاب أو إماما جائرا- . يا أهل المدينة- من يزعم أن الله تعالى كلف نفسا فوق طاقتها- و سألها عما لم يؤتها فهو لنا حرب- . يا أهل المدينة أخبروني عن ثمانية أسهم- فرضها الله في كتابه على القوي و الضعيف- فجاء تاسع ليس له منها سهم- فأخذها جميعا لنفسه مكابرا محاربا لربه- ما تقولون فيه و فيمن عاونه على فعله- . يا أهل المدينة بلغني أنكم تنتقصون أصحابي- قلتم هم شباب أحداث و أعراب جفاة- ويحكم يا أهل المدينة- و هل كان أصحاب رسول الله ص إلا شباباأحداثا- نعم و الله إن أصحابي لشباب مكتهلون في شبابهم- غضيضة عن الشر أعينهم- ثقيلة عن الباطل أقدامهم- قد باعوا أنفسا تموت غدا بأنفس لا تموت أبدا- قد خلطوا كلالهم بكلالهم- و قيام ليلهم بصيام نهارهم- محنية أصلابهم على أجزاء القرآن- كلما مروا بآية خوف شهقوا خوفا من النار- و كلما مروا بآية رجاء شهقوا شوقا إلى الجنة- و إذا نظروا إلى السيوف و قد انتضيت- و إلى الرماح و قد أشرعت- و إلى السهام و قد فوقت- و أرعدت الكتيبة بصواعق الموت- استخفوا وعيدها عند وعيد الله و انغمسوا فيها- فطوبى لهم و حسن مآب- فكم من عين في منقار طائر طالما- بكى بها صاحبها من خشية الله- و كم من يد قد أبينت عن ساعدها طالما- اعتمد عليها صاحبها راكعا و ساجدا في طاعة الله- أقول قولي هذا و أستغفر الله- و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه أنيب- .

و أما الخطبة الثانية فقوله- يا أهل المدينة ما لي رأيت رسم الدين فيكم عافيا- و آثاره دارسة لا تقبلون عليه عظة- و لا تفقهون من أهله حجة- قد بليت فيكم جدته و انطمست عنكم سنته- ترون معروفه منكرا و المنكر من غيره معروفا- فإذا انكشفت لكم العبر و أوضحت لكم النذر- عميت عنها أبصاركم و صمت عنها آذانكم- ساهين في غمرة لاهين في غفلة- تنبسط قلوبكم للباطل إذا نشر- و تنقبض عن الحق إذا ذكر- مستوحشة من العلم مستأنسة بالجهل- كلما وردت عليها موعظة زادتها عن الحق نفورا- تحملون قلوبا في صدوركم كالحجارة- أو أشد قسوة من الحجارة- فهي لا تلين بكتاب الله- الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا- متصدعا من خشية الله- .

يا أهل المدينة- إنه لا تغني عنكم صحة أبدانكم إذا سقمت قلوبكم- قد جعل الله لكل شي‏ء سببا غالبا عليه- لينقاد إليه مطيع أمره- فجعل القلوب غالبة على الأبدان- فإذا مالت القلوب ميلا- كانت الأبدان لها تبعا- و إن القلوب لا تلين لأهلها إلا بصحتها- و لا يصححها إلا المعرفة بالله- و قوة النية و نفاذ البصيرة- و لو استشعرت تقوى الله قلوبكم- لاستعملت في طاعة الله أبدانكم- . يا أهل المدينة داركم دار الهجرة و مثوى الرسول ص- لما نبت به داره و ضاق به قراره- و آذاه الأعداء و تجهمت له- فنقله الله إليكم- بل إلى قوم لعمري لم يكونوا أمثالكم- متوازرين مع الحق على الباطل- مختارين الأجل على العاجل- يصبرون للضراء رجاء ثوابها- فنصروا الله و جاهدوا في سبيله- و آزروا رسوله ص- و اتبعوا النور الذي أنزل معه- و آثروا الله على أنفسهم- و لو كان بهم خصاصة-

