خطبه 59 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(قال لما قتل الخوارج)

59 و قال لما قتل الخوارج

و قيل له يا أمير المؤمنين هلك القوم بأجمعهم: كَلَّا وَ اللَّهِ إِنَّهُمْ نُطَفٌ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَ قَرَارَاتِ النِّسَاءِ- وَ كُلَّمَا نَجَمَ مِنْهُمْ قَرْنٌ قُطِعَ- حَتَّى يَكُونَ آخِرُهُمْ لُصُوصاً سَلَّابِينَ نجم ظهر و طلع- قرارات النساء كناية لطيفة عن الأرحام- . و من الكنايات اللطيفة الجارية هذا المجرى- قوله تعالى أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ يعني الجماع- . و قوله تعالى إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً- . و قوله شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ- يعني الفروج-: و قول رسول الله ص للحادي- يا أنجشة رفقا بالقواريريعني النساءالكناية و الرموز و التعريض مع ذكر مثل منهاو الكناية إبدال لفظة يستحى من ذكرها- أو يستهجن ذكرها أو يتطير بها- و يقتضي الحال رفضها لأمر من الأمور- بلفظة ليس فيها ذلك المانع- و من هذا الباب قول إمرئ القيس-

سموت إليها بعد ما نام أهلها
سمو حباب الماء حالا على حال‏

فقالت لك الويلات إنك فاضحي‏
أ لست ترى السمار و الناس أحوالي‏

فلما تنازعنا الحديث و أسمحت
هصرت بغصن ذي شماريخ ميال‏

فصرنا إلى الحسنى و رق كلامنا
و رضت فذلت صعبة أي إذلال‏

قوله فصرنا إلى الحسنى- كناية عن الرفث و مقدمات الجماع- . و قال ابن قتيبة تمازح معاوية و الأحنف- فما رئي مازحان أوقر منهما- قال‏

معاوية يا أبا بحر ما الشي‏ء الملفف في البجاد- فقال السخينة يا أمير المؤمنين- و إنما كنى معاوية عن رمي بني تميم بالنهم و حب الأكل- بقول القائل

إذا ما مات ميت من تميم
فسرك أن يعيش فجي‏ء بزاد

بخبز أو بتمر أو بسمن‏
أو الشي‏ء الملفف في البجاد

تراه يطوف في الآفاق حرصا
ليأكل رأس لقمان بن عاد

و أراد الشاعر وطب اللبن- فقال الأحنف هو السخينة يا أمير المؤمنين- لأن قريشا كانت تعير بأكل السخينة قبل الإسلام- لأن أكثر زمانها كان زمان قحط- و السخينة ما يسخن بالنار و يذر عليه دقيق- و غلب ذلك على قريش حتى سميت سخينة- قال حسان

زعمت سخينة أن ستغلب ربها
و ليغلبن مغالب الغلاب‏

فعبر كل واحد من معاوية و الأحنف عما أراده- بلفظ غير مستهجن و لا مستقبح- و علم كل واحد منهما مراد صاحبه- و لم يفهم الحاضرون ما دار بينهما- و هذا من باب التعريض و هو قريب من الكناية- . و من كنايات الكتاب العزيز أيضا قوله تعالى- وَ أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَ دِيارَهُمْ- وَ أَمْوالَهُمْ وَ أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها- كنى بذلك عن مناكح النساء- . و منها قوله تعالى- نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ- كنى عن مواقع النسل بمواقع الحرث- .

و مما ورد في الأخبار النبوية في هذا الباب- الخبر الذي فيه- أن المرأة قالت للرجل القاعد منها مقعد القابلة- لا يحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه- فقام عنها و تركها- . و قد أخذ الصاحب بن عباد هذه اللفظة- فقال لأبي العلاء الأسدي الأصفهاني- و قد دخل بزوجة له بكر-

قلبي على الجمرة يا أبا العلا
فهل فتحت الموضع المقفلا

و هل فضضت الكيس عن ختمه‏
و هل كحلت الناظر الأحولا

و أنشد الفرزدق في سليمان بن عبد الملك شعرا قال فيه-

دفعن إلي لم يطمثن قبلي
و هن أصح من بيض النعام‏

فبتن بجانبي مصرعات‏
و بت أفض أغلاق الختام‏

فاستنكر سليمان ذلك و كان غيورا جدا- و قال له قد أقررت بالزنا فلأجلدنك- فقال يا أمير المؤمنين إني شاعر- و إن الله يقول في الشعراء- وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ- و قد قلت ما لم أفعل قال سليمان نجوت بها- .و من الأخبار النبوية أيضا: قوله ع في الشهادة على الزنا- حتى تشاهد الميل في المكحلة: و منها قوله ع للمرأة التي استفتته- في الذي استخلت له و لم يستطع جماعها- لا حتى تذوقي عسيلته و يذوق عسيلتك- .

و منها قول المرأة التي شكت إلى عائشة زوجها- أنه يطمح بصره إلى غيرها- إني عزمت على أن أقيد الجمل إشارة إلى ربطه- .
و منها قول عمر يا رسول الله هلكت- قال و ما أهلكك قال حولت رحلي- فقال ع أقبل و أدبر و اتق الحيضة- ففهم ص ما أراد- . و رأى عبد الله بن سلام على إنسان ثوبا معصفرا- فقال لو أن ثوبك في تنور أهلك لكان خيرا لك- فذهب الرجل فأحرق ثوبه في تنور أهله- و ظن أنه أراد الظاهر و لم يرد ابن سلام ذلك- و إنما أراد لو صرف ثمنه في دقيق- يخبزه في تنور أهله- .

و من ذلك قوله ص: إياكم و خضراء الدمن- و الدمن جمع دمنة- و هي المزبلة فيها البعر تنبت نباتا أخضر- و كنى بذلك عن المرأة الحسناء في منبت السوء- . و من ذلك قولهم إياك و عقيلة الملح- لأن الدرة تكون في الماء الملح- و مرادهم النهي عن المرأة الحسناء و أهلها أهل سوء- . و من ذلك قولهم لبس له جلد النمر- و قلب له ظهر المجن- و قال أبو نواس

لا أذود الطير عن شجر
قد بلوت المر من ثمره‏

و قد فسر قوم قوله تعالى- وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً- فقالوا أراد و إذا عبروا عن اللفظ بما يقبح ذكره- كنوا عنه- فسمى التعبير عن الشي‏ء مرورا به- و سمى الكناية عنه كرما- . و من ذلك أن بنت أعرابية صرخت- و قالت لسعتني العقرب- فقالت أمها أين- فقالت موضع لا يضع الراقي فيه أنفه- كنت بذلك عن السوأة- . و من هذا الباب قوله سبحانه- مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ- وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ- قال كثير من المفسرين هو كناية عن الغائط- لأنه يكون من الطعام فكني عنه- إذا هو منه مسبب- كما كنوا عن السمة بالنار- فقالوا ما نار تلك أي ما سمتها- و منه قول الشاعر

قد وسموا آبالهم بالنار
و النار قد تشفي من الأوار

و هذا من أبيات المعاني يقول هم أهل عز و منعة- فسقى راعيهم إبلهم بالسمات التي على الإبل- و علم المزاحمون له في الماء- أنه لا طاقة لهم بمنازعتهم عليه لعزهم- فكانت السمات سببا لسقيها- و الأوار العطش- فكنى سبحانه بقوله يَأْكُلانِ الطَّعامَ- عن إتيان الغائط- لما كان أكل الطعام سببا له- كما كنى الشاعر بالنار عن السمة- لما كانت النار سبب السمة- .

و من هذا الباب قوله سبحانه- وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَ قَدْ أَفْضى‏ بَعْضُكُمْ إِلى‏ بَعْضٍ- كنى بالإفضاء عن الجماع- .
و من الأحاديث النبوية: من كشف قناع امرأة وجب عليه مهرها
– كنى عن الدخول بها بكشف القناع- لأنه يكشف في تلك الحالة غالبا- . و العرب تقول في الكناية عن العفة- ما وضعت مومسة عنده قناعا- و من حديث عائشة كان رسول الله ص يصيب من رءوس نسائه و هو صائم- كنت بذلك عن القبلة- . و من ذلك قوله تعالى- هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ- كنى بذلك عن الجماع و المخالطة- . و قال النابغة الجعدي-

إذا ما الضجيع ثنى عطفها
تثنت فكانت عليه لباسا

و قد كنت العرب عن المرأة بالريحان و بالسرحة- قال ابن الرقيات

لا أشم الريحان إلا بعيني
كرما إنما تشم الكلاب‏

أي أقنع من النساء بالنظر و لا أرتكب منهن محرما- . و قال حميد بن ثور الهلالي-

أبى الله إلا أن سرحة مالك
على كل أفنان العضاه تروق‏

فيا طيب رياها و برد ظلالها
إذا حان من حامي النهار وديق‏

و هل أنا إن عللت نفسي بسرحة
من السرح مسدود علي طريق‏

و السرحة الشجرة- . و قال أعرابي و كنى عن امرأتين-

أيا نخلتي أود إذا كان فيكما
جنى فانظرا من تطعمان جناكما

و يا نخلتي أود إذا هبت الصبا
و أمسيت مقرورا ذكرت ذراكما

و من الأخبار النبوية قوله ع: من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر- فلا يسقين ماءه زرع غيره- أراد النهي عن نكاح الحبائل- لأنه إذا وطئها فقد سقى ماءه زرع غيره- .

