نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 199 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 200 صبحی صالح

200- و من كلام له ( عليه‏ السلام  ) في معاوية

وَ اللَّهِ مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَى مِنِّي وَ لَكِنَّهُ يَغْدِرُ وَ يَفْجُرُ

وَ لَوْ لَا كَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ لَكُنْتُ مِنْ أَدْهَى النَّاسِ وَ لَكِنْ كُلُّ غُدَرَةٍ فُجَرَةٌ وَ كُلُّ فُجَرَةٍ كُفَرَةٌ وَ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

وَ اللَّهِ مَا أُسْتَغْفَلُ بِالْمَكِيدَةِ وَ لَا أُسْتَغْمَزُ بِالشَّدِيدَةِ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج12  

و من كلام له عليه السّلام و هو المأة و التاسع و التسعون من المختار فى باب الخطب

و اللّه ما معاوية بأدهى منّي، و لكنّه يغدر و يفجر، و لو لا كراهيّة الغدر لكنت من أدهى النّاس، و لكنّ كلّ غدرة فجرة، و كلّ فجرة كفرة، و لكلّ غادر لواء يعرف به يوم القيامة، و اللّه ما أستغفل بالمكيدة، و لا أستغمز بالشّديدة.

اللغة

(الدّهي) بسكون الهاء و الدّهاء الفكر و الارب و جودة الرّأي و (غدر) غدرا من باب ضرب و نصر نقض عهده و (فجر) يفجر من باب قتل و (الغدرة) و (الفجرة) و (الكفرة) كلّها في بعض النسخ بفتح الفاء و سكون العين وزان تمرة فالتّاء للمرّة، و في بعضها بتحريك الفاء و العين وزان مردة فيكون جمع غادر و فاجر و كافر، و في بعضها بضمّ الفاء و فتح العين وزان همزة فالتّاء للمبالغة أى الكثير الغدر و الفجور و الكفر، فان أسكنت العين فالبناء للمفعول تقول: رجل سخرة، كهمزة يسخر من الناس، و سخرة كغرفة من يسخر منه.

(و لا أستغمز) بالزاء المعجمة من الغمز و هو العصر باليد يقال غمزه غمزا من باب ضرب، و الغمز محرّكة الرّجل الضعيف قال الشارح البحراني: و روى بالرّاء المهملة أى لا استجهل بشدايد المكايد، انتهى. و لعلّه من الغمر بالتحريك و هو من لم يجرّب الامور و الأوّل أصوب و أنسب

الاعراب

الباء في قوله: بأدهى زايدة في الخبر جي‏ء بها لتأكيد معني النّفي كما في قوله تعالى وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ و قوله: بالشديدة، صفة محذوفة الموصوف أى بالدّواهى الشديدة و نحو ذلك.

المعنى

اعلم أنّ الغرض من هذا الكلام دفع توهّم من كان معتقدا أنّ معاوية أجود رأيا و أكثر تدبيرا منه، و تعرّض به على معاوية من أجل عدم تحرّزه في تدبير الامور عن الغدر و الفجور، و صدّر الكلام بالقسم البارّ تأكيدا للمقصود فقال: (و اللّه ما معاوية بأدهى منّي) أي ليس بأجود رأيا و أحسن تدبيرا و أبعد غورا و أعمق فكرا و أشدّ دهاء منّي، و إن فسّر الدّهاء بخصوص استعمال العقل و الرّأى فيما لا ينبغي فعله من الامور الدّنيويّة المعبّر عنه بالنّكراء فلا بدّ من جعل قوله عليه السّلام أدهى بمعنى أعرف بطرق الدّهاء و أبصر بها، لعدم اتّصافه بالدّهاء بهذا المعنى فضلا عن كونه أدهى.

(و لكنّه يغدر و يفجر) أى يستعمل الغدر في اموره السيّاسيّة فيزعم أهل الجهل أنّه أدهى.
و قوله: و يفجر، إشارة إلى نتيجة الغدر يعني أنّه من أجل إقدامه على الغدر يكون فاجرا، و ذلك لأنّ الغدر مقابل الوفاء، و الوفاء فضيلة داخلة تحت العفّة، فيكون الغدر رذيلة داخلة تحت الفجور.
و أيضا الوفاء توأم الصّدق و الغدر توأم الكذب حسبما عرفت تفصيلا في الخطبة الحادية و الأربعين و شرحها، و الكذب من أعظم الفجور.

و ايضاح هذه الفقرة ما تقدّم في الخطبة المذكورة حيث قال عليه السّلام هناك: و لقد أصبحنا في زمان قد اتّخذ أكثر أهله الغدر كيسا و نسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة، ما لهم قاتلهم اللّه قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة و دونه‏مانع من أمر اللّه و نهيه فيدعها رأى عن بعد القدرة عليها و ينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدّين.

و روى في الكافي في حديث مرفوع عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت له: ما العقل قال: ما عبد به الرّحمن و اكتسب به الجنان، قال: قلت: فالّذى كان في معاوية فقال: تلك النكراء تلك الشّيطنة، و هي شبيهة بالعقل و ليست بالعقل.

و لمّا نبّه على أنّ اتّصاف معاوية بالدّهاء من جهة عدم مبالاته بالغدر و الفجور، عقّبه بالتّنبيه على ما هو المانع من اتّصافه عليه السّلام به مع كونه أعرف و أغدر به منه فقال: (و لو لا كراهيّة الغدر) و المكر و استلزامه للكذب و الغشّ و الخيانة و الفجور المنافي لمرتبة العصمة (لكنت من أدهي النّاس) فيدلّ هذه الجملة بمقتضي مفاد لو لا الامتناعيّة على امتناع اتّصافه بالدّهاء الملازم للغدر.

و المراد بالكراهة هنا الحرمة لا معناها المعروف في مصطلح المتشرّعة كما صرّح به في عبارته الّتي نقلناها آنفا من الخطبة الحادية و الاربعين أعني قوله: قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة و دونه مانع من أمر اللّه و نهيه فيدعها رأى عين بعد القدرة عليها.

و أصرح منه ما رواه فى الكافى عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبى عمير عن هشام بن سالم رفعه قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: لو لا أنّ المكر و الخديعة فى النّار لكنت أمكر النّاس.
و أصرح منهما قوله: (و لكن كلّ غدرة فجرة و كلّ فجرة كفرة) و قد روى نظير هذه العبارة عنه عليه السّلام فى الكافى باسناده عن الاصبغ بن نباته قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام ذات يوم و هو يخطب على المنبر بالكوفة: أيّها الناس لو لا كراهيّة الغدر كنت أدهى النّاس ألا إنّ لكلّ غدرة فجرة و لكلّ فجرة كفرة، ألا و إنّ الغدر و الفجور و الخيانة فى النّار.

قال بعض شرّاح الكافى: الظاهر أنّ اللّام فى لكلّ مفتوحة للمبالغة فى‏التأكيد، و قوله: الغدر و الخيانة فى النّار، إمّا على حذف المضاف أى صاحبها، أو المصدر بمعنى الفاعل، هذا.
فان قلت: استلزام الغدر للفجور المستفاد من قوله عليه السّلام: و لكن كلّ غدرة فجرة قد عرفنا وجهه سابقا، و أمّا استلزام الفجور للكفر المستفاد من قوله: و كلّ فجرة كفرة فما الوجه فيه، قلت: قال بعض الشّارحين: وجه لزوم الكفر هنا إنّ الغادر على وجه استباحة ذلك و استحلاله كما كان هو المشهور من حال عمرو بن العاص و معاوية في استباحة ما علم تحريمه بالضرورة من دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و جحده هو الكفر.

و قال الشارح البحراني: و يحتمل أن يريد كفر نعم اللّه و سترها باظهار معصية كما هو المفهوم اللغوى من لفظ الكفر، انتهى.
و يتوجّه على الأوّل أوّلا أنّه أخصّ من المدّعى لأنّ المدّعى هو كفر كلّ غادر كما هو ظاهر المتن لا الغادر المستبيح المستحلّ للغدر فقط، و ثانيا كون حرمة الغدر من ضروريّات الدّين غير معلوم.
و على الثّاني أنّه خلاف الظاهر.

و الأظهر أنّه داخل في القسم الرّابع من أقسام الكفر التي تقدّم تفصيلها في حديث الكافي في شرح الفصل الثامن عشر من الخطبة الاولى، فقد روينا هناك عن الكلبي باسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: الكفر في كتاب اللّه عزّ و جلّ على خمسة أوجه «إلى أن قال» الوجه الرّابع من الكفر ترك ما أمر اللّه و هو قول اللّه تعالى وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ. ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى‏ تُفادُوهُمْ وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فكفرهم بترك ما أمر اللّه و نسبهم إلى الايمان و لم يقبله منهم و لم ينفعهم فقال ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ إِنْ.

و قوله (و لكلّ غادر لواء يعرف به يوم القيامة) قال الشّارح المعتزلي: حديث صحيح مرويّ عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أقول: و هو تنفير عن الغدر.
و نحوه ما رواه في الكافي عن علىّ بن إبراهيم عن أبيه عن النّوفلي عن السّكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يجي‏ء كلّ غادر يوم القيامة بامام مايل شدقه حتّى يدخل النّار، و يجي‏ء كلّ ناكث بيعة إمام أجذم حتّى يدخل النّار، هذا.

و لمّا ذكر أنّ معاوية ليس بأدهى منه و نبّه على معرفته بطرق الدّهاء و خبرويّته بها أكّده بقوله: (و اللّه ما استغفل بالمكيدة) أى لا يطمع في اغفالي بالكيد عليّ، لأنّي أحذر من الغراب و إن كان الطامع في الكيد أروغ من الثّعلب، فانّ من كان أعرف بطرق الخداع و وجوه التّدابير و الحيل لا يتمكّن من إغفاله و لا يلحقه الغفلة عمّا يراد في حقّه من الكيد و الخديعة كما قال عليه السّلام في الكلام السّادس: و اللّه لا أكون كالضّبع تنام على طول اللّدم حتّى يصل إليها طالبها و يختلها راصدها.

(و لا استغمز بالشّديدة) أى لا استضعف بالخطوب الشّديدة و الدّواهي العظيمة لأنّى البطل الأهيس و الحازم الأكيس و الشّجاع الأسوس.
فقد اتّضح كلّ الوضوح بما أتى به في هذا الكلام بطلان توهّم من زعم أنّ معاوية كان أدهى منه عليه السّلام و أصحّ تدبيرا.
و قد بسط الكلام فى هذا المرام أبو عثمان الجاحظ على أحسن تقرير و تبيان و فصّل الشارح المعتزلي تفصيلا عجيبا أحببت نقل ما قالا، لأنه من لسانهما أحلى فأقول: أما الجاحظ فقد قال في محكيّ كلامه: و ربما رأيت بعض من بطن بنفسه العقل و التحصيل و الفهم و التمييز و هو من العامة و يظنّ أنه من الخاصة يزعم أنّ معاوية كان أبعد غورا و أصحّ فكرا و أجودرويّة و أبعد غاية و أدقّ مسلكا، و ليس الأمر كذلك و ساري إليك بجملة تعرف بها موضع غلطه و المكان الّذى دخل عليه الخطاء من قبله.

كان عليّ عليه السّلام لا يستعمل في حربه إلّا ما وافق الكتاب و السنّة.
و كان معاوية يستعمل خلاف الكتاب و السّنّة كما يستعمل الكتاب و السنة، و يستعمل جميع المكائد حلالها و حرامها و يسير في الحرب بسيرة ملك الهند إذا لاقي كسرى، و خاقان إذا لاقي رتبيل.
و عليّ عليه السّلام يقول: لا تبدءوا بالقتال حتّى يبدؤكم، و لا تتبعوا مدبرا، و لا تجهزوا على جريح، و لا تفتحوا بابا مغلقا، و هذه سيرته في ذى الكلاع و في أبي أعور السلّمي، و في عمرو بن العاص، و حبيب بن مسلمة و في جميع الرّؤساء كسيرته في الحاشية و الحشو و الأتباع و السّفلة.

و أصحاب الحروب إن قدروا على البيات تبيّتوا. و إن قدروا على رضخ الجميع بالجندل و هم نيام فعلوا و إن أمكن ذلك فى طرفة عين، و لم يؤخّروا الحرق إلى وقت الغرق، و إن أمكن الهدم لم يتكلّفوا الحصار، و لم يدعوا أن ينصبوا المجانيق و العراوات و النّقب و الشريب و الدّبابات و الكمين، و لم يدعوا دسّ السّموم و لا التضريب بين النّاس بالكذب و طرح الكتب في عساكرهم بالسّعايات و توهيم الامور و ايحاش بعضهم من بعض و قتلهم بكلّ آلة و حيلة كيف وقع القتل و كيف دارت بهم الحال.

فمن اقتصر من التدبير حفظك اللّه على ما في الكتاب و السنّة و كان قد منع نفسه الطويل العريض من التدّبير و ما لا يتناهى من المكايد، و الكذب أكثر من الصّدق و الحرام أكثر عددا من الحلال، و كذلك الايمان و الكفر و الطاعة و المعصية و الحقّ و الباطل، و كذلك الصّحة و السّقم و الصّواب و الخطاء.

فعليّ عليه السّلام كان ملجما بالورع عن جميع القول إلّا ما هو للّه عزّ و جلّ رضى، و ممنوع اليدين عن كلّ بطش إلّا ما هو للّه رضى، و لا يرى الرّضاء إلّا فيما يرضاه اللّه و يحبّه، و لا يرى الرّضاء إلّا فيما دلّ عليه الكتاب و السنّة دون ما يقول عليه أصحاب الدّهاء و النّكراء و المكايد و الاراء.

فلمّا أبصرت العوام كثرة بوادر معاوية فى المكايد، و كثرة غرايبه فى الخدع، و ما اتّفق له و تهيّأ على يده، و لم يروا ذلك من علىّ، ظنّوا بقصر عقولهم أنّ ذلك من رجحان عند معاوية و نقصان عند علىّ فقالوا لو لم ما يعدّ له من الخدع إلّا رفع المصاحف.

ثمّ انظر هل خدع بها إلّا من عصى رأى عليّ و خالف أمره، فان زعمت أنّه قد نال ما أراد من الاختلاف فقد صدقت و ليس فى هذا اختلفنا، و لا عن غرارة أصحاب علىّ عليه السّلام و عجلتهم و تسرّعهم و تنازعهم دفعنا، و إنّما كان قولنا فى التميز بينهما فى الدّهاء و النكراء و صحّة الرّأى و العقل.

على أنّا لا نصف الصالحين بالدّهاء و النكراء، و لا يقول أحد عنده شي‏ء من الخير: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أدهى العرب و العجم و أنكر قريش و أنكر كنانة.
لأنّ هذه الكلمة إنّما وضعت فى مديح أصحاب الارب و من يتعمّق فى الرأى فى توكيد أمر الدّنيا و زبرجها و تشديد أركانها.

فأمّا أصحاب الاخرة الّذين يرون النّاس لا يصلحون على تدبير البشر و انّما يصلحون على تدبير خالق البشر لا يمدحون بالدّهاء و النكراء، و لم يمنعوا إلّا ليعطوا أفضل منه.
و أما الشارح المعتزلي فقد قال: إنّ السّايس لا يتمكّن من السّياسة البالغة إلّا إذا كان يعمل برأيه و بما يرى فيه صلاح ملكه و تمهيد أمره، سواء وافق الشريعة أو لم يوافقها، و متى لم يعمل فى السّياسة بمقتضى ما قلناه فبعيد أن ينتظم أمره أو يستوسق حاله.

و أمير المؤمنين عليه السّلام كان مقيّدا بقيود الشريعة، مدفوعا إلى اتّباعها و رفض ما يصلح من آراء الحرب و الكيد و التدبير إذا لم يكن للشرع موافقا، فلم يكن قاعدة فى خلافته قاعدة غيره ممّن لم يلتزم بذلك.
و لسنا زارين بهذا القول على عمر بن الخطّاب، و لكنّه كان مجتهدا يعمل بالقياس و الاستحسان و المصالح المرسلة و يرى تخصيص عمومات النّصّ بالاراء و بالاستنباط من اصول يقتضى خلاف ما يقتضيه عموم النّصوص، و يكيد خصمه و يأمرأمراءه بالكيد و الحيلة، و يؤدّب بالدّرّة و السّوط من يتغلّب على ظنّه أنّه يستوجب ذلك، و يصفح عن آخرين قد اجترموا ما يستحقّون به التّأديب كلّ ذلك بقوّة اجتهاده و ما يؤدّيه إليه نظره.

و لم يكن أمير المؤمنين عليه السّلام يرى ذلك، و كان يقف مع النصوص و الظواهر و لا يتعدّاها إلى الاجتهاد و الأقيسة، و يطبّق امور الدّنيا على امور الدّين، و يسوق الكلّ مساقا واحدا، و لا يضع و لا يرفع إلّا بالكتاب و النّصّ، فاختلف طريقتاهما فى الخلافة و السّياسة.
و كان عمر مع ذلك شديد الغلظة، و كان علىّ عليه السّلام كثير الحلم و الصّفح و التجاوز فازدادت خلافة ذلك قوّة، و خلافة هذا لينا.

و لم يمن عمر بما منى عليّ به من فتنة عثمان الّتى أحوجته إلى مداراة أصحابه و جنده و مقاربتهم للاضطراب الواقع بطريق تلك الفتنة.
ثمّ تلى تلك الفتنة فتنة الجمل و فتنة صفّين ثمّ فتنة النّهروان و كلّ ذلك الامور مؤثرة فى اضطراب أمر الوالى و اغلال معاقد ملكه، و لم يتّفق لعمر شي‏ء من ذلك فشتّان بين الخلافتين فيما يعود إلى انتظام المملكة و صحّة تدبير الخلافة.
فان قلت: فما قولك فى سياسة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تدبيره أ ليس كان منتظما سديدا مع أنّه كان لا يعمل إلّا بالنّصوص و التوقيف من الوحى، فهلا كان تدبير عليّ عليه السّلام و سياسته كذلك.
قلت: أمّا سياسة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تدبيره فخارج عمّا نحن فيه، لأنّه معصوم لا يتطرّق العلّة إلى أفعاله، و ليس بواحد من هذين الرّجلين بواجب العصمة عندنا «إلى أن قال»: و كان أبو جعفر بن أبى زيد الحسنى نقيب البصرة إذا حدّثناه فى هذا يقول: إنّه لا فرق عند من قرء السير بين سيرة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و سياسة أصحابه أيّام حياته، و بين سيرة أمير المؤمنين و سياسة أصحابه أيّام حياته، فكما أنّ عليّا عليه السّلام لم يزل أمره مضطربا معهم بالمخالفة و العصيان و الهرب إلى أعدائه و كثرة اختلافه و الحروب‏فكذلك كان النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ممنوا بنفاق المنافقين و اذاهم و خلاف أصحابه عليه و هرب بعضهم إلى أعدائه و كثرة الحروب و الفتن.

و كان يقول: أ لست ترى القرآن العزيز مملوّا بذكر المنافقين و الشّكوى منهم و التّألّم من أذاهم له، كما أنّ كلام عليّ مملوّ بالشكوى من منافقى أصحابه و التّألّم من أذاهم له.
ثمّ ذكر كثيرا من الايات المتضمنّة لنفاق المنافقين و الشكوى منهم لا حاجة بنا إلى ذكرها ثمّ قال: فمن تأمّل كتاب العزيز علم حاله صلوات اللّه عليه مع أصحابه كيف كانت و لم ينقله اللّه إلى جواره إلّا و هو مع المنافقين له و المظهرين خلاف ما يضمرون من تصديقه في جهاد شديد، حتّى لقد كاشفوه مرارا فقال لهم يوم الحديبيّة: احلقوا و انحروا، فلم يحلقوا و لم ينحروا و لم يتحرّك أحد منهم عند قوله، و قال له بعضهم و هو يقسم الغنائم: اعدل يا محمّد فانّك لم تعدل، و قالت الأنصار له مواجهة يوم حنين أ تأخذ ما أفشاه اللّه علينا بسيوفنا فتدفعه إلى أقاربك من أهل مكة، حتى أفضى إلى أن قال لهم في مرض موته: ايتونى بدواة و كتف أكتب لكم ما لا تضلّون بعده، فعصوه و لم يأتوه بذلك وليتهم اقتصروا على عصيانه و لم يقولوا له ما قالوا و هو يسمع قال: و كان أبو جعفر يقول من هذا ما يطول شرحه و القليل منه ينبى‏ء عن الكثير و كان يقول: إنّ الاسلام ما جلا عندهم و لا ثبت في قلوبهم إلّا بعد موته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين فتح عليهم الفتوح و جائتهم الغنائم و الأموال و كثرت عليهم المكاسب و ذاقو الذّة الحياة و عرفوا لذّة الدّنيا و لبسوا الناعم و أكلوا الطيب و تمتّعوا بنساء الرّوم و ملكوا خزائن كسرى، و تبدّلوا بذلك التقشّف و اللبس الخشن و أكل الضباب و القنافذ و اليرابيع و لبس الصّوف و الكرابيس أكل اللّوز ينجات و الفالوزجات و لبس الحرير و الدّيباج فاستدلّوا بما فتحه اللّه عليهم و أتاخه لهم على صحّة الدّعوة و صدق الرّسالة.

و قد كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، وعدهم بأنّه سيفتح عليهم كنوز كسرى و قيصر، فلماوجدوا الأمر قد وقع بموجب ما قاله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عظّموه و أحبّوه و انقلبت تلك الشكوى و ذلك النفاق و ذلك الاستهزاء إيمانا و يقينا و إخلاصا، و طاب لهم العيش، و تمسّكوا بالدين لأنّهم رأوه طريقا إلى نيل الدّنيا، فعظّموا ناموسه، و بالغوا في إجلاله و إجلال الرسول الذى جاء به.

ثمّ انقرض الأسلاف و جاء الأخلاف على عقيدة ممهّدة و أمر أخذوه تقليدا من أسلافهم الذين دبّوا في حجورهم، ثمّ انقرض ذلك القرن و جاء من بعدهم كذلك و هلم جرّا قال: و لو لا الفتوح و النّصر و الظفر الذى منحهم اللّه تعالى إيّاه و الدولة الّتي ساقها إليهم لا نقرض دين الاسلام بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و كان يذكر في التواريخ كما يذكر نبوّة خالد بن سنان العنسى حيث ظهر و دعا إلى الدّين و كان النّاس يعجبون من ذلك و يتذاكرونه كما يعجبون و يتذاكرون أخبار من نبغ من الرّؤساء و الملوك و الدّعاة الذين انقرض أمرهم و بقيت أخبارهم، و كان يقول: من تأمّل الرّجلين وجدهما متشابهين في جميع امورهما أو في أكثرها.

و ذلك لأنّ حرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع المشركين كانت سجالا انتصر يوم بدر و انتصر المشركون عليه يوم احد، و كان يوم الخندق كفافا خرج هو و هم سواء لاله و لا عليه، لأنّهم قتلوا رئيس الأوس و هو سعد بن معاذ و قتل منهم فارس قريش و هو عمرو بن عبدود و انصرفوا عنه بغير حرب بعد تلك السّاعة الّتي كانت، ثمّ حارب قريشا بعدها يوم الفتح فكان الظفر له.

و هكذا كانت حروب عليّ عليه السّلام انتصر يوم الجمل و خرج بينه و بين معاوية على سواء قتل من أصحابه رؤساء، و من أصحابه رؤساء و انصرف كلّ واحد من الفريقين عن صاحبه بعد الحرب على مكانه، ثمّ حارب بعد صفّين أهل النهروان فكان الظفر له قال: و من العجب أنّ أوّل حروب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كانت بدرا و كان هو المنصورفيها، و أوّل حروب عليّ عليه السّلام الجمل و كان هو المنصور.

ثمّ كان من صحيفة الصلح و الحكومة يوم صفين نظير ما كان من صحيفة الصلح و الهدنة يوم الحديبيّة ثمّ دعا معاوية في آخر أيّام عليّ عليه السّلام إلى نفسه و تسمّى بالخلافة كما أنّ مسيلمة و الأسود العنسى دعوا إلى أنفسهما في آخر أيّام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تسمّيا بالنّبوة، و اشتدّ على عليّ عليه السّلام ذلك كما اشتدّ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمر الأسود و مسيلمة، و بطل أمرهما بعد وفاة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كذلك بطل أمر معاوية و بني امية بعد وفاة عليّ عليه السّلام.

و لم يحارب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أحد من العرب إلّا قريش ما عدا يوم حنين، و لم يحارب عليّا عليه السّلام أحد من العرب إلّا قريش ما عدا يوم النّهروان.
و مات علىّ عليه السّلام شهيدا بالسّيف، و مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شهيدا بالسمّ.
و هذا لم يتزوّج على خديجة امّ أولاده حتّى ماتت، و هذا لم يتزوّج على فاطمة أمّ أشرف أولاده حتّى ماتت.
مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن ثلاث و ستّين سنة و مات عليّ عليه السّلام عن مثلها، و كان يقول: انظروا إلى أخلاقهما و خصائصهما: هذا شجاع و هذا شجاع، و هذا فصيح و هذا فصيح، و هذا سخيّ جواد و هذا سخيّ جواد، و هذا عالم بالشرايع و الامور الالهية و هذا عالم بالفقه و الشريعة و الامور الدقيقة الغامضة و هذا زاهد في الدّنيا غيرنهم عليها و لا مستكثر منها و هذا زاهد في الدّنيا تارك لها غير متمتّع بلذّاتها، و هذا مذيب نفسه في الصّلاة و العبادة و هذا مثله، و هذا غير محبّ إليه شي‏ء من الامور العاجلة إلّا النساء و هذا مثله، و هذا ابن ابن عبد المطلب بن هاشم و هذا في تعداده، و أبوهما أخوان لأب واحد دون غيرهما من بني عبد المطلب و ربّى محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حجر والده هذا و هو أبو طالب فكان عنده جاريا مجرى أحد أولاده، ثمّ لمّا شبّ و كبر استخلص من بني أبي طالب و هو غلام فربّاه في حجره مكافاة لصنيع أبي طالب به، فامتزج الخلقان و تماثلت السّجيّتان، و إذا كان القرين‏مقتديا بالقرين فما ظنك بالتّربية و التثقيف الدّهر الطويل.

فوجب أن يكون أخلاق محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كأخلاق أبي طالب، و أن يكون أخلاق علىّ كأخلاق أبي طالب أبيه و أخلاق محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مربّيه و أن يكون الكلّ شيمة واحدة وسوسا واحدا و طينة مشتركة و نفسا غير منقسمة و لا متجزيّة، و أن لا يكون بين بعض هؤلاء و بعض فرق و لا فصل لو لا أنّ اللّه اختصّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله برسالته و اصطفاه لوحيه لما يعلمه من مصالح البرية في ذلك، فامتاز رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله: أخصّك بالنّبوة فلا نبوّة بعدى، و تخصم النّاس بسبع و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم له أيضا: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبىّ بعدي، فأبان نفسه بالنّبوة و أثبت له ما عداها من جميع الفضايل و الخصائص مشتركا بينهما.

قال الشّارح المعتزلي: و كان النّقيب أبو جعفر غزير العلم صحيح العقل منصفا بالجدل غير متعصّب للمذهب و إن كان علويا و كان يعترف بفضايل الصّحابة و يثنى على الشّيخين و يقول: إنهما مهّدا دين الاسلام و أرسيا قواعده و لقد كان شديد الاضطراب في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إنّما مهّداه بما تيسّر للعرب من الفتوح و الغنايم في دولتهما و كان يقول في عثمان: إنّ الدولة فى أيّامه كانت على إقبالها و علوّ جدّها بل كانت الفتوح في أيّامه أكثر و الغنايم أعظم لو لا أنّه لم يراع ناموس الشيخين و لم يستطع أن يسلك مسلكهما و كان مضعفا في أصل القاعدة مغلوبا عليه و كثير الحبّ لأهله و اتيح له من مروان وزير سوء ما أفسد القلوب عليه و حمل النّاس على خلعه و قتله.

قال الشّارح: و كان أبو جعفر لا يجحد الفاضل فضله و الحديث ذو شجون قلت له مرّة: ما سبب حبّ النّاس لعلىّ بن أبي طالب عليه السّلام و عشقهم له و تهالكهم في هواه و دعنى في الجواب من حديث الشّجاعة و العلم و الفصاحة و غير ذلك من الخصائص التي رزقه اللّه سبحانه الكثير الطيّب منها.

فضحك و قال لى: لم تجمع حرا ميزك عليّ ثمّ قال: ههنا مقدّمة ينبغي أن تعلم و هى: إنّ أكثر النّاس موتورون من الدنيا أمّا المستحقّون فلا ريب في أنّ أكثرهم محرومون.
نحو عالم يرى أنّه لا حظّ له من الدّنيا، و يرى جاهلا غيره مرزوقا موسّعا عليه.
بضروراته، و يرى غيره و هو جبان فشل ينفر من ظلّه مالكا بقطر عظيم من الدّنيا و قطعة وافرة من المال و الرزق.
و عاقل سديد الرّأى صحيح العقل قد قدر عليه رزقه و هو يرى غيره أحمق مايقا تدرّ عليه الخيرات له أخلاف الرّزق و ذى دين قويم و عبادة حسنة و اخلاص و توحيد و هو محروم ضيق الرزق و يرى غيره يهوديّا أو نصرانيا أو زنديقا كثير المال حسن الحال حتّى أنّ هذه الطبقات المستحقّة يحتاجون في أكثر الوقت إلى الطبقات الّتي لا استحقاق لها، و تدعوهم الضّرورة إلى الذلّ لهم و الخضوع بين أيديهم إمّا لدفع ضرر أو لاستجلاب نفع.

و دون هذه الطبقات من ذوى الاستحقاق أيضا ما يشاهد عيانا من تجّار حاذق أو بنّاء عالم أو نقاش بارع أو مصوّر لطيف على غاية ما يكون من ضيق رزقهم و قلّة الحيلة بهم، و يرى غيرهم ممّن ليس يجرى مجراهم و لا يلحق طبقتهم مرزوقا مرغوبا كثير المكسب طيب العيش واسع الرّزق.
فهذا حال ذوى الاستحقاق و الاستعداد.

و أما الذين ليسوا من أهل الفضايل كحثو العامّة فانّهم أيضا لا يخلون من الحقد على الدّنيا و الذمّ لها و الحنق و الغيظ منها لما يلحقهم من حسد أمثالهم و جيرانهم و لا ترى أحدا منهم قانعا بعيشه و لا راضيا بحاله يتزيّد و يطلب حالا فوق حاله قال:فاذا عرفت هذه المقدّمة فمعلوم أنّ عليّا عليه السّلام كان مستحقا محروما بل هو أمير المستحقّين المحرومين و سيّدهم و كبيرهم، و معلوم أنّ الّذين يلحقهم النّزلة و ينالهم الضّيم يتعصّب بعضهم لبعض و يكونون البا و يدا واحدة على المرزوقين الّذين ظفروا بالدّنيا لاشتراكهم في الأمر الذى ألمهم و ساءهم و عضّهم و مضّهم، و اشتراكهم في الأنفة و الحمية و الغضب و المنافسة لمن عليهم و قهر عليهم و بلغ من الدّنيا ما لم يبلغوه.
فاذا كان هؤلاء أعني المحرومين متساوين في المنزلة و المرتبة و تعصّب بعضهم لبعض فما ظنّك بما إذا كان رجل عظيم القدر جليل الخطر كامل الشرف جامع للفضايل محتو على الخصائص و المناقب و هو مع ذلك محروم محدود قد جرّعته الدّنيا علاقمها، و علته عللا بعد نهل من صابها و صبرها، و لقى منها برحا بارحا و جهدا جهيدا و علا عليه من هو دونه و حكم فيه و في بيته و أهله و رهطه من لم يكن ما ناله من الامرة و السّلطان في حسابه، و لا دائرا في خلده، و لا خاطرا بباله، و لا كان أحد من الناس يرتقب ذلك له و لا يراء له، ثم كان في آخر الامر أن قتل هذا الرجل الجليل في محرابه و قتل بنوه بعده و سبى حريمه و نساؤه و تتّبع أهله و بنو عمّه بالطرد و القتل و الشّريد و السّجون مع فضلهم و زهدهم و عبادتهم و سخائهم و انتفاع الخلق بهم.

فهل يمكن أن لا يتعصّب البشر كلّهم مع هذا الشّخص و هل تستطيع أن لا تحبّه و تهواه و تذوب فيه و تفنى في عشقه انتصارا له و حميّة من أجله و آنفة ممّا ناله و امتعاضا ممّا جرى عليه.
و هذا أمر مركوز في الطّبايع مخلوق في الغرائز كما يشاهد النّاس على الجرف إنسانا قد وقع في الماء العميق و هو لا يحسن السّباحة فانّهم بالطّبع البشرى يرقّون عليه رقّة شديدة.

و قد بلغني أنّه رمى قوم منهم أنفسهم في الماء نحوه يطلبون تخليصه و لا يتوقّعون على ذلك مجازاة منه بمال أو شكر و لا ثواب في الاخرة فقد يكون منهم من لا يعتقد أمر الاخرة، و لكنّها رقّة بشريّة و كان الواحد منهم يتخيّل في نفسه أنّه ذلك الغريق‏فكما يطلب خلاص نفسه لو كان هذا الغريق كذلك يطلب تخليص من هو في تلك الحال الصّعبة للمشاركة الجنسيّة.
و كذلك لو أنّ ملكا ظلم أهل بلد من بلاده ظلما عنيفا لكان أهل ذلك البلد يتعصّب بعضهم لبعض في الانتصار من ذلك الملك و الاستعداء عليه.
فلو كان من جملتهم رجل عظيم القدر جليل الشّأن قد ظلمه الملك أكثر من ظلمه إيّاهم و أخذ أمواله و ضياعه و قتل أولاده و أهله كان لياذهم به و انضوائهم إليه و اجتماعهم و التفافهم به أعظم و أعظم، لأنّ الطّبيعة البشريّة تدعو إلى ذلك على سبيل الايجاب و الاضطرار و لا يستطيع الانسان منه امتناعا.

قال الشّارح: هذا محصول قول النقيب أبي جعفر قد حكيته و الألفاظ لي و المعنى له، و كان لا يعتقد في الصّحابة ما يعتقده أكثر الاماميّة فيهم و يسفّه رأى من يذهب فيهم إلى النّفاق و التّكفير، و كان يقول: حكمهم حكم مسلم مؤمن عصى في بعض الافعال فحكمه إلى اللّه إن شاء أخذه و إن شاء غفر له قلت له مرّة: أ فتقول إنّهما من أهل الجنّة فقال: إى و اللّه أعتقد ذلك لأنّهما إمّا أن يعفو اللّه عنهما ابتداء أو بشفاعة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو بشفاعة علىّ أو يؤاخذهم بعقاب أو عتاب ثمّ ينقلهما إلى الجنة لا استريب في ذلك أصلا و لا أشكّ في ايمانهما برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و صحّة عقيدتهما فقلت له: فعثمان قال: و كذلك عثمان ثمّ قال: رحم اللّه عثمان و هل كان إلّا واحدا منّا و غصنا من شجرة عبد مناف، و لكن أهله كدروه علينا و أوقعوا العداوة و البغضاء بينه و بيننا قلت له: فيلزم ذلك على ما تراه في أمر هؤلاء أن يجوز دخول معاوية الجنّة لأنه لم تكن منه إلّا المخالفة و ترك امتثال أمر النبويّ.

فقال: كلّا إنّ معاوية من أهل النار لا لمخالفته عليا و لا بمحاربته ايّاه، و لكن عقيدته لم تكن صحيحة و لا ايمانه حقا كان من رءوس المنافقين هو و أبوه، و لم يسلم قلبه قطّ و إنما أسلم لسانه، و كان يذكر من حديث معاوية و من فلتات‏قوله و ما حفظ من كلام يقتضي فساد العقيدة شيئا كثيرا ليس هنا موضع ذكره فأذكره و قال لي مرّة: حاش للّه أن يثبت معاوية في جريدة الشيخين الفاضلين أبي بكر و عمر و اللّه ما هما إلّا كالذّهب الابريز و لا معاوية إلّا كالدّرهم الزايف أو قال كالدّرهم القمي.

ثمّ قال لى: فما يقول أصحابكم فيهما قلت: أما الذى استقرّ عليه رأى المعتزلة بعد اختلاف كثير بين قدمائهم فى التفضيل و غيره إنّ عليا عليه السّلام أفضل الجماعة و إنّهم تركوا الأفضل لمصلحة رأوها و إنه لم يكن هناك نصّ قاطع العذر و إنما كانت إشارة و ايماء لا يتضمّن شي‏ء منها صريح النصّ و إنّ عليا نازع ثمّ بايع، و جمح ثمّ اسحب، و لو قام على الامتناع لم نقل بصحّة البيعة له و لا بلزومها، و لو جرّد السيف كما جرّده في آخر الأمر لقلنا بفسق كلّ من خالفه على الاطلاق إنه فاسق كافر و لكن رضي بالبيعة أخيرا و دخل فى الطاعة، و بالجملة أصحابنا يقولون: إنّ الأمر كان له و كان هو المستحقّ و المتعيّن فان شاء أخذه بنفسه و إن شاء ولّاه غيره فلما رأيناه قد وافق على ولاية غيره اتبعناه و رضيناه.

فقال: قد بقي بيني و بينكم قليل أنا أذهب إلى النصّ و أنتم لا تذهبون إليه فقلت: إنه لم يثبت النصّ عندنا بطريق يوجب العلم، و ما تذكرونه أنتم صريحا فانتم تنفردون بنقله، و ما عدا ذلك من الأخبار التي نشارككم فيها فلها تأويلات معلومة.
فقال و هو ضجر: يا فلان لو فتحنا باب التأويلات لجاز أن نتأوّل قولنا لا إله إلّا اللّه محمّد رسول اللّه، دعني من التأويلات الباردة التي تعلم القلوب و النفوس أنها غير مرادة و أنّ المتكلّمين تكلّفوها و تعسّفوها، فانما أنا و أنت فى الدّار و لا ثالث لنا فيستحيى أحدنا من صاحبه أو يخافه.

قال الشارح: فلما بلغنا إلى هذا الموضع دخل قوم ممن كان يخشاه، فتركنا ذلك الاسلوب من الحديث و خضنا في غيره، انتهى.

قال الشارح المحتاج إلى رحمة ربّ العالمين المتمسّك بحبل اللّه المتين ولاية أمير المؤمنين: للّه در الشارح المعتزلي و النّقيب أبي جعفر الحسني، فلقد أجاد كلّ منهما فيما أفاد، و أسفرا النّقاب عن وجه المراد، و حقّقا ما هو الحقّ الأحقّ بالاتباع، و أفصحا عن صريح مذهب الشّيعة الاماميّة رضي اللّه عنهم لو لا إنكار الأوّل للنّص الجلي و تعصّب الثّاني في حقّ الشيخين و قوله: بأنّهما من أهل الجنّة بشفاعة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله أو بشفاعة عليّ عليه السّلام و بعبارة اخرى عدم تبرّيه من الشّيخين مع تولّيه لأمير المؤمنين فان كان ما قالاه مقتضى التّقيّة الّتي هي شعار الاماميّة أى يكون ما أضمراه خلاف ما أظهراه، فطوبى لهم و حسن ماب و جنّات خلد مفتّحة الأبواب.
و إن كان سريرتهما وفق علانيتهما فويل لهما من ديّان الدّين يوم حشر الأوّلين و الاخرين.

و ما أدرى ما ذا يعتذران به إذا لاقيا أمير المؤمنين في موقف حساب ربّ العالمين و كيف يمكن إنكار النصّ مع وجود النّصوص القاطعة المتواترة العامية و الخاصيّة حسبما عرفت في تضاعيف الشرح و تعرف أيضا في المواقع اللايقة، أم كيف يمكن اجتماع ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام و محبّته في القلب مع محبّة الشيخين و ما جعل اللّه لرجل في جوفه من قلبين و لنعم ما

قال مجنون العامرى:

و لو كان لي قلب يذوب بحبّها
و قلب باخرى إنّها لقلوب‏

و قد تقدّم في شرح الخطبة المأة و السابعة و الأربعين أخبار كثيرة فى عدم اجتماع محبّته عليه السّلام مع محبّة غيره فليتذكّر، هذا.
مضافا إلى النصّ الذى هو مسلّم النقيب كما أنه مثبت لخلافة أمير المؤمنين ناف لخلافة المنتحلين المبطلين، و بالجملة لازمة الولاية الحقّة الثبات في عداوة الثلاثة.
و هنا لطيفة مناسبة للمقام يعجبني ذكرها و هو: إنّ الشيخ صالح بن حسن سأل عن الشيخ الأجلّ بهاء الملّة و الدّين قدّس اللّه‏روحه و قال: ما قول سيدى و سندى في هذه الأبيات لبعض النواصب فالمأمول أن تشرفوا بجواب منظوم يكسر سورته:

أهوى عليا أمير المؤمنين
و لا أرضى بسبّ أبي بكر و لا عمرا

و لا أقول إذا لم يعطيا فدكا
بنت النبيّ رسول اللّه قد كفرا

اللّه يعلم ما ذا يأتيان به
يوم القيامة من عذر إذا اعتذرا

فأجابه الشيخ قدّس سرّه العزيز: التمست أيها الأخ الأفضل الصفيّ الوفيّ أطال اللّه بقاك و أدام فى معارج العزّ ارتقاك الاجابة عما هذر به هذا المخذول فقابلت التماسك بالقبول و طفقت أقول:

يا أيها المدّعي حبّ الوصيّ
و لم تسمح بسبّ أبي بكر و لا عمرا

كذبت و اللّه فى دعوى محبّته‏
تبّت يداك ستصلى في غد سقرا

فكيف تهوى أمير المؤمنين و قد أراك
فى سبّ من عاداه مفتكرا

فان تكن صادقا فيما نطقت به‏
فابرء إلى اللّه ممّن خان أو غدرا

و أنكر النصّ في خمّ و بيعته و قال
إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد هجرا

أتيت تبغي قيام العذر فى فدك‏
أ نحسب الأمر فى التمويه مستترا

إن كان فى غصب حقّ الطهر
فاطمة سيقبل العذر ممّن جاء معتذرا

فكلّ ذنب له عذر غداة غد
و كلّ ظلم ترى فى الحشر مغتفرا

فلا تقولوا لمن أيّامه صرفت
فى سبّ شيخيكم قد ضلّ أو كفرا

بل سامحوه و قولوا لا نؤاخذه‏
عسى يكون له عذر إذا اعتذرا

فكيف و العذر مثل الشمس
اذ بزغت و الأمر متّضح كالصّبح إذ ظهرا

لكنّ إبليس أغواكم و صيّركم‏
عميا و صمّا فلا سمعا و لا بصرا

الترجمة

مى‏ فرمايد قسم بخدا نيست معاويه زيركتر از من در تدبير امورات دنيويّه،و لكن آن ملعون مكر و حيله مي كند و مرتكب فسق و فجور مى‏ شود، و اگر حيله كردن حرام نمى‏ شد هر آينه مى‏ بودم من از زيركترين خلق و لكن هر حيله كننده فاسق و فاجر است، و هر فاسق و فاجر كافر، و هر صاحب حيله را علمى است شناخته مى‏ شود با او در روز قيامت، بخدا سوگند طلب نمى ‏شود غفلت از من بجهت كيد و حيله و طمع نمى ‏شود در ضعف من بجهت شدايد و سختيهاى روزگار.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 198 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 199 صبحی صالح

199- و من كلام له ( عليه ‏السلام  ) كان يوصي به أصحابه‏

الصلاة

تَعَاهَدُوا أَمْرَ الصَّلَاةِ وَ حَافِظُوا عَلَيْهَا وَ اسْتَكْثِرُوا مِنْهَا وَ تَقَرَّبُوا بِهَا فَإِنَّهَا كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاًأَ لَا تَسْمَعُونَ إِلَى جَوَابِ أَهْلِ النَّارِ حِينَ سُئِلُوا ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ‏

وَ إِنَّهَا لَتَحُتُّ الذُّنُوبَ حَتَّ الْوَرَقِ وَ تُطْلِقُهَا إِطْلَاقَ الرِّبَقِ

وَ شَبَّهَ هَا رَسُولُ اللَّهِ ( صلى‏ الله ‏عليه ‏وآله‏ وسلم  )بِالْحَمَّةِ تَكُونُ عَلَى بَابِ الرَّجُلِ فَهُوَ يَغْتَسِلُ مِنْهَا فِي الْيَوْمِ وَ اللَّيْلَةِ خَمْسَ مَرَّاتٍ فَمَا عَسَى أَنْ يَبْقَى عَلَيْهِ مِنَ الدَّرَنِ

وَ قَدْ عَرَفَ حَقَّهَا رِجَالٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَا تَشْغَلُهُمْ عَنْهَا زِينَةُ مَتَاعٍ وَ لَا قُرَّةُ عَيْنٍ مِنْ وَلَدٍ وَ لَا مَالٍ يَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ

وَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى‏الله‏عليه‏وآله  )نَصِباً بِالصَّلَاةِ بَعْدَ التَّبْشِيرِ لَهُ بِالْجَنَّةِ لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَ اصْطَبِرْ عَلَيْهافَكَانَ يَأْمُرُ بِهَا أَهْلَهُ وَ يَصْبِرُ عَلَيْهَا نَفْسَهُ

الزكاة

ثُمَّ إِنَّ الزَّكَاةَ جُعِلَتْ مَعَ الصَّلَاةِ قُرْبَاناً لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ فَمَنْ أَعْطَاهَا طَيِّبَ النَّفْسِ بِهَا فَإِنَّهَا تُجْعَلُ لَهُ كَفَّارَةً وَ مِنَ النَّارِ حِجَازاً وَ وِقَايَةً

فَلَا يُتْبِعَنَّهَا أَحَدٌ نَفْسَهُ وَ لَا يُكْثِرَنَّ عَلَيْهَا لَهَفَهُ فَإِنَّ مَنْ أَعْطَاهَا غَيْرَ طَيِّبِ النَّفْسِ بِهَا يَرْجُو بِهَا مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا فَهُوَ جَاهِلٌ بِالسُّنَّةِ مَغْبُونُ الْأَجْرِ ضَالُّ الْعَمَلِ طَوِيلُ النَّدَمِ

الأمانة

ثُمَّ أَدَاءَ الْأَمَانَةِ فَقَدْ خَابَ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا إِنَّهَا عُرِضَتْ عَلَى السَّمَاوَاتِ الْمَبْنِيَّةِ وَ الْأَرَضِينَ الْمَدْحُوَّةِ وَ الْجِبَالِ ذَاتِ الطُّولِ‏الْمَنْصُوبَةِ فَلَا أَطْوَلَ وَ لَا أَعْرَضَ وَ لَا أَعْلَى وَ لَا أَعْظَمَ مِنْهَا

وَ لَوِ امْتَنَعَ شَيْ‏ءٌ بِطُولٍ أَوْ عَرْضٍ أَوْ قُوَّةٍ أَوْ عِزٍّ لَامْتَنَعْنَ وَ لَكِنْ أَشْفَقْنَ مِنَ الْعُقُوبَةِ وَ عَقَلْنَ مَا جَهِلَ مَنْ هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُنَّ وَ هُوَ الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا

علم اللّه تعالى‏

إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مَا الْعِبَادُ مُقْتَرِفُونَ فِي لَيْلِهِمْ وَ نَهَارِهِمْ لَطُفَ بِهِ خُبْراً وَ أَحَاطَ بِهِ عِلْماً أَعْضَاؤُكُمْ شُهُودُهُ وَ جَوَارِحُكُمْ جُنُودُهُ وَ ضَمَائِرُكُمْ عُيُونُهُ وَ خَلَوَاتُكُمْ عِيَانُهُ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج12  

و من كلام له عليه السّلام و هو المأة و الثامن و التسعون من المختار فى باب الخطب

و هو مروىّ في الكافي ببسط و اختلاف كثير تطلع عليه بعد الفراغ من شرح ما أورده السيّد (ره) هناتعاهدوا أمر الصّلاة و حافظوا عليها، و استكثروا منها، و تقرّبوا بها، فانّها كانت على المؤمنين كتابا موقوتا، ألا تسمعون إلى جواب أهل النّار حيث سئلوا ما سلككم في سقر، قالوا لم نك من المصلّين و انّها لتحتّ الذّنوب حتّ الورق، و تطلقها إطلاق الرّبق، و شبّهها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالحمّة تكون على باب الرّجل، فهو يغتسل منها في اليوم و اللّيلة خمس مرّات، فما عسى أن يبقى عليه من الدّرن، و قد عرف حقّها رجال من المؤمنين الّذين لا تشغلهم عنها زينة متاع، و لا قرّة عين من ولد و لا مال، يقول اللّه سبحانه: رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ» و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نصبا بالصّلاة بعد التّبشير له بالجنّة، لقول اللّه سبحانه «وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَ اصْطَبِرْ عَلَيْها» فكان يأمر أهله و يصبّر عليها نفسه.

ثمّ إنّ الزّكاة جعلت مع الصّلاة قربانا لأهل الإسلام، فمن أعطيها طيّب النّفس بها فإنّها تعجل له كفّارة، و من النّار حجازا و وقاية، فلا يتبعنّها أحد نفسه، و لا يكثرنّ عليها لهفه، فانّ من أعطاها غير طيّب النّفس بها يرجو بها ما هو أفضل منها، فهو جاهل بالسّنّة، مغبون الاجر، ضالّ العمل، طويل النّدم.

ثمّ أداء الامانة فقد خاب من ليس من أهلها، إنّها عرضت على السّماوات المبنيّة، و الارضين المدحوّة، و الجبال ذات الطّول المنصوبة فلا أطول، و لا أعرض، و لا أعلى، و لا أعظم منها، و لو امتنع شي‏ء بطول، أو عرض، أو قوّة، أو عزّ، لامتنعن و لكن أشفقن من العقوبة، و عقلن ما جهل من هو أضعف منهنّ، و هو الانسان إنّه كان ظلوما جهولا. إنّ اللّه سبحانه لا يخفى عليه ما العباد مقترفون في ليلهم و نهارهم، لطف به خبرا، و أحاط به علما، أعضائكم شهوده، و جوارحكم جنوده، و ضمائركم عيونه، و خلواتكم عيانه.

اللغة

(تعاهدوا أمر الصّلاة) و روى تعهّدوا بدله يقال تعهّدت الشي‏ء و تعاهدته تردّدت إليه و تفقّدته و أصلحته، و حقيقته تجديد العهد به، و فى الدّعاء عند الحجر الأسود: ميثاقي تعهّدته لتشهد لي بالموافاة يوم القيامة، و في رواية العلل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام تعاهدته بدله، أى جدّدت العهد به، قال الفيومي: قال الفارابى: تعهّدته أفصح من تعاهدته، و قال ابن فارس و لا يقال تعاهدته، لأنّ التعاهد لا يكون إلّا من اثنين و يردّه كلام أمير المؤمنين عليه السّلام على رواية السيّد، و دعاء الحجر على رواية العلل و ما في الحديث من قوله: تعاهدوا نعالكم عند أبواب مساجدكم.

و (حتّ) الرّجل الورق من الشجر حتا من باب مدّ أسقطه و أزاله، و تحاتت‏الشّجرة تساقط ورقها و (الرّبق) وزان عنب جمع ربق بالكسر وزان حمل حبل فيه عدّة عرى يشدّ به البهم، و كلّ عروة ربقة و (الحمة) بفتح الحاء المهملة كلّ عين فيها ماء حارّ ينبع يستشفى بها الأعلاء، و في بعض النّسخ بالجيم و هى البئر الكثيرة الماء و (الدّرن) محرّكة الوسخ.

و (اقام الصّلاة) أصله إقوام مصدر أقوم مثل أكثر أكرم إكراما، و التّاء في إقامة عوض من العين السّاقط بالاعلال، فلما اضيفت اقيمت الاضافة مقام حرف التّعويض و (نصب) نصبا كتعب وزنا و معنى فهو نصب.

و (يصبّر عليها نفسه) بالتثقيل أى يأمرها بالصّبر من صبّرته أى حملته على الصّبر بوعد الأجر، و قلت له: اصبر و يروى بالتّخفيف أى يحبس عليها نفسه و (القربان) كفرقان اسم لما يتقرّب به إلى اللّه من أعمال البرّ.

و قوله (فلا يتبعنّها) بنون التّوكيد مثقّلة من اتبعت فلانا لحقته قال تعالى فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ أى لحقهم و (العيان) بالكسر المعاينة يقال لقاه عيانا أى معاينة لم يشكّ في رؤيته إيّاه.

الاعراب

قوله: على المؤمنين، متعلّق بقوله: موقوتا قوله: فما عسى أن يبقى عليه من الدّرن، كلمة ما نافية و عسى تامّة بمعنى كاد، و أن يبقى عليه، في موضع رفع بأنّه فاعل عسى كما في قوله تعالى عَسى‏ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً و فاعل يبقى محذوف و من الدّرن بيان للفاعل المحذوف أى يبقى عليه شي‏ء من الدّرن.

و قوله تعالى: رجال، فاعل يسبّح المذكور قبل ذلك، قال سبحانه يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ و على قراءة يسبّح مبنيّا للمفعول فالجار و المجرور أعني له نايب عن الفاعل و رجال مرفوع بفعل محذوف يدل عليه الفعل المذكور كأنّه بعد ما قيل يسبّح له سئل عن المسبّح فقيل: رجال، أى يسبّح له‏رجال على حدّ قول الشّاعر:

ليبك يزيد ضارع لخصومة            و مختبط ممّا تطيح الطوايح‏

أى يبكيه ضارع، و قوله: طيّب النّفس، منصوب على الحال من فاعل أعطى، و قوله: غير طيّب النّفس، و جملة يرجو بها منصوبان لفظا و محلا أيضا على الحال و قوله: لا يخفى عليه ما العباد مقترفون، كلمة ما موصولة منصوبة محلا مفعول يخفى و ما بعدها صلة لها و العايد محذوف أى مقترفون له.

المعنى

اعلم أنّ مدار هذا الكلام الشّريف على فصول ثلاثة الفصل الاول في الأمر بالصّلاة و الحثّ عليها و الفصل الثاني في الترغيب في الزّكاة و الالزام بها و الفصل الثالث في التحضيض على أداء الأمانة و التّحذير من المعاصي.

اما الفصل الاول

فهو قوله (تعاهدوا أمر الصلاة) أى جدّدوا العهد بها و راقبوا عليها في أوقاتها المخصوصة و لا تضيّعوها و لا تغفلوا عنها، لأنها عماد الدّين، و معراج المؤمنين، و قربان كلّ تقىّ و مؤمن نقيّ، و أوّل ما يحاسب به العبد إن قبلت قبل ما سواها و إن ردّت ردّ ما سواها.

و قد ذمّ اللّه أقواما توانوا عنها و استهانوا بأوقاتها فقال: «فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ» قال أمير المؤمنين عليه السّلام في رواية الخصال: يعني أنهم غافلون استهانوا بأوقاتها.

(و حافظوا عليها) أى على أوقاتها و رعاية آدابها و سننها و حدودها و مراسمها و شروطها و أركانها.

فلقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من ترك صلاته متعمّدا فقد هدم دينه.

و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا تضيعوا صلاتكم فانّ من ضيع صلاته حشره اللّه تعالى مع قارون و فرعون و هامان لعنهم اللّه و أخزاهم و كان حقا على اللّه أن يدخله النار مع المنافقين فالويل لمن لم يحافظ على صلاته.

و قال أبو جعفر عليه السّلام إنّ الصلاة إذا ارتفعت في أوّل وقتها رجعت إلى صاحبها و هي بيضاء مشرقة، تقول: حفظتني حفظك اللّه و إذا ارتفعت في غير وقتها بغير حدودها رجعت إلى صاحبها و هى سوداء مظلمة، تقول: ضيّعتنى ضيّعك اللّه.

و قد أمر اللّه عزّ و جل بمحافظتها في الكتاب العزيز بقوله: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى‏ وَ قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ.

قال أمين الاسلام الطبرسى: أى داوموا على الصلوات المكتوبات في مواقيتها بتمام أركانها، ثمّ خص الوسطى تفخيما لشأنها فقال: و الصّلوة الوسطى و قال المحدّث العلّامة المجلسى: و يدلّ بناء على كون الأمر مطلقا أو خصوص أمر القرآن للوجوب على وجوب المحافظة على جميع الصّلوات إلّا ما أخرجها الدليل، و ربما يستدلّ بها على وجوب صلاة الجمعة و العيدين و الايات، و لكن في بعض الرّوايات أنّ المراد بها الصّلوات الخمس، و على تقدير العموم يمكن تعميمها بحيث يشمل النّوافل و التّطوّعات أيضا، فلا يكون الأمر على الوجوب، و يشمل رعاية السّنن في الصلاة الواجبة أيضا كما يفهم من بعض الأخبار.

و خصّ الصلاة الوسطى بذلك بعد التعميم لشدّة الاهتمام بها لمزيد فضلها أو لكونها معرضة للضّياع من بينها فهى الوسطى بين الصلاة وقتا أو عددا او الفضلى من قولهم للأفضل الأوسط.

و قد قال بتعيين كلّ من الصلوات الخمس قوم إلّا أنّ أصحابنا لم يقولوا بغير الظهر و العصر كما يظهر من المنتهى و غيره.

فقال الشيخ في الخلاف: إنّها الظهر و تبعه جماعة من أصحابنا و به قال زيد بن ثابت عايشة و عبد اللّه بن شداد، لأنّها بين صلاتين بالنّهار، و لأنّها فى وسط النّهار، و لأنّها تقع‏ فى شدّة الحرّ و الهاجرة وقت شدّة تنازع الانسان إلى النّوم و الرّاحة فكانت أشقّ، و أفضل العبادات أحمزها، و أيضا الأمر بمحافظة ما كان أشقّ أنسب و أهمّ و لأنّها أوّل صلاة فرضت و لأنها في الساعة الّتي يفتح فيها أبواب السماء فلا تغلق حتّى تصلّى الظهر و يستجاب فيها الدّعاء.

و روى الجمهور عن زيد بن ثابت قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يصلّى الظهر بالهاجرة و لم يكن يصلّى صلاة أشدّ على أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منها فنزلت الاية.

و روى التّرمدى و أبو داود عن عايشة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قرء حافظوا على الصلوات و الصلاة الوسطى و صلاة العصر.

قال في المنتهى: و العطف يقتضى المغايرة لا يقال: الواو زايدة كما في قوله تعالى وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ لأنّا نقول: الزّيادة منافية للأصل فلا يصار إليه إلّا لموجب و المثال الذى ذكروه نمنع زيادة الواو فيه بل هى للعطف على بابها و قال في مجمع البيان: كونها الظهر هو المرويّ عن الباقر و الصادق عليهما السّلام و روى فيه عن عليّ عليه السّلام أنّها الجمعة يوم الجمعة و الظهر فى ساير الأيام.

و قال السيد المرتضى هى صلاة العصر و تبعه جماعة من أصحابنا، و به قال أبو هريرة و أبو أيّوب و أبو سعيد عبيدة السلمانى و الحسن و الضّحاك و أبو حنيفة و أصحابه و أحمد و نقله الجمهور عن عليّ عليه السّلام قالوا لأنّها بين صلاتي ليل و صلاتي نهار.

و احتجّ السيد ره باجماع الشيعة.

و المخالفون بما رووا عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال يوم الأحزاب: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ اللّه بيوتهم و قبورهم نارا.

و في الوسائل بعد رواية الأخبار الدّالّة على أنّها الظهر قال: و تقدّم ما يشعر بأنها العصر، و هو محمول على التّقية في الرّواية.

و قيل: إنّها إحدى الصلوات الخمس لم يعيّنها اللّه و أخفاها في جملة الصلوات‏ المكتوبة ليحافظوا على جميعها كما أخفى ليلة القدر في ليالى شهر رمضان، و اسمه الأعظم في جميع الأسماء، و ساعة الاجابة في ساعات الجمعة لئلا يتطرّق التّشاغل بغيرها بل يهتمّ غاية الاهتمام بالكلّ فيدرك كمال الفضل.

(و استكثروا منها) فانّها خير موضوع فمن شاء أقلّ و من شاء أكثر.

روى في البحار من البصاير عن محمّد بن الحسين عن عبد الرّحمن بن أبي هاشم ابن العتبة العابدة قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام و ذكر عنده الصلاة فقال: إنّ فى كتاب عليّ عليه السّلام الذى إملا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ اللّه لا يعذّب على كثرة الصلاة و الصيام و لكن يزيده جزاء «خيرا خ» و فى الوسايل عن الشيخ باسناده عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رجل فقال: ادع اللّه أن يدخلني الجنّة فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أعنّى بكثرة السّجود.

و فيه عن الصدوق باسناده عن أبي جعفر العطار قال: سمعت الصادق جعفر ابن محمّد عليهما السّلام يقول: جاء رجل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا رسول اللّه كثرت ذنوبى و ضعف عملى، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أكثر السّجود فانّه يحطّ الذنوب كما تحتّ الرّيح ورق الشجر.

(و تقرّبوا بها) إلى اللّه سبحانه فانّها قربان كلّ تقىّ.

كما رواه في البحار من العيون باسناده عن محمّد بن الفضيل عن الرّضا عليه السّلام قال: الصلاة قربان كلّ تقىّ.

و فيه من ثواب الأعمال باسناده عن موسى بن بكر عن أبي الحسن عليه السّلام قال: صلاة النّوافل قربان كلّ مؤمن.

بل هى أفضل ما يتقرّب به إليه تعالى.

كما يدلّ عليه ما رواه في الكافى باسناده عن معاوية بن وهب قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن أفضل ما يتقرّب به العباد إلى ربّهم فقال: ما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه الصلاة، ألا ترى أنّ العبد الصالح عيسى بن مريم عليهما السّلام قال: و أوصانى‏ بالصلاة و الزّكوة ما دمت حيّا، هذا.

و لمّا أمر بتعاهدها و محافظتها و التّقرّب بها عقّب عليه السّلام ذلك و علّله بوجوه مرغبة.

أحدها قوله (فانّها كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) اقتباس من الاية الشريفة فى سورة النساء.

قال في مجمع البيان: اختلف في تأويله فقيل: إنّ الصلاة كانت على المؤمنين واجبة مفروضة و هو المرويّ عن الباقر و الصادق عليهما السّلام، و قيل: معناه فرضا موقوتا أى منجما تؤدّونها في أنجمها.

و في الكافى باسناده عن داود بن فرقد قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: قوله تعالى إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً قال: كتابا ثابتا و ليس إن عجّلت قليلا أو أخّرت قليلا بالذى يضرّك ما لم تضيّع تلك الاضاعة فانّ اللّه عزّ و جلّ يقول لقوم فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَ اتَّبَعُوا.

و فيه عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام في هذه الاية أى كتابا موجوبا «موجبا خ ل» هذا و تخصيص المؤمنين بالذكر في الاية الشريفة لتحريصهم و ترغيبهم على حفظها و حفظ أوقاتها حالتى الأمن و الخوف و مراعاة جميع حدودها في حال الأمن و ايماء بأنّ ذلك من مقتضى الايمان و شعار أهله فلا يجوز أن تفوتهم و إنّ التّساهل فيها يخلّ بالايمان و انّهم هم المنتفعون بها لعدم صحّتها من غيرهم.

الثاني قوله (ألا تسمعون إلى جواب أهل النار) و الاستفهام للتقرير بما بعد النّفى أو للتوبيخ و التقريع، و الغرض منه تنبيه المخاطبين على أنّ ترك الصلاة يوجب دخول النار و سخط الجبار ليتحرزوا من تركها و يحافظوا عليها.

و ذلك انّ أهل النار (حين سئلوا) أى سألهم أهل الجنّة على ما حكى اللّه عنهم في سورة المدّثر بقوله: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ. إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ. فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ. ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ. قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ‏وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ. وَ كُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ. وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ. حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ.

قال أمين الاسلام الطبرسى في تفسير الاية: كلّ نفس بما كسبت رهينة أى محبوسة بعملها مطالبة بما كسبته من طاعة أو معصية، ثمّ استثنى سبحانه أصحاب اليمين وهم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم و قال الباقر عليه السّلام نحن و شيعتنا أصحاب اليمين.

في جنّات يتساءلون، أى يسأل بعضهم بعضا و قيل: يسألون عن المجرمين أى عن حالهم و عن ذنوبهم الّتي استحقوا بها النار.

ما سلككم في سقر، هذا سؤال توبيخ أى تطلع أهل الجنّة على أهل النار فيقولون: ما أوقعكم في النار.

قالوا لم نك من المصلّين، أى كنا لا نصلّى الصلاة المكتوبة على ما قرّرها الشرع، و في هذا دلالة على أنّ الاخلال بالواجب يستحقّ به الذّم و العقاب، لأنهم علّقوا استحقاقهم العقاب بالاخلال بالصلاة، و فيه دلالة أيضا على أنّ الكفار مخاطبون بالعبادات الشرعيّة، لأنه حكاية عن الكفار بدليل قوله: و كنا نكذّب بيوم الدّين.

و قوله: و لم نك نطعم المسكين، معناه لم نك نخرج الزّكوات الّتى كانت واجبة علينا، و الكفارات التي وجب دفعها إلى المساكين، و هم الفقراء.

و كنّا نخوض مع الخائضين أى كلّما غوى غاو بالدّخول في الباطل غوينا معه و المعنى كنا نلوث أنفسنا في المرور بالباطل كتلويث الرّجل بالخوض، فهؤلاء لما كانوا يجرون مع من يكذّب بالحقّ مشيعين لهم فى القول كانوا خائضين معهم.

و كنا نكذّب بيوم الدّين، مع ذلك أى نجحد يوم الجزاء و هو يوم القيامة.

حتّى أتينا اليقين، أى أتانا الموت على هذه الحالة، و قيل: حتّى جاءنا علم اليقين من ذلك بأن عاينّاه، هذا.

و فى الصافى عن الكافى عن الصادق عليه السّلام في قوله: لم نك من المصلّين،قال عليه السّلام: لم نك من أتباع الأئمة الذين قال اللّه فيهم: و السابقون السابقون اولئك المقرّبون، أما ترى الناس يسمّون الذى يلي السابق في الحلبة مصلّيا، فذلك الذى عنى حيث قال: لم نك من المصلّين أى لم نك من أتباع السابقين.

و عن الكاظم عليه السّلام يعنى أنا لم نتولّ وصيّ محمّد و الأوصياء من بعده و لم نصلّ عليهم، و هذان لا ينافيان التفسير المتقدّم لأنّ المتقدّم تنزيلها و هذا تأويلها.

(و) الثالث (انها لتحتّ الذّنوب حتّ الورق) أى تسقطها من الرّقاب سقوط الأوراق من الأشجار.

كما وقع التّصريح به في رواية الوسايل من مجالس ابن الشّيخ باسناده عن سلمان الفارسى قال: كنّا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فى ظلّ شجرة فأخذ غصنا منها فنفضه فتساقط ورقه فقال: ألا تسألونى عمّا صنعت فقالوا: أخبرنا يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: إنّ العبد المسلم إذا قام إلى الصلاة تحاطت خطاياه كما تحاطت ورق هذه الشجرة، هذا.

و التشبيه في كلامه عليه السّلام من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس، و كذلك في قوله: (و تطلقها إطلاق الرّبق) و الكلام على القلب و المراد أنّها تطلق أعناق النفوس أى تفكّها من أغلال الذّنوب إطلاق أعناق البهايم من الأرباق.

و لمّا ذكر إسقاطها للذّنوب أيّده بقوله (و شبّهها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالحمة تكون على باب الرّجل) و أشار إلى وجه الشّبه بقوله (فهو يغتسل منها) و يطهر جسده من الأوساخ (في اليوم و اللّيلة خمس مرّات فما عسى أن يبقى عليه) شي‏ء (من الدّرن) و كذلك من صلّى الصلوات الخمس لا يبقى عليه شي‏ء من الذّنوب.

و قد تقدّم في شرح الخطبة المأة و التاسعة رواية متن الحديث النّبوى من الفقيه عن الصادق عليه السّلام قال: قال النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّما مثل الصلاة فيكم كمثل السرى و هو النهر على باب أحدكم يخرج إليه في اليوم و اللّيلة يغتسل منه خمس مرّات فلم يبق الدرن على الغسل خمس مرّات، و لم يبق الذنوب على الصلاة خمس مرّات.

و الرابع ما أشار إليه بقوله (و قد عرف حقّها) و قدرها (رجال من المؤمنين) و هو عليه السّلام رئيسهم و سيّدهم و أفضلهم حسبما تطلع عليه في الأخبار الاتية و هم (الذين لا تشغلهم عنها زينة متاع و لا قرّة عين من ولد و لا مال) لعلمهم بأنّ المال و البنين زينة الحياة الدنيا و الباقيات الصالحات خير عند ربهم ثوابا و خير أملا.

(يقول اللّه سبحانه) في وصفهم في سورة النّور: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ) من عطف الخاص على العام لشمول التجارة ساير أنواع المكاسب (عن ذكر اللّه و إقام الصّلوة و ايتاء الزكاة) يخافون يوما تتقلّب فيه القلوب و الأبصار.

قال فى مجمع البيان: روى مرفوعا أنّه سئل النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما قرء الاية أىّ بيوت هذه فقال: بيوتات الأنبياء، فقام أبو بكر فقال: يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هذا البيت منها لبيت عليّ و فاطمة، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: نعم من أفاضلها.

و المراد بالرّفع التعظيم و رفع القدر من الأرجاس و التطهير من المعاصى، و يذكر فيها اسمه أى يتلى فيها كتابه يسبّح له فيها بالغدوّ و الاصال أى يصلّى فيها بالبكر و العشايا، رجال لا تلهيهم، أى لا تشغلهم و لا تصرفهم، تجارة و لا بيع عن ذكر اللّه و إقام الصلاة، أى إقامة الصّلاة و ايتاء الزكاة أى إخلاص الطاعة للّه و قيل يريد الزكاة المفروضة.

و روى في كتاب غاية المرام من تفسير مجاهد و الى يوسف يعقوب بن سفين «كذا» قال ابن عبّاس في قوله تعالى: وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَ تَرَكُوكَ قائِماً إنّ دحية الكلبي جاء يوم الجمعة من الشّام بالمسيرة فنزل عند أحجار الزّيت ثمّ ضرب بالطبول ليأذن بقدومه و مضوا النّاس اليه إلّا علىّ و الحسن و الحسين و فاطمة و سلمان و أبو ذر و المقداد و صهيب و تركوا النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قائما يخطب على المنبر، فقال النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لقد نظر اللّه يوم الجمعة إلى مسجدى فلو لا هؤلاء الثمّانية الّذين جلسوا في مسجدى لاضطرمت المدينة على أهلها نارا و حصبوا بالحجارة كقوم لوط، فنزل فيهم: رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع.

و فيه عن محمّد بن العباس عن محمّد بن همّام عن محمّد بن إسماعيل عن عيسى بن‏ داود قال: حدّثنا الامام موسى بن جعفر عن أبيه عليهما السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ الاية قال: بيوت آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بيت عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و حمزة و جعفر عليهم السّلام، قلت: بالغدوّ و الاصال، قال: الصّلاة في أوقاتها، قال: ثمّ وصفهم اللّه عزّ و جل: رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصارُ، قال: هم الرّجال لم يخلط اللّه معهم غيرهم، ثمّ قال: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، قال: ما اختصّهم به من المودّة و الطّاعة المفروضة و صيّر مأواهم الجنّة و اللّه يرزق من يشاء بغير حساب.

(و) الخامس انّ في المحافظة على الصلاة أسوة بالنّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلقد (كان رسول اللّه نصبا بالصلاة) أى تعبا بها كلّ التعب.

حتى روى انّه كان يصلّى اللّيل كلّه و يعلّق صدره بحبل حتّى لا يغلبه النّوم فعاتبه اللّه على ذلك و أنزل عليه «طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى‏» و أمره بأن يخفّف على نفسه و ذكر أنّه ما أنزل عليه الوحى ليتعب كلّ هذا التّعب.

روى فى الصافى من الاحتجاج عن الكاظم عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السّلام قال: لقد قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عشر سنين على أطراف أصابعه حتّى تورّمت قدماه و اصفرّ وجهه يقوم اللّيل أجمع حتّى عوتب في ذلك فقال اللّه عزّ و جلّ طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى‏ بل لتسعد.

قيل: الشقاء شايع بمعنى التّعب و منه أشقى من رايض المهر و سيّد القوم أشقاهم، و لعلّه عدل اليه للاشعار بأنّه انزل إليه ليسعد.

و قوله (بعد التبشير له بالجنّة) إشارة إلى أنّه لم يكن مواظبته على الصّلاة شوقا إلى الجنّة و لا خوفا من النّار بل قد كان نصبا بها مع وجود تلك البشارة متحملا كلّ التعب امتثالا (لقول اللّه سبحانه) و أمره له بالصبر عليها في سورة طه حيث قال:«»(وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَ اصْطَبِرْ عَلَيْها) لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً. نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَ الْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى‏.

قال في مجمع البيان: معناه و أمر يا محمّد أهل بيتك و أهل دينك بالصلاة و اصبر على فعلها، و فى الصافى و داوم عليها، لا نسألك أن ترزق نفسك و لا أهلك، بل كلّفناك العبادة و أداء الرّسالة و ضمنا رزق الجميع، نحن نرزقك و إيّاهم ففرّغ بالك للاخرة، و العاقبة المحمودة لذوى التقوى.

قال فى مجمع البيان روى أبو سعيد الخدرى قال: لمّا نزلت هذه الاية كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يأتي باب فاطمة و عليّ تسعة أشهر عند كلّ صلاة فيقول: الصلاة رحمكم اللّه إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً.

قال و قال أبو جعفر عليه السّلام أمره اللّه أن يخصّ أهله دون النّاس ليعلم النّاس أنّ لأهله عند اللّه منزلة ليست للنّاس، فأمرهم مع النّاس عامّة ثمّ أمرهم خاصّة.

و فى الصافى من العيون عن الرّضا عليه السّلام في هذه الاية قال: خصّنا اللّه هذه الخصوصيّة إذ أمرنا مع الامّة باقامة الصّلاة ثمّ خصّنا من دون الامّة فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يجي‏ء إلى باب علىّ و فاطمة بعد نزول هذه الاية تسعة أشهر كلّ يوم عند حضور كلّ صلاة خمس مرّات فيقول: الصّلاة رحمكم اللّه و ما أكرم اللّه أحدا من ذرارى الأنبياء بمثل هذه الكرامة الّتي أكرمنا بها و خصّنا من دون جميع أهل بيتهم.

(فكان) صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (يأمر) بها (أهله و يصبّر عليها نفسه) أى يأمر نفسه بالصبر و التحمّل على تعبها، هذا.

و قد تقدّم في شرح الخطبة المأة و التاسعة تفصيل الكلام في فضل الصّلاة و آدابها و أسرارها و عقاب تاركها. فليراجع هناك.

و أما الفصل الثاني

فقد أشار اليه بقوله (ثمّ إنّ الزكاة جعلت مع الصّلاة قربانا لأهل الاسلام)يعني كما جعل اللّه سبحانه الصّلاة قربانا للمسلمين يتقرّبون بها إليه تعالى، جعل الزكاة أيضا قربانا لهم مثلها.

و يدلّ على ذلك أنّه سبحانه عقّب الأمر باقام الصّلاة في أكثر آيات كتابه العزيز بالأمر بايتاء الزّكاة، فجعل الزكاة تالي الصّلاة في المطلوبيّة.

و يشهد به أيضا ما في الوسايل عن الصّدوق باسناده عن المجاشعي عن الرّضا عليه السّلام عن آبائه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: بني الاسلام على خمس خصال: على الشّهادتين، و القرينتين، قيل له: أمّا الشهادتان فقد عرفناهما، فما القرينتان قال: الصّلاة و الزّكاة، فانّه لا يقبل إحداهما إلّا بالاخرى، و الصيام و حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا، و ختم ذلك بالولاية.

و قد مضي الكلام في فضلها و عقوبة تاركها و أقسامها في شرح الخطبة المأة و التاسعة بما لا مزيد عليه فليراجع ثمّة.

و لما ذكر كونها قربانا لأهل الاسلام نبّه على شرط قربانيّتها و هو كون اتيانها عن وجه الخلوص و طيب النفس، و سرّ ذلك ما قدّمناه في شرح الخطبة الّتي أشرنا اليه، و محصّل ما قدّمناه أنّ الاسلام موقوف على توحيد الربّ عزّ و جلّ و كمال توحيده عبارة عن الاخلاص له، و معنى الاخلاص إفراده بالمعبوديّة و المحبوبيّة و اخلاء القلب عن محبّة ما سواه فلا يجتمع محبة المال مع محبّته تعالى.

(ف) علم من ذلك أنّ (من أعطاها طيّب النفس بها) حبّا له تعالى و امتثالا لأمره و ابتغاء لمرضاته و تقرّبا إليه عزّ و جلّ (فانها) حينئذ تقرّبه إليه و توجب حبّه تعالى له و القرب و الزّلفى لديه و (تجعل له) من الذّنوب (كفارة و من النار حجازا و وقاية) أى حاجزا مانعا من النار و وقاية من غضب الجبار.

كما يشهد به ما رواه في الفقيه عن الصادق عليه السّلام قال: خياركم سمحاؤكم و شراركم بخلاؤكم، و من خالص الايمان البرّ بالاخوان، و السعى فى حوائجهم، و انّ البارّ بالاخوان ليحبّه الرّحمن، و في ذلك مرغمة للشيطان، و تزحزح عن النيران‏ و دخول الجنان ثمّ قال عليه السّلام لجميل: يا جميل أخبر بهذا غرر«» أصحابك، قلت: جعلت فداك من غرر أصحابي قال: هم البارّون بالاخوان فى العسر و اليسر، ثمّ قال: يا جميل اعلم أنّ صاحب الكثير يهوّن عليه ذلك و إنما مدح اللّه فى ذلك صاحب القليل فقال فى كتابه وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَ الْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَ لا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ.

و بعد ذلك (ف) اللّازم أن (لا يتبعنها أحد) من المعطين لها (نفسه و لا يكثرنّ عليها لهفه) و تحسّره، لأنّ اتباع النّفس و إكثار اللّهف كاشف عن محبّته لها و هو ينافي محبّته تعالى فكيف يتقرّب باعطائها إليه و يبتغي القرب و الزّلفى لديه (فانّ من أعطاها) على وجه الاكراه (غير طيّب النّفس بها) و الحال أنّه (يرجو) و يتوقّع (بها ما هو أفضل منها) من رضوان اللّه تعالى و الخلد في جنانه (فهو) كاذب فى دعوى المحبّة (جاهل بالسّنة) لأنّ السّنة فى أدائها أن يكون بطيب النفس، و لذلك مدح اللّه الباذلين للمال كذلك بقوله وَ يُؤْثِرُونَ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ و قوله وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى‏ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً. إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً.

(مغبون الأجر) لأنّ الأجر مترتّب على العمل، فاذا كان العمل لا على وجه الرّضا يكون الجزاء المترتّب عليه كذلك، و من هنا قيل: كما تدين تدان، و قد قال سبحانه وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ.

(ضالّ العمل) حيث أتا به على غير الوجه المطلوب شرعا (طويل النّدم) في الاخرة على ما فوّته على نفسه من الأجر الجزيل و الجزاء الجميل

و اما الفصل الثالث

فهو ما أشار إليه بقوله (ثمّ أداء الامانة) الّتى جعل اللّه المحافظة عليها من وصف المؤمنين الموصوفين فى قوله قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ إلى قوله وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ و الأخبار فى فضلها بالغة حدّ الاستفاضة.

منها ما فى البحار من الكافى عن الحسين بن أبى العلا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ اللّه عزّ و جلّ لم يبعث نبيّا إلّا بصدق الحديث و أداء الامانة إلى البرّ و الفاجر.

و من قرب الاسناد عن ابن طريف عن ابن علوان عن جعفر عن أبيه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: الأمانة تجلب الغنى و الخيانة تجلب الفقر.

و من الامالى عن عمر بن يزيد قال: سمعت الصادق عليه السّلام يقول: اتّقوا اللّه و عليكم بأداء الأمانة إلى من ائتمنكم. فلو أنّ قاتل أمير المؤمنين ائتمننى على أمانة لأدّيتها إليه.

و عن الثمالى عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام قال: سمعته عليه السّلام يقول لشيعته: عليكم بأداء الأمانة فو الذى بعث محمّدا بالحقّ نبيّا لو أنّ قاتل أبي الحسين بن عليّ عليهما السّلام ائمننى على السيف الذى قتله به لأدّيته إليه.

و عن أحمد بن محمّد الهمداني عن أبي جعفر الثّانى عن آبائه عليهم السّلام عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم و صومهم و كثرة الحجّ و المعروف و طنطنتهم باللّيل، و لكن انظروا إلى صدق الحديث و أداء الأمانة.

و عن الحسين بن أبي العلا عن الصادق عليه السّلام قال: سمعته يقول: أحبّ العباد إلى اللّه عزّ و جلّ رجل صدوق في حديثه محافظ على صلاته و ما افترض اللّه عليه مع أداء الأمانة، ثمّ قال عليه السّلام: من اؤتمن على أمانة فأدّاها فقد حلّ ألف عقدة من عنقه من عقد النّار، فبادروا بأداء الأمانة، فانّ من اؤتمن على أمانة وكّل به إبليس مأئة شيطان من مردة أعوانه ليضلّوه و يوسوسوا إليه حتّى يهلكوه إلّا من عصم اللّه عزّ و جلّ.

(فقد) علم من ذلك أنّه (خاب من ليس من أهلها) أى خسر في الدنيا و في الاخرة من لم يكن من أهلها، بل كان من أهل الخيانة، فانّ الخيانة حسبما عرفت تجلب الفقر في الدّنيا و النار في العقبى و خسر أهلها خسرانا عظيما.

و ان شئت أن تعرف عظم الخطب و مزيد ثقل التّكليف فيها فاستمع لما يتلى عليك من قوله: (إنّها عرضت على السّماوات المبنيّة و الأرضين المدحوّة) المبسوطة على الماء (و الجبال) الرّاسيات (ذات الطول المنصوبة) المرفوعة على الأرض و لكنّها مع أنّها أعظم ما خلق اللّه عزّ و جلّ في الكون (فلا أطول و لا أعرض و لا أعلى و لا أعظم منها) امتنعن من حمل هذا التكليف، أى تكليف الأمانة و أبين أن يحملنها لثقلها و صعوبتها لا للعظمة و الاستكبار عن الطاعة، بل للخوف و الاشفاق من المعصية.

(و لو امتنع شي‏ء بطول أو عرض أو قوّة أو عزّ لامتنعن) بل كنّ أولى بالامتناع بما لهنّ من أوصاف العظمة التي ليست في غيرهنّ (و لكن أشفقن من العقوبة و غفلن ما جهل من هو أضعف منهن و هو الانسان) فحملها مع ما به من الضعف و النقصان (انّه كان ظلوما جهولا) قال الشارح البحرانى: و ذكر كون السماوات مبنيّة و الأرض مدحوّة و الجبال بطولها و عرضها و عظمتها، تنبيه للانسان على جرئته على المعاصى و تضييع هذه الأمانة إذا هى لها و حملها و تعجب منه في ذلك، فكأنّه يقول: إذا كانت هذه الأجرام العلوية التي لا أعظم منها قد امتنعت من حمل هذه الأمانة حين عرضت عليها فكيف حملها من هو أضعف منها.

أقول: تحقيق هذا المقام يحتاج إلى بسط الكلام.

قال اللّه تعالى في سورة الأحزاب إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا.

و قد اختلف أقوال المفسّرين كالأخبار في تفسير هذه الاية في مواضع:

الاول

أنّ المراد بالأمانة المعروضة ما ذا فقيل: هي ما أمر اللّه به من طاعته و نهى عنه من معصيته، و بعبارة اخرى هى التكاليف و الأحكام الشرعيّة المطلوبة من الانسان، فانّ اللّه سبحانه لما اقتضت عنايته لايجاد هذه العبادة المخصوصة، و أن يجعل في الأرض خليفة لعمارتها، خلق الانسان و جعله واسطة بين الملك و الحيوان. فهو كالحيوان في الشهوة و الغضب و التناسل و ساير القوى البدنيّة المخصوصة بالحيوان، و كالملك في العقل و العلم و العبادة و ساير الكمالات النفسانيّة، فلو كان خاليا من العقل و الفهم لم يتأهل لمعرفته و عبادته الخاصة كساير أصناف الحيوان، و لو كان خاليا عن الشهوة و الغضب مثل الملك لم يصلح لعمارة الأرض و خلافته. و لذلك قال اللّه للملائكة وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ فاذا هذه العبادة الخاصة لا يصلح لها إلّا الانسان، و هى المراد بالامانة في الاية.

و يؤيد هذا القول ما في الصافى من العوالى أنّ عليّا عليه السّلام إذا حضر وقت الصّلاة يتململ و يتزلزل و يتلوّن فيقال له: ما لك يا أمير المؤمنين فيقول: جاء وقت الصلاة وقت أمانة عرضها اللّه على السموات و الأرض و الجبال فأبين أن يحملنها و أشفقن منها.

و قيل: هى أمانات الناس و الوفاء بالعهود.

و يؤيده ما فى البحار من مشكاة الأنوار نقلا من كتاب المحاسن قال: و سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ الاية ما الذى عرض عليهنّ و ما الذى حمل الانسان و ما كان هذا قال: فقال: عرض عليهنّ الأمانة بين الناس و ذلك حين خلق الخلق.

و عن بعض أصحابه رفعه قال: قال لابنه يا بنيّ أدّ الأمانة يسلم لك دنياك و آخرتك و كن أمينا تكن غنيّا.

و قيل: إنّ المراد بها الامامة قال فى تفسير القمّي: الأمانة هى الامامةو الأمر و النّهى، و الدليل على أنّ الأمانة هى الامامة قول اللّه عزّ و جلّ للائمّة إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى‏ أَهْلِها يعنى الامامة، فالأمانة هى الامامة عرضت على السماوات و الأرض و الجبال فأبين أن يحملنها أن يدّعوها أو يغصبوها أهلها و أشفقن منها، و حملها الانسان، يعنى الأوّل إنّه كان ظلوما جهولا، انتهى.

و يدل على ذلك أخبار كثيرة مثل ما فى البحار من كنز الفوايد عن إسحاق ابن عمّار عن أبى عبد اللّه عليه السّلام فى هذه الاية، قال: يعنى ولاية أمير المؤمنين.

و من جامع الأخبار و العيون عن الحسين بن خالد قال: سألت الرّضا عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ الاية قال: الأمانة الولاية من ادّعاها بغير حقّ فقد كفر.

و من جامع الأخبار عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ الاية قال: الامانة الولاية و الانسان أبو الشرور المنافق.

و من البصاير عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام في قول اللّه تبارك و تعالى إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ قال: الولاية أبين أن يحملنها كفرا بها، و حملها الانسان، و الانسان الذى حملها أبو فلان. إلى غير هذه مما لا نطيل بروايتها.

قال المحدّث العلامة المجلسيّ بعد رواية هذه الرّوايات: على تأويلهم عليهم السّلام يكون اللام في الانسان للعهد و هو أبو الشرور أى أبو بكر أو للجنس و مصداقه الأوّل في هذا الباب أبو بكر، و المراد بالحمل الخيانة، و المراد بالولاية الخلافة و ادعائها بغير حقّ، فعرض ذلك على أهل السّماوات و الأرض أو عليهما بأن يبيّن لهم عقوبة ذلك و قيل لهم: هل تحملون ذلك، فأبوا إلّا هذا المنافق و أضرابه حيث حملوا ذلك مع ما بيّن لهم من العقاب المترتّب عليه

الثاني

اختلفوا في المراد بعرض الأمانة على السّماوات و الأرض.

فقيل: إنّ المراد به عرضها على نفس الأرض و السّماء و إنّه تعالى لمّا خلق هذه الأجرام خلق فيها فهما و قال: إنّى فرضت فريضة و خلقت جنّة لمن أطاعني و نارا لمن عصاني: فقلن: نحن مسخّرات لأمرك لا نحتمل فريضة و لا نبتغى ثوابا و لا عقابا، و لمّا خلق آدم عرض عليه مثل ذلك فحمله و كان ظلوما لنفسه بتحمّلها ما يشقّ عليها، جهولا لو خامة عاقبته.

و هذا القول أعني عرضها على نفس السّماوات و الأرض مرويّ عن ابن عبّاس و يدلّ عليه ظاهر كلام أمير المؤمنين عليه السّلام في المتن حيث قال: و عقلن ما جهل من هو أضعف منهنّ.

و يشهد به أيضا ما رواه فى البحار و غاية المرام من مناقب أبى بكر الشيرازى فى نزول القرآن فى شأن علىّ عليه السّلام بالاسناد عن مقاتل عن محمّد بن حنفيّة عن أمير المؤمنين فى قوله «إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ» عرض اللّه أمانتي على السماوات السبع بالثواب و العقاب فقلن ربنا لا نحملنها بالثواب و العقاب و لكنا نحملها بلا ثواب و لا عقاب، و انّ اللّه عرض أمانتي و ولايتي على الطيور، فأوّل من آمن بها البزاة البيض و القنابر و أوّل من جحدها البوم و العنقا، فلعنهما اللّه تعالى من بين الطيور، فأما اليوم فلا تقدر أن تظهر بالنهار لبغض الطير لها، و أما العنقا فغابت فى البحار و إنّ اللّه عرض أمانتى على الأرضين فكلّ بقعة آمنت بولايتى جعلها طيبة زكية و جعل نباتها و ثمرتها حلوا عذبا و جعل ماءها زلالا، و كلّ بقعة جحدت إمامتى و أنكرت ولايتى جعلها سبخا و جعل نباتها مرّا علقما، و جعل ثمرها العوسج و الحنظل، و جعل ماءها ملحا اجاجا ثمّ قال: و حملها الانسان، يعنى امتك يا محمّد ولاية أمير المؤمنين و امامته بما فيها من الثواب و العقاب، إنه كان ظلوما لنفسه جهولا لأمر ربّه، من لم يؤدّها بحقّها ظلوم غشوم.

و محصّل هذا القول أنّ المراد بالأمانة التكليف بالعبوديّة على وجهها و التقرّب بها إلى اللّه سبحانه كما ينبغي لكلّ عبد بحسب استعداده لها، و أعظمها الولاية و الخلافة الالهيّة، ثمّ تسليم من لم يكن من أهلها لأهلها و عدم ادّعاء منزلتها لنفسه، ثمّ سايرالتكاليف الشرعية، و المراد بعرضها على السماوات و الأرض و الجبال اعتبارها بالاضافة إلى استعدادهنّ و بابائهنّ الاباء الطبيعى الذى هو عبارة عن عدم اللّياقة و الاستعداد، و بحمل الانسان قابليّته و استعداده لها و تحمّله إياها و كونه ظلوما جهولا، تقصيره فى أدائها لما غلب عليه من القوّة الشهويّة و الغضبية.

و قيل: إنّ المراد العرض على أهلها فحذف المضاف و اقيم المضاف اليه مقامه، و عرضها عليهم هو تعريفها إياهم انّ في تضييع الامانة الاثم العظيم، و كذلك فى ترك أوامر اللّه و احكامه، فبيّن سبحانه جرءة الانسان على المعاصى و اشفاق الملائكة من ذلك، فيكون المعنى عرضنا الأمانة على أهل السماوات و الأرض و الجبال من الملائكة و الجنّ و الانس فابى أهلهنّ أن يحملوا تركها و عقابها و الماثم فيها و أشفقن أهلها من حملها، و حملها الانسان إنه كان ظلوما لنفسه بارتكاب المعاصى، جهولا بموضع الامانة فى استحقاق العقاب على الخيانة فيها.

و قيل: إنه على وجه التقدير الّا أنه جرى عليه لفظ الواقع، لأنّ الواقع أبلغ من المقدّر، و المعنى انه لو كانت السماوات و الأرض و الجبال عاقلة ثمّ عرضت عليها الأمانة و هى وظايف الدّين اصولا و فروعا و بما فيها من الوعد و الوعيد، لاستثقلت ذلك مع كبر أجسامها و شدّتها و قوّتها و لامتنعت من حملها خوفا من القصور عن أداء حقّها، ثمّ حملها الانسان مع ضعف جسمه و لم يخف الوعيد لظلمه و جهله.

الثالث

قوله: و حملها الانسان.

المراد بالانسان إمّا نوع الانسان أى بنو آدم، أو خصوص امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فالمراد بحملهم لها قبولهم للاتيان بما كلّف عليهم من الطاعات و العبادات و التسليم لامامة أئمة الدين، و كونه ظلوما جهولا لعدم خروجهم عن عهدة التكليف و عدم وفائهم بما حملوه من طاعة الأئمّة و تقصيرهم في أداء الأمانة، و هو وصف للجنس باعتبار أغلب أفراده إذ الأنبياء و الأولياء و المؤمنون القائمون بوظايف العبوديّة الرّاعون‏ لعهد الامامة خارجون من عموم الاية قطعا.

و إمّا خصوص فرد منه و هو أبو بكر حسبما تقدّم في الأخبار، و عليه فالمراد بحمله للامانة أى الخلافة ادّعائه لها لنفسه من غير استحقاق و أهليّة، و بعبارة اخرى خيانته و تقصيره فيها و ظلمه على من كان مستحقّا به و جهله بمرتبة نفسه حيث وضعها موضعا ليس له.

و قيل: إنّ المراد بالانسان هو آدم عليه السّلام، و اعترض عليه في مجمع البيان بقوله و لا يجوز أن يكون الانسان محمولا على آدم لقوله «إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى‏ آدَمَ» فكيف يكون من اصطفاه اللّه من بين خلقه موصوفا بالظلم و الجهل.

هذا تفصيل ما قيل أو يقال في تفسير الاية الشريفة، و قد ظهر منه اختلافهم في المراد بالأمانة المذكورة فيها على أقوال.

و أمّا في كلام أمير المؤمنين عليه السّلام فالظاهر أنّ المراد بها خصوص الأمانة المعهودة بين الخلق حسبما عرفتها فى الأخبار المتقدّمة، و انّما قلنا: إنّ الظاهر ذلك، لاشعار تقديم ذكر الصلاة و الزكاة عليها على عدم كون المراد بها مطلق التكاليف الشرعيّة، بل التكليف المخصوص الّذى في عداد الصّلاة و الزكاة القسيم لهما.

لكن الأظهر بمقتضى الحال و المقام، و أنّ وصيّته بهذا الكلام إلى أصحابه كان في مقام الحرب مع النّاكثين و القاسطين و المارقين حسبما تعرفه فى التكملة الاتية هو: أنّ المراد بها الامامة و الولاية، فيكون غرضه بقوله: ثمّ أداء الأمانة فقد خاب من ليس من أهلها آه الطعن و التعريض على المعارضين له و الجاحدين لولايته و النّاصبين له العداوة من معاوية و طلحة و الزّبير و أتباعهم و أهل النهر و أمثالهم بكونهم خائبين خاسرين، لعدم كونهم أهلا للامانة أى الخلافة و الولاية، و بأنّهم حملوا و ادّعوا ما أبت السماوات و الأرض و الجبال على كبر أجرامهما من حملها و ادّعائها، و أشفقن من ذلك، و بأنّهم كانوا متّصفين بالظّلم و الجهل حيث ظلموه عليه السّلام حقّه و جهلوا بشأنه و مقامه.

و كيف كان فلمّا أمر و أوصى أصحابه بالصّلاة و الزّكاة و أداء الأمانة، و شدّدالترغيب فيها و التحذير من مخالفتها بكون الخائن أو المقصّر ظلوما جهولا، عقّبه بالتّنبيه على أنّ كلّ ما يفعله العباد من خير أو شرّ بعين اللّه الّتي لا تنام و علمه الّذى لا تخفى عليه خافية لتأكيد تحضيض المخاطبين بمواظبة هذه العبادات الثلاث و ساير الحسنات و تحذيرهم من مخالفتها فقال: (إنّ اللّه سبحانه لا يخفى عليه) و لا يعزب عن علمه (ما العباد مقترفون) أى مكتسبون له من خير أو شرّ حسن أو قبيح (فى ليلهم و نهارهم) يعني أنّ الليل و النهار سيّان بالنسبة إلى علمه، و ليس كغيره من مخلوقاته يكون إدراكه للمحسوسات بطريق الاحساس حتّى تكون ظلمة اللّيل حجابا و حجازا عن إدراكه.

و قدّم الليل على النهار لمزيد الاهتمام من حيث كونها مظنّة لاختفاء ما يفعل فيها من المعاصي، و أردف بالنهار لدفع توهّم الاختصاص.

(لطف به خبرا) أراد به علمه بخفيّات أفعال العباد و خبرويّته بها، و اللّطيف الخبير حسبما تقدّم في شرح الخطبة السابقة من جملة أسمائه الحسنى عزّ و علا.

و تسميته باللّطيف من جهة علمه بالشي‏ء اللّطيف مثل البعوضة و أخفى منها و موضع النشوء منها و العقل و الشهوة للفساد و الحدب على نسلها و نقلها الطعام و الشراب إلى أولادها في المفاوز و الأودية و القفار.

و معنى الخبير هو الّذى لا تعزب عنه الأخبار الباطنة فلا يجرى شي‏ء في الملك و الملكوت و لا تتحرّك ذرّة و لا تضطرب نفس و لا تطمئنّ إلّا و يكون عنده خبره، و هو بمعنى العليم إلّا أنّ العلم إذا اضيف إلى الخفايا الباطنة سمّى خبرة، و قد مرّ تفصيل نفاذ علمه في خفاء الأشياء في الفصل الثامن من الخطبة التسعين.

(و أحاط به علما) و قد تقدّم في شرح غير واحدة من الخطب المتقدّمة كالخطبة الاولى و الخطبة التاسعة و الأربعين و الخامسة و الثمانين و غيرها تحقيق إحاطة علمه تعالى بالكلّيات و الجزئيات و لا حاجة إلى الاعادة.

(أعضاؤكم شهوده) يعني أنّها تشهد على العباد بما اقترفوه من المعاصي و الاثام.

(و جوارحكم جنوده) يعني أنّها تكون معينة له عليهم، و ذلك لأنّ جنودالملك عبارة عن أعوانه على أعدائه فتلك الأعضاء و الجوارح لما شهدت على المجرمين بما فعلوه صارت بمنزلة المعين له بذلك الاعتبار.

و يشهد بشهادة الأعضاء و الجوارح قول اللّه تعالى في سورة يس «الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى‏ أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أى نستنطق الأعضاء الّتي كانت لا تنطق في الدّنيا لتشهد عليهم و نختم على أفواههم الّتي عهد منها النطق و هذا حقيقة الختم يوضع على أفواه الكفار بمنعها من النطق و الكلام.

قال عليّ بن إبراهيم القمّي قال: إذا جمع اللّه عزّ و جل الخلق يوم القيامة دفع إلى كلّ انسان كتابه فينظرون فيه فينكرون أنّهم عملوا من ذلك شيئا، فتشهد عليهم الملائكة فيقولون: يا ربّ ملائكتك يشهدون لك، ثمّ يحلفون أنّهم لم يعملوا من ذلك شيئا و هو قول اللّه عزّ و جلّ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ فاذا فعلوا ذلك ختم اللّه على ألسنتهم و تنطق جوارحهم بما كانوا يكسبون و قال تعالى في سورة فصّلت وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ. حَتَّى. إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لا أَبْصارُكُمْ وَ لا جُلُودُكُمْ وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ.

قال أمين الاسلام الطبرسيّ: أى يحبس أوّلهم على آخرهم ليتلاحقوا و لا يتفرّقوا، حتّى إذا جاءوا النّار الّتي حشروا إليها شهد عليهم سمعهم بما قرعه من الدّعاء إلى الحقّ فأعرضوا عنه و لم يقبلوه، و أبصارهم بما رأوا من الايات الدّالّة على وحدانيّة اللّه تعالى فلم يؤمنوا، و ساير جلودهم بما باشروه من المعاصي و الأفعال القبيحة.

و قيل في شهادة الجوارح قولان: أحدهما أنّ اللّه تعالى يبيّنها بيّنة الحيّ و يلجئها إلى الاعتراف و الشهادة بما فعله أصحابها، و الاخر أنّ اللّه يفعل فيها الشهادة أى يجعل فيها كلاما، و إنّما نسب الكلام إليها لأنّه لا يظهر إلّا من جهتها.

و قيل فيه وجه ثالث: و هو أنّ معنى شهادتها و كلامها أنّ اللّه تعالى يجعل‏فيها من الايات ما يدلّ على أنّ أصحابها عصوا اللّه بها، فسمّى ذلك شهادة منها كما يقال: عيناك تشهدان بسهرك.

و قيل: إنّ المراد بالجلود الفروج.

أقول: و هو المروىّ فى الصافى عن الكافى عن الصادق عليه السّلام و من الفقيه عن أمير المؤمنين عليه السّلام.

ثمّ أنطق اللّه ألسنتهم فيقولون لجلودهم: لم شهدتم علينا، فتقول في جوابهم أنطقنا اللّه الّذى أنطق كلّ شي‏ء، ثمّ قال سبحانه: و هو خلقكم الاية، و ليس هذا من جواب الجلود.

و قوله: و ما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم و لا أبصاركم و لا جلودكم، معناه و ما كنتم تستخفون أى لم يكن يتهيّأ لكم أن تستتروا أعمالكم عن هذه الأعضاء لأنّكم كنتم بها تعملون، فجعلها اللّه شاهدة عليكم يوم القيامة، و لكن ظننتم أنّ اللّه لا يعلم كثيرا ممّا تعملون فاجترأتم على المعاصي لذلك، و قيل: بل معناهما كنتم تتركون المعاصي حذرا أن يشهد عليكم جوارحكم بها لأنكم ما كنتم تظنّون ذلك، و لكن ظننتم أنّ اللّه لا يعلم كثيرا ممّا تعملون، لجهلكم باللّه فهان عليكم ارتكاب المعاصي لذلك، هذا.

و فى الصافى من الكافى عن الباقر عليه السّلام و ليست تشهد الجوارح على مؤمن إنّما تشهد على من حقّت عليه كلمة العذاب، فأمّا المؤمن فيعطى كتابه بيمينه قال اللّه عزّ و جلّ يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ».

و قوله (و ضمائركم عيونه) قال الشارح البحراني: أي طلايعه و جواسيسه كقوله تعالى يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ أَ لَمْ و تلك الشهادة بلسان الحال، انتهى.

أقول: يعني أنّ الضمائر لا تخفى ما فيها من الأسرار و لا تكتمها عليه تعالى كما أنّ من شأن الجاسوس المراقب بشي‏ء أن لا يكتمه ممّن و كلّه به، و على ذلك‏فالمراد بالضّماير القلوب، و يحتمل أن يكون المراد بالضّماير ما يضمره القلوب من الأسرار و الخفيّات.

و العيون جمع العين بمعنى الحاضر و هو أحد معانيه كما في القاموس و غيره، فيكون المعنى أنّ جميع ما أضمره نفوسكم فهو حاضر لديه سبحانه غير محجوب عنه كما قال تعالى وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ و قال قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ.

و محصّل المراد أنّه لا يخفى ما في النفوس عليه عزّ و جل كما يخفى على غيره، فيكون مساقه مساق قوله عليه السّلام في الخطبة التسعين: عالم السرّ من ضماير المضمرين و نجوى المتحافتين، و قوله في الخطبة المأة و السابعة: خرق علمه باطن غيب السترات و أحاط بغموض عقايد السّريرات.

و قوله (و خلواتكم عيانه) قال البحراني: كني بالخلوات عمّا يفعل فيها من معاصي اللّه مجازا، و إنّما خصصها لأنها مظنّة المعصية، و يحتمل أن يريد بالخلوة مصدر قولك خلوت اخلو لا المكان، فيكون حقيقة، و ظاهر كونها عيانا للّه أى معاينة له.

و كلّ ذلك تحذير و تنفير عن تحريك الجوارح و الخلوة بها فيما لا ينبغي من المعاصي، و باللّه التوفيق و العصمة.

تذييل

الاية الّتي استدل بها أمير المؤمنين عليه السّلام في هذا الكلام على وجوب المحافظة على الصلاة أعني قوله تعالى حكاية عن المجرمين لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ مما استدلّ بها أكثر أصحابنا الاصوليّون كالمعتزلة على أنّ الكفار مكلّفون بالفروع حسبما أشار إليه أمين الاسلام الطبرسيّ «ره» أيضا في تفسير الاية على ما حكيناه عنه سابقا، و حيث إنّ هذه المسألة من المسائل الغامضة المعظمة، و يتفرّع عليها كثير من الأحكام الشرعيّة فلا بأس بتحقيق الكلام و بسطه فيها لكونها حقيقا بذلك.

فأقول و باللّه التوفيق: المشهور بين أصحابنا بل كاد أن يكون اجماعا أنّ الكفّار مكلّفون بفروع العبادات كما أنّهم مكلّفون باصول الاعتقادات و هو مذهب جمهور العامّة أيضا، و لم ينقلوا فيها خلافا إلّا عن أبي حنيفة و لم أجد منّا مخالفا أيضا إلّا شرذمة من الأخباريّة كالأمين الاسترابادى و صاحب الحدائق و صاحب الوافي، و هو الحقّ الموافق للتحقيق، و استدلّ له بوجوه: الاول عموم الأدلّة على التكاليف مثل قوله تعالى وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ و قوله وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ و قوله يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ و يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ و غيرها، فانّها يشمل الكافر مثل شمولها للمؤمن.

و الاعتراض عليه بحملها على المؤمنين حملا للمطلق على المقيّد و العامّ على الخاصّ كما في الحدائق فاسد، لما تطلع عليه عند ذكر أدلّة الخصم.

الثاني أنّ الكفر لا يصلح للمانعيّة حيث إنّ الكافر متمكّن من الاتيان بالايمان أوّلا حتّى يصير متمكّنا من الفروع.

و اعترض عليه صاحب الحدائق أيضا بأنّه مصادرة محضة.

و فيه مع عدم كونه مصادرة لأنّ المدعى أنّ الكفّار مكلّفون بالعبادات و مخاطبون بها، و الدّليل أنّ ما زعمه الخصم مانعا من توجّه الخطاب عليهم و من الاتيان بها على الوجه الصحيح و هو الكفر لا يصلح للمانعيّة فكيف يكون مصادرة.

و محصّله أنّ ما دلّ على التكليف بالفروع عام و لا يمنع من ذلك عدم التمكن من الصحيح حال الكفر لأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، على أنّ الايمان من شرايط الوجود الّتي يجب تحصيلها على المكلّف لا شرايط الوجوب، فلا مانع من التكليف حال عدمها مع التمكّن منها.

الثالث قوله تعالى لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ فانّه حكاية عن الكفّار و أنّهم علّلوا دخولهم النّار بتركهم للصّلاة على ما تقدّم تفصيله سابقا.

و اعترض صاحب الحدائق أيضا ما يحمل على المخالفين المقرّين بالاسلام إذ لا تصريح فيه بالكفّار، و يدلّ عليه ما ورد في تفسير عليّ بن إبراهيم من تفسيرها باتّباع الائمة، أى لم نك من أتباع الأئمة و هو مروىّ عن الصادق عليه السّلام حسبما عرفت سابقا و عن الكاظم عليه السّلام يعني أنّا لم نتولّ وصيّ محمّد من بعده و لم نصلّ عليهم.

و فيه إنّ الصلاة حقيقة شرعيّة في الأركان المخصوصة و ظاهر معنى المصلّين هو المقيمون للصلاة أى الأركان المخصوصة و الحمل على المعنى اللّغوى أى التابعين خلاف الظاهر المتبادر منه فلا وجه لحملها على المخالفين، و إنكار التصريح فيه بالكفار مورد تعجّب لأنّ قوله حكاية عنهم: و كنّا نكذّب بيوم الدّين، صريح في كونهم كافرين منكرين للمعاد فكيف يكونون مقرّين بالاسلام و أمّا الخبران المروّيان عن الصّادق و الكاظم عليهما السّلام فلا دلالة فيهما، لكونهما تفسيرا بالباطن كما قلناه عند شرح المتن فلا يوجبان رفع اليد عن الظاهر، و يشهد بذلك استدلال أمير المؤمنين عليه السّلام في هذا الكلام الّذى نحن في شرحه بظاهرها على وجوب المحافظة على الصلوات الخمس و تعاهدها.

الرابع قوله تعالى فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلَّى. وَ لكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى.

و اعترض عليه أيضا بجواز حمل الصّلاة فيها على ما دلّت عليه الأخبار في الاية الاولى و أنّ اللفظ من الألفاظ المجملة المتشابهة المحتاج في تعيين المراد منها إلى التوقيف، فالاستدلال بها و الحال كذلك مردود بتصادم الاحتمالات و الدّخول تحت قوله فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ الاية، على أنّ ما ذكرنا من المعنى هو الموجود في تفسير عليّ بن إبراهيم كما لا يخفى على من راجعه.

و فيه أوّلا منع كون الاية من المتشابهات الّتي يتّبعها الّذين في قلوبهم زيغ، بل من المحكمات الّتي تؤخذ بظواهرها و هنّ امّ الكتاب، و ظاهر الاية كما ترى أنّه لم يصدّق بكتاب اللّه و رسوله و لا صلّى للّه و لكن كذّب بالكتاب و الرّسول و أعرض عن الايمان، و هذا وصف الكافر لا المخالف.

و يدلّ على ذلك ما فى مجمع البيان قال: و جاءت الرّواية أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخذ بيد أبى جهل ثمّ قال له: أَوْلى‏ لَكَ فَأَوْلى‏«» فأولى. ثمّ أولى لك فقال أبو جهل: بأىّ شي‏ء تهدّدنى لا تستطيع أنت و ربّك أن تفعلا بى شيئا و انّي لأعزّ أهل هذا الوادى، فأنزل اللّه سبحانه كما قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هذا.

و أمّا ما فى تفسير علىّ بن إبراهيم من أنه كان سبب نزولها أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله دعا إلى بيعة علىّ يوم غدير خم فلمّا بلّغ الناس و أخبرهم فى علىّ ما أراد أن يخبر رجع الناس فاتكى معاوية على المغيرة بن شعبة و أبى موسى الأشعرى ثمّ أقبل يتمطّى«» نحوه و يقول: ما نقرّبا لولاية لعلىّ أبدا و لا نصدّق محمّدا مقالته، فأنزل اللّه جلّ ذكره فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلَّى الايات، فصعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المنبر و هو يريد البراءة منه فأنزل اللّه عزّ و جلّ لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ فسكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فالجواب عنه أنّ ظاهر قوله سبحانه: فلا صدّق و لا صلّى و لكن كذّب و تولّى، يفيد أنّه لم يصدّق أصلا لا ظاهرا و لا باطنا، و لم يقم الصّلاة بل كذّب و أعرض ظاهرا و باطنا، و هذا شأن الكافر لا المخالف المصدّق ظاهرا فقط، و المكذّب المعرض باطنا فقط.

و على ذلك فاللّازم ترجيح الرّواية المفيدة لكون المراد بهذه الاية هو أبو جهل الكافر كما فى مجمع البيان على ما تفسير القمىّ المفيد كون المراد بها معاوية لأنّ فى الأخذ بالرّواية الأولى إبقاء الاية على ظاهرها و الأخذ بالثانى يوجب صرفها إلى خلاف ما هو الظاهر المتبادر.

و يؤيد كون المراد به أبو جهل أنّ هذه الاية فى سورة القيامة و هى مكيّة كما صرّح به فى مجمع البيان فى تفسير هذه السورة و رواه أيضا فى تفسير سورة هل أتى فانّه يقوى الظنّ بكون نزولها بمكّة فى حقّ أبى جهل لا فى غدير خم فى حقّ معاوية، و اللّه العالم.

الخامس قوله تعالى وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ و هو نصّ صريح في المطلوب.

السادس قوله تعالى وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ ذمّ اللّه المكذّبين بتركهم للرّكوع.

قال في الصّافي: روي أنها نزلت في ثقيف حين أمرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالصّلاة فقالوا لا نحنى، و في رواية لا نجبّى فانّها سبّة، رواها في المجمع قال: فقال: لا خير في دين ليس فيه ركوع و سجود أقول: أى لا نحنى بالمهملة و النّون أى لا نعطف ظهورنا و على الرّواية بالجيم و الباء الموحّدة المشدّدة أى لا ننكبّ على وجوهنا و هما متقاربان.

و أما ما في تفسير عليّ بن إبراهيم عن الصّادق عليه السّلام قال: إذا قيل لهم تولّوا الامام لم يتولّوه، فهو تفسير بالباطن لا يوجب صرف اليد عن الظاهر كما لا يخفى و احتج القائلون بالعدم بوجوه، فصّلها صاحب الحدائق في مبحث غسل الجنابة من الكتاب المذكور لا بأس بذكر عبارته على تفصيلها ثمّ نتبع كلّ وجه وجه بما يتوجّه عليه من وجوه الكلام و ضروب الملام.

فأقول: قال في الحدائق: المشهور بين الأصحاب رضي اللّه عنهم بل كاد أن يكون إجماعا أنّه يجب الغسل على الكافر لأنّ الكفّار مكلّفون بالفروع و لم ينقلوا في المسألة خلافا من أحد من الخاصة بل من العامة إلّا عن أبي حنيفة، قالوا: لكن لا يصحّ منه حال كفره لاشتراط الصحّة بالاسلام و لا يجبّه الاسلام و إنّ جبّ الصّلاة لخروجها بدليل خاص و ما ذكروه منظور عندي من وجوه: الاول عدم الدّليل على التّكليف المذكور و هو دليل العدم كما هو مسلّم بينهم، و ما استدلّوا به هما سيأتى ذكره مدخول بما سنذكره.

أقول: و فيه انك قد عرفت الأدلّة المحكمة على هذا التكليف كما عرفت اندفاع الاعتراضات التي اعترض بها عليها.

الثاني الأخبار الدّالة على توقف التكليف على الاقرار و التصديق بالشهادتين منها ما رواه فى الكافى في الصحيح عن زرارة قال: قلت للباقر عليه السّلام: أخبرني عن معرفة الامام منكم واجبة على جميع الخلق قال: إنّ اللّه تعالى بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى الناس أجمعين رسولا و حجّة للّه على خلقه في أرضه، فمن آمن باللّه و بمحمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و اتبعه و صدّقه فانّ معرفة الامام منّا واجبة عليه، و من لم يؤمن باللّه و رسوله و لم يتبعه و لم يصدّقه و يعرف حقّهما فكيف يجب عليه معرفة الامام، و هو لا يؤمن باللّه و رسوله و يعرف حقّهما الحديث.

و هو كما ترى صريح الدّلالة على خلاف ما ذكروه و أنه متى لم يجب معرفة الامام قبل الايمان باللّه و رسوله فبالطريق الأولى معرفة ساير الفروع التي هي متلقّاة من الامام، و الحديث صحيح السند باصطلاحهم صريح الدّلالة فلا وجه لردّه و طرحه و العمل بخلافه إلّا مع الغفلة عن الوقوف عليه.

قال: و إلى العمل بالخبر المذكور ذهب المحدّث الكاشاني حيث قال في الوافي بعد نقله ما صورته: و في هذا الحديث دلالة على أنّ الكفار ليسوا مكلّفين بشرايع الاسلام كما هو الحقّ، خلافا لما اشتهر بين أصحابنا، انتهى.

قال: و يظهر ذلك أيضا من الأمين الاسترابادى في الفوايد المدنيّة حيث صرّح فيها بأنّ حكمة اللّه اقتضت أن يكون تعلّق التكاليف بالناس على التدريج بأن يكلّفوا أوّلا بالاقرار بالشهادتين ثمّ بعد صدور الاقرار عنهم يكلّفون بساير ما جاء به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و من الأحاديث الدّالة على ذلك صحيحة زرارة في الوافي ثمّ ساق الرّواية بتمامها.

قال: و قال أيضا بعد نقل جملة من أخبار الميثاق المأخوذ على العباد في عالم الذّرّ بالتوحيد و الامامة و نقل جملة من الأخبار الدّالة على فطرة الناس على التوحيد و أنّ المعرفة من صنع اللّه تعالى ما لفظه: أقول: هنا فوائد إلى أن قال: الثالثة أنه يستفاد منها أنّ ما زعمه الأشاعرة من أنّ مجرّد تصوّر الخطاب من غير سبق معرفة إلهامية بحقايق العالم، و بأنّ له رضا و سخطا و أنه لا بدّ له من معلّم من جهته ليعلّم الناس ما يصلحهم و ما يفسدهم كاف في تعلّق التكليف لهم ليس بصحيح، انتهى و اعترض عليه أوّلا بأنّ الاستدلال يتوقف على القياس بطريق الأولى، و هو ممن أنكره في مقدّمات الكتاب و أنكره أشدّ الانكار فكيف يجوز له التمسك به في هذا المقام مضافا إلى أنه مع القول بحجّيته كما هو الحقّ الحقيق بالاتباع الموافق للاية و للأخبار المسلّم عند كافّة علمائنا الأبرار حتى عند المستدلّ في مواضع عديدة و منها هذا الموضع يتوقّف على ثبوت الحكم في المقيس عليه و مسلميّته و قبوله و عدم مخالفته للضرورة، و الأمر في المقام ليس كذلك و ذلك فانّه لا خلاف و لا إشكال عند أحد حتّى عند المستدلّ حيث جعل محلّ نزاعه مع كافّة العلماء عدا أبي حنيفة في خصوص الفروع، و الامامة من الاصول لا من الفروع إجماعا منه و من علمائنا.

و ثانيا أنّ مقتضى هذه الصحيحة عدم التكليف بالامامة و ساير الفروع إلّا بتصديق اللّه و رسوله و هو حقيقة في التّصديق و الاذعان القلبي لا مجرّد الاقرار باللّسان، و على تقدير تسليم العموم فالمراد هنا التّصديق القلبي جزما لقوله عليه السّلام و يعرف حقّهما، فانّ المعرفة ليس ممّا يتوهّم فيه حصوله باللّسان خاصّة بل هو أمر قلبيّ جزما و إذعان نفسانيّ قطعا فحينئذ تدلّ هذه الصحيحة على أنّ المنافقين و منهم الخلفاء الثلاثة لم يكونوا مأمورين بالامامة و لا ساير الفروع، و مقتضى هذا أنّه لم يكن عليهم اثم في غصب الخلافة و ساير ما فعلوه بالنّسبة إلى أهل البيت من ضرب فاطمة عليها السّلام و غصب حقّها و إضرام النّار حول بيتها و إلقاء الحبل على رقبة مولينا أمير المؤمنين عليه السّلام و غير ذلك ممّا فعلوه بالنّسبة إليهم و إلى غيرهم من البدع الّتي ابتدعوها في الدّين و تضييع دين خاتم النّبيين و سيّد المرسلين، و كذا ما فعله يزيد و ساير جنود المخالفين مع سبط الرّسول الأمين و ما فعله المخالفون بالنسبة إلى شيعتهم و غير ذلك، و في جميع ذلك لم يكونوا مأثومين أصلا بل هم و غيرهم من الكفّار الّذين لم يصدر منهم شي‏ء من ذلك متساويين في عقاب واحد، و هو عدم الايمان باللّه و رسوله، و ذلك من حيث عدم تصديقهم للّه و رسوله و معرفة حقّهما فانّهم‏و إن أقرّوا باللّسان إلّا أنّهم لم يصدقوهما قلبا و لم يعرفوا حقّهما، فبمقتضى الصّحيحة نظرا إلى عدم إيمانهم باللّه و رسوله و معرفتهم حقّهما كيف يكلّفهم اللّه تعالى بالامامة و ساير الفروع، و ليس في الصحيحة أنّ مجرّد الاقرار باللّسان كان في ذلك، و على هذا لم يكن لشكاويهم عليهم السّلام عن المخالفين و الخلفاء الثلاثة و طعنهم و لعنهم و إثبات الويل عليهم و تكفيرهم من الجهات الّتي ذكرت و تفسيقهم و كذا طعن علمائنا و منهم المستدلّ عليهم وجه، بل كان لغوا محضا و يلزمه أنّه لو فعل ذلك أو شيئا من ذلك غير المنافقين من ساير الكفّار الذين لم يقروا بالاسلام بالنّسبة إلى سادة الأنام و فاطمة بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و سبطيه عليهما السّلام و غيرهم من شيعتهم و أولادهم و ذراريهم بالقتل و النهب و الاسر أنّه لم يكن عليهم في ذلك شي‏ء، و يكونون هم و ساير من لم يحدث أمثال هذا عنه في العقاب متساويين، و قطعيّ أنّ المستدلّ لا يقول به أيضا إذا القول بذلك من أشنع الشّنايع و أقبح الفضايح، و هل كان مراد النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله بقوله في حقّ فاطمة عليها السّلام من آذاها فقد آذاني و غير ذلك بالنّسبة إليها و إلى غيرها من الحسنين و أمير المؤمنين عليهم السّلام و أولادهم خصوص المؤمنين المصدّقين للّه و لرسوله العارفين بحقّهما، أو المراد منه الأعمّ بل ملحوظ نظره خصوص المخالفين أ فيجوّز المستدلّ ذلك بالنّسبة إلى غيرهم فيحكم بجواز اسر غيرهم للسادات و العلويّات و الفاطميّات و قتلهم و نهب أموالهم و هتك عرضهم و غير ذلك من النّاس بل الأنبياء ما هذا إلّا شي‏ء عجيب أقرب من الكفر لو لم يكن كفرا.

و ثالثا انّ المخالفين عند المستدلّ كفار حقيقة بالكفر المقابل للاسلام، فيلزمه جريان أحكامهم فيه و منها القول الذى استحدثه من عدم العقاب على ترك شي‏ء من التكاليف ما هذا إلّا أمر غريب و شي‏ء عجيب و بالجملة فانّ الصحيحة صريحة في عدم تكليف المخالفين بالامامة و لا بشي‏ء من الفروع، و يفصح عنه قوله عليه السّلام: فكيف يجب عليه معرفة الامام و هو لا يؤمن باللّه و رسوله، و يعرف حقّهما، و ذلك بالتّقريب الذى تقدّم، و نزيد حينئذ وجه دلالته على ذلك هنا فنقول: إنّ مقتضاها أنّ التّكليف بالامامة فرع الايمان باللّه و رسوله و هو على ما عرفوه و ورد به الخبر و قد ذكره في أوّل كتاب الصّلاة هو الاقرار باللّسان و التصديق بالجنان و العمل بالأركان و لا ريب في أنّ ذلك لم يتحقّق في حقّ الخلفاء الثلاث لعدم تصديقهم بالجنان، هذا أ فتجوّز أيّها العاقل أنّ الكفّار المحاربين للنّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الكاسرين لأسنانه و القاتلين للمسلمين في زمنه صلّى اللّه عليه و آله و المتصدّين لايقاع البلايا و المحن عليه أن يكونوا في جميع ذلك معذورين غير مأثومين و أنّ دعاءه صلّى اللّه عليه و آله عليهم في بعض الحروب كان عبثا و لغوا بلا منشاء و أنّ المنشأ هو عدم الاقرار مع أنّه لا وجه لدعائه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليهم في ذلك الحين خاصّة دون غيرهم أولهم في غير تلك الحال.

و رابعا أنّ هذه الصحيحة معارضة بما في التهذيب في باب أنّ الجزية واجبة على جميع أهل الكتاب عن محمّد بن يعقوب الكليني عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن حماد عن حريز قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن صدقات أهل الذّمّة و ما يؤخذ من جزيتهم من ثمن خمورهم و لحم خنازيرهم و ميتتهم، قال عليه السّلام: عليهم الجزية في أموالهم يؤخذ منهم من ثمن لحم الخنزير أو خمر كل ما أخذوا منهم من ذلك فوزر ذلك عليهم و ثمنه للمسلمين حلال، يأخذونه في جزيتهم.

و هذا الخبر ليس في سنده من يتوقّف فيه سوى إبراهيم بن هاشم و هو على المشهور حسن كالصحيح و عند المحقّقين من المتأخّرين كما ذكره المستدلّ و ارتضاه ثقة، و السّند المشتمل عليه إذا كان الباقي من رجال السّند لا يتوقّف فيه صحيح، هذا مع أنّه لم يقل بهذا الاصطلاح الذى تصدّى لنا سلبه متأخّر و أصحابنا شكر اللّه سعيهم، فالحديث حجّة عنده و لو كان راويه من أكذب البريّة و صرّح بكذبه الأئمة و تصحيح سنده منّا تبرعيّ و سدّ لباب فرار الخصم لو ادّعى مراعاة الصّحة فى السّند بعد وقوع المعارضة بينه و بين ما صحّ سنده، و مع صحّة سنده كما ترى صريح في ثبوت الوزر عليهم في استحلالهم ثمن ما لا يحلّ ثمنه في ملّة الاسلام و مع ثبوت الوزر عليهم في ذلك يثبت في المعاصى الّتي ذكرناها الّتي هى أشدّ منها و مقتضى الأولويّة الّتي تمسّك بها في اثبات مطلبه ثبوت الوزر عليهم في المعاصى التي هى أشدّ بطريق الأولويّة هذا، مضافا إلى عدم القول بالفصل‏

 

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 12   ، صفحه‏ى 352

قال المحقّق الثاني المحقق الشيخ على بعد ذكر هذا الخبر: فيه دلالة على أنّ الكافر يؤخذ بما يستحلّه إذا كان حراما في شريعة الاسلام و أنّ ما يأخذونه على اعتقاد الحلّ حلال علينا و إن كان ذلك الأخذ حراما عندنا.

و مراده بقوله: يؤخذ بما يستحلّه المؤاخذة عليه و ايجاب ذلك العقاب لا أخذ الجزية لتبادر الأوّل من العبارة.

و به اعترف من كتاب الزّكاة في مسألة استحباب ما سوى الزّكاة من الحقوق التي فى المال من الضّغث بعد الضغث و الحفنة بعد الحفنة يوم الجذاذ حيث إنه من القائلين بالاستحباب مستندا إلى رواية معاوية بن شريح قال: سمعت الصادق عليه السّلام يقول: في الزّرع حقّ تؤخذ به و حقّ تعطيه.

حيث قال: المتبادر من هذه العبارة العقاب على تركه، و هو كناية عن الوجوب و الالزام به شرعا.

و استشهد لذلك بما في المصباح المنير من قوله: و أخذ بذنبه، عاقبه عليه، و إن كان في الاستشهاد نوع تأمّل.

و هذه الصّحيحة مع صراحتها في ذلك معتضدة بعمل كافّة العلماء إلّا أبا حنيفة على اعترافه و معتضدة بأدلّة العقلاء الّتي ديدنه التمسّك بها فكيف يعارضها التي ذكرها المستدلّ.

مضافا إلى معارضة الكتاب العزيز لها قال اللّه تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ و قد نهاهم اللّه عن القرب من المسجد الحرام و بمقتضى الصّحيحة لم يكن لهذا التّكليف وجه، و كذا تكليفهم بالجزية و أخذها منهم و ايجابها عليهم.

و يدلّ على أنّهم مكلّفون بشريعة الاسلام و فروعها زيادة على الايمان قوله عزّ من قائل: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ‏

انظر ايّدك اللّه تعالى إلى ظهور هذه الاية في كونهم مكلّفين بتحريم ما حرّم اللّه و التّدين بدين الحق بل و صراحتها في ذلك، فانّهم لو لم يكونوا مكلّفين بذلك لما كان لإرداف قوله: لا يحرّمون ما حرّم اللّه، إلى آخره بقوله: لا يؤمنون باللّه و لا باليوم الاخر و إيراد ذلك في بيان منشاء مقابلتهم و أخذ الجزية منهم وجه، إذ كان عدم الايمان كافيا في ذلك، فيصير الإرداف المذكور لغوا بحتا و خاليا عن الفايدة بالمرّة تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

و قال سبحانه أيضا وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَ لا يَزْنُونَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً. يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ انظر إلى صراحة هذه الاية أيضا فجعل العذاب المضاعف جزاء لهم على الأفعال المذكورة و من جملتها قتل النفس و الزّنا، فلو لا أنّ كلا من الامور المذكورة يصير سببا لضعف العذاب يوم القيامة أو المجموع من حيث المجموع لما كان لتأخير الاشارة أى لفظة ذلك عن جميع ذلك وجه، بل كان المناسب بل اللازم دفعا لتوهّم الاشتراك إردافها بالأمر الأوّل فقط و هو الشّرك ليفيد انفراده في السّببيّة.

و الايات الظاهرة في ذلك كثيرة، و العمل بالصّحيحة يوجب ردّها بأجمعها و أىّ عاقل يرضى بهذا و قد أمروا عليهم السّلام في أخبار كثيرة مستفيضة بالأخذ بما وافق الكتاب، و هذه الأخبار متلقّاة بالقبول حتّى عند المستدلّ فالصّحيحة الموافقة له و هى ما ذكرناها ترجّح على الصحيحة المخالفة له و هى ما ذكرها.

و بعد هذا كلّه نقول: الذى يفهم من الصحيحة غير ما فهمه المستدلّ و ذكره، بل المراد منها و اللّه العالم و قائله أعلم: أنّ مخاطبة الكفّار المنكرين غير المقرّين باللّه و رسوله إلى معرفة الامام الذى هو نائبه و خليفته و من تجب إطاعته و توجيه الخطاب بذلك إليهم يكاد أن يكون ذلك لغوا، و ذلك لا يستلزم عدم إرادتها و مطلوبيّتها منهم.

و نظير ذلك في الشّرع كثير منه تكليف النائم و كذا الغافل و كذا فاقدالطهور عند المحقّقين في الأخير و عند الكلّ في الأوّلين بقضاء الصلاة التي فاتتهما الذى هو عبارة عن تدارك ما فات اتفاقا، فلو لا أنّ الصلاة مرادة و مطلوبة منهم في تلك لأحوال لما كان للأمر بالقضاء معنى.

و لذلك مثال في العرف كأن يكون لشخص عبد لا يطيعه و يعصيه فلا يأمره باطاعة وكيله مثلا، و لا يوجه إليه الخطاب باطاعة الوكيل مع أنّه لو وجّهه لا يطيعه جزما، فانّ ذلك لا يوجب عدم المطلوبيّة منه و عدم إرادته على وجه الوجوب و اللزوم لينحصرا فيما دلّ عليه الأمر الخطابىّ.

فالمراد بقوله عليه السّلام: كيف يجب عليه معرفة الامام، أنّه كيف يوجّه الخطاب إليه.

و لذلك مثال آخر و هو أنّ الأمر بالشي‏ء عند المحقّقين لا يستلزم الامر بما هو مقدّمة لوجوده، و يقولون بعدم حرمته من حيث إنّها مقدّمة و مع ذلك يقولون إنّ الخطاب بالاباحة و عدم الحرمة يكون لغوا و إن كان ما تضمّنه الخطاب حقّا، و يكون مثله كبيان الواضحات مثل أنّ النّائم لا يبصر و الأسود الزّنجى لا يعلم الغيوب و أمثال ذلك، فعدم توجّه الخطاب من حيث القبح في الصدور لا يستلزم عدم ما تضمّنه لو صدر و قبحه و ذلك واضح لا يخفى.

قال صاحب الحدائق: و منها ما رواه الثقة الجليل أحمد بن أبي طالب الطبرسي في الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث الزّنديق الذى جاء إليه مستدّلا عليه باى القرآن قد اشتبهت حيث قال عليه السّلام: فكان أوّل ما قيّدهم به الاقرار بالوحدانيّة و الرّبوبيّة و شهادة أن لا إله إلّا اللّه، فلمّا أقرّوا بذلك تلاه بالاقرار لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله بالنّبوة و الشهادة بالرّسالة، فلمّا انقادوا لذلك فرض عليهم الصلاة ثمّ الصوم ثمّ الحجّ، الحديث.

و فيه بعد تسليم حجّيته بحسب السند حيث إنّه ليس من أخبار الكتب التي يدعى قطعيّتها، أنّ التكليفات في صدر الاسلام و أوّل البعثة صدرت تدريجا و لم ينسخ‏الشريعة السابقة دفعة، بل إنّما نسخ شيئا فشيئا، و ليس ذلك من محلّ النزاع في شي‏ء، فانّه لا ريب أنّهم متعبّدون بشريعتهم السابقة، و لكن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم ينسخها عنهم دفعة بل أبقاهم في أوّل الشريعة على شريعتهم و نسخ منها شيئا فشيئا فأوجب عليهم بعض التكاليف تدريجا، و ذلك لا يستلزم عدم كونها مكلّفين بالتكاليف في شريعتنا بعد انتساخ شريعتهم، قال: و منها ما رواه الثقة الجليل علىّ بن إبراهيم القمّى في تفسيره عن الصادق عليه السّلام في تفسير قوله تعالى وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ حيث قال عليه السّلام: أ ترى أنّ اللّه عزّ و جلّ طلب من المشركين زكاة أموالهم و هم يشركون به حيث يقول: و ويل للمشركين الذين لا يؤتون الزّكوة و هم بالاخرة هم كافرون، إنّما دعى اللّه العباد للايمان به فاذا آمنوا باللّه و رسوله افترض عليهم الفرض.

قال المحدّث الكاشاني في كتاب الصافي بعد نقل الحديث المذكور: أقول: هذا الحديث يدلّ على ما هو التحقيق عندي من أنّ الكفّار غير مكلّفين بالأحكام الشرعيّة ما داموا باقين على الكفر، انتهى.

و فيه بعد تسليم السّند الحمل على التّقيّة لكونه مذهب أبي حنيفة كما اعترف، و هو قد كان في زمان مولينا الصادق عليه السّلام و من تلامذته، و مذهبه كان مشهورا بينهم في زمانه.

و الشاهد على الحمل على التّقيّة و تعيّنه أنّه مع عدم هذا الحمل يلزم مناقضة مضمون الخبر لنصّ الاية، فانّها صريحة فى أنّ المراد بالمشركين هم الكفّار الذين لا يؤمنون بالاخرة حيث وصفهم فيها بقوله: وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ.

و حينئذ فمقتضى الخبر أنّ مورد الاية إمّا المسلمون أو الذين لا نعرفهم أولا مورد لها، و الأخيران باطلان جزما و كذلك الأوّل لأنّه يلزم أن يكون المسلمون و المؤمنون مشركين كافرين بيوم الاخر، فيحكم بنجاستهم و كفرهم و عدم قربهم من المسجد الحرام و غير ذلك من أحكام الكفر، كما فعل ذلك المستدلّ في الحكم‏ بكفر المخالفين من حيث إطلاق الكفر عليهم في الأخبار و جعلهم بذلك كفارا حقيقة بالكفر المقابل للاسلام فاذا كان مؤمن لا يؤتى الزّكاة يلزم الحكم بكفره و شركه و نجاسته و استحقاقه للخلود في النار و هو قطعىّ الفساد عند المستدلّ و عند الكلّ، هذا.

مع أنّ الشرك و الكفر بالاخرة الواقعين في الاية وصفا لمن لا يؤتي الزكاة حقيقة فيمن صدر عنه هذان الوصفان، و ليس المسلم كذلك جزما و وجدانا، و حينئذ فالعمل بالخبر يستلزم إلغاء الاية و عدم وجود مصداق لها أو القول بكفر من لا يؤت الزّكاة من المؤمنين و شركه و ترتّب أحكامهما عليه و لا أراه يقول به.

و بالجملة ظاهر الخبر مناقض لصريح الاية و قد قالوا في أخبار كثيرة: ما خالف الكتاب فاضربوه على الحائط، و أىّ مخالفة أشدّ من هذه المخالفة.

و لو قيل بكون هذا الخبر تفسيرا لها و وجوب المصير إليه لزم منه طرح تلك الأخبار و يلزم منه أن لا يوجد مصداق تلك الأخبار الامرة لضرب المخالف للقرآن على الحائط إذ كلّ خبر مخالف يحتمل أن يكون تفسيرا للقرآن و إن لم يرد في تفسيره فأىّ خبر يعلم منه المخالفة للقرآن.

و بمقتضى جميع ما ذكر يتعيّن الحمل على التقيّة الّتي هي باعتراف المستدلّ رأس كلّ آفة و بليّة.

مع أنّه يحتمل أن يكون المراد بهذا الخبر ما قدّمناه في الاعتراض على الخبر الأوّل من أنّ عدم توجّه الخطاب إليهم لا ينافي مطلوبيّته منهم، أو ما قدّمناه في الاعتراض على الخبر الثاني من أنّهم في صدر الاسلام و أوّل البعثة لم يؤمروا بذلك، و إنّما كلّفوا بالتكاليف شيئا فشيئا، و إليه يشير قوله عليه السّلام في آخر الخبر: إنّما دعا اللّه العباد للايمان، و على ذلك فلا دلالة فيه على ما رامه.

قال صاحب الحدائق: و مما يدلّ على ذلك ما ورد عن الباقر عليه السّلام في تفسير قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ حيث قال: كيف يأمر بطاعتهم و يرخّص في‏منازعتهم، إنّما قال ذلك للمأمورين الذين قيل لهم أطيعوا اللّه و أطيعوا الرّسول.

أقول: تمام الحديث ما رواه في الكافي عن بريد العجلى قال: تلا أبو جعفر عليه السّلام أطيعوا اللّه و أطيعوا الرّسول و اولى الأمر منكم فان خفتم تنازعا في الأمر فارجعوه إلى اللّه و إلى الرّسول و إلى اولى الأمر منكم، ثمّ قال: كيف يأمر بطاعتهم و يرخّص في منازعتهم إنما قال ذلك للمأمورين الذين قيل لهم أطيعوا اللّه و أطيعوا الرّسول.

و هو كما ترى لا دلالة فيه على ما رامه المستدلّ بوجه، بل محصّل معناه أنّه كان في مصحفهم عليهم السّلام فارجعوه مكان فردّوه و يحتمل أن يكون تفسيرا له كما أنّ قوله فان خفتم تنازعا للأمر تفسير لقوله فان تنازعتم في شي‏ء، و يستفاد منه أيضا أنّه كان في مصحفهم و إلى اولى الأمر منكم، فيدلّ على أنّه لا يدخل أولو الأمر في المخاطبين بقوله: إن تنازعتم، كما زعمه المفسّرون من المخالفين، فقوله: كيف يأمر بطاعتهم و يرخّص فى منازعتهم، يريد به أنّ اللّه سبحانه أمر بطاعتهم أولا بقوله: و أطيعوا الرّسول و اولى الأمر منكم، و مع ذلك فلا يجوز إدخالهم في المخاطبين بقوله: فان تنازعتم إذ وجوب الاطاعة لا يجتمع مع التّرخيص في المنازعة فلا بدّ أن يكون المقصود بالخطاب غيرهم، و هم الذين امروا أوّلا باطاعة اللّه و الرّسول و اولى الأمر، فامروا ثانيا عند التّنازع بالرّد و الرّجوع إليهم أيضا، فافهم جيّدا.

الثالث لزوم تكليف ما لا يطاق إذ تكليف الجاهل بما هو جاهل به تصوّرا و تصديقا عين تكليف ما لا يطاق، و هو ممّا منعته الأدلة العقليّة و النّقلية لعين ما تقدّم في حكم معذورية الجاهل، و إليه يشير كلام الذخيرة في مسألة الصلاة مع النّجاسة عامدا حيث نقل عن بعضهم الاشكال في إلحاق الجاهل بالعامد، و قال بعده: و الظاهر أنّ التكليف متعلّق بمقدّمات الفعل كالنّظر و السعى و التعلّم، و إلّا لزم تكليف الغافل أو التكليف بما لا يطاق، و العقاب يترتّب على ترك النظر «إلي أن قال» و لا يخفى أنّه يلزم على هذا أن لا يكون الكفّار مخاطبين بالأحكام و إنّما يكونون‏مخاطبين بمقدّمات الأحكام، و هذا خلاف ما قرّره الأصحاب رضي اللّه عنهم و تحقيق المقام من المشكلات.

قال صاحب الحدائق بعد نقل هذا الكلام: لا إشكال بحمد اللّه سبحانه فيما ذكره بعد ورود الأخبار بمعذوريّة الجاهل حسبما مرّ، و ورودها بخصوص الكافر كما نقلنا هنا، و لكنّهم يدورون مدار الشّهرة في جميع الأحكام و إن خلت عن الدّليل في المقام سيّما مع عدم الوقوف على ما يضادّها من أخبار أهل الذكر عليهم السّلام.

و فيه أوّلا أنّ هذا الدّليل أخصّ من المدّعى لا يشمل من تصوّر أحكام الاسلام و عرفه.

و ثانيا إن كان مراده بذلك الجاهل المستضعف الذى لا يعرف الاسلام، و لم يسمع صيته أصلا فلا كلام فيه.

و إن أراد من سمع صيت الاسلام و عرفه فلا نسلم أنّه جاهل تصوّرا و تصديقا بل لا ريب أنّه عالم بالشّرايع الموظفة و لو إجمالا.

نعم ليس عالما بذلك تفصيلا فهو متصوّر لما في الاسلام من شريعة و أحكام كما أنّا مثلا عارفون بدين أهل الكفر و أنّ لهم شرايع و أحكاما و إن كنّا جاهلين بذلك تفصيلا، و هذا القدر من العلم يكفى.

و لذلك انّ أصحابنا لا يعذرون الجاهل في الأحكام نظرا إلى علمه بذلك إجمالا و لو لم يكف هذا المقدار لزم أن لا يكلّف المقرّ باللّه و رسوله بمعرفة الامام و الفروع أصلا حتّى الصّلاة و الزّكاة و الحجّ و لا يعاقب بتركها أيضا، و يكون الأمر بالمعرفة الواردة في الأخبار ليس فيه فايدة، و من الفروع وجوب تحصيل المعرفة بالأحكام و على ما ذكره يلزم أن لا يكونوا مكلّفين، و هو ممّن يقول بوجوب تحصيل المعرفة على المسلمين.

و على قوله لم يكن فرق بينها و بين ساير الواجبات و المحرّمات إذ الجهل الذى هو علّة لعدم تعلّق التكليف بما وراء المعرفة من حيث استلزامه التكليف بمالا يطاق جاء في نفس المعرفة أيضا فأنّى له بالفارق، هذا.

مع أنّه لو صحّ ما ذكر يلزم قبح التكليف بالاصول أيضا لاتّحاد العلّة بل ازديادها فيها، و ذلك فانّ من تيقّن بطلان الاسلام فضلا عن أن يجهله مكلّف بالاصول جزما فتكليف من هو جاهل بها أولى كما لا يخفى.

و يلزم على ذلك خروج اكثر الكفار لو لم يكن كلّهم عن التكليف بالاسلام لاستحالة تكليف الجاهل فضلا عن العالم، و لا ريب أنّ كلّ من دان بدين إلّا من شذّ متيقّن بدينه جازم بصحّته، ففي حال الجزم و اليقين كيف يكلّف بالعلم ببطلان ما علمه و فساد ما تيقّن به.

و بذلك يظهر أنّهم ليسوا مكلّفين بالاصول و الحال أنّ المستدلّ لا يقول به، و ليت شعرى كيف لا يلتزم به مع اقتضاء دليله ذلك و جريانه فيه بل أولى بالجريان كما عرفت، هذا.

و قد يقرّر هذا الدّليل أعني لزوم التكليف بما لا يطاق بوجه آخر و هو أنّ الكافر غير قادر على الاتيان بالعبادة الصّحيحة المشروطة بالايمان.

و اجيب عنه بأنّا نقول انّهم مكلّفون بالفروع حال الكفر لا بشرط الكفر فالكفر ظرف للتّكليف لا للمكلّف فلا يلزم التكليف بما لا يطاق.

الرابع الأخبار الدّالة على وجوب طلب العلم كقولهم عليهم السّلام طلب العلم فريضة على كلّ مسلم فانّ موردها المسلم دون مجرّد البالغ العاقل.

و فيه أنّ الاستدلال بتلك الأخبار موقوف على القول بحجيّة مفهوم اللّقب و هو مع كونه خلاف التّحقيق لا يقول به المستدلّ أيضا فلا وجه لاستدلاله بها على المدّعى.

الخامس اختصاص الخطاب القرآنى بالذين آمنوا، و ورود يا أيّها النّاس في بعض و هو الأقلّ يحمل على المؤمنين حملا للمطلق على المقيّد و العام على الخاص كما هو القاعدة المسلّمة بينهم.

و الجواب ما قدّمنا في الدّليل السّابق، و هو أنّ دلالته من حيث مفهوم‏اللّقب الذى ليس بحجّة عنده و عند المحقّقين.

تكملة

هذا الكلام الشّريف له عليه السّلام حسبما أشرنا إليه مروىّ في الكافي عن على ابن إبراهيم عن أبيه عن بعض أصحابه عن أبي حمزة عن عقيل الخزاعى أنّ أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه كان إذا حضر الحرب يوصى للمسلمين بكلمات يقول: تعاهدوا الصّلاة و حافظوا عليها، و استكثروا منها، و تقرّبوا بها فانّها كانت على المؤمنين كتابا موقوتا، و قد علم ذلك الكفّار حين سئلوا، ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلّين و قد عرف حقّها من طرقها و أكرم بها من المؤمنين الذين لا يشغلهم عنها زين متاع و لا قرّة عين من مال و لا ولد يقول اللّه عزّ و جلّ: رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منصبا«» لنفسه بعد البشرى له بالجنّة من ربّه فقال عزّ و جلّ: وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَ اصْطَبِرْ عَلَيْها، الاية، فكان يأمر بها أهله و يصبر عليها نفسه.

ثمّ إنّ الزكاة جعلت مع الصلاة قربانا لأهل الاسلام على أهل الاسلام، و من لم يعطها طيب النّفس بها يرجو بها من الثّمن ما هو أفضل منها فانّه جاهل بالسنة مغبون الأجر ضالّ العمر طويل النّدم بترك أمر اللّه عزّ و جلّ و الرغبة عمّا عليه صالحو عباد اللّه يقول اللّه عزّ و جلّ: وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى من الأمانة فقد خسر من ليس من أهلها و ضلّ عمله عرضت على السّماوات المبنيّة و الأرض المهاد و الجبال المنصوبة فلا أطول و لا أعرض و لا أعلى و لا أعظم و لو امتنعن «امتنعت خ ل» من طول أو عرض أو عظم أو قوّة أو عزّة امتنعن، و لكن أشفقن من العقوبة.

ثمّ إنّ الجهاد أشرف الأعمال بعد الاسلام، و هو قوام الدّين و الأجر فيه عظيم مع العزّة و المنعة و هو الكرّة فيه الحسنات و البشرى بالجنّة بعد الشّهادة و بالرّزق غدا عند الرّب و الكرامة يقول اللّه عزّ و جلّ: وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ، الاية.

ثمّ إنّ الرّعب و الخوف من جهاد المستحقّ للجهاد و المتوازرين على الضلال ضلال في الدّين و سلب للدّنيا مع الذلّ و الصّغار، و فيه استيجاب النار بالفرار من الزّحف عند حضرة القتال يقول اللّه عزّ و جلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ.

فحافظوا على أمر اللّه عزّ و جلّ في هذه المواطن الّتي الصّبر عليها كرم و سعادة، و نجاة في الدّنيا و الاخرة من فظيع الهول و المخافة، فانّ اللّه عزّ و جلّ لا يعبأ بما العباد مقترفون ليلهم و نهارهم لطف به علما، و كان «كل خ ل» ذلك في كتاب لا يضلّ ربّى و لا ينسى، فاصبروا و صابروا و اسألوا النّصر، و وطنوا أنفسكم على القتال و اتّقوا اللّه عزّ و جلّ، فانّ اللّه مع الّذين اتّقوا و الّذينهم محسنون.

بيان

رواه المحدّث العلامة المجلسيّ في البحار من الكافي كما رويناه و قال بعد نقله: قوله: من طرقها، لعلّه من الطروق بمعنى الاتيان باللّيل أى واظب عليها في اللّيالى و قيل: أى جعلها دأبه و صنعته من قولهم هذا طرقة رجل أى صنعته.

و لا يخفى ما فيه و لا يبعد أن يكون تصحيف طوّق بها على المجهول أى ألزمها كالطّوق بقرينة اكرم بها على بناء المجهول أيضا.

قوله على أهل الاسلام، الظاهر أنّه سقط هنا شي‏ء قوله: من الأمانة، لعلّه بيان لسبيل المؤمنين، أى المراد بسبيل المؤمنين ولاية أهل البيت عليهم السّلام و هي الامانة المعروفة.

قوله عليه السّلام: و هو الكرّة، أى الحملة على العدوّ و هي في نفسها أمر مرغوب فيه اذ ليس هو الّا مرّة واحدة و حملة فيها سعادة الأبد، و يمكن أن يقرأ الكرّة بالهاء، أى هو مكروه للطباع فيكون إشارة إلى قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ، و لعلّه أصوب.

و قال الجوهرى: زحف إليه زحفا، مشى و الزّحف الجيش يزحفون إلى العدوّ، و قوله: لطف به، الضمير راجع إلى الموصول في قوله: ما العباد مقترقون.

الترجمة

از جمله كلام بلاغت نظام آن امام است وصيّت مي كرد با آن أصحاب خود را مى ‏فرمود: مواظبت نمائيد بأمر نماز و محافظت نمائيد بر آن و بسيار كنيد از گذاردن آن و تقرّب جوئيد بدرگاه پروردگار با آن، پس بدرستى كه بوده است آن نماز بر مؤمنين فرض واجب، آيا گوش نمى ‏كنيد بسوى جواب اهل آتش وقتى كه سؤال كرده شدند كه چه باعث شد بامدن شما در دوزخ، گفتند نبوديم ما در دنيا از نماز گذارندگان، و بدرستى كه آن نماز مى‏ ريزد گناهان را مثل ريختن برك از درختان و بر مى‏ دارد قيد گناهان را از گردن گناه كاران مثل برداشتن بند ريسمان از گردن حيوان.

و تشبيه فرموده است نمازهاى پنج گانه را حضرت رسالتماب صلوات اللّه و سلامه عليه و آله بچشمه آب گرمى كه باشد در خانه مرد پس بشويد آن مرد بدن خود را در آن چشمه در روز و شب پنج دفعه، پس نزديك نيست كه باقى ماند بر بدن او چركى و كثافتى، و بتحقيق كه شناخت قدر نماز را مردانى از مؤمنين كه مشغول نمى‏ كند ايشان را از آن نماز زينت متاع دنيا و نه چشم روشنى از اولاد و نه مال آن مى‏ فرمايد حق تعالى در شان ايشان: رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ الاية، يعنى تسبيح كند خداوند را مردانى كه مشغول نمى‏ نمايد ايشان را تجارت و خريد و فروش از ذكر پروردگار و از اقامه نماز و از دادن زكاة و بود حضرت رسول خدا بغايت متحمل بمشقّت و زحمت نماز با وجود اين كه بشارت بهشت داده بود او را بجهت فرمايش خدا كه خطاب فرمود او را كه: امر كن اهل خود را بنماز و صبر كن برحمت آن، پس بود آن بزرگوار امر مى ‏فرمود اهل خود را و وادار مى‏ نمود نفس خود را بر آن.

پس از آن بدرستى كه زكاة گردانيده شده با نماز مايه تقرّب خدا از براى اهل اسلام پس كسى كه عطا نمايد زكاة را در حالتى كه با طيب نفس بدهد آنرا پس بدرستى كه باشد آن از براى او كفّاره گناهان و حاجب و مانع از آتش سوزان، پس البتّه نبايد احدى چشمش بر پشت آن بدوزد، و البته نبايد غمگين و پريشان شود بان از جهت اين كه هر كسى كه بدهد زكاة را با وجه إكراه و عدم طيب نفس در حالتى كه اميدوار باشد بجهت دادن آن ثوابى را كه أفضل باشد از آن پس آن كس جاهلست بسنّت، مغبونست در اجرت، گمراهست در عمل، دراز است پشيمانى و ندامت آن.

پس از آن أداء أمانت است پس بتحقيق كه نوميد شد كسى كه نبوده از أهل آن، بدرستى كه آن امانت اظهار شد بر آسمانهاى بنا شده، و بر زمينهاى فرش شده، و بر كوههائى كه صاحب بلندى و منصوبست بر زمين، پس نيست هيچ چيز درازتر و پهن‏تر و بلندتر و بزرگتر از آنها، و اگر امتناع مى‏ نمودى چيزى بجهت درازى يا پهنى يا بجهت قوّت يا عزّت هر آينه آنها امتناع مى‏ كردند، و لكن ترسيدند از عذاب پروردگار، و فهميدند چيزى را كه جاهل شد بان كسى كه ضعيفتر از ايشان بود كه عبارت باشد از انسان، بدرستى كه آن انسان بسيار ظالمست بسيار نادان، بدرستى كه خداى تعالى مخفى نمى‏ ماند بر او چيزى كه بندگان كسب نمايند آنرا در شب و روز خودشان، لطيف خبير است به كار ايشان، و محيط است با علم خود بان، أعضاء شما شاهدان اويند، و جوارح شما لشكران او، و قلبهاى شما جاسوسان او، و خلوتهاى شما آشكار است در نظر آن

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 197 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 198 صبحی صالح

198- و من خطبة له ( عليه ‏السلام  ) ينبه على إحاطة علم اللّه بالجزئيات، ثم يحث على التقوى، و يبين فضل الإسلام و القرآن‏

يَعْلَمُ عَجِيجَ الْوُحُوشِ فِي الْفَلَوَاتِ وَ مَعَاصِيَ الْعِبَادِ فِي الْخَلَوَاتِ وَ اخْتِلَافَ النِّينَانِ فِي الْبِحَارِ الْغَامِرَاتِ وَ تَلَاطُمَ الْمَاءِ بِالرِّيَاحِ الْعَاصِفَاتِ وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً نَجِيبُ اللَّهِ وَ سَفِيرُ وَحْيِهِ وَ رَسُولُ رَحْمَتِهِ

الوصية بالتقوى‏

أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي ابْتَدَأَ خَلْقَكُمْ وَ إِلَيْهِ يَكُونُ مَعَادُكُمْ وَ بِهِ نَجَاحُ طَلِبَتِكُمْ وَ إِلَيْهِ مُنْتَهَى رَغْبَتِكُمْ وَ نَحْوَهُ قَصْدُ سَبِيلِكُمْ وَ إِلَيْهِ مَرَامِي مَفْزَعِكُمْ

فَإِنَّ تَقْوَى اللَّهِ دَوَاءُ دَاءِ قُلُوبِكُمْ وَ بَصَرُ عَمَى أَفْئِدَتِكُمْ وَ شِفَاءُ مَرَضِ أَجْسَادِكُمْ وَ صَلَاحُ فَسَادِ صُدُورِكُمْ وَ طُهُورُ دَنَسِ أَنْفُسِكُمْ وَ جِلَاءُ عَشَا أَبْصَارِكُمْ‏وَ أَمْنُ فَزَعِ جَأْشِكُمْ وَ ضِيَاءُ سَوَادِ ظُلْمَتِكُمْ

فَاجْعَلُوا طَاعَةَ اللَّهِ شِعَاراً دُونَ دِثَارِكُمْ وَ دَخِيلًا دُونَ شِعَارِكُمْ وَ لَطِيفاً بَيْنَ أَضْلَاعِكُمْ وَ أَمِيراً فَوْقَ أُمُورِكُمْ

وَ مَنْهَلًا لِحِينِ وُرُودِكُمْ وَ شَفِيعاً لِدَرَكِ طَلِبَتِكُمْ وَ جُنَّةً لِيَوْمِ فَزَعِكُمْ وَ مَصَابِيحَ لِبُطُونِ قُبُورِكُمْ وَ سَكَناً لِطُولِ وَحْشَتِكُمْ وَ نَفَساً لِكَرْبِ مَوَاطِنِكُمْ

فَإِنَّ طَاعَةَ اللَّهِ حِرْزٌ مِنْ مَتَالِفَ مُكْتَنِفَةٍ وَ مَخَاوِفَ مُتَوَقَّعَةٍ وَ أُوَارِ نِيرَانٍ مُوقَدَةٍ

فَمَنْ أَخَذَ بِالتَّقْوَى عَزَبَتْ عَنْهُ الشَّدَائِدُ بَعْدَ دُنُوِّهَا وَ احْلَوْلَتْ لَهُ الْأُمُورُ بَعْدَ مَرَارَتِهَا وَ انْفَرَجَتْ عَنْهُ الْأَمْوَاجُ بَعْدَ تَرَاكُمِهَا وَ أَسْهَلَتْ لَهُ الصِّعَابُ بَعْدَ إِنْصَابِهَا

وَ هَطَلَتْ عَلَيْهِ الْكَرَامَةُ بَعْدَ قُحُوطِهَا. وَ تَحَدَّبَتْ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ بَعْدَ نُفُورِهَا وَ تَفَجَّرَتْ عَلَيْهِ النِّعَمُ بَعْدَ نُضُوبِهَا وَ وَبَلَتْ عَلَيْهِ الْبَرَكَةُ بَعْدَ إِرْذَاذِهَا

فَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي نَفَعَكُمْ بِمَوْعِظَتِهِ وَ وَعَظَكُمْ بِرِسَالَتِهِ وَ امْتَنَّ عَلَيْكُمْ بِنِعْمَتِهِ فَعَبِّدُوا أَنْفُسَكُمْ لِعِبَادَتِهِ وَ اخْرُجُوا إِلَيْهِ مِنْ حَقِّ طَاعَتِهِ

فضل الإسلام‏

ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْإِسْلَامَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي اصْطَفَاهُ لِنَفْسِهِ وَ اصْطَنَعَهُ عَلَى عَيْنِهِ وَ أَصْفَاهُ خِيَرَةَ خَلْقِهِ وَ أَقَامَ دَعَائِمَهُ عَلَى مَحَبَّتِهِ

أَذَلَّ الْأَدْيَانَ‏بِعِزَّتِهِ وَ وَضَعَ الْمِلَلَ بِرَفْعِهِ وَ أَهَانَ أَعْدَاءَهُ بِكَرَامَتِهِ وَ خَذَلَ مُحَادِّيهِ بِنَصْرِهِ وَ هَدَمَ أَرْكَانَ الضَّلَالَةِ بِرُكْنِهِ وَ سَقَى مَنْ عَطِشَ مِنْ حِيَاضِهِ وَ أَتْأَقَ الْحِيَاضَ بِمَوَاتِحِهِ

ثُمَّ جَعَلَهُ لَا انْفِصَامَ لِعُرْوَتِهِ وَ لَا فَكَّ لِحَلْقَتِهِ وَ لَا انْهِدَامَ لِأَسَاسِهِ وَ لَا زَوَالَ لِدَعَائِمِهِ وَ لَا انْقِلَاعَ لِشَجَرَتِهِ وَ لَا انْقِطَاعَ لِمُدَّتِهِ وَ لَا عَفَاءَ لِشَرَائِعِهِ

وَ لَا جَذَّ لِفُرُوعِهِ وَ لَا ضَنْكَ لِطُرُقِهِ وَ لَا وُعُوثَةَ لِسُهُولَتِهِ وَ لَا سَوَادَ لِوَضَحِهِ وَ لَا عِوَجَ لِانْتِصَابِهِ وَ لَا عَصَلَ فِي عُودِهِ وَ لَا وَعَثَ لِفَجِّهِ وَ لَا انْطِفَاءَ لِمَصَابِيحِهِ وَ لَا مَرَارَةَ لِحَلَاوَتِهِ

فَهُوَ دَعَائِمُ أَسَاخَ فِي الْحَقِّ أَسْنَاخَهَا وَ ثَبَّتَ لَهَا آسَاسَهَا وَ يَنَابِيعُ غَزُرَتْ عُيُونُهَا وَ مَصَابِيحُ شَبَّتْ نِيرَانُهَا وَ مَنَارٌ اقْتَدَى بِهَا سُفَّارُهَا وَ أَعْلَامٌ قُصِدَ بِهَا فِجَاجُهَا وَ مَنَاهِلُ رَوِيَ بِهَا وُرَّادُهَا.

جَعَلَ اللَّهُ فِيهِ مُنْتَهَى رِضْوَانِهِ وَ ذِرْوَةَ دَعَائِمِهِ وَ سَنَامَ طَاعَتِهِ فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ وَثِيقُ الْأَرْكَانِ رَفِيعُ الْبُنْيَانِ مُنِيرُ الْبُرْهَانِ مُضِي‏ءُ النِّيرَانِ عَزِيزُ السُّلْطَانِ مُشْرِفُ الْمَنَارِ مُعْوِذُ الْمَثَارِ

فَشَرِّفُوهُ وَ اتَّبِعُوهُ وَ أَدُّوا إِلَيْهِ حَقَّهُ وَ ضَعُوهُ مَوَاضِعَهُ

الرسول الأعظم‏

ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً ( صلى‏ الله ‏عليه ‏وآله  )بِالْحَقِ‏حِينَ دَنَا مِنَ الدُّنْيَا الِانْقِطَاعُ وَ أَقْبَلَ مِنَ الْآخِرَةِ الِاطِّلَاعُ وَ أَظْلَمَتْ بَهْجَتُهَا بَعْدَ إِشْرَاقٍ وَ قَامَتْ بِأَهْلِهَا عَلَى سَاقٍ وَ خَشُنَ مِنْهَا مِهَادٌ

وَ أَزِفَ مِنْهَا قِيَادٌ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ مُدَّتِهَا وَ اقْتِرَابٍ مِنْ أَشْرَاطِهَا وَ تَصَرُّمٍ مِنْ أَهْلِهَا وَ انْفِصَامٍ مِنْ حَلْقَتِهَا وَ انْتِشَارٍ مِنْ سَبَبِهَا وَ عَفَاءٍ مِنْ أَعْلَامِهَا وَ تَكَشُّفٍ مِنْ عَوْرَاتِهَا وَ قِصَرٍ مِنْ طُولِهَا

جَعَلَهُ اللَّهُ بَلَاغاً لِرِسَالَتِهِ وَ كَرَامَةً لِأُمَّتِهِ وَ رَبِيعاً لِأَهْلِ زَمَانِهِ وَ رِفْعَةً لِأَعْوَانِهِ وَ شَرَفاً لِأَنْصَارِهِ

القرآن الكريم‏

ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ نُوراً لَا تُطْفَأُ مَصَابِيحُهُ وَ سِرَاجاً لَا يَخْبُو تَوَقُّدُهُ وَ بَحْراً لَا يُدْرَكُ قَعْرُهُ وَ مِنْهَاجاً لَا يُضِلُّ نَهْجُهُ وَ شُعَاعاً لَا يُظْلِمُ ضَوْءُهُ

وَ فُرْقَاناً لَا يُخْمَدُ بُرْهَانُهُ وَ تِبْيَاناً لَا تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ وَ شِفَاءً لَا تُخْشَى أَسْقَامُهُ وَ عِزّاً لَا تُهْزَمُ أَنْصَارُهُ وَ حَقّاً لَا تُخْذَلُ أَعْوَانُهُ

فَهُوَ مَعْدِنُ الْإِيمَانِ وَ بُحْبُوحَتُهُ وَ يَنَابِيعُ الْعِلْمِ وَ بُحُورُهُ وَ رِيَاضُ الْعَدْلِ وَ غُدْرَانُهُ وَ أَثَافِيُّ الْإِسْلَامِ وَ بُنْيَانُهُ وَ أَوْدِيَةُ الْحَقِّ وَ غِيطَانُهُ

وَ بَحْرٌ لَا يَنْزِفُهُ الْمُسْتَنْزِفُونَ وَ عُيُونٌ لَا يُنْضِبُهَا الْمَاتِحُونَ وَ مَنَاهِلُ‏

لَا يَغِيضُهَا الْوَارِدُونَ وَ مَنَازِلُ لَا يَضِلُّ نَهْجَهَا الْمُسَافِرُونَ وَ أَعْلَامٌ لَا يَعْمَى عَنْهَا السَّائِرُونَ وَ آكَامٌ لَا يَجُوزُ عَنْهَا الْقَاصِدُونَ

جَعَلَهُ اللَّهُ رِيّاً لِعَطَشِ الْعُلَمَاءِ وَ رَبِيعاً لِقُلُوبِ الْفُقَهَاءِ وَ مَحَاجَّ لِطُرُقِ الصُّلَحَاءِ وَ دَوَاءً لَيْسَ بَعْدَهُ دَاءٌ وَ نُوراً لَيْسَ مَعَهُ ظُلْمَةٌ وَ حَبْلًا وَثِيقاً عُرْوَتُهُ وَ مَعْقِلًا مَنِيعاً ذِرْوَتُهُ

وَ عِزّاً لِمَنْ تَوَلَّاهُ وَ سِلْماً لِمَنْ دَخَلَهُ وَ هُدًى لِمَنِ ائْتَمَّ بِهِ وَ عُذْراً لِمَنِ انْتَحَلَهُ وَ بُرْهَاناً لِمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ وَ شَاهِداً لِمَنْ خَاصَمَ بِهِ وَ فَلْجاً لِمَنْ حَاجَّ بِهِ

وَ حَامِلًا لِمَنْ حَمَلَهُ وَ مَطِيَّةً لِمَنْ أَعْمَلَهُ وَ آيَةً لِمَنْ تَوَسَّمَ وَ جُنَّةً لِمَنِ اسْتَلْأَمَ وَ عِلْماً لِمَنْ وَعَى وَ حَدِيثاً لِمَنْ رَوَى وَ حُكْماً لِمَنْ قَضَى

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج12  

و من خطبة له عليه السّلام و هى المأة و السابعة و التسعون من المختار فى باب الخطب

و شرحها في فصول ثلاثة:

الفصل الاول

يعلم عجيج الوحوش في الفلوات، و معاصي العباد في الخلوات، و اختلاف النّينان في البحار الغامرات، و تلاطم الماء بالرّياح العاصفات، و أشهد أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله نجيب اللّه و سفير وحيه، و رسول رحمته. أمّا بعد فإنّي أوصيكم بتقوى اللّه الّذي ابتدء خلقكم، و إليه يكون معادكم، و به نجاح طلبتكم، و إليه منتهى رغبتكم، و نحوه قصد سبيلكم، و إليه مرامي مفزعكم، فإنّ تقوى اللّه دواء داء قلوبكم، و بصر عمى أفئدتكم، و شفاء مرض أجسادكم، و صلاح فساد صدوركم و طهور دنس أنفسكم، و جلاء غشاء أبصاركم، و أمن فزع جاشكم، و ضياء سواد ظلمتكم.

فاجعلوا طاعة اللّه شعارا دون دثاركم، و دخيلا دون شعاركم، و لطيفا بين أضلاعكم، و أميرا فوق أموركم، و منهلا لحين ورودكم، و شفيعا لدرك طلبتكم، و جنّة ليوم فزعكم، و مصابيح لبطون قبوركم، و سكنا لطول وحشتكم، و نفسا لكرب مواطنكم. فإنّ طاعة اللّه حرز من متالف مكتنفة، و مخاوف متوقّعة، و أوار نيران موقدة، فمن أخذ بالتّقوى غربت «عزبت خ» عنه الشّدايد بعد دنوّها، و احلولت له الامور بعد مرارتها، و انفرجت عنه الأمواج بعد تراكمها، و أسهلت له الصّعاب بعد انصابها، و هطلت عليه الكرامة بعد قحوطها، و تحدّبت عليه الرّحمة بعد نفورها، و تفجّرت عليه النّعم بعد نضوبها، و وبلت عليه البركة بعد إرذاذها. فاتّقوا اللّه الّذي نفعكم بموعظته، و وعظكم برسالته، و امتنّ عليكم بنعمته، فعبّدوا أنفسكم لعبادته، و اخرجوا إليه من حقّ طاعته.

اللغة

(عجّ) عجّا من باب ضرب و عجيجا أيضا رفع صوته بالتّلبية، و منه الحديث أفضل الأعمال إلى اللّه العجّ و الثجّ، فالعجّ رفع الصّوت في التّلبية، و الثجّ إسالة الدّماء من الذّبح و النحر في الأضاحي.

و (النّينان) جمع نون و هو الحوت قال تعالى وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباًو نهر (غامر) أى كثير الماء يغمر من يدخله أى يغطّيه و يستره، و غمره البحر من باب نصر أى إذا علاه و غطاه و (الطلبة) بكسر الّام ما طلبته.

و (غشاء) أبصاركم في بعض النسخ بالغين المعجمة و المدّ وزان كساء و هو الغطاء قال تعالى فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ أى جعلنا على أبصارهم غشاوة و غطاء و في بعضها بالعين المهملة و القصر سوء البصر بالليل و النّهار مصدر عشى يقال عشى عشى من باب تعب ضعف بصره فهو أعشى و المرأة عشواء، و (الجاش) القلب.

و (الشّعار) الثّوب الملاصق للبدن و هو الذي يلي شعر الجسد و (الدّثار) ما فوق الشّعار من الثياب و (دخلة) الرّجل و دخله و دخيلته و دخيله نيّته و مذهبه و خلده و (المنهل) المشرب و الشرب و الموضع الذى فيه المشرب و (الطلبة) بكسر اللّام كالطلب محرّكة اسم من طالبه بحقه مطالبة، و قال الشارح المعتزلي: الطلبة ما طلبته من شي‏ء فيكون اسم عين.

و (النفس) محرّكة اسم وضع موضع المصدر الحقيقي من نفس تنفيسا و نفسا أى فرّج تفريجا و (الاوار) بضمّ الهمزة وزان غراب حرّ النّار و الشّمس و العطش و اللهب و (هطل) السّماء تهطل من باب ضرب امطرت هطلا و هو بالفتح تتابع المطر المتفرّق العظيم القطر و المطر الضعيف الدائم و (نضب) الماء نضوبا غار و (وبلت) السماء تبل امطرت وابلا و هو المطر الشديد الضخم القطر و (ارذّت) السماء بتشديد الذال المعجمة أمطرت رذاذا، و هو بالفتح كسحاب المطر الضّعيف أو الساكن الدائم الصغار القطر كالغبار.

الاعراب

الباء في قوله: بالرّياح سببيّة و نحوه منصوب بنزع الخافض، و الفاء في قوله فانّ تقوى اللّه للتعليل، و في قوله: فاجعلوا فصيحة

المعنى

اعلم أنّ الغرض الأصلى من هذا الفصل من الخطبة الشريفة هو النصح و الموعظة و الوصية بالتقوى و الطاعة و الترغيب عليهما بالتنبيه على عظم ما يترتب عليهما من الثمرات و المنافع المرّغبة، و صدّر الفصل باقتضاء صناعه البلاغة و رعاية براعة الاستهلال بذكر إحاطة علمه بجزئيات الموجودات تنبيها به على أنه عزّ و جلّ لا يخفى عليه طاعة المطيعين و معصية المذنبين فقال عليه السّلام: (يعلم عجيج الوحوش في الفلوات) أى صياحها فيها بالتسبيح و رفع أصواتها إلى عزّ جنابه تبارك و تعالى بالتّقديس و تضرّعها إليه سبحانه في إنجاح طلباتها و تنفيس كرباتها و سؤالها منه لدفع شدايدها.

و فيه حثّ للمخاطبين على الطلب و السّؤال و التّضرّع و الابتهال و الانابة إليه عزّ و علا على كلّ حال، لأنهم أولى بذلك من الحيوانات العجم.

و يشهد بذلك الحديث الذي قدّمناه: أفضل الأعمال إلى اللّه العجّ و الثجّ.

و فى حديث آخر مروىّ فى الوسايل من الكافي عن حريز رفعه قال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لمّا أحرم أتاه جبرئيل فقال له: مر أصحابك بالعجّ و الثجّ، و العجّ رفع الصّوت بالتلبية، و الثجّ نحر البدن.

و فى الكافي في كتاب الدّعاء باسناده عن حنان بن سدير عن أبيه قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: أىّ العبادة أفضل قال: ما من شي‏ء أفضل عند اللّه عزّ و جلّ من أن يسأل و يطلب ممّا عنده، و ما أحد أبغض إلى اللّه عزّ و جلّ ممّن يستكبر عن عبادته و لا يسأل ما عنده.

و فيه عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن حمّاد بن عيسى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال سمعته يقول: ادع و لا تقل قد فرغ من الأمر، فانّ الدّعاء هو العبادة إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ و قال: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ.

و فيه بسنده عن ميسر بن عبد العزيز عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال لي: يا ميسر ادع و لا تقل إنّ الأمر قد فرغ منه، إنّ عند اللّه عزّ و جلّ منزلة لا تنال إلّا بمسألة، و لو أنّ عبدا سدّفاه و لم يسأل لم يعط شيئا فاسأل تعط، يا ميسر إنه ليس من باب يقرع إلّا يوشك أن يفتح لصاحبه.

(و) يعلم (معاصى العباد في الخلوات) بمقتضى عموم علمه بالسرّ و الخفيّات و ما تحت الثرى و فوق الأرضين و السّماوات، و فيه تحذير للسامعين عن ارتكاب الخطيئات و حثّ لهم عن الازعاج من السيئات و تخصيصها بها لكون الخلوة مظنّة الوقوع في المعصية بعدم وجود الرّادع و الحاجز.

(و اختلاف النينان في البحار الغامرات) أى تردّدها فيها و سبحها في البحر صعودا و هبوطا طولا و عرضا (و تلاطم الماء بالرّياح العاصفات) أى اضطراب ماء البحار و تراكم أمواجها بالرّياح الشّديدة الهبوب، ثمّ عقّب بالشهادة بالرّسالة فقال: (و أشهد أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نجيب اللّه) أى الكريم الحسيب أفضل الناس حسبا و نسبا شرّفه اللّه تعالى بهذا الوصف الشامخ و اختاره به من خلقه.

(و سفير وحيه و رسول رحمته) كما قال عزّ من قائل وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ أى نعمة عليهم لأنّ ما بعث به سبب لصلاح معاشهم و معادهم موجب للسّعادة الدائمة و كونه رحمة للكفّار أمنهم به من الخسف و المسخ و عذاب الاستيصال قال في مجمع البيان: قال ابن عباس: رحمة للبرّ و الفاجر و المؤمن و الكافر فهو رحمة للمؤمن في الدنيا و الاخرة و رحمة للكافر بأن عوفى ممّا أصاب الامم من الخسف و المسخ.

قال: و روي أنّ النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لجبرئيل عليه السّلام لما نزلت هذه الاية: هل أصابك من هذه الرّحمة شي‏ء قال: نعم إنّى كنت أخشى عاقبة الأمر فامنت بك لما أثنى اللّه علىّ بقوله «ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ» و قيل: إنّ الوجه في أنّه نعمة على الكافر أنّه عرّضه للايمان و الثّواب الدائم و هداه و إن لم يهتد كمن قدّم‏الطعام إلى جائع فلم يأكل فانّه منعم عليه و إن لم يقبل.

(أمّا بعد فانّى اوصيكم) عباد اللّه (ب) ما لا أزال اوصيكم به أعنى (تقوى اللّه الذى ابتدء خلقكم) و فى الاتيان بهذه الجملة و ما يتلوها من الجملات الوصفية تعظيم لشأنه عزّ و جلّ و تأكيد للغرض المسوق له الكلام، لأنّ العلم باتّصافه بهذه الصفات يوجب مزيد الملازمة بالتقوى و المواظبة على أوامره و نواهيه عزّ و تعالى.

و المراد بهذه الجملة انّ اللّه الذى حباكم خلعة الخلقة و أخرجكم من العدم و أفاض عليكم نعمة الوجود الّتي هى أصل جميع النّعم صغيرها و كبيرها و جليلها و حقيرها أحرى بأن يخشى منه و يتّقى و لا يقابل نعمه العظام بالكفران و آلائه الجسام بالتّمرّد و الطغيان.

(و إليه يكون معادكم) أى عودكم و رجوعكم يوم حشركم و نشركم، فانّ الكلّ إليه راجعون فيجازيهم بما كانوا يعملون، و أمّا الذين اتّقوا، فأولئك هم الفائزون و أما الذين ظلموا فلا ينفع معذرتهم و لا هم يستعتبون كما قال عزّ من قائل: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَ عُيُونٍ. وَ فَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ. كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ.

(و به نجاح طلبتكم و إليه منتهى رغبتكم) أى الظفر بمطالبكم و قضاء مقاصدكم و نيل حوائجكم، فانّه تعالى قاضى حوائج السائلين و منجح طلبات الرّاغبين، و من كان هذا شأنه يجب أن يطاع و يعبد لا أن يعصى لحكمه و يتمرّد.

(و نحوه قصد سبيلكم) لأنّه منتهى سير السالكين و غاية مراد المريدين، فلا بدّ من سلوك صراطه المستقيم المؤدّى إلى قربه و زلفاه، و هو صراط الملازمين لطاعته و تقواه و أمّا غيرهم فانّهم عن الصراط لناكبون، و عن لقائه محرومون.

(و إليه مرامى مفزعكم) يعنى إذا دهمكم الخوف و الفزع ترميكم الأفزاع نحوه، لأنه يجيب المضطرّ إذا دعاه و يكشف السوء عنه إذا ناداه.

و فى الحديث ليس وراء اللّه مرمى، قال الطريحي: أى مقصد ترمى إليه الامال و يوجه نحوه الرّجاء، تشبيها بالهدف الّتي ترمى إليها السّهام، و إذا كان شأنه العزيز انّه إذا فاجاكم الفزع فاليه تضرّعون، و إذا مسّكم الضرّ فاليه تجأرون، فلا بدّمن أن يطاع و لا يعصى و يذكر و لا ينسى.

ثمّ لمّا وصف اللّه عزّ و علا بأوصاف توجب منه الاتّقاء أردفه بالتنبيه على منافع التّقوى و الثمرات المترتّبة عليها في الدّين و الدّنيا لمزيد الحثّ و الترغيب إليها فقال: (فانّ تقوى اللّه دواء داء قلوبكم) يعنى أنّها رافعة للأمراض القلبيّة و الرّزائل النّفسانية الموبقة من البخل و الحسد و النفاق و العداوة و البغضاء و غيرها، لأنها مضادّة لها كما أنّ الدواء ضدّ الدّاء (و بصر عمى افئدتكم) بيان ذلك أنّ حصول وصف العمى للأعمى لمّا كان موجبا لعجزه عن إدراكه للمحسوسات، و سببا لضلاله عن الطريق، فكذلك حصول هذا الوصف للأفئدة الناشي من اتّباع الهوى و الانهماك في الشهوات، موجب لقصورها عن إدراك المعقولات، و عن الاهتدا إلى الصراط المستقيم.

و كما أنّ بحسّ البصر يرتفع عمى الأبصار الظاهرة و يحصل إدراك المحسوسات فكذلك بالتقوى يرتفع عمى الأفئدة و يتمكّن من إدراك المعقولات و يهتدى إلى الصراط المستقيم، لكونها مانعة من متابعة الهوى و انهماك الشهوات الموجبين لعماها، و هذا معنى كونها بصرا لعمى أبصار الأفئدة.

روى في الصافي في تفسير قوله تعالى أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ من التوحيد و الخصال عن السجاد عليه السّلام أنّ للعبد أربع أعين: عينان يبصر بهما أمر دينه و دنياه، و عينان يبصر بهما أمر آخرته، فاذا أراد اللّه بعبد خيرا فتح اللّه له العينين اللّتين في قلبه فأبصر بهما الغيب و أمر آخرته، و إذا أراد اللّه به غير ذلك ترك القلب بما فيه.

و فيه من الكافي عن الصادق عليه السّلام إنّما شيعتنا أصحاب الأربعة أعين: عينان في الرّأس، و عينان في القلب، ألا و إنّ الخلايق كلّهم كذلك إلّا أنّ اللّه عزّ و جلّ فتح أبصاركم و أعمى أبصارهم.

(و شفاء مرض أجسادكم) هذا وارد مورد الغالب، لأنّ عمدة سبب المرض هوالشبع و البطنة و أهل التقوى لكونه متّصفا بقلّة الأكل و قناعته بالحلال حسبما عرفت في الخطبة المأة و الثانية و التّسعين و شرحها يسلم جسده غالبا من الأمراض و الأسقام.

و يرشد إلى ذلك ما رواه المحدّث الجزائرى في زهر الرّبيع أنّ حكيما نصرانيا دخل على الصادق عليه السّلام فقال: أ فى كتاب ربّكم أم فى سنّة نبيّكم شي‏ء من الطب فقال: أما في كتاب ربّنا فقوله تعالى كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا و أما في سنّة نبيّنا: الاسراف في الاكل رأس كلّ داء و الحميّة منه أصل كلّ دواء.

و فيه أيضا عنه عليه السّلام أنه لو سئل أهل القبور عن السبب و العلّة في موتهم لقال اكثرهم: التخمة.

و فيه أيضا قال: و روى أنّ المؤمن ياكل في معاء واحد و الكافر يا كل في سبعة أمعاء.

و قد تقدّم في شرح الفصل الثاني من الخطبة المأة و التاسعة و الخمسين فصل واف في فوايد الجوع و آفات الشّبع فليراجع ثمة.

(و صلاح فساد صدوركم) لأنّ فساد الصدور و هو كونها ساقطة عن الاعتبار خالية عن المنفعة إنّما ينشأ من طريان ما يفسدها من الغلّ و الحقد و الحسد و نحوها من الوساوس النّفسانية عليها، و بالتقوى يرتفع هذه كلّها و يحصل صلاحها، و به يظهر أيضا معنى قوله: (و طهور دنس أنفسكم) لأنّ هذه الطوارى أيضا أوساخ موجبة لتدنّس النّفوس بها، و التقوى مطهرة لذلك الدّنس و الوسخ.

(و جلاء غشاء أبصاركم) يعنى أنّ التّقوى تجلو و تكشف غطاء أبصار البصاير و تستعدّ بذلك لادراك المعقولات، كما أنّ الباصرة إذا ارتفع حجابها و انجلى غشاوتها تصلح لادراك المبصرات.

(و أمن فزع جاشكم) إذ بها تحصل قوّة القلب في الدّنيا، و هى أمان من أفزاع يوم القيامة و أخاويفها كما قال تعالى في سورة الأعراف فَمَنِ اتَّقى‏ وَ أَصْلَحَ‏فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ و في سورة النّمل مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ و في سورة الأنبياء لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَ تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (و ضياء سواد ظلمتكم) الظاهر أنّ المراد بالظلمة هو ظلمة القلوب الحاصلة لها من اكتساب الاثام و انهماك الشهوات، فانّ المعاصى توجب ظلمة القلب و اسوداد الوجه، و بالتّقوى و الطاعة يحصل له نور و ضياء و استعداد لقبول الافاضات الالهيّة، هذا.

و لا يخفى ما في هذه الفقرة و ما تقدّمت عليها من الفقرات السّبع من حسن المطابقة و لطفها.

و لمّا أوصى بالتّقوى و رغّب فيها بالتنبيه على ما يترتّب عليها من الثمرات العظيمة أكّد ذلك بالأمر بملازمة الطاعة المحصّلة لها و بالغ في المواظبة عليها فقال: (فاجعلوا طاعة اللّه شعارا دون دثاركم) أى بمنزلة الشّعار الملاصق للبدن لا الدّثار الذى فوق الشعار، و هو إشارة إلى المواظبة عليها باطنا لا ظاهرا فقط، و أكّد استبطانها بقوله: (و دخيلا دون شعاركم) أى داخلا في باطنكم تحت الشعار، و بقوله (و لطيفا بين أضلاعكم) و هو غاية المبالغة في ادخالها في الباطن، و آكد دلالة عليه من سابقيه و الغرض منه جعلها مكنونا في الخلد متمكّنا في القلوب.

و قوله: (و أميرا فوق اموركم) أى يكون ورودكم و صدوركم في اموركم الدنيويّة بأمره و نهيه كساير الامراء بالنّسبة إلى الرّعيّة.

(و منهلا لحين ورودكم) أى مشربا تشربون من صفوها و عذبها حين الورود يوم القيامة كما قال عزّ من قائل إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً. عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً.

(و شفيعا لدرك طلبتكم) أى واسطة و وسيلة لادراك مطالبكم الدّنيويّة و الاخرويةإذ بالتّقوى و الطاعة يحصل الاستعداد لدركها كما قال تعالى فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ فقد دلّ قوله: يجعل له مخرجا، على أنّها حصن حصين و حرز حريز بها يحصل النّجاة من الشدائد و الوقاية من المكاره، و قوله: و يرزقه من حيث لا يحتسب على أنّها كنز كاف بها يدرك المطالب و يفاز بالمارب، و قوله: و من يتوكل على اللّه فهو حسبه، على أنّه تعالى كاف لمن توكّل عليه و اكتفاه، قادر على إنجاح ما يبتغيه و يتمنّاه (و جنّة ليوم فزعكم) أى وقاية يوم القيامة من النّار و غضب الجبّار كما قال تعالى ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا.

و مصابيح لبطون قبوركم) فانّ القبر بيت الظّلمة، و العمل الصّالح يضي‏ء قبر صاحبه كما يضي‏ء المصباح الظلمة على ما جاء في الخبر.

(و سكنا لطول وحشتكم) أي في القبور فانّها بيت الغربة و الوحدة و الوحشة و الأعمال الصّالحة كما ورد في أخبار كثيرة تتصوّر في صور حسنة يستأنس بها صاحبها و يسكن إليها و يطيب بها نفسه و يرفع عنه وحشة القبر.

روى في الكافي بسنده عن سالم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: ما من موضع قبر إلّا و هو ينطق كلّ يوم ثلاث مرّات: أنا بيت التراب أنا بيت البلا أنا بيت الدّود.

قال عليه السّلام: فاذا دخله عبد مؤمن قال مرحبا و أهلا أما و اللّه لقد كنت احبّك و أنت تمشي على ظهري فكيف إذا دخلت بطنى فسترى ذلك.

قال: فيفسح له مدّ البصر و يفتح له باب يرى مقعده من الجنّة.

قال: و يخرج من ذلك رجل لم تر عيناه شيئا قطّ أحسن منه فيقول: يا عبد اللّه ما رأيت شيئا قط أحسن منك فيقول: أنا رأيك الحسن الّذى كنت عليه و عملك الصّالح الّذى كنت تعمله قال: ثمّ يؤخذ روحه فتوضع في الجنّة حيث رأى منزله ثمّ يقال له: نم قرير العين فلا تزال نفحة من الجنّة يصيب جسده و يجد لذّتها و طيبها حتّى يبعث.

و فى البحار من المحاسن باسناده عن أبي بصير عن أحدهما عليها السّلام قال: إذا مات العبد المؤمن دخل معه في قبره ستّة صور فيهنّ صورة أحسنهنّ وجها و أبهاهنّ هيئة و أطيبهنّ ريحا و أنظفهنّ صورة.

قال: فيقف صورة عن يمينه و اخرى عن يساره و اخرى بين يديه و اخرى خلفه و اخرى عند رجله، و تقف الّتى هي أحسنهنّ فوق «رأسه ظ»، فان اتى عن يمينه منعته الّتى عن يمينه، ثم كذلك إلى أن يؤتى من الجهات السّتّ قال: فتقول أحسنهنّ صورة: و من أنتم جزاكم اللّه خيرا فتقول الّتى عن يساره: أنا الزكاة، و تقول الّتي بين يديه: أنا الصّيام، و تقول الّتي خلفه: أنا الحجّ و العمرة، و تقول الّتي عند رجليه: أنا برّ من وصلت من إخوانك، ثمّ يقلن: من أنت فأنت أحسننا وجها و أطيبنا ريحا و أبهانا هيئة فتقول: أنا الولاية لال محمّد صلوات اللّه عليهم أجمعين.

(و نفسا لكرب مواطنكم) أى سعة و روحا لكرب منازل الاخرة و مواقف القيامة (فانّ طاعة اللّه حرز من متالف مكتنفة) أى عوذة من المهالك المحيطة (و مخاوف متوقّعة) أى مخاوف الاخرة المنتظره الوقوع (و آوار نيران موقدة) أراد به حرّ نار الجحيم.

(فمن أخذ بالتّقوى) و عمل صالحا (غربت) أى بعدت و غابت (عنه الشّدائد بعد دنوّها) أى شدايد الاخرة و أهاويلها، و يجوز أن يراد بها الأعمّ لأنّ المتّقى بقناعته و خفّة مؤنته و اعتزاله من مخالطة أبناء الدّنيا و مجالستهم سالم غالبا من المحن و الشّدايد و ايذاء أبناء النّوع.

(و احلولت له الامور بعد مرارتها) أى صارت الأمرار الدّنيوية و الاخروية حلوا له، أمّا الدّنيوية كضيق العيش و الجوع و الفقر و العرى و ما ضاهاها فلما له من الرّضا بالقضاء، و أما الاخروية كمشاقّ الطاعات و العبادات فلكونها أحلى و ألذّ عنده من كلّ شي‏ء و إن كان مرّا في ذوقه في مبدء السلوك، و ذلك لما له من علم اليقين بأنّ هذه المشقّة القليلة توجب راحة طويلة، و تلك المرارة اليسيرة تجلب لذّة دائمة.

(و انفرجت عنه الأمواج بعد تراكمها) أى انكشفت عنه أمواج الفتن الدّنيوية بعد تراكمها و كثرتها، و ذلك لأنّ الاخذ بالتقوى لكونه بمعزل من الدّنيا و أهلها سالم من الفتن و المحن التي ابتلي بها أهلها.

(و أسهلت له الصّعاب بعد انصبابها) أى صارت الامور الصعبة و المشاق النفسانية سهلة له بعد ايقاعها اياه في النصب و التعب، و ذلك لما عرفت آنفا من أنّ المتّقى لمعرفته بعظم ما يترتّب على طاعته و تقواه من الثمرات الاخروية يسهل عليه كلّ خطب و يهون له الشدائد (و هطلت عليه الكرامة بعد قحوطها) شبه كرامة اللّه سبحانه الشاملة للمتقى بالمطر العظيم القطر المتتابع على سبيل الاستعارة المكنية، و إثبات الهطل تخييل و القحوط ترشيح. و نظيرها الفقرتان المتقدّمتان فانهما أيضا من قبيل الاستعارة المكنية التخييلية الترشيحية.

و المراد أنّ أهل التقوى انصبت عليه و تتابعت في حقه كرامة اللّه العزيز عزّ و جلّ بسبب اتصافه بالتقوى بعد احتباسها و منعها عنه، و ذلك قبل أن يستعدّ بالتقوى لها و يشهد بذلك أي بافاضة كرامته على المتقي صريحا نصّ قوله سبحانه يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ.

(و تحدبت عليه الرحمة بعد نفورها) أى تعطفت عليه الرحمة الالهية بعد ما كانت نافرة عنه حين ما لم يكن متصفا بالتقوى و مستعدا لها، و هذه الفقرة أيضا مثل سوابقها حيث شبه الرحمة بالناقة العاطفة على ولدها على سبيل الاستعارة بالكناية و أثبت التحدّب تخييلا و النفور ترشيحا.

(و تفجّرت عليه النّعم بعد نضوبها) إمّا استعارة مكنية مثل ما مرّت تشبيها للنعم بالينابيع الجارية المنفجرة، فيكون ذكر التفجّر و النضوب تخييلا و ترشيحا، أى انفجرت عليه ينابيع النعم بعد اغورارها.

و يجوز أن يراد بالتفجر التتابع بعلاقة الملازمة فيكون مجازا مرسلا، و النعم قرينة التجوز أو اريد بالتفجر الافاضة و الجامع التتابع و الدوام فيكون استعارة تبعية و على هذين الاحتمالين فيراد بالنضوب الفقدان مجازا و لا يخفى على المتدبّر أنّ هذين الاحتمالين يأتيان أيضا في بعض القراين المتقدّمة كالقرينة المتأخّرة أعنى قوله:

(و وبلت عليه البركة بعد ارذاذها) فيجوز أن تكون الاستعارة بالكناية بأن يشبه البركة بالمطر الشديد العظيم القطر و الوبل و الارذاذ تخييل و ترشيح، و أن تكون استعارة تبعية بأن يستعار الوبل للفيض الكثير و الجامع الكثرة، و أن يكون مجازا مرسلا و يراد بالوبل النزول، و على التقديرين فيراد بالارذاذ القلّة و الضعف مجازا.

ثمّ بعد التنبيه على جملة من ثمرات التقوى و المنافع العظيمة المترتّبة عليها عاد إلى الأمر بها تأكيدا و تقوية لما قدّم فقال: (فاتّقوا اللّه الذي نفعكم بموعظته) و هى ما وعظكم بها في كتابه المبين و لسان نبيّه الأمين و هداكم بها إلى الجنّة و أنقذكم بها من النار و أىّ منفعة أعظم من هذه و أنفع.

(و وعظكم برسالته) التي بعث بها رسله و لم يبق عذر لعاذر بعد مواعظهم البليغة في ترك التقوى و الطاعة.

(و امتنّ عليكم بنعمته) الغير المحصاة التي لا يجوز للعاقل أن يقابلها بالكفران و يكافئها بترك التقوى و الطاعة و العصيان.

(فعبّدوا أنفسكم لعبادته) أى ذللوها لحمل أثقال العبادة.

(و اخرجوا إليه من حقّ طاعته) أى من طاعته التي هو حق عليكم و ثابت في ذمتكم، أو من طاعته التي حقيق به عزّ و جلّ أى اخرجوا إليه من كمال طاعته التي يليق بحضرته.

الترجمة

مي داند خداوند تبارك و تعالى صداى وحشيان را در بيابانها، و معصيتهاى بندگان را در مكان خلوت، و تردّد ماهيان را در درياهاى گود، و تلاطم آب درياها را با بادهاى تند و زنده، و شهادت مى ‏دهم باين كه محمّد مصطفى صلوات اللّه و سلامه عليه و آله بنده نجيب خداست و ايلچى وحى او و پيغمبر رحمت اوست.

اما پس از ثناى خدا پس بدرستى كه من وصيّت مي كنم شما را بتقوى و پرهيزكارى خداوندى كه ايجاد فرموده خلقت شما را و بسوى اوست بازگشت شماو با عنايت اوست رسيدن مطالب شما و بطرف اوست قصد راه شما و بسوى اوست نشانگاه فزع و خوف شما پس بدرستى كه تقوى دواى درد قلبهاى شماست، و چشم كورى دلهاى شما، و شفاى ناخوشى بدنهاى شما، و صلاح فساد سينهاى شما، و پاكيزگى كثافت نفسهاى شماست، و جلاى پردهاى بصرهاى شما، و خاطر جمعى خوف قلبهاى شما، و روشنى سياهى تاريكى قلب شما است.

پس بگردانيد طاعت و عبادت پروردگار را لباس باطنى خودتان نه لباس ظاهرى و داخل در باطن خود نه شعار ظاهرى، و چيزى لطيف در ميان دندهاى خودتان، و أمير حكمران بالاى جميع كارهاى خودتان و محل آب خور از براى زمان ورود آن، و واسطه از براى درك مطالب خودتان، و سپر از براى روز فزع خود و چراغها از براى بطون قبرهاى خود، و مايه انس از براى طول وحشت خود، و فرج و راحت از براى اندوه و محنت مواطن خودتان.

پس بدرستى كه طاعت خدا حرز است، از مهلكه ‏هاى محيطه و از محلّهاى خوفى كه متوقعست و از حرارت آتشهاى روشن شده، پس كسى كه اخذ نمود تقوى را غايب شد از آن شدتها بعد از نزديكى آنها باو، و شيرين شد از براى او كارها بعد از تلخى آنها، و منكشف شد از او موجها بعد از تراكم و تلاطم آنها، و آسان شد از براى او كارهاى صعب بعد از مشقت انداختن آنها، و باريد باو باران‏هاى كرامت بعد از قحطى آن، و برگشت با مهربانى بر او رحمت خدا بعد از رميدن آن، و منفجر شد بر او چشمهاى نعمتها بعد از نايابى آنها، و باريد بأو باران بركت با شدّت بعد از ضعف و قلّت آن.

پس پرهيز نمائيد از خدا چنان خداوندى كه نفع بخشيد بشما با موعظه بالغه خود، و موعظه فرمود بشما با رسالت رسولان خود، و منت گذاشت بر شما با نعمت فراوان خود، پس ذليل نمائيد نفسهاى خودتان را با بار عبادت او، و خارج شويد بسوى او از حق اطاعت او كه لايق حضرت او است

الفصل الثاني

ثمّ إنّ هذا الإسلام دين اللّه الّذي اصطفاه لنفسه، و اصطنعه على عينه، و أصفاه خيرة خلقه، و أقام دعائمه على محبّته، أذلّ الاديان بعزّته، و وضع الملل برفعه، و أهان أعدائه بكرامته، و خذل محادّيه بنصره، و هدم أركان الضّلالة بركنه، و سقى من عطش من حياضه، و أتاق الحياض بمواتحه. ثمّ جعله لا انفصام لعروته، و لا فكّ لحلقته، و لا انهدام لاساسه و لا زوال لدعائمه، و لا انقلاع لشجرته، و لا انقطاع لمدّته، و لا عفاء لشرايعه، و لا جذّ لفروعه، و لا ضنك لطرقه، و لا وعوثة لسهولته و لا سواد لوضحه، و لا عوج لانتصابه، و لا عصل فى عوده، و لا وعث لفجّه، و لا انطفاء لمصابيحه، و لا مرارة لحلاوته. فهو دعائم أساخ في الحقّ أسناخها، و ثبّت لها أساسها، و ينابيع غزرت عيونها، و مصابيح شبّت نيرانها، و منار اقتدى بها سفّارها، و أعلام قصد بها فجاجها، و مناهل روى بها ورّادها، جعل اللّه فيه منتهى رضوانه، و ذروة دعائمه، و سنام طاعته.

فهو عند اللّه وثيق الاركان، رفيع البنيان، منير البرهان، مضي‏ء النّيران، عزيز السّلطان، مشرف المنار، معوز المثار، فشرّفوه، و أدّوا إليه حقّه، وضعوه مواضعه.

اللغة

(اصطنعه على عينه) افتعال من الصنع و الصنع اتّخاذ الخير لصاحبه كذا في مجمع البيان، و قيل: من الصنيعة و هى العطية و الاحسان و الكرامة يقال اصطنعتك لنفسى اخترتك لأمر أستكفيكه و اصطنع خاتما أمر أن يصنع له قال تعالى في سورة طه مخاطبا لموسى عليه السّلام وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي. اذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآياتِي. وَ لا تَنِيا فِي ذِكْرِي.

و قال الشارح المعتزلي: اصطنعه على عينه كلمة يقال لما يشتدّ الاهتمام به، تقول للصانع: اصنع لى خاتما على عينى، أى اصنعه صنعة كالصّنعة التي تصنعها و أنا حاضر اشاهدها.

و قال الزّمخشرى في الكشاف في تفسير قوله تعالى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ لتربى و يحسن إليك و أنا مراعيك و راقبك كما يرعى الرّجل الشي‏ء بعينه إذا اعتنى به، و تقول للصانع اصنع هذا على عينى أنظر إليك لئلّا تخالف به عن مرادى و (الخيرة) بفتح الياء وزان عنبة كالخيرة بسكونها اسم من اخترت الرّجل أى فضلته على غيره و (الدّعائم) جمع الدّعامة بالكسر عماد البيت و الخشب المنصوب للتعريش و (حادّه) محادّة عادّه و غاضبه و خالفه مأخوذ من الحدد و هو الغضب قال تعالى يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ.

و (تئق) الحوض من باب فرح امتلأ ماء و أتاق الحياض ملأها و (المواتح) جمع الماتح و هو الذى يستقى بالدّلو من المتح و هو الاستقاء يقال متحت الدّلوأى استخرجتها و (عروة) الكوز مقبضه و (الجذ) بالذّال المعجمة القطع أو القطع المستأصل، و في بعض النسخ بالحاء المهملة و هو القطع و في بعضها بالجيم و الدّال المهملة و هو القطع أيضا و الفعل في الجميع كمدّ.

و (وعث) الطريق و عوثة من باب قرب و تعب إذا شقّ على السالك فهو وعث و قيل: الوعث رمل دقيق تغيب فيه الأقدام فهو شاق، ثمّ استعير لكلّ أمر شاقّ من تعب و أثم و غير ذلك، و منه و عثاء السفر أى شدّة النصب و التعب.

و (الوضح) محرّكة بياض الصبح و القمر و محجّة الطريق و (العصل) محرّكة الاعوجاج في صلابة و منه العصال بالكسر و هو السهم المعوّج و (الفج) الطريق الواسع بين الجبلين و (ساخت) قوائمه في الأرض أى غابت و ساخت بهم الأرض أى خسفت و يعدى بالهمزة فيقال: أساخه اللّه و (الينبوع) العين ينبع منه الماء أى يخرج و قيل: الجدول الكثير الماء و هو أنسب و (غزر) الماء بضمّ الزّاء المعجمة غزارة كثر فهو غزير و (شبت نيرانها) بضمّ الشين بالبناء على المفعول أى اوقدت و (ورّادها) جمع وارد قال الشارح المعتزلي: و روى روّادها جمع رائد و هو الذى يسبق القوم فيرتاد لهم الماء و الكلاء و (ذروة) الشي‏ء بالكسر و الضمّ أعلاه و (سنام) بالفتح وزان سحاب أيضا أعلاه و (عوز) الشي‏ء عوزا من باب تعب عزّ فلم يوجد، و عزت الشي‏ء أعوزه من باب قال احتجت إليه فلم أجده، و أعوزنى مثل أعجزنى وزنا و معنى، و أعوز الرّجل إعوازا افتقر، و أعوزه الدّهر أفقره و (ثار) الغبار يثور ثورا و ثورانا هاج، و ثار به الناس أى وثبوا عليه، و فلان أثار الفتنة أى هيّجها، و المثار مصدر أو اسم للمكان.

الاعراب

قوله: على عينه ظرف مستقرّ حال من فاعل اصطنع، و قوله: على محبّة يحتمل أن يكون ظرف لغو متعلّق بقوله أقام فالضمير راجع إلى اللّه، و أن يكون ظرفا مستقرّا حالا من فاعل أقام أو من الضمير في دعائمه، فالضمير فيه على الأوّل‏أيضا راجع إلى اللّه، و على الثاني فيعود إلى الاسلام، و يجوز جعل على بمعنى اللّام للتعليل كما فى قوله تعالى وَ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى‏ ما هَداكُمْ و على هذا فايضا ظرف لغو و الضّمير يصحّ عوده إلى اللّه و إلى الاسلام فتدبّر، و الباء في قوله: بعزّته للسّببيّة، و قوله: ثمّ جعله لا انفصام لعروته المفعول الثّاني لجعل محذوف و جملة لا انفصام لعروته صفة له.

المعنى

اعلم أنّه عليه السّلام لمّا أوصى في الفصل السّابق بالتّقوى و الطّاعة أردفه بهذا الفصل المتضمّن لشرف الاسلام و فضايله لكونهما من شئونه فقال: (ثمّ إنّ هذا الاسلام دين اللّه) أى لا دين مرضىّ عند اللّه سوى الاسلام و هو التّوحيد و التّدرّع بالشّرع الّذي جاء به محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما قال تعالى إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ و قال وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ أى من يطلب غيره دينا يدين به لن يقبل منه بل يعاقب عليه و هو من الهالكين في الاخرة، و فيه دلالة على أنّ الدّين و الاسلام واحد و هما عبارتان عن معبر واحد، و هو التّسليم و الانقياد بما جاء به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و هو (الّذي اصطفاه) اللّه و اختاره من بين ساير الأديان (لنفسه) أى لأن يكون طريقا إلى معرفته و طاعته مؤدّيا إلى جنّته.

(و اصطنعه على عينه) أى اتّخذه صنعة و اختاره حالكونه مراعيا حافظا له مراقبا عليه مشاهدا ايّاه، و يجوز جعل العين مجازا في العلم فيكون المعنى أنّه اصطنعه و أسّس قواعده على ما ينبغي و على علم منه به أى حالكونه عالما بدقايقه و نكاته أو بشرفه و فضله.

و يحتمل أن يكون معنى اصطنعه أنّه طلب صنعته أى انّه أمر بصنعته و القيام به حالكونه بمرئى منه أى كالمصنوع المشاهد له، و ذلك أنّ من صنع لغيره شيئا و هو ينظر إليه صنعه كما يحبّ و لا يتهيّأ له خلافه أو أنّه أمر بأن يصنع أي بصنعه‏و صنيعته أى بكرامته و الاتيان به على وجه الكمال.

و على هذا الاحتمال فالصّانع له أى المأمور بالصّنعة و الصنع و الصنيعة المكلّفون المطلوب منهم الاسلام.

و هذا نظير ما قاله المفسّرون في قوله تعالى وَ لِتُصْنَعَ عَلى‏ عَيْنِي على قراءة لتصنع بلفظ الأمر مبنيّا للمفعول. إنّ المعنى ليصنعك غيرك أى لتربّى و تغذّى و يحسن إليك بمرئى منّي أى يجرى امرك على ما اريد من الرّفاهة.

(و أصفاه خيرة خلقه) أى آثر و اختار للبعثة به خيرة خلقه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أو جعل خيرة خلقه خالصا لتبليغه دون غيره.

(و أقام دعائمه على محبّته) أى أثبت أركان الاسلام فوق محبّته تعالى، فانّ من أحبّه سبحانه أسلم له، أو أنّه قام دعائم حالكونه تعالى محبّا له أو حال كون الاسلام محبوبا له تعالى، أو لأجل حبّه إياه، أو لأجل محبوبيّته عنده على الاحتمالات المتقدّمة في الاعراب.

ثمّ المراد بدعائمه إما مطلق أركانه التي يأتي تفصيلها منه عليه السّلام في أوائل باب المختار من حكمه و هو الأنسب.

أو خصوص ما اشير إليه في الحديث المرويّ في البحار من أمالى الصدوق بسنده عن المفضل عن الصادق عليه السّلام قال: بني الاسلام على خمس دعائم: على الصّلاة، و الزّكاة، و الصوم، و الحجّ، و ولاية أمير المؤمنين و الأئمّة من ولده صلوات اللّه عليهم (أذلّ الأديان بعزّته) أراد بذلّتها نسخها أو المراد ذلّة أهلها على حذف المضاف و يحتملهما قوله (و وضع الملل برفعه) و يصدّق هاتين القرينتين صريحا قوله تعالى هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى‏ وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى.

(و أهان أعداءه بكرامته) أى أهان أعداء الاسلام و هم اليهود و النصارى و المشركون و كلّ من عانده و لم يتديّن به من أهل الملل المتقدّمة، و إهانتهم بالقتل و الاستيصال و أخذ الجزية و الذلّ و الصّغار.

(و خذل محادّيه بنصره) أى ترك نصرة المخالفين للاسلام المحادّين له و أخزاهم‏بنصرته للاسلام و أهله.

(و هدم أركان الضّلالة بركنه) ركن الشي‏ء جانبه الّذى يستند إليه و يقوم به، فاستعار أركان الضلالة للعقايد المضلّة أو رؤساء أهل الضّلالة أو الأصنام، و أراد بركنه أصوله و قواعده أو النّبي أو كلمة التوحيد.

(و سقى من عطش من حياضه) المراد بمن عطش الجاهل بقواعد الاسلام المبتغي له، و بالحياض النّبي و الأئمّة سلام اللّه عليهم المملوون بمياه العلوم الحقّة، أو الأعمّ الشامل للعلماء الرّاشدين أيضا و يسقيه هدايته له إلى الاستفادة و أخذ علوم الدّين عنهم عليهم السّلام.

(و أتاق الحياض بمواتحه) أى ملأ صدور اولى العلم عليهم السّلام من زلال المعارف الحقّة و العلوم الدّينية بوساطة المبلّغين من اللّه تعالى من الملائكة و روح القدس و الالهامات الالهيّة. و إن اريد بالحياض الأعمّ الشامل للعلماء فيعمّم المواتح للأئمة لأنهم يستفيدون من علومهم عليهم السّلام و يستضيئون بأنوارهم عليهم السّلام و قيل هنا: معان اخر، و الأظهر ما قلناه.

(ثمّ جعله) وثيقا (لا انفصام لعروته) كما قال تعالى قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى‏ لَا انْفِصامَ لَها.

قال أمين الاسلام الطبرسي «قد» قد ظهر الايمان من الكفر و الحقّ من الباطل، فمن يكفر بما خالف أمر اللّه و يصدق باللّه و بما جاءت به رسله فقد تمسّك و اعتصم بالعصمة الوثيقة و عقد لنفسه من الدّين عقدا وثيقا لا يحلّه شبهة، لا انفصام لها أى لا انقطاع لها كما لا ينقطع من تمسك بالعروة كذلك لا ينقطع أمر من تمسّك بالايمان، و محصّله أنّ من اعتصم بعروة الاسلام فهي تؤدّيه إلى غاية مقصده من رضاء الحقّ و رضوانه و نزول غرفات جنانه لأنّها وثيقة لا ينقطع و لا تنفصم.

(و) جعله محكما (لا فكّ لحلقته) قال الشّارح البحراني: كناية عن عدم انقهار أهله و جماعته.

(و) مشيّدا (لا انهدام لأساسه) قال البحراني: استعار لفظ الأساس للكتاب و السّنة الّذين هما أساس الاسلام، و لفظ الانهدام لاضمحلالهما انتهى، و لا بأس به، و قد يفسّر في بعض الرّوايات بالولاية.

و هو ما رواه في البحار من أمالي الشيخ باسناده عن جابر بن يزيد عن أبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين عن أبيه عن جدّه عليهم السّلام قال: لمّا قضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مناسكه من حجّة الوداع ركب راحلته و أنشأ يقول: لا يدخل الجنّة إلّا من كان مسلما، فقام اليه أبو ذر الغفارى فقال: يا رسول اللّه و ما الاسلام فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الاسلام عريان و لباسه التقوى، و زينته الحياء، و ملاكه«» الورع و كماله الدّين، و ثمرته العمل، و لكلّ شي‏ء أساس و أساس الاسلام حبّنا أهل البيت.

(و) ثابتا (لا زوال لدعائمه) قال البحراني: استعار لفظ الدّعائم لعلمائه أو للكتاب و السنة و قوانينهما، و أراد بعدم زوالها عدم انقراض العلماء أو عدم القوانين الشرعيّة، انتهى.

و الأولى أن يراد بالدّعائم ما يأتي تفصيلها منه عليه السّلام في أوائل باب المختار من حكمه عليه السّلام و هو ثالث أبواب النّهج.

(و) راسخا (لا انقلاع لشجرته) الظاهر أنّه من قبيل اضافة المشبّه به على المشبّه كما في لجين الماء، و المراد أنّ الاسلام كشجرة ثابتة أصلها ثابت و فرعها فى السماء كما اشير اليه في قوله مثل كلمة طيّبة كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ الاية.

قال الطبرسي: قال ابن عبّاس: هي كلمة التوحيد شهادة أن لا إله إلّا اللّه كشجرة زاكية نامية راسخة اصولها فى الأرض عالية أغصانها، و ثمارها في السماء، و أراد به المبالغة في الرّفعة و الأصل سافل و الفرع عال إلّا أنه يتوصّل من الأصل إلى الفرع.

قال: و قيل: انّه سبحانه شبّه الايمان بالنّخلة لثبات الايمان في قلب المؤمن كثبات النخلة في منبتها، و شبّه ارتفاع عمله إلى السماء بارتفاع فروع النخلة،و شبّه ما يكسبه المؤمنون من بركة الايمان و ثوابه في كلّ وقت و حين بما ينال من ثمرة النخلة في أوقات السّنة كلّها من الرّطب و التّمر.

و فى البحار من علل الشرائع باسناده عن معمّر بن قتادة عن أنس بن مالك في حديث قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال حبيبي جبرئيل عليه السّلام: إنّ مثل هذا الدّين كمثل شجرة ثابتة الايمان أصلها، و الصّلاة، عروقها، و الزّكاة ماؤها، و الصّوم سعفها، و حسن الخلق ورقها، و الكفّ عن المحارم ثمرها، فلا تكمل شجرة إلّا بالثمر كذلك الايمان لا يكمل إلّا بالكفّ عن المحارم.

(و) متماديا (لا انقطاع لمدّته) لاستمراره و بقائه إلى يوم القيامة.

(و) جديدا (لا عفاء لشرايعه) أى لا اندراس لما شرع اللّه منه لعباده و لا انمحاء لطرقه و شعبه الّتي يذهب بسالكها إلى حظاير القدس و محافل الانس (و) زاكيا (لا جذّ لفروعه) أى لا ينقطع ما يتفرّع عليه من الأحكام الّتي يستنبطها المجتهدون بأفكارهم السليمة من الكتاب و السّنة، و يحتمل أن يراد بها ما يتفرّع عليه من الثّمرات و المنافع الدنيويّة و الاخروية.

(و) وسيعا (لا ضنك لطرقه) أى لا ضيق لمسالكه بحيث يشقّ على السّالكين سلوكه، و المراد أنها ملّة سمحة سهلة ليس فيها ثقل على المكلّفين كما كان في الملل السّابقة.

قال تعالى الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ.

قال أمين الاسلام الطبرسي: معناه يبيح لهم المستلذّات الحسنة و يحرّم عليهم القبايح و ما تعافه الأنفس، و قيل: يحلّ لهم ما اكتسبوه من وجه طيّب و يحرّم عليهم ما اكتسبوه من وجه خبيث، و قيل: يحلّ لهم ما حرّمه عليهم رهبانيّهم و أحبارهم و ما كان يحرّمه أهل الجاهلية من البحائر و السوائب و غيرها، و يحرّم عليهم الميتة و الدّم و لحم الخنزير و ما ذكر معها.

و يضع عنهم إصرهم أى ثقلهم شبّه ما كان على بني إسرائيل من التكليف الشديدبالثقل، و ذلك إن اللّه سبحانه جعل توبتهم أن يقتل بعضهم و جعل توبة هذه الامّة الندم بالقلب حرمة للنّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و الاغلال الّتي كانت عليهم قيل: يريد بالأغلال ما امتحنوا به من قتل نفوسهم في التوبة و قرض ما يصيبه البول من أجسادهم و ما أشبه ذلك من تحريم السّبت و تحريم العروق و الشحوم و قطع الأعضاء الخاطئة و وجوب القصاص دون الدّية انتهى.

و قيل: الاصر الثقل الّذى يأصر حامله أى يحبسه فى مكانه لفرط ثقله.

و قال الزّمخشرى: هو مثل لثقل تكليفهم و صعوبته نحو اشتراط قتل الأنفس فى صحّة توبتهم، و كذلك الاغلال مثل لما كان فى شرايعهم من الأشياء الشّاقة نحو بت القضاء بالقصاص عمدا كان أو خطاء من غير شرع الدّية، و قطع الأعضاء الخاطئة، و قرض موضع النّجاسة من الجلد و الثوب و إحراق الغنايم، و تحريم العروق فى اللّحم و تحريم السبت.

و عن عطا كانت بنو اسرائيل إذا قامت تصلّى لبسوا المسوح و غلّوا أيديهم إلى الأعناق، و ربّما ثقب الرّجل ترقوته و جعل فيها طرف السّلسلة و أوثقها إلى السّارية يحبس نفسه على العبادة.

(و) سهلا (لا وعوثة لسهولته) يعني أنّه على حدّ الاعتدال من السهولة، و ليس سهلا مفرطا كالوعث من الطريق يتعسّر سلوكه و يشقّ المشى فيه لرسوب الأقدام.

(و) واضحا (لا سواد لوضحه) يعنى أنّ بياضه لا يشوبه الظلام كما قال النّبى صلّى اللّه عليه و آله: بعثت اليكم بالحنيفيّة السمحقة السهلة البيضاء، و بياضه كناية عن صفائه عن كدر الباطل.

(و) مستقيما (لا عوج لانتصابه) أى لا اعوجاج لقيامه كما قال تعالى قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ و المراد أنّه صراط مستقيم مؤدّ لسالكه إلى الجنّة، و رضوان اللّه تعالى ليس فيه عوج و لا أمت.

(و) مستويا (لا عصل فى عوده) و هو أيضا كناية عن استقامته و ادائه إلى الحقّ.

(و) يسيرا (لا وعث لفجّه) أراد بالفجّ مطلق الطريق مجازا من إطلاق المقيّدعلى المطلق و يمكن إرادة المعنى الحقيقى و يكون النظر فى التشبيه إلى أنه الجادّة الوسطى بين طرفى الافراط و التفريط، كما أنّ الفجّ هو الطريق الواسع بين الجبلين.

(و) مضيئا (لا انطفاء لمصابيحه) الظاهر أنّ المراد بمصابيحه أئمة الدّين و أعلام اليقين الذينهم مصابيح الدّجى و منار الهدى، و أراد بعدم انطفائها عدم خلوّ الأرض منهم عليهم السّلام.

(و) حلوا (لا مرارة لحلاوته) لأنه أحلى و ألذّ فى أذواق المتديّنين من كلّ حلو، و لذيذ لا يشوبه مرارة مشقّة التكليف.

كما قال الصادق عليه السّلام في قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ: لذّة ما فى النداء أزال تعب العبادة و العناء.

(فهو دعائم أساخ فى الحقّ أسناخها) يعنى أنّ الاسلام دعائم العبوديّة فلا ينافي حملها عليه هنا لما تقدّم سابقا من إضافتها إليه فى قوله: أقام دعائمه على محبّته، و قوله: و لا زوال لدعائمه، نظرا إلى أنّ ظهور الاضافة في التغاير.

وجه عدم المنافاة أنّ الغرض فيما سبق تشبيه الاسلام و الدّين بالبيت فأثبت له الدّعائم على سبيل الاستعارة المكنيّة التخييلية، فهو لا ينافي كون الاسلام نفسه أيضا دعائم لكن للعبوديّة.

و يمكن دفع المنافاة بوجه آخر و هو أنّا قد بيّنا فيما سبق أنّ المراد بدعائم الاسلام إمّا الدعائم الّتي يأتي تفصيلها منه عليه السّلام في باب المختار من حكمه أو خصوص العبادات الخمس أعنى الصلاة و الزّكاة و الصّوم و الحجّ و الولاية حسبما اشير إليه في الحديث الذى رويناه من البحار و في أحاديث كثيرة غيره تركنا ذكرها، و على أىّ تقدير فلمّا كان قوام الاسلام بتلك الدّعائم و ثباته عليها حتّى أنّه بدونها لا ينتفع بشي‏ء من أجزائه فجعله نفس تلك الدّعائم مبالغة من باب زيد عدل.

و يوضح ذلك ما في البحار من الكافي عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث قال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: الصّلاة عمود دينكم.

و فى الكافى أيضا باسناده عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال‏رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: مثل الصّلاة مثل عمود الفسطاط إذا ثبت العمود نفعت الأطناب و الأوتاد و الغشاء، و إذا انكسر العمود لم ينفع طناب و لاوتد و لا غشاء.

و أما قوله: أساخ في الحقّ أسناخها، فمعناه أنّه تعالى أثبت اصولها في الحقّ يعني أنّه بناء محكم بني على الحقّ و ثبت قوائمة عليه دون الباطل كما قال تعالى فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أى ذلك الدّين المستقيم الحقّ.

(و ثبّت لها أساسها) أى أحكم لهذه الدّعائم أبنيتها.

(و ينابيع غزرت عيونها) يعني جداول و أنهار كثيرة ماء عيونها الّتى تجريان منها، و الظاهر أنّه من التّشبيه البليغ، و المراد أنّ الاسلام بما تضمّنه من الأحكام الكثيرة الاسلاميّة بمنزلة ينابيع وصفها ما ذكر، و وجه الشّبه أنّ الينابيع منبع مادّة حياة الأبدان و الأحكام الاسلاميّة منشأ مادّة حياة الأرواح، إذ بامتثالها يحصل القرب من اللّه المحصّل لحياة الأبد.

و في وصف المشبّه به بغزارة العيون إشارة إلى ملاحظة ذلك الوصف في جانب المشبّه أيضا لأنّ الأحكام الاسلاميّة صادرة عن صدر النّبوّة و صدور الأئمة الّتي هى معادن العلوم الالهيّة و عيونها، و كفى بها كثرة و غزارة.

(و مصابيح شبّت نيرانها) و هو أيضا من التّشبيه البليغ، يعني أنّ الاسلام بما فيه من الطّاعات و العبادات الّتي من وظايفه مثل المصابيح الموقدة النّيران المشتعلة الّتي هي في غاية الاضاءة، و وجه الشّبه أنّ المصابيح الّتي وصفها ذلك كما أنها ترفع الظلام المحسوسة، فكذلك الطاعات الموظفة في دين الاسلام إذا اقيست عليها تنوّر القلوب و تجلو ظلمتها المعقولة.

(و منار اقتدى بها سفّارها) يعني أنّه بما فيه من الأدلّة السّاطعة و البراهين القاطعة الّتي يستدلّ بها العلماء في المقاصد، مثل منائر يهتدى بها المسافرون في الفلوات، و إضافة سفار إلى ضمير المنار من التّوسع.

و مثله قوله (و أعلام قصد بها فجاجها) أى مثل أعلام قصد بنصب تلك الأعلام‏إهداء المسافرين في تلك الفجاج.

(و مناهل روى بها ورّادها) يعني أنّه بما فيه من العلوم الاسلاميّة النقليّة و العقليّة بمنزلة مشارب تروى بمائها العطاش الواردون إليها.

(جعل اللّه فيه منتهى رضوانه) أى غاية رضاه لكونه أتمّ الوسايل و أكملها في الايصال إلى قربه و زلفاه كما اشير إليه في قوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ و قوله إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ.

(و ذروة دعائمه) الظاهر أنّ المراد بالدعائم العبادات التي بنيت عليها بيت العبوديّة، و لما كان دين الاسلام أشرف الأديان و أفضلها تكون العبادات الموظفة فيه أفضل العبادات و أعلاها، و إضافة الدعائم إلى اللّه من باب التّشريف و التكريم باعتبار أنّها مجعولات له سبحانه أو من أجل كونها مطلوبة له تعالى.

و به يظهر أيضا معنى قوله (و سنام طاعته) و يستفاد من بعض الأخبار أنّ ذروة الاسلام و سنامه هو خصوص الجهاد.

و هو ما رواه في البحار من الكافي باسناده عن سليمان بن خالد عن أبي جعفر عليه السّلام قال: ألا اخبرك بأصل الاسلام و فرعه و ذروة سنامه قلت: بلى جعلت فداك، قال: أمّا أصله فالصّلاة، و فرعه الزّكاة، و ذروة سنامه الجهاد.

قال المحدّث العلامة المجلسي: الاضافة في ذروة سنامه بيانيّة أو لاميّة إذ للسّنام الذى هو ذروة البعير ذروة أيضا هو أرفع أجزائه، و إنما صارت الصلاة أصل الاسلام لأنه بدونها لا يثبت على ساق، و الزّكاة فرعه لأنه بدونها لا تتمّ، و الجهاد ذروة سنامه لأنه سبب لعلوّه و ارتفاعه، و قيل: لأنه فوق كل برّ كما ورد في الخبر و كيف كان (فهو عند اللّه وثيق الأركان) لابتنائه على أدلّة محكمة و اصول متقنة (رفيع البنيان) كناية عن علوّ شأنه و رفعة قدره على ساير الأديان.

(منير البرهان) أى الدّليل الدّال على حقيّته من الايات و المعجزات الباهرة منير واضح.

(مضي‏ء النيران) كناية عن كون أنواره أى العلوم و الحكم الثاقبة التي فيه في غايةالضياء بحيث لا تخفى على الناظر المتدبّر.

(عزيز السلطان) يريد أنّ حجّته قويّة أو أنّ سلطنته غالبة على ساير الأديان كما قال تعالى لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ.

(مشرف المنار) أى مرتفع المنارة قال الشارح البحراني: و كنى به عن علوّ قدر علمائه و أئمته و انتشار فضلهم و الهداية بهم.

(معوز المثار) قيل: أى يعجز الناس ازعاجه و إثارته لقوّته و ثباته و متانته و قال البحراني: أى يعجز الخلق إثارة دفائنه و استخراج ما فيه من كنوز الحكمة و لا يمكنهم استقصاؤها، و في بعض النسخ معوز المثال أى يعجز الخلق عن الاتيان بمثله، و في بعضها معوز المنال أى يعجزون عن النيل و الوصول إلى نكاته و دقائقه و أسراره.

(فشرّفوه) أى عظّموه و عدّوه شريفا و اعتقدوه كذلك (و اتّبعوه و أدّوا إليه حقّه) أى ما يحقّه من الاتّباع الكامل (و ضعوه مواضعه) أراد به الكفّ عن تغيير أحكامه و العلم بمرتبته و مقداره الذى جعله اللّه له، أو العمل بجميع ما تضمّنه من الأوامر و النواهي، و فّقنا اللّه لذلك بجاه محمّد و آله سلام اللّه عليه و عليهم.

الترجمة

فصل ثانى از اين خطبه شريفه در وصف اسلام است و ذكر فضايل آن مى‏ فرمايد: پس بدرستى اين اسلام دين خداست كه پسند فرموده آنرا از براى خودش و برگزيده آنرا در حالتى كه عالمست بفضيلت آن، و خالص گردانيده بأو بهترين خلق خود را كه پيغمبر آخر الزّمان صلّى اللّه عليه و آله باشد، و بر پا داشته ستونهاى آن را بر بالاى محبّت خود، ذليل نموده دينها را بسبب عزيزى آن، و پست فرموده ملّتها را بجهت بلندى آن، و خوار نموده دشمنهاى خود را بجهت گرامى داشتن آن، و ذليل كرده معاندين خود را با يارى كردن آن، و خراب كرده أركان ضلالت و گمراهى را با ركن آن، و سيراب فرموده تشنگان را از حوضهاى آن، و پر كرده حوضها رابا آب كشندگان آن.

پس گردانيده آن را كه گسيخته نمى‏ شود جاى دستگير آن، و فك نمى ‏شود حلقه آن، و خرابى نيست اساس آن را و زوال نيست ستونهاى آن را، و بر كندگى نيست درخت آن را، و انقطاع نيست مدّت او را، و اندراس نيست شريعتهاى او را و بريدگى نيست شاخهاى او را، و تنگى نيست راههاى آنرا، و دشوارى نيست أز براى سهولت آن، و سياهى نيست از براى سفيدى آن، و كجى نيست أز براى استقامت آن و اعوجاج نيست از براى چوب آن، و صعوبت نيست از براى راههاى آن، و خاموشى نيست چراغهاى آن را، و تلخى نيست شيريني آنرا.

پس آن اسلام ستونهائيست كه ثابت و محكم كرده خدا در حقّ اصلهاى آنها را، و بغايت مستحكم نموده از براى آنها بنيانهاى آنها را، و نهرهاى پر آبيست كه زياده است آبهاى چشمهاى آنها، و چراغهائيست كه أفروخته شده آتشهاي آنها و مناره‏هائيست كه هدايت يافته با آنها مسافران آنها، و علمهائيست كه قصد كرده شده با آنها راه روندگان گدوكهاى آنها، و سرچشمه‏ هائيست كه سيراب شده با آنها واردين به آنها، گردانيده است خداوند تبارك و تعالى در او غايت رضاى خود را، و بلندتر ستونهاى خود را، و كوهان طاعت خود را.

پس او است در نزد خدا كه محكم است ركنهاى آن، و بلند است بنائى آن نورانى است دليل آن، روشن است آتشهاى آن، عزيز است سلطنت آن، بلند است مناره آن، نا يابست معارضه گرى آن، پس مشرّف و گرامى داريد او را، و تبعيّت نمائيد بان، و أدا كنيد بأو حقّ او را و بگذاريد او را جائى كه لايق او است

الفصل الثالث و الرابع فى بعثة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و نبذ من فضايل القران

ثمّ إنّ اللّه بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله حين دنا من الدّنيا الانقطاع، و أقبل من الاخرة الاطّلاع، و أظلمت بهجتها بعد إشراق، و قامت بأهلها على ساق، و خشن منها مهاد، و أزف منها قياد، في انقطاع من مدّتها، و اقتراب من أشراطها، و تصرّم من أهلها، و انفصام من حلقتها، و انتشار من سببها، و عفاء من أعلامها، و تكشّف من عوراتها، و قصر من طولها جعله اللّه سبحانه بلاغا لرسالته، و كرامة لامّته، و ربيعا لاهل زمانه، و رفعة لاعوانه، و شرفا لأنصاره. ثمّ أنزل عليه الكتاب نورا لا تطفا مصابيحه، و سراجا لا يخبو توقّده و بحرا لا يدرك قعره، و منهاجا لا يضلّ نهجه، و شعاعا لا يظلم ضوئه و فرقانا لا يخمد برهانه، و بنيانا لا تهدم أركانه، و شفاء لا تخشى أسقامه و عزّا لا تهزم أنصاره، و حقّا لا تخذل أعوانه. فهو معدن الايمان و بحبوحته، و ينابيع العلم و بحوره، و رياض العدل و غدرانه و أثافيّ الاسلام و بنيانه، و أودية الحقّ و غيطانه، و بحرلا ينزفه المستنزفون «المنتزفون خ ل»، و عيون لا ينضبها الماتحون، و مناهل لا يغيضها الواردون و منازل لا يضلّ نهجها المسافرون، و أعلام لا يعمى عنها السّايرن، و آكام لا يجوز عنها القاصدون. جعله اللّه ريّا لعطش العلماء، و ربيعا لقلوب الفقهاء، و محاجّ لطرق الصّلحاء، و دواء ليس معه «بعده خ ل» داء، و نورا ليس معه ظلمة و حبلا وثيقا عروته، و معقلا منيعا ذروته، و عزّا لمن تولّاه، و سلما لمن دخله، و هدى لمن ائتمّ به، و عذرا لمن انتحله، و برهانا لمن تكلّم به، و شاهدا لمن خاصم به، و فلجا لمن حاجّ به، و حاملا لمن حمله، و مطيّة لمن أعمله، و آية لمن توسّم، و جنّة لمن استلام، و علما لمن وعى، و حديثا لمن روى، و حكما لمن قضى.

اللغة

(الاطلاع) الاشراف من موضع عال و (السّاق) الشّدّة قال تعالى وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ أى اتّصلت آخر شدّة الدّنيا بأوّل شدّة الاخرة و (المهاد) بالكسر كالمهد موضع يهيّا للصّبي و الفراش و (قاد) الرّجل الفرس قودا من باب قال و قيادا بالكسر و هو نقيض السّوق قال الخليل: القود أن يكون الرّجل أمام الدّابة آخذا بقيادها، و السّوق أن يكون خلفها، فان قادها لنفسه قيل: اقتادها، و المقود بالكسر الحبل يقاد به، و القياد مثله مثل لحاف و ملحف.

و (العورة) السوءة و كلّ أمر يستحى منه و (الطول) الامتداد يقول طال الشي‏ءطولا بالضمّ امتدّ و خلاف العرض، و في بعض النسخ من طولها وزان عنب و هو حبل تشدّ به قائمة الدّابة أو تشدّ و تمسك طرفه و ترسلها ترعى، و طال طولك و طيلك و طيالك أى عمرك أو مكثك أو غيبتك.

(و منهاجا لا يضلّ نهجه) المنهاج و النهج وزان فلس الطريق الواضح، و نهج الطريق نهجا من باب منع سلكه، و يضلّ من باب الافعال و في بعض النسخ بصيغة المجرّد.

و (الغدران) جمع الغدير و هو النهر و (الأثافي) بفتح الهمزة و تشديد الياء كاثاف جمع الاثفية بالضمّ و بالكسر و هو الحجر يوضع عليه القدر و الأثافي الأحجار الموضع عليها القدر على شكل مثلّث و (نضب) الماء نضوبا من باب قعد غار في الأرض و ينضب بالكسر من باب ضرب لغة.

و (غاض) الماء غيضا من باب سار نضب و قلّ، و غاضه اللّه بتعدّى و لا يتعدّى فالماء مغيض قال الشارح المعتزلي و روى لا يغيضها بالضمّ على قول من قال أغضت الماء و هي لغة غير مشهورة.

و (الأكمة) بالتحريك التلّ، و قيل: شرفة كالرّابية و هو ما اجتمع من الحجارة في مكان واحد، و ربّما غلظ و الجمع اكم و اكمات مثل قصبة و قصب و قصبات و جمع الاكم اكام مثل جبل و جبال، و جمع الاكام اكم بضمّتين مثل كتاب و كتب و جمع الاكم أكام مثل عنق و أعناق هكذا قال الفيومي.

و (المحجّة) بالفتح جادّة الطريق و (الفلج) بالضّم اسم من الفلج و هو الظفر و الفوز و فلج بحجّته أثبتها، و أفلج اللّه حجّته أظهرها و (وعى) الحديث وعيا من باب وعد حفظه و جمعه و تدبّره.

الاعراب

قوله: في انقطاع من مدّتها ظرف لغو متعلّق بقوله أزف و في بمعنى مع و يحتمل أن يكون ظرفا مستقرّا متعلّقا بمقدّر حالا من قياد، و قوله: نورا بدل من الكتاب، و قوله: و منهاجا لا يضلّ نهجه إن كان من باب الافعال فنهجه منصوب على‏المفعول و الفاعل ضمير مستكن راجع إلى منهاجا، و إن كان بصيغة المجرّد فهو مرفوع على الفاعل و اسناد الفعل اليه من المجاز العقلي أو المصدر بمعنى الفاعل فمجاز لغويّ و الاسناد حينئذ على حقيقته.

المعنى

اعلم أنّه عليه السّلام لمّا ذكر في الفصل السّابق فضل الاسلام و شرفه أردفه بهذا الفصل و أشار فيه إلى بعثة من جاء بالاسلام، و شرح حال زمان البعثة تنبيها بذلك على عظم ما ترتّب على بعثه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الفوائد العظيمة، ثمّ عقّب بذكر أعظم نعمة أنعم اللّه به على عباده ببعثه و هو تنزيل الكتاب العزيز و ذلك قوله: (ثمّ إن اللّه بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) بالهدى و دين الحقّ (حين دنا من الدّنيا الانقطاع و أقبل من الاخرة الاطلاع) الظاهر أنّ المراد به قرب انقطاع دنيا كلّ امّة و إقبال آخرتهم بحضور موتهم حسبما عرفت تفصيله فى شرح قوله: أمّا بعد فانّ الدّنيا قد أدبرت و آذنت بوداع و أنّ الاخرة قد أقبلت و أشرفت باطلاع، من الخطبة الثامنة و العشرين.

و يحتمل أن يراد به قرب زوالها بالكلّية و إشراف الاخرة و القيامة الكبرى بناء على أنّ ما مرّ من عمر الدّنيا أكثر ممّا بقى، و يعضده بعض الأخبار.

مثل ما رواه في البحار من البرسي في مشارق الأنوار عن الثمالي عن عليّ ابن الحسين عليهما السّلام قال: إنّ اللّه خلق محمّدا و عليّا و الطيّبين من ذريّتهما من نور عظمته و أقامهم أشباحا قبل المخلوقات، ثمّ قال الظنّ إنّ اللّه لم يخلق خلقا سواكم بلى و اللّه لقد خلق اللّه ألف ألف آدم و ألف ألف عالم و أنت و اللّه في آخر تلك العوالم.

و فيه أيضا من جامع الأخبار قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ موسى سأل ربّه عزّ و جلّ أن يعرّفه بدء الدّنيا منذكم خلقت فأوحى اللّه عزّ و جلّ إلى موسى تسألني عن غوامض علمي فقال: يا ربّ أحبّ أن أعلم ذلك، فقال: يا موسى خلقت الدّنيا منذ مأئة ألف ألف عام عشر مرات و كانت خرابا خمسين ألف عام، ثمّ بدءت في عمارتها فعمرتها خمسين ألف عام، ثمّ خلقت فيها خلقا على مثال البقر يأكلون رزقى‏و يعبدون غيرى خمسين ألف عام، ثمّ امتّهم كلّهم في ساعة واحدة، ثمّ خربت الدّنيا خمسين ألف عام، ثمّ بدءت في عمارتها فمكثت عامرة خمسين ألف عام، ثمّ خلقت فيها بحرا فمكث البحر خمسين ألف عام لا شي‏ء مجاجا من الدّنيا يشرب، ثمّ خلقت دابّة و سلّطتها على ذلك البحر فشربه بنفس واحد، ثمّ خلقت خلقا أصغر من الزّنبور و أكبر من البقّ فسلّطت ذلك الخلق على هذه الدّابّة فلدغها و قتلها، فمكثت الدّنيا خرابا خمسين ألف عام، ثمّ بدءت في عمارتها فمكثت خمسين ألف سنة، ثمّ جعلت الدّنيا كلّها آجام القصب و خلقت السّلاحف و سلّطتها عليها فأكلتها حتّى لم يبق منها شي‏ء، ثمّ أهلكتها في ساعة واحدة فمكثت الدّنيا خرابا خمسين ألف عام، ثمّ بدءت في عمارتها فمكثت عامرة خمسين ألف عام، ثمّ خلقت ثلاثين آدم ثلاثين ألف سنة من آدم إلى آدم ألف سنة، فأفنيتهم كلّهم بقضائي و قدرى، ثمّ خلقت فيها ألف ألف مدينة من الفضّة البيضاء، و خلقت في كلّ مدينة مأئة ألف ألف قصر من الذّهب الأحمر، فملئت المدن خردلا عند الهواء يومئذ ألذّ من الشهد و أحلى من العسل و أبيض من الثلج، ثمّ خلقت طيرا أعمى و جعلت طعامه في كلّ ألف سنة حبّة من الخردل أكلها كلّها حتّى فنيت، ثمّ خرّبتها فمكثت خرابا خمسين ألف عام ثمّ بدءت في عمارتها فمكثت عامرة خمسين ألف عام، ثمّ خلقت أباك آدم بيدى يوم الجمعة وقت الظهر و لم أخلق من الطين غيره، و أخرجت من صلبه النبيّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و هذان الخبران كما ترى يعضدان ما ذكرناه من كون الغابر من الدّنيا أكثر من الباقي.

لكن العلامة المجلسي «قد» قال في المجلّد التاسع من البحار بعد ايراد رواية البرسي: لا أعتمد على ما تفرّد بنقله، و قال في المجلّد الرّابع عشر بعد رواية الخبر الثاني من جامع الأخبار: هذه من روايات المخالفين أوردها صاحب الجامع فأوردتها و لم أعتمد عليها.

فعلى ذلك لا يمكن التعويل عليهما مع منافاتهما لما رواه المحدّث الجزائرى‏فى الأنوار عن ابن طاوس «ره» أنّ عمر الدّنيا مأئة ألف سنة يكون منها عشرون ألف سنة ملك جميع أهل الدّنيا، و يكون ثمانون ألف سنة منها مدّة ملك آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأولى ردّ علم ذلك إلى اللّه و الرّاسخون فى العلم عليهم السّلام هذا.

و قوله (و أظلمت بهجتها بعد اشراق) أراد به أنّه سبحانه بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على حين فترة من الرّسل بعد ما كانت الدّنيا مبتهجة بوجودهم مشرقة مضيئة بأنوار هدايتهم، فأظلمت بهجتها أى ذهب حسنها و نضارتها بطول زمان الفترة و تمادى مدّة الغفلة و الضلالة.

(و قامت بأهلها على ساق) قد مضى تحقيق معنى هذه الجملة في شرح الخطبة المأة و الثامنة و الثلاثين فليراجع ثمّة و محصّل المراد بلوغها حين بعثته إلى غاية الشدّة بأهلها لما كانت عليه العرب حينئذ من ضيق العيش و الضّر و الحروب و القتل و الغارة و إثارة الفتن و تهييج الشرور و المفاسد كما قال عليه السّلام في الخطبة السّادسة و العشرين: إنّ اللّه بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نذيرا للعالمين و أمينا على التنزيل، و أنتم معشر العرب على شرّ دين و فى شرّ دار منيخون بين حجارة خشن و حيات صمّ، تشربون الكدر، و تأكلون الجشب، و تسفكون دمائكم و تقطعون أرحامكم آه.

(و خشن منها مهاد) كناية عن عدم الاستقرار بها و فقدان طيب العيش و الرّاحة، لأنّ ذلك إنّما يتمّ بانتظام الشرائع و ثبات قوانين العدل و يرتفع بارتفاعها.

(و أزف منها قياد) أى قرب منها اقتياد أهلها و تعريضهم بالهلاك و الفناء، أو انقيادها بنفسها للعدم و الزّوال، و الثاني أظهر بملاحظة الظروف الّتي بعدها أعني قوله.

(في انقطاع من مدّتها) و انخراطها في سلك العدم.

(و اقتراب من أشراطها) أي آياتها و علاماتها الدّالّة على زوالها، و المراد بها أشراط السّاعة الّتي اشير اليها في قوله تعالى فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها و قوله وَ إِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ و قوله فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ. مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ.

و انّما جعلها من أشراط الدّنيا مع كونها من أشراط السّاعة لوقوعها في الدّنيا مع أنّها كما تدلّ على قرب القيامة تدلّ على انقطاع الدّنيا و تمامها، فتكون أشراطا لهما معا، و مضى تفصيل هذه الأشراط في شرح الخطبة المأة و التاسعة و الثمانين.

و روى في الصافي في حديث أشراط السّاعة: أوّل الايات الدّخان و نزول عيسى و نار تخرج من قعر عدن ابين تسوق النّاس إلى المحشر.

و فى البحار من مجمع البيان و روى عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: بادروا بالأعمال ستّا: طلوع الشمس من مغربها، و الدّابّة، و الدّجّال، و الدّخان، و خويصة أحدكم أى موته، و أمر العامّة يعني القيامة.

(و تصرّم من أهلها) أى انقطاع منهم (و انفصام من حلقتها) أى انكسار و اندراس من نظام أهلها و اجتماعهم على الشريعة و الدّين (و انتشار من سببها) أى تفرّق من حبلها و ربقتها المشدودة بها رقاب أهلها و هو حبل الاسلام.

(و عفاء من اعلامها) أى دروس منها و هو كناية عن فقدان الأنبياء و العلماء الصّالحين الذين يهتدى بهم في ظلمات الجهالة و يستضاء بأنوارهم في بوادى الضّلالة.

(و تكشّف من عوراتها) أى ظهور من معايبها و مساويها الّتي كانت مستورة بحجاب الشرائع و استار الاسلام.

(و قصر من طولها) أى من تماديها و امتدادها أو المراد قصر عمرها على رواية طول بكسر الطّاء و فتح الواو.

و تعديد هذه الحالات الّتي كان عليها النّاس حين بعثه صلّى اللّه عليه و آله و شرحها و بسطها تذكيرا للمخاطبين بأنّ بعثه في مثل تلك الحالات أعظم من منّ اللّه تعالى به على عباده، ليؤدّ السامعون بتذكّره و ذكراه وظايف شكر تلك النعمة العظمى، و يقوموا بمراسم حمده حيث أنقذهم ببعثه سلام اللّه عليه و آله من ورطات الكفر و الضّلال، و أنجاهم من العقاب و الوبال.

(جعله اللّه سبحانه بلاغا لرسالته) أى تبليغا لها كما في قوله تعالى قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ أى إلّا أداء الرّسالة و بيان الشريعة أو كفاية لها كما في قوله‏تعالى في وصف القرآن هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ أى موعظة بالغة كافية، و على المعنيين فلا بد من جعل المصدر بمعنى الفاعل أى جعله عزّ و جلّ مبلّغا للرسالة أو كافيا لها أى غير محتاج معه إلى رسول آخر، و لذلك كان صلّى اللّه عليه و آله خاتم النّبوة.

(و كرامة لامّته) أى أكرمهم عزّ و جلّ بجعله رسولا لهم و جعلهم امّة له صلّى اللّه عليه و آله و فضّلهم بذلك على ساير الامم.

(و ربيعا لأهل زمانه) تشبيهه بالرّبيع إمّا من أجل ابتهاجهم ببهجة جماله و بديع مثاله كما يبتهج النّاس بالرّبيع و نضراته و طراوته، أو من أجل أنّ أهل زمانه قد خرجوا بوجوده الشريف من ضنك المعيشة إلى الرّخا و السعة، كما أنّ الناس يخرجون في الرّبيع من جدب الشتاء و ضيق عيشها إلى الدّعة و الرفاهة.

(و رفعة لأعوانه و شرفا لأنصاره) يحتمل رجوع الضميرين الى اللّه كما في الفقرة الاولى و إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما في الفقرتين الأخيرتين، و على أىّ تقدير فالمراد بالأعوان و الأنصار المسلمون أمّا كونهم أنصارا له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فواضح، و أمّا جعلهم أنصارا و عونا للّه عزّ و جلّ على الاحتمال الأول فلكونهم أنصار دين اللّه و أعوان رسوله، أضافهما إليه تعالى تشريفا و تكريما.

و كيف كان فقد شرف اللّه تعالى المسلمين و رفع شأنهم فى الدّنيا و الاخرة بمتابعتهم لرسوله و معاونتهم له و سلّطهم على محادّيه و جاحديه لعنهم اللّه تعالى و عذّبهم عذابا أليما، هذا.

و لمّا ذكر بعثة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و أشار إلى بعض فوايد بعثه أردفه بذكر أعظم معجزات النّبوة و هو الكتاب العزيز، و أشار إلى جملة من أوصافه و مزاياه تنبيها على علوّ قدره و عزّة شأنه فقال: (ثمّ أنزل عليه الكتاب) و عدّ به اثنين و أربعين منقبة.

أولها كونه (نورا لا تطفى مصابيحه) أمّا أنّه نور فلاهتداء النّاس به من ظلمات الجهل كما يهتدى بالنور المحسوس في ظلمة اللّيل قال تعالى إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ و أمّا مصابيحه فاستعارة لطرق الاهتداء و فنون العلوم الّتي تضمّنها القرآن.

(و) الثانية كونه (سراجا لا يخبو توقده) أمّا أنّه سراجا فلما مرّ آنفا، و أمّا، أنّه لا يخبو توقّده فالمراد به عدم انقطاع اهتداء النّاس به و استضاءتهم بنوره.

(و) الثالثة كونه (بحرا لا يدرك قعره) استعارة البحر له باعتبار اشتماله على النكات البديعة و الأسرار الخفيّة و دقايق العلوم الّتي لا يدركها بعد الهمم و لا ينالها غوص الفطن كما لا يدرك الغائص قعر البحر العميق.

(و) الرابعة كونه (منهاجا لا يضلّ نهجه) أى طريقا واضحا مستقيما إلى الحقّ لا يضلّ سالكه أو لا يضلّ سلوكه.

(و) الخامسة كونه (شعاعا لا يظلم ضوءه) أى حقّا لا يدانيه شكّ و ريب أى لا يشوبه ظلمة الباطل فيغطيه و يستره كما قال تعالى ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ و قال لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ.

قال الطبرسي: قيل: إنّ الباطل الشيطان و معناه لا يقدر الشيطان أن ينقص منه حقّا أو يزيد فيه باطلا، و قيل: لا يأتيه الباطل من جهة من الجهات فلا تناقض في ألفاظه.

و لا كذب في اخباره و لا يعارض و لا يزاد فيه و لا يغيّر بل هو محفوظ حجة على المكلّفين إلى يوم القيامة، و يؤيّده قوله تعالى إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ.

(و) السادسة كونه (فرقانا لا يخمد برهانه) أى فارقا بين الحقّ و الباطل و فاصلا بينهما لا ينتفي براهينه الجليّة و بيّناته الّتي بها يفرق بينهما كما قال تعالى إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ و قال هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى‏ وَ الْفُرْقانِ.

(و) السابعة كونه (بنيانا لا تهدم أركانه) شبّهه ببنيان مرصوص وثيق الأركان فاستعار له لفظه و الجامع انتظام الاجزاء و اتّصال بعضها ببعض، و قوله: لا تهدم أركانه، ترشيح للاستعارة، و فيه إشارة إلى أنّ البنيان الوثيق كما أنّه مأمون من التّهافت و الهدم و الانفراج فكذلك الكتاب العزيز محفوظ من طروّ النقص و الخلل و الاندراس.

(و) الثامنة كونه (شفاء لا تخشى أسقامه) يعني انّه شفاء للأبدان و الأرواح.

أمّا الأبدان فبالتجربة و العيان مضافا إلى الأحاديث الواردة في خواصّ أكثر الايات المفيدة للاستشفاء و التعويذ بها.

مثل ما في الكافي باسناده عن السّكوني عن أبي عبد اللّه عن آبائه عليهم السّلام قال: شكى رجل إلى النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وجعا في صدره فقال: استشف بالقرآن فانّ اللّه عزّ و جلّ يقول: وَ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ.

و عن سلمة بن محرّز قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: من لم يبرءه الحمد لم يبرءه شي‏ء.

و عن إبراهيم مهزم عن رجل سمع أبا الحسن عليه السّلام يقول: من قرء آية الكرسي عند منامه لم يخف الفالج انشاء اللّه، و من قرءها في دبر كلّ فريضة لم يضرّه ذو حمة.

و فى مجمع البيان من كتاب العياشي باسناده انّ النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لجابر بن عبد اللّه الأنصارى: ألا اعلمك أفضل سورة أنزلها اللّه في كتابه قال: فقال له جابر: بلى بأبى أنت و أمّي يا رسول اللّه علّمنيها، قال: فعلّمه الحمد أمّ الكتاب، ثمّ قال: يا جابر ألا اخبرك عنها قال: بلى بأبى أنت و امّى فأخبرني، فقال: هى شفاء من كلّ داء إلّا السّام، و السّام الموت، إلى غير هذه ممّا لا حاجة إلى ايرادها.

و أمّا الأرواح فلأنّه بما تضمّنه من فنون العلوم شفاء لأمراض الجهل.

فقد ظهر بذلك كونه شفاء للأبدان من الأوجاع و الأسقام، و شفاء للقلوب من كلّ شك و ريب و شبهة، و يصدق ذلك قوله تعالى في سورة السجدة قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَ شِفاءٌ و في سورة بني اسرائيل وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً.

قال أمين الاسلام الطبرسي وجه الشّفاء فيه من وجوه: منها ما فيه من البيان الّذى يزيل عمى الجهل و حيرة الشكّ.

و منها ما فيه من النظم و التأليف و الفصاحة البالغة حدّ الاعجاز الّذى يدلّ على صدق النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فهو من هذه الجهة شفاء من الجهل و الشكّ و العمى في الدّين و يكون شفاء للقلوب.

و منها أنّه يتبرّك به و بقراءته و يستعان به على دفع العلل و الأسقام و يدفع اللّه به كثيرا من المكاره و المضارّ على ما يقتضيه الحكمة.

و منها ما فيه من أدّلة التوحيد و العدل و بيان الشرائع فهو شفاء للنّاس في دنياهم‏و آخرتهم، و رحمة للمؤمنين أى نعمة لهم، و إنّما خصّهم بذلك لأنّهم المنتفعون به، انتهى.

فقد تحصّل من ذلك أنّه شفاء لا يخاف أن يعقب سقما، لأنّ الكمالات النفسانية الحاصلة من قراءته و تفكّره و تدبّر آياته تصير ملكات راسخة لا تتبدّل بأضدادها و لا تتغيّر.

(و) التاسعة كونه (عزا لا تهزم أنصاره) أى لا تغلب و لا تقهر.

(و) العاشرة كونه (حقّا لا تخذل أعوانه) و المراد بأعوانه و أنصاره هم المسلمون العارفون بحقّه العاملون بأحكامه و عدم هزمهم و خذلانهم نصّ قوله تعالى لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا.

قال في مجمع البيان فيه أقوال: أحدها أنّ المراد لن يجعل اللّه لليهود على المؤمنين نصرا و لا ظهورا.

و قيل: لن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلا بالحجّة و إن جاز أن يغلبوهم بالقوّة، لكن المؤمنين منصورون بالدّلالة و الحجّة.

و قيل: لن يجعل لهم في الاخرة عليهم سبيلا لأنّه مذكور عقيب قوله فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بيّن اللّه سبحانه أنّه إن يثبت لهم سبيل على المؤمنين في الدّنيا بالقتل و القهر و النهب و الاسر و غير ذلك من وجوه الغلبة فلن يجعل لهم يوم القيامة عليهم سبيلا.

و الحادية عشر ما أشار إليه بقوله (فهو معدن الايمان و بحبوحته).

أمّا أنّه معدن الايمان، فلأنّ المعدن عبارة عن منبت الجوهر من ذهب و فضّة و نحوهما، و لمّا كان الايمان باللّه و رسوله جوهرا نفيسا لا جوهر أنفس منه و لا أغلى عند ذوى العقول، و كان يستفاد من القرآن و يستخرج منه جعله معدنا له.

و أمّا أنّه بحبوحته و وسطه فلأنّ الايمان بجميع أجزائه و شرايطه و مراسمه يدور عليه، فهو بمنزلة القطب و المركز لدائرة الايمان كما هو ظاهر.

(و) الثانية عشر أنّه (ينابيع العلم و بحوره)أمّا أنّه ينابيع العلم فلأنّ العلوم بجميع أقسامه منه تفيض كالعيون الجارية منها الماء.و أمّا أنّه بحوره فلاحتوائه بفنون العلم كاحتواء البحر بمعظم الماء

(و) الثالثة عشر أنّه (رياض العدل و غدرانه).أمّا كونه رياض العدل فلأنّ الرّياض عبارة عن مجامع النّبات و الزّهر و الرّياحين الّتي تبتهج النفوس بخضرتها و نضرتها، و تستلذّ الطباع بحسنها و بهجتها كما قال تعالى حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ فشبّه التّكاليف الشرعيّة المجعولة عن وجه العدل و الحكمة بالزّهر و النبات الحسن لايجابها لذّة الأبد و جعل الكتاب العزيز رياضا لها لاجتماعها فيه و استنباطها منه.

و أمّا كونه غدران العدل فلأنّ الغدير عبارة عن مجمع الماء فشبّه الأحكام العدليّة بالماء لما فيها من حياة الأرواح كما أنّ بالماء حياة الأبدان و جعله غديرا لجامعيّته لها.

(و) الرابعة عشر أنّه (أثافيّ الاسلام و بنيانه) لما قد عرفت من أنّ الأثافي عبارة عن الأحجار الّتي عليها القدر، فجعله أثافى للاسلام لاستقراره و ثباته عليه مثل استقرار القدر على الأثافي.

و بهذا الاعتبار أيضا جعل الصلاة و الزّكاة و الولاية أثافية في حديث البحار من الكافي عن الصّادق عليه السّلام قال: أثافي الاسلام ثلاثة: الصلاة، و الزكاة، و الولاية لا تصحّ واحدة منهنّ إلّا بصاحبتها.

قال العلّامة المجلسيّ: و إنّما اقتصر عليها لأنها أهمّ الأجزاء و يدلّ على اشتراط قبول كلّ منها بالاخرين، و لا ريب في كون الولاية شرطا لصحّة الاخريين.

(و) الخامسة عشر أنّه (أودية الحقّ و غيطانه) يعني أنّ طالب الحقّ إنّما يجده في هذه الأودية و الأراضى المطمئنة قال الشارح البحراني: و اللّفظان مستعاران باعتبار كونه معدنا للحقّ و مظنّة له، كما أنّ الأودية و الغيطان مظانّ الكلاء و الماء.

(و) السادسة عشر أنّه (بحر لا ينزفه المستنزفون) أى لا ينزحه كلّه و لا يفنيه‏المستقون، و هو إشارة إلى عدم انتهاء العلوم المستفادة منه، فانّ فيه علم ما كان و ما يكون و ما هو كائن إلى يوم القيامة حسبما عرفت في شرح الفصل السّابع عشر من الخطبة الاولى.

(و) السابعة عشر أنّه (عيون لا ينضبها الماتحون) أى لا يغيّرها المستسقون.

(و) الثامنة عشر أنّه (مناهل لا يغيضها الواردون) أى مشارب لا ينقص مائها الواردون على كثرة ورودهم عليها.

(و) التاسعة عشر أنّه (منازل لا يضلّ نهجها المسافرون) يعني أنّه منازل السّالكين إلى اللّه لا يضلّ مسافروه منهاج تلك المنازل لكونه واضحا جليّا و جادّة مستقيمة

(و) العشرون أنّه (أعلام لا يعمى عنها السّائرون) لاستنارتها و اضاءتها.

(و) الحادية و العشرون أنّه (آكام لا يجوز عنها القاصدون) قال الشّارح البحراني: استعار لفظ الاعلام و الاكام للأدلّة و الامارات فيه على طريق إلى معرفته و احكامه باعتبار كونها هادية إليها كما تهدى الأعلام و الجبال على الطّرق.

و الثانية و العشرون أنّه (جعله اللّه تعالى ريّا لعطش العلماء) شبّه شدّة اشتياق نفوس العلماء و حرصهم على المعارف الحقّة الالهيّة بعطش العطاش، و حيث إنّ الكتاب العزيز كان رافعا لغللهم جعله مرويّا لهم كما يروى الماء الغليل.

(و) الثالثة و العشرون أنّه جعله سبحانه (ربيعا لقلوب الفقهاء) لابتهاج قلوبهم به و استلذاذهم منه كما يبتهج النّاس بالرّبيع.

(و) الرابعة و العشرون أنّه جعله (محاجّ لطرق الصلحاء) أى جواد واضحة مستقيمة لا عوج فيها و لا خفاء، لأنّه يهدى للّتي هي أقوم.

(و) الخامسة و العشرون أنّه جعله (دواء ليس معه داء) حسبما عرفته في شرح قوله: و شفاء لا تخشى أسقامه.

(و) السادسة و العشرون أنّه جعله (نورا ليس معه ظلمة) أى حقّا لا يشوبه باطل حسبما عرفته في شرح قوله، و شعاعا لا يظلم نوره.

و فى الكافى باسناده عن أبى جميلة قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: كان في وصيّة أمير المؤمنين عليه السّلام أصحابه: إنّ هذا القرآن هدى النهار و نور اللّيل المظلم على ما كان من جهد و فاقة.

و فيه عن طلحة بن زيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ هذا القرآن فيه منار الهدى و مصابيح الدّجى فليجل جال بصره و يفتح للضياء نظره فانّ التّفكّر حياة قلب البصير كما يمشي المستنير في الظّلمات بالنور.

(و) السابعة و العشرون أنّه جعله (حبلا وثيقا عروته) لا يخشى من انفصامه من تمسّك به و اتّبع بأحكامه نجا و من تركه هلك.

(و) الثامنة و العشرون أنّه جعله (معقلا منيعا ذروته) أى ملجأ و حصنا حصينا يمنع الملتجى إليه من أن يناله المكروه و سوء العذاب.

(و) التاسعة و العشرون أنّه جعله (عزّا لمن تولّاه) يعني من اتّخذه وليّا و ألقى إليه أزمّة اموره و عمل بأوامره و نواهيه فهو عزّة له في الدّارين.

(و) الثلاثون أنّه جعله عزّ و جلّ (سلما لمن دخله) قال الشارح البحراني أى أمنا، و دخوله الخوض في تدبّر مقاصده و اقتباسها و بذلك الاعتبار يكون مأمنا من عذاب اللّه و من الوقوع في الشّبهات الّتي هي مهاوى الهلاك، و قيل: استعار لفظ السّلم باعتبار عدم اذاه لمن دخله فهو كالمسالم له.

(و) الحادية و الثلاثون أنّه جعله (هدى لمن ائتمّ به) و هو واضح كما قال تعالى ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ.

(و) الثانية و الثلاثون أنه جعله (عذرا لمن انتحله) و لعلّ المراد كونه عذرا منجيا من العذاب يوم القيامة لمن دان به و جعله نحلته و قيل: إنّ المراد أنّ من انتسب اليه بأن جعل نفسه من أهل القرآن و افتخر بذلك كان القرآن نفسه عذرا له، لعلوّ شأنه، و ما ذكرناه أقرب.

(و) الثالثة و الثلاثون أنّه جعله (برهانا لمن تكلّم به) أى حجّة واضحة و بيانا جليا لمن احتجّ به.

(و) الرابعة و الثلاثون أنه جعله (شاهدا لمن خاصم به) أى دليلا محكما للمستدلّ.

(و) الخامسة و الثلاثون أنّه جعله (فلجأ لمن حاجّ به) أى ظفرا و فوزا للمخاصم يعني أنّ من خاصم و احتجّ به فاز بمقصده و غلب خصمه.

روى في البحار من كنز الفوايد باسناده عن أبي جعفر عليه السّلام قال: يا معشر الشّيعة خاصموا بسورة إنّا أنزلناه في ليلة القدر تفلجوا، فو اللّه إنّها لحجّة اللّه تبارك و تعالى على الخلق بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إنّها لسيّدة دينكم و إنّها لغاية علمنا، يا معشر الشّيعة خاصموا بحم و الكتاب المبين فانّها لولاة الأمر خاصة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

(و) السادسة و الثلاثون أنه جعله (حاملا لمن حمله) يعني أنّ من حمل القرآن و حفظه و عمل به و اتّبع أحكامه حمله القرآن إلى دار القدس و غرفات الجنان.

روى في الكافي باسناده عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا معاشر قرّاء القرآن اتّقوا اللّه عزّ و جلّ فيما حملكم من كتابه فاني مسئول و انكم مسئولون، إنّي مسئول عن تبليغ الرّسالة، و أما أنتم فتسألون عما حملتم من كتاب اللّه و سنّتي.

و فيه عن السكونى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: حملة القرآن عرفاء أهل الجنّة و المجتهدون قوّاد أهل الجنّة و الرّسل سادات أهل الجنّة.

و عن عمرو بن جميع عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ أحقّ النّاس بالتخشّع في السّرّ و العلانية لحامل القرآن، و إنّ أحقّ النّاس في السرّ و العلانية بالصلاة و الصّوم لحامل القرآن، ثمّ نادى بأعلى صوته يا حامل القرآن تواضع به يرفعك اللّه و لا تعزّ زبه فيذلّك اللّه، يا حامل القرآن تزيّن به للّه يزيّنك اللّه به و لا تزيّن به للنّاس فيشينك اللّه به، من ختم القرآن فكأنّما ادرجت النّبوة بين جنبيه و لكنّه لا يوحى إليه، و من جمع القرآن فنوله لا يجهل مع من يجهل عليه و لا يغضب فيمن يغضب عليه و لا يحدّ فيمن‏يحدّ عليه و لكنّه يعفو و يصفح و يغفر و يحلم لتعظيم القرآن، و من اوتى القرآن فظنّ أنّ أحدا من النّاس اوتى أفضل ممّا اوتى فقد عظّم ما حقّر اللّه، و حقّر ما عظّم اللّه.

(و) السابعة و الثلاثون أنّه جعله (مطيّة لمن أعمله) أى مركبا سريع السّير يبلغ بمن أعمله إلى منزله و مقصده، و هو حظاير القدس و مجالس الانس، و المراد باعماله هو حفظه و المواظبة عليه و عدم الغفلة عنه.

روى في الكافي باسناده عن ابن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّ الرّجل إذا كان يعلم السّورة ثمّ نسيها و تركها و دخل الجنّة أشرفت عليه من فوق فى أحسن صورة فتقول: تعرفني فيقول: لا، فتقول: أنا سورة كذا و كذا لم تعمل بي و تركتني أما و اللّه لو عملت بي لبلغت بك هذه الدّرجة، و أشارت بيدها إلى فوقها.

و عن يعقوب الأحمر قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّ عليّ دينا كثيرا و قد دخلني شي‏ء ما كاد القرآن يتفلّت مني، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: القرآن القرآن إنّ الاية من القرآن و السّورة لتجي‏ء يوم القيامة حتّى تصعد ألف درجة يعني في الجنّة، فتقول: لو حفظتني لبلغت بك ههنا.

و عن أبي بصير قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: من نسي سورة من القرآن مثّلت له في صورة حسنة و درجة رفيعة في الجنّة، فاذا رآها قال: ما أنت ما أحسنك ليتك لي، فيقول: أما تعرفني أنا سورة كذا و كذا و لو لم تنسني لرفعتك إلى هذا.

(و) الثامنة و الثلاثون أنّه جعله (آية لمن توسّم) أى دلالة للمتفكّر المعتبر و علامة يستدلّ بها المتفرّس، و أصل التوسّم هو النظر في السمة أى العلامة الدّالة قال تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ أى دلالات للمتفكّرين المعتبرين.

قال في مجمع البيان: و قد صحّ عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: اتّقوا فراسة المؤمن و انّه ينظر بنور اللّه، و قال: إن للّه عبادا يعرفون الناس بالتوسّم ثمّ قرء هذه الاية.

(و) التاسعة و الثلاثون أنه جعله (جنّة لمن استلام) أى وقاية و سلاحا لطالب‏الدّرع و السلاح، و المراد كونه وقاية لقارئه من مكاره الدّنيا و الاخرة أما الاخرة فواضحة، لأنه يوجب النجاة من النار و الخلاص من غضب الجبار جلّ جلاله.

و أما الدّنيا فيدلّ على كونه وقاية من مكارهها صريح قوله تعالى وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً.

قال الطبرسيّ: قال الكلبيّ: و هم أبو سفيان و النّضر بن الحرث و أبو جهل و امّ جميل امرأة أبي لهب، حجب اللّه رسوله عن أبصارهم و كانوا يأتونه و يمرّون به و لا يرونه.

و فى الصافى من قرب الاسناد عن الكاظم عليه السّلام انّ امّ جميل امرأة أبي لهب أتته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين نزلت سورة تبّت و مع النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أبو بكر بن أبي قحافة، فقال: يا رسول اللّه هذه امّ جميل منخفضة أو مغضبة تريدك و معها حجر تريد أن ترميك به فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّها لا تراني، فقالت لأبي بكر: أين صاحبك قال: حيث شاء اللّه، قالت: لقد جئته و لو أراه لرميته فانّه هجاني و اللّات و العزّى إنّي لشاعرة، فقال أبو بكر: يا رسول اللّه لم ترك قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا، ضرب اللّه بيني و بينها حجابا مستورا.

و أما ساير النّاس فيشهد بكونه جنّة لهم من المكاره.

ما رواه في الكافي باسناده عن الاصبغ بن نباته عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: و الّذى بعث محمّدا بالحقّ و أكرم أهل بيته ما من شي‏ء تطلبونه من حرز من حرق أو غرق أو سرق أو إفلات دابة من صاحبها أو آبق إلّا و هو في القرآن، فمن أراد ذلك فليسألني عنه.

قال: فقام اليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عمّا يؤمن من الحرق و الغرق فقال عليه السّلام: اقرء هذه الايات إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَ هُوَ… وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ-  الى قوله سُبْحانَهُ-  وَ تَعالى‏ عَمَّا يُشْرِكُونَ فمن قرأها فقد أمن من الحرق و الغرق، قال: فقرأها رجل و اضطرمت النار في بيوت جيرانه و بيته وسطها فلم يصبه شي‏ء.

ثمّ قام اليه رجل آخر فقال: يا أمير المؤمنين إنّ دابتي استصعبت عليّ و أنا منها على وجل فقال: اقرء في اذنها اليمني أَ فَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً فقرأها فذلّت له دابّته.

و قام إليه آخر فقال: يا أمير المؤمنين إنّ أرضي أرض مسبعة إنّ السباع تغشى منزلي و لا تجوز حتى تأخذ فريستها فقال: اقرء لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ فقرأهما الرّجل فاجتنبته السباع.

ثمّ قام إليه آخر فقال: يا أمير المؤمنين إنّ في بطني ماء أصفر فهل من شفاء فقال: نعم بلا درهم و لا دينار و لكن اكتب على بطنك آية الكرسي و تغسلها و تشربها و تجعلها ذخيرة في بطنك فتبرء باذن اللّه عزّ و جلّ، ففعل الرّجل فبرء باذن اللّه.

ثمّ قام إليه آخر فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن الضّالّة فقال عليه السّلام اقرء يس في ركعتين و قل: يا هادى الضالّة ردّ عليّ ضالّتي ففعل فردّ اللّه عليه ضالّته.

ثمّ قام إليه آخر فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن الابق فقال عليه السّلام: اقرء «أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ-  إلى قوله-  وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ» فقالها الرّجل فرجع إليه الابق.

ثمّ قام إليه آخر فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن السّرق فانّه لا يزال قد يسرق لي الشي‏ء بعد الشي‏ء ليلا، فقال له: اقرء إذا آويت إلى فراشك «قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ-  إلى قوله-  وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً» ثمّ قال أمير المؤمنين عليه السّلام: من بات بأرض قفر فقرأ هذه الاية إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ-  إلى قوله-  تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ حرسته الملائكة و تباعدت عنه الشّياطين.

قال: فمضى الرّجل فاذا هو بقرية خراب فبات فيها و لم يقرأ هذه الاية فغشاه الشّياطين و إذا هو آخذ بخطمه فقال له صاحبه: انظره، و استيقظ الرّجل فقرأ الاية فقال الشيطان لصاحبه: ارغم اللّه أنفك احرسه الان حتّى يصبح.

فلمّا أصبح رجع الى أمير المؤمنين عليه السّلام فأخبره فقال له رأيت في كلامك الشفاء و الصّدق و مضى بعد طلوع الشمس فاذا هو بأثر شعر الشّياطين مجتمعا في الأرض.

(و) الاربعون أنّه جعله (علما لمن وعى) أى علما كاملا بالمبدإ و المعاد لمن حفظه و عقله و جعله في وعاء قلبه قال الطريحي: و في الحديث لا يعذّب اللّه قلبا وعي القرآن، أى عقل القرآن ايمانا منه و عملا، فأمّا من حفظ ألفاظه و ضيّع حدوده فهو غير واع له، و فيه: خير القلوب أوعاها، أى أحفظها للعلم و أجمعها له.

(و) الحادية و الاربعون أنّه جعله (حديثا لمن روى) قال أمين الاسلام الطبرسي في تفسير قوله تعالى اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ يعنى القرآن، و إنّما سمّاه اللّه حديثا لأنّه كلام اللّه و الكلام سمّى حديثا كما يسمّى كلام النبىّ حديثا، لأنه حديث التنزيل بعد ما تقدّمه من الكتب المنزلة على الأنبياء، و هو أحسن الحديث لفرط فصاحته و لاعجازه و لاشتماله على جميع ما يحتاج المكلّف إليه من التنبيه على أدلّة التوحيد و العدل و بيان أحكام الشرائع و غير ذلك من المواعظ و قصص الأنبياء و الترغيب و الترهيب، كتابا متشابها يشبه بعضه بعضا و يصدق بعضه بعضا ليس فيه اختلاف و تناقض، و قيل: إنه يشبه كتب اللّه المتقدّمة و ان كان أعم و أجمع و أنفع.

(و) الثانية و الاربعون أنه جعله (حكما لمن قضى) يعنى من يقضى بين الناس، فالقرآن حكم له لا حكم له غيره لأنه الحكم الحقّ و غيره باطل كما قال تعالى وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ و فى آية اخرى فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ و فى ثالثة فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ.

قيل فى توجيهه: إنّ الحاكم بغير ما أنزل اللّه إن كان لا مع الاعتقاد فهو إمّا ظالم أو فاسق، و ان حكم بذلك مع اعتقاد أنّه غير ما أنزل اللّه فهو كافر، هذا.

و قد تقدّم في شرح الفصل السابع عشر من الخطبة الاولى و غيره فصل واف في فضل الكتاب العزيز و ما يتعلّق به فليراجع هناك، و نسأل اللّه سبحانه أن يجعلنا من العارفين بفضله، و العاملين بأحكامه، و الواعين لعلمه، و الرّاوين لحديثه، و القاضين‏بحكمه بجاه محمّد و آله سلام اللّه عليه و عليهم.

الترجمة

فصل سيّم و چهارم از اين خطبة در بيان بعثت حضرت رسالتماب صلوات اللّه و سلامه عليه و آله و اشاره بر فوايد بعثت است و ذكر نزول كتاب كريم و إشاره بر مناقب آن مى‏ فرمايد: پس بدرستى كه خداوند تعالى مبعوث فرمود محمّد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله را با حقّ هنگامى كه نزديك شده از دنياى فانى بريده شدن آن، و اقبال كرده بود از آخرت مشرف بودن آن، و ظلمانى شده بود شكفتگى دنيا بعد از روشنائى آن، و بر پا ايستاده بود بأهل خود بغايت شدّت، و ناهموار شده بود از آن بساط آن، و نزديك شده بود از آن انقياد آن بزوال در انقطاع مدّت آن، و نزديكى علامتهاى فناى آن، و بريده شدن أهل آن، و گسيخته شدن حلقه آن، و تفرّق ريسمان آن، و اندراس علمهاى آن، و انكشاف قبايح آن، و كوتاهى درازى آن.

گردانيد او را حق تعالى كفايت كننده از براى رسالت خود، و كرامت از براى امّت او، و بهار از براى أهل زمان او، و سر بلندى بجهت اعوان او، و شرف مر ياران او را.

پس نازل فرمود بر آن بزرگوار كتاب عزيز خود را نورى كه خاموش نمى باشد چراغهاى آن، و چراغى كه نابود نمى‏گردد اشتعال آن، و دريائى كه درك نمى‏ شود ته آن، و جاده واضحى كه ضلالت نمى ‏افتد سالك آن، و شعائى كه تاريك نمى‏ باشد روشنائى آن، و فرقانى كه خاموش نمى‏ شود برهان و دليل آن، و بنيادى كه خراب نمى ‏شود ركنهاى آن، و شفائى كه ترسيده نمى ‏شود مرض‏هاى آن، و عزيزى كه مغلوب نمى‏ باشد ناصران آن، و حقى كه خوار نمى‏ باشد ياران آن.

پس آن كتاب معدن ايمان و وسط او است، و چشمهاى علم و درياهاى او است و باغهاى عدالت و گودالهاى آب او است، و پايهاى اسلام و بنيان او است، و بيابانهاى‏حق و گوديهاى او است، و دريائيست كه نمى ‏تواند بكشد آب آن را آب كشندگان و چشمهائيست كه تمام نمى‏ كند آب آنرا آب بردارندگان، و سرچشمه‏ هائى است كه ناقص نمى‏ نمايد آن را واردان، و منزلهائيست كه گم نمى‏ كند راه آن را مسافران، و علامتهائيست كه نابينا نمى‏ شود از آنها سير كنندگان، و تلهائيست كه تجاوز نمى‏ نمايد از آنها قاصدان.

گردانيد خداوند آن را سيرابى از براى تشنگى عالميان، و بهار از براى قلبهاى فقيهان، و راههاى روشن از براى طرق صالحان، و دوائى كه نيست بعد از آن دردى، و نورى كه نيست با وجود آن ظلمتى، و ريسمانى كه محكم است جاى دستگير آن، و پناهگاهى كه مانع است بلندى آن، و عزيزى از براى كسى كه آنرا بجهت خود دوست اخذ نموده باشد، و أمن امان أز براى كسى كه داخل آن شود و هدايت از براى كسى كه اقتدا نمايد بان، و عذر از براى كسى كه نسبت آنرا بخود بدهد، و برهان واضح بجهت كسى كه با آن تكلّم نمايد، و شاهد صادق بجهت كسى كه مخاصمه نمايد با آن، و غلبه و ظفر براى كسى كه احتجاج كند با آن، و بردارنده مر حاملان خود را، و مركب از براى كسى كه إعمال نمايد آنرا، و علامت از براى كسى كه تفكر نمايد، و زره از براى كسى كه طالب سلاح باشد، و علم كامل كسي را كه حفظ كند آنرا، و حديث صحيح كسى را كه روايت نمايد، و حكم بحق از براى كسى كه حكم نمايد.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 196 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 197 صبحی صالح

197- و من كلام له ( عليه‏ السلام  ) ينبه فيه على فضيلته لقبول قوله و أمره و نهيه‏

وَ لَقَدْ عَلِمَ الْمُسْتَحْفَظُونَ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ ( صلى‏ الله‏ عليه‏ وآله  )أَنِّي لَمْ أَرُدَّ عَلَى اللَّهِ وَ لَا عَلَى رَسُولِهِ سَاعَةً قَطُّ وَ لَقَدْ وَاسَيْتُهُ بِنَفْسِي فِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي تَنْكُصُ فِيهَا الْأَبْطَالُ وَ تَتَأَخَّرُ فِيهَا الْأَقْدَامُ نَجْدَةً أَكْرَمَنِي اللَّهُ بِهَا

وَ لَقَدْ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى‏ الله‏ عليه‏ وآله  )وَ إِنَّ رَأْسَهُ لَعَلَى صَدْرِي وَ لَقَدْ سَالَتْ نَفْسُهُ فِي كَفِّي فَأَمْرَرْتُهَا عَلَى وَجْهِي وَ لَقَدْ وُلِّيتُ غُسْلَهُ (صلى‏ الله‏ عليه‏ وآله )وَ الْمَلَائِكَةُ أَعْوَانِي

فَضَجَّتِ الدَّارُ وَ الْأَفْنِيَةُ مَلَأٌ يَهْبِطُ وَ مَلَأٌ يَعْرُجُ وَ مَا فَارَقَتْ سَمْعِي هَيْنَمَةٌ مِنْهُمْ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى وَارَيْنَاهُ فِي ضَرِيحِهِ فَمَنْ ذَا أَحَقُّ بِهِ مِنِّي حَيّاً وَ مَيِّتاً

فَانْفُذُوا عَلَى بَصَائِرِكُمْ وَ لْتَصْدُقْ‏نِيَّاتُكُمْ فِي جِهَادِ عَدُوِّكُمْ فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنِّي لَعَلَى جَادَّةِ الْحَقِّ وَ إِنَّهُمْ لَعَلَى مَزَلَّةِ الْبَاطِلِ أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَ لَكُمْ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج12  

و من خطبة له عليه السّلام و هى المأة و السادسة و التسعون من المختار فى باب الخطب

و لقد علم المستحفظون من أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله أنّي لم أردّ على اللّه و لا على رسوله ساعة قطّ، و لقد واسيته بنفسي في المواطن الّتي تنكص فيها الأبطال، و تتأخّر فيها الأقدام، نجدة أكرمني اللّه بها، و لقد قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و إنّ رأسه لعلى صدري، و لقد سالت نفسه في كفّي، فأمررتها على وجهي، و لقد ولّيت غسله-  صلّى اللّه عليه و آله-  و الملائكة أعواني، فضجّت الدّار و الأفنية، ملاء يهبط، و ملاء يعرج، و ما فارقت سمعي هينمة منهم، يصلّون عليه حتّى و اريناه في ضريحه، فمن ذا أحقّ به منّي حيّا و ميّتا، فانفذواعلى بصائركم، و لتصدق نيّاتكم في جهاد عدوّكم، فو الّذي لا إله إلّا هو إنّي لعلى جادّة الحقّ، و إنّهم لعلى مزلّة الباطل، أقول ما تسمعون، و أستغفر اللّه لي و لكم.

اللغة

(المستحفظون) بصيغة المفعول من استحفظه الشي‏ء أى أودعه عنده و طلب منه أن يحفظه فهو مستحفظ و ذاك مستحفظ و (واسيته) من المواساة يقال واسيته و آسيته و بالهمزة أفصح و (نكص) عن الشي‏ء نكوصا من باب قعد أحجم عنه، و نكص على عقبيه رجع قال تعالى فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى‏ عَقِبَيْهِ».

و (النّجدة) البأس و الشدّة و الشجاعة و (النفس) بسكون الفاء الدّم و بالتحريك واحد الأنفاس و (فناء) الدّار وزان كساء ما اتّسع أمامها أو ما امتدّ من جوانبها و الجمع أفنية و فنى و (الضجيج) الصّياح عند المكروه و الجزع و (الهينمة) بفتح الهاء الصّوت الخفىّ و قيل الكلام الخفىّ لا يفهم و (الضّريح) القبر أو الشقّ وسطه و الأول هو المراد هنا و (المزلّة) الموضع الذى تزلّ فيه قدم الانسان كالمزلفة

الاعراب

الواو في قوله: و لقد في المواضع الخمسة كلّها للقسم و المقسم به محذوف و اللّام جواب القسم، قوله: نجدة، منصوب على المفعول له و العامل واسيته قال الشّارح المعتزلي: منصوب على المصدر و العامل محذوف و الأوّل أظهر.

و قوله: ملاء يهبط و ملاء يعرج، مرفوعان بالابتداء و لا يضرّ كونهما: نكرتين لتضمّن الفايدة العظيمة، و جملة و ما فارقت، في محلّ النصب على الحال من فاعل يهبط و يعرج، و جملة يصلّون استينافيّة بيانيّة و تحتمل الانتصاب محلّا على الحال‏ من هينمة أى ما فارقت سمعى هينمتهم حالكونهم يصلّون، و الأوّل أولى لاحتياج الثّاني إلى نوع تكلّف و قوله: حيّا و ميّتا، حالان من الضمير المجرور في به و الفاء في قوله: فانفذوا، فصيحة

المعنى

اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة مسوقة لبيان جملة من مناقبة الجميلة و خصائصه المختصّة به المفيد لمزيد اختصاصه برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قربه منه استدلالا بذلك على أنّه أحقّ و أولى بالخلافة و القيام مقامه صلّى اللّه عليه و آله و أنّه على الحقّ و غيره على الباطل، و غرضه منه تنبيه المخاطبين على وجوب إطاعته فيما يأمرهم به من جهاد الأعداء المبطلين.

إذا عرفت ذلك فأقول: إنّه ذكر خمسا من فضايله و صدّر كلا بالقسم البارّ تأكيدا للغرض المسوق له الكلام و تنبيها على أنّ اتّصافه بها جميعا حقّ لا يعتريه ريب و لا يدانيه شكّ.

اولها ما أشار إليه بقوله (و لقد علم المستحفظون من أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله انّى لم أردّ على اللّه و لا على رسوله ساعة قطّ) المراد بالمستحفظون خيار الصحابة المطلعون على أسرار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و سيرته و معجزاته و كراماته و عهوده و مواثيقه و الملاحم الواقعة في زمانه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و نحو ذلك ممّا يتعلّق به صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، في نفسه و في أوصيائه و أتباعه من الأمور المعظمة الّتي يهتمّ بها في الشريعة و لها مدخل في قوام أركان الدّين و إعلاء لواء الشرع المبين الذين كلّفوا بحفظ ذلك كلّه و امروا بأن يبلغوها و يؤدّوها في مقام الضرورة و الحاجة.

و إنّما خصّ علم ما ذكره بهؤلاء مع عدم اختصاصه بهم لأنّ هؤلاء بمقتضى تصلّبهم في الدّين لا يكتمون الشهادة و لا يغيّرونها و لا يبدّلونها في مقام الحاجة للأغراض الدّنيويّة الفاسدة كما كتمها جمع منهم مثل زيد بن أرقم و أنس بن مالك و نظرائهم.

كما روى في البحار من الخصال و الأمالى عن جابر الجعفي عن جابر بن عبد اللّه الأنصارى قال: خطبنا عليّ بن أبي طالب عليه الصلاة و السلام فحمد اللّه و أثنى عليه ثمّ قال: أيّها الناس إنّ قدام منبركم هذا أربعة رهط من أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منهم انس بن مالك و البراء بن عازب الأنصارى و الأشعث بن قيس الكندى و خالد بن يزيد البجلى ثمّ أقبل بوجهه على أنس بن مالك فقال: يا أنس إن كنت سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: من كنت مولاه فهذا علىّ مولاه ثمّ لم تشهد لي اليوم بالولاية فلا أماتك اللّه حتّى يبتليك ببرص لا تغطيه العمامة و أمّا أنت يا أشعث فان كنت سمعت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو يقول: من كنت مولاه فهذا علىّ مولاه اللّهمّ وال من والاه و عاد من عاداه ثمّ لم تشهد لى اليوم بالولاية فلا أماتك اللّه حتّى يذهب بكر يمتيك.

و أمّا أنت يا خالد بن يزيد إن كنت سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: من كنت مولاه فهذا علىّ مولاه اللّهمّ وال من والاه و عاد من عاداه ثمّ لم تشهد لى اليوم بالولاية فلا أماتك اللّه إلّا ميتة جاهليّة.

و أمّا أنت يا براء بن عازب إن كنت سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: من كنت مولاه فهذا علىّ مولاه اللّهمّ وال من والاه و عاد من عاداه ثمّ لم تشهد لى بالولاية فلا أماتك اللّه إلّا حيث هاجرت منه.

قال جابر بن عبد اللّه الأنصارى: و اللّه لقد رأيت أنس بن مالك قد ابتلى ببرص يغطيه بالعمامة فما يستتره.

و لقد رأيت الأشعث بن قيس و قد ذهبت كريمتاه و هو يقول: الحمد للّه الذى جعل دعاء أمير المؤمنين علىّ بن أبي طالب عليه السّلام بالعمى فى الدّنيا و لم يدع علىّ بالعذاب في الاخرة فأعذّب.

و أمّا خالد بن يزيد فانّه مات فأراد أهله أن يدفنوه و حفر له في منزله فسمعت بذلك كندة فجاءت بالخيل و الابل فعقرتها على باب منزله فمات ميتة جاهلية.

و أمّا البراء بن عازب فانّه ولّاه معاوية اليمن فمات بها و منها كان هاجر.

فقد ظهر بذلك أنّ المستحفظين هم المكلّفون بحفظ الامور المهمّة المعتدّ بها في أمر الدين، و أنّ تخصيصهم بالعلم لعدم كتمانهم لما حملوه لو رجع الخاطئون اليهم.

و اما أنّه عليه السّلام ما ردّ على اللّه و رسوله أبدا فهو معلوم محقّق لا خفاء فيه بل من ضروريّات المذهب لملكة العصمة المانعة من مخالفته للّه و لرسوله صلّى اللّه عليه و آله.

و قال الشّارح المعتزلي: و الظاهر أنّه يرمز في قوله عليه السّلام: لم أردّ على اللّه و لا على رسوله ساعة قط، إلى أمور وقعت من غيره كما جرى يوم الحديبيّة عند سطر كتاب الصّلح، فانّ بعض الصحابة أنكر ذلك، و قال: يا رسول اللّه أ لسنا المسلمين قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: بلى قال: أ و ليسوا الكافرين قال: بلى، قال: فكيف نعطي الدّنية من دنيانا و اللّه لو أجد أعوانا لم أعط الدّنية أبدا، فقال أبو بكر لهذا القائل: ويحك الزم غرزه«» فو اللّه إنّه لرسول اللّه و إنّ اللّه لا يضيعه، ثمّ قال له: أ قال لك أنّه سيدخلها هذا العام قال: لا، قال: فسيدخلها، فلمّا فتح النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مكّة و أخذ مفاتيح الكعبة دعاه فقال: هذا الّذى وعدتم به.

قال الشّارح: و اعلم أنّ هذا الخبر صحيح لا ريب فيه، و النّاس كلّهم رووه و ليس عندى بقبيح و لا بمستهجر أن يكون سؤال هذا الشخص رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عما سأله عنه على سبيل الاسترشاد و التماسا لطمأنينة النّفس. فقد قال اللّه تعالى لخليله إبراهيم وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى‏ قالَ.

و قد كانت الصحابة يراجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الامور و تسأله عمّا يثبتهم عليها و تقول له أ هذا منك أم من اللّه.

و أمّا قول أبي بكر له: الزم غرزه فو اللّه انّه لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فانّما هو تاكيد و تثبيت على عقيدته الّتي في قلبه، و لا يدلّ ذلك على الشّك فقد قال اللّه تعالى لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله «وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا» و كلّ أحد لا يستغنى عن زيادة اليقين و الطمأنينة.

قال: و قد كانت وقعت من هذا القائل أمور دون هذا القصة، كقوله: دعنى أضرب عنق أبي سفيان، و قوله: دعنى أضرب عنق عبد اللّه ابن أبيّ، و قوله: دعنى أضرب عنق حاطب بن أبي بلتعة، و نهي النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن التّسرع إلى ذلك و جذبه ثوب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين قام على جنازة ابن سلول يصلّى و قوله: تستغفر لرأس المنافقين.

و ليس في ذلك جميعه ما يدلّ على وقوع القبيح منه و إنّما كان الرّجل مطبوعا على الشدّة و الشّراسة و الخشونة و كان يقول ما يقول على مقتضى السجيّة الّتي طبع عليها، و على أيّ حال كان فلقد نال الاسلام بولايته و خلافته خيرا كثيرا، انتهى.

أقول: مراد الشارح بهذا الرّجل الذى حكى عنه هذه الأباطيل هو عمر بن الخطاب، و إنّما ترك التّصريح باسمه ملاحظة لجانبه، و لقد عكس في شرح قوله عليه السّلام: فصيّرها في حوزة خشناء، من الخطبة الثالثة و قال هناك: قال عمر للنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم تقل لنا ستدخلونها فى ألفاظ نكره حكايتها حتّى شكاه النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى أبى بكر و حتى قال له أبو بكر: الزم بغرزه فو اللّه إنه لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، انتهى.

فصرّح باسمه و طوى عن تحصيل مقاله و فضول كلامه استكراها و استهجانا لما صدر منه من الرّدّ و المخالفة و إساءة الأدب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و استحياء منه عليه السّلام.

و لكن غير خفىّ على المنصف البعيد عن العصبيّة و الهوى أنّ شناعة ما صدر من هذا الرّجل لا يمكن أن يتدارك بالستر و الكتمان و الابهام عن اسمه تارة و الاجمال عن هذيانه اخرى، و نعم ما قيل:

و لن يصلح العطار ما أفسد الدّهر

فلقد صدر منه من القول الشنيع القبيح ما هو أشدّ و أعظم من ذلك، و هو ما قاله لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فى مرضه الذى مات فيه لما قال صلّى اللّه عليه و آله: ائتونى بكتف و دواة اكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده أبدا، فقال عمر: إنّ الرّجل ليهجر.

و فى البحار من المجلّد الثاني من صحيح مسلم فقال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يهجر.

و أما ما اعتذر به الشارح عن مثالبه بأنه ليس بقبيح أن يكون سؤال هذا الرّجل على سبيل الاسترشاد و التماسا لطمأنينة النفس.

ففيه أنه لو كان غرضه الاسترشاد دون الاعتراض لا كتفى بما سمعه من النبىّ صلّى اللّه عليه و آله له و أمسك عن فضول كلامه و لم يغضبه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى يشكو إلى أبى بكر، فعلم بذلك أنه أراد التعريض و الاعتراض كما علم عدم جواز قياس سؤاله بسؤال الخليل عليه السّلام الذى كان غرضه منه الطمأنينة كما صرّح به بقوله: بلى و لكن ليطمئنّ قلبى، و ستعرف مزيد توضيحه بما نحكيه من البحار فى التنبيه الاتى.

و أما سؤال ساير الصّحابة عنه صلّى اللّه عليه و آله في الامور و قولهم له: أ هذا من اللّه أو منك.

ففيه أنّ سؤالهم ذلك أيضا كان ناشيا عن جهالتهم، لأنّهم لو كانوا معتقدين بما أنزل اللّه في حقّه من قوله: و ما ينطق عن الهوى إن هو إلّا وحى يوحى، و مذعنين بأنّ جميع ما يقوله و يفعله بوحى من اللّه سبحانه و اذن منه عزّ و جلّ، لم يكن لهم حاجة إلى السّؤال، و لسلّموا في جميع أفعاله و أقواله تسليما.

و أما التّمثيل على نفى الشّكّ عن عمر بقوله تعالى وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا.

ففيه أنّ النّبي صلّى اللّه عليه و آله قد قامت الأدلّة القاطعة من العقل و النقل على عصمته و على رسوخه في الدّين، و الاية و إن كان الخطاب فيها ظاهرا متوجها إلى النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلّا أنّ المراد بها امّته من قبيل ايّاك أعنى و اسمعى يا جاره.

و على إبقائه على ظاهره فالمراد بتثبيته صلّى اللّه عليه و آله، هو تثبيته بالنّبوة و العصمة و الألطاف الخفيّة الالهيّة، لما قد دللنا على أنه كان معصوما، و أمّا عمر فأىّ دليل على أنّه لم يكن شاكا في الدّين حتّى يقال إنّ قول أبي بكر له: فو اللّه إنه لرسول اللّه، لم يكن لأجل الشكّ بل لتثبيته على عقيدته، فافهم جيّدا.

و اما دنس جذبه بثوب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين إرادته الصّلاة على ابن سلول فلا يطهره النّيل و لا الرّسّ.

إذ فيه من القباحة و المخالفة و الاعتراض و سوء الأدب و التّعريض ما لا مزيد عليه.

مضافا إلى قوله: كيف تستغفر لرأس المنافقين أ كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و العياذ باللّه جاهلا بتكليفه الشّرعى فعلّمه عمر، و قد كان معالم الدّين منه ظهرت و أحكام الشّرع المبين منه اخذت، و هو صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شارعها و صادعها.

و قيامه على جنازة ابن سلول و صلاته عليه إمّا من جهة أداء حقّ ولده و هو عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبي سلول فلقد كان مؤمنا.

و إمّا من جهة أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صلّى عليه لا ترحّما له بل دعا عليه بالنار و العذاب و لم يكن به بأس.

و أمّا استغفاره صلّى اللّه عليه و آله فلكونه صلّى اللّه عليه و آله، مخيّرا بين الاستغفار و عدم الاستغفار.

و يوضح ما ذكرته ما رواه في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن حماد بن عثمان عن الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: لمّا مات عبد اللّه بن أبي سلول حضر النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جنازته فقال عمر لرسول اللّه: يا رسول اللّه أ لم ينهك اللّه أن تقوم على قبره فسكت فقال: يا رسول اللّه أ لم ينهك اللّه أن تقوم على قبره فقال له: ويلك و ما يدريك ما قلت إنّى قلت: اللهمّ احش جوفه نارا و املاء قبره نارا و اصله نارا، قال أبو عبد اللّه صلوات اللّه عليه: فأبدى من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما كان يكره.

و فى الصافى من تفسير عليّ بن إبراهيم في قوله تعالى اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ انّها نزلت لمّا رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة و مرض عبد اللّه بن أبي و كان ابنه عبد اللّه مؤمنا فجاء إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أبوه يجود بنفسه فقال: يا رسول اللّه بأبي أنت و امّي إن لم تأت أبي كان ذلك عارا علينا، فدخل عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المنافقون عنده، فقال ابنه عبد اللّه بن عبد اللّه: يا رسول اللّه استغفر له، فاستغفر له، فقال عمر: أ لم ينهك يا رسول اللّه أن‏تصلّي عليهم أو تستغفر لهم فأعرض عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فأعاد عليه، فقال له: ويلك إنّى خيّرت إنّ اللّه يقول استغفر لهم أو لا تستغفر لهم، الاية.

فلمّا مات عبد اللّه جاء ابنه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: بأبي أنت و امّي يا رسول اللّه أ رأيت تحضر جنازته فحضر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قام على قبره فقال له عمر: يا رسول اللّه أ و لم ينهك اللّه أن تصلّى على أحد منهم مات أبدا و أن تقوم على قبره فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ويلك و هل تدرى ما قلت، إنّما قلت: اللهمّ احش قبره نارا و جوفه نارا و اصله النار، فبدا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما لم يكن يحبّ.

و فى الصافى عن العياشي عن الباقر عليه السّلام أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لابن عبد اللّه بن أبيّ اذا فرغت من أبيك فأعلمنى، و كان قد توفّى فأتاه فأعلمه فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نعليه للقيام فقال له عمر: أ ليس قد قال اللّه تعالى: و لا تصلّ على أحد منهم مات أبدا و لا تقم على قبره، فقال صلّى اللّه عليه و آله له: ويلك أو ويحك إنّما أقول: اللهمّ املاء قبره نارا و املاء جوفه نارا، و اصله يوم القيامة نارا و فى رواية اخرى أنّه أخذ بيد ابنه في الجنازة فمضى فتصدّى له عمر ثمّ قال: أما نهاك ربك عن هذا أن تصلّي على أحد منهم مات أبدا أو تقوم على قبره فلم يجبه، فلما كان قبل أن ينتهوا به إلى القبر أعاد عمر ما قاله أوّلا، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعمر عند ذلك: ما رأيتنا صلّينا له على جنازة و لا قمنا له على قبر.

ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ ابنه رجل من المؤمنين و كان يحقّ علينا أداء حقّه، فقال عمر: أعوذ باللّه من سخط اللّه و سخطك يا رسول اللّه.

قال فى الصّافي بعد ايراد هذه الرّوايات: أقول: و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حييا كريما كما قال اللّه عزّ و جلّ: فيستحيى منكم و اللّه لا يستحيى من الحقّ، فكان يكره أن يفتضح رجل من أصحابه ممّن يظهر الايمان، و كان يدعو على المنافق و يورّى أنّه يدعو له، و هذا معنى قوله صلّى اللّه عليه و آله لعمر: ما رأيتنا صلّينا له على جنازة و لا قمنا له على قبر، و كذا معنى قوله في حديث القمّي: خيّرت فاخترت، فورّى عليه السّلام باختيار الاستغفارو أمّا قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيه: فاستغفر له فلعلّه استغفر لابنه لمّا سأل لأبيه الاستغفار و كان يعلم أنه من أصحاب الجحيم، و يدلّ على ما قلنا قوله: فبدا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما لم يكن يحبّ، انتهى.

فقد اتّضح بما ذكرنا كلّ الوضوح نكتة قيام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على قبر ابن سلول و صلاته عليه، و علّة ما صدر منه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الاستغفار.

و مع الغضّ عن ذلك أيضا فهو صلّى اللّه عليه و آله أعلم بعلل ما يقول و يفعل، و بوجوه المصالح الكامنة فيما يأتي و يأمر به، فلا حقّ للجلف الجافى ابن حنتمة و أمثاله من الأوغاد الطعام أن يعترضوا على سيّد الأنام و رسول الملك العلّام عليه و آله آلاف التحيّة و الاكرام.

و أما ما اعتذر به الشارح المعتزلي أخيرا من أنّ الرّجل كان مطبوعا على الشدّة و الشراسة و الخشونة و كان يقول ما يقول على مقتضى سجيّته التي طبع عليها.

فقد تقدّم جوابه في شرح الفصل الثاني من الخطبة الشقشقية.

و محصّل ما قلناه هناك إنّ خشونة سجيّته و جفاوة طبيعته إن كانت بالغة إلى مرتبة لم يبق له معها اختيار في الامساك عن فضول كلامه و سقطات لسانه و الكفّ عن هجره و هذيانه، فيتوجّه عليه أنّ من كان كذلك يعدّ في زمرة المجانين فكيف يصلح لامامة الأمة و خلافة النبوّة.

و إن لم تكن بالغة إلى تلك المرتبة فذلك الاعتذار لا يدفع عنه العار و الشنار كما لم يدفع عن ابليس استحقاق النار و سخط الجبّار، و لم يرفع عنه لؤم الاستكبار حين استكبر بمقتضى الجبلة النارية و اعتذر به في قوله: خلقتني من نار و خلقته من طين، بل استحقّ اللّعنة و الابعاد إلى يوم الدّين و خلّد في الجحيم أبد الابدين.

و أما قول الشارح و على أىّ حال كان فلقد نال الاسلام بولايته و خلافته خيرا كثيرا.

فيه أنه هب أنّ إنهاض الجيوش و بعث العساكر و فتح بعض البلاد كان في زمان‏خلافته و بأمره، و لكن إذا كان أصل الخلافة باطلة حسبما عرفته في تضاعيف الشرح مرارا فأيّ ثمر اخرويّ له في هذه الخيرات النائلة منه إلى الاسلام على فرض تسليمها لأنّه عزّ و جلّ إنّما يتقبّل من المتّقين، بل كلّ ما صدر منه في أيّام ولايته و خلافته و مخالفته للّه و لرسوله كان عليه وزرا و وبالا دون أن يكون له ثوابا و نوالا

كمطعمة الرّمان ممّا زنت به
جرت مثلا للخائن المتصدّق‏

فقال لها أهل البصيرة و التّقى‏
لك الويل لا تزنى و لا تتصدّق‏

بل لو قيست سيئة من سيئاته و هي غصب الخلافة من آل بيت الرّسول و إحراقه لباب ابنته البتول و ما كان بأمره من كسر ضلعها و سقوط جنينها، و ما نشأت من تلك الشجرة الملعونة الخبيثة و ثمرته من أعظم الظّلم في وقعة الطّف الّذي لا يتصوّر ظلم فوقه، إلى سيّئات جميع الامّة لرجحت عليها فضلا عن ساير جرايمه و بدعاته و محدثاته التي بقيت على صفحات الأيام، و استمرّت إلى يوم القيامة و القيام، فليحملنّ أوزارها كاملة و من أوزار الّذين بها يعملون، و سيعلم الذين ظلمو آل محمّد حقّهم أىّ منقلب ينقلبون.

الثانية ما أشار إليه بقوله (و لقد واسيته في المواطن الّتي تنكص) و ترجع (فيها الأبطال) و الأنجاد (و تتأخّر فيها الأقدام) من أجل (نجدة) و شجاعة (أكرمنى اللّه بها) و جعلها مخصوصة بي و آثرني بها على غيري.

قال الشّارح المعتزلي: و هذا يعني المواساة ممّا اختصّ عليه السّلام بفضيلته غير مدافع ثبت معه يوم احد و فرّ النّاس و ثبت معه يوم حنين و فرّ النّاس، و ثبت تحت رايته يوم خيبر حتّى فتحها و فرّ من كان بعث من قبله.

أقول: أوّل مواساته عليه و آله آلاف التحيّة و الثناء مبيته على فراش خاتم الأنبياء حتى باهى اللّه به ملائكة السماء، فوهب نفسه للّه تعالى و بذلها لنبيّه المصطفى و بات على فراشه لينجو به من كيد الأعداء، و يتمّ له بذلك السلامة و البقاء، و ينتظم له به الغرض في الدّعاء إلى الحنيفيّة البيضاء، فكان ذلك سبب نجاة النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و بقائه و حقن دمه حتى صدع بأمر ربّه.

و لولاه عليه السّلام لما تمّ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم التبليغ و الأداء و لا استدام له العمر و البقاء و لظفر به الحسدة و الأعداء فلما أصبحوا و عرفوا تفرّقوا عنه و انصرفوا و قد ضلّت لهم الحيل و انقطع بهم الأمل و انتقض ما بنوه من التدبير و خابت لهم الظنون.

و كان بذلك انتظام الايمان و إرغام الشيطان و خذلان أهل الكفر و العدوان، و هذه منقبة لم يشركه عليه السّلام فيها أحد من أهل الاسلام و قد انزل فيه محكم التبيان و هو قول اللّه وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ و أما مواساته له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مواطن جهاده، و مواطن جدّه و اجتهاده، و مقامات جداله بالسنة الاسنة و جلاده، فهو فوق حدّ الاحصاء، متجاوز عن حدّ العدوّ الاستقصاء.

منها غزوة بدر التي هدّت قوى الشرك، و قذفت طواغيته في قليب الهلك، و دوّخت مردة الكفار، و سقتهم كاسات الدّمار و البوار، و نقلتهم من القليب إلى النار.

فيومها اليوم الذى لم يأت الدّهر بمثله، و أفاض اللّه فيه من أحسن فضله، أنزل فيه الملائكة لتأييد رسوله تفضيلا له على جميع رسله، و حباه من علوّ القدر ما لم ينله أحد من قبله، و أشرب صناديد قريش كاس أسره و قتله، و جبرئيل ينادى أقدم حيزوم لاظهار دينه على الدّين كلّه، و أمير المؤمنين كان فارس تلك الملحمة فما تعدّ الأسد الغضاب بشسع نعله، و مسعّر تلك الحرب العوان ينصب على الأعداء انصباب السحاب و وبله، و نار سطوته و نجدته تتسعّر تسعر النار في دقيق الغضا و جزله.

و قد عرفت في شرح الفصل الثامن من الخطبة المأة و الحادية و التسعين أنّ نصف القتلي في تلك الوقعة و كانوا سبعين رجلا كان قتيله باشر بنفسه قتله من دون شركة غيره له.

و منها غزوة أحد قال في كشف الغمّة في حديث عمران بن حصين قال: لمّا تفرّق النّاس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جاء عليّ عليه السّلام متقلّدا بسيفه حتّى‏قام بين يديه فرفع رأسه إليه و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم له: ما لك لم تفرّ مع النّاس فقال: يا رسول اللّه أرجع كافرا بعد إسلامي فأشار إلى قوم انحدروا من الجبل، فحمل عليهم فهزمهم فجاء جبرئيل، و قال: يا رسول اللّه قد عجبت الملائكة من حسن مواساة عليّ لك بنفسه، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما يمنعه من ذلك و هو منّي و أنا منه فقال جبرئيل: و أنا منكما.

و فيه عن زيد بن وهب قال: قلت لابن مسعود: انهزم النّاس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى لم يبق معه إلّا عليّ عليه السّلام و أبو دجانة و سهل قال: انهزم النّاس إلّا عليّ وحده، و ثاب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نفر كان أوّلهم عاصم بن ثابت و أبو دجانة و سهل بن حنيف، و لحقهم طلحة بن عبيد اللّه، فقلت له: فأين كان أبو بكر و عمر قال: كانا فيمن تنحّى، فقلت: فأين كان عثمان قال: جاء بعد ثالثة من الوقعة فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لقد ذهبت فيها عريضة، قلت: فأين كنت قال: فيمن تنحّى، قلت: فمن حدّثك بهذا قال: عاصم بن ثابت و سهل بن حنيف، قلت: إنّ ثبوت عليّ في ذلك المقام لعجب، قال: إن تعجب منه فقد تعجّبت منه الملائكة أما علمت أنّ جبرئيل قال في ذلك اليوم و هو يعرج إلى السّماء: لا سيف إلّا ذو الفقار لا فتى إلّا عليّ، فقلنا: و من أين علم أنّ جبرئيل قال ذلك قال: سمع النّاس النّداء بذلك و أخبرهم به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

قال كاشف الغمة: و روى عن عكرمة قال: سمعت عليّا يقول: لمّا انهزم النّاس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم احد لحقنى من الجزع عليه ما لم أملك نفسي و كنت أضرب بسيفي بين يديه فرجعت أطلبه فلم أره فقلت. ما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليفرّ و ما رأيته في القتلي و أظنّه رفع من بيننا إلى السّماء، فكسرت جفن سيفي و قلت: لاقاتلنّ به حتّى اقتل، و حملت على القوم فأفرجوا فاذا أنا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد وقع مغشيّا عليه، فنظر إلىّ و قال: ما فعل النّاس يا عليّ قلت: كفروا يا رسول اللّه و ولّوا الدّبر و أسلموك، فنظر إلى كتيبة قد أقبلت فقال: ردّهم عنّي، فحملت‏عليهم أضربهم يمينا و شمالا حتّى فرّوا فقال صلّى اللّه عليه و آله: أما تسمع مديحك في السّماء إنّ ملكا اسمه رضوان ينادى: لا سيف إلّا ذو الفقار و لا فتى إلّا عليّ، فبكيت سرورا و حمدت اللّه على نعمته.