فقال الله تعالى لهم و لأمثالهم و لمن اهتدى بهديهم- وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ- و أنتم أبناؤهم و من بقي من خلفهم- تتركون أن تقتدوا بهم أو تأخذوا بسنتهم- عمى القلوب صم الآذان- اتبعتم الهوى فأرداكم عن الهدى- و أسهاكم عن مواعظ القرآن- لا تزجركم فتنزجرون و لا تعظكم فتتعظون- و لا توقظكم فتستيقظون- لبئس الخلف أنتم من قوم مضوا قبلكم- ما سرتم سيرتهم و لا حفظتم وصيتهم- و لا احتذيتم مثالهم- لو شقت عنهم قبورهم فعرضت عليهم أعمالكم- لعجبوا كيف صرف العذاب عنكم- أ لا ترون إلى خلافة الله و إمامة المسلمين كيف أضيعت- حتى تداولها بنو مروان أهل بيت اللعنة- و طرداء رسول الله و قوم من الطلقاء- ليسوا من المهاجرين و لا الأنصار و لا التابعين بإحسان- فأكلوا مال الله أكلا و تلعبوا بدين الله لعبا- و اتخذوا عباد الله عبيدا- يورث الأكبر منهم ذلك الأصغر- فيا لهاأمة ما أضعفها و أضيعها- و مضوا على ذلك من سيئ أعمالهم- و استخفافهم بكتاب الله- قد نبذوه وراء ظهورهم- فالعنوهم لعنهم الله لعنا كما يستحقونه- . و لقد ولى منهم عمر بن عبد العزيز فاجتهد و لم يكد- و عجز عن الذي أظهر حتى مضى لسبيله- قال و لم يذكره بخير و لا بشر- ثم قال و ولى بعده يزيد بن عبد الملك- غلام سفيه ضعيف- غير مأمون على شي‏ء من أمور المسلمين- لم يبلغ أشده و لم يؤنس رشده- و قد قال الله عز و جل- فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ- و أمر أمة محمد ص و أحكامها و فروجها و دمائها- أعظم عند الله من مال اليتيم- و إن كان عند الله عظيما- غلام مأبون في فرجه و بطنه- يأكل الحرام و يشرب الخمر- و يلبس بردين قد حيكا من غير حلهما- و صرفت أثمانهما في غير وجهها- بعد أن ضربت فيهما الأبشار- و حلقت فيهما الأشعار- استحل ما لم يحله الله لعبد صالح و لا لنبي مرسل- فأجلس حبابة عن يمينه و سلامة عن يساره- يغنيانه بمزامير الشيطان- و يشرب الخمر الصراح المحرمة نصا بعينها- حتى إذا أخذت منه مأخذها- و خالطت روحه و لحمه و دمه- و غلبت سورتها على عقله مزق برديه- ثم التفت إليهما فقال أ تأذنان لي بأن أطير- نعم فطر إلى النار طر إلى لعنة الله- طر إلى حيث لا يردك الله- .

ثم ذكر بني أمية و أعمالهم- فقال أصابوا إمرة ضائعة و قوما طغاما جهالا- لا يقومون لله بحق و لا يفرقون بين الضلالة و الهدى- و يرون أن بني أمية أرباب لهم- فملكوا الأمر و تسلطوا فيه تسلط ربوبية- بطشهم بطش الجبابرة يحكمون بالهوى- و يقتلون على الغضب و يأخذون بالظن- و يعطلون الحدود بالشفاعات- و يؤمنون الخونة و يعصون ذويالأمانة- و يتناولون الصدقة من غير فرضها- و يضعونها غير موضعها- فتلك الفرقة الحاكمة بغير ما أنزل الله- فالعنوهم لعنهم الله- .