و قال ص لخوات بن جبير- ما فعل جملك يا خوات يمازحه- فقال قيده الإسلام يا رسول الله- لأن خواتا في الجاهلية كان يغشى البيوت- و يقول شرد جملي و أنا أطلبه- و إنما يطلب النساء و الخلوة بهن- و خوات هذا هو صاحب ذات النحيين- . و من كنايات القرآن العزيز قوله تعالى- وَ لا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَ أَرْجُلِهِنَّ- كنى بذلك عن الزنا- لأن الرجل يكون في تلك الحال- بين يدي المرأة و رجليها- . و منه في الحديث إذا قعد الرجل بين شعبها الأربع- .

و قد فسر قوم قوله تعالى وَ امْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ- عن النميمة- و العرب تقول لمن ينم و يشي- يوقد بين الناس الحطب الرطب- . و قال الشاعر يذكر امرأة-

من البيض لم تصطد على خيل لامة
و لم تمش بين الناس بالحطب الرطب‏

أي لم تؤخذ على أمر تلام عليه- و لم تفسد بين الحي بالكذب و النميمة- . و مما ورد نظير ممازحة معاوية و الأحنف- من التعريضات- أن أبا غسان المسمعي مر بأبي غفار السدوسي- فقال يا غفار ما فعل الدرهمان- فقال لحقا بالدرهم أراد بالدرهمين قول الأخطل-

فإن تبخل سدوس بدرهميها
فإن الريح طيبة قبول‏

و أراد الآخر قول بشار-

و في جحدر لؤم و في آل مسمع
صلاح و لكن درهم القوم كوكب‏

و كان محمد بن عقال المجاشعي عند يزيد بن مزيد الشيباني- و عنده سيوف تعرض عليه- فدفع سيفا منها إلى يد محمد- فقال كيف ترى هذا السيف- فقال نحن أبصر بالتمر منا بالسيوف- أراد يزيد قول جرير في الفرزدق-

بسيف أبي رغوان سيف مجاشع
ضربت و لم تضرب بسيف ابن ظالم‏

ضربت به عند الإمام فأرعشت‏
يداك و قالوا محدث غير صارم‏

و أراد محمد قول مروان بن أبي حفصة-

لقد أفسدت أسنان بكر بن وائل
من التمر ما لو أصلحته لمارها

و قال محمد بن عمير بن عطاء التميمي لشريك النميري- و على يده صقر- ليس في الجوارح أحب إلي من البازي- فقال شريك إذا كان يصيد القطا- أراد محمد قول جرير

أنا البازي المطل على نمير
أتيح من السماء لها انصبابا

و أراد شريك قول الطرماح-

تميم بطرق اللؤم أهدى من القطا
و لو سلكت سبل المكارم ضلت‏

و دخل عبد الله بن ثعلبة المحاربي- على عبد الملك بن يزيد الهلالي- و هو يومئذ والي أرمينية- فقال له ما ذا لقينا الليلة من شيوخ محارب- منعونا النوم بضوضائهم و لغطهم- فقال عبد الله بن ثعلبة إنهم أصلح الله الأمير- أضلوا الليلة برقعا فكانوا يطلبونه- أراد عبد الملك قول الشاعر-

تكش بلا شي‏ء شيوخ محارب
و ما خلتها كانت تريش و لا تبري‏

ضفادع في ظلماء ليل تجاوبت‏
فدل عليها صوتها حية البحر

و أراد عبد الله قول القائل-

لكل هلالي من اللؤم برقع
و لابن يزيد برقع و جلال‏

و روى أبو بكر بن دريد في كتاب الأمالي- عن أبي حاتم عن العتبي عن أبيه- أنه عرض على معاوية فرس- و عنده عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص- فقال كيف ترى هذا الفرس يا أبا مطرف- قال أراه أجش هزيما- قال معاوية أجل لكنه لا يطلع على الكنائن- قال يا أمير المؤمنين- ما استوجبت منك هذا الجواب كله- قال قد عوضتك عنه عشرين ألفا- . قال أبو بكر بن دريد- أراد عبد الرحمن التعريض بمعاوية- بما قاله النجاشي في أيام صفين-

و نجا ابن حرب سابح ذو علالة
أجش هزيم و الرماح دواني‏

إذا قلت أطراف الرماح تنوشه‏
مرته له الساقان و القدمان‏

فلم يحتمل معاوية منه هذا المزاح- و قال لكنه لا يطلع على الكنائن- لأن عبد الرحمن كان يتهم بنساء إخوته- . و روى ابن دريد أيضا في كتاب الأمالي- عن أبي حاتم النخعي- أن النجاشي دخل على معاوية- فقال له كيف قلت و نجا ابن حرب سابح- و قد علمت أن الخيل لا تجري بمثلي فرارا- قال إنما عنيت عتبة أخاك و عتبة جالس- فلم يقل معاوية و لا عتبة شيئا- .

و ورد إلى البصرة غلام من بني فقعس- كان يجلس في المربد فينشد شعرا و يجمع الناس إليه- فذكر ذلك للفرزدق فقال لأسوءنه- فجاء إليه فسمع شيئا من شعره فحسده عليه- فقال ممن أنت قال من بني فقعس- قال كيف تركت القنان- فقال مقابل لصاف- فقال يا غلام هل أنجدت أمك قال بل أنجد أبي- . قال أبو العباس المبرد أراد الفرزدق قول الشاعر-

ضمن القنان لفقعس سوآتها
إن القنان لفقعس لمعمر

و القنان جبل في بلاد فقعس- يريد أن هذا الجبل يستر سوآتهم- و أراد الغلام قول أبي المهوش-

و إذا يسرك من تميم خلة
فلما يسوءك من تميم أكثر

أكلت أسيد و الهجيم و دارم‏
أير الحمار و خصيتيه العنبر

قد كنت أحسبهم أسود خفية
فإذا لصاف يبيض فيه الحمر

و لصاف جبل في بلاد بني تميم- و أراد بقوله هل أنجدت أمك- أي إن كانت‏

أنجدت فقد أصابها أبي فخرجت تشبهني- فقال بل أنجد أبي يريد بل أبي أصاب أمك فوجدها بغيا- . قال عبد الله بن سوار- كنا على مائدة إسحاق بن عيسى بن علي الهاشمي- فأتينا بحريرة قد عملت بالسكر و السمن و الدقيق- فقال معد بن غيلان العبدي يا حبذا السخينة- ما أكلت أيها الأمير سخينة ألذ من هذه- فقال إلا أنها تولد الرياح في الجوف كثيرا- فقال إن المعايب لا تذكر على الخوان- . أراد معد ما كانت العرب تعير به قريشا في الجاهلية- من أكل السخينة- و قد قدمنا ذكره- و أراد إسحاق بن عيسى ما يعير به عبد القيس من الفسو- قال الشاعر

و عبد القيس مصفر لحاها
كان فساءها قطع الضباب‏

و كان سنان بن أحمس النميري- يساير الأمير عمر بن هبيرة الفزاري و هو على بغلة له- فتقدمت البغلة على فرس الأمير- فقال اغضض بغلتك يا سنان- فقال أيها الأمير إنها مكتوبة فضحك الأمير- أراد عمر بن هبيرة قول جرير-

فغض الطرف إنك من نمير
فلا كعبا بلغت و لا كلابا

و أراد سنان قول ابن داره-

لا تأمنن فزاريا خلوت به
على قلوصك و اكتبها بأسيار

و كانت فزارة تعير بإتيان الإبل- و لذلك قال الفرزدق يهجو عمر بن هبيرة هذا- و يخاطب يزيد بن عبد الملك-