قال: و قد ذكر أهل السّير قتلى احد من المشركين و كان جمهورهم قتلي أمير المؤمنين عليه السّلام و انصرف المشركون إلى مكّة و انصرف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى المدينة فاستقبلته فاطمة و معها إناء فيه ماء فغسل به وجهه، و لحقه أمير المؤمنين عليه السّلام، و قد خضب الدّم يده إلى كتفه و معه ذو الفقار، فناوله فاطمة و قال: خذى هذا السّيف فقد صدقنى اليوم و قال عليه السّلام:

أفاطم هاك السّيف غير ذميم
فلست برعديد و لا بمليم‏

«» أميطى دماء الكفر عنه فانّه‏
سقا آل عبد الدّار كاس حميم‏

لعمرى لقد أعذرت في نصر أحمد
و طاعة ربّ بالعباد عليم‏

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: خذيه يا فاطمة فقد أدّى بعلك ما عليه، و قد قتل اللّه صناديد قريش بيده.

و منها غزوة الأحزاب المعروفة بغزاة خندق قال المفيد في الارشاد: و قد روى قيس بن الرّبيع قال: حدّثنا أبو هارون العبدى عن ربيعة السّعدى قال: أتيت حذيفة بن اليمان فقلت يا أبا عبد اللّه إنّا لنتحدّث عن عليّ عليه السّلام و مناقبه فيقول لنا أهل البصرة: إنّكم لتفرطون في على عليه السّلام، فهل أنت تحدّثنى بحديث فيه قال حذيفة: يا ربيعة و ما تسألنى عن علىّ فو الذى نفسى بيده لو وضع جميع أعمال أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في كفّة الميزان منذ بعث اللّه محمّدا إلى يوم الناس هذا، و وضع عمل علىّ عليه السّلام في الكفّة الأخرى لرجح عمل علىّ عليه السّلام على جميع أعمالهم، فقال ربيعة: هذا الذى لا يقام و لا يقعد، فقال حذيفة: يا لكع و كيف لا يحمل و أين كان أبو بكر و عمر و حذيفة و جميع أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم عمرو بن عبدود و قد دعا إلى المبارزة فأحجم الناس كلّهم ما خلاعليّا عليه السّلام، فانّه برز إليه و قتله اللّه على يده، و الذى نفس حذيفة بيده لعمله ذلك اليوم أعظم أجرا من عمل أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى يوم القيامة قال في كشف الغمّة: رأيت في بعض الكتب أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال حين بارز علىّ عمرو بن عبدود: خرج الاسلام كلّه إلى الشرك كلّه.

قال: و روى أنّ عبد اللّه بن مسعود كان يقرأ: و كفى اللّه المؤمنين القتال بعلىّ و كان اللّه قويّا عزيزا.

قال: و في قتل عمرو يقول حسان بن ثابت:

أمسى الفتى عمرو بن عبد يبتغى
بجنوب يثرب غارة لم تنظر

فلقد وجدت سيوفنا مشهورة
و لقد وجدت جيادنا لم تقصر

و لقد رأيت غداة بدر عصبة
ضربوك ضربا غير ضرب المحشر

أصبحت لا تدعى ليوم عظيمة
يا عمرو أو لجسيم أمر منكر

قال: و لمّا بلغ شعر حسان بنى عامر أجابه فتى منهم فقال يردّ عليه فخره:

كذبتم و بيت اللّه لا تقتلوننا
و لكن بسيف الهاشميّين فافخروا

بسيف ابن عبد اللّه أحمد في الوغا
بكفّ علىّ نلتم ذاك فاقصروا

فلم تقتلوا عمرو بن ودّ و لا ابنه
و لكنه الكفّ الجسور الغضنفر

علىّ الذى في الفخر طال بناؤه‏
فلا تكثروا الدّعوى علينا فتحقروا

ببدر خرجتم للبراز فردّكم
شيوخ قريش جهرة و تأخّروا

فلما أتاهم حمزة و عبيدة
و جاء علىّ بالمهنّد يخطر

فقالوا نعم أكفاء صدق و أقبلوا
إليهم سراعا إذ بغوا و تجبّروا

فجال علىّ جولة هاشميّة
فدمّر هم لما عتوا و تكبّروا

فليس لكم فخر علينا بغيرنا
و ليس لكم فخر يعدّ و يذكر

و منها غزوة وادى الرّمل و تسمى غزوة ذات السلسلة.

و قد كان الفتح فيها لأمير المؤمنين عليه السّلام خاصة بعد أن كان فيها من غيره من الافساد ما كان، و فيها نزل على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سورة و العاديات فتضمّنت ذكر مافعله أمير المؤمنين فيها.

قال المفيد: روى عن امّ سلمة قالت: كان نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قائلا في بيتى إذ انتبه فزعا من منامه فقلت له: اللّه جارك قال: صدقت و اللّه جارى لكن هذا جبرئيل يخبرني أنّ علينا قادم، ثمّ خرج إلى الناس فأمرهم أن يستقبلوا عليا عليه السّلام فقام المسلمون له صفّين مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فلما بصر النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ترجّل عن فرسه و أهوى إلى قدميه يقبلهما، فقال له عليه السّلام: اركب فانّ اللّه تعالى و رسوله عنك راضيان فبكى أمير المؤمنين عليه السّلام فرحا و انصرف إلى منزله، و تسلّم المسلمون الغنايم «إلى أن قال» ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله له: يا على لو لا أننى أشفق أن تقول فيك طوايف من امتى ما قالت النصارى فى عيسى بن مريم لقلت فيك اليوم مقالا لا تمرّ بملاء منهم إلّا أخذوا التراب من تحت قدميك.

و منها غزوة الحديبيّة.

و فيها أقبل سهيل بن عمرو إلى النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال له يا محمّد إنّ أرقاءنا لحقوا بك فارددهم علينا، فغضب رسول اللّه حتّى تبيّن الغضب فى وجهه ثمّ قال: لتنتهنّ يا معاشر قريش أو ليبعثنّ اللّه عليكم رجلا امتحن اللّه قلبه بالايمان يضرب رقابكم على الدين، فقال بعض من حضر: يا رسول اللّه أبو بكر ذلك الرّجل قال: لا، قال: فعمر، قال: لا، و لكنه خاصف النعل فى الحجرة، فتبادر الناس إلى الحجرة ينظرون من الرّجل فاذا هو أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب عليه السّلام رواه المفيد فى الارشاد، و رواه فى كشف الغمة و صحيح الترمذى نحوه.

و منها غزوة خيبر قال المفيد: ثمّ تلت الحديبيّة خيبر و كان الفتح فيها لأمير المؤمنين عليه السّلام بلا ارتياب فظهر من فضله فى هذه الغزاة ما أجمع عليه نقلة الرّواة و تفرّد فيها مناقب لم يشركه فيها أحد من الناس.

و قال كاشف الغمة: قال ابن طلحة: و تلخيص المقصد فيها على ما ذكره أبو محمّد عبد الملك بن هشام فى كتاب السيرة النبويّة يرفعه بسنده عن ابن الأكوع قال:

بعث النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أبا بكر برايته و كانت بيضاء إلى بعض حصون خيبر فقاتل ثمّ رجع و لم يكن فتح و قد جهد، ثمّ بعث عمر بن الخطاب فكان كذلك، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لاعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله يفتح اللّه على يديه ليس بفرّار، قال سلمة: فدعا عليّا و هو أرمد فتفل في عينيه ثم قال: خذ هذه الرّاية فامض بها حتّى يفتح اللّه عليك، فخرج يهرول و أنا خلفه نتبع أثره حتى ركز رايته في رضم«» من حجارة تحت الحصن، فاطلع عليه يهودىّ من الحصن فقال: من أنت قال: أنا علىّ بن أبي طالب فقال اليهودى: علوتم حصننا و ما انزل على موسى أو كما قال، فما رجع حتّى فتح اللّه على يديه.

و منها فتح مكّة.

قال المفيد ره: و فيما ذكرناه من أعمال أمير المؤمنين عليه السّلام، في قتل من قتل من أعداء اللّه بمكة و إخافة من أخاف و معونة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على تطهير المسجد من الأصنام و شدّة بأسه في اللّه و قطع الأرحام في طاعة اللّه عزّ و جلّ أوّل دليل على تخصيصه من الفضل بما لم يكن لأحد منهم سهم فيه حسبما قدمناه.

و منها غزوة حنين.

فاستظهر فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بكثرة الجمع، فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و معه عشرة آلاف من المسلمين فظنّ أكثرهم أنهم لن يغلبوا لما شاهدوا من كثرة جمعهم و عددهم و عدّتهم و أعجب أبا بكر الكثرة يومئذ فقال لن نغلب اليوم من قلّة فكان الأمر بخلاف ما ظنّوه و عانهم«» أبو بكر.

فلمّا التقوا لم يلبثوا و انهزموا بأجمعهم فلم يبق مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلّا تسعة من بني هاشم و عاشرهم أيمن بن امّ ايمن، و قتل رحمه اللّه و ثبت التّسعة الهاشميّون رئيسهم أمير المؤمنين عليه السّلام و رجعوا بعد ذلك و تلاحقوا و كانت الكرّة لهم على المشركين فأنزل اللّه في إعجاب أبي بكر بالكثرة وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ‏ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى‏ رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يريد عليّا عليه السّلام و من ثبت معه من بني هاشم.

قال كاشف الغمّة بعد شرح هذه الغزوة: فانظر إلى مفاخر أمير المؤمنين عليه السّلام في هذه الغزاة و مناقبه، و جل بفكرك في بدايع فضله و عجايبه، و احكم فيها برأى صحيح الرّاى صايبه، و أعجب من ثباته حين فرّ الشّجاع على أعقابه، و لم ينظر في الأمر و عواقبه، و اعلم أنّه عليه السّلام أحقّ بالصّحبة حين لم ير مفارقة صاحبه، و تيقّن أنّه إذا حمّ الحمام لم ينتفع المرء بغير أهله و أقاربه، فاذا صحّ ذلك عندك بدلايله و بيّناته، و عرفته بشواهده و علاماته، فاقطع أنّ ثبات من ثبت من نتايج ثباته، و أنّهم كانوا أتباعا له في حروبه و مقاماته، و أنّ رجوع من رجع من هزيمته فانّما كان عند ما بان لهم من النّصر و أماراته.

قال الشارح الفقير: هذا قليل من كثير و يسير من جم غفير من مناقبه و مفاخره و مجاهداته و مواساته لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أوردته باقتضاء المقام و شرحا لمعنى قوله عليه السّلام: و لقد واسيته في المواطن الّتي تنكص فيها الأبطال و تتأخر فيها الأقدام و كم له عليه السّلام من الاثار و المناقب و الأخبار الّتي لا تستر، و المفاخر و الفضائل و المجاهدات المثبتة في كتب التواريخ و السّير، و كم له من المزايا و الخلال و البلاء المذكور في النّزال، و لا صدرت منه عليه السّلام، هذه الأفعال إلّا عن نجدة و شجاعة تذلّ لها الأبطال، و تقلّ لديها الأهوال، و لا تقوم بوصفها الأقلام و الأقوال، و لا يحتاج في اثباتها إلى تجشّم الاستدلال، و على الجملة و التفصيل فمقام بأسه و نجدته لا ينال و ما ذا بعد الحقّ إلّا الضّلال.

الثالثة ما أشار إليه بقوله (و لقد قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و انّ رأسه لعلى صدرى) قيل: لعلّه عليه السّلام أسنده صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى صدره عند اشتداد مرضه، و قيل: انّه كان رأسه على ركبته فيكون رأسه صلّى اللّه عليه و آله، في صدره عند اكبابه عليه، و الأول أظهر.

و يؤيده ما في البحار عن أمالي الشّيخ عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: كنت‏عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم في مرضه الّذى قبض فيه و كان رأسه في حجرى و العبّاس يذبّ عن وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فاغمى عليه اغماء ثمّ فتح عينه فقال: يا عبّاس يا عمّ رسول اللّه اقبل وصيّتى و اضمن دينى و عداتى، فقال العباس: يا رسول اللّه أنت أجود من الرّيح المرسلة و ليس في مالى وفاء لدينك و عداتك، فقال النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذلك ثلاثا يعيده عليه و العبّاس فى كلّ ذلك يجيبه بما قال أوّل مرّة.

قال: فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لأقولنّها لمن يقبلها و لا يقول يا عبّاس مثل مقالتك، فقال: يا على اقبل وصيّتى و اضمن دينى و عداتى.

قال: فخنقتنى العبرة و ارتج جسدى و نظرت إلى رأس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يذهب و يجي‏ء في حجرى فقطرت دموعى على وجهه و لم اقدر أن اجيبه، ثمّ ثنّى فقال: اقبل وصيّتى و اضمن دينى و عداتى قال: قلت: نعم بأبي و امّى قال: اجلسنى، فأجلسته فكان ظهره في صدرى فقال: يا على أنت أخي في الدّنيا و الاخرة، و وصيّى و خليفتى في أهلي.

ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله: يا بلال هلمّ سيفى و درعى و بغلتى و سرجها و لجامها و منطقتي الّتي أشدّ بها على درعى، فجاء بلال بهذه الأشياء فوقف بالبغلة بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا على قم فاقبض، فقال: قمت و قام العبّاس فجلس مكاني فقمت فقبضت ذلك، فقال: انطلق به إلى منزلك، فانطلقت ثمّ جئت فقمت بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قائما فنظر إلىّ ثمّ عمد إلى خاتمه فنزعه ثمّ دفعه إلىّ فقال: هاك يا عليّ هذا لك فى الدّنيا و الاخرة و البيت غاصّ من بني هاشم و المسلمين.

فقال: يا بنيّ هاشم يا معشر المسلمين لا تخالفوا عليّا فتضلّوا و لا تحسدوه فتكفروا، يا عبّاس قم من مكان عليّ عليه السّلام، فقال: تقيم الشيخ و تجلس الغلام فأعادها ثلاث مرّات فقام العبّاس فنهض مغضبا و جلست مكانى.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا عبّاس يا عمّ رسول اللّه لا اخرج من الدّنيا و أنا ساخط عليك فيدخلك سخطى عليك النّار فرجع و جلس.

و من الامالي أيضا عنه عليه السّلام في حديث قال:

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يا علي أجلسني، فأجلسته و أسندته إلى صدرى قال عليّ عليه السّلام: فلقد رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليثقل ضعفا و هو يقول يسمع أهل البيت أعلاهم و أدناهم: إنّ أخي و وصيّي و وزيري و خليفتي في أهلي عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، يقضي ديني و ينجز وعدي، يا بني هاشم يا بني عبد المطلب لا تبغضوا عليّا و لا تخالفوا عن أمره فتضلّوا، و لا تحسدوه و ترغبوا عنه فتكفروا، أضجعنى يا علي فأضجعته، الحديث.

و فى البحار من الأمالي أيضا باسناده عن ابن أبي رافع عن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام قال: دخلت على نبيّ اللّه و هو مريض فاذا رأسه في حجر رجل أحسن ما رأيت من الخلق و النّبي نائم، فلمّا دخلت عليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قال الرّجل: ادن إلى ابن عمّك فأنت أحقّ به منّى، فدنوت منهما فقام الرّجل و جلست مكانه و وضعت رأس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حجرى كما كان في حجر الرّجل، فمكث ساعة ثمّ إنّ النّبي صلّى اللّه عليه و آله استيقظ فقال: أين الرّجل الّذى كان رأسى في حجره فقلت: لمّا دخلت عليك دعانى إليك ثمّ قال: ادن إلى ابن عمّك فأنت أحقّ به منّى ثمّ قام فجلست مكانه، فقال النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فهل تدرى من الرّجل قلت: لا بأبي و امّى، فقال النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ذاك جبرئيل كان يحدّثنى حتّى خفّ عنّى وجعى و نمت و رأسى في حجره.

و أما كيفية وفاته صلوات اللّه و سلامه عليه و آله

ففى البحار من امالي الصّدوق باسناده عن ابن عبّاس قال: لمّا مرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عنده أصحابه، قام إليه عمّار بن ياسر فقال له: فداك أبي و امّي يا رسول اللّه فمن يغسلك منّا إذا كان ذلك منك قال: ذلك عليّ ابن أبي طالب لأنّه لا يهم بعضو من أعضائي إلّا أعانته الملائكة على ذلك.

فقال له: فداك أبي و امّي يا رسول اللّه فمن يصلّى عليك منّا إذا كان ذلك‏منك قال: منه رحمك اللّه.

ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السّلام: يا ابن أبي طالب إذا رأيت روحى قد فارقت جسدى فاغسلنى و انق غسلى و كفنى في طمرىّ هذين أو في بياض مصر حبرة و برديمان، و لا تغال في كفنى و احملونى حتّى تضعونى على شفير قبرى، فأوّل من يصلّى عليّ الجبّار جلّ جلاله من فوق عرشه، ثمّ جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل في جنود من الملائكة لا يحصى عددهم إلّا اللّه جلّ و عزّ ثمّ الحافّون بالعرش ثمّ سكّان أهل سماء فسماء ثمّ جلّ أهل بيتي و نسائي الأقربون فالأقربون يؤمون ايماء و يسلمون تسليما لا يؤذوني بصوت نادبة «نائحة خ» و لا مرنّة ثمّ قال: يا بلال هلمّ عليّ بالناس، فاجتمع الناس فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله متعصّبا بعمامته متوكئا على قوسه حتّى صعد المنبر فحمد اللّه و أثني عليه ثمّ قال: معاشر أصحابي أىّ نبيّ كنت لكم أ لم اجاهد بين أظهركم أ لم تكسر رباعيّتي أ لم يعفر جبيني أ لم تسل الدّماء على حرّ وجهى حتّى كنفت«» لحيتى أ لم اكابد الشدّة و الجهد مع جهّال قومى أ لم أربط حجر المجاعة على بطنى قالوا: بلى يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لقد كنت للّه صابرا، و عن منكر بلاء اللّه ناهيا، فجزاك اللّه عنّا أفضل الجزاء.

قال صلّى اللّه عليه و آله: و أنتم فجزاكم اللّه ثمّ قال: إنّ ربّي عزّ و جلّ حكم و اقسم أن لا يجوزه ظلم ظالم، فناشدتكم باللّه أىّ رجل منكم كانت له قبل محمّد مظلمة إلّا قام فليقتصّ منه فالقصاص في دار الدّنيا أحبّ إلىّ من القصاص في دار الاخرة على رءوس الملائكة و الأنبياء.

فقام إليه رجل من أقصى القوم يقال له: سوادة بن قيس فقال له: فداك أبي و امّى يا رسول اللّه إنّك لمّا أقبلت من الطايف استقبلتك و أنت على ناقتك الغضباء و بيدك القضيب الممشوق، فرفعت القضيب و أنت تريد الرّاحلة فأصاب بطنى فلا أدرى عمدا أو خطاء.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: معاذ اللّه أن أكون تعمّدت، ثمّ قال: يا بلال قم إلى منزل فاطمة فائتنى بالقضيب الممشوق.

فخرج بلال و هو ينادى في سكك المدينة: معاشر الناس من ذا الذى يعطى القصاص من نفسه قبل يوم القيامة فهذا محمّد صلّى اللّه عليه و آله يعطى القصاص من نفسه قبل يوم القيامة.

و طرق بلال الباب على فاطمة عليها السّلام و هو يقول: يا فاطمة قومى فوالدك يريد القضيب الممشوق فأقبلت فاطمة عليها السّلام و هى تقول: يا بلال و ما يصنع والدى بالقضيب و ليس هذا يوم القضيب، فقال بلال: يا فاطمة أما علمت أنّ والدك قد صعد المنبر و هو يودّع أهل الدّين و الدّنيا، فصاحت فاطمة عليها السّلام و قالت: و اغماه لغمك يا أبتاه من للفقراء و المساكين و ابن السبيل يا حبيب اللّه و حبيب القلوب، ثمّ ناولت بلالا القضيب، فخرج حتّى ناوله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أين الشيخ فقال الشيخ: ها أنا ذا يا رسول اللّه بأبي أنت و امّى فقال: فاقتصّ منّى حتى ترضى، فقال الشيخ: فاكشف لى عن بطنك يا رسول اللّه، فكشف عن بطنه فقال الشيخ: بأبي أنت و امّى يا رسول اللّه أ تأذن لى أن أضع فمى على بطنك فأذن له فقال: أعوذ بموضع القصاص من بطن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من النار.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، يا سوادة بن قيس أ تعفو أم تقتصّ فقال: بل أعفو يا رسول اللّه، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اللهمّ اعف عن سوادة بن قيس كما عفى عن محمّد نبيك.

ثمّ قام رسول اللّه فدخل بيت امّ سلمة و هو يقول، ربّ سلّم امة محمّد من النار و يسّر عليهم الحساب، فقالت امّ سلمة: يا رسول اللّه ما لي أراك مغموما متغيّر اللون فقال صلّى اللّه عليه و آله، نعيت إلى نفسى هذه الساعة فسلام لك في الدّنيا فلا تسمعين بعد هذا اليوم صوت محمّد أبدا، فقالت أمّ سلمة: واحزناه حزنا لا تدركه الندامة عليك يا محمّد ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ادع لي حبيبة قلبي و قرّة عيني فاطمة، فجاءت فاطمة و هي تقول: نفسى لنفسك الفداء و وجهى لوجهك الوفاء يا أبتاه ألا تكلّمنى كلمة فانى أنظر إليك و أراك مفارق الدّنيا و أرى عساكر الموت تغشاك شديدا.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لها: يا بنية إنّى مفارقك فسلام عليك منّى، قالت: يا أبتاه فأين‏

الملتقى يوم القيامة قال صلّى اللّه عليه و آله: عند الحساب، قالت: فان لم ألقك عند الحساب قال: عند الشفاعة لامتى، قالت: فان لم ألقك عند الشفاعة لأمتك قال: عند الصراط جبرئيل عن يميني و ميكائيل عن يسارى و الملائكة خلفى و قدّامى ينادون ربّ سلم امة محمّد من النار و يسّر عليهم الحساب، قالت فاطمة: فأين والدتى خديجة قال: في قصر له أربعة أبواب إلى الجنة.

ثمّ اغمى على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فدخل بلال و هو يقول: الصّلاة رحمك اللّه، فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و صلّى بالنّاس و خفّف الصّلاة.

ثمّ قال: ادعوا لى عليّ بن أبي طالب و اسامة بن زيد، فجاءا فوضع صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يده على عاتق عليّ و الاخرى على اسامة ثمّ قال: انطلقا بي إلى فاطمة، فجاءا به حتى وضع رأسه في حجرها فاذا الحسن و الحسين يبكيان و يصطرخان و هما يقولان: أنفسنا لنفسك الفداء و وجوهنا لوجهك الوقاء.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من هذان يا عليّ فقال عليه السّلام: ابناك الحسن و الحسين، فعانقهما و قبّلهما و كان الحسن عليه السّلام أشدّ بكاء فقال صلّى اللّه عليه و آله: كفّ يا حسن فقد شققت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فنزل ملك الموت قال: السلام عليك يا رسول اللّه قال: و عليك السّلام يا ملك الموت لي إياك حاجة، قال: و ما حاجتك يا نبيّ اللّه قال: حاجتي أن لا تقبض روحى حتى يجيئني جبرئيل فتسلم علىّ و اسلم عليه.

فخرج ملك الموت و هو يقول: يا محمّداه، فاستقبله جبرئيل فى الهواء فقال: يا ملك الموت قبضت روح محمّد قال: لا يا جبرئيل سألنى أن لا أقبضه حتى يلقاك فتسلم عليه و يسلم عليك، فقال جبرئيل: يا ملك الموت أما ترى أبواب السماء مفتّحة لروح محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أما ترى الحور العين قد تزيّن لروح محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

ثم نزل جبرئيل فقال: السلام عليك يا أبا القاسم فقال: و عليك السلام يا جبرئيل ادن منى حبيبى جبرئيل، فدنا منه، فنزل ملك الموت فقال له جبرئيل: يا ملك الموت احفظ وصية اللّه في روح محمّد، و كان جبرئيل عن يمينه و ميكائيل عن يساره و ملك الموت‏

 

منهاج‏البراعةفي‏شرح‏نهج‏البلاغة(الخوئي)، ج 12   ، صفحه‏ى 236

آخذ بروحه، فلما كشف الثوب عن وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نظر إلى جبرئيل فقال له عند الشدائد تخذلني، فقال: يا محمّد إنك ميّت و انهم ميّتون، كلّ نفس ذائقة الموت.

فروى عن ابن عباس أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فى ذلك المرض كان يقول: ادعوا الى حبيبى فجعل يدعا له رجل بعد رجل فيعرض عنه فقيل لفاطمة عليها السّلام امضى إلى علىّ فما نرى رسول اللّه يريد غير عليّ، فبعث فاطمة إلى علىّ عليه السّلام فلما دخل فتح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عينيه و تهلّل وجهه ثم قال: إليّ يا علي إليّ يا علي فما زال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يدنيه حتى أخذه بيده و أجلسه عند رأسه ثمّ اغمى عليه فجاء الحسن و الحسين عليهما السّلام يصيحان و يبكيان حتى وقعا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأراد علىّ أن ينحيهما عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأفاق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثمّ قال يا على دعنى أشمّهما و يشمّانى و أتزوّد منهما و يتزوّدان منّي أما أنهما سيظلمان بعدي و يقتلان ظلما فلعنة اللّه على من يظلمهما يقول ذلك ثلاثا.

ثمّ مدّ يده إلى علىّ فجذبه إليه حتى أدخله تحت ثوبه الذى كان عليه، و وضع فاه على فيه و جعل يناجيه مناجاة طويلة حتى خرجت روحه الطيبة صلوات اللّه عليه و آله.

فانسلّ علىّ من تحت ثيابه و قال: اعظم اللّه اجوركم فى نبيّكم فقد قبضه اللّه إليه، فارتفعت الأصوات بالضجة و البكاء فقيل لأمير المؤمنين عليه السّلام: ما الذى ناجاك به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين أدخلك تحت ثيابه فقال: علّمنى ألف باب كلّ باب يفتح ألف باب قال الشارح عفى اللّه عنه: ما فى هذا الحديث من قصة سوادة مناف للاصول المحكمة و الأدلة القاطعة العقلية و النقلية الدّالة على كون الأنبياء معصومين من السهو و الخطاء و النسيان كعصمتهم من المعاصى مطلقا حسبما عرفته تفصيلا فى شرح الفصل الثاني عشر من الخطبة الاولى، فلا بدّ من تأويله على وجه لا ينافي العصمة أو ردّه لمخالفته لاصول مذهب الاماميّة، و لعلّ الصدوق رواه بناء على مذهبه من تجويزه السهو على النبيّ كما صرّح به فى الفقيه و غيره.

و فى كشف الغمة من كتاب أبى إسحاق الثعلبى قال: دخل أبو بكر على النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد ثقل فقال: يا رسول اللّه متى الأجل قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قد حضر، قال أبو بكر: اللّه المستعان على ذلك فالى ما المنقلب‏قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إلى السدرة المنتهى و الجنة المأوى و إلى الرفيق الأعلى و الكاس الأوفى و العيش المهنىّ، قال أبو بكر: فمن يلي غسلك قال: رجال أهل بيتى الأدنى فأدنى قال: ففيم نكفنك قال: فى ثيابى هذه التي عليّ أو فى حلّة يمانية أو في بياض مصر قال: كيف الصلاة عليك فارتجت الأرض بالبكاء.

فقال لهم النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: مهلا عفى اللّه عنكم إذا غسلت فكفنت فضعونى على سريرى فى بيتى على شفير قبرى ثمّ اخرجوا عنى ساعة فان اللّه تبارك و تعالى أوّل من يصلّي عليّ ثمّ يأذن الملائكة في الصّلاة علىّ، فأوّل من ينزل جبرئيل ثمّ إسرافيل ثمّ ميكائيل ثمّ ملك الموت عليهم السّلام فى جنود كثير من الملائكة بأجمعها، ثمّ ادخلوا علىّ زمرة زمرة فصلّوا عليّ و سلموا تسليما و لا تؤذوني بتزكية«» و لا رنّة، و ليبدأ بالصلاة علىّ الأدنى فالأدنى من أهل بيتى، ثمّ النساء، ثمّ الصبيان زمرا.

قال أبو بكر: فمن يدخل قبرك قال: الأدنى فالأدنى من أهل بيتى مع ملائكة لا ترونهم، قوموا فأدّوا عنّى إلى من ورائكم فقلت للحارث بن مرّة: من حدّثك بهذا الحديث قال: عبد اللّه بن مسعود عن عليّ عليه السّلام قال: كان جبرئيل ينزل على النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فى مرضه الذى قبض فيه فى كلّ يوم و ليلة فيقول: السلام عليك إنّ ربّك يقرؤك السلام فيقول: كيف تجدك و هو أعلم بك و لكنه أراد أن يزيدك كرامة و شرفا إلى ما أعطاك على الخلق و أراد أن يكون عيادة المريض سنة فى امتك.

فيقول له النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إن كان وجعا: يا جبرئيل أجدنى وجعا، فقال له جبرئيل اعلم يا محمّد أنّ اللّه لم يشدد عليك و ما من أحد من خلقه أكرم عليه منك، و لكنه أحبّ‏أن يسمع صوتك و دعاءك حتّى تلقاه مستوجبا للدّرجة و الثواب الذى أعدّ لك و الكرامة و الفضيلة على الخلق.

و إن قال له النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أجدني مريحا في عافية قال له: فاحمد اللّه على ذلك فانّه يحبّ أن تحمده و تشكره ليزيدك إلى ما أعطاك خيرا فانّه يحبّ أن يحمد و يزيد من شكر.
قال: و انّه نزل عليه في الوقت الذى كان ينزل فيه فعرفنا حسّه فقال عليّ عليه السّلام فخرج من كان في البيت غيرى، فقال له جبرئيل: يا محمّد إنّ ربّك يقرؤك السلام و يسألك و هو أعلم بك كيف تجدك فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أجدني ميّتا، قال له جبرئيل: يا محمّد ابشر فانّ اللّه إنّما أراد أن يبلّغك بما تجد ما أعدّ لك من الكرامة قال له النّبي صلّى اللّه عليه و آله: إنّ ملك الموت استأذن عليّ فأذنت له فدخل و استنظرته مجيئك فقال له جبرئيل: يا محمّد إنّ ربك إليك مشتاق فما استاذن ملك الموت على أحد قبلك و لا يستأذن على أحد بعدك فقال له النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا تبرح يا جبرئيل حتّى يعود.

ثمّ أذن للنساء فدخلن عليه فقال لابنته: ادني منّي يا فاطمة فأكبّت عليه فناجاها فرفعت رأسها فعيناها تهملان دموعا، فقال لها: ادني منّي فدنت منه فأكبّت عليه فناجاها فرفعت رأسها و هي تضحك.
فتعجّبنا لما رأينا، فسألناها فأخبرتنا أنّه نعى إليها نفسه فبكت فقال لها يا بنيّة لا تجزعي فانّي سألت اللّه أن يجعلك أوّل أهل بيتي لحاقا بي فأخبرني أنّه قد استجاب لي فضحكت قال: ثمّ دعا النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الحسن و الحسين عليهما السّلام فقبّلهما و شمّهما و جعل يترشفهما و عيناه تهملان.

قال الشارح عفى اللّه عنه: و لقد كنت عند نقلي هذه الرّواية للثعلبي كاد أن يشرح قلبي بالسّكاكين ممّا تضمّنه صدرها من شنيع فعل أبي بكر و إصراره فى سؤال الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من أجله و غسله و دفنه و كفنه و منقلبه فى هذه الحال من شدّةمرضه و ضعفه، و قد أحاطت به غمرات الالام، و غشيته طوارق الأوجاع و الأسقام، و كيف تمالك نفسه و لم تخنقه عبرته و بالغ فى السّؤال حتّى ارتجّت الأرض بالبكاء و ألجأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى ردعه بقوله: مهلا، فيا للّه ما أقلّ حياء الرّجل و أسوء أدبه و أقسى قلبه و أقبح فعله.

و فى البحار من المناقب عن سهل بن أبي صالح عن ابن عبّاس أنّه اغمى على النبىّ صلّى اللّه عليه و آله فى مرضه فدقّ بابه، فقالت فاطمة: من ذا قال: أنا رجل غريب أتيت أسأل رسول اللّه أ تأذنون لي في الدّخول عليه فأجابت امض رحمك اللّه لحاجتك فرسول اللّه عنك مشغول.

فمضى ثمّ رجع فدقّ الباب و قال: غريب يستأذن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أ تاذنون للغرباء فأفاق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من غشيته و قال: يا فاطمة أ تدرين من هذا قالت: لا يا رسول اللّه، قال: هذا مفرّق الجماعات و منقض «منغص» اللّذات، هذا ملك الموت ما استأذن و اللّه على أحد قبلى و لا يستأذن على أحد بعدى، استأذن عليّ لكرامتي على اللّه ائذنى له فقالت: ادخل رحمك اللّه، فدخل كريح هفافة و قال: السلام على أهل بيت رسول اللّه، فأوصى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى عليّ عليه السّلام بالصبر عن الدّنيا و بحفظ فاطمة و بجمع القرآن و بقضاء دينه و بغسله و أن يعمل حول قبره حايط و بحفظ الحسن و الحسين.

و فى كشف الغمة عن أبى جعفر عليه السّلام قال: لمّا حضرت النبيّ الوفاة استأذن عليه رجل فخرج إليه عليّ عليه السّلام فقال: ما حاجتك قال: اريد الدّخول على رسول اللّه فقال علىّ: لست تصل إليه فما حاجتك فقال الرّجل: إنه لا بدّ من الدّخول عليه، فدخل علىّ عليه السّلام فاستأذن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاذن له فدخل فجلس عند رأس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

ثمّ قال: يا نبيّ اللّه إنّي رسول اللّه إليك، قال: و أيّ رسل اللّه أنت قال: أنا ملك الموت أرسلنى إليك يخيّرك بين لقائه و الرّجوع إلى الدّنيا، فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فامهلنى حتّى ينزل جبرئيل فأستشيره.

و نزل جبرئيل فقال: يا رسول اللّه الاخرة خير لك من الاولى و لسوف يعطيك ربك فترضى، لقاء اللّه خير لك، فقال عليه السّلام لقاء ربّي خير لى فامض لما امرت به، فقال جبرئيل لملك الموت: لا تعجل حتى أعرج الى السماء «ربى خ» و أهبط، قال ملك الموت: لقد صارت نفسه في موضع لا أقدر على تأخيرها، فعند ذلك قال جبرئيل: يا محمّد هذا آخر هبوطى إلى الدّنيا إنما كنت أنت حاجتى فيها.

و فى البحار من كتاب اعلام الورى قال الصادق عليه السّلام: قال جبرئيل: يا محمّد هذا آخر نزولى إلى الدّنيا إنما كنت أنت حاجتى منها، قال: و صاحت فاطمة و صاح المسلمون و يضعون التراب على رؤوسهم و مات صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لليلتين بقيتا من صفر سنة عشر من الهجرة، و روى أيضا لاثنى عشر ليلة من ربيع الأوّل صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تسليما كثيرا.

الرابعة ما أشار إليه بقوله (و لقد سالت نفسه في كفّى فأمررتها على وجهى) قال الشارح البحراني: أراد بنفسه دمه يقال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قاء وقت موته دما يسيرا و إنّ عليا عليه السّلام مسح بذلك الدّم وجهه، و لا ينافي ذلك نجاسة الدّم لجواز أن يخصّص دم الرّسول كما روى أن أبا طيبة الحجام شرب دمه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين حجمه فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا لا ينجع بطنك، انتهى كلامه، و مثله الشارح المعتزلي.

أقول: أمّا طهارة دم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلا ريب فيها كما قال الشاعر:

فان تفق الأنام و أنت منهم
فانّ المسك بعض دم الغزال‏

و يشهد بها آية التطهير فان قلت: لو كان طاهرا لم حذّر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أبا سعيد الخدرى من شربه كما رواه في البحار من تفسير الامام في حديث طويل قال فيه: و أما الدّم فانّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله احتجم مرّة فدفع الدّم الخارج منه إلى أبى سعيد الخدرى و قال له: غيّبه، فذهب فشربه فقال صلّى اللّه عليه و آله له: ما صنعت به قال له: شربته يا رسول اللّه، قال: أ لم أقل لك غيّبه فقال له: غيّبته في وعاء حريز، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إيّاك‏ و أن تعود لمثل هذا، ثمّ اعلم أنّ اللّه قد حرّم على النّار لحمك و دمك لما اختلط بلحمى و دمى.

قلت: لعلّ تحذيره عن شربه لأجل حرمته لا لأجل النّجاسة.
و أمّا حمل النفس في قوله عليه السّلام: و لقد سالت نفسه بمعنى الدّم فلا يخفى بعده بل ضعفه، و الأقوى عندى أن يراد بالنّفس نفسه النّاطقة القدسيّة الّتي هي مبدء الفكر و الذّكر و العلم و الحلم و النّباهة، و لها خاصيّة الحكمة و النّزاهة، فيكون محصّل المراد بالكلام أنّ روحه الطيبة الكاملة الّتي هى المصداق الحقيقى لقوله: قل الرّوح من أمر ربّى، و المقصود الأصلى بقوله: و نفخت فيه من روحى، لما فارقت جسده الطاهر فاضت بيدى فمسحت بها على وجهى.

و لعلّ هذا مراد من قال إنّ المراد بسيلان النّفس هبوب النفس عند انقطاع الأنفاس، هذا.
و انّما مسح بها على وجهه إما تيمّنا أو لحكمة عظيمة لا نعرفها.
و انما فعل عليه السّلام ذلك بوصيّة منه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما رواه في البحار من مناقب ابن شهر آشوب قال: و من طريقة أهل البيت عليهم السّلام أنّ عايشة دعت أباها فأعرض عنه و دعت حفصة أباها فأعرض عنه و دعت أمّ سلمة عليّا فناجاه طويلا ثمّ اغمى عليه فجاء الحسن و الحسين عليهما السّلام يصيحان و يبكيان حتّى وقعا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أراد علىّ عليه السّلام أن ينحّيهما عنه، فأفاق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثمّ قال: يا عليّ دعهما أشمّهما و يشمّاني و أتزوّد منهما و يتزوّدان منّي.

ثمّ جذب عليّا عليه السّلام تحت ثوبه و وضع فاه على فيه و جعل يناجيه، فلمّا حضره الموت قال له: ضع رأسى يا على في حجرك فقد جاء أمر اللّه فاذا فاضت نفسى فتناولها بيدك و امسح بها وجهك ثمّ وجّهنى إلى القبلة و تولّ أمرى و صلّ علىّ أوّل النّاس و لا تفارقنى حتّى توارينى في رمسى و استعن باللّه عزّ و جلّ.
و أخذ علىّ برأسه فوضعه في حجره فاغمي عليه فبكت فاطمة فأومى إليها بالدنوّ منه، فأسرّ إليها شيئا تهلّل وجهها- القصّة- .

ثمّ قضى صلّى اللّه عليه و آله و مدّ أمير المؤمنين عليه السّلام يده اليمنى تحت حنكه ففاضت نفسه فيها، فرفعها إلى وجهه فمسحه بها ثمّ وجّهه و مدّ عليه ازاره و استقبل بالنّظر في أمره.
و فى البحار من كتاب اعلام الورى قضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يد أمير المؤمنين اليمنى تحت حنكه، ففاضت نفسه فيها فرفعها إلى وجهه فمسحه بها ثمّ وجّهه و غمّضه و مدّ عليه ازاره و اشتغل بالنّظر في أمره.
الخامسة ما أشار إليه بقوله (و لقد وليت) أى باشرت (غسله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الملائكة أعوانى) باطنا، و الفضل بن عباس يعينه ظاهرا و كان مباشرته بغسله صلّى اللّه عليه و آله أيضا بوصيّته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
كما يدل عليه ما رواه في البحار من المناقب عن أبان بن بطة قال يزيد بن بلال قال علىّ عليه السّلام: أوصى النبّي ألّا يغسّله أحد غيرى فانّه لا يرى عورتى أحد إلّا طمست عيناه، قال: فما تناولت عضوا إلّا كأنّما يقلّبه معى ثلاثون رجلا حتى فرغت من غسله.

و روى أنّه لمّا أراد علىّ عليه السّلام غسله استدعا الفضل بن عباس ليعينه و كان مشدود العينين و قد أمره علىّ عليه السّلام بذلك إشفاقا عليه من العمى، و في هذا المعنى قال العبدى:
من ولى غسل النّبي و من لفّقه من بعد في الكفن‏

و قال آخر:

غسّله إمام صدق طاهر من دنس
الشرك و أسباب الغير

فأورث اللّه عليّا علمه‏
و كان من بعد إليه يفتقر

و فى البحار من كتاب الطرف لابن طاوس نقلا من كتاب الوصيّة للشّيخ عيسى بن المستفاد الضّرير عن موسى بن جعفر عن أبيه عليهما السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا على أضمنت دينى تقضيه عنّى قال: نعم. قال: اللّهمّ فاشهد، ثمّ قال: يا على تغسلنى و لا يغسلني غيرك فيعمى بصره، قال علىّ عليه السّلام و لم يا رسول اللّه قال: كذلك قال جبرئيل عن ربّى أنّه لا يرى عورتى غيرك إلّا عمى‏بصره، قال عليّ عليه السّلام فكيف أقوى عليك وحدي قال: يعينك جبرئيل و ميكائيل و اسرافيل و ملك الموت و إسماعيل صاحب السماء الدّنيا، قلت: فمن يناولني الماء قال: الفضل بن العباس من غير أن ينظر إلى شي‏ء منّى فانّه لا يحلّ له و لا لغيره من الرّجال و النساء النظر إلى عورتى، و هى حرام عليهم، فاذا فرغت من غسلى فضعنى على لوح و أفرغ علىّ من بئرى بئر غرس أربعين دلوا مفتّحة الأبواب أو قال أربعين قربة شككت أنا في ذلك ثمّ ضع يدك يا على على صدرى و احضر معك فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام من غير أن ينظروا إلى شي‏ء من عورتى ثمّ تفهّم عند ذلك تفهم ما كان و ما هو كائن إنشاء اللّه.

و من كتاب فقه الرّضا و قال جعفر عليه السّلام: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أوصى إلى علىّ أن لا يغسلني غيرك، فقال علىّ عليه السّلام: يا رسول اللّه من يناولني الماء و انّك رجل ثقيل لا استطيع أن اقلبّك فقال: جبرئيل معك يعاونك و يناولك الفضل الماء، و قل له فليغطّ عينيه فانّه لا يرى أحد عورتى غيرك إلّا انفقات عيناه، قال: كان الفضل يناوله الماء و جبرئيل يعاونه و علىّ يغسّله.

و قوله (فضجّت الدّار و الأفنية ملاء يهبط و ملاء يعرج) نسبة الضجيج إلى الدار و الأفنية من التوسّع، و الاسناد إلى المكان، و المراد به ضجيج الملائكة النّازلين فيهما حين موته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بكاؤهم عليه مثل ضجيج ساير الحاضرين لديه.

و يشهد بذلك ما في البحار من كتاب الطرف لابن طاوس في الحديث الذى قدّمنا روايته آنفا و فيه بعد قوله صلّى اللّه عليه و آله تفهم ما كان و ما هو كائن: أقبلت يا عليّ قال: نعم قال: اللّهمّ فاشهد.
قال: يا عليّ ما أنت صانع لو قد تأمّر القوم عليك بعدي وتقدّموا عليك و بعث إليك طاغيتهم يدعوك إلى البيعة ثمّ لبّبت بثوبك تقاد كما يقاد الشّارد من الابل مذموما مخذولا محزونا مهموما و بعد ذلك ينزل بهذه الذّلّ.
قال: فلمّا سمعت فاطمة ما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صرخت و بكت، فبكى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لبكائها و قال: يا بنيّة لا تبكين و لا تؤذين جلساءك من الملائكة، هذا جبرئيل‏بكى لبكائك و ميكائيل و صاحب سرّ اللّه إسرافيل، يا بنية لا تبكين فقد بكيت السّماوات و الأرض لبكائك.

فقال عليّ عليه السّلام: يا رسول اللّه انقاد للقوم و أصبر على ما أصابنى من غير بيعة لهم ما لم اصب أعوانا لم اناجز القوم، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اللّهمّ اشهد.
و فيه من الكتاب المذكور أيضا من كتاب الوصيّة لعيسى الضّرير عن موسى بن جعفر عن أبيه عليهما السّلام قال: لمّا كانت اللّيلة الّتي قبض النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله فى صبيحتها دعى عليّا و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام و اغلق عليه و عليهم الباب، و قال: يا فاطمة و أدناها منه فناجاها من اللّيل طويلا، فلمّا طال ذلك خرج علىّ و معه الحسن و الحسين و أقاموا بالباب و الناس خلف الباب و نساء النّبي ينظرون إلى علىّ و معه ابناه.

فقالت عايشة: لأمر ما أخرجك منه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و خلا بابنته دونك في هذه السّاعة فقال علىّ عليه السّلام قد عرفت الذى خلا بها و أرادها له و هو بعض ما كنت فيه و أبوك و صاحباه ممّا قد سمّاه، فوجمت أن تردّ عليه كلمة قال عليّ عليه السّلام: فما لبثت أن نادتني فاطمة عليها السّلام فدخلت على النّبي صلّى اللّه عليه و آله و هو يجود بنفسه فبكيت و لم أملك نفسى حين رأيته بتلك الحال يجود بنفسه.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لي: ما يبكيك يا على ليس هذا أو ان البكاء فقد حان الفراق بينى و بينك فاستودعك اللّه يا أخى فقد اختار لي ربّي ما عنده، و إنما بكائي و غمّي و حزنى عليك و على هذه- أى فاطمة أن تضيع بعدى، فقد أجمع القوم على ظلمكم و قد استودعكم اللّه و قبلكم منّى وديعة يا عليّ قد أوصيت فاطمة ابنتي بأشياء و أمرتها أن تلقيها إليك فأنفذها فهي الصّادقة المصدّقة.

ثمّ ضمها إليه و قبّل رأسها و قال: فداك أبوك يا فاطمة، فعلا صوتها بالبكاء ثمّ ضمها إليه و قال: و اللّه لينتقمنّ اللّه ربّي و ليغضبنّ لغضبك، فالويل ثمّ الويل للظالمين ثمّ بكى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم‏و قال عليّ عليه السّلام: فو اللّه لقد حسبت بضعة منّي قد ذهبت لبكائه صلّى اللّه عليه و آله حتّى هملت عيناه مثل المطر حتّى بلّت دموعه لحيته و ملاءة كانت عليه و هو يلتزم فاطمة لا يفارقها و رأسه على صدرى و أنا مسنده و الحسن و الحسين يقبلان قدميه و يبكيان بأعلى أصواتهما قال عليّ عليه السّلام: فلو قلت إنّ جبرئيل في البيت لصدقت لأنّى كنت اسمع بكاء و نغمة لا أعرفها و كنت أعلم أنّها أصوات الملائكة لا أشكّ فيها، لأنّ جبرئيل لم يكن في مثل تلك اللّيلة يفارق النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و لقد رأيت بكاء منها أحسب أنّ السّماوات و الأرضين قد بكت لها.

ثمّ قال لها: يا بنيّة اللّه خليفتي عليكم و هو خير خليفة.
و الّذى بعثني بالحقّ لقد بكى لبكائك عرش اللّه و ما حوله من الملائكة و السّماوات و الأرضون و ما بينهما.
يا فاطمة و الذى بعثني بالحقّ لقد حرّمت الجنّة على الخلايق حتّى أدخلها و أنّك لأوّل خلق اللّه يدخلها بعدى كاسية حالية ناعمة، يا فاطمة هنيئا لك.

و الذى بعثني بالحقّ إنّك لسيّدة من يدخلها من النّساء، و الّذى بعثني بالحقّ إنّ جهنّم لتزفر زفرة لا يبقى ملك مقرّب و لا نبىّ مرسل إلّا صعق، فينادى إليها أن يا جهنّم يقول لك الجبّار اسكني بعزّى و استقرّى حتّى تجوز فاطمة بنت محمّد إلى الجنان لا يغشيها قتر و لا ذلّة.
و الذي بعثني بالحقّ ليدخلنّ حسن و حسين، حسن عن يمينك و حسين عن يسارك و لتشرفنّ من أعلى الجنان بين يدي اللّه فى المقام الشريف و لواء الحمد مع علىّ بن أبي طالب يكسى إذا كسيت و يحبى إذا حبيت.
و الّذي بعثني بالحقّ لأقومنّ لخصومة أعدائك و ليندمنّ قوم أخذوا حقّك و قطعوا مودّتك و كذبوا عليّا و ليختلجنّ دوني فأقول: امّتى امّتى، فيقال: انّهم بدلوا بعدك و صاروا إلى السّعير.

قال الشارح عفى اللّه عنه: و إنّما أوردت هذه الرّواية بتمامها و طولها مع كون موضع الحاجة منها بعضها كأكثر الأخبار المتقدّمة في شرح هذه الخطبة،لكونها متضمّنة مثل ساير ما تقدّم للغرض الّذى سوق هذه الخطبة لأجله مؤكّدة له، و هو إفادة مزيد اختصاصه عليه السّلام برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قرباه منه، على أنا أحببنا أن يكون شرح هذه الخطبة متكفلا لجمل أخبار وفاة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله.

و قوله (و ما فارقت سمعى هينمة منهم) أى لم يغب أصواتهم عن سمعى و لم تخف علىّ، و يدلّ عليه عموم الأخبار المفيدة لكونه محدثا يسمع صوت الملك و لا يرى شخصه، و قد تقدّمت جملة منها فى التنبيه الثاني من شرح الفصل الثامن من الخطبة المأة و الحادية و التسعين.

و يدل عليه خصوصا بل يدلّ على رؤيته عليه السّلام لهم أيضا فى تلك الحال ما رواه فى البحار من كتاب بصاير الدّرجات عن أحمد بن محمّد و أحمد بن اسحاق عن القاسم بن يحيى عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: لما قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هبط جبرئيل و معه الملائكة و الرّوح الذين كانوا يهبطون فى ليلة القدر، قال: ففتح لأمير المؤمنين بصره فرآهم فى منتهى السماوات إلى الأرض يغسّلون النبيّ معه و يصلّون عليه معه و يحفرون له، و اللّه ما حفر له غيرهم حتى إذا وضع فى قبره نزلوا مع من نزل، فوضعوه فتكلّم، و فتح لأمير المؤمنين سمعه فسمعه يوصيهم به فبكى عليه السّلام و سمعهم يقولون لا نالوه جهدا و انما هو صاحبنا بعدك إلّا أنه ليس يعايننا ببصره بعد مرّتنا هذه.

حتّى إذ مات أمير المؤمنين عليه السّلام رأى الحسن و الحسين عليهما السّلام مثل ذلك الذى رأى و رأيا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يعين الملائكة مثل الذى صنعوا بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
حتّى اذا مات الحسن عليه السّلام رأى منه الحسين مثل ذلك و رأى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و عليا عليه السّلام يعينان الملائكة.

حتى إذا مات الحسين عليه السّلام رأى عليّ بن الحسين عليهما السّلام منه مثل ذلك و رأى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عليا و الحسن عليهما السّلام يعينون الملائكة.
حتّى إذا مات عليّ بن الحسين عليهما السّلام رأى محمّد بن عليّ مثل ذلك و رأى النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و عليا و الحسن و الحسين عليهم السّلام يعينون الملائكة.

حتى إذا مات محمّد بن علىّ عليهما السّلام رأى جعفر عليه السّلام مثل ذلك و رأى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و عليا و الحسن و الحسين و علىّ بن الحسين عليهم السّلام يعينون الملائكة.
حتّى إذا مات جعفر عليه السّلام رأى موسى عليه السّلام منه مثل ذلك، هكذا يجري إلى آخر و قوله (يصلّون عليه) صريح في صلاة الملائكة، و قد مرّ في شرح قوله عليه السّلام: و لقد قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في رواية الأمالي إنّ أوّل من يصلّى عليه هو اللّه سبحانه ثمّ الملائكة، ثمّ المسلمون.

و روى في الكافي بسنده عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: لما قبض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صلّت عليه الملائكة و المهاجرون و الأنصار فوجا فوجا و قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول في صحّته و سلامته: إنّما انزلت هذه الاية علىّ في الصّلاة بعد قبض اللّه لى: إنّ اللّه و ملائكته يصلّون على النّبيّ يا أيّها الّذين آمنوا صلّوا عليه و سلّموا تسليما.

و فى البحار من الاحتجاج و في رواية سليم بن قيس الهلالى عن سلمان الفارسي أنّه قال: أتيت عليّا عليه السّلام و هو يغسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد كان أوصى أن لا يغسله غير عليّ عليه السّلام و أخبر عنه أنّه لا يريد أن يقلّب منه عضو إلّا قلب له، و قد قال أمير المؤمنين لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من يعينني على غسلك يا رسول اللّه قال: جبرئيل.
فلمّا غسّله و كفّنه أدخلنى و أدخل أبا ذر و المقداد و فاطمة و حسنا و حسينا عليهم السّلام فتقدّم و صففنا خلفه و صلّى عليه، و عايشة فى الحجرة لا تعلم قد أخذ جبرئيل ببصرها ثمّ ادخل عشرة عشرة من المهاجرين و الأنصار فيصلّون و يخرجون، حتى لم يبق أحد من المهاجرين و الأنصار إلّا صلّى عليه، الخبر.

و من كتاب اعلام الورى قال أبان: و حدّثنى أبو مريم عن أبي جعفر عليه السّلام قال قال الناس: كيف الصلاة عليه فقال عليّ عليه السّلام: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إمامنا حيا و ميتا فدخل عليه عشرة عشرة فصلّوا عليه يوم الاثنين و ليلة الثلثاء حتّى صلّى عليه كبيرهم و صغيرهم و ذكرهم و انثاهم و ضواحي المدينة بغير إمام.

و من المناقب قال أبو جعفر عليه السّلام قال الناس: كيف الصلاة فقال علىّ عليه السّلام إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إمام حيا و ميتا فدخل عليه عشرة عشرة فصلّوا عليه يوم الاثنين و ليلة الثلثاء حتى الصّباح و يوم الثلثاء حتّى صلّى عليه الأقرباء و الخواص، و لم يحضر أهل السقيفة و كان عليّ عليه السّلام أنفذ اليهم بريدة، و إنّما تمّت بيعتهم بعد دفنه و من المناقب و سئل الباقر عليه السّلام كيف كانت الصّلاة على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال لمّا غسله أمير المؤمنين و كفّنه و سجّاه و ادخل عليه عشرة فداروا حوله، ثمّ وقف أمير المؤمنين عليه السّلام في وسطهم فقال: إنّ اللّه و ملائكته، الاية فيقول القوم مثل ما يقول حتّى صلّى عليه أهل المدينة و أهل العوالى.

قال المحدّث العلامة المجلسي (قد) بعد إيراد هذه الأخبار في البحار: يظهر من مجموعها أنّ الصّلاة الحقيقيّة هي التي كان أمير المؤمنين عليه السّلام صلّاها أوّلا مع الستة المذكورين في خبر سليم، و لم يدخل في ذلك سوى الخواص من أهل بيته و أصحابه لئلّا يتقدّم أحد من لصوص الخلافة في الصلاة أو يحضر أحد من هؤلاء المنافقين فيها، ثمّ كان يدخل عشرة عشرة من الصحاب فيقرأ الاية و يدعون و يخرجون من غير صلاة.

و قوله (حتّى و اريناه في ضريحه) روى فى البحار من المناقب قال: و اختلفوا أين يدفن فقال بعضهم: في البقيع، و قال آخرون: في صحن المسجد، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّ اللّه لم يقبض نبيا إلّا في أطهر البقاع فينبغي أن يدفن في البقعة التي قبض فيها، فاتّفقت الجماعة على قوله و دفن في حجرته.

و من فقه الرّضا عليه السّلام و قال جعفر عليه السّلام فلما أن فرغ من غسله و كفنه أتاه العباس فقال: يا عليّ إنّ الناس قد اجتمعوا على أن يدفن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فى بقيع المصلّى و أن يؤمّهم رجل منهم، فخرج علىّ عليه السّلام إلى الناس فقال: يا أيها الناس أما تعلمون أنّ رسول اللّه إمامنا حيا و ميتا و هل تعلمون أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعن من جعل القبور مصلّى، و لعن من جعل مع اللّه إلها و لعن من كسر رباعيّته و شقّ لثته، قال: فقالوا: الأمر إليك فاصنع ما رأيت قال: و إنى أدفن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فى البقعة التي قبض فيها، الحديث.

و من أعلام الورى عن أبى جعفر عليه السّلام قال: و خاض المسلمون فى موضع دفنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال علىّ عليه السّلام: إنّ اللّه لم يقبض نبيا فى مكان إلّا و ارتضاه لرمسه فيه، و إنى دافنه فى حجرته التي قبض فيها، فرضى المسلمون بذلك.

فلما صلّى المسلمون عليه أنفذ العباس إلى أبى عبيدة بن الجراح و كان يحفر لأهل مكة و يضرح، و أنفذ إلى زيد بن سهل أبي طلحة و كان يحفر لأهل المدينة و يلحد فاستدعاهما و قال: اللهمّ خر لنبيك، فوجد أبو طلحة فقيل له: احفر لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فحفر له لحدا و دخل أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام و العباس و الفضل و اسامة بن زيد ليتولّوا دفن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فنادت الأنصار من وراء البيت: يا على إنا نذكرك اللّه و حقّنا اليوم من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يذهب ادخل منّا رجلا يكون لنا حظّ به من مواراة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال ليدخل أوس بن خولى رجل من بنى عوف بن الخزرج و كان بدريا، فدخل البيت و قال له عليّ عليه السّلام: انزل القبر فنزل، و وضع علىّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على يديه ثمّ ولاه فى حفرته، ثمّ قال له: اخرج فخرج، و نزل علىّ عليه السّلام فكشف عن وجهه و وضع خدّه على الأرض موجّها إلى القبلة على يمينه ثمّ وضع عليه اللبن و أهال عليه التراب.

و من الدّيوان المنسوب إليه عليه السّلام في رثائه صلوات اللّه و سلامه عليه و آله:

أ من بعد تكفين النّبي و دفنه
بأثوابه آسى على هالك ثوى‏

رزئنا رسول اللّه فينا فلن نرى‏
بذاك عديلا ما حيينا من الرّدى‏

و كان لنا كالحصن من دون أهله
له معقل حرز حريز من الرّدى‏

و كنّا بمرآه نرى النّور و الهدى‏
صباحا مساء راح فينا أو اغتدى‏

لقد غشيتنا ظلمة بعد موته
نهارا فقد زادت على ظلمة الدّجى‏

فيا خير من ضمّ الجوانح و الحشا
و يا خير ميت ضمّه الترب و الثرى‏

كأنّ امور الناس بعدك ضمّنت
سفينة موج حين في البحر قد سما

و ضاق فضاء الأرض عنهم برجة
لفقد رسول اللّه إذ قيل قد مضى‏

فقد نزلت بالمسلمين مصيبة
كصدع الصفا لا شعب للصدع في الصفا

فلن يستقلّ الناس تلك مصيبة
و لم يجبر العظم الذى منهم و هى‏

و في كلّ وقت للصلاة يهيجه‏
بلال و يدعو باسمه كلّما دعا

و يطلب أقوام مواريث هالك
و فينا مواريث النّبوة و الهدى‏

و قالت فاطمة عليها السّلام في رثائه صلّى اللّه عليه و آله أيضا:

إذا اشتدّ شوقى زرت قبرك باكيا
أنوح و أشكو لا أراك مجاوبي‏

فيا ساكن الصّحراء علّمتني البكا
و ذكرك أنساني جميع المصائب‏

فان كنت عنّى في التّراب مغيّبا
فما كنت عن قلب الحزين بغائب‏

و لها صلوات اللّه و سلامه عليها أيضا:

إذا مات يوما ميّت قلّ ذكره
و ذكر أبي قد مات و اللّه أزيد

تذكّرت لمّا فرق الموت بيننا
فعزّيت نفسي بالنّبي محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم‏

فقلت لها إنّ الممات سبيلنا
و من لم يمت في يومه مات في غد

و لها أيضا ما اشتهر في الألسنة و الأفواه:

ما ذا على من شمّ تربة أحمد
أن لا يشمّ مدى الزّمان غواليا

صبّت علىّ مصائب لو أنّها
صبّت على الأيام صرن لياليا

هذا، و لمّا مهّد عليه السّلام المقدمات المفيدة لمزيد اختصاصه برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قربه منه في حال حياته و حين مماته حسبما عرفته تفصيلا تحقيقا فرّع على ذلك قوله: (فمن ذا أحقّ به منى حيّا و ميتا) و هو استفهام على سبيل الانكار و الابطال يقتضى أنّ ما بعده غير واقع و أنّ مدّعيه كاذب فيفيد كونه أولى به في حياته و أحقّ بالخلافة و الوصاية بعد موته، و هو حقّ لا ريب فيه على رغم الناصب الجاحد و المبغض المعاند.

(فانفذوا) أى أسرعوا إلى قتال عدوّكم مستقرّين (على بصائركم) و عقايدكم الحقّة (و لتصدق نياتكم في جهاد عدوّكم) أى أنهضوا إلى عدوّكم بنيّات صادقة و قلوب طاهرة سالمة من اعتراض الشك و الرّيب و الشبهة و لا يوسوسنكم‏الشيطان بكونهم من أهل القبلة و الاسلام غير جايز قتلتهم و قتالهم، لأنكم اتباع الامام الحقّ و هم تابعوا الامام الباطل (فو) اللّه (الذى لا إله الّا هو إنّى لعلي جادّة الحقّ و انّهم لعلى مزلّة الباطل) كما يشهد به النّبوى المعروف بين الفريقين: علىّ مع الحقّ و الحقّ مع علىّ.

و لا يخفى حسن المقابلة بين جادّة الحقّ و بين مزلّة الباطل كما لا يخفى لطف إضافة الجادّة إلى الحقّ و إضافة المزلّة إلى الباطل، لأنّ طريق الحقّ لما كان واضحا جليا ثابتا بالبيّنة و البرهان يوصل سالكها إلى منزل الزلفى و جنّات النعيم و طريق الباطل لما كان تمويها و تدليسا مخالفا للواقع يزلّ فيه قدم سالكه و يزلق فيهوى إلى دركات الجحيم.
(أقول ما تسمعون) من قول حقّ و كلام صدق (و أستغفر اللّه لي و لكم).

تنبيهان:الاول

روى الشارح المعتزلي في شرح هذه الخطبة من قصّة وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ما هو ظاهر بل نصّ في الطعن على المتخلّفين المنتحلين للخلافة و على المتعصّبين لهم السالكين لطريقتهم من العامّة العمياء أحببت أن أذكر ملخّص ما أورده مما يطعن به عليهم فأقول: قال الشارح: قد روى من قصّة وفاة رسول اللّه عليه السّلام أنه عرضت له الشّكاة الّتي عرضت في أواخر من سنة إحدى عشرة للهجرة فجهّز جيش اسامة بن زيد بالمسير إلى البلقاء حيث أصيب زيد و جعفر من الرّوم.

و خرج صلّى اللّه عليه و آله في تلك اللّيلة إلى البقيع و قال: إنّى قد امرت بالاستغفار عليهم فقال صلّى اللّه عليه و آله: يا أهل القبور ليهنكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أوّلها ثمّ استغفر لأهل البقيع طويلا.

ثمّ انصرف إلى بيته، فخطب الناس في غده و أعلمهم بموته ثمّ نزل فصلّى‏بالناس صلاة حفيفة، ثمّ دخل بيت امّ سلمة.
ثمّ انتقل إلى بيت عايشة يعلّله النساء و الرّجال، أمّا النساء فأزواجه و بنته، و أما الرّجال فعليّ عليه السّلام و العباس و الحسن و الحسين و كانا غلامين يومئذ و كان الفضل بن العباس يدخل احيانا إليهم.
ثمّ حدث الاختلاف بين المسلمين أيّام مرضه.

فأوّل ذلك التنازع الواقع يوم قال: ايتوني بدواة و قرطاس، و تلى ذلك حديث التخلّف عن جيش اسامة، ثمّ اشتدّ به المرض و كان عند خفّة مرضه يصلّي بالناس بنفسه، فلما اشتدّ به المرض أمر أبا بكر أن يصلّي بالناس.
و قد اختلف في صلاته بهم فالشيعة تزعم أنه لم يصلّ بهم إلّا صلاة واحدة و هى الصلاة التي خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيها يتهادى بين عليّ و الفضل فقام في المحراب مقامه و تأخّر أبو بكر، و الصحيح عندى و هو الأكثر الأشهر أنها لم تكن آخر الصلاة في حياته بالناس جماعة و أنّ أبا بكر صلّى بالناس بعد ذلك يومين.

ثمّ مات صلّى اللّه عليه و آله فمن قائل يقول توفّي لليلتين بقيتا من شهر صفر و هو الذى تقوله الشيعة، و الأكثرون أنه توفّى فى شهر ربيع الأوّل بعد مضىّ أيام منه، و قد اختلفت الرّواية في موته فأنكر عمر ذلك و قال: إنه لم يمت و إنه غاب و إنه سيعود فثناه أبو بكر هذا القول و تلى عليه الايات المتضمّنة أنه سيموت، فرجع إلى قوله و صلّوا عليه ارسالا لا يؤمّهم أحد، و قيل: إنّ عليا عليه السّلام أشار بذلك فقبلوه و أنا أعجب من ذلك لأنّ الصلاة عليه كانت بعد بيعة أبي بكر فما الذى منع من أن يتقدّم أبو بكر فيصلّي عليه إماما و تنازعوا في تلحيده و تضريحه فأرسل العباس عمّه إلى أبي عبيدة بن الجراح و كان يحفر لأهل مكة و يضرح على عادتهم رجلا و أرسل إلى أبي طلحة الأنصارى و كان يلحد لأهل المدينة على عادتهم، رجلا و قال: اللهمّ اختر لنبيّك، فجاء أبو طلحة فلحد له و ادخل في اللحد و تنازعوا فيمن ينزل معه القبر فمنع علىّ الناس أن ينزلوا معه و قال: لا ينزل‏قبره غيرى و غير العباس، ثمّ أذن في نزول الفضل و اسامة بن زيد مولاهم ثمّ ضجّت الأنصار و سألت أن ينزل منها رجل في قبره فانزلوا أوس بن خولى و كان بدريا.

فأمّا الغسل فانّ عليّا تولّاه بيده و كان الفضل يصبّ عليه الماء، انتهى ما أهمّنا نقله من كلامه و وجوه الطعن في تلك القضيّة على ما صدر من أهل الخلافة غير خفيّة على الفطن العارف إلّا أنا ننبّه على بعضها لكونها أشدّ تشنيعا و طعنا.

أولها ما أشار إليه الشارح بقوله: فأوّل ذلك التنازع الواقع يوم قال ايتونى بدواة و قرطاس، فقد روت العامّة و الخاصة أنّ النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أراد في مرضه أن يكتب لامّته كتابا لئلّا يضلّوا بعده و لا يختلفوا، فطلب دواة و كتفا أو نحو ذلك فمنع عمر من احضار ذلك و قال: إنه ليهجر، أو ما يؤدّى هذا المعنى، و قد وصفه اللّه سبحانه بأنه لا ينطق عن الهوى و أنّ كلامه ليس إلّا وحيا يوحى، و كثر اختلافهم و ارتفعت أصواتهم حتّى تسأم و تزجّر فقال بعضهم: احضروا ما طلب، و قال بعضهم: القول ما قاله عمر، و قد قال اللّه سبحانه وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً و قال تعالى فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً روى في البحار من كتاب الطرايف للسيّد عليّ بن طاوس رضى اللّه عنه أنّه قال: من أعظم طرايف المسلمين أنّهم شهدوا جميعا أنّ نبيّهم أراد عند وفاته أن يكتب لهم كتابا لا يضلّون بعده أبدا، و أنّ عمر بن الخطاب كان سبب منعه من ذلك الكتاب و سبب ضلال من ضلّ من امّته و سبب اختلافهم و سفك الدّماء بينهم و تلف الأموال و اختلاف الشريعة و هلاك اثنين و سبعين فرقة من أصل فرق الاسلام و سبب خلود من يخلد في النار منهم، و مع هذا كلّه فانّ أكثرهم أطاع عمر بن الخطاب الذى قد شهدوا عليه بهذه الأحوال في الخلافة و عظموه و كفّروا بعد ذلك من يطعن فيه و هم من جملة الطاعنين، و ضلّلوا من يذمّه و هم من جملة الضّالين،و تبرّءوا ممن يقبّح ذكره و هم من جملة المقبّحين فمن روايتهم في ذلك ما ذكره الحميدى في الجمع بين الصحيحين في الحديث الرّابع من المتفق عليه في صحّته من مسند عبد اللّه بن عباس قال: لمّا احتضر النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و في بيته رجال فيهم عمر بن الخطاب فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هلمّوا أكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده أبدا، فقال عمر بن الخطاب: إنّ النّبي قد غلبه الوجع و عندكم القرآن حسبكم كتاب ربكم.

و في رواية ابن عمر من غير كتاب الحميدى قال عمر: إنّ الرّجل ليهجر.
و في كتاب الحميدى قالوا ما شأنه هجر.
و في المجلّد الثاني من صحيح مسلم فقال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يهجر.
قال الحميدى: فاختلف الحاضرون عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فبعضهم يقول: القول ما قاله النبي صلّى اللّه عليه و آله فقرّبوا إليه كتابا يكتب لكم، و منهم من يقول: القول ما قاله عمر.
فلمّا اكثروا اللفظ «اللّغط» و الاختلاط قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: قوموا عنّى فلا ينبغي عندى التنازع، فكان ابن عباس يبكى حتّى يبلّ دموعه الحصا و يقول: يوم الخميس و ما يوم الخميس.
قال راوى الحديث فقلت: يا ابن عباس و ما يوم الخميس فذكره عبد اللّه بن عباس يوم منع رسول اللّه من ذلك الكتاب، و كان يقول: الرّزية كلّ الرّزية ما حال بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بين كتابه.

و ثانيها حديث التخلّف عن جيش اسامة، فانّ أبا بكر و عمر و عثمان كانوا من جيشه، و قد كرّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا اشتدّ مرضه الأمر بتجهيز جيشه و لعن المتخلّف عنه فتأخّروا عنه و اشتغلوا بعقد البيعة فى سقيفة بني ساعدة و خالفوا أمره، و شملهم اللّعن و ظهر أنّهم لا يصلحون للخلافة.

قال أصحابنا: و لو تنزّلنا عن هذا المقام و قلنا بما ادّعاه بعضهم من عدم كون أبي بكر من الجيش نقول: لا خلاف أنّ عمر منهم، و قد منعه أبو بكر من النّفوذ معهم، و هذا كالأوّل في كونه معصية و مخالفة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله،اما انّهم كانوا من جيش اسامة، فقد رواه علم الهدى في الشّافي بطرق كثيرة من العامّة.
قال ره: إنّ كون أبي بكر في جيش أسامة قد ذكره أصحاب السير و التواريخ.

قال: و قد روى البلادرى فى تاريخه و هو معروف ثقة كثير الضّبط و برى‏ء من ممائلة الشيعة: إنّ أبا بكر و عمر كانا معا في جيش اسامة و اورد روايات اخر من أراد الاطلاع عليها فعليه بالمراجعة إلى الكتاب المذكور، و ستطلع عليه ممّا نحكيه عن المفيد في الارشاد في الطعن الاتى.
و أما تخلّفهم عن الجيش فلا ينازع فيه أحد.
و أما أنّ ذلك قادح في خلافتهم و موجب للطعن عليهم، فلاستحقاقهم بسبب التخلف للّعن الصّريح من اللّه و من رسوله، و الملعون لا يصلح للامامة.

أمّا اللعن من اللّه فانّهم لمّا خالفوا أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد تأكيده و تكريره آذوه فيدخلون في عموم قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ و قوله وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ و أمّا لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فلما رواه الشهرستانى في كتاب الملل و النّحل عند ذكر الاختلافات الواقعة في مرض النّبي صلّى اللّه عليه و آله: الخلاف الثاني أنه قال جهّزوا جيش اسامة لعن اللّه من تخلّف عن جيش اسامة، فقال قوم: يجب علينا امتثال أمره و اسامة قد برز من المدينة، و قال قوم: قد اشتدّ مرض النّبي فلا تسع قلوبنا لمفارقته و الحال هذه، فنصبر حتى نبصر أىّ شي‏ء يكون من أمره.

و ثالثها صلاة أبي بكر بالناس و عدم إقرار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليها دليل على عدم قابليّته للامامة في الصلاة فكيف بامامة الامّة قال المفيد في كتاب الارشاد في قصّة وفاة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و استمرّ به المرض في بيت عايشة أيّاما و ثقل فجاء بلال عند صلاة الصّبح و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مغمور بالمرض فنادى: الصلاة رحمكم اللّه، فاوذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بندائه فقال: يصلّي بالناس بعضهم فانّي مشغول بنفسي فقالت عايشة: مروا أبا بكر،و قالت حفصة: مروا عمر، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين سمع كلامهما و رأى حرص كلّ واحدة منهما على التنويه بأبيها و افتنانهما بذلك و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيّ: اكففن فانّكنّ صويحبات يوسف ثمّ قام عليه السّلام مبادرا خوفا من تقدّم أحد الرّجلين، و قد كان أمرهما بالخروج مع اسامة و لم يك عنده أنّهما قد تخلّفا، فلمّا سمع من عايشة و حفصة ما سمع علم أنهما متأخّران عن أمره، فبدر لكفّ الفتنة و إزالة الشّبهة فقام عليه الصلاة و السلام و أنه لا يستقلّ على الأرض من الضّعف، فأخذ بيده عليّ بن أبي طالب و الفضل بن العباس فاعتمد عليهما و رجلاه تخطان الأرض من الضّعف.

فلمّا خرج إلى المسجد وجد أبا بكر قد سبق إلى المحراب فأومأ إليه بيده أن تأخّر عنه، فتأخّر أبو بكر، و قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مقامه، فكبّر و ابتدء الصلاة الّتي كان قد ابتدأها و لم يبن على ما مضى من أفعاله، فلمّا سلّم انصرف إلى منزله.

و استدعا أبا بكر و عمر و جماعة ممّن حضر بالمسجد من المسلمين ثمّ قال: أ لم آمركم أن تنفذوا جيش اسامة فقالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: فلم تأخّرتم عن أمرى قال أبو بكر: إني خرجت ثمّ رجعت لاجدّد بك عهدا، و قال عمر: يا رسول اللّه إنّى لم أخرج لأنّنى لم أحبّ أن أسأل عنك الرّكب، فقال النّبي صلّى اللّه عليه و آله نفّذوا جيش اسامة يكرّرها ثلاث مرات.

ثمّ اغمي عليه من التّعب الذى لحقه و الأسف الذى ملكه فمكث هنيئة مغمى عليه، و بكى المسلمون و ارتفع النحيب من أزواجه و ولده و ساء المسلمين و جميع من حضر من المسلمين، فأفاق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فنظر إليهم.

ثمّ قال: ايتونى بدواة و كتف لأكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده أبدا، ثمّ اغمى عليه فقام بعض من حضره يلتمس دواة و كتفا فقال له عمر: ارجع فانّه يهجر فرجع و ندم من حضر على ما كان منهم من التّضجيع«» في احضار الدّواة و الكتف و تلاوموا بينهم و قالوا: إنّا للّه و إنّا إليه راجعون لقد أشفقنا من خلاف رسول‏اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فلما أفاق قال بعضهم: أ لا نأتيك بدواة و كتف يا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: أ بعد الذى قلتم لا، و لكنّي اوصيكم بأهل بيتى خيرا و أعرض بوجهه عن القوم فنهضوا، انتهى ما أهمّنا نقله من كلامه رضي اللّه عنه.
و قد ذكرناه بطوله لأنّه قد ثبت أنه ثقة مقبول الكلام عند العامة و الخاصة لا مغمز فيه لأحد و لا يطعن بالعصبيّة و الهوى.

ثمّ أقول: يا اولى الأبصار انظروا بنظر الانصاف و الاعتبار إلى سوء حركات هؤلاء الأوغاد الأشرار كيف آذوا رسول اللّه في تلك الحال و قد استولت عليه غمرات الأمراض و الالام و طوارق الأوجاع و الأسقام، و لم يتركوه و حاله ليستريح في فراشه و يشغل بنفسه، حتى ألجئوه إلى الخروج إلى المسجد و رجلاه يخطان الأرض و كابدوه الغصص بالتخلف عن الجيش و نسبوه إلى الهذيان عند طلب الكتف و الدواة لعنهم اللّه و أبعدهم و عذّبهم عذابا أليما.

رابعها إنكار عمر لموته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بلوغه في الجهل إلى حيث لم يعلم بأنّ كلّ نفس ذائقة الموت و أنه يجوز الموت عليه و أنّه اسوة الأنبياء في ذلك، فقال: و اللّه ما مات حتّى يقطع أيدي رجال و أرجلهم، فقال له أبو بكر أما سمعت قول اللّه عزّ و جلّ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ و قوله تعالى وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى‏ أَعْقابِكُمْ.

قال: فلمّا سمعت ذلك أيقنت بوفاته و سقطت إلى الأرض و علمت أنه قد مات فمن بلغ من غاية الجهل إلى هذه المرتبة كيف يليق بالخلافة الكلّية و الرّياسة الإلهيّة

الثانيلما كان هذه الخطبة الشريفة التي نحن في شرحها مسوقة لذكر مناقبه‏و خصائصه الجميلة المخصوصة به المفيدة لكونه أحقّ و أولى بالخلافة و الامامة من غيره، أحببت أن اورد رواية متضمنة لجلّ كراماته و بيناته التي لم يشركه فيها أحد تأكيدا للغرض المسوق له الخطبة الشريفة و تكميلا له و هو: ما رواه في البحار من الخصال عن القطان و السنان و الدقاق و المكتب و الوراق جميعا عن ابن زكريّا القطان عن ابن حبيب عن ابن بهلول عن سليمان بن حكيم عن ثور بن يزيد عن مكحول قال: قال أمير المؤمنين علىّ بن أبي طالب عليه السّلام: لقد علم المستحفظون من أصحاب النبيّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله أنه ليس فيهم رجل له منقبة إلّا و قد شركته فيها و فضلته، و لى سبعون منقبة لم يشركني فيها أحد منهم، قلت: يا أمير المؤمنين فأخبرني بهنّ فقال عليه السّلام: إنّ أول منقبة لي أنّي لم اشرك باللّه طرفة عين و لم أعبد اللّات و العزّى و الثانية أنّي لم أشرب الخمر قطّ.

و الثالثة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله استوهبنى من أبى في صباى فكنت أكيله و شريبه و مونسه و محدّثه.
و الرابعة أنّي أوّل الناس ايمانا و اسلاما.
و الخامسة: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: يا علي أنت منّى بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبيّ بعدي و السادسة أنّي كنت آخر الناس عهدا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و وليته في حفرته.

و السابعة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنا مني على فراشه حيث ذهب إلى الغار و سجّانى ببرده فلما جاء المشركون ظنّوني محمّدا فأيقظوني و قالوا: ما فعل صاحبك فقلت: ذهب في حاجته، فقالوا: لو كان هرب لهرب هذا معه.

و أما الثامنة فانّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم علّمني ألف باب من العلم يفتح كلّ باب ألف باب، و لم يعلّم ذلك أحدا غيري.
و أما التاسعة فانّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لي: يا عليّ إذا حشر اللّه عزّ و جل الأوّلين و الاخرين نصب لي منبرا فوق منابر النّبيّين و نصب لك منبرا فوق منابر الوصيّين‏فترتقى عليه

و أما العاشرة فانّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: لا اعطى في القيامة شيئا إلّا سألت لك مثله.

و أما الحادية عشرة فانّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: أنت أخي و أنا أخوك يدك في يدي حتّى ندخل الجنّة.
و أما الثانية عشرة فانّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: يا عليّ مثلك في امّتي كمثل سفينة نوح من ركبهافترتقى عليه و أما العاشرة فانّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: لا اعطى في القيامة شيئا إلّا سألت لك مثله.

و أما الحادية عشرة فانّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: أنت أخي و أنا أخوك يدك في يدي حتّى ندخل الجنّة.
و أما الثانية عشرة فانّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: يا عليّ مثلك في امّتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجى و من تخلّف عنها غرق.

و أما الثالثة عشرة فانّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عمّمني بعمامة نفسه بيده و دعى لي بدعوات النّصر على أعداء اللّه فهزمتهم باذن اللّه عزّ و جلّ.

و أما الرابعة عشرة فانّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمرنى أن امسح يدي على ضرع شاة قد يبس ضرعها فقلت: يا رسول اللّه بل امسح أنت، فقال: يا عليّ فعلك فعلي، فمسحت عليها يدي فدرّ علىّ من لبنها فسقيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شربة، ثمّ أتت عجوز فشكت الظماء فسقيتها فقال رسول اللّه: انّى سألت اللّه عزّ و جلّ أن يبارك فى يدك ففعل

و أما الخامسة عشرة فانّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أوصى إليّ و قال: يا عليّ لا يلي غسلي غيرك، و لا يواري عورتي غيرك، فانّه إن رأى عورتي غيرك تفقأت عيناه، فقلت له: كيف لي بتقليبك يا رسول اللّه فقال: إنّك ستعان، فو اللّه ما أردت أن اقلّب عضوا من أعضائه إلّا قلب لي.

و أما السادسة عشرة فانّى أردت أن أجرّده عليه السّلام فنوديت: يا أخ «وصىّ خ» محمّد لا تجرّده فغسلته و القميص عليه، فلا و اللّه الذي أكرمه بالنّبوة و خصّه بالرسالة ما رأيت له عورة خصّنى اللّه بذلك من بين أصحابه.

و أما السابعة عشرة فانّ اللّه عزّ و جلّ زوّجني فاطمة و قد كان خطبها أبو بكر و عمر، فزوّجنى اللّه من فوق سبع سماواته فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هنيئا لك يا علي فانّ اللّه عزّ و جلّ قد زوّجك فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة و هي بضعة منّى فقلت: يا رسول اللّه أ و لست منك قال: بلى يا عليّ أنت منّى و أنا منك كيميني من شمالي لا أستغنى عنك‏في الدّنيا و الاخرة.

و أما الثامنة عشرة فانّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: يا عليّ أنت صاحب لواء الحمد في الاخرة و أنت يوم القيامة أقرب الخلايق منّي مجلسا يبسط لي و يبسط لك فأكون في زمرة النّبيّين و تكون فى زمرة الوصيّين، و يوضع على رأسك تاج النّور و اكليل الكرامة يحف بك سبعون ألف ملك حتّى يفرغ اللّه عزّ و جلّ من حساب الخلايق

و أما التاسعة عشرة فانّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لي: ستقاتل النّاكثين و القاسطين و المارقين فمن قاتلك منهم فانّ لك بكلّ رجل منهم شفاعة في مأئة ألف من شيعتك فقلت يا رسول اللّه فمن الناكثون قال: طلحة و الزبير سيبايعانك بالحجاز و ينكثانك بالعراق فاذا فعلا ذلك فحاربهما فانّ في قتالهما طهارة لأهل الأرض، قلت: فمن القاسطون قال: معاوية و أصحابه، قلت: فمن المارقون قال: أصحاب ذو الثّدية و هم يمرقون من الدّين كما يمرق السّهم من الرمية فاقتلهم فانّ في قتلهم فرجا لأهل الأرض و عذابا مؤجّلا عليهم و ذخرا لك عند اللّه عزّ و جلّ يوم القيامة.

و أما العشرون فانّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: مثلك في امتي مثل باب حطة في بني إسرائيل فمن دخل في ولايتك فقد دخل الباب كما أمره اللّه عزّ و جلّ

و أما الحادية و العشرون فانّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: أنا مدينة العلم و عليّ بابها و لن يدخل المدينة إلّا من بابها، ثمّ قال: يا عليّ إنّك سترعى ذمّتي و تقاتل على سنّتي و تخالفك امّتي.

و أما الثانية و العشرون فانّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: إنّ اللّه تبارك و تعالى خلق ابنيّ الحسن و الحسين من نور ألقاه إليك و إلى فاطمة، و هما يهتزّان كما يهتزّ القرطان إذا كانا في الاذنين، و نورهما متضاعف على نور الشهداء سبعين ألف ضعف، يا عليّ إنّ اللّه عزّ و جلّ قد وعدني أن يكرمهما كرامة لا يكرم بها أحدا ما خلا النبيّين و المرسلين.

و أما الثالثة و العشرون فانّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أعطاني خاتمه في حياته و درعه و منطقه و قلّدني سيفه و أصحابه كلّهم حضور و عمّي العبّاس حاضر، فخصّني اللّه‏عزّ و جلّ بذلك دونهم.

و أما الرابعة و العشرون فانّ اللّه عزّ و جلّ أنزل على رسوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً فكان لي دينار فبعته بعشرة دراهم فكنت إذا ناجيت رسول اللّه اصدق قبل ذلك بدرهم، و و اللّه ما فعل هذا أحد من أصحابه قبلي و لا بعدي، فأنزل اللّه عزّ و جلّ أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الاية فهل تكون التّوبة إلّا من ذنب كان

و أما الخامسة و العشرون فانّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: الجنّة محرّمة على الأنبياء حتّى أدخلها أنا و هي محرّمة على الأوصياء حتى تدخلها أنت، يا علي إنّ اللّه تبارك و تعالى بشّرني فيك ببشرى لم يبشّر بها نبيا قبلي بشّرني بأنك سيّد الأوصياء و أنّ ابنيك الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة يوم القيامة.

و أما السادسة و العشرون فانّ جعفرا أخي الطيار في الجنّة مع الملائكة المزيّن بالجناحين من درّ و ياقوت و زبرجد.

و أما السابعة و العشرون فعمّى حمزة سيّد الشهداء.

و أما الثامنة و العشرون فانّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: إنّ اللّه تعالى وعدني فيك وعدا لن يخلفه، جعلني نبيا و جعلك وصيا، و ستلقى من امّتي من بعدي ما لقى موسى من فرعون فاصبر و احتسب حتى تلقانى، فاوالي من والاك و اعادى من عاداك

و أما التاسعة و العشرون فانّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: يا عليّ أنت صاحب الحوض لا يملكه غيرك و سيأتيك قوم فيستسقونك فتقول: لا و لا مثل ذرّة، فينصرفون مسودّة وجوههم و سترد عليك شيعتي و شيعتك فتقول روّوا رواء مرويّين فيردون مبيّضة وجوههم.

و أما الثلاثون فانّي سمعته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: يحشر امتي يوم القيامة على خمس رايات: فأوّل راية ترد عليّ راية فرعون هذه الامة و هو معاوية، و الثانية مع سامرى هذه الامة عمرو بن العاص، و الثالثة مع جاثليق هذه الامة و هو أبو موسى الأشعري و الرابعة مع أبى الأعور السلمى، و أما الخامسة فمعك يا على تحتها المؤمنون و أنت‏إمامهم، ثمّ يقول اللّه تبارك و تعالى للأربعة: ارجعوا ورائكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرّحمة، و هم شيعتى و من والاني و قاتل معي الفئة الباغية و الناكثة عن الصراط، و باب الرحمة هم شيعتى، فينادى هولاء أ لم نكن معكم قالوا: بلى و لكنكم فتنتم أنفسكم و تربّصتم و ارتبتم و غرّتكم الأمانيّ حتّى جاء أمر اللّه و غرّكم باللّه الغرور، فاليوم لا يؤخذ منكم فدية و لا من الذين كفروا مأويكم النار هى موليكم و بئس المصير ثمّ ترد امتي و شيعتي فيروون من حوض محمّد صلّى اللّه عليه و آله و بيدي عصا عوسج اطرد بها أعدائي طرد غريبة الابل.

و أما الحادية و الثلاثون فانى سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: لو لا أن يقول فيك الغالون من امتي ما قالت النصارى في عيسى بن مريم لقلت فيك قولا لا تمرّ بملاء من الناس إلّا أخذوا التراب من تحت قدميك يستشفون.

و أما الثانية و الثلاثون فانّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: إنّ اللّه تبارك و تعالى نصرنى بالرّعب فسألته أن ينصرك بمثله فجعل لك من ذلك مثل الذي جعله لى.

و أما الثالثة و الثلاثون فانّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم التقم اذني و علّمني ما كان و ما يكون إلى يوم القيامة فساق اللّه عزّ و جلّ ذلك إلى لسان نبيّه.

و أما الرابعة و الثلاثون فانّ النصارى ادّعوا أمرا فأنزل اللّه عزّ و جلّ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ فكانت نفسي نفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و النساء فاطمة و الأبناء الحسن و الحسين، ثمّ ندم القوم فسألوا الاعفاء فأعفاهم، و الذى أنزل التوراة على موسى و الفرقان على محمّد لو باهلوا لمسخوا قردة و خنازير.

و أما الخامسة و الثلاثون فانّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله وجّهنى يوم بدر فقال: ايتنى بكفّ حصياة مجموعة فى مكان واحد، فأخذتها ثمّ شممتها فاذا هي طيبة تفوح منها رايحة المسك، فأتيته بها فرمى بها وجوه المشركين و تلك الحصيات أربع منها كن من الفردوس و حصاة من المشرق و حصاة من المغرب و حصاة من تحت العرش مع كلّ حصاة مأئة ألف ملك مددا لنا، لم يكرم اللّه عزّ و جلّ بهذه الفضيلة أحدا قبل و لا بعد.

و أما السادسة و الثلاثون فانّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: ويل لقاتلك انه أشقى من ثمود و من عاقر الناقة و إنّ عرش الرّحمن ليهتزّ لقتلك فابشر يا على فانك فى زمرة الصديقين و الشهداء و الصالحين.

و أما السابعة و الثلاثون فانّ اللّه تبارك و تعالى قد خصّنى من بين أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعلم النّاسخ و المنسوخ و المحكم و المتشابه و الخاص و العام، و ذلك ممّا منّ اللّه به عليّ و على رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال لي الرّسول: يا عليّ إنّ اللّه عزّ و جلّ أمرني أن ادنيك و لا أقصيك«» و اعلمك و لا أجفوك و حقّ علىّ أن اطيع ربّي و حقّ عليك أن تعى.

و أما الثامنة و الثلاثون فانّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعثنى بعثا و دعا لى بدعوات و اطلعنى على ما يجري بعده، فحزن لذلك بعض أصحابه صلّى اللّه عليه و آله و قال: لو قدر محمّد أن يجعل ابن عمّه نبيّا لجعله، فشرّفنى اللّه بالاطلاع على ذلك على لسان نبيّه.

و أما التاسعة و الثلاثون فانّى سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: كذب من زعم أنّه يحبّنى و يبغض عليّا، لا يجتمع حبّى و حبّه إلّا في قلب مؤمن، إنّ اللّه عزّ و جلّ جعل أهل حبّى و حبّك يا علي في أوّل زمرة السابقين إلى الجنّة، و جعل أهل بغضى و بغضك في أوّل الضالّين من امّتى إلى النار.

و أما الاربعون فانّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وجّهنى في بعض الغزوات إلى ركيّ فاذا ليس فيه ماء، فرجعت إليه فأخبرته، فقال: أ فيه طين فقلت: نعم فقال: ايتني منه، فأتيت منه بطين فتكلّم فيه ثمّ قال: ألقه في الرّكيّ فألقيته فاذا الماء قد نبع حتّى امتلأ جوانب الرّكيّ، فجئت إليه فأخبرته فقال لي وفّقت يا عليّ و ببركتك نبع الماء، فهذه المنقبة خاصّة لي من دون أصحاب النّبي.

و أما الحادية و الاربعون فانّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: ابشر يا عليّ فانّ جبرئيل عليه السّلام أتانى فقال لي: يا محمّد إنّ اللّه تبارك و تعالى نظر إلى أصحابك فوجد ابن عمّك و ختنك على ابنتك فاطمة خير أصحابك، فجعله وصيّك و المؤدّي عنك.

و أما الثانية و الاربعون فانّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: ابشر يا عليّ فانّ منزلك في الجنّة مواجه منزلي، و أنت معي في الرّفيق الأعلى في أعلى عليّين، قلت: يا رسول اللّه و ما أعلى عليّون فقال: قبّة من درّة بيضاء لها سبعون ألف مصراع مسكن لي و لك يا علي.

و أما الثالثة و الاربعون فانّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّ اللّه عزّ و جلّ رسخ حبّي في قلوب المؤمنين، و كذلك رسخ حبّك يا علي في قلوب المؤمنين و رسخ بغضي و بغضك في قلوب المنافقين، فلا يحبّك إلّا مؤمن تقي، و لا يبغضك إلّا منافق كافر.

و أما الرابعة و الأربعون فانّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: لن يبغضك من العرب إلّا دعىّ، و لا من العجم إلّا شقيّ، و لا من النساء إلّا سلقلقية.

و أما الخامسة و الاربعون فانّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دعاني و أنا رمد العين فتفل في عينى و قال: اللّهمّ اجعل حرّها في بردها و بردها في حرّها، فو اللّه ما اشتكت عيني إلى هذه السّاعة.

و أما السادسة و الاربعون فانّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمر أصحابه و عمومته بسدّ الأبواب و فتح بابي بأمر اللّه عزّ و جلّ، فليس لأحد منقبة مثل منقبتي.

و أما السابعة و الاربعون فانّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمرني في وصيّته بقضاء ديونه و عداته، فقلت: يا رسول اللّه قد علمت أنّه ليس عندي مال، فقال: سيعينك اللّه فما أردت أمرا من قضاء ديونه و عداته إلّا يسّره اللّه لي حتّى قضيت ديونه و عداته و أحصيت ذلك فبلغ ثمانين ألفا و بقى بقيّة فأوصيت الحسن أن يقضيها.

و أما الثامنة و الاربعون فانّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أتاني في منزلي و لم يكن طعمنا منذ ثلاثة أيام فقال: يا عليّ هل عندك من شي‏ء فقلت: و الذى أكرمك بالكرامة و اصطفاك بالرّسالة ما طعمت و زوجتى و ابناى منذ ثلاثة أيّام فقال النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا فاطمة ادخلي البيت و انظري هل تجدين شيئا، فقالت: خرجت الساعة فقلت: يا رسول اللّه أدخله أنا فقال: ادخل باسم اللّه، فدخلت فاذا بطبق موضوع‏عليه رطب و جفنة من ثريد، فحملتها إلى رسول اللّه فقال صلّى اللّه عليه و آله: يا علي رأيت الرسول الذى حمل هذا الطعام فقلت: نعم، فقال: صفه لي، فقلت: من بين أحمر و أخضر و أصفر، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: تلك خطط جناح جبرئيل مكلّلة بالدرّ و الياقوت، فأكلنا من الثريد حتى شبعنا فما راى إلّا خدش أيدينا و أصابعنا، فخصّني اللّه عزّ و جلّ بذلك من بين أصحابه «الصحابة».

و أما التاسعة و الاربعون فانّ اللّه تبارك و تعالى خصّ نبيّه بالنّبوة، و خصّني النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالوصيّة، فمن أحبّنى فهو سعيد يحشر في زمرة الأنبياء عليهم السّلام.

و أما الخمسون فانّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعث ببراءة مع أبي بكر، فلمّا مضى أتى جبرئيل فقال: يا محمّد لا يؤدّي عنك إلّا أنت أو رجل منك، فوجّهني على ناقتة الغضباء، فلحقته بذي الحليفة فأخذتها منه، فخصّني اللّه عزّ و جلّ بذلك منه.

و أما الحادية و الخمسون فانّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أقامني للنّاس كافّة يوم غدير خم فقال: من كنت مولاه فعلىّ مولاه، فبعدا و سحقا للقوم الظالمين.

و أما الثانية و الخمسون فانّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: يا علي ألا اعلّمك كلمات علّمنيهنّ جبرئيل فقلت: بلى، قال: قل «يا رازق المقلّين و يا راحم المساكين و يا أسمع السّامعين و يا أبصر النّاظرين و يا أرحم الرّاحمين ارحمني و ارزقني».

و أما الثالثة و الخمسون فانّ اللّه تبارك و تعالى لن يذهب بالدّنيا حتّى يقوم منّا القائم يقتل و لا يقبل الجزية و يكسر الصليب و الأصنام و يضع الحرب أوزارها، و يدعو إلى أخذ المال فيقسمه بالسّوية و يعدل في الرّعية.

و أما الرابعة و الخمسون فانّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: يا علىّ سيلعنك بنو اميّة و يردّ عليهم ملك بكلّ لعنة ألف لعنة، فاذا قام القائم عليه السّلام لعنهم أربعين سنة.

و أما الخامسة و الخمسون سمعت أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: سيفتتن فيك طوايف من امّتى فتقول: إنّ رسول اللّه لم يخلف شيئا فبما ذا أوصى عليّا، أو ليس كتاب ربّي أفضل الأشياء بعد اللّه عزّ و جلّ، و الذي بعثني بالحقّ لأن لم تجمعه باتقان‏لم يجمع أبدا، فخصّني اللّه عزّ و جلّ بذلك من دون الصّحابة.

و أما السادسة و الخمسون فانّ اللّه تبارك و تعالى خصّني بما خصّ به أولياءه و أهل طاعته، و جعلني وارث محمّد صلّى اللّه عليه و آله فمن ساءه ساءه، و من سرّه سرّه، و أومى بيده نحو المدينة.

و أما السابعة و الخمسون فانّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان في بعض الغزوات ففقد الماء فقال لي: يا عليّ قم إلى هذه الصّخرة و قل: أنا رسول رسول اللّه انفجري إليّ ماء، فو اللّه الذي أكرمه بالنّبوة لقد أبلغتها الرّسالة فاطلع منها مثل ثدي البقر فسال من كلّ ثدي منها ماء، فلمّا رأيت ذلك أسرعت إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأخبرته فقال: انطلق يا عليّ فخذ من الماء، فجاء القوم حتّى ملاؤا قربهم و أدواتهم و سقوا دوابهم و شربوا و توضّؤا، فخصّني اللّه عزّ و جلّ بذلك من دون الصّحابة.

و أما الثامنة و الخمسون فانّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمرني في بعض غزواته و قد نفد الماء و قال: يا علي ايت بثور، فأتيته به فوضع يده اليمنى و يدي معها في الثور، فقال: انبع، فنبع الماء من بين أصابعنا.

و أما التاسعة و الخمسون فانّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وجّهني إلى خيبر، فلما أتيته وجدت الباب مغلقا فزعزعته شديدا فقلعته و رميت به أربعين خطوة فدخلت، فبرز إليّ مرحب فحمل إليّ و حملت عليه و سقيت الأرض دمه، و قد كان وجّه رجلين من أصحابه فرجعا منكسفين

و أما الستون فانّي قتلت عمرو بن عبدود و كان يعدّ بألف رجل.

و أما الحادية و الستون فانّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: يا عليّ مثلك في امّتي مثل قل هو اللّه أحد، فمن أحبّك بقلبه فكأنّما قرء ثلث القرآن، و من أحبّك بقلبه و أعانك بلسانه فكأنّما قرء ثلثي القرآن، و من أحبّك بقلبه و لسانه و نصرك بيده فكأنّما قرء القرآن كلّه.

و أما الثانية و الستون فانّي كنت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في جميع المواطن‏و الحروب و كانت رايته معي.

و أما الثالثة و الستون فانّي لم أفرّ من الزّحف قطّ، و لم يبارزني أحد إلّا سقيت الأرض من دمه.

و أما الرابعة و الستون فانّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اتي بطير مشويّ من الجنّة فدعى اللّه عزّ و جلّ أن يدخل عليه أحبّ الخلق إليه، فوفّقني اللّه تعالى للدّخول عليه حتى أكلت معه من ذلك الطير.

و أما الخامسة و الستون فانّي كنت اصلّي في المسجد فجاء سائل فسأل و أنا راكع فناولته خاتمي من اصبعي، فأنزل اللّه تبارك و تعالى إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ.

و أما السادسة و الستون فانّ اللّه تبارك و تعالى ردّ عليّ الشّمس مرّتين و لم يردّها على أحد من امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله غيري.

و أما السابعة و الستون فانّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أمر أن ادعى بامرة المؤمنين في حياته و بعد موته، و لم يطلق ذلك لأحد غيري

و أما الثامنة و الستون فانّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: يا عليّ إذا كان يوم القيامة نادى مناد من بطنان العرش: أين سيّد الأنبياء فأقوم، ثمّ ينادي أين سيّد الأوصياء فتقوم و يأتيني رضوان بمفاتيح الجنّة و يأتيني مالك بمقاليد النّار فيقولان: إنّ اللّه جلّ جلاله أمرنا أن ندفعها إليك و يأمرك أن تدفعها إلى عليّ بن أبي طالب، فتكون يا علي قسيم الجنّة و النّار.

و أما التاسعة و السبعون فانّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: لولاك ما عرف المنافقون من المؤمنين.

و أما السبعون فانّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نام و نومّنى و زوجتى فاطمة و ابنيّ الحسن و الحسين و ألقى علينا عباءة قطوانيّة فأنزل اللّه تبارك و تعالى إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً و قال جبرئيل: أنا منكم يا محمّد فكان سادسنا جبرئيل

الترجمة

از جمله خطب شريفه آن امام مبين است در ذكر مزيد اختصاص خود بحضرت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أولويّت خود بخلافت مى‏ فرمايد: و البته دانسته ‏اند مطلعان بأسرار رسالت كه مامور بحفظ آن بودند أز صحابه محمّد صلّى اللّه عليه و آله اين كه بدرستى من ردّ ننموده ‏ام بر خداى تعالى و بر رسول او هر ساعتى فرمايش آنها را، و بتحقيق مواسات نمودم من با آن بزرگوار بنفس خودم در مواردى كه پس برمي گشتند در آنها شجاعان، و تأخير مى‏ نمودند در آنها قدمها بجهت سطوت و شجاعتى كه گرامى داشته بود خداى تعالى مرا بان.

و بتحقيق كه قبض شد روح پر فتوح حضرت رسالت ماب صلّى اللّه عليه و آله و سلّم در حالتى كه سر مبارك او بالاى سينه من بود، و بتحقيق كه سيلان نمود نفس نفيس آن بر گزيده پروردگار در دست من، پس كشيدم من آن را بر روى خودم.

و بتحقيق مباشر شدم غسل آن سيّد أبرار را صلّى اللّه عليه و آله و سلّم در حالتى كه ملائكه معين من بودند، پس ناله نمود خانه و اطراف خانه، جماعتى هبوط مى‏ كردند و جماعتى عروج مى ‏نمودند، و مفارقت نكرد قوّه سامعه من از صوت ايشان، نماز مى‏ كردند بر آن تا اين كه دفن كرديم و پنهان نموديم آن برگزيده ناس را در قبر خود پس كيست كه أولى باشد بأوأز من در حالت زندگى او و در حالت مردگى او پس بشتابيد بر بصيرتهاى خودتان و بايد كه با صدق رفتار نمائيد در جهاد دشمن خودتان.

پس قسم بپروردگارى كه نيست معبود بحقى غير از او، بدرستى كه من بر راه راست حقّم و بدرستى كه ايشان بر محلّ لغزش باطلند، مى‏ گويم آن چيزى را كه مى‏ شنويد و طلب مغفرت مي كنم از پروردگار عزّ و جلّ از براى خود و از براى شما

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 195 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 196 صبحی صالح

196- و من خطبة له ( عليه ‏السلام  )

بعثة النبي‏

بَعَثَهُ حِينَ لَا عَلَمٌ قَائِمٌ وَ لَا مَنَارٌ سَاطِعٌ وَ لَا مَنْهَجٌ وَاضِحٌ

العظة بالزهد

أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَ أُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا دَارُ شُخُوصٍ وَ مَحَلَّةُ تَنْغِيصٍ سَاكِنُهَا ظَاعِنٌ وَ قَاطِنُهَا بَائِنٌ تَمِيدُ بِأَهْلِهَا مَيَدَانَ السَّفِينَةِ تَقْصِفُهَا الْعَوَاصِفُ فِي لُجَجِ الْبِحَارِ

فَمِنْهُمُ الْغَرِقُ الْوَبِقُ وَ مِنْهُمُ النَّاجِي عَلَى بُطُونِ الْأَمْوَاجِ تَحْفِزُهُ الرِّيَاحُ بِأَذْيَالِهَا وَ تَحْمِلُهُ عَلَى أَهْوَالِهَا فَمَا غَرِقَ مِنْهَا فَلَيْسَ بِمُسْتَدْرَكٍ وَ مَا نَجَا مِنْهَا فَإِلَى مَهْلَكٍ عِبَادَ اللَّهِ الْآنَ فَاعْلَمُوا وَ الْأَلْسُنُ مُطْلَقَةٌ وَ الْأَبْدَانُ صَحِيحَةٌ وَ الْأَعْضَاءُ لَدْنَةٌ وَ الْمُنْقَلَبُ فَسِيحٌ وَ الْمَجَالُ عَرِيضٌ قَبْلَ إِرْهَاقِ الْفَوْتِ وَ حُلُولِ الْمَوْتِ فَحَقِّقُوا عَلَيْكُمْ نُزُولَهُ وَ لَا تَنْتَظِرُوا قُدُومَهُ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج12  

و من كلام له عليه السّلام و هو المأة و الخامس و التسعون من المختار فى باب الخطب

بعثه حين لا علم قائم، و لا منار ساطع، و لا منهج واضح. أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه، و أحذّركم الدّنيا فإنّها دار شخوص، و محلّة تنغيص، ساكنها ظاعن، و قاطنها بائن، تميد بأهلها ميدان السّفينة بأهلها، تقصفها العواصف في لجج البحار، فمنهم الغرق الوبق، و منهم النّاجي على متون الأمواج، تحفزه الرّياح بأذيالها، و تحمله على أهوالها، فما غرق منها فليس بمستدرك، و ما نجى منها فإلى مهلك. عباد اللّه الان فاعملوا و الألسن مطلقة، و الأبدان صحيحة، و الأعضاء لدنة، و المنقلب فسيح، و المجال عريض، قبل إرهاق الفوت، و حلول الموت، فحقّقوا عليكم نزوله، و لا تنتظروا قدومه.

اللغة

(العلم) محرّكة ما ينصب فى الطريق ليهتدى به و يقال أيضا للجبل أو الجبل المرتفع و الجمع أعلام و (المنار) موضع النور و المسرجة كالمنارة و أصلها منورة و جمعه مناور و ذو المنار أبرهة تبّع بن الرّايش لأنّه أوّل من ضرب المنار على طريقه في مغازيه ليهتدى به إذا رجع.

و (سطع) الشي‏ء من باب منع سطوعا ارتفع و (شخص) من باب منع أيضا شخوصا خرج من موضع إلى غيره و (نغص) الرّجل من باب فرح لم يتمّ مراده، و البعير لم يتمّ شربه و أنغص اللّه عليه العيش و نغّصه كدّره فتنغّصت معيشته تكدّرت.

و (قصفه) يقصفه قصفا كسره، و في بعض النّسخ تصفقها بدل تقصفها من الصّفق و هو الضّرب يسمع له صوت، و منه صفق يده على يده صفقا و صفقة أى ضرب يده على يده، و ذلك عند وجوب البيع.

و (اللّجج) جمع لجّة و هي معظم البحر و (غرق) غرقا من باب فرح فهو غرق و (وبق) من باب وعد و وجل و ورث و بوقا و موبقا هلك فهو وبق و (حفزه) يحفزه من باب ضرب دفعه من خلفه و بالرّمح طعنه و عن الأمر أزعجه و أعجله و حفز اللّيل النّهار ساقه و (اللّدن) و اللّدنة اللّين من كلّ شي‏ء و الجمع لدان ولدن بالضمّ، و الفعل لدن من باب كرم لدانة ولدونة أى لان و (رهقه) من باب فرح غشيه و لحقه أو دنا منه سواء أخذه أو لم يأخذه، و الارهاق أن يحمل الانسان على ما لا يطيقه.

الاعراب

جملة تحفزه في محلّ النّصب على الحال من النّاجي، و قوله: فالى مهلك‏متعلّق بمقدّر خبر ما، و قوله: الان، منصوب على الظّرف مقدّم على عامله و هو قوله: فاعلموا، و جملة: و الألسن مطلقة، مع الجملات الأربع التّالية في موضع النّصب حال من فاعل فاعملوا، و قوله: قبل ارهاق الفوت، يجوز تعلّقه بعريض و بقوله فاعلموا، و الأوّل أقرب لفظا، و الثاني أنسب معنا.

المعنى

اعلم أنّ هذه الخطبة مسوقة للوصيّة بالتّقوى و التنفير من الدّنيا بذكر معايبها المنفرة عنها و للأمر بالأعمال الصّالحة و المبادرة إليها قبل لحوق الفوت و نزول الموت، و قبل أن يشرع في الغرض افتتح بذكر بعثة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله لكونها أعظم ما منّ اللّه به على عباده حيث إنّها مبدء جميع الالاء و النّعماء في الاخرة، و منشأ السعادة الدّائمة فقال عليه السّلام: (بعثه حين لا علم) من أعلام الدّين (قائم) و استعاره للأنبياء و المرسلين لأنّه يستدلّ بهم في سلوك طريق الاخرة كما يستدلّ بالأعلام في طرق الدّنيا (و لا منار) للشّرع المبين (ساطع) استعاره لأولياء الدّين و قادة اليقين لأنّه يهتدى بهم و يقتبس من علومهم و أنوارهم في ظلمات الجهالة كما يهتدى بالمنار في ورطات الضلالة.

و أشار بعدم سطوع المنار و قيام العلم إلى خلوّ الأرض من الرّسل و الحجج و انقطاع الوحى حين بعثه صلّى اللّه عليه و آله، لأنّه كان زمان فترة كما قال عليه السّلام في الخطبة الثامنة و الثمانين: أرسله على حين فترة من الرّسل و طول هجعة من الامم «إلى قوله» و الدّنيا كاسفة النّور ظاهرة الغرور، و قد مضى في شرحها ما ينفعك المراجعة إليه في هذا المقام.

(و لا منهج) لليقين (واضح) و أشار به إلى اندراس نهج الحقّ و انطماس طريق السّلوك إلى اللّه و كون النّاس في خبط و ضلالة و غفلة و جهالة.

ثمّ شرع بالوصيّة بالتقوى و التّحذير من الدّنيا فقال (اوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه) فانّها اليوم الحرز و الجنّة و غدا الطريق إلى الجنّة (و أحذّركم الدّنيا فانّها) ظلّ زائل وضوء آفل و سناد مائل (دار شخوص) و ارتحال (و محلّة تنغيص) و تكدير لتكدّر عيشه بالالام و الأسقام (ساكنها ظاعن) مرتحل (و قاطنها بائن) مفترق يعني انّ السّاكن فيها ليس بساكن في الحقيقة، و المقيم بها منتقل عنها البتّة و ذلك لما بيّنا في تضاعيف شرح الخطب السّابقة أنها في الحقيقة سفر الاخرة و هى الوطن الأصلي للانسان فهو من أوّل يوم خرج من بطن امّه و وضع قدمه في هذه النشأة دائما في حركة و ازيال و ازداف و انتقال و ينقضي عمره شيئا فشيئا يبعد من المبدأ و يقرب من المنتهى فسكونها نفس زوالها، و اقامتها نفس ارتحالها، و بقاؤها عين انتقالها و وجودها حدوثها، و تجدّدها فناؤها، فانّها عند ذوى العقول كفى‏ء الظل، بينا تراه سابغا حتّى قلص، و زايدا حتّى نقص.

ثمّ ضرب للدّنيا و أهلها مثلا عجيبا بقوله (تميد بأهلها ميدان السّفينة بأهلها) حال كونها (تقصفها) القواصف و تصفقها (العواصف) من الرّياح (في لجج البحار) الغامرات المتلاطمة التيّار المتراكمة الزّخار، و هو من تشبيه المركب بالمركب على حدّ قول الشاعر:

         و كأنّ أجرام النجوم طوالعا            درر نشرن على بساط أزرق‏

شبّه عليه السّلام الدّنيا بالسّفينة التّي في اللّجج حال كونها تضربها الرّياح الشديدة العاصفة و شبّه أهل الدّنيا بأهل السّفينة، و شبه تقلّباتها بأهلها بالهموم و الأحزان و الغموم و المحن بميدان السفينة و اضطرابها بأهلها، و شبّه الأمراض و الالام و العلل و الأسقام و نحوها من الابتلاءات الدّنيويّة الموجبة للهموم و الغموم بالرّياح العاصفة الموجبة لاضطراب السّفينة، و وجه الشّبه أنّ راكبى السّفينة في لجج البحار الغامرة عند هبوب الرّيح العاصفة و الزعزع القاصفة كما لا ينفكّون من علز القلق و غصص الجرض، فكذلك أهل الدّنيا لا ينفكّون من مقاسات الشدائد و ألم المضض.

و أيضا (ف) كما أنّ راكبى السّفينة بعد ما انكسرت بالقواصف على قسمين: قسم (منهم الغرق الوبق) الهالك في غمار البحر (و) قسم (منهم النّاجي) من الغرق على بعض أخشاب السّفينة و ألواحها (على متون الأمواج) المتلاطمة المتراكمة (تحفزه) و تدفعه (الرّياح) العاصفة و الزّعازع القاصفة (بأذيالها) من جنب إلى جنب (و تحمله على أهوالها) و تسوقه من رفع إلى خفض و من خفض إلى رفع.

فكذلك أهل الدّنيا ينقسم إلى قسمين: أحدهما الهالك عاجلا بغمرات الالام و طوارق الأوجاع و الأسقام، و الثّاني النّاجي من الهلاك بعد مكابدة تعب الأمراض و مقاساة مرارة العلل.

و أيضا (ف) كما أنّ (ما غرق منها) أى من السّفينة و أراد به الغريق من أهلها مجازا (فليس بمستدرك) أى ممكن التدارك (و ما نجى منها) أى النّاجي من أهلها (ف) عاقبته (إلى مهلك) أى إلى الهلاك و إن عاش يسيرا.

فكذلك أهل الدّنيا من مات منهم لا يتدارك و لا يعود، و من حصل له البرء و الشفاء من مرضه و نجا من الموت عاجلا فماله إليه لا محالة آجلا و إن تراخى أجله قليلا.

و الغرض من هذه التشبيهات كلّها التّنفير عن الدّنيا و التنبيه على قرب زوالها و تكدّر عيشها و مرارة حياتها ليرغب بذلك كلّه إلى العمل للدّار الاخرة، و لذلك فرّع عليه قوله: (عباد اللّه الان فاعملوا) أى بادروا العمل و استقربوا الأجل و لا يغرّنّكم طول الأمل (و الألسن مطلقة) متمكنة من التّكلم بما هو فرضها من القراءة و الذكر و الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر و نحوها قبل ثقلها و اعتقالها بالمرض الحايل بينها و بين منطقها كما في حالة الاحتضار.

(و الأبدان صحيحة) مقتدرة على الاتيان بالتكاليف الشّرعيّة قبل سقمها و عجزها منها.

(و الأعضاء) و الجوارح (لدنة) لينة ببضاضة الشّباب و غضارة الصحّة قادرة على‏القيام بالطاعات و الحسنات قبل يبسها بنوازل السقم و عجزها بحوانى الهرم.

(و المنقلب فسيح) أى محلّ الانقلاب و التصرّف وسيع، لأنّ الخناق مهمل و الروح مرسل في راحة الاجساد و باحة الاحتشاد.

(و المجال عريض) لانفساح الحوبة و إمكان تدارك الذنوب بالتوبة قبل الضنك و الضيق و الرّوع و الزهوق.

و (قبل إرهاق الفوت) و قدوم الغائب المنتظر (و حلول الموت) و أخذة العزيز المقتدر.

(فحقّقوا عليكم نزوله) و لا تستبطئوه (و لا تنتظروا قدومه) و لا تسوّفوه، و هو أمر بالاستعداد للموت و المبادرة الى أخذ الزّاد له و لما بعده يقول: إنّ الموت قد أظلكم و أشرف عليكم فكأنّه قد أدرككم و نزل إلى ساحتكم فلا يغرّنكم الأمل و لا يطولنّ بكم الأمد، فبادروا إلى الصّالحات و استبقوا الخيرات و سارعوا إلى مغفرة من ربّكم و جنّة عرضها الأرض و السموات، نسأل اللّه سبحانه أن يجعلنا و إياكم ممّن لا يغرّه الامال، و لا تلهيه الامنيّات، انّه الموفّق و المعين.

الترجمة

از جمله كلام بلاغت نظام آن حضرتست در اشارت به بعثت و وصيّت بتقوى و تحذير از دنيا مى‏ فرمايد: مبعوث فرمود حضرت پروردگار رسول مختار را در زمانى كه نبود هيچ علمى بر پا، و نه مناره بلند، و نه راهى روشن وصيّت مى‏ كنم شما را أى بندگان خدا بتقوى و پرهيزكارى خدا، و مى‏ ترسانم شما را از دنياى بيوفا، پس بدرستى كه آن دنيا خانه رحلت است و محلّه كدورت، ساكن او كوچ كننده است، و مقيم او جدا شونده، مضطرب مى‏ شود بأهل خود مثل اضطراب كشتى در حالتى كه سخت بوزد به آن كشتى تند بادها در گردابهاى درياها، پس‏ بعضى از اهل آن كشتى غرق و هلاك شونده باشد، و بعضى ديگر نجات يابنده بر بالاى موجها در حالتى كه براند او را بادها با دامنهاى خود، و بر دارد او را به جاهاى هولناك دريا، پس كسى كه غرق شده از آن كشتى درك نمى‏شود، و كسى كه نجات يافته از آن پس عاقبت كار او بهلاكت است.

اى بندگان خدا پس مواظب عمل باشيد اين زمان در حالتى كه زبانها سلامت است، و بدنها صحيح است، و عضوها تر و تازه، و مكان تصرّف وسيع است و مجال عبادت فراخ، پيش از احاطه وفات و حلول ممات، پس محقق انكاريد بخودتان حلول آن را، و منتظر نباشيد بقدم و آمدن آن.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 194 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 195 صبحی صالح

195- و من خطبة له ( عليه ‏السلام  ) يحمد اللّه و يثني على نبيه و يعظ

حمد اللّه‏

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَظْهَرَ مِنْ آثَارِ سُلْطَانِهِ وَ جَلَالِ كِبْرِيَائِهِ مَا حَيَّرَ مُقَلَ الْعُقُولِ مِنْ عَجَائِبِ قُدْرَتِهِ وَ رَدَعَ خَطَرَاتِ هَمَاهِمِ النُّفُوسِ عَنْ عِرْفَانِ كُنْهِ صِفَتِهِ

الشهادتان‏

وَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ شَهَادَةَ إِيمَانٍ وَ إِيقَانٍ وَ إِخْلَاصٍ وَ إِذْعَانٍ

وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ أَرْسَلَهُ وَ أَعْلَامُ الْهُدَى دَارِسَةٌ وَ مَنَاهِجُ الدِّينِ طَامِسَةٌ فَصَدَعَ بِالْحَقِّ وَ نَصَحَ لِلْخَلْقِ‏وَ هَدَى إِلَى الرُّشْدِ وَ أَمَرَ بِالْقَصْدِ ( صلى ‏الله‏ عليه ‏وآله ‏وسلم  )

العظة

وَ اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثاً وَ لَمْ يُرْسِلْكُمْ هَمَلًا عَلِمَ مَبْلَغَ نِعَمِهِ عَلَيْكُمْ وَ أَحْصَى إِحْسَانَهُ إِلَيْكُمْ

فَاسْتَفْتِحُوهُ وَ اسْتَنْجِحُوهُ وَ اطْلُبُوا إِلَيْهِ وَ اسْتَمْنِحُوهُ فَمَا قَطَعَكُمْ عَنْهُ حِجَابٌ وَ لَا أُغْلِقَ عَنْكُمْ دُونَهُ بَابٌ

وَ إِنَّهُ لَبِكُلِّ مَكَانٍ وَ فِي كُلِّ حِينٍ وَ أَوَانٍ وَ مَعَ كُلِّ إِنْسٍ وَ جَانٍّ

لَا يَثْلِمُهُ الْعَطَاءُ وَ لَا يَنْقُصُهُ الْحِبَاءُ وَ لَا يَسْتَنْفِدُهُ سَائِلٌ وَ لَا يَسْتَقْصِيهِ نَائِلٌ

وَ لَا يَلْوِيهِ شَخْصٌ عَنْ شَخْصٍ وَ لَا يُلْهِيهِ صَوْتٌ عَنْ صَوْتٍ وَ لَا تَحْجُزُهُ هِبَةٌ عَنْ سَلْبٍ وَ لَا يَشْغَلُهُ غَضَبٌ عَنْ رَحْمَةٍ وَ لَا تُولِهُهُ رَحْمَةٌ عَنْ عِقَابٍ وَ لَا يُجِنُّهُ الْبُطُونُ عَنِ الظُّهُورِ وَ لَا يَقْطَعُهُ الظُّهُورُ عَنِ الْبُطُونِ

قَرُبَ فَنَأَى وَ عَلَا فَدَنَا وَ ظَهَرَ فَبَطَنَ وَ بَطَنَ فَعَلَنَ وَ دَانَ وَ لَمْ يُدَنْ

لَمْ يَذْرَأِ الْخَلْقَ بِاحْتِيَالٍ وَ لَا اسْتَعَانَ بِهِمْ لِكَلَالٍ

أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّهَا الزِّمَامُ وَ الْقِوَامُ

فَتَمَسَّكُوا بِوَثَائِقِهَا وَ اعْتَصِمُوا بِحَقَائِقِهَا تَؤُلْ بِكُمْ إِلَى أَكْنَانِ الدَّعَةِ وَ أَوْطَانِ السَّعَةِ وَ مَعَاقِلِ الْحِرْزِ وَ مَنَازِلِ الْعِزِّ فِي‏ يَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُوَ تُظْلِمُ لَهُ الْأَقْطَارُ وَ تُعَطَّلُ فِيهِ صُرُومُ الْعِشَارِ

وَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَزْهَقُ كُلُّ مُهْجَةٍ وَ تَبْكَمُ كُلُّ لَهْجَةٍ وَ تَذِلُّ الشُّمُّ الشَّوَامِخُ وَ الصُّمُّ الرَّوَاسِخُ فَيَصِيرُ صَلْدُهَا سَرَاباً رَقْرَقاً وَ مَعْهَدُهَا قَاعاً سَمْلَقاً فَلَا شَفِيعٌ يَشْفَعُ وَ لَا حَمِيمٌ يَنْفَعُ وَ لَا مَعْذِرَةٌ تَدْفَعُ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج12  

و من خطبة له عليه السّلام و هى المأة و الرابعة و التسعون من المختار فى باب الخطب

الحمد للّه الّذي أظهر من آثار سلطانه و جلال كبريائه ما حيّرمقل العيون من عجائب قدرته، و ردع خطرات هماهم النّفوس عن عرفان كنه صفته، و أشهد أن لا إله إلّا اللّه شهادة إيمان و إيقان، و إخلاص و إذعان، و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله، أرسله و أعلام الهدى دارسة، و مناهج الدّين طامسة، فصدع بالحقّ، و نصح للخلق و هدى إلى الرّشد، و أمر بالقصد صلّى اللّه عليه و آله.

و اعلموا عباد اللّه أنّه لم يخلقكم عبثا، و لم يرسلكم هملا، علم مبلغ نعمه عليكم، و أحصى إحسانه إليكم، فاستفتحوه، و استنجحوه، و اطلبوا إليه، و استمنحوه، فما قطعكم عنه حجاب، و لا أغلق عنكم دونه باب، و إنّه لبكلّ مكان، و في كلّ حين و أوان «زمان خ»، و مع كلّ إنس و جانّ، لا يثلمه العطاء، و لا ينقصه الحباء، و لا يستنفده سائل، و لا يستقصيه نائل، و لا يلويه شخص عن شخص، و لا يلهيه صوت عن صوت، و لا تحجزه هبة عن سلب، و لا يشغله غضب عن رحمة، و لا تولهه رحمة عن عقاب، و لا يجنّه البطون عن الظّهور، و لا يقطعه الظّهور عن البطون، قرب فناى، و علا فدنى، و ظهر فبطن، و بطن فعلن، و دان و لم يدن، لم يذرء الخلق باحتيال و لا استعان بهم لكلال.

أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه، فإنّها الزّمام و القوام، فتمسّكوا بوثائقها، و اعتصموا بحقائقها، تؤل بكم إلى أكنان الدّعة، و أوطان السّعة، و معاقل الحرز، و منازل العزّ، في يوم تشخص فيه الأبصار، و تظلم له الأقطار، و تعطّل فيه صروم العشار، و ينفخ في الصّور فتزهق كلّ مهجة، و تبكم كلّ لهجة، و تذلّ الشّمّ الشّوامخ، و الصّمّ الرّواسخ، فيصير صلدها سرابا رقرقا، و معهدها قاعا سملقا، فلا شفيع يشفع، و لا حميم يدفع، و لا معذرة تنفع.

اللغة

(المقل) جمع مقلة كغرف و غرفة و هى شحمة العين الّتي تجمع سوادها و بيضها و (الهمهمة) الكلام الخفي أو صوت يسمع و لا يفهم محصوله و تردّد الزئير في الصّدر من الهمّ و نحوه، قاله في القاموس أقول: و الزئير مأخوذ من الزئر و هو ترديد الصّوت في الجوف ثمّ مدّه، و يطلق الزئير على صوت الأسد من صدره و على كلّ صوت فيه بحح كصوت الفيلة و نحوها.

و (طمست) الشي‏ء طمسا محوته و طمس هو يتعدّى و لا يتعدّي و طمس الطريق درست و (الجانّ) اسم جمع للجنّ و أبو الجنّ و (استمنحوه) بالنّون من المنحة و هى العطيّة و في بعض النّسخ بالياء يقال استمحت الرّجل طلبت عطاءه و محت الرّجل أعطيته و (الثّلمة) في الحائط و غيره الخلل و الجمع ثلم كغرفة و غرف و (نفد) الشي‏ء ينفد من باب تعب نفادا فنى و انقطع و أنفدته أفنيته و (النّائل)العطاء كالنوال و النّال و (سلبت) ثوب زيد من باب قتل أخذته و السّلب بالتحريك الاختلاس و اسم لما يسلب و منه الحديث من قتل قتيلا فله سلبه.

و قوله (و لا يجنه البطون عن الظهور و لا يقطعه الظهور عن البطون) هكذا في نسخة الشّارح المعتزلي بتذكير الفعلين، و عليها فالبطون و الظهور مصدر بطن و ظهر، و في بعض النّسخ بتأنيثهما و على ذلك فلا بدّ من جعلهما جمعا للبطن و الظهر كما هو مقتضى القواعد الأدبيّة.

و (الدّين) الجزاء و منه الحديث كما تدين تدان أى كما تجازى تجازى بما فعلت و يقال أيضا على القهر و الغلبة قال ابن الأثير: و منه الحديث كان عليّ عليه السّلام ديّان هذه الامّة أى قاهرهم على الطّاعة و في القاموس الدّين الحساب و القهر و الغلبة و الاستعلاء و السّلطان و الملك و الحكم.

و (الكلال) العجز و الاعياء و (الاكنان) جمع كن و هو السّتر يستر من الحرّ و البرد قال تعالى مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً و (المعاقل) جمع معقل و هو الملجأ.

و (الصّروم) إمّا جمع صرمة بالكسر القطعة من الابل ما بين العشرة إلى الأربعين و القطعة من السّحاب و تجمع على صرم مثل سدرة و سدر و إمّا جمع صرم و هى الطّائفة المجتمعة من القوم ينزلون بابلهم ناحية من الماء و يجمع على أصرام مثل حمل و أحمال، أو جمع صرماء و هى النّاقة القليلة اللّبن، و تجمع على صرم وزان قفل و الأخير أظهر.

و (العشار) من الابل النّوق أتى عليها من يوم ارسل الفحل فيها عشرة شهر فزال عنها اسم المخاض و لا يزال ذلك اسمها حتّى تضع، و الواحدة عشراء، و قال الفيروز آبادى و العشراء من النّوق الّتى مضى لحملها عشرة أشهر أو ثمانية أو هى كالنّفساء من النساء و الجمع عشراوات و عشار، أو العشار اسم يقع على النّوق حتّى تنتج بعضها و بعضها ينتظر نتاجها.

(و الشمّ) جمع اشم يقول جبل اشم أى فيه شمم و ارتفاع و رجل اشم أى بأنفه ارتفاع قال في القاموس و (رقرقان) السّراب بالضم ما ترقرق منه أى تحرّك‏ و الرّقراقة التي كان الماء يجرى فى وجهها و (القاع) الأرض السهلة المطمئنة قد انفرجت عنها الجبال و الاكام و (السملق) الصفصف و هى المستوى من الأرض.

الاعراب

قوله و اطلبوا إليه، تعدية الطلب لتضمينة معنى التضرّع، و قوله: تؤل، بالجزم لوقوعه في جواب الأمر كما في نسخة الشارح المعتزلي، و في أكثر النسخ بالرفع و الظاهر أنه على الاستيناف البياني، و قوله: في يوم تشخص، متعلّق بقوله تؤل، و الفاء في قوله: فتزهق، و قوله: فيصير، و قوله: فلا شفيع، كلّها فصيحة.

المعنى

اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة مسوقة للنصح و الموعظة و الأمر بالتقوى مع التنبيه على جملة من صفات الكمال و العظمة و الجلال للّه عزّ و جلّ، و افتتحها بحمده و الثناء عليه و الشهادة بالتوحيد و الرّسالة فقال: (الحمد للّه الذي أظهر) في الملك و الملكوت و الانفس و الافاق و الأرض و السماوات (من آثار سلطانه و جلال كبريائه ما حيّر مقل العيون) و ابصار البصاير (من عجايب قدرته) و بدايع صنعته و قد تقدّم الاشارة إلى بعضها في شرح الخطب المسوقة لهذا الغرض و مرّ فصل واف منها في الخطبة التسعين و شرحها فانظر ما ذا ترى.

و نسبة عجائب القدرة إلى سلطانه و جلال كبريائه لأنّ الاثار العظيمة و المبدعات المحكمة المتقنة إنما يناسب صدورها بالسّلطنة الالهيّة و الجلال الالهى.

(و ردع خطرات هماهم النفوس عن عرفان كنه صفته) أى دفع و منع الافكار و الرّويات التي تخطر بالنفوس و توجب همهمتها عن معرفة كنه صفات جماله و جلاله و يحتمل أن يراد بالهماهم نفس تلك الأفكار على سبيل الاستعارة لتردّدها في الجوف مثل تردّد الهماهم.

و كيف كان فالغرض منه التنبيه على عجز العقول و المشاعر الظاهرة و الباطنة عن إدراك حقيقته و ذاته حسبما عرفته فى شرح الفصل الثاني من الخطبة التسعين و في تضاعيف الشّرح مرارا، و أردف الثّناء عليه تعالى بالشّهادة بتوحيده فقال: (و أشهد أن لا إله إلّا اللّه) و قد مضى الكلام في تحقيق معناها و الأخبار الواردة في فضلها بما لا مزيد عليه في شرح الفصل الثاني من الخطبة الثانية، و وصفها هنا بأوصاف أربعة:

أحدها كونها (شهادة ايمان) أى يطابق القول فيها للعقد القلبي.

(و) ثانيها كونها شهادة (ايقان) أى صادرة عن علم اليقين لا عن وجه التقليد و لا تكون كذلك إلّا باعتقاد أن لا إله إلّا هو مع اعتقاد أنّه لا يمكن أن يكون ذلك المعتقد إلّا كذلك.

(و) ثالثها أن تكون عن (اخلاص) أى جعلها خالصا عن شوب غيره من الرّيا و نحوه و قال الشّارح البحراني: هى أن يحذف عن ذلك المعتقد كلّ أمر عن درجة الاعتبار و لا يلاحظ معه غيره، انتهى و قد مرّ له معنى آخر في الأخبار المتقدّمة في شرح الخطبة الثانية من أنّ إخلاصها أن حجزه لا إله إلّا اللّه عمّا حرّم اللّه.

(و) رابعها أن تكون متلبّسة ب (اذعان) و انقياد لما هو من توابعها و مقتضياتها من التّكاليف و الأحكام.

و أردفها بالشهادة بالرّسالة لما عرفت في الأخبار المتقدّمة في شرح الخطبة الثّانية من فضل المقارنة بينهما فقال: (و أشهد أنّ محمّدا عبده) المرتضى (و رسوله) المصطفى (أرسله) إلى الخلق بالهدى و دين الحقّ على حين فترة من الرّسل و طول هجعة من الامم و انتقاض من المبرم (و) الحال أنّ (أعلام الهدى دارسة) استعارها للأنبياء و المرسلين و أولياء الدّين الّذين يهتدى بأنوارهم في سلوك سبيل اللّه كما يهتدى بالأعلام في الطّرق، و دروسها بما كانت من الفترة بعد عيسى إلى بعثه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (و مناهج الدّين طامسة) أى طرق المعارف الحقّة الالهيّة مندرسة منمحية بطول المدّة و بعد العهد و غلبة الغفلة.

(فصدع بالحقّ) امتثالا لما كان مامورا به بقوله عزّ و جلّ فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ و أصل الصّدع عبارة عن كسر الزّجاجة و شقّها و تفريقها، فاستعير عنه للبيان الواضح و التبليغ الكامل، و الجامع التأثّر.

و قد قيل في تفسير الاية: أنّ معناها أبن الأمر إبانة لا تنمحى كما لا يلتئم كسر الزّجاجة، و قيل: أفرق بين الحقّ و الباطل، و قيل: شقّ جماعاتهم بالتّوحيد أو بالقرآن.

(و نصح للخلق) بصرفهم عن الرّدى إلى الهدى و ردّهم عن الجحيم إلى النعيم (و هدى إلى الرّشد) أى إلى الصّواب و السّداد في القول و العمل (و أمر بالقصد) أى بالعدل في الامور المصون عن الافراط و التّفريط، و يحتمل أن يكون المراد به قصد السبيل الموصل إلى الحقّ أى الصّراط المستقيم (صلّى اللّه عليه و آله) و سلّم ثمّ نبّه المخاطبين على عدم كونه تعالى في خلقهم و ايجادهم لاغيا عابثا فقال (و اعلموا عباد اللّه أنّه لم يخلقكم عبثا) تعالى عن ذلك علوّا كبيرا، و انما خلقكم للمعرفة و العبوديّة كما قال «وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ».

(و لم يرسلكم هملا) أى لم يترككم سدى مهملين كالبهائم و الأنعام، و إنّما كلّفكم بالتكاليف و الأحكام (علم مبلغ نعمه) و مقدارها كمّا و كيفا (عليكم و أحصى إحسانه) و فضله (إليكم) ليبلوكم أ تشكرونه أم تكفرون و من شكر فانّما يشكر لنفسه و من كفر فانّه غنىّ كريم (فاستفتحوه) أى اطلبوا منه فتح أبواب النّعم (و استنجحوه) أى اطلبوا منه نجاح عوائد المزيد و القسم (و اطلبوا) منه متضرّعين (إليه) أن يصرف عنكم ما لا يصرفه أحد غيره من عذاب النّار و سخط الجبّار.

(و استمنحوه) أى اطلبوا منه أن يعطيكم ما لا يعطيه أحد غيره من فوز الجنان و رضى الرّحمن، و طلب ذلك كلّه منه سبحانه إنما هو بالقيام بمراسم الحمد و الشكر و بالمواظبة على وظايف الطّاعات و القربات الّتي بها يستعدّ لافاضة الرّحمة و نزول الخيرات، هذا.

و لمّا أمرهم بالطّلب و السّؤال أردفه بما يشوّقهم إلى ذلك و يرغّبهم إليه بالتّنبيه على انتهاء جميع السّؤالات و الطلبات إليه و عدم رادع و مانع من وصولها إليه و هو قوله: (فما قطعكم عنه حجاب و لا اغلق عنكم دونه باب) يعني أنّ بابه مفتوح لمن دعاه و ليس بينه و بين خلقه حجاب مانع و لا باب مغلق يمنع من الوصول إليه و من عرض الحوائج و المقاصد عليه كساير الملوك و السّلاطين يأخذون لأنفسهم حجّابا و بوّابا، لأنّ ذلك من أوصاف الأجسام و صفات النّقص و الامكان و اللّه تعالى موصوف بالعظمة و الجلال منزّه عن الحيّز و المكان فلا يتصوّر أن يكون له باب أو عنده حجاب كما أفصح عن ذلك بقوله: (و انّه لبكلّ مكان) بالعلم و الاحاطة لا بالتحيّز و الحواية، فلا يخفى عليه شي‏ء من حوائج السّائلين و إنّما منظره فى القرب و البعد سواء، لم يبعد منه قريب و لم يقرب منه بعيد، و لا يحويه مكان و لا يحيط به مكان حتّى إذا كان في ذلك المكان يحجب عنه أخبار ساير الأمكنة و المكانيّات.

يوضح ذلك ما رواه في الكافي باسناده عن عيسى بن يونس قال: قال ابن أبي العوجاء لأبي عبد اللّه عليه السّلام في بعض ما كان يحاوره: ذكرت اللّه فأحلت على غايب فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: ويلك كيف يكون غائبا من هو مع خلقه شاهد و اليهم أقرب من حبل الوريد، يسمع كلامهم و يرى أشخاصهم و يعلم أسرارهم، فقال ابن أبى العوجاء أ هو في كلّ مكان أ ليس إذا كان في السماء كيف يكون في الأرض و إذا كان في الأرض كيف يكون في السماء فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إنما وصفت المخلوق الذي إذا انتقل عن مكان اشتغل به مكان و خلا منه مكان فلا يدرى في المكان الذي صار إليه ما حدث في المكان الذى كان فيه، فأما اللّه العظيم الشأن الملك الدّيان فلا يخلو منه مكان و لا يشتغل به مكان و لا يكون إلى مكان أقرب منه إلى مكان.

و قد مرّ هذا الحديث في شرح الفصل السادس من الخطبة الاولى و مرّ تحقيق الكلام في تنزّهه سبحانه من المكان في شرح الفصل الخامس منها فليراجع ثمّةفانّ هناك مطالب نفيسة.

و لما نبّه على عدم خلوّ الأمكنة منه عزّ و جلّ أردفه بالتنبّه على عدم خلوّ الأزمنة منه فقال: (و في كلّ حين و زمان) بالعلم و الاحاطة أيضا لا بمعنى ظرفيّته له، لأنّ الكون فيه بمعنى الظرفية مستلزم للحدوث المنافي للوجوب، فالواجب الأوّل تعالى منزّه عن ذلك، و قد تقدّم مزيد تحقيق لذلك في شرح الخطبة المأة و الخامسة و الثمانين (و مع كلّ إنس و جانّ) لا معيّة بالاقتران بل بمعنى كونه عالما بهم شاهدا عليهم غير غايب عنهم كما قال عزّ من قائل «أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى‏ ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَ لا أَدْنى‏ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ» و قد مرّ مزيد تحقيق لهذا المعنى في شرح الفصل الخامس و السادس من الخطبة الاولى، هذا.

و لما شوّق المخاطبين إلى الطلب و السؤال بالتنبيه على عموم علمه بحالات السائلين و حاجات الطالبين و عدم خفاء شي‏ء منها عليه أكد تشويقهم بالتنبيه على سعة جوده فقال: (لا يثلمه العطاء و لا ينقصه الحباء) أى لا يوجب كثرة عطائه و مزيد حبائه خللا و نقصا في خزانة كرمه و بحر جوده، و ذلك لعدم تناهى مقدوراته.

و يوضح ذلك ما فى الحديث المرويّ فى الكافي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: فلو أنّ أهل سماواتي و أهل أرضي أمّلوا جميعا ثمّ أعطيت كلّ واحد منهم مثل ما أمّل الجميع ما انتقص من ملكي مثل عضو ذرّة، و كيف ينتقص ملك أنا قيّمه، فيا بؤسا للقانطين من رحمتي، و يا بؤسا لمن عصانى و لم يراقبني.

و بذلك الحديث أيضا اتّضح معنى قوله (لا يستنفده سائل و لا يستقصيه نائل) أى لا ينفى جوده سائل و إن بلغ الغاية فى طلبه و سؤاله، و كذا لا يبلغ القصوى و الغاية عطاؤه و نواله بل لو وهب ما تنفّست عنه معادن الجبال و ضحكت عنه أصداق البحار من فلزّ اللّجين و العقيان و نثارة الدّر و حصيد المرجان ما أثّر ذلك فى جوده و لاأنفد سعة ما عنده، و لكان عنده من ذخاير الأنعام ما لا تنفده مطالب الأنام، لأنّه الجواد الّذى لا يغيضه سؤال السّائلين، و لا يبخّله إلحاح الملحّين حسبما مرّ في الخطبة التّسعين.

(و لا يلويه) أى لا يصرفه (شخص عن شخص و لا يلهيه) أى لا يشغله (صوت عن صوت) لأنّ الصّرف و اللّهو يستلزمان الغفلة عن أمر و الفطنة لغيره بعد الغفلة عنه و هما من عوارض المزاج الحيواني و توابع الامكان.

(و لا تحجزه هبة عن سلب) أى لا يمنعه البذل و الانعام عن سلب المال و أخذه قال الشّارح المعتزلي: أى ليس كالقادرين منّا فانّ الواحد منّا يصرفه اهتمامه بعطيّة عن سلب مال عمرو حال ما يكون مهتمّا بتلك العطيّة لأنّ اشتغال القلب بأحد الأمرين يشغله عن الاخر، انتهى.

أقول: و محصّله أنّه تعالى لا يشغله شأن عن شأن، و يحتمل أن يراد به أنّه تعالى لا يمنعه هبته لأحد و إنعامه عليه عن سلب نعمة اخرى عنه كالواحد منّا إذا وهب يمنعه هبته عن سلبه، لاستلزام الهبة فينا التلطف و العطف، و استلزام السلب فينا الغيظ و الغضب، و هما أمران متضادّ ان لا يمكن اجتماعهما في شخص واحد في حالة واحدة، فلا يكون الواهب حال ما هو واهب سالبا و بالعكس، و أمّا الواجب تعالى فلمّا لم يكن منشأ هبته و سلبه العطف و الغضب لكونهما من عوارض المزاج الحيوانى و تنزّهه عنها جاز اتّصافه بهما معا.

و هذان الاحتمالان يأتيان في قوله (و لا يشغله غضب عن رحمة) و المراد بهما غايتهما، أى العقاب و الاحسان لا معناهما المعروف المستلزم للحدوث و النّقصان.

و أمّا قوله (و لا تولهه رحمة عن عقاب) فقد قال الشارح المعتزلي أى لا يحدث الرّحمة لمستحقها عنده ولها و هو التحيّر و التردّد و يصرفه عن عقاب المستحقّ، و ذلك لأنّ الواحد منّا إذا رحم انسانا حدث عنده رقّة خصوصا إذا توالت منه الرّحمة لقوم متعدّدين فانه يصير الرّحمة كالملكة عنده فلا يطيق فى تلك الحال أن ينتقم‏و البارى سبحانه بخلاف ذلك، لأنّه ليس بذى مزاج سبحانه، هذا.

و قوله (و لا يجنّه البطون عن الظّهور) قد تقدّم منّا في شرح الخطبة التّاسعة و الأربعين و الخطبة الرّابعة و السّتين ما هو كاف في شرح معنى هذه الفقرة و ما يتلوها من الفقرات الاتية إلى قوله: و بطن فعلن.

و أقول هنا مزيدا للتّوضيح: إنّ الغرض بهذه الجملات جميعا التّنبيه على كمال الحقّ المتعال عزّ و جلّ و على تنزّهه من صفات المخلوقين، فانّ البطون في الخلق مانع من الظهور، و الظهور من البطون، و القرب من البعد، و البعد من القرب، و العلوّ من الدّنوّ، و الدّنوّ من العلوّ لكون كلّ من هذه الصّفات بمعناه المعروف مضادا للاخر، فلا يمكن اتّصاف شخص واحد بهما معا في حالة واحدة و لا اجتماعهما في محلّ واحد على ما هو مقتضى التّضادّ.

أمّا اللّه الحىّ القيّوم جلّ جلاله فيتّصف بهما جميعا بمعنى آخر وراء ذلك المعنى المعروف، فهو تعالى ظاهر باطن قريب بعيد عال دان.

و على ذلك فلا يجنّه البطون عن الظهور، أى لا يستره خفاؤه بذاته عن ظهوره باياته، أو لا يستره اختفاؤه عن الأبصار عن ظهوره للعقول و البصاير، أو لا يحجبه خفاؤه عن الأبصار و الأوهام بذاته عن قهره و غلبته للأشياء بسلطانه و قدرته.

و محصّله أنّه ليس بطونه بلطافة أو اجتنان، و لا ظهوره برؤية و عيان حتّى يكون اتّصافه بأحدهما حاجبا و مانعا عن الاخر كما في المخلوق.

و على ما في بعض النّسخ من رواية لا تجنّه بصيغة التّأنيث، فالمراد أنّه لا تستره بواطن الأشياء عن ظواهرها أى لا تحجب علمه بطونها عن ظهورها، لأنّ علمه ببواطن الأشياء ليس على وجه الاستبطان و الغور فيها، و لا علمه بظواهر الأشياء من أجل كونه فوقها حتّى تحجبه البطون عن الظّهور و الظّهور عن البطون كما فينا.

و يحتمل أن يكون المراد أنّه تعالى حين ما هو عالم بالباطن عالم بالظاهر لكمال علمه و عموم إحاطته، و ليس كالمخلوق حين علمه بأحدهما يغفل عن الاخر لنقصان علمه و قصوره.

(و) بذلك كلّه ظهر أيضا معنى قوله: (لا يقطعه الظّهور عن البطون) و أمّا قوله (قرب فنأى) فالمراد به أنّه قرب من الخلق بالعلم و الاحاطة و بالرّحمة و الافاضة، و بعد عنهم بالذّات و الحقيقة و ليس قربه قربا مكانيّا حتّى ينافي لبعده، و لا بعده بعدا مكانيّا بتراخى مسافة حتّى ينافي لقربه.

(و علا فدنا) أى علا بحوله و قدرته و غلبته و سلطانه و دنا بطوله و فضله و مننه و احسانه كما مرّ التصريح به منه عليه السّلام في الخطبة الثّانية و الثمانين، و يجوز أن يراد علوّه على الأشياء بجلاله و عزّته و دنوّه منها بعلمه و احاطته، و أن يراد بالعلوّ العلوّ بالعليّة و بالدّنوّ قربه من الأشياء قرب العلّة من معلولها، و هذا هو الأولى بالارادة هنا و أنسب بعطفه الدّنوّ على العلوّ بالفاء المفيدة لتفريعه عليه فافهم جيّدا و قد مضى تحقيق ذلك في شرح الخطبة التّاسعة و الأربعين.

(و ظهر فبطن) أى ظهر على الأشياء بسلطانه و عظمته، و بطن في الأشياء بعلمه و معرفته (و بطن فعلن) أى خفى بذاته و كنهه و ظهر باثاره و آياته، و هاتان الفقرتان تأكيدتان للفقرتين المتقدّمتين، فانّه لمّا نبّه فيهما على عدم حجب بطونه عن ظهوره و ظهوره عن بطونه نبّه هنا على ما يستلزمه عدم الحجب و هو اتّصافه بهما معا روى في الكافي في باب الفرق بين المعاني الّتي تحت أسماء اللّه تعالى و أسماء المخلوقين عن عليّ بن محمّد مرسلا عن أبي الحسن الرّضا عليه السّلام قال: قال: و أمّا الظاهر فليس من أجل أنّه علا الأشياء بركوب فوقها و قعود عليها و تسنّم لذراها، و لكن ذلك لقهره و غلبته الأشياء و قدرته عليها، كقول الرّجل ظهرت على أعدائى و أظهرنى اللّه على خصمى، يخبر عن الفلج و الغلبة فهكذا ظهور اللّه على الأشياء، و وجه آخر أنّه الظّاهر لمن أراده و لا يخفى عليه شي‏ء و أنّه مدبّر لكلّ ما برء فأىّ ظاهر أظهر و أوضح من اللّه تبارك و تعالى، لأنّك لا تعدم صنعته حيثما توجّهت و فيك من آثاره ما يغنيك، و الظّاهر منّا البارز بنفسه و المعلوم بحدّه فقد جمعنا الاسم و لم يجمعنا المعنى.

و أمّا الباطن فليس على معنى الاستبطان في الأشياء بأن يغور فيها، و لكن ذلك منه على استبطانه للأشياء علما و حفظا و تدبيرا كقول القائل أبطنته يعني خبرته و علمت مكتوم سرّه، و الباطن منّا الغايب في الشي‏ء المستتر و قد جمعنا الاسم و اختلف المعنى.

(و) أمّا قوله (دان و لم يدن) فأراد به أنّه جزى العباد بأعمالهم إن خيرا فخيرا و إن شرّا فشرّا، و لم يجز، أو أنّه حاسب و لم يحاسب، أو أنّه استعلا عليهم و لم يستعل عليه، أو أنّه تسلّط على كلّ ما سواه و لم يسلّط عليه، أو أنّه ملك جميع الخلايق و لم يملك، أو أنّه قهر الكلّ و غلبهم بافتقار الكلّ إليه و استغنائه عنهم و لم يقهر عليه.

قال الرّضا عليه السّلام في الحديث الّذى قدّمناه آنفا: و أما القاهر فانّه ليس على معنى علاج و نصب «و تصلّب خ» و احتيال و مداراة و مكر كما يقهر العباد بعضهم بعضا و المقهور منهم يعود قاهرا و القاهر يكون مقهورا، و لكن ذلك من اللّه عزّ و جلّ على أنّ جميع ما خلق ملبس به الذّل لفاعله و قلّة الامتناع لما أراد به لم يخرج منه طرفة عين أن يقول له كن فيكون، و القاهر منّا على ما ذكرت و وصفت فقد جمعنا الاسم و اختلف المعنى.

(لم يذرء الخلق باحتيال) أى لم يخلقهم باستخراج وجوه الحيل و إجالة الرّأى و الفكر في استخراجها كما هو شأن البشر في صنعهم، و ذلك لأنّ الفكرة و الحركة القلبية مختصّة بذوى الضمائر، و جلال البارى تعالى شأنه منزّه عنه و إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.

(و لا استعان بهم لكلال) أى لعجز و اعياء، لأنّ منشأ الاعياء تناهي القوّة الجسمية المخصوصة بذوى الأجسام، و طلب العون و الحاجة إلى المعين من ضعف القدرة، و إذ لا ضعف و لا عجز لكمال ذاته سبحانه قوّة و قدرة فلا يتصوّر في حقه الاستعانة.

و لما فرغ من تمجيد الحقّ المتعال بما هو أهله و تنزيهه عن صفات النقص‏و الافتقار أردفه بالايصاء بما لا يزال يوصى به فقال: (اوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه فانها الزّمام) للانسان المانع له عن تقحّم المهالك الجاذب إلى أقوم المسالك و الصارف له عن الرّدى إلى الهدى و عن الجحيم إلى النعيم كما أنّ الزّمام للخيل مانع لها عن اقتحام الهلكات و تورّط الورطات (و) هي أيضا (القوام) أى قوام الدّين و نظام وظايف الشرع المبين.

(فتمسكوا بوثائقها) أى بعريها الوثيقة و حبالها المحكمة من الطاعات و القربات التي هي جزؤها.

(و اعتصموا بحقايقها) أى باصولها الثابتة الموافقة للواقع و المطابقة لغرض الشارع.

و أشار إلى ثمرة التمسك و الاعتصام بها بقوله (تؤل بكم) أى ترجعكم و تقودكم (إلى أكنان الدّعة) و مواطن الرّاحة متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا و لا زمهريرا، و دانية عليهم ظلالها و ذللت قطوفها تذليلا.

(و أوطان السعة) أى جنة عرضها السموات و الأرض مع عيش سعيد و أكل رغيد، فالدّاخل فيها في عيشة راضية في جنة عالية قطوفها دانية كلوا و اشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية.

(و معاقل الحرز) المانعة من عذاب النار و من غضب الجبار و ظلّ ذى ثلاث شعب لا ظليل و لا يغنى من اللّهب.

(و منازل العزّ) أى حظاير القدس و مجالس الانس مع النبيّين و الصدّيقين و الشهداء و الصالحين من السادة الأبرار و القادة الأخيار في جنات تجرى من تحتها الأنهار، و إذا رأيت ثمّ رأيت نعيما و ملكا كبيرا عاليهم ثياب سندس خضر و استبرق و حلّوا أساور من فضّة و سقيهم ربّهم شرابا طهورا، إنّ هذا كان لكم جزاء و كان سعيكم مشكورا و لما أوصى بالتقوى و أمر بالتمسك و الاعتصام بها و رغّب فيها بالتنبيه على مالها من المنفعة العظيمة و هى إرجاعها إلى جنّة النعيم أكّد ذلك الترغيب بانجائها من الهول العظيم و أشار إلى ذلك بقوله.

(في يوم) أى اعتصموا بالتقوى تؤل بكم إلى مساكن الأمن و العزّ و السعة و الراحة في يوم القيامة و ما أعظم شدايدها و أهوالها، و قد زلزلت الأرض فيها زلزالها و أخرجت الارض أثقالها و قال الانسان ما لها.

(تشخص فيه الأبصار و تظلم له الأقطار) أما شخوص الأبصار في ذلك اليوم فهو نصّ الكتاب الكريم قال تعالى فى سورة إبراهيم وَ لا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ. مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَ أَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ.

قال الطبرسيّ: معناه إنما يؤخّر عقابهم إلى يوم القيامة و هو اليوم الذي تكون الابصار فيه شاخصة عن مواضعها لا تغمض لهول ما ترى في ذلك اليوم و لا تطرف، و قيل تشخص أبصارهم إلى إجابة الدّاعي حين يدعوهم، و قيل: تبقى أبصارهم مفتوحة لا تنطبق للتحير و الرّعب.

مهطعين أى مسرعين، و قيل: يريد دائمى النظر إلى ما يرون لا يطرفون.

مقنعى رؤسهم، أى رافعى رؤوسهم إلى السماء حتى لا يرى الرّجل مكان قدمه من شدّة رفع الرّأس، و ذلك من هول يوم القيامة.

لا يرتدّ إليهم طرفهم، أى لا يرجع إليهم أعينهم و لا يطبقونها و لا يغمضونها، و إنما هو نظر دائم.

و أما ظلمة الاقطار فقد اشير إليها و إلى ما تقدّم أيضا في قوله تعالى فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَ خَسَفَ الْقَمَرُ وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ.

في الصّافي عن القمّي قال: يبرق البصر فلا يقدر أن يطرف و قرء بفتح الرّاء و هو لغة، أو من البريق من شدّة شخوصه، و خسف القمر ذهب ضوءه و نوره، و جمع الشّمس و القمر قال الطبرسيّ: أى جمع بينهما في ذهاب ضوئهما بالخسوف ليتكامل ظلام الأرض على أهلها حتّى يراهما كلّ أحد بغير نور و ضياء.

و في الصّافي من الاحتجاج عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّه سئل عن قوله «يَوْمَ تُبَدَّلُ‏ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ» و قيل له: فأين النّاس يومئذ فقال: في الظلمة دون المحشر.

(و تعطل فيه صروم العشار) قد مرّ تفسيرهما في بيان اللّغة، و قد صرّح بتعطيلها و اشير إلى ظلمة الأقطار كليهما في قوله تعالى إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ. وَ إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ. وَ إِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ. وَ إِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ قال أمين الاسلام الطبرسيّ: أخبر اللّه سبحانه عن القيامة و شدائدها فقال: إذا الشّمس كوّرت، أى ذهب ضوءها و نورها فاظلمت و اضمحلّت، و إذا النّجوم انكدرت، أى تساقطت و تناثرت، و إذا الجبال سيّرت، عن وجه الأرض فصارت هباء منبثّا، و إذا العشار عطلت، أى النّوق الحوامل الّتي أتت عليها عشرة أشهر، و هو أنفس مال عند العرب تركت هملا بلا راع، هذا.

و لمّا ذكر جملة من أوصاف يوم القيامة و أهاويلها تحذيرا منها أردفها بذكر نفخ الصّور الذى هو من أشراط الساعة و علاماتها الدّالة على قربها تهويلا به أيضا فقال: (و ينفخ في الصّور) و قد مضى شرح وصفه و تفصيل كيفيّة النفخ فيه في شرح الفصل الثّالث من الخطبة الثّانية و الثمانين بما لا مزيد عليه.

و أراد به النّفعة الاولى كما يدلّ عليه قوله: (فتزهق كلّ مهجة و تبكم كلّ لهجة) أى تضمحلّ و تهلك كلّ قلب و تخرس كلّ لسان، و هو كناية عن هلاك العموم، و قد اشير إليه في قوله تعالى وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ.

و يدلّ عليه أيضا قوله (و تذلّ الشّم الشّوامخ) أى الجبال الرّاسيات الشّامخات العاليات (و الصّم الرّواسخ) أى الثابتات المحكمات الرّاسيات و أراد بذلّتها دكّ بعضها بعضا من هيبة جلاله عزّ و جلّ و مخوف سلطنته.

و قد اشير إلى ذلك في قوله تعالى فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ.. وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً. فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ. قال السيّد المحدّث الجزائرى: إنّ النفخة الاولى الّتي هى للهلاك تأتى‏النّاس بغتة و هم في أسواقهم و طلب معايشهم، فاذا سمعوا صوت الصّور تقطعت قلوبهم و أكبادهم من شدّته فيموتوا دفعة واحدة، فيبقى الجبّار جلّ جلاله فيأمر عاصفة فتقطع الجبال من أماكنها و تلقيها في البحار، و تفور مياه البحار و كلّما في الأرض و تسطح الأرض كلّها للحساب، فلا يبقى جبل و لا شجر و لا بحر و لا وهدة و لا تلعة، فتكون أرضا بيضاء حتّى أنّه روي لو وضعت بيضة في المشرق رأيت في المغرب.

و إلى ذلك أشار بقوله (فيصير صلدها سرابا رقرقا) أى يصير صلبها مثل السّراب المترقرق المتحرّك.

(و معهدها قاعا سملقا) أى ما كان منها معهدا للنّاس و منزلا لهم أرضا خالية صفصفا مستوية ليس للجبل فيها أثر.

و قد اشير إلى هذين في قوله تعالى وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى‏ فِيها عِوَجاً وَ لا أَمْتاً و في قوله وَ بُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا و قوله يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ وَ كانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا و قد مضى تفسير هذه الايات و جملة ممّا ينفع في هذا المقام في شرح الفصل الثالث من الخطبة المأة و الثامنة، هذا.

و لمّا ذكر جملة من أهوال يوم القيامة و أفزاعها و شدائدها رتّب على ذلك قوله (فلا شفيع يشفع و لا حميم يدفع و لا معذرة تنفع) تنبيها بذلك على أنه لا ملجأ من أهاويلها و لا منجا ترغيبا به على ملازمة التقوى الّتي هى الغرض الأصلى من سوق هذا الفصل و النتيجة لتمهيد تلك المقدّمات لأنّها المعاذ و الملاذ و الملجاء و المنجا من هذه الأهاويل القائدة للاخذ بها و الملازم عليها إلى أكنان الدّعة و أوطان السّعة و غرفات الجنان و منازل الرّضوان كما قال تعالى وَ أَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى‏ رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ و قد اشير إلى عدم الشفيع و الحميم في قوله تعالى في سورة الشعرا يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ. وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ. وَ بُرِّزَتِ. الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ إلى قوله حكاية عن الغاوين فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ. وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ‏

قال أمين الاسلام الطبرسيّ: أى لا ينفع المال و البنون أحدا إذ لا يتهيّأ لذى مال أن يفتدى من شدائد ذلك اليوم به، و لا يتحمّل من صاحب البنين بنوه شيئا من معاصيه إلّا من أتى اللّه بقلب سليم من الشّرك و الشكّ.

و روى عن الصادق عليه السّلام أنه قال: هو القلب الذى سلم من حبّ الدّنيا، و يؤيّده قول النبي صلّى اللّه عليه و آله: حبّ الدّنيا رأس كلّ خطيئة.

و ازلفت الجنّة للمتقين أى قربت لهم ليدخلوها، و برّزت الجحيم للغاوين.

أى أظهرت و كشف الغطاء عنها للضالين عن طريق الحقّ و الصواب.

ثمّ أظهر الغاوون الحسرة فقالوا: فما لنا من شافعين يشفعون لنا و يسألون فى أمرنا، و لا صديق حميم أى ذى قرابة يهمّه أمرنا أى ما لنا شفيع من الأباعد و لا صديق من الأقارب، و ذلك حين يشفع الملائكة و النّبيون و المؤمنون.

و اشير إلى عدم نفع المعذرة فى سورة الرّوم بقوله «فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ» أى لا ينفع الظالمين اعتذارهم لعدم تمكنهم من الاعتذار، و لو اعتذروا لم يقبل عذرهم و لا يطلب منهم الاعتاب و الرّجوع إلى الحقّ، و فى سورة المؤمن «يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ» أى ان اعتذروا من كفرهم لم يقبل منهم و إن تابوا لم ينفعهم التّوبة.

قال الطبرسىّ: و انما نفى أن ينفعهم المعذرة فى الاخرة مع كونها نافعة فى دار الدّنيا، لأنّ الاخرة دار الالجاء إلى العمل و الملجأ غير محمود على العمل الذى الجأ اليه، و لهم اللعنة و البعد من الرّحمة، و لهم سوء الدّار جهنّم و بئس القرار، نعوذ باللّه من غضب الجبار.

بشارة

اعلم أنّ ظاهر قوله: فلا شفيع يشفع و لا حميم يدفع، عموم انتفاء الانتفاع بالشفيع و الحميم يوم القيامة على ما هو مقتضى القاعدة الاصولية المقرّرة من إفادة النّكرة في سياق النفى للعموم، لكن الأدلة القاطعة من الكتاب و السّنة قد قامت‏ على التخصيص أمّا القرابة فقد ورد في الأخبار الكثيرة المستفيضة أنّ كلّ سبب و نسب منقطع يوم القيامة إلّا سبب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و نسبه.

و أمّا الشفاعة فلا خلاف بين علماء الاسلام بل صار من ضرورىّ دين سيّد الأنام أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يشفع يوم القيامة لامّته بل لساير الامم أيضا.

و إنّما الخلاف في أنّ الشّفاعة هل هى لطلب مزيد الأجر و جلب زيادة المنفعة فمختصّة بالمؤمنين المطيعين المستحقّين للثّواب فقط، أو لدفع مضرّة العقوبة أيضا فتعمّ المجرمين المستحقّين للعقاب.

فأكثر العامّة على عدم اختصاصها بأحد الفريقين، و ذهب الخوارج و الوعيديّة من المعتزلة إلى اختصاصها بالفرقة الاولى.

و الذى ذهبت إليه أصحابنا الاماميّة رضوان اللّه عليهم من دون خلاف بينهم هو عدم الاختصاص، و قالوا: إنّه تنال الشفاعة للمذنبين من الشيعة و لو كان من أهل الكباير و الذى دلت عليه أخبارهم أيضا عدم اختصاص الشفيع برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بل الأئمّة الهداة من ذرّيته و كذا ابنته الصّديقة الكبرى سلام اللّه عليها و عليهم تترى أيضا شفعاء دار البقاء بل المستفاد من بعض الأخبار أنّ علماء الشّيعة و الصالحين منهم أيضا يشفعون.

إذا عرفت ذلك فلا بأس بايراد بعض الايات و الأخبار الواردة في هذا الباب فأقول: قال أمين الاسلام في مجمع البيان في تفسير قوله تعالى عَسى‏ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً معناه يقيمك ربك مقاما محمودا يحمدك فيه الأَوّلون و الاخرون، و هو مقام الشّفاعة تشرف فيه على جميع الخلايق تسأل فتعطى و تشفع فتشفع.

و قد أجمع المفسّرون على أنّ المقام المحمود هو مقام الشّفاعة، و هو المقام الذى يشفع فيه للنّاس، و هو المقام الذى يعطى فيه لواء الحمد فيوضع في كفّه و يجتمع تحته الأنبياء و الملائكة فيكون أوّل شافع و أوّل مشفّع.

و قال عليّ بن إبراهيم في تفسير هذه الاية: حدّثنى أبي عن الحسن بن محبوب عن سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته‏عن شفاعة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم القيامة قال يلجم الناس يوم القيامة بالعرق فيقولون انطلقوا بنا إلى آدم عليه السّلام يشفع لنا، فيأتون آدم عليه السّلام، فيقولون اشفع لنا عند ربك فيقول: إنّ لى ذنبا و خطيئة فعليكم بنوح عليه السّلام، فيأتون نوحا فيردهم إلى من يليه، و يردّهم كلّ نبيّ إلى من يليه حتّى ينتهوا إلى عيسى عليه السّلام فيقول: عليكم بمحمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فيعرضون أنفسهم عليه و يسألونه فيقول: انطلقوا فينطلق بهم إلى باب الجنّة و يستقبل باب الرّحمن و يخرّ ساجدا فيمكث ما شاء اللّه فيقول اللّه: ارفع رأسك و اشفع تشفّع و سل تعط، و ذلك قول اللّه عزّ و جل عَسى‏ أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً.

و روى عليّ بن إبراهيم أيضا عن أبيه عن محمّد بن أبي عمير عن معاوية و هشام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لو قد قمت المقام المحمود لشفعت في أبي و امّى و عمّي و أخ كان لى في الجاهليّة.

و فى الصافى عن العياشي عن أحدهما عليهما السّلام في هذه الاية قال: هى الشّفاعة.

و فيه عن روضة الواعظين عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: هو المقام الذى أشفع لامّتي.

قال و قال صلّى اللّه عليه و آله إذا قمت المقام المحمود تشفّعت في أصحاب الكباير من امّتي فيشفعنى اللّه فيهم، و اللّه لا تشفعت فيمن أذى ذرّيتى و قال الطبرسيّ في قوله تعالى وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ إنّه لا تنفع الشّفاعة عند اللّه إلّا لمن رضيه اللّه و ارتضاه و أذن له في الشفاعة مثل الملائكة و الأنبياء و الأولياء، و يجوز أن يكون المعنى إلّا لمن أذن اللّه في أن يشفع له فيكون مثل قوله وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى‏ و إنّما قال سبحانه ذلك، لأنّ الكفار كانوا يقولون نعبدهم ليقرّبونا إلى اللّه زلفى و هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه، فحكم اللّه ببطلان اعتقاداتهم.

و فى تفسير علىّ بن إبراهيم في هذه الاية قال: لا يشفع أحد من أنبياء اللّه و رسله يوم القيامة حتّى يأذن اللّه له إلّا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فانّ اللّه قد أذن له الشّفاعة من قبل يوم القيامة و الشفاعة له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و للأئمة من ولده، ثمّ بعد ذلك للأنبياء صلوات‏اللّه عليهم و على محمّد و آله قال: حدّثنى أبي عن ابن أبى عمير عن معاوية بن عمّار عن أبي العبّاس المكبّر قال: دخل مولى لامرأة عليّ بن الحسين عليهما السّلام على أبي جعفر عليه السّلام يقال له أبو أيمن فقال: يا أبا جعفر تغترّون الناس و تقولون شفاعة محمّد شفاعة محمّد، فغضب أبو جعفر عليه السّلام حتّى تربد وجهه ثمّ قال: ويحك يا أبا أيمن أغرّك أن عفّ بطنك و فرجك أما لو قد رأيت أفزاع القيامة لقد احتجت إلى شفاعة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و يلك فهل يشفع إلّا لمن وجبت له النّار، ثمّ قال: ما أحد من الأوّلين و الاخرين إلّا و هو محتاج إلى شفاعة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم القيامة ثمّ قال أبو جعفر عليه السّلام: إنّ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الشفاعة في امّته و لنا شفاعة في شيعتنا، و لشيعتنا شفاعة في أهاليهم، ثمّ قال عليه السّلام: و إنّ المؤمن ليشفع في مثل ربيعة و مضر، و إنّ المؤمن ليشفع حتّى لخادمه و يقول: يا ربّ حقّ خدمتى كان يقينى الحرّ و البرد.

و قال الطبرسيّ فى قوله عزّ و جلّ لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً أى لا يقدرون على الشفاعة فلا يشفعون و لا يشفع لهم حين يشفع أهل الايمان بعضهم لبعض، لأنّ تلك الشفاعة على وجهين: أحدهما أن يشفع للغير، و الاخر أن يستدعى الشفاعة من غيره لنفسه، فبيّن سبحانه أنّ هؤلاء الكفار لا تنفذ شفاعتهم لغيرهم و لا شفاعة لهم لغيرهم، ثمّ استثنى سبحانه فقال: إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً، أى لا يملك الشفاعة إلّا هؤلاء، و قيل: لا يشفع إلّا لهؤلاء و العهد هو الايمان و الاقرار بوحدانيّة اللّه تعالى و تصديق أنبيائه، و قيل: هو شهادة أن لا إله إلّا اللّه و أن يتبرّء إلى اللّه من الحول و القوّة و لا يرجو إلّا اللّه.

و فى الصافى من الكافي عن الصادق عليه السّلام إلّا من دان اللّه بولاية أمير المؤمنين و الأئمّة عليهم السّلام من بعده فهو العهد عند اللّه.

و فيه من الجوامع عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال لأصحابه ذات يوم:

أ يعجز أحدكم أن يتّخذ كلّ صباح و مساء عند اللّه عهدا قالوا: و كيف ذاك قال: يقول: اللّهمّ فاطر السّموات و الأرض عالم الغيب و الشّهادة إني أعهد إليك بأنّى أشهد أن لا إله إلّا أنت وحدك لا شريك لك و أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عبدك و رسولك و أنّك إن تكلني إلى نفسى تقربنى من الشرّ و تباعدنى من الخير، و أنّى لا أثق إلّا برحمتك، فاجعل لى عندك عهدا توفينه يوم القيامة إنّك لا تخلف الميعاد، فاذا قال ذلك طبع عليه بطابع وضع تحت العرش، فاذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الذين لهم عند اللّه عهد فيدخلون الجنّة.

و قال الطبرسيّ في قوله تعالى فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ في الخبر المأثور عن جابر بن عبد اللّه قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: إنّ الرّجل يقول في الجنّة ما فعل صديقى و صديقه في الجحيم، فيقول اللّه تعالى: أخرجوا له صديقه إلى الجنّة، فيقول من بقى في النّار: فما لنا من شافعين و لا صديق حميم.

و قال و روى العياشيّ عن حمران بن أعين عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: و اللّه لنشفعنّ لشيعتنا، و اللّه لنشفعنّ لشيعتنا، و اللّه لنشفعنّ لشيعتنا حتّى يقول النّاس: فما لنا من شافعين و لا صديق حميم فلو أنّ لنا كرّة فنكون من المؤمنين، و في رواية اخرى حتّى يقول عدوّنا.

و عن أبان بن تغلب قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّ المؤمن ليشفع يوم القيامة لأهل بيته فيشفع فيهم حتّى يبقى خادمه فيقول و يرفع سبّا بتيه: يا ربّ خويدمى كان يقيني الحرّ و البرد، فيشفع فيه.

و فى الصافى من المحاسن عن الصادق عليه السّلام الشّافعون الأئمّة و الصّديق من المؤمنين، و اللّه لنشفعنّ من المذنبين في شيعتنا حتّى يقول أعداؤنا إذا رأوا ذلك: فما لنا من شافعين و لا صديق حميم.

و فيه من الكافي عن الباقر عليه السّلام و انّ الشّفاعة لمقبولة و لا تقبل في ناصب، و إنّ المؤمن ليشفع في جاره و ما له حسنة فيقول: يا ربّ جارى كان يكفّ عنّى الأذى فيشفع فيه فيقول اللّه تبارك و تعالى: أنا ربّك و أنا أحقّ من كافي عنك فيدخله‏ اللّه الجنّة و ماله حسنة، و إنّ أدنى المؤمنين شفاعة ليشفع لثلاثين إنسانا فعند ذلك يقول أهل النار: فما لنا من شافعين و لا صديق حميم و لنقتصر بذلك في هذا المقام و نسأل اللّه سبحانه بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله الكرام عليهم السّلام أن يثبتنا على القول الثّابت في الحياة الدّنيا، و أن يخرجنا منها إلى الدّار الأخرى بموالاة أئمّة الهدى، و أن لا يحرمنا من شفاعتهم الكبرى يوم لا ينفع مال و لا بنون و لا يدفع صديق حميم إلّا من أتى اللّه بقلب سليم، إنّه الغفور الرحيم ذو الفضل العظيم.

الترجمة

از جمله خطب شريفه آن بزرگوار است در حمد و ثناى إلهى و وصيّت به تقوى و پرهيزكارى مى ‏فرمايد: سپاس خدا راست آن چنان خدائى كه آشكار كرد از آثار پادشاهى خود و بزرگى بزرگوارى خود آن چيزى را كه متحيّر گردانيد ديدهاى عقلها را از مقدورات عجيبه خود، و دفع نمود خطورات فكرهاى نفسها را از شناسائى حقيقت صفت خود و شهادت مى‏ دهم باين كه معبود بحقى نيست مگر خدا شهادتى از روى اعتقاد جازم ثابت خالص از شوب ريا ملازم طاعات و عبادات، و شهادت مى ‏دهم كه محمّد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بنده خالص اوست و پيغمبر اوست فرستاد او را در حالتى كه نشانهاى هدايت مندرس بود، و راههاى دين محو شده بود، پس آشكار كرد حق را و نصيحت كرد خلق را و هدايت نمود براه راست، و امر نمود بعدل و قسط، صلوات خدا بر او و بر أولاد او باد.

و بدانيد اى بندگان خدا كه بتحقيق خدا خلق نفرموده شما را عبث و بى ‏فايده و رها نكرده شما را سر خود، دانسته است مقدار نعمتهاى خود را بر شما، و شمرده است انعام خود را بر شما، پس طلب فتح و نصرت كنيد از او و طلب فوز بمقصود نمائيد از او، و متوجّه شويد بسوى او در مطالب، و طلب بخشش او كنيد، پس‏نبريده است شما را از او پرده، و بسته نشده است از شما نزد او هيچ درى، و بدرستى كه او در هر مكان و در هر وقت و زمان حاضر، و با هر انسان و جانّ مصاحب.

صدمه نمى ‏رساند كرم او را بخشش و عطا، و نقصان نمى ‏رساند خزانه احسان او را كرم او، و تمام نمى ‏نمايد بحر عطاى او را هيچ سؤال كننده، و بپايان نمى‏ رساند نعمتهاى او را هيچ عطيه، پيچيده نمى‏ نمايد او را شخصى از شخصى، و مشغول نمى‏ گرداند او را آوازى از آوازى، و مانع نمى‏ شود او را بخششى از ربودنى، و رو گردان نمى ‏سازد او را غضبى از رحمتى، و حيران نمى‏ گرداند او را رأفتى از عذابى، و پنهان نمى‏ دارد پنهانى ذات او از آشكارى آثار او، و منقطع نمى‏ سازد ظهور آثار او از خفاء ذات او، نزديك شد بمخلوقات با علم و قيوميّت پس دور شد از ايشان بحسب ذات، و بلند شد بهمه چيز با استيلا و سلطنت پس نزديك شد بايشان با علم و احاطه و ظاهر شد پس از كثرت ظهور خفا بهم رساند، و مخفى گشت پس در خفايش آشكار گرديد، و لنعم ما قيل:

         از همه كان بى نياز و بر همه مشفق            و ز همه عالم نهان و بر همه پيدا

و جزا داد بهمه عباد و جزا داده نشد، و خلق نفرمود خلق را با جولان فكر و تدبير، و طلب اعانت نجست از ايشان بجهت عجز و ضعفى.

وصيّت مي كنم شما را اى بندگان خدا بتقوى و پرهيزكارى خدا پس بدرستى كه آن تقوى افساريست مانع از دخول هلاكتها، و قوام دين شما با اوست، پس بچسبيد بريسمانهاى محكم او، و چنك بزنيد بحقيقتهاى آن يعنى اعتقادات حقه يقينيه كه راجع مى‏ سازد شما را بمكان‏هاى راحت و وطنهاى با وسعت و حصارهاى محكم و منزلهاى عزت در روزى كه شاخص مى‏ شود در آن ديدها، و تاريك مى‏ شود بسبب شدت آن روز اطراف عالم، و معطل و بى صاحب مى‏ ماند در آن روز شتران كم شير كه از مدت حمل او ده ماه گذشته باشد و نزديك بزائيدن شود.

و دميده شود در صور اسرافيل پس مضمحل و هلاك مى ‏شود هر قلب، و لال مى‏ شود هر زبان، و ذليل مى ‏شود كوههاى بلند بالا و سنگهاى سخت محكم پس مى‏ گردد سنگهاى صلب آنها مثل سراب متحرّك، و قرارگاههاى آنها زمين خالى هموار بى بلند و پست، پس نباشد شفيعى كه شفاعت نمايد، و نه خويشى كه دفع عذاب كند و نه عذرى كه منفعت بخشد.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 193 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)صفات منافقین

خطبه 194 صبحی صالح

194- و من خطبة له ( عليه ‏السلام  ) يصف فيها المنافقين‏

نَحْمَدُهُ عَلَى مَا وَفَّقَ لَهُ مِنَ الطَّاعَةِ وَ ذَادَ عَنْهُ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَ نَسْأَلُهُ لِمِنَّتِهِ تَمَاماً وَ بِحَبْلِهِ اعْتِصَاماً

وَ نَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ خَاضَ إِلَى رِضْوَانِ اللَّهِ كُلَّ غَمْرَةٍ وَ تَجَرَّعَ فِيهِ كُلَّ غُصَّةٍ

وَ قَدْ تَلَوَّنَ لَهُ الْأَدْنَوْنَ وَ تَأَلَّبَ عَلَيْهِ الْأَقْصَوْنَ وَ خَلَعَتْ إِلَيْهِ الْعَرَبُ أَعِنَّتَهَا وَ ضَرَبَتْ إِلَى مُحَارَبَتِهِ بُطُونَ رَوَاحِلِهَا حَتَّى أَنْزَلَتْ بِسَاحَتِهِ عَدَاوَتَهَا مِنْ أَبْعَدِ الدَّارِ وَ أَسْحَقِ الْمَزَارِ

أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَ أُحَذِّرُكُمْ أَهْلَ النِّفَاقِ فَإِنَّهُمُ الضَّالُّونَ الْمُضِلُّونَ وَ الزَّالُّونَ الْمُزِلُّونَ

يَتَلَوَّنُونَ أَلْوَاناً وَ يَفْتَنُّونَ افْتِنَاناً وَ يَعْمِدُونَكُمْ بِكُلِّ عِمَادٍ وَ يَرْصُدُونَكُمْ بِكُلِّ مِرْصَادٍ قُلُوبُهُمْ دَوِيَّةٌ وَ صِفَاحُهُمْ نَقِيَّةٌ

يَمْشُونَ الْخَفَاءَ وَ يَدِبُّونَ الضَّرَاءَ وَصْفُهُمْ دَوَاءٌ وَ قَوْلُهُمْ شِفَاءٌ وَ فِعْلُهُمُ الدَّاءُ الْعَيَاءُ حَسَدَةُ الرَّخَاءِ وَ مُؤَكِّدُو الْبَلَاءِ وَ مُقْنِطُو الرَّجَاءِ

لَهُمْ بِكُلِّ طَرِيقٍ صَرِيعٌ وَ إِلَى كُلِّ قَلْبٍ شَفِيعٌ وَ لِكُلِّ شَجْوٍ دُمُوعٌ يَتَقَارَضُونَ الثَّنَاءَ وَ يَتَرَاقَبُونَ الْجَزَاءَ إِنْ سَأَلُوا أَلْحَفُوا وَ إِنْ عَذَلُوا كَشَفُواوَ إِنْ حَكَمُوا أَسْرَفُوا

قَدْ أَعَدُّوا لِكُلِّ حَقٍّ بَاطِلًا وَ لِكُلِّ قَائِمٍ مَائِلًا وَ لِكُلِّ حَيٍّ قَاتِلًا وَ لِكُلِّ بَابٍ مِفْتَاحاً وَ لِكُلِّ لَيْلٍ مِصْبَاحاً

يَتَوَصَّلُونَ إِلَى الطَّمَعِ بِالْيَأْسِ لِيُقِيمُوا بِهِ أَسْوَاقَهُمْ وَ يُنْفِقُوا بِهِ أَعْلَاقَهُمْ يَقُولُونَ فَيُشَبِّهُونَ وَ يَصِفُونَ فَيُمَوِّهُونَ قَدْ هَوَّنُوا الطَّرِيقَ وَ أَضْلَعُوا الْمَضِيقَ

فَهُمْ لُمَةُ الشَّيْطَانِ وَ حُمَةُ النِّيرَانِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج12  

و من خطبة له عليه السّلام يصف فيها المنافقين و هى المأة و الثالثة و التسعون من المختار فى باب الخطب

نحمده على ما وفّق له من الطّاعة، و ذاد عنه من المعصية، و نسأله لمنّته تماما، و بحبله اعتصاما، و نشهد أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عبده و رسوله، خاض إلى رضوان اللّه كلّ غمرة، و تجرّع فيه كلّ غصّة، و قد تلوّن له الأدنون، و تألّب عليه الأقصون، و خلعت إليه العرب أعنّتها، و ضربت إلى محاربته بطون رواحلها، حتّى أنزلت بساحته عداوتها من أبعد الدّار، و أسحق المزار.

أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه، و أحذّركم أهل النّفاق، فإنّهم الضّالّون المضلّون، و الزّالّون المزلّون، يتلوّنون ألوانا، و يفتنّون افتنانا، و يعمدونكم بكلّ عماد، و يرصدونكم بكلّ مرصاد، قلوبهم دويّة، و صفاحهم نقيّة، يمشون الخفاء، و يدبّون الضّراء، وصفهم دواء، و قولهم شفاء، و فعلهم الدّآء العياء، حسدة الرّخاء، و مؤكّدواالبلاء، و مقنّطوا الرّجاء، لهم بكلّ طريق صريع، و إلى كلّ قلب شفيع، و لكلّ شجو دموع، يتقارضون الثّناء، و يتراقبون الجزاء، إن سئلوا ألحفوا، و إن عذلوا كشفوا، و إن حكموا أسرفوا، قد أعدّوا لكلّ حقّ باطلا، و لكلّ قائم مائلا، و لكلّ حيّ قاتلا، و لكلّ باب مفتاحا، و لكلّ ليل مصباحا، يتوصّلون إلى الطمع باليأس ليقيموا به أسواقهم، و ينفّقوا به أعلاقهم، يقولون فيشبّهون و يصفون فيموّهون، قد هيّؤا الطّريق، و أضلعوا المضيق، فهم لمّة الشّيطان، و حمّة النّيران، أولئك حزب الشّيطان ألا إنّ حزب الشّيطان هم الخاسرون.

اللغة

قال في محكيّ النهاية: قد تكرّر في الحديث ذكر النّفاق و ما تصرّف منه اسما و فعلا، و هو اسم لم يعرفه العرب بالمعنى المخصوص، و هو الّذي يستر كفره و يظهر ايمانه و ان كان أصله في اللغة معروفا يقال نافق ينافق منافقه و نفاقا، و هو مأخوذ من النافقاء احد جحرتي اليربوع إذا طلب من واحد هرب إلى الاخر و خرج منه، و قيل من النفق و هو السّرب الّذى يستتر فيه لستره كفره انتهى.

و قال الطريحي: المنافق هو الّذي يستر الكفر و يظهر غيره من النّفق و هو السّرب في الأرض أى يستتر بالاسلام كما يستتر في السّرب.

و (الذّود) الطّرد و الدّفع و (خاض) في الأمر دخل فيه و أصل الخوض دخول‏القدم فيما كان مايعا من الماء و الطّين، ثمّ كثر استعماله في كلّ دخول فيه اذى و (الغمرة) الشدّة و غمرات الموت شدائده، و في القاموس غمرة الشي‏ء شدّته و مزدحمه و (الغصّة) الشجي في الحلق و الجمع غصص و (سحق) المكان فهو سحيق مثل بعد فهو بعيد لفظا و معنا قال تعالى فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ أى بعدا و (المزار) المكان الّذى يزار منه أو فيه، و المراد هنا الأوّل و (زلّ) فلان عن الأمر أخطاه و أزلّه غيره أوقعه في الخطاء.

و رجل (مفنن) ذو فنون في القول و غيره (و يعمدونكم بكلّ عماد) قال الشّارح المعتزلي: أى يفدحونكم و يهدّونكم يقول عمده المرض يعمده أى هدّه بكلّ عماد أى بأمر فادح و خطب مؤلم، انتهى.

أقول: و يجوز جعل يعمدونكم بمعنى يقصدونكم و (رصدته) رصدا من باب قتل إذا قعدت له على طريقه تترقبه، و قعد فلان بالمرصد وزان جعفر و بالمرصاد بالكسر أى بطريق الارتقاب و الانتظار و (خفى) الشي‏ء يخفى خفاء بالفتح إذا استتر و (دبّ) النّمل دبيبا مشى مشيا رويدا و (الضراء) بالفتح و تخفيف الراء و المدّ الشّجر الملتف فى الوادى و (الدّاء العياء) الّذى أعيا الأطبّاء و لم ينجع فيه الدّواء و (نفق) البيع نقاقا كسحاب راج و نفّق السّلعة تنفيقا روّجها كأنفقها و (الاعلاق) جمع علق كأحبار و حبر و هو النفيس من كلّ شي‏ء و (التمويه) التزيين و موّه الشي‏ء طلاه بفضّة أو ذهب و تحته نحاس ليزيّنه به.

قوله (قد هيؤا الطريق) في بعض النسخ هيّؤا بالهمزة من التهيّاء، و في بعض بالنّون من الهيّن و هو السّهل فكانّه منقول من الواو إلى الياء، و الأصل هوّنوا الطريق أى سهّلوها و (أضلع) الشي‏ء أماله و جعله معوجا و ضلع الشي‏ء ضلعا من باب تعب أعوج و (اللّمة) بضمّ اللام و فتح الميم مخففة الجماعة و بالتشديد الصاحب و الاصحاب في السّفر و المونس يستعمل في الواحد و الجمع و (حمّة النيران) بالتشديد معظم حرّها و بالتّخفيف سمّ العقرب

الاعراب

من في قوله: من الطاعة و من المعصية بيان لما، و الضّمير في له و عنه عايد إلى ما، و قوله: خاض إلى رضوان اللّه إلى متعلّق بمقدّر حال من فاعل خاض أى متوجّها إلى رضوانه، و الخفاء و الضّراء منصوبان على الظّرفيّة المجازيّة.

المعنى

اعلم أنّ الخطبة السّابقة لما كانت في وصف المتّقين عقّبها الرّضيّ «قد» بهذه الخطبة الّتي يصف عليه السّلام فيها المنافقين ملاحظة لحسن النّظم و بديع ترتيب الكتاب، و المنافق حسبما عرفت آنفا هو الّذى يبطن الكفر و يظهر الايمان كما قال الشاعر:

للمؤمنين أمور محزية
و للمنافق سرّ دونه نفق‏

و اطلاق المنافق بهذا المعنى هو المعروف في الكتاب و السّنة، و المستفاد من بعض الأخبار أنّه قد يطلق على الناقص الايمان.

مثل ما رواه في الكافي في باب أصول الكفر و أركانه عن عدّة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن بعض أصحابه عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ثلاث من كنّ فيه كان منافقا و إن صام و صلّى و زعم أنّه مسلم: من إذا ائتمن خان، و إذا حدّث كذب، و إذا وعد أخلف إنّ اللّه عزّ و جلّ قال في كتابه وَ إِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ و قال وَ الْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ و في قوله عزّ و جلّ وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَ كانَ رَسُولًا نَبِيًّا.

و فيه في باب النفاق و المنافق باسناده عن أبي حمزة عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام قال: إنّ المنافق ينهى و لا ينتهى و يأمر بما لا يأتي، و إذا قام إلى الصّلاة اعترض، قلت: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ما الاعتراض قال عليه السّلام: الالتفات و إذا ركع ربض، يمسى و همّه العشاء و هو مفطر، و يصبح و همّه النوم و لم يسهر، إن حدّثك كذبك و إن ائتمنته خانك، و إن غبت اغتابك، و إن وعدك أخلفك.

إذا عرفت ذلك فأقول: إنّه عليه السّلام قبل أن يأخذ فى وصف المنافقين افتتح كلامه بما جرى عادته على الافتتاح به فى باب الخطابة من ثناء اللّه تعالى و تعظيمه و تمجيد رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال (بحمده على ما وفق له من الطاعة و ذاد عنه من المعصية) أى نحمده على ما وفّقنا له من طاعاته الموصلة الى جنانه و المحصلة لرضوانه، و على ما أبعدنا منه من سيئاته المؤدية الى نيرانه، و الموجبة لخذلانه.

و حصول هذا التوفيق منه عزّ و جلّ في حقه عليه السّلام بما أفاض عليه من القوّة العاصمة و ملكة العصمة الدّاعية إلى المعروف و الرّادعة عن المنكر.

و اما فى حقّ غيره الذين شرّكهم«» معه في ثنائه فبالأوامر و النواهى الواردة فى الكتاب و السّنة و اجتماع شرايط الطاعة و انقطاع أسباب المعصية.

(و نسأله لمنّته تماما) أى نسأل منه عزّ و جلّ أن يتمّ علينا نعمته، فانّه المنّان الذى يبدء بالنوال قبل السؤال.

و المراد بنعمته التي سأل تمامها إما خصوص نعمة التوفيق المذكورة فى الجملة السابقة أو الأعمّ منها، و الأوّل أولى بسبق العهد، و الثاني أنسب بمقام السؤال فان قلت: نعم اللّه سبحانه غير متناهية كما قال عزّ من قائل «وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا» فكيف سأل تماميّتها و هى أجلّ عن أن تستقصى و أعظم من أن تستتمّ.

قلت: إن اريد بمنّته خصوص نعمة التوفيق فلا إشكال، و يراد حينئذ بتماميّتها كمالها و استمرارها إلى آخر العمر، و إن اريد الأعمّ فيراد بتماميّتها أن ينضمّ ما أنعم به عليه فى الدّنيا إلى نعمة الاخرة أى يصل نعمة الدّنيا بنعمة الاخرة كما قاله بعض المفسرين فى قوله تعالى وَ كَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَ يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ عَلى‏ آلِ يَعْقُوبَ من أنّ المراد بقوله يتمّ نعمته أن يصل نعمة الدّنيا بنعمة الاخرة بأن يجعلهم أنبياء و ملوكا ثمّ ينقلهم إلى نعيم الاخرة و الدّرجات العلى من الجنّة (و) نسأله (بحبله اعتصاما) أى تمسّكا بكتابه المبين، فانّه حبل اللّه المتين‏ كما وصفه عليه السّلام بذلك فى الخطبة المأة و الخامسة و السبعين و كذلك وصفه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أيضا به فى حديث الثقلين الذى قدّمنا روايته فى شرح الخطبة السادسة و الثمانين.

و استعير عنه أيضا فى الكتاب العزيز فى قوله «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا» على أحد تفاسيره، و وجه الاستعارة أنّ الاعتصام و التمسك بالحبل الوثيق المحكم كما أنه سبب النجاة من المهاوى و المهالك، فكذلك بالتمسك بالقرآن يحصل النجاة من الكفر و الضلال الموجب للهلاك الدّائم و الخزى العظيم.

و روى الطريحى فى مجمع البحرين عن علىّ بن الحسين عليهما السّلام قال: الامام منّا لا يكون إلّا معصوما و ليست العصمة في ظاهر الخلقة فتعرف، قيل: فما معنى المعصوم قال عليه السّلام: المعتصم بحبل اللّه، و حبل اللّه هو القرآن لا يفترقان إلى يوم القيامة.

و بما ذكرناه ظهر أنّ جعل المراد بالحبل في المتن هو القرآن أولى و أظهر من تفسيره بالدّين القويم كما في شرح البحراني، هذا.

و لمّا حمد اللّه عزّ و جلّ بما هو أهله عقّبه بالشهادة بالرّسالة فقال (و نشهد أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عبده و رسوله) قد مرّ بيان معنى العبد و أنّ مرتبة الرّسالة فوق مرتبة العبوديّة في شرح الخطبة الاحدى و السبعين فليتذكر.

و لمّا شهد برسالته اتبعه بشرح حاله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين أداء الرّسالة فقال (خاض إلى رضوان اللّه كلّ غمرة) استعار لفظ الغمرة عن غمرة الماء و هي معظمه و مزدحمه للشدائد و المكاره الّتى ابتلى بها حين بعثته، و الجامع للاستعارة أنّ غمرة الماء كما تغمر و تغطى الخائض فيها من كلّ جانب فكذلك تلك المكاره و الشدائد حسبما تعرف كانت محيطة به صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من كلّ طرف، و رشّح الاستعارة بذكر لفظ الخوض.

و محصّل المراد انّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تحمل كلّ مكروه توجّها إلى منتهى رضاه عزّ و جلّ (و تجرّع فيه كلّ غصّة) أى تجرّع الغصص في تحصيل رضوانه تعالى، أى ابتلعها جرعة بعد جرعة و أراد بالغصص الغموم و الهموم العارضة له من مزيد أذى المشركين‏و سوء فعالهم.

(و قد تلوّن له الأدنون) أى تغيّر له أقاربه من قريش ألوانا (و تألّب عليه الأقصون) أى تجمّع على حربه الأباعد منه نسبا من أقصى البلاد (و خلعت) متوجّهة (اليه) معاشر (العرب أعنّتها و ضربت إلى محاربته بطون رواحلها) قال الشارح البحراني: هذان مثلان كنّي بهما عن المسارعة إلى حربه لأنّ أقوى عدو الخيل إذا خلعت أعنّتها و أقوى عدوّ الرّواحل إذا ضربت بطونها و فيه ايماء إلى أنّهم أتوه فرسانا و ركبانا مسرعين إلى حربه.

(حتى انزلت بساحته) و منزله (عداوتها) أى حربها و اطلاقها عليه من باب اطلاق اسم السبب على المسبب، أى أسرعوا إلى حربه صلّى اللّه عليه و آله (من أبعد الدّار و أسحق المزار) و فيه إشارة إلى غاية عداوتهم، لأنّ الظعن إلى الحرب من مكان بعيد لا يكون إلّا عن اهتمام أكيد و عناد عنيد و عداوة شديدة.

قال الشارح المعتزلي: من قرء كتب السّير علم ما لاقى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في ذات اللّه من المشقّة و استهزاء قريش به في أوّل الدّعوة و رميهم إيّاه بالحجارة حتى أدموا عقيبه و صياح الصبيان به و القاء فرث الكرش على رأسه، و فتل الثوب فى عنقه، و حصره و حصر أهله في شعب بني هاشم سنين عديدة محرّمة معاملتهم و مبايعتهم و مناكحتهم و كلامهم حتى كادوا يموتون جوعا لو لا أنّ بعض من كان يحنو عليهم لرحم أو لسبب غيره فهو يسرق الشي‏ء القليل من الدّقيق أو التمر فيلقيه إليهم ليلا.

ثمّ ضربهم أصحابه و تعذيبهم بالجوع و الوثاق في الشمس و طردهم إياه عن شعاب مكة حتى خرج من خرج منهم إلى الحبشة و خرج صلّى اللّه عليه و آله مستجيرا منهم تارة بثقيف، و تارة ببنى عامر، و تارة بربيعة الفرس و بغيرهم.

ثمّ أجمعوا إلى قتله و الفتك به ليلا حتى هرب منهم لائذا بالأوس و الخزرج، تاركا أهله و أولاده و ما حوته يده، ناجيا بحشاشة نفسه حتى وصل إلى المدينة، فناصبوه الحرب و رموه بالمناسر و الكتائب، و ضربوا له آباط الابل.

و لم يزل منهم في عناء شديد و حروب متصلة حتى أكرمه اللّه تعالى و أيّده و نصر دينه و أظهره، انتهى.

و محصّل الكلام أنه صلّى اللّه عليه و آله قد كابد الشدائد و قاسى الهموم و تجرّع الغصص لتأسيس أساس الاسلام و تشييد قوائم الدّين، هذا.

و انما مهّد عليه السّلام تلك المقدّمة أعني مقدّمة البعثة لأنّه لما كان غرضه الأصلى من هذه الخطبة التحذير من المنافقين الذين كان همّهم في إبطال الدّين و ترويج الباطل، أراد أن ينبّه على مزيد خبث طينتهم الموجب لمزيد الحذر منهم حيث إنهم يريدون ليطفؤا نور اللّه، و يبطلوا الدّين القويم الذى قد قوسي فيه هذه المكاره، و احتمل تلك المشاق الكثيرة.

و قبل التحذير منهم أوصى المخاطبين بما لا يزال يوصى به فقال (اوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه) و التصلّب في الدّين (و أحذّركم) من كيد (أهل النفاق) و خديعة الخائنين أى الذين أظهروا الاسلام و أبطنوا الكفر.

و الظاهر أنّ غرضه عليه السّلام منه التعريض على معاوية و عمرو بن العاص و أمثالهما من المنتحلين للاسلام، و يشعر بذلك قوله عليه السّلام في عهده الاتي في المتن إلى محمّد بن أبي بكر حين قلّده مصر حيث قال فيه متعرّضا على معاوية: فانه لا سواء إمام الهدى و إمام الرّدى، و وليّ النبيّ و عدوّ النبيّ، و لقد قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إني لا أخاف على امتى مؤمنا، و لا مشركا، أمّا المؤمن فيمنعه اللّه بايمانه، و أمّا المشرك فيقمعه اللّه بشركه، و لكنّي أخاف عليكم كلّ منافق الجنان، عالم اللّسان، يقول ما تعرفون، و يفعل ما تنكرون.

و لما حذّر عن المنافقين اتبعه بذكر مذامّهم و مثالبهم تنفيرا عنهم و قال (فانّهم الضالّون) عن الصراط المستقيم و النهج القويم (المضلّون) لغيرهم عنه بالشبه و التمويه (و الزّالون المزلّون) أى الخاطئون الموقعون لغيرهم فى الخطاء أيضا.

(يتلوّنون ألوانا) أى يتغيّرون فى أقوالهم و أفعالهم من حال إلى حال بحسب‏تبدّل أهوائهم الفاسدة فيلاقون كلا بوجه و لسان غير الاخر.

(و يفتنون افتنانا) أى يتشعّبون بأنحاء مختلفة فى القول و العمل على مقتضى اختلاف آرائهم الباطلة.

(و يعمدونكم بكلّ عماد) أى يقصدونكم بكلّ أمر فادح ثقيل و خطب مؤلم على وجه الخدعة و الحيلة.

(و يعمدونكم بكلّ عماد) أى يقصدونكم بكلّ أمر فادح ثقيل و خطب مؤلم على وجه الخدعة و الحيلة.

(و يرصدونكم بكلّ مرصاد) أى يترقّبونكم و يقعدون منتظرين بكلّ طريق معدّ للارتقاب، يعني أنّهم لا يغفلون عنكم و لا يدعون مراقبتكم و يهيّئون وجوه الحيل في اضلالكم و إصابتكم بكلّ مكروه.

(قلوبهم دويّة) أى فاسدة من داء أصابها و هو الدّاء النّفساني الموجب لمرضها كالحقد و الحسد و العداوة و البخل و النّفاق و الشّك و الارتياب، قد وصفهم اللّه سبحانه أيضا بهذا الوصف حيث قال «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً.

قال الطبرسى فى تفسير الاية، إنما سمى الشك في الدّين مرضا لأنّ المرض هو الخروج عن حدّ الاعتدال، فالبدن ما لم تصبه آفة يكون صحيحا سويّا، و كذلك القلب ما لم يصبه آفة من الشّكّ يكون صحيحا، و قيل: المرض هو الفتور فهو في القلب فتوره عن الحقّ كما أنّه في البدن فتور الأعضاء.

(و صفاحهم نقيّة) أى صفحات وجوههم طاهرة نظيفة، و هو كناية عن اتّصاف ظاهرهم بالبشر و البشاشة و المحبّة و النّصح و الصّداقة خلاف ما في باطنهم من الشرّ و الفساد و اللّدد و العناد.

(يمشون) في (الخفاء) أى مختفيا قال الشارح البحراني: و هو كناية عن كون حركاتهم القوليّة و الفعليّة فيما يريدونه في خفاء أفهام النّاس.

(و يدبّون الضّراء) و هو مثل يضرب لمن أراد أن يختل صاحبه يقال: فلان يدبّ له الضّراء إذا أراد بصاحبه سوء و أذى من حيث لا يعلم، كمن يمشى في الشّجر الملتف الساتر للاصطياد.

(وصفهم دواء و قولهم شفاء و فعلهم الدّاء العياء) يعني أنّهم يتّصفون ظاهرابأوصاف أهل الايمان أو أنّهم يصفون من الطاعات و الخيرات ما هو دواء الأمراض النفسانية كالمؤمنين، و يقولون من الأقوال الحسنة و المواعظ البالغة ما هو شفاء الصّدور كالنّاسكين و الزّاهدين، و يفعلون فعل الفاسقين الفاجرين الّذى هو الدّاء الأكبر المعيي للأطباء من العلاح.

و محصّله أنّهم يتّصفون ظاهرا بصفات المؤمنين، و يتكلّمون بمثل كلامهم إلّا أنّ أفعالهم خلاف أقوالهم، و باطنهم مناف لظاهرهم كما قال تعالى في وصفهم «يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ» و قال أيضا «وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلَوْا إِلى‏ شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ» و في سورة آل عمران «ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَ لا يُحِبُّونَكُمْ وَ تُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَ إِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ».

(حسدة الرّخاء) أى إن رأوا لأحد سعة و رفاهيّة في العيش و نعمة أنعم اللّه سبحانه بها عليه يحسدونه و يحزنونه به كما قال تعالى إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها (و مؤكّدوا البلاء) يعني إذا وقع أحد في بلاء و مكروه يسعون في تأكيده و تشديده بالسّعاية و النميمة و ساير أسباب التشديد، و لا يسعون في دفعه و رفعه و اصلاحه و في بعض النّسخ و مولّدوا البلاء باللّام و هو ظاهر.

(و مقنطوا الرّجاء) قال البحراني: أى إذا رجا راج أمرا ففي طباعهم أن يقنطوه و يؤيسوه، و هكذا شأن المنافق الكذّاب أن يبعّد القريب و يقرّب البعيد أقول: و يحتمل أن يكون المراد أنّهم بمقتضى خبثهم الباطني يقنّطون الرّاجين من رحمة اللّه عزّ و جلّ و يؤيسونهم منها، و ذلك لقنوطهم في أنفسهم منها بما لهم من الغيّ و الضّلال كما قال تعالى وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (لهم بكلّ طريق صريع) الظّاهر أنّ المراد به أنّ لهم في كلّ طريق من طرق البرّ صرعى أى هلكى لاضلالهم النّاس عنها، و قال الشّارح البحراني: إنّه كناية عن كثرة من يقتلونه أو يؤذونه بخديعتهم و كنّى بالطّريق إمّا عن كلّ مقصدقصدوه أو عن كلّ حيلة احتالوها و مكر مكروه، فانّه لا بدّ أن يستلزم أذى و الأظهر ما قلناه.

(و إلى كلّ قلب شفيع) أى إلى صرف كلّ قلب نحوهم و عطفه إليهم وسيلة و واسطة، و هى خلابة ألسنتهم و ملقهم و ما يظهرونه من التّلطّف و التّؤدد و التّملق أو المراد أنّ لهم إلى تحريف كلّ قلب و إضلاله عن الحقّ شفيع، و على أىّ تقدير فالمراد به التّنبيه على شدّة استيلائهم على القلوب و تمكّنهم من التّصرّف فيها بأىّ نحو كان.

(و لكلّ شجو دموع) يعني أنّهم يسكبون دموعهم و يبكون رياء عند كلّ محزون و مصاب تخييلا بأنّهم مشاركوهم في الحزن و الأسف و قصدهم بذلك التوصّل إلى حصول أغراضهم الفاسدة.

(يتقارضون الثّناء) أى يثنى أحدهم على الاخر ليثنى الاخر عليه كأنّه يقرض الثناء ليأخذ عوضه.

(و يتراقبون الجزاء) أى يترقّب كلّ واحد منهم جزاء محمدته و ثنائه من صاحبه إذا أثنى عليه و ينتظر أن يجزيه بمثل ثنائه أو بغيره من وجوه الجزاء.

(إن سألوا ألحفوا) أى أسرّوا في سؤالهم و ألحوّا فيه (و إن عذلوا كشفوا) يعني إن لاموا أحدا ببعض المعايب كشفوا عيوبه عند الأجانب و الأقارب، و ربما يظهرونها عند من لا يرضى بالاظهار عنده، و ذلك لعدم كون نصحهم عن وجه الصدق و الخلوص حتى يناصحوه في الخلوة لا فى الملاء.

(و ان حكموا أسرفوا) أى إذا ولى أحدهم ولاية أسرف فيها بالظلم و الطغيان و أفرط في الأكل و الشرب و الانهماك فى شهوات نفسه كما فعل معاوية في ولاية الشام.

و يحتمل أن يراد به أنهم إذا فوّض إليهم الحكم تعدّوا فيه و تجاوزوا عن الاعتدال كما صدر عن عمرو بن العاص و أبي موسى الأشعري في قضيّة التحكيم.

(قد أعدّوا لكلّ حقّ باطلا) أى هيّؤا لابطال الحقّ شبهة فاسدة باطلة ليموّهوا

بها كما اعتذر المنافق الثاني في زوى الخلافة عنه عليه السّلام بأنّ فيه دعابة، و تبعه على ذلك عمرو بن العاص اللّعين كما حكى عليه السّلام عنه في المختار الثالث و الثمانين بقوله: عجبا لابن النابغة يزعم لأهل الشام إنّ فيّ دعابة و إنّي امرء تلعابة.

(و لكلّ قائم مائلا) أى أعدّوا لكلّ أمر صحيح مستقيم ليس به اعوجاج ما يوجب اعوجاجه من الشّبه و التمويهات.

(و لكلّ حىّ قاتلا) يحتمل أن يراد به خصوص ذى الحياة من نوع الانسان فيراد بالقاتل معناه المعروف و أن يراد به معناه المجازى أى هيؤا لكلّ ما له قوام و ثبات من امور الدّين ما يوجب فساده و إبطاله كما قال عليه السّلام في المختار المأة و السابع و العشرين، و انما حكم الحكمان ليحييا ما أحيى القرآن و يميتا ما أمات القرآن و إحياؤه الاجتماع عليه و إماتته الافتراق عنه.

(و لكلّ باب مفتاحا) أى لكلّ باب من أبواب الضلال مفتاحا من وجوه التدبير و الحيل يفتحونه به على الناس لاضلالهم.

(و لكلّ ليل مصباحا) أى لكلّ أمر مظلم يعيي فيه رأيا يستضاء به فيه و يهتدى به إليه كما دبّره ابن العاص عند ضيق الخناق على أهل الشام بصفّين من رفع المصاحف على الرّماح صبيحة ليلة الهرير، فأنجاهم بتلك الحيلة و المكيدة عن هذه الورطة العظيمة.

(يتوصّلون إلى الطمع باليأس) لعلّ المراد أنهم يتزهّدون و يظهرون اليأس و الاستغناء عما في أيدى الناس و صلة به إلى مطامعهم، و محصله أنهم يتركون الدنيا للدّنيا و يستغنون عن الناس تزويرا.

(ليقيموا به أسواقهم و ينفقوا به أعلاقهم) شبههم فى قصدهم إلى إضلال الناس بالتاجر الذي يجلس في السوق و يعرض متاعه على المشترين و يرغبهم إليه بحسن المعاملة قصدا إلى رواج متاعه، فجعلهم بمنزلة التاجر، و ما عندهم من متاع الضلال بمنزلة المبيع، و من يريدون إضلاله بمنزلة المشترى، و ما عنده من الهدى بمنزلة الثمن.

فيكون محصّل المعنى أنهم يظهرون اليأس من الناس جلبا لقلوبهم إليهم، و توصلا به إلى ما يطمعونه منهم من الاضلال و الاغواء و غرضهم بذلك إقامة أسواقهم أى انتظام معاملتهم معهم و ترويج ما لديهم من متاع الضلال الذي يزعمون أنه متاع نفيس مع أنه خبيث خسيس.

(يقولون فيشبهون) أى يقولون قولا فاسدا فيوقعون به الشبهة في قلوب الخلق (و يصفون فيموّهون) أى يصفون الباطل و يزيّنونه بصورة الحقّ.

(قد هيّنوا الطريق و أضلعوا المضيق) لعلّ المراد به أنهم جعلوا الطريق المؤدّى إلى الضلال سهلا هينا لمن أرادوا اسلاكهم فيه بالخدع و التمويهات، و جعلوا المسلك الضيق معوجا لمن أراد الخروج من ورطة الضلال بعد تورطه فيها، فسهولة الطريق بالنسبة إلى الوارد، و الضيق و الاعوجاج بالنسبة إلى الخارج.

(فهم لمة الشيطان) أى جماعته و أصحابه و أتباعه (وحمة النيران) أى معظم حرّها و قال الشارح البحراني مستعار لمعظم شرورهم، و وجه المشابهة استلزامها للأذى البالغ و كذلك حمة التخفيف.

(اولئك حزب الشيطان) لاضلالهم الناس عن الهدى إلى الرّدى (ألا إنّ حزب الشيطان هم الخاسرون) اقتباس من الاية الشريفة في سورة المجادلة قال تعالى اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ الاية.

قال الطبرسي في تفسيره: أى استولي عليهم يعني المنافقين و غلب عليهم لشدّة اتباعهم اياه فأنساهم ذكر اللّه حتى لا يخافون اللّه و لا يذكرونه، اولئك حزب الشيطان أى جنوده، ألا انّ حزب الشيطان هم الخاسرون، يخسرون الجنّة و يحصل لهم بدلها النار.

أقول: و بعبارة أوضح أنهم فوّتوا على أنفسهم النعيم المؤبّد و عرضوها للعذاب المخلّد بما اتّصفوا به من صفة النفاق.

روى في الكافي باسناده عن محمّد بن الفضيل قال: كتبت إلى أبي الحسن عليه السّلام‏ أسأله عن مسألة فكتب عليه السّلام إليّ إنّ المنافقين يخادعون اللّه و هو خادعهم و إذا قاموا إلى الصّلاة قاموا كسالى يراؤن النّاس و لا يذكرون اللّه إلّا قليلا مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء و لا إلى هؤلاء و من يضلل اللّه فلن تجد له سبيلا، ليسوا من الكافرين و ليسوا من المؤمنين و ليسوا من المسلمين يظهرون الايمان و يصيرون إلى الكفر و التكذيب لعنهم اللّه.

الترجمة

از جمله خطب شريفه آن حضرتست كه وصف فرموده در آن منافقين را مى‏ فرمايد: حمد مي كنم خدا را در مقابل آن چيزى كه توفيق داد مر آن چيز را در طاعت و فرمانبردارى، و دفع و منع فرمود بندگان را از آن از معصيت و گردن كشى، و در خواست مى ‏كنيم از او تمام كردن مر منّت او را، و چنگ زدن بريسمان محكم او كه عبارتست از اسلام يا قرآن.

و گواهى مى ‏دهيم اين كه محمّد بنده پسنديده و فرستاده او است، فرو رفت در هر شدايد بجهت توجّه برضاى خدا، و جرعه جرعه نوشيد هر غصّه در تحصيل رضاى إلهى و حال آنكه متغيّر و متلوّن الحال شدند از براى او نزديكان و خويشان، و جمع گشتند بر عداوت او بيگانگان، و كندند طايفه عرب بسوى حرب او لجامهاى خود را و زدند بر شكمهاى شتران باركش خودشان بجهت رفتن بسوى جنگ او تا آنكه فرود آوردند در فضاى خانه و منزل او دشمنى خودشان را از دورترين خانه و دورترين زيارتگاه وصيّت مى‏ كنم شما را اى بندگان خدا به پرهيزكارى خدا و مى‏ ترسانم شما را از أهل نفاق، پس بدرستى كه منافقان گمراهان و گمراه كنندگانند، و لغزندگان و لغزانندگانند، رنگ برنگ و مختلف الحال مى‏ شوند و خلق را تفتين مى‏ كنند، قصد مى‏ كنند شما را بهر أمر سنگين، و انتظار شما را مى‏ كشند در هر گذر گاهى،قلبهاى ايشان فاسد است، و صفحه روهاى ايشان پاك و نظيف، راه مى‏ روند در پنهانى و حركت مى‏ كنند در طرق اذيّت و اضرار.

صفت ايشان دواء است، و گفتار ايشان شفاء است، و كردار ايشان درد بى درمان حسد كنندگان رفاهيّتند، و محكم كنندگان بلا و معصيبت، و مأيوس كنندگان اميدند، ايشان را است در هر راهى افتاده، و بسوى هر قلبى واسطه، و از براى هر اندوهى اشك چشمى، بقرض مى‏ دهند بيكديگر ثنا و ستايش را، و منتظر مى ‏باشند از يكديگر جزا و احسان را.

اگر سؤال نمايند اصرار مى ‏كنند، و اگر ملامت نمايند پرده درى مى ‏كنند، و اگر حاكم نمايند ايشان را در حكومتى اسراف مى ‏نمايند، بتحقيق كه مهيّا ساخته ‏اند از براى هر حق باطلى را، و از براى هر راست كجى را، و از براى هر زنده قاتلى را، و از براى هر در كليدى را و از براى هر شب چراغى را.

يعنى صاحبان أنواع و أقسام حيله و خدعه مى‏ باشند، توصّل مى‏ كنند بسوى طمع با اظهار يأس از مردم تا اين كه بر پا كنند بسبب اظهار يأس بازار كار خودشان را و رواج دهند متاع خود را، حرف مى‏ زنند پس مشتبه مى ‏سازند خلق را، و تعريف مى ‏كنند پس زينت مى‏ دهند و آسان مى‏ گردانند راه باطل را بجهت داخلين، و كج مى‏ كنند راه تنگ را بجهت خارجين، پس ايشان جماعت شيطانند، و چشمه آتشند ايشان دسته شيطانند، آگاه باش بدرستى دسته شيطان ايشانند زيانكاران.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 192 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی») همام(صفات متقین)

خطبه 193 صبحی صالح

193- و من خطبة له ( عليه ‏السلام  ) يصف فيها المتقين‏

روي أن صاحبا لأمير المؤمنين ( عليه ‏السلام  ) يقال له همام كان رجلا عابدا فقال له يا أمير المؤمنين صف لي المتقين حتى كأني أنظر إليهم فتثاقل ( عليه ‏السلام  ) عن جوابه

ثم قال يا همام اتق الله و أحسن ف إن الله مع الذين اتقوا و الذين هم محسنون فلم يقنع همام بهذا القول حتى عزم عليه فحمد الله و أثنى عليه و صلى على النبي ( صلى ‏الله ‏عليه‏ وآله  ) ثم قال( عليه ‏السلام  )

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ حِينَ خَلَقَهُمْ غَنِيّاً عَنْ طَاعَتِهِمْ آمِناً مِنْ مَعْصِيَتِهِمْ لِأَنَّهُ لَا تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ مَنْ عَصَاهُ وَ لَا تَنْفَعُهُ طَاعَةُ مَنْ أَطَاعَهُ فَقَسَمَ بَيْنَهُمْ مَعَايِشَهُمْ وَ وَضَعَهُمْ مِنَ الدُّنْيَا مَوَاضِعَهُمْ

فَالْمُتَّقُونَ فِيهَا هُمْ أَهْلُ الْفَضَائِلِ مَنْطِقُهُمُ الصَّوَابُ وَ مَلْبَسُهُمُ الِاقْتِصَادُ وَ مَشْيُهُمُ التَّوَاضُعُ

غَضُّوا أَبْصَارَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ وَقَفُوا أَسْمَاعَهُمْ عَلَى الْعِلْمِ النَّافِعِ لَهُمْ

نُزِّلَتْ أَنْفُسُهُمْ مِنْهُمْ فِي الْبَلَاءِ كَالَّتِي نُزِّلَتْ فِي الرَّخَاءِ وَ لَوْ لَا الْأَجَلُ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ شَوْقاً إِلَى الثَّوَابِ وَ خَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ

عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أَنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ فَهُمْ وَ الْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ وَ هُمْ وَ النَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ

قُلُوبُهُمْ مَحْزُونَةٌ وَ شُرُورُهُمْ مَأْمُونَةٌ وَ أَجْسَادُهُمْ نَحِيفَةٌ وَ حَاجَاتُهُمْ‏خَفِيفَةٌ وَ أَنْفُسُهُمْ عَفِيفَةٌ

صَبَرُوا أَيَّاماً قَصِيرَةً أَعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً تِجَارَةٌ مُرْبِحَةٌ يَسَّرَهَا لَهُمْ رَبُّهُمْ أَرَادَتْهُمُ الدُّنْيَا فَلَمْ يُرِيدُوهَا وَ أَسَرَتْهُمْ فَفَدَوْا أَنْفُسَهُمْ مِنْهَا

أَمَّا اللَّيْلَ فَصَافُّونَ أَقْدَامَهُمْ تَالِينَ لِأَجْزَاءِ الْقُرْآنِ يُرَتِّلُونَهَا تَرْتِيلًا يُحَزِّنُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَ يَسْتَثِيرُونَ بِهِ دَوَاءَ دَائِهِمْ

فَإِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَشْوِيقٌ رَكَنُوا إِلَيْهَا طَمَعاً وَ تَطَلَّعَتْ نُفُوسُهُمْ إِلَيْهَا شَوْقاً وَ ظَنُّوا أَنَّهَا نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ وَ إِذَا مَرُّوا بِآيَةٍ فِيهَا تَخْوِيفٌ أَصْغَوْا إِلَيْهَا مَسَامِعَ قُلُوبِهِمْ وَ ظَنُّوا أَنَّ زَفِيرَ جَهَنَّمَ وَ شَهِيقَهَا فِي أُصُولِ آذَانِهِمْ

فَهُمْ حَانُونَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ مُفْتَرِشُونَ لِجِبَاهِهِمْ وَ أَكُفِّهِمْ وَ رُكَبِهِمْ وَ أَطْرَافِ أَقْدَامِهِمْ يَطْلُبُونَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي فَكَاكِ رِقَابِهِمْ

وَ أَمَّا النَّهَارَ فَحُلَمَاءُ عُلَمَاءُ أَبْرَارٌ أَتْقِيَاءُ قَدْ بَرَاهُمُ الْخَوْفُ بَرْيَ الْقِدَاحِ يَنْظُرُ إِلَيْهِمُ النَّاظِرُ فَيَحْسَبُهُمْ مَرْضَى وَ مَا بِالْقَوْمِ مِنْ مَرَضٍ وَ يَقُولُ لَقَدْ خُولِطُوا وَ لَقَدْ خَالَطَهُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ

لَا يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَالِهِمُ الْقَلِيلَ وَ لَا يَسْتَكْثِرُونَ الْكَثِيرَ فَهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ مُتَّهِمُونَ وَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ مُشْفِقُونَ

إِذَا زُكِّيَ أَحَدٌ مِنْهُمْ خَافَ مِمَّا يُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي وَ رَبِّي أَعْلَمُ بِي مِنِّي بِنَفْسِي اللَّهُمَّ لَاتُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ وَ اجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّونَ وَ اغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ

فَمِنْ عَلَامَةِ أَحَدِهِمْ أَنَّكَ تَرَى لَهُ قُوَّةً فِي دِينٍ وَ حَزْماً فِي لِينٍ وَ إِيمَاناً فِي يَقِينٍ وَ حِرْصاً فِي عِلْمٍ وَ عِلْماً فِي حِلْمٍ

وَ قَصْداً فِي غِنًى وَ خُشُوعاً فِي عِبَادَةٍ وَ تَجَمُّلًا فِي فَاقَةٍ وَ صَبْراً فِي شِدَّةٍ وَ طَلَباً فِي حَلَالٍ وَ نَشَاطاً فِي هُدًى وَ تَحَرُّجاً عَنْ طَمَعٍ

يَعْمَلُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَ هُوَ عَلَى وَجَلٍ يُمْسِي وَ هَمُّهُ الشُّكْرُ وَ يُصْبِحُ وَ هَمُّهُ الذِّكْرُ يَبِيتُ حَذِراً وَ يُصْبِحُ فَرِحاً حَذِراً لِمَا حُذِّرَ مِنَ الْغَفْلَةِ وَ فَرِحاً بِمَا أَصَابَ مِنَ الْفَضْلِ وَ الرَّحْمَةِ

إِنِ اسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِيمَا تَكْرَهُ لَمْ يُعْطِهَا سُؤْلَهَا فِيمَا تُحِبُّ قُرَّةُ عَيْنِهِ فِيمَا لَا يَزُولُ وَ زَهَادَتُهُ فِيمَا لَا يَبْقَى يَمْزُجُ الْحِلْمَ بِالْعِلْمِ وَ الْقَوْلَ بِالْعَمَلِ

تَرَاهُ قَرِيباً أَمَلُهُ قَلِيلًا زَلَلُهُ خَاشِعاً قَلْبُهُ قَانِعَةً نَفْسُهُ مَنْزُوراً أَكْلُهُ سَهْلًا أَمْرُهُ حَرِيزاً دِينُهُ مَيِّتَةً شَهْوَتُهُ مَكْظُوماً غَيْظُهُ الْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولٌ وَ الشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونٌ

إِنْ كَانَ فِي الْغَافِلِينَ كُتِبَ فِي الذَّاكِرِينَ وَ إِنْ كَانَ فِي الذَّاكِرِينَ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ وَ يُعْطِي مَنْ حَرَمَهُ

وَ يَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ بَعِيداً فُحْشُهُ لَيِّناً قَوْلُهُ غَائِباً مُنْكَرُهُ حَاضِراً مَعْرُوفُهُ‏مُقْبِلًا خَيْرُهُ مُدْبِراً شَرُّهُ

فِي الزَّلَازِلِ وَقُورٌ وَ فِي الْمَكَارِهِ صَبُورٌ وَ فِي الرَّخَاءِ شَكُورٌ لَا يَحِيفُ عَلَى مَنْ يُبْغِضُ وَ لَا يَأْثَمُ فِيمَنْ يُحِبُّ

يَعْتَرِفُ بِالْحَقِّ قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ لَا يُضِيعُ مَا اسْتُحْفِظَ وَ لَا يَنْسَى مَا ذُكِّرَ وَ لَا يُنَابِزُ بِالْأَلْقَابِ وَ لَا يُضَارُّ بِالْجَارِ وَ لَا يَشْمَتُ بِالْمَصَائِبِ

وَ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَاطِلِ وَ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْحَقِّ إِنْ صَمَتَ لَمْ يَغُمَّهُ صَمْتُهُ وَ إِنْ ضَحِكَ لَمْ يَعْلُ صَوْتُهُ

وَ إِنْ بُغِيَ عَلَيْهِ صَبَرَ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَنْتَقِمُ لَهُ نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ وَ النَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ أَتْعَبَ نَفْسَهُ لِآخِرَتِهِ وَ أَرَاحَ النَّاسَ مِنْ نَفْسِهِ

بُعْدُهُ عَمَّنْ تَبَاعَدَ عَنْهُ زُهْدٌ وَ نَزَاهَةٌ وَ دُنُوُّهُ مِمَّنْ دَنَا مِنْهُ لِينٌ وَ رَحْمَةٌ لَيْسَ تَبَاعُدُهُ بِكِبْرٍ وَ عَظَمَةٍ وَ لَا دُنُوُّهُ بِمَكْرٍ وَ خَدِيعَةٍ

قَالَ فَصَعِقَ همام صعقة كانت نفسه فيها

فقال أمير المؤمنين ( عليه‏ السلام  )

أَمَا وَ اللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَخَافُهَا عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ أَ هَكَذَا تَصْنَعُ الْمَوَاعِظُ الْبَالِغَةُ بِأَهْلِهَا فقال له قائل فما بالك يا أمير المؤمنين

فقال ( عليه ‏السلام  )وَيْحَكَ إِنَّ لِكُلِّ أَجَلٍ وَقْتاً لَا يَعْدُوهُ وَ سَبَباً لَا يَتَجَاوَزُهُ فَمَهْلًا لَا تَعُدْ لِمِثْلِهَا فَإِنَّمَا نَفَثَ الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِكَ

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه الّذى شرح صدور المؤمنين بمصابيح العرفان و اليقين، و نوّر قلوب المتّقين بأنوار التقوى فى الدّين، فاهتدوا إلى المحجّة البيضاء و لزموا الشرع المبين، و سلكوا الجادّة الوسطى و تمسّكوا بالحبل المتين، و فاز العارفون منهم بعظيم الزلفى و حسن الماب، و خرجت أرواح الواصلين منهم من أبدانهم خوفا من العقاب و شوقا إلى الثواب.

و الصّلاة و السّلام على أشرف الأوّلين و الاخرين محمّد سيّد الأنبياء و المرسلين‏و وصيّه و وزيره الوارث لعلمه، و الحامل لسرّه، و باب مدينة علمه، و دار حكمته عليّ أمير المؤمنين و سيّد الوصيين، و آلهما الخائضين في بحار أنوار الحقائق، و الغائصين في لجج تيّار الدّقائق، أئمة المسلمين الهداة المهديّين الأطيبين الأنجبين الغرّ الميامين:

هم هداة الورى و هم اكرم
النّاس أصولا شريفة و نفوسا

معشر حبّهم يجلّي الهموم‏
و مزاياهم تحلّي طروسا

كرموا مولدا و طابوا اصولا
و زكوا محتدا و طالوا غروسا

ملاؤا بالولاء قلبي رجاء
و بمدحى لهم ملئت الطروسا

أما بعد فهذا هو المجلّد السّادس من مجلّدات منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة إملاء راجي عفو ربّه الغني «حبيب اللّه بن محمد بن هاشم الهاشمي العلوى الموسوى» وفّقه اللّه لما يتمنّاه و جعل عقباه خيرا من اولاه إنّه وليّ الاحسان و الكريم المنّان.

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج12  

و من خطبة له عليه السّلام و هى المأة و الثانية و التسعون من المختار فى باب الخطب

و هي مرويّة في الكافي في باب علامات المؤمن و صفاته باختلاف كثير تطلع عليه بعد الفراغ، من شرح ما أورده السيّد «ره» في المتن.

قال «قده» روى أنّ صاحبا لأمير المؤمنين عليه السّلام يقال له همّام: كان رجلا عابدا فقال له: يا أمير المؤمنين صف لى المتّقين حتّى كأنّي أنظر اليهم، فتثاقل عليه السّلام عن جوابه ثمّ قال عليه السّلام يا همّام:

إتّق اللّه و أحسن فإنّ اللّه مع الّذين اتّقوا و الّذينهم محسنون، فلم يقنع همّام بذلك القول حتّى عزم عليه فحمد اللّه و أثنى عليه و صلّى على النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثم قال: أمّا بعد فإنّ اللّه سبحانه خلق الخلق حين خلقهم غنيّا عن طاعتهم، آمنا من معصيتهم، لأنّه لا تضرّه معصية من عصاه، و لا تنفعه طاعة من أطاعه، فقسّم بينهم معيشتهم، و وضعهم من الدّنيا مواضعهم. فالمتّقون فيها هم أهل الفضائل، منطقهم الصّواب، و ملبسهم الإقتصاد، و مشيهم التّواضع، غضّوا أبصارهم عمّا حرّم اللّه عليهم، و وقفوا أسماعهم على العلم النّافع لهم، نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالّذي نزلت في الرّخاء، و لو لا الأجل الّذي كتب اللّه لهم لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقا إلى الثّواب و خوفا عن العقاب.

عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم، فهم و الجنّة كمن قد رآها فهم فيها منعّمون، و هم و النّار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون، قلوبهم محزونة، و شرورهم مأمونة، و أجسادهم نحيفة، و حاجاتهم خفيفة، و أنفسهم عفيفة، صبروا أيّاما قصيرة أعقبتهم راحة طويلة، تجارة مربحة يسّرها لهم ربّهم، أرادتهم الدّنيا فلم‏يريدوها، و أسرتهم ففدوا أنفسهم منها.

أمّا اللّيل فصافّون أقدامهم تالين لأجزاء القرآن يرتّلونه ترتيلا يحزّنون به أنفسهم و يستثيرون به دواء دائهم، فإذا مروّا باية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا، و تطلّعت نفوسهم إليها شوقا، و ظنّوا أنّها نصب أعينهم، و إذا مرّوا باية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم، و ظنّوا أنّ زفير جهنّم و شهيقها في أصول آذانهم، فهم حانون على أوساطهم، مفترشون لجباههم، و أكفّهم و ركبهم و أطراف أقدامهم، يطلبون إلى اللّه تعالى في فكاك رقابهم. و أمّا النّهار فحلماء، علماء، أبرار، أتقياء، قد براهم الخوف برى القداح، ينظر إليهم النّاظر فيحسبهم مرضى و ما بالقوم من مرض، و يقول: قد خولطوا و قد خالطهم أمر عظيم، لا يرضون من أعمالهم القليل، و لا يستكثرون الكثير، فهم لأنفسهم متّهمون، و من أعمالهم مشفقون، إذا زكّي أحدهم خاف ممّا يقال له فيقول أنا أعلم بنفسي من غيري و ربّي أعلم منّي بنفسي، ألّلهمّ لا تؤاخذني بما يقولون، و اجعلني أفضل ممّا يظنّون، و اغفر لي ما لا يعلمون.

فمن علامة أحدهم أنّك ترى له قوّة في دين، و حزما في لين،و إيمانا في يقين، و حرصا في علم، و علما في حلم، و قصدا في غنى، و خشوعا في عبادة، و تجمّلا في فاقة، و صبرا في شدّة، و طلبا في حلال و نشاطا في هدى، و تحرّجا عن طمع، يعمل الأعمال الصّالحة و هو على وجل، يمسي و همّه الشّكر، و يصبح و همّه الذّكر، يبيت حذرا، و يصبح فرحا: حذرا لما حذّر من الغفلة، و فرحا بما أصاب من الفضل و الرّحمة، إن استصعبت عليه نفسه فيما تكره لم يعطها سؤلها فيما تحبّ قرّة عينه فيما لا يزول، و زهادته فيما لا يبقى، يمزج الحلم بالعلم، و القول بالعمل.

تراه قريبا أمله، قليلا زلله، خاشعا قلبه، قانعة نفسه، منزورا أكله «أكله خ»، سهلا أمره، حريزا دينه، ميّتة شهوته، مكظوما غيظه، الخير منه مأمول، و الشّرّ منه مأمون، إن كان في الغافلين كتب في الذّاكرين، و إن كان في الذّاكرين لم يكتب من الغافلين، يعفو عمّن ظلمه، و يعطي من حرمه، و يصل من قطعه، بعيدا فحشه، ليّنا قوله، غائبا منكره، حاضرا معروفه، مقبلا خيره مدبرا شرّه، في الزّلازل وقور، و في المكاره صبور، و في الرّخاء شكور لا يحيف على من يبغض، و لا يأثم فيمن يحبّ، يعترف بالحق‏ قبل أن يشهد عليه، لا يضيّع ما استحفظ، و لا ينسى ما ذكّر، و لا ينابز بالألقاب، و لا يضارّ بالجار، و لا يشمت بالمصائب، و لا يدخل في الباطل، و لا يخرج من الحقّ.

إن صمت لم يغمّه صمته، و إن ضحك لم يعل صوته، و إن بغي عليه صبر حتّى يكون اللّه تعالى هو الّذي ينتقم له، نفسه منه في عناء و النّاس منه في راحة، أتعب نفسه لاخرته، و أراح النّاس من نفسه، بعده عمّن تباعد عنه زهد و نزاهة، و دنوّه ممّن دنا منه لين و رحمة، ليس تباعده بكبر و عظمة، و لا دنوّه بمكر و خديعة. قال: فصعق همام صعقة كانت نفسه فيها

فقال أمير المؤمنين: أما و اللّه لقد كنت أخافها عليه، ثمّ قال عليه السّلام: هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها، فقال له قائل: فما بالك يا أمير المؤمنين فقال عليه السّلام: ويحك إنّ لكلّ أجل وقتا لا يعدوه، و سببا لا يتجاوزه فمهلا لا تعد لمثلها فانما نفث الشيطان على لسانك.

اللغة

(عزم) على الأمر يعزم من باب ضرب عزما و معزما و عزمانا و عزيما و عزيمة و عزمة أراد فعله و قطع عليه أوجدّ فيه فهو عازم و عزم الأمر نفسه عزم عليه و عزم على الرّجل اقسم و (الاقتصاد) ضدّ الافراط و (صغر) من باب شرف و فرح صغارة و صغرا و صغرا و صغرانا أى حقر و انحطّ قدره فهو صغير كحقير لفظا و معنا و (ثار) ثورا و ثورانا أى هاج و أثار الغبار و استثاره هيّجه.

و (تطلّع) الى وروده استشرف و (صغى) إلى الشي‏ء كرضى مال إليه و أصغى اليه سمعه أى أماله نحوه و (حنيت) العود حنوا و حناء عطفته فانحنى و تحنّى، و حنت الناقة على ولدها حنوا عطفت و يقال لكلّ ما فيه اعوجاج من البدن كعظم اللّحى و الضلع و نحوهماالحنو بالكسر و الفتح.

و (برى) السّهم و العود و القلم يبريها بريا نحتها و (القداح) جمع القدح بالكسر فيهما و هو السّهم قبل أن يراش و ينصل و (اختلط) فلان و خولط في عقله أى فسد عقله و اختلّ فهو خلط بيّن الخلاطة أى أحمق، و خالطه مخالطة مازجه و خالطه الدّاء خامره و (تجمل) فلان تزيّن و تكلّف الجميل و (نزر) الشي‏ء ككرم نزرا و نزارة و نزورا قلّ فهو نزر و نزير و منزور أى قليل.

و (اكلة) في بعض النسخ بفتح الهمزة و سكون الكاف فيكون مصدرا و في بعضها بضمّهما و هو الرّزق و الحظّ من الدّنيا فيكون اسما و (الحريز) الحصين يقال هذا حرز حريز أى حصن حصين و الحريزة من الابل الّتي لا تباع نفاسة و (المنابزة) و التنابز التّعاير و التداعى بالألقاب و (صعق) صعقا كسمع و صعقا بالتحريك و صعقة غشى عليه و الصعق بالتحريك أيضا شدّة الصوت و (نفث) ينفث من باب ضرب و نصر نفخ.

الاعراب

قوله: حين خلقهم ظرف زمان، و في بعض النسخ حيث خلقهم بدله، و قوله: نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالّذي نزلت في الرّخاء، اختلف الشّراح في اعراب قوله كالذي، فقال الشارح المعتزلي تقدير الكلام من جهة الاعراب: نزلت أنفسهم منهم في حال البلاء نزولا كالنزول الذي نزلت منهم في حال الرّخاء، فموضع كالّذي نصب لأنّه صفة مصدر محذوف، و الذي الموصول قد حذف العايد اليه و هو الهاء في نزلته كقولك: ضربت الّذي ضربت أى ضربت الذي ضربته.

و تبعه على ذلك الشّارح البحراني حيث قال: و الّذي خلقه مصدر محذوف و الضمير العايد إليه محذوف أيضا، و التقدير: نزلت كالنّزول الّذى نزلته في الرّخاء ثمّ احتمل وجها آخر و قال: و يحتمل أن يكون المراد بالذي الذين فحذف النّون كما في قوله تعالى كَالَّذِي خاضُوا و يكون المقصود تشبيه هم حال نزول أنفسهم منهم في البلاء بالّذين نزلت أنفسهم منهم في الرّخاء.

و قال بعضهم: إنّه لا بدّ من تقدير مضاف لأنّ تشبيه الجمع بالواحد لا يصحّ، أى كلّ واحد منهم إذا نزلت في البلاء يكون كالرّجل الذي نزلت نفسه في الرّخاء و نحوه قوله تعالى مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ.

أقول: و أنت خبير بأنّ هذه كلّها تكلّفات يأبي عنها الذّوق السّليم مضافا إلى ما فى الوجه الاخر الذي احتمله البحراني و كذلك الوجه الأخير الذي حكيناه عن بعضهم أنّ المنساق من ظاهر كلامه عليه السّلام تشبيه إحدى حالتى المتّقين بحالتهم الاخرى لا تشبيه هم بغيرهم من أهل الرّخاء.

ثمّ بعد الغضّ عن ذلك و البناء على ما ذكر فلا حاجة في تصحيح تشبيه الجمع بالمفرد إلى تأويل ما هو المفرد ظاهرا بالجمع و المصير إلى حذف النون كما تمحّله الأوّل، أو تأويل الجمع بالمفرد بالمصير إلى تقدير المضاف كما تجشّمه الاخر، لجواز تقدير موصوف الذي لفظ الرّهط و الجمع و نحوهما ممّا يكون مفردا لفظا و جمعا في المعنى، و يكون المعنى نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالرّهط أو الجمع الذي نزلت نفسهم منهم في الرّخاء.
قال نجم الأئمة بعد ما قال بأنه قد يحذف نون الذين مستشهدا

بقول الشاعر:

و إنّ الّذي حانت بفيح دمائهم
هم القوم كلّ القوم يا امّ خالد

و يجوز في هذا أن يكون مفردا وصف به مقدّر مفرد اللّفظ مجموع المعني أى و انّ الجمع الّذى و انّ الجيش الّذى كقوله تعالى مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ فحمل على اللّفظ أى الجمع الّذى استوقد نارا، ثمّ قال: بنورهم فحمل على المعني و لو كان في الاية مخفّفا من الّذين لم يجز إفراد الضّمير العايد إليه و كذا قوله تعالى وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ و هذا كثير أعني ذكر الّذي مفردا موصوفا به مقدّر مفردا للّفظ مجموع المعنى و أمّا حذف النّون من الّذين فهو قليل، انتهى.

و بعد ذلك كلّه فالأقرب عندي أن يجعل الّذى مصدريّا بأن يكون حكمه حكم‏ماء المصدريّة كما ذهب اليه يونس و الأخفش في قوله سبحانه ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا أى ذلك تبشير اللّه و كذلك قالا في قوله تعالى كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا و على هذا فيكون المعني: نزلت أنفسهم منهم فى البلاء مثل نزولها في الرّخاء و هذا لا تكلّف فيه أصلا.

و قوله: تجارة مربحة، بالرّفع على أنّه خبر محذوف المبتدأ، أى تجارتهم تجارة مربحة، و في بعض النسخ بالنصب على المصدر أى اتّجروا تجارة.
و قوله: أمّا الليل فصافون، بالنصب على الظرف، و الناصب، إما لتضمّنها معني الفعل أو الخبر كما في نحو قولك: أما اليوم فأنا ذاهب و أمّا إذا قلت اما في الدّار فزيد، فالعامل هو أما لا غير كما فى قولهم أما العبيد فذو عبيد، أى مهما ذكرت العبيد فهو ذو عبيد، هذا.

و يروى بالرّفع على الابتداء فيحتاج إلى العايد في الخبر أى صافّون أقدامهم فيها و قوله: تالين حال من فاعل صافّون أو من الضمير المجرور بالاضافة في أقدامهم: و الأول أولى، و جملة يرتّلونه حال من فاعل تالين، و في بعض النسخ يرتّلونها، فالضمير عايد إلى أجزاء القرآن، و نصب أعينهم بنصب النصب على الظرفية، و يروى بالرّفع على أنه خبر انّ و المصدر بمعني المفعول.

و قوله: يطلبون إلى اللّه في فكاك رقابهم، تعدية الطلب بحرف الجرّ أعني إلى لتضمينه معني التضرع و في للظرفية المجازية، أى يتضرّعون إليه سبحانه في فكاك رقابهم.
و أما ما قاله الشارح المعتزلي من أنّ الكلام على الحقيقة مقدّر فيه حال محذوفة يتعلّق بها حرف الجرّ أى يطلبون الى اللّه سائلين فى فكاك رقابهم لأنّ طلبت لا يتعدّى بحرف الجرّ فليس بشى‏ء لأنّ تأويل الطلب بالسؤال لا ينهض باثبات ما رامه كما لا يخفى.

و فى في قوله: و قوّة في دين، ظرف لغو متعلّق بقوّة، و في قوله: و حزما في لين ظرف مستقرّ متعلّق بمقدّر صفة لقوله حزما، و فى المعطوفات بعد ذلك في بعضهاظرف لغو و فى بعضها ظرف مستقرّ وصف لسابقه، فتدبّر تفهم.

المعنى

اعلم أنه قد (روى أنّ صاحبا لأمير المؤمنين) أى رجلا من أصحابه و شيعته و مواليه (يقال له همام) بالتشديد، و هو كما في شرح المعتزلي همام بن شريح بن يزيد بن مرّة بن عمر بن جابر بن يحيى بن الأصهب بن كعب بن الحارث بن سعد ابن عمرو بن ذهل بن سيف بن سعد العشيرة.
و في البحار و الأظهر أنه همام بن عبادة بن خثيم ابن أخ الرّبيع بن خثيم أحد الزّهاد الثمانية كما رواه الكراجكي في كنزه.

و كيف كان فقد (كان رجلا عابدا) زاهدا ناسكا (فقال له يا أمير المؤمنين صف لى المتّقين) و اشرح لي حالهم (حتّى كأنى أنظر إليهم) و ابصر بهم لأقتفي آثارهم و أقتبس أنوارهم.
(فتثاقل عليه السّلام عن جوابه) قال الشارح المعتزلي تثاقله عليه السّلام عن الجواب لعلمه بأنّ المصلحة فى تأخير الجواب، و لعلّه كان فى مجلسه عليه السّلام من لا يحبّ أن يجيب و هو حاضر، فلما انصرف أجاب، أو لأنّه رأى أنّ تثاقله عنه يزيد شوق همام إلى سماعه فيكون أنجع فى موعظته، أو أنه تثاقل عنه لترتيب المعاني و نظمها فى ألفاظ مناسبة ثمّ النطق بها كما يفعله المتروّي في الخطبة و القريض.

و الأولى ما قاله الشارح البحرانى: من أنه عليه السّلام تثاقل عنه لما رأى من استعداد نفسه لأثر الموعظة و خوفه عليه أن يخرج به خوف اللّه إلى انزعاج نفسه و صعوقها.
(ثمّ) إنه عليه السّلام بعد تثاقله عن الجواب و وصف حال المتّقين تفصيلا لما رآه من المصلحة المقتضية لترك التفصيل أجابه بجواب إجمالى و (قال) له (يا همام اتّق اللّه و أحسن) يعنى أنّ الفرض عليك القيام بالتقوى و الأخذ بها على قدر ما حصل لك المعرفة به من معناها و حقيقتها من الكتاب و السنة، و تبين لك إجمالا من ماهيّتها كما يعرفها جميع المؤمنين، و الزائد عن ذلك غير مفروض عليك و لا يجب البحث عنه‏و قد تقدّم شرح معناها و حقيقتها و بعض ما يترتّب عليها من الثمرات الدنيويّة و الاخرويّة في شرح الخطبة الرّابعة و العشرين، و قد روينا هناك عن الصّادق عليه السّلام انّه قال في تفسيرها: أن لا يفقدك اللّه حيث أمرك و لا يراك حيث نهاك، هذا.

و المراد بقوله: و أحسن هو الاحسان في العمل، يعني أنّ اللازم عليك الأخذ بالتقوى و القيام بالحسنى من الأعمال الصّالحة.
و هذا الّذى قلنا أولى ممّا قاله الشارح البحراني من أنّ معني كلامه أنّه أمره بتقوى اللّه أى في نفسه أن يصيبها فادح بسبب سؤاله، و أحسن أى أحسن إليها بترك تكليفها فوق طوقها.
و كيف كان فلمّا أمره بالتّقوى و الاحسان علّله بقوله (فانّ اللّه مع الّذين اتّقوا و الّذين هم محسنون) ترغيبا له إلى القيام بهما، و هو اقتباس من الاية الشريفة خاتمة سورة النحل، يعني أنّه سبحانه مع الّذين اتّقوا ما حرّم عليهم و أحسنوا فيما فرض عليهم أى معين لهم و ناصر لهم و هو وليّهم فى الدّنيا و الاخرة.

(فلم يقنع همّام بذلك القول) و لم يكتف بالاجمال (حتّى عزم عليه عليه السّلام) و أقسم و ألحّ في السؤال.
(ف) أجاب عليه السّلام مسئوله و أنجح مأموله و (حمد اللّه) عزّ و جلّ (و أثنى عليه) بما هو أهله (و صلّى على النبيّ و آله ثمّ قال أما بعد فانّ اللّه سبحانه خلق الخلق حين خلقهم غنيا عن طاعتهم آمنا من معصيتهم).

و انما مهّد هذه المقدّمة لأنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما كان بصدد شرح حال المتقين تفصيلا حسبما اقترحه همام و كان ربما يسبق إلى الأوهام القاصرة أنّ ما يأتي به المتّقون من مزايا الأعمال و الصالحات و ما كلّفهم اللّه سبحانه به من محامد الخصال و القربات من أجل حاجة منه تعالى عن ذلك إليها، قدّم هذه المقدّمة تنبيها على كونه سبحانه منزّها عن ذلك، متعاليا عن صفات النقص و الحاجة في الأزل كما في الأبد، و أنه لم يكن غرضه تعالى من الخلق و الايجاد تكميل ذاته بجلب المنفعة و دفع المضرّة كما فى ساير الصناع البشرية يعملون الصنائع لافتقارهم إليها و استكمالهم بها بما في ذاتهم‏من النقص و الحاجة، و أمّا اللّه الحيّ القيّوم فهو الغنىّ الكامل المطلق في ذاته و صفاته و أفعاله و لم يخلق ما خلقه لتشديد سلطان و لا تخوّف من عواقب زمان و لا استعانة على ندّ مثاور و لا شريك مكائر و لا ضدّ منافر حسبما عرفته في الخطبة الرّابعة و الستّين و شرحها بما لا مزيد عليه.

و هذا معنى قوله (لأنه لا تضرّه معصية من عصاه و لا تنفعه طاعة من أطاعه) و قد تقدّم فى شرح الخطبة المأة و الخامسة و الثمانين أنّ غرضه من الخلق و الايجاد و من الأمر بالطاعة و الانقياد هو ايصال النفع إلى العباد و إكمالهم بالتكاليف الشرعيّة و رفعهم بالعمل بها إلى حظاير القدس و محافل الانس.
و قوله (فقسّم بينهم معايشهم و وضعهم من الدّنيا مواضعهم) تفريع على قوله: خلق الخلق لا تقرير و تاكيد، لغناه المطلق كما قاله الشارح البحراني.

و المراد أنه تعالى أعطى كلّ شي‏ء خلقه ثمّ هدى و قسّم بينهم معيشتهم أى ما يعيشون به فى الحياة الدّنيا من أنواع الرّزق و الخير و المنافع و النعماء، و وضع كلا منهم موضعه اللّايق بحاله من الفقر و اليسار و الغنى و الافتقار و السعة و الاقتار على ما يقتضيه حكمته البالغة و توجبه المصلحة الكاملة كما اشير اليه فى قوله عزّ و جلّ أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هذا.

و انما فرّع عليه السّلام هذه الجملة على ما سبق و عقّبه بها لتكون توطئة و تمهيدا بقوله (فالمتّقون فيها هم أهل الفضايل) يعني أنّ معايش الخلق فى الدّنيا لما كانت بحسب تقسيم اللّه سبحانه و اقتضاء حكمته اقتضى العناية الالهية و النظم الأصلح فى حقّ المتّقين بمقتضى كونهم من أهل السبق و القربى أن يكون عيشهم فى الدّنيا بخلاف معايش ساير الخلق و يكون حركاتهم و سكناتهم و حالاتهم وراء حالات أبناء الدّنيا، فاتّصفوا بالفضايل النفسانية و تزيّنوا بمكارم الأخلاق و محامد الأوصاف الّتي فصّلها عليه السّلام بالبيان البديع و التفصيل العجيب.

اولها أنّ (منطقهم الصواب) و هو ضدّ الخطاء يعنى أنهم لا يسكتون عما ينبغي أن يقال فيكونون مفرّطين، و لا يقولون ما ينبغي أن يسكت عنه فيكونون مفرطين‏و يحتمل أن يراد به خصوص توحيد اللّه تعالى و تمجيده و الصّلاة على نبيّه و به فسّر في قوله سبحانه لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً.

(و) الثاني أنّ (ملبسهم الاقتصاد) أى التوسّط بين الافراط و التفريط، و في الاسناد توسّع يعنى أنّ لباسهم ليس بثمين جدا مثل لباس المترفين المتكبّرين، و لا بذلة كلباس أهل الابتذال و الخسّة و الدّنائة بل متوسّط بين الأمرين.

(و) الثالث أنّ (مشيهم التواضع) و فى الاسناد أيضا توسّع، يعنى أنهم لا يمشون على وجه الأشر و البطر و الخيلاء لنهى اللّه سبحانه عن المشى على هذا الوجه فى قوله «وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا و أمره بخلافه فى قوله «وَ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ».

و قد روى فى الكافي عن عمرو بن أبي المقدام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: فيما أوحى اللّه عزّ و جلّ إلى داود: كما أنّ أقرب الناس من اللّه المتواضعون كذلك أبعد الناس من اللّه المتكبّرون.

(و) الرابع أنهم (غضّوا أبصارهم عمّا حرّم اللّه عليهم) امتثالا لأمره تعالى به فى قوله قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى‏ لَهُمْ أى يغضّوا أبصارهم عما لا يحلّ لهم النظر اليه.
و فى الوسائل من الكافى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام كلّ عين باكية يوم القيامة إلّا ثلاثة أعين: عين غضّت عن محارم اللّه، و عين سهرت في طاعة اللّه، و عين بكت في جوف اللّيل من خشية اللّه.

(و) الخامس أنّهم (وقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم) في الدّنيا و الاخرة الموجب لكمال القوّة النظرية و الحكمة العمليّة، و أعرضوا عن الاصغاء إلى اللّغو و الأباطيل كالغيبة و الغناء و الفحش و الخناء و نحوها، و قد وصفهم اللّه سبحانه بذلك في قوله «وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ» و في قوله «وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً».

و السادس أنّهم (نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالّذى نزلت في الرّخاء) يعني‏أنّهم موطّنون أنفسهم على ما قدّره اللّه في حقّهم من الشدّة و الرّخاء و السّراء و الضّراء و الضّيق و السّعة و المنحة و المحنة و محصّله وصفهم بالرّضاء بالقضاء.

روى في الكافي عن ابن سنان عمّن ذكره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت له: بأيّ شي‏ء يعلم المؤمن بأنّه مؤمن قال عليه السّلام: بالتسليم للّه و الرّضا فيما ورد عليه من سرور أو سخط.
و فى رواية أخرى فيه عنه عليه السّلام قال: رأس طاعة اللّه الصّبر و الرّضا عن اللّه فيما أحبّ العبد أو كره، و لا يرضى عبد عن اللّه فيما أحبّ أو كره إلّا كان خيرا له فيما أحبّ أو كره.

و عن محمّد بن عذافر عن أبيه عن أبي جعفر عليه السّلام قال: بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في بعض أسفاره إذ لقيه ركب فقالوا: السّلام عليك يا رسول اللّه، فقال: ما أنتم فقالوا: نحن المؤمنون يا رسول اللّه، قال: فما حقيقة ايمانكم قالوا: الرّضا بقضاء اللّه، و التفويض الى اللّه، و التسليم لأمر اللّه، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: علماء حكماء كادوا أن يكونوا من الحكمة أنبياء، فان كنتم صادقين فلا تبنوا ما لا تسكنون، و لا تجمعوا ما لا تأكلون، و اتّقوا اللّه الّذى إليه ترجعون.

(و) السابع أنه (لو لا الأجل الّذى كتب اللّه لهم لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقا إلى الثواب و خوفا من العقاب) و هو إشارة إلى غاية نفرتهم عن الدّنيا و فرط رغبتهم إلى الاخرة لما عرفوا من عظمة وعده و وعيده، يعني أنّهم بكليّتهم متوجّهون إلى العقبى مشتاقون إلى الانتقال إليها شدّة الاشتياق، لا مانع لهم من الانتقال إلّا الاجال المكتوبة و عدم بلوغها غايتها.
روى في الوسائل من الكافي عن أبي حمزة قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: من عرف اللّه خاف اللّه و من خاف اللّه سخت نفسه عن الدّنيا.

و الثامن أنّه (عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم) علما منهم بأنّه سبحانه موصوف بالعظمة و الكبرياء و الجلال غالب على الأشياء كلّها، قادر قاهر عليها، و انّ كلّ من سواه مقهور تحت قدرته داخر ذليل في قيد عبوديّته، فهوسبحانه عظيم السلطان عظيم الشأن و غيره أسير في ذلّ الامكان مفتقر اليه لا يقدر على شي‏ء إلّا باذنه.
و أشار عليه السّلام بهذا الوصف إلى شدّة يقين المتّقين و غاية توكّلهم و أنّ اعتصامهم في جميع امورهم به و توكلهم عليه و أنهم لا يهابون معه ممّن سواه.

روى في الكافي عن أبى بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: ليس شي‏ء إلّا و له حدّ قال: قلت: جعلت فداك فما حدّ التوكّل قال: اليقين، قلت: فما حدّ اليقين قال: ألّا تخاف مع اللّه شيئا.
و عن مفضل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: أوحى اللّه عزّ و جلّ إلى داود: ما اعتصم بي عبد من عبادى دون أحد من خلقي عرفت ذلك من نيّته ثمّ تكيده السماوات و الأرض و من فيهنّ الّا جعلت له المخرج من بينهنّ، و ما اعتصم عبد من عبادى بأحد من خلقي عرفت ذلك من نيّته إلّا قطعت أسباب السماوات من يده و أسخت الأرض من تحته و لم ابال بأيّ واد هلك، هذا.

و لما ذكر في الوصف السابع شدّة اشتياق المتّقين إلى الجنّة و خوفهم من العقاب أتبعه بقوله (فهم و الجنّة كمن قد رآها فهم فيها منعّمون و هم و النار كمن قد رآها و هم فيها معذّبون) إشارة إلى أنهم صاروا فى مقام الرّجاء و الشوق إلى الثواب و قوّة اليقين بحقايق وعده سبحانه بمنزلة من رأى بحسّ بصره الجنّة و سعادتها، فتنعّموا فيها و التذّوا بلذائذها، و فى مقام الخوف من النار و العقاب و كمال اليقين بحقايق وعيده تعالى بمنزلة من شاهد النّار و شقاوتها فتعذّبوا بعذابها و تألّموا بالامها.

و محصّله جمعهم بين مرتبتي الخوف و الرّجاء و بلوغهم فيه إلى الغاية القصوى، و هي مرتبة عين اليقين كما قال عليه السّلام مخبرا عن نفسه. لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا، و هذه المرتبة أعني مرتبة عين اليقين مقام جليل لا يبلغه إلّا الأوحدي من النّاس.

و قد روى في الكافي عن إسحاق بن عمّار قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صلّى بالنّاس الصبح فنظر إلى شاب في المسجد و هو يخفق و يهوى برأسه مصفرّا لونه قد نحف جسمه و غارت عيناه في رأسه، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:كيف أصبحت يا فلان قال: أصبحت يا رسول اللّه موقنا، فعجب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من قوله و قال: إنّ لكلّ يقين حقيقة فما حقيقة يقينك فقال: إنّ يقيني يا رسول اللّه هو الّذى أحزنني و أسهر ليلى و أظمأ هو اجرى فعزفت نفسي عن الدّنيا و ما فيها حتّى كأنّي أنظر إلى عرش ربّي و قد نصب للحساب و حشر الخلايق لذلك و أنا فيهم، و كانّي أنظر إلى أهل الجنّة يتنعّمون في الجنّة و يتعارفون على الأرائك يتكئون، و كأنّى أنظر إلى أهل النّار و هم فيها معذّبون مصطرخون، و كأنّى الان أسمع زفير النّار يدور فى مسامعى، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هذا عبد نوّر اللّه قلبه بالايمان ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم له: الزم ما أنت عليه، فقال الشّاب: ادع اللّه لى يا رسول اللّه أن ارزق الشهادة معك، فدعا له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النّبي فاستشهد بعد تسعة نفر و كان هو العاشر.
و قد مرّ هذا الحديث فى شرح الخطبة المأة و الثالثة عشر، و رويناه هنا أيضا لاقتضاء المقام كما هو ظاهر.

و التاسع أنّ (قلوبهم محزونة) لما غلب عليهم من الخوف.روى فى الكافى عن معروف بن خربوز عن أبي جعفر عليه السّلام قال: صلّى أمير المؤمنين عليه السّلام بالناس الصبح بالعراق فلما انصرف و عظهم فبكى و أبكاهم من خوف اللّه ثمّ قال: أما و اللّه لقد عهدت أقواما على عهد خليلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أنهم ليصبحون و يمسون شعثا غبرا خمصا بين أعينهم كركب المعزى يبيتون لربّهم سجّدا و قياما، يراوحون بين أقدامهم و جباههم، و يناجون فى فكاك رقابهم من النار، و اللّه لقد رأيتهم مع هذا و هم خائفون مشفقون.

و فيه عن أبى حمزة عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام قال: صلّى أمير المؤمنين عليه السّلام الفجر و لم يزل فى موضعه حتّى صارت الشمس على قدر رمح و أقبل على الناس بوجهه فقال: و اللّه لقد أدركت أقواما يبيتون لربّهم سجدا و قياما يخالفون بين جباههم و ركبهم كأنّ زفير النار فى آذانهم، إذا ذكر اللّه عندهم مادوا كما يميد الشجر كأنّما القوم باتوا غافلين، قال عليه السّلام: ثمّ قام فما رئي ضاحكا حتّى قبض.

(و) العاشر أنّ (شرورهم مأمونة) لأنّ مبدء الشرور و المفاسد كلّها و رأس كلّ خطيئة هو حبّ الدّنيا، و المتّقون زاهدون فيها معرضون عنها مجانبون عن شرّها و فسادها.

(و) الحادى عشر أنّ (أجسادهم نحيفة) لا تعاب أنفسهم بالصيام و القيام و قناعتهم بالقدر الضرورى من الطعام.

(و) الثاني عشر أنّ (حاجاتهم خفيفة) لاقتصارهم من حوائج الدّنيا على ضروريّاتها و عدم طلبهم منها أكثر من البلاغ.

(و) الثالث عشر أنّ (أنفسهم عفيفة) أى مصونة عن المحرّمات لكسرهم سورة القوّة الشهويّة.
روى في الوسائل من الكافى عن منصور بن حازم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: ما من عبادة أفضل عند اللّه من عفّة فرج و بطن.

و عن عبد اللّه بن ميمون القداح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: كان أمير المؤمنين عليه السّلام يقول: ما من عبادة أفضل من عفّة بطن و فرج

و الرابع عشر أنّهم (صبروا أياما قصيرة أعقبتهم) تلك الأيّام القصيرة (راحة طويلة) يعنى أنهم صبروا فى دار الدّنيا على طوارق المصائب و على مشاق الطاعات و عن لذّات المعاصى بل احتملوا جميع مكاره الدّنيا و استعملوا الصبر فى جميع أهوالها فأوجب ذلك السعادة الدائمة فى الدّار الاخرة.

و يدلّ على ذلك ما رواه فى الكافى عن حمزة بن حمران عن أبى جعفر عليه السّلام قال: الجنّة محفوفة بالمكاره و الصبر، فمن صبر على المكاره فى الدّنيا دخل الجنّة، و جهنّم محفوفة باللّذات و الشهوات فمن أعطى نفسه لذّتها و شهوتها دخل النار.
و فيه عن أبي حمزة الثمالي قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: من ابتلى من المؤمنين ببلاء فصبر عليه كان له مثل أجر ألف شهيد.

و فيه عن العزرمي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: سيأتي على النّاس زمان لا ينال فيه الملك إلّا بالقتل و التّجبّر، و لا الغنى إلّا بالغصب و البخل،و لا المحبّة إلّا باستخراج الدّين و اتباع الهوى، فمن أدرك ذلك الزّمان فصبر على الفقر و هو يقدر على الغنى، و صبر على البغضة و هو يقدر على المحبّة، و صبر على الذّل و هو يقدر على العزّ آتاه اللّه ثواب خمسين صدّيقا ممّن صدّق بي، هذا و في وصف أيّام الصبر بالقصر و الرّاحة بالطول تحريص و ترغيب اليه، و أكّد ذلك بقوله (تجارة مربحة) استعار لفظ التجارة لاكتسابهم الرّاحة في مقابل الصبر، و رشّح بلفظ الرّبح.

و كونها مربحة باعتبار قصر مدّة الصّبر على المكاره و طول مدّة الرّاحة و فناء الشّهوات الدّنيويّة و اللّذائذ النّفسانيّة و بقاء السّعادات الاخرويّة مضافة إلى خساسة الاولى في نفسها و حقارتها، و نفاسة الثّانية و شرافتها.

و أكّد ثالثا بقوله (يسّرها لهم ربّهم) يعني أنّ فوزهم بتلك النّعمة العظمى و السّعادة الدّائمة قد حصل بتوفيق اللّه سبحانه و تأييده و لطفه، ففيه ايماء إلى توجّه العناية الرّبانيّة إليهم و شمول الألطاف الالهيّة عليهم و إلى كونهم بعين رحمة اللّه و كرامته

و الخامس عشر أنّهم (أرادتهم الدّنيا فلم يريدوها) أى أرادت عجوزة الدّنيا أن تفتنهم و تغرّهم و أن يتزوّجوا بها، فأعرضوا عنها و زهدوا فيها بما كانوا يعرفونه من حالها و أنّها قتّالة غوّالة ظاهرة الغرور كاسفة النّور يونق منظرها و يوبق مخبرها قد تزيّنت بغرورها و غرّت بزينتها لا تفي بأحد من أزواجها الباقية كما لم تف بأزواجها الماضية.

(و) السادس عشر أنّ الدّنيا (أسرتهم ففدوا أنفسهم منها) الأشبه أن يكون المراد بقوله: أسرتهم، هو الاشراف على الاسر، يعني أنّهم بمقتضى المزاج الحيواني و القوى النّفسانيّة الّتي لهم كاد أن تغرّهم الدّنيا فيميلوا إليها و يقعوا في قيد اسره و سلسلة رقيّته، لكنّهم نظروا إليها بعين البصيرة و عرفوها حقّ المعرفة و غلب عقلهم على شهوتهم فرغبوا عنها و زهدوا فيها و أعرضوا عن زبرجها و زخارفها، فالمراد بفداء أنفسهم منها هو الاعراض عن الزّخارف الدّنيويّة، فكأنّهم بذلوا تلك الزّخارف‏لها و خلصوا أنفسهم منها.

و إنّما أتى بالواو في قوله: أرادتهم الدّنيا و لم يريدوها، و بالفاء في قوله: و أسرتهم ففدوا أنفسهم منها، لعدم التّرتيب بين الجملتين المتعاطفتين فى القرينة السّابقة، بخلاف هذه القرينة فانّ الفدية مترتّبة على الاسر كما لا يخفى.
و السابع عشر اتّصافهم بالتهجّد و قيام الليل و إليه أشار بقوله (أمّا الليل فصافّون أقدامهم) فيها للصّلاة علما منهم بما فيه من الفضل العظيم و الأجر الخطير و قد مدح اللّه القيام فيها و القائمين في كتابه الكريم بقوله «سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ».

قال الصّادق عليه السّلام في تفسيره: هو السّهر في الصّلاة و بقوله «أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَ قائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ» و قال تعالى أيضا إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلًا».
قال الصّادق عليه السّلام فيه قيام الرّجل عن فراشه يريد به وجه اللّه تعالى عزّ و جلّ لا يريد به غيره.
و كفى فى فضله ما رواه في الفقية عن جابر بن إسماعيل عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما السّلام أنّ رجلا سأل عليّ بن أبي طالب عن قيام اللّيل بالقرآن، فقال عليه السّلام ابشر: من صلّى من الليل عشر ليلة مخلصا ابتغاء ثواب اللّه قال اللّه لملائكته: اكتبوا لعبدي هذا من الحسنات عدد ما انبت في الليل من حبّة و ورقة و شجرة و عدد كلّ قصبة و خوص و مرعى.

و من صلّى تسع ليلة أعطاه اللّه عشر دعوات مستجابات و أعطاه اللّه كتابه بيمينه.
و من صلّى ثمن ليلة أعطاه اللّه أجر شهيد صابر صادق النّية و شفّع في أهل بيته.
و من صلّى سبع ليلة خرج من قبره يوم يبعث و وجهه كالقمر ليلة البدر حتى‏يمرّ على الصراط مع الامنين و من صلّى سدس ليلة كتب من الأوابين و غفر له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر.
و من صلّى خمس ليلة زاحم إبراهيم خليل الرّحمن في قبّته.
و من صلّى ربع ليلة كان في أوّل الفائزين حتى يمرّ على الصراط كالريح العاصف و يدخل الجنة بلا حساب.
و من صلّى ثلث ليلة لم يلق ملكا إلّا غبطه لمنزلته من اللّه و قيل ادخل من أىّ أبواب الجنة شئت.
و من صلّى نصف ليلة فلو اعطى ملؤ الأرض ذهبا سبعين ألف مرّة لم يعدل جزاه و كان له بذلك عند اللّه أفضل من سبعين رقبة يعتقها من ولد إسماعيل عليه السّلام.

و من صلّى ثلثي ليلة كان له من الحسنات قدر رمل عالج أدناها حسنة أثقل من جبل احد عشر مرّات.
و من صلّى ليلة تامّة تاليا لكتاب اللّه راكعا و ساجدا و ذاكرا اعطى من الثواب ما أدناه يخرج من الذنوب كما ولدته امّه، و يكتب له عدد ما خلق اللّه من الحسنات و مثلها درجات و يثبت النّور في قبره و ينزع الاثم و الحسد من قلبه، و يجار من عذاب القبر و يعطى براءة من النّار و يبعث من الامنين، و يقول الربّ لملائكته يا ملائكتي انظروا إلى عبدى أحيا ليله ابتغاء مرضاتي اسكنوه الفردوس و له فيها مأئة ألف مدينة فى كلّ مدينة جميع ما تشتهى الأنفس و تلذّ الأعين و لم يخطر على بال سوى ما أعددت له من الكرامة و المزيد و القربة، هذا.
و لما وصف قيامهم بالصّلاة في اللّيل أشار إلى قراءتهم و وصف قراءتهم تفصيلا بقوله (تالين لأجزاء القرآن) فانّ البيوت الّتي يتلى فيها القرآن تضي‏ء لأهل السّماء كما تضي‏ء الكواكب لأهل الأرض كما روى في غير واحد من الأخبار و تكثر بركتها و تحضرها الملائكة و تهجرها الشّياطين كما رواه في الكافي عن ابن القداح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن أمير المؤمنين عليه السّلام.

(يرتّلونه ترتيلا) قال في مجمع البحرين: التّرتيل في القرآن التّأني و تبيين الحروف بحيث يتمكّن السّامع من عدّها.
و فى الكافي عن عبد اللّه بن سليمان قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: بيّنه تبيانا و لا تهذّه هذّ الشّعر، و لا تنثره نثر الرّمل، و لكن افزعوا قلوبكم القاسية و لا يكن همّ أحدكم آخر السّورة.

و فى مجمع البحرين عن أمير المؤمنين عليه السّلام: ترتيل القرآن حفظ الوقوف و بيان الحروف، و فسّر الوقوف بالوقف التامّ و هو الوقوف على كلام لا تعلّق له بما بعده لا لفظا و لا معنا، و بالحسن و هو الّذي له تعلّق، و فسّر الثاني بالاتيان بالصّفات المعتبرة عند القراءة من الهمس و الجهر و الاستعلاء و الاطباق.

و عن الصّادق عليه السّلام الترتيل أن تتمكث فيه و تحسن به صوتك، و إذا مررت باية فيها ذكر الجنة فاسأل اللّه الجنة، و إذا مررت باية فيها ذكر النار فتعوّذ باللّه من النار.
و قوله عليه السّلام (يحزنون به أنفسهم) أى يقرؤنه بصوت حزين.
روى في الكافي عن ابن أبي عمير عمّن ذكره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ القرآن نزل بالحزن فاقرءوه بالحزن.
و فى الوسائل من الكافي عن حفص قال: ما رأيت أحدا أشدّ خوفا على نفسه من موسى بن جعفر عليهما السّلام و لا أرجى للناس منه، و كانت قراءته حزنا، فاذا قرء فكأنه يخاطب إنسانا.

و قوله: (و يستثيرون به دواء دائهم) الظاهر أنّ المراد بدائهم هو داء الذّنوب الموجب للحرمان من الجنّة و الدّخول في النّار، و بدوائه هو التّدبّر و التفكّر الموجب لقضاء ما عليهم من الحقّ و سؤال الجنّة و طلب الرّحمة و المغفرة و التعوّذ من النّار عند قراءة آيتي الوعد و الوعيد.

كما أوضحه و شرحه بقوله (فاذا مرّوا باية فيها تشويق) إلى الجنّة (ركنوا)أى مالوا و اشتاقوا (إليها طمعا و تطلعت) أى أشرفت (نفوسهم إليها شوقا و ظنّوا أنّها نصب أعينهم) أى أيقنوا أنّ تلك الاية أى الجنّة الموعودة بها معدّة لهم بين أيديهم و إنما جعلنا الظنّ بمعني اليقين لما قد مرّ من اتّصافهم بعين اليقين و أنهم و الجنّة كمن قد رآها فهم فيها منعّمون.

(و إذا مرّوا باية فيها تخويف) و تحذير من النار (أصغوا) أى أمالوا (إليها مسامع قلوبهم و ظنّوا) أى علموا (أنّ زفير جهنّم و شهيقها) أى صوت توقدها (فى اصول آذانهم) أو المراد زفير أهلها و شهيقهم، و الزّفير إدخال النفس و الشهيق إخراجه، و منه قيل: إنّ الزّفير أوّل الصوت و الشهيق آخره، و الزّفير من الصّدر و الشهيق من الحلق، و كيف كان فالمراد أنهم و النار كمن قد رآها فهم فيها معذّبون.

و محصل المراد أنّ المتّقين يقرؤن القرآن بالتّرتيل و الصوت الحسن الحزين و يشتدّ رجاؤهم عند قراءة آيات الرّجا و خوفهم عند تلاوة آيات الخوف.
روى في الوسائل عن الشيخ عن البرقي و ابن أبي عمير جميعا عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: ينبغي للعبد إذا صلّى أن يرتّل في قراءته فاذا مرّ باية فيها ذكر الجنّة و ذكر النار سأل اللّه الجنة و تعوّذ باللّه من النار، و إذا مرّ بيا أيها الناس و يا أيها الّذين آمنوا يقول لبّيك ربّنا.

و عنه عن عثمان بن عيسى عن سماعة قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام ينبغي لمن قرء القرآن إذا مرّ باية فيها مسألة أو تخويف أن يسأل عند ذلك خير ما يرجو و يسأل العافية من النار و من العذاب.
و فيه عن الكليني عن الزّهرى في حديث قال: كان عليّ بن الحسين عليهما السّلام إذا قرء مالك «ملك» يوم الدّين يكرّرها حتى يكاد أن يموت، هذا.

و لما ذكر عليه السّلام وصف قيامهم و قراءتهم أشار إلى ركوعهم بقوله (فهم حانون) أى عاطفون (على أوساطهم) يعني أنّهم يحنون ظهرهم فى الرّكوع أى يميلونه في استواء من رقبتهم و من ظهرهم من غير تقويس.

و أشار إلى سجودهم بقوله (مفترشون لجباههم واه كفّهم و ركبهم و أطراف أقدامهم)أى باسطون لهذه الأعضاء السبعة في حالة السجدة على الأرض قال سبحانه وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً.
قال في مجمع البيان روى أنّ المعتصم سأل أبا جعفر محمّد بن عليّ بن موسى الرّضا عليه السّلام عن هذه الاية فقال عليه السّلام: هي الأعضاء السبعة التي يسجد عليها.

و فى الوسائل عن الشيخ باسناده عن زرارة قال: قال أبو جعفر عليه السّلام قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: السجود على سبعة أعظم: الجبهة، و اليدين، و الرّكبتين، و الابهامين من الرّجلين، و ترغم بأنفك إرغاما أمّا الفرض فهذه السبعة و أمّا الارغام بالأنف فسنّة من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و قوله عليه السّلام (يطلبون إلى اللّه تعالى في فكاك رقابهم) إشارة إلى العلّة الغائيّة لهم من عباداتهم الليلية، يعنى أنهم يتضرّعون اليه سبحانه و يلحّون في فكاك رقابهم من النار و ادخالهم الجنة.
و الثامن عشر اتّصافهم بأوصاف يطلع عليها النّاظرون لهم نهارا، و إليه أشار بقوله (و أمّا النّهار فحلماء علماء أبرار أتقياء) يعني أنّهم متّصفون بالحلم و العلم و البرّ و التّقوى.

أما الحلم فهو فضيلة متوسّطة بين رذيلتي المهانة و الافراط في الغضب، و هو من جنود العقل و يقابله السّفه و هو من جنود الجهل، كما في الحديث المرويّ في الكافي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.
قال صدر المتألهين في شرح الكافي: الحلم الاناة و هو من شعب الاعتدال في الغضب، و السفه الخفّة و الطيش، و سفه فلان رأيه إذا كان مضطربا لا استقامة له فيكون من شعب الافراط في الغضب ضدّ الحلم الذي من شعب الاعتدال فيه.

و قال بعض شرّاح الكافي: الحلم الاناة و التثبّت في الامور، و هو يحصل عن الاعتدال فى القوّة الغضبية و يمنع من الانفعال عن الواردات المكروهة المؤذية، و من آثاره عدم جزع النفس عند الامور الهايلة و عدم طيشها فى المؤاخذة و عدم صدورحركات غير منتظمة منها و عدم إظهار المزية على الغير و عدم التهاون فى حفظ ما يجب حفظه شرعا و عقلا.

أقول و يشهد بفضل هذا الوصف: ما رواه فى الكافى عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ اللّه يحبّ الحييّ الحليم العفيف المتعفّف.
و عن سعيد بن يسار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إذا وقع بين رجلين منازعة نزل ملكان فيقولان للسفيه منهما: قلت و قلت و أنت أهل لما قلت ستجزى بما قلت، و يقولان للحليم منهما: صبرت و حلمت سيغفر اللّه لك إن أتممت ذلك، قال: فان ردّه الحليم عليه ارتفع الملكان، هذا.

و فى بعض النسخ بدل قوله عليه السّلام فحلماء: فحكماء بالكاف فيفيد اتّصافهم بالحكمة و هو أيضا من جنود العقل، و يقابله الهوى و هو من جنود الجهل كما فى الحديث الذي أشرنا إليه.
قال صدر المتألهين فى شرح هذا الحديث من الكافى: الحكمة هى العلم بحقايق الأشياء كما هى بقدر الطاقة و العمل على طبقه، و الهوى الرّأى الفاسد و اتّباع النفس شهواتها الباطلة، و يحتمل أن يكون المراد بالحكمة ما يستعمل فى كتب الأخلاق و هو التوسط فى القوّة الفكريّة بين الافراط الذي هو الجربزة و التفريط الذى هو البلاهة فيكون المراد بالهوى الجربزة بما يلزمها من الاراء الفاسدة و العقائد الباطلة، لأنّها تضادّ الحكمة التي بهذا المعنى، و كلا المعنيين من صفات العقل و ملكاته و مقابلاتهما من صفات الجهل و توابعه.

و أما العلم فهو أيضا من جنود العقل، و يقابله الجهل كما فى الحديث المتقدّم إليه الاشارة، و المراد بكونهم علماء كما لهم في القوّة النظرية بالعلم النظرى الذي هو معرفة الصانع و صفاته و العلم الشرعى الذى هو معرفة تكاليفه و أحكامه.

و أما البر فقد يطلق و يراد به الصادق، و قد يطلق على الذى من عادته الاحسان‏و بهما فسّر قوله «انّه هو البرّ الرّحيم» و كثيرا ما يخصّ الأبرار بالأولياء و الزّهاد و العبّاد و به فسّر قوله تعالى إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ أى الأولياء المطيعون في الدّنيا و قال في مجمع البيان في تفسير قوله إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً هو جمع البرّ المطيع للّه المحسن في أفعاله، و قال الحسن: هم الّذين لا يؤذون الذّر و لا يرضون الشرّ و قيل: هم الذين يقضون الحقوق اللازمة و النّافلة.

و اما التقوى فالمراد به هنا الخوف، يعنى أنّهم خائفون من اللّه تعالى و تاركون جميع القبايح البدنيّة و النفسانيّة.
و أشار إلى كمال خوفهم بقوله (قد بريهم الخوف برى القداح) أى نحتهم مثل نحت السّهام و صاروا مثلها في الدّقة و النحافة و إنّما يفعل الخوف ذلك لاشتغال النّفس المدبّرة للبدن به عن النظر في صلاح البدن و وقوف القوّة الشّهويّة و الغاذية عن أداء بدل ما يتحلّل.

و قد كان هذا الوصف أعني كمال الخوف من اللّه سبحانه و نحول البدن من شدّته مأثورا عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام.
فقد روى المفيد في الارشاد عن أبي جعفر عليه السّلام قال: كان عليّ بن الحسين عليهما السّلام يصلّى في اليوم و اللّيلة ألف ركعة و كانت الرّيح تميله بمنزلة السّنبلة.
و فيه أيضا عن عبد اللّه بن محمّد القرشي قال: كان عليّ بن الحسين عليهما السّلام إذا توضّأ يصفرّ لونه فيقول له أهله: ما هذا الّذي يغشاك فيقول: أ تدرون لمن أتأهّب للقيام بين يديه.

و فيه أيضا عن سعيد بن كلثوم عن الصّادق عليه السّلام في حديث مدح فيه عليّ بن أبي طالب بما هو أهله و أطراه إلى أن قال: و ما أشبهه من ولده و لا أهل بيته أحد أقرب شبها به في لباسه و فقهه من عليّ بن الحسين عليهما السّلام، و لقد دخل ابنه أبو جعفر عليه فاذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد فرآه قد اصفرّ لونه من السّهر و رمصت عيناه من البكاء و دبرت جبهته و انخرم أنفه من السّجود و ورمت ساقاه و قدماه من‏القيام في الصّلاة قال أبو جعفر: فلم أملك حين رأيته بتلك الحال البكاء فبكيت رحمة له الحديث.

و قد كان شيعتهم عليهم السّلام أيضا متّصفون بذلك.
كما رواه في الوسايل من الخصال عن عمرو بن أبي المقدام عن أبيه قال: قال لي أبو جعفر عليه السّلام يا أبا المقدام إنّما شيعة علىّ الشّاحبون النّاحلون الذّابلون، ذابلة شفاههم خميصة بطونهم متغيّرة ألوانهم مصفرّة وجوههم، إذا جنّهم اللّيل اتّخذوا الأرض فراشا و استقبلوا الأرض بجباههم، كثير سجودهم كثيرة دموعهم كثير دعاؤهم كثير بكاؤهم يفرح النّاس و هم محزونون.

و فيه من أمالي ابن الشيخ قال: روى انّ أمير المؤمنين خرج ذات ليلة من المسجد و كانت ليلة قمراء فأمّ الجبانة و لحقه جماعة يقفون أثره فوقف عليهم ثمّ قال: من أنتم قالوا: شيعتك يا أمير المؤمنين، فتفرّس في وجوههم قال: فما لى لا أرى عليكم سيماء الشيعة قالوا: و ما سيماء الشيعة يا أمير المؤمنين قال: صفر الوجوه من السهر عمش العيون من البكاء حدب الظهور من القيام خمص البطون من الصيام ذبل الشفاه من الدّعاء عليهم غبرة الخاشعين، هذا.
و لغلبة الخوف عليهم و نحول أجسادهم و انحلال أعضائهم و شحب ألوانهم من الجدّ و الاجتهاد في العبادة (ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى و) الحال أنه (ما بالقوم من مرض و) لتوجّه نفوسهم بالملاء الأعلى، و خروج أفعالهم عن المعتادة المتعارفة بين الناس (يقول) الناظر لهم إنهم (قد خولطوا) أى اختلّ عقلهم و فسد (و) الحال أنهم ما خولطوا بل (قد خالطهم) أى مازجهم (أمر عظيم) من الخوف فتولهوا لأجله.

التاسع عشر أنّهم (لا يرضون من أعمالهم القليل) أى لا يقنعون بالقليل لعلمهم بشرف الغايات المقصودة من العبادات و عظم ما يترتّب عليها من الثمرات، و هو العتق من النار و الدّخول فى الجنة و الوصول إلى رضوان اللّه الذي هو أعظم اللّذات و أشرف الغايات.

و لذلك أنّ أولياء الدّين و أئمة التقوى و اليقين كان هممهم مقصورة على الجدّ و الاجتهاد و التفرّغ للعبادة.
و لقد قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كما فى رواية الاحتجاج عن الكاظم عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السّلام عشر سنين على أطراف أصابعه حتى تورّمت قدماه و اصفرّ وجهه يقوم اللّيل أجمع حتى عوتب فى ذلك فقال اللّه تعالى «طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى‏» بل لتسعد به.

و فى رواية الكافى عن أبى بصير عن الباقر عليه السّلام قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عند عايشة ليلتها فقالت: يا رسول اللّه لم تتعب نفسك و قد غفر لك ما تقدّم من ذنبك و ما تأخّر فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا عايشة ألا أكون عبدا شكورا و كان أمير المؤمنين عليه السّلام يصلّي فى اليوم و اللّيلة ألف ركعة، و كذلك ولده عليّ بن الحسين عليهما السّلام حسبما عرفت آنفا.

و روى فى الوسايل من العلل عن أبى حمزة قال: سألت مولاة لعليّ بن الحسين عليهما السّلام بعد موته فقلت: صفى لى امور علىّ بن الحسين عليهما السّلام فقالت: اطنب أو اختصر فقلت: بل اختصري، قال: ما أتيته بطعام نهارا قطّ و لا فرشت له فراشا بليل قطّ.

و روى فيه أيضا من العيون عن عبد السلام بن صالح الهروى فى حديث انّ الرّضا عليه السّلام كان ربما يصلّى فى يومه و ليلته ألف ركعة، و انما ينفتل من صلاته ساعة فى صدر النهار و قبل الزّوال و عند اصفرار الشمس، فهو فى هذه الأوقات قاعد فى صلاة «مصلاه ظ» يناجى ربه.
إلى غير ذلك من الأخبار الواردة فى وصف عباداتهم عليهم السّلام، و كفى فى تأكد المداومة على العبادة و التفرّغ لها بقوله سبحانه وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ.

روى فى الوسايل من العلل بسنده عن جميل بن درّاج قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: جعلت فداك ما معنى قول اللّه عزّ و جلّ وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ فقال: خلقهم للعبادة.

و فيه عن الكليني عن عمر بن يزيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال فى التوراة مكتوب يا ابن آدم تفرغ لعبادتى أملاء قلبك غنى و لا أكلك إلى طلبك، و علىّ أن أسدّ فاقتك و أملاء قلبك خوفا منّى.
و عن عمر بن جميع عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أفضل النّاس من عشق العبادة فعانقها و أحبّها بقلبه و باشرها بجسده و تفرغ لها فهو لا يبالى على ما أصبح من الدّنيا على عسر أم يسر.

و عن أبى جميلة قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: قال اللّه تبارك و تعالى: يا عبادى الصّديقين تنعّموا بعبادتى فى الدّنيا فانّكم تنعّمون بها فى الاخرة.
(و) العشرون أنّهم (لا يستكثرون) من أعمالهم (الكثير) أى لا يعجبون بكثرة العمل و لا يعدّونه كثيرا و ان أتعبوا فيه أنفسهم و بلغوا غاية جهدهم، لمعرفتهم بأنّ ما أتوا به من العبادات و إن بلغت في كثرتها غاية الغايات زهيدة قليلة في جنب ما يترتّب عليها من الثّمرات، كما أشار إليه في الخطبة الثانية و الخمسين بقوله: فو اللّه لو حننتم حنين الوله العجال و دعوتهم بهديل الحمام و جأرتم جؤار المتبتّلي الرّهبان و خرجتم إلى اللّه من الأموال و الأولاد التماس القربة اليه في ارتفاع درجة عنده أو غفران سيئة أحصتها كتبه و حفظها رسله، لكان قليلا فيما أرجو لكم من ثوابه و أخاف عليكم من عقابه، هذا.

مع ما في استكثار العمل من العجب الموجب لاهباطه و للوقوع في الخزى العظيم و العذاب الأليم.
روى في الوسائل من الخصال عن سعد الاسكاف عن أبي جعفر عليه السّلام قال: ثلاث قاصمات الظّهر: رجل استكثر عمله، و نسى ذنوبه، و أعجب برأيه.

و من الخصال عن عبد الرّحمن بن الحجاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال ابليس: إذا استمكنت من ابن آدم في ثلاث لم ابال ما عمل فانّه غير مقبول: إذا استكثر عمله، و نسى ذنبه، و دخله العجب.
و فيه عن الكليني عن سماعة قال: سمعت أبا الحسن عليه السّلام يقول: لا تستكثرواالخير و لا تستقلّوا قليل الذّنوب.
و عن الكليني عن يونس عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حديث: قال موسى بن عمران لابليس: أخبرني بالذّنب الّذى إذا أذنبه ابن آدم استحوذت عليه قال: إذا أعجبته نفسه، و استكثر عمله، و صغر في عينه ذنبه.

و قال: قال اللّه عزّ و جلّ لداود: يا داود بشّر المذنبين و أنذر الصّديقين، قال: كيف ابشّر المذنبين و أنذر الصدّيقين قال: يا داود بشّر المذنبين أني أقبل التوبة و أعفو عن الذّنب، و أنذر الصدّيقين أن لا يعجبوا بأعمالهم فانّه ليس عبد أنصبه للحساب إلّا هلك و لمّا ذكر عدم رضاهم بالقليل و اعجابهم بالكثير فرّع عليه قوله (فهم لأنفسهم متّهمون و من أعمالهم مشفقون) يعني أنّهم يتّهمون أنفسهم و ينسبونها إلى التقصير في العبادة.

روى في الوسائل عن الكليني عن سعد بن أبي خلف عن أبي الحسن موسى عليه السّلام قال: قال لبعض ولده: يا بنيّ عليك بالجدّ و لا تخرجنّ نفسك من حدّ التقصير في عبادة اللّه عزّ و جل فانّ اللّه لا يعبد حقّ عبادته.
و عن الفضل بن يونس عن أبي الحسن عليه السّلام قال: أكثر من أن تقول: اللّهم لا تجعلني من المعارين و لا تخرجني من التقصير، قال: قلت له: أمّا المعارون فقد عرفت إنّ الرّجل يعار الدّين ثمّ يخرج منه، فما معني لا تخرجني من التقصير فقال: كلّ عمل تريد به وجه اللّه فكن فيه مقصّرا عند نفسك فانّ النّاس كلّهم في أعمالهم فيما بينهم و بين اللّه مقصّرون إلّا من عصمه اللّه.

و عن أبي عبيدة الحذاء عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قال اللّه عزّ و جلّ: لا يتّكل العاملون لي على أعمالهم الّتي يعملونها لثوابي، فانّهم لو اجتهدوا و أتّعبوا أنفسهم أعمارهم في عباداتي كانوا مقصّرين غير بالغين في عبادتهم كنه عبادتي فيما يطلبون عندى من كرامتي و النعيم في جنّاتي و رفيع الدّرجات العلي في جوارى و لكن برحمتي فليتّقوا «فليثقواظ»، و فضلي فليرجوا، و الى حسن الظنّ بي فليطمئنّوا و أمّا اشفاقهم من أعمالهم فخوفهم من عدم قبولها أو من عدم كونها جامعةلشرائط الصّحة و الكمال على الوجه الّذي يليق به تعالى فيؤاخذوا به، و قد مدح اللّه سبحانه المؤمنين بذلك في قوله «وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ».
روى فى الصافى من الكافى عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن هذه الاية فقال: هى اشفاقهم و رجاؤهم يخافون أن تردّ عليهم أعمالهم إن لم يطيعوا اللّه و يرجون أن تقبل منهم.

و فى مجمع البيان قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: معناه خائفة أن لا يقبل منهم.
و فى الوسائل من الكافى عن عبد الرّحمن بن الحجاج قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام الرّجل يعمل العمل و هو خائف مشفق ثمّ يعمل شيئا من البرّ فيدخله شبه العجب به فقال عليه السّلام: هو فى حاله الأولى و هو خائف أحسن حالا منه فى حال عجبه.

الحادى و العشرون أنّه (إذا زكي أحدهم) أى وصف و مدح بما فيه من محامد الأوصاف و مكارم الأخلاق و مراقبة العبادات و مواظبة الطاعات (خاف مما يقال له) و اشمئزّ منه (فيقول أنا أعلم بنفسى) أى بعيوبها (من غيري و ربّي أعلم منّي بنفسي) و إنّما يشمئزّ و يخاف من التّزكية لكون الرّضا بها مظنّة الاعجاب بالنفس و الادلال بالعمل.
و لهذه النّكتة أيضا نهى اللّه سبحانه عن تزكية النفس قال تعالى فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى‏ أى لا تثنوا عليها بزكاء العمل و زيادة الخير و الطهارة من المعاصى و الرّذائل، فانّه يعلم التّقى و غيره منكم قبل أن يخرجكم من صلب آدم.
قال فى مجمع البيان: أى لا تعظّموها و لا تمدحوها بما ليس لها فانّى أعلم بها، و قيل: معناه لا تزكوها بما فيها من الخير ليكون أقرب إلى النسك و الخشوع، و أبعد من الرّيا هو أعلم بمن برّ و أطاع و أخلص العمل.
و روى فى الصافى من العلل عن الصّادق عليه السّلام أنّه سئل عنها قال: يقول: لا يفتخر أحدكم بكثرة صلاته و صيامه و زكاته و نسكه، لأنّ اللّه عزّ و جل أعلم بمن اتّقى منكم.

و قوله (اللهمّ لا تؤاخذني بما يقولون و اجعلنى أفضل مما يظنّون و اغفر لى‏ما لا يعلمون) أى لا تؤاخذني بتزكية المزكين التي هى مظنة الاعجاب الموجب للسخط و المؤاخذة، و اجعلنى أفضل مما يظنّون فى التّقوى و الورع، و اغفر لى الهفوات و الاثام التي أنت عالم بها و هى مستورة عنهم و على ما ذكرنا فهذه الجملة الدّعائية متمّ كلام المتّقين الذى حكاه عليه السّلام عنهم، يعنى إذا زكي أحدهم يخاف منه و يجيب المزكّى بقوله: أنا أعلم بنفسى اه، و يدعو ربه بقوله: اللهمّ لا تؤاخذني اه.

و العجب من الشارح المعتزلي حيث زعم أنّ هذه الجملة من كلام أمير المؤمنين نفسه لا حكاية عن المتّقين قال: و قوله: اللهمّ لا تؤاخذني بما يقولون، إلى آخر الكلام مفرد مستقلّ بنفسه منقول عنه عليه السّلام أنه قاله لقوم مرّ عليهم و هم مختلفون فى أمره فمنهم الحامد له و منهم الذّام فقال: اللهمّ لا تؤاخذني اه، و معناه: اللهمّ إن كان ما ينسبه الذّامون إلىّ من الأفعال الموجبة للذمّ حقا فلا تؤاخذني بذلك، و اغفر لى ما لا يعلمونه من أفعالى، و ان كان ما يقوله الحامدون حقا فاجعلنى أفضل مما يظنّونه فيّ، انتهى.

و الأظهر ما ذكرنا كما لا يخفى، هذا.
و لما ذكر جملة من أوصافهم الجميلة أردفها بساير أوصافهم التي بها يعرفون و قال: (فمن علامة أحدهم أنك ترى له قوّة فى دين) أى تراه متصلّبا فيه لا يؤثّر فيه تشكيك المشكك و لا ينخدع بخداع الناس.
(و حزما في لين) أى يكون لينه عن حزم و تثبّت لا عن مهانة و قال الشارح البحراني يكون له الحزم في الامور الدّنيوية و التّثبّت فيها ممزوجا باللّين للخلق و عدم الفظاظة، و هي فضيلة العدل في المعاملة مع الخلق.

(و ايمانا في يقين) أى ايمانا مع يقين، فانّ الايمان و هو معرفة الصّانع و الرّسول و التّصديق بما جاء به من عند اللّه لما كان قابلا للشدّة و الضّعف، فتارة يكون عن وجه التقليد و هو الاعتقاد المطابق لا لموجب، و اخرى عن وجه العلم و هو الاعتقاد المطابق لموجب هو الدّليل، و ثالثة عن العلم به مع العلم بأنّه لا يكون إلّا كذلك و هو علم اليقين، أراد أنّ علمهم باصول العقائد علم يقين لا يتطرّق إليه احتمال‏و فى الكافي عن جابر قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا أخا جعفي انّ الايمان أفضل من الاسلام و إنّ اليقين أفضل من الايمان، و ما من شي‏ء أعزّ من اليقين.

و عن عليّ بن إبراهيم عن محمّد بن عيسى عن يونس قال: سألت أبا الحسن الرّضا عليه السّلام عن الايمان و الاسلام فقال: قال أبو جعفر عليه السّلام: إنّما هو الاسلام و الايمان فوقه بدرجة و التقوى فوق الايمان بدرجة، و اليقين فوق التقوى بدرجة، و لم يقسّم بين النّاس شي‏ء أقلّ من اليقين، قال: قلت: فأىّ شي‏ء اليقين قال: التوكّل على اللّه و التسليم للّه، و الرّضا بقضاء اللّه، و التفويض إلى اللّه، قلت: فما تفسير ذلك قال: هكذا قال أبو جعفر عليه السّلام.
قال بعض شرّاح الكافي في شرح هذا الحديث: الاسلام هو الاقرار و الايمان إما التصديق أو التّصديق مع الاقرار، و على التقديرين فهو فوق الاسلام بدرجة أما على الثاني فظاهر و أمّا على الأوّل فلأنّ التصديق القلبي أفضل و أعلى من الاقرار اللّساني كما أنّ القلب أفضل من اللّسان، و التقوى فوق الايمان بدرجة لأنّ التقوى هو التجنّب عمّا يضرّ في الاخرة و إن كان ضرره يسيرا، و اليقين فوق التقوى لأنّ التقوى قد لا يكون في مرتبة اليقين، و هي الّتي أشار إليها أمير المؤمنين عليه السّلام بقوله: لو كشف الغطاء لما ازددت يقينا.

(و حرصا في علم) أى و حرصا في طلب العلم النّافع فى الاخرة و الازدياد منه (و علما فى حلم) أى علما ممزوجا بالحلم و قد مرّ توضيحه فى شرح قوله و أمّا النّهار فعلماء حلماء.
(و قصدا فى غنى) يحتمل أن يكون المراد اقتصاده فى طلب المال و تحصيل الثروة، يعنى أنّه لا يجاوز الحدّ فى كسب المال و تحصيل الغنى بحيث يؤدّى إلى فوات بعض ما عليه من الفرائض كما هو المشاهد في أبناء الدّنيا، و أن يكون المراد أنّه مع غناه مقتصد فى حركاته و سكناته و مصارف ماله بل جميع أفعاله يعنى أنّ غناه لم يوجب طغيانه و خروجه عن القصد و تجاوزه عن الحدّ كما قال تعالى كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى‏ أَنْ رَآهُ.

(و خشوعا فى عبادة) أى خضوعا و تذللا فى عباداته، و قد وصف اللّه المؤمنين بذلك فى قوله «الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ» قال فى مجمع البيان أى خاضعون متواضعون متذلّلون لا يدفعون أبصارهم عن مواضع سجودهم و لا يلتفتون يمينا و شمالا.
و روى أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رأى رجلا يعبث بلحيته في صلاته فقال: أما انّه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه.

و في هذا دلالة على أنّ الخشوع في الصّلاة يكون بالقلب و بالجوارح، فأمّا بالقلب فهو أن يفرغ قلبه بجميع الهمّة لها و الاعراض عمّا سواها فلا يكون فيه غير العبادة و المعبود، و أمّا بالجوارح فهو غضّ البصر و الاقبال عليها و ترك الالتفات و العبث قال ابن عبّاس خشع فلا يعرف من على يمينه و من على يساره.
(و تجمّلا في فاقة) أى يتعفّف و يظهر الغنى في حال فقره و يترك السّؤال و يستر ما هو عليه من الفقر، و أصل التجمّل هو تكلّف الجميل.

و قد مدح اللّه سبحانه أصحاب الصفة بذلك في قوله «لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ» و كانوا نحوا من أربعمائة من فقراء المهاجرين يسكنون صفّة مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يستغرقون أوقاتهم بالتعلّم و العبادة و كانوا يخرجون في كلّ سريّة يبعثها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يظنّهم الجاهل بحالهم و باطن امورهم أغنياء من التعفّف أى من أجل التعفّف و الامتناع من السّؤال و التجمّل فى اللّباس و السّتر لما هم عليه من الفقر و سوء الحال طلبا لرضوان اللّه و جزيل ثوابه تعرفهم بسيماهم أى تعرف حالهم بما يرى فى وجوههم من علامة الفقر من رثاثة الحال و صفرة الوجه لا يسئلون النّاس أصلا فيكون إلحاح أى إصرار فى السّؤال، فهو من قبيل السّالبة بانتفاء الموضوع مثل قولك: ما رأيت مثله و أنت تريد أنّه لا مثل له فيرى، لا أنّ له مثلا ما رأيته.

قال فى مجمع البيان فى الحديث: إنّ اللّه يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده‏و يكره البؤس و التّباؤس، و يحبّ الحليم المتعفّف من عباده و يبغض البذى السّائل الملحف.«» (و صبرا فى شدّة) أى يتحمّل على شدايد الدّنيا و مكارهها و يستحقرها بجنب ما يتصوّره من الفرحة بلقاء اللّه و بما بشّر به من عظيم الأجر للصّابرين فى كتابه المبين مضافا إلى ما فيه من التّأسّي و الاتباع للسلف الصالحين من الأنبياء و المرسلين و أولياء الدّين.

روى فى الكافى عن حفص بن غياث قال: قال لى أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا حفص إنّ من صبر صبر قليلا و انّ من جزع جزع قليلا، ثمّ قال: عليك بالصبر فى جميع امورك فانّ اللّه عزّ و جلّ بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأمره بالصبر و الرّفق فقال وَ اصْبِرْ عَلى‏ ما يَقُولُونَ وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا. وَ ذَرْنِي وَ الْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ و قال تبارك و تعالى وَ لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَ ما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا فصبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى نالوه بالعظايم و رموه بها، فضاق صدره فأنزل اللّه عزّ و جلّ وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ثمّ كذّبوه و رموه فحزن لذلك فأنزل اللّه عزّ و جلّ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ.

وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى‏ ما كُذِّبُوا وَ أُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا فألزم النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نفسه الصبر فتعدّوا فذكروا اللّه تعالى و كذّبوه فقال: قد صبرت فى نفسى و عرضى و لا صبر لى على ذكر إلهى فأنزل اللّه عزّ و جلّ وَ لَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ ما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ.

فَاصْبِرْ عَلى‏ ما يَقُولُونَ فصبر النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فى جميع أحواله ثمّ بشر فى عترته بالأئمة و وصفوا بالصبر فقال جلّ ثناؤه «وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنالَمَّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ» فعند ذلك قال صلّى اللّه عليه و آله الصبر من الايمان كالرّأس من الجسد، فشكر اللّه عزّ و جلّ ذلك له فأنزل اللّه عزّ و جلّ وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى‏ عَلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ بِما فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنه بشرى و انتقام فأباح اللّه عزّ و جلّ له قتال المشركين فأنزل فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ احْصُرُوهُمْ وَ اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ و اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ فقتلهم اللّه على يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أحبائه و عجّل له ثواب صبره مع ما ادّخر له فى الاخرة، فمن صبر و احتسب لم يخرج من الدّنيا حتى يقرّ اللّه عينه فى أعدائه مع ما ادّخر له فى الاخرة.

(و طلبا فى حلال) أى يطلب الرّزق من الحلال و يقتصر عليه و لا يطلبه من الحرام.
روى فى الوسايل عن الكلينىّ باسناده عن أبى حمزة الثمالى عن أبى جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فى حجة الوداع: ألا إنّ الرّوح الأمين نفث فى روعى أنه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتّقوا اللّه و أجملوا فى الطلب و لا يخفنكم استبطاء شي‏ء من الرّزق أن تطلبوه بمعصية اللّه، فانّ اللّه تبارك و تعالى قسّم الأرزاق بين خلقه حلالا و لم يقسّمها حراما، فمن اتّقى و صبر آتاه اللّه برزقه من حلّه و من هتك حجاب السرّ «كذا» و عجل فأخذه من غير جلّه قصّ به من رزقه الحلال و حوسب عليه يوم القيامة و فيه عن المفيد فى المقنعة قال: قال الصادق عليه السّلام الرّزق مقسوم على ضربين أحدهما واصل إلى صاحبه و ان لم يطلبه، و الاخر معلّق بطلبه، فالذى قسّم للعبد على كلّ حال آتيه و إن لم يسع له، و الذى قسّم له بالسعى فينبغى أن يلتمسه من وجوهه و هو ما أحلّه اللّه له دون غيره، فان طلبه من جهة الحرام فوجده حسب عليه برزقه و حوسب به.

(و نشاطا فى هدى) أى خفة و اسراعا فيه، و بعبارة اخرى أن يكون سلوكه لسبيل اللّه و اتيانه بالعبادات المشروعة الموصلة إلى رضوان اللّه سبحانه بطيب النفس‏و على وجه الخفّة و السهولة لا عن الكسل و التغافل، و ذلك ينشأ عن قوّة اليقين فيما وعد اللّه المتّقين من الجزاء الجميل و الأجر العظيم بخلاف أهل الرّيا فانّه يكسل فى الخلوة و ينشط بين الناس.

كما روى فى الوسايل عن الكلينىّ عن السكونيّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: ثلاث علامات للمرائى: ينشط إذا رأى الناس، و يكسل إذا كان وحده، و يحبّ أن يحمد فى جميع اموره.

(و تحرّجا عن طمع) أى تجنّبا عنه أى لا يطمع فيما في أيدى النّاس لعلمه بأنّه من الرّذايل النّفسانيّة و منشأ المفاسد العظيمة لأنّه يورث الذّل و الاستخفاف و الحقد و الحسد و العداوة و الغيبة و ظهور الفضايح و المداهنة لأهل المعاصي و النّفاق و الرّيا و سدّ باب النّهى عن المنكر و الأمر بالمعروف و ترك التّوكّل على اللّه و التّضرع إليه و عدم الرّضا بقسمه إلى غير ذلك ممّا لا يحصى.

روى في الكافي عن سعدان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال قلت له: الّذى يثبت الايمان في العبد قال: الورع و الذى يخرجه منه قال: الطمع.
و عن الزّهري قال: قال عليّ بن الحسين عليهما السّلام: رأيت الخير كلّه قد اجتمع في قطع الطمع مما في أيدى الناس.
و فيه مرفوعا عن أبي جعفر عليه السّلام قال: بئس العبد عبد له طمع يقوده و بئس العبد عبد له رغبة تذلّه.
(يعمل الأعمال الصالحة و هو على و جل) أى على خوف من ردّها و عدم قبولها لعدم اقترانها بالشرايط المقتضية للقبول كما قال تعالى وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ و قد مضى توضيح ذلك في شرح قوله عليه السّلام من هذه الخطبة: و من أعمالهم مشفقون.

(يمسي و همه الشكر و يصبح و همه الذّكر) قال الشارح البحراني أى يكون همّه عند المساء الشكر على ما رزق بالنهار و ما لم يرزق، و يصبح و همّه ذكر اللّه ليذكره اللّه فيرزقه من الكمالات النفسانية و البدنيّة كما قال تعالى فَاذْكُرُونِي‏ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا أقول: ما ذكره (ره) قاصر عن تأدية المراد غير واف بافادة نكتة تقييد الاهتمام بالذكر بالصباح و الاهتمام بالشكر بالمساء، فالأولى أن يقال: أما كون همّه مقصورا على الذّكر في الصباح فلتأكّد استحباب الذكر فيه و يدلّ عليه ما رواه في الوسايل من مجالس الصدوق باسناده عن عمير بن ميمون قال: رأيت الحسن بن عليّ عليهما السّلام يقعد في مجلسه حين يصلّى الفجر حتى تطلع الشمس، و سمعته يقول سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: من صلّى الفجر ثمّ جلس في مجلسه يذكر اللّه حتى تطلع الشمس ستره اللّه من النار ستره اللّه من النار ستره اللّه من النار.

و فيه أيضا من المجالس عن أنس في حديث قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعثمان ابن مظعون: من صلّى الفجر في جماعة ثمّ جلس يذكر اللّه حتى يطلع الشمس كان له في الفردوس سبعون درجة بعد ما بين درجتين كحضر الفرس الجواد المضمر سبعين سنة.

و فيه عن الشيخ عن ابن عمر عن الحسن بن عليّ عليهما السّلام قال: سمعت أبي عليّ بن أبي طالب عليه السّلام يقول: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أيما امرء جلس في مصلّاه الذي صلّى فيه الفجر يذكر اللّه حتى تطلع الشمس كان له من الأجر كحجاج بيت اللّه و غفر له.

و النكتة الاخرى في ذلك أنّ اللّه سبحانه لما خلق النهار لتحصيل المعاش و طلب الرّزق و الابتغاء من فضله كما أنّه خلق اللّيل للدّعة و السّكون و الراحة و النوم و كان للذكر عند الصباح مدخل عظيم في الرّزق لا جرم كان اهتمامهم بالذكر فيه أما أن خلق النهار للرّزق و المعاش فلقوله سبحانه وَ جَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً. وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً. وَ جَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً و أما أنّ الذّكر فى الصبح جالب للرّزق.

