نهج البلاغه کلمات خطبه ها شماره 185 (شرح میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»)

خطبه 186بحی صالح

186-من خطبة له ( عليه ‏السلام  ) في التوحيد و تجمع هذه الخطبة من أصول العلم ما لا تجمعه خطبة

مَا وَحَّدَهُ مَنْ كَيَّفَهُ وَ لَا حَقِيقَتَهُ أَصَابَ مَنْ مَثَّلَهُ وَ لَا إِيَّاهُ عَنَى مَنْ شَبَّهَهُ وَ لَا صَمَدَهُ مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ وَ تَوَهَّمَهُ

كُلُّ مَعْرُوفٍ بِنَفْسِهِ مَصْنُوعٌ وَ كُلُّ قَائِمٍ فِي سِوَاهُ مَعْلُولٌ

فَاعِلٌ لَا بِاضْطِرَابِ آلَةٍ مُقَدِّرٌ لَا بِجَوْلِ فِكْرَةٍ غَنِيٌّ لَا بِاسْتِفَادَةٍ لَا تَصْحَبُهُ الْأَوْقَاتُ وَ لَاتَرْفِدُهُ الْأَدَوَاتُ سَبَقَ الْأَوْقَاتَ كَوْنُهُ وَ الْعَدَمَ وُجُودُهُ وَ الِابْتِدَاءَ أَزَلُهُ

بِتَشْعِيرِهِ الْمَشَاعِرَ عُرِفَ أَنْ لَا مَشْعَرَ لَهُ وَ بِمُضَادَّتِهِ بَيْنَ الْأُمُورِ عُرِفَ أَنْ لَا ضِدَّ لَهُ وَ بِمُقَارَنَتِهِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ عُرِفَ أَنْ لَا قَرِينَ لَهُ

ضَادَّ النُّورَ بِالظُّلْمَةِ وَ الْوُضُوحَ بِالْبُهْمَةِ وَ الْجُمُودَ بِالْبَلَلِ وَ الْحَرُورَ بِالصَّرَدِ مُؤَلِّفٌ بَيْنَ مُتَعَادِيَاتِهَا مُقَارِنٌ بَيْنَ مُتَبَايِنَاتِهَا مُقَرِّبٌ بَيْنَ مُتَبَاعِدَاتِهَا مُفَرِّقٌ بَيْنَ مُتَدَانِيَاتِهَا

لَا يُشْمَلُ بِحَدٍّ وَ لَا يُحْسَبُ بِعَدٍّ وَ إِنَّمَا تَحُدُّ الْأَدَوَاتُ أَنْفُسَهَا وَ تُشِيرُ الْآلَاتُ إِلَى نَظَائِرِهَا

مَنَعَتْهَا مُنْذُ الْقِدْمَةَ وَ حَمَتْهَا قَدُ الْأَزَلِيَّةَ وَ جَنَّبَتْهَا لَوْلَا التَّكْمِلَةَ بِهَا تَجَلَّى صَانِعُهَا لِلْعُقُولِ وَ بِهَا امْتَنَعَ عَنْ نَظَرِ الْعُيُونِ

وَ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ السُّكُونُ وَ الْحَرَكَةُ وَ كَيْفَ يَجْرِي عَلَيْهِ مَا هُوَ أَجْرَاهُ وَ يَعُودُ فِيهِ مَا هُوَ أَبْدَاهُ وَ يَحْدُثُ فِيهِ مَا هُوَ أَحْدَثَهُ إِذاً لَتَفَاوَتَتْ ذَاتُهُ وَ لَتَجَزَّأَ كُنْهُهُ وَ لَامْتَنَعَ مِنَ الْأَزَلِ مَعْنَاهُ

وَ لَكَانَ لَهُ وَرَاءٌ إِذْ وُجِدَ لَهُ أَمَامٌ وَ لَالْتَمَسَ التَّمَامَ إِذْ لَزِمَهُ النُّقْصَانُ وَ إِذاً لَقَامَتْ آيَةُ الْمَصْنُوعِ فِيهِ وَ لَتَحَوَّلَ دَلِيلًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَدْلُولًا عَلَيْهِ وَ خَرَجَ بِسُلْطَانِ الِامْتِنَاعِ مِنْ أَنْ يُؤَثِّرَ فِيهِ مَا يُؤَثِّرُ فِي غَيْرِهِ

الَّذِي لَا يَحُولُ وَ لَا يَزُولُ وَ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْأُفُولُ لَمْ يَلِدْ فَيَكُونَ مَوْلُوداً وَ لَمْ يُولَدْ فَيَصِيرَ مَحْدُوداً جَلَّ عَنِ اتِّخَاذِ الْأَبْنَاءِوَ طَهُرَ عَنْ مُلَامَسَةِ النِّسَاءِ

لَا تَنَالُهُ الْأَوْهَامُ فَتُقَدِّرَهُ وَ لَا تَتَوَهَّمُهُ الْفِطَنُ فَتُصَوِّرَهُ وَ لَا تُدْرِكُهُ الْحَوَاسُّ فَتُحِسَّهُ وَ لَا تَلْمِسُهُ الْأَيْدِي فَتَمَسَّهُ وَ لَا يَتَغَيَّرُ بِحَالٍ وَ لَا يَتَبَدَّلُ فِي الْأَحْوَالِ وَ لَا تُبْلِيهِ اللَّيَالِي وَ الْأَيَّامُ وَ لَا يُغَيِّرُهُ الضِّيَاءُ وَ الظَّلَامُ

وَ لَا يُوصَفُ بِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْأَجْزَاءِ وَ لَا بِالْجَوَارِحِ وَ الْأَعْضَاءِ وَ لَا بِعَرَضٍ مِنَ الْأَعْرَاضِ وَ لَا بِالْغَيْرِيَّةِ وَ الْأَبْعَاضِ

وَ لَا يُقَالُ لَهُ حَدٌّ وَ لَا نِهَايَةٌ وَ لَا انْقِطَاعٌ وَ لَا غَايَةٌ وَ لَا أَنَّ الْأَشْيَاءَ تَحْوِيهِ فَتُقِلَّهُ أَوْ تُهْوِيَهُ أَوْ أَنَّ شَيْئاً يَحْمِلُهُ فَيُمِيلَهُ أَوْ يُعَدِّلَهُ لَيْسَ فِي الْأَشْيَاءِ بِوَالِجٍ وَ لَا عَنْهَا بِخَارِجٍ

يُخْبِرُ لَا بِلِسَانٍ وَ لَهَوَاتٍ وَ يَسْمَعُ لَا بِخُرُوقٍ وَ أَدَوَاتٍ يَقُولُ وَ لَا يَلْفِظُ وَ يَحْفَظُ وَ لَا يَتَحَفَّظُ وَ يُرِيدُ وَ لَا يُضْمِرُ يُحِبُّ وَ يَرْضَى مِنْ غَيْرِ رِقَّةٍ وَ يُبْغِضُ وَ يَغْضَبُ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ

يَقُولُ لِمَنْ أَرَادَ كَوْنَهُ كُنْ فَيَكُونُ لَا بِصَوْتٍ يَقْرَعُ وَ لَا بِنِدَاءٍ يُسْمَعُ وَ إِنَّمَا كَلَامُهُ سُبْحَانَهُ فِعْلٌ مِنْهُ أَنْشَأَهُ وَ مَثَّلَهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ كَائِناً وَ لَوْ كَانَ قَدِيماً لَكَانَ إِلَهاً ثَانِياً

لَا يُقَالُ كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَتَجْرِيَ عَلَيْهِ الصِّفَاتُ الْمُحْدَثَاتُ وَ لَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَ بَيْنَهُ فَصْلٌ وَ لَا لَهُ عَلَيْهَا فَضْلٌ فَيَسْتَوِيَ الصَّانِعُ وَ الْمَصْنُوعُ وَ يَتَكَافَأَ الْمُبْتَدَعُ وَ الْبَدِيعُ

خَلَقَ الْخَلَائِقَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ خَلَا مِنْ غَيْرِهِ وَ لَمْ يَسْتَعِنْ عَلَى خَلْقِهَا بِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ

وَ أَنْشَأَ الْأَرْضَ فَأَمْسَكَهَا مِنْ غَيْرِ اشْتِغَالٍ وَ أَرْسَاهَا عَلَى غَيْرِ قَرَارٍ وَ أَقَامَهَا بِغَيْرِ قَوَائِمَ

وَ رَفَعَهَا بِغَيْرِ دَعَائِمَ وَ حَصَّنَهَا مِنَ الْأَوَدِ وَ الِاعْوِجَاجِ وَ مَنَعَهَا مِنَ التَّهَافُتِ وَ الِانْفِرَاجِ

أَرْسَى أَوْتَادَهَا وَ ضَرَبَ أَسْدَادَهَا وَ اسْتَفَاضَ عُيُونَهَا وَ خَدَّ أَوْدِيَتَهَا فَلَمْ يَهِنْ مَا بَنَاهُ وَ لَا ضَعُفَ مَا قَوَّاهُ

هُوَ الظَّاهِرُ عَلَيْهَا بِسُلْطَانِهِ وَ عَظَمَتِهِ وَ هُوَ الْبَاطِنُ لَهَا بِعِلْمِهِ وَ مَعْرِفَتِهِ وَ الْعَالِي عَلَى كُلِّ شَيْ‏ءٍ مِنْهَا بِجَلَالِهِ وَ عِزَّتِهِ لَا يُعْجِزُهُ شَيْ‏ءٌ مِنْهَا طَلَبَهُ وَ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ فَيَغْلِبَهُ وَ لَا يَفُوتُهُ السَّرِيعُ مِنْهَا فَيَسْبِقَهُ وَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى ذِي مَالٍ فَيَرْزُقَهُ

خَضَعَتِ الْأَشْيَاءُ لَهُ وَ ذَلَّتْ مُسْتَكِينَةً لِعَظَمَتِهِ لَا تَسْتَطِيعُ الْهَرَبَ مِنْ سُلْطَانِهِ إِلَى غَيْرِهِ فَتَمْتَنِعَ مِنْ نَفْعِهِ وَ ضَرِّهِ

وَ لَا كُفْ‏ءَ لَهُ فَيُكَافِئَهُ وَ لَا نَظِيرَ لَهُ فَيُسَاوِيَهُ هُوَ الْمُفْنِي لَهَا بَعْدَ وُجُودِهَا حَتَّى يَصِيرَ مَوْجُودُهَا كَمَفْقُودِهَا

وَ لَيْسَ فَنَاءُ الدُّنْيَا بَعْدَ ابْتِدَاعِهَا بِأَعْجَبَ مِنْ إِنْشَائِهَا وَ اخْتِرَاعِهَا

وَ كَيْفَ وَ لَوِ اجْتَمَعَ جَمِيعُ حَيَوَانِهَا مِنْ طَيْرِهَا وَ بَهَائِمِهَا وَ مَا كَانَ مِنْ مُرَاحِهَا وَ سَائِمِهَا وَ أَصْنَافِ أَسْنَاخِهَا وَ أَجْنَاسِهَا وَ مُتَبَلِّدَةِ أُمَمِهَا وَ أَكْيَاسِهَا عَلَى إِحْدَاثِ بَعُوضَةٍ مَا قَدَرَتْ عَلَى إِحْدَاثِهَا

وَ لَا عَرَفَتْ كَيْفَ السَّبِيلُ إِلَى إِيجَادِهَا وَ لَتَحَيَّرَتْ عُقُولُهَا فِي عِلْمِ ذَلِكَ وَ تَاهَتْ وَ عَجَزَتْ قُوَاهَا وَ تَنَاهَتْ وَ رَجَعَتْ خَاسِئَةً حَسِيرَةً عَارِفَةً بِأَنَّهَا مَقْهُورَةٌ مُقِرَّةً بِالْعَجْزِ عَنْ إِنْشَائِهَا مُذْعِنَةً بِالضَّعْفِ عَنْ إِفْنَائِهَا

وَ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَعُودُ بَعْدَ فَنَاءِ الدُّنْيَا وَحْدَهُ لَا شَيْ‏ءَ مَعَهُ كَمَا كَانَ قَبْلَ ابْتِدَائِهَا كَذَلِكَ يَكُونُ بَعْدَ فَنَائِهَا بِلَا وَقْتٍ وَ لَا مَكَانٍ وَ لَا حِينٍ وَ لَا زَمَانٍ

عُدِمَتْ عِنْدَ ذَلِكَ الْآجَالُ وَ الْأَوْقَاتُ وَ زَالَتِ السِّنُونَ وَ السَّاعَاتُ فَلَا شَيْ‏ءَ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُالَّذِي إِلَيْهِ مَصِيرُ جَمِيعِ الْأُمُورِ

بِلَا قُدْرَةٍ مِنْهَا كَانَ ابْتِدَاءُ خَلْقِهَا وَ بِغَيْرِ امْتِنَاعٍ مِنْهَا كَانَ فَنَاؤُهَا وَ لَوْ قَدَرَتْ عَلَى الِامْتِنَاعِ لَدَامَ بَقَاؤُهَا

لَمْ يَتَكَاءَدْهُ صُنْعُ شَيْ‏ءٍ مِنْهَا إِذْ صَنَعَهُ وَ لَمْ يَؤُدْهُ مِنْهَا خَلْقُ مَا خَلَقَهُ وَ بَرَأَهُ وَ لَمْ يُكَوِّنْهَا لِتَشْدِيدِ سُلْطَانٍ وَ لَا لِخَوْفٍ مِنْ زَوَالٍ وَ نُقْصَانٍ وَ لَا لِلِاسْتِعَانَةِ بِهَا عَلَى نِدٍّ مُكَاثِرٍ

وَ لَا لِلِاحْتِرَازِ بِهَا مِنْ ضِدٍّ مُثَاوِرٍ وَ لَا لِلِازْدِيَادِ بِهَا فِي مُلْكِهِ وَ لَا لِمُكَاثَرَةِ شَرِيكٍ فِي شِرْكِهِ وَ لَا لِوَحْشَةٍ كَانَتْ مِنْهُ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَأْنِسَ إِلَيْهَا

ثُمَّ هُوَ يُفْنِيهَا بَعْدَ تَكْوِينِهَا لَا لِسَأَمٍ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي تَصْرِيفِهَا وَ تَدْبِيرِهَا وَ لَا لِرَاحَةٍ وَاصِلَةٍ إِلَيْهِ وَ لَا لِثِقَلِ شَيْ‏ءٍ مِنْهَا عَلَيْهِ لَا يُمِلُّهُ طُولُ بَقَائِهَا فَيَدْعُوَهُ إِلَى سُرْعَةِ إِفْنَائِهَا

وَ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ دَبَّرَهَا بِلُطْفِهِ وَ أَمْسَكَهَا بِأَمْرِهِ وَ أَتْقَنَهَا بِقُدْرَتِهِ

ثُمَّ يُعِيدُهَا بَعْدَ الْفَنَاءِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إِلَيْهَا

وَ لَا اسْتِعَانَةٍ بِشَيْ‏ءٍ مِنْهَا عَلَيْهَا وَ لَا لِانْصِرَافٍ مِنْ حَالِ وَحْشَةٍ إِلَى حَالِ اسْتِئْنَاسٍ وَ لَا مِنْ حَالِ جَهْلٍ وَ عَمًى إِلَى حَالِ‏

عِلْمٍ وَ الْتِمَاسٍ وَ لَا مِنْ فَقْرٍ وَ حَاجَةٍ إِلَى غِنًى وَ كَثْرَةٍ وَ لَا مِنْ ذُلٍّ وَ ضَعَةٍ إِلَى عِزٍّ وَ قُدْرَةٍ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج11  

و من خطبة له عليه السّلام و هى المأة و الخامسة و الثمانون من المختار في باب الخطب
و هي مروية في الاحتجاج من قوله عليه السّلام: لا يشمل بحدّ إلى آخرها مثل ما في المتن من دون اختلاف إلّا في ألفاظ يسيرة.
قال السيد (ره): و تجمع هذه الخطبة من اصول العلم مالا تجمعه خطبة.
ما وحّده من كيّفه، و لا حقيقته أصاب من مثّله، و لا إيّاه عنى من شبّهه، و لا صمده من أشار إليه و توهّمه، كلّ معروف بنفسه مصنوع، و كلّ قائم في سواه معلول، فاعل لا باضطراب آلة، مقدّر لا بجول فكرة، غنيّ لا باستفادة، لا تصحبه الأوقات، و لا ترفده الأدوات، سبق الأوقات كونه، و العدم وجوده، و الابتداء أزله. بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، و بمضادّته بين الامور عرف أن لا ضدّ له، و بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له، ضادّ النّور بالظّلمة، و الوضوح بالبهمة، و الجمود بالبلل، و الحرور بالصّرد، مؤلّف بين متعادياتها، مقارن بين متبايناتها، مقرّب بين متباعداتها، مفرّق بين متدانياتها، لا يشمل بحدّ، و لا يحسب بعدّ و إنّما تحدّ الأدوات أنفسها، و تشير الالات إلى نظائرها، منعتها منذ القدمة، و حمتها قد الأزليّة، و جنّبتها لو لا التّكملة، بها تجلّى صانعها للعقول، و بها امتنع عن نظر العيون، لا يجري عليه السّكون و الحركة، و كيف يجري عليه ما هو أجراه، و يعود فيه ما هو أبداه و يحدث فيه ما هو أحدثه، إذا لتفاوتت ذاته، و لتجزّء كنهه، و لا امتنع من الأزل معناه، و لكان له وراء إذ وجد له أمام، و لالتمس التّمام إذ لزمه النّقصان، و إذا لقامت آية المصنوع فيه، و لتحوّل دليلا بعد أن كان مدلولا عليه، و خرج بسلطان الامتناع من أن يؤثّر فيه ما يؤثّر في غيره. الّذي لا يحول و لا يزول، و لا يجوز عليه الأفول، لم يلد فيكون مولودا، و لم يولد فيصير محدودا، جلّ عن اتّخاذ الأبناء، و طهر عن ملامسة النّساء، لا تناله الأوهام فتقدّره، و لا تتوهّمه الفطن فتصوّره، و لا تدركه الحواسّ فتحسّه، و لا تلمسه الأيدي فتمسّه، لا يتغيّر بحال، و لا يتبدّل بالأحوال، و لا تبليه اللّيالي و الأيّام، و لا تغيّره الضّياء و الظّلام، و لا يوصف بشي‏ء من الأجزاء، و لا بالجوارح و الأعضاء، و لا بعرض من الأعراض، و لا بالغيريّة و الأبعاض، و لا يقال له حدّ و لا نهاية، و لا انقطاع و لا غاية،و لا أنّ الأشياء تحويه فتقلّه أو تهويه، أو أنّ شيئا يحمله فيميله أو يعدّله.

ليس في الأشياء بوالج، و لا عنها بخارج، يخبر لا بلسان و لهوات، و يسمع لا بخروق و أدوات، يقول و لا يلفظ، و يحفظ و لا يتحفّظ، و يريد و لا يضمر، يحبّ و يرضى من غير رقّة، و يبغض و يغضب من غير مشقّة، يقول لما أراد كونه كن فيكون لا بصوت يقرع، و لا بنداء (نداء خ ل) يسمع، و إنّما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه و مثّله، لم يكن من قبل ذلك كائنا، و لو كان قديما لكان إلها ثانيا، لا يقال كان بعد أن لم يكن فتجري عليه الصّفات المحدثات (صفات المحدثات خ ل)، و لا يكون بينها و بينه فصل و لا له عليها فضل فيستوي الصّانع و المصنوع، و يتكافأ المبتدع و البديع، خلق الخلايق على غير مثال خلا من غيره، و لم يستعن على خلقها بأحد من خلقه. و أنشأ الأرض فأمسكها من غير اشتغال، و أرساها على غير قرار و أقامها بغير قوائم، و رفعها بغير دعائم، و حصّنها من الأود و الاعوجاج و منعها من التّهافت و الانفراج، أرسى أوتادها، و ضرب أسدادها،و استفاض عيونها، و خدّ أوديتها، فلم يهن ما بناه، و لا ضعف ما قوّاه.

هو الظّاهر عليها بسلطانه و عظمته، و هو الباطن لها بعلمه و معرفته و العالي على كلّ شي‏ء منها بجلاله و عزّته، لا يعجزه شي‏ء منها طلبه و لا يمتنع عليه فيغلبه، و لا يفوته السّريع منها فيسبقه، و لا يحتاج إلى ذيمال فيرزقه، خضعت الأشياء له، و ذلّت مستكينة لعظمته، لا تستطيع الهرب من سلطانه إلى غيره، فتمتنع من نفعه و ضرّه، و لا كفوء له فيكافئه، و لا نظير له فيساويه. هو المفنى لها بعد وجودها حتّى يصير موجودها كمفقودها، و ليس فناء الدّنيا بعد ابتداعها بأعجب من إنشائها و اختراعها، و كيف و لو اجتمع جميع حيوانها من طيرها و بهائمها، و ما كان من مراحها و سائمها، و أصناف أسناخها و أجناسها، و متبلّدة أممها و أكياسها، على إحداث بعوضة ما قدرت على إحداثها، و لا عرفت كيف السّبيل إلى إيجادها، و لتحيّرت عقولها في علم ذلك و تاهت، و عجزت قواها و تناهت، و رجعت خاسئة حسيرة، عارفة بأنّها مقهورة، مقرّة بالعجز عن إنشائها، مذعنة بالضّعف عن إفنائها. و إنّه سبحانه يعود بعد فناء الدّنيا، وحده لا شي‏ء معه، كما كان‏ قبل ابتدائها كذلك يكون بعد فنائها، بلا وقت و لا مكان، و لا حين و لا زمان، عدمت عند ذلك الاجال و الأوقات، و زالت السّنون و السّاعات، فلا شي‏ء إلّا اللّه الواحد القهّار الّذي إليه مصير جميع الامور بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها، و بغير امتناع منها كان فناءها، و لو قدرت على الامتناع لدام بقاءها.

لم يتكاّده (يتكاءده خ ل) صنع شي‏ء منها إذ صنعه، و لم يؤده منها خلق ما برئه و خلقه، و لم يكوّنها لتشديد سلطان، و لا لخوف من زوال و نقصان، و لا للاستعانة بها على ندّ مكاثر، و لا للاحتراز بها من ضدّ مثاور، و لا للازدياد بها في ملكه، و لا لمكاثرة شريك في شركه، و لا لوحشة كانت منه فأراد أن يستأنس إليها. ثمّ هو يفنيها بعد تكوينها، لا لسأم دخل عليه في تصريفها و تدبيرها، و لا لراحة واصلة إليه، و لا لثقل شي‏ء منها عليه، لا يملّه (لم يملّه خ) طول بقائها، فيدعوه إلى سرعة إفنائها، لكنّه سبحانه دبّرها بلطفه، و امسكها بأمره، و أتقنها بقدرته. ثمّ يعيدها بعد الفناء من غير حاجة منه إليها، و لا استعانة بشي‏ء منها عليها، و لا لانصراف من حال وحشة إلى حال استيناس، و لامن حال جهل و عمى إلى حال علم و التماس، و لا من فقر و حاجة إلى غنى و كثرة، و لا من ذلّ وضعة إلى عزّ و قدرة.

اللغة

(وضح) يضح من باب وعد إذا انكشف و انجلي و (البهمة) لعلّها مأخوذة من أبهم الأمر و استبهم إذا اشتبه و (الحرور) بفتح الحاء في أكثر النسخ و هكذا ضبطه الشارح المعتزلي قال الفيومي: الحرور و زان رسول الريح الحارة، قال الفرّاء تكون ليلا و نهارا، و قال أبو عبيدة: أخبرنا روبة أنّ الحرور بالنهار و السّموم بالليل و قال أبو عمرو بن العلا: الحرور و السّموم باللّيل و النهار، و في القاموس: الحرور الريح الحارة بالليل و قد تكون بالنّهار و حرّ الشمس و الحرّ الدائم و النار، و في نسخة الشارح البحراني الحرور بالضمّ قال في القاموس: الحرّ ضدّ البرد كالحرور بالضّم و الحرارة و (اللهوات) جمع لهات بفتح الّلام فيهما و هي اللحمة في سقف أقصى الفم.

و (المراح) بالضمّ قال الشارح المعتزلي هي النعم ترد إلى المراح بالضمّ أيضا و هو الموضع الذي تأوى إليه النعم، و قال البحراني: مراحها ما يراح منها في مرابطها، و معاطنها و سائمها ما ارسل منها للرعى.
أقول: يستفاد منهما أنّ المراح هنا اسم مفعول و ظاهر غير واحد من اللّغويّين أنه اسم للموضع فقط، قال في القاموس: أراح الابل ردّها إلى المراح بالضمّ المأوى و قال الفيومى في مصباح اللّغة: قال الازهري و أما راحت الابل فهي رائحة فلا يكون إلّا بالعشى إذا أراحها راعيها على أهلها يقال: مرحت بالغداة إلى الرعى و راحت بالعشىّ على أهلها أى رجعت من المرعى إليهم، و قال ابن فارس: الرواح رواح العشىّ و هو من الزوال إلى اللّيل، و المراح بالضّم حيث تأوى الماشية باللّيل و المناخ و المأوى مثله و فتح الميم بهذا المعنى خطأ لأنه اسم مكان و الزمان و المصدر من أفعل بالألف مفعل بضمّ الميم على صيغة اسم المفعول، و أمّا المراح‏ بالفتح فاسم الموضع من راحت بغير ألف، و اسم المكان من الثلاثي بالفتح، انتهى.

و قال في مادة السوم: سامت الماشية سوما رعت بنفسها و يتعدّي بالهمزة فيقال أسامها راعيها، قال ابن خالويه: و لم يستعمل اسم مفعول من الرّباعي بل جعل نسيا منسيّا و يقال أسامها فهى سائمة.
فقد ظهر من ذلك أن جعل المراح اسم مفعول من أراح كما زعمه الشارحان غير جايز فهو اسم مكان و لا من تقدير مضاف في الكلام و تمام الكلام في بيان المعنى و (التبلّد) ضد التجلّد من بلد بلادة كشرب و فرح فهو بليد أى غير فطن و لا كيس و (لم يتكأّده) بالتشديد و الهمز من باب التّفعل و بالمدّ أيضا من باب التفاعل مضارع تكأد يقال تكأّدني الأمر و تكائدني أى شقّ علىّ، و عقبة كؤدة صعبة.

الاعراب

قوله: منعتها منذ القدمة و حمتها قد الأزليّة و جنبتها لو لا التكملة، المروىّ من نسخة الرضيّ نصب القدمة و التكملة و الأزليّة، و من بعض النسخ رفعها، فعلى الرواية الاولى الضمائر المتّصلة مفعولات اول للأفعال الثلاثة، و لفظة منذ و قد و لو لا في موضع الرّفع على الفاعل، و المنصوبات الثلاث مفعولات ثانية بالواسطة، و على الرواية الثانية فارتفاع الأسماء الثلاثة على الفاعليّة، و الضمائر المتّصلة مفاعيل و منذ و قد و لو لا مفاعيل ثوان.

المعنى

اعلم أنّ هذه الخطبة الشريفة كما قاله السيّد (ره) مشتملة على مطالب نفيسة و مباحث شريفة من العلم الالهي مع تضمّنها للفصاحة و البلاغة و انسجام العبارات و حسن الاسلوب و بديع النظم، و لعمرى أنها فصل من كلامه عليه السّلام في أرجائه مجال المقال واسع، و لسان البيان صادع، و ثاقب المطالب لامع، و فجر المدايح طالع، و مراح الامتداح جامع، فهو لمن تمسّك بهداه نافع، و لمن تعلّق بعراه رافع، فيا له من فصل فضل كؤوس ينبوعه لذّة للشاربين، و دروس مضمونه مفرحة للكرام الكاتبين يعظم للمحقّقين قدر وقعه، و يعم للمدقّقين شمول نفعه.

كيف لا و الموصوف به الحقّ الأوّل ربّ العالمين، و ديّان الدّين، و خالق السّماوات و الأرضين، إله الخلق أجمعين.
و الواصف جامع علوم الأوّلين و الاخرين، خليفة اللّه في الأرضين، معلم الملائكة و النّبيّين، أمير المؤمنين الذي بحار علومه و ماثره لا ينال قعرها بغوص الأفهام و جبال فضايله و مفاخره لا يرتقى قلالها بطير العقول و الأوهام.
و تالي هذه الخطبة الشريفة خطبة أخرى لأبي الحسن الرّضا عليه السّلام يأتي إنشاء اللّه ذكرها في شرح المختار المأة و الثامن«» و هي أيضا تجمع من اصول علم التوحيد ما لا يحصى كما يعرفه الناقد البصير ذو الفهم الثاقب.