أمير المؤمنين و أنت بر
تقي لست بالجشع الحريص‏

أ أطعمت العراق و رافديه‏
فزاريا أحذ يد القميص‏

تفنق بالعراق أبو المثنى
و علم قومه أكل الخبيص‏

و لم يك قبلها راعي مخاض‏
لتأمنه على وركي قلوص‏

الرافدان دجلة و الفرات- و أحذ يد القميص كناية عن السرقة و الخيانة- و تفنق تنعم و سمن و جارية فنق أي سمينة- . و البيت الآخر كناية عن إتيان الإبل- الذي كانوا يعيرون به- . و روى أبو عبيدة عن عبد الله بن عبد الأعلى قال- كنا نتغدى مع الأمير عمر بن هبيرة- فأحضر طباخه جام خبيص- فكرهه للبيت المذكور السابق- إلا أن جلده أدركه- فقال ضعه يا غلام قاتل الله الفرزدق- لقد جعلني أرى الخبيص فأستحي منه- . قال المبرد و قد يسير البيت في واحد- و يرى أثره عليه أبدا- كقول أبي العتاهية في عبد الله بن معن بن زائدة-

فما تصنع بالسيف
إذا لم تك قتالا

فكسر حلية السيف‏
و صغها لك خلخالا

و كان عبد الله بن معن إذا تقلد السيف و رأى من يرمقه- بان أثره عليه فظهر الخجل منه- . و مثل ذلك ما يحكى أن جريرا قال- و الله لقد قلت في بني تغلب بيتا- لو طعنوا بعدها بالرماح في أستاههم ما حكوها- و هو

و التغلبي إذا تنحنح للقرى
حك استه و تمثل الأمثالا

و حكى أبو عبيدة عن يونس قال- قال عبد الملك بن مروان يوما و عنده رجال- هل تعلمون أهل بيت قيل فيهم شعر- ودوا لو أنهم افتدوا منه بأموالهم- فقال أسماء بن خارجة الفزاري نحن يا أمير المؤمنين- قال و ما هو قال قول الحارث بن ظالم المري-

و ما قومي بثعلبة بن سعد
و لا بفزارة الشعر الرقابا

فو الله يا أمير المؤمنين- إني لألبس العمامة الصفيقة- فيخيل لي أن شعر قفاي قد بدا منها- .و قال هانئ بن قبيصة النميري- نحن يا أمير المؤمنين- قال و ما هو قال قول جرير-

فغض الطرف إنك من نمير
فلا كعبا بلغت و لا كلابا

كان النميري يا أمير المؤمنين إذا قيل له ممن أنت- قال من نمير- فصار يقول بعد هذا البيت من عامر بن صعصعة- . و مثل ذلك ما يروى أن النجاشي لما هجا بني العجلان- بقوله

إذا الله عادى أهل لؤم و قلة
فعادى بني العجلان رهط ابن مقبل‏

قبيلة لا يغدرون بذمة
و لا يظلمون الناس حبة خردل‏

و لا يردون الماء إلا عشية
إذا صدر الوراد عن كل منهل‏

و ما سمي العجلان إلا لقوله‏
خذ القعب فاحلب أيها العبد و اعجل‏

فكان الرجل منهم إذا سئل عن نسبه يقول من بني كعب- و ترك أن يقول عجلاني- . و كان عبد الملك بن عمير القاضي يقول- و الله إن التنحنح و السعال ليأخذني و أنا في الخلاء- فأرده حياء من قول القائل-

إذا ذات دل كلمته لحاجة
فهم بأن يقضى تنحنح أو سعل‏

و من التعريضات اللطيفة ما روي- أن المفضل بن محمد الضبي بعث بأضحية هزيل إلى شاعر- فلما لقيه سأله عنها فقال كانت قليله الدم- فضحك المفضل و قال مهلا يا أبا فلان- أراد الشاعر قول القائل-

و لو ذبح الضبي بالسيف لم تجد
من اللؤم للضبي لحما و لا دما

و روى ابن الأعرابي في الأمالي قال- رأى عقال بن شبة بن عقال المجاشعي- على إصبع ابن عنبس وضحا- فقال ما هذا البياض على إصبعك يا أبا الجراح- فقال سلح النعامة يا ابن أخي- أراد قول جرير

فضح العشيرة يوم يسلح قائما
سلح النعامة شبة بن عقال‏

و كان شبة بن عقال قد برز يوم الطوانة- مع العباس بن الوليد بن عبد الملك إلى رجل من الروم- فحمل عليه الرومي فنكص و أحدث- فبلغ ذلك جريرا باليمامة فقال فيه ذلك- . و لقي الفرزدق مخنثا يحمل قماشه- كأنه يتحول من دار إلى دار- فقال أين راحت عمتنا- فقال قد نفاها الأغر يا أبا فراس- يريد قول جرير في الفرزدق-

نفاك الأغر ابن عبد العزيز
و حقك تنفى من المسجد

و ذلك أن الفرزدق ورد المدينة- و الأمير عليها عمر بن عبد العزيز- فأكرمه حمزة بن عبد الله بن الزبير و أعطاه- و قعد عنه عبد الله بن عمرو بن عفان و قصر به- فمدح الفرزدق حمزة بن عبد الله و هجا عبد الله فقال-

ما أنتم من هاشم في سرها
فاذهب إليك و لا بني العوام‏

قوم لهم شرف البطاح و أنتم‏
وضر البلاط موطئوا الأقدام‏

فلما تناشد الناس ذلك بعث إليه عمر بن عبد العزيز- فأمره أن يخرج عن المدينة- و قال له إن وجدتك فيها بعد ثلاث عاقبتك- فقال الفرزدق ما أراني إلا كثمود حين قيل لهم- تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ- فقال جرير يهجوه-

نفاك الأغر ابن عبد العزيز
و حقك تنفى من المسجد

و سميت نفسك أشقى ثمود
فقالوا ضللت و لم تهتد

و قد أجلوا حين حل العذاب
ثلاث ليال إلى الموعد

وجدنا الفرزدق بالموسمين‏
خبيث المداخل و المشهد

و حكى أبو عبيدة- قال بينا نحن على أشراف الكوفة وقوف- إذ جاء أسماء بن خارجة الفزاري فوقف- و أقبل ابن مكعبر الضبي فوقف متنحيا عنه- فأخذ أسماء خاتما كان في يده فصه فيروز أزرق- فدفعه إلى غلامه- و أشار إليه أن يدفعه إلى ابن مكعبر- فأخذ ابن مكعبر شسع نعله فربطه بالخاتم- و أعاده إلى أسماء فتمازحا- و لم يفهم أحد من الناس ما أرادا- أراد أسماء بن خارجة قول الشاعر-

لقد زرقت عيناك يا ابن مكعبر
كذا كل ضبي من اللؤم أزرق‏

و أراد ابن مكعبر قول الشاعر-

لا تأمنن فزاريا خلوت به
على قلوصك و اكتبها بأسيار

و كانت فزارة تعير بإتيان الإبل- و عيرت أيضا بأكل جردان الحمار- لأن رجلا منهم كان في سفر فجاع- فاستطعم قوما فدفعوا إليه جردان الحمار- فشواه و أكله- فأكثرت الشعراء ذكرهم بذلك- و قال الفرزدق

جهز إذا كنت مرتادا و منتجعا
إلى فزارة عيرا تحمل الكمرا

إن الفزاري لو يعمى فيطعمه‏
أير الحمار طبيب أبرأ البصرا

إن الفزاري لا يشفيه من قرم
أطايب العير حتى ينهش الذكرا

و في كتب الأمثال أنه اصطحب ثلاثة- فزاري و تغلبي و مري- و كان اسم التغلبي مرقمة- فصادوا حمارا و غاب عنهما الفزاري لحاجة- فقالوا نخبأ له جردانه نضحك منه- و أكلوا سائره- فلما جاء دفعا إليه الجردان و قالا هذا نصيبك- فنهسه فإذا هو صلب- فعرف أنهم عرضوا له بما تعاب به فزارة- فاستل سيفه و قال لتأكلانه- و دفعه إلى مرقمة فأبى أن يأكله فضربه فقتله- فقال المري طاح مرقمة- قال و أنت إن لم تلقمه فأكله- . و ذكر أبو عبيدة- أن إنسانا قال لمالك بن أسماء بن خارجة الفزاري- اقض ديني أيها الأمير فإن علي دينا- قال ما لك عندي إلا ما ضرب به الحمار بطنه- فقال له عبيد بن أبي محجن-بارك الله لكم يا بني فزارة في أير الحمار- إن جعتم أكلتموه و إن أصابكم غرم قضيتموه به- . و يحكى أن بني فزارة و بني هلال بن عامر بن صعصعة- تنافروا إلى أنس بن مدرك الخثعمي و تراضوا به- فقالت بنو هلال أكلتم يا بني فزارة أير الحمار- فقالت بنو فزارة و أنتم مدرتم الحوض بسلحكم- فقضى أنس لبني فزارة على بني هلال- فأخذ الفزاريون منهم مائة بعير- كانوا تخاطروا عليها- و في مادر يقول الشاعر-