قال ثم ذكر شيعة آل أبي طالب- فقال و أما إخواننا من الشيعة- و ليسوا بإخواننا في الدين- لكني سمعت الله يقول- يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى‏- وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا- فإنها فرقة تظاهرت بكتاب الله- و آثرت الفرقة على الله- لا يرجعون إلى نظر نافذ في القرآن- و لا عقل بالغ في الفقه- و لا تفتيش عن حقيقة الثواب- قد قلدوا أمورهم أهواءهم- و جعلوا دينهم العصبية لحزب لزموه و أطاعوه- في جميع ما يقوله لهم غيا كان أو رشدا- ضلالة كان أو هدى-

ينتظرون الدول في رجعة الموتى- و يؤمنون بالبعث قبل الساعة- و يدعون علم الغيب لمخلوقين لا يعلم واحدهم ما في بيته- بل لا يعلم ما ينطوي عليه ثوبه أو يحويه جسمه- ينقمون المعاصي على أهلها- و يعملون بها و لا يعلمون المخرج منها- جفاة في دينهم قليلة عقولهم- قد قلدوا أهل بيت من العرب دينهم- و زعموا أن موالاتهم لهم تغنيهم عن الأعمال الصالحة- و تنجيهم من عقاب الأعمال السيئة- قاتلهم الله أنى يؤفكون- . فأي الفرق يا أهل المدينة تتبعون- أم بأي مذاهبهم تقتدون- و لقد بلغني مقالكم في أصحابي- و ما عبتموه من حداثة أسنانهم- ويحكم و هل كان أصحاب رسول الله ص إلا أحداثا- نعم إنهم لشباب مكتهلون في شبابهم- غضيضة عن الشر أعينهم- ثقيلة في الباطل أرجلهم أنضاء عبادة- قد نظر الله إليهم في جوف الليل- محنية أصلابهم على أجزاء القرآن- كلما مر أحدهم بآية فيها ذكر الجنة بكى شوقا- و كلما مر بآية فيها ذكر النار شهق خوفا- كأن زفير جهنم بين أذنيه- قد أكلت الأرض جباههم و ركبهم-و وصلوا كلال ليلهم بكلال نهارهم- مصفرة ألوانهم ناحلة أبدانهم- من طول القيام و كثرة الصيام- يوفون بعهد الله منجزون لوعد الله- قد شروا أنفسهم في طاعة الله- حتى إذا التقت الكتيبتان و أبرقت سيوفهما- و فوقت سهامهما و أشرعت رماحهما- لقوا شبا الأسنة و زجاج السهام- و ظبى السيوف بنحورهم و وجوههم و صدورهم- فمضى الشاب منهم قدما- حتى اختلفت رجلاه على عنق فرسه- و اختضبت محاسن وجهه بالدماء- و عفر جبينه بالتراب و الثرى- و انحطت عليه الطير من السماء- و مزقته سباع الأرض- فكم من عين في منقار طائر طالما- بكى بها صاحبها في جوف الليل من خوف الله- و كم من وجه رقيق و جبين عتيق قد فلق بعمد الحديد- .

ثم بكى فقال آه آه على فراق الإخوان- رحمة الله تعالى على تلك الأبدان- اللهم أدخل أرواحها الجنان- . قال أبو الفرج و سار أبو حمزة- و خلف بالمدينة المفضل الأزدي في جماعة من أصحابه- و بعث مروان بن محمد عبد الملك بن عطية السعدي- في أربعة آلاف من أهل الشام- فيهم فرسان عسكره- و وجهوهم لحرب أبي حمزة و عبد الله بن يحيى طالب الحق- و أمر ابن عطية بالجد في المسير- و أعطى كل رجل من الجيش مائة دينار- و فرسا عربيا و بغلا لثقله- فخرج ابن عطية حتى إذا كان بالمعلى- فكان رجل من أهل وادي القرى- يقال له العلاء
بن أفلح أبي الغيث- يقول لقيني في ذلك اليوم و أنا غلام- رجل من أصحاب ابن عطية- فقال لي ما اسمك يا غلام فقلت العلاء- فقال ابن من قلت ابن أفلح- قال أ عربي أم مولى فقلت مولى- قال مولى من قلت مولى أبي الغيث- قال فأين نحن قلت بالمعلى- قال فأين نحن غدا قلت بغالب- قال فما كلمني حتى أردفني خلفه- و مضى حتى أدخلني على ابن عطية- و قال له أيها الأمير سل الغلام ما اسمه- فسأل و أنا أرد عليه القول- فسر بذلك و وهب لي دراهم- .