اذا عرفت ذلك فأقول: إنّه عليه السّلام قد وصف اللّه الملك العلّام في هذه الخطبة بأوصاف سلبيّة و اضافيّة.
أولها قوله عليه السّلام: (ما وحّده من كيّفه) أى من جعله مكيفا و وصفه سبحانه بالكيف فلم يجعله واحدا و لم يقل بوحدانيّته، لكنّه تعالى واحد و توحيده واجب لقيام الأدلة العقليّة و النقليّة عليه حسبما مرّ في تضاعيف المتن و الشرح غير مرّة فتكييفه مطلقا باطل.

و إنّما كان التكييف منافيا للتوحيد لأنّ الكيف بأقسامها الأربعة أعنى الكيفيات المحسوسة راسخة كانت كصفرة الذّهب و حلاوة العسل و تسمى انفعاليات أو غير راسخة كحمرة الخجل و صفرة الوجل و تسمّى انفعالات، و الكيفيّات الاستعداديّة سواء كانت استعدادا نحو الانفعال أى التهيؤ لقبول أثرها بسهولة أو سرعة كالمراضيّة و اللين، أو استعدادا نحو اللّا انفعال أى التهيؤ للمقاومة و بطوء الانفعال كالمصحاحيّة و الصّلابة، و الكيفيات النفسانيّة المختصّة بذوات الأنفس الحيوانيّة راسخة كانت و تسمّى ملكة كالعلم و الشجاعة و العدالة، أو غير راسخة و تسمّى حالا كغضب الحليم و مرض الصّحاح، و الكيفيات المختصّة بالكميّات متّصلة كانت كالاستقامة و الانحناء و الشكل و الخلقة، أو منفصلة كالزوجيّة و الفرديّة.

فهو بهذه الأقسام الثابتة له بالحصر العقلي أو الاستقرائي من أقسام العرض‏ و العرض هو الموجود الحال في المحل على وجه الاختصاص الناعت أى يكون أحد الشيئين بالنسبة إلى الاخر بحيث يكون مختصّا به على وجه يوجب ذلك الاختصاص كون الأوّل نعتا و الثاني منعوتا كما في السواد بالنسبة إلى الجسم، فانّ اختصاصه به أوجب اتّصافه به فيقال جسم أسود فلو كان الحقّ الأوّل سبحانه موصوفا بالكيف بأيّ قسم من أقسامه لزم اقترانه به، و المقارنة بين الموصوف و الوصف مستلزم للتثنية لما قد مرّ في الفصل الرابع من المختار الأوّل من قوله عليه السّلام: فمن وصف اللّه فقد قرنه و من قرنه فقد ثناه، و التثنية مناف للتوحيد، هذا.

و قد مرّ دليل آخر على استحالة اتّصافه بالكيف في شرح الفصل الثّاني من المختار التسعين فليراجع هناك.
و توضيح ما قاله من جهة النقل ما رواه في البحار من كتاب كفاية النصوص لعليّ بن محمّد بن عليّ بن الخزاز الرازي عن أبي المفضّل الشّيباني عن أحمد بن مطوق ابن سوار عن المغيرة بن محمّد بن المهلب عن عبد الغفار بن كثير عن إبراهيم بن حميد عن أبي هاشم عن مجاهد عن ابن عبّاس قال: قدم يهوديّ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقال له: نعثل.

فقال: يا محمّد إنّي سائلك عن أشياء تلجلج في صدرى منذ حين فان أنت أجبتني عنها أسلمت على يدك، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: سل يا با عمارة.
فقال: يا محمّد صف لي ربّك فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ الخالق لا يوصف إلّا بما وصف به نفسه و كيف يوصف الخالق الذي يعجز الحواس أن تدركه، و الأوهام أن تناله، و الخطرات أن تحدّه و الأبصار عن الاحاطة به، جلّ عمّا يصفه الواصفون، نأى في قربه، و قرب في نائه كيّف الكيفيّة فلا يقال له كيف، و أيّن الأين فلا يقال له أين، منقطع الكيفوفيّة و الأينونيّة، فهو الأحد الصّمد كما وصف نفسه، و الواصفون لا يبلغون نعته لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفوا أحد.

قال: صدقت يا محمّد أخبرني عن قولك إنّه واحد لا شبيه له أليس اللّه واحد و الانسان واحد فوحدانيّته أشبهت وحدانيّة الانسان‏

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اللّه واحد واحدىّ المعني و الانسان واحد ثنوىّ المعني جسم و عرض و بدن و روح، فانما التشبيه في المعاني لا غير.

و الثاني قوله عليه السّلام (و لا حقيقته أصاب من مثّله) أى من أثبت له المثل فلم يعرفه حقّ معرفته، لأنّه سبحانه واجب الوجود ليس كمثله شي‏ء فالجاعل له مثلا لم يعرفه بوجوب الوجود لأنّ وجوب الوجود ينفى المثل.
و المقصود بالكلام تنزيهه سبحانه عن المماثل و تحقيق أنّه سبحانه لا مثل له هو أنّ المثل هو المشارك في تمام الماهيّة و هو تعالى ليس له شريك فليس له مثل و أيضا قد تقرّر أنّه تعالى لا مهيّة له فلا يكون له مثل اذا الاشتراك في المهيّة فرع وجود المهيّة.

و قال الشارح البحراني: كلّ ما له مثل فليس بواجب الوجود لذاته، لأنّ المثليّة إمّا أن يتحقق من كلّ وجه فلا تعدّد إذا لأنّ التعدّد يقتضى المغايرة بأمر ما و ذلك ينافي الاتحاد و المثليّة من كلّ وجه هذا خلف، و إمّا أن يتحقّق من بعض الوجود.

و حينئذ ما به التماثل إما الحقيقة أو جزؤها أو أمر خارج عنها.
فان كان الأوّل كان به الامتياز عرضيا للحقيقة لازما أو زايلا لكن ذلك باطل لأنّ المقتضى لذلك العرضية إمّا المهيّة فيلزم أن يكون مشتركا بين المثلين لأنّ مقتضى الماهية الواحدة لا يختلف فما به الامتياز لأحد المثلين عن الاخر حاصل للاخر هذا خلف، أو غيرها فتكون ذات واجب الوجود مفتقرة في تحصيل ما تميّزها من غيرها إلى غير خارجي هذا محال.

و ان كان ما به التماثل و الاتّحاد جزءا من المثلين لزم كون كلّ منهما مركبا فكل منهما ممكن هذا خلف.
و بقى أن يكون التماثل بأمر خارج عن حقيقتهما مع اختلاف الحقيقتين لكن ذلك باطل.

أمّا أولا فلامتناع وصف واجب الوجود بأمر خارج عن حقيقته لاستلزام اثبات الصفةله تثنيته و تركيبه على ما مرّ.
و أمّا ثانيا فلأنّ ذلك الأمر الخارجي المشترك إن كان كمالا لذات واجب الوجود فواجب الوجود لذاته مستفيد للكمال من غيره هذا خلف، و إن لم يكن كمالا كان اثباته له نقصا، لأنّ الزيادة على الكمال نقص فثبت أنّ كلّ ماله مثل فليس بواجب الوجود لذاته.

و الثالث قوله عليه السّلام (و لا إيّاه عنى من شبّهه) و معناه مثل سابقه و الغرض به تنزيهه عن الشبيه.
و قال صدر المتألهين في شرح الكافي: الضابطة الكلّية في تنزيهه تعالى عن الاشتراك مع غيره في شي‏ء من الصّفات أو أمر من الأمور الوجوديّة أنّه يلزم عند ذلك إما المماثلة في الذات أو المشابهة في الصّفة، لأنّ ذلك الأمر المشترك إن كان معتبرا في ذاته تعالى فيلزم المثل، و إن كان زايدا عليه فأشبه و كلاهما محال.

أمّا الأوّل فللزوم التركيب المستلزم للامكان و الحاجة، و لما تقدّم من البرهان على نفى الماهية عن واجب الوجود، و أنّ كلّ ذي مهيّة معلول، و أيضا قد برهن على أنّ أفراد طبيعة واحدة لا يمكن أن يكون بعضها سببا للبعض مقدما عليه بالذات، و اللّه موجد كلّ ما سواه فلا مثل له في الوجود.
و أمّا الثاني فذلك الأمر الزائد إن كان حادثا لزم الانفعال و التغير الموجبين للتركيب تعالى عن ذلك علوّا كبيرا، و إن كان أزليّا لزم تعدّد الواجب تعالى و هو محال.

و الرابع قوله عليه السّلام (و لا صمده من أشار إليه و توهّمه) أى لم يقصده سبحانه من أشار إليه بالاشارة الحسيّة أو العقليّة، لأنّ من أشار إليه فقد حدّه، و من حدّه فقد عدّه، و من عدّه فقد أبطل أزله حسبما عرفته في شرح الفصل الخامس من المختار الأوّل، و في شرح المختار المأة و الثّاني و الخمسين، فالموجّه قصده إلى من يشير إليه موجّه له إلى شي‏ء ممكن ليس بواجب، و كذلك من وجّه قصده إلى شي‏ء موهوم‏ موجه له إلى مخلوق مصنوع مثله لا إلى المعبود بالحقّ الواجب لذاته، لتنزّهه سبحانه عن ادراك العقول و الأوهام، و تقدّسه عن درك الافهام حسبما عرفته في شرح الفصل الثاني من المختار الأوّل و غيره.

و قد قال الباقر عليه السّلام كلّ ما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه مخلوق مثلكم و لعلّ النمل الصّغار تتوهّم أنّ للّه زبانين «زبانيين» فانّ ذلك كمالها و تتوهّم أنّ عدمهما نقصان لمن لا يتّصف بهما.

و الخامس قوله عليه السّلام (كلّ معروف بنفسه مصنوع) و الغرض منه نفى العلم به بحقيقته بيان ذلك أنه تعالى لو كان معروفا بنفسه أى معلوما بحقيقته لكان مصنوعا إذ كلّ معروف مصنوع لكن التالى باطل فالمقدّم مثله، أما بطلان التالى فلأنّ المصنوع مفتقر إلى الصانع و المفتقر ممكن لا يكون واجبا، و أما وجه الملازمة فلأنّ كلّ معلوم بحقيقته فانّما يعلم من جهة أجزائه و كلّ ذي جزء فهو مركب محتاج إلى مركّب يركّبه و صانع يصنعه، فثبت بذلك أنّ كلّ معلوم الحقيقة مصنوع فانقدح منه أنّه تعالى شأنه غير معروف بنفسه بل معروف باثاره و آياته.

و السادس قوله عليه السّلام (و كلّ قائم في سواه معلول) و الغرض منه نفى كونه قائما بغيره، إذ لو كان قائما بغيره لكان معلولا، لأنّ كلّ قائم في سواه معلول لكن التالى باطل لأنّ المعلولية ينافي وجوب الوجود فالمقدّم مثله، و وجه الملازمة أنّ القائم بغيره محتاج إلى محلّ و كلّ محتاج ممكن و كلّ ممكن معلول فظهر منه أنه تعالى لا يكون قائما بغيره، بل كلّ شي‏ء قائم به موجود بوجوده.

و يمكن تقرير الدليل بنحو آخر و هو أن يقال: كلّ قائم في سواه معلول و الواجب تعالى ليس بمعلول فينتج أنه ليس قائما بغيره، و يأتي مثل هذا التقرير في الفقرة السابقة أعنى قوله كلّ معروف اه.

السابع أنه تعالى (فاعل لا باضطراب آلة) يعنى أنه خالق الخلايق أجمعين جاعل السماوات و الأرضين موجد الأولين و الاخرين من دون حاجة في فعله و ايجاده إلى اكتساب الالات و تحصيل الأدوات، لأنّ الافتقار إليها من صفات الامكان‏و لوازم النقصان و إنما أمره تعالى إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.

الثامن أنه (مقدّر لا بجول فكرة) يعنى أنه سبحانه قدّر لكلّ شي‏ء ما يستحقه من الوجود و أعطا كلّ موجود المقدار الذي يستعدّه من الكمال كما و كيفا في الأرزاق و الاجال و نحوها من دون افتقار في ذلك إلى جولان الفكر كما يفتقر إليه غيره من البشر، لأنّ الفكرة لا تليق إلّا بذوى الضمائر و هو تعالى منزّه عن الضمير و ساير الالات البدنية.

التاسع أنّه سبحانه (غنى لا باستفادة) يعنى أنّ غناه تعالى بنفس ذاته الواجب لا كالأغنياء منّا مستفيدا للغنى من الخارج و إلّا لزم كونه تعالى ناقصا في ذاته مستكملا بغيره و هو محال، و أيضا كلّ غنيّ غيره فقد صار موجودا بوجوده و حصل له الغنى من بحر كرمه وجوده، و معطى الشي‏ء لا يكون فاقدا له البتة.

العاشر أنه (لا تصحبه الأوقات) لأنه تعالى قديم و الوقت و الزمان حادث و الحادث لا يكون مصاحبا للقديم لاستلزام المصاحبة للمقارنة و المعيّة.
روى في البحار من التوحيد و الأمالى عن أبى بصير عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام قال: إنّ اللّه تبارك و تعالى لا يوصف بزمان و لا مكان و لا حركة و لا انتقال و لا سكون بل هو خالق الزمان و المكان و الحركة و السكون و الانتقال، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

(و) الحادي عشر أنّه (لا ترفده الأدوات) أى لا تعينه الالات فيما يوجده و ايده لغنائه عن الحاجة إلى الاعانة و تنزّهه عن الاستعانة حسبما عرفته آنفا.

و الثاني عشر أنه (سبق الأوقات كونه) أى وجوده أى كان وجوده سابقا على الأزمنة و الأوقات بحسب الزمان الوهمى أو التقديرى و كان علّة لها و موجدا إيّاها.

(و) الثالث عشر أنه سبق (العدم وجوده) أى وجوده لوجوبه سبق و غلب العدم فلا يعتريه عدم أصلا.
و قال الشارح البحراني: المراد عدم الممكنات لأنّ عدم العالم قبل وجوده كان مستندا إلى عدم الداعى إلى ايجاده المستند إلى وجوده، فوجوده سبق على‏ عدم الممكنات.

و قيل: اريد به اعدام الممكنات المقارنة لابتداء وجوداتها فيكون كناية عن أزليته و عدم ابتداء لوجوده.

(و) الرابع عشر أنه سبق (الابتداء أزله) أى سبق وجوده الأزلي كلّ ابتداء فليس لوجوده و لا شي‏ء من صفات ذاته ابتداء، أو أنّ أزليته سبق بالعلية كلّ ابتداء و مبتداء.

الخامس عشر أنه تعالى (بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له) أى بخلقه و ايجاده المشاعر الادراكية و الحواس و إفاضتها على الخلق عرف أن لا مشعر له، إما لما مرّ من أنه تعالى لا يتّصف بخلقه، أو لأنا بعد إفاضة المشاعر علينا علمنا حاجتنا في الادراك إليها فحكمنا بتنزّهه تعالى عنها لاستحالة الاحتياج عليه سبحانه.
و قال الشارح المعتزلي: لأنّ الجسم لا يصحّ منه فعل الأجسام و هذا هو الدّليل الذي يعول عليه المتكلّمون في أنه تعالى ليس بجسم.

و قال الشارح البحراني: و ذلك أنه تعالى لما تعالى خلق المشاعر و أوجدها و هو المراد بتشعيره لها امتنع أن يكون له مشعر و حاسة و إلّا لكان وجودها له إمّا من غيره و هو محال، أمّا أوّلا فلأنّه مشعر المشاعر و أمّا ثانيا فلأنه يكون محتاجا في كماله إلى غيره فهو ناقص بذاته هذا محال، و إمّا منه و هو أيضا محال لأنه إن كان من كمالات الوهيّته كان موجودا لها من حيث فاقد كمالا فكان ناقصا بذاته هذا محال، و إن لم يكن كما لا كان اثباتها له نقصا لأنّ الزيادة على الكمال نقصان فكان ايجاده لها مستلزما لنقصانه و هو محال انتهى.

و اعترض عليه صدر المتألّهين في شرح الكافى و قال فيه بحث من وجوه: أحدها بطريق النقض فانّ ما ذكره لو تمّ يلزم أن لا يثبت له تعالى على الاطلاق صفة كمالية كالعلم و القدرة و نحوهما بأن يقال امتنع أن يكون له علم مثلا و إلّا لكان وجوده له إما من غيره، إلى آخر ما ذكره.

و ثانيها بالحلّ و هو أنّ ههنا احتمالا آخر نختاره، و هو أن يكون ذلك‏ المشعر عين ذاته كالعلم و القدرة فان بطلانه لو كان بديهيّا لم يحتج إلى الاستدلال إذ كلّ ما يحتمل قبل الدليل أن يكون عارضا له يحتمل أن يكون عينا له.
و ثالثها أنّ ما ذكره من الكلام على تقدير تمامه استدلال برأسه لم يظهر فيه مدخلية قوله بتشعيره المشاعر في نفى المشعر عنه تعالى، و إنما استعمله في إثبات مقدّمة لم تثبت به و قد ثبت بغيره كما لا يخفى على الناظر فيه.

فالأولى أن يقال: قد تقرّر أنّ الطبيعة الواحدة لا يمكن أن يكون بعضها علّة لبعض آخر لذاته بأن يقال: لو فرض كون نار مثلا علّة النار أخرى فعليّة هذه و معلولية هذه إمّا لنفس كونهما نارا فلا رجحان لإحداهما في العلّية و للأخرى في المعلوليّة لتساويهما في النارية، بل يلزم أن يكون كلّ نار علّة للاخرى بل علّة لذاتها و معلولا لذاتها و هو محال و إن كان العلية لانضمام شي‏ء آخر فلم يكن ما فرضناه علّة بل العلّة حينئذ ذلك الشي‏ء فقط لعدم الرجحان في إحداهما للشرطيّة و الجزئية أيضا لاتّحادهما من جهة المعنى المشترك و كذلك الحال لو فرض المعلوليّة لأجل ضميمة، فقد تبيّن أنّ جاعل الشي‏ء يستحيل أن يكون مشاركا لمجعوله.
و به يعرف أنّ كلّ كمال و كلّ أمر وجودى يتحقّق في الموجودات الامكانية فنوعه و جنسه مسلوب عنه تعالى و لكن يوجد له ما هو أعلى و أشرف منه.
أمّا الأوّل فلتعاليه عن النقص و كلّ مجعول ناقص و إلّا لم يكن مفتقرا الى جاعل و كذا ما يساويه في المرتبة و آحاد نوعه كاحاد جنسه.
و أمّا الثاني فلأنّ معطى كلّ كمال ليس بفاقد له بل هو منبعه و معدنه و ما في المجعول رشحه و ظلّه، انتهى.

(و) السادس عشر أنه سبحانه (بمضادّته بين الامور عرف أن لا ضدّ له) لأنّ الضدّ يطلق على معنيين.
أحدهما المعنى الاصطلاحى فيقال الضدّان في الاصطلاح على الأمرين الوجوديّين الذين يتعاقبان على موضوع واحد و محلّ واحد.
و الثاني المعنى العرفي الذى هو المكافئ للشّي‏ء و المساوى له في القوّةو على أىّ معنى كان فليس يجوز أن يكون له سبحانه ضدّ.

أمّا على الأوّل فلأنّه لما خلق الأضداد في محالها وجدناها محتاجة إليها علمنا عدم كونه ضدّ الشي‏ء للزوم الحاجة إلى المحلّ المنافية لوجوب الوجود أو لأنّا لما رأينا كلّا من الضدّين يمنع وجود الاخر و يدفعه و يفنيه علمنا أنّه تعالى منزّه عن ذلك، أو أنّ التضاد إنما يكون للتحدّد بحدود معيّنة لا تجامع غيرها كمراتب الألوان و الكيفيات، و هو سبحانه منزّه عن الحدود، و أيضا كيف يضادّ الخالق مخلوقه و الفايض مفيضه.

و أما على الثاني فلأنّ المساوى للقوّة في الواجب يجب أن يكون واجبا فيلزم تعدد الواجب و هو باطل.
و قال الشارح البحراني: إنّه لما كان خالق الأضداد فلو كان له ضدّ لكان خالقا لنفسه و لضدّه و هو محال، و لأنّك لما علمت أنّ المضادّة من باب المضاف و علمت أنّ المضاف ينقسم إلى حقيقيّ و غير حقيقىّ فالحقيقىّ هو الّذى لا نعقل مهيّته إلّا بالقياس إلى غيره، و غير الحقيقى هو الذي له في ذاته مهيّة غير الاضافة تعرض لها الاضافة، و كيف ما كان لا بد من وجود الغير حتى يوجد المضاف من حيث هو مضاف، فيكون وجود أحد المضافين متعلّقا بوجود الاخر، فلو كان لواجب الوجود ضدّ لكان متعلق الوجود بالغير فلم يكن واجب الوجود لذاته هذا خلف انتهى.

أقول: و أنت خبير بأنّ ما ذكره أخيرا في علّة إبطال الضّد أعنى قوله: لو كان لواجب الوجود ضدّ لكان متعلّق الوجود بالغير اه إنما يتمشّى في القسم الأوّل أعنى المضاف الحقيقى، و أمّا في القسم الثاني فلا، إذ تعلّق وجوده بالغير ممنوع لأنّ له فى ذاته مهيّة موجودة كما صرّح به، و إنما إضافته موقوفة على الغير كما لا يخفى.
فالأولي أن يساق الدليل إلى قوله حتّى يوجد المضاف من حيث هو مضاف على النحو الذي ساقه ثمّ يقال: و هو محال عليه تعالى.
أما على التقدير الأول فظاهر إذ لا مكافى‏ء و لا مضادّ له في الوجود لما أشرنا إليه.

و أمّا على الثاني فلأنّ صفاته عين ذاته و ليس له صفة عارضة فلا يتّصف بالاضافة العرضية، و هذا كلّه بعد الغضّ عما برهن عليه من أنّ الواجب سبحانه لا مهية له فافهم جيدا.
و به يظهر الجواب عما ربما يعترض في المقام بأنّه تعالى بذاته مبدء الأشياء و خالقها و موجدها، و كلّ هذه الامور إضافات فيكون مضافا حقيقيا.

وجه ظهور الجواب أنّ المضاف من أقسام المهية التي لها أجناس عالية، و الوجود ليس بمهية كلية و لا جنس له و لا فصل سيّما وجود الواجب الذى لا يشوبه عموم و لا مهيّة، ألا ترى أنّ كونه موجودا لا في موضوع لا يوجب كونه جوهرا إذ الجواهر مهيّة حقّها في الوجود الخارجى أن لا يكون في موضوع، و الأوّل تعالى لا مهيّة له فلا يكون جوهرا و كذا لا يكون مضافا.

(و) السابع عشر أنّه (بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له) و الكلام فيه كما مرّ في سابقه حرفا بحرف.
بأن يقال: انه تعالى خلق المقترنات و مبدء المقارنة بها فلو كان مقارنا لغيره لكان خالقا لنفسه و لقرينه و هو محال، و أيضا المقارنة من باب المضاف و يمتنع أن يلحق الواجب لما تقدّم.
و قال صدر المتألهين في شرح الكافي: برهانه أنه خالق المقترنات و نحو وجودها الذى بحسبه يكون مقترنا بالذات، أو يصحّ عليه المقارنة.

فالأوّل ككون الشي‏ء عارضا لشي‏ء أو معروضا ملزوما له أو صورة شي‏ء أو مادّة شي‏ء أو جزء شي‏ء و الثاني ككون الشي‏ء معروضا بشي‏ء بعد ما لم يكن، أو مادّة ككون جسم ملاقيا لجسم آخر و هذه كلّها ممّا لا يجوز لحوقه لكلّ موجود اتفق، بل من الموجود ما يستحيل عليه لذاته الاقتران بشي‏ء كالمفارقات مثلا و كالاضداد بعضها لبعض.
و الغرض أنّ كون الشي‏ء بحيث يجوز عليه المقارنة شي‏ء آخر أمر يرجع إلى خصوصيّة ذاته و نحو وجوده، و قد علمت أنّ خالق كلّ موجود ليس من نوع ذلك‏ الوجود، فلو كان ذاته مقارنا بشي‏ء آخر و انحاء المقارنات محصورة و كل منها قد وجد في المخلوقات فيلزم كونه من نوع المخلوقات بل يلزم كونه خالقا لنفسه كما مرّ.

الثامن عشر أنّه مضادّ بين الأمور المتضادّة و هو في الحقيقة تأكيد للوصف السّادس عشر، لأنه قد ذكر جملة من أقسام المتضادّات و المتفرّقات ليتبيّن أنّ مضادّها و مفرّقها ليس من جنسها، و يتّضح أنه ليس متّصفا بها و لا بالتضاد فقال: (ضاد النّور بالظلمة) و هو دليل بظاهره بصيغة الفاعل على كون الظلمة أمرا وجوديا مطابق لقوله تعالى: وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ إذ لو كان أمرا عدميّا لم يكن مجعولا مخلوقا، و هو مذهب المحقّقين من المتكلّمين حسبما عرفته في شرح الفصل الأوّل من المختار الرابع، خلافا للاشراقيّين و أتباعهم حيث ذهبوا إلى أنّها ليست إلّا عدم النّو فقط، من غير اشتراط الموضوع القابل.

قال الصّدر الشيرازي: و الحقّ أنها ليست عدما صرفا بل هي عبارة عن عدم الضوء عما من شأنه أن يضي‏ء و إذا ليست بعدم صرف، و مع ذلك يتعاقب مع الضوء على موضوع واحد كالهواء و نحوه، فصّح عليه إطلاق الضّد على اصطلاح المنطقيين حيث لا يشترط في اصطلاحهم المنطقى كون كلا الضدّين وجوديّين، بل الشرط عندهم التعاقب على موضوع واحد انتهى.

و على ذلك أى كونها عبارة عن عدم الضوء عما من شأنه أن يكون مضيئا تقابل الضّوء تقابل العدم و الملكة، و يكون اطلاق الضدّ عليها بحسب الاصطلاح الحكمي مجازا كما لا يخفى.
(و) ضاد (الوضوح بالبهمة) أى الظهور بالابهام و الجلاية بالخفاء، و فسّرهما الشارحان المعتزلي و البحراني بالبياض و السّواد و لا يخفى بعده (و الجمود بالبلل) أى اليبوسة بالرطوبة (و الحرور بالصرد) أى الحرارة أو حرارة الريح الحارة بالبرودة.

التاسع عشر أنّه تعالى (مؤلّف بين متعادياتها مقارن بين متبايناتها مقرّب بين متباعداتها) لا يخفى حسن الاسلوب و لطافة التطبيق في هذه الفقرات الثلاث‏ و الفقرة الرابعة الاتية، حيث طابق بين التأليف و التعادى و التقارن و التباين و التقريب و التباعد و التفريق و التداني.

و المقصود أنّه جمع سبحانه بقدرته الكاملة و حكمته البالغة بين الامور التي في غاية التباين و التباعد، مثل جمعه بين العناصر المختلفة الكيفيّات و بين الروح و البدن، و القلوب المتشتّتة و الأهواء المتفرّقة، فبدّل ذلك الجمع و التأليف الواقع على خلاف مقتضى الطبايع على قاهر يقهرها عليه، و قاسر يقسر العناصر على الامتزاج و الالتيام و الاستحالة، حتّى يحصل بينها كيفيّة متوسّطة هي المزاج إذ لو كان كلّ منها في مكانه لم يحصل بينها امتزاج فلم يتحصّل منها مزاج.

العشرون أنّه (مفرّق بين متدانياتها) لا يخفى حسن المقابلة بين هذه القرينة و القراين الثلاث السابقة، حيث جعل التفريق في قبال التأليف و القرآن و التقريب و جعل التداني في مقابلة التباعد و التباين و التعادى.
و المراد أنه فرّق بين الأشياء على منتهى قربها مثل تفريقه بين أجزاء العناصر لبطلان تركيبها و بين الرّوح و البدن بالموت و بين أجزاء المركبات عند انحلالها و الأبدان بعد موتها، فدلّ ذلك التفريق على وجود المفرّق و قدرته، قال تعالى: «وَ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ».