لقد جللت خزيا هلال بن عامر
بني عامر طرا بسلحة مادر

فأف لكم لا تذكروا الفخر بعدها
بني عامر أنتم شرار المعاشر

و ذكر أبو العباس محمد بن يزيد المبرد- في كتاب الكامل- أن قتيبة بن مسلم لما فتح سمرقند- أفضى إلى أثاث لم ير مثله- و آلات لم يسمع مثلها- فأراد أن يري الناس عظيم ما فتح الله عليه- و يعرفهم أقدار القوم الذين ظهر عليهم- فأمر بدار ففرشت- و في صحنها قدور يرتقى إليها بالسلاليم- فإذا بالحضين بن المنذر بن الحارث بن وعلة الرقاشي- قد أقبل و الناس جلوس على مراتبهم- و الحضين شيخ كبير- فلما رآه عبد الله بن مسلم- قال لأخيه قتيبة ائذن لي في معاتبته- قال لا ترده فإنه خبيث الجواب- فأبى عبد الله إلا أن يأذن له- و كان عبد الله يضعف- و كان قد تسور حائطا إلى امرأة قبل ذلك- فأقبل على الحضين- فقال أ من الباب دخلت يا أبا ساسان- قال أجل أسن عمك عن تسورالحيطان- قال أ رأيت هذه القدور- قال هي أعظم من ألا ترى- قال ما أحسب بكر بن وائل رأى مثلها- قال أجل و لا عيلان- و لو رآها سمي شبعان و لم يسم عيلان- فقال عبد الله أ تعرف يا أبا ساسان الذي يقول-

عزلنا و أمرنا و بكر بن وائل
تجر خصاها تبتغي من تحالف‏

فقال أعرفه و أعرف الذي يقول-

فأدى الغرم من نادى مشيرا
و من كانت له أسرى كلاب‏

و خيبة من يخيب على غني‏
و باهلة بن أعصر و الرباب‏

فقال أ فتعرف الذي يقول-

كأن فقاح الأزد حول ابن مسمع
و قد عرقت أفواه بكر بن وائل‏

قال نعم و أعرف الذي يقول-

قوم قتيبة أمهم و أبوهم
لو لا قتيبة أصبحوا في مجهل‏

قال أما الشعر فأراك ترويه- فهل تقرأ من القرآن شيئا قال نعم- أقرأ الأكثر الأطيب- هَلْ أَتى‏ عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ- لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً-فأغضبه فقال و الله لقد بلغني- أن امرأة الحضين حملت إليه و هي حبلى من غيره- قال فما تحرك الشيخ عن هيأته الأولى- بل قال على رسله- و ما يكون تلد غلاما على فراشي- فيقال فلان ابن الحضين كما يقال عبد الله بن مسلم- فأقبل قتيبة على عبد الله و قال له لا يبعد الله غيرك- .

و غرضنا من هذه الحكاية الأدبية المستحسنة- قول الحضين تعريضا بفاحشة عبد الله- أجل أسن عمك عن تسور الحيطان- . و يحكى أن أبا العيناء أهدى إلى أبي علي البصير- و قد ولد له مولود حجرا- يذهب في ذلك إلىقوله ع الولد للفراش و للعاهر الحجر- فاستخرج أبو علي ذلك بفطنته و ذكائه- ثم ولد بعد أيام لأبي العيناء مولود- فقال له في أي وقت ولد لك- قال وقت السحر فقال اطرد قياسه- و خرج في الوقت الذي يخرج فيه أمثاله يعنى السؤال- يعرض بأن أبا العيناء شحاذ- و أن ولده خرج يشبهه- . و من التعريضات و الرموز بالفعل دون القول- ما ذكره مؤرج بن عمرو السدوسي في كتاب الأمثال- أن الأحوص بن جعفر الكلابي أتاه آت من قومه- فقال أن رجلا لا نعرفه جاءنا- فلما دنا منا حيث نراه نزل عن راحلته- فعلق على شجرة وطبا من لبن- و وضع في بعض أغصانها حنظلة- و وضع صرة من تراب و حزمة من شوك- ثم أثار راحلته فاستوى عليها و ذهب- و كان أيام حرب تميم و قيس عيلان- فنظر الأحوص في ذلك فعي به- فقال أرسلوا إلى قيس بن زهير- فأتوا قيسا فجاءوا به إليه-

فقال له أ لم تك أخبرتني أنه لا يرد عليك أمر- إلا عرفت ما فيه ما لم تر نواصي الخيل- قال ما خبرك فأعلمه- فقال قد بين الصبح لذي عينين- هذا رجل قد أخذت عليه العهود ألا يكلمكم- و لا يرسل إليكم- و أنه قد جاء فأنذركم- أما الحنظلة فإنه يخبركم أنه قد أتاكم بنو حنظلة- و أما الصرة من التراب- فإنه يزعم أنهم عدد كثير- و أما الشوك فيخبركم أن لهم شوكة- و أما الوطب فإنه يدلكم على قرب القوم و بعدهم- فذوقوه فإن كان حليبا فالقوم قريب- و إن كان قارصا فالقوم بعيد- و إن كان المسيخ لا حلوا و لا حامضا- فالقوم لا قريب و لا بعيد- فقاموا إلى الوطب فوجدوه حليبا- فبادروا الاستعداد- و غشيتهم الخيل فوجدتهم مستعدين- . و من الكنايات بل الرموز الدقيقة- ما حكي أن قتيبة بن مسلم دخل على الحجاج- و بين يديه كتاب قد ورد إليه من عبد الملك- و هو يقرؤه و لا يعلم معناه و هو مفكر- فقال ما الذي أحزن الأمير- قال كتاب ورد من أمير المؤمنين لا أعلم معناه- فقال إن رأى الأمير إعلامي به فناوله إياه- و فيه أما بعد فإنك سالم و السلام- . فقال قتيبة ما لي إن استخرجت لك ما أراد به- قال ولاية خراسان- قال إنه ما يسرك أيها الأمير و يقر عينك- إنما أراد قول الشاعر-

يديرونني عن سالم و أديرهم
و جلدة بين العين و الأنف سالم‏

أي أنت عندي مثل سالم عند هذا الشاعر- فولاه خراسان- . حكى الجاحظ في كتاب البيان و التبيين- قال خطب الوليد بن عبد الملك فقال-

أمير المؤمنين عبد الملك قال- إن الحجاج جلدة ما بين عيني و أنفي- ألا و إني أقول إن الحجاج جلدة وجهي كله- . و على ذكر هذا البيت حكي- أن رجلا كان يسقي جلساءه شرابا صرفا غير ممزوج- و كان يحتاج إلى المزج لقوته فجعل يغني لهم-

يديرونني عن سالم و أديرهم
و جلدة بين العين و الأنف سالم‏

فقال له واحد منهم يا أبا فلان- لو نقلت ما من غنائك إلى شرابك- لصلح غناؤنا و نبيذنا جميعا- . و يشبه حكاية قتيبة و الحجاج- كتاب عبد الملك إلى الحجاج- جوابا عن كتاب كتبه إليه- يغلظ فيه أمر الخوارج- و يذكر فيه حال قطري و غيره و شدة شوكتهم- فكتب إليه عبد الملك- أوصيك بما أوصى به البكري زيدا و السلام- . فلم يفهم الحجاج ما أراد عبد الملك- فاستعلم ذلك من كثير من العلماء بأخبار العرب- فلم يعلموه- فقال من جاءني بتفسيره فله عشرة آلاف درهم- و ورد رجل من أهل الحجاز يتظلم من بعض العمال- فقال له قائل أ تعلم ما أوصى به البكري زيدا- قال نعم أعلمه- فقيل له فأت الأمير فأخبره و لك عشرة آلاف درهم- فدخل عليه فسأله فقال نعم أيها الأمير- إنه يعنى قوله

أقول لزيد لا تترتر فإنهم
يرون المنايا دون قتلك أو قتلي‏

فإن وضعوا حربا فضعها و إن أبوا
فعرضة نار الحرب مثلك أو مثلي‏

و إن رفعوا الحرب العوان التي ترى
فشب وقود النار بالحطب الجزل‏

فقال الحجاج أصاب أمير المؤمنين فيما أوصاني- و أصاب البكري فيما أوصى به زيدا- و أصبت أيها الأعرابي و دفع إليه الدراهم- .و كتب إلى المهلب- أن أمير المؤمنين أوصاني بما أوصى به البكري زيدا- و أنا أوصيك بذلك و بما أوصى به الحارث بن كعب بنيه- . فنظر المهلب في وصية الحارث بن كعب فإذا فيها- يا بني كونوا جميعا و لا تكونوا شيعا فتفرقوا- و بزوا قبل أن تبزوا- الموت في قوة و عز خير من الحياة في ذل و عجز- . فقال المهلب صدق البكري و أصاب- و صدق الحارث و أصاب- . و اعلم أن كثيرا مما ذكرناه داخل في باب التعريض- و خارج عن باب الكناية- و إنما ذكرناه لمشابهة الكناية- و كونهما كالنوعين تحت جنس عام- و سنذكر كلاما كليا فيهما- إذا انتهينا إلى آخر الفصل إن شاء الله- . و من الكنايات قول أبي نواس-