فلما رواه فى الوسائل عن الصادق عليه السّلام قال: الجلوس بعد صلاة الغداة في التعقيب و الدعاء حتى تطلع الشمس أبلغ في طلب الرّزق من الضرب في الأرض و فيه عن الكليني عن حماد بن عثمان قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: لجلوس الرّجل فى دبر صلاة الفجر إلى طلوع الشمس أنفذ في طلب الرزق من‏ركوب البحر، قلت: قد يكون للرجل الحاجة يخاف فوتها فقال عليه السّلام: يدلج فيها و ليذكر اللّه عزّ و جلّ فانه في تعقيب ما دام على وضوئه.

و بمعناهما أخبار اخر لا نطيل بروايتها.
و اما كون همّه بالشكر عند المساء، فلأنّ المساء ضدّ الصّباح و إذا كان طلب الرّزق و استنزال النعمة بالذّكر فى أوّل النّهار حسبما عرفت، فناسب أن يكون الشكر على النعم النّازلة فى النّهار فى آخره كما هو واضح.
(يبيت حذرا و يصبح فرحا) الظاهر عدم القصد إلى تخصيص الحذر بالبيات و الفرح بالصّباح، و إنّما المراد أنّه يبيت و يصبح جامعا بين وظيفتى الخوف و الرّجا، فعبّر عن الخوف بالحذر و عن الرّجاء بالفرح لكونه موجبا للفرح و السرور.
و أشار إلى علّتهما بقوله (حذرا لما حذّر) منه (من الغفلة) و التقصير فى رعاية وظايف العبودية، لما عرفت فى شرح قوله: فهم لأنفسهم متّهمون و من أعمالهم مشفقون، من عدم جواز إخراج النّفس من حدّ التّقصير فى عبادته تعالى و إن بولغ فيها.

و بقوله (و فرحا بما أصاب من الفضل و الرّحمة) أى بما وفّق له من فضل اللّه سبحانه و ما تفضّل به عليه من دين الاسلام و موالاة محمّد و آل محمّد عليهم السّلام و ما أتى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم به من شرايع الأحكام، فانّ ذلك كلّه فضل منه عزّ و جلّ و رحمة يوفّق له من يشاء من عباده كما قال تعالى وَ لا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى‏ هُدَى اللَّهِ. أَنْ يُؤْتى‏ أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ.

و يحتمل أن يكون المراد بما أصاب خصوص ما أتى به من الفروعات العمليّة و العبادات الشرعية الموجبة لفضل اللّه و رحمته عليه فى الاخرة، فيكون محصل المراد بهذه الجملة سروره و فرحه بحسناته، لما فيها من رجاء الأجر و الثواب، و بالجملة السابقة مساءته و خوفه من الغفلة لما فيها من الوزر و العقاب.
روى فى الوسائل عن الكليني، عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من سرّته حسنته و ساءته سيّئته فهو مؤمن.

و عن سليمان عمّن ذكره عن أبى جعفر عليه السّلام قال: سئل النّبى صلّى اللّه عليه و آله عن خيار العباد فقال: الّذين إذا احسنوا استبشروا، و إذا أساؤا استغفروا، و إذا اعطوا شكروا، و إذا ابتلوا صبروا، و إذا غضبوا غفروا.
(ان استصعبت عليه نفسه فيما تكره لم يعطها سؤلها فيما تحبّ) لما كان من شأن المتّقى كراهته للمعاصى و محبّته للحسنات، و من شأن نفسه الأمارة بالسوء عكس ذلك أى كراهته للحسنات و محبّته للمعاصى يقول عليه السّلام إنّ نفسه إن لم تطعه و لم يتمكّن له فى إتيان العبادات و الحسنات التي تكرهها و كان ميلها و محبّتها في السيئات لم يعطها سؤلها و لا يطاوعها فيما تريد، بل يقهرها على خلاف ما تكره و تحبّ، و محصّله أنّه يجاهد نفسه لعلمه بأنّها عدوّ له.

روى فى الوسائل عن الكليني عن أحمد بن محمّد بن خالد رفعه قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام لرجل: اجعل قلبك قرينا برّا و ولدا واصلا و اجعل علمك والدا تتبعه و اجعل نفسك عدوّا تجاهده و اجعل مالك عارية تردّها.
و فيه عن الصّدوق قال: و من ألفاظ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: الشّديد من غلب نفسه.
و عن الصّدوق عن المفضّل بن عمر قال قال الصّادق جعفر بن محمّد عليهما السّلام: من لم يكن له واعظ من قلبه و زاجر من نفسه و لم يكن له قرين مرشد استمكن عدوّه من عنقه.

و هذا الجهاد أعنى مجاهدة النفس هو الّذى سمّاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالجهاد الأكبر كما مرّ فى الحديث الّذى رويناه فى شرح الخطبة الخامسة و الثمانين و مضى هنالك أيضا بعض الأخبار المناسبة لهذا المقام فلينظر ثمّة.
(قرّة عينه فيما لا يزول) أى سروره و ابتهاجه المستلزم لقرّة عينه فى الباقيات الصالحات و السعادات الاخرويّة الباقية.

(و زهادته فيما لا يبقى) أى زهده فى الدّنيا و زخارفها الفانية.
(يمزج الحلم بالعلم) قد مرّ الوصف بالحلم و العلم فى قوله: و أما النهار فحلماء علماء، و قدّمنا هناك تفسير معناهما و لا حاجة إلى الاعادة و إنّما أعاد عليه السّلام الوصف بهماقصدا إلى أنّه قد خلط حلمه بعلمه يعنى قد تزيّن مع علمه بالحلم و الوقار و ليس بعالم سفيه جبّار.

كما قال أبو عبد اللّه عليه السّلام فى رواية الكافى: اطلبوا العلم و تزيّنوا معه بالحلم و الوقار و تواضعوا لمن تعلّمونه العلم و تواضعوا لمن طلبتم منه العلم، و لا تكونوا علماء جبّارين فيذهب باطلكم بحقّكم.
و فيه باسناده عن معاوية بن وهب عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: كان أمير المؤمنين عليه السّلام يقول: يا طالب العلم إنّ للعالم ثلاث علامات: العلم، و الحلم، و الصّمت، و للمتكلّف ثلاث علامات: ينازع من فوقه بالمعصية، و يظلم من دونه بالغلبة، و يظاهر الظّلمة.

و فيه بسند مرفوع عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: قال عليه السّلام لا يكون السّفه و الغرّة في قلب العالم، هذا.
و قال بعض الشارحين: معنى قوله يمزج الحلم بالعلم أنّه يحلم مع العلم بفضيلة الحلم لا كحلم بعض الجاهلين عن ضعف النفس و عدم المبالات بما قيل له و فعل به، و لا بأس به.

(و) يمزج (القول بالعمل) أى يكون عمله موافقا لقوله بأن يأمر بالمعروف و يأتي به، و ينهى عن المنكر و يتناهى عنه، و يعد و يفي بوعده لا أن يقول ما لا يفعل و يعد فيخلف فيستحقّ بذلك السخط العظيم و المقت الشديد قال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ» و قال «فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَ الْغاوُونَ.
روى في الكافي عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السّلام في هذه الاية قال: هم قوم وصفوا عدلا بألسنتهم ثمّ خالفوه إلى غيره.

(تراه قريبا أمله) لأنّ بعد الأمل و طوله ينشأ من حبّ الدّنيا و نسيان الاخرة، حسبما عرفته تحقيقا و تفصيلا في شرح الخطبة الثانية و الأربعين، و المؤمن المتّقي لزهده في الدّنيا و نفرته عنها و اشتياقه إلى الاخرة لا يطول له الأمل البتّة كماهو ظاهر (قليلا زلله) أى خطاه و ذنبه لما له من ملكة العدالة المانعة من ارتكاب الكبائر و إصرار الصغائر.
(خاشعا قلبه) أى خاضعا ذليلا من تصوّر عظمة الربّ المتعال جلّ جلاله (قانعة نفسه) بما قدّره اللّه تعالى في حقّه راضية بالقسم المقسوم مستغنية عن الناس.

روى في الكافي باسناده عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من أراد أن يكون أغني النّاس فليكن بما في يد اللّه أوثق منه بما في يد غيره.
و فيه عن عمر بن أبي المقدام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: مكتوب في التوراة يا ابن آدم كن كيف شئت كما تدين تدان من رضي من اللّه بالقليل من الرّزق قبل اللّه منه اليسير من العمل، و من رضي باليسير من الحلال خفّت مؤنته و زكت مكسبته و خرج من حدّ الفجور.

و فيه عن محمّد بن عرفة عن أبي الحسن الرّضا عليه السّلام قال: من لم يقنعه من الرّزق إلّا الكثير لم يكفه من العمل إلّا الكثير، و من كفاه من الرّزق القليل فانّه يكفيه من العمل القليل.
(منزورا اكله) أى قليلا، فانّ الجوع و التقليل من الطعام يورث رقّة القلب و صفاء الذّهن و انفاذ البصيرة و ايقاد القريحة و الاستعداد للذّة المناجاة و التأثّر بالذّكر و الموعظة، مضافا إلى ما فيه من المنافع الكثيرة الّتي أشرنا إليها في شرح الفصل الثاني من الخطبة المأة و التاسعة و الخمسين.

و كفى في فضله أنّ فيه تأسّيا بالسّلف الصالحين من الأنبياء و المرسلين و الأئمة المعصومين و أصحابهم الأكرمين حسبما عرفت في شرح الخطبة المذكورة فليراجع ثمّة.
(سهلا أمره) أى خفيف المؤنة لا يتكلّف لأحد و لا يكلّفه فانّ شرّ الأخوان من يتكلّف له.
(حريزا دينه) أى محرزا محفوظا من تطرّق الشكوك و الشّبه لرسوخه و كونه عن علم اليقين المانع من عروض الاحتمال و الخلل حسبما عرفت في شرح قوله‏و ايمانا في يقين.

(ميتة شهوته) قال الشارح البحراني لفظ الموت مستعار لخمود شهوته عما حرّم عليه و يعود إلى العفّة.
أقول روى في الكافي عن السّكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثلاث أخافهنّ على امتى بعدي: الضلالة بعد المعرفة، و مضلّات الفتن، و شهوة البطن و الفرج و فيه عن ميمون القداح قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام: يقول: ما من عبادة أفضل من عفّة بطن و فرج.

و عن عبد اللّه بن ميمون القداح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: كان أمير المؤمنين عليه السّلام يقول: أفضل العبادة العفاف.
و فى الوسائل عن الصّدوق باسناده عن أمير المؤمنين عليه السّلام فى وصيّته لمحمّد ابن الحنفيّة قال: و من لم يعط نفسه شهوتها أصاب رشده.
(مكظوما غيظه) أى محبوسا و كظم الغيظ حبسه و تكلّف الحلم عند هياج الغضب قال تعالى وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَ الْعافِينَ عَنِ النَّاسِ مدحهم بهذه الصفة يعني أنّهم يحبسون غيظهم و يتجرّعونه عند القدرة.

روى في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن بعض أصحابه عن مالك بن حصين السّكوني قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: ما من عبد كظم غيظا إلّا زاده اللّه عزّ و جلّ عزّا في الدّنيا و الاخرة و قد قال اللّه عزّ و جلّ وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَ الْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ و أثابه اللّه مكان غيظه ذلك.
و فيه باسناده عن أبي حمزة قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: ما من جرعة يتجرّعها العبد أحبّ إلى اللّه عزّ و جلّ من جرعة غيظ يتجرّعها عند تردّدها في قلبه إمّا بصبر و إمّا بحلم.

و عن سيف بن عميرة قال: حدّثنى من سمع أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: من كظم غيظا و لو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ اللّه قلبه يوم القيامة رضاه و عن أبي حمزة عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من أحبّ السبيل إلى اللّه عزّ و جلّ جرعتان: جرعة غيظ تردّها بحلم و جرعة مصيبة تردّها بصبر.

و الأخبار في فضله كثيرة و قد عقد في الكافي بابا عليه و ما أوردناها كافية في المقام.
(الخير منه مأمول) لكثرة الخيرات الصّادرة منه و غلبتها الموجبة لأن يرجى و يؤمّل منه خيره.
(و الشرّ منه مأمون) لملكة التّقوى المانعة من إقدامه على الشرور الباعثة على الأمن من شرّه.
(ان كان في الغافلين كتب في الذاكرين) قال الشّارح المعتزلي و البحراني و غيرهما: يعنى أنّه إن كان مع الغافلين عن ذكر اللّه و في عدادهم كتب في الذاكرين لكونه ذاكرا للّه بقلبه و إن لم يذكره بلسانه.
أقول: و الأظهر عندى أنّ الغرض به الاشارة إلى دوام ذكره، يعني أنّه مع كونه بين الغافلين و في مجلسهم لا يغفل عن ذكره عزّ و جلّ كغفلتهم عنه، بل يداوم عليه و يكتب في زمرة الذّاكرين لعلمه بأنّ الذّكر في الغافلين يوجب مزيد الأجر.

و يدل عليه ما في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن الحسين بن مختار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: الذّاكر للّه عزّ و جلّ في الغافلين كالمقاتل في المحاربين.
و عنه عن أبيه عن النّوفلي عن السّكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ذاكر اللّه في الغافلين كالمقاتل عن الفارّين، و المقاتل عن الفارّين له الجنّة و فى الوسائل عن الشيخ باسناده عن أبي ذر عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قال: يا أبا ذر الذاكر في الغافلين كالمقاتل في الفارّين في سبيل اللّه.
و فيه من عدّة الدّاعي قال: قال النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من ذكر اللّه في السوق مخلصا عند غفلة الناس و شغلهم بما فيه كتب اللّه له ألف حسنة و غفر اللّه له يوم القيامة مغفرة لم تخطر على قلب بشر.

(و إن كان في الذاكرين لم يكتب من الغافلين) لعدم غفلته عن الذّكر، لأنه مع عدم غفلته عنه مع كونه بين الغافلين كما عرفت آنفا فعدم غفلته عنه إذا كان في‏الذّاكرين بطريق اولى، و يجوز أن يراد به معني آخر و هو الاشارة إلى كون ذكره عن وجه الخلوص و القربة و عدم كتبه من الغافلين لأجل ذلك، و أمّا غيره فربما يكتب من الغافلين و إن كان ذاكرا لعدم كون ذكره عن وجه الاخلاص بل بقصد الرّيا كما قال تعالى في حقّ المنافقين «إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ وَ إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى‏ يُراؤُنَ النَّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ».

قال بعض المفسّرين: إنّما وصف الذّكر بالقلّة لأنّه سبحانه لم يقبله و كلّ ما ردّه اللّه فهو قليل.
روى الطبرسي في مجمع البيان عن العياشي باسناده عن مسعدة بن زياد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عن آبائه عليهم السّلام أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سئل فيم النّجاة غدا قال: النّجاة أن لا تخادعوا اللّه فيخدعكم فانّه من يخادع اللّه يخدعه و نفسه يخدع لو شعر، فقيل: إنّه فكيف يخادع اللّه، قال: يعمل بما أمره اللّه ثمّ يريد به غيره، فاتّقوا الرّيا فانّه شرك باللّه إنّ المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء: يا كافر، يا فاجر، يا غادر، يا خاسر، حبط عملك و بطل أجرك و لا خلاق لك اليوم فالتمس أجرك ممّن كنت تعمل به.

فقد ظهر بذلك أنّ الذّكر المشوب بالرّيا غير مكتوب في صحايف الحسنات بل في صحايف السيّئات، و الذّاكر كذلك مكتوب في الخائبين الخاسرين فضلا عن الغافلين، هذا.
و لا يخفى حسن المقابلة و المطابقة بين هذه القرينة و القرينة السابقة من كلامه عليه السّلام و هي من مقابلة الثلاثة بالثلاثة.

(يعفو عمّن ظلمه و يعطي من حرمه و يصل من قطعه) هذه الصّفات الثلاث من مكارم الأخلاق و محامد الخصال، فالاولى مندرجة تحت الشجاعة، و الثانية مندرجة تحت السخاء، و الثالثة مندرجة تحت العفّة، و قد ورد الأخبار في فضلها كثيرا.

منها ما رواه في الكافي باسناده عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في خطبة: ألا أخبركم بخير خلايق «أخلاق خ» الدّنيا و الاخرة: العفو عمّن ظلمك‏و تصل من قطعك، و الاحسان إلى من أساء إليك، و إعطاء من حرمك.

و عن أبي حمزة الثمالي عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام قال: سمعته يقول: إذا كان يوم القيامة جمع اللّه تبارك و تعالى الأوّلين و الاخرين في صعيد واحد ثمّ ينادى مناد أين أهل الفضل، قال: فيقوم عنق من النّاس فتلقّاهم الملائكة فيقولون: و ما كان فضلكم فيقولون: كنّا نصل من قطعنا و نعطى من حرمنا و نعفو عمن ظلمنا، قال: فيقال لهم: صدقتم ادخلوا الجنّة و عن جابر عن أبى جعفر عليه السّلام قال: ثلاث لا يزيد اللّه بهنّ المرء إلّا عزّا: الصّفح عمّن ظلمه، و إعطاء من حرمه، و الصّلة لمن قطعه.

و الأخبار في هذا المعنى كثيرة أوردها الكليني في باب العفو من الكافي و لا مهمّ بنا إلى الاطالة، هذا.
و انّما خصّ العفو بمن ظلمه لقوّة الدّاعي الى الانتقام عنه و حاجة العفو حينئذ إلى مجاهدة نفسانيّة كاملة و كذلك إعطاء من حرمه وصلة من قطعه.
قال بعض شرّاح الكافي: من صفات الكرام العفو عن الظّلم و التّجاوز عن المسي‏ء، و من صفات اللّئام الانتقام و طلب التّشفي و المعاقبة لدفع الغيظ و هو آفة نفسانية تغيّر الجهّال و النّاقصين من أجل تأثّر نفوسهم عن كلّ ما يخالف هواها.

و أمّا إعطاء من حرمك فالمقصود به أنّه إذا أحسنت إلى أحد و لم يقابل إحسانك باحسان أو قابلك بالاساءة و الكفران، فلا ترغب عن احسانه بكفرانه، فانّه إذا لم يشكرك فقد يشكرك غيره و لو لم يشكرك أحد فانّ اللّه يحبّ المحسنين كما نطق به الكتاب المبين، و كفى شرفا و فضلا بأن تخاطب بخطاب أين أهل الفضل يوم حشر الأوّلين و الاخرين.

و أمّا صلة من قطعك فالمراد بها وصله بالمال و اليد و اللّسان و مراقبة أحواله بقدر الامكان لا سيما إذا كان من الأرحام حسبما عرفت في شرح الفصل الثاني من الخطبة الثّالثة و العشرين على بسط و تفصيل.
(بعيدا فحشه) إن اريد بالفحش معناه الظاهر أى السبّ و بذاءة اللّسان فلا بدّمن صرف لفظ البعيد عن ظاهره و جعله كناية عن العدم، و إن ابقى البعد على ظاهره المفيد لاقدامه على الفحش احيانا فلا بدّ من ارتكاب التأويل في لفظ الفحش و جعل المراد به فضول الكلام و القول القبيح الغير البالغ إلى حدّ الحرام لئلّا ينافي ملكة العدالة و التّقوى الّتى للمتّقى.

و كيف كان فالفحش بمعناه الظاهر من الموبقات العظيمة، و قد حذّر منه فى الأخبار الكثيرة و بشّر الفحّاش بالنّار.
مثل ما فى الكافى باسناده عن أبى بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من علامات شرك الشّيطان الّذى لا يشكّ فيه أن يكون فحاشا لا يبالى بما قال و لا بما قيل له.

و عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا رأيتم الرّجل لا يبالى ما قال و لا ما قيل له فانّه لغيّة أو شرك شيطان.
و عن سليم بن قيس عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه حرّم الجنّة على كلّ فحّاش بذيّ قليل الحياء لا يبالى ما قال و لا ما قيل له، فانّك إن فتّشته لم تجده إلّا لغيّة أو شرك شيطان قيل: يا رسول اللّه و فى النّاس شرك شيطان فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أما تقرء قول اللّه عزّ و جل وَ اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ قال: و سأل رجل فقيها هل فى النّاس من لا يبالى ما قيل له قال: من تعرّض النّاس بشتمهم و هو يعلم انّهم لا يتركونه فذلك لا يبالى ما قال و لا ما قيل له.

و عن سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ من شرّ عباد اللّه من تكره مجالسته لفحشه.
و عن أبى عبيدة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: قال: البذاء من الجفاء و الجفاء فى النّار.
(ليّنا قوله) أى يتكلّم بالرّفق و لا يغلظ فى كلامه، فانّ الرّفق فى القول يوجب المحبّة و يجلب الالفة و يدعو إلى الاجابة عند الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر و لذلك أمر اللّه عزّ و جل موسى و هارون عليهما السّلام عند بعثهما إلى فرعون بأن يقولا له قولا ليّنا ليكون أسرع إلى القبول و أبعد من النّفور.

و روى فى الكافى باسناده عن عمّار السّاباطى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: كان‏أمير المؤمنين عليه السّلام يقول: ليجتمع فى قلبك الافتقار إلى النّاس و الاستغناء عنهم، فيكون افتقارك اليهم فى لين كلامك و حسن بشرك، و يكون استغناؤك عنهم فى نزاهة عرضك و بقاء عزّك.
(غائبا منكره حاضراً معروفه) أى مفقودا أعماله القبيحة المحرّمة موجودا أعماله الحسنة المتضمّنة للرّجحان الشرعى من الواجبات و المندوبات.

(مقبلا خيره مدبرا شرّه) يعنى أنّه من الأخيار كثير الخير قليل الشرّ كما وصفه سابقا بقوله: الخير منه مأمول و الشرّ منه مأمون.
و محصّل معناه أنّ خيره فى إقبال يزيد شيئا فشيئا و شرّه فى إدبار ينقص شيئا فشيئا إذ بقدر الزيادة فى طلب الخير يحصل النّقيصة فى جانب الشرّ لأنّ كثرة أحد المتضادّين توجب بمقتضى التضّاد قلّة الاخر كما هو ظاهر.
(في الزّلازل وقور) يعني أنّه في النوازل و الشّدايد و الحوادث العظيمة الموجبة لاضطراب النّاس متّصف بشدّة الوقار و الرّزانة و السّكينة و الثّبات كالجبل لا تحرّكه العواصف، و الوقار من جنود العقل و يقابله الخفّة و هي الطيش و العجلة من جنود الجهل.

(و في المكاره صبور و في الرّخاء شكور) لأنّ الايمان نصفان: نصف صبر و نصف شكر كما في الحديث المرفوع في احياء العلوم عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المتّقي بما له من وصف التّقوى و الايمان قد أكمل بأخذهما كلا شطرى الايمان.
و إنّما كانا نصف الايمان لأنّ الايمان الكامل حسبما عرفت فيما تقدّم هو ما تضمّن العلم و العمل، و كلّ ما يلاقيه العبد من الأعمال ينقسم الى ما ينفعه في الدّنيا و الاخرة و إلى ما يضرّه فيهما، و له بالاضافة إلى ما يضرّه و يكرهه طبعه حال الصبر و بالاضافة الى ما ينفعه حال الشكر.
(لا يحيف على من يبغض) أى لا يظلمه مع قوّة الدّاعي إلى الحيف و هو البغض و العداوة (و لا يأثم فيمن يحبّ) مع قيام الدّاعي إلى الاثم و هو المحبّة.

و محصّل هاتين الفقرتين أنّه لا يخرجه الحبّ و البغض عن تكليفه الشرعي‏إلى ما يخالفه كما هو شأن قضاة السوء و امراء الجور و وظيفة أهل الهوى و العصبيّة.
(يعترف بالحقّ قبل أن يشهد عليه) لأنّ مسيس الحاجة إلى الاشهاد إنّما يكون في صورة الانكار و إنكار الحق كذب صريح مناف للتّقوى و العدالة.

(لا يضيّع ما استحفظ) أى لا يضيّع ما أمر اللّه بمحافظته من الصلوات الخمس و نحوها من الطاعات قال سبحانه حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى‏ و قال أيضا وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ هُمْ عَلى‏ صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ و بشّر الحافظين لها في سورة المؤمنين بقوله وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ. أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ و في سورة المعارج بقوله وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى‏ صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ. أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ.

و المراد بمحافظتها محافظة أوقاتها و حدودها و مراعات آدابها و شرايطها و المداومة عليها، و ضدّ المحافظة التّهاون و الأوّل من جنود العقل، و الثاني من جنود الجهل كما في حديث الكافي، و المراد بالتضييع هنا الأعمّ من الترك و التهاون و الاخلال بالحدود الموظفة.

(و لا ينسى ما ذكر) التذكّر و النّسيان أمران متقابلان، و الأول من جنود العقل و الثّاني من جنود الجهل.
و توضيح معناهما حسبما أوضحه بعض المحقّقين أنّ الادراك فينا عبارة عن حصول الصّورة العقليّة أو الحسّية في قوّة من قوانا، و تلك القوّة هى المسمّاة بالمدركة، و الحفظ عبارة عن وجود تلك الصّورة في قوّة اخرى فوقها هى المسمّاة بالخزانة و الحافظة، و التّذكّر عبارة عن استحضار تلك الصّورة مرّة اخرى من الحافظة بعد اختزانها فيها، و النّسيان عبارة عن زوالها عن المدركة و الحافظة بما هى حافظة جميعا، و السّهو عبارة عن زوالها من المدركة فقط لا من الحافظة.

إذا عرفت ذلك فأقول: إنّ المراد بقوله لا ينسى ما ذكر أنّه لا ينسى المتّقى ما ذكره اللّه سبحانه بايات كتابه الكريم من الفرائض و الأحكام و العبر و الأمثال و غيرها ممّا فيه تذكرة و ذكرى لاولى الألباب، بل يعمل بها و يداوم على ملاحظتهاو يكثر من اخطارها بباله و لا يغيبها عن نظره.

(و لا ينابز بالألقاب) لكون النّبز منهيّا عنه في الكتاب الحكيم قال سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ أى لا يدعو بعضكم بعضا باللقب السوء مثل قول الرّجل للرّجل يا كافر يا فاسق يا منافق بئس الشي‏ء تسميته باسم الفسوق يعني الكفر بعد الايمان، و النكتة فى النهى عنه كونه موجبا للتباغض و العداوة و إثارة الفتن.
(و لا يضارّ بالجارّ) لوجوب كفّ الأذى عن الجار كما صرّح به في غير واحد من الأخبار.

روى في الوسائل عن الكليني باسناده عن طلحة بن زيد عن أبي عبد اللّه عن أبيه عليهما السّلام قال: قال: قرأت في كتاب عليّ عليه السّلام انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كتب بين المهاجرين و الأنصار و من لحق بهم من أهل يثرب: انّ الجار كالنفس غير مضارّ و لا اثم و حرمة الجار على الجار كحرمة امه.

و عن عمرو بن عكرمة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أتاه رجل من الأنصار فقال: إني اشتريت دارا من بني فلان و انّ أقرب جيراني منّى جوارا من لا أرجو خيره و لا آمن شرّه، قال: فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليا و سلمان و أبا ذر و نسيت آخر و أظنه المقداد أن ينادوا في المسجد بأعلى صوتهم بأنه: لا ايمان لمن لم يأمن جاره بوايقه، فنادوا بها ثلاثا ثمّ اومى بيده إلى كلّ أربعين دارا من بين يديه و من خلفه و عن يمينه و عن شماله.
و عن أبي حمزة قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: المؤمن من آمن جاره بوايقه، قلت: ما بوايقه قال: ظلمه و غشمه.

و فيه عن الصدوق باسناده عن شعيب بن واقد عن الحسين بن زيد عن الصادق عن آبائه عن عليّ عليهم السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حديث المناهي قال: من أذى جاره حرّم اللّه عليه ريح الجنة و مأواه جهنّم و بئس المصير، و من ضيّع حقّ جاره فليس منّا و ما زال جبرئيل يوصيني بالجار حتّى ظننت أنه سيورثه، و ما زال يوصيني بالمماليك‏حتى ظننت أنه سيجعل لهم وقتا إذا بلغوا ذلك الوقت اعتقوا، و ما زال يوصيني بالسواك حتى ظننت أنه سيجعله فريضة، و ما زال يوصيني بقيام اللّيل حتى ظننت أنّ خيار امتي لن يناموا.

(و لا يشمت بالمصائب) لأنّ المصائب النازلة إنما هى بقضاء من اللّه عزّ و جلّ و قدر و الشامت بسبب نزولها بغيره في معرض أن تصيبه مثلها فكيف يشمت و يفرح بمصيبة نزلت به.
روى في الكافي باسناده عن أبان بن عبد الملك عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: لا تبدى الشماتة لأخيك فيرحمه اللّه و يصيّرها بك.

و قال عليه السّلام من شمت بمصيبة نزلت بأخيه لم يخرج من الدّنيا حتى يفتتن، هذا.
مضافا إلى أنّ فى الشماتة بالمؤمن كسرا لقلبه و إدخالا للحزن عليه، و هو خلاف غرض الشارع.
و لذلك قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا رأيتم أهل البلا فاحمدوا اللّه و لا تسمعوهم فانّ ذلك يحزنهم رواه فى الكافي عن حفص بن عمر عن أبي عبد اللّه عليه السّلام عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (و لا يدخل فى الباطل و لا يخرج من الحقّ) الأولى أن يراد بالباطل كلّما يبعد من اللّه تعالى، و بالحقّ كلّما يقرب منه عزّ و جلّ، فالمعنى أنه لا يخرج عن سمت الهدى إلى مسلك الضلال و الرّدى.

(إن صمت لم يغمه صمته) لأنه بمقتضى عقله و كماله يضع كلّا من الصمت و الكلام فى موضعه اللّايق به و مقامه المناسب له، فلا يكون داع إلى التكلّم فى مقام مقتض للصمت حتى يكون إمساكه عن التكلّم موجبا لاغتمامه.
و بعبارة اخرى الاغتمام بالصمت إنما يكون ممن تعود لسانه بالهذر أى الهذيان و فضول الكلام و اعتاد الخوض فيما لا يعنى، و أهل التقوى لعلمهم بما فى الصمت من الثمرات الدّنيوية و الاخروية، و بما فى الكلام من المفاسد و الافات الكثيرة كالخطاء و الكذب و الغيبة و النميمة و الرّيا و النفاق و الفحش و الجدال و تزكية النفس و الخوض‏فى الباطل و الفضول و التحريف و الزّيادة و النقصان و إيذاء الخلق و هتك العورات إلى غير هذه من الافات اعتادوا أن لا يزيدوا فى كلامهم على قدر الحاجة، و التزموا الصمت إلّا فى مقام الضرورة.

و الى ذلك ينظر قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم طوبى لمن أمسك الفضل من لسانه و أنفق الفضل من ماله.
و قال أمير المؤمنين عليه السّلام إن كان كلامك من فضّة فأيقن أن السكوت من ذهب و قيل: أليق شي‏ء يكون فى السجن هو اللسان، و قيل: اللسان صغير الجرم عظيم الجرم قال ابو بكر بن عياش: اجتمع أربعة ملوك: ملك الهند و ملك الصين و كسرى و قيصر فقال أحدهم: أنا أندم على ما قلت و لا أندم على ما لم أقل، و قال الثاني: إنى إذا تكلّمت بكلمة ملكتنى و لم أملكها و إذا لم أتكلّم بها ملكتها و لم تملكنى، و قال الثالث: عجبت للمتكلّم إن رجعت عليه كلمته ضرّته و إن لم ترجع لم تنفعه، و قال الرابع: أنا على ردّ ما لم أقل أقدر منى على ردّ ما قلت.
و قد ورد فى مدح الصمت و ذمّ التكلّم من الأخبار ما هو غير محصور.

مثل ما فى الكافى باسناده عن أحمد بن محمّد بن أبى نصر قال: قال أبو الحسن عليه السّلام: من علامات الفقه العلم و الحلم و الصمت إنّ الصمت باب من أبواب الحكمة إنّ الصمت يكسب المحبة انه دليل على كلّ خير.
و عن الحلبى رفعه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أمسك لسانك فانها صدقة تصدق بها على نفسك ثمّ قال: و لا يعرف عبد حقيقة الايمان حتى يخزن من لسانه.
و عن الحلبى أيضا رفعه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: نجاة المؤمن من حفظ لسانه.
و عن أبى بصير قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: كان أبو ذر يقول: يا مبتغى العلم إنّ هذا اللسان مفتاح خير و مفتاح شرّ فاختم على لسانك كما تختم على ذهبك و ورقك.

و عن عمر بن جميع عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: قال: كان المسيح يقول: لا تكثرواالكلام فى غير ذكر اللّه فانّ الذين يكثرون الكلام فى غير ذكر اللّه قاسية قلوبهم و لكن لا يعلمون.
و عن الوشا قال: سمعت الرّضا عليه السّلام يقول: كان الرّجل من بنى إسرائيل إذا أراد العبادة صمت قبل ذلك عشر سنين.

و عن منصور بن يونس عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: فى حكمة آل داود: على العاقل أن يكون عارفا بزمانه مقبلا على شأنه، حافظا للسانه.
إلى غير هذه ممّا لم نطل بروايتها، و قد مضى بعضها في شرح الخطبة السّابعة و السّبعين.
(و إن ضحك لم يعل صوته) لأنّ ضحك المؤمن التّبسّم و القهقهة من الشيطان كما رواه في الوسائل من الكافي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و فيه أيضا من مجالس الشّيخ عن هارون بن عمرو بن عبد العزيز عن محمّد بن جعفر بن محمّد عن أبيه أبي عبد اللّه عن آبائه عن عليّ عليهم السّلام قال: كان ضحك النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم التّبسّم، فاجتاز ذات يوم بفتية من الأنصار و إذا هم يتحدّثون و يضحكون ملأ أفواههم، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: مه يا هؤلاء من غرّه منكم أمله و قصّر به في الخير عمله فليطلع القبور و ليعتبر بالنّشور و اذكروا الموت فانّه هادم اللّذات و من مجالس الصّدوق بسنده عن معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال كان بالمدينة رجل بطّال يضحك النّاس فقال: قد أعيانى هذا الرّجل أن اضحكه يعني عليّ بن الحسين عليهما السّلام، الحديث و فيه إن عليّ بن الحسين عليهما السّلام قال: قولوا له: إنّ للّه يوما يخسر فيه المبطلون.

و من عيون الأخبار عن الرّضا عن أبيه موسى بن جعفر عليهم السّلام قال: قال الصّادق عليه السّلام: كم ممّن أكثر ضحكه لاغيا يكثر يوم القيامة بكاؤه، و كم ممّن كثر بكاؤه على ذنبه خائفا يكثر يوم القيامة في الجنّة ضحكه و سروره.

(و إن بغي عليه صبر حتّى يكون اللّه هو الّذي ينتقم له) يعني إن ظلمه أحدو تعدّى عليه صبر على ذلك و فوّض أمره إلى اللّه عزّ و جلّ حتّى ينتقم له من الباغي لأنّه تعالى قد وعد له النصرة في كتابه العزيز بقوله «ذلِكَ وَ مَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ» أى من جازى الظالم بمثل ما ظلمه ثمّ ظلم عليه لينصرنّه اللّه أى المظلوم الّذي بغى عليه لا محالة، و إنّما يصبر المتّقى على بغى الباغي و لا يجازيه عملا بقوله سبحانه وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ يعني إن أردتم معاقبة غيركم على وجه المجازاة و المكافاة فعاقبوا بقدر ما عوقبتم به و لا تزيدوا عليه و لئن تركتم المكافاة و القصاص و جرعتم مرارته لهو أى الصّبر خير و أنفع للصّابرين لما فيه من جزيل الثواب.

(نفسه منه في عناء و النّاس منه في راحة) أى نفسه منه في تعب و مشقّة لمجاهدته لها و مخالفته لهواها و حمله إيّاها على ما تكره و ردعه لها عمّا تحبّ كما عرفت في شرح قوله عليه السّلام: إن استصعبت عليه نفسه فيما تكره لم يعطها سؤلها فيما تحبّ، كلّ ذلك لعلمه بأنّها أمّارة بالسّوء و أنّها له عدوّ مبين، و لذلك كان النّاس منه في راحة، لأنّ ايذاء النّاس من هوى الأنفس فاذا كان قاهرا لها على خلاف هواها يكون النّاس مأمونين من شرّها مستريحين من أذاها (أتعب نفسه لاخرته و أراح النّاس من نفسه) و هذه الجملة في الحقيقة تعليل و توضيح للجملة السّابقة، لأنّه لما قال هناك: نفسه منه في عناء، علّله هنا بأنّ إتعابه لنفسه إنّما هو لأجل آخرته.

فقد روى في الوسائل عن الصّدوق عن شعيب العرقوفي عن الصّادق عليه السّلام: قال: من ملك نفسه إذا رغب و إذا رهب و إذا اشتهى و إذا غضب و إذا رضي حرّم اللّه جسده على النّار.
و لمّا قال ثمّة: النّاس منه في راحة، أوضحه هنا بأنّ استراحتهم من شرور نفسه لمجاهدته لها.
كما روى في الوسائل عن الصدوق عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم السّلام في وصيّة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعلىّ عليه السّلام: قال: يا على أفضل الجهاد من أصبح لا يهمّ بظلم أحد(بعده عمّن تباعد عنه زهد و نزاهة) يعنى بعده عن أهل الدّنيا و عن مجالسهم من باب الزّهد و التباعد عن مكروههم و أباطيلهم.

(و دنوّه ممّن دنا منه لين و رحمة) أى قربه من المؤمنين من باب التعاطف و التواصل كما قال تعالى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ.
قال فى مجمع البيان: قال الحسن: بلغ تشدّدهم على الكفّار أن كانوا يتحرّزون من ثياب المشركين حتّى لا يلتزق بثيابهم، و عن أبدانهم حتّى لا تمسّ أبدانهم، و بلغ تراحمهم فيهما بينهم أن كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلّا صافحه و عانقه.

روى فى الكافى باسناده عن شعيب العقرقوفى قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول لأصحابه: اتّقوا اللّه و كونوا اخوة بررة متحابّين فى اللّه متواصلين متراحمين تزاوروا و تلاقوا و تذاكروا أمرنا و أحيوه.
و عن كليب الصّيداوى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: تواصلوا و تبارّوا و تراحموا و كونوا اخوة بررة كما أمركم اللّه عزّ و جلّ.

(بعده عمّن تباعد عنه زهد و نزاهة) يعنى بعده عن أهل الدّنيا و عن مجالسهم من باب الزّهد و التباعد عن مكروههم و أباطيلهم.
(و دنوّه ممّن دنا منه لين و رحمة) أى قربه من المؤمنين من باب التعاطف و التواصل كما قال تعالى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ.
قال فى مجمع البيان: قال الحسن: بلغ تشدّدهم على الكفّار أن كانوا يتحرّزون من ثياب المشركين حتّى لا يلتزق بثيابهم، و عن أبدانهم حتّى لا تمسّ أبدانهم، و بلغ تراحمهم فيهما بينهم أن كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلّا صافحه و عانقه.

روى فى الكافى باسناده عن شعيب العقرقوفى قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول لأصحابه: اتّقوا اللّه و كونوا اخوة بررة متحابّين فى اللّه متواصلين متراحمين تزاوروا و تلاقوا و تذاكروا أمرنا و أحيوه.
و عن كليب الصّيداوى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: تواصلوا و تبارّوا و تراحموا و كونوا اخوة بررة كما أمركم اللّه عزّ و جلّ.

و عن أبى المعزا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: تواصلوا و تبارّوا و تراحموا و كانوا اخوة بررة كما أمركم اللّه عزّ و جلّ.
و عن أبى المعزا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: يحقّ على المسلمين الاجتهاد فى التواصل و التعاون على التعاطف و المواساة لأهل الحاجة و تعاطف بعضهم على بعض حتّى تكونوا كما أمركم اللّه عزّ و جلّ رحماء بينهم متراحمين مغتمين لما غاب عنكم من أمرهم على ما مضى عليه معشر الأنصار على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
فقد ظهر بذلك أنّ تباعده و تدانيه عمّن تباعد عنه و دنى منه من باب المواظبة على الوظايف و الاداب الشرعيّة و أنّه (ليس تباعده بكبر و عظمة و لا دنوّه بمكر و خديعة) كما هو فعل أبناء الدّنيا و ذوى الأغراض الفاسدة و من شأن أهل النفاق يخادعون اللّه و هو خادعهم، و إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنّا و اذا خلوا الى شياطينهم قالوا إنّا معكم إنما نحن مستهزؤن.

(قال) الرّاوى للحديث (فصعق همام صعقة) أى غشى عليه غشوة من فزع ما سمع من الموعظة البالغة كما خرّ موسى عليه السّلام صعقا أى مغشيا عليه من هول ما رأى (كانت نفسه فيها) أى مات فى تلك الغشوة و خرج روحه من بدنه‏ قال الشارح المعتزلي: اعلم أنّ الوجد أمر شريف قد اختلف الناس فيه فقالت الحكماء فيه أقوالا، و قالت الصوفية فيه أقوالا.

أما الحكماء فقالوا: الوجد حالة تحدث للنفس عند انقطاع علايقها عن المحسوسات بغتة إذا كان قد ورد عليها وارد مشوّق، و قال بعضهم: الوجد هو اتّصال النفس بمباديها المجرّدة عند سماع ما يقتضي ذلك الاتّصال.
و أمّا الصّوفيّة فقد قال بعضهم: الوجد رفع الحجاب و مشاهدة المحبوب و حضور الفهم و ملاحظة الغيب و محادثة السرّ و هو فناؤك من حيث أنت أنت، و قال بعضهم: الوجد سرّ اللّه عند العارفين و مكاشفة من الحقّ يوجب الفناء، و الأقوال فيه متقاربة المعنى و ان اختلّ العبارة، انتهى.

و هي كلّها مخالفة لمذاق أهل الشّرع ما فيه للأخبار.
و كيف كان (فقال أمير المؤمنين عليه السّلام أما و اللّه لقد كنت أخافها) أى تلك الصعقة الّتي فيها موت همّام (عليه ثمّ قال عليه السّلام: هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها، فقال له قائل: فما بالك يا أمير المؤمنين) لا تصنع موعظتك بك ما صنعت بهمّام (فقال: ويحك إنّ لكلّ أجل) محتوم (وقتا) معيّنا (لا يعدوه) أى لا يتجاوزه و لا يتأخّر عنه كما قال تعالى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ (و سببا) أى علّة معيّنة (لا يتجاوزه) أى لا يتجاوز عنه إلى سبب آخر.

و محصّل الجواب أنّ كلّ انسان له أجل حتمى مقدّر و وقت معيّن لموته لا يتقدّم و لا يتأخّر و علّة معيّنة لأجله لا تتبدّل و لا تتغيّر كما قال تعالى وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا و على ذلك فانّما مات همّام باستماع الموعظة البالغة لأنّه قد تمّ عمره و بلغت مدّة حياته الّتى قدّرت فى حقّه غايتها مع حصول السبب المعين المكتوب فى امّ الكتاب لموته و هو الانفعال بالموعظة و أما أنا فلم يكمل أيامى بعد و لم يبلغ أجلى غايته و السبب المقدّر فى حقى غير هذا السبب و هو ما أنتظره من ضربة ابن ملجم المرادى عليه اللّعنة و العذاب.

و الحاصل أنّ مشية اللّه و اذنه عزّ و جلّ قد تعلّق بموت همام عن سببه الذى حصل‏و لم يتعلّق بعد بموتى و لم يحصل سببه، و ان شئت مزيد توضيح لذلك فعليك بالكلام الحادى و الستّين و شرحه، هذا.
و لما أجاب عليه السّلام عن اعتراض القائل نهاه عن العود إلى مثل ذلك بقوله (فمهلا لا تعد لمثلها) أى لا ترجع إلى مثل تلك الكلمة (فانما نفث الشيطان) أى نفخ و تكلّم (على لسانك).

تكملة

اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة حسبما اشرت اليه سابقا مرويّة في الكافي باختلاف كثير جدّا اقتضى المقام روايتها بالسّند الّذى فيه و اتباعها ببيان غرايب ألفاظها فأقول و باللّه التوفيق: روى ثقة الاسلام محمّد بن يعقوب الكليني قدّس اللّه روحه عن محمّد بن يحيى عن جعفر عن محمّد بن إسماعيل عن عبد اللّه بن زاهر عن الحسن بن يحيى عن قثم بن أبي قتادة الحرّاني عن عبد اللّه بن يونس عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قام رجل يقال له همّام و كان عابدا ناسكا مجتهدا إلى أمير المؤمنين عليه السّلام و هو يخطب، فقال يا أمير المؤمنين صف لنا صفة المؤمن كأنّنا ننظر إليه فقال عليه السّلام: يا همام المؤمن هو الكيّس الفطن، بشره في وجهه، و حزنه في قلبه، أوسع شي‏ء صدرا، و أذلّ شي‏ء نفسا، زاجر عن كلّ فان، حاض عن كلّ حسن، لا حقود، و لا حسود، و لا وثّاب، و لا سبّاب، و لا عيّاب، و لا مغتاب، يكره الرّفعة، و يشنأ السمعة، طويل الغمّ، بعيد الهمّ، كثير الصّمت، وقور، ذكور، شكور، مغموم بفكره، مسرور بفقره، سهل الخليقة، لين العريكة، رصين الوفاء، قليل الاذى، لا متأفّك، و لا متهتّك، إن ضحك لم يخرق، و إن غضب لم ينزق، ضحكه تبسّم، و استفهامه تعلّم، و مراجعته تفهّم، كثير علمه، عظيم حلمه، كثير الرّحمة، لا يبخل، و لا يعجل، و لا يضجر، و لا يبطر، و لا يحيف في حكمه، و لا يجور في علمه، أصلب من الصلد، و مكادحته أحلى من الشهد، لا جشع، و لا هلع، و لا عنف، و لاصلف، و لا متكلّف، و لا متعمّق، جميل المنازعة، كريم المراجعة، عدل إن غضب، رفيق إن طلب، لا يتهوّر، و لا يتهتّك، و لا يتجبّر، خالص الودّ، وثيق العهد، و فيّ العقد، شفيق وصول، حليم خمول، قليل الفضول، راض عن اللّه عزّ و جلّ، مخالف لهواه، لا يغلظ على من دونه، «يؤذيه خ» و لا يخوض فيما لا يعنيه، ناصر للدّين، محام عن المؤمنين كهف للمسلمين، لا يخرق الثناء سمعه، و لا ينكى الطمع قلبه، و لا يصرف اللّعب حكمه، و لا يطلع الجاهل علمه، قوّال، عمال، عالم، حازم، لا بفحّاش، و لا بطيّاش، وصول في غير عنف، بذول في غير سرف، لا بختّار، و لا بغدّار، و لا يقتفى اثرا، و لا يحيف بشرا، رفيق بالخلق، ساع فى الأرض، عون للضعيف، غوث للملهوف، لا يهتك سترا، و لا يكشف سرّا، كثير البلوى، قليل الشكوى، إن رأى خيرا ذكره، و ان عاين شرّا ستره، يستر العيب، و يحفظ الغيب، و يقيل العثرة، و يغفر الزّلّة، لا يطلع على نصح فيذره، و لا يدع جنح حيف فيصلحه، أمين، رصين، تقيّ، نقيّ، زكيّ، رضيّ، يقبل العذر، و يجمل الذّكر، و يحسن بالنّاس الظنّ، و يتّهم على العيب نفسه، يحبّ في اللّه بفقه و علم، و يقطع في اللّه بحزم و عزم، لا يخرق به فرح، و لا يطيش به مرح، مذكّر للعالم، معلّم للجاهل، لا يتوقّع له بائقة، و لا يخاف له غائلة، كلّ سعى أخلص عنده من سعيه، و كلّ نفس أصلح عنده من نفسه، عالم بعيبه، شاغل بغمّه، لا يثق بغير ربّه، غريب «خ ل قريب»، وحيد حزين، يحبّ في اللّه و يجاهد فى اللّه ليتّبع رضاه، و لا ينتقم لنفسه بنفسه، و لا يوالى فى سخط ربّه، مجالس لأهل الفقر، مصادق لأهل الصّدق، موازر لأهل الحقّ، عون للغريب، أب لليتيم بعل للأرملة، حفي بأهل المسكنة، مرجو لكلّ كريهة، مأمول لكل شدّة، هشّاش، بشّاش، لا بعبّاس، و لا بجسّاس، صليب، كظّام، بسّام، دقيق النظر، عظيم الحذر، لا يبخل، و إن بخل عليه «خ ل عنه» صبر، عقل فاستحيي، و قنع فاستغنى، حياؤه يعلو شهوته، و ودّه يعلو حسده، و عفوه يعلو حقده، لا ينطق بغير صواب، و لا يلبس إلّا الاقتصاد، مشيه التّواضع، خاضع لربّه بطاعته، راض عنه في كل حالاته، نيّته خالصة، أعماله ليس فيها غشّ و لا خديعة،نظره عبرة، و سكوته فكرة، و كلامه حكمة، مناصحا، متبادلا، متواخيا، ناصح فى السرّ و العلانية، لا يهجر أخاه، و لا يغتابه، و لا يمكر به، و لا يأسف على ما فاته، و لا يحزن على ما أصابه، و لا يرجو ما لا يجوز له الرّجا، و لا يفشل في الشدّة، و لا يبطر في الرّخا، يمزج العلم بالحلم، و العقل بالصبر، تراه بعيدا كسله، دائما نشاطه، قريبا أمله، قليلا زلله، متوقعا لأجله، خاشعا قلبه، ذاكرا ربّه، قانعة نفسه، منفيا جهله، سهلا أمره، حزينا لذنبه، ميتة شهوته، كظوما غيظه، صافيا خلقه، آمنا منه جاره، ضعيفا كبره، قانعا بالذى قدّر له، مبينا «متينا خ» صبره، محكما أمره كثيرا ذكره، يخالط النّاس ليعلم، و يصمت ليسلم، و يسأل ليفهم، و يتّجر ليغنم، لا ينصب للخير ليفخر به، و لا يتكلّم ليتجبّر به على من سواه، نفسه منه في عناء، و الناس منه في راحة، أتعب نفسه لاخرته فأراح النّاس من نفسه، إن بغي عليه صبر حتى يكون اللّه الّذي ينتصر له، بعده ممّن تباعد منه بغض و نزاهة، و دنوّه ممّن دنا منه لين و رحمة، ليس تباعده تكبّرا و لا عظمة، و لا دنوّه خديعة و لا خلابة، بل يقتدى بمن كان قبله من أهل الخير، فهو إمام لمن بعده من أهل البرّ.
قال: فصاح همّام صيحة ثمّ وقع مغشيا عليه، فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: أما و اللّه لقد كنت أخافها عليه و قال: هكذا تصنع الموعظة «المواعظ خ» البالغة بأهلها فقال له عليه السّلام قائل: فما بالك يا أمير المؤمنين فقال عليه السّلام: إنّ لكلّ أجلا لن «لا خ» يعدوه و سببا لا يجاوزه، فمهلا لا تعد فانما نفث على لسانك شيطان.

بيان

«الكيس» العاقل من الكيس وزان فلس خلاف الحمق و قيل: جودة القريحة و قوله: «و لا وثاب» أى ليس بخفيف من وثب وثوبا قام بسرعة قوله: «وقور» أى كثير الوقار في الامور الموجبة لاضطراب النّاس.
قوله «لين العريكة» أى سلس مطيع منقاد و العريكة الطّبيعة قوله «رصين الوفاء» بالصّاد المهملة الحكم الثابت و الحفىّ بحاجة صاحبه من رصنه أى أحكمه‏و أكمله قوله «إن ضحك لم يخرق» أى لم يشقّ فاه حتّى يبلغ ضحكه القهقهة قوله «إن غضب لم ينزق» أى لا يأخذه الخفّة و الطيش عند الغضب قوله «و لا بطر» من البطر و هو الطغيان عند النعمة. و قيل التّجبّر و شدّة النشاط.

قوله «أصلب من الصّلد» أى لا يدخل قلبه ريب و لا جرع، و الصّلد الحجر الصّلب الأملس قوله «مكادحته» أى عمله و سعيه أحلى من العسل قوله «لا جشع و لا هلع» الجشع أشدّ الحرص على الطّعام و أسوئه، و الهلع أفحش الجزع قوله «و لا عنف و لا صلف» العنف وزان كتف من لا رفق له في قوله و فعله، و العنيف مثله و الصّلف ككتف أيضا من لا يتكلّم بما يكرهه صاحبه و يمدح نفسه و لا خير عنده يقال سحاب صلف أى قليل الماء كثير الرّعد.
قوله «لا يتهوّر و لا يتهتّك» التّهوّر الوقوع في الأمر بقلّة مبالاة، و التهتّك خرق السّتر و الافتضاح قوله «خمول قليل الفضول» أى خامل الذكر و قليل فضول كلامه قوله «لا يخرق الثّناء سمعه» لكون أعماله للّه لا للنّاس، فلا يؤثّر فيه ثناؤهم و مدحهم.

قوله: «و لا ينكى الطمع قلبه» أى لا يجرحه و لا يؤثّر فيه تأثير الجرح قوله «عالم حازم» في بعض النّسخ بالحاء المهملة من الحزم و هو التثبّت في عواقب الامور، و في بعضها بالجيم قوله «و لا بطيّاش» الطيش النّزق و الخفّة قوله «و لا بختّال» أى بخدّاع من الختل و هو المخادعة قوله «و لا يدع جنح حيف فيصلحه» أى لا يترك ظلام ظلم و اصلاحه قوله «لا يخرق به فرح» من الخرق بالخاء المعجمة و الرّاء المهملة و هو الحمق و الجهل و ضعف العقل قوله «و لا يطيش به مرح» المرح شدّة النّشاط و الفرح.

و «البائقة» النّازلة الشّديدة و الشرّ و الدّاهية و «الغائلة» الفساد و الشرّ و قوله «حفىّ بأهل المسكنة» أى بارّ معين قوله «هشّاش بشّاش» من الهشاشة و هو طلاقة الوجه قوله «لا يهجر أخاه» الهجر الهذيان و يحتمل أن يكون من الهجر أى الترك و المفارقة قوله «و يتّجر ليغنم» أى يتّجر للاخرة.

قوله «و لا دنوّه خديعة و لا خلابة» الخلابة بكسر الخاء المعجمة و تخفيف اللّام الخديعة باللسان بالقول اللطيف من خلبه يخلبه من باب قتل و ضرب خدعه، و الاسم الخلابة و الفاعل خلوب كرسول.

الترجمة

از جمله خطب شريفه آن امام دين است در وصف متقين.

روايت شده كه مصاحبى بود از براى أمير المؤمنين عليه السّلام همام نام كه شخص عابدى بود پس گفت به آن حضرت كه يا أمير المؤمنين وصف كن از براى من پرهيز كاران را تا اين كه گويا من نگاه مى ‏كنم بسوى ايشان، پس سنگينى ورزيدند و درنگ كردند آن حضرت از جواب او، و بعد از آن فرمود اى همّام بپرهيز از خدا و كار نيك بكن پس بدرستى كه خداى تعالى يار پرهيز كارانست و با نيكو كاران.

پس قناعت نكرد همام باين جواب تا اين كه سوگند داد بر حضرت در جواب گفتن پس حضرت حمد و ثناى خدا را بجا آورد و صلوات فرستاد بر پيغمبر و آل او پس گفت: أما بعد پس بتحقيق كه خداوند سبحانه ايجاد فرمود مخلوقات را وقتى كه ايجاد فرمود ايشان را در حالتى كه بى نياز بود از طاعت ايشان، و ايمن بود از ضرر معصيت ايشان، از جهت اين كه ضرر نمى ‏رساند او را معصيت كسى كه معصيت نمود، و منفعت نمى ‏بخشد او را اطاعت كسى كه اطاعت نمود، پس قسمت فرمود در ميان مخلوقات معيشتها و گذرانى ايشان را، و گذاشت ايشان را از دنيا در جايگاه ايشان كه لايق شأن و مناسب حال هر يكى باشد.

پس پرهيز كاران در دنيا ايشانند أهل فضيلتها، گفتار ايشان راست و درست، و لباس ايشان حدّ وسط است، و رفتار ايشان تواضع و فروتنى است، پوشيده ‏اند چشمهاى خود را از چيزى كه خدا حرام كرده برايشان، و واداشته‏ اند گوشهاى خود را بر شنيدن علم منفعت بخشنده از براى ايشان، نازل شد نفسهاى ايشان از ايشان ‏در بلا و شدّت مثل نزول آنها در رفاه و فراخى- يعنى ايشان رضا بقضا دارند و شاكرند بطيب نفس به آن چه كه در حقّ ايشان مقدّر شده- اگر نبود أجل معيّنى كه نوشته شده است از براى ايشان هر آينه قرار نمى‏ گرفت روحهاى ايشان در بدنهاى ايشان لحظه از جهت اشتياق بثواب و ترسيدن از عقاب.

بزرگ شد خالق تعالى در پيش نفسهاى ايشان پس كوچك شد ما سواى خالق در نظر ايشان پس حال ايشان با بهشت حال كسى است با رأى العين ديده باشد او را پس در آنجا بناز و نعمت گذرانده باشد، و حال ايشان با جهنم حال كسى است كه ديده باشد آنرا پس در آنجا معذّب باشد- يعنى ايشان در امر بهشت و جهنم اعتقاد يقيني دارند بمنزله مشاهده- .

قلبهاى ايشان غمگين و محزونست و مردم از شرهاى ايشان آسوده و ايمنند، و بدنهاى ايشان لاغر و ضعيف، و حاجت و خواهشات ايشان سبك و خفيف، نفسهاى ايشان با عفت است، صبر و تحمل كردند بر زحمات چند روز كوتاه كه عاقبت آن راحت و آسايش دراز گرديد، تجارت با منفعتى است كه ميسر ساخت از براى ايشان پروردگار ايشان.

خواست ايشان را دنيا پس نخواستند ايشان دنيا را، و اسير كرد ايشان را دنيا پس دادند نفسهاى خودشان از دنيا- يعني بمقتضاى شهوت و غضب جبلى انسانى كه در ايشان بود نزديك بود كه ايشان مفتون دنيا باشند و أسير شهوات نفسانيه آن شوند و ليكن ايشان بمقتضاى قوّه عقلانيه ترك لذايذ دنيويه كرده خودشان را از قيد اسيرى دنيا خلاص نمودند- أما حالت ايشان در شب پس صف زنندگانند بپاهاى خودشان در حالتى كه تلاوت كنندگان باشند جزئهاى قرآن را در حالتى كه نيك قرائت مى ‏كنند آن را نيك قرائت كردنى، با تأنّى و حفظ وقوف و أداء حروف، محزون مى‏ نمايند بسبب قراءة آن نفسهاى خودشان را، و بهيجان مى ‏آورند با آن دواء درد خودشان را پس اگر بگذرند در اثناى قرائت آن بايه كه در آن تشويقى باشد بسوى بهشت‏ اعتماد مى‏ كنند بان و مايل مى‏ شوند بسوى آن آيه از جهت طمع آن بشارت و مطلع باشد نفسهايشان بسوى آن از روى شوق و گمان كنند كه آن آيه- يعنى وعده بهشت كه مضمون آن آيه است- پيش چشم ايشان است.

و اگر بگذرند بايه كه در آن ترساندن از عذاب باشد متوجه باشند بسوى آن با گوشهاى قلبهاى خودشان، و گمان مى ‏كنند كه صداى افروخته شدن جهنم و شيون اهل آن در بيخهاى گوشهاى ايشانست، پس ايشان خم شوندگان باشند بر كمرهاى خود، پهن سازندگان باشند مر پيشانيهاى خود را و كفهاى دست خود را و زانوهاى خود را و سرهاى پاهاى خودشان را، تضرّع مى‏ كنند بسوى خدا در وا كردن گردنهاى ايشان را از زنجير عذاب.

و أما حالت ايشان در روز پس صاحبان حلم و علمند، نيكو كارانند، پرهيز كارانند، بتحقيق كه باريك كرده و كاهانده است ايشان را ترس خدا مثل باريك شدن چوب تير تراشيده شده، نگاه مى‏ كند بسوى ايشان نگاه كننده پس گمان مى‏ كند كه ايشان مريضانند و حال آنكه نيست در اين جماعت مرضى، و مى‏ گويد كه خبط آورده ‏اند و حال آنكه هر آينه آميخته بايشان امر بزرگى كه اشتياق و عشق بلقاء خدا باشد.

راضى نمى ‏شوند در عبادات و عملهاى خودشان باندك، و بسيار نمى ‏شمارند بسيار را، پس ايشان هميشه بنفسهاى خود تهمت مى ‏زنند بجهت قصور در بندگى و از عبادات خود ترسناكند، اگر تزكيه كرده شود يكى از ايشان مى ‏ترسد از آن چيزى كه در باره او گفته شده پس مى ‏گويد كه: من داناترم بنفس خودم از غير خودم و پروردگار من داناتر است از من بنفس من، با خدايا مؤاخذه مكن مرا بسبب آنچه گفتند در باره من، و بگردان مرا بهتر از آنچه گمان بردند در حق من، و بيامرز از براى من گناهى را كه ايشان نمى‏ دانند.

پس از علامت يكى از ايشانست اين كه تو مى‏ بينى از براى او قوّتى در دين، و احتياطى در نرمى، و ايمانى در كمال يقين، و حرصى در تحصيل علم، و علمى درغايت حلم، و ميانه روى در بى نيازى، و خضوع و خشوعى در عبادت، و استغنائى در عين فقر، و صبرى در حالت شدّت، و طلبى در كسب حلال، و خوشحالى در هدايت، و كناره جوئى از طمع، مى‏ كند عملهاى نيكو را و حال آنكه ترسناك است، روز را بشب مى ‏آورد و حال آنكه همّت او مصروف بشكر است، و شب را بصبح مى‏ رساند و حال آنكه همتش مصروف ذكر است.

بيتوته مى‏ كند در حالتى كه ترسناك است، صباح مى ‏كند در حالتى كه خوشحال، ترسناكى از جهت آنچه كه ترسانده شده از غفلت در عبادت، و خوشحالى بجهت آن چيزى كه رسيده است از فضل و رحمت، اگر دشوار بگيرد بر او نفس او در چيزى كه ناخوش دارد نمى‏ بخشد بنفس خود خواهش او را در چيزى كه دوست دارد آنرا.

چشم روشنى او در نعيم آخرت جاودانيست، و زهد او در لذت دنياى فانى، مخلوط مي كند حلم را بعلم، و گفتار را بكردار، مى ‏بينى او را كه نزديكست آرزوى او، اندك است لغزش او، ترسانست قلب او، قانعست نفس او، اندكست اكل او آسانست كار او، محفوظست دين او، مرده است شهوت او، فرو نشانده شده است خشم او.

خير از او اميد گرفته شده است، و شرّ از او أيمن شده، اگر در ميان غافلان باشد نوشته مى‏ شود از ذكر كنندگان، و اگر در زمره ذاكران باشد نوشته نمى‏ شود از غفلت كنندگان، عفو مي كند از كسى كه ظلم نمايد او را، و عطا مي كند بكسى كه محروم نمايد او را، و صله رحم بجا مى ‏آورد با كسى كه قطع صله رحم او كرده است.
دور است از مردم فحش گفتن او، نرم و ملايمست گفتار او، غايب است از مردمان بدى او، حاضر است از براى ايشان نيكى او، اقبال كننده است خير او، ادبار كننده است شرّ او.

و در شدايد روزگار صاحب تمكين و وقار است، و در مصايب صبر كننده و بردبار، و در حالت وسعت شاكر، ظلم نمى‏ كند بر كسى كه دشمن دارد، و مرتكب‏ گناه نمى‏ شود در باره كسى كه دوست دارد، اقرار بحق مي كند پيش از اين كه شهادت داده شود بضرر او، ضايع نمى‏ سازد چيزى را كه طلب شده در او حفظ آن، و فراموش نمى‏ كند چيزى را كه ياد آورى او شده، و نمى‏ خواند مردم را بلقبهاى بد، و ضرر نمى‏ رساند به همسايه، و شماتت نمى ‏كند بمصيبتها، و داخل نمى ‏شود در امر باطل، و بيرون نمى‏ رود از حق.

اگر ساكت شود غمگين نسازد او را سكوت او، و اگر بخندد بلند نشود آواز او، و اگر مظلوم شود صبر مي كند تا اين كه باشد خداى تعالى او انتقام مى كشد از براى او، نفس او از او در رنج و مشقّت است، و مردمان از او در آسودگى و راحت، بمشقّت انداخته نفس خود را از براى راحت آخرت، و راحت كرده مردمان را از شرّ نفس خود.

دورى او از كسى كه دورى جسته از او از بابت زهد و پاكى است، و نزديكى او از كسى كه نزديك شده باو از بابت ملايمت و دلسوزيست، نيست دورى جستن او بسبب كبر و بزرگى، و نه نزديكى او بسبب مكر و خدعه.

گفت رواى حديث: پس صيحه زد همّام صيحه كه بود روح او در آن صيحه، پس فرمود أمير المؤمنين عليه السّلام: آگاه باشيد سوگند بخدا كه هر آينه بودم مى ‏ترسيدم آن صيحه را بر او، يعني از اين جهت تثاقل مى ‏كردم در جواب، پس از آن فرمود همچنين تاثير مي كند موعظه ‏هاى كامل بأهلش.

پس گفت بان حضرت گوينده: پس چگونه است حال تو أى أمير المؤمنين يعنى چرا به تو اين تأثير نكرد.
پس فرمود: واى بر تو از براى هر مرگى مدّت معيّني است كه تجاوز نمى‏ كند از آن، پس فرمود: ترك كن اين كلام را و رجوع مكن بعد از اين بمثل آن، پس جز اين نيست كه دميده شيطان ملعون اين كلام را بر زبان تو- يعنى اعتراض به امام از إغواء شيطانست.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 191/5 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)قاصعة

خطبه 192 صبحی صالح

192- و من خطبة له ( عليه ‏السلام  ) تسمى القاصعة و هي تتضمن ذم إبليس لعنه اللّه، على استكباره و تركه السجود لآدم ( عليه ‏السلام  )، و أنه أول من أظهر العصبية و تبع الحمية، و تحذير الناس من سلوك طريقته.

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَبِسَ الْعِزَّ وَ الْكِبْرِيَاءَ وَ اخْتَارَهُمَا لِنَفْسِهِ دُونَ‏خَلْقِهِ وَ جَعَلَهُمَا حِمًى وَ حَرَماً عَلَى غَيْرِهِ وَ اصْطَفَاهُمَا لِجَلَالِهِ

رأس العصيان‏

وَ جَعَلَ اللَّعْنَةَ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ فِيهِمَا مِنْ عِبَادِهِ

ثُمَّ اخْتَبَرَ بِذَلِكَ مَلَائِكَتَهُ الْمُقَرَّبِينَ لِيَمِيزَ الْمُتَوَاضِعِينَ مِنْهُمْ مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ

فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَ هُوَ الْعَالِمُ بِمُضْمَرَاتِ الْقُلُوبِ وَ مَحْجُوبَاتِ الْغُيُوبِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ‏

اعْتَرَضَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بِخَلْقِهِ وَ تَعَصَّبَ عَلَيْهِ لِأَصْلِهِ فَعَدُوُّ اللَّهِ إِمَامُ الْمُتَعَصِّبِينَ وَ سَلَفُ الْمُسْتَكْبِرِينَ الَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ وَ نَازَعَ اللَّهَ رِدَاءَ الْجَبْرِيَّةِ وَ ادَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّزِ وَ خَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ

أَ لَا تَرَوْنَ كَيْفَ صَغَّرَهُ اللَّهُ بِتَكَبُّرِهِ وَ وَضَعَهُ بِتَرَفُّعِهِ فَجَعَلَهُ فِي الدُّنْيَا مَدْحُوراً وَ أَعَدَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ سَعِيراً

ابتلاء اللّه لخلقه‏

وَ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ مِنْ نُورٍ يَخْطَفُ الْأَبْصَارَ ضِيَاؤُهُ وَ يَبْهَرُ الْعُقُولَ رُوَاؤُهُ وَ طِيبٍ يَأْخُذُ الْأَنْفَاسَ عَرْفُهُ لَفَعَلَ

وَ لَوْ فَعَلَ لَظَلَّتْ لَهُ الْأَعْنَاقُ خَاضِعَةً وَ لَخَفَّتِ الْبَلْوَى فِيهِ عَلَى الْمَلَائِكَةِوَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَبْتَلِي خَلْقَهُ بِبَعْضِ مَا يَجْهَلُونَ أَصْلَهُ تَمْيِيزاً بِالِاخْتِبَارِ لَهُمْ وَ نَفْياً لِلِاسْتِكْبَارِ عَنْهُمْ وَ إِبْعَاداً لِلْخُيَلَاءِ مِنْهُمْ

طلب العبرة

فَاعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ بِإِبْلِيسَ إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ الطَّوِيلَ وَ جَهْدَهُ الْجَهِيدَ وَ كَانَ قَدْ عَبَدَ اللَّهَ سِتَّةَ آلَافِ سَنَةٍ لَا يُدْرَى أَ مِنْ سِنِي الدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِي الْآخِرَةِ عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ

فَمَنْ ذَا بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَعْصِيَتِهِ كَلَّا مَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِيُدْخِلَ الْجَنَّةَ بَشَراً بِأَمْرٍ أَخْرَجَ بِهِ مِنْهَا مَلَكاً

إِنَّ حُكْمَهُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ وَ أَهْلِ الْأَرْضِ لَوَاحِدٌ وَ مَا بَيْنَ اللَّهِ وَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ هَوَادَةٌ فِي إِبَاحَةِ حِمًى حَرَّمَهُ عَلَى الْعَالَمِينَ

التحذير من الشيطان‏

فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللَّهِ عَدُوَّ اللَّهِ أَنْ يُعْدِيَكُمْ بِدَائِهِ وَ أَنْ يَسْتَفِزَّكُمْ بِنِدَائِهِ وَ أَنْ يُجْلِبَ عَلَيْكُمْ بِخَيْلِهِ وَ رَجِلِهِ

فَلَعَمْرِي لَقَدْ فَوَّقَ لَكُمْ سَهْمَ الْوَعِيدِ وَ أَغْرَقَ إِلَيْكُمْ بِالنَّزْعِ الشَّدِيدِ وَ رَمَاكُمْ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ فَ قَالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ‏قَذْفاً بِغَيْبٍ بَعِيدٍ وَ رَجْماً بِظَنٍّ غَيْرِ مُصِيبٍ

صَدَّقَهُ بِهِ أَبْنَاءُ الْحَمِيَّةِ وَ إِخْوَانُ الْعَصَبِيَّةِ وَ فُرْسَانُ الْكِبْرِوَ الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى إِذَا انْقَادَتْ لَهُ الْجَامِحَةُ مِنْكُمْ وَ اسْتَحْكَمَتِ الطَّمَاعِيَّةُ مِنْهُ فِيكُمْ فَنَجَمَتِ الْحَالُ مِنَ السِّرِّ الْخَفِيِّ إِلَى الْأَمْرِ الْجَلِيِّ

اسْتَفْحَلَ سُلْطَانُهُ عَلَيْكُمْ وَ دَلَفَ بِجُنُودِهِ نَحْوَكُمْ فَأَقْحَمُوكُمْ وَلَجَاتِ الذُّلِّ وَ أَحَلُّوكُمْ وَرَطَاتِ الْقَتْلِ

وَ أَوْطَئُوكُمْ إِثْخَانَ الْجِرَاحَةِ طَعْناً فِي عُيُونِكُمْ وَ حَزّاً فِي حُلُوقِكُمْ وَ دَقّاً لِمَنَاخِرِكُمْ وَ قَصْداً لِمَقَاتِلِكُمْ وَ سَوْقاً بِخَزَائِمِ الْقَهْرِ إِلَى النَّارِ الْمُعَدَّةِ لَكُمْ

فَأَصْبَحَ أَعْظَمَ فِي دِينِكُمْ حَرْجاً وَ أَوْرَى فِي دُنْيَاكُمْ قَدْحاً مِنَ الَّذِينَ أَصْبَحْتُمْ لَهُمْ مُنَاصِبِينَ وَ عَلَيْهِمْ مُتَأَلِّبِينَ

فَاجْعَلُوا عَلَيْهِ حَدَّكُمْ وَ لَهُ جِدَّكُمْ فَلَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ فَخَرَ عَلَى أَصْلِكُمْ وَ وَقَعَ فِي حَسَبِكُمْ وَ دَفَعَ فِي نَسَبِكُمْ وَ أَجْلَبَ بِخَيْلِهِ عَلَيْكُمْ وَ قَصَدَ بِرَجِلِهِ سَبِيلَكُمْ يَقْتَنِصُونَكُمْ بِكُلِّ مَكَانٍ وَ يَضْرِبُونَ مِنْكُمْ كُلَّ بَنَانٍ

لَا تَمْتَنِعُونَ بِحِيلَةٍ وَ لَا تَدْفَعُونَ بِعَزِيمَةٍ فِي حَوْمَةِ ذُلٍّ وَ حَلْقَةِ ضِيقٍ وَ عَرْصَةِ مَوْتٍ وَ جَوْلَةِ بَلَاءٍ

فَأَطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ نِيرَانِ الْعَصَبِيَّةِ وَ أَحْقَادِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّمَا تِلْكَ الْحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي الْمُسْلِمِ مِنْ خَطَرَاتِ الشَّيْطَانِ وَ نَخَوَاتِهِ وَ نَزَغَاتِهِ وَ نَفَثَاتِهِ

وَ اعْتَمِدُوا وَضْعَ التَّذَلُّلِ عَلَى رُءُوسِكُمْ وَ إِلْقَاءَ التَّعَزُّزِ تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ وَ خَلْعَ التَّكَبُّرِ مِنْ أَعْنَاقِكُمْ وَ اتَّخِذُوا التَّوَاضُعَ مَسْلَحَةً بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ عَدُوِّكُمْ إِبْلِيسَ‏وَ جُنُودِهِ فَإِنَّ لَهُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ جُنُوداً وَ أَعْوَاناً وَ رَجِلًا وَ فُرْسَاناً

وَ لَا تَكُونُوا كَالْمُتَكَبِّرِ عَلَى ابْنِ أُمِّهِ مِنْ غَيْرِ مَا فَضْلٍ جَعَلَهُ اللَّهُ فِيهِ سِوَى مَا أَلْحَقَتِ الْعَظَمَةُ بِنَفْسِهِ مِنْ عَدَاوَةِ الْحَسَدِ وَ قَدَحَتِ الْحَمِيَّةُ فِي قَلْبِهِ مِنْ نَارِ الْغَضَبِ

وَ نَفَخَ الشَّيْطَانُ فِي أَنْفِهِ مِنْ رِيحِ الْكِبْرِ الَّذِي أَعْقَبَهُ اللَّهُ بِهِ النَّدَامَةَ وَ أَلْزَمَهُ آثَامَ الْقَاتِلِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ

التحذير من الكبر

أَلَا وَ قَدْ أَمْعَنْتُمْ فِي الْبَغْيِ وَ أَفْسَدْتُمْ فِي الْأَرْضِ مُصَارَحَةً لِلَّهِ بِالْمُنَاصَبَةِ وَ مُبَارَزَةً لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْمُحَارَبَةِ

فَاللَّهَ اللَّهَ فِي كِبْرِ الْحَمِيَّةِ وَ فَخْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مَلَاقِحُ الشَّنَئَانِ وَ مَنَافِخُ الشَّيْطَانِ الَّتِي خَدَعَ بِهَا الْأُمَمَ الْمَاضِيَةَ وَ الْقُرُونَ الْخَالِيَةَ حَتَّى أَعْنَقُوا فِي حَنَادِسِ جَهَالَتِهِ وَ مَهَاوِي ضَلَالَتِهِ

ذُلُلًا عَنْ سِيَاقِهِ سُلُساً فِي قِيَادِهِ أَمْراً تَشَابَهَتِ الْقُلُوبُ فِيهِ وَ تَتَابَعَتِ الْقُرُونُ عَلَيْهِ وَ كِبْراً تَضَايَقَتِ الصُّدُورُ بِهِ

التحذير من طاعة الكبراء

أَلَا فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ طَاعَةِ سَادَاتِكُمْ وَ كُبَرَائِكُمْ الَّذِينَ تَكَبَّرُوا عَنْ حَسَبِهِمْ وَ تَرَفَّعُوا فَوْقَ نَسَبِهِمْ وَ أَلْقَوُا الْهَجِينَةَ عَلَى رَبِّهِمْ‏وَ جَاحَدُوا اللَّهَ عَلَى مَا صَنَعَ بِهِمْ مُكَابَرَةً لِقَضَائِهِ وَ مُغَالَبَةً لِآلَائِهِ

فَإِنَّهُمْ قَوَاعِدُ أَسَاسِ الْعَصَبِيَّةِ وَ دَعَائِمُ أَرْكَانِ الْفِتْنَةِ وَ سُيُوفُ اعْتِزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ

فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ لَا تَكُونُوا لِنِعَمِهِ عَلَيْكُمْ أَضْدَاداً وَ لَا لِفَضْلِهِ عِنْدَكُمْ حُسَّاداً وَ لَا تُطِيعُوا الْأَدْعِيَاءَ الَّذِينَ شَرِبْتُمْ بِصَفْوِكُمْ كَدَرَهُمْ وَ خَلَطْتُمْ بِصِحَّتِكُمْ مَرَضَهُمْ وَ أَدْخَلْتُمْ فِي حَقِّكُمْ بَاطِلَهُمْ

وَ هُمْ أَسَاسُ الْفُسُوقِ وَ أَحْلَاسُ الْعُقُوقِ اتَّخَذَهُمْ إِبْلِيسُ مَطَايَا ضَلَالٍ وَ جُنْداً بِهِمْ يَصُولُ عَلَى النَّاسِ وَ تَرَاجِمَةً يَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ

اسْتِرَاقاً لِعُقُولِكُمْ وَ دُخُولًا فِي عُيُونِكُمْ وَ نَفْثاً فِي أَسْمَاعِكُمْ فَجَعَلَكُمْ مَرْمَى نَبْلِهِ وَ مَوْطِئَ قَدَمِهِ وَ مَأْخَذَ يَدِهِ

العبرة بالماضين‏

فَاعْتَبِرُوا بِمَا أَصَابَ الْأُمَمَ الْمُسْتَكْبِرِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَ صَوْلَاتِهِ وَ وَقَائِعِهِ وَ مَثُلَاتِهِ وَ اتَّعِظُوا بِمَثَاوِي خُدُودِهِمْ وَ مَصَارِعِ جُنُوبِهِمْ

وَ اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ لَوَاقِحِ الْكِبْرِ كَمَا تَسْتَعِيذُونَهُ مِنْ طَوَارِقِ الدَّهْرِ

فَلَوْ رَخَّصَ اللَّهُ فِي الْكِبْرِ لِأَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ لَرَخَّصَ فِيهِ لِخَاصَّةِ أَنْبِيَائِهِ وَ أَوْلِيَائِهِ وَ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَرَّهَ إِلَيْهِمُ التَّكَابُرَ وَ رَضِيَ لَهُمُ التَّوَاضُعَ

فَأَلْصَقُوا بِالْأَرْضِ خُدُودَهُمْ وَ عَفَّرُوا فِي التُّرَابِ وُجُوهَهُمْ وَ خَفَضُوا أَجْنِحَتَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ كَانُوا قَوْماً

مُسْتَضْعَفِينَ قَدِ اخْتَبَرَهُمُ اللَّهُ بِالْمَخْمَصَةِ وَ ابْتَلَاهُمْ بِالْمَجْهَدَةِ وَ امْتَحَنَهُمْ بِالْمَخَاوِفِ وَ مَخَضَهُمْ بِالْمَكَارِهِ

فَلَا تَعْتَبِرُوا الرِّضَى وَ السُّخْطَ بِالْمَالِ وَ الْوَلَدِ جَهْلًا بِمَوَاقِعِ الْفِتْنَةِ وَ الِاخْتِبَارِ فِي مَوْضِعِ الْغِنَى وَ الِاقْتِدَارِ

فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ‏

فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ الْمُسْتَكْبِرِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ بِأَوْلِيَائِهِ الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي أَعْيُنِهِمْ

تواضع الأنبياء

وَ لَقَدْ دَخَلَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ وَ مَعَهُ أَخُوهُ هَارُونُ ( عليهماالسلام  )عَلَى فِرْعَوْنَ وَ عَلَيْهِمَا مَدَارِعُ الصُّوفِ وَ بِأَيْدِيهِمَا الْعِصِيُّ فَشَرَطَا لَهُ إِنْ أَسْلَمَ بَقَاءَ مُلْكِهِ وَ دَوَامَ عِزِّهِ

فَقَالَ أَ لَا تَعْجَبُونَ مِنْ هَذَيْنِ يَشْرِطَانِ لِي دَوَامَ الْعِزِّ وَ بَقَاءَ الْمُلْكِ وَ هُمَا بِمَا تَرَوْنَ مِنْ حَالِ الْفَقْرِ وَ الذُّلِّ فَهَلَّا أُلْقِيَ عَلَيْهِمَا أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ إِعْظَاماً لِلذَّهَبِ وَ جَمْعِهِ وَ احْتِقَاراً لِلصُّوفِ وَ لُبْسِهِ وَ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِأَنْبِيَائِهِ حَيْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ كُنُوزَ الذِّهْبَانِ وَ مَعَادِنَ الْعِقْيَانِ وَ مَغَارِسَ الْجِنَانِ وَ أَنْ يَحْشُرَ مَعَهُمْ طُيُورَ السَّمَاءِ وَ وُحُوشَ الْأَرَضِينَ لَفَعَلَ

وَ لَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ الْبَلَاءُ وَ بَطَلَ الْجَزَاءُوَ اضْمَحَلَّتِ الْأَنْبَاءُ وَ لَمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِينَ أُجُورُ الْمُبْتَلَيْنَ وَ لَا اسْتَحَقَّ الْمُؤْمِنُونَ ثَوَابَ الْمُحْسِنِينَ وَ لَا لَزِمَتِ الْأَسْمَاءُ مَعَانِيَهَا

وَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِي قُوَّةٍ فِي عَزَائِمِهِمْ وَ ضَعَفَةً فِيمَا تَرَى الْأَعْيُنُ مِنْ حَالَاتِهِمْ مَعَ قَنَاعَةٍ تَمْلَأُ الْقُلُوبَ وَ الْعُيُونَ غِنًى وَ خَصَاصَةٍ تَمْلَأُ الْأَبْصَارَ وَ الْأَسْمَاعَ أَذًى

وَ لَوْ كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ أَهْلَ قُوَّةٍ لَا تُرَامُ وَ عِزَّةٍ لَا تُضَامُ وَ مُلْكٍ تُمَدُّ نَحْوَهُ أَعْنَاقُ الرِّجَالِ وَ تُشَدُّ إِلَيْهِ عُقَدُ الرِّحَالِ لَكَانَ ذَلِكَ أَهْوَنَ عَلَى الْخَلْقِ فِي الِاعْتِبَارِ وَ أَبْعَدَ لَهُمْ فِي الِاسْتِكْبَارِ

وَ لَآمَنُوا عَنْ رَهْبَةٍ قَاهِرَةٍ لَهُمْ أَوْ رَغْبَةٍ مَائِلَةٍ بِهِمْ فَكَانَتِ النِّيَّاتُ مُشْتَرَكَةً وَ الْحَسَنَاتُ مُقْتَسَمَةً

وَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الِاتِّبَاعُ لِرُسُلِهِ وَ التَّصْدِيقُ بِكُتُبِهِ وَ الْخُشُوعُ لِوَجْهِهِ وَ الِاسْتِكَانَةُ لِأَمْرِهِ وَ الِاسْتِسْلَامُ لِطَاعَتِهِ أُمُوراً لَهُ خَاصَّةً لَا تَشُوبُهَا مِنْ غَيْرِهَا شَائِبَةٌ

وَ كُلَّمَا كَانَتِ الْبَلْوَى وَ الِاخْتِبَارُ أَعْظَمَ كَانَتِ الْمَثُوبَةُ وَ الْجَزَاءُ أَجْزَلَ

الكعبة المقدسة

أَ لَا تَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اخْتَبَرَ الْأَوَّلِينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ ( صلوات ‏الله‏ عليه  )إِلَى الْآخِرِينَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ بِأَحْجَارٍ لَا تَضُرُّ وَ لَا تَنْفَعُ وَ لَا تُبْصِرُ وَ لَا تَسْمَعُ فَجَعَلَهَا بَيْتَهُ الْحَرَامَ الَّذِي جَعَلَهُ لِلنَّاسِ قِيَاماً

ثُمَ‏ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ بِقَاعِ الْأَرْضِ حَجَراً وَ أَقَلِّ نَتَائِقِ الدُّنْيَا مَدَراً وَ أَضْيَقِ بُطُونِ الْأَوْدِيَةِ قُطْراً بَيْنَ جِبَالٍ خَشِنَةٍ وَ رِمَالٍ دَمِثَةٍ وَ عُيُونٍ وَشِلَةٍ وَ قُرًى مُنْقَطِعَةٍ لَا يَزْكُو بِهَا خُفٌّ وَ لَا حَافِرٌ وَ لَا ظِلْفٌ

ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ ( عليه‏السلام  )وَ وَلَدَهُ أَنْ يَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ نَحْوَهُ فَصَارَ مَثَابَةً لِمُنْتَجَعِ أَسْفَارِهِمْ وَ غَايَةً لِمُلْقَى رِحَالِهِمْ تَهْوِي إِلَيْهِ ثِمَارُ الْأَفْئِدَةِ

مِنْ مَفَاوِزِ قِفَارٍ سَحِيقَةٍ وَ مَهَاوِي فِجَاجٍ عَمِيقَةٍ وَ جَزَائِرِ بِحَارٍ مُنْقَطِعَةٍ حَتَّى يَهُزُّوا مَنَاكِبَهُمْ ذُلُلًا يُهَلِّلُونَ لِلَّهِ حَوْلَهُ وَ يَرْمُلُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ شُعْثاً غُبْراً لَهُ

قَدْ نَبَذُوا السَّرَابِيلَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَ شَوَّهُوا بِإِعْفَاءِ الشُّعُورِ مَحَاسِنَ خَلْقِهِمُ ابْتِلَاءً عَظِيماً وَ امْتِحَاناً شَدِيداً وَ اخْتِبَاراً مُبِيناً وَ تَمْحِيصاً بَلِيغاً جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَباً لِرَحْمَتِهِ وَ وُصْلَةً إِلَى جَنَّتِهِ

وَ لَوْ أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَضَعَ بَيْتَهُ الْحَرَامَ وَ مَشَاعِرَهُ الْعِظَامَ بَيْنَ جَنَّاتٍ وَ أَنْهَارٍ وَ سَهْلٍ وَ قَرَارٍ جَمَّ الْأَشْجَارِ دَانِيَ الثِّمَارِ مُلْتَفَّ الْبُنَى مُتَّصِلَ الْقُرَى

بَيْنَ بُرَّةٍ سَمْرَاءَ وَ رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ وَ أَرْيَافٍ مُحْدِقَةٍ وَ عِرَاصٍ مُغْدِقَةٍ وَ رِيَاضٍ نَاضِرَةٍ وَ طُرُقٍ عَامِرَةٍ لَكَانَ قَدْ صَغُرَ قَدْرُ الْجَزَاءِ عَلَى حَسَبِ ضَعْفِ الْبَلَاءِ

وَ لَوْ كَانَ الْإِسَاسُ الْمَحْمُولُ عَلَيْهَا وَ الْأَحْجَارُ الْمَرْفُوعُ بِهَا بَيْنَ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ وَ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ وَ نُورٍ وَ ضِيَاءٍ

لَخَفَّفَ ذَلِكَ مُصَارَعَةَ الشَّكِّ فِي الصُّدُورِ وَ لَوَضَعَ مُجَاهَدَةَ إِبْلِيسَ عَنِ الْقُلُوبِ وَ لَنَفَى مُعْتَلَجَ الرَّيْبِ مِنَ النَّاسِ

وَ لَكِنَّ اللَّهَ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِأَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ وَ يَتَعَبَّدُهُمْ بِأَنْوَاعِ الْمَجَاهِدِ وَ يَبْتَلِيهِمْ بِضُرُوبِ الْمَكَارِهِ إِخْرَاجاً لِلتَّكَبُّرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَ إِسْكَاناً لِلتَّذَلُّلِ فِي نُفُوسِهِمْ وَ لِيَجْعَلَ ذَلِكَ أَبْوَاباً فُتُحاً إِلَى فَضْلِهِ وَ أَسْبَاباً ذُلُلًا لِعَفْوِهِ

عود إلى التحذير

فَاللَّهَ اللَّهَ فِي عَاجِلِ الْبَغْيِ وَ آجِلِ وَخَامَةِ الظُّلْمِ وَ سُوءِ عَاقِبَةِ الْكِبْرِ فَإِنَّهَا مَصْيَدَةُ إِبْلِيسَ الْعُظْمَى وَ مَكِيدَتُهُ الْكُبْرَى الَّتِي تُسَاوِرُ قُلُوبَ الرِّجَالِ مُسَاوَرَةَ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ

فَمَا تُكْدِي أَبَداً وَ لَا تُشْوِي أَحَداً لَا عَالِماً لِعِلْمِهِ وَ لَا مُقِلًّا فِي طِمْرِهِ

وَ عَنْ ذَلِكَ مَا حَرَسَ اللَّهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَوَاتِ وَ الزَّكَوَاتِ وَ مُجَاهَدَةِ الصِّيَامِ فِي الْأَيَّامِ الْمَفْرُوضَاتِ تَسْكِيناً لِأَطْرَافِهِمْ وَ تَخْشِيعاً لِأَبْصَارِهِمْ وَ تَذْلِيلًا لِنُفُوسِهِمْ وَ تَخْفِيضاً لِقُلُوبِهِمْ وَ إِذْهَاباً لِلْخُيَلَاءِ عَنْهُمْ

وَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْفِيرِ عِتَاقِ الْوُجُوهِ بِالتُّرَابِ تَوَاضُعاً وَ الْتِصَاقِ كَرَائِمِ الْجَوَارِحِ بِالْأَرْضِ تَصَاغُراً وَ لُحُوقِ الْبُطُونِ بِالْمُتُونِ مِنَ الصِّيَامِ تَذَلُّلًا مَعَ مَا فِي الزَّكَاةِ مِنْ صَرْفِ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ وَ غَيْرِ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ وَ الْفَقْرِ

فضائل الفرائض‏

انْظُرُوا إِلَى مَا فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ مِنْ قَمْعِ نَوَاجِمِ الْفَخْرِ وَ قَدْعِ طَوَالِعِ الْكِبْرِ

وَ لَقَدْ نَظَرْتُ فَمَا وَجَدْتُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ يَتَعَصَّبُ لِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا عَنْ عِلَّةٍ تَحْتَمِلُ تَمْوِيهَ الْجُهَلَاءِ أَوْ حُجَّةٍ تَلِيطُ بِعُقُولِ السُّفَهَاءِ غَيْرَكُمْ فَإِنَّكُمْ تَتَعَصَّبُونَ لِأَمْرٍ مَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ وَ لَا عِلَّةٌ أَمَّا إِبْلِيسُ فَتَعَصَّبَ عَلَى آدَمَ لِأَصْلِهِ وَ طَعَنَ عَلَيْهِ فِي خِلْقَتِهِ فَقَالَ أَنَا نَارِيٌّ وَ أَنْتَ طِينِيٌّ

عصبية المال‏

وَ أَمَّا الْأَغْنِيَاءُ مِنْ مُتْرَفَةِ الْأُمَمِ فَتَعَصَّبُوا لِآثَارِ مَوَاقِعِ النِّعَمِ فَ قالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ‏

فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُكُمْ لِمَكَارِمِ الْخِصَالِ وَ مَحَامِدِ الْأَفْعَالِ

وَ مَحَاسِنِ الْأُمُورِ الَّتِي تَفَاضَلَتْ فِيهَا الْمُجَدَاءُ وَ النُّجَدَاءُ مِنْ بُيُوتَاتِ الْعَرَبِ وَ يَعَاسِيبِ القَبَائِلِ بِالْأَخْلَاقِ الرَّغِيبَةِ وَ الْأَحْلَامِ الْعَظِيمَةِ وَ الْأَخْطَارِ الْجَلِيلَةِ وَ الْآثَارِ الْمَحْمُودَةِ

فَتَعَصَّبُوا لِخِلَالِ الْحَمْدِ مِنَ الْحِفْظِ لِلْجِوَارِ وَ الْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ وَ الطَّاعَةِ لِلْبِرِّ وَ الْمَعْصِيَةِ لِلْكِبْرِ وَ الْأَخْذِ بِالْفَضْلِ وَ الْكَفِّ عَنِ الْبَغْيِ وَ الْإِعْظَامِ لِلْقَتْلِ وَ الْإِنْصَافِ لِلْخَلْقِ وَ الْكَظْمِ لِلْغَيْظِوَ اجْتِنَابِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ

وَ احْذَرُوا مَا نَزَلَ بِالْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مِنَ الْمَثُلَاتِ بِسُوءِ الْأَفْعَالِ وَ ذَمِيمِ الْأَعْمَالِ فَتَذَكَّرُوا فِي الْخَيْرِ وَ الشَّرِّ أَحْوَالَهُمْ وَ احْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ فَإِذَا تَفَكَّرْتُمْ فِي تَفَاوُتِ حَالَيْهِمْ فَالْزَمُوا كُلَّ أَمْرٍ لَزِمَتِ الْعِزَّةُ بِهِ شَأْنَهُمْ

وَ زَاحَتِ الْأَعْدَاءُ لَهُ عَنْهُمْ وَ مُدَّتِ الْعَافِيَةُ بِهِ عَلَيْهِمْ وَ انْقَادَتِ النِّعْمَةُ لَهُ مَعَهُمْ وَ وَصَلَتِ الْكَرَامَةُ عَلَيْهِ حَبْلَهُمْ مِنَ الِاجْتِنَابِ لِلْفُرْقَةِ وَ اللُّزُومِ لِلْأُلْفَةِ وَ التَّحَاضِّ عَلَيْهَا وَ التَّوَاصِي بِهَا

وَ اجْتَنِبُوا كُلَّ أَمْرٍ كَسَرَ فِقْرَتَهُمْ وَ أَوْهَنَ مُنَّتَهُمْ مِنْ تَضَاغُنِ الْقُلُوبِ وَ تَشَاحُنِ الصُّدُورِ وَ تَدَابُرِ النُّفُوسِ وَ تَخَاذُلِ الْأَيْدِي

وَ تَدَبَّرُوا أَحْوَالَ الْمَاضِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَكُمْ كَيْفَ كَانُوا فِي حَالِ التَّمْحِيصِ وَ الْبَلَاءِ أَ لَمْ يَكُونُوا أَثْقَلَ الْخَلَائِقِ أَعْبَاءً وَ أَجْهَدَ الْعِبَادِ بَلَاءً وَ أَضْيَقَ أَهْلِ الدُّنْيَا حَالًا

اتَّخَذَتْهُمُ الْفَرَاعِنَةُ عَبِيداً فَسَامُوهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَ جَرَّعُوهُمُ الْمُرَارَ فَلَمْ تَبْرَحِ الْحَالُ بِهِمْ فِي ذُلِّ الْهَلَكَةِ وَ قَهْرِ الْغَلَبَةِ لَا يَجِدُونَ حِيلَةً فِي امْتِنَاعٍ وَ لَا سَبِيلًا إِلَى دِفَاعٍ

حَتَّى إِذَا رَأَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ جِدَّ الصَّبْرِ مِنْهُمْ عَلَى الْأَذَى فِي مَحَبَّتِهِ وَ الِاحْتِمَالَ لِلْمَكْرُوهِ مِنْ خَوْفِهِ جَعَلَ لَهُمْ مِنْ مَضَايِقِ الْبَلَاءِ فَرَجاً فَأَبْدَلَهُمُ الْعِزَّ مَكَانَ الذُّلِّ وَ الْأَمْنَ مَكَانَ الْخَوْفِ

فَصَارُوا مُلُوكاً حُكَّاماً وَ أَئِمَّةً أَعْلَاماً وَ قَدْ بَلَغَتِ الْكَرَامَةُ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ‏مَا لَمْ تَذْهَبِ الْآمَالُ إِلَيْهِ بِهِمْ

فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانُوا حَيْثُ كَانَتِ الْأَمْلَاءُ مُجْتَمِعَةً وَ الْأَهْوَاءُ مُؤْتَلِفَةً وَ الْقُلُوبُ مُعْتَدِلَةً وَ الْأَيْدِي مُتَرَادِفَةً وَ السُّيُوفُ مُتَنَاصِرَةً وَ الْبَصَائِرُ نَافِذَةً وَ الْعَزَائِمُ وَاحِدَةً

أَ لَمْ يَكُونُوا أَرْبَاباً فِي أَقْطَارِ الْأَرَضِينَ وَ مُلُوكاً عَلَى رِقَابِ الْعَالَمِينَ

فَانْظُرُوا إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ فِي آخِرِ أُمُورِهِمْ حِينَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ وَ تَشَتَّتَتِ الْأُلْفَةُ وَ اخْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ وَ الْأَفْئِدَةُ وَ تَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِينَ وَ تَفَرَّقُوا مُتَحَارِبِينَ

وَ قَدْ خَلَعَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِبَاسَ كَرَامَتِهِ وَ سَلَبَهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِهِ وَ بَقِيَ قَصَصُ أَخْبَارِهِمْ فِيكُمْ عِبَراً لِلْمُعْتَبِرِينَ

الاعتبار بالأمم‏

فَاعْتَبِرُوا بِحَالِ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَ بَنِي إِسْحَاقَ وَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ( عليهم‏السلام  )فَمَا أَشَدَّ اعْتِدَالَ الْأَحْوَالِ وَ أَقْرَبَ اشْتِبَاهَ الْأَمْثَالِ تَأَمَّلُوا أَمْرَهُمْ فِي حَالِ تَشَتُّتِهِمْ وَ تَفَرُّقِهِمْ لَيَالِيَ كَانَتِ الْأَكَاسِرَةُ وَ الْقَيَاصِرَةُ أَرْبَاباً لَهُمْ

يَحْتَازُونَهُمْ عَنْ رِيفِ الْآفَاقِ وَ بَحْرِ الْعِرَاقِ وَ خُضْرَةِ الدُّنْيَا إِلَى مَنَابِتِ الشِّيحِ وَ مَهَافِي الرِّيحِ وَ نَكَدِ الْمَعَاشِ فَتَرَكُوهُمْ عَالَةً مَسَاكِينَ إِخْوَانَ دَبَرٍ وَ وَبَرٍ أَذَلَّ الْأُمَمِ دَاراً وَ أَجْدَبَهُمْ قَرَاراً

لَا يَأْوُونَ إِلَى جَنَاحِ دَعْوَةٍيَعْتَصِمُونَ بِهَا وَ لَا إِلَى ظِلِّ أُلْفَةٍ يَعْتَمِدُونَ عَلَى عِزِّهَا

فَالْأَحْوَالُ مُضْطَرِبَةٌ وَ الْأَيْدِي مُخْتَلِفَةٌ وَ الْكَثْرَةُ مُتَفَرِّقَةٌ فِي بَلَاءِ أَزْلٍ وَ أَطْبَاقِ جَهْلٍ مِنْ بَنَاتٍ مَوْءُودَةٍ وَ أَصْنَامٍ مَعْبُودَةٍ وَ أَرْحَامٍ مَقْطُوعَةٍ وَ غَارَاتٍ مَشْنُونَةٍ

النعمة برسول اللّه‏

فَانْظُرُوا إِلَى مَوَاقِعِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ حِينَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طَاعَتَهُمْ وَ جَمَعَ عَلَى دَعْوَتِهِ أُلْفَتَهُمْ

كَيْفَ نَشَرَتِ النِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ جَنَاحَ كَرَامَتِهَا وَ أَسَالَتْ لَهُمْ جَدَاوِلَ نَعِيمِهَا وَ الْتَفَّتِ الْمِلَّةُ بِهِمْ فِي عَوَائِدِ بَرَكَتِهَا فَأَصْبَحُوا فِي نِعْمَتِهَا غَرِقِينَ وَ فِي خُضْرَةِ عَيْشِهَا فَكِهِينَ

قَدْ تَرَبَّعَتِ الْأُمُورُ بِهِمْ فِي ظِلِّ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ وَ آوَتْهُمُ الْحَالُ إِلَى كَنَفِ عِزٍّ غَالِبٍ وَ تَعَطَّفَتِ الْأُمُورُ عَلَيْهِمْ فِي ذُرَى مُلْكٍ ثَابِتٍ

فَهُمْ حُكَّامٌ عَلَى الْعَالَمِينَ وَ مُلُوكٌ فِي أَطْرَافِ الْأَرَضِينَ يَمْلِكُونَ الْأُمُورَ عَلَى مَنْ كَانَ يَمْلِكُهَا عَلَيْهِمْ وَ يُمْضُونَ الْأَحْكَامَ فِيمَنْ كَانَ يُمْضِيهَا فِيهِمْ لَا تُغْمَزُ لَهُمْ قَنَاةٌ وَ لَا تُقْرَعُ لَهُمْ صَفَاةٌ

لوم العصاة

أَلَا وَ إِنَّكُمْ قَدْ نَفَضْتُمْ أَيْدِيَكُمْ مِنْ حَبْلِ الطَّاعَةِ وَ ثَلَمْتُمْ حِصْنَ اللَّهِ الْمَضْرُوبَ عَلَيْكُمْ بِأَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ

فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدِ امْتَنَ‏عَلَى جَمَاعَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِيمَا عَقَدَ بَيْنَهُمْ مِنْ حَبْلِ هَذِهِ الْأُلْفَةِ الَّتِي يَنْتَقِلُونَ فِي ظِلِّهَا وَ يَأْوُونَ إِلَى كَنَفِهَا بِنِعْمَةٍ لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ لَهَا قِيمَةً لِأَنَّهَا أَرْجَحُ مِنْ كُلِّ ثَمَنٍ وَ أَجَلُّ مِنْ كُلِّ خَطَرٍ

وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَعْرَاباً وَ بَعْدَ الْمُوَالَاةِ أَحْزَاباً مَا تَتَعَلَّقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِاسْمِهِ وَ لَا تَعْرِفُونَ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا رَسْمَهُ

تَقُولُونَ النَّارَ وَ لَا الْعَارَ كَأَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُكْفِئُوا الْإِسْلَامَ عَلَى وَجْهِهِ انْتِهَاكاً لِحَرِيمِهِ وَ نَقْضاً لِمِيثَاقِهِ الَّذِي وَضَعَهُ اللَّهُ لَكُمْ حَرَماً فِي أَرْضِهِ وَ أَمْناً بَيْنَ خَلْقِهِ

وَ إِنَّكُمْ إِنْ لَجَأْتُمْ إِلَى غَيْرِهِ حَارَبَكُمْ أَهْلُ الْكُفْرِ ثُمَّ لَا جَبْرَائِيلُ وَ لَا مِيكَائِيلُ وَ لَا مُهَاجِرُونَ وَ لَا أَنْصَارٌ يَنْصُرُونَكُمْ إِلَّا الْمُقَارَعَةَ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَكُمْ

وَ إِنَّ عِنْدَكُمُ الْأَمْثَالَ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَ قَوَارِعِهِ وَ أَيَّامِهِ وَ وَقَائِعِهِ فَلَا تَسْتَبْطِئُوا وَعِيدَهُ جَهْلًا بِأَخْذِهِ وَ تَهَاوُناً بِبَطْشِهِ وَ يَأْساً مِنْ بَأْسِهِ

فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَلْعَنِ الْقَرْنَ الْمَاضِيَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ إِلَّا لِتَرْكِهِمُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَلَعَنَ اللَّهُ السُّفَهَاءَ لِرُكُوبِ الْمَعَاصِي وَ الْحُلَمَاءَ لِتَرْكِ التَّنَاهِي

أَلَا وَ قَدْ قَطَعْتُمْ قَيْدَ الْإِسْلَامِ وَ عَطَّلْتُمْ حُدُودَهُ وَ أَمَتُّمْ أَحْكَامَهُ

أَلَا وَ قَدْ أَمَرَنِيَ اللَّهُ بِقِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَ النَّكْثِ وَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ

فَأَمَّا النَّاكِثُونَ فَقَدْ قَاتَلْتُ وَ أَمَّا الْقَاسِطُونَ فَقَدْ جَاهَدْتُ وَ أَمَّا الْمَارِقَةُ فَقَدْ دَوَّخْتُ

وَ أَمَّا شَيْطَانُ الرَّدْهَةِ فَقَدْ كُفِيتُهُ بِصَعْقَةٍ سُمِعَتْ لَهَا وَجْبَةُ قَلْبِهِ وَ رَجَّةُ صَدْرِهِ وَ بَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَ لَئِنْ أَذِنَ اللَّهُ فِي الْكَرَّةِ عَلَيْهِمْ لَأُدِيلَنَّ مِنْهُمْ إِلَّا مَا يَتَشَذَّرُ فِي أَطْرَافِ الْبِلَادِ تَشَذُّراً

فضل الوحي‏

أَنَا وَضَعْتُ فِي الصِّغَرِ بِكَلَاكِلِ الْعَرَبِ وَ كَسَرْتُ نَوَاجِمَ قُرُونِ رَبِيعَةَ وَ مُضَرَ

وَ قَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى ‏الله ‏عليه‏ وآله  )بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ وَ الْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَ أَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ وَ يَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ وَ يُمِسُّنِي جَسَدَهُ وَ يُشِمُّنِي عَرْفَهُ

وَ كَانَ يَمْضَغُ الشَّيْ‏ءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ وَ مَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ وَ لَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ

وَ لَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ بِهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ وَ مَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَهُ وَ نَهَارَهُ

وَ لَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِهِ عَلَماً وَ يَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ

وَ لَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ فَأَرَاهُ وَ لَا يَرَاهُ غَيْرِي وَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ

فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )وَ خَدِيجَةَ وَ أَنَا ثَالِثُهُمَا أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَ الرِّسَالَةِ وَ أَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ

وَ لَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الرَّنَّةُ فَقَالَ هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ

إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وَ تَرَى مَا أَرَى إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ وَ لَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ وَ إِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ وَ لَقَدْ كُنْتُ مَعَهُ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله )لَمَّا أَتَاهُ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالُوا لَهُ يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ قَدِ ادَّعَيْتَ عَظِيماً لَمْ يَدَّعِهِ آبَاؤُكَ وَ لَا أَحَدٌ مِنْ بَيْتِكَ

وَ نَحْنُ نَسْأَلُكَ أَمْراً إِنْ أَنْتَ أَجَبْتَنَا إِلَيْهِ وَ أَرَيْتَنَاهُ عَلِمْنَا أَنَّكَ نَبِيٌّ وَ رَسُولٌ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّكَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ‏

فَقَالَ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )وَ مَا تَسْأَلُونَ قَالُوا تَدْعُو لَنَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى تَنْقَلِعَ بِعُرُوقِهَا وَ تَقِفَ بَيْنَ يَدَيْكَ فَقَالَ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  ) إِنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌفَإِنْ فَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ ذَلِكَ أَ تُؤْمِنُونَ وَ تَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ قَالُوا نَعَمْ

قَالَ فَإِنِّي سَأُرِيكُمْ مَا تَطْلُبُونَ وَ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكُمْ لَا تَفِيئُونَ إِلَى خَيْرٍ وَ إِنَّ فِيكُمْ مَنْ يُطْرَحُ فِي الْقَلِيبِ وَ مَنْ يُحَزِّبُ الْأَحْزَابَ

ثُمَّ قَالَ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )يَا أَيَّتُهَا الشَّجَرَةُ إِنْ كُنْتِ تُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ تَعْلَمِينَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَانْقَلِعِي بِعُرُوقِكِ حَتَّى تَقِفِي بَيْنَ يَدَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ

فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَانْقَلَعَتْ‏بِعُرُوقِهَا وَ جَاءَتْ وَ لَهَا دَوِيٌّ شَدِيدٌ وَ قَصْفٌ كَقَصْفِ أَجْنِحَةِ الطَّيْرِ حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )مُرَفْرِفَةً

وَ أَلْقَتْ بِغُصْنِهَا الْأَعْلَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله )وَ بِبَعْضِ أَغْصَانِهَا عَلَى مَنْكِبِي وَ كُنْتُ عَنْ يَمِينِهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )

فَلَمَّا نَظَرَ الْقَوْمُ إِلَى ذَلِكَ قَالُوا عُلُوّاً وَ اسْتِكْبَاراً فَمُرْهَا فَلْيَأْتِكَ نِصْفُهَا وَ يَبْقَى نِصْفُهَا فَأَمَرَهَا بِذَلِكَ فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ نِصْفُهَا كَأَعْجَبِ إِقْبَالٍ وَ أَشَدِّهِ دَوِيّاً فَكَادَتْ تَلْتَفُّ بِرَسُولِ اللَّهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )

فَقَالُوا كُفْراً وَ عُتُوّاً فَمُرْ هَذَا النِّصْفَ فَلْيَرْجِعْ إِلَى نِصْفِهِ كَمَا كَانَ فَأَمَرَهُ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )فَرَجَعَ

فَقُلْتُ أَنَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِنِّي أَوَّلُ مُؤْمِنٍ بِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَ أَوَّلُ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى تَصْدِيقاً بِنُبُوَّتِكَ وَ إِجْلَالًا لِكَلِمَتِكَ

فَقَالَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ بَلْ ساحِرٌ كَذَّابٌ عَجِيبُ السِّحْرِ خَفِيفٌ فِيهِ وَ هَلْ يُصَدِّقُكَ فِي أَمْرِكَ إِلَّا مِثْلُ هَذَا يَعْنُونَنِي

وَ إِنِّي لَمِنْ قَوْمٍ لَا تَأْخُذُهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ سِيمَاهُمْ سِيمَا الصِّدِّيقِينَ وَ كَلَامُهُمْ كَلَامُ الْأَبْرَارِ عُمَّارُ اللَّيْلِ وَ مَنَارُ النَّهَارِ مُتَمَسِّكُونَ بِحَبْلِ الْقُرْآنِ يُحْيُونَ سُنَنَ اللَّهِ وَ سُنَنَ رَسُولِهِ

لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَ لَا يَعْلُونَ وَ لَا يَغُلُّونَ وَ لَا يُفْسِدُونَ قُلُوبُهُمْ فِي الْجِنَانِ وَ أَجْسَادُهُمْ فِي الْعَمَلِ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج12  

و من خطبة له عليه السّلام تسمى بالقاصعة و هى المأة و الحادية و التسعون من المختار فى باب الخطب

الجزء الثاني عشر

الفصل التاسع

و لقد كنت معه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا أتاه الملاء من قريش، فقالوا له: يا محمّد إنّك قد إدّعيت عظيما لم يدّعه آباؤك و لا أحد من بيتك و نحن نسئلك أمرا إن أجبتنا إليه و أريتناه علمنا أنّك نبيّ و رسول و إن لم تفعل علمنا أنّك ساحر كذّاب. قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لهم: و ما تسئلون قالوا: تدع لنا هذه الشّجرة حتّى تنقلع بعروقها و تقف بين يديك فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه على كلّ شي‏ء قدير فإن فعل اللّه ذلك بكم أ تؤمنون و تشهدون بالحقّ قالوا: نعم. قال: فإنّي ساريكم ما تطلبون، و إنّى لأعلم أنّكم لا تفيئون إلى خير، و أنّ فيكم من يطرح في القليب، و من يحزّب الأحزاب. ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا أيّتها الشّجرة إن كنت تؤمنين باللّه و اليوم الاخر و تعلمين أنّي رسول اللّه فانقلعي بعروقك حتّى تقفى بين يديّ بإذن اللّه. و الّذي بعثه بالحقّ لانقلعت بعروقها و جاءت و لها دويّ شديد و قصف كقصيف أجنحة الطّير، حتّى وقفت بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم‏ مرفرفة، و ألقت بغصنها الأعلى على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ببعض أغصانها على منكبي، و كنت عن يمينه صلّى اللّه عليه و آله. فلمّا نظر القوم إلى ذلك قالوا علوّا و استكبارا: فمرها فليأتك نصفها و يبقى نصفها، فأمرها بذلك، فأقبل إليه نصفها كأعجب إقبال و أشدّه دويّا، فكادت تلتفّ برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقالوا كفرا و عتوّا فمر هذا النّصف فليرجع إلى نصفه كما كان، فأمره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فرجع. فقلت أنا: لا إله إلّا اللّه فإنّي أوّل مؤمن بك يا رسول اللّه و أوّل من أقرّ بأنّ الشّجرة فعلت ما فعلت بأمر اللّه تعالى، تصديقا لنبوّتك و إجلالا لكلمتك، و قال القوم كلّهم: بل ساحر كذّاب عجيب السّحر خفيف فيه و هل يصدّقك في أمرك إلّا مثل هذا- يعنونني و إنّي لمن قوم لا تأخذهم في اللّه لومة لائم، سيماهم سيما الصّدّيقين، و كلامهم كلام الأبرار، عمّار اللّيل، و منار النّهار، متمسّكون بحبل القرآن، يحيون سنن اللّه و سنن رسوله لا يستكبرون، و لا يعلون، و لا يغلوّن، و لا يفسدون، قلوبهم في الجنان، و أجسادهم في العمل.

اللغة

(القليب) البئر يذكّر و يؤنّث أو العاديّة القديمة منها و (الأحزاب) جمع الحزب الطائفة و جماعة الناس و تحزّبوا صاروا أحزابا و حزّبتهم تحزيبا جعلتهم حزبا حزبا و (القصف و القصيف) الصوت، و في بعض النسخ قصف كقصف أجنحة الطير، و الجميع بمعنى واحد و (رفرف) الطائر بجناحيه إذا بسطهما عند السقوط على شي‏ء يحوم عليه ليقع فوقه (و السّيما) بالقصر و المدّ العلامة و (غلّ) يغلّ من باب قعد غلولا إذا خان في الغنيمة كأغلّ أو مطلق الخيانة و غلّ غلّا من باب ضرب أى حقد حقدا.

الاعراب

قوله: مرفرفة بالنصب حال من فاعل وقفت، و قوله: و ألقت عطف على وقفت، و علوّا و استكبارا منصوبان على المفعول لأجله، و دويّا منصوب على التميز، و كفرا و عتوّا أيضا منصوبان على المفعول له، و كذلك تصديقا و اجلالا، و عمّار اللّيل بالرّفع خبر لمبتدأ محذوف، قوله: و أجسادهم فى العمل، الواو فيه للعطف و تحتمل الحال.

المعنى

اعلم أنّه عليه الصّلاة و السّلام لمّا نبّه فى الفصل السابق على علوّ مقامه و رفعة شأنه و شرف محلّه، و ذكر المخاطبين بمناقبه الجميلة و عدّ فيه منها تسعا أردفه بهذا الفصل تذكيرا لهم بمنقبته العاشرة و هو ايمانه برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تصديقه بالمعجزة الظاهرة منه صلوات اللّه و سلامه عليه فى الشجرة لمّا كفر به غيره و نسبوه إلى السّحر و الكذب و هو قوله عليه الصّلاة و السّلام: (و لقد كنت معه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا أتاه الملاء من قريش) أى الجماعة منهم (فقالوا له يا محمّد إنّك قد ادّعيت أمرا عظيما) و هو النّبوة و الرّسالة (لم يدّعه آباؤك) أى الأقربون منهم و إن كان الأبعدون أنبياء و مرسلين كاسماعيل و إبراهيم و غيرهما (و لا أحد من) أهل (بيتك و نحن نسألك أمرا) خارقا للعادة (إن أجبتنا إليه) و أتيت به (و أريتناه‏علمنا أنّك نبيّ و رسول) لاتيانك بما أتى به ساير الأنبياء و الرّسل ممّا يعجز عنه غيرهم من الايات البيّنات المصدّقة لرسالتهم و نبوّتهم (و ان لم تفعل علمنا) بطلان دعواك و انّك ساحر كذّاب) لأنّ عدم فعلك لما نسأله كاشف عن عجزك من معاجزة النّبوة و دلائل الرّسالة.
ف (قال لهم) النّبي صلّى اللّه عليه و آله (و ما تسألون).

(قالوا تدع لنا هذه الشجرة حتّى تنقلع بعروقها) من الأرض و تأتى (و تقف بين يديك) إجابة لدعوتك (فقال صلّى اللّه عليه و آله إنّ اللّه على كلّ شي‏ء قدير) لا يعجزه شي‏ء و لا يقصر قدرته عن شي‏ء (فان فعل اللّه ذلك بكم) و أجاب إلى مسئولكم (أ تؤمنون) به (و تشهدون بالحقّ) و إنّما نسب الفعل إلى اللّه و لم ينسبه إلى نفسه تنبيها لهم على أنّ ما يفعله و يصدر منه صلّى اللّه عليه و آله فانّما هو فعل اللّه سبحانه و هو عليه السّلام مظهر له كما قال تعالى فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَ ما رَمَيْتَ و لذلك ذكر أوّلا عموم قدرته تعالى و فرّع عليه قوله: فان فعل اللّه ذلك، ايماء إلى أنّ ما تسألونه من انقلاع الشجرة من مكانها و وقوفها بين أيديهم أمر يعجز عنه المخلوق الضعيف و يقدر عليه الخالق القاهر القادر على كلّ شي‏ء، فقال لهم: فان فعلت ذلك مع كونى بشرا مثلكم فانّما هو بكونى مبعوثا من عنده خليفة له و كون فعلى فعله أ تؤمنون حينئذ و تشهدون بأن لا إله إلّا اللّه و أنّى رسول اللّه.

(قالوا نعم قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فانّى ساريكم ما تطلبون) أسند الارائة إلى نفسه القدسى بعد اسناد الفعل إلى اللّه، لما ذكرناه من النكتة (و إنّي لأعلم أنكم لا تفيئون إلى خير) أى لا ترجعون إلى الاسلام الجامع لخير الدّنيا و الاخرة و فى تصدير الجملة بانّ و اللّام تنبيها على أنّ عدم رجوعهم إلى الحقّ و بقائهم على الكفر و الضلال محقّق معلوم له صلّى اللّه عليه و آله بعلم اليقين ليس فيه شكّ و ريب (و انّ فيكم من) يبقى على كفره و يقتل و (يطرح فى القليب) قليب بدر (و من) يستمرّ على غيّه و (يحزّب الأحزاب) و يجمع جموع الكفّار و المشركين على‏محاربتى و جهادى.

و هذه الخبر من أخباره الغيبيّة و دلائل نبوّته صلّى اللّه عليه و آله و قد وقع المخبر به على طبق الخبر، فممّن طرح فى القليب بعد قتلهم عتبة و شيبة ابنى ربيعة و أبى جهل و اميّة ابن عبد شمس و الوليد بن المغيرة و غيرهم، و ممّن حزّب الأحزاب أبو سفيان بن حرب و عمرو بن ود و صفوان بن اميّة و عكرمة بن أبى جهل و سهل بن عمرو و غيرهم.
(ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يا أيتها الشجرة إن كنت تؤمنين باللّه و اليوم الاخر و تعلمين أنّى رسول اللّه) خطابه للشّجرة بخطاب ذوي العقول يدلّ على أنّها صارت بتوجّه نفسه القدسى إليها شاعرة مدركة قابلة للخطاب كساير ذوى العقول المتّصفة بالاحساس و الحياة لأنّ مشيّته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مشية اللّه و إذا أراد اللّه شيئا أن يقول له كن فيكون.

و نظير هذا الخطاب خطاب اللّه سبحانه للأرض و السماء بقوله «وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَ يا» و في قوله: ان كنت تؤمنين باللّه و اليوم الاخر، دلالة على أنّ للنبات و الجماد تكليفا كساير المكلّفين، و قد مرّ بعض الكلام فى ذلك فى شرح المختار المأة و التسعين.

و كيف كان فقد خاطب الشّجرة و قال لها (فانقلعى بعروقك حتّى تقفى بين يدىّ باذن اللّه) و مشيّته ف (و الّذى بعثه بالحقّ) نبيّا (لانقلعت بعروقها و جاءت و لها دوىّ شديد) صوت كصوت الرّيح (و قصف كقصيف) أى صوت مثل صوت (أجنحة الطير حتى وقفت بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) ممتثلة لأمره منقادة لحكمه (مرفرفة) رفرفة الطير (و ألقت بغصنها الأعلى على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) متثلة لأمر منقادة لحكمه (مرفوعة) رفرقة الطير (و ألقت بغضها الأعلى على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و سلّم) إجلالا له و إعظاما (و ببعض أغصانها على منكبى) تكريما و تعظيما (و كنت) واقفا (عن يمينه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلمّا نظر القوم إلى ذلك) الاعجاز (قالوا) له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (علوا و استكبارا) لا اهتداء و استرشادا (فمرها فليأتك نصفها و يبقى نصفها فأمرها بذلك) إتماما للحجّة و اكمالا للبيّنة (فأقبل إليه نصفها كأعجب إقبال و أشدّه دويا) و هو كناية عن سرعة إجابتها لأمره (فكادت تلتفّ‏برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) بمزيد دنوّها منه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (فقالوا) ثالثة (كفرا و عتوّا) و تمرّدا و اعتلاء بقصد تعجيزه و افحامه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (فمر هذا النّصف فليرجع إلى نصفه كما كان فأمره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) قطعا للعذر و حسما لمادّة المكابرة (فرجع) إلى النّصف الاخر و انضمّ اليه.

قال أمير المؤمنين لما شاهد هذه المعجزة (فقلت أنا: لا إله إلّا اللّه فانّى أوّل مؤمن بك) أى برسالتك (يا رسول اللّه و أوّل من أقرّ بأنّ الشجرة فعلت ما فعلت بأمر اللّه) و اذنه (تصديقا لنبوّتك و إجلالا لكلمتك) و إجابة لأمرك.
(فقال القوم كلّهم بل ساحر كذّاب) أى أنت مموّه مدلّس لا حقيقة لما فعلته و إنّما هو تمويه و تخييل لا أصل له و أنّك كذّاب فيما تدعوننا إليه من التوحيد و الايمان.

و قد حكى اللّه عنهم ذلك بقوله في سورة ص وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ. أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ‏ءٌ عُجابٌ.
قال الطبرسي في وجه نزول الاية: قال المفسّرون: إنّ أشراف قريش و هم خمسة و عشرون منهم الوليد بن المغيرة و هو أكبرهم و أبو جهل و أبيّ و اميّة ابنا خلف و عتبة و شيبة ابنا ربيعة و النضر بن الحارث أتوا أبا طالب و قالوا أنت شيخنا و كبيرنا و قد أتيناك لتقضى بيننا و بين ابن اخيك فانّه سفّه أحلامنا و شتم آلهتنا، شيخنا و كبيرنا و قد أتيناك لتقضى بيننا و بين ابن اخيك فانّه سفّه أحلامنا و شتم آلهتنا، فدعى أبو طالب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال: يا ابن أخ هؤلاء قومك يسألونك: فقال: ما ذا يسألونني قالوا دعنا و آلهتنا ندعك و إلهك فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أ تعطونني كلمة واحدة تملكون بها العرب و العجم، فقال أبو جهل: للّه أبوك نعطيك ذلك و عشر أمثالها فقال: قولوا: لا إله إلّا اللّه، فقاموا و قالوا: أ جعل الالهة إلها واحدا، فنزلت هذه الايات، هذا.

و لمّا قالوا: إنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ساحر و لم يكونوا شاهدين مثل ما أتى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم به من غيره أعظموا أمره و وصفوه بأنّه (عجيب السّحر) لأنّه قد أتى بما يعجز عنه غيره و بأنّه (خفيف فيه) لأنّه فعل ما فعل سريعا من دون تراخ و تأخير.

ثمّ قالوا استحقارا و استصغارا: (و هل يصدّقك) و يؤمن بك (فى أمرك إلّا مثل هذا) الغلام الحدث السنّ (يعنونني) و قد حذا حذو هؤلاء الكفّار أتباعهم الّذين‏فضّلوا ابن أبي قحافة على أمير المؤمنين عليه السّلام حيث قالوا: إنّ ابن أبي قحافة أسلم و هو ابن أربعين سنة و علىّ أسلم و هو حدث و لم يبلغ الحلم فكان إسلام الأوّل أفضل و قد نقل تفصيل مقالهم الشارح المعتزلي من كتاب العثمانيّة للجاحظ، و تفصيل الجواب عن ذلك من كتاب نقض العثمانية لأبي جعفر الاسكافي تغمّده اللّه بغفرانه، و كفانا نقل الشّارح المعتزلي له مؤنة النقل هنا، من أراد الاطلاع فليراجع شرحه.

ثمّ اشار عليه السّلام إلى مناقب له اخرى و فصّلها بقوله (و انّى لمن قوم لا تأخذهم في اللّه لومة لائم) أى لا تأخذهم في سلوك سبيله و التقرّب إليه سبحانه و اقامة أحكام الدّين و اعلاء كلمة الاسلام، ملامة لائم و وصف هؤلاء القوم بعشرة أوصاف: أولها أنّ (سيماهم سيما الصّديقين) أى علامتهم علامة هؤلاء قال الطبرسىّ في تفسير قوله تعالى: من يطع اللّه و الرّسول فأولئك مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيّين و الصّديقين، قيل: في معنى الصّديق إنّه المصدّق بكلّ ما أمر اللّه به و بأنبيائه لا يدخله في ذلك شكّ و يؤيّده قوله تعالى وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ و قال في قوله: وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا أى كثير التصديق في امور الدّين، و قيل: صادقا مبالغا في الصدق فيما يخبر عن اللّه.

أقول: مقتضى كون الصدّيق من أبنية المبالغة أن يكون كثير الصّدق مبالغا فيه، و ذلك مستلزم لكون عمله مطابقا لقوله مصدّقا له غير مكذّب أى صادقا في أقواله و أفعاله.
قال سبحانه فى وصف الصّادقين «لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ الْكِتابِ وَ النَّبِيِّينَ وَ آتَى الْمالَ عَلى‏ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى‏ وَ الْيَتامى‏ وَ الْمَساكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ السَّائِلِينَ وَ فِي الرِّقابِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ» و فى البحار عن بصاير الدّرجات عن بريد العجلى قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام‏ عن قول اللّه «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ» قال عليه السّلام ايّانا عنى و فيه من البصاير عن أحمد بن محمّد قال: سألت الرّضا عليه السّلام عن هذه الاية قال: الصادقون الأئمة الصدّيقون بطاعتهم.

و فيه من كنز جامع الفوايد عن عباد بن صهيب عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم السّلام قال: هبط على النبيّ ملك له عشرون ألف رأس فوثب النبىّ ليقبّل يده، فقال له الملك: مهلا مهلا يا محمّد فأنت و اللّه أكرم على اللّه من أهل السّماوات و أهل الأرضين أجمعين و الملك يقال له: محمود، فاذا بين منكبيه مكتوب لا إله إلّا اللّه محمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم علىّ الصّديق الأكبر، فقال له النّبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: حبيبى محمود كم هذا مكتوب بين منكبيك قال: من قبل أن يخلق اللّه أباك باثنى عشر ألف عام.

فقد علم بما ذكرنا كلّه أنّ المراد بالصدّيقين خصوص الأئمة أو الأعمّ منهم و من ساير المتّقين، و على أىّ تقدير فرئيسهم هو أمير المؤمنين عليه السّلام.
(و) الثاني (أنّ كلامهم كلام الأبرار) أى المطيعين للّه المحسنين فى أفعالهم قال تعالى إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً قال الحسن فى تفسيره هم الذين لا يؤذون الذّر و لا يرضون الشرّ و قيل هم الّذين يقضون الحقوق اللّازمة و النّافلة قال الطبرسيّ و قد أجمع أهل البيت عليهم السّلام و موافقوهم و كثير من مخالفيهم أنّ المراد بذلك علىّ و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام، و الاية مع ما بعدها متعيّنة فيهم و أيضا فقد انعقد الاجماع على أنهم كانوا أبرارا و فى غيرهم خلاف، و على أيّ معنى فالمراد بكلامهم الذكر الدائم و قول الحقّ و الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر

و الثالث أنّهم (عمّار اللّيل) أى بالدّعاء و المناجاة و الصّلاة و تلاوة القرآن

(و) الرابع أنّهم (منار النّهار) يعنى أنّهم يفرغون باللّيل لعبادة الخالق و يقومون فى النّهار بهداية الخلايق فالنّاس يهتدون بهم من ظلمات الجهالة و الضّلالة كما يهتدي بالمنار فى غياهب الدّجى.

الخامس أنّهم (متمسّكون بحبل القرآن) قال الشارح البحراني استعارلفظ الحبل للقرآن باعتبار كونه سببا لمتعلّميه و متدبّريه إلى التروّى من ماء الحياة الباقية كالعلوم و الأخلاق الفاضلة كالحبل هو سبب الارتواء و الاستسقاء من الماء أو باعتبار كونه عصمة لمن تمسّك به صاعدا من دركات الجهل إلى أقصى درجات العقل كالحبل يصعد فيه من السفل إلى العلو، انتهى و الأظهر أنّ تشبيهه بالحبل لأنّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض كما فى أخبار الثقلين: من اعتصم به فاز و نجا و ارتقى به إلى مقام القرب و الزلفى، و من تركه و لم يعتصم به ضلّ و غوى و فى مهواة المهانة هوى.

السادس أنّهم (يحيون سنن اللّه و سنن رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) أى يقومون بنشر آثار الدّين و يواظبون على وظايف الشّرع المبين بأقوالهم و أعمالهم السابع أنّهم (لا يستكبرون و لا يعلون) لما قد علموا من مخازي الكبر و التّرفع و مفاسده التي تضمّنتها هذه الخطبة الشريفة و غيرها من الخطب المتقدّمة (و) الثامن أنّهم (لا يغلون) أى لا يحقدون و لا يحسدون علما منهم برذايل الحقد و الحسد المتكفلة لبيانها الخطبة الخامسة و الثمانون و شرحها، و لرذالة هذه الصّفة و دنائتها أخرجها سبحانه من صدور أهل الجنّة كما قال فى وصفهم «وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ» أى أخرجنا ما في قلوبهم من حقد و حسد و عداوة في الجنّة حتّى لا يحسد بعضهم بعضا و إن رآه أرفع درجة منه، و على كون يغلون من الغلول فالمراد براءتهم من وصف الخيانة لمعرفتهم برذالتها.

(و) التاسع أنّهم (لا يفسدون) أى لا يحدثون الفساد لأنّه من صفة الفسّاق و المنافقين كما قال تعالى وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ الاية قال الطبرسيّ: معناه إذا قيل للمنافقين لا تفسدوا في الأرض بعمل المعاصي و صدّ الناس عن الايمان أو بممايلة الكفار فانّ فيه توهين الاسلام أو بتغيير الملّة و تحريف الكتاب.

و العاشر أنّ (قلوبهم في الجنان و أجسادهم في العمل) يعني أنّ قلوبهم متوجّهة إلى الجنان مشتاقة إلى الرّضوان، فهم و الجنّة كمن قد رآها و هم فيها منعّمون، و محصّله أنّ نفوسهم بكلّيتها معرضة عن الدّنيا مقبلة إلى الاخرة،و الحال أنّ أجسادهم مستغرقة في العبادة و أوقاتهم مصروفة بالطاعة.
و على كون الواو للعطف يكون قوله: و أجسادهم في العمل الوصف الحادى عشر، و على الاحتمالين فالمراد واحد.

تبصرة

حديث الشجرة مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد روي في ضمن معاجزه على أنحاء مختلفة لا حاجة بنا إلى روايتها، و لكنّي أحببت أن اورد رواية مرويّة في تفسير الامام متضمنة لمعجزة شجرية له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أوجب مشاهدتها لمشاهدها علما و ايمانا، كما أنّ مشاهدة ما رواه أمير المؤمنين عليه السّلام لم يزد كفّار قريش إلّا كفرا و عتوّا و طغيانا فاقول: في تفسير الامام قال عليّ بن محمّد عليهما السّلام و أمّا دعاؤه صلّى اللّه عليه و آله الشجرة فانّ رجلا من ثقيف كان أطبّ النّاس يقال له حارث بن كلدة الثّقفي، جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال يا محمّد جئت اداويك من جنونك فقد داويت مجانين كثيرا فشفوا على يدي، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا حارث أنت تفعل فعل المجانين و تنسبني إلى الجنون، قال الحارث: و ما ذا فعلته من أفعال المجانين، قال: نسبتك إيّاى إلى الجنون من غير محنة منك و لا تجربة و نظر في صدقي أو كذبي، فقال الحارث: أو ليس قد عرفت كذبك و جنونك بدعويك النّبوّة التي لا تقدر لها، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قولك لا تقدر لها، فعل المجانين، لأنّك لم تقل لم قلت كذا و لا طالبتني بحجّة فعجزت عنها، فقال الحارث: صدقت و أنا أمتحن أمرك باية اطالبك بها، إن كنت نبيّا فادع تلك الشّجرة- و أشار بشجرة عظيمة بعيد عمقها- فان أتتك علمت أنّك رسول اللّه و شهدت لك بذلك، و إلّا فأنت المجنون الّذي قيل لي.

فرفع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يده إلى تلك الشّجرة و أشار إليها أن تعالى، فانقلعت الشّجرة باصولها و عروقها و جعلت تخدّ في الأرض اخدودا عظيما كالنهر حتّى دنت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فوقفت بين يديه و نادت بصوت فصيح: ها أنا ذا يا رسول اللّه ما تأمرني.

فقال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: دعوتك لتشهد لي بالنبوّة بعد شهادتك للّه بالتوحيد ثم تشهدي لعليّ هذا بالامامة و أنّه سندي و ظهري و عضدي و فخرى، و لولاه لما خلق اللّه شيئا ممّا خلق.
فنادت أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، و أشهد أنّك يا محمّد عبده و رسوله أرسلك بالحقّ بشيرا و نذيرا و داعيا إلى اللّه باذنه و سراجا منيرا، و أشهد أنّ عليّا ابن عمّك هو أخوك في دينك أوفر خلق اللّه من الدّين حظّا، و أجز لهم من الاسلام نصيبا، و أنّه سندك و ظهرك قاطع أعدائك و ناصر أوليائك، باب علومك في امتك، و أشهد أنّ أولياءك الّذين يوالونه و يعادون أعداءه حشو الجنّة، و أن أعداءك الذين يوالون أعداءك و يعادون أولياءك حشو النّار.
فنظر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى الحارث بن كلدة فقال: يا حارث أو مجنونا تعدّ من هذه آياته فقال: لا و اللّه يا رسول اللّه، و لكنّي أشهد أنّك رسول ربّ العالمين و سيّد الخلق أجمعين و حسن اسلامه.

و قد مضى نظير هذه المعجزة لأمير المؤمنين عليه السّلام في شرح الفصل الأوّل من الخطبة المأة و السابعة فتذكر.
قال الشارح عفى اللّه عنه: إنّ الفصول السّبعة الاول من هذه الخطبة الشريفة كما كانت قاصعة للمستكبرين المتجبّرين، راغمة لأنفهم، لاطمة لرأسهم بمقامع التوبيخ و التّقريع و التهديد، فكذلك الفصل الثامن و التاسع منها قاصعان للمنحرفين عنه عليه السّلام من غاصبي الخلافة و النّاكثين و القاسطين و المارقين بما فصّله عليه السّلام فيهما من مناقبه و مفاخره، فتلك المناقب الجميلة له عليه السّلام:

على قمم من آل صخر ترفّعت
كجلمود صخر حطّه السّيل من عل‏

الترجمة

اين فصل آخر از خطبه شريفه باز در ذكر مفاخر و مناقب خود آن بزرگوار است مى ‏فرمايد:

و بتحقيق بودم من با حضرت رسالت ماب صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وقتى كه آمدند نزد آن حضرت جماعتى از كفار قريش پس گفتند او را: أى محمّد بدرستى كه تو ادّعا كردى أمر عظيمى را كه ادّعا نكرده بود آنرا پدران تو و نه أحدى از خانواده تو و ما خواهش مى‏ كنيم از تو كارى را اگر اجابت كردى ما را بان كار و نمودى آن را بما مى‏ دانيم كه تو پيغمبر مرسلى، و اگر اجابت نكردى مى‏ دانيم كه تو جادوگر و بسيار دروغ گوئى.

پس فرمود آن حضرت بايشان چه خواهش داريد گفتند كه بخوانى بجهت ما اين درخت را تا پر كنده شود با ريشه‏ هاى خود و بايستد پيش تو، پس فرمود آن حضرت كه خداى تعالى بهر چيز قادر است پس اگر بكند خداوند عالم بجهت شما آن را آيا ايمان مى ‏آوريد و شهادت مى ‏دهيد بحق پس گفتند: بلى فرمود پس بدرستى كه بزودى بنمايم من بشما آن چيزى را كه طلب مى‏ كنيد و حال آنكه بدرستى كه يقين منست كه شما باز نمى ‏گرديد بسوى اسلام كه خير دنيا و آخرت است، و بدرستى كه در ميان شما است كسى كه انداخته مى‏ شود در چاه بدر، و كسى كه جمع سازد لشكرهاى كفّار را بمحاربه من.

بعد از آن فرمود آن حضرت بطريق خطاب بدرخت كه اى درخت اگر هستى كه ايمان دارى بخداى تعالى و بروز آخرت و مى ‏دانى كه منم پيغمبر خدا پس بركنده شو با ريشه ‏هاى خود تا اين كه بايستى پيش من با اذن خدا.

پس قسم بخدائى كه مبعوث فرمود او را بحق هر آينه بر كنده شد با رگ و ريشه ‏هاى خود و آمد بسوى آن حضرت در حالتى كه مر او را صداى سخت بود، و آوازى بود مانند آواز بالهاى مرغان، تا اين كه ايستاد پيش حضرت رسالت ماب صلّى اللّه عليه و آله حركت كنان مثل مرغ بال زنان، و انداخت شاخه بلندتر خود را بر پيغمبر خدا و بعض شاخهاى خود را بر دوش من، و بودم من در جانب راست آن حضرت.

پس وقتى كه نظر كردند آن جماعت بان معجزه گفتند از روى تكبّر و گردن كشى پس أمر كن تا بيايد بسوى تو نصف آن و باقى ماند بر جاى خود نصف‏ ديگر آن، پس أمر فرمود آن را باين پس پيش آمد بسوى او نصف آن درخت مانند عجب‏ترين روى آوردن و سخت‏ ترين آن از روى آواز پس نزديك شد كه پيچيده شود بحضرت رسول خدا پس گفتند آن ملاعين از روى كفر و ستيزه‏گى پس أمر كن اين نصف را برگردد بسوى آن نصف ديگر چنانكه در اصل بود، پس أمر فرمود او را پس برگشت.

پس گفتم من: لا إله إلّا اللّه بدرستى كه من أوّل ايمان آورنده‏ ام بتو يا رسول اللّه و أوّل كسى هستم كه ايمان آورد باين كه آن درخت كرد آنچه كرد بفرمان خدا از جهت تصديق پيغمبرى تو و تعظيم فرمايش تو.
پس گفتند آن كفّار شقاوت آثار جميعا كه تو جادوگر دروغ گوئى عجيب و غريب است سحر تو چابك و سبك دستى در آن، و تصديق نمى ‏كند تو را در پيغمبرى تو مگر مثل اين- و قصد مى‏ كردند در اين حرف مرا- و بدرستى كه من از قومى هستم كه اخذ نمى‏ كند ايشان را در راه خدا ملامت هيچ ملامت كننده كه علامت ايشان علامت صدّيقين است، و كلام ايشان كلام نيكوكاران، آباد كنندگان شبند بعبادت، و منارهاى روزند بهدايت، چنگ زنندگانند بريسمان محكم قرآن، زنده مي كنند شريعت إلهى و سنّت رسالت پناهى را، تكبّر نمى‏ نمايند، بلندى نمى‏ جويند، حقد و حسد نمى ‏كنند، در راه فساد نمى‏ پويند، قلبهاى ايشان در بهشت برينست و بدنهاى ايشان مشغول عبادت ربّ العالمين، و الحمد للّه و الصّلاة على محمّد و آله.

قال الشارح المحتاج إلى غفران ربّه: هذا آخر المجلّد الخامس«» من مجلّدات منهاج البراعة، و يتلوه إنشاء اللّه المجلد السّادس بتوفيق منه سبحانه، و قد يسّر اللّه بفضله الواسع ختامه، و بكرمه السّابغ اتمامه بعد حصول الاياس و تفرّق الحواس و اضطراب النّاس و اختلال الحال بداهية دهيا، و بليّة عظمى، و زلزلة شديدة أدّب اللّه أهل بلدنا بها في هذه الأيام،يا لها رجفة ما رأيت مثلها و قد جاوزت خمسين درجة أخذتهم نصف الليل بينما كانوا راقدين فقاموا من مضاجعهم ذعرين مرعوبين كأنّهم من الأجداث إلى ربّهم ينسلون بهول ترتعد منه الفرائص، و تفتّ الأكباد، و تصدّع القلوب، و تقشعرّ الجلود، و كان النّاس سكارى من مهول البلا.

فلو لا أن تداركنا رحمته السابقة على غضبه سبحانه لم يكن لأحد منها النجاة و لا لذى روح طماعية في الحياة، و قد حرمنا منذ ليال من سبت الرّقاد، و خرجنا من تحت الأبنية و العروش بعد ما أشرفت على السّقوط و الانهدام، و اتّخذنا الأخبية مسكنا و المظلة أكنانا، و الرّجفة في هذه المدّة و قد مضت منذ ظهرت عشرة أيّام تطرقنا ساعة بعد ساعة.

نعوذ باللّه سبحانه من غضبه و نسأله عزّ و جلّ أن لا يخاطبنا بذنوبنا و لا يؤاخذنا بأعمالنا و لا يقايسنا بأفعالنا، و أن يرفع عنا هذه البلية، و ينجينا من تلك الرزيّة بمحمّد و آله خير البرية، فانّه ذو المنّ الكريم و الرّؤف الرّحيم.
و قد وقع الفراغ منه ثالث عشر شهر ذى القعدة الحرام- من سنة سبع عشرة و ثلاثمأة بعد الألف- و هذه هى النسخة الأصل كتبتها بيمينى و أسأله سبحانه أن يحشرني في أصحاب اليمين بجاه محمّد و آله الطاهرين صلوات اللّه عليهم أجمعين.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه هاخطبه شماره 191/4 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)قاصعة

خطبه 192 صبحی صالح

192- و من خطبة له ( عليه ‏السلام  ) تسمى القاصعة و هي تتضمن ذم إبليس لعنه اللّه، على استكباره و تركه السجود لآدم ( عليه ‏السلام  )، و أنه أول من أظهر العصبية و تبع الحمية، و تحذير الناس من سلوك طريقته.

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَبِسَ الْعِزَّ وَ الْكِبْرِيَاءَ وَ اخْتَارَهُمَا لِنَفْسِهِ دُونَ‏خَلْقِهِ وَ جَعَلَهُمَا حِمًى وَ حَرَماً عَلَى غَيْرِهِ وَ اصْطَفَاهُمَا لِجَلَالِهِ

رأس العصيان‏

وَ جَعَلَ اللَّعْنَةَ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ فِيهِمَا مِنْ عِبَادِهِ

ثُمَّ اخْتَبَرَ بِذَلِكَ مَلَائِكَتَهُ الْمُقَرَّبِينَ لِيَمِيزَ الْمُتَوَاضِعِينَ مِنْهُمْ مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ

فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَ هُوَ الْعَالِمُ بِمُضْمَرَاتِ الْقُلُوبِ وَ مَحْجُوبَاتِ الْغُيُوبِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ‏

اعْتَرَضَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بِخَلْقِهِ وَ تَعَصَّبَ عَلَيْهِ لِأَصْلِهِ فَعَدُوُّ اللَّهِ إِمَامُ الْمُتَعَصِّبِينَ وَ سَلَفُ الْمُسْتَكْبِرِينَ الَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ وَ نَازَعَ اللَّهَ رِدَاءَ الْجَبْرِيَّةِ وَ ادَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّزِ وَ خَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ

أَ لَا تَرَوْنَ كَيْفَ صَغَّرَهُ اللَّهُ بِتَكَبُّرِهِ وَ وَضَعَهُ بِتَرَفُّعِهِ فَجَعَلَهُ فِي الدُّنْيَا مَدْحُوراً وَ أَعَدَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ سَعِيراً

ابتلاء اللّه لخلقه‏

وَ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ مِنْ نُورٍ يَخْطَفُ الْأَبْصَارَ ضِيَاؤُهُ وَ يَبْهَرُ الْعُقُولَ رُوَاؤُهُ وَ طِيبٍ يَأْخُذُ الْأَنْفَاسَ عَرْفُهُ لَفَعَلَ

وَ لَوْ فَعَلَ لَظَلَّتْ لَهُ الْأَعْنَاقُ خَاضِعَةً وَ لَخَفَّتِ الْبَلْوَى فِيهِ عَلَى الْمَلَائِكَةِوَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَبْتَلِي خَلْقَهُ بِبَعْضِ مَا يَجْهَلُونَ أَصْلَهُ تَمْيِيزاً بِالِاخْتِبَارِ لَهُمْ وَ نَفْياً لِلِاسْتِكْبَارِ عَنْهُمْ وَ إِبْعَاداً لِلْخُيَلَاءِ مِنْهُمْ

طلب العبرة

فَاعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ بِإِبْلِيسَ إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ الطَّوِيلَ وَ جَهْدَهُ الْجَهِيدَ وَ كَانَ قَدْ عَبَدَ اللَّهَ سِتَّةَ آلَافِ سَنَةٍ لَا يُدْرَى أَ مِنْ سِنِي الدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِي الْآخِرَةِ عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ

فَمَنْ ذَا بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَعْصِيَتِهِ كَلَّا مَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِيُدْخِلَ الْجَنَّةَ بَشَراً بِأَمْرٍ أَخْرَجَ بِهِ مِنْهَا مَلَكاً

إِنَّ حُكْمَهُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ وَ أَهْلِ الْأَرْضِ لَوَاحِدٌ وَ مَا بَيْنَ اللَّهِ وَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ هَوَادَةٌ فِي إِبَاحَةِ حِمًى حَرَّمَهُ عَلَى الْعَالَمِينَ

التحذير من الشيطان‏

فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللَّهِ عَدُوَّ اللَّهِ أَنْ يُعْدِيَكُمْ بِدَائِهِ وَ أَنْ يَسْتَفِزَّكُمْ بِنِدَائِهِ وَ أَنْ يُجْلِبَ عَلَيْكُمْ بِخَيْلِهِ وَ رَجِلِهِ

فَلَعَمْرِي لَقَدْ فَوَّقَ لَكُمْ سَهْمَ الْوَعِيدِ وَ أَغْرَقَ إِلَيْكُمْ بِالنَّزْعِ الشَّدِيدِ وَ رَمَاكُمْ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ فَ قَالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ‏قَذْفاً بِغَيْبٍ بَعِيدٍ وَ رَجْماً بِظَنٍّ غَيْرِ مُصِيبٍ

صَدَّقَهُ بِهِ أَبْنَاءُ الْحَمِيَّةِ وَ إِخْوَانُ الْعَصَبِيَّةِ وَ فُرْسَانُ الْكِبْرِوَ الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى إِذَا انْقَادَتْ لَهُ الْجَامِحَةُ مِنْكُمْ وَ اسْتَحْكَمَتِ الطَّمَاعِيَّةُ مِنْهُ فِيكُمْ فَنَجَمَتِ الْحَالُ مِنَ السِّرِّ الْخَفِيِّ إِلَى الْأَمْرِ الْجَلِيِّ

اسْتَفْحَلَ سُلْطَانُهُ عَلَيْكُمْ وَ دَلَفَ بِجُنُودِهِ نَحْوَكُمْ فَأَقْحَمُوكُمْ وَلَجَاتِ الذُّلِّ وَ أَحَلُّوكُمْ وَرَطَاتِ الْقَتْلِ

وَ أَوْطَئُوكُمْ إِثْخَانَ الْجِرَاحَةِ طَعْناً فِي عُيُونِكُمْ وَ حَزّاً فِي حُلُوقِكُمْ وَ دَقّاً لِمَنَاخِرِكُمْ وَ قَصْداً لِمَقَاتِلِكُمْ وَ سَوْقاً بِخَزَائِمِ الْقَهْرِ إِلَى النَّارِ الْمُعَدَّةِ لَكُمْ

فَأَصْبَحَ أَعْظَمَ فِي دِينِكُمْ حَرْجاً وَ أَوْرَى فِي دُنْيَاكُمْ قَدْحاً مِنَ الَّذِينَ أَصْبَحْتُمْ لَهُمْ مُنَاصِبِينَ وَ عَلَيْهِمْ مُتَأَلِّبِينَ

فَاجْعَلُوا عَلَيْهِ حَدَّكُمْ وَ لَهُ جِدَّكُمْ فَلَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ فَخَرَ عَلَى أَصْلِكُمْ وَ وَقَعَ فِي حَسَبِكُمْ وَ دَفَعَ فِي نَسَبِكُمْ وَ أَجْلَبَ بِخَيْلِهِ عَلَيْكُمْ وَ قَصَدَ بِرَجِلِهِ سَبِيلَكُمْ يَقْتَنِصُونَكُمْ بِكُلِّ مَكَانٍ وَ يَضْرِبُونَ مِنْكُمْ كُلَّ بَنَانٍ

لَا تَمْتَنِعُونَ بِحِيلَةٍ وَ لَا تَدْفَعُونَ بِعَزِيمَةٍ فِي حَوْمَةِ ذُلٍّ وَ حَلْقَةِ ضِيقٍ وَ عَرْصَةِ مَوْتٍ وَ جَوْلَةِ بَلَاءٍ

فَأَطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ نِيرَانِ الْعَصَبِيَّةِ وَ أَحْقَادِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّمَا تِلْكَ الْحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي الْمُسْلِمِ مِنْ خَطَرَاتِ الشَّيْطَانِ وَ نَخَوَاتِهِ وَ نَزَغَاتِهِ وَ نَفَثَاتِهِ

وَ اعْتَمِدُوا وَضْعَ التَّذَلُّلِ عَلَى رُءُوسِكُمْ وَ إِلْقَاءَ التَّعَزُّزِ تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ وَ خَلْعَ التَّكَبُّرِ مِنْ أَعْنَاقِكُمْ وَ اتَّخِذُوا التَّوَاضُعَ مَسْلَحَةً بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ عَدُوِّكُمْ إِبْلِيسَ‏وَ جُنُودِهِ فَإِنَّ لَهُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ جُنُوداً وَ أَعْوَاناً وَ رَجِلًا وَ فُرْسَاناً

وَ لَا تَكُونُوا كَالْمُتَكَبِّرِ عَلَى ابْنِ أُمِّهِ مِنْ غَيْرِ مَا فَضْلٍ جَعَلَهُ اللَّهُ فِيهِ سِوَى مَا أَلْحَقَتِ الْعَظَمَةُ بِنَفْسِهِ مِنْ عَدَاوَةِ الْحَسَدِ وَ قَدَحَتِ الْحَمِيَّةُ فِي قَلْبِهِ مِنْ نَارِ الْغَضَبِ

وَ نَفَخَ الشَّيْطَانُ فِي أَنْفِهِ مِنْ رِيحِ الْكِبْرِ الَّذِي أَعْقَبَهُ اللَّهُ بِهِ النَّدَامَةَ وَ أَلْزَمَهُ آثَامَ الْقَاتِلِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ

التحذير من الكبر

أَلَا وَ قَدْ أَمْعَنْتُمْ فِي الْبَغْيِ وَ أَفْسَدْتُمْ فِي الْأَرْضِ مُصَارَحَةً لِلَّهِ بِالْمُنَاصَبَةِ وَ مُبَارَزَةً لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْمُحَارَبَةِ

فَاللَّهَ اللَّهَ فِي كِبْرِ الْحَمِيَّةِ وَ فَخْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مَلَاقِحُ الشَّنَئَانِ وَ مَنَافِخُ الشَّيْطَانِ الَّتِي خَدَعَ بِهَا الْأُمَمَ الْمَاضِيَةَ وَ الْقُرُونَ الْخَالِيَةَ حَتَّى أَعْنَقُوا فِي حَنَادِسِ جَهَالَتِهِ وَ مَهَاوِي ضَلَالَتِهِ

ذُلُلًا عَنْ سِيَاقِهِ سُلُساً فِي قِيَادِهِ أَمْراً تَشَابَهَتِ الْقُلُوبُ فِيهِ وَ تَتَابَعَتِ الْقُرُونُ عَلَيْهِ وَ كِبْراً تَضَايَقَتِ الصُّدُورُ بِهِ

التحذير من طاعة الكبراء

أَلَا فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ طَاعَةِ سَادَاتِكُمْ وَ كُبَرَائِكُمْ الَّذِينَ تَكَبَّرُوا عَنْ حَسَبِهِمْ وَ تَرَفَّعُوا فَوْقَ نَسَبِهِمْ وَ أَلْقَوُا الْهَجِينَةَ عَلَى رَبِّهِمْ‏وَ جَاحَدُوا اللَّهَ عَلَى مَا صَنَعَ بِهِمْ مُكَابَرَةً لِقَضَائِهِ وَ مُغَالَبَةً لِآلَائِهِ

فَإِنَّهُمْ قَوَاعِدُ أَسَاسِ الْعَصَبِيَّةِ وَ دَعَائِمُ أَرْكَانِ الْفِتْنَةِ وَ سُيُوفُ اعْتِزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ

فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ لَا تَكُونُوا لِنِعَمِهِ عَلَيْكُمْ أَضْدَاداً وَ لَا لِفَضْلِهِ عِنْدَكُمْ حُسَّاداً وَ لَا تُطِيعُوا الْأَدْعِيَاءَ الَّذِينَ شَرِبْتُمْ بِصَفْوِكُمْ كَدَرَهُمْ وَ خَلَطْتُمْ بِصِحَّتِكُمْ مَرَضَهُمْ وَ أَدْخَلْتُمْ فِي حَقِّكُمْ بَاطِلَهُمْ

وَ هُمْ أَسَاسُ الْفُسُوقِ وَ أَحْلَاسُ الْعُقُوقِ اتَّخَذَهُمْ إِبْلِيسُ مَطَايَا ضَلَالٍ وَ جُنْداً بِهِمْ يَصُولُ عَلَى النَّاسِ وَ تَرَاجِمَةً يَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ

اسْتِرَاقاً لِعُقُولِكُمْ وَ دُخُولًا فِي عُيُونِكُمْ وَ نَفْثاً فِي أَسْمَاعِكُمْ فَجَعَلَكُمْ مَرْمَى نَبْلِهِ وَ مَوْطِئَ قَدَمِهِ وَ مَأْخَذَ يَدِهِ

العبرة بالماضين‏

فَاعْتَبِرُوا بِمَا أَصَابَ الْأُمَمَ الْمُسْتَكْبِرِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَ صَوْلَاتِهِ وَ وَقَائِعِهِ وَ مَثُلَاتِهِ وَ اتَّعِظُوا بِمَثَاوِي خُدُودِهِمْ وَ مَصَارِعِ جُنُوبِهِمْ

وَ اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ لَوَاقِحِ الْكِبْرِ كَمَا تَسْتَعِيذُونَهُ مِنْ طَوَارِقِ الدَّهْرِ

فَلَوْ رَخَّصَ اللَّهُ فِي الْكِبْرِ لِأَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ لَرَخَّصَ فِيهِ لِخَاصَّةِ أَنْبِيَائِهِ وَ أَوْلِيَائِهِ وَ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَرَّهَ إِلَيْهِمُ التَّكَابُرَ وَ رَضِيَ لَهُمُ التَّوَاضُعَ

فَأَلْصَقُوا بِالْأَرْضِ خُدُودَهُمْ وَ عَفَّرُوا فِي التُّرَابِ وُجُوهَهُمْ وَ خَفَضُوا أَجْنِحَتَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ كَانُوا قَوْماً

مُسْتَضْعَفِينَ قَدِ اخْتَبَرَهُمُ اللَّهُ بِالْمَخْمَصَةِ وَ ابْتَلَاهُمْ بِالْمَجْهَدَةِ وَ امْتَحَنَهُمْ بِالْمَخَاوِفِ وَ مَخَضَهُمْ بِالْمَكَارِهِ

فَلَا تَعْتَبِرُوا الرِّضَى وَ السُّخْطَ بِالْمَالِ وَ الْوَلَدِ جَهْلًا بِمَوَاقِعِ الْفِتْنَةِ وَ الِاخْتِبَارِ فِي مَوْضِعِ الْغِنَى وَ الِاقْتِدَارِ

فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ‏

فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ الْمُسْتَكْبِرِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ بِأَوْلِيَائِهِ الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي أَعْيُنِهِمْ

تواضع الأنبياء

وَ لَقَدْ دَخَلَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ وَ مَعَهُ أَخُوهُ هَارُونُ ( عليهماالسلام  )عَلَى فِرْعَوْنَ وَ عَلَيْهِمَا مَدَارِعُ الصُّوفِ وَ بِأَيْدِيهِمَا الْعِصِيُّ فَشَرَطَا لَهُ إِنْ أَسْلَمَ بَقَاءَ مُلْكِهِ وَ دَوَامَ عِزِّهِ

فَقَالَ أَ لَا تَعْجَبُونَ مِنْ هَذَيْنِ يَشْرِطَانِ لِي دَوَامَ الْعِزِّ وَ بَقَاءَ الْمُلْكِ وَ هُمَا بِمَا تَرَوْنَ مِنْ حَالِ الْفَقْرِ وَ الذُّلِّ فَهَلَّا أُلْقِيَ عَلَيْهِمَا أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ إِعْظَاماً لِلذَّهَبِ وَ جَمْعِهِ وَ احْتِقَاراً لِلصُّوفِ وَ لُبْسِهِ وَ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِأَنْبِيَائِهِ حَيْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ كُنُوزَ الذِّهْبَانِ وَ مَعَادِنَ الْعِقْيَانِ وَ مَغَارِسَ الْجِنَانِ وَ أَنْ يَحْشُرَ مَعَهُمْ طُيُورَ السَّمَاءِ وَ وُحُوشَ الْأَرَضِينَ لَفَعَلَ

وَ لَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ الْبَلَاءُ وَ بَطَلَ الْجَزَاءُوَ اضْمَحَلَّتِ الْأَنْبَاءُ وَ لَمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِينَ أُجُورُ الْمُبْتَلَيْنَ وَ لَا اسْتَحَقَّ الْمُؤْمِنُونَ ثَوَابَ الْمُحْسِنِينَ وَ لَا لَزِمَتِ الْأَسْمَاءُ مَعَانِيَهَا

وَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِي قُوَّةٍ فِي عَزَائِمِهِمْ وَ ضَعَفَةً فِيمَا تَرَى الْأَعْيُنُ مِنْ حَالَاتِهِمْ مَعَ قَنَاعَةٍ تَمْلَأُ الْقُلُوبَ وَ الْعُيُونَ غِنًى وَ خَصَاصَةٍ تَمْلَأُ الْأَبْصَارَ وَ الْأَسْمَاعَ أَذًى

وَ لَوْ كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ أَهْلَ قُوَّةٍ لَا تُرَامُ وَ عِزَّةٍ لَا تُضَامُ وَ مُلْكٍ تُمَدُّ نَحْوَهُ أَعْنَاقُ الرِّجَالِ وَ تُشَدُّ إِلَيْهِ عُقَدُ الرِّحَالِ لَكَانَ ذَلِكَ أَهْوَنَ عَلَى الْخَلْقِ فِي الِاعْتِبَارِ وَ أَبْعَدَ لَهُمْ فِي الِاسْتِكْبَارِ

وَ لَآمَنُوا عَنْ رَهْبَةٍ قَاهِرَةٍ لَهُمْ أَوْ رَغْبَةٍ مَائِلَةٍ بِهِمْ فَكَانَتِ النِّيَّاتُ مُشْتَرَكَةً وَ الْحَسَنَاتُ مُقْتَسَمَةً

وَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الِاتِّبَاعُ لِرُسُلِهِ وَ التَّصْدِيقُ بِكُتُبِهِ وَ الْخُشُوعُ لِوَجْهِهِ وَ الِاسْتِكَانَةُ لِأَمْرِهِ وَ الِاسْتِسْلَامُ لِطَاعَتِهِ أُمُوراً لَهُ خَاصَّةً لَا تَشُوبُهَا مِنْ غَيْرِهَا شَائِبَةٌ

وَ كُلَّمَا كَانَتِ الْبَلْوَى وَ الِاخْتِبَارُ أَعْظَمَ كَانَتِ الْمَثُوبَةُ وَ الْجَزَاءُ أَجْزَلَ

الكعبة المقدسة

أَ لَا تَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اخْتَبَرَ الْأَوَّلِينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ ( صلوات ‏الله‏ عليه  )إِلَى الْآخِرِينَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ بِأَحْجَارٍ لَا تَضُرُّ وَ لَا تَنْفَعُ وَ لَا تُبْصِرُ وَ لَا تَسْمَعُ فَجَعَلَهَا بَيْتَهُ الْحَرَامَ الَّذِي جَعَلَهُ لِلنَّاسِ قِيَاماً

ثُمَ‏ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ بِقَاعِ الْأَرْضِ حَجَراً وَ أَقَلِّ نَتَائِقِ الدُّنْيَا مَدَراً وَ أَضْيَقِ بُطُونِ الْأَوْدِيَةِ قُطْراً بَيْنَ جِبَالٍ خَشِنَةٍ وَ رِمَالٍ دَمِثَةٍ وَ عُيُونٍ وَشِلَةٍ وَ قُرًى مُنْقَطِعَةٍ لَا يَزْكُو بِهَا خُفٌّ وَ لَا حَافِرٌ وَ لَا ظِلْفٌ

ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ ( عليه‏السلام  )وَ وَلَدَهُ أَنْ يَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ نَحْوَهُ فَصَارَ مَثَابَةً لِمُنْتَجَعِ أَسْفَارِهِمْ وَ غَايَةً لِمُلْقَى رِحَالِهِمْ تَهْوِي إِلَيْهِ ثِمَارُ الْأَفْئِدَةِ

مِنْ مَفَاوِزِ قِفَارٍ سَحِيقَةٍ وَ مَهَاوِي فِجَاجٍ عَمِيقَةٍ وَ جَزَائِرِ بِحَارٍ مُنْقَطِعَةٍ حَتَّى يَهُزُّوا مَنَاكِبَهُمْ ذُلُلًا يُهَلِّلُونَ لِلَّهِ حَوْلَهُ وَ يَرْمُلُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ شُعْثاً غُبْراً لَهُ

قَدْ نَبَذُوا السَّرَابِيلَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَ شَوَّهُوا بِإِعْفَاءِ الشُّعُورِ مَحَاسِنَ خَلْقِهِمُ ابْتِلَاءً عَظِيماً وَ امْتِحَاناً شَدِيداً وَ اخْتِبَاراً مُبِيناً وَ تَمْحِيصاً بَلِيغاً جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَباً لِرَحْمَتِهِ وَ وُصْلَةً إِلَى جَنَّتِهِ

وَ لَوْ أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَضَعَ بَيْتَهُ الْحَرَامَ وَ مَشَاعِرَهُ الْعِظَامَ بَيْنَ جَنَّاتٍ وَ أَنْهَارٍ وَ سَهْلٍ وَ قَرَارٍ جَمَّ الْأَشْجَارِ دَانِيَ الثِّمَارِ مُلْتَفَّ الْبُنَى مُتَّصِلَ الْقُرَى

بَيْنَ بُرَّةٍ سَمْرَاءَ وَ رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ وَ أَرْيَافٍ مُحْدِقَةٍ وَ عِرَاصٍ مُغْدِقَةٍ وَ رِيَاضٍ نَاضِرَةٍ وَ طُرُقٍ عَامِرَةٍ لَكَانَ قَدْ صَغُرَ قَدْرُ الْجَزَاءِ عَلَى حَسَبِ ضَعْفِ الْبَلَاءِ

وَ لَوْ كَانَ الْإِسَاسُ الْمَحْمُولُ عَلَيْهَا وَ الْأَحْجَارُ الْمَرْفُوعُ بِهَا بَيْنَ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ وَ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ وَ نُورٍ وَ ضِيَاءٍ

لَخَفَّفَ ذَلِكَ مُصَارَعَةَ الشَّكِّ فِي الصُّدُورِ وَ لَوَضَعَ مُجَاهَدَةَ إِبْلِيسَ عَنِ الْقُلُوبِ وَ لَنَفَى مُعْتَلَجَ الرَّيْبِ مِنَ النَّاسِ

وَ لَكِنَّ اللَّهَ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِأَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ وَ يَتَعَبَّدُهُمْ بِأَنْوَاعِ الْمَجَاهِدِ وَ يَبْتَلِيهِمْ بِضُرُوبِ الْمَكَارِهِ إِخْرَاجاً لِلتَّكَبُّرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَ إِسْكَاناً لِلتَّذَلُّلِ فِي نُفُوسِهِمْ وَ لِيَجْعَلَ ذَلِكَ أَبْوَاباً فُتُحاً إِلَى فَضْلِهِ وَ أَسْبَاباً ذُلُلًا لِعَفْوِهِ

عود إلى التحذير

فَاللَّهَ اللَّهَ فِي عَاجِلِ الْبَغْيِ وَ آجِلِ وَخَامَةِ الظُّلْمِ وَ سُوءِ عَاقِبَةِ الْكِبْرِ فَإِنَّهَا مَصْيَدَةُ إِبْلِيسَ الْعُظْمَى وَ مَكِيدَتُهُ الْكُبْرَى الَّتِي تُسَاوِرُ قُلُوبَ الرِّجَالِ مُسَاوَرَةَ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ

فَمَا تُكْدِي أَبَداً وَ لَا تُشْوِي أَحَداً لَا عَالِماً لِعِلْمِهِ وَ لَا مُقِلًّا فِي طِمْرِهِ

وَ عَنْ ذَلِكَ مَا حَرَسَ اللَّهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَوَاتِ وَ الزَّكَوَاتِ وَ مُجَاهَدَةِ الصِّيَامِ فِي الْأَيَّامِ الْمَفْرُوضَاتِ تَسْكِيناً لِأَطْرَافِهِمْ وَ تَخْشِيعاً لِأَبْصَارِهِمْ وَ تَذْلِيلًا لِنُفُوسِهِمْ وَ تَخْفِيضاً لِقُلُوبِهِمْ وَ إِذْهَاباً لِلْخُيَلَاءِ عَنْهُمْ

وَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْفِيرِ عِتَاقِ الْوُجُوهِ بِالتُّرَابِ تَوَاضُعاً وَ الْتِصَاقِ كَرَائِمِ الْجَوَارِحِ بِالْأَرْضِ تَصَاغُراً وَ لُحُوقِ الْبُطُونِ بِالْمُتُونِ مِنَ الصِّيَامِ تَذَلُّلًا مَعَ مَا فِي الزَّكَاةِ مِنْ صَرْفِ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ وَ غَيْرِ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ وَ الْفَقْرِ

فضائل الفرائض‏

انْظُرُوا إِلَى مَا فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ مِنْ قَمْعِ نَوَاجِمِ الْفَخْرِ وَ قَدْعِ طَوَالِعِ الْكِبْرِ

وَ لَقَدْ نَظَرْتُ فَمَا وَجَدْتُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ يَتَعَصَّبُ لِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا عَنْ عِلَّةٍ تَحْتَمِلُ تَمْوِيهَ الْجُهَلَاءِ أَوْ حُجَّةٍ تَلِيطُ بِعُقُولِ السُّفَهَاءِ غَيْرَكُمْ فَإِنَّكُمْ تَتَعَصَّبُونَ لِأَمْرٍ مَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ وَ لَا عِلَّةٌ أَمَّا إِبْلِيسُ فَتَعَصَّبَ عَلَى آدَمَ لِأَصْلِهِ وَ طَعَنَ عَلَيْهِ فِي خِلْقَتِهِ فَقَالَ أَنَا نَارِيٌّ وَ أَنْتَ طِينِيٌّ

عصبية المال‏

وَ أَمَّا الْأَغْنِيَاءُ مِنْ مُتْرَفَةِ الْأُمَمِ فَتَعَصَّبُوا لِآثَارِ مَوَاقِعِ النِّعَمِ فَ قالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ‏

فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُكُمْ لِمَكَارِمِ الْخِصَالِ وَ مَحَامِدِ الْأَفْعَالِ

وَ مَحَاسِنِ الْأُمُورِ الَّتِي تَفَاضَلَتْ فِيهَا الْمُجَدَاءُ وَ النُّجَدَاءُ مِنْ بُيُوتَاتِ الْعَرَبِ وَ يَعَاسِيبِ القَبَائِلِ بِالْأَخْلَاقِ الرَّغِيبَةِ وَ الْأَحْلَامِ الْعَظِيمَةِ وَ الْأَخْطَارِ الْجَلِيلَةِ وَ الْآثَارِ الْمَحْمُودَةِ

فَتَعَصَّبُوا لِخِلَالِ الْحَمْدِ مِنَ الْحِفْظِ لِلْجِوَارِ وَ الْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ وَ الطَّاعَةِ لِلْبِرِّ وَ الْمَعْصِيَةِ لِلْكِبْرِ وَ الْأَخْذِ بِالْفَضْلِ وَ الْكَفِّ عَنِ الْبَغْيِ وَ الْإِعْظَامِ لِلْقَتْلِ وَ الْإِنْصَافِ لِلْخَلْقِ وَ الْكَظْمِ لِلْغَيْظِوَ اجْتِنَابِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ

وَ احْذَرُوا مَا نَزَلَ بِالْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مِنَ الْمَثُلَاتِ بِسُوءِ الْأَفْعَالِ وَ ذَمِيمِ الْأَعْمَالِ فَتَذَكَّرُوا فِي الْخَيْرِ وَ الشَّرِّ أَحْوَالَهُمْ وَ احْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ فَإِذَا تَفَكَّرْتُمْ فِي تَفَاوُتِ حَالَيْهِمْ فَالْزَمُوا كُلَّ أَمْرٍ لَزِمَتِ الْعِزَّةُ بِهِ شَأْنَهُمْ

وَ زَاحَتِ الْأَعْدَاءُ لَهُ عَنْهُمْ وَ مُدَّتِ الْعَافِيَةُ بِهِ عَلَيْهِمْ وَ انْقَادَتِ النِّعْمَةُ لَهُ مَعَهُمْ وَ وَصَلَتِ الْكَرَامَةُ عَلَيْهِ حَبْلَهُمْ مِنَ الِاجْتِنَابِ لِلْفُرْقَةِ وَ اللُّزُومِ لِلْأُلْفَةِ وَ التَّحَاضِّ عَلَيْهَا وَ التَّوَاصِي بِهَا

وَ اجْتَنِبُوا كُلَّ أَمْرٍ كَسَرَ فِقْرَتَهُمْ وَ أَوْهَنَ مُنَّتَهُمْ مِنْ تَضَاغُنِ الْقُلُوبِ وَ تَشَاحُنِ الصُّدُورِ وَ تَدَابُرِ النُّفُوسِ وَ تَخَاذُلِ الْأَيْدِي

وَ تَدَبَّرُوا أَحْوَالَ الْمَاضِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَكُمْ كَيْفَ كَانُوا فِي حَالِ التَّمْحِيصِ وَ الْبَلَاءِ أَ لَمْ يَكُونُوا أَثْقَلَ الْخَلَائِقِ أَعْبَاءً وَ أَجْهَدَ الْعِبَادِ بَلَاءً وَ أَضْيَقَ أَهْلِ الدُّنْيَا حَالًا

اتَّخَذَتْهُمُ الْفَرَاعِنَةُ عَبِيداً فَسَامُوهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَ جَرَّعُوهُمُ الْمُرَارَ فَلَمْ تَبْرَحِ الْحَالُ بِهِمْ فِي ذُلِّ الْهَلَكَةِ وَ قَهْرِ الْغَلَبَةِ لَا يَجِدُونَ حِيلَةً فِي امْتِنَاعٍ وَ لَا سَبِيلًا إِلَى دِفَاعٍ

حَتَّى إِذَا رَأَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ جِدَّ الصَّبْرِ مِنْهُمْ عَلَى الْأَذَى فِي مَحَبَّتِهِ وَ الِاحْتِمَالَ لِلْمَكْرُوهِ مِنْ خَوْفِهِ جَعَلَ لَهُمْ مِنْ مَضَايِقِ الْبَلَاءِ فَرَجاً فَأَبْدَلَهُمُ الْعِزَّ مَكَانَ الذُّلِّ وَ الْأَمْنَ مَكَانَ الْخَوْفِ

فَصَارُوا مُلُوكاً حُكَّاماً وَ أَئِمَّةً أَعْلَاماً وَ قَدْ بَلَغَتِ الْكَرَامَةُ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ‏مَا لَمْ تَذْهَبِ الْآمَالُ إِلَيْهِ بِهِمْ

فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانُوا حَيْثُ كَانَتِ الْأَمْلَاءُ مُجْتَمِعَةً وَ الْأَهْوَاءُ مُؤْتَلِفَةً وَ الْقُلُوبُ مُعْتَدِلَةً وَ الْأَيْدِي مُتَرَادِفَةً وَ السُّيُوفُ مُتَنَاصِرَةً وَ الْبَصَائِرُ نَافِذَةً وَ الْعَزَائِمُ وَاحِدَةً

أَ لَمْ يَكُونُوا أَرْبَاباً فِي أَقْطَارِ الْأَرَضِينَ وَ مُلُوكاً عَلَى رِقَابِ الْعَالَمِينَ

فَانْظُرُوا إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ فِي آخِرِ أُمُورِهِمْ حِينَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ وَ تَشَتَّتَتِ الْأُلْفَةُ وَ اخْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ وَ الْأَفْئِدَةُ وَ تَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِينَ وَ تَفَرَّقُوا مُتَحَارِبِينَ

وَ قَدْ خَلَعَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِبَاسَ كَرَامَتِهِ وَ سَلَبَهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِهِ وَ بَقِيَ قَصَصُ أَخْبَارِهِمْ فِيكُمْ عِبَراً لِلْمُعْتَبِرِينَ

الاعتبار بالأمم‏

فَاعْتَبِرُوا بِحَالِ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَ بَنِي إِسْحَاقَ وَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ( عليهم‏السلام  )فَمَا أَشَدَّ اعْتِدَالَ الْأَحْوَالِ وَ أَقْرَبَ اشْتِبَاهَ الْأَمْثَالِ تَأَمَّلُوا أَمْرَهُمْ فِي حَالِ تَشَتُّتِهِمْ وَ تَفَرُّقِهِمْ لَيَالِيَ كَانَتِ الْأَكَاسِرَةُ وَ الْقَيَاصِرَةُ أَرْبَاباً لَهُمْ

يَحْتَازُونَهُمْ عَنْ رِيفِ الْآفَاقِ وَ بَحْرِ الْعِرَاقِ وَ خُضْرَةِ الدُّنْيَا إِلَى مَنَابِتِ الشِّيحِ وَ مَهَافِي الرِّيحِ وَ نَكَدِ الْمَعَاشِ فَتَرَكُوهُمْ عَالَةً مَسَاكِينَ إِخْوَانَ دَبَرٍ وَ وَبَرٍ أَذَلَّ الْأُمَمِ دَاراً وَ أَجْدَبَهُمْ قَرَاراً

لَا يَأْوُونَ إِلَى جَنَاحِ دَعْوَةٍيَعْتَصِمُونَ بِهَا وَ لَا إِلَى ظِلِّ أُلْفَةٍ يَعْتَمِدُونَ عَلَى عِزِّهَا

فَالْأَحْوَالُ مُضْطَرِبَةٌ وَ الْأَيْدِي مُخْتَلِفَةٌ وَ الْكَثْرَةُ مُتَفَرِّقَةٌ فِي بَلَاءِ أَزْلٍ وَ أَطْبَاقِ جَهْلٍ مِنْ بَنَاتٍ مَوْءُودَةٍ وَ أَصْنَامٍ مَعْبُودَةٍ وَ أَرْحَامٍ مَقْطُوعَةٍ وَ غَارَاتٍ مَشْنُونَةٍ

النعمة برسول اللّه‏

فَانْظُرُوا إِلَى مَوَاقِعِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ حِينَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طَاعَتَهُمْ وَ جَمَعَ عَلَى دَعْوَتِهِ أُلْفَتَهُمْ

كَيْفَ نَشَرَتِ النِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ جَنَاحَ كَرَامَتِهَا وَ أَسَالَتْ لَهُمْ جَدَاوِلَ نَعِيمِهَا وَ الْتَفَّتِ الْمِلَّةُ بِهِمْ فِي عَوَائِدِ بَرَكَتِهَا فَأَصْبَحُوا فِي نِعْمَتِهَا غَرِقِينَ وَ فِي خُضْرَةِ عَيْشِهَا فَكِهِينَ

قَدْ تَرَبَّعَتِ الْأُمُورُ بِهِمْ فِي ظِلِّ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ وَ آوَتْهُمُ الْحَالُ إِلَى كَنَفِ عِزٍّ غَالِبٍ وَ تَعَطَّفَتِ الْأُمُورُ عَلَيْهِمْ فِي ذُرَى مُلْكٍ ثَابِتٍ

فَهُمْ حُكَّامٌ عَلَى الْعَالَمِينَ وَ مُلُوكٌ فِي أَطْرَافِ الْأَرَضِينَ يَمْلِكُونَ الْأُمُورَ عَلَى مَنْ كَانَ يَمْلِكُهَا عَلَيْهِمْ وَ يُمْضُونَ الْأَحْكَامَ فِيمَنْ كَانَ يُمْضِيهَا فِيهِمْ لَا تُغْمَزُ لَهُمْ قَنَاةٌ وَ لَا تُقْرَعُ لَهُمْ صَفَاةٌ

لوم العصاة

أَلَا وَ إِنَّكُمْ قَدْ نَفَضْتُمْ أَيْدِيَكُمْ مِنْ حَبْلِ الطَّاعَةِ وَ ثَلَمْتُمْ حِصْنَ اللَّهِ الْمَضْرُوبَ عَلَيْكُمْ بِأَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ

فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدِ امْتَنَ‏عَلَى جَمَاعَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِيمَا عَقَدَ بَيْنَهُمْ مِنْ حَبْلِ هَذِهِ الْأُلْفَةِ الَّتِي يَنْتَقِلُونَ فِي ظِلِّهَا وَ يَأْوُونَ إِلَى كَنَفِهَا بِنِعْمَةٍ لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ لَهَا قِيمَةً لِأَنَّهَا أَرْجَحُ مِنْ كُلِّ ثَمَنٍ وَ أَجَلُّ مِنْ كُلِّ خَطَرٍ

وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَعْرَاباً وَ بَعْدَ الْمُوَالَاةِ أَحْزَاباً مَا تَتَعَلَّقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِاسْمِهِ وَ لَا تَعْرِفُونَ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا رَسْمَهُ

تَقُولُونَ النَّارَ وَ لَا الْعَارَ كَأَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُكْفِئُوا الْإِسْلَامَ عَلَى وَجْهِهِ انْتِهَاكاً لِحَرِيمِهِ وَ نَقْضاً لِمِيثَاقِهِ الَّذِي وَضَعَهُ اللَّهُ لَكُمْ حَرَماً فِي أَرْضِهِ وَ أَمْناً بَيْنَ خَلْقِهِ

وَ إِنَّكُمْ إِنْ لَجَأْتُمْ إِلَى غَيْرِهِ حَارَبَكُمْ أَهْلُ الْكُفْرِ ثُمَّ لَا جَبْرَائِيلُ وَ لَا مِيكَائِيلُ وَ لَا مُهَاجِرُونَ وَ لَا أَنْصَارٌ يَنْصُرُونَكُمْ إِلَّا الْمُقَارَعَةَ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَكُمْ

وَ إِنَّ عِنْدَكُمُ الْأَمْثَالَ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَ قَوَارِعِهِ وَ أَيَّامِهِ وَ وَقَائِعِهِ فَلَا تَسْتَبْطِئُوا وَعِيدَهُ جَهْلًا بِأَخْذِهِ وَ تَهَاوُناً بِبَطْشِهِ وَ يَأْساً مِنْ بَأْسِهِ

فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَلْعَنِ الْقَرْنَ الْمَاضِيَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ إِلَّا لِتَرْكِهِمُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَلَعَنَ اللَّهُ السُّفَهَاءَ لِرُكُوبِ الْمَعَاصِي وَ الْحُلَمَاءَ لِتَرْكِ التَّنَاهِي

أَلَا وَ قَدْ قَطَعْتُمْ قَيْدَ الْإِسْلَامِ وَ عَطَّلْتُمْ حُدُودَهُ وَ أَمَتُّمْ أَحْكَامَهُ

أَلَا وَ قَدْ أَمَرَنِيَ اللَّهُ بِقِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَ النَّكْثِ وَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ

فَأَمَّا النَّاكِثُونَ فَقَدْ قَاتَلْتُ وَ أَمَّا الْقَاسِطُونَ فَقَدْ جَاهَدْتُ وَ أَمَّا الْمَارِقَةُ فَقَدْ دَوَّخْتُ

وَ أَمَّا شَيْطَانُ الرَّدْهَةِ فَقَدْ كُفِيتُهُ بِصَعْقَةٍ سُمِعَتْ لَهَا وَجْبَةُ قَلْبِهِ وَ رَجَّةُ صَدْرِهِ وَ بَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَ لَئِنْ أَذِنَ اللَّهُ فِي الْكَرَّةِ عَلَيْهِمْ لَأُدِيلَنَّ مِنْهُمْ إِلَّا مَا يَتَشَذَّرُ فِي أَطْرَافِ الْبِلَادِ تَشَذُّراً

فضل الوحي‏

أَنَا وَضَعْتُ فِي الصِّغَرِ بِكَلَاكِلِ الْعَرَبِ وَ كَسَرْتُ نَوَاجِمَ قُرُونِ رَبِيعَةَ وَ مُضَرَ

وَ قَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى ‏الله ‏عليه‏ وآله  )بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ وَ الْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَ أَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ وَ يَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ وَ يُمِسُّنِي جَسَدَهُ وَ يُشِمُّنِي عَرْفَهُ

وَ كَانَ يَمْضَغُ الشَّيْ‏ءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ وَ مَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ وَ لَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ

وَ لَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ بِهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ وَ مَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَهُ وَ نَهَارَهُ

وَ لَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِهِ عَلَماً وَ يَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ

وَ لَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ فَأَرَاهُ وَ لَا يَرَاهُ غَيْرِي وَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ

فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )وَ خَدِيجَةَ وَ أَنَا ثَالِثُهُمَا أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَ الرِّسَالَةِ وَ أَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ

وَ لَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الرَّنَّةُ فَقَالَ هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ

إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وَ تَرَى مَا أَرَى إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ وَ لَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ وَ إِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ وَ لَقَدْ كُنْتُ مَعَهُ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله )لَمَّا أَتَاهُ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالُوا لَهُ يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ قَدِ ادَّعَيْتَ عَظِيماً لَمْ يَدَّعِهِ آبَاؤُكَ وَ لَا أَحَدٌ مِنْ بَيْتِكَ

وَ نَحْنُ نَسْأَلُكَ أَمْراً إِنْ أَنْتَ أَجَبْتَنَا إِلَيْهِ وَ أَرَيْتَنَاهُ عَلِمْنَا أَنَّكَ نَبِيٌّ وَ رَسُولٌ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّكَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ‏

فَقَالَ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )وَ مَا تَسْأَلُونَ قَالُوا تَدْعُو لَنَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى تَنْقَلِعَ بِعُرُوقِهَا وَ تَقِفَ بَيْنَ يَدَيْكَ فَقَالَ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  ) إِنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌفَإِنْ فَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ ذَلِكَ أَ تُؤْمِنُونَ وَ تَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ قَالُوا نَعَمْ

قَالَ فَإِنِّي سَأُرِيكُمْ مَا تَطْلُبُونَ وَ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكُمْ لَا تَفِيئُونَ إِلَى خَيْرٍ وَ إِنَّ فِيكُمْ مَنْ يُطْرَحُ فِي الْقَلِيبِ وَ مَنْ يُحَزِّبُ الْأَحْزَابَ

ثُمَّ قَالَ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )يَا أَيَّتُهَا الشَّجَرَةُ إِنْ كُنْتِ تُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ تَعْلَمِينَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَانْقَلِعِي بِعُرُوقِكِ حَتَّى تَقِفِي بَيْنَ يَدَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ

فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَانْقَلَعَتْ‏بِعُرُوقِهَا وَ جَاءَتْ وَ لَهَا دَوِيٌّ شَدِيدٌ وَ قَصْفٌ كَقَصْفِ أَجْنِحَةِ الطَّيْرِ حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )مُرَفْرِفَةً

وَ أَلْقَتْ بِغُصْنِهَا الْأَعْلَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله )وَ بِبَعْضِ أَغْصَانِهَا عَلَى مَنْكِبِي وَ كُنْتُ عَنْ يَمِينِهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )

فَلَمَّا نَظَرَ الْقَوْمُ إِلَى ذَلِكَ قَالُوا عُلُوّاً وَ اسْتِكْبَاراً فَمُرْهَا فَلْيَأْتِكَ نِصْفُهَا وَ يَبْقَى نِصْفُهَا فَأَمَرَهَا بِذَلِكَ فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ نِصْفُهَا كَأَعْجَبِ إِقْبَالٍ وَ أَشَدِّهِ دَوِيّاً فَكَادَتْ تَلْتَفُّ بِرَسُولِ اللَّهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )

فَقَالُوا كُفْراً وَ عُتُوّاً فَمُرْ هَذَا النِّصْفَ فَلْيَرْجِعْ إِلَى نِصْفِهِ كَمَا كَانَ فَأَمَرَهُ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )فَرَجَعَ

فَقُلْتُ أَنَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِنِّي أَوَّلُ مُؤْمِنٍ بِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَ أَوَّلُ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى تَصْدِيقاً بِنُبُوَّتِكَ وَ إِجْلَالًا لِكَلِمَتِكَ

فَقَالَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ بَلْ ساحِرٌ كَذَّابٌ عَجِيبُ السِّحْرِ خَفِيفٌ فِيهِ وَ هَلْ يُصَدِّقُكَ فِي أَمْرِكَ إِلَّا مِثْلُ هَذَا يَعْنُونَنِي

وَ إِنِّي لَمِنْ قَوْمٍ لَا تَأْخُذُهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ سِيمَاهُمْ سِيمَا الصِّدِّيقِينَ وَ كَلَامُهُمْ كَلَامُ الْأَبْرَارِ عُمَّارُ اللَّيْلِ وَ مَنَارُ النَّهَارِ مُتَمَسِّكُونَ بِحَبْلِ الْقُرْآنِ يُحْيُونَ سُنَنَ اللَّهِ وَ سُنَنَ رَسُولِهِ

لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَ لَا يَعْلُونَ وَ لَا يَغُلُّونَ وَ لَا يُفْسِدُونَ قُلُوبُهُمْ فِي الْجِنَانِ وَ أَجْسَادُهُمْ فِي الْعَمَلِ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج12  

و من خطبة له عليه السّلام تسمى بالقاصعة و هى المأة و الحادية و التسعون من المختار فى باب الخطب

الجزء الثاني عشر

ثمّ لما بقي هنا بعض مطالب محتاجة إلى بسط من الكلام أردت ايرادها و تحقيق ما هو محتاج إلى التحقيق في ضمن تنبيهات ثلاثة فأقول و باللّه التوفيق:

التنبيه الاول

اعلم أنّا قد قلنا في شرح قوله عليه السّلام في فاتحة هذا الفصل: ألا و قد أمرني اللّه بقتال أهل البغى: إنّ من جملة الأوامر الامرة بقتاله لهم قوله «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ. يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ».

لكن جمعا من العامّة العمياء المتعصّبين من المعتزلة و الأشاعرة زعموا أنّ الاية ناظرة إلى أبي بكر و دالّة على صحّة إمامته، و قد أفرط في هذا المعنى النّاصب المتعصّب فخر المشكّكين و المضلّين خذله اللّه تعالى و حشره مع أوليائه المرتدّين فأحببت أن اورد مقالهم و اعقّبه بالتنبيه على خطائهم و ضلالهم فأقول: قال الشّارح المعتزلي في شرح هذا الفصل: و اعلم أنّ أصحابنا قد استدلّوا على صحّة إمامة أبي بكر بهذه الاية، قال قاضي القضاة في المغنى: و هذا خبر من اللّه تعالى و لا بدّ أن يكون كائنا على ما أخبر به، و الذين قاتلوا المرتدّين هم أبو بكر و أصحابه فوجب أن يكونوا هم الّذين عناهم اللّه سبحانه بقوله: يحبّهم و يحبّونه، و ذلك يوجب أن يكون على صواب، انتهى و قال الفخر الرّازي في تفسير الاية: اختلفوا في أنّ اولئك القوم من هم، فقال عليّ بن أبي طالب و الحسن و القتادة و الضحاك و ابن جريح: هم أبو بكر و أصحابه لأنهم هم الذين قاتلوا أهل الرّدّة، قالت عايشة: مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ارتدّت العرب و اشتهر النفاق و نزل بأبي ما لو نزل بالجبال الرّاسيات لهاضها.

و قال السدى: نزلت الاية فى الأنصار، لأنّهم هم الّذين نصروا الرّسول و أعانوه على اظهار الدّين.
و قال مجاهد: نزلت في أهل يمن و روى مرفوعا أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما نزلت هذه الاية أشار إلى أبي موسى الأشعري و قال: هم قوم هذا.

و قال آخرون: هم الفرس لأنه روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما سئل عن هذه الاية ضرب بيده على عاتق سلمان و قال: هذا و ذووه ثمّ قال: لو كان الدّين معلّقا بالثريّا لنا له رجال من أبناء فارس.
و قال قوم: إنها نزلت في عليّ عليه السّلام و يدلّ عليه وجهان: الوجه الأوّل أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما دفع الرّاية إلى عليّ عليه السّلام يوم خيبر قال: لأدفعنّ الرّاية غدا إلى رجل يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله، و هذا هو الصفة المذكورة فى الاية.

و الوجه الثاني أنه تعالى إنما ذكر بعد هذه الاية قوله: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ الاية، و هذه فى حقّ عليّ عليه السّلام فكان الأولى جعل ما قبلها أيضا فى حقّه عليه السّلام، فهذه جملة الأقوال فى هذه الاية، و لنا فى هذه الاية مقامات: المقام الأول أنّ هذه الاية من أدلّ الدّلائل على فساد مذهب الاماميّة من الرّوافض.
و تقرير مذهبهم إنّ الّذين أقرّوا بخلافة أبى بكر و امامته كلّهم كفروا و صاروا مرتدّين، لأنّهم أنكروا النصّ الجليّ على إمامة عليّ عليه السّلام.

فنقول: لو كان كذلك لجاء اللّه تعالى بقوم يحاربهم و يقهرهم و يردّهم إلى الدّين الحقّ بدليل قوله: مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ، الاية، و كلمة من فى معرض الشرط للعموم، فهي تدلّ على أنّ كلّ من صار مرتدّا عن دين الاسلام فانّ اللّه يأتي بقوم يقهرهم و يردّهم و يبطل شوكتهم فلو كان الذين نصبوا أبا بكر للخلافة كذلك لوجب بحكم الاية أن يأتي اللّه بقوم يقهرهم و يبطل مذهبهم، و لما لم يكن الأمر كذلك بل الأمر بالضدّ فانّ الرّوافض هم المقهورون الممنوعون من إظهار مقالاتهم الباطلة أبدا منذ كانوا علمنا فساد مذهبهم و مقالتهم، و هذا كلام ظاهر لمن أنصف.
المقام الثاني إنّا ندّعي أنّ هذه الاية يجب أن يقال: إنّها نزلت في حقّ أبي بكر و الدّليل عليه وجهان:

الوجه الأول أنّ هذه الاية مختصّة بمحاربة المرتدّين، و أبو بكر هو الذي تولّى محاربة المرتدّين، و لا يمكن أن يكون المراد هو الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لأنه لم يتّفق له محاربة المرتدّين، و لأنه تعالى قال: فسوف يأتي اللّه، و هذا للاستقبال لا للحال، فوجب أن يكون ذلك القوم غير موجودين فى وقت نزول هذا الخطاب.

فان قيل: هذا لازم عليكم، لأنّ أبا بكر كان موجودا فى ذلك الوقت.
قلنا: الجواب من وجهين: الأول أنّ القوم الذين قاتل بهم أبو بكر أهل الردّة ما كانوا موجودين فى الحال و الثّانى أنّ معنى الاية أنّ اللّه تعالى قال: فسوف يأتي اللّه بقوم، قادرين متمكّنين من هذا الحراب، و أبو بكر و إن كان موجودا فى ذلك الوقت إلّا أنه ما كان مستقلّا فى هذا الوقت بالحراب و الأمر و النّهى، فزال السؤال فثبت أنه لا يمكن أن يكون هو الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا يمكن أن يكون المراد هو علىّ عليه السّلام لأنّ عليا لم يتّفق له قتال مع أهل الردّة فكيف تحمل هذه الاية عليه.

فان قالوا: بل كان قتاله مع أهل الردّة، لأنّ كلّ من نازعه فى الامامة كان مرتدّا.
قلنا: هذا باطل من وجهين: الأول أنّ اسم المرتدّ إنما يتناول من كان تاركا للشرايع الاسلاميّة، و القوم الذين نازعوا عليّا ما كانوا كذلك فى الظاهر، و ما كان أحد يقول إنّهم خرجوا عن الاسلام و عليّ لم يسمّهم البتّة بالمرتدّين، فهذا الذى يقوله هؤلاء الرّوافض لعنهم اللّه بهت على جميع المسلمين و على عليّ عليه السّلام أيضا.

الثاني أنه لو كان كلّ من نازعه في الامامة مرتدّا لزم فى أبى بكر و فى قومه أن يكونوا مرتدّين، و لو كان كذلك لوجب بحكم ظاهر الاية أن يأتي اللّه بقوم يقهرونهم و يردّونهم إلى الدّين الصحيح، و لما لم يوجد ذلك البتّة علمنا أنّ منازعة عليّ فى الامامة لا يكون ردّة، و إذا لم تكن ردّة لم يمكن حمل الاية على عليّ لأنّها نازلة فيمن يحارب المرتدّين.

و لا يمكن أيضا أن يقال: إنّها نازلة في أهل فارس أو في أهل اليمن، لأنّهم لم يتّفق لهم محاربة مع المرتدّين، و بتقدير أنّه اتّفقت لهم هذه المحاربة و لكنهم كانوا رعيّة و أتباعا و أذنابا، و كان الرئيس المطاع الامر في تلك الواقعة هو ابو بكر و معلوم أنّ حمل الاية على من كان أصلا في هذه العبادة و رئيسا مطاعا فيها أولى من حملها على الرّعية و الأتباع و الأذناب، فظهر بما ذكرنا من الدّليل الظاهر أنّ هذه الاية مختصّة بأبي بكر.

و الوجه الثاني في بيان أنّ هذه الاية مختصّة بأبي بكر هو: إنّا نقول: هب أنّ عليّا قد كان حارب المرتدّين، و لكن محاربة أبى بكر مع المرتدّين كانت أعلى حالا و أكثر موقعا فى الاسلام من محاربة عليّ مع من خالفه فى الامامة و ذلك لأنّه علم بالتواتر أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا توفّى اضطربت الأعراب و تمرّدوا و أنّ أبا بكر هو الّذي قهر مسيلمة و طليحة، و هو الذى حارب مانعي الزّكاة، و لمّا فعل ذلك استقرّ الاسلام و عظمت شوكته و انبسطت دولته.
أمّا لما انتهى الأمر إلى علىّ فكان الاسلام قد انبسط فى الشّرق و الغرب و صار ملوك الدّنيا مقهورين و صار الاسلام مستوليا على جميع الأديان و الملل، فثبت أنّ محاربة أبى بكر أعظم تاثيرا فى نصرة الاسلام و تقويته من محاربة عليّ عليه السّلام.

و معلوم أنّ المقصود من هذه الاية تعظيم قوم يسعون فى تقوية الدّين و نصرة الاسلام، و لما كان أبو بكر هو المتولّى لذلك وجب أن يكون هو المراد بالاية.
المقام الثالث فى هذه الاية و هو أنّا ندّعى دلالة هذه الاية على صحّة إمامة أبى بكر، لما ثبت بما ذكرنا أنّ هذه الاية مختصّة به، فنقول: إنّه تعالى وصف الذين أرادهم بهذه الاية بصفات: أوّلها أنّهم يحبّهم اللّه، فلمّا ثبت أنّ المراد بهذه الاية هو أبو بكر ثبت أنّ قوله يحبّهم و يحبّونه وصف لأبى بكر، و من وصفه اللّه تعالى بذلك يمتنع أن يكون ظالما، و ذلك يدلّ على أنه كان محقّا في إمامته.

و ثانيها قوله: أذلّة على المؤمنين أعزّة على الكافرين، و هو صفة أبي بكر أيضا للدّليل الّذي قدّمناه.
و يؤكّده ما روى في الخبر المستفيض أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: أرحم امّتي بامّتي أبو بكر، فكان موصوفا بالرّحمة و الشفقة على المؤمنين، و بالشدّة مع الكفّار.

ألا ترى أنّ في أوّل الأمر حين كان الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مكّة و كان في غاية الضعف كيف كان يذبّ عن الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كيف كان يلازمه، و يخدمه، و ما كان يبالي بجبابرة الكفّار و شياطينهم و في آخر الأمر أعنى وقت خلافته كيف لم يلتفت إلى قول أحد و أصرّ على أنه لا بدّ من المحاربة مع مانعى الزكاة حتى آل الأمر إلى أن خرج إلى قتال القوم وحده حتى جاء أكابر الصحابة و تضرّعوا إليه و منعوه من الذهاب.
ثمّ لما بلغ بعث العسكر إليهم انهرموا و جعل اللّه ذلك مبدء لدولة الاسلام، فكان قوله: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ، لا يليق إلّا به.

و ثالثها قوله: يجاهدون فى سبيل اللّه و لا يخافون لومة لائم، فهذا مشترك فيه بين أبى بكر و علىّ إلّا أنّ حظّ أبى بكر فيه أتمّ و أكمل.
و ذلك لأنّ مجاهدة أبى بكر مع الكفار كان فى أوّل البعث، و هناك الاسلام كان فى غاية الضعف، و الكفر كان فى غاية القوّة، و كان يجاهد الكفار بمقدار قدرته و يذبّ عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بغاية وسعه.
و أما عليّ عليه السّلام فانه إنما شرع فى الجهاد يوم بدر و أحد، و فى ذلك الوقت كان الاسلام قويّا و كانت العساكر مجتمعة.
فثبت أنّ جهاد أبى بكر كان أكمل من جهاد عليّ عليه السّلام من وجهين: الأوّل أنه كان متقدّما عليه فى الزّمان لقوله تعالى: وَ ما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لِلَّهِ و الثاني جهاد أبي بكر كان في وقت ضعف الرّسول و جهاد علىّ كان في وقت القوّة.

و رابعها قوله: ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء، و هذا لايق بأبي بكر لأنّه متأكّدبقوله تعالى: وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ السَّعَةِ، و قد بيّنا أنّ هذه الاية في أبي بكر و ممّا يدلّ على أنّ جميع هذه الصّفات لأبي بكر أنا بيّنا بالدّليل أنّ هذه الاية لا بدّ و أن تكون في أبي بكر، و متى كان الأمر كذلك كانت هذه الصّفات لا بدّ و أن تكون لأبي بكر، و إذا ثبت هذا وجب القطع بصحّة امامته، إذ لو كانت باطلة لما كانت هذه الصّفات لائقة به.
فان قيل: لم لا يجوز أن يقال: إنه كان موصوفا بهذه الصّفات حال حياة الرّسول ثمّ بعد وفاته لما شرع في الامامة زالت هذه الصّفات و بطلت.

قلنا: هذا باطل قطعا، لأنّه تعالى قال: فسوف يأتي اللّه بقوم يحبّهم و يحبّونه، فأثبت كونهم موصوفين بهذه الصّفات حال اتيان اللّه بهم في المستقبل، و ذلك يدلّ على شهادة اللّه بكونه موصوفا بهذه الصّفات حال محاربته مع أهل الرّدة، و ذلك هو حال امامته، فثبت بذلك الاية دلالة الاية على صحّة امامته.

أمّا قول الرّوافض لعنهم اللّه إنّ هذه الاية في حقّ عليّ عليه السّلام بدليل أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال يوم خيبر: لاعطينّ الرّاية غدا رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله، و كان ذلك هو عليّ عليه السّلام.
فنقول: هذا الخبر من باب الاحاد و عندهم لا يجوز التّمسك به في العمل فكيف يجوز التّمسك به في العلم.

و أيضا إنّ اثبات هذه الصفة لعليّ عليه السّلام لا يوجب انتفاءها عن أبي بكر و بتقدير أن يدلّ على ذلك لكنّه لا يدلّ على انتفاء ذلك المجموع عن أبي بكر و من جملة تلك الصفات كونه كرّارا غير فرّار فلمّا انتفى ذلك عن أبى بكر لم يحصل مجموع تلك الصّفات له فكفى هذا في العمل بدليل الخطاب، فأمّا انتفاء جميع تلك الصفات فلا دلالة فى اللّفظ عليه فهو تعالى إنّما أثبت هذه الصّفة المذكورة فى هذه الاية حال اشتغاله بمحاربة المرتدّين بعد ذلك، فهب أنّ تلك الصفة ما كانت حاصلة في ذلك الوقت فلم يمنع ذلك من حصولها في الزّمان المستقبل.

و لأنّ ما ذكرناه تمسّك بظاهر القرآن و ما ذكروه تمسّك بالخبر المذكورالمنقول بالاحاد.
و لأنّه معارض بالأخبار الدّالة على كون أبى بكر محبّا للّه و رسوله و كون اللّه محبّا له و راضيا عنه، قال تعالى فى حقّ أبى بكر: وَ لَسَوْفَ يَرْضى‏ و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ اللّه يتجلّى للناس عامّة و يتجلّى لأبى بكر خاصّة، و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما صبّ اللّه شيئا فى صدرى إلّا و صبّه فى صدر أبى بكر، و كلّ ذلك يدلّ على أنّه كان يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله.

و أما الوجه الثاني و هو قولهم: الاية التي بعد هذه الاية دالّة على امامة عليّ عليه السّلام فوجب أن تكون هذه الاية نازلة في عليّ.
فجوابنا أنا لا نسلّم دلالة الاية التي بعد هذه الاية على امامته، و سنذكر الكلام فيه، فهذا ما فى هذا الموضع من البحث و اللّه أعلم، انتهى كلامه هبط مقامه.

و يتوجّه عليه وجوه من الكلام و ضروب من الملام:

الوجه الاول– أنّ نسبته كون المراد بقوم يحبّهم و يحبّونه هو ابو بكر و أصحابه إلى عليّ عليه السّلام بهت و افتراء، و إنما المرويّ عنه عليه السّلام و عن حذيفة و عمّار و ابن عباس حسبما تعرفه أنّ المراد به هو عليه السّلام و أصحابه.

الثاني– ما ذكره من الوجه الثاني من استدلال الامامية بأنّ الاية الواقعة بعد هذه الاية عنى قوله: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ، فى حقّ عليّ عليه السّلام فكان الأولى جعل ما قبلها أيضا فى حقّه فاسد، لأنّ أصحابنا و إن قالوا بكون انما وليّكم اللّه فى حقّه لكنّهم لم يستدلّوا بذلك على كون هذه الاية أعني: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ، فيه عليه السّلام و إنّما استدلّوا على ذلك بالوجه الأوّل الّذى حكاه عنهم و يأتي توضيحه، و بما روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام من قوله يوم البصرة و اللّه ما قوتل أهل الاية حتّى اليوم و تلاها، و بما روي عن وجوه الصحابة مثل حذيفة و عمّار و ابن عبّاس من نزولها فيه عليه السّلام كما قاله المرتضى في الشافي، و مثلهم الثعلبى قال فى تفسير قوله: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ الاية، هو عليّ بن أبي طالب.

الثالث– أنّ استدلاله على فساد مذهب الاماميّة بقوله: و تقرير مذهبهم إلى قوله: و لما لم يكن كذلك علمنا فساد مذهبهم، سخيف جدّا، لأنّا لا ننكر ارتداد أبي بكرو من تبعه حسبما نشير اليه، و لكن نمنع دلالة الاية على أنّ كلّ من صار مرتدّا عن دين الاسلام، فانّ اللّه يأتي بقوم يردّهم إلى الاسلام و إفادة من للشرط و العموم لا يقتضى ذلك.
و ذلك لأنه سبحانه لم يقل من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي اللّه بقوم يجاهدهم و يقهرهم و يردّهم الى الدّين الحقّ كما زعمه هذا الناصب، و إنما قال فسوف يأتي اللّه بقوم يحبّهم و يحبّونه آه.

و لا دلالة فيها على أنّ القوم المأتيّ بهم يجاهدون هؤلاء المرتدّين بل ظاهر معنى الاية و مساقها مع قطع النظر عن الأخبار أنّ من يرتدّ منكم عن دينه فلن يضرّ دينه شيئا و لا يوجب ارتداده ضعفه و وهنه لأنّه سبحانه سوف يأتي بقوم لهم هذه الصّفات ينصرونه على أبلغ الوجوه، و بهم يحصل كمال قوّته و شوكته.

فيكون مساق هذه الاية مساق قوله تعالى وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى‏ أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى‏ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ».
و قد روى ابن شهر آشوب من طريق العامّة باسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الاية يعني بالشاكرين عليّ بن أبي طالب و بالمرتدّين على أعقابكم هم الذين ارتدّوا عنه عليه السّلام.

فقد علم بما ذكرنا أنّ الاية لا تقتضى أنّ كلّ من ارتدّ لا بدّ و أن يأتي اللّه بمن يردّه عن ارتداده إلى دين الاسلام كما توهّمه الرّازى، كيف و لو كان مفهومها ذلك لوجب أن لا يوجد مرتدّ إلّا و له قاهر يقهره و رادّ يردّه إلى دين الاسلام، و المعلوم المشاهد بالتجربة و الوجدان عدمه، فانّ العالم ملاء من المرتدّين و ليس لهم دافع و لا رادع.

و قد اعترف الرازى بخبطه من حيث لا يشعر، فانّه نقل قبل ما حكينا عنه من كلامه في جملة كلام نقله عن صاحب الكشّاف و ارتضاه أنّ من جملة المرتدّين غسّان قوم جبلة بن الايهم على عهد عمر، و ذلك أنّ‏جبلة أسلم على يد عمر و كان ذات يوم جارّا رداءه فوطئ رجل طرف ردائه فغضب فلطمه، فتظلّم الرّجل إلى عمر فقضي له بالقصاص عليه إلّا أن يعفو عنه فقال: أنا اشتريها«» بألف فأبى الرّجل فلم يزل يزيد في الفداء إلى أن بلغ عشرة آلاف، فأبى الرّجل إلّا القصاص، فاستنظر عمر فأنظره فهرب إلى الرّوم و ارتدّ، انتهى.

فأقول للرّازى: إنّ هؤلاء كانوا مرتدّين بعد إسلامهم فلم لم يأتي اللّه بقوم يقهرونهم و يردّونهم إلى الاسلام على ما زعمت، فعلم فساد ما قاله في معني الاية.

الرابع– قوله: إنّ هذه الاية مختصّة بمحاربة المرتدّين و أبو بكر هو الّذى تولّى محاربتهم، قد علمت عدم دلالة الاية على محاربتهم فضلا عن اختصاصها بها.
و على التنزّل و تسليم الدّلالة و الاختصاص فنمنع اختصاص أبي بكر بمحاربتهم لأنّ من جملة المرتدّين الناكثين و القاسطين و المارقين و قد حاربهم أمير المؤمنين عليه السّلام.

و من جملتهم بنو مدلج و رئيسهم ذو الحمار و هو الأسود العنسي و كان كاهنا ادّعا النبوّة في اليمن و استولى على بلادها و أخرج عمّال رسول اللّه منها فكتب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى معاذ بن جبل و سادات اليمن فأهلكه اللّه على يد فيروز الدّيلمي فقتله و اخبر رسول اللّه بقتله ليلة قتل، فسرّ المسلمون و قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الغد، و أتى خبره في آخر شهر ربيع الأوّل روى ذلك في الكشّاف و حكاه عنه الرّازى أيضا.
و إذا لم يكن المحاربة مختصّة بأبي بكر فلم لا يجوز أن يكون المقصود بالاية هؤلاء المحاربون بالمرتدّين لا أبو بكر و أصحابه.

الخامس– قوله: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يتّفق له محاربة المرتدّين قد علمت بطلانه.
فان قلت: إنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يتولّ بنفسه جهاد بني مدلج، و إنّما أنفذ إليهم سريّة قلت: أبو بكر أيضا لم يتولّ بنفسه.

السادس– قوله: و لأنه تعالى قال: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ، و هذا للاستقبال لا للحال‏فوجب أن يكون هذا القوم غير موجودين في وقت نزول الخطاب فيه أنّه مسلّم و لكنّه لا ينافي كون المراد بالمرتدّين بنو مدلج أو قوم مسيلمة فانّ محاربة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لهم كان بعد مضيّ نزول الخطاب و في آخر عمره الشريف، أمّا بنو مدلج فقد عرفت، و أمّا مسيلمة فقد ادّعى النّبوة فأنفذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لقتله جماعة من المسلمين و أمرهم أن يفتكوا به إن أمكنهم غيلة، و استقرّ عليه قبايل من العرب و قتل على يدي وحشي قاتل حمزة بعد موت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

السابع– قوله: إنّ القوم الّذين قاتل بهم أبو بكر أهل الردّة ما كانوا موجودين في الحال.

فيه أوّلا أنّه رجم بالغيب فمن أين له إثبات عدم وجودهم، بل بيّن الفساد لأنّ المرتدّين هم الذين كانوا في زمن الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مثل خالد بن الوليد و أبو قتادة الأنصارى و نظرائهم و جلّهم كان جيش اسامة كما يظهر من كتب السّير.

و ثانيا بعد التنزّل أنّ عدم وجودهم لا ينفع بحال أبي بكر على ما زعم مع كونه موجودا بل يدخل المقاتلون معه في عموم الاية لعدم كونهم موجودين و يخرج هو بنفسه عنه لكونه موجودا، فافهم جيّدا.

الثامن– قوله: إنّ معنى الاية إنّ اللّه قال: فسوف يأتي اللَّه بقوم قادرين متمكّنين من هذا الحرب «إلى قوله» و الأمر و النهي.

فيه إذا كان البناء في معنى الاية على ذلك فلنا أن نقول: إنّ أمير المؤمنين أيضا كان موجودا في ذلك الوقت و فى زمان أبى بكر لكنّه لم يكن متمكّنا من الحرب و الأمر و النهي إلى أن استقلّ بالأمر، فقاتل المرتدّين من النّاكثين و القاسطين و المارقين، غاية الأمر إنّ عدم استقلال أبي بكر بوجود الرئيس الحقّ و هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عدم استقلال أمير المؤمنين عليه السّلام بوجود رئيس الباطل أعني الغاصبين للخلافة مع عدم المعاون

التاسع– قوله: فثبت أنّه لا يمكن أن يكون المراد هو الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد علمت فساده و امكان إرادته.

العاشر– قوله: اسم المرتدّ إنما يتناول من كان تاركا للشرايع الاسلاميّة اه.
فيه أنّه إن أراد به تركه لجميعها فيتعرض عليه بأنّ مانعي الزكاة لم يكونوا تاركين للجميع و انّما منعوا الزّكاة فحسب فكيف حكمتم بارتدادهم، و يدلّ على ما ذكرنا من عدم تركهم للجميع، مضافا إلى ما يأتي قول قاضي القضاة في المغني حيث قال: فان قال قائل فقد كان مالك يصلّي، قيل له: و كذلك ساير أهل الرّدة و الكفر و إنّما كفروا بالامتناع من الزّكاة و اعتقاد إسقاط وجوبها دون غيره.

و إن اراد به تناول الاسم و لو بترك بعضها فنقول: إنّ المحاربين لأمير المؤمنين عليه السّلام قد كانوا تاركين للبعض، حيث انّهم قد كانوا يستحلّون قتاله و قتله و قتل ساير المؤمنين التابعين له عليه السّلام فضلا عن إنكارهم النصّ الجليّ و نقضهم لبيعته.
و استحلال قتل المؤمنين و سفك دمائهم فضلا عن أكابرهم و أفاضلهم أشدّ من استحلال الخمر و شربه قطعا، فيكونوا كفّارا مرتدّين.

مع أنّ النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال له عليه السّلام بلا خلاف بين أهل النقل: يا عليّ حربك حربي و سلمك سلمي، و نحن نعلم أنّ المقصود به ليس إلّا التشبيه في الأحكام، و من أحكام محاربي النّبي الكفر و الارتداد بالاتّفاق.
و ملخّص الكلام و محصّل المرام أنّ الرّدة الّتي نقولها في حقّ محاربي عليّ عليه السّلام هي بعينها مثل الرّدة الّتي تقولونها في حقّ مانعي الزكاة حرفا بحرف.

قال شارح صحيح مسلم في المنهاج في كتاب الايمان كلاما استحسنه من الخطابي ما هذا لفظه قال بعد تقسيم أهل الرّدة إلى ثلاثة أقسام: فأمّا مانعوا لزكاة منهم المقيمون على أصل الدّين فانّهم أهل بغي و لم يسمّوا على الانفراد منهم كفارا و إن كانت الردّة قد اضيفت إليهم لمشاركتهم المرتدّين في منع بعض ما منعوه من حقوق الدّين، و ذلك انّ اسم الرّدة اسم لغوىّ و كلّ من انصرف عن أمر كان مقبلا عليه فقد ارتدّ عنه، و قد وجد من هولاء القوم الانصراف و منع الحق و انقطع عنهم اسم الثناء و المدح بالدّين و علّق بهم اسم القبيح لمشاركتهم القوم الّذين كان ارتدادهم حقّا، انتهى.

و هذا الكلام كما ترى صريح في أنّ مانعي الزكاة كانوا مقيمين على أصل الدّين لكنّه اطلق عليهم اسم المرتدّ لترك بعض حقوق الدّين الواجبة، هذا.
و أما استبعاد الشّارح المعتزلي لارتدادهم أعنى الناكثين و القاسطين و المارقين بأنّهم لا يطلق عليهم لفظ الرّدة.
أمّا اللفظ فباالاتّفاق منّا و من الاماميّة و ان سمّوهم كفارا.

و أمّا المعنى فلأنّ فى مذهبهم أنّ من ارتدّ و كان قد ولد على فطرة الاسلام بانت امرأته منه و قسم ماله بين ورثته و كان على زوجته عدّة المتوفى عنها زوجها، و معلوم أنّ أكثر المحاربين لأمير المؤمنين قد ولدوا فى الاسلام و لم يحكم فيهم بهذه الأحكام.
ففيه منع أنّ الاماميّة لا يطلقون عليهم اسم المرتدّ و من أخبارهم المشهورة: ارتدّ النّاس بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلّا ثلاثة أو أربعة.

و أمّا ما حكاه عنهم من انّ مذهبهم أنّ من ارتدّ و كان قد ولد على الفطرة اه، فهو و هذا الكلام كما ترى صريح في أنّ مانعي الزكاة كانوا مقيمين على أصل الدّين لكنّه اطلق عليهم اسم المرتدّ لترك بعض حقوق الدّين الواجبة، هذا.
و أما استبعاد الشّارح المعتزلي لارتدادهم أعنى الناكثين و القاسطين و المارقين بأنّهم لا يطلق عليهم لفظ الرّدة.
أمّا اللفظ فباالاتّفاق منّا و من الاماميّة و ان سمّوهم كفارا.

و أمّا المعنى فلأنّ فى مذهبهم أنّ من ارتدّ و كان قد ولد على فطرة الاسلام بانت امرأته منه و قسم ماله بين ورثته و كان على زوجته عدّة المتوفى عنها زوجها، و معلوم أنّ أكثر المحاربين لأمير المؤمنين قد ولدوا فى الاسلام و لم يحكم فيهم بهذه الأحكام.

ففيه منع أنّ الاماميّة لا يطلقون عليهم اسم المرتدّ و من أخبارهم المشهورة: ارتدّ النّاس بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلّا ثلاثة أو أربعة.
و أمّا ما حكاه عنهم من انّ مذهبهم أنّ من ارتدّ و كان قد ولد على الفطرة اه، فهو حقّ لكن نجيب عنه بأنّ أحكام الكفّار كما أنّها مختلفة و إن كان شملهم اسم الكفر، فانّ منهم من يقتل و لا يستبقى، و منهم من يؤخذ منهم الجزية و لا يقتل إلّا بسبب طار غير الكفر، و منهم من لا يجوز نكاحه على مذهب أكثر المسلمين، فكذلك من الجايز اختلاف أحكام الارتداد و يرجع فى أنّ حكمهم مخالف لأحكام ساير الكفار و المرتدّين إلى فعله عليه السّلام و سيرته فيهم.
و لذلك قال الشافعي: أخذ المسلمون السيرة فى قتال المشركين من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أخذوا السيرة فى قتال البغاة من عليّ عليه السّلام.

و بالجملة فلو لم يكن الباغون عليه عليه السّلام كفارا مرتدّين لما حاربهم أمير المؤمنين و لا استحلّ سفك دمائهم و لم يكن مأمورا من اللّه تعالى و من رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقتالهم على ما صرّح به فى أوّل هذا الفصل من كلامه بقوله: و قد أمرنى اللّه بقتال أهل البغي اه.

إذ المسلم لا يجوز سفك دمه و استحلال قتله فلمّا حاربهم أمير المؤمنين عليه السّلام ثبت‏بذلك كفرهم و ارتدادهم.
و لمّا لم يسر فيهم بسيرة ساير الكفار من سبيهم و سبي ذراريهم و غنيمة أموالهم و اتّباع مولّيهم و إجهاز جريحهم، و لم يسر فيهم بسيرة ساير المرتدّين من إبانة امرأتهم و تقسيم أموالهم و غيرها من الأحكام، علمنا بذلك اختلاف أحكامهم مع أحكام ساير الكفار و المرتدّين، فانّ فعل الامام و سيرته كقوله حجّة متّبعة مثل الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و ان شئت مزيد تحقيق لهذا المقام.
فأقول: إنّ ارتداد المنحرفين عنه عليه السّلام كائنا من كان من الغاصبين للخلافة أو الباغين عليه عليه السّلام و اطلاق اسم المرتدّ عليه قد ورد فى الرّوايات العاميّة كوروده فى أخبار الخاصّة.

ففى غاية المرام عن الثعلبى قال: أخبرنا عبد اللّه بن حامد بن محمّد أخبرنا أحمد بن محمّد بن الحسن حدّثنا محمّد بن شبيب حدّثنا أبي عن يونس، عن ابن شهاب، عن ابن المسيّب عن أبى هريرة أنّه كان يحدّث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: يرد علىّ يوم القيامة رهط من أصحابى فيجلون عن الحوض، فأقول: يا ربّ أصحابى، فيقال: إنّك لا علم لك بما أحدثوا أنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى.

و فيه من صحيح البخارى في الجزء الخامس على حدّ ثلثه الأخير فى تفسير قوله «وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ» قال: حدّثنا شعبة قال أخبرنا المغيرة بن النعمان قال سمعت سعيد بن جبير عن ابن عبّاس «رض» خطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال يا أيّها النّاس إنّكم محشورون إلى اللّه حفاة عزلا، ثمّ قال: كما بدئنا أوّل خلق نعيده وعدا علينا إنا كنّا فاعلين «إلى آخر الاية» ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ألا و إنّ أوّل الخلايق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السّلام ألا و انه يجاء برجال من أمتى فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا ربّ أصحابى، فيقال إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: و كنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلمّا توفّيتني كنت أنت الرّقيب عليهم و أنت على كلّ شي‏ء شهيد، فقال: إنّ هؤلاء لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم.

و رواه فيه من صحيح مسلم فى الجزء الثالث من أجزاء ثلاثة من ثلثه الأخير بسنده عن ابن عباس نحوه.
و فيه من البخارى من حديث الزّهرى عن سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة كان يحدّث عن بعض أصحاب النّبي قال: يرد على الحوض رجال من امّتي فيجلون عنه فأقول يا ربّ أصحابي، فيقال: إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى.

فان قلت: غاية ما يستفاد من هذه الرّوايات أنّ جماعة من امّته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ارتدّوا بعده، و لا دلالة على أنّهم مبغضو أمير المؤمنين عليه السّلام و المخالفون له.
قلت: الجواب أولا أنّه قد ورد في النبوىّ المتّفق عليه بالنقل البالغ حدّ الاستفاضة: عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ يدور معه، و من جملة طرقه الزّمخشرى في ربيع الأبرار قال: استأذن أبو ثابت مولا عليّ عليه السّلام على امّ سلمة رضي اللّه عنها فقالت: مرحبا بك يا أبا ثابت أين طار قلبك حين طارت القلوب مطائرها قال: تبع عليّ، فقالت: و الّذي نفسي بيده سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: عليّ مع الحقّ و القرآن و الحقّ و القرآن معه و لن يفترقا حتّى يردا على الحوض و من المعلوم أنه عليه السّلام إذا كان معهما و كانا معه مصاحبين حتّى يردا على الحوض يكون مخالفوه المنحرفون عنه مخالفين للحقّ و القرآن، مفترقين عنهما البتة و ليس معنى الارتداد إلّا ذلك فيكون المرتدّون المجلون عن الحوض هم هؤلاء.

و بمعناه ما رواه إبراهيم بن محمّد الحمويني مسندا عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة و الأسود قالا: أتينا أبا أيّوب الأنصارىّ و قلنا له: يا أبا أيّوب إنّ اللّه تعالى أكرمك بنبيّه حيث كان ضيفا لك فضيلة من اللّه فضّلك بها أخبرنا بمخرجك مع عليّ عليه السّلام تقاتل أهل لا إله إلّا اللّه، قال: اقسم لكما باللّه لقد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فى هذا البيت الّذى أنتما فيه معى، و ما فى البيت غير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عليّ جالس عن يمينه و أنا جالس عن‏يساره و أنس قائم بين يديه، إذ حرّك الباب فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: افتح لعمّار الطيّب المطيّب، ففتح النّاس الباب و دخل عمار فسلّم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فرحّب به ثمّ قال لعمار: إنه سيكون في أمّتي بعدي هناة حتى يختلف السيف فيما بينهم و حتى يقتل بعضهم بعضا، فاذا رأيت ذلك فعليك بهذا الأصلع عن يميني يعني عليّ بن أبي طالب، فاذا سلك الناس كلّهم واديا و سلك علىّ و اديا فاسلك وادى عليّ و خلّ عن النّاس، يا عمار إنّ عليّا لا يردّك عن هدى و لا يدلّك على ردى، يا عمار طاعة عليّ طاعتي و طاعتي طاعة اللّه عزّ و جلّ.
و دلالته على المدّعى غير خفيّة.
و ثانيا انه قد وقع التصريح منه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأنّ المرتدّين المطرودين عن الحوض مبغضوه عليه السّلام في ما رواه موفق بن أحمد أخطب خوارزم بسنده عن إبراهيم ابن عبد اللّه بن العلا عن أبيه عن زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عن أبيه عن جدّه عن عليّ بن أبي طالب رضي اللّه عنه قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوم فتح خيبر: لو لا أن يقول فيك طوايف من أمّتي ما قالت النصارى فى عيسى بن مريم لقلت اليوم فيك مقالا بحيث لا تمرّ على ملاء من المسلمين إلّا أخذوا من تراب رجليك و فضل طهورك، يستشفعون به و لكن حسبك أن تكون منّي و أنا منك ترثني و أرثك و أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي يا عليّ أنت تؤدّي ديني و تقاتل على سنّتي و أنت في الاخرة أقرب النّاس منّي و إنّك يا عليّ غدا على الحوض خليفتي تذود عنه المنافقين، و أنت أوّل من يرد على الحوض و أنت أوّل داخل في الجنّة من أمّتي، و إنّ شيعتك على منابر من نور رواء مرويّين مبيضّة وجوههم حولي أشفع لهم فيكونون في الجنّة غدا جيراني، و إنّ أعداءك غدا ظماء مظمئين مسوّدة وجوههم يتقحمون مقمعون يضربون بالمقامع و هى سياط من نار مقتحمين، حربك حربي و سلمك سلمي و سرّك سرّي و علانيتك علانيتي و سريرة صدرك كسريرة صدري و أنت باب علمى و انّ ولدك ولدي و لحمك لحمي و دمك دمى، و أنّ الحق معك و الحقّ على لسانك و في قلبك و بين عينيك، و الايمان‏خالط لحمك و دمك كما خالط لحمي و دمي، و انّ اللّه عزّ و جلّ أمرني أن أبشّرك أنّك أنت و عترتك في الجنّة، و عدّوك في النار لا يرد على الحوض مبغض لك، و لا يغيب عنه محبّ لك.

قال عليّ عليه السّلام فخررت ساجدا للّه تعالى و حمدته على ما أنعم به عليّ من الاسلام و القرآن و حبّبنى إلى خاتم النّبيّين و سيّد المرسلين.
و قد أوردت هذه الرّواية بطولها لتضمّنها وجوها من الدّلالة على المدّعى كما لا يخفى على المنصف المجانب عن العصبيّة و الهوى فقد علم بذلك كلّه أنّ المحاربين له عليه السّلام كالمنتحلين للخلافة مرتدّون على لسان اللّه و النبيّ و الوصيّ و منكر ارتدادهم منكر للنّص الجليّ.

الحاد يعشر– قوله: لو كان كلّ من نازعه في الامامة مرتدّا اه فيه إنّ ارتدادهم مسلّم حسبما عرفت و لكن وجوب إتيان اللّه بقوم يقهرونهم بحكم الاية غير لازم، لما عرفت أيضا من عدم اقتضاء الاية ذلك لأنه سبحانه قال فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ و لم يقل يقهرونهم و يردّونهم إلى الدّين الصّحيح.
لا يقال: لو كان أبو بكر و قومه مرتدّين لحاربهم أمير المؤمنين عليه السّلام كما حارب النّاكثين و القاسطين و المارقين.

لأنّا نقول: نعم و لكن تركه لمحاربتهم لأنّه لم يجد عونا له على الحرب كما أشار عليه السّلام إلى ذلك في الخطبة الثالثة بقوله: و طفقت أرتاي بين أن أصول بيد جذّاء أو أصبر على طخية عمياء فصبرت و في العين قذى و في الحلق شجى، و فى الفصل الثاني من الخطبة السّادسة و العشرين: فنظرت فاذا ليس لي معين إلّا أهل بيتي فضننت بهم عن الموت و أغضيت على القذى و شربت على الشّجى و صبرت على أخذ الكظم و على أمرّ من طعم العلقم.

و ممّا رواه عنه نصر بن مزاحم و كثير من أرباب السّير أنّه قال عقيب وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لو وجدت أربعين ذوى عزم‏و قد سأل الرّماني عن الرّضا عليه السّلام قال: فقلته يا ابن رسول اللّه أخبرنى عن عليّ بن أبي طالب لم لم يجاهد أعداءه خمسا و عشرين سنة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثمّ جاهد في أيّام ولايته فقال: لأنّه اقتدى برسول اللّه في تركه جهاد المشركين بمكّة ثلاثة عشر سنة بعد النبوّة و بالمدينة تسعة عشر شهرا، و ذلك لقلّة أعوانه عليهم.

فلمّا لم تبطل نبوّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع تركه الجهاد لم تبطل ولاية عليّ عليه السّلام بتركه الجهاد خمسا و عشرين سنة إذ كانت العلّة المانعة لهما عن الجهاد واحدة.

الثاني عشر– قوله: و معلوم أنّ حمل الاية على الرئيس المطاع أولى.
فيه منع الأولوية أوّلا و منع اقتضاء الأولويّة على فرض تسليمه للاختصاص ثانيا.

الثالث عشر– قوله: و لكن محاربة أبي بكر مع المرتدّين كانت أعلى حالا «إلى قوله» وجب أن يكون هو المراد بالاية.
فيه أوّلا إنّ محاربة أبي بكر كانت عقيب وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كان الأنصار و المهاجرون و ساير المسلمين رغباتهم متوافرة و أيديهم متناصرة و آرائهم متّفقة و أبدانهم مجتمعة و أهوائهم متّحدة و كلمتهم واحدة في حماية الدّين و في ذبّ الكفار عن شرع سيّد المرسلين، و كان المرتدّون شرذمة قليلين، فحارب أبو بكر هؤلاء الجماعة الكثيرة المتّفقة ذوي الحميّة و العصبيّة هذه الشرذمة القليلة مع ما بين الطرفين من عداوة الدّين و تضادّ المذهب على رأى المجاهدين المقتضى للجدّ و الثبات في الحرب و أما حرب أمير المؤمنين عليه السّلام فقد كان بعد السنين المتطاولة و تعوّد الناس على محدثات المتخلّفين الثلاثة و بدعاتهم مع كون سيرته عليه السّلام فيهم بخلاف سيرة الشيخين الموجب لتقاعدهم عنه و مخالفتهم له، و كون هوى أكثرهم فى الباطن خلاف هوى أمير المؤمنين عليه السّلام و رأيهم مخالفا لرأيه.

بل كان أكثرهم فى شكّ و تردّد من جواز قتال حرم رسول اللّه عايشة و جهاد قوم هم من أهل القبلة على ظاهر الاسلام و قوم لهم ثفنات فى مساجدهم كثفنات البعير أجهد منهم عبادة و أكمل قراءة.

فقاتل بهؤلاء الجماعة المختلفة الأهواء و المشتّتة الاراء الضعفاء الاعتقاد المرتدّين على كثرتهم بمقتضى تصلّبه في الدّين من دون أن يأخذه لومة لائم غير هائب و لا محتشم.
فحارب مع من حالهم ذلك بالناكثين و قد بلغوا تسعة آلاف و بالقاسطين و قد كانوا زهاء مأتي ألف، و بالمارقين و كانوا اثنى عشر ألفا فى أوّل أمرهم و أربعة آلاف فى آخره فانظر ما ذا ترى.

هل كان محاربته عليه السّلام و الحال بما وصفت أولى و أحقّ بالتعظيم و أن تقصد بالاية الشريفة أم محاربة أبى بكر و ثانيا إنّ محاربة أبى بكر لم تكن إلّا بمحض الأمر و النهى و انهاض الجيش و السّرايا، و قد كان جالسا فى كسر بيته و حوله المهاجر و الأنصار فى أمن و راحة و طيب عيش و دعة على مصداق قوله:

ألا طعان ألا فرسان عادية
ألا تجشوكم حول التنانير

و أما أمير المؤمنين عليه السّلام فقد كان شاهرا سيفه واضعا له على عاتقه فى حروب يضطرب لها فؤاد الجليد، و يشيب لهو لها فود الوليد، و يذوب لتسعّر بأسها زبر الحديد، و يجب منها قلب البطل الصديد.
فتولى عليه السّلام الحرب بنفسه النفيسة فخاض غمارها و اصطلى نارها، و دوّخ أعوانها و أنصارها و أجرى بالدّماء أنهارها، و حكم فى مهج الناكثين و القاسطين و المارقين فجعل بوارها، فصارت الفرسان تتحاماه إذا بدر، و الشجعان تلوذ بالهزيمة إذا زأر عالمة أنه ما صافحت صفحة سيفه مهجة إلّا فارقت جسدها، و لا كافح كتيبة إلّا افترس ثعلب رمحه أسدها.

و هذا حكم ثبت له بطريق الاجمال و حال اتّصف به بعموم الاستدلال.
و أما تفصيله فليطلب من مظانه من الكتاب، فانه لا يخفى على ذوي البصاير و أولى الألباب.
فانشدك باللّه هل مجاهدة ذلك أجدر و أحرى بالمجمدة و الثناء أم محاربةهذا«» جزى اللّه خير الجزاء من تجنّب العصبيّة و الهوى

الرابع عشر– قوله: فلما ثبت أنّ المراد بهذه الاية أبو بكر ثبت أنّ قوله: يحبّهم و يحبّونه وصف له.
فيه أنّ الاستدلال على اتّصاف أبي بكر بهذا الوصف و ما يتلوه من الأوصاف بسبب اختصاص الاية به أشبه شي‏ء بالأكل من القفاء، إذ المناسب لرسم المناظرة أن يقيم الدليل أولا على اتّصاف أبي بكر بهذه الأوصاف ثمّ يستدلّ بذلك على أنّ الاية فى حقّه لا بالعكس.

مع أنك قد علمت عدم دلالة الاية على خلافته فضلا عن الاختصاص فلم يثبت اتّصافه بها بما زعمه من الدليل، بل قد علمت بما ذكرناه و نذكره نزولها فى أمير المؤمنين عليه السّلام و أنه المتّصف بهذه الأوصاف لا غير.

الخامس عشر– قوله: و من وصفه اللّه بذلك يمتنع أن يكون ظالما.
هذا مسلّم لكن ظلمه محقّق فاتّصافه به ممتنع فمبطليّته في الامامة محقّقة لا غبار عليها.
أما تحقّق ظلمه فلأنّ أعظم الظلم الشرك باللّه و عبادة الأوثان كما قال عزّ من قائل «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» و أبو بكر قد كان مشركا مدّة مديدة و زمنا طويلا من عمره فيكون ظالما البتة، و من كان كذلك لا يستحقّ الإمامة بمقتضى قوله سبحانه: وَ إِذِ ابْتَلى‏ إِبْراهِيمَ.

روى أبو الحسن الفقيه ابن المغازلي الشافعي مسندا- حذفت الاسناد للاختصار- عن مينا مولى عبد الرّحمن بن عوف عن عبد اللّه بن مسعود قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنا دعوة أبي إبراهيم، قلت: يا رسول اللّه و كيف صرت دعوة أبيك إبراهيم قال: أوحى اللّه عزّ و جلّ إليه إنّى جاعلك للناس إماما، فاستخفّ إبراهيم الفرح قال عليه السّلام و من ذرّيتى أئمّة مثلي، فأوحى اللّه عزّ و جلّ إليه أن يا إبراهيم إنّى لا اعطيك عهدا لا أفى لك به، قال: يا ربّ ما العهد الذي لا تفى لى به قال: اعطيك عهدا لظالم من‏ذرّيتك قال إبراهيم عندها: وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فانتهت إليّ و إلى عليّ لم يسجد أحدنا لصنم قط فاتّخذنى نبيا و اتّخذ عليا وصيا.

و قال الواحدي في تفسير قوله تعالى: وَ إِذِ ابْتَلى‏ إِبْراهِيمَ: اعلمه أنّ في ذرّيته الظالم قال و قال السدى عهدى نبوّتى يعنى لا ينال ما عهدت إليك من النبوّة و الامامة فى الدّين من كان ظالما فى ولدك.
قال و قال الفراء: لا يكون للناس إمام مشرك.
و قد ظهر بذلك كون المشرك ظالما غير مستحقّ للامامة و لا كلام فى شرك أبي بكر فى أوّل أمره فظلمه فى بداية حاله ثابت، و أما ظلمه بعد إسلامه فكذلك، لأنه لم يكن معصوما بالاتّفاق حتى يكون له قوّة العصمة المانعة من الظلم على نفسه و على غيره، و قد قال على المنبر: إنّ لي شيطانا يعتريني فاذا ملت فسدّ دونى، فمن كان محتاجا إلى تسديد الغير عند الميل و الانحراف عن الرّشاد كيف يكون مسدّدا لغيره على ما هى وظيفة الامامة.

و من ظلمه العظيم غصبه للخلافة و حكمه باخراج أمير المؤمنين عليه السّلام من بيته ملبّبا للبيعة و انتزاع الفدك من يد الصدّيقة الطاهرة حسبما عرفت و تعرف فى تضاعيف الشرح ذلك كلّه بالأدلّة القاطعة و البراهين الساطعة.

و من عظيم ظلمه الذي صار عليه من أعظم المطاعن مضافا إلى مطاعنه الأخر محاربته مانعي الزكاة مع عدم كونهم مرتدّين و تركه إقامة الحدّ و القود على خالد بن الوليد و قد قتل مالك بن نويرة و ضاجع المرأة من ليلته و أشار إليه عمر بقتله و عزله، فقال: انّه سيف من سيوف اللّه سلّه اللّه على أعدائه و قال عمر مخاطبا لخالد: لان ولّيت الأمر لأقيدنّك له.

و قد روى تفصيل ذلك أرباب السير و رواه أصحابنا فى جملة مطاعن أبي بكرو لا حاجة بنا في هذا المقام إلى ذكر التّفصيل و إنّما نورد ما له مزيد مدخل في إثبات المدّعى فأقول: روى الطبري في تاريخه و رواه غيره أيضا في جملة ما رواه من تلك القضيّة أنّ من جملة السّرية المبعوثة إلى بني يربوع قوم مالك بن نويرة أبا قتادة الحارث ابن ربعي فكان ممّن شهد أنّهم قد أذّنوا و أقاموا و صلّوا، فحدث أبو قتادة الأنصاري خالد بن الوليد بأنّ القوم ماذوا بالاسلام و أنّ لهم أمانا، فلم يلتفت خالد إلى قوله و أمر بقتلهم و قسم سبيهم، فحلف أبو قتادة أن لا يسير تحت لواء خالد في جيش أبدا، و ركب فرسه شادّا إلى أبي بكر و أخبره بالقصّة و قال: إنّي نهيت خالدا عن قتله فلم يقبل قولي و أخذ بشهادة الأعراب الّذين غرضهم الغنائم، و أنّ عمر لمّا سمع ذلك تكلّم فيه عند أبي بكر فأكثر، و قال: إنّ القصاص قد وجب عليه، و لما أقبل خالد بن الوليد قافلا دخل المسجد و عليه قباء له عليه صداء الحديد معتجرا بعمامة له قد غرز في عمامته أسهما فلما دخل المسجد قام إليه عمر فنزع الأسهم عن رأسه فحطمها ثمّ قال: يا عديّ نفسه عدوت على امرء مسلم فقتلته ثمّ نزوت على امرأته و اللّه لنرجمنّك بأحجارك، و خالد لا يكلّمه و لا يظنّ إلّا أنّ رأي أبي بكر مثل ما راى عمر فيه، حتّى دخل إلى أبي بكر و اعتذر إليه فعذّره و تجاوز عنه.

و قد رواه الشّارح المعتزلي أيضا في الشّرح و في غير ذلك المقام و قال عقيب ذلك: فكان عمر يحرّض أبا بكر على خالد و يشير عليه أن يقتصّ منه بدل مالك، فقال أبو بكر إيها يا عمر ما هو بأوّل من أخطأ فارفع لسانك عنهم، ثمّ ودى ذلك من بيت مال المسلمين، انتهى.

فقد علم بذلك أنّ أبا بكر كان ظالما فكيف يكون محبوبا للّه سبحانه و محبّا له.
ثمّ لا يخفى عليك إنّ اللّه وصف القوم المأتىّ بهم بالمحبّة و لم يخصّ المحبّة بالرئيس فقط و من جملة المحاربين للمرتدّين على زعمهم خالد بن الوليد الّذي‏عرفت حاله من هتكه لناموس الاسلام و تضييعه لشرع سيّد الأنام أفترى من نفسك أن تحكم بأنّه محبوب اللّه و محبّه حاشا ثمّ حاشا.

السادس عشر– قوله: أذلّة على المؤمنين أعزّة على الكافرين، صفة لأبي بكر للدّليل الّذي قدّمناه.
فيه أولا أنّك قد عرفت عدم تمامية الدّليل و عدم اختصاص الاية بأبي بكر، و الخبر الّذي رواه من قوله: أرحم أمّتي بامّتي أبو بكر. مما تفرّد العامّة بروايته لا يكون حجّة علينا.

و ثانيا أنّ قوله: ألا ترى انّ في أوّل الأمر كيف كان يذبّ عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيه أنّه لم يسمع إلى الان ذبّ منه عنه صلّى اللّه عليه و آله و لم يكن له نسب معروف، و لا حسب مشهور، و لا فضل مأثور، و لا صيت مذكور، و لم يكن يومئذ ممّن يعتنى بشأنه و يعبأ به في عداد الرّجال حتّى يذبّ عن رسول اللّه، أ لم يكن يومئذ مثل شيخ بطحاء أبي طالب و أسد اللّه حمزة و ذي الجناحين جعفر و أسد اللّه الغالب أمير المؤمنين و ساير فتية بني هاشم و أنجاد بني عبد مناف محدقين حوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حامين له ذابّين عنه حتّى يكون الذّاب عنه مثل أخي تيم الجلف الجافي الرّذل، و لو كان له تلك المقام و المنزلة لم يعزله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن إبلاغ سورة برائة.

و ثالثا قوله: و في آخر الأمر أصرّ على المحاربة مع مانعي الزّكاة.
فيه أنك قد علمت أنّ مانعي الزّكاة لم يكونوا من المرتدّين بل كانوا مسلمين و لذلك صار محاربته معهم من أعظم المطاعن عليه فاستحقّ بذلك عقابا و نكالا، و صار له وزرا و وبالا.
و رابعا قوله حتى جاء أكابر الصحابة و تضرّعوا إليه و منعوه من الذّهاب النكّة في منعهم منه على تقدير صحّته أنّهم قد كانوا عارفين بجبنه، عالمين بضعف قلبه، مجرّبين له في المعارك و المهالك، و أنّه و صاحبه عمر عند منازلة الشجعان و مبارزة الأقران كان شيمتهما الفرار، و سجيّتهما عدم الحماية للذّمار، و قد فرّا يوم خيبر و احد و الأحزاب و غزوة ذات السلسلة و غيرها على أقبح الوجوه كما أثبتته‏أرباب السّير، و على لسان الشّعراء و المورّخين شاع و اشتهر قال الشّارح المعتزلي في اقتصاص غزوة خيبر يقصّ فرارهما في قصايد السّبع العلويّات:

و ما أنس لا أنس اللّذين تقدّما
و فرّهما و الفرّ قد علما حوب‏

و للراية العظمى و قد ذهبا بها
ملابس ذلّ فوقها و جلابيب‏

يشلّهما من آل موسى شمر دل
طويل نجاد السّيف أجيد يعبوب‏

يمجّ منونا سيفه و سنانه‏
و يلهب نارا غمده و الأنابيب‏

احضرهما أم حضرا خرج خاضب
اذان هما ام ناعم الخدّ مخضوب‏

عذرتكما أنّ الحمام لمبغض‏
و انّ بقاء النفس للنّفس مطلوب

فكان تضرّع الصحابة له في الرّجوع و الاياب مخافة أن يذهب فيهرب بمجرى عادته و مجرب شيمته، فيبطل بالمرّة دين الاسلام و يضمحلّ شرع سيّد الأنام فتضرّعوا إليه بلسان المقال، و قالوا له بلسان الحال:

دع المكارم لا ترحل لبغيتها
و اقعد فانك أنت الطاعم الكاسى‏

و يشهد بما ذكرنا أنه لو كان عرف فى نفسه البأس و النجدة لأصرّ على المضيّ و لم يصغ إلى تضرّعهم، و كان مثل أمير المؤمنين عليه السّلام لما عزم على المسير إلى البصرة تضرّع إليه ابنه الحسن بأن لا يتبع طلحة و الزبير و لا يرصد لهما القتال و بكى و قال أسألك أن لا تقدم العراق و لا تقتل بمضيعة.

فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: و اللّه لا أكون كالضبع تنام على طول اللّدم حتّى يصل إليها طالبها و يختلها راصدها، و لكنّي أضرب بالمقبل إلى الحقّ المدبر عنه، و بالسامع المطيع العاصى المريب أبدا حتى اتى علي يومي، على ما عرفت تفصيله في شرح سادس المختار في باب الخطب.
و لعمري إنّ هذه المنقبة الشريفة أعنى العزّة على الكافرين هو حظّ أمير المؤمنين عليه السّلام لا غير، و استمع ما قاله الأديب النحرير الشاعر الماهر و الاستاد الفاضل.

بدر له شاهد و الشعب من احد
و الخندقان و يوم الفتح إن علموا

و خيبر و حنين يشهدان له‏
و في قريظة يوم صيل قتم‏

مواطن قد علت في كلّ نائبة
على الصحابة لم اكتم و إن كتموا

و أما كونه عليه السّلام ذليلا على المؤمنين فلما عرفت فى تضاعيف الشرح و تعرفه أيضا من مكارم أخلاقه و محامد خصاله التي أقرّ بها المخالف كالمؤلف، و نقله المنحرف كالمعترف، و اعترف بها الخاصّة و العامّة و تصدقها المحبّ و المبغض

له شرف فوق النجوم محلّه
أقرّ به حتّى لسان حسوده‏

حدّث الزّبير بن بكار عن رجاله قال دخل محفن بن أبي محفن الضّبي على معاوية فقال: يا أمير المؤمنين جئتك من عند ألأم العرب «و أبخل العرب ظ» و أعيى العرب و أجبن العرب قال: و من هو يا أخا بني تميم قال: عليّ بن أبي طالب، قال معاوية: اسمعوا يا أهل الشام ما يقول أخوكم العراقي، فابتدروه أيّهم ينزله عليه و يكرمه، فلمّا تصدّع النّاس عنه قال له: كيف قلت فأعاد عليه، فقال له: ويحك يا جاهل كيف يكون ألأم العرب و أبوه أبو طالب و جدّه عبد المطلب و امرأته فاطمة بنت رسول اللّه، و أنّى يكون أبخل العرب فو اللّه لو كان له بيتان بيت تبن و بيت تبر لأنفذ تبره قبل تبنه و أنّى يكون أجبن العرب فو اللّه ما التقت فئتان قطّ إلّا كان فارسهم غير مدافع، و أنّى يكون أعيى العرب فو اللّه ما سنّ البلاغة لقريش غيره، فو اللّه لو لا ما تعلم لضربت الّذى فيه عيناك فايّاك عليك لعنة اللّه و العود إلى مثل هذا.
فقد أقرّ بفضله العنود الحسود، و قيام الحجّة بشهادة الخصم أوكد و إن‏تعددت الشّهود.

و مليحة شهدت لها ضرّاتها
و الفضل ما شهدت به الأعداء

السابع عشر- قوله: إلّا أنّ حظّ أبي بكر فيه أتمّ «إلى قوله» يوم بدر واحد.
أقول: لا يكاد ينقضي عجبي من هذا النّاصب المتعصّب كيف أعمته العصبيّة إلى أن جاوز حدّه و خرج عن زيّه و تكلّم فوق قدره حتّى رجّح ابن أبي قحافة على أبي تراب فوا عجبا عجبا كيف يقاس التراب بالتبر المذاب، و أيّ نسبة للسّراب إلى الشراب و أيّ شبه بين الدّرّ و الحصى و السّيف و العصا، و أيّ تطابق بين الشجاع المبارز الغالب على كلّ غالب، و الأجبن من كلّ الثعالب و هذا مقام التمثيل بقول أبي العلاء:

إذا وصف الطّائي بالبخل
ما در و عيّر قسّا بالفهاهة باقل‏

و قال السهيل للشمس أنت خفيّة
و قال الدّجى للصّبح لونك حائل‏

و طاولت الأرض السّماء ترفّعا
و طاول شهبا الحصى و الجنادل‏

فيا موت زر إنّ الحياة ذميمة
و يا نفس جدّي إنّ دهرك هازل‏

فيقال لهذا الخابط الهازل اللّاغي الّذي لا ينفعل من لغوه و هذيه: أىّ جهاد كان قبل غزوة بدر و أىّ ذبّ نقل عن أبي بكر و لو كان منه قدرة الذّب و الدّفاع لنقل شي‏ء منها في محاربات الرّسول المختار مع الكفّار، و لنزل فيه ما نزل في أبي الحسن الكرّار، من مثل «وَ كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ» و لا فتى إلّا عليّ و لا سيف إلّا ذو الفقار.

و قد كانت العساكر في هذه المعارك حسبما قال مجتمعة، و الصفوف متلاصقة، و الكتائب مترادفة، فاختار هو و صاحبه عمر و الحال هذه الفرّ على الكرّ، و وليّا عن العدوّ الدّبر، فمن كان هذه حاله كيف كان يذبّ عن سيّد الأنام حين ضعف الاسلام مع عدم العساكر، و لا معين و لا ناصر.

الثامن عشر– قوله: إنّه كان متقدّما عليه في الزّمان.
فيه انّه إن أراد تقدّمه عليه من حيث الجهاد فقد عرفت بطلانه، إذ أوّل‏غزوة في الاسلام غزوة بدر و قد كانا كلاهما حاضرين فيها معا، ثمّ فيما بين حضوريهما من التفاوت ما لا يخفى، فانّ أبا بكر لم ينقل منه فيها فرد قتيل، و أمّا أمير المؤمنين عليه السّلام فقد روى جمهور المؤرّخين أنّ قتلاه فيها شطر جميع المقتولين و كانوا سبعين.
و إن أراد تقدّمه عليه في السّن ففيه إنّ الزّمان الّذى تقدّم به على أمير المؤمنين عليه السّلام مع سبقه عليه السّلام عليه بالاسلام و مع كونه فيما تقدّم به عليه من أهل الشّرك و عبدة الأصنام، فأيّ شرف لهذا التقدّم أو منقبة، أمّ أيّ خير فيه و منفعة.

التاسع عشر– قوله: جهاد أبي بكر في وقت ضعف الرّسول.
فيه إنّك قد عرفت فساده لأنّه لم يكن قبل غزوة بدر غزوة معروفة إلّا غزوات مختصرة مثل غزوة بواد بواط و عشيرة و غزوة بدر الصغرى، و لم ينجرّ الأمر فيها إلى القتال فيجاهد أبو بكر و يقعد عنه أمير المؤمنين مع أنّ حضور أبي بكر فيها و غياب عليّ عنها غير ثابت.
و أيضا لم يكن الرّسول عند المسير إليها ضعيفا، و إن أراد أنّه كان لأبي بكر جهاد قبل تلك الوقايع فهو ممّا تفرّد به و لم ينقله عن غيره.

نعم لو قلنا إنّ أمير المؤمنين كان سابقا بالجهاد لأنّه جاهد الكفّار صبيحة ليلة بات فيها على فراش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لما ذهب إلى الغار، و جاهدهم أيضا عند الهجرة بأهل بيت الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من مكّة إلى المدينة لمّا أرادت قريش المنع منها، لقلنا مقالا رواه أرباب السّير، و ورد في صحيح الخبر.
و كيف كان فجهاد أمير المؤمنين عليه السّلام في سبيل اللّه و كون حظّه فيه الأوفر أبين من الشمس في رابعة النّهار، و لنعم ما قيل:

بعليّ شيّدت معالم دين
اللّه و الأرض بالعناد تمور

و به أيدّ الاله رسول اللّه‏
إذ ليس في الأنام نصير

أسد ما له إذا استفحل الناس
سوى رنّة السلاح زئير

ثابت الجاش لا يردعه الخطب‏
و لا يعتريه فتور

عزمات أمضى من القدر المحتوم
يجرى بحكمه المقدور

فقد ظهر بذلك كلّه أنّ مصداق قوله سبحانه فى الاية الشريفة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ هو أمير المؤمنين عليه السّلام.
و أمّا قوله سبحانه لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ فيظهر كونه مصداقا له و يصدّقه قوله صريحا في الفصل الاتي: و انّي لمن قوم لا يأخذهم فى اللّه لومة لائم.
و قوله عليه السّلام فى المختار الرّابع و العشرين: و لعمرى ما عليّ من قتال من خالف الحقّ و خابط الغيّ من إدهان و لا ايهان.

و قوله عليه السّلام في المختار الحادى و التسعين لما اريد على البيعة بعد قتل عثمان: دعوني و التمسوا غيرى فانا مستقبلون أمرا له وجوه و ألوان لا تقوم له القلوب و لا تثبت عليه العقول «إلى قوله» و اعلموا إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم و لم أصغ إلى قول القائل و عتب العاتب.
و قوله عليه السّلام في المختار المأة و السادسة و العشرين لما عوتب على التسوية في العطاء: أ تأمرونّي أن أطلب النصر بالجور فيمن ولّيت عليه و اللّه ما أطور به ما سمر سمير و ما أمّ نجم في السّماء نجما.

العشرون– قوله: و ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء و هذا لائق بأبي بكر متأكّد بقوله و لا يأتل أولو الفضل منكم و السعة اه و قد بيّنا أنّ هذه الاية في أبي بكر.
فيه بعد الغضّ عمّا روي عن ابن عباس و غيره من أنّها نزلت في جماعة من الصّحابة أقسموا على أن لا تتصدّقوا على رجل تكلّم بشي‏ء من الافك و لا يواسوهم، و البناء على نزولها في أبي بكر كما هو قول جمع من المفسّرين، انّ إحدى الايتين لا ارتباط لها بالاخرى، فانّ المراد بالفضل فى الاية الثانية هو الغنى و الثروة، و به في الاية الاولى اللّطف و التوفيق، و معنى قوله: و ذلك فضل اللّه إنّ محبّتهم للّه و لين جانبهم للمؤمنين و شدّتهم على الكافرين فضل من اللّه و توفيق و لطف منه و من جهته يمنّ به على من يشاء من عباده.

الحادى و العشرون– قوله: انا بيّنا بالدّليل.
فيه أنّك قد عرفت عدم تماميّة الدّليل بما لا مزيد عليه.

الثاني و العشرون– قوله: هذا الخبر من باب الاحاد.
فيه منع كونه من الأخبار الاحاد الّتي لا يعوّل عليها، بل هو خبر مستفيض رواه المخالف و المؤالف معتضد مضمونه بأخبار كثيرة قطعية، و نقتصر على بعض الأخبار العاميّة لكونه أدحض لحجّة الخصم.
ففى غاية المرام عن عبد اللّه بن أحمد بن حنبل بسنده عن سعيد بن المسيّب أنّ النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال يوم خيبر: لأدفعنّ الرّاية إلى رجل يحبّه اللّه و رسوله و يحبّ اللّه و رسوله، فدعا عليّا و أنّه لأرمد ما يبصر موضع قدميه، فتفل في عينيه ثمّ دفعها إليه ففتح اللّه عليه.

و رواه أيضا عن عبد اللّه بن أحمد بن حنبل عن عبد الرّحمن أبي ليلى و عن عليّ عليه السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و عنه عن عبد اللّه بن بريدة عن أبيه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عنه عن أبي هريرة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عنه بسند آخر أيضا عن عبد اللّه بن بريدة عن أبيه بريدة الأسلمي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و عنه عن سهل بن سعد عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و رواه أيضا من صحيح البخاري من الجزء الرّابع في رابع كراسه عن سلمة الأكوع عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و من الجزء الرّابع من صحيح البخارى أيضا في ثلثه الأخير في باب مناقب عليّ عن سلمة عنه صلّى اللّه عليه و آله و من الجزء الخامس منه أيضا عن سلمة عنه صلّى اللّه عليه و آله و من صحيح البخاري عن سهل بن سعد عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و رواه أيضا من صحيح مسلم من الجزء الرابع في نصف الكراس من أوّله باسناده عن عمر بن الخطاب بعد قتل عامر أرسلني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى عليّ عليه السّلام و هو أرمدو قال: لاعطينّ الرّاية رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله، الحديث.

و من صحيح مسلم في آخر كراس من الجزء الرابع منه عن أبي هريرة عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من صحيح مسلم عن سهل بن سعد عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و من صحيح مسلم عن سلمة بن الأكوع عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و رواه أيضا من تفسير الثعلبي في تفسير قوله «وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً» باسناده عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و رواه أيضا من مناقب ابن المغازلي بسند يرفعه إلى أياس بن سلمة عن أبيه في ذكر حديث خيبر قال فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لاعطينّ الرّاية اليوم رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله.
و من مناقبه أيضا عن أبي طالب محمّد بن عثمان يرفعه إلى عمران بن الحصين قال: بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عمر إلى خيبر فرجع فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لاعطين الرّاية غدا رجلا يحبّ اللّه و رسوله ليس بفرّار.
و من المناقب أيضا عن القاضي أبو الخطاب يرفعه إلى عمران بن الحصين قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأعطينّ الرّاية رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله، فأعطاها عليّا ففتح اللّه عزّ و جلّ خيبر به.
و من المناقب عن سعيد بن المسيّب عن أبي هريرة قال: بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أبا بكر إلى خيبر فلم يفتح عليه ثمّ بعث عمر فلم يفتح عليه فقال: لاعطينّ الراية رجلا كرّارا غير فرّار يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله.
و من المناقب عن أحمد بن محمّد بن عبد الوهاب بن طاران يرفعه إلى أبي هريرة قال قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لاعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه فاستشرف لها أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فدفعها إلى عليّ بن أبي طالب.
و من المناقب قال: أخبرنا أبو القاسم عمر بن عليّ بن الميموني و أحمد بن محمّد بن عبد الوهاب بن طاران الواسطيان بقراءتى عليهما فأقرّا به يرفعه إلى أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيث كان أرسل عمر بن الخطاب إلى خيبر هو و من معه فرجعوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فبات تلك اللّيلة و به من الغمّ غير قليل فلما أصبح‏خرج إلى النّاس و معه الرّاية فقال: لاعطينّ اليوم رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله غير فرّار، فتعرّض لها جميع المهاجرين و الأنصار فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أين عليّ، فقالوا: يا رسول اللّه هو أرمد، فأرسل إليه أبا ذر و سلمان فجاء و هو يقاد لا يقدر على أنّه يفتح عينيه، ثمّ قال: اللّهمّ اذهب عنه الرّمد و الحرّ و البرد و انصره على عدوّه و افتح عليه فانّه عبدك و يحبّك و يحبّ رسولك «خ ل رسوله» غير فرّار، ثمّ دفع صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الرّاية إليه عليه السّلام و استأذنه حسّان بن ثابت في أن يقول فيه شعرا، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم له: قل،

فأنشأ يقول:

و كان عليّ أرمد العين يبتغي
دواء فلمّا لم يحسّ مداويا

شفاه رسول اللّه منه بتفلة
فبورك مرقيّا و بورك رافيا

و قال سأعطي اليوم راية صار
ما كميّا محبّا للرّسول محاميا

يحبّ إلهي و الاله يحبّه‏
به يفتح اللّه الحصون الأوابيا

فأصفى بها دون البريّة كلّها
عليّا و سمّاه الوزير المؤاخيا

و من المناقب أيضا عن عبد اللّه بن بريدة عن أبيه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نزل بحضرة أهل خيبر و قال: لاعطينّ اللّواء رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله، فلمّا كان من الغد صادف أبا بكر فدعا عليّا و هو أرمد العين فأعطاه الرّاية.

و من المناقب بسند مرفوع إلى عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول يوم الخيبر: لاعطينّ الرّاية رجلا يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله.
و فيه من الجمع بين الصّحاح الستة باسناده عن سهل بن سعد عن أبيه قال: كان عليّ تخلّف عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في غزوة خيبر فلحق، فلمّا أتينا اللّيلة الّتي فتحت في صبيحتها قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لاعطينّ غدا الرّاية رجلا يفتح اللّه على يديه يحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله.
و من الجمع بين الصّحاح الستّة من الصحيح الترمدى قال بالاسناد عن سلمة قال: أرسلني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى عليّ و هو أرمد فقال: لاعطينّ الرّاية رجلايحبّ اللّه و رسوله و يحبّه اللّه و رسوله.

و فيه عن إبراهيم بن محمّد الحمويني مسندا عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري في ذكر حديث خيبر قال: فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لابعثنّ غدا رجلا يحبّ اللّه و رسوله لا يولّي الدّبر، هذا.
و اقتصرنا على مورد الحاجة في أكثر هذه الرّوايات و حذفنا اسناد أكثرها للاختصار، و تركنا الأخبار الخاصيّة الواردة في هذا المعنى حذرا من الاطالة و دفعا لمكابرة الخصم و عناده، و ادّعى صاحب غاية المرام تواتر الخبر في القصّة من طريق العامّة و الخاصّة.

أقول: و هذه الأخبار الّتى رواها المخالفون في كتبهم فضلا عن أخبار الموالين له عليه السّلام كافية لمن راقب العدل و الانصاف، و جانب التّعصب و الاعتساف في إثبات كونه عليه السّلام محبّا للّه و رسوله و كون اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم محبّين له.

و لكنّي أضيف إلى هذه الأخبار على رغم الناصب المعاند الرّازى المتعصّب الجاحد حديث الطير الّذى قال فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اللّهمّ اعطني «ايتنى ظ» بأحبّ الناس إليك و في بعض روايته: إليك و إلى رسولك يأكل معى فجاء عليّ عليه السّلام و أكل معه و قد رواه في غاية المرام بستّة و ثلاثين طريقا من طرق العامّة، و من جملتها أبو المظفر السمعاني في كتاب مناقب الصّحابة عن السّدى عن أنس بن مالك قال: كان عند النبيّ طير فقال: اللّهم ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير فجاء عليّ عليه السّلام فأكل معه.

و قد روى ذلك في الجمع بين الصّحاح الستّة لرزين من مسند أبي داود السّجستاني و رواه أحمد بن حنبل بطريق واحد من طريق السفينة مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و رواه ابن المغازلي الشافعي الواسطي من عشرين طريقا.
و من جملة طرق غاية المرام أيضا القاصم لظهر المكابرين و الرّاغم لانوف الناصبين ما أورده من كتاب المناقب الفاخرة في العترة الطاهرة، روى أبو جعفر بن‏محمّد بن أحمد بن روح مولى بني هاشم قال: حدّثني العباس بن عبد اللّه الباكناني عن محمّد بن يوسف السري عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير قال: حدّثني أبي صميم حوثن بن عدي عن أبي ذرّ ره قال: بينا نحن قعود مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا هدي إليه طائر مشويّ، فلمّا وضع بين يديه قال لأنس: انطلق به إلى المنزل، و تبعه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى إذا دخل المنزل وضع أنس الطائر بين يديه، فرفع النبيّ يديه نحو السماء و قال: اللهمّ ايت إلىّ بأحبّ النّاس اليك تحبّه أنت و يحبّه من في الأرض و من في السماوات حتّى يأكل معي من هذا الطير، قال أنس: فقلت: اللهمّ اجعله من قومي و قالت عايشة: اللهمّ اجعله أبي و قالت حفصة: اللهمّ اجعله أبي فما لبثنا حتى أتى عليّ عليه السّلام فقال له أنس: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فى حاجة حتى أتى عليّ عليه السّلام ثلاث مرّات.

فجثا النّبي صلّى اللّه عليه و آله على ركبتيه و رفع يديه إلى السماء حتّى بان بياض إبطيه و قال: حاجتي يا ربّ الساعة الساعة، فما لبثنا أن قرع الباب فقال أنس: من ذا فقال: أنا عليّ و سمع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله صوته فقال افتح، ففتحته، فلما دخل و كز أنس بيده حتى ظنّ أنس أنه قد أنفذ يده من ظهره، فلما بصر به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله وثب قائما و قبّل عينيه و قال: ما الذي أبطاك عنّي يا قرّة عيني، فقال عليه السّلام: يا رسول اللّه قد أقبلت ثلاثا و يردّني أنس، فصفق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كان لا يصفق حتّى يغضب، فقال: يا أنس حجبت عنّي حبيبي، فقال: يا رسول اللّه إني أحببت أن يكون رجلا من قومي فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا أنس أما علمت أنّ المرء يحبّ قومه، إنّ عليا يحبّني و إنّ اللّه يحبّه و الملائكة تحبّه و يحبّه اللّه، يا أنس إنّي و عليا لم نزل ننقلب إلى مطهّرات الأرحام حتّى نقلنا إلى عبد المطلب فصار علىّ في صلب أبي طالب و صرت أنا في صلب عبد اللّه عمّ عليّ، فصارت فيّ النّبوة و في عليّ الولاية و الوصيّة أما علمت يا أنس أنّ اللّه عزّ و جلّ اشتقّ لى اسما من أسمائه و لعليّ اسما فسمّاني أحمد لتحمدني امّتي و أما عليّ فاللّه العليّ سمّاه عليا، يا أنس كما حجبت عنّي عليا ضربك اللّه بالوضح، و كان لا يدخل المسجد بعد الدّعوة إلّا متبرقع الوجه.

و هذه الرّواية كما ترى ظاهرة بل صريحة من جهات عديدة في فرط محبّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله له و محبّته للّه و محبّة اللّه له.
و الأخبار فى كونه أحبّ الناس إلى اللّه و إلى رسوله متجاوزة عن حدّ الاحصاء، و لو أردنا أن نجمع ما نقدر عليه منها لصار كتابا كبير الحجم و لكن اورد منها روايتين اختم بهما المقام ليكون ختامه مسكا فأقول: روى فى كشف الغمة من مناقب الخوارزمي عن عبد اللّه بن عمر قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سئل بأي لغة خاطبك ربك ليلة المعراج، قال: خاطبني بلغة عليّ بن أبي طالب فألهمني أن قلت يا ربّ أنت خاطبتني أم عليّ فقال: يا أحمد أنا شي‏ء لا كالأشياء و لا أقاس بالناس و لا اوصف بالأشباه، خلقتك من نوري و خلقت عليا من نورك فاطلعت على سرائر قلبك فلم أجد إلى قلبك أحبّ من عليّ بن أبي طالب، فخاطبتك بلسانه كيما يطمئنّ قلبك.

و فيه من المناقب قال: و أخبرنا بهذا الحديث عاليا الامام الحافظ سليمان بن إبراهيم الاصفهاني مرفوعا إلى عايشة، قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هو فى بيتي لمّا حضره الموت. ادعوا إليّ حبيبي، فدعوت أبا بكر فنظر إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثمّ وضع رأسه، ثمّ قال: ادعوا إليّ حبيبي فقلت: ويلكم ادعوا له عليّ بن أبي طالب فو اللّه ما يريد غيره، فلما رآه فرج الثوب الذى كان عليه ثمّ ادخله فيه فلم يزل يحتضنه حتّى قبض و يده عليه.
إذا عرفت هذا فأقول:

قال فيه البليغ ما قال
ذو العيّ فكلّ بفضله منطيق‏

و كذاك العدوّ لم يعد أن قال‏
فيه جميلا كما قال المحبّ الصديق‏

و مع ذلك كلّه فانظر هداك اللّه إلى سلوك صراطه المستقيم إلى الرازى و استمراره على غيّه، و غرقه فى سبيل نصبه و تعصّبه، و مكابرته الحقّ اللايح، و تنكّبه الجدد الواضح، و عدوله عن السنن، و بقائه على غمط«» حقّ أبي الحسن، و إرادته‏ستر الشمس المجلّلة بنورها للعالم بالنقاب، و النير الأعظم بالحجاب، فجزاه اللّه عن رسوله و عن أمير المؤمنين سلام اللّه عليهما شرّ الجزاء.

الثالث و العشرون– قوله: و لأنه معارض بالأخبار الدّالة على كون أبي بكر محبّا للّه و رسوله و كون اللّه محبّا له اه.
فيه أوّلا إنّه ليس هنا خبر متضمّن لمحبّة أبي بكر للّه أو محبّة اللّه له يحتجّ به على الاماميّة فضلا عن الأخبار، و ما رووه في هذا المعنى ممّا تفرّدوا بروايته لا يكون حجّة علينا.

و مع ذلك فمعارض بالأخبار الكثيرة المتضمّنة لكون عليّ عليه السّلام أحبّ النّاس إلى اللّه و إلى رسوله المستفيضة بل المتواترة معنى من طرقهم حسبما عرفت في الاعتراض الثاني و العشرين، و هي أقوى منها سندا و أظهر دلالة فلا يكاد تكافوء الأخبار الاولة على تقدير وجودها لها كما لا يخفى صدق المدّعى على أهل البصيرة و النهى الرابع و العشرون- قوله: قال تعالى في حقّ أبي بكر و لسوف يرضى.

غير مسلّم نزولها في أبي بكر و لما نزله الرازى عن ابن الزّبير و عن أبي بكر الباقلاني، و المرويّ عن المفسّرين خلافه، فقد روى الواحدي بالاسناد المتّصل المرفوع عن عكرمة عن ابن عبّاس أنّها نزلت في رجل من الأنصار، و عن عطاء قال: اسم الرّجل أبو الدّحداح، و في بعض روايات أصحابنا أنّها في عليّ عليه السّلام و قال بعض المفسّرين: الأولى إبقاؤها على العموم فيرجع الضمير إلى كلّ من يعطي حقّ اللّه من ماله ابتغاء وجه ربّه، و إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال و قوله: و قال: إنّ اللّه يتجلّي للناس عامة و يتجلّي لأبي بكر خاصّة أنت خبير بأنّه لا غبار في كونه من الأحاديث الموضوعة، لأنّه إن أريد من تجلّيه سبحانه تجلّيه بذاته فهو مستلزم للتجسّم مخالف للاصول المحكمة و البراهين القاطعة السّاطعة، و إن اريد تجلّيه ببرّه و فضله و عناياته و لطفه المقرّب إلى طاعته و المبعد عن معصيته، ففيه أنّ التجلّى بهذا المعنى لعموم النّاس غير جايز إذ فيهم المؤمن و المنافق و المسلم و الكافر، فكيف يتصوّر التجلّى في حقّ الكافر المنافق‏و إن خصّ بالمؤمنين فهو مع كونه خلاف الظّاهر يتوجّه عليه أنّ من جملة المؤمنين الأنبياء و الرّسل و فيهم اولو العزثمّ أعاد على القوم ثالثة فلم ينطق أحد منهم بحرف فقمت و قلت: أنا أوازرك يا رسول اللّه على هذا الأمر.

فقال صلّى اللّه عليه و آله: اجلس فانت أخى و وصيّى و وزيرى و وارثى و خليفتى من بعدى فنهض القوم و هم يقولون لأبي طالب: يا أبا طالب ليهنئك اليوم ان دخلت فى دين ابن اخيك فقد جعل ابنك أميرا عليك.
قال المفيد قدّس سرّه العزيز: و هذه منقبة جليلة اختصّ بها أمير المؤمنين عليه الصّلاة و السّلام و لم يشركه فيها أحد من المهاجرين و الأنصار و لا أحد من أهل الاسلام، و ليس لغيره عليه السّلام عدل لها من الفضل و لا مقارب على حال.

و فى الخبر بها ما يفيد أنّ به عليه الصّلاة و السّلام تمكّن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من تبليغ الرسالة و إظهار الدّعوة و الصدع بالاسلام، و لولاه لم تثبت الملّة و لا استقرّت الشريعة و لا ظهرت الدّعوة.
فهو عليه الصّلاة و السّلام ناصر الاسلام و وزيره الدّاعى اليه من قبل اللّه عزّ و جلّ، و بضمانه لنبيّ الهدى عليه و آله السلام النصرة، تمّ له فى النّبوة ما أراد و في ذلك من الفضل ما لا توازنه الجبال فضلا، و لا تعادله الفضايل كلّها محلّا.

الترجمة

اين فصل از خطبه شريفه مسوقست در بيان مناقب جليله و فضايل جميله خود آن بزرگوار مى‏ فرمايد: آگاه باشيد كه بتحقيق امر فرمود خداوند متعال مرا بقتال و جدال أهل ظلم و طغيان و أهل نقض بيعت و أهل فساد در زمين، پس أما ناقضان بيعت كه أهل جمل بودند پس بتحقيق مقاتله كردم با ايشان، و أمّا عدول كنندگان از حقّ كه أهل صفين بودند پس بتحقيق جهاد كردم با ايشان، و أمّا بيرون روندگان از دين كه أهل نهروان بودند پس بتحقيق كه ذليل گردانيدم ايشان را، و أما شيطان ردهه پس بتحقيق كفايت كرده شدم از او به آواز مهيبى كه شنيدم بجهت شدّت آن آواز اضطراب‏ قلب و حركت سينه او را، و باقى مانده بقيّه از أهل ستم كه معاويه و أهل شام است و اگر اذن بدهد خداى تعالى در رجوع بر ايشان هر آينه البته غالب مى‏شوم بر ايشان و باز گيرم دولت را از ايشان مگر اين كه متفرّق شود در اطراف زمين متفرّق شدنى.

من پست كردم رؤساى عرب را، شكستم شاخهاى ظاهر شده قبيله ربيعه و مضر را، و بتحقيق كه شما دانسته ‏ايد مرتبه و مقام مرا در نزد رسول خدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم با قرابت نزديك و با رتبه و منزلت مخصوصه، نهاد مرا در كنار تربيت خود در حالتى كه طفل بودم، مى‏ چسباند مرا بسينه خود، و ضمّ مى‏كرد مرا در رختخواب خود، و مسّ مى ‏كرد بمن بدن شريف خود را، و مى ‏بوئيد مرا بوى معطر خود را، و بود كه مضغ مى‏فرمود چيزى را از طعام پس مى‏ خوراند بمن آنرا.

پس بتحقيق كه مقرون گردانيد بان بزرگوار از وقتى كه فطيم و از شير واشده بود أعظم ملكى را از ملائكه خود كه مى‏برد آنرا براه مكرمتها و خوبترين خلقهاى عالم در شب و روز او، و بتحقيق كه تبعيّت مى‏نمودم او را مثل تبعيّت شتر بچه در عقب مادر خود، بلند مى‏گردانيد از براى من در هر روز رايتى از خلقهاى عظيمه خود، و امر مى‏فرمود مرا به پيروى كردن بخود.

و هر آينه بود آن سيّد أنام عليه صلوات اللّه الملك العلّام مجاور مى ‏شد هر سال بكوه حرا پس مى ‏ديدم من او را و نمى‏ ديد او را احدى غير از من، و جمع نكرده بود يك خانه آن روز در اسلام غير رسول خدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و خديجه كبرى عليها سلام اللّه و من ثالث ايشان بودم، مى ‏ديدم نور وحى را و مى ‏بوئيدم بوى پيغمبرى را.

و بتحقيق شنيدم ناله شيطان را در وقت نزول وحى بر آن بزرگوار پس گفتم يا رسول اللّه اين چه ناله است پس فرمود كه: اين شيطانست بتحقيق نا اميد شده است از اين كه عبادت و اطاعت كنند مردمان او را.
بدرستى كه تو اى على مى ‏شنوى آنچه كه مى ‏شنوم من، و مى ‏بينى آنچه كه مى ‏بينم من، مگر آنكه تو پيغمبر نيستى، و لكن تو وزير منى، و بدرستى كه تو ثابت هستى بر خير دنيا و آخرت

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه کلمات خطبه ها شماره 191/3 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)قاصعة

خطبه 192 صبحی صالح

192- و من خطبة له ( عليه ‏السلام  ) تسمى القاصعة و هي تتضمن ذم إبليس لعنه اللّه، على استكباره و تركه السجود لآدم ( عليه ‏السلام  )، و أنه أول من أظهر العصبية و تبع الحمية، و تحذير الناس من سلوك طريقته.

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَبِسَ الْعِزَّ وَ الْكِبْرِيَاءَ وَ اخْتَارَهُمَا لِنَفْسِهِ دُونَ‏خَلْقِهِ وَ جَعَلَهُمَا حِمًى وَ حَرَماً عَلَى غَيْرِهِ وَ اصْطَفَاهُمَا لِجَلَالِهِ

رأس العصيان‏

وَ جَعَلَ اللَّعْنَةَ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ فِيهِمَا مِنْ عِبَادِهِ

ثُمَّ اخْتَبَرَ بِذَلِكَ مَلَائِكَتَهُ الْمُقَرَّبِينَ لِيَمِيزَ الْمُتَوَاضِعِينَ مِنْهُمْ مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ

فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَ هُوَ الْعَالِمُ بِمُضْمَرَاتِ الْقُلُوبِ وَ مَحْجُوبَاتِ الْغُيُوبِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ‏

اعْتَرَضَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بِخَلْقِهِ وَ تَعَصَّبَ عَلَيْهِ لِأَصْلِهِ فَعَدُوُّ اللَّهِ إِمَامُ الْمُتَعَصِّبِينَ وَ سَلَفُ الْمُسْتَكْبِرِينَ الَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ وَ نَازَعَ اللَّهَ رِدَاءَ الْجَبْرِيَّةِ وَ ادَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّزِ وَ خَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ

أَ لَا تَرَوْنَ كَيْفَ صَغَّرَهُ اللَّهُ بِتَكَبُّرِهِ وَ وَضَعَهُ بِتَرَفُّعِهِ فَجَعَلَهُ فِي الدُّنْيَا مَدْحُوراً وَ أَعَدَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ سَعِيراً

ابتلاء اللّه لخلقه‏

وَ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ مِنْ نُورٍ يَخْطَفُ الْأَبْصَارَ ضِيَاؤُهُ وَ يَبْهَرُ الْعُقُولَ رُوَاؤُهُ وَ طِيبٍ يَأْخُذُ الْأَنْفَاسَ عَرْفُهُ لَفَعَلَ

وَ لَوْ فَعَلَ لَظَلَّتْ لَهُ الْأَعْنَاقُ خَاضِعَةً وَ لَخَفَّتِ الْبَلْوَى فِيهِ عَلَى الْمَلَائِكَةِوَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَبْتَلِي خَلْقَهُ بِبَعْضِ مَا يَجْهَلُونَ أَصْلَهُ تَمْيِيزاً بِالِاخْتِبَارِ لَهُمْ وَ نَفْياً لِلِاسْتِكْبَارِ عَنْهُمْ وَ إِبْعَاداً لِلْخُيَلَاءِ مِنْهُمْ

طلب العبرة

فَاعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ بِإِبْلِيسَ إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ الطَّوِيلَ وَ جَهْدَهُ الْجَهِيدَ وَ كَانَ قَدْ عَبَدَ اللَّهَ سِتَّةَ آلَافِ سَنَةٍ لَا يُدْرَى أَ مِنْ سِنِي الدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِي الْآخِرَةِ عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ

فَمَنْ ذَا بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَعْصِيَتِهِ كَلَّا مَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِيُدْخِلَ الْجَنَّةَ بَشَراً بِأَمْرٍ أَخْرَجَ بِهِ مِنْهَا مَلَكاً

إِنَّ حُكْمَهُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ وَ أَهْلِ الْأَرْضِ لَوَاحِدٌ وَ مَا بَيْنَ اللَّهِ وَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ هَوَادَةٌ فِي إِبَاحَةِ حِمًى حَرَّمَهُ عَلَى الْعَالَمِينَ

التحذير من الشيطان‏

فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللَّهِ عَدُوَّ اللَّهِ أَنْ يُعْدِيَكُمْ بِدَائِهِ وَ أَنْ يَسْتَفِزَّكُمْ بِنِدَائِهِ وَ أَنْ يُجْلِبَ عَلَيْكُمْ بِخَيْلِهِ وَ رَجِلِهِ

فَلَعَمْرِي لَقَدْ فَوَّقَ لَكُمْ سَهْمَ الْوَعِيدِ وَ أَغْرَقَ إِلَيْكُمْ بِالنَّزْعِ الشَّدِيدِ وَ رَمَاكُمْ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ فَ قَالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ‏قَذْفاً بِغَيْبٍ بَعِيدٍ وَ رَجْماً بِظَنٍّ غَيْرِ مُصِيبٍ

صَدَّقَهُ بِهِ أَبْنَاءُ الْحَمِيَّةِ وَ إِخْوَانُ الْعَصَبِيَّةِ وَ فُرْسَانُ الْكِبْرِوَ الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى إِذَا انْقَادَتْ لَهُ الْجَامِحَةُ مِنْكُمْ وَ اسْتَحْكَمَتِ الطَّمَاعِيَّةُ مِنْهُ فِيكُمْ فَنَجَمَتِ الْحَالُ مِنَ السِّرِّ الْخَفِيِّ إِلَى الْأَمْرِ الْجَلِيِّ

اسْتَفْحَلَ سُلْطَانُهُ عَلَيْكُمْ وَ دَلَفَ بِجُنُودِهِ نَحْوَكُمْ فَأَقْحَمُوكُمْ وَلَجَاتِ الذُّلِّ وَ أَحَلُّوكُمْ وَرَطَاتِ الْقَتْلِ

وَ أَوْطَئُوكُمْ إِثْخَانَ الْجِرَاحَةِ طَعْناً فِي عُيُونِكُمْ وَ حَزّاً فِي حُلُوقِكُمْ وَ دَقّاً لِمَنَاخِرِكُمْ وَ قَصْداً لِمَقَاتِلِكُمْ وَ سَوْقاً بِخَزَائِمِ الْقَهْرِ إِلَى النَّارِ الْمُعَدَّةِ لَكُمْ

فَأَصْبَحَ أَعْظَمَ فِي دِينِكُمْ حَرْجاً وَ أَوْرَى فِي دُنْيَاكُمْ قَدْحاً مِنَ الَّذِينَ أَصْبَحْتُمْ لَهُمْ مُنَاصِبِينَ وَ عَلَيْهِمْ مُتَأَلِّبِينَ

فَاجْعَلُوا عَلَيْهِ حَدَّكُمْ وَ لَهُ جِدَّكُمْ فَلَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ فَخَرَ عَلَى أَصْلِكُمْ وَ وَقَعَ فِي حَسَبِكُمْ وَ دَفَعَ فِي نَسَبِكُمْ وَ أَجْلَبَ بِخَيْلِهِ عَلَيْكُمْ وَ قَصَدَ بِرَجِلِهِ سَبِيلَكُمْ يَقْتَنِصُونَكُمْ بِكُلِّ مَكَانٍ وَ يَضْرِبُونَ مِنْكُمْ كُلَّ بَنَانٍ

لَا تَمْتَنِعُونَ بِحِيلَةٍ وَ لَا تَدْفَعُونَ بِعَزِيمَةٍ فِي حَوْمَةِ ذُلٍّ وَ حَلْقَةِ ضِيقٍ وَ عَرْصَةِ مَوْتٍ وَ جَوْلَةِ بَلَاءٍ

فَأَطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ نِيرَانِ الْعَصَبِيَّةِ وَ أَحْقَادِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّمَا تِلْكَ الْحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي الْمُسْلِمِ مِنْ خَطَرَاتِ الشَّيْطَانِ وَ نَخَوَاتِهِ وَ نَزَغَاتِهِ وَ نَفَثَاتِهِ

وَ اعْتَمِدُوا وَضْعَ التَّذَلُّلِ عَلَى رُءُوسِكُمْ وَ إِلْقَاءَ التَّعَزُّزِ تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ وَ خَلْعَ التَّكَبُّرِ مِنْ أَعْنَاقِكُمْ وَ اتَّخِذُوا التَّوَاضُعَ مَسْلَحَةً بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ عَدُوِّكُمْ إِبْلِيسَ‏وَ جُنُودِهِ فَإِنَّ لَهُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ جُنُوداً وَ أَعْوَاناً وَ رَجِلًا وَ فُرْسَاناً

وَ لَا تَكُونُوا كَالْمُتَكَبِّرِ عَلَى ابْنِ أُمِّهِ مِنْ غَيْرِ مَا فَضْلٍ جَعَلَهُ اللَّهُ فِيهِ سِوَى مَا أَلْحَقَتِ الْعَظَمَةُ بِنَفْسِهِ مِنْ عَدَاوَةِ الْحَسَدِ وَ قَدَحَتِ الْحَمِيَّةُ فِي قَلْبِهِ مِنْ نَارِ الْغَضَبِ

وَ نَفَخَ الشَّيْطَانُ فِي أَنْفِهِ مِنْ رِيحِ الْكِبْرِ الَّذِي أَعْقَبَهُ اللَّهُ بِهِ النَّدَامَةَ وَ أَلْزَمَهُ آثَامَ الْقَاتِلِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ

التحذير من الكبر

أَلَا وَ قَدْ أَمْعَنْتُمْ فِي الْبَغْيِ وَ أَفْسَدْتُمْ فِي الْأَرْضِ مُصَارَحَةً لِلَّهِ بِالْمُنَاصَبَةِ وَ مُبَارَزَةً لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْمُحَارَبَةِ

فَاللَّهَ اللَّهَ فِي كِبْرِ الْحَمِيَّةِ وَ فَخْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مَلَاقِحُ الشَّنَئَانِ وَ مَنَافِخُ الشَّيْطَانِ الَّتِي خَدَعَ بِهَا الْأُمَمَ الْمَاضِيَةَ وَ الْقُرُونَ الْخَالِيَةَ حَتَّى أَعْنَقُوا فِي حَنَادِسِ جَهَالَتِهِ وَ مَهَاوِي ضَلَالَتِهِ

ذُلُلًا عَنْ سِيَاقِهِ سُلُساً فِي قِيَادِهِ أَمْراً تَشَابَهَتِ الْقُلُوبُ فِيهِ وَ تَتَابَعَتِ الْقُرُونُ عَلَيْهِ وَ كِبْراً تَضَايَقَتِ الصُّدُورُ بِهِ

التحذير من طاعة الكبراء

أَلَا فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ طَاعَةِ سَادَاتِكُمْ وَ كُبَرَائِكُمْ الَّذِينَ تَكَبَّرُوا عَنْ حَسَبِهِمْ وَ تَرَفَّعُوا فَوْقَ نَسَبِهِمْ وَ أَلْقَوُا الْهَجِينَةَ عَلَى رَبِّهِمْ‏وَ جَاحَدُوا اللَّهَ عَلَى مَا صَنَعَ بِهِمْ مُكَابَرَةً لِقَضَائِهِ وَ مُغَالَبَةً لِآلَائِهِ

فَإِنَّهُمْ قَوَاعِدُ أَسَاسِ الْعَصَبِيَّةِ وَ دَعَائِمُ أَرْكَانِ الْفِتْنَةِ وَ سُيُوفُ اعْتِزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ

فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ لَا تَكُونُوا لِنِعَمِهِ عَلَيْكُمْ أَضْدَاداً وَ لَا لِفَضْلِهِ عِنْدَكُمْ حُسَّاداً وَ لَا تُطِيعُوا الْأَدْعِيَاءَ الَّذِينَ شَرِبْتُمْ بِصَفْوِكُمْ كَدَرَهُمْ وَ خَلَطْتُمْ بِصِحَّتِكُمْ مَرَضَهُمْ وَ أَدْخَلْتُمْ فِي حَقِّكُمْ بَاطِلَهُمْ

وَ هُمْ أَسَاسُ الْفُسُوقِ وَ أَحْلَاسُ الْعُقُوقِ اتَّخَذَهُمْ إِبْلِيسُ مَطَايَا ضَلَالٍ وَ جُنْداً بِهِمْ يَصُولُ عَلَى النَّاسِ وَ تَرَاجِمَةً يَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ

اسْتِرَاقاً لِعُقُولِكُمْ وَ دُخُولًا فِي عُيُونِكُمْ وَ نَفْثاً فِي أَسْمَاعِكُمْ فَجَعَلَكُمْ مَرْمَى نَبْلِهِ وَ مَوْطِئَ قَدَمِهِ وَ مَأْخَذَ يَدِهِ

العبرة بالماضين‏

فَاعْتَبِرُوا بِمَا أَصَابَ الْأُمَمَ الْمُسْتَكْبِرِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَ صَوْلَاتِهِ وَ وَقَائِعِهِ وَ مَثُلَاتِهِ وَ اتَّعِظُوا بِمَثَاوِي خُدُودِهِمْ وَ مَصَارِعِ جُنُوبِهِمْ

وَ اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ لَوَاقِحِ الْكِبْرِ كَمَا تَسْتَعِيذُونَهُ مِنْ طَوَارِقِ الدَّهْرِ

فَلَوْ رَخَّصَ اللَّهُ فِي الْكِبْرِ لِأَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ لَرَخَّصَ فِيهِ لِخَاصَّةِ أَنْبِيَائِهِ وَ أَوْلِيَائِهِ وَ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَرَّهَ إِلَيْهِمُ التَّكَابُرَ وَ رَضِيَ لَهُمُ التَّوَاضُعَ

فَأَلْصَقُوا بِالْأَرْضِ خُدُودَهُمْ وَ عَفَّرُوا فِي التُّرَابِ وُجُوهَهُمْ وَ خَفَضُوا أَجْنِحَتَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ كَانُوا قَوْماً

مُسْتَضْعَفِينَ قَدِ اخْتَبَرَهُمُ اللَّهُ بِالْمَخْمَصَةِ وَ ابْتَلَاهُمْ بِالْمَجْهَدَةِ وَ امْتَحَنَهُمْ بِالْمَخَاوِفِ وَ مَخَضَهُمْ بِالْمَكَارِهِ

فَلَا تَعْتَبِرُوا الرِّضَى وَ السُّخْطَ بِالْمَالِ وَ الْوَلَدِ جَهْلًا بِمَوَاقِعِ الْفِتْنَةِ وَ الِاخْتِبَارِ فِي مَوْضِعِ الْغِنَى وَ الِاقْتِدَارِ

فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ‏

فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ الْمُسْتَكْبِرِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ بِأَوْلِيَائِهِ الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي أَعْيُنِهِمْ

تواضع الأنبياء

وَ لَقَدْ دَخَلَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ وَ مَعَهُ أَخُوهُ هَارُونُ ( عليهماالسلام  )عَلَى فِرْعَوْنَ وَ عَلَيْهِمَا مَدَارِعُ الصُّوفِ وَ بِأَيْدِيهِمَا الْعِصِيُّ فَشَرَطَا لَهُ إِنْ أَسْلَمَ بَقَاءَ مُلْكِهِ وَ دَوَامَ عِزِّهِ

فَقَالَ أَ لَا تَعْجَبُونَ مِنْ هَذَيْنِ يَشْرِطَانِ لِي دَوَامَ الْعِزِّ وَ بَقَاءَ الْمُلْكِ وَ هُمَا بِمَا تَرَوْنَ مِنْ حَالِ الْفَقْرِ وَ الذُّلِّ فَهَلَّا أُلْقِيَ عَلَيْهِمَا أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ إِعْظَاماً لِلذَّهَبِ وَ جَمْعِهِ وَ احْتِقَاراً لِلصُّوفِ وَ لُبْسِهِ وَ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِأَنْبِيَائِهِ حَيْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ كُنُوزَ الذِّهْبَانِ وَ مَعَادِنَ الْعِقْيَانِ وَ مَغَارِسَ الْجِنَانِ وَ أَنْ يَحْشُرَ مَعَهُمْ طُيُورَ السَّمَاءِ وَ وُحُوشَ الْأَرَضِينَ لَفَعَلَ

وَ لَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ الْبَلَاءُ وَ بَطَلَ الْجَزَاءُوَ اضْمَحَلَّتِ الْأَنْبَاءُ وَ لَمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِينَ أُجُورُ الْمُبْتَلَيْنَ وَ لَا اسْتَحَقَّ الْمُؤْمِنُونَ ثَوَابَ الْمُحْسِنِينَ وَ لَا لَزِمَتِ الْأَسْمَاءُ مَعَانِيَهَا

وَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِي قُوَّةٍ فِي عَزَائِمِهِمْ وَ ضَعَفَةً فِيمَا تَرَى الْأَعْيُنُ مِنْ حَالَاتِهِمْ مَعَ قَنَاعَةٍ تَمْلَأُ الْقُلُوبَ وَ الْعُيُونَ غِنًى وَ خَصَاصَةٍ تَمْلَأُ الْأَبْصَارَ وَ الْأَسْمَاعَ أَذًى

وَ لَوْ كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ أَهْلَ قُوَّةٍ لَا تُرَامُ وَ عِزَّةٍ لَا تُضَامُ وَ مُلْكٍ تُمَدُّ نَحْوَهُ أَعْنَاقُ الرِّجَالِ وَ تُشَدُّ إِلَيْهِ عُقَدُ الرِّحَالِ لَكَانَ ذَلِكَ أَهْوَنَ عَلَى الْخَلْقِ فِي الِاعْتِبَارِ وَ أَبْعَدَ لَهُمْ فِي الِاسْتِكْبَارِ

وَ لَآمَنُوا عَنْ رَهْبَةٍ قَاهِرَةٍ لَهُمْ أَوْ رَغْبَةٍ مَائِلَةٍ بِهِمْ فَكَانَتِ النِّيَّاتُ مُشْتَرَكَةً وَ الْحَسَنَاتُ مُقْتَسَمَةً

وَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الِاتِّبَاعُ لِرُسُلِهِ وَ التَّصْدِيقُ بِكُتُبِهِ وَ الْخُشُوعُ لِوَجْهِهِ وَ الِاسْتِكَانَةُ لِأَمْرِهِ وَ الِاسْتِسْلَامُ لِطَاعَتِهِ أُمُوراً لَهُ خَاصَّةً لَا تَشُوبُهَا مِنْ غَيْرِهَا شَائِبَةٌ

وَ كُلَّمَا كَانَتِ الْبَلْوَى وَ الِاخْتِبَارُ أَعْظَمَ كَانَتِ الْمَثُوبَةُ وَ الْجَزَاءُ أَجْزَلَ

الكعبة المقدسة

أَ لَا تَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اخْتَبَرَ الْأَوَّلِينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ ( صلوات ‏الله‏ عليه  )إِلَى الْآخِرِينَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ بِأَحْجَارٍ لَا تَضُرُّ وَ لَا تَنْفَعُ وَ لَا تُبْصِرُ وَ لَا تَسْمَعُ فَجَعَلَهَا بَيْتَهُ الْحَرَامَ الَّذِي جَعَلَهُ لِلنَّاسِ قِيَاماً

ثُمَ‏ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ بِقَاعِ الْأَرْضِ حَجَراً وَ أَقَلِّ نَتَائِقِ الدُّنْيَا مَدَراً وَ أَضْيَقِ بُطُونِ الْأَوْدِيَةِ قُطْراً بَيْنَ جِبَالٍ خَشِنَةٍ وَ رِمَالٍ دَمِثَةٍ وَ عُيُونٍ وَشِلَةٍ وَ قُرًى مُنْقَطِعَةٍ لَا يَزْكُو بِهَا خُفٌّ وَ لَا حَافِرٌ وَ لَا ظِلْفٌ

ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ ( عليه‏السلام  )وَ وَلَدَهُ أَنْ يَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ نَحْوَهُ فَصَارَ مَثَابَةً لِمُنْتَجَعِ أَسْفَارِهِمْ وَ غَايَةً لِمُلْقَى رِحَالِهِمْ تَهْوِي إِلَيْهِ ثِمَارُ الْأَفْئِدَةِ

مِنْ مَفَاوِزِ قِفَارٍ سَحِيقَةٍ وَ مَهَاوِي فِجَاجٍ عَمِيقَةٍ وَ جَزَائِرِ بِحَارٍ مُنْقَطِعَةٍ حَتَّى يَهُزُّوا مَنَاكِبَهُمْ ذُلُلًا يُهَلِّلُونَ لِلَّهِ حَوْلَهُ وَ يَرْمُلُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ شُعْثاً غُبْراً لَهُ

قَدْ نَبَذُوا السَّرَابِيلَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَ شَوَّهُوا بِإِعْفَاءِ الشُّعُورِ مَحَاسِنَ خَلْقِهِمُ ابْتِلَاءً عَظِيماً وَ امْتِحَاناً شَدِيداً وَ اخْتِبَاراً مُبِيناً وَ تَمْحِيصاً بَلِيغاً جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَباً لِرَحْمَتِهِ وَ وُصْلَةً إِلَى جَنَّتِهِ

وَ لَوْ أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَضَعَ بَيْتَهُ الْحَرَامَ وَ مَشَاعِرَهُ الْعِظَامَ بَيْنَ جَنَّاتٍ وَ أَنْهَارٍ وَ سَهْلٍ وَ قَرَارٍ جَمَّ الْأَشْجَارِ دَانِيَ الثِّمَارِ مُلْتَفَّ الْبُنَى مُتَّصِلَ الْقُرَى

بَيْنَ بُرَّةٍ سَمْرَاءَ وَ رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ وَ أَرْيَافٍ مُحْدِقَةٍ وَ عِرَاصٍ مُغْدِقَةٍ وَ رِيَاضٍ نَاضِرَةٍ وَ طُرُقٍ عَامِرَةٍ لَكَانَ قَدْ صَغُرَ قَدْرُ الْجَزَاءِ عَلَى حَسَبِ ضَعْفِ الْبَلَاءِ

وَ لَوْ كَانَ الْإِسَاسُ الْمَحْمُولُ عَلَيْهَا وَ الْأَحْجَارُ الْمَرْفُوعُ بِهَا بَيْنَ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ وَ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ وَ نُورٍ وَ ضِيَاءٍ

لَخَفَّفَ ذَلِكَ مُصَارَعَةَ الشَّكِّ فِي الصُّدُورِ وَ لَوَضَعَ مُجَاهَدَةَ إِبْلِيسَ عَنِ الْقُلُوبِ وَ لَنَفَى مُعْتَلَجَ الرَّيْبِ مِنَ النَّاسِ

وَ لَكِنَّ اللَّهَ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِأَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ وَ يَتَعَبَّدُهُمْ بِأَنْوَاعِ الْمَجَاهِدِ وَ يَبْتَلِيهِمْ بِضُرُوبِ الْمَكَارِهِ إِخْرَاجاً لِلتَّكَبُّرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَ إِسْكَاناً لِلتَّذَلُّلِ فِي نُفُوسِهِمْ وَ لِيَجْعَلَ ذَلِكَ أَبْوَاباً فُتُحاً إِلَى فَضْلِهِ وَ أَسْبَاباً ذُلُلًا لِعَفْوِهِ

عود إلى التحذير

فَاللَّهَ اللَّهَ فِي عَاجِلِ الْبَغْيِ وَ آجِلِ وَخَامَةِ الظُّلْمِ وَ سُوءِ عَاقِبَةِ الْكِبْرِ فَإِنَّهَا مَصْيَدَةُ إِبْلِيسَ الْعُظْمَى وَ مَكِيدَتُهُ الْكُبْرَى الَّتِي تُسَاوِرُ قُلُوبَ الرِّجَالِ مُسَاوَرَةَ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ

فَمَا تُكْدِي أَبَداً وَ لَا تُشْوِي أَحَداً لَا عَالِماً لِعِلْمِهِ وَ لَا مُقِلًّا فِي طِمْرِهِ

وَ عَنْ ذَلِكَ مَا حَرَسَ اللَّهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَوَاتِ وَ الزَّكَوَاتِ وَ مُجَاهَدَةِ الصِّيَامِ فِي الْأَيَّامِ الْمَفْرُوضَاتِ تَسْكِيناً لِأَطْرَافِهِمْ وَ تَخْشِيعاً لِأَبْصَارِهِمْ وَ تَذْلِيلًا لِنُفُوسِهِمْ وَ تَخْفِيضاً لِقُلُوبِهِمْ وَ إِذْهَاباً لِلْخُيَلَاءِ عَنْهُمْ

وَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْفِيرِ عِتَاقِ الْوُجُوهِ بِالتُّرَابِ تَوَاضُعاً وَ الْتِصَاقِ كَرَائِمِ الْجَوَارِحِ بِالْأَرْضِ تَصَاغُراً وَ لُحُوقِ الْبُطُونِ بِالْمُتُونِ مِنَ الصِّيَامِ تَذَلُّلًا مَعَ مَا فِي الزَّكَاةِ مِنْ صَرْفِ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ وَ غَيْرِ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ وَ الْفَقْرِ

فضائل الفرائض‏

انْظُرُوا إِلَى مَا فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ مِنْ قَمْعِ نَوَاجِمِ الْفَخْرِ وَ قَدْعِ طَوَالِعِ الْكِبْرِ

وَ لَقَدْ نَظَرْتُ فَمَا وَجَدْتُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ يَتَعَصَّبُ لِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا عَنْ عِلَّةٍ تَحْتَمِلُ تَمْوِيهَ الْجُهَلَاءِ أَوْ حُجَّةٍ تَلِيطُ بِعُقُولِ السُّفَهَاءِ غَيْرَكُمْ فَإِنَّكُمْ تَتَعَصَّبُونَ لِأَمْرٍ مَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ وَ لَا عِلَّةٌ أَمَّا إِبْلِيسُ فَتَعَصَّبَ عَلَى آدَمَ لِأَصْلِهِ وَ طَعَنَ عَلَيْهِ فِي خِلْقَتِهِ فَقَالَ أَنَا نَارِيٌّ وَ أَنْتَ طِينِيٌّ

عصبية المال‏

وَ أَمَّا الْأَغْنِيَاءُ مِنْ مُتْرَفَةِ الْأُمَمِ فَتَعَصَّبُوا لِآثَارِ مَوَاقِعِ النِّعَمِ فَ قالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ‏

فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُكُمْ لِمَكَارِمِ الْخِصَالِ وَ مَحَامِدِ الْأَفْعَالِ

وَ مَحَاسِنِ الْأُمُورِ الَّتِي تَفَاضَلَتْ فِيهَا الْمُجَدَاءُ وَ النُّجَدَاءُ مِنْ بُيُوتَاتِ الْعَرَبِ وَ يَعَاسِيبِ القَبَائِلِ بِالْأَخْلَاقِ الرَّغِيبَةِ وَ الْأَحْلَامِ الْعَظِيمَةِ وَ الْأَخْطَارِ الْجَلِيلَةِ وَ الْآثَارِ الْمَحْمُودَةِ

فَتَعَصَّبُوا لِخِلَالِ الْحَمْدِ مِنَ الْحِفْظِ لِلْجِوَارِ وَ الْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ وَ الطَّاعَةِ لِلْبِرِّ وَ الْمَعْصِيَةِ لِلْكِبْرِ وَ الْأَخْذِ بِالْفَضْلِ وَ الْكَفِّ عَنِ الْبَغْيِ وَ الْإِعْظَامِ لِلْقَتْلِ وَ الْإِنْصَافِ لِلْخَلْقِ وَ الْكَظْمِ لِلْغَيْظِوَ اجْتِنَابِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ

وَ احْذَرُوا مَا نَزَلَ بِالْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مِنَ الْمَثُلَاتِ بِسُوءِ الْأَفْعَالِ وَ ذَمِيمِ الْأَعْمَالِ فَتَذَكَّرُوا فِي الْخَيْرِ وَ الشَّرِّ أَحْوَالَهُمْ وَ احْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ فَإِذَا تَفَكَّرْتُمْ فِي تَفَاوُتِ حَالَيْهِمْ فَالْزَمُوا كُلَّ أَمْرٍ لَزِمَتِ الْعِزَّةُ بِهِ شَأْنَهُمْ

وَ زَاحَتِ الْأَعْدَاءُ لَهُ عَنْهُمْ وَ مُدَّتِ الْعَافِيَةُ بِهِ عَلَيْهِمْ وَ انْقَادَتِ النِّعْمَةُ لَهُ مَعَهُمْ وَ وَصَلَتِ الْكَرَامَةُ عَلَيْهِ حَبْلَهُمْ مِنَ الِاجْتِنَابِ لِلْفُرْقَةِ وَ اللُّزُومِ لِلْأُلْفَةِ وَ التَّحَاضِّ عَلَيْهَا وَ التَّوَاصِي بِهَا

وَ اجْتَنِبُوا كُلَّ أَمْرٍ كَسَرَ فِقْرَتَهُمْ وَ أَوْهَنَ مُنَّتَهُمْ مِنْ تَضَاغُنِ الْقُلُوبِ وَ تَشَاحُنِ الصُّدُورِ وَ تَدَابُرِ النُّفُوسِ وَ تَخَاذُلِ الْأَيْدِي

وَ تَدَبَّرُوا أَحْوَالَ الْمَاضِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَكُمْ كَيْفَ كَانُوا فِي حَالِ التَّمْحِيصِ وَ الْبَلَاءِ أَ لَمْ يَكُونُوا أَثْقَلَ الْخَلَائِقِ أَعْبَاءً وَ أَجْهَدَ الْعِبَادِ بَلَاءً وَ أَضْيَقَ أَهْلِ الدُّنْيَا حَالًا

اتَّخَذَتْهُمُ الْفَرَاعِنَةُ عَبِيداً فَسَامُوهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَ جَرَّعُوهُمُ الْمُرَارَ فَلَمْ تَبْرَحِ الْحَالُ بِهِمْ فِي ذُلِّ الْهَلَكَةِ وَ قَهْرِ الْغَلَبَةِ لَا يَجِدُونَ حِيلَةً فِي امْتِنَاعٍ وَ لَا سَبِيلًا إِلَى دِفَاعٍ

حَتَّى إِذَا رَأَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ جِدَّ الصَّبْرِ مِنْهُمْ عَلَى الْأَذَى فِي مَحَبَّتِهِ وَ الِاحْتِمَالَ لِلْمَكْرُوهِ مِنْ خَوْفِهِ جَعَلَ لَهُمْ مِنْ مَضَايِقِ الْبَلَاءِ فَرَجاً فَأَبْدَلَهُمُ الْعِزَّ مَكَانَ الذُّلِّ وَ الْأَمْنَ مَكَانَ الْخَوْفِ

فَصَارُوا مُلُوكاً حُكَّاماً وَ أَئِمَّةً أَعْلَاماً وَ قَدْ بَلَغَتِ الْكَرَامَةُ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ‏مَا لَمْ تَذْهَبِ الْآمَالُ إِلَيْهِ بِهِمْ

فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانُوا حَيْثُ كَانَتِ الْأَمْلَاءُ مُجْتَمِعَةً وَ الْأَهْوَاءُ مُؤْتَلِفَةً وَ الْقُلُوبُ مُعْتَدِلَةً وَ الْأَيْدِي مُتَرَادِفَةً وَ السُّيُوفُ مُتَنَاصِرَةً وَ الْبَصَائِرُ نَافِذَةً وَ الْعَزَائِمُ وَاحِدَةً

أَ لَمْ يَكُونُوا أَرْبَاباً فِي أَقْطَارِ الْأَرَضِينَ وَ مُلُوكاً عَلَى رِقَابِ الْعَالَمِينَ

فَانْظُرُوا إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ فِي آخِرِ أُمُورِهِمْ حِينَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ وَ تَشَتَّتَتِ الْأُلْفَةُ وَ اخْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ وَ الْأَفْئِدَةُ وَ تَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِينَ وَ تَفَرَّقُوا مُتَحَارِبِينَ

وَ قَدْ خَلَعَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِبَاسَ كَرَامَتِهِ وَ سَلَبَهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِهِ وَ بَقِيَ قَصَصُ أَخْبَارِهِمْ فِيكُمْ عِبَراً لِلْمُعْتَبِرِينَ

الاعتبار بالأمم‏

فَاعْتَبِرُوا بِحَالِ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَ بَنِي إِسْحَاقَ وَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ( عليهم‏السلام  )فَمَا أَشَدَّ اعْتِدَالَ الْأَحْوَالِ وَ أَقْرَبَ اشْتِبَاهَ الْأَمْثَالِ تَأَمَّلُوا أَمْرَهُمْ فِي حَالِ تَشَتُّتِهِمْ وَ تَفَرُّقِهِمْ لَيَالِيَ كَانَتِ الْأَكَاسِرَةُ وَ الْقَيَاصِرَةُ أَرْبَاباً لَهُمْ

يَحْتَازُونَهُمْ عَنْ رِيفِ الْآفَاقِ وَ بَحْرِ الْعِرَاقِ وَ خُضْرَةِ الدُّنْيَا إِلَى مَنَابِتِ الشِّيحِ وَ مَهَافِي الرِّيحِ وَ نَكَدِ الْمَعَاشِ فَتَرَكُوهُمْ عَالَةً مَسَاكِينَ إِخْوَانَ دَبَرٍ وَ وَبَرٍ أَذَلَّ الْأُمَمِ دَاراً وَ أَجْدَبَهُمْ قَرَاراً

لَا يَأْوُونَ إِلَى جَنَاحِ دَعْوَةٍيَعْتَصِمُونَ بِهَا وَ لَا إِلَى ظِلِّ أُلْفَةٍ يَعْتَمِدُونَ عَلَى عِزِّهَا

فَالْأَحْوَالُ مُضْطَرِبَةٌ وَ الْأَيْدِي مُخْتَلِفَةٌ وَ الْكَثْرَةُ مُتَفَرِّقَةٌ فِي بَلَاءِ أَزْلٍ وَ أَطْبَاقِ جَهْلٍ مِنْ بَنَاتٍ مَوْءُودَةٍ وَ أَصْنَامٍ مَعْبُودَةٍ وَ أَرْحَامٍ مَقْطُوعَةٍ وَ غَارَاتٍ مَشْنُونَةٍ

النعمة برسول اللّه‏

فَانْظُرُوا إِلَى مَوَاقِعِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ حِينَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طَاعَتَهُمْ وَ جَمَعَ عَلَى دَعْوَتِهِ أُلْفَتَهُمْ

كَيْفَ نَشَرَتِ النِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ جَنَاحَ كَرَامَتِهَا وَ أَسَالَتْ لَهُمْ جَدَاوِلَ نَعِيمِهَا وَ الْتَفَّتِ الْمِلَّةُ بِهِمْ فِي عَوَائِدِ بَرَكَتِهَا فَأَصْبَحُوا فِي نِعْمَتِهَا غَرِقِينَ وَ فِي خُضْرَةِ عَيْشِهَا فَكِهِينَ

قَدْ تَرَبَّعَتِ الْأُمُورُ بِهِمْ فِي ظِلِّ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ وَ آوَتْهُمُ الْحَالُ إِلَى كَنَفِ عِزٍّ غَالِبٍ وَ تَعَطَّفَتِ الْأُمُورُ عَلَيْهِمْ فِي ذُرَى مُلْكٍ ثَابِتٍ

فَهُمْ حُكَّامٌ عَلَى الْعَالَمِينَ وَ مُلُوكٌ فِي أَطْرَافِ الْأَرَضِينَ يَمْلِكُونَ الْأُمُورَ عَلَى مَنْ كَانَ يَمْلِكُهَا عَلَيْهِمْ وَ يُمْضُونَ الْأَحْكَامَ فِيمَنْ كَانَ يُمْضِيهَا فِيهِمْ لَا تُغْمَزُ لَهُمْ قَنَاةٌ وَ لَا تُقْرَعُ لَهُمْ صَفَاةٌ

لوم العصاة

أَلَا وَ إِنَّكُمْ قَدْ نَفَضْتُمْ أَيْدِيَكُمْ مِنْ حَبْلِ الطَّاعَةِ وَ ثَلَمْتُمْ حِصْنَ اللَّهِ الْمَضْرُوبَ عَلَيْكُمْ بِأَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ

فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدِ امْتَنَ‏عَلَى جَمَاعَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِيمَا عَقَدَ بَيْنَهُمْ مِنْ حَبْلِ هَذِهِ الْأُلْفَةِ الَّتِي يَنْتَقِلُونَ فِي ظِلِّهَا وَ يَأْوُونَ إِلَى كَنَفِهَا بِنِعْمَةٍ لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ لَهَا قِيمَةً لِأَنَّهَا أَرْجَحُ مِنْ كُلِّ ثَمَنٍ وَ أَجَلُّ مِنْ كُلِّ خَطَرٍ

وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَعْرَاباً وَ بَعْدَ الْمُوَالَاةِ أَحْزَاباً مَا تَتَعَلَّقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِاسْمِهِ وَ لَا تَعْرِفُونَ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا رَسْمَهُ

تَقُولُونَ النَّارَ وَ لَا الْعَارَ كَأَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُكْفِئُوا الْإِسْلَامَ عَلَى وَجْهِهِ انْتِهَاكاً لِحَرِيمِهِ وَ نَقْضاً لِمِيثَاقِهِ الَّذِي وَضَعَهُ اللَّهُ لَكُمْ حَرَماً فِي أَرْضِهِ وَ أَمْناً بَيْنَ خَلْقِهِ

وَ إِنَّكُمْ إِنْ لَجَأْتُمْ إِلَى غَيْرِهِ حَارَبَكُمْ أَهْلُ الْكُفْرِ ثُمَّ لَا جَبْرَائِيلُ وَ لَا مِيكَائِيلُ وَ لَا مُهَاجِرُونَ وَ لَا أَنْصَارٌ يَنْصُرُونَكُمْ إِلَّا الْمُقَارَعَةَ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَكُمْ

وَ إِنَّ عِنْدَكُمُ الْأَمْثَالَ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَ قَوَارِعِهِ وَ أَيَّامِهِ وَ وَقَائِعِهِ فَلَا تَسْتَبْطِئُوا وَعِيدَهُ جَهْلًا بِأَخْذِهِ وَ تَهَاوُناً بِبَطْشِهِ وَ يَأْساً مِنْ بَأْسِهِ

فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَلْعَنِ الْقَرْنَ الْمَاضِيَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ إِلَّا لِتَرْكِهِمُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَلَعَنَ اللَّهُ السُّفَهَاءَ لِرُكُوبِ الْمَعَاصِي وَ الْحُلَمَاءَ لِتَرْكِ التَّنَاهِي

أَلَا وَ قَدْ قَطَعْتُمْ قَيْدَ الْإِسْلَامِ وَ عَطَّلْتُمْ حُدُودَهُ وَ أَمَتُّمْ أَحْكَامَهُ

أَلَا وَ قَدْ أَمَرَنِيَ اللَّهُ بِقِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَ النَّكْثِ وَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ

فَأَمَّا النَّاكِثُونَ فَقَدْ قَاتَلْتُ وَ أَمَّا الْقَاسِطُونَ فَقَدْ جَاهَدْتُ وَ أَمَّا الْمَارِقَةُ فَقَدْ دَوَّخْتُ

وَ أَمَّا شَيْطَانُ الرَّدْهَةِ فَقَدْ كُفِيتُهُ بِصَعْقَةٍ سُمِعَتْ لَهَا وَجْبَةُ قَلْبِهِ وَ رَجَّةُ صَدْرِهِ وَ بَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَ لَئِنْ أَذِنَ اللَّهُ فِي الْكَرَّةِ عَلَيْهِمْ لَأُدِيلَنَّ مِنْهُمْ إِلَّا مَا يَتَشَذَّرُ فِي أَطْرَافِ الْبِلَادِ تَشَذُّراً

فضل الوحي‏

أَنَا وَضَعْتُ فِي الصِّغَرِ بِكَلَاكِلِ الْعَرَبِ وَ كَسَرْتُ نَوَاجِمَ قُرُونِ رَبِيعَةَ وَ مُضَرَ

وَ قَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى ‏الله ‏عليه‏ وآله  )بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ وَ الْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَ أَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ وَ يَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ وَ يُمِسُّنِي جَسَدَهُ وَ يُشِمُّنِي عَرْفَهُ

وَ كَانَ يَمْضَغُ الشَّيْ‏ءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ وَ مَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ وَ لَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ

وَ لَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ بِهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ وَ مَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَهُ وَ نَهَارَهُ

وَ لَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِهِ عَلَماً وَ يَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ

وَ لَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ فَأَرَاهُ وَ لَا يَرَاهُ غَيْرِي وَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ

فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )وَ خَدِيجَةَ وَ أَنَا ثَالِثُهُمَا أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَ الرِّسَالَةِ وَ أَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ

وَ لَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الرَّنَّةُ فَقَالَ هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ

إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وَ تَرَى مَا أَرَى إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ وَ لَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ وَ إِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ وَ لَقَدْ كُنْتُ مَعَهُ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله )لَمَّا أَتَاهُ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالُوا لَهُ يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ قَدِ ادَّعَيْتَ عَظِيماً لَمْ يَدَّعِهِ آبَاؤُكَ وَ لَا أَحَدٌ مِنْ بَيْتِكَ

وَ نَحْنُ نَسْأَلُكَ أَمْراً إِنْ أَنْتَ أَجَبْتَنَا إِلَيْهِ وَ أَرَيْتَنَاهُ عَلِمْنَا أَنَّكَ نَبِيٌّ وَ رَسُولٌ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّكَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ‏

فَقَالَ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )وَ مَا تَسْأَلُونَ قَالُوا تَدْعُو لَنَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى تَنْقَلِعَ بِعُرُوقِهَا وَ تَقِفَ بَيْنَ يَدَيْكَ فَقَالَ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  ) إِنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌفَإِنْ فَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ ذَلِكَ أَ تُؤْمِنُونَ وَ تَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ قَالُوا نَعَمْ

قَالَ فَإِنِّي سَأُرِيكُمْ مَا تَطْلُبُونَ وَ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكُمْ لَا تَفِيئُونَ إِلَى خَيْرٍ وَ إِنَّ فِيكُمْ مَنْ يُطْرَحُ فِي الْقَلِيبِ وَ مَنْ يُحَزِّبُ الْأَحْزَابَ

ثُمَّ قَالَ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )يَا أَيَّتُهَا الشَّجَرَةُ إِنْ كُنْتِ تُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ تَعْلَمِينَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَانْقَلِعِي بِعُرُوقِكِ حَتَّى تَقِفِي بَيْنَ يَدَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ

فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَانْقَلَعَتْ‏بِعُرُوقِهَا وَ جَاءَتْ وَ لَهَا دَوِيٌّ شَدِيدٌ وَ قَصْفٌ كَقَصْفِ أَجْنِحَةِ الطَّيْرِ حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )مُرَفْرِفَةً

وَ أَلْقَتْ بِغُصْنِهَا الْأَعْلَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله )وَ بِبَعْضِ أَغْصَانِهَا عَلَى مَنْكِبِي وَ كُنْتُ عَنْ يَمِينِهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )

فَلَمَّا نَظَرَ الْقَوْمُ إِلَى ذَلِكَ قَالُوا عُلُوّاً وَ اسْتِكْبَاراً فَمُرْهَا فَلْيَأْتِكَ نِصْفُهَا وَ يَبْقَى نِصْفُهَا فَأَمَرَهَا بِذَلِكَ فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ نِصْفُهَا كَأَعْجَبِ إِقْبَالٍ وَ أَشَدِّهِ دَوِيّاً فَكَادَتْ تَلْتَفُّ بِرَسُولِ اللَّهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )

فَقَالُوا كُفْراً وَ عُتُوّاً فَمُرْ هَذَا النِّصْفَ فَلْيَرْجِعْ إِلَى نِصْفِهِ كَمَا كَانَ فَأَمَرَهُ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )فَرَجَعَ

فَقُلْتُ أَنَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِنِّي أَوَّلُ مُؤْمِنٍ بِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَ أَوَّلُ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى تَصْدِيقاً بِنُبُوَّتِكَ وَ إِجْلَالًا لِكَلِمَتِكَ

فَقَالَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ بَلْ ساحِرٌ كَذَّابٌ عَجِيبُ السِّحْرِ خَفِيفٌ فِيهِ وَ هَلْ يُصَدِّقُكَ فِي أَمْرِكَ إِلَّا مِثْلُ هَذَا يَعْنُونَنِي

وَ إِنِّي لَمِنْ قَوْمٍ لَا تَأْخُذُهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ سِيمَاهُمْ سِيمَا الصِّدِّيقِينَ وَ كَلَامُهُمْ كَلَامُ الْأَبْرَارِ عُمَّارُ اللَّيْلِ وَ مَنَارُ النَّهَارِ مُتَمَسِّكُونَ بِحَبْلِ الْقُرْآنِ يُحْيُونَ سُنَنَ اللَّهِ وَ سُنَنَ رَسُولِهِ

لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَ لَا يَعْلُونَ وَ لَا يَغُلُّونَ وَ لَا يُفْسِدُونَ قُلُوبُهُمْ فِي الْجِنَانِ وَ أَجْسَادُهُمْ فِي الْعَمَلِ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج12  

و من خطبة له عليه السّلام تسمى بالقاصعة و هى المأة و الحادية و التسعون من المختار فى باب الخطب

الجزء الثاني عشر

تتمة باب المختار من خطب أمير المؤمنين ع و أوامره

الفصل السابع

ألا و إنّكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطّاعة، و ثلمتم حصن اللّه المضروب عليكم بأحكام الجاهليّة، و إنّ اللّه سبحانه قد امتنّ على جماعة هذه الامّة فيما عقد بينهم من حبل هذه الالفة، الّتي ينتقلون «يتقلّبون خ ل» في ظلّها، و يأوون إلى كنفها، بنعمة لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة، لأنّها أرجح من كلّ ثمن، و أجلّ من كلّ خطر و اعلموا أنّكم صرتم بعد الهجرة أعرابا، و بعد الموالاة أحزابا، ما تتعلّقون من الإسلام إلّا باسمه، و لا تعرفون من الإيمان إلّا رسمه، تقولون: النّار و لا العار، كأنّكم تريدون أن تكفؤا الإسلام على وجهه انتهاكا لحريمه، و نقضا لميثاقه، الّذي وضعه اللّه لكم حرما في أرضه، و أمنا بين خلقه، و إنّكم إن لجأتم إلى غيره حاربكم أهل الكفر، ثمّ لا جبرئيل و لا ميكائيل و لا مهاجرين و لا أنصار ينصرونكم إلّا المقارعة بالسّيف، حتّى يحكم اللّه بينكم، و إنّ عندكم الأمثال‏من بأس اللّه و قوارعه، و أيّامه و وقايعه فلا تستبطئوا وعيده جهلا بأخذه، و تهاونا ببطشه، و يأسا من بأسه، فإنّ اللّه سبحانه لم يلعن القرن الماضي «القرون الماضية خ ل» بين أيديكم إلّا لتركهم الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر، فلعن اللّه السّفهاء لركوب المعاصي، و الحلماء لترك التّناهي، ألا و قد قطعتم قيد الإسلام، و عطّلتم حدوده، و أمتّم أحكامه

اللغة

(نفضت) الورقة من الشجرة أسقطته، و نفضت الثوب نفضا حرّكته ليزول عنه الغبار و نحوه فهو منتفض و (ثلمت) الاناء ثلما من باب ضرب كسرته من حافته فهو منثلم، و الثلمة في الحائط و غيره الخلل و الجمع ثلم مثل غرفة و غرف و (الخطر) محرّكة السّبق الّذى يتراهن عليه، و خطر الرّجل خطرا وزان شرف شرفا إذا ارتفع قدره و منزلته فهو خطير و (الأحزاب) جمع حزب و هو الطّائفة من النّاس و تحزّب القوم صاروا أحزابا، و يوم الأحزاب هو يوم الخندق و (كفات) الاناء قلبته و أكفأته مثله و (بطش به) من باب نصر و ضرب أخذه بالعنف و السّطوة كأبطشه، و البطش الأخذ الشديد في كلّ شي‏ء و (تناهوا عن المنكر) نهي بعضهم بعضا.