قيل في تفسيره: إنّ في خلق الزوجين دلالة على المفرّق و المؤلّف لهما، لأنّه خلق الزوجين من واحد بالنوع فيحتاج إلى مفرّق يجعلهما متفرّقين و جعلهما مزاوجين مؤتلفين ألفه بخصوصهما فيحتاج إلى مؤلّف يجعلهما مؤتلفين.

الحادى و العشرون أنّه (لا يشمل بحدّ) أي لا يشمله حدّ و لا يكون محدودا به، لا بالحدّ الاصطلاحي و لا بالحدّ اللّغوي، لما مرّ غير مرّة في تضاعيف الشرح من أنّ الحدّ الاصطلاحي و هو القول الشارح لمهيّة الشي‏ء المؤلف من المعاني الذاتية المختصّه به، فلا بدّ أن يكون المحدود به مركّبا ذا أجزاء، و الواجب تعالى ليس بمركب فلا يكون محدودا، و الحدّ اللّغوي عبارة عن نهاية الشي‏ء الذي يقف عندها و لا يتجاوز عنها، و هو من لواحق الكمّ المتّصل و المنفصل و الكمّ من الأعراض‏و لا شي‏ء من الواجب بعرض أو محلّ له فامتنع أن يوصف به.

(و) الثاني و العشرون أنّه (لا يحسب بعدّ) قال الشارح البحراني: أى لا يلحقه الحساب و العدّ فيدخل في جملة المحسوبات بالمعدودة و ذلك إنّ العدّ من لواحق الكمّ المنفصل الذي هو العدد كما هو معلوم في مظانه و الكمّ عرض، و قد ثبت أنه تعالى ليس بعرض و لا محلّ له.

و قال الشّارح المعتزلي: يحتمل أن يريد به أنّه لا تحسب أزليّته بعدّ أى لا يقال له منذ وجد كذا و كذا كما يقال للأشياء المتقاربة العهد و يحتمل أن يريد به أنّه ليس مماثلا للأشياء فيدخل تحت العدّ كما يعدّ الجواهر و كما تعدّ الامور المحسوسة.
و قال العلّامة المجلسي (ره): لا يحسب بالأجزاء و الصّفات الزائدة المعدودة.
أقول: و الكلّ صحيح محتمل لا غبار عليه و إن كان الأوّل أشبه، فالمقصود به أنّه ليس من جملة المعدودات كما ربما يسبق ذلك إلى الوهم إذا وصفناه سبحانه بأنه واحد فيتوهّم منه أنّه واحد ليس له ثان و أنّ وحدته وحدة عدديّة، و اندفاع ذلك الوهم بأن معنى كونه واحدا أنّه احدى الذات و أنّه ليس له مثل و نظير لا أنّه واحد بالعدد، لأنه لا يحسب بعد فيكون مساقه مساق قوله عليه السّلام في الخطبة السابقة واحد لا بعدد، هذا.

و لما نزّهه تعالى عن كونه محدودا بحدّ و معدودا بعدّ أكّد ذلك بقوله (و إنما تحدّ الأدوات أنفسها و تشير الالات إلى نظايرها) يعني أنّه سبحانه لو رام أحد أن يحدّه أو يعدّه فلا بدّ أن يكون تحديده و عدّه بالالات البدنيّة و القوى الجسمانيّة ظاهريّة كانت كالأصابع و اليد و اللّسان و غيرها، أو باطنية كالمتوهّمة و المتفكرة و المتخيّلة، لكن شيئا منها لا يقدر على ذلك.

أمّا الجوارح الظاهرة فلانحصار مدركاتها في عالم المحسوسات و الأجسام و الجسمانيات، فهي إنما تدرك و تحدّ أنفسها أى أجناسها و أنواعها و تعدّ نظايرها أي ذوات المقادير و تشير إلى ما هي مثل لها في الجسمية و الجسمانية، و صانع العالم‏ليس بجسم و لا جسماني و لا ذي مقدار فاستحال أن تحدّه الالات و تعدّه الأدوات.

و أمّا المشاعر الباطنة فانّ مدركاتها و إن لم تكن مقصورة في المحسوسات و الموجودات إلّا أنها إذا حملت على ما ليس بموجود في الخارج ترجع و تخترع صورة مماثلة للموجود حسبما عرفته في شرح الفصل الثاني من المختار الأوّل فهي أيضا لا تتعلّق إلّا بما يماثلها في الامكان و لا تحيط إلّا بما هو في صورة جسم أو جسماني.

فاتّضح بذلك أنّ أفعال الأدوات و الالات و آثارها إنما توجد في الأشياء الممكنة الّتي هي مثلها لا فيه تعالى، هذا.
و لما ذكر أنّه سبحانه أجلّ و أعظم شأنا و قدسا من دخوله في عداد المحدودات و أكّده باستحالة التحديد و الاشارة إليه سبحانه من الالات و الأدوات لكون مدركاتها مقصورة محصورة في أسناخها و أشباهها من الممكنات و المحسوسات و أكّده ثانيا بالتنبيه على أنّ الالات موصوفة بالحدوث و الامكان و النقص، و الحقّ الأوّل جلّ شأنه و عظم سلطانه موصوف بالقدم و الوجوب و الكمال، فكيف لها أن تحوم حوم حضرة القدس و أنّى للحادث أن يحدّ القديم و للممكن الاشارة إلى الواجب و للناقص الاحاطة بمن هو في غاية العظمة و الكمال و الجبروت و الجلال.

و ذلك قوله (منعتها منذ القدمة و حمتها قد الأزلية و جنبتها لو لا التّكملة) فالمقصود بهذا الكلام التنبيه على حدوث الالات و الأدوات و نقصها صراحة و الاشارة إلى قدم الباري تعالى و كماله ضمنا أو بالعكس، و الأوّل مبنيّ على كون منذ و قد و لو لا مرفوعات المحل على الفاعلية، و الثاني على انتصابها بالمفعوليّة و كون الفاعل القدمة و الأزليّة و التكملة و الأوّل أولى و أنسب لمطابقته لنسخة الرضيّ كما روي و لكون قرب هذه الجمل بقوله و إنما تحدّ الأدوات آه مشعرا بكون عمدة النظر فيهما إلى بيان وصف الالات بالحدوث و إظهار نقصها و قصورها و ان كان المقصود بالذات منهما جميعا الدلالة على تنزيه الباري سبحانه من القصور و النقصان.

و كيف كان فتوضيح دلالة هذا الكلام على المرام يحتاج إلى تمهيد مقدّمةأو بيّنة و هي: أنّ لفظ منذ مثل اختها مذلها معنيان.
أحدهما أوّل المدّة أى ابتداء زمان الفعل الذي قبلها مثبتا أو منفيا تقول رأيته منذ يوم الجمعة أو ما رأيته منذ يوم الجمعة أى أوّل مدّة الرؤية أو انتفاؤها يوم الجمعة.
و ثانيها جميع مدّة الفعل الذي قبلها مثبتا أو منفيا، نحو صحبني منذ يومان أى مدّة صحبته يومان فيليها الزّمان الذي فيه معنى العدد، و يجب أن يليها مجموع زمان الفعل من أوّله الى آخره المتصل بزمان التكلّم.

و قد يقع بعدها مصدر أو فعل أو ان فيقدّر زمان مضاف الى هذه نحو ما رأيته منذ سفره أو منذ سافر أو منذ أنه سافر أى منذ زمان سفره و منذ زمان سافر و منذ زمان أنه سافر.
و لفظة قد اذا دخلت على الماضي تفيد التحقيق و تقريب الماضي من الحال تقول: قد ركب زيد أى حصل ركوبه عن قريب، فان قلت ركب زيد احتمل الماضي القريب و البعيد و لذلك لا تدخل على الفعل الغير المنصرف مثل نعم و بئس و عسى و ليس لأنّها ليست بمعنى الماضي حتى يقرّب معناها من الحال.

و لفظة لو لا موضوعة للدخول على جملة اسمية ففعلية لربط امتناع الثانية بالاولى تقول لو لا زيد لأكرمتك أى لو لا زيد موجود، فهي تدلّ على امتناع الاكرام بسبب وجود زيد، و تقول في الأشياء البديعة المعجبة ما أحسنها و ألطفها لو لا ما فيها من عيب كذا، فتفيد انتفاء شدّة الحسن و الاعجاب بوجود العيب الموجود فيها.

و إذا مهّدت هذه المقدّمة الشريفة نقول: معنى كلامه عليه السّلام على رواية رفع منذ و قد و لو لا بالفاعلية أنّ صحّة إطلاق هذه الألفاظ الثلاثة بمعانيها المذكورة و اطراد استعمالها في الالات و الأدوات في نفسها و ما يتعلّق بها من أوصافها أو في أهلها أعنى من له تلك الالات تدلّ على حدوثها و نقصانها و ذلك لأنّ دخول لفظة منذ عليها في قولنا: هذه الالات وجدت منذ زمن طويل أو قصير أو أعوام كذا تمنعها من كون تلك الالات قديمة، إذ القديم متعال عن الزّمان و لا ابتداء لوجوده.

و كذا دخول لفظة قد عليها في قولنا: قد وجدت تلك الالات في وقت كذا يمنعها من كونها أزليّة لافادتها تقريب زمان وجودها من الحال المنافي للأزليّة إذ الأزلي ما لا بداية لوجوده فكيف يكون الزمان الماضي ظرفا لوجوده فضلا عن القرب إلى الحال.
و كذا صحّة استعمال لو لا فيها في قولنا: ما أحسن تلك الالات و أكملها أو أحسن و أكمل أربابها لو لا فنائها يجنّبها أى تجعلها أجنبيّة من التكملة و الوصف بالكمال.

فملخّص المعنى أنها منعتها صحّة دخول منذ من قدمتها، و صحّة دخول قد من أزليتها و جعلها صحّة استعمال لو لا أجنبية من تكملتها أى من توصيفها بالكمال.
و أما على رواية النّصب و كون القدمة و الأزليّة و التكملة مرفوعات بالفاعلية فالمراد بيان قدم الباري و كماله سبحانه.

و معنى الكلام أن هذه الالات منعها كون الباري قديما من جواز استعمال لفظة منذ المربوط معناها بالزمان فيه تعالى و اطلاقها عليه سبحانه، لأنّ القديم سابق على الوقت و الزمان، و كذا منعها كونه سبحانه أزليا من جواز استعمال قد فيه عزّ شأنه، و جنّبها كونه على غاية العزّ و الكمال و منتهى العظمة و الجلال من دخول لفظة لو لا المفصحة عن القصور و النقصان على ذاته و صفاته تعالى هذا.

و لما ذكر عليه السّلام قدسه تعالى عن الاتّصاف بحدّ و الاحتساب بعدّ و ارتفاع ذاته عن تحديد الالات و المشاعر، و تعاليه عن إدراك الممكنات عن الأعراض و الجواهر و أشار إلى حدوث الالات و قصورها و نقصانها و قدمة الباري و أزليته و كماله أردفه بقوله (بها تجلى صانعها للعقول و بها امتنع عن نظر العيون) تنبيها على أنها على ما فيها من القصور و النقص غير عادم المدخلية في معرفته سبحانه، إذ بها عرفنا صفات جماله، و بها علمنا صفات جلاله.

فمعنى قوله عليه السّلام: بها تجلّي صانعها للعقول، أنّه بخلقه تلك المشاعر و الالات على‏وجه الاتقان و الاحكام، و تقديره إيّاها على النظام الأكمل و إفاضتها علينا و إهداء كلّ منها إلى ما خلق لأجلها من المصالح و المنافع التي لا تعدّ و لا تحصى، تجلّي سبحانه لعقولنا و علمنا علما لا يعتريه شكّ و ريب أنّ لها صانعا قادرا عالما مدبّرا حكيما و أيضا فانه سبحانه لما خلق تلك الالات و الحواس المدركة لبدايع ما في عالم الامكان عرفنا بإدراكها أنّ لذلك العالم مبدعا قادرا و صانعا قاهرا فكانت تلك الالات طرقا لعرفان العقل كما قال عزّ من قائل «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» و معنى قوله: و بها امتنع عن نظر العيون، أنّه بها استنبطنا استحالة كونه مرئيا بحاسة البصر، و ذلك لأنا بالمشاعر و الحواس كملت عقولنا استخرجنا الدّلالة على أنّه لا تصحّ رؤيته، و عرفنا أنه يستحيل أن يعرف بغير العقل و أنّ قول من قال إنّا سنعرفه رؤية و مشافهة بالحاسة باطل، هكذا قال الشارح المعتزلي.

و قال الشارح البحراني: إنّه بايجادها و خلقها بحيث تدرك بحاسّة البصر علم أنّه تعالى يمتنع أن يكون مرئيا مثلها، و ذلك لأنّ تلك الالات إنما كانت متعلّقة حسّ البصر باعتبار أنّها ذات وضع وجهة و لون و غيره من شرايط الرؤية، و لما كانت هذه الأمور ممتنعة في حقّه تعالى لا جرم امتنع أن يكون محلّا لنظر العيون.
و قال العلّامة المجلسي (ره): لما رأينا المشاعر انما تدرك ما كان ذا وضع بالنسبة إليها علمنا أنه لا يدرك بها، لاستحالة الوضع فيه.

و الثالث و العشرون أنه سبحانه (لا يجرى عليه السكون و الحركة) لأنّهما من أقسام الأعراض و أوصاف الأجسام فيستحيل جريانهما عليه سبحانه، و أوضح ذلك الدّليل بوجوه: أحدها ما أشار إليه بقوله (و كيف يجرى عليه ما هو أجراه و يعود فيه ما هو أبداه و يحدث فيه ما هو أحدثه) استفهام على سبيل الانكار و الابطال لجريهما عليه تعالى تقريره أنّه عزّ و جلّ هو جاعل الحركة و السّكون و مبدؤهما و موجدهما فهما من مجعولاته و آثاره سبحانه في الأجسام، و كلّ ما كان من آثاره فيستحيل‏اتّصافه به.

أمّا أنهما من آثاره سبحانه فواضح و أمّا استحالة اتّصافه بهما فلأنّ المؤثّر واجب التقدّم بالوجود على الأثر فذلك الأثر: إمّا أن يكون معتبرا في صفات الكمال فيلزم أن يكون الواجب ناقصا بذاته مستكملا بغيره من آثاره، و النقص عليه محال.
و إمّا أن لا يكون معتبرا في صفات الكمال فله الكمال المطلق بدون ذلك الأثر فيكون إثباته له و توصيفه به نقصا في حقّه لأنّ الزيادة على الكمال المطلق نقصان و هو عليه محال.

ثانيها ما أشار إليه بقوله (اذا لتفاوتت ذاته) يعني أنّه لو جريا عليه لكان ذاته متفاوتة متغيّرة بأن يكون تارة متحرّكة و أخرى ساكنة و الواجب لا يكون محلّا للحوادث و المتغيّرات لرجوع التغيير فيها إلى الذات.
ثالثها ما أشار إليه بقوله (و لتجزّء كنهه) أى لو كان متّصفا بهما يلزم أن يكون ذاته و كنهه متجزّءا كما قد أفصح عنه في الفصل الرابع من الخطبة الاولى بقوله: فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه و من قرنه فقد ثنّاه و من ثنّاه فقد جزّاه.
و توضيحه أنّهما من الأعراض الخاصّة بالأجسام فلو اتّصف الواجب تعالى بهما لكان جسما و كلّ جسم مركب قابل للتجزئة و كلّ مركب مفتقر إلى أجزائه و ممكن، فيكون الواجب مفتقرا ممكنا و هو باطل.
و قيل في وجه الملازمة: إنّ اتّصافه بهما يستلزم شركته مع الممكنات فيلزم تركبه ممّا به الاشتراك و ممّا به الامتياز، و ما قلناه أولى.

رابعها ما أشار إليه بقوله (و لامتنع من الأزل معناه) و هو في الحقيقة تعليل لما سبق أى إذا استلزم اتصافه بهما للتركيب و التجزئة التي هي من خواصّ الأجسام فيمتنع استحقاقه للأزليّة لأنّه حينئذ يكون جسما و كلّ جسم حادث.
خامسها ما أشار إليه بقوله (و لكان له وراء إذ وجد له أمام) و هذا الدّليل‏مخصوص بنفى الحركة.
قال الشارح المعتزلي: يقول لو حلته الحركة لكان جرما و حجما و لكان أحد وجهيه غير وجهه الأخر لا محالة فكان منقسما.

و قال الشارح البحراني: لو جرت عليه الحركة لكان له أمام يتحرّك إليه و حينئذ يلزم أن يكون له وراء إذ له أمام لأنهما إضافتان لا تنفكّ إحداهما عن الاخرى لكن ذلك محال لأنّ كلّ ذي وجهين فهو منقسم، و كلّ منقسم ممكن.
و سادسها ما أشار إليه بقوله (و لالتمس التّمام إذ لزمه النقصان) و هذا الدليل أيضا مخصوص بنفى الحركة و يستفاد منه نفي السّكون بالأولويّة يقول عليه السّلام: إنّه سبحانه لو كان متحرّكا لكان ملتمسا بحركته كمالا لم يكن له حال سكونه لأنّ السكون كما قاله الحكماء عدم و نقص، و الحركة وجود و كمال، فلو كان الواجب تعالى متحرّكا لكان طالبا بالحركة الطارية على سكونه الكمال و التمام لكنه يستحيل أن يكون له حالة نقصان و أن يكون له حال بالقوّة و أخرى بالفعل.

قال الشارح البحراني في تقريره: إنّ جريان الحركة عليه مستلزم لتوجّهه بها إلى غاية إما جلب منفعة أو دفع مضرّة، إذ من لوازم حركات العقلاء ذلك، و على التقديرين فهما كمال مطلوب له لنقصان لازم لذاته، لكن النقصان بالذات و الاستكمال بالغير مستلزم للامكان فالواجب ممكن، هذا خلف.

أقول: و ان شئت مزيد توضيح لهذا الدليل فهو موقوف على تحقيق معنى الحركة و بسط الكلام في المقام فأقول: عرّفها أرسطو و من تابعه بأنها كمال أول لما هو بالقوّة من حيث هو بالقوّة و عرّفها المتكلّمون بأنها حصول الجسم في مكان بعد آخر، و تقييدهم الحصول بالمكان بناء على أنّهم لا يثبتون الحركة في ساير المقولات بل يخصّونها بمقولة الأين فقط، و أمّا الأوّلون فيحكمون بوقوعها في الأين و الوضع و الكمّ و الكيف، و تفصيل ذلك موكول إلى الكتب الكلاميّة، و المراد بالكمال في تعريفهم هو الحاصل بالفعل.

قال الشارح القوشجي: و إنّما سمّى الحاصل بالفعل كمالا لأنّ في القوّة نقصانا و الفعل تمام بالنسبة إليها، و هذه التسمية لا يقتضي سبق القوّة بل يكفيها تصوّرها و فرضها.
و احترز بقيد الأوليّة عن الوصول، فانّ الجسم إذا كان في مكان مثلا و هو ممكن الحصول في مكان آخر كان له إمكانان إمكان الحصول في ذلك المكان و إمكان التوجّه إليه، و هما كمالان و التوجّه مقدّم على الوصول فهو كمال أوّل و الوصول كمال ثان.

ثمّ إنّ الحركة تفارق ساير الكمالات من حيث إنّها لا حقيقة لها إلّا التّوجه إلى الغير فالسّلوك إليه، فلا بدّ من مطلوب ممكن الحصول ليكون التوجّه توجّها إليه، و من أن لا يكون ذلك المطلوب حاصلا بالفعل، إذ لا توجّه بعد حصول المطلوب.

فالحركة إنما تكون حاصلة بالفعل إذا كان المطلوب حاصلا بالقوّة، لكن من حيث هو بالقوّة لا من حيث هو بالفعل و لا من حيثية اخرى كساير الكمالات فانّ الحركة لا تكون كمالا للجسم في جسميّته أو في شكله أو نحو ذلك، بل من الجهة التي هو باعتبارها كان بالقوّة أعنى الحصول في المكان الاخر.
و احترز بهذا القيد عن كمالاته التي ليست كذلك كالصّورة النوعيّة، فانّها كمال أوّل للمتحرّك الذى لم يصل إلى المقصود، لكن لا من حيث هو بالقوّة بل من حيث هو بالفعل.
و أنت إذا عرفت ذلك تعرف أنّ الحقّ الأوّل تعالى شأنه يمتنع جريان الحركة عليه سواء كانت بالمعنى الذى يقوله الفلاسفة أو بالمعنى الذى يقوله المتكلّمون.

أمّا على الثاني فواضح لأنها عندهم هو حصول الجسم في مكان بعد آخر و هو تعالى ليس بجسم و لا حاجة له إلى المكان.
و أمّا على الأوّل فأوضح.

أمّا أوّلا فلأنّ محلّها عندهم هو المقولات الأربع أعنى الكم و الكيف و الوضع و الأين و كلّها من أنواع العرض و اللّه سبحانه ليس بعرض و لا جوهر بل خالق الجوهر و العرض و جاعل الوضع و الكم و هو الذي أيّن الأين بلا أين و كيّف الكيف بلا كيف.

و أمّا ثانيا فلأنه تعالى ليس له كمال بالفعل و كمال بالقوّة بل جميع كمالاته فعلية.
و أمّا ثالثا فلأنه ليس عادما بشي‏ء من الكمالات حتّى يحتاج بحركته إلى تحصيل كمال بل هو كامل في ذاته و تمام في صفاته جامع لجميع الكمالات الذاتية و الصّفاتية، هذا.

و قد نبه على عدم جريان الحركة عليه سبحانه بمعنييه أبو إبراهيم موسى ابن جعفر عليه السّلام في الحديث المروى في الكافي عن يعقوب بن جعفر الجعفري قال: ذكر عند أبي إبراهيم عليه السّلام قوم يزعمون أنّ اللّه تبارك و تعالى ينزل إلى السّماء الدّنيا فقال عليه السّلام: إنّ اللّه لا ينزل و لا يحتاج إلى أن ينزل إنما منظره في القرب و البعد سواء، لم يبعد منه قريب و لم يقرب منه بعيد، و لم يحتج إلى شي‏ء بل يحتاج إليه و هو ذو الطول لا إله إلّا هو العزيز الحكيم أما قول الواصفين انّه ينزل تبارك و تعالى فانما يقول ذلك من ينسبه إلى نقص أو زيادة و كلّ متحرّك محتاج إلى من يحرّكه أو يتحرّك به فمن ظنّ باللّه الظنون هلك، فاحذروا في صفاته من أن تقفوا له على حدّ يحدّونه بنقص أو زيادة أو تحريك أو تحرّك أو زوال أو استنزال أو نهوض أو قعود، فانّ اللّه جلّ و عزّ عن صفة الواصفين و نعت الناعتين و توهّم المتوهّمين و توكّل على العزيز الرّحيم الذى يراك حين تقوم و تقلّبك في الساجدين.

قال بعض الأفاضل«» في شرح الحديث: قوله عليه السّلام «إنّ اللّه لا ينزل و لا يحتاج إلى أن ينزل» لأنّ المتحرّك من مكان إلى مكان إنما يتحرّك لحاجة إلى الحركة إذ ليست نسبته إلى جميع الأمكنة نسبة واحدةبل إذا حضر له مكان أو مكانيّ غاب عنه مكان أو مكانيّ آخر، و إذا قرب من شي‏ء بعد عن شي‏ء آخر فاذا حصل في مكان و كان مطلوبه في مكان آخر فيحتاج في حصول مطلوبه إلى الحركة إلى مطلوبه أو حركة مطلوبه إليه، و اللّه سبحانه لما لم يكن مكانيا كان نسبته إلى جميع الأمكنة و المكانيّات نسبة واحدة و ليس شي‏ء أقرب إليه من شي‏ء آخر و لا أبعد و لا هو أقرب إلى شي‏ء من شي‏ء آخر و لا أبعد إلّا بمعنى آخر غير المكانى و هو القرب بالذات و الصّفات و نحو ذلك و البعد الذى بازائه، و إلى ذلك أشار عليه السّلام بقوله: «إنما منظره في القرب و البعد» يعنى المكانيّين «سواء».

و قوله عليه السّلام «و لم يحتج إلى شي‏ء» تعميم لقوله: و لا يحتاج إلى أن ينزل، فالأول إشارة إلى البرهان على نفى الحركة في المكان بما ذكره في تساوى منظره في القرب و البعد من الأحياز و الأمكنة، و هذا إشارة الى البرهان على نفى الحركة و التغيّر مطلقا بأنّ معنى الحركة الخروج من القوّة إلى الفعل، و بعبارة اخرى كمال ما بالقوّة من جهة ما هو بالقوّة و كلّ ما هو بالقوّة في شي‏ء فهو فاقد له محتاج إليه لأنّه كمال وجودى له، و إلّا لم يتحرّك إليه، و الحقّ تعالى غير محتاج إلى شي‏ء أصلا فهو غير متحرّك بوجه من الوجوه لا في المكان و لا في غيره و إنما قلنا إنه لم يحتج إلى شي‏ء لأنّ ما سواه من الأشياء كلّها إنما حصلت منه و هو أصلها و منبعها و منشاؤها، و هو المتطوّل عليها المتفضّل المنعم بالاحسان إليها، فهي المحتاجة إليه تعالى، فلو احتاج هو إلى شي‏ء يلزم افتقار الشي‏ء إلى ما يفتقر إليه من حيثية واحدة، و ذلك محال، لاستلزامه توقف الشي‏ء على نفسه و ذلك قوله عليه السّلام «بل يحتاج إليه و هو ذو الطول لا إله إلّا هو العزيز الحكيم».

و لما ذكر عليه السّلام القاعدة الكلّية بالبيان البرهانى على نفى الحركة المكانية أوّلا ثمّ على نفى الحركة و التغيّر على الاطلاق أراد أن يشير إلى المفاسد التي يلزم من القول بوصفه تعالى بنزوله من مكان إلى مكان فقال: «أما قول الواصفين أنه ينزل تبارك و تعالى فانما يقول ذلك من ينسبه إلى نقص أو زيادة» يعني أنّ النزول ضرب من الحركة و أنّ كلّ ما يتحرّك‏سواء كانت الحركة في الأين أو في غيره فهو خارج من نقص إلى كمال فيلزم على هؤلاء الواصفين ربّهم بالنزول أن ينسبوه إلى نقص و ذلك قبل الحركة أو إلى زيادة و هي بعد الحركة و الخروج من القوّة إلى الفعل، و كلّ ما يوصف بنقص أو زيادة ففي ذاته إمكان أن ينفعل من غيره فيتركب ذاته من قوّة و فعل، بل من مادّة بها يكون بالقوّة، و من صورة بها يكون بالفعل و كلّ مركب فهو ممكن الوجود محتاج إلى غيره فيلزم أن لا يكون إله العالم واجب الوجود، و هذا محال و قوله «و كلّ متحرّك محتاج إلى من يحرّكه أو يتحرّك به» إشارة إلى حجّة أخرى على بطلان توهّم الحركة، و هى أنّ كلّ متحرّك لا بدّ له من محرّك غيره، سواء كان مباينا له كالحركات النفسانية و هو المعبّر عنه بقوله من يحرّكه، أو مقارنا له كالحركات الطبيعيّة و هو المعبّر عنه بقوله أو يتحرّك به، و ذلك لأنّ الحركة صفة حادثة لكون أجزائها غير مجتمعة في الوجود، و كلّ جزء منها مسبوق بجزء آخر فيكون جميعها حادثة و ما يتركب فهو أولى فهى لكونها صفة تحتاج إلى قابل و لكونها حادثه تحتاج إلى فاعل، و لا بدّ أن يكون فاعلها غير قابلها لأنّ المحرّك لا يحرّك نفسه بل بشي‏ء يكون متحرّكا بالقوّة و فاعلها امر بالفعل فكلّ متحرّك يحتاج إلى محرّك يغايره و المحتاج إلى الغير لا يكون واجبا فيلزم أن لا يكون إله العالم واجبا و هو محال و سابعها ما أشار إليه بقوله (و إذا لقامت آية المصنوع فيه) أى لو كان فيه الحركة و السّكون لقامت فيه علامة المصنوع لكونهما من صفات المصنوعات الحادثة، فيلزم أن لا يكون إله العالم صانعا بل مصنوعا مفتقرا إلي صانع كساير الممكنات و المصنوعات الموصوفة بالحدوث.