و ناظرة إلي من النقاب
تلاحظني بطرف مستراب‏

كشفت قناعها فإذا عجوز
مموهة المفارق بالخضاب‏

فما زالت تجشمني طويلا
و تأخذ في أحاديث التصابي‏

تحاول أن يقوم أبو زياد
و دون قيامه شيب الغراب‏

أتت بجرابها تكتال فيه
فقامت و هي فارغة الجراب‏

و الكناية في البيت الأخير و هي ظاهرة- و منها قول أبي تمام-

ما لي رأيت ترابكم بئس الثرى
ما لي أرى أطوادكم تتهدم‏

فكنى ببئس الثرى عن تنكر ذات بينهم- و بتهدم الأطواد عن خفة حلومهم و طيش عقولهم- . و منها قول أبي الطيب-

و شر ما قنصته راحتي قنص
شهب البزاة سواء فيه و الرخم‏

كنى بذلك عن سيف الدولة- و أنه يساوي بينه و بين غيره من أراذل الشعراء- و خامليهم في الصلة و القرب- . و قال الأقيشر لرجل ما أراد الشاعر بقوله-
و لقد غدوت بمشرف يافوخه
مثل الهراوة ماؤه يتفصد

أرن يسيل من المراح لعابه‏
و يكاد جلد إهابه يتقدد

قال إنه يصف فرسا فقال حملك الله على مثله- و هذان البيتان من لطيف الكناية و رشيقها- و إنما عنى العضو- . و قريب من هذه الكناية قول سعيد بن عبد الرحمن بن حسان- و هو غلام يختلف إلى عبد الصمد بن عبد الأعلى مؤدب- ولد هشام بن عبد الملك- و قد جمشه عبد الصمد فأغضبه- فدخل إلى هشام فقال له-

إنه و الله لو لا أنت لم
ينج مني سالما عبد الصمد

فقال هشام و لم ذلك- قال

إنه قد رام مني خطة
لم يرمها قبله مني أحد

قال هشام و ما هي ويحك- قال

رام جهلا بي و جهلا بأبي
يدخل الأفعى إلى بيت الأسد

فضحك هشام و قال لو ضربته لم أنكر عليك- . و من هذا الباب قول أبي نواس-

إذا ما كنت جار أبي حسين
فنم و يداك في طرف السلاح‏

فإن له نساء سارقات‏
إذا ما بتن أطراف الرماح‏

سرقن و قد نزلت عليه عضوي
فلم أظفر به حتى الصباح‏

فجاء و قد تخدش جانباه‏
يئن إلى من ألم الجراح‏

و الكناية في قوله أطراف الرماح- و في قوله في طرف السلاح- . و من الكناية الحسنة قول الفرزدق يرثي امرأته- و قد ماتت بجمع-

و جفن سلاح قد رزئت فلم أنح
عليه و لم أبعث عليه البواكيا

و في جوفه من دارم ذو حفيظة
لو أن المنايا أخطأته لياليا

أخذه الرضي رحمه الله تعالى فقال يرثي امرأة-

إن لم تكن نصلا فغمد نصول
غالته أحداث الزمان بغول‏

أو لم تكن بأبي شبول ضيغم‏
تدمى أظافره فأم شبول‏

و من الكنايات ما يروى- أن رجلا من خواص كسرى أحب الملك امرأته- فكان يختلف إليها سرا و تختلف إليه- فعلم بذلك فهجرها و ترك فراشها- فأخبرت كسرى فقال له يوما- بلغني أن لك عينا عذبة و أنك لا تشرب منها- فقال بلغني أيها الملك أن الأسد يردها فخفته- فتركتها له- فاستحسن ذلك منه و وصله- . و من الكنايات الحسنة قول حاتم-

و ما تشتكيني جارتي غير أنني
إذا غاب عنها بعلها لا أزورها

سيبلغها خيري و يرجع بعلها
إليها و لم يسبل على ستورها

فكنى بإسبال الستر عن الفعل لأنه يقع عنده غالبا- . فأماقول عمر من أرخى سترا أو أغلق بابا فقد وجب عليه المهر- فيمكن أن يكنى بذلك عن الجماع نفسه- و يمكن أن يكنى به عن الخلوة فقط- و هو مذهب أبي حنيفة- و هو الظاهر من اللفظ لأمرين- أحدهما قوله أغلق بابا- فإنه لو أراد الكناية لم يحسن الترديد بأو- و ثانيهما أنه قد كان مقررا عندهم- أن الجماع نفسه يوجب كمال المهر- فلم يكن به حاجة إلى ذكر ذلك- . و يشبه قول حاتم في الكناية المقدم- ذكرها قول بشار بن بشر-

و إني لعف عن زيارة جارتي
و إني لمشنوء إلى اغتيابها

و لم أك طلابا أحاديث سرها
و لا عالما من أي حوك ثيابها

إذا غاب عنها بعلها لم أكن لها
زءورا و لم تنبح علي كلابها

و قال الأخطل في ضد ذلك يهجو رجلا و يرميه بالزنا-

سبنتى يظل الكلب يمضغ ثوبه
له في ديار الغانيات طريق‏

السبنتى النمر يريد أنه جري‏ء وقح- و أن الكلب لأنسه به- و كثرة اختلافه إلى جاراته يعرفه- و يمضغ ثوبه يطلب ما يطعمه- و العفيف ينكره الكلب و لا يأنس به- ثم أكد ذلك- بأنه قد صار له بكثرة تردده إلى ديار النساء- طريق معروف- . و من جيد الكناية عن العفة قول عقيل بن علفة المري-

و لست بسائل جارات بيتي
أ غياب رجالك أم شهود

و لا ملق لذي الودعات سوطي
ألاعبه و ريبته أريد

و من جيد ذلك و مختاره قول مسكين الدارمي-

ناري و نار الجار واحدة
و إليه قبلي تنزل القدر

ما ضر جارا لي أجاوره‏
ألا يكون لبابة ستر

أعمى إذا ما جارتي برزت
حتى يواري جارتي الخدر

و العرب تكني عن الفرج بالإزار- فتقول هو عفيف الإزار و بالذيل- فتقول هو طاهر الذيل- و إنما كنوا بهما- لأن الذيل و الإزار لا بد من رفعهما عند الفعل- و قد كنوا بالإزار عن الزوجة في قول الشاعر-

أ لا أبلغ أبا بشر رسولا
فدا لك من أخي ثقة إزاري‏

يريد به زوجتي أو كنى بالإزار هاهنا عن نفسه- . و قال زهير-

الحافظون ذمام عهدهم
و الطيبون معاقد الأزر

الستر دون الفاحشات و لا
يلقاك دون الخير من ستر

و يقولون في الكناية عن العفيف- ما وضعت مومسة عنده قناعها- و لا رفع عن مومسة ذيلا- . و قد أحسن ابن طباطبا في قوله-

فطربت طربة فاسق متهتك
و عففت عفة ناسك متحرج‏

الله يعلم كيف كانت عفتي‏
ما بين خلخال هناك و دملج‏

و من الكناية عن العفة قول ابن ميادة-

و ما نلت منها محرما غير أنني
أقبل بساما من الثغر أفلجا

و ألثم فاها آخذا بقرونها
و أترك حاجات النفوس تحرجا

فكنى عن الفعل نفسه بحاجات النفوس- كما كنى أبو نواس عنه بذلك العمل في قوله-

مر بنا و العيون ترمقه
تجرح منه مواضع القبل‏

أفرغ في قالب الجمال فما
يصلح إلا لذلك العمل‏

و كما كنى عنه ابن المعتز بقوله-

و زارني في ظلام الليل مستترا
يستعجل الخطو من خوف و من حذر

و لاح ضوء هلال كاد يفضحه‏
مثل القلامة قد قصت من الظفر

فقمت أفرش خدي في الطريق له
ذلا و أسحب أذيالي على الأثر

فكان ما كان مما لست أذكره‏
فظن خيرا و لا تسأل عن الخبر

و مما تطيروا من ذكره فكنوا عنه قولهم مات- فإنهم عبروا عنه بعبارات مختلفة- داخلة في باب الكناية- نحو قولهم لعق إصبعه- و قالوا اصفرت أنامله- لأن اصفرار الأنامل من صفات الموتى- قال الشاعر