قال أبو الفرج- و قدم أبو حمزة و أمامه بلج بن عقبة في ستمائة رجل- ليقاتل عبد الملك بن عطية- فلقيه بوادي القرى- لأيام خلت من جمادى الأولى سنة ثلاثين و مائة- فتواقفوا و دعاهم بلج إلى الكتاب و السنة- و ذكر بني أمية و ظلمهم- فشتمه أهل الشام و قالوا يا أعداء الله- أنتم أحق بهذا ممن ذكرتم- فحمل بلج و أصحابه عليهم- و انكشفت طائفة من أهل الشام- و ثبت ابن عطية في عصبة صبروا معه- فناداهم يا أهل الشام يا أهل الحفاظ- ناضلوا عن دينكم و أميركم- و اصبروا و قاتلوا قتالا شديدا- فقتل بلج و أكثر أصحابه- و انحازت قطعة من أصحابه نحو المائة إلى جبل- اعتصموا به- فقاتلهم ابن عطية ثلاثة أيام- فقتل منهم سبعين رجلا و نجا منهم ثلاثون- .

فرجعوا إلى أبي حمزة و هو بالمدينة- و قد اغتموا و جزعوا من ذلك الخبر- و قالوا فررنا من الزحف- فقال لهم أبو حمزة- لا تجزعوا فإنا لكم فئة و إلي تحيزتم- . و خرج أبو حمزة إلى مكة- فدعا عمر بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب- أهل المدينة- إلى قتال المفضل خليفة أبي حمزة على المدينة- فلم يجد أحدا- لأن القتل قد كان أسرع في الناس- و خرج وجوه أهل البلد عنه- فاجتمع إلى عمر البربر و الزنوج و أهل السوق و العبيد-فقاتل بهم الشراة فقتل المفضل و عامة أصحابه- و هرب الباقون فلم يبق منهم أحد- فقال في ذلك سهيل مولى زينب بنت الحكم بن أبي العاص-

ليت مروان رآنا
يوم الإثنين عشية

إذ غسلنا العار عنا
و انتضينا المشرفية

قال فلما قدم ابن عطية أتاه عمر بن عبد الرحمن- فقال له أصلحك الله إني جمعت قضي و قضيضي- فقاتلت هؤلاء الشراة- فلقبه أهل المدينة قضي و قضيضي- . قال أبو الفرج و أقام ابن عطية بالمدينة شهرا- و أبو حمزة مقيم بمكة- ثم توجه إليه- فقال علي بن الحصين العبدي لأبي حمزة- إني كنت أشرت عليك يوم قديد و قبله- أن تقتل الأسرى فلم تفعل- حتى قتلوا المفضل و أصحابنا المقيمين معه بالمدينة- و أنا أشير عليك الآن أن تضع السيف في أهل مكة- فإنهم كفرة فجرة- و لو قد قدم ابن عطية- لكانوا أشد عليك من أهل المدينة- فقال لا أرى ذلك لأنهم قد دخلوا في الطاعة- و أقروا بالحكم و وجب لهم حق الولاية- .

فقال إنهم سيغدرون- فقال فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى‏ نَفْسِهِ- . و قدم ابن عطية مكة فصير أصحابه فرقتين- و لقي الخوارج من وجهين- فكان هو بإزاء أبي حمزة في أسفل مكة- و جعل طائفة أخرى بالأبطح بإزاء أبرهة بن الصباح- فقتل أبرهة كمن له ابن هبار و هو على خيل دمشق- فقتله عند بئر ميمون- و التقى ابن عطية بأبي حمزة- فخرج أهل مكة بأجمعهم مع ابن عطية- و تكاثر الناس على أبي حمزة فقتل على فم الشعب- و قتلت معه امرأته و هي ترتجز-