و ثامنها ما أشار إليه بقوله (و لتحول دليلا بعد أن كان مدلولا عليه) يعنى أنا استدللنا على وجوده سبحانه بحدوث الأجسام و تغيراتها و حركاتها و انتقالاتها من حال إلى حال، فلو كان إله العالم متغيّرا متحرّكا منتقلا من حال إلى حال لاشتراك‏مع غيره في صفات الامكان و ما يوجب الافتقار إلى العلّة فكان دليلا على صانع صنعه و أحدثه لا مدلولا عليه بأنه صانع و هو باطل، هذا.

و لما ذكر المفاسد التي تترتب على جريان الحركة و السكون عليه سبحانه، و أبطل جوازهما عليه بالوجوه الثمانية عقّبه بقوله (و خرج بسلطان الامتناع من أن يؤثر فيه ما يؤثر في غيره) و اختلف شراح النهج فيما عطفت هذه الجملة عليه: فقال الشارح المعتزلي: إنها عطف على قوله عليه السّلام كان مدلولا عليه، و تقدير الكلام كان يلزم أن يتحوّل البارى دليلا بعد أن كان مدلولا عليه و بعد أن خرج بسلطان الامتناع من أن يؤثر فيه ما اثر في غيره.

و قال الشارح البحراني: قد يسبق إلى الوهم أنها عطف على الأدلة المذكورة و ظاهر أنّه ليس كذلك بل هو عطف على قوله: امتنع أى بها امتنع عن نظر العيون و خرج بسلطان ذلك الامتناع أى امتناع أن يكون مثلها في كونها مرئية للعيون و محلّا للنظر إليها عن أن يؤثر فيه ما يؤثر في غيره من المرئيات و هي الأجسام و الجسمانيات، و ظاهر أنه لما امتنع عن نظر العيون لم يكن جسما و لا قائما به فخرج لسلطان استحقاق ذلك الامتناع عن أن يكون يؤثر فيه ما يؤثر في غيره من الأجسام و الجسمانيات و عن قبول ذلك.

و قال بعض الشارحين: إنها عطف على قوله: تجلّى، أى بها تجلّى صانعها للعقول و خرج بسلطان الامتناع عن كونه مثلا لها أى بكونه واجب الوجود ممتنع العدم عن أن يكون ممكنا فيقبل أثر غيره كما يقبله ساير الممكنات.
أقول: و أنت خبير بسخافة هذا القول كسابقه و إباء سوق كلامه عليه السّلام عنهما جميعا، لأنه عليه السّلام قد ذكر هذه الجملة في ذيل المفاسد المترتبة على جريان الحركة و السّكون لا في ذيل تجلّى الصانع للعقول و امتناعه عن نظر العيون، فلا ارتباط له بشي‏ء منهما مع طول الفصل بين المعطوف و المعطوف عليه بجملات أجنبيّة تنيف على عشر.

نعم ما قاله الشارح المعتزلي لا بأس به إلّا أنّ الأظهر الأولى أن تجعل الواوفي هذه الجملة حالية لا عاطفة و تكون الجملة في محلّ النصب على الحال بتقدير قد على حدّ قوله تعالى «حصرت صدورهم» و ذو الحال هو الضمير المستتر في تحول الراجع إلى اللّه سبحانه، فيكون تحول عاملا فيها و لا غبار عليه عند المشهور من علماء الأدبية.
و أما على قول بعضهم من أنّ جميع العوامل اللفظية تعمل في الحال إلّا الأفعال الناقصة فاجعلها حالا من ضمير فيه في قوله: و لقامت آية المصنوع فيه فالعامل حينئذ قامت و حسن ارتباطها بالجملتين مضافا إلى قربهما غير خفىّ على صاحب الذّوق السّليم فانّه عليه السّلام لما ذكر استلزام جريان الحركة عليه سبحانه لقيام علامة الصنع و آثار الامكان فيه المفيد لتأثره من صانعه، و ذكر أيضا استلزامه لكونه تعالى دليلا على مدلوله المفيد لكونه معلولا منفعلا من علّته و فاعله، عقّبه بهذه الجملة تنبيها على بطلان اللّازمين كليهما المستلزم لبطلان ملزومهما، و هو جريان الحركة عليه.

فمحصّل نظم الكلام أنه تعالى لو جرى عليه الحركة و اتّصف بها لقام فيه أثر صانعه المحرك و ظهر عليه فعل علّته الفاعل له، و الحال أنه قد خرج بسلطنة الكلية على جميع من سواه و امتناع التأثر و استحالة الانفعال بما له من وجوب الوجود عن أن يؤثر فيه ما يؤثر في غيره من الممكنات و أن يتأثر من غيره كساير الموجودات لأنّ غيره و من سواه جميعا بكونه دليلا في قيد الامكان مفتقر إلى المؤثر محتاج إلى العلّة فوجوده و افعاله مكتسب من الغير فهو لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرّا و لا موتا و لا حياتا و لا نشورا، و أما إله الحىّ القيّوم العزيز الشأن فوجوده و صفاته الذاتية عين ذاته و أفعاله الصّادرة بنفس ذاته المقدّسة فلا افتقار له إلى المؤثر و لا حاجة له إلى المدبّر بل هو المؤثر في جميع العالم، لا إله إلّا هو العزيز الحكيم.

و الرابع و العشرون أنه (الذى لا يحول و لا يزول) أى لا يمضى و لا يكون زائلا من مكان إلى مكان و من حال إلى حال لاستحالة التغيّر و الانتقال عليه عزّ و جلّ.

(و) الخامس و العشرون أنه (لا يجوز عليه) الغيبة و (الأفوال) لاستلزامه‏الانتقال و الحركة الدالة على الحدوث.
و لذلك استدلّ به إبراهيم عليه السّلام على عدم ربوبيّة الكوكب و الشمس و القمر كما حكاه سبحانه عنه في كتابه العزيز بقوله فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى‏ كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ. فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا. أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِي‏ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ». قال الطبرسي «ره» و إنما استدلّ إبراهيم بالأفول على حدوثها لأنّ حركتها بالأفول أظهر و من الشبهة أبعد، و إذا جازت عليها الحركة و السّكون كانت مخلوقة محدثة محتاجة إلى المحدث.
السادس و العشرون (لم يلد فيكون مولودا و لم يولد فيصير محدودا) أما أنه سبحانه لم يلد شيئا و لم يولد من شي‏ء فقد مرّ بيانه في شرح الخطبة التي رواها عنه نوف البكالي و هي الخطبة المأة و الاحدى و الثمانين.
و أما الملازمة بين مقدم القضية الاولى و تاليها.

فأما بناء على ما هو المتعارف المعتاد بحسب الاستقراء من أنّ كلّ ما له ولد فانه يكون مولودا و إن لم يجب ذلك عقلا كادم أبي البشر أنه عليه السّلام والد و ليس بمولود و كاصول أنواع الحيوان الحادثة.
أو بناء على ما قاله الشارح المعتزلي من أنه ليس معنى الكلام أنّه يلزم من فرض وقوع أحدهما فرض وقوع الاخر، و إنما المراد أنه يلزم من فرض صحّة كونه والدا صحّة كونه مولودا و التالى محال وجهة التلازم أنه لو صحّ أن يكون والدا على التفسير المفهوم من الوالدية و هو أن يتصوّر من بعض أجزائه حىّ آخر من نوعه على سبيل الاستحالة لذلك الجزء كما نعقل في النطفة المنفصلة من الانسان المستحيلة إلى صورة اخرى حتّى يكون منها بشر آخر من نوع الأوّل لصحّ عليه أن يكون هو مولودا من والد آخر قبله.

و ذلك لأنّ الأجسام متماثلة في الجسميّة و قد ثبت ذلك بدليل عقلي واضح و كلّ مثلين فانّ أحدهما يصح عليه ما يصحّ على الاخر، فلو صحّ كونه والدا صحّ كونه ولدا.
و أمّا بطلان التالي فلأنّ كلّ مولود متأخّر بالزّمان عن والده و محدث و الحقّ الأوّل عزّ و جلّ قديم فلا يجوز عليه أن يكون مولودا، و أيضا لو كان مولودا لكان محدودا كما صرّح به في القضية الثانية و الثاني باطل فالمقدّم مثله و وجه الملازمة أنّه لو كان مولودا لكان محاطا و محدودا بالمحلّ المتولّد منه و أيضا الشي‏ء المتولّد من شي‏ء لا بدّ له من مادّة و صورة و غيرهما من شرايط وجوده و تركيبه و من جزئين بأحدهما يشارك أفراد نوعه و بالاخر يتميّز عنهم و هي أجزاؤه التي يقف عندها و ينتهى عند التحليل إليها، فثبت أنّه لو كان مولودا لكان محدودا.

و أمّا بطلان التالي فلما قد مرّ في تضاعيف الشرح غير مرّة و في شرح هذه الخطبة بخصوصها عند تفسير قوله: لا يشمل بحدّ، من أنّه سبحانه منزّه عن الحدّ مطلقا اصطلاحيّا كان أعنى القول الشارح لمهيّة الشي‏ء لاستلزامه التركيب المستحيل عليه أو لغويا أعني غاية الشي‏ء و نهايته، لأنّه سبحانه غاية الغايات و منتهى النهايات لا غاية له و لا نهاية.
و بعبارة اخرى كونه مولودا يلزمه الحواية و احاطة المحلّ المتولّد منه به و هو يستلزم كونه ذا نهاية و حدّ و هو محال، لأنّ النهاية و الحدّ من عوارض الأجسام و ذات الأوضاع و المقادير تعرض لها بالذات و للواحقها كالأزمنة و الحركات و للأمور المتعلّقة بها كالقوى و الكيفيّات بالعرض، و الأوّل تعالى ليس بجسم و لا جسماني و لا متعلّق به ضربا من التعلّق فهو منزّه عن الحدّ و النهاية.

فظهر بذلك كله أنه سبحانه ليس بمحدود، فليس بمولود فليس بذي ولد بل هو الواحد الأحد الصمد لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفوا أحد.

السابع و العشرون انّه (جلّ عن اتّخاذ الأبناء) و هو تأكيد لما سبق لأنّه لما ذكر آنفا أنه ليس بذى ولد أكدّه بذلك تنبيها على جلالة شأنه من اتّخاذ الولدلأنّ من اتّخذ ولدا فانما يتّخذه لدواعى تدعوه إليه من العطوفة و الشفقة و المعاونة في حياته و الوراثة عنه و الخلافة في مقامه بعد مماته إلى غير ذلك من الدواعي التي هي من عوارض الممكن، و الواجب تعالى منزّه عن ذلك كلّه.

(و) الثامن و العشرون انّه (طهر عن ملامسة النساء) لأنّ ملامستهنّ من مقتضيات القوّة البهيميّة الحيوانيّة المنزّه قدسه عنها مع أنّ الملامسة من صفات القوّة اللّامسة التي هي من خواصّ الأجسام.

و التاسع و العشرون أنه (لا تناله الأوهام فتقدّره) قال الشارح البحراني أى لو نالته الأوهام لقدرته لكن التالي باطل فالمقدّم كذلك.
بيان الملازمة أنّ الوهم إنّما يدرك المعاني المتعلّقة بالمادّة و لا ترفع إدراكه عن المحسوسات و شأنه فيما يدركه أن يستعمل المتخيلة في تقديره بمقدار مخصوص و كمّية معيّنة و هيئة معيّنة و يحكم بأنّها مبلغه و نهايته فلو أدركته الأوهام لقدّرته بمقدار معيّن و في محلّ معيّن.

فأما بطلان التالي فلأنّ المقدّر محدود مركب و محتاج إلى المادّة و التعلّق بالغير و قد سبق بيان امتناعه.

(و) الثلاثون أنّه (لا تتوهّمه الفطن فتصوّره) فطن العقول هو حذقها وجودة استعدادها لتصوّر ما يرد عليه، و بعبارة اخرى هو سرعة حركتها في تحصيل الوسط لاستخراج المطالب.

قال: و إنّما لا تتوهّمه الفطن، لأنّ القوّة العاقلة عند توجّهها لتحصيل المطالب العقلية المجرّدة لا بدّ لها من استتباع الوهم و المتخيلة و الاستعانة بها في استثباتها بالنسج و التصوير بصورة تحطها إلى الخيال كما علمته في شرح الفصل الثاني من المختار الأوّل فظهر بذلك أنها لو أدركته لكان ذلك بمشاركة الوهم فكان يلزمه أن يصوّره بصورة خيالية، لكنه تعالى منزّه عن الصّورة فاستحال لها إدراكه و تصويره.

(و) الاحد و الثلاثون أنّه (لا تدركه الحواسّ فتحسّه) أي لا يمكن لهاإدراكه سبحانه فيوجب ذلك كونه تعالى محسوسا لأنّ إدراكاتها مقصورة على ذوات الأوضاع و الأجسام و الجسمانيات، و اللّه سبحانه ليس بجسم و لا جسماني و لا ذي وضع و أيضا لا يمكن حضور الأنوار الحسيّة في مشهد نور عقلي بل يضمحلّ و يفنى فكيف في مشهد نور الأنوار العقلية.

(و) الثاني و الثلاثون انه (لا تلمسه الأيدي فتمسّه) ربما يستعمل اللّمس و المسّ بمعنى واحد، و قد يفرق بينهما بأنّ المسّ ايصال الشي‏ء بالبشرة على وجه تأثر الحاسّة به و اللّمس كالطلب له قاله البيضاوي يعني اللّمس ينبى‏ء عن اعتبار الطلب سواء كان داخلا في مفهومه أو لازما له، و على الأوّل فالمراد به أنّ الأيدي لا يمكن لها لمسه فيوجب ذلك كونه ملموسا ممسوسا، و على الثاني فالمراد أنها لا يمكن لها الطلب به فتصل إليه لاستلزامه الجسميّة على التقديرين.

كما يدلّ عليه صريحا ما رواه في البحار من عقايد الصّدوق باسناده عن عبد اللّه بن جوين العبدي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام انّه كان يقول: الحمد للّه الذي لا يحسّ و لا يجسّ و لا يمسّ و لا يدرك بالحواسّ الخمس و لا يقع عليه الوهم و لا تصفه الألسن و كلّ شي‏ء حسّسته الحواسّ أو لمسته الأيدي فهو مخلوق، الحمد للّه الذي كان و لم يكن شي‏ء غيره و كوّن الأشياء فكانت كما كوّنها و علم ما كان و ما هو كائن.

و الثالث و الثلاثون أنّه (لا يتغيّر بحال) من الأحوال و بوجه من الوجوه أى أبدا، لأنّ التغيّر من عوارض الامكان.

(و) الرابع و الثلاثون انّه (لا يتبدّل بالأحوال) أى لا ينتقل من حال إلى حال لما عرفت سابقا من امتناع الحركة و الانتقال عليه.

(و) الخامس و الثلاثون أنّه (لا تبليه اللّيالي و الأيام) لاستلزام الابلاء للتغيّر المستحيل عليه، و لأنّ البلى إنما يعرض للأمور الماديّة و كلّ ذي مادّة مركب فاستحال عروضه عليه سبحانه.

(و) السادس و الثلاثون أنه (لا تغيّره الضياء و الظلام) لتنزّهه من التغيّرو أمّا غيره سبحانه من ذوى الحواس فالضياء سبب لابصارهم المبصرات من الألوان و الأشكال و المقادير و الحركات و غيرها و الظلام مانع عنه، فبهما يتغيّر حالهم بالادراك و عدم الادراك و الحقّ الأوّل جلّ شأنه لما كان منزّها عن الحواسّ بصيرا لا بالاحساس فلا يوجب الضياء و الظلام تفاوتا و تغيّرا في إدراكه.

(و) السابع و الثلاثون أنه (لا يوصف بشي‏ء من الأجزاء) الذّهنية و العقليّة و الخارجيّة بل هو سبحانه أحدىّ الذات بسيط الهوية، لأنّ المركّب من الأجزاء مفتقر إلى جزئه الذي هو غيره و الافتقار من صفات الامكان.

(و) الثامن و الثلاثون أنه (لا) يوصف (بالجوارح و الأعضاء) لأنّ كلّ ذى جارحة و عضو فهو جسم مصوّر بصورة مخصوصة و هو تعالى منزّه عن الجسمية و التركيب و التجزية و الصورة.
روى في الكافي عن محمّد بن الحسن عن سهل بن زياد عن حمزة بن محمّد قال: كتبت إلى أبي الحسن عليه السّلام أسأله عن الجسم و الصورة، فكتب: سبحان من ليس كمثله شي‏ء لا جسم و لا صورة.
قال صدر المتألّهين: نفى الجسم و الصورة عنه تعالى بوجه الاشارة إلى برهانه و هو أنّ اللّه لا مثل له، إذ لا مهية له و كلّ جسم له مثل فلا شي‏ء من الجسم بإله.

و فيه أيضا باسناده عن محمّد بن الحكيم قال: وصفت لأبي إبراهيم عليه السّلام قول هشام ابن سالم الجواليقي و حكيت قول هشام بن الحكم أنه جسم، فقال: إنّ اللّه لا يشبهه شي‏ء أىّ فحش أو خناء أعظم عن قول من يصف خالق الأشياء بجسم أو بصورة أو بخلقة أو بتحديد أو باعضاء تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا.

حكى في شرح الكافي من كتاب الملل و النحل عن هشام أنه قال: إنه تعالى على صورة الانسان أعلاه مجوف و أسفله مصمت و هو ساطع يتلاءلاء، له حواسّ خمس و يد و رجل و أنف و اذن و عين و فم، و له وفرة سوداء هو نور أسود لكنه ليس بلحم و لا دم

(و) التاسع و الثلاثون انه (لا) يتّصف (بعرض من الأعراض) التسعة و هي الكم و الكيف و المضاف و الأين و متى و الوضع و الملك و الفعل و الانفعال، و تسمي هذه‏الاقسام مع القسم العاشر و هو الجوهر بالمقولات العشر و الاجناس العالية.

و انما لا يجوز اتّصافه سبحانه بشي‏ء منها، لأنّها كلّها مخلوقات محدثة و اتّصاف القديم بالحادث محال لأنّ ذلك الحادث إن كان صفة كمال يلزم أن يكون الواجب ناقصا بدونه مستكملا به بعد وجوده و النقص ممتنع عليه سبحانه، و ان لم يكن صفة كمال فله الكمال المطلق بدونه و حينئذ كان إثباته عليه و توصيفه به نقصا، لأنّ الزيادة على الكمال المطلق نقصان حسبما قلناه سابقا.
و أيضا وصفه تعالى بصفات زايدة على ذاته يوجب التجزية و التركيب المستحيل عليه كما عرفته في شرح الفصل الرابع من الخطبة الاولى و غيره أيضا.

(و) الاربعون انه (لا) يتّصف (بالغيريّة و الأبعاض) أى ليس له أبعاض و أجزاء يغاير بعضها بعضا، لأنه وحدانيّ الذات بسيط الهوية و إلّا فيلزم عليه التركيب و التجزية الممتنعان عليه.

(و) الاحد و الاربعون أنه (لا يقال له حدّ و لا نهاية) أى ليس لأوّليته حدّ و نهاية لأنّ الحدود و النهايات من عوارض الأجسام و ذوات الأوضاع و المقادير و هو سبحانه ليس بجسم و جسماني، و لا في قوله: و لا نهاية، زايدة أو تأكيد للنفى السابق

(و) الثاني و الاربعون أنّه (لا انقطاع له و لا غاية) أى ليس لاخريّته انقطاع و غاية، بل هو سبحانه أزليّ أبديّ لا ابتداء لوجوده و لا انقطاع لبقائه.

قال صدر المتألّهين: و مما يجب أن يعلم أنّه تعالى و إن سلب عنه النهاية فليس بحيث يوصف باللّانهاية بمعنى العدول، بل كلاهما مسلوبان عنه، لأنّ اللّانهاية أيضا كالنهاية من عوارض الكميّات، فاذا وصف بأنه غير متناه كان بمعنى السّلب البسيط التحصيلي كما يوصف بسلب الحركة بمعنى السّلب السازج لا الذي يساوق السّكون، فاذا قيل: إنّه أزليّ باق ليس يراد به أنّ لوجوده زمانا غير منقطع البداية و النهاية، إذ الزمان من مخلوقاته المتأخّرة عن الحركة المتأخّرة عن الجسم المتأخّر عن المادّة و الصّورة المتأخّرين عن الجوهر المفارق المتأخّر ذاته عن ذاته تعالى بل الزمان بجميع أجزائه كالان الواحد بالقياس إلى سرمديّته كما أنّ الأمكنةو المكانيّات كلّها بالقياس إلى عظمته و وجوده كالنقطة الواحدة.

و الثالث و الاربعون ما أشار إليه بقوله (و لا أنّ الأشياء تحويه فتقلّه) أى لا يحويه شي‏ء من الأشياء و لا يحيط به فيحمله كما تحمل الريح السحاب، قال تعالى «أقلّت سحابا ثقالا» أى حملت الريح سحابا ثقالا بالماء (أو تهويه) أو تجعله هاويا إلى جهة تحت و هابطا به.
(أو) لا (أنّ شيئا يحمله فيميله أو يعدّله) أى يميله من جانب إلى جانب أو يعدله إلى جميع الجوانب كما يميل الريح السّحاب و يسوقه من صقع إلى صقع.

و المراد أنّه ليس في شي‏ء أو على شي‏ء يرتفع بارتفاعه و ينخفض بانخفاضه و يحرّك به من جهة إلى جهة.
روى في الكافي باسناده عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: من زعم أنّ اللّه من شي‏ء أو في شي‏ء أو على شي‏ء فقد كفر، قلت: فسّر لي، قال: أعني بالحواية من الشي‏ء له أو بامساك له أو من شي‏ء سبقه.
و في رواية أخرى من زعم أنّ اللّه من شي‏ء فقد جعله محدثا، و من زعم أنه في شي‏ء فقد جعله محصورا، و من زعم أنه على شي‏ء فقد جعله محمولا.

أى من زعم أنّه سبحانه من مادّة أو من أجزاء بأن يزعم أنّه ذو مادّة أو ذو أجزاء أو من أصل له مدخل في وجوده كالأبوين أو من مبدء مفيض لوجوده كالفاعل أو في شي‏ء كالصفة في الموصوف و الصّورة في المادّة و العرض في المحلّ و الجزء في الكلّ و الجسم في الهواء المحيط به و المظروف في الظرف أو على شي‏ء بالاستقرار فيه و الاعتماد عليه كالملك على السّرير و الراكب على المركوب و السقف على الجدران و الجسم على المكان، أو بالاستقرار و الاعتماد عليه كالهواء على الماء و السّماء على الهواء، فقد كفر، لاستلزامه التجسيم حيث وصفه بصفات المخلوقين و أنكر وجوده لأنّ ما اعتقده ليس بإله العالمين.

ثمّ فسّر عليه السّلام الألفاظ لا على ترتيب اللّف فقوله «أعني بالحواية من الشي‏ء» تفسير لمعنى في شي‏ء، لأنّ كلّ ما هو في شي‏ء فيحويه ذلك الشي‏ء، و قوله «أو بامساك له».

تفسير لمعنى على شي‏ء، لأنّ كلّما هو على شي‏ء فذلك الشي‏ء ممسك له، و قوله عليه السّلام «أو من شي‏ء سبقه» تفسير لمعنى من شي‏ء لأنّ ما كان من شي‏ء فذلك الشي‏ء مبدؤه و سابق عليه.
و لذلك قال عليه السّلام في الرّواية الأخيرة: من زعم أنّ اللّه من شي‏ء فقد جعله محدثا، لأنّ معنى المحدث هو الموجود بسبب شي‏ء سابق عليه في الوجود، و قال: من زعم أنه في شي‏ء فقد جعله محصورا أى محويّا فيلزمه الحواية من ذلك الشي‏ء و قال: و من زعم انّه على شي‏ء فقد جعله محمولا، فاذا له حامل يمسكه.

و الرابع و الاربعون أنّه (ليس في الأشياء بوالج و لا عنها بخارج) لأنّ الدخول و الخروج من صفات الأجسام و هو سبحانه ليس بجسم و لا جسماني.

و لأنّه لو دخل في شي‏ء فإمّا أن يكون مع افتقاره إلى ذلك الشي‏ء أو بدونه و الأوّل مستلزم للامكان، و على الثاني فهو غنيّ عنه مطلقا، و الغنيّ المطلق يستحيل دخوله في شي‏ء و وجوده في ضمنه و اتباعه له في الوجود.
و لأنّ دخوله فيه إن كان من صفات الكمال لزم اتّصافه بالنقص قبل وجود ذلك الشي‏ء، و إن لم يكن من صفات كماله كان دخوله فيه مستلزما لاتّصافه بالنقص حسبما قلناه سابقا.

و لو خرج عن شي‏ء لزم خلوّ ذلك الشي‏ء عنه و اختصاصه سبحانه بغيره و هو باطل لأنّه تعالى مع كلّ شي‏ء لا بمقارنة و غير كلّ شي‏ء لا بمزايلة، و هذه الفقرة نظير قوله عليه السّلام في الفصل الخامس من الخطبة الاولى: و من قال فيم فقد ضمنه و من قال على م فقد اخلى منه.
و محصل المراد أنّه تعالى ليس داخلا في شي‏ء من الأشياء و حالّا فيه كما يقوله المجسّمة و الحلوليّة، و لا خارجا عنها بأنّ يعزب شي‏ء منها عن علمه، بل هو سبحانه القيّوم المحيط بكلّ شي‏ء.

الخامس و الاربعون أنّه (يخبر لا بلسان و لهوات) أى لحمات متصلة بأقصى الفم من فوق.

أمّا إخباره فلانّه قد أطبقت الشرائع و اتّفقت الملل على كونه متكلّما و الخبر من أقسام الكلام.
و أمّا أنّ إخباره ليس باللّسان و اللهوات فلأنّ النطق باللهات و اللسان مخصوص بنوع الانسان فيعود معنى إخباره سبحانه إلى إيجاده الخبر في جسم من الأجسام كالملك و الشجر و قد مرّ«» نظير هذه العبارة في الخطبة المأة و الحادية و الثمانين و مرّ تحقيق الكلام في كونه سبحانه متكلّما في شرح المختار المأة و الثامن و السّبعين.

(و) السادس و الاربعون انّه (يسمع لا بخروق و أدوات) أمّا أنّه عزّ و جلّ يسمع فلشهادة الكتاب العزيز في غير واحدة من الايات بكونه تعالى سميعا بصيرا و أمّا أنّ إدراكه بالمسموعات ليس بالاذان و الصماخات فتنزّهه سبحانه عن الافتقار إلى الالات الجسمانية فيعود معنى سمعه إلى علمه بالمسموعات إطلاقا لاسم السبب على المسبّب.

و السابع و الاربعون أنّه (يقول و لا يلفظ) هذا الكلام صريح في جواز نسبة القول إليه سبحانه دون اللّفظ.
أمّا الأوّل فالكتاب الكريم ملؤ منه قال تعالى وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً و إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ إلى غير ذلك مما لا حاجة إلى إيراده.

و أمّا الثّاني فلعلّه مبنيّ على أنّ اللفظ هو خصوص القول الصادر عن اللسان ففهم من ذلك و مما تقدّم قبيل ذلك أنّ القول يساوق الكلام في جواز استنادهما إلى اللّه سبحانه، و النطق و اللفظ يساوقان في عدم جواز الاستناد إليه

(و) الثامن و الاربعون انّه (يحفظ و لا يتحفّظ) قال الشارح البحراني حفظه يعود إلى علمه بالأشياء، و لما كان المعروف من العادة أنّ الحفظ يكون بسبب التحفظ و كان ذلك في حقّه محالا لاستلزامه الالات الجسمانيّة لا جرم احترز عنه.

قال: و قال بعض الشارحين: إنما يريد بالحفظ أنّه يحفظ عباده و يحرسهم و لا يتحفّظ منهم أى لا يحتاج إلى حراسة نفسه منهم و هو بعيد الارادة هنا، انتهى.
أقول: الحفظ قد يطلق على الحفظ عن ظهر القلب يقال حفظ القرآن إذا وعاه على ظهر قلبه. و قد يطلق على الحراسة و الوقاية من المكاره يقال حفظه أي حرسه و التحفّظ هو قبول الحفظ عن الغير على كون تاء التفعل للمطاوعة أو تكلّف الحفظ كما في قولك تحلّم زيد، أي استعمل الحلم و كلّف نفسه إيّاه ليحصل، فمعنى التكلّف هو أن يتعانى الفاعل ذلك الفعل ليحصل بمعاناته فيقتضي أن يكون الفعل غير ثابت للفاعل و يكون الفاعل طالبا لتحصله بالممارسة، و قال في القاموس التحفّظ هو الاحتراز و فسّر الاحتراز كالتحرّز بالتوقّى و لعلّه مبنيّ على جعل تاء للاتّخاذ فمعنى التحفظ هو اتّخاذ الحفظ أى اتّخاذ الحرز و الوقاية.