فقرباني بأبي أنتما
من وطني قبل اصفرار البنان‏

و قبل منعاي إلى نسوة
منزلها حران و الرقتان‏

و قال لبيد-

و كل أناس سوف تدخل بينهم
دويهية تصفر منها الأنامل‏

يعني الموت- . و يقولون في الكناية عنه صك لفلان على أبي يحيى- و أبو يحيى كنية الموت كني عنه بضده- كما كنوا عن الأسود بالأبيض- و قال الخوارزمي

سريعة موت العاشقين كأنما
يغار عليهم من هواها أبو يحيى‏

و كنى رسول الله ص عنه بهاذم اللذات-
فقال أكثروا من ذكر هاذم اللذات

و قال أبو العتاهية

رأيت المنايا قسمت بين أنفس
و نفسي سيأتي بينهن نصيبها

فيا هاذم اللذات ما منك مهرب‏
تحاذر نفسي منك ما سيصيبها

و قالوا حلقت به العنقاء و حلقت به عنقاء مغرب- قال

فلو لا دفاعي اليوم عنك لحلقت
بشلوك بين القوم عنقاء مغرب‏

و قالوا فيه زل الشراك عن قدمه- قال

لا يسلمون العداة جارهم
حتى يزل الشراك عن قدمه‏

أي حتى يموت فيستغني عن لبس النعل- . فأما قولهم زلت نعله- فيكنى به تارة عن غلطه و خطئه- و تارة عن سوء حاله و اختلال أمره بالفقر- و هذا المعنى الأخير أراده الشاعر بقوله-

سأشكر عمرا ما تراخت منيتي
أيادي لم تمنن و إن هي جلت‏

فتى غير محجوب الغنى عن صديقه
و لا مظهر الشكوى إذا النعل زلت‏

رأى خلتي من حيث يخفى مكانها
فكانت قذى عينيه حتى تجلت‏

و يقولون فيه شالت نعامته- قال

يا ليت أمي قد شالت نعامتها
أيما إلى جنة أيما إلى نار

ليست بشبعى و لو أوردتها هجرا
و لا بريا و لو حلت بذي قار

أي لا يشبعها كثرة التمر و لو نزلت هجر- و هجر كثيرة النخل- و لا تروى و لو نزلت ذا قار و هو موضع كثير الماء- . قال ابن دريد- و النعامة خط باطن القدم في هذه الكناية- . و يقال أيضا للقوم قد تفرقوا بجلاء عن منازلهم- شالت نعامتهم- و ذلك لأن النعامة خفيفة الطيران عن وجه الأرض- كأنهم خفوا عن منزلهم- . و قال ابن السكيت- يقال لمن يغضب ثم يسكن شالت نعامته ثم وقعت- و قالوا أيضا في الكناية عن الموت- مضى لسبيله و استأثر الله به و نقله إلى جواره- و دعي فأجاب و قضى نحبه- و النحب النذر- كأنهم رأوا أن الموت لما كان حتما في الأعناق- كان نذرا- . و قالوا في الدعاء عليه اقتضاه الله بذنبه- إشارة إلى هذا- و قالوا ضحا ظله و معناه صار ظله شمسا- و إذا صار الظل شمسا فقد عدم صاحبه- . و يقولون أيضا خلى فلان مكانه- و أنشد ثعلب للعتبي في السري بن عبد الله-

كان الذي يأتي السري لحاجة
أباح إليه بالذي جاء يطلب‏

إذا ما ابن عبد الله خلى مكانه‏
فقد حلقت بالجود عنقاء مغرب‏

و قال دريد بن الصمة-

فإن يك عبد الله خلى مكانه
فما كان وقافا و لا طائش اليد

و كثير ممن لا يفهم يعتقد- أنه أراد بقوله خلى مكانه فر- و لو كان كذلك لكان هجاء- . و يقولون وقع في حياض غتيم و هو اسم للموت- . و يقولون طار من ماله الثمين يريدون الثمن- يقال ثمن و ثمين و سبع و سبيع- و ذلك لأن الميت ترث زوجته من ماله الثمن غالبا- قال الشاعر يذكر جوده بماله و يخاطب امرأته-

فلا و أبيك لا أولى عليها
لتمنع طالبا منها اليمين‏

فإني لست منك و لست مني‏
إذا ما طار من مالي الثمين‏

أي إذا مت فأخذت ثمنك من تركتي- . و قالوا لحق باللطيف الخبير- قال

و من الناس من يحبك حبا
ظاهر الود ليس بالتقصير

فإذا ما سألته ربع فلس‏
ألحق الود باللطيف الخبير

و قال أبو العلاء-

لا تسل عن عداك أين استقروا
لحق القوم باللطيف الخبير

و يقولون قرض رباطه أي كاد يموت جهدا و عطشا- . و قالوا في الدعاء عليه لا عد من نفره- أي إذا عد قومه فلا عد معهم- و إنما يكون كذلك إذا مات- قال إمرؤ القيس

فهو لا تنمي رميته
ما له لا عد من نفره‏

و هذا إنما يريد به وصفه و التعجب منه- لا أنه يدعو عليه حقيقة- كما تقول لمن يجيد الطعن شلت يده ما أحذقه- . و قالوا في الكناية عن الدفن أضلوه و أضلوا به- قال الله تعالى وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ- أي إذا دفنا في الأرض- . و قال المخبل السعدي-

أضلت بنو قيس بن سعد عميدها
و سيدها في الدهر قيس بن عاصم‏

و يقولون للمقتول ركب الأشقر كناية عن الدم- و إليه أشار الحارث بن هشام المخزومي في شعره- الذي يعتذر به عن فراره يوم بدر- عن أخيه أبي جهل بن هشام حين قتل-

الله يعلم ما تركت قتالهم
حتى علوا فرسي بأشقر مزبد

و علمت أني إن أقاتل واحدا
أقتل و لا يضرر عدوي مشهدي‏

فصددت عنهم و الأحبة فيهم‏
طمعا لهم بعقاب يوم مرصد

أراد بدم أشقر- فحذف الموصوف و أقام الصفة مقامه كناية عنه- و العرب تقيم الصفة مقام الموصوف كثيرا- كقوله تعالى وَ حَمَلْناهُ عَلى‏ ذاتِ أَلْواحٍ وَ دُسُرٍ- أي على سفينة ذات ألواح- و كقول عنترة

تمكو فريصته كشدق الأعلم‏

أي كشدق الإنسان الأعلم أو البعير الأعلم- . و يقولون ترك فلان بجعجاع أي قتل- قال أبو قيس بن الأسلت-

من يذق الحرب يجد طعمها
مرا و تتركه بجعجاع‏

أي تتركه قتيلا مخلى بالفضاء- . و مما كنوا عنه قولهم للمقيد هو محمول على الأدهم- و الأدهم القيد- قال الشاعر

أوعدني بالسجن و الأداهم
رجلي و رجلي شثنة المناسم‏

و قال الحجاج للغضبان بن القبعثرى- لأحملنك على الأدهم- فتجاهل عليه و قال- مثل الأمير حمل على الأدهم و الأشهب- .و قد كنوا عن القيد أيضا بالأسمر- أنشد ابن عرفة لبعضهم

فما وجد صعلوك بصنعاء موثق
بساقيه من سمر القيود كبول‏

قليل الموالي مسلم بجريرة
له بعد نومات العيون غليل‏

يقول له البواب أنت معذب
غداة غد أو رائح فقتيل‏

بأكثر من وجدي بكم يوم راعني‏
فراق حبيب ما إليه سبيل‏

و هذا من لطيف شعر العرب و تشبيهها- . و من كناياتهم عنه ركب ردعه- و أصله في السهم يرمى به فيرتدع نصله فيه- يقال ارتدع السهم إذا رجع النصل في السنخ متجاوزا- فقولهم ركب ردعه أي وقص فدخل عنقه في صدره- قال الشاعر و هو من شعر الحماسة-

تقول و صكت صدرها بيمينها
أ بعلي هذا بالرحا المتقاعس‏

فقلت لها لا تعجلي و تبيني‏
بلاي إذا التفت علي الفوارس‏

أ لست أرد القرن يركب ردعه
و فيه سنان ذو غرارين يابس‏

لعمر أبيك الخير إني لخادم‏
لضيفي و إني إن ركبت لفارس‏

و أنشد الجاحظ في كتاب البيان و التبيين- لبعض الخوارج-

و مسوم للموت يركب ردعه
بين الأسنة و القنا الخطار

يدنو و ترفعه الرماح كأنه‏
شلو تنشب في مخالب ضاري‏

فثوى صريعا و الرماح تنوشه
إن الشراة قصيرة الأعمار

و قد تطيرت العرب من لفظة البرص فكنوا عنه بالوضح- فقالوا جذيمة الوضاح يريدون الأبرص- و كني عنه بالأبرش أيضا- و كل أبيض عند العرب وضاح و يسمون اللبن وضحا- يقولون ما أكثر الوضح عند بني فلان- . و مما تفاءلوا به قولهم للفلاة التي يظن فيها الهلاك مفازة- اشتقاقا من الفوز و هو النجاة- و قال بعض المحدثين