أنا الجديعاء و بنت الأعلم
من سأل عن اسمي فاسمي مريم‏
بعت سواري بعضب مخذم‏

و قتلت الخوارج قتلا ذريعا و أسر منهم أربعمائة- فقال لهم ابن عطية ويلكم- ما دعاكم إلى الخروج مع هذا- فقالوا ضمن لنا الكنة يريدون الجنة- فقتلهم كلهم- و صلب أبا حمزة و أبرهة بن الصباح على شعب الخيف- و دخل علي بن الحصين دارا من دور قريش- فأحدق أهل الشام بها فأحرقوها- فرمى بنفسه عليهم و قاتل- فأسر و قتل و صلب مع أبي حمزة- فلم يزالوا مصلوبين حتى أفضى الأمر إلى بني هاشم- فأنزلوا في خلافة أبي العباس- .

قال أبو الفرج و ذكر ابن الماجشون- أن ابن عطية لما التقى بأبي حمزة- قال أبو حمزة لأصحابه لا تقاتلوهم حتى تختبروهم- فصاحوا فقالوا يا أهل الشام- ما تقولون في القرآن و العمل به- فقال ابن عطية نضعه في جوف الجوالق- قالوا فما تقولون في اليتيم- قالوا نأكل ماله و نفجر بأمه- في أشياء بلغني أنهم سئلوا عنها- فلما سمعوا كلامهم قاتلوهم حتى أمسوا- فصاحت الشراة ويحك يا ابن عطية- إن الله جل و عز قد جعل الليل سكنا فاسكن و نسكن- فأبى و قاتلهم حتى أفناهم- .

قال و لما خرج أبو حمزة من المدينة خطب- فقال يا أهل المدينة إنا خارجون لحرب مروان- فإن نظهر عليه نعدل في أحكامكم- و نحملكم على سنة نبيكم- و إن يكن ما تمنيتم لنا- فسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون-قال و قد كان اتبعه على رأيه قوم من أهل المدينة- و بايعوه- منهم بشكست النحوي- فلما جاءهم قتله وثب الناس على أصحابه فقتلوهم- و كان ممن قتلوه بشكست النحوي- طلبوه فرقي في درجة دار فلحقوه فأنزلوه- و قتلوه و هو يصيح يا عباد الله فيم تقتلونني- فقيل فيه

لقد كان بشكست عبد العزيز
من أهل القراءة و المسجد

فبعدا لبشكست عبد العزيز
و أما القرآن فلا تبعد

قال أبو الفرج- و حدثني بعض أصحابنا أنه رأى رجلا- واقفا على سطح يرمي بالحجارة- قوم أبي حمزة بمكة- فقيل له ويلك أ تدري من ترمي مع اختلاط الناس- فقال و الله ما أبالي من رميت- إنما يقع حجري في شام أو شار- و الله ما أبالي أيهما قتلت- . قال أبو الفرج و خرج ابن عطية إلى الطائف- و أتى قتل أبي حمزة إلى عبد الله بن يحيى طالب الحق- و هو بصنعاء- فأقبل في أصحابه يريد حرب ابن عطية- فشخص ابن عطية إليه- و التقوا فقتل بين الفريقين جمع كثير- و ترجل عبد الله بن يحيى في ألف رجل- فقاتلوا حتى قتلوا كلهم- و قتل عبد الله بن يحيى- و بعث ابن عطية رأسه إلى مروان بن محمد- و قال أبو صخر الهذلي يذكر ذلك-

قتلنا عبيدا و الذي يكتني الكنى
أبا حمزة القارئ المصلي اليمانيا

و أبرهة الكندي خاضت رماحنا
و بلجا منحناه السيوف المواضيا

و ما تركت أسيافنا منذ جردت
لمروان جبارا على الأرض عاصيا

و قال عمرو بن الحصين العنبري- يرثي أبا حمزة و غيره من الشراة- و هذه القصيدة من مختار شعر العرب-