إذا عرفت ذلك فأقول: إنّ الحفظ قد استند إلى اللّه سبحانه في غير واحدة من الايات قال تعالى إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ و قال هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى‏ أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ و قال إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ و قال إِنَّ رَبِّي عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ حَفِيظٌ و قال وَ رَبُّكَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ حَفِيظٌ إلى غير ذلك مما لا حاجة إلى ذكره.

و الحفيظ و الحافظ من جملة اسمائه الحسنى فلا غبار في وصفه سبحانه بالحفظ على المعنى الثّاني أعني الوقاية و الحراسة، و هو المراد به في الاية الاولى و الثانية و الثالثة أيضا و في غيرها احتمالا، و أمّا على المعنى الأوّل أعنى الحفظ عن ظهر القلب فلا، لأنّه سبحانه منزّه عن القلب و الجوارح اللّهم إلّا أن يراد به العلم مجازا، لأنّه بهذا المعنى مستلزم للعلم، فالحفيظ هو العليم و الحافظ هو العالم اطلق اسم الملزوم على اللّازم تجوّزا.
قال في القاموس: و الحفيظ في الأسماء الحسنى الذي لا يعزب عنه شي‏ء في السماوات و لا في الأرض تعالى شأنه.

فظهر بذلك ضعف ما قاله الصّدوق في التوحيد في شرح الأسماء الحسنى حيث قال: الحفيظ هو الحافظ فعيل بمعنى فاعل، و معناه أنه يحفظ الأشياء و يصرف عنها البلاء و لا يوصف بالحفظ على معنى العلم لأنّا نوصف بحفظ القرآن و العلوم على المجاز، و المراد بذلك أنا إذا علمناه لم يذهب عنا كما إذا حفظنا الشي‏ء لم يذهب عنا، انتهى، فتأمّل جيّدا.

و أمّا التحفظ فلا يوصف به سبحانه على أحد من معانيه الثلاثة أمّا على المعنى الأوّل و الثاني فواضح، لأنّ المطاوعة و التكلّف مستلزمان للانفعال و التغيّر اللذين هما من صفات الأجسام.
و أمّا على الثالث فلأنّه تعالى لا مضادّ و لا مضارّ له في ملكه و لا منازع و لا معاند له في سلطانه فلا حاجة له إلى التوفّى و الاحتراز بل هو العزيز الغالب و القوىّ القاهر على كلّ شي‏ء.

(و) التاسع و الاربعون انّه تعالى (يريد و لا يضمر) يعنى أنه يريد الأشياء فيوجدها على وفق مشيّته و إرادته و لا يحتاج في ايجادها كواحد منّا إلى الاضمار أى إلى عزم القلب يقال: أضمر في ضميره شيئا عزم عليه و ضمير الانسان قلبه و باطنه و هو سبحانه ليس بذي ضمير حتّى يتصوّر فيه الاضمار، و قد مرّ تحقيق الكلام بما لا مزيد عليه في إرادته سبحانه في شرح الفصل الثالث من المختار التسعين، و قدّمنا هناك عن المفيد رواية صفوان بن يحيى الناصّة بالفرق بين إرادة اللّه سبحانه و إرادة العبد.

و ينبغي إعادة تلك الرواية هنا و اتّباعها بشرح ما تضمّنته من المرام لمزيد ارتباطها المقام و ايضاحها لكلام الامام عليه السّلام فأقول: روى في الكافى عن أحمد بن إدريس عن محمّد بن عبد الجبّار عن صفوان بن يحيى، و في البحار من توحيد الصّدوق (ره) و العيون عن ابن إدريس عن أبيه عن محمّد بن عبد الجبّار عن صفوان بن يحيى قال: قلت لأبى الحسن عليه السّلام أخبرنى عن‏الارادة من اللّه عزّ و جلّ و من الخلق، فقال: الارادة من المخلوق الضمير و ما يبدو له بعد ذلك من الفعل، و أمّا من اللّه عزّ و جلّ فارادته إحداثه لا غير ذلك لأنه لا يروّي«» و لا يهمّ و لا يتفكّر هذه الصّفات منفيّة عنه و هى من صفات الخلق، فارادة اللّه هى الفعل لا غير ذلك يقول له كن فيكون بلا لفظ و لا نطق بلسان و لا همّة و لا تفكّر و لا كيف لذلك كما أنّه بلا كيف.

قال صدر المتألّهين في شرح الكافي: الارادة فينا كيفيّة حادثة تحدث عقيب تصوّر الشي‏ء الملائم و التّصديق بثبوته و نفعه تصديقا علميّا أو جهليا أو ظنيّا أو تخييليّا راجحا، و ربما يحصل ذلك التصديق الراجح بعد تردّد و استعمال رويّة، فاذا بلغ حدّ الرجحان وقع العزم الذي هو الارادة، فاذا حصلت الارادة سواء كانت مع شوق حيواني كالشهوة أو الغضب أم لا، يصدر الفعل لا محالة و يبدو في الوجود.

و أمّا إرادة اللّه الحادثة فليست صفة له لاستحالة حدوث صفة أو كيفيّة في ذاته و هي ليست إلّا إضافة إحداثه لأمر كاين لا غير لتعاليه عن الرّوية و الهمّة و الفكر لما علمت أنّ هذه منفية عنه تعالى لكونها صفات المخلوقين و كما لا مثل لذاته لا شبه لصفاته، بل صفاته الحقيقية ذاته.

و قال العلّامة المجلسي (ره) في البحار في بيان معنى الحديث: إنّ إرادة اللّه كما ذهب إليه أكثر متكلّمي الامامية هي العلم بالخير و النفع و ما هو الأصلح و لا يثبتون فيه تعالى وراء العلم شيئا، و لعلّ المراد بهذا الخبر و أمثاله من الأخبار الدالة على حدوث الارادة هو أنّه يكون في الانسان قبل حدوث الفعل اعتقاد النّفع فيه ثمّ الرّويّة ثمّ الهمّة ثمّ انبعاث الشوق منه ثمّ تأكّده إلى أن يصير إجماعا باعثا على الفعل، و ذلك كلّه إرادة فينا متوسّطة بين ذاتنا و بين الفعل و ليس فيه تعالى بعد العلم القديم بالمصلحة من الامور المقارنة للفعل سوى الاحداث و الايجاد، فالاحداث في الوقت الذي تقتضى المصلحة صدور الفعل فيه قايم مقام ما يحدث‏من الامور في غيره تعالى، فالمعنى أنّ ذاته تعالى بصفاته الذاتية الكمالية كافية في حدوث الحادث من غير حاجة إلى حدوث أمر في ذاته عند حدوث الفعل.

و قال الشارح المازندراني للكافي في شرحه: إنّ الراوى سأل عن الفرق بين إرادة اللّه و إرادة الخلق و طلب معرفتهما فقال عليه السّلام: «الارادة من الخلق الضمير» أى تصوّر الفعل و توجّه الذّهن إليه «و ما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل» من صلة لبيد و لا بيان لما لأنّ الفعل هو المراد دون الارادة، اللهمّ إلّا أن يراد بالفعل مقوّمات الارادة مثل تصوّر النفع و الاذعان به و الشوق إليه و العزم له و تحريك القدرة إلى تحصيل الفعل المراد.

و الحاصل أنّ إرادة الخلق عبارة عن تصوّر الفعل ثمّ تصوّر النفع سواء كان النفع عقليّا أو خياليّا أو عينيّا أو دنيويّا أو اخرويّا، ثمّ التصديق بترتّب ذلك النفع على ذلك الفعل و الاذعان به جازما أو غير جازم، ثمّ الشوق إليه، ثمّ العزم الراسخ المحرك للقوّة و القدرة المحرّكة للعضو إلى تحصيل الفعل على ما ينبغي.

فالفعل يصدر عن الخلق من هذه المبادي المترتّبة التي هي عبارة عن إرادتهم التامّة المستتبعة له.
«و أما من اللّه فارادته إحداثه لا غير ذلك» يعني أنّ إرادته بسيطة و هي إحداث الفعل و ايجاده على وجه يوافق القضاء الأصلي و يطابق العلم الأزلي من الكمال و المقدار و الخواص و الاثار، لا مركبة من الأمور المذكورة في إرادة الخلق و لا شي‏ء منها، «لأنّه تعالى لا يروّي» أى لا يفعل باستعمال الرّويّة أى النظر في الأمر و عدم التعجيل «و لا يهمّ» أى لا يقصده «و لا يتفكّر» ليعلم حسنه و قبحه.

و الحاصل انّه لا ينظر إلى الفعل ليعلم نفعه و وجه حسنه و لا يهمّه بالشوق و العزم المتأكّد و لا يتفكّر و لا يتأمّل فيه ليعلم حسن عاقبته لتنزّهه عن استعمال الرأى و إحالة الهمّة و تحريك الشوق و العزم و ارتكاب التعمّق في الامور و التفكّر في أمر عاقبتها.

«و هذه الصفات منفيّة عنه تعالى» لأنّها من لواحق النفوس البشريّة و توابع‏الجهل و نقصان العلم و هو سبحانه منزّه عن جميع ذلك «و هي من صفات الخلق» لاحتياجهم في تحصيل مقاصدهم و تكميل أفعالهم على وفق مطالبهم إلى حركات فكريّة و همّة نفسانية و أشواق روحانية و آلات بدنيّة بحيث لو فقدت إحداها بقوا متحيّرين جاهلين لا يجدون إلى وجه الصواب دليلا، و لا إلى طريق الفعل سبيلا.
«فارادة اللّه هي الفعل» أى الايجاد و الاحداث «لا غير ذلك» من الضمير المشتمل على المعاني المذكورة.

و الخمسون أنه (يحبّ و يرضى من غير رقّة) الرّضا و المحبّة قيل: إنهما نظيران و إنما يظهر الفرق بضدّيهما، فالمحبّة ضدّها البغض، و الرضا ضدّه السخط قال الشارح البحراني: الرّضا قريب من المحبّة و يشبه أن يكون أعمّ منها لأنّ كلّ محبّ راض عما أحبّه و لا ينعكس.

و كيف كان فالمراد أنه يحبّ المؤمنين و يرضى عنهم قال سبحانه «مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ» و قال «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ». و قوله: من غير رقّة إشارة إلى أنّ المحبّة و الرّضا بالمعنى الذي يوصف به من اللّه سبحانه ليس بالمعنى الذي يوصف به المخلوق، فانّ المحبّة فينا هو الميل الطبيعي إلى المحبوب بسبب تصوّر اللذّة، و الرّضا هو سكون النفس بالنسبة إلى موافقة و ملائمة عند تصوّر كونه ملايما و موافقا.

و لما كان المحبة و الرّضا بهذا المعنى يستلزم الرّقة القلبيّة و الانفعال النفساني الناشي عن تصوّر المعنى الذي لأجله حصلت المحبّة و الميل إليه و الداعي إلى الرّضا عنه، و كان سبحانه منزّها عن الانفعالات النفسانية و التغيّرات الطبيعيّة لتنزّهه عن قوابلها، لا جرم قال: من غير رقّة.

فالمراد بمحبّته سبحانه إمّا إدراك الكمال في المحبوب أو إرادته سبحانه للثواب و الخير في حقّ العبد و للتكميل له.
فقد قيل في تفسير الاية السابقة أعنى قوله: «يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ»إنّ محبة اللّه صفة من صفات فعله فهى إحسان مخصوص يليق بالعبد، و محبّة العبد للّه حالة يجدها في قلبه يحصل منها التعظيم و ايثار رضاه و الاستيناس بذكره.

و قيل: محبّته تعالى للعباد إنعامه عليهم و أن يوفقهم لطاعته و يهديهم لدينه الذي ارتضاه، و حبّ العباد أن يطيعوه و لا يعصوه.
و قال بعض المحقّقين: محبّة اللّه للعبد كشف الحجاب عن قلبه و تمكنه من أن يطأ على بساط قربه فانما يوصف به سبحانه باعتبار الغايات لا المبادى، و علامة حبّه للعبد توفيقه للتجافي عن دار الغرور و الترقّي إلى عالم النور و الانس باللّه و الوحشة ممّن سواه و صيرورة جميع الهموم هما واحدا، و المراد رضاه عن العبد قال الشارح المعتزلي: هو أن يحمد فعله، و قال البحراني: رضاه يعود إلى علمه بموافقته لأمره و طاعته له.

و قال الطبرسيّ في تفسير قوله «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ» رضا اللّه سبحانه عنهم هو إرادته تعظيمهم و إثابتهم.

(و) الواحد و الخمسون أنّه (يبغض و يغضب من غير مشقّة) يظهر معنى هذه الفقرة مما قدّمناه في الفقرة السابقة، فانّ البغض ضدّ الحبّ و الغضب ضدّ الرضا فمعنى البغض فينا هو الكراهة للغير و ميل النفس عنه لتصوّر كونه مضرّا و مولما، و يلزم ذلك النفرة الطبيعية و ثوران القوّة الغضبيّة عليه و إرادة إهانته.

و معنى الغضب فينا هو ثوران النفس و حركة القوّة الغضبيّة عن تصوّر الموذي و المولم لإرادة دفعه و الانتقام منه.
و لما كانا مستلزمين لازعاج القلب و غليان دمه و أذى النفس و حصول التعب و المشقّة، و كان وصف اللّه سبحانه بهما بهذا المعنى مستحيلا لتنزّهه من صفات الأجسام لا جرم قيّدهما بقوله: من غير مشقّة.
فالمراد بهما إذا نسبا إلى اللّه سبحانه غاياتهما، و هي إرادة العقوبة و الاهانة و التعذيب.
قال الطبرسي (ره) في تفسير قوله «فلمّا آسفونا انتقمنا منهم» أى أغضبونا،و غضب اللّه سبحانه على العصاة إرادة عقوبتهم، و رضاه عن المطيعين إرادة ثوابهم الذي يستحقّونه على طاعتهم.

و في رواية عمرو بن عبيد مع أبي جعفر عليه السّلام و قد قال له قوله تعالى «وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى‏» ما هذا الغضب فقال عليه السّلام: هو العقاب يا عمرو، إنّه من زعم أنّ اللّه قد زال من شي‏ء إلى شي‏ء فقد وصفه صفة المخلوقين.

و في الكافي عن عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن العباس بن عمرو عن هشام بن الحكم في حديث الزنديق الذي سأل أبا عبد اللّه عليه السّلام أن قال له: فله رضى و سخط فقال: أبو عبد اللّه عليه السّلام: نعم لكن ليس ذلك على ما يوجد من المخلوقين، و ذلك إنّ الرضا حالة تدخل عليه فتنقله من حال إلى حال لأنّ المخلوق أجوف معتمل مركب للأشياء فيه يدخل، و خالقنا لا يدخل للأشياء فيه لأنّه واحد واحدى الذات واحدى المعنى، فرضاه ثوابه و سخطه عقابه من غير شي‏ء يتداخله فيهيّجه و ينقله من حال إلى حال، لأنّ ذلك من صفة المخلوقين العاجزين المحتاجين.

يعني أنّ عروض تلك الحالات و التغيّرات إنّما يكون لمخلوق أجوف له قابلية ما يحصل فيه و يدخله- معتمل- بالكسر أى يعمل بأعمال صفاته و آلاته أو بالفتح أى مركب يعمل فيه الأجزاء و القوى، و الأوّل أولى ليكون تأسيسا، مركّب من أمور متباينة في الحقيقة مختلفة في الصّورة و الكيفيّة للأشياء من الصفات و الجهات و الكيفيّات النفسانيّة مثل الرّضا و الغضب و غيرهما فيه يدخل و خالقنا لا يدخل للأشياء فيه لاستحالة التركيب عليه، لأنه واحد ليس كمثله شي‏ء واحدى الذات لا تركيب فيه أصلا لا ذهنا و لا خارجا، واحدى المعنى و الصّفات، فاذا لا كثرة فيه لا في ذاته و لا في صفاته الحقيقيّة، و انما الاختلاف في الفعل فيثيب عند الرّضا و يعاقب عند السّخط و الغضب من غير مداخلة شي‏ء فيه يهيجه أى يوجب لهيجانه و ثورانه، و ينقله من حال إلى حال، لأنّ ذلك ينافي وجوب الوجود فلا يكون من صفاته سبحانه بل من صفات المخلوقين العاجزين.

و الحاصل أنّه إذا نسب الرضا و السخط و الحبّ و البغض و الموالاة و المعاداة إلى اللّه سبحانه وجب تأويلها و صرفها إلى معنى يصحّ في حقّه، لأنّ نسبة معانيها المعروفة فينا إليه غير صحيحة.
إذ الرّضا فينا حالة للنفس توجب تغيّرها و انبساطها لايصال النفع إلى الغير أو الانقياد لحكمه.
و السخط حالة اخرى توجب تغيّرها و انقباضها و تحرّكها إلى ايقاع السوء به أو الاعراض عنه.
و المحبّة حالة لها توجب ميلها إليه أو نفس هذا الميل.
و البغض حالة لها توجب الاعراض عنه و ايصال الضرر إليه.
و قريب منهما الموالاة و المعاداة، و كلّ عليه سبحانه محال، فوجب التأويل و التأويل أنّ الرّضا و المحبّة و الموالاة بمعنى الاثابة و الاحسان و ايصال النفع و السخط و البغض و المعاداة بمعنى العقوبة و العذاب و عدم الاحسان و اللّه المستعان.

و الثاني و الخمسون أنّه (يقول لما أراد كونه كن فيكون) قال الشارح البحراني: فارادته لكونه هو علمه بما في وجوده من الحكمة و المصلحة، و قوله: كن، إشارة إلى حكم قدرته الأزلية عليه بالايجاد و وجوب الصدور عن تمام مؤثريته و قوله: فيكون إشارة إلى وجوده، و دلّ على اللّزوم و عدم التأخر بالفاء المقتضية للتعقيب بلا مهلة.
و في مجمع البيان في قوله «إنّما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون» و التقدير بأن يكوّنه فيكون فعبّر عن هذا المعنى بكن لأنّه أبلغ فيما يراد، و ليس هنا قول و إنما هو إخبار بحدوث ما يريده.
و قال عليّ بن عيسى: الأمر ههنا أفخم من الفعل، فجاء للتفخيم و التعظيم قال: و يجوز أن يكون بمنزلة التسهيل و التهوين، فانّه إذا أراد فعل شي‏ء فعله بمنزلة ما يقول للشي‏ء كن فيكون في الحال و أنشد:

فقالت له العينان سمعا و طاعة
و حدرتا كالدّر لمّا يثقّب‏

و انما أخبر عن سرعة دمعه دون أن يكون ذلك قولا على الحقيقة و في الكشاف إنّما أمره أى شأنه إذا أراد شيئا إذا دعاه داعي حكمة إلى تكوينه و لا صارف أن يقول له كن أن يكوّنه من غير توقّف فيكون فيحدث أى فهو كائن موجود لا محالة.

فان قلت: ما حقيقة قوله كن فيكون قلت: هو مجاز من الكلام و تمثيل، لأنّه لا يمتنع عليه شي‏ء من المكوّنات و أنّه بمنزلة المأمور المطيع إذا ورد عليه أمر الامر المطاع، و المعنى أنّه لا يجوز عليه شي‏ء ممّا يجوز على الأجسام إذا فعلت شيئا ممّا تقدر عليه من المباشرة بمحال المقدور و استعمال الالات و ما يتبع ذلك من المشقّة و التعب و اللّغوب، و إنما أمره و هو القادر العالم لذاته أن يخلص داعيه إلى الفعل فيتكون.

و أنت بعد الخبرة بما ذكرنا تعرف أن قوله عليه السّلام (لا بصوت يقرع و لا بنداء يسمع) من باب الاحتراس، فانّ ظاهر قوله عليه السّلام: يقول لما أراد كونه كن، لما كان موهما أنّ قوله و كلامه تعالى من قبيل الحروف و الأصوات أتى بذلك دفعا لما يسبق إلى و هم العوام و تنبيها على أنّ قول كن منه ليس بلفظ مركب من الكاف و النّون متضمّن بصوت يقرع الأسماع، و لا خطاب قابل للسّماع و الاستماع.

و ذلك لأنّ الصوت كيفيّة حادثة في الهواء حاصلة من تموّجه المعلول للقرع الذي هو أساس عنيف أو القلع الذي هو تفريق عنيف بشرط مقاومة المقروع للقارع و المقلوع للقالع، و يعرض له أى للصّوت كيفيّة مميّزة له عن غيره من الأصوات المماثلة له يسمّى باعتبار تلك الكيفيّة حرفا، فالحرف هي تلك الكيفيّة العارضة عند بعضهم، و ذلك الصوت المعروض عند آخر و مجموع العارض و المعروض عند غيرهم.

و على أىّ تقدير فالحروف الملفوظة المركبة منها الكلام هي من خصايص الانسان يخرج من الحلق و الحنجرة و اللّسان، فيقرع الهواء المجاور لفم اللّافظ و يموّجه صدما بعد صدم مع سكون بعد سكون حتّى يقع و يقرع العصبة المفروشةفي سطح صماخ السامع فيحصل به السماع و الاستماع.

و لما كان سبحانه منزّها عن الالات البدنيّة و الجوارح الانسانيّة يستحيل أن يخرج منه صوت يصدر منه لفظ، فاذا لا يمكن أن يكون تكوينه للأشياء بكلام ملفوظ أو نداء مسموع و هذا معنى قوله عليه السّلام: لا بصوت يقرع و لا بنداء يسمع، هذا.

و العجب من الشارح البحراني أنّه قال في شرح لا بصوت يقرع: أى ليس بذي حاسّة فيقرعها الصوت، لأنّ الصّوت حال تعرض الأجسام فلو كان له تعالى آلة سمع لكان جسما لكن التالي باطل فالمقدّم مثله انتهى.
و أنت خبير بأنّ هذا الكلام نصّ في أنّ الغرض منه نفى كون تكوينه للأشياء بالأوامر الملفوظة و الخطابات المنطوقة لا نفى كونه ذا سمع و تنزيهه من القوّة السّامعة، هذا.
و لما نفى كون تكوينه بكلام ملفوظ و نداء مسموع و كان المقام مقتضيا لبيان معنى كلامه عزّ و جلّ لا جرم عقّبه بقوله (و انما كلامه سبحانه فعل منه أنشأه و مثله).

قال الشارح البحراني: أى أوجده في لسان النّبيّ و صوّره في لسانه و سوّى مثاله في ذهنه.
و قال الشارح المعتزلي: مثّل القرآن لجبرئيل أى صوّر مثاله بالكتابة في اللّوح المحفوظ فأنزل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

(لم يكن) كلامه (من قبل ذلك) الانشاء و الاحداث (كائنا) إذ لو كان كذلك لكان قديما لأنّ القديم ليس إلّا ما لا يكون مسبوقا بالعدم لا يفتقر الانشاء و التكوين (و لو كان قديما) كما زعمه الحنابلة حسبما عرفته في شرح المختار المأة و الثامن و السّبعين لكان واجب الوجود لذاته و لو كان واجب الوجود (لكان إلها ثانيا) لكن التالي باطل فالمقدّم مثله.
و بيان الملازمة أنّه لو لم يكن واجبا بل ممكنا موجودا في الأزل لكان وجوده مفتقرا إلى المؤثّر فذلك المؤثّر إن كان غير ذاته تعالى فهو محال، لأنّه يلزم افتقاره‏تعالى في تحصيل صفته إلى غيره و هو واضح البطلان، و يلزم أيضا أن يكون في الأزل مع اللّه غيره يكون الاستناد إليه في حصول تلك الصفة فيكون إلها ثانيا بل هو أولى بالألوهيّة و هو محال، و إن كان المؤثّر فيه ذاته فهو محال أيضا لأنّ المؤثّر واجب التقدّم بالوجود على الأثر فتعيّن أنه لو كان قديما لكان واجب الوجود لذاته فكان إلها ثانيا.

و أما بطلان التالي فلقيام البراهين العقليّة و النقليّة على وحدانيّته تعالى حسبما مرّ كثير منها في تضاعيف الشرح، و نورد هنا حديث الفرجة الذي هو من غوامض الأحاديث لمناسبته بالمقام و نعقّبه بحلّه و شرحه فأقول: روى في الكافي عن هشام بن الحكم في حديث الزنديق الذي أتى أبا عبد اللّه عليه السّلام و كان من قول أبي عبد اللّه عليه السّلام.

لا يخلو قولك إنّهما اثنان من أن يكونا قديمين قويّين أو يكونا ضعيفين أو يكون أحدهما قويا و الاخر ضعيفا، فان كانا قويّين فلم لا يدفع كلّ واحد منهما صاحبه و ينفرد بالتدبير و إن زعمت أنّ أحدهما قوىّ و الاخر ضعيف ثبت أنّه واحد بالربوبية كما نقول للعجز الظاهر في الثّاني و إن قلت إنّهما اثنان لم يخل من أن يكونا متفقين من كلّ وجه أو مفترقين من كلّ جهة.

فلما رأينا الخلق منتظما و الفلك جاريا و التدبير واحدا و اللّيل و النهار و الشمس و القمر دلّ صحّة الأمر و التدبير و ايتلاف الأمر على أنّ المدبّر واحد ثمّ يلزمك ان ادّعيت اثنين فرجة ما بينهما حتّى يكونا اثنين فصارت الفرجة ثالثا بينهما قديما معهما فيلزمك كلانة فان ادّعيت ثلاثة لزمك ما قلت في الاثنين حتّى يكون بينهم فرجة فيكونوا خمسة ثمّ تتناهي في العدد إلى ما لا نهاية له في الكثرة.

و رواه في البحار من توحيد الصّدوق مسندا عن هشام بن الحكم مثله.
و شرحه على ما شرحه صدر المتألهين في شرح الكافي بتلخيص منّا هو إنّه إشارة إلى حجّتين: إحداهما عامية مشهورة و الاخرى خاصيّة برهانيّة.

أما الاولى فقوله عليه السّلام «لا يخلو قولك- إلى قوله- للعجز الظاهر في الثاني»و معناه أنه لو فرض قديمان فلا يخلو أن يكون كلاهما قويّين أو كلاهما ضعيفين أو أحداهما قويّا و الاخر ضعيفا و الثلاثة بأسرها باطلة.
أمّا الأوّل فلأنه إذا كانا قويّين و كلّ منهما في غاية القوّة من غير ضعف و عجز كما هو المفروض و القوّة تقتضي القهر و الغلبة على كلّ شي‏ء سواه فما السبب المانع لأن يدفع كلّ واحد منهما صاحبه حتّى ينفرد بالتدبير و الرّبوبية و الغلبة على غيره، إذ اقتضاء القهر و الغلبة و الاستعلا مركوز في كلّ ذي قوّة على قدر قوّته و المفروض أنّ كلّا منهما في غاية القوّة.

و أما فساد الشقّ الثاني فهو ظاهر عند جمهور الناس لما حكموا بالفطرة من أنّ الضعف ينافي الالهيّة و لظهوره لم يذكره عليه السّلام.
و أيضا فساده يعلم بفساد الشقّ الثالث و هو قوله «و إن زعمت أنّ أحدهما قوىّ و الاخر ضعيف ثبت أنه» أى الاله «واحد كما» نحن «نقول للعجز الظاهر» في المفروض ثانيا، لأنّ الضعف منشأ العجز، و العاجز لا يكون إلها بل مخلوقا محتاجا لأنّه محتاج إلى من يعطيه القوّة و الكمال و الخيريّة.