أحب الفأل حين رأى كثيرا
أبوه عن اقتناء المجد عاجز

فسماه لقلته كثيرا
كتلقيب المهالك بالمفاوز

فأما من قال إن المفازة مفعلة من فوز الرجل أي هلك- فإنه يخرج هذه اللفظة من باب الكنايات- . و من هذا تسميتهم اللديغ سليما- قال

كأني من تذكر ما ألاقي
إذا ما أظلم الليل البهيم‏

سليم مل منه أقربوه‏
و أسلمه المجاور و الحميم‏

و قال أبو تمام في الشيب

شعلة في المفارق استودعتني
في صميم الأحشاء ثكلا صميما

تستثير الهموم ما اكتن منها
صعدا و هي تستثير الهموما

دقة في الحياة تدعى جلالا
مثلما سمي اللديغ سليما

غرة بهمة ألا إنما كنت‏
أغرا أيام كنت بهيما

حلمتني زعمتم و أراني
قبل هذا التحليم كنت حليما

و من هذا قولهم للأعور ممتع- كأنهم أرادوا أنه قد متع ببقاء إحدى عينيه- و لم يحرم ضوءهما معا- . و من كناياتهم على العكس- قولهم للأسود يا أبا البيضاء- و للأسود أيضا يا كافور- و للأبيض يا أبا الجون و للأقرع يا أبا الجعد- . و سموا الغراب أعور لحدة بصره- قال ابن ميادة

إلا طرقتنا أم عمرو و دونها
فياف من البيداء يعشى غرابها

خص الغراب بذلك لحدة نظره أي فكيف غيره- . و مما جاء في تحسين اللفظ ما روي- أن المنصور كان في بستان داره و الربيع بين يديه- فقال له ما هذه الشجرة- فقال وفاق يا أمير المؤمنين- و كانت شجرة خلاف- فاستحسن منه ذلك- . و مثل هذا استحسان الرشيد قول عبد الملك بن صالح- و قد أهدي إليه باكورة فاكهة في أطباق خيزران- بعثت إلى أمير المؤمنين في أطباق قضبان- تحمل من جنايا باكورة بستانه ما راج و أينع- فقال الرشيد لمن حضر ما أحسن ما كنى عن اسم أمنا- .

و يقال إن عبد الملك سبق بهذه الكناية- و إن الهادي قال لابن دأب و في يده عصا ما جنس هذه- فقال من أصول القنا يعني الخيزران- و الخيزران أم الهادي و الرشيد معا- . و شبيه بذلك ما يقال إن الحسن بن سهل- كان في يده ضغث من أطراف الأراك- فسأله المأمون عنه ما هذه- فقال محاسنك يا أمير المؤمنين- تجنبا لأن يقول مساوئك و هذا لطيف- . و من الكنايات اللطيفة أن عبد الملك بعث الشعبي- إلى أخيه عبد العزيز بن مروان- و هو أمير مصر يومئذ- ليسبر أخلاقه و سياسته و يعود إليه فيخبره بحاله- فلما عاد سأله فقال- وجدته أحوج الناس إلى بقائك يا أمير المؤمنين- و كان عبد العزيز يضعف- . و من الألفاظ التي جاءت عن رسول الله ص- من باب الكنايات-قوله ص بعثت إلى الأسود و الأحمر- يريد إلى العرب و العجم- فكنى عن العرب بالسود و عن العجم بالحمر- و العرب تسمى العجمي أحمر- لأن الشقرة تغلب عليه- .

قال ابن قتيبة خطب إلى عقيل بن علفة المري ابنته- هشام بن إسماعيل المخزومي- و كان والي المدينة و خال هشام بن عبد الملك فرده- لأنه كان أبيض شديد البياض- و كان عقيل أعرابيا جافيا غيورا مفرط الغيرة- و قال

رددت صحيفة القرشي لما
أبت أعراقه إلا احمرارا

فرده لأنه توسم فيه أن بعض أعراقه ينزع إلى العجم- لما رأى من بياض لونه و شقرته- . و منه قول جرير يذكر العجم-

يسموننا الأعراب و العرب اسمنا
و أسماؤهم فينا رقاب المزاود

و إنما يسمونهم رقاب المزاود لأنها حمراء- . و من كناياتهم تعبيرهم عن المفاخرة بالمساجلة- و أصلها من السجل و هي الدلو الملي‏ء- كان الرجلان يستقيان- فأيهما غلب صاحبه كان الفوز و الفخر له- قال الفضل بن العباس بن عتبة- بن أبي لهب بن عبد المطلب-

و أنا الأخضر من يعرفني
أخضر الجلدة من بيت العرب‏

من يساجلني يساجل ماجدا
يملأ الدلو إلى عقد الكرب‏

برسول الله و ابني عمه
و بعباس بن عبد المطلب‏

و يقال إن الفرزدق مر بالفضل- و هو ينشد من يساجلني- فقال أنا أساجلك‏و نزع ثيابه- فقال الفضل برسول الله و ابن عمه- فلبس الفرزدق ثيابه- و قال أعض الله من يساجلك- بما نفت المواسي من بظر أمه- و رواها أبو بكر بن دريد بما أبقت المواسي- . و قد نزل القرآن العزيز- على مخرج كلام العرب في المساجلة- فقال تبارك و تعالى- فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ- الذنوب الدلو و المراد ما ذكرناه- . و قال المبرد المراد بقوله و أنا الأخضر- أي الأسمر و الأسود- و العرب كانت تفتخر بالسمرة و السواد- و كانت تكره الحمرة و الشقرة- و تقول إنهما من ألوان العجم- . و قال ابن دريد- مراده أن بيتي ربيع أبدا مخصب كثير الخير- لأن الخصب مع الخضرة- و قال الشاعر

قوم إذا اخضرت نعالهم
يتناهقون تناهق الحمر

أي إذا أعشبت الأرض اخضرت نعالهم من وطئهم إياها- فأغار بعضهم على بعض- و التناهق هاهنا أصواتهم حين ينادون للغارة- و يدعو بعضهم بعضا- و نظير هذا البيت قول الآخر-

قوم إذا نبت الربيع لهم
نبتت عداوتهم مع البقل‏

أي إذا أخصبوا و شبعوا غزا بعضهم بعضا- و مثله قول الآخر

يا ابن هشام أهلك الناس اللبن
فكلهم يغدو بسيف و قرن‏

أي تسفهوا لما رأوا من كثرة اللبن و الخصب- فأفسدوا في الأرض و أغار بعضهم على بعض- و القرن الجعبة- .و قيل لبعضهم- متى يخاف من شر بني فلان فقال إذا ألبنوا- . و من الكنايات الداخلة في باب الإيماء قول الشاعر-

فتى لا يرى قد القميص بخصره
و لكنما يوهي القميص عواتقه‏

لما كان سلامة القميص من الخرق- في موضع الخصر تابعا لدقة الخصر- و وهنه في الكاهل تابعا لعظم الكاهل- ذكر ما دل بهما على دقة خصر هذا الممدوح و عظم كاهله- و منه قول مسلم بن الوليد-

فرعاء في فرعها ليل على قمر
على قضيب على حقف النقا الدهس‏

كأن قلبي وشاحاها إذا خطرت‏
و قلبها قلبها في الصمت و الخرس‏

تجري محبتها في قلب عاشقها
مجرى السلامة في أعضاء منتكس‏

فلما كان قلق الوشاح تابعا لدقة الخصر- ذكره دالا به عليه- . و من هذا الباب قول القائل-

إذا غرد المكاء في غير روضة
فويل لأهل الشاء و الحمرات‏

أومأ بذلك إلى الجدب لأن المكاء يألف الرياض- فإذا أجدبت الأرض سقط في غير روضة و غرد- فالويل حينئذ لأهل الشاء و الحمر- . و منه قول القائل-

لعمري لنعم الحي حي بني كعب
إذا جعل الخلخال في موضع القلب‏

القلب السوار- يقول نعم الحي هؤلاء إذا ريع الناس و خافوا- حتى إن المرأة لشدة خوفها تلبس الخلخال مكان السوار- فاختصر الكلام اختصارا شديدا- . و منه قول الأفوه الأودي-