الاعراب

قال الشارح المعتزلي: الباء في قوله: بنعمة، متعلّقة بقوله: امتنّ، و في من قوله فيما عقد بينهم متعلّقة بمحذوف و موضعها نصب على الحال، انتهى‏و الظاهر من سياق كلامه أنّ ذا الحال هو قوله: بنعمة، أى امتنّ بنعمة حاصلة فيما عقداه، و لا يضرّ تقدّمها عليه لكونها ظرفا يغتفر فيه ما لا يغتفر في غيره، و يجوز أن يكون ذو الحال قوله: على جماعة إى امتنّ على جماعة هذه الأمّة حالكونهم ثابتين مستقرّين فيما عقد بينهم.

و قوله: النّار و لا العار منصوبان بفعل مضمر، أى ادخلوا النّار و لا تلتزموا العار، و انتهاكا مفعول لأجله لقوله: تريدون، أو لقوله: تكفؤا، و الثاني أظهر و أقرب.
و قوله: لا جبرئيل و لا ميكائيل و لا مهاجرين قال الشّارح المعتزلي: الرّواية المشهورة هكذا بالنّصب و هو جائز على التشبيه بالنّكرة كقولهم معضلة و لا أبا حسن لها، انتهى.

أقول: قال نجم الأئمة بعد اشتراط كون اسم لا النّافية للجنس نكرة: و اعلم أنّه قد يؤول العلم المشتهر ببعض الخلال بنكرة فينتصب و ينزع منه لام التعريف إن كان فيه، نحو لا حسن في الحسن البصرى، و لا صعق في الصعق، أو فيما اضيف إليه نحو لا امرء قيس و لا ابن زبير، و لتأويله بالمنكر وجهان: إمّا أن يقدّر مضاف هو مثل فلا يتعرّف بالاضافة لتوغّله في الابهام، و إمّا أن يجعل العلم لاشتهاره بتلك الحلّة كانّه اسم جنس موضوع لافادة ذلك المعني، لأنّ معني قضيّة و لا أبا حسن لها لا فيصل لها إذ هو عليه السّلام كان فيصلا في الحكومات على ما قال النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أقضاكم عليّ، فصار اسمه كالجنس المفيد لمعني الفصل و القطع كلفظ الفيصل، انتهى.

و عليه فالتّاويل في كلامه أن يراد بقوله لا جبرئيل و لا ميكائيل أنّه لا ناصر لكم و لا معاون، هذا.
و على الرّواية الغير المشهورة فالرّفع في الجميع بالابتداء على أن لا ملغاة عن العمل، و هو أحد الوجوه الخمسة الّتي ذكرها علماء الأدب في نحو لا حول و لا قوّة إلّا باللّه، و على أىّ تقدير فالخبر محذوف و جملة ينصرونكم وصف أو حال و الأوّل أظهر و أولى من جعلها خبرا أيضا كما ذهب إليه الشّارح البحراني.

و قوله: إلّا المقارعة بالسّيف، يروى بالنصب و بالرّفع‏أمّا النّصب فعلي أنّه استثناء من الأسماء الواقعة بعد لاء التّبرية لعمومها بعد تأويل الأوّلين منها بالنّكرة حسبما عرفت، فانّ الكلام بعد التأويل المذكور بمنزلة لا عوان و لا ناصرين ينصرونكم إلّا المقارعة، و يجوز جعل المستثنى منه ضمير الجمع في ينصرون العايد الى الأسماء المذكورة، و على أىّ تقدير فالظّاهر أنّ الاستثناء متّصل بعد ارتكاب التاويل المذكور لا منقطع كما قاله الرّاوندى.

و أمّا الرّفع فعلي أنّه بدل من الأسماء المذكورة على روايتها بالرّفع، أو من ضمير ينصرون على روايتها بالنّصب، و الرّفع هو المختار كما قاله علماء الأدب في مثل ما فعلوه إلّا قليل و إلّا قليلا، أى فيما إذا وقع المستثنى بالّا في كلام غير موجب و ذكر المستثنى منه أنّه يجوز النّصب و يختار البدل.

و مرادهم بالكلام الغير الموجب كما قاله نجم الأئمة أن يكون المستثنى مؤخّرا من المستثنى منه المشتمل عليه نفى أو نهى، فيدخل فيه الضّمير الرّاجع قبل الاستثناء بالّا على اسم صالح لأن يبدل منه معمول للابتدا أو أحد نواسخه نحو قولك ما أحد ضربته إلّا زيدا يجوز لك الابدال من هاء ضربته لأنّ المعني ما ضربت أحدا إلّا زيدا، فقد اشتمل النفى على هذا الضمير من حيث المعنى، و كذلك إذا كان الضمير فى صفة المبتدأ نحو ما أحد لقيته كريم إلّا زيدا، فانّه بمنزلة ما لقيت أحدا كريما إلّا زيدا.

فعلم بذلك انّ جعل جملة ينصرون في كلامه عليه السّلام صفة أو خبرا لا يوجب التفاوت في الابدال من الضمير الّذي فيه.
قال نجم الأئمة: و الابدال من صاحب الضمير أولى لأنّه الاصل و لا يحتاج الى تاويل آه.
فان قلت: فعلى الابدال يكون بدل غلط فكيف به فى كلام أمير المؤمنين عليه السّلام الّذي هو أفصح الكلام قلت: كلّا بل هو بدل اشتمال، لأنّ نصرة جبرئيل و ميكائيل و المهاجر و الأنصار لما كان بمقارعة السّيوف حسن ذلك للابدال، هذا ما يقتضيه النظر الجلى.

و أمّا الذى يقتضيه النظر الدّقيق فهو أن جعل انتصاب المقارعة على رواية النصب‏بالمصدر كما قاله الشارح المعتزلي أولى، لافادته الدّوام و الثبوت.
بيان ذلك أنهم قد قالوا إنّ المصدر إذا وقع مثبتا بعد نفي داخل على اسم لا يكون خبرا عنه إلّا مجازا لكونه صاحب هذا المصدر يحذف عامله قياسا نحو ما زيد إلّا سيرا، و ما الدّهر إلّا تقلّبا، و ما كان زيد إلّا سيرا، فانّ سيرا لا يجوز جعله خيرا عن زيد، لأنّ زيدا صاحب السير لا نفس السير، و هكذا لا يصحّ جعل تقلّبا خبرا عن دهر، فلا بدّ من أن يكون العامل محذوفا أى ما زيد إلّا يسير سيرا، و ما الدّهر إلّا يتقلّب تقلّبا، و فيما نحن فيه لا أنصار ينصرونكم إلّا تقارعوا المقارعة بالسيف.

قال نجم الأئمة: و إنّما وجب حذف الفعل لأنّ المقصود من هذا الحصر وصف الشي‏ء بدوام حصول الفعل منه و لزومه له، و وضع الفعل على الحدوث و التجدّد فلما كان المراد التنصيص على الدّوام و اللزوم لم يستعمل العامل أصلا لكونه إما فعلا و هو موضع على التجدّد، أو اسم فاعل و هو مع العمل كالفعل لمشابهته، فصار العامل لازم الحذف، فان أرادوا زيادة المبالغة جعلوا المصدر نفسه خبرا نحو ما زيد إلّا سير كما ذكرنا فى المبتدأ في قولنا إنما هي أقبال و إدبار، فينمحى إذا عن الكلام معني الحدوث أصلا لعدم صريح الفعل و عدم المفعول المطلق الدّال عليه، انتهى.

و به يعلم أنه على رواية الرّفع يجوز أن يكون ارتفاعه على الخبر قصدا إلى المبالغة كما فى ما زيد إلّا سير، فافهم جيّدا.

المعنى

اعلم أنّه لمّا أمر المخاطبين في الفصل السابق بالاعتبار بحال بني إسماعيل و بنى إسرائيل، عاد في هذا الفصل إلى تقريعهم و توبيخهم كما فى أكثر الفصول السّابقة بقلّة الطّاعة و أخذ طريق الجاهليّة فقال: (ألا و انّكم قد نفضتم أيديكم من حبل الطّاعة) و التعبير بلفظ النّفض دون الترك للاشارة إلى طرحهم له و إعراضهم عنه، فانّ من يخلى الشي‏ء من يده‏ثمّ ينفض يده منه يكون أشدّ تخلية ممن لا ينفضها، بل يقنع بتخليته فقط.

و تشبيه الطاعة بالحبل من تشبيه المعقول بالمحسوس و وجه الشّبه أنّ الحبل آلة الوصلة بين الشيئين و الطاعة سبب الاتّصال بقرب الخالق، و لذلك أمر اللّه سبحانه بالاعتصام به فى قوله «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا».

(و ثلمتم حصن اللّه المضروب عليكم بأحكام الجاهليّة) استعار حصن اللّه للاسلام، و رشح بذكر المضروب، و الجامع بين المستعار منه و المستعار له أنّ الحصن سبب الحفظ و الوقاية من شرّ الأعداء، و الاسلام سبب السّلامة من شرّ الأعداء في الدّنيا و من حرّ النّار في الاخرة، يعني أنّكم كسرتم حصن الاسلام الّذى كنتم متحصّنين فيه متحفّظين به بأحكام الجاهليّة و هي التفرّق و الاختلاف و العصبيّة و الاستكبار.

و لمّا وبّخهم على ترك الطاعة و ثلم الاسلام بالافتراق و الاختلاف رغّبهم في الاعتصام بحبل الايتلاف و الاجتماع بالتّنبيه على أنّه أعظم نعمة أنعم اللّه سبحانه بها على عباده و هو قوله: (و انّ اللّه سبحانه قد امتنّ على جماعة هذه الأمّة) أى منّ عليهم (فيما عقد بينهم من حبل هذه الالفة الّتي ينتقلون) و في بعض النسخ يتقلّبون (في ظلّها و يأوون إلى كنفها) أى ينزلون و يسكنون إلى جانبها و ناحيتها.

و المراد بحبل الالفة هو الاسلام الموجب للايتلاف و الارتباط بينهم استعار له الحبل لذلك.
(بنعمة) أى امتنّ عليهم بنعمة عظيمة (لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة) و المراد بتلك النعمة نفس هذه الالفة أو الاسلام الموجب لها، فانّها نعمة عظيمة يترتّب عليها من المنافع الدّنيويّة و الأخروية ما لا تحصى، و يندفع بها من المضار الدّنيوية و الاخرويّة ما لا تستقصى.

و في هذه الفقرات تلميح إلى قوله تعالى في سورة آل عمران يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ‏إِخْواناً وَ كُنْتُمْ عَلى‏ شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها«» قال الطبرسي: أي تمسّكوا بحبل اللّه و هو دين اللّه و الاسلام قاله ابن عبّاس، و لا تفرّقوا معناه و لا تتفرّقوا عن دين اللّه الّذي أمركم فيه بلزوم الجماعة و الايتلاف على الطاعة و اثبتوا عليه.

و اذكروا نعمة اللّه عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم.
قيل: أراد ما كان بين الأوس و الخزرج من الحروب الّتي تطاولت مأئة و عشرين سنة إلى أن ألّف اللّه بين قلوبهم بالاسلام فزالت تلك الأحقاد.

و قيل: هو ما كان بين مشركى العرب من الطوائل، و المعنى احفظوا نعمة اللّه و منته عليكم بالاسلام و بالايتلاف، و رفع ما كان بينكم من التنازع و الاختلاف، فهذا هو النفع الحاصل لكم فى العاجل مع ما أعدّ لكم من الثواب الجزيل فى الاجل، إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم، بجمعكم على الاسلام و رفع البغضاء و الشحناء عن قلوبكم.
فأصبحتم بنعمته، أى بنعمة اللّه إخوانا متواصلين و أحبابا متحابّين، بعد أن كنتم متحاربين متعادين.

و كنتم على شفا حفرة من النار، أى و كنتم يا أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على طرف حفرةمن جهنّم لم يكن بينكم و بينها إلّا الموت.
فأنقذكم اللّه منها بأن أرسل إليكم رسولا و هداكم للايمان و دعاكم إليه فنجوتم باجابته من النار.
و انما قال: فأنقذكم منها و إن لم يكونوا فيها، لأنهم كانوا بمنزلة من هو فيها حيث كانوا مستحقّين لها.
و بما ذكرنا كلّه علم أنّ هذه النعمة أعنى نعمة الالفة و المحابّة على الاسلام أعظم نعمة لا يعرف أحد من المخلوقين لها قيمة.

(لأنّها) موجبة لسعادة النشأتين و عزّ الدّارين و للانقاذ من النار و الدّخول فى جنّات تجرى من تحتها الأنهار و النزول فى منازل الأبرار و (أرجح من كلّ ثمن) كما يشير اليه قوله تعالى «وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَ (و أجلّ من كلّ خطر) و شرف و مزيّة لجمعها جميع أقسام الشرف، إذ بها يتمكّن من دركها و تحصيلها و الوصول إليها.

(و اعلموا أنكم صرتم بعد الهجرة أعرابا) قال الشارح المعتزلي: الأعراب على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من آمن به من أهل البادية و لم يهاجر إليه، و هم ناقصوا المرتبة عن المهاجرين لجفائهم و قسوتهم و توحّشهم و تشتّتهم في بعد من مخالطة العلماء و سماع كلام الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و فيهم انزل: «الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً وَ أَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى‏ رَسُولِهِ» و ليست هذه الاية عامّة في كلّ الأعراب بل خاصّة ببعضهم، و هم الّذين كانوا حول المدينة و هم: جهنية، و أسلم، و أشجع، و غفار، و اليهم أشار سبحانه بقوله «وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ» و كيف يكون كلّ الأعراب مذموما و قد قال تعالى «وَ مِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ» و صارت هذه الكلمة جارية مجرى المثل، انتهى و قال الشهيد الثاني: المراد بالأعراب من أهل البادية و قد أظهر الشهادتين على وجه حكم باسلامه ظاهرا و لا يعرف من معني الاسلام و مقاصده و أحكامه سوى الشهادتين آه.

إذا عرفت ذلك فأقول: قد ظهر لك في شرح الخطبة المأة و الثامنة و الثمانين أنّ حقيقة المهاجرة هو الهجرة إلى حضور الحجّة لمعرفته و العلم بوجوب اطاعته و امتثال أحكامه، و على هذا فمقصوده عليه السّلام بقوله: صرتم بعد الهجرة أعرابا، توبيخهم على أنّهم بعد ما كانوا عارفين به و بمقامه عليه السّلام و وجوب طاعته و عالمين بأحكام الشرع و آدابه و وظايف الاسلام كما هو شأن المهاجر، قد تركوا ذلك كلّه و صاروا مثل الأعراب الّذين لا يعرفون إلّا ظاهر الاسلام كما قال عزّ و جلّ «الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً وَ أَجْدَرُ» أى أحرى بأن لا يعلموا حدود اللّه في الفرائض و السنن و الحلال و الحرام.

يعني أنكم قد صرتم بالعصبيّة و الاستكبار و العناد و إثارة الفتن بمنزلة الأعراب الجاهلين بما لهم و ما عليهم بعد ما كنتم عارفين بذلك كلّه.
(و بعد الموالات أحزابا) أى بعد الالفة و الاجتماع أحزابا متعادية متشتّتة مختلفة الاراء، أى صرتم حزبا حزبا و طائفة طائفة كلّ منكم يخالف آخرين، و كلّ حزب بما لديهم فرحون.
(ما تتعلّقون من الاسلام إلّا باسمه و لا تعرفون من الايمان إلّا رسمه) لما جعلهم أعرابا أحزابا اتبعه بهذه الجملة و لكمال الاتّصال بينهما وصلها بسابقته و ترك العاطف.

و المراد أنّهم لم يأخذوا من الاسلام و أحكامه شيئا إلّا اسمه فيسمّون باسم المسلم، و لا يعرفون من الايمان إلّا صورته دون ماهيّته و حقيقته، و في بعض النسخ لا تعقلون بدل لا تعرفون، و المقصود واحد.
(تقولون النّار و لا العار) كلمة جارية مجرى المثل يقولها أهل الحميّة و الانفة من تحمل الضيم و الذّل على نفسه أو من ينسب إليه من قومه و خاصّته استنهاضا و الهابا بها إلى النضال و الجدال فاذا قيلت في حقّ كان ثوابا و إذا قيلت في باطل كان خطاء.

و لمّا كان غرض المخاطبين منها هو الشرّ و الفساد و إثارة الفتنة المخالفة لوظايف الاسلام شبّه حالهم في أعمالهم و أقوالهم بقوله:(كأنّكم تريدون أن تكفؤا الاسلام على وجهه) بأنّهم يريدون أن يكبّوا و يقلبوا الاسلام على وجهه، تشبيها له بالاناء المقلوب على وجهه فكما أنّه بعد قلبه لا يبقي فيه شي‏ء أصلا و يخرج ما كان فيه من حيّز الانتفاع، فكذلك الاسلام الّذى لم يراع حدوده و احكامه كأنّه لم يبق منه شي‏ء ينتفع به، و هو من الاستعارة المكنيّة و ذكر الكفاء تخييل.

و قوله (انتهاكا لحريمه) أراد به أنّ فعلكم ذلك كاشف عن كون غرضكم منه الانتهاك كالكفّار و المنافقين و أعادى الدّين الذين لا غرض لهم إلّا إبطال الاسلام و هتك حريمه (و نقضا لميثاقه) و هى حدوده و شرايطه المقرّرة و وظايفه المأخوذة فيه (الذى وضعه اللّه لكم حرما في أرضه) لمنعه الاخذين به و المواظبين له من الرّفث و الفسوق و الجدال.
(و أمنا بين خلقه) أى سبب أمن أى أمانا لهم من شرّ الأعداء و من تعدّى كلّ منهم إلى الاخر.

و المراد بنقضهم ميثاقه تركهم لوظايفه المقرّرة، و قطعهم لما أمر اللّه به أن يوصل، و سعيهم في إثارة الفتنة و الفساد و القتل و القتال، قال سبحانه «الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ».

قال الطبرسيّ: الذين ينقضون عهد اللّه، أى يهدمونه أى لا يفون به، و عهد اللّه وصيّته إلى خلقه على لسان رسوله بما أمرهم به من طاعته و نهيهم عنه من معصيته و نقضهم لذلك تركهم العمل به من بعد ميثاقه قال في الصّافي: أى تغليظه و أحكامه و يقطعون ما أمر اللّه به أن يوصل قال الطبرسيّ: معناه امروا بصلة النبيّ و المؤمنين فقطعوهم، و قيل: امروا بصلة الرّحم و القرابة فقطعوها و قيل: امروا بأن يصلوا القول بالعمل ففرّقوا بينهما بأن قالوا و لم يعملوا و قيل: معناه الأمر بوصل‏كلّ من أمر اللّه بصلته من أوليائه و القطع و البراءة من أعدائه، و هذا أقوى لأنّه أعمّ.

و في الصّافي أقول: و يدخل في الاية التفريق بين الأنبياء و الكتب في التصديق و ترك موالاة المؤمنين و الجمعة و الجماعات المفروضة و ساير ما فيه رفض خير أو تعاطى شرّ لأنّه يقطع الوصلة بين اللّه و بين العبد الّتى هى المقصودة بالذات من كلّ وصل و فصل.

و يفسدون في الأرض قيل: نقضهم العهد، و قيل أراد كلّ معصية تعدّى ضررها إلى غير فاعلها.
و في الصّافي يفسدون بسبب قطع ما في وصله نظام العالم و صلاحه اولئك هم الخاسرون الذين خسروا أنفسهم بما صاروا إلى النيران و حرموا الجنان، فيا لها خسارتا لزمتهم عذاب الأبد و حرّمتهم نعيم الأبد.

ثمّ حذّرهم و خوّفهم بقوله (و إنّكم إن لجأتم إلى غيره حاربكم أهل الكفر) يعني أنّكم إن قطعتم حبل الاسلام العاقد بينكم و الجامع لجمعيّتكم و تمسّكتم بغيره من حمية أو جماعة أو كثرة عشيرة مع الخروج عن طاعة سلطان الاسلام و التفرّق فيه فانّ ذلك يوجب أن يطمع فيكم الكفّار و يحاربونكم.

(ثمّ لا جبرئيل و لا ميكائيل و لا مهاجرين و لا أنصار ينصرونكم) كما كانوا ينصرون في زمن الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (إلّا المقارعة) أى المضاربة و قرع بعضكم بعضا (بالسّيف حتّى يحكم اللّه بينكم) و بينهم بغلبة أحد الفريقين على الاخر.

ثمّ ذكّرهم بالعقوبات النّازلة على الامم الماضية في القرون الخالية بخروجهم عن طاعة اللّه سبحانه فقال: (و انّ عندكم الأمثال) الّتي ضربها اللّه لكم بأهل القرون الماضية كما قال «وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَ مَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ» و قال أيضا «وَ عاداً وَ ثَمُودَ وَ أَصْحابَ الرَّسِّ وَ قُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً. وَ كُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَ كُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً»(من بأس اللّه) و عذابه لهم (و قوارعه) أى دواهيه و افزاعه الّتي كانت تقرع القلوب بشدّتها (و أيّامه) الّتي انتقم اللّه فيها من القرون الاولى.

قال الطبرسيّ في قوله: و ذكّرهم بأيّام اللّه: معناه و أمرناه«» بأن يذكّر قومه وقايع اللّه في الامم الخالية و اهلاك من أهلك منهم ليحذروا ذلك.

أقول: و من تلك الأيام ما اشير إليه في قوله «إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ. تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ» و في قوله «فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» و في قوله «وَ أَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَ ثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى‏ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ».
(و وقايعه) أى نوازله الشّديدة و عقوباته الواقعة بالعاصين المتمرّدين كما اشير اليها في قوله عزّ و جلّ «فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَ ما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ».

و غرضه عليه السّلام من التذكير بهذه الأمثال توعيد المخاطبين و تهديدهم من أن يقارفوا ما قارف أهل القرون المتقدّمة من الذّنوب و الاثام، فتنزل عليهم ما نزل بهم من البأس و العذاب، و لذلك فرّع عليه قوله: (فلا تستبطئوا وعيده) أى لا تعدّوا ما أوعدكم به من العذاب بطيئا بعيدا فانّه قريب كما قال «إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً».
و لا تبطئوا إبطاءه للعذاب طمعا منكم في أنّ إبطاءه يوجب ذهابه، و إمهاله يوجب إهماله كما هو الغالب في وعيد غيره سبحانه، فانّ تأخيره غالبا يوجب عدم وقوعه إمّا لحصول الغفلة و النسيان من الموعد، أو لأنه ربّما يفوته من طلب أو يعجزه من هرب، و أمّا اللّه الحىّ القيّوم القهّار ذو القوّة المتين و البأس الشّديد فانّه لبالمرصاد و لا يخلف الميعاد، و المخاطبون لما قاسوه عزّ شأنه بغيره و وعيده بوعيدغيره استبطئوه لذلك و انما وقعوا في هذا الزّعم الفاسد.

(جهلا بأخذه و تهاونا ببطشه و يأسا من بأسه) يعنى أنّ جهلكم بمؤاخذته الشديدة، و تهاونكم ببطشه الناشى من تأخير وقوعه، و يأسكم من بأسه الناشي من طول مدّة البأس صار علّة للاستبطاء فأوجب ذلك جسارتكم على اقتراف الجرائم و اقتحامكم في ورطات الاثام.

كما أنّ أهل القرون الاولى قد وقعوا في الهلاك الدّائم و استحقوا العذاب الأليم أيضا من الجهالة بأخذه كما اشير إليه في الكتاب الكريم في قوله «وَ إِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ السَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَ ما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ».

و من التهاون ببطشه كما حكاه سبحانه عنهم بقوله عقيب هذه الاية «وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» و بقوله «وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ».
و من اليأس من بأسه كما اخبر عنهم بقوله «فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَ عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَ قالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ».

و أما أهل العرفان و الايقان فيعرفون بنور الاي
غيره استبطئوه لذلك و انما وقعوا في هذا الزّعم الفاسد.

(جهلا بأخذه و تهاونا ببطشه و يأسا من بأسه) يعنى أنّ جهلكم بمؤاخذته الشديدة، و تهاونكم ببطشه الناشى من تأخير وقوعه، و يأسكم من بأسه الناشي من طول مدّة البأس صار علّة للاستبطاء فأوجب ذلك جسارتكم على اقتراف الجرائم و اقتحامكم في ورطات الاثام.

كما أنّ أهل القرون الاولى قد وقعوا في الهلاك الدّائم و استحقوا العذاب الأليم أيضا من الجهالة بأخذه كما اشير إليه في الكتاب الكريم في قوله «وَ إِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ السَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَ ما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ».

و من التهاون ببطشه كما حكاه سبحانه عنهم بقوله عقيب هذه الاية «وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ» و بقوله «وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ».
و من اليأس من بأسه كما اخبر عنهم بقوله «فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَ عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَ قالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ».

و أما أهل العرفان و الايقان فيعرفون بنور الايمان و اليقين بما أخبر به الأنبياء و المرسلين و شهد به الكتاب المكنون أنّ وعده عزّ و جلّ و وعيده واقعان لا محالة و أنّ أخذه و بطشه و بأسه و إن تأخر حقّ محقّق لا ريب فيه كما قال «وَ لا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ» و قال «وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ. وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ».

و يعلمون أنّ التأخير و الامهال في العقاب لاقتضاء الحكمة الالهيّة و لو يعجّل«» اللّه للنّاس الشرّ استعجالهم بالخير لقضى إليهم أجلهم.

و لكنه يمهل المؤمنين من باب اللّطف حتّى يتوبوا و يتداركوا الذّنوب بالانابة و الاستغفار.
و يمهل الظالمين و يذر الذين لا يرجون لقائه في طغيانهم يعمهون من باب الاستدراج كما قال تعالى «وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» هذا.

و لما ذكّرهم بأمثال الذين خلوا من قبل و نهاهم عن استبطاء وعيد اللّه سبحانه أردفه بالتنبيه على عمدة سبب الاستحقاق القرون الخالية للطعن و العتاب و اللّعن و العقاب و هو ارتفاع الرّكن الأعظم من الاسلام أى الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر من بينهم، و غرضه بذلك تحذير المخاطبين و تنبيههم على أنهم مثلهم في استحقاق اللّعن لارتفاع هذه الخصلة العظيمة من بينهم أيضا و لذلك أتى بالفاء التفريعيّة فقال: (فانّ اللّه سبحانه لم يلعن القرون الماضية) و لم يحرمهم من رحمته الواسعة (إلّا لتركهم الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر) كما اشير إليه في قوله سبحانه «لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى‏ لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ. كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ».

قال الطبرسيّ: أخبر تعالى عما جرى على أسلافهم فقال: لعن الذين كفروا الاية، معناه لعنوا على لسان داود فصاروا قردة و على لسان عيسى فصاروا خنازير.
قال و قال أبو جعفر الباقر عليه السّلام و أما داود فانه لعن أهل ايلة لما اعتدوا في سبتهم و كان اعتداؤهم في زمانه فقال: اللّهم البسهم اللعنة مثل الرّدا و مثل المنطقة على الحقوين، فمسخهم اللّه قردة، فأمّا عيسى عليه السّلام فانه لعن الذين انزلت عليهم المائدة ثمّ كفروا بعد ذلك قال الطبرسيّ: و انما ذكر اللعن على لسانهما إزالة للابهام بأنّ لهم منزلة بولادة الأنبياء تنجيهم من العقوبة، ثمّ بيّن اللّه تعالى حالهم فقال: كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، أى لم يكن ينهى بعضهم بعضا و لا ينتهون أى لا يكفّون عما نهوا عنه‏قال ابن عباس: كان بنو اسرائيل ثلاث فرق: فرقة اعتدوا في السّبت، و فرقة نهوهم و لكن لم يدعوا مجالستهم و لا مؤاكلتهم، و فرقة لما رأوهم يعتدون ارتحل عنهم و بقى الفرقتان المعتدية و الناهية المخالطة فلعنوا جميعا.

و لذلك قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لتأمرنّ بالمعروف و لتنهنّ عن المنكر و لتأخذن على يد السفيه و لتاطرنه«» على الحقّ اطراء أو ليضربنّ اللّه قلوب بعضكم على بعض و يلعنكم كما لعنهم.
و فى الوسائل عن الحسن بن عليّ بن شعبة في تحف العقول عن الحسين عليه السّلام قال: و يروى عن عليّ عليه السّلام: اعتبروا أيها الناس بما وعظ اللّه به أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار إذ يقول: «لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ» و قال «لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ- إلى قوله- لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ» و إنما عاب اللّه عليهم لأنهم كانوا يرون من الظلمة المنكر و الفساد فلا ينهونهم عن ذلك رغبة فيما كانوا ينالونه منهم، و رهبة مما يحذرون، و اللّه يقول: «فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَ اخْشَوْنِ» و قال: «الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» فبدء اللّه بالأمر بالمعروف و النهى عن المنكر فريضة منه لعلمه بأنها إذا ادّيت و اقيمت استقامت الفرائض كلّها و هيّنها و صعبها، و ذلك إنّ الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر دعاء إلى الاسلام مع ردّ المظالم، و مخالفة الظالم، و قسمة الفى‏ء و الغنايم، و أخذ الصدقات من مواضعها و وضعها في حقّها.

و قد تقدّم هذا الحديث مع حديث آخر مناسب للمقام و بعض الكلام في الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر في شرح الفصل الثاني من المختار المأة و الخامس و الخمسين (فلعن اللّه السفهاء) أى الجهّال (لركوب المعاصي و الحلماء) أى ذوى العقول و الاناة و في بعض النسخ الحكماء بدله (لترك التناهى)و هذه الجملة إمّا اخباريّة أتى بها إيضاحا للجملة المتقدّمة أعنى قوله: إنّ اللّه لم يلعن القرون الماضية إلّا لتركهم اه، و يؤيّده إضمار فاعل لعن و إسقاط لفظ الجلالة في بعض النّسخ و إمّا انشائيّة دعائية منه عليه السّلام أتى بها قياما منه بوظيفته اللّازمة، فانّ لعنه عليهم نهى لهم عن المنكر و هو مقتضى وظيفة الامامة.

فعلى الاحتمال الأوّل يكون المراد بالسّفهاء و الحلماء سفهاء القرون الماضية و حلماءهم.
و على الاحتمال الثاني سفهاء المخاطبين و حلماءهم، و أوضح استحقاقهم للّعن و دخولهم في زمرة الملعونين بقوله: (ألا و قد قطعتم قيد الاسلام) أى حبل الالفة عليه بالاعتزاء و العصبيّة (و عطلتم حدوده) أى تركتم وظايفه المقرّرة الّتي لم يجز التّعدّى و التّخطي منها (و أمتّم أحكامه) أى أبطلتم أحكامه التي كان يلزم عليكم إحياؤها و العمل بها.
و قد كان من جملة تلك الحدود و الأحكام المتروكة المعطلة أمرهم بالمعروف و نهيهم عن المنكر، فانّ القيام بهما غالبا شأن الرّؤساء و الكبراء، و قد كانوا قائمين بخلافه و كانوا يأمرون بالمنكر و ينهون عن المعروف و لذلك حذّر عن طاعتهم و متابعتهم في الفصل الثالث من هذه الخطبة و قال: إنّهم قواعد أساس العصبيّة و دعائم أركان الفتنة و سيوف اعتزاء الجاهليّة.

الترجمة

آگاه باشيد بدرستى كه شما بتحقيق افشانده‏ ايد دستهاى خود را از ريسمان اطاعت و بالمرّه اعراض كرده ‏ايد از آن، و خراب نموده‏ ايد حصار خدا را كه زده شده است بر شما با أحكام جاهليّت، و بدرستى خداى تبارك و تعالى منّت نهاده بر جماعت اين امّت در آنچه منعقد ساخته در ميان ايشان از ريسمان اين الفت، چنان الفتى كه بر مى‏ گردند در سايه آن، و نازل مي شوند در پناه‏گاه آن با نعمتى‏ كه نمى‏ شناسد احدى از مخلوقان قيمت آن را، از جهت اين كه آن افزونتر است از هر بهائى، و بزرگتر است از هر منزلت و مزيّتى.

و بدانيد بدرستى كه شما گرديديد بعد از مهاجرت و معرفت برسومات و آداب شريعت مثل عربان باديه نشين بى ‏معرفت، و بعد از دوستى و موالاة طوايف مختلفه متعلّق نمى‏ شويد از اسلام مگر اسم آن را، و نمى‏ شناسيد از ايمان مگر رسم آن را مى‏گوئيد: النار و لا العار، داخل آتش بشويد قبول ننگ و عار ننمائيد گويا كه مى‏ خواهيد برگردانيد اسلام را بر روى آن بجهت هتك احترام آن، و بجهت شكستن پيمان آن چنان اسلامى كه نهاده است آن را خداى تعالى براى شما حرم در زمين خود، و ايمنى در ميان خلقان خود.

و بدرستى كه اگر شما ملتجى بشويد بسوى غير آن يعنى اگر اعتماد نمائيد بر غير دين اسلام محاربه مى ‏كنند با شما كفّار، بعد از آن نه جبرئيل است و نه ميكائيل و نه مهاجرين و نه انصار كه نصرت كنند شما را مگر كوفتن يكديگر با شمشير آبدار تا آنكه حكم كند خداوند متعال در ميان شما.

و بدرستى كه در نزد شما است داستانها از شدّت عذاب خدا و عقوبات كوبنده أو و روزهاى سخت او و واقعه ‏هاى نكال او، پس بعيد نشماريد وعده عذاب او را از جهت جهالت شما بمؤاخذه او، و از جهت استخفاف بعنف و سطوت او، و از جهت نوميدى از عذاب او.

پس بدرستى كه خداوند لعنت نفرمود قرنهاى گذشته را مگر بجهت ترك كردن ايشان امر بمعروف و نهى از منكر را، پس لعنت كرده خدا سفيهان را بجهت ارتكاب معصيتها، و دانايان را بجهت ترك نهى كردن از مناهى، آگاه باشيد بدرستى كه شما بريديد بند محكم اسلام را، و معطل كرديد حدّهاى نظام او را و فانى نموديد و باطل كرديد أحكام او را

الفصل الثامن

ألا و قد أمرني اللّه بقتال أهل البغي و النّكث و الفساد في الأرض فأمّا النّاكثون فقد قاتلت، و أمّا القاسطون فقد جاهدت، و أمّا المارقة فقد دوّخت، و أمّا شيطان الرّدهة فقد كفيته بصعقة سمعت لها وجبة قلبه، و رجّة صدره، و بقبت بقيّة من أهل البغي و لئن أذن اللّه في الكرّة عليهم لاديلنّ منهم إلّا ما يتشذّر في أطراف البلاد تشذّرا. أنا وضعت في الصّغر بكلاكل العرب، و كسرت نواجم قرون ربيعة و مضر. و قد علمتم موضعي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالقرابة القريبة، و المنزلة الخصيصة، وضعني في حجره و أنا وليد، يضمّني إلى صدره، و يكنفني في فراشه، و يمسّني جسده، و يشمّني عرفه، و كان يمضغ الشّي‏ء ثمّ يلقمنيه، و ما وجد لي كذبة في قول، و لا خطلة في فعل.

و لقد قرن اللّه به صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، و محاسن أخلاق العالم ليله و نهاره، و لقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر أمّه، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علما، و يأمرني بالاقتداء به، و لقد كان يجاور في‏كلّ سنة بحراء فأراه و لا يراه غيري، و لم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و خديجة و أنا ثالثهما، أرى نور الوحي و الرّسالة، و أشمّ ريح النّبوّة. و لقد سمعت رنّة الشّيطان حين نزل الوحي عليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقلت: يا رسول اللّه ما هذه الرّنة فقال: هذا الشّيطان قد أيس من عبادته، إنّك تسمع ما أسمع، و ترى ما أرى، إلّا أنّك لست بنبيّ، و لكنّك وزير، و إنّك لعلى خير.

اللغة

(دوّخه) ذلّله و (الرّدهة) وزان تمرة حفرة في الجبل يجتمع فيها الماء و الجمع رده كتمر قال في القاموس: و شبه اكمة خشنة و جمعه رده محرّكة و (كفيته) بالبناء على المفعول من كفانى اللّه مؤنته قتله أو دفع عنّى شرّه و (صعق) صعقا و صعقا و صعقة غشى عليه فهو صعق ككتف و الصّعق محرّكة شدّة الصّوت و الصّاعقة الموت و كلّ عذاب مهلك و صيحة العذاب.

و (الوجبة) وزان تمرة الاضطراب للقلب و (الرّجّة) الحركة و الزلزلة و (أدلت) من فلان غلبته و قهرته أى صرت ذا دولة و (تشذّر) تبدّد و تفرّق و (الكلاكل) الصّدور و الواحد الكلكل و (النواجم) جمع ناجمة من نجم الشي‏ء أى طلع و ظهر و (القرن) من الحيوان الرّوق و موضعه من رأسنا أو الجانب الأعلى من الرّأس و الجمع قرون.

و (ربيعة و مضر) وزان صرد قبيلتان من قريش معروفتان يضرب لهما المثل‏في الكثرة نسبتهما إلى أبويهما و هما ربيعة و مضرابنا نزار بن معدّ بن عدنان و يقال للأوّل ربيعة الفرس و للثاني مضر الحمراء بالاضافة، لأنّ ربيعة اعطي الخيل من ميراث أبيه و مضر اعطى الذّهب.

و (الوليد) الصّبي و المولود و (يكنفني) أى يجعلني في كنفه و الكنف محرّكة الحرز و الجانب و السّتر، و كنف الطائر جناحه و (العرف) وزان فلس الرائحة و أكثر استعماله في الطيبة و (الخطلة) بالفتح المرّة من الخطل محرّكة و هو الخفّة و السرعة و الكلام الفاسد الكثير فهو خطل ككتف أى أحمق عجل.

و (حراء) بالكسر و المدّ وزان كتاب جبل بمكّة فيه غار كان النّبيّ يعتزل إليه و يتعبّد أيّاما يذكّر و يؤنث و (الرنّة) الصوت رنّ يرنّ رنينا صاح و رنّ إليه أصغى.

الاعراب

الواو في قوله: و لئن اذن اللّه، للقسم و المقسم به محذوف و قوله: لاديلنّ جواب القسم، و الباء فى قوله: وضعت بكلاكل العرب، زائدة و قال الشارح البحرانى و يحتمل أن تكون للالصاق أى فعلت بهم الوضع و الاهانة، و ربيعة و مضر بالفتح لمنع الصرف بالتّأنيث و العلميّة، و جملة وضعنى فى حجره استينافيّة بيانيّة.

المعنى

اعلم أنّه عليه السّلام لما لام المخاطبين فى الفصول السابقة و وبّخهم على مخالفة شرايع الدّين و ترك مراسم الاسلام، و دعاهم إلى اللّه سبحانه بالحكمة و الموعظة الحسنة، و نصحهم بالتى هى أحسن، أردف بهذا الفصل المسوق لبيان فضايله و مناقبه و خصائصه الخاصّة و علوّ شأنه و رفعة مقامه، تنبيها بذلك على أنّه إمام مفترض الطّاعة، و أنّه فيما يأمر و ينهى بمنزلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فى أوامره و نواهيه، و غرضه بذلك جذب قلوب المخاطبين إلى قبول مواعظه و نصايحه و امتثال أوامره و نواهيه، و صدّر الفصل بالاشارة إلى أعظم تكليف كان مكلّفا به بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و إلى قيامه به‏على أبلغ وجهه و هو قوله: (ألا و قد أمرنى اللّه بقتال أهل البغى) و المراد بهم المجاوزون عن الحدّ و العادلون عن القصد الخارجون عليه عليه السّلام بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الفرق الثلاث الذين يصرح بهم تفصيلا.

و أمر اللّه سبحانه له بقتالهم إمّا بما أنزله سبحانه في ضمن آيات كتابه العزيز مثل قوله تعالى «فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ».
فقد روى فى غاية المرام عن يونس بن عبد الرّحمن بن سالم عن أبيه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام فى هذه الاية قال: اللّه انتقم بعلىّ عليه السّلام يوم البصرة و هو الّذى وعد اللّه رسوله.

و فيه عن«» عدىّ بن ثابت قال: سمعت ابن عباس يقول: ما حسدت قريش عليا بشى‏ء مما سبق له أشدّ مما وجدت يوما و نحن عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: كيف أنتم يا معشر قريش لو كفرتم بعدى و رأيتمونى فى كتيبة أضرب وجوهكم بالسيف، فهبط جبرئيل فقال: قل انّ اللّه أو على فقال إنّ اللّه أو على.

و فيه عن الشيخ فى أماليه باسناده عن محمّد بن على عن جابر بن عبد اللّه الأنصارى قال: إنّى لأدناهم من رسول اللّه فى حجّة الوداع فقال: لاعرفنكم ترجعون بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، و أيم اللّه لئن فعلتموها لتعرفونى فى الكتيبة التي تضاربكم، ثمّ التفت إلى خلفه فقال: أو عليّ أو عليّ أو عليّ ثلاثا، فرأينا أنّ جبرئيل غمزه فأنزل اللّه عزّ و جل «فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ- بعلىّ- أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ».

و مثل قوله سبحانه «وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى‏ فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي‏ءَ إِلى‏ أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ».

روى فى الصافى من الكافى و التهذيب و علىّ بن إبراهيم القمىّ عن الصادق عن‏أبيه عليهما السّلام فى حديث لما نزلت هذه الاية قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ منكم من يقاتل على التأويل كما قاتلت على التنزيل، فسئل من هو فقال صلّى اللّه عليه و آله: خاصف النعل يعنى أمير المؤمنين عليه السّلام، فقال عمار بن ياسر: قاتلت بهذه الرّاية مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثلاثا و هذه الرّابعة«» و اللّه لو ضربونا حتّى يبلغوا بنا السعفات من هجر لعلمنا أنا على الحقّ و أنّهم على الباطل و كانت السّيرة فيهم من أمير المؤمنين ما كان من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم فتح مكة، فانّه لم يسب منهم ذريّة و قال: من أغلق بابه فهو آمن، و من ألقى سلاحه فهو آمن، و من دخل دار أبى سفيان فهو آمن، و كذلك قال أمير المؤمنين عليه السّلام يوم البصرة نادى فيهم: لا تسبوا لهم ذريّة، و لا تجهزوا على جريح و لا تتبعوا مدبرا، و من أغلق بابه و ألقى سلاحه فهو آمن.

و فيه من الكافي عن الصادق عليه السّلام إنّما جاء تأويل هذه الاية يوم البصرة و هم أهل هذه الاية، و هم الذين بغوا على أمير المؤمنين عليه السّلام فكان الواجب عليهم قتلهم و قتالهم حتى يفيئوا إلى أمر اللّه، و لو لم يفيئوا لكان الواجب عليه عليه السّلام فيما انزل اللّه أن لا يرفع السيف عنهم حتّى يفيئوا و يرجعوا عن رأيهم، لأنّهم بايعوا طائعين غير كارهين، و هى الفئة الباغية كما قال اللّه عزّ و جل، فكان الواجب على أمير المؤمنين عليه السّلام أن يعدل فيهم حيث كان ظفر بهم كما عدل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فى أهل مكّة إنّما منّ عليهم و عفى، و كذلك صنع أمير المؤمنين عليه السّلام بأهل البصرة حيث ظفر بهم بمثل ما صنع النبىّ صلّى اللّه عليه و آله بأهل مكّة حذو النعل بالنعل.

و مثل قوله تعالى «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ».
قال في مجمع البيان في تفسير الاية قيل: هم أمير المؤمنين و أصحابه حين قاتل من قاتله من النّاكثين و القاسطين و المارقين، و روى ذلك عن عمار و حذيفة و ابن عبّاس، و هو المروىّ عن أبي جعفر عليه السّلام و أبي عبد اللّه عليه السّلام قال و روى عن عليّ عليه السّلام انّه قال يوم البصرة: و اللّه ما قوتل أهل هذه الاية حتّى اليوم.

و سيأتي لهذه الاية مزيد تحقيق و تفصيل بعد الفراغ من شرح هذا الفصل في أوّل التنبيهات الاتية.
و إمّا«» بما صدر عن لسان الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في ضمن الأخبار النّبويّة من الأوامر الانشائية و الجملات الخبريّة الّتي في معنى الانشاء، حسبما عرفتها في شرح الفصل الخامس من المختار الثالث، و شرح المختار المأة و الثامن و الأربعين، و شرح الفصل الثاني من المختار المأة و الخامس و الخمسين في التّنبيه الأوّل منه، و قد عرفت في التّنبيه الثاني منه و في شرح المختار الثالث و الثلاثين تحقيق الكلام في كفر البغاة و ساير أحكامهم، فليراجع إلى المواضع الّتي اشرنا إليها، فانّ مراجعتها يوجب مزيد البصيرة في المقام.

و تعرف بما أوردناه هنا و فيما تقدّم أنّ أهل البغى الّذين كان أمير المؤمنين عليه السّلام مأمورا بقتالهم هم الناكثون و القاسطون و المارقون كما أوضحه بقوله: (و النّكث و الفساد في الأرض) و فصّلهم بقوله (فأمّا النّاكثون) أى النّاقضون ما عقدوه من البيعة و هم أصحاب الجمل (فقد قاتلت) و قد مضى تفصيل قتالهم في شرح المختار الحادى عشر.
(و أمّا القاسطون) أى العادلون عن الحقّ و الدّين و هم أصحاب معاوية و صفّين (فقد جاهدت) و مضي تفصيل جهادهم في شرح المختار الخامس و الثلاثين و المختار الحادى و الخمسين و المختار الخامس و الستين.
(و أمّا المارقة) و هم خوارج النهروان الّذين مرقوا من الدّين أى جازوا منه مروق السّهم من الرمية حسبما عرفته في التذييل الأوّل من شرح المختار السّادس و الثلاثين (فقد دوّخت) أىّ ذلّلتهم و قهرتهم حسبما عرفته في التذييل الثاني منه (و أمّا شيطان الرّدهة فقد كفيته) أى كفانى اللّه من شرّه (بصعقة سمعت لها وجبة قلبه) و اضطرابه (و رجّة صدره) و زلزاله.

و قد اختلف الأقوال فى شيطان الرّدهة فقد قال قوم«» إنّ المراد به ذو الثّدية رئيس الخوارج و تسميته بالشّيطان لكونه ضالّا قائد ضلالة مثل شيطان الجنّ، و أمّا إضافته إلى الرّدهة فلما عرفته في التذييل الثاني من شرح المختار السادس و الثلاثين من أنّه بعد الفراغ من قتل الخوارج طلبه عليه السّلام فى القتلى فوجده بعد جدّ أكيد فى حفرة دالية فنسبه عليه السّلام إليها لذلك.

و أمّا الصعقة الّتي كفى عليه السّلام عنه بها فقد قيل: إنّ المراد بها الصّاعقة و هى صيحة العذاب لما روى أنّ عليّا لمّا قابل القوم صاح بهم فكان ذو الثّدية ممّن هرب من صيحته حتّى وجد قتيلا فى الحفرة المذكورة.
و قيل إنّه رماه اللّه بصاعقة من السماء فهلك بها و لم يقتل بالسيف، و قيل: إنّه لما ضربه عليه السّلام بالسيف غشى عليه فمات.

و قال قوم: إنّ شيطان الرّدهة أحد الأبالسة المردة من أولاد ابليس اللّعين قال الشارح المعتزلي: و رووا فى ذلك خبرا عن النّبى صلّى اللّه عليه و آله و أنّه كان يتعوّذ منه، و هذا مثل قوله صلّى اللّه عليه و آله هذا أزبّ العقبة اى شيطانها و لعل أزبّ العقبة هو شيطان الرّدهة بعينه فتارة يعبّر بهذا اللفظ و اخرى بذلك.
أقول: و الأظهر أن يكون المراد به شيطان الجنّ و يكون الاشارة بهذا الكلام إلى ما وقع منه عليه السّلام فى بئر ذات العلم.

فقد روى السيّد السّند السيّد هاشم البحرانى فى كتاب مدينة المعاجز عن ابن شهر آشوب، عن محمّد بن إسحاق، عن يحيى بن عبد اللّه بن الحارث عن أبيه، عن ابن عبّاس و عن أبي عمر و عثمان بن أحمد عن محمّد بن هارون باسناده عن ابن عباس فى خبر طويل أنّه أصاب النّاس عطش شديد فى الحديبيّة فقال النّبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هل من رجل يمضى مع السّقاة إلى بئر ذات العلم فيأتينا بالماء و أضمن له على اللّه الجنّة فذهب جماعة فيهم سلمة بن الأكوع فلمّا دنوا من الشّجر و البئر سمعواحسّا و حركة شديدة و قرع طبول و رأوا نيرانا تتقد بغير حطب فرجعوا خائفين «خ ل خائبين».
ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هل من رجل يمضى مع السّقاة يأتينا بالماء أضمن له على اللّه الجنّة فمضى رجل من بنى سليم و هو يرتجز و يقول:

أمن غريف«» ظاهر نحو السلم
ينكل من وجّهه خير الأمم‏

من قبل أن يبلغ آبار العلم‏
فيستقى و الليل مبسوط الظلم‏

و يأمن الذّم و توبيخ الكلم
و صاحب السيف لسيف منهدم‏

فلمّا وصلوا إلى الحسّ رجعوا وجلين.
فقال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله: هل من رجل يمضي مع السّقاة إلى البئر ذات العلم فيأتينا بالماء أضمن له على اللّه الجنّة فلم يقم أحد، و اشتدّ بالنّاس العطش و هم صيام.
ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السّلام: سر مع هؤلاء السقاة حتّى ترد بئر ذات العلم و تستقى و تعود إنشاء اللّه فخرج عليّ عليه السّلام قائلا:

أعوذ بالرّحمن أن أميلا
من غرف«» جنّ أظهروا تأويلا

و أوقدت نيرانها تغويلا
و قرعت مع غرفها الطبولا

قال فداخلنا «خ ل فتداخلنا» الرّعب فالتفت عليّ عليه السّلام إلينا و قال: اتّبعوا أثري و لا يفزعنّكم ما ترون و تسمعون فليس بضائركم إنشاء اللّه.
ثمّ مضى فلمّا دخلنا الشّجر فاذا بنيران تضطرم بغير حطب و أصوات هائلة و رءوس مقطّعة لها ضجّة و هو يقول: اتّبعوني و لا خوف عليكم و لا يلتفت أحد منكم يمينا و لا شمالا.

فلمّا جاوزنا الشّجر و وردنا الماء فأدلى البراء بن عازب دلوه في البئر فاستقى دلوا و دلوين ثمّ انقطع الدّلو فوقع فى القليب، و القليب ضيّق مظلم بعيد القعر، فسمعنا في أسفل القليب قهقهة و ضحكا شديدا.

فقال عليّ عليه السّلام: من يرجع الى عسكرنا فيأتينا بدلو و رشا«» فقال أصحابه عليه السّلام: من يستطيع ذلك، فائتزر بمئزر و نزل في القليب و ما تزداد القهقهة إلّا علوا و جعل عليه السّلام ينحدر في مراقي القليب إذ زلّت رجله فسقط فيه، ثمّ سمعنا وجبة شديدة و اضطرابا و غطيطا«» كغطيط المخلوق «المخنوق ظ» ثمّ نادى علىّ عليه الصلاة و السلام و التحيّة و الاكرام: اللّه أكبر اللّه أكبر أنا عبد اللّه و أخو رسول اللّه، هلمّوا قربكم فأفعمها و أصعدها على عنقه شيئا فشيئا و مضى بين أيدينا فلم نر شيئا فسمعنا صوتا.

أى فتى ليل أخي روعات
و أىّ سبّاق إلى الغايات‏

للّه درّ الغرر السادات‏
من هاشم الهامات و القامات‏

مثل رسول اللّه ذى الايات
أو كعليّ كاشف الكربات‏
كذا يكون المرء في حاجات‏

فارتجز أمير المؤمنين عليه السّلام

الليل هول يرهب المهيبا
و مذهل المشجّع اللبيبا

و انّني اهول منه ذيبا
و لست أخشي الرّدع و الخطوبا

إذا هززت الصّارم القضيبا
أبصرت منه عجبا عجيبا

و انتهى إلى النّبيّ و له زجل«» فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما ذا رأيت في طريقك يا علي فأخبره بخبره كلّه فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ الّذي رأيته مثل ضربه اللّه لي و لمن حضر معي في وجهي هذا، قال عليّ عليه السّلام: اشرحه لي يا رسول اللّه.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أمّا الرّؤوس الّتي رأيتم لها ضجّة و لألسنتها لجلجة، فذلك مثل قومي معي يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم و لا يقبل اللّه منهم صرفا و لا عدلا و لا يقيم لهم يوم القيامة وزنا.
و أما النيران بغير حطب ففتنة تكون في أمتي بعدي القائم فيها و القاعد سواءلا يقبل اللّه لهم عملا و لا يقيم لهم يوم القيامة وزنا.

و أمّا الهاتف الّذى هتف بك فذلك سلقعة و هو سملقة «كذا» بن غداف الذى قتل عدوّ اللّه مسعرا شيطان الأصنام الّذى كان يكلّم قرين منها و يشرع في هجائي، هذا.
و قوله عليه السّلام (و بقيت بقيّة من أهل البغي) أراد به معاوية و أصحابه لأنه لم يكن أتى عليهم بأجمعهم، بل بقيت منهم بقيّة بمكيدة التحكيم حسبما عرفته في شرح المختار الخامس و الثلاثين.

(و) الذى فلق الحبّة و برء النسمة (لئن أذن اللّه في الكرّة عليهم) هذا بمنزلة التعليق بالمشيّة أى إنشاء اللّه سبحانه لي الرّجوع إليهم بأن يمدّ لى في العمر و يفسح في الأجل و يهيّأ أسباب الرّجوع (لاديلنّ منهم) أى ليكون الدّولة و الغلبة لي عليهم.

و الاتيان في جواب القسم باللّام و نون التوكيد لتأكيد تحقّق الإدالة و ثبوته لا محالة بعد حصول الاذن و المشيّة منه سبحانه، و ذلك بمقتضي وعده الصّادق و قوله الحقّ في كتابه العزيز «الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا».

و بعد هذا فلقائل أن يقول: إنّه عليه السّلام قد كان عالما بعدم اذن اللّه سبحانه في الكرّة عليهم و الادالة منهم، و ذلك لما كان يعلمه باخبار اللّه سبحانه و اخبار رسوله صلّى اللّه عليه و آله بأنّ بنى اميّة يملكون البلاد ألف شهر، و قد كان عليه السّلام نفسه أخبر بذلك حين شاع فى الكوفة خبر موت معاوية بقوله: كلّا أو تخضب هذه من هذه و يتلاعب بها ابن آكلة الأكباد، فى الرّواية الّتي تقدّمت فى شرح المختار السادس و الخمسين، و مع ذلك كلّه فما معنى قوله عليه السّلام: و لئن أذن اللّه فى الكرّة اه قلت: الاتيان بهذه الجملة الشرطية مع علمه عليه السّلام بعدم وقوع مضمونها لربط جاش المخاطبين و تقوية قلوبهم.

و نظيره ما رواه عنه عليه السّلام عليّ بن إبراهيم بسنده عن عدىّ بن حاتم و كان معه عليه السّلام فى مردبه «كذا» أن عليا قال ليلة الهرير بصفّين حين التقى مع معاوية رافعا صوته يسمع أصحابه: لأقتلنّ معاوية و أصحابه، ثمّ قال فى آخر قوله: إنشاء اللّه تعالى، يخفض بها صوته، و كنت قريبا منه فقلت: يا أمير المؤمنين إنّك حلفت‏على ما قلت ثمّ استثنيت فما أردت بذلك فقال عليه السّلام: إنّ الحرب خدعة و أنا عند أصحابى صدوق فأردت أن اطمع أصحابى كيلا يفسئوا «يفشلوا ظ» و لا يفرّوا، فافهم فانك تنتفع بهذه بعد اليوم انشاء اللّه، هذا.

و قوله عليه السّلام: (إلّا ما يتشذّر فى أطراف الأرض تشذّرا) كلمة ما هنا بمعنى من كما فى قوله: «وَ السَّماءِ وَ ما بَناها»، أى إلّا من يتفرّق فى أطرافها تفرّقا ممنّ لم يتمّ أجله ثمّ نبّه على نجدته و شجاعته بقوله: (أنا وضعت فى الصغر بكلاكل العرب) استعار لفظ الكلاكل للأكابر و الرؤساء من العرب و أشراف القبايل الّذين قتلهم في صدر الاسلام، و الجامع للاستعارة كونهم سبب قوّة العرب و مقدّميهم و بهم انتهاضهم إلى الحرب كما أنّ الكلكل للجمل كذلك سبب لنهوضه و قيامه و قوته و مقدم أجزائه.

و يجوز أن يكون من باب الاستعارة بالكناية، بأن يشبه العرب بجمال مستجلات ذوات الصدور و الكلاكل في القوّة، فيكون اثبات الكلاكل تخييلا، و الوضع ترشيحا.
و على أيّ تقدير فأشار عليه السّلام بوضعه لهم إلى قهرهم و إذلالهم كما أنّ إناخة الجمل يستلزم قهره و إذلاله قال الشاعر:

مراجيح ما تنفكّ إلّا مناخة
على الحتف أو ترمى بها بلدا قفرا

و إن شئت أن تعرف أنموذجا من قتله و قتاله و إذلاله للكلاكل و الشجعان فاستمع لما وقع منه عليه السّلام في أوّل غزاة كانت في الاسلام و هي غزوة بدر، و قد كانت تلك الغزوة على رأس ثمانية عشر شهرا من الهجرة كما في كشف الغمة و كان عمره عليه السّلام إذ ذاك سبعة و عشرين سنة.

قال المفيد في الارشاد: و أما الجهاد الّذى ثبتت به قواعد الاسلام، و استقرّت بثبوته شرايع الملّة و الأحكام، فقد تخصّص منه أمير المؤمنين عليه السّلام بما اشتهر ذكره في الأنام، و استفاض الخبر به بين الخاصّ و العامّ، و لم يختلف فيه العلماء، و لا تنازع في صحته الفهماء، و لا شكّ فيه إلّا غفل لم يتأمّل في الأخبار، و لا دفعه أحد ممّن نظر في الاثار إلّا معاند بهّات لا يستحيي من العار.

فمن ذلك ما كان منه عليه السّلام في غزاة البدر المذكورة في القرآن، و هي أوّل حرب كان به الامتحان، و ملأت رهبة صدور المعدودين من المسلمين في الشجعان، و راموا التأخر عنها لخوفهم منها و كراهتهم لها على ما جاء به محكم الذّكر فى التبيان.

و كان من جملة خبر هذه الغزاة إنّ المشركين حضروا بدرا مصرّين على القتال، مستظهرين فيه بكثرة الأموال، و العدد و العدّة و الرّجال، و المسلمون إذ ذاك نفر قليل عدد هناك، و حضرته طوايف منهم بغير اختيار، و شهدته على الكراهة منها له و الاضطرار.

فتحدّتهم قريش بالبراز و دعتهم إلى المصافة و النزال و اقترحت«» في اللقاء منهم الأكفاء، و تطاولت الأنصار لمبارزتهم فمنعهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من ذلك فقال لهم: إنّ القوم دعوا الأكفاء.
ثمّ أمر عليّا أمير المؤمنين بالبروز إليهم، و دعا حمزة بن عبد المطلب و عبيدة ابن الحارث رضوان اللّه عليهما أن يبرزا معه، فلمّا اصطفوا لهم لم يثبتهم«» القوم لأنهم كانوا قد تغفّروا فسألوهم من أنتم، فانتسبوا لهم، فقالوا: أكفاء كرام، و نشبت الحرب بينهم.

و بارز الوليد أمير المؤمنين عليه السّلام فلم يلبثه حتّى قتله، و بارز عقبة حمزة رضي اللّه عنه فقتله حمزة، و بارز شيبة عبيدة رحمه اللّه فاختلفت بينهما ضربة قطعت إحداهما فخذ عبيدة، فاستنقذه أمير المؤمنين عليه السّلام بضربة بدر بها شيبة فقتله، و شركه فى ذلك حمزة.
فكان قتل هؤلاء الثلاثة أوّل وهن لحق المشركين، و ذلّ دخل عليهم، و رهبة اعتراهم بها الرّعب من المسلمين، و ظهر بذلك امارات نصر المسلمين.

ثمّ بارز أمير المؤمنين العاص بن سعيد بن العاص بعد أن أحجم عنه من سواءفلم يلبثه أن قتله، و برز إليه حنظلة بن أبي سفيان فقتله، و برز إليه طعيمة بن عدى فقتله، و قتل بعده نوفل بن خويلد و كان من شياطين قريش.

و لم يزل عليه السّلام يقتل واحدا منهم بعد واحد حتّى أتى على شطر المقتولين منهم، و كانوا سبعين رجلا تولّى كافّة من حضر بدرا من المسلمين مع ثلاثة آلاف من الملائكة المسوّمين قتل الشطر منهم، و تولّى أمير المؤمنين عليه السّلام قتل الشطر الاخر وحده بمعونة اللّه له و تأييده و توفيقه و نصره و كان الفتح له بذلك على يديه.

و ختم الأمر بمناولة النّبي صلّى اللّه عليه و آله كفّا من الحصى فرمي بها في وجوههم و قال لهم: شاهت الوجوه، فلم يبق أحد منهم إلّا ولّى الدّبر بذلك منهزما، و كفى اللّه المؤمنين القتال بأمير المؤمنين عليه السّلام و شركائه في نصرة الدّين من خاصّة الرّسول عليه و آله السلام و من أيّدهم به من الملائكة الكرام.

قال المفيد: و قد أثبتت رواة العامة و الخاصّة معا أسماء الّذين تولّى أمير المؤمنين عليه السّلام قتلهم ببدر من المشركين على اتّفاق فيما نقلوه من ذلك و اصطلاح فكان ممّن سمّوه: الوليد بن عتبة كما قدّمناه و كان شجاعا جرئيا و قاحا فاتكاتها به الرّجال، و العاص بن سعيد و كان هولا عظيما تها به الأبطال، و هو الّذى حاد عنه عمر بن الخطّاب، و طعيمة بن عدىّ بن نوفل و كان من رءوس أهل الضلال، و نوفل ابن خويلد و كان من أشدّ المشركين عداوة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كانت قريش تقدّمه و تعظّمه و تطيعه و هو الّذى قرن أبا بكر و طلحة قبل الهجرة بمكة و أوثقهما بحبل و عذّبهما يوما إلى الليل حتّى سئل في أمرهما و لمّا عرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حضوره بدرا سأل اللّه أن يكفيه أمره فقال: اللّهمّ اكفني نوفل بن خويلد، فقتله أمير المؤمنين عليه السّلام.

و زمعة بن الأسود، و عقيل بن الأسود، و الحارث بن زمعة، و النضر بن الحارث ابن عبد الدّار، و عمير بن عثمان بن كعب بن تيم عمّ طلحة بن عبيد اللّه، و عثمان، و مالك ابنا عبيد اللّه أخوا طلحة بن عبيد اللّه، و مسعود بن أبي اميّة بن المغيرة، و قيس بن الفاكهة ابن المغيرة، و حذيفة بن أبى حذيفة بن المغيرة، و أبو قيس بن الوليد بن المغيرة،و حنظلة بن أبي سفيان، و عمرو بن مخذوم، و أبو المنذر بن أبي رفاعة، و منية بن الحجاج السّهمي، و العاص بن منية، و علقمة بن كلدة، و أبو العاص بن قيس بن عدى، و معاوية ابن المغيرة بن أبي العاص، و لوذان بن ربيعة، و عبد اللّه بن المنذر بن أبي رفاعة، و مسعود بن اميّة بن المغيرة، و حاجب بن السائب بن عويمر، و اوس بن المغيرة بن لوذان، و زيد بن مليص، و عاصم بن أبي عوف، و سعيد بن وهب حليف بنى عامر، و معاوية ابن عبد القيس، و عبد اللّه بن جميل بن زهير بن الحارث بن أسد، و السّائب بن مالك، و أبو الحكم بن الأخنس، و هشام بن أبي اميّة بن المغيرة.
فذلك ستة و ثلاثون رجلا سوى من اختلف فيه أو شرك أمير المؤمنين عليه السّلام فيه غيره، و هم أكثر من شطر المقتولين ببدر على ما قدّمناه.

قال المفيد: و فيما صنعه أمير المؤمنين عليه السّلام ببدر قال اسيد ين اياس يحرض مشركى قريش عليه:

فى كلّ مجمع غاية أخزاكم
جذع أبرّ على المذاكى القرّح‏

للّه درّكم المّا تنكروا
قد ينكر الحرّ الكريم و يستحى‏

هذا ابن فاطمة الذى أفناكم
ذبحا و قتلا قعصة لم يذبح‏

اعطوه خرجا و اتّقوا تضريبه‏
فعل الذّليل و بيعة لم تربح‏

أين الكهول و أين كلّ دعامة
فى المعضلات و اين زين الأبطح‏

(و كسرت نواجم قرون ربيعة و مضر) و الاستعارة في هذه القرينة مثل الّتي في سابقتها، فتحتمل الاستعارة التحقيقية بأن يراد تشبيه رؤساء القبيلتين و انجادهم بقرون الحيوان، لأنّهم أسباب القوّة و الصّولة و المحاربة للقبيلتين كما أنّ القرن آلة الحرب و النطح و الصّيال للكبش.

و تحتمل الاستعارة المكنيّة بأن يراد تشبيه القبيلتين بالأكبش ذوات القرون في الصّولة و القوّة، فيكون اثبات القرن تخييلا، و الكسر و النّواجم ترشيحا، و المراد بكسره عليه السّلام نواجم قرونهم قهرهم، و اذلالهم، لأنّ الكبش اذا انتطح بكبش آخر فانكسر قرنه يغلب و يهرب.

و قد قتل عليه السّلام من ربيعة و مضر فى مجاهداته بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بعده في الجمل و صفّين جما غفيرا يكاد أن يكون أغزر من قطر المطر و أكثر من عدد النجم و الشّجر، و لنعم ما قال كاشف الغمّة:

سل عن عليّ مقامات عرفن به
شدّت عرى الدّين في حلّ و مرتحل‏

بدرا واحدا و سل عنه هوازن‏
في أوطاس و اسأل به في وقعة الجمل‏

و اسأل به إذ أتي الأحزاب يقدمهم
عمرو و صفّين سل أن كنت لم تسل‏

أفناهم قعصا و ضربا يعترى‏
بالسيف يعمل حدّه لم يصفح‏

ثمّ ذكر المخاطبين بمناقبه الجميلة و مفاخره الجليلة، و عدّ منها تسعا الاولى- ما أشار اليه بقوله (و قد علمتم موضعى من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالقرابة القريبة) لأنّ أبويهما عبد اللّه و أبا طالب أخوان لأب و أمّ، دون غيرهما من بني عبد المطلب فهما ابنا عمّ مضافا إلى علاقة المصاهرة و كونه عليه السّلام زوج ابنته فاطمة سلام اللّه عليها.

و الى هذه القرابة اشيرت في قوله سبحانه «وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ».
روى في غاية المرام عن المالكي في فصول المهمّة عن محمّد بن سيرين في هذه الاية أنّها نزلت في النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عليّ بن أبي طالب ابن عمّ رسول اللّه و زوج ابنته فاطمة فكان نسبا و صهرا.
و فيه عن الشيخ فى أماليه بسنده عن انس بن مالك قال: ركب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله‏

ذات يوم بغلته فانطلق الى جبل آل فلان و قال: يا أنس خذ البغلة و انطلق إلى موضع كذا و كذا تجد عليّا جالس يسبّح بالحصى، فاقرءه منى السلام و احمله على البغلة و ايت به إلىّ.
قال أنس: فذهبت فوجدت عليّا كما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأتيت به عليه، فلمّا أن نظر عليه السّلام برسول اللّه قال: السلام عليك يا رسول اللّه، قال: و عليك السلام يا أبا الحسن اجلس، فانّ هذا موضع قد جلس فيه سبعون نبيّا مرسلا ما جلس فيه أحد من الأنبياء إلّا و أنا خير منه، و قد جلس كلّ نبيّ أخ له ما جلس فيه من الاخوة واحد إلّا و أنت خير منه.

قال أنس: فنظرت إلى سحابة قد أظلّتهما و دنت من رؤوسيهما، فمدّ النّبى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يده إلى السحابة فتناول عنقود عنب فجعله بينه و بين عليّ و قال: كل يا أخي.
قلت: يا رسول اللّه: صف كيف عليّ أخوك قال: إنّ اللّه عزّ و جلّ خلق ماء تحت العرش قبل أن يخلق آدم بثلاثة آلاف عام، و اسكنه في لؤلؤة خضراء فى غامض علمه إلى أن خلق آدم، فلمّا خلق آدم نقل ذلك الماء من اللؤلؤة فأجراه فى صلب آدم إلى أن قبضه اللّه، ثمّ نقله فى صلب شيث فلم يزل ذلك الماء ينتقل من ظهر إلى ظهر حتّى صار فى عبد المطّلب، ثمّ شقّه اللّه عزّ و جلّ نصفين نصف فى أبى عبد اللّه بن عبد المطّلب و نصف فى أبي طالب فأنا من نصف الماء و علىّ من النصف الاخر، فعليّ أخي في الدّنيا و الاخرة، ثمّ قرء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله «وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً».

و فى كشف الغمة عن جابر بن عبد اللّه قال: سمعت عليّا ينشد و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يسمع:

أنا أخو المصطفى لا شكّ في نسبي
معه ربّيت و سبطاه هما ولدي‏

جدّي و جدّ رسول اللّه منفرد
و فاطم زوجتى لا قول ذي فند

فالحمد للّه شكرا لا شريك له
البرّ بالعبد و الباقى بلا أمد

قال فتبسّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال: صدقت يا عليّ الثانية- ما أشار إليه بقوله (و المنزلة الخصيصة) أي الخاصة و المخصوصة بي‏و شرحها بقوله (وضعني في حجره) و ربّاني (و أنا وليد) طفل صغير (يضمّني إلى صدره و يكنفني) أي يضمّنى إلى كنفه و حضنه (في فراشه و يمسّني جسده و يشمّني عرفه) أى ريحه الطيّب (و كان يمضغ الشي‏ء ثمّ يلقمنيه) و هذا كلّه إشارة إلى شدّة تربيته صلّى اللّه عليه و آله له و قيامه بأمره و يوضحه ما رواه الشارح المعتزلي عن الطّبرى فى تاريخه قال: حدّثنا ابن حميد قال حدّثنا سلمة قال حدّثني محمّد بن إسحاق قال حدّثنى عبد اللّه بن نجيح عن مجاهد قال: كان من نعمة اللّه عزّ و جلّ على عليّ بن أبي طالب و ما صنع اللّه له و أراد به من الخير أنّ قريشا أصابتهم أزمة«» شديدة و كان أبو طالب ذا عيال كثير فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للعبّاس و كان من أيسر بني هاشم: إنّ أخاك أبا طالب كثير العيال و قد ترى ما أصاب النّاس من هذه الأزمة فانطلق بنا فنخفّف عنه من عياله آخذ من بنيه واحدا و تأخذ واحدا فنكفيهما عنه، فقال العبّاس: نعم، فانطلقا حتّى أتيا أبا طالب فقالا له: إنّا نريد أن نخفّف عنك من عيالك حتّى ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما: إن تركتما لي عقيلا فاصنعا ما شئتما، فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليا فضمّه إليه، و أخذ العبّاس جعفرا فضمّه إليه، فلم يزل عليّ بن أبي طالب مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى بعثه اللّه نبيّا، فاتبعه عليّ عليه السّلام فأقرّ به و صدّقه، و لم يزل جعفر عند العبّاس حتّى أسلم و استغنى عنه.

و رواه كاشف الغمّة عن الخطيب الخوارزمي عن محمّد بن إسحاق نحوه.
و روى الشّارح المعتزلي عن الفضل بن عباس قال: سألت أبي عن ولد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الذّكور أيّهم كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أشدّ حبّا، فقال: عليّ بن أبي طالب، فقلت: سألت لك عن بنيه، فقال: إنّه كان أحبّ إليه من بنيه جميعا و أرءف ما رأيناه زايلة يوما من الدّهر منذ كان طفلا إلّا أن يكون في سفر لخديجة و ما رأينا أبا أبرّ بابن منه لعليّ و لا ابنا أطوع لأب من عليّ له قال الشّارح: و روى جبير بن مطعم قال: قال أبي مطعم بن عدي لنا و نحن‏صبيان بمكّة: ألا ترون حبّ هذا الغلام يعني عليّا لمحمّد و اتّباعه له دون أبيه و اللّات و العزّى لوددت أنّه ابني بفتيان بني نوفل جميعا.

قال الشّارح: و روى الحسين بن زيد بن عليّ بن الحسين عليه السّلام قال: سمعت زيدا أبي يقول: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يمضغ اللّحمة و التمرة حتّى تلين و يجعلهما في فم عليّ و هو صغير في حجره.
الثالثة- ما أشار إليه بقوله (و ما و جد لي كذبة في قول و لا خطلة في فعل) أى لم تجد منّى كذبا و خطاء أبدا و لو مرّة واحدة، لوجود العصمة المانعة فيه و في زوجته و الطيّبين من أولاده سلام اللّه عليهم أجمعين من الاقدام على الذّنوب صغيرها و كبيرها باتّفاق الاماميّة و حكم آية التّطهير و غيرها، فلا يقع منهم ذنب أصلالا عمدا و لا نسيانا و لا خطاء.

روى في البحار من الخصال قال: قوله تعالى «وَ إِذِ ابْتَلى‏ إِبْراهِيمَ» عنى به أنّ الامامة لا تصلح لمن قد عبد صنما أو وثنا أو أشرك باللّه طرفة عين و إن أسلم بعد ذلك، و الظلم وضع الشي‏ء في غير موضعه و أعظم الظلم الشّرك قال اللّه عزّ و جلّ «وَ إِذْ قالَ لُقْمانُ» و كذلك لا تصلح لمن قد ارتكب من المحارم شيئا صغيرا كان أو كبيرا و إن تاب منه بعد ذلك، و كذلك لا يقيم الحدّ من في جانبه حدّ.

فاذا لا يكون الامام إلّا معصوما، و لا تعلم عصمته إلّا بنصّ اللّه عزّ و جلّ عليه على لسان نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لأنّ العصمة ليست فى ظاهر الخلقة فترى كالسّواد و البياض و ما أشبه ذلك و هى مغيبة لا تعرف إلّا بتعريف علّام الغيوب.

و قد مضى وجوب عصمة الامام بتقرير آخر في مقدّمات الخطبة الثالثة المعروفة بالشّقشقيّة.
ثمّ نبّه على منقبة عظيمة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لتكون تمهيدا و توطئة لمنقبته عليه السّلام الرابعة فقال: (و لقد قرن اللّه به صلّى اللّه عليه و آله من لدن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به‏طريق المكارم و محاسن أخلاق العالم ليله و نهاره).

قال الشّارح المعتزلي: روى انّ بعض أصحاب أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليهما السّلام سأله عن قول اللّه عزّ و جلّ «إِلَّا مَنِ ارْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ، فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً» فقال عليه السّلام يوكّل اللّه بأنبيائه ملائكة يحصون أعمالهم و يؤدّون إليه تبليغهم الرسالة، و وكّل بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ملكا عظيما منذ فصل عن الرّضا (ع) يرشده إلى الخيرات و مكارم الأخلاق و يسدّه عن الشرّ و مساوى الأخلاق، و هو الذي كان يناديه السّلام عليك يا محمّد يا رسول اللّه و هو شابّ لم يبلغ درجة الرّسالة بعد فيظنّ أنّ ذلك من الحجر و الأرض فيتأمّل فلا يرى شيئا.

أقول: و الظّاهر على ما يستفاد من الأخبار و اشير إليه في غير واحدة من الايات: إنّ المراد بهذا الملك هو روح القدس المخصوص بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عترته الأطهار الأخيار.
فقد روى المحدّث العلّامة المجلسي «ره» فى البحار من تفسير عليّ بن إبراهيم في قوله «وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي» حدّثنى أبي عن ابن أبي عمير عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: هو ملك أعظم من جبرئيل و ميكائيل كان مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو مع الأئمة، و فى خبر آخر هو من الملكوت.
و فيه منه فى قوله تعالى «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ» هم الأئمة «وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ» قال: ملك أعظم من جبرئيل و ميكائيل و كان مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو مع الأئمة عليهم السّلام.

و فيه من كتاب الاختصاص و بصائر الدّرجات بسندهما عن أبى بصير قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه تبارك و تعالى «وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ» قال: خلق من خلق اللّه أعظم من جبرئيل و ميكائيل، كان مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يخبره و يسدّده و هو مع الأئمة من بعده.
و فيه من البصاير مسندا عن سماعة بن مهران قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّ الرّوح خلق أعظم من جبرئيل و ميكائيل كان مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم‏يسدّده و يرشده و هو مع الأوصياء من بعده و فيه من البصاير عن البرقى عن أبى الجهم عن ابن اسباط قال: سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام رجل و أنا حاضر عن قول اللّه «وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا» فقال: منذ أنزل اللّه ذلك الرّوح على محمّد صلّى اللّه عليه و آله لم يصعد إلى السماء و أنه لفينا.

و فيه من الاختصاص و البصاير عن ابن يزيد عن ابن أبى عمير عن هشام بن سالم قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول «وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ» قال: خلق أعظم من خلق جبرئيل و ميكائيل لم يكن مع أحد ممّن مضى غير محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو مع الأئمّة يوفقهم و يسدّدهم، و ليس كلّما طلب وجد.
و الأخبار فى هذا المعنى كثيرة و لا حاجة إلى الاكثار و الاطالة، و المستفاد من الرّواية الأخيرة اختصاصه بالنبيّ و الأئمة عليهم السّلام و قوله عليه السّلام فيها: و ليس كلّما طلب وجد معناه أنّ حصول تلك المرتبة الجليلة و المنقبة العظيمة لا يتيسّر بالطلب بل ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء.

الرابعة- ما أشار إليه بقوله (و لقد كنت اتّبعه اتّباع الفصيل) و هو ولد الناقة (أثر امّه) و هو اشارة إلى فرط ملازمته له و عدم مفارقته إيّاه ليله و نهاره سفرا و حضرا في خلواته و جلواته.
و لمّا عرفت آنفا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان مؤيّدا مسدّدا بروح القدس من حين الطفولية إلى آخر عمره الشريف ملهما إلى الخيرات موفقا بتأييد الرّوح إلى سلوك طريق المكارم و محاسن أخلاق العالم.

تعرف من ذلك أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام إذا كان ملازما له غير مفارق منه يكون تاليا له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في سلوك مسالك مكارم الخصال و محامد الأفعال مقتبسا من أنواره مقتفيا لاثاره كما أوضحه بقوله: (يرفع لى فى كلّ يوم علما) وراية (من أخلاقه) الفاضلة (و يأمرنى بالاقتداء به) و المتابعة له.

الخامسة- ما أشار إليه بقوله (و لقد كان يجاور فى كلّ سنة بحراء) و يعتزل عن الخلق و يتخلّى للعبادة (فأراه و لا يراه) أحد (غيرى) قال الشارح المعتزلي: حديث مجاورته بحراء مشهور، قد ورد فى الكتب الصحاح أنه صلّى اللّه عليه و آله كان يجاور فى حراء من كلّ سنة شهرا، و كان يطعم فى ذلك الشهر من جاءه من المساكين، فاذا قضى جواره من حراء كان أوّل ما يبدء به إذا انصرف أن يأتي باب الكعبة قبل أن يدخل بيته فيطوف بها سبعا أو ما شاء اللّه من ذلك ثمّ يرجع إلى بيته حتى جاءت السنة التي أكرمه اللّه فيها بالرّسالة، فجاور فى حراء شهر رمضان و معه أهله خديجة و عليّ بن أبي طالب و خادم لهم، فجاءه جبرئيل بالرّسالة قال صلّى اللّه عليه و آله: جائنى و أنا نائم بنمط فيه كتاب فقال: اقرء، قلت: ما أقرء فغشني حتّى ظننت أنّه الموت، ثمّ أرسلني فقال «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ «إلى قوله» عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ»، فقرأته ثمّ انصرف عنّى، فنبّهت من نومي و كأنّما كتب فى قلبي كتاب الحديث و في كتاب حيوة القلوب للمحدّث العلّامة المجلسيّ عن عليّ بن إبراهيم و ابن شهر آشوب و الطبرسي و الرّاوندي و غيرهم من المحدّثين و المفسّرين أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان قبل مبعثه يعتزل عن قومه و يجاور الحراء و يفرغ لعبادة ربّه سبحانه، و كان عزّ و جلّ يسدّده و يهديه و يرشده بالرّوح القدس و الرؤيا الصّادقة و أصوات الملائكة و الالهامات الغيبية، فيدرج في مدارج المحبّة و المعرفة، و يعرج إلى معارج القرب و الزّلفي، و كان سبحانه يزيّنه بالفضل و العلم و محامد الأخلاق و محاسن الخصال و لا يراه أحد في أيّام مجاورته به و خلال تلك الأحوال غير أمير المؤمنين عليه السّلام و خديجة.

السادسة- ما أشار إليه بقوله (و لم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و خديجة و أنا ثالثهما) هذا الكلام صريح في سبقه على جميع من سواه من الرّجال بالاسلام، و نظيره قوله في المختار المأة و الأحد و الثلاثين: اللّهم إنّي أوّل من أناب و سمع و أجاب‏لم يسبقني إلّا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالصّلاة.
و قد تقدّم في شرح المختار المذكور تحقيق تقدّمه بالصّلاة و الاسلام كما هو مذهب الامامية تفصيلا و أبطلنا تقدّم اسلام أبي بكر عليه كما ذهب إليه شرذمة من العثمانيّة و أوردنا ثمّة من الأدلّة و الأخبار و الأشعار في هذا المعنى ما لا مزيد عليه و أقتصر هنا على روايتين تقدّمتا هناك اجمالا و نرويهما هنا تفصيلا.

احداهما عن كاشف الغمّة عن عفيف الكندي قال: كنت امرأ تاجرا فقدمت الحجّ فأتيت العبّاس بن عبد المطلب لأبتاع منه بعض التّجارة، و كان امرأ تاجرا فو اللّه إنى لعنده بمنى إذ خرج رجل من خباء قريب منه، فنظر إلى الشمس فلمّا رآها قد مالت قام يصلّى.

قال: ثمّ خرجت امرأة من الخباء الّذى خرج منه ذلك الرّجل فقامت خلفه فصلّت، ثمّ خرج غلام حين راهق الحلم من ذلك الخباء فقام معه فصلّى.
قال: فقلت للعباس: من هذا يا عبّاس قال: هذا محمّد بن عبد اللّه بن عبد المطّلب ابن أخي قال: فقلت: من هذه المرأة قال: امرأته خديجة بنت خويلد قال: فقلت: من هذا الفتي قال: عليّ بن أبي طالب ابن عمّه فقلت له: ما هذا الذى يصنع قال: يصلّي و هو يزعم أنّه نبيّ و لم يتبعه على أمره إلّا امرأته و ابن عمّه هذا الفتي و هو يزعم أنّه سيفتح عليه كنوز كسرى و قيصر، و كان عفيف و هو ابن عمّ الأشعث بن قيس يقول بعد ذلك و هو أسلم و حسن إسلامه: لو كان رزقني اللّه الاسلام يومئذ فأكون ثانيا مع عليّ عليه السّلام.

قال كاشف الغمة: و قد رواه بطوله أحمد بن حنبل فى مسنده، نقلته من الّذى اختاره و جمعه عزّ الدّين المحدّث، و تمامه من الخصائص بعد قوله ثمّ استقبل الرّكن و رفع يديه فكبّر، و قام الغلام و رفع يديه و كبّر، و رفعت المرأة يديها فكبّرت و ركع و ركعا و سجد و سجدا و قنت و قنتا، فرأينا شيئا لم نعرفه أو شيئا حدث بمكّة فأنكرنا ذلك و أقبلنا على العبّاس فقلنا له يا أبا الفضل الحديث بتمامه.

و الرواية الثانية قدّمناها هناك من البحار من مناقب ابن شهر آشوب من‏كتاب محمّد بن إسحاق و أرويها هنا بتفصيل من شرح المعتزلي رواها هنا عن الطّبرى عن ابن حميد عن سلمة عن محمّد بن إسحاق، و رواها أيضا في تاسع المختار من باب الكتب من كتاب السّيرة و المغازى لمحمّد بن إسحاق قال الشارح المعتزلي: فانّه كتاب معتمد عند أصحاب الحديث و المؤرّخين، و مصنّفه شيخ النّاس كلّهم قال: قال محمّد بن إسحاق: لم يسبق عليّا عليه السّلام إلى الايمان باللّه و رسالة محمّد أحد من النّاس، اللّهمّ إلّا أن تكون خديجة زوجة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

قال: و قد كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يخرج و معه عليّ عليه السّلام مستخفيا من النّاس فيصلّيان الصّلاة في بعض شعاب مكة، فاذا أمسيا رجعا فمكثا بذلك ما شاء اللّه أن يمكثا لا ثالث لهما.
ثمّ إنّ أبا طالب عثر عليهما يوما و هما يصلّيان فقال لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يا ابن أخي ما هذا الّذى تفعله فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أى عمّ هذا دين اللّه و دين ملائكته و رسله و دين أنبيائه أو كما قال صلّى اللّه عليه و آله بعثنى اللّه به رسولا إلى العباد «إلى أن قال» فزعموا أنّه قال: لعليّ عليه السّلام أى بنيّ ما هذا الّذى تصنع قال: يا أبتاه آمنت باللّه و رسوله و صدقته فيما جاء به و صليت إليه و اتّبعت قول نبيّه فزعموا أنّه قال له أما انّه لا يدعوك أو لن يدعوك إلّا إلى خير فالزمه.

قال ابن إسحاق: ثمّ أسلم زيد بن حارثة مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فكان أوّل من أسلم و صلّى معه صلّى اللّه عليه و آله بعد عليّ بن أبي طالب، ثمّ أسلم أبو بكر بن أبي قحافة فكان ثالثا لهما، ثمّ اسلم عثمان بن عفّان و طلحة و الزّبير و عبد الرّحمن و سعد بن أبى وقّاص فصاروا ثمانية، فهم الثّمانية الّذين سبقوا النّاس إلى الاسلام بمكّة.

السابعة- ما أشار إليه بقوله (أرى نور الوحى و الرّسالة و أشمّ ريح النّبوة) قال الشارح البحرانى و هذه أعلى مراتب الأولياء، و استعار لفظ النور لما يشاهده بعين بصيرته من أسرار الوحي و الرّسالة و علوم التنزيل و دقايق التّأويل و اشراقها على لوح نفسه القدسيّة، و وجه الاستعارة كون هذه العلوم و الأسرار هادية في سبيل اللّه إليه من ظلمات الجهل كما يهدى النور من الطّرق المحسوسة، و رشح‏تلك الاستعارة بذكر الرؤية لأنّ النور حظّ البصر و كذلك استعار لفظ الرّيح لما أدركه من مقام النّبوة و أسرارها و رشح بذكر الشمّ لأنّ الرّيح حظّ القوّة الشامة، انتهى.

أقول: و لقائل أن يقول: لا مانع من ظهور نور محسوس عند نزول الوحي أو في ساير الأوقات أيضا، و كذلك عرف طيب يدركه أمير المؤمنين عليه السّلام بقوّة قوّتيه الباصرة و الشّامّة و إن لم يكن يحسّ به غيره و لا حاجة على ذلك إلى التّأويل الّذى ذكره.

و يشهد بما ذكرته ما رواه فى البحار من أمالى الشيخ عن المفيد عن علىّ بن محمّد البزّاز عن زكريا بن يحيى الكشحى عن أبى هاشم الجعفرى قال: سمعت الرّضا عليه السّلام يقول: لنا أعين لا تشبه أعين النّاس، و فيها نور ليس للشّيطان لها نصيب.

و فى شرح المعتزلي روى عن جعفر بن محمّد الصادق عليهما السّلام قال: كان عليّ عليه السّلام يرى مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل الرّسالة الضوء و يسمع الصّوت، و قال صلّى اللّه عليه و آله لو لا أنّى خاتم الأنبياء لكنت شريكا فى النّبوة فان لا تكن نبيّا فانك وصيّ نبيّ و وارثه بل أنت سيّد الأوصياء.

الثامنة- ما أشار إليه بقوله (و لقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقلت يا رسول اللّه ما هذه الرّنة) و الصّوت (فقال هذا الشّيطان قد أيس من عبادته) أى من أن يعبد له.
و هذه المنقبة له عليه السّلام تدلّ على كمال قوّته السامعة أيضا و سماعه ما لا يسمعه غيره.
و أما رنين هذا اللّعين فقد روى عليّ بن إبراهيم القميّ عن أبيه عن الحسن ابن عليّ بن فضال عن علىّ بن عقبة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ إبليس رنّ رنينا لما بعث اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على حين فترة من الرّسل و حين انزلت أمّ الكتاب.

و روى المحدّث العلّامة المجلسيّ في كتاب حيوة القلوب عن الصّدوق عن الصّادق عليه السّلام أنّ ابليس رنّ أربع رنّات: يوم لعن، و يوم اهبط إلى الأرض، و حين بعث محمّد على حين فترة من الرّسل، و حين نزلت امّ الكتاب.

و فى شرح المعتزلي من مسند أحمد بن حنبل عن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام قال: كنت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صبيحة الليلة الّتى اسرى به فيها و هو بالحجرة يصلّي فلمّا قضى صلاته و قضيت صلاتى سمعت رنّة شديدة فقلت: يا رسول اللّه ما هذه الرنّة: قال: ألا تعلم هذه رنّة الشيطان علم أنّي اسرى فى الليلة إلى السماء فايس من أن يعبد فى هذه الأرض.

التاسعة- ما أشار إليه بقوله (إنّك تسمع ما أسمع و ترى ما أرى) ظاهر هذا الكلام يفيد أنّ الامام يسمع صوت الملك و يعاينه كالرّسول.
أمّا سماع الصوت فلا غبار عليه و يشهد به أخبار كثيرة.
و أمّا المعاينة فيدلّ عليه بعض الأخبار.
مثل ما فى البحار من أمالى الشيخ باسناده عن أبى حمزة قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّ منّا لمن ينكت فى قلبه و إنّ منّا لمن يؤتي في منامه و إنّ منّا لمن يسمع الصّوت مثل صوت السلسلة فى الطّشت و أنّ منّا لمن يأتيه صورة أعظم من جبرئيل و ميكائيل و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: منّا من ينكت في قلبه، و منّا من يخاطب، و قال عليه السّلام: إنّ منّا لمن يعاين معاينة و إنّ منّا لمن ينقر في قلبه كيت و كيت، و إنّ منّا لمن يسمع كوقع السّلسلة في الطشت، قال: قلت: و الّذى يعاينون ما هو قال: خلق أعظم من جبرئيل و ميكائيل.

و لكن الظاهر من الأخبار الكثيرة أنّ الامام يسمع الصّوت و لا يعاين، و من ذلك اضطرّ المحدّث العلّامة المجلسي «ره» بعد رواية هذه الرّواية إلى تأويلها بقوله: و المراد بالمعاينة معاينة روح القدس و هو ليس من الملائكة مع أنّه يحتمل أن يكون المعاينة في غير وقت المخاطبة، انتهى.

و تمام الكلام إنشاء اللّه فى التّنبيه الثاني من التنبيهات الاتية، هذا.
و لما كان ظاهر قوله صلّى اللّه عليه و آله انّك تسمع ما أسمع و ترى ما أرى موهما للسماوات بينه عليه السّلام و بينه صلّى اللّه عليه و آله استدرك ذلك بقوله (إلّا أنّك لست بنبيّ) و نظير هذا الاستدراك قد وقع في كلام الصادق عليه السّلام و هو:

ما رواه في البحار من البصاير بسنده عن عليّ السائي قال: سألت الصادق عليه السّلام عن مبلغ علمهم، فقال: مبلغ علمنا ثلاثة وجوه: ماض، و غابر، و حادث، فأمّا الماضي فمفسّر، و أمّا الغابر فمزبور، و أمّا الحادث فقذف في القلوب و نقر في الأسماع و هو أفضل علمنا و لا نبيّ بعد نبيّنا.

فانّ النّكث و النّقر لما كانا مظنّة لأن يتوهّم السائل فيهم النّبوّة قال عليه السّلام: و لا نبيّ بعد نبيّنا، و يتّضح لك معني هذا الحديث ممّا نورده في التّنبيه الثاني إنشاء اللّه.
ثمّ إنّه لمّا نفي عنه النّبوة أثبت له الوزارة و هي عاشر المناقب فقال (و لكنّك لوزير و إنّك لعلى خير) بشّره بالوزارة و نبّه به على أنّه الصّالح لتدبير أمور الرّسالة و المعاون له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في نظم امور الدّين و تأسيس قواعد شرع المبين و اصلاح امور الاسلام و المسلمين، ثمّ شهد به أنّه على خير و أشار به على استقراره و ثباته على ما هو خير الدّنيا و الاخرة، و أنّه مجانب لما هو شرّ الدّنيا و الاخرة.

و هذا معني عام متضمّن لكونه عليه السّلام جامعا لجميع الكمالات و المكارم الدّنيويّة و الاخرويّة و المحامد الصّوريّة و المعنويّة و كونه راسخا فيها غير متزلزل و لا متكلّف، هذا.
و اعلم أنّ هذا الفصل من الخطبة الشريفة لمّا كان متضمّنا لجلّ مسائل الرّسالة و الامامة حسبما عرفته أتيت في شرحه من الرّوايات الشّريفة و التحقيقات اللطيفة بما هو مقتضي مذهب الفرقة النّاجية الاماميّة، و أضربت عن روايات عاميّة ضعيفة أوردها الشّارح المعتزلي في بيان عصمة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالملائكة.

و العجب من مبالغة الشّارح البحراني له في ايراد بعض هذه الأخبار مع أنّها مضافة إلى أنّها خلاف اصول الاماميّة ممّا تشمئزّ عنها الطباع و تنفر عنها الأسماع كما هو غير خفيّ على من لاحظ الشرحين بنظر الدّقة و الاعتبار.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه هاخطبه شماره 191/2 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)قاصعة

خطبه 192 صبحی صالح

192- و من خطبة له ( عليه ‏السلام  ) تسمى القاصعة و هي تتضمن ذم إبليس لعنه اللّه، على استكباره و تركه السجود لآدم ( عليه‏السلام  )، و أنه أول من أظهر العصبية و تبع الحمية، و تحذير الناس من سلوك طريقته.

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَبِسَ الْعِزَّ وَ الْكِبْرِيَاءَ وَ اخْتَارَهُمَا لِنَفْسِهِ دُونَ‏خَلْقِهِ وَ جَعَلَهُمَا حِمًى وَ حَرَماً عَلَى غَيْرِهِ وَ اصْطَفَاهُمَا لِجَلَالِهِ

رأس العصيان‏

وَ جَعَلَ اللَّعْنَةَ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ فِيهِمَا مِنْ عِبَادِهِ

ثُمَّ اخْتَبَرَ بِذَلِكَ مَلَائِكَتَهُ الْمُقَرَّبِينَ لِيَمِيزَ الْمُتَوَاضِعِينَ مِنْهُمْ مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ

فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَ هُوَ الْعَالِمُ بِمُضْمَرَاتِ الْقُلُوبِ وَ مَحْجُوبَاتِ الْغُيُوبِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ‏

اعْتَرَضَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بِخَلْقِهِ وَ تَعَصَّبَ عَلَيْهِ لِأَصْلِهِ فَعَدُوُّ اللَّهِ إِمَامُ الْمُتَعَصِّبِينَ وَ سَلَفُ الْمُسْتَكْبِرِينَ الَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ وَ نَازَعَ اللَّهَ رِدَاءَ الْجَبْرِيَّةِ وَ ادَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّزِ وَ خَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ

أَ لَا تَرَوْنَ كَيْفَ صَغَّرَهُ اللَّهُ بِتَكَبُّرِهِ وَ وَضَعَهُ بِتَرَفُّعِهِ فَجَعَلَهُ فِي الدُّنْيَا مَدْحُوراً وَ أَعَدَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ سَعِيراً

ابتلاء اللّه لخلقه‏

وَ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ مِنْ نُورٍ يَخْطَفُ الْأَبْصَارَ ضِيَاؤُهُ وَ يَبْهَرُ الْعُقُولَ رُوَاؤُهُ وَ طِيبٍ يَأْخُذُ الْأَنْفَاسَ عَرْفُهُ لَفَعَلَ

وَ لَوْ فَعَلَ لَظَلَّتْ لَهُ الْأَعْنَاقُ خَاضِعَةً وَ لَخَفَّتِ الْبَلْوَى فِيهِ عَلَى الْمَلَائِكَةِوَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَبْتَلِي خَلْقَهُ بِبَعْضِ مَا يَجْهَلُونَ أَصْلَهُ تَمْيِيزاً بِالِاخْتِبَارِ لَهُمْ وَ نَفْياً لِلِاسْتِكْبَارِ عَنْهُمْ وَ إِبْعَاداً لِلْخُيَلَاءِ مِنْهُمْ

طلب العبرة

فَاعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ بِإِبْلِيسَ إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ الطَّوِيلَ وَ جَهْدَهُ الْجَهِيدَ وَ كَانَ قَدْ عَبَدَ اللَّهَ سِتَّةَ آلَافِ سَنَةٍ لَا يُدْرَى أَ مِنْ سِنِي الدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِي الْآخِرَةِ عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ

فَمَنْ ذَا بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَعْصِيَتِهِ كَلَّا مَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِيُدْخِلَ الْجَنَّةَ بَشَراً بِأَمْرٍ أَخْرَجَ بِهِ مِنْهَا مَلَكاً

إِنَّ حُكْمَهُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ وَ أَهْلِ الْأَرْضِ لَوَاحِدٌ وَ مَا بَيْنَ اللَّهِ وَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ هَوَادَةٌ فِي إِبَاحَةِ حِمًى حَرَّمَهُ عَلَى الْعَالَمِينَ

التحذير من الشيطان‏

فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللَّهِ عَدُوَّ اللَّهِ أَنْ يُعْدِيَكُمْ بِدَائِهِ وَ أَنْ يَسْتَفِزَّكُمْ بِنِدَائِهِ وَ أَنْ يُجْلِبَ عَلَيْكُمْ بِخَيْلِهِ وَ رَجِلِهِ

فَلَعَمْرِي لَقَدْ فَوَّقَ لَكُمْ سَهْمَ الْوَعِيدِ وَ أَغْرَقَ إِلَيْكُمْ بِالنَّزْعِ الشَّدِيدِ وَ رَمَاكُمْ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ فَ قَالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ‏قَذْفاً بِغَيْبٍ بَعِيدٍ وَ رَجْماً بِظَنٍّ غَيْرِ مُصِيبٍ

صَدَّقَهُ بِهِ أَبْنَاءُ الْحَمِيَّةِ وَ إِخْوَانُ الْعَصَبِيَّةِ وَ فُرْسَانُ الْكِبْرِوَ الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى إِذَا انْقَادَتْ لَهُ الْجَامِحَةُ مِنْكُمْ وَ اسْتَحْكَمَتِ الطَّمَاعِيَّةُ مِنْهُ فِيكُمْ فَنَجَمَتِ الْحَالُ مِنَ السِّرِّ الْخَفِيِّ إِلَى الْأَمْرِ الْجَلِيِّ

اسْتَفْحَلَ سُلْطَانُهُ عَلَيْكُمْ وَ دَلَفَ بِجُنُودِهِ نَحْوَكُمْ فَأَقْحَمُوكُمْ وَلَجَاتِ الذُّلِّ وَ أَحَلُّوكُمْ وَرَطَاتِ الْقَتْلِ

وَ أَوْطَئُوكُمْ إِثْخَانَ الْجِرَاحَةِ طَعْناً فِي عُيُونِكُمْ وَ حَزّاً فِي حُلُوقِكُمْ وَ دَقّاً لِمَنَاخِرِكُمْ وَ قَصْداً لِمَقَاتِلِكُمْ وَ سَوْقاً بِخَزَائِمِ الْقَهْرِ إِلَى النَّارِ الْمُعَدَّةِ لَكُمْ

فَأَصْبَحَ أَعْظَمَ فِي دِينِكُمْ حَرْجاً وَ أَوْرَى فِي دُنْيَاكُمْ قَدْحاً مِنَ الَّذِينَ أَصْبَحْتُمْ لَهُمْ مُنَاصِبِينَ وَ عَلَيْهِمْ مُتَأَلِّبِينَ

فَاجْعَلُوا عَلَيْهِ حَدَّكُمْ وَ لَهُ جِدَّكُمْ فَلَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ فَخَرَ عَلَى أَصْلِكُمْ وَ وَقَعَ فِي حَسَبِكُمْ وَ دَفَعَ فِي نَسَبِكُمْ وَ أَجْلَبَ بِخَيْلِهِ عَلَيْكُمْ وَ قَصَدَ بِرَجِلِهِ سَبِيلَكُمْ يَقْتَنِصُونَكُمْ بِكُلِّ مَكَانٍ وَ يَضْرِبُونَ مِنْكُمْ كُلَّ بَنَانٍ

لَا تَمْتَنِعُونَ بِحِيلَةٍ وَ لَا تَدْفَعُونَ بِعَزِيمَةٍ فِي حَوْمَةِ ذُلٍّ وَ حَلْقَةِ ضِيقٍ وَ عَرْصَةِ مَوْتٍ وَ جَوْلَةِ بَلَاءٍ

فَأَطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ نِيرَانِ الْعَصَبِيَّةِ وَ أَحْقَادِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّمَا تِلْكَ الْحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي الْمُسْلِمِ مِنْ خَطَرَاتِ الشَّيْطَانِ وَ نَخَوَاتِهِ وَ نَزَغَاتِهِ وَ نَفَثَاتِهِ

وَ اعْتَمِدُوا وَضْعَ التَّذَلُّلِ عَلَى رُءُوسِكُمْ وَ إِلْقَاءَ التَّعَزُّزِ تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ وَ خَلْعَ التَّكَبُّرِ مِنْ أَعْنَاقِكُمْ وَ اتَّخِذُوا التَّوَاضُعَ مَسْلَحَةً بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ عَدُوِّكُمْ إِبْلِيسَ‏وَ جُنُودِهِ فَإِنَّ لَهُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ جُنُوداً وَ أَعْوَاناً وَ رَجِلًا وَ فُرْسَاناً

وَ لَا تَكُونُوا كَالْمُتَكَبِّرِ عَلَى ابْنِ أُمِّهِ مِنْ غَيْرِ مَا فَضْلٍ جَعَلَهُ اللَّهُ فِيهِ سِوَى مَا أَلْحَقَتِ الْعَظَمَةُ بِنَفْسِهِ مِنْ عَدَاوَةِ الْحَسَدِ وَ قَدَحَتِ الْحَمِيَّةُ فِي قَلْبِهِ مِنْ نَارِ الْغَضَبِ

وَ نَفَخَ الشَّيْطَانُ فِي أَنْفِهِ مِنْ رِيحِ الْكِبْرِ الَّذِي أَعْقَبَهُ اللَّهُ بِهِ النَّدَامَةَ وَ أَلْزَمَهُ آثَامَ الْقَاتِلِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ

التحذير من الكبر

أَلَا وَ قَدْ أَمْعَنْتُمْ فِي الْبَغْيِ وَ أَفْسَدْتُمْ فِي الْأَرْضِ مُصَارَحَةً لِلَّهِ بِالْمُنَاصَبَةِ وَ مُبَارَزَةً لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْمُحَارَبَةِ

فَاللَّهَ اللَّهَ فِي كِبْرِ الْحَمِيَّةِ وَ فَخْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مَلَاقِحُ الشَّنَئَانِ وَ مَنَافِخُ الشَّيْطَانِ الَّتِي خَدَعَ بِهَا الْأُمَمَ الْمَاضِيَةَ وَ الْقُرُونَ الْخَالِيَةَ حَتَّى أَعْنَقُوا فِي حَنَادِسِ جَهَالَتِهِ وَ مَهَاوِي ضَلَالَتِهِ

ذُلُلًا عَنْ سِيَاقِهِ سُلُساً فِي قِيَادِهِ أَمْراً تَشَابَهَتِ الْقُلُوبُ فِيهِ وَ تَتَابَعَتِ الْقُرُونُ عَلَيْهِ وَ كِبْراً تَضَايَقَتِ الصُّدُورُ بِهِ

التحذير من طاعة الكبراء

أَلَا فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ طَاعَةِ سَادَاتِكُمْ وَ كُبَرَائِكُمْ الَّذِينَ تَكَبَّرُوا عَنْ حَسَبِهِمْ وَ تَرَفَّعُوا فَوْقَ نَسَبِهِمْ وَ أَلْقَوُا الْهَجِينَةَ عَلَى رَبِّهِمْ‏وَ جَاحَدُوا اللَّهَ عَلَى مَا صَنَعَ بِهِمْ مُكَابَرَةً لِقَضَائِهِ وَ مُغَالَبَةً لِآلَائِهِ

فَإِنَّهُمْ قَوَاعِدُ أَسَاسِ الْعَصَبِيَّةِ وَ دَعَائِمُ أَرْكَانِ الْفِتْنَةِ وَ سُيُوفُ اعْتِزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ

فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ لَا تَكُونُوا لِنِعَمِهِ عَلَيْكُمْ أَضْدَاداً وَ لَا لِفَضْلِهِ عِنْدَكُمْ حُسَّاداً وَ لَا تُطِيعُوا الْأَدْعِيَاءَ الَّذِينَ شَرِبْتُمْ بِصَفْوِكُمْ كَدَرَهُمْ وَ خَلَطْتُمْ بِصِحَّتِكُمْ مَرَضَهُمْ وَ أَدْخَلْتُمْ فِي حَقِّكُمْ بَاطِلَهُمْ

وَ هُمْ أَسَاسُ الْفُسُوقِ وَ أَحْلَاسُ الْعُقُوقِ اتَّخَذَهُمْ إِبْلِيسُ مَطَايَا ضَلَالٍ وَ جُنْداً بِهِمْ يَصُولُ عَلَى النَّاسِ وَ تَرَاجِمَةً يَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ

اسْتِرَاقاً لِعُقُولِكُمْ وَ دُخُولًا فِي عُيُونِكُمْ وَ نَفْثاً فِي أَسْمَاعِكُمْ فَجَعَلَكُمْ مَرْمَى نَبْلِهِ وَ مَوْطِئَ قَدَمِهِ وَ مَأْخَذَ يَدِهِ

العبرة بالماضين‏

فَاعْتَبِرُوا بِمَا أَصَابَ الْأُمَمَ الْمُسْتَكْبِرِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَ صَوْلَاتِهِ وَ وَقَائِعِهِ وَ مَثُلَاتِهِ وَ اتَّعِظُوا بِمَثَاوِي خُدُودِهِمْ وَ مَصَارِعِ جُنُوبِهِمْ

وَ اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ لَوَاقِحِ الْكِبْرِ كَمَا تَسْتَعِيذُونَهُ مِنْ طَوَارِقِ الدَّهْرِ

فَلَوْ رَخَّصَ اللَّهُ فِي الْكِبْرِ لِأَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ لَرَخَّصَ فِيهِ لِخَاصَّةِ أَنْبِيَائِهِ وَ أَوْلِيَائِهِ وَ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَرَّهَ إِلَيْهِمُ التَّكَابُرَ وَ رَضِيَ لَهُمُ التَّوَاضُعَ

فَأَلْصَقُوا بِالْأَرْضِ خُدُودَهُمْ وَ عَفَّرُوا فِي التُّرَابِ وُجُوهَهُمْ وَ خَفَضُوا أَجْنِحَتَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ كَانُوا قَوْماً

مُسْتَضْعَفِينَ قَدِ اخْتَبَرَهُمُ اللَّهُ بِالْمَخْمَصَةِ وَ ابْتَلَاهُمْ بِالْمَجْهَدَةِ وَ امْتَحَنَهُمْ بِالْمَخَاوِفِ وَ مَخَضَهُمْ بِالْمَكَارِهِ

فَلَا تَعْتَبِرُوا الرِّضَى وَ السُّخْطَ بِالْمَالِ وَ الْوَلَدِ جَهْلًا بِمَوَاقِعِ الْفِتْنَةِ وَ الِاخْتِبَارِ فِي مَوْضِعِ الْغِنَى وَ الِاقْتِدَارِ

فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ‏

فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ الْمُسْتَكْبِرِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ بِأَوْلِيَائِهِ الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي أَعْيُنِهِمْ

تواضع الأنبياء

وَ لَقَدْ دَخَلَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ وَ مَعَهُ أَخُوهُ هَارُونُ ( عليهماالسلام  )عَلَى فِرْعَوْنَ وَ عَلَيْهِمَا مَدَارِعُ الصُّوفِ وَ بِأَيْدِيهِمَا الْعِصِيُّ فَشَرَطَا لَهُ إِنْ أَسْلَمَ بَقَاءَ مُلْكِهِ وَ دَوَامَ عِزِّهِ

فَقَالَ أَ لَا تَعْجَبُونَ مِنْ هَذَيْنِ يَشْرِطَانِ لِي دَوَامَ الْعِزِّ وَ بَقَاءَ الْمُلْكِ وَ هُمَا بِمَا تَرَوْنَ مِنْ حَالِ الْفَقْرِ وَ الذُّلِّ فَهَلَّا أُلْقِيَ عَلَيْهِمَا أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ إِعْظَاماً لِلذَّهَبِ وَ جَمْعِهِ وَ احْتِقَاراً لِلصُّوفِ وَ لُبْسِهِ وَ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِأَنْبِيَائِهِ حَيْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ كُنُوزَ الذِّهْبَانِ وَ مَعَادِنَ الْعِقْيَانِ وَ مَغَارِسَ الْجِنَانِ وَ أَنْ يَحْشُرَ مَعَهُمْ طُيُورَ السَّمَاءِ وَ وُحُوشَ الْأَرَضِينَ لَفَعَلَ

وَ لَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ الْبَلَاءُ وَ بَطَلَ الْجَزَاءُوَ اضْمَحَلَّتِ الْأَنْبَاءُ وَ لَمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِينَ أُجُورُ الْمُبْتَلَيْنَ وَ لَا اسْتَحَقَّ الْمُؤْمِنُونَ ثَوَابَ الْمُحْسِنِينَ وَ لَا لَزِمَتِ الْأَسْمَاءُ مَعَانِيَهَا

وَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِي قُوَّةٍ فِي عَزَائِمِهِمْ وَ ضَعَفَةً فِيمَا تَرَى الْأَعْيُنُ مِنْ حَالَاتِهِمْ مَعَ قَنَاعَةٍ تَمْلَأُ الْقُلُوبَ وَ الْعُيُونَ غِنًى وَ خَصَاصَةٍ تَمْلَأُ الْأَبْصَارَ وَ الْأَسْمَاعَ أَذًى

وَ لَوْ كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ أَهْلَ قُوَّةٍ لَا تُرَامُ وَ عِزَّةٍ لَا تُضَامُ وَ مُلْكٍ تُمَدُّ نَحْوَهُ أَعْنَاقُ الرِّجَالِ وَ تُشَدُّ إِلَيْهِ عُقَدُ الرِّحَالِ لَكَانَ ذَلِكَ أَهْوَنَ عَلَى الْخَلْقِ فِي الِاعْتِبَارِ وَ أَبْعَدَ لَهُمْ فِي الِاسْتِكْبَارِ

وَ لَآمَنُوا عَنْ رَهْبَةٍ قَاهِرَةٍ لَهُمْ أَوْ رَغْبَةٍ مَائِلَةٍ بِهِمْ فَكَانَتِ النِّيَّاتُ مُشْتَرَكَةً وَ الْحَسَنَاتُ مُقْتَسَمَةً

وَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الِاتِّبَاعُ لِرُسُلِهِ وَ التَّصْدِيقُ بِكُتُبِهِ وَ الْخُشُوعُ لِوَجْهِهِ وَ الِاسْتِكَانَةُ لِأَمْرِهِ وَ الِاسْتِسْلَامُ لِطَاعَتِهِ أُمُوراً لَهُ خَاصَّةً لَا تَشُوبُهَا مِنْ غَيْرِهَا شَائِبَةٌ

وَ كُلَّمَا كَانَتِ الْبَلْوَى وَ الِاخْتِبَارُ أَعْظَمَ كَانَتِ الْمَثُوبَةُ وَ الْجَزَاءُ أَجْزَلَ

الكعبة المقدسة

أَ لَا تَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اخْتَبَرَ الْأَوَّلِينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ ( صلوات‏الله‏عليه  )إِلَى الْآخِرِينَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ بِأَحْجَارٍ لَا تَضُرُّ وَ لَا تَنْفَعُ وَ لَا تُبْصِرُ وَ لَا تَسْمَعُ فَجَعَلَهَا بَيْتَهُ الْحَرَامَ الَّذِي جَعَلَهُ لِلنَّاسِ قِيَاماً

ثُمَ‏ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ بِقَاعِ الْأَرْضِ حَجَراً وَ أَقَلِّ نَتَائِقِ الدُّنْيَا مَدَراً وَ أَضْيَقِ بُطُونِ الْأَوْدِيَةِ قُطْراً بَيْنَ جِبَالٍ خَشِنَةٍ وَ رِمَالٍ دَمِثَةٍ وَ عُيُونٍ وَشِلَةٍ وَ قُرًى مُنْقَطِعَةٍ لَا يَزْكُو بِهَا خُفٌّ وَ لَا حَافِرٌ وَ لَا ظِلْفٌ

ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ ( عليه‏السلام  )وَ وَلَدَهُ أَنْ يَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ نَحْوَهُ فَصَارَ مَثَابَةً لِمُنْتَجَعِ أَسْفَارِهِمْ وَ غَايَةً لِمُلْقَى رِحَالِهِمْ تَهْوِي إِلَيْهِ ثِمَارُ الْأَفْئِدَةِ

مِنْ مَفَاوِزِ قِفَارٍ سَحِيقَةٍ وَ مَهَاوِي فِجَاجٍ عَمِيقَةٍ وَ جَزَائِرِ بِحَارٍ مُنْقَطِعَةٍ حَتَّى يَهُزُّوا مَنَاكِبَهُمْ ذُلُلًا يُهَلِّلُونَ لِلَّهِ حَوْلَهُ وَ يَرْمُلُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ شُعْثاً غُبْراً لَهُ

قَدْ نَبَذُوا السَّرَابِيلَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَ شَوَّهُوا بِإِعْفَاءِ الشُّعُورِ مَحَاسِنَ خَلْقِهِمُ ابْتِلَاءً عَظِيماً وَ امْتِحَاناً شَدِيداً وَ اخْتِبَاراً مُبِيناً وَ تَمْحِيصاً بَلِيغاً جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَباً لِرَحْمَتِهِ وَ وُصْلَةً إِلَى جَنَّتِهِ

وَ لَوْ أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَضَعَ بَيْتَهُ الْحَرَامَ وَ مَشَاعِرَهُ الْعِظَامَ بَيْنَ جَنَّاتٍ وَ أَنْهَارٍ وَ سَهْلٍ وَ قَرَارٍ جَمَّ الْأَشْجَارِ دَانِيَ الثِّمَارِ مُلْتَفَّ الْبُنَى مُتَّصِلَ الْقُرَى

بَيْنَ بُرَّةٍ سَمْرَاءَ وَ رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ وَ أَرْيَافٍ مُحْدِقَةٍ وَ عِرَاصٍ مُغْدِقَةٍ وَ رِيَاضٍ نَاضِرَةٍ وَ طُرُقٍ عَامِرَةٍ لَكَانَ قَدْ صَغُرَ قَدْرُ الْجَزَاءِ عَلَى حَسَبِ ضَعْفِ الْبَلَاءِ

وَ لَوْ كَانَ الْإِسَاسُ الْمَحْمُولُ عَلَيْهَا وَ الْأَحْجَارُ الْمَرْفُوعُ بِهَا بَيْنَ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ وَ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ وَ نُورٍ وَ ضِيَاءٍ

لَخَفَّفَ ذَلِكَ مُصَارَعَةَ الشَّكِّ فِي الصُّدُورِ وَ لَوَضَعَ مُجَاهَدَةَ إِبْلِيسَ عَنِ الْقُلُوبِ وَ لَنَفَى مُعْتَلَجَ الرَّيْبِ مِنَ النَّاسِ

وَ لَكِنَّ اللَّهَ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِأَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ وَ يَتَعَبَّدُهُمْ بِأَنْوَاعِ الْمَجَاهِدِ وَ يَبْتَلِيهِمْ بِضُرُوبِ الْمَكَارِهِ إِخْرَاجاً لِلتَّكَبُّرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَ إِسْكَاناً لِلتَّذَلُّلِ فِي نُفُوسِهِمْ وَ لِيَجْعَلَ ذَلِكَ أَبْوَاباً فُتُحاً إِلَى فَضْلِهِ وَ أَسْبَاباً ذُلُلًا لِعَفْوِهِ

عود إلى التحذير

فَاللَّهَ اللَّهَ فِي عَاجِلِ الْبَغْيِ وَ آجِلِ وَخَامَةِ الظُّلْمِ وَ سُوءِ عَاقِبَةِ الْكِبْرِ فَإِنَّهَا مَصْيَدَةُ إِبْلِيسَ الْعُظْمَى وَ مَكِيدَتُهُ الْكُبْرَى الَّتِي تُسَاوِرُ قُلُوبَ الرِّجَالِ مُسَاوَرَةَ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ

فَمَا تُكْدِي أَبَداً وَ لَا تُشْوِي أَحَداً لَا عَالِماً لِعِلْمِهِ وَ لَا مُقِلًّا فِي طِمْرِهِ

وَ عَنْ ذَلِكَ مَا حَرَسَ اللَّهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَوَاتِ وَ الزَّكَوَاتِ وَ مُجَاهَدَةِ الصِّيَامِ فِي الْأَيَّامِ الْمَفْرُوضَاتِ تَسْكِيناً لِأَطْرَافِهِمْ وَ تَخْشِيعاً لِأَبْصَارِهِمْ وَ تَذْلِيلًا لِنُفُوسِهِمْ وَ تَخْفِيضاً لِقُلُوبِهِمْ وَ إِذْهَاباً لِلْخُيَلَاءِ عَنْهُمْ

وَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْفِيرِ عِتَاقِ الْوُجُوهِ بِالتُّرَابِ تَوَاضُعاً وَ الْتِصَاقِ كَرَائِمِ الْجَوَارِحِ بِالْأَرْضِ تَصَاغُراً وَ لُحُوقِ الْبُطُونِ بِالْمُتُونِ مِنَ الصِّيَامِ تَذَلُّلًا مَعَ مَا فِي الزَّكَاةِ مِنْ صَرْفِ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ وَ غَيْرِ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ وَ الْفَقْرِ

فضائل الفرائض‏

انْظُرُوا إِلَى مَا فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ مِنْ قَمْعِ نَوَاجِمِ الْفَخْرِ وَ قَدْعِ طَوَالِعِ الْكِبْرِ

وَ لَقَدْ نَظَرْتُ فَمَا وَجَدْتُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ يَتَعَصَّبُ لِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا عَنْ عِلَّةٍ تَحْتَمِلُ تَمْوِيهَ الْجُهَلَاءِ أَوْ حُجَّةٍ تَلِيطُ بِعُقُولِ السُّفَهَاءِ غَيْرَكُمْ فَإِنَّكُمْ تَتَعَصَّبُونَ لِأَمْرٍ مَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ وَ لَا عِلَّةٌ أَمَّا إِبْلِيسُ فَتَعَصَّبَ عَلَى آدَمَ لِأَصْلِهِ وَ طَعَنَ عَلَيْهِ فِي خِلْقَتِهِ فَقَالَ أَنَا نَارِيٌّ وَ أَنْتَ طِينِيٌّ

عصبية المال‏

وَ أَمَّا الْأَغْنِيَاءُ مِنْ مُتْرَفَةِ الْأُمَمِ فَتَعَصَّبُوا لِآثَارِ مَوَاقِعِ النِّعَمِ فَ قالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ‏

فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُكُمْ لِمَكَارِمِ الْخِصَالِ وَ مَحَامِدِ الْأَفْعَالِ

وَ مَحَاسِنِ الْأُمُورِ الَّتِي تَفَاضَلَتْ فِيهَا الْمُجَدَاءُ وَ النُّجَدَاءُ مِنْ بُيُوتَاتِ الْعَرَبِ وَ يَعَاسِيبِ القَبَائِلِ بِالْأَخْلَاقِ الرَّغِيبَةِ وَ الْأَحْلَامِ الْعَظِيمَةِ وَ الْأَخْطَارِ الْجَلِيلَةِ وَ الْآثَارِ الْمَحْمُودَةِ

فَتَعَصَّبُوا لِخِلَالِ الْحَمْدِ مِنَ الْحِفْظِ لِلْجِوَارِ وَ الْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ وَ الطَّاعَةِ لِلْبِرِّ وَ الْمَعْصِيَةِ لِلْكِبْرِ وَ الْأَخْذِ بِالْفَضْلِ وَ الْكَفِّ عَنِ الْبَغْيِ وَ الْإِعْظَامِ لِلْقَتْلِ وَ الْإِنْصَافِ لِلْخَلْقِ وَ الْكَظْمِ لِلْغَيْظِوَ اجْتِنَابِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ

وَ احْذَرُوا مَا نَزَلَ بِالْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مِنَ الْمَثُلَاتِ بِسُوءِ الْأَفْعَالِ وَ ذَمِيمِ الْأَعْمَالِ فَتَذَكَّرُوا فِي الْخَيْرِ وَ الشَّرِّ أَحْوَالَهُمْ وَ احْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ فَإِذَا تَفَكَّرْتُمْ فِي تَفَاوُتِ حَالَيْهِمْ فَالْزَمُوا كُلَّ أَمْرٍ لَزِمَتِ الْعِزَّةُ بِهِ شَأْنَهُمْ

وَ زَاحَتِ الْأَعْدَاءُ لَهُ عَنْهُمْ وَ مُدَّتِ الْعَافِيَةُ بِهِ عَلَيْهِمْ وَ انْقَادَتِ النِّعْمَةُ لَهُ مَعَهُمْ وَ وَصَلَتِ الْكَرَامَةُ عَلَيْهِ حَبْلَهُمْ مِنَ الِاجْتِنَابِ لِلْفُرْقَةِ وَ اللُّزُومِ لِلْأُلْفَةِ وَ التَّحَاضِّ عَلَيْهَا وَ التَّوَاصِي بِهَا

وَ اجْتَنِبُوا كُلَّ أَمْرٍ كَسَرَ فِقْرَتَهُمْ وَ أَوْهَنَ مُنَّتَهُمْ مِنْ تَضَاغُنِ الْقُلُوبِ وَ تَشَاحُنِ الصُّدُورِ وَ تَدَابُرِ النُّفُوسِ وَ تَخَاذُلِ الْأَيْدِي

وَ تَدَبَّرُوا أَحْوَالَ الْمَاضِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَكُمْ كَيْفَ كَانُوا فِي حَالِ التَّمْحِيصِ وَ الْبَلَاءِ أَ لَمْ يَكُونُوا أَثْقَلَ الْخَلَائِقِ أَعْبَاءً وَ أَجْهَدَ الْعِبَادِ بَلَاءً وَ أَضْيَقَ أَهْلِ الدُّنْيَا حَالًا

اتَّخَذَتْهُمُ الْفَرَاعِنَةُ عَبِيداً فَسَامُوهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَ جَرَّعُوهُمُ الْمُرَارَ فَلَمْ تَبْرَحِ الْحَالُ بِهِمْ فِي ذُلِّ الْهَلَكَةِ وَ قَهْرِ الْغَلَبَةِ لَا يَجِدُونَ حِيلَةً فِي امْتِنَاعٍ وَ لَا سَبِيلًا إِلَى دِفَاعٍ

حَتَّى إِذَا رَأَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ جِدَّ الصَّبْرِ مِنْهُمْ عَلَى الْأَذَى فِي مَحَبَّتِهِ وَ الِاحْتِمَالَ لِلْمَكْرُوهِ مِنْ خَوْفِهِ جَعَلَ لَهُمْ مِنْ مَضَايِقِ الْبَلَاءِ فَرَجاً فَأَبْدَلَهُمُ الْعِزَّ مَكَانَ الذُّلِّ وَ الْأَمْنَ مَكَانَ الْخَوْفِ

فَصَارُوا مُلُوكاً حُكَّاماً وَ أَئِمَّةً أَعْلَاماً وَ قَدْ بَلَغَتِ الْكَرَامَةُ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ‏مَا لَمْ تَذْهَبِ الْآمَالُ إِلَيْهِ بِهِمْ

فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانُوا حَيْثُ كَانَتِ الْأَمْلَاءُ مُجْتَمِعَةً وَ الْأَهْوَاءُ مُؤْتَلِفَةً وَ الْقُلُوبُ مُعْتَدِلَةً وَ الْأَيْدِي مُتَرَادِفَةً وَ السُّيُوفُ مُتَنَاصِرَةً وَ الْبَصَائِرُ نَافِذَةً وَ الْعَزَائِمُ وَاحِدَةً

أَ لَمْ يَكُونُوا أَرْبَاباً فِي أَقْطَارِ الْأَرَضِينَ وَ مُلُوكاً عَلَى رِقَابِ الْعَالَمِينَ

فَانْظُرُوا إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ فِي آخِرِ أُمُورِهِمْ حِينَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ وَ تَشَتَّتَتِ الْأُلْفَةُ وَ اخْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ وَ الْأَفْئِدَةُ وَ تَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِينَ وَ تَفَرَّقُوا مُتَحَارِبِينَ

وَ قَدْ خَلَعَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِبَاسَ كَرَامَتِهِ وَ سَلَبَهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِهِ وَ بَقِيَ قَصَصُ أَخْبَارِهِمْ فِيكُمْ عِبَراً لِلْمُعْتَبِرِينَ

الاعتبار بالأمم‏

فَاعْتَبِرُوا بِحَالِ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَ بَنِي إِسْحَاقَ وَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ( عليهم‏السلام  )فَمَا أَشَدَّ اعْتِدَالَ الْأَحْوَالِ وَ أَقْرَبَ اشْتِبَاهَ الْأَمْثَالِ تَأَمَّلُوا أَمْرَهُمْ فِي حَالِ تَشَتُّتِهِمْ وَ تَفَرُّقِهِمْ لَيَالِيَ كَانَتِ الْأَكَاسِرَةُ وَ الْقَيَاصِرَةُ أَرْبَاباً لَهُمْ

يَحْتَازُونَهُمْ عَنْ رِيفِ الْآفَاقِ وَ بَحْرِ الْعِرَاقِ وَ خُضْرَةِ الدُّنْيَا إِلَى مَنَابِتِ الشِّيحِ وَ مَهَافِي الرِّيحِ وَ نَكَدِ الْمَعَاشِ فَتَرَكُوهُمْ عَالَةً مَسَاكِينَ إِخْوَانَ دَبَرٍ وَ وَبَرٍ أَذَلَّ الْأُمَمِ دَاراً وَ أَجْدَبَهُمْ قَرَاراً

لَا يَأْوُونَ إِلَى جَنَاحِ دَعْوَةٍيَعْتَصِمُونَ بِهَا وَ لَا إِلَى ظِلِّ أُلْفَةٍ يَعْتَمِدُونَ عَلَى عِزِّهَا

فَالْأَحْوَالُ مُضْطَرِبَةٌ وَ الْأَيْدِي مُخْتَلِفَةٌ وَ الْكَثْرَةُ مُتَفَرِّقَةٌ فِي بَلَاءِ أَزْلٍ وَ أَطْبَاقِ جَهْلٍ مِنْ بَنَاتٍ مَوْءُودَةٍ وَ أَصْنَامٍ مَعْبُودَةٍ وَ أَرْحَامٍ مَقْطُوعَةٍ وَ غَارَاتٍ مَشْنُونَةٍ

النعمة برسول اللّه‏

فَانْظُرُوا إِلَى مَوَاقِعِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ حِينَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طَاعَتَهُمْ وَ جَمَعَ عَلَى دَعْوَتِهِ أُلْفَتَهُمْ

كَيْفَ نَشَرَتِ النِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ جَنَاحَ كَرَامَتِهَا وَ أَسَالَتْ لَهُمْ جَدَاوِلَ نَعِيمِهَا وَ الْتَفَّتِ الْمِلَّةُ بِهِمْ فِي عَوَائِدِ بَرَكَتِهَا فَأَصْبَحُوا فِي نِعْمَتِهَا غَرِقِينَ وَ فِي خُضْرَةِ عَيْشِهَا فَكِهِينَ

قَدْ تَرَبَّعَتِ الْأُمُورُ بِهِمْ فِي ظِلِّ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ وَ آوَتْهُمُ الْحَالُ إِلَى كَنَفِ عِزٍّ غَالِبٍ وَ تَعَطَّفَتِ الْأُمُورُ عَلَيْهِمْ فِي ذُرَى مُلْكٍ ثَابِتٍ

فَهُمْ حُكَّامٌ عَلَى الْعَالَمِينَ وَ مُلُوكٌ فِي أَطْرَافِ الْأَرَضِينَ يَمْلِكُونَ الْأُمُورَ عَلَى مَنْ كَانَ يَمْلِكُهَا عَلَيْهِمْ وَ يُمْضُونَ الْأَحْكَامَ فِيمَنْ كَانَ يُمْضِيهَا فِيهِمْ لَا تُغْمَزُ لَهُمْ قَنَاةٌ وَ لَا تُقْرَعُ لَهُمْ صَفَاةٌ

لوم العصاة

أَلَا وَ إِنَّكُمْ قَدْ نَفَضْتُمْ أَيْدِيَكُمْ مِنْ حَبْلِ الطَّاعَةِ وَ ثَلَمْتُمْ حِصْنَ اللَّهِ الْمَضْرُوبَ عَلَيْكُمْ بِأَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ

فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدِ امْتَنَ‏عَلَى جَمَاعَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِيمَا عَقَدَ بَيْنَهُمْ مِنْ حَبْلِ هَذِهِ الْأُلْفَةِ الَّتِي يَنْتَقِلُونَ فِي ظِلِّهَا وَ يَأْوُونَ إِلَى كَنَفِهَا بِنِعْمَةٍ لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ لَهَا قِيمَةً لِأَنَّهَا أَرْجَحُ مِنْ كُلِّ ثَمَنٍ وَ أَجَلُّ مِنْ كُلِّ خَطَرٍ

وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَعْرَاباً وَ بَعْدَ الْمُوَالَاةِ أَحْزَاباً مَا تَتَعَلَّقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِاسْمِهِ وَ لَا تَعْرِفُونَ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا رَسْمَهُ

تَقُولُونَ النَّارَ وَ لَا الْعَارَ كَأَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُكْفِئُوا الْإِسْلَامَ عَلَى وَجْهِهِ انْتِهَاكاً لِحَرِيمِهِ وَ نَقْضاً لِمِيثَاقِهِ الَّذِي وَضَعَهُ اللَّهُ لَكُمْ حَرَماً فِي أَرْضِهِ وَ أَمْناً بَيْنَ خَلْقِهِ

وَ إِنَّكُمْ إِنْ لَجَأْتُمْ إِلَى غَيْرِهِ حَارَبَكُمْ أَهْلُ الْكُفْرِ ثُمَّ لَا جَبْرَائِيلُ وَ لَا مِيكَائِيلُ وَ لَا مُهَاجِرُونَ وَ لَا أَنْصَارٌ يَنْصُرُونَكُمْ إِلَّا الْمُقَارَعَةَ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَكُمْ

وَ إِنَّ عِنْدَكُمُ الْأَمْثَالَ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَ قَوَارِعِهِ وَ أَيَّامِهِ وَ وَقَائِعِهِ فَلَا تَسْتَبْطِئُوا وَعِيدَهُ جَهْلًا بِأَخْذِهِ وَ تَهَاوُناً بِبَطْشِهِ وَ يَأْساً مِنْ بَأْسِهِ

فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَلْعَنِ الْقَرْنَ الْمَاضِيَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ إِلَّا لِتَرْكِهِمُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَلَعَنَ اللَّهُ السُّفَهَاءَ لِرُكُوبِ الْمَعَاصِي وَ الْحُلَمَاءَ لِتَرْكِ التَّنَاهِي

أَلَا وَ قَدْ قَطَعْتُمْ قَيْدَ الْإِسْلَامِ وَ عَطَّلْتُمْ حُدُودَهُ وَ أَمَتُّمْ أَحْكَامَهُ

أَلَا وَ قَدْ أَمَرَنِيَ اللَّهُ بِقِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَ النَّكْثِ وَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ

فَأَمَّا النَّاكِثُونَ فَقَدْ قَاتَلْتُ وَ أَمَّا الْقَاسِطُونَ فَقَدْ جَاهَدْتُ وَ أَمَّا الْمَارِقَةُ فَقَدْ دَوَّخْتُ

وَ أَمَّا شَيْطَانُ الرَّدْهَةِ فَقَدْ كُفِيتُهُ بِصَعْقَةٍ سُمِعَتْ لَهَا وَجْبَةُ قَلْبِهِ وَ رَجَّةُ صَدْرِهِ وَ بَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَ لَئِنْ أَذِنَ اللَّهُ فِي الْكَرَّةِ عَلَيْهِمْ لَأُدِيلَنَّ مِنْهُمْ إِلَّا مَا يَتَشَذَّرُ فِي أَطْرَافِ الْبِلَادِ تَشَذُّراً

فضل الوحي‏

أَنَا وَضَعْتُ فِي الصِّغَرِ بِكَلَاكِلِ الْعَرَبِ وَ كَسَرْتُ نَوَاجِمَ قُرُونِ رَبِيعَةَ وَ مُضَرَ

وَ قَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى‏الله‏عليه‏وآله  )بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ وَ الْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَ أَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ وَ يَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ وَ يُمِسُّنِي جَسَدَهُ وَ يُشِمُّنِي عَرْفَهُ

وَ كَانَ يَمْضَغُ الشَّيْ‏ءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ وَ مَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ وَ لَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ

وَ لَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ بِهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ وَ مَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَهُ وَ نَهَارَهُ

وَ لَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِهِ عَلَماً وَ يَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ

وَ لَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ فَأَرَاهُ وَ لَا يَرَاهُ غَيْرِي وَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ

فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )وَ خَدِيجَةَ وَ أَنَا ثَالِثُهُمَا أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَ الرِّسَالَةِ وَ أَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ

وَ لَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الرَّنَّةُ فَقَالَ هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ

إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وَ تَرَى مَا أَرَى إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ وَ لَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ وَ إِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ وَ لَقَدْ كُنْتُ مَعَهُ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله )لَمَّا أَتَاهُ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالُوا لَهُ يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ قَدِ ادَّعَيْتَ عَظِيماً لَمْ يَدَّعِهِ آبَاؤُكَ وَ لَا أَحَدٌ مِنْ بَيْتِكَ

وَ نَحْنُ نَسْأَلُكَ أَمْراً إِنْ أَنْتَ أَجَبْتَنَا إِلَيْهِ وَ أَرَيْتَنَاهُ عَلِمْنَا أَنَّكَ نَبِيٌّ وَ رَسُولٌ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّكَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ‏

فَقَالَ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )وَ مَا تَسْأَلُونَ قَالُوا تَدْعُو لَنَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى تَنْقَلِعَ بِعُرُوقِهَا وَ تَقِفَ بَيْنَ يَدَيْكَ فَقَالَ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  ) إِنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌفَإِنْ فَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ ذَلِكَ أَ تُؤْمِنُونَ وَ تَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ قَالُوا نَعَمْ

قَالَ فَإِنِّي سَأُرِيكُمْ مَا تَطْلُبُونَ وَ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكُمْ لَا تَفِيئُونَ إِلَى خَيْرٍ وَ إِنَّ فِيكُمْ مَنْ يُطْرَحُ فِي الْقَلِيبِ وَ مَنْ يُحَزِّبُ الْأَحْزَابَ

ثُمَّ قَالَ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )يَا أَيَّتُهَا الشَّجَرَةُ إِنْ كُنْتِ تُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ تَعْلَمِينَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَانْقَلِعِي بِعُرُوقِكِ حَتَّى تَقِفِي بَيْنَ يَدَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ

فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَانْقَلَعَتْ‏بِعُرُوقِهَا وَ جَاءَتْ وَ لَهَا دَوِيٌّ شَدِيدٌ وَ قَصْفٌ كَقَصْفِ أَجْنِحَةِ الطَّيْرِ حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )مُرَفْرِفَةً

وَ أَلْقَتْ بِغُصْنِهَا الْأَعْلَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله )وَ بِبَعْضِ أَغْصَانِهَا عَلَى مَنْكِبِي وَ كُنْتُ عَنْ يَمِينِهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )

فَلَمَّا نَظَرَ الْقَوْمُ إِلَى ذَلِكَ قَالُوا عُلُوّاً وَ اسْتِكْبَاراً فَمُرْهَا فَلْيَأْتِكَ نِصْفُهَا وَ يَبْقَى نِصْفُهَا فَأَمَرَهَا بِذَلِكَ فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ نِصْفُهَا كَأَعْجَبِ إِقْبَالٍ وَ أَشَدِّهِ دَوِيّاً فَكَادَتْ تَلْتَفُّ بِرَسُولِ اللَّهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )

فَقَالُوا كُفْراً وَ عُتُوّاً فَمُرْ هَذَا النِّصْفَ فَلْيَرْجِعْ إِلَى نِصْفِهِ كَمَا كَانَ فَأَمَرَهُ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )فَرَجَعَ

فَقُلْتُ أَنَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِنِّي أَوَّلُ مُؤْمِنٍ بِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَ أَوَّلُ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى تَصْدِيقاً بِنُبُوَّتِكَ وَ إِجْلَالًا لِكَلِمَتِكَ

فَقَالَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ بَلْ ساحِرٌ كَذَّابٌ عَجِيبُ السِّحْرِ خَفِيفٌ فِيهِ وَ هَلْ يُصَدِّقُكَ فِي أَمْرِكَ إِلَّا مِثْلُ هَذَا يَعْنُونَنِي

وَ إِنِّي لَمِنْ قَوْمٍ لَا تَأْخُذُهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ سِيمَاهُمْ سِيمَا الصِّدِّيقِينَ وَ كَلَامُهُمْ كَلَامُ الْأَبْرَارِ عُمَّارُ اللَّيْلِ وَ مَنَارُ النَّهَارِ مُتَمَسِّكُونَ بِحَبْلِ الْقُرْآنِ يُحْيُونَ سُنَنَ اللَّهِ وَ سُنَنَ رَسُولِهِ

لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَ لَا يَعْلُونَ وَ لَا يَغُلُّونَ وَ لَا يُفْسِدُونَ قُلُوبُهُمْ فِي الْجِنَانِ وَ أَجْسَادُهُمْ فِي الْعَمَلِ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج11  

و من خطبة له عليه السّلام تسمى بالقاصعة و هى المأة و الحادية و التسعون من المختار فى باب الخطب

الفصل الرابع
و هو مرويّ في الكافي باختلاف تطلع عليه انشاء اللّه تعالى.
و لو أراد اللّه سبحانه بأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذّهبان، و معادن العقيان، و مغارس الجنان، و أن يحشر معهم طيرالسّماء، و وحوش الارض لفعل، و لو فعل لسقط البلاء، و بطل الجزاء و اضمحلّت الأنباء، و لما وجب للقابلين أجور المبتلين، و لا استحقّ المؤمنون ثواب المحسنين، و لا لزمت الأسماء معانيها، و لكنّ اللّه سبحانه جعل رسله أولي قوّة في عزائمهم، و ضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم، مع قناعة تملا العيون و القلوب غنى، و خصاصة تملا الأبصار و الأسماع أذى. و لو كانت الأنبياء أهل قوّة لا ترام، و عزّة لا تضام، و ملك تمتدّ نحوه أعناق الرّجال، و تشدّ إليه عقد الرّجال، لكان ذلك أهون على الخلق في الإعتبار، و أبعد لهم في الاستكبار، و لامنوا عن رهبة قاهرة لهم، أو رغبة مائلة بهم، فكانت النّيات مشتركة، و الحسنات مقتسمة.

و لكنّ اللّه سبحانه أراد أن يكون الإتّباع لرسله، و التّصديق بكتبه، و الخشوع لوجهه، و الاستكانة لأمره، و الإستسلام لطاعته، أمورا له خاصّة لا يشوبها من غيرها شائبة، و كلّما كانت البلوى و الاختبار أعظم، كانت المثوبة و الجزاء أجزل. ألا ترون أنّ اللّه سبحانه اختبر الأوّلين من لدن آدم صلوات اللّه‏ عليه إلى الاخرين من هذا العالم بأحجار لا تضرّ و لا تنفع، و لا تسمع و لا تبصر، فجعلها بيته الحرام الّذي جعله للنّاس قياما، ثمّ وضعه بأوعر بقاع الأرض حجرا، و أقلّ نتائق الدّنيا مدرا، و أضيق بطون الأودية قطرا، بين جبال خشنة، و رمال دمثة، و عيون وشلة، و قرى منقطعة، لا يزكو بها خفّ، و لا حافر، و لا ظلف، ثمّ أمر آدم و ولده أن يثنوا أعطافهم نحوه، فصار مثابة لمنتجع أسفارهم، و غاية لملقى رحالهم، تهوى إليه ثمار الأفئدة، من مفاوز قفار سحيقة، و مهاوي فجاج عميقة، و جزائر بحار منقطعة، حتّى يهزّوا مناكبهم ذللا يهلّلون للّه حوله، و يرملون على أقدامهم شعثا غبرا له قد نبذوا السّرابيل وراء ظهورهم، و شوّهوا بإعفاء الشّعور محاسن خلقهم، ابتلاء عظيما، و امتحانا شديدا، و اختبارا مبينا، و تمحيصا بليغا، جعله اللّه سببا لرحمته، و وصلة إلى جنّته.

و لو أراد سبحانه أن يضع بيته الحرام، و مشاعره العظام، بين جنّات و أنهار، و سهل و قرار جمّ الأشجار، داني الثّمار، ملتفّ النبي متّصل القرى، بين برّة سمراء، و روضة خضراء، و أرياف محدقة،و عراص مغدقة، و رياض ناضرة، و طرق عامرة، لكان قد صفّر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء، و لو كانت الأساس المحمول عليها، و الأحجار المرفوع بها، بين زمرّدة خضراء، و ياقوتة حمراء، و نور و ضياء، لخفّف ذلك مسارعة الشّكّ في الصّدور، و لوضع مجاهدة إبليس عن القلوب، و لنفى معتلج الرّيب من النّاس. و لكنّ اللّه يختبر عباده بأنواع الشّدائد، و يتعبّدهم بألوان المجاهد، و يبتليهم بضروب المكاره، إخراجا للتّكبّر عن قلوبهم، و إسكانا للتّذلّل في نفوسهم، و ليجعل ذلك أبوابا فتحا إلى فضله، و أسبابا ذللا لعفوه.

اللغة

(الذهبان) بالضمّ و الكسر جمع الذهب كاذهاب و ذهوب و (العقيان) بالكسر ذهب ينبت كما في القاموس، و قيل: الذهب الخالص و هو الانسب هنا بملاحظة المعادن و (رام) الشي‏ء روما كقال طلب و (ضامه) ضيما كضاره لفظا و معنى، و في القاموس ضامه حمقه و استضامه انتقصه فهو مضيم و مستضام و الضيم.

و (شابه) شوبا من باب قال خلطه مثل شوب اللبن بالماء فهو مشوب و قولهم ليس فيه شائبة، قال الفيومي ذلك يجوزان يكون مأخوذا من هذا و معناه ليس فيه شي‏ء مختلط به و ان قلّ كما قيل ليس فيه علقة و لا شبهة و أن تكون فاعلة بمعنى مفعولة مثل عيشة راضية هكذا استعمله الفقهاء و لم أجد فيه نصّا، نعم قال الجوهرى الشائبة واحدة الشوائب و هى الأدناس و الأقذار.

و (قياما) مصدر و زان صيام و (الوعر) من الأرض ضدّ السّهل (و البقاع) كجبال جمع بقعة بالضمّ و الفتح و هى القطعة من الأرض على غير هيئة الّتي إلى جنبها.
و (النتائق) جمع نتيقه فعلية بمعنى مفعولة من النتق و هو الرفع و الجذب.
قال الشارح البحراني: و سمّيت المدن و الأماكن المشهورة و المرتفعة نتائق لارتفاع بنائها و شهرتها و علوّها عن غيرها من الأرض كأنها جذبت و رفعت، و قال بعض الشارحين: النتائق البقاع المرتفعة و أراد مكة و كنى بنتقها عن شهرتها و علوها بالنسبة إلى ما استفل عنها من البلاد.

و قال الشارح المعتزلي أصل هذه اللفظة من قولهم امرأة نتاق أى كثيرة الحمل و الولادة و يقال: ضيعة منتاق أى كثيرة الريع فجعل عليه السّلام الضياع ذات المدر التي يثار للحرث نتايق. و قال عليه السّلام: إنّ مكة أقلّها إصلاحا للزرع لأنّ أرضها حجرية.

أقول: و الأظهر عندى أن يكون النتائق مأخوذة من قولهم أنتق فلان إذا حمل مظلّة من الشمس، و المظلّة بالفتح و الكسر الكبير من الأخبية و تسمية البلاد بها لاشتمالها على الدّور و الأبنية التي تستظلّ بها.
و (المنتجع) بفتح الجيم اسم مفعول من انتجع القوم إذا ذهبوا لطلب الماء و الكلاء في موضعهما و (المفازة) الموضع المهلك من فوّز بالتشديد إذا مات، لأنّها مظنّة الموت و (القفر) من الأرض الّتي لا نبات بها و لا ماء (يهلّلون للّه) من التهليل و في بعض النسخ يهلّون من أهلّ المحرم رفع صوته بالتلبية عند الاحرام و كلّ من رفع صوته فقد أهلّ إهلالا و استهلّ استهلالا بالبناء فيهما للفاعل.

و (رمل) فلان رملا من باب طلب و رملانا بالتحريك فيهما هرول و (الشعث) محرّكة انتشار الأمر و مصدر الأشعث للمغبر الرأس و شعث الشعر شعثا فهو شعث من باب تعب تغيّر و تلبّد لقلّة تعهّده بالدّهن، و الشعث أيضا الوسخ، و رجل شعث وسخ الجسد، و شعث الرأس أيضا و هو أشعث أغبر أى من غير استحداد و لا تنظف، و الشعث أيضا الانتشار و التفرّق كما يتشعّث رأس السّواك.

و (السرابيل) جمع السّربال و هو القميص و (البرّة) بالضمّ واحدة البرّ و هى الحنطة و (أرياف) جمع ريف بالكسر أرض فيها زرع و خصب و ما قارب الماء من أرض العرب أو حيث يكون به الخضرة و المياه و الزّروع.
و (أحدقت) الروضة صارت حديقة، و الحديقة الرّوضة ذات الشجرة و البستان من النخل و الشجر او كلّ ما أحاط به البناء، أو القطعة من النخل هكذا في القاموس و قال الفيومى: و الحديقة البستان يكون عليه حايط فعيلة بمعنى مفعولة، لأنّ الحائط أحدق بها أى أحاط، ثمّ توسعوا حتى أطلقوا الحديقة على البستان و إن كان بغير حايط و الجمع حدائق.

و (عراص) جمع عرصة ككلاب و كلبة و هى البقعة الواسعة الّتى ليس بها بناء و (مغدقة) فيما رأيناه من النسخ بالغين المعجة و الدال المهملة من الغدق بالتحريك و هو الماء الكثير، و أغدق المطر كثر قطره، و يجوز أن يكون من العذق بالذال المعجمة مثل فلس و هو النخلة بحملها و بالكسر القنو منها و العنقود من العنب إو إذا اكل ما عليه و (المعتلج) مصدر بمعنى الاعتلاج من اعتلج الأمواج اضطربت و تلاطمت، و اعتلج الأرض طال نباتها، و يجوز كونه مفعولا من الاعتلاج و في بعض النسخ بصيغة الفاعل و الكلّ صحيح و (الفتح) بضمتين الباب الواسع المفتوح و (الذلل) بضمتين أيضا جمع ذلول بالفتح من الذلّ بالضّم و الكسر ضدّ الصّعوبة.

الاعراب

قوله: لفعل، جواب لو، و قوله: و لما وجب، عطف على قوله لسقط، و الأسماء بالنصب كما في أكثر النسخ مفعول لزمت، و في شرح البحراني عن نسخة الرضيّ «قده» بالرفع على الفاعل و المعنى واحد حسبما تعرفه إنشاء اللّه، و الفاء في قوله: فكانت النيات، فصيحة، و قوله: امورا خبر يكون، و خاصة، صفة له، و له، متعلق بها قدم عليها لتوكيد الاختصاص، و جملة لا يشوبها في محلّ الرّفع صفة ثانية جي‏ء بها لمزيد التوكيد

و قوله: بأحجار، متعلق بقوله: اختبر، و حجرا و مدرا و قطرا منصوبات على التميز، و جملة لا يزكو بها في محلّ الجرّ صفة لقرى، و ذللا، حال من فاعل يهزّوا و له، متعلّق بقوله: يرملون، و ابتلاء و امتحانا و اختبارا و تمحيصا منصوبات على المصدر و حذف العوامل من ألفاظها اى ابتلاهم اللّه بهذه المشاق ابتلاء و امتحنهم بها امتحانا و هكذا و يحتمل الانتصاب على المفعول له أى يفعلون ما ذكر من التكاليف الشاقة للابتلاء العظيم الذى ابتلوا به، و جملة لكان جواب لو أراد.

المعنى

اعلم أنه عليه السّلام لما ذكر في الفصل السابق اختبار اللّه لعباده المستكبرين بأوليائه المستضعفين، و مثّل بقصّة بعث موسى و هارون عليهما السّلام إلى فرعون، اتبعه بهذا الفصل و نبّه عليه السّلام فيه على وجه الحكمة في بعث ساير الأنبياء و الرّسل بالضعف و المسكنة و الفقر و الفاقة و الضرّ و سوء الحال، و في وضع بيته الحرام الذى جعله قبلة للأنام بواد غير ذى زرع و بلد قفر و أرض وعر، و أشار أنّ الحكمة في ذلك كلّه هو الابتلاء و الاختبار و هو قوله عليه السّلام.

(و لو أراد اللّه سبحانه بأنبيائه حيث بعثهم) أى حين بعثهم (أن يفتح لهم كنوز الذّهبان و معادن العقيان و مغارس الجنان) لينفقوا منها و يكونوا ذى سعة و منعة و عزّ و رفعة تدفع بها اعتراض الجاحدين، و تنقطع ألسن المعاندين، و لم يقولوا فيهم مثل ما قالوه لنبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ. مَعَهُ نَذِيراً أَوْ يُلْقى‏ إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَ قالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا».

(و أن يحشر معهم طير السّماء و وحوش الأرض) احتشاما و إعظاما لقدرهم و إجلالا لشأنهم في أعين المبعوثين إليهم (لفعل) ذلك كلّه لأنه عزّ و جلّ على كلّ شي‏ء قدير، و إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.
و محصّله أنّ فتح الكنوز و المعادن و حشر الطيور و الوحوش امور ممكنة في نفسها، و هو سبحانه قادر على جميع الممكنات و عالم بها، و لو تعلّقت إرادته بهامع عموم قدرته عليها لزم وقوعها.

(و) لكنه لم يتعلّق إرادته بها فلم يفعلها و لم تقع إذ (لو فعل) لترتّب عليه مفاسد كثيرة و امور كلّها خلاف مقتضى الحكمة الالهيّة و النظم الأصلح و هى ستّة امور: أحدها ما أشار إليه بقوله (لسقط البلاء) أى لو وقع هذه الأمور لسقط ابتلاء المتكبّرين بالمستضعفين من الأنبياء و المرسلين و ارتفع اختبارهم بهم، إذ مع وقوعها ارتفع الضعف عنهم و انتفى علّة الاستضعاف

(و) ثانيها أنه (بطل الجزاء) لأنّ الجزاء مترتّب على التسليم للأنبياء و على امتثال التكاليف الالهيّة على وجه الخلوص، و مع كون الأنبياء حين بعثهم بزينة الملوك و السلاطين يكون الانقياد لهم و امتثال أو امرهم و نواهيهم عن رغبة مائلة أو رهبة قاهرة، فلا تكون طاعتهم عن إخلاص حتى يستحقّ المطيعون للجزاء كما هو واضح لا يخفى.

(و) ثالثها أنه (اضمحلّت الأنباء) اى أخبار الأنبياء، و المراد باضمحلالها انمحاؤها و ذهاب أثرها.
و ذلك لأنّ الغرض الأصلى من بعثهم و رسالتهم أن يجذبوا الخلق إلى الحقّ الأوّل عزّ و جلّ و يزهّدوهم عن الدّنيا و يرغّبوهم في الاخرة، فاذا فتحت لهم أبواب الكنوز و المعادن، و اشتغلوا بزخارف الدّنيا و كانوا بزّى أهلها لم يؤثّر موعظتهم في القلوب و لم يبق وقع للرسالة عند الناس، و لا وجدوا للمبعوثين إليهم مقالا و تعريضا عليهم بأن يقولوا يا أيّها الرّسل لم تقولون ما لا تفعلون، أنتم تزهّدونا عن الدّنيا و ترغبون فيها، و ترغّبونا في الاخرة و اشتغالكم بغيرها، فيبطل بذلك المقصود الأصلى من البعث و اضمحلّت الرسالة إذا هذا.

و قال الشارح البحراني في وجه اضمحلال الأنباء ما محصّله: إنّ الأنبياء و إن كانوا أكمل الخلق نفوسا و أقواهم استعدادا لقبول الكمالات النفسانية، إلّا أنهم محتاجون إلى الريّاضة التّامة بالاعراض عن الدّنيا و طيباتها و هو الزهد الحقيقى،فيكون تركهم للدّنيا شرطا في بلوغ درجات الوحى و الرّسالة و تلقّى أخبار السّماء، فلو خلقوا منغمسين في الدّنيا و فتحت عليهم أبوابها لا نقطعوا من حضرة جلال اللّه، و اضمحلّ بسبب ذلك عنهم الأنباء، و انقطع عنهم الوحى، و انحطّوا عن مراتب الرسالة.

قال: و قال بعض الشارحين: أراد باضمحلال الأنباء سقوط الوعد و الوعيد و الاخبار عن أحوال الجنة و النار و أحوال القيامة انتهى.
و الأظهر بل الأولى ما قلناه، لأنّ استلزام انفتاح أبواب الكنوز و المعادن لانقطاع الوحى و الرسالة و الانحطاط عن درجة النبوّة ممنوع و على فرض التسليم فابداء الملازمة بين المقدّم و التالى غير خال عن التكلّف، و مثله الكلام فيما حكاه عن بعض الشارحين، فتدبّر.

(و) رابعها أنه (لما وجب للقابلين) لدعوة الرسل أى المتصدّقين لهم المؤمنين بهم (أجور المبتلين) الممتحنين، لأنه إذا سقط البلاء و الامتحان حسبما عرفته آنفا لا يبقى مبتلى و لا مبتلى به، فلا يكون قبول القابلين و تصديقهم للرسل عن وجه الابتلاء حتى يحسب لهم الأجر و الجزاء بذلك.

(و) خامسها أنه (لا استحقّ المؤمنون) باللّه و بأنبيائه و رسله (ثواب المحسنين) لعدم كون ايمانهم عن وجه الاخلاص حسبما عرفته، فلا يكونون محسنين حتّى يستحقّوا الثواب الجزيل و الجزاء الجميل، و إنما المؤمنون المحسنون الذين اذا سمعوا ما انزل إلى الرّسول ترى أعينهم تفيض من الدّمع مما عرفوا من الحقّ يقولون ربّنا آمنّا فاكتبنا مع الشاهدين و ما لنا لا نؤمن باللّه و ما جاءنا من الحقّ و نطمع أن يدخلنا ربّنا مع القوم الصالحين فأثابهم اللّه بما قالوا جنّات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها و ذلك جزاء المحسنين.

(و) سادسها أنّه (لالزمت الأسماء معانيها) برفع الأسماء و نصبها على اختلاف النسخ، و المراد واحد و هو ارتفاع الملازمة بينها و بين المعاني و انفكاك‏احداهما عن الاخرى، لأنّ اطلاق اسم المسلم على المسلم حينئذ و تسميته به لمحض ماله من صورة الاسلام لا لوجود معنى الاسلام و حقيقته فيه، إذ المفروض أنّ إسلامه عن رغبة أو رهبة لا عن وجه الحقيقة و التمحيص و الاخلاص، فيصدق الاسم بدون المعني، و كذلك التسمية بالمؤمن و المصدق و العابد و الزاهد و الراكع و الساجد و غيرها، هذا.

و لما نبّه عليه السّلام أنّ اللّه سبحانه لو أراد بالأنبياء إذ بعثهم انفتاح الكنوز و المعادن و المغارس و حشر الوحوش و الطيور لترتّب عليه هذه الأمور السّتة الّتي كلّها خلاف الحكمة و المصلحة أراد التنبيه بما هو مقتضي النظم الأصلح فقال على وجه الاستدراك: (و لكنّ اللّه سبحانه جعل رسله) حيث بعثهم (اولى قوّة في عزائمهم) و جدّ في تبليغ ما امروا به من تكاليف ربّهم بالقتال و الجهاد و الصّبر على تحمّل المكاره و الأذى.

و قد قال بعض المفسّرين في قوله تعالى فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ إنّ من للتبيين لا للتبعيض و انّ كلّ الرسل اولو عزم لم يبعث اللّه رسولا إلّا كان ذا عزم و حزم و رأى و كمال و عقل، و وصفهم بالعزم لصبرهم و ثباتهم في تبليغ الرّسالات و انفاذ ما امروا به.

(و) جعلهم مع ذلك (ضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم) لاتّصافهم بالضّر و المسكنة و الفقر و الفاقة (مع قناعة تملا القلوب و العيون غني و خصاصة) أى جوع (تملا الابصار و الأسماع اذى).
قال الشارح البحراني: استعار وصف الملاء للقناعة باعتبار استلزامها لقوّة غنائهم و قلّة حاجتهم إلى شي‏ء من متاع الدّنيا بحيث لا تميل نفوسهم و لا عيونهم إلى شي‏ء من زينتها و قيناتها، فكأنّها قد امتلأت فلا تتسع لشي‏ء من ذلك فتطلبه و كذلك للخصاصة باعتبار استلزامها لقوّة الأذى في أسماعهم و أبصارهم، إذ الجوع المفرط مستلزم لأذى هاتين القوّتين لتحلّل الأرواح الحاملة لهما و ضعفهما فكانّ الأذى حشو أبصارهم و أسماعهم بحيث لا تتّسع لغيره، كلّ ذلك طلبا لكمال الاستعداد لأنّ البطنة تورث‏القسوة و تذهب الفطنة و تزيل الرقة و تستلزم رذايل كثيرة لا دواء لها إلّا الخصاصة، هذا.

و قوله (و لو كانت الأنبياء أهل قوّة لا ترام و عزّة لا تضام) قياس اقتراني آخر من الشكل الأوّل أيضا تأكيد للقياس المتقدّم ذكره، أى لو أراد اللّه بالأنبياء إذ بعثهم أن يكونوا أهل قوّة و قدرة لا يمكن أن تطلب و تقصد لبلوغها الغاية و أهل عزّة و قهر و غلبة لا يمكن أن تنتقص أو تظلم أى يظلم صاحبها لانتهائها النهاية.

(و) أهل (ملك) و سلطنة (تمتدّ نحوه أعناق الرجال و تشدّ إليه عقد الرّحال) أى يأمله الاملون، و يرجوه الراجون فانّ كلّ من أمل شيئا لا سيّما إذا كان ملكا عظيما يطمح إليه بصره و يسافر برغبته إليه و يحيط مطايا الامال عنده، فكنّى عن ذلك بمدّ العنق و شدّ عقد الرّحال.

و الحاصل أنّ الأنبياء لو بعثوا بالقدرة و القوّة و الملك و السلطنة (لكان ذلك أهون على الخلق في الاعتبار) أى أسهل في اعتبارهم بحالهم و أسرع في إجابتهم لدعوتهم كما هو المشاهد بالتجربة، فانّ الملوك لا تصعب اجابتهم كما تصعب اجابة الفقراء لا سيّما على المتكبّرين المتجبّرين (و أبعد لهم في الاستكبار) لأنّ الملوك أبعد من أن يتكبّر عليهم و يستنكف من طاعتهم بخلاف البائس الفقير.

(و لامنوا عن رهبة قاهرة لهم) على الايمان (أو رغبة مائلة بهم) إليه (فكانت النيّات) إذا (مشتركة) بين اللّه و بين ما يأملونه من الشهوات، غير خالصة له تعالى من هوى الأنفس كما قال «أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ».
(و الحسنات مقتسمة) بينه تعالى و بين تلك الشهوات (و لكنّ اللّه سبحانه أراد أن يكون الاتّباع لرسله) و أنبيائه (و التصديق بكنبه) و صحفه السماوية (و الخشوع لوجهه) و الخنوع لذاته (و الاستكانة) و التمكين (لأمره و الاستسلام) و الانقياد (لطاعته امورا له خاصة) أى مختصّة به ممحّضة له كما قال «وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ» (لا يشوبها) أى تلك الامور (من غيرها شائبة) رغبة أو رهبة.

و انما أراد عزّ و جل اختصاص هذه الامور له و خلوصها من شوب الرغبة و الرهبة لعظم البلوى و الامتحان حينئذ (و كلّما كانت البلوى و الاختبار أعظم كانت المثوبةو الجزاء أجزل) هذا.
و لما نبّه عليه السّلام على وجه الحكمة و المصلحة في بعث الأنبياء بالخصاصة و المسكنة، و أنّ الوجه في ذلك هو الامتحان و الابتلاء ليترتّب على اتّباعهم عظيم الأجر و جزيل الجزاء، أردفه بالتّنبيه على حكمة وضع البيت الحرام بأوعر البقاع و أقفر البلدان فقال: (ألا ترون أنّ اللّه سبحانه اختبر الأوّلين من لدن آدم عليه السّلام إلى الاخرين من هذا العالم بأحجار) بنى بها البيت (لا تضرّ و لا تنفع و لا تبصر و لا تسمع) هذا باعتبار مجموع الأحجار أو بملاحظته في نظر الخلق فلا ينافي ما مرّ في شرح الفصل الثامن عشر من الخطبة الاولى من أنّ حجر الأسود أوّل ملك آمن و أقرّ بالتوحيد و النّبوة و الولاية و أنّه يجي‏ء يوم القيامة و له لسان ناطق و عين ناظرة يشهد لكلّ من وافاه إلى ذلك و حفظ الميثاق.

(فجعلها بيته الحرام) و وصفه به لأنّه حرام على المشركين دخوله و حرام إخراج من تحصّن به منه حسبما عرفت في شرح الخطبة الاولى.
قال الرّماني: و إنّما سمّي به لأنّ اللّه حرّم أن يصاد عنده و أن يعضد شجره، و لأنّه أعظم حرمة.
قال في مجمع البيان: و في الحديث مكتوب في أسفل المقام إنّي أنا اللّه ذو بكّة حرّمتها يوم خلقت السماوات و الأرض و يوم وضعت هذين الجبلين، و حففتها بسبعة أملاك حفا، من جاءني زائرا لهذا البيت عارفا بحقّه مذعنا بالربوبيّة حرّمت جسده على النار.

(الّذى جعله للنّاس قياما) أى مقيما لأحوالهم في الدّنيا و الاخرة و يستقيم به امورهم الدنيويّة و الاخرويّة يقال: فلان قيام أهله أى يستقيم به شئونهم قال سبحانه جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ أى لمعايشهم و مكاسبهم يستقيم به امور دينهم و دنياهم يلوذ به الخائف و يأمن فيه الضعيف و يربح عنده التّجار باجتماعهم عنده من ساير الأطراف، و يغفر بقصده للمذنب و يفوز حاجّه بالمثوبات.

روى في مجمع البيان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من أتى هذا البيت يريد شيئا للدّنيا و الاخرة أصابه.
و قال ابن عبّاس: معناه جعل اللّه الكعبة امنا للنّاس بها يقومون أى يؤمنون، و لولاها لفنوا و هلكوا و ما قاموا، و كان أهل الجاهليّة يأمنون به فلو لقي الرّجل قاتل أبيه أو ابنه في الحرم ما قتله، و قيل: معني قوله: قياما للناس، انهم لو تركوا عاما واحدا لا يحجّونه ما نوظروا ان يهلكوا.

و رواه علىّ بن إبراهيم عنهم عليهم السّلام قال ما دامت الكعبة يحجّ الناس إليها لم يهلكوا فاذا هدمت و تركوا الحجّ هلكوا.
(ثمّ وضعه) أى البيت (بأوعر بقاع الأرض حجرا) أى أصعب قطعها و أغلظها من حيث الحجر (و أقلّ نتائق الدّنيا مدرا) أى أقلّ بلدانها و مدنها من حيث التراب و المدر، و بذلك لم يكن صلاحية الزرع و الحرث كما قال إبراهيم «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ»: (و أضيق بطون الأودية قطرا) من حيث الناحية و الجانب (بين جبال خشنة) غليظة (و رمال دمثة) لينة، و الوصف بها إشارة إلى بعدها من الانبات لأنّ الرّمل كلّما كان ألين و أسهل كان أبعد من أن ينبت و لا يزكو به الدّواب أيضا لأنّها تتعب في المشي به.

(و عيون وشلة) قليلة الماء (و قرى منقطعة) بعضها عن بعض (لا يزكو بها خفّ و لا حافر و لا ظلف) أى لا يزيد و لا ينمو بتلك الأرض ذوات الخفّ كالابل و الحافر كالخيل و البغال و الظلف كالبقر و الغنم، و عدم نمائها بها لما عرفت من قلّة مائها و نباتها و خشونة جبالها و سهولة رمالها و خلوّها من المرتع و المرعى.

(ثمّ أمر آدم عليه السّلام و ولده أن يثنوا أعطافهم نحوه) أى يعطفوا و يميلوا جوانبهم معرضين عن كلّ شي‏ء متوجّهين إليه قاصدين العكوف لديه، و قد مضى في شرح الفصل الثامن عشر من الخطبة الاولى عن أبي جعفر عليه السّلام انّ آدم عليه السّلام أتى هذا البيت ألف آتية على قدميه منها سبعمائة حجّة و ثلاثمأة عمرة، و مضى هناك حجّ ساير الأنبياءو الرّسل عليهم السّلام فلينظر ثمة (فصار) البيت (مثابة) و مرجعا (لمنتجع أسفارهم) كناية عما يرومونه في سفرهم اليه من المارب و المقاصد و المنافع و التجارات كما قال عزّ من قائل «وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَ أَمْناً» و قال «لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ».

(و غاية لملقى رحالهم) أى مقصد القصد (تهوى اليه ثمار الأفئدة) ثمرة الفؤاد كما قيل سويداء القلب أى تميل و تسقط باطن القلوب إليه، و هويها كناية عن سرعة سيرها يعني أنّه سبحانه جعل القلوب مايلة إليه محبّة له إجابة لدعاء إبراهيم عليه السّلام حيث قال رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ.

قال الشارح البحراني هوى الأفئدة ميولها و محبّتها إلّا أنّه لما كان الّذى يميل الى الشي‏ء و يحبّه كأنّه يسقط إليه و لا يملك نفسه استعير لفظ الهوى للحركة إلى المحبوب و السعى اليه، و الحاصل أنّ القلوب تسعى و تتوجّه إليه.
(من مفاوز قفار سحيقة) أى الأفلاء«» البعيدة (و مهاوى فجاج عميقة) أى من الوهاد و الطرق العميقة الّتي بين الجبال و وصفها بالعمق على حدّ قوله تعالى وَ عَلى‏ كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (و جزائر بحار منقطعة) وصف الجزائر بالانقطاع إما باعتبار انقطاع الماء عنها، أو باعتبار انقطاعها عن ساير بقاع الأرض بسبب إحاطة البحر بها.
و قوله (حتّى يهزّوا مناكبهم ذللا) غاية لقوله تهوى، أى تسرع إليه قلوب الحاج من المفاوز و المهاوى إلى أن يحرّكوا المناكب مطيعين منقادين.

قال الشارح البحراني: و كنّي بهزّ مناكبهم عن حركاتهم في الطواف بالبيت إذ كان ذلك من شأن المتحرّك بسرعة.
و قال المحدّث العلامة المجلسيّ قده: هو كناية عن السفر إليه مشتاقين.
(يهلّلون للّه حوله) أى حول البيت، و على رواية يهلّون فالمراد أنّهم يرفعون‏أصواتهم بالتلبية، و على هذه الرواية فلا بدّ من التخصيص بغير المتمتّع و المعتمر بالعمرة المفردة فانّ وظيفتهما قطع التلبية إذا شاهدا بيوت مكة أو حين يدخلان الحرم.

روى معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إذا دخلت مكة و أنت متمتّع فنظرت إلى بيوت مكة فاقطع التلبية، و حدّ بيوت مكّة الّتي كانت قبل اليوم عقبة المدينين، فانّ الناس قد أحدثوا بمكة ما لم يكن، فاقطع التلبية و عليك بالتكبير و التحميد و التهليل و الثناء على اللّه عزّ و جلّ بما استطعت.
و روى مرازم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: يقطع صاحب العمرة المفردة التلبية إذا وضعت الابل أخفافها في الحرم- و بمعناهما أخبار كثيرة.

و أما فضل الاهلال فقد روى في الوسائل عن الصّدوق «ره» قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام ما من مهلّ يهلّ بالتلبية إلّا أهلّ من عن يمينه من شي‏ء إلى مقطع التراب، و من عن يساره إلى مقطع التراب، و قال له الملكان: ابشر يا عبد اللّه و ما يبشّر اللّه عبدا إلّا بالجنّة.

(و يرملون على أقدامهم شعثا غبرا له) أى يهرولون على أقدامهم للّه سبحانه حالكونهم أشعث الرّؤوس متلبّد الشعور متغيّر الألوان مغبّر الوجوه و الأبدان وسخ الأجساد.
(قد نبذوا السرابيل وراء ظهورهم) يحتمل أن يكون المراد بالسرابيل الثياب المعهودة بالاحرام على وجه الاستعارة تشبيها لها بالسرابيل في إحاطتها بالبدن فيكون المقصود بنبذها وراء ظهورهم طرحها على عواتقهم و مناكبهم كما هو المعهود في لبس ثوب الاحرام، و أن يكون المراد بها مطلق المخيط من الثياب من باب المجاز المرسل فيكون النبذ وراء الظهور كناية عن خلعها عن الأبدان، و الثاني أظهر.

(و شوّهوا) أى قبّحوا (باعفاء الشعور) أى اكثارها و إطالتها (محاسن خلقهم) ابتلاهم اللّه سبحانه بهذه المشاق و البليات (ابتلاءا عظيما و امتحانا شديدا و اختبارا مبينا و تمحيصا بليغا) أى امتحانا كاملا (جعله اللّه سببا لرحمته و وصلة إلى جنّته) أى جعل حجّ البيت و البلاء بهذه الابتلاآت العظيمة و التكاليف الشديدة سببالشمول رحمته و طريقا للوصول إلى جنّته كما يشهد به الأخبار الواردة في فضل الحجّ، و قد مضى جملة منها في شرح الفصل الثامن عشر من المختار الأوّل، هذا و لما نبّه عليه السّلام على وجه المصلحة في بناء البيت بالأحجار و وضعه بأوعر البقاع و تكليف ولد آدم عليه السّلام بالحجّ إليه على الكيفيّات الخاصّة المتضمنة للتواضع و التذلل و أشار إلى أنّ المصلحة في ذلك هو التمحيص و الامتحان و الاستعداد بذلك لافاضة رحمة اللّه و الوصول إلى جنّته و الاستحقاق لجزيل الجزاء و مز يد الثواب أراد بالتنبيه على أنّ وضعه بغير هذا المكان من الأمكنة البهيجة المستحسنة كان موجبا لتصغير الجزاء و تقليل الثواب و هو خلاف المصلحة فقال: (و لو أراد اللّه سبحانه أن يضع بيته الحرام و مشاعره العظام) أى مواضع المناسك (بين جنّات و أنهار و سهل و قرار) من الأرض (جمّ الأشجار دانى الثمار) دنوّها كناية عن كثرتها و سهولة تناولها كما قال سبحانه في وصف الجنّة قُطُوفُها دانِيَةٌ (ملتفّ البنى) أى مشتبك العمارات (متّصل القرى) بكثرتها (بين برّة سمراء) أى حنطة حسن اللّون (و روضة خضراء) ذات الخضرة و النضارة (و أرياف محدقة) مشتملة على الحدائق و البساتين (و عراص مغدقة) ذات الماء الكثير و المطر (و رياض ناضرة و طرق عامرة) بكثرة المارة.

(لكان) جواب لو أى لو أراد اللّه سبحانه أن يضع بيته بين هذه الأمكنة الحسنة ذات البهجة و النضارة لكان قادرا عليه لكنه خلاف الوجه الأصلح لأنّه يلزم حينئذ أن يكون سبحانه (قد صغّر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء) لما قد مرّ من أنّ الاختبار و البلوى كلّما كانت أعظم كانت المثوبة و الجزاء أجزل.

و لما نبّه عليه السّلام في الشرطية المتقدّمة على أنّ وضع البيت الحرام في غير هذا المكان الذى هو فيه الان خلاف الحكمة و المصلحة اتبعها شرطيّة اخرى و نبّه عليه السّلام فيها على أنّ بناءه بغير هذه الأحجار المتعارفة التي بنى بها أيضا خلاف مقتضى الحكمة و هو قوله: (و لو كان الأساس المحمول عليها) البيت (و الأحجار المرفوع بها بين‏ زمرّدة خضراء و ياقوتة حمراء و نور و ضياء) أى لو كان بنائه بالأحجار المعدنية كالزمرّد و الياقوت و الجواهر النفيسة المتلألاة النيّرة و المضيئة (لخفّف ذلك مسارعة الشكّ في الصدور) أى سرعته، و في بعض النسخ بالضاد المعجمة بمعنى المقاربة و في بعضها بالصاد المهملة بمعنى المغالبة.

قال الشارح البحراني: و تلخيصه أنّه تعالى لو جعل الأساس المحمول عليها بيته الحرام من هذه الأحجار المنيرة المضيئة لخفّف ذلك مسارعة الشّك في الصدور إذ يراد شكّ الخلق في صدق الأنبياء و عدم صدقهم و شكّهم في أنّ البيت بيت اللّه أو ليس، فانه على تقدير كون الأنبياء بالحال المشهور من الفقر و الذلّ و كون البيت الحرام من هذه الأحجار المعتادة يقوّى الشك في كونهم رسلا من عند اللّه و في كون البيت بيتا له، و على تقدير كونهم في الملك و العزّ و كون البيت من الأحجار النفيسة المذكورة ينتفي ذلك الشكّ، إذ يكون ملكهم و نفاسة تلك الأحجار من الامور الجاذبة إليهم و الداعية إلى محبّتهم و المسارعة إلى تصديقهم و الحكم بكون البيت بيت اللّه لمناسبة في كماله ما ينسبه الأنبياء إلى اللّه سبحانه من الوصف بأكمل طرفى النقيض و لكون الخلق أميل إلى المحسوس و استعار لفظ المسارعة للمغالبة بين الشك في صدق الأنبياء و الشك في كذبهم فانّ كلّا منهما يترجّح على الاخر.

و بذلك أيضا ظهر معنى قوله عليه السّلام (و لوضع مجاهدة إبليس عن القلوب) فانّ حجّ البيت المبنى بالطوب و المدر و القيام بوظايفه و إقامة مناسكه مع ما فيه من المشاق العظيمة و الرّياضات التي لا يكاد أن تتحمل عادة لا يتأتى إلّا مع جهاد النفس و مجاهدة إبليس، بخلاف ما لو كان مبنيّا بالجواهر النفيسة الشريفة من الياقوت و الزمرّد و الزبرجد و نحوها بين جنات و أنهار و أشجار في أرض سهل و قرار فانّ النفوس حينئذ كانت تميل إليه و ترغب إلى رؤيته فلا تبقى إذا حاجة إلى مجاهدة نفسانية أو شيطانية.

و يوضح ذلك الحديث الّذي قدّمنا روايته عن الفقيه في شرح الفصل الثامن عشر من المختار الأول، و نعيد روايته هنا من الكافي باقتضاء المقام، و مزيد ايضاحه‏للغرض المسوق له هذا الفصل من كلام أمير المؤمنين عليه السّلام فأقول: روى ثقة الاسلام الكلينىّ عطر اللّه مضجعه عن محمّد بن أبي عبد اللّه عن محمّد بن أبي يسر «نصر خ» عن داود بن عبد اللّه عن عمرو بن محمّد عن عيسى بن يونس قال: كان ابن أبي العوجاء من تلامذة الحسن البصرى فانحرف عن التوحيد، فقيل له: تركت مذهب أصحابك و دخلت فيما لا أصل له و لا حقيقة، فقال: إنّ أصحابي كان مخلطا كان يقول طورا بالقدر و طورا بالجبر، و ما أعلمه اعتقد مذهبا دام عليه و قدم مكّة متمرّدا و انكارا على من يحجّ و كان يكره العلماء مجالسته و مسائلته لخبث لسانه و فساد ضميره، فأتى أبا عبد اللّه عليه السّلام: فجلس إليه في جماعة من نظرائه فقال: يا أبا عبد اللّه إنّ المجالس أمانات و لا بدّ لكلّ من به سعال أن يسعل أ فتأذن لي في الكلام فقال عليه السّلام: تكلّم، فقال: إلى كم تدوسون هذا البيدر، و تلوذون بهذا الحجر، و تعبدون هذا البيت المعمور بالطوب و المدر، و تهرولون حوله هرولة البعير إذا نفر، إنّ من فكر هذا و قدر علم أنّ هذا فعل أسّسه غير حكيم و لا ذى نظر، فقل فانك رأس هذا الأمر و سنامه، و أبوك اسّه و تمامه.

فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إنّ من أضلّه اللّه و أعمى قلبه استوخم الحقّ و لم يستعذ به فصار الشيطان وليّه و قرينه، و ربّه يورده مناهل الهلكة ثمّ لا يصدره، و هذا بيت استعبد اللّه به خلقه ليختبر طاعتهم في اتيانه، فحثّهم على تعظيمه و زيارته، و جعله محلّ أنبيائه و قبلة للمصلّين إليه فهو شعبة من رضوانه. و طريق يؤدّى إلى غفرانه، منصوب على استواء الكمال، و مجمع العظمة و الجلال خلقه اللّه قبل دحو الأرض بألفي عام فأحقّ من اطيع فيما امر و انتهى عما نهى عنه و ذكر اللّه منشى الأرواح و الصور، هذا.

و أما قوله (و لنفي معتلج الريب من الناس) فانه ربما يعترى الشك على ذوى العقائد الضعيفة أنّه لو كان هذا البيت بيته سبحانه لبناه بما يليق عزّه و جلاله من الحسن و البهاء و العزّ و الشرف و مع بنائه على هذا الوصف كان ينتفي اعتلاج الريب منهم قطعا.

(و لكن اللّه) عزّ و جلّ لم يبنه بهذا الوصف، و إنما بناه بالأحجار الغير النفيسة اختبارا و امتحانا و تمحيصا و ابتلاء فانّه (يختبر عباده بأنواع الشدائد) و المشاق كتروك الاحرام و المناسك العظام (و يتعبّدهم بألوان المجاهد) من مجاهدة النفس و مجاهدة إبليس التي عرفت (و يبتليهم بضروب المكاره) التي تكرهها الطباع و ترغب عنها النفوس (اخراجا للتكبّر) المبعد من اللّه سبحانه (عن قلوبهم و اسكانا للتذلّل) و التواضع المقرّب إليه تعالى (في نفوسهم و ليجعل ذلك) الاستعداد الحاصل لهم من الاختبار و الابتلاء (أبوابا فتحا) مفتوحة (الى فضله) و احسانه (و أسبابا ذللا) سهلة (لعفوه) و غفرانه.

تكملة

هذا الفصل من الخطبة رواه ثقة الاسلام الكليني «قده» باختلاف لما أورده السيّد «ره» هنا فأحببت ايراده بروايته مع بيان غريب موارد الاختلاف فأقول: قال في الكافي و روى انّ أمير المؤمنين عليه السّلام قال في خطبة له: و لو أراد اللّه جلّ ثناؤه بأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان و معادن البلدان و مغارس الجنان و أن يحشر طير السّماء و وحش الأرض معهم لفعل، و لو فعل لسقط البلاء و بطل الجزاء و اضمحلّ الابتلاء، و لما وجب للقائلين أجور المبتلين و لا لحق المؤمنين ثواب المحسنين، و لا لزمت الأسماء أهاليها على معنى مبين و لذلك لو أنزل اللّه من السماء آية فظلّت «لظلّت خ ل» أعناقهم لها خاضعين، و لو فعل لسقط البلوى عن الناس أجمعين.

و لكن اللّه جلّ ثناؤه جعل رسله أولي قوّة في عزائم نيّاتهم، و ضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم من قناعة تملا القلوب و العيون غناه، و خصاصة يملا الأسماع و الأبصار اذاه.
و لو كانت الأنبياء أهل قوّة لا ترام، و عزّة لا تضام، و ملك يمدّ نحوه أعناق الرّجال و يشدّ إليه عقد الرّحال لكان أهون على الخلق في الاختبار، و أبعد لهم في «من خ»الاستكبار، و لامنوا عن رهبة قاهرة لهم أو رغبة مائلة بهم، فكانت النيّات مشتركة و الحسنة مقتسمة.

و لكن اللّه أراد أن يكون الاتّباع لرسله، و التصديق بكتبه و الخشوع لوجهه و الاستكانة لأمره و الاستسلام اليه امور له خاصّة لا يشوبها من غيرها شائبة، و كلّ ما كانت البلوى و الاختبار أعظم كانت المثوبة و الجزاء أجزل.
ألا ترون أنّ اللّه جلّ ثناؤه اختبر الأوّلين من لدن آدم عليه السّلام الى آخرين من هذا العالم بأحجار ما تضرّ و لا تنفع و لا تبصر و لا تسمع، فجعلها بيته الحرام الذى جعله للنّاس قياما، ثمّ جعله بأوعر بقاع الأرض حجرا، و أقلّ نتايق الدّنيا مدرا، و أضيق بطون الأودية معاشا، و أغلظ محالّ المسلمين مياها بين جبال خشنة، و رمال دمثة، و عيون وشلة، و قرى منقطعة، واتر من مواضع قطر السماء، واتر [داثر كذا في كا] ليس يزكو به خف و لا ظلف و لا حافر.

ثم أمر آدم عليه السّلام و ولده أن يثنوا أعطافهم نحوه، فصار مثابة لمنتجع أسفارهم، و غاية لملقى رحالهم، تهوى إليه ثمار الأفئدة من مفاوز قفار متّصلة و جزائر بحار منقطعة، و مهاوى فجاج عميقة، حتى يهزّوا مناكبهم ذللا للّه حوله، و يرملوا على اقدامهم شعثا غبرا، قد نبذوا القنع و السرابيل وراء ظهورهم، و حسروا بالشعور حلقا عن رؤوسهم، ابتلاءاً عظيما، و اختبارا كبيرا، و امتحانا شديدا، و تمحيصا بليغا، و فتونا مبينا، جعله اللّه سببا لرحمته، و وصلة و وسيلة إلى جنّته. و علّة لمغفرته، و ابتلاءاً للخلق برحمته.

و لو كان اللّه تبارك و تعالى وضع بيته الحرام، و مشاعره العظام، بين جنّات و أنهار، و سهل قرار، جم الأشجار، دانى الثمار، ملتفّ النبات، متّصل القرى، من برّة سمراء، و روضة خضراء، و أرياف محدقة، و عراص معذقة، و زروع ناضرة، و طرق عامرة، و حدائق كثيرة، لكان قد صغر الجزاء على حسب ضعف البلاء.
ثمّ لو كانت الأساس المحمول عليها، أو الأحجار المرفوع بها بين زمرّدة خضراء و ياقوتة حمراء، و نور و ضياء لخفّف ذلك مصارعة الشك في الصّدور، و لوضع‏مجاهدة ابليس عن القلوب، و لنفي معتلج الريب من الناس.

و لكن اللّه عزّ و جلّ يختبر عبيده بأنواع الشدائد، و يتعبّدهم بألوان المجاهدة، و يبتليهم بضروب المكاره إخراجا للتكبّر من قلوبهم، و إسكانا للتذلل في أنفسهم، و ليجعل ذلك أبوابا إلى فضله، و أسبابا ذللا لعفوه، و فتنة كما قال الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ. وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ.

بيان

قوله عليه السّلام «و اتر من مواضع قطر السماء» و اتر أى منفرد منقطع من الوتر و هو الفرد، و واتر الثاني يحتمل أن يكون تأكيدا لفظيّا للأوّل، و أن يراد به أنّه ناقص من حيث النبات من وتره ماله نقصه، أو أنه مأخوذ من الوتيرة و هي قطعة تستدقّ و تغلظ من الأرض.

و قوله «و حسروا بالشعور» من حسره حسرا كشفه، أى كشفوا شعورهم لأجل حلقها عن رؤوسهم، و فتنه فتنا «و فتونا» اختبره «و عراص معذقة» ضبطه في النسخة الّتي عندنا بفتح الميم و العين المهملة و الذال المعجمة، أى محال العذق «و الاس» مثلثة أصل البناء كالأساس و الاسس محرّكة و أصل كلّ شي‏ء جمعه أسياس و زان أسباب و قوله «كما قال الم احسب اه» شاهد لقوله: فتنة يعنى أنّ اللّه يختبر العبيد و يتعبّدهم بالشدايد و المجاهد لأجل الامتحان و تميّز الجيّد من الرّدى و المؤمن من المنافق كما نصّ به سبحانه في كتابه المجيد، ليثيب المؤمنين بحسن ايمانهم و يعاقب المنافقين.

الترجمة

مى‏فرمايد و اگر اراده مى‏فرمود خداوند متعال به پيغمبران خود وقتى كه مبعوث نمود ايشان را اين كه بگشايد براى ايشان خزانهاى طلا و معدنهاى زرخالص و محلهاى كاشتن باغها را، و اين كه جمع نمايد با ايشان مرغ آسمان و وحشيهاى زمينها را هر آينه مى‏ نمود، و اگر مى‏ نمود اينها را هر آينه ساقط مى ‏شد امتحان و ابتلاء، و باطل مى‏ شد جزا و ثواب، و بهم مى‏خورد خبرهاى پيغمبران، و هر آينه واجب نمى ‏گرديد از براى قبول كنندگان احكام دين اجرهاى ممتحنين، و مستحق نمى ‏شد مؤمنان ثواب نيكوكاران را، و لازم نمى ‏گرديد اسمها به معنى‏هاى حقيقى خود و ليكن حق سبحانه و تعالى گردانيده است پيغمبرهاى خود را صاحبان قوّت در عزمهاى خود، و صاحبان ضعف در آنچه مى‏بيند آن را چشمها از حالت‏هاى فقر و پريشانى ايشان با قناعتى كه پر مي كند قلبها و چشم‏ها را از حيثيّت بى نيازى، و با گرسنگى كه پر گرداند ديدها و گوشها را از حيثيّت اذيّت.

و اگر بودندى پيغمبرها أهل قوّتى كه قصد كرده نشود، و أهل عزّتى كه مغلوب و مظلوم نگردد، و صاحب سلطنت و ملكى كه كشيده شود بجانب آن گردنهاى مردمان، و بسته شود بسوى او گرههاى پالانهاى مركبان، هر آينه مى‏شد آسان‏تر بر خلق در عبرت بر داشتن از ايشان، و دورتر از براى ايشان از تكبّر نمودن بر ايشان، و هر آينه ايمان مى ‏آوردند آن خلق از ترس و خوفى كه قهر كننده باشد ايشان را، يا از رغبت و طمعى كه ميل آورنده باشد ايشان را و مى ‏بود نيتهاى خلق غير خالص و مشوب برهبت و رغبت، و أعمال حسنه ايشان قسمت يافته و مخلوط بريا و سمعت.

و ليكن حق تعالى اراده فرمود اين را كه باشد متابعت پيغمبران او و تصديق كتابهاى او و فروتنى براى ذات او، و تمكين كردن براى حكم او، و گردن نهادن براى طاعت او كارهائى كه مختص بأو باشد كه مشوب نباشد به آنها چيزى از رياء و سمعت، و هر قدر امتحان و ابتلاء بزرگتر باشد ثواب و جزاء زياد تر گردد.

آيا نمى ‏بينيد كه خداوند تعالى امتحان فرموده اولين را از نزد جناب آدم ‏عليه السّلام تا آخرين از اين عالم با سنگهائى كه نه ضرر دارد و نه منفعت، و نمى‏ بينند و نمى‏ شنود پس گردانيد آنها را بيت الحرام خود چنان بيتى كه گردانيده آنرا از براى خلق بر پا دارنده أحوال ايشان در دنيا و آخرت پس نهاد آن خانه را به دشوارترين بقعه اى زمين از جهت سنگ، و كمترين شهرهاى زمين از جهت كلوخ و تنگ‏ترين ميانهاى واديها از حيثيّت قطر در ميان كوههاى درشت و ريگهاى نرم و چشمهاى كم آب و دههاى بريده كه ميان آنها باير است و خراب كه فربه نمى‏شود در آنها شتر و اسب و گوسفند و گاو و أمثال آنها.

بعد از آن امر كرد خداوند عالم جناب آدم و فرزندان او را كه بر گردانند اطراف و جوانب خود را بسوى آن، پس گرديد بيت الحرام محل باز گشت از براى قصد منفعت سفرهاى ايشان، و نهايت از براى انداختن بار هاى ايشان.
مى ‏افتد بسوى آن يعنى مايل مى‏ شود بان باطن قلبها از بيابانهاى بى آب و علف دور دراز، و از درّهاى واقعه در ميان كوهها كه گروند و از جزيره‏هاى درياها كه بريده ‏اند از ساير قطعات زمين بجهت احاطه آب تا آنكه حركت مى‏ دهند دوشهاى خودشان را در حالت ذلت، تهليل و تكبير مى ‏گويند از براى خداوند در آن، و مى‏ دوند بر قدمهاى خودشان در حالتى كه ژوليده مو غبار آلوده باشند براى معبود بحق در حالتى كه انداخته‏ اند پيراهنها را پس پشتهاى خود هنگام احرام، و زشت سازنده‏ اند بجهت زياد كردن مويها نيكوهاى خلقت خود را در موسم حج امتحان فرمود خداوند ايشان را با اين كارها امتحان بزرگ و امتحان با شدّت و امتحان آشكار و امتحان كامل گردانيد خداوند حجّ آن خانه را و ابتلاء اين بليّات را سبب رحمت خود، و مايه اتّصال بسوى جنّت خود.

و اگر اراده مى ‏نمود حق تعالى اين كه بگذارد بيت الحرام خود و مواضع مناسك حج خود را در ميان باغهاى خوش، و نهرهاى دلكش، و زمين نرم و هموار متصفه با كثرت درخت‏ها، و با نزديكى ميوه‏ها و با تويهم بودن بناها، و با اتصال‏ دهها ميان گندم مايل بسرخى، و مرغزار سبز و خرّم، و كشتزارهاى مشتمله بر بساتين، و عرصه‏ هاى موصوفه بزيادتى آب، و زراعتهاى تر و تازه، و راههاى آباد و معموره هر آينه مى‏ شد، پروردگار كوچك و حقير مي كرد مقدار جزا را بر حسب ضعف و سستى بلا.

و اگر بودى بنائى كه نهاده شده بود بر او بناى حرم و سنگهائى كه بلند شده با آن خانه خدا ميان زمرّد سبز و ياقوت سرخ و سنگهاى درخشنده و نور بخشنده هر آينه سبك مى ‏نمود اين وضع بنا شتابيدن شك را در سينها و هر آينه فرو نهادى مجاهده شيطان لعين را از قلبها، و هر آينه نابود كردى اضطراب شك را از مردمان و ليكن خداى تعالى امتحان مى‏فرمايد بندگان خود را با أنواع سختيها، و بندگى مى‏خواهد از ايشان با گوناگون مجاهدها، و مبتلا مى ‏سازد ايشان را بأقسام مكروهات از جهت بيرون كردن تكبّر از قلبهاى ايشان، و ساكن نمودن تذلل در نفسهاى ايشان، و تا بگرداند اين را درهاى گشاده شده بسوى فضل و انعام خود، و واسطهاى رام شده براى عفو و مغفرت خود.

الفصل الخامس

فاللّه اللّه في عاجل البغي، و آجل و خامة الظّلم، و سوء عاقبة الكبر، فإنّها مصيدة إبليس العظمى، و مكيدته الكبرى، الّتي تساور قلوب الرّجال مساورة السّموم القاتلة، فما تكدي أبدا، و لا تشوى أحدا لا عالما لعلمه، و لا مقلّا في طمره، و عن ذلك ما حرس اللّه عباده‏المؤمنين بالصّلوات، و الزّكوات، و مجاهدة الصّيام في الأيّام المفروضات، تسكينا لأطرافهم، و تخشيعا لأبصارهم، و تذليلا لنفوسهم، و تخفيضا لقلوبهم، و إذهابا للخيلاء عنهم، لما في ذلك من تعفير عتاق الوجوه بالتّراب تواضعا، و التصاق كرائم الجوارح بالأرض تصاغرا، و لحوق البطون بالمتون من الصّيام تذلّلا، مع ما في الزّكاة من صرف ثمرات الأرض و غير ذلك إلى أهل المسكنة و الفقر أنظروا إلى ما في هذه الأفعال من قمع نواجم الفخر، و قدع طوالع الكبر، و لقد نظرت فما وجدت أحدا من العالمين يتعصّب لشي‏ء من الأشياء إلّا عن علّة تحتمل تمويه الجهلاء، أو حجّة تليط بعقول السّفهاء غيركم، فإنّكم تتعصّبون لأمر لا (ما خ) يعرف له سبب و لا علّة، أمّا إبليس فتعصّب على آدم لأصله، و طعن عليه في خلقته، فقال: أنا ناريّ و أنت طينيّ، و أمّا الأغنياء من مترفة الامم فتعصّبوا لاثار «إلى آثار خ» مواقع النّعم فقالوا- نحن اكثر أموالا و أولادا و ما نحن بمعذّبين. فإن كان لا بدّ من العصبيّة فليكن تعصّبكم لمكارم الخصال، و محامد الأفعال، و محاسن الامور الّتي تفاضلت فيها المجداء و النّجداء من‏بيوتات العرب، و يعاسيب القبائل بالأخلاق الرّغيبة، و الأحلام العظيمة، و الأخطار الجليلة، و الأثار المحمودة. فتعصّبوا لخلال الحمد من الحفظ للجوار، و الوفاء بالذّمام، و الطّاعة للبرّ، و المعصية للكبر، و الأخذ بالفضل، و الكفّ عن البغي، و الإعظام للقتل، و الإنصاف للخلق، و الكظم للغيظ، و اجتناب الفساد في الأرض.

و احذروا ما نزل بالامم قبلكم من المثلات بسوء الأفعال، و ذميم الأعمال، فتذكّروا في الخير و الشّرّ أحوالهم، و احذروا أن تكونوا أمثالهم، فإذا تفكّرتم في تفاوت حاليهم، فالزموا كلّ أمر لزمت العزّة به شأنهم، و زاحت الأعداء له عنهم، و مدّت العافية عليهم «فيه بهم خ»، و انقادت النّعمة له معهم، و وصلت الكرامة عليه حبلهم: من الاجتناب للفرقة، و اللّزوم للالفة، و التّحاضّ عليها، و التّواصي بها، و اجتنبوا كلّ أمر كسر فقرتهم، و أوهن منّتهم من تضاغن القلوب، و تشاحن الصّدور، و تدابر النّفوس، و تخاذل الأيدي.

و تدبّروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم كيف كانوا في حال‏التّمحيص و البلاء، ألم يكونوا أثقل الخلائق أعباء، و أجهد العباد بلاء و أضيق أهل الدّنيا حالا، اتّخذتهم الفراعنة عبيدا فساموهم سوء العذاب و جرّعوهم جرع المرار، فلم تبرح الحال بهم في ذلّ الهلكة، و قهر الغلبة، لا يجدون حيلة في امتناع، و لا سبيلا إلى دفاع. حتّى إذا رأى اللّه جدّ الصّبر منهم على الأذى في محبّته، و الاحتمال للمكروه من خوفه، جعل لهم من مضائق البلاء فرجا، فأبد لهم العزّ مكان الذّلّ، و الأمن مكان الخوف، فصاروا ملوكا حكّاما، و أئمّة أعلاما، و بلغت الكرامة من اللّه لهم ما لم تذهب الامال إليه بهم. فانظروا كيف كانوا حيث كانت الأملاء مجتمعة، و الأهواء مؤتلفة «متّفقة خ»، و القلوب معتدلة، و الأيدي مترادفة، و السّيوف متناصرة، و البصائر نافذة، و العزائم واحدة.

ألم يكونوا أربابا في أقطار الأرضين، و ملوكا على رقاب العالمين فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر أمورهم حين وقعت الفرقة، و تشتّتت الالفة، و اختلفت الكلمة و الأفئدة، و تشعّبوا مختلفين، و تفرّقوا متحاربين، قد خلع اللّه عنهم لباس كرامته، و سلبهم غضارة نعمته، و بقي قصص أخبارهم فيكم، عبرا للمعتبرين منكم.

اللغة

(البغي) الظلم و العلوّ و الاستطالة و العدول عن الحقّ و تجاوز الحدّ و (وخم) وخامة كشرف شرافة ثقل و طعام وخيم ثقيل ردى غير موافق و (المصيدة) بكسر الميم و سكون الصاد المهملة و فتح الدال آلة الصّيد من الشبكة و نحوها و (المكيدة) و زان معيشة مصدر بمعني الكيد و (ساوره) مساورة دائبة، و سورة الخمر و غيرها حدّتها، و من البرد شدّته، و من السّلطان سطوته و اعتداؤه.

و (اكدى) الحافر إذا بلغ في حفره إلى موضع صلب لا يمكنه حفره، و اكدت المطالب إذا صعبت في وجه طالبها فعجز عنها و (اشوت) الضربة تشوى أخطات فلم تصب المقتل، و أشواه يشويه إذا رماه فلم يصب مقتله، و رجل (مقلّ) و أقلّ فقير و (الطمر) بالكسر الثوب الخلق و البالى من الثياب من غير الصوف و الجمع أطمار.

و (عتاق) الوجوه إما من العتق و هو الكرم و الشرف و الجمال و الحريّة و النجابة قال في القاموس: و العتاق من الخيل النجائب، أو من العتيق و هو الخيار من كلّ شي‏ء، و في بعض النسخ و عتايق الوجوه جمع عتيقة يقال أمة عتيقة أى خارجة عن الرق و (التمويه) التدليس يقال موّهت النحاس أو الحديد تمويها أى طليته بالذهب أو الفضة و (مواقع) النعم جمع موقع اسم مكان و يحتمل المصدر و (المجداء) جمع مجيد مثل فقهاء و فقيه و هو الرفيع العالى و الكريم الشريف الفعال (و النجداء) كفقهاء أيضا جمع نجيد و هو الشجاع الماضي فيما يعجز غيره.

(و اليعسوب) أمير النحل و رئيس القوم و (الأخطار) جمع خطر بالتحريك كأسباب و سبب و هو القدر و المنزلة و (الجوار) بالكسر أن تعطي الرّجل ذمّة فيكون بها جارك فتجيره و مصدر جاور يقال جاوره مجاورة و جوارا و جوارا بالضمّ و الكسر صار جاره و (الذّمام) أيضا الحق و الحرمة و ما يذمّ به الرّجل على إضاعته من العهد.

و (مدّت العافية) بالبناء للمفعول كما هو الظاهر أو بالبناء على الفاعل من قولهم مدّ الماء إذا جرى و سال، و في بعض النسخ و مدّت العافية فيه بهم، و في بعضها عليه بهم و (الفقرة) بالكسر ما انتظم من عظام الصّلب من الكاهل إلى العجز و الجمع فقركعنب و (سام) فلانا أمرا أى كلّفه إياه و أكثر ما يستعمل في الشرّ و العذاب قال سبحانه يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ.

(و المرار) بالضمّ شجر مرّ إذا اكلت منه الابل قلصت مشافرها و (الاملاء) جمع الملاء و هو الجماعة و (قصص أخبارهم) في بعض النسخ بكسر القاف جمع قصّة، و في بعضها بالفتح كصدر من قصصت الخبر قصا حدّثت به على وجهه، و الأوّل أولى.

الاعراب

قوله: فانّها مصيدة إبليس، الضمير راجع إلى كلّ من البغي و الظلم و الكبر أو الأخير فقط و هو الأظهر، و التأنيث باعتبار الخبر كما في قولهم: و ما كانت امّك فانّ الضمير إذا وقع بين مرجع مذكر و خبر مؤنّث أو بالعكس فالأولى رعاية جانب الخبر كما صرّح به علماء الأدب.

و قوله: عن ذلك ما حرس اللّه، قال الشارح المعتزلي: لفظة ما زائدة مؤكدة أى و عن هذه المكايد التي هى الظلم و البغى و الكبر حرس اللّه عباده فعن متعلّقة بحرس.
قال: و قال القطب الراوندى رحمه اللّه: يجوز أن تكون مصدرية فيكون موضعها رفعا بالابتداء و خبر المبتدأ قوله لما في ذلك، و يجوز أن يكون نافية أى لم يحرس اللّه عباده عن ذلك إلجاء و قهرا، بل فعلوا اختيارا من أنفسهم.
و الوجه الأوّل باطل لأنّ عن على هذا التقدير يكون من صلة المصدر فلا يجوز تقديمها عليه، و أيضا فان لما في ذلك لو كان هو الخبر لتعلّق لام الخبر بمحذوف أى حراسة اللّه تعالى لعباده عن ذلك كائنة لما في ذلك من تعفير الوجوه، و هذا كلام غير مفيد إلّا على تأويل بعيد لا حاجة إلى تعسّفه.

و الثاني يأباه سياق الكلام، لأنّ قوله: تسكينا و تخشّعا، و قوله: لما في ذلك، تعليل للحاصل الثابت لا للمنفي المعدوم، انتهى.
أقول: أما ما ذكره القطب الراوندى فغير خال من التكلّف حسبما قاله الشارح المعتزلي، و لكن اعتراض الشارح عليه بأنّ عن على هذا التقدير من صلة المصدر فلا يجوز تقديمها عليه ممنوع، لمنع عدم جواز تقديم معمول المصدر عليه‏ مطلقا و إنما هو مسلم في المفعول الصريح لضعف عمله، و أمّا الظرف و أخوه فيكفيهما رايحة الفعل.

قال نجم الأئمة الرضيّ: و أنا لا أرى منعا من تقديم معموله عليه إذا كان ظرفا أو شبهه، نحو قولك: اللّهم ارزقني من عدوّك بالبراءة و إليك الفرار قال تعالى وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ و قال فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ و مثله في كلامهم كثير و تقدير الفعل في مثله تكلّف.

و أما ما ذكره الشارح من المعني فلا باس به و إن كان يتوجّه عليه أنّ الأصل عدم زيادة ما و أن جعل مرجع اسم الاشارة هو الظلم و البغى و الكبر يأبى عنه الذوق السليم.
و الأظهر عندي أنّ عن في قوله: عن ذلك للتعليل كما في قوله تعالى وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ أو بمعني من النشوية و ذلك إشارة إلى تساور هذه المكايد في القلوب و تأثيرها في النفوس تساور السّموم القاتلة، و أن يكون الظرف مستقرا في موضع الرفع خبرا مقدّما على مبتدئه و هو قوله: ما حرس اللّه، لكونه في تأويل المصدر، و المعني أنّ حراسة اللّه لعباده بالصلاة و الزكاة و الصيام لأجل مفاسد هذه المكائد أو أنّها ناشئة من ذلك الفساد، و هو تأثيرها في النفوس تأثير السّموم، و على هذا فيتمّ الكلام لفظا و معني على أحسن التئام و انتظام، فافهم و اغتنم.

و تسكينا و تخشيعا و تذليلا و تخفيضا و اذهابا منصوبات على المفعول له و العامل حرس، و عن، في قوله: عن علّة، للتعليل أو بمعني من النشوية، و غيركم، بالنصب استثناء من قوله: أحدا، و العامل وجدت، و قوله: بالاخلاق الرغيبة، متعلّق بقوله: تفاضلت.

و لفظة في في قوله: و مدّت العافية فيه، بمعني اللّام كما في قوله تعالى قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ امرأة دخلت النار في هرّة حبستها، و قوله: من الاجتناب، بيان لأمر و جملة: اتّخذتهم الفراعنة، استيناف بياني لا محلّ لها من الاعراب

المعنى

اعلم أنه لما نبّه في الفصل السابق على أنّ المطلوب من العباد هو التواضع و التذلّل و اخلاص النية و العمل، مستشهدا على ذلك ببعث الأنبياء العظام و السفراء الكرام بحال الذلّ و الفاقة و الفقر و الخصاصة، و بوضع البيت الحرام بأقفر البلاد و أوعر الجبال، و ختم الفصل بأنّ التواضع و التذلّل باب مفتوح للفضل و الاحسان، و سبب ذلول للعفو و الغفران، عقّبه بهذا الفصل تذكيرا للمخاطبين، و ترغيبا لهم على ملازمة هذين الوصفين و الأخذ بهما، و تحذيرا لهم عن الأخذ بضدّهما و هو التكبر و الخيلاء، و تنبيها على أنّ الغرض الأصلي في وضع ساير العبادات من الصلاة و الزكاة و الصيام بكيفيّاتها المخصوصة أيضا هذا المعني أعني التذلّل و الاستكانة فقال عليه السّلام: (فاللّه اللّه في عاجل البغي و آجل و خامة الظلم و سوء عاقبة الكبر) أى اتقوا اللّه سبحانه و احذروه تعالى فيما يترتّب على البغي و الظلم عاجلا و آجلا من العقوبات الدنيويّة و الاخروية، و الاتيان في الأوّل بالعاجل و في الثاني بالاجل لمجرّد التفنن لا للاختصاص.

و المعاني المتقدّمة للبغى كلّها محتملة هنا إلّا أنّ الأنسب الأظهر بمساق الخطبة أنّ المراد به العدول عن الحقّ و التجاوز عن الحد او السّعى فى الفساد، أو الخروج عن طاعة الامام و أمّا سوء عاقبة الكبر فلكونه مؤدّيا إلى الهلاك الاخروى الموجب للعذاب الأليم و النكال العظيم كما يفصح عنه تعليله وجوب الحذر عنه أو عنه و عن سابقيه بقوله: (فانّها مصيدة ابليس العظمى) الّتى يصيد بها القلوب و يأخذها و يملكها أخذ الصياد للصيّد بشركه و حبائله.
قال الشارح البحرانى: و وصفها بالعظم باعتبار قوّة الكبر و كثرة ما يستلزمه من الرذائل.

(و مكيدته الكبرى) أى خديعته الكبيرة و كيده القوى، لأنّه يحسّنه فى نظر المتكبّر و يزيّنه و يذكر محاسنه مع أنها مقابح في الواقع، فيوقعه فيه بتمويهه‏و تلبيسه من حيث لا يعلم.

و وصفه بالكبر لما نبّه عليه بقوله (الّتى تساور قلوب الرّجال مساورة السّموم القاتلة) فانّ تزيين ما فى باطنه تلك المفسدة العظيمة و ذلك السّم الناقع، و تحسينه في نظر المتكبّر و ايقاعه له فيها من حيث لا يشعر إن هو إلّا كيد عظيم و حيلة كبيرة.

و كنّى بتساورها عن شدّة تأثيرها و حدّتها فى القلوب، و شبّهه بمساورة السّموم القاتلة تأكيدا للشدّة و توضيحا لها، بل نقول إنّها أشدّ تأثيرا منها، لأنّ تأثير السموم فى البدن و تأثير تلك الخصلة الذميمة فى القلب، و الأوّل موجب للألم الجسمانى و الهلاك الدنيوى، و الثاني للألم الرّوحانى و الهلاك الاخروى.

و قوله (فما تكدى أبدا و لا تشوى أحدا) تفريع على التشبيه و توضيح لوجه الشبه، يعنى أنّ السّموم القاتلة كما لا يمنع من تأثيرها فى الأبدان مانع، و لا يقاومها شي‏ء من الطبايع، و لا تخطى من اصابة مقاتل احد من آحاد الناس، فكذلك تلك المكيدة لابليس لا يردّها من مساورة القلوب شي‏ء أصلا، و لا يدفعها منها دافع أبدا، و لا يكاد أن يقاومها أحد من النّاس أو يقابلها واحد من العقول، فتخطى من أصابتها و اهلاكها.

و لمزيد توكيد العموم المستفادة من قوله لا تشوى أحدا من حيث كونه نكرة في سياق النفي أتى بقوله (لا عالما بعلمه و لا مقلّا في طمره) يعني أنّ العالم مع ماله من الكياسة و العلم بقبح هذه الصّفة الخبيثة و كونها من مكائد ابليس لا يكاد ينجو منها فضلا عن الجاهل، و كذلك المقلّ المفتقر مع فقره و اعوازه للمال الّذى يتكبّر به لا يخلص من تلك المكيدة فكيف بالغني الواجد لأسباب الطغيان و الخيلاء، فانّ الانسان ليطغى أن رآه استغنى، هذا.

و لما كانت الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح و المفاسد الكامنة كما عليه بناء العدلية من الامامية و المعتزلة، و كان جعل العبادات الموظفة من الشارع لتحصيل تلك المصالح و دفع هذه المفاسد و نبه عليه السّلام على أنّ في الكبر مفسدة عظيمة و سوء العاقبة و أنّه بمنزلة السموم القاتلة أشار بقوله:(و عن ذلك ما حرس اللّه عباده المؤمنين بالصّلوات و الزّكوات و مجاهدة الصيام في الأيام المفروضات) إلى أنّ وجود هذه المفاسد في الكبر صار علّة و منشئا لجعل تلك العبادات، فانها لاشتمالها على التواضع و التّذلّل المنافي للكبر و المضادّ له أمر اللّه سبحانه عباده المؤمنين بها حراسة لهم و حفظا عن الكبر و مفاسده العظيمة، و حثّا على التواضع و مصالحه الخطيرة كما أمر بالحجّ مع ماله من الكيفيّات المخصوصة و باتباع الرّسل مع ما لهم من الذّل و المسكنة لهذه النكتة أيضا حسبما عرفت في الفصل المتقدّم تفصيلا.

أما اشتمال الصلاة على التواضع و تنافيها للتكبّر فلكون مدارها بأفعالها و أركانها و أجزائها و شرايطها على ذلك كما يأتي ذكره في كلامه عليه السّلام.
و أمّا كون ذلك علّة لجعلها و تشريعها فيدلّ عليه صريحا ما رواه في الفقيه قال: كتب الرضا علي بن موسى عليهما السّلام إلى محمّد بن سنان فيما كتب من جواب مسائله: انّ علّة الصلاة أنها إقرار بالرّبوبيّة للّه تعالى، و خلع الانداد و قيام بين يدي الجبّار جل جلاله بالذّل و المسكنة و الخضوع و الاعتراف و الطلب للاقالة من سالف الذّنوب، و وضع الوجه على الأرض كلّ يوم إعظاما للّه عزّ و جلّ، و أن يكون ذاكرا غير ناس و لا بطر، و يكون خاشعا متذلّلا راغبا طالبا للزّيادة في الدّين و الدنيا، مع ما فيه من الايجاب و المداومة على ذكر اللّه بالليل و النهار لئلا ينسي العبد سيّده و مدبّره و خالقه، فيبطر و يطغى، و يكون في ذكره لربّه و قيامه بين يديه زجرا عن المعاصي و مانعا له من الفساد.

و هذه الرواية«» كما دلّت على كون الصلاة مانعة من الكبر، فكذا دلّت‏على كونها مانعة من البغي و الظلم المتقدّم ذكرهما في كلامه عليه السّلام و غيرهما من المعاصي جميعا، و هو نصّ قوله تعالى «اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَ».

و أمّا اشتمال الزكاة على التواضع فلأنّها شكر للنعمة المالية كما أنّ العبادات البدنية شكر للنعمة البدنيّة و ظاهر أنّ شكر النعمة ملازم للتذلّل و مناف للتكبّر على المنعم، و من حيث إنها مستلزمة للتعاطف و الترحّم على الفقراء و الضعفاء و المساكين تلازم الايتلاف بهم و تنافي التكبّر عليهم أيضا كما يدلّ على ذلك: ما رواه فى الوسائل عن الصدوق «ره» باسناده عن محمّد بن سنان عن الرضا عليه السّلام أنه كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله: إنّ علة الزكاة من أجل قوت الفقراء و تحصين أموال الأغنياء، لأنّ اللّه عزّ و جلّ كلّف أهل الصّحة القيام بشان أهل الزمانة و البلوى، كما قال اللّه تبارك و تعالى لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ في أموالكم إخراج الزكاة و في أنفسكم توطين الأنفس على الصبر، مع ما في ذلك من أداء شكر نعم اللّه عزّ و جلّ، و الطمع في الزيادة مع ما فيه من الزيادة و الرأفة و الرّحمة لأهل الضعف و العطف على أهل المسكنة و الحثّ لهم على المواساة، و تقوية الفقراء و المعونة لهم على أمر الدّين، و هو «مو» عظة لأهل الغنى و عبرة لهم ليستدلّوا على فقراء الاخرة بهم، و ما لهم من الحثّ في ذلك على الشكر للّه تبارك و تعالى لما خوّلهم و أعطاهم، و الدّعاء و التضرّع و الخوف من أن يصيروا مثلهم في امور كثيرة في أداء الزكاة و الصّدقات و صلة الأرحام و اصطناع المعروف.

و أمّا تضمّن الصيام للتّذلّل و تنافيه للتكبّر فلكونه موجبا لكسر سورة النفس الأمارة و ذلّتها، و سببا لتباعد الشيطان عنه، و اندفاع وسوسته المنبعثة عنها الكبر و يرشد الى ذلك: ما رواه في الفقيه قال: و كتب أبو الحسن عليّ بن موسى الرّضا عليهما السلام إلى محمّد بن سنان فيما كتب من جواب مسائله: علّة الصّوم عرفان مسّ الجوع و العطش ليكون ذليلا مستكينامأجورا محتسبا صابرا، و يكون ذلك دليلا له على شدائد الاخرة مع ما فيه من الانكسار له عن الشهوات، واعظا له في العاجل دليلا على الاجل ليعلم شدّة مبلغ ذلك من أهل الفقر و المسكنة في الدّنيا و الاخرة.

و في الفقيه أيضا قال النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأصحابه: ألا اخبركم بشي‏ء إن أنتم فعلتموه تباعد الشيطان منكم كتباعد المشرق من المغرب قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: الصّوم يسوّد وجهه، و الصّدقة تكسر ظهره، و الحب في اللّه و الموازرة على العمل الصالح يقطع و تينه، و لكلّ شي‏ء زكاة و زكاة الأبدان الصّيام، هذا.
ثمّ المراد بمجاهدة الصّيام بذل الجهد له و احتمال مشاقّه و نسبة المفروضات إلى الأيام من باب المجاز العقلي و الاسناد إلى الزمان كما في مثل نهاره صائم أى الأيام المفروض فيها الصيام.

هذا تفصيل حصول الحراسة بهذه العبادات عن الكبر و أشباهه، و إجماله ما أشار اليه عليه السّلام بقوله (تسكينا لأطرافهم) أى للأعضاء و الجوارح.
روى في الوسائل عن عليّ عليه السّلام في حديث الأربعمائة قال: ليخشع الرجل في صلاته فانّ من خشع قلبه للّه عزّ و جلّ خشعت جوارحه، فلا يعبث بشي‏ء اجلسوا في الركعتين حتّى تسكن جوارحكم ثمّ قوموا فانّ ذلك من فعلنا، إذا قام أحدكم من الصلاة فليرجع يده حذاء صدره، فاذا كان أحدكم بين يدي اللّه جلّ جلاله فيتحرى بصدره و ليقم صلبه و لا ينحنى.

و روى في مجمع البيان عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه رأى رجلا يعبث بلحيته في صلاته فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أما أنّه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه.
(و تخشيعا لأبصارهم).
روى في الكافي عن الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إذا كنت في صلاتك فعليك بالخشوع و الاقبال على صلاتك فانّ اللّه تعالى يقول الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ.
روى في الصافي عن القمي في تفسير هذه الاية قال غضّك بصرك في صلاتك‏و إقبالك عليها.
و في الصافى روى أنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يرفع بصره إلى السماء في صلاته، فلما نزلت الاية طأطأ رأسه و رمى ببصره إلى الأرض.

(و تذليلا لنفوسهم و تخفيضا لقلوبهم) باستحضار عظمة اللّه عزّ و جلّ و استشعار هيبته.
فقد قال النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما زاد خشوع الجسد على ما في القلب فهو عندنا نفاق.
و قال الصادق عليه السّلام: لا تجتمع الرغبة و الرهبة في قلب أحد إلّا وجبت له الجنّة فاذا صلّيت فاقبل بقلبك على اللّه عزّ و جلّ الحديث.

و فى الوسائل عن الخصال باسناده عن عليّ عليه السّلام في حديث الأربعمائة قال عليه السّلام لا يقومنّ أحدكم في الصلاة متكاسلا و لا ناعسا، و لا يفكرّن في نفسه فانه بين يدي ربّه عزّ و جلّ و إنما للعبد من صلاته ما أقبل عليه منها بقلبه.

(و اذهابا للخيلاء) و التكبّر (عنهم) و علّل ذلّة النفوس و خفض القلوب و إذهاب الخيلاء بقوله (لما في ذلك) فهو علّة للعلّة أى في ذلك المحروس به المتقدّم ذكره (من تعفير عتاق الوجوه) أى كرايمها و شرايفها و احرارها (بالتراب تواضعا) و تذلّلا (و إلصاق كرايم الجوارح) و هى المساجد السّبعة (بالأرض تصاغرا).

روى في الفقيه عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: كان موسى ابن عمران عليه السّلام إذا صلّى لم ينفتل حتّى يلصق خدّه الأيمن بالأرض و خدّه الأيسر بالأرض.
قال: و قال أبو جعفر عليه السّلام أوحى اللّه إلى موسى بن عمران عليه السّلام أ تدرى لما اصطفيتك بكلامي دون خلقي قال موسى عليه السّلام: لا يا ربّ، قال: يا موسى إني قلبت عبادى ظهرا و بطنا فلم أجد فيهم أحدا أذلّ لى نفسا منك، يا موسى إنك إذا صلّيت وضعت خديك على التراب.

(و لحوق البطون بالمتون من الصّيام تذلّلا) فانّ الجوع يلحق البطن بالمتن و يوجب ذلة النفس و قمعها عن الانهماك في الشهوات و زوال الأشر و البطر و الخيلاء عنها (مع ما في الزكاة من) علّة اخرى لتشريعها و هو (صرف ثمرات الأرض) من الغلّات‏الأربع (و غير ذلك) من الأنعام الثلاثة و النقدين (إلى أهل المسكنة و الفقر) المنصوص بهم في الكتاب الكريم بقوله إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ و المسكين أسوء حالا من الفقير.

روى في الكافي عن أبي بصير قال: قلت لأبى عبد اللّه عليه السّلام: قول اللّه عزّ و جلّ إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ قال عليه السّلام: الفقير الّذى لا يسأل الناس و المسكين أجهد منه و البائس أجهدهم، فكلّ ما فرض اللّه عليك فإعلانه أفضل من إسراره، و كلّ ما كان تطوّعا فإسراره أفضل من إعلانه، و لو أنّ رجلا يحمل زكاة ماله على عاتقه فقسّمها علانية كان ذلك حسنا جميلا.

(انظروا إلى ما فى هذه الأفعال) و هى الصلاة و الزكاة و الصّيام (من قمع نواجم الفخر) أى اذلال ما تبدو و تظهر من خصال الفخر و الخيلاء (و قدع طوالع الكبر) أى كفّ ما تطلع من آثار الكبر و الاعتلاء.
و ان شئت مزيد المعرفة بأسرار هذه العبادات أعنى الصّيام و الصلاة و الزكاة و بشرايطها و آدابها و علل وجوبها و غير ذلك مما يتعلّق بها، فعليك بمراجعة شرح المختار المأة و التسع، هذا.

و لما حذّرهم عليه السّلام من البغى و الظلم و الكبر أردفه بتوبيخهم على العصبيّة و العناد من دون علّة مقتضية لذلك فقال: (و لقد نظرت فما وجدت أحدا من العالمين يتعصّب لشي‏ء من الأشياء إلّا عن علة) مقتضية لتعصّبه حاملة له عليه (تحتمل) و فى بعض النسخ تحمل (تمويه الجهلاء) أى تلبيس الأمر عليهم حتّى يزعمون لمكان جهالتهم صحّة تلك العلّة مع بطلانها في نفس الأمر (أو حجّة) و دليل (تليط بعقول السفهاء) أى تلتصق بعقولهم و يظنّون بمالهم من السفاهة حقّيتها مع أنها باطلة في الحقيقة (غيركم) فيقبلونها أى ما وجدت أحدا يتعصّب بشي‏ء إلّا وجدت تعصّبه ناشئا من علّة غيركم، و بعبارة اخرى وجدت كلّ أحد يتعصّب لعلّة إلّا أنتم.

(فانّكم تتعصّبون لأمر لا يعرف له سبب و لا علة) حاملة لتمويه الجهلاء و ملتصقةبعقول السفهاء.
و ليس المراد نفى مطلق السبب للعصبيّة، لما قد مرّ في شرح الفصل الأوّل و الثالث من الخطبة من أنّ سبب تعصّبهم و ثوران الفتنة بينهم هو اعتزاء الجاهلية الّذى كان بينهم، و إنّما المراد نفى سبب ذلك الاعتزاء، يعنى أنكم تتعصّبون لأمر و هو الاعتزاء ليس لذلك الأمر سبب معروف ظاهر مقبول و لو عند الجهال فاذا لم يكن للاعتزاء سبب مقبول تكون سببيّته للعصبيّة أيضا سخيفة هيّنة، فيكون تعصّبهم له بمنزلة التعصّب لا لعلّة، هذا.

و لما ذكر اجمالا أنّ تعصّب كلّ متعصّب من العالمين فانّما هو علّة مقتضية له أراد تفصيل ذلك الاجمال بالاشارة إلى بعض علل التعصّب الناشى من المتعصّبية فقال: (أما إبليس) اللعين و هو رئيس المتعصّبين و المستكبرين (فتعصّب على آدم لأصله) و استكبر عليه بشرف جوهره على زعمه لكونه مخلوقا من النار (و طعن عليه فى خلقته) لكونه مخلوقا من الطين، ففضل نفسه عليه قياسا للفرع على الأصل فى الشرف و الخسة (فقال أنا نارىّ و أنت طيني) فكانت علة تعصّبه أنه تعزّز بخلقة النار و استوهن خلق الصلصال.

روى في الكافى عن داود بن فرقد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ الملائكة يحسبون أنّ ابليس منهم و كان فى علم اللّه أنّه ليس منهم فاستخرج ما فى نفسه بالحميّة و الغضب، فقال خلقتنى من نار و خلقته من طين.
و قد مرّ تفصيل الكلام فى قياسه و بطلان قياسه فى شرح الفصل الحادى عشر من المختار الأوّل و شرح الفصل الأوّل من هذا المختار الذى نحن بصدد شرحه، من أراد الاطلاع عليه فليراجع الفصلين.

(و أمّا الأغنياء من مترفة الأمم) أى الامم المترفة و هم الذين أطغتهم النعمة أو المتنعّمون الذين لا يمنع من تنعّمهم أو المتروكون يصنعون ما يشاؤن و لا يمنعون (فتعصّب و الاثار مواقع النعم).

قال المحدّث العلّامة المجلسىّ «ره»: مواقع النعم هى الأموال و الأولاد، و آثارها هى الترفّه و الغنى و التلذّذ بها.
و بمثله قال الشارح البحرانى حيث قال: مواقعها هى الأموال و الأولاد، و آثار تلك المواقع هى الغنى و الترفّه بها و التنعّم و الالتذاذ و كان تعصّبهم لذلك و فخرهم به، ثمّ قال: و يحتمل أن يريد بالنعم الأموال و الأولاد و بمواقعها وقوعها، فانه كثيرا ما يريد بمفعل المصدر و آثارها هى الغنى و الترفّه كما قدّمنا.

و كيف كان فالمقصود أنّ تعصّب المترفين و تفاخرهم إنما كان بسبب كثرة الأموال و الأولاد كما أقرّوا به (فقالوا نحن أكثر أموالا و أولادا و ما نحن بمعذّبين) و هو اقتباس من الاية الشريفة في سورة سباء قال سبحانه وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ. وَ قالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ.

قال الطبرسي «و ما ارسلنا في قرية من نذير» أى من نبىّ مخوف باللّه تعالى «إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها» أى جبابرتها و اغنياؤها المتنعّمون فيها «إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ» و في هذا بيان للنّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّ أهل قريته جروا على منهاج الأوّلين، و إشارة إلى أنّه كان اتباع الأنبياء فيما مضى الفقراء و أوساط الناس دون الأغنياء.

ثمّ بين سبحانه علّة كفرهم بأن قال وَ قالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً أى افتخروا بأموالهم و أولادهم ظنّا بأنّ اللّه سبحانه انما خوّلهم المال و الولد كرامة لهم عنده فقالوا إذا رزقنا و حرمتم فنحن اكرم منكم و أفضل عند اللّه تعالى فلا يعذّبنا على كفرنا بكم و ذلك قوله وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ و لم يعلموا أنّ الأموال و الأولاد عطاء من اللّه تعالى يستحقّ به الشكر عليهم، و ليس ذلك للاكرام و التفضيل، هذا.

و لمّا وبّخهم على التعصّبات الباطلة أرشدهم إلى التعصّبات المرغوبة في الشريعة فقال: (فإن كان و لا بدّ من العصبيّة فليكن تعصّبكم لمكارم الخصال) و في بعض النسخ لمكارم الأخلاق و المعنى واحد، و قد مضى تفصيلها في شرح الفصل الثالث من الخطبة

السادسة و الثمانين، و أقول هنا: روى في الوسائل من الخصال عن الحسن بن عطية عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: المكارم عشر فان استطعت أن تكون فيك فلتكن فانها تكون فى الرجل و لا تكون في ولده، و تكون في ولده و لا تكون في أبيه، و تكون في العبد و لا تكون في الحرّ: صدق النّاس «البأس خ»، و صدق اللسان، و اداء الامانة، و صلة الرحم، و إقراء الضيف، و إطعام السائل، و المكافاة على الصنائع، و التذمّم للجار، و التذمّم للصّاحب، و رأسهنّ الحياء.
و فى الوسائل من معانى الأخبار و أمالى الصّدوق عن حماد بن عثمان قال: جاء رجل الى الصادق عليه السّلام فقال: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخبرني عن مكارم الأخلاق فقال: العفو عمّن ظلمك، و صلة من قطعك، و إعطاء من حرمك، و قول الحقّ و لو على نفسك (و محامد الأفعال).

روى في الوسائل من المجالس عن المفضّل بن عمر عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما السّلام إنّه قال: عليكم بمكارم الأخلاق، فانّ اللّه عزّ و جلّ يحبّها، و إيّاكم و مذامّ الأفعال فانّ اللّه عزّ و جلّ يبغضها، و عليكم بتلاوة القرآن «إلى أن قال» و عليكم بحسن الخلق فانّه يبلغ بصاحبه درجة الصائم القائم، و عليكم بحسن الجوار فانّ اللّه جلّ جلاله أمر بذلك، و عليكم بالسّواك فانّه مطهّرة و سنّة حسنة، و عليكم بفرائض اللّه فأدّوها، و عليكم بمحارم اللّه فاجتنبوها.

(و محاسن الامور الّتى تفاضلت فيها المجداء و النجداء) أى أولو لشّرف و الكرم و الشجاعة (من بيوتات العرب و يعاسيب القبايل) أى رؤسائها و ساداتها و ذلك: مثل ما رواه في الكافي عن حبيب بن ثابت عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام قال: لم يدخل الجنّة حميّة غير حميّة حمزة بن عبد المطلب، و ذلك حين أسلم غضبا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حديث السلا الذى القى على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فانّ تعصّبه للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و دخوله في الاسلام إنما نشأ من فرط الغيرة و العصبيّة بمقتضى سودده و شرف نسبه و علوّ حسبه و هكذا كان عادة الأشراف و الأنجاد فانهم انّما كانوا يتعصّبون و يتفاضلون (بالأخلاق الرغيبة) المرغوب فيها (و الأحلام) أى العقول (العظيمة و الأخطار) أى الأقدارو المراتب (الجليلة و الاثار المحمودة).

و قد اشير اليها في الحديث النّبوي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المروىّ في الوسائل قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إنّ خياركم أولو النّهى، قيل: يا رسول اللّه من أولو النهى قال: هم اولو الأخلاق الحسنة، و الأحلام الرزينة، و صلة الأرحام، و البررة بالأمّهات و الاباء، و المتعاهدون بالجيران و اليتامى، و يطعمون الطعام و يفشون السلام فى العالم و يصلّون و الناس نيام غافلون.

و لما قال: فان كان و لا بدّ من العصبيّة فليكن تعصّبكم لمكارم الأخلاق و محامد الأفعال نبّه على تفصيلها بقوله (فتعصّبوا لخلال الحمد) أى للخصال المحمودة و أورد منها هنا عشرا.
الاولى ما أشار إليه بقوله (من الحفظ للجوار) يحتمل أن يكون المراد به حسن المجاورة و حفظ حقوق الجيران.
ففى الكافى عن معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: حسن الجوار يعمر الدّيار و ينسى الأعمار.

و عن أبى مسعود قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: حسن الجوار زيادة في الأعمار و عمارة الدّيار.
و في الوسائل عن الصّدوق باسناده عن شعيب بن واقد عن الحسين بن زيد عن الصادق عن آبائه عن عليّ عليهم السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حديث المناهي قال: من اذى جاره حرّم اللّه عليه ريح الجنّة و مأواه جهنّم و بئس المصير، و من ضيّع حقّ جاره فليس منّا، و ما زال جبرئيل يوصيني بالجار حتّى ظننت أنّه سيورثه.

قال بعض الأعلام: ليس حسن الجوار كفّ الأذى فقط، بل تحمّل الأذى منه أيضا، و من جملة حسن الجوار ابتداؤه بالسلام، و عيادته في المرض، و تعزيته في المصيبة، و تهنيته في الفرح، و الصفح عن زلّاته، و عدم التطلّع على عوراته، و ترك مضايقته فيما يحتاج إليه من وضع جذوعه على جدارك، و تسلّط ميزابه إلى دارك‏و ما أشبه ذلك.

و يحتمل أن يكون المراد بالجوار أن تعطى رجلا ذمّته و أمانا يكون بذلك جارك، قال الطريحى: و فى الحديث أيّما رجل نظر إلى رجل من المشركين فهو جارحتى يسمع كلام اللّه أى في أمن لا يظلم و لا يؤذي و على هذا فمعنى الحفظ للجوار هو المحافظة على ما اعطيته من الذمام و القيام بلوازمه و عدم الاضاعة له.

(و) الثانية (الوفاء بالذمام) أى الوفاء بالعهد و الأمان.
روى في الوسائل عن الكلينيّ عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن النّوفليّ عن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت له: ما معنى قول النّبي صلّى اللّه عليه و آله: المسلمون تتكافا دماؤهم و يسعى بذمّتهم أدناهم قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لو أنّ جيشا من المسلمين حاصروا قوما من المشركين فأشرف رجل فقال: اعطونى الأمان حتى ألقى صاحبكم و اناظره فأعطاه أدناهم الأمان وجب على أفضلهم الوفاء به.
و فيه عن الصّدوق بسنده عن حبّة العرنى قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: من ائتمن رجلا على دمه ثمّ خاس به فأنا من القاتل برى‏ء و إن كان المقتول في النار.

(و) الثالثة (الطاعة للبرّ) قيل: البرّ اسم جامع للخير كلّه فيكون المراد من طاعته الانقياد له و الاتيان بالخيرات، و يجوز أن يكون بمعنى البارّ أو بحذف المضاف أى لذى البرّ على حدّ قوله تعالى لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى‏ أى البارّ، أو ذو البرّ هو المتّصف بالتقوى، و على هذا فالمراد بالطاعة للبرّ هو الطاعة للأبرار المتّقين.

(و) الرابعة (المعصية للكبر) أى المجانبة و المخالفة له بالملازمة للتواضع و انّما عبر بلفظة المعصية لتقدّم لفظ الطاعة و كونها في قبالها، فعبّر بها لحسن المجاورة و مراعاة للنظير و هو من محاسن البلاغة.

(و) الخامسة (الأخذ بالفضل) يجوز أن يراد بالفضل التفضّل و الاحسان على الغير، و أن يراد به العمل الصالح و على أيّ تقدير فأخذه عبارة عن المواظبة عليه و بهما فسّر قوله سبحانه وَ أَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناًإِلى‏ أَجَلٍ قال أمين الاسلام الطبرسى قيل: إنّ الفضل بمعنى التفضّل و الافضال أى و يؤت كلّ ذى إفضال على غيره بمال أو كلام أو عمل بيد أو رجل جزاء إفضاله، فيكون الهاء في فضله عايدا إلى ذى الفضل، و قيل: إنّ معناه يعط كلّ ذي عمل صالح فضله أى ثوابه على قدر عمله، فانّ من كثرت طاعته في الدّنيا زادت درجاته في الجنّة و على هذا فالأولى أن تكون الهاء في فضله عائدا إلى اسم اللّه.

أقول: و يرشد إلى المعنيين ما روى في الكافي عن أبي حمزة الثمالي عن عليّ ابن الحسين عليهما السّلام قال: سمعته يقول: إذا كان يوم القيامة جمع اللّه تبارك و تعالى الأوّلين و الاخرين في صعيد واحد ثمّ ينادى مناد أين أهل الفضل قال: فيقوم عنق من الناس فتلقّاهم الملائكة فيقولون: ما كان فضلكم فيقولون: كنّا نصل من قطعنا، و نعطى من حرمنا، و نعفو عمن ظلمنا، قال: فيقال لهم: صدقتم ادخلوا الجنّة.

(و) السادسة (الكفّ عن البغى) أى عن الظلم و الاعتداء و الاستطالة و العدول عن الحقّ.
روى في الكافي عن ابن القداح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ أعجل الشرّ عقوبة البغي.
و عن السكونى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: يقول ابليس لجنوده: القوا بينهم الحسد و البغي فانّهما يعدلان عند اللّه الشرك.
أى يعدلانه في الاخراج من الدّين و العقوبة و التأثير في فساد نظام الخلق.

(و) السابعة (الاعظام للقتل) أى تعظيمه و عدّه عظيما، و المراد قتل النفس التي حرّم اللّه إلّا بالحقّ فانّه من أكبر الكبائر و أعظم الذنوب قال تعالى وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً» روى الصّدوق في عقاب الأعمال عن جابر بن يزيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال أوّل ما يحكم اللّه في القيامة في الدّماء فيوقف ابنى آدم فيفصل بينهما، ثمّ الذين يلونهم من أصحاب الدّماء حتّى لا يبقى منهم أحد، ثمّ الناس بعد ذلك فيأتي المقتول قاتله‏فيشخب دمه في وجهه فيقول: هذا قتلنى، فيقول أنت قتلته، فلا يستطيع أن يكتم اللّه حديثا.
و عن سعيد الأزرق عن أبى عبد اللّه عليه السّلام فى رجل قتل رجلا يقال له: مت أىّ ميتة شئت إن شئت يهوديا و إن شئت نصرانيا و ان شئت مجوسيا.
و عن أبى الجارود عن محمّد بن علىّ صلوات اللّه عليهما قال: ما من نفس يقتل برّة و لا فاجرة إلّا و هو يحشر يوم القيامة معلّقا بقاتله بيده اليمنى و رأسه بيده اليسرى و أوداجه تشخب دما يقول: يا ربّ سل هذا بم قتلنى، و إن «فان ظ» كان قتله فى طاعة اللّه عزّ و جلّ أثيب القاتل و ذهب بالمقتول إلى النار، و إن كان فى طاعة فلان قيل له: اقتله كما قتله، ثمّ يفعل اللّه فيهما مشيّته.

(و) الثامنة (الانصاف للخلق) روى في الكافى عن السّكونى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: سيّد الأعمال إنصاف الناس من نفسك، و مواساة الأخ فى اللّه، و ذكر اللّه على كلّ حال.
و عن أبى حمزة الثمالى عن علىّ بن الحسين عليهما السّلام قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول في آخر خطبته: طوبى لمن طاب خلقه و طهرت سجيّته و صلحت سريرته و حسنت علانيته و أنفق الفضل من ماله و أمسك الفضل من قوله، و أنصف الناس من نفسه و عن زرارة عن أبى جعفر عليه السّلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام فى كلام له: ألا انّه من ينصف الناس من نفسه لم يزده اللّه إلّا عزّا.

و عن محمّد بن مسلم عن أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: ثلاثة هم أقرب الخلق إلى اللّه عزّ و جلّ يوم القيامة حتى يفرغ من الحساب. رجل لم تدعه قدرته في حال فى غضبه إلى أن يحيف على من تحت يده، و رجل مشى بين اثنين فلم يمل مع أحدهما على الاخر بشعيرة، و رجل قال بالحقّ فيما له و عليه.

(و) التاسعة (الكظم للغيظ) روى فى الكافى عن مالك بن حصين السكونى قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: ما من عبد كظم الغيظ إلّا زاده اللّه عزّ و جلّ عزّا فى الدّنيا و الاخرة، و قد قال اللّه عزّ و جلّ وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَ الْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَ اللَّهُ‏ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ و أثابه اللّه مكان غيظه ذلك.
و عن سيف بن عميرة قال حدّثنى من سمع أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: من كظم غيظا و لو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ اللّه قلبه يوم القيامة رضاه.
و عن عبد اللّه بن منذر عن الوصافى عن أبى جعفر عليه السّلام قال: من كظم غيظا و هو يقدر على إمضائه حشا اللّه قلبه أمنا و ايمانا يوم القيامة.

(و) العاشرة (اجتناب الفساد فى الأرض) و هو الدّعوة إلى عبادة غير اللّه أو أخذ المال و قتل النفس بغير حقّ أو العمل بالمعاصى، و بها جميعا فسّر قوله سبحانه تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ هذا.
و لما أمرهم بأخذ مكارم الخصال و محامد الأفعال و أن يكون تعصّبهم لها أردفه بالتحذير عن مذامّ الأفعال و ذمايم الأعمال بالتنبيه على سوء ما نزل باخذيها من العذاب الأليم و الخزى العظيم و هو قوله: (و احذروا ما نزل بالامم) السابقين (قبلكم من المثلات) و العقوبات (بسوء الأفعال و ذميم الأعمال) أى سوء أفعالهم و ذميم أعمالهم.
(فتذكّروا فى الخير و الشرّ أحوالهم) أى تذكّروا اختلاف حالاتهم و لا حظوا تفاوتها فى الخير الناشى من الأخذ بصالح الأعمال و اللّزوم للايتلاف و الاتّفاق، و الشّر الناشى من الأخذ بسوء الأفعال و سلوك مسلك العناد و الافتراق.
(و احذروا أن تكونوا أمثالهم) بأن ينزل عليكم المثلاث أيضا بسوء أفعالكم و ذميم أعمالكم.
(فاذا تفكّرتم في تفاوت حاليهم) بالخير و الشرّ و النعمة و النقمة.

(ف) اسلكوا مسلك الخير و (الزموا كلّ أمر لزمت العزّة به حالهم) أى شأنهم (و زاحت الأعداء له عنهم) أى زالت و بعدت أعداؤهم عنهم لأجل ذلك الأمر (و مدّت العافية فيه عليهم) أى انبسطت و جرت العافية عليهم لأجله و العافية هو كفّ أذى النّاس عنهم و كفّ أذاهم عن النّاس (و انقادت النعمة له معهم) لكونه‏ سببا معدّا لافاضة النعم عليهم (و وصلت الكرامة عليهم حبلهم) قال البحرانى استعار لفظ الوصل لاجتماعهم عن كرامة اللّه لهم حالكونهم على ذلك الأمر و رشّح بذكر الحبل.

(من الاجتناب للفرقة و اللزوم للالفة) بيان للأمر الموجب لعزّتهم و لساير ما تقديم من الخصائص الأربعة«» يعنى أنّ الأمر الذى لزمت العزّة به شأنهم هو التجنب من الاختلاف و الافتراق و اللزوم للمحبّة و الايتلاف (و التحاضّ) أى الحثّ و الترغيب من الطرفين (عليها و التواصى) أى وصيّة بعضهم بعضا (بها) أى بتلك الالفة.
و اتركوا مسلك الشرّ (و اجتنبوا كلّ أمر كسر فقرتهم) أى ظهرهم (و أوهن منّتهم) أى قوّتهم.

(من تضاغن القلوب) يعنى أنّ الأمر الموجب لكسر ظهرهم هو انطواء قلوبهم على الحقد (و تشاحن الصّدور) أى تباغضها و إعلانها بالعداوة (و تدابر النفوس) أى تقاطعها و مصارمتها و هجران بعضها عن بعض و أصله أنّ من يعادى أحدا يولّيه دبره بعداوته و يعرض عنه بوجهه (و تخاذل الأيدى) أى لا ينصر بعضهم بعضا، و إضافة التخاذل إلى الأيدى لأنّ الأغلب أن يكون التناصر بها.

و لما ذكر على وجه العموم أنّ كلّ أمّة من الامم السابقة ترافدت أيديهم و تناصروا و تعاونوا كان ذلك سببا لعزّتهم و ابعاد الأعداء عنهم، و كلّ امّة افترقوا و تقاطعوا استلزم ذلك ذلّهم و كسر شوكتهم و ضعف قوّتهم، عقّبه بتذكير حال خصوص المؤمنين الماضين، و أنّ اجتماع كلمتهم جعلهم ملوكا في أقطار الأرضين و اختلافها أوجب خلع لباس العزّ عنهم و كونهم مقهورين بعد ما كانوا قاهرين و هو قوله: (و تدبّروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم كيف كانوا في حال التمحيص و البلاء) أى حال الاختبار و الابتلاء (ألم يكونوا أثقل الخلايق أعباء) أى أثقالا(و أجهد العباد بلاء و أضيق أهل الدّنيا حالا) و بيّن شدة ابتلائهم و ضيق حالهم بقوله: (اتّخذتهم الفراعنة عبيدا) و المراد بهم إما فراعنة مصر كما سنشير اليه و تقديم ذكرهم في شرح الفصل الثاني من الخطبة المأة و الاحدى و الثمانين و يدلّ عليه صريحا: ما فى البحار من تفسير القمّي عن أبي الجارود عن أبى جعفر عليه السّلام في قوله تعالى وَ قالَ مُوسى‏- إلى قوله- : رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فانّ قوم موسى عليه السّلام استعبدهم آل فرعون و قالوا: لو كان لهؤلاء على اللّه كرامة كما يقولون ما سلطنا عليهم، الحديث أو مطلق العتاة كما قال الشارح المعتزلي (فساموهم) أى كلّفوهم و أذاقوهم (سوء العذاب و جرّعوهم جرع المرار) أى سقوهم المرار جرعة بعد جرعة، و يستعار شرب المرار لكلّ من يلقى شديد المشقة.

و المراد بسومهم سوء العذاب إمّا خصوص ذبح الأبناء و ترك البنات، فيكون جرع المرار إشارة إلى ساير شدايدهم، أو الأعمّ منه و من ساير أعمالهم الشاقة، فيكون عطف و جرّعوهم جرع المرار، من قبيل عطف المسبّب على السبب، يعنى أنهم عذّبوهم بسوء العذاب من الذّبح و غيره، فاشربوهم بسبب ذلك التعذيب جرع المرار إلى كلّ من المعنيين ذهب المفسّرون في تفسير قوله تعالى وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ.

قال امين الاسلام الطبرسي: فرعون اسم لملك العمالقة كما يقال لملك روم قيصر، و لملك الفرس كسرى، و لملك الترك خاقان، و لملك اليمن تبّع، فهو على هذا بمعنى الصفة، و قيل: إنّ اسم فرعون مصعب بن الرّيان، و قال محمد بن إسحاق: هو الوليد بن مصعب.

قال الطبرسي: فصّل سبحانه في هذه الاية النعمة الّتي أجملها فيما قبل فقال:و اذكروا إذ نجّيناكم اى خلصناكم، من قوم فرعون و أهل دينه، يسومونكم يلزمونكم سوء العذاب، و قيل: يذيقونكم و يكلّفونكم و يعذّبونكم، و الكلّ متقارب و اختلفوا في العذاب الذى نجّاهم اللّه منه فقال بعضهم: ما ذكر في الاية من قوله يذبّحون أبناءكم و يستحيون نساءكم و هذا تفسيره.«» و قيل: أراد به ما كانوا يكلّفونهم من الأعمال الشاقّة، فمنها أنّهم جعلوهم أصنافا فصنف يخدموهم، و صنف يحرثون لهم، و من لا يصلح منهم للعمل ضربوا عليهم الجزية و كانوا يذبّحون أبناءهم و يستحيون نساءهم مع ذلك، و يدلّ عليه قوله تعالى في سورة إبراهيم يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ فعطفه على ذلك يدلّ على أنه غيره، و معناه يقتلون أبناءكم و يستحيون نساءكم يستبقونهنّ و يدعونهنّ احياء ليستعبدن و ينكحن علي وجه الاسترقاق، و هذا أشدّ من الذّبح، و في ذلكم أى في سومكم العذاب و ذبح الأبناء ابتلاء عظيم من ربّكم، لما خلى بينكم و بينه حتى فعل بكم هذه الأفاعيل.

و السبّب في قتل الأبناء أنّ فرعون رأى في منامه كان نارا أقبلت من بيت المقدّس حتى اشتملت على بيوت مصر فاحترقتها و احترقت القبط و تركت بنى إسرائيل، فهاله ذلك و دعا السّحرة و الكهنة، و القافة فسألهم عن رؤياه، فقالوا إنه يولد في بني إسرائيل غلام يكون على يده هلاكك و زوال ملكك و تبديل دينك، فأمر فرعون بقتل كلّ غلام يولد في بني إسرائيل و جمع القوابل فقال لهنّ لا يسقط في أيديكنّ غلام من بني إسرائيل إلّا قتل و لا جارية إلّا تركت و وكّل بهنّ، فكنّ يفعلن ذلك و أسرع الموت في مشيخة بني إسرائيل، فدخل رءوس القبط على فرعون فقالوا له: إنّ الموت قد وقع في بني إسرائيل فيذبح صغارهم و يموت كبارهم و يوشك أن يقع العمل علينا، فأمر فرعون أن يذبحوا سنة و يتركوا سنة فولد هارون في السنة الّتى لا يذبحون فيها فترك، و ولد موسى في السّنة الّتي يذبحون فيها.

و في البحار عن الثعلبي في كتاب عرايس المجالس لما مات الريان بن الوليد فرعون مصر الأول صاحب يوسف عليه السّلام و هو الذى ولىّ يوسف خزائن أرضه و أسلم على يديه، فلما مات ملك بعده قابوس بن مصعب صاحب يوسف الثاني، فدعاه يوسف عليه السّلام إلى الاسلام فأبي، و كان جبّارا و قبض اللّه تعالى يوسف عليه السّلام في ملكه ثمّ هلك و قام بالملك بعده أخوه أبو العباس بن الوليد بن مصعب بن الريان بن اراشة بن مروان بن عمرو بن فاران بن عملاق بن لاوز بن سام بن نوح عليه السّلام، و كان أعتى من قابوس و أكبر و أفجر، و امتدّت أيام ملكه و أقام بنو إسرائيل بعد وفاة يوسف و قد نشروا و كثروا و هم تحت أيدى العمالقة و هم على بقايا من دينهم مما كان يوسف و يعقوب و إسحاق و إبراهيم عليهم السّلام شرعوا فيهم من الاسلام متمسّكين به، حتى كان فرعون موسى الذى بعثه اللّه إليه و لم يكن منهم فرعون أعتى على اللّه و لا أعظم قولا و لا أقسى قلبا و لا أطول عمرا في ملكه و لا أسوء ملكة لبني إسرائيل منه و كان يعذّبهم و يستعبدهم فجعلهم خدما و خولا و صنفهم في أعماله فصنف يبنون و صنف يحرسون، و صنف يتولون الأعمال القذرة و من لم يكن من أهل العمل فعليه الجزية كما قال تعالى يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ.

(فلم تبرح الحال بهم في ذلّ الهلكة و قهر الغلبة) أى لم يزالوا أذلّاء هالكين مقهورين مغلوبين في أيدى الفراعنة و أتباعهم (لا يجدون حيلة في امتناع) منهم (و لا سبيلا إلى دفاع) عنهم.
(حتّى إذا) طالت بهم المدّة و بلغت الغاية المشقّة و الشدّة و (رأى اللّه سبحانه جدّ الصّبر منهم) أى رأى منهم أنهم مجدّون في الصّبر (على الاذى في محبّته و الاحتمال) أى التحمل (للمكروه من خوفه) و خشيته.

(جعل لهم من مضائق البلاء فرجا) و من سوء العذاب مخرجا (فأبدلهم العزّ مكان الذلّ و الأمن مكان الخوف) كما قال عزّ من قائل وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوايُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى‏ عَلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَ دَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ وَ ما كانُوا يَعْرِشُونَ و قال أيضا وَ لَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ. مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ. وَ لَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى‏ عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ أى نجّينا الذين آمنوا بموسى عليه السّلام من العذاب المهين، يعنى قتل الأبناء و استخدام النساء و تكليف المشاق و الاستعباد بعد سنين متطاولة و مدد متمادية.

روى الصّدوق في كتاب كمال الدّين و اتمام النعمة عن سعيد بن جبير عن سيّد العابدين عليّ بن الحسين عن أبيه سيّد الشهداء الحسين بن عليّ عن أبيه سيد الوصيّين أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليهم السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لما حضرت يوسف الوفاة جمع شيعته و أهل بيته فحمد اللّه و أثنا عليه ثمّ حدّثهم بشدّة تنالهم تقتل فيها الرجال و تشقّ بطون الحبالى و تذبح الأطفال حتّى يظهر اللّه في القائم من ولد لاوى بن يعقوب و هو رجل أسمر طوال و نعته لهم بنعته فتمسّكوا بذلك، و وقعت الغيبة و الشدّة على بنى اسرائيل و هم ينتظرون قيام القائم أربعمائة سنة حتّى إذا بشّروا بولادته و رأوا علامات ظهوره و اشتدّت البلوى و حمل عليهم بالحجارة «بالخشب و الحجارة خ ل».

و طلب الفقيه الذى كانوا يستريحون إلى أحاديثه فاستتر، و راسلهم «و طلبوا خ ل» فقالوا كنا مع الشدّة نستريح إلى حديثك، فخرج بهم إلى الصحارى و جلس يحدّثهم حديث القائم و نعته و قرب الأمر، و كانت ليلة قمراء.
فبيناهم كذلك حتّى طلع عليهم موسى عليه السّلام و كان في ذلك الوقت حدث السّن قد خرج من دار فرعون يظهر النزهة، فعدل عن موكبه و أقبل إليهم و تحته بغلة و عليه طيلسان خزّ.

فلمّا رآه الفقيه عرفه بالنعت فقام اليه و انكبّ على قدمه فقبّلها ثمّ قال: الحمد للّه الذى لم يمتني حتّى أرانيك، فلما رأى الشيعة ذلك علموا أنّه صاحبهم فأكبّوا على الأرض شكرا للّه عزّ و جلّ فلم يزدهم على أن قال: أرجو أن يعجّل‏اللّه فرجكم.

ثمّ غاب بعد ذلك و خرج إلى مدينة مدين فأقام عند شعيب عليه السّلام ما أقام فكانت الغيبة الثانية أشدّ عليهم من الاولى، و كانت نيفا و خمسين سنة، و اشتدّت البلوى عليهم.
و استتر الفقيه فبعثوا إليه أنه لا صبر لنا على استتارك عنّا، فخرج إلى بعض الصحارى و استدعاهم و طيّب نفوسهم و أعلمهم أنّ اللّه عز و جلّ أوحى إليه أنّه مفرّج عنهم بعد أربعين سنة، فقالوا بأجمعهم: الحمد للّه، فأوحى اللّه عزّ و جلّ إليه قل لهم قد جعلتها ثلاثين سنة لقولهم الحمد للّه، فقالوا: كلّ نعمة من اللّه، فأوحى اللّه إليه قل لهم: قد جعلتها عشرين سنة، فقالوا: لا يأتي بالخير إلّا اللّه، فأوحى اللّه تعالى إليه قل لهم: قد جعلتها عشرا، فقالوا: لا يصرف السوء إلّا اللّه، فأوحى اللّه إليه قل لهم: لا تبرحوا فقد أذنت لكم في فرجكم.

فبيناهم كذلك إذ طلع موسى عليه السّلام راكبا حمارا فأراد الفقيه أن يعرف الشيعة ما يستبصرون به فيه، و جاء موسى عليه السّلام حتّى وقف عليهم فسلّم عليهم فقال له الفقيه: ما اسمك قال: موسى، قال: ابن من قال: ابن عمران، قال: ابن من قال: ابن فاهت بن لاوى بن يعقوب، قال: بما ذا جئت قال: جئت بالرّسالة من عند اللّه عزّ و جلّ، فقام إليه فقبّل يده ثمّ جلس بينهم فطيّب نفوسهم و أمرهم أمره ثمّ فرّقهم، فكان بين ذلك الوقت و بين فرجهم بغرق فرعون أربعون سنة.

(فصاروا) أى المؤمنون بعد غرق فرعون و جنوده (ملوكا حكاما و أئمة أعلاما) كما يدلّ عليه قوله سبحانه في سورة القصص وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ.
قال الطبرسى: المعنى أنّ فرعون كان يريد إهلاك بنى اسرائيل و إفنائهم و نحن نريد أن نمنّ عليهم و نجعلهم أئمة أى قادة و رؤساء في الخير يقتدى بهم عن ابن عباس، و قيل: نجعلهم ولاة و ملوكا عن قتادة، و هذا القول مثل الأوّل، لأنّ الذين جعلهم اللّه ملوكا فهم أئمة و لا يضاف إلى اللّه سبحانه ملك من يملك الناس ظلما و عدوانا، و قد قال سبحانه فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً و الملك‏من اللّه هو الذى يجب أن يطاع فالأئمة على هذا ملوك مقدّمون في الدّين و الدّنيا يطأ الناس أعقابهم.

و فى سورة المائدة وَ إِذْ قالَ مُوسى‏ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ اى اذكروا نعمة اللّه و أياديه لديكم إذ جعل فيكم أنبياء يخبرون بالغيب و تنصرون بهم على الأعداء و لم يبعث فى أمّة ما بعث فى بنى اسرائيل من الأنبياء، و قيل: هم الأنبياء الذين كانوا بعد موسى عليه السّلام مقيمين فيهم إلى زمن عيسى عليه السّلام مبيّنون لهم أمر دينهم، و جعلكم ملوكا أى جعل منكم أو فيكم، و قد تكاثر فيهم الملوك تكاثر الأنبياء بعد فرعون، و قيل: لما كانوا مملوكين فى أيدى القبط فأنقذهم و جعلهم مالكين لأنفسهم و امورهم سماهم ملوكا، و آتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين، من فلق البحر و تظليل الغمام و المنّ و السّلوى و غيرها مما أكرمهم اللّه تعالى به.

(و) قد (بلغت الكرامة من اللّه لهم ما) أى إلى مقدار (لم تذهب الامال إليه بهم) أى إلى ذلك المقدار، يعني بلغت كرامة اللّه لهم إلى غاية الغايات و فوق ما يأمله الاملون و يرجوه الراجون، حيث آتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين.

و لذلك منّ اللّه عليهم في موضعين من سورة البقرة بقوله يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ و ذلك إنّ اللّه سبحانه فلق لهم البحر و أنجاهم من فرعون و أهلك عدوّهم و أورثهم ديارهم و أموالهم و أنزل عليهم التوراة فيها تبيان كلّ شي‏ء يحتاجون إليه و أعطاهم ما أعطاهم في التيه، و ذلك أنهم قالوا أخرجتنا من العمران و البنيان إلى مفازة لا ظلّ فيها و لا كنّ فأنزل اللّه عليهم غماما أبيض رقيقا ليس بغمام المطر أرقّ و أطيب و أبرد منه فأظلّهم و كان يسير معهم إذا ساروا، و يدوم عليهم من فوقهم إذا نزلوا، فذلك قوله تعالى وَ ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ يعني في التيه تقيكم من حرّ الشمس.

و من جملة كرامته تعالى لهم أنّه جعل لهم عمودا من نور يضي‏ء لهم بالليل إذا لم يكن ضوء القمر، فقالوا: هذا الظلّ و النور قد حصل فأين الطعام فأنزل اللّه‏تعالى عليهم المنّ.
و اختلفوا فيه ففي تفسير الامام هو الترنجبين و به قال الضحاك، و قال مجاهد: هو شي‏ء كالصمغ كان يقع على الأشجار و طعمه كالشهد، و قال وهب: هو الخبز الرقاق، و قال السّدى: هو عسل كان يقع على الشجر من الليل فيأكلون منه، و قال عكرمة: هو شي‏ء أنزله عليهم مثل الربّ الغليظ.

و قال الزجاج: جملة المنّ ما يمنّ اللّه به ممّا لا تعب فيه و لا نصب فقالوا: يا موسى قتلنا هذا المنّ حلاوته فادع لنا ربّك يطعمنا اللحم فأنزل اللّه عليهم السّلوى.
و اختلفوا فيه أيضا ففي تفسير الامام هو السماني أطيب طير لحما يسترسل لهم فيصطا دونه، و قال ابن عباس و الاكثر: هو طاير يشبه السّماني، و قال أبو العالية و مقاتل: هو طير حمر و كانت السّماء تمطر عليهم ذلك، و قيل: كانت طيرا مثل فراخ الحمام طيّبا و سمينا قد تمعط ريشها و زغبها فكانت الريح تأتي بها إليهم فيصبحون و هو في معسكرهم.

و من جملة كراماته لهم أنهم عطشوا في التيه فقالوا يا موسى من أنزلنا الشراب، فاستسقى لهم موسى، فأوحى اللّه سبحانه أن اضرب بعصاك الحجر، قال ابن عبّاس: كان حجرا خفيفا مربعا مثل رأس الرّجل أمر أن يحمله فكان يضع في مخلاته، فاذا احتاجوا إلى الماء ألقاه و ضربه بعصاه فسقاهم، و كان يسقى كلّ يوم ستمائة ألف.
و منها أنهم قالوا لموسى: من أين لنا اللباس فجدّد اللّه لهم ثيابهم التي كانت عليهم حتّى لا تزيد على كرور الأيام و مرور الأعوام إلّا جدة و طراوة لا تخلق و لا تبلى، و قد مضى تفصيل التيه فى شرح الخطبة المأة و الخامسة و السّتين، هذا.

و لما أمر بالتدبر فى أحوال المؤمنين الماضين و تبدّل ذلّهم بالعزّ و خوفهم بالأمن و انتقالهم من عبوديّة الفراعنة إلى الملك و السلطنة، و بلوغهم من كرامة اللّه إلى ما لم تذهب إليه الامال، عقّبه بالأمر بالنظر في حالهم و التّنبيه على أنّ المستلزم لتلك الخيرات كلّها إنما كان هو الالفة و الاجتماع، و أنهم ما دامت كلمتهم متّفقة و قلوبهم مؤتلفة كان العزّ و السلطنة فيهم مستقرّة، و لمّا اختلفت الاراءو تشتّتت الأهواء عاد جميعهم إلى الشتات و عزّهم إلى البتات، فأبدلوا الذّل مكان العزّ، و الخوف مكان الأمن و صار مال أمرهم عبرا للمعتبرين و تذكرة للمتدبّرين و هو قوله: (فانظروا كيف كانوا) فى مبدء أمرهم بعد الخلاص من استرقاق الفراعنة (حيث كانت الأملاء) أى الجماعات و الأشراف (مجتمعة و الأهواء مؤتلفة و القلوب معتدلة) محفوظة من الميل إلى طرف الافراط أو التفريط (و الأيدى مترادفة) أى مترافدة متعاونة (و السّيوف متناصرة) نسبة التناصر إلى السّيوف من باب التوسّع و الاسناد إلى السبب (و البصائر نافذة) أى ماضية غير متردّدة فإنّ من نفذت بصيرته في أمر لا يبقى له تردّد فيه لعلمه به و تحققه إيّاه (و العزائم واحدة) أى الارادات الجازمة اللازمة على طلب الحقّ متفقة.

(ألم يكونوا أربابا في أقطار الأرضين و ملوكا على رقاب العالمين) الاستفهام للتقرير بما بعد النفى و المقصود التنبيه على أنهم صاروا ملوكا و أربابا بسبب اتّصافهم بشئون الالفة، و ملازمتهم لمراسم المحبّة فأمر المخاطبين بالنظر في حالهم ليقتفوا آثارهم في الايتلاف و الاجتماع، فينالوا به الفوز العظيم، ثمّ أمرهم بالنظر الى مال أمرهم فقال: (فانظروا إلى ما صاروا إليه فى آخر امورهم) و احذروا أن تكونوا مثلهم فى النفاق و الافتراق فتقعوا فى مهواة الذّلة و مفازة الهلكة، فانهم (حين وقعت الفرقة و تشتّتت) أى تفرّقت (الالفة و اختلفت الكلمة و الأفئدة و تشعّبوا) أى صاروا شعوبا و قبائل حال كونهم (مختلفين و تفرّقوا متحاربين) و فى بعض النسخ متحزّبين أى اختلفوا أحزابا (قد خلع اللّه عنهم) بسبب التفرّق و الاختلاف (لباس كرامته) و عزّته (و سبلهم غضارة نعمته) أى طيّبها و لذّتها (و بقى قصص أخبارهم فيكم عبرا للمعتبرين منكم) و محصّل ما ذكره عليه السّلام أنّهم خلعوا من لباس الكرامة و سلبوا من غضارة النعمة، و نزعوا من الملك و السلطنة بسبب افتراق الكلمة و اختلاف الاراء و تفرّقهم‏بالحرب و البغى و الفساد و سفك الدّماء فضربت«» عليهم الذّلة و المسكنة و باءوا بغضب من اللّه ذلك بأنّهم كانوا يكفرون بايات اللّه و يقتلون النبيّين بغير الحقّ ذلك بما عصوا و كانوا يعتدون.

و الى ذلك اشير فى قوله سبحانه فى سورة المائدة: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ قال الباقر عليه السّلام المسرفون هم الذين يستحلّون المحارم و يسفكون الدّماء.
و فى الجاثية وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ. وَ آتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ.

و فى سورة الاسراء وَ قَضَيْنا إِلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً. فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ. شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَ كانَ وَعْداً مَفْعُولًا. ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَ أَمْدَدْناكُمْ. بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ جَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً. إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَ لِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ لِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً.

قال البيضاوى: و قضينا إلى بني اسرائيل أوحينا إليهم وحيا مقتضيا في التوراة، لتفسدنّ في الأرض إفسادتين اولاهما مخالفة أحكام التوراة و قتل شعيا و قتل ارميا، و ثانيتهما قتل زكريّا و يحيى و قصد قتل عيسى عليه السّلام، فإذا جاء وعد عقاب أوليهما بعثنا عليكم عبادا لنا بخت النصر عامل لهراسف على بابل و جنوده، و قيل جالوت، و قيل سخاريب من أهل نينوى، أولى بأس شديد ذوى قوّة و بطش في الحرب شديد، فجاسوا تردّدوا لطلبكم، خلال الدّيار وسطها للقتل و الغارة، قتلوا كبارهم و سبوا صغارهم و حرّقوا التوراة و خربوا المساجد، ثمّ رددنا لكم الكرّة أى الدّولة و الغلبة عليهم على الذين بعثوا عليكم، و ذلك بأن ألقى اللّه في قلب بهمن بن اسفنديارلما ورث الملك من جدّه كشتاسف بن لهراسف شفقة عليهم، فردّ اسراءهم إلى الشام و ملك دانيال عليهم فاستولوا على من كان فيها من اتباع بخت نصر، أو بأن سلّط داود على جالوت فقتله و جعلناكم اكثر نفيرا، مما كنتم و النفير من ينفر مع الرّجل من قومه، و قيل: جمع نفروهم المجتمعون للذهاب، فاذا جاء وعد الاخرة، وعد العقوبة الاخرة ليسوءوا وجوهكم أى بعثناهم ليسوءوا وجوهكم ليجعلوها بادية آثار المساءة فيها، و ليتبّروا ليهلكوا ما علوا ما غلبوه و استولوا عليه أو مدّة علوّهم، تتبيرا و ذلك بأن سلّط اللّه عليهم الفرس مرّة اخرى فغزاهم ملك بابل من ملوك الطوايف اسمه جورز و قيل جردوس.

قيل دخل صاحب الجيش مذبح قرا بينهم فوجد فيه دما يغلى، فسألهم عنه فقالوا دم قربان لم يقبل منّا فقال: ما صدقتموني فقتل عليه الوفا منهم فلم يهدأ الدّم، ثمّ قال: إن لم تصدّقوني ما تركت منكم أحدا، فقالوا: إنّه دم يحيى عليه السّلام، فقال: لمثل هذا ينتقم منكم ربّكم، ثمّ قال: يا يحيى قد علم ربّي و ربّك ما أصاب قومك من أجلك فاهدء باذن اللّه قبل أن لا ابقى أحدا منهم، فهدأ.

و فى البحار من قصص الأنبياء بالاسناد إلى الصّدوق باسناده إلى وهب بن منبه قال: كان بخت نصر منذ ملك يتوقّع فساد بني اسرائيل يعلم أنّه لا يطيقهم إلّا بمعصيتهم، فلم يزل يأتيه العيون بأخبارهم حتّى تغيّرت حالهم و فشت فيهم المعاصي و قتلوا أنبياءهم و ذلك قوله تعالى وَ قَضَيْنا إِلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ إلى قوله فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما يعني بخت نصر و جنوده أقبلوا فنزلوا بساحتهم.

فلما رأوا ذلك فزعوا إلى ربّهم و تابوا و صابروا على الخير و أخذوا على أيدى سفهائهم و أنكروا المنكر و أظهروا المعروف فردّ اللّه لهم الكرّة على بخت نصر و انصرفوا بعد ما فتحوا المدينة، و كان سبب انصرافهم أنّ سهما وقع في جبين فرس بخت نصر فجمح به حتّى أخرجه من باب المدينة.

ثمّ إنّ بني اسرائيل تغيّروا فيما برحوا حتّى كرّ عليهم و ذلك قوله تعالى إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ فأخبرهم ارميا أنّ بخت نصر يتهيّأ بالمسيرإليكم و قد غضب اللّه عليكم و أنّ اللّه تعالى جلّت عظمته يستتيبكم لصلاح آبائكم و يقول هل وجدتم أحدا عصاني فسعد بمعصيتي أم هل علمتم أحدا أطاعني فشقى بطاعتي و أمّا أحباركم و رهبانكم فاتّخذوا عبادى خولا يحكمون فيهم بغير كتابى حتّى انسوهم ذكرى، و أما ملوككم و امراؤكم فبطروا نعمتى فغرّتهم الحياة الدّنيا، و أمّا قرّاؤكم و فقهاؤكم فهم منقادون للملوك يبايعونهم على البدع و يطيعونهم فى معصيتى، و أما الأولاد فيخوضون مع الخائضين، و في كلّ ذلك البسهم العافية فلا بدلنّهم بالعزّ ذلّا و بالأمن خوفا إن دعوني لم اجبهم، و إن بكوا لم أرحمهم.

فلما بلّغهم ذلك نبيّهم كذّبوه و قالوا: و قد أعظمت الفرية على اللّه تزعم أنّ اللّه معطل مساجده من عبادته، فقيّدوه، و سجنوه.
فأمر بخت نصر و حاصرهم سبعة أشهر حتى اكلوا خلاهم و شربوا أبوالهم، ثمّ بطش بهم بطش الجبّارين بالقتل و الصّلب و الاحراق و جدع الانوف و نزع الألسن و الأنياب و وقف النساء.

فقيل له: إنّ لهم صاحبا كان يحذرهم بما أصابهم، فاتّهموه و سجنوه، فأمر بخت نصر فاخرج من السجن فقال له: أ كنت تحذر هؤلاء قال: نعم قال: و أنّى علمت ذلك قال: أرسلني اللّه به إليهم، قال: فكذّبوك و ضربوك قال: نعم، قال: لبئس القوم قوم ضربوا نبيّهم و كذّبوا رسالة ربّهم فهل لك أن تلحق بي فاكرمك و إن أحببت أن تقيم في بلادك امنتك قال ارميا: إنّي لم أزل في أمان اللّه منذ كنت لم أخرج منه و لو أنّ بني اسرائيل لم يخرجوا من أمانه لم يخافوك.
فأقام ارميا عليه السّلام مكانه بارض ايليا و هى حينئذ خراب و قد هدم بعضها فلما سمع به من بقي من بني اسرائيل اجتمعوا فقالوا عرفنا أنّك نبيّنا فانصح لنا، فأمرهم أن يقيموا معه، فقالوا: ننطلق إلى ملك مصر نستجير، فقال ارميا عليه السّلام: إن ذمّة اللّه أو في الذمم، فانطلقوا و تركوا ارميا، فقال لهم الملك: أنتم في ذمّتي.

فسمع ذلك بخت نصر فأرسل إلى ملك مصر ابعث بهم إلىّ مصفدين و إلّا آذنتك بالحرب، فلما سمع ارميا عليه السّلام بذلك أدركته الرّحمة لهم فتبادر إليهم لينقذهم، فورد عليهم و قال: إنّ اللّه تعالى جلّ ذكره أوحى إلىّ أنّي مظهر بخت نصر على هذا الملك و آية ذلك انه تعالى أرانى موضع سرير بخت نصر الذى يجلس عليه بعد ما يظفر بمصر، ثمّ عمد فدفن أربعة أحجار في ناحية من الأرض.

فصار إليهم بخت نصر فظفر بهم و أسرهم، فلما أراد أن يقسم الفى‏ء و يقتل الأسارى و يعتق منهم كان منهم ارميا فقال له بخت نصر: أراك مع أعدائى بعد ما عرضتك له من الكرامة، فقال ارميا عليه السّلام: إنّى جئتهم مخوفا اخبرهم خبرك، و قد وضعت لهم علامة تحت سريرك هذا و أنت بأرض بابل، ارفع سريرك فانّ تحت كلّ قائمة من قوائمه حجرا دفنته بيدى و هم ينظرون، فلما رفع بخت نصر سريره وجد مصداق ما قال، فقال لارميا: إنّى لأقتلنهم إذ كذّبوك و لم يصدّقوك، فقتلهم و لحق بأرض بابل.

الترجمة

پس بترسيد از خدا در عذاب دنيوى بغى، و عذاب اخروى سنگينى ظلم، و بدى عاقبت كبر، پس بدرستى كه اينها أسباب شكار بزرگ شيطان است، و حيله بزرگتر او كه ميجهد در قلبهاى مردان مثل جستن زهرهاى كشنده، پس عاجز نمى‏شود هرگز، و خطا نمى‏كند از مقتل أحدى، نه از اهل علم بجهت علم خود، و نه از فقير پوشيده در لباس فقر خود.

و از اينست نگاه داشتن خداوند بندگان مؤمنان خود را بوسيله نمازها و زكاتها وجد و جهد روزه گرفتن در أيامى كه فرض شده‏اند بجهت ساكن كردن اعضا و جوارح ايشان، و خاشع نمودن چشمهاى ايشان، و رام گردانيدن نفسهاى ايشان، و پست و متواضع فرمودن قلبهاى ايشان، و بيرون بردن تجبّر از ايشان براى آنكه در اين مذكوراتست از ماليدن رخسارهاى شريفه بخاك از جهت تواضع، و از چسباندن‏اعضاء كريمه بزمين از جهت حقارت، و از ملحق شدن شكمها بپشتها در روزه گرفتن از جهت ذلّت، علاوه به آن چه در زكاة است از صرف كردن ميوهاى زمين و غير آن بسوى درويشان و فقيران، نظر نمائيد بسوى آنچه در اين اعمال است از ذليل ساختن ظاهر شوندهاى فخر، و از نگاه داشتن از طلوع كنندهاى كبر.

و بتحقيق نظر كردم بنظر بصيرت پس نيافتم أحدى را از أهل عالم كه تعصّب كند براى چيزى از چيزها مگر بجهت علّتى كه حامل اشتباه كارى جاهلان شود و بجهت دليلى كه چسبد بعقلهاى سفيهان بغير از شما، پس بدرستى كه شما تعصّب مى ‏نمائيد بجهت چيزى كه شناخته نمى‏شود از براى آن هيچ سبب و علّتى.

أما شيطان ملعون پس تعصّب كرد و تكبّر نمود بجناب آدم عليه السّلام بجهت أصل خود كه آتش بود، و طعن كرد بر او در خلقت أو، پس گفت بادم عليه السّلام: من از آتش خلق شده‏ام و تو از گل آفريده شده، و أمّا توانگران از متنعّمان امّتها پس تعصّب كردند بجهت آثار وقوع نعمتها پس گفتند ما بيشتريم از حيثيّت أموال و أولاد و نيستيم ما عذاب شدگان.

پس اگر لا بدّ شود از عصبيّت پس بايد كه شود عصبيّتها بجهت مكارم أخلاق و كارهاى پسنديده و امورات نيكو كه تفاخر مى‏كردند در آنها صاحبان مجدت و نجدت از خانواده‏هاى عربها و رئيسان قبيلها بخلقهاى مرغوبه، و عقلهاى بزرگ و مرتبه‏ هاى بلند، و اثرهاى پسنديده.

پس تعصّب نمائيد بخصلتهاى ستوده از محافظت حقّ همسايگى، و وفا نمودن بعهد و امان، و اطاعت نمودن نيكوكار، و مخالفت نمودن كبر، و فرا گرفتن فضل و باز ايستادن از بغى، و بزرگ شمردن كشتن ناحق، و انصاف كردن از براى خلق و فرو خوردن خشم نزد فوران غضب، و پرهيز كردن از فساد در زمين.

و بترسيد از چيزى كه نازل شد بامتها كه پيش از شما بودند از عقوبتها بسبب بدى فعلها و زشتى عملها، پس متذكّر باشيد در نيكى و بدى أحوال ايشان را، و حذر نمائيد از آنكه باشيد امثال ايشان، پس وقتى كه تفكر كرديد در تفاوت دو حالت‏ايشان يعنى حالت خوب و حالت بد ايشان.

پس لازم شويد هر كارى را كه لازم شد بسبب آن كار عزّت بحال ايشان و دور شد دشمنان بجهت آن كار از ايشان و ممدود شد رستگارى در آن كار بايشان، و منقاد شد نعمت از براى آن كار با ايشان، و وصل كرد ايشان يعنى حالت خوب و حالت بد ايشان.

پس لازم شويد هر كارى را كه لازم شد بسبب آن كار عزّت بحال ايشان و دور شد دشمنان بجهت آن كار از ايشان و ممدود شد رستگارى در آن كار بايشان، و منقاد شد نعمت از براى آن كار با ايشان، و وصل كرد كرامت و بزرگوارى بر آن كار ريسمان ايشان را كه عبارتست آن كار از اجتناب و پرهيز كردن از نفاق و افتراق و لازم شدن بايتلاف و اتّفاق، و ترغيب كردن بر آن، و وصيّت نمودن بان و اجتناب نمائيد از هركارى كه شكست مهره پشت ايشان را، و سست كرد قوت ايشان را از كينه جوئى قلبها بيكديگر، و دشمنى سينه‏ها، و پشت بيكديگر كردن نفسها، و خوار كردن دستها يكديگر را.

و تدبّر نمائيد در حال گذشتگان از مؤمنين كه پيش از شما بودند كه چگونه بودند در حال ابتلا و امتحان، آيا نبودند ايشان سنگين‏ترين خلق از حيثيّت بارهاى گران، و كوشش كننده‏ترين خلق از حيثيّت بلا، و تنگ‏ترين اهل دنيا از حيثيّت حال، اخذ كرد ايشان را فرعونيان بندگان و غلامان، پس عذاب كردند ايشان را به بدترين عذاب، و آشاميدند ايشان را جرعه‏هاى تلخ، پس بود هميشه حال ايشان در ذلّت هلاكت، و در قهر غلبه در حالتى كه نمى‏يافتند حيله و علاجى در امتناع از ظلم ايشان، و نه راهى بسوى دفع كردن بلاى ايشان.

تا آنكه چون ديد خداوند متعال كوشش در صبر از ايشان بر اذيّت در محبّت او، و متحمّل شدن مكروه را از خوف او، گردانيد براى ايشان از تنگيهاى بلا و محنت گشايش، پس بدل كرد بر ايشان عزّت را بجاى ذلّت، و أمنيت را بجاى خوف، پس گشتند پادشاهان و حاكمان و امامانى كه علمهاى هدايتند، و رسيد كرامت از جانب خدا براى ايشان بمقامى كه نمى‏برد آرزوها ايشان را بان مقام.

پس نظر نمائيد بديده اعتبار كه چگونه بودند ايشان وقتى كه بود جماعتها متّفق، و خواهشات موافق، و قلبها معتدل، و دستها يارى يكديگر كننده، و شمشيرها رو بنصرت يكديگر نهنده، و بصيرتها نافذ، و عزيمتها متّحد، آيا نبودند ايشان مالكهادر اطراف زمينها، و پادشاهان بر گردن عالميان.

پس نظر كنيد بسوى آنچه كه برگشتند بان در آخر كارهاى خودشان وقتى كه واقع شد پراكندگى، و پراكنده شد پيوستگى، و مختلف شد گفتار و قلوب، و منتشر شدند در حالتى كه مختلف بودند، و متفرّق گشتند در حالتى كه محارب يكديگر بودند، بر كند خداى تعالى از ايشان لباس كرامت خود را، و سلب نمود از ايشان لذّت نعمت خود را، و باقى ماند قصّه‏هاى خبرهاى ايشان در شما عبرتها از براى عبرت كنندگان از شما.

الفصل السادس

فاعتبروا بحال ولد إسماعيل و بني إسحاق و بني إسرائيل عليهم السّلام فما أشدّ اعتدال الأحوال، و أقرب اشتباه الأمثال، تأمّلوا أمرهم في حال تشتّتهم و تفرّقهم ليالي كانت الأكاسرة و القياصرة أربابا لهم، يحتازونهم عن ريف الافاق، و بحر العراق، و خضرة الدّنيا إلى منابت الشّيح، و مها في الرّيح، و نكد المعاش، فتركوهم عالة مساكين إخوان دبر و وبر، أذلّ الامم دارا، و أجدبهم قرارا، لا يأوون إلى جناح دعوة يعتصمون بها، و لا إلى ظلّ ألفة يعتمدون على عزّها. فالأحوال مضطربة، و الأيدي مختلفة، و الكثرة متفرّقة في بلاء أزل، و إطباق جهل، من بنات موؤودة، و أصنام معبودة، و أرحام مقطوعة، و غارات مشنونة.

فانظروا إلى مواقع نعم اللّه عليهم حين بعث إليهم رسولا، فعقد بملّته طاعتهم، و جمع على دعوته ألفتهم، كيف نشرت النّعمة عليهم جناح كرامتها، و أسالت لهم جداول نعيمها، و التفّت الملّة بهم عوائد بركتها، فأصبحوا في نعمتها غرقين، و عن خضرة عيشها فكهين، و قد تربّعت الامور بهم في ظلّ سلطان قاهر، و أوتهم الحال إلى كنف عزّ غالب، و تعطّفت الامور عليهم في ذرى ملك ثابت، فهم حكّام على العالمين و ملوك في أطراف الأرضين، يملكون الامور على من كان يملكها عليهم، و يمضون الأحكام في من كان يمضيها فيهم، لا تغمز لهم قناة و لا تقرع لهم صفاة.

اللغة

(الأكاسرة) جمع كسرى بالكسر و الفتح لقب من ملك الفرس معرّب خسرو أى واسع الملك و يجمع على كياسرة و أكاسر أيضا و كلّها خلاف القياس و القياس كسرون و زان عيسون.
و (القياصرة) جمع قيصر لقب من ملك الرّوم و (الرّيف) بالكسر أرض فيها زرع و خصب و ما قارب الماء من أرض العرب أو حيث يكون به الخضر و المياه و الزّروع و (الشيّح) بالكسر نبت معروف يقال له بالفارسيّة درمنه و (هفت الريح) هفوا هبت و هفت به أى حركته و (عالة) جمع عائل مثل قادة و قائد و هو ذو العيلة أى الفقر قال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا.

و (الدّبر) محرّكة الجرح في ظهر البعير من دبره القتب أى عقره و (الوبر) للبعير بمنزلة الصّوف للغنم و (وئد) بنته دفنها في التراب حيّة قال تعالى «وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ و (شنّ الغارة) عليهم صبّها من كلّ وجه و (تفكّه به) تمتّع بأكله و الفاكهة التّمر و العنب و الثّمر كلّه، و في بعض النسخ فاكهين بدل فكهين أى ناعمين، و بها قرء قوله تعالى وَ نَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ و قال الاصمعى فاكهين مازحين و المفاكهة الممازحة.

(و تربّعت) الامور بهم اعتدلت من قولهم: رجل ربعة و امرأة ربعة أى معتدل و حذف الهاء في المذكر لغة و فتح الباء فيهما أيضا لغة و قال الشارح المعتزلي و غيره: تربّعت بمعنى أقامت من قولك ربع بالمكان أى أقام به (الذّرى) جمع ذروة بالضمّ و الكسر و هى أعلى الشي‏ء و (الغمز) العصر و الكبس باليد

قال الشاعر:

و كنت إذا غمزت قناة قوم
كسرت كعوبها أو تستقيما

و (القناة) الرّمح و (الصّفاة) الصّخرة و الحجر الأملس.

الاعراب

جملة يحتازونهم في محلّ النّصب على الحال من الأكاسرة و القياصرة و تحتمل الاستيناف البياني، و قوله: عالة مساكين، حال مترادفة، و قوله: اخوان دبر و وبر، بدل، و جملة: لا يأوون، حالية، و الفاء في قوله: فالأحوال مضطربة، فصيحة: و قوله: في بلاء أزل، متعلّق بمقدّر أى كائنون في بلاء أزل، فيكون خبرا لمبتدأ محذوف و يحتمل الحال لقوله متفرّقة و اضافة بلاء إلى الأزل معنويّة بمعنى من و كذا اضافة اطباق إلى الجهل هكذا قال الشّارح البحرانى و لا بأس به، و من في قوله: من بنات بيانيّة.

و قوله: في عوائد بركتها، قال الشّارح المعتزلي و البحراني: متعلّق بمحذوف‏و موضعه نصب على الحال أى جمعتهم الملّة كائنة في عوائد بركتها أقول: و يجوز تعلّقه بقوله و التفّت فيكون مفعولا بالواسطة.
و قوله: و عن خضرة عيشها قال الشّارح المعتزلي: عن متعلّقة بمحذوف تقديره، فأصبحوا فاكهين فكاهة صادرة عن خضرة عيشها أى خضرة عيش النّعمة سبب لصدور الفكاهة و المزاح عنه أقول: لا حاجة إلى تقدير المحذوف لجواز تعلّقها بقوله فاكهين و كونها بمعنى من النشوية أو بمعنى اللّام كما في قوله تعالى وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ.

المعنى

اعلم أنّه لمّا ذكر في الفصل السّابق محاسن الالفة و الاتّفاق و مفاسد الفرقة و الافتراق، و أمر بالتدبّر في أحوال الماضين و أنّ الفتهم في بداية حالهم أوجبتهم العزّة و الكرامة، و فرقتهم في آخر أمرهم سلبتهم غضارة النعمة فبقى قصص أخبارهم عبرا للمعتبرين من المخاطبين، اتبعه بهذا الفصل تفصيلا لما أجمله من قصص أخبارهم و تنبيها على جهة العبرة في تلك القصص فقال: (فاعتبروا بحال ولد إسماعيل) الذّبيح (و بني إسحاق) بن إبراهيم الخليل (و بني إسرائيل) يعقوب بن إسحاق سلام اللّه عليهم، و علّل وجوب الاعتبار بقوله: (فما أشدّ اعتدال الأحوال و أقرب اشتباه الأمثال) يعني أنّ أحوالكم أشدّ اعتدالا و تناسبا لأحوالهم و أنّ أمثالكم أي صفاتكم أكثر قربا و مشابهة لصفاتهم فاذا كانت الأحوال معتدلة متناسبة، و الصّفات متشابهة متماثلة وجب لكم الاعتبار بحالهم، و أشار إلى جهة العبرة فيهم بقوله: (تأمّلوا أمرهم في حال تشتّتهم و تفرّقهم ليالي كانت الأكاسرة) أى ملوك الفرس (و القياصرة) أى ملوك الروم (أربابا لهم) أى مالكين لرقابهم، و كانت العرب تسمّى الملوك أربابا كما في قوله تعالى وَ قالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ.

و المراد من المربوبين كما ذكره الشارح المعتزلي: بنو إسماعيل، فالضميرفي أمرهم و تشتتهم و تفرّقهم راجع إليهم، و المراد من الأرباب بنو إسحاق و بنو إسرائيل لأنّ الأكاسرة من بني اسحاق، ذكره كثير من أهل العلم، و القياصرة من ولد اسحاق أيضا، لأنّ الرّوم بنو العيص بن اسحاق ثمّ قال الشارح: فان قلت: فبنو اسرائيل أىّ مدخل لهم ههنا.
قلت: لأنّ بني اسرائيل كانوا ملوكا بالشام حاربوا العرب من بني اسماعيل غير مرّة و طردوهم عن الشام و ألجئوهم إلى المقام ببادية الحجاز، و يصير تقدير الكلام فاعتبروا بحال ولد اسماعيل مع بني اسحاق و بني اسرائيل، و تخصيص ملوك بني اسحاق أى الأكاسرة و القياصرة بالذكر دون ملوك بني اسرائيل لأنّ العرب لم تكن تعرف ملوك ولد يعقوب حتّى يذكر أسمائهم في الخطبة، بخلاف ولد اسحاق فانهم كانوا يعرفون ملوكهم من بنى ساسان و بني الأصفر، هذا ملخّص ما قاله الشّارح هنا.

أقول: و هو مع أنّه غير خال عن التكلّف مخالف لظاهر كلامه عليه السّلام فانه كما ترى ظاهر فى كون الضمائر في أمرهم و تشتّتهم و تفرّقهم و لهم جميعا راجعة إلى بني اسماعيل و بني إسحاق و بني إسرائيل جميعهم، و نصّ فى كون الأكاسرة و القياصرة أربابا لهم مسلّطين عليهم، و لا حاجة إلى تجشّم الاستدلال فى انتهاء نسبهم إلى ولد إسحاق، فانّ تسلّطهم على العرب و اليهود و غيرهم و بعبارة اخرى على بنى إسماعيل و بني إسحاق و بني إسرائيل ملاء منه كتب التواريخ و السير، فلا وجه لتخصيص المقهورين بالعرب و القاهرين من الأكاسرة و القياصرة ببني إسحاق و بنى إسرائيل من ملوك الشام كما زعمه الشّارح.

فان قلت: الوجه في مصير الشّارح إلى هذه التكلّفات كلّها ما ذكره فى كلامه قبل ما حكينا عنه ملخّصا، من أنّه لا نعرف أحدا من بنى اسرائيل احتازتهم الأكاسرة و القياصرة عن ريف الافاق إلى البادية إلّا أن يقال يهود خيبر و النضير و بنى قريظة و بنى قيقاع، و هؤلاء نفر قليل لا يعتدّ بهم، مع أنّ فحوى الخطبة مانع من إرادتهم أيضا، لأنّهم لم يكونوا أهل دبر و وبر، و إنّما كانوا ذوى حصون و قلاع‏فهذا الوجه ألجأ الشّارح إلى تخصيصه المقهورين بالعرب خاصّة.

قلت: غرض أمير المؤمنين عليه السّلام من سوق كلامه حسبما عرفت سابقا و تعرفه أيضا أحكام لحوق الذّل على فرق الأنام بسبب التفرّق و اختلاف الكلام من أيّ فرقة كانت، و ذكر بني إسماعيل و إسحاق و إسرائيل من باب التمثيل و الاستطراد و مزيد التوضيح لهذا المرام، و من المعلوم أنّ الذلّ اللّاحق ببنى إسرائيل من أجل اختلاف الاراء أظهر و أجلى من الذلّ اللّاحق ببنى إسماعيل، فكون كلامه ذلك إشارة إلى مقهوريّة الفرقتين جميعا أثبت لهذا الغرض و أدخل فى التوضيح.

و ما قاله الشارح فى وجه تخصيص الأذلّاء المقهورين بالفرقة الثانية فقط من عدم المعرفة بمن يحتازه الأكاسرة و القياصرة إلى البادية من بنى إسرائيل.
ففيه أوّلا أنّه بعد ثبوت قوّة سلطنة الأكاسرة و القياصرة و استيلائهم على البلدان و كون هممهم مقصورة على فتح الأمصار و على القتل و النّهب في الأصقاع و الأقطار تارة بالعراق و توابعها، و أخرى بالشام و مضافاتها، فالعادة قاضية بانجلاء أهلها منها حتما، و هربهم منها إلى البوادى و المفاوز البعيدة حفظا للدّماء، و حذرا من النّهب و الاستيصال، فعدم المعرفة بأعيان المحتازين المشرّدين و عدم وجدانهم لا يدلّ على عدم الوجود بعد شهادة الاستقراء و قضاء العادة و إفادة ظاهر كلامه عليه السّلام له.

و ثانيا أنّ مفاد كلامه عليه السّلام كما ترى أنّ بني إسماعيل و إسحاق و إسرائيل كانوا مشرّدين عن عقر دارهم إلى البوادي بفعل الأكاسرة و القياصرة، يكفى في صدق هذا الكلام و صحّته كون المشرّدين من مجموع الفرق الثلاث و إن كان من بعضها قليلا كبنى إسرائيل على زعم الشّارح، و من البعض الاخر كثيرا كبنى إسماعيل، فلا حاجة على ذلك إلى تمحّل التكلّف أصلا.