و أما الحجة البرهانية فأشار إليها بقوله «و إن قلت إنهما إثنان» و بيانه أنّه لو فرض موجودان قديمان فامّا أن يتّفقا من كلّ جهة أو يختلفا من كلّ جهة أو يتّفقا بجهة و يختلفا باخرى و الكلّ محال.
أمّا بطلان الأوّل فلأنّ الاثنينيّة لا تتحقّق إلّا بامتياز أحد الاثنين عن صاحبه و لو بوجه من الوجوه.
و أمّا بطلان الثاني فلما نبّه عليه بقوله «فلما رأينا الخلق منتظما» و تقريره أنّ العالم كلّه كشخص واحد كثير الأجزاء و الأعضاء مثل الانسان، فانا نجد أجزاء العالم مع اختلاف طبائعها الخاصة و تباين صفاتها و أفعالها المخصوصة يرتبط بعضها ببعض و يفتقر بعضها إلى بعض، و كلّ منها يعين بطبعه صاحبه و هكذا نشاهد الأجرام العالية و ما ارتكز فيها من الكواكب النيّرة في حركاتها الدّوريّة و أضوائها الواقعة منها نافعة للسّفليات محصّلة لأمزجة المركبات التي يتوقّف عليها صورالأنواع و نفوسها و حياة الكاينات و نشوء الحيوان و النبات، فاذا تحقق ما ذكرنا من وحدة العالم لوحدة النظام و اتصال التدبير دلّ على أنّ إلهه واحد و إليه أشار بقوله «دلّ صحّة الأمر و التدبير و ائتلاف الأمر على أنّ المدبّر واحد».

و أمّا بطلان الشق الثالث و هو أنهما متّفقان من وجه و مختلفان من وجه آخر فبأن يقال كما أشار إليه بقوله «ثمّ يلزمك» أنّه لا بدّ فيهما من شي‏ء يمتاز به أحدهما عن صاحبه و صاحبه عنه، و ذلك الشي‏ء يجب أن يكون أمرا وجوديّا يوجد في أحدهما و لم يوجد في الاخر أو أمران وجوديّان يختصّ كلّ منهما بواحد، و أمّا كون الفارق المميّز بكلّ منهما عن صاحبه أمرا عدميّا فهو ممتنع بالضرورة، إذ الاعدام بما هي إعدام لا تمايز بينها و لا تميز بها، فاذا فرض قديمان فلا أقلّ من وجود أمر ثالث يوجد لأحدهما و يسلب عن الاخر، و هو المراد بالفرجة، إذ به يحصل الانفراج أى الافتراق بينهما لوجوده في أحدهما و عدمه في الاخر، و هو أيضا لا محالة قديم موجود معهما و إلّا لم يكونا اثنين قديمين، فيلزم أن يكون القدماء ثلاثة و قد فرض اثنان و هذا خلف، ثمّ يلزم من كونهم ثلاثة أن يكونوا خمسة و هكذا إلى أن يبلغ عددهم إلى ما لا نهاية و هو محال.

أقول: و لا يخفى عليك أنه يمكن جعل الحديث الشّريف إشارة إلى ثلاث حجج: إحداها ما أشار إليه بقوله: لا يخلو قولك إلى قوله: للعجز الظاهر في الثاني.
و ثانيها ما أشار إليه بقوله: و إن قلت إنهما اثنان إلى قوله: دلّ على أنّ المدبّر واحد.
و ثالثها ما أشار إليه بقوله: ثمّ يلزمك، إلى آخر الحديث، فعليك بالتأمل في استخراجها و اللّه الموفق.

الثالث و الخمسون أنّه عزّ و جلّ (لا يقال) في حقّه (كان بعد أن لم يكن) هو نظير قوله عليه السّلام في الفصل السّادس من المختار الأوّل: كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم، أى ليس وجوده بمحدث مسبوق بالعدم، بل هو قديم أزليّ واجب الوجودلذاته أو توضح أن يقال في حقّه ذلك لاتّصف بالحدوث (فتجرى عليه الصّفات المحدثات) و في بعض النسخ صفات المحدثات بالاضافة و هو الأنسب الأحسن بعود الضميرين الاتيين في بينها و عليها إليها.
و على أىّ تقدير فالغرض أنّ وصفه بالكينونية بعد العدم أى وصفه بوصف الحدوث مستلزم لجريان الصّفات المحدثات أو صفات المحدثات عليه، لكن التالي أعني جريان تلك الصفات عليه باطل فالمقدّم مثله.
و أشار إلى بطلان التّالي بقوله (و لا يكون بينها) أى الصّفات المحدثات«» أو نفس المحدثات (و بينه) تعالى شأنه (فصل) لاشتراكهما في الحدوث و الامكان (و لا له عليها فضل) لاستوائهما في الافتقار و الحاجة إلى المحدث (فيستوى) إذا (الصانع و المصنوع و يتكافأ المبتدع) أى يتماثل المخترع من الموجودات (و البديع) أى المبدع الصانع سبحانه.

فالفعيل بمعنى فاعل قال تعالى: بديع السّموات و الأرض، و عن نسخة الرضي و يتكافا المبدع و البديع و معناه كما ذكرنا و عن نسخة أخرى المبدع بكسر الدّال و البديع، فالمراد بالأوّل الصّانع، و بالثاني المصنوع المبدع فالفعيل على ذلك بمعنى المفعول.

و على أىّ تقدير فالغرض أنّ اتّصافه بصفات المحدثات مستلزم لاشتراكه معها في وصف الحدوث و هو ظاهر البطلان، بيّن الاستحالة.

و الرابع و الخمسون أنّه (خلق الخلايق على غير مثال خلا) أى مضى و سبق (من غيره) يعني فعله و صنعه بعنوان الابداع و الاختراع فهو الخالق للأشياء على غير مثال امتثله، و لا مقدار احتذى عليه من معبود خالق كان قبله، و قد عرفت تحقيقه في شرح الفصل السّابع من المختار الأوّل و شرح الفصل الثّاني من المختار التّسعين.

و الخامس و الخمسون أنّه (لم يستعن على خلقها) أى الخلايق (بأحد من خلقه) و إلّا لكان ناقصا بذاته مفتقرا إلى من هو مفتقر إليه و هو محال.

(و) السادس و الخمسون أنّه عزّ و جلّ خالق الأرض و باسطها مشتملة على ما فيها من بدايع الصنع، و عجائب القدرة و دلائل الكبرياء و العظمة، و قد مضى شرح واف لهذا المعنى في شرح الفصل الثالث و الثامن من المختار الأوّل و شرح الفصل السادس من المختار التسعين و أشار هنا إلى بعض ما فيها من شواهد الربوبيّة و براهين التوحيد و التفريد فقال: (أنشأ الأرض فأمسكها من غير اشتغال) أى أمسكها على بين الماء «كذا» بقدرته الكاملة من غير أن يشتغل بامساكها عن ساير أفعاله و صنايعه، فانّه لا يشغله شأن عن شأن و هو تنزيه له عن الصّفات البشرية، فانّ الواحد منّا إذا أمسك جسما ثقيلا اشتغل به عن ساير اموره.
(و أرساها على غير قرار) أي أثبتها على غير قرار يعتمد عليه و لا مقرّ يتمكّن عليه.
(و أقامها بغير قوائم) أى أقامها على مور أمواج مستفحلة، و لجج بحار زاخرة بغير قوائم يقوم عليها.
(و رفعها بغير دعائم) أى رفعها على الماء بغير عماد و دعامة تعلو عليها و تستند إليها.
(و حصّنها من الاود و الاعوجاج) أى جعلها حصينة منيعة من أن تميل عن مركزها الحقيقي و تعوج إلى أحد جوانب العالم.
(و منعها من التهافت و الانفراج) أى جعلها كرة واحدة ثابتة في حيّزها و منعها من أن تتساقط قطعا و ينفرج بعض أجزائها عن بعض.
(أرسى أوتادها) أى أثبت فيها الجبال الراسيات التي هي لها بمنزلة الأوتاد المانعة لها من الميدان و الاضطراب على ما عرفت تحقيقه في شرح الفصل الثّالث من المختار الأوّل.

(و ضرب أسدادها) أى نصب بين بقاعها و بلادها على اقتضاء الحكمة و المصلحة أسدادا حاجزة و حدودا مايزة من الجبال الراسية و الأنهار الجارية و نحوها قال تعالى «فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى‏ أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَ بَيْنَهُمْ سَدًّا».

(و استفاض عيونها) أى أفاض العيون و أجرى منها الماء الذي هو مادّة حياة الأحياء (و خدّأ أوديتها) أى شقّها و جعلها مراتع للبهائم و مزارع للناس لعلّهم يعقلون و لما عدّ عليه السّلام عددا من بدايع الصّنع و آثار العظمة فرّع عليه قوله: (فلم يهن ما بناه و لا ضعف ما قواه) تنبيها على عظمة صانعها و مبدعها، لأنّ عدم تطرّق الوهن و الضعف على تلك الاثار مع طول الزمان و مرور الدهور كاشف عن كمال قدرة المؤثّر و قوّته و عظمته.

و السابع و الخمسون ما أشار إليه بقوله (هو الظاهر عليها بسلطانه و عظمته) أى الغالب القاهر على الأرض و ما فيها باستيلاء قدرته و قوّته و سلطنته القاهرة و عظمته الباهرة.

و الثامن و الخمسون ما أشار إليه بقوله (و هو الباطن لها بعلمه و معرفته) أى الخبير عليها و على ما فيها بعلمه الذى لا يعزب عنه شي‏ء و لما كان المتبادر من الظهور و البطون الظهور و البطون الحسّيّين قيّد الأوّل بالسلطان و العظمة و الثّاني بالعلم و المعرفة تنبيها على أنّ المراد بهما إذا نسبتا إلى اللّه سبحانه ليس معناهما المتعارف لاستحالته في حقّه تعالى و اختصاصه بالأجسام و الجسمانيّات بل معنى آخر يليق بذاته و لا ينافي قدسه.

(و) التاسع و الخمسون أنّه (العالي على كلّ شي‏ء منها) لا بالعلوّ الحسّي المتصوّر في الأجسام كما يزعمه المجسّمة القائلون بأنه على العرش متشبّثين بقوله: الرّحمن على العرش استوى، لما عرفت مرارا فساد هذا الزعم كما عرفت تأويل الاية الشريفة بل بالعلوّ المعنوىّ و هو العلوّ (بجلاله و عزّته) و المراد بجلاله تنزّهه عن صفات النقصان و تقدّسه عن عوارض الامكان، فهو باعتبار تنزّهه عنها في أوج الكمال الأعلى، و المراد بعزّته قهره و غلبته و سلطانه.

الستون أنّه (لا يعجزه شي‏ء منها طلبه) لتمام سلطانه و قدرته و افتقار جميع من سواه إليه في وجوده و بقائه و تقلّباته فكيف يتصوّر أن يعجز من هو محتاج في ذاته و صفاته و حركاته و سكناته و جميع حالاته إليه قال عزّ من قائل: «و ما كان اللّه ليعجزه من شي‏ء في السموات و لا في الأرض إنّه كان عليما قديرا»

(و) الواحد و الستون (لا يمتنع عليه شي‏ء فيغلبه) لما قلناه من تمام سلطانه و كمال قدرته و افتقار كلّ إليه، فلا رادّ لقضائه و لا دافع لحكمه كما قال في كتابه العزيز: «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَ يَأْتِ بِآخَرِينَ وَ كانَ اللَّهُ عَلى‏ ذلِكَ قَدِيراً» و في آية أخرى «وَ كانَ اللَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مُقْتَدِراً».

(و) الثاني و الستون أنّه (لا يفوته السريع منها فيسبقه) أى لا يفوته سريع السير و الحركة من الأشياء فيسبقه بقوّة حركته، لاستلزام ذلك نقصا في قدرته و عجزا في ذاته و لاستواء نسبة الأمكنة و المكانيّات و الأزمنة و الزمانيّات إليه سبحانه قال تعالى: «كَلَّا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ. فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ. عَلى‏ أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ.

قال الطبرسيّ: يعني أنا نقدر على أن نهلكهم و نأتي بدلهم بقوم آخرين خيرا منهم و أنّ هؤلاء الكفار لا يقوون بأن يتقدّموا على وجه يمنع من لحاق العذاب بهم فانهم لم يكونوا سابقين و لا العقاب مسبوقا منهم، و التقدير و ما نحن بمسبوقين لفوت عقابنا إيّاهم فانهم لو سبقوا عقابنا لسبقونا.

(و) الثالث و الستون أنّه (لا يحتاج إلى ذى مال فيرزقه) لأنّه الغنيّ المطلق و ما سواه مفتقر إليه فكيف يفتقر إلى ما هو محتاج إليه، و المقصود بذلك و بما سبق كلّه تنزيهه من الصّفات البشريّة.

و الرابع و الستون أنّه (خضعت الأشياء) كلّها (له و ذلّت مستكينة) خاضعة مهانة (لعظمته) لكونها جميعا أسيرة في قيد الامكان مقهورة في سلسلة الحدوث و الافتقار و النقصان.

فحيث كانت بهذه المثابة من الذّلّ و الانقهار ف (لا تستطيع الهرب) و الفرار(من سلطانه الى غيره) لأنّ الهارب و المهروب إليه سيّان في جهة التّذلل و الافتقار و كلّ شي‏ء خاشع له، و كلّ قوىّ ضعيف عنده، و كلّ عزيز ذليل لديه.
و على ذلك (ف) لا يمكن للهارب أن (يمتنع) بالهرب إلى الغير و الاعتصام به (من نفعه و ضرّه) أى مما قضاه اللّه سبحانه في حقّه و قدّره من النفع و الضرر.

فان قلت: الممتنع إنّما يمتنع من الضرر و الهارب يهرب منه دون المنفعة فما معنى قوله: من نفعه قلنا: المراد منه سلب القدرة على تقدير امتناعه منه و الاشارة الى أنه قادر على ردّ شي‏ء مما قدّره اللّه في حقّه مطلقا و أنه لا عاصم له من أمر اللّه أصلا، فهو نظير قوله سبحانه: «قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً» أى من ذا الّذي يدفع عنكم قضاء اللّه و يمنعكم من اللّه إن أراد بكم عذابا و عقوبة أو أراد بكم رحمة فانّ أحدا لا يقدر على ذلك، و لا يجدون من دون اللّه وليّا يلي امورهم و لا نصيرا ينصرهم و يدفع عنهم.

(و) الخامس و الستون (لا كفوء له فيكافئه و لا نظير له فيساويه) أى ليس له سبحانه مكافى‏ء و مماثل إذ لو فرضنا له مكافئا في رتبة الوجود فذلك المكافئ لو كان ممكن الوجود كان محتاجا إليه متأخّرا عنه في الوجود فكيف يكون مكافئا له في رتبة الوجود.

و إن كان واجب الوجود فهو ينافي الأحديّة و يستلزم التركيب لأنّ كلّ ما له مثل فذاته مركب من جزئين أحدهما جهة الاتّحاد و المجانسة و الثاني جهة الامتياز و الاثنينيّة.
و أيضا لا يتشخّص المهيّة المشتركة بين شيئين أو الأشياء إلّا بواسطة المادّة الجسمانية و علائقها و هو سبحانه لبرائته من الأجسام و المواد و لكون إنيّته نفس مهيّته و ليس له مهيّة سوى الهويّة المحضة الوجوديّة كما اشير إليه في قوله: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» لا يكون له مثل أصلا.

و بتقرير أوضح نقول إنّه سبحانه واحد أحد أحدى الذات فلا يمكن أن يكون له مماثل و مكافي.
بيان ذلك أنّ كلّ مهيّة مركبة فهي مفتقرة إلى كلّ واحد من أجزائه، و كلّ واحد من أجزاء الشي‏ء غيره، فكلّ مركب مفتقر إلى غيره و كلّ مفتقر إلى غيره متأخّر عنه فهو ممكن محتاج في وجوده إلى ذلك الغير فلم يكن إلها واجب الوجود، و الإله الذى هو مبدء لجميع الممكنات يمتنع أن يكون مركبا ممكنا فهو في نفسه أحد و إذا ثبت كونه أحدا ثبت كونه واحدا فردا إذ لو لم يكن فردا لكان له مجانس أو مماثل يشاركه في الوجود و لكان امتيازه عنه بمميّز فصليّ فيعود التركيب هذا خلف.

السادس و الستون ما أشار إليه بقوله (هو المفني لها بعد و وجودها حتّى يصير موجودها كمفقودها) يعني أنه سبحانه يفني الأشياء و يعدمها حتّى يصير ما هو موجود كأن لم يكن موجودا أصلا أو الكاف زائدة أي يصير موجودها مفقودا معدوما.

و هو ظاهر بل صريح في فناء الجميع، و أصرح منه قوله الاتي: انه سبحانه يعود بعد فناء الدّنيا وحده لا شي‏ء معه، و أصرح منهما قوله الذى يتلوه أعني: فلا شي‏ء إلّا اللّه الواحد القهار، لأنّ النكرة في سياق النّفي يفيد العموم مؤكّدا بالاستثناء و قد وقع خلاف عظيم فى هذه المسألة أعنى مسألة طريان العدم على الأشياء حتّى صارت معركة للاراء.
فذهب جمهور الحكماء إلى امتناع طريان العدم على أكثر أجزاء هذا العالم كالعقول المجرّدة و النفوس الناطقة و الأجسام الفلكيّة و المادّة العنصريّة، فانّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه لا لذاته بل لدوام علّته و هذا لا ينافي الامكان لأنّ الممكن ما يجوز عليه أصل العدم و هو مما لا نزاع فيه، و انما نزاعهم فى طريان العدم.

و ذهب جمهور علماء الاسلام إلى جواز طريانه على جميع أجزائه و لكن اختلفوا فى وقوعه.

فمنهم من قال بعدم انعدام العرش قال الفخر الرازى في الأربعين: و اعلم أنّ‏كثيرا من علماء الشريعة و علماء التفسير قالوا إنّ فى وقت قيام القيامة ينخرق الأفلاك و ينهدم الكواكب إلّا أنّ العرش لا ينخرق، و التخصيص بالأكثر بالنسبة إلى عدم تخرّق العرش و إلّا فتخرق الأفلاك و انهدام الكواكب مما لا خلاف فيه.
و منهم من قال بتجرّد النفس الناطقة و عدم قبولها للفناء.

و ذهب الأكثرون إلى طريان العدم على جميع أجزائه أخذا بظواهر الايات و الأدلة المفيدة لذلك مثل قوله سبحانه: يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ و قوله: كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ، و قوله: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ، و قوله: وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ، و معلوم أنّه تعالى مبدء لجميع الأشياء فيكون معيدا للجميع و لا يتصوّر الاعادة إلّا بعد الاعدام فلا بدّ من إعدام الجميع.

ثمّ وقع الخلاف بين هؤلاء القائلين باعدام الجميع في معنى الاعدام الواقع و أنّ المراد به هل هو إفناء الجواهر و الذوات بأسرها أو تفريق الأجزاء و إزالة الأعراض.
فمن جوّز إعادة المعدوم بعينه قال بالأوّل.
و من قال بامتناعه كما هو الحقّ الموافق للتحقيق و عليه المحقّقون حتّى ادّعى بعضهم أنّه من البديهيّات و قال الشيخ إنّ كلّ من رجع إلى فطرته السليمة و رفض عن نفسه الميل و العصبيّة شهد عقله الصريح بأنّ إعادة المعدوم ممتنع، فذهب إلى الثاني.

و إلّا امتنع القول بالمعاد الجسمانى لأنّ الغرض من المعاد هو ايصال الثواب على المطيع و العقاب على العاصى فمع إعدام الذوات و الجواهر و امتناع إعادة المعدوم يكون المعاد غير المطيع و العاصى السابقين المستحقين للمثوبة و العقوبة، فالعقاب على المعاد يكون عقابا على غير المستحقّ و هو خلاف العدل، فلا بدّ من المصير إلى أنّ المراد بالفناء و الهلاك و العدم الوارد في الايات و الأخبار هو تفرّق الأجزاء و زوال التأليف و التركيب عنها و خروجها عن حدّ الانتفاع.

قالوا: إنّ اللّه يفرّق الأجزاء و يزيل التأليف عنها و لكنه لا يعدمها فاذا أعاد التأليف إليها و خلق الحياة فيها مرّة اخرى كان هذا الشخص هو عين الشخص الذى‏كان موجودا قبل ذلك فحينئذ يصل الثواب إلى المطيع و العقاب على العاصى و تزول الاشكال.

و قال في التجريد: و الامكان يعطى جواز العدم و السمع دلّ عليه بتأوّل فى المكلّف بالتفرّق كما في قصّة إبراهيم عليه السّلام يعنى كون العالم ممكنا يعطى جواز عدمه و الأدلة السمعية دلّت على وقوعه و لا ينافي ذلك امتناع إعادة المعدوم.
أما في غير المكلّفين فانّه يجوز أن يعدم بالكليّة و لا يعاد.
و أمّا بالنسبة إلى المكلّفين فانّه يتأوّل العدم بتفرّق الأجزاء و يتأوّل المعاد بجمع تلك الأجزاء و تأليفها بعد التفريق.
و الّذي يصحّح هذا التأويل قصّة إبراهيم عليه السّلام على ما حكى عنه الكتاب حيث قال «وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى‏ قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى‏» قال اللّه تعالى فى جوابه «فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى‏ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً».

و لكن استشكل الفخر الرازى فيه أى فى القول بأنّ المراد بالعدم هو التفرّق بأنّ المشار إليه لكلّ أحد بقوله: أناء ليس مجرّد تلك الأجزاء و ذلك لأنّا لو قدرنا أنّ هذه الأجزاء تفرّقت و صارت ترابا من غير حياة و لا مزاج و لا تركيب و لا تأليف فانّ كلّ أحد يعلم أنّ ذلك القدر من التراب الصرف ليس عبارة عن زيد، بل الانسان المعبر بأنا إنما يكون موجودا إذا تركبت تلك الأجزاء و تألفت على وجه مخصوص ثمّ قام بها حياة و علم و قدرة و عقل و فهم، فثبت أنّ الشخص المعيّن ليس عبارة عن مجرّد تلك الأجزاء و الذّوات، بل هو عبارة عن ذلك الأجزاء الموصوفة بالصفات المخصوصة، و إذا كان كذلك كانت تلك الصفات أحد أجزاء ماهيّة ذلك الشخص من حيث إنه ذلك الشخص، و عند تفرّق الأجزاء يبطل تلك الصّفات و تفنى، فان امتنعت الاعادة على المعدوم امتنعت على تلك الصفات فيكون العائد صفات اخرى لا تلك الصفات الّتى باعتبارها كان ذلك الشخص، و على هذا التقدير لم يكن العائد ثانيا هو الّذى كان موجودا أوّلا، فلم يكن الزيد الثاني عين الزيد الأوّل،فثبت بما ذكرنا أنّا إن جوزنا إعادة المعدوم فلا حاجة إلى ما ذكروه، و إن منعنا إعادة المعدوم كان الاشكال المذكور باقيا، سواء قلنا إنه تعالى لا يفنيها أو قلنا إنّه يفنيها انتهى.

و وافقه ذلك الشارح البحراني حيث قال: إنّ بدن زيد مثلا ليس عبارة عن تلك الأجزاء المتشذّبة المتفرّقة فقط، فانّ القول بذلك مكابرة للعقل بل عنها مع ساير الأعراض و التأليفات المخصوصة و الأوضاع فإذا شذب البدن و تفرّق فلا بدّ أن يعدم تلك الأعراض و تفني و حينئذ يلزم فناء البدن من حيث إنّه هذا البدن، فعند الاعادة إن اعيد بعينه وجب إعادة تلك الأعراض بعينها فلزمت إعادة المعدوم، و إن لم يعد بعينه عاد غيره فيكون الثواب و العقاب على غيره و ذلك تكذب للقرآن الكريم و لا تزر وازرة وزر اخرى.

اللّهمّ إلّا أن يقال إنّ الإنسان المثاب و المعاقب إنما هو النفس الناطقة، و هذا البدن كالالة فاذا عدم لم يلزم عوده بعينه بل جاز عود مثله، لكن هذا إنما يستقيم على مذهب الحكماء القائلين بالنفس الناطقة لا مذهب من يقول، بالتشذّب و تفرّق الأجزاء، و مذهب أكثر المحقّقين من علماء الاسلام يؤل إلى هذا القول، انتهى.

اقول: بعد القول بالمعاد الجسماني و كونه من ضروريّات الدّين، و بعد القول بامتناع إعادة المعدوم و كونه من البديهيّات حسبما اشرنا إليه، لا مناص من القول بالتفرّق.
و أمّا الاشكال المذكور فالجواب عنه بناء على نفى الجزء الصورى للأجسام و حصر أجزائها في الجواهر الفردة كما هو مذهب المتكلّمين ظاهر.
و أمّا بناء على ثبوت الجزء الصورى فربما يجاب عنه بأنه يكفى فى المعاد الجسماني عود الأجزاء الماديّة بعينها، و لا يقدح تبدّل الجزء الصورى بعد أن كان أقرب الصور إلى الصورة الزايلة.
لا يقال: إنّ هذا يكون تناسخا.

لأنا نقول: الممتنع هو انتقال النفس إلى بدن مغاير له بحسب المادّة لا إلى بدن يتألف من عين مادّة هذا البدن و صورة هى أقرب الصّور إلى الصورة الزايلة، فان سمّيت ذلك تناسخا فلا بدّ من البرهان على امتناعه فانّ النزاع إنما هو فى المعني لا في اللفظ، هذا.

و قد اشير إلى هذا الجواب في ما رواه في الاحتجاج عن الصادق عليه السّلام و هو أنّه سأله ابن أبي العوجاء عن قوله تعالى: «كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ» فقال: ما ذنب الغير قال عليه السّلام ويحك هي هي و هي غيرها، قال: فمثّل لي في ذلك شيئا من أمر الدّنيا قال عليه السّلام: نعم أرأيت لو أنّ رجلا أخذ لبنة فكسرها ثمّ ردّها في ملبنها فهي هي و هي غيرها.

ثمّ إن شئت مزيد توضيح لهذه المسألة أعني كون الاعدام و الافناء بالتفريق و التشذيب و الاعادة بالجمع و التركيب فعليك بالرّجوع الى آيات الكتاب و أخبار الأئمة عليهم السّلام الأطهار الأطياب.
قال سبحانه وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ و قد مضى تفسير الاية مفصّلا و تحقيق الكلام في اثبات المعاد الجسماني بما لا مزيد عليه في شرح الفصل الثالث من المختار الثاني و الثمانين.

و قال تعالى أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ. بَلى‏ قادِرِينَ عَلى‏ أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ و قال أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ هُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ روى في الكافي عن الباقر و الصّادق عليهما السّلام إنّ هؤلاء أهل مدينة من مداين الشام و كانوا سبعون ألف بيت قال لهم اللّه موتوا جميعا، فماتوا من ساعتهم و صاروا رميما يلوح، و كانوا على طريق المارّة فكنستهم المارّة فنحوّهم و جمعوهم في موضع فمرّ بهم نبيّ من أنبياء بني إسرائيل يقال له: حزقيل، فلما رأى تلك العظام بكى و استعبر و قال: يا ربّ لو شئت لأحييتهم الساعة كما أمّتهم، فأوحى اللّه عزّ و جلّ‏أن قل كذا و كذا، فقال الذي أمر اللّه عزّ و جلّ أن يقوله، فلما قال ذلك نظر إلى العظام يطير بعضها إلى بعض فعادوا أحياء ينظر بعضهم إلى بعض- و الحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة.

و قال تعالى أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى‏ قَرْيَةٍ وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى‏ عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى‏ طَعامِكَ وَ شَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَ انْظُرْ إِلى‏ حِمارِكَ وَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ» أى انظر إلى عظامك كيف نرفع بعضها إلى بعض للتركيب، و قرء ننشرها بالراء المهملة من أنشر اللّه الموتى أحياهم.

روى عليّ بن إبراهيم القمّي في حديث طويل عن الصّادق عليه السّلام- و ساق الحديث إلى أن قال- فخرج ارميا على حمار و معه تين قد تزوّده و شي‏ء من عصير فنظر إلى سباع البرّ و سباع البحر و سباع الجوّ تأكل تلك الجيف«» ففكر في نفسه ساعة ثمّ قال: أنّى يحيى اللّه هؤلاء و قد أكلتهم السّباع، فأماته اللّه مكانه و هو قول اللّه تعالى «أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى‏ قَرْيَةٍ» الاية، و بقى ارميا ميّتا مأئة سنة ثمّ أحياه اللّه فأوّل ما أحيا اللّه منه عينيه في مثل عزقي«» البيض فنظر فأوحى اللّه إليه كم لبثت قال لبثت يوما ثمّ نظر إلى الشّمس قد ارتفعت فقال أو بعض يوم فقال اللّه تعالى بل لبثت مأئة عام فانظر إلى طعامك و شرابك لم يتسنّه أى لم يتغيّر، و انظر إلى حمارك و لنجعلك آية للنّاس و انظر إلى العظام كيف ننشزها ثمّ نكسوها لحما فجعل ينظر إلى العظام البالية المتفطرة«» تجمع إليه و إلى اللحم الذي قد أكلته السباع يتألف إلى العظام من ههنا و ههنا و يلتزق بها حتّى قام و قام حماره فقال: إنّ اللّه على كلّ شي‏ء قدير.