هبت قبيل تبلج الفجر
هند تقول و دمعها يجري‏

إذ أبصرت عيني و أدمعها
تنهل واكفة على النحر

أنى اعتراك و كنت عهدي لا
سرب الدموع و كنت ذا صبر

أ قذى بعينك لا يفاوقها
أم عائر أم ما لها تذري‏

أم ذكر إخوان فجعت بهم
سلكوا سبيلهم على قدر

فأجبتها بل ذكر مصرعهم‏
لا غيره عبراتها تمري‏

يا رب أسلكني سبيلهم
ذا العرش و اشدد بالتقى أزري‏

في فتية صبروا نفوسهم‏
للمشرفية و القنا السمر

تالله ما في الدهر مثلهم
حتى أكون رهينة القبر

أوفى بذمتهم إذا عقدوا
و أعف عند العسر و اليسر

متأهبون لكل صالحة
ناهون من لاقوا عن النكر

صمت إذا حضروا مجالسهم‏
من غير ماعي بهم يزري‏

إلا تجيئهم فإنهم
رجف القلوب بحضرة الذكر

متأوهون كأن جمر غضا
للموت بين ضلوعهم يسري‏

فهم كأن بهم جرى مرض‏
أو مسهم طرف من السحر

لا ليلهم ليل فيلبسهم
فيه غواشي النوم بالسكر

إلا كرى خلسا و آونة
حذر العقاب فهم على ذعر

كم من أخ لك قد فجعت به
قوام ليلته إلى الفجر

متأوها يتلو قوارع من‏
آي الكتاب مفزع الصدر

ظمآن وقدة كل هاجرة
تراك لذته على قدر

رفاض ما تهوى النفوس إذا
رغب النفوس دعت إلى المرز

و مبرأ من كل سيئة
عف الهوى ذا مرة شزر

و المصطلي بالحرب يوقدها
بحسامه في فتية زهر

يختاضها بأفل ذي شطب
عضب المضارب ظاهر الأثر

لا شي‏ء يلقاه أسر له‏
من طعنة في ثغرة النحر

منهارة منه تجيش بما
كانت عواصم جوفه تجري‏

لخليلك المختار أذك به
من مغتد في الله أو مسري‏

خواض غمرة كل متلفة
في الله تحت العثير الكدر

نزال ذي النجوات مختضبا
بنجيعه بالطعنة الشزر

و ابن الحصين و هل له شبه‏
في العرف أنى كان و النكر

بشهامة لم تحن أضلعه
لذوي أحزته على غدر

طلق اللسان بكل محكمة
رآب صدع العظم ذي الكسر

لم ينفكك في جوفه حزن
تغلي حرارته و تستشري‏

ترقي و آونة يخفضها
بتنفس الصعداء و الزفر

و مخالطي بلج و خالصتي
سهم العدو و جابر الكسر

نكل الخصوم إذا هم شغبوا
و سداد ثلمة عورة الثغر

و الخائض الغمرات يخطر في
وسط الأعادي أيما خطر

بمشطب أو غير ذي شطب‏
هام العدا بذبابه يفري‏

و أخيك أبرهة الهجان أخي الحرب
العوان و موقد الجمر

و الضارب الأخدود ليس لها
حد ينهنهها عن السحر

و ولى حكمهم فجعت به
عمرو فوا كبدي على عمرو

قوال محكمة و ذو فهم‏
عف الهوى متثبت الأمر

و مسيب فاذكر وصيته
لا تنس إما كنت ذا ذكر

فكلاهما قد كان مختشعا
لله ذا تقوى و ذا بر

في مخبتين و لم أسمهم‏
كانوا ندي و هم أولو نصري‏

و هم مساعر في الوغي رجح
و خيار من يمشي على العفر

حتى وفوا لله حيث لقوا
بعهود لا كذب و لا غدر

فتخالسوا مهجات أنفسهم
و عداتهم بقواضب بتر

و أسنة أثبتن في لدن‏
خطية بأكفهم زهر

تحت العجاج و فوقهم خرق
يخفقن من سود و من حمر

فتوقدت نيران حربهم‏
ما بين أعلى البيت و الحجر

و تصرعت عنهم فوارسهم
لم يغمضوا عينا على وتر

صرعى فخاوية بيوتهم‏
و خوامع بجسومهم تفري‏