و بعد هذا كلّه فلا بأس بأن نذكر طرفا ممّا وقع على بنى إسماعيل و بنى إسرائيل من القتل و الغارة فى دولة الأكاسرة و القياصرة بملاحظة اقتضاء المقام و مسيس الحاجة.

فأقول: أمّا بنو اسرائيل أعني العرب فقد قال في روضة الصّفا: إنّ شابور ذا الأكتاف بن هرمز بن نرسي بن بهرام من الأكاسرة لمّا بلغ سنّه ستّ عشر سنة انتخب من أصحابه من العجم أربعة آلاف من أنجادهم، فسار معهم إلى حدود فارس، و كان هناك جماعة من الأعراب أكثروا في تلك الحدود من القتل و النّهب و الفساد، فقتل منهم من وجد، و هرب الباقون، و لم يبق منهم في أطراف دجلة و الفرات عين و لا أثر، ثمّ سار إلى البحرين و قطيف و الحجر، فقتل من قبايل تميم و بكر بن وائل و عبد قيس و غيرها جمّا غفيرا.

فلمّا ملّ من القتل أمر بأن يثقب أكتاف من بقي من الأعراب و يدخل في ثقبها الحبال، فلقّب من ذلك بذي الأكتاف.
و لمّا قضى وطره من استيصال العرب توجّه إلى بلاد الرّوم و دخل قسطنطنية و جرى له مع قيصر قصّة مشهورة في الكتب مأثورة، و فوّض إليه قيصر بلدة نصيبين بين الشام و العراق فأوفد إليها اثني عشر ألفا من أهل اصبهان و فارس و ساير البلاد فتوطّنوا فيها، و لم يبق من العرب باقية في ملكه و ملك ساير الأكاسرة.

و أمّا بنو اسرائيل فقد ظهر مقهوريّتهم ممّا ذكرنا في شرح الفصل المتقدّم و نزيد توضيحا بذكر ما أورده الطبرسي في تفسير الاية المتقدّمة هناك أعني قوله تعالى وَ قَضَيْنا إِلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ إلى قوله وَ لِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً.
قال الطبرسي: اختلف المفسّرون في القصّة عن هاتين الكرّتين اختلافا شديدا، قالوا: لمّا عتى بنو اسرائيل في المرّة الاولى سلّط اللّه عليهم ملك فارس و قيل: بخت نصر، و قيل: ملكا من ملوك بابل، فخرج إليهم و حاصرهم و فتح بيت المقدس و خرب المسجد و أحرق التوراة و ألقي الجيف في المسجد، و قتل على دم يحيى سبعين ألفا و سبي ذراريهم و أغار عليهم و أخرج أموالهم و سبي سبعين ألفا و ذهب بهم إلى بابل فبقوا في يده مأئة سنة يستعبدهم المجوس و أولادهم.

ثمّ تفضّل اللّه عليهم بالرّحمة فأمر ملكا من ملوك فارس عارفا باللّه سبحانه تعالى، فردّهم إلى بيت المقدس فأقاموا به مأئة سنة على الطريق المستقيم و الطاعةو العبادة.
ثمّ عادوا الى الفساد و المعاصي، فجاءهم ملك من ملوك الرّوم اسمه انطياحوس فخرّب بيت المقدس و سبا أهله، و قيل: غزاهم ملك الرّوميّة و سباهم عن حذيفة.

و قال محمّد بن إسحاق: كانت بنو اسرائيل يعصون اللّه تعالى و فيهم الأحداث و اللّه يتجاوز عنهم، و كان أوّل ما نزل بهم بسبب ذنوبهم أنّ اللّه تعالى بعث إليهم شعيا قبل مبعث زكريّا عليه السّلام، و شعيا هو الذى بشّر بعيسى و بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
و كان لبنى إسرائيل ملك كان شعيا يرشده و يسدّده، فمرض الملك، و جاء سنجاريب إلى بيت المقدس بستمائة ألف راية، فدعى اللّه سبحانه شعيا فبرء الملك و مات جمع سنجاريب و لم ينج منهم إلّا خمس نفر منهم سنجاريب فهرب و ارسلوا خلفه من يأخذه، ثمّ أمر سبحانه باطلاقه ليخبر قومه بما نزل بهم، فأطلقوه و هلك سنجاريب بعد ذلك بسبع سنين.

و استخلف بخت نصر ابن ابنه فلبث سبع عشر سنة و هلك ملك بني اسرائيل و مرج أمرهم و تنافسوا في الملك، فقتل بعضهم بعضها، فقام شعيا فيهم خطيبا و وعظهم بعظات بليغة و أمرهم و نهاهم فهمّوا بقتله، فهرب و دخل شجرة فقطعوا الشجرة بالمنشار فبعث اللّه اليهم ارميا من سبط هارون ثمّ خرج من بينهم لما رأى من أمرهم، و دخل بخت نصر و جنوده بيت المقدس و فعل ما فعل، ثمّ رجع إلى بابل بسبايا بني إسرائيل فكانت هذه الدّفعة الأولى.
و قيل أيضا: إنّ سبب ذلك كان قتل يحيى بن زكريّا، و ذلك إنّ ملك بني اسرائيل أراد أن يتزوّج بنت ابنته «امرأته خ» فنهاه يحيى عليه السّلام و بلغ أمّها فحقدت عليه و بعثته على قتله فقتله، و قيل إنّه لم يزل دم يحيى يغلى حتّى قتل بخت نصر منهم سبعين ألفا أو اثنين و سبعين ألفا حتّى سكن الدّم.

و ذكر الجميع أنّ يحيى بن زكريّا هو المقتول في الفساد الثاني، قال مقاتل: و كان بين الفساد الأوّل و الثاني مأتا سنة و عشر سنين.
و قيل إنما غزى بنى اسرائيل فى المرّة الاولى بخت نصر و في المرّة الثانيةملوك فارس و الرّوم و ذلك حين قتلوا يحيى فقتلوا منهم مأئة ألف و ثمانين ألفا و خرب بيت المقدس، فلم يزل بعد ذلك خرابا حتّى بناه عمر بن الخطاب، فلم يدخله بعد ذلك روميّ إلّا خائفا.

فقد ظهر بذلك تسلّط الأكاسرة و القياصرة على بني إسماعيل و إسرائيل بسبب اختلاف كلماتهم و تشتّتهم و فسادهم في الأرض و أنّهم كانوا يشرّدونهم عن بلادهم و أوطانهم فيظهر به معنى قوله عليه السّلام: (يحتازونهم) أى يبعدونهم (عن ريف الافاق) أى الأماكن المشتملة على المزارع و المراتع و المنتجع من بلاد الشام و أراضى العرب القريبة من الماء (و بحر العراق) و هو دجلة و الفرات (و خضرة الدّنيا إلى منابت الشيح) و هى أرض العرب الخالى من الماء و الكلاء (و مها فى الرّيح) أى المواضع الّتى تهفو فيها الرياح و تهبّ من الفيافى و الصّحارى (و نكد المعاش) أى ضيقه و قلّته (فتركوهم عالة) أى فقراء (مساكين إخوان دبر و وبر) أى معاشرين بجمال دبراء عجفاء عقراء، و هو إشارة إلى سوء الحال و ضيق المعاش، فانّ استعمال الجمل الأدبر و التعيّش بوبره علامة الضّر و المسكنة.
قال الشارح المعتزلي إنّهم أجدبوا حتّى أكلوا الدّم بالوبر و كانوا يسمّونه العلهز، انتهى.

و قد مضى في شرح الخطبة السّادسة و العشرين فصل واف فى ضيق حال العرب و سوء معاشهم قبل بعثة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.
(أذلّ الامم دارا) لعدم المعاقل و الحصون المنيعة و إن كان لبعضهم حصن فلم يكن بحيث يحصن من عدوّ ذى عدد و قوّة (و أجدبهم قرارا) أى مستقرّا لخلوّه من الزّرع و الثّمر و الخصب (لا ياؤون إلى جناح دعوة يعتصمون بها) أى لا يلتجئون و لا ينضّمون إلى من يحبّهم و يحضنهم إذا دعوه و استغاثوا به كما يحمى الطّاير فرخه بجناحه و يحضنه.
و وصف الدّعوة بوصف الاعتصام لأنّ من عادة العرب إذا هجم عليهم عدوّ لا يتمكّنون من مقاومته يستغيثون بساير القبايل و يستنجدونهم، فيعتصمون بالاستنجاد

و الدّعوة عن الشّر و المكروه قال الشّاعر:

ألا يا أمّ زنباغ أقيمى صدور
العيس نحو بنى تميم‏

هنالك لو دعوت أتاك منهم‏
فوارس مثل أرمية الحميم‏

(و لا إلى ظلّ الفة يعتمدون على عزّها) إضافة ظلّ إلى الفة من إضافة المشبّه به إلى المشبّه، و وجه الشبّه أنّ الظّل سبب الرّاحة و السّلامة من حرارة الشمس و الالفة سبب الرّاحة و السلامة من نار العدوّ، و وصف الالفة بالاعتماد لأنّ الالفة مستلزم للعزّ، فبا لاعتماد عليها يحصل العزّ اللّازم منها.

و لمّا بيّن مساوى حالاتهم من الفقر و الفاقة و الذلّة و ضيق المعاش و غيرها فرّع عليه قوله: (فالأحوال) أى أحوالهم (مضطربة و الأيدى مختلفة و الكثرة متفرّقة) كائنين (في بلاء أزل و أطباق جهل) أى في شدّة بلاء و طبقات من الجهل أى جهل متراكم بعضه فوق بعض قال الشارح البحراني: و في نسخة الرّضي و إطباق بكسر الهمزة فيكون المعني و جهل مطبق عليهم عام.

ثمّ فصل ما نشأ من هذا الجهل من القبايح و الفضايح بقوله (من بنات موؤودة) أى مدفونة حيّة فقد كانت العرب يئدون البنات و يرشد إليه قوله تعالى وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ.
و قيل إنّه مختصّ بني تميم و استفاض منهم في جيرانهم، و قيل: بل كان ذلك أى الوئد في بني تميم و قيس أسد و هذيل و بكر بن وائل و يؤيّدة قوله وَ كَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ.

و اختلفوا في سبب الوئد فقيل: هو الفقر و الاملاق، قالوا: و ذلك إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دعا عليهم فقال، اللّهم اشدد وطأتك على مضروا جعل عليهم سنين كسنى يوسف، فاجدبوا سبع سنين حتّى أكلوا الوبر بالدّم فوأدوا البنات لفقرهم، و يدلّ على ذلك قوله سبحانه قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ.

و قيل: بل الأنفة و لحوق العار بهم من أجلهنّ، و ذلك إنّ تميما منعت النعمان بن‏المنذر الخراج سنة من السّنين فوجّه إليهم أخاه الريّان بن المنذر فأغار عليهم و استاق النّعم و سبى الذّرارى، فوفدت بنو تميم الى النعمان و استعطفوه، فرقّ عليهم و أعاد عليهم السّبى و قال كلّ امرأة اختارت أباها ردّت عليه و إن اختارت صاحبها تركت عليه، فكلّهنّ اخترن أباهنّ إلّا بنت قيس بن عاصم فانها اختارت من سباها، فنذر قيس بن عاصم المنقرى التميمى أن لا تولد له بنت إلّا وئدها، ثمّ اقتدى به كثير من بني تميم.

و اختلف في كيفيّة الوئد فقيل: كان الرّجل إذا ولدت له بنت فأراد بقاء حياتها ألبسها جبّة من صوف أو شعر لترعى له الابل و الغنم فى البادية، و إن أراد قتلها تركها حتّى إذا بلغت قامتها ستّة أشبار فيقول لامّها طيّبيها و زيّنيها حتّى أذهب بها إلى أقاربها، و قد حفر لها بئرا فى الصّحرا فيبلغ بها إلى البئر فيقول لها: انظرى فيها، ثمّ يدفعها من خلفها و يهيل عليها التراب حتّى يستوى البئر بالأرض.

و قيل: كانت الحامل إذا قربت حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة فإذا ولدت بنتا رمتها في الحفرة، و إذا ولدت ابنا أمسكته.
و كانت صعصعة بن ناجية ممّن منع الوئد، فافتخر الفرزدق به فى قصيدته الّتي يهجو بها جريرا، و هو قوله:
و منّا الّذى أحيى الوئيد و غالب و عمرو و منا حاجب و الأقارع‏

و قد حكينا في ديباجة الشّرح، عن ابن أبى الدّنيا أنّه قال: لم يكن أحد من أشراف العرب بالبادية كان أحسن دينا من صعصعة، و هو الّذى أحيى ألف موؤودة و حمل على ألف فرس.

و روى الشّارح المعتزلي هنا قال: إنّ صعصعة لمّا وفد على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: يا رسول اللّه إنّي كنت أعمل فى الجاهليية عملا صالحا فهل ينفعني ذلك اليوم قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و ما عملت قال: أضللت ناقتين عشراوين فركبت جملا و مضيت فى بغائهما فرفع لى بيت جريد فقصدته فإذا شيخ جالس بفنائه فسألته عن الناقتين فقال: ما نارهما قلت: ميسم بنى دارم قال: هما عندى و قد أحيى اللّه‏بهما قوما من أهلك من مضر، فجلست معه ليخرجهما إلىّ فاذا عجوز قد خرجت من كسر البيت فقال لها: ما وضعت فان كان سقيا شاركنا في أموالنا و إن كان حائلا«» أوئدناها، فقالت العجوز: وضعت أنثى، فقلت له: أ تبيعها قال: و هل تبيع العرب أولادها قلت: إنّما أشترى حياتها و لا أشترى رقّها، قال: فبكم قلت: احتكم، قال: بالنّاقتين و الجمل، قلت: ذاك لك على أن يبلغني الجمل و إيّاها، قال: قد بعتك، فاستنقذتها منه بالجمل و النّاقتين و آمنت بك يا رسول اللّه و قد صارت لى سنّة فى العرب أن اشترى كلّ موؤودة بناقتين عشراوين و جمل، فعندى إلى هذه الغاية ثمانون و مأتا موؤودة قد أنقذتهنّ، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا ينفعك ذلك لأنّك لم تبتغ به وجه اللّه و إن تعمل فى إسلامك عملا صالحا تصب عليه.

(و أصنام معبودة) قد مضى فى شرح الفصل السّادس عشر من المختار الأوّل أنّ جمهور العرب كا بهما قوما من أهلك من مضر، فجلست معه ليخرجهما إلىّ فاذا عجوز قد خرجت من كسر البيت فقال لها: ما وضعت فان كان سقيا شاركنا في أموالنا و إن كان حائلا«» أوئدناها، فقالت العجوز: وضعت أنثى، فقلت له: أ تبيعها قال: و هل تبيع العرب أولادها قلت: إنّما أشترى حياتها و لا أشترى رقّها، قال: فبكم قلت: احتكم، قال: بالنّاقتين و الجمل، قلت: ذاك لك على أن يبلغني الجمل و إيّاها، قال: قد بعتك، فاستنقذتها منه بالجمل و النّاقتين و آمنت بك يا رسول اللّه و قد صارت لى سنّة فى العرب أن اشترى كلّ موؤودة بناقتين عشراوين و جمل، فعندى إلى هذه الغاية ثمانون و مأتا موؤودة قد أنقذتهنّ، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا ينفعك ذلك لأنّك لم تبتغ به وجه اللّه و إن تعمل فى إسلامك عملا صالحا تصب عليه.

(و أصنام معبودة) قد مضى فى شرح الفصل السّادس عشر من المختار الأوّل أنّ جمهور العرب كانوا عند بعثة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عبدة أصنام، و مضى هناك تفصيل أصنامهم المعبودة و لا حاجة إلى الاعادة.

(و أرحام مقطوعة و غارات مشنونة) أى مصبوبة من كلّ جهة، فانّ القتل و الغارة و قطع الأرحام كانت من شعار العرب في الجاهلية و قد أشار إلى ذلك و إلى بعض ما تقدّم هنا من حالات العرب فى الفصل الأوّل من المختار السّادس و العشرين حيث قال عليه السّلام هناك: إنّ اللّه بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نذيرا للعالمين، و أمينا على التّنزيل، و أنتم معشر العرب على شرّ دين و في شرّ دار، بين حجارة خشن، و حيّات صمّ، تشربون الكدر، و تأكلون الجشب، و تسفكون دماءكم، و تقطعون أرحامكم، الأصنام فيكم منصوبة، و الاثام بكم معصوبة.
و قد ألّف إبراهيم بن مسعود الثقفى كتابا سمّاه كتاب الغارات جمع فيه غارات العرب و حروبهم، و إن شئت ارشدك إلى اثنين من تلك الحروب و الغارات فانّهما أنموذج منها.

أحدهما ما كان بين الأوس و الخزرج من الحروب الّتى تطاولت مأئة و عشرين سنةإلى أن ألف اللّه بين قلوبهم بالاسلام.

و ثانيهما ما كان بين تغلب و بكر بن وابل أربعين سنة حتّى صار من أمثال العرب السّائرة أشأم من البسوس.
قيل: إنها امرأة كانت لها ناقة فرآها كليب ترعى فى حماه و قد كسرت بيض طائر كان قد أجاره، فرمي ضرعها بسهم فوثب جساس«» إلى كليب فقتله، فهاجت الحرب بين بكر و تغلب «تغلب و بكرظ» بن وابل أربعين سنة.

قال التفتّازاني: البسوس زارت اختها البهيلة و هى امّ جساس بجار لها من جرم زياد له ناقة و كليب قد حمى أرضا من العالية فلم يكن يرعاها إلّا إبل جساس لمصاهرة بينهما، فخرجت فى ابل جساس ناقة الجرمى ترعى فى حمى كليب فأنكرها كليب فرماها فاختلّ زرعها «ضرعها ظ» فولّت حتّى بركت بفناء صاحبها و زرعها «ضرعها ظ» تشخب دما و لبنا، و صاحت البسوس: و اذلّاه و اعزبتاه، فقال جساس ايّتها الحرّة اهدئى فو اللّه لأعقرنّ فحلا هو أعزّ على أهله منها، فلم يزل جساس يتوقّع عزّة كليب حتّى خرج و تباعد عن الحىّ فبلغ جساسا خروجه، فخرج على فرسه و اتّبعه فرمى صلبه حتّى وقف عليه، فقال كليب: يا عمرو أغثنى بشربة من ماء فاجهز عليه و نشب الشّر بين تغلب و بكر أربعين سنة.

و هذا أنموذج من شنّ الغارات فى العرب و قطع الأرحام أوردناه تبصرة لك و توضيحا لكلامه عليه السّلام هذا.
و لمّا ذكر ما كانت العرب عليه قبل بعثة النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الضّيم و الذّل و الفقر و الجهل، أردفه بالتّنبية على أعظم ما أنعم اللّه سبحانه به عليهم من بعث النّبى الكريم محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إليهم و تبديل سوء حالهم بحسن الحال ببركة هذه النعمة العظيمة فقال: (فانظروا إلى مواقع نعم اللّه عليهم حين بعث إليهم رسولا) كريما (فعقد) أى‏اللّه سبحانه أو الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (بملّته طاعتهم) لأنّ طاعتهم قد كانت في الجاهليّة تابعة لأهوائهم الباطلة، متشتّتة بتشتّت الاراء المختلفة، فلذلك اتّخذوا لهم آلهة فأطاع كلّ منهم إلهه و صنمه فعقد الملّة طاعتهم للّه تعالى بعد الانتشار و عبادة الأصنام.

(و جمع على دعوته) أى الرّسول (الفتهم) بعد طول تضاغن القلوب و تشاحن الصّدور، و أشار إلى تفصيل مواقع نعم اللّه بقوله: (كيف نشرت النعمة عليهم جناح كرامتها) شبّه النعمة أى نعمة الاسلام الحاصلة بالبعثة فى انبساطها عليهم بالطاير الباسط لجناحه على فرخه على سبيل الاستعارة بالكناية و ذكر الجناح تخييل و النّشر ترشيح.

(و أسالت) أى أجرت (لهم جداول نعيمها) و الكلام في هذه القرينة مثله في سابقتها، فانّه عليه السّلام شبّه النعمة بالنّهر العظيم الّذي تسيل منه الجداول و الأنهار الصّغار إلى المحال القابلة و المواضع المحتاجة، فأثبت الجداول تخييلا و الاسالة ترشيحا، و وجه الشبّه أنّ جريان الجداول من النهر سبب لحياة الموات من الأرض و كذلك إفاضة أنواع النّعم و شئون الخيرات من نعمة الاسلام الّتي هي أعظم النعماء في الموادّ المستعدّة سبب لحياة القلوب الميّتة بموت الجهل و الضّلالة مضافة الى الثّمرات الدّنيويّة.

(و التقّت الملّة بهم عوائد بركتها) أى جمعتهم ملّة الاسلام بعد ما كانوا متفرّقين في منافعها و معروفاتها الحاصلة ببركتها، فكان تلك المنافع ظرفا لاجتماعهم حاوية لهم محيطة بهم إحاطة الظرف بالمظروف.
(فأصبحوا) أى صاروا بحواية عوائدها لهم (في نعمتها غرقين) و التعبير به مبالغة في احاطة النعمة عليهم من جميع الجهات إحاطة الماء بالغرقى و الغائصين.

(و عن خضرة عيشها فكهين) أى اشربن فرحين بسعة المعاش و طيبه، أو ناعمين مازحين من خضرة العيش.
(و قد تربعت الامور بهم) أى اعتدلت امورهم و استقامت (في ظلّ سلطان قاهر) اى سلطان الاسلام الغالب على ساير الأديان (و آوتهم الحال) أى ضمّتهم حسن حالهم‏و أنزلتهم (الى كنف عزّ غالب) أى إلى جانبه و ناحيته أو كناية عن حرزه كما في قولك: أنت في كنف اللّه، أى حرزه و ستره (و تعطّفت الأمور عليهم في ذرى ملك ثابت) أى أقبلت السعادات الدّنيويّة و الأخرويّة عليهم بعد إدبارها عنهم إقبال الشفيق العطوف على من يشفق و يتعطف عليه في أعالي السّلطنة الثّابتة المستقرّة.

(فهم حكّام على العالمين و ملوك فى أطراف الأرضين يملكون الامور) أى امور الملك و السلطنة (على من كان يملكها عليهم) من الكفرة الفجرة (و يمضون الأحكام فيمن كان يمضيها فيهم) من كفّار مكّة، و قريش و غيرهم من عبدة الأوثان (لا تغمز لهم قناة و لا تقرع لهم صفاة) إشارة إلى قوّتهم و عدم تمكّن الغير من قهرهم و غلبتهم.

قال الشارح المعتزلي: و يكنّي عن العزيز الّذى لا يضام فيقال: لا يغمز له قناة، أى هو صلب و القناة إذا لم تكن في يد الغامز كانت أبعد عن الحطم و الكسر، قال: و لا تقرع لهم صفاة مثل يضرب لمن لا يطمع في جانبه لعزّته و قوّته.

تبصرة

لمّا كان أوّل هذا الفصل من كلامه عليه السّلام متضمّنا للاشارة إلى ملك الأكاسرة، و آخرها متضمّنا للاشارة إلى بعثة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و اقتصاص حال أهل الجاهليّة في دولة الأكاسرة و أيّام الفترة و حين البعثة و بعدها أحببت أن أورد هنا رواية متضمّنة لهذا المرام، مبيّنا فيها أسماء الملوك مفصّلا من زمن عيسى إلى زمن الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أسماء المبعوثين قبله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الأنبياء و الرّسل عليهم السّلام لمزيد ارتباطها بالمقام فأقول: روى الصّدوق في كتاب اكمال الدّين عن أبيه و محمّد بن الحسن «رض» قالا: حدّثنا سعد بن عبد اللّه قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن عيسى عن العبّاس بن معروف عن عليّ بن مهزيار عن الحسن بن سعيد عن محمّد بن اسماعيل القرشي عمّن حدّثه عن إسماعيل بن أبي رافع عن أبيه أبي رافع قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ جبرئيل نزل عليّ بكتاب فيه خبر الملوك ملوك الأرض قبلي، و خبر من بعث قبلي من الأنبياءو الرّسل- و هو حديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة إليه- قال: لمّا ملك اشبح بن اشجان و كان يسمى الكيس و كان قد ملك مأتي و ستّا و ستّين سنة.

ففي سنة إحدى و خمسين من ملكه بعث اللّه عزّ و جل عيسى بن مريم عليه السّلام و استودعه النور و العلم و الحكم و جميع علوم الأنبياء قبله، و زاده الانجيل، و بعثه إلى بيت المقدس الى بني إسرائيل يدعوهم إلى كتابه و حكمته و إلى الايمان باللّه و رسوله، فأبى أكثرهم إلّا طغيانا و كفرا، فلمّا لم يؤمنوا به دعا ربّه و عزم عليه، فمسخ منهم شياطين ليريهم آية فيعتبروا فلم يزدهم ذلك إلّا طغيانا و كفرا، فأتى بيت المقدس فمكث يدعوهم و يرغبهم فيما عند اللّه ثلاثا و ثلاثين سنة حتّى طلبه اليهود و ادّعت أنّها عذّبته و دفنته في الأرض، و ادّعا بعضهم أنّهم قتلوه و صلبوه، و ما كان اللّه ليجعل لهم سلطانا عليه و إنّما شبّه لهم و ما قدروا على عذابه و دفنه و على قتله و صلبه لقوله عزّ و جلّ إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى‏ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ و لم يقدروا على قتله و صلبه لأنّهم لو قدروا على ذلك كان تكذيبا لقوله تعالى: و لكن رفعه اللّه اليه بعد أن توفّاه عليه السّلام.

فلمّا أراد أن يرفعه أوحى إليه أن استودع نور اللّه و حكمته و علم كتابه شمعون ابن حمّون الصّفا خليفة على المؤمنين، ففعل ذلك فلم يزل شمعون في قومه يقوم بأمر اللّه عزّ و جلّ و يهتدى بجميع مقال عيسى في قومه من بني إسرائيل و جاهد الكفّار، فمن أطاعه و آمن به فيما جاء به كان مؤمنا، و من جحده و عصاه كان كافرا حتّى استخلص ربّنا تبارك و تعالى و بعث في عباده نبيّا من الصّالحين و هو يحيى بن زكريّا عليه السّلام و قبض شمعون.
و ملك عند ذلك اردشير بن اشكان «زار كان خ ل» أربع عشرة سنة و عشرة أشهر، و في ثمان سنين من ملكه قتلت اليهود يحيى بن زكريا عليه السّلام.

و لمّا أراد اللّه سبحانه أن يقبضه أوحى إليه أن يجعل الوصيّة في ولد شمعون و يأمر الحواريّين و أصحاب عيسى عليه السّلام بالقيام معه ففعل ذلك.

و عندها ملك سابور بن أردشير ثلاثين سنة حتّى قتله اللّه و استودع علم اللّه و نوره و تفصيل حكمته في ذريّته يعقوب بن شمعون و معه الحواريّون من أصحاب عيسى عليه السّلام و عند ذلك ملك بخت نصر مأئة سنة و سبعا و ثمانين سنة، و قتل من اليهود سبعين ألف مقاتل على دم يحيى بن زكريّا و خرّب بيت المقدّس و تفرّقت اليهود في البلدان.

و في سبعة و أربعين سنة من ملكه بعث اللّه عزّ و جلّ العزيز نبيّا إلى أهل القرى الّتي أمات اللّه عزّ و جلّ أهلها ثمّ بعثهم له و كانوا عن قرى شتّى فهربوا فرقا من الموت فنزلوا في جوار عزيز و كانوا مؤمنين و كان عزير يختلف إليهم و يسمع كلامهم و إيمانهم و احبّهم على ذلك، و آخاهم عليه فغاب عنهم يوما واحدا ثمّ أتاهم فوجدهم صرعى موتى فحزن عليهم، و قال «أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى‏ قَرْيَةٍ وَ» تعجّبا منه حيث أصابهم قد ماتوا أجمعين في يوم واحد، فأماته اللّه عزّ و جلّ عند ذلك مأئة عام فلبث «و هى خ ل» فيهم مأئة سنة ثمّ بعثه اللّه و ايّاهم و كانوا مأئة ألف مقاتل ثمّ قتلهم اللّه أجمعين لم يفلت منهم أحد على يدي بخت نصر.

و ملك بعده مهروية بن بخت نصر ستّ عشر سنة و ستّ و عشرين يوما.
و أخذ عند ذلك دانيال و حفر له جبّا في الأرض و طرح فيه دانيال عليه السّلام و أصحابه و شيعته من المؤمنين فالقى عليهم النّيران، فلمّا رأى أنّ النّار ليست تقربهم و لا تحرقهم استودعهم الجبّ و فيه الأسد و السّباع و عذّبهم بكلّ لون من العذاب حتّى خلّصهم اللّه عزّ و جلّ منه و هم الذين ذكرهم اللّه في كتابه العزيز فقال عزّ و جلّ قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ. النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ.

فلمّا أراد اللّه أن يقبض دانيال أمره أن يستودع نور اللّه و حكمته مكيخا بن دانيال ففعل.
و عند ذلك ملك هرمز ثلاثة و ستّين «ثلاثين خ ل» سنة و ثلاثة أشهر و أربعة أيّام.
و ملك بعده بهرام ستّة و عشرين سنة.

و ولّي أمر اللّه مكيخا بن دانيال و أصحابه المؤمنين و شيعته الصديقون غير أنّهم لا يستطيعون أن يظهروا الايمان في ذلك الزّمان و لا أن ينطقوا به.
و عند ذلك ملك بهرام بن بهرام سبع سنين، و في زمانه انقطعت الرّسل فكانت الفترة.
و ولّي الأمر مكيخا بن دانيال و أصحابه المؤمنين فلمّا أراد اللّه عزّ و جلّ أن يقبضه أوحى إليه في منامه أن استودع «يستودع» نور اللّه و حكمته ابنه انشو بن مكيخا و كانت الفترة بين عيسى و بين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أربعمائة و ثمانين سنة و أولياء اللّه يومئذ في الأرض ذرّية انشو بن مكيخا يرث ذلك منهم واحد بعد واحد ممّن يختاره الجبار عزّ و جل فعند ذلك ملك سابور بن هرمز اثنين و سبعين سنة، و هو أوّل من عقد التّاج و لبسه.
و ولىّ أمر اللّه يومئذ انشو بن مكيخا.

و ملك بعد ذلك اردشير أخو سابور سنتين، و في زمانه بعث اللّه الفتية أصحاب الكهف و الرّقيم.
و ولىّ أمر اللّه يومئذ في الأرض رسيحا «رشيحاء خ ل» بن انشوبن مكيخا.
و عند ذلك ملك سابور بن اردشير خمسين سنة.
و ولىّ امر اللّه يومئذ رسيحاء بن انشو.
و ملك بعده يزدجرد بن سابور احدى و عشرين سنة و خمسة أشهر و تسعة عشر يوما.
و ولّى أمر اللّه يومئذ في الأرض رسيحا عليه السّلام، و لما أراد اللّه عزّ و جل أن يقبض رسيحا أوحى اليه أن استودع علم اللّه و نوره و تفصيل حكمته نسطورس بن رسيحا.
فعند ذلك ملك بهرام جور ستّا و عشرين سنة و ثلاثة أشهر و ثمانية عشر يوما.
و ولّى أمر اللّه يومئذ نسطورس بن رسيحا.
و عند ذلك ملك فيروز بن يزدجرد بن بهرام سبعة و عشرين سنة.
و ولىّ أمر اللّه يومئذ نسطورس بن رسيحا و أصحابه المؤمنين، فلمّا أراد اللّه‏عزّ و جلّ أن يقبضه أوحى اليه في منامه أن استودع نور اللّه و حكمته و كتبه مرعيدا.
و عند ذلك ملك فلاس بن فيروز أربع سنين.
و ولىّ أمر اللّه عزّ و جل مرعيدا.
و ملك بعده قباد بن فيروز ثلاثا و اربعين سنة.
و ملك بعده جاماسف اخو قباد ستّا و أربعين «خ ل ستين» سنة و ولىّ أمر اللّه يومئذ في الأرض مرعيدا.
و عند ذلك ملك كسرى«» بن قباد ستّا و أربعين سنة و ثمانية أشهر و ولىّ أمر اللّه يومئذ مرعيدا عليه السّلام و اصحابه و شيعته المؤمنين، فلمّا أراد اللّه عزّ و جل أن يقبض مرعيدا أوحى اليه في منامه ان استودع نور اللّه و حكمته بحيراء الرّاهب ففعل فعند ذلك ملك هرمز بن كسرى ثلاث و ثمانين سنة.
و ولىّ أمر اللّه يومئذ بحيرا و أصحابه المؤمنون و شيعته الصدّيقون.
و عند ذلك ملك كسرى بن هرمز بن پرويز و ولىّ امر اللّه يومئذ بحيرا.

حتّى إذا طالت المدّة و انقطع الوحى و استخفّ بالنعم و استوجب الغير و درس الدّين و تركت الصلاة و اقتربت السّاعة و كثرت الفرق و صار النّاس في حيرة و ظلمة و أديان مختلفة و أمور متشتّتة و سبل ملتبسة و مضت تلك القرون كلّها و مضى صدر منها على منهاج نبيّها عليه السّلام و بدّل آخر نعمة اللّه كفرا و طاعته عدوانا فعند ذلك استخلص اللّه عزّ و جل لنبوّته و رسالته من الشجرة المشرفة الطيّبة و الجرثومة«» المتحيّزة «المتمرة خ ل»«» الّتى اصطفاها اللّه عزّ و جلّ في سابق علمه و نافذ قوله قبل ابتداء خلقه، و جعلها منتهى خيرته و غاية صفوته و معدن خاصيّته محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و اختصّه بالنبوّة و اصطفاه بالرّسالة و أظهر بدينه الحق ليفصل بين عباد اللّه القضاء، و يعطي في الحقّ جزيل العطاء، و يحارب أعداء رب السّماء و جمع عند ذلك ربّنا تبارك و تعالى‏لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم علم الماضين و زاده من عنده القرآن الحكيم بلسان عربىّ مبين لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فيه خبر الماضين و علم الباقين.

بيان

ما في هذه الرّواية من كون الفترة بين عيسى و محمّد أربعمائة و ثمانين سنة مخالف لما في البحار من كتاب كمال الدّين بسنده عن يعقوب بن شعيب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: كان بين عيسى و بين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خمسمائة عام منها مائتان و خمسون عاما ليس فيها نبيّ و لا عالم ظاهر، قلت: فما كانوا قال: كانوا متمسّكين بدين عيسى، قلت: فما كانوا قال: مؤمنين ثمّ قال عليه السّلام: و لا تكون الأرض إلّا و فيه عالم.

و فيه أيضا من الاحتجاج قال: سأل نافع مولى ابن عمر أبا جعفر عليه السّلام كم بين عيسى و بين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من سنة قال: اجيبك بقولك أم بقولى قال: أجبني بالقولين قال عليه السّلام: أمّا بقولي فخمسمائة سنة، و أمّا قولك فستّمأة سنة.

قال المحدّث العلّامة المجلسي بعد نقل هذه الأخبار: و المعوّل على هذين الخبرين، ثمّ قال: و يمكن تأويل الخبر المتقدّم بأن يقال: لم يحسب بعض زمان الفترة من أوّلها لقرب العهد بالدّين.
أقول: أمّا أنّ التعويل على ما تضمّنه الخبران من كون المدّة بينهما خمسمائة عام فلا غبار عليه لشهرته، و أمّا التّأويل الّذى ذكره في الخبر فليس بذلك البعد و لكن في خصوص هذه الفقرة منه إلّا أنّ السنين المشخّصة فيه لكلّ من السلاطين بين عيسى و محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يزيد مجموعها على تسعمائة سنة و منافاته لكون المدّة بينهما خمسمائة سنة كما في الخبرين واضح و لا يمكن دفعه بالتّأويل المذكور، و الجمع بينهما محتاج إلى التأمل.

الترجمة

پس عبرت برداريد بحالت فرزندان جناب اسماعيل و پسران جناب إسحاق و فرزندان جناب يعقوب عليهم السّلام پس چه قدر سخت است معتدل شدن حالت شما با حالات ايشان، و چه نزديكست مشابهت صفات شما بصفتهاى ايشان، تدبّر نمائيد كار ايشان را در حال پراكندگى ايشان و متفرّق بودن ايشان در شبهائى كه بودند پادشاهان فارس و روم پادشاه ايشان، در حالتي كه دور مى‏كردند ايشان را از كشت زار آفاق و از درياى عراق كه شطّ و فراتست، و از سبزى دنيا يعنى بلاد معموره بسوى مواضع روئيدن درمنه«» و مكانهاى وزيدن باد و تنگى معاش.

پس گذاشتند پادشاهان ايشان را در حالتى كه فقرا و مساكين بودند برادران شتران مجروح صاحب كرك در حالتى كه ذليل‏ترين امّتها بودند از حيثيت خانه، و قحطترين ايشان بودند از حيثيّت منزل و مقرّ، نمى‏توانستند خودشان را بچسبانند و پناه برند بسوى جناح دعوتى كه طلب حفظ كنند با آن، و نه بسوى سايه الفتى كه اعتماد نمايند بر عزّت آن.
پس احوال ايشان پريشان بود و دستهاى ايشان مختلف، و جمعيت و كثرت ايشان متفرّق، در شدّت بلا و جهالت عام از دختران زنده در گور شده، و بتهاى عبادت كرده شده، و رحمهاى بريده شده، و غارتهاى ريخته شده از هر طرف.
پس نظر كنيد بمواقع نعمتهاى خداوند بر ايشان وقتى كه مبعوث فرمود بسوى ايشان پيغمبرى را يعنى محمّد مصطفى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، پس منعقد ساخت با ملّت خود اطاعت ايشان را، و جمع فرمود با دعوت خود الفت ايشان را چگونه منتشر ساخت و فراخ گردانيد نعمتى كه بر ايشان بود بال كرامت خود را، و جارى ساخت بر ايشان نهرهاى ناز و نعمتهاى خود، و پيچيده شد ملّت بايشان يعنى جمع نمود دين اسلام ايشان را در منافع بركت خود.

پس گرديدند در نعمت ملت غرق شدگان، و از سبزى و طراوت عيش آن شادمان، بتحقيق كه مستقيم شد كارهاى ايشان در سايه سلطان غالب، و نازل كرد ايشان را حالت ايشان بسوى پناه عزّت قاهر، و مهربانى كردند كارها بر ايشان در بلنديهاى پادشاهى ثابت.

پس ايشان حاكمانند بر عالميان، و پادشاهانند در أطراف زمينها، مالك مى‏شوند در كارها بر كسانى كه مالك بودند در آن كارها بر ايشان، و امضا مى‏كنند و جارى مى ‏سازند حكمها را در اشخاصى كه امضاء مى‏ نمودند آن كارها را در ايشان فشرده نمى‏شود براى ايشان هيچ نيزه بجهت قوت ايشان، و كوبيده نمى‏شود مر ايشان را هيچ سنگى بجهت غايت قدرت و جرأت ايشان.

هذا آخر الجزء الحادى عشر من هذه الطبعة النفيسة القيمة، و قد تمّ تصحيحه و تهذيبه و ترتيبه بيد العبد- السيد ابراهيم الميانجى- عفى عنه و عن والديه، و ذلك في اليوم الثالث عشر من شهر رجب الاصبّ، يوم ميلاد الامام عليّ بن ابي طالب أمير المؤمنين صلوات اللّه و سلامه عليه و على آله الطاهرين سنة- 1382- و يليه انشاء اللّه الجزء الثاني عشر و أوله: «الفصل السابع» و الحمد للّه ربّ العالمين

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 191/1 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)قاصعة

خطبه 192 صبحی صالح

192- و من خطبة له ( عليه ‏السلام  ) تسمى القاصعة و هي تتضمن ذم إبليس لعنه اللّه، على استكباره و تركه السجود لآدم ( عليه‏السلام  )، و أنه أول من أظهر العصبية و تبع الحمية، و تحذير الناس من سلوك طريقته.

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَبِسَ الْعِزَّ وَ الْكِبْرِيَاءَ وَ اخْتَارَهُمَا لِنَفْسِهِ دُونَ‏خَلْقِهِ وَ جَعَلَهُمَا حِمًى وَ حَرَماً عَلَى غَيْرِهِ وَ اصْطَفَاهُمَا لِجَلَالِهِ

رأس العصيان‏

وَ جَعَلَ اللَّعْنَةَ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ فِيهِمَا مِنْ عِبَادِهِ

ثُمَّ اخْتَبَرَ بِذَلِكَ مَلَائِكَتَهُ الْمُقَرَّبِينَ لِيَمِيزَ الْمُتَوَاضِعِينَ مِنْهُمْ مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ

فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَ هُوَ الْعَالِمُ بِمُضْمَرَاتِ الْقُلُوبِ وَ مَحْجُوبَاتِ الْغُيُوبِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ‏

اعْتَرَضَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بِخَلْقِهِ وَ تَعَصَّبَ عَلَيْهِ لِأَصْلِهِ فَعَدُوُّ اللَّهِ إِمَامُ الْمُتَعَصِّبِينَ وَ سَلَفُ الْمُسْتَكْبِرِينَ الَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ وَ نَازَعَ اللَّهَ رِدَاءَ الْجَبْرِيَّةِ وَ ادَّرَعَ لِبَاسَ التَّعَزُّزِ وَ خَلَعَ قِنَاعَ التَّذَلُّلِ

أَ لَا تَرَوْنَ كَيْفَ صَغَّرَهُ اللَّهُ بِتَكَبُّرِهِ وَ وَضَعَهُ بِتَرَفُّعِهِ فَجَعَلَهُ فِي الدُّنْيَا مَدْحُوراً وَ أَعَدَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ سَعِيراً

ابتلاء اللّه لخلقه‏

وَ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ آدَمَ مِنْ نُورٍ يَخْطَفُ الْأَبْصَارَ ضِيَاؤُهُ وَ يَبْهَرُ الْعُقُولَ رُوَاؤُهُ وَ طِيبٍ يَأْخُذُ الْأَنْفَاسَ عَرْفُهُ لَفَعَلَ

وَ لَوْ فَعَلَ لَظَلَّتْ لَهُ الْأَعْنَاقُ خَاضِعَةً وَ لَخَفَّتِ الْبَلْوَى فِيهِ عَلَى الْمَلَائِكَةِوَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَبْتَلِي خَلْقَهُ بِبَعْضِ مَا يَجْهَلُونَ أَصْلَهُ تَمْيِيزاً بِالِاخْتِبَارِ لَهُمْ وَ نَفْياً لِلِاسْتِكْبَارِ عَنْهُمْ وَ إِبْعَاداً لِلْخُيَلَاءِ مِنْهُمْ

طلب العبرة

فَاعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ بِإِبْلِيسَ إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ الطَّوِيلَ وَ جَهْدَهُ الْجَهِيدَ وَ كَانَ قَدْ عَبَدَ اللَّهَ سِتَّةَ آلَافِ سَنَةٍ لَا يُدْرَى أَ مِنْ سِنِي الدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِي الْآخِرَةِ عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ

فَمَنْ ذَا بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَعْصِيَتِهِ كَلَّا مَا كَانَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِيُدْخِلَ الْجَنَّةَ بَشَراً بِأَمْرٍ أَخْرَجَ بِهِ مِنْهَا مَلَكاً

إِنَّ حُكْمَهُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ وَ أَهْلِ الْأَرْضِ لَوَاحِدٌ وَ مَا بَيْنَ اللَّهِ وَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ هَوَادَةٌ فِي إِبَاحَةِ حِمًى حَرَّمَهُ عَلَى الْعَالَمِينَ

التحذير من الشيطان‏

فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللَّهِ عَدُوَّ اللَّهِ أَنْ يُعْدِيَكُمْ بِدَائِهِ وَ أَنْ يَسْتَفِزَّكُمْ بِنِدَائِهِ وَ أَنْ يُجْلِبَ عَلَيْكُمْ بِخَيْلِهِ وَ رَجِلِهِ

فَلَعَمْرِي لَقَدْ فَوَّقَ لَكُمْ سَهْمَ الْوَعِيدِ وَ أَغْرَقَ إِلَيْكُمْ بِالنَّزْعِ الشَّدِيدِ وَ رَمَاكُمْ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ فَ قَالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ‏قَذْفاً بِغَيْبٍ بَعِيدٍ وَ رَجْماً بِظَنٍّ غَيْرِ مُصِيبٍ

صَدَّقَهُ بِهِ أَبْنَاءُ الْحَمِيَّةِ وَ إِخْوَانُ الْعَصَبِيَّةِ وَ فُرْسَانُ الْكِبْرِوَ الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى إِذَا انْقَادَتْ لَهُ الْجَامِحَةُ مِنْكُمْ وَ اسْتَحْكَمَتِ الطَّمَاعِيَّةُ مِنْهُ فِيكُمْ فَنَجَمَتِ الْحَالُ مِنَ السِّرِّ الْخَفِيِّ إِلَى الْأَمْرِ الْجَلِيِّ

اسْتَفْحَلَ سُلْطَانُهُ عَلَيْكُمْ وَ دَلَفَ بِجُنُودِهِ نَحْوَكُمْ فَأَقْحَمُوكُمْ وَلَجَاتِ الذُّلِّ وَ أَحَلُّوكُمْ وَرَطَاتِ الْقَتْلِ

وَ أَوْطَئُوكُمْ إِثْخَانَ الْجِرَاحَةِ طَعْناً فِي عُيُونِكُمْ وَ حَزّاً فِي حُلُوقِكُمْ وَ دَقّاً لِمَنَاخِرِكُمْ وَ قَصْداً لِمَقَاتِلِكُمْ وَ سَوْقاً بِخَزَائِمِ الْقَهْرِ إِلَى النَّارِ الْمُعَدَّةِ لَكُمْ

فَأَصْبَحَ أَعْظَمَ فِي دِينِكُمْ حَرْجاً وَ أَوْرَى فِي دُنْيَاكُمْ قَدْحاً مِنَ الَّذِينَ أَصْبَحْتُمْ لَهُمْ مُنَاصِبِينَ وَ عَلَيْهِمْ مُتَأَلِّبِينَ

فَاجْعَلُوا عَلَيْهِ حَدَّكُمْ وَ لَهُ جِدَّكُمْ فَلَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ فَخَرَ عَلَى أَصْلِكُمْ وَ وَقَعَ فِي حَسَبِكُمْ وَ دَفَعَ فِي نَسَبِكُمْ وَ أَجْلَبَ بِخَيْلِهِ عَلَيْكُمْ وَ قَصَدَ بِرَجِلِهِ سَبِيلَكُمْ يَقْتَنِصُونَكُمْ بِكُلِّ مَكَانٍ وَ يَضْرِبُونَ مِنْكُمْ كُلَّ بَنَانٍ

لَا تَمْتَنِعُونَ بِحِيلَةٍ وَ لَا تَدْفَعُونَ بِعَزِيمَةٍ فِي حَوْمَةِ ذُلٍّ وَ حَلْقَةِ ضِيقٍ وَ عَرْصَةِ مَوْتٍ وَ جَوْلَةِ بَلَاءٍ

فَأَطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ نِيرَانِ الْعَصَبِيَّةِ وَ أَحْقَادِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّمَا تِلْكَ الْحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي الْمُسْلِمِ مِنْ خَطَرَاتِ الشَّيْطَانِ وَ نَخَوَاتِهِ وَ نَزَغَاتِهِ وَ نَفَثَاتِهِ

وَ اعْتَمِدُوا وَضْعَ التَّذَلُّلِ عَلَى رُءُوسِكُمْ وَ إِلْقَاءَ التَّعَزُّزِ تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ وَ خَلْعَ التَّكَبُّرِ مِنْ أَعْنَاقِكُمْ وَ اتَّخِذُوا التَّوَاضُعَ مَسْلَحَةً بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ عَدُوِّكُمْ إِبْلِيسَ‏وَ جُنُودِهِ فَإِنَّ لَهُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ جُنُوداً وَ أَعْوَاناً وَ رَجِلًا وَ فُرْسَاناً

وَ لَا تَكُونُوا كَالْمُتَكَبِّرِ عَلَى ابْنِ أُمِّهِ مِنْ غَيْرِ مَا فَضْلٍ جَعَلَهُ اللَّهُ فِيهِ سِوَى مَا أَلْحَقَتِ الْعَظَمَةُ بِنَفْسِهِ مِنْ عَدَاوَةِ الْحَسَدِ وَ قَدَحَتِ الْحَمِيَّةُ فِي قَلْبِهِ مِنْ نَارِ الْغَضَبِ

وَ نَفَخَ الشَّيْطَانُ فِي أَنْفِهِ مِنْ رِيحِ الْكِبْرِ الَّذِي أَعْقَبَهُ اللَّهُ بِهِ النَّدَامَةَ وَ أَلْزَمَهُ آثَامَ الْقَاتِلِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ

التحذير من الكبر

أَلَا وَ قَدْ أَمْعَنْتُمْ فِي الْبَغْيِ وَ أَفْسَدْتُمْ فِي الْأَرْضِ مُصَارَحَةً لِلَّهِ بِالْمُنَاصَبَةِ وَ مُبَارَزَةً لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْمُحَارَبَةِ

فَاللَّهَ اللَّهَ فِي كِبْرِ الْحَمِيَّةِ وَ فَخْرِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مَلَاقِحُ الشَّنَئَانِ وَ مَنَافِخُ الشَّيْطَانِ الَّتِي خَدَعَ بِهَا الْأُمَمَ الْمَاضِيَةَ وَ الْقُرُونَ الْخَالِيَةَ حَتَّى أَعْنَقُوا فِي حَنَادِسِ جَهَالَتِهِ وَ مَهَاوِي ضَلَالَتِهِ

ذُلُلًا عَنْ سِيَاقِهِ سُلُساً فِي قِيَادِهِ أَمْراً تَشَابَهَتِ الْقُلُوبُ فِيهِ وَ تَتَابَعَتِ الْقُرُونُ عَلَيْهِ وَ كِبْراً تَضَايَقَتِ الصُّدُورُ بِهِ

التحذير من طاعة الكبراء

أَلَا فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ طَاعَةِ سَادَاتِكُمْ وَ كُبَرَائِكُمْ الَّذِينَ تَكَبَّرُوا عَنْ حَسَبِهِمْ وَ تَرَفَّعُوا فَوْقَ نَسَبِهِمْ وَ أَلْقَوُا الْهَجِينَةَ عَلَى رَبِّهِمْ‏وَ جَاحَدُوا اللَّهَ عَلَى مَا صَنَعَ بِهِمْ مُكَابَرَةً لِقَضَائِهِ وَ مُغَالَبَةً لِآلَائِهِ

فَإِنَّهُمْ قَوَاعِدُ أَسَاسِ الْعَصَبِيَّةِ وَ دَعَائِمُ أَرْكَانِ الْفِتْنَةِ وَ سُيُوفُ اعْتِزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ

فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ لَا تَكُونُوا لِنِعَمِهِ عَلَيْكُمْ أَضْدَاداً وَ لَا لِفَضْلِهِ عِنْدَكُمْ حُسَّاداً وَ لَا تُطِيعُوا الْأَدْعِيَاءَ الَّذِينَ شَرِبْتُمْ بِصَفْوِكُمْ كَدَرَهُمْ وَ خَلَطْتُمْ بِصِحَّتِكُمْ مَرَضَهُمْ وَ أَدْخَلْتُمْ فِي حَقِّكُمْ بَاطِلَهُمْ

وَ هُمْ أَسَاسُ الْفُسُوقِ وَ أَحْلَاسُ الْعُقُوقِ اتَّخَذَهُمْ إِبْلِيسُ مَطَايَا ضَلَالٍ وَ جُنْداً بِهِمْ يَصُولُ عَلَى النَّاسِ وَ تَرَاجِمَةً يَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ

اسْتِرَاقاً لِعُقُولِكُمْ وَ دُخُولًا فِي عُيُونِكُمْ وَ نَفْثاً فِي أَسْمَاعِكُمْ فَجَعَلَكُمْ مَرْمَى نَبْلِهِ وَ مَوْطِئَ قَدَمِهِ وَ مَأْخَذَ يَدِهِ

العبرة بالماضين‏

فَاعْتَبِرُوا بِمَا أَصَابَ الْأُمَمَ الْمُسْتَكْبِرِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَ صَوْلَاتِهِ وَ وَقَائِعِهِ وَ مَثُلَاتِهِ وَ اتَّعِظُوا بِمَثَاوِي خُدُودِهِمْ وَ مَصَارِعِ جُنُوبِهِمْ

وَ اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ لَوَاقِحِ الْكِبْرِ كَمَا تَسْتَعِيذُونَهُ مِنْ طَوَارِقِ الدَّهْرِ

فَلَوْ رَخَّصَ اللَّهُ فِي الْكِبْرِ لِأَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ لَرَخَّصَ فِيهِ لِخَاصَّةِ أَنْبِيَائِهِ وَ أَوْلِيَائِهِ وَ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ كَرَّهَ إِلَيْهِمُ التَّكَابُرَ وَ رَضِيَ لَهُمُ التَّوَاضُعَ

فَأَلْصَقُوا بِالْأَرْضِ خُدُودَهُمْ وَ عَفَّرُوا فِي التُّرَابِ وُجُوهَهُمْ وَ خَفَضُوا أَجْنِحَتَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ كَانُوا قَوْماً

مُسْتَضْعَفِينَ قَدِ اخْتَبَرَهُمُ اللَّهُ بِالْمَخْمَصَةِ وَ ابْتَلَاهُمْ بِالْمَجْهَدَةِ وَ امْتَحَنَهُمْ بِالْمَخَاوِفِ وَ مَخَضَهُمْ بِالْمَكَارِهِ

فَلَا تَعْتَبِرُوا الرِّضَى وَ السُّخْطَ بِالْمَالِ وَ الْوَلَدِ جَهْلًا بِمَوَاقِعِ الْفِتْنَةِ وَ الِاخْتِبَارِ فِي مَوْضِعِ الْغِنَى وَ الِاقْتِدَارِ

فَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ‏

فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ الْمُسْتَكْبِرِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ بِأَوْلِيَائِهِ الْمُسْتَضْعَفِينَ فِي أَعْيُنِهِمْ

تواضع الأنبياء

وَ لَقَدْ دَخَلَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ وَ مَعَهُ أَخُوهُ هَارُونُ ( عليهماالسلام  )عَلَى فِرْعَوْنَ وَ عَلَيْهِمَا مَدَارِعُ الصُّوفِ وَ بِأَيْدِيهِمَا الْعِصِيُّ فَشَرَطَا لَهُ إِنْ أَسْلَمَ بَقَاءَ مُلْكِهِ وَ دَوَامَ عِزِّهِ

فَقَالَ أَ لَا تَعْجَبُونَ مِنْ هَذَيْنِ يَشْرِطَانِ لِي دَوَامَ الْعِزِّ وَ بَقَاءَ الْمُلْكِ وَ هُمَا بِمَا تَرَوْنَ مِنْ حَالِ الْفَقْرِ وَ الذُّلِّ فَهَلَّا أُلْقِيَ عَلَيْهِمَا أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ إِعْظَاماً لِلذَّهَبِ وَ جَمْعِهِ وَ احْتِقَاراً لِلصُّوفِ وَ لُبْسِهِ وَ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِأَنْبِيَائِهِ حَيْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لَهُمْ كُنُوزَ الذِّهْبَانِ وَ مَعَادِنَ الْعِقْيَانِ وَ مَغَارِسَ الْجِنَانِ وَ أَنْ يَحْشُرَ مَعَهُمْ طُيُورَ السَّمَاءِ وَ وُحُوشَ الْأَرَضِينَ لَفَعَلَ

وَ لَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ الْبَلَاءُ وَ بَطَلَ الْجَزَاءُوَ اضْمَحَلَّتِ الْأَنْبَاءُ وَ لَمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِينَ أُجُورُ الْمُبْتَلَيْنَ وَ لَا اسْتَحَقَّ الْمُؤْمِنُونَ ثَوَابَ الْمُحْسِنِينَ وَ لَا لَزِمَتِ الْأَسْمَاءُ مَعَانِيَهَا

وَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِي قُوَّةٍ فِي عَزَائِمِهِمْ وَ ضَعَفَةً فِيمَا تَرَى الْأَعْيُنُ مِنْ حَالَاتِهِمْ مَعَ قَنَاعَةٍ تَمْلَأُ الْقُلُوبَ وَ الْعُيُونَ غِنًى وَ خَصَاصَةٍ تَمْلَأُ الْأَبْصَارَ وَ الْأَسْمَاعَ أَذًى

وَ لَوْ كَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ أَهْلَ قُوَّةٍ لَا تُرَامُ وَ عِزَّةٍ لَا تُضَامُ وَ مُلْكٍ تُمَدُّ نَحْوَهُ أَعْنَاقُ الرِّجَالِ وَ تُشَدُّ إِلَيْهِ عُقَدُ الرِّحَالِ لَكَانَ ذَلِكَ أَهْوَنَ عَلَى الْخَلْقِ فِي الِاعْتِبَارِ وَ أَبْعَدَ لَهُمْ فِي الِاسْتِكْبَارِ

وَ لَآمَنُوا عَنْ رَهْبَةٍ قَاهِرَةٍ لَهُمْ أَوْ رَغْبَةٍ مَائِلَةٍ بِهِمْ فَكَانَتِ النِّيَّاتُ مُشْتَرَكَةً وَ الْحَسَنَاتُ مُقْتَسَمَةً

وَ لَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الِاتِّبَاعُ لِرُسُلِهِ وَ التَّصْدِيقُ بِكُتُبِهِ وَ الْخُشُوعُ لِوَجْهِهِ وَ الِاسْتِكَانَةُ لِأَمْرِهِ وَ الِاسْتِسْلَامُ لِطَاعَتِهِ أُمُوراً لَهُ خَاصَّةً لَا تَشُوبُهَا مِنْ غَيْرِهَا شَائِبَةٌ

وَ كُلَّمَا كَانَتِ الْبَلْوَى وَ الِاخْتِبَارُ أَعْظَمَ كَانَتِ الْمَثُوبَةُ وَ الْجَزَاءُ أَجْزَلَ

الكعبة المقدسة

أَ لَا تَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اخْتَبَرَ الْأَوَّلِينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ ( صلوات‏الله‏عليه  )إِلَى الْآخِرِينَ مِنْ هَذَا الْعَالَمِ بِأَحْجَارٍ لَا تَضُرُّ وَ لَا تَنْفَعُ وَ لَا تُبْصِرُ وَ لَا تَسْمَعُ فَجَعَلَهَا بَيْتَهُ الْحَرَامَ الَّذِي جَعَلَهُ لِلنَّاسِ قِيَاماً

ثُمَ‏ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ بِقَاعِ الْأَرْضِ حَجَراً وَ أَقَلِّ نَتَائِقِ الدُّنْيَا مَدَراً وَ أَضْيَقِ بُطُونِ الْأَوْدِيَةِ قُطْراً بَيْنَ جِبَالٍ خَشِنَةٍ وَ رِمَالٍ دَمِثَةٍ وَ عُيُونٍ وَشِلَةٍ وَ قُرًى مُنْقَطِعَةٍ لَا يَزْكُو بِهَا خُفٌّ وَ لَا حَافِرٌ وَ لَا ظِلْفٌ

ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ ( عليه‏السلام  )وَ وَلَدَهُ أَنْ يَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ نَحْوَهُ فَصَارَ مَثَابَةً لِمُنْتَجَعِ أَسْفَارِهِمْ وَ غَايَةً لِمُلْقَى رِحَالِهِمْ تَهْوِي إِلَيْهِ ثِمَارُ الْأَفْئِدَةِ

مِنْ مَفَاوِزِ قِفَارٍ سَحِيقَةٍ وَ مَهَاوِي فِجَاجٍ عَمِيقَةٍ وَ جَزَائِرِ بِحَارٍ مُنْقَطِعَةٍ حَتَّى يَهُزُّوا مَنَاكِبَهُمْ ذُلُلًا يُهَلِّلُونَ لِلَّهِ حَوْلَهُ وَ يَرْمُلُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ شُعْثاً غُبْراً لَهُ

قَدْ نَبَذُوا السَّرَابِيلَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَ شَوَّهُوا بِإِعْفَاءِ الشُّعُورِ مَحَاسِنَ خَلْقِهِمُ ابْتِلَاءً عَظِيماً وَ امْتِحَاناً شَدِيداً وَ اخْتِبَاراً مُبِيناً وَ تَمْحِيصاً بَلِيغاً جَعَلَهُ اللَّهُ سَبَباً لِرَحْمَتِهِ وَ وُصْلَةً إِلَى جَنَّتِهِ

وَ لَوْ أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَضَعَ بَيْتَهُ الْحَرَامَ وَ مَشَاعِرَهُ الْعِظَامَ بَيْنَ جَنَّاتٍ وَ أَنْهَارٍ وَ سَهْلٍ وَ قَرَارٍ جَمَّ الْأَشْجَارِ دَانِيَ الثِّمَارِ مُلْتَفَّ الْبُنَى مُتَّصِلَ الْقُرَى

بَيْنَ بُرَّةٍ سَمْرَاءَ وَ رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ وَ أَرْيَافٍ مُحْدِقَةٍ وَ عِرَاصٍ مُغْدِقَةٍ وَ رِيَاضٍ نَاضِرَةٍ وَ طُرُقٍ عَامِرَةٍ لَكَانَ قَدْ صَغُرَ قَدْرُ الْجَزَاءِ عَلَى حَسَبِ ضَعْفِ الْبَلَاءِ

وَ لَوْ كَانَ الْإِسَاسُ الْمَحْمُولُ عَلَيْهَا وَ الْأَحْجَارُ الْمَرْفُوعُ بِهَا بَيْنَ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ وَ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ وَ نُورٍ وَ ضِيَاءٍ

لَخَفَّفَ ذَلِكَ مُصَارَعَةَ الشَّكِّ فِي الصُّدُورِ وَ لَوَضَعَ مُجَاهَدَةَ إِبْلِيسَ عَنِ الْقُلُوبِ وَ لَنَفَى مُعْتَلَجَ الرَّيْبِ مِنَ النَّاسِ

وَ لَكِنَّ اللَّهَ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِأَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ وَ يَتَعَبَّدُهُمْ بِأَنْوَاعِ الْمَجَاهِدِ وَ يَبْتَلِيهِمْ بِضُرُوبِ الْمَكَارِهِ إِخْرَاجاً لِلتَّكَبُّرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَ إِسْكَاناً لِلتَّذَلُّلِ فِي نُفُوسِهِمْ وَ لِيَجْعَلَ ذَلِكَ أَبْوَاباً فُتُحاً إِلَى فَضْلِهِ وَ أَسْبَاباً ذُلُلًا لِعَفْوِهِ

عود إلى التحذير

فَاللَّهَ اللَّهَ فِي عَاجِلِ الْبَغْيِ وَ آجِلِ وَخَامَةِ الظُّلْمِ وَ سُوءِ عَاقِبَةِ الْكِبْرِ فَإِنَّهَا مَصْيَدَةُ إِبْلِيسَ الْعُظْمَى وَ مَكِيدَتُهُ الْكُبْرَى الَّتِي تُسَاوِرُ قُلُوبَ الرِّجَالِ مُسَاوَرَةَ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ

فَمَا تُكْدِي أَبَداً وَ لَا تُشْوِي أَحَداً لَا عَالِماً لِعِلْمِهِ وَ لَا مُقِلًّا فِي طِمْرِهِ

وَ عَنْ ذَلِكَ مَا حَرَسَ اللَّهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَوَاتِ وَ الزَّكَوَاتِ وَ مُجَاهَدَةِ الصِّيَامِ فِي الْأَيَّامِ الْمَفْرُوضَاتِ تَسْكِيناً لِأَطْرَافِهِمْ وَ تَخْشِيعاً لِأَبْصَارِهِمْ وَ تَذْلِيلًا لِنُفُوسِهِمْ وَ تَخْفِيضاً لِقُلُوبِهِمْ وَ إِذْهَاباً لِلْخُيَلَاءِ عَنْهُمْ

وَ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْفِيرِ عِتَاقِ الْوُجُوهِ بِالتُّرَابِ تَوَاضُعاً وَ الْتِصَاقِ كَرَائِمِ الْجَوَارِحِ بِالْأَرْضِ تَصَاغُراً وَ لُحُوقِ الْبُطُونِ بِالْمُتُونِ مِنَ الصِّيَامِ تَذَلُّلًا مَعَ مَا فِي الزَّكَاةِ مِنْ صَرْفِ ثَمَرَاتِ الْأَرْضِ وَ غَيْرِ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ وَ الْفَقْرِ

فضائل الفرائض‏

انْظُرُوا إِلَى مَا فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ مِنْ قَمْعِ نَوَاجِمِ الْفَخْرِ وَ قَدْعِ طَوَالِعِ الْكِبْرِ

وَ لَقَدْ نَظَرْتُ فَمَا وَجَدْتُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ يَتَعَصَّبُ لِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْأَشْيَاءِ إِلَّا عَنْ عِلَّةٍ تَحْتَمِلُ تَمْوِيهَ الْجُهَلَاءِ أَوْ حُجَّةٍ تَلِيطُ بِعُقُولِ السُّفَهَاءِ غَيْرَكُمْ فَإِنَّكُمْ تَتَعَصَّبُونَ لِأَمْرٍ مَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ وَ لَا عِلَّةٌ أَمَّا إِبْلِيسُ فَتَعَصَّبَ عَلَى آدَمَ لِأَصْلِهِ وَ طَعَنَ عَلَيْهِ فِي خِلْقَتِهِ فَقَالَ أَنَا نَارِيٌّ وَ أَنْتَ طِينِيٌّ

عصبية المال‏

وَ أَمَّا الْأَغْنِيَاءُ مِنْ مُتْرَفَةِ الْأُمَمِ فَتَعَصَّبُوا لِآثَارِ مَوَاقِعِ النِّعَمِ فَ قالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ‏

فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُكُمْ لِمَكَارِمِ الْخِصَالِ وَ مَحَامِدِ الْأَفْعَالِ

وَ مَحَاسِنِ الْأُمُورِ الَّتِي تَفَاضَلَتْ فِيهَا الْمُجَدَاءُ وَ النُّجَدَاءُ مِنْ بُيُوتَاتِ الْعَرَبِ وَ يَعَاسِيبِ القَبَائِلِ بِالْأَخْلَاقِ الرَّغِيبَةِ وَ الْأَحْلَامِ الْعَظِيمَةِ وَ الْأَخْطَارِ الْجَلِيلَةِ وَ الْآثَارِ الْمَحْمُودَةِ

فَتَعَصَّبُوا لِخِلَالِ الْحَمْدِ مِنَ الْحِفْظِ لِلْجِوَارِ وَ الْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ وَ الطَّاعَةِ لِلْبِرِّ وَ الْمَعْصِيَةِ لِلْكِبْرِ وَ الْأَخْذِ بِالْفَضْلِ وَ الْكَفِّ عَنِ الْبَغْيِ وَ الْإِعْظَامِ لِلْقَتْلِ وَ الْإِنْصَافِ لِلْخَلْقِ وَ الْكَظْمِ لِلْغَيْظِوَ اجْتِنَابِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ

وَ احْذَرُوا مَا نَزَلَ بِالْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مِنَ الْمَثُلَاتِ بِسُوءِ الْأَفْعَالِ وَ ذَمِيمِ الْأَعْمَالِ فَتَذَكَّرُوا فِي الْخَيْرِ وَ الشَّرِّ أَحْوَالَهُمْ وَ احْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ فَإِذَا تَفَكَّرْتُمْ فِي تَفَاوُتِ حَالَيْهِمْ فَالْزَمُوا كُلَّ أَمْرٍ لَزِمَتِ الْعِزَّةُ بِهِ شَأْنَهُمْ

وَ زَاحَتِ الْأَعْدَاءُ لَهُ عَنْهُمْ وَ مُدَّتِ الْعَافِيَةُ بِهِ عَلَيْهِمْ وَ انْقَادَتِ النِّعْمَةُ لَهُ مَعَهُمْ وَ وَصَلَتِ الْكَرَامَةُ عَلَيْهِ حَبْلَهُمْ مِنَ الِاجْتِنَابِ لِلْفُرْقَةِ وَ اللُّزُومِ لِلْأُلْفَةِ وَ التَّحَاضِّ عَلَيْهَا وَ التَّوَاصِي بِهَا

وَ اجْتَنِبُوا كُلَّ أَمْرٍ كَسَرَ فِقْرَتَهُمْ وَ أَوْهَنَ مُنَّتَهُمْ مِنْ تَضَاغُنِ الْقُلُوبِ وَ تَشَاحُنِ الصُّدُورِ وَ تَدَابُرِ النُّفُوسِ وَ تَخَاذُلِ الْأَيْدِي

وَ تَدَبَّرُوا أَحْوَالَ الْمَاضِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قَبْلَكُمْ كَيْفَ كَانُوا فِي حَالِ التَّمْحِيصِ وَ الْبَلَاءِ أَ لَمْ يَكُونُوا أَثْقَلَ الْخَلَائِقِ أَعْبَاءً وَ أَجْهَدَ الْعِبَادِ بَلَاءً وَ أَضْيَقَ أَهْلِ الدُّنْيَا حَالًا

اتَّخَذَتْهُمُ الْفَرَاعِنَةُ عَبِيداً فَسَامُوهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَ جَرَّعُوهُمُ الْمُرَارَ فَلَمْ تَبْرَحِ الْحَالُ بِهِمْ فِي ذُلِّ الْهَلَكَةِ وَ قَهْرِ الْغَلَبَةِ لَا يَجِدُونَ حِيلَةً فِي امْتِنَاعٍ وَ لَا سَبِيلًا إِلَى دِفَاعٍ

حَتَّى إِذَا رَأَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ جِدَّ الصَّبْرِ مِنْهُمْ عَلَى الْأَذَى فِي مَحَبَّتِهِ وَ الِاحْتِمَالَ لِلْمَكْرُوهِ مِنْ خَوْفِهِ جَعَلَ لَهُمْ مِنْ مَضَايِقِ الْبَلَاءِ فَرَجاً فَأَبْدَلَهُمُ الْعِزَّ مَكَانَ الذُّلِّ وَ الْأَمْنَ مَكَانَ الْخَوْفِ

فَصَارُوا مُلُوكاً حُكَّاماً وَ أَئِمَّةً أَعْلَاماً وَ قَدْ بَلَغَتِ الْكَرَامَةُ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ‏مَا لَمْ تَذْهَبِ الْآمَالُ إِلَيْهِ بِهِمْ

فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانُوا حَيْثُ كَانَتِ الْأَمْلَاءُ مُجْتَمِعَةً وَ الْأَهْوَاءُ مُؤْتَلِفَةً وَ الْقُلُوبُ مُعْتَدِلَةً وَ الْأَيْدِي مُتَرَادِفَةً وَ السُّيُوفُ مُتَنَاصِرَةً وَ الْبَصَائِرُ نَافِذَةً وَ الْعَزَائِمُ وَاحِدَةً

أَ لَمْ يَكُونُوا أَرْبَاباً فِي أَقْطَارِ الْأَرَضِينَ وَ مُلُوكاً عَلَى رِقَابِ الْعَالَمِينَ

فَانْظُرُوا إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ فِي آخِرِ أُمُورِهِمْ حِينَ وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ وَ تَشَتَّتَتِ الْأُلْفَةُ وَ اخْتَلَفَتِ الْكَلِمَةُ وَ الْأَفْئِدَةُ وَ تَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِينَ وَ تَفَرَّقُوا مُتَحَارِبِينَ

وَ قَدْ خَلَعَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِبَاسَ كَرَامَتِهِ وَ سَلَبَهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِهِ وَ بَقِيَ قَصَصُ أَخْبَارِهِمْ فِيكُمْ عِبَراً لِلْمُعْتَبِرِينَ

الاعتبار بالأمم‏

فَاعْتَبِرُوا بِحَالِ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ وَ بَنِي إِسْحَاقَ وَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ( عليهم‏السلام  )فَمَا أَشَدَّ اعْتِدَالَ الْأَحْوَالِ وَ أَقْرَبَ اشْتِبَاهَ الْأَمْثَالِ تَأَمَّلُوا أَمْرَهُمْ فِي حَالِ تَشَتُّتِهِمْ وَ تَفَرُّقِهِمْ لَيَالِيَ كَانَتِ الْأَكَاسِرَةُ وَ الْقَيَاصِرَةُ أَرْبَاباً لَهُمْ

يَحْتَازُونَهُمْ عَنْ رِيفِ الْآفَاقِ وَ بَحْرِ الْعِرَاقِ وَ خُضْرَةِ الدُّنْيَا إِلَى مَنَابِتِ الشِّيحِ وَ مَهَافِي الرِّيحِ وَ نَكَدِ الْمَعَاشِ فَتَرَكُوهُمْ عَالَةً مَسَاكِينَ إِخْوَانَ دَبَرٍ وَ وَبَرٍ أَذَلَّ الْأُمَمِ دَاراً وَ أَجْدَبَهُمْ قَرَاراً

لَا يَأْوُونَ إِلَى جَنَاحِ دَعْوَةٍيَعْتَصِمُونَ بِهَا وَ لَا إِلَى ظِلِّ أُلْفَةٍ يَعْتَمِدُونَ عَلَى عِزِّهَا

فَالْأَحْوَالُ مُضْطَرِبَةٌ وَ الْأَيْدِي مُخْتَلِفَةٌ وَ الْكَثْرَةُ مُتَفَرِّقَةٌ فِي بَلَاءِ أَزْلٍ وَ أَطْبَاقِ جَهْلٍ مِنْ بَنَاتٍ مَوْءُودَةٍ وَ أَصْنَامٍ مَعْبُودَةٍ وَ أَرْحَامٍ مَقْطُوعَةٍ وَ غَارَاتٍ مَشْنُونَةٍ

النعمة برسول اللّه‏

فَانْظُرُوا إِلَى مَوَاقِعِ نِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ حِينَ بَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طَاعَتَهُمْ وَ جَمَعَ عَلَى دَعْوَتِهِ أُلْفَتَهُمْ

كَيْفَ نَشَرَتِ النِّعْمَةُ عَلَيْهِمْ جَنَاحَ كَرَامَتِهَا وَ أَسَالَتْ لَهُمْ جَدَاوِلَ نَعِيمِهَا وَ الْتَفَّتِ الْمِلَّةُ بِهِمْ فِي عَوَائِدِ بَرَكَتِهَا فَأَصْبَحُوا فِي نِعْمَتِهَا غَرِقِينَ وَ فِي خُضْرَةِ عَيْشِهَا فَكِهِينَ

قَدْ تَرَبَّعَتِ الْأُمُورُ بِهِمْ فِي ظِلِّ سُلْطَانٍ قَاهِرٍ وَ آوَتْهُمُ الْحَالُ إِلَى كَنَفِ عِزٍّ غَالِبٍ وَ تَعَطَّفَتِ الْأُمُورُ عَلَيْهِمْ فِي ذُرَى مُلْكٍ ثَابِتٍ

فَهُمْ حُكَّامٌ عَلَى الْعَالَمِينَ وَ مُلُوكٌ فِي أَطْرَافِ الْأَرَضِينَ يَمْلِكُونَ الْأُمُورَ عَلَى مَنْ كَانَ يَمْلِكُهَا عَلَيْهِمْ وَ يُمْضُونَ الْأَحْكَامَ فِيمَنْ كَانَ يُمْضِيهَا فِيهِمْ لَا تُغْمَزُ لَهُمْ قَنَاةٌ وَ لَا تُقْرَعُ لَهُمْ صَفَاةٌ

لوم العصاة

أَلَا وَ إِنَّكُمْ قَدْ نَفَضْتُمْ أَيْدِيَكُمْ مِنْ حَبْلِ الطَّاعَةِ وَ ثَلَمْتُمْ حِصْنَ اللَّهِ الْمَضْرُوبَ عَلَيْكُمْ بِأَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ

فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدِ امْتَنَ‏عَلَى جَمَاعَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِيمَا عَقَدَ بَيْنَهُمْ مِنْ حَبْلِ هَذِهِ الْأُلْفَةِ الَّتِي يَنْتَقِلُونَ فِي ظِلِّهَا وَ يَأْوُونَ إِلَى كَنَفِهَا بِنِعْمَةٍ لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ لَهَا قِيمَةً لِأَنَّهَا أَرْجَحُ مِنْ كُلِّ ثَمَنٍ وَ أَجَلُّ مِنْ كُلِّ خَطَرٍ

وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ صِرْتُمْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَعْرَاباً وَ بَعْدَ الْمُوَالَاةِ أَحْزَاباً مَا تَتَعَلَّقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِاسْمِهِ وَ لَا تَعْرِفُونَ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَّا رَسْمَهُ

تَقُولُونَ النَّارَ وَ لَا الْعَارَ كَأَنَّكُمْ تُرِيدُونَ أَنْ تُكْفِئُوا الْإِسْلَامَ عَلَى وَجْهِهِ انْتِهَاكاً لِحَرِيمِهِ وَ نَقْضاً لِمِيثَاقِهِ الَّذِي وَضَعَهُ اللَّهُ لَكُمْ حَرَماً فِي أَرْضِهِ وَ أَمْناً بَيْنَ خَلْقِهِ

وَ إِنَّكُمْ إِنْ لَجَأْتُمْ إِلَى غَيْرِهِ حَارَبَكُمْ أَهْلُ الْكُفْرِ ثُمَّ لَا جَبْرَائِيلُ وَ لَا مِيكَائِيلُ وَ لَا مُهَاجِرُونَ وَ لَا أَنْصَارٌ يَنْصُرُونَكُمْ إِلَّا الْمُقَارَعَةَ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَكُمْ

وَ إِنَّ عِنْدَكُمُ الْأَمْثَالَ مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وَ قَوَارِعِهِ وَ أَيَّامِهِ وَ وَقَائِعِهِ فَلَا تَسْتَبْطِئُوا وَعِيدَهُ جَهْلًا بِأَخْذِهِ وَ تَهَاوُناً بِبَطْشِهِ وَ يَأْساً مِنْ بَأْسِهِ

فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَلْعَنِ الْقَرْنَ الْمَاضِيَ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ إِلَّا لِتَرْكِهِمُ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَلَعَنَ اللَّهُ السُّفَهَاءَ لِرُكُوبِ الْمَعَاصِي وَ الْحُلَمَاءَ لِتَرْكِ التَّنَاهِي

أَلَا وَ قَدْ قَطَعْتُمْ قَيْدَ الْإِسْلَامِ وَ عَطَّلْتُمْ حُدُودَهُ وَ أَمَتُّمْ أَحْكَامَهُ

أَلَا وَ قَدْ أَمَرَنِيَ اللَّهُ بِقِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَ النَّكْثِ وَ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ

فَأَمَّا النَّاكِثُونَ فَقَدْ قَاتَلْتُ وَ أَمَّا الْقَاسِطُونَ فَقَدْ جَاهَدْتُ وَ أَمَّا الْمَارِقَةُ فَقَدْ دَوَّخْتُ

وَ أَمَّا شَيْطَانُ الرَّدْهَةِ فَقَدْ كُفِيتُهُ بِصَعْقَةٍ سُمِعَتْ لَهَا وَجْبَةُ قَلْبِهِ وَ رَجَّةُ صَدْرِهِ وَ بَقِيَتْ بَقِيَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَ لَئِنْ أَذِنَ اللَّهُ فِي الْكَرَّةِ عَلَيْهِمْ لَأُدِيلَنَّ مِنْهُمْ إِلَّا مَا يَتَشَذَّرُ فِي أَطْرَافِ الْبِلَادِ تَشَذُّراً

فضل الوحي‏

أَنَا وَضَعْتُ فِي الصِّغَرِ بِكَلَاكِلِ الْعَرَبِ وَ كَسَرْتُ نَوَاجِمَ قُرُونِ رَبِيعَةَ وَ مُضَرَ

وَ قَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى‏الله‏عليه‏وآله  )بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ وَ الْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَ أَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ وَ يَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ وَ يُمِسُّنِي جَسَدَهُ وَ يُشِمُّنِي عَرْفَهُ

وَ كَانَ يَمْضَغُ الشَّيْ‏ءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ وَ مَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ وَ لَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ

وَ لَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ بِهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ وَ مَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَهُ وَ نَهَارَهُ

وَ لَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِهِ عَلَماً وَ يَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ

وَ لَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ فَأَرَاهُ وَ لَا يَرَاهُ غَيْرِي وَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ

فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )وَ خَدِيجَةَ وَ أَنَا ثَالِثُهُمَا أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَ الرِّسَالَةِ وَ أَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ

وَ لَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الرَّنَّةُ فَقَالَ هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ

إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وَ تَرَى مَا أَرَى إِلَّا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ وَ لَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ وَ إِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ وَ لَقَدْ كُنْتُ مَعَهُ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله )لَمَّا أَتَاهُ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ فَقَالُوا لَهُ يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ قَدِ ادَّعَيْتَ عَظِيماً لَمْ يَدَّعِهِ آبَاؤُكَ وَ لَا أَحَدٌ مِنْ بَيْتِكَ

وَ نَحْنُ نَسْأَلُكَ أَمْراً إِنْ أَنْتَ أَجَبْتَنَا إِلَيْهِ وَ أَرَيْتَنَاهُ عَلِمْنَا أَنَّكَ نَبِيٌّ وَ رَسُولٌ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّكَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ‏

فَقَالَ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )وَ مَا تَسْأَلُونَ قَالُوا تَدْعُو لَنَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى تَنْقَلِعَ بِعُرُوقِهَا وَ تَقِفَ بَيْنَ يَدَيْكَ فَقَالَ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  ) إِنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌفَإِنْ فَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ ذَلِكَ أَ تُؤْمِنُونَ وَ تَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ قَالُوا نَعَمْ

قَالَ فَإِنِّي سَأُرِيكُمْ مَا تَطْلُبُونَ وَ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكُمْ لَا تَفِيئُونَ إِلَى خَيْرٍ وَ إِنَّ فِيكُمْ مَنْ يُطْرَحُ فِي الْقَلِيبِ وَ مَنْ يُحَزِّبُ الْأَحْزَابَ

ثُمَّ قَالَ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )يَا أَيَّتُهَا الشَّجَرَةُ إِنْ كُنْتِ تُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ تَعْلَمِينَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَانْقَلِعِي بِعُرُوقِكِ حَتَّى تَقِفِي بَيْنَ يَدَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ

فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَانْقَلَعَتْ‏بِعُرُوقِهَا وَ جَاءَتْ وَ لَهَا دَوِيٌّ شَدِيدٌ وَ قَصْفٌ كَقَصْفِ أَجْنِحَةِ الطَّيْرِ حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )مُرَفْرِفَةً

وَ أَلْقَتْ بِغُصْنِهَا الْأَعْلَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله )وَ بِبَعْضِ أَغْصَانِهَا عَلَى مَنْكِبِي وَ كُنْتُ عَنْ يَمِينِهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )

فَلَمَّا نَظَرَ الْقَوْمُ إِلَى ذَلِكَ قَالُوا عُلُوّاً وَ اسْتِكْبَاراً فَمُرْهَا فَلْيَأْتِكَ نِصْفُهَا وَ يَبْقَى نِصْفُهَا فَأَمَرَهَا بِذَلِكَ فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ نِصْفُهَا كَأَعْجَبِ إِقْبَالٍ وَ أَشَدِّهِ دَوِيّاً فَكَادَتْ تَلْتَفُّ بِرَسُولِ اللَّهِ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )

فَقَالُوا كُفْراً وَ عُتُوّاً فَمُرْ هَذَا النِّصْفَ فَلْيَرْجِعْ إِلَى نِصْفِهِ كَمَا كَانَ فَأَمَرَهُ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )فَرَجَعَ

فَقُلْتُ أَنَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِنِّي أَوَّلُ مُؤْمِنٍ بِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَ أَوَّلُ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى تَصْدِيقاً بِنُبُوَّتِكَ وَ إِجْلَالًا لِكَلِمَتِكَ

فَقَالَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ بَلْ ساحِرٌ كَذَّابٌ عَجِيبُ السِّحْرِ خَفِيفٌ فِيهِ وَ هَلْ يُصَدِّقُكَ فِي أَمْرِكَ إِلَّا مِثْلُ هَذَا يَعْنُونَنِي

وَ إِنِّي لَمِنْ قَوْمٍ لَا تَأْخُذُهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ سِيمَاهُمْ سِيمَا الصِّدِّيقِينَ وَ كَلَامُهُمْ كَلَامُ الْأَبْرَارِ عُمَّارُ اللَّيْلِ وَ مَنَارُ النَّهَارِ مُتَمَسِّكُونَ بِحَبْلِ الْقُرْآنِ يُحْيُونَ سُنَنَ اللَّهِ وَ سُنَنَ رَسُولِهِ

لَا يَسْتَكْبِرُونَ وَ لَا يَعْلُونَ وَ لَا يَغُلُّونَ وَ لَا يُفْسِدُونَ قُلُوبُهُمْ فِي الْجِنَانِ وَ أَجْسَادُهُمْ فِي الْعَمَلِ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج11  

و من خطبة له عليه السّلام تسمى بالقاصعة و هى المأة و الحادية و التسعون من المختار فى باب الخطب

قال السيد «ره»: و هي تتضمّن ذم ابليس على استكباره و تركه السجود لادم عليه السّلام و أنّه أوّل من أظهر العصبيّة و تبع الحميّة و تحذير النّاس من سلوك طريقته.
أقول: و هذه الخطبة أبسط خطب النهج و أطولها، و شرحها في فصول، و قد روى بعض فصولها في ساير كتب الأخبار باختلاف تطلع عليه انشاء اللّه تعالى.

الفصل الاول

الحمد للّه الّذي لبس العزّ و الكبرياء، و اختارهما لنفسه دون خلقه، و جعلهما حمى و حرما على غيره، و اصطفاهما لجلاله، و جعل اللّعنة على من نازعه فيهما من عباده، ثمّ اختبر بذلك ملائكته المقرّبين ليميّز المتواضعين منهم من المستكبرين، فقال سبحانه و هو العالم بمضمرات القلوب، و محجوبات الغيوب- إنّي خالق بشرا من طين، فإذا سوّيته و نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين، فسجد الملائكة كلّهم أجمعون، إلّا إبليس- اعترضته الحميّة، فافتخر على آدم بخلقه و تعصّب عليه لأصله، فعدّو اللّه إمام المتعصّبين، و سلف المستكبرين‏ الّذي وضع أساس العصبيّة، و نازع اللّه رداء الجبريّة، و ادّرع لباس التّعزّز، و خلع قناع التّذلّل. ألا ترون كيف صغّره اللّه بتكبّره، و وضعه بترفّعه، فجعله في الدّنيا مدحورا، و أعدّ له في الاخرة سعيرا، و لو أراد اللّه سبحانه أن يخلق آدم من نور يخطف الأبصار ضياؤه، و يبهر العقول روائه، و طيب يأخذ الأنفاس عرفه، لفعل، و لو فعل لظلّت الأعناق خاضعة له، و لخفّت البلوى فيه على الملائكة، و لكنّ اللّه سبحانه يبتلى خلقه ببعض ما يجهلون أصله، تمييزا بالاختبار لهم، و نفيا للاستكبار عنهم، و إبعادا للخيلاء منهم، فاعتبروا بما كان من فعل اللّه بإبليس إذ أحبط عمله الطّويل، و جهده الجهيد، و كان قد عبد اللّه ستّة آلاف سنة لا يدرى أمن سنّي الدّنيا أم من سنيّ الاخرة عن كبر ساعة واحدة فمن ذا بعد إبليس يسلم على اللّه بمثل معصيته، كلّا ما كان اللّه سبحانه ليدخل الجنّة بشرا بأمر أخرج به منها ملكا، إنّ حكمه في أهل السّماء و الأرض لواحد، و ما بين اللّه و بين أحد من خلقه هوادة في إباحة حمّى حرّمه على العالمين.

اللغة

(قصع) الرجل قصعا من باب منع إذا ابتلع جرع الماء و قصعت الناقة بجرّتهاإذا ردّتها إلى جوفها أو مضغتها أو هو بعد الدسع و قبل المضغ أو هو بأن تملاء فاها أو شدّة المضغ، و قصع الماء عطشه سكّنه، و قصع القملة بالظفر قتلها، و قصع فلانا صغّره و حقّره، و قصع اللّه شبابه أكداه، و قصع الغلام أو هامته ضربه ببسط كفه على رأسه، قيل: و الذى يفعل به ذلك لا يشبّ، و غلام مقصوع و قصيع و قصع كادى الشباب.

و (حمى) الشي‏ء يحميه حميا و حماية و محمية منعه وكلاء حمى مثل رضى محمّى و الحميّة الأنف و (تجبّر) الرجل إذا تكبّر، و الجبّار من الأسماء الحسنى القاهر المتكبّر الذى لا ينال، و الجبّار في المخلوق العاتى المتمرّد، و المتكبّر الّذى لا يرى لأحد عليه حقا، و الجبريّة بكسر الجيم و سكون الباء و الجبريّة بكسرات و الجبريّة بالفتحتين، و الجبريّة بفتح الأوّل و سكون الثاني، و الجبروة بالواو المضمومة و الجبروت و زان برهوت كلّها مصادر بمعني العظمة و الجلالة.

و (ادّرع) الرّجل و تدّرع لبس درع الحديد و (القناع) بالكسر ما تقنع به المرأة رأسها و هو أوسع من المقنعة و (العرف) بفتح الأوّل و سكون الثاني الريح طيّبة أو منتنة و أكثر استعماله في الطيّبة و (الخيلاء) و الخيل و الخيلة الكبر و (الهوادة) اللين و الرخصة و ما يرجى به الصّلاح.

الاعراب

و تحذير في كلام الرضيّ بالنّصب عطف على مفعول تتضمّن و جملة اعترضته استينافية بيانية، و تمييزا مفعول لأجله لقوله يبتلى، و قوله: عن كبر ساعة، متعلق بقوله: احبط، و عن للتعليل كما في قوله تعالى وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ و على فى قوله: يسلم على اللّه، بمعني من كما في قوله تعالى الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى أى منهم، و قوله: بأمر أخرج به، الباء الاولى للمصاحبة، و الثانية للسببيّة.

المعنى

اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة كما أشرنا إليه أطول خطب هذا الكتاب،و يخطف بالأبصار ضياؤها، و يبهر من العقول رواؤها، و يذهب بالأحلام انسجامها، و قبل الشروع في شرحها فلنقدّم هنا فوايد:
الاولى- في اسمها و وجه تسميتها
قال الرّضي «ره»: تسمّى بالقاصعة، و هي مأخوذة من القصع و المعاني السبعة الّتي ذكرناها لتلك المادّة في بيان اللّغة كلّها ممكنة الارادة هنا.

فعلي المعني الأوّل و الثاني نقول: إنّ المواعظ و النصايح لما كانت في هذه الخطبة متتابعة مردّدة من أوّلها إلى آخرها شبّهت بجرع الماء المتتابعة المبتلعة جرعة بعد جرعة، و بجرات الناقة الّتي تقصع جرّة بعد جرّة.
و على المعنى الثالث فلأنّ هذه الخطبة يذهب شموخ أنف المتكبّرين و اعتلائهم، و يسكن نخوة بأدهم و سموّ غلوائهم إن استمعوا إليها و تدبّروا فيها، فشبّهت بالماء المسكن للعطش.
و أما على المعنى الرابع فلأنّها بما فيها من المذام و المطاعن التي لابليس و جنوده كالقاتلة لهم.
و أما على المعنى الخامس فلتضمّنها تصغير ابليس و تحقيره مع اتباعه، و هذا أحسن المعاني و أنسبها.
و أما على السادس و السابع فلأنها لبلوغها الغاية في ذمّ إبليس و متابعيه من المتكبّرين، و تجاوزها الحدّ و النهاية في الكشف عن سوأتهم، صارت كالقاصعة اللّاطمة على رأسهم، و صار إبليس بذلك كالمقصوع القمى‏ء الذى لا يشبّ و لا يزداد، و كذلك متابعوه.

و قيل هنا وجه آخر: و هو أنّه عليه السّلام حين خطب بهذه الخطبة كان راكبا على ناقته و هى تقصع بجرتها، فأصل الخطبة القاصعة الخطبة الّتي كانت خطابتها على الناقة القاصعة، ثم كثر الاستعمال فخفف و قيل: خطبة القاصعة من اضافة الشي‏ء إلى ملابسه، ثمّ توسّع فيه فجعل القاصعة صفة للخطبة نفسها فقيل: الخطبة القاصعة

الفايدة الثانية

نقلوا في سبب هذه الخطبة أنّ أهل الكوفة كانوا في آخر خلافته عليه السّلام قد فسدوا و كانوا قبايل متعدّدة، فكان الرجل يخرج من منازل قبيلته فيمرّ بمنازل قبيلة اخرى فيصيبه أدنى مكروه فينادى باسم قبيلته، مثلا يا للنخع يا لكندة نداء عاليا يقصد به الفتنة و إثارة الشرّ، فيتألّب عليه فتيان القبيلة، فينادون يا لتميم و يا لربيعة، و يقبلون إلى ذلك الصايح فيضربونه، فيمضى إلى قبيلته فيستصرخها فتثور الفتن و تسلّ السيوف، و لا يكون لها أصل في الحقيقة إلّا تعرّض الفتيان بعضهم ببعض، و كثر ذلك فخرج عليه السّلام على ناقته فخطبهم بهذه الخطبة كسرا لصولتهم.

الفايدة الثالثة

قال السيد «ره» (و هى تتضمّن ذمّ إبليس على استكباره و تركه السجود لادم عليه السّلام و انّه أول من أظهر العصبية و تبع الحميّة و تحذير الناس من سلوك طريقته).
أقول: للّه درّ السيّد فقد وقف على أنجد هذه الخطبة و لم يقف على أغوارها، و خاض في ضحا ضحها و لم يلجج في غمارها، أو أن تقريره قصر عن التعبير بما انطوى عليه ضميره، فانّ الغرض الأصلى لأمير المؤمنين عليه السّلام من هذه الخطبة هو تقريع المتكبّرين، و توبيخ المتجبّرين، و تهديد المستكبرين، و زجرهم و إزعاجهم عن التجبّر و الاستكبار، و ردعهم عن الاتصاف بهذه الصفة الخبيثة الخسيسة و الخصلة الرذيلة و لما كان اقتصاص حال ابليس أبلغ في التأدية إلى هذا الغرض و آكد في مقام الرّد و الابعاد، و أشدّ في التهديد و الايعاد، لا جرم صدّر الكلام باقتضاء الحال و المقام لشرح حال ابليس اللّعين، و أطنب ببيان ما نزل به من النكال العظيم و العذاب الأليم.
و قد ذكرنا في ديباجة الشرح أنّ اللّازم على الخطيب المصقع أن يراعى حسن الابتداء و يصدّر كلامه بما يناسب الغرض المسوق لأجله الكلام.

اذا عرفت ذلك ظهر لك إن كنت من الصناعة أنّ هذه الخطبة تقطر الفصاحة من أعطافها، و تؤخذ البلاغة من ألفاظها، و إن تدبّرت عرفت فيها حسن كفايتهافي أداء ما سيق الكلام لأجله، و أنها في التحذير و التنفير عن الكبر و التهديد و التوعيد و الطرد و الابعاد للمستكبرين كلام ليس فوقه كلام، بل إن أمعنت النظر فيها يظهر لك أنها تالى سورة البراءة، و ما أشبهها بها.

فانّها كما سيقت من أوّلها إلى آخرها لأجل تقريع الكفار و المنافقين و الكشف عن فضايحهم و الافضاح عن مخازيهم و مقابحهم، و افتتحت باظهار البراءة منهم و لأجل ذلك لم تصدّر بالبسملة، لأنّ بسم اللّه للأمان و الرّحمة، و هذه السورة نزلت لرفع الامان بالسّيف، و فاتحتها تشهد بخاتمتها.

فكذلك هذه الخطبة من بدئها إلى ختمها ترهيب و تهويل و تهديد و توعيد و تخويف و تزيد على ذلك حسنا و رواء أن راعى فى مطلعها صناعة براعة الاستهلال فقال: (الحمد للّه الّذى لبس العزّ و الكبرياء) و هو من باب الاستعارة المكنيّة تشبيها للعزّ و الكبرياء باللّباس فيكون ذكر اللّبس تخييلا، و الجامع أنّ اللباس كما يحيط بلابسه فكذلك العزّ و الكبرياء لما كانا محيطين بذاته أى كان ذاته غير فاقد لهما، بل هما عين ذاته لكونهما من صفات الذات فشبّها باللباس الّذى يتلبّس به لابسه.

و يجوز أن يجعل من باب الاستعارة التبعية بأن يستعار اللّبس للاتّصاف، فيكون نسبته إلى العزّ و الكبرياء قرينة للاستعارة، و الجامع أنّ اللباس كما يكون مختصّا بلابسه و به يعرف و يتميّز، فكذلك هذان الوصفان لما كانا مخصوصين بذاته سبحانه استعار لاتّصافه بهما لفظ اللّبس.

و معنى العزّ هو الملك و القدرة و الغلبة و العزيز من أسمائه الحسنى قال الصّدوق: هو المنيع الّذى لا يغلب، و هو أيضا الّذى لا يعادله شي‏ء و أنه لا مثل له و لا نظير و قد يقال للملك كما قال اخوة يوسف: يا ايّها العزيز، أى يا أيّها الملك.
و قال الطبرسى: العزيز القادر الذى لا يصحّ عليه القهر، و الكبرياء هو السلطان القاهر و العظمة القاهرة و العلوّ و الرفعة، هذا.

و انما قلنا إنّ العزّ و الكبرياء من صفات الذّات، لأنّ صفة الذات ما لا يصحّ‏سلبه عنه سبحانه و لا يصح تعلّق القدرة عليه.

قال صدر المتألهين في شرح الكافى في الفرق بين صفة الذات و صفة الفعل: إنّ القدرة صفة ذاتية تتعلّق بالممكنات لا غير، و نسبتها بما هى قدرة إلى طرفى الشي‏ء الممكن على السواء، فلا يتعلّق بالواجب و لا بالممتنع، فكلّ ما هو صفة الذات فهو أزلى غير مقدور، و كلّ ما هو صفة الفعل فهو ممكن مقدور، و بهذا يعرف الفرق بين الصّفتين فاذا نقول: لما كان علمه بالأشياء ضروريّا واجبا بالذات و عدم علمه بها محالا ممتنعا بالذات فلا يجوز أن يقال: يقدر أن يعلم و لا يقدر أن لا يعلم، لأنّ أحد الطرفين واجب و الاخر ممتنع بالذات، و مصحّح المقدوريّة هو الامكان، و كذا الكلام في صفة الملك و العزّة و الحكمة و الجود و غيرها من صفات الذات كالعظمة و الكبرياء و الجلال و الجمال و الجبروت و أمثالها، و هذا بخلاف صفات الفعل.

ثمّ لما كان المستفاد من قوله: لبس العزّ و الكبرياء اتّصافه سبحانه بهما و لم يستفد منه اختصاصهما به تعالى الاختصاص الحقيقى المفيد لعدم جواز اتّصاف الغير بهما، لا جرم أكدّ ذلك بقوله: (و اختارهما لنفسه دون خلقه) و المراد باختيارهما لذاته تفرّده باستحقاقهما لذاته، فانّ المستحقّ للعزّ و الكبرياء بالذات ليس إلّا هو و أما غيره سبحانه فعزّه و عظمته و ملكه عرضية مستفادة منه عزّ و جلّ كما قال قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ فهذان الوصفان مثل ساير الصفات الذاتية، فكما أنّ العلم و القدرة إذا نسبا إليه سبحانه و قيل: إنه عالم قادر يراد به أنه عالم بذاته و العلم ذاته و قادر بذاته و القدرة ذاته، و إذا نسبا إلى المخلوق و قيل: زيد عالم قادر يراد به أنه عالم بعلم زايد على ذاته و يقدر بقدرة زايدة على ذاته، فكذلك إذا قيل: فلان عزيز عظيم يراد به أنه عزيز بعزّة زايدة و عظيم بعظمة كذلك، و أما إذا قيل: اللّه عزيز عظيم فعزّته و عظمته عين ذاته.

و أيضا فالعزّ و العظمة في اللّه هو العزّ المطلق و العظمة القاهرة المطلقة لايستحقّهما غيره، و أما في المخلوق فهو عزّ ناقص و عظمة ناقصة فقول اخوة يوسف «يا ايها العزيز» أرادوا أنّه عزيز مصر، فالعزّ المطلق للّه الواحد القهار المتكبّر العزيز الجبّار«» و له الكبرياء في السموات و الأرض و هو العزيز الحكيم.

فقد علم بذلك أنّ العزّ المطلق الكامل و الكبرياء أى السلطان القاهر للّه سبحانه و من الصّفات المخصوصة به تعالى، فلا يجوز لغيره أن يتعزّز و يتكبّر و يدّعى العزّ و الكبرياء لنفسه.
و الى هذا ينظر ما في الحديث القدسى قال أبو هريرة: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول اللّه تبارك و تعالى: الكبرياء ردائى و العظمة ازارى فمن نازعنى واحدا منهما ألقيته فى جهنّم و لا ابالى.
و في رواية أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال أبو جعفر عليه السّلام: العزّ رداء اللّه و الكبرياء ازاره فمن تناوله شيئا منه أكبّه اللّه في جهنّم، هذا.

و قد تقدّم تفصيل الكلام في بيان حقيقة الكبر و الأدلّة الواردة فى ذمّها و مفاسدها بما لا مزيد عليه في شرح المختار المأة و السابع و الأربعين.
(و جعلهما حمى و حرما على غيره) تشبيههما بهما باعتبار أنّ الحمى كما يحمى من أن يتصرّف فيه الغير و يحفظ من أن يحام حوله، و لو دخله الغير كان مسؤلا مؤاخذا، فكذلك هذان الوصفان مخصوصان به سبحانه ليس لأحد أن يحوم حولهما و يدّعيهما لنفسه و لو ادّعاهما كان معاقبا مدحورا.

(و اصطفاهما لجلاله) أى لتقدّسه و علوّه عن شبه مخلوقاته (و جعل اللعنة على من نازعه فيهما من عباده) أى جعل الطرد و الابعاد عن الرّحمة و الدخول فى النار و العذاب على المتكبّرين المتعزّزين المجادلين للّه سبحانه فى عزّه و سلطانه قال «أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ» و قال «فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ» (ثمّ اختبر بذلك ملائكته المقرّبين) أى اختبرهم بالتكبّر و عدمه، أى‏عاملهم معاملة المختبر الممتحن فهو استعارة تبعية لأنّ حقيقة الاختبار و هو طلب الخبرة و المعرفة بالشي‏ء محال على اللّه العالم بالسراير و الخبير بالصدور و الضمائر، و إنما هو في حقّ من لا يكون عارفا و لكن لما كان شانه أن لا يجازى عباده على ما يعلمه منهم أنهم سيفعلونه قبل أن يقع ذلك الفعل، و إنما يجازيهم على تكليفهم بما كلّفهم به فيثيب المطيعين منهم و يعاقب العاصين، فأشبه ذلك باختبار الانسان لعبيده و تميزه لمن أطاعه ممّن عصاه فاختباره لهم مجاز عن تكليفه إيّاهم و تمكينه لهم من اختيار أحد الأمرين، ما يريده اللّه و ما يشتهيه العبد، و قد عرفت الكلام في تحقيق اختباره أبسط من ذلك في شرح المختار الثاني و الستين.

و الحاصل أنّه سبحانه امتحن بذلك ملائكته و هو يعلم المفسد من المصلح ليهلك من هلك عن بيّنة و يحيى من حىّ عن بيّنة.

و (ليميز المتواضعين منهم من المستكبرين) فيثيب الأوّلين و هم من أصحاب اليمين بجنّة عرضها السماوات و الأرضين، و يعاقب الاخرين و هم من أصحاب الشمال بالجحيم و لبئس مثوى المتكبّرين.

(فقال سبحانه و هو العالم بمضمرات القلوب و محجوبات الغيوب) جملة معترضة أدمجها بين القول و مقوله تنزيها له سبحانه عن كون اختباره عن جهل كما فى غيره، و الاعتراض هنا كما في قوله تعالى «يَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَ لَهُمْ ما يَشْتَهُونَ» يعنى أنّه تعالى اختبر ملائكته بأن قال لهم مع عمله بباطنهم: (انى خالق بشرا من طين فاذا سوّيته و نفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين) يعني إذا عدلت خلقته و أتممت أعضاءه و صورته و أحييته و جعلت فيه الروح، و اضافة الروح الى نفسه للتشريف، و معنى نفخت فيه إفاضته عليه من غير سبب و واسطة كالولادة المؤدّية إلى ذلك، فانّ اللّه شرّف آدم و كرّمه بهذه الحالة، و قد مضى تفصيل الكلام في شرح خلقة آدم عليه السّلام بما لا مزيد عليه في شرح الفصل العاشر من المختار الأوّل (فسجد الملائكة كلّهم أجمعون) طاعة لأمر ربّ العالمين (الّا ابليس) استكبر و كان من الكافرين، و قد مضى تفصيل الكلام في أمر الملائكة بالسجود له و كيفيّةسجدتهم و إباء إبليس عنها و ساير ما يتعلّق بهذا العنوان فى شرح الفصل الحادى عشر من المختار الأوّل فليتذكّر، و أشار إلى علّة امتناع إبليس من السجدة بقوله: (اعترضته الحميّة) و العصبيّة و الانيّة (فافتخر على آدم بخلقه و تعصّب عليه لأصله) أى تعزّز بخلقة النار و استوهن خلق الصلصال فقال «قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ» «قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ».

و فى الحقيقة استفهامه ذلك كان اعتراضا على اللّه عزّ و جلّ و إنكارا عليه بأنه كيف يسوغ له أن يأمر الأشرف بتعظيم الأدنى و يرجّح المخلوق من الطين على المخلوق من النّار.
و قد غلط الملعون فى اعتراضه و أخطأ في قياسه، حيث قصر نظره بما للنار من النور و لم يمعن النظر فيما لادم من النور الذى يضحى عنده كلّ نور و هو نور الأشباح الخمسة الذى كان آدم وعاء له و كان أمر الملائكة بالسّجود لأجله، و قد بيّنا فساد قياس الملعون في شرح الفصل الحادى عشر من المختار الأوّل بوجوه عديدة (فعدوّ اللّه) إبليس (امام المتعصّبين) و مقتديهم حيث إنّه أوّل من أسّس أساس العصبية (و سلف المستكبرين) و مقدمهم لأنه أوّل من بنا بنيان الاستكبار و النخوة و اليه أشار بقوله: (الذى وضع أساس العصبيّة و نازع اللّه رداء الجبريّة) جعل استكباره و ادّعاءه لما ليس له و انتحاله للصفة الخاصة باللّه سبحانه و هو صفة الكبرياء و الجبروت بمنزلة منازعته إياه سبحانه، فتجوّز بلفظ المنازعة عن ذلك.

و بعبارة أوضح كما أنّ من نازع لاخر في شي‏ء يريد أن يجذب باب النزاع إلى نفسه و يستأثر به، فكذلك ذلك الملعون لتكبّره صار بمنزلة المنازع للّه المريد للاستيثار بصفة الكبرياء.
(و ادّرع لباس التعزّز) و التجبّر الذى هو وظيفة الرّبوبيّة (و خلع قناع التذلّل) و التواضع الذى هو وظيفة العبوديّة.

و لما قصّ قصة إبليس أمر المخاطبين بالنظر فيما آل اليه أمره و أثمره كبره ليحذروا من اقتفاء أثره، و يجتنبوا من سلوك سننه فقال: (ألا ترون كيف صغره اللّه بتكبره و وضعه بترفعه) و تجبّره (فجعله في الدّنيا) مذموما (مدحورا) و قال قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ. رَجِيمٌ وَ إِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى‏ يَوْمِ (و أعدّ) اللّه (له في الاخرة سعيرا) و قال «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ» ثمّ نبّه على نكتة خلقة آدم عليه السّلام من الطين بقوله (و لو أراد اللّه سبحانه أن يخلق آدم عليه السّلام من نور يخطف الأبصار) أى يسلبها و يأخذها (ضياؤه و يبهر العقول رواؤه) أى يغلبها حسن منظره (و طيب يأخذ الأنفاس عرفه) أى ريحه و عطره (لفعل) لأنه أمر ممكن مقدور و هو سبحانه على كلّ شي‏ء قدير (و لو فعل) ذلك (لظلّت الأعناق خاضعة له و لخفت البلوى فيه على الملائكة) يعنى أنه سبحانه لو أراد أن يخلق آدم في بدء خلقته من نور باهر يخطف سنا برقه بالأبصار لكان مقدورا له سبحانه، و لو خلقه كذلك لصارت أعناق الملائكة و ابليس خاضعة منقادة له، و يسهل عليهم الامتحان في سجود آدم عليه السّلام و لم يشق عليهم تحمل ذلك التكليف، و لساغ لهم السجود له و طاب أنفسهم به لما رأوا من شرف جوهره و علوّ مقامه و فضل خلقته، لأنّ الشريف جليل القدر إنما يأبى و يستنكف من الخشوع و الخضوع لمن هو دونه، و لذلك قال ابليس اللعين خلقتني من نار و خلقته من طين، و أما من كان أصله مناسبا لأصله و مقارنا له في الشرف أو أعلى رتبة منه فلا، و خفّ حينئذ البلوى.

(و لكن اللّه سبحانه) لم يرد ذلك و لم يتعلّق مشيّته بخلقه من نور وصفه كيت كيت، و إنما خلقه من طين و صلصال من حماء مسنون ليصعب تحمّل التكليف سجوده و يثقل حمله، فيتميّز بذلك المحسن من المسى‏ء و المطيع من العاصى، و يستحقّ المطيع له على ثقله مزيد الزلفى و الثواب لكون اطاعته عن محض الخلوص و التعبّد و التسليم و الانقياد، و يستحقّ العاصى لأليم العقاب لأجل كشف عصيانه عن كونه‏في مقام التمرّد و الانية و العناد.

و كذلك جرت عادة اللّه سبحانه على أن (يبتلى خلقه ببعض ما يجهلون أصله تمييزا بالاختبار لهم، و نفيا للاستكبار عنهم، و ابعادا للخيلاء منهم) يعنى أنّه سبحانه يكلّفهم بأحكام لا يعلمون دليلها و سرّها و نكتتها و الغرض منها، ليميّز المنقاد من المتمرّد و المتذلّل من المستكبر.

ألا ترى أنّ أكثر الأحكام الشرعيّة الّتي في شرعنا مما لم يستقلّ العقل بحكمه من هذا القبيل.
و كذلك غالب أحكام ساير الشرائع تعبّديات صرفة، مثل وجوب حمل الامم السالفة قرا بينهم على أعناقهم إلى بيت المقدّس، فمن قبل قربانه جائته نار فأكلته، فانّ علّة وجوب حملها على الأعناق و نكتة ذلك التكليف الشاقّ غير معلومة.

و كذا المصلحة في إحراق القربان ذى الحياة بالنّار ممّا لا نفهمها.
و مثل ما امتحن اللّه به جنود طالوت من شرب الماء حيث قال «فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي».
و مثله ما اختبر به اصحاب السّبت من نهيهم عن الصيد في يوم السّبت، فانّ العقل لا يفرق بين أيام الاسبوع و لا يدرك قبح الصّيد في ذلك اليوم وجهة النهي عنه و حسنه في ساير الأيام و جهة إباحته، فانظر الى عظم البلوى في ذلك التكليف كيف أوقعهم التعدّى عنه في الخزى العظيم. فكانوا قردة خاسئين.

كما قال سبحانه وَ سْئَلْهُمْ أى اليهود «وَ سْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما إلى قوله فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ. السُّوءِ وَ أَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ فَلَمَّا.

قال في تفسير الامام قال عليّ بن الحسين عليه السّلام قال اللّه عزّ و جلّ فَلَمَّا عَتَوْا صاروا و أعرضوا و تكبّروا عن قبول الزّجر عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ مبعدين من الخير مبغضين، هذا.

و لما ذكر عليه السّلام من بدء الخطبة إلى هنا اختصاص وصف العزّ و الكبرياء بالربّ الأعلى و أنّ المنازع له فيهما ملعون مطرود من مقام الزلفي، و نبّه على أنّ إبليس اللعين استحقّ النار و سخط الجبّار للتعزّز و الترفّع و الاستكبار، تخلّص إلى غرضه الأصلي من خطابة هذه الخطبة و هو نصح المخاطبين، فأمرهم بالاعتبار بحال هذا الملعون، و أنه كيف أحبط أعماله الّتي عملها في المدّة المتطاولة، و الوف من السّنين بتكبّره و تمرّده عن أمر ربّ العالمين فقال: (فاعتبروا بما كان من فعل اللّه بابليس إذ أحبط) أى أبطل ثواب (عمله الطويل و جهده الجهيد) أى اجتهاده المستقصى و سعيه البالغ إلى النهاية (و كان قد عبد اللّه (ستة آلاف سنة) و هكذا في رواية البحار المتقدّمة في شرح الفصل الحادى عشر من المختار الأوّل عن العياشي عن ابن عطية عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ إبليس عبد اللّه في السماء في ركعتين ستة ألف سنة، لكن في رواية القمّي المتقدّمة هناك عن زرارة عنه عليه السّلام أنه ركعهما في أربعة آلاف سنة، و في رواية اخرى في ألفي سنة، و في رواية رابعة في سبعة ألف سنة.

قال المحدّث العلّامة المجلسي «ره» و يمكن دفع التنافي بين أزمنة الصلاة و السجود بوقوع الجميع أو بصدور البعض موافقا لأقوال العامة تقيّة.
و قوله (لا يدرى أمن سنّي الدّنيا أم سنّي الاخرة) لا دلالة فيه على عدم علمه عليه السّلام بذلك إذ لفظ يدرى بصيغة المجهول و يكفى في صدقه جهل المخاطبين به و إنما لم يفسّره لهم لما كان يعلمه عليه السّلام في إبهامه من المصلحة كعدم تحاشي السامعين من طول المدّة.

و روى الشارح البحراني من نسخة الرّضي ما لا ندرى بصيغة المتكلّم مع الغير، و هو أيضا لا يستلزم جهله عليه السّلام لأنّ غيره لا يدرونه فغلبهم على نفسه و باب التغليب باب واسع في المجاز.
أمّا مدّة سنى الاخرة فقد اشير إليها في قوله سبحانه في سورة الحجّ «وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ لَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَ» قال ابن عباس و مجاهد و عكرمة و ابن زيد في‏تفسيرها: إنّ يوما من أيام الاخرة يكون كألف سنة من أيام الدّنيا.
و في الصافى من إرشاد المفيد عن الباقر عليه السّلام في حديث: و أخبر أى اللّه سبحانه بطول يوم القيامة و أنّه كألف سنة مما تعدّون.

و نظير هذه الاية قوله تعالى في سورة السجدة يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ روى في مجمع البيان عن ابن عباس في هذه الاية أنّ معناها يدبّر اللّه سبحانه أمر الدنيا فينزل القضاء و التدبير من السماء إلى الأرض مدّة أيام الدّنيا، ثمّ يعرج الأمر و يعود التدبير اليه بعد انقضاء الدّنيا و فنائها حتّى ينقطع أمر الأمراء و حكم الحكام و ينفرد اللّه بالتدبير في يوم كان مقدار ألف سنة، و هو يوم القيامة فالمدّة المذكورة هو مدّة يوم القيامة إلى أن يستقرّ الخلود في الدارين.

قال الطبرسىّ: و يدلّ عليه ما روى إنّ الفقراء يدخلون الجنّة قبل الأغنياء بنصف يوم خمسمائة عام.
فان قلت: فما تقول لقوله سبحانه فى سورة المعارج تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ و ما وجه الجمع بينه و بين الايتين السالفتين قلت: ربما يجمع بينهما بأنّ المراد باية السجدة أنّ الملائكة ينزل بالتدبير و الوحى و يصعد إلى السماء في يوم واحد من أيام الدّنيا مسافة ألف سنة مما تعدّون.

لأنّ ما بين السماء و الأرض مسيرة خمسمائة عام لابن آدم، فيكون نزوله خمسمائة عام و صعوده خمسمائة عام، فمسافة الصعود و النزول إلى السماء الدّنيا في يوم واحد للملك مقدار مسيرة ألف سنة لغير الملك.
و المراد باية المعارج هو مسافة الصعود و النزول إلى السماء السابعة، فانها مقداره مسيرة خمسين ألف سنة.

و يؤيّده ما عن الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السّلام و قد ذكر النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: اسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى مسيرة شهر، و عرج به في ملكوت السّماوات مسيرة خمسين ألف عام أقلّ من ثلث ليلة انتهى إلى ساق العرش هذاو قد يجمع بينهما بأنّ الايتين المتقدّمتين محمولتان على مدة يوم القيامة و الاية الأخيرة اريد بها بيان مدّة الدّنيا، يعني أنّ أوّل نزول الملائكة في الدّنيا و أمره و نهيه و قضائه بين الخلايق إلى آخر عروجهم إلى السّماء و هو يوم القيامة خمسون ألف سنة، فيكون مقدار الدّنيا هذه المدّة لا يدرى كم مضى و كم بقى و إنّما يعلمها اللّه سبحانه.

فان قلت: هذان الوجهان و إن كان يرفع بها التنافي بين الايات إلّا أنّه على البناء على الوجه الأول لا يبقى في الايتين دلالة على كون مقدار يوم الاخرة ألف سنة كما هو المقصود، و على الثاني فدلالتهما مسلمة لكنه ينافي ما ذكرتم فى الاية الثالثة من أنّ المراد بها بيان مدّة الدّنيا ما رواه فى الكافى عن الصّادق عليه السّلام إنّ للقيامة خمسين موقفا كلّ موقف مقام ألف سنة ثمّ تلا «تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ» فانّ هذه الرواية كما ترى تدلّ على أنّ مقدار القيامة خمسون ألفا، و أنّ الاية ناظرة إلى ذلك.

قلت: يمكن الجواب عنه بما أجاب به الطبرسىّ حيث قال بعد ما روى عن ابن عباس كون مقدار يوم القيامة ألف سنة، فأمّا قوله في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، فانه أراد سبحانه على الكافر جعل اللّه ذلك اليوم عليه مقدار خمسين ألف سنة، فانّ المقامات في يوم القيامة مختلفة، انتهى.

يريد أنّه يطول ذلك اليوم في نظر الكافر هذه المدّة لشدّة عذابه، و أمّا في حقّ المؤمن فلا.
و يرشد إليه ما رواه الطبرسى عن أبى سعيد الخدري قال: قيل: يا رسول اللّه ما أطول هذا اليوم فقال: و الذى نفس محمّد بيده إنه ليخفّ على المؤمن حتى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يصلّيها في الدّنيا.
و هذا كما يقال فى المثل: أيّام السرور قصار و أيّام الهموم طوال، و يقال أيضا سنة الفراق سنة و سنة الوصال سنة، قال الشاعر:

يطول اليوم لا ألقاك فيه
و حول نلتقى فيه قصير

هذا ما يستنبط من الأدلّة في هذا المقام و العلم عند اللّه و عند حججه الكرام عليهم الصّلاة و السّلام، هذا.
و بعد البناء على أنّ مقدار يوم من أيام الاخرة ألف سنة من أيّام الدّنيا يكون مدّة عبادة إبليس في السّماء إذا كانت ستّة آلاف سنة من سنّى الاخرة هو ألفا ألف ألف و مأئة ألف ألف و ستّون ألف ألف سنة من سنى الدّنيا، و لما رأى أمير المؤمنين عليه السّلام عدم تحمّل أذهان أكثر السّامعين لذلك أبهم القول عليهم، و قال: لا يدرى أمن سنى الدّنيا أم سنى الاخرة.

(عن كبر ساعة واحدة) أى أحبط عمله الذي بلغ ما بلغ لأجل كبر ساعة واحدة (فمن ذا الذي بعد ابليس يسلم على اللّه بمثل معصيته) استفهام إنكارىّ إبطالي، أى من الّذي يبقى بعد ابليس سالما من عذابه و سخطه سبحانه و قد جاء بمثل معصيته و اتّصف بصفته.

(كلّا) حرف ردع أتى بها تأكيدا لما استفيد من الجملة السّالفة و تنبيها على أنّ زعم السّلامة من العذاب للمتكبر فاسد و مدّعيه كاذب إذ (ما كان اللّه سبحانه ليدخل الجنّة بشرا) مصاحبا و متلبسا (بأمر) ذي ذنب (أخرج به) أى بسبب ذلك الذنب (منها ملكا) و كيف يتوهّم ذلك و الحال أنّ البشر لو قيس عمله إلى عمله و جهده و إن استقصى إلى جهده لم يكن إلّا نسبة القطر إلى البحر.

و التعبير عن ابليس بالملك لكونه في السّماء و طول مخالطته بالملائكة لما قدّمنا في شرح الفصل الحادى عشر من المختار الأوّل من الأدلّة على أنه كان من الجنّ دون الملائكة.
و لما كان هنا مظنة أن يعترض معترض و يقول: إنا لا نسلم استلزام إخراج الملك لعدم إدخال البشر إذ يمكن أن يكون إخراجه مستندا إلى كمال قربه فانّ أدنى ذنب من المقرّبين يقع في موقع عظيم و أمّا البشر فلعدم قربه ذلك القرب لا يؤثر ذنبه ذلك التأثير فيجوز دخوله في الجنّة و إن أذنب مثل ذنب الملك و أيضافمن الجايز أن يكون تحريمه للتكبّر مخصوصا بأهل السّماء فقط أجاب«» عليه السّلام عن ذلك الاعتراض على طريق الاستيناف البياني بقوله: (ان حكمه في أهل السّماء و الأرض لواحد و ما بين اللّه و بين أحد من خلقه هوادة في إباحة حمى حرمه على العالمين).

و محصّل الجواب أنّ حكمه في أهل السّماء و الأرض واحد لا اختلاف فيه و المطلوب من الجمع أن يكونوا داخرين في رقّ العبوديّة و يعرفوا ربّهم بالعظمة و الربوبيّة، و قد جعل الكبرياء رداءه و العظمة إزاره و اختارهما لنفسه و جعلهما حمى و حرما على غيره و حرّم على جميع العالمين من أهل السّماء و الأرضين أن يحوموا حوم ذلك الحمى و ينازعوه فيهما كما عرفته في أوّل شرح هذا الفصل مفصّلا.

و على ذلك فلا يبقى احتمال إباحة لأحد في دخول ذلك الحمى، و لا تجويز أن يكون بينه و بينه هوادة و محابة و رخصة في تلبّس لباس العزّ و الكبرياء، فمن انتحل شيئا منهما سواء كان من أهل الأرض أو من أهل السّماء صار محروما من الجنان و منازل الأبرار، مستحقا للنيران و مهاوى الفجار و لبئس مثوى المتكبّرين و مهوى المستكبرين

الترجمة

از جمله خطب شريفه آن بزرگوار است كه معروف است بخطبه قاصعه از جهت اين كه متضمّن تحقير شيطان ملعون است.
سيّد رضي «ره» گفته كه اين خطبه متضمّن است مذمّت ابليس را بر سركشى و تكبّر او و ترك كردن او سجده نمودن جناب آدم عليه السّلام را و اين را كه او أوّل كسى است كه اظهار سركشى نمود و متابعت غيرت و حميت كرد، و متضمن است ترساندن مردمان را از رفتن راه او.

و شرح آن در ضمن چند فصل است فصل أوّل مى ‏فرمايد: حمد و ثنا معبود بحقى را سزاست كه پوشيده لباس عزّت و بزرگوارى راو اختيار فرموده اين دو وصف را براى ذات خود نه از براى خلق خود، و گردانيده آن دو صفت را قوروق و حرام بر غير خود، و برگزيده اين هر دو را براى جلال خود، و گردانيده لعنت را بر كسى كه منازعت نمايد با او در آن دو وصف از بندگان خود، پس از آن امتحان فرموده با اين ملائكه مقرّبين خود را تا اين كه تميز بدهد متواضعان ايشان را از متكبّران، پس فرمود خداوند سبحانه و حال آنكه عالم است به پنهانى‏هاى قلبها و پوشيده‏هاى غيبها- بدرستى كه من آفريننده‏ام بشرى را از گل پس زمانى كه تمام نمودم خلقت او را و دميدم در او روحى را كه پسنديده من است پس بر رو در افتيد از براى إكرام او در حالتى كه سجده كنندگان باشيد، پس سجده كردند ملائكه همه ايشان بهيئت اجتماع مگر ابليس- ملعون كه عارض شد او را حميّت و عصبيّت، پس فخر كرد بر آدم بسبب خلقت خود، و متعصّب شد بر او از جهت أصل خود كه آتش بود.

پس دشمن خدا امام متعصّبين است و پيشرو متكبّرين كه نهاد بنياد عصبيّت را و نزاع كرد در رداء كبرياء و عظمت، و پوشيد لباس عزّت را، و بر كند لباس ذلّت را.
آيا نمى‏بينيد چگونه تصغير و تحقير نمود او را خداى تعالى بسبب تكبّر او، و پست كرد او را بجهت بلند پروازى او، پس گردانيد در دنيا او را رانده شده از رحمت، و مهيا فرمود از براى او در آخرت آتش بر افروخته را، و اگر مى‏خواست خداى تعالى كه خلق نمايد جناب آدم عليه السّلام را از نورى كه بربايد ديدها را روشنى آن، و غلبه نمايد بر عقلها نضارت زيبائى آن، و از عطرى كه بگيرد نفسها را بوى خوش آن، هر آينه مى ‏نمود.

و اگر مى‏نمود خلقت آن را باين قرار هر آينه مى‏ گرديد از براى آن گردنها خضوع كننده، و هر آينه سبك مى‏شد امتحان در خصوص آن بر ملائكه، و لكن حق سبحانه و تعالى امتحان مى ‏فرمايد مخلوقات خود را ببعض چيزها كه جاهل باشند بأصل آن از جهت تميز دادن ايشان بسبب امتحان، و از جهت سلب نمودن گردن كشى رااز ايشان، و از جهت دور گردانيدن تكبّر و تجبّر را از ايشان.

پس عبرت بگيريد با آنچه كه شد از كار خدا در حق ابليس زمانى كه باطل نمود عمل دراز او را وجد و جهد بى اندازه او را و حال آنكه عبادت كرده بود خدا را در ظرف شش هزار سال معلوم نبود كه آيا آن سالها از سالهاى دنيا بود يا از سالهاى آخرت از جهت كبر يك ساعت.

پس كيست بعد از ابليس كه سلامت بماند از عذاب پروردگار كه اقدام نموده باشد بمثل معصيت ابليس، همچنين نيست، نيست خدا كه داخل نمايد در بهشت آدمى را بامرى كه خارج نمود بسبب آن أمر از بهشت ملكى را، بدرستى كه حكم خداوند در حق أهل آسمان و زمين يكى است، و نيست ميان خدا و ميان هيچ أحدى از خلق أو رخصت و محبّت در مباح ساختن قوروقي را كه حرام گردانيده آن را بر جميع عالميان.

الفصل الثاني

فاحذروا عباد اللّه عدوّ اللّه أن يعديكم بدائه، و أن يستفزّكم بخيله و رجله، فلعمري لقد فوّق لكم سهم الوعيد، و أغرق لكم بالنّزع الشّديد، و رماكم من مكان قريب- و قال ربّ بما أغويتني لازيّننّ لهم في الأرض و لاغوينّهم أجمعين- قذفا بغيب بعيد، و رجما بظنّ مصيب، صدّقه به أبناء الحميّة، و إخوان العصبيّة، و فرسان الكبر و الجاهليّة، حتّى إذا نقادت له الجامحة منكم، و استحكمت الطّماعية منه فيكم، فنجمت الحال من السّرّ الخفيّ إلى الأمر الجليّ، استفحل-سلطانه عليكم، و دلف بجنوده نحوكم، فأقحموكم و لجأت الذّلّ، و أحلّوكم و رطات القتل، و أوطاوكم أثخان الجراحة، طعنا في عيونكم و حزّا في حلوقكم، و دقّا لمناخركم، و قصدا لمقاتلكم، و سوقا بخزائم القهر إلى النّار المعدّة لكم، فأصبح أعظم في دينكم جرحا، و أورى في دنياكم قدحا، من الّذين أصبحتم لهم مناصبين، و عليهم متألّبين. فاجعلوا عليه حدّكم، و له جدّكم، فلعمر اللّه لقد فخر على أصلكم، و وقع في حسبكم، و دفع في نسبكم، و أجلب بخيله عليكم و قصد برجله سبيلكم، يقتنصونكم بكلّ مكان، و يضربون منكم كلّ بنان، لا تمتنعون بحيلة، و لا تدفعون بعزيمة، في حومة ذلّ، و حلقة ضيق، و عرصة صوت، و جولة بلاء. فاطفئوا ما كمن في قلوبكم من نيران العصبيّة، و أحقاد الجاهليّة فإنّما تلك الحميّة تكون في المسلم من خطرات الشّيطان و نخواته و نزغاته و نفثاته، و اعتمدوا وضع التّذلّل على رؤسكم، و إلقاء التّعزّز تحت أقدامكم، و خلع التّكبّر من أعناقكم، و اتّخذوا التّواضع مسلحة بينكم و بين عدوّكم إبليس و جنوده، فإنّ له من كلّ أمّة جنودا و أعوانا، و رجلا و فرسانا.

و لا تكونوا كالمتكبّر على ابن أمّه من غير ما فضل جعله اللّه فيه سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسد، و قدحت الحميّة في قلبه من نار الغضب، و نفخ الشّيطان في أنفه من ريح الكبر الّذي أعقبه اللّه به النّدامة، و ألزمه آثام القاتلين إلى يوم القيمة.

اللغة

(أعداه) الداء أصابه مثل ما بصاحب الداء و في كلام العرب إنّ الجرب ليعدي أى يجاوز من صاحبه إلى من قاربه، و العدوى و زان جدوى ما يعدى من جرب و غيره و (الرجل) بفتح الراء و سكون الجيم اسم جمع لراجل مثل ركب راكب و (فوق) السهم و زان قفل موضع الوتر و الجمع أفواق و فوّقت السّهم تفويقا جعلت له فوقا و إذا وضعت السّهم في الوتر لترمى به قلت أفقته إفاقة و رجمته رجما من باب نصر ضربته بالرجم و هو الحجارة و (جمح) الفرس اعتزّ راكبه و غلبه و (طمع) فيه طمعا و طماعا و طماعيّة حرص عليه و (نجم) الشي‏ء نجوما طلع و ظهر و (دلف) دلفا و دلفانا مشى مشى المقيّد و فوق الدّبيب، و دلفت الناقة بحملها نهضت به.

و (الولجة) محرّكة كهف يستتر فيه المارّة من مطر و غيره و (أوطأه) فرسه إذا حمله عليه فوطئه و أوطأوهم جعلوهم يوطئون قهرا و (أثخن) في القتل اثخانا أى أكثر منه و بالغ و أثخنته أوهنته بالجراحة و أضعفته قال سبحانه حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ» أى غلبتموهم و كثر فيهم الجراح و (الخزائم) جمع خزامة و هى حلقة من شعر تجعل في وترة أنف البعير فيشدّ فيها الزّمام و (ورى) الزند يرى و ريا من باب وعد خرجت ناره، و في لغة ورى يرى بالكسر فيهما، و أورى بالألف أخرج ناره و (القدح) بالفتح إخراج النار من الزّند يقال قدح بالزند رام الايراد به و قدح فيه طعن و (الحومة) معظم الماء و الحرب و غيرهما و (النزغ) الافساد و (المسلحة) بفتح الميم قال في‏النهاية القوم الذين يحفظون الثغر من العدوّ يكونون ذوى سلاح، أو لأنّهم يسكنون المسلحة و هي كالثغر و المرقب يرقبون العدوّ لئلّا يطرقهم على غفلة انتهى، و فى القاموس: المسلحة بالفتح الثغر و القوم ذو و سلاح.

الاعراب

قوله: أن يعديكم في محلّ النصب بدل من عدوّ اللّه، و الباء في قوله: بدائة للتعدية و في قوله: بما أغويتنى، للقسم، و ما مصدريّة، و جوابه لازيننّ، و قيل: إنها سببيّة و على التقديرين فمفعول ازيننّ محذوف أى ازيننّ لهم المعاصى، و قذفا و رجما منتصبان على الحال، و هما مصدران بمعنى الفاعل، و الباء في قوله: صدقه به، بمعنى في، و جملة صدقه في محلّ الجرّ صفة ظنّ، و روى صدقه أبناء الحميّة بدون لفظ به، و استفحل جواب حتّى إذا.

و اثخان الجراحة بالنصب مفعول أوّل لأوطئوكم كما في قولك: أعطيت درهما زيدا، أى جعلوا اثخان الجراحة واطئا لهم، لا أنه جعلهم واطئين له على أنّه مفعول ثان كما توهّمه الشارح المعتزلي، أو أنه منصوب بنزع الخافض أى جعلوهم موطوئين باثخان«» الجراحة قهرا و غلبة، و على التقديرين فقوله: طعنا و حزا و دقا كلّها منصوب على الابدال من اثخان، و قصدا و سوقا منصوبان على المصدر، و العامل محذوف، و يجوز انتصاب المنصوبات الخمسة جميعا على المصدر.

و في بعض النسخ أوطأوكم لاثخان الجراحة، باللّام على المفعول له، و على هذا فالمنصوبات الثلاثة الاول يحتمل كونها مفاعيل أوطأوا، أى أوطأوكم الطعن أى جعلوا الطعن واطئا لكم لأجل اثخان جراحتكم، و يحتمل انتصابها على المصدر كما مرّ، و الباء في قوله: بخزائم، للالة و الاستعانة لا للمصاحبة كما توهّم، و أورى بصيغة التفضيل عطف على أعظم، و جرحا و قدحا منتصبان على التميز، و جملة يقتنصون حال من رجله أو خيله‏و قوله: فى حومة بلاء، قال الشارح المعتزلي: حال من مفعول يقتنصون.

أقول: و يجوز كونه ظرف لغو متعلّق بيضربون أو بيقتنصون بدلا من قوله: بكلّ مكان، و أن يكون حالا من فاعل تمتنعون، و هو أنسب و أولى، و ما في قوله عليه السّلام من غير ما فضل، زائدة للتأكيد.

المعنى

اعلم أنّه عليه السّلام لما أمر فى الفصل السابق بالاعتبار بحال إبليس و بما فعل اللّه به من الطرد و الابعاد و الاحباط لعمله، اتبعه بهذا الفصل و أمر فيه بالتحذّر عن متابعته، و بيّن فيه شدّة عداوته و حثّ على ملازمة التواضع و التذلّل فقال (فاحذروا عباد اللّه) من (عدوّ اللّه) إبليس (أن يعديكم بدائه) أى أن يجعل داءه مسريا إليكم فتكونوا متكبّرين مثله (و أن يستفزّكم) أى يستخفّكم (بخيله و رجله) قال تعالى «وَ اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ».

قال الطبرسي: الاستفزاز الازعاج و الاستنهاض على خفّة و اسراع، و أصله القطع فمعنى استفزّه استزلّه بقطعه عن الصّواب أى استزلّ من استطعت منهم و أضلّهم بدعائك و وسوستك، من قولهم صوت فلان إذا دعاه، و هذا تهديد في صورة الأمر و قيل: بصوتك، أى بالغنا و المزامير و الملاهي، و قيل كلّ صوت يدعى به إلى الفساد فهو من صوت الشيطان.

و أجلب عليهم بخيلك«» و رجلك الاجلاب السوق بجلبة و هى شدّة الصوت أى أجمع عليهم ما قدرت عليه من مكايدك و أتباعك و ذرّيتك و أعوانك، فالباء مزيدة و كلّ راكب أو ماش في معصية اللّه من الانس و الجنّ فهو من خيل إبليس و رجله و قيل: هو من أجلب القوم و جلبوا، أى صاحوا أى صح بخيلك و رجلك فاحشرهم عليهم بالاغواء، انتهى.

(فلعمري لقد فوق لكم سهم الوعيد) قال المحدّث العلّامة المجلسي «ره» أى وضع فوق سهمه على الوتر، و الظاهر أنّه جعل فوق بمعنى أفوق، و إلّا فقد عرفت في بيان اللّغة أنّ معنى فوقت السّهم جعلت له فوقا، و على إبقاء التفويق على معناه الأصلي يكون كناية عن التهيّؤ و الاستعداد.

(و أغرق إليكم بالنزع الشديد) أى استوفي مدّ القوس و بالغ في نزعها ليكون مرماه أبعد و وقع سهامه أشدّ.
(و رماكم من مكان قريب) لأنّه يجرى من ابن آدم مجرى الدّم في العروق كما ورد في الحديث النبويّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كنّى عليه السّلام به عن أنّ سهامه لا تخطى (و قال) ما حكاه عنه عزّ و جلّ في سورة الحجر (ربّ بما اغويتني لازيّننّ لهم في الأرض و لاغوينّهم أجمعين) إلّا عبادك منهم المخلصين، أى أقسم باغوائك إيّاى لازيّننّ لهم المعاصي في الدّنيا التي هي دار الغرور، فالمراد بالأرض هي الدّنيا كما في قوله تعالى «وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ» و على كون الباء للسببيّة فالمعنى بسبب إغوائك إيّاى أفعل بهم ذلك.

فان قلت: ظاهر الاغواء هو الاضلال فكيف جاز نسبته إلى اللّه قلت: على إبقائه على ظاهره فلا بدّ من حمله على أنّ ابليس كان جبرىّ المذهب.
و أدلّة العدليّة بوجوه: أحدها أنّ المراد به التخيّب أى بما خيّبتني من رحمتك لاخيبنّهم بالدّعاء إلى معصيتك.
و ثانيها أنّ معناه بما أضللتني من طريق جنّتك لاضلنّهم بالدّعاء إلى معصيتك و ثالثها أنّ معناه بتكليفك إيّاى بالسجود لادم الذى وقعت به في الغىّ لاضلنّهم أجمعين إلّا عبادك الذين أخلصوا العبادة للّه و انتهوا عمّا نهوا عنه.
و قوله (قذفا بغيب بعيد) أى قال إبليس ذلك رميا بأمر غايب متوهّم على بعد خفيت اماراته و شواهده أى رميا بأمر بعيد المرمى غايب عن النظر.

قال الشارح المعتزلي: و العرب تقول للشي‏ء المتوهّم على بعد: هذا قذف‏بغيب بعيد، و القذف في الأصل رمى الحجر و أشباهه و بالغيب الأمر الغايب و هذه اللفظة من الألفاظ القرآنيّة قال تعالى في كفّار قريش «وَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ» أى يقولون هذا سحر أو هذا من تعليم أهل الكتاب أو هذه كهانة و غير ذلك مما كانوا يرمونه.

قال الطبرسيّ في تفسير هذه الاية: أى يرجمون بالظنّ فيقولون لا جنّة و لا نار و لا بعث، و هذا أبعد ما يكون من الظنّ و قيل معناه: يرمون محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالظنون من غير يقين، و ذلك قولهم هو ساحر و هو شاعر و هو مجنون، و جعله قذفا لخروجه في غير حقّ، و قيل: معناه و يبعدون أمر الاخرة فيقولون لأتباعهم: هيهات هيهات لما توعدون، و ذلك كالشي‏ء يرمى في موضع بعيد المرمي.

(و رجما بظنّ مصيب) يعني أنّ قوله: لاغوينّهم أجمعين كان رجما بظنّ قد أصاب فيه و طابق الواقع كما يشهد به قوله سبحانه وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ قال أمين الاسلام الطبرسيّ: المعنى أنّ إبليس كان قال: لاغوينّهم و لاضلنّهم و ما كان ذلك عن علم و تحقيق و إنما قاله ظنا فلما تابعه أهل الزيغ و الشرك صدّق ظنّه و حقّقه.

و في بعض النّسخ و رجما بظنّ غير مصيب قال الشارح المعتزلي: و هذه الرّواية أشهر.
أقول: و وجّه بوجوه أحسنها و أصوبها وجهان أحدهما أنّ قوله: لاغوينّهم بمعنى الشرك أو الكفر و الذين استثناهم بقوله إلّا عبادك اه المعصومون من المعاصي، و معلوم أنّ هذا الظنّ غير مصيب لأنّه ما أغوى كلّ البشر غير المخلصين الغواية التي هي الشرك و الكفر و إنما أغوى بعضهم به و بعضهم بالفسق فقط، فيكون ظنّه أنه قادر على إضلال البشر كلّهم بالكفر ظنّا غير مصيب.

و ثانيهما أنّ إبليس لما ظنّ أنه متمكّن من إجبارهم على الغىّ و الضّلال، فقال:لاغوينّهم، مريدا به الاغواء بالجبر و سلب الاختيار حكم عليه السّلام بخطائه.
و يوضح ذلك ما ذكره الطبرسي في قوله «وَ ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ» أى و لم يكن لابليس عليهم من سلطنة و لا ولاية يتمكن بها من اجبارهم على الغىّ و الضلال، و انما كان يمكنه الوسوسة فقط كما قال «وَ قالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَ».
فان قلت: قوله «وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ» يدلّ على أنّه لم يكن مراده بقوله: لاغوينّهم، الاجبار و أنّه لم يكن ظانا بالقدرة على إجبارهم.

قلت: قوله لاغوينّهم، إنما قاله في بدء خلقته بتوهّم التمكّن من إجبارهم، و قوله: و ما كان لي عليكم من سلطان إنما يقوله يوم القيامة كما يشهد به سابق الاية، قال سبحانه وَ قالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ.
فمحصّل الجواب أنّه لا منافاة بين كونه في أوّل الأمر ظانا بالتمكن من الاجبار، و بين معرفته في آخر الأمر بعدم تمكنّه منه و بكونه خاطئا في ظنّه.

و قوله (صدّقه به أبناء الحمية و اخوان العصبيّة و فرسان الكبر و الجاهلية) تأكيد لقوله رجما بظنّ مصيب يعني أنّ إبليس ظنّ أنه يغويهم و كان هؤلاء قد غووا و ضلّوا بالحميّة و الجاهلية و التعصّب و التكبّر، فكان ضلالهم ذلك تصديقا فعليّا منهم لابليس في ظنّه و فى قوله: لاغوينّهم، و موجبا لاصابة ظنّه.

و على الرواية المشهورة أعني رجما بظنّ غير مصيب، فيكون هذه الجملة في معرض الاستدراك، يعني أنّه قال ما قال لا على وجه العلم بل على سبيل الظنّ و الحسبان و المصيب للحقّ هو العلم دون التوهّم أو الظنّ، لكن اتّفق وقوعهما لتصديق أبناء الحميّة فيه و وقوع الغواية منهم.
و على هذا فالأولى أن يجعل جملة صدّقه اه استينافا بيانيا لا صفة لظنّ‏فافهم جيّدا.
(حتّى إذا انقادت له) الطايفة (الجامحة) منكم و هم الذين تقدّم ذكرهم أى أبناء الحميّة و العصبيّة و الكبر و وصفهم بالجموح لخروجهم و تمرّدهم عن انقياد ربّهم المالك لهم و لكلّ شي‏ء (و استحكمت الطماعية) أى الطمع (منه فيكم) بسبب مزيد انقيادكم له و اسراعكم إلى إجابة دعوته (فنجمت) أى ظهرت (الحال من السّر الخفى إلى الأمر الجلى) أى خرج ما بالقوّة إلى الفعل و إذ شاع آثار إغوائه (استفحل سلطانه عليكم) أى قوى و اشتدّ و صار فحلا (و دلف بجنوده نحوكم) أى نهض بهم إليكم (فأقحموكم و لجأت الذلّ) أى ادخلوكم من غير رويّة غير ان الذّلة (و أحلّوكم ورطات القتل) أى أنزلوكم في مهالك القتل و الهلاكة (و أوطأوكم اثخان الجراحة) أى جعلوا اثخان الجراحة واطئا لكم، و قد مرّ تفصيل معناه في بيان الاعراب و المراد به كثرة وقع جراحات جنود ابليس فيهم و كونهم مقهورين مغلوبين منكوبين بوقوع الجراحات.

و فصّل كثرتها بقوله (طعنا في عيونكم و حزّا) أى قطعا (في حلوقكم و دقا لمناخركم) و هو كناية عن صدماتهم و احاطتها بالأعضاء جميعها، فيكون ذكر العيون و الحلوق و المناخر من باب التمثيل و المراد بها ما يصيبهم من الصدمات و الجراحات من أبناء نوعهم بسبب القتل و القتال، و لما كان منشاها جميعا هو إغواء إبليس و جنوده نسبها إليهم، و لا يخفى ما في نسبة الطعن إلى العيون و الحزّ إلى الحلوق و الدقّ إلى المناخر من حسن الخطابة و صناعة البلاغة.

(و قصدا لمقاتلكم) أى قصدوا قصدا لمحالّ قتلكم تحريصا على القتل (و سوقا بخزائم القهر إلى النار المعدّة لكم) أى ساقوكم سوقا إلى النّار المهيّاة لكم بالخزائم القاهرة لكم على السياق، أو أنهم ساقوكم إليها بها بالقهر و الغلبة.
و التعبير بالخزائم دون الازمة تشبيها لهم بالناقة الّتي تقاد بالخزامة لا الخيل المقاد بالزمام، لأنّ الناقة إذا ما تقاد بالخزامة تكون أشدّ انقيادا و أطوع لقائدها من الخيل الّذى يقاد بالزّمام.

و للاشارة إلى هذه النكتة أتى بلفظ القهر و استعار لفظ الخزائم للمعاصي و السيّئات و شهوات النفس الأمّارة المؤدّية إلى النّار، و المراد أنّ إبليس و جنوده زيّنوا الشهوات و السيّئات في نظرهم فرغبوا فيها و ركبوها فكان ذلك سببا لتقحمهم في النار و سخط الجبار.
(فأصبح أعظم في دينكم جرحا و أورى في دنياكم قدحا) أى صار أكثر إخراجا للنار من حيث إخراجه لها أو من حيث الطعن في دنياكم و الثاني أظهر.
أما جرحه في الدّنيا «في الدين ظ فمعلوم لأنّ جميع الصّدمات و المضارّ الدينية من الجرائم و الاثام من إغواء هذا الملعون.

و أمّا الايراء و قدحه في الدّنيا فلا لها به نار الفتنة و الفساد و نايرة الحسد و البغضاء و العناد بين الناس الموجب للقتل و القتال و تلف الأنفس و الأموال و نحوها فجميع المضارّ الدينية و أغلب المضار الدنيويّة عند أهل النظر و الاعتبار من ثمرات هذه الشجرة الملعونة.

فلذلك كان جرحه و قدحه أعظم و أشدّ (من الذين أصبحتم لهم مناصبين و عليهم متألّبين) أى من أعدائكم الذين نصبتم لهم العداوة و بالغتم فى عداوتهم، و تجمّعتم أى اجتمعتم من ههنا و ههنا على قتلهم و قتالهم و استيصالهم دفعا لشرّهم عنكم.

و لما نبّه عليه السّلام على أنّه عدّو مبين و أعظم المعاندين و أنّ ضرره عايد إلى الدّنيا و الدّين أمرهم بصرف عزيمتهم و همّتهم إلى عداوته فقال: (فاجعلوا عليه حدّكم) أى حدّتكم و سورتكم و بأسكم و سطوتكم (و له جدّكم) أى سبلكم و جهدكم، ثمّ أقسم بالقسم البار تهييجا و إلهابا و تثبيتا لهم على العداوة له فقال: (فلعمر اللّه لقد فخر على أصلكم) أى على أبيكم آدم خيث امتنع من السجود له و قال «قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ» (و وقع فى حسبكم و دفع في نسبكم) أى عاب حسبكم و حقّر نسبكم و هو الطين حيث قال وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا. لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً قالَ أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي‏كَرَّمْتَ (و أجلب بخيله عليكم و قصد برجله سبيلكم) أى صاح بفرسانه فاحشرهم عليكم بالاغواء و قصد مع راجليه سبيلكم ليزيغوكم عن الجادّة الوسطى.

(يقتنصونكم بكلّ مكان) أى يتصيّدونكم و يجعلون ربق الذّلّ في أعناقكم (و يضربون منكم كلّ بنان) أى يضربون أطراف أصابعكم و يستقصون فى أذاكم و استيصالكم (لا تمتنعون) من ضربهم (بحيلة و لا تدفعون) ضرّهم (بعزيمة) و الحال انكم (فى حومة ذلّ و حلقة ضيق و عرصة موت و جولة بلاء) شرح لحالهم فى الدّنيا، أى أنتم فى معظم ذلّ و دائرة ضيق، لأنّ دار الدّنيا لا اتّساع فيها و معرض موت و مجال بلاء لا منجى منه.

فاذا كان شأن أبليس في عداوتكم هذا الشأن من الفخر على الأصل و الوقع فى الحسب و الدفع في النسب و الاجلاب بالخيل و القصد بالرجل و غير ذلك من الامور المتقدّمة الدالة على كونه مجدّا في العداوة.
(ف) خدوا منه حذركم و تحرّزوا من مصائده و (اطفئوا ما كمن) و استتر (في قلوبكم من نيران العصبية) و الحميّة (و أحقاد الجاهليّة فانما تلك الحميّة) و النخوة (تكون في المسلم من خطرات الشيطان و نخواته و نزغاته و نفثاته) أى وساوسه المحرّكة للفساد يعني ما استتر في قلوبكم من التعصّب و التكبّر و الحقد و الحسد نار محرقة لكم في الدّنيا و الاخرة فاطفئوها و اجتهدوا في إطفائها بماء التذلّل و التواضع و الاصلاح، لأنّ منشأها جميعا هو الشيطان اللعين الّذي هو عدوّكم المبين، فانّه يوسوس في صدوركم و يوقع في اخاطركم النّخوة و الحميّة و العصبيّة و ينزغ أى يفسد بينكم و بين اخوتكم المؤمنين و ينفث أى ينفخ في قلوبكم و في دماغكم ريح النخوة و الغرور و الاستكبار.
فان قلت: لم قال تلك الحميّة تكون في المسلم من خطرات الشيطان مع أنّ الحميّة في الكافر أيضا من خطراته فأىّ نكتة في الاتيان بهذا القيد قلت: لما أمر المخاطبين باطفاء نيران العصبيّة و الاستكبار معلّلا بأنها من وساوس ابليس و خطراته أتى بهذا القيد من باب الالهاب لأنّ المسلم بما له من داعيةالاسلام أسرع قبولا للموعظة و أحقّ بالانتصاح و الارتداع و التجنّب من سلوك مسالك الشيطان، فكأنه قال: إن كنتم مسلمين فاتّقوا من متابعته و توقوا من اقتفاء آثاره كما تقول: إن كنت مؤمنا فلا تظلمني، قال تعالى حكاية عن مريم (ع) «قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا» (و اعتمدوا) اى اقصدوا (وضع) تيجان (التذلّل) الّذى جعلتموها تحت أقدامكم (على رؤوسكم و) تعمّدوا (القاء) قلانس (التعزّز) الّتي جعلتموها على رؤوسكم (تحت أقدامكم) و لا يخفى على أهل الصّناعة لطافة هذه العبارة و شرافتها و عظم خطرها للّه درّ قائلها.

(و) اعتمدوا (خلع) أطواق (التكبّر من أعناقكم و اتّخذوا) التذلّل و (التّواضع مسلحة و ثغرا بينكم و بين عدوّكم إبليس و جنوده).
و لما أمرهم باتخاذ المسلحة علّله بقوله (فانّ له من كلّ امّة) من الجنّ و الانس (جنودا و أعوانا و رجلا و فرسانا) تنبيها على كثرة جنوده و أعوانه المقتضية للجدّ في اتّخاذها توقّيا من طروقهم و اغتيالهم على غفلة هذا، و قد مضى بيان فضل التواضع و الأخبار الواردة فيه في شرح المختار المأة و السابع و الأربعين.

ثمّ ذكّرهم بقصة ابن آدم عليه السّلام لكونها في مقام التذكرة و الاعتبار أقوى تحذيرا و تنفيرا من التعزّز و الاستكبار فقال: (و لا تكونوا كالمتكبّر على ابن امّه) أى لا تكونوا مثل قابيل الّذى تكبّر على أخيه هابيل.
و إنما قال ابن امّه مع كونهما من أب و أمّ لأنّ الأخوين من أمّ أشدّ حنوا و محبة و تعاطفا من الأخوين من الأب لأنّ الأمّ هي ذات الحضانة و التربية، و لذلك قال هارون لأخيه موسى عليهما السّلام مع كونه أخاه لأبيه و أمّه: ابن امّ إنّ القوم استضعفوني، فذكر الامّ لكونه أبلغ في الاستعطاف، فمقصوده عليه السّلام أنّ قابيل مع كون هابيل ابن امّه المقتضي للعطوفة و المحبة تسلّط عليه الشيطان فأنساه محبّة الاخوة فتكبّر عليه و قتله بوسوسته إليه، فكونوا من ابليس و عداوته في حذر و لا تكونوا مثل قابيل‏الّذى لم يتوقّ منه بل اتّبعه و تكبّر.

(من غير ما فضل جعله اللّه فيه سوى) بمنزلة استثناء منقطع أى غير (ما الحقت العظمة) و الكبرياء (بنفسه من عداوة) نشأت من (الحسد و قدحت) أى اخرجت (الحميّة) و التعصّب (في قلبه من نار) انقدت من (الغضب و نفخ الشيطان في أنفه من ريح الكبر) المؤدّى إلى قتل أخيه (الّذى أعقبه اللّه به الندامة) لا ندم التوبة بل ندم الحيرة أو شفقة على موت أخيه لا على ارتكاب الذنب (و ألزمه آثام القاتلين إلى يوم القيامة) لأنّ من سنّ سنّة سيّئة كان له مثل و زمن عمل بها كما أنّ من سنّ سنّة حسنة كان له مثل أجر من عمل بها، فهو لما كان أوّل من سنّ القتل فلا يقتل مقتول إلى يوم القيامة إلّا كان له فيه شركة، هذا.

و قد تقدّم في شرح الفصل الرابع عشر من المختار الأوّل كيفيّة قتل قابيل هابيل اجمالا، و لنورد هنا باقتضاء المقام بعض ما لم يتقدّم ذكره هناك من الايات و الأخبار الواردة في هذا الباب.
فأقول: قال اللّه عزّ و جلّ في سورة المائدة: وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ«» وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ. بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا. قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما. يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ. الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ. إِنِّي أَخافُ. اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ. بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَ ذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ روى عليّ بن ابراهيم عن أبيه عن الحسن بن محبوب عن هشام بن سالم عن أبي حمزة الثمالي عن ثوير بن أبى فاخته قال: سمعت عليّ بن الحسين عليهما السّلام يحدّث رجلا من قريش: لما قرّب ابنا آدم قرّب أحدهما أسمن كبش كان في ضانه‏و قرّب الاخر ضغثا من سنبل فتقبّل من صاحب الكبش و هو هابيل و لم يتقبّل من الاخر و هو قابيل فغضب قابيل فقال لهابيل: و اللّه لأقتلنّك، فقال هابيل وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ. آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ. مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ. إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما. أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ. لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ فلم يدر كيف يقتله حتّى جاء إبليس لعنه اللّه فعلّمه فقال ضع رأسه بين حجرين ثمّ اشدخه فلما قتله لم يدر ما يصنع به، فجاء غرابان فأقبلا متضاربان حتى اقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ثم حفر الذى بقي الأرض بمخالبه و دفن فيه صاحبه، قال قابيل فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى‏ أَ فحفر له حفيرة و دفن فيها فصارت سنّة يدفنون الموتى.

فرجع إلى أبيه فلم ير معه هابيل فقال له آدم: أين تركت ابني قال له قابيل: ارسلتنى عليه راعيا فقال آدم عليه السّلام، انطلق معى إلى مكان القربان، و أحسّ قلب آدم عليه السّلام بالذى فعل قابيل: فلما بلغ مكان القربان استبان قتله فلعن آدم عليه السّلام الأرض التي قبلت دم هابيل، و أمر آدم أن يلعن قابيل و نودى قابيل من السّماء لعنت كما قتلت أخاك، و لذلك لا تشرب الأرض الدّم فانصرف آدم عليه السّلام فبكى على هابيل أربعين يوما و ليلة.
فلما جزع عليه شكى ذلك إلى اللّه فأوحى اللّه إليه انّى واهب لك ذكرا يكون خلفا من هابيل فولدت حوّا غلاما زكيّا مباركا، فلما كان اليوم السابع أوحى اللّه إليه يا آدم إنّ هذا الغلام هبة منّى لك فسمّه هبة اللّه، فسمّاه آدم هبة اللّه.
و روى القميّ عن أبيه، عن عثمان بن عيسى، عن أبي أيّوب، عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: كنت جالسا معه في المسجد الحرام فاذا طاوس «أى طاوس اليماني» في جانب الحرم يحدّث حتى قال: أ تدرى أىّ يوم قتل نصف الناس فأجابه أبو جعفر عليه السّلام فقال أو ربع الناس يا طاوس، فقال: أو ربع النّاس، فقال: أ تدرى ما صنع بالقاتل فقلت: إنّ هذه المسألة.

فلما كان من الغد غدوت على أبى جعفر عليه السّلام فوجدته قد لبس ثيابه و هو قاعدعلى الباب ينتظر الغلام أن يسرج له، فاستقبلنى «فاستعجلني خ» بالحديث قبل أن أسأله فقال: إنّ بالهند أو من وراء الهند رجل معقول برجل واحدة يلبس المسح موكل به عشرة نفر كلما مات رجل منهم أخرج أهل القرية بدلا فالناس يموتون و العشرة لا ينقصون يستقبلون بوجهه الشمس حين تطلع يديرونه معها حتى تغيب ثمّ يصبّون عليه في البرد الماء البارد و في الحرّ الماء الحارّ.

قال: فمرّ عليه رجل من الناس فقال له: من أنت يا عبد اللّه فرفع رأسه و نظر إليه ثم قال: إما أن تكون أحمق الناس و اما أن تكون أعقل الناس، إنى لقائم ههنا منذ قامت الدنيا ما سألني أحد من أنت غيرك، ثمّ قال عليه السّلام: يزعمون أنه ابن آدم.

و في الصافى من الاحتجاج قال طاوس اليماني لأبي جعفر عليه السّلام: هل تعلم أىّ يوم مات ثلث الناس فقال عليه السّلام: يا عبد اللّه لم يمت ثلث الناس قط إنما أردت ربع الناس قال: و كيف ذلك قال: كان آدم و حوّا و قابيل و هابيل فقتل قابيل هابيل فذلك ربع الناس، قال: صدقت.
قال أبو جعفر عليه السّلام هل تدرى ما صنع بقابيل قال: لا، قال: علّق بالشمس ينضح بالماء الحارّ إلى أن تقوم الساعة و روى القمّي باسناده عن جابر، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: جاء رجل النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا رسول اللّه رأيت أمرا عظيما، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و ما رأيت قال: كان لي مريض و نعت له ماء من بئر بالأحقاف يستشفى به في برهوت، قال: فانتهيت و معى قربة و قدح لاخذ من مائها و أصب في القربة، و إذا بشي‏ء قد هبط من جوّ السّماء كهيئة السّلسلة و هو يقول: يا هذا الساعة أموت، فرفعت رأسى و رفعت إليه القدح لاسقيه فاذا رجل في عنقه سلسلة، فلما ذهبت انا و له القدح اجتذب حتّى علق بالشمس، ثمّ أقبلت على الماء أغرف إذ أقبل الثانية و هو يقول العطش العطش اسقنى يا هذا السّاعة أموت، فرفعت القدح لاسقيه فاجتذب منّى حتّى علق بالشمس حتّى فعل ذلك ثالثة و شددت قربتى و لم أسقه.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذاك قابيل بن آدم عليه السّلام قتل أخاه و هو قول اللّه عزّ و جلّ وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ‏ءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَ ما هُوَ بِبالِغِهِ وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ.
و في البحار من تفسير العياشى عن جابر، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إنّ قابيل ابن آدم عليه السّلام معلّق بقرونه في عين الشمس تدور به حيث دارت في زمهريرها و حميمها إلى يوم القيامة، فاذا كان يوم القيامة صيّره اللّه إلى النّار.

و فيه من الخصال عن رجل من أصحاب أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سمعته يقول: إنّ أشدّ الناس عذابا يوم القيامة لسبعة نفر: أوّلهم ابن آدم الذى قتل أخاه، و نمرود الذى حاجّ إبراهيم في ربّه، و اثنان في بني اسرائيل هوّدا قومهم و نصّراهم، و فرعون الذى قال: أنا ربّكم الأعلى، و اثنان من هذه الامّة.
قال العلّامة المجلسىّ «ره» الاثنان من هذه الامّة أبو بكر و عمر.

و فيه من علل الشرائع عن حماد بن عثمان، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: كانت الوحوش و الطير و السّباع و كلّ شي‏ء خلق اللّه عزّ و جلّ مختلطا بعضه ببعض، فلما قتل ابن آدم أخاه نفرت و فزعت فذهب كلّ شي‏ء إلى شكله.

الترجمة

فصل دويم از اين خطبه در تحذير مردمان است از متابعت شيطان و بيان شدّت عداوت آن ملعون است با انسان و تحريص خلق است بتواضع و فروتنى مى ‏فرمايد پس حذر كنيد اى بندگان خدا از دشمن خدا از اين كه سرايت گرداند بشما درد بى‏ درمان خود را، و از اين كه بلغزاند شما را از راه راست با سواران و پيادگان خود، پس قسم بزندگانى خودم هر آينه مهيا نمود از براى شما تير وعيد را، و بر كشيد براى شما كمان را با كشيدن سخت، و انداخت بسوى شما از مكان نزديك و گفت آن ملعون- أى پروردگار من بسبب مأيوس نمودن تو مرا از رحمت خود هر آينه البته زينت مى‏ دهم از براى ايشان معاصى را در دنيا و هر آينه البته بضلالت‏ مى ‏اندازم همه ايشان را مگر بندگان خالص تو را- در حالتى كه اندازنده بود بامر غايب از حواس كه دور بود، و در حالتى كه رجم كننده بود بگمان و ظن ناصواب.

تصديق نمود او را بان ظنّ پسران حميّت، و برادران عصبيّت، و سواران تكبّر و جاهليّت تا آنكه زمانى كه گردن نهاد براى او سركشان شما، و مستحكم شد طمع او در شما، پس ظاهر شد حال و حالت از سرّ نهان بسوى امر روشن نمايان قوت يافت سلطنت او بر شما، و سرعت نمود با لشكر خود بسوى شما.

پس انداختند شما را در غارهاى ذلت و نازل نمودند شما را در گودالهاى كشتن، و پامال كردند شما را با شدّت جراحت با نيزه زدن در چشمهاى شما، و با بريدن در گلوهاى شما، و با كوفتن سوراخهاى دماغ شما، و قصد كردند قصد كردنى محلهاى كشتن شما را، و راندند راندنى شما را بحلقه‏هاى بينى مهار با قهر و غلبه بسوى آتشيكه مهيا شده بود از براى شما.

پس گرديد آن ملعون بزرگتر در دين شما از حيثيّت جراحت زدن در دنياى شما بيرون آرنده‏تر آتش از حيثيّت خارج كردن آتش از آن كسان كه گرديديد شما از براى ايشان آشكارا عداوت كننده، و بر ايشان جمعيّت فراهم آورنده، پس بگردانيد بر ضرر او حدّت و تيزى خود را، و از براى دفع او جدّ و جهد خود را.

پس قسم ببقاى پروردگار فخر كرد شيطان بر أصل شما كه خاك است، و طعن كرد در حسب شما، و ايراد نمود در نسب شما، و كشيد سواران خود را بر شما، و قصد كرد با مصاحبت پيادگان خود راه شما را در حالتى كه شكار كنند شما را در هر مكان، و مى‏زنند از شما همه اطراف انگشتان را، امتناع نمى‏توانيد بكنيد با هيچ حيله، دفع نمى‏توانيد شرّ ايشان را با هيچ عزيمتى در حالتى كه شما در معظم مذلت و خوارى هستيد، و در حلقه تنگى و تنگنائى و در عرصه موت و فنا و در گردش بلا مى‏باشيد پس خاموش كنيد آنچه كه پنهان است در قلبهاى شما از آتش سوزان تعصّب و كينهاى زمان جاهليّت، و جز اين نيست كه اين حميّت جاهليّت ميباشد در مردمسلمان از وسوسهاى شيطان و نخوتهاى او، و از فسادهاى او، و از دميدنهاى او و قصد نمائيد نهادن تواضع را بر سرهاى خودتان، و انداختن تكبّر را بزير قدمهاى خودتان، و كندن گردن كشى را از گردنهاى خود، و اخذ نمائيد فروتنى را سنگر در ميان خود و ميان دشمن خود كه ابليس و لشكر او است، پس بدرستى كه مر او راست از هر گروهى لشكريان و اعوان و پيادگان و سواران.

و مباشيد مثل قابيل تكبّر كننده بر پسر مادر خود كه هابيل بود بدون فضل و مزيّتى كه گردانيده باشد خدا او را و غير از اين كه لاحق نمود عظمت و تكبّر بنفس او از عداوتى كه ناشى بود از حسد، و آتش زد حميّت و عصبيّت در قلب او از آتش غضب، و دميد شيطان در دماغ او از باد كبر و نخوت چنان كبرى كه در پى در آورد او را خداى تعالى بسبب آن كبر ندامت و پشيمانى را، و لازم گردانيد بر او مثل گناهان جميع قاتلين و كشندگان را تا روز قيامت.

الفصل الثالث

ألا و قد أمعنتم في البغي، و أفسدتم في الأرض، مصارحة للّه بالمناصبة، و مبارزة للمؤمنين بالمحاربة، فاللّه اللّه في كبر الحميّة، و فخر الجاهليّة، فإنّه ملاقح الشّنان، و منافخ الشّيطان الّلاتي خدع بها الامم الماضية، و القرون الخالية، حتّى أعنقوا في حنادس جهالته، و مهاوي ضلالته، ذللا عن سياقه، سلسا في قياده، أمرا تشابهت القلوب فيه، و تتابعت القرون عليه، و كبرا تضايقت الصّدور به. ألا فالحذر الحذر عن طاعة ساداتكم و كبرائكم الّذين تكبّرواعن حسبهم، و ترفّعوا فوق نسبهم، و ألقوا الهجينة على ربّهم، و جاحدوا اللّه ما صنع بهم، مكابرة لقضائه، و مغالبة لالائه، فإنّهم قواعد أساس العصبيّة، و دعائم أركان الفتنة، و سيوف اعتزاء الجاهليّة. فاتّقوا اللّه و لا تكونوا لنعمه عليكم أضدادا، و لا لفضله عندكم حسّادا، و لا تطيعوا الأدعياء الّذين شربتم بصفوكم كدرهم، و خلطتم بصحّتكم مرضهم، و أدخلتم في حقّكم باطلهم، فهم أساس الفسوق، و أحلاس العقوق، اتّخذهم إبليس مطايا ضلال، و جندا بهم يصول على النّاس، و تراجمة ينطق على ألسنتهم استراقا لعقولكم، و دخولا في عيونكم، و نفثا في أسماعكم، فجعلكم مرمى نبله، و موطى‏ء قدمه و مأخذ يده. فاعتبروا بما أصاب الامم المستكبرين من قبلكم من بأس اللّه وصولاته و وقايعه و مثلاته، و اتّعظوا بمثاوي خدودهم، و مصارع جنوبهم، و استعيذوا باللّه من لواقح الكبر، كما تستعيذون به من طوارق الدّهر. فلو رخّص اللّه في الكبر لأحد من عباده لرخّص فيه لخاصّة أنبيائه و أوليائه، و لكنّه (لكنّ اللّه خ) سبحانه كره إليهم التّكابر، و رضي لهم التّواضع، فألصقوا بالأرض خدودهم، و غفّروا في التّراب‏وجوههم، و خفضوا أجنحتهم للمؤمنين، و كانوا قوما مستضعفين، و قد اختبر هم اللّه بالمخمصة، و ابتلاهم بالمجهدة، و امتحنهم بالمخاوف و مخضهم بالمكاره، فلا تعتبروا الرّضا و السّخط، بالمال و الولد، جهلا بمواقع الفتنة و الاختبار في مواضع الغنى و الإقتار، فقد قال تعالى: أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ. فإنّ اللّه سبحانه يختبر عباده المستكبرين في أنفسهم بأوليائه المستضعفين في أعينهم، و قد دخل موسى بن عمران و معه أخوه هارون عليهما السّلام على فرعون و عليهما مدارع الصّوف، و بأيديهما العصيّ، فشرطا له إن أسلم بقاء ملكه و دوام عزّه، فقال: ألا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العزّ و بقاء الملك و هما بما ترون من حال الفقر و الذّلّ، فهلّا ألقي عليهما أساورة من ذهب، اعظاما للذّهب و جمعه، و احتقارا للصّوف و لبسه.

اللغة

(امعن) في الأرض ذهب فيها بعيدا، و أمعن في الطلب أى جدّ و أبعد و (صارح) بما في نفسه أى أبداه و (الحميّة) الحرب و العداوة أى عاديته و أظهرت له العداوة و (لقحت) المرأة و النخلة لقحا إذا حملت و القحت، و النخلة وضعت طلع الذكورفى طلع الأناث و القح الفحل الناقة أحبلها و الملاقح بفتح الميم الفحول جمع ملقح و زان محسن يقال ألقحت الرياح الشجر إذا حملتها فهى لواقح و ملاقح كذا قال الفيروز آبادى.

(و الشنان) بفتح الأوّل و الثاني و سكونه البغض و الشنان و زان رماد لغة فيه و (المنافخ) جمع منفخ بالفتح مصدر نفخ و نفخ الشيطان نفثه و وسوسته و يقال للمتطاول إلى ما ليس له: نفخ الشيطان في أنفه و يقال: رجل ذو نفخ أى فخر و كبر و (القرون الخالية) جمع قرن و هو من القوم سيّدهم و رئيسهم و كلّ امّة هلكت فلم يبق منها احد و الوقت من الزمان و (أعنق) اعناقا أسرع و العنق ضرب من السير فسيح سريع.

و ليلة ظلماء (حندس) أى شديدة الظلمة و (المهاوى) جمع مهواة و هى الوهدة المنخفضة من الأرض يتردّى الصيد فيها، و قيل: الوهدة العميقة و تهاوى الصيد في المهواة سقط بعضه أثر بعض و (الذّلل) جمع ذلول و هو المنقاد من الابل و غيره قال تعالى: فاسلكى سبل ربّك ذللا و (الهجينة) الخصلة القبيحة، و في بعض النسخ الهجنة و زان مضغة، قال في القاموس: الهجنة بالضمّ من الكلام ما تعيبه و الهجين اللّئيم و عربىّ ولد من أمة أو من أبوه خير من أمّه و برذونة هجين غير عتيق.

و (أساس) قال الشارح المعتزلي بالمدّ جمع أساس و الموجود فيما رأيته من النسخ بصيغة المفرد و (الاعتزاء) الادّعاء و الشعار في الحرب و (الأدعياء) جمع الدّعى و هو من انتسب الى أبيه و عشيرته أو يدّعيه غير أبيه فهو فاعل من الأوّل و مفعول من الثاني قال تعالى: وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ.

(و شربتم لصفوكم) قال الشارح المعتزلي و يروى ضربتم أى مزجتم، و يروى شريتم اى ابتعتم و استبدلتم و (الاحلاس) جمع حلس بالكسر و هو كساء رقيق يكون على ظهر البعير ملازما له فقيل لكلّ ملازم أمر هو حلس له، هكذا قال الشارح المعتزلي و الجزرى و (سرق) السمع مجاز و استرق السمع استمعه مختفيا و استرق الشي‏ء و تسرّقه سرقه شيئا فشيئا.

(و نفثا في أسماعكم) و يروى نثا في أسماعكم من نثّ الحديث أفشاه و (وقعت) بالقوم وقيعة و اوقعت بهم قتلت و اثخنت و (المثاوى) جمع المثوى من ثوى بالمكان نزل فيه و (غفر) وجهه ألصقه بالعفر و هو وجه الأرض أو التراب و عفّرت بالتثقيل مبالغة و (مخض) السقاء مخضا حرّكه شديدا ليخرج زبد اللّبن الذى فيه، و يروى و محصّهم بالحاء و الصاد المهملتين من التمحيص و هو التطهير و (أقتر) لعياله اقتارا و قتر تقتيرا أى ضيق في النفقة و (المدارع) جمع مدرعة بالكسر و هى كالكساء و تدرّع الرّجل لبس المدرعة و (العصيّ) كقسيّ جمع عصا.

الاعراب

مصارحة و مبارزة منصوبان على المفعول له أو على التميز، و قوله: فاللّه اللّه بنصبهما على التحذير، و ذللا حال من فاعل اعنقوا، و عن فى قوله: عن سياقه بمعنى اللّام، و فى بعض النسخ على سياقه فعلى للاستعلاء المجازى.
و قوله: أمرا تشابهت القلوب فيه قال القطب الراوندى: أمرا منصوب لأنّه مفعول و ناصبه المصدر الّذى هو سياقه و قياده تقول سقت سياقا وقدت قيادا، و اعترض عليه الشارح المعتزلي بأنّه غير صحيح، لأنّ مفعول هذين المصدرين، محذوف تقديره عن سياقه إيّاهم و قياده إيّاهم، و قال الشارح: إنه منصوب بتقدير فعل اى اعتمدوا أمرا، و كبرا معطوف عليه أو ينصب كبرا على المصدر بأن يكون اسما واقعا موقعه كالعطاء موضع الاعطاء.
أقول: و الأظهر عندى أن يجعل أمرا منصوبا بنزع خافض متعلّق بقوله اعنقوا، أى اسرعوا إلى أمر و كبر، و على هذا التأم معنى الكلام بدون حاجة إلى التكلّف و حذف الفعل.

و عن فى قوله تكبّروا عن حسبهم إمّا بمعنى من كما فى قوله تعالى وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ أو بمعنى اللّام كما في قوله تعالى وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ فعلى الأوّل فهى بمعنى من النشوية، و على الثاني فبمعنى‏اللّام التعليلية.

و مكابرة و مغالبة منصوبان على المفعول له و العامل جاحدوا، و الباء في قوله: شربتم بصفوكم بمعني مع على رواية شربتم بالباء الموحّدة، و على رواية شريتم بالياء المثناة التحتانيّة فللمقابلة، و استراقا مفعول لأجله لقوله: ينطق أو لقوله: اتّخذهم ابليس، و الثاني أولى.

و قوله تعالى أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما الاية لفظة ما موصولة اسم إنّ و جملة نمدّهم به صلة ما لا محلّ لها من الاعراب، و جملة نسارع مرفوعة المحلّ خبر إنّ، و الرابط محذوف أى نسارع لهم به.
و الباء في قوله بما ترون بمعني في، و جملة ألا تعجبون إلى قوله من ذهب مقول قال، و إعظاما مفعول لأجله لقال، و يحتمل الانتصاب على الحال فيكون المصدر بمعني الفاعل أى قال ذلك معظما للذّهب و محتقرا للصّوف.

المعنى

اعلم أنه لما حذّر في الفصل السابق من التكبّر و رغّب في التواضع عقّبه بهذا الفصل تأكيدا لما سبق، و صدّره بتوبيخ المخاطبين على البغى و الفساد فقال: (ألا و قد أمعنتم فى البغى) أى بالغتم فى السعى بالفساد و العدول عن القصد و الخروج عن الاعتدال (و أفسدتم في الأرض) أى صرتم مفسدين فيها، و علّل امعانهم فى البغى بقوله: (مصارحة للّه بالمناصبة) أى لأجل مواجهتكم له سبحانه بالمعاداة و كشفكم عن عداوته تعالى صراحة بالترفّع و التكبّر.
روى في الكافى عن أبى جعفر عليه السّلام قال: الكبر رداء اللّه و المتكبّر ينازع اللّه فى ردائه.
و فيه عن حكيم قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن أدنى الالحاد، فقال: إنّ الكبر أدناه.

و علّل الافساد في الأرض بقوله: (و مبارزة للمؤمنين بالمحاربة) لأنّ الكبرو العظمة و الرفعة على الخلق مثير للفساد، مؤدّ إلى الحرب و الجدال، لأنّ المتكبّر لا يقدر أن يحبّ للمؤمن ما يحبّ لنفسه و لا يتمكّن من ترك الرذائل كالحقد و الحسد و التقدّم فى الطرق و المجالس و طرد الفقراء عن المجالسة و الموانسة و الغلظة في القول و عدم الرفق بذوى الحاجات و التطاول على الناس و الانف عن سماع الحقّ و قبوله، كلّ ذلك خوفا من أن يفوته عزّه، و معلوم أنّ هذه الخصال القبيحة لا محالة تكون سببا للمحاربة للمؤمنين، بل لمحاربة اللّه سبحانه كما قال في الحديث القدسى: من أهان لى وليّا فقد بارزنى بالمحاربة.

(فاللّه اللّه في كبر الحميّة و فخر الجاهليّة) أى اتّقوه عزّ و جلّ فيهما، لأنّهما من صفة الكافر لا المسلم و المؤمن قال تعالى إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ.
و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام في رواية الكافي: إذا خلق اللّه العبد في أصل الخلقة كافرا لم يمت حتى يحبّب اللّه إليه الشّر فيقرب منه، فابتلاه بالكبر و الجبريّة، فقسا قلبه، و ساء خلقه، و غلظ وجهه، و ظهر وخشه«»، و قلّ حياؤه، و كشف اللّه ستره و ركب المحارم فلم ينزع عنها، ثمّ ركب معاصى اللّه، و أبغض طاعته، و وثب على النّاس لا يشبع من الخصومات، فاسألوا اللّه العافية و اطلبوها منه.

و من ذلك ظهر حسن ما علّل التوقّى من الكبر و الفخر به و هو قوله (فانّه) أى كلّ من الكبر و الفخر (ملاقح الشنان) أى سبب توليد البغض و العداوة كما أنّ الفحول سبب توليد النتاج، و التعبير بصيغة الجمع بملاحظة تكثّر أقسام الكبر و تعدّد أنواعه باعتبار ما به التكبّر من العلم و الثروة و المال و كثرة العشيرة و حسن الصوت و الجمال و غيرها مما هو منشا الكبر و التفاخر (و منافخ الشيطان) أى نفخاته و نفثاته كما قال في الفصل السّابق: و انما تلك الحميّة تكون في المسلم من خطرات الشيطان و نفثاته، و قال أيضا: و نفخ الشيطان في أنفه من ريح الكبر.

و وصف المنافخ بأنّها (اللّاتي خدع بها الامم الماضية) كقوم نوح و هود و عاد و ثمود و فرعون و نمرود و غيرهم ممّن تكبّر و كذّب الرّسل لما زيّن لهم الشيطان نخوتهم فخدعهم و أضلّهم عن السّبيل (و القرون الخالية) عطف تفسير أي الامم الهالكة و الرؤساء الخالية منهم الدّنيا، و على جعل القرن بمعنى الوقت فيحتاج إلى تقدير مضاف أى خدع بها أهل الأزمنة التي خلت منهم، و على الأوّل فالصّفة بحال متعلّق الموصوف، و على الثاني فهى بحال الموصوف نفسه.

و قوله (حتّى اعنقوا في حنادس جهالته و مهاوى ضلالته) غاية لخداع الشيطان أى انتهى خداعه للامم السابقة إلى أن أسرعوا في ظلمات جهالته التي لا يهتدون فيها، و مهاوى ضلالته الّتى يردوا فيها و لم يقدروا على الخروج منها (ذللا عن سياقه سلسا فى قياده) أى حالكونهم ذليلين لسوقه سهل الانقياد لقوده (أمرا) أى إلى أمر«» أى جبريّة و تكبّر (تشابهت القلوب فيه) أى صار قلوبهم كلّ منها شبيها بالاخر فى قبوله (و تتابعت القرون عليه) أى تتابعت على التسليم و الانقياد له (و كبرا) أى إلى كبر (تضايقت الصّدور به) و لم تسع لا خفائه و كتمانه من جهة كثرته و شدّته.

و لمّا شاهد عليه السّلام أنّ عمدة منشأ تكبّرهم و تعصّبهم هو اتّباع الرّؤساء حذّرهم عن متابعتهم بقوله (ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم و كبرائكم) و التكرير لتأكيد التحذير و أن لا يكونوا مثل الكافرين الذين يوم تقلب وجوههم فى النّار يقولون يا ليتنا أطعنا اللّه و أطعنا الرّسولا، و قالوا ربّنا إنا أطعنا سادتنا و كبرائنا فأضلّونا، السبيلا، ربّنا آتهم ضعفين من العذاب و العنهم لعنا كبيرا، أى أطعنا قادة الكفر و أئمة الضّلال.

قال الطبرسيّ: و السيّد المالك المعظم الذى يملك تدبير السواد الأعظم و هو جمع الأكثر أى أطعنا هؤلاء فأضلّونا عن سبيل الحقّ و طريق الرشاد بنا، ربّنا آتهم ضعفين من العذاب لضلالتهم في نفوسهم و إضلالهم إيّانا، و العنهم لعنا كبيرا مرّة بعداخرى و زدهم غضبا إلى غضبك و سخطا إلى سخطك.

و قال في سورة الشعراء حكاية لحال التابعين و المتبوعين و لمقالتهم فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَ الْغاوُونَ. وَ جُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ. قالُوا وَ هُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ. تَاللَّهِ إِنْ. كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ. إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ. وَ ما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ.. فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ. وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ.

و وصف الكبراء و السادات بأنهم (الذين تكبّروا عن حسبهم و ترفّعوا فوق نسبهم) قال الشارح المعتزلي: أى جهلوا أنفسهم و لم يفكروا في أصلهم من النطف المستقذرة و من الطين المنتن و نحوه.
قال الشارح البحراني: و الأظهر عندي أن يراد بتكبّرهم عن حسبهم و تجبّرهم بما يعدون في أنفسهم من الجود و السخاء و الشجاعة و نحوها من الماثر أو ما يعدون في آبائهم من المفاخر.

قال في القاموس: الحسب ما تعدّه من مفاخر آبائك أو المال أو الدّين أو الكرم أو الشرف في الفعل أو الفعال الصالح أو الشرف الثابت في الاباء و الحسب و الكرم قد يكونان لمن لا آباء له شرفاء و الشرف و المجد لا يكونان إلّا بهم.
روى في الكافي عن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آفة الحسب الافتخار و العجب.

و فيه عن عقبة الأسدي قال: قلت لأبى جعفر عليه السّلام: أنا عقبة بن بشير الأسدي و أنا في الحسب الضخم من قومي «عزيز فى قومى خ»، قال: فقال: ما تمنّ علينا بحسبك إنّ اللّه رفع بالايمان من كان الناس يسمّونه وضيعا إذا كان مؤمنا، و وضع بالكفر من كان يسمّونه شريفا إذا كان كافرا، فليس لأحد فضل على أحد إلّا بالتقوى.
و المراد بترفّعهم فوق نسبهم وضعهم أنفسهم في مقام لا يليق بهم لا يقتضى نسبهم وضعها فيه، و المراد بنسبهم إما طرف الاباء خاصّة أو مع الأقرباء أيضا فيكون هذا الكلام منه عليه السّلام مبتنيا على ما كان يعرفه في هؤلاء الكبراء و السّادات من عدم الشرف و المجد في آبائهم، أو كنّى بنسبهم عن أصلهم الذي انتسابهم إليه و هو الطين و الحمأالمسنون كما قال في الدّيوان المنسوب إليه:

فان يكن لهم في أصلهم شرف
يفاخرون به فالطين و الماء

و يحتمل أن يريد به النطفة التي اختلاقهم منها و انتسابهم إليها، و على أىّ تقدير ففي هاتين الجملتين طعن على الرؤساء، و إزراء على افتخارهم و تكبّرهم بالحسب و النسب روى في الكافي عن أبي حمزة الثمالي قال قال لي عليّ بن الحسين عليهما السّلام: عجبا للمتكبّر الفخور الذي كان بالأمس نطفة ثمّ غدا هو جيفة.

و فيه عن السّكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: أتا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رجل فقال يا رسول اللّه أنا فلان بن فلان حتّى عدّ تسعة، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أما أنك عاشرهم في النار.
و فى كتاب الروضة من الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن عبد اللّه بن محمّد بن عيسى عن صفوان بن يحيى عن حنان قال سمعت أبي يروى عن أبي جعفر عليه السّلام قال: كان سلمان جالسا مع نفر من قريش في المسجد فأقبلوا ينتسبون و يرقون في أنسابهم حتّى بلغوا سلمان، فقال له عمر بن الخطاب: أخبرني من أنت و من أبوك و ما أصلك فقال: أنا سلمان بن عبد اللّه كنت ضالّا فهداني اللّه جلّ و عزّ بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و كنت عائلا فأغنانى اللّه بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و كنت مملوكا فأعتقني اللّه بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، هذا حسبي و نسبي.

قال: فخرج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و سلمان يكلّمه فقال له سلمان: يا رسول اللّه ما لقيت من هؤلاء جلست معهم فأخذوا ينتسبون و يرفعون في أنسابهم حتّى إذا بلغوا إلىّ قال عمر بن الخطاب: من أنت و ما أصلك و ما حسبك، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فما قلت له يا سلمان قال قلت له: أنا سلمان بن عبد اللّه كنت ضالّا فهدانى اللّه عزّ ذكره بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و كنت عائلا فأغناني اللّه بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كنت مملوكا فأعتقنى اللّه عزّ ذكره بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هذا نسبي و هذا حسبي فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا معشر قريش إنّ حسب الرّجل دينه، و مروّته خلقه، و أصله عقله، قال اللّه عزّ و جلّ «يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى‏ وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ».

ثمّ قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لسلمان: ليس لأحد من هؤلاء عليك فضل إلّا بتقوى اللّه‏عزّ و جلّ، و إن كان التقوى لك عليهم فأنت أفضل.
و قد مضت مطالب و روايات مناسبة للمقام في شرح الخطبة المأة و السابعة و الأربعين عند التعرّض لمعالجاة الكبر فتذكّر، هذا.
و قوله (و ألقوا الهجينة على ربّهم) أى نسبوا الخصلة القبيحة إلى اللّه سبحانه قال الشارح المعتزلي: أى نسبوا ما في الأنساب من القبح بزعمهم إلى ربهم مثل أن يقولوا للرجل: أنت عجميّ و نحن عرب، فانّ هذا ليس إلى الانسان بل هو إلى اللّه فأىّ ذنب له فيه.

(و جاحدوا اللّه على ما صنع بهم) أى أنكروه عزّ و جلّ على الذي أحسن به إليهم و أنعم به عليهم، و ذلك لأنّ ما منحهم اللّه عزّ ذكره به من الثروة و العزّة و المجد و الشرف و علوّ النسب و نحوها من صنايعه و عطاياه تعالى كلّها نعم عظيمة موجبة لشكر المنعم و ثنائه، و لما جعلوا ذلك سبب التنافس و التكبّر و الاعتلاء على من ليس فيه هذا السودد و الشرف و على الفقراء و الضعفاء كان ذلك منهم كفرانا للنعم و جحودا للمنعم و إنكارا له فيما أوجبه عليهم من الشكر و الثناء و الانقياد لأمره و نهيه.

و هذا معنى قوله (مكابرة لقضائه) يعني أنّ جحودهم لأجل مقابلتهم لما أمر اللّه به و فرضه عليهم من الشكر و مخالفتهم له ما للقرآن (و مغالبة لالائه) أى أنبيائه و أوصيائه الذينهم أعظم الالاء و النعماء.
و لما حذّر من طاعة السادات و الكبراء و وصفهم بأوصاف منفرة علّله بقوله (فانهم قواعد أساس العصبية) يعنى بهم قوام الكبر و العصبية و ثباته كما أنّ قوام الأساس بقواعده و استحكامه بها.

روى في الكافي باسناده عن الزهرى قال: سئل علىّ بن الحسين عليهما السّلام عن العصبية فقال: العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرّجل شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين، و ليس من العصبية أن يحبّ الرّجل قومه و لكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم.

و فيه عن علىّ بن إبراهيم عن أبيه عن النوفلى عن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من كان فى قلبه حبّة من خردل من عصبية بعثه اللّه يوم القيامة مع أعراب الجاهلية.
و بسنده عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من تعصّب عصبه اللّه بعصابة من نار.
و عن منصور بن حازم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من تعصّب أو تعصّب له فقد خلع ربق الايمان من عنقه.
(و دعائم أركان الفتنة) شبّه الفتنة ببيت ذي أركان و دعامة على سبيل الاستعارة بالكناية، و ذكر الأركان تخييل و الدعائم ترشيح، و جعلهم بمنزلة الدعائم له لأنّ قيام البيت و أركانه كما يكون بالدعامة و العماد فكذلك هؤلاء بهم ثبات الفتن و قوامها.

(و سيوف اعتزاء الجاهلية) و المراد باعتزاء الجاهلية هو نداؤهم يا لفلان يا لفلان فيسمّون قبيلتهم فيدعونهم إلى المقاتلة و إثارة الفتنة كما أشرنا إليه في شرح الفصل الأول فى سبب خطابته عليه السّلام بهذه الخطبة: و انما أضاف هذه الاعتزاء إلى الجاهلية لأنّ ذلك كان شعارا للعرب فيها كما روى في وقعة بدر أنّ أبا سفيان لما أرسل ضمضم بن عمرو الخزاعي إلى مكّة ليخبر قريش بخروج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للتعرّض بعيرهم أوصاه أن يخرم ناقته و يقطع اذنها حتى يسيل الدّم و يشقّ ثوبه من قبل و دبر فاذا دخل مكّة يولّى وجهه إلى ذنب البعير و يصيح بأعلى صوته يا آل غالب يا آل غالب اللطيمة اللطيمة العير العير ادركوا و ما ادريكم تدركون فانّ محمّدا و الصباة من أهل يثرب قد خرجوا يتعرّضون لعيركم، و لما وافى مكّة و اعتزى هذا العزاء تصايح الناس و تهيّأوا للخروج و انما جعلهم بمنزلة السيوف لاعتزاء الجاهلية لكونهم سبب قوّة للمغترّين و يستمدّ منهم فى مقام الاعتزاء و المهيج للحرب و القتال، و بهم يضرم ناره فشبّههم بالسيّف الذى هو آلة ممدّة للحرب، و به يستعان فيها.

و يجوز أن يكون من حذف المضاف أى أصحاب سيوف اعتزاء الجاهلية، قاله بعض الشارحين و ما ذكرته ألطف و أحسن.
ثمّ عاد إلى الأمر بالتقوى فقال: (فاتّقوا اللّه و لا تكونوا لنعمه أضدادا) أى لا تكونوا مضادّين لنعمه سبحانه بالبغى و الكبر الموجبين للكفران الموجب لزوال النعم و تبدّلها بالنقم كما قال تعالى فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَ بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَ أَثْلٍ. وَ شَيْ‏ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا.

(و لا لفضله عندكم حسادا) يجوز أن تكون اللّام زايدة للتقوية فالمسجود نفس الفضل أى لا تكونوا حاسدين بفضله و إحسانه الذى عندكم، و أن تكون للتعليل فالمحسود محذوف في الكلام أى لا تكونوا حاسدين لأنفسكم لأجل فضله كما تحسدون الناس على ما آتيهم اللّه من فضله.

فوجه تشبيههم بالحساد على الاحتمال الأوّل أنّ الحاسد إذا بلغ الغاية في حسده يتمنّى و يطلب موت المحسود و عدمه فكان هؤلاء بما فيهم من الكبر و الكفران بمنزلة الطالب لزوال الفضل و المتمنّى لانقطاعه فاشبهوا بالحاسد له.
و على الاحتمال الثاني أنّ الحاسد إنما يطلب زوال النعمة من المحسود، فهؤلاء لمّا تكبّروا و بغوا صاروا كأنّهم يحسدون أنفسهم و يطلبون زوال ما آتيهم اللّه من فضله منها، و على أىّ تقدير ففي الكلام من الدلالة على المبالغة ما لا يخفى.

(و لا تطيعوا الأدعياء) المنتحلين للاسلام العارين من مراسمه (الذين شربتم بصفوكم كدرهم) أى مزجتم بأصفى من امور دينكم و دنياكم بكدرهم فشربتموهما معا، و المراد بكدرهم ما يوجب تكدّر عيش المطيعين لهم في الدّنيا من الحسد و البغض و القتل و القتال و غير ذلك ممّا ينشأ من طاعة الأدعياء و إثارتهم للشّر و الفساد، و ما يوجب تكدّر الامور الدّينيّة و زوال خلوصها من البخل و الحقد و الحسد و البغضاء و نحوها من المنهيات و المعاصي الّتي يرتكبها التابعون بسبب اطاعة المتبوعين، و على رواية شريتم بالياء المثناة فالمعنى أنكم استبدلتم كدرهم بالصافي و اشتريتم الأوّل بالثاني.

(و خلطتم بصحّتكم مرضهم) أى خلطتم بصحة قلوبكم مرض قلوبهم فحذف المضاف و اقيم المضاف إليه مقامه، و المراد بصحّة القلوب سلامتها لقبول الحقّ، و بمرضها فتورها عن قبوله كما أنّ المرض في البدن هو فتور الأعضاء.
قال تعالى فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً قال الزمخشرى في الكشاف: استعمال المرض في القلب يجوز أن يكون حقيقة و مجازا فالحقيقة أن يراد الألم كما تقول في جوفه مرض، و المجاز أن يستعار لبعض أعراض القلب كسوء الاعتقاد و الغلّ و الحسد و الميل إلى المعاصى و العزم عليها و استشعار الهوى و الجبن و الضعف و غير ذلك مما هو فساد و آفة شبيهة بالمرض، كما استعيرت الصحّة و السّلامة في نقايض ذلك و المراد به ما في قلوبهم من سوء الاعتقار و الكفر أو من الغلّ و الحسد و البغضاء، لأنّ صدورهم كانت تغلى على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنين غلّا و حنقا و يبغضونهم البغضاء الّتي وصفها اللّه في قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا و يتحرّقون عليهم حسدا إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ.

(و أدخلتم في حقكم باطلهم) المراد بالحقّ هو الايمان و التعبّد بالعبادات الموظفة و المواظبة على صالح الأعمال، و بالباطل ما يقابل ذلك مما يؤدّى إلى الهلكات و يحلّ في الورطات من الكذب و النفاق و البخل و الحسد و الكبر و غيرها من الرذائل.
(و هم اساس الفسوق) أى هؤلاء الأدعياء الذين نهيتكم عن طاعتهم أصل الفسوق و عليهم ابتناؤه، و المراد بالفسوق إمّا خصوص الكذب كما في قوله تعالى فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ على ما فسّر به في غير واحد من الأخبار، و كونهم أصلا له بما فيهم من وصف النّفاق الملازم للكذب إذ المنافقون يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم، أو مطلق الخروج عن طاعة اللّه و هو الأظهر.

(و أحلاس العقوق) أى ملازمو العقوق لزوم الحلس للبعير، و المراد بالعقوق مخالفة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الإمام من بعده و ترك متابعتهم و الخروج عن طاعتهم الواجبة بقوله عزّ و جلّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ و إنما عبّر عن مخالفتهما عليهما السّلام بالعقوق لأنهما أبوا هذه الامّة.

(اتّخذهم إبليس مطايا ضلال) أى أخذهم مطايا أى مراكب تمطو أى تسرع‏في السير إلى الضلال، و إنما شبّههم بالمطايا لأنّ المطية حين تركب صارت منقادة لراكبها يسوقها حيث أراد، فهؤلاء لما اعطوا قيادهم لابليس يقصد بهم نحو الضّلال ذللا و يسوقهم إليه جعلهم مطايا له.

(و جندا بهم يصول على الناس) أى أعوانا له كما قال تعالى اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ بهم يستطيل على الناس ليصرفهم عن طاعة الرّب إلى طاعته.
(و تراجمة ينطق على ألسنتهم) و إنما جعلهم ترجمانا له لأنّ أقوالهم كأفعالهم لما كانت صادرة عن إغواء إبليس و وسوسته تابعة لرضاه كان أحكامهم أحكامه، و كلامهم كلامه، و نطقهم نطقه، فصار ما يصدر عن ألسنتهم ترجمة لقوله و صاروا بمنزلة الترجمان له.

و هذا الكلام نظير ما تقدّم منه عليه السّلام في الخطبة السابعة من قوله: اتّخذوا الشيطان لأمرهم ملاكا و اتّخذهم له أشراكا، فباض و فرخ في صدورهم و دبّ و درج في حجورهم، فنظر بأعينهم و نطق بألسنتهم اه.
و علّل نطقه على ألسنتهم بقوله (استراقا لعقولكم) أى لأجل سرقة عقولكم شيئا فشيئا و هو كناية عن إغفاله لهم بأقواله الكاذبة عن ذكر الحقّ و الاخرة و ترغيبهم إلى الباطل كما قال تعالى وَ لَأُضِلَّنَّهُمْ وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ. خَلْقَ اللَّهِ وَ مَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ فانّ وعده قد يكون بالخواطر الفاسدة، و قد يكون بلسان أوليائه كما اشير إليه في قوله مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ. الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ. مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ.

روى عن عليّ بن إبراهيم القمىّ عن الصّادق عليه السّلام في هذه الاية قال: ما من قلب إلّا و له اذنان: على إحداهما ملك مرشد و على الاخرى شيطان مغتر، هذا يأمره و هذا يزجره كذلك من النّاس شيطان يحمل النّاس على المعاصى كما يحمل الشيطان من الجنّ.

و أصرح من الايتين ايضاحا للمرام قوله سبحانه وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى‏ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَ لَوْ شاءَرَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ. وَ لِتَصْغى‏ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ لِيَرْضَوْهُ وَ لِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ.

قال الطبرسي في تفسير الكلبي عن ابن عبّاس إنّ إبليس جعل جنده فريقين فبعث فريقا منهم إلى الانس و فريقا إلى الجنّ فشياطين الجنّ و الانس أعداء الرسل و المؤمنين، فيلتقي شياطين الانس و شياطين الجنّ في كلّ حين فيقول بعضهم لبعض: أضللت صاحبي بكذا فأضلّ صاحبك بمثلها، فذلك وحى بعضهم إلى بعض.

و روى عن أبي جعفر عليه السّلام أيضا أنّه قال: إنّ الشياطين يلقي بعضهم بعضا فيلقي إليه بالغوى «ما يغوى ظ» به الخلق حتّى يتعلّم بعضهم من بعض.
قال الطبرسي: يوحى بعضهم إلى بعض أى يوسوس و يلقى خفية زخرف القول أى المموّه المزين الذى يستحسن ظاهره و لا حقيقة له و لا أصل و قوله و لتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون، أى لتميل إلى هذا الوحى بزخرف القول أو إلى هذا القول المزخرف قلوب الذين لا يؤمنون.

فقد ظهر بذلك أنّ الأدعياء الذين اتّخذهم إبليس مطايا ضلال و جنودا و تراجمة له هم عبارة عن شياطين الانس، فينطق إبليس بلسانهم بزخرف القول و تميل إليه أفئدة الناس فتسترق بذلك عقولهم و يقترفون أى يكتسبون ما هم مكتسبون من الجرائم و الاثام.
و بذلك أيضا يظهر معنى قوله (و دخولا في عيونكم) لأنّه يزيّن بتوسّط أتباعه و شياطينه من الانس المعاصى في نظر الناس، و يموّه بزخرف قوله زينة الحياة الدّنيا في أعينهم فيصرفهم عن النظر إلى آيات اللّه، و هذا معنى الدّخول في العيون.
و به ظهر أيضا معنى قوله (و نفثا في أسماعكم) لأنّه يلقى إليهم بوساطة أوليائه زخرف القول فيستمعون إلى لغو حديثه و لا يستمعون إلى آيات اللّه التي إذا تليت عليهم زادتهم ايمانا.
و قوله (فجعلكم مرمى نبله و موطا قدمه و مأخذ يده) تفريع على ما سبق‏و بمنزلة النتيجة له، يعنى أنه إذا استرق عقولكم و دخل عيونكم و نفث أسماعكم فجعلكم بذلك هدفا لسهامه أي وساوسه الموقعة في هلاك الأبد كما أنّ السّهم يهلك من يصيبه، و جعلكم محلّا لوطى أقدامه أى داخرا ذليلا مهينا إذ من شأن الموطوء بالقدم الذّلة و المهانة، و مأخذا ليده أى أسيرا في يد اقتداره نافذا حكمه فيكم متصرّفا فيكم كيف يشاء كما هو شأن الأسير المقيّد المغلول.
ثمّ أمر بالاعتبار بما أصاب المتكبّرين من العذاب الأليم و السّخط العظيم فقال: (فاعتبروا بما أصاب الامم المستكبرين من قبلكم) لأجل استكبارهم (من بأس اللّه و صولاته و وقايعه و مثلاته) أى عذابه و عقوباته كما نطق به الكتاب الكريم قال وَ فِي مُوسى‏ إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى‏ فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ. فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَ قالَ ساحِرٌ. أَوْ مَجْنُونٌ. فَأَخَذْناهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَ هُوَ مُلِيمٌ. وَ فِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ. الْعَقِيمَ. ما تَذَرُ مِنْ شَيْ‏ءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ. وَ فِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا. حَتَّى حِينٍ. فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ. فَمَا اسْتَطاعُوا. مِنْ قِيامٍ وَ ما كانُوا مُنْتَصِرِينَ. وَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ إلى غير هؤلاء من المتكبّرين المتجبّرين المتمرّدين عن عبوديّة ربّ العالمين فانظروا إلى عاقبة امورهم.

(و اتّعظوا بمثاوى خدودهم و مصارع جنوبهم) أى منازل خدودهم و مساقط جنوبهم و ما هم عليه من غمّ الضّريح و ردم الصّفيح و ضيق الأرماس و شدّة الابلاس و اختلاف الأضلاع و استكاك الأسماع و ظلمة اللّحد و خيفة الوعد.
(و استعيذوا باللّه من لواقح الكبر) أى أسبابه المولدة له و المحصّلة اياه (كما تستعيذونه من طوارق الدّهر) و هى نوازله و آفاته بل ليكن استعاذتكم من الاولى أشدّ و أقوى من استعاذتكم من الثانية، لأنّ لواقح الكبر ألم اخروىّ و طوارق الدّهر ألم دنيوىّ و الألم الاخروىّ أشدّ تأثيرا و أخزى، فيكون بالاستعاذة و التوقّى أجدر و أحرى.

ثمّ أشار إلى حميّة الكبر مطلقا و انه لا رخصة فيه لأحد من آحاد المكلّفين فقال: (فلو رخّص اللّه) عزّ و جلّ (في الكبر) و أحلّه (لأحد من عباده لرخّص فيه لخاصّة أنبيائه و أوليائه) وجه الملازمة أنّ الترخيص فيه إنما يكون مع اشتماله على المصلحة و خلوّه عن المفسدة و لو كان كذلك لرخّص فيه الأنبياء و الأولياء و من يخطرهم من فوائده و منافعه لمكانتهم لديه و قربهم إليه و إلّا لزم تفويت ما تضمّنه من المصلحة في حقّهم و هو غير معقول بما لهم من الزلفي و القرب.

(و لكن) التالى أعنى الترخيص فيه للأنبياء و الأولياء باطل فالمقدّم مثله، و أشار إلى بطلان التالي بأنّ (اللّه كرّه إليهم التكابر و رضى لهم التواضع) كما يدلّ عليه العمومات و الاطلاقات الناهية عن التكبّر من دون استثناء لأحد، و الامرة بالتواضع كذلك مضافة إلى الخطابات الخاصّة بهم في الصّحف السّماوية و الأحاديث القدسيّة.

(فألصقوا بالأرض خدودهم و عفّروا في التراب وجوههم) امتثالا لما امروا به من التواضع و التذلل للخالق.
(و خفضوا أجنحتهم و كانوا قوما مستضعفين) امتثالا لما امرو به من التواضع للخلايق قال العلّامة المجلسيّ «ره»: خفض الجناح كناية عن لين الجانب و حسن الخلق و الشفقة، و مثله الشارح البحراني قال: لفظ الأجنحة مستعار من الطائر ليد الانسان و جانبه باعتبار ما هو محلّ البطش و النفرة، و خفض الجناح كناية عن لين الجانب.
و الأحسن ما في الكشاف قال في تفسير قوله تعالى وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الطائر إذا أراد أن ينحطّ للوقوع كسر جناحه و خفضه، و إذا أراد أن ينهض للطيران رفع جناحه فجعل خفض جناحه عند الانحطاط مثلا في التواضع و لين الجانب، و منه قول بعضهم:

و أنت الشهير بخفض الجناح
فلاتك في رفعه أجدلا

ينهاه عن التكبّر بعد التواضع و أراد بقوله و كانوا قوما مستضعفين كونهم متّصفين بالضعف و المسكنة في نظر الناس و ضيق العيش في الدّنيا كما أوضحه بقوله:

(و قد اختبرهم اللّه بالمخمصة) و الجوع (و ابتلاهم بالمجهدة) و المشقة (و امتحنهم بالمخاوف) و الأهاويل (و مخضهم) أى حركهم و زلزلهم، أو خلّصهم و طهّرهم إن كان من التمحيص (بالمكاره) و الشدائد.
و لما ذكر عليه السّلام محبوبية التواضع للّه سبحانه و مكروهية التكابر له تعالى و اتّصاف أنبيائه و ملائكته المقرّبين مع مكانتهم لديه و مرضيّين عنده بوصف التواضع و التذلل و الجوع و الفقر و المسكنة فرّع عليه قوله: (فلا تعتبروا الرّضا و السخط بالمال و الولد) أى إذا عرفتم أنّ رضى اللّه عن أنبيائه و أوليائه بمالهم من الذلّ و الجهد و المشاق، فلا تجعلوا رضاه منوطا بزهرة الحياة الدّنيا من الأموال و الأولاد و سخطه منوطا بعدمها (جهلا بمواقع الفتنة) و الابتلاء (و الاختبار في مواضع الغنى) و الفقر (و الاقتار) أى لا تجعلوا المال و الولد علامة الرضا و عدمهما دليلا على السّخط من أجل جهلكم بمواقع الامتحان في مواضع الثروة و الفقر، إذ ربما يكون الابتلاء بالفقر و المسكنة لأجل النيل إلى مقام الزلفي لا من جهة السّخط كما في حقّ الأولياء المقرّبين من الأنبياء و المرسلين، و يكون الابتلاء بالمال و الثروة للاستدراج و الازدياد في المعصية لا من جهة الرضى كما يشهد به الكتاب الكريم.

(ف) قد (قال) اللّه (تعالى) في سورة المؤمنين (أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) أى أ يحسبون أنّ الذى أمددناهم به تعجيل لهم في الخير.
قال في الكشاف: المعنى أنّ هذا الامداد ليس إلّا استدراجا لهم إلى المعاصى و استجرارا إلى زيادة الاثم و هم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات و فيما لهم فيه نفع و إكرام و معاجلة بالثواب قبل وقته كما يفعل بأهل الخير من المسلمين و قوله: بل، استدراك لقوله: أ يحسبون، يعنى هم أشباه البهائم لا فطنة بهم و لا شعور حتّى تأمّلوا و يتفكّروا أ هو استدراج أو مسارعة في الخير.

فقد ظهرن ذلك أنّ الامداد بالمال و البنين و البسط في الرّزق قد يكون نقمةو بلاء لا رحمة و عطاء كما في حقّ فرعون و ملائه الكافرين المستكبرين المسبوق ذكرهم في الاية الشريفة، و يكون الضيق و الاقتار تفضّلا و إحسانا لا سخطا و حرمانا كما في حقّ الأولياء المستضعفين من عباد اللّه المكرمين.

(فانّ اللّه سبحانه يختبر عباده المستكبرين في أنفسهم بأوليائه المستضعفين في أعينهم) لا يخفي حسن ارتباط هذه الجملة بسابقتها و ليس كلاما منقطعا عما قبله يستدعى ابتداء يكون معلّلا به كما زعمه الشارح البحراني، لأنه عليه السّلام لما نبّه أنّ المال و الولد ليس مناطا للرّضا و السّخط، و لا الامداد بهما لأجل تعجيل الخير، بل لأجل الاختبار و الافتتان للغاوين المستكبرين المكذّبين للرّسل عقّبه بهذا الكلام توضيحا و تبيينا، و المراد به أنه تعالى يمتحن المستكبرين بما أعطاهم من الأموال و الأولاد و القناطير المقنطرة من الذّهب و الفضّة و الأنعام و الحرث و نحوهما من متاع الحياة الدّنيا ببعث أوليائه المستضعفين في نظرهم إليهم، و عقّبه بذكر قصّة موسى و فرعون لزيادة الايضاح فقال: (و) ل (قد دخل) كليم اللّه (موسى بن عمران و معه أخوه هارون عليهما السّلام على فرعون) اللعين بالرّسالة من ربّ العالمين (و عليهما مدارع الصّوف و بأيديهما العصى ف) دعياه إلى الايمان باللّه و التصديق به و (شرطا له إن أسلم بقاء ملكه و دوام عزّه) و إنما شرطا له ذلك لأنّ قبول الدّعوة مع هذا الشرط أسهل فهو أقطع لوزره (فقال) نحوة و استكبارا للملاء حوله (ألا تعجبون من هذين) الاتيان باسم الاشارة للتحقير كما في قوله وَ إِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا أى هذا الحقير المسترذل يعنى به إبراهيم عليه السّلام.

(يشرطان لى دوام العزّ و بقاء الملك و هما) متلبّسان (بما ترون من حال الفقر و الذّل فهلا القى عليهما أساورة من ذهب).
قال صاحب التلخيص: هلّا في الماضى للتنديم، و قال شارح التلخيص و مع هذا فلا يخلو من ضرب من التوبيخ و اللوم على ما كان يجب أن يفعله المخاطب قبل أن يطلب منه، انتهى.

و على هذا فالمراد استحقارهما و توبيخهما على الخلوّ من الزينة و التجمل، فانهم كانوا إذا سوّروا رجلا سوّروه بسوار من ذهب و طوّقوه بطوق من ذهب.
و قد ورد في الكتاب الكريم حكاية هذا المعنى عن فرعون نحو ما أورده أمير المؤمنين عليه السّلام هنا قال تعالى في سورة الزّخرف وَ نادى‏ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَ فَلا تُبْصِرُونَ. أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ. هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لا يَكادُ يُبِينُ. فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ.
أى أفلا تبصرون هذا الملك العظيم و قوّتى و ضعف موسى، بل أنا خير من هذا الذي هو ضعيف حقير و لا يكاد يفصح بكلامه و حججه للعقدة الّتي في لسانه، فلو لا القى عليه أسورة من ذهب و مقاليد الملك إن كان صادقا و إنما قال ذلك (اعظاما للذّهب و جمعه و احتقارا للصّوف و لبسه).

تذييل
ينبنى أن نورد هنا شطرا من قصّة بعث موسى عليه السّلام إلى فرعون اللّعين.
قال المحدّث العلّامة المجلسى قدّس اللّه روحه في المجلّد الخامس من البحار: قال الثعلبي: قال العلماء بأخبار الماضين: لما كلّم اللّه موسى و بعثه إلى مصر خرج و لا علم له بالطريق، و كان اللّه تعالى يهديه و يدلّه و ليس معه زاد و لا سلاح و لا حمولة و لا شي‏ء غير عصاه و مدرعة صوف و قلنسوة من صوف و نعلين، يظلّ صائما و يبيت قائما و يستعين بالصيد و يعول الأرض حتى ورد مصر، و لما قرب من مصر أوحى اللّه إلى أخيه هارون يبشّروه بقدوم موسى عليه السّلام و يخبره أنّه قد جعله لموسى وزيرا و رسولا معه إلى فرعون، و أمره أن يمرّ يوم السّبت لغرّة ذى الحجة متنكرا إلى شاطى النيل ليلقى في تلك الساعة بموسى قال: فخرج هارون و أقبل موسى عليه السّلام فالتقيا علي شط النيل قبل طلوع الشمس فاتفق أنه كان يوم ورود الأسد الماء، و كان لفرعون أسد تحرسه في غيضة محيطةبالمدينة من حولها، و كانت ترد الماء غبّا، و كان فرعون إذ ذاك في مدينة حصينة عليها سبعون سورا في كلّ سور رساتيق و أنهار و مزارع و أرض واسعة، في ربض«» كلّ سور سبعون ألف مقاتل.

و من وراء تلك المدينة غيضة تولى فرعون غرسها بنفسه و عمل فيها و سقاها بالنيل ثمّ أسكنها الأسد، فنسلت و توالدت حتى كثرت، ثمّ اتخذها جندا من جنوده تحرسه، و جعل خلال تلك الغيضة طرقا تقضى من يسلكها إلى باب من أبواب المدينة معلومة ليس لتلك الأبواب طريق غيرها فمن أخطأ وقع في الغيضة فأكلته الأسد، و كانت الاسود إذا وردت النيل ظلّ عليها يومها كلّها، ثمّ تصدر مع اللّيل.

فالتقى موسى و هارون عليهما السّلام يوم ورودها فلما أبصرتهما الأسد مدّت أعناقها و رؤوسها إليهما و شخصت أبصارها نحوهما و قذف اللّه في قلوبها الرّعب فانطلقت نحو الغيضة منهزمة هاربة على وجوهها تطأ بعضها بعضا حتى اندست في الغيضة، و كان له ساسة يسوسونها و ذادة يذودونها و يشلونها«» بالناس، فلما أصابها ما أصابها خاف ساستها فرعون و لم يشعروا من أين أتوا.

فانطلق موسى و هارون عليهما السّلام في تلك المسبعة حتى وصلا إلى باب المدينة الأعظم الذى هو أقرب أبوابها إلى منزل فرعون، و كان منه يدخل و منه يخرج، و ذلك ليلة الاثنين بعد هلال ذى الحجة بيوم، فأقاما عليه سبعة أيام فكلّمهما واحد من الحراس و زبرهما و قال لهما: هل تدريان لمن هذا الباب فقال: إنّ هذا الباب و الأرض كلّها و ما فيها لربّ العالمين و أهلها عبيد له، فسمع ذلك الرّجل قولا لم يسمع مثله قط و لم يظنّ أنّ أحدا من الناس يفصح بمثله، فلما سمع ما سمع أسرع إلى كبرائه الذين فوقه فقال لهم: سمعت اليوم قولا و عاينت عجبا من رجلين هو أعظم عندى و أفظع و أشنع مما أصابنا في الأسد، و ما كانا ليقدما على ما أقدما عليه الّا بسحر عظيم، و أخبرهم القصّة، فلا يزال ذلك يتداول بينهم حتّى انتهى إلى فرعون.

و قال السّدى: سار موسى عليه السّلام بأهله نحو مصر حتى أتاها ليلا فتضيف امّه و هى لا تعرفه و إنما أتاهم في ليلة كانوا يأكلون فيها الطفيشل«» و نزل في جانب الدار، فجاء هارون فلما أبصر ضيفه سأل عنه امّه فأخبرته أنّه ضيف، فدعاه فأكل معه فلما أن قعد تحدّثا فسأله هارون فقال: من أنت قال: أنا موسى، فقام كلّ واحد منهما إلى صاحبه فاعتنقه فلما أن تعارفا قال له موسى: يا هارون انطلق معى الى فرعون فانّ اللّه عزّ و جلّ قد أرسلنا إليه، فقال هارون: سمعا و طاعة، فقامت امّهما فصاحت و قالت: انشد كما اللّه أن تذهبا إلى فرعون فيقتلكما، فأبيا و مضيا لأمر اللّه سبحانه فانطلقا إليه ليلا، فأتيا الباب و التمسا الدّخول عليه ليلا، فقرعا الباب ففزع فرعون و فزع البواب، و قال فرعون: من هذا الذى يضرب بابى الساعة فأشرف. عليهما البّواب فكلّمهما موسى: أنا رسول ربّ العالمين فأتى فرعون فأخبره و قال: إنّ هنا إنسانا مجنونا يزعم أنه رسول ربّ العالمين.

و قال محمد بن إسحاق بن يسار: خرج موسى عليه السّلام لما بعثه اللّه سبحانه حين قدم مصر على فرعون هو و أخوه هارون حتّى وقفا على باب فرعون يلتمسان الاذن عليه و هما يقولان: إنا رسول «لا» ربّ العالمين فأذنوا بنا هذا الرّجل، فمكثا سنتين يغدوان إلى بابه و يروحان لا يعلم بهما و لا يجترى أحد أن يخبره بشأنهما حتّى دخل عليه بطال له يلعب عنده و يضحكه فقال له: أيّها الملك إنّ على بابك رجلا يقول قولا عظيما عجيبا يزعم أنّ له إلها غيرك، فقال: ببابى ادخلوه، فدخل موسى و معه هارون على فرعون، فلما وقفا عنده قال فرعون لموسى: من أنت قال: أنا رسول ربّ العالمين، فتأمّله فرعون فعرفه.

فقال له: «أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَ لَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ. وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَ أَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ» معناه على ديننا هذا الّذى تعيبه قال: قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ المخطئين و لم أرد بذلك القتل- ففررت منكم لمّا خفتكم فوهب‏ لي ربّي حكما أى نبوّة وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ثمّ أقبل موسى ينكر عليه ما ذكر فقال وَ تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ أى اتّخذتهم عبيدا تنزع أبناءهم من أيديهم تسترق من شئت أى إنّما صيّرني إليك ذلك قالَ فِرْعَوْنُ وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ. قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ. قالَ- فرعون- لِمَنْ حَوْلَهُ أَ لا تَسْتَمِعُونَ» إنكارا لما قال «قال» موسى رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ. قالَ- فرعون- قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ يعني ما هذا الكلام صحيح إذ يزعم أنّ لكم إلها غيرى «قالَ- موسى- قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ ما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ. تَعْقِلُونَ» فرعون لموسى «قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ. مِنَ. الْمَسْجُونِينَ قالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْ‏ءٍ» تعرف به صدقي و كذبك و حقّي و باطلك. «قالَ- فرعون- قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ. الصَّادِقِينَ فَأَلْقى‏ عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ» فاتحة فاها قد ملأت ما بين سماطي فرعون واضعة لحييها الأسفل في الأرض و الأعلى في سور القصر حتّى رأى بعض من كان خارجا من مدينة مصر رأسها، ثمّ توجهت نحو فرعون لتأخذه فارفض عنها النّاس و زعر عنها فرعون و وثب عن سريره و أحدث حتّى قام به بطنه في يومه ذلك أربعين مرّة و كان فيما يزعمون أنه لا يسعل و لا يصدع و لا يصيبه آفة مما يصيب الناس و كان يقوم في أربعين يوما مرّة و كان اكثر ما يأكل الموز لكيلا يكون له ثقل فيحتاج إلى القيام به و كان هذه الأشياء ممّا زيّن له أن قال ما قال لأنّه ليس له من الناس شبيه.

قالوا: فلما قصدته الحيّة صاح يا موسى انشدك باللّه و حرمة الرضاع إلّا أخذتها و كففتها عنّى و إنى او من بك و ارسل معك بني اسرائيل، فأخذها موسى فعادت عصا كما كانت ثمّ نزع يده من حبيبه فأخرجها بيضاء من الثلج لها شعاع كشعاع الشمس، فقال له فرعون: هذه يدك فلما قالها فرعون أدخلها موسى جيبه ثمّ أخرجها الثانية لها نور ساطع في السماء تكلّ منها الأبصار و قد أضاءت ما حولها يدخل نورها في البيوت و يرى من الكوا من وراء الحجب، فلم يستطع فرعون النظر اليها، ثمّ ردّها موسى إلى جيبه ثمّ أخرجها فإذا هي على لونها الأوّل.

قالوا: فهمّ فرعون بتصديقه فقام اليه هامان و جلس بين يديه فقال له: بينا أنت اله تعبد إذا أنت تابع لعبد، فقال فرعون لموسى: أمهلني اليوم الى غدو أوحى اللّه تعالى إلى موسى أن قل لفرعون إنك إن آمنت باللّه وحده عمرتك في ملكك و رددت شابا طريا، فاستنظره فرعون، فلما كان من الغد دخل عليه هامان فأخبره فرعون بما وعده موسى من ربّه فقال هامان: و اللّه ما يعدل هذا عبادة هؤلاء لك يوما واحدا و نفخ في منخره ثمّ قال له هامان أنا أردك شابا، فأتا بالوسمة فخضبه بها فلما دخل عليه موسى فرآه على تلك الحالة هاله ذلك، فأوحى اللّه إليه لا يهولنك ما رأيت فانه لا يلبث الّا قليلا حتّى يعود إلى الحالة الاولى.

و في بعض الروايات أنّ موسى و هارون عليهما السّلام لما انصرفا من عند فرعون أصابهما المطر في الطريق فأتيا على عجوز من أقرباء امّهما و وجّه فرعون الطلب في أثرهما، فلما دخل عليهما اللّيل ناما في دارها و جاءت الطلب إلى الباب و العجوز منتبهة، فلمّا أحسّت بهم خافت عليهما فخرجت العصا من صبر«» الباب و العجوز تنظر، فقاتلهم حتّى قتلت منهم سبعة أنفس ثمّ عادت و دخلت الدار، فلما انتبه موسى و هارون عليهما السلام أخبرتهما بقصّة الطلب و نكاية العصا منهم فامنت بهما و صدقتهما.

ثمّ قال الثعلبي: قالت العلماء بأخبار الأنبياء: إنّ موسى و هارون وضع فرعون أمرهما و ما أتيا به من سلطان اللّه سبحانه على السحر و قال للملاء من قومه إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما فما ذا تأمرون أ أقتلهما فقال العبد الصالح خربيل مؤمن آل فرعون: «أَ تَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ- إلى قوله- يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا. و قال الملا من قوم فرعون أَرْجِهْ وَ أَخاهُ. وَ ابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ. يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ» و كانت لفرعون مدائن فيها السحرة عدّة للامر إذا حزيه.«» و قال ابن عبّاس: قال فرعون لما رأى من سلطان اللّه فى اليد و العصا: إنا لا نغالب موسى إلّا بمن هو مثله، فأخذ غلمانا من بني اسرائيل فبعث بهم إلى قرية يقال له الغرماء يعلّمونهم السحر كما يعلّمون الصبيان الكتاب في الكتاب فعلّموهم سحرا كثيرا و واعد فرعون موسى موعدا، فبعث فرعون إلى السحرة فجاء بهم و معهم معلّمهم، فقالوا له: ما ذا صنعت فقال: قد علّمتهم سحرا لا يطيقه سحر أهل الأرض إلّا أن يكون أمر من السماء فانّه لا طاقة لهم به، ثمّ بعث فرعون الشرطي في مملكته فلم يترك ساحرا في سلطانه إلّا أتى به.

و اختلفوا فى عدد السحرة الذين جمعهم فرعون.
فقال مقاتل: كانوا اثنين و سبعين ساحرا اثنان منهم من القبط و هما رأسا القوم و سبعون من بنى اسرائيل.
و قال الكلبى كانوا سبعين ساحرا غير رئيسهم و كان الّذى يعلّمهم ذلك رجلين مجوسيّين من أهل نينوى.
و قال السّدى كانوا بضعا و ثلاثين ألفا.
و قال عكرمة سبعين ألفا.
و قال محمّد بن المنكدر ثمانين ألفا.
فاختار منهم سبعة آلاف ليس منهم إلّا ساحر ماهر، ثمّ اختار منهم سبعمائة، ثمّ اختار من اولئك السبعمائة سبعين من كبرائهم و علمائهم.
قال مقاتل و كان رئيس السحرة اخوين بأقصى مداين مصر، فلما جاءهما رسول فرعون قالا لامّهما دلّينا على قبر أبينا، فدلّتهما عليه فأتياه فصاحا باسمه فأجابهما فقالا: إنّ الملك وجّه الينا أن نقدم عليه لأنه أتاه رجلان ليس معهما رجال و لا سلاح و لهما عزّ و منعة و قد ضاق الملك ذرعا من عزّهما و معهما عصا إذا ألقياها لا يقوم لها شي‏ء تبلع الحديد و الخشب و الحجر، فأجابهما أبوهما انظر إذا هما نامافان قدرتما أن تسلا العصا فسلاها، فانّ الساحر لا يعمل سحره و هو نائم، و إن عملت العصا و هما نائمان فذلك أمر ربّ العالمين و لا طاقة لكما به و لا للملك و لا لجميع أهل الدّنيا، فأتياهما في خفية و هما نائمان ليأخذا العصا فقصدتهما العصا.

قالوا: ثمّ واعدوه يوم الزينة و كانوا يوم سوق عن سعيد بن جبير، و قال ابن عباس كان يوم عاشورا و وافق ذلك يوم السّبت في أوّل يوم من السنة و هو يوم النيروز و كان يوم عيد لهم يجتمع اليه الناس من الافاق، قال عبد الرّحمن بن زيد بن اسلم و كان اجتماعهم للميقات بالاسكندرية و يقال بلع ذنب الحيّة من وراء البحيرة يومئذ.

قالوا: ثمّ قال السحرة لفرعون «وَ جاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً. إِنْ- فرعون- قالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ» عندى في المنزلة، فلما اجتمع النّاس جاء موسى عليه السّلام و هو متّكي على عصاه و معه أخوه هارون حتّى اتا الجمع و فرعون في مجلسه مع أشراف قومه فقال موسى للسحرة حين جاءهم «وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَ قَدْ خابَ مَنِ افْتَرى‏» فتناجي السحرة بينهم و قال بعضهم لبعض ما هذا قول ساحر فذلك قوله تعالى فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَ أَسَرُّوا النَّجْوى‏ فقالت السحرة لنأتينّك اليوم بسحر لم تر مثله، و قالوا بعزّة فرعون إنّا لنجن الغالبون و كانوا قد جاءوا بالعصىّ و الحبال تحملها ستّون بعيرا.

فلما أبوا إلّا الاصرار على السّحر قالوا لموسى: إما أن تلقى و إما أن نكون أوّل من ألقى، قال بل ألقوا أنتم فألقوا حبالهم و عصيّهم فاذا هي حيّات كأمثال الجبال قد ملأت الوادى يركب بعضها بعضها تسعى، فذلك قوله تعالى قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَ. عِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ و قال و اللّه ان كانت لعصيّا في أيديهم و لقد عادت حيّات و ما يعدّون عصاى هذه أو كما حدث نفسه فأوحى اللّه تعالى اليه «قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ. الْأَعْلى‏ وَ أَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ».

ففرّج عن موسى و ألقى عصاه من يده فاذا هى ثعبان مبين كأعظم ما يكون أسود مدلهم على أربع قوائم غلاظ شداد و هو أعظم و أطول من البختى و له ذنب يقوم‏عليه فيشرف فوق حيطان المدينة رأسه و عنقه و كاهله لا يضرب ذنبه على شي‏ء إلّا حطمه و قصمه و يكسر بقوائمه الصخور الصمّ الصّلاب و يطحن كلّ شي‏ء و يضرم حيطان البيوت بنفسه نارا، و له عينان تلتهبان نارا و منخران تنفخان سموما، و على مفرقه كأمثال الرّماح، و صارت الشعبتان له فيما سعته اثنا عشر ذراعا، و فيه أنياب و اضراس و له صحيح و كشيش و صرير و صريف فاستعرضت ما القى السحرة من حبالهم و عصيّهم و هي حيّات في عين فرعون و أعين الناس تسعى تلقفها و تبتلعها واحدا واحدا حتّى ما يرى في الوادى قليل و لا كثير مما ألقوا، و انهزم الناس فزعين هاربين منقلبين، فتزاحموا و تساقطوا و وطي‏ء بعضهم بعضا حتّى مات منهم يومئذ في ذلك الزحام و مواطى‏ء الأقدام خمسة و عشرون ألفا، و انهزم فرعون فيمن انهزم منخوبا«» مرعوبا عازبا عقله و قد استطلق بطنه في يومه ذلك أربعمائة مرّة ثمّ بعد ذلك إلى أربعين مرّة في اليوم و الليلة على الدوام إلى أن هلك.

فلما انهزم الناس و عاين السحرة ما عاينوا و قالوا لو كان سحرا لما غلبنا و لما خفى علينا أمره، و لئن كان سحرا فأين حبالنا و عصيّنا، فالقوا سجّدا و قالوا آمنا بربّ العالمين ربّ موسى و هرون، و كان فيهم اثنان و سبعون شيخا قد انحنت ظهورهم من الكبر و كانوا علماء السحرة و كان رئيس جماعتهم أربعة نفر سابور و عادور و حطحط و مصّفادهم الذين آمنوا و رأوا ما رأوا من سلطان اللّه ثمّ آمنت السحرة كلّهم.

فلما رأى فرعون ذلك اسف و قال لهم متجلّدا «قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَ. أَبْقى‏ قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى‏ ما. جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ. الدُّنْيا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَ ما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَ اللَّهُ خَيْرٌ وَ» فقطع ايديهم و أرجلهم من خلاف و صلبهم على جذوع النّخل و هو أوّل من فعل ذلك فأصبحوا سحرة كفرة و امسوا شهداء بررة و رجع فرعون مغلوبا معلولا،ثمّ أبى إلّا إقامة على الكفر و التمادى فيه فتابع اللّه تعالى بالايات و أخذه و قومه بالسنين إلى أن أهلكهم.

و خرج موسى عليه السّلام راجعا إلى قومه و العصا على حالها حيّة تتبعه و تبصبص حوله و تلوذ به كما يلوذ الكلب الألوف بصاحبه و الناس ينظرون إليها ينخزلون و يتضاغطون حتّى وصل موسى عليه السّلام عسكر بنى اسرائيل و أخذ برأسها فاذا هى عصاه كما كانت أوّل مرّة، و شتّت اللّه على فرعون أمره و لم يجد على موسى سبيلا، فاعتزل موسى في مدينته و لحق بقومه و عسكروا مجتمعين الى أن صاروا ظاهرين كافرين و الحمد للّه ربّ العالمين.

الترجمة

فصل سيّم از اين خطبه در توبيخ مخاطبين است ببغى و فساد مى‏فرمايد: آگاه باشيد كه بغايت مبالغه مشغول شديد و ستم و فساد كرديد در زمين از جهت آشكارا مقابل شدن خدا بعداوت و مبارزت نمودن مؤمنان بمحاربه، پس بترسيد از خدا در گردن كشى از حميّت و نازش جاهليّت، پس بدرستى كه كبر توليد كننده عداوت و دشمنيست، و مواضع نفس زدن شيطان ملعون است كه فريب داد بان امّتهاى گذشته و قرنهاى سابقه را تا اين كه سرعت كردند آن امّتها در تاريكيهاى جهالت او، و مواضع افتادن ضلالت او، در حالتى كه رام بودند از راندن آن ملعون، و روان بودند در كشيدن آن بسوى امرى كه متشابه شد قلبها در آن، و متابع شد قرنها بر آن و بسوى كبرى كه تنگ شد سينها بسبب آن.

آگاه باشيد پس البته حذر نمائيد از اطاعت آقايان خود و بزرگان خود كه تكبّر نمودند از جهت حسب خودشان، و اظهار رفعت نمودند بالاى نسب خود، و انداختند كار زشت و قبيح را بر پروردگار خود، و انكار خدا نمودند بر احسانى كه بايشان كرده بود بجهت انكار كردن بر قضاى او، و غلبگى جستن مر نعمتهاى او را.

پس بدرستى كه آن رؤساء قاعدهاى بناى عصبيّت است و ستونهاى ركنهاى‏فتنه و شمشيرهاى نسبت دادن جاهليّت.
پس پرهيز نمائيد از خدا و مباشيد مر نعمتهاى او را ضدّها و نه احسان او را كه در نزد شما است حسد كنندها، و اطاعت ننمائيد به كسانى كه ادّعاى اسلام ميكنند و عارى از شرايط اسلام مى‏باشند همچنان اشخاصى كه آشاميديد باب صافى خودتان آب گل آلود ايشان را، و آميختيد بتندرستى خود كه خلوص ايمان است ناخوشى ايشان را كه عبارتست از نفاق و عصيان، و داخل كرديد در حق خود باطل ايشان را، و ايشان بنيان فسقند و ملازمين عقوق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و امام عليه السّلام اخذ كرد شيطان لعين ايشان را شتران باركش گمراهى، و لشكرانى كه بايشان حمله ميكند بر مردمان و ترجمانهائى كه حرف مى‏زند بر زبانهاى ايشان بجهت دزديدن او عقلهاى شما را، و بجهت داخل شدن در ديدهاى شما و دميدن در گوشهاى شما، پس گردانيد شيطان شما را نشان گاه تير خود، و محلّ رفتار قدمهاى خود و موضع گرفتن دست خود.

پس عبرت بگيريد به آن چه رسيد بامتهائى كه استكبار كردند پيش از شما از سطوت خدا و حملهاى او و عذابهاى او و عقوبات او، و متّعظ بشويد بمقامهاى رخسارهاى ايشان در قبرها، و مواضع افتادن پهلوهاى ايشان، و پناه بريد بخدا از اسبابى كه توليد كبر مى‏نمايند چنانكه پناه مى‏بريد باو از حوادث روزگار.

پس اگر رخصت مى‏داد خداوند متعال در كبر نمودن از براى احدى از بندگان خود را هر آينه رخصت مى ‏داد در آن از براى خواص انبياى خود ليكن خدا مكروه گردانيد بسوى ايشان تكبّر را، و خوش داشت از براى ايشان تواضع و فروتنى را، پس چسبانيدند آن پيغمبران در زمين رخسارهاى خودشان را از غايت تواضع و خشوع، و ماليدند رويهاى خود را در خاك از فرط تذلّل و خضوع، و خفض جناح كردند از براى مؤمنان، و بودند آن پيغمبران قومهاى ضعيف شمرده شده كه امتحان فرمود ايشان را خداى تعالى بگرسنگى، و مبتلا گردانيد ايشان را بأنواع مشقّت و زحمت، و امتحان فرمود ايشان را باسباب خوف، و اختبار كرد ايشان را باقسام مكروهات.

پس اعتبار مكنيد خوشنودى و غضب خدا را بكثرت مال و فرزند و فقدان از جهت نادانى شما بمواقع امتحان در جاهاى توانگرى و درويشى، پس بتحقيق فرموده است خداى عزّ و جلّ در قرآن مجيد «آيا گمان مي كنند ايشان كه آن چيزى كه مدد مى‏دهيم و زياده مى‏گردانيم ايشان را بان از مال و اولاد تعجيل مى‏كنيم از براى ايشان در خيرات آن جهان بلكه نمى‏ دانند كه اين از بابت استدراج و مهلت است نه از جهت سود و منفعت».

پس بدرستى كه حق تعالى امتحان مى‏ فرمايد بندگان خود را كه متكبّرانند در نزد خودشان بدوستان مقرّبان خود كه ضعيف شمرده مى‏ شود در ديدهاى آن متكبّران، و بتحقيق كه داخل شد موسى بن عمران عليه السّلام در حالتى كه با او بود برادر او هارون عليه السّلام بر فرعون ملعون و بر ايشان بود خرقهاى پشمين، و بر دست ايشان بود عصاى چوبين، پس شرط كردند از براى فرعون اگر مسلمان شود باقى بودن پادشاهى او را، و هميشگى عزّت و سلطنت او را، پس گفت فرعون بقوم خود از روى حقارت: آيا تعجّب نمى‏كنيد از اين دو شخص كه شرط ميكنند از براى من دوام رفعت و بقاء ملك و مملكت را و حال آنكه ايشان بان حالى است كه مى‏بينيد از حالت فقر و ذلت، پس چرا انداخته نشد بر ايشان دست برنجها از طلا، اين گفتار فرعون از جهت بزرگ شمردن طلا و جمع كردن آن بود، و بجهت حقير شمردن پشم و پوشيدن آن كه موسى و هارون پوشيده بودند.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 190 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 191 صبحی صالح

191- و من خطبة له ( عليه ‏السلام ) يحمد اللّه و يثني على نبيه و يوصي بالزهد و التقوى‏

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْفَاشِي فِي الْخَلْقِ حَمْدُهُ وَ الْغَالِبِ جُنْدُهُ وَ الْمُتَعَالِي جَدُّهُ
أَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ التُّؤَامِ وَ آلَائِهِ الْعِظَامِ الَّذِي عَظُمَ حِلْمُهُ فَعَفَا وَ عَدَلَ فِي كُلِّ مَا قَضَى وَ عَلِمَ مَا يَمْضِي وَ مَا مَضَى
مُبْتَدِعِ الْخَلَائِقِ بِعِلْمِهِ وَ مُنْشِئِهِمْ بِحُكْمِهِ بِلَا اقْتِدَاءٍ وَ لَا تَعْلِيمٍ وَ لَا احْتِذَاءٍ لِمِثَالِ صَانِعٍ حَكِيمٍ وَ لَا إِصَابَةِ خَطَإٍ وَ لَا حَضْرَةِ مَلَإٍ

الرسول الأعظم‏

وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ ابْتَعَثَهُ وَ النَّاسُ يَضْرِبُونَ فِي غَمْرَةٍ وَ يَمُوجُونَ فِي حَيْرَةٍ قَدْ قَادَتْهُمْ أَزِمَّةُ الْحَيْنِ وَ اسْتَغْلَقَتْ عَلَى أَفْئِدَتِهِمْ أَقْفَالُ الرَّيْنِ

الوصية بالزهد و التقوى‏

عِبَادَ اللَّهِ أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّهَا حَقُّ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ الْمُوجِبَةُ عَلَى اللَّهِ حَقَّكُمْ وَ أَنْ تَسْتَعِينُوا عَلَيْهَا بِاللَّهِ وَ تَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى اللَّهِ
فَإِنَّ التَّقْوَى فِي الْيَوْمِ الْحِرْزُ وَ الْجُنَّةُ وَ فِي غَدٍ الطَّرِيقُ إِلَى الْجَنَّةِ مَسْلَكُهَا وَاضِحٌ وَ سَالِكُهَا رَابِحٌ وَ مُسْتَوْدَعُهَا حَافِظٌ
لَمْ تَبْرَحْ عَارِضَةً نَفْسَهَا عَلَى الْأُمَمِ الْمَاضِينَ مِنْكُمْ وَ الْغَابِرِينَ لِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا غَداً إِذَا أَعَادَ اللَّهُ مَا أَبْدَى وَ أَخَذَ مَا أَعْطَى وَ سَأَلَ عَمَّا أَسْدَى
فَمَا أَقَلَّ مَنْ قَبِلَهَا وَ حَمَلَهَا حَقَّ حَمْلِهَا أُولَئِكَ الْأَقَلُّونَ عَدَداً وَ هُمْ أَهْلُ صِفَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِذْ يَقُولُ وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ
فَأَهْطِعُوا بِأَسْمَاعِكُمْ إِلَيْهَا وَ أَلِظُّوا بِجِدِّكُمْ عَلَيْهَا وَ اعْتَاضُوهَا مِنْ كُلِّ سَلَفٍ خَلَفاً وَ مِنْ كُلِّ مُخَالِفٍ مُوَافِقاً
أَيْقِظُوا بِهَا نَوْمَكُمْ وَ اقْطَعُوا بِهَا يَوْمَكُمْ وَ أَشْعِرُوهَا قُلُوبَكُمْ وَ ارْحَضُوا بِهَا ذُنُوبَكُمْ وَ دَاوُوا بِهَا الْأَسْقَامَ وَ بَادِرُوا بِهَا الْحِمَامَ وَ اعْتَبِرُوا بِمَنْ أَضَاعَهَا وَ لَا يَعْتَبِرَنَّ بِكُمْ مَنْ أَطَاعَهَا
أَلَا فَصُونُوهَا وَ تَصَوَّنُوا بِهَا وَ كُونُوا عَنِ الدُّنْيَا نُزَّاهاً وَ إِلَى الْآخِرَةِ وُلَّاهاً وَ لَا تَضَعُوا مَنْ رَفَعَتْهُ التَّقْوَى وَ لَا تَرْفَعُوا مَنْ رَفَعَتْهُ الدُّنْيَا
وَ لَا تَشِيمُوا بَارِقَهَا وَ لَا تَسْمَعُوا نَاطِقَهَا وَ لَا تُجِيبُوا نَاعِقَهَا وَ لَا تَسْتَضِيئُوا بِإِشْرَاقِهَا وَ لَا تُفْتَنُوا بِأَعْلَاقِهَا فَإِنَّ بَرْقَهَا خَالِبٌ وَ نُطْقَهَاكَاذِبٌ وَ أَمْوَالَهَا مَحْرُوبَةٌ وَ أَعْلَاقَهَا مَسْلُوبَةٌ
أَلَا وَ هِيَ الْمُتَصَدِّيَةُ الْعَنُونُ وَ الْجَامِحَةُ الْحَرُونُ وَ الْمَائِنَةُ الْخَئُونُ وَ الْجَحُودُ الْكَنُودُ وَ الْعَنُودُ الصَّدُودُ وَ الْحَيُودُ الْمَيُودُ
حَالُهَا انْتِقَالٌ وَ وَطْأَتُهَا زِلْزَالٌ وَ عِزُّهَا ذُلٌّ وَ جِدُّهَا هَزْلٌ وَ عُلْوُهَا سُفْلٌ دَارُ حَرَبٍ وَ سَلَبٍ وَ نَهْبٍ وَ عَطَبٍ
أَهْلُهَا عَلَى سَاقٍ وَ سِيَاقٍ وَ لَحَاقٍ وَ فِرَاقٍ قَدْ تَحَيَّرَتْ مَذَاهِبُهَا وَ أَعْجَزَتْ مَهَارِبُهَا وَ خَابَتْ مَطَالِبُهَا فَأَسْلَمَتْهُمُ الْمَعَاقِلُ وَ لَفَظَتْهُمُ الْمَنَازِلُ وَ أَعْيَتْهُمُ الْمَحَاوِلُ
فَمِنْ نَاجٍ مَعْقُورٍ وَ لَحْمٍ مَجْزُورٍ وَ شِلْوٍ مَذْبُوحٍ وَ دَمٍ مَسْفُوحٍ وَ عَاضٍّ عَلَى يَدَيْهِ وَ صَافِقٍ بِكَفَّيْهِ وَ مُرْتَفِقٍ بِخَدَّيْهِ وَ زَارٍ عَلَى رَأْيِهِ وَ رَاجِعٍ عَنْ عَزْمِهِ
وَ قَدْ أَدْبَرَتِ الْحِيلَةُ وَ أَقْبَلَتِ الْغِيلَةُ وَ لَاتَ حِينَ مَنَاصٍ‏
هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ قَدْ فَاتَ مَا فَاتَ وَ ذَهَبَ مَا ذَهَبَ وَ مَضَتِ الدُّنْيَا لِحَالِ بَالِهَا فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ وَ ما كانُوا مُنْظَرِينَ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج11  

و من خطبة له عليه السّلام و هى المأة و التسعون من المختار فى باب الخطب

الحمد للّه الفاشي «في الخلق خ ل» حمده، و الغالب جنده، و المتعالي جدّه، أحمده على نعمه التّوام، و آلائه العظام، الّذي عظم حلمه فعفى، و عدل في كلّ ما قضى، و علم ما «بما خ» يمضى و ما مضى، مبتدع الخلايق بعلمه، و منشئهم بحكمه، بلا اقتداء و لا تعليم، و لا احتذاء لمثال صانع حكيم، و لا إصابة خطاء، و لا حضرة ملاء، و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله، ابتعثه و النّاس يضربون في غمرة، و يموجون في حيرة، قد قادتهم أزمّة الحين، و استغلقت على أفئدتهم أقفال الرّين. أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه، فإنّها حقّ اللّه عليكم، و الموجبة على اللّه حقّكم، و أنّ تستعينوا عليها باللّه، و تستعينوا بها على اللّه، فإنّ التّقوى في اليوم الحرز و الجنّة، و في غد الطّريق إلى الجنّة، مسلكها واضح، و سالكها رابح، و مستودعها حافظ، لم تبرح عارضة نفسها على الامم الماضين و الغابرين لحاجتهم إليها غدا إذا أعاد اللّه ما أبدا،و أخذ ما أعطى، و سئل ما أسدى، فما أقلّ من قبلها، و حملها حقّ حملها أولئك الأقلّون عددا، و هم أهل صفة اللّه سبحانه إذ يقول- و قليل من عبادي الشّكور- فأهطعوا بأسماعكم إليها، و أكظّوا بجدّكم عليها، و اعتاضوها من كلّ سلف خلفا، و من كلّ مخالف موافقا، أيقظوا بها نومكم، و اقطعوا بها يومكم، و أشعروا بها قلوبكم، و أرحضوا بها ذنوبكم، و داووا بها الأسقام، و بادروا بها الحمام، و اعتبروا بمن أضاعها، و لا يعتبرنّ بكم من أطاعها، ألا و صونوها و تصوّنوا بها. و كونوا عن الدّنيا نزّاها، و إلى الاخرة ولّاها، و لا تضعوا من رفعته التّقوى، و لا ترفعوا من رفعته الدّنيا، و لا تشيموا بارقها، و لا تسمعوا ناطقها، و لا تجيبوا ناعقها، و لا تستضيئوا بإشراقها، و لا تفتنوا بأعلاقها، فإنّ برقها خالب، و نطقها كاذب، و أموالها محروبة، و أعلاقها مسلوبة، ألا و هي المتصدّية العنون، و الجامحة الحرون، و المائنة الخئون، و الجحود الكنود، و العنود الصّدود، و الحيود الميود حالها انتقال، و وطأتها زلزال، و عزّها ذلّ، و جدّها هزل، و علوها سفل، دار حرب و سلب و نهب و عطب، أهلها على ساق و سياق،و لحاق و فراق، قد تحيّرت مذاهبها، و أعجزت مهاربها، و خابت مطالبها، فأسلمتهم المعاقل، و لفظتهم المنازل، و أعيتهم المحاول، فمن ناج معقور، و لحم مجزور، و شلو مذبوح، و دم مسفوح، و عاضّ على يديه، و صافق بكفّيه «لكفّيه خ»، و مرتفق بخدّيه، و زار على رأيه، و راجع عن عزمه، و قد أدبرت الحيلة، و أقبلت الغيلة، ولات حين مناص، و هيهات هيهات قد فات ما فات، و ذهب ما ذهب، و مضت الدّنيا لحال بالها- فما بكت عليهم السّماء و الأرض و ما كانوا منظرين.

اللغة

(فشا) الخبر يفشو فشوا أى ظهر و شاع و انتشر، و أفشيته و فشت امور النّاس افترقت و فشت الماشية مرحت و (الجدّ) العظمة و هو مصدر يقال منه جدّ في عيون النّاس من باب ضرب أى عظم و الجدّ أيضا الحظّ يقال وجدت بالشي‏ء من باب تعب أى حظظت به، و قيل الجد أصله القطع، و منه الجدّ العظمة لانقطاع كلّ عظمة عنها لعلوّها عليه و منه الجدّ أبوأب الأب لانقطاعه بعلوّ أبوّته و كلّ من فوقه لهذا الولد أجداد و الجدّ الحظ لانقطاعه بعلوّ شأنه، و الجدّ خلاف الهزل لانقطاعه عن السخف و منه الجديد لأنه حديث عهد بالقطع.

و (التوام) جمع توأم و زان فوعل و هو أبو المقارن أخاه في بطن واحد و كلّ واحد من الولدين توأم و هذا توأم هذا و هذه توأمته، و الجمع توائم مثل جندل و جنادل، و يجمع أيضا على توام و زان فعال كما في هذه الخطبة.

و (استغلقنى) بيعته و استغلق علىّ بيعته أى لم يجعل لى خيارا في ردّه و (الرّين) الدنس يقال: ران على قلبه ذنبه أى دنسه و وسخه و (اهطع) في عدوه أى أسرع و أهطع البعير إذا مدّ عنقه و صوّب رأسه، و في بعض النسخ بدل فاهطعوا فانقطعوا بأسماعكم، فلا بدّ من التضمين أى انقطعوا مستمعين بأسماعكم.

و (اكظوا) أمر من الكظّ و هو الجهد يقال كظّه الأمر جهده و الكظاظ طول الملازمة و شدّة الممارسة، و في بعض النسخ: و ألظوّا من ألظّ في الأمر أى ألحّ فيه و ألظّ المطر أى دام و في بعض النسخ: و واكظوا من المواكظة و هى المداومة على الأمر و (الجدّ) في الشي‏ء بالكسر المبالغة و الاجتهاد فيه و (رحضت) الثوب رحضا من باب منع غسلته و (شام) البرق يشمه إذا نظر إليه انتظارا للمطر و (تصدّى) له تعرّض و (عنّ) الشي‏ء يعنّ من باب ضرب عنا و عننا و عنونا إذا ظهر أمامك و اعترض و (جمح) الفرس براكبه يجمح من باب منع جماحا و جموحا استعصى حتّى غلبه فهو جموح و زان رسول و جامح، و جمحت المرأة خرجت من بيتها غضبى بغير إذن بعلها.

و (حرن) الدابة حرونا من باب قعد فهى حرون و هي التّي إذا استدرّ جريها وقفت و (مان) يمين مينا كذب فهو مائن و (حادت) الناقة عن كذا أى مالت عنه فهى حيود و (مادت) أى مالت فهى ميود فان كانت عادتها ذلك سمّيت الحيود الميود و (الجدّ) في الكلام بالكسر ضدّ الهزل و (الحرب) بسكون الراء معروف و جمعه حروب و بفتحها مصدر يقال حربه حربا مثل طلبه طلبا أى سلب ماله (و سلبه) سلبا و سلبا اختلسه و (و النّهب) بسكون الهاء الغنيمة.
و (الساق) ما بين الكعب و الركبة قال سبحانه وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ و السّاق أيضا الشدّة، و منه قامت الحرب على ساق إذا اشتدّ أمرها و صعب الخلاص منها، و ربما فسّرت الاية بهذا المعنى أى التفّت آخر شدّة الدّنيا بأوّل شدّة الاخرة.

(و السّياق) مصدر من ساق الماشية سوقا و سياقة و ساق المريض سوقا و سياقا شرع في نزع الروح و (جزرت) الجزور نحرتها و (الشلو) بالكسر العضو و الجسد من كلّ شي‏ء و كلّ مسلوخ أكل منه شي‏ء و بقيت منه بقيّة و الجمع أشلاء كحبر و أحبار و (ارتفق) اتكاء على مرفق يده أو على المخدّة و (الغيلة) الشّر أو بمعنى الاغتيال و هو الخديعة و (المناص) المهرب من ناص عن قرنه ينوص نوصا إذا هرب و المناص أيضا الملجأ.

و قوله (لحال بالها) قال الشارح المعتزلي كلمة يقال فيما انقضى و فرط أمره و قيل: البال القلب و رخاء النفس أى مضت الدّنيا لما يهواه قلبها.

الاعراب

جملة و قد أدبرت الحيلة في محلّ النصب حال من فاعل راجع و قوله: و لات حين مناص، لا مشبّهة بليس و التاء زايدة و حين بالنصب خبر لا و اسمها محذوف، قال نجم الأئمة: و قد يلحق لا التاء نحو لات فيختصّ بلفظ الحين مضافا إلى نكرة، نحو لات حين مناص، و قد يدخل على لفظة أوان و لفظة هنا أيضا و قال الفراء يكون مع الأوقات كلّها و أنشد: و لات ساعة مندم.

و التاء في لات للتأنيث كما في ربّة و ثمّة قالوا: إما لتأنيث الكلمة أى لا، أو لمبالغة النفى كما في علّامة فاذا وليها حين فنصبه أكثر من رفعه و يكون اسمها محذوفا و حين خبرها أى لات الحين حين مناص و تعمل يعنى لات عمل ليس لمشابهتها له بكسع«» التاء إذ يصير على عدد حروفه ساكنة الوسط و لا يجوز أن يقال باضمار اسمها كما في نحو عبد اللّه ليس منطلقا، لأنّ الحرف لا يضمر فيه و إن شابه الفعل، و اذا رفعت حين على قلّته فهو اسم لا و الخبر محذوف أى لات حين مناص حاصلا، و لا يستعمل إلّا محذوفة أحد الجزئين.

هذا قول سيبويه و عند الأخفش أنّ لات غير عاملة و المنصوب بعدها بتقديرفعل، فمعنى لات حين مناص لا أرى حين مناص، و المرفوع بعدها مبتدأ محذوف الخبر، و فيه ضعف لأنّ وجوب حذف الفعل الناصب و خبر المبتدأ له مواضع متعينة قال نجم الأئمّة: و لا يمتنع دعوى كون لات هي لاء التبرية، و يقوّيه لزوم تنكير ما اضيف حين إليه، فاذا انتصب حين بعدها فالخبر محذوف كما في لا حول و إذا ارتفع فالاسم محذوف أى لات حين حين مناص كما في لا عليك، و نقل عن أبى عبيد أنّ التاء من تمام حين كما جاء:

العاطفون تحين ما من عاطف
و المطعمون زمان ما من مطعم‏

و قد ضعف لعدم شهرة تحين في اللّغات و اشتهار لات حين، و أيضا فانّهم يقولون لات أوان و لات هنا و لا يقال تاوان و تهنا.
و كيف كان فجملة و لات حين مناص في موضع النصب حال من فاعل اقبلت، و قوله: هيهات هيهات اسم فعل فيه معنى البعد، و فيه ضمير مرتفع عايد إلى مناص و المعنى بعد المناص جدّا حتى امتنع.
قال نجم الأئمة و كلّ ما هو من اسماء الأفعال بمعنى الخبر«» ففيه معنى التعجّب فمعنى هيهات أى ما أبعده، و شتّان أى ما أشدّ الافتراق، و سرعان و وشكان أى ما أسرعه، و بطان أى ما أبطاه.

و قال الزمخشرى في الكشاف في قوله تعالى أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُراباً وَ عِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ. هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ قرأ هيهات بالفتح و الكسر و الضمّ كلّها بتنوين و بلا تنوين و بالسّكون على لفظ الوقف.
و قال أبو عليّ و انّما كرّر هيهات في الاية و في قول جرير:

فهيهات هيهات العقيق و من به
و هيهات وصل بالعقيق فواصله‏

للتأكيد أمّا اللتان في الاية ففي كلّ واحد ضمير مرتفع يعود إلى الاخراج إذ لا يجوز خلوّه من الفاعل و التقدير: هيهات إخراجكم، لأنّ قوله: انّكم مخرجون‏بمعنى الاخراج أى بعد اخراجكم للوعد إذ كان الوعد إخراجكم بعد موتكم استبعد أعداء اللّه إخراجهم لما كانت العدة به بعد الموت، ففاعل هيهات هو الضّمير العايد إلى انكم مخرجون الّذي هو بمعنى الاخراج.
و امّا في البيت ففى هيهات الأوّل ضمير العقيق و فسّر ذلك ظهوره مع الثّاني، هذا.
و ذكر في القاموس في هيهات إحدى و خمسين لغة لا مهمّ بنا إلى ذكرها.

المعنى

اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة المشتملة على كثير من محاسن البلاغة و البديع من الانسجام و حسن السّبك و أنواع من الجناس و حسن الاسجاع و القوا في و الاشتقاق و نسبة الاشتقاق و غيرها مما يعرفها الناقد البصير مسوقة للترغيب إلى التقوى و الترهيب من الدّنيا، و قبل الشروع في المقصود ابتدأ بحمد اللّه سبحانه و ذكر جملة من نعوت جماله و صفات جلاله كما هو دأبه و ديدنه في مقام الخطابة فقال: (الحمد للّه الفاشى حمده) أى الشائع المنتشر ثناؤه في جميع مخلوقاته بعضها كالكفار بلسان الحال فقط و بعضها به و بلسان المقال أيضا.

قال تعالى في سورة الرّعد وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَ الْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ و في سورة النمل أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلى‏ ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَ هُمْ داخِرُونَ. وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَ الْمَلائِكَةُ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ و في سورة بني إسرائيل تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً و في سورة النور أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ إلى غير هذه من الايات الدالة على تسبيح كلّ شي‏ء و تقديسه و حمده للّه سبحانه.

و المراد بالتسبيح حسبما اشرنا إليه معنى منتظم لما ينطق به لسان الحال و لسان المقال بطريق عموم المجاز.
و ذهب بعض أهل العرفان إلى أنّ المراد به التسبيح بلسان المقال حيث قال: خلق اللّه الخلق ليسبّحوه فأنطقهم بالتسبيح له و الثناء عليه و السّجود له فقال أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الطَّيْرُ الاية و قال أيضا أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ الاية و خاطب بهاتين الايتين نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الذي أشهده ذلك و أراه فقال: ألم تر، و لم يقل: ألم تروا فانا ما رأيناه فهو لنا ايمان و لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عيان، فأشهده سجود كلّ شي‏ء و تواضعه للّه، و كلّ من أشهده اللّه ذلك و أراه دخل تحت هذا الخطاب، و هذا تسبيح فطرى و سجود ذاتي نشأ عن تجل تجلّى لهم فأحبوه فانبعثوا إلى الثناء عليه من غير تكليف بل اقتضاء ذاتيّ، و هذه هى العبادة الذاتيّة الّتي أقامهم اللّه فيها بحكم الاستحقاق الذي يستحقّه.

قال: و ليس هذا التسبيح بلسان الحال كما يقوله أهل النظر ممّن لا كشف له قال: و نحن زدنا مع الايمان بالاخبار الكشف، فقد سمعنا الأحجار تذكر اللّه رؤية عين بلسان تسمعه آذاننا منها، و تخاطبنا مخاطبة العارفين بجلال اللّه ممّا ليس يدركه كلّ انسان، انتهى.

و فيه ما ذكره من الدّليل لا يفي باثبات مدّعاه إذ التسبيح الذاتي و السجود الفطرى الذي ذكره ليس أمرا وراء التسبيح بلسان الحال فما معنى قوله و ليس هذا التسبيح بلسان الحال كما يقوله أهل النظر.
و بعبارة اخرى التسبيح، إما قالىّ و هو التسبيح بالنطق و اللّسان مثل قول سبحان اللّه و نحوه، و إما حاليّ و هو دلالة المخلوق على ما لا يليق بذاته تعالى من لواحق الامكان و لواحق الحدوث و النقصان، إذ ما من موجود إلّا و هو بامكانه و حدوثه يدلّ دلالة واضحة على أنّ له صانعا قادرا عليما حكيما واجب الوجود قطعا للتسلسل.

فأن أراد بالسجود الذاتي هذا المعنى فينا فيه قوله و ليس هذا التسبيح بلسان الحال.
و إن أراد المعنى الأوّل فدليله لا ينهض به إذ محصّل ما ذكره من الدليل أنّ الخطاب في الايتين متوجّه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بخصوصه، و لذلك قال: ألم تر و لم يقل: ألم تروا، و لو كان المراد التسبيح بلسان الحال لقال ألم تروا، لأنّ التسبيح الحالي يعرفه كلّ أحد بخلاف التسبيح القولي فانّه مختصّ رؤيته بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و يتوجّه عليه أنّا نمنع اختصاص الخطاب به صلّى اللّه عليه و آله بل متوجّه إلى كلّ من يتأتّي منه الرؤية و النظر لو قلنا بالقول الاخر، و يشهد بذلك قوله في سورة النحل أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلى‏ ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ حيث أتى بصيغة الجمع فلا فرق بين هذه الاية و الايتين المتقدّمتين، غاية الأمر أنّ الاستفهام في الاوليين للتقرير و إن كان الخطاب مختصّا بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و في هذه للتوبيخ و التقريع، و من المعلوم أنّ التوبيخ إنّما توجّه عليهم بسبب تمكّنهم من الرؤية، و الرؤية العيانية كما ذكره هذا القائل غير ممكنة، فلا بدّ من حمل السجود على السجود بلسان الحال، و الرؤية بالرّؤية بمعنى التفكر.

ثمّ ما ادّعاه أخيرا من الكشف و أنّه سمع باذنه ذكر الأحجار بعد الغضّ عن أنّه دعوى بلا برهان يناقض ما قرّره أولا من اختصاص الرؤية العيانية بالنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأنّه على زعمه يكون شريك النبوّة في الرؤية العيانية مع ساير أرباب المكاشفة، و هذا يقتضى أن يؤتى الخطاب في الايتين بصيغة الجمع و يقال: ألم تروا.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم له قوّة الرؤية لسجود جميع الأشياء، و هذا القائل ادّعى تسبيح البعض كالأحجار، و لما ذكر سبحانه في الايتين سجود الجميع و تسبيحهم لا جرم خصّ رؤيته بالنبيّ لكونه فقط متمكّنا من رؤية الكلّ، هذا و ربما استدلّ على ما قاله هذا القائل من أنّ الجماد و النبات و الحيوان كلّها ناطقة بالحمد و الثناء و التسبيح و التقديس قولا لقوله «و لكن لا تفقهون تسبيحهم»فانّ التسبيح الّذي لا نفقهه هو التسبيح المقالي، و أمّا التسبيح الحالي فيفقهه كلّ من له عقل و نظر.

و فيه أوّلا النقض بقوله أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلى‏ ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ‏ءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَ هُمْ داخِرُونَ فانّه سبحانه وبّخهم على ترك رؤية سجود ما خلق اللّه، و لازم ذلك أن تكون الرّؤية ممكنة و إلّا لم يحسن التوبيخ، و السجود المقالي غير ممكنة الرؤية إذ لا نفقهه فلا بدّ أن يكون سجودهم بالحال حتّى يمكن رؤيته و يحسن التوبيخ على تركها.

و ثانيا بالحلّ و أنّه لا يثبت المدّعى، لأنّ قوله لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ كما يجوز أن يراد به التسبيح القولي و يكون عدم فهم المخاطبين له من أجل اختلاف اللغات و عدم معرفتهم بأصوات الحيوانات و الجمادات و ساير المخلوقات، كذلك يجوز أن يراد به التسبيح الحالي و يكون عدم فهم المخاطبين له لأجل التشاغل و الأغراض، أى لا تعلمون تسبيح هذه الأشياء حيث لم تنظروا فيها و لم تعرفوا كيفيّة دلالتها على صانعها.

و لذلك قال المفسّرون إنّ الخطاب فيها للمشركين أى لا تفقهون أيّها المشركون لاخلالكم بالنظر الصحيح الّذي به يفقه ذلك، و إلى هذا أشير في قوله سبحانه وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَ هُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ.
و على ما قلنا فيكون مفاد هذه الاية موافقا لمفاد الاية السابقة أعني قوله أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلى‏ ما خَلَقَ اللَّهُ و لمفاد ساير الايات المتقدّمة، فيكون المراد بالتسبيح و السجود و الحمد في جميعها المعني الأعمّ مما كان بلسان المقال، و يكون المراد بالرؤية فيها هو الرّؤية بمعني التأمّل و التدبّر في ملكوت السماوات و الأرض و معرفته دلّهم للّه سبحانه قولا و حالا، هذا.

و لما كان هذا المقام من مطارح الأنظار و مسارح الأفكار أحببت أن اشبع فيه الكلام بتوفيق الملك العلّام و إعانة الأئمة الكرام عليهم السّلام.

فأقول: إنّ التسبيح و الثناء للّه سبحانه على قسمين.
أحدهما حاليّ، و هو دلالة أحوال المخلوق على وجود خالقه و توحيده، و التسبيح، و الثناء بهذا المعني لا ريب في اتّصاف جميع المخلوقات به «تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ» إذ كلّ موجود سوى القديم حادث يدعو إلى تعظيمه لافتقاره إلى صانع غير مصنوع صنعه، أو صنع من صنعه فهو يدعو الى تثبيت قديم غنيّ بنفسه عن كلّ شي‏ء سواه، و لا يجوز عليه ما يجوز على المحدثات.

و بعبارة اخرى نقصانات الخلايق دلائل كمالات الخالق، و كثراتها و اختلافاتها شواهد وحدانيّته، و انتفاء الشريك و الضّد و النّد عنه كما قال عليه السّلام في المختار المأة و الخمس و الثمانين: بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، و بمضادّته بين الأمور عرف أن لا ضدّ له، و بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له.
و الثاني قاليّ، و هو في الانسان و الملك و الجنّ قول سبحان اللّه و الحمد للّه و نحو ذلك من الألفاظ المتضمّنة للتنزيه و التقديس الخارجة من اللّسان و المسموعة بالأسماع و الاذان.
و أما في أصناف الحيوان فكلّ صنف بما اختصّ به من النطق و امتاز به عن ساير أبناء جنسه كالفرس فى صهيله، و البعير في هديره، و الحمار في نهيقه، و الغراب في نعيقه و هكذا.
و أمّا في الجماد و النبات و الماء و الشجر و الأرض و الهواء فنحو آخر مثل الصرير في الأبواب، و الجرى في المياه، و الانقضاض في الجدران و الأخشاب، و نحو ذلك مما يعلمه اللّه سبحانه و تعالى.
إذا عرفت ذلك فأقول: أما ذوو العقول فلا كلام في تسبيحهم للّه سبحانه حالا و قالا، كما لا كلام في اتّصاف غير ذوى العقول حيوانا أو جمادا بالتسبيح الحالي، و إنما الكلام في اتّصافها بالتسبيح القالي، و الحقّ فيه أيضا الامكان بل الوقوع خلافا لعلم الهدى السيّد المرتضى في كتاب الغرر و الدّرر، و للفخر الرازي في التفسير الكبير.

لنا على جوازه و وقوعه في الحيوان أنّ الأدلة من الكتاب و السّنّة قد دلّت على أنّ الأنواع على اختلافها منطقا مفهوما و ألفاظا تفيد أغراضها بمنزلة الأعجمي و العربي اللّذين لا يفهم أحدهما كلام صاحبه و إنما يفهمه المشارك له في هذه اللهجة فاذا جاز لها النطق في ساير أغراضها جاز لها النّطق في تسبيح خالقها أيضا.

و الشاهد على أنها ذوات نطق و ادراك و شعور، و أنها تنطق بتوحيده و تسبيحه تعالى قوله سبحانه حكاية عن نملة سليمان حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى‏ وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ. وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ و قوله تعالى حكاية عن سليمان يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ و قوله عزّ و جلّ حكاية عن الهدهد و تكلّمه مع سليمان وَ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ. كانَ مِنَ. الْغائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ. لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ. فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ. أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَ جِئْتُكَ مِنْ. سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ. وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ. لَها عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُها وَ قَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ. اللَّهِ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ. فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ أَلَّا يَسْجُدُوا. لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْ‏ءَ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ ما تُخْفُونَ. وَ ما تُعْلِنُونَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا. هُوَ. رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ قالَ سَنَنْظُرُ أَ صَدَقْتَ أَمْ.
و في هذه الاية وجوه من الدّلالة على المدّعى.

احدها دلالة هذه الايات بمجموعها على أنّ سليمان كان مع الهدهد في مقام الخطاب و السؤال و الجواب حتّى نزله في آخر مقاله منزلة العاقلين و جعل خبره محتملا للصدق و الكذب و قال قالَ سَنَنْظُرُ أَ صَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ و ذلك كلّه يدلّ على أنّه كان عالما فهما شاعرا لما يقول و يجيب به.
الثاني قوله لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً فانّ التعذيب لا يجوز من النّبى المعصوم إلّا مع التقصير في التكليف، و الهدهد لما كان مأمورا بطاعته كساير الوحوش و الطيور استحقّ العقاب لغيبته بدون اذنه، و اعترف الرازى أيضا بذلك حيث قال قوله «لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً» اه فهذا لا يجوز أن يقوله إلّا فيمن هو مكلّف أو فيمن قارب العقل فيصلح لأن يؤدّب.

الثالث قوله «احطت بما لم تحط به» فقد قال الرازي: فيه تنبيه لسليمان على أنّ في أدنى خلق اللّه من أحاط علما بما لم يحط به، فيكون ذلك لطفا له في ترك الاعجاب و الاحاطة بالشي‏ء أن يعلم من جميع جهاته.
الرابع ما دلّ عليه قوله «وَجَدْتُها وَ قَوْمَها يَسْجُدُونَ» إلى قوله «لا يَهْتَدُونَ» من أنّ الهدهد كان له معرفة باللّه و بوجوب السجود له و أنه أنكر سجودهم للشمس و أضافه إلى الشيطان و تزيينه.

و ما قاله الجبائى من أنّ الهدهد لم يكن عارفا باللّه و إنما أخبر بذلك كما يخبر مرهقو صبياننا لأنه لا تكليف إلّا على الملائكة و الانس و الجنّ، فيرانا الصّبى على عبادة اللّه فيتصوّر أن ما خالفها باطل، فكذلك الهدهد تصوّر أنّ ما خالف فعل سليمان باطل.

فهو خلاف ظاهر القرآن لأنه لا يجوز أن يفرق بين الحقّ الذى هو سجود للّه و بين الباطل الذى هو السجود للشمس، و أنّ أحدهما حسن و الاخر قبيح إلّا العارف باللّه و بما يجوز عليه و بما لا يجوز عليه خصوصا مع نسبة تزيين أعمالهم و صدّهم عن طريق الحقّ إلى الشيطان، و هذا مقالة من يعرف العدل و أنّ القبيح غير جايز على اللّه سبحانه.
الخامس استنكاره عليهم في ترك السجود للّه بقوله «أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ» على القول بأنّ هذا الكلام إلى قوله «العظيم» من تمام الحكاية لمقال هدهد كما عليه اكثر المفسرين لا جملة معترضة و من كلامه سبحانه كما ذهب إليه بعضهم.
السادس قوله «أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ» إلى قوله «وَ ما يُعْلِنُونَ» نصّ في معرفة الهدهد بقدرة اللّه و بعلمه.
السابع قوله «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ» فانّه نصّ صريح في معرفته باللّه و توحيده و تنطّقه بكلمة التوحيد و تسبيحه له و تقديسه من الشريك و وصفه بالربوبيّة، هذا.

و من الأدلّة أيضا قوله سبحانه فى سورة النور أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي‏السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ على أنّ الضمير في علم راجع إلى الطير كما عليه جملة من المفسّرين.
و من السنة الأخبار الكثيرة العامية و الخاصيّة الدالّة على أنّ لها تسبيحا و ذكرا، و أنها تعرف خالقهم و مصالحهم و مفاسدهم، و أنه لا يصاد صيد فى برّ أو بحر من طير أو وحش إلّا بتضييعه التسبيح.

فمنها ما رواه في البحار من قصص الأنبياء عن ابن عبّاس عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث طويل أجاب فيه عن مسائل قوم من أحبار اليهود قال: قالوا: فأخبرنا ما تقول هذه الحيوانات قال عليه السّلام: درّاج يقول: الرّحمن على العرش استوى، و الدّيك يقول: اذكروا اللّه يا غافلين، و الفرس يقول إذا مشى المؤمنون إلى الكافرين: اللّهم انصر عبادك المؤمنين على عبادك الكافرين، و الحمار يلعن العشّار و ينهق فى عين الشيطان، و الضّفدع يقول: سبحان ربّى المعبود و المسبّح في لجج البحار، و القنبر يقول: اللّهم العن مبغضى محمّد و آل محمّد.

و عن حيوة الحيوان: ذكر السرحان سبحان ربّى، و ذكر الدّراج: الرّحمن على العرش استوى، و العقاب: البعد عن الناس راحة، و الخطاف: الفاتحة إلى آخرها و تمدّ صوته بقوله و لا الضّالين، و البازى: سبحان ربّى و بحمده، و القمرى: سبحان ربّى الأعلى، و الغراب: يلعن العشار، و الحدئة: كلّ شي‏ء هالك إلّا اللّه، و القطاة: من سكت سلم، و العنقا: ويل لمن كانت الدّنيا همّه، و الزرزور: اللّهم أسألك رزق يوم بيوم يا رزّاق، و القبرة: اللّهم العن مبغضي محمّد و آل محمّد، و الدّيك: اذكروا اللّه يا غافلين، و النسر: يا ابن آدم عش ما شئت فانّ آخره الموت، و الفرس عند ملتقى الجمعين: سبّوح قدّوس ربّ الملائكة و الرّوح، و الحمار يلعن المكارى و كسبه، و الضّفدع: سبحان ربّى القدّوس.

و منها ما ورد في أخبار كثيرة في حديث المعراج و غيره من أنّ للّه ملكا في صورة الدّيك براثينه في الأرضين السابعة و عرفه تحت العرش و له جناحان يصفق بهما فاذا كان وقت السحر يسبّح اللّه سبحانه و يقول في تسبيحه: سبّوح قدّوس ربّ‏الملائكة و الرّوح، و في رواية سبحان الملك القدوس سبحان اللّه الكبير المتعال لا إله إلّا الحىّ القيّوم، فلا يبقى فى الأرض ديك إلّا أجابه و رفع صوته بالتسبيح، قال أمير المؤمنين عليه السّلام و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ وَ الطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ.

و مثلها الأخبار الواردة في مدح أجناس الطير و البهايم كالحمام و البلبل و القنبر و الحجل و الدّراج و ما شاكل ذلك من فصيحات الطّير معلّلا بأنّها تنطق بالثناء على اللّه و على أوليائه و دعا لهم و دعا على أعدائهم، و ذم أجناس اخر كالفواخت و الرخم و العنقا و البوم و الجرّى و المار ماهى و الوزغ و نحوها لتنطقهم بذمّ أولياء اللّه و انكارهم للولاية.
و هذه الأخبار فوق حدّ الاحصاء فلا يبقى مجال لانكار تسبيحها القولى بمحض استبعاد الأوهام أو تقليدا للفلاسفة الّذين استبدّوا بالعقول و لم يؤمنوا بما جاءت به الأنبياء الكرام عليهم السّلام، و أىّ دليل على عدم شعورها و إدراكها للكلّيات و عدم تكلّمها و نطقها، فانا كثيرا ما نسمع بعض كلام النّاس مع غيرهم ممن لا نفهم لغاتهم بوجه، فنظنّ أنّ كلامهم كأصوت الحيوانات لا نميّز بين كلماتهم و نتعجب من فهم البعض كلام بعض و لا استبعاد في كونها مكلّفة ببعض التكاليف و تعذّب في الدّنيا بتركها بأن يصاد أو يذبح، أو في الاخرة أيضا كما روى في تأويل قوله تعالى وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ و إن لم يكن تكليفها عاما و عقابها أبديّا لضعف إدراكها.

قال السيّد المحدّث الجزايرى في كتاب زهر الرّبيع: تحقيق المقام أنّ النفس الناطقة إن كانت عبارة عن قوّة النطق و ابراز الكلام فالحيوانات لها كلام يفهمه بعضها عن بعض كما هو المشاهد منها خصوصا مع أولادها، و فسّر كلام بعضها الأنبياء و الأئمة عليهم السّلام.

و إن كان المراد منها إدراك الكليات و العلوم كما هو الشائع في إطلاق النفس الناطقة، ففى الحيوانات من يدرك من جزئيات العلوم ما لا يدركه أعقل النّاس كادراك القرد من لطايف الحيل و دقايق الامور ما لا يخفى، و كذلك النحل.

و إن كان المراد من النفس الناطقة فهم كتابى الشفاء و الاشارات و نحوهما، فانّ بعد كثير من النّاس عن هذا أبعد من الثرى إلى الثريّا.
قال و إلى هذا ذهب الشيخ شهاب الدّين، و قد صرّح ابن سينا في جواب أسئلة بهمنيار إنّ الفرق بين الانسان و الحيوانات في هذا الحكم مشكل.

و قال القيصرى في شرح فصوص الحكم ما قاله المتأخرّون من أنّ المراد بالنطق إدراك الكليات لا التكلّم مع كونه مخالفا بوضع اللغة لا يفيدهم لأنه موقوف على أنّ النفس الناطقة المجرّدة خاصّة بالانسان، و لا دليل لهم على ذلك و لا شعور لهم بأنّ الحيوانات ليس لها إدراك الكليّات، و الجهل بالشي‏ء لا ينافي وجوده و إمعان النّظر فيما يصدر عنها من العجايب يوجب أن يكون لها إدراك الكليّات انتهى.

و قال المحقق الدوانى في شرح هياكل النور: اعتقادنا أنّ جميع الحيوانات لها نفوس مجرّدة كما فى الانسان، و بعض القدماء على ذلك بل صرّح بعضهم بأنّ النبات لها نفوس ناطقة أيضا.
اذا عرفت ذلك فلنذكر ما ذكره الفخر الرازى في هذا المقام.

قال في تفسير قوله تعالى تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ: اعلم أنّ الحىّ المكلف يسبّح للّه بوجهين: الأوّل بالقول كقوله باللسان سبحان اللّه، و الثاني بدلالة أحواله على توحيد اللّه و تقديسه و عزّته، فأمّا الّذى لا يكون مكلّفا مثل البهايم و من لا يكون حيّا كالجمادات فهى إنّما تسبّح اللّه بالطريق الثاني، لأنّ التسبيح لا يحصل إلّا مع الفهم و العلم و الادراك و النطق و كلّ ذلك في الجماد محال فلم يبق حصول التسبيح في حقه إلّا بالطريق الثاني.
و انت بعد الخبرة بما ذكرنا تعرف فساد ما ادّعاه بما لا مزيد عليه، و العجب أنّه عمّم دعواه للبهائم و الجماد و خصّ دليله بالجماد فقط، فان كان مقصوده أنّ البهايم مثل الجماد في عدم العلم و الادراك و كان اكتفاؤه بالجماد من باب الاختصار فهو ممنوع لما ذكرناه من الايات الصّريحة في أنّ لها إدراكا و فهما و شعورا، و إلّا فدليله أخصّ من مدّعاه و ستعرف بطلان دليله في الجماد أيضاانشاء اللّه تعالى.

و اما علم الهدى فقد بالغ في إنكار تسبيح الحيوان، و شدّد النكير على من ادّعاه و أطال الكلام في تأويل الايات و الأخبار بما يشمئزّ منه الطباع و يأبي عنه الذّوق السليم و الطبع المستقيم، و صرفها عن ظواهرها بغير دليل.
و عمدة جهة مصيره إلى الخلاف هو عدم عمله بأخبار الاحاد، و قد أقام علماؤنا الاصوليّون أدلّة معتبرة من الكتاب و السنّة و الاجماع و العقل على حجيّتها، و بعد ثبوت الحجيّة فالأخبار الّتي يثبت المدعى و تبطل قول المرتضى فوق حدّ الاحصاء هذا تمام الكلام في التسبيح القالي للحيوان.

و اما في الجماد و النّبات و السّماء و الأرض و غيرها مما ليس لها حركات إرادية فالظاهر من أخبار الأئمة الأطهار عليهم السّلام ثبوته أيضا.
فقد روى في الصّافي من الكافي عن الصادق عليه السّلام تنقض الجدر تسبيحها.
و عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل أ تسبّح الشجر اليابسة فقال: نعم أما سمعت خشب البيت كيف ينقض فذلك تسبيحه فسبحان اللّه على كلّ حال.
و في البحار من العيون عن الرضا عن آبائه عن الحسين بن علىّ و محمّد بن الحنفيّة عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليهم أجمعين قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: تختّموا بالعقيق فانّه أوّل جبل أقرّ للّه بالوحدانيّة ولي بالنّبوة و لك يا على بالوصيّة.

و الأخبار في هذا المعني كثيرة لا حاجة إلى الاطالة بروايتها.
و قد خالفنا فيه الرازى أيضا فانّه قال من لا يكون حيّا مثل الجمادات فهي إنّما تسبّح اللّه بالطريق الثاني، لأنّ التسبيح بالطريق الأوّل لا يحصل الّا مع الفهم و العلم و الادراك و كلّ ذلك في حقّ الجماد محال فلم يبق حصول التسبيح في حقّه إلّا بالطريق الثاني ثمّ قال: و اعلم أنا لو جوّزنا في الجماد أن يكون عالما متكلّما لعجزنا عن الاستدلال بكونه تعالى عالما قادرا على كونه حيّا و حينئذ ينسدّ علينا باب العلم بكونه حيّا و ذلك كفر، فانّه يقال إذا جاز في الجمادات أن تكون عالمة بذات اللّه تعالى و صفاته‏ و تسبيحه مع أنّها ليست باحياء فحينئذ لا يلزم من كون الشي‏ء عالما قادرا متكلما كونه حيّا و ذلك جهل و كفر لأنّ من المعلوم بالضرورة أنّ من ليس بحىّ لم يكن عالما قادرا، انتهى و محصل دليله أمران احدهما أنّ التسبيح القالى مستلزم للعلم و الفهم و الادراك و هو في حقّ الجماد محال و ثانيهما أنه لو كان متكلّما لانسدّ باب الاستدلال على حياة اللّه سبحانه بالتقريب الّذى ذكره.

و يتوجه على دليله الاول أنه إن أراد الاستحالة العقلية فممنوعة و إن أراد الاستحالة العادية فلا تثبت المدّعى و لا تفيد الامتناع، و الشاهد على ذلك قوله سبحانه في سورة سبا وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ أى رجعي معه التسبيح قال عليّ بن إبراهيم القميّ أي سبّحي للّه و قال: كان داود إذا مرّ بالبراري يقرأ الزبور و تسبّح الطير معه و الوحوش، و قال الرازي قوله «يا جبال أوّ بى معه» قال الزمخشرى يا جبال بدل من قوله فضلا معناه و آتيناه فضلا قولنا يا جبال أو من آتينا و معناه قلنا يا جبال أوّبى، انتهى.

فنقول إذا جاز تعلّق خطابه سبحانه على الجبال بالتأويب تفضّلا منه على داود فيجوز تعلّق خطابه عليها في غير هذا المقام أيضا، و بعبارة اخرى إذا كان الجبال قابلة للخطاب هناك كانت قابلة له مطلقا غاية الأمر أنّ تأويبها مع داود عليه السّلام كان ظاهرا يسمعه كلّ من حضر لإعجاز داود عليه السّلام نظير تسبيح الحصى في يد رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله، و فى ساير المقامات كان خفيّا لا يسمعه الناس كما قال تعالى وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ.

و أوضح من ذلك دلالة قوله تعالى في سورة ص اصْبِرْ عَلى‏ ما يَقُولُونَ وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ. ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ. يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْراقِ وَ الطَّيْرَ فانّ الاية السّابقة أفادت تعلّق خطابه سبحانه على الجبال بالتسبيح، و هذه الاية دلّت على قبولها لذلك الخطاب و نصّت بأنّها يسبّحن بالرواح و الصباح و أنّ الطير شاركتها في التسبيح و أنّ كلّا منها أوّاب له أى رجّاع إلى ما يريدمطيع له بالتسبيح.

و العجب أنّ الجبائي مع إنكاره لعرفان الهدهد باللّه حسبما حكينا عنه فى تفسير آية النّمل قال في تفسير هذه الاية: و لا يمتنع أن يكون اللّه خلق فى الطيور من المعارف ما يفهم به أمر داود و نهيه فتطيعه فيما يريده منها و إن لم تكن كاملة العقل مكلّفة.

و قال الفخر الرازى: قوله و «سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ» الاية إنّ اللّه سبحانه خلق فى جسم الجبال حياة و عقلا و قدرة و منطقا و حينئذ صار الجبل مسبّحا للّه و قوله «يسبّحن» يدلّ على حدوث التسبيح من الجبال شيئا فشيئا و حالا بعد حال، و كان السامع محاضر تلك الجبال يسمعها تسبّح و قوله «وَ الطَّيْرَ مَحْشُورَةً» معطوفة على الجبال، و التقدير و سخّرنا الطير محشورة قال ابن عبّاس: كان داود إذا سبّح جاوبته الجبال و اجتمعت إليه الطير فسبّحت معه، و اجتماعها إليه هو حشرها فيكون حاشرها هو اللّه سبحانه.

ثم قال الرازي: فان قيل كيف يصدر تسبيح اللّه عن الطير مع أنّه لا عقل لها قلنا لا يبعد أن يقال: إنّ اللّه كان يخلق لها عقلا حتّى يعرف اللّه فيسبّحه حينئذ و كلّ ذلك كان معجزة لداود عليه السّلام و قوله «كلّ له أوّاب» معناه كلّ واحد من الجبال و الطير أوّاب أى رجّاع، أى كلّما رجع داود إلى التسبيح فهذه الأشياء أيضا كانت ترجع إلى تسبيحاتها، و الفرق بين هذه الصّفة و بين ما قبلها أن فيما سبق علمنا أن الجبال و الطير سبّحت مع تسبيح داود، و بهذا اللّفظ فهمنا دوام تلك الموافقة، انتهى كلامه هبط مقامه.

فقد ظهر بذلك أنّه معترف بتسبيح الجبال و الطيور مقرّ بأنه لا يبعد إفاضة اللّه إليها عقلا فتعرف اللّه و تسبّح غاية الأمر أنّه يقول إنّ ذلك كلّه كان معجزة لداود عليه السّلام.
و يتوجّه عليه أنّه إذا لم يستبعد أن يفيض اللّه إليها عقلا فيأمرها بالتسبيح لغرض الاعجاز فأىّ بعد في إفاضة العقل إليها و أمرها بالتسبيح لا لذلك الغرض بل لمصالح اخر اقتضت ذلك، و هذا يهدم مادّة الاستحالة الّتي ادّعاها، فافهم جيّدا و اغتنم‏و تدبّر، هذا.

و يتوجه على دليله الثاني أنّ إثبات الحياة للّه سبحانه لا ينحصر دليله في العقل بل الاجماع و الأدلّة النقليّة على اتّصافه بالحياة قائمة، و قد دللنا على جملة من صفاته بالسمع ككونه متكلّما سميعا بصيرا فليكن صفة الحياة مثلها.
قال صدر المتألهين في المبدأ و المعاد: الحياة في حقنا يتمّ بادراك هو الاحساس و فعل هو التحريك منبعثين عن قوّتين مختلفتين، و لما ورد الشريعة باطلاقها عليه تعالى فالحىّ فى حقه تعالى هو الدراك الفعال، فاذا كان علمه مبدء للوجود كله فهو حىّ اذ لم يزد علمه على ذاته و لا افتقار له في الفعل إلى قوّة محرّكة دالّة كمالنا بل ذاته يعلم و يفعل فذاته حياته، انتهى.

فقد انقدح مما ذكرنا أن انتقاض دليل العقل للحياة بتسبيح الجماد لا يستلزم انتفاء الدليل مطلقا حتّى من السمع، فلا يكون انتقاضه موجبا لانسداد باب الاستدلال رأسا و لا للكفر أصلا، فلا إله إلّا اللّه الحىّ القيّوم تعالى شأنه و عظم سلطانه.
هذا كلّه على أن نقول بأن تسبيح السّماء و الأرض و الجماد و النبات مثل تسبيح ذوى العقول و أنه بالذكر و البيان و النطق و اللسان.

و أما على القول بأنّ تسبيحها مغاير لتسبيحهم و أنّ تسبيح السماء بدورانها، و الماء بجريانها، و تسبيح ساير الأشياء على حسبما طلبه منها ربّها و بارؤها كما قال به أهل العرفان و المعقول، و نطق به أخبار آل الرسول فيرتفع الاشكال رأسا.

قال القميّ في تفسير قوله تعالى «يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ» الاية تحويل كلّ ظلّ خلقه اللّه هو سجود للّه، و قال بعض أهل المعرفة في تفسير هذه الاية إنّ أمثال هذه الايات تدلّ على أنّ العالم كلّه في مقام الشهود و العبادة إلّا مخلوق له قوّة التفكر و ليس إلّا النفوس الناطقة الانسانيّة و الحيوانية خاصة من حيث أعيان أنفسهم لا من حيث هياكلهم، فانّ هياكلهم كساير العالم في التسبيح له و السجود، فأعضاء البدن كلّها مسبّحة ناطقة ألا تراها تشهد على النفوس المسخرة لها يوم القيامة من الجلود و الأيدى و الأرجل و الألسنة و السمع و البصر و جميع‏القوى، فالحكم للّه العلى الكبير.

و قال صدر المتألّهين في كتاب المبدأ و المعاد: و مما يجب عليك أن تعتقد أنّ الواجب تعالى كما أنّه غاية الأشياء بالمعنى المذكور، فهو غاية بمعني أنّ جميع الأشياء طالبة لكمالاتها و متشبّهة به تعالى فى تحصيل ذلك بحسب ما يتصوّر في حقّها، و لكلّ منها شوق و عشق إليه إراديّا كان أو طبيعيّا، و الحكماء الالهيّون حكموا بسريان العشق و الشوق في جميع الموجودات على تفاوت طبقاتهم، فلكلّ وجهة هو مولّيها يحسن اليها و يقتبس بنار الشوق نور الوصول لديها، و إليه اشير في قوله «تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ».

و قد صرّح الشيخ الرّئيس في عدّة مواضع من التعليقات بأنّ القوى الأرضية كالعقول الفلكية في أنّ الغاية في أفاعيلها ما فوقها إذ هى لا تحرّك المادّة لتحصيل ما تحتها من المزاج و غيره، و ان كانت هذه من التوابع اللّازمة، بل الغاية في تحريكاتها كونها على أفضل ما يمكن لها ليحصل لها التشبه بما فوقها كما في تحريكات نفوس الأفلاك أجرامها بلا تفاوت، فقد ثبت أنّ غاية جميع المحرّكات من القوى العالية و السّافلة في تحريكها لما دونها استكمالها بما فوقها و تشبهها به إلى أن ينتهى سلسلة التشبهات و الاستكمالات إلى الغاية الأخيرة و الخير الأقصى الّذي يسكن عنده السلك و تطمئنّ به القلوب، و هو الواجب جلّ مجده، فيكون غاية بهذا المعنى أيضا، و بهذا نعلم حقيقة كلامهم: لو لا عشق العالي لا نطمس السّافل، ثم لا يخفى عليك إنّ فاعل التسكين كفاعل التحريك في أنّ مطلوبه ليس ما تحته كالأين مثلا، بل كونه على أفضل ما يمكن له كما قال المعلم الثّاني: صلت السّماء بدورانها و الأرض برجحانها و قيل في الشعر:

و ذلك من عميم اللّطف شكر
و هذا من رحيق الشوق شكر

هذا و قد ظهر بما ذكرنا كلّه أنّ حمده سبحانه و ثنائه و تسبيحه و تقديسه فاش في مخلوقاته حالا أو مقالا و علم أنّه لا حاجة إلى تكلّف حذف المضاف في قوله الفاشي حمده بأن يقال: المراد الفاشي سبب حمده و هو النعم التي لا يقدر قدرها كماتكلّفه الشارح المعتزلي.

(و الغالب جنده) كما قال سبحانه وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ و قوله وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَ أى جنده، و المراد بجنده في السماء هو الملائكة قال تعالى وَ أَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَ عَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ و قال أيضا إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ.
و المراد بجنده في الأرض الناصرون لدينه.

روى في الصافي من التوحيد عن الصادق عليه السّلام يجي‏ء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم القيامة آخذا بحجزة«» ربه و نحن آخذون بحجزة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و شيعتنا آخذون بحجزتنا فنحن و شيعتنا حزب اللّه و حزب اللّه هم الغالبون، و اللّه ما يزعم أنها حجزة الازار، و لكنها أعظم من ذلك يجي‏ء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آخذا بدين اللّه و نحن نجى‏ء آخذين بدين نبيّنا و يجي‏ء شيعتنا آخذين بديننا.

فان قيل: غلبة جنده السماوى فى كلّ وقت لا غبار عليه و لا اشكال فيه، و أما جند الأرض فربما يكون مغلوبا و كفى به شاهدا وقعة الطف و شهادة سيد الشهداء عليه السّلام مع أولاده و اخوانه و أتباعه و أنصاره مع كونهم حزب اللّه و أنصار دين اللّه فما معني قوله عليه السّلام: الغالب جنده و قوله تعالى: وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَ.
قلت: يحتمل أن يكون غلبة جنده و حزبه محمولا على الغلبة بالحجّة أو على الأغلب لأنّه سبحانه أعزّ جنده و نصر أنصار دينه في أغلب الأوقات و أيّدهم بالجنود السماوية كما قال عزّ من قائل لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى‏ رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ أَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَ عَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ.

و يجوز أن يقال: إنّ جنده و إن كان مغلوبا احيانا في أوّل الأمر و لكن الغلبة لهم في آخره كما قال تعالى يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَ‏نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى‏ وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ.

روى في الصافي من الاكمال عن الصادق عليه السّلام و قد ذكر شق فرعون بطون الحوامل في طلب موسى كذلك بني اميّة و بنو العبّاس لما أن وقفوا على أنّ زوال ملك الأمراء و الجبابرة منهم على يد القائم عليه السّلام ناصبونا العداوة و وضعوا سيوفهم في قتل أهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إبادة نسله طمعا في الوصول إلى قتل القائم عليه السّلام فأبي اللّه أن يكشف أمره لواحد من الظلمة إلّا أن يتمّ نوره و لو كره المشركون.
و فيه من الاكمال عن الصادق عليه السّلام في قوله «ليظهره على الدّين كلّه» و اللّه ما نزل تأويلها بعد و لا نزل تأويلها حتى يخرج القائم فاذا خرج القائم عليه السّلام لم يبق كافر باللّه العظيم و لا مشرك بالامام إلا كره خروجه حتّى لو كان كافر أو مشرك في بطن صخرة لقالت يا مؤمن في بطني كافر فاكسرني و اقتله.

و عن الباقر عليه السّلام القائم منّا منصور بالرّعب مؤيّد بالنّصر، تطوى له الأرض و تظهر له الكنوز يبلغ سلطانه المشرق و المغرب و يظهر اللّه دينه على الدّين كلّه فلا يبقى في الأرض خراب إلّا عمر.
(و المتعالى جدّه) قال الطبرسيّ في قوله سبحانه تَعالى‏ جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَ لا وَلَداً معناه تعالى جلال ربّنا و عظمته عن اتّخاذ الصّاحبة و الولد عن الحسن و مجاهد، و قيل: معناه تعالت صفات اللّه الّتي هي له خصوصا و هي الصفات العالية الّتي ليست للمخلوقين، و قيل: معناه تعالى جدّ ربّنا في صفاته فلا تجوز عليه صفات الأجسام و الأعراض، و قيل: تعالى قدرة ربّنا عن ابن عبّاس و قيل: تعالى ذكره، و قيل: فعله و أمره، و قيل: علا ملك ربّنا، و قيل: تعالى آلاؤه و نعمه على الخلق، قال الطبرسي: و الجميع يرجع إلى معنى واحد و هو العظمة و الجلال، انتهى.

و فى تفسير عليّ بن إبراهيم عن الصادق عليه السّلام في تفسير هذه الاية قال: هي شي‏ء قالته الجنّ بجهالته فلم يرضه اللّه منهم، و معنى جدّ ربّنا بخت ربّنا.
و في المجمع و عن التهذيب و الخصال عن الباقر عليه السّلام إنما هو شي‏ء قالته الجنّ جهالة فحكي اللّه عنهم، يعني ليس للّه جدّ و إنما قالته الجنّ جهالة.
فان قلت: لفظ الجدّ قد استعمله أمير المؤمنين عليه السّلام أيضا في كلامه و وصف اللّه سبحانه به فكيف التوفيق بينه و بين روايتي الباقر و الصادق عليهما السّلام.

قلت: الجدّ حسبما عرفت قد يطلق بمعني العظمة و الجلال، و قد يطلق بمعني البخت و الطالع، و لا بأس باستعماله فيه تعالى بالمعني الأوّل كما في كلام أمير المؤمنين عليه السّلام و أما استعماله فيه سبحانه بالمعني الثاني فغير جايز، و لما عرف الأئمة عليهم السّلام انّ الجنّ يصفونه سبحانه به مريدين به المعني الثاني لا جرم نسبوهم إلى الجهالة.

و لما حمد اللّه سبحانه باعتبارات لا يليق إلّا له عقّبه بالاشارة إلى سبب الحمد فقال: (أحمده على نعمه التوام و آلائه العظام) أى على نعمه المترادفة المتواترة الّتي لا فترة بينها كالتوأمين من الأولاد يجي‏ء أحدهما على الاخر، و على آلائه العظيمة الّتي يعجز عن معرفتها العقول و يحصر عن إحصائها اللسان و يقصر عن وصفها المنطق و البيان، و ان شئت أن تعرف أنموذجا من نعم اللّه سبحانه عليك، فلنقتصر على نعمة الأكل الّتي بها قوام بدن الانسان و نشر إلى جملة من الأسباب الّتي بها تتم نعمة الأكل.

فنقول: إنّ الأكل فعل من الأفعال و كلّ فعل فهو حركة و الحركة لا بدّ لها من جسم متحرّك هو آلتها، و لا بدّ لها من قدرة على الحركة، و إرادة محرّكة له فلنذكر الأعضاء الّتي لها مدخلية في الأكل ليقاس عليها غيرها.
فنقول: إذا رأيت الطعام من بعد و اشتهيت أكله فلا بدّ لك من الحركة اليه، و حركتك لا تنفع ما لم تتمكن من أخذه فافتقرت إلى آلة باطشة فأنعم اللّه عليك بخلق اليدين و هما طويلتان مشتملتان على مفاصل كثيرة لتتحرّك في الجهات فتمتدّ و تثني اليك، فلا تكون كخشبة منصوبة ثمّ جعل رأس اليد عريضا يخلق الكفّ ثمّ قسّم رأس الكفّ بخمسة أقسام هي الأصابع، و جعلها في صفّين ليكون الابهام.

في جانب و يدور على الأربعة الباقية، و لو كانت جميعها في صفّ واحد لم يحصل بها تمام الغرض، فوضعها بحيث إن بسطتها كانت لك مجرفة، و إن ضممتها كانت مغرفة، و إن جمعتها كانت آلة للضرب، و إن نشرتها ثمّ قبضتها كانت لك آلة في القبض.
ثمّ خلق لها أظفارا لتصون رءوس الأصابع من التفتّت، و لتلتقط بها الأشياء الدقيقة الّتي لا تحويها الأصابع فتأخذها برءوس أظفارك.
فاذا أخذت بها الطعام فلا ينفعك الأخذ إلّا إذا أمكنك ايصاله إلى المعدة، و هي في الباطن فلا بدّ و أن يكون في الظاهر دهليز إليها حتّى يدخل الطعام منه، فلا ينفعك منه.

فجعل الفم منفذا إلى المعدة مع ما فيه من الحكم الكثيرة وراء كونه منفذا للطعام إلى المعدة.
ثمّ إذا وضعت الطعام في الفم و هو قطعة فلا يتيسّر لك ابتلاعه حتّى تطحن فخلق لك اللّحيين من عظمين و ركّب فيهما الأسنان و طبق الأضراس من العليا على السفلي لتطحن بهما الطعام طحنا.
ثمّ الطعام تارة يحتاج إلى الكسر و تارة إلى القطع، ثمّ إلى الطحن بعد ذلك، فقسّم الأسنان إلى عريضة طواحن كالأضراس، و إلى حادّة قواطع كالرباعيات، و إلى ما يصلح للكسر كالأنياب.

ثمّ جعل مفصل اللّحيين متخلخلا بحيث يتقدّم و يتأخر حتىّ يدور على الفكّ الأعلى دوران الرّحى، و لو لا ذلك لما تيسّر إلّا ضرب أحدهما على الاخر مثل تصفيق اليدين و لا يتحصّل به الطحن، فجعل اللّحي الأسفل متحرّكا حركة دوريّة و اللّحى الأعلى ثابتا لا يتحرّك عكس الرّحى الذى يصنعه المخلوق، فانّ الحجر الأسفل منه يسكن و الأعلى يتحرّك.
ثمّ إنّك إذا وضعت الطعام في فضاء الفم فهو يحتاج إلى التصريف و التقليب و الحركة من جانب إلى جانب، و لا يمكن أن يكون حركته باليد و هو في داخل الفم، فأنعم اللّه سبحانه بخلق اللسان، فانّه يطوف في جوانب الفم و يردّ الطعام‏ من الوسط إلى الاسنان بحسب الحاجة كالمجرفة التي تردّ الطعام إلى الرحى، هذا.
مضافا الى ما فيه من فائدة الذّوق و قوّة النطق و الحكم الّتي لا نطيل بذكرها.

ثمّ لما كان الطعام ربما يكون يابسا فلا يمكن ابتلاعه إلّا بأن ينزلق إلى الحلق بنوع رطوبة، خلق اللّه سبحانه تحت اللسان عينا يفيض منها اللعاب، و ينصبّ بقدر الحاجة حتّى يتعجن به الطعام.
و لما لم يمكن ايصاله إلى المعدة بدفعه باليد و لم تكن المعدة ممتدّة حتّى تجذبه من الفم إلى نفسها، هيّأ اللّه سبحانه المرى و الحنجرة و جعل على رأسها طبقات تنفتح لأخذ الطعام ثمّ تنطبق و تنضغط حتّى ينقلب الطعام بضغطه فيهوى إلى المعدة في دهليز المرى.

فاذا ورد الطعام على المعدة و هو خبز و فاكهة مقطعة فلا يصلح أن يصير لحما و عظما و دما على هذه الهيئة بل لا بدّ و أن يطبخ طبخا تامّا حتّى تتشابه أجزاؤه، فخلق اللّه تعالى المعدة على هيئة قدر فيقع فيها الطعام و تحتوى عليه و تغلق عليه الأبواب، فلا يزال يلبث فيها إلى أن يتمّ الهضم و ينضج بالحرارة الّتي تحيط بالمعدة من الأعضاء الباطنة، إذ من جانبها الأيمن الكبد، و من الأيسر الطحال، و من قدّام الترائب، و من خلف لحم الصّلب، فتتعدّى الحرارة إليها من تسخين هذه الأعضاء الّتي بها ينطبخ الطعام و يصير مائعا متشابها يصلح للنفوذ في تجاويف العروق، و عند ذلك يشبه ماء الشعير في تشابه أجزائه و رقّته، و هو بعد لا يصلح للتغذية، فخلق اللّه تعالى بينها و بين الكبد مجارى من العروق و جعل لها فوهات كثيرة حتّى ينصب الطعام فيها فينتهى إلى الكبد.

و الكبد معجون من طينة الدّم حتّى كأنّه دم، و فيه عروق كثيرة شعرية منتشرة في أجزاء الكبد، فيصبّ الطعام الرقيق النافذ فيها و ينتشر في أجزائها حتّى تستولي عليه قوّة الكبد، فتصبغه بلون الدّم فيستقرّ فيها ريثما يحصل له نضج آخر و يحصل له هيئة الدّم الصافي الصّالح لغذاء الأعضاء إلّا أنّ حرارة الكبد هي التي تنضج هذا الدّم.

فيتولّد من هذا الدّم فضلتان كما يتولد في جميع ما يطبخ أحدهما شبيهة بالدّردى و العكر و هو الخلط السّوداوى، و الأخرى شبيهة بالرغوة و هي الصّفراء، و لو لم تفصل عنه فضلتان فسد مزاج الأعضاء.
فخلق اللّه المرارة و الطحال و جعل لكلّ منهما عنقا ممدودا إلى الكبد داخلا في تجويفه فتجذب المرارة الفضلة الصّفراوية، و يجذب الطحال العكر السّوداوي فيبقي الدّم صافيا ليس فيه إلّا زيادة رطوبة ورقة.

فخلق اللّه سبحانه الكليتين و أخرج من كلّ منهما عنقا طويلا إلى الكبد و من عجائب حكمة اللّه تعالى أنّ عنقها ليس داخلا في تجويف الكبد بل متصل بالعروق الطالعة من حدبة الكبد حتّى يجذب ما يليها بعد الطلوع من العروق الدّقيقة التي في الكبد، إذ لو اجتذب قبل ذلك لغلظ و لم يخرج من العروق، فاذا انفصلت منه المائية فقد صار الدّم صافيا من الفضلات الثلاث نقيّا من كلّ ما يفسد الغذاء.

ثمّ إنّ اللّه اطلع من الكبد عروقا، ثمّ قسّمها بعد الطلوع أقساما، و شعّب كلّ قسم بشعب، و انتشر ذلك في البدن كلّه من الفرق إلى القدم ظاهرا و باطنا فيجري الدّم الصافي فيها و يصل إلى أجزاء البدن تماما.
و لو حلّت بالمرارة آفة فلم تجذب الفضلة الصّفراويّة فسد الدّم و حصل منه الأمراض الصفراويّة كاليرقان و البثور و الحمرة.
و إن حلّت بالطحال آفة فلم يجذب الخلط السّوداوي حدثت الأمراض السّوداوية كالبهق و الجذام و الماليخوليا و غيرها.
و ان لم تندفع المائية نحو الكلى حدث منه الاستسقاء و غيره.
ثمّ انظر إلى بديع حكمته سبحانه كيف رتّب المنافع على هذه الفضلات الثلاث الخسيسة.
أمّا المرارة فانّها تجذب بأحد عنقيها و تقذف بالعنق الاخر إلى الأمعاء ليحصل له في ثفل الطعام رطوبة زلقة و يحصل في الأمعاء لذع يحرّكها للدّفع فتنضغط حتّى يندفع الثفل و ينزلق و يكون صفرته لذلك.

و أمّا الطحال فانّه يحيل تلك الفضلة إحالة يحصل بها فيه حموضة و قبض ثمّ يرسل منها في كلّ يوم شيئا إلى فم المعدة فيحرّك الشهوة بحموضته و ينبّهها و يثيرها و يخرج الباقي مع الثفل.
و أمّا الكلية فانّها تغتذي ممّا في تلك المائية من دم و ترسل الباقي إلى المثانة.
و لنقتصر على هذا القدر من بيان نعم اللّه تعالى في الأسباب التي اعدّت للأكل، و قد مرّ في شرح الفصل الخامس من فصول الخطبة الثانية و الثمانين بعض الكلام في تشريح جملة من أعضاء الانسان و قد علم مما أوردناه هناك و ههنا أنّ اللّه سبحانه أسبغ علينا نعمه ظاهرة و باطنة، و هذا الّذي أوردناه قطرة من بحار نعم اللّه بل جملة ما عرفناه و عرفه الخلق من نعمه سبحانه بالاضافة إلى ما لم نعرفه و لم يعرفوه أقلّ من قطرة من بحر إلّا أنّ من علم شيئا من ذلك عرف شمة من معاني قوله تعالى «وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها» و نسأل اللّه سبحانه التوفيق لشكر نعمه، و الثّناء عليها.