و في الاحتجاج في حديث عنه عليه السّلام قال: و أمات اللّه ارميا النّبيّ الّذي نظرإلى خراب بيت المقدّس و ما حوله حين غزاهم بخت نصر فقال أنّي يحيى هذه اللّه بعد موتها، فأماته اللّه مأئة عام ثمّ أحياه و نظر إلى أعصابه كيف تلتئم و كيف تلبس اللّحم و إلى مفاصله و عروقه كيف توصل، فلما استوى قاعدا قال أعلم انّ اللّه على كلّ شي‏ء قدير.

ثمّ إنّه عليه السّلام لما ذكر أنّه تعالى يفنى الأشياء بعد الوجود، و كان ذلك مستبعدا عند الأذهان القاصرة و موردا للتعجّب لاستبعادها طريان العدم على هذه الأشياء الكثيرة العظيمة كالسّماوات الموطدات و ما فيهنّ، و الأرضين المدحوّات و ما عليهنّ و غيرها من الممكنات الموجودات أراد دفع الاستبعاد و التعجّب فقال: (و ليس فناء الدّنيا بعد ابتداعها بأعجب من إنشائها و اختراعها) لأنّ الانشاء و الافناء إن لو حظا بالنسبة إلى قدرة الواجب تعالى فليس بينهما فرق، إذ نسبة جميع المقدورات إليه تعالى سواء، لأنها كلّها ممكنة قابلة للوجود و العدم لذواتها و هو سبحانه على كلّ شي‏ء قدير، و إن لو حظابا لنظر إلى أنفسهما مع قطع النظر عن القدرة فالابداع أغرب و أعجب من الاعدام سيّما إذا كان المبدع مشتملا على بدايع الخلقة و أسرار الحكمة التي لا يهتدي إلى معشارها بعد الهمم و لا يصل إليها غوص الفطن كما أشار إليه بقوله: (و كيف) أى كيف يكون الفناء أعجب (و لو اجتمع جميع حيوانها من طيرها و بهائمها و ما كان من مراحها و سائمها) أى من ذي مراحها أى الذي أراحه راعيه فيه بالعشى (و أصناف أسناخها و أجناسها و متبلّدة اممها و أكياسها) أى غبيّها و ذكيّها (على إحداث) أصغر حيوان و أحقره و أضعفه من (بعوضة) و نحوها (ما قدرت على إحداثها، و لا عرفت كيف السّبيل إلى ايجادها) كما قال عزّ من قائل: «يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ».

و محصّل المراد أنّه كيف يكون الفناء أعجب من الابداع و في إبداع أضعف حيوان و أحقره و هي البعوضة ما يعجز عن تكوينه و إحداثه قدرة كلّ من تنسب إليه القدرة، و تقصر عن معرفة الطريق إلى ايجادها ألباب الألبّاء.

(و لتحيّرت عقولها في علم ذلك و تاهت و عجزت قواها و تناهت) فانها على صغرها و ضعفها قد ودع فيها من بدايع الصنع و عجائب الخلقة ما لا يخفى، فانه سبحانه قد خلقها على خلقة الفيل إلّا أنّه أكثر أعضاء من الفيل، فانّ للفيل أربع أرجل و خرطوما و ذنبا، و لها مع هذه الأعضاء رجلان زايدتان و أربعة أجنحة، و خرطوم الفيل مصمت و خرطومها مجوّف نافذ للجوف، فاذا طعنت به جسد الانسان استقى الدّم و قذفت به إلى جوفها فهولها كالبلعوم و الحلقوم و لذلك اشتدّ عضّها و قويت على خرق الجلود الغلاظ قال الراجز:

مثل السّفاة دائما طنينها
ركّب في خرطومها سكّينها

و مما ألهمها اللّه تعالى أنّها إذا جلست على عضو الانسان لا تزال تتوخى بخرطومها المسام التي يخرج منها العرق لأنها أرقّ بشرة من الجلد، فاذا وجدها وضعت خرطومها فيها و فيها من الشره أن تمصّ الدّم الى أن تنشقّ و تموت أو إلى أن تعجز عن الطيران فيكون ذلك سبب هلاكها.

و كان بعض الجبابرة من الملوك يعذّب بالبعوض فيأخذ من يريد قتله فيخرجه مجرّدا إلى بعض الاجام التي بالبطايح و يتركه فيها مكتوفا فيقتل في أسرع وقت و أقرب زمان قال الفتح البستي في هذا المعنى:

لا تستخفنّ الفتى بعداوة أبدا
و إن كان العدوّ ضئيلا

إنّ القذى يؤذى العيون قليله‏
و لربّما جرح البعوض الفيلا

و قال آخر:

لا تحقرّن صغيرا في عداوته
إنّ البعوضة تدمي مقلة الأسد

فقد ظهر من ذلك أنّ عقول العقلاء لو فكرت في ايجادها و فيما أبدع من عجايب الصنع لتحيّرت و تاهت و عرفت أنّ القوى عاجزة عن ايجادها.
(و رجعت خاسئة) أى صاغرة ذليلة (حسيرة عارفة بأنها مقهورة) عاجزة غير متمكّنة (مقرّة بالعجز عن انشائها مذعنة بالضعف عن إفنائها) فان قلت: كيف تذعن العقول بالضعف عن إفناء البعوضة مع إمكان ذلك‏و سهولته قلت: إنّ اللّه سبحانه و إن خلق للعبد قدرة على الفعل و الترك و الايذاء و الاضرار لغيره، لكنه تعالى جعل للبعوضة أيضا القدرة على الهرب و الطيران و الامتناع من ضرر الغير فضلا عن اهلاكه، فلو لا تسخير الربّ القاهر لها و تمكينه اياها لما قدر العبد على قتلها و اهلاكها و ما كان متمكنا من افنائها و إعدامها.

ثمّ إنّه لما ذكر أنّه تعالى يفنى الأشياء بعد وجودها حتّى يصير موجودها كمفقودها، و عقّبها بجملات متعدّدة معترضة للاستبعاد و إفنائها عاد إلى إتمام ما كان بصدده من شرح حال الفناء فقال: (و انّه سبحانه يعود بعد فناء الدّنيا وحده لا شي‏ء معه كما كان قبل ابتدائها كذلك يكون بعد فنائها) يعني أنّه يبقى بعد فناء الأشياء وحده لا شي‏ء معه منها كما كان قبل وجودها.

قال الشارح البحراني: و قوله: يعود، إشعار بتغير من حالة سبقت إلى حالة لحقت و هما يعودان إلى ما تعتبره أذهاننا له من حالة تقدّمه على وجودها و حالة تأخّره عنها بعد عدمها، و هما اعتباران ذهنيّان يلحقانه بالقياس إلى مخلوقاته.
و قوله (بلا وقت و لا مكان و لا حين و لا زمان) يحتمل أن يكون قيدا بقوله: وحده أو قوله: يكون، فيكون إشارة إلى بقائه سبحانه بعد فناء الأشياء متوحّدا منزّها عن الزمان و المكان، بريئا عن لحوقهما كما كان قبل وجودها كذلك، لأنّ الكون في المكان و الزمان من خصايص الامكان و خواصّ الأجسام.

و يحتمل أن يكون قيدا لقوله: فنائها أتى به تأكيدا له، يعني أنّه يفنى الأشياء حتّى لا يبقى وقت و لا زمان و لا مكان.
و ذلك لأنّ المكان إمّا الجسم الذي يتمكّن عليه جسم آخر، أو الجهة، و كلاهما لا وجود له بتقدير عدم الافلاك و ما في حشوها من الأجسام، أما الأوّل فظاهر، و أمّا الثاني فلأنّ الجهة لا تتحقّق إلّا بتقدير وجود الفلك لأنها أمر إضافيّ بالنسبة إليه فبتقدير عدمه لا يبقى لها تحقق أصلا.

و أما الزمان فلانه عبارة عن مقدار حركة الفلك فاذا قدرنا عدم الفلك فلا حركة فلا زمان.
و فيه ردّ على الفلاسفة القائلين بعدم فناء الأفلاك حسبما اشير إليه سابقا و لدفع زعمهم الفاسد أيضا أكّده ثانيا بقوله: (عدمت عند ذلك) أى عند فناء الأشياء (الاجال و الأوقات، و زالت السّنون و الساعات) لأنّ كلّ ذلك أجزاء للزّمان و حيث انعدم الزّمان لانعدام الفلك انعدم ذلك كلّه (فلا شي‏ء إلّا اللّه الواحد القهّار) هذا نصّ صريح في فناء جميع الأشياء.

و هو على القول بطريان العدم عليها بجواهرها و ذواتها لا غبار عليه.
و أما على القول بأنّ الفناء هو التشذّب و تفرّق الأجزاء كما عليه بناء المحققين حسبما عرفته سابقا فلا بدّ من ارتكاب التأويل و في أمثاله ينصرف لا عن نفى الجنس إلى نفى الكمال كما في لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد أى لا شي‏ء يصحّ منه الانتفاع فانّ الأجزاء المتشذّبة المتفرّقة و إن صحّ إطلاق اسم الشي‏ء عليها إلّا أنّها خرجت بتفرّقها عن حيّز الانتفاع، فكأنّها ليست بشي‏ء أى لا يبقى بعد فناء الأشياء شي‏ء معتدّ به إلّا اللّه الواحد القهّار للأشياء بالعدم و الفناء، و الغالب عليها بالاعدام و الافناء، بحيث لا يطيق شي‏ء منها من الامتناع من حكمه و مما يريد الانفاذ فيها من أمره.

(الذى إليه مصير جميع الامور) و مرجعها و عاقبتها كما قال عزّ من قال: «ألا إلى اللّه تصير الامور».
قال الطبرسي: أى إليه ترجع الامور و التدبير يوم القيامة فلا يملك ذلك غيره.
و قال البحراني: معني مصيرها إليه أخذه لها بعد هبته لوجودها.
و لما ذكر قهاريّته على الأشياء و صيرورتها كلّها إليه تعالى عقّبه بقوله: (بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها و بغير امتناع منها كان فناؤها) تنبيها على أنّ لازم قاهريّته ذلك أى كون الكلّ مقهورا تحت مشيّته غير مقتدر على ايجاد نفسه و لا على الامتناع من فنائه فهو عاجز ضعيف داخر ذليل لا يملك لنفسه موتا و لا حياة و لا نشورا.

(و) لما كان عدم اقتدارها على خلقتها بديهيّا مستغينا عن التعليل بخلاف اقتدارها على الامتناع علّل الثاني بأنها (لو قدرت على الامتناع لدام بقاؤها) لكن التالي‏باطل فالمقدّم مثله، و وجه الملازمة أن الفناء مكروه بالطبع لكلّ موجود فلو تمكن من الامتناع منه لامتنع فدام، و أما بطلان التالي فلما ثبت أنّه سبحانه يفنيها فلا يدوم بقاؤها فلا يكون لها قدرة على الامتناع.

و السابع و الستون أنه تعالى (لم يتكأده صنع شي‏ء منها إذ صنعه) أى لم يشق عليه سبحانه صنع شي‏ء من المصنوعات، لأنّ صنعه تعالى ليس بقوّة جسمانيّة حتّى يطرئه الانفعال و التعب، بل فعله الافاضة و صنعه الابداع الناشى عن محض علمه و ارادته من غير استعمال آلة أو حركة.

و نحن لو كنا بحيث لو وجد من نفس علمنا و إرادتنا شي‏ء لم يلحقنا من وجوده تعب و انفعال لكنا نحتاج في أفعالنا إلى حركة و استعمال آلة على أنّ علمنا و إرادتنا زايدتان على ذواتنا فاللّه تعالى أولى بأن لا يحلقه تغيّر من صنعه لأنّ فعله بمجرّد علمه و مشيته الموجبتان لقوله و أمره الواسطتان لفعله و صنعه كما قال عزّ و جلّ: إنّما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.

(و) الثامن و الستون انّه (لم يؤده منها خلق ما برأه و خلقه) أى لم يثقله ايجاد ما أوجده من المخلوقات، لأنّ الثقل و الاعياء إنّما يعرض لذي القوى و الاعضاء من الحيوان، و إذ ليس سبحانه بجسم و لاذى آلة جسمانية لم يلحقه بسبب فعله اعياء و لا تثقل و لا تعب كما قال سبحانه «أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ» و قال «اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا».

(و) التاسع و الستون أنّ تكوينه و ايجاده للأشياء ليس لجلب منفعة لنفسه أو دفع مضرّة عنها، لما قد عرفت في شرح الخطبة الرابعة و الستين مفصلا من أنه ليس بفعله داع و غرض غير ذاته، فلو كان غرضه من التكوين جلب المنفعة أو دفع المضرّة لزم نقصانه في ذاته و استكماله بغيره، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.
(و) أشار إلى تفصيل وجوه المنافع المتصوّرة في التكوين و المضارّ المترتّبة على عدمه و نفيها جميعا بقوله: (لم يكوّنها لتشديد سلطان) قد مصي شرحه في شرح الخطبة الرابعة و الستّين‏(و لا لخوف من زوال و نقصان) أى لخوفه من الزوال و العدم فخلقها ليتحصّن بها من ذلك أو خوفه من النقصان فخلقها لأنّ يستكمل بها، و قد تقدّم تنزّهه سبحانه عن الخوف في شرح الخطبة المذكورة أيضا.

(و لا لاستعانة بها على ندّ مكاثر) متعرّض للغلبة (و لا للاحتراز بها من ضدّ مثاور) مواثب و محارب له (و لا للازدياد بها في ملكه) و مملكته بتكثير الجند و العساكر و أخذ الحصون و البلاد و القلاع (و لا لمكابرة شريك في شركه) أى لمفاخرة الشريك في الملك كما يكاثر الانسان غيره ممن يشاركه في الأموال و الأولاد قال سبحانه «أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ» و انما لم يكن تكوينه لأجل هذه الامور لاستلزامه العجز و الضعف و النقصان حسبما عرفته في شرح الخطبة التي أشرنا إليها.

(و لا لوحشه كانت منه فأراد أن يستأنس إليها) لتنزّهه تعالى عن الاستيحاش و الاستيناس حسبما تقدّم تفصيلا في شرح الفصل السادس من الخطبة الاولى.

و السبعون أنّ إفنائه للأشياء ليس أيضا من أجل جلب النفع أو دفع الضّرر و إليه أشار بقوله (ثمّ هو يفنيها بعد تكوينها لا لسأم) و ملال (دخل عليه في تصريفها و تدبيرها) لأنّ الضجر و الملال إنما يلحقان للمزاج الحيواني فيمتنع أن يكون فناؤه لها لأجل دفعهما عنه لتنزّهه من المزاج.

(و لا ل) تحصيل (راحة واصلة إليه) بسبب إعدامها (و لا ل) دفع مضرّة (ثقل شي‏ء منها عليه) حال وجودها، لأنّ هذا كلّه من لواحق الامكان و لوازم الضعف و النقصان (لا يملّه طول بقائها) كما يملّ غيره (فيدعوه إلى سرعة إفنائها) لما ذكرنا من تنزّهه من السأم و الملال و (لكنّه سبحانه دبّرها بلطفه) أى ببرّه و إنعامه و تكرمته.
و معنى تدبيره لها تصريفه إيّاها لتصريفها كلّيا و جزئيّا على وفق حكمته و عنايته من غير مماسّة بها و مباشرة لها لأنّ المباشرة و الملامسة من صفات الأجسام.

(و أمسكها بأمره) أى بحكمه النافذ و سلطانه القاهر (و أتقنها بقدرته) أى جعلها متقنة محكمة مصونة من التزلزل و الاضطراب بنفس قدرته الكاملة، فاذا كان تدبيرها باللطف و إمساكها بالحكم و إتقانها بمحض القدرة من غير حاجة فيها إلى المزاولةو المباشرة امتنع عروض الثقل و الملال عليه سبحانه بسبب بقائها و وصول الراحة إليه بسبب فنائها كما هو واضح لا يخفى.

و الحادى و السبعون أنّ إعادته للأشياء بعد الفناء ليس أيضا لأجل الأغراض البشريّة من جلب منفعة أو دفع المضرّة و إليه أشار بقوله: (ثمّ يعيدها بعد الفناء) أى يعيد الأشياء لا جميعها بل بعضها و هو جميع أفراد النوع الانساني قطعا و جملة من غيره مما ورد في الأخبار الإخبار بإعادته، فالضمير عايد إلى الدّنيا أو إلى الامور في قوله مصير جميع الامور و أريد به البعض على طريق الاستخدام.

و كيف كان فانه سبحانه يعيد من الأشياء ما اقتضت الحكمة إعادتها (من غير حاجة منه إليها) لأنّ الحاجة من صفات الممكن (و لا استعانة بشي‏ء منها عليها) أى استعانة ببعضها على بعض (و لا لانصراف من حال وحشة) كانت له عند فقدانها (إلى حال استيناس) حصلت له عند وجودها (و لا) لانتقال (من حال جهل و عمى) حاصلة له باعدامها (إلى حال علم و التماس) أى إلى استجداد علم و لمس (و لا من فقر و حاجة إلى غني و كثرة و لا من ذلّ وضعة إلى عزّ و قدرة) لأنّ هذه الأعراض كلّها إنما تليق بالممكنات الناقصة، و أمّا الواجب تعالى فله الكمال المطلق في ذاته و صفاته، فيمتنع أن يكون أفعاله لمثل هذه الأغراض المنبئة عن النقص و الفاقة.

تنبيه

لا تحسبنّ من نفي الأغراض المذكورة عنه سبحانه في ايجاد الأشياء و إفنائها و إعادتها كون أفعاله عزّ و جل خالية عن الغرض مطلقا كما زعمته الأشاعرة فيلزم كونه لاعبا عابثا في فعله، تعالى شأنه عن ذلك علوّا كبيرا و قد قال عزّ من قائل «وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ» «رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا» «أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ. فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ».
بل المنفيّ عنه سبحانه هو الأغراض المستلزمة لنقصانه في ذاته و استكماله‏بمخلوقاته من قبيل جلب المنافع و دفع المضارّ.
و تحقيق المقام يتوقف على بسط في الكلام.
فأقول: ذهبت الطايفة المحقّة الامامية و المعتزلة من العامة إلى أنّ أفعاله سبحانه معلّلة بالأغراض و المصالح و الحكم و المنافع، و خالفهم الأشاعرة.

قال العلامة الحلّى قدّس اللّه روحه في كتاب نهج الحقّ: قالت الامامية: إنّ اللّه إنما يفعل لغرض و حكمة و فائدة و مصلحة يرجع إلى المكلّفين و نفع يصل إليهم، و قالت الأشاعرة: إنّه لا يجوز أن يفعل شيئا لغرض و لا لمصلحة ترجع إلى العباد و لا لغاية من الغايات، و لزمهم من ذلك كون اللّه تعالى لاعبا عابثا في فعله فانّ العابث ليس إلّا الّذي يفعل لا لغرض و حكمة بل محابا و اللّه تعالى يقول «وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ» و الفعل الّذى لا غرض للفاعل فيه باطل و لعب، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

و قال في موضع آخر من الكتاب المذكور: قالت الاماميّة: إنّ اللّه لم يفعل شيئا عبثا بل إنما يفعل لغرض و مصلحة و إنما يمرض لمصالح العباد و يعرض المولم بحيث ينتفي العبث و الظلم، و قالت الأشاعرة: لا يجوز أن يفعل شيئا لغرض من الأغراض و لا لمصلحة و يولم العبد بغير مصلحة و لا غرض بل يجوز أن يخلق خلقا في النّار مخلّدين فيها أبدا من غير أن يكون قد عصوا أوّلا، انتهى كلامه رفع مقامه.

و قال الشارح المعتزلي: أوجد اللّه تعالى الأشياء أولا للاحسان إلى البشر و ليعرّفوه، فأنّه لو لم يوجدهم لبقي مجهولا لا يعرف، ثمّ كلّف البشر ليعرضهم للمنزلة الجليلة التي لا يمكن وصولهم إليها إلّا بالتكليف و هي الثواب، ثمّ يفنيهم لأنّه لا بدّ من انقطاع التكليف ليخلص الثواب من مشاق التكاليف، ثمّ إنه يبعثهم و يعيدهم ليوصل إلى كلّ إنسان ما يستحقه من ثواب أو عقاب، و لا يمكن ايصال هذا المستحق إلّا بالاعادة انتهى.

و قال الأوّل أيضا في محكى كلامه من كتاب نهاية الفصول: إنّ النصوص دالّة على أنه تعالى شرع الأحكام لمصالح العباد ثمّ إنّ الاماميّة و المعتزلة صرّحوا بذلك و كشفوا الغطاء حتّى قالوا إنّه تعالى يقبح منه فعل القبيح و العبث بل يجب أن‏يكون فعله مشتملا على مصلحة و غرض، و أما الفقهاء«» قد صرّحوا بأنّه تعالى إنما شرع الحكم لهذا المعني و لأجل هذا الحكمة ثمّ يكفرون من قال بالغرض مع أنّ معني الكلام الغرض لا غير، انتهى.

فقد ظهر من كلامهما جميعا اتّفاق العدلية على كون أفعاله تعالى و أحكامه و جميع ما صدر عنه تكوينيّا كان أو تكليفيّا معلّلا بأغراض، و أنّ الغرض منها جميعا أيصال النفع إلى المكلّفين و الاحسان إليهم و اللطف في حقّهم.
و يشهد لهم صريحا الايات الكثيرة من الكتاب و الأخبار التي لا تعدّ و لا تحصى مثل قوله تعالى وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ و قوله هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً وَ قَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ و قوله مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى‏ بَنِي إِسْرائِيلَ الاية و قوله وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ.
و في الحديث القدسي: لولاك لما خلقت الأفلاك، و يا إنسان خلقت الأشياء لأجلك و خلقتك لأجلى، و كنت كنزا مخفيّا فأحببت أن اعرف فخلقت الخلق لاعرف. إلى غير ذلك مما لا حاجة إلى ايراده.

و كفاك شاهدا في هذا الغرض كتاب علل الشرائع الّذى ألّفه الصدوق «قده» في علل تشريع الأحكام الشرعيّة.
و استدل الأشاعرة على مذهبهم بأنه لو كان فعله تعالى لغرض من جلب منفعة أو دفع مفسدة لكان هو ناقصا بذاته مستكملا بتحصيل ذلك الغرض، لأنّه لا يكون غرضا للفاعل إلّا ما هو أصلح له من عدمه، و ذلك لأنّ ما استوى وجوده و عدمه بالنظر إلى الفاعل و كان وجوده مرجوحا بالقياس إليه لا يكون باعثاله على الفعل و سببا لاقدامه عليه بالضرورة، فكلّ ما كان غرضا يجب أن يكون وجوده أصلح للفاعل و أليق به من عدمه و هو معني الكمال، فاذا يكون الفاعل مستكملا بوجوده ناقصا بعدمه.

قالوا: و أما قول القائلين بكون أفعاله للغرض إنّه لولاه لكان اللّه لاعبا عابثا، فالجواب التحقيقى عنه إنّ العبث ما كان خاليا عن الفوائد، و أفعاله تعالى محكمة متقنة مشتملة على حكم و مصالح لا يحصى راجعة إلى مخلوقاته تعالى لكنها ليست أسبابا باعثة على إقدامه و عللا مقتضية لفاعليّته فلا يكون أغراضا له و لا عللا غائية لأفعاله حتّى يلزم استكماله بها، بل يكون غايات و منافع لأفعاله و آثارا مترتبة عليها، فلا يكون شي‏ء من أفعاله عبثا خاليا عن الفوائد، و ما ورد من الظواهر الدالة على تعليل أفعاله تعالى فهو محمول على الفايدة و المنفعة دون الغرض و العلّة.

أقول: هكذا قرّر الشارح الناصب روزبهان خفضه اللّه دليل الأشاعرة في شرح نهج الحق و المستفاد منه اتّفاق الاشاعرة و العدلية على كون أفعاله سبحانه مشتملة على الحكم و المصالح العايدة إلى الخلق لا إليه تعالى، و على أنّ ظواهر الأدلّة هي العلّية و الغاية.

و إنما النزاع في كون تلك المصالح و الحكم غرضا و علّة للفعل، فذهب العدلية إلى الغرض و العلّية مستدلّين بظواهر الأدلّة، و أنكرها الأشاعرة و صرفوا الأدلّة عن ظواهرها بزعمهم استلزام القول بالغرض النّقصان بالذات و الاستكمال بالغير و هو محال على الحق الأوّل سبحانه.

و اعترض عليه الشارح الفاضل القاضي نور اللّه نوّر اللّه مرقده.
أولا بأنّه انما يلزم الاستكمال لو كان الغرض عايدا إليه تعالى و نحن لا نقول بذلك، بل الغرض إما عايد إلى مصلحة العبد أو إلى اقتضائه نظام الوجود بمعني نظام الوجود لا يتمّ إلّا بذلك الغرض فيكون الغرض عايدا إلى النظام لا إليه و على كلّ من الأمرين لا يلزم الاستكمال.

فان قيل: أولويّة عود الغرض إلى الغير يفيد استكماله بالغير و مساواته بالنسبة إليه تعالى ينافي الغرضيّة.
قلت: لا نسلّم أنه لو استوى حصول الغرض و عدم حصوله بالنسبة إليه تعالى‏لم يصلح أن يكون غرضا داعيا إلى فعله، و إنما يلزم لو لم يكن الفعل أولى من الترك بوجه من الوجوه، و ههنا ليس كذلك فانّه بالنسبة إلى العبد أولى.

و لو سلم فنقول: الغرض كالاحسان مثلا أولى و أرجح من عدمه عنده تعالى يعني أنّه عالم بأرجحيّة الاحسان في نفس الأمر و لا يلزم أولويّة الاحسان بالمعني المذكور عنده استكماله تعالى به، لأنّ الأنفع أرجح في نفس الأمر، فلو لم يكن عالما بالأرجحيّة يلزم عدم علمه بكونه أنفع، فليزم النقص فيه و هو منزّه عن النقص.
و ثانيا بأنّ تعليل أفعاله راجع إلى الصّفات و الكمالات الفعلية كخالقيّة العالم و رازقيّة العباد، و الخلوّ عنها ليس بنقص قطعا و إنّما النّقص خلوّه عن الصّفات الحقيقية.

و ثالثا بأنّ ما ذكره من الجواب الّذي سمّاه تحقيقا فبطلانه ظاهر لأنّه مع منافاته لما ذكروه في بحث الحسن و القبح العقليّين من أنه ليس في الأفعال قبل ورود الأمر و النهي جهة محسنة و مقبحة تصير منشئا للأمر و النهي مردود بأنّ الفاعل إذا فعل فعلا من غير ملاحظة فايدة و مدخليتها فيه يعدّ ذلك الفعل عبثا أو في حكم العبث في القبح و إن اشتمل على فوايد و مصالح في نفس الأمر، لأنّ مجرّد الاشتمال عليها لا يخرجه عن ذلك، ضرورة أنّ ما لا يكون ملحوظا للفاعل عند ايقاع الفعل و لا مؤثّرا في إقدامه عليه في حكم العدم كما لا يخفى على من اتّصف بالانصاف، هذا.

و ذكر اعتراضات اخر غير خالية عن التأمّل و النظر طوينا عن ذكرها كشحا و إن كان بعض هذه الاعتراضات التي ذكرناها غير خال عن المناقشة أيضا كما لا يخفي، هذا.
و لصدر المتألّهين مسلك آخر في تقرير كون أفعاله تعالى معلّلة بالأغراض و تحقيق عميق في بيان معني الغرض و الغاية أشار إليه في مواضع عديدة بعضها إجمالا و بعضها تفصيلا من شرح الكافي.

قال في شرح الحديث الخامس من الباب السادس و هو باب الكون و المكان من‏كتاب التوحيد ما لفظه: إنّ الأسباب لوجود ماله سبب ينحصر في أربعة: الفاعل، و الغاية، و المادّة، و الصورة، و الأخيرتان داخلتان في وجود المسبّب عنهما إحداهما ما به وجود الشي‏ء بالقوة كالخشب للسرير، و الثانية ما به وجود الشي‏ء بالفعل كهيئة السرير لأنها متي وجدت وجد السرير بالفعل، و أمّا الأوّلان فهما خارجان عن وجود المسبّب، و الفاعل ما يفيد وجود الشي‏ء، و الغاية ما لأجله.