قال أبو الفرج- و أقام ابن عطية بحضرموت بعد ظفره بالخوارج- حتى أتاه كتاب مروان يأمره بالتعجيل إلى مكة- فيحج بالناس- فشخص إلى مكة متعجلا مخفا في تسعة عشر فارسا- و ندم مروان على ما كتبه- و قال قتلت ابن عطية- و سوف يخرج متعجلا مخفا من اليمن ليلحق الحج- فيقتله الخوارج- فكان كما قال- صادفه في طريقه جماعة متلففة- فمن كان منهم إباضيا قال- ما تنتظر أن ندرك ثأر إخواننا- و من لم يكن منهم إباضيا ظن أنه إباضي- منهزم من ابن عطية- فصمد له سعيد و جمانة ابنا الأخنس‏الكنديان- في جماعة من قومهما- و كانوا على رأي الخوارج- فعطف ابن عطية على سعيد فضربه بالسيف- و طعنه جمانة فصرعه- فنزل إليه سعيد فقعد على صدره- فقال له ابن عطية- هل لك في أن تكون أكرم العرب أسيرا- فقال سعيد يا عدو الله أ تظن الله يهملك- أو تطمع في الحياة- و قد قتلت طالب الحق و أبا حمزة و بلجا و أبرهة- فذبحه و قتل أصحابه أجمعون- .

فهذا يسير مما هو معلوم من حال هذه الطائفة- في خشونتها في الدين و تلزمها بناموسه- و إن كانت في أصل العقيدة على ضلال- و هكذاقال النبي ص عنهم تستحقر صلاة أحدكم في جنب صلاتهم- و صيام أحدكم في جنب صيامهم- و معلوم أن معاوية و من بعده من بني أمية- لم تكن هذه الطريقة طريقتهم- و لا هذه السنة سنتهم- و أنهم كانوا أهل دنيا- و أصحاب لعب و لهو و انغماس في اللذات- و قلة مبالاة بالدين- و منهم من هو مرمي بالزندقة و الإلحاد

أخبار متفرقة عن معاوية

و قد طعن كثير من أصحابنا في دين معاوية- و لم يقتصروا على تفسيقه- و قالوا عنه إنه كان ملحدا لا يعتقد النبوة- و نقلوا عنه في فلتات كلامه و سقطات ألفاظه- ما يدل على ذلك- . و روى الزبير بن بكار في الموفقيات- و هو غير متهم على معاوية- و لا منسوب إلى اعتقاد الشيعة- لما هو معلوم من حاله من مجانبة علي ع و الانحراف عنه- قال المطرف بن المغيرة بن شعبة- دخلت مع أبي على معاوية- و كان أبي يأتيه فيتحدث معه- ثم ينصرف إلي فيذكر معاوية و عقله- و يعجب بما يرى منه- إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء- و رأيته مغتما فانتظرته ساعة- و ظننت أنه لأمر حدث‏فينا- فقلت ما لي أراك مغتما منذ الليلة-

فقال يا بني جئت من عند أكفر الناس و أخبثهم- قلت و ما ذاك قال قلت له و قد خلوت به- إنك قد بلغت سنا يا أمير المؤمنين- فلو أظهرت عدلا و بسطت خيرا فإنك قد كبرت- و لو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم فوصلت أرحامهم- فو الله ما عندهم اليوم شي‏ء تخافه- و إن ذلك مما يبقى لك ذكره و ثوابه- فقال هيهات هيهات أي ذكر أرجو بقاءه- ملك أخو تيم فعدل و فعل ما فعل- فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره- إلا أن يقول قائل أبو بكر- ثم ملك أخو عدي فاجتهد و شمر عشر سنين- فما عدا أن هلك حتى هلك ذكره- إلا أن يقول قائل عمر- و إن ابن أبي كبشة ليصاح به كل يوم خمس مرات- أشهد أن محمدا رسول الله- فأي عملي يبقى و أي ذكر يدوم بعد هذا- لا أبا لك لا و الله إلا دفنا دفنا- . و أما أفعاله المجانبة للعدالة الظاهرة من لبسه الحرير- و شربه في آنية الذهب و الفضة- حتى أنكر عليه ذلك أبو الدرداء- فقال لهإني سمعت رسول الله ص يقول إن الشارب فيها ليجرجر في جوفه نار جهنم- و قال معاوية أما أنا فلا أرى بذلك بأسا- فقال أبو الدرداء من عذيري من معاوية- أنا أخبره عن الرسول ص و هو يخبرني عن رأيه- لا أساكنك بأرض أبدا- .