و لما حمده سبحانه على نعمه المترادفة و آلائه العظيمة أردفه بالاشارة إلى أعظم نعمه سبحانه و هو نعمة العفو فقال: (الذي عظم حلمه فعفى) و الحلم في الانسان فضيلة يعسر معها انفعال النفس عن المكروهات المنافية للطبع، و أما في اللّه سبحانه فيعود إلى عدم تعجيله بالعقوبة و الحليم من أسمائه الحسنى.
قال أحمد بن فهد: الحليم هو ذو الصّفح و الاناة الذي لا يغيّره جهل جاهل و لا غضب مغضب و لا عصيان عاص.
و لما وصف حلمه تعالى بالعظمة فرّع عليه وصفه بالعفو، لأنّ عظم الحلم مستلزم للعفو و العفو من الأسماء الحسنى أيضا.
قال ابن فهد: هو المحّاء للذّنوب الموبقات و مبدلها بأضعافها من الحسنات، و العفو فعول من العفو و هو الصّفح عن الذّنب و ترك مجازاة المسى‏ءو قيل: مأخوذ من عفت الريح إذا درسته و محته.

و قوله (و عدل في كلّ ما قضى) يعني أنّ جميع مقتضياته و مقدّراته على حدّ الاعتدال و وجه الكمال مصون من التفريط و الافراط، لجريانها جميعا على مقتضى الحكمة و النظام الأصلح، و يحتمل أن يكون المراد بما قضاه ما حكم به، فالمعنى أنه سبحانه عادل في تكاليفه و أحكامه الشرعيّة و ما يترتّب عليها من المثوبات و العقوبات، لأنّ الظلم قبيح محال في حقه سبحانه و ما ربّك بظلّام للعبيد.

(و علم ما يمضى و ما مضى) لا يخفى ما في هذه القرينة من حسن الاشتقاق و تقديم يمضي على مضى لاقتضاء السجع و القافية مضافا إلى ما فيه من نكتة لطيفة، و هو الاشارة إلى أنّ علمه بالمستقبل كعلمه بالماضي.
و بعبارة اخرى علمه بالمستقبل و الماضي واحد بخلاف غيره فانّ علمهم بالماضى أسبق و أكمل من علمهم بالمضارع، فاذا اريد وصف غيره بالعلم يقال: فلان علم ما كان و ما يكون أو يقال: علم ما مضى و ما يأتي، فقدّم في وصفه سبحانه ما يأتي على ما سبق تنبيها على أنّ علمه ليس كعلم المخلوقين، و المقصود به الاشارة إلى إحاطته سبحانه بجميع الامور مستقبلها و ماضيها كلّيها و جزئيها، و قد مضى تحقيق ذلك في شرح الفصل السابع من المختار الأوّل و غيره أيضا فليتذكر.

(مبتدع الخلايق بعلمه) أى مبدعهم و مخترعهم بارادته التي هي العلم بالاصلح و النظام الخير فيكون علمه سببا و علة لما ابتدع من مخلوقاته مقدّما عليه، و على هذا فالباء في بعلمه سببيّة.
و المستفاد من الشارح المعتزلي أنها باء المصاحبة حيث قال: قوله: مبتدع الخلايق بعلمه، ليس يريد أنّ العلم علّة في الابداع كما يقال: هوى الحجر بثقله، بل المراد أبدع الخلق و هو عالم كما تقول خرج زيد بسلاحه أى خرج متسلّحا.

و الظّاهر أنّه وافق في ذلك المتكلمين حيث قالوا: إنّ العلم تابع للمعلوم و التابع يمتنع أن يكون سببا، فالباء على رأيهم أيضا للاستصحاب، و الحقّ ما ذكرناه لما مرّ من أمير المؤمنين عليه السّلام في المختار الأوّل من قوله: عالما بها قبل ابتدائها، فانه‏صريح في أنّ علمه سبحانه بالأشياء مقدّم على الأشياء و ليس تابعا لها، و شرحناه هنا بما لا مزيد عليه و قد تقدّم الكلام مستوفي فى أنّ إبداع الأشياء إنما هو بالارادة و العلم فى شرح الفصل الثالث من المختار التسعين، و لا حاجة هنا إلى الاطالة.

(و منشئهم بحكمه) أى موجدهم بحكمه الالزامى التكوينى الذي لا يمتنع منه شي‏ء هو و حكم قدرته النافذ في الأشياء كلّها بالوجود و إنّما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.
و يحتمل أن يكون المراد بالحكم الحكمة يعنى أنّه أوجد المخلوقات على وفق الحكمة و المصلحة و وضع كلّا منها موقعه اللّايق به، و لا أحكام و لا نظام فوق أن يكون الموجودات على كثرتها و تفصيلها متفاوته متعاضدة منتفعة بعضها ببعض مؤدّية بعضها إلى بعض، و يكون كثرتها ككثرة أعضاء شخص واحد و حركاتها المختلفة المتضادة كحركات صاحب الرقص المنتظم حيث يكون مع اختلاف هياتها سرعة و بطؤا و تعويجا و تقويما كهيئة واحدة، فأجزاؤها جميعا مشدودة في رباط واحد مع أنّ كلّا منها متوجّه نحو غاية مخصوصة تترتّب عليه، و الكلّ من حيث هو كلّ له غاية واحدة و هو التوجّه إلى مبدعه و منشئه.

و لما ذكر ايجاده سبحانه للأشياء على نحو الابداع و الانشاء و الاختراع لا بعنوان الاستفادة من الغير أكدّ ذلك إيضاحا بقوله.
(بلا اقتداء و لا تعليم و لا احتذاء لمثال صانع حكيم) يعنى صنعه و ابداعه ليس باقتداء صانع صنع قبله فاتبعه و لا بتعليم ذلك الصانع له فيتعلمه لأنه سبحانه قبل القبل ليس شي‏ء قبله حتّى يستفيد منه و يتبعه و يحتذى حذوه، و قد مضى نظير هذه الفقرة فى الفصل الثاني من فصول المختار التسعين و ذكرنا هنا ما ينفعك فى هذا المقام.

(و لا اصابة خطاء) قال الشارح البحرانى أى لم يكن إنشاؤه للخلق أوّلا اتفاقا على سبيل الاضرار و الخطاء من غير علم منه ثمّ علمه بعد ذلك فاستدرك فعله و أحكمه فأصاب وجه المصلحة فيه، و الاضافة بمعنى اللّام لأنّ الاصابة من لواحق ذلك الخطاء، انتهى.

أقول: محصله أنّه سبحانه لم يخطى‏ء في شي‏ء من خلقه فيصيبه و يصلحه أى يجبر خطائه بالصواب و فساده بالصّلاح، و يحتمل أن يكون الاصابة بمعنى المصادفة و الوصول إلى الشي‏ء.
(و لا حضرة ملاء) أى لم يكن خلقه للأشياء بحضور جماعة من العقلاء و أصحاب الرأى بحيث يشير كلّ منهم عليه برأيه و يعينه بقوله في كيفية خلقه كما هو المعروف في الصّناع البشريّة إذا أرادوا صنعة شي‏ء معظم يجتمعون مع أبناء نوعهم و يشاورونهم و يستمدّون منهم فيشيرون عليهم و يعينونهم، لأنّ ذلك مستلزم للنقص و الافتقار و الحاجة و هو سبحانه منزّه عنه.

و أيضا فانّ الملاء من جملة مخلوقاته فكيف يتصوّر حضورهم في خلق أنفسهم قال سبحانه «ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً» أى أعوانا و هذا كلّه تنزيه لفعله من أن يكون مثل أفعال العباد محتاجا إلى معاونة الغير.

و لما حمد اللّه سبحانه و أثنا عليه بما هو أهله اتبعه بالشهادة على رسالة رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: (و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله ابتعثه) أى بعثه (و) الحال أنّ (النّاس) يوم بعثه (يضربون في غمرة) أى يسيرون في الانهماك في الضّلال و الباطل لأنّهم يومئذ كما قال عليه السّلام في الفصل السادس عشر من المختار الأوّل: ملل متفرّقة و أهواء منتشرة و طرائق متشتّتة بين مشبه للّه بخلقه أو ملحد في اسمه أو مشير به إلى غيره.

أو أنهم يسيرون في الشدّة و الزّحمة كما قال عليه السّلام في الفصل الأوّل من المختار السّادس و العشرين: إنّ اللّه بعث محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أنتم معشر العرب على شرّ دين و في شرّ دار منيخون بين حجارة خشن و حيات صمّ تشربون الكدر و تأكلون الجشب و تسفكون دماءكم و تقطعون أرحامكم.

(و يموجون في حيرة) أى يضطربون و يختلفون في حيرة و جهالة لكثرة الفتن في أيام الفترة و زمان البعثة كما قال عليه السّلام في الفصل الثالث من المختار: و الناس‏في فتن تنجذم فيها حبل الدّين و تزعزعت سوارى اليقين و اختلف النجر و تشتّت الأمر و ضاق المصدر و عمى المخرج «إلى قوله» فهم فيها تائهون حائرون جاهلون مفتونون.

(و قد قادتهم أزمّة الحين) أى أزمّة الهلاك كانت تجرّهم و تقودهم إلى الهلاك الدّائم و الخزى العظيم، فالمراد بالحين الهلاك الاخروى لا الهلاك الدّنيوي و الموت كما زعمه البحراني، و استعار لفظ الأزمة للمعاصي و الاثام و شبههم بالحيوان الذي يتبع قائده و يسير خلفه، يعني أنّهم يتبعون الشّهوات و يسيرون خلف السّيئات فتقودهم إلى هلاك الأبد.

(و استغلقت على أفئدتهم أقفال الرّين) شبّه رين الذنوب و هو وسخها و دنسها بالأقفال المغلقة و هو من تشبيه المعقول بالمحسوس و وجه الشبه أنّ الأقفال إذا اغلقت على الأبواب تمنع من الدّخول في البيت فكذلك رين الذّنوب إذا طبع على القلوب يمنع من دخول أنوار الحقّ فيها كما قال سبحانه «بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ» و ذكر الاستغلاق ترشيح للتشبيه أى استحكمت في قلوبهم أو ساخ الذّنوب بحيث صارت مانعة من إفاضة أنوار الحقّ إليها كالبيوت المغلقة بالأقفال المانعة من الدخول عليها.

ثمّ شرع فيما هو الغرض الأصلي من الخطبة و هو النّصح و الموعظة فقال: (اوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه فانّها حقّ اللّه عليكم) لما كان التقوى عبارة عن إتيان الواجبات و اجتناب المنهيات جعلها حقّا للّه سبحانه، إذ حقّه على عباده أن يعبدوه و يوحّدوه كما قال عزّ من قائل «وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ».

(و الموجبة على اللّه حقّكم) أى جزاءكم، و أتى بلفظ الحق للمشاكلة و مثله ما صدر عن صدر النّبوة في رواية معاذ المتقدّمة في شرح الفصل الرابع من المختار الأوّل قال: كنت رفقت النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال يا معاذ هل تدرى ما حقّ اللّه على العباد يقولها ثلاثا قلت: اللّه و رسوله أعلم فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: حقّ اللّه عزّ و جلّ على العباد أن لا يشركوا به شيئا، ثمّ قال: هل تدري ما حقّ العباد على اللّه إذا فعلوا ذلك‏قلت: اللّه و رسوله أعلم، قال: ألّا يعذّبهم أو قال ألّا يدخلهم النار.

(و أن تستعينوا عليها باللّه و تستعينوا بها على اللّه) لا يخفي ما في هذه القرينة من حسن المقابلة، و المراد بالاستعانة عليها باللّه أن يطلب منه سبحانه التوفيق و الاعانة على تحمل مشاقّ التكاليف الشرعيّة، و بالاستعانة بها على اللّه الاستعداد بها على الوصول الى قرب الحق و جواره و ساحل عزّته و جلاله.
(فانّ التقوى في اليوم الحرز و الجنّة) لم يقل فانها بل وضع المظهر موضع المضمر لزيادة التمكين في ذهن السامع كما في قوله: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ» أو ايهام الاستلذاذ بذكره كما في قوله:

ليلاى منكنّ أم ليلا من البشر

يعني أنها في دار الدّنيا حرز حريز و حصن حصين يمنع المتحرّز بها و المتحصّن فيها من شرّ الأعداء كما قال تعالى «إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ» و هي جنّة و ترس يبقي المستتر بها من شدائد الدّنيا كما قال سبحانه «وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً».
(و في غد الطريق إلى الجنّة) أى في يوم القيامة طريق إلى الجنّة و الخلود فيها كما قال عزّ و جلّ «وَ سارِعُوا إِلى‏ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ».

(مسلكها واضح) جلي و هي جادّة الشريعة و أيّ مسلك أوضح منها (و سالكها رابح) ملّى لأنّه يسلك بها الجنّة و أىّ سفر أربح منها (و مستودعها حافظ) لما كان التقوى زادا للاخرة شبّهها بالوديعة المودعة عند اللّه سبحانه و جعله تعالى بمنزلة المستودع، أى قابل الوديعة، و المراد أنّ مستودع التقوى و هو اللّه سبحانه حافظ لهذه الوديعة الّتي هو زاد الاخرة من التلف و الضّياع كما قال تعالى «إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا».

و يجوز أن يراد بالمستودع الملائكة الحفظة الّتي هي وسايط بين الخلق و بين اللّه، فانهم لما كانوا مأمورين بكتابة أعمال العباد و حفظها و ضبطها كما قال تعالى وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ شبّههم بالمستودع أى المستحفظ الّذي يطلب منه حفظ الوديعة.

ثمّ أشار إلى عموم منفعتها و عدم اختصاص مطلوبيّتها بالمخاطبين فقال: (لم تبرح عارضة نفسها على الامم الماضين منكم و الغابرين) أى لم تزل تعرض نفسها على اللّف و الخلف كالمرأة الصالحة الحسناء العارضة نفسها على الرجال للتزويج و الاستمتاع و الانتفاع منها في محن الدّهر و نوائب الزّمان و كذلك هذه عرضت نفسها على الامم لينتفعون بها في الدّنيا.

(و لحاجتهم إليها غدا) أى في العقبى (إذا أعاد اللّه ما أبدا و أخذ ما أعطى و سأل عمّا أسدى) يعني أنهم محتاجون إليها إذا أنشر اللّه الموتى و إذا أخذ من الناس ما خوّلهم من متاع الدّنيا، و إذا سأل العباد عما أسدى و أحسن إليهم من النعم و الالاء، أو إذا سأل عما أسداه و أهمله من الجوارح و الأعضاء.

و إنما كانوا محتاجين إليها في تلك الأحوال لوقايتها لهم من أهوال ذلك اليوم و داهي هذه الأحوال، فالمتقون بما لهم من التقوى من فزع النشر و المعاد آمنون، و إلى زادهم حين أخذ ما أعطى مطمئنّون، و بصرف ما أسدى إليهم من الأموال في مصارفه و ما أسداه من الأعضاء في مواقعها من مناقشة السؤال سالمون كما قال عزّ من قائل «فَمَنِ اتَّقى‏ وَ أَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ» و قال «وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً» «وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً» «وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَ يُعْظِمْ لَهُ أَجْراً».

و أما غير المتّقين فعند نشرهم يمسّهم العذاب بما كانوا يفسقون، و حين اخذ ما اعطى فانهم إذا لخاسرون، و إذا سئل عما أسدى فيخاطبون بخطاب قفوهم انهم مسئولون، فاليوم نختم على أفواههم و تكلّم أيديهم و تشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون.

ثمّ تعجب من قلّة الاخذين بالتقوى مع كونها محتاجا فقال: (فما أقلّ من قبلها و حملها حقّ حملها) أى شرايطها و وظايفها المقرّرة الموظفة (اولئك الأقلّون و هم أهل صفة اللّه سبحانه) أى القابلون الحاملون لها الّذين وصفهم اللّه تعالى في كتابه (إذ يقول) في حقّهم (و قليل من عبادى الشكور) ربما فسّر الشكور

بمن تكرّر منه الشكر و قيل: الشكور المتوفر على أداء الشكر بقلبه و لسانه و جوارحه أكثر أوقاته و قيل: الشكور من يرى عجزه عن الشكر و قال ابن عباس أراد به المؤمن الموحّد و في هذا دلالة على أنّ المؤمن الشاكر يقلّ في كلّ عصر و زمان.
أقول: و يحتمل أن يراد بالشكور كثير الطاعة للّه و يشهد به ما رواه في الكافي عن الباقر عليه السّلام قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عند عايشة ليلتها فقالت يا رسول اللّه لم تتعب نفسك قد غفر لك ما تقدم من ذنبك و ما تأخّر، فقال: يا عايشة أما أكون عبدا شكورا.

و لما ذكر ثمرات التقوى و نبّه على الاحتياج إليها غدا أمر المخاطبين بالمواظبة عليها فقال: (فاهطعوا باسماعكم إليها) أى أسرعوا بأسماعكم إلى سماع وصفها و نعتها لتعرفوها حقّ المعرفة و تعملوا على بصيرة (و أكظوا بجدّكم عليها) أى اجهدوا و داوموا بالجدّ و المبالغة (و اعتاضوها من كلّ سلف خلفا) أى اجعلوها عوضا من جميع ما سلف بكم و خذوها خلفا منه لأنّه خير خلف محصّل للسعادة الأبديّة و العناية السرمدية (و من كلّ مخالف موافقا) الظاهر أنّ المراد بالمخالف و الموافق المخالف لطريق الحقّ و الموافق له، فيكون المعني اجعلوا التقوى حال كونها موافقا لطريق الحقّ عوضا و بدلا من كلّ ما يخالف طريقه و (ايقظوا بها نومكم و اقطعوا بها يومكم) الظاهر أنّه أراد بهما قيام اللّيل و صيام النهار و اللذين هما من مراسم التقوى، و يحتمل أن يكون المراد بالأوّل الأمر بالانتباه بها من نوم الغفلة، و بالثاني الأمر بختم النهار بالعبادة.

(و أشعروا بها قلوبكم) قال الشارح المعتزلي يجوز أن يريد اجعلوها شعارا لقلوبكم، و هو ما دون الدثار و ألصق بالجسد منه، و يجوز أن يريد اجعلوها علامة يعرف بها القلب التقي من القلب المذنب كالشعار في الحرب يعرف به قوم من قوم، و يجوز أن يريد الاشعار بمعني الاعلام من أشعرت زيدا بكذا أى عرفته اياه أى اجعلوها عالمة بجلالة موقعها و شرف محلها.

(و ارحضوا بها ذنوبكم) أى اغسلوها بها لأنّها كفّارة لها كما قال تعالى «وَ مِنَ‏يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَ يُعْظِمْ لَهُ أَجْراً» (و داووا بها الأسقام) أى أسقام الذّنوب و أمراض القلوب (و بادروا بها الحمام) أى الموت.
(و اعتبروا بمن أضاعها و لا يعتبرن بكم من أطاعها) أمرهم بالاعتبار بالامم الماضية قبلهم ممّن أضاع التقوى و اتّبع الهوى فأخذه اللّه نكال الاخرة و الاولى إنّ في ذلك لعبرة لمن يخشى قال تعالى «وَ أَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ. فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ» و نهيهم عن كونهم عبرة للمطيعين و هو في الحقيقة نهي عن دخولهم في زمرة المضيّعين، أى ادخلوا في حزب المطيعين لتعتبروا بغيركم و لا تدخلوا في حزب المضيّعين حتّى يعتبر بكم غيركم.

(ألا و صونوها و تصوّنوا بها) أى صونوها حق الصّيانة و احفظوها من شوب العجب و الرياء و السمعة و تحفظوا أنفسكم بها لأنها الحرز و الجنّة.
ثمّ أمر بالزّهد في الدّنيا و الوله إلى الاخرة لاستلزامهما للتقوى و هو قوله: (و كونوا عن الدّنيا نزاها) متباعدين (و إلى الاخرة ولّاها) أى و الهين مشتاقين، فانّ الوله إلى الاخرة يوجب تحصيل ما يوصل إليها و هو التباعد عن الدّنيا و الملازمة للتقوى (و لا تضعوا من رفعته التقوى) و هو نهي عن إهانة المتقين لكونه خلاف التقوى (و لا ترفعوا من رفعته الدّنيا) و هو نهي عن تعظيم الأغنياء الذين ارتفاع شأنهم عند الناس و وجاهتهم من جهة ثروتهم، فانّ تعظيمهم من هذه الجهة مناف للتقوى.

(و لا تشيموا بارقها) أى لا تنظروا إلى سحابها صاحب البرق انتظارا للمطر قال الشارح البحراني: استعار لفظ البارق لما يلوح للناس في الدّنيا من مطامعها و مطالبها، و وصف الشيم لتوقع تلك المطالب و انتظارها و التطلع إليها على سبيل الكناية عن كونها كالسحابة الّتي يلوح بارقها فيتوقّع منها المطر.

(و لا تسمعوا ناطقها و لا تجيبوا ناعقها) و هو نهي عن مخالطة أهل الدّنيا و معاشرتهم أى لا تسمعوا إلى مادحها و من يزيّنها و يصفها بلسانه و بيانه و لا تصدّقوا قوله، و لا تجيبوا صائحها أى لا تتّبعوا و لا توافقوا المنادى إليها لأنّ سماع الناطق و إجابةالناعق يوجب الميل اليها، و يحتمل أن يكون الناطق و الناعق استعارة لمتاع الدّنيا و مالها، فانّه لما كان يرغب فيها بلسان حاله و يدعو إليها شبه بالنّاطق و الناعق.

(و لا تستضيئوا باشراقها و لا تفتنوا باعلاقها) استعار لفظ الاشراق لزينة الدّنيا و زخارفها و زبرجها و أموالها و لفظ الاستضاءة للالتذاذ و الابتهاج بتلك الزخارف أى لا تبتهجوا بزخارف الدّنيا و لا تفتنوا بنفايسها.
و لما نهي عن شيم البارق و سماع الناطق و اجابة الناعق و عن الاستضاءة بالاشراق و الافتتان بالاعلاق، أردفه بالاشارة إلى علل تلك المناهي فعلل النهي عن شيم البارق بقوله: (فانّ برقها خالب) أى خال من المطر فيكون الشيم و النظر خاليا من الثمر قال الشارح البحراني: استعار لفظ الخالب لما لاح من مطامعها، و وجه المشابهة كون مطامعها و آمالها غير مدركة و إن ادرك بعضها ففي معرض الزوال كان لم يحصل فاشبهت البرق الذي لا ماء فيه و ان حصل معه ضعيف غير منتفع به فلذلك لا ينبغي أن يشام بارقها.

و علل النهى عن سماع الناطق و اجابة الناعق بقوله (و نطقها كاذب) أى ناطقها كاذب لأنّ قوله مخالف لنفس الأمر و ما يزيّنه و يرغب فيه و يدعو إليه كسراب بقيعة يحسبه الظمان ماء حتّى إذا جاءه لم يجده شيئا.
و علّل النّهى عن الاستضاءة بالاشراق بقوله (و أموالها محروبة) أى مأخوذة بتمامها، و ما شأنها ذلك فلا يجوز الابتهاج و الشعف بها.

و علّل النهى عن الفتون بالاعلاق بقوله (و اعلاقها مسلوبة) أى منهوبة مختلسة و ما حالها ذلك فكيف يفتن بها و يمال إليها، ثمّ وصف الدّنيا بأوصاف اخرى منفرة عنها فقال: (ألا و هي المتصدّية العنون) أى مثل المرأة الفاجرة المتصدّية المتعرّضة للرجال المولعة في التعرّض لهم، و هو من التشبيه البليغ و من قبيل تشبيه المعقول بالمحسوس، و وجه الشبه أنّ المرأة الموصوفة كما تزين نفسها و تعرضها على الرجال لتخدعهم عن أنفسهم فكذلك الدّنيا تتعرّض بقيناتها لأهلها فتخدعهم.

(و الجامحة الحرون) أى مثل الدّابة السيّئة الخلق التي لا تنقاد لراكبها البالغة في عدم الانقياد غايته، و التشبيه هنا مثل التشبيه في الفقرة السابقة، و وجه الشبه أنّ الدابة الموصوفة كما لا تنقاد لصاحبها و لا يتمكّن من حملها و ركوبها مهما اريد، فكذلك الدّنيا لا يتمكّن أهلها من تصريفها و تقليبها و الانتفاع بها في مقام الضرورة و الحاجة.
(و المائنة الخئون) أى الكاذبة كثيرة الخيانة حيث إنها تخدع الناس بزينتها و تغرّهم بحليّها و توقع في وهمهم و خيالهم لقيائها لهم، فعما قليل ينكشف كذبها و تتبيّن خيانتها إذا زالت عنهم.

(و الجحود الكنود) أى كثيرة الانكار و الكفران كالمرأة التي تكفر نعمة زوجها و تنكر معروفه و احسانه، و يكون من شأنها الغدر و المكر، و كذلك الدّنيا تنفر عمن رغب فيها و سمى إليها و اجتهد في عمارتها و تكون سبب هلاكه ثمّ تنتقل عنه إلى غيره.
(و العنود الصدود) لما كان من شأن الدّنيا الانحراف و الميل عن القصد و العدول عن سنن قصود الطالبين الراغبين منها، شبّهها بالعنود الصدود، و هى الناقة العادلة عن مرعى الابل و الراعية في جانب منه و وصفها بالصدود لكثرة اعراضها.

(و الحيود الميود) أى كثيرة الميل و التغيّر و الاضطراب (حالها انتقال) أى شأنها و شيمتها انتقال من حال إلى حال و انقلاب من شخص إلى شخص (و وطأتها زلزال) أى موضع قدمها متحرّك غير ثابت (و عزّها ذلّ) أى العزّ الحاصل لأهل الدّنيا بسبب الثروة و الغنى فهو ذلّ في الحقيقة، لأنّ ما تعزّز به من المال إن كان من حلال ففيه حساب و إن كان من حرام ففيه عقاب، فعزّتها موجب لانحطاط الدرجة عند اللّه سبحانه، و لذلك قال سيّد الساجدين عليه السّلام في بعض أدعية الصحيفة: فانّ الشريف من شرّفته طاعتك، و العزيز من أعزّته عبادتك.

(و جدّها هزل) قال الشارح البحراني: استعار لفظ الجدّ و هو القيام في الأمربعناية و اجتهاد لاقبالها على بعض أهلها بخيراتها كالصديق المعتنى بحال صديقه و لادبارها عن بعضهم و اصابتها له بمكروهها كالعدوّ القاصد لهلاك عدوّه، و استعار لجدّها لفظ الهزل الذي هو ضدّه، و وجه الاستعارة كونها عند اقبالها على الانسان كالمعتنية بحاله، و عند إعراضها عنه و رميه بالمصائب كالقاصدة لذلك، ثمّ تسرع انتقالها عن تلك الحال إلى ضدّها فهي في ذلك كالهازل اللّاعب.

(و علوها سفل) و هو فى معنى قوله: و عزّها ذلّ، أى العلوّ الحاصل بسببها موجب لانحطاط الرتبة في الاخرة.
(دار حرب و سلب و نهب و عطب) أى دار محاربة أو دار سلب و اختلاس و غارة و هلاكة لأنّ أهلها و مالها غرض للافات و هدف للقتل و الغارات، أو أنّ مالها يسلب عن أهلها و يحرب و ينهب بموت صاحب المال و هلاكه (أهلها على ساق و سياق) إن فسر الساق بساق القدم فالمراد بالجملة الاشارة إلى زوالها و انقضائها، يعني أنّ أهلها قائمون على سوقهم و أقدامهم مستعدون للسياق و المسير إلى الاخرة، و إن فسّر بالشّدة فالمراد أنّ أهلها في شدّة و محنة و عرضة للموت، و معلوم أنها إذا كانت دار حرب و نهب و سلب و عطب يكون أهلها في شدّة لا محالة.

(و لحاق و فراق) أى أهلها يلحق بعضهم بعضا أى يلحق احياءهم بالأموات و يفارقون من الأموال و الأولاد.
(قد تحيّرت مذاهبها) من المجاز العقلي أى تحيّر أهلها في مذاهبها و مسالكها لا يهتدون إلى طريق جلب خيرها و دفع شرّها، و ذلك لاشتباه امورها و عدم وضوح سبلها الموصلة إلى المقصود.

(و أعجزت مهاربها و خابت مطالبها) إسناد الاعجاز إلى المهارب و الخيبة إلى المطالب أيضا من باب المجاز، و المراد أنّ من أراد الهرب و الفرار من شرورها فهو عاجز في مواضع الهرب، و من أراد النيل إلى عيشها و ماربها فهو خائب في محال‏الطلب، و أشار إلى بعض ملازمات الخيبة بقوله: (فأسلمتهم المعاقل) أى لم تحفظهم من الرزايا و لم تحصنهم «تحرزهم خ ل» من المنايا (و لفظتهم المنازل) أى ألقتهم و رمت بهم نحو سهام المنيّة (و أعيتهم المحاول) أى تصاريف الدّنيا و تغيّرات الزمان أو الحيل لاصلاح امورها.

ثمّ قسّم أهلها باعتبار ما يصيبهم من حوادثها و مزورها إلى أصناف بعضها أحياء و بعضها أموات و هو قوله: (فمن ناج معقور) أى مجروح كالهارب من الحرب بعد مقاساة الأحزان و الشدائد، و قد جرح بدنه، و هذا صفة الباقين في الدّنيا قد نجوا من الموت و لكن صاروا غرضا للافات.

(و لحم مجزور) أى قتيل صار لحما مقطوعا (و شلو مذبوح) قال الشّارح البحراني: أراد ذى شلو أى عضو مذبوح أي قد صار بعد الذبح أشلاء«» متفرّقة، و يحتمل أن يكون مذبوح صفة للشلو، و أراد بالذبح مطلق الشق كما هو في أصل اللغة (و دم مسفوح) أى ذى دم مسفوك (و عاض على يديه) بعد الموت ندما على التفريط في أمر اللّه و هو وصف للظالمين قال تعالى وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى‏ يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا. يا وَيْلَتى‏ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا (و صافق بكفيه) أى ضارب إحداهما على الاخرى تأسّفا و تحسّرا (و مرتفق بخدّيه) أى جاعل راحة كفّيه تحت خدّيه متكا على مرفقيه همّا و حزنا (و زار على رأيه) أى عائب على اعتقاده فانه لما كان عقيدته طول المكث و البقاء في الدّنيا و امتداد زمان الحياة و كان ذلك موجبا للالتفات بكليته إليها و انقطاعه عن الاخرة و انهما كه في الشهوات، ثمّ انكشف بالموت فساد تلك العقيدة و بطلان ذلك الاعتقاد لا جرم أزرى على رأيه و عابه (و راجع عن عزمه) أى عن قصده، و ذلك لأنّ قصده لما كان السّعى في تحصيل الدّنيا و عمارتها و الاكثار من قيناتها و كان منشأ ذلك أيضا زعم تمادى مدّة الحياة و اللّبث فيها فانكشف خلافه، كان ذلك موجبا لرجوعه عن عزمه و ندمه‏عليه، هذا.

و لما كانت الجملات«» المتعاطفات الأخيرة كلّها مشتركة المعنى في إفادة ندم الأموات«» على ما فرّطوا في جنب اللّه عقّبها بالجملة الحالية أعنى قوله: (و قد أدبرت الحيلة و أقبلت الغيلة) تنبيها بها على أنه لا ثمر للندم و لا منفعة في العضّ على اليدين و الصفق بالكفين و الارتفاق بالخدّين و لا فائدة في الازراء على الرأى و الرّجوع عن العزم، و الحال أنّه قد ولي الاحتيال و أقبل الهلاك و الاغتيال لأنّ الحيلة للخلاص من العقاب و التدبر و للفوز بالثواب إنّما هو قبل أن يغتال مخالب المنية كما قال سبحانه إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ.
و أما بعد ما أنشبت أظفارها فلا كما قال سبحانه وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ و لو قال بعد الموت حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ يقال له لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ فانقطع العلاج و امتنع الخلاص.

(و لات حين مناص هيهات هيهات) أى بعد المناص و الخلاص جدّا و الحال أنه (قد فات ما فات و ذهب ما ذهب) الاتيان بالموصول فى المقامين تفخيما بشأن الفايت الذاهب أى فات زمان تدارك السيئات، و ذهبت أيام جبران الخطيئات، و انقضى وقت تحصيل النجاة من العقوبات، و الخلاص من ورطات الهلكات.

(و مضت الدّنيا لحال بالها) أى بما فيها خيرا كان و شرّا، و قيل: أى مضت الدّنيا لما يهواه قلبها و للسّبيل الّذي أرادت و لم تكترث لحال القوم و لم تهتم لأمرهم بل نسيتهم، و هذا مثل قولهم: مضى فلان لسبيله، و مضى لشأنه.
(فما بكت عليهم السّماء و الأرض و ما كانوا منظرين) اقتباس من الاية الشريفةفي سورة الدّخان.
و اختلف في معناها على وجوه: أحدها أنّه لم تبك عليهم أهل السّماء و أهل الأرض، لأنهم لا يستحقون أن يتأسّف عليهم أحد و يحزن لفقدهم، و كأنهم توقعوا ذلك لعزّتهم و رفعة درجتهم في نظرهم.

الثّاني أنّه ما بكى عليهم المؤمنون من أهل الأرض و لم يبك عليهم أهل السّماء كما يبكون على فقد الصالحين، لأنّ هؤلاء مسخوط عليهم، و هو قريب من الوجه الأوّل.

الثّالث أنّه سبحانه أراد المبالغة في وصف القوم بصغر القدر، فانّ العرب إذا أخبرت عن عظم المصاب بالهالك قالت: بكاه السّماء و الأرض، و أظلم لفقده الشمس و القمر، قال جرير يرثى عمر بن عبد العزيز:
فالشّمس طالعة ليست بكاسفة تبكى عليك نجوم اللّيل و القمر

أى ليست مع طلوعها كاسفة نجوم اللّيل و القمر لأنّ عظم المصيبة قد سلبها ضوءها، و قال النابغة:
تبدو كواكبه و الشّمس طالعة لا النور نور و لا الاظلام اظلام‏

الرابع أن يكون ذلك كناية عن أنّه لم يكن لهم في الأرض عمل صالح يرفع منها إلى السّماء، و قد روى عن ابن عبّاس أنّه سئل عن هذه الاية فقيل: و هل يبكيان على أحد قال: نعم مصلّاه في الأرض، و مصعد عمله في السّماء، و روى عن أنس عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما من مؤمن إلّا و له باب يصعد منه عمله و باب ينزل منه رزقه، فاذا مات بكيا عليه.

قال الطبرسي: على هذا يكون معنى البكاء الاخبار عن الاختلال بعده، قال مزاحم العقيلي:

بكت دارهم من أجلهم فتهلّلت
دموعى فأىّ الجازعين ألوم‏

أ مستعبرا يبكى من الهون و البلى‏
أم آخر يبكى شجوه و يهيم‏

و قوله: و ما كانوا منظرين، أى عوجلوا بالعقوبة و لم يمهلوا، نسأل اللّه سبحانه أن يوفقنا التوبة قبل حلول الفوت، و للانابة قبل نزول الموت، و أن لا يجعلنا في زمرةمن غضب عليه اللّه، و من نادى واحسرتا على ما فرّطت في جنب اللّه، بمحمّد و آله الكرام عليهم الصّلاة و السّلام.

الترجمة

از جمله خطب بليغه آن بزرگوار است در تحريض مردمان بتقوى و پرهيزكارى مى ‏فرمايد: حق و سپاس معبود بحقى را سزا است كه آشكار است حمد او، و غالب است شكر او، و بلند است عظمت و جلال او، حمد مي كنم بر نعمتهاى متواتر او، و بر عطاهاى بزرگ و متكاثر او، چنان خداوندى كه بزرگ شد حلم او پس عفو فرمود، و عدالت بجا آورد در هر چه كه حكم نمود، و عالم شد به آن چه مى‏ گذرد و به آن چه گذشت، آفريننده مخلوقاتست با علم شامل خود، ايجاد كننده ايشان است با أمر كامل خود بدون اقتدا نمودن بكسى در ايجاد آنها، و بدون تعليم دادن ديگرى او را، و بي اندازه گرفتن مر نمونه صنعت كار حكيم را، و بى رسيدن خطا و بدون حضور جماعتى از عقلا كه مشاورت كند با ايشان در امر ايجاد.

و شهادت مى‏ دهم باين كه محمّد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بنده و رسول او است، مبعوث فرمود او را در حالتى كه مردمان سير مى‏ كردند در شدّت و ضلالت، و موج مى ‏زدند در حيرت و جهالت، در حالتى كه كشيده بود ايشان را مهارهاى هلاكت، و بسته بود بر دلهاى ايشان قفلهاى وسخ ذنوب.

وصيّت مي كنم شما را أى بندگان خدا بپرهيزكارى پروردگار، پس بدرستى كه تقوى حق خدا است بر ذمه شما، و واجب كننده است حق شما را بر خدا، و وصيت مي كنم باين كه استعانت نمائيد بر تقوى از خدا، و استعانت نمائيد از تقوى بر خدا، پس بتحقيق كه تقوى در اين روز دنيا پناه است و سپر، و در فرداى آخرت راه است ببهشت، راه آن تقوى واضح است و آشكار، و راه رونده آن صاحب ربح است و با منفعت، و أمانت گيرنده آن حافظ است آنرا از تلف.

هميشه تقوى اظهار كننده است نفس خود را بر امّتهاى كه گذشته‏ اند و باقى مانده بجهت حاجت ايشان بان در فردا زمانى كه باز گرداند خدا آنچه را كه ايجاد فرموده بود، و بگيرد آنچه را كه عطا نموده بود، و سؤال نمايد از چيزى كه احسان كرده بود، پس چه قدر كم است اشخاصى كه قبول تقوا كردند و برداشتند آنرا حق برداشتن آن جماعت متقيان كم‏اند از حيثيّت عدد، و ايشان كسانى هستند كه وصف فرموده خدا ايشان را در كتاب مجيد خود وقتى كه مى‏فرمايد- و قليل من عبادى الشكور- يعنى اندك است از بندگان من شكر كننده.

پس بشتابيد بسمعهاى خود بسوى شنيدن منافع تقوى، و مداومت نمائيد با جد و جهد خودتان بر تقوى، و عوض نمائيد آن را از هر گذشته از جهت خلف صالح بودن، و عوض نمائيد آنرا از هر چيزى كه مخالف طريق حق است در حالتى كه آن موافق حق است، و بيدار نمائيد با آن تقوى خواب خود را، و ببريد با آن روز خود را، و شعار قلبهاى خود نمائيد آن را، و بشوئيد با آن گناهان خود را، و دوا نمائيد با آن ناخوشيهاى خود را، و مبادرت كنيد با آن بسوى مرگ، و عبرت بگيريد با كسى كه ضايع ساخت تقوى را. و البته نبايد عبرت گيرد با شما كسى كه اطاعت نمايد بان، آگاه باشيد پس نگاه داريد تقوى را و نگاه دارى كنيد با آن نفس خود را.

و باشيد از دنيا دور شوندگان و بسوى آخرت شيفته‏گان، و پست مسازيد كسى را كه بلند نموده است او را تقوى، و بلند مسازيد كسى را كه بلند نموده است او را دنيا، و چشم ندوزيد بزخارف برق زننده دنيا، و گوش ندهيد بمدح كننده آن، و قبول نكنيد خواننده بدنيا را، و روشنى مخواهيد با روشنى آن، و مفتون نشويد بنفايس آن از جهت اين كه برق آن خالى است از باران، و گفتار آن دروغ است، و مالهاى او گرفته شده است بتمامى، و نفايس آن ربوده شده بناكامى.

آگاه باشيد كه دنيا مثل زن فاجره است كه متعرّض شونده مردها است، كثير التعرض است بايشان مثل حيوان سركشى است نافرمان، و كاذبست بغايت خاين، و منكرات زياده ناسپاس، و منحرفست بسيار عدول كننده و برگردانده است ‏زياده متغيّر و مضطرب، شأن آن زوال و فنا است و موضع قدم آن اضطرابست و حركت، و عزّت آن خواريست و همت آن سخريّه است و استهزا، و بلندى آن پستى است، خانه ستاندن و ربودن و غارت و هلاكت است، أهل آن بر شدّت‏اند و رحلت و بر لاحق شدن روندگان‏اند و مفارقت از باقى ماندگان.

بتحقيق متحيّر بوده است راههاى آن، و عاجز نموده محلهاى گريز از آن، و خايب و نا اميد شده مكانهاى طلب او، پس فرو گذاشت و ترك نمود ايشان را پناگاهها، و انداخت ايشان را منزلها، و عاجز ساخت آنها را انقلابات روزگار.
پس بعضى از ايشان نجات يابنده است صاحب جراحت، و بعضى گوشتى است پاره پاره، و عضوى است بريده شده، و خونيست ريخته شده، و گزنده است با دندان دستهاى خود را از روى ندامت، و زننده است كف دستهايش را بهم از روى حسرت، و نهنده است مرفقين خود را زير خدّين خود از جهت پريشانى و اندوه، و عيب كننده است بر عقيده فاسد خود، و رجوع كننده است از عزم و قصد خود.

و حال آنكه بتحقيق كه ادبار نموده حيله و تدبير، و اقبال كرده مرگ ناگهان، و نيست اين وقت وقت چاره چه دور است بغايت دور چاره و علاج، و حال آنكه فوت شد آنچه كه فوت شد، و رفت آنچه كه رفت، و گذشت دنيا بحال دل خود نه بخواهش اهل روزگار، پس نه گريست بأهل روزگار آسمان و زمين، و مهلت داده نشدند و زود گرفتار عذاب گشتند.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 189 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 190 صبحی صالح

190- و من خطبة له ( عليه‏ السلام  ) يحمد اللّه و يثني على نبيه و يعظ بالتقوى‏

حمد اللّه

أَحْمَدُهُ شُكْراً لِإِنْعَامِهِ وَ أَسْتَعِينُهُ عَلَى وَظَائِفِ حُقُوقِهِ عَزِيزَ الْجُنْدِ عَظِيمَ الْمَجْدِ

الثناء على النبي‏

وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ دَعَا إِلَى طَاعَتِهِ وَ قَاهَرَ أَعْدَاءَهُ جِهَاداً عَنْ دِينِهِ لَا يَثْنِيهِ عَنْ ذَلِكَ اجْتِمَاعٌ عَلَى تَكْذِيبِهِ وَ الْتِمَاسٌ لِإِطْفَاءِ نُورِهِ

العظة بالتقوى‏

فَاعْتَصِمُوا بِتَقْوَى اللَّهِ فَإِنَّ لَهَا حَبْلًا وَثِيقاً عُرْوَتُهُ وَ مَعْقِلًا مَنِيعاً ذِرْوَتُهُ

وَ بَادِرُوا الْمَوْتَ وَ غَمَرَاتِهِ وَ امْهَدُوا لَهُ قَبْلَ حُلُولِهِ وَ أَعِدُّوا لَهُ قَبْلَ نُزُولِهِ فَإِنَّ الْغَايَةَ الْقِيَامَةُ وَ كَفَى بِذَلِكَ وَاعِظاً لِمَنْ عَقَلَ وَ مُعْتَبَراً لِمَنْ جَهِلَ

وَ قَبْلَ بُلُوغِ الْغَايَةِ مَا تَعْلَمُونَ مِنْ ضِيقِ الْأَرْمَاسِ وَ شِدَّةِ الْإِبْلَاسِ وَ هَوْلِ الْمُطَّلَعِ وَ رَوْعَاتِ الْفَزَعِ وَ اخْتِلَافِ الْأَضْلَاعِ وَ اسْتِكَاكِ الْأَسْمَاعِ وَ ظُلْمَةِ اللَّحْدِ وَ خِيفَةِ الْوَعْدِ وَ غَمِّ الضَّرِيحِ وَ رَدْمِ الصَّفِيحِ

فَاللَّهَ اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ فَإِنَّ الدُّنْيَا مَاضِيَةٌ بِكُمْ عَلَى سَنَنٍ وَ أَنْتُمْ وَ السَّاعَةُ فِي قَرَنٍ وَ كَأَنَّهَا قَدْ جَاءَتْ بِأَشْرَاطِهَا وَ أَزِفَتْ بِأَفْرَاطِهَا وَ وَقَفَتْ بِكُمْ عَلَى صِرَاطِهَا وَ كَأَنَّهَا قَدْ أَشْرَفَتْ بِزَلَازِلِهَا وَ أَنَاخَتْ بِكَلَاكِلِهَا

وَ انْصَرَمَتِ الدُّنْيَا بِأَهْلِهَا وَ أَخْرَجَتْهُمْ مِنْ حِضْنِهَا

فَكَانَتْ كَيَوْمٍ مَضَى أَوْ شَهْرٍ انْقَضَى وَ صَارَ

جَدِيدُهَا رَثّاً وَ سَمِينُهَا غَثّاً فِي مَوْقِفٍ ضَنْكِ الْمَقَامِ وَ أُمُورٍ مُشْتَبِهَةٍ عِظَامٍ وَ نَارٍ شَدِيدٍ كَلَبُهَا عَالٍ لَجَبُهَا سَاطِعٍ لَهَبُهَا مُتَغَيِّظٍ زَفِيرُهَا

مُتَأَجِّجٍ سَعِيرُهَا بَعِيدٍ خُمُودُهَا ذَاكٍ وُقُودُهَا مَخُوفٍ وَعِيدُهَا عَمٍ قَرَارُهَا مُظْلِمَةٍ أَقْطَارُهَا حَامِيَةٍ قُدُورُهَا فَظِيعَةٍ أُمُورُهَا

وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراًقَدْ أُمِنَ الْعَذَابُ وَ انْقَطَعَ الْعِتَابُ وَ زُحْزِحُوا عَنِ النَّارِ وَ اطْمَأَنَّتْ بِهِمُ الدَّارُ وَ رَضُوا الْمَثْوَى وَ الْقَرَارَ الَّذِينَ كَانَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا زَاكِيَةً وَ أَعْيُنُهُمْ بَاكِيَةً

وَ كَانَ لَيْلُهُمْ فِي دُنْيَاهُمْ نَهَاراً تَخَشُّعاً وَ اسْتِغْفَارًا وَ كَانَ نَهَارُهُمْ لَيْلًا تَوَحُّشاً وَ انْقِطَاعاً

فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُمُ الْجَنَّةَ مَآباً وَ الْجَزَاءَ ثَوَاباً وَ كانُوا أَحَقَّ بِها وَ أَهْلَهافِي مُلْكٍ دَائِمٍ وَ نَعِيمٍ قَائِمٍ

فَارْعَوْا عِبَادَ اللَّهِ مَا بِرِعَايَتِهِ يَفُوزُ فَائِزُكُمْ وَ بِإِضَاعَتِهِ يَخْسَرُ مُبْطِلُكُمْ وَ بَادِرُوا آجَالَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ فَإِنَّكُمْ مُرْتَهَنُونَ بِمَا أَسْلَفْتُمْ وَ مَدِينُونَ بِمَا قَدَّمْتُمْ

وَ كَأَنْ قَدْ نَزَلَ بِكُمُ الْمَخُوفُ فَلَا رَجْعَةً تَنَالُونَ وَ لَا عَثْرَةً تُقَالُونَ اسْتَعْمَلَنَا اللَّهُ وَ إِيَّاكُمْ بِطَاعَتِهِ وَ طَاعَةِ رَسُولِهِ وَ عَفَا عَنَّا وَ عَنْكُمْ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ

الْزَمُوا الْأَرْضَ وَ اصْبِرُوا عَلَى الْبَلَاءِ وَ لَا تُحَرِّكُوا بِأَيْدِيكُمْ وَ سُيُوفِكُمْ فِي هَوَى أَلْسِنَتِكُمْ وَ لَا تَسْتَعْجِلُوا بِمَا لَمْ يُعَجِّلْهُ اللَّهُ لَكُمْ

فَإِنَّهُ مَنْ مَاتَ مِنْكُمْ عَلَى فِرَاشِهِ وَ هُوَ عَلَى مَعْرِفَةِ حَقِّ رَبِّهِ وَ حَقِّ رَسُولِهِ وَ أَهْلِ بَيْتِهِ مَاتَ شَهِيداً وَ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ‏وَ اسْتَوْجَبَ ثَوَابَ مَا نَوَى مِنْ صَالِحِ عَمَلِهِ وَ قَامَتِ النِّيَّةُ مَقَامَ إِصْلَاتِهِ لِسَيْفِهِ فَإِنَّ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ مُدَّةً وَ أَجَلًا

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج11  

و من خطبة له عليه السّلام و هى المأة و التاسعة و الثمانون من المختار فى باب الخطب

أحمده شكرا لانعامه، و أستعينه على وظائف حقوقه، عزيز الجند، عظيم المجد، و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله، دعا إلى طاعته و قاهر أعداءه، جهادا عن دينه، لا يثنيه عن ذلك اجتماع على تكذيبه و التماس لإطفاء نوره. فاعتصموا بتقوى اللّه فإنّ لها حبلا وثيقا عروته، و معقلا منيعا ذروته، و بادروا الموت و غمراته، و امهدوا (و أمهدوا خ) له قبل حلوله، و أعدّوا له قبل نزوله، فإن الغاية القيمة، و كفى بذلك واعظا لمن عقل، و معتبرا لمن جهل، و قبل بلوغ الغاية ما تعلمون: من ضيق الأرماس، و شدّة الإبلاس، و هول المطّلع و روعات الفزع و اختلاف الأضلاع، و استكاك الأسماع، و ظلمة اللّحد، و خيفة الوعد و غمّ الضّريح، و ردم الصّفيح. فاللّه اللّه عباد اللّه فإنّ الدّنيا ماضية بكم على سنن، و أنتم و السّاعة في قرن، و كأنّها قد جاءت بأشراطها، و أزفت بأفراطهاو وقفت بكم على صراطها، و كأنّها قد أشرفت بزلازلها، و أناخت بكلاكلها، و انصرفت (و انصرمت خ ل) الدّنيا بأهلها، و أخرجتهم من حضنها، فكانت كيوم مضى، أو شهر انقضى، و صار جديدها رثّا، و سمينها غثّا، في موقف ضنك المقام، و أمور مشتبهة عظام، و نار شديد كلبها، عال لجبها، ساطع لهبها، متغيّظ زفيرها، متأجّج سعيرها، بعيد خمودها، ذاك وقودها، مخوف وعيدها، غمّ قرارها مظلمة أقطارها، حامية قدورها، فظيعة أمورها.

و سيق الّذين اتّقوا ربّهم إلى الجنّة زمرا، قد أمن العذاب، و انقطع العتاب، و زحزحوا عن النّار، و اطمأنّت بهم الدّار، و رضوا المثوى و القرار، الّذين كانت أعمالهم في الدّنيا زاكية، و أعينهم باكية، و كان ليلهم في دنياهم نهارا، تخشّعا و استغفارا، و كان نهارهم ليلا توحّشا و انقطاعا، فجعل اللّه لهم الجنّة مابا، و الجزاء ثوابا، و كانوا أحقّ بها و أهلها، في ملك دائم و نعيم قائم. فارعوا عباد اللّه ما برعايته يفوز فائزكم، و بإضاعته يخسر مبطلكم و بادروا اجالكم بأعمالكم، فإنّكم مرتهنون بما أسلفتم، و مدينون بما قدّمتم، و كأن قد نزل بكم المخوف، فلا رجعة تنالون، و لاعثرة تقالون.

استعملنا اللّه و إيّاكم بطاعته و طاعة رسوله، و عفا عنّا و عنكم بفضل رحمته، ألزموا الأرض و اصبروا على البلاء، و لا تحرّكوا بأيديكم و سيوفكم و هوى ألسنتكم، و لا تستعجلوا بما لم يعجّله اللّه لكم، فإنّه من مات منكم على فراشه و هو على معرفة حقّ ربّه و حقّ رسوله و أهل بيته مات شهيدا، و وقع أجره على اللّه، و استوجب ثواب ما نوى من صالح عمله، و قامت النّيّة مقام إصلاته بسيفه، فإنّ لكلّ شي‏ء مدّة و أجلا.

اللغة

(الوظائف) جمع الوظيفة و هو ما يقدّر للانسان من عمل و رزق و طعام و غير ذلك، و وظفت عليه العمل توظيفا قدّرته (و قاهر أعداءه) و في بعض النسخ قهر أعداءه يقال: قهره قهرا غلبه فهو قاهر و (ثنيت) الشي‏ء ثنيا من باب رمى إذا عطفته و رددته، و ثنيته عن مراده إذا صرفته عنه و (المعقل) بفتح الميم و كسر القاف قريب من الحصن و يطلق على الملجأ و (الذّروة) بضمّ الذال و كسرها من كلّشي‏ء أعلاه و (مهد) الرّجل مهدا من باب منع كسب و عمل و مهده كمنعه بسطه و هيّأه و المهد للصّبي السّرير الذي هيّأ له و يقال بالفارسيّة گهواره، في نسخة الشارح المعتزلي و أمهدوا له من باب الافعال أى اتّخذوا له مهادا أى بساطا و فراشا قال سبحانه: «وَ لَبِئْسَ الْمِهادُ» أى بئس ما مهّد لنفسه في معاده.

و (الرمس) التراب تسميته بالمصدر ثمّ سمّى به القبر و يجمع على أرماس و رموس مثل فلس و فلوس و رمست الميّت رمسا من باب قتل دفنته و أرمسته بالألف لغةو (ابلس) الرّجل ابلاسا حزن و سكت من غم و ابلس فلان آيس قال تعالى «فَلَمَّا نَسُوا ما» و منه سمّى ابليس لإياسه من رحمة اللّه تعالى.

و (طلع) الشمس طلوعا ظهر قال الفيومي و كلّ ما بدا لك من علوّ فقد طلع عليك، و طلعت الجبل طلوعا يتعدّى بنفسه أى علوته و طلعت فيه رفعته و اطلعت زيدا على كذا مثل أعلمته وزنا و معنى فاطلع على افتعل أى اشرف عليه و علم به، و المطّلع مفتعل اسم مفعول موضع الاطلاع من المكان المرتفع إلى المكان المنخفض و هول المطّلع من ذلك شبه ما يشرف عليه من امور الاخرة بذلك، و قال الطريحى و في الدّعاء و أعوذ بك من هول المطّلع، بتشديد الطاء المهملة و الباء للمفعول أمر الاخرة و موقف القيامة الذي يحصل الاطلاع عليه بعد الموت.

و (استكت) مسامعه أى صمتت و (اللّحد) الشقّ في جانب القبر و الجمع لحود مثل فلس و فلوس و اللّحد بالضمّ لغة و جمعه ألحاد مثل قفل و أقفال و لحدت اللحد لحدا من باب منع حفرته و لحدت الميّت و ألحدته جعلته في اللّحد.
و (غمّه) الشي‏ء غمّا من باب قتل غطاه و منه قيل للحزن غمّ لأنّه يغطى السرور و (ردمت) الثلمة و نحوها ردما من باب قتل سددتها و (صفح) السّيف بفتح الصاد و ضمّها عرضه، و هو خلاف الطول، و الصفح بالفتح من كلّ شي‏ء جانبه، و الصّفحة مثله و يقال لكلّ شي‏ء عريض صفيحة و صفيح و منه الصّفيح الأعلى للسّماء.

و (السّنن) محرّكة الطريقة و (القرن) محرّكة الحبل الذي يشدّ به البعير و (الأشراط) جمع شرط بالتحريك مثل أسباب و سبب و هو العلامة و (الافراط) جمع فرط بالتحريك أيضا و هو من يتقدّم القوم في طلب الماء يهيى‏ء الدّلاء و الارشاء يقال: فرط القوم فروطا من باب قعد إذا تقدّم لذلك يستوى فيه الواحد و الجمع يقال: رجل فرط و قوم فرط، و منه يقال للطفل الميّت: اللّهمّ اجعله فرطا، أى أجرا متقدّما، و فى بعض النسخ بافراطها مصدر أفرط يقال أفرط في الشي‏ء افراطا أى تجاوز عن الحدّ و بلغ الغاية.

و (الكلاكل) جمع كلكل و هو الصّدر و يقال للأمر الثقيل: قد أناخ عليهم بكلكله، أى هدّهم و رضّهم كما يهدّ البعير البارك من تحته بصدره و (انصرفت الدّنيا) و في بعض النسخ و انصرمت بمعنى انقضت و (الموقف) و زان مسجد موضع الوقوف و (ذكى) النار بالذال المعجمة و ذكّيتها بالتثقيل أى أتممت وقودها.

و (الوقود) بالضم المصدر من وقدت النار و قدا و وقدا و وقدة و وقودا و وقدانا اشتعلت و بالفتح ما يوقد به قال الشارح المعتزلي: و وقودها ههنا بضمّ الواو و هو الحدث، و لا يجوز الفتح لأنّه ما يوقد به كالحطب و نحوه، و ذاك لا يوصف بأنه ذاك، و أقول إن أغمضنا عن ضبط النسخ فما ذكره من العلّة لا ينهض باثبات كونه بالضمّ إذ كما يصحّ أن يقال نار تام الاشتعال، فكذلك يصحّ أن يقال نار تام الحطب، و هو ظاهر نعم لو علله بأنه عليه السّلام جعله في مقابل الخمود و هو قرينة على كونه بالضمّ لأنّ الخمود إنما يقابل الاشتعال لكان حسنا.

و (غمّ قرارها) صفة مشبّهة من الغمّ بمعنى التغطية أو من غم اليوم فهو غمّ أى اشتد حرّه فيأخذ بالنفس و (المثوى) بفتح الميم و العين المنزل و المقام من ثوى بالمكان و فيه أقام و (زكا) الرّجل يزكو إذا صلح فهو زاك.
و قوله (فلا رجعة تنالون) قال الشارح المعتزلي: الرواية بضمّ التاء أى تعطون يقال أنلت فلانا مالا منحته، و قد روى تنالون بفتح التاء.

الاعراب

قوله: شكرا لانعامه، منصوب على المصدر بغير لفظ فعله و هو أحمد لكون المراد بالحمد هنا الشكر بقرينة انعامه، و عزيز الجند و عظيم المجد، منصوبان على الحال من الضمير في أستعينه و ليس اضافتهما إلى المعرفة مانعة من حاليتهما لأنها اضافة لفظية لا تفيد إلا تخفيفا فلا يخرجان من النكارة الّتي هى شرط الحال و جهادا منصوب على الحال من فاعل قاهر لكونه بمعنى الفاعل أى مجاهدا و قال الشارح البحراني: إنّه انتصب نصب المصادر عن قوله قاهر من غير لفظه إذفي قاهر معنى جاهد، و عن دينه عن هنا بمعنى التعليل كما في قوله تعالى «وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ» و قوله «وَ ما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ» و يجوز إبقاؤها على معناها الأصلي بتضمين جهادا معنى الذّب و الدّفع و الابعاد.

و جملة لا يثنيه منصوب المحلّ على الحالية أيضا من فاعل دعا أو قاهر.
و قوله: و قبل بلوغ الغاية، ظرف مستقرّ متعلّق بمقدّر في محلّ الرّفع على الخبر قدّم على مبتدئه و هو قوله: ما تعلمون أى ما تعلمونه حاصل قبل بلوغ الغاية، و جملة المبتدأ و الخبر في محلّ النصب حال من فاعل كفى و الرابط للحال هو الواو، و العجب من الشارح البحراني أنه جعل الواو للعطف و قال: قوله: و قبل بلوغ الغاية ما تعلمون عطف على قوله قبل نزوله، و فيه من السماجة ما لا يخفى و من في قوله: من ضيق بيان لما.

و قوله: فاللّه اللّه، منصوبان بالتحذير أى اتّقوا اللّه، أو بالاغراء أى راقبوا اللّه أو اعبدوا له و نحو ذلك قال نجم الأئمة الرضي: و حكمة اختصاص وجوب الحذف يعني حذف العامل بالمحذر منه المكرر كون تكريره دالا على مقارنة المحذر منه للمحذر بحيث يضيق الوقت إلّا عن ذكر المحذر منه على أبلغ ما يمكن و ذلك بتكريره و لا يتسع لذكر العامل مع هذا المكرّر، و إذا لم يكرّر الاسم جاز إظهار العامل اتفاقا و قوله: في موقف، متعلّق بصار، و قوله: شديد كلبها، و ما يتلوه من المجرورات التي تنيف على عشرة كلّها صفات بحال متعلّقات موصوفاتها.

و قوله: و كان ليلهم في دنياهم نهارا، الموجود في النسخ برفع ليل و نصب نهار على أنهما معمولان لكان الناقصة قال الشارح البحراني: و في نسخة الرضي بخطه كأنّ ليلهم نهار برواية كأنّ للتشبيه و نصب ليل و رفع نهار، و كذا في القرينة الثانية أعنى قوله: و كأنّ نهارهم ليلا برواية كأنّ نهارهم ليل.

و قوله و كأن قد نزل، كأن مخفّفة من المثقّلة و اسمها ضمير شأن مستتر، و قوله فلا رجعة تنالون و لا عثرة تقالون، كلمة لا لنفى الجنس، و رجعة و عثرة في بعض‏النسخ بالبناء على الفتح و في بعضها بالنصب على الغاء لا التّبرية عن العمل و جعلهما مفعولين مقدمين على فعليهما.

و قوله: و لا تحرّكوا بأيديكم و سيوفكم و هو ألسنتكم، هكذا في بعض النسخ و عليه فيحتمل زيادة الباء في المفعول أى لا تحرّكوا أيديكم اه على حدّ قوله تعالى «وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ» و يؤيّده ما في بعض النسخ من إسقاط الباء، و يحتمل عدم زيادتها بأن يجعل الباء للسببية و المفعول محذوفا أى لا تحرّكوا الفتنة بأيديكم و قوله و هوى ألسنتكم عطف على سيوفكم و في بعض النسخ في هوى ألسنتكم فلفظة في للظرفية المجازيّة كما في قوله عليه السّلام: في النّفس المؤمنة مأئة من الابل أى في قتلها فالسّبب الّذي هو القتل متضمّن للدّية تضمّن الظرف للمظروف و هذه هي الّتي يقال إنّها للسببيّة و هذه الرواية أيضا مؤيّدة لكون الباء في قوله: بأيديكم للزيادة، و يحتمل عدم زيادتها عليها أيضا بأن تجعل للاستعانة، فافهم و يروى في بعض النسخ هوى ألسنتكم بدون في و الواو فيكون منصوبا باسقاط الخافض أى لا تحرّكوا أيديكم لهوى ألسنتكم.

المعنى

اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة من أعيان خطبة عليه السّلام و ناضع كلامه و رايقه و فيها من لطايف البلاغة و محاسن البديع و سهل التركيب و حسن السّبك خالية من التكلّف و العقادة ما لا يخفى، تكاد تسيل من رقّتها و تنحدر انحدار الماء في انسجامها، كيف و خطيبه سلام اللّه عليه و آله قطب البلاغة الذي عليه مدارها، و اليه ايرادها و اصدارها، إن ذكرت الرقة فهو عليه السّلام سوق رقيقها، أو الجزالة فهو صفح عقيقها.

و هى مسوقة في معرض النصح و الموعظة و الأمر بالتقوى و أخذ الزاد ليوم المعاد و النهى عن الرّكون إلى الدّنيا و الاغترار بزخارفها و التحذير عن الموت الذي هو هادم اللّذات و قاطع الامنيات، و التذكير بما بعده من شدائد البرزخ و ظلمات القبر و أهوال القيامة، و فورات السعير و سورات الزفير و غيرها مما تطلع عليها.

و افتتح كلامه بما هو أحقّ أن يفتتح به كلّ كلام فقال: (أحمده شكرا لانعامه) أى لأجل كونه تعالى منعما و كون النعم كلّها من عنده صغيرها و كبيرها و حقيرها و خطيرها، فانّ الشكر عليها موجب للمزيد دافع للعذاب الشديد.
روى في الصافي من العيون عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنه سئل عن تفسير الحمد للّه فقال إنّ اللّه عرف عباده بعض نعمه عليهم جملا إذ لا يقدرون على معرفة جميعها بالتفصيل لأنها أكثر من أن تحصى أو تعرف، فقال: قولوا: الحمد للّه على ما أنعم به علينا.

و قد مضى فصل واف في تحقيق معنى الشكر و ما يتعلّق به في شرح الفصل الأوّل من الخطبة الثانية.
(و استعينه على وظائف حقوقه) أى أطلب منه التوفيق و الاعانة على حقوقه الواجبة و المندوبة التي وظيفتها علىّ و قدرها في حقّى من الصوم و الصلاة و الخمس و الزكاة و البرّ و الصدقات و حجّ بيت اللّه و الجهاد في سبيل اللّه و نحوها من العبادات الموظفة و الطاعات المقرّرة.

قال في تفسير الامام عند تفسير سورة الحمد للّه و إياك نستعين على طاعتك و عبادتك و على دفع شرور أعدائك و ردّ مكائدهم و المقام على ما أمرت.
و في الاستعانة منه تعالى على وظائف حقوقه إشارة إلى أنّ القيام بمراسم حقوقه و تكاليفه لا يمكن إلّا باعانته و توفيقه سبحانه.

و ذلك لأنّ التكاليف الشرعية و الحقوق الالهية كلّها على كثرتها موقوفة على القدرة و الاستطاعة البدنية و المالية، و العبد من حيث وصف الامكان فيه عاجز ضعيف في ذاته لا يقدر على شي‏ء أصلا إلّا باقدار اللّه سبحانه و إفاضة القوى الظاهرة و الباطنة و الاعانة منه مالا و بدنا و هو مستلزم لاتّصافه تعالى بالقدرة و القوّة و العظمة و الجلال و هو معنى قوله سبحانه يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ أى الغنىّ المستقلّ في ذاته و الحميد المحمود في صفاته.

فهو القادر القاهر (عزيز الجند) و مالك الملك (عظيم المجد) فباعتبار قدرته و عزّة جنده يطلب منه الاعانة فى الجهاد، فانّ حزبه هم الغالبون، و باعتبارعظمته و مجده يطلب منه التوفيق و الامداد لاقامة مراسم حقوقه المؤدّية إلى الرشاد في يوم لا ينفع فيه مال و لا بنون، فعلم من ذلك أنه سبحانه بماله من صفة العزّة و العظمة مبدء الاستعانة به على القيام بوظايف التكاليف و لذلك عقّبه بذكر الوصفين و آثرهما على ساير أوصافه.

و لما كان أعظم حقوقه الموظفة و أهمّها بالقيام به معرفة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الاذعان برسالته اتبع ثنائه سبحانه بالشهادة برسالته قضاء لحقّه الأعظم و فرضه الأهمّ فقال: (و أشهد أنّ محمّدا) صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (عبده) المنتجب (و رسوله) المصطفى (دعا) عباده (إلى طاعته) بالحكمة و الموعظة الحسنة (و قاهر أعداءه جهادا عن دينه) أى قهرهم و غلبهم حالكونه مجاهدا لهم لأجل نصب قوائم الدّين و رفع دعائم الاسلام، أو جاهدهم جهادا طردا لهم و ابعادا عن هدم أركان الدّين و إطفاء أنوار اليقين (لا يثنيه من ذلك) أى لا يصرفه من الدعوة إلى الطاعة أو من جهاد الأعداء (اجتماع على تكذيبه) مع قلّة ناصريه و كثرة معانديه (و التماس لاطفاء نوره) أى طلبهم لابطال ما جاء به من من عند الحق مع اهتمامهم به و جدّهم فيه.

و استعار لفظ النور لما جاء به من دين الحقّ و قرنه بالاطفاء الملائم للمستعار منه فهو استعارة تحقيقية مرشّحة، و الجامع أنّ الدّين يهدى إلى الصّراط المستقيم و نضرة النعيم كما أنّ النور يهتدي به في الغياهب و الظلمات إلى نهج الرشاد و منهج الصّلاح و السّداد.

و لما ذكر الغرض الأصلى من البعثة و الرسالة و هو الدّعوة إلى الدّين و الطاعة و نبّه على أنّ جهاد الكافرين قد كان لحماية الدّين أردف ذلك بأمر المؤمنين بحماية حماه و المواظبة عليه اجابة لدعوة الرسول و قضاء لحقّ ما لهم من الايمان فقال: (فاعتصموا بتقوى اللّه) الّتي هي الزاد و بها المعاد، زاد رابح و معاد منجح و تقواه عبارة عن طاعته و عبادته و خشيته و هيبته و هى عاصمة مانعة من عذاب النار و غضب الجبار، و لذلك أمرهم بالاعتصام بها و علّله بقوله (فانّ لها حبلا وثيقا عروته) أى محكما مقبضه لا يخشى من انفصامه، و استعار لفظ الحبل لدين الاسلام و هو استعارة تحقيقية و رشّحها بالوصف لوثاقة العروة و الجامع أنّ التّمسك بدين الاسلام سبب النجاة عن الرّدى كما أنّ التمسّك بالحبل الموثوق به سبب السّلامة عن التردى.

و قد وقع نظير هذه الاستعارة في الكتاب الكريم قال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا أى بدينه الاسلام و الايمان به.
قال في الكشاف: قولهم اعتصمت بحبله يجوز أن يكون تمثيلا لاستظهاره به و وثوقه بحمايته بامتساك المتدلى من مكان مرتفع بحبل وثيق يأمن انقطاعه. و أن يكون الحبل استعارة لعهده و الاعتصام لوثوقه بالعهد، أو ترشيحا لاستعارة الحبل بما يناسبه و المعنى و اجتمعوا على استعانتكم باللّه و وثوقكم به و لا تفرّقوا عنه، أو و اجتمعوا على التمسك بعهده إلى عباده و هو الايمان و الطاعة.

و ربما استعير للاسلام لفظ العروة قال تعالى فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى‏ لَا انْفِصامَ لَها قال الصّادق عليه السّلام: هى الايمان باللّه وحده لا شريك له.
و قال تعالى أيضا وَ مَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى‏.

و بالجملة فقد أمر أمير المؤمنين عليه السّلام بالاعتصام بالتقوى معلّلا بأنّ لها حبلا وثيق العروة، ففيه تنبيه على أنّ المعتصم بالتقوى متمسك بالحبل المتين و العروة الوثقى التي ليس لها انفصام و لا انقطاع، و هو الدّين القويم و الحنيفيّة البيضاء، فيستفاد منه أنّ من لم يعتصم بها لم يتمسّك بالعروة الوثقى فقد ضلّ و غوى و تهوّر في النار و تردّى كما صرّح عليه السّلام به في المختار المأة و السادس بقوله «فمن يبتغ غير الاسلام دينا تتحقّق شقوته و تنفصم عروته و تعظم كبوته و يكن مابه الحزن الطويل و العذاب الوبيل، هذاو علل اخرى بقوله (و معقلا منيعا ذروته) أى ملجئا مانعا أعلاه لمن التجأ إليه من نيل المكروه.

و الظاهر أنه استعار لفظ المعقل لمقام القرب من الحقّ فكما أنّ المعقل يمنع الملتجي‏ء إليه من اصابة السّوء فكذلك التقرّب إلى اللّه سبحانه يمنع المتقرّب من نيل المكاره و المساوى، فيكون محصّل المعنى أنّ من اعتصم بالتقوى فقد التجأ إلى معقل منيع و حصن حصين و ذلك الحصن هو رضوان اللّه سبحانه و الزلفى لديه.

قال سبحانه لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ و قال «وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ هذا.

و قد شبّه عليه السّلام نفس التقوى بالحصن و الحرز في بعض كلماته و هو قوله في المختار المأة و الأربعة و الخمسين: اعلموا عباد اللّه أنّ التقوى دار حصن عزيز و الفجور دار حصن ذليل لا يمنع أهله و لا يحرز من لجأ إليه.
و لما أمر بالاعتصام بالتقوى عقّبه و أكّده بالأمر بالمسارعة إلى الموت فقال (و بادروا الموت و غمراته) أى شدائده و سكراته، و معنى المبادرة إليه المسارعة إليه بالخيرات و الصّالحات قال سبحانه فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ وَ سارِعُوا إِلى‏ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أى سارعوا إلى أسباب المغفرة و موجباتها و هي الأعمال الصّالحة لتكون زادا للموت و لما بعده من الشدائد و الأهوال.

ففى الحقيقة أمره عليه السّلام بمبادرة الموت إلزام بالسّرعة إلى تهيئة الأسباب و المقدّمات النافعة عند قدومه، و إلّا فلموت كلّ أحد أجل معيّن لا يتقدّم عليه و لا يتأخّر، و هو كذلك فلا يتصوّر فيه المسارعة و البدار قال سبحانه وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ».
و يوضح ما قلناه قوله عليه السّلام (و امهدوا له قبل حلوله) فانّه توضيح و تفسير للفقرة السابقة، أى اعملوا له و اكتسبوا من صالح الأعمال لأجله قبل حلوله.

(و أعدّوا له قبل نزوله) أى هيّؤوا له من الحسنات و الصالحات قبل نزوله، لأنّه إذا نزل و الزاد معدّ و الأسباب ممهّدة و المقدّمات مهيّأة فلا يكون في نزوله تكلّف و لا محنة، بل يكون بمنزلة ضيف عزيز في قدومه قرّة عين للمضيف لكونه واسطة للوصول إلى محبوبه و النيل إلى مطلوبه و للخروج من دار الفناء إلى دار البقاء و من بيت الذّلّ و المحنة إلى بيت العزّ و المنعة، و من مجالسة الأشرار إلى مرافقة الأبرار.

فطوبى لمن كان موته سببا للنزول على حظاير القدس و مجالس الانس، و ويل لمن لم يمهد الزاد و لم يدّخر للمعاد و قدم عليه موته بلا مهاد فأخرجه إلى بيت وحدة و منزل وحشة و مفرد غربة، فصار له من الصفح أجنان و من التراب أكفان و من الرّفات جيران، فقارب و سدّد و اتّق اللّه وحده و لا تستقلّ الزاد فالموت طارق هذا.

و علّل البدار إلى الموت و أخذ الزاد و المهاد له بقوله (فانّ الغاية القيامة) إنذارا و تحذيرا بذكر الغاية، و تنبيها على أنّ البلية ليست منحصرة في الموت و الأمر بأخذ الزاد ليس لأجله فقط، بل هو أوّل منازل الاخرة و الداهية الدّهياء و المصيبة العظماء آخر منازلها و هو يوم القيامة التي إليها مصير الخلايق «يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ» «يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَ تَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَ تَرَى النَّاسَ سُكارى‏ وَ ما هُمْ بِسُكارى‏ وَ لكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ».
(و كفى بذلك واعظا لمن عقل) أي كفى ذكر الموت و غمراته و القيامة و شدائدها، واعظا للعقلاء (و معتبرا لمن جهل) أي محلّ عبرة للجهلة و الغافلين.
(و) الحال أنّ (قبل بلوغ الغاية ما تعلمون) و هو تحذير بأهوال البرزخ و دواهيه.
و في إتيان المسند إليه بالموصول و إبهامه من التهويل و التفخيم ما لا يخفى، مثل قوله سبحانه «فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ».

ثمّ فسّر هذه الأهوال و فصّلها، لأنّ ذكر الشي‏ء مبهما ثمّ مفسّرا أوقع في‏النفوس فقال: (من ضيق الأرماس) و القبور (و شدّة الابلاس) أي الهمّ و الغمّ و الحزن بمفارقته من المال و الأولاد و الوطن و انقطاعه من الأحباب و احتباسه في سجن التراب (و هول المطّلع) أي هول موقف الاطلاع و مقام الاشراف على الامور الاخرويّة من الأهوال و الأفزاع الّتي كان غافلا عنها و كانت محجوبة منه فاطلع عليها و عاينها بعد الموت و ارتفاع الحجاب قال تعالى فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ.

(و روعات الفزع) أي تارات الخوف و مرّاته قال الشارح البحراني: و إنّما حسن إضافة روعات إلى الفزع و إن كان الرّوع هو الفزع باعتبار تعدّدها و هى من حيث هى آحاد مجموع أفراد مهيّة الفزع فجازت إضافتها إليها.
أقول: و مثل هذه الاضافة في كلامه عليه السّلام غير عزيز كقوله: و سكائك الهواء في الخطبة الأولى، و قوله عليه السّلام: لنسخ الرجاء منهم شفقات و جلهم، في الخطبة التسعين.

و ما ذكره الشارح من العلّة غير مطّرد إذ قد ورد في كلامه عليه السّلام لفظة رخاء الدّعة و هو من إضافة الشي‏ء إلى نفسه بدون تعدّد في المضاف.
قال نجم الأئمة الرّضي و أمّا الاسمان اللّذان ليس في أحدهما زيادة فائدة كشحط النوى و ليث أسد فالفراء يجوز إضافة أحدهما للتخفيف: قال: إنّ العرب يجيز إضافة الشي‏ء إلى نفسه إذا اختلف اللفظان، ثمّ قال الرضيّ: و الانصاف أنّ مثله لا يمكن دفعه و لو قلنا إنّ بين الاسمين في كلّ موضع فرقا لاحتجنا إلى تعسفات كثيرة.

(و اختلاف الأضلاع) أي اشتباكها الحاصل بضغطة القبر (و استكاك الأسماع) أي صممها الحاصل من شدّة الأصوات الهائلة (و ظلمة اللّحد و خيفة الوعد) أي خوف العذاب الموعود الّذى وعده اللّه في كتابه و ألسنة رسله (و غمّ الضريح) أي الكرب الحاصل بضيق القبر بعد فتحه المنازل الدّنيويّة (و ردم الصّفيح) أي سدّ الحجر العريض الّذى يسدّ به اللّحد.

و هذا كلّه تحذير للمخاطبين بما يحلّ عليهم بعد الموت و تذكير بأنهم سوف‏ ينزلون من ذروة القصور في وهدة القبور، و يستبدلون بظهر الأرض بطنا، و بالسعة ضيقا، و بالأهل غربة، و بالأمن خوفا، و بالانس وحشة، و بالنور ظلمة، و صارت الأجساد شحبة بعد بضّتها و العظام نخرة بعد قوّتها، ليس لهم من عقوبات البرزخ فترة مريحة، و لا رعدة مزيحة، و لا قوّة حاجزة، و لا موتة ناجزة، بين أطوار الموتات، و عقوبات الساعات.

(فاللّه اللّه عباد اللّه فانّ الدّنيا ماضية بكم على سنن) أي على طريقة واحدة سبيل من مضى قبلكم من السّلف الماضين و العشيرة و الأقربين فكما طحنتهم المنون و توالت عليهم السّنون فأنتم مثلهم صائرون، و على أثرهم سائرون.
فكن عالما أن سوف تدرك من مضى و لو عصمتك الراسيات الشواهق‏

(و أنتم و الساعة فى قرن) تهويل بالقيامة و قربها القريب كأنها و إياهم مشدودة بحبل واحد ليس بينهما فصل مزيد و لا أمد بعيد.

و أكدّ زيادة قربها بقوله (و كأنّها قد جاءت بأشراطها) و وجه التأكيد الاتيان بلفظة كأنّ المفيدة لتشبيهها فى سرعة مجيئها بالّتى جاءت، و الاتيان بلفظة قد المفيدة للتحقيق، و بماضويّة الجملة.
و قد اشير إلى قربها في غير واحدة من الايات القرآنيّة.

قال سبحانه في سورة بني اسرائيل أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا. قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَ يَقُولُونَ و في سورة الأحزاب يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً و فى سورة النبأ إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً. يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَ يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً و في سورة المعارج تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً و في سورة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها أى علاماتها و اماراتها الّتي تدلّ على قربها.

روى في الصافى من العلل عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أجوبة مسائل عبد اللّه بن سلام‏أما أشراط السّاعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب.
و من الكافي عن الصادق عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من أشراط الساعة أن يفشو الفالج و موت الفجأة.
و من روضة الواعظين عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ من أشراط الساعة أن يرفع العلم و يظهر الجهل و يشرب الخمر و يفشو الزّنا و يقلّ الرجال و تكثر النّساء حتّى أنّ الخمسين امرأة فيهنّ واحد من الرجال.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي عن أبيه عن سليمان بن مسلم الخشاب عن عبد اللّه بن جريح المكّي عن عطاء بن أبي رياح عن عبد اللّه بن عبّاس قال: حججنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حجّة الوداع فأخذ بحلقة باب الكعبة ثمّ أقبل علينا بوجهه فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ألا اخبركم بأشراط السّاعة و كان أدنى منه يومئذ سلمان ره فقال: بلى يا رسول اللّه.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ من أشراط القيامة إضاعة الصّلوات و اتّباع الشهوات و الميل إلى الأهواء و تعظيم أصحاب المال و بيع الدّين بالدّنيا، فعندها يذوب قلب المؤمن في جوفه كما يذب الملح في الماء مما يرى من المنكر فلا يستطيع أن يغيّره، قال سلمان: و إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إي و الّذي نفسي بيده إنّ عندها يليهم أمراء جورة و وزراء فسقة و عرفاء ظلمة و امناء خونة، فقال سلمان و إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إي و الّذي نفسي بيده يا سلمان إنّ عندها يكون المنكر معروفا و المعروف منكرا و يؤتمن الخائن و يخون الأمين و يصدق الكاذب و يكذب الصادق قال سلمان و إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إي و الّذي نفسي بيده يا سلمان فعندها تكون امارة النساء و مشاورة الاماء و قعود الصبيان على المنابر، و يكون الكذب ظرفا و الزكاة مغرما و الفي‏ء مغنما و يجفو الرجل والديه و يبرء صديقه و يطلع الكوكب المذنب، قال سلمان: و إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه‏قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إي و الّذى نفسي بيده يا سلمان و عندها تشارك المرأة زوجها في التجارة و يكون المطر قيضا و يغيض الكرام غيضا و يحتقر الرّجل المعسر فعندها تقارب الأسواق إذا قال هذا لم أبع شيئا و قال هذا لم أربح شيئا فلا ترى إلّا ذا مّاللّه، قال سلمان: إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إي و الّذى نفسي بيده يا سلمان فعندها يليهم أقوام إن تكلّموا قتلوهم و إن سكتوا استباحوهم ليستأثرون بفيئهم و ليطؤن حرمتهم و ليسفكنّ دماءهم و ليملأنّ قلوبهم دغلا و رعبا فلا تراهم إلّا وجلين خائفين مرعوبين مرهوبين، قال سلمان: و إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إي و الّذى نفسي بيده يا سلمان إنّ عندها يؤتى بشي‏ء من المشرق و شي‏ء من المغرب يلون امّتي فالويل لضعفاء امّتي منهم و الويل لهم من اللّه لا يرحمون صغيرا و لا يوقرون كبيرا و لا يتجافون «يتجاوزون خ» عن مسي‏ء جثّتهم جثّة الادميّين و قلوبهم قلوب الشياطين، قال سلمان: و إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إي و الّذى نفسى بيده يا سلمان و عندها يكتفى الرّجال بالرّجال و النساء بالنساء و يغار على الغلمان كما يغار على الجارية في بيت أهلها و تشبه الرجال بالنساء و النساء بالرّجال و يركبن ذوات الفروج السّروج فعليهنّ من امّتي لعنة اللّه قال سلمان: و إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إي و الّذي نفسي بيده يا سلمان إنّ عندها تزخرف المساجد كما تزخرف البيع و الكنايس و تحلّي المصاحف و تطول المنارات و تكثر الصفوف بقلوب متباغضة و ألسن مختلفة، قال سلمان: و إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إي و الّذي نفسي بيده يا سلمان و عندها تحلّي ذكور أمّتي بالذهب و يلبسون الحرير و الدّيباج و يتّخذون جلود النمور صفافا، قال سلمان: و إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إي و الّذي نفسي بيده يا سلمان و عندها يظهر الرّبا و يتعاملون بالعينة و الرشاء و يوضع الدّين و ترفع الدّنيا، قال سلمان: إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه قال صلّى اللّه عليه و آله: إي و الّذي نفسي بيده يا سلمان و عندها يكثر الطلاق فلا يقام للّه حدّ و لن يضرّ اللّه شيئا، قال سلمان: و إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إي و الّذي نفسي بيده يا سلمان و عندها تظهر القينات «المغنيات خ» و المعازف و تليهم أشرار أمّتي، قال سلمان: و إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إي و الّذي نفسي بيده يا سلمان و عندها تحجّ أغنياء أمّتي للنزهة و تحجّ أوساطها للتجارة و تحجّ فقرائهم للرياء و السّمعة فعندها يكون أقوام يتعلّمون القرآن لغير اللّه و يتّخذونه مزامير و يكون أقوام يتفقّهون لغير اللّه و يكثر أولاد الزّنا و يتغنّون بالقرآن و يتهافتون بالدّنيا، قال سلمان: إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه قال صلّى اللّه عليه و آله: إي و الّذي نفسي بيده يا سلمان ذلك إذا انتهكت المحارم و اكتسب الماثم و تسلّط الأشرار على الأخيار و يفشوا الكذب و تظهر الحاجة «اللّجاجة خ» و تفشو الفاقة و يتباهون في اللباس و يمطرون في غير أوان المطر و يستحسنون الكوبة و المعازف و ينكرون الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر حتّى يكون المؤمن في ذلك الزّمان أذلّ من الأمة و يظهر قرّاؤهم و عبّادهم فيما بينهم التلازم «خ التلاوم» فأولئك يدعون في ملكوت السّماوات الأرجاس الأنجاس قال سلمان: و إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه قال صلّى اللّه عليه و آله: إي و الّذي نفسي بيده يا سلمان فعند ذلك لا يخشى الغنيّ إلّا الفقر حتّى أنّ السائل يسأل فيما بين الجمعتين لا يصيب أحدا يضع فى كفّه شيئا، قال سلمان: و إنّ هذا لكائن يا رسول اللّه قال صلّى اللّه عليه و آله: إي و الّذي نفسي بيده يا سلمان عندها يتكلّم الرويبضة فقال سلمان و ما الرّويبضة يا رسول اللّه فداك أبى و أمّى قال يتكلّم في أمر العامّة من لم يكن يتكلّم، فلم يلثبوا إلّا قليلا حتى تخور الأرض خورة فلا يظنّ كلّ قوم إلّا أنّها خارت في ناحيتهم فيمكثون ما شاء اللّه ثمّ ينكثون في مكثهم فتلقي لهم الأرض أفلاذ كبدها قال: ذهب و فضّة ثمّ أومى بيده إلى الأساطين فقال: مثل هذا، فيومئذ لا ينفع ذهب و لا فضّة فهذا معنى قوله: فقد جاء أشراطها.
(و أزفت بأفراطها) أي قربت بمقدماتها فتكون عطف تفسير للجملة السابقة، و على رواية افراطها بكسر الهمزة فالمعني أنها قربت بتجاوزها عن الاعتدال في‏الشدائد و الاهوال.
(و وقفت بكم على صراطها) نسبة الوقوف بهم إلى الساعة من باب المجاز العقلى، و قد مرّ تفصيل الكلام في الصراط فى شرح الفصل السادس من فصول المختار الحادى و الثمانين.

(و كأنّها قد أشرفت بزلازلها) أى أشرفت عليكم بزلازلها الهايلة و كفى شاهدا على هولها و شدّتها تهويله تعالى منها و تفخيمه لها بقوله يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْ‏ءٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَ تَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَ تَرَى النَّاسَ سُكارى‏ وَ ما هُمْ بِسُكارى‏ وَ لكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ.

قال في مجمع البيان: معناه يا أيّها العقلاء المكلّفون اتّقوا عذاب ربّكم و اخشوا معصية ربكم إنّ زلزلة الأرض يوم القيامة أمر عظيم هايل لا يطاق يوم ترونها أى الزلزلة او ان الساعة تشغل كلّ مرضعة عن ولدها و تنساه و تضع كلّ ذات حمل حملها أى تضع الحبالى ما فى بطونها، و فى هذا دلالة على أنّ الزلزلة تكون فى الدّنيا فانّ الرضاع و وضع الحمل إنّما يتصوّر فيها و من قال إنّ المراد به يوم القيامة قال إنّه تهويل، لأمر القيامة و تعظيم لما يكون فيه من الشدائد أى لو كان ثمّ مرضعة لذهلت أو حامل لوضعت و إن لم يكن هناك حامل و لا مرضعة، و ترى الناس سكارى من شدّة الخوف و الفزع، و ما هم بسكارى من الشراب و لكن من شدّة العذاب يصيبهم ما يصيبهم.

و قوله (و أناخت بكلاكلها) تمثيل لهجومها عليهم بأهاويلها الهايلة و رضّها لهم بشدائدها الفادحة باناخة الجمل المناخ الّذى ترضّ من تحته بثقله و يهده بكلكله فيكون استعارة تمثيليّة، أو أنّه شبهها بالجمل الفادح بحمله على سبيل الاستعارة بالكناية فيكون إثبات الكلكل تخييلا و الاناخة ترشيحا، و الأوّل أظهر«» و إنّما أتى بجمع لفظ الكلاكل مبالغة في شدّة أهوالها و تنبيها على كونهاكثيرة متعدّدة، هذا.

و لما ذكر أنّ الغاية القيامة و نبّه على قربها و حذّر بأهوالها و بأهوال البرزخ الّذى قبلها أردف ذلك بالتنبيه على زوال الدّنيا و فنائها و سرعة انقضائها فقال (و انصرفت الدّنيا بأهلها) أى ولّت و أدبرت ظاهر مساق الكلام يعطى كون هذه الجملة معطوفة على جملة أشرفت و أناخت، لكنّه يأبي عنه أنّ الجملتين السابقتين خبران لقوله كأنها و هذه الجملة لا يصحّ جعلها خبرا، لأنّ الضمير في كأنّها راجع إلى الساعة فلا يكون ارتباط بين اسم كأنّ و خبرها إلّا أن يجعل الضمير فيها ضمير القصّة و لكنه يبعّده أنّ كأنّها هذه عطف على قوله و كأنّها قد جاءت، و الضمير في المعطوف عليها راجع إلى الساعة قطعا فليكن في المعطوفة كذلك.

و بعد هذا كلّه فلا مناص إلّا أن يجعل الجملة مستأنفه غير مرتبطة على سابقتها و لا بأس بذلك، لأنّ الجملات السابقة في بيان أهوال الساعة، و هذه الجملة و ما يتلوها في بيان أحوال الدّنيا.
و ممّا حقّقنا ظهر فساد ما قاله الشارح البحراني حيث قال: لما كانت الأفعال من قوله: و أناخت إلى قوله: و صار سمينها غثا، معطوفا بعضها على بعض دخلت في حكم الشبه أى و كان الدّنيا قد انصرفت بأهلها و كأنّكم قد اخرجتم من حضنها إلى آخر الأفعال، و المشبّه الأوّل هو الدّنيا باعتبار حالها الحاضرة، و المشبّه به هو انصرافها بأهلها و زوالهم، و وجه الشبه سرعة المضىّ أى كأنّها من سرعة أحوالها الحاضرة كالتي وقع انصرافها، و كذلك الوجه في باقي التشبيهات انتهى.

و ملخّص وجه الفساد إنّ القواعد الأدبيّة آبية من عطف الجملات بعضها على بعض.
و قوله (و أخرجتهم من حضنها) استعارة بالكناية شبّهها بالأمّ المربّية لولدها في حضنها ثمّ اعرضت عنه و اخرجته من حضن تربيته و أسلمته إلى نفسه (فكانت) نسبتها إلى أهلها في قصر الزّمان و قلّة المدّة (كيوم مضى أو شهر انقضى).

و أشار إلى تغيّر ما فيها و فساده بقوله: (و صار جديد هارثا) أى خلقا باليا (و سمينهاغثا) أى رثيثا مهزولا قال الشارح البحراني و السمين و الغثّ يحتمل أن يريد بهما الحقيقة، و يحتمل أن يكنّى به، عمّا كثر من لذّاتها و خيراتها و تغيّر ذلك بالموت و الزوال.

أقول: لا وجه لجعل الاحتمال الثاني فى مقابل الاحتمال الأوّل قسيما له، بل هما كنايتان و لا ينافيها إرادة الحقيقة لما قد مرّ في ديباجة الشرح من أنّ الكناية استعمال اللفظ في غير ما وضع له مع جواز إرادة ما وضع له.
ثمّ الظاهر إنّهما كنايتان عمّا عليه أهل المحشر من كون أجسادهم شحبة بعد بضّتها و عظامهم و هنة بعد قوّتها لشدّة ما عاينوه من الأهوال و الشدائد.

و قوله (في موقف ضنك المقام) أى صار جديدها و سمينها رثا و غثا في موقف القيامة، و وصفه بالضنّك و الضيق لكثرة الخلايق و مزيد ازدحامهم فيه «قل إنّ الأوّلين و الاخرين لمجموعون الى ميقات يوم معلوم».
أو لصعوبة الوقوف به و طوله مع تراكم الدّواهى و الأهاويل العظيمة و عدم إمكان المخلص منها فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ وَ خَسَفَ الْقَمَرُ وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ. كَلَّا لا وَزَرَ. إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ.
(و امور مشتبهة عظام) أراد بها أهاويلها العظيمة الملتبسة التي أوجبت التحيّر في وجه الخلاص منها و النجاة عنها، فهم فيها تائهون هائمون حائرون.

و إن شئت أن تعرف تفصيل ما تضمّنه هاتان الفقرتان من هول موقف القيامة و ضيق مقامها و مزيد زحامها و زيادة شدّتها و طول مدّتها و التباس امورها فعليك بما يتلي عليك من أنبائها.
فنقول: إنّ يوم القيامة يوم عظيم شأنه، مديد زمانه، قاهر سلطانه، يوم ترى السماء فيه قد انفطرت، و الكواكب من هوله قد انتثرت، و النجوم الزواهر قد انكدرت، و الشمس قد كوّرت، و الجبال قد سيّرت، و العشار قد عطّلت، و الوحوش قد حشرت، و البحار قد سجّرت، و النفوس مع الأبدان قد زوّجت، و الجحيم قد سعّرت، و الجنّة قد ازلفت، و الأرض قد مدّت.

يوم ترى الأرض قد زلزلت فيه زلزالها، و أخرجت أثقالها.
فيومئذ وقعت الواقعة، و انشقّت السّماء فهي يومئذ واهية، و الملك على أرجائها و يحمل عرش ربّك فوقهم يومئذ ثمانية، يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية.
يوم تذهل فيه كلّ مرضعة عما أرضعت و تضع كلّ ذات حمل حملها و ترى النّاس سكارى و ما هم بسكارى و لكنّ عذاب اللّه شديد.

يوم يمنع فيه المجرم من الكلام، و لا يسأل فيه عن الاجرام بل يؤخذ بالنواصي و الأقدام.
يوم تجد كلّ نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء تودّ لو أنّ بينها و بينه أمد بعيد.
يوم تعلم فيه كلّ نفس ما احضرت، و تشهد ما قدّمت و أخّرت.
يوم يفرّ المرء من أخيه و امّه و أبيه، يوم لا يقدرون أن ينطقون و لا يؤذن لهم فيعتذرون، و على النار يفتنون، و لا ينفع مال و لا بنون.

يوم تبلى فيه السرائر و تبدى الضمائر، و تردّ فيه المعاذير.
يوم تكشف الأستار و تخشع الأبصار و تنشر الدواوين و تنصب الموازين.
يوم تسكن فيه الأصوات و يقلّ الالتفات، و تبرز الخفيّات، و تظهر الخطيئات.
يوم يساق العباد، و معهم الاشهاد، و يشيب الصغير، و يهرم الكبير.
يوم تغيّرت الألوان و خرس اللّسان و نطق جوارح الانسان و برّزت الجحيم و اغلى الحميم، و سعرّت النّار، و يئس الكفّار.

و تفكر في طول هذا اليوم الّذي تقف فيه الخلايق شاخصة أبصارهم، منفطرة قلوبهم، لا يكلّمون و لا ينظر في امورهم، يقفون ثلاثمأة عام لا يأكلون فيه اكلة، و لا يشربون فيه شربة، و لا يجدون فيه روح النسيم، و لقد أفصح عن طوله الكتاب الكريم و أبان عنه ذو العرش العظيم في سورة المعارج بقوله «تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا».

و تأمل في ازدحام الخلايق و اجتماعهم في موقف يجمع فيه أهل السّماوات‏السبع و الارضين السبع: من ملك، و جنّ، و إنسان، و وحش، و طير، و سبع، و شيطان، فأشرقت عليهم الشمس و قد تضاعف حرّها، و تبدّلت عما كان عليه من خفّة أمرها، ثمّ ادنيت من رءوس أهل العالمين مثل قاب قوسين، فأصهرتهم بحرّها، و اشتدّ كربهم و غمّهم من وهجها، ثمّ تدافعت الخلايق و دفع بعضهم بعضا لشدّة الزحام، و اختلاف الأقدام، و ضيق المقام، و انصاف إلى ذلك شدّة الخجل و الحياء، عند العرض على مليك الأرض و السماء، فاجتمع وهج الشمس و حرّ الأنفاس، و احتراق القلوب بنار الخوف، ففاض العرق من أصل كلّ شعرة حتّى سال على صعيد القيامة، ثمّ ارتفع على الأبدان فبعضهم بلغ العرق ركبتيه، و بعضهم إلى حقويه، و بعضهم إلى شحمة اذنيه.

قال عقبة بن عامر: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: تدنو الشمس من الأرض يوم القيامة فيعرض الناس، فمن الناس من يبلغ عرقه عقبه، و منهم من يبلغ نصف ساقه، و منهم من يبلغ ركبته، و منهم من يبلغ فخذه، و منهم من يبلغ خاصرته. و منهم من يبلغ فاه فألجمها، و منهم من يغطيه العرق و ضرب بيده على رأسه هكذا.
فتدبّر أيّها العاصي و الجاهل القاسي في هول ذلك اليوم و طول تعبه، و شدّة كربه و فيما عليه أهله من ضيق المقام، و طول القيام، و مساءة الحال، و عظم الشفق من سوء المال، فمنهم من يقول ربّ أرحنى من هذا الكرب و الانتظار، و لو إلى النّار.

و كلّ ذلك و لم يلقوا بعد حسابا و لا كتابا و لم يصيبوا عذابا و لا عقابا.
فكيف إذا فرغوا من الحساب و عاينوا الكتاب و حقّت عليهم كلمة العذاب.
فبيناهم وقوفا ينتظرون و يخافون العطب، و يشفقون سوء المنقلب إذ نادى مناد من عند ذى العرش المجيد «أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ».

فيبادر إليهم الزبانية بمقامع من حديد، و يستقبلونهم بعظائم التهديد، و يسوقونهم إلى العذاب الشديد (و) يدخلونهم في (نار شديد كلبها) أى شرّها و اذيهاو حارتها (عال لجبها) أى صوتها و صياحها أو اضطراب أمواجها كالبحر الزخار (ساطع لهبها) أى شعلتها (متغيّظ زفيرها) أى صوتها الناشى من توقّدها متّصف بالهيجان و الغليان.

قال الشارح البحرانيّ: و لفظ التغيّظ مستعار للنّار باعتبار حركتها بشدّة و عنف كالغضبان انتهى.
و هذا التغيظ قد نطق به القرآن في سورة الفرقان قال «بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَ أَعْتَدْنا لِمَنْ. كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها» قال: بعض المفسّرين التغيظ الصوت الّذي يهمهم به المغتاظ، و الزفير صوت يخرج من الصدر، و عن ابن عرفة أى من شدّة الحريق تغيظت الهاجرة إذا اشتدّ حميمها فكأنّ المراد الغليان.

(متأجّج سعيرها) أى متوقّد و متلهّب نارها المتحرقة (بعيد خمودها) أى سكونها (ذاك وقودها) أى وقودها متّصف بشدّة الوهج و الاشتغال (مخوف وعيدها) قال بعض الشارحين أى توعدها لأهلها بانطاقه سبحانه إيّاها أو كناية عن اشتدادها تدريجا (غمّ قرارها) أى متغطّى قعرها و قرارها بحيث لا يكاد أن يدرك بالبصر لظلمته أو غاية عمقه أو تراكم لهبه.
و في نسخة الشارح البحراني: عم قرارها، بالعين المهملة قال: اسند العمى إلى قرارها مجازا باعتبار أنّه لا يهتدى فيه لظلمته أو لأنّ عمقها لا يوقف عليه لبعده (مظلمة أقطارها) أى أطرافها و جوانبها (حامية قدورها فظيعة امورها) أى شديدة شنيعة بلغت الغاية في الشدّة و الشناعة، هذا.

و قد مضى فصل واف في أوصاف الجحيم و أهله في شرح الفصل الثالث من المختار المأة و الثمانية و إنما فصّل عليه السّلام هنا بعضها تخويفا منها و تحذيرا عنها و تنفيرا عن المعصية و متابعة الهوى الموقعة فيها و ترغيبا إلى الزّهد و التقوى العاصمة منها، لأنّ حقيقة التقوى هو أخذ الوقاية من النار و من غضب الجبّار.
و لما ذكر سوء حال المجرمين أردفه بشرح حال المتقين حثّا على اقتفاء آثارهم و اقتباس أنوارهم فقال:(و سيق الذين اتّقوا ربهم إلى الجنّة زمرا) اقتباس من الاية الشريفة في سورة الزمر و آخرها حَتَّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ أى يساقون المتّقون إسراعا بهم إلى دار الكرامة مكرمين زمرة بعد زمرة أى أفواجا متفرّقة بعضها في أثر بعض على تفاوت مراتبهم في الشرف و علوّ الدّرجة و يساقون راكبين كما عرفت في شرح الفصل التاسع من المختار الأول حتّى إذا جاؤها و قد فتحت أبواب الجنّة لهم قبل مجيئهم انتظارا بهم، و قال لهم خزنتها عند استقبالهم: سلام عليكم أى سلامة من اللّه عليكم يحيّونهم بالسلامة ليزدادوا بذلك سرورا، طبتم أى طبتم بالعمل الصّالح في الدّنيا و طابت أعمالكم الصّالحة أو طاب مواليدكم لا يدخل الجنّة إلّا طيب المولد، فادخلوا الجنّة خالدين مخلّدين و قد مضى فصل واف في وصف الجنّة و أوصاف أهلها في شرح الفصل التّاسع من المختار الأوّل و شرح الفصل الثالث من المختار المأة و الثمانية.

و قوله (قد أمن العذاب و انقطع العتاب و زحزحوا عن النار و اطمأنّت بهم الدّار و رضوا المثوى و القرار) أراد أنهم يساقون إلى الجنّة حالكونهم مأمونين من العقاب و العذاب، منقطعا عنهم خطاب العتاب، مبعدين عن النّار، مطمئنين بالدّار راضين بالمثوى و القرار، أى بالمقام و المقرّ.

و نسبة مطمئنة إلى الدار من المجاز العقلي و الاسناد إلى المكان أو من الكلام من باب الاستعارة بالكناية فانّ الدّار لما كانت مخلوقه لأجلهم معدّة لهم كما قال عزّ من قائل «وَ سارِعُوا إِلى‏ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ» شبّهها بالمنتظر لقدوم محبوبة، حتّى إذا قدم إليه ارتفع عنه الانتظار و حصل له الاطمينان، فتكون الدّار استعارة بالكناية و ذكر الاطمينان تخييلا للاستعارة.
و أما كونهم راضين بالمثوى و القرار فلأجل ما اعدّ لهم فيها من جميع ما تشتهيه أنفسهم و تلذّ أعينهم مما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر.
قال سبحانه فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ و قال إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ. جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي‏جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ و هم (الذين كانت أعمالهم في الدّنيا زاكية) أى طيبة طاهرة من شوب الشرك و الرّياء أو متّصفة بالصلاح و السداد (و أعينهم باكية) من خشية اللّه و الخوف من عذابه و الاشفاق من عقابه.

و الروايات في فضل البكاء من خشيته سبحانه كثيرة جدّا و نشير إلى بعضها فأقول: روى في الوسائل عن الصادق عن آبائه عليهم السّلام عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حديث المناهي قال: و من ذرفت عيناه من خشية اللّه كان له بكلّ قطرة قطرت من دموعه قصر في الجنة مكلّل بالدّر و الجواهر فيه ما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر.

و فيه من ثواب الأعمال عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ليس شي‏ء إلّا و شي‏ء يعدله إلّا اللّه فانه لا يعدله شي‏ء و لا إله إلّا اللّه لا يعد له شي‏ء و دمعة من خوف اللّه فانه ليس لها مثقال فان سالت على وجهه لم يرهقه قتر و لا ذلّة بعدها أبدا.

و عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كلّ عين باكية يوم القيامة إلّا ثلاثة أعين: عين بكت من خشية اللّه، و عين غضّت عن محارم اللّه و عين باتت ساهرة في سبيل اللّه.
و عن الرّضا عليه السّلام قال: كان فيما ناجي اللّه به موسى عليه السّلام أنّه ما تقرّب إلىّ المتقرّبون بمثل البكاء من خشيتي، و ما تعبّد لي المتعبّدون بمثل الورع عن محارمي و لا تزيّن لي المتزيّنون بمثل الزهد في الدّنيا عمايهم الغنى عنه، فقال موسى عليه السّلام يا أكرم الأكرمين فما أثبتهم على ذلك فقال: يا موسى أما المتقرّبون لي بالبكاء من خشيتي فهم في الرفيق الأعلى لا يشركهم فيه أحد، و أما المتعبّدون لي بالورع عن محارمي فاني افتّش الناس عن أعمالهم و لا أفتّشهم حياء منهم، و أما المتزيّنون لي بالزهد في الدّنيا فاني ابيحهم الجنّة بحذافيرها يتبوّؤن منها حيث يشاؤن.

و فيه من العيون عن الحسن بن عليّ العسكري عن آبائه عليهم السّلام قال: قال‏الصادق عليه السّلام إنّ الرجل ليكون بينه و بين الجنّة أكثر مما بين الثرى إلى العرش لكثرة ذنوبه فما هو إلّا أن يبكى من خشية اللّه عزّ و جلّ ندما عليها حتّى يصير بينه و بينها أقرب من جفنه إلى مقلته.

و فيه من الكافي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام ما من شي‏ء إلّا و له كيل و وزن إلّا الدّموع فانّ القطرة تطفي بحارا من نار، فاذا اغرورقت العين بمائها لم يرهق وجهه قتر و لا ذلّة، فاذا فاضت حرّمها اللّه على النار، و لو أنّ باكيا بكى في امة لرحموا و في عدّة الدّاعي لأحمد بن فهد الحلّي قال: و فيما أوحى اللّه إلى عيسى عليه السّلام يا عيسى ابن البكر البتول ابك على نفسك بكاء من قد ودّع الأهل و قلى الدّنيا و تركها لأهلها و صارت رغبته عند إلهه.
و فيه عن أمير المؤمنين عليه السّلام لما كلّم اللّه موسى عليه السّلام قال: إلهي ما جزأ من دمعت عيناه من خشيتك قال: يا موسى أقي وجهه من حرّ النّار و آمنه يوم الفزع الأكبر.

و فيه عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السّلام ما من قطرة أحبّ إلى اللّه من قطرة دموع في سواد اللّيل مخافة من اللّه لا يراد بها غيره.
و فيه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في خطبة الوداع: و من ذرفت عيناه من خشية اللّه كان له بكلّ قطرة من دموعه مثل جبل احد تكون في ميزانه من الأجر، و كان له بكلّ قطرة عين من الجنّة على حافّتها من المداين و القصور ما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر بقلب بشر.
و فيه عن أبي جعفر عليه السّلام أنّ إبراهيم النبىّ عليه السّلام قال: إلهى ما لعبد بلّ وجهه بالدّموع من مخافتك قال اللّه تعالى: جزاؤه مغفرتى و رضواني يوم القيامة- الى غير هذه مما لا نطيل بروايتها.

ثمّ وصف المتّقين بوصفين آخرين أحدهما قوله (و كان ليلهم في دنياهم نهارا تخشّعا و استغفارا) يعنى أنهم‏يسهرون لياليهم و يقومون من مضاجعهم و يتركون لذّة الرّقاد اشتغالا بمناجاة ربّ العباد، فيجعلون ليلهم بمنزلة النهار في ترك النوم و القرار: و يقومون بين يدي الرّب المتعال بالخضوع و الخشوع و التضرّع و الابتهال، و يواظبون على الدّعاء و الصلاة و الاستغفار إلى أن يذهب اللّيل و يؤب الفجر و النهار.

و قد مدحهم في كتابه العزيز بقوله وَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ و قال تَتَجافى‏ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا قام العبد من لذيذ مضجعه و النعاس في عينيه ليرضى ربّه عزّ و جلّ لصلاة ليله باهي اللّه به ملائكته فقال: أما ترون عبدي هذا قد قام من لذيذ مضجعه إلى صلاة لم أفرضها عليه، اشهدوا أنّى غفرت له.
و قد مضى أخبار كثيرة في فضل صلاة اللّيل و قيامه في شرح الفصل السادس من الخطبة الثانية و الثّمانين و في شرح الخطبة المأة و الثانية و الثمانين.

و أقول هنا مضافا إلى ما مرّ: يكفى في فضل قيامه أمر اللّه سبحانه رسوله صلّى اللّه عليه و آله به في قوله يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا. إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا. إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلًا.

قال أمين الاسلام الطبرسى: المعنى يا أيّها المتزمّل بثيابه المتلفّف بها، قم اللّيل للصلاة إلّا قليلا من اللّيل نصفه، بدل من الليل أى قم نصف الليل أو انقص من النصف أو زد على النصف، و قال المفسرون: أو انقص من النصف قليلا إلى الثلث أو زد على النصف إلى الثلثين.

و قوله: و رتّل القرآن ترتيلا- روى في الصافي من الكافي عن الصادق عليه السّلام أنه سئل عن هذه الاية فقال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: بيّنه بيانا و لا تهذّه هذّ الشعر و لا تنثره نثر الرّمل، و لكن افرغوا قلوبكم القاسية، و لا يكن همّ أحدكم آخر السورة إنّا سنلقى عليك قولا ثقيلا- قيل أى القرآن، لأنّه لما فيه من التكاليف ثقيل على المكلّفين، قال عليّ بن إبراهيم القميّ: قولا ثقيلا قال عليه السّلام قيام الليل و هوقوله إنّ ناشئة الليل الاية، و قيل: أى النفس التي تنشأ من مضجعها للعبادة أى تنهض أو العبادة التي تنشأ بالليل أى تحدث، و في المجمع عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السلام أنهما قالا: هى القيام في آخر الليل إلى صلاة الليل.

هى أشدّ وطأ، أى أكثر ثقلا و أبلغ مشقة، لأنّ الليل وقت الراحة و العمل يشقّ فيه، و من قرء وطاء بالمدّ فالمعنى أشدّ مواطاة للسمع و البصر يتوافق فيه قلب المصلّى و لسانه و سمعه على التفكر و التفهّم إذ القلب غير مشتغل بشي‏ء من امور الدّنيا.
و أقوم قيلا- أى أسدّ مقالا و أصوب «خ اثبت» للقراءة، لفراغ البال و انقطاع ما يشغل القلب، هذا.
و في عدة الداعى عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من كان له حاجة فليطلبها في العشاء فانّها لم يعطها أحد من الامم قبلكم، يعني العشاء الاخرة.

و في رواية في السّدس الأوّل من النصف الثاني من اللّيل، و يعضدها ما ورد من الترغيب و الفضل لمن صلّى اللّيل و النّاس نيام و في الذكر في الغافلين، و لا شكّ في استيلاء النوم على غالب الناس في ذلك الوقت، بخلاف النصف الأوّل، فانّه ربما يستصحب الحال فيه النهار، و آخر اللّيل ربما انتشروا فيه لمعايشهم و أسفارهم، و انّما مخّ«» اللّيل هو وقت الغفلة و فراغ القلب للعبادة، لاشتماله على مجاهدة النفس و مهاجرة الرقاد و مهاجرة وثير المهاد و الخلوة بمالك العباد و سلطان الدّنيا و المعاد، و هو المقصود من جوف الليل و هي ما رواه عمر بن اذينة قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّ في الليل ساعة ما يوافق فيها عبد مؤمن يصلّي و يدعو اللّه فيها إلّا استجاب له، قلت: أصلحك اللّه و أىّ ساعة الليل هي قال: إذا مضى نصف الليل، و بقي السّدس الأوّل من النصف الثاني.
و أمّا الثلث الأخير فمتواتر«» قال: صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا كان آخر الليل يقول اللّه سبحانه و تعالى: هل من داع فأجيبه، هل من سائل فاعطيه سؤاله، هل من مستغفرفأغفر له، هل من تائب فأتوب عليه.

و روى ابراهيم بن محمود قال، قلت للرّضا عليه السّلام: ما تقول في الحديث الّذي يرويه النّاس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: إنّ اللّه تعالى ينزل في كلّ ليلة إلى السماء الدّنيا فقال عليه السّلام: لعن اللّه المحرّفين الكلم عن مواضعه، و اللّه ما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كذلك إنما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه تعالى ينزل ملكا إلى السماء الدّنيا كلّ ليلة في الثلث الأخير و ليلة الجمعة من أوّل اللّيل فيأمره فينادى: هل من سائل فاعطيه سؤله، هل من تائب فاتوب عليه، هل من مستغفر فأغفر له، يا طالب الخير أقبل، يا طالب الشرّ أقصر، فلا يزال ينادى بها حتّى يطلع الفجر، فاذا طلع عاد إلى محلّه من ملكوت السماء، حدّثني بذلك أبي عن جدّي عن آبائه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

إذا عرفت ذلك فأقول: طوبى لعبد يتجافى جنبه عن المضجع و المهاد، و يسلب عن عينه لذّة الرقاد، و يشتغل بعبادة ربّ العباد، و يناجيه في غلس الظلام و الناس نيام، تارة بالقعود و السجود، و اخرى بالرّكوع و القيام، فيقوم بحضرة الملك الجليل قيام العبد الذّليل: و يجعل ذنوبه و خطاياه نصب عينيه فيبكى على حاله و يسأله أن يعفو عنه، و يرحم عليه، و يرفع إلى اللّه سبحانه يد المسكنة و السؤال، و يقول بالتضرّع و الذلّ و الابتهال:

طرقت باب الرّجا و الناس قد رقدوا
و جئت أشكو إلى مولاى ما أجد

و قلت ما املى في كلّ نائبة
و من عليه بكشف الضرّ أعتمد

أشكو إليك أمورا أنت تعلمها
مالى على حملها صبر و لا جلد

و قد مددت يدي بالذّل خاضعة
إليك يا خير من مدّت إليه يد

فلا تردّنها يا ربّ خائبة فبحر
جودك يروى كلّ من يرد

يا من يغيث الورى من بعد ما قنطوا
ارحم عبيدا أتوا بالذلّ قد نكسوا

الوصف الثاني قوله عليه السّلام: (و كان نهارهم ليلا توحّشا و انقطاعا) و هو من التشبيه البليغ المحذوف الأداة، و على رواية كأنّ بالتشديد فهو تشبيه اصطلاحى، و طرفاه‏حسيّان و قد أشير إلى وجه الشبه و هو التوحش و الانقطاع، فيكون من التشبيه المفصّل المذكور فيه أركان التشبيه بحذافيرها، و مثله القرينة السابقة أعنى قوله: و كان ليلهم نهارا اه و ما ذكرناه هنا آت ثمّة حرفا بحرف و كيف كان فالمراد إنّ المتقين جعلوا نهارهم بمنزلة اللّيل في التوحش من الخلق و الاعتزال منهم و الانقطاع عنهم إلى اللّه سبحانه و الفراغ للعبادة و الطاعة، و قد مضى تفصيل الكلام في فوايد الاعتزال و الانقطاع بما لا مزيد عليه في شرح الفصل الثاني من المختار المأة و الثاني فليراجع ثمّة.

و لما وصف حال المتّقين و تمحيضهم العبادة للّه و خلوصهم في مقام العبودية و استيحاشهم من الخلق و استيناسهم بالخالق أراد أن ينبّه على ما منحه اللّه عليهم جزاء لعملهم فقال: (فجعل اللّه لهم الجنّة مابا) أى مرجعا و منزلا و مقيلا كما قال تعالى هذا ذِكْرٌ وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ. لَحُسْنَ مَآبٍ جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً و قال لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ.

(و الجزاء ثوابا) كما قال عزّ من قائل إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً. حَدائِقَ وَ أَعْناباً.. وَ كَواعِبَ أَتْراباً. وَ كَأْساً دِهاقاً. لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَ لا كِذَّاباً. جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (و كانوا أحقّ بها و أهلها) أى بالجنّة و بأهلها من الحور العين و الولدان المخلّدين، أو أنّه من التقديم و التأخير و التقدير كانوا أهلها و أحقّ بها أى كان المتّقون أهل الجنّة و احتسابها من الفاسقين و الكافرين، أو المراد أنهم كانوا أحقّ بدخول الجنّة و أهلالها، و على أىّ احتمال ففيه إشارة إلى أنّهم بصالح أعمالهم استحقّوا بذلك الجزاء الجميل و الأجر الجزيل و كانوا أحقّ تبلك النعمة العظيمة.

و أشار إلى بقائها و عدم نفادها بقوله: (في ملك دائم و نعيم قائم) كما قال تعالى أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ. الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
ثمّ أكدّ الحثّ على التقوى بعبارة أخرى مرغبة إلى أخذها محذرة من تركهافقال (فارعوا عباد اللّه ما برعايته يفوز فائزكم و باضاعته يخسر مبطلكم) أى حافظوا على ما بحفظه و مواظبته يفوز الفائزون و هو التقوى و صالح العمل كما نطق به كتاب اللّه عزّ و جلّ قال وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَخْشَ اللَّهَ وَ يَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ و قال الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ.

و باضاعته و تركه يخسر المبطلون أى الاخذون بالباطل و سميّ‏ء العمل، و هم التاركون للتقوى و المنهمكون فى الزيغ و الزلل قال تعالى وَ يَوْمَ تَقُ فقال (فارعوا عباد اللّه ما برعايته يفوز فائزكم و باضاعته يخسر مبطلكم) أى حافظوا على ما بحفظه و مواظبته يفوز الفائزون و هو التقوى و صالح العمل كما نطق به كتاب اللّه عزّ و جلّ قال وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَخْشَ اللَّهَ وَ يَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ و قال الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ.

و باضاعته و تركه يخسر المبطلون أى الاخذون بالباطل و سميّ‏ء العمل، و هم التاركون للتقوى و المنهمكون فى الزيغ و الزلل قال تعالى وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ.
(و بادروا آجالكم) الموعودة (بأعمالكم) الصالحة أى استعدّوا للموت قبل حلول الفوت (فانّكم مرتهنون بما أسلفتم) من الذّنوب محتاجون إلى فكّ رهانتها.

قال الشارح البحراني: لفظ المرتهن مستعار للنفوس الاثمة باعتبار تقيّدها بالسيّئة و إطلاقها بالحسنة كتقيّد الرّهن المتعارف بما عليه من المال و افتكاكه بأدائه (و مدينون بما قدّمتم) أى مجزيّون به إن خيرا فخيرا و إن شرّا فشرا.
ثمّ نبّه على قرب الموت منهم بقوله (و كأن قد نزل بكم المخوف) أى أشرف عليكم و أظلكم (فلا رجعة تنالون و لا عثرة تقالون) يعني أنّه إذا نزل فليس بعد نزوله رجعة تعطوها و لا عثرة تقالون منها، لأنّ إقالة العثرات بالتوبة إنما تكون فى دار الدّنيا، لأنها دار التكليف و العمل و أمّا الاخرة فهى دار الجزاء لا ينفع فيه الندّم و الاستقالة، و لو قال أحدهم ربّ ارجعوني لعلّى أعمل صالحا فيما تركت قيل له: كلا إنّها كلمة هو قائلها و من ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون.

(استعملنا اللّه و اياكم بطاعته و طاعة رسوله) هو دعاء للتوفيق و الاعانة منه سبحانه على القيام بوظائف تكاليفه و مراسم طاعته (و عفا عنّا و عنكم بفضل) ه الواسع و كرمه السابغ و (رحمته) الّتي وسعت كلّ شي‏ء، هذا.

و لما فرغ من نصح المخاطبين و وعظهم و الدّعاء لهم بما اقتضته الحال و المقام، عقّب ذلك كلّه بالأمر بلزوم الأرض و الصبر على البلاء فقال:و (الزموا الأرض) و هو كناية عن ترك النهوض الى الحرب (و اصبروا على البلاء) و أذى الأعداء، لأنّ الصبر مفتاح الفرج و اللّه مع الصّابرين (و لا تحرّكوا بأيديكم و سيوفكم و هوى ألسنتكم) أى لا تحرّكوا شيئا منها لاثارة الفتنة و قد مضى في تفسيرها احتمالات اخر فى بيان اعرابها فتذكّر، و أراد بهوى الألسنة هفوات اللّسان و سقطات الألفاظ من السّب و الشّتم و النميمة و الغيبة و نحوها من فضول الكلام المهيجة للفتنة و الفساد الناشئة من هوى الألسنة و ميلها اليها باقتضاء هوى النفس الأمارة.

(و لا تستعجلوا بما لم يعجّله اللّه لكم) أى لا تسرعوا باتيان ما لم يفرض عليكم فيكون نسبة التعجيل إلى اللّه من باب المشاكلة أو المراد ما لم يفرضه عليكم فورا بل متراخيا و بعد حين لفقدان شرطه أو اقتضاء المصلحة لتأخيره.
قال الشارح المعتزلي: أمر عليه السّلام أصحابه أن يثبتوا و لا يعجلوا في محاربة من كان مخالطا من ذوى العقائد الفاسدة كالخوارج، و من كان يبطن هوى معاوية، و ليس خطابه هذا تثبيطا لهم عن حرب أهل الشام كيف و هو لا يزال يقرعهم و يوبّخهم عن التقاعد و الابطاء فى ذلك، و لكن قوما من خاصّته كانوا يطلعون على ما عند قوم من أهل الكوفة و يعرفون نفاقهم و عنادهم و يرومون قتلهم و قتالهم، فنهاهم عن ذلك، و كان يخاف فرقة جنده و انتشار حبل عسكره فأمرهم بلزوم الأرض و الصّبر على البلاء.

و قال الشارح البحراني: الخطاب خاصّ ممّن يكون بعده، فأمره بالصّبر في مواطنهم و قعودهم عن النهوض لجهاد الظالمين في زمن عدم قيام الامام بالحقّ بعده.
و احتمل بعض الشارحين أن يكون الأمر بالصبر عند استدعاء الأصحاب لحرب أهل الشام أو الخوارج فى زمان يقتضى المصلحة تركه و تأخيره.
أقول: و الأظهر ما قاله الشارح المعتزلي كما هو غير خفىّ على المتدبّر.
و كيف كان فلما كان أمرهم بالصّبر و الثبات موجبا ليأسهم مما كانوا يرجونه بالحرب من تحصيل السعادة و الفوز بالثواب، تدارك ذلك جبرا لانكسارقلوبهم، و بشارة لهم بقوله: (فانه من مات منكم على فراشه و هو على معرفة حقّ ربّه و حقّ رسوله و أهل بيته مات شهيدا) يعنى من مات على فراشه مذعنا بتوحيد اللّه سبحانه و رسالة رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم معتقدا بامامة الأئمة الهداة من أهل بيته لحق بدرجة الشهداء و فاز ثواب السعداء (و وقع أجره على اللّه) تعالى (و استوجب ثواب ما نوى من صالح عمله و قامت النية مقام اصلاته بسيفه) يعنى أنه استحقّ ثواب ما كان قصده الاتيان به من العمل الصالح و قامت نيّته مقام سلّه بسيفه.

و ملخصه أنّه إذا كان عارفا بحق اللّه و حق رسوله و بولاية الأئمة عليهم السّلام، و كان من نيّته الحرب لمن حارب اللّه و رسوله وقع أجره على اللّه سبحانه و استوجب الثواب الجميل و الأجر الجزيل لقيام نيّته مقام فعله، و نيّة المؤمن خير من عمله، و قد مرّ نظير مضمون هذا الكلام منه عليه السّلام في المختار الثاني عشر.

و علّل حسن الصبر و ترك الاستعجال بقوله (فانّ لكلّ شي‏ء مدّة و أجلا) لا ينبغي التسرّع إليه قبل مضىّ تلك المدّة و حلول ذلك الأجل، و باللّه التوفيق.

الترجمة

از جمله خطب شريفه آن حضرت است در ترغيب بتقوى و پرهيزكارى و تحذير أز أهاويل قيامت و شدايد برزخ و عقوبات دوزخ و تشويق بنعيم بهشت مى ‏فرمايد: شكر مي كنم خداوند را شكر كردنى از براى نعمت دادن او، و استعانت مي كنم از او بر وظيفه اى حقهاى او در حالتى كه غالب است لشكر او، و بزرگ است بزرگوارى او، و شهادت مى‏ دهم باين كه محمّد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بنده او و رسول او است دعوت فرمود آن حضرت بسوى اطاعت او، و غلبه كرد دشمنان او را در حالتى كه جهاد كننده بود از براى دين او، باز نمى ‏گردانيد او را از دعوت بطاعت اتفاق كردن كفار بر تكذيب او، و طلب نمودن ايشان فرو نشاندن نور او را.

پس تمسّك نمائيد بتقوى و پرهيزكارى از جهت اين كه مر تقوى را است ريسمانى كه محكم است گوشه آن، و پناه گاهى كه مانع است بلندى آن، و مبادرت نمائيد بسوى مرگ در سختيهاى آن، و مهيا نمائيد از براى آن مرگ پيش از حلول كردن او، و آماده نمائيد از براى آن قبل از نازل شدن او، پس بدرستى كه منتها إليه خلايق قيامت است، و كفايت ميكند مرگ و قيامت در حالتى كه واعظ است مر صاحب عقل را در حالتى كه محلّ عبرتست مر صاحب جهل را.

و پيش از رسيدن غاية كه قيامت است آن چيزيست كه مى ‏دانيد شما از تنگى قبرها، و شدّت مأيوسى، و ترس محلّ اطلاع و ترسهاى فزع عذاب و بهم در رفتن استخوانها از فشار قبر، و كر شدن گوشها، و تاريكى لحد گور، و ترس وعده عذاب و پوشانيدن شكاف قبر، و استوار كردن سنگهاى بالاى لحد.

پس بترسيد از خدا اى بندگان خدا پس بدرستى كه دنيا گذرنده است بشما بر يك طريقه، و شما و قيامت گويا بسته شده‏ايد بيك ريسمان، و گويا كه روز قيامت آمده است با علامتهاى خود، و نزديك بوده است با مقدّمات خود، و نگه داشته است شما را بالاى صراط خود، و گويا كه آن مشرف بوده با زلزلهاى خود، و فرو خوابانيده سينهاى خود را كه عبارتست از سنگينيهاى آن، و رو برگردانده دنيا بأهل خود، و بيرون كرده ايشان را از كنار تربيت خود، پس گشت دنيا بمنزله روزي كه گذشت، و بمنزله ماهى كه بنهايت رسيد، و گرديد تازه او كهنه، و فربه او لاغر در موقفى كه تنگ است محل ايستادن او و در كارهائى كه مشتبه ‏اند و بزرگ، و در آتشى كه سخت است حدت و أذيت آن، بلند است آواز آن، درخشنده است شعله آن، صاحب غيظ است صداى منكر آن، بر افروخته است آتش سوزاننده آن، دور است خاموشى آن، تمام است اشتغال آن، ترسناكست وعده آن، پوشيده است قعر آن، تاريك است اطراف آن، گرم است ريگهاى آن، فضاحت دارد كارهاى آن.

و رانده شدند با سرعت كسانى كه پرهيزكارى پروردگار خود نمودند بسوى بهشت فوج فوج در حالتى كه أمن حاصل شده است از عذاب، و بريده شده سرزنش و عتاب‏و دور كرده شده ‏اند ايشان از آتش جحيم، و آرام گرفته بايشان دار نعيم، و خوشنود شده ‏اند بمنزل و مقرّ، چنان كسانى كه بود عملهاى ايشان در دنيا پاك پاكيزه، و چشمهاى ايشان پر از گريه، و بود شب ايشان بمنزله روز از جهت خضوع و خشوع و طلب مغفرت، و روز ايشان بمنزله شب از جهت وحشت از خلق روزگار و بريده شدن از ايشان بسوى پروردگار، پس‏گردانيد خداوند عالم از براى ايشان بهشت را محلّ بازگشت، و جزاى عمل ايشان را ثواب بى‏نهايت، و بودند ايشان سزاوارتر ببهشت و أهل بهشت در پادشاهى دائمى و نعمت باقى.

پس رعايت كنيد اى بندگان خدا چيزى را كه بسبب رعايت آن فايز شود راستكار شما، و بسبب ضايع نمودن آن زيان مى ‏برد تبه‏كار شما، و مبادرت نمائيد بر اجلهاى خودتان با عملهاى خود، پس بدرستى كه شما گرو گذاشته شده ‏ايد بسبب آنچه كه پيش فرستاده ‏ايد، و جزا داده شده‏ايد بجهت آنچه كه مقدّم ساخته‏ايد، و گويا كه نازل شد بشما مرگ هولناك، پس بعد از مرگ بازگشتنى نيست كه عطا كرده شويد، و نه لغزشى كه عفو كرده شويد.

توفيق بدهد خداوند ما را و شما را باطاعت خود و اطاعت رسول خود، و عفو فرمايد از ما و از شما بافضل و احسان خود و رحمت خود، لازم بشويد و آرام باشيد در زمين خود، و صبر نمائيد بر بلا، و حركت ندهيد دستهاى خود و شمشيرهاى خود و خواهشات زبانهاى خودتان را، و تعجيل نكنيد بچيزى كه تعجيل نفرموده خداى تعالى آنرا از براى شما، پس بدرستى كه آن كس كه مرد از شما بر رختخواب خود در حالتى كه عارف باشد بحق پروردگار خود و بحق رسول خود و بحق أهل بيت او مرده است در حالتى كه شهيد بوده، و واقع شده أجر آن بر خداى تعالى، و مستحق بوده بثواب آنچه نيت كرده بود از عمل صالح خود، و نايب مى‏شود نيت او مناب بر كشيدن او شمشير خود را، پس بدرستى كه هر چيزى را مدّتى و أجلى است

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 188 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 189 صبحی صالح

189- و من كلام له ( عليه‏السلام  ) في الإيمان و وجوب الهجرة

أقسام الإيمان‏

فَمِنَ الْإِيمَانِ مَا يَكُونُ ثَابِتاً مُسْتَقِرّاً فِي الْقُلُوبِ وَ مِنْهُ مَا يَكُونُ عَوَارِيَّ بَيْنَ الْقُلُوبِ وَ الصُّدُورِ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ فَإِذَا كَانَتْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ مِنْ أَحَدٍ فَقِفُوهُ حَتَّى يَحْضُرَهُ الْمَوْتُ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَقَعُ حَدُّ الْبَرَاءَةِ

وجوب الهجرة

وَ الْهِجْرَةُ قَائِمَةٌ عَلَى حَدِّهَا الْأَوَّلِ مَا كَانَ لِلَّهِ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ‏حَاجَةٌ مِنْ مُسْتَسِرِّ الْإِمَّةِ وَ مُعْلِنِهَا

لَا يَقَعُ اسْمُ الْهِجْرَةِ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا بِمَعْرِفَةِ الْحُجَّةِ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ عَرَفَهَا وَ أَقَرَّ بِهَا فَهُوَ مُهَاجِرٌ وَ لَا يَقَعُ اسْمُ الِاسْتِضْعَافِ عَلَى مَنْ بَلَغَتْهُ الْحُجَّةُ فَسَمِعَتْهَا أُذُنُهُ وَ وَعَاهَا قَلْبُهُ

صوبة الإيمان‏

إِنَّ أَمْرَنَا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ لَا يَحْمِلُهُ إِلَّا عَبْدٌ مُؤْمِنٌ امْتَحَنَ اللَّهُ قَلْبَهُ لِلْإِيمَانِ وَ لَا يَعِي حَدِيثَنَا إِلَّا صُدُورٌ أَمِينَةٌ وَ أَحْلَامٌ رَزِينَةٌ

علم الوصي‏

أَيُّهَا النَّاسُ سَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي فَلَأَنَا بِطُرُقِ السَّمَاءِ أَعْلَمُ مِنِّي بِطُرُقِ الْأَرْضِ قَبْلَ أَنْ تَشْغَرَ بِرِجْلِهَا فِتْنَةٌ تَطَأُ فِي خِطَامِهَا وَ تَذْهَبُ بِأَحْلَامِ قَوْمِهَا

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج11  

و من خطبة له عليه السّلام و هى المأة و الثامنة و الثمانون من المختار فى باب الخطب

فمن الإيمان ما يكون ثابتا مستقرّا في القلوب، و منه ما يكون عواريّ بين القلوب و الصّدور إلى أجل معلوم، فإذا كانت لكم براءة من أحد فقفوه حتّى يحضره الموت، فعند ذلك يقع حدّ البراءة،و الهجرة قائمة على حدّها الأوّل، ما كان للّه في أهل الأرض حاجة من مستسرّ الامّة و معلنها، لا يقع اسم الهجرة على أحد إلّا بمعرفة الحجّة في الأرض، فمن عرفها و أقرّ بها فهو مهاجر، و لا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجّة فسمعتها أذنه، و وعاها قلبه، إنّ أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلّا عبد مؤمن (ملك مقرّب أو نبيّ مرسل أو مؤمن خ ل) امتحن اللّه قلبه للإيمان، و لا يعي حديثنا إلّا صدور أمينة، و أحلام رزينة، أيّها النّاس سلوني قبل أن تفقدوني فلأنا بطرق السّماء أعلم منّي بطرق الأرض، قبل أن تشغر برجلها فتنة تطأ في خطامها، و تذهب بأحلام قومها.

اللغة

(العواريّ) بالتشديد جمع العاريّة به أيضا كما عن الصحاح و غيره، قال الفيومي: و قد تخفف في الشعر و تجمع على العوارى بالتخفيف أيضا قال الفيومي و هي أى العارية مأخوذه من تعاوروا الشي‏ء و اعتوروه تداولوه، و الأصل فعلية بفتح العين قال: قال الأزهرى: نسبته إلى العارة و هى اسم من الاعارة يقال أعرته الشي‏ء إعارة و عارة مثل أطعته إطاعة و طاعة و أجبته إجابة و جابة، قال: و قال الليث سمّيت عارية لأنّها عار على طالبها، و قال الجوهرى مثله، و قال بعضهم مأخوذة من عار الفرس إذا وهب من صاحبه لخروجها من يد صاحبها قال الفيومي بعد نقل كلامهما: و هما غلط، لأنّ العارية من الواو، لأنّ العرب تقول هم يتعاورون العوارى و يعتورونها بالواو إذا عار بعضهم بعضا و اللّه أعلم، و العار و عار الفرس من الياء، قال: فالصحيح‏ما قاله الأزهرى.

و (مستسرّ الامّة و معلنها) بصيغة الفاعل يقال استسرّ القمر و خفى و السرّ ما يكتم، و أسررت الحديث إسرارا أخفيته و هو خلاف الاعلان و (مستصعب) مروىّ بفتح العين و كسرها و (شغر برجلها) رفعها و شغر الكلب شغرا من باب نفع رفع إحدى رجليه ليبول، و شغرت المرأة رفعت رجلها للنكاح و شغرتها فعلت بها ذلك يتعدّى و لا يتعدّي.

و (الخطم) بالخاء المعجمة و الطاء المشالة و زان فلس من كلّ طائر منقاره و من كلّ دابة مقدّم أنفه، و خطام البعير معروف و هو ما يوضع في أنفه لينقاد به و جمعه خطم مثل كتاب و كتب سمّى بذلك لأنه يقع في خطمه.
الاعراب
قوله: ما كان للّه اه، قال القطب الراوندي في محكىّ كلامه: ما ههنا نافية، و من في قوله: من مستسرّ الامة، لبيان الجنس أى لم يكن للّه في أهل الأرض ممّن أسرّ دينه أو أعلنه حاجة.
و قال الشارح المعتزلي: إنّها ظرفيّة و من زايدة و لا حاجة لها إلى المتعلّق قال: فلو حذفت لجرّ المستسرّ بدلا من أهل الأرض، و من إذا كانت زايدة لا تتعلّق نحو ما جائنى من أحد انتهى.
و قوله: برجلها، الضمير راجع إلى فتنة لجواز الاضمار قبل الذكر لفظا فقط

المعنى

اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة مسوقة لشرح أقسام الايمان، و قد مضى تحقيق الكلام في بيان معنى الايمان بما لا مزيد عليه في شرح المختار المأة و التاسع، و تلخّص لك ممّا حقّقناه هناك أنّه عبارة عن الاذعان و التّصديق باللّه سبحانه و برسوله‏و بولاية أمير المؤمنين و الطيّبين من ذرّيته عليهم السّلام و البراءة من أعدائهم.

و قد اختلف كلام الشراح في شرح هذه الخطبة و قصرت أفهامهم عن ادراك ما فيها من كنوز الدقايق و رموز الحقائق، و تفرّقوا في شرحها أيادى سبا و أيدى سبا و وقعوا في طخية عمياء شوهاء كما هو غير خفىّ على من راجع إلى الشروح.

و ذلك لقصور باعهم عن الاحاطة بأقطار الأخبار و أطراف الاثار المأثورة عن العترة الأطهار، فهيهات التنبّه للرّمزة الدّقيقة الشأن و اللّمحة الخفيّة المكان ممن قلّ انسه بروايات أولياء الدّين و كلمات الأئمة المعصومين سلام اللّه عليهم أجمعين إذا عرفت هذا فأقول مستمدّا من اللّه سبحانه و منه التوفيق و الاعانة: إنّ عمدة نظر أمير المؤمنين و سيّد الوصيّين سلام اللّه عليه و آله في هذه الخطبة الشريفة إلى تقسيم الايمان باعتبار ما تضمّنه من الاذعان بالولاية، لا باعتبار ما تضمّنه من الاذعان باللّه سبحانه أو بالرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقسّمه بالاعتبار الّذي ذكرنا على قسمين و قال: (فمن الايمان ما يكون ثابتا مستقرّا في القلوب و منه ما يكون عوارى بين القلوب و الصّدور إلى أجل معلوم) يعني أنّ الايمان أى التّصديق بوجود الصّانع سبحانه و ما له من صفات الجلال و نعوت الكمال و الاذعان برسالة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ما جاء به من عند اللّه و الاعتقاد بولاية الأئمة الهداة قسمان: قسم منه يكون ثابتا مستقرّا في القلوب راسخا في النّفوس و هو الايمان الحقيقي البالغ إلى مرتبة اليقين و حدّ الملكة، لا يحرّكه العواصف و لا يزيله القواصف لكونه مستندا إلى الدليل القطعي و البرهان القاطع، و إليه الاشارة بقوله سبحانه: «يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ» أى بالقول الّذي ثبت عندهم بالحجّة و البرهان و تمكّن في قلوبهم و اطمأنّت إليه أنفسهم، فلا يزلون في الدّنيا إذا افتتنوا في دينهم و لا يلتئمون في الاخرة إذا سئلوا عن معتقدهم.

و قسم آخر يكون غير راسخ فيها و لا بالغ إلى حدّ الملكة، لعدم استناده إلى‏الحجّة فيزول بتشكيك المشكك و تفتين المفتّن«» و شبهه بالعوارى باعتبار كونه في معرض الزوال كما أنّ العوارى في معرض الاسترجاع و الرّد، أو باعتبار ذهابه من القلوب و خروجه منها إن جعلنا العارية مأخوذة من عار الفرس كما قاله بعض اللّغويّين حسبما تقدّم، و هو الأنسب بالمقام.

و أتى بقوله: إلى أجل معلوم، ترشيحا للتشبيه، إذ من شأن العارية أن تستعار إلى وقت معين، و يحتمل أن يكون قيدا للمشبّه فيكون المراد أنّ بقائه في القلوب مستمرّ إلى وقت معين عند اللّه سبحانه و أجل معلوم تعلّقت مشيّته سبحانه ببقائه فيها إليه، فقد تحصّل من ذلك أنّ الايمان على قسمين مستقرّ و مستودع، هذا.

و قوله (فاذا كانت لكم براءة من أحد فقفوه حتّى يحضره الموت فعند ذلك يقع حدّ البراءة) تفريع على كون الايمان بكلا قسميه أمرا قلبيّا، يعني أنّه إذا كان الايمان أمرا باطنيّا لا يمكن العثور عليه و أردتم التبرّى من أحد بمجرّد سوء الظنّ به و زعم عدم كونه مؤمنا أو بمشاهدة المنكرات منه فاجعلوا ذلك الشخص موقوفا أى لا تسرعوا إلى البراءة منه إلى حين حضور موته، فان أدركه الموت و لم يصدر منه عمل صالح يستدل به على إيمانه أو توبة جابرة للمنكر الصادر عنه فعند ذلك يسوغ البراءة، إذ عند حضور الموت ينقطع زمان التكليف و لا يبقى بعده حالة ترجى و تنتظر، فالموت هو حدّ البراءة و منتهاها.

و بقاؤه على سوء الظاهر مدّة عمره و تركه الصالحات رأسا إلى ذلك الحدّ يكون كاشفا عن خبث باطنه، إذ بالايمان يستدلّ على الصّالحات و بالصّالحات تستدلّ على الايمان كما صرّح به في المختار المأة و الخامس و الخمسين.
و أمّا إلى حين الموت فلا تسوغ التبرّى إذ ربما يكون عمله منكرا ظاهرا و له محمل صحيح باطنا، كالكذب المتضمّن لا نجاء مؤمن من القتل أو حفظ ماله أو عرضه و نحو ذلك و عليه تدلّ الأخبار الامرة بحمل فعل المسلم على الصحّة، و على فرض‏عدم محمل صحيح لفعله و كونه قبيحا باطنا أيضا كما هو قبيح ظاهرا، فربما يتدارك ذنبه بالتوبة و نحوها.

و يفصح عنه ما رواه في البحار من كنز جامع الفوايد قال: روى شيخ الطائفة بإسناده عن زيد بن يونس الشحام قال: قلت لأبي الحسن موسى عليه السّلام: الرّجل من مواليكم عاص يشرب الخمر و يرتكب الموبق من الذنب نتبرّء منه فقال: تبرّءوا من فعله و لا تبرّءوا من خيره، و ابغضوا عمله، فقلت: يسع لنا أن نقول: فاسق فاجر فقال لا الفاسق الفاجر الكافر الجاحد لنا و لأوليائنا، أبي اللّه أن يكون وليّنا فاسقا فاجرا و إن عمل ما عمل، و لكنّكم قولوا فاسق العمل فاجر العمل مؤمن النفس خبيث الفعل طيّب الرّوح و البدن، الحديث.

و قد تقدّم تمامه في شرح الفصل الثّاني من المختار المأة و الثاني و الخمسين، هذا و يحتمل أن يكون تفريعا على خصوص القسم الأخير من الايمان، فيكون المراد به النّهى عن التسرّع إلى البراءة عن مؤمن بمحض احتمال كون إيمانه مستودعا و عارية إلى أجل معين، و احتمال انقضاء ذلك الأجل و خروجه عن وصف الايمان إلى النفاق لأنّ اليقين لا ينقض إلّا بيقين مثله، فلا بدّ من الحكم ظاهرا ببقائه على إيمانه و بأنّه مؤمن إلى أن يظهر منه إلى حين موته أمر بيّن يدلّ على خروجه من حدّ الايمان إلى حدّ الكفر و النّفاق كما ظهر من طلحة و زبير و أمثالهما من المنافقين، فعند ظهور ذلك الأمر البيّن يعلم أنّ ايمانه كان مستودعا و حينئذ يجوز التبرّى عنه، و أمّا قبل ظهوره فلا.
و يرشد إلى ذلك قول اللّه سبحانه «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» الاية.

و يرشد إليه قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيما رواه القميّ في تفسير هذه الاية من أنه لما رجع اسامة إليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أخبره بقتل مرداس اليهودي بعد أن شهد بأن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه، قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أفلا شققت الغطاء عن قلبه لا ما قال بلسانه قبلت و لا ما كان في نفسه علمت، هذا.

و لما قسّم الايمان على قسمين و كان القسم الأوّل هو المطلوب، و كانت مطلوبيّته من البديهيات الأوّليّة غنيّة عن البيان، لا جرم طوى عنه و أتى ما هو أحرى بالبيان و أهمّ بالتنبيه عليه، و هو الطريق الموصل إلى وصف الايمان فقال: (و الهجرة قائمة على حدّها الأوّل) لم تتغيّر و لم تتبدّل أى من أراد الفوز بالايمان و الوصول إلى معارج اليقين فليهاجر إلى أئمّة الدّين، لأنّ الهجرة قائمة على حدّها الأوّل الذي كان في بدء البعثة إذ الغرض الأصلي في ذلك الزّمان لم يكن إلّا الوصول إلى حضور حجّة اللّه و رسوله و تحصيل الايمان و المعرفة و معالم الشرع معه، و هذا الغرض موجود الان و يحصل بالوصول إلى حضور الأئمة لكونهم حجج اللّه على عباده و خلفائه في بلاده و قائمين مقام الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فالهجرة إليهم هجرة إليه.

و يشهد به ما رواه في الصّافي عن العيّاشي عن محمّد بن أبي عمير قال: وجّه زرارة بن أعين ابنه عبيدا إلى المدينة يستخبر له خبر أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السّلام و عبد اللّه، فمات قبل أن يرجع إليه عبيد، قال محمّد بن أبي عمير: حدثني محمد بن حكيم قال ذكرت لأبي الحسن زرارة و توجيهه عبيدا إلى المدينة، فقال عليه السّلام: إنّي لأرجو أن يكون زرارة ممّن قال اللّه تعالى «وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ».

و في الوسائل من معاني الأخبار عن حذيفة بن منصور قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: المتعرّب بعد الهجرة التارك لهذا الأمر بعد معرفته، هذا و لما ذكر قيام الهجرة و بقائها على حدّها الأوّل تنبيها بذلك على مطلوبيّتها و وجوبها أردفه بقوله (ما كان للّه في أهل الأرض حاجة من مستسرّ الامة و معلنها) إشارة إلى أنّ مطلوبيّتها ليس لأجل حاجة و افتقار منه إلى المهاجرين و غيرهم من أهل الأرض مضمرين لما قصدوه بالهجرة أو مظهرين له.
و بعبارة اخرى انّه سبحانه طلب الهجرة من المهاجرين لا لأجل حاجة منه في هجرتهم و غرض عايدة إليه تعالى من جلب منفعة أو دفع مضرّة أو طلب ثناء و محمدة، بل‏هو الغنيّ المطلق المتعالى عن الفاقة و الافتقار، و إنّما حثّهم على الهجرة و على الايمان المتحصّل بالهجرة و ساير التكاليف الشرعيّة المتفرّعة عليه لأجل ايصال النفع إلى العباد و إنجائهم من العقوبة يوم المعاد.

فهذه الجملة أعني قوله: ما كان للّه اه، بمنزلة الاستيناف البياني فانّ قوله: و الهجرة قائمة اه، لما كان دالا بدلالة التنبيه و الاشارة على مطلوبيّة الهجرة، و ربما يسبق منه إلى الأوهام القاصرة أنّ مطلوبيّتها لأجل حاجة إليها منه سبحانه أتا بهذه الجملة دفعا لذلك التوهّم.

فقد ظهر بما ذكرناه ضعف ما قاله الشّارح المعتزلي من أنّ معناه ما دام للّه في أهل الأرض المستسرّ منهم باعتقاده و المعلن حاجة أى ما دام التكليف باقيا زعما منه أنّ جعل ما نافية موجب لادخال كلام منقطع بين كلامين يتّصل أحدهما بالاخر وجه الضعف منع استلزام كونها نافية، لانقطاع هذه الجملة عما قبلها إذ قد ظهر بما ذكرناه اتّصالها و حسن ارتباطها به كما لا يخفى.

مضافا إلى أنّ وصف اللّه سبحانه بالحاجة على إبقائها على حقيقتها باطل، و على تأويلها بالمعنى المجازي كما أوّلها الشارح البحراني حيث جعل لفظ الحاجة مستعارا في حقه تعالى باعتبار طلبه للعبادة بالأوامر و غيرها كطلب ذى الحاجة لها ممّا يشمئزّ منه الطباع و يأبى عنه الذوق السليم كما لا يخفى.

و بالجملة فهذه الجملة معترضة بين الجملتين، و الغرض من الاعتراض تنزيه اللّه سبحانه من الحاجة و الافتقار إلى عبادة أهل الأرض، فهي نظير الجملة المعترضة في قوله سبحانه «وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَ لَهُمْ ما يَشْتَهُونَ» فانّ قوله: سبحانه جملة لكونه بتقدير الفعل وقعت في أثناء الكلام، لأنّ قوله: و لهم ما يشتهون، عطف على قوله: للّه البنات، و النكتة فيه تنزيه اللّه و تقديسه عما ينسبونه إليه.

و كيف كان فلما ذكر قيام الهجرة على حدّها الأوّل أوضحه و شرحه بقوله (لا يقع اسم الهجرة على أحد إلّا بمعرفة الحجّة في الأرض فمن عرفها و أقرّ بها فهو مهاجر) يعني أنّه لا يستحق أحد لاطلاق اسم المهاجر عليه و بوصفه بالهجرة إلّا بمعرفةحجّة اللّه في أرضه و الايمان به، و هذا الحجّة هو النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في زمانه و الأئمة المعصومون القائمون مقامه بعده.

و ذلك لما ذكرناه من أنّ الغرض الأصلي من الهجرة هو الوصول إلى حضور الحجة و تحصيل الايمان و المعرفة و معالم الشريعة منه لا مجرّد ترك الأوطان و الهجرة من البلدان و المسير من مكان إلى مكان، فالمهاجر في الحقيقة هو الضارب في الأرض لمعرفة إمام زمانه و الايمان به.

و يؤمى إلى ذلك ما رواه في الصافي عن عليّ بن إبراهيم القمّي (ره) في قوله «و السّابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار» قال: هم النقباء و أبو ذر و المقداد و سلمان و عمّار و من آمن و صدّق و ثبت على ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام و يدل عليه ما رواه في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن محمّد بن عيسى عن يونس ابن عبد الرحمن قال: حدّثنا حمّاد عن عبد الأعلى قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول العامة إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من مات و ليس له إمام مات ميتة جاهلية، فقال عليه السّلام: الحق و اللّه قلت: فانّ إماما هلك و رجل بخراسان لا يعلم من وصيّه لم يسعه ذلك قال: لا يسعه إنّ الامام إذا هلك وقعت حجة وصيّه على من هو معه في البلد و حقّ النفر على من ليس بحضرته إذا بلغهم إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول «وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا» قلت: فنفر قوم فهلك بعضهم قبل أن يصل فيعلم، قال: إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول «وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ».
بل لا يبعد أن يقال إنّ من عرف امام زمانه و اتبعه و آمن به فيصح أن يسمّى باسم المهاجر من دون حاجة الى المسافرة، و بعبارة اخرى مجرّد المعرفة و الاتباع كاف في صحّة التسمية كما يفصح عنه قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فمن عرفها و أقرّبها فهو مهاجر.

و صحّة إطلاقه عليه ذلك إما باعتبار اشتراكه مع المهاجر المسافر في الغاية المقصودة و ان افترقا بالمسافرة و عدم المسافرة، أو باعتبار كونه مهاجرا بسبب معرفته من الضلالة إلى الهدى كما أنّ المهاجر الاصطلاحى مهاجر من بلد إلى‏بلد آخر.

و على هذا فيكون قوله (و لا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجّة فسمعها اذنه و وعاها قبله) توكيدا لما فهم من الجملة السابقة، فانه لما كان مدلولها المطابقي على الاحتمال الأخير أنّ العارف بامام زمانه مهاجر و حقيق بأن يوصف بالمهاجريّة من دون حاجة إلى السّفر أتا بهذا الكلام توضيحا لمدلولها الالتزامي.

فيكون محصل مراده حينئذ أنّ من بلغته حجيّة الحجة فسمعها باذنه و حفظها بقلبه أى عرفها حقّ المعرفة و لو في وطنه و مع عدم تجشّم السفر فهو ليس بمستضعف بل مهاجر، و لا يجوز عدّ مثل هذا الشخص في عداد المستضعفين المستحقين للذّم و العقاب بترك المهاجرة و المسافرة المشار إليهم في قوله سبحانه «إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً» فانّ هذه الاية كما قيل نزلت في أناس من أهل مكّة أسلموا و لم يهاجروا حين كانت الهجرة واجبة في بدو الاسلام، فانّ المفروض عليهم يومئذ هو المهاجرة بالأبدان و على من بعدهم هو المعرفة و الايمان من دون لزوم الهجرة بالبدن هذا.

و لكنّ الأظهر أنّ المراد بهذه الجملة أنّ من بلغته خبر الحجّة فسمعه و وعاه بقلبه أى علم علما قطعيا بوجود الحجّة فلا يقع عليه اسم الاستضعاف أى لا يسوغ له التقصير في الايمان به و الاعتذار بكونه مستضعفا فلو قصر و فرط دخل في زمرة المستضعفين المذكورين في الاية السابقة الّذين لم يكونوا مستضعفين في الحقيقة، و لذلك استحقوا التقريع و العقوبة فالمقصّر المفرط يكون مثلهم في استحقاق السّخط.

و يشهد بذلك ما رواه في الصافى من الكافى عن الصادق عليه السّلام أنه سئل ما تقول فى المستضعفين فقال شبيها بالفزع فتركتم أحدا يكون مستضعفا و أين المستضعفون فو اللّه لقد مشى بأمركم هذا العواتق فى خدورهن و تحدّثت به السقاءات في طرق المدينة.

و عن الكاظم عليه السّلام أنّه سئل عن الضعفاء فكتب عليه السّلام: الضعيف من لم ترفع له‏حجّة و لم يعرف الاختلاف فاذا عرف الاختلاف فليس بضعيف.
و يؤيّده ما فيه عن عليّ بن إبراهيم في الاية المتقدّمة«» أنها نزلت فيمن اعتزل أمير المؤمنين عليه السّلام و لم يقاتلوا معه، فقالت الملائكة لهم عند الموت فيم كنتم، قالوا: كنّا مستضعفين في الأرض أى لم نعلم مع من الحقّ فقال اللّه تعالى: أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها أى دين اللّه و كتاب اللّه واسع فتنظروا فيه.
و وجه التأييد غير خفىّ على المتدبّر فتدبّر، هذا.

و لما فهم من الجملات السابقة تصريحا و تلويحا وجوب السعى و الهجرة إليه عليه السّلام و إلى الطيّبين من ذريّته لكونهم حجّة اللّه في عباده و خليفة اللّه فى بلاده و علم أنّه لا يسوغ التقصير و الاستضعاف في معرفة حقّهم أردف ذلك بالتنبيه على أنّ معرفتهم حقّ المعرفة من خواصّ المؤمنين المخلصين فقال عليه السّلام: (إنّ أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلّا عبد مؤمن امتحن اللّه قلبه للايمان) و الغرض بذلك تشويق المخاطبين و ترغيبهم إلى المهاجرة إليهم و المبادرة إلى معرفة شئونات ولايتهم ليدخلوا في زمرة المؤمنين الممتحنين الكاملين في مقام العرفان و الايقان الحائزين قصب السبق في مضمار التصديق و الايمان.

و في بعض النسخ لا يحتمله إلّا ملك مقرّب أو نبيّ مرسل أو مؤمن امتحن اللّه قلبه للايمان و هذا المعني قد ورد عنهم عليهم السّلام في أخبار كثيرة.
فقد روى في الكافي عن محمّد بن يحيى عن محمّد بن الحسين عن محمّد بن سنان عن عمار بن مروان عن جابر قال قال أبو جعفر عليه السّلام قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ حديث آل محمّد صعب مستصعب لا يؤمن به إلّا ملك مقرّب أو نبيّ مرسل أو عبد امتحن اللّه قلبه للايمان، فما ورد عليكم من حديث آل محمّد فلانت له قلوبكم و عرفتموه فاقبلوه، و ما اشمأزّت منه قلوبكم و أنكرتموه فردّوه إلى اللّه و إلى الرسول و إلى العالم من آل محمّد و إنما الهلاك أن يحدث أحدكم بشي‏ء منه لا يحتمله فيقول: و اللّه ما كان‏هذا و اللّه ما كان هذا و الانكار هو الكفر.
و رواه في البحار من الخرائج و منتخب البصائر عن جابر عن أبي جعفر عليه السّلام مثله إلّا أنّ في آخره: و الانكار لفضائلهم هو الكفر.

و فيه عن أحمد بن إدريس عن عمران بن موسى عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال ذكرت التقية يوما عند عليّ بن الحسين عليهما السّلام فقال عليه السّلام: و اللّه لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله، و لقد آخا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بينهما فما ظنكم بساير الخلق، إنّ علم العلماء صعب مستصعب لا يحتمله إلّا نبيّ مرسل أو ملك مقرّب أو عبد مؤمن امتحن اللّه قلبه للايمان، فقال عليه السّلام و إنما صار سلمان من العلماء لأنّه امرء منا أهل البيت فلذلك نسبته إلى العلماء.

و قد مضى أحاديث اخر في هذا المعني في شرح الفصل الرابع من المختار الثاني و قدّمنا هناك بعض الكلام في تحقيق معني هذه الأحاديث.
و أقول هنا مضافا إلي ما سبق: إنّ المراد من أمر آل محمّد عليهم السّلام و علمهم و حديثهم الوارد في هذه الروايات على اختلاف عناوينها شي‏ء واحد، و هو ما يختصّ بهم عليهم السّلام و ما هو خصايص ولايتهم من شرافة الذات و نورانيّتها و الكمالات الكاملة و الأخلاق الفاضلة و الاشراقات الّتي يختصّ بها عقولهم و القدرة على ما لا يقدر عليه غيرهم و ما لهم من المقامات النورانية و العلوم الغيبيّة و الاسرار الالهيّة و الأخبار الملكوتيّة و الاثار اللّاهوتية و الأطوار الناسوتية و الأحكام الغريبة و القضايا العجيبة، فانّ هذه الشئونات صعب في نفسه مستصعب فهمه و تسليمه على الخلق لا يذعن به و لا يقبله إلّا ملك مقرّب أو نبيّ مرسل أو عبد مؤمن امتحن اللّه قلبه للايمان و أعدّه بتطهيره و امتحانه و ابتلائه بالتكاليف العقلية و النقلية حتّى تحلّى بالكمالات العلمية و العملية، و الفضايل الخلقية و النفسانية و عرف مبادى كمالاتهم و قدرتهم و لا يستنكر ما ذكر من فضائلهم و ما صدر عنهم من قول أو فعل أو أمر أو نهي، و لا يتلقى شيئا من ذلك بالتكذيب و لا ينسبهم عليهم السّلام فيه‏إلى الكذب و ذلك لكونه مخلوقا من فاضل طينتهم معجونا بنور ولايتهم مضافا إليهم، فاذا ورد عليه شي‏ء منهم وصل إليه فهمه و عرفه على ما هو حقّه آمن به تفصيلا، و إذا قصر عنه عقله آمن به إجمالا و لا ينكره كما قال عزّ من قائل «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي».

و أما غير من ذكر فاذا ورد عليهم شي‏ء من أمرهم و علمهم و أحاديثهم و فضايلهم عليهم السلام نفرت قلوبهم و اشمأزّت نفوسهم و تاهت عقولهم و سارعوا إلى ردّه و انكاره و لا يحتملونه و لا يتحمّلونه بل يكفرون به و يكذبونه كما قال عليه السّلام في المختار السبعين: و لقد بلغني أنكم تقولون: علىّ يكذب، قاتلكم اللّه فعلى من أكذب أعلى اللّه فأنا أوّل من آمن به، أم على نبيّه فأنا أوّل من صدّقه، كلّا و اللّه و لكنّها لهجة غبتم عنها و لم تكونوا من أهلها ويل امّه كيلا بغير ثمن لو كان له دعاة.

(و) قوله (لا يعى حديثنا إلّا صدور أمينة و أحلام رزينة) توكيد لما دلت عليه الجملة السابقة أى لا يحفظ حديثنا الصّعب المستصعب إلّا قلوب متّصفة بالأمانة و عقول ذات ثقل و وقار و رزانة.
روى في الكافى عن علىّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن البرقى، عن ابن سنان أو غيره رفعه إلى أبى عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ حديثنا صعب مستصعب لا يحتمله إلّا صدور منيرة أو قلوب سليمة أو أخلاق حسنة إنّ اللّه أخذ من شيعتنا الميثاق كما أخذ على بنى آدم أ لست بربّكم، فمن و فى لنا و في اللّه له بالجنّة، و من أبغضنا و لم يرد «يواد خ» إلينا حقّنا ففى النار خالدا مخلّدا.

و المراد انّه لا يحفظ و لا يحتمل حديثنا إلّا صدور أمينة في احتماله و حفظه و كتمانه و ستره إلى أن يؤدّيه إلى أهله على وفق ما احتمله و تحمّله من دون تغير و تبديل و لا تحريف و لا زيادة و لا نقصان كما هو شأن الأمين يحفظ الأمانة و يردّها إلى أهلها صحيحة سالمة.

و يرشد اليه ما رواه في الكافي عن محمّد بن يحيى و غيره عن محمّد بن أحمد عن بعض أصحابنا قال كتبت إلى أبي الحسن صاحب العسكر عليه السّلام جعلت فداك مامعني قول الصادق عليه السّلام حديثنا لا يحتمله ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل و لا مؤمن امتحن اللّه قلبه للايمان فجاء الجواب إنما معني قول الصادق عليه السّلام أى لا يحتمله ملك و لا نبيّ و لا مؤمن إنّ الملك لا يحتمله حتّى يخرجه إلى ملك غيره، و النبيّ لا يحتمله حتّى يخرجه إلى نبيّ غيره، و المؤمن لا يحتمله حتّى يخرجه إلى مؤمن غيره، فهذا معني قول جدّى عليه السّلام هذا.

و وصف الأحلام بالرزانة إشارة إلى أنها لا يستنفرها صعوبة ما سمعتها من الأحاديث و الفضايل إلى ردّها و إنكارها و لا يستخفنّها غرابتها إلى نشرها و اذاعتها.
روى في البحار من منتخب البصاير بسنده عن الحذاء قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: إنّ أحبّ أصحابي إلىّ أفقههم و أورعهم و أكتمهم لحديثنا، و إنّ أسوأهم عندى حالا و أمقنهم إلىّ الّذى إذا سمع الحديث ينسب إلينا و يروى عنّا و اشمأزّ منه جحده و اكفر من دان به و لا يدرى لعلّ الحديث من عندنا خرج و إلينا اسند فيكون بذلك خارجا من ديننا.

و فيه منه بسنده عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ «إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا» قال: هم الأئمة و يجرى فيمن استقام من شيعتنا و سلم لأمرنا و كتم حديثنا عن عدوّنا تستقبله الملائكة بالبشرى من اللّه بالجنّة و قد و اللّه مضى أقوام كانوا على مثل ما أنتم عليه من الذين استقاموا و سلّموا لأمرنا و كتموا حديثنا و لم يذيعوه عند عدوّنا و لم يشكّوا فيه كما شككتم فاستقبلتهم الملائكة بالبشرى من اللّه بالجنّة، هذا.

و لما فرغ عليه السّلام من قسمة الايمان إلى قسميه و ندب إلى المهاجرة و رغب في احتمال أحاديثهم و تحمّلها و حفظها، عقّب ذلك كلّه بالأمر بالسؤال و أرشدهم إلى المسألة عنه قبل الازداف و الانتقال فقال عليه السّلام: (أيّها النّاس سلوني قبل أن تفقدوني) و قد قدّمنا في شرح الفصل الأوّل من المختار الثاني و التسعين أنّ هذا كلام تفرّد عليه السّلام به و ليس لأحد أن يقول على المنبر سلوني إلّا هو و تقدّم هناك فصل واف فيما يترتّب على العنوان.

و أقول هنا: إنّ أمره للمخاطبين بالمسألة في كلّ موقف و مكان و كلّ وقت و زمان مع عدم تقييد المسئول عنه بشي‏ء مخصوص يدلّ على غزارة علمه و أنه البحر الذى لا يساحل، و الحبر الّذي لا يطاول، و أنّه عالم بجميع العلوم و فارس ميدانها و سابق حلباتها و حائز قصبات رهانها و مبيّن غوامضها و صاحب بيانها، و الفارس المتقدّم عند احجام فرسانها و تأخر أقرانها، و أنّه فيها كلّها قد بلغ الغاية القصوى و فضل فيها جميع الورى، فاسمع به و أبصر فلا نسمع بمثله غيره و لا ترى، و اهتد إلى اعتقاد ذلك بناره فما كلّ نار اضرمت نار قرى و لنعم ما قيل:

قال اسألونى قبل فقدى
ذوا ابانة عن علمه الباهر

لو شئت اخبرت عما قد مضى‏
و ما بقى في الزمن الغابر

و يكفى في ايضاح ذلك قوله: علّمنى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من العلم ألف باب فانفتح لى من كلّ باب ألف باب، فاذا كان المعلم المؤدب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو أكمل العالمين و أعلاهم فى درجات العرفان و اليقين و التلميذ المتعلّم أمير المؤمنين عليه السّلام و هو في الفطنة و الذكاء أفضل البارعين، فيحقّ له أن يبلغ أقصى غايات الكمال، و ينال نهايات معارج العلم و المعرفة، و يتمكّن من قول سلونى قبل أن تفقدونى.
(فلأنا بطرق السماء أعلم منّى بطرق الأرض) و قد ضمن بعض الشعر ذلك و قال:

و من ذا يساميه بمجد و لم يزل ي
قول سلونى ما يحلّ و يحرم‏

سلونى ففى جنبى علم ورثته‏
عن المصطفى ما فات منّى به الفم‏

سلونى عن طرق السماوات إننى بها
عن سلوك الطرق في الأرض أعلم‏

و لو كشف اللّه الغطا لم أزد به‏
يقينا على ما كنت أدرى و أفهم‏

قال الشارح المعتزلي: المراد بقوله ذلك ما اختصّ به من العلم بمستقبل الامور و لا سيّما فى الملاحم و الدّول قال: و قد تأوّله بعضهم على وجه آخر قالوا: أراد أنا بالأحكام الشرعية و الفتاوى الفقهيّة أعلم منى بالامور الدّنيويّة، فعبّر عن تلك بطرق السماء لأنها أحكام إلهية، و عبّر عن هذه بطرق الأرض لأنها الامورالأرضيّة، قال: و الأوّل أظهر، لأنّ فحوى الكلام و أدلته يدلّ على أنّه المراد.

و قال الشارح البحراني: أراد بطرق السماء وجوه الهداية إلى معرفة سكّان السماوات من الملاء الأعلى و مراتبهم من حضرة الربوبيّة و مقامات أنبياء اللّه و خلفائه من حظاير القدس و انتقاش نفسه القدسيّة عنهم بأحوال الفلك و مدبّراتها و الأمور الغيبيّة مما يتعلّق بالفتن و الوقايع المستقبلة إذ كان له الاتّصال التّام بتلك المبادى، فبالحرىّ أن يكون علمه بما هناك أتمّ و أكمل من علمه بطرق الأرض أى إلى منازلها.

ثمّ نقل عن الوبرى أنّه قال: أراد أنّ علمه بالدّين أوفر من علمه بالدّنيا.
أقول: لا يخفى على المتوقد الذّكى العارف بنكات العبارة و أساليب الكلام من أهل الجودة و الذكاء و الفطنة أنّ الشراح قصرت أفهامهم عن معرفة مراد الامام و عزب أذهانهم عن فهم مغزى الكلام، لأنّه عليه السّلام أمرهم بالسؤال قبل فقدانه، و قبل ظهور فتنة كما هو مفاد قوله الاتى قبل أن تشغر برجلها فتنة، و علّل ذلك بأنه أعلم بطرق السماء منه بطرق الأرض، و هذا ملخّص معنى كلامه عليه السّلام.

فعلى هذا فليس للمعنى الذى حكاه الشارح المعتزلي عن بعضهم، و كذا المعنى الّذى نقله البحراني عن الوبرى ربط بالمقام أصلا و لا شي‏ء منهما مرادا من الكلام قطعا.
و أمّا المعني الّذي قاله الشارح المعتزلي فليس بذلك البعد و لكنّه لم يتبيّن منه جهة التعبير عن العلم بمستقبل الامور بالعلم بطرق السماء كما لم يتبيّن وجه أعلميّته بها أى جهة التفضيل و كونه عليه السّلام أعلم بها من علمه بطرق الأرض.

و أمّا ما قاله الشارح البحراني من أنه أراد بطرق السماء وجوه الهداية آه، ففيه أنّ وجوه الهداية إلى معرفة منازل سكّان السماوات و مقامات الأنبياء و أحوال الفلك و مدبّراتها لا ربط لها بالمقام، فكيف يصحّ جعلها علّة لقوله: سلوني آه.
و أما وجه الهداية إلى الامور الغيبيّة فهو مناسب للمقام إلّا أنّه قاصر عن تأديةالمعني المراد.

فان قلت: إذا زيفت جميع ما ذكروه فما ذا عندك فى هذا المقام و ما الّذى أراده بهذا الكلام و ما المعنى المناسب السليم من النقض و الابرام قلت: الّذى اهتديت اليه بنور التوفيق و أدّى إليه النظر الدقيق.
أنّه لما كان عالما بما يظهر بعده من الفتن و الملاحم أراد من باب اللطف أن يرشد المخاطبين إلى ما هو أصلح لهم عند ظهورها، و أوفق بانتظام امورهم عاجلا و آجلا، فأمرهم بأن يسألوه قبل أن يفقدوه و قبل أن يظهر تلك الفتن حتّى يهتدوا بسؤاله عليه السّلام إلى وجوه مصالحهم فيها، و علّل ذلك بكونه أكمل علما بطرق السماء من طرق الأرض.

و فهم معنى هذه العلّة وجهة ارتباطها بالمعلول يحتاج إلى تمهيد مقدّمة و هى: أنّ جميع ما يجرى فى عالم الملك و الشهادة من المقضيات و المقدرات فهو مثبت في عالم الأمر و الملكوت، مكتوب في امّ الكتاب بالقلم الربّاني كما قال جلّ و عزّ «وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» و قال «وَ ما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» و ظهورها في هذا العالم مسبوق بثبوتها في ذلك العالم، و إليه الاشارة في قوله سبحانه «وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ» فالخزائن عبارة عما كتبه القلم الأعلى أوّلا على الوجه الكلّى فى لوح القضاء المحفوظ عن التبديل الّذى يجري منه ثانيا على الوجه الجزئي فى لوح القدر الّذى فيه المحو و الاثبات مدرجا على التنزيل، فالى الأوّل أشير بقوله «وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ» و بقوله «وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ» و إلى الثاني بقوله «وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا عِنْدَنا» و منه تنزل و تظهر في عالم الشهادة.

إذا عرفت ذلك فأقول: إنه عليه السّلام أراد بطرق السماء مجارى الأمورات المقدّرة و مسالكها نازلة من عالم الأمر بتوسّط المدبّرات من الملائكة المختلفين بقضائه و أمره إلى عالم الشهادة، و بطرق الأرض مجارى تلك الامور في ذلك العالم و محالّ‏بروزها منها، و الى نزولها أشار سبحانه بقوله «تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ» فان كلّ أمر لفظ عام لم يبق بعده شي‏ء كما في رواية أبي جعفر الثاني عليه السّلام، و المنزل إليه هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمير المؤمنين عليه السّلام بعده و الأئمة القائمون مقامه.

كما روى في البحار من تفسير العياشي عن محمّد بن عذافر الصيرفي عمّن أخبره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ اللّه تعالى خلق روح القدس و لم يخلق خلقا أقرب إليه منها، و ليست«» بأكرم خلقه عليه، فإذا أراد أمرا ألقاه إليها فألقاه إلى النجوم فجرت به.
قال العلّامة المجلسي ره: و الظاهر أنّ المراد بالنجوم الأئمة عليهم السّلام، و جريانها به كناية عن علمهم بما يلقى اليهم و نشر ذلك بين الخلق.
و فى تفسير الصافي من تفسير القميّ قال: تنزّل الملائكة و الرّوح القدس على إمام الزمان و يدفعون إليه ما قد كتبوه.

و عن الصادق عليه السّلام إذا كان ليلة القدر نزلت الملائكة و الرّوح و الكتبة إلى السماء الدّنيا، فيكتبون ما يكون من قضاء اللّه تلك السّنة، فاذا أراد اللّه أنّ يقدّم شيئا أو يؤخّره أو ينقص شيئا أمر الملك أن يمحو ما يشاء ثمّ أثبت الّذي أراد.
و في الكافى عن أبي جعفر عليه السّلام قال اللّه عزّ و جل في ليلة القدر «فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» يقول ينزّل فيها كلّ أمر حكيم «إلى أن قال» إنّه ينزل في ليلة القدر إلى اولى الأمر تفسير الامور سنة سنة يؤمر فيها في أمر نفسه بكذا و كذا و في أمر النّاس بكذا و كذا، و أنّه ليحدث لولىّ الأمر سوى ذلك كلّ يوم علم اللّه عزّ و جلّ الخاص و المكنون العجيب المخزون مثل ما ينزل في تلك الليلة من الأمر ثمّ قرء «وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».

ثمّ أقول: قد ظهر بدلالة هذه الرّوايات أنّ ما ينزل من عالم الأمر فانّما ينزل أوّلا إلى ولىّ الأمر، ثمّ يجرى بعده في الموادّ المقدّرة، و لازمه كون ولىّ الأمر عالما بها و بكيفيّة نزولها في مسالكها و مجاريها العلويّة و السفليّة.
و اوضح دلالة منها ما رواه في البحار من بصاير الدّرجات عن سماعة بن سعد الخثعمي أنه كان مع المفضل عند أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال له المفضّل: جعلت فداك يفرض اللّه طاعة عبد على العباد ثمّ يحجب عنه خبر السماء قال: اللّه أكرم و أرءف بعباده من أن يفرض«» عليه طاعة عبد يحجب عنه خبر السماء صباحا أو مساء و فيه من البصاير عن الثمالي قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: لا و اللّه لا يكون عالم جاهلا أبدا عالم«» بشي‏ء جاهل بشي‏ء ثمّ قال: اللّه أجلّ و أعزّ و أعظم و أكرم من أن يفرض طاعة عبد يحجب عنه علم سمائه و أرضه، ثمّ قال: لا لا يحجب ذلك عنه.

بل قد يظهر من أخبار اخر علمهم عليهم السّلام بجميع ما في السماء مثل علمهم بما في الأرض و قد مرّ كثير من هذه الأخبار في تضاعيف الشرح و نورد هنا بعضها.
و هو ما في البحار من تفسير علىّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن مرار عن يونس عن هشام عن أبى عبد اللّه عليه السّلام فى قوله تعالى وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ قال كشط«» له عن الأرض و من عليها و عن السماء و ما فيها و الملك الّذي يحملها و العرش و من عليه، و فعل ذلك برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه.

و من بصائر الدرجات عن ابن مسكان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في هذه، قال: كشط لابراهيم السماوات السبع حتّى نظر إلى ما فوق العرش و كشط له الأرض حتّى‏رأى ما في الهواء و فعل بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مثل ذلك، و إنى لأرى صاحبكم و الأئمة من بعده قد فعل بهم مثل ذلك.

و فيه من البصاير عن بريدة الأسلمي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا على إنّ اللّه أشهدك معى سبع مواطن حتّى ذكر الموطن الثاني أتاني جبرئيل فاسرى بى إلى السماء فقال أين أخوك فقلت: ودعته خلفى، قال: فقال: فادع اللّه يأتيك به، قال: فدعوت فاذا أنت معى، فكشط لى عن السماوات السبع و الأرضين السبع حتّى رأيت سكانها و عمّارها و موضع كلّ ملك منها فلم أر من ذلك شيئا إلّا و قد رأيته كما رأيته.

و فيه من البصاير عن عبد الأعلى و عبيدة بن بشير قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام ابتداء منه: و اللّه إنّي لأعلم ما في السماوات و ما في الأرض و ما في الجنّة و ما في النّار و ما كان و ما يكون إلى أن تقوم الساعة، ثمّ قال: اعلمه من كتاب اللّه أنظر إليه هكذا، ثمّ بسط كفّيه ثمّ قال: إنّ اللّه يقول «وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ».

و الأخبار في هذا المعنى أكثر من أن تحصى و لا حاجة إلى الاكثار من روايتها و كلّها متفق معنى في الدّلالة على علم أمير المؤمنين عليه السّلام و الأئمة الطاهرين من ذريّته سلام اللّه عليهم بالسماوات و ما فيها و بطرقها و أبوابها و اخبارها غير محجوب عنهم عليهم السّلام شي‏ء من ذلك.

فان قلت: غاية ما ظهر من هذه الأخبار كون الامام عالما بالسماء و ما فيها كعلمه بالأرض و ما عليها، و لم يظهر منها وجه التفضيل المستفاد من قوله: فلأنا بطرق السماء أعلم منّى بطرق الأرض فاللّازم عليك بيان جهة التفضيل و معناه.

قلت: قوله عليه السّلام فلأنا بطرق السماء أعلم، يحتمل معنيين.
أحدهما أنّه عليه السّلام أسبق علما بها، و ذلك لما علمت أنّ الامورات المقدّرة في عالم الشهادة مباديها في السماء و منتهاها في الأرض، و المبدأ مقدّم على المنتهى و سابق عليه، فيكون العلم به أسبق من العلم بالمنتهى كما يؤدّى إليه النظر الدّقيق.

و ثانيهما أنّه عليه السّلام أكمل و أتمّ علما بها، و ذلك لأنه مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة من ذريتهما قد كانوا أنوارا مخلوقه قبل خلقة آدم و عالم بألفى عام أو أربعة عشر ألف عام أو خمسة عشر ألف عام أو أربعين ألف عام أو أربعمائة ألف سنة و أربعة و عشرين ألف سنة أو ألف ألف دهر على اختلاف الروايات الواردة في خلقتهم«».

و قد كان منزلهم و مأويهم في تلك المدّة المتطاولة في سرادقات العزّة و حجابات العظمة و ظلّ العرش و السماوات العاليات، ثمّ اهبطوا باقتضاء مصالح التكليف و إرشاد العباد إلى عالم الشهادة و اكتسوا جلباب البشريّة و لبثوا فى الأرض مدّة قليلة ثمّ رجعوا إلى أوطانهم الأصلية و مساكنهم النورانيّة، و قد دلّت على ذلك كلّه الأخبار الصحيحة.
فبطول مدّة الاقامة و المكث فيها و تمادى توطنهم و بقائهم في الملاء الأعلى يكون علمهم بعالم الملكوت البتّة أكمل و أتمّ من علمهم بعالم الناسوت كما لا يخفى.
و بقى الكلام بعد ذلك كلّه في جهة ارتباط العلّة بالمعلول أعنى ارتباط قوله: فلأنا بطرق السّماء أعلم، بقوله: سلوني قبل أن تفقدوني قبل أن تشغر فتنة اه.

و جهة الارتباط أنه لما أرشدهم إلى السؤال عن الفتن و الملاحم المستقبلة علّله بذلك، لأنّ الفتن الحادثة مثل ساير الامورات المقدورة مكتوبة في الألواح السّماوية قبل حدوثها و ظهورها، و ينزل علمها إلى الامام في ليلة القدر و غيرها كما قال عزّ من قائل «ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» أى ما يحدث من مصيبة و قضيّة في الأرض‏و في أنفسكم إلّا و قد كتبناها و الحكم المتعلّق بها في كتاب من قبل أن نخلق المصيبة أو الأنفس.

روى القمّي «ره» عن الصّادق عليه السّلام في هذه الاية قال: صدق اللّه و بلغت رسله كتابه في السّماء علمه بها، و كتابه في الأرض علومنا في ليلة القدر و غيرها.
فعلم أمير المؤمنين عليه السّلام بالفتن و ما يتعلّق بها لما كان حاصلا من المبادى العالية و الطرق السّماويّة حسن تعليل الأمر بالسؤال عن الفتن بعلمه بطرق السّماء.
و أيضا قد أخبر اللّه سبحانه الفتن الحادثة في كتابه الكريم و هو حبل ممدود من السماء إلى الأرض لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعضها في ظواهر آياته و بعضها في بواطنها، و أعلمها النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمير المؤمنين عليه السّلام.

فمما أخبر بها في الظاهر قوله سبحانه الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ.
روى في المجمع عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه لما نزلت هذه الاية قال: لا بدّ من فتنة تبتلى به الامّة بعد نبيّها ليتعيّن الصادق من الكاذب، لأنّ الوحى قد انقطع و بقي السيّف و افتراق الكلمة إلى يوم القيامة.
و منه أيضا قوله تعالى «وَ إِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَ» الاية فانّه إخبار عن فتن بني اميّة و ملكهم كما ورد في غير واحد من الأخبار.

و ممّا يدلّ على أنّ الفتن الحادثة و غيرها من ساير الامورات مدرجة في مفاهيم الايات قوله تعالى وَ ما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ أى من خصلة غايبة يعني جميع ما أخفاه عن خلقه و غيبه عنهم مبين في الكتاب.
روى في البحار من بصائر الدرجات عن محمّد بن الحسن عن حماد عن إبراهيم ابن عبد الحميد عن أبيه عن أبي الحسن الأوّل عليه السّلام في حديث و ان كان في كتاب اللّه لايات ما يراد بها أمر من الأمور التي أعطاها اللّه الماضين النّبيّين و المرسلين، و قد جعله اللّه ذلك كلّه لنا في امّ الكتاب، إنّ اللّه تبارك و تعالى يقول وَ ما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ ثمّ قال عزّ و جلّ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ‏اصْطَفَيْنا فنحن الذين اصطفانا اللّه، فقد ورثنا علم هذا القرآن الذي فيه تبيان كلّ شي‏ء.

هذا ما اهتديت إليه في شرح هذا المقام بالتمسك بولاية أمير المؤمنين و آله الطاهرين عليهم السّلام، و الحمد اللّه الذي هدانا لهذا و ما كنّا لنهتدى لو لا أن هدانا اللّه.
و بعد ما أسفر لك وجه المرام و اتّضح لك معنى الكلام فاستمع لما يتلى عليك في شرح قوله عليه السّلام: (قبل أن تشغر برجلها فتنة تطأ في خطامها) قال الشارح البحراني: أراد فتنة بني اميّة و أحكامهم العادلة عن العدل و ما يلحق النّاس في دولتهم من البلاء، و كنّى بشغر رجلها عن خلوّ تلك الفتنة عن مدبّر يدبّرها و يحفظ الامور و ينتظم الدّين حين وقوع الجور، انتهى.

و أقول: أمّا حمله الفتنة على فتنة بني اميّة فلا بأس به لأنّه نكرة في سياق الاثبات فلا تفيد العموم، فباقتضاء كونها أقرب الفتن إلى زمانه عليه السّلام و محلّا لابتلاء المخاطبين بها يكون حملها عليها أنسب و أولى ليسألوه عليه السّلام عنها و عما ينجيهم من ورطاتها و يعرفوا مناصهم منها و من هفواتها.
و أما جعله شغر رجلها كناية عن خلوّها عن المدبر ففيه أنه مبنىّ على ما زعمه من أنّ لفظ تشغر هنا مأخوذ من شغرة البلدة إذا خلت عن مدبرها كما صرّح به في بيان لغته، و هو زعم فاسد.
أما أوّلا فلأنّ قوله برجلها قرينة على أنه ليس هنا بمعنى الخلوّ من المدبّر فافهم.

و أما ثانيا فلأنه بعد الغضّ عن ذلك يتوجّه عليه أنّ فتنة بني امية لم تكن خالية عن مدبّر كيف و مثل معاوية بن أبي سفيان و عمرو بن العاص اللّعين و مروان ابن الحكم و ساير الخلفاء الامويين و أضرابهم من قادة الكفر و أولياء الضلال عليهم لعنة اللّه و الملائكة و الناس أجمعين كانوا مدبّرين لأمر تلك الفتن، و كانت أوقاتهم مستغرقة في تدبيرها و ترويجها و نظم أمورها و حفظها و ترتيبها.

نعم امور الدّين و أحكام الشرع المبين قد كانت يومئذ معطّلة مختلّة مضطربة ليس لها حافظ و لا مدبّر لغلبة التقية و كون أئمّة الحق في زاوية الخمول غير متمكنين من إقامة دعائم الشريعة و من حفظ مراسمها و إصلاح معالمها.
فان قلت: الظاهر أنّ مراد الشارح بقوله: عن مدبّر يدبرها، من يدبّر في رفع تلك الفتنة لا من يدبّر فى ترويجها و تقويتها، و القرينة على أنّ مراده ذلك قوله و يحفظ الامور و ينتظم الدّين كما هو غير خفى.
قلت: سلّمنا ظهور كلامه بقرينة الجملتين المعطوفتين في كون مراده ما ذكرت إلّا أنّ بقوله عليه السّلام قبل أن تشغر برجلها فتنة لا يدلّ على هذا المعنى أصلا كما هو واضح لا يخفى.

و الذي عندى في شرح هذه الفقرة أنه شبّه الفتنة على سبيل الاستعارة بالكناية بالبعير الشموس الذي يرفع رجله و يدوس من لقاه و يطأ في خطامه و يخبط من قاربه و دناه، لعدم قائد يقوده و لا ممسك يمسكه فأثبت لها الشغر بالرجل و الوطاء في الخطام تخييلا و ترشيحا للاستعارة.

و وجه الاستعارة أنّ البعير الموصوف بالأوصاف المذكورة كما أنه يكون عامّ الضرر ليس له من أذيه رافع و لا رادع، فكذلك هذه الفتنة عند بروزها و ظهورها لا يكون من مضارّها و مفاسدها رادّ و لا مانع.
و نظير هذا التشبيه ما مرّ فى المختار الثاني فى قوله: في فتن داستهم بأخفافها و وطأتهم بأظلافها و قامت بهم على سنابكها.
و قوله (و تذهب بأحلام قومها) نظير ما مرّ في المختار الثاني تلو العبارة المتقدّمة آنفا: فهم فيها تائهون حائرون جاهلون مفتونون.

و المراد أنّ تلك الفتنة لشدّتها و قوّة الباطل فيها و ضعف الحقّ فيها و غلبة الضلال على أهلها يذهب بعقول ذوى العقول فيتردّدون في معرفة الحقّ و لا يهتدون إلى سبيل الرّشاد و طريق الصلاح و السداد إلّا من عصمه اللّه بفضله و هداه إلى قصد سبيله، و هو الهادي إلى النهج القويم و الصراط المستقيم

الترجمة

از جمله خطب شريفه آن امام بحق و ولىّ مطلق است در قسمت ايمان مى ‏فرمايد پس قسمى از ايمان آنستكه مي باشد ثابت و برقرار در دلها، و قسمى ديگر از او آنست كه مى‏ شود مثل عاريتها در ميان دلها و سينها تا وقت معلوم، پس هرگاه باشد شما را برائت و بيزاري از أحدى از آحاد ناس پس موقوف داريد او را و صبر نمائيد تا آنكه حاضر شود او را مرگ پس در اين حالت حضور مرگ واقع مى‏ شود حدّ برائت و هجرت از ضلالت بسوى رشاد و هدايت قائم است بر حدّ أوّل خود نبوده است خداوند عزّ و جلّ را در أهل زمين هيچ احتياج از كسانى كه پنهان كننده باشند دين خود را يا اظهار و آشكار كننده باشند.

واقع نمى‏ شود اسم هجرت بر أحدى مگر بمعرفت و شناختن حجت خدا در زمين پس هر كه شناخت او را و اقرار نمود باو پس او است مهاجر و واقع نمى‏ شود اسم استضعاف و مستضعف گفته نمى‏ شود بر كسى كه رسيده باشد باو حجت پس بشنود آنرا گوش او و نگه داشته باشد آنرا قلب او.

بدرستى كه أمر ما بالغاية صعب و دشوار است و متحمل نمى‏ شود آن را مگر بنده مؤمنى كه امتحان كرده باشد خداوند تعالى قلب او را از براى ايمان و حفظ نمى‏ كند حديث ما را مگر سينه اى أمين و عقلها سنگين.
اى جماعت مردمان بپرسيد از من علوم أوّلين و آخرين را قبل از اين كه نيابيد مرا، پس هر آينه من براههاى آسمان داناترم از خود براههاى زمين، پيش از اين كه بلند نمايد پاى خود را فتنه كه پازند در مهار خود و ببرد عقلهاى قوم خود را

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 187 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 188 صبحی صالح

188- و من خطبة له ( عليه‏ السلام ) في الوصية بأمورالتقوى‏

أُوصِيكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ بِتَقْوَى اللَّهِ وَ كَثْرَةِ حَمْدِهِ عَلَى آلَائِهِ إِلَيْكُمْ وَ نَعْمَائِهِ عَلَيْكُمْ وَ بَلَائِهِ لَدَيْكُمْ
فَكَمْ خَصَّكُمْ بِنِعْمَةٍ وَ تَدَارَكَكُمْ بِرَحْمَةٍ أَعْوَرْتُمْ لَهُ فَسَتَرَكُمْ وَ تَعَرَّضْتُمْ لِأَخْذِهِ فَأَمْهَلَكُمْ

الموت‏

وَ أُوصِيكُمْ بِذِكْرِ الْمَوْتِ وَ إِقْلَالِ الْغَفْلَةِ عَنْهُ وَ كَيْفَ غَفْلَتُكُمْ عَمَّا لَيْسَ يُغْفِلُكُمْ وَ طَمَعُكُمْ فِيمَنْ لَيْسَ يُمْهِلُكُمْ
فَكَفَى وَاعِظاً بِمَوْتَى عَايَنْتُمُوهُمْ حُمِلُوا إِلَى قُبُورِهِمْ غَيْرَ رَاكِبينَ وَ أُنْزِلُوا فِيهَا غَيْرَ نَازِلِينَ فَكَأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا لِلدُّنْيَا عُمَّاراً وَ كَأَنَّ الْآخِرَةَ لَمْ تَزَلْ لَهُمْ دَاراً
أَوْحَشُوا مَا كَانُوا يُوطِنُونَ وَ أَوْطَنُوا مَا كَانُوا يُوحِشُونَ وَ اشْتَغَلُوا بِمَا فَارَقُوا وَ أَضَاعُوا مَا إِلَيْهِ انْتَقَلُوا لَاعَنْ قَبِيحٍ يَسْتَطِيعُونَ انْتِقَالًا وَ لَا فِي حَسَنٍ يَسْتَطِيعُونَ ازْدِيَاداً أَنِسُوا بِالدُّنْيَا فَغَرَّتْهُمْ وَ وَثِقُوا بِهَا فَصَرَعَتْهُمْ

سرعة النفاد

فَسَابِقُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ إِلَى مَنَازِلِكُمُ الَّتِي أُمِرْتُمْ أَنْ تَعْمُرُوهَا وَ الَّتِي رَغِبْتُمْ فِيهَا وَ دُعِيتُمْ إِلَيْهَا وَ اسْتَتِمُّوا نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَتِهِ وَ الْمُجَانَبَةِ لِمَعْصِيَتِهِ فَإِنَّ غَداً مِنَ الْيَوْمِ قَرِيبٌ
مَا أَسْرَعَ السَّاعَاتِ فِي الْيَوْمِ وَ أَسْرَعَ الْأَيَّامَ فِي الشَّهْرِ وَ أَسْرَعَ الشُّهُورَ فِي السَّنَةِ وَ أَسْرَعَ السِّنِينَ فِي الْعُمُرِ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج11  

و من كلام له عليه السّلام و هو المأة و السابع و الثمانون من المختار فى باب الخطب

أوصيكم أيّها النّاس بتقوى اللّه، و كثرة حمده على آلائه إليكم، و نعمائه عليكم، و بلائه لديكم، فكم خصّكم بنعمة، و تدارككم برحمة أعورتم له فستركم، و تعرّضتم لأخذه فأمهلكم، و أوصيكم بذكر الموت و إقلال الغفلة عنه، و كيف غفلتكم عمّا ليس يغفلكم، و طمعكم فى من ليس يمهلكم، فكفى واعظا بموتى عاينتموهم، حملوا إلى قبورهم غير راكبين، و أنزلوا فيها غير نازلين، فكأنّهم لم يكونوا للدّنيا عمّارا، و كأنّ الاخرة لم تزل لهم دارا، أوحشوا ما كانوا يوطنون، و أوطنوا ما كانوا يوحشون، و اشتغلوا بما فارقوا، و أضاعوا ما إليه انتقلوا، لا عن قبيح يستطيعون انتقالا، و لا في حسن (حسنة خ)يستطيعون ازديادا، أنسوا بالدّنيا فغرّتهم، و وثقوا بها فصرعتهم. فسابقوا رحمكم اللّه إلى منازلكم الّتي أمرتم أن تعمروها، و الّتي رغّبتم فيها، و دعيتم إليها، و استتمّوا نعم اللّه عليكم بالصّبر على طاعته، و المجانبة لمعصيته، فإنّ غدا من اليوم قريب، ما أسرع السّاعات في اليوم (في الأيّام خ ل)، و أسرع الأيام في الشّهور، و أسرع الشّهور في السّنة، و أسرع السّنين في العمر.

اللغة

قال الفيومى (تدارك) القوم لحق آخرهم أوّلهم و استدركت ما فات و تداركته و أصل التدارك اللحوق يقال أدركت جماعة من العلماء إذا لحقتهم و (أعورتم له) أى أبديتم عورتكم له، و العورة كلّ شي‏ء يستره الانسان أنفة و حياء و النساء عورة و (تعرّض) لكذا إذا تصدّى له.

الاعراب

جملة أعورتم استيناف بياني قوله: فكفى واعظا بموتى، لفظ موتى في محلّ الرفع فاعل كفى، و الباء زايدة كما في قوله تعالى: كفى باللّه شهيدا.
و واعظا إمّا حال من الفاعل قدم على ذيها للاتّساع فيها، أو تميز رافع للابهام عن النسبة كما في قوله تعالى: فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً، و قولهم: للّه درّه فارسا قال أكثر علماء الأدبيّة في هذا المثال إنّه تميز، و قال بعضهم إنّه حال أى ما أعجبه في حال فروسيته و رجّح ابن الحاجب الأوّل قال: لأنّ المعنى مدحه مطلقا بالفروسيّة و إذا جعل حالا اختصّ المدح و يقيّد بحال فروسيّته، قال نجم الأئمّة و أنا لا أرى بينهما فرقا لأنّ معنى التمييز عنده: ما أحسن فروسيّته، فلا يمدحه غير حال الفروسيّة إلّا بها، و هذا المعنى هو المستفاد من ما أحسنه في حال فروسيّته، و تصريحهم بمن في للّه‏درّك من فارس دليل على أنّه تمييز، و كذا قولهم: عزّ من قائل.
و جملة عاينتموهم، في محل الرفع صفة لموتى، و جملة حملوا تحتمل الحال و الاستيناف البياني، و الفاء في قوله: فسابقوا، فصيحة و في قوله: فانّ غدا للتعليل.

المعنى

اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة واردة في مقام النّصح و الموعظة و الأمر بتكميل الحكمة العمليّة و الوصيّة بالتقوى و ذكر الموت، و قدّم الوصيّة بالتقوى لأنّها العمدة الكبرى فيما يوصى به فقال: (اوصيكم أيّها النّاس بتقوى اللّه) التي هى الزاد و بها المعاد و زاد رابح و معاد منجح (و كثرة حمده على آلائه إليكم و نعمائه عليكم) لأنّ كثرة الحمد عليها موجبة لكثرتها و زيادتها (و بلائه لديكم) و قد مضى بيان حسن الثناء على البلاء كحسنه على الالاء في شرح الخطبة المأة و الثالثة عشر فتذكّر.

(فكم خصّكم بنعمة و تدارككم برحمة) لفظة كم للتكثير أتى بها تبيها على كثرة آلائه النازلة و ألطافه الواصلة.
و أشار إلى بعضا بقوله (اعورتم له فستركم) أى أظهرتم و كشفتم له سبحانه سوآتكم و عوراتكم و قبايح أعمالكم و فضايح أفعالكم فسترها لكم بمقتضى ستاريته و غفاريته تعالى، و هذه النعمة من أعظم النعماء و أجلّ الالاء.

و لجلالتها و كونها من عمدة النعم جعل سيّد العابدين و زين الساجدين سلام اللّه عليه و على آبائه و أولاده أجمعين من جملة أدعيّته في الصحيفة الكاملة دعاء طلب الستر و الوقاية و قال عليه السّلام هناك: و لا تبرز مكتومى، و لا تكشف مستورى، و لا تحمل على ميزان الانصاف عملى، و لا تعلن على عيون الملاء خبرى، و اخف عنهم ما يكون نشره علىّ عارا، و اطو عنهم ما يلحقني عندك شنارا.

و قال عليه السّلام في دعائه بعد الفراغ من صلاة اللّيل: و تعدّيت عن مقامات حدودك إلى حرمات انتهكتها، و كبائر ذنوب اجترحتها، كانت عافيتك لي من فضايحها سترا «إلى أن قال» اللّهم و اذ سترتني بعفوك و تغمّدتني بفضلك في دار الفناء بحضرة الاكفاء فأجرني من فضيحات دار البقاء عند مواقف الاشهاد من الملائكة المقرّبين و الرّسل المكرّمين و الشهداء و الصالحين، من جار كنت أكاتمه سيّاتي، و من ذي رحم كنت احتشم منه في سريراتي، لم أثق ربّ بهم في الستر علىّ، و وثقت بك ربّ في المغفرة لي، و أنت أولى من وثق به و أعطى من رغب إليه و أرءف من استرحم، فارحمني.

(و تعرّضتم لأخذه فأمهلكم) أى تعرّضتم للمعاصي الموجبة لمؤاخذته فأمهلكم و لم يعاجلكم بالعقوبة.
و هذه أيضا نعمة عظيمة و موهبة كبيرة منه سبحانه على عباده العاصين، لأنه سبحانه عفوه أعلى من عقابه، و رحمته سابقة على غضبه، فامهالهم للخاطئين ليس غالبا إلّا كرامة لهم، و تفضّلا منه سبحانه عليهم، فلا يعجل و لا يبادر في عقاب من عصاه، بل يحلم و يمهل ليتدارك المذنب ذنبه بالتوبة و نحوها.

و من أسمائه الحسنى: الحليم أى الذي لا يستخفّه شي‏ء من المعاصي و لا يستفزّه الغضب عليهم قال تعالى: «وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى‏ ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً» و قال سيّد الساجدين عليه السّلام في دعاء الاستقالة من الذّنوب من أدعيّة الصحيفة الكاملة.
سبحانك ما أعجب ما اشهد به على نفسى و أعدوه من مكتوم أمرى، و أعجب من ذلك إناتك عنّي و إبطاؤك عن معاجلتي، و ليس ذلك من كرمي عليك، بل تأنّيا منك لي، و تفضّلا منك علىّ، لأن ارتدع عن معصيتك المسخطة، و أقلع عن سيّأتي المخلقة، و لأنّ عفوك عنّي أحبّ إليك من عقوبتي.

روى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قال اللّه تعالى: و عزّتي‏و جلالي لا اخرج عبدا من الدّنيا و أنا اريد أن أرحمه حتّى استوفي منه كلّ خطيئة عملها إما بسقم في جسده، و إما بضيق في رزقه، و إما بخوف، في دنياه، فان بقيت عليه بقية شددت عليه عند الموت.

و الأخبار في هذا المعني كثيرة، هذا.
و لما أوصاهم بالتقوى أردفه بالايصاء بذكر الموت الّذى هو هادم اللّذات و قاطع الامنيّات فقال: (و اوصيكم بذكر الموت) أى بكثرة ذكره (و إقلال الغفلة عنه) و إنما أوصاهم به لاستلزامه الاعراض عن الدّنيا و الرغبة إلى الاخرة، و الاقلاع عن الاثم و المعصية و التقصير في الأمل و الجدّ في العمل.

و من هنا قال بعض العلماء: حقّ العاقل أن يكثر ذكر الموت، فذكره لا يقرب أجله و يفيده ثلاثا: القناعة بما رزق، و المبادرة بالتوبة، و النشاط في العبادة.
و قال آخر: ذكر الموت يطرد فضول الأمل و يهون المصائب و يحول بين الانسان و الطغيان. و ما ذكره أحد في ضيق إلّا وسّعه عليه، و لا في سعة إلّا ضيّقها عليه.

و كان عليّ بن الحسين عليهما السّلام من جملة دعائه إذا نعي إليه ميّت: اللّهمّ صلّ على محمّد و آل محمّد و اكفنا طول الأمل، و قصّره عنّا بصدق العمل، حتّى لا نؤمل استتمام ساعة بعد ساعة، و لا استيفاء يوم بعد يوم، و لا اتّصال نفس بنفس و لا لحوق قدم بقدم، و سلّمنا من غروره، و آمنّا من شروره، و انصب الموت بين أيدينا نصبا، و لا تجعل ذكرنا له غبّا، و اجعل لنا من صالح الأعمال عملا نستبطئ معه المصير اليك، و نحرص له على و شك اللحاق بك، حتّى يكون الموت مأنسنا الّذى نأنس به، و مألفنا الّذي نشتاق إليه، و حامتنا الّتي نحبّ الدّنوّ منها.

فانّ قوله عليه السّلام: و انصب الموت بين أيدينا نصبا، أراد به أن يجعله على ذكر بحيث لا يغيب عن الذّهن لحظة، و هو تمثيل بحال ما ينصب أمام الانسان فهو لا يغيب عن نظره وقتا ما.
و قوله: و لا تجعل ذكرنا له غبّا، أى وقتا دون وقت و يوما دون يوم، و الغبّ‏في أوراد الابل أن تشرب يوما و تدعه يوما.

و إلى هذا المعني يلمح قوله عليه السّلام في الدّيوان المنسوب إليه:

جنبي تجافي عن الوساد
خوفا من الموت و المعاد

من جاف عن بكرة المنايا
لم يدر ما لذّة الرقاد

قد بلغ الزرع منتهاء
لا بدّ للزرع من حصاد

ثمّ استفهم عن غفلتهم على سبيل التوبيخ و التقريع، و قال: (و كيف غفلتكم عما ليس يغفلكم و طمعكم فيمن ليس يمهلكم) يعنى انكم إن غفلتم عنه بانسكم بالدّنيا و فرط محبّتكم لها و طمعكم في بقائها، فهو ليس غافلا عنكم و لا تاركا ممهلا لكم البّتة، قال في الدّيوان المنسوب إليه عليه السّلام

يا مؤثر الدّنيا على دينه
و التّائه الحيران عن قصده‏

أصبحت ترجو الخلد فيها و قد
أبرز ناب الموت عن حدّه‏

هيهات إنّ الموت ذو أسهم
من يرمه يوما بها يرده‏

و يحتمل أن يكون المراد بقوله: عما ليس يغفلكم، هو الموت و بقوله: فيمن ليس يمهلكم، هو ملك الموت، أى كيف غفلتكم عن الموت الّذى لا يترككم غافلا عنكم، و طمعكم في ملك الموت الّذى لا يمهلكم، لكونه مأمورا بعدم الانظار و الامهال.

و لأجل شدّة الاعتبار و الاتّعاظ اتبعه بقوله (فكفى واعظا بموتا عاينتموهم) كيف انتقلوا من ذروة القصور إلى خطّة القبور، و من العزّ و المنعة إلى الذّل و المحنة (حملوا إلى قبورهم غير راكبين و انزلوا فيها غير نازلين).
لما كان المتعارف في الركوب و النزول ما كان عن قصد و اختيار و شعور، و إرادة و على مثل الخيل و البغال، و كان حمل الموتى على الاسرة و الجنائز و أعواد المنايا و انزالهم منها لا عن شعور و إدراك، لا جرم نفي عنهم وصفي الرّكوب و النزول.

و بعبارة اخرى الركوب و النّزول من الأفعال الاختياريّة للانسان فبعد الموت و انقطاع الحسّ و الحياة و ارتفاع الادراك و الاختيار يكون مثل جماد محمول، فكمالايوصف الجماد بالركوب فهكذا الميّت.
و هذه الفقرة مثل قوله عليه السّلام في الخطبة المأة و العاشرة: حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركبانا، و انزلوا الأجداث فلا يدعون ضيفانا.

(فكأنّهم لم يكونوا للدّنيا عمّارا، و كأنّ الاخرة لم تزل بهم دارا) يعني أنهم لظعنهم عن الدّنيا و تركهم لها بكلّيتها كأنّهم لم يكونوا ساكنين فيها و عامرين لها.
و أنهم لارتحالهم إلى الاخرة و استمرارهم فيها أبد الاباد كأنّها كانت لهم منزلا و مقيلا.
(أوحشوا ما كانوا يوطنون) من دار الدّنيا (و أوطنوا ما كانوا يوحشون) من الدار الاخرى استبدلوا بظهر الأرض بطنا و بالسعة ضيقا و بالأهل غربة و بالنّور ظلمة.
(و اشتغلوا بما فارقوا و أضاعوا ما إليه انتقلوا) أى اشتغلوا بما فارقوا عنه من نعيم الدّنيا و قيتا تها و أضاعوا ما انتقلوا إليه من نعيم الاخرة و لذّاتها.

و ذلك لكون اشتغالهم بالدّنيا و شعفهم بلذّاتها الحاضرة مانعا لهم عن الالتفات إلى الكمالات المؤدّية إلى لذّات الاخرة، فذهبت هذه اللذات ضياعا، و فاتت عنهم لما فرطوا فيها و قصروا في تحصيلها و أعقبهم فواتها طول الحسرة و الندامة، و ملامة النفس اللوامة، و ذلك لعظم ما حصلت لهم من الخيبة و الخسران، و عدم امكان تدارك تلك الحسرة و الحرمان و إليه أشار بقوله: (لا عن قبيح يستطيعون انتقالا و لا في حسن يستطيعون ازديادا) أى لا يقدرون على الانتقال و الازعاج عن أعمالهم القبيحة المحصلة للعذاب، و لا على الاكثار و الازدياد من الأعمال الحسنة الكاسبة للثواب، إذ الانتقال عن الاولى و الازدياد من الاخرى إنما يتمكّن منهما في دار التكليف، و الاخرة دار الجزاء و لذلك أنّ كلّا منهم إذا دخل في قبره و شاهد هول المطلع قال: ربّ ارجعون لعلّى أعمل صالحا فيما تركت، و يقال فى الجواب: كلا إنّها كلمة هو قائلها.

(أنسوا بالدّنيا فغرّتهم) لأنها حلوة خضرة حفت بالشهوات و تحبّبت إلى الناس بلذّتها العاجلة الحاضرة فأنسوا بها و نسوا الاخرة (و وثقوا بها فصرعتهم) أى اطمئنّوا إليها و اعتمدوا عليها لما شاهدوا من حسن ظاهرها فصرعتهم في مصارع الهوان فبئست‏الدار لمن لم يتّهمها و لم يكن منها على وجل فقد رأينا تنكّرها و تغيّرها لمن دان لها و اثرها داخلة إليها حين ظعنوا عنها لفراق الأبد هل زوّدتهم إلّا السغب أو أحلّتهم إلّا الضنك أو نوّرت لهم إلّا الظلمة أو أعقبتهم إلّا الندامة فكيف يثق بها اللبيب أو يركن إليها الاريب، هذا.

و لما أوصاهم بذكر الموت و أتبعه بشرح حال الأموات تنفيرا عن الدّنيا و تحذيرا من الركون إليها فرّع عليها قوله: (فسابقوا رحمكم اللّه إلى منازلكم التي امرتم أن تعمروها) و هي منازل الاخرة و درجات الجنان، و المسابقة إليها و إلى عمارتها إنما تكون بصالح الأعمال المشار اليه بقول ذى الجلال: «فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ» «وَ سارِعُوا إِلى‏ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ».

(و) تلك الجنّة هي (الّتي رغبتم فيها و دعيتم إليها) أى دعاكم اللّه إليها بالاية السابقة الامرة بالمسارعة إليها و بأمثالها و رغّبكم فيها بقوله «قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ» و بما ضاهاها من الايات.

(و استتمّوا نعم اللّه عليكم بالصبر على طاعته و المجانبة لمعصيته) فانّ الصّبر على الطاعات و التحمل لمشاق العبادات و التجنّب عن المعاصي و السيئات مؤدّية إلى شمول الألطاف الالهية و إفاضة الالاء الدنيويّة و الاخروية، كما أفصحت عنه محكمات الكتاب، و شهدت به روايات الأئمة الأطياب، هذا.

و يحتمل أن يكون المراد من استتمام النعم بما ذكر هو طلب تمامها باضافة النعم الاخرويّة على الدنيويّة و انضمامها إليها، فانّها لا تحصل إلّا بالمواظبة على الحسنات و المجانبة عن السيّئات كما هو مقتضي رحمته الرّحيميّة، و ليست كالنعم الدنيويّة تنعم بها على البرّ و الفاجر باقتضاء الرّحمة الرّحمانية، و قوله: و استتمّوا، لا يخلو من الاشعار بهذا الاحتمال كما هو غير خفىّ على صاحب الذّوق السليم.

ثمّ إنه لما أمر بالاستباق إلى منازل الجنان و باستتمام النعم، علّل حسن الاستباق و المبادرة بقصر المدّة و قلّة زمان الفرصة و قال: (فانّ غدا من اليوم قريب) و كنّى بالغد عن يوم الممات و أوضح قربه بقوله: (ما أسرع السّاعات في اليوم و أسرع الأيّام في الشهور و أسرع الشهور في السّنين و أسرع السّنين في العمر) يعني سرعة مضيّ السّاعات موجبة لسرعة مضيّ اليوم، و سرعة مضيّ الأيام مستلزمة لسرعة انقضاء الشهور، و سرعة انقضائها مستلزمة لسرعة انقضاء السّنين، و سرعة انقضائها مستلزمة لسرعة زوال العمر و الحياة، و سرعة زواله موجبة لقرب زمان حلول الموت المكنى عنه بالغد.

و في الاتيان بلفظة ما المفيدة للتعجّب تأكيدا لبيان تلك السّرعة، و محصله أنّ الساعات مفنية للأيام، و الأيام مفنية للشهور، و الشهور مفنية للسّنين، و السّنين مفنية للعمر و مقربة للأجل.
و هذه الفقرة تفصيل ما أجمله بقوله في الخطبة المأة و الثالثة عشر: فسبحان اللّه ما أقرب الحيّ من الميّت للحاقه به، هذا.
و ما ذكرناه من كون الغد كناية عن زمان الموت أظهر من جعله كناية عن يوم القيامة كما قاله الشارح البحراني.

الترجمة

از جمله كلام شريف آن حضرت است در وصيّت بتقوى مى‏فرمايد: وصيّت ميكنم شما را اى مردمان بپرهيزكارى خداوند، و بر كثرة حمد او در مقابل نعمتهاى او كه رسيده بسوى شما، و بر نعماء او كه نازل شده بر شما، و بر بلا كه نزد شما است، پس چه بسيار مخصوص فرموده شما را بنعمتي، و دريافت نموده شما را برحمت و عاطفتي، و آشكار كرديد شما قبايح و فضايح معاصى را از براى او پس پرده كشيد بر شما، و متعرّض شديد بر مؤاخذه آن پس مهلت داده بشما و وصيّت مي كنم شما را بذكر مرگ و به كم كردن غفلت از مرگ، و چگونه است غفلت شما از چيزى كه غفلت نمى ‏كند از شما، و طمع شما در چيزى كه مهلت ‏نمى‏ دهد شما را، و كفايت مي كند از حيثيت واعظ بودن مردهائى كه معاينه ديديد ايشان را كه برداشته شدند بسوى قبرها در حالتى كه نبودند سوار شوندگان، و فرود آورده شدند در قبرها در حالتى كه نبودند فرود آيندگان، گويا نبودند از براى دنيا عمارت كنندگان، و گويا كه هميشه سراى آخرت خانه ايشان بوده، وحشت كردند از چيزى كه وطن مى ‏كردند در آن، و وطن نمودند در چيزى كه وحشت داشتند از او، مشغول شدند بچيزى كه از او مفارقت نمودند، و ضايع كردند چيزى را كه بسوى او منتقل شدند، نه از فعل قبيح استطاعت انتقال دارند، و نه در فعل حسن استطاعت زياده نمودن دارند، انس گرفتند بدنيا پس دنيا فريب داد ايشان را و وثوق و اعتماد كردند بر او پس هلاك ساخت ايشان را.

پس سبقت كنيد اى مردمان خدا رحمت كند بر شما بسوي منزلهاى خودتان كه مأمور شديد بتعمير آنها، و آن منزلهائى كه ترغيب شديد بان، و دعوت شديد بسوى آن، و طلب نمائيد تماميّت نعمتهاى خدا را بر خود با صبر نمودن بر طاعت او و با اجتناب كردن از معصيت او، پس بدرستى كه فردا نزديكست از امروز، چه قدر سرعت كننده‏اند ساعتها در روز، و سرعت كننده‏اند روزها در ماه، و سرعت كننده‏اند ماهها در سال، و سرعت كننده‏اند سالها در انقضاء و زوال عمر.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 186 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 187 صبحی صالح

187- و من خطبة له ( عليه ‏السلام  ) و هي في ذكر الملاحم‏

أَلَا بِأَبِي وَ أُمِّي هُمْ مِنْ عِدَّةٍ أَسْمَاؤُهُمْ فِي السَّمَاءِ مَعْرُوفَةٌ وَ فِي الْأَرْضِ مَجْهُولَةٌ

أَلَا فَتَوَقَّعُوا مَا يَكُونُ مِنْ إِدْبَارِ أُمُورِكُمْ وَ انْقِطَاعِ وُصَلِكُمْ وَ اسْتِعْمَالِ صِغَارِكُمْ

ذَاكَ حَيْثُ تَكُونُ ضَرْبَةُ السَّيْفِ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَهْوَنَ مِنَ الدِّرْهَمِ مِنْ حِلِّهِ ذَاكَ حَيْثُ يَكُونُ الْمُعْطَى أَعْظَمَ أَجْراً مِنَ الْمُعْطِي

ذَاكَ حَيْثُ تَسْكَرُونَ مِنْ غَيْرِ شَرَابٍ بَلْ مِنَ النِّعْمَةِ وَ النَّعِيمِ وَ تَحْلِفُونَ مِنْ غَيْرِ اضْطِرَارٍ وَ تَكْذِبُونَ مِنْ غَيْرِ إِحْرَاجٍ ذَاكَ إِذَا عَضَّكُمُ الْبَلَاءُ كَمَا يَعَضُّ الْقَتَبُ غَارِبَ الْبَعِيرِ

مَا أَطْوَلَ هَذَا الْعَنَاءَ وَ أَبْعَدَ هَذَا الرَّجَاءَ

أَيُّهَا النَّاسُ أَلْقُوا هَذِهِ الْأَزِمَّةَ الَّتِي تَحْمِلُ ظُهُورُهَا الْأَثْقَالَ مِنْ أَيْدِيكُمْ وَ لَا تَصَدَّعُوا عَلَى سُلْطَانِكُمْ فَتَذُمُّوا غِبَّ فِعَالِكُمْ

وَ لَا تَقْتَحِمُوا مَا اسْتَقْبَلْتُمْ مِنْ فَوْرِ نَارِ الْفِتْنَةِ وَ أَمِيطُوا عَنْ سَنَنِهَا وَ خَلُّوا قَصْدَ السَّبِيلِ لَهَا فَقَدْ لَعَمْرِي يَهْلِكُ فِي لَهَبِهَا الْمُؤْمِنُ وَ يَسْلَمُ فِيهَا غَيْرُ الْمُسْلِمِ

إِنَّمَا مَثَلِي بَيْنَكُمْ كَمَثَلِ السِّرَاجِ فِي الظُّلْمَةِ يَسْتَضِي‏ءُ بِهِ مَنْ وَلَجَهَا فَاسْمَعُوا أَيُّهَا النَّاسُ وَ عُوا وَ أَحْضِرُوا آذَانَ قُلُوبِكُمْ تَفْهَمُوا

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج11  

و من خطبة له عليه السّلام و هى المأة و السادسة و الثمانون من المختار فى باب الخطب

تختصّ بذكر الملاحم ألا بأبى و أمّي هم من عدّة أسمائهم في السّماء معروفة، و في الأرض مجهولة، ألا فتوقّعوا ما يكون من إدبار أموركم، و انقطاع وصلكم، و استعمال صغاركم، ذاك حيث تكون ضربة السّيف على المؤمن أهون من الدّرهم من حلّه، ذاك حيث‏يكون المعطي أعظم أجرا من المعطي، ذاك حيث تسكرون من غير شراب، بل من النّعمة و النّعيم، و تحلفون من غير اضطرار، و تكذبون من غير إحراج (إحواج خ ل)، ذلك إذا عضّكم البلاء كما يعضّ القتب غارب البعير، ما أطول هذا العناء، و أبعد هذا الرّجاء. أيّها النّاس ألقوا هذه الأزمّة الّتي تحمل ظهورها الأثقال من أيديكم و لا تصدّعوا على سلطانكم فتذمّوا غبّ فعالكم، و لا تقتحموا ما استقبلتم من فور نار الفتنة، و أميطوا عن سننها، و خلّوا قصد السّبيل لها، فقد لعمري يهلك في لهبها المؤمن، و يسلم فيها غير المسلم، إنّما مثلي بينكم مثل السّراج في الظّلمة يستضي‏ء به من ولجها، فاسمعوا أيّها النّاس وعوا، و أحضروا آذان قلوبكم تفهموا.

اللغة

(الملاحم) جمع الملحمة و هي الوقعة العظيمة و (الوصل) جمع الوصلة و زان غرفة يقال ما بينهما و صلة أى اتّصال (و المعطي) الأوّل بصيغة المفعول، و الثاني بصيغة الفاعل و (النعمة) في بعض النسخ بفتح النون و هي غضارة العيش، و في بعضها بالكسر و هي الخفض و الدّعة و المال و (النعيم) هو النعمة بالمعني الثاني و (أحرجه) أى ألجأه و أوقعه في الحرج و الضيق و في بعض النسخ من غير إحواج بالواو أى من غير أن يحوجكم أحد إليه و (عصنضت) اللقمة من باب سمع و منع أمسكتها بأسناني و عضّ بصاحبه لزمه، و عضّ الزمان و الحرب شدّتهما و (القتب) بالتحريك معروف و (الغارب) ما بين العنق و السّنام و (الصّدع) الشق و الفرقة و (الاقتحام) الدّخول في‏الشي‏ء من غير رويّة و (وعيت) الحديث وعيا حفظته و تدبّرته و الأمرع مثل ق من وقي و عوا جمع ع.

الاعراب

قوله: بأبي و أمّي الباء للتفدية و الجار و المجرور خبر مقدّم و هم مبتدأ، و من في قوله من عدّة يحتمل التبعيض و التبيين و الزيادة على ما قاله الأخفش و الكوفيّون من جواز زيادتها في الاثبات، و مثله في الاحتمال الأوّل و الأخير من في قوله من إدبار، و قوله: ما أطول هذا العناء قد مرّ اعرابه في شرح الفصل الأوّل من المختار المأة و الثامن مفصّلا فليراجع هناك، و على في قوله: على سلطانكم بمعني عن كما في قول الشاعر:

إذا اضبت علىّ بنو قشير
لعمر اللّه أعجبني رضاها

المعنى

اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة كما قاله السيّد «ره» واردة في ذكر الملاحم الاتية في غابر الزمان، و من جملة اخباره الغيبيّة، و الغرض منه الاخبار بما سيكون من ذلّ الشيعة و ما يجرى عليهم و ذكر العدّة للأسف عليهم و التحزّن بما يصيبهم من الظلم و الجور.

و قوله (ألا بأبي و أمّي هم) أى هم مفدى بأبي و أمّي أى يكون أبى و امّى فداء لهم و اختلف في المشار إليهم بالضمير فقال الشارح البحراني: المراد بهم أولياء اللّه فيما يستقبل من الزمان بالنسبة إلى زمانه عليه السّلام.
و قال الشارح المعتزلي: الاماميّة تقول هذه هم الأئمة الأحد عشر من ولده، و غيرهم يقول إنّه عني الأبدال الّذين هم أولياء اللّه، و ظاهر أنّ ذكر انتظار فرج الشيعة كما اعترف الشارح به بعد ذلك لا ارتباط له بحكاية الأبدال.

و قوله (من عدّة أسماؤهم في السماء معروفة و في الأرض مجهولة) أى هؤلاء أشخاص معدودة أو من أشخاص معدودة معروفة أسماؤهم في السماء مشهورة عند الملائكة المقرّبين و في الملاء الأعلى لعلوّ درجاتهم و سمّو مقاماتهم، و كون طينتهم مأخوذة من علّيّين، و كون أهل الملاء الأعلى مخلوقا من فاضل طينتهم فكانوا أعرف بهم من أهل الأرض.

و أمّا أهل الأرض فهم عند أكثرهم مجهولون لاستيلاء الضّلال على أكثر السّتر «البشرظ» و غلبة الجهال يعني أنّ أكثر الناس لا يعرفونهم و لا يعرفون قدرهم و منزلتهم، فلا ينافي معرفة الخواص لهم و إن كانوا أيضا لا يعرفونهم حقّ معرفتهم، أو أراد به جهالة اسمائهم في وقت ايراد الكلام و التخصيص فيه أقلّ من الاحتمال الأوّل كما لا يخفى.

ثمّ خاطب عليه السّلام أصحابه بذكر الملاحم و الفتن الحادثة في مستقبل الزّمان فقال (ألا فتوقّعوا من إدبار اموركم و انقطاع وصلكم و استعمال صغاركم) أى تفرّق اموركم المنتظمة و انقطاع الاتصالات و الانتظامات الحاصلة في أمر المعاش و المعاد من أجل تشتّت الاراء و اختلاف الأهواء و تفرّق الكلمات، و تقديم الصّغار سنّا على المشايخ و أرباب التجارب في الأعمال و الولايات، أو تقديم الأوغاد و الأراذل و الصّغار قدرا على الأشراف و الأكابر و ذوى البيوتات، فانّ استعمال هؤلاء و توليتهم موجب لفساد النظام و اختلال الانتظام.

و قد قيل لحكيم: ما بال انقراض دولة آل ساسان قال: لأنهم استعملوا أصاغر العمال على أعاظم الأعمال فلم يخرجوا من عهدتها، و استعملوا أعاظم العمال على أصاغر الأعمال فلم يعتنوا عليها، فعاد وفاقهم إلى الشتات و نظامهم إلى البتات.
و لذلك كتب عليه السّلام للأشتر في عهده إليه حين استعمله على مصر حسبما يأتي من باب المختار من كتبه عليه السّلام إنشاء اللّه تعالى: ثمّ انظر في أمور عمالك و توخّ منهم أهل التجربة و الحياء من أهل البيوتات الصالحة و القدم في الاسلام المتقدّمة فانهم أكرم أخلاقا و أصحّ أغراضا و أقلّ في المطامع اشرافا و أبلغ في عواقب الامور نظرا- إلى آخر ما يأتي في مقامه بتوفيق اللّه و عنايته.

(ذاك حيث تكون ضربة السيف على المؤمن أهون من الدّرهم من حلّه) أى ذلك المذكور من انقطاع الوصل و ادبار الامور حيثما يكون احتمال ضربة السيف على المؤمن أقلّ مشقّة من احتمال مشقة اكتساب الدّرهم الحلال لأجل اختلاط المكاسب‏و اشتباه الحرام بالحلال و غلبة الحرام فيها.

(ذاك حيث يكون المعطى أعظم أجرا من المعطي) أى يكون المحسن إليه أعظم أجرا من المحسن، لأنّ أكثر الأموال فى ذلك الزمان يكون من الحرام، و أيضا لا يعطونها على الوجه المأمور به بل يعطونها للأغراض الفاسدة من الرياء و السمعة و هوى النفس الأمارة، و أما المحسن إليه فلكونه فقيرا يأخذ المال لسدّ خلّته و خلّة عياله الواجب النفقة لا يلزمه البحث عن المال و حليّته، و حرمته فكان أعظم أجرا من المعطي.

قال الشارح المعتزلي: و قد خطر لي فيه معني آخر، و هو أنّ صاحب المال الحرام إنما يصرفه في أكثر الأحوال في الفساد، فاذا أخذه الفقير منه على وجه الصّدقة فقد فوّت عليه صرفه في القبايح فقد كفه الفقير بأخذه المال من ارتكاب القبيح.

و تبعه على ذلك الشارح البحراني، و لا يخلو عن بعد و كيف كان فأفعل التفضيل أعني قوله: أعظم أجرا مثل ما في قوله تعالى «أَ ذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ».
(ذاك حيث تسكرون من غير شراب بل من النعمة و النعيم) استعار لفظ السكر لغفلتهم عما يلزم عليهم من صلاح امورهم، و لما كان المعني الحقيقي للسّكر ما كان عن الشراب فأتى بقوله: من غير شراب، ليكون صارفا عن الحقيقة إلى المجاز، و قد قيل: سكر الهوى أشدّ من سكر الخمر.
(و تحلفون من غير) إجبار و (اضطرار) أى تتهاونون باليمين و قد نهى اللّه سبحانه عنه بقوله «و لا تجعلوا اللّه عرضة لأيمانكم».

(و تكذبون من غير احراج) أى تكذبون من غير ضرورة توقعكم في الضيق و الحرج و تلجئكم إلى الكذب بل لكونه عادة و ملكة لكم و اعتيادكم به تكذبون.
(ذلك إذا عضّكم البلاء كما يعضّ القتب غارب البعير) أى يشتدّ عليكم البلاء و يؤذيكم كما يؤذى القتب غارب البعير، فاستعار لفظ العضّ للأذيّة من باب الاستعارة التبعيّة، أو شبّه البلاء بالجمل الصعب الشموس على سبيل الاستعارة المكنيّة و ذكر العضّ تخييلا، ثمّ شبه عضّ البلاء بعضّ القتب من باب تشبيه المعقول بالمعقول.

قال الشارح المعتزلي: هذا الكلام غير متّصل بما قبله، و هذه عادة الرضى يلتقط الكلام التقاطا و لا يتلو بعضه بعضا.
قال: و قد ذكرنا هذه الخطبة أو أكثرها فيما تقدّم من الأجزاء الاول، و قبل هذا الكلام ذكر ما ينال شيعته من البؤس و القنوط و مشقة انتظار الفرج.

قال: و قوله (ما أطول هذا العناء و أبعد هذا الرّجاء) حكاية كلام شيعته عليه السّلام انتهى كلام الشارح.
فيكون المراد بالرجاء رجاء ظهور القائم عليه السّلام فعلى هذا يكون المعنى أنهم في غيبته عليه السّلام يصابون بالبلاء و يمتدّ زمن ابتلائهم و مشقّتهم حتّى يقولوا ما أطول هذا التعب و المشقة و ما أبعد رجاء ظهور الدّولة الحقّة القائميّة و الخلاص من العناء و الرزيّة.

و قال الشارح البحراني: و يحتمل أن يكون الكلام متّصلا و يكون قوله: ما أطول آه كلاما مستأنفا في معنى التوبيخ لهم على إعراضهم عنه و إقبالهم على الدّنيا و إتعابهم أنفسهم في طلبها، و تنفير لهم عنها بذكر طول العناء في طلبهم و بعد الرجاء لما يرجى منها، أى ما أطول هذا العناء اللّاحق لكم في طلب الدّنيا و ما أبعد هذا الرجاء الّذى ترجونه منها.
ثمّ خاطب أصحابه و قال (أيّها الناس القوا هذه الأزمّة الّتى تحمل ظهورها الأثقال من أيديكم) قال العلّامة المجلسىّ ره: أى القوا من أيديكم أزمّة الاراء الفاسدة و الأعمال الكاسدة التي هى كالنوق و المراكب فى حمل التبعات و الاثام انتهى.

فيكون المراد بالقاء أزمّتها الاعراض عنها و الترك لها، و بالأثقال أثقال الخطايا و الذّنوب قال سبحانه «وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَ أَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ» و قال «وَ هُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى‏ ظُهُورِهِمْ» هذا.
و لما كان اتباع تلك الاراء و الاستبداد بها مستلزما للتولّى و الاعراض عنه عليه السّلام و نهى عن الملزوم ضمنا اتبعه بالنهى عن التلازم صريحا فقال: (و لا تصدّعوا على سلطانكم) أى لا تفرّقوا عن امامكم و أميركم المفترض‏الطاعة، و أراد به نفسه الشريف، و علّل عدم جواز التصدّع بقوله (فتذمّوا غبّ فعالكم) يعنى لو تفرّقتم لعلمتم سوء فعالكم و ذممتم عاقبتها و ندمتم على ما فرّطتم و هو تنفير عن التفرّق بذكر ما يلزمه من العاقبة المذمومة بسبب استيلاء العدوّ و تظاهر الفتن و انقلاب حالهم من العزّ إلى الذّلة و من الرخاء إلى الشدّة.

(و لا تقتحموا ما استقبلتم) و فى بعض النسخ ما استقبلكم (من فور نار الفتنة) أى هيجانها و غليانها، و إضافة النار إلى الفتنة من إضافة المشبّه به إلى المشبّه، و وجه الشبّه شدّة الذي، إى لا تسرعوا في دخول الفتن المستقبلة.
(و أميطوا عن سننها) أى تنحّوا و تبعّدوا عن طريقتها (و خلّوا قصد السبيل لها) أى دعوا و اتركوا للفتنة سواء الطريق أى الطريق المستقيم لتسلكها و لا تتعرّضوا لها لتكونوا حطبا لنارها.

(فقد لعمري يهلك في لهبها المؤمن و يسلم فيها غير المسلم) هذا بمنزلة التعليل للتنحّى عن طريق الفتنة و لتخلية السبيل لها، و المراد إنكم إن سلكتم سبيلها و تعرّضتم لها هلكتم، لأنّ أكثر من يصاب و يستأصل عند ظهور الفتن هو المؤمن المخالف رأيه لرأى أهل الفتنة، و أكثر من يسلم هو المنافق الموافق لهم فى أباطيلهم و المتابع لهم على مساوى أعمالهم، و هو في الحقيقة أمر لهم بالانزواء و الاعتزال عن الفتنة و أهلها، و هو نظير قوله في المختار الثاني و المأة: و ذلك زمان لا ينجو فيه إلّا كل مؤمن نومة إن شهد لم يعرف و إن غاب لم يفتقد، أولئك مصابيح الهدى و أعلام السرى ليسوا بالمسابيح و لا المذابيع البذر.

و لما نهاهم عن التصدّع عن سلطانهم و عن اقتحام الفتن معلّلا بما يوجبه من الهلاك أردفه بذكر فضل نفسه تنبيها على وجوب اتّباعه و هو قوله: (و انما مثلي بينكم مثل السراج في الظلمة يستضي‏ء به من ولجها) شبّه نفسه بالسراج و وجه الشبه الاستضائة التي أشار إليها فكما أنّ السّراج يستضاء بضوئه في الظلمات الحسيّة فكذلك يستضاء به عليه السّلام و يهتدى بنور علمه و هدايته في الظلمات المعقولة و هى الظلمات الجهالات كما أشار إلى ذلك في المختار الرابع بقوله:بنا اهتديتم الظلماء، و قد مضى في شرح ذلك المختار أخبار و مطالب نافعة في هذا المقام.

و لما نبّه على كونه نورا يستضاء، به في ظلمات الجهالة و يهتدى به في غياهب الضّلالة أمر المخاطبين باقتباس أنواره و اتّباع آثاره فقال: (فاسمعوا أيّها النّاس و عوا) و احفظوا ما يقرع أسماعكم من جوامع الكلم (و احضروا آذان قلوبكم) لما يتلى عليكم من المواعظ و مجالس الحكم كى (تفهموا) معناها تدركوا مغزيها و تهتدوا إلى النهج القويم و المنهاج المستقيم فتفوزوا بنضرة النعيم.

الترجمة

از جمله خطب شريفه آن حضرت است كه مخصوص است بذكر ملاحم و حوادث آينده مى ‏فرمايد: آگاه باشيد پدر و مادرم فداى ايشان باد- يعنى أئمه هدى سلام اللّه عليهم- ايشان جماعت معدوده كه نامهاى نامى ايشان در آسمان معروفست و در زمين مجهول آگاه باشيد پس انتظار كشيد چيزى را كه خواهد شد از ادبار كارهاى خودتان و از انقطاع پيوندهاى شما، و عامل گرفتن كوچكان بر أعمال بزرگ، وقوع اين حادثها در آن مكان خواهد شد كه باشد ضربت شمشير بر مؤمن آسان‏تر از كسب درهم از وجه حلال، و در آن زمان خواهد شد كه باشد فقير عطا شونده بزرگتر از حيثيت اجر از عطا كننده، و در آن زمان خواهد شد كه مست مى‏ باشيد شما بدون شرب شراب بلكه از كثرت نعمت و نعيم، و قسم مى ‏خوريد بدون اضطرار، و دروغ مى‏ گوئيد بدون ضرورت اين آن وقت خواهد شد كه بگزد شما را بلاء و فتنها چنانكه مى‏ گزد پالان كوهان شتر را، چه قدر دور است اين مشقّت و چه قدر دور است اين اميدوارى.

اى مردمان بيندازيد اين مهارها را كه برداشته است پشتهاى آنها كرانيها را از دستهاى خودتان، و متصدّع نباشيد بر سلطان خودتان پس مذمّت نمائيد نفسهاى‏خود را در عقب فعلهاى خود، و بي مبالات داخل مباشيد آن چيزى را كه استقبال نموديد از جوشيدن آتش فتنه، و دور شويد از طريقه، و خالى نمائيد وسط راه را از براى آن فتنه، قسم بزندگانى خودم هلاك مى ‏شود در زبانه آتش آن فتنه مرد مؤمن، و سلامت بماند در آن غير مسلمان. بدرستى كه مثل من در ميان شما مثل چراغيست در تاريكى، روشنى مى‏ طلبد باو كسى كه داخل شود در آن تاريكى، پس بشنويد أى مردمان و حفظ نمائيد، و حاضر بسازيد گوشهاى قلبها را تا بفهميد.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه کلمات خطبه ها شماره 185 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 186بحی صالح

186-من خطبة له ( عليه ‏السلام  ) في التوحيد و تجمع هذه الخطبة من أصول العلم ما لا تجمعه خطبة

مَا وَحَّدَهُ مَنْ كَيَّفَهُ وَ لَا حَقِيقَتَهُ أَصَابَ مَنْ مَثَّلَهُ وَ لَا إِيَّاهُ عَنَى مَنْ شَبَّهَهُ وَ لَا صَمَدَهُ مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ وَ تَوَهَّمَهُ

كُلُّ مَعْرُوفٍ بِنَفْسِهِ مَصْنُوعٌ وَ كُلُّ قَائِمٍ فِي سِوَاهُ مَعْلُولٌ

فَاعِلٌ لَا بِاضْطِرَابِ آلَةٍ مُقَدِّرٌ لَا بِجَوْلِ فِكْرَةٍ غَنِيٌّ لَا بِاسْتِفَادَةٍ لَا تَصْحَبُهُ الْأَوْقَاتُ وَ لَاتَرْفِدُهُ الْأَدَوَاتُ سَبَقَ الْأَوْقَاتَ كَوْنُهُ وَ الْعَدَمَ وُجُودُهُ وَ الِابْتِدَاءَ أَزَلُهُ

بِتَشْعِيرِهِ الْمَشَاعِرَ عُرِفَ أَنْ لَا مَشْعَرَ لَهُ وَ بِمُضَادَّتِهِ بَيْنَ الْأُمُورِ عُرِفَ أَنْ لَا ضِدَّ لَهُ وَ بِمُقَارَنَتِهِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ عُرِفَ أَنْ لَا قَرِينَ لَهُ

ضَادَّ النُّورَ بِالظُّلْمَةِ وَ الْوُضُوحَ بِالْبُهْمَةِ وَ الْجُمُودَ بِالْبَلَلِ وَ الْحَرُورَ بِالصَّرَدِ مُؤَلِّفٌ بَيْنَ مُتَعَادِيَاتِهَا مُقَارِنٌ بَيْنَ مُتَبَايِنَاتِهَا مُقَرِّبٌ بَيْنَ مُتَبَاعِدَاتِهَا مُفَرِّقٌ بَيْنَ مُتَدَانِيَاتِهَا

لَا يُشْمَلُ بِحَدٍّ وَ لَا يُحْسَبُ بِعَدٍّ وَ إِنَّمَا تَحُدُّ الْأَدَوَاتُ أَنْفُسَهَا وَ تُشِيرُ الْآلَاتُ إِلَى نَظَائِرِهَا

مَنَعَتْهَا مُنْذُ الْقِدْمَةَ وَ حَمَتْهَا قَدُ الْأَزَلِيَّةَ وَ جَنَّبَتْهَا لَوْلَا التَّكْمِلَةَ بِهَا تَجَلَّى صَانِعُهَا لِلْعُقُولِ وَ بِهَا امْتَنَعَ عَنْ نَظَرِ الْعُيُونِ

وَ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ السُّكُونُ وَ الْحَرَكَةُ وَ كَيْفَ يَجْرِي عَلَيْهِ مَا هُوَ أَجْرَاهُ وَ يَعُودُ فِيهِ مَا هُوَ أَبْدَاهُ وَ يَحْدُثُ فِيهِ مَا هُوَ أَحْدَثَهُ إِذاً لَتَفَاوَتَتْ ذَاتُهُ وَ لَتَجَزَّأَ كُنْهُهُ وَ لَامْتَنَعَ مِنَ الْأَزَلِ مَعْنَاهُ

وَ لَكَانَ لَهُ وَرَاءٌ إِذْ وُجِدَ لَهُ أَمَامٌ وَ لَالْتَمَسَ التَّمَامَ إِذْ لَزِمَهُ النُّقْصَانُ وَ إِذاً لَقَامَتْ آيَةُ الْمَصْنُوعِ فِيهِ وَ لَتَحَوَّلَ دَلِيلًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَدْلُولًا عَلَيْهِ وَ خَرَجَ بِسُلْطَانِ الِامْتِنَاعِ مِنْ أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهِ مَا يُؤَثِّرُ فِي غَيْرِهِ

الَّذِي لَا يَحُولُ وَ لَا يَزُولُ وَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْأُفُولُ لَمْ يَلِدْ فَيَكُونَ مَوْلُوداً وَ لَمْ يُولَدْ فَيَصِيرَ مَحْدُوداً جَلَّ عَنِ اتِّخَاذِ الْأَبْنَاءِوَ طَهُرَ عَنْ مُلَامَسَةِ النِّسَاءِ

لَا تَنَالُهُ الْأَوْهَامُ فَتُقَدِّرَهُ وَ لَا تَتَوَهَّمُهُ الْفِطَنُ فَتُصَوِّرَهُ وَ لَا تُدْرِكُهُ الْحَوَاسُّ فَتُحِسَّهُ وَ لَا تَلْمِسُهُ الْأَيْدِي فَتَمَسَّهُ وَ لَا يَتَغَيَّرُ بِحَالٍ وَ لَا يَتَبَدَّلُ فِي الْأَحْوَالِ وَ لَا تُبْلِيهِ اللَّيَالِي وَ الْأَيَّامُ وَ لَا يُغَيِّرُهُ الضِّيَاءُ وَ الظَّلَامُ

وَ لَا يُوصَفُ بِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ وَ لَا بِالْجَوَارِحِ وَ الْأَعْضَاءِ وَ لَا بِعَرَضٍ مِنَ الْأَعْرَاضِ وَ لَا بِالْغَيْرِيَّةِ وَ الْأَبْعَاضِ

وَ لَا يُقَالُ لَهُ حَدٌّ وَ لَا نِهَايَةٌ وَ لَا انْقِطَاعٌ وَ لَا غَايَةٌ وَ لَا أَنَّ الْأَشْيَاءَ تَحْوِيهِ فَتُقِلَّهُ أَوْ تُهْوِيَهُ أَوْ أَنَّ شَيْئاً يَحْمِلُهُ فَيُمِيلَهُ أَوْ يُعَدِّلَهُ لَيْسَ فِي الْأَشْيَاءِ بِوَالِجٍ وَ لَا عَنْهَا بِخَارِجٍ

يُخْبِرُ لَا بِلِسَانٍ وَ لَهَوَاتٍ وَ يَسْمَعُ لَا بِخُرُوقٍ وَ أَدَوَاتٍ يَقُولُ وَ لَا يَلْفِظُ وَ يَحْفَظُ وَ لَا يَتَحَفَّظُ وَ يُرِيدُ وَ لَا يُضْمِرُ يُحِبُّ وَ يَرْضَى مِنْ غَيْرِ رِقَّةٍ وَ يُبْغِضُ وَ يَغْضَبُ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ

يَقُولُ لِمَنْ أَرَادَ كَوْنَهُ كُنْ فَيَكُونُ لَا بِصَوْتٍ يَقْرَعُ وَ لَا بِنِدَاءٍ يُسْمَعُ وَ إِنَّمَا كَلَامُهُ سُبْحَانَهُ فِعْلٌ مِنْهُ أَنْشَأَهُ وَ مَثَّلَهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ كَائِناً وَ لَوْ كَانَ قَدِيماً لَكَانَ إِلَهاً ثَانِياً

لَا يُقَالُ كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَتَجْرِيَ عَلَيْهِ الصِّفَاتُ الْمُحْدَثَاتُ وَ لَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَ بَيْنَهُ فَصْلٌ وَ لَا لَهُ عَلَيْهَا فَضْلٌ فَيَسْتَوِيَ الصَّانِعُ وَ الْمَصْنُوعُ وَ يَتَكَافَأَ الْمُبْتَدَعُ وَ الْبَدِيعُ

خَلَقَ الْخَلَائِقَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ خَلَا مِنْ غَيْرِهِ وَ لَمْ يَسْتَعِنْ عَلَى خَلْقِهَا بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ

وَ أَنْشَأَ الْأَرْضَ فَأَمْسَكَهَا مِنْ غَيْرِ اشْتِغَالٍ وَ أَرْسَاهَا عَلَى غَيْرِ قَرَارٍ وَ أَقَامَهَا بِغَيْرِ قَوَائِمَ

وَ رَفَعَهَا بِغَيْرِ دَعَائِمَ وَ حَصَّنَهَا مِنَ الْأَوَدِ وَ الِاعْوِجَاجِ وَ مَنَعَهَا مِنَ التَّهَافُتِ وَ الِانْفِرَاجِ

أَرْسَى أَوْتَادَهَا وَ ضَرَبَ أَسْدَادَهَا وَ اسْتَفَاضَ عُيُونَهَا وَ خَدَّ أَوْدِيَتَهَا فَلَمْ يَهِنْ مَا بَنَاهُ وَ لَا ضَعُفَ مَا قَوَّاهُ

هُوَ الظَّاهِرُ عَلَيْهَا بِسُلْطَانِهِ وَ عَظَمَتِهِ وَ هُوَ الْبَاطِنُ لَهَا بِعِلْمِهِ وَ مَعْرِفَتِهِ وَ الْعَالِي عَلَى كُلِّ شَيْ‏ءٍ مِنْهَا بِجَلَالِهِ وَ عِزَّتِهِ لَا يُعْجِزُهُ شَيْ‏ءٌ مِنْهَا طَلَبَهُ وَ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ فَيَغْلِبَهُ وَ لَا يَفُوتُهُ السَّرِيعُ مِنْهَا فَيَسْبِقَهُ وَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى ذِي مَالٍ فَيَرْزُقَهُ

خَضَعَتِ الْأَشْيَاءُ لَهُ وَ ذَلَّتْ مُسْتَكِينَةً لِعَظَمَتِهِ لَا تَسْتَطِيعُ الْهَرَبَ مِنْ سُلْطَانِهِ إِلَى غَيْرِهِ فَتَمْتَنِعَ مِنْ نَفْعِهِ وَ ضَرِّهِ

وَ لَا كُفْ‏ءَ لَهُ فَيُكَافِئَهُ وَ لَا نَظِيرَ لَهُ فَيُسَاوِيَهُ هُوَ الْمُفْنِي لَهَا بَعْدَ وُجُودِهَا حَتَّى يَصِيرَ مَوْجُودُهَا كَمَفْقُودِهَا

وَ لَيْسَ فَنَاءُ الدُّنْيَا بَعْدَ ابْتِدَاعِهَا بِأَعْجَبَ مِنْ إِنْشَائِهَا وَ اخْتِرَاعِهَا

وَ كَيْفَ وَ لَوِ اجْتَمَعَ جَمِيعُ حَيَوَانِهَا مِنْ طَيْرِهَا وَ بَهَائِمِهَا وَ مَا كَانَ مِنْ مُرَاحِهَا وَ سَائِمِهَا وَ أَصْنَافِ أَسْنَاخِهَا وَ أَجْنَاسِهَا وَ مُتَبَلِّدَةِ أُمَمِهَا وَ أَكْيَاسِهَا عَلَى إِحْدَاثِ بَعُوضَةٍ مَا قَدَرَتْ عَلَى إِحْدَاثِهَا

وَ لَا عَرَفَتْ كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى إِيجَادِهَا وَ لَتَحَيَّرَتْ عُقُولُهَا فِي عِلْمِ ذَلِكَ وَ تَاهَتْ وَ عَجَزَتْ قُوَاهَا وَ تَنَاهَتْ وَ رَجَعَتْ خَاسِئَةً حَسِيرَةً عَارِفَةً بِأَنَّهَا مَقْهُورَةٌ مُقِرَّةً بِالْعَجْزِ عَنْ إِنْشَائِهَا مُذْعِنَةً بِالضَّعْفِ عَنْ إِفْنَائِهَا

وَ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَعُودُ بَعْدَ فَنَاءِ الدُّنْيَا وَحْدَهُ لَا شَيْ‏ءَ مَعَهُ كَمَا كَانَ قَبْلَ ابْتِدَائِهَا كَذَلِكَ يَكُونُ بَعْدَ فَنَائِهَا بِلَا وَقْتٍ وَ لَا مَكَانٍ وَ لَا حِينٍ وَ لَا زَمَانٍ

عُدِمَتْ عِنْدَ ذَلِكَ الْآجَالُ وَ الْأَوْقَاتُ وَ زَالَتِ السِّنُونَ وَ السَّاعَاتُ فَلَا شَيْ‏ءَ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُالَّذِي إِلَيْهِ مَصِيرُ جَمِيعِ الْأُمُورِ

بِلَا قُدْرَةٍ مِنْهَا كَانَ ابْتِدَاءُ خَلْقِهَا وَ بِغَيْرِ امْتِنَاعٍ مِنْهَا كَانَ فَنَاؤُهَا وَ لَوْ قَدَرَتْ عَلَى الِامْتِنَاعِ لَدَامَ بَقَاؤُهَا

لَمْ يَتَكَاءَدْهُ صُنْعُ شَيْ‏ءٍ مِنْهَا إِذْ صَنَعَهُ وَ لَمْ يَؤُدْهُ مِنْهَا خَلْقُ مَا خَلَقَهُ وَ بَرَأَهُ وَ لَمْ يُكَوِّنْهَا لِتَشْدِيدِ سُلْطَانٍ وَ لَا لِخَوْفٍ مِنْ زَوَالٍ وَ نُقْصَانٍ وَ لَا لِلِاسْتِعَانَةِ بِهَا عَلَى نِدٍّ مُكَاثِرٍ

وَ لَا لِلِاحْتِرَازِ بِهَا مِنْ ضِدٍّ مُثَاوِرٍ وَ لَا لِلِازْدِيَادِ بِهَا فِي مُلْكِهِ وَ لَا لِمُكَاثَرَةِ شَرِيكٍ فِي شِرْكِهِ وَ لَا لِوَحْشَةٍ كَانَتْ مِنْهُ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَأْنِسَ إِلَيْهَا

ثُمَّ هُوَ يُفْنِيهَا بَعْدَ تَكْوِينِهَا لَا لِسَأَمٍ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي تَصْرِيفِهَا وَ تَدْبِيرِهَا وَ لَا لِرَاحَةٍ وَاصِلَةٍ إِلَيْهِ وَ لَا لِثِقَلِ شَيْ‏ءٍ مِنْهَا عَلَيْهِ لَا يُمِلُّهُ طُولُ بَقَائِهَا فَيَدْعُوَهُ إِلَى سُرْعَةِ إِفْنَائِهَا

وَ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ دَبَّرَهَا بِلُطْفِهِ وَ أَمْسَكَهَا بِأَمْرِهِ وَ أَتْقَنَهَا بِقُدْرَتِهِ

ثُمَّ يُعِيدُهَا بَعْدَ الْفَنَاءِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إِلَيْهَا

وَ لَا اسْتِعَانَةٍ بِشَيْ‏ءٍ مِنْهَا عَلَيْهَا وَ لَا لِانْصِرَافٍ مِنْ حَالِ وَحْشَةٍ إِلَى حَالِ اسْتِئْنَاسٍ وَ لَا مِنْ حَالِ جَهْلٍ وَ عَمًى إِلَى حَالِ‏

عِلْمٍ وَ الْتِمَاسٍ وَ لَا مِنْ فَقْرٍ وَ حَاجَةٍ إِلَى غِنًى وَ كَثْرَةٍ وَ لَا مِنْ ذُلٍّ وَ ضَعَةٍ إِلَى عِزٍّ وَ قُدْرَةٍ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج11  

و من خطبة له عليه السّلام و هى المأة و الخامسة و الثمانون من المختار في باب الخطب
و هي مروية في الاحتجاج من قوله عليه السّلام: لا يشمل بحدّ إلى آخرها مثل ما في المتن من دون اختلاف إلّا في ألفاظ يسيرة.
قال السيد (ره): و تجمع هذه الخطبة من اصول العلم مالا تجمعه خطبة.
ما وحّده من كيّفه، و لا حقيقته أصاب من مثّله، و لا إيّاه عنى من شبّهه، و لا صمده من أشار إليه و توهّمه، كلّ معروف بنفسه مصنوع، و كلّ قائم في سواه معلول، فاعل لا باضطراب آلة، مقدّر لا بجول فكرة، غنيّ لا باستفادة، لا تصحبه الأوقات، و لا ترفده الأدوات، سبق الأوقات كونه، و العدم وجوده، و الابتداء أزله. بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، و بمضادّته بين الامور عرف أن لا ضدّ له، و بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له، ضادّ النّور بالظّلمة، و الوضوح بالبهمة، و الجمود بالبلل، و الحرور بالصّرد، مؤلّف بين متعادياتها، مقارن بين متبايناتها، مقرّب بين متباعداتها، مفرّق بين متدانياتها، لا يشمل بحدّ، و لا يحسب بعدّ و إنّما تحدّ الأدوات أنفسها، و تشير الالات إلى نظائرها، منعتها منذ القدمة، و حمتها قد الأزليّة، و جنّبتها لو لا التّكملة، بها تجلّى صانعها للعقول، و بها امتنع عن نظر العيون، لا يجري عليه السّكون و الحركة، و كيف يجري عليه ما هو أجراه، و يعود فيه ما هو أبداه و يحدث فيه ما هو أحدثه، إذا لتفاوتت ذاته، و لتجزّء كنهه، و لا امتنع من الأزل معناه، و لكان له وراء إذ وجد له أمام، و لالتمس التّمام إذ لزمه النّقصان، و إذا لقامت آية المصنوع فيه، و لتحوّل دليلا بعد أن كان مدلولا عليه، و خرج بسلطان الامتناع من أن يؤثّر فيه ما يؤثّر في غيره. الّذي لا يحول و لا يزول، و لا يجوز عليه الأفول، لم يلد فيكون مولودا، و لم يولد فيصير محدودا، جلّ عن اتّخاذ الأبناء، و طهر عن ملامسة النّساء، لا تناله الأوهام فتقدّره، و لا تتوهّمه الفطن فتصوّره، و لا تدركه الحواسّ فتحسّه، و لا تلمسه الأيدي فتمسّه، لا يتغيّر بحال، و لا يتبدّل بالأحوال، و لا تبليه اللّيالي و الأيّام، و لا تغيّره الضّياء و الظّلام، و لا يوصف بشي‏ء من الأجزاء، و لا بالجوارح و الأعضاء، و لا بعرض من الأعراض، و لا بالغيريّة و الأبعاض، و لا يقال له حدّ و لا نهاية، و لا انقطاع و لا غاية،و لا أنّ الأشياء تحويه فتقلّه أو تهويه، أو أنّ شيئا يحمله فيميله أو يعدّله.

ليس في الأشياء بوالج، و لا عنها بخارج، يخبر لا بلسان و لهوات، و يسمع لا بخروق و أدوات، يقول و لا يلفظ، و يحفظ و لا يتحفّظ، و يريد و لا يضمر، يحبّ و يرضى من غير رقّة، و يبغض و يغضب من غير مشقّة، يقول لما أراد كونه كن فيكون لا بصوت يقرع، و لا بنداء (نداء خ ل) يسمع، و إنّما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه و مثّله، لم يكن من قبل ذلك كائنا، و لو كان قديما لكان إلها ثانيا، لا يقال كان بعد أن لم يكن فتجري عليه الصّفات المحدثات (صفات المحدثات خ ل)، و لا يكون بينها و بينه فصل و لا له عليها فضل فيستوي الصّانع و المصنوع، و يتكافأ المبتدع و البديع، خلق الخلايق على غير مثال خلا من غيره، و لم يستعن على خلقها بأحد من خلقه. و أنشأ الأرض فأمسكها من غير اشتغال، و أرساها على غير قرار و أقامها بغير قوائم، و رفعها بغير دعائم، و حصّنها من الأود و الاعوجاج و منعها من التّهافت و الانفراج، أرسى أوتادها، و ضرب أسدادها،و استفاض عيونها، و خدّ أوديتها، فلم يهن ما بناه، و لا ضعف ما قوّاه.

هو الظّاهر عليها بسلطانه و عظمته، و هو الباطن لها بعلمه و معرفته و العالي على كلّ شي‏ء منها بجلاله و عزّته، لا يعجزه شي‏ء منها طلبه و لا يمتنع عليه فيغلبه، و لا يفوته السّريع منها فيسبقه، و لا يحتاج إلى ذيمال فيرزقه، خضعت الأشياء له، و ذلّت مستكينة لعظمته، لا تستطيع الهرب من سلطانه إلى غيره، فتمتنع من نفعه و ضرّه، و لا كفوء له فيكافئه، و لا نظير له فيساويه. هو المفنى لها بعد وجودها حتّى يصير موجودها كمفقودها، و ليس فناء الدّنيا بعد ابتداعها بأعجب من إنشائها و اختراعها، و كيف و لو اجتمع جميع حيوانها من طيرها و بهائمها، و ما كان من مراحها و سائمها، و أصناف أسناخها و أجناسها، و متبلّدة أممها و أكياسها، على إحداث بعوضة ما قدرت على إحداثها، و لا عرفت كيف السّبيل إلى إيجادها، و لتحيّرت عقولها في علم ذلك و تاهت، و عجزت قواها و تناهت، و رجعت خاسئة حسيرة، عارفة بأنّها مقهورة، مقرّة بالعجز عن إنشائها، مذعنة بالضّعف عن إفنائها. و إنّه سبحانه يعود بعد فناء الدّنيا، وحده لا شي‏ء معه، كما كان‏ قبل ابتدائها كذلك يكون بعد فنائها، بلا وقت و لا مكان، و لا حين و لا زمان، عدمت عند ذلك الاجال و الأوقات، و زالت السّنون و السّاعات، فلا شي‏ء إلّا اللّه الواحد القهّار الّذي إليه مصير جميع الامور بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها، و بغير امتناع منها كان فناءها، و لو قدرت على الامتناع لدام بقاءها.

لم يتكاّده (يتكاءده خ ل) صنع شي‏ء منها إذ صنعه، و لم يؤده منها خلق ما برئه و خلقه، و لم يكوّنها لتشديد سلطان، و لا لخوف من زوال و نقصان، و لا للاستعانة بها على ندّ مكاثر، و لا للاحتراز بها من ضدّ مثاور، و لا للازدياد بها في ملكه، و لا لمكاثرة شريك في شركه، و لا لوحشة كانت منه فأراد أن يستأنس إليها. ثمّ هو يفنيها بعد تكوينها، لا لسأم دخل عليه في تصريفها و تدبيرها، و لا لراحة واصلة إليه، و لا لثقل شي‏ء منها عليه، لا يملّه (لم يملّه خ) طول بقائها، فيدعوه إلى سرعة إفنائها، لكنّه سبحانه دبّرها بلطفه، و امسكها بأمره، و أتقنها بقدرته. ثمّ يعيدها بعد الفناء من غير حاجة منه إليها، و لا استعانة بشي‏ء منها عليها، و لا لانصراف من حال وحشة إلى حال استيناس، و لامن حال جهل و عمى إلى حال علم و التماس، و لا من فقر و حاجة إلى غنى و كثرة، و لا من ذلّ وضعة إلى عزّ و قدرة.

اللغة

(وضح) يضح من باب وعد إذا انكشف و انجلي و (البهمة) لعلّها مأخوذة من أبهم الأمر و استبهم إذا اشتبه و (الحرور) بفتح الحاء في أكثر النسخ و هكذا ضبطه الشارح المعتزلي قال الفيومي: الحرور و زان رسول الريح الحارة، قال الفرّاء تكون ليلا و نهارا، و قال أبو عبيدة: أخبرنا روبة أنّ الحرور بالنهار و السّموم بالليل و قال أبو عمرو بن العلا: الحرور و السّموم باللّيل و النهار، و في القاموس: الحرور الريح الحارة بالليل و قد تكون بالنّهار و حرّ الشمس و الحرّ الدائم و النار، و في نسخة الشارح البحراني الحرور بالضمّ قال في القاموس: الحرّ ضدّ البرد كالحرور بالضّم و الحرارة و (اللهوات) جمع لهات بفتح الّلام فيهما و هي اللحمة في سقف أقصى الفم.

و (المراح) بالضمّ قال الشارح المعتزلي هي النعم ترد إلى المراح بالضمّ أيضا و هو الموضع الذي تأوى إليه النعم، و قال البحراني: مراحها ما يراح منها في مرابطها، و معاطنها و سائمها ما ارسل منها للرعى.
أقول: يستفاد منهما أنّ المراح هنا اسم مفعول و ظاهر غير واحد من اللّغويّين أنه اسم للموضع فقط، قال في القاموس: أراح الابل ردّها إلى المراح بالضمّ المأوى و قال الفيومى في مصباح اللّغة: قال الازهري و أما راحت الابل فهي رائحة فلا يكون إلّا بالعشى إذا أراحها راعيها على أهلها يقال: مرحت بالغداة إلى الرعى و راحت بالعشىّ على أهلها أى رجعت من المرعى إليهم، و قال ابن فارس: الرواح رواح العشىّ و هو من الزوال إلى اللّيل، و المراح بالضّم حيث تأوى الماشية باللّيل و المناخ و المأوى مثله و فتح الميم بهذا المعنى خطأ لأنه اسم مكان و الزمان و المصدر من أفعل بالألف مفعل بضمّ الميم على صيغة اسم المفعول، و أمّا المراح‏ بالفتح فاسم الموضع من راحت بغير ألف، و اسم المكان من الثلاثي بالفتح، انتهى.

و قال في مادة السوم: سامت الماشية سوما رعت بنفسها و يتعدّي بالهمزة فيقال أسامها راعيها، قال ابن خالويه: و لم يستعمل اسم مفعول من الرّباعي بل جعل نسيا منسيّا و يقال أسامها فهى سائمة.
فقد ظهر من ذلك أن جعل المراح اسم مفعول من أراح كما زعمه الشارحان غير جايز فهو اسم مكان و لا من تقدير مضاف في الكلام و تمام الكلام في بيان المعنى و (التبلّد) ضد التجلّد من بلد بلادة كشرب و فرح فهو بليد أى غير فطن و لا كيس و (لم يتكأّده) بالتشديد و الهمز من باب التّفعل و بالمدّ أيضا من باب التفاعل مضارع تكأد يقال تكأّدني الأمر و تكائدني أى شقّ علىّ، و عقبة كؤدة صعبة.

الاعراب

قوله: منعتها منذ القدمة و حمتها قد الأزليّة و جنبتها لو لا التكملة، المروىّ من نسخة الرضيّ نصب القدمة و التكملة و الأزليّة، و من بعض النسخ رفعها، فعلى الرواية الاولى الضمائر المتّصلة مفعولات اول للأفعال الثلاثة، و لفظة منذ و قد و لو لا في موضع الرّفع على الفاعل، و المنصوبات الثلاث مفعولات ثانية بالواسطة، و على الرواية الثانية فارتفاع الأسماء الثلاثة على الفاعليّة، و الضمائر المتّصلة مفاعيل و منذ و قد و لو لا مفاعيل ثوان.

المعنى

اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة كما قاله السيّد (ره) مشتملة على مطالب نفيسة و مباحث شريفة من العلم الالهي مع تضمّنها للفصاحة و البلاغة و انسجام العبارات و حسن الاسلوب و بديع النظم، و لعمرى أنها فصل من كلامه عليه السّلام في أرجائه مجال المقال واسع، و لسان البيان صادع، و ثاقب المطالب لامع، و فجر المدايح طالع، و مراح الامتداح جامع، فهو لمن تمسّك بهداه نافع، و لمن تعلّق بعراه رافع، فيا له من فصل فضل كؤوس ينبوعه لذّة للشاربين، و دروس مضمونه مفرحة للكرام الكاتبين يعظم للمحقّقين قدر وقعه، و يعم للمدقّقين شمول نفعه.

كيف لا و الموصوف به الحقّ الأوّل ربّ العالمين، و ديّان الدّين، و خالق السّماوات و الأرضين، إله الخلق أجمعين.
و الواصف جامع علوم الأوّلين و الاخرين، خليفة اللّه في الأرضين، معلم الملائكة و النّبيّين، أمير المؤمنين الذي بحار علومه و ماثره لا ينال قعرها بغوص الأفهام و جبال فضايله و مفاخره لا يرتقى قلالها بطير العقول و الأوهام.
و تالي هذه الخطبة الشريفة خطبة أخرى لأبي الحسن الرّضا عليه السّلام يأتي إنشاء اللّه ذكرها في شرح المختار المأة و الثامن«» و هي أيضا تجمع من اصول علم التوحيد ما لا يحصى كما يعرفه الناقد البصير ذو الفهم الثاقب.

اذا عرفت ذلك فأقول: إنّه عليه السّلام قد وصف اللّه الملك العلّام في هذه الخطبة بأوصاف سلبيّة و اضافيّة.
أولها قوله عليه السّلام: (ما وحّده من كيّفه) أى من جعله مكيفا و وصفه سبحانه بالكيف فلم يجعله واحدا و لم يقل بوحدانيّته، لكنّه تعالى واحد و توحيده واجب لقيام الأدلة العقليّة و النقليّة عليه حسبما مرّ في تضاعيف المتن و الشرح غير مرّة فتكييفه مطلقا باطل.

و إنّما كان التكييف منافيا للتوحيد لأنّ الكيف بأقسامها الأربعة أعنى الكيفيات المحسوسة راسخة كانت كصفرة الذّهب و حلاوة العسل و تسمى انفعاليات أو غير راسخة كحمرة الخجل و صفرة الوجل و تسمّى انفعالات، و الكيفيّات الاستعداديّة سواء كانت استعدادا نحو الانفعال أى التهيؤ لقبول أثرها بسهولة أو سرعة كالمراضيّة و اللين، أو استعدادا نحو اللّا انفعال أى التهيؤ للمقاومة و بطوء الانفعال كالمصحاحيّة و الصّلابة، و الكيفيات النفسانيّة المختصّة بذوات الأنفس الحيوانيّة راسخة كانت و تسمّى ملكة كالعلم و الشجاعة و العدالة، أو غير راسخة و تسمّى حالا كغضب الحليم و مرض الصّحاح، و الكيفيات المختصّة بالكميّات متّصلة كانت كالاستقامة و الانحناء و الشكل و الخلقة، أو منفصلة كالزوجيّة و الفرديّة.

فهو بهذه الأقسام الثابتة له بالحصر العقلي أو الاستقرائي من أقسام العرض‏ و العرض هو الموجود الحال في المحل على وجه الاختصاص الناعت أى يكون أحد الشيئين بالنسبة إلى الاخر بحيث يكون مختصّا به على وجه يوجب ذلك الاختصاص كون الأوّل نعتا و الثاني منعوتا كما في السواد بالنسبة إلى الجسم، فانّ اختصاصه به أوجب اتّصافه به فيقال جسم أسود فلو كان الحقّ الأوّل سبحانه موصوفا بالكيف بأيّ قسم من أقسامه لزم اقترانه به، و المقارنة بين الموصوف و الوصف مستلزم للتثنية لما قد مرّ في الفصل الرابع من المختار الأوّل من قوله عليه السّلام: فمن وصف اللّه فقد قرنه و من قرنه فقد ثناه، و التثنية مناف للتوحيد، هذا.

و قد مرّ دليل آخر على استحالة اتّصافه بالكيف في شرح الفصل الثّاني من المختار التسعين فليراجع هناك.
و توضيح ما قاله من جهة النقل ما رواه في البحار من كتاب كفاية النصوص لعليّ بن محمّد بن عليّ بن الخزاز الرازي عن أبي المفضّل الشّيباني عن أحمد بن مطوق ابن سوار عن المغيرة بن محمّد بن المهلب عن عبد الغفار بن كثير عن إبراهيم بن حميد عن أبي هاشم عن مجاهد عن ابن عبّاس قال: قدم يهوديّ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقال له: نعثل.

فقال: يا محمّد إنّي سائلك عن أشياء تلجلج في صدرى منذ حين فان أنت أجبتني عنها أسلمت على يدك، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: سل يا با عمارة.
فقال: يا محمّد صف لي ربّك فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ الخالق لا يوصف إلّا بما وصف به نفسه و كيف يوصف الخالق الذي يعجز الحواس أن تدركه، و الأوهام أن تناله، و الخطرات أن تحدّه و الأبصار عن الاحاطة به، جلّ عمّا يصفه الواصفون، نأى في قربه، و قرب في نائه كيّف الكيفيّة فلا يقال له كيف، و أيّن الأين فلا يقال له أين، منقطع الكيفوفيّة و الأينونيّة، فهو الأحد الصّمد كما وصف نفسه، و الواصفون لا يبلغون نعته لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفوا أحد.

قال: صدقت يا محمّد أخبرني عن قولك إنّه واحد لا شبيه له أليس اللّه واحد و الانسان واحد فوحدانيّته أشبهت وحدانيّة الانسان‏

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اللّه واحد واحدىّ المعني و الانسان واحد ثنوىّ المعني جسم و عرض و بدن و روح، فانما التشبيه في المعاني لا غير.

و الثاني قوله عليه السّلام (و لا حقيقته أصاب من مثّله) أى من أثبت له المثل فلم يعرفه حقّ معرفته، لأنّه سبحانه واجب الوجود ليس كمثله شي‏ء فالجاعل له مثلا لم يعرفه بوجوب الوجود لأنّ وجوب الوجود ينفى المثل.
و المقصود بالكلام تنزيهه سبحانه عن المماثل و تحقيق أنّه سبحانه لا مثل له هو أنّ المثل هو المشارك في تمام الماهيّة و هو تعالى ليس له شريك فليس له مثل و أيضا قد تقرّر أنّه تعالى لا مهيّة له فلا يكون له مثل اذا الاشتراك في المهيّة فرع وجود المهيّة.

و قال الشارح البحراني: كلّ ما له مثل فليس بواجب الوجود لذاته، لأنّ المثليّة إمّا أن يتحقق من كلّ وجه فلا تعدّد إذا لأنّ التعدّد يقتضى المغايرة بأمر ما و ذلك ينافي الاتحاد و المثليّة من كلّ وجه هذا خلف، و إمّا أن يتحقّق من بعض الوجود.

و حينئذ ما به التماثل إما الحقيقة أو جزؤها أو أمر خارج عنها.
فان كان الأوّل كان به الامتياز عرضيا للحقيقة لازما أو زايلا لكن ذلك باطل لأنّ المقتضى لذلك العرضية إمّا المهيّة فيلزم أن يكون مشتركا بين المثلين لأنّ مقتضى الماهية الواحدة لا يختلف فما به الامتياز لأحد المثلين عن الاخر حاصل للاخر هذا خلف، أو غيرها فتكون ذات واجب الوجود مفتقرة في تحصيل ما تميّزها من غيرها إلى غير خارجي هذا محال.

و ان كان ما به التماثل و الاتّحاد جزءا من المثلين لزم كون كلّ منهما مركبا فكل منهما ممكن هذا خلف.
و بقى أن يكون التماثل بأمر خارج عن حقيقتهما مع اختلاف الحقيقتين لكن ذلك باطل.

أمّا أولا فلامتناع وصف واجب الوجود بأمر خارج عن حقيقته لاستلزام اثبات الصفةله تثنيته و تركيبه على ما مرّ.
و أمّا ثانيا فلأنّ ذلك الأمر الخارجي المشترك إن كان كمالا لذات واجب الوجود فواجب الوجود لذاته مستفيد للكمال من غيره هذا خلف، و إن لم يكن كمالا كان اثباته له نقصا، لأنّ الزيادة على الكمال نقص فثبت أنّ كلّ ماله مثل فليس بواجب الوجود لذاته.

و الثالث قوله عليه السّلام (و لا إيّاه عنى من شبّهه) و معناه مثل سابقه و الغرض به تنزيهه عن الشبيه.
و قال صدر المتألهين في شرح الكافي: الضابطة الكلّية في تنزيهه تعالى عن الاشتراك مع غيره في شي‏ء من الصّفات أو أمر من الأمور الوجوديّة أنّه يلزم عند ذلك إما المماثلة في الذات أو المشابهة في الصّفة، لأنّ ذلك الأمر المشترك إن كان معتبرا في ذاته تعالى فيلزم المثل، و إن كان زايدا عليه فأشبه و كلاهما محال.

أمّا الأوّل فللزوم التركيب المستلزم للامكان و الحاجة، و لما تقدّم من البرهان على نفى الماهية عن واجب الوجود، و أنّ كلّ ذي مهيّة معلول، و أيضا قد برهن على أنّ أفراد طبيعة واحدة لا يمكن أن يكون بعضها سببا للبعض مقدما عليه بالذات، و اللّه موجد كلّ ما سواه فلا مثل له في الوجود.
و أمّا الثاني فذلك الأمر الزائد إن كان حادثا لزم الانفعال و التغير الموجبين للتركيب تعالى عن ذلك علوّا كبيرا، و إن كان أزليّا لزم تعدّد الواجب تعالى و هو محال.

و الرابع قوله عليه السّلام (و لا صمده من أشار إليه و توهّمه) أى لم يقصده سبحانه من أشار إليه بالاشارة الحسيّة أو العقليّة، لأنّ من أشار إليه فقد حدّه، و من حدّه فقد عدّه، و من عدّه فقد أبطل أزله حسبما عرفته في شرح الفصل الخامس من المختار الأوّل، و في شرح المختار المأة و الثّاني و الخمسين، فالموجّه قصده إلى من يشير إليه موجّه له إلى شي‏ء ممكن ليس بواجب، و كذلك من وجّه قصده إلى شي‏ء موهوم‏ موجه له إلى مخلوق مصنوع مثله لا إلى المعبود بالحقّ الواجب لذاته، لتنزّهه سبحانه عن ادراك العقول و الأوهام، و تقدّسه عن درك الافهام حسبما عرفته في شرح الفصل الثاني من المختار الأوّل و غيره.

و قد قال الباقر عليه السّلام كلّ ما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه مخلوق مثلكم و لعلّ النمل الصّغار تتوهّم أنّ للّه زبانين «زبانيين» فانّ ذلك كمالها و تتوهّم أنّ عدمهما نقصان لمن لا يتّصف بهما.

و الخامس قوله عليه السّلام (كلّ معروف بنفسه مصنوع) و الغرض منه نفى العلم به بحقيقته بيان ذلك أنه تعالى لو كان معروفا بنفسه أى معلوما بحقيقته لكان مصنوعا إذ كلّ معروف مصنوع لكن التالى باطل فالمقدّم مثله، أما بطلان التالى فلأنّ المصنوع مفتقر إلى الصانع و المفتقر ممكن لا يكون واجبا، و أما وجه الملازمة فلأنّ كلّ معلوم بحقيقته فانّما يعلم من جهة أجزائه و كلّ ذي جزء فهو مركب محتاج إلى مركّب يركّبه و صانع يصنعه، فثبت بذلك أنّ كلّ معلوم الحقيقة مصنوع فانقدح منه أنّه تعالى شأنه غير معروف بنفسه بل معروف باثاره و آياته.

و السادس قوله عليه السّلام (و كلّ قائم في سواه معلول) و الغرض منه نفى كونه قائما بغيره، إذ لو كان قائما بغيره لكان معلولا، لأنّ كلّ قائم في سواه معلول لكن التالى باطل لأنّ المعلولية ينافي وجوب الوجود فالمقدّم مثله، و وجه الملازمة أنّ القائم بغيره محتاج إلى محلّ و كلّ محتاج ممكن و كلّ ممكن معلول فظهر منه أنه تعالى لا يكون قائما بغيره، بل كلّ شي‏ء قائم به موجود بوجوده.

و يمكن تقرير الدليل بنحو آخر و هو أن يقال: كلّ قائم في سواه معلول و الواجب تعالى ليس بمعلول فينتج أنه ليس قائما بغيره، و يأتي مثل هذا التقرير في الفقرة السابقة أعنى قوله كلّ معروف اه.

السابع أنه تعالى (فاعل لا باضطراب آلة) يعنى أنه خالق الخلايق أجمعين جاعل السماوات و الأرضين موجد الأولين و الاخرين من دون حاجة في فعله و ايجاده إلى اكتساب الالات و تحصيل الأدوات، لأنّ الافتقار إليها من صفات الامكان‏و لوازم النقصان و إنما أمره تعالى إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.

الثامن أنه (مقدّر لا بجول فكرة) يعنى أنه سبحانه قدّر لكلّ شي‏ء ما يستحقه من الوجود و أعطا كلّ موجود المقدار الذي يستعدّه من الكمال كما و كيفا في الأرزاق و الاجال و نحوها من دون افتقار في ذلك إلى جولان الفكر كما يفتقر إليه غيره من البشر، لأنّ الفكرة لا تليق إلّا بذوى الضمائر و هو تعالى منزّه عن الضمير و ساير الالات البدنية.

التاسع أنّه سبحانه (غنى لا باستفادة) يعنى أنّ غناه تعالى بنفس ذاته الواجب لا كالأغنياء منّا مستفيدا للغنى من الخارج و إلّا لزم كونه تعالى ناقصا في ذاته مستكملا بغيره و هو محال، و أيضا كلّ غنيّ غيره فقد صار موجودا بوجوده و حصل له الغنى من بحر كرمه وجوده، و معطى الشي‏ء لا يكون فاقدا له البتة.

العاشر أنه (لا تصحبه الأوقات) لأنه تعالى قديم و الوقت و الزمان حادث و الحادث لا يكون مصاحبا للقديم لاستلزام المصاحبة للمقارنة و المعيّة.
روى في البحار من التوحيد و الأمالى عن أبى بصير عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام قال: إنّ اللّه تبارك و تعالى لا يوصف بزمان و لا مكان و لا حركة و لا انتقال و لا سكون بل هو خالق الزمان و المكان و الحركة و السكون و الانتقال، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

(و) الحادي عشر أنّه (لا ترفده الأدوات) أى لا تعينه الالات فيما يوجده و ايده لغنائه عن الحاجة إلى الاعانة و تنزّهه عن الاستعانة حسبما عرفته آنفا.

و الثاني عشر أنه (سبق الأوقات كونه) أى وجوده أى كان وجوده سابقا على الأزمنة و الأوقات بحسب الزمان الوهمى أو التقديرى و كان علّة لها و موجدا إيّاها.

(و) الثالث عشر أنه سبق (العدم وجوده) أى وجوده لوجوبه سبق و غلب العدم فلا يعتريه عدم أصلا.
و قال الشارح البحراني: المراد عدم الممكنات لأنّ عدم العالم قبل وجوده كان مستندا إلى عدم الداعى إلى ايجاده المستند إلى وجوده، فوجوده سبق على‏ عدم الممكنات.

و قيل: اريد به اعدام الممكنات المقارنة لابتداء وجوداتها فيكون كناية عن أزليته و عدم ابتداء لوجوده.

(و) الرابع عشر أنه سبق (الابتداء أزله) أى سبق وجوده الأزلي كلّ ابتداء فليس لوجوده و لا شي‏ء من صفات ذاته ابتداء، أو أنّ أزليته سبق بالعلية كلّ ابتداء و مبتداء.

الخامس عشر أنه تعالى (بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له) أى بخلقه و ايجاده المشاعر الادراكية و الحواس و إفاضتها على الخلق عرف أن لا مشعر له، إما لما مرّ من أنه تعالى لا يتّصف بخلقه، أو لأنا بعد إفاضة المشاعر علينا علمنا حاجتنا في الادراك إليها فحكمنا بتنزّهه تعالى عنها لاستحالة الاحتياج عليه سبحانه.
و قال الشارح المعتزلي: لأنّ الجسم لا يصحّ منه فعل الأجسام و هذا هو الدّليل الذي يعول عليه المتكلّمون في أنه تعالى ليس بجسم.

و قال الشارح البحراني: و ذلك أنه تعالى لما تعالى خلق المشاعر و أوجدها و هو المراد بتشعيره لها امتنع أن يكون له مشعر و حاسة و إلّا لكان وجودها له إمّا من غيره و هو محال، أمّا أوّلا فلأنّه مشعر المشاعر و أمّا ثانيا فلأنه يكون محتاجا في كماله إلى غيره فهو ناقص بذاته هذا محال، و إمّا منه و هو أيضا محال لأنه إن كان من كمالات الوهيّته كان موجودا لها من حيث فاقد كمالا فكان ناقصا بذاته هذا محال، و إن لم يكن كما لا كان اثباتها له نقصا لأنّ الزيادة على الكمال نقصان فكان ايجاده لها مستلزما لنقصانه و هو محال انتهى.

و اعترض عليه صدر المتألّهين في شرح الكافى و قال فيه بحث من وجوه: أحدها بطريق النقض فانّ ما ذكره لو تمّ يلزم أن لا يثبت له تعالى على الاطلاق صفة كمالية كالعلم و القدرة و نحوهما بأن يقال امتنع أن يكون له علم مثلا و إلّا لكان وجوده له إما من غيره، إلى آخر ما ذكره.

و ثانيها بالحلّ و هو أنّ ههنا احتمالا آخر نختاره، و هو أن يكون ذلك‏ المشعر عين ذاته كالعلم و القدرة فان بطلانه لو كان بديهيّا لم يحتج إلى الاستدلال إذ كلّ ما يحتمل قبل الدليل أن يكون عارضا له يحتمل أن يكون عينا له.
و ثالثها أنّ ما ذكره من الكلام على تقدير تمامه استدلال برأسه لم يظهر فيه مدخلية قوله بتشعيره المشاعر في نفى المشعر عنه تعالى، و إنما استعمله في إثبات مقدّمة لم تثبت به و قد ثبت بغيره كما لا يخفى على الناظر فيه.

فالأولى أن يقال: قد تقرّر أنّ الطبيعة الواحدة لا يمكن أن يكون بعضها علّة لبعض آخر لذاته بأن يقال: لو فرض كون نار مثلا علّة النار أخرى فعليّة هذه و معلولية هذه إمّا لنفس كونهما نارا فلا رجحان لإحداهما في العلّية و للأخرى في المعلوليّة لتساويهما في النارية، بل يلزم أن يكون كلّ نار علّة للاخرى بل علّة لذاتها و معلولا لذاتها و هو محال و إن كان العلية لانضمام شي‏ء آخر فلم يكن ما فرضناه علّة بل العلّة حينئذ ذلك الشي‏ء فقط لعدم الرجحان في إحداهما للشرطيّة و الجزئية أيضا لاتّحادهما من جهة المعنى المشترك و كذلك الحال لو فرض المعلوليّة لأجل ضميمة، فقد تبيّن أنّ جاعل الشي‏ء يستحيل أن يكون مشاركا لمجعوله.
و به يعرف أنّ كلّ كمال و كلّ أمر وجودى يتحقّق في الموجودات الامكانية فنوعه و جنسه مسلوب عنه تعالى و لكن يوجد له ما هو أعلى و أشرف منه.
أمّا الأوّل فلتعاليه عن النقص و كلّ مجعول ناقص و إلّا لم يكن مفتقرا الى جاعل و كذا ما يساويه في المرتبة و آحاد نوعه كاحاد جنسه.
و أمّا الثاني فلأنّ معطى كلّ كمال ليس بفاقد له بل هو منبعه و معدنه و ما في المجعول رشحه و ظلّه، انتهى.

(و) السادس عشر أنه سبحانه (بمضادّته بين الامور عرف أن لا ضدّ له) لأنّ الضدّ يطلق على معنيين.
أحدهما المعنى الاصطلاحى فيقال الضدّان في الاصطلاح على الأمرين الوجوديّين الذين يتعاقبان على موضوع واحد و محلّ واحد.
و الثاني المعنى العرفي الذى هو المكافئ للشّي‏ء و المساوى له في القوّةو على أىّ معنى كان فليس يجوز أن يكون له سبحانه ضدّ.

أمّا على الأوّل فلأنّه لما خلق الأضداد في محالها وجدناها محتاجة إليها علمنا عدم كونه ضدّ الشي‏ء للزوم الحاجة إلى المحلّ المنافية لوجوب الوجود أو لأنّا لما رأينا كلّا من الضدّين يمنع وجود الاخر و يدفعه و يفنيه علمنا أنّه تعالى منزّه عن ذلك، أو أنّ التضاد إنما يكون للتحدّد بحدود معيّنة لا تجامع غيرها كمراتب الألوان و الكيفيات، و هو سبحانه منزّه عن الحدود، و أيضا كيف يضادّ الخالق مخلوقه و الفايض مفيضه.

و أما على الثاني فلأنّ المساوى للقوّة في الواجب يجب أن يكون واجبا فيلزم تعدد الواجب و هو باطل.
و قال الشارح البحراني: إنّه لما كان خالق الأضداد فلو كان له ضدّ لكان خالقا لنفسه و لضدّه و هو محال، و لأنّك لما علمت أنّ المضادّة من باب المضاف و علمت أنّ المضاف ينقسم إلى حقيقيّ و غير حقيقىّ فالحقيقىّ هو الّذى لا نعقل مهيّته إلّا بالقياس إلى غيره، و غير الحقيقى هو الذي له في ذاته مهيّة غير الاضافة تعرض لها الاضافة، و كيف ما كان لا بد من وجود الغير حتى يوجد المضاف من حيث هو مضاف، فيكون وجود أحد المضافين متعلّقا بوجود الاخر، فلو كان لواجب الوجود ضدّ لكان متعلق الوجود بالغير فلم يكن واجب الوجود لذاته هذا خلف انتهى.

أقول: و أنت خبير بأنّ ما ذكره أخيرا في علّة إبطال الضّد أعنى قوله: لو كان لواجب الوجود ضدّ لكان متعلّق الوجود بالغير اه إنما يتمشّى في القسم الأوّل أعنى المضاف الحقيقى، و أمّا في القسم الثاني فلا، إذ تعلّق وجوده بالغير ممنوع لأنّ له فى ذاته مهيّة موجودة كما صرّح به، و إنما إضافته موقوفة على الغير كما لا يخفى.
فالأولي أن يساق الدليل إلى قوله حتّى يوجد المضاف من حيث هو مضاف على النحو الذي ساقه ثمّ يقال: و هو محال عليه تعالى.
أما على التقدير الأول فظاهر إذ لا مكافى‏ء و لا مضادّ له في الوجود لما أشرنا إليه.

و أمّا على الثاني فلأنّ صفاته عين ذاته و ليس له صفة عارضة فلا يتّصف بالاضافة العرضية، و هذا كلّه بعد الغضّ عما برهن عليه من أنّ الواجب سبحانه لا مهية له فافهم جيدا.
و به يظهر الجواب عما ربما يعترض في المقام بأنّه تعالى بذاته مبدء الأشياء و خالقها و موجدها، و كلّ هذه الامور إضافات فيكون مضافا حقيقيا.

وجه ظهور الجواب أنّ المضاف من أقسام المهية التي لها أجناس عالية، و الوجود ليس بمهية كلية و لا جنس له و لا فصل سيّما وجود الواجب الذى لا يشوبه عموم و لا مهيّة، ألا ترى أنّ كونه موجودا لا في موضوع لا يوجب كونه جوهرا إذ الجواهر مهيّة حقّها في الوجود الخارجى أن لا يكون في موضوع، و الأوّل تعالى لا مهيّة له فلا يكون جوهرا و كذا لا يكون مضافا.

(و) السابع عشر أنّه (بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له) و الكلام فيه كما مرّ في سابقه حرفا بحرف.
بأن يقال: انه تعالى خلق المقترنات و مبدء المقارنة بها فلو كان مقارنا لغيره لكان خالقا لنفسه و لقرينه و هو محال، و أيضا المقارنة من باب المضاف و يمتنع أن يلحق الواجب لما تقدّم.
و قال صدر المتألهين في شرح الكافي: برهانه أنه خالق المقترنات و نحو وجودها الذى بحسبه يكون مقترنا بالذات، أو يصحّ عليه المقارنة.

فالأوّل ككون الشي‏ء عارضا لشي‏ء أو معروضا ملزوما له أو صورة شي‏ء أو مادّة شي‏ء أو جزء شي‏ء و الثاني ككون الشي‏ء معروضا بشي‏ء بعد ما لم يكن، أو مادّة ككون جسم ملاقيا لجسم آخر و هذه كلّها ممّا لا يجوز لحوقه لكلّ موجود اتفق، بل من الموجود ما يستحيل عليه لذاته الاقتران بشي‏ء كالمفارقات مثلا و كالاضداد بعضها لبعض.
و الغرض أنّ كون الشي‏ء بحيث يجوز عليه المقارنة شي‏ء آخر أمر يرجع إلى خصوصيّة ذاته و نحو وجوده، و قد علمت أنّ خالق كلّ موجود ليس من نوع ذلك‏ الوجود، فلو كان ذاته مقارنا بشي‏ء آخر و انحاء المقارنات محصورة و كل منها قد وجد في المخلوقات فيلزم كونه من نوع المخلوقات بل يلزم كونه خالقا لنفسه كما مرّ.

الثامن عشر أنّه مضادّ بين الأمور المتضادّة و هو في الحقيقة تأكيد للوصف السّادس عشر، لأنه قد ذكر جملة من أقسام المتضادّات و المتفرّقات ليتبيّن أنّ مضادّها و مفرّقها ليس من جنسها، و يتّضح أنه ليس متّصفا بها و لا بالتضاد فقال: (ضاد النّور بالظلمة) و هو دليل بظاهره بصيغة الفاعل على كون الظلمة أمرا وجوديا مطابق لقوله تعالى: وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ إذ لو كان أمرا عدميّا لم يكن مجعولا مخلوقا، و هو مذهب المحقّقين من المتكلّمين حسبما عرفته في شرح الفصل الأوّل من المختار الرابع، خلافا للاشراقيّين و أتباعهم حيث ذهبوا إلى أنّها ليست إلّا عدم النّو فقط، من غير اشتراط الموضوع القابل.

قال الصّدر الشيرازي: و الحقّ أنها ليست عدما صرفا بل هي عبارة عن عدم الضوء عما من شأنه أن يضي‏ء و إذا ليست بعدم صرف، و مع ذلك يتعاقب مع الضوء على موضوع واحد كالهواء و نحوه، فصّح عليه إطلاق الضّد على اصطلاح المنطقيين حيث لا يشترط في اصطلاحهم المنطقى كون كلا الضدّين وجوديّين، بل الشرط عندهم التعاقب على موضوع واحد انتهى.

و على ذلك أى كونها عبارة عن عدم الضوء عما من شأنه أن يكون مضيئا تقابل الضّوء تقابل العدم و الملكة، و يكون اطلاق الضدّ عليها بحسب الاصطلاح الحكمي مجازا كما لا يخفى.
(و) ضاد (الوضوح بالبهمة) أى الظهور بالابهام و الجلاية بالخفاء، و فسّرهما الشارحان المعتزلي و البحراني بالبياض و السّواد و لا يخفى بعده (و الجمود بالبلل) أى اليبوسة بالرطوبة (و الحرور بالصرد) أى الحرارة أو حرارة الريح الحارة بالبرودة.

التاسع عشر أنّه تعالى (مؤلّف بين متعادياتها مقارن بين متبايناتها مقرّب بين متباعداتها) لا يخفى حسن الاسلوب و لطافة التطبيق في هذه الفقرات الثلاث‏ و الفقرة الرابعة الاتية، حيث طابق بين التأليف و التعادى و التقارن و التباين و التقريب و التباعد و التفريق و التداني.

و المقصود أنّه جمع سبحانه بقدرته الكاملة و حكمته البالغة بين الامور التي في غاية التباين و التباعد، مثل جمعه بين العناصر المختلفة الكيفيّات و بين الروح و البدن، و القلوب المتشتّتة و الأهواء المتفرّقة، فبدّل ذلك الجمع و التأليف الواقع على خلاف مقتضى الطبايع على قاهر يقهرها عليه، و قاسر يقسر العناصر على الامتزاج و الالتيام و الاستحالة، حتّى يحصل بينها كيفيّة متوسّطة هي المزاج إذ لو كان كلّ منها في مكانه لم يحصل بينها امتزاج فلم يتحصّل منها مزاج.

العشرون أنّه (مفرّق بين متدانياتها) لا يخفى حسن المقابلة بين هذه القرينة و القراين الثلاث السابقة، حيث جعل التفريق في قبال التأليف و القرآن و التقريب و جعل التداني في مقابلة التباعد و التباين و التعادى.
و المراد أنه فرّق بين الأشياء على منتهى قربها مثل تفريقه بين أجزاء العناصر لبطلان تركيبها و بين الرّوح و البدن بالموت و بين أجزاء المركبات عند انحلالها و الأبدان بعد موتها، فدلّ ذلك التفريق على وجود المفرّق و قدرته، قال تعالى: «وَ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ».

قيل في تفسيره: إنّ في خلق الزوجين دلالة على المفرّق و المؤلّف لهما، لأنّه خلق الزوجين من واحد بالنوع فيحتاج إلى مفرّق يجعلهما متفرّقين و جعلهما مزاوجين مؤتلفين ألفه بخصوصهما فيحتاج إلى مؤلّف يجعلهما مؤتلفين.

الحادى و العشرون أنّه (لا يشمل بحدّ) أي لا يشمله حدّ و لا يكون محدودا به، لا بالحدّ الاصطلاحي و لا بالحدّ اللّغوي، لما مرّ غير مرّة في تضاعيف الشرح من أنّ الحدّ الاصطلاحي و هو القول الشارح لمهيّة الشي‏ء المؤلف من المعاني الذاتية المختصّه به، فلا بدّ أن يكون المحدود به مركّبا ذا أجزاء، و الواجب تعالى ليس بمركب فلا يكون محدودا، و الحدّ اللّغوي عبارة عن نهاية الشي‏ء الذي يقف عندها و لا يتجاوز عنها، و هو من لواحق الكمّ المتّصل و المنفصل و الكمّ من الأعراض‏و لا شي‏ء من الواجب بعرض أو محلّ له فامتنع أن يوصف به.

(و) الثاني و العشرون أنّه (لا يحسب بعدّ) قال الشارح البحراني: أى لا يلحقه الحساب و العدّ فيدخل في جملة المحسوبات بالمعدودة و ذلك إنّ العدّ من لواحق الكمّ المنفصل الذي هو العدد كما هو معلوم في مظانه و الكمّ عرض، و قد ثبت أنه تعالى ليس بعرض و لا محلّ له.

و قال الشّارح المعتزلي: يحتمل أن يريد به أنّه لا تحسب أزليّته بعدّ أى لا يقال له منذ وجد كذا و كذا كما يقال للأشياء المتقاربة العهد و يحتمل أن يريد به أنّه ليس مماثلا للأشياء فيدخل تحت العدّ كما يعدّ الجواهر و كما تعدّ الامور المحسوسة.
و قال العلّامة المجلسي (ره): لا يحسب بالأجزاء و الصّفات الزائدة المعدودة.
أقول: و الكلّ صحيح محتمل لا غبار عليه و إن كان الأوّل أشبه، فالمقصود به أنّه ليس من جملة المعدودات كما ربما يسبق ذلك إلى الوهم إذا وصفناه سبحانه بأنه واحد فيتوهّم منه أنّه واحد ليس له ثان و أنّ وحدته وحدة عدديّة، و اندفاع ذلك الوهم بأن معنى كونه واحدا أنّه احدى الذات و أنّه ليس له مثل و نظير لا أنّه واحد بالعدد، لأنه لا يحسب بعد فيكون مساقه مساق قوله عليه السّلام في الخطبة السابقة واحد لا بعدد، هذا.

و لما نزّهه تعالى عن كونه محدودا بحدّ و معدودا بعدّ أكّد ذلك بقوله (و إنما تحدّ الأدوات أنفسها و تشير الالات إلى نظايرها) يعني أنّه سبحانه لو رام أحد أن يحدّه أو يعدّه فلا بدّ أن يكون تحديده و عدّه بالالات البدنيّة و القوى الجسمانيّة ظاهريّة كانت كالأصابع و اليد و اللّسان و غيرها، أو باطنية كالمتوهّمة و المتفكرة و المتخيّلة، لكن شيئا منها لا يقدر على ذلك.

أمّا الجوارح الظاهرة فلانحصار مدركاتها في عالم المحسوسات و الأجسام و الجسمانيات، فهي إنما تدرك و تحدّ أنفسها أى أجناسها و أنواعها و تعدّ نظايرها أي ذوات المقادير و تشير إلى ما هي مثل لها في الجسمية و الجسمانية، و صانع العالم‏ليس بجسم و لا جسماني و لا ذي مقدار فاستحال أن تحدّه الالات و تعدّه الأدوات.

و أمّا المشاعر الباطنة فانّ مدركاتها و إن لم تكن مقصورة في المحسوسات و الموجودات إلّا أنها إذا حملت على ما ليس بموجود في الخارج ترجع و تخترع صورة مماثلة للموجود حسبما عرفته في شرح الفصل الثاني من المختار الأوّل فهي أيضا لا تتعلّق إلّا بما يماثلها في الامكان و لا تحيط إلّا بما هو في صورة جسم أو جسماني.

فاتّضح بذلك أنّ أفعال الأدوات و الالات و آثارها إنما توجد في الأشياء الممكنة الّتي هي مثلها لا فيه تعالى، هذا.
و لما ذكر أنّه سبحانه أجلّ و أعظم شأنا و قدسا من دخوله في عداد المحدودات و أكّده باستحالة التحديد و الاشارة إليه سبحانه من الالات و الأدوات لكون مدركاتها مقصورة محصورة في أسناخها و أشباهها من الممكنات و المحسوسات و أكّده ثانيا بالتنبيه على أنّ الالات موصوفة بالحدوث و الامكان و النقص، و الحقّ الأوّل جلّ شأنه و عظم سلطانه موصوف بالقدم و الوجوب و الكمال، فكيف لها أن تحوم حوم حضرة القدس و أنّى للحادث أن يحدّ القديم و للممكن الاشارة إلى الواجب و للناقص الاحاطة بمن هو في غاية العظمة و الكمال و الجبروت و الجلال.

و ذلك قوله (منعتها منذ القدمة و حمتها قد الأزلية و جنبتها لو لا التّكملة) فالمقصود بهذا الكلام التنبيه على حدوث الالات و الأدوات و نقصها صراحة و الاشارة إلى قدم الباري تعالى و كماله ضمنا أو بالعكس، و الأوّل مبنيّ على كون منذ و قد و لو لا مرفوعات المحل على الفاعلية، و الثاني على انتصابها بالمفعوليّة و كون الفاعل القدمة و الأزليّة و التكملة و الأوّل أولى و أنسب لمطابقته لنسخة الرضيّ كما روي و لكون قرب هذه الجمل بقوله و إنما تحدّ الأدوات آه مشعرا بكون عمدة النظر فيهما إلى بيان وصف الالات بالحدوث و إظهار نقصها و قصورها و ان كان المقصود بالذات منهما جميعا الدلالة على تنزيه الباري سبحانه من القصور و النقصان.

و كيف كان فتوضيح دلالة هذا الكلام على المرام يحتاج إلى تمهيد مقدّمةأو بيّنة و هي: أنّ لفظ منذ مثل اختها مذلها معنيان.
أحدهما أوّل المدّة أى ابتداء زمان الفعل الذي قبلها مثبتا أو منفيا تقول رأيته منذ يوم الجمعة أو ما رأيته منذ يوم الجمعة أى أوّل مدّة الرؤية أو انتفاؤها يوم الجمعة.
و ثانيها جميع مدّة الفعل الذي قبلها مثبتا أو منفيا، نحو صحبني منذ يومان أى مدّة صحبته يومان فيليها الزّمان الذي فيه معنى العدد، و يجب أن يليها مجموع زمان الفعل من أوّله الى آخره المتصل بزمان التكلّم.

و قد يقع بعدها مصدر أو فعل أو ان فيقدّر زمان مضاف الى هذه نحو ما رأيته منذ سفره أو منذ سافر أو منذ أنه سافر أى منذ زمان سفره و منذ زمان سافر و منذ زمان أنه سافر.
و لفظة قد اذا دخلت على الماضي تفيد التحقيق و تقريب الماضي من الحال تقول: قد ركب زيد أى حصل ركوبه عن قريب، فان قلت ركب زيد احتمل الماضي القريب و البعيد و لذلك لا تدخل على الفعل الغير المنصرف مثل نعم و بئس و عسى و ليس لأنّها ليست بمعنى الماضي حتى يقرّب معناها من الحال.

و لفظة لو لا موضوعة للدخول على جملة اسمية ففعلية لربط امتناع الثانية بالاولى تقول لو لا زيد لأكرمتك أى لو لا زيد موجود، فهي تدلّ على امتناع الاكرام بسبب وجود زيد، و تقول في الأشياء البديعة المعجبة ما أحسنها و ألطفها لو لا ما فيها من عيب كذا، فتفيد انتفاء شدّة الحسن و الاعجاب بوجود العيب الموجود فيها.

و إذا مهّدت هذه المقدّمة الشريفة نقول: معنى كلامه عليه السّلام على رواية رفع منذ و قد و لو لا بالفاعلية أنّ صحّة إطلاق هذه الألفاظ الثلاثة بمعانيها المذكورة و اطراد استعمالها في الالات و الأدوات في نفسها و ما يتعلّق بها من أوصافها أو في أهلها أعنى من له تلك الالات تدلّ على حدوثها و نقصانها و ذلك لأنّ دخول لفظة منذ عليها في قولنا: هذه الالات وجدت منذ زمن طويل أو قصير أو أعوام كذا تمنعها من كون تلك الالات قديمة، إذ القديم متعال عن الزّمان و لا ابتداء لوجوده.

و كذا دخول لفظة قد عليها في قولنا: قد وجدت تلك الالات في وقت كذا يمنعها من كونها أزليّة لافادتها تقريب زمان وجودها من الحال المنافي للأزليّة إذ الأزلي ما لا بداية لوجوده فكيف يكون الزمان الماضي ظرفا لوجوده فضلا عن القرب إلى الحال.
و كذا صحّة استعمال لو لا فيها في قولنا: ما أحسن تلك الالات و أكملها أو أحسن و أكمل أربابها لو لا فنائها يجنّبها أى تجعلها أجنبيّة من التكملة و الوصف بالكمال.

فملخّص المعنى أنها منعتها صحّة دخول منذ من قدمتها، و صحّة دخول قد من أزليتها و جعلها صحّة استعمال لو لا أجنبية من تكملتها أى من توصيفها بالكمال.
و أما على رواية النّصب و كون القدمة و الأزليّة و التكملة مرفوعات بالفاعلية فالمراد بيان قدم الباري و كماله سبحانه.

و معنى الكلام أن هذه الالات منعها كون الباري قديما من جواز استعمال لفظة منذ المربوط معناها بالزمان فيه تعالى و اطلاقها عليه سبحانه، لأنّ القديم سابق على الوقت و الزمان، و كذا منعها كونه سبحانه أزليا من جواز استعمال قد فيه عزّ شأنه، و جنّبها كونه على غاية العزّ و الكمال و منتهى العظمة و الجلال من دخول لفظة لو لا المفصحة عن القصور و النقصان على ذاته و صفاته تعالى هذا.

و لما ذكر عليه السّلام قدسه تعالى عن الاتّصاف بحدّ و الاحتساب بعدّ و ارتفاع ذاته عن تحديد الالات و المشاعر، و تعاليه عن إدراك الممكنات عن الأعراض و الجواهر و أشار إلى حدوث الالات و قصورها و نقصانها و قدمة الباري و أزليته و كماله أردفه بقوله (بها تجلى صانعها للعقول و بها امتنع عن نظر العيون) تنبيها على أنها على ما فيها من القصور و النقص غير عادم المدخلية في معرفته سبحانه، إذ بها عرفنا صفات جماله، و بها علمنا صفات جلاله.

فمعنى قوله عليه السّلام: بها تجلّي صانعها للعقول، أنّه بخلقه تلك المشاعر و الالات على‏وجه الاتقان و الاحكام، و تقديره إيّاها على النظام الأكمل و إفاضتها علينا و إهداء كلّ منها إلى ما خلق لأجلها من المصالح و المنافع التي لا تعدّ و لا تحصى، تجلّي سبحانه لعقولنا و علمنا علما لا يعتريه شكّ و ريب أنّ لها صانعا قادرا عالما مدبّرا حكيما و أيضا فانه سبحانه لما خلق تلك الالات و الحواس المدركة لبدايع ما في عالم الامكان عرفنا بإدراكها أنّ لذلك العالم مبدعا قادرا و صانعا قاهرا فكانت تلك الالات طرقا لعرفان العقل كما قال عزّ من قائل «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» و معنى قوله: و بها امتنع عن نظر العيون، أنّه بها استنبطنا استحالة كونه مرئيا بحاسة البصر، و ذلك لأنا بالمشاعر و الحواس كملت عقولنا استخرجنا الدّلالة على أنّه لا تصحّ رؤيته، و عرفنا أنه يستحيل أن يعرف بغير العقل و أنّ قول من قال إنّا سنعرفه رؤية و مشافهة بالحاسة باطل، هكذا قال الشارح المعتزلي.

و قال الشارح البحراني: إنّه بايجادها و خلقها بحيث تدرك بحاسّة البصر علم أنّه تعالى يمتنع أن يكون مرئيا مثلها، و ذلك لأنّ تلك الالات إنما كانت متعلّقة حسّ البصر باعتبار أنّها ذات وضع وجهة و لون و غيره من شرايط الرؤية، و لما كانت هذه الأمور ممتنعة في حقّه تعالى لا جرم امتنع أن يكون محلّا لنظر العيون.
و قال العلّامة المجلسي (ره): لما رأينا المشاعر انما تدرك ما كان ذا وضع بالنسبة إليها علمنا أنه لا يدرك بها، لاستحالة الوضع فيه.

و الثالث و العشرون أنه سبحانه (لا يجرى عليه السكون و الحركة) لأنّهما من أقسام الأعراض و أوصاف الأجسام فيستحيل جريانهما عليه سبحانه، و أوضح ذلك الدّليل بوجوه: أحدها ما أشار إليه بقوله (و كيف يجرى عليه ما هو أجراه و يعود فيه ما هو أبداه و يحدث فيه ما هو أحدثه) استفهام على سبيل الانكار و الابطال لجريهما عليه تعالى تقريره أنّه عزّ و جلّ هو جاعل الحركة و السّكون و مبدؤهما و موجدهما فهما من مجعولاته و آثاره سبحانه في الأجسام، و كلّ ما كان من آثاره فيستحيل‏اتّصافه به.

أمّا أنهما من آثاره سبحانه فواضح و أمّا استحالة اتّصافه بهما فلأنّ المؤثّر واجب التقدّم بالوجود على الأثر فذلك الأثر: إمّا أن يكون معتبرا في صفات الكمال فيلزم أن يكون الواجب ناقصا بذاته مستكملا بغيره من آثاره، و النقص عليه محال.
و إمّا أن لا يكون معتبرا في صفات الكمال فله الكمال المطلق بدون ذلك الأثر فيكون إثباته له و توصيفه به نقصا في حقّه لأنّ الزيادة على الكمال المطلق نقصان و هو عليه محال.

ثانيها ما أشار إليه بقوله (اذا لتفاوتت ذاته) يعني أنّه لو جريا عليه لكان ذاته متفاوتة متغيّرة بأن يكون تارة متحرّكة و أخرى ساكنة و الواجب لا يكون محلّا للحوادث و المتغيّرات لرجوع التغيير فيها إلى الذات.
ثالثها ما أشار إليه بقوله (و لتجزّء كنهه) أى لو كان متّصفا بهما يلزم أن يكون ذاته و كنهه متجزّءا كما قد أفصح عنه في الفصل الرابع من الخطبة الاولى بقوله: فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه و من قرنه فقد ثنّاه و من ثنّاه فقد جزّاه.
و توضيحه أنّهما من الأعراض الخاصّة بالأجسام فلو اتّصف الواجب تعالى بهما لكان جسما و كلّ جسم مركب قابل للتجزئة و كلّ مركب مفتقر إلى أجزائه و ممكن، فيكون الواجب مفتقرا ممكنا و هو باطل.
و قيل في وجه الملازمة: إنّ اتّصافه بهما يستلزم شركته مع الممكنات فيلزم تركبه ممّا به الاشتراك و ممّا به الامتياز، و ما قلناه أولى.

رابعها ما أشار إليه بقوله (و لامتنع من الأزل معناه) و هو في الحقيقة تعليل لما سبق أى إذا استلزم اتصافه بهما للتركيب و التجزئة التي هي من خواصّ الأجسام فيمتنع استحقاقه للأزليّة لأنّه حينئذ يكون جسما و كلّ جسم حادث.
خامسها ما أشار إليه بقوله (و لكان له وراء إذ وجد له أمام) و هذا الدّليل‏مخصوص بنفى الحركة.
قال الشارح المعتزلي: يقول لو حلته الحركة لكان جرما و حجما و لكان أحد وجهيه غير وجهه الأخر لا محالة فكان منقسما.

و قال الشارح البحراني: لو جرت عليه الحركة لكان له أمام يتحرّك إليه و حينئذ يلزم أن يكون له وراء إذ له أمام لأنهما إضافتان لا تنفكّ إحداهما عن الاخرى لكن ذلك محال لأنّ كلّ ذي وجهين فهو منقسم، و كلّ منقسم ممكن.
و سادسها ما أشار إليه بقوله (و لالتمس التّمام إذ لزمه النقصان) و هذا الدليل أيضا مخصوص بنفى الحركة و يستفاد منه نفي السّكون بالأولويّة يقول عليه السّلام: إنّه سبحانه لو كان متحرّكا لكان ملتمسا بحركته كمالا لم يكن له حال سكونه لأنّ السكون كما قاله الحكماء عدم و نقص، و الحركة وجود و كمال، فلو كان الواجب تعالى متحرّكا لكان طالبا بالحركة الطارية على سكونه الكمال و التمام لكنه يستحيل أن يكون له حالة نقصان و أن يكون له حال بالقوّة و أخرى بالفعل.