و من المعاليل ما لا يحتاج الى السبّبين الداخلين لكونه بسيطا، و أمّا الفاعل و الغاية فليس يمكن لشي‏ء من الممكنات الاستغناء عنهما ثمّ الغاية لها اعتباران: أحدهما اعتبار كونها بحسب الوجود العلمي باعثة على فاعلية الفاعل، فهي متقدّمة على الفعل و كون الفاعل فاعلا لأنها علّة فاعليّة لفاعلية الفاعل فهي فاعل الفاعل بما هو فاعل، و هذا في الفواعل الّتي في هذا العالم من المختارين الّذين يفعلون أفاعيلهم بقصد زايد و داعية إرادة زايدة مكشوف معلوم، فانهم ما لم يتصوّروا غاية و فايدة لم يصيروا فاعلا بالفعل، فالعلّة الغائية فيهم مغايرة للعلّة الفاعلة، و أما الأوّل تعالى فلما كان علمه بنظام الخير في العالم الّذى هو عين ذاته داعيا لايجاده للعالم فالفاعل و الغاية هناك شي‏ء واحد بلا تغاير في الذات و لا تخالف في الجهات.

و ثانيهما اعتبار كونها غاية و ثمرة مترتبة على الفعل، فربما يتأخر وجودها الخارجي عن وجود المعلول فيكون وجودها معلول معلول الفاعل كما في الغايات الواقعة تحت الكون ثمّ اعلم انّه قد وجد في كلام الحكماء أنّ أفعال اللّه تعالى غير معلّلة بالأغراض و الدّواعي، و وجد أيضا كثيرا في ألسنتهم على طبق ما ورد في هذه الأحاديث أنّه تعالى غاية الغايات و أنه المبدأ و الغاية، و في الكلام الالهي «صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما» «إِنَّ إِلى‏ رَبِّكَ الرُّجْعى‏» إلى غير ذلك مما لا يعدّو لا يحصى.

فان كان المراد من نفس التعليل و سلب اللميّة عن فعله تعالى نفي ذلك عنه‏بما هو غير ذاته فهو كذلك، لأنه تعالى تامّ في فاعليّته كما هو تامّ في ذاته، لكن لا يلزم من ذلك نفي الغاية و الداعي عن فعله مطلقا حتّى يلزم العبث و الجزاف، تعالى عما يظنّه الجاهلون، بل علمه بنظام الخير الّذى هو نفس ذاته علّة غائية و غرض بالذات لفعله و وجوده، و هذا مما ساق اليه الفحص و البرهان و شهدت به عقول الفحول و أذهان الأعيان.

و قال في شرح الحديث الأوّل من الباب الرابع عشر و هو باب الارادة من كتاب التوحيد: التحقيق أنّ الارادة تطلق بالاشتراك الصناعي على معنيين: أحدهما ما يفهمه الجمهور و هو الّذي ضدّه الكراهة و هي التي قد تحصل فينا عقيب تصوّر الشي‏ء الملايم و عقيب التردّد حتّى يترجّح عندنا الأمر الدّاعي إلى الفعل أو الترك فيصدر أحدهما منا و هذا المعنى فينا من الصفات النفسانية و هي و الكراهة فينا كالشهوة و الغضب فينا و في الحيوان، و لا يجوز على اللّه بل إرادته نفس صدور الأفعال الحسنة منه من جهة علمه بوجه الحسن و كراهته عدم صدور الفعل القبيح عنه لعلمه بقبحه.

و ثانيهما كون ذاته بحيث يصدر عنه الأشياء لأجل علمه بنظام الخير فيها التابع لعلمه بذاته، لا كاتباع الضوء للمضي‏ء و السخونة للمسخّن و لا كفعل الطبايع لا عن علم و شعور و لا كفعل المجبورين و المسخّرين و لا كفعل المختارين بقصد زايد و إرادة زايدة ظنّية يحتمل الطرف المقابل.

فاذا هو سبحانه فاعل للأشياء كلّها بارادة ترجع إلى علمه بذاته المستتبع لعلمه بغيره المقتضي لوجود غيره في الخارج لا لغرض زايد و جلب منفعة أو طلب محمدة أو ثناء أو التخلّص من مذّمة، بل غاية فعله محبّة ذاته.
فهذه الأشياء الصادرة عنه كلّها مرادة لأجل ذاته لأنها من توابع ذاته و علمه بذاته، فلو كنت تعشق شيئا لكان جميع ما يصدر عنه معشوقا لك لأجل ذلك الشي‏ء، و إليه الاشارة بما ورد في الحديث الالهى عن نفسه تعالى: كنت كنزا مخفيّا فأحببت أن اعرف فخلقت‏الخلق لأعرف.

و قال في شرح الحديث السادس من الباب الخامس و العشرين من كتاب التوحيد و هو باب المشيّة و الارادة: ليس لفعله تعالى غاية و غرض زائدتين على ذاته، و إنما الغاية و الغرض لأفاعيل ما سواه من الفاعلين و الغاية و الغرض اسمان لشي‏ء واحد بالذات متغاير بالاعتبار، فالذى لأجله يفعل الفاعل فعله و يسأل عنه بلم و هو يقع في الجواب يقال له الغاية بالنسبة إلى الفعل و الغرض بالنسبة إلى الفاعل، فاذا قلت لباني الفعل لم تبني البيت فيقول في جوابك لأسكن فيه فالسّكنى غاية للبناء و غرض للبناء.

إذا علمت هذا فاعلم أنّ وجود الأشياء عنه تعالى من لوازم خيريّته تعالى ليس يريد بايجادها شيئا آخر غير ذاته، بل كونه على كماله الأقصى يقتضى ذلك، إذ كلّ فاعل يقصد فى فعله شيئا فذلك الشي‏ء أفضل منه و هو أدون منزلة من مقصوده.

فلو كان للأوّل تعالى قصد إلى ما سواه أيّ شي‏ء كان من ايصال خيريّة أو نفع أو مثوبة إلى أحد أو طلب ثناء أو شكر أو محمدة أو غير ذلك لكان في ذاته ناقصا مستكملا بقصده، و ذلك محال لأنّ وجوده على أقصى درجات الفضل و الكمال إذ كلّ كمال و شرف و فضل فهو رشح من رشحات وجوده، فكيف يعود إليه من مجعولاته شي‏ء من الفضيلة لم تكن في ذاته.

و أيضا لو كان له قصد زايد أو لفعله غرض يلحق إليه بواسطة الفعل يلزم فيه الكثرة و الانفعال، و قد ثبت أنّه واحد أحد من كلّ وجه هذا خلف.
فاذا قد ظهر أنّه لالمية لفعله و لا يسأل عمّا يفعل و كلّ فاعل سواه فله في فعله غرض و لفعله غاية يطلبها هي لا محالة فوقه.

و تلك الغايات متفاضلة متفاوتة في الشرف على حسب تفاوت الفواعل.
و الذي عنده من الملائكة المقرّبين و من في درجتهم من عباده المكرمين فلا غاية لفعله و عبادته و تسبيحه إلّا لقاء ذاته تعالى لا غير.

و لمن دونهم من الملائكة السّماوية و النفوس المدبرة غايات اخرى يشتاقون إليها و يتشبّهون بها و يصلّون إليها هي بعد ذاته تعالى.
و هكذا يتنازل الغايات حسب تنازل النفوس و الطبايع حتّى أنّ الجمادات و العناصر لها في استحالاتها و حركاتها غايات طبيعيّة جعلها اللّه مركوزة في ذاتها مجبولة على قصدها و طلبها «و لكلّ وجهة هو مولّيها».
فاتّضح و تبيّن أنّ لكلّ أحد في فعله غاية يسأل عنها و هو معنى قوله: «و هم يسئلون».

و ليس معنى قوله «لا يسئل عمّا يفعل» كما زعمه علماء العامة من الأشاعرة و غيرهم أنّ ذاته تعالى لا يقتضي الخير و النظام و لا يجب منه أن يكون العالم على أفضل ما يمكن من الخير و التمام و الشرف و النظام بحيث لا يتصوّر ما هو أكمل و أتمّ مما هو عليه، مستدلّين على صحّة ما ادّعوه من المجازفة بأن لا اعتراض لأحد على المالك فيما يفعله من ملكه، و العالم ملكه تعالى فله أن يفعل فيه كلّ ما يريده سواء كان خيرا أو شرا أو عبثا أو جزافا، و هم لا يقولون بالمخصّص و المرجّح في اختياره تعالى لشي‏ء قائلين إنّ الارادة تخصّص أحد الطرفين من دون حاجة إلى مرجّح لأنّه لا يسأل عن اللّمية فيما يفعله.

و هو كلام لا طائل تحته فانّ الارادة إذا كان الجانبان بالنسبة إليها سواء لا يتخصّص أحد الجانبين إلّا بمرجّح، و لا يقع الممكن إلّا بمرجّح، و بذلك يثبت الحاجة إلى وجود الصّانع و أمّا الخاصية الّتي يقولونها فهو هوس أليس لو اختار الجانب الاخر الذي فرض مساويا لهذا الجانب كانت تحصل هذه الخاصيّة.

ثمّ تعلّق الارادة بشي‏ء مع أنّ النّسبة إلى الجانبين سواء هذيان، فانّ الارادة ما حصلت أوّلا إرادة بشي‏ء ما ثمّ تعلّقت بشي‏ء مخصّص، فانّ المريد لا يريد أىّ شي‏ء اتّفق و لا يكون للمريد إرادة غير مضافة إلى شي‏ء أصلا ثمّ يعرض لها ان تعلقت ببعض جهات الامكان.

نعم إذا وقع التصوّر و حصل إدراك يرجّح أحد الجانبين يحصل إرادة مخصّصةبأحدهما، فالترجيح مقدّم على الارادة.
فاذا علمت أنّ كلّ مختار لا بدّ في اختياره أحد طرفي وجود شي‏ء من مرجّح فيجب أن يكون المرجّح في فعل الغني المطلق غير زايد على ذاته و علمه بذاته، فذاته هي الغاية المقتضية لفعله لا شي‏ء آخر إذ لا يتصوّر أن يكون امر أولى بالغنى المطلق أن يقصده، و إلّا لكان الغني المطلق فقيرا في حصول ما هو الأولى له إلى ذلك الشي‏ء و هو محال.

فاذا هو الغاية للكلّ كما هو الفاعل للكلّ فهكذا يجب عليك أن تعلم تحقيق المقام لتكون موحّدا مخلصا مؤمنا حقّا.
و قال في شرح الهداية: إنّ من المعطّلة قوما جعلوا فعل اللّه خاليا عن الحكمة و المصلحة متمسّكين بحجج أوهن من بيت العنكبوت.

منها قولهم كون الارادة مرجّحة صفة نفسيّة لها و صفات النفسية و لوازم الذّات لا تعلّل كما لا يعلّل كون العلم علما و القدرة قدرة، و هو كلام لا حاصل له، فانّ مع تساوى طرفى الفعل كيف يتخصّص أحد الجانبين و الخاصيّة الّتى يقولونها هذيان، فانّ تلك الخاصية كانت حاصلة أيضا لو فرض اختيار الجانب الاخر الذي فرض مساويا لهذا الجانب.

و منها قولهم بأنّ الارادة متحقّقة قبل الفعل بلا اختصاص بأحد الامور ثمّ تعلّقت بأمر دون أمر و هذا كاف في افتضاحهم، فانّ المريد لا يريد أىّ شي‏ء إذ الارادة من الصفات الاضافية فلا يتحقّق إرادة غير متعلّقة بشي‏ء ثمّ يعرضها التعلّق ببعض الأشياء نعم إذا حصل تصوّر شي‏ء قبل وجوده و يرجّح أحد جانبى إمكانه يحصل إرادة متخصّصة حينئذ فالترجيح مقدّم على الارادة.

فالحاصل أنّ المختار متى كانت نسبة المعلول اليه امكانية من دون داع و مقتض لصدوره عنه يكون صدوره عنه ممتنعا، لامتناع كون المساوى راجحا، فانّ تجويز ذلك من الفاعل ليس إلّا قولا باللّسان دون تصديق بالقلب، فذلك الداعى هو غاية الايجاد.

و هو قد يكون نفس الفاعل كما في الواجب تعالى لأنه تامّ الفاعلية فلو احتاج في فعله إلى معنى خارج عن ذاته لكان ناقصا في الفاعلية و سيعلم أنه سبب الأسباب و كلّ ما يكون سببا أوّلا لا يكون لفعله غاية غير ذاته.
فان لم يستند وجودها إليه لكان خلاف الفرض و ان استند إليه فالكلام عايد فيما هو داعية لصدور تلك الغاية حتّى ينتهى إلى غاية أى عين ذاته دفعا للدور و التسلسل، و قد فرض كونها غير ذاته هذا خلف، فذاته تعالى غاية للجميع كما أنّه فاعل لها، انتهى كلامه.

و محصله أنّ العلّة الغائية عنده من صفات الذات و هو علمه بنظام الخير و هو الداعى إلى ايجاد الموجودات و الغرض من ايجادها هو ذاته تعالى فهو سبحانه الفاعل لها و هو الغرض منها، فالفاعل و الغاية في أفعاله تعالى سواء لا مغايرة بينهما.
و المستفاد من صاحب احقاق الحقّ و نهج الحقّ و غيرهما حسبما عرفت أنّها من صفات الفعل راجعة إلى خالقيّته تعالى و رازقيّته، و أنها مغايرة للعلّة الفاعلة كما أنها في غيره سبحانه كذلك، فالفاعل للأشياء هو الذات و الغرض منها ايصال النفع و الافضال على العباد.

و على أىّ من القولين فقد تبيّن و استبان و اتّضح كلّ الوضوح أنّ ايجاد الموجودات ليس خاليا عن الحكم و المصالح و الغايات حسبما زعمته أبو الحسن الأشعري و أتباعه، غفلة عما يلزم عليه من المحالات التي مرّت الاشارة إلى بعضها هنا، و ذكر جملة منها العلّامة الحلّي قدّس اللّه سرّه في كتاب نهج الحقّ من أراد الاطلاع عليها فليراجع.

و الحمد للّه على توفيقه و عنايته، و الصّلاة على رسول اللّه و خلفائه و عترته، و نسأل اللّه بهم و بالمقرّبين من حضرته أن يثبت ما أتينا به في شرح هذه الخطبة الشريفة من اصول العلم الالهى في صحايف أعمالنا، و يثبتنا عليه عند الممات كما ثبتنا عليه حال الحياة، و يجعله نورا يسعى بين أيدينا في الظلمات، ظلمات يوم الجمع‏و عند الجواز على الصّراط إنّه على ذلك قدير، و بالاجابة حقيق جدير.

الترجمة

از جمله خطب شريفه آن ولي دين و امام مبين است در بيان توحيد خداوند و جمع ميكند اين خطبه از اصول علم إلهى مطالبى را كه جمع نكرده‏است آن را هيچ خطبه مى‏فرمايد كه: واحد و يگانه ندانست كسى كه او را مكيّف نمود بكيفيّات نفسانيه، و بحقيقت او نرسيده كسى كه از براى او مثلى قرار داده باشد، و او را قصد نكرده كسى كه او را شبيه قرار بدهد، و قصد نكره او را كسى كه اشاره نمايد بسوى او با اشاره حسيّه يا عقليّه و بوهم و خيال خود آورد او را، هر شناخته شده بذات و حقيقت مصنوع است نه صانع، هر قائم بغير خود معلول است نه علّت، فاعل است بذاته محتاج نيست در فعل خود بتحريك آلات و أدوات، مقدّر است كه در تقدير خود احتياج ندارد بجولان دادن فكر و خلجان خواطر، غنى است نه با اكتساب، مصاحب وجود او نمى‏شود وقتها، و اعانت و يارى نمى‏كند او را آلات و قوى، پيشى گرفته بوقتها هستى او، و بعدم وجود او، و بابتداء داشتن أزليّت و هميشه بودن او.

بسبب ايجاد مشاعر و حواس شناخته شد كه او مبرّا از مشاعر و آلات ادراك است، و بايجاد ضدّيت در ميان أشياء شناخته شد كه ضدّ نيست او را، و بايجاد اقتران در ميان أشياء شناخته شد كه قرينى نيست او را ضدّ گردانيد نور را با ظلمت، و آشكار را با ابهام، و خشكى را با رطوبت، و گرمى را با سردى، تركيب كننده است بقدرت كامله ميان امور متباينه، و مقارن كننده است ميان امور متضادّه، نزديك گردانيده است ميان دورها، و جدا سازنده است ميان نزديكها، فرو گرفته نشده بحدّى از حدود، و بحساب آورده نمى‏شود با شمردن، جز اين نيست كه محدود ميكند أدوات و قواى مدركه نفسهاى خود را، و اشاره ميكند آلات بدنيه بنظاير خودش.

مانع شد أدوات و آلات را دخول لفظ منذ از قديمى آنها، و منع كرد دخول‏لفظ قد از ازلى بودن آنها، و كنار نمود دخول لفظ لو لا در كامل بودن آنها، با ايجاد مشاعر و قوى آشكار گشت صانع آنها از براى عقول دراكه، و با آنها معلوم شد امتناع او از مشاهده چشمها، جارى نمى‏شود بر او حركت و سكون، و چگونه جارى شود بر او چيزى كه او جارى كرده است آنرا، و چگونه باز گردد در او چيزى كه او اظهار فرموده آنرا، و چگونه حادث مى‏شود در او چيزى كه او حادث كرده است آن را.

هرگاه صانع متّصف با حركت و سكون باشد هر آينه متفاوت شود ذات او و متجزى شود كنه او، و ممتنع باشد از أزلى بودن حقيقت او، و هر آينه مى‏شد او را پشت سر در صورتى كه يافته شد او را پيش رو، و هر آينه خواهش تماميت و كمال مى‏نمود در صورتى كه لازم بود او را نقصان، و هر گاه خواهش تماميّت نمايد هر آينه بر پا شود و ثابت باشد در او علامت مصنوع و مخلوق، و هر آينه بگردد واجب تعالى دليل بر وجود صانع بجهت تضمّن علامت مصنوعيت بعد از اين كه بود مدلول همه عالم دليل بر او بودند حال آنكه خارج شده بسبب سلطنت و امتناع تاثر اتصاف بصفت مخلوقات از اين كه تأثير بكند در او چيزى كه تأثير ميكند در غير او.

و آن چنان پروردگارى كه منتقل نمى‏شود از حالى بحالى، و زايل نمى‏شود از مكانى بمكانى، و جايز نمى‏شود بر او غايب شدن از مخلوقات، خارج نبوده از او چيزى توليد نكرده چيزى را تا اين كه متولّد شود او از چيز ديگر، و زائيده نشده تا اين كه محدود بحد متناهي بوده باشد.

بزرگست ذات او از أخذ أولاد و پسران، و پاكست وجود او از ملامست و معاشرت زنان، ادراك نمى‏كند او را عقلها تا اين كه مقدّر بقدر معيّني نمايند او را و بوهم و خيال نمى‏آورد او را ذكاوتها تا اين كه مصوّر بصورت شخصى كنند او را، و درك نمى‏كند او را حواس ظاهره و باطنه تا اين كه احساس بكند او را، و طلب مس او نمى‏كند دستها تا اين كه مس نمايند او را، متغيّر نشود بهيچ حال، متبدّل نشود در أحوال و أوصاف.

كهنه و فانى نمى‏كند او را شبها و روزها، تغيير نمى‏دهد او را روشنى و تاريكى‏وصف نمى‏شود با چيزى از اجزاء، و نه با جوارح و اعضا، و نه با عرضى از اقسام اعراض، و نه با مغايرت و ابعاض يعنى متّصف بأجزاء نيست كه بعضي مغاير بعضى بوده باشد.

گفته نمى‏شود از براى او حدّى و نه نهايتي، و نه از براى بقاء او انقطاعى و نه غاية و منتهائى، و گفته نمى‏شود در حق او كه أشياء فرو گرفته او را تا بلند گردانند او را يا پست نمايند يا اين كه چيزى بردارد او را تا ميل دهد او را بطرفى، يا بعدل نگه دارد او را.

نيست پروردگار حلول كننده در چيزها، و نه بيرون بوده از آنها، خبر مى‏دهد نه بواسطه زبان و پاره گوشتهائى كه در آخر دهان از طرف بالا متصل بزبان است، و مى‏شنود نه بواسطه سوراخهاى گوش و آلتهاى شنفتن، مى‏گويد پروردگار و احداث نمى‏كند لفظ را كه معتمد بر تقاطع و مخارج است و از لوازم بشر است، و ميداند و ياد مى‏دارد خدا همه چيز را و نمى‏باشد دانستن او از جهت عادت كردن و كثرت مراجعه، يا اين كه خدا نگه مى‏دارد همه چيز را و احتياج ندارد بچيزى كه خودش با او نگه دارد، و اراده ميكند و چيزى در دل پنهان نمى‏كند، زيرا كه دل ندارد و دوست مى‏دارد و خوشنود مى‏شود بدون آنكه رقّتى و تغيّرى در ذات اقدسش پيدا بشود، و دشمن مى‏دارد و غضب مى‏نمايد بدون اين كه او را زحمت و گرفتگى حاصل بشود مى‏فرمايد مر آن چيزى را كه خواسته است بودنش را باش پس مى‏شود، لكن گفتن خدا نه با صدائيست كه بگويد هوا با صماخ گوش را و نه با خواندني كه شنفته شود، و اينست جز اين نيست گفتار خدا فعليست كه ايجاد كرده او را و مصوّر بيك صورتى كرده و نبود پيش از ايجاد موجود و اگر بنا باشد كه كلام إلهى قديم باشد چنانچه حنابله مى‏گويند هر آينه اين خداى دويم ميباشد.

گفته نمى‏شود بود خدا پس از اين كه نبود تا اين كه جارى باشد در او صفات تازه يا صفات چيزهاى تازه، و نباشد در اين وقت فرقى ميان خدا و آنها، و نباشد مر خدا را بر آنها زيادتى و برترى، پس خالق و مخلوق برابر ميشوند و متماثل‏مى‏شود آفريننده و آفرينش شده.

آفريد مخلوقات را بر غير صورتى كه از كس دگر يادگار بوده باشد و كمك نگرفت بر خلقشان احدى از خلق را.
و آفريد زمين را پس نگه داشت او را بى اين كه اين كارش واگذارد از كارهاى ديگر، و ثابت كرد او را نه بر بالاى چيزى كه بر او تكيه بدهد، و بر پا داشت او را بدون اين كه او را دست و پا بوده باشد، و برداشت او را بيستونها، و منع كرد زمين را از كجى و انحراف، و منع كرد او را از افتادن و پاره شدن، و ثابت گردانيد ميخهاى زمين يعني كوهها را، و نصب نمود سدهاى او را، و جارى گردانيد چشمهايش و پاره كرد بيابانهايش پس سست نشد چيزى كه او بنا كرد، و نه ضعيف شد چيزى كه خدا قوّتش داد.

و او است غالب بر زمين بپادشاهى و بزرگى خود، و او است آگاه بر او بدانائى و معرفتش، و برتر است بهر چيزى از او بجلال و عزّتش، عاجز نمى‏كند او را چيزى كه از آن مى‏طلبد، و امتناع و نافرمانى ندارد بر او تا غالب آيد بر او، و فوت نمى‏شود شتابنده از آن تا پيش دستى كند بر او، و احتياج ندارد بسوى صاحب مالي تا روزى بدهند مر او را.
پست شدند چيزها براى او، و ذليل شدند در غايت خوارى بواسطه بزرگيش اقتدار ندارند گريختن را بسوى ديگرى تا اين كه امتناع و خوددارى نمايند از نفع و ضرر خدا، و نيست مر او را مثلى تا مماثلت نمايد با او، و نه مانندى هست او را تا مساوى باشد او را.

اوست نابود كننده أشياء بعد از هستيشان تا اين كه موجودشان مثل نابود ميباشد از جهت عدم فائده، و نيست نابود شدن دنيا بعد از هستى آوردنش عجب‏تر از اصل ايجاد و اختراعش از نيستى بهستى.

و چگونه عجيب‏تر باشد و حال آنكه اگر جمع بشود جميع جنبندهاى أشياء از مرغان و چهار پايان و هر چه هست از صاحب مراح و مسكن نشين و چرنده‏آنها و اقسام سنخها و جنسها و از نافهم و كندهاى طوائفشان و تيز فهمها بر ايجاد كردن يك پشه هر آينه قادر نمى‏شوند بر ايجاد، و نمى‏شناسند چگونه است راه بر ايجاد و هر آينه عقولشان متحيّر مى‏ماند در دانستن اين، و سرگردان مى‏مانند و عاجز مى‏شود قواى ايشان و باخر مى‏رسد و برميگردد همه آنها در حالتى كه ذليل‏اند حسرتناك، شناسنده بر اين كه ايشان مقهورند، اقرار كننده‏اند بعاجز بودن از آفريدن آن، گردن گذارنده‏اند بر ناتوانى از نابود كردن.

بدرستى كه خداوند برميگردد بعد از نيستى دنيا بتنهائى و چيزى با او نيست چنانچه بود پيش از خلق عالم همچنين ميباشد بعد از نابودى او، مى‏ماند پروردگار تنها بدون اين كه وقت و مكان باشد يا حين و زمان بلكه همه اينها فانى شده نيست شده باشد در اين وقت مدّتها و وقتها، و زايل مى‏شود سالها و ساعتها، پس چيزى نمى‏باشد مگر يگانه قهر كننده، چنين خدائى كه بسوى اوست بازگشت جميع چيزها، بدون قدرت و توانائى بود أوّل خلقت أشياء يعنى از خودشان قدرتى نداشتند و بيمضايقه و امتناع شد نابود شدن آنها و اگر مى‏توانستند كه مضايقه كنند هر آينه هميشگى بود ماندن‏شان در دنيا.

بملال و اندوه نينداخت ساختن چيزى از آنها خدا را در زمانى كه ساخت او را، و سنگينى نكرد بر او از آنها آفريدن آنچه او را آفريد.
و نيافريد آنها را بجهة محكم ساختن پادشاهى خودش، و نه از براى ترسيدن از رفتن و بر طرف شدن مملكت يا كم شدن و كاهيدن عزّت و دولت، و نه از براى يارى جستن با آنها بر ضرر دشمن كه بر صدد غلبه بر آمده است، و نه از براى خوددارى و نگه داشتن با آنها از صدمات دشمن بر جهنده از براى محاربه، و نه از براى علاوه كردن بسبب آنها در ملك و سلطنت و لشكر و رعيّت، و نه از براى تفاخر بكثرت از براى آن كسى كه شركت دارد با او در بعضى چيزها، و نه از براى ترس تنهائى كه بوده است از او سابقا پس خواسته كه انس بگيرد با مخلوقات بعد از اينها همه خداوند فانى ميكند آن مخلوقات را بعد از اين كه ايشان رابهستى در آورده نه از جهت اندوه و ملال كه وارد آمده بر او از جهت تصرّف كردن در آنها، و تغيير دادن از حالى بحالى و از جائى بجائى، و نه از جهت تحصيل راحت كه مى‏رسد باو از فانى شدن آنها، و نه از جهت سنگينى چيزى از آنها بر او، بملال نيانداخت او را بسيار ماندن آنها در دنيا تا اين كه وادار نمايد او را بشتابيدن بسوى نابود كردنشان، ولى خداوند سبحان تدبير كرد آنها را بلطف خود و نگه داشتشان بحكم خود، و محكم نمود آنها را بقدرت و توانائى خود.

پس از آن مى‏گرداند آنها را بسوى وجود بعد از عدم بدون اين كه حاجتى داشته باشد بسوى آنها، و بي اين كه يارى بجويد با چيزى از آنها بچيز ديگر از آنها، و نه از براى برگشتن از حال تنهائى و وحشت بحال انس گرفتن و الفت، و نه از حال نادانى و كورى بحالت دانائى و مسّ كردن چيزى كه خوشش بيايد، و نه از حال گدائى و پريشانى بحالت نيازمندى و دولت، و نه از حالت خوارى و پستى بسوى عزت و قدرت، بجهت اين كه اينها همه از اوصاف امكان و لوازم نقص است كه خدا از او منزّه است، و اللّه أعلم بحقيقة المقال.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی«میرزا حبیب الله خوئی»

دیدگاه‌ها

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.