نقل هذا الخبر المحدثون و الفقهاء في كتبهم- في باب الاحتجاج على أن خبر الواحد معمول به في الشرع- و هذا الخبر يقدح في عدالته- كما يقدح أيضا في عقيدته- لأن من قال في مقابلة خبر قد روى عن رسول الله ص- أما أنا فلا أرى بأسا فيما حرمه رسول الله ص- ليس بصحيح العقيدة- و من المعلوم أيضا من حالة استئثاره بمال الفي‏ء- و ضربه من لا حد عليه- و إسقاط الحد عمن يستحق إقامة الحد عليه- و حكمه‏

برأيه في الرعية و في دين الله- و استلحاقه زيادا و هو يعلم قول رسول الله ص الولد للفراش و للعاهر الحجر- و قتله حجر بن عدي و أصحابه و لم يجب عليهم القتل- و مهانته لأبي ذر الغفاري و جبهه و شتمه- و إشخاصه إلى المدينة على قتب بعير وطاء لإنكاره عليه- و لعنه عليا و حسنا و حسينا- و عبد الله بن عباس على منابر الإسلام- و عهده بالخلافة إلى ابنه يزيد- مع ظهور فسقه و شربه المسكر جهارا- و لعبه بالنرد و نومه بين القيان المغنيات- و اصطباحه معهن و لعبه بالطنبور بينهن- و تطريقه بني أمية- للوثوب على مقام رسول الله ص و خلافته- حتى أفضت إلى يزيد بن عبد الملك و الوليد بن يزيد- المفتضحين الفاسقين صاحب حبابة و سلامة- و الآخر رامي المصحف بالسهام- و صاحب الأشعار في الزندقة و الإلحاد- .

و لا ريب أن الخوارج إنما بري‏ء أهل الدين- و الحق منهم- لأنهم فارقوا عليا و برئوا منه- و ما عدا ذلك من عقائدهم- نحو القول بتخليد الفاسق في النار- و القول بالخروج على أمراء الجور- و غير ذلك من أقاويلهم- فإن أصحابنا يقولون بها و يذهبون إليها- فلم يبق ما يقتضي البراءة منهم- إلا براءتهم من علي- و قد كان معاوية يلعنه على رءوس الأشهاد- و على المنابر في الجمع و الأعياد- في المدينة و مكة و في سائر مدن الإسلام- فقد شارك الخوارج في الأمر المكروه منهم- و امتازوا عليه بإظهار الدين- و التلزم بقوانين الشريعة- و الاجتهاد في العبادة و إنكار المنكرات- و كانوا أحق بأن ينصروا عليه من أن ينصر عليهم- فوضح بذلك قول أمير المؤمنين- لا تقاتلوا الخوارج بعدي- يعني في ملك معاوية- و مما يؤكد هذا المعنى- أن عبد الله بن الزبير- استنصر على يزيد بن معاوية بالخوارج- و استدعاهم إلى ملكه- فقال فيه الشاعر

يا ابن الزبير أ تهوى فتية قتلوا
ظلما أباك و لما تنزع الشكك‏

ضحوا بعثمان يوم النحر ضاحية
يا طيب ذاك الدم الزاكي الذي سفكوا

فقال ابن الزبير لو شايعني الترك و الديلم- على محاربة بني أمية لشايعتهم و انتصرت بهم

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 5