قال الشارح البحراني في تقريره: إنّ جريان الحركة عليه مستلزم لتوجّهه بها إلى غاية إما جلب منفعة أو دفع مضرّة، إذ من لوازم حركات العقلاء ذلك، و على التقديرين فهما كمال مطلوب له لنقصان لازم لذاته، لكن النقصان بالذات و الاستكمال بالغير مستلزم للامكان فالواجب ممكن، هذا خلف.

أقول: و ان شئت مزيد توضيح لهذا الدليل فهو موقوف على تحقيق معنى الحركة و بسط الكلام في المقام فأقول: عرّفها أرسطو و من تابعه بأنها كمال أول لما هو بالقوّة من حيث هو بالقوّة و عرّفها المتكلّمون بأنها حصول الجسم في مكان بعد آخر، و تقييدهم الحصول بالمكان بناء على أنّهم لا يثبتون الحركة في ساير المقولات بل يخصّونها بمقولة الأين فقط، و أمّا الأوّلون فيحكمون بوقوعها في الأين و الوضع و الكمّ و الكيف، و تفصيل ذلك موكول إلى الكتب الكلاميّة، و المراد بالكمال في تعريفهم هو الحاصل بالفعل.

قال الشارح القوشجي: و إنّما سمّى الحاصل بالفعل كمالا لأنّ في القوّة نقصانا و الفعل تمام بالنسبة إليها، و هذه التسمية لا يقتضي سبق القوّة بل يكفيها تصوّرها و فرضها.
و احترز بقيد الأوليّة عن الوصول، فانّ الجسم إذا كان في مكان مثلا و هو ممكن الحصول في مكان آخر كان له إمكانان إمكان الحصول في ذلك المكان و إمكان التوجّه إليه، و هما كمالان و التوجّه مقدّم على الوصول فهو كمال أوّل و الوصول كمال ثان.

ثمّ إنّ الحركة تفارق ساير الكمالات من حيث إنّها لا حقيقة لها إلّا التّوجه إلى الغير فالسّلوك إليه، فلا بدّ من مطلوب ممكن الحصول ليكون التوجّه توجّها إليه، و من أن لا يكون ذلك المطلوب حاصلا بالفعل، إذ لا توجّه بعد حصول المطلوب.

فالحركة إنما تكون حاصلة بالفعل إذا كان المطلوب حاصلا بالقوّة، لكن من حيث هو بالقوّة لا من حيث هو بالفعل و لا من حيثية اخرى كساير الكمالات فانّ الحركة لا تكون كمالا للجسم في جسميّته أو في شكله أو نحو ذلك، بل من الجهة التي هو باعتبارها كان بالقوّة أعنى الحصول في المكان الاخر.
و احترز بهذا القيد عن كمالاته التي ليست كذلك كالصّورة النوعيّة، فانّها كمال أوّل للمتحرّك الذى لم يصل إلى المقصود، لكن لا من حيث هو بالقوّة بل من حيث هو بالفعل.
و أنت إذا عرفت ذلك تعرف أنّ الحقّ الأوّل تعالى شأنه يمتنع جريان الحركة عليه سواء كانت بالمعنى الذى يقوله الفلاسفة أو بالمعنى الذى يقوله المتكلّمون.

أمّا على الثاني فواضح لأنها عندهم هو حصول الجسم في مكان بعد آخر و هو تعالى ليس بجسم و لا حاجة له إلى المكان.
و أمّا على الأوّل فأوضح.

أمّا أوّلا فلأنّ محلّها عندهم هو المقولات الأربع أعنى الكم و الكيف و الوضع و الأين و كلّها من أنواع العرض و اللّه سبحانه ليس بعرض و لا جوهر بل خالق الجوهر و العرض و جاعل الوضع و الكم و هو الذي أيّن الأين بلا أين و كيّف الكيف بلا كيف.

و أمّا ثانيا فلأنه تعالى ليس له كمال بالفعل و كمال بالقوّة بل جميع كمالاته فعلية.
و أمّا ثالثا فلأنه ليس عادما بشي‏ء من الكمالات حتّى يحتاج بحركته إلى تحصيل كمال بل هو كامل في ذاته و تمام في صفاته جامع لجميع الكمالات الذاتية و الصّفاتية، هذا.

و قد نبه على عدم جريان الحركة عليه سبحانه بمعنييه أبو إبراهيم موسى ابن جعفر عليه السّلام في الحديث المروى في الكافي عن يعقوب بن جعفر الجعفري قال: ذكر عند أبي إبراهيم عليه السّلام قوم يزعمون أنّ اللّه تبارك و تعالى ينزل إلى السّماء الدّنيا فقال عليه السّلام: إنّ اللّه لا ينزل و لا يحتاج إلى أن ينزل إنما منظره في القرب و البعد سواء، لم يبعد منه قريب و لم يقرب منه بعيد، و لم يحتج إلى شي‏ء بل يحتاج إليه و هو ذو الطول لا إله إلّا هو العزيز الحكيم أما قول الواصفين انّه ينزل تبارك و تعالى فانما يقول ذلك من ينسبه إلى نقص أو زيادة و كلّ متحرّك محتاج إلى من يحرّكه أو يتحرّك به فمن ظنّ باللّه الظنون هلك، فاحذروا في صفاته من أن تقفوا له على حدّ يحدّونه بنقص أو زيادة أو تحريك أو تحرّك أو زوال أو استنزال أو نهوض أو قعود، فانّ اللّه جلّ و عزّ عن صفة الواصفين و نعت الناعتين و توهّم المتوهّمين و توكّل على العزيز الرّحيم الذى يراك حين تقوم و تقلّبك في الساجدين.

قال بعض الأفاضل«» في شرح الحديث: قوله عليه السّلام «إنّ اللّه لا ينزل و لا يحتاج إلى أن ينزل» لأنّ المتحرّك من مكان إلى مكان إنما يتحرّك لحاجة إلى الحركة إذ ليست نسبته إلى جميع الأمكنة نسبة واحدةبل إذا حضر له مكان أو مكانيّ غاب عنه مكان أو مكانيّ آخر، و إذا قرب من شي‏ء بعد عن شي‏ء آخر فاذا حصل في مكان و كان مطلوبه في مكان آخر فيحتاج في حصول مطلوبه إلى الحركة إلى مطلوبه أو حركة مطلوبه إليه، و اللّه سبحانه لما لم يكن مكانيا كان نسبته إلى جميع الأمكنة و المكانيّات نسبة واحدة و ليس شي‏ء أقرب إليه من شي‏ء آخر و لا أبعد و لا هو أقرب إلى شي‏ء من شي‏ء آخر و لا أبعد إلّا بمعنى آخر غير المكانى و هو القرب بالذات و الصّفات و نحو ذلك و البعد الذى بازائه، و إلى ذلك أشار عليه السّلام بقوله: «إنما منظره في القرب و البعد» يعنى المكانيّين «سواء».

و قوله عليه السّلام «و لم يحتج إلى شي‏ء» تعميم لقوله: و لا يحتاج إلى أن ينزل، فالأول إشارة إلى البرهان على نفى الحركة في المكان بما ذكره في تساوى منظره في القرب و البعد من الأحياز و الأمكنة، و هذا إشارة الى البرهان على نفى الحركة و التغيّر مطلقا بأنّ معنى الحركة الخروج من القوّة إلى الفعل، و بعبارة اخرى كمال ما بالقوّة من جهة ما هو بالقوّة و كلّ ما هو بالقوّة في شي‏ء فهو فاقد له محتاج إليه لأنّه كمال وجودى له، و إلّا لم يتحرّك إليه، و الحقّ تعالى غير محتاج إلى شي‏ء أصلا فهو غير متحرّك بوجه من الوجوه لا في المكان و لا في غيره و إنما قلنا إنه لم يحتج إلى شي‏ء لأنّ ما سواه من الأشياء كلّها إنما حصلت منه و هو أصلها و منبعها و منشاؤها، و هو المتطوّل عليها المتفضّل المنعم بالاحسان إليها، فهي المحتاجة إليه تعالى، فلو احتاج هو إلى شي‏ء يلزم افتقار الشي‏ء إلى ما يفتقر إليه من حيثية واحدة، و ذلك محال، لاستلزامه توقف الشي‏ء على نفسه و ذلك قوله عليه السّلام «بل يحتاج إليه و هو ذو الطول لا إله إلّا هو العزيز الحكيم».

و لما ذكر عليه السّلام القاعدة الكلّية بالبيان البرهانى على نفى الحركة المكانية أوّلا ثمّ على نفى الحركة و التغيّر على الاطلاق أراد أن يشير إلى المفاسد التي يلزم من القول بوصفه تعالى بنزوله من مكان إلى مكان فقال: «أما قول الواصفين أنه ينزل تبارك و تعالى فانما يقول ذلك من ينسبه إلى نقص أو زيادة» يعني أنّ النزول ضرب من الحركة و أنّ كلّ ما يتحرّك‏سواء كانت الحركة في الأين أو في غيره فهو خارج من نقص إلى كمال فيلزم على هؤلاء الواصفين ربّهم بالنزول أن ينسبوه إلى نقص و ذلك قبل الحركة أو إلى زيادة و هي بعد الحركة و الخروج من القوّة إلى الفعل، و كلّ ما يوصف بنقص أو زيادة ففي ذاته إمكان أن ينفعل من غيره فيتركب ذاته من قوّة و فعل، بل من مادّة بها يكون بالقوّة، و من صورة بها يكون بالفعل و كلّ مركب فهو ممكن الوجود محتاج إلى غيره فيلزم أن لا يكون إله العالم واجب الوجود، و هذا محال و قوله «و كلّ متحرّك محتاج إلى من يحرّكه أو يتحرّك به» إشارة إلى حجّة أخرى على بطلان توهّم الحركة، و هى أنّ كلّ متحرّك لا بدّ له من محرّك غيره، سواء كان مباينا له كالحركات النفسانية و هو المعبّر عنه بقوله من يحرّكه، أو مقارنا له كالحركات الطبيعيّة و هو المعبّر عنه بقوله أو يتحرّك به، و ذلك لأنّ الحركة صفة حادثة لكون أجزائها غير مجتمعة في الوجود، و كلّ جزء منها مسبوق بجزء آخر فيكون جميعها حادثة و ما يتركب فهو أولى فهى لكونها صفة تحتاج إلى قابل و لكونها حادثه تحتاج إلى فاعل، و لا بدّ أن يكون فاعلها غير قابلها لأنّ المحرّك لا يحرّك نفسه بل بشي‏ء يكون متحرّكا بالقوّة و فاعلها امر بالفعل فكلّ متحرّك يحتاج إلى محرّك يغايره و المحتاج إلى الغير لا يكون واجبا فيلزم أن لا يكون إله العالم واجبا و هو محال و سابعها ما أشار إليه بقوله (و إذا لقامت آية المصنوع فيه) أى لو كان فيه الحركة و السّكون لقامت فيه علامة المصنوع لكونهما من صفات المصنوعات الحادثة، فيلزم أن لا يكون إله العالم صانعا بل مصنوعا مفتقرا إلي صانع كساير الممكنات و المصنوعات الموصوفة بالحدوث.

و ثامنها ما أشار إليه بقوله (و لتحول دليلا بعد أن كان مدلولا عليه) يعنى أنا استدللنا على وجوده سبحانه بحدوث الأجسام و تغيراتها و حركاتها و انتقالاتها من حال إلى حال، فلو كان إله العالم متغيّرا متحرّكا منتقلا من حال إلى حال لاشتراك‏مع غيره في صفات الامكان و ما يوجب الافتقار إلى العلّة فكان دليلا على صانع صنعه و أحدثه لا مدلولا عليه بأنه صانع و هو باطل، هذا.

و لما ذكر المفاسد التي تترتب على جريان الحركة و السكون عليه سبحانه، و أبطل جوازهما عليه بالوجوه الثمانية عقّبه بقوله (و خرج بسلطان الامتناع من أن يؤثر فيه ما يؤثر في غيره) و اختلف شراح النهج فيما عطفت هذه الجملة عليه: فقال الشارح المعتزلي: إنها عطف على قوله عليه السّلام كان مدلولا عليه، و تقدير الكلام كان يلزم أن يتحوّل البارى دليلا بعد أن كان مدلولا عليه و بعد أن خرج بسلطان الامتناع من أن يؤثر فيه ما اثر في غيره.

و قال الشارح البحراني: قد يسبق إلى الوهم أنها عطف على الأدلة المذكورة و ظاهر أنّه ليس كذلك بل هو عطف على قوله: امتنع أى بها امتنع عن نظر العيون و خرج بسلطان ذلك الامتناع أى امتناع أن يكون مثلها في كونها مرئية للعيون و محلّا للنظر إليها عن أن يؤثر فيه ما يؤثر في غيره من المرئيات و هي الأجسام و الجسمانيات، و ظاهر أنه لما امتنع عن نظر العيون لم يكن جسما و لا قائما به فخرج لسلطان استحقاق ذلك الامتناع عن أن يكون يؤثر فيه ما يؤثر في غيره من الأجسام و الجسمانيات و عن قبول ذلك.

و قال بعض الشارحين: إنها عطف على قوله: تجلّى، أى بها تجلّى صانعها للعقول و خرج بسلطان الامتناع عن كونه مثلا لها أى بكونه واجب الوجود ممتنع العدم عن أن يكون ممكنا فيقبل أثر غيره كما يقبله ساير الممكنات.
أقول: و أنت خبير بسخافة هذا القول كسابقه و إباء سوق كلامه عليه السّلام عنهما جميعا، لأنه عليه السّلام قد ذكر هذه الجملة في ذيل المفاسد المترتبة على جريان الحركة و السّكون لا في ذيل تجلّى الصانع للعقول و امتناعه عن نظر العيون، فلا ارتباط له بشي‏ء منهما مع طول الفصل بين المعطوف و المعطوف عليه بجملات أجنبيّة تنيف على عشر.

نعم ما قاله الشارح المعتزلي لا بأس به إلّا أنّ الأظهر الأولى أن تجعل الواوفي هذه الجملة حالية لا عاطفة و تكون الجملة في محلّ النصب على الحال بتقدير قد على حدّ قوله تعالى «حصرت صدورهم» و ذو الحال هو الضمير المستتر في تحول الراجع إلى اللّه سبحانه، فيكون تحول عاملا فيها و لا غبار عليه عند المشهور من علماء الأدبية.
و أما على قول بعضهم من أنّ جميع العوامل اللفظية تعمل في الحال إلّا الأفعال الناقصة فاجعلها حالا من ضمير فيه في قوله: و لقامت آية المصنوع فيه فالعامل حينئذ قامت و حسن ارتباطها بالجملتين مضافا إلى قربهما غير خفىّ على صاحب الذّوق السّليم فانّه عليه السّلام لما ذكر استلزام جريان الحركة عليه سبحانه لقيام علامة الصنع و آثار الامكان فيه المفيد لتأثره من صانعه، و ذكر أيضا استلزامه لكونه تعالى دليلا على مدلوله المفيد لكونه معلولا منفعلا من علّته و فاعله، عقّبه بهذه الجملة تنبيها على بطلان اللّازمين كليهما المستلزم لبطلان ملزومهما، و هو جريان الحركة عليه.

فمحصّل نظم الكلام أنه تعالى لو جرى عليه الحركة و اتّصف بها لقام فيه أثر صانعه المحرك و ظهر عليه فعل علّته الفاعل له، و الحال أنه قد خرج بسلطنة الكلية على جميع من سواه و امتناع التأثر و استحالة الانفعال بما له من وجوب الوجود عن أن يؤثر فيه ما يؤثر في غيره من الممكنات و أن يتأثر من غيره كساير الموجودات لأنّ غيره و من سواه جميعا بكونه دليلا في قيد الامكان مفتقر إلى المؤثر محتاج إلى العلّة فوجوده و افعاله مكتسب من الغير فهو لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرّا و لا موتا و لا حياتا و لا نشورا، و أما إله الحىّ القيّوم العزيز الشأن فوجوده و صفاته الذاتية عين ذاته و أفعاله الصّادرة بنفس ذاته المقدّسة فلا افتقار له إلى المؤثر و لا حاجة له إلى المدبّر بل هو المؤثر في جميع العالم، لا إله إلّا هو العزيز الحكيم.

و الرابع و العشرون أنه (الذى لا يحول و لا يزول) أى لا يمضى و لا يكون زائلا من مكان إلى مكان و من حال إلى حال لاستحالة التغيّر و الانتقال عليه عزّ و جلّ.

(و) الخامس و العشرون أنه (لا يجوز عليه) الغيبة و (الأفوال) لاستلزامه‏الانتقال و الحركة الدالة على الحدوث.
و لذلك استدلّ به إبراهيم عليه السّلام على عدم ربوبيّة الكوكب و الشمس و القمر كما حكاه سبحانه عنه في كتابه العزيز بقوله فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى‏ كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ. فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا. أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِي‏ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ». قال الطبرسي «ره» و إنما استدلّ إبراهيم بالأفول على حدوثها لأنّ حركتها بالأفول أظهر و من الشبهة أبعد، و إذا جازت عليها الحركة و السّكون كانت مخلوقة محدثة محتاجة إلى المحدث.
السادس و العشرون (لم يلد فيكون مولودا و لم يولد فيصير محدودا) أما أنه سبحانه لم يلد شيئا و لم يولد من شي‏ء فقد مرّ بيانه في شرح الخطبة التي رواها عنه نوف البكالي و هي الخطبة المأة و الاحدى و الثمانين.
و أما الملازمة بين مقدم القضية الاولى و تاليها.

فأما بناء على ما هو المتعارف المعتاد بحسب الاستقراء من أنّ كلّ ما له ولد فانه يكون مولودا و إن لم يجب ذلك عقلا كادم أبي البشر أنه عليه السّلام والد و ليس بمولود و كاصول أنواع الحيوان الحادثة.
أو بناء على ما قاله الشارح المعتزلي من أنه ليس معنى الكلام أنّه يلزم من فرض وقوع أحدهما فرض وقوع الاخر، و إنما المراد أنه يلزم من فرض صحّة كونه والدا صحّة كونه مولودا و التالى محال وجهة التلازم أنه لو صحّ أن يكون والدا على التفسير المفهوم من الوالدية و هو أن يتصوّر من بعض أجزائه حىّ آخر من نوعه على سبيل الاستحالة لذلك الجزء كما نعقل في النطفة المنفصلة من الانسان المستحيلة إلى صورة اخرى حتّى يكون منها بشر آخر من نوع الأوّل لصحّ عليه أن يكون هو مولودا من والد آخر قبله.

و ذلك لأنّ الأجسام متماثلة في الجسميّة و قد ثبت ذلك بدليل عقلي واضح و كلّ مثلين فانّ أحدهما يصح عليه ما يصحّ على الاخر، فلو صحّ كونه والدا صحّ كونه ولدا.
و أمّا بطلان التالي فلأنّ كلّ مولود متأخّر بالزّمان عن والده و محدث و الحقّ الأوّل عزّ و جلّ قديم فلا يجوز عليه أن يكون مولودا، و أيضا لو كان مولودا لكان محدودا كما صرّح به في القضية الثانية و الثاني باطل فالمقدّم مثله و وجه الملازمة أنّه لو كان مولودا لكان محاطا و محدودا بالمحلّ المتولّد منه و أيضا الشي‏ء المتولّد من شي‏ء لا بدّ له من مادّة و صورة و غيرهما من شرايط وجوده و تركيبه و من جزئين بأحدهما يشارك أفراد نوعه و بالاخر يتميّز عنهم و هي أجزاؤه التي يقف عندها و ينتهى عند التحليل إليها، فثبت أنّه لو كان مولودا لكان محدودا.

و أمّا بطلان التالي فلما قد مرّ في تضاعيف الشرح غير مرّة و في شرح هذه الخطبة بخصوصها عند تفسير قوله: لا يشمل بحدّ، من أنّه سبحانه منزّه عن الحدّ مطلقا اصطلاحيّا كان أعنى القول الشارح لمهيّة الشي‏ء لاستلزامه التركيب المستحيل عليه أو لغويا أعني غاية الشي‏ء و نهايته، لأنّه سبحانه غاية الغايات و منتهى النهايات لا غاية له و لا نهاية.
و بعبارة اخرى كونه مولودا يلزمه الحواية و احاطة المحلّ المتولّد منه به و هو يستلزم كونه ذا نهاية و حدّ و هو محال، لأنّ النهاية و الحدّ من عوارض الأجسام و ذات الأوضاع و المقادير تعرض لها بالذات و للواحقها كالأزمنة و الحركات و للأمور المتعلّقة بها كالقوى و الكيفيّات بالعرض، و الأوّل تعالى ليس بجسم و لا جسماني و لا متعلّق به ضربا من التعلّق فهو منزّه عن الحدّ و النهاية.

فظهر بذلك كله أنه سبحانه ليس بمحدود، فليس بمولود فليس بذي ولد بل هو الواحد الأحد الصمد لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفوا أحد.

السابع و العشرون انّه (جلّ عن اتّخاذ الأبناء) و هو تأكيد لما سبق لأنّه لما ذكر آنفا أنه ليس بذى ولد أكدّه بذلك تنبيها على جلالة شأنه من اتّخاذ الولدلأنّ من اتّخذ ولدا فانما يتّخذه لدواعى تدعوه إليه من العطوفة و الشفقة و المعاونة في حياته و الوراثة عنه و الخلافة في مقامه بعد مماته إلى غير ذلك من الدواعي التي هي من عوارض الممكن، و الواجب تعالى منزّه عن ذلك كلّه.

(و) الثامن و العشرون انّه (طهر عن ملامسة النساء) لأنّ ملامستهنّ من مقتضيات القوّة البهيميّة الحيوانيّة المنزّه قدسه عنها مع أنّ الملامسة من صفات القوّة اللّامسة التي هي من خواصّ الأجسام.

و التاسع و العشرون أنه (لا تناله الأوهام فتقدّره) قال الشارح البحراني أى لو نالته الأوهام لقدرته لكن التالي باطل فالمقدّم كذلك.
بيان الملازمة أنّ الوهم إنّما يدرك المعاني المتعلّقة بالمادّة و لا ترفع إدراكه عن المحسوسات و شأنه فيما يدركه أن يستعمل المتخيلة في تقديره بمقدار مخصوص و كمّية معيّنة و هيئة معيّنة و يحكم بأنّها مبلغه و نهايته فلو أدركته الأوهام لقدّرته بمقدار معيّن و في محلّ معيّن.

فأما بطلان التالي فلأنّ المقدّر محدود مركب و محتاج إلى المادّة و التعلّق بالغير و قد سبق بيان امتناعه.

(و) الثلاثون أنّه (لا تتوهّمه الفطن فتصوّره) فطن العقول هو حذقها وجودة استعدادها لتصوّر ما يرد عليه، و بعبارة اخرى هو سرعة حركتها في تحصيل الوسط لاستخراج المطالب.

قال: و إنّما لا تتوهّمه الفطن، لأنّ القوّة العاقلة عند توجّهها لتحصيل المطالب العقلية المجرّدة لا بدّ لها من استتباع الوهم و المتخيلة و الاستعانة بها في استثباتها بالنسج و التصوير بصورة تحطها إلى الخيال كما علمته في شرح الفصل الثاني من المختار الأوّل فظهر بذلك أنها لو أدركته لكان ذلك بمشاركة الوهم فكان يلزمه أن يصوّره بصورة خيالية، لكنه تعالى منزّه عن الصّورة فاستحال لها إدراكه و تصويره.

(و) الاحد و الثلاثون أنّه (لا تدركه الحواسّ فتحسّه) أي لا يمكن لهاإدراكه سبحانه فيوجب ذلك كونه تعالى محسوسا لأنّ إدراكاتها مقصورة على ذوات الأوضاع و الأجسام و الجسمانيات، و اللّه سبحانه ليس بجسم و لا جسماني و لا ذي وضع و أيضا لا يمكن حضور الأنوار الحسيّة في مشهد نور عقلي بل يضمحلّ و يفنى فكيف في مشهد نور الأنوار العقلية.

(و) الثاني و الثلاثون انه (لا تلمسه الأيدي فتمسّه) ربما يستعمل اللّمس و المسّ بمعنى واحد، و قد يفرق بينهما بأنّ المسّ ايصال الشي‏ء بالبشرة على وجه تأثر الحاسّة به و اللّمس كالطلب له قاله البيضاوي يعني اللّمس ينبى‏ء عن اعتبار الطلب سواء كان داخلا في مفهومه أو لازما له، و على الأوّل فالمراد به أنّ الأيدي لا يمكن لها لمسه فيوجب ذلك كونه ملموسا ممسوسا، و على الثاني فالمراد أنها لا يمكن لها الطلب به فتصل إليه لاستلزامه الجسميّة على التقديرين.

كما يدلّ عليه صريحا ما رواه في البحار من عقايد الصّدوق باسناده عن عبد اللّه بن جوين العبدي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام انّه كان يقول: الحمد للّه الذي لا يحسّ و لا يجسّ و لا يمسّ و لا يدرك بالحواسّ الخمس و لا يقع عليه الوهم و لا تصفه الألسن و كلّ شي‏ء حسّسته الحواسّ أو لمسته الأيدي فهو مخلوق، الحمد للّه الذي كان و لم يكن شي‏ء غيره و كوّن الأشياء فكانت كما كوّنها و علم ما كان و ما هو كائن.

و الثالث و الثلاثون أنّه (لا يتغيّر بحال) من الأحوال و بوجه من الوجوه أى أبدا، لأنّ التغيّر من عوارض الامكان.

(و) الرابع و الثلاثون انّه (لا يتبدّل بالأحوال) أى لا ينتقل من حال إلى حال لما عرفت سابقا من امتناع الحركة و الانتقال عليه.

(و) الخامس و الثلاثون أنّه (لا تبليه اللّيالي و الأيام) لاستلزام الابلاء للتغيّر المستحيل عليه، و لأنّ البلى إنما يعرض للأمور الماديّة و كلّ ذي مادّة مركب فاستحال عروضه عليه سبحانه.

(و) السادس و الثلاثون أنه (لا تغيّره الضياء و الظلام) لتنزّهه من التغيّرو أمّا غيره سبحانه من ذوى الحواس فالضياء سبب لابصارهم المبصرات من الألوان و الأشكال و المقادير و الحركات و غيرها و الظلام مانع عنه، فبهما يتغيّر حالهم بالادراك و عدم الادراك و الحقّ الأوّل جلّ شأنه لما كان منزّها عن الحواسّ بصيرا لا بالاحساس فلا يوجب الضياء و الظلام تفاوتا و تغيّرا في إدراكه.

(و) السابع و الثلاثون أنه (لا يوصف بشي‏ء من الأجزاء) الذّهنية و العقليّة و الخارجيّة بل هو سبحانه أحدىّ الذات بسيط الهوية، لأنّ المركّب من الأجزاء مفتقر إلى جزئه الذي هو غيره و الافتقار من صفات الامكان.

(و) الثامن و الثلاثون أنه (لا) يوصف (بالجوارح و الأعضاء) لأنّ كلّ ذى جارحة و عضو فهو جسم مصوّر بصورة مخصوصة و هو تعالى منزّه عن الجسمية و التركيب و التجزية و الصورة.
روى في الكافي عن محمّد بن الحسن عن سهل بن زياد عن حمزة بن محمّد قال: كتبت إلى أبي الحسن عليه السّلام أسأله عن الجسم و الصورة، فكتب: سبحان من ليس كمثله شي‏ء لا جسم و لا صورة.
قال صدر المتألّهين: نفى الجسم و الصورة عنه تعالى بوجه الاشارة إلى برهانه و هو أنّ اللّه لا مثل له، إذ لا مهية له و كلّ جسم له مثل فلا شي‏ء من الجسم بإله.

و فيه أيضا باسناده عن محمّد بن الحكيم قال: وصفت لأبي إبراهيم عليه السّلام قول هشام ابن سالم الجواليقي و حكيت قول هشام بن الحكم أنه جسم، فقال: إنّ اللّه لا يشبهه شي‏ء أىّ فحش أو خناء أعظم عن قول من يصف خالق الأشياء بجسم أو بصورة أو بخلقة أو بتحديد أو باعضاء تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.

حكى في شرح الكافي من كتاب الملل و النحل عن هشام أنه قال: إنه تعالى على صورة الانسان أعلاه مجوف و أسفله مصمت و هو ساطع يتلاءلاء، له حواسّ خمس و يد و رجل و أنف و اذن و عين و فم، و له وفرة سوداء هو نور أسود لكنه ليس بلحم و لا دم

(و) التاسع و الثلاثون انه (لا) يتّصف (بعرض من الأعراض) التسعة و هي الكم و الكيف و المضاف و الأين و متى و الوضع و الملك و الفعل و الانفعال، و تسمي هذه‏الاقسام مع القسم العاشر و هو الجوهر بالمقولات العشر و الاجناس العالية.

و انما لا يجوز اتّصافه سبحانه بشي‏ء منها، لأنّها كلّها مخلوقات محدثة و اتّصاف القديم بالحادث محال لأنّ ذلك الحادث إن كان صفة كمال يلزم أن يكون الواجب ناقصا بدونه مستكملا به بعد وجوده و النقص ممتنع عليه سبحانه، و ان لم يكن صفة كمال فله الكمال المطلق بدونه و حينئذ كان إثباته عليه و توصيفه به نقصا، لأنّ الزيادة على الكمال المطلق نقصان حسبما قلناه سابقا.
و أيضا وصفه تعالى بصفات زايدة على ذاته يوجب التجزية و التركيب المستحيل عليه كما عرفته في شرح الفصل الرابع من الخطبة الاولى و غيره أيضا.

(و) الاربعون انه (لا) يتّصف (بالغيريّة و الأبعاض) أى ليس له أبعاض و أجزاء يغاير بعضها بعضا، لأنه وحدانيّ الذات بسيط الهوية و إلّا فيلزم عليه التركيب و التجزية الممتنعان عليه.

(و) الاحد و الاربعون أنه (لا يقال له حدّ و لا نهاية) أى ليس لأوّليته حدّ و نهاية لأنّ الحدود و النهايات من عوارض الأجسام و ذوات الأوضاع و المقادير و هو سبحانه ليس بجسم و جسماني، و لا في قوله: و لا نهاية، زايدة أو تأكيد للنفى السابق

(و) الثاني و الاربعون أنّه (لا انقطاع له و لا غاية) أى ليس لاخريّته انقطاع و غاية، بل هو سبحانه أزليّ أبديّ لا ابتداء لوجوده و لا انقطاع لبقائه.

قال صدر المتألّهين: و مما يجب أن يعلم أنّه تعالى و إن سلب عنه النهاية فليس بحيث يوصف باللّانهاية بمعنى العدول، بل كلاهما مسلوبان عنه، لأنّ اللّانهاية أيضا كالنهاية من عوارض الكميّات، فاذا وصف بأنه غير متناه كان بمعنى السّلب البسيط التحصيلي كما يوصف بسلب الحركة بمعنى السّلب السازج لا الذي يساوق السّكون، فاذا قيل: إنّه أزليّ باق ليس يراد به أنّ لوجوده زمانا غير منقطع البداية و النهاية، إذ الزمان من مخلوقاته المتأخّرة عن الحركة المتأخّرة عن الجسم المتأخّر عن المادّة و الصّورة المتأخّرين عن الجوهر المفارق المتأخّر ذاته عن ذاته تعالى بل الزمان بجميع أجزائه كالان الواحد بالقياس إلى سرمديّته كما أنّ الأمكنةو المكانيّات كلّها بالقياس إلى عظمته و وجوده كالنقطة الواحدة.

و الثالث و الاربعون ما أشار إليه بقوله (و لا أنّ الأشياء تحويه فتقلّه) أى لا يحويه شي‏ء من الأشياء و لا يحيط به فيحمله كما تحمل الريح السحاب، قال تعالى «أقلّت سحابا ثقالا» أى حملت الريح سحابا ثقالا بالماء (أو تهويه) أو تجعله هاويا إلى جهة تحت و هابطا به.
(أو) لا (أنّ شيئا يحمله فيميله أو يعدّله) أى يميله من جانب إلى جانب أو يعدله إلى جميع الجوانب كما يميل الريح السّحاب و يسوقه من صقع إلى صقع.

و المراد أنّه ليس في شي‏ء أو على شي‏ء يرتفع بارتفاعه و ينخفض بانخفاضه و يحرّك به من جهة إلى جهة.
روى في الكافي باسناده عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من زعم أنّ اللّه من شي‏ء أو في شي‏ء أو على شي‏ء فقد كفر، قلت: فسّر لي، قال: أعني بالحواية من الشي‏ء له أو بامساك له أو من شي‏ء سبقه.
و في رواية أخرى من زعم أنّ اللّه من شي‏ء فقد جعله محدثا، و من زعم أنه في شي‏ء فقد جعله محصورا، و من زعم أنه على شي‏ء فقد جعله محمولا.

أى من زعم أنّه سبحانه من مادّة أو من أجزاء بأن يزعم أنّه ذو مادّة أو ذو أجزاء أو من أصل له مدخل في وجوده كالأبوين أو من مبدء مفيض لوجوده كالفاعل أو في شي‏ء كالصفة في الموصوف و الصّورة في المادّة و العرض في المحلّ و الجزء في الكلّ و الجسم في الهواء المحيط به و المظروف في الظرف أو على شي‏ء بالاستقرار فيه و الاعتماد عليه كالملك على السّرير و الراكب على المركوب و السقف على الجدران و الجسم على المكان، أو بالاستقرار و الاعتماد عليه كالهواء على الماء و السّماء على الهواء، فقد كفر، لاستلزامه التجسيم حيث وصفه بصفات المخلوقين و أنكر وجوده لأنّ ما اعتقده ليس بإله العالمين.

ثمّ فسّر عليه السّلام الألفاظ لا على ترتيب اللّف فقوله «أعني بالحواية من الشي‏ء» تفسير لمعنى في شي‏ء، لأنّ كلّ ما هو في شي‏ء فيحويه ذلك الشي‏ء، و قوله «أو بامساك له».

تفسير لمعنى على شي‏ء، لأنّ كلّما هو على شي‏ء فذلك الشي‏ء ممسك له، و قوله عليه السّلام «أو من شي‏ء سبقه» تفسير لمعنى من شي‏ء لأنّ ما كان من شي‏ء فذلك الشي‏ء مبدؤه و سابق عليه.
و لذلك قال عليه السّلام في الرّواية الأخيرة: من زعم أنّ اللّه من شي‏ء فقد جعله محدثا، لأنّ معنى المحدث هو الموجود بسبب شي‏ء سابق عليه في الوجود، و قال: من زعم أنه في شي‏ء فقد جعله محصورا أى محويّا فيلزمه الحواية من ذلك الشي‏ء و قال: و من زعم انّه على شي‏ء فقد جعله محمولا، فاذا له حامل يمسكه.

و الرابع و الاربعون أنّه (ليس في الأشياء بوالج و لا عنها بخارج) لأنّ الدخول و الخروج من صفات الأجسام و هو سبحانه ليس بجسم و لا جسماني.

و لأنّه لو دخل في شي‏ء فإمّا أن يكون مع افتقاره إلى ذلك الشي‏ء أو بدونه و الأوّل مستلزم للامكان، و على الثاني فهو غنيّ عنه مطلقا، و الغنيّ المطلق يستحيل دخوله في شي‏ء و وجوده في ضمنه و اتباعه له في الوجود.
و لأنّ دخوله فيه إن كان من صفات الكمال لزم اتّصافه بالنقص قبل وجود ذلك الشي‏ء، و إن لم يكن من صفات كماله كان دخوله فيه مستلزما لاتّصافه بالنقص حسبما قلناه سابقا.

و لو خرج عن شي‏ء لزم خلوّ ذلك الشي‏ء عنه و اختصاصه سبحانه بغيره و هو باطل لأنّه تعالى مع كلّ شي‏ء لا بمقارنة و غير كلّ شي‏ء لا بمزايلة، و هذه الفقرة نظير قوله عليه السّلام في الفصل الخامس من الخطبة الاولى: و من قال فيم فقد ضمنه و من قال على م فقد اخلى منه.
و محصل المراد أنّه تعالى ليس داخلا في شي‏ء من الأشياء و حالّا فيه كما يقوله المجسّمة و الحلوليّة، و لا خارجا عنها بأنّ يعزب شي‏ء منها عن علمه، بل هو سبحانه القيّوم المحيط بكلّ شي‏ء.

الخامس و الاربعون أنّه (يخبر لا بلسان و لهوات) أى لحمات متصلة بأقصى الفم من فوق.

أمّا إخباره فلانّه قد أطبقت الشرائع و اتّفقت الملل على كونه متكلّما و الخبر من أقسام الكلام.
و أمّا أنّ إخباره ليس باللّسان و اللهوات فلأنّ النطق باللهات و اللسان مخصوص بنوع الانسان فيعود معنى إخباره سبحانه إلى إيجاده الخبر في جسم من الأجسام كالملك و الشجر و قد مرّ«» نظير هذه العبارة في الخطبة المأة و الحادية و الثمانين و مرّ تحقيق الكلام في كونه سبحانه متكلّما في شرح المختار المأة و الثامن و السّبعين.

(و) السادس و الاربعون انّه (يسمع لا بخروق و أدوات) أمّا أنّه عزّ و جلّ يسمع فلشهادة الكتاب العزيز في غير واحدة من الايات بكونه تعالى سميعا بصيرا و أمّا أنّ إدراكه بالمسموعات ليس بالاذان و الصماخات فتنزّهه سبحانه عن الافتقار إلى الالات الجسمانية فيعود معنى سمعه إلى علمه بالمسموعات إطلاقا لاسم السبب على المسبّب.

و السابع و الاربعون أنّه (يقول و لا يلفظ) هذا الكلام صريح في جواز نسبة القول إليه سبحانه دون اللّفظ.
أمّا الأوّل فالكتاب الكريم ملؤ منه قال تعالى وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً و إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ إلى غير ذلك مما لا حاجة إلى إيراده.

و أمّا الثّاني فلعلّه مبنيّ على أنّ اللفظ هو خصوص القول الصادر عن اللسان ففهم من ذلك و مما تقدّم قبيل ذلك أنّ القول يساوق الكلام في جواز استنادهما إلى اللّه سبحانه، و النطق و اللفظ يساوقان في عدم جواز الاستناد إليه

(و) الثامن و الاربعون انّه (يحفظ و لا يتحفّظ) قال الشارح البحراني حفظه يعود إلى علمه بالأشياء، و لما كان المعروف من العادة أنّ الحفظ يكون بسبب التحفظ و كان ذلك في حقّه محالا لاستلزامه الالات الجسمانيّة لا جرم احترز عنه.

قال: و قال بعض الشارحين: إنما يريد بالحفظ أنّه يحفظ عباده و يحرسهم و لا يتحفّظ منهم أى لا يحتاج إلى حراسة نفسه منهم و هو بعيد الارادة هنا، انتهى.
أقول: الحفظ قد يطلق على الحفظ عن ظهر القلب يقال حفظ القرآن إذا وعاه على ظهر قلبه. و قد يطلق على الحراسة و الوقاية من المكاره يقال حفظه أي حرسه و التحفّظ هو قبول الحفظ عن الغير على كون تاء التفعل للمطاوعة أو تكلّف الحفظ كما في قولك تحلّم زيد، أي استعمل الحلم و كلّف نفسه إيّاه ليحصل، فمعنى التكلّف هو أن يتعانى الفاعل ذلك الفعل ليحصل بمعاناته فيقتضي أن يكون الفعل غير ثابت للفاعل و يكون الفاعل طالبا لتحصله بالممارسة، و قال في القاموس التحفّظ هو الاحتراز و فسّر الاحتراز كالتحرّز بالتوقّى و لعلّه مبنيّ على جعل تاء للاتّخاذ فمعنى التحفظ هو اتّخاذ الحفظ أى اتّخاذ الحرز و الوقاية.

إذا عرفت ذلك فأقول: إنّ الحفظ قد استند إلى اللّه سبحانه في غير واحدة من الايات قال تعالى إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ و قال هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى‏ أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ و قال إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ و قال إِنَّ رَبِّي عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ حَفِيظٌ و قال وَ رَبُّكَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ حَفِيظٌ إلى غير ذلك مما لا حاجة إلى ذكره.

و الحفيظ و الحافظ من جملة اسمائه الحسنى فلا غبار في وصفه سبحانه بالحفظ على المعنى الثّاني أعني الوقاية و الحراسة، و هو المراد به في الاية الاولى و الثانية و الثالثة أيضا و في غيرها احتمالا، و أمّا على المعنى الأوّل أعنى الحفظ عن ظهر القلب فلا، لأنّه سبحانه منزّه عن القلب و الجوارح اللّهم إلّا أن يراد به العلم مجازا، لأنّه بهذا المعنى مستلزم للعلم، فالحفيظ هو العليم و الحافظ هو العالم اطلق اسم الملزوم على اللّازم تجوّزا.
قال في القاموس: و الحفيظ في الأسماء الحسنى الذي لا يعزب عنه شي‏ء في السماوات و لا في الأرض تعالى شأنه.

فظهر بذلك ضعف ما قاله الصّدوق في التوحيد في شرح الأسماء الحسنى حيث قال: الحفيظ هو الحافظ فعيل بمعنى فاعل، و معناه أنه يحفظ الأشياء و يصرف عنها البلاء و لا يوصف بالحفظ على معنى العلم لأنّا نوصف بحفظ القرآن و العلوم على المجاز، و المراد بذلك أنا إذا علمناه لم يذهب عنا كما إذا حفظنا الشي‏ء لم يذهب عنا، انتهى، فتأمّل جيّدا.

و أمّا التحفظ فلا يوصف به سبحانه على أحد من معانيه الثلاثة أمّا على المعنى الأوّل و الثاني فواضح، لأنّ المطاوعة و التكلّف مستلزمان للانفعال و التغيّر اللذين هما من صفات الأجسام.
و أمّا على الثالث فلأنّه تعالى لا مضادّ و لا مضارّ له في ملكه و لا منازع و لا معاند له في سلطانه فلا حاجة له إلى التوفّى و الاحتراز بل هو العزيز الغالب و القوىّ القاهر على كلّ شي‏ء.

(و) التاسع و الاربعون انّه تعالى (يريد و لا يضمر) يعنى أنه يريد الأشياء فيوجدها على وفق مشيّته و إرادته و لا يحتاج في ايجادها كواحد منّا إلى الاضمار أى إلى عزم القلب يقال: أضمر في ضميره شيئا عزم عليه و ضمير الانسان قلبه و باطنه و هو سبحانه ليس بذي ضمير حتّى يتصوّر فيه الاضمار، و قد مرّ تحقيق الكلام بما لا مزيد عليه في إرادته سبحانه في شرح الفصل الثالث من المختار التسعين، و قدّمنا هناك عن المفيد رواية صفوان بن يحيى الناصّة بالفرق بين إرادة اللّه سبحانه و إرادة العبد.

و ينبغي إعادة تلك الرواية هنا و اتّباعها بشرح ما تضمّنته من المرام لمزيد ارتباطها المقام و ايضاحها لكلام الامام عليه السّلام فأقول: روى في الكافى عن أحمد بن إدريس عن محمّد بن عبد الجبّار عن صفوان بن يحيى، و في البحار من توحيد الصّدوق (ره) و العيون عن ابن إدريس عن أبيه عن محمّد بن عبد الجبّار عن صفوان بن يحيى قال: قلت لأبى الحسن عليه السّلام أخبرنى عن‏الارادة من اللّه عزّ و جلّ و من الخلق، فقال: الارادة من المخلوق الضمير و ما يبدو له بعد ذلك من الفعل، و أمّا من اللّه عزّ و جلّ فارادته إحداثه لا غير ذلك لأنه لا يروّي«» و لا يهمّ و لا يتفكّر هذه الصّفات منفيّة عنه و هى من صفات الخلق، فارادة اللّه هى الفعل لا غير ذلك يقول له كن فيكون بلا لفظ و لا نطق بلسان و لا همّة و لا تفكّر و لا كيف لذلك كما أنّه بلا كيف.

قال صدر المتألّهين في شرح الكافي: الارادة فينا كيفيّة حادثة تحدث عقيب تصوّر الشي‏ء الملائم و التّصديق بثبوته و نفعه تصديقا علميّا أو جهليا أو ظنيّا أو تخييليّا راجحا، و ربما يحصل ذلك التصديق الراجح بعد تردّد و استعمال رويّة، فاذا بلغ حدّ الرجحان وقع العزم الذي هو الارادة، فاذا حصلت الارادة سواء كانت مع شوق حيواني كالشهوة أو الغضب أم لا، يصدر الفعل لا محالة و يبدو في الوجود.

و أمّا إرادة اللّه الحادثة فليست صفة له لاستحالة حدوث صفة أو كيفيّة في ذاته و هي ليست إلّا إضافة إحداثه لأمر كاين لا غير لتعاليه عن الرّوية و الهمّة و الفكر لما علمت أنّ هذه منفية عنه تعالى لكونها صفات المخلوقين و كما لا مثل لذاته لا شبه لصفاته، بل صفاته الحقيقية ذاته.

و قال العلّامة المجلسي (ره) في البحار في بيان معنى الحديث: إنّ إرادة اللّه كما ذهب إليه أكثر متكلّمي الامامية هي العلم بالخير و النفع و ما هو الأصلح و لا يثبتون فيه تعالى وراء العلم شيئا، و لعلّ المراد بهذا الخبر و أمثاله من الأخبار الدالة على حدوث الارادة هو أنّه يكون في الانسان قبل حدوث الفعل اعتقاد النّفع فيه ثمّ الرّويّة ثمّ الهمّة ثمّ انبعاث الشوق منه ثمّ تأكّده إلى أن يصير إجماعا باعثا على الفعل، و ذلك كلّه إرادة فينا متوسّطة بين ذاتنا و بين الفعل و ليس فيه تعالى بعد العلم القديم بالمصلحة من الامور المقارنة للفعل سوى الاحداث و الايجاد، فالاحداث في الوقت الذي تقتضى المصلحة صدور الفعل فيه قايم مقام ما يحدث‏من الامور في غيره تعالى، فالمعنى أنّ ذاته تعالى بصفاته الذاتية الكمالية كافية في حدوث الحادث من غير حاجة إلى حدوث أمر في ذاته عند حدوث الفعل.

و قال الشارح المازندراني للكافي في شرحه: إنّ الراوى سأل عن الفرق بين إرادة اللّه و إرادة الخلق و طلب معرفتهما فقال عليه السّلام: «الارادة من الخلق الضمير» أى تصوّر الفعل و توجّه الذّهن إليه «و ما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل» من صلة لبيد و لا بيان لما لأنّ الفعل هو المراد دون الارادة، اللهمّ إلّا أن يراد بالفعل مقوّمات الارادة مثل تصوّر النفع و الاذعان به و الشوق إليه و العزم له و تحريك القدرة إلى تحصيل الفعل المراد.

و الحاصل أنّ إرادة الخلق عبارة عن تصوّر الفعل ثمّ تصوّر النفع سواء كان النفع عقليّا أو خياليّا أو عينيّا أو دنيويّا أو اخرويّا، ثمّ التصديق بترتّب ذلك النفع على ذلك الفعل و الاذعان به جازما أو غير جازم، ثمّ الشوق إليه، ثمّ العزم الراسخ المحرك للقوّة و القدرة المحرّكة للعضو إلى تحصيل الفعل على ما ينبغي.

فالفعل يصدر عن الخلق من هذه المبادي المترتّبة التي هي عبارة عن إرادتهم التامّة المستتبعة له.
«و أما من اللّه فارادته إحداثه لا غير ذلك» يعني أنّ إرادته بسيطة و هي إحداث الفعل و ايجاده على وجه يوافق القضاء الأصلي و يطابق العلم الأزلي من الكمال و المقدار و الخواص و الاثار، لا مركبة من الأمور المذكورة في إرادة الخلق و لا شي‏ء منها، «لأنّه تعالى لا يروّي» أى لا يفعل باستعمال الرّويّة أى النظر في الأمر و عدم التعجيل «و لا يهمّ» أى لا يقصده «و لا يتفكّر» ليعلم حسنه و قبحه.

و الحاصل انّه لا ينظر إلى الفعل ليعلم نفعه و وجه حسنه و لا يهمّه بالشوق و العزم المتأكّد و لا يتفكّر و لا يتأمّل فيه ليعلم حسن عاقبته لتنزّهه عن استعمال الرأى و إحالة الهمّة و تحريك الشوق و العزم و ارتكاب التعمّق في الامور و التفكّر في أمر عاقبتها.

«و هذه الصفات منفيّة عنه تعالى» لأنّها من لواحق النفوس البشريّة و توابع‏الجهل و نقصان العلم و هو سبحانه منزّه عن جميع ذلك «و هي من صفات الخلق» لاحتياجهم في تحصيل مقاصدهم و تكميل أفعالهم على وفق مطالبهم إلى حركات فكريّة و همّة نفسانية و أشواق روحانية و آلات بدنيّة بحيث لو فقدت إحداها بقوا متحيّرين جاهلين لا يجدون إلى وجه الصواب دليلا، و لا إلى طريق الفعل سبيلا.
«فارادة اللّه هي الفعل» أى الايجاد و الاحداث «لا غير ذلك» من الضمير المشتمل على المعاني المذكورة.

و الخمسون أنه (يحبّ و يرضى من غير رقّة) الرّضا و المحبّة قيل: إنهما نظيران و إنما يظهر الفرق بضدّيهما، فالمحبّة ضدّها البغض، و الرضا ضدّه السخط قال الشارح البحراني: الرّضا قريب من المحبّة و يشبه أن يكون أعمّ منها لأنّ كلّ محبّ راض عما أحبّه و لا ينعكس.

و كيف كان فالمراد أنه يحبّ المؤمنين و يرضى عنهم قال سبحانه «مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ» و قال «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ». و قوله: من غير رقّة إشارة إلى أنّ المحبّة و الرّضا بالمعنى الذي يوصف به من اللّه سبحانه ليس بالمعنى الذي يوصف به المخلوق، فانّ المحبّة فينا هو الميل الطبيعي إلى المحبوب بسبب تصوّر اللذّة، و الرّضا هو سكون النفس بالنسبة إلى موافقة و ملائمة عند تصوّر كونه ملايما و موافقا.

و لما كان المحبة و الرّضا بهذا المعنى يستلزم الرّقة القلبيّة و الانفعال النفساني الناشي عن تصوّر المعنى الذي لأجله حصلت المحبّة و الميل إليه و الداعي إلى الرّضا عنه، و كان سبحانه منزّها عن الانفعالات النفسانية و التغيّرات الطبيعيّة لتنزّهه عن قوابلها، لا جرم قال: من غير رقّة.

فالمراد بمحبّته سبحانه إمّا إدراك الكمال في المحبوب أو إرادته سبحانه للثواب و الخير في حقّ العبد و للتكميل له.
فقد قيل في تفسير الاية السابقة أعنى قوله: «يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ»إنّ محبة اللّه صفة من صفات فعله فهى إحسان مخصوص يليق بالعبد، و محبّة العبد للّه حالة يجدها في قلبه يحصل منها التعظيم و ايثار رضاه و الاستيناس بذكره.

و قيل: محبّته تعالى للعباد إنعامه عليهم و أن يوفقهم لطاعته و يهديهم لدينه الذي ارتضاه، و حبّ العباد أن يطيعوه و لا يعصوه.
و قال بعض المحقّقين: محبّة اللّه للعبد كشف الحجاب عن قلبه و تمكنه من أن يطأ على بساط قربه فانما يوصف به سبحانه باعتبار الغايات لا المبادى، و علامة حبّه للعبد توفيقه للتجافي عن دار الغرور و الترقّي إلى عالم النور و الانس باللّه و الوحشة ممّن سواه و صيرورة جميع الهموم هما واحدا، و المراد رضاه عن العبد قال الشارح المعتزلي: هو أن يحمد فعله، و قال البحراني: رضاه يعود إلى علمه بموافقته لأمره و طاعته له.

و قال الطبرسيّ في تفسير قوله «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ» رضا اللّه سبحانه عنهم هو إرادته تعظيمهم و إثابتهم.

(و) الواحد و الخمسون أنّه (يبغض و يغضب من غير مشقّة) يظهر معنى هذه الفقرة مما قدّمناه في الفقرة السابقة، فانّ البغض ضدّ الحبّ و الغضب ضدّ الرضا فمعنى البغض فينا هو الكراهة للغير و ميل النفس عنه لتصوّر كونه مضرّا و مولما، و يلزم ذلك النفرة الطبيعية و ثوران القوّة الغضبيّة عليه و إرادة إهانته.

و معنى الغضب فينا هو ثوران النفس و حركة القوّة الغضبيّة عن تصوّر الموذي و المولم لإرادة دفعه و الانتقام منه.
و لما كانا مستلزمين لازعاج القلب و غليان دمه و أذى النفس و حصول التعب و المشقّة، و كان وصف اللّه سبحانه بهما بهذا المعنى مستحيلا لتنزّهه من صفات الأجسام لا جرم قيّدهما بقوله: من غير مشقّة.
فالمراد بهما إذا نسبا إلى اللّه سبحانه غاياتهما، و هي إرادة العقوبة و الاهانة و التعذيب.
قال الطبرسي (ره) في تفسير قوله «فلمّا آسفونا انتقمنا منهم» أى أغضبونا،و غضب اللّه سبحانه على العصاة إرادة عقوبتهم، و رضاه عن المطيعين إرادة ثوابهم الذي يستحقّونه على طاعتهم.

و في رواية عمرو بن عبيد مع أبي جعفر عليه السّلام و قد قال له قوله تعالى «وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى‏» ما هذا الغضب فقال عليه السّلام: هو العقاب يا عمرو، إنّه من زعم أنّ اللّه قد زال من شي‏ء إلى شي‏ء فقد وصفه صفة المخلوقين.

و في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن العباس بن عمرو عن هشام بن الحكم في حديث الزنديق الذي سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام أن قال له: فله رضى و سخط فقال: أبو عبد اللّه عليه السّلام: نعم لكن ليس ذلك على ما يوجد من المخلوقين، و ذلك إنّ الرضا حالة تدخل عليه فتنقله من حال إلى حال لأنّ المخلوق أجوف معتمل مركب للأشياء فيه يدخل، و خالقنا لا يدخل للأشياء فيه لأنّه واحد واحدى الذات واحدى المعنى، فرضاه ثوابه و سخطه عقابه من غير شي‏ء يتداخله فيهيّجه و ينقله من حال إلى حال، لأنّ ذلك من صفة المخلوقين العاجزين المحتاجين.

يعني أنّ عروض تلك الحالات و التغيّرات إنّما يكون لمخلوق أجوف له قابلية ما يحصل فيه و يدخله- معتمل- بالكسر أى يعمل بأعمال صفاته و آلاته أو بالفتح أى مركب يعمل فيه الأجزاء و القوى، و الأوّل أولى ليكون تأسيسا، مركّب من أمور متباينة في الحقيقة مختلفة في الصّورة و الكيفيّة للأشياء من الصفات و الجهات و الكيفيّات النفسانيّة مثل الرّضا و الغضب و غيرهما فيه يدخل و خالقنا لا يدخل للأشياء فيه لاستحالة التركيب عليه، لأنه واحد ليس كمثله شي‏ء واحدى الذات لا تركيب فيه أصلا لا ذهنا و لا خارجا، واحدى المعنى و الصّفات، فاذا لا كثرة فيه لا في ذاته و لا في صفاته الحقيقيّة، و انما الاختلاف في الفعل فيثيب عند الرّضا و يعاقب عند السّخط و الغضب من غير مداخلة شي‏ء فيه يهيجه أى يوجب لهيجانه و ثورانه، و ينقله من حال إلى حال، لأنّ ذلك ينافي وجوب الوجود فلا يكون من صفاته سبحانه بل من صفات المخلوقين العاجزين.

و الحاصل أنّه إذا نسب الرضا و السخط و الحبّ و البغض و الموالاة و المعاداة إلى اللّه سبحانه وجب تأويلها و صرفها إلى معنى يصحّ في حقّه، لأنّ نسبة معانيها المعروفة فينا إليه غير صحيحة.
إذ الرّضا فينا حالة للنفس توجب تغيّرها و انبساطها لايصال النفع إلى الغير أو الانقياد لحكمه.
و السخط حالة اخرى توجب تغيّرها و انقباضها و تحرّكها إلى ايقاع السوء به أو الاعراض عنه.
و المحبّة حالة لها توجب ميلها إليه أو نفس هذا الميل.
و البغض حالة لها توجب الاعراض عنه و ايصال الضرر إليه.
و قريب منهما الموالاة و المعاداة، و كلّ عليه سبحانه محال، فوجب التأويل و التأويل أنّ الرّضا و المحبّة و الموالاة بمعنى الاثابة و الاحسان و ايصال النفع و السخط و البغض و المعاداة بمعنى العقوبة و العذاب و عدم الاحسان و اللّه المستعان.

و الثاني و الخمسون أنّه (يقول لما أراد كونه كن فيكون) قال الشارح البحراني: فارادته لكونه هو علمه بما في وجوده من الحكمة و المصلحة، و قوله: كن، إشارة إلى حكم قدرته الأزلية عليه بالايجاد و وجوب الصدور عن تمام مؤثريته و قوله: فيكون إشارة إلى وجوده، و دلّ على اللّزوم و عدم التأخر بالفاء المقتضية للتعقيب بلا مهلة.
و في مجمع البيان في قوله «إنّما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون» و التقدير بأن يكوّنه فيكون فعبّر عن هذا المعنى بكن لأنّه أبلغ فيما يراد، و ليس هنا قول و إنما هو إخبار بحدوث ما يريده.
و قال عليّ بن عيسى: الأمر ههنا أفخم من الفعل، فجاء للتفخيم و التعظيم قال: و يجوز أن يكون بمنزلة التسهيل و التهوين، فانّه إذا أراد فعل شي‏ء فعله بمنزلة ما يقول للشي‏ء كن فيكون في الحال و أنشد:

فقالت له العينان سمعا و طاعة
و حدرتا كالدّر لمّا يثقّب‏

و انما أخبر عن سرعة دمعه دون أن يكون ذلك قولا على الحقيقة و في الكشاف إنّما أمره أى شأنه إذا أراد شيئا إذا دعاه داعي حكمة إلى تكوينه و لا صارف أن يقول له كن أن يكوّنه من غير توقّف فيكون فيحدث أى فهو كائن موجود لا محالة.

فان قلت: ما حقيقة قوله كن فيكون قلت: هو مجاز من الكلام و تمثيل، لأنّه لا يمتنع عليه شي‏ء من المكوّنات و أنّه بمنزلة المأمور المطيع إذا ورد عليه أمر الامر المطاع، و المعنى أنّه لا يجوز عليه شي‏ء ممّا يجوز على الأجسام إذا فعلت شيئا ممّا تقدر عليه من المباشرة بمحال المقدور و استعمال الالات و ما يتبع ذلك من المشقّة و التعب و اللّغوب، و إنما أمره و هو القادر العالم لذاته أن يخلص داعيه إلى الفعل فيتكون.

و أنت بعد الخبرة بما ذكرنا تعرف أن قوله عليه السّلام (لا بصوت يقرع و لا بنداء يسمع) من باب الاحتراس، فانّ ظاهر قوله عليه السّلام: يقول لما أراد كونه كن، لما كان موهما أنّ قوله و كلامه تعالى من قبيل الحروف و الأصوات أتى بذلك دفعا لما يسبق إلى و هم العوام و تنبيها على أنّ قول كن منه ليس بلفظ مركب من الكاف و النّون متضمّن بصوت يقرع الأسماع، و لا خطاب قابل للسّماع و الاستماع.

و ذلك لأنّ الصوت كيفيّة حادثة في الهواء حاصلة من تموّجه المعلول للقرع الذي هو أساس عنيف أو القلع الذي هو تفريق عنيف بشرط مقاومة المقروع للقارع و المقلوع للقالع، و يعرض له أى للصّوت كيفيّة مميّزة له عن غيره من الأصوات المماثلة له يسمّى باعتبار تلك الكيفيّة حرفا، فالحرف هي تلك الكيفيّة العارضة عند بعضهم، و ذلك الصوت المعروض عند آخر و مجموع العارض و المعروض عند غيرهم.

و على أىّ تقدير فالحروف الملفوظة المركبة منها الكلام هي من خصايص الانسان يخرج من الحلق و الحنجرة و اللّسان، فيقرع الهواء المجاور لفم اللّافظ و يموّجه صدما بعد صدم مع سكون بعد سكون حتّى يقع و يقرع العصبة المفروشةفي سطح صماخ السامع فيحصل به السماع و الاستماع.

و لما كان سبحانه منزّها عن الالات البدنيّة و الجوارح الانسانيّة يستحيل أن يخرج منه صوت يصدر منه لفظ، فاذا لا يمكن أن يكون تكوينه للأشياء بكلام ملفوظ أو نداء مسموع و هذا معنى قوله عليه السّلام: لا بصوت يقرع و لا بنداء يسمع، هذا.

و العجب من الشارح البحراني أنّه قال في شرح لا بصوت يقرع: أى ليس بذي حاسّة فيقرعها الصوت، لأنّ الصّوت حال تعرض الأجسام فلو كان له تعالى آلة سمع لكان جسما لكن التالي باطل فالمقدّم مثله انتهى.
و أنت خبير بأنّ هذا الكلام نصّ في أنّ الغرض منه نفى كون تكوينه للأشياء بالأوامر الملفوظة و الخطابات المنطوقة لا نفى كونه ذا سمع و تنزيهه من القوّة السّامعة، هذا.
و لما نفى كون تكوينه بكلام ملفوظ و نداء مسموع و كان المقام مقتضيا لبيان معنى كلامه عزّ و جلّ لا جرم عقّبه بقوله (و انما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه و مثله).

قال الشارح البحراني: أى أوجده في لسان النّبيّ و صوّره في لسانه و سوّى مثاله في ذهنه.
و قال الشارح المعتزلي: مثّل القرآن لجبرئيل أى صوّر مثاله بالكتابة في اللّوح المحفوظ فأنزل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

(لم يكن) كلامه (من قبل ذلك) الانشاء و الاحداث (كائنا) إذ لو كان كذلك لكان قديما لأنّ القديم ليس إلّا ما لا يكون مسبوقا بالعدم لا يفتقر الانشاء و التكوين (و لو كان قديما) كما زعمه الحنابلة حسبما عرفته في شرح المختار المأة و الثامن و السّبعين لكان واجب الوجود لذاته و لو كان واجب الوجود (لكان إلها ثانيا) لكن التالي باطل فالمقدّم مثله.
و بيان الملازمة أنّه لو لم يكن واجبا بل ممكنا موجودا في الأزل لكان وجوده مفتقرا إلى المؤثّر فذلك المؤثّر إن كان غير ذاته تعالى فهو محال، لأنّه يلزم افتقاره‏تعالى في تحصيل صفته إلى غيره و هو واضح البطلان، و يلزم أيضا أن يكون في الأزل مع اللّه غيره يكون الاستناد إليه في حصول تلك الصفة فيكون إلها ثانيا بل هو أولى بالألوهيّة و هو محال، و إن كان المؤثّر فيه ذاته فهو محال أيضا لأنّ المؤثّر واجب التقدّم بالوجود على الأثر فتعيّن أنه لو كان قديما لكان واجب الوجود لذاته فكان إلها ثانيا.

و أما بطلان التالي فلقيام البراهين العقليّة و النقليّة على وحدانيّته تعالى حسبما مرّ كثير منها في تضاعيف الشرح، و نورد هنا حديث الفرجة الذي هو من غوامض الأحاديث لمناسبته بالمقام و نعقّبه بحلّه و شرحه فأقول: روى في الكافي عن هشام بن الحكم في حديث الزنديق الذي أتى أبا عبد اللّه عليه السّلام و كان من قول أبي عبد اللّه عليه السّلام.

لا يخلو قولك إنّهما اثنان من أن يكونا قديمين قويّين أو يكونا ضعيفين أو يكون أحدهما قويا و الاخر ضعيفا، فان كانا قويّين فلم لا يدفع كلّ واحد منهما صاحبه و ينفرد بالتدبير و إن زعمت أنّ أحدهما قوىّ و الاخر ضعيف ثبت أنّه واحد بالربوبية كما نقول للعجز الظاهر في الثّاني و إن قلت إنّهما اثنان لم يخل من أن يكونا متفقين من كلّ وجه أو مفترقين من كلّ جهة.

فلما رأينا الخلق منتظما و الفلك جاريا و التدبير واحدا و اللّيل و النهار و الشمس و القمر دلّ صحّة الأمر و التدبير و ايتلاف الأمر على أنّ المدبّر واحد ثمّ يلزمك ان ادّعيت اثنين فرجة ما بينهما حتّى يكونا اثنين فصارت الفرجة ثالثا بينهما قديما معهما فيلزمك كلانة فان ادّعيت ثلاثة لزمك ما قلت في الاثنين حتّى يكون بينهم فرجة فيكونوا خمسة ثمّ تتناهي في العدد إلى ما لا نهاية له في الكثرة.

و رواه في البحار من توحيد الصّدوق مسندا عن هشام بن الحكم مثله.
و شرحه على ما شرحه صدر المتألهين في شرح الكافي بتلخيص منّا هو إنّه إشارة إلى حجّتين: إحداهما عامية مشهورة و الاخرى خاصيّة برهانيّة.

أما الاولى فقوله عليه السّلام «لا يخلو قولك- إلى قوله- للعجز الظاهر في الثاني»و معناه أنه لو فرض قديمان فلا يخلو أن يكون كلاهما قويّين أو كلاهما ضعيفين أو أحداهما قويّا و الاخر ضعيفا و الثلاثة بأسرها باطلة.
أمّا الأوّل فلأنه إذا كانا قويّين و كلّ منهما في غاية القوّة من غير ضعف و عجز كما هو المفروض و القوّة تقتضي القهر و الغلبة على كلّ شي‏ء سواه فما السبب المانع لأن يدفع كلّ واحد منهما صاحبه حتّى ينفرد بالتدبير و الرّبوبية و الغلبة على غيره، إذ اقتضاء القهر و الغلبة و الاستعلا مركوز في كلّ ذي قوّة على قدر قوّته و المفروض أنّ كلّا منهما في غاية القوّة.

و أما فساد الشقّ الثاني فهو ظاهر عند جمهور الناس لما حكموا بالفطرة من أنّ الضعف ينافي الالهيّة و لظهوره لم يذكره عليه السّلام.
و أيضا فساده يعلم بفساد الشقّ الثالث و هو قوله «و إن زعمت أنّ أحدهما قوىّ و الاخر ضعيف ثبت أنه» أى الاله «واحد كما» نحن «نقول للعجز الظاهر» في المفروض ثانيا، لأنّ الضعف منشأ العجز، و العاجز لا يكون إلها بل مخلوقا محتاجا لأنّه محتاج إلى من يعطيه القوّة و الكمال و الخيريّة.

و أما الحجة البرهانية فأشار إليها بقوله «و إن قلت إنهما إثنان» و بيانه أنّه لو فرض موجودان قديمان فامّا أن يتّفقا من كلّ جهة أو يختلفا من كلّ جهة أو يتّفقا بجهة و يختلفا باخرى و الكلّ محال.
أمّا بطلان الأوّل فلأنّ الاثنينيّة لا تتحقّق إلّا بامتياز أحد الاثنين عن صاحبه و لو بوجه من الوجوه.
و أمّا بطلان الثاني فلما نبّه عليه بقوله «فلما رأينا الخلق منتظما» و تقريره أنّ العالم كلّه كشخص واحد كثير الأجزاء و الأعضاء مثل الانسان، فانا نجد أجزاء العالم مع اختلاف طبائعها الخاصة و تباين صفاتها و أفعالها المخصوصة يرتبط بعضها ببعض و يفتقر بعضها إلى بعض، و كلّ منها يعين بطبعه صاحبه و هكذا نشاهد الأجرام العالية و ما ارتكز فيها من الكواكب النيّرة في حركاتها الدّوريّة و أضوائها الواقعة منها نافعة للسّفليات محصّلة لأمزجة المركبات التي يتوقّف عليها صورالأنواع و نفوسها و حياة الكاينات و نشوء الحيوان و النبات، فاذا تحقق ما ذكرنا من وحدة العالم لوحدة النظام و اتصال التدبير دلّ على أنّ إلهه واحد و إليه أشار بقوله «دلّ صحّة الأمر و التدبير و ائتلاف الأمر على أنّ المدبّر واحد».

و أمّا بطلان الشق الثالث و هو أنهما متّفقان من وجه و مختلفان من وجه آخر فبأن يقال كما أشار إليه بقوله «ثمّ يلزمك» أنّه لا بدّ فيهما من شي‏ء يمتاز به أحدهما عن صاحبه و صاحبه عنه، و ذلك الشي‏ء يجب أن يكون أمرا وجوديّا يوجد في أحدهما و لم يوجد في الاخر أو أمران وجوديّان يختصّ كلّ منهما بواحد، و أمّا كون الفارق المميّز بكلّ منهما عن صاحبه أمرا عدميّا فهو ممتنع بالضرورة، إذ الاعدام بما هي إعدام لا تمايز بينها و لا تميز بها، فاذا فرض قديمان فلا أقلّ من وجود أمر ثالث يوجد لأحدهما و يسلب عن الاخر، و هو المراد بالفرجة، إذ به يحصل الانفراج أى الافتراق بينهما لوجوده في أحدهما و عدمه في الاخر، و هو أيضا لا محالة قديم موجود معهما و إلّا لم يكونا اثنين قديمين، فيلزم أن يكون القدماء ثلاثة و قد فرض اثنان و هذا خلف، ثمّ يلزم من كونهم ثلاثة أن يكونوا خمسة و هكذا إلى أن يبلغ عددهم إلى ما لا نهاية و هو محال.

أقول: و لا يخفى عليك أنه يمكن جعل الحديث الشّريف إشارة إلى ثلاث حجج: إحداها ما أشار إليه بقوله: لا يخلو قولك إلى قوله: للعجز الظاهر في الثاني.
و ثانيها ما أشار إليه بقوله: و إن قلت إنهما اثنان إلى قوله: دلّ على أنّ المدبّر واحد.
و ثالثها ما أشار إليه بقوله: ثمّ يلزمك، إلى آخر الحديث، فعليك بالتأمل في استخراجها و اللّه الموفق.

الثالث و الخمسون أنّه عزّ و جلّ (لا يقال) في حقّه (كان بعد أن لم يكن) هو نظير قوله عليه السّلام في الفصل السّادس من المختار الأوّل: كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم، أى ليس وجوده بمحدث مسبوق بالعدم، بل هو قديم أزليّ واجب الوجودلذاته أو توضح أن يقال في حقّه ذلك لاتّصف بالحدوث (فتجرى عليه الصّفات المحدثات) و في بعض النسخ صفات المحدثات بالاضافة و هو الأنسب الأحسن بعود الضميرين الاتيين في بينها و عليها إليها.
و على أىّ تقدير فالغرض أنّ وصفه بالكينونية بعد العدم أى وصفه بوصف الحدوث مستلزم لجريان الصّفات المحدثات أو صفات المحدثات عليه، لكن التالي أعني جريان تلك الصفات عليه باطل فالمقدّم مثله.
و أشار إلى بطلان التّالي بقوله (و لا يكون بينها) أى الصّفات المحدثات«» أو نفس المحدثات (و بينه) تعالى شأنه (فصل) لاشتراكهما في الحدوث و الامكان (و لا له عليها فضل) لاستوائهما في الافتقار و الحاجة إلى المحدث (فيستوى) إذا (الصانع و المصنوع و يتكافأ المبتدع) أى يتماثل المخترع من الموجودات (و البديع) أى المبدع الصانع سبحانه.

فالفعيل بمعنى فاعل قال تعالى: بديع السّموات و الأرض، و عن نسخة الرضي و يتكافا المبدع و البديع و معناه كما ذكرنا و عن نسخة أخرى المبدع بكسر الدّال و البديع، فالمراد بالأوّل الصّانع، و بالثاني المصنوع المبدع فالفعيل على ذلك بمعنى المفعول.

و على أىّ تقدير فالغرض أنّ اتّصافه بصفات المحدثات مستلزم لاشتراكه معها في وصف الحدوث و هو ظاهر البطلان، بيّن الاستحالة.

و الرابع و الخمسون أنّه (خلق الخلايق على غير مثال خلا) أى مضى و سبق (من غيره) يعني فعله و صنعه بعنوان الابداع و الاختراع فهو الخالق للأشياء على غير مثال امتثله، و لا مقدار احتذى عليه من معبود خالق كان قبله، و قد عرفت تحقيقه في شرح الفصل السّابع من المختار الأوّل و شرح الفصل الثّاني من المختار التّسعين.

و الخامس و الخمسون أنّه (لم يستعن على خلقها) أى الخلايق (بأحد من خلقه) و إلّا لكان ناقصا بذاته مفتقرا إلى من هو مفتقر إليه و هو محال.

(و) السادس و الخمسون أنّه عزّ و جلّ خالق الأرض و باسطها مشتملة على ما فيها من بدايع الصنع، و عجائب القدرة و دلائل الكبرياء و العظمة، و قد مضى شرح واف لهذا المعنى في شرح الفصل الثالث و الثامن من المختار الأوّل و شرح الفصل السادس من المختار التسعين و أشار هنا إلى بعض ما فيها من شواهد الربوبيّة و براهين التوحيد و التفريد فقال: (أنشأ الأرض فأمسكها من غير اشتغال) أى أمسكها على بين الماء «كذا» بقدرته الكاملة من غير أن يشتغل بامساكها عن ساير أفعاله و صنايعه، فانّه لا يشغله شأن عن شأن و هو تنزيه له عن الصّفات البشرية، فانّ الواحد منّا إذا أمسك جسما ثقيلا اشتغل به عن ساير اموره.
(و أرساها على غير قرار) أي أثبتها على غير قرار يعتمد عليه و لا مقرّ يتمكّن عليه.
(و أقامها بغير قوائم) أى أقامها على مور أمواج مستفحلة، و لجج بحار زاخرة بغير قوائم يقوم عليها.
(و رفعها بغير دعائم) أى رفعها على الماء بغير عماد و دعامة تعلو عليها و تستند إليها.
(و حصّنها من الاود و الاعوجاج) أى جعلها حصينة منيعة من أن تميل عن مركزها الحقيقي و تعوج إلى أحد جوانب العالم.
(و منعها من التهافت و الانفراج) أى جعلها كرة واحدة ثابتة في حيّزها و منعها من أن تتساقط قطعا و ينفرج بعض أجزائها عن بعض.
(أرسى أوتادها) أى أثبت فيها الجبال الراسيات التي هي لها بمنزلة الأوتاد المانعة لها من الميدان و الاضطراب على ما عرفت تحقيقه في شرح الفصل الثّالث من المختار الأوّل.

(و ضرب أسدادها) أى نصب بين بقاعها و بلادها على اقتضاء الحكمة و المصلحة أسدادا حاجزة و حدودا مايزة من الجبال الراسية و الأنهار الجارية و نحوها قال تعالى «فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى‏ أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَ بَيْنَهُمْ سَدًّا».

(و استفاض عيونها) أى أفاض العيون و أجرى منها الماء الذي هو مادّة حياة الأحياء (و خدّأ أوديتها) أى شقّها و جعلها مراتع للبهائم و مزارع للناس لعلّهم يعقلون و لما عدّ عليه السّلام عددا من بدايع الصّنع و آثار العظمة فرّع عليه قوله: (فلم يهن ما بناه و لا ضعف ما قواه) تنبيها على عظمة صانعها و مبدعها، لأنّ عدم تطرّق الوهن و الضعف على تلك الاثار مع طول الزمان و مرور الدهور كاشف عن كمال قدرة المؤثّر و قوّته و عظمته.

و السابع و الخمسون ما أشار إليه بقوله (هو الظاهر عليها بسلطانه و عظمته) أى الغالب القاهر على الأرض و ما فيها باستيلاء قدرته و قوّته و سلطنته القاهرة و عظمته الباهرة.

و الثامن و الخمسون ما أشار إليه بقوله (و هو الباطن لها بعلمه و معرفته) أى الخبير عليها و على ما فيها بعلمه الذى لا يعزب عنه شي‏ء و لما كان المتبادر من الظهور و البطون الظهور و البطون الحسّيّين قيّد الأوّل بالسلطان و العظمة و الثّاني بالعلم و المعرفة تنبيها على أنّ المراد بهما إذا نسبتا إلى اللّه سبحانه ليس معناهما المتعارف لاستحالته في حقّه تعالى و اختصاصه بالأجسام و الجسمانيّات بل معنى آخر يليق بذاته و لا ينافي قدسه.

(و) التاسع و الخمسون أنّه (العالي على كلّ شي‏ء منها) لا بالعلوّ الحسّي المتصوّر في الأجسام كما يزعمه المجسّمة القائلون بأنه على العرش متشبّثين بقوله: الرّحمن على العرش استوى، لما عرفت مرارا فساد هذا الزعم كما عرفت تأويل الاية الشريفة بل بالعلوّ المعنوىّ و هو العلوّ (بجلاله و عزّته) و المراد بجلاله تنزّهه عن صفات النقصان و تقدّسه عن عوارض الامكان، فهو باعتبار تنزّهه عنها في أوج الكمال الأعلى، و المراد بعزّته قهره و غلبته و سلطانه.

الستون أنّه (لا يعجزه شي‏ء منها طلبه) لتمام سلطانه و قدرته و افتقار جميع من سواه إليه في وجوده و بقائه و تقلّباته فكيف يتصوّر أن يعجز من هو محتاج في ذاته و صفاته و حركاته و سكناته و جميع حالاته إليه قال عزّ من قائل: «و ما كان اللّه ليعجزه من شي‏ء في السموات و لا في الأرض إنّه كان عليما قديرا»

(و) الواحد و الستون (لا يمتنع عليه شي‏ء فيغلبه) لما قلناه من تمام سلطانه و كمال قدرته و افتقار كلّ إليه، فلا رادّ لقضائه و لا دافع لحكمه كما قال في كتابه العزيز: «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَ يَأْتِ بِآخَرِينَ وَ كانَ اللَّهُ عَلى‏ ذلِكَ قَدِيراً» و في آية أخرى «وَ كانَ اللَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مُقْتَدِراً».

(و) الثاني و الستون أنّه (لا يفوته السريع منها فيسبقه) أى لا يفوته سريع السير و الحركة من الأشياء فيسبقه بقوّة حركته، لاستلزام ذلك نقصا في قدرته و عجزا في ذاته و لاستواء نسبة الأمكنة و المكانيّات و الأزمنة و الزمانيّات إليه سبحانه قال تعالى: «كَلَّا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ. فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ. عَلى‏ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ.

قال الطبرسيّ: يعني أنا نقدر على أن نهلكهم و نأتي بدلهم بقوم آخرين خيرا منهم و أنّ هؤلاء الكفار لا يقوون بأن يتقدّموا على وجه يمنع من لحاق العذاب بهم فانهم لم يكونوا سابقين و لا العقاب مسبوقا منهم، و التقدير و ما نحن بمسبوقين لفوت عقابنا إيّاهم فانهم لو سبقوا عقابنا لسبقونا.

(و) الثالث و الستون أنّه (لا يحتاج إلى ذى مال فيرزقه) لأنّه الغنيّ المطلق و ما سواه مفتقر إليه فكيف يفتقر إلى ما هو محتاج إليه، و المقصود بذلك و بما سبق كلّه تنزيهه من الصّفات البشريّة.

و الرابع و الستون أنّه (خضعت الأشياء) كلّها (له و ذلّت مستكينة) خاضعة مهانة (لعظمته) لكونها جميعا أسيرة في قيد الامكان مقهورة في سلسلة الحدوث و الافتقار و النقصان.

فحيث كانت بهذه المثابة من الذّلّ و الانقهار ف (لا تستطيع الهرب) و الفرار(من سلطانه الى غيره) لأنّ الهارب و المهروب إليه سيّان في جهة التّذلل و الافتقار و كلّ شي‏ء خاشع له، و كلّ قوىّ ضعيف عنده، و كلّ عزيز ذليل لديه.
و على ذلك (ف) لا يمكن للهارب أن (يمتنع) بالهرب إلى الغير و الاعتصام به (من نفعه و ضرّه) أى مما قضاه اللّه سبحانه في حقّه و قدّره من النفع و الضرر.

فان قلت: الممتنع إنّما يمتنع من الضرر و الهارب يهرب منه دون المنفعة فما معنى قوله: من نفعه قلنا: المراد منه سلب القدرة على تقدير امتناعه منه و الاشارة الى أنه قادر على ردّ شي‏ء مما قدّره اللّه في حقّه مطلقا و أنه لا عاصم له من أمر اللّه أصلا، فهو نظير قوله سبحانه: «قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً» أى من ذا الّذي يدفع عنكم قضاء اللّه و يمنعكم من اللّه إن أراد بكم عذابا و عقوبة أو أراد بكم رحمة فانّ أحدا لا يقدر على ذلك، و لا يجدون من دون اللّه وليّا يلي امورهم و لا نصيرا ينصرهم و يدفع عنهم.

(و) الخامس و الستون (لا كفوء له فيكافئه و لا نظير له فيساويه) أى ليس له سبحانه مكافى‏ء و مماثل إذ لو فرضنا له مكافئا في رتبة الوجود فذلك المكافئ لو كان ممكن الوجود كان محتاجا إليه متأخّرا عنه في الوجود فكيف يكون مكافئا له في رتبة الوجود.

و إن كان واجب الوجود فهو ينافي الأحديّة و يستلزم التركيب لأنّ كلّ ما له مثل فذاته مركب من جزئين أحدهما جهة الاتّحاد و المجانسة و الثاني جهة الامتياز و الاثنينيّة.
و أيضا لا يتشخّص المهيّة المشتركة بين شيئين أو الأشياء إلّا بواسطة المادّة الجسمانية و علائقها و هو سبحانه لبرائته من الأجسام و المواد و لكون إنيّته نفس مهيّته و ليس له مهيّة سوى الهويّة المحضة الوجوديّة كما اشير إليه في قوله: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» لا يكون له مثل أصلا.

و بتقرير أوضح نقول إنّه سبحانه واحد أحد أحدى الذات فلا يمكن أن يكون له مماثل و مكافي.
بيان ذلك أنّ كلّ مهيّة مركبة فهي مفتقرة إلى كلّ واحد من أجزائه، و كلّ واحد من أجزاء الشي‏ء غيره، فكلّ مركب مفتقر إلى غيره و كلّ مفتقر إلى غيره متأخّر عنه فهو ممكن محتاج في وجوده إلى ذلك الغير فلم يكن إلها واجب الوجود، و الإله الذى هو مبدء لجميع الممكنات يمتنع أن يكون مركبا ممكنا فهو في نفسه أحد و إذا ثبت كونه أحدا ثبت كونه واحدا فردا إذ لو لم يكن فردا لكان له مجانس أو مماثل يشاركه في الوجود و لكان امتيازه عنه بمميّز فصليّ فيعود التركيب هذا خلف.

السادس و الستون ما أشار إليه بقوله (هو المفني لها بعد و وجودها حتّى يصير موجودها كمفقودها) يعني أنه سبحانه يفني الأشياء و يعدمها حتّى يصير ما هو موجود كأن لم يكن موجودا أصلا أو الكاف زائدة أي يصير موجودها مفقودا معدوما.

و هو ظاهر بل صريح في فناء الجميع، و أصرح منه قوله الاتي: انه سبحانه يعود بعد فناء الدّنيا وحده لا شي‏ء معه، و أصرح منهما قوله الذى يتلوه أعني: فلا شي‏ء إلّا اللّه الواحد القهار، لأنّ النكرة في سياق النّفي يفيد العموم مؤكّدا بالاستثناء و قد وقع خلاف عظيم فى هذه المسألة أعنى مسألة طريان العدم على الأشياء حتّى صارت معركة للاراء.
فذهب جمهور الحكماء إلى امتناع طريان العدم على أكثر أجزاء هذا العالم كالعقول المجرّدة و النفوس الناطقة و الأجسام الفلكيّة و المادّة العنصريّة، فانّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه لا لذاته بل لدوام علّته و هذا لا ينافي الامكان لأنّ الممكن ما يجوز عليه أصل العدم و هو مما لا نزاع فيه، و انما نزاعهم فى طريان العدم.

و ذهب جمهور علماء الاسلام إلى جواز طريانه على جميع أجزائه و لكن اختلفوا فى وقوعه.

فمنهم من قال بعدم انعدام العرش قال الفخر الرازى في الأربعين: و اعلم أنّ‏كثيرا من علماء الشريعة و علماء التفسير قالوا إنّ فى وقت قيام القيامة ينخرق الأفلاك و ينهدم الكواكب إلّا أنّ العرش لا ينخرق، و التخصيص بالأكثر بالنسبة إلى عدم تخرّق العرش و إلّا فتخرق الأفلاك و انهدام الكواكب مما لا خلاف فيه.
و منهم من قال بتجرّد النفس الناطقة و عدم قبولها للفناء.

و ذهب الأكثرون إلى طريان العدم على جميع أجزائه أخذا بظواهر الايات و الأدلة المفيدة لذلك مثل قوله سبحانه: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ و قوله: كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ، و قوله: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ، و قوله: وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ، و معلوم أنّه تعالى مبدء لجميع الأشياء فيكون معيدا للجميع و لا يتصوّر الاعادة إلّا بعد الاعدام فلا بدّ من إعدام الجميع.

ثمّ وقع الخلاف بين هؤلاء القائلين باعدام الجميع في معنى الاعدام الواقع و أنّ المراد به هل هو إفناء الجواهر و الذوات بأسرها أو تفريق الأجزاء و إزالة الأعراض.
فمن جوّز إعادة المعدوم بعينه قال بالأوّل.
و من قال بامتناعه كما هو الحقّ الموافق للتحقيق و عليه المحقّقون حتّى ادّعى بعضهم أنّه من البديهيّات و قال الشيخ إنّ كلّ من رجع إلى فطرته السليمة و رفض عن نفسه الميل و العصبيّة شهد عقله الصريح بأنّ إعادة المعدوم ممتنع، فذهب إلى الثاني.

و إلّا امتنع القول بالمعاد الجسمانى لأنّ الغرض من المعاد هو ايصال الثواب على المطيع و العقاب على العاصى فمع إعدام الذوات و الجواهر و امتناع إعادة المعدوم يكون المعاد غير المطيع و العاصى السابقين المستحقين للمثوبة و العقوبة، فالعقاب على المعاد يكون عقابا على غير المستحقّ و هو خلاف العدل، فلا بدّ من المصير إلى أنّ المراد بالفناء و الهلاك و العدم الوارد في الايات و الأخبار هو تفرّق الأجزاء و زوال التأليف و التركيب عنها و خروجها عن حدّ الانتفاع.

قالوا: إنّ اللّه يفرّق الأجزاء و يزيل التأليف عنها و لكنه لا يعدمها فاذا أعاد التأليف إليها و خلق الحياة فيها مرّة اخرى كان هذا الشخص هو عين الشخص الذى‏كان موجودا قبل ذلك فحينئذ يصل الثواب إلى المطيع و العقاب على العاصى و تزول الاشكال.

و قال في التجريد: و الامكان يعطى جواز العدم و السمع دلّ عليه بتأوّل فى المكلّف بالتفرّق كما في قصّة إبراهيم عليه السّلام يعنى كون العالم ممكنا يعطى جواز عدمه و الأدلة السمعية دلّت على وقوعه و لا ينافي ذلك امتناع إعادة المعدوم.
أما في غير المكلّفين فانّه يجوز أن يعدم بالكليّة و لا يعاد.
و أمّا بالنسبة إلى المكلّفين فانّه يتأوّل العدم بتفرّق الأجزاء و يتأوّل المعاد بجمع تلك الأجزاء و تأليفها بعد التفريق.
و الّذي يصحّح هذا التأويل قصّة إبراهيم عليه السّلام على ما حكى عنه الكتاب حيث قال «وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى‏ قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى‏» قال اللّه تعالى فى جوابه «فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى‏ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً».

و لكن استشكل الفخر الرازى فيه أى فى القول بأنّ المراد بالعدم هو التفرّق بأنّ المشار إليه لكلّ أحد بقوله: أناء ليس مجرّد تلك الأجزاء و ذلك لأنّا لو قدرنا أنّ هذه الأجزاء تفرّقت و صارت ترابا من غير حياة و لا مزاج و لا تركيب و لا تأليف فانّ كلّ أحد يعلم أنّ ذلك القدر من التراب الصرف ليس عبارة عن زيد، بل الانسان المعبر بأنا إنما يكون موجودا إذا تركبت تلك الأجزاء و تألفت على وجه مخصوص ثمّ قام بها حياة و علم و قدرة و عقل و فهم، فثبت أنّ الشخص المعيّن ليس عبارة عن مجرّد تلك الأجزاء و الذّوات، بل هو عبارة عن ذلك الأجزاء الموصوفة بالصفات المخصوصة، و إذا كان كذلك كانت تلك الصفات أحد أجزاء ماهيّة ذلك الشخص من حيث إنه ذلك الشخص، و عند تفرّق الأجزاء يبطل تلك الصّفات و تفنى، فان امتنعت الاعادة على المعدوم امتنعت على تلك الصفات فيكون العائد صفات اخرى لا تلك الصفات الّتى باعتبارها كان ذلك الشخص، و على هذا التقدير لم يكن العائد ثانيا هو الّذى كان موجودا أوّلا، فلم يكن الزيد الثاني عين الزيد الأوّل،فثبت بما ذكرنا أنّا إن جوزنا إعادة المعدوم فلا حاجة إلى ما ذكروه، و إن منعنا إعادة المعدوم كان الاشكال المذكور باقيا، سواء قلنا إنه تعالى لا يفنيها أو قلنا إنّه يفنيها انتهى.

و وافقه ذلك الشارح البحراني حيث قال: إنّ بدن زيد مثلا ليس عبارة عن تلك الأجزاء المتشذّبة المتفرّقة فقط، فانّ القول بذلك مكابرة للعقل بل عنها مع ساير الأعراض و التأليفات المخصوصة و الأوضاع فإذا شذب البدن و تفرّق فلا بدّ أن يعدم تلك الأعراض و تفني و حينئذ يلزم فناء البدن من حيث إنّه هذا البدن، فعند الاعادة إن اعيد بعينه وجب إعادة تلك الأعراض بعينها فلزمت إعادة المعدوم، و إن لم يعد بعينه عاد غيره فيكون الثواب و العقاب على غيره و ذلك تكذب للقرآن الكريم و لا تزر وازرة وزر اخرى.

اللّهمّ إلّا أن يقال إنّ الإنسان المثاب و المعاقب إنما هو النفس الناطقة، و هذا البدن كالالة فاذا عدم لم يلزم عوده بعينه بل جاز عود مثله، لكن هذا إنما يستقيم على مذهب الحكماء القائلين بالنفس الناطقة لا مذهب من يقول، بالتشذّب و تفرّق الأجزاء، و مذهب أكثر المحقّقين من علماء الاسلام يؤل إلى هذا القول، انتهى.

اقول: بعد القول بالمعاد الجسماني و كونه من ضروريّات الدّين، و بعد القول بامتناع إعادة المعدوم و كونه من البديهيّات حسبما اشرنا إليه، لا مناص من القول بالتفرّق.
و أمّا الاشكال المذكور فالجواب عنه بناء على نفى الجزء الصورى للأجسام و حصر أجزائها في الجواهر الفردة كما هو مذهب المتكلّمين ظاهر.
و أمّا بناء على ثبوت الجزء الصورى فربما يجاب عنه بأنه يكفى فى المعاد الجسماني عود الأجزاء الماديّة بعينها، و لا يقدح تبدّل الجزء الصورى بعد أن كان أقرب الصور إلى الصورة الزايلة.
لا يقال: إنّ هذا يكون تناسخا.

لأنا نقول: الممتنع هو انتقال النفس إلى بدن مغاير له بحسب المادّة لا إلى بدن يتألف من عين مادّة هذا البدن و صورة هى أقرب الصّور إلى الصورة الزايلة، فان سمّيت ذلك تناسخا فلا بدّ من البرهان على امتناعه فانّ النزاع إنما هو فى المعني لا في اللفظ، هذا.

و قد اشير إلى هذا الجواب في ما رواه في الاحتجاج عن الصادق عليه السّلام و هو أنّه سأله ابن أبي العوجاء عن قوله تعالى: «كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ» فقال: ما ذنب الغير قال عليه السّلام ويحك هي هي و هي غيرها، قال: فمثّل لي في ذلك شيئا من أمر الدّنيا قال عليه السّلام: نعم أرأيت لو أنّ رجلا أخذ لبنة فكسرها ثمّ ردّها في ملبنها فهي هي و هي غيرها.

ثمّ إن شئت مزيد توضيح لهذه المسألة أعني كون الاعدام و الافناء بالتفريق و التشذيب و الاعادة بالجمع و التركيب فعليك بالرّجوع الى آيات الكتاب و أخبار الأئمة عليهم السّلام الأطهار الأطياب.
قال سبحانه وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ و قد مضى تفسير الاية مفصّلا و تحقيق الكلام في اثبات المعاد الجسماني بما لا مزيد عليه في شرح الفصل الثالث من المختار الثاني و الثمانين.

و قال تعالى أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ. بَلى‏ قادِرِينَ عَلى‏ أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ و قال أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ هُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ روى في الكافي عن الباقر و الصّادق عليهما السّلام إنّ هؤلاء أهل مدينة من مداين الشام و كانوا سبعون ألف بيت قال لهم اللّه موتوا جميعا، فماتوا من ساعتهم و صاروا رميما يلوح، و كانوا على طريق المارّة فكنستهم المارّة فنحوّهم و جمعوهم في موضع فمرّ بهم نبيّ من أنبياء بني إسرائيل يقال له: حزقيل، فلما رأى تلك العظام بكى و استعبر و قال: يا ربّ لو شئت لأحييتهم الساعة كما أمّتهم، فأوحى اللّه عزّ و جلّ‏أن قل كذا و كذا، فقال الذي أمر اللّه عزّ و جلّ أن يقوله، فلما قال ذلك نظر إلى العظام يطير بعضها إلى بعض فعادوا أحياء ينظر بعضهم إلى بعض- و الحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة.

و قال تعالى أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى‏ قَرْيَةٍ وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى‏ عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى‏ طَعامِكَ وَ شَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَ انْظُرْ إِلى‏ حِمارِكَ وَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ» أى انظر إلى عظامك كيف نرفع بعضها إلى بعض للتركيب، و قرء ننشرها بالراء المهملة من أنشر اللّه الموتى أحياهم.

روى عليّ بن إبراهيم القمّي في حديث طويل عن الصّادق عليه السّلام- و ساق الحديث إلى أن قال- فخرج ارميا على حمار و معه تين قد تزوّده و شي‏ء من عصير فنظر إلى سباع البرّ و سباع البحر و سباع الجوّ تأكل تلك الجيف«» ففكر في نفسه ساعة ثمّ قال: أنّى يحيى اللّه هؤلاء و قد أكلتهم السّباع، فأماته اللّه مكانه و هو قول اللّه تعالى «أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى‏ قَرْيَةٍ» الاية، و بقى ارميا ميّتا مأئة سنة ثمّ أحياه اللّه فأوّل ما أحيا اللّه منه عينيه في مثل عزقي«» البيض فنظر فأوحى اللّه إليه كم لبثت قال لبثت يوما ثمّ نظر إلى الشّمس قد ارتفعت فقال أو بعض يوم فقال اللّه تعالى بل لبثت مأئة عام فانظر إلى طعامك و شرابك لم يتسنّه أى لم يتغيّر، و انظر إلى حمارك و لنجعلك آية للنّاس و انظر إلى العظام كيف ننشزها ثمّ نكسوها لحما فجعل ينظر إلى العظام البالية المتفطرة«» تجمع إليه و إلى اللحم الذي قد أكلته السباع يتألف إلى العظام من ههنا و ههنا و يلتزق بها حتّى قام و قام حماره فقال: إنّ اللّه على كلّ شي‏ء قدير.

و في الاحتجاج في حديث عنه عليه السّلام قال: و أمات اللّه ارميا النّبيّ الّذي نظرإلى خراب بيت المقدّس و ما حوله حين غزاهم بخت نصر فقال أنّي يحيى هذه اللّه بعد موتها، فأماته اللّه مأئة عام ثمّ أحياه و نظر إلى أعصابه كيف تلتئم و كيف تلبس اللّحم و إلى مفاصله و عروقه كيف توصل، فلما استوى قاعدا قال أعلم انّ اللّه على كلّ شي‏ء قدير.

ثمّ إنّه عليه السّلام لما ذكر أنّه تعالى يفنى الأشياء بعد الوجود، و كان ذلك مستبعدا عند الأذهان القاصرة و موردا للتعجّب لاستبعادها طريان العدم على هذه الأشياء الكثيرة العظيمة كالسّماوات الموطدات و ما فيهنّ، و الأرضين المدحوّات و ما عليهنّ و غيرها من الممكنات الموجودات أراد دفع الاستبعاد و التعجّب فقال: (و ليس فناء الدّنيا بعد ابتداعها بأعجب من إنشائها و اختراعها) لأنّ الانشاء و الافناء إن لو حظا بالنسبة إلى قدرة الواجب تعالى فليس بينهما فرق، إذ نسبة جميع المقدورات إليه تعالى سواء، لأنها كلّها ممكنة قابلة للوجود و العدم لذواتها و هو سبحانه على كلّ شي‏ء قدير، و إن لو حظابا لنظر إلى أنفسهما مع قطع النظر عن القدرة فالابداع أغرب و أعجب من الاعدام سيّما إذا كان المبدع مشتملا على بدايع الخلقة و أسرار الحكمة التي لا يهتدي إلى معشارها بعد الهمم و لا يصل إليها غوص الفطن كما أشار إليه بقوله: (و كيف) أى كيف يكون الفناء أعجب (و لو اجتمع جميع حيوانها من طيرها و بهائمها و ما كان من مراحها و سائمها) أى من ذي مراحها أى الذي أراحه راعيه فيه بالعشى (و أصناف أسناخها و أجناسها و متبلّدة اممها و أكياسها) أى غبيّها و ذكيّها (على إحداث) أصغر حيوان و أحقره و أضعفه من (بعوضة) و نحوها (ما قدرت على إحداثها، و لا عرفت كيف السّبيل إلى ايجادها) كما قال عزّ من قائل: «يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ».

و محصّل المراد أنّه كيف يكون الفناء أعجب من الابداع و في إبداع أضعف حيوان و أحقره و هي البعوضة ما يعجز عن تكوينه و إحداثه قدرة كلّ من تنسب إليه القدرة، و تقصر عن معرفة الطريق إلى ايجادها ألباب الألبّاء.

(و لتحيّرت عقولها في علم ذلك و تاهت و عجزت قواها و تناهت) فانها على صغرها و ضعفها قد ودع فيها من بدايع الصنع و عجائب الخلقة ما لا يخفى، فانه سبحانه قد خلقها على خلقة الفيل إلّا أنّه أكثر أعضاء من الفيل، فانّ للفيل أربع أرجل و خرطوما و ذنبا، و لها مع هذه الأعضاء رجلان زايدتان و أربعة أجنحة، و خرطوم الفيل مصمت و خرطومها مجوّف نافذ للجوف، فاذا طعنت به جسد الانسان استقى الدّم و قذفت به إلى جوفها فهولها كالبلعوم و الحلقوم و لذلك اشتدّ عضّها و قويت على خرق الجلود الغلاظ قال الراجز:

مثل السّفاة دائما طنينها
ركّب في خرطومها سكّينها

و مما ألهمها اللّه تعالى أنّها إذا جلست على عضو الانسان لا تزال تتوخى بخرطومها المسام التي يخرج منها العرق لأنها أرقّ بشرة من الجلد، فاذا وجدها وضعت خرطومها فيها و فيها من الشره أن تمصّ الدّم الى أن تنشقّ و تموت أو إلى أن تعجز عن الطيران فيكون ذلك سبب هلاكها.

و كان بعض الجبابرة من الملوك يعذّب بالبعوض فيأخذ من يريد قتله فيخرجه مجرّدا إلى بعض الاجام التي بالبطايح و يتركه فيها مكتوفا فيقتل في أسرع وقت و أقرب زمان قال الفتح البستي في هذا المعنى:

لا تستخفنّ الفتى بعداوة أبدا
و إن كان العدوّ ضئيلا

إنّ القذى يؤذى العيون قليله‏
و لربّما جرح البعوض الفيلا

و قال آخر:

لا تحقرّن صغيرا في عداوته
إنّ البعوضة تدمي مقلة الأسد

فقد ظهر من ذلك أنّ عقول العقلاء لو فكرت في ايجادها و فيما أبدع من عجايب الصنع لتحيّرت و تاهت و عرفت أنّ القوى عاجزة عن ايجادها.
(و رجعت خاسئة) أى صاغرة ذليلة (حسيرة عارفة بأنها مقهورة) عاجزة غير متمكّنة (مقرّة بالعجز عن انشائها مذعنة بالضعف عن إفنائها) فان قلت: كيف تذعن العقول بالضعف عن إفناء البعوضة مع إمكان ذلك‏و سهولته قلت: إنّ اللّه سبحانه و إن خلق للعبد قدرة على الفعل و الترك و الايذاء و الاضرار لغيره، لكنه تعالى جعل للبعوضة أيضا القدرة على الهرب و الطيران و الامتناع من ضرر الغير فضلا عن اهلاكه، فلو لا تسخير الربّ القاهر لها و تمكينه اياها لما قدر العبد على قتلها و اهلاكها و ما كان متمكنا من افنائها و إعدامها.

ثمّ إنّه لما ذكر أنّه تعالى يفنى الأشياء بعد وجودها حتّى يصير موجودها كمفقودها، و عقّبها بجملات متعدّدة معترضة للاستبعاد و إفنائها عاد إلى إتمام ما كان بصدده من شرح حال الفناء فقال: (و انّه سبحانه يعود بعد فناء الدّنيا وحده لا شي‏ء معه كما كان قبل ابتدائها كذلك يكون بعد فنائها) يعني أنّه يبقى بعد فناء الأشياء وحده لا شي‏ء معه منها كما كان قبل وجودها.

قال الشارح البحراني: و قوله: يعود، إشعار بتغير من حالة سبقت إلى حالة لحقت و هما يعودان إلى ما تعتبره أذهاننا له من حالة تقدّمه على وجودها و حالة تأخّره عنها بعد عدمها، و هما اعتباران ذهنيّان يلحقانه بالقياس إلى مخلوقاته.
و قوله (بلا وقت و لا مكان و لا حين و لا زمان) يحتمل أن يكون قيدا بقوله: وحده أو قوله: يكون، فيكون إشارة إلى بقائه سبحانه بعد فناء الأشياء متوحّدا منزّها عن الزمان و المكان، بريئا عن لحوقهما كما كان قبل وجودها كذلك، لأنّ الكون في المكان و الزمان من خصايص الامكان و خواصّ الأجسام.

و يحتمل أن يكون قيدا لقوله: فنائها أتى به تأكيدا له، يعني أنّه يفنى الأشياء حتّى لا يبقى وقت و لا زمان و لا مكان.
و ذلك لأنّ المكان إمّا الجسم الذي يتمكّن عليه جسم آخر، أو الجهة، و كلاهما لا وجود له بتقدير عدم الافلاك و ما في حشوها من الأجسام، أما الأوّل فظاهر، و أمّا الثاني فلأنّ الجهة لا تتحقّق إلّا بتقدير وجود الفلك لأنها أمر إضافيّ بالنسبة إليه فبتقدير عدمه لا يبقى لها تحقق أصلا.

و أما الزمان فلانه عبارة عن مقدار حركة الفلك فاذا قدرنا عدم الفلك فلا حركة فلا زمان.
و فيه ردّ على الفلاسفة القائلين بعدم فناء الأفلاك حسبما اشير إليه سابقا و لدفع زعمهم الفاسد أيضا أكّده ثانيا بقوله: (عدمت عند ذلك) أى عند فناء الأشياء (الاجال و الأوقات، و زالت السّنون و الساعات) لأنّ كلّ ذلك أجزاء للزّمان و حيث انعدم الزّمان لانعدام الفلك انعدم ذلك كلّه (فلا شي‏ء إلّا اللّه الواحد القهّار) هذا نصّ صريح في فناء جميع الأشياء.

و هو على القول بطريان العدم عليها بجواهرها و ذواتها لا غبار عليه.
و أما على القول بأنّ الفناء هو التشذّب و تفرّق الأجزاء كما عليه بناء المحققين حسبما عرفته سابقا فلا بدّ من ارتكاب التأويل و في أمثاله ينصرف لا عن نفى الجنس إلى نفى الكمال كما في لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد أى لا شي‏ء يصحّ منه الانتفاع فانّ الأجزاء المتشذّبة المتفرّقة و إن صحّ إطلاق اسم الشي‏ء عليها إلّا أنّها خرجت بتفرّقها عن حيّز الانتفاع، فكأنّها ليست بشي‏ء أى لا يبقى بعد فناء الأشياء شي‏ء معتدّ به إلّا اللّه الواحد القهّار للأشياء بالعدم و الفناء، و الغالب عليها بالاعدام و الافناء، بحيث لا يطيق شي‏ء منها من الامتناع من حكمه و مما يريد الانفاذ فيها من أمره.

(الذى إليه مصير جميع الامور) و مرجعها و عاقبتها كما قال عزّ من قال: «ألا إلى اللّه تصير الامور».
قال الطبرسي: أى إليه ترجع الامور و التدبير يوم القيامة فلا يملك ذلك غيره.
و قال البحراني: معني مصيرها إليه أخذه لها بعد هبته لوجودها.
و لما ذكر قهاريّته على الأشياء و صيرورتها كلّها إليه تعالى عقّبه بقوله: (بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها و بغير امتناع منها كان فناؤها) تنبيها على أنّ لازم قاهريّته ذلك أى كون الكلّ مقهورا تحت مشيّته غير مقتدر على ايجاد نفسه و لا على الامتناع من فنائه فهو عاجز ضعيف داخر ذليل لا يملك لنفسه موتا و لا حياة و لا نشورا.

(و) لما كان عدم اقتدارها على خلقتها بديهيّا مستغينا عن التعليل بخلاف اقتدارها على الامتناع علّل الثاني بأنها (لو قدرت على الامتناع لدام بقاؤها) لكن التالي‏باطل فالمقدّم مثله، و وجه الملازمة أن الفناء مكروه بالطبع لكلّ موجود فلو تمكن من الامتناع منه لامتنع فدام، و أما بطلان التالي فلما ثبت أنّه سبحانه يفنيها فلا يدوم بقاؤها فلا يكون لها قدرة على الامتناع.

و السابع و الستون أنه تعالى (لم يتكأده صنع شي‏ء منها إذ صنعه) أى لم يشق عليه سبحانه صنع شي‏ء من المصنوعات، لأنّ صنعه تعالى ليس بقوّة جسمانيّة حتّى يطرئه الانفعال و التعب، بل فعله الافاضة و صنعه الابداع الناشى عن محض علمه و ارادته من غير استعمال آلة أو حركة.

و نحن لو كنا بحيث لو وجد من نفس علمنا و إرادتنا شي‏ء لم يلحقنا من وجوده تعب و انفعال لكنا نحتاج في أفعالنا إلى حركة و استعمال آلة على أنّ علمنا و إرادتنا زايدتان على ذواتنا فاللّه تعالى أولى بأن لا يحلقه تغيّر من صنعه لأنّ فعله بمجرّد علمه و مشيته الموجبتان لقوله و أمره الواسطتان لفعله و صنعه كما قال عزّ و جلّ: إنّما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.

(و) الثامن و الستون انّه (لم يؤده منها خلق ما برأه و خلقه) أى لم يثقله ايجاد ما أوجده من المخلوقات، لأنّ الثقل و الاعياء إنّما يعرض لذي القوى و الاعضاء من الحيوان، و إذ ليس سبحانه بجسم و لاذى آلة جسمانية لم يلحقه بسبب فعله اعياء و لا تثقل و لا تعب كما قال سبحانه «أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ» و قال «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا».

(و) التاسع و الستون أنّ تكوينه و ايجاده للأشياء ليس لجلب منفعة لنفسه أو دفع مضرّة عنها، لما قد عرفت في شرح الخطبة الرابعة و الستين مفصلا من أنه ليس بفعله داع و غرض غير ذاته، فلو كان غرضه من التكوين جلب المنفعة أو دفع المضرّة لزم نقصانه في ذاته و استكماله بغيره، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.
(و) أشار إلى تفصيل وجوه المنافع المتصوّرة في التكوين و المضارّ المترتّبة على عدمه و نفيها جميعا بقوله: (لم يكوّنها لتشديد سلطان) قد مصي شرحه في شرح الخطبة الرابعة و الستّين‏(و لا لخوف من زوال و نقصان) أى لخوفه من الزوال و العدم فخلقها ليتحصّن بها من ذلك أو خوفه من النقصان فخلقها لأنّ يستكمل بها، و قد تقدّم تنزّهه سبحانه عن الخوف في شرح الخطبة المذكورة أيضا.

(و لا لاستعانة بها على ندّ مكاثر) متعرّض للغلبة (و لا للاحتراز بها من ضدّ مثاور) مواثب و محارب له (و لا للازدياد بها في ملكه) و مملكته بتكثير الجند و العساكر و أخذ الحصون و البلاد و القلاع (و لا لمكابرة شريك في شركه) أى لمفاخرة الشريك في الملك كما يكاثر الانسان غيره ممن يشاركه في الأموال و الأولاد قال سبحانه «أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ» و انما لم يكن تكوينه لأجل هذه الامور لاستلزامه العجز و الضعف و النقصان حسبما عرفته في شرح الخطبة التي أشرنا إليها.

(و لا لوحشه كانت منه فأراد أن يستأنس إليها) لتنزّهه تعالى عن الاستيحاش و الاستيناس حسبما تقدّم تفصيلا في شرح الفصل السادس من الخطبة الاولى.

و السبعون أنّ إفنائه للأشياء ليس أيضا من أجل جلب النفع أو دفع الضّرر و إليه أشار بقوله (ثمّ هو يفنيها بعد تكوينها لا لسأم) و ملال (دخل عليه في تصريفها و تدبيرها) لأنّ الضجر و الملال إنما يلحقان للمزاج الحيواني فيمتنع أن يكون فناؤه لها لأجل دفعهما عنه لتنزّهه من المزاج.

(و لا ل) تحصيل (راحة واصلة إليه) بسبب إعدامها (و لا ل) دفع مضرّة (ثقل شي‏ء منها عليه) حال وجودها، لأنّ هذا كلّه من لواحق الامكان و لوازم الضعف و النقصان (لا يملّه طول بقائها) كما يملّ غيره (فيدعوه إلى سرعة إفنائها) لما ذكرنا من تنزّهه من السأم و الملال و (لكنّه سبحانه دبّرها بلطفه) أى ببرّه و إنعامه و تكرمته.
و معنى تدبيره لها تصريفه إيّاها لتصريفها كلّيا و جزئيّا على وفق حكمته و عنايته من غير مماسّة بها و مباشرة لها لأنّ المباشرة و الملامسة من صفات الأجسام.

(و أمسكها بأمره) أى بحكمه النافذ و سلطانه القاهر (و أتقنها بقدرته) أى جعلها متقنة محكمة مصونة من التزلزل و الاضطراب بنفس قدرته الكاملة، فاذا كان تدبيرها باللطف و إمساكها بالحكم و إتقانها بمحض القدرة من غير حاجة فيها إلى المزاولةو المباشرة امتنع عروض الثقل و الملال عليه سبحانه بسبب بقائها و وصول الراحة إليه بسبب فنائها كما هو واضح لا يخفى.

و الحادى و السبعون أنّ إعادته للأشياء بعد الفناء ليس أيضا لأجل الأغراض البشريّة من جلب منفعة أو دفع المضرّة و إليه أشار بقوله: (ثمّ يعيدها بعد الفناء) أى يعيد الأشياء لا جميعها بل بعضها و هو جميع أفراد النوع الانساني قطعا و جملة من غيره مما ورد في الأخبار الإخبار بإعادته، فالضمير عايد إلى الدّنيا أو إلى الامور في قوله مصير جميع الامور و أريد به البعض على طريق الاستخدام.

و كيف كان فانه سبحانه يعيد من الأشياء ما اقتضت الحكمة إعادتها (من غير حاجة منه إليها) لأنّ الحاجة من صفات الممكن (و لا استعانة بشي‏ء منها عليها) أى استعانة ببعضها على بعض (و لا لانصراف من حال وحشة) كانت له عند فقدانها (إلى حال استيناس) حصلت له عند وجودها (و لا) لانتقال (من حال جهل و عمى) حاصلة له باعدامها (إلى حال علم و التماس) أى إلى استجداد علم و لمس (و لا من فقر و حاجة إلى غني و كثرة و لا من ذلّ وضعة إلى عزّ و قدرة) لأنّ هذه الأعراض كلّها إنما تليق بالممكنات الناقصة، و أمّا الواجب تعالى فله الكمال المطلق في ذاته و صفاته، فيمتنع أن يكون أفعاله لمثل هذه الأغراض المنبئة عن النقص و الفاقة.

تنبيه

لا تحسبنّ من نفي الأغراض المذكورة عنه سبحانه في ايجاد الأشياء و إفنائها و إعادتها كون أفعاله عزّ و جل خالية عن الغرض مطلقا كما زعمته الأشاعرة فيلزم كونه لاعبا عابثا في فعله، تعالى شأنه عن ذلك علوّا كبيرا و قد قال عزّ من قائل «وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ» «رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا» «أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ. فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ».
بل المنفيّ عنه سبحانه هو الأغراض المستلزمة لنقصانه في ذاته و استكماله‏بمخلوقاته من قبيل جلب المنافع و دفع المضارّ.
و تحقيق المقام يتوقف على بسط في الكلام.
فأقول: ذهبت الطايفة المحقّة الامامية و المعتزلة من العامة إلى أنّ أفعاله سبحانه معلّلة بالأغراض و المصالح و الحكم و المنافع، و خالفهم الأشاعرة.

قال العلامة الحلّى قدّس اللّه روحه في كتاب نهج الحقّ: قالت الامامية: إنّ اللّه إنما يفعل لغرض و حكمة و فائدة و مصلحة يرجع إلى المكلّفين و نفع يصل إليهم، و قالت الأشاعرة: إنّه لا يجوز أن يفعل شيئا لغرض و لا لمصلحة ترجع إلى العباد و لا لغاية من الغايات، و لزمهم من ذلك كون اللّه تعالى لاعبا عابثا في فعله فانّ العابث ليس إلّا الّذي يفعل لا لغرض و حكمة بل محابا و اللّه تعالى يقول «وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ» و الفعل الّذى لا غرض للفاعل فيه باطل و لعب، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

و قال في موضع آخر من الكتاب المذكور: قالت الاماميّة: إنّ اللّه لم يفعل شيئا عبثا بل إنما يفعل لغرض و مصلحة و إنما يمرض لمصالح العباد و يعرض المولم بحيث ينتفي العبث و الظلم، و قالت الأشاعرة: لا يجوز أن يفعل شيئا لغرض من الأغراض و لا لمصلحة و يولم العبد بغير مصلحة و لا غرض بل يجوز أن يخلق خلقا في النّار مخلّدين فيها أبدا من غير أن يكون قد عصوا أوّلا، انتهى كلامه رفع مقامه.

و قال الشارح المعتزلي: أوجد اللّه تعالى الأشياء أولا للاحسان إلى البشر و ليعرّفوه، فأنّه لو لم يوجدهم لبقي مجهولا لا يعرف، ثمّ كلّف البشر ليعرضهم للمنزلة الجليلة التي لا يمكن وصولهم إليها إلّا بالتكليف و هي الثواب، ثمّ يفنيهم لأنّه لا بدّ من انقطاع التكليف ليخلص الثواب من مشاق التكاليف، ثمّ إنه يبعثهم و يعيدهم ليوصل إلى كلّ إنسان ما يستحقه من ثواب أو عقاب، و لا يمكن ايصال هذا المستحق إلّا بالاعادة انتهى.

و قال الأوّل أيضا في محكى كلامه من كتاب نهاية الفصول: إنّ النصوص دالّة على أنه تعالى شرع الأحكام لمصالح العباد ثمّ إنّ الاماميّة و المعتزلة صرّحوا بذلك و كشفوا الغطاء حتّى قالوا إنّه تعالى يقبح منه فعل القبيح و العبث بل يجب أن‏يكون فعله مشتملا على مصلحة و غرض، و أما الفقهاء«» قد صرّحوا بأنّه تعالى إنما شرع الحكم لهذا المعني و لأجل هذا الحكمة ثمّ يكفرون من قال بالغرض مع أنّ معني الكلام الغرض لا غير، انتهى.

فقد ظهر من كلامهما جميعا اتّفاق العدلية على كون أفعاله تعالى و أحكامه و جميع ما صدر عنه تكوينيّا كان أو تكليفيّا معلّلا بأغراض، و أنّ الغرض منها جميعا أيصال النفع إلى المكلّفين و الاحسان إليهم و اللطف في حقّهم.
و يشهد لهم صريحا الايات الكثيرة من الكتاب و الأخبار التي لا تعدّ و لا تحصى مثل قوله تعالى وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ و قوله هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً وَ قَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ و قوله مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ الاية و قوله وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ.
و في الحديث القدسي: لولاك لما خلقت الأفلاك، و يا إنسان خلقت الأشياء لأجلك و خلقتك لأجلى، و كنت كنزا مخفيّا فأحببت أن اعرف فخلقت الخلق لاعرف. إلى غير ذلك مما لا حاجة إلى ايراده.

و كفاك شاهدا في هذا الغرض كتاب علل الشرائع الّذى ألّفه الصدوق «قده» في علل تشريع الأحكام الشرعيّة.
و استدل الأشاعرة على مذهبهم بأنه لو كان فعله تعالى لغرض من جلب منفعة أو دفع مفسدة لكان هو ناقصا بذاته مستكملا بتحصيل ذلك الغرض، لأنّه لا يكون غرضا للفاعل إلّا ما هو أصلح له من عدمه، و ذلك لأنّ ما استوى وجوده و عدمه بالنظر إلى الفاعل و كان وجوده مرجوحا بالقياس إليه لا يكون باعثاله على الفعل و سببا لاقدامه عليه بالضرورة، فكلّ ما كان غرضا يجب أن يكون وجوده أصلح للفاعل و أليق به من عدمه و هو معني الكمال، فاذا يكون الفاعل مستكملا بوجوده ناقصا بعدمه.

قالوا: و أما قول القائلين بكون أفعاله للغرض إنّه لولاه لكان اللّه لاعبا عابثا، فالجواب التحقيقى عنه إنّ العبث ما كان خاليا عن الفوائد، و أفعاله تعالى محكمة متقنة مشتملة على حكم و مصالح لا يحصى راجعة إلى مخلوقاته تعالى لكنها ليست أسبابا باعثة على إقدامه و عللا مقتضية لفاعليّته فلا يكون أغراضا له و لا عللا غائية لأفعاله حتّى يلزم استكماله بها، بل يكون غايات و منافع لأفعاله و آثارا مترتبة عليها، فلا يكون شي‏ء من أفعاله عبثا خاليا عن الفوائد، و ما ورد من الظواهر الدالة على تعليل أفعاله تعالى فهو محمول على الفايدة و المنفعة دون الغرض و العلّة.

أقول: هكذا قرّر الشارح الناصب روزبهان خفضه اللّه دليل الأشاعرة في شرح نهج الحق و المستفاد منه اتّفاق الاشاعرة و العدلية على كون أفعاله سبحانه مشتملة على الحكم و المصالح العايدة إلى الخلق لا إليه تعالى، و على أنّ ظواهر الأدلّة هي العلّية و الغاية.

و إنما النزاع في كون تلك المصالح و الحكم غرضا و علّة للفعل، فذهب العدلية إلى الغرض و العلّية مستدلّين بظواهر الأدلّة، و أنكرها الأشاعرة و صرفوا الأدلّة عن ظواهرها بزعمهم استلزام القول بالغرض النّقصان بالذات و الاستكمال بالغير و هو محال على الحق الأوّل سبحانه.

و اعترض عليه الشارح الفاضل القاضي نور اللّه نوّر اللّه مرقده.
أولا بأنّه انما يلزم الاستكمال لو كان الغرض عايدا إليه تعالى و نحن لا نقول بذلك، بل الغرض إما عايد إلى مصلحة العبد أو إلى اقتضائه نظام الوجود بمعني نظام الوجود لا يتمّ إلّا بذلك الغرض فيكون الغرض عايدا إلى النظام لا إليه و على كلّ من الأمرين لا يلزم الاستكمال.

فان قيل: أولويّة عود الغرض إلى الغير يفيد استكماله بالغير و مساواته بالنسبة إليه تعالى ينافي الغرضيّة.
قلت: لا نسلّم أنه لو استوى حصول الغرض و عدم حصوله بالنسبة إليه تعالى‏لم يصلح أن يكون غرضا داعيا إلى فعله، و إنما يلزم لو لم يكن الفعل أولى من الترك بوجه من الوجوه، و ههنا ليس كذلك فانّه بالنسبة إلى العبد أولى.

و لو سلم فنقول: الغرض كالاحسان مثلا أولى و أرجح من عدمه عنده تعالى يعني أنّه عالم بأرجحيّة الاحسان في نفس الأمر و لا يلزم أولويّة الاحسان بالمعني المذكور عنده استكماله تعالى به، لأنّ الأنفع أرجح في نفس الأمر، فلو لم يكن عالما بالأرجحيّة يلزم عدم علمه بكونه أنفع، فليزم النقص فيه و هو منزّه عن النقص.
و ثانيا بأنّ تعليل أفعاله راجع إلى الصّفات و الكمالات الفعلية كخالقيّة العالم و رازقيّة العباد، و الخلوّ عنها ليس بنقص قطعا و إنّما النّقص خلوّه عن الصّفات الحقيقية.

و ثالثا بأنّ ما ذكره من الجواب الّذي سمّاه تحقيقا فبطلانه ظاهر لأنّه مع منافاته لما ذكروه في بحث الحسن و القبح العقليّين من أنه ليس في الأفعال قبل ورود الأمر و النهي جهة محسنة و مقبحة تصير منشئا للأمر و النهي مردود بأنّ الفاعل إذا فعل فعلا من غير ملاحظة فايدة و مدخليتها فيه يعدّ ذلك الفعل عبثا أو في حكم العبث في القبح و إن اشتمل على فوايد و مصالح في نفس الأمر، لأنّ مجرّد الاشتمال عليها لا يخرجه عن ذلك، ضرورة أنّ ما لا يكون ملحوظا للفاعل عند ايقاع الفعل و لا مؤثّرا في إقدامه عليه في حكم العدم كما لا يخفى على من اتّصف بالانصاف، هذا.

و ذكر اعتراضات اخر غير خالية عن التأمّل و النظر طوينا عن ذكرها كشحا و إن كان بعض هذه الاعتراضات التي ذكرناها غير خال عن المناقشة أيضا كما لا يخفي، هذا.
و لصدر المتألّهين مسلك آخر في تقرير كون أفعاله تعالى معلّلة بالأغراض و تحقيق عميق في بيان معني الغرض و الغاية أشار إليه في مواضع عديدة بعضها إجمالا و بعضها تفصيلا من شرح الكافي.

قال في شرح الحديث الخامس من الباب السادس و هو باب الكون و المكان من‏كتاب التوحيد ما لفظه: إنّ الأسباب لوجود ماله سبب ينحصر في أربعة: الفاعل، و الغاية، و المادّة، و الصورة، و الأخيرتان داخلتان في وجود المسبّب عنهما إحداهما ما به وجود الشي‏ء بالقوة كالخشب للسرير، و الثانية ما به وجود الشي‏ء بالفعل كهيئة السرير لأنها متي وجدت وجد السرير بالفعل، و أمّا الأوّلان فهما خارجان عن وجود المسبّب، و الفاعل ما يفيد وجود الشي‏ء، و الغاية ما لأجله.

و من المعاليل ما لا يحتاج الى السبّبين الداخلين لكونه بسيطا، و أمّا الفاعل و الغاية فليس يمكن لشي‏ء من الممكنات الاستغناء عنهما ثمّ الغاية لها اعتباران: أحدهما اعتبار كونها بحسب الوجود العلمي باعثة على فاعلية الفاعل، فهي متقدّمة على الفعل و كون الفاعل فاعلا لأنها علّة فاعليّة لفاعلية الفاعل فهي فاعل الفاعل بما هو فاعل، و هذا في الفواعل الّتي في هذا العالم من المختارين الّذين يفعلون أفاعيلهم بقصد زايد و داعية إرادة زايدة مكشوف معلوم، فانهم ما لم يتصوّروا غاية و فايدة لم يصيروا فاعلا بالفعل، فالعلّة الغائية فيهم مغايرة للعلّة الفاعلة، و أما الأوّل تعالى فلما كان علمه بنظام الخير في العالم الّذى هو عين ذاته داعيا لايجاده للعالم فالفاعل و الغاية هناك شي‏ء واحد بلا تغاير في الذات و لا تخالف في الجهات.

و ثانيهما اعتبار كونها غاية و ثمرة مترتبة على الفعل، فربما يتأخر وجودها الخارجي عن وجود المعلول فيكون وجودها معلول معلول الفاعل كما في الغايات الواقعة تحت الكون ثمّ اعلم انّه قد وجد في كلام الحكماء أنّ أفعال اللّه تعالى غير معلّلة بالأغراض و الدّواعي، و وجد أيضا كثيرا في ألسنتهم على طبق ما ورد في هذه الأحاديث أنّه تعالى غاية الغايات و أنه المبدأ و الغاية، و في الكلام الالهي «صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما» «إِنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الرُّجْعى‏» إلى غير ذلك مما لا يعدّو لا يحصى.

فان كان المراد من نفس التعليل و سلب اللميّة عن فعله تعالى نفي ذلك عنه‏بما هو غير ذاته فهو كذلك، لأنه تعالى تامّ في فاعليّته كما هو تامّ في ذاته، لكن لا يلزم من ذلك نفي الغاية و الداعي عن فعله مطلقا حتّى يلزم العبث و الجزاف، تعالى عما يظنّه الجاهلون، بل علمه بنظام الخير الّذى هو نفس ذاته علّة غائية و غرض بالذات لفعله و وجوده، و هذا مما ساق اليه الفحص و البرهان و شهدت به عقول الفحول و أذهان الأعيان.

و قال في شرح الحديث الأوّل من الباب الرابع عشر و هو باب الارادة من كتاب التوحيد: التحقيق أنّ الارادة تطلق بالاشتراك الصناعي على معنيين: أحدهما ما يفهمه الجمهور و هو الّذي ضدّه الكراهة و هي التي قد تحصل فينا عقيب تصوّر الشي‏ء الملايم و عقيب التردّد حتّى يترجّح عندنا الأمر الدّاعي إلى الفعل أو الترك فيصدر أحدهما منا و هذا المعنى فينا من الصفات النفسانية و هي و الكراهة فينا كالشهوة و الغضب فينا و في الحيوان، و لا يجوز على اللّه بل إرادته نفس صدور الأفعال الحسنة منه من جهة علمه بوجه الحسن و كراهته عدم صدور الفعل القبيح عنه لعلمه بقبحه.

و ثانيهما كون ذاته بحيث يصدر عنه الأشياء لأجل علمه بنظام الخير فيها التابع لعلمه بذاته، لا كاتباع الضوء للمضي‏ء و السخونة للمسخّن و لا كفعل الطبايع لا عن علم و شعور و لا كفعل المجبورين و المسخّرين و لا كفعل المختارين بقصد زايد و إرادة زايدة ظنّية يحتمل الطرف المقابل.

فاذا هو سبحانه فاعل للأشياء كلّها بارادة ترجع إلى علمه بذاته المستتبع لعلمه بغيره المقتضي لوجود غيره في الخارج لا لغرض زايد و جلب منفعة أو طلب محمدة أو ثناء أو التخلّص من مذّمة، بل غاية فعله محبّة ذاته.
فهذه الأشياء الصادرة عنه كلّها مرادة لأجل ذاته لأنها من توابع ذاته و علمه بذاته، فلو كنت تعشق شيئا لكان جميع ما يصدر عنه معشوقا لك لأجل ذلك الشي‏ء، و إليه الاشارة بما ورد في الحديث الالهى عن نفسه تعالى: كنت كنزا مخفيّا فأحببت أن اعرف فخلقت‏الخلق لأعرف.

و قال في شرح الحديث السادس من الباب الخامس و العشرين من كتاب التوحيد و هو باب المشيّة و الارادة: ليس لفعله تعالى غاية و غرض زائدتين على ذاته، و إنما الغاية و الغرض لأفاعيل ما سواه من الفاعلين و الغاية و الغرض اسمان لشي‏ء واحد بالذات متغاير بالاعتبار، فالذى لأجله يفعل الفاعل فعله و يسأل عنه بلم و هو يقع في الجواب يقال له الغاية بالنسبة إلى الفعل و الغرض بالنسبة إلى الفاعل، فاذا قلت لباني الفعل لم تبني البيت فيقول في جوابك لأسكن فيه فالسّكنى غاية للبناء و غرض للبناء.

إذا علمت هذا فاعلم أنّ وجود الأشياء عنه تعالى من لوازم خيريّته تعالى ليس يريد بايجادها شيئا آخر غير ذاته، بل كونه على كماله الأقصى يقتضى ذلك، إذ كلّ فاعل يقصد فى فعله شيئا فذلك الشي‏ء أفضل منه و هو أدون منزلة من مقصوده.

فلو كان للأوّل تعالى قصد إلى ما سواه أيّ شي‏ء كان من ايصال خيريّة أو نفع أو مثوبة إلى أحد أو طلب ثناء أو شكر أو محمدة أو غير ذلك لكان في ذاته ناقصا مستكملا بقصده، و ذلك محال لأنّ وجوده على أقصى درجات الفضل و الكمال إذ كلّ كمال و شرف و فضل فهو رشح من رشحات وجوده، فكيف يعود إليه من مجعولاته شي‏ء من الفضيلة لم تكن في ذاته.

و أيضا لو كان له قصد زايد أو لفعله غرض يلحق إليه بواسطة الفعل يلزم فيه الكثرة و الانفعال، و قد ثبت أنّه واحد أحد من كلّ وجه هذا خلف.
فاذا قد ظهر أنّه لالمية لفعله و لا يسأل عمّا يفعل و كلّ فاعل سواه فله في فعله غرض و لفعله غاية يطلبها هي لا محالة فوقه.

و تلك الغايات متفاضلة متفاوتة في الشرف على حسب تفاوت الفواعل.
و الذي عنده من الملائكة المقرّبين و من في درجتهم من عباده المكرمين فلا غاية لفعله و عبادته و تسبيحه إلّا لقاء ذاته تعالى لا غير.

و لمن دونهم من الملائكة السّماوية و النفوس المدبرة غايات اخرى يشتاقون إليها و يتشبّهون بها و يصلّون إليها هي بعد ذاته تعالى.
و هكذا يتنازل الغايات حسب تنازل النفوس و الطبايع حتّى أنّ الجمادات و العناصر لها في استحالاتها و حركاتها غايات طبيعيّة جعلها اللّه مركوزة في ذاتها مجبولة على قصدها و طلبها «و لكلّ وجهة هو مولّيها».
فاتّضح و تبيّن أنّ لكلّ أحد في فعله غاية يسأل عنها و هو معنى قوله: «و هم يسئلون».

و ليس معنى قوله «لا يسئل عمّا يفعل» كما زعمه علماء العامة من الأشاعرة و غيرهم أنّ ذاته تعالى لا يقتضي الخير و النظام و لا يجب منه أن يكون العالم على أفضل ما يمكن من الخير و التمام و الشرف و النظام بحيث لا يتصوّر ما هو أكمل و أتمّ مما هو عليه، مستدلّين على صحّة ما ادّعوه من المجازفة بأن لا اعتراض لأحد على المالك فيما يفعله من ملكه، و العالم ملكه تعالى فله أن يفعل فيه كلّ ما يريده سواء كان خيرا أو شرا أو عبثا أو جزافا، و هم لا يقولون بالمخصّص و المرجّح في اختياره تعالى لشي‏ء قائلين إنّ الارادة تخصّص أحد الطرفين من دون حاجة إلى مرجّح لأنّه لا يسأل عن اللّمية فيما يفعله.

و هو كلام لا طائل تحته فانّ الارادة إذا كان الجانبان بالنسبة إليها سواء لا يتخصّص أحد الجانبين إلّا بمرجّح، و لا يقع الممكن إلّا بمرجّح، و بذلك يثبت الحاجة إلى وجود الصّانع و أمّا الخاصية الّتي يقولونها فهو هوس أليس لو اختار الجانب الاخر الذي فرض مساويا لهذا الجانب كانت تحصل هذه الخاصيّة.

ثمّ تعلّق الارادة بشي‏ء مع أنّ النّسبة إلى الجانبين سواء هذيان، فانّ الارادة ما حصلت أوّلا إرادة بشي‏ء ما ثمّ تعلّقت بشي‏ء مخصّص، فانّ المريد لا يريد أىّ شي‏ء اتّفق و لا يكون للمريد إرادة غير مضافة إلى شي‏ء أصلا ثمّ يعرض لها ان تعلقت ببعض جهات الامكان.

نعم إذا وقع التصوّر و حصل إدراك يرجّح أحد الجانبين يحصل إرادة مخصّصةبأحدهما، فالترجيح مقدّم على الارادة.
فاذا علمت أنّ كلّ مختار لا بدّ في اختياره أحد طرفي وجود شي‏ء من مرجّح فيجب أن يكون المرجّح في فعل الغني المطلق غير زايد على ذاته و علمه بذاته، فذاته هي الغاية المقتضية لفعله لا شي‏ء آخر إذ لا يتصوّر أن يكون امر أولى بالغنى المطلق أن يقصده، و إلّا لكان الغني المطلق فقيرا في حصول ما هو الأولى له إلى ذلك الشي‏ء و هو محال.

فاذا هو الغاية للكلّ كما هو الفاعل للكلّ فهكذا يجب عليك أن تعلم تحقيق المقام لتكون موحّدا مخلصا مؤمنا حقّا.
و قال في شرح الهداية: إنّ من المعطّلة قوما جعلوا فعل اللّه خاليا عن الحكمة و المصلحة متمسّكين بحجج أوهن من بيت العنكبوت.

منها قولهم كون الارادة مرجّحة صفة نفسيّة لها و صفات النفسية و لوازم الذّات لا تعلّل كما لا يعلّل كون العلم علما و القدرة قدرة، و هو كلام لا حاصل له، فانّ مع تساوى طرفى الفعل كيف يتخصّص أحد الجانبين و الخاصيّة الّتى يقولونها هذيان، فانّ تلك الخاصية كانت حاصلة أيضا لو فرض اختيار الجانب الاخر الذي فرض مساويا لهذا الجانب.

و منها قولهم بأنّ الارادة متحقّقة قبل الفعل بلا اختصاص بأحد الامور ثمّ تعلّقت بأمر دون أمر و هذا كاف في افتضاحهم، فانّ المريد لا يريد أىّ شي‏ء إذ الارادة من الصفات الاضافية فلا يتحقّق إرادة غير متعلّقة بشي‏ء ثمّ يعرضها التعلّق ببعض الأشياء نعم إذا حصل تصوّر شي‏ء قبل وجوده و يرجّح أحد جانبى إمكانه يحصل إرادة متخصّصة حينئذ فالترجيح مقدّم على الارادة.

فالحاصل أنّ المختار متى كانت نسبة المعلول اليه امكانية من دون داع و مقتض لصدوره عنه يكون صدوره عنه ممتنعا، لامتناع كون المساوى راجحا، فانّ تجويز ذلك من الفاعل ليس إلّا قولا باللّسان دون تصديق بالقلب، فذلك الداعى هو غاية الايجاد.

و هو قد يكون نفس الفاعل كما في الواجب تعالى لأنه تامّ الفاعلية فلو احتاج في فعله إلى معنى خارج عن ذاته لكان ناقصا في الفاعلية و سيعلم أنه سبب الأسباب و كلّ ما يكون سببا أوّلا لا يكون لفعله غاية غير ذاته.
فان لم يستند وجودها إليه لكان خلاف الفرض و ان استند إليه فالكلام عايد فيما هو داعية لصدور تلك الغاية حتّى ينتهى إلى غاية أى عين ذاته دفعا للدور و التسلسل، و قد فرض كونها غير ذاته هذا خلف، فذاته تعالى غاية للجميع كما أنّه فاعل لها، انتهى كلامه.

و محصله أنّ العلّة الغائية عنده من صفات الذات و هو علمه بنظام الخير و هو الداعى إلى ايجاد الموجودات و الغرض من ايجادها هو ذاته تعالى فهو سبحانه الفاعل لها و هو الغرض منها، فالفاعل و الغاية في أفعاله تعالى سواء لا مغايرة بينهما.
و المستفاد من صاحب احقاق الحقّ و نهج الحقّ و غيرهما حسبما عرفت أنّها من صفات الفعل راجعة إلى خالقيّته تعالى و رازقيّته، و أنها مغايرة للعلّة الفاعلة كما أنها في غيره سبحانه كذلك، فالفاعل للأشياء هو الذات و الغرض منها ايصال النفع و الافضال على العباد.

و على أىّ من القولين فقد تبيّن و استبان و اتّضح كلّ الوضوح أنّ ايجاد الموجودات ليس خاليا عن الحكم و المصالح و الغايات حسبما زعمته أبو الحسن الأشعري و أتباعه، غفلة عما يلزم عليه من المحالات التي مرّت الاشارة إلى بعضها هنا، و ذكر جملة منها العلّامة الحلّي قدّس اللّه سرّه في كتاب نهج الحقّ من أراد الاطلاع عليها فليراجع.

و الحمد للّه على توفيقه و عنايته، و الصّلاة على رسول اللّه و خلفائه و عترته، و نسأل اللّه بهم و بالمقرّبين من حضرته أن يثبت ما أتينا به في شرح هذه الخطبة الشريفة من اصول العلم الالهى في صحايف أعمالنا، و يثبتنا عليه عند الممات كما ثبتنا عليه حال الحياة، و يجعله نورا يسعى بين أيدينا في الظلمات، ظلمات يوم الجمع‏و عند الجواز على الصّراط إنّه على ذلك قدير، و بالاجابة حقيق جدير.

الترجمة

از جمله خطب شريفه آن ولي دين و امام مبين است در بيان توحيد خداوند و جمع ميكند اين خطبه از اصول علم إلهى مطالبى را كه جمع نكرده‏است آن را هيچ خطبه مى‏فرمايد كه: واحد و يگانه ندانست كسى كه او را مكيّف نمود بكيفيّات نفسانيه، و بحقيقت او نرسيده كسى كه از براى او مثلى قرار داده باشد، و او را قصد نكرده كسى كه او را شبيه قرار بدهد، و قصد نكره او را كسى كه اشاره نمايد بسوى او با اشاره حسيّه يا عقليّه و بوهم و خيال خود آورد او را، هر شناخته شده بذات و حقيقت مصنوع است نه صانع، هر قائم بغير خود معلول است نه علّت، فاعل است بذاته محتاج نيست در فعل خود بتحريك آلات و أدوات، مقدّر است كه در تقدير خود احتياج ندارد بجولان دادن فكر و خلجان خواطر، غنى است نه با اكتساب، مصاحب وجود او نمى‏شود وقتها، و اعانت و يارى نمى‏كند او را آلات و قوى، پيشى گرفته بوقتها هستى او، و بعدم وجود او، و بابتداء داشتن أزليّت و هميشه بودن او.

بسبب ايجاد مشاعر و حواس شناخته شد كه او مبرّا از مشاعر و آلات ادراك است، و بايجاد ضدّيت در ميان أشياء شناخته شد كه ضدّ نيست او را، و بايجاد اقتران در ميان أشياء شناخته شد كه قرينى نيست او را ضدّ گردانيد نور را با ظلمت، و آشكار را با ابهام، و خشكى را با رطوبت، و گرمى را با سردى، تركيب كننده است بقدرت كامله ميان امور متباينه، و مقارن كننده است ميان امور متضادّه، نزديك گردانيده است ميان دورها، و جدا سازنده است ميان نزديكها، فرو گرفته نشده بحدّى از حدود، و بحساب آورده نمى‏شود با شمردن، جز اين نيست كه محدود ميكند أدوات و قواى مدركه نفسهاى خود را، و اشاره ميكند آلات بدنيه بنظاير خودش.

مانع شد أدوات و آلات را دخول لفظ منذ از قديمى آنها، و منع كرد دخول‏لفظ قد از ازلى بودن آنها، و كنار نمود دخول لفظ لو لا در كامل بودن آنها، با ايجاد مشاعر و قوى آشكار گشت صانع آنها از براى عقول دراكه، و با آنها معلوم شد امتناع او از مشاهده چشمها، جارى نمى‏شود بر او حركت و سكون، و چگونه جارى شود بر او چيزى كه او جارى كرده است آنرا، و چگونه باز گردد در او چيزى كه او اظهار فرموده آنرا، و چگونه حادث مى‏شود در او چيزى كه او حادث كرده است آن را.

هرگاه صانع متّصف با حركت و سكون باشد هر آينه متفاوت شود ذات او و متجزى شود كنه او، و ممتنع باشد از أزلى بودن حقيقت او، و هر آينه مى‏شد او را پشت سر در صورتى كه يافته شد او را پيش رو، و هر آينه خواهش تماميت و كمال مى‏نمود در صورتى كه لازم بود او را نقصان، و هر گاه خواهش تماميّت نمايد هر آينه بر پا شود و ثابت باشد در او علامت مصنوع و مخلوق، و هر آينه بگردد واجب تعالى دليل بر وجود صانع بجهت تضمّن علامت مصنوعيت بعد از اين كه بود مدلول همه عالم دليل بر او بودند حال آنكه خارج شده بسبب سلطنت و امتناع تاثر اتصاف بصفت مخلوقات از اين كه تأثير بكند در او چيزى كه تأثير ميكند در غير او.

و آن چنان پروردگارى كه منتقل نمى‏شود از حالى بحالى، و زايل نمى‏شود از مكانى بمكانى، و جايز نمى‏شود بر او غايب شدن از مخلوقات، خارج نبوده از او چيزى توليد نكرده چيزى را تا اين كه متولّد شود او از چيز ديگر، و زائيده نشده تا اين كه محدود بحد متناهي بوده باشد.

بزرگست ذات او از أخذ أولاد و پسران، و پاكست وجود او از ملامست و معاشرت زنان، ادراك نمى‏كند او را عقلها تا اين كه مقدّر بقدر معيّني نمايند او را و بوهم و خيال نمى‏آورد او را ذكاوتها تا اين كه مصوّر بصورت شخصى كنند او را، و درك نمى‏كند او را حواس ظاهره و باطنه تا اين كه احساس بكند او را، و طلب مس او نمى‏كند دستها تا اين كه مس نمايند او را، متغيّر نشود بهيچ حال، متبدّل نشود در أحوال و أوصاف.

كهنه و فانى نمى‏كند او را شبها و روزها، تغيير نمى‏دهد او را روشنى و تاريكى‏وصف نمى‏شود با چيزى از اجزاء، و نه با جوارح و اعضا، و نه با عرضى از اقسام اعراض، و نه با مغايرت و ابعاض يعنى متّصف بأجزاء نيست كه بعضي مغاير بعضى بوده باشد.

گفته نمى‏شود از براى او حدّى و نه نهايتي، و نه از براى بقاء او انقطاعى و نه غاية و منتهائى، و گفته نمى‏شود در حق او كه أشياء فرو گرفته او را تا بلند گردانند او را يا پست نمايند يا اين كه چيزى بردارد او را تا ميل دهد او را بطرفى، يا بعدل نگه دارد او را.

نيست پروردگار حلول كننده در چيزها، و نه بيرون بوده از آنها، خبر مى‏دهد نه بواسطه زبان و پاره گوشتهائى كه در آخر دهان از طرف بالا متصل بزبان است، و مى‏شنود نه بواسطه سوراخهاى گوش و آلتهاى شنفتن، مى‏گويد پروردگار و احداث نمى‏كند لفظ را كه معتمد بر تقاطع و مخارج است و از لوازم بشر است، و ميداند و ياد مى‏دارد خدا همه چيز را و نمى‏باشد دانستن او از جهت عادت كردن و كثرت مراجعه، يا اين كه خدا نگه مى‏دارد همه چيز را و احتياج ندارد بچيزى كه خودش با او نگه دارد، و اراده ميكند و چيزى در دل پنهان نمى‏كند، زيرا كه دل ندارد و دوست مى‏دارد و خوشنود مى‏شود بدون آنكه رقّتى و تغيّرى در ذات اقدسش پيدا بشود، و دشمن مى‏دارد و غضب مى‏نمايد بدون اين كه او را زحمت و گرفتگى حاصل بشود مى‏فرمايد مر آن چيزى را كه خواسته است بودنش را باش پس مى‏شود، لكن گفتن خدا نه با صدائيست كه بگويد هوا با صماخ گوش را و نه با خواندني كه شنفته شود، و اينست جز اين نيست گفتار خدا فعليست كه ايجاد كرده او را و مصوّر بيك صورتى كرده و نبود پيش از ايجاد موجود و اگر بنا باشد كه كلام إلهى قديم باشد چنانچه حنابله مى‏گويند هر آينه اين خداى دويم ميباشد.

گفته نمى‏شود بود خدا پس از اين كه نبود تا اين كه جارى باشد در او صفات تازه يا صفات چيزهاى تازه، و نباشد در اين وقت فرقى ميان خدا و آنها، و نباشد مر خدا را بر آنها زيادتى و برترى، پس خالق و مخلوق برابر ميشوند و متماثل‏مى‏شود آفريننده و آفرينش شده.

آفريد مخلوقات را بر غير صورتى كه از كس دگر يادگار بوده باشد و كمك نگرفت بر خلقشان احدى از خلق را.
و آفريد زمين را پس نگه داشت او را بى اين كه اين كارش واگذارد از كارهاى ديگر، و ثابت كرد او را نه بر بالاى چيزى كه بر او تكيه بدهد، و بر پا داشت او را بدون اين كه او را دست و پا بوده باشد، و برداشت او را بيستونها، و منع كرد زمين را از كجى و انحراف، و منع كرد او را از افتادن و پاره شدن، و ثابت گردانيد ميخهاى زمين يعني كوهها را، و نصب نمود سدهاى او را، و جارى گردانيد چشمهايش و پاره كرد بيابانهايش پس سست نشد چيزى كه او بنا كرد، و نه ضعيف شد چيزى كه خدا قوّتش داد.

و او است غالب بر زمين بپادشاهى و بزرگى خود، و او است آگاه بر او بدانائى و معرفتش، و برتر است بهر چيزى از او بجلال و عزّتش، عاجز نمى‏كند او را چيزى كه از آن مى‏طلبد، و امتناع و نافرمانى ندارد بر او تا غالب آيد بر او، و فوت نمى‏شود شتابنده از آن تا پيش دستى كند بر او، و احتياج ندارد بسوى صاحب مالي تا روزى بدهند مر او را.
پست شدند چيزها براى او، و ذليل شدند در غايت خوارى بواسطه بزرگيش اقتدار ندارند گريختن را بسوى ديگرى تا اين كه امتناع و خوددارى نمايند از نفع و ضرر خدا، و نيست مر او را مثلى تا مماثلت نمايد با او، و نه مانندى هست او را تا مساوى باشد او را.

اوست نابود كننده أشياء بعد از هستيشان تا اين كه موجودشان مثل نابود ميباشد از جهت عدم فائده، و نيست نابود شدن دنيا بعد از هستى آوردنش عجب‏تر از اصل ايجاد و اختراعش از نيستى بهستى.

و چگونه عجيب‏تر باشد و حال آنكه اگر جمع بشود جميع جنبندهاى أشياء از مرغان و چهار پايان و هر چه هست از صاحب مراح و مسكن نشين و چرنده‏آنها و اقسام سنخها و جنسها و از نافهم و كندهاى طوائفشان و تيز فهمها بر ايجاد كردن يك پشه هر آينه قادر نمى‏شوند بر ايجاد، و نمى‏شناسند چگونه است راه بر ايجاد و هر آينه عقولشان متحيّر مى‏ماند در دانستن اين، و سرگردان مى‏مانند و عاجز مى‏شود قواى ايشان و باخر مى‏رسد و برميگردد همه آنها در حالتى كه ذليل‏اند حسرتناك، شناسنده بر اين كه ايشان مقهورند، اقرار كننده‏اند بعاجز بودن از آفريدن آن، گردن گذارنده‏اند بر ناتوانى از نابود كردن.

بدرستى كه خداوند برميگردد بعد از نيستى دنيا بتنهائى و چيزى با او نيست چنانچه بود پيش از خلق عالم همچنين ميباشد بعد از نابودى او، مى‏ماند پروردگار تنها بدون اين كه وقت و مكان باشد يا حين و زمان بلكه همه اينها فانى شده نيست شده باشد در اين وقت مدّتها و وقتها، و زايل مى‏شود سالها و ساعتها، پس چيزى نمى‏باشد مگر يگانه قهر كننده، چنين خدائى كه بسوى اوست بازگشت جميع چيزها، بدون قدرت و توانائى بود أوّل خلقت أشياء يعنى از خودشان قدرتى نداشتند و بيمضايقه و امتناع شد نابود شدن آنها و اگر مى‏توانستند كه مضايقه كنند هر آينه هميشگى بود ماندن‏شان در دنيا.

بملال و اندوه نينداخت ساختن چيزى از آنها خدا را در زمانى كه ساخت او را، و سنگينى نكرد بر او از آنها آفريدن آنچه او را آفريد.
و نيافريد آنها را بجهة محكم ساختن پادشاهى خودش، و نه از براى ترسيدن از رفتن و بر طرف شدن مملكت يا كم شدن و كاهيدن عزّت و دولت، و نه از براى يارى جستن با آنها بر ضرر دشمن كه بر صدد غلبه بر آمده است، و نه از براى خوددارى و نگه داشتن با آنها از صدمات دشمن بر جهنده از براى محاربه، و نه از براى علاوه كردن بسبب آنها در ملك و سلطنت و لشكر و رعيّت، و نه از براى تفاخر بكثرت از براى آن كسى كه شركت دارد با او در بعضى چيزها، و نه از براى ترس تنهائى كه بوده است از او سابقا پس خواسته كه انس بگيرد با مخلوقات بعد از اينها همه خداوند فانى ميكند آن مخلوقات را بعد از اين كه ايشان رابهستى در آورده نه از جهت اندوه و ملال كه وارد آمده بر او از جهت تصرّف كردن در آنها، و تغيير دادن از حالى بحالى و از جائى بجائى، و نه از جهت تحصيل راحت كه مى‏رسد باو از فانى شدن آنها، و نه از جهت سنگينى چيزى از آنها بر او، بملال نيانداخت او را بسيار ماندن آنها در دنيا تا اين كه وادار نمايد او را بشتابيدن بسوى نابود كردنشان، ولى خداوند سبحان تدبير كرد آنها را بلطف خود و نگه داشتشان بحكم خود، و محكم نمود آنها را بقدرت و توانائى خود.

پس از آن مى‏گرداند آنها را بسوى وجود بعد از عدم بدون اين كه حاجتى داشته باشد بسوى آنها، و بي اين كه يارى بجويد با چيزى از آنها بچيز ديگر از آنها، و نه از براى برگشتن از حال تنهائى و وحشت بحال انس گرفتن و الفت، و نه از حال نادانى و كورى بحالت دانائى و مسّ كردن چيزى كه خوشش بيايد، و نه از حال گدائى و پريشانى بحالت نيازمندى و دولت، و نه از حالت خوارى و پستى بسوى عزت و قدرت، بجهت اين كه اينها همه از اوصاف امكان و لوازم نقص است كه خدا از او منزّه است، و اللّه أعلم بحقيقة المقال.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 184 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 185 صبحی صالح

185- و من خطبة له ( عليه ‏السلام  ) يحمد اللّه فيها و يثني على رسوله و يصف خلقا من الحيوان‏

حمد اللّه تعالى‏

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا تُدْرِكُهُ الشَّوَاهِدُ وَ لَا تَحْوِيهِ الْمَشَاهِدُ وَ لَا تَرَاهُ النَّوَاظِرُ وَ لَا تَحْجُبُهُ السَّوَاتِرُ

الدَّالِّ عَلَى قِدَمِهِ بِحُدُوثِ خَلْقِهِ وَ بِحُدُوثِ خَلْقِهِ عَلَى وُجُودِهِ

وَ بِاشْتِبَاهِهِمْ عَلَى أَنْ لَا شَبَهَ لَهُ

الَّذِي صَدَقَ فِي مِيعَادِهِ وَ ارْتَفَعَ عَنْ ظُلْمِ عِبَادِهِ وَ قَامَ بِالْقِسْطِ فِي خَلْقِهِ وَ عَدَلَ عَلَيْهِمْ فِي حُكْمِهِ

مُسْتَشْهِدٌ بِحُدُوثِ الْأَشْيَاءِ عَلَى أَزَلِيَّتِهِ وَ بِمَا وَسَمَهَا بِهِ مِنَ الْعَجْزِ عَلَى قُدْرَتِهِ وَ بِمَا اضْطَرَّهَا إِلَيْهِ مِنَ الْفَنَاءِ عَلَى دَوَامِهِ

وَاحِدٌ لَا بِعَدَدٍ وَ دَائِمٌ لَا بِأَمَدٍ وَ قَائِمٌ لَا بِعَمَدٍ

تَتَلَقَّاهُ الْأَذْهَانُ لَا بِمُشَاعَرَةٍ وَ تَشْهَدُ لَهُ الْمَرَائِي لَا بِمُحَاضَرَةٍ

لَمْ تُحِطْ بِهِ الْأَوْهَامُ بَلْ تَجَلَّى لَهَا بِهَا وَ بِهَا امْتَنَعَ مِنْهَا وَ إِلَيْهَا حَاكَمَهَا

لَيْسَ بِذِي كِبَرٍ امْتَدَّتْ بِهِ النِّهَايَاتُ فَكَبَّرَتْهُ تَجْسِيماً وَ لَا بِذِي عِظَمٍ تَنَاهَتْ بِهِ الْغَايَاتُ فَعَظَّمَتْهُ تَجْسِيداً بَلْ كَبُرَ شَأْناً وَ عَظُمَ سُلْطَاناً

الرسول الأعظم‏

وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ الصَّفِيُّ وَ أَمِينُهُ الرَّضِيُّ ( صلى ‏الله‏ عليه‏ وآله  )

أَرْسَلَهُ بِوُجُوبِ الْحُجَجِ

وَ ظُهُورِ الْفَلَجِ وَ إِيضَاحِ الْمَنْهَجِ فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ صَادِعاً بِهَا وَ حَمَلَ عَلَى الْمَحَجَّةِ دَالًّا عَلَيْهَا وَ أَقَامَ أَعْلَامَ الِاهْتِدَاءِ وَ مَنَارَ الضِّيَاءِ وَ جَعَلَ أَمْرَاسَ الْإِسْلَامِ مَتِينَةً وَ عُرَى الْإِيمَانِ وَثِيقَةً

منها في صفة خلق أصناف من الحيوان‏

وَ لَوْ فَكَّرُوا فِي عَظِيمِ الْقُدْرَةِ وَ جَسِيمِ النِّعْمَةِ لَرَجَعُوا إِلَى الطَّرِيقِ وَ خَافُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ

وَ لَكِنِ الْقُلُوبُ عَلِيلَةٌ وَ الْبَصَائِرُ مَدْخُولَةٌ

أَ لَا يَنْظُرُونَ إِلَى صَغِيرِ مَا خَلَقَ كَيْفَ أَحْكَمَ خَلْقَهُ وَ أَتْقَنَ تَرْكِيبَهُ وَ فَلَقَ لَهُ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ سَوَّى لَهُ الْعَظْمَ وَ الْبَشَرَ

انْظُرُوا إِلَى النَّمْلَةِ فِي صِغَرِ جُثَّتِهَا وَ لَطَافَةِ هَيْئَتِهَا لَا تَكَادُ تُنَالُ بِلَحْظِ الْبَصَرِ وَ لَا بِمُسْتَدْرَكِ الْفِكَرِ كَيْفَ دَبَّتْ عَلَى أَرْضِهَا وَ صُبَّتْ عَلَى رِزْقِهَا تَنْقُلُ الْحَبَّةَ إِلَى جُحْرِهَا وَ تُعِدُّهَا فِي مُسْتَقَرِّهَا

تَجْمَعُ فِي حَرِّهَا لِبَرْدِهَا وَ فِي وِرْدِهَا لِصَدَرِهَا

مَكْفُولٌ بِرِزْقِهَا مَرْزُوقَةٌ بِوِفْقِهَا لَا يُغْفِلُهَا الْمَنَّانُ وَ لَا يَحْرِمُهَا الدَّيَّانُ وَ لَوْ فِي الصَّفَا الْيَابِسِ وَ الْحَجَرِ الْجَامِسِ

وَ لَوْ فَكَّرْتَ فِي مَجَارِي أَكْلِهَا فِي عُلْوِهَا وَ سُفْلِهَا وَ مَا فِي الْجَوْفِ مِنْ شَرَاسِيفِ بَطْنِهَا وَ مَا فِي الرَّأْسِ مِنْ عَيْنِهَا وَ أُذُنِهَا لَقَضَيْتَ مِنْ خَلْقِهَا عَجَباً وَ لَقِيتَ مِنْ وَصْفِهَا تَعَباً

فَتَعَالَى الَّذِي أَقَامَهَا عَلَى قَوَائِمِهَا وَ بَنَاهَا عَلَى دَعَائِمِهَا

لَمْ يَشْرَكْهُ فِي فِطْرَتِهَا فَاطِرٌ

وَ لَمْ يُعِنْهُ عَلَى خَلْقِهَا قَادِرٌ

وَ لَوْ ضَرَبْتَ فِي مَذَاهِبِ فِكْرِكَ لِتَبْلُغَ غَايَاتِهِ مَا دَلَّتْكَ الدَّلَالَةُ إِلَّا عَلَى أَنَّ فَاطِرَ النَّمْلَةِ هُوَ فَاطِرُ النَّخْلَةِ

لِدَقِيقِ تَفْصِيلِ كُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ غَامِضِ اخْتِلَافِ كُلِّ حَيٍّ

وَ مَا الْجَلِيلُ وَ اللَّطِيفُ وَ الثَّقِيلُ وَ الْخَفِيفُ وَ الْقَوِيُّ وَ الضَّعِيفُ فِي خَلْقِهِ إِلَّا سَوَاءٌ

خلقة السماء و الكون‏

وَ كَذَلِكَ السَّمَاءُ وَ الْهَوَاءُ وَ الرِّيَاحُ وَ الْمَاءُ

فَانْظُرْ إِلَى الشَّمْسِ وَ الْقَمَرِ وَ النَّبَاتِ وَ الشَّجَرِ وَ الْمَاءِ وَ الْحَجَرِ وَ اخْتِلَافِ هَذَا اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ وَ تَفَجُّرِ هَذِهِ الْبِحَارِ وَ كَثْرَةِ هَذِهِ الْجِبَالِ وَ طُولِ هَذِهِ الْقِلَالِ وَ تَفَرُّقِ هَذِهِ اللُّغَاتِ وَ الْأَلْسُنِ الْمُخْتَلِفَاتِ

فَالْوَيْلُ لِمَنْ أَنْكَرَ الْمُقَدِّرَ وَ جَحَدَ الْمُدَبِّرَ

زَعَمُوا أَنَّهُمْ كَالنَّبَاتِ مَا لَهُمْ زَارِعٌ وَ لَا لِاخْتِلَافِ صُوَرِهِمْ صَانِعٌ

وَ لَمْ يَلْجَئُوا إِلَى حُجَّةٍ فِيمَا ادَّعَوْا وَ لَا تَحْقِيقٍ لِمَا أَوْعَوْا وَ هَلْ يَكُونُ بِنَاءٌ مِنْ غَيْرِ بَانٍ أَوْ جِنَايَةٌ مِنْ غَيْرِ جَانٍ

خلقة الجرادة

وَ إِنْ شِئْتَ قُلْتَ فِي الْجَرَادَةِ إِذْ خَلَقَ لَهَا عَيْنَيْنِ حَمْرَاوَيْنِ وَ أَسْرَجَ لَهَا حَدَقَتَيْنِ قَمْرَاوَيْنِ وَ جَعَلَ لَهَا السَّمْعَ الْخَفِيَّ وَ فَتَحَ لَهَا الْفَمَ السَّوِيَّ وَ جَعَلَ لَهَا الْحِسَّ الْقَوِيَّ وَ نَابَيْنِ بِهِمَا تَقْرِضُ وَ مِنْجَلَيْنِ بِهِمَا تَقْبِضُ

يَرْهَبُهَا الزُّرَّاعُ فِي زَرْعِهِمْ وَ لَا يَسْتَطِيعُونَ ذَبَّهَا

وَ لَوْ أَجْلَبُوا بِجَمْعِهِمْ حَتَّى تَرِدَ الْحَرْثَ فِي نَزَوَاتِهَا وَ تَقْضِيَ مِنْهُ شَهَوَاتِهَا

وَ خَلْقُهَا كُلُّهُ لَا يُكَوِّنُ إِصْبَعاً مُسْتَدِقَّةً

فَتَبَارَكَ اللَّهُ الَّذِي يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاًوَ يُعَفِّرُ لَهُ خَدّاً وَ وَجْهاً

وَ يُلْقِي إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ سِلْماً وَ ضَعْفاً وَ يُعْطِي لَهُ الْقِيَادَ رَهْبَةً وَ خَوْفاً

فَالطَّيْرُ مُسَخَّرَةٌ لِأَمْرِهِ أَحْصَى عَدَدَ الرِّيشِ مِنْهَا وَ النَّفَسِ وَ أَرْسَى قَوَائِمَهَا عَلَى النَّدَى وَ الْيَبَسِ

وَ قَدَّرَ أَقْوَاتَهَا وَ أَحْصَى أَجْنَاسَهَا

فَهَذَا غُرَابٌ وَ هَذَا عُقَابٌ وَ هَذَا حَمَامٌ وَ هَذَا نَعَامٌ

دَعَا كُلَّ طَائِرٍ بِاسْمِهِ وَ كَفَلَ لَهُ بِرِزْقِهِ

وَ أَنْشَأَ السَّحَابَ الثِّقَالَ فَأَهْطَلَ دِيَمَهَا وَ عَدَّدَ قِسَمَهَا

فَبَلَّ الْأَرْضَ بَعْدَ جُفُوفِهَا وَ أَخْرَجَ نَبْتَهَا بَعْدَ جُدُوبِهَا

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج11  

الجزء الحادي عشر
تتمة باب المختار من خطب أمير المؤمنين ع و أوامره
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
و من خطبة له عليه السّلام و هي المأة و الرابعة و الثمانون من المختار في باب الخطب
و رواها الطبرسي في الاحتجاج مثله.
الحمد للّه الّذي لا تدركه الشّواهد، و لا تحويه المشاهد، و لا تراه النّواظر، و لا تحجبه السّواتر، الدّالّ على قدمه بحدوث خلقه، و بحدوث خلقه على وجوده، و باشتباههم على أن لا شبه له، الّذي صدق في ميعاده، و ارتفع عن ظلم عباده، و قام بالقسط في خلقه، و عدل عليهم في حكمه، مستشهد بحدوث الأشياء على أزليّته، و بما وسمها به من العجز على قدرته، و بما اضطرّها إليه من الفناء على دوامه، واحد لا بعدد، و دائم لا بأمد، و قائم لا بعمد، تتلقّاه الأذهان لا بمشاعرة، و تشهد له المرائي لا بمحاضرة، لم تحط به الأوهام بل‏ تجلّى لها بها، و بها امتنع منها، و إليها حاكمها، ليس بذي كبر امتدّت به النّهايات فكبّرته تجسيما، و لا بذي عظم تناهت به الغايات فعظّمته تجسيدا، بل كبر شأنا، و عظم سلطانا.

و أشهد أنّ محمّدا عبده و رسوله الصّفيّ، و أمينه الرّضيّ- صلّى اللّه عليه و آله- أرسله بوجوب الحجج، و ظهور الفلج، و ايضاح المنهج، فبلّغ الرّسالة صادعا بها، و حمل على المحجّة دالّا عليها، و أقام أعلام الاهتداء، و منار الضّياء، و جعل أمراس الإسلام متينة، و عرى الإيمان وثيقة. منها- في صفة خلق اصناف من الحيوان و لو فكّروا في عظيم القدرة، و جسيم النّعمة، لرجعوا إلى الطّريق، و خافوا عذاب الحريق، و لكنّ القلوب عليلة، و الأبصار «و البصائر خ» مدخولة، ألا ينظرون إلى صغير ما خلق كيف أحكم خلقه، و أتقن تركيبه، و فلق له السّمع و البصر، و سوّى له العظم و البشر. أنظروا إلى النّملة في صغر جثّتها، و لطافة هيئتها، لا تكاد تنال بلحظ البصر، و لا بمستدرك الفكر، كيف دبّت على أرضها، و صبّت على رزقها، تنقل الحبّة إلى جحرها، و تعدّها في مستقرّها، تجمع في حرّها لبردها، و في ورودها لصدرها، مكفولة برزقها، مرزوقةبوفقها، لا يغفلها المنان، و لا يحرمها الدّيّان، و لو في الصّفا اليابس، و الحجر الجامس.

و لو فكّرت في مجاري أكلها، و في علوها و سفلها، و ما في الجوف من شراسيف بطنها، و ما في الرّأس من عينها و أذنها، لقضيت من خلقها عجبا، و لقيت من وصفها تعبا، فتعالى الّذي أقامها على قوائمها، و بناها على دعائمها، لم يشركه في فطرتها فاطر، و لم يعنه في خلقها قادر، و لو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلّتك الدّلالة إلّا على أنّ فاطر النّملة هو فاطر النّخلة، لدقيق تفصيل كلّشي‏ء و غامض اختلاف كلّ حيّ، و ما الجليل و اللّطيف، و الثّقيل و الخفيف، و القويّ و الضّعيف، في خلقه إلّا سواء، و كذلك السّماء و الهواء و الرّياح و الماء. فانظر إلى الشّمس و القمر، و النّبات و الشّجر، و الماء و الحجر، و اختلاف هذا اللّيل و النّهار، و تفجّر هذه البحار، و كثرة هذه الجبال، و طول هذه القلال، و تفرّق هذه اللّغات، و الألسن المختلفات. فالويل لمن جحد المقدّر، و أنكر المدبّر، يزعمون «زعموا خ» أنّهم كالنّبات ما لهم زارع، و لا لاختلاف صورهم صانع، و لم يلجئوا إلى حجّة فيماادّعوا، و لا تحقيق لما أوعوا، و هل يكون بناء من غير بان، أو جناية من غير جان. و إن شئت قلت في الجرادة إذ خلق لها عينين حمراوين، و أسرج لها حدقتين قمراوين، و جعل لها السّمع الخفيّ، و فتح لها الفم السّويّ، و جعل لها الحسّ القويّ، و نابين بهما تقرض، و منجلين بهما تقبض، يرهبها الزّرّاع في زرعهم، و لا يستطيعون ذبّها و لو أجلبوا بجمعهم، حتّى ترد الحرث في نزواتها، و تقضي منه شهواتها، و خلقها كلّه لا يكون إصبعا مستدقّة. فتبارك اللّه الّذي يسجد له من في السّموات و الأرض طوعا و كرها و يعفّر له خدّا و وجها، و يلقي إليه بالطّاعة سلما و ضعفا، و يعطي له القياد رهبة و خوفا، فالطّير مسخّرة لأمره، أحصى عدد الرّيش منها و النّفس، و أرسى قوائمها على النّدى و اليبس، و قدّر أقواتها، و أحصى أجناسها، فهذا غراب، و هذا عقاب، و هذا حمام، و هذا نعام، دعا كلّ طائر باسمه، و كفل له برزقه، و أنشأ السّحاب الثّقال فأهطل ديمها، و عدّد قسمها، فبلّ الأرض بعد جفوفها، و أخرج نبتها بعد جدوبها.

اللغة

(العمد) بالتحريك جمع العمود و (المرائي) جمع المرئي كمرمي و هو ما يدرك بالبصر أو جمع مرآة بفتح الميم يقال فلان حسن في مرآة عينى قاله الشارح المعتزلي، و سيأتي ما فيه و (تجسيما و تجسيدا) مصدران من باب التفعيل و في بعض النسخ من باب التفعل، و يفرق بين الجسم و الجسد بأنّ الجسم يكون جيوانا و جمادا و نباتا، و الجسد مختصّ بجسم الانس و الجنّ و الملائكة و يطلق على غير ذوى العقول و قوله تعالى: «عِجْلًا جَسَداً» أي ذا جثّة على التشبيه بالعاقل أو بجسمه.

و (فلجت) فلجا و فلوجا ظفرت بما طلبت و فلج بحجّته أثبتها و أفلج اللّه حجّته بالألف أظهرها قال الشارح المعتزلي: الفلج النصرة و أصله سكون العين و إنما حرّكه ليوازن بين الألفاظ لأنّ الماضي منه فلج الرّجل على خصمه بالفتح و مصدره الفلج بالسّكون.
و (الأمراس) الحبال جمع المرس و هو جمع المرسة بالتحريك الحبل و (البشر) جمع البشرة مثل قصب و قصبة ظاهر الجلد و (النملة) واحدة النمل و (جثّة) الانسان شخصه.

و (استدرك) الشي‏ء و إدراكه بمعنى و استدركت ما فات و تداركته بمعنى و استدركت الشي‏ء أى حاولت إدراكه به، و مستدرك الفكر يحتمل أن يكون مصدرا بمعنى الادراك و أن يكون اسم مفعول و (الفكر) و زان عنب جمع فكرة بالكسر و هو اعمال النظر و قيل اسم من الافتكار و في بعض النسخ الفكر بسكون العين.

و (صبّت) على البناء للمفعول من صبّ الماء أراقه، و في بعض النّسخ بالضاد المعجمة و النون على بناء المعلوم أى بخلت و (الجحر) بالضمّ الحفرة التي تحتفرها الهوام و السّباع لأنفسها (و في ورودها لصدرها) الورود في الأصل الاشراف على الماء للشرب ثمّ اطلق على مطلق الاشراف على الشي‏ء دخله أو لم يدخله كالورود و الصدر بالتحريك اسم من صدر صدرا و مصدار أى رجع، و في نسخة الشارح البحراني في وردها لصدرها.

و (كفل) كفالة من باب نصر و علم و شرف ضمن و كفلته و به و عنه إذا تحملت به و (المنان) من المن بمعنى العطاء لا من المنّة و (الدّيان) الحاكم و القاضي و قيل القهار، و قيل السائس أى القائم على الشي‏ء بما يصلحه و (الصفا) بالقصر الحجر و قيل الحجر الصّلبة الضخم لا ينبت شيئا و الواحدة صفاة و (الجامس) الجامد و قيل أكثر ما يستعمل في الماء جمد و في السمن و غيره جمس.

و (اكلها) بالضمّ فى بعض النسخ و في بعضها بضمتين المأكول و (علوها) و (سفلها) بالضمّ فيهما في بعض النسخ و بالكسر في بعضها و (الشراسيف) مقاط الاضلاع و هي أطرافها التي تشرف على البطن، و قيل الشرسوف كعصفور غضروف معلّق بكلّ ضلع مثل غضروف الكتف و (الاذن) بالضمّ و بضمّتين على اختلاف النسخ و (العجب) التعجّب أو التّعجب الكامل و (الضرب في الأرض) السيّر فيها أو الاسراع به و (الدلالة) بالكسر و الفتح اسم من دلّه إلى الشي‏ء، و عليه أي أرشده و سدّده و (الغامض) خلاف الواضح و (القلال) و زان جبال جمع قلّة بالضمّ و هى أعلى الجبل، و قيل الجبل.

و (وعا) الشي‏ء و أوعاه حفظه و جمعه، و في بعض النسخ وعوه على المجرّد بدل أوعوه و (جنا) فلان جناية بالكسر أى جرّ جريرة على نفسه و قومه، و جنيت الثمرة و اجتنيتها اقتطفتها و اسم الفاعل منهما جان إلّا أنّ المصدر من الثاني جنى لا جناية و (الناب) من الأسنان خلف الرباعية و (المنجل) و زان منبر حديدة يقضب بها الزرع و (نزا) كدعا نزوا وثب و (العفر) بالتحريك و قد يسكن وجه الأرض و يطلق على التراب و عفّره تعفيرا مرغه فيه.

و (السّلم) بالكسر كما في بعض النسخ الصّلح و المسالم، و بالتحريك كما في بعضها الاستسلام و الانقياد و (القياد) بالكسر ما يقاد به و اعطاء القياد الانقياد و (اليبس) بالتحريك ضدّ الرطوبة و طريق يبس لانداوة فيه و لا بلل و (الحمام) بالفتح كلّ ذى طوق من الفواخت و القمارى و غيرهما و الحمامة تقع على الذكر و الأنثى كالحيّة.

و (النعام) بالفتح اسم جنس النعامة و (الهطل) بالفتح تتابع المطر أو الدّمع و سيلانه و قيل تتابع المطر المتفرّق العظيم القطر و (الديمة) بالكسر مطر يدوم في سكون بلا رعد و برق و الجمع ديم كعنب و (البلّة) بالكسر ضد الجفاف بالفتح و (الجدوب) بالضمّ انقطاع المطر و يبس الأرض.

الاعراب

بل في قوله بل تجلّى للاضراب، و الباء في بها للسببيّة، و تجسيما و تجسيدا منصوبان على الحال، و الباء في قوله بوجوب الحجج تحتمل المصاحبة و السببيّة، و جملة لا تكاد تنال حال من النملة و العامل انظروا، و قوله: كيف دبّت، في محلّ الجرّ بدل من النملة أو كلام مستأنف و الاستفهام للتّعجّب.

و مكفولة برزقها و مرزوقة بوفقها بالرفع في أكثر النسخ خبران لمبتدأ محذوف قال الشارح البحراني نصب على الحال و في بعض النسخ رزقها و وفقها بدون الباء، و عجبا مفعول به لقضيت قال الشارح البحراني: و يحتمل المفعول له على كون القضاء بمعنى الموت و هو بعيد.

و قوله: فالويل لمن جحد المقدّر، جملة اخبارية أو إنشائية دعائية قال سيبويه: الويل مشترك بين الدّعاء و الخبر، و الواو في قوله: و خلقها، للحال، و الفاء في قوله: فتبارك، فصيحة، و طوعا و كرها منصوبان على الحال، و خدا و وجها منصوبان على المفعول به، و سلما و ضعفا منصوبان على الحال أو التميز، و رهبة و خوفا منصوبان على المفعول لأجله.

المعنى

اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة مشتملة على مطالب نفيسة من العلم الالهى و مقاصد لطيفة من آثار قدرته، و بدايع تدبيره و حكمته في مصنوعاته، و افتتحها بما هو حقيق بالافتتاح فقال: (الحمد للّه الذي لا تدركه الشواهد) أراد بالشواهد الحواسّ و تسميتها بهاإمّا لحضورها من شهد فلان بكذا إذا حضره، أو لشهادتها عند العقل على ما تدركه و تثبته، و عدم امكان إدراكها له سبحانه لانحصار مدركاتها في المحسوسات و اختصاص معلوماتها بالأجسام و الجسمانيات، و هو سبحانه منزّه عن ذلك حسبما عرفته في شرح الفصل الثاني من المختار الأوّل و غيره.

و لا تحويه المشاهد أي المجالس و الأمكنة، لأنّ حواية المجلس و المكان من صفات الامكان كما مرّ في شرح الفصل الخامس من المختار الأول و غيره.
و لا تراه النواظر أي نواظر الأبصار و تخصيصها بالذكر مع شمول الشواهد لقوّتها و وقوع الشبهة في أذهان أكثر الجاهلين في جواز إدراكه تعالى بها كما هو مذهب المجسمة و المشبهة و الكرامية و الأشاعرة المجوّزين للرّؤية، و قد عرفت فساد قولهم في شرح المختار التاسع و الأربعين، و المختار المأة و الثامن و السبعين و غيرهما.

و لا تحجبه السواتر لأنّ المحجوبيّة بالسواتر الجسمانية من أوصاف الأجسام و عوارضها حسبما عرفت تحقيقه في شرح المختار المأة و الثاني و الخمسين الدالّ على قدمه بحدوث خلقه، و بحدوث خلقه على وجوده) يعني أنّ حدوث خلقه دليل على وجوده و قدمه معا، و قد مرّ تحقيقه أيضا في شرح المختار المأة و الثاني و الخمسين و المختار التاسع و الأربعين و باشتباههم على أن لا شبه له) أي بابدائه المشابهة بين الموجودات دلّ على أن لا شبه له و لا نظير، و قد مرّ تحقيقة أيضا في شرح المختار الّذي أشرنا إليه.

الّذي صدق في ميعاده) أي في وعده لأنّ الخلف في الوعد كذب قبيح محال عليه سبحانه كما قال عزّ من قائل: «إنّ اللّه لا يخلف الميعاد» و استدلّ على عدم جواز الكذب عليه بأنّه إذا جاز وقوع الكذب في كلامه ارتفع الوثوق عن اخباره بالثواب و العقاب و الوعد و الوعيد و ساير ما أخبر به من أخبار الاخرة و الأولى، و في ذلك تفويت مصالح لا تحصى و هو سبحانه حكيم لا يفوت عنه الأصلح بنظام العالم، فعلم من ذلك عدم جواز الخلف في وعده و وعيده.
و) بذلك أيضا علم أنّه تعالى ارتفع عن ظلم عباده) لكون الظلم قبيحاعقلا و نقلا. يعني أنّه سبحانه منزه عن حال ملوك الأرض الذين من شأنهم ظلم رعيتهم إذا شاهدوا انّ في ظلمهم منفعة لهم، و في ترك الظلم مضرّة، فيظلمون من تحت ملكهم نيلا إلى تلك المنفعة، و دفعا لتلك المضرّة، و تحصيلا لذلك الكمال الحقيقي أو الوهمي، و اللّه سبحانه كامل في ذاته غير مستكمل بغيره.

و قام بالقسط) و العدل في خلقه و عدل عليهم في حكمه) يعني أنّه سبحانه خلقهم و أوجدهم على وفق الحكمة و مقتضى النظام و المصلحة و أجرى فيهم الأحكام التكوينيّة و التكليفيّة على مقتضى عدله و قسطه قال تعالى «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ». قال لطبرسيّ: أي أخبر بما يقوم مقام الشهادة على وحدانيته من عجيب حكمته و بديع صنعته، و شهدت الملائكة بما عاينت من عظيم قدرته و شهد أولوا العلم بما ثبت عندهم و تبيّن من صنعه الّذي لا يقدر عليه غيره.

قال: و روي عن الحسن أنّ في الاية تقديما و تأخيرا و التقدير شهد اللّه أنّه لا إله إلّا هو قائما بالقسط، و شهدت الملائكة أنّه لا إله إلّا هو قائما بالقسط، و شهد أولو العلم أنّه لا إله إلّا هو قائما بالقسط، و القسط العدل الّذي قامت به السّماوات و الأرض، و رواه أصحابنا أيضا في التفسير، و قيل: معنى قوله قائما بالقسط أنّه يقوم باجراء الأمور و تدابير الخلق و جزاء الأعمال بالعدل كما يقال: فلان قائم بالتدبير أي يجري في أفعاله على الاستقامة.
مستشهد بحدوث الأشياء على أزليّته) أى مستدلّ بحدوثها على قدمه سبحانه و قد عرفت وجه الدلالة في شرح المختار المأة و الثاني و الخمسين.

و قال العلّامة المجلسي (ره) الاستشهاد طلب الشهادة أي طلب من العقول بما بين لها من حدوث الأشياء الشهادة على أزليّته أو من الأشياء أنفسها بأن جعلها حادثة، فهى بلسان حدوثها تشهد على أزليّته، و المعنى على التقديرين أنّ العقل يحكم بأنّ كلّ حادث يحتاج إلى موجد و أنّه لا بدّ أن تنتهى سلسلة الاحتياج الى من لا يحتاج إلى موجد، فيحكم بأنّ علّة العلل لا بدّ أن يكون أزليّا و إلّا لكان‏محتاجا إلى موجد آخر بحكم المقدّمة الأولى.

و بما وسمها به من العجز على قدرته) يعني أنّه استشهد على قدرته بالعجز الذي وسم و وصف به خلقه، و وجه شهادته عليها أنّا نرى أنّ غيره تعالى لا يقدر على ما يقدر عليه هو جلّ و علا من الموجودات بل لا يقدر على شي‏ء أصلا و لا يملك لنفسه موتا و لا حياتا و لا نشورا، فضلا عن غيره، و لا يتمكّن من أن يخلق ذبابا فضلا عما هو أعظم منه، فعلم بذلك أنّ الموجودات على كثرتها و عظمتها لا بدّ من انتهاء وجوداتها على من هو قادر عليها كلّها بالايجاد و الاعدام و التصريف و التقليب قال تعالى «أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ» و قال العلّامة المجلسي (ره) في تفسير هذه الفقرة: الوسم الكى شبّه ما اظهر عليها من آثار العجز و الامكان و الاحتياج بالسمة الّتي تكون على العبيد و النعم و تدلّ على كونها مقهورة مملوكة.

و قال الصّدوق (ره) الدليل على أنّ اللّه قادر أنّ العالم لما ثبت أنّه صنع لصانع و لم نجد أن يصنع الشي‏ء من ليس بقادر عليه بدلالة أنّ المقعد لا يقع منه المشى و العاجز لا يتأتّي منه الفعل صحّ أنّ الذي صنعه قادر، و لو جاز غير ذلك لجاز منّا الطيران مع فقد ما يكون به من الالة و يصحّ لنا الادراك و ان عدمنا الحاسّة فلما كان اجازة هذا خروجا عن المعقول كان الأوّل مثله.

و بما اضطرّها اليه من الفناء على دوامه) المراد من اضطرارها الى الفناء حكم قدرته القاهرة على ما استعدّ منها للعدم بافنائه حين استعداده بحكم قضائه المبرم، و دلالة ذلك على دوامه سبحانه أنّ الفناء لما كان دليلا على الحدوث و الامكان دلّ فناؤها على أنّ صانعها ليس كذلك و أنّه أزليّ أبديّ سرمديّ.
واحد لا بعدد) يعني أنّ وحدته ليست وحدة عددية بأن يكون معه ثان من جنسه، و قد مرّ تحقيق ذلك مستوفي في شرح المختار الرابع و الستّين.

قال الصّدوق «ره» في التوحيد في تفسير أسماء اللّه الحسنى: الأحد الواحد الأحد معناه أنّه واحد في ذاته أى ليس بذى ابعاض و لا أجزاء و لا أعضاء، و لا يجوزعليه الاعداد و الاختلاف لأنّ اختلاف الأشياء من آيات وحدانيّته ممّا دلّ به على نفسه و يقال لم يزل اللّه واحدا، و معنى ثان أنه واحد لا نظير له و لا يشاركه في معنى الوحدانية غيره، لأنّ كلّ من كان له نظراء أو أشباه لم يكن واحدا في الحقيقة و يقال فلان واحد الناس أى لا نظير له فيما يوصف به، و اللّه واحد لا من عدد لأنّه عزّ و جلّ لا يعدّ في الأجناس و لكنه واحد ليس له نظير.

(دائم لا بأمد) قال الشارح البحراني قد سبق بيان أنّ كونه دائما بمعنى أنّ وجوده مساوق لوجود الزمان، إذ كان تعالى هو موجد الزمان بعد مراتب من خلقه و مساوقة الزمان لا يقتضى الكون في الزمان، و لما كان الأمد هو الغاية من الزمان و منتهى المدّة المضروبة لذي الزمان من زمانه، و ثبت أنّه تعالى ليس بذى زمان يفرض له الأمد ثبت أنّه دائم لا أمد له.

و قال الصّدوق (ره) الدائم الباقي الذي لا يبيد و لا يفنى.
(قائم لا بعمد) أي ليس قيامه قياما جسمانيا يكون بالعمد البدنيّة أو بالاعتماد على الساقين، أو أنّه قائم باق من غير استناد الى سبب يعتمد عليه و يقيمه كساير الوجودات الممكنة.
و في حديث الرّضا عليه السّلام المروي في الكافي عنه عليه السّلام مرسلا قال: و هو قائم ليس على معنى انتصاب و قيام على ساق في كبد كما قامت الأشياء، و لكن قائم يخبر أنّه حافظ كقول الرّجل القائم بأمرنا فلان و اللّه هو القائم على كلّ نفس بما كسبت و القائم أيضا في كلام النّاس الباقي، و القائم أيضا يخبر عن الكفاية كقولك للرجل قم بأمر بني فلان، أي اكفهم و القائم منّا قائم على ساق فقد جمعنا الاسم و لم يجمع المعنى الحديث.

قال صدر المتألّهين في شرح الكافي: قوله عليه السّلام: و هو قائم ليس على معنى انتصاب، يعني أنّ من الأسماء المشتركة بين الخالق و الخلق اسم القائم لكن في كلّ منهما بمعنى آخر، فإنّ القائم من الأجسام ما ينتصب على ساق كما نحن ننتصب عند القيام بأمر على سوقنا في كبد و مشقّة، و أمّا الباري جلّ مجده فاسم القيام فيه يخبر بأنه‏حافظ للأشياء مقوم لوجودها و لا يؤده حفظهما و أنّه القائم على كلّ نفس بما كسبت فاختلف المعنى و اتّحد الاسم.

و قد يطلق القائم في كلام الناس بمعنى الباقي و هو أيضا معناه مختلف فمعنى الباقي في الخلق ما يوجد في زمان بعد زمان حدوثه، و أما في حقّه تعالى فليس بهذا المعنى لارتفاعه عن مطابقة الزمان، بل بقاؤه عبارة عن وجوب وجوده و امتناع العدم عليه بالذات و بقاؤه نفس ذاته.

و القائم قد يجي‏ء بما يخبر عن الكفاية كما يقال: قم بأمر بني فلان أى اكفه و لا شكّ أنّ هذا المعنى فيه تعالى على وجه أعلى و أشرف، بل لا نسبة بين كفايته للخلق كافّة لا بالة و قوّة و تعمل و تكلّف، و بين كفاية الخلق بعضهم لبعض بتعب و مشقة فقد اتّفق الاسم و اختلف المعنى.

(تتلقّاه الأذهان لا بمشاعرة) أى لا من طريق المشاعر و الحواس، و المراد بتلقّى الأذهان له تقبّلها، أي إدراكها لما يمكن لها إدراكه من صفاته السّلبيّة و الاضافية لا تلقّى ذاته، لما عرفت مرارا من عجز العقول و الأوهام و الأذهان و الأفهام عن تعقّل ذاته.
(و تشهد له المرائي لا بمحاضرة) يعني تشهد له المرئيات و المبصرات و تدلّ على وجوده و صفات كماله حسبما عرفته في شرح المختار التاسع و الأربعين.
و لما كان بناء الشهادة غالبا على حضور الشاهد عند المشهود به كما يشعر به تصاريف تلك المادّة مثل قوله سبحانه «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى‏ سَفَرٍ» الاية أي من كان حاضرا غير مسافر فليصمه، و قولهم: الشاهد يرى ما لا يراه الغايب، و شهدت مجلس فلان أى حضرته، و سمّى الشهيد شهيدا لحضور ملائكة الرّحمة عنده فعيل بمعنى المفعول إلى غير ذلك من تصاريفها، و كان قوله تشهد له المرائي موهما لكون شهادتها بعنوان الحضور.
استدرك بقوله: لا بمحاضرة، من باب الاحتراس دفعا للتوهّم المذكور، يعني أنّ شهادتها ليست بعنوان الحضور كما في ساير الشهود، بل المراد من شهادتهادلالتها عليه من باب دلالة الأثر على المؤثر و الفعل على الفاعل.

هذا كلّه على كون المرائي جمع المرئي و هو الشي‏ء المدرك بالبصر قال الشارح المعتزلي: و الأولى أن يكون المرائي ههنا جمع مرآة بفتح الميم من قولهم هو حسن في مرآة عيني يقول إن جنس الرّؤية يشهد بوجود الباري من غير محاضرة منه للحواس انتهى.

و تبعه العلّامة المجلسي (ره) في البحار و كذا الشارح البحراني قال: و المرائي جمع مرآة بفتح الميم و هي المنظر يقال فلان حسن في مرآة العين و في رأى العين أي المنظر انتهى إلّا أنّه جعل المرائي بمعنى النواظر.
أقول: و يتوجّه عليهم أولا أنّ كون المرائي جمعا للمرآة لم يثبت من أهل اللّغة.

و ثانيا سلمنا لكن لا بدّ من جعل المرآة الّتي هي مفردها اسم مكان بمعنى محلّ الرّؤية حتّى يصحّ بناء الجمع منها إذ لو جعلناها مصدرا بمعنى نفس الرّؤية كما هو ظاهر كلام الأولين لا يصحّ أن يبنى منها جمعا، كما أنّ المناظر التي هي جمع المنظر يراد بها محال النظر، و فسرها في القاموس باشراف الأرض.

و الحاصل أنّ المرآة التي هي واحدة المرائي على زعمهم بمعنى المنظر فان جعلناها مصدرا لا يصحّ أن يبنى منها جمع. و إن جعلناها اسما للمكان فيصحّ بناؤه منها إلّا أنّه لا وجه حينئذ للحكم بكون المرائي جمعا لها أولى كونها جمعا للمرئي إذ لا تفاوت بينهما في المعنى كما لا يخفى.

و أمّا الشارح البحراني فلا يفهم وجه تفسير المرائي بالنواظر بعد تفسير المرآة بمعنى المنظر إلّا ان يقال إنّ مراده بالمرائي محالّ النظر أى الابصار فيصحّ التعبير عنها بالنواظر و المناظر كليهما فتأمل جيّدا.
(لم تحط به الأوهام بل تجلّى لها بها و بها امتنع منها و إليها حاكمها) قال الشارح المعتزلي: الأوهام ههنا هي العقول يقول: إنّه سبحانه لم تحط به العقول أى لم تتصوّر كنه ذاته، و لكنه تجلّى للعقول بالعقول، و تجلّيه ههنا هو كشف مايمكن أن تصل إليه العقول من صفاته السّلبيّة و الاضافية و كشف ما يمكن أن تصل إليه العقول من أسرار مخلوقاته، فأما غير ذلك فلا.

و قوله: و بالعقول امتنع من العقول، أى و بالعقول و بالنظر علمنا أنّه تعالى يمتنع أن تدركه العقول.
و قوله: و إلى العقول حاكم العقول أى جعل العقول المدّعية أنها أحاطت به و أدركته كالخصم له سبحانه ثمّ حاكمها إلى العقول السّليمة الصحيحة النظر فحكمت له سبحانه على العقول المدّعية لما ليست أهلا له انتهى.
و قيل: يحتمل أن يكون أحد الضميرين في كلّ من الفقرات الثلاث راجعا إلى الأوهام، و الاخر إلى الأذهان فيكون ان بالأوهام و خلقه تعالى لها و أحكامها أو بادراك الأوهام آثار صنعته و حكمته تجلّى للعقول، و بالعقول و حكمها بأنه تعالى لا يدرك بالأوهام امتنع من الأوهام، و إلى العقول حاكم الأوهام لو ادّعت معرفته حتّى تحكم العقول بعجزها عن ادراك جلال هذا.

و يجوز أن يراد بالأوهام الأعمّ منها و من العقول و اطلاقه على هذا المعنى شايع، فالمراد تجلّى اللّه لبعض الأوهام أى العقول ببعض الحواس و هكذا على سياق ما مرّ.
(ليس بذى كبر امتدّت به النهايات فكبرته تجسيما) الكبير يطلق على معان: أحدها العظيم الحجم و المقدار و الكبير في الطول و العرض و السّمك الثاني العالي السنّ من الحيوان الثالث رفيع القدر و عظيم الشأن.

إذا عرفت ذلك نقول: إنّ اطلاق الكبير على اللّه سبحانه و وصفه به كما ورد في الكتاب العزيز ليس باعتبار المعنى الأوّل و الثاني، لأنّ الكبير بهذين المعنيين من عوارض الأجسام و الأحجام، فلا بدّ أن يراد به حيثما يطلق عليه المعنى الثالث و هو معنى قوله عليه السّلام ليس بذي كبراه يعني أنّه موصوف بالكبر و لكن لا بالمعنى الموجود في الأجسام بأن يكون ممتدّا طولا و عرضا و عمقا، و إنّما اسند الامتداد به الى النهايات لأنّها غاية الطبيعة بالامتداد يقف عندها و ينتهى بها، فكانت من‏الأسباب الغائية، فلذلك اسند إليها، و كذلك اسناد التكبر اليها اذ كان التكبير من لوازم الامتداد اليها، فمعنى قوله: فكبّرته تجسيما أنّه كبّرته النهايات مجسّمة له أو حالكونه سبحانه مجسما.

روى في الكافي عن ابن محبوب عمّن ذكره عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رجل عنده: اللّه أكبر، فقال عليه السّلام: اللّه أكبر من أيّ شي‏ء فقال: من كلّ شي‏ء فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: حددته، فقال الرجل: كيف أقول قال عليه السّلام: قل: اللّه أكبر من أن يوصف.

قال بعض شراح الكافي: لما كان الأكبر من أسماء التفضيل كالأعظم و الأطول و الأعلم و نحوها، و الموصوف بها من جنس ما يفضل عليه فيهما، فانك اذا قلت هذا أطول من ذلك أنه وجد لهذا مثل الذي في ذلك من الطول مع زيادة، و كان الحق بحيث لا مجانس له في ذاته و صفاته، فلم يجز اطلاق الأكبر عليه بالمعنى الذى يفهمه الناس من ظاهر اللفظ، اذ الكبر و الصغر من صفات الجسمانيات و لا ينبغي أيضا أن يكون المفضل عليه شيئا خاصا أو عاما كما يقال: اللّه أكبر من العرش أو من العقل أو من كلّ شي‏ء، لأنّه يوجب التحديد و التجنيس كما علمت، فلذلك أفاد عليه السّلام أن معنى اللّه أكبر أنّه أكبر من أن يوصف لئلا يلزم التحديد.

(و لا بذى عظم تناهت به الغايات فعظمته تجسيدا) و معناها كسابقتها، يعني أنّ اتصافه بالعظمة و اطلاق العظيم عليه في القرآن الكريم و غيره ليس بالمعنى المتبادر إلى الأفهام المتصوّر في الأجسام أعنى العظم في القطر و الجسد، بل المراد أنّه عظيم السلطان رفيع الشأن.

و هو معنى قوله عليه السّلام في حديث ذعلب المتقدّم روايته عن الكافي في شرح المختار المأة و الثامن و السّبعين: و يلك يا ذعلب انّ ربّي لطيف اللطافة لا يوصف باللّطف عظيم العظمة لا يوصف بالعظم كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ.

و الى ما ذكرناه أشار هنا بقوله (بل كبر شأنا و عظم سلطانا) أي كبره من حيث الشأن، و عظمته من حيث السّلطنة.
و لما فرغ من حمد اللّه سبحانه و ثنائه و أوصاف جلاله و كبريائه أردفه بالشهادة بالرسالة التي هى مبدء لكمال القوّة العملية من النفوس البشرية بعد كمال قوّتها النظريّة بما تقدّم فقال: (و أشهد أنّ محمدا عبده و رسوله الصّفىّ) أى الصافي الخالص في مقام العبوديّة عن الكدر النّفسانيّة، أو المصطفى أى المختار من مخلوقاته (و أمينه) على وحيه (الرضيّ) المرتضى على تبليغ وحيه و رسالاته (صلّى اللّه عليه و آله أرسله بوجوب الحجج) أى أرسله مصاحبا بالحجج الواجبة قبولها على الخلق لكفايتها في مقام الحجيّة من المعجزات الظاهرات و الايات البيّنات، أو المراد أنّه أرسله بسبب وجوب الحجج عليه تعالى، يعني أنّه لما كان الاعذار و الانذار واجبا عليه تعالى بمقتضى اللطف أرسله لذلك ليهلك من هلك عن بيّنة و يحيى من حىّ عن بيّنة، و لئلّا يكون للناس على اللّه حجّة بعد الرّسل.
(و ظهور الفلج) أى مع ظهور الظفر، أو لأن يظهر ظفره على ساير الأديان كما قال سبحانه: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى‏ وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ».

(و ايضاح المنهج) أى ما يضاح بنهج الشرع القويم، و الارشاد إلى الصراط المستقيم المؤدّي إلى نضرة النعيم و الفوز العظيم.
(فبلّغ الرسالة صادعا بها) امتثالا لأمره تعالى و هو قوله «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ» و قوله «فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ» و أصل الصّدع هو الشق في شي‏ء صلب و الفرقة من الشي‏ء فاستعير هنا لابلاغ المأمور، قال في القاموس: فاصدع بما تؤمر أى شقّ جماعاتهم بالتوحيد أو اجهر بالقرآن أو أظهر أو أحكم بالحقّ و افصل بالأمر و اقصد بما تؤمروا فرق به بين الحقّ و الباطل.

(و حمل) النّاس (على المحجّة) و الجادّة الواضحة و هي طريق الشريعة (دالّا عليها) و هاديا إليها (و أقام) بين الامة (أعلام الاهتداء و منار الضّياء) أى أعلاما توجب اهتداءهم بها و منارا تستضيئون بنورها.
و المراد بها المعجزات الظاهرة و القوانين الشرعيّة الباهرة، فانها تهدى من غياهب الجهالة، و تنقذ من ظلمات الضلالة، و تدلّ على حظاير القدس و محافل الانس (و جعل أمراس الاسلام) و حبال الدّين (متينة) متقنة (و عرى الايمان) و حبال اليقين (وثيقة) محكمة.

(منها)أى من جملة فصول تلك الخطبة (في صفة) عجيب (خلق أصناف من الحيوان) أي في وصف عجايب خلقتها الدالّة على قدرة بارئها و عظمة مبدئها و تدبيره و حكمته في صنعتها، و قد تقدّم فصل واف من الكلام على هذا المعنى في الخطبة المأة و الرّابعة و الستّين و شرحها.

و قال عليه السّلام هنا: (و لو فكّروا) أى تفكروا و اعملوا نظرهم (في عظيم القدرة) أى في آثار قدرته العظيمة الظاهرة في مخلوقاته (و جسيم النعمة) أى عظيم نعمته التي أنعم بها على عباده (لرجعوا إلى الطريق) و الصراط المستقيم (و خافوا عذاب الحريق) و عقاب الجحيم لكفايتها في الهداية إليه و الاخافة منه.

قال تعالى في الاشارة إلى عظيم قدرته «اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى‏ عَلَى الْعَرْشِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ». و قال «أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ‏ءٍ حَيٍّ أَ فَلا يُؤْمِنُونَ».
قال الطبرسي «ره» في هذه الاية استفهام يراد به التقريع و المعنى أو لم يعلموا أنّ اللّه سبحانه الّذي يفعل هذه الأشياء و لا يقدر عليها غيره فهو الاله المستحقّ للعبادة دون غيره.

و قال في الدلالة على جسيم نعمته أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً. وَ الْجِبالَ أَوْتاداً.. وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً. وَ جَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً. وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً. وَ جَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً.. وَ بَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً. وَ جَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً. وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً.. لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَ نَباتاً. وَ جَنَّاتٍ أَلْفافاً. إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً.

فانّ في تعداد تلك النعم اشارة إلى عظيم ما منّ به على عباده فمن تفكّر فيها أناب إلى طريق الحقّ و نهج الصواب، و خاف من سوء المال و أليم العذاب (و لكن) الناس بمعزل عن هذا بعيدون عن الاهتداء إليه لأنّ (القلوب عليلة) سقيمة (و الأبصار) أى البصاير كما في بعض النسخ (مدخولة) معيبة، فكان مرضها و علّتها مانعة عن التدبّر و التفكر.

و المراد بعلّتها خروجها عن حدّ الاعتدال و الاستقامة بسبب توجّهها إلى الشهوات النفسانيّة و العلايق البدنية، لأنّ مرض القلوب عبارة عن فتورها عن درك الحق بسبب شوبها بالشكوك و الشبهات و فسادها بالعلايق و الامنيات، كما أنّ مرض الأعضاء عبارة عن فتورها عن القيام بالاثار المطلوبة منها بسبب طروّ الفساد عليها و خروجها عن حدّ الاعتدال.
قال تعالى «فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً» و قال «وَ عَلى‏ أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ» أي غطاء، فانهم لما اعرضوا عن النظر فيما كلفوه أو قصروا فيما اريد منهم جهلوا ما لزمهم الايمان به، فصاروا كمن على عينيه غطاء و هو معنى العيب في الأبصار.

فان قيل: لم خصّ القلوب و الأبصار بالذكر.
قلت: لأنّ القلب محلّ الفكر و النظر و الأبصار طريق إليها و إن كانت الأسماع طريقا أيضا إلّا أنّ الأبصار لكونها أعظم الطرق خصّت بالذّكر و قد جمعتها جميعا الاية الشريفة خَتَمَ اللَّهُ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ وَ عَلى‏ سَمْعِهِمْ وَ عَلى‏ أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ».
و لما أشار إلى عظيم قدرته اجمالا و وبخ على غفلة القلوب و عيب الأبصار و كان المقصود بذلك جذب نفوس المخاطبين و توجيه قلوبهم إلى إقبال ما يذكّرهم به أوتشويقهم إلى إصغاء ما يتلى عليهم أردفه بالتنبيه على لطيف صنعه تعالى في صغير ما خلق فقال: (ألا ينظرون إلى صغير ما خلق) من أنواع الحيوان (كيف أحكم خلقه) و أتقنه (و أتقن تركيبه) و أحكمه (و فلق) أى شقّ (له السّمع و البصر و سوّى) أى عدل (له العظم و البشر) مع ما هو عليه من الصغر.

ثمّ تخلص إلى تفصيل المرام بعد ما كساه ثوب الاجمال و الابهام، لأنّ ذكر الشي‏ء مبهما ثمّ مفسّرا و مفصّلا أوقع في النفوس و أثبت في القلوب فقال عليه السّلام: (انظروا إلى النملة) نظرا يوجب البصيرة و يعرف به عظيم القدرة (في صغر جثّتها) و شخصها (و لطافة هيئتها) و كيفيتها (لا تكاد تنال بلحظ البصر) أى النظر و هكذا في بعض النسخ (و لا بمستدرك الفكر).

قال العلّامة المجلسيّ «ره» مستدرك الفكر على بناء المفعول يحتمل أن يكون مصدرا أى ادراك الفكر أو بطلبها الادراك و لعلّه أنسب بقوله: بلحظ البصر، و أن يكون اسم مفعول أى بالفكر الذي يدركه الانسان و يصل إليه أو يطلب ادراكه أى منتهى طلبه لا يصل إلى ادراك ذلك، و أن يكون اسم مكان و الباء بمعنى في.

(كيف دبّت على أرضها) الاضافة لأدنى ملابسة (و صبّت على رزقها) قيل هو على العكس أى صبّ رزقها عليها.
قال الشارح المعتزلي: و الكلام صحيح و لا حاجة فيه الى هذا، و المراد و كيف ألهمت حتّى انصبّت على رزقها انصبابا أى انحطت عليه قال: و يروى و ضنّت على رزقها أى بخلت، انتهى.

و على الأوّل فلفظ الصّب استعارة لسرعة الحركة إليه كما في الماء المصبوب نحو ما ينصب فيه، و على الثاني فضنّتها لعلمها بحاجتها إلى الرزق و سعيها في الاعداد و الحفظ (تنقل الحبّة إلى حجرها) و بيتها (و تعدّها في مستقرّها) أى تهيّؤ الحبّة في محلّ استقرارها (تجمع فى حرّها لبردها) أى في أيّام الصّيف للشتاء (و فى ورودها لصدرها) أى تجمع في أيّام التمكن من الحركة لأيام العجز لأنّها تظهرفي أيّام الصّيف و تختفى في أيّام الشّتاء لبرودة الهواء (مكفولة) أى مضمون (برزقها مرزوقة بوفقها) أى بما يوافقها من الرزق كمّا و كيفا.

(لا يغفلها المنّان) أى لا يتركها غفلة عنها و اهمالا من غير نسيان اللّه الذي هو كثير المنّ و العطاء (و لا يحرمها الدّيان) أى لا يجعلها محرومة من رزقها الدّيان المجازي لعباده ما يستحقّون من الجزاء.
و قد يفسّر الدّيان بالحاكم، و القاضي، و القهار، و بالسايس القائم على الشي‏ء بما يصلحه كما تفعل الولاة و الأمراء بالرعيّة.

و وجه المناسبة على الأوّل أنها حيث دخلت في الوجود طايعة لأمره و قامت فيه منقادة لتسخيره، وجبت في الحكمة الالهيّة جزاؤها و مقابلتها بما يقوم بوجودها فلا تكون محرومة من مادّة بقائها على وفق تدبيره، قاله الشارح البحراني.

و على الثاني أنّ إعطائه كلّ شي‏ء ما يستحقّه و لو على وجه التفضّل من فروع الحكم بالحق.
و على الثالث الاشعار بأنّ قهره سبحانه لا يمنعه من العطاء كما يكون في غيره احيانا.
و على الرّابع أنّ مقتضى قيمومته بالأصلح عدم الحرمان كما هو شأن الموالى بالنسبة إلى العبيد.
و كيف كان فهو سبحانه لا يمنعها من الرزق (و لو) كانت (في الصّفا) الصلد (اليابس) الذي لا ينبت شيئا (و الحجر) الجامد (الجامس) الذي لا يتحول من موضع موضعا بل يفتح عليها أبواب معاشها في كلّ مكان و يهديها إلى أقواتها في كلّ زمان.

ثمّ نبّه على مجال آخر للفكرة في النملة موجبة للتنبيه و العبرة فقال (و لو فكرت في مجاري اكلها) أى مجاري ما تأكله من الطعام و هى الحلق و الأمعاء (و في علوها و سفلها).
قال الشارح البحراني علوها بسكون اللّام نقيض سفلها و هو رأسها و ما يليه إلى الجزءالمتوسّط و سفلها ما جاوز الحر من طرفها الاخر.

أقول: فعلى ذلك الضميران مرجعهما نفس النملة على حذو ما سبق، و يحتمل رجوعهما إلى المجاري و المراد واحد.
(و ما في الجوف من شراسيف بطنها) أى أطراف أضلاعها المشرفة على بطنها (و ما في الرّأس من عينها و اذنها).
قال الشارح المعتزلي و لا يثبت الحكماء للنمل آذانا بارزة عن سطوح رؤوسها و يجب إن صحّ ذلك أن يحمل كلام أمير المؤمنين عليه السّلام على قوّة الاحساس بالأصوات فانّه لا يمكن الحكماء إنكار وجود هذه القوّة لها، و لهذا إذا صيح عليهنّ هدبن.

و قوله عليه السّلام (لقضيت من خلقها عجبا) جواب لو أى لو فكرت في هذه الأمورات التي أبدعها اللّه سبحانه فيها بحسن تدبيره و حكمته و قدرته مع مالها من الصّغر و اللطافة لأدّيت من ذلك عجبا أى تعجّبت غاية التّعجب (و لقيت من وصفها تعبا) و مشقّة إن وصفتها حقّ الوصف.

(فتعالى اللّه الذي أقامها على قوائمها) مع ما بها من الدقّة و اللطافة لا يكاد أن يدركه الطرف لغاية دقتها كالخيوط الدّقيقة (و بناها على دعائمها) استعار الدّعامة الّتي هو عمود البيت لما يقوم به بدنها من الأجزاء القائمة مقام العظام و الأوتار و فيه تشبيهها بالبيت المبنيّ على الدّعائم (لم يشركه في فطرتها) أي خلقتها و ايجادها (فاطر) مبدع (و لم يعنه على خلقها قادر) مدبّر بل توحّد بالفطر و التدبير و تفرّد بالخلق و التقدير فسبحانه ما أعظم شأنه و أظهر سلطانه.

(و لو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته) أى لو سرت أو أسرعت في طرق فكرك و هى الأدلّة و اجزاء الأدلة لتصل إلى غايات الفكر في الموجودات و المكونات (ما دلّتك الدلالة) أى لم يدلّك الدّليل (إلّا على أنّ فاطر النملة) على صغرها (هو فاطر النخلة) على طولها و عظمتها، يعني أنّ خالقهما واحد و الغرض منه دفع توهّم يسر الخلق و سهولته في الأشياء الصّغيرة (لدقيق تفصيل كلّ شي‏ء و غامض اختلاف كلّ حيّ).

يعني أنّ كلا من الأجسام و الأشياء صغيرا كان أو كبيرا فتفصيل جسمه و خلقته و هيئته تفصيل دقيق و اختلاف أشكالها و صورها و ألوانها و مقاديرها اختلاف غامض السّبب، فلا بدّ للكلّ من مدبّر حكيم خصّصه بذلك التفصيل و الاختلاف على اقتضاء التدبير و الحكمة، فثبت بذلك أنّها لا تفاوت فيها بين الصّغر و الكبر في الافتقار إلى الصّانع المدبّر.

و أكّد ذلك الغرض بقوله (و ما الجليل و اللّطيف) كالنخلة و النملة (و الثقيل و الخفيف) كالتراب و السحاب (و القوىّ و الضعيف) كالفيلة و السخلة (في خلقه إلّا سواء) لاستواء نسبة قدرته التي هي عين ذاته اليها.
و الغرض بذلك دفع استبعاد نسبة الخلقة العظيمة و الخلقة الصّغيرة إلى صانع واحد، و وجه الدفع أنّ المخلوقات و إن اختلفت من حيث الطبايع و الهيات و الأشكال و المقادير صغرا و كبرا و ثقلا و خفّة و ضعفا و قوّة إلّا أنّها لا اختلاف فيها من حيث النسبة إلى القدرة الكاملة للفاعل المختار.

(و كذلك السماء و الهواء و الرياح و الماء) على اختلاف هيئاتها و هيئاتها و تباينها و تضادها مشابهة للامور السابقة، مستوية لها من حيث الانتساب إلى القدرة.
(فانظر إلى الشّمس و القمر و النّبات و الشجر و الماء و الحجر و اختلاف هذا اللّيل و النّهار و تفجّر هذه البحار و كثرة هذه الجبال و طول هذه القلال و تفرّق هذه اللّغات و الألسن المختلفات.) لا يخفى ما في هذه الفقرة و سابقتيها من الرقة و السّلاسة و اللّطافة من حيث اللّفظ و العبارة، حيث تضمنت سياقة الاعداد مع مراعاة التطبيق و الازدواج و ملاحظة الأسجاع، و أمّا من حيث المعنى فالمراد بها الأمر بالتدبّر فيما أودع في هذه الأشياء من غرايب الصنعة و لطايف الحكمة و براهين القدرة و العظمة حسبما عرفت نبذا منها في شرح الفصل الرابع و السادس من المختار التسعين فانظر ما ذا ترى.

و قال الشارح المعتزلي: المراد بها الاستدلال بامكان الاعراض على ثبوت الصّانع، بأن يقال كلّ جسم يقبل لجسميته المشتركة بينه و بين ساير الأجسام ما يقبله غيره من الأجسام، فاذا اختلف الأجسام في الاعراض فلا بد من مخصّص و هو الصّانع الحكيم.

و قرّره الشارح البحرانى بتقرير أوضح و هو أنّ هذه الأجسام كلّها مشتركة في الجسميّة و اختصاص كلّ منها بما يميّز به من الصّفات المتعدّدة ليست للجسميّة و لوازمها، و إلّا وجب لكلّ منها ما وجب للاخر، ضرورة اشتراكها في علّة الاختصاص فلا مميّز له هذا خلف، و لا لشي‏ء من عوارض الجسمية لأنّ الكلام في اختصاص كلّ منها بذلك العارض كالكلام في الأوّل و يلزم التسلسل، فيبقى أن يكون لأمر خارج عنها هو الفاعل الحكيم المخصص لكل منها بحدّ من الحكمة و المصلحة.

أقول: و قد اشير إلى هذا الاستدلال في قوله عزّ و جلّ وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ. وَ مِنْ. آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ. وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ».

قال الطبرسيّ: أى من دلالاته على وحدانيّته و كمال قدرته خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و ما فيهما من عجايب خلقه و بدايع صنعه مثل ما في السّموات من النجوم و الشمس و القمر و جريها في مجاريها على غاية الاتّساق و النظام، و ما في الأرض من الجماد و النبات و الحيوان المخلوقة على وجه الاحكام.

«وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ» الألسنة جمع لسان و اختلافها هو أن ينشأها اللّه مختلفة في الشّكل و الهيئة و التركيب فيختلف نغماتها و أصواتها حتّى أنّه لا يشتبه صوتان من نفسين هما اخوان، و قيل: إنّ اختلاف الألسنة هو اختلاف اللغات من العربيّة و العجميّة و غيرهما، و لا شي‏ء من الحيوانات يتفاوت لغاتها كتفاوت لغات الانسان فان كانت اللّغات توقيفيّا من قبل اللّه فهو الذي فعلها، و إن كانت مواضعة من قبل العباد فهو الذي يسرها.

«وَ أَلْوانِكُمْ» أى و اختلاف ألوانكم من البياض و الحمرة و الصّفرة و السّمرة و غيرها فلا يشبه أحد أحدا مع التشاكل في الخلقة، و ما ذلك إلّا للتراكيب البديعة و اللّطائف العجيبة الدالّة على كمال قدرته و حكمته حتى لا يشتبه اثنان من النّاس و لا يلتبسان مع كثرتهم.

«إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ» أى أدلّة واضحات «لِلْعالَمِينَ» أى للمكلّفين.
«وَ مِنْ آياتِهِ» الدالّة على توحيده و اخلاص العبادة له «مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ» أى النّوم الذي جعله اللّه راحة لأبدانكم باللّيل و قد تنامون بالنهار فاذا انتبهتم انتشرتم لابتغاء فضل اللّه «إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ» ذلك فيقبلونه و يتفكّرون فيه، لأنّ من لا يتفكّر فيه لا ينتفع به فكأنه لم يسمعه.

«وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً» معناه و من دلالالته أن يريكم النار تنقدح من السحاب يخافه المسافر و يطمع فيه المقيم، و قيل: خوفا من الصواعق و طمعا في الغيث «و ينزّل من السّماء ماء» أى غيثا و مطرا «فيحيى به» أى بذلك الماء «الأرض بعد موتها» أى بعد انقطاع الماء عنها وجدو بها «إنّ في ذلك لايات لقوم يعقلون» أى للعقلاء المكلّفين.

(فالويل) أى الحزن و الهلاك و المشقّة من العذاب و قيل إنّه علم واد في جهنّم (لمن جحد المقدّر و أنكر المدبّر) و هم الدّهريّون الّذين قالوا ما هى إلّا حياتنا الدّنيا نموت و نحيى و ما يهلكنا إلّا الدّهر (و يزعمون أنهم كالنبات) النابت في الصحاري و الجبال من غير زرع فكما أنّه ليس له زارع و مدبّر من البشر فكذلك هؤلاء.

(ما لهم زارع) أصلا (و لا لاختلاف صورهم صانع) قطعا و ذكر اختلاف الصّور لكونه أوضح دلالة على الصانع و قيل: المراد انهم قاسوا أنفسهم على النبات الذي جعلوا من الأصول المسلمة أنه لا مقدّر له بل ينبت بنفسه من غير مدبّر (و لم يلجئوا) أى لم يستندوا (إلى حجّة فيما ادّعوا) من جحود المقدّر (و لا تحقيق لما) حفظوا و (أوعوا) من إنكار المدبّر بل دعويهم مستندة إلى مجرّد الظنّ و الحسبان و محض الهوى و الاستحسان كما نطق به الفرقان.

قال تعالى أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى‏ عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى‏ سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى‏ بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ. وَ قالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ‏إِلَّا يَظُنُّونَ.

و روى في الصّافي من الكافي عن الصّادق عليه السّلام في حديث وجوه الكفر قال عليه السّلام: فأمّا كفر الجحود فهو الجحود بالرّبوبيّة و هو قول من يقول: لا ربّ و لا جنّة و لا نار، و هو قول صنفين من الزنادقة يقال لهم الدّهرية و هم الّذين يقولون و ما يهلكنا إلّا الدّهر و هو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان عنهم على غير تثبّت منهم و لا تحقيق لشي‏ء مما يقولون قال اللّه عزّ و جلّ «وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا» إنّ ذلك كما يقولون.

قال الفخر الرازي: و أما شبهتهم في انكار الإله الفاعل المختار فهو قولهم «وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ» يعني تولد الأشخاص إنما كان بسبب حركات الأفلاك الموجبة لامتزاج الطبايع و إذا وقعت تلك الامتزاجات على وجه خاصّ حصلت الحياة، و اذا وقعت على وجه آخر حصل الموت، فالموجب للحياة و الموت تأثيرات الطبايع و حركات الأفلاك، و لا حاجة في هذا الباب إلى إثبات الفاعل المختار، فهذه الطائفة جمعوا بين إنكار الإله و بين إنكار البعث و القيامة ثمّ قال تعالى «وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ».

و المعنى أنّ قبل النظر و معرفة الدليل الاحتمالات بأسرها قائمة، فالذي قالوه يحتمل و ضدّه أيضا يحتمل، و ذلك هو أن يكون القول بالبعث و القيامة حقا و القول بوجود الإله الحكيم حقّا فانّهم لم يذكروا شبهة ضعيفة و لا قويّة في أنّ هذا الاحتمال الثاني باطل، و لكنه خطر ببالهم هذا الاحتمال الأوّل فجزموا به و أصرّوا عليه من غير حجّة و لا بيّنة، فثبت أنّهم ليس لهم علم و لا جزم و لا يقين في صحّة القول الّذي اختاروه بسبب الظنّ و الحسبان و ميل القلب إليه من غير موجب و حجّة و دليل، هذا و لما دعا عليه السّلام على الجاحدين بالويل و الثبور زيف قولهم بعدم استناده إلى حجّة و بيّنة و لو كانت ضعيفة هيّنة، عاد إلى تقريعهم و توبيخهم باقامة البرهان المحكم و الدلالة الواضحة على بطلان قولهم و فساد به منهم فقال على سبيل الاستفهام بقصد الإنكار و الإبطال:(و هل يكون بناء من غير بان و جناية من غير جان) يعني افتقار الفعل إلى الفاعل ضروري و إنكاره باطل و منكره ضال جاهل.

روى في البحار من جامع الأخبار قال: سئل أمير المؤمنين عليه السّلام عن اثبات الصانع فقال عليه السّلام: البعرة تدلّ على البعير، و الرّوثة تدلّ على الحمير، و آثار القدم تدلّ على المسير، فهيكل علوىّ بهذه اللّطافة و مركز سفلى بهذه الكثافة كيف لا يدلّان على اللطيف الخبير و فيه من كتاب التوحيد للصّدوق (ره) بسنده عن هشام بن الحكم قال: كان زنديق بمصر يبلغه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام فخرج إلى المدينة ليناظره فلم يصادفه بها فقيل له هو بمكّة، فخرج الزنديق إلى مكة و نحن مع أبي عبد اللّه عليه السّلام فقاربنا الزنديق و نحن مع أبي عبد اللّه عليه السّلام في الطواف فضرب كتفه «كفّه» كتف أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال له جعفر عليه السّلام: ما اسمك قال: اسمي عبد الملك، قال: فما كنيتك قال: أبو عبد اللّه قال عليه السّلام: فمن الملك الذي أنت له عبد أمن ملوك السماء أم من ملوك الأرض و أخبرني عن ابنك أعبد إله السّماء أم عبد إله الأرض فسكت، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: قل ما شئت تخصم، قال هشام بن الحكم: قلت للزنديق: أما تردّ عليه، فقبح قولي.

فقال له أبو عبد اللّه عليه السّلام: إذا فرغت من الطواف فأتنا.
فلما فرغ أبو عبد اللّه عليه السّلام أتاه الزنديق فقعد بين يديه و نحن مجتمعون عنده فقال للزنديق: أ تعلم أنّ للأرض تحت و فوق قال: نعم، قال عليه السّلام: فدخلت تحتها قال: لا، قال: فما يدريك بما تحتها قال: لا أدرى إلّا أنّي لأظنّ أن ليس تحتها شي‏ء، قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: فالظنّ عجز ما لم تستيقن.

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: فصعدت إلى السّماء قال: لا، قال: فتدري ما فيها قال لا، قال: فعجبا لك لم تبلغ المشرق و لم تبلغ المغرب و لم تنزل تحت الأرض و لم تصعد إلى السّماء و لم تجز هنالك فتعرف ما خلقهنّ و أنت جاحد ما فيهنّ و هل يجحد العاقل ما لا يعرف فقال الزنديق: ما كلّمني بهذا أحد غيرك.

فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: فأنت في شكّ من ذلك فلعلّ هو و لعلّ ليس هو قال الزّنديق: و لعلّ ذاك.
فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أيّها الرّجل ليس لمن لا يعلم حجّة على من يعلم فلا حجّة للجاهل يا أخا أهل مصر تفهم عنّي فانا لا نشكّ في اللّه أبدا، أما ترى الشّمس و القمر و اللّيل و النهار يلجان ليس لهما مكان إلّا مكانهما فان كانا يقدران على أن يذهبا و لا يرجعان فلم يرجعان فان لم يكونا مضطرّين فلم لا يصير الليل نهارا و النهار ليلا اضطرّا و اللّه يا أخا أهل مصر إلى دوامهما و الذي اضطرّهما أحكم منهما و أكبر منهما، قال الزنديق: صدقت.

ثمّ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا أخا أهل مصر الذي تذهبون و تظنونه بالوهم فان كان الدّهر يذهب بهم لم لا يردّهم و إن كان يردّهم لم لا يذهب بهم القوم مضطرّون يا أخا أهل مصر السّماء مرفوعة و الأرض موضوعة لم لا تسقط السماء على الأرض و لم لا تنحدر الأرض فوق طباقها فلا يتماسكان و لا يتماسك من عليهما فقال الزنديق أمسكهما و اللّه ربّهما و سيّدهما، فامن الزنديق على يدي أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و قد أوردت هذه الرواية على طولها لتماميّتها في إبطال مذهب الدّهرية و نزيد إيضاحها بكلام أمير المؤمنين عليه السّلام و لو تأملتها حقّ التأمل ظهر لك أنّها في الحقيقة بمنزلة الشرح لقوله: و لم يلجئوا إلى حجّة، إلى قوله: جان، فتدبّر لتبصر.

و لما نبّه على لطايف الحكمة و دقايق القدرة الشاهدة بوجود الصّانع المدبّر الحكيم في خلقة النملة أردف ذلك تأكيدا و تثبيتا بذكر دقايق الصنع و براهين التدبير في خلق الجرادة فقال عليه السّلام: (و إن شئت قلت في الجرادة) نظير ما قلته في النملة من القول البيّن الكاشف عن تدبّر الصّانع الحكيم المدبّر (إذ خلق لها عينين حمراوين و أسرج لها حدقتين قمراوين) أى جعلهما مضيئتين كالسراج منيرتين كالليلة المنيرة بالقمر (و جعل لها السمع الخفىّ) أى عن أعين الناظرين و قيل: أراد بالخفىّ اللطيف السامع لخفىّ الأصوات.

قال الشارح البحراني: فوصفه بالخفاء مجاز اطلاقا لاسم المقبول على قابله (و فتح لها الفم السّوىّ) أى المستوى قال الشارح البحراني: و التسوية التعديل بحسب المنفعة الخاصة بها.
أقول: و يحتمل أن يكون المراد به أنّ فمها مشقوق عرضا مثل فم السرطان و ليس كأفواه الزنابير و ساير ذوات الأجنحة من الحيوان.

(و جعل لها الحسّ القوىّ) قال البحراني: أراد بحسّها قوّتها الوهميّة و بقوّته حذقها فيما الهمت إياه من وجوه المعاش و التصرّف يقال: لفلان حسّ حاذق إذا كان ذكيا فطنا درّاكا.
أقول: و الظاهر أنّ المراد به قوّة سامعتها و باصرتها، فإنا قد شاهدنا غير مرّة أنها تقع على الزرع في أوانه بزحفها فيصحن و يأكلن الزرع و يفسدنه فاذا ظهر في الجوّ واحد من الطير المعروف بطير الجراد يمرّ عليهنّ و لو على غاية بعد منهنّ يشاهدنه أو يسمعن صوته فيسكتن و يمسكن عن أصواتهن مخافة أن يقع عليهنّ فيقتلهنّ، و هو دليل على قوّة سمعها و بصرها (و) جعل لها (نابين) أى سنّين (بهما تقرض) و تقطع الزرع و الحبّ (و منجلين) أى يدين أو رجلين شبيهتين بالمنجل الذى يقضب أى يقطع به الزرع و وجه الشبه الاعوجاج و الخشونة (بهما تقبض).

و من لطيف الحكمة في رجليها أن جعل نصفهما الّذي يقع عليه اعتمادها و جلوسها كالمنشار ليكون لها معينا على الفحص و وقاية لذتها عند جلوسها و عمدة لها عند الطيران.
(يرهبها الزّراع في زرعهم و لا يستطيعون ذبّها و لو أجلبوا بجمعهم) أى يخافها الزارعون و لا يقدرون على دفعها و لو تجمّعوا و تألّبوا بجمعهم، ألا ترى أنها إذا توجّهت بزحفها إلى بقعة و هجمت على زروعها و أشجارها أمحلته و لا يستطيع أحد دفعها حتّى لو أنّ ملكا من ملوك الدّنيا أجلب عليها بخيلة و رجله و أراد ذبّها عن بلاده لم يتمكّن من ذلك.
و في ذلك تنبيه على عظمة الخالق حيث يسلّط أضعف خلقه على أقوى خلقه.

قيل لأعرابيّ: ألك زرع فقال: نعم و لكن أتانا زجل من جراد بمثل مناجلي الحصاد فسبحان من يهلك القوىّ الأكول بالضعيف المأكول.
و في حيوة الحيوان للدميري عن ابن عمر أنّ جرادة وقعت بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاذا مكتوب على جناحها بالعبرانية: نحن جند اللّه الأكبر و لنا تسع و تسعون بيضة و لو تمّت لنا المأة لأكلنا الدّنيا بما فيها.
و كيف كان فلا يستطيع أحد لدفعها (حتّى ترد الحرث في نزواتها) و وثباتها (و تقضى منه شهواتها) فترد الحرث باختيارها و ترحل عنها باختيارها.

قال الاصمعي: أتيت البادية فاذا أعرابيّ زرع برّا له، فلما قام على سوقه و جاد سنبله أتاه زجل جراد فجعل الرّجل ينظر إليه و لا يدري كيف الحيلة فيه فأنشأ يقول:

مرّ الجراد على زرعي فقلت
لها لا تأكلن و لا تشغل بافساد

فقام منهم خطيب فوق سنبلة
إنا على سفر لا بدّ من زاد

و قوله (و خلقها كلّه لا يكون اصبعا مستدقة) تنبيه على تمام التعجّب بما أودع فيها من بديع الصنعة، يعني أنّها يرهبها الزراع و يخافها الحراث و يهابها الملاك و الحال أنها مخلوق ضعيف صغير حقير حتّى أنها لو شرح أوصافها المذكورة لمن لم يرها أصلا اعتقد أنّ الموصوف بها لا بدّ أن يكون خلقا عظيم الجثّة قوىّ الهيكل حتّى يصلح استناد هذه الأوصاف إليه و لم يكن له مزيد تعجّب، فاذا تبيّن له صغر حجمه زاد تعجّبا.

(فتبارك) أى تعالى (اللّه الّذي يسجد له مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً) أراد بالسجدة معناها الحقيقي، لأنّه يسجد له الملائكة و المؤمنون من الثقلين طوعا حالتي الشدّة و الرخا، و الكفرة له كرها حال الشدّة و الضرورة فقط أو معناها المجازي أعنى مطلق الخضوع أعمّ من التكليفي و التكويني أي الدّخول تحت ذلّ الافتقار و الحاجة، و الأوّل مبنيّ على كون لفظة من مخصّصة بذوى العقول و الثاني على عدم الاختصاص.

و يؤيّد الأوّل قوله (و يعفّر له خدّا و وجها) لظهوره في التمريغ أى تقليب الوجه و الخدّ بالأرض اللّهمّ إلّا أن يكون كناية عن غاية الخضوع (و يلقى اليه بالطاعة) أى يطيع له (سلما و ضعفا) أي من حيث التسليم و الضعف أو حالكونه مستسلما ضعيفا (و يعطى له القياد رهبة و خوفا) أي ينقاد له لأجل الخوف و الرهبة.
(فالطير مسخّرة لأمره) كما قال تعالى أَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.

قال الطبرسي: أى ألم تتفكّروا و تنظروا إلى الطير كيف خلقها اللّه خلقة يمكنها معها التصرّف في جوّ السّماء صاعدة و منحدرة و ذاهبة و جائية مذللات للطّيران في الهواء بأجنحتها تطير من غير أن تعتمد على شي‏ء- ما يمسكهنّ إلّا اللّه- أى ما يمسكهنّ عن السقوط على الأرض من الهواء إلّا اللّه فيمسك الهواء تحت الطير حتّى لا ينزل فيه كامساك الهواء تحت السابح في الماء حتّى لا ينزل فيه، فجعل إمساك الهواء تحتها إمساكا لها على التوسّع، فانّ سكونها في الجوّ إنما هو فعلها، فالمعنى ألم ينظروا في ذلك فتعلموا أنّ لها مسخّرا و مدبّرا لا يعجزه شي‏ء و لا يتعذّر عليه شي‏ء و أنه إنّما خلق ذلك ليعتبروا.

و لما نبّه على كونها مسخّرة مقهورة تحت قدرته، أردفه باحاطة علمه تعالى عليها بجميع أجزائها فقال (أحصى عدد الريش منها و النفس) و احصائه كناية عن علمه به (و أرسى قوايمها على الندى و اليبس) أى أثبت قوايمها بعضها على الندى كطير البحر و بعضها على اليبس كطير البرّ (قدّر أقواتها) أى جعل لكلّ منها قوتا مقدّرا معيّنا على قدر الكفاية (و أحصى أجناسها) و هو كناية عن احاطته بأنواعها.

و فصّلها بقوله (فهذا غراب و هذا عقاب و هذا حمام و هذا نعام دعا كلّ طاير باسمه).
قال الشارح البحراني: الدّعاء استعارة في أمر كلّ نوع بالدّخول في الوجود و ذلك الأمر يعود إلى حكم القدرة الالهية العظيمة عليه بالدّخول في الوجود، و وجه‏الاستعارة ما يشترك فيه معنى الدّعاء و الأمر من طلب دخول مهيّة المطلوب بالدّعاء و الأمر في الوجود و هو كقوله تعالى فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ. فَقَضاهُنَّ الاية، و لما استعار لفظ الدّعاء رشّح بذكر الاسم لأنّ الشي‏ء إنّما يدعى باسمه، و يحتمل أن يريد الاسم اللغوي و هو العلامة فانّ لكلّ نوع من الطير خاصّة و سمة ليست للاخر و يكون المعنى أنه تعالى أجرى عليها حكم القدرة بمالها من السّمات و الخواص في العلم الالهي و اللّوح المحفوظ.

قال: و قال بعض الشارحين: أراد أسماء أجناس و ذلك أنّ اللّه تعالى كتب في اللّوح المحفوظ كلّ لغة تواضع عليها العباد في المستقبل، و ذكر الأسماء الّتي يتواضعون عليها، و ذكر لكلّ اسم مسمّاه فعند إرادة خلقها نادى كلّ نوع باسمه فاجاب دعواه و أسرع في إجابته.

(و كفل له برزقه) أى ضمنه ثمّ أشار إلى كمال قدرته تعالى في خلق المطر و السحاب فقال (و انشأ السحاب الثقال) أى الثقيلة بما فيها من الماء، و هو اقتباس من قوله سبحانه في سورة الرّعد «هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ» و قد تقدّم في الهداية الرابعة في شرح الفصل السّادس من المختار التسعين تفسير هذه الاية و نبّهنا هناك على ما تضمنها الرّعد و البرق و السحاب و المطر من عجائب القدرة و العظمة و الحكمة فليراجع ثمّة.

و قوله: (فأهطل ديمها) أى جعل ديمها هاطلة سائلة متتابعة (و عدّد قسمها) أى أحصى ما قدر منها لكلّ بلد و أرض على وفق الحكمة و المصلحة (فبلّ الأرض بعد جفوفها و أخرج نبتها بعد جدوبها) كما قال عزّ من قائل في سورة الحجّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ أى ترى الأرض ميتة يابسة فاذا أنزلنا عليها المطر تحرّكت بالنبات و انتفخت و أنبتت من كلّ نوع من أنواع النبات موصوف بالبهجة و الحسن و النضارة و في سورة الروم «وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ»‏

تبصرة

لما كان هذه الخطبة الشريفة متضمّنة بوصف خلقة أصناف من الحيوان و تشريح ما أبدعه اللّه سبحانه فيها من دلائل القدرة و الحكمة و براهين التّوحيد و التفريد و العظمة، بعضها بالتفصيل كالنملة و الجرادة، و بعضها بالاجمال و الاشارة كالغراب و العقاب و الحمامة و النعامة أحببت أن أذكر فصلا وافيا في وصف هذه الأنواع الستّة من الحيوان التي تضمّنها كلام أمير المؤمنين عليه السّلام على الترتيب الوارد في كلامه، و المقصود بذكر هذا الفصل تأكيد الغرض المسوق له هذه الخطبة الشريفة و هي الدّلالة على قدرة الصانع و حكمة المبدع عزّ و جلّ فأقول:

تذنيبات

الاول- فى خلقة النملة
قال الدميرى في كتاب حيوة الحيوان: النمل معروف الواحدة نملة و الجمع أنمال، و أرض نملة ذات نمل، و النملة بالضمّ النميمة يقال رجل نمل أى نمام، و ما أحسن قول الأوّل:

اقنع بما تلقي بلا بلغة
فليس ينسى ربّنا النملة

إن أقبل الدّهر فقم قائما
و إن تولّى مدبرا نم له‏

قال: و سميت النملة نملة لتنمّلها و هو كثرة حركتها و قلّة قوائمها، و النمل لا يتزاوج و لا يتلاقح إنّما يسقط منه شي‏ء حقير في الأرض فينمو حتى يصير بيظتا ثم يتكوّن منه، و البيض كلّه بالضاد المعجمة إلّا بيض النمل فانّه بالظاء المشالة و النمل عظيم الحيلة في طلب الرّزق فاذا وجد شيئا أنذر الباقين يأتون إليه، و قيل انما يفعل ذلك منه رؤساؤها، و من طبعه أنّه يحتكر في أيّام الصيف للشتاء، و له في الاحتكار من الحيل ما أنه إذا احتكر ما يخاف إنباته قسّمه نصفين ما خلا الكسفرة فانه يقسّمها أرباعا لما ألهم من أنّ كلّ نصف منها ينبت، و إذا خاف العفن على‏الحبّ أخرجه إلى ظاهر الأرض و نشره، و أكثر ما يفعل ذلك ليلا في ضوء القمر و يقال: إنّ حياته ليست من قبل ما يأكل و لا قوامه، و ذلك إنه ليس له جوف ينفذ فيه الطعام و لكنه مقطوع نصفين، و إنّما قوته إذا قطع الحبّ في استنشاق ريحه فقط و ذلك يكفيه.

أقول: و ظاهر كلام أمير المؤمنين عليه السّلام في هذه الخطبة أعنى قوله عليه السّلام في مجاري أكلها و من شراسيف بطنها يدلّ على فساد زعم هذا القائل، و التجربة أيضا تشهد بخلافه، فانا قد شاهدنا كثيرا أنّ الذّر و هي صغار النمل تجتمع على حبوبات الطعام و نحوها و يأكلها حتّى يفنيها بتمامها.

قال الدميرى: و قد روى عن سفيان بن عيينة أنه قال: ليس شي‏ء يخبا قوته إلّا الانسان و العقعق و النمل و الفار، و به جزم في الاحياء في كتاب التوكل، و عن بعضهم أنّ البلبل يحتكر الطعام و يقال: إنّ للعقعق محابي إلّا أنّه ينساها، و النمل شديد الشم، و من أسباب هلاكه نبات أجنحته فاذا صار النمل كذلك أخصبت العصافير لأنّها تصيدها في حال طيرانها، و قد أشار إلى ذلك أبو العتاهية بقوله:

فاذا استوت للنمل أجنحة
حتى تطير فقد دنا عطبه‏

و كان الرشيد يتمثل بذلك كثيرا عند نكبة البرامكة.
و هو يحفر قرية بقوائمه، و هي ستّ فاذا حفرها جعل فيها تعاويج «تعاريخ خ» لئلّا يجرى إليها ماء المطر، و ربما اتخذ قرية فوق قرية لذلك و إنما يفعل ذلك خوفا على ما يدّخره من البلل.
قال البيهقي في الشعب: و كان عدى بن حاتم الطائي يفتّ الخبز للنمل و يقول: إنهنّ جارات و لهنّ علينا حقّ الجوار.
و سيأتي في الوحش عن الفتح بن خرشف الزاهد انّه كان يفتّ الخبز لهنّ في كلّ يوم فاذا كان يوم عاشوراء لم تأكله.
و ليس في الحيوان ما يحمل ضعف بدنه مرارا غيره على انّه لا يرضى بأضعاف الأضعاف حتّى أنّه يتكلّف حمل نوى التمر و هو لا ينتفع به و إنما يحمله على حمله‏الحرص و الشره و هو يجمع غذاء سنين لو عاش و لا يكون عمره أكثر من سنة.

و من عجايبه اتخاذ القرية تحت الأرض و فيها منازل و دهاليز و غرف و طبقات معلقات تملاءها حبوبا و ذخاير للشتاء، و منه ما يسمّى الذرّ الفارسي و هو من النمل بمنزلة الزنابير من النحل، و منه أيضا ما يسمّى بنمل الأسد سمّى بذلك لأنّ مقدمه يشبه وجه الأسد و مؤخره يشبه النمل.

و روى البخارى و مسلم و أبو داود النسائى عن أبي هريرة عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: نزل نبيّ من الأنبياء عليهم السّلام تحت شجرة فلذعته، فأمر بجهازه فاخرج من تحتها و أمر بها فاحرقت بالنار فأوحى اللّه تعالى إليه هلّا نملة واحدة.

قال أبو عبد اللّه الترمذي في نوادر الأصول: لم يعاتبه على تحريقها و إنما عاتبه بكونه أخذ البري‏ء بغير البري‏ء، و هذا النّبي هو موسى بن عمران عليه السّلام و أنّه قال يا ربّ تعذّب أهل قرية بمعاصيهم و فيهم الطايع، و كأنّه أحبّ أن يريه ذلك من عنده فسلّط عليه الحرّ حتّى التجأ إلى شجرة مستروحا إلى ظلّها و عندها قرية نمل فغلبه النوم فلما وجد لذّة النوم لذعته نملة فدلكهنّ بقدمه فأهلكهنّ و أحرق مسكنهنّ فأراه تعالى الاية في ذلك عبرة لما لذعته نملة كيف اصيب الباقون بعقوبتها، يريد أن ينبّهه على أنّ العقوبة من اللّه تعالى تعمّ الطايع و العاصي، فتصير رحمة و طهارة و بركة على المطيع، و شرّا و نقمة و عدوانا على العاصي، و على هذا ليس في الحديث ما يدلّ على كراهة و لا حظر في قتل النّمل، فانّ من أذاك حلّ لك دفعه عن نفسك و لا أحد من خلق اللّه أعظم حرمة من المؤمن و قد أبيح لك دفعه بضرب أو قتل على ماله من المقدار، فكيف بالهوام و الدّواب التي قد سخّرت للمؤمن و سلّط عليها.
قال الدميري: و روى الطبراني و الدار قطني أنّه قال: لما كلّم اللّه موسى عليه السّلام كان يبصر دبيب النملة على الصفاء في اللّيلة الظلماء من مسيرة عشرة فراسخ.
قال: و روى أنّ النملة التي خاطبت سليمان أهدت إليه نبقة«» فوضعها عليه السّلام في كفّه فقالت:

أ لم ترنا نهدى إلى اللّه ماله
و إن كان عنه ذاغني فهو قابله‏

و لو كان يهدى للجليل بقدره‏
لقصر عنه البحر حين يساجله‏

و لكنّنا نهدى إلى من نحبّه
فيرضى بها عنّا و يشكر فاعله‏

و ما ذاك إلّا من كريم فعاله‏
و إلّا فما في ملكنا من يشاكله‏

فقال سليمان عليه السّلام: بارك اللّه فيكم فهو بتلك الدعوة أكثر خلق اللّه، انتهى ما أهمّنا نقله من كتاب حيوة الحيوان.
أقول: و من عجيب قصّة النمل ما جرى له مع سليمان عليه السّلام و قد اخبر به سبحانه في كتابه العزيز قال تعالى في سورة النمل وَ حُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ وَ الطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ. حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى‏ وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا. النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ. فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَ قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى‏ والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ.

قال الطبرسيّ «أتوا على واد النمل» هو واد بالطايف و قيل بالشام «قالت نملة» أى صاحت بصوت خلق اللّه لها، و لما كان الصوت مفهوما لسليمان عبّر عنه بالقول، و قيل: كانت رئيسة النّمل «لا يحطمنّكم» أى لا يسكرنّكم «سليمان و جنوده و هم لا يشعرون» بحطمكم أو وطئكم فانهم لو علموا بمكانكم لم يطئوكم.

و هذا يدلّ على أنّ سليمان و جنوده كان ركبانا و مشاة على الأرض و لم تحملهم الريح، لأنّ الريح لو حملتهم بين السّماء و الأرض لما خافت النملة أن يطئوها بأرجلهم و لعلّ هذه القصّة كانت قبل تسخير اللّه الريح لسليمان عليه السّلام.

فان قيل: كيف عرفت النّملة سليمان و جنوده حتّى قالت هذه المقالة قلنا: إذا كانت مأمورة بطاعته فلا بدّ و أن يخلق اللّه لها من الفهم ما تعرف به امور طاعته، و لا يمتنع أن يكون لها من الفهم ما تستدرك به ذلك و قيل: إنّ ذلك كان منها على سبيل المعجز.

«فتبسّم ضاحكا من قولها» و سبب ضحكه التعجب لأنّه رأى ما لا عهد له به‏و قيل انه تبسّم بظهور عدله حتّى عرفه النمل، و قيل: إنّ الريح أطارت كلامها إليه من ثلاثة أميال حتّى سمع ذلك فانتهى إليها و هى تأمر النمل بالمبادرة، فتبسّم عليه السّلام من حذرها، هذا.

قال بعض أهل العلم: إنّ النملة تكلّمت بعشرة أنواع من البديع قولها: يا نادت، أيّها، نبّهت، النمل، سمّت، ادخلوا، أمرت، مساكنكم، نعتت، لا يحطمنّكم حذرت، سليمان، خصّت، و جنوده، عمّت، و هم، أشارت، لا يشعرون، اعتذرت.
و في البحار من تفسير عليّ بن إبراهيم «و حشر لسليمان جنوده من الجنّ و الانس و الطير» قعد على كرسيّه و حملته الرياح على واد النمل و هو واد ينبت الذّهب و الفضة، قد وكّل اللّه به النمل و قول الصّادق عليه السّلام: إن للّه واديا ينبت الذّهب و الفضة قد حماء اللّه بأضعف خلقه و هو النمل لو رامه البخاتي ما قدرت عليه، فلما انتهى سليمان إلى وادى النمل قالت نملة الاية.

و في البحار من العيون و العلل بسنده عن داود بن سليمان الغازي قال: سمعت عليّ بن موسى الرّضا عليه السّلام يقول عن أبيه موسى بن جعفر عن أبيه جعفر ابن محمّد عليهم السّلام في قوله عزّ و جلّ «فتبسّم ضاحكا من قولها».
قال: لما قالت النملة «يا أيّها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنّكم سليمان و جنوده» حملت الريح صوت النملة إلى سليمان و هو مارّ في الهواء و الريح قد حملته فوقف و قال: علىّ بالنملة.

فلما اتى بها قال سليمان: يا أيّتها النملة أما علمت أنّي نبيّ اللّه و أنّي لا أظلم أحدا قالت النّملة: بلى، قال سليمان: فلم حذّر تنيهم ظلمي و قلت: يا أيّها النمل ادخلوا مساكنكم قالت النملة: خشيت أن ينظروا إلى زينتك فيفتتنوا بها فيبعدوا عن ذكر اللّه.

ثمّ قالت النملة: أنت أكبر أم أبوك داود قال سليمان: بل أبي داود، قالت النملة: فلم زيد في حروف اسمك حرف على حروف اسم أبيك داود قال سليمان عليه السّلام: ما لى بهذا علم، قالت النملة: لأنّ أباك داوى جرحه بودّ فسمّى داود و أنت‏يا سليمان أرجو أن تلحق بأبيك.

ثمّ قالت النّملة: هل تدرى لم سخّرت لك الرّيح من بين ساير المملكة قال سليمان: ما لي بهذا علم، قالت النّملة: يعني عزّ و جلّ بذلك لو سخّرت لك جميع المملكة كما سخّرت لك هذه الرّيح لكان زوالها من يدك كزوال الريح «فتبسّم ضاحكا من قولها».

قال العلّامة المجلسي (ره) معنى التعليل الذي ذكره النملة أنّ أباك لما ارتكب ترك الأولى و صار قلبه مجروحا بذلك فداواه بودّ اللّه و محبّته فلذا سمّى بداود و اشتقاقا من الدواء بالودّ، و أنت لما ترتكب بعد و أنت سليم منه سمّيت سليمان فخصوص العلتين للتسميتين صارتا علّة لزيادة اسمك على اسم أبيك.

ثمّ لما كان كلامها موهما لكونه من جهة السّلامة أفضل من أبيه استدركت ذلك بأنّ ما صدر منه لم يصر سببا لنقصه بل صار سببا لكمال محبّته و تمام مودّته و أرجو أن تلحق أنت أيضا بأبيك في ذلك ليكمل محبّتك.
و في حيوة الحيوان عن الثعلبي و غيره أنّها كانت مثل الذئب في العظم و كانت عرجاء ذات جناحين.
و في تفسير مولا فتح اللّه من كشف الغمّة: كانت مثل الدّيك، و من زاد المسير: كانت بعظم نعجة، و من كشف الأسرار سألها سليمان عليه السّلام عن مقدار جيشها فقالت أربعة آلاف قائد، و لكلّ قائد أربعون ألف نقيب، و لكلّ نقيب أربعون ألفا و في روضة الصفا قال لها سليمان عليه السّلام أما علمت أنّي نبيّ اللّه لا أرضى بظلم أحد قالت: نعم، قال: فلم حذرتهم قال: يلزم على السائس أن ينصح قومه، و أيضا فقد خفت من جنودك أن يحطمنّهم من حيث لا يشعرون، فاستحسن عليه السّلام قولها.

ثمّ قال لها تلطّفا: سلطانك أعظم أم سلطاني قالت: بل سلطاني، قال: فكيف ذلك قالت: لأنّ سريرك على الريح و سريرى كفك.
ثمّ قال: جندك أكثر أم جندي قالت: بل جندي، قال من أين هذا قالت فارجه حتّى أعرض عليك بعض جيشي، فصاحت عليهم أن اخرجوا من حجراتكم‏حتّى ينظر إليكم نبيّ اللّه، فخرج سبعون ألف فوج لا يعلم عددهم إلّا اللّه قال عليه السّلام: هل بعد ذلك قالت: لو خرج كلّ يوم مثلها إلى سبعين عاما لم تنفدوا، ثمّ لما أراد المسير أهدت إليه نصف رجل جراد و اعتذرت كما

قال الشاعر:

أهدت سليمان يوم العرض نملته
تأتى برجل جراد كان في فيها

ترنمت بفصيح القول و اعتذرت‏
إنّ الهدايا على مقدار مهديها

الثاني- في الجرادة

قال في حيوة الحيوان: الجراد معروف الواحدة جرادة الذكر و الانثى فيه سواء يقال هذه جرادة انثى كنملة و حمامة، قال أهل اللّغة: و هو مشتقّ من الجرد قالوا: و الاشتقاق في أسماء الأجناس قليل جدّا يقال: ثوب جرد أى أملس، و ثوب جرد إذا ذهب زبره.

و هو أصناف مختلفة فبعضه كبير، و بعضه صغير، و بعضه أصفر و بعضه أبيض و إذا خرج من بيضه يقال له الدبا، فاذا طلعت أجنحته و كبرت فهو الغوغا، الواحدة غوغاة و ذلك حين يموج بعضه في بعض، فاذا بدت فيه الألوان و اصفرت الذكور و اسودت الاناث سمّى جرادا حينئذ و إذا أراد أن يبيض التمس لبيضه المواضع الصّلدة و الصخور الصّلبة التي لا تعمل فيها المعاول فيضربها بذنبه فتفرج له فيلقى بيضه في ذلك الصّدع فيكون له كالافحوص و يكون حاضنا له و مربيا.

و للجرادة ستّة أرجل يدان في صدرها و قائمتان في وسطها و رجلان في مؤخّرها و طرفا رجليها منشاران، و هو من الحيوان الّذي ينقاد لرئيسه فيجتمع كالعسكر إذا ظعن أوله تتابع جميعه ظاعنا و إذا نزل أوله نزل جميعه، و لعابه سمّ ناقع للنبات لا يقع على شي‏ء منه إلّا أهلكه.

قال: و في الجراد خلقة عشرة من جبابرة الحيوان مع ضعفه: وجه فرس و عينا فيل، و عنق ثور، و قرنا ايل، و صدر أسد، و بطن عقرب، و جناحا نسر، و فخذا جمل، و رجلا نعامة، و ذنب حيّة.

و قد أحسن القاضي محيى الدّين في وصف الجراد بذلك في قوله:

فخذا بكر و ساقا نعامة
و قادمتا نسر و جؤجؤ ضيغم‏

حبتها أفاعى الأرض بطنا و أنعمت‏
عليها جياد الخيل بالرأس و الفم‏

قال الشارح المعتزلي: قال أبو عثمان في كتاب الحيوان: من عجائب الجرادة التماسها لبيضها الموضع الصّلد و الصّخور الملس ثقة بأنها إذا ضربت بأذنابها فيها انفرجت لها، و معلوم أنّ ذنب الجراد ليس في خلقة المنشار و لا طرف ذنبه كحدّ السّنان و لا لها من قوّة الاسر و لا لذنبها من الصّلابة ما اذا اعتمدت به على الكدية جرح فيها، كيف و هي تتعدّى إلى ما هو أصلب من ذلك.

و ليس في طرفها كابرة العقرب و على أنّ العقرب ليس تخرق القمقم بذنبها من جهد الأيد و قوّة البدن، بل انما ينفرج المها بطبع مجعول هناك، و كذلك انفراج الصخور لأذناب الجراد.
و لو أنّ عقابا أرادت أن تخرق جلد الجاموس لما انخرق لها إلّا بالتكلّف الشديد و العقاب هى التي تنكدر على الذئب فتقد بدابرتها ما بين صلوه إلى موضع الكاهل فاذا غرزت الجرادة و ألقت بيضها و انضمّت عليها تلك الأخاديد التي هي أحدثتها و صارت كالأفاحيص لها، صارت حاضنة لها و مربية و حافظة و صائنة واقية.

حتّى اذا جاءت وقت دبيب الرّوح فيها حدث عجب آخر لأنّه تخرج من بيضه أصهب إلى البياض، ثمّ يصفّر و يتكوّن فيه خطوط سود و بيض، و حجم جناحه ثمّ يستقل فيموج بعضه في بعض.
قال في حيوة الحيوان: تكتب هذه الكلمات و تجعل في انبوبة قصب و تدفن في الزرع أو في الكرم فانّه لا يؤذيه الجراد باذن اللّه تعالى و هي: «بسم اللّه الرّحمن الرّحيم اللّهمّ صلّ على سيّدنا محمّد و على آل سيّدنا محمّد و سلّم، اللّهمّ أهلك صغارهم و اقتل كبارهم، و افسد بيضهم و خذ بأفواههم عن معايشنا و أرزاقنا إنّك سميع الدّعاء، إنّى توكّلت على اللّه ربّي و ربّكم مامن دابّة إلّا هو آخذ بناصيتها إنّ ربّي على صراط مستقيم، اللّهم صلّ على سيّدنا محمد و على آل سيدنا محمّد و سلّم و استجب منّا يا أرحم الرّاحمين» و هو عجيب مجرّب.

الثالث- في الغراب

قال في حيوة الحيوان: الغراب معروف سمّى بذلك لسواده و منه قوله تعالى «و غرابيب سود» و كنيته أبو المرقال قال:

قال الشاعر:

انّ الغراب و كان يمشى مشية
فيما مضى من سالف الأجيال‏

حسد القطاة و رام يمشى مشيها
فأصابه ضرب من العقال‏

فأضلّ مشيته و أخطأ مشيها
فلذاك سمّوه أبا المرقال‏

و هو أصناف: العذاف، و الزاغ، و الاكحل، و غراب الزرع، و الاورق، و هذا الصنف يحكى جميع ما يسمعه، و الغراب الأعصم عزيز الوجود قالت العرب: أعزّ من الغراب الأعصم.
و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مثل المرأة الصالحة في النساء كمثل الغراب الأعصم في مأئة غراب رواه الطبراني من حديث أبي أمامة.

و في رواية ابن أبي شيبة قيل: يا رسول اللّه و ما الغراب الأعصم قال: الّذي إحدى رجليه بيضاء.
و قال في الاخبار الأعصم أبيض البطن، و قيل: أبيض الجناحين، و قيل: أبيض الرجلين، و غراب الليل قال الجاحظ: هو غراب ترك أخلاق الغربان و تشبه باخلاق البوم فهو من طير الليل.
و قال ارسطا طاليس: الغراب أربعة أجناس: أسود حالك، و أبلق، و مطرف ببياض لطيف الجرم يأكل الحبّ، و أسود طاووسى براق الرّيش و رجلاه كلون المرجان يعرف بالزاغ.

قال صاحب المنطق: الغراب من لئام الطير و ليس من كرامها و لا من أحرارها و من شأنه أكل الجيف و القمامات.

و هو إما حالك السّواد شديد الاحتراق، و يكون مثله في النّاس الزنج فانّهم شرار الخلق تركيبا و مزاجا كمن بردت بلاده و لم تنضجه الأرحام أو سخنت بلاده فأحرقته الأرحام، و إنما صارت عقول أهل بابل فوق العقول و كمالهم فوق الكمال لأجل ما فيها من الاعتدال، فالغراب الشديد السّواد ليس له معرفة و لا كمال.
و الغراب الأبقع كثير المعرفة و هو اللئيم من الأسود.
و غراب البين الأبقع قال الجوهري: هو الذي فيه سواد و بياض، و قال صاحب المجالسة: سمّي الغراب البين لأنه بان عن نوح عليه السّلام لما وجّهه لينظر إلى الماء فذهب و لم يرجع، و لذلك تشأموا به.

و قال صاحب منطق الطير: الغربان جنس من الأجناس التي امر بقتلها في الحلّ و الحرم من الفواسق، اشتقّ لها ذلك الاسم من اسم إبليس لما يتعاطاه من الفساد الذي هو شأن إبليس، و اشتقّ ذلك أيضا لكلّ شي‏ء اشتدّ أذاه، و أصل الفسق الخروج عن الشي‏ء، و في الشرع الخروج عن الطاعة.
و قال الجاحظ: غراب البين نوعان: أحدهما غراب صغير معروف باللّوم و الضعف و أمّا الاخر فانّه ينزل في دور النّاس و يقع على مواضع اقامتهم إذا ارتحلوا عنها و بانوا منها، فلما كان هذا الغراب لا يوجد إلّا عند بينونتهم عن منازلهم اشتقّوا له هذا الاسم من البينونة.

و قال المقدسي: هو غراب أسود ينوح نوح الحزين المصاب و ينعق بين الحلال «الخلّان» و الأحباب، و إذا رأى شملا مجتمعا انذر بشتاته، و إن شاهد ربعا عامرا بشّر بخرابه و دروس عرصاته، يعرّف النازل و الساكن بخراب الدّور و المساكن، و يحذّر الاكل غصّة الماكل، و يبشّر الراحل بقرب المراحل، ينعق بصوت فيه تحزين، كما يصيح المعلن بالتأذين، و أنشد على لسان حاله:

أنوح على ذهاب العمر منّى
و حق أن أنوح و أن أنادى‏

و أنذر كلّما عاينت ركبا
حدا بهم لو شك البين حادى‏

يعنّفني الجهول إذا رآني
و قد البست أثواب الحداد

فقلت له اتّعظ بلسان حالي‏
فانّى قد نصحتك باجتهاد

و ها أنا كالخطيب و ليس بدعا
على الخطباء أثواب السّواد

ألا ترنى إذا عاينت ركبا
أنادى بالنوى في كلّ ناد

أنوح على الطلول فلم يجبني
بساحتها سوى خرس الحماد

فأكثر في نواحيها نواحى‏
من البين المفتّت للفؤاد

تيقّظ يا ثقيل السّمع و افهم
إشارة من تسير به الغوادي‏

فما من شاهد في الكون إلّا
عليه من شهود الغيب بادى‏

و كم من رائح فيها و غاد
ينادى من دنوّ أو بعاد

لقد أسمعت لو ناديت حيّا
و لكن لا حياة لمن ينادى‏

قال الدميرى: و العرب تتشأم بالغراب و لذا اشتقّوا من اسمه الغربة و الاغتراب و الغريب.
و قال الجاحظ: و انما كان الغراب عندهم هو المقدم في باب الشوم لأنّه لما كان أسود و لونه مختلفا ان كان أبقع و لم يكن على ابلهم شي‏ء أشدّ من الغراب و كان حديد البصر يخاف من عينيه كما يخاف من عين المعيان قدّموه في باب الشوم، انتهى.

و يقال: إنّ الغراب يبصر من تحت الأرض بقدر منقاره، و في طبع الغراب كلّه: الاستتار عند السّفاد، و هو يسفد مواجهة و لا يعود إلى الأنثى بعد ذلك أبدا لقلّة وفائه، و الأنثى تبيض أربع بيضات أو خمسا.
و إذا خرجت الفراخ من البيض طردتها لأنّها تخرج قبيحة المنظر جدّا اذ تكون صغار الأجرام عظام الرءوس و المناقير، جرو اللون متفاوتات الأعضاء، فالأبوان ينكران الفراخ و يطيران لذلك و يتركانه، فيجعل اللّه قوته في الذباب و البعوض الكائن في عشه إلى أن يقوى و ينبت ريشه، فيعود إليه أبواه و على الأنثى الحضن و على الذكر أن يأتيها بالمطعم.

و في طبعه أنّه لا يتعاطى الصّيد بل إن وجد جيفة أكل منها و إلّا مات جوعا و يتقمقم كما يتقمقم صغار الطير، و فيه حذر شديد و تنافر، و الغذاف يقاتل البوم و يخطف بيضها و يأكله.
و من عجيب إنّ الانسان إذا أراد أن يأخذ فراخه تحمل الانثى و الذكر في زايد في أرجلهما حجارة و يتحلقان في الجوّ و يطرحان الحجارة عليه يريدان بذلك دفعه.

قال أبو الهثيم: يقال إنّ الغراب يبصر من تحت الأرض بقدر منقاره، و الحكمة في ذلك أن اللّه تعالى بعث إلى قابيل لما قتل أخاه هابيل غرابا و لم يبعث له غيره من الطير و لا من الوحش إن القتل كان مستغربا جدّا إذ لم يكن معهودا قبل ذلك، فناسب بعث الغراب.

عجيبة

نقل القزويني عن أبي حامد الاندلسى أنّ على البحر الأسود من ناحية الاندلس كنيسة من الصّخر منقورة في الجبل عليها قبّة عظيمة، و على القبّة غراب لا يبرح و في مقابل القبّة مسجد يزوره النّاس يقولون: إنّ الدّعاء فيه مستجاب، و قد قرّر على القسيسين ضيافة من يزور ذلك المسجد من المسلمين، فاذا قدم زائر دخل الغراب رأسه في روزنة على تلك القبّة و صاح صيحة، و إذا قدم اثنان صاح صيحتين و هكذا كلّما وصل زوار صاح على عددهم، فتخرج الرّهبان بطعام يكفى الزائرين و تعرف تلك الكنيسة بكنيسة الغراب، و زعم القسيسون أنهم ما زالوا يرون غرابا على تلك القبة و لا يدرون من أين يأكل أو يشرب.

الرابع- في العقاب

قال الدّميري: العقاب طاير معروف و الجمع أعقب قال في الكامل: العقاب سيّد الطيور و النسر عريفها، قال ابن ظفر: حاد البصر و لذلك قالت العرب: أبصر من عقاب، و الأنثى منه تسمّى لقوة و قال ابن خلكان: يقال: إنّ العقاب جميعه أنثى و إنّ الّذي يسافده طير آخر من غير جنسه، و قيل: إنّ الثعلب يسافده، قال:

و هذا من العجايب، و لابن عنين الشاعر في هجو شخص يقال له: ابن سيدة:
ما أنت إلّا كالعقاب فامّه معروفة و له أب مجهول‏

و العقاب تبيض ثلاث بيضات في الغالب، و تحضنها ثلاثين يوما و ما عداها من الجوارح يبيض بيضتين و يحضن عشرين يوما، فاذا خرجت فراخ العقاب ألقت واحدا منها لأنّها يثقل عليها طعم الثلاث و ذلك لقلّة صبرها، و الفرخ الّذي تلقيه يعطف عليه طائر آخر يسمى كاسر العظام، فيربّيه، و من عادة هذا الطائر أن يزقّ كلّ فرخ ضائع.
و العقاب إذا صادت شيئا لا تحمله على الفور إلى مكانها، بل تنقله من موضع إلى موضع، و لا تقعد إلّا على الأماكن المرتفعة، و إذا صادت الأرانب تبدء بصيد الصّغار ثمّ الكبار.

و من عجيب ما الهمته أنّها إذا اشتكت أكبادها أكلت أكباد الأرانب و الثعالب فتبرء، و هي تأكل الحيّات إلّا رؤوسها، و الطيور إلّا قلوبها، و يدلّ لهذا قول امرء القيس.

كأنّ قلوب الطير رطبا و يابسا لدى
و كرها العناب و الحشف البالي‏

و من شأنها أن جناحها لا يزال يخفق قال عمرو بن خرام:

لقد نركت عفراء قلبي
كأنّه جناح عقاب دائم الخفقان‏

و هي أشدّ الجوارح حرارة، و أقواها حركة، و أيبسها مزاجا، و هي خفيفة الجناح سريعة الطيران، تتغدى بالعراق و تتعشى باليمن، و ريشها الذي عليها فروتها بالشتاء و حليتها في الصّيف، و متى ثقلت عن النهوض و عميت حملتها الفراخ على ظهورها و نقلتها من مكان إلى مكان، فعند ذلك تلتمس لها عينا صافية بأرض الهند على رأس جبل فتغمسها فيها ثمّ تضعها في شعاع الشمس فيسقط ريشها و ينبت لها ريش جديد و تذهب ظلمة بصرها، ثمّ تغوص في تلك العين فاذا هي قد عادت شابة كما كانت فسبحان القادر على كلّ شي‏ء الملهم كلّ نفس هداها.

الخامس- في الحمام

قال الجوهري: هو عند العرب ذوات الأطواق نحو الفواخت و القماري«» و ساق حرّ و القطاء و الوراشين و أشباه ذلك، يقع على الذكر و الانثى لأنّ الهاء إنّما دخلت على أنّه واحد من جنس لا للتأنيث، و نقل الأزهرى عن الشافعي أنّ الحمام كل ما عبّ و هدر.

قال الدّميري: الحمام الذي يألف البيوت قسمان: أحدهما البرّي و هو الذي يلازم البروج و ما أشبه ذلك و هو كثير النفور و سمّى برّيا لذلك.
و الثاني الأهلي و هو أنواع مختلفة و أشكال متباينة منها الرواعب، و المراعيش و العداد، و السداد، و المضرب، و القلاب، و المنسوب، و هو بالنسبة إلى ما تقدّم كالعتاق من الخيل و تلك كالبراذين.
قال الجاحظ: الفقيع من الحمام كالصصلاب «الصقلاب ظ» من الناس و هو الأبيض.
قال الدّميري: و من طبعه أنّه يطلب و كره و لو ارسل من ألف فرسخ و يحمل الأخبار و يأتي بها من البلاد البعيدة في المدّة القريبة، و فيه ما يقطع ثلاثة آلاف فراسخ في يوم واحد، و ربما اصطيد و غاب عن وطنه حتّى يجد فرصة فيطير إليه.

و سباع الطير تطلبه أشدّ الطلب و خوفه من الشاهين أشدّ من خوفه من غيره، و هو أطير منه و من ساير الطيور كلّها لكنّه يذعر منه و يعتريه ما يعتريه الحمار من الأسد و الشاة إذا رأت الذئب و الفار إذا رأى الهرّ.
و من عجيب الطبيعة فيه ما حكاه ابن قتيبة في عيون الأخبار عن المثنّى بن زهير أنّه قال: لم أر شيئا قطّ من رجل و امرأة إلّا و قد رأيته في الحمام، رأيت حمامة لا تريد إلّا ذكرها و ذكرا لا يريد إلّا انثاه إلّا أن يهلك أحدهما أو يفقد، و رأيت حمامة تتزيّن للذكر ساعة يريدها، و ما رأيت حمامة لها زوج و هي تمكن آخرما تعدوه، و رأيت حمامة تقمط حمامة و يقال إنّها تبيض من ذلك و لكن لا يكون لذلك البيض فراخ، و رأيت ذكرا يقمط ذكرا، و رأيت ذكرا يقمط كلّ ما رأى و لا يزاوج و انثى يقمطها كلّ ما رآها من الذكور و لا تزاوج، و ليس من الحيوان ما يستعمل التقبيل عند السفاد إلّا الانسان و الحمام، و هو عفيف في السّفاد يجرّ ذنبه ليعفى أثر الأنثى كأنه قد علم ما فعلت فيجتهد في إخفائه، و قد يسفد لتمام ستة أشهر و الانثى تحمل أربعة عشر يوما و تبيض بيضتين إحداهما ذكر و الثانية انثى، و بين الاولى و الثّانية يوم و ليلة، و الذكر يجلس على البيض و يسخنه جزء من النّهار و الأنثى بقية النهار، و كذلك في اللّيل، و إذا باضت الأنثى و أبت الدّخول على بيضها لأمر مّا ضربها الذكر و اضطرّها للدّخول، و إذا أراد الذكر أن يسفد الأنثى اخرج فراخه من الذكر «الوكر» و قد الهم هذا النوع إذا خرجت فراخه من البيض بأن يمضغ الذكر ترابا مالحا و يطمّها إياه ليسهل به سبيل المطعم، و زعم ارسطو أنّ الحمام يعيش ثماني سنين.

و ذكر الثعلبي و غيره عن وهب بن منبه في قوله تعالى «وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ» قال: اختار من النعم الضأن، و من الطير الحمام.
و ذكر أهل التاريخ أنّ المسترشد باللّه لما حبس رأى في منامه كأنّ على يده حمامة مطوقة، فأتاه آت فقال له: خلاصك في هذا، فلما أصبح حكى ذلك لابن السكينة فقال له: ما أوّلته قال: أوّلته ببيت أبي تمام:

هنّ الحمام فان كسرت عيافة
من حائهن فانهنّ حمام‏

و خلاصي في حمامي، فقتل بعد أيام يسيره سنة تسع و عشرين و خمس مأئة.
و في البحار من الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن النّوفلي عن السّكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: اتّخذوا الحمام الراعبية في بيوتكم فانّها تلعن قتلة الحسين عليه السّلام.

و فيه من العيون و العلل سأل الشامي أمير المؤمنين عليه السّلام عن معنى هديرالحمام الراعبية فقال عليه السّلام: تدعو على أهل المعازف«» و القيان و المزامير و العيدان و من الكافي عن أبي خديجة قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: هذه الحمام حمام الحرم من نسل حمام إسماعيل بن إبراهيم التي كانت له.

و عن أبي سلمة قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: الحمام طير من طيور الأنبياء عليهم السّلام الّتي كانوا يمسكون في بيوتهم و ليس من بيت فيه حمام إلّا لم يصب ذلك البيت آفة من الجنّ، إنّ سفهاء الجن يعبثون بالحمام و يدعون الناس، قال فرأيت في بيت أبي عبد اللّه عليه السّلام حماما لابنه إسماعيل.

السادس- في النعام

قال في حيوة الحيوان: معروف يذكر و يؤنث، و هو اسم جنس مثل حمام و حمامة و جراد و جرادة و تجمع النعامة على نعامات قال الجاحظ: و الفرس يسمّونها شتر مرغ، و تأويله بعير و طائر

قال الشاعر:

و مثل نعامة تدعى
بعيرا تعاميا إذا ما قيل طيرى‏

فان قيل احملي قالت فإنّي‏
من الطير المرفه في الوكور

قال: و تزعم الأعراب أنّ النعامة ذهبت تطلب قرنين فقطعوا اذنيها، فلذلك سمّيت بالظليم، انتهى.
و كانهم انما سمّوها ظليما لأنّهم إنّما ظلموها حين قطعوا اذنيها و لم يعطوها ما طلبت، و هذا بناء على اعتقادهم الفاسد.
قال الدّميري: و النّعام عند المتكلّمين على طبايع الحيوان ليست بطاير و إن كانت تبيض و لها جناح و ريش، و يجعلون الخفّاش طيرا، و إن كان يحبل و يلد و له اذنان بارزتان و ليس له ريش لوجود الطيران فيه و مراعاة لقوله تعالى «إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ» و هم يسمّون الدّجاجة طيرا و إن كانت لا تطير.

و ظنّ بعض النّاس أنّ النعامة متولّدة من جمل و طاير، و هذا لا يصحّ، و من أعاجيبها أنّها تضع بيضها طولا بحيث لو مدّ عليها خيط لاشتمل على قدر بيضها و لم تجد لشي‏ء منه خروجا عن الاخر، ثمّ إنّها تعطى كلّ بيضة منه نصيبها من الحضن إذ كان كلّ بدنها لا يشتمل على عدد بيضها، و هي تخرج لعدم الطعم، فان وجدت بيض نعامة اخرى تحضنه و تنسى بيضها. و لعلّها ان تصاد فلا ترجع إليه و لهذا توصف بالحمق و يضرب بها المثل

قال الشاعر:

فاني و تركى ندى الأكرمين
و قد حى بكفّى زنادا شحاحا

كتاركة بيضها بالعراء
و ملبسة بيض أخرى جناحا

قال الدّميري: و النعام من الحيوان الذي يعاقب الذكر الانثى في الحضن و كل ذي رجلين إذا انكسرت له إحداهما استعان بالاخرى في نهوضه و حركته ما خلا النعامة فانها تبقى في مكانها جاثمة حتّى تهلك جوعا

قال الشاعر:

إذا انكسرت رجل النعامة لم تجد
على أختها نهضا و لا باستها حبوا

و ليس للنعام حاسة السمع و لكن له شمّ بليغ، فهو يدرك بأنفه ما يحتاج فيه إلى السمع، فربما شم رائحة القناص من بعد، و لذلك تقول العرب: هو أشم من النعامة قال ابن خالويه: ليس في الدّنيا حيوان لا يسمع و لا يشرب الماء أبدا إلّا النعام و لا مخّ له و متى رميت رجل واحدة له لم ينتفع بالباقية، و الضبّ أيضا لا يشرب و لكنه يسمع، و من حمقها أنها إذا ادركها القناص أدخل رأسها في كثيب رمل تقدّر أنها قد استخفت منه، و هو قوية الصّبر على ترك الماء و أشدّ ما يكون عدوها إذا استقبلت الريح، و كلّما اشتدّ عصوفها كانت أشدّ عدوا، و تبتلع العظم الصلب و الحجر و المدر و الحديد فتذيبه و تميعه كالماء.

قال الجاحظ: من زعم أنّ جوف النعام يذيب الحجارة لفرط الحرارة فقد أخطأ و لكن لا بدّ مع الحرارة من غرائز آخر بدليل أنّ القدر يوقد عليها الأيام و لا تذيب الحجارة، و كما أنّ جوفي الكلب و الذئب يذيبان العظم و لا يذيبان نوى التمر، و كما أنّ الابل تأكل الشوك و تقتصر عليه و إن كان شديدا كالسّمر و هو شجر أمّ غيلان و تلقيه‏ردما، و إذا أكلت الشعير ألقته صحيحا انتهى.

و إذا رأت النعامة في اذن صغير لؤلؤة أو حلقة اختطفها و تبتلع الجمر فيكون جوفها هو الحامل في إطفائه و لا يكون الجمر عاملا في إحراقه، و في ذلك اعجوبتان إحداهما التغذي بما لا يتغذى به، و الثانية الاستمراء و الهضم، و هذا غير منكر لأنّ السّمندل يبيض و يفرخ في النار.

فسبحان من أعطى كلّ شي‏ء خلقه ثمّ هدى، و أبدع في الملك و الملكوت من لطايف القدرة من الحكمة ما فيه كفاية لمن اهتدى، و اودع فيهما من بدايع الصنع و الخلقة ما لا يعدّ و لا يحصى، و في أدنى مصنوعاته و مكوّناته تذكرة و ذكري لاولى النهى، شرح اللّه صدورنا للاهتداء إلى مناهج المعرفة بالتحقيق، و الارتقاء إلى معارج اليقين و التصديق انّه وليّ التوفيق.

الترجمة

از جمله خطب شريفه آن امام أنام و وصي والا مقام است در صفات كمال و نعوت جمال حضرت ذو الجلال و شهادت برسالت حضرت خاتم الأنبياء و نبيّ مصطفى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ذكر عجايب مخلوقات و غرايب مصنوعات مى ‏فرمايد: حمد و ثنا مر خداوندى را سزاست كه درك نمى‏تواند بكند او را حواس، و احاطه نمى ‏تواند بكند بر او مجلسها، و نمى ‏بيند او را چشمها، و محجوب نمى سازد او را پردها دلالت كننده است بر قدم خود بحدوث خلق خود، و بحدوث مخلوقات خود بر وجود خود، و با مشابه بودن مخلوقات بر اين كه شبيه نيست او را، آن خداوندى كه صادق است در وعدهاى خود و مرتفع است از ظلم بندگان خود، و قائمست بعدالت در خلق خود، و عادل است بر ايشان در حكم خود، شاهد آورنده است با حادث بودن أشياء بر أزليّت خود، و با چيزى كه علامت زده بر آنها كه عجز و انكسار است بر قدرت خود، و با چيزى كه مضطر نموده است آنها را بسوى آن كه فنا و نابوديست بر دوام وجود خود.

يكى است نه به شماره عدد، دائم الوجود است نه با مدّت، و قائمست نه باعتماد بچيزى. استقبال مي كنند او را ذهنها نه با طريق مشاعر و حواس، و شهادت‏مى‏ دهند بر وجود او مرئيات و مبصرات نه با عنوان حضور، و احاطه نكرد او را وهمها بلكه هويدا شد از براى أوهام بأوهام و بسبب عقلها ممتنع شد از ادراك عقول و بسوى عقلها محاكمه كرد عقلها را خداوند متعال صاحب بزرگي نيست چنان بزرگى كه ممتد بشود بوجود او نهايات و أطراف پس بزرگ گرداند نهايات او را در حالتى كه صاحب جسم باشد، و صاحب عظمت نيست چنان عظمتى كه منتهى بشود بأوغايتها پس عظيم نمايند او را در حالتى كه صاحب جسد باشد بلكه بزرگست از حيثيت شأن و عظيمست از حيثيت سلطنت.

و شهادت مى‏ دهم كه محمّد بن عبد اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بنده برگزيده او است و أمين پسنديده او، فرستاد او را با حجت‏هاى واجب، و با ظفر و غلبه ظاهر، و با واضح نمودن راه پس رسانيد رسالت را در حالتى كه شكافنده بود ميان حق و باطل را، و حمل كرد خلق را براه راست در حالتى كه دلالت كننده بود بر آن، و بر پا نمود علمهاى راه يافتن و منارهاى روشنى را، و گرداند كوههاى اسلام را محكم و ريسمانهاى ايمان را بغايت استوار.

و بعضى از فقرات اين در وصف خلقت عجيبه و غريبه اصنافي از حيواناتست مى‏ فرمايد: اگر فكر مى‏ كردند در قدرت عظيمه و نعمت جسيمه پروردگار هر آينه بر مى ‏گشتند براه راست، و مى ‏ترسيدند از عذاب آتش، و لكن قلبها ناخوش است و ديدها معيوب آيا نظر نمى‏ كنند بسوى كوچك آنچه خلق فرموده از حيوان چگونه محكم ساخته خلقت آنرا و استوار گردانيده تركيب آن را، و شكافته از براى آن گوش و چشم را، و معتدل نمود از براى او استخوان و پوست را.

نظر بكنيد بسوى مورچه در غايت خوردى جثه او و لطافت هيئت او نزديك نيست كه ادراك شود بنگريستن بگوشه چشم و نه با طلب درك فكرها چگونه حركت مى‏ نمايد بر زمين خود، و هجوم آورد بر روزي خود، نقل مي كند دانه را بسوى سوراخ خود، و مهيا مى ‏نمايد آن دانه را در مقرّ خود، و جمع مي كند آن را در گرماى خوداز براى سرماى خود، و در أيام تمكّن خود براى أيام عجز خود، كفيل كرده شده بروزى آن، و روزى داده شده بچيزى كه موافق مزاج او است در حالتي غفلت نمى ‏نمايد از آن خداوندى كه كثير العطاء است، و محروم نمى‏ فرمايد آنرا خدائى كه جزا دهنده بندگانست اگر چه بوده باشد آن مورچه در سنگ سخت و خشك و در سنگ محكم و استوار.

و اگر فكر نمودى در مجراهاى غذاى او و در بلندى و پستى أعضاى او و در آنچه در درون او است از أطراف دنده‏ها كه مشرفست بشكم او، و در آنچه كه در سر او است از چشم او و گوش او هر آينه تعجب مى ‏كردى از خلقت آن بغايت تعجّب، و ملاقات مى‏ كردى از وصف آن بتعب و مشقت، پس بلند است خداوندى كه بر پا داشت آنرا بقائمهاى آن كه دست و پاى او است، و بنا نمود عمارت بدن آنرا بر ستونهاى آن كه اعضا و جوارح او است، در حالتى كه شريك نشد او را در آفريدن آن هيچ آفريننده و اعانت نكرد او را در خلقت آن هيچ صاحب قدرت.

و اگر سير كنى در راههاى فكر خودت تا برسى بنهايتهاى آن راه ننمايد تو را راه نماينده مگر بر اين كه خالق مورچه كوچك همان خالق درخت خرماى بزرگ است از جهت دقت و لطافت تفصيل هر شي‏ء و از جهت صعوبت و غموض اختلاف هر ذى حياة، و نيست بزرگ جثه و لطيف بدن و سنگين و سبك و صاحب قوّت و صاحب ضعف در ايجاد فرمودن او مگر يكسان، و همچنين آسمان و هوا و آب و باد.

پس نظر كن بسوى مهر و ماه و درخت و گياه و آب و سنگ و بسوى اختلاف نمودن اين شب و روز و منفجر شدن اين درياها و بسيارى اين كوهها و درازى اين سرهاى كوهها و متفرق شدن اين لغتها و زبانهاى مختلف گوناگون.
پس واي بر كسى كه انكار نمايد خداوند صاحب تقدير را، و كافر شود بخداوند صاحب تدبير، و گمان كرده‏اند كه ايشان مثل گياه خودرويند كه نيست ايشان را زراعت كننده، و نه از براى صورتهاي مختلفه ايشان آفريننده، و استناد نكردند بدليلي در آن چيزى كه ادعا نمودند، و بتحقيقي در آن چيزى كه حفظ كردند و ذهني‏ايشان شد، آيا ممكن بشود بنائي بدون بنا كننده يا جنايتي بدون جنايت زننده و اگر خواستى گفتى در ملخ آنچه كه در مورچه گفتي هنگامى كه خلق فرمود خداوند عالم از براى آن دو چشم سرخ، و بر افروخت از براى آن دو حدقه روشن، و گردانيد از براى آن قوّه سامعه كه پنهان است و واز نمود از براى آن دهن مساوى، و قرار داد از براى آن قوّه حسّاسه با قوّت و دو دندان كه با آنها قطع مي كند گياه را و دو پاى مثل دو داس كه به آنها قبض ميكند علف را، مى‏ترسند از آن صاحبان زراعت در زراعت خودشان و استطاعت ندارند دفع كردن آن را اگر چه جمع آورى نمايند چه جمعيّت خودشان را و حال آنكه خلقت آن تماما باندازه انگشت باريك نمى ‏شود.

پس بلند است آن خدائى كه سجده مي كند او را أهل آسمانها و زمين با رضا و كراهت، و مى ‏مالد بخاك از براى او رخسار و روى را، و مى‏اندازند جلو فرمان بردارى را بسوى او از حيثيت ضعف و تسليم، و مى‏ دهند او را افسار انقياد از جهة خوف و ترس پس مرغ‏ها مسخّرند از براى أمر او، شمرده شماره پرها و نفسهاى آنها را، و محكم ساخته و ثابت نموده پاهاى آنها را برترى و برخشكى، مقدر فرموده روزيهاى آنها را، و شمرده و ضبط كرده جنسهاى آنها را، پس اين كلاغ است، و اين هما است و اين كبوتر است، و اين شتر مرغ است، دعوت فرمود هر مرغى را بنام خود، و كفالت كرد بروزى آن، و ايجاد نمود ابر سنگين را، پس بارانيد باران نرم بي رعد و برق آن را، و شمرد قسمتهاى آن را كه بهر ولايت باندازه معين تقسيم شده پس تر ساخت آن باران زمين را پس از خشك شدن آن، و بيرون آورد گياه آن را بعد از قحط سالى آن

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 183 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 184 صبحی صالح

184- و من كلام له ( عليه ‏السلام  ) قاله للبرج بن مسهر الطائي و قد قال له بحيث يسمعه «لا حكم إلا للّه»، و كان من الخوارج‏

اسْكُتْ قَبَحَكَ اللَّهُ يَا أَثْرَمُ

فَوَاللَّهِ لَقَدْ ظَهَرَ الْحَقُّ فَكُنْتَ فِيهِ ضَئِيلًا شَخْصُكَ خَفِيّاً صَوْتُكَ حَتَّى إِذَا نَعَرَ الْبَاطِلُ نَجَمْتَ نُجُومَ قَرْنِ الْمَاعِزِ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج10  

و هو المأة و الثالث و الثمانون من المختار في باب الخطب

قاله للبرج بن مسهر الطّائي و قد قال له بحيث يسمعه: لا حكم إلّا للّه، و كان من الخوارج: أسكت قبّحك اللّه يا أثرم فو اللّه لقد ظهر الحقّ فكنت فيه ضئيلا شخصك، خفيّا صوتك، حتّى إذا نعر الباطل نجمت نجوم قرن الماعز.

اللغة

(البرج) بضمّ الباء الموحّدة و الراء المهملة ثمّ الجيم و (مسهر) بضمّ الميم و كسر الهاء و (قبّحك اللّه) بالتخفيف و التشديد أى نحّاك و قيل: من قبحت الجوزة كسرتها و (الثرم) بالفتح سقوط الاسنان و (ضؤل) الرّجل بالضمّ ضؤلة نحف‏و حقر، و ضؤل رأيه صغر و (الماعز) واجد المعز من الغنم اسم جنس و هو خلاف الضّأن.

الاعراب

جملة قبّحك اللّه دعائيّة لا محلّ لها من الاعراب و قوله: كنت فيه ضئيلا شخصك: يجوز أن يكون كان ناقصة اسمها تاء الخطاب و ضئيلا خبرها و فيه متعلّقا به مقدّما عليه للتوسّع و شخصك بالرّفع فاعل ضئيلا قام مقام الضمير الرابط للجرّ إلى الاسم من أجل اضافته إلى كاف الخطاب الّذي هو عين الاسم أو أنه بدل من اسم كان.

و يجوز أن تكون تامّة و ضئيلا حالا من فاعلها و شخصك فاعل الحال و باضافته إلى كاف الخطاب استغنى أيضا عن الرابط للحال أو أنه حال من شخصك مقدّم على صاحبه و شخصك بدل من فاعل كان، و هذا مبنيّ على ما هو الأصحّ من مذهب علماء الأدبيّة من أنّ العوامل اللّفظيّة كلّها تعمل في الحال إلّا كان و أخواتها و إلّا فيجوز على تقدير كون كان ناقصة جعل ضئيلا حالا أيضا فيكون فيه خبرها و يكون ظرفا مستقرّا، فافهم جيّدا.

المعنى

اعلم أنّ هذا الكلام حسبما أشار إليه السيّد (قاله للبرج بن مسهر الطائى) على وجه التعريض و التحقير (و قد قال له) البرج بشعار الخوارج (بحيث يسمعه لا حكم إلّا للّه) أى لا لك، و في نسخة الشارح البحراني لا حكم إلّا اللّه أى لا أنت (و كان) البرج ذلك (من الخوارج) من شعرائهم المشهورة.

فقال عليه السّلام (اسكت قبّحك اللّه) أى نحّاك عن الخير أو كسرك (يا أثرم) أى الساقط الثنية دعاه بافته إهانة و تحقيرا كما هو العادة في تنقيص صاحب العاهات و إهانتهم، فيقال: يا أعور و يا أعرج و نحو ذلك (فو اللّه لقد ظهر الحقّ فكنت فيه) أى في ظهور الحقّ و قوّة الاسلام و زمان العدل (ضئيلا شخصك) أى حقيرا خامل الذكر (خفيّا صوتك) كناية عن عدم التفات أحد إلى أقواله و عدم الاستماع و التوجّه‏إليها (حتّى إذا نعر الباطل) أى صاح.

قال الشارح البحراني استعار لفظ النعير لظهور الباطل ملاحظة لشبهه في قوّته و ظهوره بالرجل الضّائل الصائح بكلامه عن جرأة و شجاعة.
(نجمت نجوم قرن الماعز) أى طلعت بلا شرف و لا سابقة و لا شجاعة و لا قدم، بل بغتة و على غفلة كما يطلع قرن الماعز، و الغرض من التشبيه توهين المشبّه و تحقيره حيث شبّهه بأمر حقير.

الترجمة

از جمله كلام آن والامقام است مر برج بن مسهر الطائى را و بتحقيق گفت آن ملعون مر آن حضرت را بحيثى كه مى‏ شنوانيد او را كه: هيچ حكم نيست مگر خداى را و بود آن ملعون از جمله خوارج نهروان آن حضرت فرمود: ساكت باش دور گرداند خدا تو را از خير أى دندان افتاده، پس قسم بخدا كه بتحقيق ظاهر شد حق پس بودى تو در آن حقير و نحيف، شخص تو خفى، و پنهان بود آواز تو تا اين كه نعره زد باطل طلوع كردى و ظاهر شدى مثل ظاهر شدن شاخ بز.

هذا آخر المجلد العاشر من هذه الطبعة الجديدة القيمة، و قد وفق لتصحيحه و ترتيبه و تهذيبه العبد- الحاج السيد ابراهيم الميانجى- عفى عنه و عن والديه، في اليوم الرابع عشر من شهر ربيع الاول سنة- 1382- و سيليه انشاء اللّه الجزء الحادى عشر و اوله: «المختار المأة و الرابع و الثمانون» و الحمد للّه ربّ العالمين

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 182 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 183 صبحی صالح

183- من خطبة له ( عليه ‏السلام  ) في قدرة اللّه و في فضل القرآن و في الوصية بالتقوى

الله تعالى‏

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ وَ الْخَالِقِ مِنْ غَيْرِ مَنْصَبَةٍ

خَلَقَ الْخَلَائِقَ بِقُدْرَتِهِ وَ اسْتَعْبَدَ الْأَرْبَابَ بِعِزَّتِهِ وَ سَادَ الْعُظَمَاءَ بِجُودِهِ

وَ هُوَ الَّذِي أَسْكَنَ الدُّنْيَا خَلْقَهُ وَ بَعَثَ إِلَى الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ رُسُلَهُ لِيَكْشِفُوا لَهُمْ عَنْ غِطَائِهَا

وَ لِيُحَذِّرُوهُمْ مِنْ ضَرَّائِهَا وَ لِيَضْرِبُوا لَهُمْ أَمْثَالَهَا وَ لِيُبَصِّرُوهُمْ عُيُوبَهَا وَ لِيَهْجُمُوا عَلَيْهِمْ بِمُعْتَبَرٍ مِنْ تَصَرُّفِ مَصَاحِّهَا وَ أَسْقَامِهَا

وَ حَلَالِهَا وَ حَرَامِهَا وَ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لِلْمُطِيعِينَ مِنْهُمْ وَ الْعُصَاةِ مِنْ جَنَّةٍ وَ نَارٍ وَ كَرَامَةٍ وَ هَوَانٍ

أَحْمَدُهُ إِلَى نَفْسِهِ كَمَا اسْتَحْمَدَ إِلَى خَلْقِهِ وَ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدْراًوَ لِكُلِّ قَدْرٍ أَجَلًا وَ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَاباً

فضل القرآن‏

منهافَالْقُرْآنُ آمِرٌ زَاجِرٌ وَ صَامِتٌ نَاطِقٌ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ

أَخَذَ عَلَيْهِ مِيثَاقَهُمْ وَ ارْتَهَنَ عَلَيْهِمْ أَنْفُسَهُمْ

أَتَمَّ نُورَهُ وَ أَكْمَلَ بِهِ دِينَهُ وَ قَبَضَ نَبِيَّهُ ( صلى‏ الله ‏عليه‏ وآله  )وَ قَدْ فَرَغَ إِلَى الْخَلْقِ مِنْ أَحْكَامِ الْهُدَى بِهِ

فَعَظِّمُوا مِنْهُ سُبْحَانَهُ مَا عَظَّمَ مِنْ نَفْسِهِ

فَإِنَّهُ‏ لَمْ يُخْفِ عَنْكُمْ شَيْئاً مِنْ دِينِهِ وَ لَمْ يَتْرُكْ شَيْئاً رَضِيَهُ أَوْ كَرِهَهُ إِلَّا وَ جَعَلَ لَهُ عَلَماً بَادِياً وَ آيَةً مُحْكَمَةً تَزْجُرُ عَنْهُ أَوْ تَدْعُو إِلَيْهِ

فَرِضَاهُ فِيمَا بَقِيَ وَاحِدٌ وَ سَخَطُهُ فِيمَا بَقِيَ وَاحِدٌ

وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرْضَى عَنْكُمْ بِشَيْ‏ءٍ سَخِطَهُ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَ لَنْ يَسْخَطَ عَلَيْكُمْ بِشَيْ‏ءٍ رَضِيَهُ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ

وَ إِنَّمَا تَسِيرُونَ فِي أَثَرٍ بَيِّنٍ وَ تَتَكَلَّمُونَ بِرَجْعِ قَوْلٍ قَدْ قَالَهُ الرِّجَالُ مِنْ قَبْلِكُمْ

قَدْ كَفَاكُمْ مَئُونَةَ دُنْيَاكُمْ وَ حَثَّكُمْ عَلَى الشُّكْرِ وَ افْتَرَضَ مِنْ أَلْسِنَتِكُمُ الذِّكْرَ

الوصية بالتقوى‏

وَ أَوْصَاكُمْ بِالتَّقْوَى وَ جَعَلَهَا مُنْتَهَى رِضَاهُ وَ حَاجَتَهُ مِنْ خَلْقِهِ

فَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِعَيْنِهِ وَ نَوَاصِيكُمْ بِيَدِهِ وَ تَقَلُّبُكُمْ فِي قَبْضَتِهِ

إِنْ أَسْرَرْتُمْ عَلِمَهُ وَ إِنْ أَعْلَنْتُمْ كَتَبَهُ قَدْ وَكَّلَ بِذَلِكَ حَفَظَةً كِرَاماً لَا يُسْقِطُونَ حَقّاً وَ لَا يُثْبِتُونَ بَاطِلًا

وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاًمِنَ الْفِتَنِ وَ نُوراً مِنَ الظُّلَمِ

وَ يُخَلِّدْهُ فِيمَا اشْتَهَتْ نَفْسُهُ وَ يُنْزِلْهُ مَنْزِلَ الْكَرَامَةِ عِنْدَهُ فِي دَارٍ اصْطَنَعَهَا لِنَفْسِهِ

ظِلُّهَا عَرْشُهُ وَ نُورُهَا بَهْجَتُهُ وَ زُوَّارُهَا مَلَائِكَتُهُ وَ رُفَقَاؤُهَا رُسُلُهُ فَبَادِرُوا الْمَعَادَ وَ سَابِقُوا الْآجَالَ

فَإِنَّ النَّاسَ يُوشِكُ أَنْ يَنْقَطِعَ بِهِمُ الْأَمَلُ وَ يَرْهَقَهُمُ الْأَجَلُ وَ يُسَدَّ عَنْهُمْ بَابُ التَّوْبَةِ

فَقَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي مِثْلِ مَا سَأَلَ إِلَيْهِ الرَّجْعَةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ

وَ أَنْتُمْ بَنُو سَبِيلٍ عَلَى سَفَرٍ مِنْ دَارٍ لَيْسَتْ بِدَارِكُمْ

وَ قَدْ أُوذِنْتُمْ مِنْهَا بِالِارْتِحَالِ وَ أُمِرْتُمْ فِيهَا بِالزَّادِ

وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ لِهَذَا الْجِلْدِ الرَّقِيقِ صَبْرٌ عَلَى النَّارِ فَارْحَمُوا نُفُوسَكُمْ فَإِنَّكُمْ قَدْ جَرَّبْتُمُوهَا فِي مَصَائِبِ الدُّنْيَا

أَ فَرَأَيْتُمْ جَزَعَ أَحَدِكُمْ مِنَ الشَّوْكَةِ تُصِيبُهُ وَ الْعَثْرَةِ تُدْمِيهِ وَ الرَّمْضَاءِ تُحْرِقُهُ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ بَيْنَ طَابَقَيْنِ مِنْ نَارٍ ضَجِيعَ حَجَرٍ وَ قَرِينَ شَيْطَانٍ

أَ عَلِمْتُمْ أَنَّ مَالِكاً إِذَا غَضِبَ عَلَى النَّارِ حَطَمَ بَعْضُهَا بَعْضاً لِغَضَبِهِ

وَ إِذَا زَجَرَهَا تَوَثَّبَتْ بَيْنَ أَبْوَابِهَا جَزَعاً مِنْ زَجْرَتِهِ

أَيُّهَا الْيَفَنُ الْكَبِيرُ الَّذِي قَدْ لَهَزَهُ الْقَتِيرُ كَيْفَ أَنْتَ إِذَا الْتَحَمَتْ أَطْوَاقُ النَّارِ بِعِظَامِ الْأَعْنَاقِ وَ نَشِبَتِ الْجَوَامِعُ حَتَّى أَكَلَتْ لُحُومَ السَّوَاعِدِ

فَاللَّهَ اللَّهَ مَعْشَرَ الْعِبَادِ وَ أَنْتُمْ سَالِمُونَ فِي الصِّحَّةِ قَبْلَ السُّقْمِ وَ فِي الْفُسْحَةِ قَبْلَ الضِّيقِ

فَاسْعَوْا فِي فَكَاكِ رِقَابِكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُغْلَقَ رَهَائِنُهَا

أَسْهِرُوا عُيُونَكُمْ وَ أَضْمِرُوا بُطُونَكُمْ وَ اسْتَعْمِلُوا أَقْدَامَكُمْ وَ أَنْفِقُوا أَمْوَالَكُمْ

وَ خُذُوا مِنْ أَجْسَادِكُمْ فَجُودُوا بِهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَ لَا تَبْخَلُوا بِهَا عَنْهَا

فَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ‏وَ قَالَ تَعَالَى مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ‏

فَلَمْ يَسْتَنْصِرْكُمْ‏مِنْ ذُلٍّ وَ لَمْ يَسْتَقْرِضْكُمْ مِنْ قُلٍّ اسْتَنْصَرَكُمْ وَ لَهُ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَ اسْتَقْرَضَكُمْ وَ لَهُ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ

وَ إِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا

فَبَادِرُوا بِأَعْمَالِكُمْ تَكُونُوا مَعَ جِيرَانِ اللَّهِ فِي دَارِهِ

رَافَقَ بِهِمْ رُسُلَهُ وَ أَزَارَهُمْ مَلَائِكَتَهُ وَ أَكْرَمَ أَسْمَاعَهُمْ أَنْ تَسْمَعَ حَسِيسَ نَارٍ أَبَداً

وَ صَانَ أَجْسَادَهُمْ أَنْ تَلْقَى لُغُوباً وَ نَصَباً ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ‏

أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ‏عَلَى نَفْسِي وَ أَنْفُسِكُمْ وَ هُوَ حَسْبُنَا وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج10  

و من خطبة له عليه السّلام و هى المأة و الثانية و الثمانون من المختار فى باب الخطب

الحمد للّه المعروف من غير رؤية، الخالق من غير منصبة، خلق الخلائق بقدرته، و استعبد الأرباب بعزّته، و ساد العظماء بجوده، و هو الّذي أسكن الدّنيا خلقه، و بعث إلى الجنّ و الإنس رسله،ليكشفوا لهم عن غطائها، و ليحذّروهم من ضرائها، و ليضربوا لهم أمثالها، و ليبصّروهم عيوبها، و ليهجموا عليهم بمعتبر من تصرّف مصاحّها و أسقامها، و حلالها و حرامها، و ما أعدّ سبحانه للمطيعين منهم و العصاة من جنّة و نار، و كرامة و هوان، أحمده إلى نفسه كما استحمد إلى خلقه، جعل لكلّ شي‏ء قدرا، و لكلّ قدر أجلا، و لكلّ أجل كتابا.

منها: في ذكر القرآن فالقرآن آمر زاجر، و صامت ناطق، حجّة اللّه على خلقه، أخذ عليهم ميثاقه، و ارتهن عليه أنفسهم، أتمّ نوره، و أكرم به دينه، و قبض نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و قد فرغ إلى الخلق من أحكام الهدى به، فعظّموا منه سبحانه ما عظّم من نفسه، فإنّه لم يخف عنكم شيئا من دينه، و لم يترك شيئا رضيه أو كرهه إلّا و جعل له علما باديا، و اية محكمة تزجر عنه أو تدعو إليه، فرضاه فيما بقي واحد، و سخطه فيما بقي واحد.

و اعلموا أنّه لن يرض عنكم بشي‏ء سخطه على من كان قبلكم، و لن يسخط عليكم بشي‏ء رضيه ممّن كان قبلكم، و إنّما تسيرون في أثر بيّن، و تتكلّمون برجع قول قد قاله الرّجال من قبلكم، قدكفاكم مؤنة دنياكم، و حثّكم على الشّكر، و افترض من ألسنتكم الذّكر، و أوصاكم بالتّقوى و جعلها منتهى رضاه، و حاجته من خلقه، فاتّقوا اللّه الّذي أنتم بعينه، و نواصيكم بيده، و تقلّبكم في قبضته، إن أسررتم علمه، و إن أعلنتم كتبه، قد وكّل بكم حفظة كراما، لا يسقطون حقّا، و لا يثبتون باطلا.

و اعلموا أنّ من يتّق اللّه يجعل له مخرجا من الفتن، و نورا من الظّلم، و يخلّده فيما اشتهت نفسه، و ينزّله منزلة الكرامة عنده في دار اصطنعها لنفسه، ظلّها عرشه، و نورها بهجته، و زوّارها ملائكته، و رفقاءها رسله، فبادروا المعاد، و سابقوا الاجال، فإنّ النّاس يوشك أن ينقطع بهم الأمل، و يرهقهم الأجل، و يسدّ عنهم باب التّوبة، فقد أصبحتم في مثل ما سأل إليه الرّجعة من كان قبلكم، و أنتم بنو سبيل على سفر من دار ليست بداركم، و قد أوذنتم منها بالارتحال، و أمرتم فيها بالزّاد.

و اعلموا أنّه ليس لهذا الجلد الرّقيق صبر على النّار، فارحموا نفوسكم فإنّكم قد جرّبتموها في مصائب الدّنيا أ فرأيتم جزع أحدكم من الشّوكة تصيبه، و العثرة تدميه، و الرّمضاء تحرقه، فكيف إذاكان بين طابقين من نار، ضجيع حجر، و قرين شيطان، أعلمتم أنّ مالكا إذا غضب على النّار حطم بعضها بعضا لغضبه، و إذا زجرها توثّبت بين أبوابها جزعا من زجرته، أيّها اليفن الكبير الّذي قد لهزه القتير، كيف أنت إذا التحمت أطواق النّار بعظام الأعناق، و نشبت الجوامع حتّى أكلت لحوم السّواعد.

فاللّه اللّه معشر العباد و أنتم سالمون في الصّحّة قبل السّقم، و في الفسحة قبل الضّيق، فاسعوا في فكاك رقابكم من قبل أن تغلق رهائنها، أسهروا عيونكم، و أضمروا بطونكم، و استعملوا أقدامكم و أنفقوا أموالكم، و خذوا من أجسادكم ما تجودوا بها على أنفسكم و لا تبخلوا بها عنها، فقد قال اللّه سبحانه- إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ- و قال:- مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ- فلم يستنصركم من ذلّ، و لم يستقرضكم من قلّ، استنصركم و له جنود السّموات و الأرض و هو العزيز الحكيم، و استقرضكم و له خزائن السّموات و الأرض و هو الغنيّ الحميد، و إنّما أراد أن يبلوكم أيّكم أحسن عملا، فبادروا بأعمالكم، تكونوا مع جيران اللّه في داره، رافق بهم رسله، و أزارهم‏ملائكته، و أكرم أسماعهم أن تسمع حسيس نار أبدا، و صان أجسادهم أن تلقى لغوبا و نصبا- ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ- أقول ما تسمعون، و اللّه المستعان على نفسي و أنفسكم، و هو حسبنا و نعم الوكيل.

اللغة

(نصب) نصبا من باب تعب أعيا و عيش ناصب و ذو منصبة فيه كدّ و جهد و نصبه الهمّ أتعبه و (هجمت) عليه هجوما من باب قعد دخلت على غفلة منه، و هجمت على القوم جعلت يهجم عليهم يتعدّي و لا يتعدّى و (المصاح) جمع مصحّة مفعلة من الصحّة كمضار جمع مضرّة، و الصّوم مصحّة بفتح الصاد و كسرها أى فيه صحّة أو يصحّ به و (سخط) سخطا من باب تعب غضب.

و (رجع قول) قال الشارح البحراني أى المردد منه، و لعلّه وهم لأنّ الترديد معنى الترجيح مصدر باب التفعيل و منه ترجيع الصّوت و هو تحريكه، و ترجيع الأذان و هو تكرير فصوله، و في القاموس الرجيع من الكلام المردود إلى صاحبه و الروث و كلّ مردود و لم يذكر في معاني رجع الترديد، فالظاهر أنه بمعنى النفع من قولهم ليس له منه رجع أى نفع و فائدة قال في القاموس: الرجع النفع و رجع كلامي فيه أفاد.

و (يوشك) أن يكون كذا بكسر الشين من أفعال المقاربة مضارع أو شك يفيد الدنوّ من الشي‏ء، و قال الفارابي الايشاك الاسراع، و قال النحاة استعمال المضارع أكثر من الماضي و استعمال اسم الفاعل قليل و قد استعملوا ماضيا ثلاثيا فقالوا و شك مثل قرب و شكا، و في القاموس و شك الأمر ككرم سرع كوشك و أوشك أسرع السير كواشك و يوشك الأمر أن يكون و أن يكون الأمر و لا تفتح شينه أو لغة رديئةو (رهقت) الشي‏ء رهقا من باب تعب قربت منه، قال أبو زيد: طلبت الشي‏ء حتّى رهقته و كدت آخذه أو أخذته، و قال: رهقته أدركته و رهقه الدّين غشيه و (الطابق) وزان هاجر و صاحب و رويا معا الاجر الكبير، و ظرف يطبخ فيه معرب تابه و الجمع طوابيق و (اليفن) محرّكة الشيخ الكبير و (لغب) لغبا من باب قتل و تعب لغوبا أعيا و تعب.

الاعراب

الباء في قوله عليه السّلام: بمعتبر، للمصاحبة أو التعدية، و من في قوله: من تصرّف بيانية، و حلالها بالجرّ عطف على تصرّف أو على أسقامها، و قوله: و ما أعدّ اللّه، إما عطف على معتبر أو على عيوبها، و الى في قوله: أحمده إلى نفسه، لانتهاء الغاية كما في نحو الأمر إليك أى منته إليك قال ابن هشام: و يقولون أحمد إليك اللّه، أى انهى حمده إليك آه، و في قوله كما استحمد إلى خلقه، لانتهاء الغاية أيضا أو بمعنى من كما في قول الشاعر:

تقول و قد عاليت بالكور فوقها
أيسقى فلا يروى إلىّ ابن احمرا

أى منّى، و من في قوله: فعظموا منه زايدة أى عظموه، و ما في قوله: ما عظم مصدرية، و حاجته بالنصب عطف على منتهى.
و قوله: من ألسنتكم الذكر، قال الشارح المعتزلي من متعلّقة بمحذوف دلّ عليه المصدر المتأخر، تقديره: و افترض عليكم الذكر من ألسنتكم.

أقول: و كأنّه نظر إلى أنّ المصدر في تقدير أن و الفعل، و ان موصول حرفي لا يتقدّم معموله عليه فلا يجوز تعلّقه بنفس المصدر المذكور إلّا أنه يتوجّه عليه أنّ الظرف و الجارّ و المجرور يتّسع فيه ما لا يتّسع في غيره كما صرّح به المحقّقون من علماء الأدبية، و مثله قوله تعالى فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ فيصحّ فيهما تعلّقهما بالمصدر المذكور و لا حاجة إلى التقدير.

و قوله: ضجيع حجر حال من اسم كان، و على القول بأنّ كان الناقصة و أخواتهالا تعمل في الحال كما نسب إلى المحقّقين من علماء الأدبيّة فلا بدّ من جعل كان تامة بمعنى وجد، و على ذلك فيكون قوله: بين طابقين ظرفا لغوا متعلّقا بكان.

و قوله: فاللّه اللّه، نصب على الأغراء أى اتقوا اللّه، و هذا الفعل المحذوف هو متعلّق قوله في الصحة أى اتّقوه سبحانه في حال الصحّة، و قوله: قبل السقم إمّا بدل من قوله في الصحة أو حال مؤكدة من الصحّة، و قوله: خذوا من أجسادكم، حرف من نشوية، و جملة: وافق بهم رسله استيناف بيانيّ فكأنه سئل عن ثمرة الكون مع جيران اللّه فأجاب بأنّ ثمرته مرافقة الرّسل و زيارة الملائكة و غيرهما.

و قوله: و نعم الوكيل، عطف إمّا على جملة هو حسبنا، فيكون المخصوص محذوفا، و إمّا على حسبنا أى هو نعم الوكيل، فيكون المخصوص هو الضمير المتقدّم و على التقديرين و هو من عطف الانشاء على الاخبار و لا بأس به كما صرّح به ابن هشام و غيره.

المعنى

اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة مسوقة للثناء على اللّه سبحانه و وصف الكتاب العزيز و موعظة المخاطبين و وعدهم بالجنّة و وعيدهم من النار و افتتحها بما هو أحقّ بالافتتاح.
فقال (الحمد للّه) أى الثناء و الذكر الجميل حقّ له سبحانه و مختصّ به لاختصاص أوصاف الجمال و نعوت الكمال بذاته و أشار إلى جملة من تلك الصّفات فقال (المعروف من غير رؤية) أى معروف بالايات، موصوف بالعلامات، مشهود بما أبدعه من عجايب القدرة و شواهد العظمة في الأرضين و السّماوات، و ليست معروفيّته كمعروفيّة الأجسام و الجسمانيّات، و ذوى الكيفيّات و الهيات بأن يعرف برؤية العيون بمشاهدة العيان لكونه تعالى شأنه منزّها عن المقابلة و الجهة و المكان، و غيرها من لواحق الامكان، و انما تعرفه القلوب بحقايق الايمان على ما عرفت ذلك كلّه تفصيلا و تحقيقا في شرح المختار التاسع و الأربعين و المختار المأة و الثّامن و السّبعين.

و (الخالق من غير منصبة) يعني أنه خالق للمخلوقات بلا آلات و أدوات فلا يلحقه ضعف و تعب و اعياء و نصب.
و انما (خلق الخلايق ب) نفس (قدرته) الباهرة و مشيّته القاهرة المضمرة بين الكاف و النون، فأمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (و استعبد الأرباب بعزّته) أى طلب العبوديّة من السادات و الملوك بقهره و غلبته (و ساد العظماء بجوده) إذ كلّ عظيم فهو بمقتضا امكانه داخر عند وجوده مفتقر إلى إفاضته وجوده.

(و هو الّذي أسكن الدّنيا خلقه) و بثّ فيها من كلّ دابّة (و بعث إلى الجنّ و الانس رسله) بمقتضى اللّطف و الحكمة و واتر إليهم أنبيائه (ليكشفوا لهم عن غطائها) و يرفعوا عنها سترها و حجابها و يسفروا عن وجهها نقابها (و ليحذروهم) منها و (من ضرّائها) و ليرغبوهم في الاخرة و في سرّائها (و ليضربوا لهم أمثالها).

لأنّ أكثر الأفهام لما كانت قاصرة عن إدراك ماهيّات الأشياء إلّا في موادّ محسوسة جرت عادة اللّه سبحانه و عادة رسله و أنبيائه في تبليغ الأحكام و بيان التكاليف و الكشف عن ماهيّات الأشياء على ضرب الأمثال تقريبا للأفهام حسبما عرفت توضيح ذلك في شرح الفصل الثالث من المختار المأة و الاثنين و السبعين.

و لما كان عمدة الغرض من بعث الرّسل و الأنبياء هو جذب الناس إلى طرف الحقّ، و كان حصول ذلك الغرض موقوفا على التنفير عن الدّنيا و الترغيب إلى الأخرى لا جرم أكثروا لها من الأمثال المنفرة، فشبّهوها في وقاحتها و قباحتها بالعجوز الهتماء الشمطاء، و في سرعة الفناء و الانقضاء بالظلّ الزائل و الضوء الافل، و في حسن صورتها و قبيح باطنها بالحيّة اللّين مسّها و القاتل سمّها إلى غير هذه من الأمثال المضروبة لها في الكتاب العزيز و الأخبار و كلمات الأنبياء و الأولياء الأخيار، و قد مضت جملة من تلك الأمثال في شرح الفصل الثاني من المختار الثاني و الثمانين.
(و ليبصّروهم عيوبها) حتّى يشاهدوا معايبها و يروا معاطبها و يعلموا أنّها و إن كانت يونق منظرها إلّا أنها يوبق مخبرها مع تضمّنها لقرب الزيال و ازف الانتقال و علز القلق و ألم المضض و غصص الجرض.

(و ليهجموا عليهم بمعتبر من تصرّف مصاحّها و اسقامها) أى ليدخلوا عليهم على حين غفلة منهم بما يوجب عبرتهم من تقلّباتها و تصرّفاتها على أهلها بالصحّة و السقم و اللّذة و الألم، فعن قليل ترى المرحوم مغبوطا، و المغبوط مرحوما و ترى أهلها يمسون و يصبحون على أحوال شتّى، فصحيح مشعوف بها مشغول بزخارفها، و مريض مبتلا، و ميّت يبكى، و آخر يعزّى، و عائد يعود، و آخر بنفسه يجود، فانّ في ذلك تذكرة و ذكرى و عبرة لاولى النهى إذ على أثر الماضي يمضى الباقي، و سبيل السلف يسلك الخلف.

و قوله (و حلالها و حرامها) قال الشارح المعتزلي يقول عليه السّلام ليدخلوا«» عليهم بما في تصاريف الدّنيا من الصحّة و السقم و ما أحلّ و ما حرّم على طريق الابتلاء به.
و قال الشارح البحراني بعد ما وافق الشارح المعتزلي في هذا المعنى: و يحتمل أن يكون عطفا على أسقامها باعتبار أنّ الحلال و الحرام من تصاريف الدّنيا، و بيانه أنّ كثيرا من المحرّمات لنبيّ كانت حلالا من نبيّ قبله و بالعكس، و ذلك تابع لمصالح الخلق بمقتضى تصاريف أوقاتهم و أحوالهم الّتي هى تصاريف الدّنيا. انتهى أقول: و أنت خبير بأنّ هذين المعنيين و إن كانا يصحّحان كون الحلال«» و الحرام مما هجم به الأنبياء و كونهما«» من تصاريف الدّنيا إلّا أنهما على هذين لا يكونان مما يوجب العبرة كما لا يخفى و قد جعلهما بيانا لقوله معتبر فلا بدّ أن يكون المعنى دخولهم على الأمم و تذكيرهم بتصاريف الحلال و الحرام على وجه يوجب الاعتبار مثل أن يذكروهم: بأنّ الاكتساب من الحلال يوجب في الدّنيا زيادة المال و بركة له، و في الاخرة يصون من غضب الرّب، و الاقتحام في الحرام يورث في الدّنيا تلف المال و ذهابه، و في الاخرة يعقّب الحسرة و الندامة و العطب.

و بأنّ الحلال ربما يتبدّل بالحرام بالظلم و الاثام كما قال عزّ من قائل: «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ» و بأنّ الحرام قد يتبدّل بالحلال اذا اقتضت الضّرورة كحالة الاضطرار و المخمصة و نحو ذلك مما يوجب الاعتبار بهما و يبعث على القناعة بالحلال و الكفّ عن الحرام.

و أبلغ التذكر و العبرة بتصاريف الحلال و الحرام ما نطق به القرآن قال سبحانه وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ فَجَعَلْناها نَكالًا لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (و ما أعدّ) اللّه (سبحانه للمطيعين منهم.) أى من الجنّ و الانس (و العصاة من جنّة و نار) نشر على ترتيب اللّف أى جنّة للمطيعين و نار للعاصين (و كرامة) و رضوان للأوّلين و ذلّة (و هوان) للاخرين.

(أحمده إلى نفسه) أى أحمده سبحانه متقرّبا أو متوجّها به إليه تعالى أو منهيا حمدى إلى نفسه أى يكون حمدي منتهيا إليه و مخصوصا به عزّ و جلّ (كما استحمد إلى خلقه) أى يكون حمدى إيّاه في الكيفيّة و الكميّة على الوجه الّذي طلب الحمد موجّها طلبه إلى خلقه أو على الوجه الّذي طلبه منهم و المال واحد، و المراد بيان فضل الحمد و كونه على وجه الكمال و خلوصه عن شوب الشرك و الريا و قوله (جعل لكلّ شي‏ء قدرا) كقوله تعالى: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدْراً أى مقدارا معيّنا من الكيفيّة و الكميّة ينتهى إليه، و حدّا محدودا يقف عنده ذلّه (و لكلّ قدر أجلا) أى لكلّ شي‏ء مقدّر وقتا مخصوصا يكون فيه انقضاؤه و فناؤه اذا بلغه (و لكلّ أجل كتابا) أى رقوما تعرفها الملائكة و تعلم بها انقضاء أجل من ينقضي أجله.

و قال الشارح البحراني: المراد بالكتاب العلم الالهي المعبّر عنه بالكتاب المبين و اللّوح المحفوظ المحيط بكلّ شي‏ء، و فيه رقم كلّ شي‏ء، انتهى، و الأظهر ما قلناه.

قال السيّد (ره) (منها) أى بعض فصول هذه الخطبة الشريفة (فى ذكر القرآن) و بعض أوصافه.
(فالقرآن آمر زاجر) وصفه بهما من باب التوسع و المجاز لأنّ الامر و الناهي هو اللّه سبحانه إلّا أنّ القرآن لما كان متضمّنا لأمره و نهيه اطلق عليه لفظ الامر و الناهي من باب اطلاق اسم السبب على المسبّب كما قاله الشارح البحراني، أو من باب سيف قاتل، و إنما القاتل الضارب كما قاله الشارح المعتزلي يعني تسمية الالة باسم ذى الالة.
أقول: لمّا كان القرآن مظهرا لامريّته و زاجريّته سبحانه يكفى هذا المقدار من العلاقة و الارتباط في صحّة التجوّز، و لا حاجة الى تمحّل إدخالها في إحدى العلائق المعروفة، و قد عرفت تحقيق ذلك في ديباجة الشرح.

(و صامت ناطق) وصفه بالصّمت لأنّه كلام مؤلّف من حروف و أصوات صامتة لأنّ العرض يستحيل أن يكون ناطقا، لأنّ النطق إنما يحصل بالأداة و اللّهوات و الكلام و الحروف يستحيل أن يكون ذا أداة تنطق بالكلام.
و يحتمل أن يكون وصفه به من باب المجاز إن قلنا إنّ الصّمت عبارة عن عدم النطق عمّن من شأنه أن يكون ناطقا بأن يكون النسبة بينهما مقابلة العدم و الملكة، و على هذا فيكون وصفه به من باب الاستعارة تشبيها له بالحيوان الغير الناطق.

و أما وصفه بالنطق فهو من باب الاستعارة التبعيّة أو المكنيّة مثل قولهم نطقت المال بكذا و الحال ناطقة بكذا، و قد عرفت شرحه في ديباجة الشرح في المسألة السابعة من مسائل المجاز، و في التقسيم الثاني من تقسيمات الاستعارة فليراجع ثمّة.

(حجّة اللّه على خلقه) لأنّ اللّه سبحانه يحتجّ على العباد بما أتاهم و عرّفهم به و بالقرآن عرف الأحكام و أبان مسائل الحلال و الحرام و أزال العذر به عن نفسه في عقاب العاصين أن يقولوا يوم القيامة إنّا كنّا عن هذا غافلين.
و أيضا فهو معجزة للنبوّة و حجّة في صدقها «كذا» النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قد بعث رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم‏إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَ هُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى‏ وَ الرَّكْبُ أَسْفَلَ، و لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ.
(أخذ عليهم ميثاقه) أى أخذ الميثاق و العهد من المكلّفين على العمل به و بأحكامه، و المراد به ما ورد في بعض الايات و صدر عن لسان النبوّة من الحثّ و الترغيب عليه و الأمر باجلاله و إعظامه و القيام بمعالمه و أحكامه.
قال الشارح المعتزلي: و من الناس من يقول: المراد بذلك قصّة الذرّية قبل خلق آدم عليه السّلام كما ورد في الأخبار و فسّر قوم عليه الاية انتهى، و الأولى ما قلناه.

(و ارتهن عليه أنفسهم) لما كان ذمم المكلّفين مشغولة بما تضمّنه القرآن من التكاليف و الأحكام و كان اللّازم عليهم الخروج عن عهدة التكليف و تحصيل براءة الذّمة شبّههم بالعين المرهونة لدين المرتهن، فانّ فكّ رهانتها موقوف على أداء حقّ صاحب الدّين فكذا فكّ رهانة هؤلاء موقوف على عملهم بالتكاليف الشرعيّة و الأوامر المطلوبة.
و هو نظير قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الخطبة الّتي خطب بها في فضيلة شهر رمضان أيّها الناس إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم ففكّوها باستغفاركم، و ظهوركم ثقيلة من ذنوبكم فخففوا عنها بطول سجودكم.
(أتمّ نوره) أى جعل نوره تامّا كاملا.

أمّا كونه نورا فلأنه نور عقلىّ ينكشف به أحوال المبدأ و المعاد يهتدى به في ظلمات برّ الأجسام و بحر النفوس قال اللّه عزّ و جلّ يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ و أمّا تماميّته فلكونه أكمل أسباب الهداية أما في بدو الاسلام فلكونه أقوى المعجزات الموجبة لخروج النّاس من ظلمة الكفر إلى نور الاسلام، و أمّا بعده فلبقائه بين الأمة إلى يوم القيامة و اهتدائهم به إلى معالم الدّين و مناهج الشرع المبين يوما فيوما.

(و) بذلك الاعتبار أيضا (أكرم به دينه) أى جعله مكرما معزّزا به (و قبض نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و قد فرغ إلى الخلق من أحكام الهدى به) يجوز أن يكون الأحكام بكسر الهمزة أى فرغ من جعل الهداية بالقرآن محكمة أى متقنة مثبتة في قلوب المؤمنين لكنّ المضبوط فيما رأيته من النسخ بفتحها، فيكون المراد فراغته صلّى اللّه عليه و آله من أحكام الهداية أى من التكاليف الّتي يتوقّف الهداية به عليها، مثل قراءته و تعليمه و تفسير معانيه و توضيح مبانيه، و الالزام على العمل باحكامه و نحو ذلك مما يحصل به الاهتداء.

و كيف كان فالمراد أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله لم يمض من الدّنيا إلّا بعد هداية الناس بالقرآن إلى معالم الاسلام.
روى في الكافي عن عبد العزيز بن مسلم عن الرّضا عليه السّلام أنّه قال: إنّ اللّه لم يقبض نبيّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى أكمل له الدّين و أنزل عليه القرآن فيه تبيان كلّ شي‏ء بيّن فيه الحلال و الحرام و الحدود و الأحكام و جميع ما يحتاج إليه الناس كملا فقال عزّ و جلّ: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ‏ءٍ و أنزل في حجّة الوداع و هى آخر عمره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ» و أمر الامامة من تمام الدّين و لم يمض حتّى بيّن لأمّته معالم دينهم و أوضح لهم سبيلهم و تركهم على قصد سبيل الحقّ و أقام لهم عليّا عليه السّلام إماما و ما ترك شيئا يحتاج إليه الأمة إلّا بيّنه، فمن زعم أنّ اللّه لم يكمل دينه فقد ردّ كتاب اللّه، و من ردّ كتاب اللّه فهو كافر.

و قد مرّ تمام تلك الرواية في شرح الفصل الخامس من المختار الثالث.
(فعظّموا منه سبحانه ما عظم من نفسه) أى عظّموه عزّ و جلّ مثل تعظيمه لنفسه، و المراد به وصفه بصفات الجلال و الاعظام و أوصاف الكمال و الاكرام الّتي نطق بها الكتاب، و أفصحت عنها السنّة النبويّة.
و علّل عليه السّلام وجوب تعظيمه بقوله: (فانّه لم يخف عنكم شيئا من دينه) و علّة ذلك باعتبار أنّ الشرعيات مصالح المكلّفين و إذا فعل الحكيم سبحانه بهم ما فيه‏صلاحهم فقد أحسن إليهم، و من جملة الشّرعيّات ما هو مقرّب إلى الثواب مبعّد من العقاب، و هذا أبلغ ما يكون من الاحسان و المحسن يجب تعظيمه و شكره بقدر الامكان لا سيّما إذا كان إحسانه بالنعم العظام و العطايا الجسام.

(و) أكّد عدم إخفائه شيئا من دينه بأنه (لم يترك شيئا رضيه) و أدّى إلى ثوابه (أو كرهه) و قرب من عقابه (إلّا) و عرّفه و بيّنه (و جعل له علما باديا) أى علامة ظاهرة (و آية محكمة) واضحة (تزجر) و تنهى (عنه) لكونه مكروها (أو) تامر و (تدعو إليه) لكونه مرضيّا.

و لما ذكر أنّ اللّه سبحانه قبض نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد ما فرغ من بيان الأحكام و أنّه لم يخف شيئا من مراسم الدّين و معالم الاسلام فرّع عليه قوله: (فرضاه فيما بقى واحد و سخطه فيما بقى واحد) يعني أنّ مرضيّه فيما بقى واحد و سخطه فيما بقى من الأحكام بين الامة بعد مضىّ النّبي صلّى اللّه عليه و آله واحد، و كذلك مسخوطه فيها واحد.
و هذا هو مذهب أهل الصواب من المخطئة القائلين بأنّ للّه سبحانه في كلّ واقعة حكما معيّنا واحدا و أنّ المصيب إليه من المجتهدين واحد و غيره خاطئ.

خلافا لأهل الخطاء من المصوّبة القائلين بتعدّد الأحكام و كثرتها و اختلافها على اختلاف آراء المجتهدين، و قد عرفت تفصيل الكلام في تحقيق التخطئة و التصويب في شرح المختار الثامن عشر المسوق في ذمّ اختلاف العلماء في الفتوى، و هناك فوايد نفيسة نافعة لتوضيح المقام.
و لما ذكر أنّ حكم اللّه سبحانه واحد بالنسبة إلى الأشخاص نبّه على اتّحاده بالنسبة إلى الأزمان فقال (و اعلموا أنّه لن يرض عنكم بشي‏ء سخطه على من كان قبلكم، و لن يسخط عليكم بشي‏ء رضيه ممّن كان قبلكم) يعني أنّ ما كان محرّما على السالفين الحاضرين في زمان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فهو محرّم على الغابرين العامين «الغائبين ظ»، و ما كان واجبا على الأوّلين فواجب على الاخرين، لأنّ شرع محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مستمرّ إلى يوم القيامة و حكمه على الواحد حكم على الجماعة، فلا يجوز تغيير الأحكام الثابتة بالكتاب‏و السنّة بالاراء و المقائيس و استحسانات العقليّة.

و هذا الكلام نظير ما تقدّم منه عليه السّلام في الفصل الثّاني من المختار المأة و الخامس و السّبعين من قوله: و اعلموا عباد اللّه أنّ المؤمن يستحلّ العام ما استحلّ عاما أوّل و يحرّم العام ما حرّم عاما أوّل و إنّ ما أحدث النّاس لا يحلّ لكم شيئا مما حرّم عليكم و لكنّ الحلال ما أحلّ اللّه و الحرام ما حرّم اللّه، و قد مضى منا في شرح هذا الكلام ما يوجب زيادة البصيرة في المقام هذا.

و قد اضطرب أنظار الشارح البحراني و المعتزلي في شرح هذه الفقرة و الفقرة السابقة عليه و قصرت يدهما عن تناول المراد كما يظهر ذلك لمن راجع إلى شرحيهما ثمّ إنّه بيّن اشتراك المخاطبين مع السابقين الأوّلين في التكاليف و الأحكام و أنّه تعالى لا يرضى منهم إلّا بما كان رضيه عنهم و لا يسخط عليهم إلّا بما سخط به عن الأولين أكّد ذلك بقوله (و انما تسيرون في اثر بيّن و تتكلّمون برجع قول قد قاله الرجال من قبلكم) و هو جملة خبريّة في معنى الانشاء.

يعني اذا كان تكليفكم متّحدا مع السابقين فلا بدّ لكم أن تسلكوا منهجهم و تحذوا حذوهم و تسيروا في آثارهم البيّنة الرّشد و تعملوا بما علموه من الأحكام الواضحة من الكتاب و السنّة، و أن تتكلّموا بقول نافع قد قالوه قبلكم و تنطقوا بكلام يعود منفعته و فايدته إليكم و إلى غيركم.

و هو كلّ كلام يفضى إلى الحقّ و يهدى إلى الصراط المستقيم و النهج القويم، و تخصيصه بكلمة التوحيد أى لا إله إلّا اللّه كما ذهب اليه الشارح المعتزلي لا دليل عليه مع اقتضاء الأصل عدمه فمحصّل المراد بالجملتين أمر المخاطبين بموافقة السلف الصالحين فعلا و قولا.

(قد كفاكم مؤنة دنياكم) قال الشارح البحراني: و تلك الكفاية إمّا بخلقها و ايجادها، و إمّا برزقه بكلّ ما كتب في اللّوح المحفوظ.
أقول: الظاهر هو الثّاني و هو نظير قوله عليه السّلام المتقدّم في الفصل الأوّل من المختار التسعين: عياله الخلق ضمن أرزاقهم و قدّر أقواتهم، و قد تقدّم في شرحه‏فوايد نافعة ههنا.

و أقول مضافا إلى ما سبق قال الامام سيّد العابدين و زين الساجدين عليه السّلام في دعائه التاسع و العشرين من الصحيفة الكاملة: و اجعل ما صرحت به من عدتك في وحيك و اتبعته من قسمك في كتابك قاطعا لاهتمامنا بالرزق الذي تكفّلت به، و حسما للاشتغال بما ضمنت الكفاية له، فقلت و قولك الحقّ الأصدق و أقسمت و قسمك الأبرّ الأوفي «وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ» ثمّ قلت: «فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ».

قوله: «وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ» أى أسباب رزقكم بأن يرسل سبحانه الرّياح فتثير السحاب فيبسطه في السّماء فينزل الغيث و المطر فيخرج به من الأرض أنواع الأقوات و الملابس و المعايش.
و قيل: و في السّماء تقدير رزقكم أى ما قسمته لكم مكتوب في أمّ الكتاب الّذي هو في السّماء.
و في حديث أهل البيت عليهم السّلام: أرزاق الخلايق في السّماء الرّابعة تنزل بقدر و تبسط بقدر.

و قال الصّادق عليه السّلام الرّزق المطر ينزل من السّماء فيخرج به أقوات العالم و قوله: «وَ ما تُوعَدُونَ» قال الصّادق عليه السّلام هو أخبار القيامة و الرّجعة و الأخبار الّتي في السّماء، و قيل: هو الجنّة فوق السّماء السابعة و تحت العرش، ثمّ أقسم سبحانه بأنّ ما ذكره من أمر الرزق الموعود لحقّ مثل ما أنكم تنطقون، قال الزمخشري و هذا كقول النّاس إنّ هذا لحقّ كما أنك ترى و تسمع و مثل ما أنك ههنا، قيل إنّه لمّا نزلت هذه الاية قالت الملائكة هلك بنو آدم اغضبوا الرّب حتّى أقسم لهم على أرزاقهم و نقل في الكشاف عن الاصمعي قال أقبلت من جامع البصرة و طلع أعرابيّ على قعود فقال: من الرّجل قلت: من بني اصمع، قال: من أين اقبلت قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرّحمان، قال: اتل علىّ، فتلوت: و الذاريات، فلمّا بلغت‏قوله «وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ» قال: حسبك، فقام إلى ناقته فنحرها و وضعها على من أقبل و أدبر، و عمد إلى سيفه و قوسه فكسرهما و ولّي.

فلمّا حججت مع الرّشيد طفقت أطوف فاذا أنا بمن يهتف بي بصوت دقيق، فاذا أنا بالأعرابي قد نحل و اصفرّ فسلّم علىّ و استقرء السّورة فلمّا بلغت الاية صاح و قال: «قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا»، ثمّ قال: و هل غير ذلك فقرأت «فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ» فصاح و قال: يا سبحان اللّه من ذا الّذي أغضب الجليل حتّى حلف لم يصدّقوه بقوله حتّى ألجئوه إلى اليمين، قالها ثلاثا و خرجت معها نفسه.

(و حثكم على الشكر) لطفا بكم و رأفة لكم و رحمة عليكم، لأنّ شكره سبحانه موجب لزيادة نعمته كما أنّ كفرانها موجب لنقصانها قال عزّ من قائل: «لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ».
(و افترض من ألسنتكم الذكر) أى أوجب عليكم أن تذكروه سبحانه بألسنتكم كما قال «فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ» و قال «وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً وَ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ» و قد مضى تفصيل الكلام في ذكره تعالى و الأدلّة الواردة في فضله و الحثّ و الترغيب عليه في التنبيه الثاني من شرح الفصل السادس من فصول المختار الثاني و الثمانين.

(و أوصاكم بالتقوى) في قوله «وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ لَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ» و غيرها من الايات الّتي تقدّمت في شرح المختار الرّابع و العشرين.
(و جعلها منتهى رضاه) فانّها لما كانت موصلة إلى اللّه سبحانه مؤدّية إلى رضوانه موجبة لمحبّته و رضاه صحّ بهذا الاعتبار جعلها منتهى رضاه من خلقه كما قال عزّ و جلّ «بَلى‏ مَنْ أَوْفى‏ بِعَهْدِهِ» و قال «قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ رِضْوانٌ».

(و) جعلها (حاجته من خلقه) استعار لفظ الحاجة لتأكّد الطلب أى طلبه‏المؤكّد فانّه سبحانه لما بالغ في الحثّ و الحضّ عليها و تكرّر منه تعالى طلبها و الأمر بها في غير واحدة من الايات شبّهها بالحاجة الّتي يفتقر إليها المحتاج و يبالغ في تحصيلها و الوصول إليها و الجامع المطلوبيّة المتأكّدة.

و لمّا نبّه على كونها سببا للوصول إلى رضوانه و غاية المطلوب من خلقه عقّبه بالأمر بها فقال (فاتقوا اللّه الّذي أنتم بعينه) أى بعلمه فاطلق العين و أريد العلم مجازا من باب تسمية المسبّب باسم السبّب، أو اللّازم باسم الملزوم إذ رؤية الشي‏ء سبب للعلم به و مستلزم له.

و في الاتيان بالموصول تأكيد الغرض المسوق له الكلام، فانه لما أمر بالتقوى و كانت التقوى حسبما قاله الصادق عليه السّلام عبارة عن أن لا يفقدك اللّه حيث أمرك و لا يراك حيث نهاك، أتى بالجملة الموصولة الوصفيّة تنبيها على أنّ اللّه عالم بكم خبير بأحوالكم بصير بأعمالكم سميع لأقوالكم، و من كان هذا شأنه فلا بدّ أن يتّقى منه حقّ تقاته إذ لا يعزب عنه شي‏ء من المعاصي و لا يخفى عليه شي‏ء من الخطايا كما يخفى على ساير الموالي بالنسبة من عبيدهم.

و أكّده اخرى بقوله (و نواصيكم بيده) يعني أنه قاهر لكم قادر عليكم متمكّن من التصرّف فيكم كيف شاء و أىّ نحو أراد لا رادّ لحكمه و لا دافع لسخطه و نواصيكم بيد قدرته، لا يفوته من طلب و لا ينجو منه من هرب.
و أكّده ثالثة بقوله (و تقلّبكم في قبضته) أى تصرّفكم في حركاتكم و سكناتكم تحت ملكه و قدرته و اختياره.
و قوله (إن أسررتم علمه و إن أعلنتم كتبه) هو أيضا في معنى التأكيد و أن غير الاسلوب على اقتضاء التفنّن، يعني أنّه عالم بالسرائر خبير بالضمائر سواء عليه ما ظهر منكم و ما بطن لا يحجب عنه شي‏ء ممّا يسرّ و ما يعلن كما قال عزّ من قائل: «سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَ مَنْ جَهَرَ بِهِ وَ مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَ سارِبٌ بِالنَّهارِ» هذا و يدلّ قوله: إن أعلنتم كتبه بمفهومه على أنّه لا يكتب ما لا يعلن و إن كان يعلمه، فيفيد عدم المؤاخذة على نيّة المعصية بمجرّدها، و قد مضى تحقيق الكلام‏فيه في شرح الفصل الخامس من المختار الثالث فليتذكّر.

و بذلك ظهر ما في قول الشّارح المعتزلي حيث قال: إنّ قوله عليه السّلام إن أسررتم آه ليس يدلّ على أنّ الكتابة غير العلم، بل هما شي‏ء واحد و لكنّ اللّفظ مختلف انتهى فتدبّر.
و عقّب قوله: كتبه بقوله (قد وكل بكم حفظة كراما) من باب الاحتراس فانه لما كان بظاهره متوهّما لكونه تعالى شأنه بنفسه كاتبا أتا بهذه الجملة دفعا لذلك التوهّم، و تنبيها على أنّ الموكّل بذلك الملائكة الحافظون لأعمال العباد.
قال تعالى «وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ» و هم طائفتان ملائكة اليمين للحسنات و ملائكة الشمال للسيئات قال عزّ و جلّ «إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ» هذا.

و في وصف الحفظة بالكرام«» و تعظيمهم بالثناء تفخيم لما وكّلوا به و أنه عند اللّه تعالى من جلائل الامور حيث يستعمل فيه هؤلاء الكرام، و فيه من التهويل من المعاصي ما لا يخفى.
و لهذه النكتة أيضا وصفهم ثانيا بقوله (لا يسفطون حقّا و لا يثبتون باطلا) أى لا يسقط من قلمهم ما هو ثابت له أو عليه، و لا يكتبون ما لا أصل له، و من المعلوم أنّ المكلّف إذا التفت إلى ذلك و تنبّه على شدّة محافظة الحفظة عليه و على أنّهم لا يتركون شيئا مما هو له أو عليه كان ذلك أقوى داعيا له على الازعاج عن المعاصي و الاقلاع عن السيئات.
قال الصّادق عليه السّلام: استعبدهم اللّه أى الكرام الكاتبين بذلك، و جعلهم شهودا على خلقه ليكون العباد لملازمتهم إيّاهم أشدّ على طاعة اللّه مواظبة و عن معصيته‏أشدّ انقباضا، و كم من عبد همّ بمعصيته فذكر مكانهم فارعوى، و كيف فيقول ربّي يراني و حفظتي علىّ بذلك تشهد، هذا.

و لما امر بالتقوى و أردفه بذكر ما يحذر من تركها عقّبه بذكر ما يرغب في الملازمة عليها فقال (و اعلموا أنّ من يتّق اللّه يجعل له مخرجا من الفتن) الموجبة للضلالة (و نورا من الظلم) أى من ظلمات الجهالة، و هو اقتباس من الاية الشريفة في سورة الطلاق قال سبحانه: «وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ».

روى في الصّافي عن القمّي عن الصّادق عليه السّلام قال: في دنياه، و من المجمع عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قرأها فقال: مخرجا من شبهات الدّنيا و من غمرات الموت و شدايد يوم القيامة و عنه عليه السّلام إنّي لأعلم آية لو أخذ بها النّاس كفتهم «وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ» الاية، فما زال يقولها و يعيدها.

(و يخلده فيما اشتهت نفسه) و هو أيضا اقتباس من الاية في سورة الأنبياء قال تعالى «لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَ هُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَ تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ».
(و ينزله منزل الكرامة عنده) أى في منزل أهله معزّزون مكرّمون عنده سبحانه (في دار اصطنعها لنفسه) أى اتّخذها صنعه و خالصته و اختصّها بكرامته كما قال سبحانه لموسى بن عمران: «وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي» قيل: هو تمثيل لما أعطاه اللّه من التقريب و التكريم.

قال الشارح البحراني: و الدّار الّتي اصطنعها لنفسه كناية عن الجنّة و نسبها إلى نفسه تعظيما لها و ترغيبا فيها، و ظاهر حسن تلك النسبة فانّ الجنّة المحسوسة أشرف دار رتّبت لأشرف المخلوقات، و أما المعقولة فيعود إلى درجات الوصول و الاستغراق في المعارف الالهيّة الّتي بها السعادة و البهجة و اللّذة التامّة، و هي جامع الاعتبار العقلي لمنازل أولياء اللّه و خاصّته و مقامات ملائكته و رسله، و من المتعارف أنّ الملك العظيم اذا صرف عنايته الى بناء دار يسكنها هو و خاصّته أن يقال انّه تختصّ‏بالملك و انّه بناها.

و قوله: (ظلّها عرشه) يدلّ على أنّ الجنّة فوق السّماوات و تحت العرش و اليه ذهب الاكثر.
قال الرّازي في تفسير قوله عزّ و جلّ: وَ سارِعُوا إِلى‏ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ: و ههنا سؤالات «إلى أن قال» السؤال الثّالث أنتم تقولون إنّ الجنّة في السّماء فكيف يكون عرضها كعرض السّماء.
و الجواب أنّ المراد من قولنا أنها في السّماء أنّها فوق السّماوات و تحت العرش قال في صفة الفردوس: سقفها عرش الرحمن، و قال: و سئل أنس بن مالك عن الجنّة في الأرض أم في السّماء قال: فأىّ أرض و سماء تسع الجنّة، قيل: فأين هي قال فوق السماوات السبع و تحت العرش.

و قال العلّامة المجلسي (ره) في البحار بعد ذكر الايات و الأخبار في وصف الجنّة و نعيمها: اعلم أنّ الايمان بالجنّة و النار على ما وردتا في الايات و الأخبار من غير تأويل من ضروريات الدّين و منكرهما أو مأوّلهما بما اوّلت به الفلاسفة خارج من الدّين.

و أما كونهما مخلوقتان الان فقد ذهب إليه جمهور المسلمين إلّا شرذمة من المعتزلة، فانهم يقولون: سيخلقان يوم القيامة، و الايات و الأخبار المتواترة دافعة لقولهم مزيفة لمذهبهم و الظاهر أنه لم يذهب إلى هذا القول السخيف أحد من الاماميّة إلّا ما ينسب إلى السيد الرّضيّ رضي اللّه عنه و أما مكانهما فقد عرفت أنّ الأخبار تدلّ على أنّ الجنّة فوت السماوات السبع و النار في الأرض السابعة، و نقل عن شارح المقاصد أنه قال: لم يرد نقل صريح في تعيين مكان الجنّة و النار، و الأكثرون على أنّ الجنّة فوق السماوات السبع و تحت العرش تشبّثا بقوله تعالى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى‏ عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى‏ و قوله عليه السّلام: سقف الجنّة عرش الرّحمن، و النار تحت الأرضين السبع، و الحقّ تفويض ذلك إلى علم‏العليم الخبير انتهى.

و ذهب بعضهم إلى أنّها في السّماء الرابعة نسبه الطبرسيّ في مجمع البيان إلى صحيح الخبر، و اللّه أعلم.
(و نورها بهجته) قال الطريحي و البهجة الحسن و منه رجل ذو بهجة، و البهجة السّرور و منه الدّعاء: و بهجة لا تشبه بهجات الدّنيا، أى مسرّة لا تشبه مسرّات الدّنيا، و فيه: سبحان ذي البهجة و الجمال، يعني الجليل تعالى انتهى.
أقول: فعلى المعنى الأوّل فالمراد أنّ نور الجنّة أى منوّرها جماله سبحانه عظمه الّتي تضمحلّ الأنوار دونها، فأهل الجنّة مستغرقة في شهود جماله، و نفوسهم مشرقة باشراق أنوار كماله كما قال عزّ من قائل «اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» أى منوّرهما، فانّ كلّ شي‏ء استنار منهما و استضاء فبقدرته و جوده و افضاله.

روى في البحار من تفسير علىّ بن إبراهيم القمّي عن أبيه عن ابن أبي نجران عن عاصم بن حميد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ للّه كرامة في عباده المؤمنين في كلّ يوم جمعة فاذا كان يوم الجمعة بعث اللّه إلى المؤمن ملكا معه حلّة فينتهى إلى باب الجنّة فيقول: استأذنوا لى على فلان، فيقال هذا رسول ربّك على الباب فيقول لأزواجه أىّ شي‏ء ترين على أحسن، فيقلن يا سيّدنا و الّذي أباحك الجنّة ما رأينا عليك شيئا أحسن من هذا بعث إليك ربّك فيتّزر بواحدة و يتعطّف بالأخرى فلا يمرّ بشي‏ء إلّا أضاء له حتى ينتهى إلى الموعد فاذا اجتمعوا تجلّى لهم الرّب تبارك و تعالى فاذا نظروا إليه خرّوا سجّدا، فيقول عبادي ارفعوا رؤوسكم ليس هذا يوم سجود و لا يوم عبادة قد رفعت عنكم المؤنة، فيقولون: يا ربّ و أيّ شي‏ء أفضل مما أعطيتنا، أعطيتنا الجنّة، فيقول لكم مثل ما في أيديكم سبعين ضعفا، فيرجع المؤمن في كلّ جمعة سبعين ضعفا مثل ما في يديه و هو قوله «وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ» و هو يوم الجمعة إنّ ليلها ليلة غرّاء و يومها يوم أزهر فأكثروا فيها من التسبيح و التكبير و التهليل و الثناء على اللّه و الصّلاة على محمّد و آله.

قال فيمرّ المؤمن فلا يمرّ بشي‏ء إلّا أضاء له حتّى ينتهى إلى أزواجه، فيقلن و الّذي أباحنا الجنّة يا سيّدنا ما رأيناك قط أحسن منك الساعة فيقول: إنّي قد نظرت بنور ربّي الحديث.
قال العلّامة المجلسي (ره) قوله- تجلّى لهم الرّب- أى بأنوار جلاله و آثار رحمته و افضاله- فاذا نظروا إليه- أى إلى ما ظهر لهم من ذلك و على المعنى الثاني فالمراد أنّ نور الجنّة و أهلها ابتهاج اللّه سبحانه بها و بهم أما وصفه سبحانه بالابتهاج و البهجة فلما قال الحكماء و المتكلّمون المثبتون له تعالى اللّذة العقليّة من أنّ أجل مبتهج هو المبدأ الأوّل بذاته لأنّ الابتهاج و اللّذة عبارة عن إدراك الكمال فمن أدرك كمالا في ذاته ابتهج به و التذّ، و كماله تعالى أجلّ الكمالات و إدراكه أقوى الادراكات فوجب أن يكون لذّاته أقوى اللّذات.

قال صدر المتألّهين: أجلّ مبتهج بذاته هو الحقّ الأوّل، لأنه أشدّ إدراكا لاعظم مدرك له الشرف الأكمل و النور الأنور و الجلال الأرفع، و هو الخير المحض و بعده في الخيريّة و الوجود و الادراك هو الجواهر العقليّة و الأرواح النوريّة و الملائكة القدسيّة المبتهجون به تعالى، و بعد مرتبتهم مرتبة النفوس البشريّة و السعداء من أصحاب اليمين على مراتب ايمانهم باللّه.
و أما المقرّبون من النفوس البشريّة و هم أصحاب المعارج الروحانيّة فحالهم في الاخرة كحال الملائكة المقرّبين في العشق و الابتهاج به تعالى.

إذا عرفت ذلك ظهر لك أنّ ابتهاج اللّه بمخلوقاته راجع إلى ابتهاجه بذاته، لأنه لما ثبت أنه أشدّ مبتهج بذاته لما له من الشرف و الكمال كان ذاته أحبّ الأشياء إليه، و كلّ من أحبّ شيئا أحبّ جميع أفعاله و آثاره لاجل ذلك المحبوب، و كلّ ما هو أقرب إليه فهو أحبّ اليه و ابتهاجه به أكمل.

فثبت بذلك أنّ اللّه سبحانه مبتهج بالجنّة و أهلها لأنها دار كرامته و رحمته و أقرب المجعولات إليه، و كذلك أهلها لأنهم مقرّبو حضرته و محبوبون إليه و مكرّمون لديه كما أنهم مبتهجون به سبحانه و محبّون إيّاه.

و أما أنّ بهجته تعالى نور لها أى لأهلها فلكون محبّته و ابتهاجه سببا لاستنارة نفوسهم بما يفاض عليهم من الأنوار الملكوتيّة الّتي تغشى أبصار البصاير و يستغرق في الابتهاج بها الأولياء المقرّبون، و على ذلك فتسمية البهجة بالنور من باب تسمية السبب باسم المسبّب، هذا.
و انما خصّ بهجته بالذكر لأنها حسبما عرفت ملازمة للمحبّة، و محبّته تعالى لهم و رضوانه عنهم أعظم الخيرات و أفضل الكمالات.

روى في البحار عن العياشي عن ثوير عن عليّ بن الحسين عليهما السّلام قال: إذا صار أهل الجنّة في الجنّة و دخل وليّ اللّه إلى جنانه و مساكنه، و اتكى كلّ مؤمن منهم أريكته حفّته خدّامه و تهدّلت عليه الثمار و تفجّرت حوله العيون و جرت من تحته الأنهار و بسطت له الزّرابي، و صففت له النمارق و أتته الخدّام بما شائت شهوته من قبل أن يسألهم ذلك قال: و يخرج عليهم الحور العين من الجنان فيمكثون بذلك ما شاء اللّه، ثمّ إنّ الجبّار يشرف عليهم فيقول لهم: أوليائي و أهل طاعتي و سكان جنّتي في جواري ألا هل انبئكم بخير مما أنتم فيه فيقولون: ربّنا و أىّ شي‏ء خير مما نحن فيه نحن فيما اشتهت أنفسنا و لذّت أعيننا من النعم في جوار الكريم، قال: فيعود عليهم بالقول، فيقولون: ربّنا نعم، فأتنا بخير مما نحن فيه، فيقول لهم تبارك و تعالى: رضاى عنكم و محبّتي لكم خير و أعظم مما أنتم فيه، فيقولون: نعم يا ربّنا رضاك عنّا و محبّتك لنا خير لنا و أطيب لأنفسنا، ثمّ قرء عليّ بن الحسين عليه السّلام هذه الاية «وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».

(و زوّارها ملائكته) يعني أنّ الملائكة يزورون ساكنيها تعظيما لهم و تشريفا و تكريما حسبما عرفت الاشارة إليه في الرواية الّتي رويناها من روضة الكافي في شرح الفصل التاسع من المختار الأول.
(و رفقاؤها رسله) كما قال عزّ من قائل «وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً»رغب اللّه تعالى و كذا أمير المؤمنين أهل الطاعة و التّقوى بهذا الوعد و ما أحسنه من وعد و هو كونهم رفيق النّبيين الّذينهم في أعلا علّيين و الصدّيقين الّذين صدقوا في أقوالهم و أفعالهم، و الشهداء المقتول أنفسهم و أبدانهم بالجهاد الأكبر و الأصغر و الصالحين الّذين صلحت حالهم و استقامت طريقتهم.

روى في الصّافي من الكافي عن الصادق عليه السّلام: المؤمن مؤمنان: مؤمن وفى للّه بشروطه الّتي اشترطها عليه فذلك مع النّبيين و الصدّيقين و الشهداء و الصّالحين و حسن اولئك رفيقا، و ذلك ممّن يشفع و لا يشفع له، و ذلك ممّن لا يصيبه أهوال الدّنيا و لا أهوال الاخرة، و مؤمن زلّت به قدم فذلك كخامة الزرع كيفما كفته الريح انكفى، و ذلك ممّن يصيبه أهوال الدّنيا و أهوال الاخرة و يشفع له و هو على خير.

و فيه من الكافي و العياشي عن الصّادق عليه السّلام لقد ذكركم اللّه في كتابه فقال: «وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ» الاية، فرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الاية النبيّون و نحن في هذا الموضع الصدّيقون و الشهداء و أنتم الصّالحون فتسمّوا بالصّلاح كما سمّاكم اللّه، هذا.

و لجزالة هذا الوعد أعنى مرافقة النّبيين عقّب اللّه تعالى قوله «وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ» بقوله «ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَ كَفى‏ بِاللَّهِ عَلِيماً» و قد مضى بعض الكلام في وصف الجنّة و نعيمها في شرح الفصل الثالث من المختار الثامن و المأة، رزقنا اللّه نيلها بمنّه و جوده.

ثمّ إنه عليه السّلام لما أمر بالتقوى و نبّه على فضلها و عظم ما يترتّب عليها من الثمرات الدّنيويّة و الأخرويّة رتّب عليه قوله (فبادروا المعاد و سابقوا الاجال) أى سارعوا إلى المعاد بالمغفرة و التّقوى لأنّها خير الزّاد و استبقوا إلى الاجال بالخيرات و صالح الأعمال.

و المراد بالمعاد هو العود إلى الفطرة الاولى بعد الانتقال منها و النزول إلى الدّنيا فالاشارة إلى الابتداء بقوله تعالى «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها» «وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً» و الاشارة إلى الانتهاء «كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ»«كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَ يَبْقى‏ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ» فالبدو و الرّجوع متقابلان قال تعالى «يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ» فالعدم الخاصّ الأوّل للانسان هو الجنّة الّتي كان فيها أبونا آدم عليه السّلام و أمّنا حوّا، و الوجود بعد العدم هو الهبوط منها إلى الدّنيا «اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً» و العدم الثاني من هذا الوجود هو الفناء في التّوحيد، و الأوّل هو النزول و الهبوط، و الثاني هو العروج و الصّعود، و البداية النزول عن الكمال إلى النقص، و النهاية المعاد من النقصان إلى الكمال و اليه الاشارة بقوله «ارْجِعِي إِلى‏ رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَ ادْخُلِي جَنَّتِي» هذا.

و لما أمر عليه السّلام بالمبادرة إلى المعاد و المسابقة إلى الاجال علّله بقوله (فانّ الناس يوشك أن ينقطع بهم الأمل و يرهقهم الأجل) يعني أنه تقريب انقطاع آمالهم الخادعة و مفاجاة آجالهم المستورة (و) أن (يسدّ عنهم باب) الانابة و (التوبة) و من كان هذا شأنه فلا بدّ أن يتّقى ربّه و ينصح نفسه و يقدّم توبته و يغلب شهوته و يستغفر من خطيئته و يستقيل من معصيته، فانّ أجله مستور عنه و أمله خادع له، و الشيطان موكّل به يزيّن له المعصية ليركبها و يمّنيه التوبة ليسوّفها حتّى يهجم منيته عليه أغفل ما يكون عليها.

(فقد أصبحتم في مثل ما سأل إليه الرّجعة من كان قبلكم) أى أصبحتم في حال الحياة و الصحّة و سلامة المشاعر و القوى و البنية و ساير الأسباب الّتي يتمنّى من كان قبلكم الرجعة إليها لتدارك ما فات و اصلاح الزلّات و الهفوات، و قال: «رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ»، و لكنّهم قد حيل بينهم و بين ما يشتهون و قيل كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ.

فالان و الخناق مهمل، و الروح مرسل، في راحة الأجساد، و باحة الاحتشاد و انتظار التوبة، و انفساح الحوبة، لا بدّ من اغتنام الفرصة و الانابة من الخطيئة قبل الضنك و الضيق، و الرّوع و الزهوق، و قبل أن يروع من الرّجعة و يعظم الحسرة(و أنتم بنو سبيل على سفر من دار ليست بداركم) شبّههم بأبناء السبيل تنبيها على أنّ كونهم في هذه الدّار بالعرض و أنّ وطنهم الأصلي هو الدّار الاخرة و أنهم مسافرون إليها.

(و) قوله (قد أوذنتم منها بالارتحال و أمرتم فيها بالزاد) قد تقدّم في شرح المختار الثالث و الستّين و غيره توضيح معنى الفقرة الأولى، و مرّ غير مرّة أنّ المراد بالزاد الّذي أمروا بأخذها هو التقوى قال عزّ و جلّ «الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ» و الغرض من هاتين الفقرتين و سابقتهما التنفير عن الدّنيا و الترغيب إلى الأخرى و تنبيه المخاطبين من نوم الغفلة و الجهالة و إرشادهم إلى الاستعداد و تهيئة الزاد لسلوك مسالك الاخرة.

و بيان ذلك بلسان الرمز و الاشارة أنّ للّه تعالى عالمين: عالم الدّنيا و عالم الاخرة و نشأتين: الغيب و الشهادة و الملك الملكوت، و أنّ الناس في مبدء تكوّنهم مخلوقون من موادّ العالم الأسفل و لهم الارتقاء بحسب الفطرة الأولى الّتي فطر الناس عليها إلى جوار اللّه سبحانه قاله سبحانه برحمته و عنايته، خلق الأنبياء و بعثهم ليكونوا هداة الخلق إلى معادهم و قوادهم في السفر إليه و سابقوهم إلى منازلهم، كرؤساء القوافل و أنزل الكتب ليعلّمهم و يبيّن لهم كيفيّة السفر و الارتحال و أخذ الزاد و الراحلة و تعريف الأحوال عند الوصول إلى منازلهم في الاخرة.

و الخلق ما داموا في الدّنيا و لم يصلوا إلى أوطانهم الأصليّة، فهم في الظلمات على حالات متفاوتة مختلفة، فمنهم نائمون، الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا، الدّنيا منام و العيش فيها كالأحلام، و منهم موتى لقوله تعالى «أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ».
فمن مات عن هذه الحياة المجازية الموسومة باللّعب و اللّهو كما قال تعالى «إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ» فقد انتبه عن نوم الغفلة و حىّ بالحياة الأبديّة.

فانّ الموت على ضربين أحدهما الارادى المشار إليه بقوله عليه السّلام: موتوا قبل أن تموتوا، و الاخر الطبيعي و إليه الاشارة بقوله تعالى: «أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ».

فكلّ من مات بالموت الارادى أى قلع قلبه عن العلايق و الامنيّات و نهى نفسه عن الهوى و الشهوات فقد حىّ بالحياة السّرمديّة الطبيعيّة.
قال أفلاطن: مت بالارادة تحيى بالطبيعة، و كلّ من مات بالموت الطبيعي فقد هلك هلاكا أبديّا عقلا و ضلّ ضلالا بعيدا و من كان في هذه أعمى فهو في الاخرة أعمى و أضلّ سبيلا، هذا.

و لما أمر عليه السّلام بالتقوى و بشّر بما رتّب عليها من الثواب و حسن الماب أردف ذلك بالانذار و الوعيد من أليم السخط و العذاب فقال (و اعلموا أنه ليس لهذا الجلد الرقيق صبر على النار) الّتي قعرها بعيد، و حرّها شديد، و شرابها صديد، و عذابها جديد، و مقامعها حديد، لا يفتر عذابها، و لا يموت ساكنها، كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إنّ اللّه كان عزيزا حكيما.

روى في البحار من تفسير عليّ بن إبراهيم عن ابن أبي عمير عن أبى بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قلت له: يا بن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خوّفني فانّ قلبي قد قسى، فقال: يا با محمّد استعد للحياة الطويلة، فانّ جبرئيل جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو قاطب و قد كان قبل ذلك يجي‏ء و هو متبسّم، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا جبرئيل جئتني اليوم قاطبا فقال: يا محمّد قد وضعت منافخ النار، فقال صلّى اللّه عليه و آله: و ما منافخ النار يا جبرئيل فقال: يا محمّد إنّ اللّه عزّ و جلّ أمر بالنّار فنفخ عليها ألف عام حتّى ابيضّت، ثمّ نفخ عليها ألف عام حتّى احمرّت، ثمّ نفخ عليها ألف عام حتّى اسودّت، فهى سوداء مظلمة لو أنّ قطرة من الضريع قطرت في شراب أهل الدنيا لمات أهلها من نتنها، و لو أنّ حلقة واحدة من السلسلة الّتي طولها سبعون ذراعا وضعت على الدّنيا لذابت الدّنيا من حرّها، و لو أنّ سربالا من سرابيل أهل النار علّق بين السماء و الأرض لمات أهل الدّنيا من ريحه.

قال عليه السّلام فبكى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بكى جبرئيل، فبعث اللّه إليهما ملكا فقال لهما: ربكما يقرئكما السلام و يقول قد امنتكما أن تذنبا ذنبا اعذّبكما عليه فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: فما رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جبرئيل متبسّما بعد ذلك.

ثمّ قال: إنّ أهل النار يعظمون النّار، و إنّ أهل الجنّة يعظمون الجنّة و النعيم و إنّ جهنّم إذا دخلوها هووا فيها مسيرة سبعين عاما فاذا بلغوا علاها قمعوا بمقامع الحديد، فهذه حالهم و هو قول اللّه عزّ و جلّ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ» ثمّ تبدّل جلودهم غير الجلود الّتي كانت عليهم، قال أبو عبد اللّه عليه السّلام حسبك قلت: حسبي حسبى.

(فارحموا نفوسكم) إلى مصير هذه النّار الّتي علمت وصفها و عرفت حال أهلها (فانّكم قد جرّبتموها في مصائب الدّنيا) و لم تصبروا على أهون مصائبها و أحقر آلامها (أ فرأيتم جزع أحدكم من الشوكة تصيبه و العثرة تدميه و الرّمضاء) أى الأرض الشديدة الحرارة (تحرقه فكيف) حاله و تحمّله (إذا كان بين طابقين من نار) يغشيهم العذاب من فوقهم و من تحت أرجلهم و يقول ذوقوا ما كنتم تعملون (ضجيع حجر) أشير إليه في قوله: وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ قال ابن عبّاس و ابن مسعود: إنّها حجارة الكبريت لأنّها أحرّ شي‏ء إذا احميت و قيل إنهم يعذّبون بالحجارة المحمية بالنّار.

(و قرين شيطان) و هو المشار إليه في قوله سبحانه وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ، و قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَ لكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ قال ابن عباس و غيره: أى شيطانه الّذي أغواه و إنما سمّى قرينه لأنه يقرن به في العذاب.
و في البحار من تفسير عليّ بن إبراهيم في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى وَ إِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ قال عليه السّلام أما أهل الجنّة فزوّجوا الخيرات الحسان و أما أهل النار فمع كلّ إنسان منهم شيطان يعني قرنت نفوس الكافرين و المنافقين بالشياطين فهم قرناؤهم.

(أعلمتم أنّ مالكا) و هو اسم مقدّم خزنة النار و الملائكة الموكّلين لأمرها قال تعالى عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ روى عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنه قال: و الّذي نفسى‏بيده لقد خلقت ملائكة جهنم قبل أن تخلق جهنّم بألف عام فهم كلّ يوم يزدادون قوّة إلى قوّتهم.

و في البحار من تفسير عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن الصّادق عليه السّلام في خبر المعراج قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: فصعد جبرئيل و صعدت حتّى دخلت سماء الدّنيا فما لقيني ملك إلّا و هو ضاحك مستبشر حتّى لقيني ملك من الملائكة لم أر أعظم خلقا منه كريه المنظر ظاهر الغضب فقال لي مثل ما قالوا من الدّعا إلّا أنّه لم يضحك و لم أر فيه الاستبشار ما رأيت ممّن ضحك من الملائكة فقلت: من هذا يا جبرئيل فانّى قد فزعت منه، فقال: يجوز أن تفزع منه فكلّنا نفزع منه إنّ هذا مالك خازن النار لم يضحك قط و لم يزل منذ ولاه اللّه جهنّم يزداد كلّ يوم غضبا و غيظا على أعداء اللّه و أهل معصيته فينتقم اللّه به منهم و لو ضحك إلى أحد كان قبلك أو كان ضاحكا إلى أحد بعدك لضحك إليك، و لكنّه لا يضحك فسلّمت عليه فردّ السلام علىّ و بشّرني بالجنّة.

فقلت لجبرئيل و جبرئيل بالمكان الّذي وصفه اللّه «مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ»: ألا تأمره أن يريني النار فقال له جبرئيل: يا مالك أر محمّدا صلّى اللّه عليه و آله النار، فكشف منها غطائها و فتح بابا منها فخرج منها لهب ساطع في السّماء و فارت و ارتفعت حتّى ظننت ليتناولنى مما رأيت، فقلت: يا جبرئيل قل له: فليرد عليها غطائها، فأمرها فقال لها: ارجعى فرجعت إلى مكانها الّذي خرجت منه، الحديث، فقد علم به زيادة قوّته و شدّة غيظه و غضبه.

(إذا غضب على النار حطم بعضها بعضا لغضبه) أى أكله أو كسره و منه الحطمة اسم من أسماء جهنم قال تعالى لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ أى ليطرحنّ فيها قال مقاتل و هى تحطم العظام و تأكل اللحوم حتّى تهجم على القلوب و لتفخيم أمرها قال تعالى وَ ما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ المؤجّجة أضافها سبحانه إلى نفسه ليعلم أنها ليست كنيران الدّنيا.

(و اذا زجرها توثّبت بين أبوابها جزعا من زجرته) و لمّا حذّر من أهوال الجحيم و أفزعهم بذكر وصف مالك خازنها حذّرهم بأسلوب آخر و أيّهم بقوله: (أيّها اليفن) أى الشيخ (الكبير الّذي قد لهزه) أى خالطه (القتير) و المشيب، و تخصيصه بالخطاب من بين ساير المخاطبين لكونه أولى بالحذر و الاقلاع عن المعصية و الخطاء لاشراف عمره على الزوال و الانقضاء و قرب تورّطه في ورطات الاخرى.

(كيف أنت) استفهام على سبيل التقرير تقريعا على المعصية (إذا التحمت) أى التصقت و انضمّت (أطواق النار بعظام الأعناق) كما قال تعالى الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَ بِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَ.
(و نشبت الجوامع) أى علقت الأغلال الجامعة بين الأيدي و الأعناق (حتّى أكلت لحوم السّواعد) قال تعالى في سورة الرّحمن يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَ الْأَقْدامِ قال الطبرسيّ أى تأخذهم الزّبانية فيجتمع بين نواصيهم و أقدامهم بالغلّ، و في سورة الفرقان وَ إِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَ ادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً قال الطبرسيّ مقرّنين أى مصفّدين قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال.

(فاللّه اللّه) أى اتّقوه سبحانه يا (معشر العباد و أنتم سالمون في الصحّة قبل السقم) أى في زمان صحّتكم قبل أن ينزل بكم السّقم (و في الفسحة قبل الضيق) أى فى سعة الأعمار قبل أن تبدل بالضيق (فاسعوا في فكاك رقابكم) من النّار بالتوبة و التقوى (من قبل أن تغلق رهائنها) أصل غلق الرّهن عبارة عن بقائه في يد المرتهن لا يقدر راهنه على انتزاعه.

قال ابن الاثير و كان من فعل الجاهليّة أنّ الراهن إذا لم يؤدّ ما عليه في الوقت المعيّن ملك المرتهن الرّهن فأبطله الاسلام.
إذا عرفت ذلك فأقول: إنّ ذمم المكلّفين لكونها مشغولة بالتكاليف الشرعيّة المطلوبة منهم فكأنّها رهن عليها، و كما أنّ انتزاع الرّهن من يد المرتهن و التمكّن من التّصرف فيه موقوف على أداء الدّين، فكذلك تخليص الرّقاب موقوف على‏ الخروج من عهدة التكاليف، فمن أجل ذلك أمر عليه السّلام بالسّعى في فكاكها و استخلاصها و على ذلك فالاضافة في رهائنها من قبيل إضافة المشبّه به إلى المشبّه و ذكر الغلق ترشيح للتشبيه.

و لما أمر بالسّعى في الفكاك إجمالا أشار إلى ما به يحصل الفكّ تفصيلا و لكمال الاتّصال بين الجملتين ترك العاطف فقال: (أسهروا عيونكم) أى بالتهجّد و صلاة اللّيل و ساير النوافل و قد تقدّم بعض الأخبار في فضلها في شرح الفصل السادس من المختار الثاني و الثمانين.

و أقول هنا مضافا إلى ما سبق: روى الصّدوق في ثواب الأعمال عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: شرف المؤمن صلاة اللّيل و عزّ المؤمن كفّه عن النّاس.
و فيه عن معاوية بن عمار عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: عليكم بصلاة اللّيل فانها سنّة نبيّكم و دأب الصالحين قبلكم و مطردة الداء عن أجسادكم.
و بهذا الاسناد قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام صلاة اللّيل تبيض الوجه و صلاة اللّيل تطيب الرّيح، و صلاة اللّيل تجلب الرّزق.

و فيه عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: حدّثني أبي عن جدّي عن آبائه عن عليّ عليهم السّلام قال: قيام اللّيل مصحّة للبدن، و رضاء الرّبّ، و تمسّك بأخلاق النبيّين، و تعرّض لرحمة اللّه تعالى.
و عن إبراهيم بن عمرو رفعه إلى أبي عبد اللّه في قول اللّه عزّ و جلّ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ قال: صلاة المؤمن باللّيل تذهب بما عمل من ذنب بالنهار.

و فيه عن أبيه قال: حدّثني سعد بن عبد اللّه عن سلمة بن الخطاب عن محمّد بن الليث عن جعفر بن إسماعيل عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما السّلام أنّ رجلا سأل أمير المؤمنين عليه السّلام عن قيام اللّيل بالقرآن، فقال له عليه السّلام ابشر: من صلّى من اللّيل عشر ليله للّه مخلصا ابتغاء ثواب اللّه «يقول اللّه ظ» عزّ و جلّ لملائكته اكتبوا لعبدي هذا من الحسنات عدد ما انبت من النباتات في النيل «اللّيل خ» من حبّةو ورقة و شجرة و عدد كلّ قصبة و خوطة«» و مرعى.

و من صلّى تسع ليله أعطاه اللّه عشر دعوات مستجابات و أعطاه كتابه بيمينه يوم القيامة.
و من صلّى ثمن ليله أعطاه اللّه عزّ و جلّ أجر شهيد صابر صادق النيّة و شفع في أهل بيته.
و من صلّى سبع ليله خرج من قبره يوم القيامة و وجهه كالقمر ليلة البدر حتّى يمرّ على الصراط مع الامنين.
و من صلّى سدس ليله كتب مع الأوّابين و غفر له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر.
و من صلّى خمس ليله زاحم إبراهيم خليل اللّه في قبّته.
و من صلّى ربع ليله كان أوّل الفايزين حتّى يمرّ على الصّراط كالرّيح العاصف و يدخل الجنّة بغير حساب.
و من صلّى ثلث ليله لم يلق ملكا «لم يبق ملك خ» إلّا غبطه بمنزلته من اللّه عزّ و جلّ و قيل له ادخل من أىّ أبواب الجنّة الثّمانية شئت.

و من صلّى نصف ليله فلو اعطى ملاء الأرض ذهبا سبعين ألف مرّة لم يعدل أجره، و كان له بذلك أفضل من سبعين رقبة يعتقها من ولد إسماعيل.
و من صلّى ثلثى ليله كان له من الحسنات قدر رمل عالج أدناها حسنة أثقل من جبل أحد عشر مرّات.
و من صلّى ليلة تامّة تاليا لكتاب اللّه عزّ و جلّ ذكره راكعا و ساجدا و ذاكرا اعطى من الثواب أدناها أن يخرج من الذّنوب كما ولدته أمّه و يكتب له عدد ما خلق اللّه من الحسنات و مثلها درجات، و يبثّ النور في قبره و ينزع الاثم و الحسد من قلبه، و يجار من عذاب القبر و يعطى براءة من النار و يبعث من الامنين و يقول الرّب تبارك و تعالى لملائكته: ملائكتي انظروا إلى عبدي أحيى ليله ابتغاء مرضاتي أسكنوه الفردوس و له فيها مأئة ألف مدينة في كلّ مدينة جميع ما يشتهى الأنفس‏و تلذّ الأعين و ما لا يخطر على بال سوى ما أعددت له من الكرامة و المزيد و القربة.

(و أضمروا بطونكم) أى بالصيام و الجوع و قد مضى الأخبار في فضل الصوم في شرح المختار المأة و التاسع (و استعملوا أقدامكم) أى في القيام إلى الصلوات أو مطلق القربات كاستعمالها في تشييع الجنائز و السّعى إلى المساجد و المشى إلى المشاهد المشرّفة و نحوها.

روى في ثواب الأعمال باسناده عن الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّ اللّه عزّ و جلّ ليهمّ أن يعذّب أهل الأرض جميعا حتّى لا يتحاشى منهم أحدا إذا عملوا بالمعاصي و اجترحوا السيئات، فاذا نظر إلى الشيّب ناقلى أقدامهم إلى الصّلاة و الولدان يتعلّمون القرآن رحمهم فأخّر ذلك عنهم.

(و أنفقوا أموالكم) أى في الزكاة و الصدقات و صنايع المعروف، و قد عرفت فضل هذه كلّها في شرح المختار المأة و التاسع أيضا (و خذوا من أجسادكم فجودوا بها على أنفسكم) و هو كناية عن إتعاب الأبدان و إذابتها بالعبادات و الرّياضات و سلوك مسالك الخيرات، و معلوم أنّ الأخذ من الأجساد بهذه القربات جود بها على النفوس و لذلك قال: جودوا بها عليها (و لا تبخلوا بها عنها) ثمّ استشهد على ما رامه بكلام الحقّ سبحانه و قال: (فقد قال اللّه سبحانه) في سورة محمّد صلّى اللّه عليه و آله (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) قال في مجمع البيان أى إن تنصروا دين اللّه و نبيّ اللّه بالقتال و الجهاد ينصركم على عدوّكم و يثبّت أقدامكم إى يشجعكم و يقوى قلوبكم لتثبتوا، و قيل: ينصركم في الاخرة و يثبّت أقدامكم عند الحساب و على الصراط، و قيل: ينصركم في الدّنيا و الاخرة و يثّبت أقدامكم في الدّارين و هو الوجه.

قال قتاده: حقّ على اللّه أن ينصر من نصره لقوله: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ و أن يزيد من شكره لقوله: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ، و أن يذكر من ذكره لقوله: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ.

(و قال) في سورة الحديد (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) و نحوه في سورة البقرة إلّا أنّ فيها بدل قوله: وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ: أَضْعافاً كَثِيرَةً.
قال في مجمع البيان: ثمّ حث اللّه سبحانه على الانفاق فقال مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ أى ينفق في سبيل اللّه و طاعته، و المراد به الأمر «قَرْضاً حَسَناً» و القرض الحسن أن ينفق من حلال و لا يفسده بمنّ و لا أذى، و قيل: هو أن يكون محتسبا طيّبا به نفسه، و قيل: هو أن يكون حسن الموقع عند الانفاق فلا يكون خسيسا، و الأولى أن يكون جامعا لهذه الأمور كلّها فلا تنافي بينها «فَيُضاعِفَهُ لَهُ» أى يضاعف له الجزاء من بين سبع إلى سبعين إلى سبعمائة «وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ» أى جزاء خالص لا يشوبه صفة نقص، فالكريم الّذي من شأنه أن يعطى الخير الكثير فلما كان ذلك الأجر يعطى النفع العظيم وصف بالكريم و الأجر الكريم هو الجنّة.

و لما كان ظاهر النصرة موهما لكونها من الذلّة، و ظاهر القرض موهما لكونه من القلّة أردف ذلك من باب الاحتراس بقوله (فلم يستنصركم من ذلّ و لم يستقرضكم من قلّ) أى ليس استنصاره و استقراضه من أجل الذلّة و القلّة حسبما زعمته اليهود و قالوا: إنما يستقرض منّا ربّنا عن عوز فانما هو فقير و نحن أغنياء فأنزل اللّه سبحانه لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ بل سمّى نصرة دينه و نبيّه نصرة له و الانفاق في سبيله قرضا تلطّفا للدّعاء إلى فعلهما و تأكيدا للجزاء عليهما، فانّ النّصر يوجب المكافاة و القرض يوجب العوض.

و إليه أشار بقوله (استنصركم و له جنود السّموات و الأرض و هو العزيز الحكيم) يعني أنّه عزيز في سلطانه أي قادر قاهر لا يتمكّن أحد أن يمنعه من عذاب من يريد عذابه، ذو قدرة على الانتقام من أعدائه، و انّه حكيم في أفعاله واضع كلّا منها في مقام صالح له و لايق به.

(و استقرضكم و له خزائن السّموات و الأرض و هو الغنيّ الحميد) يعني غنيّ بنفسه عن غيره غير مفتقر إلى شي‏ء من مخلوقاته و محمود في أفعاله و صنايعه و أحكامه‏و أوامره.
(و انما أراد) باستقراضه و استنصاره (أن يبلوكم أيّكم أحسن عملا) و قد مرّ في شرح المختار الثاني و الستّين معنى بلاء اللّه سبحانه أى ابتلائه و اختباره.

(فبادروا بأعمالكم) إلى آجالكم (تكونوا مع جيران اللّه في داره) و المراد بهم أولياؤه المتّقون الّذين لا خوف عليهم و لا هم يحزنون، و استعار لفظ الجيران لهم باعتبار شمول الألطاف و العنايات الخاصّة الالهيّة لهم كما أنّ الجار ينال الكرامة من جاره و الاضافة فيه و في تاليه للتشريف و التكريم.

(رافق بهم رسله و أزارهم ملائكته) حسبما عرفت ذلك في شرح هذه الخطبة و غيرها (و أكرم أسماعهم أن تسمع حسيس نار أبدا) كما قال عزّ من قائل إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى‏ أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَ هُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ.

قال الطبرسيّ أى يكونون بحيث لا يسمعون صوتها الّذي يحسّ.
روى في الصّافي من المحاسن عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله إنّه قال لعليّ عليه السّلام يا عليّ أنت و شيعتك على الحوض تسقون من أحببتم و تمنعون من كرهتم و أنتم الامنون يوم الفزع الاكبر في ظلّ العرش يوم يفزع الناس و لا تفزعون، و يحزن النّاس و لا تحزنون، و فيكم نزلت هذه الاية إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى‏ الاية، و فيكم نزلت لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ الاية.

و فيه من المحاسن عن الصّادق عليه السّلام قال: إنّ اللّه يبعث شيعتنا يوم القيامة على ما فيهم من الذّنوب أو غيره مبيضّة وجوههم مستورة عوراتهم آمنة روعتهم قد سهلت لهم الموارد و ذهبت عنهم الشدائد، يركبون نوقا من ياقوت فلا يزالون يدورون خلال الجنّة عليهم شرك من نور يتلألأ توضع لهم الموائد فلا يزالون يطعمون و الناس في الحساب، و هو قول اللّه تبارك و تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ الاية.
(و صان أجسادهم أن تلقى لغوبا و نصبا) كما قال سبحانه حكاية عنهم وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ‏فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ.

قال في مجمع البيان أى أنزلنا دار الخلود يقيمون فيها أبدا لا يموتون و لا يتحوّلون عنها «مِنْ فَضْلِهِ» أى ذلك بتفضّله و كرمه «لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ» لا يصيبنا في الجنّة عناء و مشقّة «وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ» أى و لا يصيبنا فيها إعياء و متعبة في طلب المعاش و غيره.

و في الصّافي عن القمّي قال: النّصب العناء و اللّغوب الكسل و الضجر و دار المقامة دار البقاء، و قال صاحب الصافي: النّصب التّعب و اللّغوب الكلال إذ لا تكليف فيها و لا كدّ اتبع نفى النصب بنفى ما يتبعه مبالغة.
(ذلك) المذكور من النعم العظيمة (فضل اللّه) أى تفضّل منه سبحانه (يؤتيه من يشاء) من عباده (و اللّه ذو الفضل العظيم) يتفضّل بما لا يقدر عليه غيره و يعطى الكثير بالقليل (أقول ما تسمعون و اللّه المستعان على نفسي و أنفسكم) في حفظها عن متابعة الهوى و الشهوات و وقايتها من المعاصي و الهفوات (و هو حسبنا و نعم الوكيل) و نعم المعين و نعم النصير.

الترجمة

از جمله خطب شريفه آن وصيّ مختار و وليّ پروردگار است مى ‏فرمايد: حمد و ثنا مر خداوندى را سزاست كه شناخته شده بدون رؤيت، و خلق فرموده بدون رنج و مشقت آفريد مخلوقات را بقدرت كامله خود، و طلب بندگى نمود از سلاطين و ملوك با عزّت قاهره خود، و مالك واجب الاطاعة شد بر بزرگان با بخشش فراوان خود، و اوست آن كسي كه ساكن فرمود در دنيا آفريدگان خود را، و مبعوث كرد بسوى جنّ و انس پيغمبران خود را، تا اين كه كشف كنند مر ايشان را از پردهاى دنيا، و بترسانند ايشان را از پريشانيهاى دنيا، و بيان كنند از براى ايشان مثلهاى آن را، و بنمايند بر ايشان عيبهاى آن را، و تا هجوم آور بشوند بر ايشان با چيزى كه باعث عبرت ايشان بشود از صحّتهاى آن و بيماريهاى آن، و حلال آن و حرام آن‏و با آنچه كه مهيّا فرموده خداوند تعالى از براى اطاعت كنندگان از ايشان، و معصيت كنندگان ايشان از بهشت و جهنّم، و عزّت و خواري.

حمد مي كنم او را در حالتى كه قصد تقرّب مي كنم بسوى او چنان حمدى كه طلب كرده از مخلوقات خود گردانيد از براى هر چيزى اندازه معيّني، و از براى هر اندازه مدّت مخصوصي، و از براى هر مدّت نوشته مشخّصي.

بعضى ديگر از اين خطبه در ذكر قرآن كريم است مى‏ فرمايد: پس قرآن امر كننده است و نهى كننده، و ساكت است بحسب ظاهر و ناطق است بحسب باطن، حجّت پروردگار است بر خلقان او أخذ فرموده است بر او عهد و پيمان ايشان را، و رهن كرده است در مقابل او نفسهاى ايشان را، تمام فرمود نور آنرا و گرامى داشت با آن دين خود را، و قبض فرمود نبيّ خود را در حالتي كه فارغ شده بود بسوى خلق از احكام هدايت با آن.

پس تعظيم نمائيد از حقّ سبحانه و تعالى مثل تعظيم كردن او ذات خود را، پس بدرستى كه پنهان نداشته است حق تعالى از شما چيزى را از دين، و فرو نگذاشته چيزى را كه پسنديده يا ناخوش گرفته مگر اين كه گردانيده از براى آن علامتى ظاهر و آيه محكم كه منع نمايد از آن يا دعوت كند بسوى او پس رضاى خدا در چيزى كه باقي مانده يكى است و سخط و غضب او در چيزى كه باقي مانده يكى است.

و بدانيد كه حق تعالى هرگز راضى نمى ‏باشد از شما بچيزى كه دشمن گرفته است آنرا بر كسانى كه بودند پيش از شما، و هرگز غضب نمى‏ كند بر شما بچيزى كه رضا داشته بأو از كسانى كه بودند پيش از شما، و جز اين نيست كه بايد سير نمائيد در أثر واضح گذشتگان، و تكلّم نمائيد بكلام با منفعت كه گويا شدند بان مردانى كه پيش از شما بودند.

بتحقيق كه كفايت كرد خداوند عالم معيشت دنياى شما را، و تحريص فرمود شما را بر شكر، و واجب كرد از زبانهاى شما ذكر را، و وصيّت فرمود شما رابتقوى و پرهيزكاري، و گردانيد آنرا منتهى خوشنودي و حاجت خود از خلق، پس بپرهيزيد از خدائى كه شما در پيش نظر اوئيد، و پيشانيهاي شما در يد قدرت او است و گرديدن شما در قبضه اقتدار او است، هر گاه پنهان داريد چيزى را در قلب خودتان مي داند آنرا، و اگر اظهار نمائيد أعمال خود را نويسد آنرا، بتحقيق موكّل فرموده بان نوشتن ملائكه كه حافظانند با كرامت در حالتى كه اسقاط حق نمى ‏كنند و إثبات باطل نمى ‏نمايند، يعني چيز بي اصل را نمى ‏نويسند.

و بدانيد بدرستى كه هر كس بترسد از خدا و صاحب تقوى باشد قرار مى‏ دهد خدا از براى او بيرون آمدني از فتنها، و روشنى از ظلمتها، و مخلّد مى ‏نمايد او را در چيزى كه خواهش دارد نفس او، و نازل مى‏ فرمايد او را در منزل كرامت در نزد خود در خانه كه اختيار فرموده آنرا از براى خود، چنان خانه كه سقف آن عرش او است، و نور آن جمال او است، و زيارت كنندگان آن ملكهاى او است، و رفيقهاى آن پيغمبران او است.

پس بشتابيد بسوى معاد، و سبقت كنيد بسوى أجلها از جهت اين كه مردمان نزديكست كه بريده شود از ايشان آرزوها، و در يابد ايشان را أجلها، و بسته شود بروى ايشان در توبه.

پس بتحقيق كه صباح كرديد در مثل چيزى كه سؤال كردند بر گشتن بسوى آنرا اشخاصى كه بودند پيش از شما، و شما أبناء السّبيل هستيد بر سفر كردن از خانه كه نيست خانه شما، بتحقيق كه اعلام كرده شديد بكوچ كردن از آن، و مأمور شديد در آن بأخذ كردن توشه.

و بدانيد بدرستى كه نيست مر اين پوست لطيف را صبر كردن بر آتش سوزان پس رحم نمائيد نفسهاى خود را پس بدرستى كه شما تجربه نموديد نفوس خود را در مصائب و صدمات دنيا، پس ديده ‏ايد جزع و فزع يكى از شما را از خارى كه برسد بأو يا لغزيدني كه خون آلود سازد او را، يا زمين بسيار گرمى كه بسوزاند او را، پس‏ چگونه باشد حال او زمانى كه بشود در ميان دو تابه يا دو طبقه از آتش كه همخوا به سنگ سوزان باشد و همنشين شيطان، آيا دانسته ‏ايد اين كه مالك خازن جهنّم هر وقت غضب نمايد بر آتش بشكند بعضى از آتش بعضي ديگر را، و هر گاه زجر كند آتش را بر جهد شراره آن از ميان درهاى دوزخ از جهة جزع كردن آن از زجر او.

اى پير بزرگ سال كه آميخته است بأو پيرى و سستى چگونه است حالت تو زمانى كه متّصل شود و پيوند گردد طوقهاى آتش باستخوانهاى گردنها، و فرو روند غلهاى جامعه آتش در أعضاء، تا اين كه بخورد گوشتهاى بازوها را پس بترسيد از خدا أى بندگان خدا در حالتى كه شما سلامت هستيد در زمان صحّت پيش از بيمارى و در فراخى و وسعت پيش از تنگى، پس سعى نمائيد در گشادن و فكّ نمودن گردنهاى خودتان پيش از اين كه بسته شود گروهاى گردنها، بيدار كنيد چشمهاى خود را با تهجّد و قيام، و تهى سازيد شكمهاى خود را با گرسنگى و صيام، و استعمال نمائيد قدمهاى خود را در خيرات، و انفاق كنيد مالهاى خود را در زكاة و صدقات، و أخذ نمائيد از بدنهاى خودتان تا بخشش نمائيد با آنها بر نفسهاى خود و بخل نورزيد به آنها.

پس بتحقيق كه فرموده است حق تعالى در كلام مجيد خود «إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ» يعني اگر يارى كنيد خدا را يارى مي كند خدا شما را و ثابت مى ‏فرمايد قدمهاى شما را در مواضع لغيزدن.
و باز فرموده «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ» يعني كسيست آن كسى كه قرض دهد خدا را قرض ‏دادن نيكو پس زياده گرداند آنرا از براى او و مر او راست أجر با كراهت.

پس يارى نخواست خداى تعالى از شما از بابت ذلّت، و قرض طلب نكرد از شما از جهت كمى و قلّت، يارى خواست از شما در حالتى كه از براى او است لشكرهاى آسمانها و زمين و حال آنكه او است صاحب عزّت و حكمت، و طلب قرض نمود از شما در حالتى كه از براى او است خزانهاى آسمانها و زمين و حال آنكه او است بى ‏نياز و ستوده،و جز اين نيست كه اراده فرموده كه امتحان نمايد شما را كه كدام از شما نيكوتر است از حيثيّت عمل.

پس مبادرت نمائيد بسوى عملهاى خودتان تا باشيد با همسايه اى خدا در خانه خدا كه رفيق ساخته ايشان را با پيغمبران خود، و بزيارت ايشان أمر نموده فرشتگان را و گرامى داشته گوشه اى ايشان را از اين كه بشنوند آواز آتش را هرگز، و نگه داشته جسدهاى ايشان را از آنكه برسد بمشقّت و كسالت، اين فضل و احسان خداست كه عطا مى‏ فرمايد آنرا بهر كس كه مى ‏خواهد از بندگان خود، و خداوند است صاحب فضل عظيم، من مى‏ گويم چيزى را كه مى ‏شنويد و خداست يارى خواسته شده، يعني از او استعانت مي كنم بر نفس خودم و بر نفسهاى أمّاره شما، و اوست كفايت كننده ما و چه خوب وكيل است.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 181/2(شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 182 صبحی صالح

182- و من خطبة له ( عليه ‏السلام  ) روي عن نوف البكالي قال خطبنا بهذه الخطبة أمير المؤمنين علي ( عليه ‏السلام  ) بالكوفة و هو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي

و عليه مدرعة من صوف و حمائل سيفه ليف

و في رجليه نعلان من ليف و كأن جبينه ثفنة بعير فقال ( عليه ‏السلام  )

حمد اللّه و استعانته

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي إِلَيْهِ مَصَائِرُ الْخَلْقِ وَ عَوَاقِبُ الْأَمْرِ

نَحْمَدُهُ عَلَى عَظِيمِ إِحْسَانِهِ وَ نَيِّرِ بُرْهَانِهِ وَ نَوَامِي فَضْلِهِ وَ امْتِنَانِهِ

حَمْداً يَكُونُ لِحَقِّهِ قَضَاءً وَ لِشُكْرِهِ أَدَاءً وَ إِلَى ثَوَابِهِ مُقَرِّباً وَ لِحُسْنِ مَزِيدِهِ مُوجِباً

وَ نَسْتَعِينُ بِهِ اسْتِعَانَةَ رَاجٍ لِفَضْلِهِ مُؤَمِّلٍ لِنَفْعِهِ وَاثِقٍ بِدَفْعِهِ مُعْتَرِفٍ لَهُ بِالطَّوْلِ مُذْعِنٍ لَهُ بِالْعَمَلِ وَ الْقَوْلِ

وَ نُؤْمِنُ بِهِ إِيمَانَ مَنْ رَجَاهُ مُوقِناً وَ أَنَابَ إِلَيْهِ مُؤْمِناً وَ خَنَعَ لَهُ مُذْعِناً

وَ أَخْلَصَ لَهُ مُوَحِّداً وَ عَظَّمَهُ مُمَجِّداً وَ لَاذَ بِهِ رَاغِباً مُجْتَهِداً

اللّه الواحد

لَمْ يُولَدْسُبْحَانَهُ فَيَكُونَ فِي الْعِزِّ مُشَارَكاً

وَ لَمْ يَلِدْفَيَكُونَ مَوْرُوثاًهَالِكاً

وَ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ وَقْتٌ وَ لَا زَمَانٌ وَ لَمْ يَتَعَاوَرْهُ زِيَادَةٌ وَ لَا نُقْصَانٌ

بَلْ ظَهَرَ لِلْعُقُولِ بِمَا أَرَانَا مِنْ عَلَامَاتِ التَّدْبِيرِ الْمُتْقَنِ وَ الْقَضَاءِ الْمُبْرَمِ

فَمِنْ شَوَاهِدِ خَلْقِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ مُوَطَّدَاتٍ بِلَا عَمَدٍ قَائِمَاتٍ بِلَا سَنَدٍ

دَعَاهُنَّ فَأَجَبْنَ طَائِعَاتٍ مُذْعِنَاتٍ غَيْرَ مُتَلَكِّئَاتٍ وَ لَا مُبْطِئَاتٍ

وَ لَوْ لَا إِقْرَارُهُنَّ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَ إِذْعَانُهُنَّ بِالطَّوَاعِيَةِ لَمَا جَعَلَهُنَّ مَوْضِعاً لِعَرْشِهِ وَ لَا مَسْكَناً لِمَلَائِكَتِهِ وَ لَا مَصْعَداً لِلْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ خَلْقِهِ

جَعَلَ نُجُومَهَا أَعْلَاماً يَسْتَدِلُّ بِهَا الْحَيْرَانُ فِي مُخْتَلِفِ فِجَاجِ الْأَقْطَارِ

لَمْ يَمْنَعْ ضَوْءَ نُورِهَا ادْلِهْمَامُ سُجُفِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ وَ لَا اسْتَطَاعَتْ جَلَابِيبُ سَوَادِ الْحَنَادِسِ أَنْ تَرُدَّ مَا شَاعَ فِي السَّمَاوَاتِ مِنْ تَلَأْلُؤِ نُورِ الْقَمَرِ

فَسُبْحَانَ مَنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ سَوَادُ غَسَقٍ دَاجٍ وَ لَا لَيْلٍ سَاجٍ فِي بِقَاعِ الْأَرَضِينَ الْمُتَطَأْطِئَاتِ وَ لَا فِي يَفَاعِ السُّفْعِ الْمُتَجَاوِرَاتِ

وَ مَا يَتَجَلْجَلُ بِهِ الرَّعْدُ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ وَ مَا تَلَاشَتْ عَنْهُ بُرُوقُ الْغَمَامِ

وَ مَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ تُزِيلُهَا عَنْ مَسْقَطِهَا عَوَاصِفُ الْأَنْوَاءِ وَ انْهِطَالُ السَّمَاءِ

وَ يَعْلَمُ مَسْقَطَ الْقَطْرَةِ وَ مَقَرَّهَا وَ مَسْحَبَ الذَّرَّةِ وَ مَجَرَّهَا وَ مَا يَكْفِي الْبَعُوضَةَ مِنْ قُوتِهَا وَ مَا تَحْمِلُ الْأُنْثَى فِي بَطْنِهَا

عود إلى الحمد

وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الْكَائِنِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ كُرْسِيٌّ أَوْ عَرْشٌ أَوْ سَمَاءٌ أَوْ أَرْضٌ أَوْ جَانٌّ أَوْ إِنْسٌ

لَا يُدْرَكُ بِوَهْمٍ وَ لَا يُقَدَّرُ بِفَهْمٍ وَ لَا يَشْغَلُهُ سَائِلٌ وَ لَا يَنْقُصُهُ نَائِلٌ

وَ لَا يَنْظُرُ بِعَيْنٍ وَ لَا يُحَدُّ بِأَيْنٍ وَ لَا يُوصَفُ بِالْأَزْوَاجِ وَ لَا يُخْلَقُ بِعِلَاجٍ وَ لَا يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ وَ لَا يُقَاسُ بِالنَّاسِ

الَّذِي كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيماً وَ أَرَاهُ مِنْ آيَاتِهِ عَظِيماً بِلَا جَوَارِحَ وَ لَا أَدَوَاتٍ وَ لَا نُطْقٍ وَ لَا لَهَوَاتٍ

بَلْ إِنْ كُنْتَ صَادِقاً أَيُّهَا الْمُتَكَلِّفُ لِوَصْفِ رَبِّكَ فَصِفْ جِبْرِيلَ وَ مِيكَائِيلَ وَ جُنُودَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ فِي حُجُرَاتِ الْقُدُسِ مُرْجَحِنِّينَ مُتَوَلِّهَةً عُقُولُهُمْ أَنْ يَحُدُّوا أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ

فَإِنَّمَا يُدْرَكُ بِالصِّفَاتِ ذَوُو الْهَيْئَاتِ وَ الْأَدَوَاتِ وَ مَنْ يَنْقَضِي إِذَا بَلَغَ أَمَدَ حَدِّهِ بِالْفَنَاءِ

فَلَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أَضَاءَ بِنُورِهِ كُلَّ ظَلَامٍ وَ أَظْلَمَ بِظُلْمَتِهِ كُلَّ نُورٍ

الوصية بالتقوى‏

أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي أَلْبَسَكُمُ الرِّيَاشَ وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمُ الْمَعَاشَ

فَلَوْ أَنَّ أَحَداً يَجِدُ إِلَى الْبَقَاءِ سُلَّماً أَوْ لِدَفْعِ الْمَوْتِ سَبِيلًا لَكَانَ ذَلِكَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ ( عليه ‏السلام  )

الَّذِي سُخِّرَ لَهُ مُلْكُ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ مَعَ النُّبُوَّةِ وَ عَظِيمِ الزُّلْفَةِ

فَلَمَّا اسْتَوْفَى طُعْمَتَهُ وَ اسْتَكْمَلَ مُدَّتَهُ رَمَتْهُ قِسِيُّ الْفَنَاءِ بِنِبَالِ الْمَوْتِ

وَ أَصْبَحَتِ الدِّيَارُ مِنْهُ‏خَالِيَةً وَ الْمَسَاكِنُ مُعَطَّلَةً وَ وَرِثَهَا قَوْمٌ آخَرُونَ

وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْقُرُونِ السَّالِفَةِ لَعِبْرَةً

أَيْنَ الْعَمَالِقَةُ وَ أَبْنَاءُ الْعَمَالِقَةِ أَيْنَ الْفَرَاعِنَةُ وَ أَبْنَاءُ الْفَرَاعِنَةِ أَيْنَ أَصْحَابُ مَدَائِنِ الرَّسِّ الَّذِينَ قَتَلُوا النَّبِيِّينَ وَ أَطْفَئُوا سُنَنَ الْمُرْسَلِينَ وَ أَحْيَوْا سُنَنَ الْجَبَّارِينَ

أَيْنَ الَّذِينَ سَارُوا بِالْجُيُوشِ وَ هَزَمُوا بِالْأُلُوفِ وَ عَسْكَرُوا الْعَسَاكِرَ وَ مَدَّنُوا الْمَدَائِنَ

وَ مِنْهَا قَدْ لَبِسَ لِلْحِكْمَةِ جُنَّتَهَا وَ أَخَذَهَا بِجَمِيعِ أَدَبِهَا مِنَ الْإِقْبَالِ عَلَيْهَا وَ الْمَعْرِفَةِ بِهَا وَ التَّفَرُّغِ لَهَا

فَهِيَ عِنْدَ نَفْسِهِ ضَالَّتُهُ الَّتِي يَطْلُبُهَا وَ حَاجَتُهُ الَّتِي يَسْأَلُ عَنْهَا

فَهُوَ مُغْتَرِبٌ إِذَا اغْتَرَبَ الْإِسْلَامُ وَ ضَرَبَ بِعَسِيبِ ذَنَبِهِ وَ أَلْصَقَ الْأَرْضَ بِجِرَانِهِ

بَقِيَّةٌ مِنْ بَقَايَا حُجَّتِهِ خَلِيفَةٌ مِنْ خَلَائِفِ أَنْبِيَائِهِ

ثم قال ( عليه ‏السلام  )

أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ بَثَثْتُ لَكُمُ الْمَوَاعِظَ الَّتِي وَعَظَ الْأَنْبِيَاءُ بِهَا أُمَمَهُمْ وَ أَدَّيْتُ إِلَيْكُمْ مَا أَدَّتِ الْأَوْصِيَاءُ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ

وَ أَدَّبْتُكُمْ بِسَوْطِي فَلَمْ تَسْتَقِيمُوا وَ حَدَوْتُكُمْ بِالزَّوَاجِرِ فَلَمْ تَسْتَوْسِقُوا

لِلَّهِ أَنْتُمْ أَ تَتَوَقَّعُونَ إِمَاماً غَيْرِي يَطَأُ بِكُمُ الطَّرِيقَ وَ يُرْشِدُكُمُ السَّبِيلَ

أَلَا إِنَّهُ قَدْ أَدْبَرَ مِنَ الدُّنْيَا مَا كَانَ مُقْبِلًا وَ أَقْبَلَ مِنْهَا مَا كَانَ مُدْبِراً

وَ أَزْمَعَ التَّرْحَالَ عِبَادُ اللَّهِ الْأَخْيَارُ

وَ بَاعُوا قَلِيلًا مِنَ الدُّنْيَا لَا يَبْقَى بِكَثِيرٍ مِنَ الْآخِرَةِ لَا يَفْنَى

مَا ضَرَّ إِخْوَانَنَا الَّذِينَ سُفِكَتْ دِمَاؤُهُمْ وَ هُمْ بِصِفِّينَ أَلَّا يَكُونُوا الْيَوْمَ أَحْيَاءً يُسِيغُونَ الْغُصَصَ وَ يَشْرَبُونَ الرَّنْقَ

قَدْ وَ اللَّهِ لَقُوا اللَّهَ فَوَفَّاهُمْ أُجُورَهُمْ وَ أَحَلَّهُمْ دَارَ الْأَمْنِ بَعْدَ خَوْفِهِمْ

أَيْنَ إِخْوَانِيَ الَّذِينَ رَكِبُوا الطَّرِيقَ وَ مَضَوْا عَلَى الْحَقِّ

أَيْنَ عَمَّارٌ وَ أَيْنَ ابْنُ التَّيِّهَانِ وَ أَيْنَ ذُو الشَّهَادَتَيْنِ وَ أَيْنَ نُظَرَاؤُهُمْ مِنْ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ تَعَاقَدُوا عَلَى الْمَنِيَّةِ وَ أُبْرِدَ بِرُءُوسِهِمْ إِلَى الْفَجَرَةِ

قَالَ ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى لِحْيَتِهِ الشَّرِيفَةِ الْكَرِيمَةِ فَأَطَالَ الْبُكَاءَ ثُمَّ قَالَ ( عليه ‏السلام  )

أَوِّهِ عَلَى إِخْوَانِيَ الَّذِينَ تَلَوُا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ وَ تَدَبَّرُوا الْفَرْضَ فَأَقَامُوهُ أَحْيَوُا السُّنَّةَ وَ أَمَاتُوا الْبِدْعَةَ

دُعُوا لِلْجِهَادِ فَأَجَابُوا وَ وَثِقُوا بِالْقَائِدِ فَاتَّبَعُوهُ

ثُمَّ نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ

الْجِهَادَ الْجِهَادَ عِبَادَ اللَّهِ

أَلَا وَ إِنِّي مُعَسْكِرٌ فِي يَومِي هَذَا فَمَنْ أَرَادَ الرَّوَاحَ إِلَى اللَّهِ فَلْيَخْرُجْ

قَالَ نوف و عقد للحسين ( عليه‏ السلام  ) في عشرة آلاف

و لقيس بن سعد رحمه الله في عشرة آلاف و لأبي أيوب الأنصاري في عشرة آلاف و لغيرهم على أعداد أخر و هو يريد الرجعة إلى صفين

فما دارت الجمعة حتى ضربه الملعون ابن ملجم لعنه الله

فتراجعت العساكر فكنا كأغنام فقدت راعيها تختطفها الذئاب من كل مكان

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج10  

الفصل الثاني

أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه الّذي ألبسكم الرّياش، و أسبغ عليكم المعاش، و لو أنّ أحدا يجد إلى البقاء سلّما، أو لدفع الموت سبيلا، لكان ذلك سليمان بن داود عليه السّلام الّذي سخّر له ملك الجنّ و الإنس مع النّبوّة و عظيم الزّلفة، فلمّا استوفى طعمته، و استكمل مدّته، رمته قسيّ الفناء بنبال الموت، و أصبحت الدّيار منه خالية، و المساكن معطّلة، و ورثها قوم آخرون، و إنّ لكم في القرون السّالفة لعبرة، أين العمالقة و أبناء العمالقة أين الفراعنة و أبناء الفراعنة أين أصحاب مداين الرّسّ الّذين قتلوا النّبيّين، و أطفئوا سنن المرسلين، و أحيوا سنن الجبّارين، و أين الّذين ساروا بالجيوش، و هزموا الالوف، و عسكروا العساكر، و مدّنوا المداين.

اللغة

(الرياش) و الريش ما ظهر من اللباس، و قيل: الرياش جمع الريش و هو اللباس الفاخر و (المعاش) و المعيشة مكتسب الانسان الّذى يعيش به و (السلّم) كسكّر ما يرتقى عليه و (القسىّ) جمع القوس«» و (النبل) السّهام العربيّة لا واحد لها من لفظهاو (العمالقة) و العماليق أولاد عمليق وزان قنديل أو عملاق كقرطاس و هو من ولد نوح عليه السّلام حسبما تعرف و (الفراعنة) جمع فرعون و (الرّسّ) بتشديد السّين نهر عظيم بين آذربيجان و ارمينية و هو المعروف الان بالأرس مبدؤه من مدينة طراز و ينتهى إلى شهر الكرّ فيختلطان و يصبّان في البحر، و قال في القاموس: بئر كانت لبقيّة من ثمود كذّبوا نبيّهم و رسّوه في بئر و (مدّن) المداين تمدينا مصّرها.

الاعراب

الباء في قوله بنبال الموت زايدة في المفعول، و المداين مفعول لقوله مدّنوا لا فيه كما هو واضح.

المعنى

اعلم أنه لما افتتح الخطبة بتحميد اللّه سبحانه و تمجيده و ذكر جملة من صفات جلاله و نعوت جماله و أشار إلى عجائب قدرته و بدايع حكمته في ملكه و ملكوته في الفصل السابق منها، أتبعه بهذا الفصل تذكرة و موعظة للمخاطبين، فأوصى بما لا يزال يوصى به و قال: (أوصيكم عباد اللّه بتقوى اللّه) الّتي هي الزاد و بها المعاد زاد مبلّغ و معاد منجح و هى أن لا يراك حيث نهاك و لا يفقدك حيث أمرك.

و انما عقّب بالموصول أعني قوله (الّذي ألبسكم الرياش و أسبغ عليكم المعاش) تأكيدا للغرض المسوق له الكلام، و تنبيها على أنّه سبحانه مع عظيم احسانه و مزيد فضله و انعامه حيث أنعم عليكم باللباس و الرياش و أكمل عليكم المعاش الّذين هما سببا حياتكم و بهما بقاء نوعكم، كيف يسوغ كفران نعمته بالعصيان، و مقابلة عطوفته بالخطيئة، بل اللّازم مكافاة نعمائه بالتقوى، و عطاياه بالحسنى.

ثمّ لما كان رأس كلّ خطيئة هو حبّ الدّنيا و كان عمدة أسباب الغفلة و الضّلالة الركون اليها و طول الأمل فيها نبّه على فنائها و زوالها بقوله (و لو أنّ أحدا يجدإلى البقاء سلّما) و وسيلة (أو لدفع الموت سبيلا) و سببا (لكان ذلك سليمان بن داود عليه السّلام) لأنّه (الّذي) اختصّ من ساير الخلق لكمال السّلطنة و الملك العظيم حيث (سخّر له ملك الجنّ و الانس) و الوحش و الطير فهم يوزعون حسبما تعرفه تفصيلا عن قريب (مع النبوّة و عظيم الزلفة) و القربى إلى الحقّ سبحانه.

و معلوم أنّ النّبوة و التقرّب و المنزلة من الوسائل إلى البقاء لاستجابة الدّعاء معهما فهما مظنّتان للتوصّل إليه في الباطن كما أنّ الملك و السلطنة مظنّة لأن تكون وسيلة إليه في الظاهر لكنّه مع نبوّته و عظم سلطانه و قدرته على ما لم يقدر عليه غيره لم يجد وسيلة إلى البقاء، فليس لأحد بعده أن يطمع في وجدانه أما انه عليه السّلام لم يجد وسيلة إلى ذلك (ف) لأنه (لما استوفى طعمته) أى رزقه المقدّر (و استكمل مدّته) المقرّرة (رمته قسيّ الفناء بنبال الموت) إسناد الرّمى إلى القسيّ من المجاز العقلي و النسبة إلى الالة، قال الشارح البحراني: و لفظ القسىّ و النبال استعارة لمرامى الأمراض و أسبابها الّتي هي نبال الموت (و أصبحت الدّيار منه خالية و المساكن معطّلة و ورثها قوم آخرون).

روى في البحار من العلل و العيون عن أحمد بن زياد الهمداني عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن عليّ بن معبد عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن عليّ بن موسى الرّضا عليهما السّلام عن أبيه موسى بن جعفر «عن أبيه جعفر خ» بن محمّد عليهم السّلام قال إنّ سليمان بن داود عليه السّلام قال ذات يوم لأصحابه: إنّ اللّه تبارك و تعالى قد وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدى سخّر لي الرّيح و الانس و الجنّ و الطير و الوحوش و علّمني منطق الطير و آتاني كلّ شي‏ء و مع جميع ما اوتيت من الملك ما تمّ لي سرور يوم إلى اللّيل، و قد أحببت أن أدخل قصرى في غد فأصعد أعلاه و أنظر إلى ممالكي فلا تأذنوا لأحد عليّ لئلّا يرد على ما ينقص على يومى، قالوا: نعم.

فلما كان من الغد أخذ عصاه بيده و صعد إلى أعلى موضع من قصره و وقف متكئا على عصاه ينظر إلى ممالكه مسرورا بما أوتى فرحا بما أعطى، إذ نظر إلى‏شابّ حسن الوجه و اللّباس قد خرج عليه من بعض زوايا قصره، فلما بصر به سليمان عليه السّلام قال: من أدخلك إلى هذا القصر و قد أردت أن أخلو فيه اليوم فباذن من دخلت فقال الشاب: أدخلنى هذا القصر ربّه و باذنه دخلت، فقال عليه السّلام: ربّه أحقّ به منّى فمن أنت قال: أنا ملك الموت، قال: و فيما جئت قال: جئت لأقبض روحك قال: امض لما امرت به فهذا يوم سرورى و أبي اللّه عزّ و جلّ أن يكون لي سرورى دون لقائه، فقبض ملك الموت روحه و هو متكئ على عصاه.

فبقى سليمان متكئا على عصاه و هو ميّت ما شاء اللّه و النّاس ينظرون إليه و هم يقدّرون أنّه حىّ، فافتتنوا فيه و اختلفوا فمنهم من قال: إنّ سليمان قد بقى متكئا على عصاه هذه الأيام الكثيرة و لم يتعب و لم ينم و لم ياكل و لم يشرب إنّه لربّنا الذي يجب علينا أن نعبده، و قال قوم: إنّ سليمان ساحر إنّه يرينا أنه واقف و متكئ على عصاه يسحر أعيننا و ليس كذلك، فقال المؤمنون: إنّ سليمان هو عبد اللّه و نبيّه يدبّر اللّه بما شاء.

فلما اختلفوا بعث اللّه عزّ و جلّ الارضة فدبت في عصاه، فلما أكلت جوفها انكسرت العصا و خرّ سليمان من قصره على وجهه فشكر الجنّ للارضة صنيعها فلأجل ذلك لا توجد الارضة في مكان إلّا و عندها ماء و طين، و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ: فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى‏ مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ، يعني عصاه فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ.

ثمّ نبّه عليه السّلام على الاعتبار بأحوال القرون الخالية و الامم الماضية فقال: (و انّ لكم في القرون السالفة لعبرة) و أشار إلى وجه العبرة على سبيل الاستفهام التقريرى قصدا للتذكير و التذكّر بقوله (أين العمالقة و أبناء العمالقة).
قال الشّارح المعتزلي: العمالقة أولاد لاوز بن ارم بن سالم بن نوح عليه السّلام كان الملك باليمن و الحجاز و ما تاخم ذلك من الأقاليم فمنهم عملاق بن لاوز، و منهم طسم بن لاوز أخوه، و منهم جديس بن لاوز أخوهما، و كان العزّ و الملك بعد عملاق بن لاور في طسم، فلما ملكهم عملاق بن طسم بغى و أكثر الفساد في الأرض حتّى كان‏يطأ العروس ليلة إهدائها إلى بعلها و إن كانت بكرا افتضّها قبل وصولها إلى البعل، ففعل ذلك بامرأة من جديس يقال لها غفيرة بنت غفار، فخرجت إلى قومها و هي تقول:

لا أحد أذلّ من جديس
أ هكذا يفعل بالعروس‏

فغضب لها أخوها الأسود بن غفار و تابعه قومه على الفتك بعملاق بن طسم و أهل بيته فصنع الاسود طعاما و دعى العملاق إليه ثمّ وثب به و بطسم فأتى على رؤسائهم و نجا منهم رباح بن مز فصار إلى ذى جيشان بن تبع الحميرى ملك اليمن، فاستغاث به على جديس فصار ذو جيشان في حمير فأتى بلاد جوّ و هي قصبة اليمامة و استأصل جديس كلّها و أخرب اليمامة فلم يبق لجديس باقية و لا لطسم إلّا اليسير منهم ثمّ ملك بعد طسم و جديس و باز بن ايم «بن ظ» لاوز بن ارم فسار بولده و أهله و نزل برمل عالج فبغوا في الأرض حينا حتّى أفناهم اللّه، ثمّ ملك الأرض بعد و باز عبد صحم بن اثيف بن لاوز فنزلوا بالطايف حينا ثمّ بادوا.

قال الشارح: و ممن يعدّ من العمالقة عاد و ثمود.
فأمّا عاد فهو ابن عويص بن ارم بن سام بن نوح كان يعبد القمر يقال إنّه كان رأى من صلبه أولادا و أولاد أولاد أربعة آلاف، و أنّه نكح ألف جارية و كان بلاده الأحقاف المذكورة في القرآن«»، و هي من شجر عمّان إلى حضرموت، و من أولاده شدّاد ابن عاد صاحب المدينة المذكورة في سورة الفجر.
و أمّا ثمود فهو ابن عابر بن ارم بن سام بن نوح عليه السّلام، و كانت دياره بين الشام و الحجاز إلى ساحل بحر الحبشة.

(أين الفراعنة و أبناء الفراعنة) و هم ملوك مصر فمنهم الوليد بن الريان فرعون يوسف عليه السّلام، و منهم الوليد بن مصعب فرعون موسى، و منهم فرعون بن الأعرج الّذي غزا بني إسرائيل و أخرب بيت المقدّس.

(أين أصحاب مداين الرّس) و ستعرف انبائهم في التذييل الاتي، و هم (الّذين) جحدوا ربّ العالمين و (قتلوا النبيّين) مظلومين (و أطفئوا سنن المرسلين) و شرايع الدّين (و أحيوا سنن الجبّارين) و بدع الشياطين (و أين) الملوك (الّذين ساروا بالجيوش و هزموا الالوف) و فتحوا الأمصار (و عسكروا العساكر) و جمعوهم (و مدّنوا المداين) و بنوها.
و ينبغي

تذييل هذا الفصل من الخطبة بامرين

الاول في نوادر أخبار ملك سليمان بن داود عليه السّلام

المشار إليه في هذا الفصل قال تعالى في سورة النمل: وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً وَ قالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى‏ كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَ قالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ. و في سورة سبأ: وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ وَ أَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَ مِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ مَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ، يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَ تَماثِيلَ وَ جِفانٍ كَالْجَوابِ وَ قُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ.

قوله سبحانه: وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ قال الصّادق عليه السّلام في رواية اكمال الدين إنّ داود عليه السّلام أراد أن يستخلف سليمان لأنّ اللّه عزّ و جلّ أوحى إليه يأمره بذلك فلما أخبر بني إسرائيل ضجّوا من ذلك و قالوا: يستخلف علينا حدثا و فينا من هو أكبر منه، فدعى أسباط بني إسرائيل فقال لهم: قد بلغنى مقالتكم فأرونى عصيّكم فأىّ عصا أثمرت فصاحبها وليّ الأمر بعدي، فقالوا: رضينا، و قال: ليكتب كلّ واحد منكم اسمه على عصاه، فكتبوا ثمّ جاء سليمان بعصاه فكتب عليها اسمه ثمّ ادخلت بيتا و اغلق الباب و حرسه رءوس أسباط بني إسرائيل: فلما أصبح صلّى بهم الغداة ثمّ‏أقبل ففتح لهم الباب فأخرج عصيّهم و قد ورقت عصا سليمان و قد أثمرت، فسلّموا ذلك لداود عليه السّلام.

و في البحار من محاسن البرقي عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السّلام قال: استخلف داود سليمان و هو ابن ثلاثة عشر سنة، و مكث في ملكه أربعين سنة.
و قوله: «عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ» قيل: إنّ النّطق عبارة و هو مختصّ بالانسان إلّا أنّ سليمان لما فهم معنى صوت الطير سمّاه منطقا مجازا، و قال عليّ بن عيسى إن الطّير كانت تكلّم سليمان عليه السّلام معجزة له كما أخبر عن الهدهد، و منطق الطير صوت يتفاهم به معانيها على صيغة واحدة بخلاف منطق الناس الّذي يتفاهمون به المعاني على صيغ مختلفة، و لذلك لم نفهم عنها مع طول مصاحبتها و لم يفهم هي عنا، لأنّ أفهامها مقصورة على تلك الامور المخصوصة، و لمّا جعل سليمان يفهم عنها كان قد علم منطقها.

قوله: وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ أى من كلّ شي‏ء تؤتى الأنبياء و الملوك، و قيل: من كلّ شي‏ء يطلبه طالب لحاجته اليه و انتفاعه به.
و قوله: وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ قال الطبرسي أى و سخّرنا لسليمان الريح مسير غدوّ تلك الريح المسخّرة مسير شهر و مسير رواحها مسير شهر، و المعنى أنها كانت تسير في اليوم مسيرة شهرين للرّاكب قال قتادة: كانت تغدو مسيرة شهر إلى نصف النهار و يروح مسيرة شهر إلى آخر النهار، و قال الحسن: كانت تغدو من دمشق فيقبل باصطخر من أرض اصفهان و بينهما مسيرة شهر للمستريح، و تروح من اصطخر فتبيت بكابل و بينهما مسيرة شهر تحمله الرّيح مع جنوده أعطاه اللّه الرّيح بدلا من الصافنات الجياد.

«وَ أَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ» أى أذبنا له عين النحاس و أظهرناها له.
«وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ وَ» المعنى و سخّرنا له من الجنّ من بحضرته و امام عينه ما يأمرهم به من الأعمال كما يعمل الادمى بين يدي الادمى بأمر ربّه تعالى، و كان يكلّفهم الأعمال الشاقّة، و فيه دلالة على أنّه قد كان من الجنّ‏من هو غير مسخّر له.

«وَ مَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ» أى من يعدل من هؤلاء الجنّ الّذين سخّرناهم لسليمان عما أمرناهم به من طاعة سليمان نذقه من عذاب النار في الاخرة عن أكثر المفسرين، و قيل: نذقه العذاب في الدّنيا و أنّ اللّه سبحانه وكّل بهم ملكا بيده سوط من نار فمن زاغ منهم من طاعة سليمان ضربه ضربة أحرقته.

«يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ» و هى البيوت الشريفة الشريعة قيل: و هى القصور و المساجد يتعبّد فيها عن قتادة و الجبائي، قال: و كان مما عملوا بيت المقدّس و قد كان اللّه عزّ و جلّ سلّط على بني اسرائيل الطاعون فهلك خلق كثير في يوم واحد فأمرهم داود أن يغتسلوا و يبرزوا الى الصّعيد بالذّرارى و الأهلين و يتضرّعوا إلى اللّه تعالى لعلّه يرحمهم، و ذلك صعيد بيت المقدس قبل بناء المسجد، و ارتفع داود عليه السّلام فوق الصّخرة فخرّ ساجدا يبتهل إلى اللّه سبحانه و سجدوا معه، فلم يرفعوا رؤوسهم حتى كشف اللّه عنهم الطاعون.

فلما أن شفع اللّه داود في بني اسرائيل جمعهم داود بعد ثلاث و قال لهم: إنّ اللّه تعالى قد منّ عليكم و رحمكم فجدّدوا شكرا بأن تتّخذوا من هذا الصعيد الذي رحمكم فيه مسجدا ففعلوا، و أخذوا في بناء بيت المقدس فكان داود عليه السّلام ينقل الحجارة لهم على عاتقة، و كذلك خيار بني اسرائيل حتّى رفعوه قامة و لداود عليه السّلام يومئذ سبع و عشرون و مأئة سنة، فأوحى اللّه تعالى إلى داود عليه السّلام أنّ تمام بنائه يكون على يد ابنه سليمان.
فلما صار داود ابن أربعين و مأئة سنة توفّاه اللّه تعالى و استخلف سليمان فأحبّ إتمام بيت المقدس فجمع الجنّ و الشياطين فقسم عليهم الأعمال يخصّ كلّ طائفة منهم بعمل، فأرسل الجنّ و الشياطين في تحصيل الرخام و المها الأبيض الصافي من معادنه و أمر ببناء المدينة من الرخام و الصفاح و جعلها اثنا عشر ربضا و أنزل كلّ ربض منها سبطا من الأسباط.

فلما فرغ من بناء المدينة ابتدء في بناء المسجد فوجّه الشياطين فرقا فرقة يستخرجون الذهب و اليواقيت من معادنها، و فرقة يقلعون الجواهر و الأحجار من أماكنها، و فرقة يأتونه بالمسك و العنبر و ساير الطيب، و فرقة يأتونه بالدرّ من البحار فاوتى من ذلك بشي‏ء لا يحصيه إلّا اللّه تعالى ثمّ احضر الصناع و أمرهم بنحت تلك الأحجار حتّى يصيروها ألواحا و معالجة تلك الجواهر و اللالي.

و بنى سليمان المسجد بالرخام الأبيض و الأصفر و الأخضر و عمده بأساطين المها الصافي و سقفه بألواح الجواهر و فضض سقوفه و حيطانه باللالي و اليواقيت و الجواهر و بسط أرضه بألواح الفيروزج، فلم يكن في الأرض بيت أبهى منه و لا أنور من ذلك المسجد كان يضي‏ء في الظلمة كالقمر ليلة البدر.

فلما فرغ منه جمع إليه خيار بني إسرائيل فأعلمهم أنه بناه اللّه تعالى و اتّخذ ذلك اليوم الذي فرغ منه عيدا.
فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان حتّى غزا بخت نصر بني اسرائيل فخرب المدينة و هدمها و نقض المسجد و أخذ ما في سقوفه و حيطانه من الذّهب و الدّر و اليواقيت و الجواهر، فحملها إلى دار مملكته من أرض العراق.
قال سعيد بن المسيّب لما فرغ سليمان من بناء بيت المقدس تغلقت أبوابه فعالجها سليمان فلم تنفتح حتّى قال في دعائه بصلوات أبي داود عليه السّلام إلّا فتحت الأبواب ففرغ له عشرة آلاف من قراء بني اسرائيل خمسة آلاف بالليل و خمسة آلاف بالنهار و لا يأتي ساعة من ليل و نهار إلّا و يعبد اللّه فيها.

«وَ تَماثِيلَ» يعني صورا من نحاس و شبه و زجاج كانت الجنّ تعملها، ثمّ اختلفوا فقال بعضهم كانت صورا للحيوانات، و قال آخرون كانوا يعملون صور السّباع و البهايم على كرسيّه ليكون أهيب له.
فذكروا أنّهم صوّروا أسدين أسفل كرسيّه و نسرين فوق عمودى كرسيّه فكان إذا أراد أن يصعد الكرسي بسط الأسدان ذراعيهما، و إذا علا على الكرسي نشر النسران أجنحتهما فظلّلاه من الشّمس، و يقال: إنّ ذلك كان مما لا يعرفه أحدمن النّاس.

فلما حاول بخت نصر صعود الكرسي بعد سليمان حين غلب على بني إسرائيل لم يعرف كيف كان يصعد سليمان، فرفع الأسد ذراعيه فضرب ساقه فقدّها فوقع مغشيّا عليه فما جسر أحد بعده أن يصعد ذلك الكرسي.
قال الحسن و لم يكن يومئذ التصاوير محرمة و هى محظورة في شريعة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فانه قال: لعن اللّه المصوّرين، و يجوز أن يكره ذلك في زمن دون زمن، و قد بيّن اللّه سبحانه أنّ المسيح عليه السّلام كان يصوّر بأمر اللّه من الطين كهيئة الطّير و قال ابن عبّاس كانوا يعملون صور الأنبياء و العبّاد في المساجد ليقتدى بهم.

و روى عن الصّادق عليه السّلام انه قال: و اللّه ما هى تماثيل النساء و الرجال و لكنها الشجر و ما أشبهه.
«وَ جِفانٍ كَالْجَوابِ» أى صحاف كالحياض الّتي يجبى فيها الماء أى يجمع و كان سليمان عليه السّلام يصلح طعام جيشه في مثل هذه الجفان، فانه لم يمكنه أن يطعمهم في مثل قصاع الناس لكثرتهم، و قيل: انه كان يجمع على كلّ جفنة ألف رجل يأكلون من بين يديه.

«وَ قُدُورٍ راسِياتٍ» أى ثابتات لا يزلن عن أمكنتهنّ لعظمهنّ، عن قتادة و كانت باليمن و قيل كانت عظيمة كالجبال يحملونها مع أنفسهم و كان سليمان عليه السّلام يطعم جنده.
و فى البحار عن صاحب الكامل قال: لما توفّى داود ملك بعده ابنه سليمان عليه السّلام على بني إسرائيل و كان عمره ثلاث عشر سنة، و أتاه مع الملك النبوّة و سخّر له الجنّ و الانس و الشياطين و الطير و الريح، فكان إذا خرج من بيته إلى مجلسه عكفت عليه الطير و قام الانس و الجنّ متى يجلس فيه، قيل: أنه سخر له الريح و الجنّ و الشياطين و الطير و غير ذلك بعد أن زال ملكه و أعاده اللّه إليه و كان أبيض جسيما كثير الشعر يلبس البياض، و كان يأكل من كسبه، و كان كثير الغزو، و كان إذا أراد الغزو أمر فعمل بساط من خشب يسع عسكره فيركبون عليه هم و دوابهم «ج 21»و ما يحتاجون إليه، ثمّ أمر الريح فسار في غدوته مسيرة شهر و في روحته كذلك، و كان له ثلاثمأة زوجة و سبعمائة سرية و أعطاه اللّه أخيرا أنه لا يتكلّم أحد بشي‏ء إلّا حملته الريح فيعلم ما يقول.

و فيه من كتاب قصص الأنبياء بالاسناد عن أبي حمزة عن الأصبغ بن نباته قال: خرج سليمان بن داود من بيت المقدّس مع ثلاثمائة ألف كرسى عن يمينه عليها الانس و ثلاثمأة ألف كرسى عن يساره عليها الجنّ، و أمر الطير فأظلّتهم و أمّا الريح فحملتهم حتّى وردت بهم المداين، ثمّ رجع و بات في اصطخر، ثمّ غدا فانتهى إلى جزيرة بركاوان، ثمّ أمر الريح فخفضتهم حتّى كادت أقدامهم يصيبها الماء، فقال بعضهم لبعض: هل رأيتم ملكا أعظم من هذا فنادى ملك: لثواب تسبيحة واحدة أعظم مما رأيتم.

و فيه منه عن الثمالي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: كان ملك سليمان ما بين الشامات إلى بلاد اصطخر.
و فيه عن الطبرسي قال: قال محمّد بن كعب بلغنا أنّ سليمان بن داود عليه السّلام كان عسكره مأئة فرسخ خمسة و عشرون للانس و خمسة و عشرون للجنّ و خمسة و عشرون للوحش و خمسة و عشرون للطير و كان له ألف بيت من القوارير على الخشب فيها ثلاثمأة مهيرة و سبعمائة سرية فيأمر الريح العاصف فترفعه و يأمر الرّخاء فتسير به، فأوحى اللّه إليه و هو يسير بين السماء و الأرض أنى قد زدت في ملكك انّه لا يتكلّم أحد من الخلايق بشي‏ء إلّا جائت الريح فأخبرتك.

و قال مقاتل: نسجت الشياطين لسليمان بساطا فرسخ في فرسخ ذهبا في ابريسم و كان يوضع فيه منبر من ذهب في وسط البساط فيقعد عليه و حوله ثلاثة آلاف كرسي من ذهب و فضة، فيقعد الأنبياء على كراسي الذهب، و العلماء على كراسيّ الفضّة و حولهم الناس و حول الناس الجنّ و الشياطين و تظلّها الطّير بأجنحتها حتّى لا تقع عليهم الشمس، و ترفع ريح الصبا البساط مسيرة شهر من الصباح إلى الرواح، و من الرواح إلى الصباح.

و فيه من تفسير الثعلبي قال: و روى أنّ سليمان عليه السّلام لما ملك بعد أبيه أمر باتخاذ كرسىّ ليجلس عليه للقضاء و أمر بأن يعمل بديعا مهولا بحيث أن لو رآه مبطل أو شاهد زور ارتدع و تهيب.
قال: فعمل له كرسي من أنياب الفيلة و فصّصوه بالياقوت و اللّؤلؤ و الزّبرجد و أنواع الجواهر و حفظوه بأربع نخلات من ذهب شماريخها الياقوت الأحمر و الزّمرّد الأخضر على رأس نخلتين منها طاوسان من ذهب و على رأس الاخرين نسران من ذهب بعضها مقابلا لبعض، و جعلوا من جنبي الكرسي أسدين من الذهب على رأس كلّ واحد منهما عمود من الزّمرّد الأخضر و قد عقدوا على النخلات أشجار كروم من الذهب الأحمر و اتّخذوا عناقيدها من الياقوت الأحمر بحيث يظلّ عريش الكروم النخل و الكرسي.

قال: و كان سليمان عليه السّلام إذا أراد صعوده وضع قدميه على الدرجة السفلى فيستدير الكرسي كلّه بما فيه دوران الرحى المسرعة و تنشر تلك النسور و الطواويس أجنحتهما و تبسط الأسدان أيديهما فتضربان الأرض بأذنابهما، فكذلك كلّ درجة يصعدها سليمان عليه السّلام.
فاذا استوى بأعلاه أخذ النسران اللّذان على النخلتين تاج سليمان فوضعاه على رأس سليمان ثمّ يستدير الكرسي بما فيه و يدور معه النسران و الطاوسان و الأسدان مايلات برءوسها إلى سليمان ينضحن عليه من أجوافها المسك و العنبر.

ثمّ تناولت حمامة من ذهب قائمة على عمود من جوهر من أعمدة الكرسي التوراة فيفتحها سليمان و يقرئها على الناس و يدعوهم إلى فصل القضاء، و يجلس عظماء بني إسرائيل على كراسيّ من الذهب المفصّصة بالجوهر و هي ألف كرسيّ عن يمينه، و تجي‏ء عظماء و تجلس على كراسيّ الفضّة على يساره و هي ألف كرسىّ حافّين جميعا به ثمّ يحفّ بهم الطير فتظلّهم و تتقدّم إليه الناس للقضاء.

فاذا دعى البيّنات و الشهود لإقامة الشهادات درا الكرسيّ بما فيه مع جميع ماحوله دوران الرحا المسرعة و يبسط الأسدان أيديهما و يضربان الأرض بأذنابهما و ينشر النسران و الطاوسان أجنحتهما فيفزع منه الشهود و يدخلهم من ذلك رعب و لا يشهدون إلّا بالحقّ.

و فى البحار من كتاب تنبيه الخاطر روى أنّ سليمان بن داود عليه السّلام مرّ في موكبه و الطير تظلّه و الجنّ و الانس عن يمينه و عن شماله بعابد من عبّاد بني إسرائيل فقال: و اللّه يا ابن داود لقد أتاك اللّه ملكا عظيما، فسمعه سليمان فقال: للتسبيحة في صحيفة مؤمن خير مما اعطى ابن داود و إنّ ما أعطى ابن داود تذهب و أنّ التسبيحة تبقى.
و كان سليمان إذا أصبح تصفح وجوه الأغنياء و الأشراف حتّى يجي‏ء إلى المساكين و يقعد معهم و يقول مسكين مع المساكين.
و من ارشاد القلوب كان سليمان مع ما هو فيه من الملك يلبس الشعر و اذا جنّه اللّيل شدّ يديه إلى عنقه فلا يزال قائما حتّى يصبح باكيا و كان قوته من سفايف الخوص يعملها بيده و إنما سأل الملك ليقهر ملوك الكفر.

الثاني فى بيان مداين الرس و قصة اصحابها

قال تعالى في سورة الفرقان «وَ عاداً وَ ثَمُودَ وَ أَصْحابَ الرَّسِّ» و في سورة ق «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ أَصْحابُ الرَّسِّ»«» قال الطبرسيّ: أي و أهلكنا عادا و ثمود و أصحاب الرّس، و هو بئر رسّوا فيها نبيّهم أى ألقوه فيها عن عكرمة و قيل انهم كانوا أصحاب مواش و لهم بئر يقعدون عليها و كانوا يعبدون الأصنام فبعث اللّه إليهم شعيبا عليه السّلام فكذّبوه فانهار البئر و انخسف بهم الأرض فهلكوا عن وهب.

و قيل الرّس قرية باليمامة يقال لها فلج قتلوا نبيّهم فأهلكهم اللّه عن قتادة.
و قيل كان لهم نبيّ يسمّى حنظلة فقتلوه فاهلكوا عن سعيد بن جبير و الكلبي.
و قيل هم أصحاب رسّ و الرّس بئر بانطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار فنسبوا إليها عن كعب و مقاتل.
و قيل أصحاب الرّس كان نساؤهم سحّاقات عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.
و في البحار من تفسير عليّ بن ابراهيم أصحاب الرسّ هم الّذين هلكوا لأنّهم استغنوا الرّجال بالرّجال و النّساء بالنّساء.

و من معاني الأخبار معنى أصحاب الرّس أنّهم نسبوا إلى نهر يقال له: الرّس من بلاد المشرق.
و قد قيل: إنّ الرّس هو البئر و إنّ أصحابه رسّوا نبيّهم بعد سليمان بن داود عليه السّلام و كانوا قوما يعبدون شجرة صنوبرة يقال لها شاه درخت كان غرسها يافث ابن نوح فانبتت لنوح عليه السّلام بعد الطوفان و كان نساؤهم يشتغلن بالنساء عن الرّجال فعذّبهم اللّه عزّ و جلّ بريح عاصف شديد الحمرة و جعل الأرض من تحتهم حجر كبريت يتوقد و أظلّتهم سحابة سوداء مظلمة فانكفت عليهم كالقبّة جمرة تلتهب فذابت أبدانهم كما يذوب الرّصاص في النار.
و من العرايس للثعلبي قال: قال اللّه عزّ و جلّ «وَ عاداً وَ ثَمُودَ وَ أَصْحابَ الرَّسِّ» و قال «كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ أَصْحابُ الرَّسِّ» اختلف أهل التفسير و أصحاب الأقاصيص فيهم.

فقال سعيد بن جبير و الكلبي و الخليل بن أحمد دخل كلام بعضهم في بعض و كلّ أخبر بطائفة من حديث: أصحاب الرّسّ بقيّة ثمود و قوم صالح و هم أصحاب البئر الّتي ذكرها اللّه تعالى في قوله «وَ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ» و كانوا بفليج اليمامة نزولا على تلك البئر و كلّ ركيّة لم تطو بالحجارة و الاجر فهو بئر و كان لهم نبيّ يقال له حنظلة بن صفوان، و كان بأرضهم جبل يقال له فتح مصعدا في السماء ميلا، و كانت العنقاء تنتابه و هى كأعظم ما يكون من الطير و فيها من كلّ‏لون و سمّوها العنقاء لطول عنقها و كانت تكون في ذلك الجبل تنقض على الطير تأكلها، فجاعت ذات يوم فاعوزها الطّير فانقضت على صبيّ فذهبت به، ثمّ إنها انقضت على جارية حين ترعرعت فأخذتها فضمّتها إلى جناحين لها صغيرين سوى الجناحين الكبيرين، فشكوا إلى نبيّهم فقال: اللّهمّ خذها و اقطع نسلها و سلّط عليها آية يذهب بها، فأصابتها صاعقة فاحترقت فلم ير لها أثر فضربتها العرب مثلا في أشعارها و حكمها و أمثالها ثمّ إنّ أصحاب الرّس قتلوا نبيّهم فأهلكهم اللّه تعالى و قال بعض العلماء: بلغني أنه كان رسّان.

أما أحدهما فكان أهله بدد و أصحاب غنم و مواش فبعث اللّه إليهم نبيّا فقتلوه ثمّ بعث إليهم رسولا آخر و عضده بوليّ فقتلوا الرّسول و جاهدهم الوليّ حتّى أفحمهم و كانوا يقولون إلهنا في البحر و كانوا على شفيرة و كان يخرج إليهم شيطان في كلّ شهر خرجة فيذبحون و يتّخذونه عيدا فقال لهم الوليّ أرأيتم إن خرج إلهكم الّذي تدعونه إلىّ و أطاعني أ تجيبونني إلى ما دعوتكم إليه فقالوا: بلى، و أعطوه على ذلك العهود و المواثيق.

فانتظر حتّى خرج ذلك الشيطان على صورة حوت راكبا أربعة أحوات و له عنق مستعلية و على رأسه مثل التاج، فلمّا نظروا إليه خرّوا له سجّدا و خرج الوليّ إليه فقال ائتني طوعا أو كرها بسم اللّه الكريم، فنزل عند ذلك عن أحواته فقال له الوليّ ائتني عليهنّ لئلّا يكون من القوم في أمري شكّ فاتى الحوت و اتين به حتّى افضين به الى البرّ يجرّونه.

فكذّبوه بعد ما رأوا ذلك و نقضوا العهد فأرسل اللّه تعالى إليهم ريحا فقذفهم في البحر و مواشيهم جميعا و ما كانوا يملكون من ذهب و فضّة، فأتى الوليّ الصالح إلى البحر حتّى أخذ التبر و الفضّة و الأوانى فقسّم على أصحابه بالسويّة على الصّغير منهم و الكبير و انقطع هذا النسل.

و أما الاخر فهم قوم كان لهم نهر يدعى الرسّ ينسبون إليه و كان فيهم أنبياء كثيرة قلّ يوم يقوم نبيّ إلّا قتل و ذلك النهر بمنقطع آذربيجان بينها و بين أرمنيّةفاذا قطعته مدبرا دخلت في حدّ ارمنيّة و إذا قطعته مقبلا دخلت في حدّ آذربيجان يعبدون النيران و كانوا يعبدون الجوارى «الفذاري» فاذا تمّت لإحديهنّ ثلاثون سنة قتلوها و استبدلوا غيرها و كان عرض نهرهم ثلاثة فراسخ، و كان يرتفع في كلّ يوم و ليلة حتّى يبلغ أنصاف الجبال الّتي حوله، و كان لا ينصب في برّ و لا بحر إذا خرج من حدّهم يقف و يدور ثمّ يرجع إليهم.

فبعث اللّه تعالى ثلاثين نبيّا في شهر واحد فقتلوهم جميعا، فبعث اللّه عزّ و جلّ نبيّا و أيّده بنصره و بعث معه وليّا فجاهدهم في اللّه حقّ جهاده.
فبعث اللّه تعالى إليه ميكائيل حين نابذوه و كان ذلك في أوان وقوع الحبّ في الزرع، و كانوا إذ ذاك أحوج ما كانوا من الماء، ففجر نهرهم في البحر فانصبّت ما في أسفله و أتى عيونه من فوق فسدّها و بعث إليه خمسمائة ألف من الملائكة أعوانا له ففرّقوا ما بقى فى وسط النهر.

ثمّ أمر اللّه جبرئيل فنزل فلم يدع في أرضهم عينا و لا نهرا إلّا أيبسه بإذن اللّه عزّ و جلّ و أمر ملك الموت فانطلق إلى المواشي فأماتهم ربضة واحدة، و أمر الرياح الأربع الجنوب و الشمال و الدّبور و الصّبا فضمت ما كان لهم من متاع و ألقى اللّه عزّ و جلّ عليهم السّبات، ثمّ حفت الرياح الأربع المتاع أجمع فنهبته في رءوس الجبال و بطون الأودية.
فأمّا ما كان من علي أو تبرأ أو آنية فانّ اللّه تعالى أمر الأرض فابتلعته فأصبحوا و لا شاء عندهم و لا بقرة و لا مال يعودون و لا ماء يشربونه و لا طعام يأكلونه، فامن باللّه عند ذلك قليل منهم و هداهم إلى غار في جبل له طريق الى خلفه فنجوا و كانوا أحدا و عشرين رجلا و أربع نسوة و صبيّين و كان عدّة الباقين من الرّجال و النساء و الذراري ستّمأة ألف فماتوا عطشا و جوعا و لم يبق منهم باقية.

ثمّ عاد القوم إلى منازلهم فوجدوها قد صار أعلاها أسفلها فدعا القوم عند ذلك مخلصين أن يجيهم «ينجيهم» بزرع و ماء و ماشية و يجعله قليلا لئلّا يطغوا، فأجابهم اللّه تعالى إلى ذلك لما علم من صدق نيّاتهم و علم منهم الصّدق و آلوا أن لا يبعث رسولا ممن قاربهم إلّا أعانوه و عضدوه، و علم اللّه منهم الصّدق فأطلق اللّه لهم نهرهم‏و زادهم على ما سألوا، فأقام اولئك في طاعة اللّه عزّ و جلّ ظاهرا و باطنا حتّى مضوا و انقرضوا.

و حدث بعدهم من نسلهم قوم أطاعوا اللّه في الظاهر و نافقوه في الباطن فأملى اللّه تعالى لهم و كان عليهم قادرا، ثمّ كثرت معاصيهم و خالفوا أولياء اللّه تعالى فبعث اللّه عزّ و جلّ عدوّهم ممن فارقهم و خالفهم فأسرع فيهم القتل و بقيت منهم شرذمة فسلّط اللّه عليهم الطاعون فلم يبق منهم أحدا و بقى نهرهم و منازلهم مأتي عام لا يسكنها أحد ثمّ أتى اللّه بقرن بعد ذلك فنزلوها و كانوا صالحين سنين ثمّ أحدثوا فاحشة جعل الرجل بنته و اخته و زوجته فينيلها جاره و أخاه و صديقه يلتمس بذلك البرّ و الصّلة.

ثمّ ارتفعوا من ذلك إلى نوع آخر ترك الرّجال النساء حتّى شبقن و استغنوا بالرّجال فجاءت النساء شيطانهنّ في صورة و هى الدّلهاث بنت ابليس و هى اخت الشيصاء و كانت في بيضة واحدة فشهت إلى النساء ركوب بعضهنّ بعضا و علمهنّ كيف يصنعن فأصل ركوب النساء بعضهنّ بعضا من الدّلهاث، فسلّط اللّه على ذلك القرن صاعقة في أوّل اللّيل و خسفا في آخر اللّيل، و صيحة مع الشمس فلم يبق منهم باقية و بادت مساكنهم و لا احسب منازلهم اليوم تسكن.

و فى البحار من كتابي العيون و العلل عن الهمداني عن عليّ عن أبيه عن الهروي عن الرضا عليه السّلام عن آبائه عن الحسين بن عليّ عليهم السّلام قال: أتى عليّ بن أبي طالب عليه السّلام قبل مقتله بثلاثة أيام رجل من أشراف تميم يقال له عمرو فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن أصحاب الرّس في أىّ عصر كانوا و أين كانت منازلهم و من كان ملكهم و هل بعث اللّه عزّ و جلّ إليهم رسولا أم لا و بما ذا اهلكوا فانّى أجد في كتاب اللّه تعالى ذكرهم و لا أجد خبرهم.

فقال له عليّ عليه السّلام لقد سألت عن حديث ما سألني عنه أحد قبلك و لا يحدثك به أحد بعدي إلّا عنّي، و ما في كتاب اللّه عزّ و جلّ آية إلّا و أنا أعرف تفسيرها و في أىّ مكان نزلت من سهل أو جبل و في أىّ وقت من ليل أو نهار و إنّ ههنا لعلما جمّا-و أشار إلى صدره- و لكن طلّابه يسير و عن قليل يندمون لو فقدوني.

كان من قصّتهم يا أخا تميم أنهم كانوا قوما يعبدون شجرة صنوبر يقال لها شاه درخت كان يافث بن نوح غرسها على شفير عين يقال لها روشاب «دوشاب» كانت انبعت لنوح عليه السّلام بعد الطوفان، و إنما سمّوا أصحاب الرّس لأنهم رسّوا نبيّهم في الأرض و ذلك بعد سليمان بن داود عليه السّلام.

و كانت لهم اثنتا عشرة قرية على شاطى‏ء نهر يقال له الرّس من بلاد المشرق و بهم سمّى ذلك النهر و لم يكن يومئذ في الأرض نهر أغزر منه و لا أعذب منه و لا قرى أكثر و لا أعمر منها تسمّى إحديهنّ أبان، و الثانية، آذر، و الثّالثة دى، و الرّابعة بهمن، و الخامسة اسفندار، و السادسة فروردين، و السابعة اردى بهشت، و الثامنة خرداد، و التاسعة مرداد، و العاشرة تير، و الحادى عشرة مهر، و الثاني عشرة شهريور.

و كانت أعظم مداينهم اسفندار و هي الّتي ينزلها ملكهم، و كان تركوز بن غابور بن يارش بن شازن بن نمرود بن كنعان فرعون إبراهيم و بها العين و الصنوبرة و قد غرسوا في كلّ قرية منها حبّة من طلع تلك الصّنوبرة، و أجروا إليها نهرا من العين التي عند الصنوبرة.
فنبتت الحبّة و صارت شجرة عظيمة و حرّموا ماء العين و الأنهار فلا يشربون منها و لا أنعامهم، و من فعل ذلك قتلوه و يقولون هو حياة آلهتنا فلا ينبغي لأحد أن ينقص من حياتها و يشربون هم و أنعامهم من نهر الرّس الّذي عليه قراهم.
و قد جعلوا في كلّ شهر من السنة في كلّ قرية عيدا يجتمع إليه أهلها، فيضربون علي الشجرة التي بها كلّة«» من حرير فيها من أنواع الصّور ثمّ يأتون بشاة و بقر فيذبحونهما قربانا للشجرة و يشعلون فيها النيران بالحطب فاذا سطع دخان تلك الذبائح و قتارها في الهواء و حال بينهم و بين النظر إلى السّماء خرّوا سجّدا يبكون و يتضرّعون إليها أن ترضى عنهم.

فكان الشيطان يجي‏ء فيحرّك أغصانها و يصيح من ساقها صياح الصّبي أن قد رضيت عنكم فطيبوا نفسا و قرّوا عينا فيرفعون رؤوسهم عند ذلك و يشربون الخمر و يضربون بالمعازف و يأخذون الدستبند فيكون على ذلك يومهم و ليلتهم ثمّ ينصرفون.

و انما سمّت العجم شهورها بأبان ماه و آذرماه و غيرهما اشتقاقا من أسماء تلك القرى لقول أهلها بعضهم لبعض هذا عيد شهر كذا و عيد شهر كذا.
حتّى اذا كان عيد قريتهم العظمى اجتمع إليها صغيرهم و كبيرهم فضربوا عند الصنوبرة و العين سرادقا من ديباج عليه من أنواع الصور و جعلوا له اثنى عشر بابا كلّ باب لأهل قرية منهم و يسجدون للصنوبرة خارجا من السرادق و يقرّبون لها الذّبايح أضعاف ما قرّبوا للشجرة الّتي في قراهم.

فيجي‏ء ابليس عند ذلك فيحرّك الصنوبرة تحريكا شديدا و يتكلّم من جوفها كلاما جهوريّا و يعدهم و يمنّيهم بأكثر ما وعدتهم و منتهم الشياطين كلّها فيرفعون رؤوسهم من السجود و بهم من الفرح و النشاط ما لا يفيقون و لا يتكلّمون من الشرب و العزف.
فيكونون على ذلك اثنى عشر يوما و لياليها بعدد أعيادهم ساير السّنة ثمّ ينصرفون.
فلما طال كفرهم باللّه عزّ و جلّ و عبادتهم غيره بعث اللّه عزّ و جلّ إليهم نبيّا من بني إسرائيل من ولد يهودا بن يعقوب، فلبث فيهم زمانا طويلا يدعوهم إلى عبادة اللّه عزّ و جلّ و معرفة ربوبيّته فلا يتّبعونه، فلما رأى شدّة تماديهم في الغىّ و الضلال و تركهم قبول ما دعاهم إليه من الرّشد و النجاح و حضر عيد قريتهم العظمى قال: يا ربّ إنّ عبادك أبوا إلا تكذيبى و الكفر بك و غدوا يعبدون شجرة لا تنفع و لا تضرّ فأيبس شجرهم أجمع و أرهم قدرتك و سلطانك.

فأصبح القوم و قد يبس شجرهم كلّها فهالهم ذلك و فظع بهم و صاروا فرقتين فرقة قالت: سحر آلهتكم هذا الرجل الّذي زعم أنه رسول ربّ السماء و الأرض إليكم ليصرف وجوهكم عن آلهتكم إلى اللّه، و فرقة قالت: لا بل غضبت آلهتكم حين‏رأت هذا الرّجل يعيبها و يقع فيها و يدعوكم إلى عبادة غيرها فحجبت حسنها و بهائها لكى تغضبوا لها فتنصروا منه.

فأجمع رأيهم على قتله فاتّخذوا أنابيب طوالا من رصاص واسعة الأفواه ثمّ أرسلوها في قرار العين إلى أعلا الماء واحدة فوق الأخرى مثل البرانج «اليراع خ» و نزحوا ما فيها من الماء ثمّ حفروا في قرارها بئرا ضيّقة المدخل عميقة و أرسلوا فيها نبيّهم و ألقموا فاها صخرة عظيمة ثمّ أخرجوا الأنابيب من الماء و قالوا نرجو الان أن ترضى عنّا آلهتنا إذا رأت أنا قد قتلنا من كان يقع فيها و يصدّ عن عبادتها و دفنّاه تحت كبيرها يتشفى منه فيعود لنا نورها و نضرتها كما كان.

فبقوا عامة يومهم يسمعون أنين نبيّهم عليه السّلام و هو يقول سيدي قد ترى ضيق مكاني و شدّة كربي فارحم ضعف ركنى و قلّة حيلتى و عجّل بقبض روحى و لا تؤخّر إجابة دعوتي حتّى مات عليه السّلام.
فقال اللّه جلّ جلاله لجبرئيل: يا جبرئيل أيظنّ عبادى هؤلاء الّذين غرّهم حلمى و امنوا مكرى و عبدوا غيرى و قتلوا رسولي أن يقوموا بغضبي و يخرجوا من سلطاني كيف و أنا المنتقم ممّن عصاني و لم يخش عقابي و اني حلفت بعزّتي لأجعلنّهم عبرة و نكالا للعالمين.

فلم يرعهم في يوم عيدهم ذلك إلّا ريح عاصفة شديدة الحمرة فتحيّروا فيها و ذعروا منها و تضام بعضهم إلى بعض، ثمّ صارت الأرض تحتهم حجر كبريت يتوقّد و أظلّتهم سحابة سوداء فألقت عليهم كالقبّة جمرا يتلهّب «يلتهب خ» فذابت أبدانهم كما يذوب الرّصاص في النّار، فنعوذ باللّه تعالى ذكره من غضبه و نزول نقمته و لا حول و لا قوّة إلّا باللّه العليّ العظيم.

الترجمة

فصل دويم از اين خطبه در وصيّت بتقوى و پرهيزكاريست مى‏فرمايد: وصيّت مى‏كنم شما را أى بندگان خدا بپرهيزكارى خداوندى كه پوشانيده‏بشما لباس فاخر، و واسع گردانيده بر شما أسباب معيشت را، پس اگر احدى مى‏يافت بسوى بقا نردباني يا از براى دفع مرگ وسيله و راهى هر آينه بودى آن شخص سليمان بن داود عليه السّلام كه مسخّر شد از براى او پادشاهى جنّ و انسان با منصب پيغمبرى و بزرگي قرب و منزلت، پس زمانى كه استيفا نمود طعمه خود را و استكمال كرد مدّت عمر خود را انداخت او را كمانهاى فنا بتيرهاى مرگ. و گرديد شهرها از وجود او خالى و مسكنها از او معطل و وارث گرديد آنها را قوم ديگر، و بدرستى كه مر شما را در روزگارهاى سابقه هر آينه عبرتى است.

كجايند طايفه عمالقه و پسران عمالقه كجايند فراعنه و پسران فراعنه كجايند أصحاب مدينهاى رسّ كه كشتند پيغمبران را و خاموش كردند روشنائى طريقهاى مرسلين را و زنده كردند طريقهاى گردن كشان را و كجايند آن كسانى كه سير كردند با لشكرها و غلبه كردند با هزاران قشون و جمع آوردند لشكرها و بنا كردند شهرها را.

الفصل الثالث منها

قد لبس للحكمة جنّتها، و أخذها بجميع أدبها، من الإقبال عليها، و المعرفة بها، و التّفرّغ لها، و هي عند نفسه ضالّته الّتي يطلبها، و حاجته الّتي يسئل عنها، فهو مغترب إذا اغترب الإسلام، و ضرب بعسيب ذنبه و ألصق الأرض بجرانه، بقيّة من بقايا حجّته، خليفة من خلائف أنبيائه. ثمّ قال عليه السّلام:

أيّها النّاس إنّي قد بثثت لكم المواعظ الّتي وعظ بها الأنبياء أممهم، و أدّيت إليكم ما أدّت الأوصياء إلى من بعدهم، و أدّبتكم بسوطي فلم تستقيموا، و حدوتكم بالزّواجر فلم تستوسقوا، للّه أنتم أتتوّقعون إماما غيري يطأ بكم الطّريق، و يرشدكم السّبيل، ألا إنّه قد أدبر من الدّنيا ما كان مقبلا، و أقبل منها ما كان مدبرا، و أزمع التّرحال عباد اللّه الأخيار، و باعوا قليلا من الدّنيا لا يبقى، بكثير من الاخرة لا يفنى.

ما ضرّ إخواننا الّذين سفكت دمائهم و هم بصفّين ألّا يكونوا اليوم أحياء، يسيغون الغصص، و يشربون الرّنق، قدو اللّه لقوا اللّه فوفّاهم أجورهم، و أحلّهم دار الأمن بعد خوفهم، أين إخواني الّذين ركبوا الطّريق و مضوا على الحقّ أين عمّار و أين ابن التّيّهان و أين ذوا الشّهادتين و أين نظراؤهم من إخوانهم الّذين تعاقدوا على المنيّة، و أبرد برءوسهم إلى الفجرة. قال: ثمّ ضرب يده على لحيته الشريفة الكريمة فأطال البكاء ثمّ قال عليه السّلام: أوه على إخواني الّذين تلوا القرآن فأحكموه، و تدبّروا الفرض فأقاموه، أحيوا السّنّة، و أماتوا البدعة، دعوا للجهاد فأجابوا، و وثقوا بالقائد فاتّبعوه، ثمّ نادى بأعلى صوته: الجهاد الجهاد عباداللّه ألا و إنّي معسكر في يومي هذا فمن أراد الرّواح إلى اللّه فليخرج. قال نوف و عقد للحسين عليه السّلام في عشرة آلاف، و لقيس بن سعد (ره) في عشرة آلاف، و لأبي أيّوب الأنصاري في عشرة آلاف، و لغيرهم على أعداد اخر و هو يريد الرّجعة إلى صفّين، فما دارت الجمعة حتّى ضربه الملعون ابن ملجم لعنه اللّه فتراجعت العساكر فكنّا كأغنام فقدت راعيها تختطفها الذئاب من كلّ مكان.

اللغة

(الجنّة) بالضم نوع من السلاح (عسيب الذّنب) قال الشارح المعتزلي أصله و قال الفيروزآبادي: العسيب عظم الذنب أو منبت الشعر منه و (جران) البعير صدره أو مقدم عنقه و (الحدا) سوق الابل و الغنا لها و (الترحال) مبالغة في الرحلة و (الغصص) جمع الغصّة و هى ما يعترض في الحلق و (الرنق) بالفتح و التحريك الكدر من الماء، و في بعض النسخ بالكسر و لا بأس به قال في القاموس: رنق الماء كفرح و نصر رنقا و رنقا و رنوقا كدر فهو رنق كعدل و كتف و جبل.
و (ابن التيهان) قال الشارح بالياء المنقوطة باثنتين تحتها المشدّدة المكسورة و قبلها تاء منقوطة باثنتين فوقها، و قال العلّامة المجلسي (ره): و المضبوط في أكثر النسخ بالياء الساكنة و فتح التاء و كسرها معا، و فى القاموس و تيّهان مشدّدة الياء و يكسر و تيهان بالسكون.

و (اوه) على إخوانى بسكون الواو و كسر الهاء كلمة توجّع و فيها لغات اخر قال في القاموس: اوه كجير و حيث و أين واه و إوه بكسر الهاء و الواو المشدّدة واو بحذف الهاء و اوّه بفتح الواو المشدّدة و اووه بضمّ الواو واه بكسر الهاء منوّنةواو بكسر الواو منوّنة و غير منوّنة و أوتاه بفتح الهمزة و الواو و المثنّاة الفوقيّة و اوياه بتشديد المثناة التحتية كلمة يقال عند الشكاية أو التوجّع اه اوها واه تاوها و تاوّه قالها.«» و (تختطفها) من الاختطاف و هو أخذ الشي‏ء بسرعة و في بعض النسخ تتخطفها

الاعراب

قوله: بقيّة خبر لمبتدأ محذوف، و قوله: للّه أنتم، قد مضى تحقيق الكلام فيه في شرح المختار المأة و التاسع و السبعين، و ما في قوله ما ضرّ إخواننا، نافية و يحتمل الاستفهام على سبيل الانكار، و اخواننا بالنصب مفعول ضرّ و فاعله ألّا يكونوا و جملة يسيغون في محلّ النّصب صفة للاحياء، و الجهاد الجهاد بالنصب على الاغراء

المعنى

اعلم أنّ السيّد (ره) قد سلك في هذا الفصل من الخطبة مسلك الالتقاط و أسقط صدر الكلام فالتبس الأمر في قوله: (قد لبس للحكمة جنّتها) حيث اشتبه المرجع لفاعل لبس و لم يدر أنّ الموصوف بتلك الجملة و ما يتلوها من هو، فمن ذلك فسّره كلّ على زعمه و اعتقاده.
قال العلّامة المجلسيّ (ره) إنّه إشارة إلى القائم عليه السّلام و نقله الشارح المعتزلي عن الشيعة الاماميّة.
و قال الصّوفيّة إنه عليه السّلام يعني به وليّ اللّه في الأرض و عندهم لا يخلو الدّنيا من الأبدال و الأولياء.
و قالت الفلاسفة: إنّ مراده عليه السّلام به العارف.
و قالت المعتزلة: انه يريد به العالم بالعدل و التوحيد و زعموا أنّ اللّه لا يخلى الامة من جماعة من المؤمنين العلماء بالتوحيد و العدل و انّ الاجماع إنما يكون‏حجّة باعتبار قول أولئك، لكنه لما تعذّرت معرفتهم بأعيانهم اعتبر اجماع الجميع و انما الأصل قول أولئك.

قال الشّارح المعتزلي بعد نقل هذه الأقوال: و ليس يبعد أن يريد عليه السّلام به القائم من آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في آخر الوقت إذا خلقه اللّه تعالى و إن لم يكن الان موجودا، فليس في الكلام ما يدلّ على وجوده الان، و قد وقع اتّفاق الفرق من المسلمين أجمعين على أنّ الدّنيا و التكليف لا ينقضي إلّا عليه، انتهى.

أقول: أما ما ذكره من كون المراد به القائم عليه السّلام فهو كما ذكره غير بعيد لظهور اتّصافه عليه السّلام بهذه الأوصاف و كونه مظهرا لها، و أما ما زعمه كساير المعتزلة من أنّه عليه السّلام غير موجود الان و انما يخلقه اللّه في آخر الزمان فهو زعم فاسد و وهم باطل، لقيام البراهين العقلية و النقلية على أنّ الأرض لو تبقى بغير حجّة لانخسفت و ساخت، و على أنّه لا بد من وجوده في كلّ عصر و زمان، و أنه إما ظاهر مشهور أو غايب مستور، و أنّ القائم من آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله مخلوق من غابر الزمان و موجود الان و هو غايب مستور لمصالح مقتضية لغيبته و الانتفاع بوجوده الشريف حال الغيبة كالانتفاع بالشمس المجلّلة للعالم المحجوبة بالسحاب.

و بعد قيام الأدلّة المحكمة على ذلك كلّه فلا يعبأ بالاستبعادات الوهمية للمنكرين، و الاستدلالات السخيفة الهيّنة للمبطلين على ما اشير اليها في كتب أصحابنا الاماميّة المؤلّفة في الغيبة مع أجوبتها المتقنة، و قد مضى طرف من الكلام على هذا المرام في شرح الفصل الأوّل من المختار المأة و الثّامن و الثّلاثين فليراجع ثمة، هذا.
و الحكمة اسم لمجامع الخير كلّه قال أبو البقاهى في عرف العلماء استعمال النفس الانسانية باقتباس العلوم النظريّة و اكتساب الملكة التامّة على الأفعال الفاضلة قدر طاقتها.

و قال بعضهم: هي معرفة الحقائق على ما هى عليه بقدر الاستطاعة و هي العلم النافع المعبّر عنها بمعرفة ما لها و معرفة ما عليها.

و قال ابن دريد: كلّ ما يؤدّى إلى ما يلزمه أو يمنع من قبيح، و قيل: ما يتضمّن صلاح النّشأتين.
و قال في البحار: العلوم الحقّة النافعة مع العمل بمقتضاها، قال: و قد يطلق على العلوم الفايضة من جنابه تعالى على العبد بعد العمل بما علم.
أقول: و المعاني متقاربة و اليها يرجع تفاسيره المختلفة، فقد يفسّر بأنه معرفة اللّه و طاعته، و قد يفسّر بأنه العلم الذي يرفع الانسان عن فعل القبيح، و فسّر في قوله تعالى بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ بالنبوّة و في قوله: وَ يُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ بالفقه و المعرفة، و في قوله: وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ بالقرآن و الشريعة، و في قوله: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَ ما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ بتحقيق العلم و إتقان العمل و في الصافي من الكافي و تفسير العياشي عن الصّادق عليه السّلام في تفسير هذه الاية قال: طاعة اللّه و معرفة الامام.

و عنه عليه السّلام معرفة الامام و اجتناب الكبائر التي أوجب اللّه عليها النار.
و عن العياشي عنه عليه السّلام: الحكمة المعرفة و الفقه في الدّين و من فقه منكم فهو حكيم.
و عن مصباح الشريعة عنه عليه السّلام الحكمة ضياء المعرفة و ميراث التقوى و ثمرة الصدق و لو قلت ما أنعم اللّه على عباده بنعمة أنعم و أعظم و أرفع و أجزل و أبهى من الحكمة لقلت، قال اللّه يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَ ما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ أى لا يعلم ما أودعت و هيأت في الحكمة إلّا من استخلصته لنفسي و خصصته بها و الحكمة هي الكتاب و صفة الحكيم الثبات عند أوائل الأمور و الوقوف عند عواقبها و هو هادى خلق اللّه إلى اللّه.

و عن الخصال عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله رأس الحكمة مخافة اللّه.
و عنه و عن الكافي عنه صلّى اللّه عليه و آله أنه كان ذات يوم في بعض أسفاره اذ لقاه ركب فقالوا: السّلام عليك يا رسول اللّه، فالتفت إليهم و قال: ما أنتم فقالوا: مؤمنون،قال: فما حقيقة ايمانكم قالوا: الرّضا بقضاء اللّه و التسليم لأمر اللّه و التفويض إلى اللّه، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: علماء حكماء كادوا أن يكونوا من الحكمة أنبياء فان كنتم صادقين فلا تبنوا ما لا تسكنون، و لا تجمعوا ما لا تأكلون، و اتّقوا اللّه الّذي إليه ترجعون.

إذا عرفت ذلك فأقول: قوله: قد لبس للحكمة جنّتها الظاهر أنه أراد بجنّة الحكمة مخافة اللّه كما أنّ النبيّ جعلها رأسها في رواية الخصال المتقدّمة، فاستعار لفظ الجنّة لها باعتبار أنّ مخافته سبحانه و وجود وصف التّقوى الموجب لقمع النفس عن الشهوات و قلعها عن العلايق و الامنيات مانع عن كون الحكمة غرضا عن الهام الهوى و عن وقوع الحكيم في الهلاكة و الرّدى، كما أنّ الجنّة و هو ما يستتر به السّلاح كالدّرع و نحوه مانعة للابسها عن اصابة سهام الأعداء.
فيكون محصّل المعنى أنّ ذلك الحكيم قد اتّصف بمخافة اللّه سبحانه و خشيته التي هي بمنزلة الجنّة للحكمة لأجل حفظ حكمته و كونها وقاية لها عما يصادمها كما أنّ الجنّة تحفظ الانسان عن صدمات الأعداء.

و بما ذكرنا يظهر ما في كلام الشارح البحراني، فانّه قال: لفظ الجنّة مستعار في الاستعداد للحكمة بالزهد و العبادة الحقيقين و المواظبة على العمل بأوامر اللّه، و وجه الاستعارة أنّ بذلك الاستعداد يأمن إصابة سهام الهوى و ثوران دواعى الشهوات القائدة إلى النار كما يأمن لابس الجنّة من أذى الضرب و الجرح، انتهى فانّ مفاده كما ترى هو أنّ لفظ الجنّة مستعار للاستعداد الحاصل من الزهد و العبادة و المواظبة على التكاليف الشرعيّة.

فيتوجّه عليه حينئذ أوّلا أنّ الاستعداد المذكور لا يكون جنّة للحكمة على ما ذكره، إنّما يكون جنّة للانسان من الوقوع في النار، و ظاهر كلام الامام يفيد تلبسه بجنّة الحكمة لأجل الحكمة لا لأجل نفسه.
و ثانيا أنّ الاستعداد و التهيّوء للشي‏ء قبل وجود الشي‏ء، فلو جعل الجنّة استعارة للاستعداد للحكمة لكان مفاد كلامه عليه السّلام عدم اتّصاف الرّجل الموصوف‏بالحكمة فعلا.

و بعبارة اخرى يدلّ على تلبسه و اتّصافه بالاستعداد فقط لا بالحكمة نفسها مع أنّ الغرض من الكلام الوارد في مقام المدح إفادة اتّصافه بها و كونها حاصلا له بالفعل لا بالقوّة، إذ كمال المدح إنما هو في ذلك.
و يدلّ على ذلك أيضا أى على الاتّصاف بالفعل صريح قوله (و أخذها بجميع أدبها) أى أخذ الحكمة على وجه الكمال و قام بادابها (من الاقبال عليها و المعرفة بها و التفرّغ لها) يعني أنّه لما علم أنه لا خصلة أعظم و أشرف و أرفع و أبهى من الحكمة و عرف أنه من يؤتها فقد أوتى خيرا كثيرا أقبل الكلّية عليها و قصر همّته و نهمته فيها و عرف شرفها و قدرها و نفاستها و تفرّغ لها و تخلّى عن جميع العلايق الدنيوية التي تضادّها و تنحّى عن كلّ ما سواها.

(فهى عند نفسه ضالّته الّتي يطلبها و حاجته الّتي يسأل عنها) ذلك مثل قوله عليه السّلام في أواخر الكتاب: الحكمة ضالّة المؤمن.
فان قلت: قوله يطلبها و يسأل عنها صريحان في عدم حصولها له فعلا فينافي ما استظهرت آنفا من كلامه عليه السّلام السابق.
قلت: لا منافاة بينهما لأنه عليه السّلام استعار لها لفظ الضالّة و جملة يطلبها وصف للمستعار منه لا للمستعار له، إذ من شأن الضلالة أن تطلب فهى استعارة مرشّحة لا استعارة مجرّدة، و الجامع شدّة الشوق و فرط الرغبة و المحبّة لا الطلب كما زعمه الشارح البحراني حيث قال استعار لها لفظ الضالّة لمكان انشاده لها و طلبه كما تطلب الضالّة من الابل، نعم قوله عليه السّلام: يسأل عنها ظهوره فيما أفاده الشارح، لكن تأويله على وجه يوافق ما ذكرناه سهل فتأمل، هذا.

و لا يخفى عليك أنّ جعل الكلام من باب الاستعارة إنّما هو جريا على مذاق الشارح البحراني، و إلّا فقد علمت في ديباجة الشرح أنه من باب التشبيه البليغ حيث ذكر المشبّه و المشبّه به و حذف الأداة فيكون الوصف بالطلب ترشيحا للتشبيه لا للاستعارة.

(فهو مغترب) يعني هذا الشخص يخفى نفسه و يختار العزلة، و هو إشارة إلى غيبة القائم عليه السّلام (إذا اغترب الاسلام) أى إذا ظهر الجور و الفساد و صار الاسلام غريبا ضعيفا بسبب اغتراب الصلاح و السداد كما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: بدء الاسلام غريبا و سيعود غريبا كما بدء.

ثمّ شبّه الاسلام بالبعير البارك في قلّة النفع و الضعف على سبيل الاستعارة بالكناية فأثبت له لوازم المشبّه به و قال: (و ضرب بعسيب ذنبه) لأنّ البعير إذا أعيى و تأذّى ضرب بذنبه (و ألصق الأرض بجرانه) أى مقدّم عنقه فلا يكون له تصرّف و لا نهوض، و قلّ أن يكون له نفع حال بروكه، هذا.
و لما وصفه عليه السّلام بلبسه لجنّة الحكمة و ايثاره العزلة و الغيبة عرّفه بأنه (بقيّة من بقايا حجّته) على عباده و (خليفة من خلائف أنبيائه) في بلاده، و هذان الوصفان يقويان الظنّ بكون نظره عليه السّلام بما أورده في هذا الفصل إلى القائم المنتظر عليه السّلام و آبائه الطاهرين عليهم السّلام.

قال الشارح المعتزلي: فان قلت: أليس لفظ الحجّة و الخليفة مشعرا بما يقوله الاماميّة أى كون المراد بها الامام القائم عليه السّلام.
قلت: لا لأنّ أهل التصوّف يسمّون صاحبهم حجّة و خليفة و كذلك الفلاسفة و أصحابنا لا يمتنعون من إطلاق هذه الألفاظ على العلماء المؤمنين في كلّ عصر لأنّهم حجج اللّه أى إجماعهم حجّة و قد استخلفهم اللّه في أرضه ليحكموا بحكمه.

أقول: فيه أوّلا منع صحّة اطلاق حجّة اللّه و خليفته على غير الأنبياء و الأوصياء إذ العصمة منحصرة فيهم فيختصّ الحجيّة و الخلافة بهم لمكان العصمة الّتي فيهم، و أما غيرهم فليس بمعصوم بالاتّفاق فلا يكون قوله و فعله حجّة، و حجّية إجماع العلماء أيضا باعتبار دخول قول المعصوم في جملة أقوالهم لا من حيث إنّ كلّا من العلماء من حيث إنّه عالم قوله حجّة.

و ثانيا على فرض التنزّل و التسليم لصحّة اطلاقه على غيرهم انّ أمير المؤمنين عليه السّلام ليس بمعتزلي المذهب و لا صوفي المذاق و لا فلسفى المسلك، فلا يحمل لفظ الحجّة و الخليفة في كلامه عليه السّلام على اصطلاحاتهم و إنما يحمل على المعنى الغالب إرادته من هذه اللفظة في كلماتهم عليهم السّلام، و غير خفىّ على المتتبّع بأحاديثهم و كثير الانس بأخبارهم أنّهم كثيرا ما يطلقون لفظ الحجج و يريدون به الأئمة الاثنى عشر، و قد يطلقونه و يريدن به ساير المعصومين من الأنبياء و الأوصياء و يطلقون لفظ الحجّة أيضا احيانا بالقراين على العقل و القرآن، و لم نر إلى الان أن يطلق هذا اللفظ في كلامهم على العارف أو العالم غير المعصوم أو أحد الأبدال المصطلح في لسان الفلاسفة و المعتزلة و المتصوّفة.

و على ذلك فحيث ما اطلق لفظ حجّة اللّه في كلامهم خاليا عن القراين فلا بدّ من حمله على المعنى الكثير الدوران في ألسنتهم و هو الامام، لأنّ الظنّ يلحق الشي‏ء بالأعمّ الأغلب.
و من هذا كلّه ظهر ما في كلام الشارح البحراني أيضا فانّه بعد ما جعل قوله عليه السّلام قد لبس للحكمة جنّتها إشارة إلى العارف مطلقا و نفى ظهور كونه إشارة إلى الامام المنتظر عليه السّلام قال في شرح هذا المقام: قوله: بقيّة من بقايا حججه، أى على خلقه إذ العلماء و العارفون حجج اللّه في الأرض على عباده، و ظاهر كونه خليفة من خلفاء أنبيائه لقوله صلّى اللّه عليه و آله العلماء ورثة الأنبياء، انتهى.

و يرد عليه مضافا إلى ما مرّ أنّ استدلاله على خلافة العلماء و العرفاء بقوله: العلماء ورثة الأنبياء و استظهاره من ذلك كون المراد بالخليفة في كلام أمير المؤمنين عليه السّلام هؤلاء لا وجه له.
أمّا أوّلا فلأنّ الدّليل أخصّ من الدّعوى لافادته وراثة العلماء فقط دون العرفاء مع أنّ المدّعى أعمّ.
و ثانيا إنّ قوله عليه السّلام العلماء ورثة الأنبياء لم يرد به الوراثة الحقيقية قطعا و إنما هو من باب التشبيه و المجاز يعني أنّ علومهم انتقل إليهم كما أنّ أموال المورث ينتقل‏إلى الوارث فكانوا بمنزلة الورثة.

و على ذلك فأقول: إنّ وراثة العلماء للأنبياء و خلافتهم عنهم على سبيل المجاز و الاستعارة، و وراثة الامام المنتظر عليه السّلام و خلافته على سبيل الحقيقة، فلا بدّ من حمل لفظ الخليفة في كلامه عليه السّلام عليه لا على العالم، لأنّ اللّفظ إذا دار بين أن يراد منه معناه الحقيقي و معناه المجازي فالأصل الحقيقة كما برهن في علم الاصول.
(ثمّ) أخذ عليه السّلام في نصح المخاطبين و موعظتهم و تذكيرهم و توبيخهم و (قال عليه السّلام أيّها النّاس إنّي قد بثثت) أى نشرت و فرّقت (لكم المواعظ الّتي وعظ بها الأنبياء أممهم) و هي المواعظ الجاذبة لهم إلى اللّه و معرفته و طاعته و القائدة إلى النهج القويم و الصّراط المستقيم (و أدّيت إليكم ما أدّت الأوصياء إلى من بعدهم) من الأسرار الالهيّة و التكاليف الشرعيّة.

قال الشارح المعتزلي: و الأوصياء الذين يأتمنهم الأنبياء على الأسرار الالهيّة و قد يمكن أن لا يكونوا خلفاء بمعنى الامارة و الولاية، فانّ مرتبتهم أعلى من مراتب الخلفاء، انتهى.
أقول: غرض الشارح من هذا الكلام اصلاح مذهبه الفاسد، فانّ كلامه عليه السّلام لما كان ظاهرا في وصايته المساوقة للخلافة و الولاية كما هو مذهب الشيعة الاماميّة أراد الشارح صرفه عن ظاهره و أوّله بما يوافق مذهب الاعتزال.
و محصّل تأويله أنّ الوصاية عبارة عن الائتمان على الأسرار الالهيّة و هو غير ملازم للخلافة و الولاية، فلا يكون في الكلام دلالة على خلافته عليه السّلام و كونه أولى بالتصرّف، و انما يدلّ على كونه وصيّا مؤتمنا على الأسرار فقط.
و فيه أوّلا أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا ائتمن الوصيّ على الأسرار و الأحكام و علّمه إيّاها، فإمّا أن يكون غرضه من ذلك أداء وصيّة تلك الأسرار و الأحكام إلى أمّته و إبلاغها اليهم.

أو يكون غرضه منه كونه فقط عالما بها و مكلّفا في نفسه على العمل بتلك‏الأحكام و القيام بوظايف هذه الأسرار من دون أن يكون مأذونا في الأداء إليهم.
و ظاهر كلامه عليه السّلام بل صريحه كون وصايته على الوجه الأوّل و إلّا لما جاز أن يؤدّى ما أوصى به إلى المكلّفين فحيث أدّاه إليهم علم منه كونه مأذونا في الأداء و مكلّفا به، و حيث كان مكلّفا به وجب عليهم اطاعته و إلّا لكان الأداء عبثا، و لا ريب أنّ الوصيّ بهذا المعنى أى المؤتمن على الأسرار و الأحكام و المكلّف على أدائها إلى الأمة و الواجب على الامة قبول قوله و طاعته ملازم بل مرادف للخليفة و الأمير و الوليّ.

نعم الوصاية على الوجه الثاني غير ملازم للخلافة و الولاية إلّا أنّه غير مراد في كلامه عليه السّلام قطعا لما ذكرنا.
و ثانيا أنّ ما ذكره من أنّ الوصيّ أعلى مرتبة من الخليفة أى الأمير و الوليّ فغير مفهوم المراد.
لأنه إن أراد بالخلافة و الأمارة و الولاية المعنى الّذي يقول به الشيعة و يصفون أئمّتهم به أعنى النيابة عن الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و السلطنة الالهيّة و الأولوية بالتصرّف فلا نسلّم أنّ الوصاية و هي الائتمان بالاسرار أعلى رتبة منها بل الأمر بالعكس، لأنّ الوصاية بالمعنى المذكور من شئونات الولاية المطلقة، و الأولياء مضافا إلى كونهم مؤتمنين على الأسرار أولو الأمر و النّهى و أولى بالتصرّف في أموال المؤمنين و أنفسهم.

و إن أراد بها المعنى اللّغوي أعنى الامارة على السرايا مثلا و الولاية أى كونه واليا على قوم أو بلد و نحوه فكون رتبة الوصاية أعلى من ذلك مسلّم و غني عن البيان لأنّ الاطلاع و الائتمان على الأسرار الالهيّة لا نسبة لهما قطعا إلى أمّارة جيش و ولاية قوم إلّا أنّ الاماميّة حيث يطلقون هذه الألفاظ في مقام وصف الأئمة عليهم السّلام لا يريدون بها تلك المعاني قطعا، فلا داعى إلى ما تكلّفه الشارح و لا حاجة إليه فافهم جيّدا، هذا.

و قد مضى في شرح الفصل الخامس من المختار الثاني عند شرح قوله عليه السّلام: و لهم خصايص حقّ الولاية و فيهم الوصيّة و الوراثة، ما له مزيد نفع في هذا المقام فليراجع ثمّة.

و قوله (و أدّبتكم بسوطي) الظاهر أنّه كناية عن تأديبه لهم بالأقوال الغير اللينة (فلم تستقيموا) على نهج الحقّ (و حدوتكم بالزّواجر) أى بالنواهى و الابعادات (فلم تستوسقوا) أى لم تجتمعوا على التمكين و الطاعة (للّه أنتم) أى تعجّبا منكم (أتتوقّعون إماما غيري) استفهام على سبيل التقرير لغرض التقريع أو على سبيل الانكار و التوبيخ.
فان قلت: إنّ الاستفهام الّذي هو للانكار التوبيخي يقتضي أن يكون ما بعده واقعا مع أنهم لم يكونوا متوقّعين لامام غيره إذ قد علموا أنه لا إمام وراه.

قلت: نعم انهم كانوا عالمين بذلك إلّا أنهم لما لم يقوموا بمقتضى علمهم و لم يمحضوا الطاعة له عليه السّلام نزّلهم منزلة الجاهل المتوقّع لامام آخر، فأنكر ذلك عليهم و لامهم عليه.
و قوله عليه السّلام (يطا بكم الطريق) أى يذهب بكم في طريق النجاة (و يرشدكم السبيل) أى يهديكم إلى مستقيم الصّراط (ألا إنّه قد أدبر من الدّنيا ما كان مقبلا) و هو الصّلاح و الرشاد الذي كان في أيام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو في أيّام خلافته عليه السّلام فيكون إشارة إلى قرب ارتحاله من دار الفناء (و أقبل منها ما كان مدبرا) و هو الضلال و الفساد الّذي حصل باستيلاء معاوية على البلاد (و أزمع الترحال) أى عزم على الرحلة إلى دار القرار (عباد اللّه الأخيار و باعوا) أى استبدلوا (قليلا من الدّنيا لا يبقى بكثير من الاخرة لا يفنى).

لا يخفى ما في هذه العبارة من اللّطافة و حسن التعبير في التنفير عن الدّنيا و الترغيب إلى الأخرى، حيث وصف الاولى مع قلّتها بالفناء، و وصف الثانية مع كثرتها بالبقاء و معلوم أنّ العقلاء لا يرضون الأولى بالثانية بدلا.
و أكّد هذا المعنى بقوله (ما ضرّ إخواننا) المؤمنين (الّذين سفكت دماؤهم بصفّين ألّا يكونوا اليوم أحياء) مثل حياتنا (يسيغون الغصص) و يتجرّعون الهموم من توارد الالام (و يشربون الرنق) أى الكدر من كثرة مشاهدة المنكرات.

و لما نفى تضرّرهم بعدم الحياة نبّه على ما حصل لهم من عظيم المنفعة بالممات‏فقال و ل (قد و اللّه لقوا اللّه فوفّاهم اجورهم) بغير حساب (و أحلّهم في دار الأمن) مفتّحة لهم الأبواب (بعد خوفهم) من سوء المال و فتن أهل الضلال.
ثمّ استفهم توجّعا و تحسّرا عن السّلف الصالحين و قال (أين إخوانى الّذين ركبوا الطريق) أى جادّة الشريعة (و مضوا على الحقّ) أى المعرفة و الولاية.

ثمّ استفهم عن بعض من مضى بعينه و سمّاه بخصوصه لكونه من أعيان الصحابة و أكابرهم فقال (أين عمار) و هو ابن ياسر المعروف و أبوه عربيّ قحطانيّ و امّه أمة لأبي حذيفة بن المغيرة المخزومي ولدت عمارا فاعتقه أبو حذيفة فمن هناك كان عمّار مولى لبني مخزوم.

قال الشارح المعتزلي: و للحلف و الولاء الّذين بين بني مخزوم و بين عمّار و أبيه ياسر كان اجتماع بني مخزوم على عثمان حين نال من عمار غلمان عثمان ما نالوا من الضرب حتّى انفتق له فتق في بطنه زعموا و كسروا ضلعا من أضلاعه، فاجتمعت بنو مخزوم فقالوا: و اللّه لئن مات لا قتلنا به أحدا غير عثمان.

قال أبو عمرو بن عبد البرّ: كان عمّار بن ياسر ممّن عذّب في اللّه ثمّ أعطاهم ما أرادوا بلسانه مع اطمينان قلبه فنزل فيه «مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا» و هذا مما أجمع عليه أهل التفسير و هاجر إلى أرض الحبشة و صلّى القبلتين و هو من المهاجرين الأوّلين و شهد بدرا و المشاهد كلّها و أبلى بلاء حسنا ثمّ شهد اليمامة فأبلى فيها أيضا و يومئذ قطعت أذنه.

و قال ابن عبّاس في قوله تعالى أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ أنه عمار بن ياسر «كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها» أبو جهل ابن هشام.
و روى أبو عمرو عن عايشة أنها قالت: ما من أحد من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أشاء أن أقول فيه لقلت إلّا عمّار بن ياسر، فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: إنّه ملى‏ء إيمانا إلى أخمص قدميه.
قال أبو عمرو و من حديث خالد بن الوليد أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من أبغض‏عمارا أبغضه اللّه.

قال: و من حديث عليّ بن ابي طالب عليه السّلام إنّ عمارا جاء يستأذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوما فعرف صوته فقال: مرحبا بالطيّب المطيّب، يعني عمّارا.
قال: و من حديث أنس عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله اشتاقت الجنّة إلى أربعة: عليّ عليه السّلام و عمّار، و سلمان، و بلال.
قال أبو عمرو: و فضايل عمّار كثير يطول ذكرها.
أقول: و قد مضى جملة من فضائله و مجاهداته بصفيّن و كيفيّة شهادته رضى اللّه تعالى عنه هنالك في تذييل المختار الخامس و الستّين و كان سنّه يوم قتل نيفا و تسعين.

(و أين ابن التيهان) و اسمه مالك و اسم أبيه مالك ايضا، و قال أبو نعيم: أبو الهيثم بن التيهان اسمه مالك و اسم التيهان عمرو بن الحارث كان «رض» أحد النقباء ليلة العقبة و شهد بدرا و الأكثر على أنه أدرك صفّين مع أمير المؤمنين عليه السّلام و قتل بها، و قيل: توفّى في حياة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قال أبو عمرو: و هذا القول لم يتابع عليه قائله، و قيل: توفّى سنة عشرين أو إحدى و عشرين.

(و أين ذو الشهادتين) و هو خزيمة بن ثابت الأنصاري يكنّى أبا عمارة شهد بدرا و ما بعدها من المشاهد و شهد صفين مع عليّ عليه السّلام فلما قتل عمّار بن ياسر قاتل «ره» حتّى قتل حسبما عرفته في تذييل المختار الخامس و السّتين.
و انما لقّب بذو الشهادتين لما رواه الصدوق في الفقيه بسنده عن عبد اللّه بن أحمد الذّهلي قال: حدّثنا عمارة بن خزيمة بن ثابت أنّ عمّه حدّثه و هو من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ابتاع فرسا من أعرابيّ فأسرع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المشي ليقضيه ثمن فرسه فأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس و هم لا يشعرون أنّ النبيّ عليه السّلام ابتاعه، حتّى زاد بعضهم الأعرابي في السّوم على الثمن فنادى الأعرابي فقال: إن كنت مبتاعا لهذا الفرس فابتعه و إلّا بعته، فقام النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله حين سمع الأعرابي فقال: أو ليس قد ابتعته منك، فطفق الناس يلوذون بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بالأعرابي و هما يتشاجران، فقال الأعرابي: هلمّ شهيدا يشهد أنّى قد بايعتك، و من جاء من المسلمين قال للاعرابي إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يكن ليقول إلّا حقّا حتّى‏جاء خزيمة بن ثابت فاستمع لمراجعة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأعرابي فقال خزيمة إنّي أشهد أنك قد بايعته، فأقبل النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله على خزيمة فقال: بم تشهد قال: بتصديقك يا رسول اللّه فجعل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شهادة خزيمة بن ثابت شهادتين و سمّاه ذو الشهادتين و روى هذه القصّة في الكافي بنحو آخر عن عليّ بن إبراهيم عن محمّد بن عيسى عن معاوية بن وهب قال: كان البلاط حيث يصلّى على الجنائز سوقا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يسمّى البطحاء يباع فيها الحليب و السّمن و الأقط و أنّ أعرابيا أتى بفرس له فأوثقه فاشتراه منه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ دخل ليأتيه بالثمن فقام ناس من المنافقين فقالوا: بكم بعت فرسك قال: بكذا و كذا، قالوا: بئس ما بعت، فرسك خير من ذلك و أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خرج إليه بالثمن وافيا طيّبا، فقال الأعرابي: ما بعتك و اللّه، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: سبحان اللّه بلى و اللّه لقد بعتني، و ارتفعت الأصوات فقال الناس: رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقاول الأعرابي، فاجتمع ناس كثير فقال أبو عبد اللّه«» و مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذ أقبل خزيمة بن ثابت الأنصاري ففرج الناس بيده حتّى انتهى إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: اشهد يا رسول اللّه لقد اشتريته منه، فقال الأعرابي: أتشهد و لم تحضرنا، و قال له النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أشهدتنا فقال له: لا يا رسول اللّه و لكنّى علمت أنّك قد اشتريت أ فاصدّقك بما جئت به من عند اللّه و لا اصدّقك على هذا الأعرابي الخبيث قال: فعجب له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال له: يا خزيمة شهادتك شهادة رجلين.

(و أين نظراؤهم) و أشباههم (من إخوانهم الّذين تعاقدوا) و تعاهدوا (على المنيّة) و جدّوا فى المقاتلة حتّى قتلوا بصفّين كابن بديل و هاشم بن عتبة و غيرهما ممّن تقدّم ذكره في تذييل المختار الخامس و الستّين (و أبرد برءوسهم إلى الفجرة) أى ارسلت رؤوسهم مع البريد للبشارة بها إلى الفسقة الطغام من أمراء الشام.

(قال) الرّاوى (ثمّ ضرب عليه السّلام يده إلى لحيته فأطال البكاء) من تقلّب الزمان و فقد الاخوان و تراكم الهموم و الأحزان (ثمّ قال) توجّعا و تحسّرا.
(اوه على إخوانى الّذين تلوا القرآن فأحكموه) أى أحسنوا تلاوته و مبانيه و فهموا مقاصده و معانيه و عملوا بمقتضاه و مؤدّاه (و تدبّروا الفرض فأقاموه) أى تفكروا في علل الواجبات و أسرار العبادات فواظبوا عليها و قاموا بوظايفها تحصيلا للغرض الأقصى منها و هو الزلفى إلى اللّه و القربى إلى رضوان اللّه الّذي هو أشرف اللّذات و أعلى الدرجات و (أحيوا السّنّة) يحتمل أن يكون المراد بها المستحبّات فيكون ذكرها بعد القرآن و الفرض نظير ما روى عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله إنما العلم ثلاثة: آية محكمة أو فريضة عادلة أو سنّة قائمة و ما خلاهنّ فهو فضل.

أى العلم النافع آية محكمة أى واضحة الدّلالة أو غير منسوخة فانّ المتشابه و المنسوخ لا ينتفع بهما غالبا، و فريضة عادلة أى الواجبات المصونة من الافراط و التفريط، و سنّة قائمة أى المندوبات الباقية غير المنسوخة، و على هذا الاحتمال فالمراد باحياء السنّة الاتيان بها و المراقبة عليها.
إلّا أنّ الأظهر بقرينة المقابلة بينه و بين قوله: (و أماتوا البدعة) أن يراد بالسنّة مقابل البدعة، يعني السنة الّتي سنّها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الشريعة الّتي شرعها.

روى في البحار من معاني الأخبار مرفوعا قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السّلام فقال: أخبرني عن السنّة و البدعة و عن الجماعة و عن الفرقة، فقال أمير المؤمنين السنّة ما سنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و البدعة ما أحدث من بعده، و الجماعة أهل الحقّ و إن كانوا قليلا، و الفرقة أهل الباطل و إن كانوا كثيرا.
و على هذا فالمراد باحياء السنّة أخذ أحكام الشرع و العمل عليها.
روى في البحار من المحاسن عن أبي جعفر عن أبيه عليهما السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من تمسّك بسنّتي في اختلاف أمّتي كان له أجر مأئة شهيد.
و المراد باماتة البدعة إبطالها و تركها و الاعراض عنها و عن أهلها.

روى في البحار من تفسير عليّ بن إبراهيم قال في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: وَ الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ هؤلاء أهل البدع و الشبهات و الشهوات يسوّد اللّه وجوههم ثمّ يلقونه.
و فيه من ثواب الأعمال عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من مشى إلى صاحب بدعة فوقّره فقد مشي في هدم الاسلام.
(دعوا للجهاد فأجابوا) و نهضوا إليه (و وثقوا) أى اطمأنوا و اتّكلوا (بالقائد) أراد به نفسه الشريف لكونه قائدا لهم إلى سبيل الحقّ (فاتّبعوه).
(ثمّ) إنّه عليه السّلام لما رغّب المخاطبين و رهّب و وعظهم و ذكّر و بشّرهم و أنذر و توجّع من مفارقة أصحابه و تحسّر تخلّص إلى أصل غرضه.
و (نادى بأعلا صوته: الجهاد الجهاد عباد اللّه) أى اسرعوا إليه و انهضوا به (ألا و اني معسكر في يومي هذا) أى جامع للعساكر في المعسكر (فمن أراد الرواح إلى اللّه) أى الذهاب إلى الفوز برضوانه أو إلى لقائه تعالى بالشهادة (فليخرج) (قال نوف: و عقد للحسين عليه السّلام) راية (في عشرة آلاف و لقيس بن سعد) ابن عبادة (في عشرة آلاف) و كان سعد أبو قيس رئيس الخزرج و لم يبايع أبا بكر و مات على عدم البيعة و المشهور أنّهم قتلوه لذلك و أحالوا قتله على الجنّ و افتروا شعرا من لسان الجنّ كما مرّ في المقدّمة الثالثة من مقدّمات الخطبة الثالثة و في التنبيه الأوّل من شرح المختار السابع و الستّين.

و قال الشّارح المعتزلي: سعد هو الّذي حاول إقامته في الخلافة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لم يبايع أبا بكر حين بويع و خرج إلى حوران فمات بها، قيل قتلته الجنّ لأنه بال قائما في الصحراء ليلا و رووا بيتي شعر قيل إنهما سمعا ليلة قتله و لم ير قائلهما
نحن قتلنا سيّد الخزرج سعد بن عبادة
و رميناه بسهمين فلم يخط فؤاده‏

و يقول قوم: إنّ أمير الشام يومئذ كمن له من رماه ليلا و هو خارج إلى الصحراء بسهمين فقتله لخروجه عن طاعته، و قد قال بعض المتأخّرين:

يقولون سعد شكّت الجنّ قلبه
ألا ربّما صحّحت ذنبك بالعذر

و ما ذنب سعد أنّه بال قائما
و لكنّ سعدا لم يبايع أبا بكر

و قد صبرت من لذّة العيش أنفس
و ما صبرت عن لذّة النّهى و الأمر

و كان قيس من صحابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كبار شيعة أمير المؤمنين عليه السّلام، و كان طوالا جوادا شجاعا شهد مع أمير المؤمنين عليه السّلام حروبه كلّها، و كان مخلصا في اعتقاده ثابت الرأى في التشيّع و المحبّة.
و قد مرّ في التنبيه الثاني من شرح المختار السابع و الستّين ما يفصح عن جلالة شأنه و رفعة مقامه و أحببت أن أورد هنا رواية مفيدة لخلوص عقيدته على وجه الكمال مع تضمّنها لاعجاز غريب لأمير المؤمنين عليه السّلام.
فأقول: روى في البحار من كتاب إرشاد القلوب عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري و عبد اللّه بن عباس قالا: كنّا جلوسا عند أبي بكر في ولايته و قد أضحى النهار و إذا بخالد بن الوليد المخزومي قد وافي في جيش قام غباره و كثر صهيل أهل خيله، و إذا بقطب رحى ملوىّ في عنقه قد فتل فتلا فأقبل حتّى نزل عن جواده و دخل المسجد و وقف بين يدي أبي بكر فرمقه الناس بأعينهم فهالهم منظره.

ثمّ قال: اعدل يا ابن أبي قحافة حيث جعلك الناس في هذا الموضع الّذى لست له أنت بأهل، و ما ارتفعت إلى هذا المكان إلّا كما يرتفع الطافى من السّمك على الماء، و انما يطفو و يعلو حين لا حراك به، مالك و سياسة الجيوش و تقديم العساكر و أنت بحيث أنت من دنائة الحسب و منقوص النسب و ضعف القوى و قلّة التحصيل لا تحمى ذمارا و لا تضرم نارا فلا جزى اللّه أخا ثقيف و ولد صهّاك خيرا.

إنّى رجعت متكفأ من الطايف إلى جدة فى طلب المرتدّين فرأيت علىّ بن أبي طالب عليه السّلام و معه عتاة من الدّين حماليق شزرات أعينهم من حسدك و بدرت حنقا عليك و قرحت آماقهم لمكانك، منهم ابن ياسر و المقداد و ابن جنادة أخو غفار و ابن العوام و غلامان أعرف أحدهما بوجهه، و غلام أسمر لعلّه من ولد عقيل أخيه.

فتبيّن لى المنكر في وجوههم و الحسد في احمرار أعينهم، و قد توشّح علىّ‏بدرع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لبس ردائه السحاب و لقد اسرج له دابّته العقاب، و لقد نزل علىّ على عين ماء اسمها روية، فلما رءانى اشمأزّ و بربر و أطرق موحشا يقبض على لحيته.

فبادرته بالسلام استكفاء و اتّقاء و وحشة، فاستغنمت سعة المناخ و سهولة المنزل فنزلت و من معى بحيث نزلوا اتّقاء عن مراوغته، فبدانى ابن ياسر بقبيح لفظه و محض عداوته فقر عنى هزؤا بما تقدّمت به إلى بسوء رأيك.
فالتفت إلىّ أصلع الرأس و قد ازدحم الكلام فى حلقه كهمهمة الأسد أو كقعقعة الرّعد فقال لي بغضب منه: أو كنت فاعلا يا با سليمان فقلت له: إى و اللّه لو أقام على رأيه لضربت الّذي فيه عيناك، فأغضبه قولي إذ صدقته و أخرجه إلى طبعه الذي أعرفه به عند الغضب.

فقال: يا ابن اللّخناء مثلك من يقدر على مثلي أو يجسر أو يدير اسمى في لهواته الّتي لا عهد لها بكلمة حكمة، ويلك إني لست من قتلاك و لا من قتلا صاحبك و اني لأعرف بمنيتي منك بنفسك.
ثمّ ضرب بيده إلى ترقوتي فنكسنى عن فرسي و جعل يسوقني دعا الى رحى للحارث بن كلدة الثقفي، فعمد إلى القطب الغليظ فمدّ عنقى بكلتا يديه و أداره فى عنقى ينفتل له كالعلك المسخن.

و أصحابى هؤلاء وقوف، ما أغنوا عنّي سطوته، و لا كفّوا عنّى شرته فلا جزاهم اللّه عنى خيرا، فانهم لما نظروا اليه كأنما نظروا إلى ملك موتهم، فو الّذي رفع السماء بلا اعماد لقد اجتمع على فكّ هذا القطب مأئة «ألف خ» رجل أو يزيدون من أشدّ العرب فما قدروا على فكّه فدلّنى عجز الناس عن فكّه أنه سحر منه أو قوّة ملك قد ركبت فيه، ففكّه الان عنّى إن كنت فاكّه، و خذ لى بحقّى إن كنت آخذه، و إلّا لحقت بدار عزّى و مستقرّ مكرمتى، قد ألبسنى ابن أبى طالب من العار ما صرت به ضحكة لأهل الدّيار.

فالتفت أبو بكر إلى عمر فقال: ما ترى إلى ما يخرج من هذا الرّجل كأنّ‏ولايتى ثقل على كاهله أو شجى فى صدره.
فالتفت إليه عمر فقال: فيه دعابة لا تدعها حتّى تورده فلا تصدره «و جهل خ» و حسد قد استحكما في خلده فجريا منه مجرى الدّماء لا يدعانه حتّى يهنا منزلته و يورطاه ورطة الهلكة.

ثمّ قال أبو بكر لمن بحضرته: ادعوا لي قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري، فليس لفكّ هذا القطب غيره.
قال: و كان قيس سيّاف النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كان رجلا طويلا طوله ثمانية عشر شبرا في عرض خمسة أشبار و كان أشدّ الناس في زمانه بعد أمير المؤمنين عليه السّلام.
فحضر قيس فقال له: يا قيس إنك من شدّة البدن بحيث أنت ففكّ هذا القطب من عنق أخيك خالد.
فقال قيس: و لم لا يفكّه خالد عن عنقه قال: لا يقدر عليه.
قال: فما لا يقدر عليه أبو سليمان و هو نجم عسكركم و سيفكم على أعدائكم كيف أقدر عليه أنا.
قال عمر: دعنا من هزؤك و هزلك و خذ فيما حضرت له.
فقال: لمسألة: تسألونها طوعا أو كرها تجبروني عليه.
فقال له: إن كان طوعا و إلّا فكرها.
قال قيس: يا ابن صحّاك خذل اللّه من يكرهه مثلك إنّ بطنك لعظيمة و إنّ كرشك لكبيرة، فلو فعلت أنت ذلك ما كان منك.
فخجل عمر من قيس بن سعد فجعل ينكث أسنانه بأنامله.
فقال أبو بكر: و ما بذلك منه، اقصد لما سئلت.
فقال قيس: و اللّه لو أقدر على ذلك لما فعلت، فدونكم و حدّادى المدينة فانّهم أقدر على ذلك منّي، فأتوا بجماعة من الحدّادين فقالوا: لا ينفتح حتّى نحميه بالنّار.

فالتفت أبو بكر إلى قيس مغضبا، فقال: و اللّه ما بك من ضعف من فكّه و لكنّك لا تفعل فعلا يعيبك فيه إمامك و حبيبك أبو الحسن، و ليس هذا بأعجب من أنّ أباك رام الخلافة ليبتغى الاسلام عوجا فحدّ اللّه شوكته و أذهب نخوته و أعزّ الاسلام لوليّه و أقام دينه بأهل طاعته، و أنت الان في حال كيد و شقاق.

قال: فاستشاط قيس بن سعد غضبا و امتلأ غيظا، فقال: يا ابن أبي قحافة إنّ لك جوابا حميا بلسان طلق و قلب جرىّ، لولا البيعة الّتي لك في عنقى سمعته منّى و اللّه لان بايعتك يدي لم يبايعك قلبى و لا لسانى و لا حجّة لى فى علىّ بعد يوم الغدير و لا كانت بيعتى لك إلّا كالّتى نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثا، أقول قولى هذا غير هائب منك، و لا خائف من معرتك، و لو سمعت هذا القول منك بدأة لما فتح لك منّى صالحا.

إن كان أبي رام الخلافة فحقيق أن يرومها بعد من ذكرته، لأنه رجل لا يقعقع بالشنان و لا يغمز جانبه كغمز التينة ضخم صنديد و سمك منيف و عز بازخ اشوس، بخلافك أيّها النعجة العرجاء و الديك النافش لا عن صميم و لا حسب كريم و أيم اللّه لان عاودتنى في أبى لألجمنّك بلجام من القول يمجّ فوك منه دما، دعنا نخوض في عمايتك و نتردّى في غوايتك على معرفة منّا بترك الحقّ و اتّباع الباطل.

و أما قولك إنّ عليّا إمامى ما انكر إمامته و لا أعدل عن ولايته و كيف انقض و قد أعطيت اللّه عهدا بامامته و ولايته يسألني عنه فأنا إن ألقى اللّه بنقض بيعتك أحبّ إلىّ من انقض عهده و عهد رسوله و عهد وصيّه و خليله.
و ما أنت إلّا أمير قومك إن شاءوا تركوك و إن شاءوا عزلوك، فتب إلى اللّه مما اجترمته و تنصّل إليه مما ارتكبته، سلّم الأمر إلى من هو أولى منك بنفسك، فقد ركبت عظيما بولايتك دونه و جلوسك في موضعه و تسميتك باسمه، و كأنك بالقليل من دنياك و قد انقشع عنك كما ينقشع السحاب و تعلم أىّ الفريقين شرّ مكانا و أضعف جنداو أمّا تعييرك إيّاى بانّه مولاى هو و اللّه مولاى و مولاك و مولى المؤمنين أجمعين آه آه أنّى لي بثبات قدم أو تمكّن وطأ حتّى الفظك لفظ المنجنيق الحجرة و لعلّ ذلك يكون قريبا و تكتفى بالعيان عن الخبر.

ثمّ قام و نفض ثوبه و مضى، و ندم أبو بكر عمّا أسرع إليه من القول إلى قيس، الحديث.
قال نوف (و) عقد (لأبي أيّوب الأنصاري) أيضا (في عشرة آلاف) و أبو أيّوب هو خالد بن زيد بن كعب الخزرجي من بنى النجار شهد العقبة و بدرا و ساير المشاهد، و عليه نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين قدم المدينة و شهد مع أمير المؤمنين مشاهده كلّها و كان على مقدمته يوم النهروان.
(و) عقد (لغيرهم على اعداد اخر و هو عليه السّلام يريد الرّجعة إلى صفين فما دارت الجمعة حتّى ضربه الملعون) أشقى الأولين و الاخرين شقيق عاقر ناقة صالح (ابن ملجم) المرادي (لعنه اللّه) حسبما عرفت تفصيل ضربته في شرح المختار التاسع و الستّين.
(فتراجعت العساكر) من المعسكر إلى الكوفة قال الرّاوي (فكنّا كأغنام فقدت راعيها تختطفها الذئاب من كلّ مكان) كما قال الفرزدق:

فلا غرو للأشراف إن ظفرت لها
ذئاب الأعادى من فصيح و أعجم‏

فحربة وحشىّ سقت حمزة الرّدى‏
و قتل علىّ من حسام مصمّم‏

و المراد من اختطاف الذئاب إمّا النهب و القتل و الاذلال أو الاغواء و الاضلال قال الشارح المعتزلي: يقال: إنّ هذه الخطبة آخر خطبة خطبها أمير المؤمنين عليه السّلام قائما.

الترجمة

فصل سيّم از اين خطبه اشارتست بصفات امام زمان عليه السّلام مى‏ فرمايد كه بتحقيق كه پوشيده است آن بزرگوار از براى حفظ حكمت سپر و زره آنرا و أخذ كرده حكمت را با جميع آدابهاى آن كه عبارتند از اقبال كردن بر آن‏ و شناختن قدر و منزلت آن و فارغ شدن از براى آن، پس آن حكمت در پيش آن حضرت بمنزله گم شده او است كه طلب مى ‏نمايد آنرا، و حاجت اوست كه سؤال مي كند از آن، پس آن حضرت اختيار غربت و غيبت كننده است زمانى كه غريب شود اسلام، و بزند اطراف دم خود را و بچسباند بزمين سينه خود را، آن حضرت بقيّه ايست از باقى ماندگان حجّت خدا، و خليفه ‏ايست از خليفه اى پيغمبران حق تعالى.

پس فرمود آن حضرت: اى مردمان بدرستى كه من منتشر كردم از براى شما موعظه ائى كه موعظه فرمودند با آنها پيغمبران امتهاى خودشان را، و رساندم بسوى شما چيزى را كه رساند وصيه اى پيغمبران بكسانى كه بودند بعد از ايشان، و ادب دادم بشما با تازيانه خودم پس مستقيم نشديد، و راندم شما را بدلائل مانعه از راه ناصواب پس منتظم نگشتيد، تعجّب مي كنم از شما آيا توقع مى‏كنيد امامى را غير از من كه ببرد شما را بجادّه حق، و ارشاد نمايد شما را براه راست.

آگاه باشيد بدرستى كه ادبار كرده است از دنيا چيزى كه اقبال نموده بود، و اقبال كرده است از آن چيزى كه ادبار كرده بود، و عزم برحلت كردند بندگان پسنديده خدا و عوض كردند قليل از دنيا را كه باقى نخواهد ماند بكثير از آخرت كه فانى نخواهد شد، ضرر نرساند برادران ما را كه ريخته شد خونهاى ايشان در جنگ صفين اين كه نشدند امروز زنده كه گوارا كنند غصه‏ ها را و بياشامند آب كدورت آميز اندوه را بتحقيق قسم بذات حق كه ملاقات كردند پروردگار را پس بتمام و كمال رسانيد بايشان اجرهاى ايشان را، و فرود آورد ايشان را در سراى امن و امان بعد از خوف و هراس ايشان.

كجايند برادران من كه سوار شدند بر راه صدق، و گذشتند بر طريق حق، كجا است عمار ياسر كجا است ابي الهيثم بن التيهان كجا است خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين و كجايند امثال ايشان از برادران مؤمنين ايشان كه عهد بسته بودند با همديگر بر مردن در راه دين، و فرستاده شد سرهاى ايشان با قاصد بسوى فاجران پس از آن زد آن حضرت دست خود را بمحاسن شريف خود، پس بسيار گريست بعد از آن فرمود:

آه بر برادران من كه تلاوت كردند قرآن را پس محكم ساختند آنرا، و تفكر كردند در واجبات پس برپا داشتند آن را، و زنده كردند سنّت پيغمبر را و كشتند بدعت را، خوانده شدند از براى جهاد پس اجابت كردند، و اعتماد نمودند به پيشوا پس متابعت كردند او را.

بعد از آن ندا فرمود آن حضرت به آواز بلند و فرمود: بشتابيد بسوى جهاد و قتال اى بندگان خدا، آگاه باشيد كه اردو درست كننده ‏ام در همين روز پس هر كه اراده كند توجّه نمودن بسوى پروردگار خود بس بايد كه خارج بشود باردوگاه.

گفت نوف بكالي: و عقد فرمود حضرت أمير مؤمنان از براى پسر خود امام حسين عليه السّلام در ده هزار نفر، و معين فرمود از براى قيس بن سعد بن عبادة در ده هزار، و از براى أبو أيوب انصاري در ده هزار، و از براى سايرين بر شماره‏هاى ديگر و اراده داشت كه بر گردد بسوى صفين پس بر نگرديد روز جمعه همان هفته تا آنكه ضربت زد آن بزرگوار را ملعون ابن ملجم مرادي، خدا لعنت كند او را پس بر گشتند لشكريان پس شديم ما بمنزله گوسفندانى كه گم كرده باشند شبان خود را در حالتى كه بربايند آنها را گرگان از هر مكان.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 181/1 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 182 صبحی صالح

182- و من خطبة له ( عليه ‏السلام  ) روي عن نوف البكالي قال خطبنا بهذه الخطبة أمير المؤمنين علي ( عليه ‏السلام  ) بالكوفة و هو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي

و عليه مدرعة من صوف و حمائل سيفه ليف

و في رجليه نعلان من ليف و كأن جبينه ثفنة بعير فقال ( عليه ‏السلام  )

حمد اللّه و استعانته

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي إِلَيْهِ مَصَائِرُ الْخَلْقِ وَ عَوَاقِبُ الْأَمْرِ

نَحْمَدُهُ عَلَى عَظِيمِ إِحْسَانِهِ وَ نَيِّرِ بُرْهَانِهِ وَ نَوَامِي فَضْلِهِ وَ امْتِنَانِهِ

حَمْداً يَكُونُ لِحَقِّهِ قَضَاءً وَ لِشُكْرِهِ أَدَاءً وَ إِلَى ثَوَابِهِ مُقَرِّباً وَ لِحُسْنِ مَزِيدِهِ مُوجِباً

وَ نَسْتَعِينُ بِهِ اسْتِعَانَةَ رَاجٍ لِفَضْلِهِ مُؤَمِّلٍ لِنَفْعِهِ وَاثِقٍ بِدَفْعِهِ مُعْتَرِفٍ لَهُ بِالطَّوْلِ مُذْعِنٍ لَهُ بِالْعَمَلِ وَ الْقَوْلِ

وَ نُؤْمِنُ بِهِ إِيمَانَ مَنْ رَجَاهُ مُوقِناً وَ أَنَابَ إِلَيْهِ مُؤْمِناً وَ خَنَعَ لَهُ مُذْعِناً

وَ أَخْلَصَ لَهُ مُوَحِّداً وَ عَظَّمَهُ مُمَجِّداً وَ لَاذَ بِهِ رَاغِباً مُجْتَهِداً

اللّه الواحد

لَمْ يُولَدْسُبْحَانَهُ فَيَكُونَ فِي الْعِزِّ مُشَارَكاً

وَ لَمْ يَلِدْفَيَكُونَ مَوْرُوثاًهَالِكاً

وَ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ وَقْتٌ وَ لَا زَمَانٌ وَ لَمْ يَتَعَاوَرْهُ زِيَادَةٌ وَ لَا نُقْصَانٌ

بَلْ ظَهَرَ لِلْعُقُولِ بِمَا أَرَانَا مِنْ عَلَامَاتِ التَّدْبِيرِ الْمُتْقَنِ وَ الْقَضَاءِ الْمُبْرَمِ

فَمِنْ شَوَاهِدِ خَلْقِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ مُوَطَّدَاتٍ بِلَا عَمَدٍ قَائِمَاتٍ بِلَا سَنَدٍ

دَعَاهُنَّ فَأَجَبْنَ طَائِعَاتٍ مُذْعِنَاتٍ غَيْرَ مُتَلَكِّئَاتٍ وَ لَا مُبْطِئَاتٍ

وَ لَوْ لَا إِقْرَارُهُنَّ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَ إِذْعَانُهُنَّ بِالطَّوَاعِيَةِ لَمَا جَعَلَهُنَّ مَوْضِعاً لِعَرْشِهِ وَ لَا مَسْكَناً لِمَلَائِكَتِهِ وَ لَا مَصْعَداً لِلْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ خَلْقِهِ

جَعَلَ نُجُومَهَا أَعْلَاماً يَسْتَدِلُّ بِهَا الْحَيْرَانُ فِي مُخْتَلِفِ فِجَاجِ الْأَقْطَارِ

لَمْ يَمْنَعْ ضَوْءَ نُورِهَا ادْلِهْمَامُ سُجُفِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ وَ لَا اسْتَطَاعَتْ جَلَابِيبُ سَوَادِ الْحَنَادِسِ أَنْ تَرُدَّ مَا شَاعَ فِي السَّمَاوَاتِ مِنْ تَلَأْلُؤِ نُورِ الْقَمَرِ

فَسُبْحَانَ مَنْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ سَوَادُ غَسَقٍ دَاجٍ وَ لَا لَيْلٍ سَاجٍ فِي بِقَاعِ الْأَرَضِينَ الْمُتَطَأْطِئَاتِ وَ لَا فِي يَفَاعِ السُّفْعِ الْمُتَجَاوِرَاتِ

وَ مَا يَتَجَلْجَلُ بِهِ الرَّعْدُ فِي أُفُقِ السَّمَاءِ وَ مَا تَلَاشَتْ عَنْهُ بُرُوقُ الْغَمَامِ

وَ مَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ تُزِيلُهَا عَنْ مَسْقَطِهَا عَوَاصِفُ الْأَنْوَاءِ وَ انْهِطَالُ السَّمَاءِ

وَ يَعْلَمُ مَسْقَطَ الْقَطْرَةِ وَ مَقَرَّهَا وَ مَسْحَبَ الذَّرَّةِ وَ مَجَرَّهَا وَ مَا يَكْفِي الْبَعُوضَةَ مِنْ قُوتِهَا وَ مَا تَحْمِلُ الْأُنْثَى فِي بَطْنِهَا

عود إلى الحمد

وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الْكَائِنِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ كُرْسِيٌّ أَوْ عَرْشٌ أَوْ سَمَاءٌ أَوْ أَرْضٌ أَوْ جَانٌّ أَوْ إِنْسٌ

لَا يُدْرَكُ بِوَهْمٍ وَ لَا يُقَدَّرُ بِفَهْمٍ وَ لَا يَشْغَلُهُ سَائِلٌ وَ لَا يَنْقُصُهُ نَائِلٌ

وَ لَا يَنْظُرُ بِعَيْنٍ وَ لَا يُحَدُّ بِأَيْنٍ وَ لَا يُوصَفُ بِالْأَزْوَاجِ وَ لَا يُخْلَقُ بِعِلَاجٍ وَ لَا يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ وَ لَا يُقَاسُ بِالنَّاسِ

الَّذِي كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيماً وَ أَرَاهُ مِنْ آيَاتِهِ عَظِيماً بِلَا جَوَارِحَ وَ لَا أَدَوَاتٍ وَ لَا نُطْقٍ وَ لَا لَهَوَاتٍ

بَلْ إِنْ كُنْتَ صَادِقاً أَيُّهَا الْمُتَكَلِّفُ لِوَصْفِ رَبِّكَ فَصِفْ جِبْرِيلَ وَ مِيكَائِيلَ وَ جُنُودَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ فِي حُجُرَاتِ الْقُدُسِ مُرْجَحِنِّينَ مُتَوَلِّهَةً عُقُولُهُمْ أَنْ يَحُدُّوا أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ

فَإِنَّمَا يُدْرَكُ بِالصِّفَاتِ ذَوُو الْهَيْئَاتِ وَ الْأَدَوَاتِ وَ مَنْ يَنْقَضِي إِذَا بَلَغَ أَمَدَ حَدِّهِ بِالْفَنَاءِ

فَلَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ أَضَاءَ بِنُورِهِ كُلَّ ظَلَامٍ وَ أَظْلَمَ بِظُلْمَتِهِ كُلَّ نُورٍ

الوصية بالتقوى‏

أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي أَلْبَسَكُمُ الرِّيَاشَ وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمُ الْمَعَاشَ

فَلَوْ أَنَّ أَحَداً يَجِدُ إِلَى الْبَقَاءِ سُلَّماً أَوْ لِدَفْعِ الْمَوْتِ سَبِيلًا لَكَانَ ذَلِكَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ ( عليه ‏السلام  )

الَّذِي سُخِّرَ لَهُ مُلْكُ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ مَعَ النُّبُوَّةِ وَ عَظِيمِ الزُّلْفَةِ

فَلَمَّا اسْتَوْفَى طُعْمَتَهُ وَ اسْتَكْمَلَ مُدَّتَهُ رَمَتْهُ قِسِيُّ الْفَنَاءِ بِنِبَالِ الْمَوْتِ

وَ أَصْبَحَتِ الدِّيَارُ مِنْهُ‏خَالِيَةً وَ الْمَسَاكِنُ مُعَطَّلَةً وَ وَرِثَهَا قَوْمٌ آخَرُونَ

وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْقُرُونِ السَّالِفَةِ لَعِبْرَةً

أَيْنَ الْعَمَالِقَةُ وَ أَبْنَاءُ الْعَمَالِقَةِ أَيْنَ الْفَرَاعِنَةُ وَ أَبْنَاءُ الْفَرَاعِنَةِ أَيْنَ أَصْحَابُ مَدَائِنِ الرَّسِّ الَّذِينَ قَتَلُوا النَّبِيِّينَ وَ أَطْفَئُوا سُنَنَ الْمُرْسَلِينَ وَ أَحْيَوْا سُنَنَ الْجَبَّارِينَ

أَيْنَ الَّذِينَ سَارُوا بِالْجُيُوشِ وَ هَزَمُوا بِالْأُلُوفِ وَ عَسْكَرُوا الْعَسَاكِرَ وَ مَدَّنُوا الْمَدَائِنَ

وَ مِنْهَا قَدْ لَبِسَ لِلْحِكْمَةِ جُنَّتَهَا وَ أَخَذَهَا بِجَمِيعِ أَدَبِهَا مِنَ الْإِقْبَالِ عَلَيْهَا وَ الْمَعْرِفَةِ بِهَا وَ التَّفَرُّغِ لَهَا

فَهِيَ عِنْدَ نَفْسِهِ ضَالَّتُهُ الَّتِي يَطْلُبُهَا وَ حَاجَتُهُ الَّتِي يَسْأَلُ عَنْهَا

فَهُوَ مُغْتَرِبٌ إِذَا اغْتَرَبَ الْإِسْلَامُ وَ ضَرَبَ بِعَسِيبِ ذَنَبِهِ وَ أَلْصَقَ الْأَرْضَ بِجِرَانِهِ

بَقِيَّةٌ مِنْ بَقَايَا حُجَّتِهِ خَلِيفَةٌ مِنْ خَلَائِفِ أَنْبِيَائِهِ

ثم قال ( عليه ‏السلام  )

أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ بَثَثْتُ لَكُمُ الْمَوَاعِظَ الَّتِي وَعَظَ الْأَنْبِيَاءُ بِهَا أُمَمَهُمْ وَ أَدَّيْتُ إِلَيْكُمْ مَا أَدَّتِ الْأَوْصِيَاءُ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ

وَ أَدَّبْتُكُمْ بِسَوْطِي فَلَمْ تَسْتَقِيمُوا وَ حَدَوْتُكُمْ بِالزَّوَاجِرِ فَلَمْ تَسْتَوْسِقُوا

لِلَّهِ أَنْتُمْ أَ تَتَوَقَّعُونَ إِمَاماً غَيْرِي يَطَأُ بِكُمُ الطَّرِيقَ وَ يُرْشِدُكُمُ السَّبِيلَ

أَلَا إِنَّهُ قَدْ أَدْبَرَ مِنَ الدُّنْيَا مَا كَانَ مُقْبِلًا وَ أَقْبَلَ مِنْهَا مَا كَانَ مُدْبِراً

وَ أَزْمَعَ التَّرْحَالَ عِبَادُ اللَّهِ الْأَخْيَارُ

وَ بَاعُوا قَلِيلًا مِنَ الدُّنْيَا لَا يَبْقَى بِكَثِيرٍ مِنَ الْآخِرَةِ لَا يَفْنَى

مَا ضَرَّ إِخْوَانَنَا الَّذِينَ سُفِكَتْ دِمَاؤُهُمْ وَ هُمْ بِصِفِّينَ أَلَّا يَكُونُوا الْيَوْمَ أَحْيَاءً يُسِيغُونَ الْغُصَصَ وَ يَشْرَبُونَ الرَّنْقَ

قَدْ وَ اللَّهِ لَقُوا اللَّهَ فَوَفَّاهُمْ أُجُورَهُمْ وَ أَحَلَّهُمْ دَارَ الْأَمْنِ بَعْدَ خَوْفِهِمْ

أَيْنَ إِخْوَانِيَ الَّذِينَ رَكِبُوا الطَّرِيقَ وَ مَضَوْا عَلَى الْحَقِّ

أَيْنَ عَمَّارٌ وَ أَيْنَ ابْنُ التَّيِّهَانِ وَ أَيْنَ ذُو الشَّهَادَتَيْنِ وَ أَيْنَ نُظَرَاؤُهُمْ مِنْ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ تَعَاقَدُوا عَلَى الْمَنِيَّةِ وَ أُبْرِدَ بِرُءُوسِهِمْ إِلَى الْفَجَرَةِ

قَالَ ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى لِحْيَتِهِ الشَّرِيفَةِ الْكَرِيمَةِ فَأَطَالَ الْبُكَاءَ ثُمَّ قَالَ ( عليه ‏السلام  )

أَوِّهِ عَلَى إِخْوَانِيَ الَّذِينَ تَلَوُا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ وَ تَدَبَّرُوا الْفَرْضَ فَأَقَامُوهُ أَحْيَوُا السُّنَّةَ وَ أَمَاتُوا الْبِدْعَةَ

دُعُوا لِلْجِهَادِ فَأَجَابُوا وَ وَثِقُوا بِالْقَائِدِ فَاتَّبَعُوهُ

ثُمَّ نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ

الْجِهَادَ الْجِهَادَ عِبَادَ اللَّهِ

أَلَا وَ إِنِّي مُعَسْكِرٌ فِي يَومِي هَذَا فَمَنْ أَرَادَ الرَّوَاحَ إِلَى اللَّهِ فَلْيَخْرُجْ

قَالَ نوف و عقد للحسين ( عليه‏ السلام  ) في عشرة آلاف

و لقيس بن سعد رحمه الله في عشرة آلاف و لأبي أيوب الأنصاري في عشرة آلاف و لغيرهم على أعداد أخر و هو يريد الرجعة إلى صفين

فما دارت الجمعة حتى ضربه الملعون ابن ملجم لعنه الله

فتراجعت العساكر فكنا كأغنام فقدت راعيها تختطفها الذئاب من كل مكان

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج10  

و من خطبة له عليه السّلام و هى المأة و الواحدة و الثمانون من المختار في باب الخطب

و شرحها في فصول:

الفصل الاول

روى عن نوف البكالي قال: خطبنا بهذه الخطبة بالكوفة أمير المؤمنين عليه السّلام و هو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي و عليه مدرعة من صوف و حمايل سيفه من ليف و في رجليه نعلان من ليف و كأنّ جبينه ثفنة بعير فقال عليه السّلام:

الحمد للّه الّذي إليه مصائر الخلق، و عواقب الأمر، نحمده على عظيم إحسانه، و نيّر برهانه، و نوامي فضله و امتنانه، حمدا يكون لحقّه قضاء، و لشكره أداء، و إلى ثوابه مقرّبا، و لحسن مزيده موجبا، و نستعين به استعانة راج لفضله، مؤمّل لنفعه، واثق بدفعه، معترف له بالطّول، مذعن له بالعمل و القول، و نؤمن به إيمان من رجاه موقنا، و أناب إليه مؤمنا، و خنع له مذعنا، و أخلص له موّحدا، و عظّمه ممجّدا، و لاذ به راغبا مجتهدا، لم يولد سبحانه فيكون في العزّ مشاركا، و لم يلد فيكون موروثا هالكا، و لم يتقدّمه وقت و لا زمان، و لم يتعاوره زيادة و لا نقصان، بل ظهر للعقول بما أرانا من علامات التّدبير المتقن، و القضاء المبرم.

فمن شواهد خلقه خلق السّموات موطّدات بلا عمد، قائمات بلا سند، دعاهنّ فأجبن طائعات مذعنات، غير متلكّئات و لا مبطئات، و لولا إقرارهنّ له بالرّبوبيّة، و إذعانهنّ بالطّواعية، لما جعلهنّ موضعا لعرشه، و لا مسكنا لملائكته، و لا مصعدا للكلم الطّيّب و العمل الصّالح من خلقه، جعل نجومها أعلاما يستدلّ بها الحيران في مختلف فجاج الأقطار، لم يمنع ضوء نورها ادلهمام سجف اللّيل‏المظلم، و لا استطاعت جلابيب سواد الحنادس أن تردّ ما شاع في السّموات من تلالؤ نور القمر. فسبحان من لا يخفى عليه سواد غسق داج، و لا ليل ساج في بقاع الأرضين المتطأطئات، و لا في يفاع السّفع المتجاورات، و ما يتجلجل به الرّعد في أفق السّماء، و ما تلاشت عنه بروق الغمام، و ما تسقط من ورقة تزيلها عن مسقطها عواصف الأنواء و انهطال السّماء، و يعلم مسقط القطرة و مقرّها، و مسحب الذّرّة و مجرّها، و ما يكفى البعوضة من قوتها، و ما تحمل الانثى في بطنها.

و الحمد للّه الكائن قبل أن يكون كرسيّ، أو عرش، أو سماء، أو أرض، أو جانّ، أو إنس، لا يدرك بوهم، و لا يقدّر بفهم، و لا يشغله سائل، و لا ينقصه نائل، و لا ينظر بعين، و لا يحدّ بأين، و لا يوصف بالأزواج، و لا يخلق بعلاج، و لا يدرك بالحواسّ، و لا يقاس بالنّاس، الّذي كلّم موسى تكليما، و أراه من آياته عظيما، بلا جوارح و لا أدوات، و لا نطق و لا لهوات. بل إن كنت صادقا أيّها المتكلّف لوصف ربّك، فصف جبرئيل و ميكائيل و جنود الملائكة المقرّبين في حجرات القدس مرجحنّين،متولّهة عقولهم أن يحدّوا أحسن الخالقين، و إنّما يدرك بالصّفات ذووا الهيئات و الأدوات، و من ينقضي إذا بلغ أمد حدّه بالفناء، فلا إله إلّا هو، أضاء بنوره كلّ ظلام، و أظلم بظلمته كلّ نور.

اللغة

(البكالي) بكسر الباء قال في القاموس: و بنو بكال ككتاب بطن من حمير منهم نوف بن فضالة التابعي و كأمير حىّ من همدان، و عن الجوهرى أنّه بفتح الباء، و عن قطب الراوندي في شرح النهج أنّ بكال و بكيل شي‏ء واحد و هو اسم حىّ من همدان و بكيل أكثر، و الصواب كما قاله الشارح المعتزلي ما في القاموس.

و (ثفنة) البعير بالكسر ركبته و ما مسّ الأرض من كركرته و سعداناته و اصول أفخاذه، و ثفنت يده من باب فرح غلظت و (العمد) جمع عماد على خلاف القياس قال سبحانه: فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ و (تلكأ) عليه اعتلّ و عنه أبطأ و (الطواعية) وزان ثمانية الطاعة و (المختلف) الاختلاف و التردّد أو موضعه أو من المخالفة و (الفجّ) الطريق الواسع بين الجبلين و (القطر) الجانب و الناحية و (السجف) بالفتح و الكسر الستر و الجمع سجوف و أسجاف و (الحنادس) جمع الحندس وزان زبرج اللّيل شديد الظلمة و (اليفاع) و اليفع محرّكة التلّ و (السفع) بالضمّ جمع سفعة و هو من الألوان ما اشرب حمرة و (المسقط) اسم مكان كمقعد و مجلس.

و (الأنواء) جمع نوء و هو سقوط النجم من منازل القمر الثمانية و العشرين في المغرب من الفجر و طلوع رقيبه من المشرق مقابلا له من ساعته و ستعرف زيادة تحقيق له في بيان المعنى و (اللّهوات) و اللّهيات جمع اللّهاة و هي اللّحمة المشرفة على الحلق أو بين منقطع اصل اللّسان و منقطع القلب من أعلى الفم و (ارجحنّ) يرجحنّ كاقشعرّ مال و اهتزّ و عن الجزرى أرجحنّ الشي‏ء إذا مال من ثقله و تحرّك.

الاعراب

من في قوله: و العمل الصّالح من خلقه، ابتدائيّة نشويّة، و قوله: فى مختلف فجاج آه، متعلّق بالحيران أو بقوله: يستدلّ، قوله: لم يمنع ضوء نورها ادلهمام، في أكثر النسخ برفع ادلهمام على أنّه فاعل يمنع و نصب ضوء على أنّه مفعوله، و في بعض النسخ بالعكس قال الشارح المعتزلي: و هذا أحسن و ستعرف وجه الحسن في بيان المعنى.
و أو في قوله: أو عرش و ما بعدها بمعنى الواو، و قوله: لا يحدّ بأين قال الشارح المعتزلي: لفظة أين في الأصل مبنيّة على الفتح فاذا نكرتها صارت اسما متمكّنا من الاعراب، و إن شئت قلت بأنّه عليه السّلام تكلّم بالاصطلاح الحكمى و الأين عندهم حصول الجسم في المكان و هو أحد المقولات العشر و قوله: في حجرات القدس، إمّا متعلّق بالمقرّبين أو بمرجحتين، و الأوّل أقرب لفظا و الثاني معني، و الاضافة في قوله: أمد حدّه، بيانيّة و قوله: بالفناء متعلّق بقوله: ينقضي

المعنى

قال السيّد ره (روى عن نوف) بن فضالة (البكالى) الحميرى انّه (قال خطبنا بهذه الخطبة أمير المؤمنين عليه السّلام بالكوفة) الظاهر أنّ المراد بجامع الكوفة (و هو قائم على حجارة نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومى) و هو ابن اخت أمير المؤمنين عليه السّلام و امّه امّ هاني بنت أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم و أبوه كما قاله السيّد ره: هبيرة و هو ابن أبي وهب بن عمرو بن عايذ بن عمران بن مخزوم، و كان فارسا شجاعا فقيها والى خراسان من جانب أمير المؤمنين عليه السّلام، و من شعره الّذى يباهى فيه بنسبه قوله:

أبى من بنى مخزوم إن كنت سائلا
و من هاشم أمّى لخير قبيل‏

فمن ذا الّذى باهي علىّ بخاله‏
كخالى علىّ ذى الندى و عقيل‏

(و عليه عليه السّلام مدرعة) أى جبّة تدرّع بها (من صوف و حمائل سيفه من ليف) النخل‏(و في رجليه نعلان من ليف) أيضا و كفي بذلك زهدا (و كأنّ جبينه) من طول السجود (ثفنة بعير) و كفى به عناء و عبادة و قد ورثه منه عليه السّلام ابن ابنه علىّ بن الحسين زين العابدين و سيّد الساجدين صلوات اللّه عليه و على آبائه و أبنائه أجمعين حتّى اشتهر و لقّب بالسجّاد ذى الثفنات قال دعبل الخزاعى في قصيدته المعروفة:

ديار علىّ و الحسين و جعفر
و حمزة و السجّاد ذى الثفنات‏

(فقال الحمد للّه الذى إليه مصائر الخلق و عواقب الأمر) أى إليه مرجع الخلايق في المبدأ و الماب و عواقب امرهم يوم الحساب كما قال تعالى: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ، و قال: وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ إنما أتى عليه السّلام بلفظ الجمع مع أنّ المصدر يصحّ إطلاقه على القليل و الكثير باعتبار كونه أى الجمع المضاف نصّا في العموم مفيدا لكون جميع رجوعات المخلوقات إليه سبحانه في جميع حالاتهم لافتقار الممكن الى الواجب و حاجته اليه في الوجود و البقاء و الفناء فهو أوّل الأوّلين و آخر الاخرين و إليه المصير و المنقلب.

(نحمده على عظيم احسانه) الذى أحسن إلينا به و هو معرفته و توحيده إذ لا إحسان أعظم من ذلك، و قول الشارح المعتزلي: إنه اصول نعمه كالحياة و القدرة و الشهوة و نحوها، و كذا قول الشارح البحراني إنه الخلق و الايجاد على وفق الحكمة و المنفعة فليسا بشي‏ء و يؤيّد ما قلناه تعقيبه بقوله (و نيّر برهانه) فانّ المراد به الأدلّة الواضحة الّتى أقامها في الافاق و الأنفس و من طريق العقل و النقل للدّلالة على ذاته و صفات جماله و جلاله (و نوامى فضله و امتنانه) أراد بها نعمه النامية الزاكية الّتي أفضل بها على عباده و امتنّ بها عليهم باقتضاء ربوبيّته و حفظا لبقاء النوع.

و قوله (حمدا يكون لحقه قضاء و لشكره أداء) من باب المبالغة في كمال ثنائه سبحانه كما في قولهم حمدا ملاء السماوات و الأرض، و إلّا فالحمد الّذي يقضي حقّه‏ و يؤدّى شكره على ما هو أهل له و مستحقّه فهو خارج عن وسع البشر كما عرفت تحقيق ذلك في شرح الفصل الأوّل من المختار الأوّل و شرح المختار السابع و السبعين أيضا (و إلى ثوابه مقرّبا) لأنّه سبحانه وعد الثواب للشاكر و قال: فاشكروني أشكركم، من باب المشاكلة أى اثيبكم على شكركم«» و معلوم أنه سبحانه منجز لوعده و من أوفي بعهده من اللّه (و لحسن مزيده موجبا) لأنه أخبر عن ايجاب الشكر لزيادة النعمة و وعد به و قال: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ، و معلوم أنه صادق في وعده لا يخلف الميعاد.

(و نستعين به استعانة) صادرة عن صميم القلب و كمال الرجا و الوثوق باعانته و لذلك وصفها بكونها مثل استعانة (راج لفضله مؤمّل لنفعه واثق بدفعه) فان المستعين المتّصف بهذه الأوصاف لا تكون استعانته إلّا على وجه الكمال إذ رجاه للفضل و أمله لايصال المنافع و وثوقه بدفع المضارّ إنما هو فرع المعرفة بفضله و إحسانه و بقدرته و قهره على كلّ شي‏ء، و بأنه لا رادّ لحكمه و لا دافع لقضائه و أنّ بيده خزائن الملك و الملكوت، و معلوم أنّ من عرف اللّه تعالى بذلك يكون طلبه للاعانة آكد و أشد، و هذه الأوصاف الثلاثة في الحقيقة مظنّة للاعانة باعتبار صفات العظمة و الكمال في المستعان.

ثمّ وصفها بوصفين آخرين هما مظنّة للاعانة باعتبار وصف الذّل و الاستكانة في المستعين و هو قوله (معترف له بالطوّل مذعن له بالعمل و القول) فانّ من اعترف لطوله و إفضاله و أذعن أى خضع و ذلّ و انقاد على ربوبيّته و أسرع إلى طاعته قولا و عملا فحقيق على الاعانة و جدير بالافضال.

ثمّ أردف ذلك بالاعتراف بالايمان الكامل فقال (و نؤمن به) ايمانا كاملا مستجمعا لصفات الكمال و انما يكون كذلك إذا كان مثل (ايمان من رجاه) للمطالب العالية (موقنا) بأنه أهله لقدرته على إنجاح المأمول و قضاء المسئول (و أناب إليه مؤمنا)علما منه بأنّ مرجع العبد إلى سيّده و معوّله إلى مولاه (و خنع) أى خضع (له مذعنا) بأنّ نفسه ذليل أسير في ربق الافتقار و الامكان و أنّ ربّه جليل متّصف بالعزّة و العظمة و السلطان (و أخلص له موحدا) اى أخلص له العبوديّة حال كونه معتقدا بوحدانيّته علما منه بأنّ من كان يرجو لقاء ربّه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربّه أحدا (و عظّمه ممجّدا) أى عظّمه بصفات العزّ و الكبرياء و الجلال حال التمجيد له بأوصاف القدرة و العظمة و الكمال (و لاذ به) أى لجأ إليه (راغبا مجتهدا) أى راغبا في الالجاء مجدّا في الرغبة و الالتجاء علما منه بأنّه الملاذ و الملجاء، هذا و لما حمد اللّه سبحانه و استعان منه و امن به أخذ في تنزيهه و تقديسه باعتبارات سلبيّة و إضافية هي غاية وصف الواصفين و منتهى درك الموحّدين فقال (لم يولد سبحانه فيكون في العزّ مشاركا) أى ليس له والد حتّى يكون له شريك في العزّ و الملك لجريان العادة بكون والد العزيز عزيزا غالبا (و لم يلد فيكون موروثا هالكا) أى ليس له ولد حتّى يهلك و يرثه ولده كما هو الغالب عادة من موت الوالد قبل الولد و وارثة الولد عنه و برهان تنزّهه سبحانه عنهما أنهما من لواحق الحيوانية المستلزمة للجسميّة فهو يفيد لنفي تولّده سبحانه عن شي‏ء و نفى تولّد شي‏ء عنه بالمعنى المعروف في الحيوان.

و يدلّ على تنزّهه سبحانه عن ذلك مطلقا ما رواه في البحار و الصافى من كتاب التوحيد للصّدوق بسنده عن وهب بن وهب القرشي قال: حدّثنى الصادق جعفر بن محمّد عن أبيه الباقر عن أبيه عليهم السّلام أنّ أهل البصرة كتبوا إلى الحسين بن علىّ عليه السّلام يسألونه عن الصّمد، فكتب إليهم: بسم اللّه الرّحمن الرّحيم أمّا بعد فلا تخوضوا فى القرآن و لا تجادلوا فيه و لا تتكلّموا فيه بغير علم، فقد سمعت جدّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: من قال في القرآن بغير علم فليتبوء مقعده في النار، و أنه سبحانه قد فسّر الصمد فقال اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ ثمّ فسّره فقال لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ، لم يلد لم يخرج منه شي‏ء كثيف كالولد و ساير الأشياء الكثيفة الّتى تخرج من المخلوقين و لا شي‏ء لطيف كالنفس‏ و لا ينشعب منه البدوات كالسنّة و النوم و الخطرة و الهمّ و الحزن و البهجة و الضحك و البكاء و الخوف و الرجاء و الرغبة و السّامة و الجوع و الشبع تعالى أن يخرج منه شي‏ء و أن يتولّد منه شي‏ء كثيف، أو لطيف، و لم يولد لم يتولّد من شي‏ء و لم يخرج من شي‏ء كما يخرج الأشياء الكثيفة من عناصرها كالشي‏ء من الشي‏ء و الدابّة من الدابّة، و النبات من الأرض، و الماء من الينابيع، و الثمار من الأشجار، و لا كما تخرج الأشياء اللطيفة من مراكزها كالبصر من العين، و السّمع من الاذن، و الشمّ من الانف، و الذوق من الفم، و الكلام من اللسان، و المعرفة و التميز من القلب، و كالنار من الحجر، لا بل هو اللّه الصّمد الّذى لا من شي‏ء و لا في شي‏ء و لا على شي‏ء، مبدع الأشياء و خالقها و منشي‏ء الأشياء بقدرته يتلاشى ما خلق للفناء بمشيّته و يبقي ما خلق للبقاء بعلمه، فذلكم اللّه الصمد الّذى لم يلد و لم يولد عالم الغيب و الشهادة الكبير المتعال، و لم يكن له كفوا أحد (و لم يتقدّمه وقت و لا زمان) قال الشارح المعتزلي: الوقت هو الزمان و إنما خالف بين اللفظين و أتى بحرف العطف تفنّنا، و قال الشارح البحراني: الوقت جزء الزمان، و قال العلّامة المجلسي ره: و يمكن حمل أحدهما على الموجود و الاخر على الموهوم، و على أىّ تقدير فهو خالقهما و مبدعهما و مقدّم عليهما فكيف يتصوّر تقدّمهما عليه تعالى.
(و لم يتعاوره) أى لم يختلف و لم يتناوب عليه (زيادة و لا نقصان) لاستلزامهما التغير المستلزم للامكان المنزّه قدسه عزّ و جلّ عنه.

فان قلت: كان اللّازم أن يقال زيادة و نقصان لأنّ التعاور يقتضي الضدّين معا كما أنّ الاختلاف كذلك تقول: لم يختلف زيد و عمرو و لا تقول لم يختلف زيد و لا عمرو.
قلت: أجاب عنه الشارح المعتزلي بأنّ مراتب الزيادة لما كانت مختلفة جاز أن يقال: لا يعتوره الزيادة، و كذلك القول في جانب النقصان و جرى كلّ واحد من النوعين مجرى أشياء متنافية يختلف على الموضع الموصوف بها.

(بل ظهر للعقول) و تجلّى للبصائر (بما أرانا من علامات التدبير المتقن) المحكم (و) آيات (القضاء المبرم) في الأنفس و الافاق في أصناف الموجودات و أنواع المصنوعات المبدعة على أحسن نظام و أتقن انتظام على ما عرفت تفصيلا و تحقيقا في شرح المختار التاسع و الأربعين.

و نزيد عليه ايضاحا و تاكيدا ما قاله الصادق عليه السّلام للمفضل بن عمر في حديثه المعروف: يا مفضّل أوّل العبر و الأدلّة على البارى جلّ قدسه تهيئة هذا العالم و تأليف أجزائه و نظمها على ما هى عليه، فانّك إذا تأمّلت العالم بفكرك و ميّزته بعقلك وجدته كالبيت المبنىّ المعدّ فيه جميع ما يحتاج إليه عباده، فالسّماء مرفوعة كالسّقف و الأرض ممدودة كالبساط، و النجوم منضودة كالمصابيح، و الجواهر مخزونة كالذخائر، و كلّ شي‏ء فيها لشأنه معدّ، و الانسان كالمملك ذلك البيت و المخوّل جميع ما فيه، و ضروب النبات مهيّأة لماربه، و صنوف الحيوان مصروفة فى مصالحه و منافعه، ففي هذا دلالة واضحة على أنّ العالم مخلوق بتقدير و حكمة و نظام و ملايمة و أنّ الخالق له واحد، و هو الّذى ألفه و نظمه بعضا إلى بعض جلّ قدسه و تعالى جدّه و كرم وجهه و لا إله غيره، تعالى عمّا يقول الجاحدون و جلّ و عظم عما ينتحله الملحدون، هذا.

و لما ذكر اجمالا أنّه تعالى تجلّي للعقول بما أظهر من آيات القدرة و علامات التدّبر أراد أن يشير إلى بعض تلك الايات تفصيلا و هو خلق السماوات.
فقال (فمن شواهد خلقه) أى آيات الابداع و علامات التدبّر المحكم أو ما يشهد من الخلق بوجوده سبحانه و تدبيره و علمه أو ما حضر من خلقه أى ظهر وجوده بحيث لا يمكن لاحد إنكاره من آيات تدبيره تعالى (خلق السماوات) و تخصيصها من بين ساير الشواهد بالبيان لكونها من أعظم شواهد القدرة، و أظهر دلايل الرّبوبيّة، و أوضح علائم التدبير حيث خلقت (موطدات) أى محكمات الخلقة مثبتات في محالها على وفق النظام و الحكمة (بلا عمد) ترونها و لا دسار ينتظمها (قائمات) في الجوّ (بلا سند) يكون عليه استنادها و به اعتمادها (دعاهنّ) سبحانه فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِياطَوْعاً أَوْ كَرْهاً (فأجبن طائعات) كما قال حكاية عنها و عن الأرض: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ و لفظ الدّعا و الاجابة في كلام الامام عليه السّلام إمّا محمولان على حقايقهما نظرا إلى أنّ للسّماوات أرواحا مدبّرة عاقلة كما هو قول بعض الحكماء و المتكلّمين أو نظرا إلى أنّه تعالى خاطبها و أقدرها على الجواب.

و إمّا محمولان على المجاز و الاستعارة تشبيها لتأثير قدرته تعالى فيها و تأثّرها عنها بأمر المطاع و إجابة المطيع الطائع كقوله: كُنْ فَيَكُونُ، و هذا هو الأظهر و يؤيّده ما حكي عن ابن عباس في تفسير الاية المتقدّمة أعني قوله: أَتَيْنا طائِعِينَ، أنه قال أتت السماء بما فيها من الشمس و القمر و النجوم، و أتت الأرض بما فيها من الأنهار و الأشجار و الثمار، و ليس هناك أمر ما بقول حقيقة و لا جواب لذلك القول بل أخبر سبحانه عن اختراعه للسماوات و الأرض و إنشائه لهما من غير تعذّر و لا كلفة و لا مشقّة بمنزلة ما يقال افعل فيفعل من غير تلبّث و لا توقّف و لا تأنّ و هو كقوله: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.

و من ذلك علم أنّ قوله: (مذعنات غير متلكّئات و لا مبطئات) أراد به انقيادهنّ من غير توقّف و لا إبطاء في الاصابة و خضوعهنّ في رقّ الامكان و الحاجة و اعترافهنّ بلسان الذّل و الافتقار بوجوب وجود مبدعها و عظمة سلطان مبدئها.
(و لولا) اعترافهنّ و (اقرارهنّ له بالربوبيّة) و القدرة و العظمة و لأنفسهنّ بالامكان و الذلّ و الحاجة (و اذعانهنّ بالطواعية) و الامتثال لبارئهنّ (لما جعلهنّ موضعا لعرشه) قال الشارح البحراني إقرارهنّ بالرّبوبيّة راجع إلى شهادة لسان الحال الممكن بالحاجة إلى الرّب و الانقياد لحكم قدرته، و ظاهر أنه لو لا امكانها و انفعالها عن قدرته و تدبيره لم يكن فيها عرش و لم يكن أهلا لسكنى الملائكة و صعود الكلم الطيّب المشار اليه بقوله (و لا مسكنا لملائكته) و لعلّ المراد بهم المقرّبون أو الأكثر لأنّ منهم من يسكن الهواء و الأرض و الماء (و لا مصعدا للكلم الطيّب) و هو شهادة أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم (و العمل الصالح) الصادر (من خلقه) و هوالخيرات و الحسنات من الفرائض و المندوبات.

و المراد لصعودهما صعود الكتبة بصحايف الأعمال إليها و إليه الاشارة بقوله سبحانه و تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ، هذا و قد تقدّم في تذييلات الفصل الثامن من الخطبة الأولى و في شرح الفصل الرابع من الخطبة التسعين فصل واف في عجائب خلقة السماء و ما أبدعه اللّه سبحانه فيها من دلائل القدرة و آيات التدبير و الحكمة فانظر ما ذا ترى، و لشرافتها و كون مادّتها أقبل خصّ عليه السّلام هنا طاعتها بالذكر و إن كانت الأرض مشاركة لها في الطاعة مذكورة معها في الاية.

و لما ذكر خلق السماوات و كونها من شواهد الرّبوبيّة و أدلّة التوحيد استطرد إلى ذكر النجوم و الكواكب لما فيها من بدايع التدبير و عجايب التقدير، و قد مرّ في الفصل الثامن من فصول المختار الأوّل و الفصل الرابع من المختار التسعين و شرحيهما منه عليه السّلام و منّا جملة وافية من الكلام عليها و أشار هنا إلى بعض منافعها فقال: (جعل نجومها أعلاما يستدلّ بها الحيران) أى جعلها علامات يهتدى بها المتحيّرون كما قال عزّ من قائل: وَ عَلاماتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (في مختلف فجاج الأقطار) أى يستدلّ بها الحيارى في اختلاف فجاج الأقطار و تردّدها، أو في محلّ اختلافها أو في حال مخالفة الفجاج الموجودة في أقطار الأرض و نواحيها و ذهاب كلّ منها إلى جهة غير ما يذهب إليه الاخر.
(لم يمنع ضوء نورها ادلهمام سجف الليل المظلم) أى شدّة ظلمة ستر اللّيل ذى الظلمة لم تكن مانعة من إضاءة النجوم، و على رواية ادلهمام بالنصب فالمعنى أنّ ضوء نورها لم يمنع من ظلمة الليل.
(و لا استطاعت جلابيب سواد الحنادس) أى أثواب سواد الليال المظلمة شديدة الظلمة لم تكن مستطيعة من (أن تردّ ما شاع) و ظهر (في السماوات من تلألؤ نورالقمر) و لمعانه.

قال الشارح المعتزلي بعد روايته عن البعض نصب لفظ الادلهمام: و هذه الرواية أحسن في صناعة الكتابة لمكان الازدواج أى لا القمر و الكواكب تمنع الليلة من الظلمة، و لا الليل يمنع الكواكب و القمر من الاضاءة أقول: و محصّل مقصود الامام عليه السّلام إنّ اللّه سبحانه لما قدّر بلطيف حكمته أن يجعل الليل سباتا و راحة للخلق جعلها مظلمة لأنّ كثيرا من الناس لو لا ظلمتها لم يكن لهم هدء و لا قرار حرصا على الكسب و الجمع و الادخار مع عظم حاجتهم إلى الهدؤ و الراحة لسكون أبدانهم و جموم حواسّهم و انبعاث القوّة الهاضمة لهضم الطعام و تنفيذ الغذاء إلى الأعضاء و لما كان شدّة ظلمتها و كونها داحية مدلهمة مانعة عن جميع الأعمال و ربما كان الناس محتاجين إلى العمل فيها لضيق الوقت عليهم في تقضى الأعمال بالنهار أو شدّة الحرّ و إفراطه المانع من الزرع و الحرث و قطع الفيافي و الأسفار جعل ببديع صنعه فيها كواكب مضيئة و قمرا منيرا و ليهتدى بها في ظلمات البرّ و البحر و الطرق المجهولة، و يقام بالأعمال من الزرع و الغرس و الحرث و غيرها عند مسيس الحاجة، و جعل نورها ناقصا من نور الشمس كيلا يمنع من الهدؤ و الراحة.

(فسبحان من) جعل النور و الظلام على تضادّهما منقادين متظاهرين على ما فيه صلاح العالم و قوامه و سبحان من هو بكلّ شي‏ء محيط حتّى لا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض و لا في السماء و (لا يخفى عليه سواد غسق داج) أى ظلمة مظلمة و العطف للمبالغة من قبيل شعر شاعر (و لا ليل ساج) أى ساكن و فى الاسناد توسّع باعتبار سكون الناس و هدؤهم فيها (في بقاع الأرضين المتطاطئات) المنخفضات (و لا في يفاع السفع المتجاورات) أى في مرتفع الجبال المتجاورة و انما عبر عن الجبال بالسفع لأنّ لونها غالبا مشرب حمرة، و لا يخفى ما فيما بين لفظ البقاع و اليفاع من جناس الخط و هو من محاسن البديع حسبما عرفته في ديباجة الشرح.

(و) لا يخفي عليه عزّ و جلّ أيضا (ما يتجلجل) و يصوت (به الرّعد في افق السماء) و أراد بتجلجله تسبيحه المشار إليه في قوله تعالى: وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ قال الطبرسى: تسبيح الرّعد دلالته على تنزيه اللّه تعالى و وجوب حمده فكأنه هو المسبّح، و قيل: إنّ الرّعد هو الملك الّذى يسوق السحاب و يزجره بصوته فهو يسبّح اللّه و يحمده.

و قال الرازى: في قوله تعالى وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ أقوال: الاول أنّ الرّعد اسم ملك من الملائكة و الصّوت المسموع هو صوت ذلك الملك بالتسبيح و التهليل عن ابن عباس، أنّ اليهود سألت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن الرّعد ما هو فقال: ملك من الملائكة موكّل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء اللّه قالوا: فما الصّوت الّذى نسمع قال: زجره السحاب، و عن الحسن أنّه خلق من خلق اللّه ليس بملك فعلى هذا القول الرّعد هو الملك الموكّل بالسحاب و صوته تسبيح اللّه تعالى و ذلك الصّوت أيضا يسمى بالرّعد و يؤكّد هذا ما روى عن ابن عباس كان اذا سمع الرّعد قال: سبحان الّذى سبّحت له، و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّ اللّه ينشى‏ء السحاب الثقال فينطق أحسن المنطق و يضحك أحسن الضحك، فنطقه الرّعد و ضحكه البرق و اعلم أنّ هذا القول غير مستبعد، و ذلك لأنّ عند أهل السنّة البنية ليست شرطا لحصول الحياة، فلا يبعد من اللّه تعالى أن يخلق الحياة و العلم و القدرة و النطق في أجزاء السحاب، فيكون هذا الصوت المسموع فعلا له.

و كيف يستبعد ذلك و نحن نرى أنّ السمندر يتولّد في النار، و الضفادع تتولّد في الماء البارد، و الدودة العظيمة ربما تتولّد في الثلوج العظيمة.
و أيضا فاذا لم يبعد تسبيح الجبال في زمن داود عليه السّلام و لا تسبيح الحصى في زمان محمّد صلّى اللّه عليه و آله فكيف يستبعد تسبيح السحاب.
و على هذا القول فهذا الشي‏ء المسمّى بالرّعد ملك أو ليس بملك فيه قولان:

أحدهما أنّه ليس بملك لأنّه عطف عليه الملائكة فقال: و الملائكة من خيفته.
و الثاني أنّه لا يبعد أن يكون من جنس الملائكة و إنما حسن إفراده بالذكر على سبيل التشريف كما في قوله: وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ، و في قوله: وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ.

القول الثاني أنّ الرّعد اسم لهذا الصوت المخصوص و مع ذلك فانّ الرّعد يسبّح اللّه سبحانه، لأنّ التسبيح و التقديس و ما يجرى مجراها ليس إلّا وجود لفظ يدلّ على حصول التنزيه و التقديس للّه سبحانه و تعالى، فلما كان هذا الصّوت دليلا على وجود موجود متعال عن النقص و الامكان كان ذلك في الحقيقة تسبيحا و هو معنى قوله: وَ إِنْ مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ.

و القول الثالث أنّ المراد من كون الرّعد مسبّحا أنّ من يسمع الرّعد فانّه يسبّح اللّه تعالى، فلهذا المعنى اضيف هذا التسبيح إليه.
(و) لا يعزب عنه (ما تلاشت) و اضمحلّت عنه (بروق الغمام) يعني أنّه سبحانه عالم بالأقطار التي يضمحلّ عنها البرق بعد ما كانت مضيئة به، و تخصيص ما تلاشت عنه بالذكر مع اشتراك غير المتلاشية عنه معه في إحاطة علمه سبحانه به كالأوّل، لأنّ علمه بما ليس بمضيّ بالبرق أعجب و أغرب، و أمّا ما هو مضىّ به و لم يضمحل عنه فيمكن إدراك غيره سبحانه له من اولى الأبصار الصحيحة، هذا.

و أعجب من ذلك ما في نفس البرق من عظيم القدرة و دلالته على عظمة بارئه.
قال الفخر الرازي: و اعلم أنّ أمر الصاعقة عجيب جدّا، و ذلك لأنّها نار تتولّد من السحاب و إذا نزلت من السحاب فربما غاصت في البحر و أحرقت الحيتان في قعر البحر و الحكماء بالغوا في وصف قوّتها، و وجه الاستدلال أنّ النار حارّة يابسة و طبيعتها ضدّ طبيعة السحاب، فوجب أن تكون طبيعتها في الحرارة و اليبوسة أضعف من طبيعة النيران الحادثة عندنا، لكنه ليس الأمر كذلك، فانها أقوى نيران هذا العالم، فثبت أنّ اختصاصها بمزيد تلك القوّة لا بدّ و أن يكون بسبب تخصيص الفاعل‏المختار (و) لا يغيب عنه (ما تسقط من ورقة تزيلها عن مسقطها عواصف الأنواء و انهطال السماء) أى الرياح الشديدة المنسوبة إلى الأنواء و انصباب الأمطار.

و النّوء سقوط نجم من منازل القمر الثمانية و العشرين الّتي عرفتها تفصيلا في شرح الفصل الرابع من فصول المختار التسعين في المغرب«» مع الفجر و طلوع رقيبه من المشرق من ساعته مقابلا له في كلّ ليلة إلى ثلاثة عشر يوما، و هكذا كلّ نجم منها إلى انقضاء السنة إلّا الجبهة فانّ لها أربعة عشر يوما.
و فى البحار من معاني الأخبار مسندا عن الباقر عليه السّلام قال: ثلاثة من عمل الجاهلية: الفخر بالانساب، و الطعن في الأحساب، و الاستسقاء بالأنواء.

قال الصّدوق (ره) أخبرني محمّد بن هارون الزنجاني عن عليّ بن عبد العزيز عن أبي عبيد أنّه قال: سمعت عدّة من أهل العلم يقولون: إنّ الأنواء ثمانية و عشرون نجما معروفة المطالع في أزمنة السنة كلّها من الصّيف و الشتاء و الرّبيع و الخريف، يسقط منها في كلّ ثلاث عشرة ليلة نجم في المغرب مع طلوع الفجر و يطلع آخر يقابله في المشرق من ساعته، و كلاهما معلوم مسمّى و انقضاء هذه الثمانية و العشرين كلّها مع انقضاء السنة، ثمّ يرجع الأمر إلى النجم الأوّل مع استيناف السنة المقبلة و كانت في الجاهلية إذا سقط منها نجم و طلع آخر قالوا: لا بدّ أن يكون عند ذلك رياح و مطر، فينسبون كلّ غيث يكون عند ذلك إلى ذلك النجم الذي يسقط حينئذ فيقولون مطرنا بنوء الثريّا و الدّبران و السماك، و ما كان من هذه النجوم فعلى هذا فهذه هي الأنواء واحدها نوء و إنما سمّى نوء لأنه إذا سقط الساقط منها بالمغرب ناء الطالع بالمشرق بالطلوع و هو ينوء نوء، و ذلك النهوض هو النوء فسمّى النجم به و كذلك كلّ ناهض ينتقل بابطاء فانّه ينوء عند نهوضه، قال اللّه تبارك و تعالى: إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ.

و فيه عن الجزرى في النهاية قال: قد تكرّر ذكر النوء و الأنواء في الحديث و منه الحديث: مطرنا بنوء كذا قال: و إنما غلّظ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في أمر الأنواء، لأنّ‏العرب كانت تنسب المطر إليها، فأما من جعل المطر من فعل اللّه و أراد بقوله مطرنا بنوء كذا أى في وقت كذا و هو هذا النوء الفلانى فانّ ذلك جايز، أى إنّ اللّه تعالى قد أجرى العادة أن يأتي المطر في هذه الأوقات، انتهى.

و قال ابن العربى من انتظر المطر منها على أنها فاعلة من دون اللّه أو يجعل اللّه شريكا فيها فهو كافر. و من انتظر منها على اجراء العادة فلا شي‏ء عليه هذا و من ذلك كلّه علم أنّ إضافته عليه السّلام العواصف إلى الأنواء من جهة أنّ العرب تضيف الاثار العلويّة من الرّياح و الأمطار و كذلك الحرّ و البرد إليها (و يعلم مسقط القطرة و مقرّها) أى محلّ سقوطها و موضع قرارها (و مسحب الذّرة و مجرّها) أى محلّ سحب صغار النمل و جرّها (و ما يكفى البعوضة من قوتها) قال الدّميرى في حياة الحيوان: البعوضة واحدة البعوض و البعوض على خلقة الفيل إلّا أنّه أكثر أعضاء من الفيل، فانّ للفيل أربع أرجل و خرطوما و ذنبا، و له مع هذه الأعضاء رجلان زايدتان و أربعة أجنحة، و خرطوم الفيل مصمت و خرطومه مجوّف نافذ للجوف فإذا طعن به جسد الانسان استقى الدّم و قذف به جوفه فهو له كالبلعوم و الحلقوم و لذلك اشتدّ عضّها و قويت على خرق الجلود الغلاظ، و مما ألهمه اللّه أنّه اذا جلس على عضو من أعضاء الانسان لا يزال يتوخّى بخرطومه المسام الّتى يخرج منها العرق لأنّها أرقّ بشرة من جلد الانسان فاذا وجدها وضع خرطومه فيها، و فيه من الشره أن يمصّ الدّم إلى أن ينشقّ و يموت أو إلى أن يعجز عن الطيران و ذلك سبب هلاكه.

قال: و البعوضة على صغر جرمها قد أودع اللّه في مقدم دماغها قوّة الحفظ و في وسطه قوّة الفكر، و في مؤخّره قوّة الذكر، و خلق لها حاسّة البصر، و حاسّة اللّمس، و حاسّة الشم، و خلق لها منفذا للغذاء، و مخرجا للفضلة، و خلق لها جوفا و أمعاء و عظاما، فسبحان من قدّر فهدى، و لم يخلق شيئا من المخلوقات سدى.

(و) يعلم (ما تحمل الانثى) من البعوضة و من غيرها (في بطنها) كما قال‏عزّ من قائل: وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ.
ثمّ عاد إلى حمد اللّه سبحانه باعتبار تقدّم وجوده على ساير مخلوقاته فقال (و الحمد للّه الكائن) أى الموجود (قبل أن يكون كرسيّ أو عرش أو سماء أو أرض أو جانّ أو انس) لا يخفى ما في هذه العبارة من حسن التأدية.

و المراد بالجانّ إما إبليس أو أبو الجنّ، و بهما فسّر قوله تعالى: وَ الْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ، قال الرازى في تفسير هذه الاية: اختلفوا في أنّ الجانّ من هو قال عطا عن ابن عباس: يريد إبليس و هو قول الحسن و مقاتل و قتادة و قال ابن عباس في رواية اخرى: الجانّ هو أبو الجنّ و هو قول الأكثرين و سمّى جانا لتواريه عن الأعين كما سمّى الجنّ جنّا لهذا السّبب و الجنين متوار في بطن أمّه و معنى الجانّ في اللّغة الساتر من جنّ الشي‏ء إذا ستر فالجانّ المذكور هنا يحتمل أن يكون جانا لانه يستر نفسه عن بني آدم، أو يكون الفاعل يراد به المفعول كما في ماء دافق و عيشة راضية.

و في البحار من العلل و العيون عن الرضا عن آبائه عليهم السّلام قال: سأل الشاميّ أمير المؤمنين عليه السّلام عن اسم أبى الجنّ فقال شومان و هو الّذى خلق من مارج.
قال الطبرسي: من مارج من نار أى نار مختلط أحمر و أسود و أبيض عن مجاهد و قيل المارج الصافي من لهب النار الّذي لا دخان فيه.

و قال البيضاوي في تفسير قوله: مِنْ نارِ السَّمُومِ، من نار شديد الحرّ النافذ في المسام و لا يمتنع خلق الحياة في الأجرام البسيط كما لا يمتنع خلقها في الجواهر المجرّدة فضلا عن الاجساد المؤلّفة الّتي الغالب فيها الجزء النارى فانها أقبل لها من الّتي الغالب فيها الجزء الارضي، و قوله: مِنْ نارٍ، باعتبار الغالب كقوله: خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ.
ثمّ نزهه تعالى باعتبارات سلبيّة أحدها أنّه (لا يدرك بوهم) كما نقل عن الباقر عليه السّلام من قوله: كلّما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه فهو مخلوق مثلكم مردود إليكم.

(و) الثاني أنه (لا يقدّر بفهم) أى لا يحدّ بفهم العقول، و المراد به و بسابقه تنزيهه سبحانه عن إدراك العقول و الأوهام لذاته و قصورها عن الوصول إلى حقيقته، و قد مرّ برهان ذلك في شرح الفصل الثاني من الخطبة الأولى و غيره أيضا.

و أقول هنا إنّ الجملة الثّانية يحتمل أن تكون تأكيدا للجملة الأولى، و يحتمل أن تكون تأسيسا.
أما التأسيس فعلى أن يراد بالجملة الاولى عدم إمكان إدراك القوّة الوهميّة له و هى قوّة جسمانيّة للانسان محلّها آخر التجويف الأوسط من الدّماغ من شأنها إدراك المعاني الجزئية المتعلّقة بالمحسوسات كشجاعة زيد و سخاوته، و هذه القوّة هي الّتي تحكم في الشاة بأنّ الذئب مهروب عنه و أنّ الولد معطوف عليه، و هى حاكمة على القوى الجسمانية كلّها مستخدمة إياها استخدام العقل للقوى العقليّة، و يراد بالجملة الثانية عدم امكان تقديره و تحديده بالقوّة العقلية.

أمّا عدم إمكان إدراك الأوهام له فلأنّ مدركاتها منحصرة على عالم المحسوسات و الأجسام و الجسمانيات، و اللّه سبحانه متعال عن ذلك.
و أمّا عدم إمكان تحديد العقول فلأنّه«» لا جزء له و ما لا جزء له لا حدّ له حتّى يمكن تحديده.
و أيضا فهو سبحانه غاية الغايات فليس لذاته حدّ و نهاية حتّى يكون له حدّ معيّن و قدر معلوم يمكن تقديره و تحديده كما لساير الممكنات، قال عزّ من قائل: وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.

و قال أمير المؤمنين عليه السّلام في خطبة له مروية عن التوحيد لما شبهه العادلون بالخلق المبعض المحدود في صفاته ذي الأقطار و النواحى المختلفة في طبقاته و كان عزّ و جل الموجود بنفسه لا بأداته انتفى أن يكون قدّروه حقّ قدره فقال تنزيها لنفسه عن مشاركة الانداد و ارتفاعها عن قياس المقدّرين له بالحدود من كفرة العباد: وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.

فقد علم بذلك أنّه لا يقدّر بالحدود و النهايات الجسمانيّة كما أنه لا يقدّر و لا يحدّ بالحدّ العقلى المركّب من الجنس و الفصل و أما التأكيد فعلى أن يراد بالوهم في الجملة الأولى المعنى الأعمّ من القوّة الوهميّة المتعلّقة بالمحسوسات جميعا و القوّة العقليّة المتعلّقة بالمعقولات و اطلاق الوهم على ذلك المعنى شايع في الاستعمال وارد فى كثير من الأخبار.

قال بعض المحققين: اعلم أنّ جوهر الوهم بعينه هو جوهر العقل و مدركاته بعينه هو مدركات العقل، و الفرق بينهما بالقصور و الكمال، فما دامت القوّة العقليّة ناقصة كانت ذات علاقة بالموادّ الحسيّة منتكسة النظر إليها لا تدرك المعاني إلّا متعلّقة بالموادّ مضافة إليها، و ربما تذعن لأحكام الحسّ لضعفها و غلبة الحواسّ و المحسوسات عليها، فتحكم على غير المحسوس حكمها على المحسوس، فما دامت في هذا المقام اطلق عليها اسم الوهم، فاذا استقام و قوى صار الوهم عقلا و خلص عن الزيغ و الضلال و الافة و الوبال، انتهى.

و على ذلك فيكون المقصود بالفهم في الجملة الثانية المعنى الأعمّ أيضا، و يكون حاصل المراد بالجملتين عجز الأوهام أى القوّة الوهميّة و العقليّة جميعا عن إدراك ذاته و تعقّل حقيقته، لأنّ تعقّله إمّا بحصول صورة مساوية لذاته تعالى، أو بحضور ذاته المقدّسة و شهود حقيقته، و الأوّل محال إذ لا مثل لذاته و كلّ ما له مثل أو صورة مساوية له فهو ذو ماهيّة كلّية و هو تعالى لا ماهيّة له،

و الثاني محال أيضا إذ كلّ ما سواه من العقول و النفوس و الذّوات و الهويّات فوجوده منقهر تحت جلاله و عظمته و سلطانه القهار عين الخفاش في مشهد نور الشمس، فلا يمكن للعقول لقصورها عن درجة الكمال الواجبى إدراك ذاته على وجه الاكتناه و الاحاطة بنعوت جلاله و صفات جماله.
فاتّضح من ذلك كلّه أنّه سبحانه لا يدرك بالأوهام، و لا يقدّر بالأفهام جلّ شأنه و عظم سلطانه.

(و) الثالث أنّه (لا يشغله سائل) عن سائل آخر كما يشغل السائل من المخلوق‏عن توجّهه إلى سائل آخر، و ذلك لقصور ذواتنا و قدرتنا و علمنا، و أمّا اللّه الحيّ القيّوم فلكمال ذاته و عموم قدرته و إحاطته فلا يمنعه سؤال عن سؤال و لا يشغله شأن عن شأن.

ألا ترى أنّه يرزق الخلايق جميعا على قدر استحقاقهم في ساعة واحدة، و كذا يحاسبهم يوم القيامة دفعة كما قال عزّ من قائل في سورة النحل: وَ ما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ، أي كرجع الطرف على الحدقة إلى أسفلها أو هو أقرب لأنه يقع دفعة و قال في سورة القمر: وَ ما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ، قال القمّى: يعنى يقول كن فيكون.

(و) الرابع أنه (لا ينقصه نائل) و عطاء كملوك الدّنيا إذ مقدوراته تعالى غير متناهية فكرمه لا يضيق عن سؤال أحد، و يده بالعطاء أعلى من كلّ يد، و هو نظير قوله في الفصل الأوّل من المختار التسعين: لا يعزّه المنع و الجمود و لا يكديه الإعطاء و الجود، و قد مرّ في شرحه رواية الحديث القدسى و هو قوله سبحانه: يا عبادى لو أنّ أوّلكم و آخركم و انسكم و جنّكم قاموا في صعيد واحد فسألونى فأعطيت كلّ إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندى شيئا إلّا كما ينقص المخيط إذا دخل البحر أى لا تنقصه شيئا فانّ المخيط و إن كان يرجع بشى‏ء محسوس قليل، لكنّه لقلّته لا يعدّ شيئا فكأنّه لم ينقص منه شي‏ء

(و) الخامس أنّه (لا ينظر بعين) أى ليس إدراكه بحاسّة البصر و إن كان بصيرا لتنزّهه عن المشاعر و الحواسّ.

(و) السادس أنه (لا يحدّ بأين) لأنّ الأين عبارة عن نسبة الجسم إلى المكان و هو سبحانه منزّه عن ذلك لبرائته عن التحيّز روى في البحار من التوحيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يهودى يقال له شجت فقال: يا محمّد جئت أسألك عن ربّك فان أجبتنى عما أسألك عنه و إلّا رجعت، فقال له: سل عما شئت، فقال: أين ربّك فقال: هو في كلّ مكان و ليس هو في شي‏ء من المكان بمحدود، قال: فكيف هو فقال: و كيف أصف ربّى بالكيف‏و الكيف مخلوق و اللّه لا يوصف بخلقه.

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أيضا من زعم أنّ اللّه من شي‏ء فقد جعله محدثا، و من زعم أنّه في شي‏ء فقد جعله محصورا، و من زعم أنه على شي‏ء فقد جعله محمولا قوله عليه السّلام: محصورا أى عاجزا ممنوعا عن الخروج عن المكان، أو محصورا بذلك الشي‏ء و محوّيا به فيكون له انقطاع و انتهاء فيكون ذا حدود و أجزاء و قوله: محمولا أى محتاجا إلى ما يحمله.

قال الصدوق ره: الدليل على أنّ اللّه عزّ و جلّ لا في مكان إنّ الأماكن كلّها حادثة و قد قام الدّليل على أنّ اللّه عزّ و جلّ قديم سابق للأماكن، و ليس يجوز أن يحتاج الغنى القديم إلى ما كان غنيّا عنه، و لا أن يتغيّر عما لم يزل موجودا عليه فصحّ اليوم أنه لا في مكان كما أنّه لم يزل كذلك و تصديق ذلك ما حدّثنا به القطان عن ابن زكريا القطان عن ابن حبيب عن ابن بهلول عن أبيه عن سليمان المروزى عن سليمان بن مهران قال: قلت لجعفر ابن محمّد عليه السّلام: هل يجوز أن نقول إنّ اللّه عزّ و جلّ في مكان فقال: سبحان اللّه و تعالى عن ذلك إنه لو كان في مكان لكان محدثا، لأنّ الكائن في مكان محتاج إلى المكان و الاحتياج من صفات الحدث لا القديم.

(و) السابع أنّه (لا يوصف بالأزواج) و هي نفى الكميّة المنفصلة عنه أى ليس فيه اثنينية و تعدّد.
و قال العلّامة المجلسى ره: أى لا يوصف بالأمثال أو الأضداد أو بصفات الأزواج أو ليس فيه تركب و ازدواج أمرين أو بأنّ له صاحبة.

(و) الثامن أنه (لا يخلق بعلاج) أى لا يحتاج في خلقه للمخلوقات إلى مزاولة و معالجة و آلة و حيلة كساير أرباب الصنائع، و إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.

(و) التاسع أنه (لا يدرك بالحواسّ) لاختصاص إدراكها بالأجسام و الجسمانيّات و اللّه سبحانه منزّه عن الجسميّة و لواحقها.روى في البحار من التوحيد عن عبد اللّه بن جوين العبدى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه كان يقول: الحمد للّه الذي لا يحسّ و لا يجسّ و لا يمسّ و لا يدرك بالحواسّ الخمس و لا يقع عليه الوهم و لا تصفه الألسن و كلّ شي‏ء حسسته الحواسّ أو لمسته الأيدى فهو مخلوق.

(و) العاشر أنه (لا يقاس بالنّاس) أى لا يشبه شيئا من خلقه في جهة من الجهات كما يزعمه المشبّهة و المجسّمة.
روى في البحار من التوحيد بسنده عن المفضّل بن عمر عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من شبّه اللّه بخلقه فهو مشرك إنّ اللّه تبارك و تعالى لا يشبه شيئا و لا يشبهه شي‏ء و كلّما وقع في الوهم فهو بخلافه.

قال الصّدوق (ره) الدّليل على أنّ اللّه سبحانه لا يشبه شيئا من خلقه من جهة من الجهات أنه لا جهة لشي‏ء من أفعاله إلّا محدثة، و لا جهة محدثة إلّا و هى تدلّ على حدوث من هى له، فلو كان اللّه جلّ ثناؤه يشبه شيئا منها لدلّت على حدوثه من حيث دلّت على حدوث من هى له، إذ المتماثلين في العقول يقتضيان حكما واحدا من حيث تماثلا منها و قد قام الدّليل على أنّ اللّه عزّ و جلّ قديم، و محال أن يكون قديما من جهة حادثا من اخرى.

و من الدّليل على أنّ اللّه تبارك و تعالى قديم أنّه لو كان حادثا لوجب أن يكون له محدث، لأنّ الفعل لا يكون إلّا بفاعل و لكان القول في محدثه كالقول فيه و في هذا وجود حادث قبل حادث لا الى أوّل و هو محال، فيصح أنّه لابدّ من صانع قديم و إذا كان ذلك كذلك فالّذي يوجب قدم ذلك الصانع و يدلّ عليه يوجب قدم صانعنا و يدلّ عليه.

و الحادى عشر أنّه متكلّم لا كتكلّم المخلوقين و إليه أشار بقوله (الّذي كلّم «ج 20»موسى) عليه السّلام في شاطى‏ء الوادي الأيمن في البقعة المباركة (تكليما) أتى به تأكيدا و دفعا لتوهم السامع التجوّز في كلامه سبحانه، و قد عرفت تحقيق معنى كلامه و كونه متكلّما في شرح المختار المأة و الثّامن و السبعين.

و قوله (و أراه من آياته عظيما) يحتمل أن يراد بها الايات التسع المشار إليها في قوله تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى‏ تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ، قال الصادق عليه السّلام: هى الجراد و القمّل و الضفادع و الدّم و الطوفان و البحر و الحجر و العصا و يده، رواه في الصّافي من الخصال عنه عليه السّلام و من العياشي عن الباقر عليه السّلام مثله.

و فيه من قرب الاسناد عن الكاظم عليه السّلام و قد سأله نفر من اليهود عنها فقال: العصا و إخراجه يده من جيبه بيضاء و الجراد و القمّل و الضفادع و الدّم و رفع الطور و المنّ و السلوى آية واحدة و فلق البحر قالوا: صدقت و أن يراد بها الايات الّتي ظهرت عند التكليم من سماع الصوت من الجهات السّت و من رؤيته نارا بيضاء تتقد من شجرة خضراء لا خضروية الشجر تطفى النار و لا النار توقد الشجرة.

قال الباقر عليه السّلام فأقبل نحو النّار يقتبس فاذا شجرة و نار تلتهب عليها فلما ذهب نحو النّار يقتبس منها أهوت إليه ففزع و عدا و رجعت النار إلى الشجرة فالتفت إليها و قد رجعت إلى الشجرة، فرجع الثانية ليقتبس فأهوت إليه فعدا و تركها ثمّ التفت و قد رجعت إلى الشجرة، فرجع إليها الثالثة فأهوت إليه فعدا و لم يعقّب أى لم يرجع فناداه اللّه عزّ و جلّ أَنْ يا مُوسى‏ إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ قال موسى: فما الدّليل على ذلك قال عزّ و جلّ: ما في يمينك يا موسى قال: هى عصاى قال: ألقها يا موسى فألقيها فاذا هى حيّة تسعى، ففزع منها و عدا فناداه اللّه عزّ و جلّ خذها و لا تخف انّك من الامنين، هذا.

و يؤيّد الاحتمال الثاني أى كون المراد من الايات الايات الظاهرة عند التكلّم قوله عليه السّلام (بلا جوارح و لا أدوات و لا نطق و لا لهوات) إذ الظاهر تعلّقه بالتكليم و على‏الاحتمال الاوّل يلزم الفصل بين المتعلّق و المتعلّق بالأجنبيّ.
و المراد به أنّ كلامه مع موسى ليس ككلام البشر صادرا عن الحنجرة و اللسان و اللهوات أى اللحمات في سقف أقصى الفم و عن مخارج الحروف و غيرها بل كلّم معه بأن أوجد الكلام في الشجرة كما هو صريح قوله سبحانه: فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى‏ هذا.

و في كلامه دلالة على عدم جواز وصفه بالنطق و لعلّه لصراحة النطق في إخراج الحروف من المخارج، بخلاف الكلام.
و يستفاد من خطبة له عليه السّلام آتية في الكتاب و مرويّة في الاحتجاج أيضا عدم جواز وصفه باللّفظ أيضا بخلاف القول حيث قال فيها: يخبر لا بلسان و لهوات و يسمع لا بخروق و أدوات يقول و لا يلفظ و يحفظ و لا يتحفّظ.
و لعلّ السّر فيه أيضا صراحة التلفظ في اعتماد اللفظ على مقطع الفم و استلزامه للأدوات دون القول.
ثمّ نبّه على عجز القوى البشريّة عن وصف كماله تعالى بقوله (بل إن كنت صادقا أيّها المتكلّف) أى المتحمّل للكلفة و المشقّة (لوصف ربّك) في وصفه (فصف) بعض خلقه و هو (جبرئيل و ميكائيل و جنود الملائكة المقرّبين) و الأمر للتعجيز كما في قوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ.

قال الشّارح البحراني: هى صورة قياس استثنائى متّصل نبّه به على عجز من يدّعى وصف ربّه كما هو، و تقديره إن كنت صادقا في وصفه فصف بعض خلقه و ينتج باستثناء نقيض تاليه أى لكنّك لا يمكنك وصف هؤلاء بالحقيقة فلا يمكنك وصفه تعالى، بيان الملازمة أنّ وصفه تعالى إذا كان ممكنا لك فوصف بعض آثاره أسهل عليك، و أما بطلان التالي فانّ حقيقة جبرئيل و ميكائيل و سائر الملائكة المقرّبين غير معلومة لأحد من البشر، و من عجز عن وصف بعض آثاره فهو عن وصفه أعجز.

أقول: و يشهد بما ذكره هنا من عدم امكان وصف الملائكة على ما هى عليه ما تقدّم منه عليه السّلام و منّا في الفصل الخامس من فصول المختار التسعين و شرحه، فقدمضى هناك أنموذج من وصف الملائكة يتحيّر فيه العقول و يدهش الافهام و يقشعرّ الجلود فكيف إذا أريد البلوغ إلى غاية أوصافهم.

و قوله (في حجرات القدس) أى منازل الطهارة عن العلاقات العنصريّة و مقارّ التنزّه عن تعلّقات النفس الأمّارة.
و قوله (مرجحنّين) أى خاضعين تحت سلطانه و عظمته و قال العلّامة المجلسي (ره) أى ما يلين إلى جهة التحت خضوعا لجلال البارى عزّ سلطانه، و يحتمل أن يكون كناية عن عظمة شأنهم و ازانة قدرهم أو عن نزولهم وقتا بعد وقت بأمره تعالى.

حالكونهم (متولّهة عقولهم) أى متحيّرة متشتّتة (أن يحدّوا أحسن الخالقين) أى يدركوا حقيقته بحدّ و يعرفوا كنه ذاته سبحانه و هو نظير قوله عليه السّلام في الفصل التاسع من المختار الأوّل: لا يتوهّمون ربّهم بالتصوير، و لا يجرون عليه صفات المصنوعين، و لا يحدّونه بالأماكن، و لا يشيرون إليه بالنظاير.

و لما نبّه على عجز العقول عن وصف كماله أردفه بالتنبيه على ما يدرك من جهة الوصف فقال (و انما يدرك بالصفات) و يعرف بالكنه (ذوو الهيئات و الأدوات) و الجوارح و الالات الّتي يحيط بها الأفهام، فيدركون و يعرفون من جهتها.
(و) كذا يدرك (من ينقضي إذا بلغ أمد حدّه بالفنا) أى من ينقضي و يفنى إذا بلغ غايته، فانه تقف الأفهام عليه و تحلّله إلى أجزائه فتطلع على كنهه، فأمّا اللّه سبحانه فلتنزّهه عن الهيئات و الصّفات الزائدة و وجوب وجوده و عدم امكان تطرّق الفناء و العدم عليه، فيستحيل الاطلاع على كنه ذاته و حقيقة صفاته.

ثمّ عقّب ذلك التنزيه بالتوحيد و قال: (فلا إله إلّا هو أضاء بنوره كلّ ظلام و أظلم بظلمته كلّ نور) لا يخفى حسن المقابلة و التطبيق بين القرينتين.
و النور و الظلام في القرينة الاولى يحتملان المحسوس و غيره، فان اريد به الظلام المحسوس فالمراد إضاءته بأنوار الكواكب و النيرين، و إن اريد به الظلام المعقول أعنى ظلمة الجهل فالمراد إضاءته بأنوار العلم و الشرائع.

و أمّا القرينة الثانية و المقصود بها أنّ جميع الأنوار المحسوسة أو المعقولة مضمحلّة في نور علمه و ظلام بالنسبة إلى نور براهينه في جميع مخلوقاته الكاشفة عن وجوده و كمال جوده هكذا قال الشارح البحراني.
و فيه إنه عليه السّلام لم يقل أظلم بنوره كلّ نور بل قال: أظلم بظلمته، و هو ينافي هذا المعنى فالأنسب أن يراد بالنور و الظلمة الوجود و العدم، و يصحّ ذلك التأويل في القرينة الاولى أيضا فيكون الاضاءة و الاظلام فيهما كنايتين عن الايجاد و الاعدام قيل: و يحتمل على بعد أن يكون الضمير في قوله: بظلمته، راجعا إلى كلّ نور لتقدّمه رتبة فيرجع حاصل الفقرتين حينئذ إلى أنّ النور هو ما ينسب إليه تعالى فتلك الجهة نور و أما الجهات الراجعة إلى الممكنات فكلّها ظلمة.

الترجمة

از جمله خطب شريفه آن حضرت است روايت شده از نوف بكالى كه گفته خطبه فرمود ما را باين خطبه أمير مؤمنان سلام اللّه عليه و آله در كوفه در حالتى كه ايستاده بود آن حضرت بر سنگي كه نصب كرده بود آن سنگ را از براى او جعدة بن هبيره مخزومى پسر خواهر آن حضرت در حالتى كه در تن مبارك او درّاعه از پشم و دوالهاى شمشير او از ليف خرما بود، و بر دو پاى آن حضرت بود نعليني از ليف و گويا پيشانى مبارك او از كثرت سجود مانند زانوى شتر بود پس فرمود آن بزرگوار: حمد و ثناء معبود بحقّى را سزاست كه بسوى او است بازگشتهاى مخلوقات و عواقب امورات، حمد مى ‏كنيم ما او را بر بزرگى احسان او و برهان نورانى او و بر افزونيهاى فضل و منت او چنان حمدى كه بشود از براى حقّ او قضا، و از براى شكر او أداء، و بسوى ثواب او نزديك كننده، و زيادتى نيكوئى او را واجب سازنده و طلب إعانت مى‏ كنيم از او مثل طلب اعانت كسى كه اميد دارنده فضل او باشد، آرزو كننده منفعت او، اعتماد كننده بدفع او، اعتراف كننده بافضال و كرم او، گردن‏نهنده بر او با كردار و گفتار.

و ايمان مى ‏آوريم او را مثل ايمان آوردن كسى كه اميدوار باشد باو در حالتى كه يقين كننده باشد، و باز گردد بسوى او در حالتى كه ايمان آورنده باشد، و خضوع خشوع كند او را در حالتى كه گردن نهنده باشد، و اخلاص ورزد از براى او در حالتى كه موحّد باشد، و تعظيم كند او را در حالتى كه تمجيد كننده شود، و پناه ببرد باو در حالتى كه رغبت كننده و سعى نماينده باشد.

متولد نشد حق سبحانه و تعالى تا اين كه در عزّت شريك داشته باشد، و پسر ندارد تا اين كه ميراث برده شده و هالك گردد، و مقدّم نشده بر او هيچ وقت و زماني و نوبه نوبه فراهم نيامده او را هيچ زيادتي و نقصاني، بلكه آشكار شد بعقلها با آنچه نمايان كرد ما را از علامات تدبير محكم و قضاء متقن.

پس از جمله شواهد خلق او است خلقت آسمانها در حالتى كه ثابت و محكم‏اند بى ‏ستونى، و ايستاده ‏اند بدون تكيه‏ گاهى دعوت فرمود آنها را پس اجابت كردند در حالتى كه اطاعت كننده بودند و انقياد نماينده بدون اين كه توقّف داشته باشند يا تأخير كننده باشند، و اگر نبود اقرار آنها بربوبيّت او و انقياد آنها بطاعت او نمى‏ گردانيد آنها را محلّ عرش خود، و نه مسكن از براى فرشتگان، و نه محلّ صعود كلمات طيّبات و أعمال صالحه از خلق.

گردانيد ستارهاى آسمانها را علامتها تا راه بيابد با آنها شخص متحيّر سرگردان در محل اختلاف راههاى أطراف زمين، مانع نشد از روشنى نور آن ستارها شدّت تاريكى شب تيره، و متمكّن نشد لباسهاى سياه ظلمتهاى با شدّت از اين كه بر گرداند آنچه كه شايع و ظاهر شده در آسمانها از درخشيدن نور ماه.

پس تنزيه مي كنم آن كسى را كه پوشيده نمى‏ شود بر او سياهى ظلمت با شدّت و نه سياهى شب آرميده در بقعه اى زمينها كه منخفض و پست‏اند، و نه در كوههاى بلند سياه رنگ مايل بسرخى كه قريب بيكديگرند، و مخفى نمى‏ شود بر او آنچه‏ كه آواز كند بر او رعد در افق آسمان، و آنچه كه متلاشى و نابود مى‏ شود از او برقهاى أبر و بر آنچه كه مى‏افتد از برگ درختان كه زايل مى‏ گرداند آن برگ را از محلّ افتادن تند بادها كه حاصل مى‏شود بسبب سقوط نجوم ساقط از منازل قمر و بسبب ريخته شدن باران از آسمان و مي داند جاى افتادن قطرهاى باران و قرارگاه آن را و محلّ كشيدن مورچهاى كوچك و مكان جرّ آنرا و چيزى را كه كفايت كند پشه را از خوراك آن و چيزى كه حمل نموده است آن را ماده در شكم خود.

ستايش مر خداى راست كه موجود بود پيش از اين كه بوده باشد كرسى يا عرش يا آسمان يا زمين يا جان يا انسان درك نمى ‏شود آن پروردگار با وهم و گمان و اندازه كرده نمى‏ شود با فهم عقلها، و مشغول نمى‏ گرداند او را سائلى از سائل ديگر، و كم نمى‏ گرداند بحر كرم او را هيچ عطائى، و نگاه نمى‏ كند با چشم، و محدود نمى‏ گردد بامكان، و موصوف نمى‏ شود با جفتها، و نمى ‏آفريند بمعالجه و مباشرت، و ادراك نمى ‏شود با حواس ظاهره و باطنه، و قياس كرده نمى ‏شود بخلق آن چنان پروردگارى كه سخن گفت با جناب موسى عليه السّلام سخن گفتني، و نمايانيد او را أز علامتهاى قدرت خود چيز بزرگى بى أعضا و جوارحى و بدون نطق و گوشت پارهائى كه در آخر دهن است و با آن نطق حاصل مى‏ شود.

بلكه اگر راست گوينده باشي تو اى مشقت كشنده در وصف پروردگار خود پس وصف كن جبرئيل و ميكائيل و لشكرهاى فرشتگان را كه مقرّب درگاه اويند در منزلهاى قدس و طهارت خاضع و مايلند بزير أز خضوع در حالتى كه متحيّر است عقلهاى ايشان در اين كه حدى قرار بدهند بهترين آفريننده ‏گان را، و جز اين نيست كه ادراك مى ‏شود با صفتها صاحبان صورتها و آلتها و آن كسى كه منقضى مى‏ شود بفنا و نيستى زمانى كه برسد بغايت حد خود، پس نيست هيچ معبود بحقّى غير او كه روشن فرمود با نور خود هر تاريكى، و تاريك گردانيد با تاريكى خود هر روشنى را.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

نهج البلاغه خطبه ها خطبه شماره 180 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 181 صبحی صالح

181- وَ مِنْ كَلَامٍ لَهُ ( عليه‏ السلام  ) وَ قَدْ أَرْسَلَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ يَعْلَمُ لَهُ عِلْمَ أَحْوَالِ قَوْمٍ مِنْ جُنْدِ الْكُوفَةِ قَدْ هَمُّوا بِاللِّحَاقِ بِالْخَوَارِجِ وَ كَانُوا عَلَى خَوْفٍ مِنْهُ ( عليه ‏السلام  )

فَلَمَّا عَادَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ قَالَ لَهُ أَ أَمِنُوا فَقَطَنُوا أَمْ جَبَنُوا فَظَعَنُوا

فَقَالَ الرَّجُلُ بَلْ ظَعَنُوا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ ( عليه ‏السلام  )

بُعْداً لَهُمْ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ

أَمَا لَوْ أُشْرِعَتِ الْأَسِنَّةُ إِلَيْهِمْ وَ صُبَّتِ السُّيُوفُ عَلَى هَامَاتِهِمْ لَقَدْ نَدِمُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ

إِنَّ الشَّيْطَانَ الْيَوْمَ قَدِ اسْتَفَلَّهُمْ وَ هُوَ غَداً مُتَبَرِّئٌ مِنْهُمْ وَ مُتَخَلٍ‏عَنْهُمْ

فَحَسْبُهُمْ بِخُرُوجِهِمْ مِنَ الْهُدَى وَ ارْتِكَاسِهِمْ فِي الضَّلَالِ وَ الْعَمَى وَ صَدِّهِمْ عَنِ الْحَقِّ وَ جِمَاحِهِمْ فِي التِّيهِ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج10  

و من كلام له عليه السّلام و هو المأة و الثمانون من المختار في باب الخطب

و هو مروى في البحار و في شرح المعتزلي و في شرح المختار الرابع و الأربعين جميعا من كتاب الغارات لابراهيم بن محمّد الثقفى باختلاف تطلع عليه.
قال السيّد ره و قد أرسل رجلا من أصحابه يعلم له علم قوم من جند الكوفة قد هموا باللّحاق بالخوارج و كانوا على خوف منه عليه السّلام فلما عاد إليه الرّجل قال عليه السّلام له: آمنوا فقطنوا أمّ جبنوا فظعنوا فقال الرجل بل ظعنوا يا أمير المؤمنين فقال عليه السّلام: بعدا لهم كما بعدت ثمود أما لو أشرعت الأسنّة إليهم و صبّت السّيوف على هاماتهم لقد ندموا على ما كان منهم، إنّ الشّيطان اليوم قد استفلّهم و هو غدا متبرّي‏ء منهم، و مخلّ عنهم فحسبهم بخروجهم من الهدى و ارتكاسهم في الضّلال و العمى و صدّهم عن الحقّ و جماحهم في التّيه‏

اللغة

(يعلم له) مضارع علم و (قطن) بالمكان من باب قعد أقام به و توّطنه فهو قاطن و (ظعن) ظعنا من باب منع ارتحل و الاسم ظعن بفتحتين (و بعد) بالضمّ بعدا ضدّ قرب فهو بعيد و بالكسر من باب تعب هلك و (ثمود) قوم صالح النبيّ عليه السّلام و سمّوا باسم أبيهم الأكبر و هو ثمود بن عامر بن ارم بن سام بن نوح، و قيل: سمّيت القبيلة بذلك لقلّة مائها من الثمد و هو الماء القليل و كانت مساكنها بين الحجاز و الشام إلى وادى القرى و (أشرعت) الرمح إلى زيد سددته و صوّبته نحوه و (الهامات) جمع الهامة رأس كلّ شي‏ء

قال الشاعر:

تذر الجماجم ضاحيا هاماتها
بله الأكف كأنّها لم تخلق‏

(قد استفلّهم) في أكثر النسخ بالفاء أى وجدهم فلّا لا خير فيهم أو مفلولين منهزمين، و في بعضها بالقاف أى حملهم قال سبحانه: أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا، أو اتّخذهم قليلا و سهل عليهم أمرهم، و في بعضها استفزّهم أى استخفّهم، و في بعضها استقبلهم أى قبلهم.

و (الركس) قال الجوهرى هو ردّ الشي‏ء مقلوبا، و ارتكس فلان في أمر كان قد نجا منه و قال الفيومي: ركست الشي‏ء ركسا من باب قتل قلبته و رددت أوّله على آخره، و أركسته بالألف رددته على رأسه و (جمح) الفرس من باب منع اعتز فارسه و غلبه فهو جموح.

الاعراب

بعدا لهم منصوب على المصدر، و ثمود بدون التنوين غير مصروف إذا اريد به القبيلة، و مع التنوين على الانصراف و إرادة الحيّ، أو باعتبار الأصل لأنه اسم أبيهم الأكبر قاله الزمخشرى في الكشاف في تفسير قوله تعالى وَ إِلى‏ ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً و بهما قرء أيضا في الاية، و الباء في قوله: بخروجهم، زايدة كما زيدت في كفى باللّه

المعنى

اعلم أنّ هذا الكلام كما أشار إليه السيّد قاله عليه السّلام (و قد أرسل رجلا من‏أصحابه) و هو عبد اللّه بن قعين (يعلم له علم قوم) و في بعض النسخ علم أحوال قوم أى أرسله ليعلم حالهم فيخبره به و هم خريت بن راشد أحد بنى ناحية مع جماعة من أصحابه و كانوا (من جند الكوفة) شهدوا معه عليه السّلام صفين حسبما عرفته في شرح المختار الرابع و الأربعين و تعرفه هنا أيضا تفصيلا.

(همّوا) بعد انقضاء صفين و بعد تحكيم الحكمين (باللّحاق بالخوارج و كانوا على خوف منه عليه السّلام فلما عاد) أى رجع اليه عليه السّلام (الرجل قال عليه السّلام له: أ أمنوا) و في بعض النسخ باسقاط همزة الاستفهام كما في قوله تعالى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ، على قراءة ابن محيص قال: انّه بهمزة واحدة على لفظ الخبر و همزة الاستفهام مرادة و لكن حذفها تخفيفا لدلالة: أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ، عليه لأنّ أم يعادل الهمزة، و قرء الأكثرون على لفظ الاستفهام.

و قوله (فقطنوا) أى أقاموا (أم جبنوا فظعنوا) أى ارتحلوا (فقال الرجل: بل ظعنوا يا أمير المؤمنين فقال عليه السّلام: بعدا لهم) أى هلكا لهم أو أبعدهم اللّه من رحمته بعدا و المعنيان متلازمان (كما بعدت ثمود) بكسر العين في أكثر النسخ و كذا في المصاحف.

ثمّ أخبر عن مستقبل حالهم بأنهم يندمون على تفريطهم فقال (أما لو اشرعت الأسنّة إليهم و صبّت السيوف على هاماتهم) استعار لفظ الصّب الّذى هو حقيقة في صبّ الماء لكثرة وقع السيوف على الرءوس، و الجامع سرعة الوقوع، يعنى أنهم لو عاينوا القتال و الهجوم عليهم بالقتل و الاستيصال (لقد ندموا) حينئذ (على ما كان منهم) من التقصير و الخطاء.

ثمّ نبّه على أنّ ما صدر عنهم من الظعن و اللّحاق بالخوارج إنما هو من عمل الشيطان يقول للانسان اكفر فلما كفر قال إني برى‏ء منك و هو قوله عليه السّلام (إنّ الشيطان اليوم قد استفلّهم) أى وجدهم بمعزل من الخير فزيّن لهم اللّحوق بأوليائه (و هو غدا متبرئ منهم و مخل عنهم) اى تارك لهم كما شأنه مع ساير أوليائه قال تعالى وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَ قالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَ إِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّاوَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَ قالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَ إِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ.

(فحسبهم بخروجهم من الهدى) أى يكفيهم خروجهم منه عذابا و وبالا (و ارتكاسهم في الضّلال و العمى) أى رجوعهم إلى الضلال القديم و الجهل الّذى كانوا عليه بعد خروجهم منه و نجاتهم عنه بهدايته عليه السّلام (و صدّهم) أى إعراضهم (عن الحقّ) اللّازم عليهم و هو طاعة إمامهم المفترض طاعته (و جماحهم في التيه) و الضّلال أو مفازة المعصية، هذا.

و أما قصّة هؤلاء القوم الّذين همّوا باللّحاق بالخوارج فقد مضى طرف منها في شرح الكلام الرابع و الأربعين لارتباطه به، و أورد هنا باقتضاء المقام ما لم يتقدّم ذكره فأقول: روى العلّامة المجلسى ره في كتاب البحار و الشارح المعتزلي جميعا من كتاب الغارات لابراهيم الثقفي بتلخيص منّي عن الحارث بن كعب الأزدى عن عمّه عبد اللّه بن قعين قال: كان الخريت بن راشد أحد بنى ناجية قد شهد مع عليّ عليه السّلام صفين، فجاء اليه بعد انقضاء صفين و بعد تحكيم الحكمين في ثلاثين من أصحابه يمشي بينهم حتّى قام بين يديه فقال: لا و اللّه لا اطيع أمرك و لا اصلّي خلفك و إنّي غدا لمفارق لك.

فقال عليه السّلام: ثكلتك امّك إذا تنقض عهدك و تعصي ربّك و لا تضرّ إلّا نفسك أخبرني لم تفعل ذلك قال: لأنّك حكمت في الكتاب و ضعفت عن الحقّ اذ جدّ الجدّور كنت إلى القوم الذين ظلموا أنفسهم فأنا عليك رادّ و عليهم ناقم و لكم جميعا مباين.

فقال له عليّ عليه السّلام: ويحك هلمّ إلىّ ادارسك و أناظرك في السّنن و افاتحك أمورا من الحقّ أنا أعلم بها منك فلعلّك تعرف ما أنت الان له منكر، و تبصر ما أنت الان عنه غافل، و به جاهل.

فقال الخريت: فانا غاد عليك غدا فقال عليّ عليه السّلام اغد و لا يستهوينّك الشيطان و لا يقتحمنّ بك رأى السّوء و لا يستخقنّك الجهلاء الذين لا يعلمون، فو اللّه إن استرشدتنى و استنصحتنى و قبلت منّي لأهدينك سبيل الرّشاد.
فخرج الخريت من عنده منصرفا إلى أهله.

قال عبد اللّه بن قعين فعجلت في أثره مسرعا و كان لي من بني عمّه صديق فأردت أن القي ابن عمّه في ذلك فاعلمه بما كان في قوله لأمير المؤمنين عليه السّلام و آمر ابن عمّه أن يشتدّ بلسانه عليه و أن يأمره بطاعة أمير المؤمنين عليه السّلام و مناصحته و يخبره أنّ ذلك خير له في عاجل الدّنيا و آجل الاخرة.

قال: فخرجت حتّى أتيت إلى منزله و قد سبقنى فقمت عند باب داره فيها رجال من أصحابه لم يكونوا شهدوا معه دخوله على أمير المؤمنين فو اللّه ما رجع و لا ندم على ما قال لأمير المؤمنين عليه السّلام و لا ردّ عليه و لكنه قال لهم: يا هؤلاء إنّي قد رأيت إن أنا أفارق هذا الرّجل و قد فارقته على أن أرجع إليه من غد و لا أرى إلّا المفارقة فقال له أكثر أصحابه: لا تفعل حتّى تأتيه فان أتاك بأمر تعرفه قبلت منه و إن كانت الأخرى فما أقدرك على فراقه قال لهم نعم ما رأيتم.

قال فاستاذنت عليهم فأذنوا إلىّ فأقبلت على ابن عمّه و هو مدرك بن الريان الناجى و كان من كبراء العرب فقال له: إنّ لك علىّ حقا لإحسانك و ودّك و حقّ المسلم على المسلم انّ ابن عمك كان منه ما قد ذكرك فاخل به فاردد عليه رأيه و عظم عليه ما أتى، و اعلم أنّي خائف إن فارق أمير المؤمنين عليه السّلام أن يقتلك و نفسه و عشيرته، فقال: جزاك اللّه خيرا من أخ إن أراد فراق أمير المؤمنين عليه السّلام ففي ذلك هلاكه و إن اختار مناصحته و الاقامة معه ففي ذلك حظّه و رشده.

قال: فأردت الرجوع إلى عليّ عليه السّلام لاعلمه الّذى كان ثمّ اطمأننت إلى قول صاحبي فرجعت إلى منزلى، فبتّ ثمّ أصبحت فلما ارتفع النهار أتيت أمير المؤمنين عليه السّلام فجلست عنده ساعة و أنا اريد أن أحدّثه بالّذى كان على خلوة، فأطلت الجلوس‏و لا يزداد الناس إلا كثرة، فدنوت منه فجلست ورائه فأصغي الىّ برأسه فأخبرته بما سمعته من الخريت و ما قلت لابن عمّه و ما ردّ علىّ فقال عليه السّلام: دعه فان قبل الحق و رجع عرفنا له ذلك و قبلناه منه فقلت: يا أمير المؤمنين عليه السّلام لم لا تأخذه الان و تستوثق منه فقال عليه السّلام: إنا لو فعلنا هذا بكلّ من يتّهم من الناس ملأنا السجون منهم و لا أراني يسعني الوثوب بالناس و الحبس لهم و عقوبتهم حتّى يظهروا لى الخلاف.

قال: فسكّت عنه و تنحّيت و جلست مع أصحابي هنيئة فقال عليه السّلام لي: ادن منّي، فدنوت فقال لي: سر إلى منزل الرّجل فاعلم ما فعل فانّه قل يوم لم يكن يأتيني فيه قبل هذه الساعة، فأتيت إلى منزله فاذا ليس في منزله منهم ديّار فدرت على أبواب دور أخرى كان فيها طائفة من أصحابه فاذا ليس فيها داع و لا مجيب فأقبلت إلى أمير المؤمنين عليه السّلام.

فقال لي حين رءانى: أقطنوا فأقاموا أم جبنوا فظعنوا قلت: لا بل ظعنوا فقال أبعدهم اللّه كما بعدت ثمود أما و اللّه لو اشرعت لهم الأسنّة و صبّت على هاماتهم السيوف لقد ندموا إنّ الشيطان قد استهواهم و أضلّهم و هو متبرّى‏ء منهم و مخل عنهم فقام إليه زياد بن حفصة فقال يا أمير المؤمنين إنه لو لم يكن من مضرّة هؤلاء إلّا فراقهم إيّانا لم يعظم فقدهم علينا فانّهم قلّ ما يزيدون في عددنا لو أقاموا معنا و قلّما ينقصون من عددنا بخروجهم منّا، و لكنا نخاف أن يفسدوا علينا جماعة كثيرة ممّن يقدمون عليهم من أهل طاعتك، فائذن لي في اتّباعهم حتّى أردّهم عليك انشاء اللّه فقال عليه السّلام له: فاخرج في آثارهم راشدا فلمّا ذهب ليخرج قال عليه السّلام له: و هل تدرى أين توجّه القوم قال: لا و اللّه و لكنّى أخرج فأسأل و اتبع الأثر، فقال اخرج رحمك اللّه حتّى تنزل دير أبي موسى ثمّ لا تبرحه حتّى يأتيك أمرى فانهم ان خرجوا ظاهرين بارزين للناس في جماعة فانّ عمّالي ستكتب إلىّ بذلك، و إن كانوامتفرّقين مستخفين فذلك أخفى لهم و سأكتب إلى من حولى من عمّالى فيهم.

فكتب نسخة واحدة و أخرجها إلى العمّال من عبد اللّه علىّ أمير المؤمنين إلى من قرء عليه كتابى هذا من العمّال أمّا بعد فانّ رجالا لنا عندهم تبعة خرجوا هرابا نظنّهم خرجوا نحو بلاد البصرة فاسأل عنهم أهل بلادك و اجعل عليهم العيون في كلّ ناحية من أرضك ثمّ اكتب إلىّ بما ينتهى إليك عنهم.

فخرج زياد بن حفصة حتّى أتى داره و جمع أصحابه و أخذ معه منهم مأئة و ثلاثين رجلا و خرج حتّى أتى دير أبى موسى.
و روى باسناده عن عبد اللّه بن وال التيمي قال إنّي لعند أمير المؤمنين إذا فيج قد جاءه يسعى بكتاب من قرظة كعب الأنصارى و كان أحد عمّاله فيه.
أما بعد فانّي اخبر أمير المؤمنين أن خيلا مرّت من قبل الكوفة متوّجهة و إن رجلا من دهاقين أسفل الفرات قد أسلم و صلّي يقال له زاذان فروخ أقبل من عند اخوال له فلقوه فقالوا أ مسلم أنت أم كافر قال بل مسلم قالوا فما تقول في علىّ عليه السّلام قال: أقول فيه خيرا أقول إنّه أمير المؤمنين و سيّد البشر و وصيّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: كفرت يا عدوّ اللّه ثمّ حملت عليه عصابة منهم فقطّعوه بأسيافهم و أخذوا معه رجلا من أهل الذمّة يهوديّا، فقالوا له: ما دينك قال يهوديّ، فقالوا: خلّوا سبيل هذا لا سبيل لكم عليه، فأقبل إلينا ذلك الذّمي فأخبرنا الخبر و قد سألت عنهم فلم يخبرني أحد عنهم بشي‏ء فليكتب إلىّ أمير المؤمنين عليه السّلام فيهم برأيه أنته إليه إنشاء اللّه.
فكتب إليه أمير المؤمنين عليه السّلام أمّا بعد فقد فهمت ما ذكرت من أمر العصابة الّتي مرت بعلمك فقتلت البرّ المسلم و امن عندهم المخالف المشرك، و ان اولئك قوم استهواهم الشيطان فضلّوا كالذين حسبوا ألّا يكون فتنة فعموا و صمّوا فاسمع بهم و ابصر يوم يحشر أعمالهم فالزم عملك و اقبل على خراجك، فانك كما ذكرت في طاعتك و نصيحتك، و السّلام.

قال: فكتب عليه السّلام إلى زياد بن حفصة مع عبد اللّه بن وال التيمي كتابا نسخته.
أما بعد فقد كنت أمرتك أن تنزل دير أبي موسى حتّى يأتيك أمرى دونك إني لم أكن علمت أين توجّه القوم و قد بلغنى أنهم أخذوا نحو قرية من قرى السواد فاتّبع آثارهم و سل عنهم فانهم قد قتلوا رجلا من أهل السواد مسلما مصلّيا فاذا أنت لحقت بهم فارددهم إلىّ فان أبوا فناجزناهم و استعن باللّه عليهم فانهم قد فارقوا الحقّ و سفكوا الدّم الحرام و أخافوا السّبيل، و السّلام.

قال عبد اللّه بن وال فأخذت الكتاب منه عليه السّلام و أنا يومئذ شاب حدث فمضيت غير بعيد ثمّ رجعت إليه فقلت يا أمير المؤمنين ألا أمضى مع زياد بن حفصة إلى عدوّك إذا دفعت عليه كتابك فأذن و دعا لى ثمّ مضيت إلى زياد بالكتاب، فقال لى زياد: يا ابن أخى و اللّه مالي عنك من غنى و إنى احبّ أن تكون معى في وجهى هذا، فقلت: إنّي قد استأذنت أمير المؤمنين عليه السّلام في ذلك فأذن لي فسرّ بذلك.

ثمّ خرجنا حتّى أتينا الموضع الذي كانوا فيه فلحقناهم و هم نزول بالمداين و قد أقاموا بها يوما و ليلة و قد استراحوا و علفوا دوابهم و خيولهم و أتيناهم و قد تقطعنا و تعبنا و نصبنا، فلما رأونا وثبوا على خيولهم فاستووا عليها فجئنا حتّى انتهينا إليهم.

فنادى الخرّيت بن راشد أخبرونا ما تريدون فقال له زياد و كان مجربا رفيقا، قد ترى ما بنا من النصب و اللّغوب و الّذي جئنا له لا يصلح فيه الكلام علانية و لكن تنزلون و ننزل ثمّ نخلو جميعا فنذاكر أمرنا و ننظر فيه فان رأيت ما جئنا له حظا لنفسك قبلته و إن رأيت فيما اسمع منك أمرا أرجو فيه العافية لنا و لك لم ارد عليك.

فقال الخرّيت انزل، فنزلنا و نزل و تفرّقنا و تحلقنا عشرة و تسعة و ثمانية و سبعة تضع كلّ حلقة طعامها بين أيديها فتأكل ثمّ تقوم إلى الماء فتشرب، و قال لنا زياد علفوا خيولكم فعلقنا عليها مخاليها«» و وقف زياد في خمسة فوارس أحدهم‏عبد اللّه بن وال بيننا و بين القوم و انطلق القوم فتنحّوا فنزلوا و أقبل إلينا زياد.

فلما رأى تفرّقنا قال سبحان اللّه أنتم أصحاب حرب و اللّه لو أنّ هؤلاء جاؤكم على هذه الحالة ما أرادوا من عزتكم أفضل من حالكم الّتي أنتم عليها فعجّلوا قوموا إلى خيولكم.
فأسرعنا فمنّا من يتوضّأ و منّا من يشرب و منّا من يسقى فرسه حتّى إذا فرغنا من ذلك أتينا زيادا فقال زياد: ليأخذ كلّ رجل منكم بعنان فرسه فاذا دنوت منهم و كلمت صاحبهم فان تابعنى على ما اريد و إلّا فاذا دعوتكم فاستووا على متون خيولكم ثمّ اقبلوا معا غير متفرّقين.

ثمّ استقدم أمامنا و أنا معه و دعى صاحبهم الخرّيت فقال له: اعتزل ننظر في أمرنا فأقبل إليه في خمسة نفر فقلت لزياد: أدعو لك ثلاثة نفر من أصحابك حتى تلقاهم في عددهم فقال: ادع من أحببت، فدعوت له ثلاثة فكنّا خمسة.
فقال له زياد: ما الّذي نقمت على أمير المؤمنين عليه السّلام و علينا حتّى فارقتنا.

فقال: لم أرض صاحبكم إماما و لم أرض بسيرتكم سيرة فرأيت أن أعتزل و أكون مع من يدعو إلى الشورى بين النّاس، فاذا اجتمع الناس على رجل هو لجميع الأمّة رضى كنت مع النّاس.
فقال زياد: ويحكم و هل يجتمع الناس على رجل يدانى عليا عالما باللّه و بكتاب اللّه و سنّة رسوله مع قرابته و سابقته في الاسلام.
فقال الخرّيت هو ما أقول لك.
قال: ففيم قتلتم الرّجل المسلم فقال الخرّيت ما أنا قتلته قتلته طائفة من أصحابي، قال: فادفعهم إلينا قال: ما إلى ذلك من سبيل، قال: أو هكذا أنت فاعل قال: هو ما تسمع.

قال: فدعونا أصحابنا و دعى الخرّيت أصحابه ثمّ اقتتلنا فو اللّه ما رأيت قتالا مثله منذ خلقنى اللّه لقد تطاعنّا بالرّماح حتّى لم يبق في أيدينا رمح، ثمّ اضطربنا بالسيوف حتّى اثخنت و عقرت عامة خيلنا و خيلهم و كثرت الجراح فيما بيننا و بينهم‏و قتل منّا رجلان مولى لزياد كانت معه رايته يدعى سويدا، و رجل آخر يدعى واقد ابن بكر، و صرع منهم خمسة نفر و حال اللّيل بيننا و بينهم و قد و اللّه كرهونا و كرهناهم و هزمونا و هزمناهم و قد جرح زياد و جرحت.

ثمّ إنا بتنا في جانب و تنحّوا فمكثوا ساعة من اللّيل ثمّ مضوا فذهبوا، و أصبحنا فوجدناهم قد ذهبوا فو اللّه ما كرهنا ذلك فمضينا حتّى أتينا البصرة و بلغنا أنهم أتوا الأهواز فنزلوا في جانب منها و تلاحق بهم ناس من أصحابهم نحو مأتين كانوا معهم بالكوفة لم يكن لهم من القوّة ما ينهضون معهم حين نهضوا، فاتبعوهم من بعد لحوقهم بالأهواز فأقاموا معهم.

و كتب زياد إلى عليّ عليه السّلام أما بعد فانّا لقينا عدوّ اللّه الناجي و أصحابه بالمداين فدعوناهم إلى الهدى و الحقّ و الكلمة السّواء فتولّوا عن الحقّ و أخذتهم العزّة بالاثم و زيّن لهم الشيطان أعمالهم فصدّهم عن السّبيل فقصدونا، و صمدنا صمدهم فاقتتلنا قتالا شديدا ما بين قائم الظهر إلى أن دلكت«» الشمس، و استشهد منّا رجلان صالحان و اصيب منهم خمسة نفر و خلوا لنا المعركة و قد فشت فينا و فيهم الجراح، ثمّ إنّ القوم لما ادركوا اللّيل خرجوا من تحته متنكّرين إلى أرض الأهواز و قد بلغني أنهم نزلوا من الأهواز جانبا و نحن بالبصرة نداوى جراحنا و ننتظر أمرك رحمك اللّه و السّلام.

فلما أتاه الكتاب قرأه على النّاس، فقام إليه معقل بن قيس الرّياحي إلى آخر ما قدّمنا ذكره في شرح المختار الرابع و الأربعين فليراجع هناك.

الترجمة

از جمله كلام آن بزرگوار است در حالتى كه فرستاده بود مردى را از أصحاب خود تا بداند خبر طايفه از لشكر كوفه را كه قصد كرده بودند آن طايفه ملحق شدن خوارج را، و بودند آن گروه ترسان و هراسان از آن حضرت، چون بازگشت‏آن مرد بسوى آن حضرت فرمود او را آيا ايمن شدند پس اقامت كردند يا اين كه ترسيدند پس كوچ كردند پس گفت آن مرد كوچ كردند اى أمير مؤمنان پس فرمود: هلاك كند خداوند ايشان را هلاك كردني چنانچه هلاك شدند قوم ثمود، آگاه باش كه اگر راست كرده شود نيزها بسوى ايشان و ريخته گردد شمشيرها بر فرقهاى آن مردودان، هر آينه البته پشيمان خواهند شد بر آن چيزى كه از ايشان سرزد، بدرستى كه شيطان ملعون امرور ايشان را بى خير و منفعت يافت جلوه داد كوچ كردن را در نظر ايشان، و او فردا بى ‏زارى خواهد جست از ايشان و تارك ايشان خواهد گشت، پس بس است خارج بودن ايشان از طريق هدايت، و بازگشتن ايشان در ضلالت و كورى، و اعراض ايشان از حق، و سركشى ايشان در بيابان حيراني و سرگرداني.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»