إن بني أود هم ما هم
للحرب أو للجدب عام الشموس‏

أشار إلى الجدب و قلة السحب و المطر- أي الأيام التي كلها أيام شمس و صحو- لا غيم فيها و لا مطر- . فقد ذكرنا من الكنايات و التعريضات- و ما يدخل في ذلك و يجري مجراه من باب الإيماء و الرمز- قطعة صالحة- و سنذكر شيئا آخر من ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى- إذا مررنا في شرح كلامه ع بما يقتضيه و يستدعيه

حقيقة الكناية و التعريض و الفرق بينهما

و قد كنا وعدنا أن نذكر كلاما كليا- في حقيقة الكناية و التعريض و الفرق بينهما- فنقول الكناية قسم من أقسام المجاز- و هو إبدال لفظة عرض في النطق بها- مانع بلفظة لا مانع عن النطق بها- كقوله ع قرارات النساء- لما وجد الناس قد تواضعوا- على استهجان لفظة أرحام النساء- . و أما التعريض فقد يكون بغير اللفظ- كدفع أسماء بن خارجة الفص الفيروز الأزرق- من يده إلى ابن معكبر الضبي ادكارا له بقول الشاعر-

كذا كل ضبي من اللؤم أزرق‏

فالتعريض إذا هو التنبيه بفعل أو لفظ- على معنى اقتضت الحال العدول عن التصريح به- . و أنا أحكي هاهنا كلام نصر الله بن محمد بن الأثير الجزري- في كتابه المسمى بالمثل السائر في الكناية و التعريض- و أذكر ما عندي فيه قال- خلط أرباب هذه الصناعة الكناية بالتعريض- و لم يفصلوا بينهما- فقال ابن سنان إن قول إمرئ القيس-

فصرنا إلى الحسنى و رق كلامنا
و رضت فذلت صعبة أي إذلال‏

من باب الكناية و الصحيح أنه من باب التعريض- . قال و قد قال الغانمي و العسكري و ابن حمدون- و غيرهم نحو ذلك- و مزجوا أحد القسمين بالآخر- . قال و قد حد قوم الكناية- فقالوا هي اللفظ الدال على الشي‏ء- بغير الوضع الحقيقي- بوصف جامع بين الكناية و المكنى عنه كاللمس و الجماع- فإن الجماع اسم لموضوع حقيقي و اللمس كناية عنه- و بينهما وصف جامع إذ الجماع لمس و زيادة- فكان دالا عليه بالوضع المجازي- . قال و هذا الحد فاسد- لأنه يجوز أن يكون حدا للتشبيه و المشبه- فإن التشبيه هو اللفظ الدال على الوضع الحقيقي- الجامع بين المشبه و المشبه به في صفة من الأوصاف- أ لا ترى إذا قلنا زيد أسد- كان ذلك لفظا دالا على غير الوضع الحقيقي- بوصف جامع بين زيد و الأسد- و ذلك الوصف هو الشجاعة- . قال و أما أصحاب أصول الفقه- فقالوا في حد الكناية إنها اللفظ المحتمل- و معناه أنها اللفظ الذي يحتمل الدلالة على المعنى- و على خلافه- .

و هذا منقوض بالألفاظ المفردة المشتركة- و بكثير من الأقوال المركبة المحتملة للشي‏ء و خلافه- و ليست بكنايات- . قال و عندي أن الكنايات لا بد أن يتجاذبها جانبا- حقيقة و مجاز- و متى أفردت جاز حملها على الجانبين معا- أ لا ترى أن اللمس في قوله سبحانه أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ-يجوز حمله على الحقيقة و المجاز- و كل منهما يصح به المعنى و لا يختل- و لهذا قال الشافعي- إن ملامسة المرأة تنقض الوضوء و الطهارة- .

و ذهب غيره إلى أن المراد باللمس في الآية الجماع- و هو الكناية المجازية- فكل موضع يرد فيه الكناية فسبيله هذا السبيل- و ليس التشبيه بهذه الصورة- و لا غيره من أقسام المجاز- لأنه لا يجوز حمله إلا على جانب المجاز خاصة- و لو حمل على جانب الحقيقة لاستحال المعنى- أ لا ترى أنا إذا قلنا زيد أسد- لم يصح أن يحمل إلا على الجهة المجازية- و هي التشبيه بالأسد في شجاعته- و لا يجوز حمله على الجهة الحقيقية- لأن زيدا لا يكون سبعا ذا أنياب و مخالب- فقد صار إذن حد الكناية أنها اللفظ الدال على معنى- يجوز حمله على جانبي الحقيقة و المجاز- بوصف جامع بين الحقيقة و المجاز- . قال و الدليل على ذلك أن الكناية في أصل الوضع- أن تتكلم بشي‏ء و تريد غيره يقال كنيت بكذا عن كذا- فهي تدل على ما تكلمت به- و على ما أردته من غيره- فلا يخلو إما أن يكون في لفظ- تجاذبه جانبا حقيقة و حقيقة- أو في لفظ تجاذبه جانبا مجاز و مجاز- أو في لفظ لا يتجاذبه أمر- و ليس لنا قسم رابع- . و الثاني باطل لأن ذاك هو اللفظ المشترك- فإن أطلق من غير قرينة مخصصة كان مبهما غير مفهوم- و إن كان معه قرينة صار مخصصا لشي‏ء بعينه- و الكناية أن تتكلم بشي‏ء و تريد غيره- و ذلك مخالف للفظ المشترك إذا أضيف إليه القرينة- لأنه يختص بشي‏ء واحد بعينه- و لا يتعداه إلى غيره- و الثالث باطل أيضا- لأن المجاز لا بد له من حقيقة ينقل عنها- لأنه فرع عليها- .

و ذلك اللفظ الدال على المجاز- إما أن يكون للحقيقة شركة في الدلالة عليه- أو لا يكون لها شركة في الدلالة عليه- كان اللفظ الواحد قد دل على ثلاثة أشياء- أحدها الحقيقة و الآخران المجازان- . و هذا مخالف لأصل الوضع- لأن أصل الوضع أن تتكلم بشي‏ء و أنت تريد غيره- و هاهنا يكون قد تكلمت بشي‏ء و أنت تريد شيئين غيرين- و إن لم يكن للحقيقة شركة في الدلالة- كان ذلك مخالفا لأصل الوضع أيضا- إذ أصل الوضع أن تتكلم بشي‏ء و أنت تريد غيره- فيكون الذي تكلمت به دالا على غيره- و إذا أخرجت الحقيقة عن أن يكون لها شركة في الدلالة- لم يكن الذي تكلمت به- و هذا محال- فثبت إذن أن الكناية هي أن تتكلم بالحقيقة- و أنت تريد المجاز- . قال و هذا مما لم يسبقني إليه أحد- . ثم قال قد يأتي من الكلام ما يجوز أن يكون كناية- و يجوز أن يكون استعارة- و يختلف ذلك باختلاف النظر إليه بمفرده- و النظر إلى ما بعده- كقول نصر بن سيار في أبياته المشهورة- التي يحرض بها على بني أمية عند خروج أبي مسلم-

أرى خلل الرماد و ميض جمر
و يوشك أن يكون له ضرام‏

فإن النار بالزندين توري‏
و إن الحرب أولها كلام‏

أقول من التعجب ليت شعري
أ أيقاظ أمية أم نيام‏

فالبيت الأول لو ورد بمفرده لكان كناية- لأنه لا يجوز حمله على جانبي الحقيقة و المجاز- فإذا نظرنا إلى الأبيات بجملتها- كان البيت الأول المذكور استعارة لا كناية- . ثم أخذ في الفرق بين الكناية و التعريض- فقال التعريض هو اللفظ الدال على الشي‏ء- من طريق المفهوم- لا بالوضع الحقيقي و لا بالمجازي- فإنك إذا قلت لمن تتوقع معروفه و صلته بغير طلب- أنا محتاج و لا شي‏ء في يدي- و أنا عريان و البرد قد آذاني- فإن هذا و أشباهه تعريض بالطلب- و ليس اللفظ موضوعا للطلب لا حقيقة و لا مجازا- و إنما يدل عليه من طريق المفهوم- بخلاف قوله أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ- و على هذا ورد تفسير التعريض في خطبة النكاح- كقولك للمرأة أنت جميلة أو إنك خلية و أنا عزب- فإن هذا و شبهه لا يدل على طلب النكاح- بالحقيقة و لا بالمجاز- و التعريض أخفى من الكناية- لأن دلالة الكناية وضعية من جهة المجاز- و دلالة التعريض من جهة المفهوم المركب- و ليست وضعية- و إنما يسمى التعريض تعريضا لأن المعنى فيه يفهم من عرض اللفظ المفهوم- أي من جانبه- .

قال و اعلم أن الكناية تشتمل على اللفظ المفرد- و اللفظ المركب- فتأتي على هذا مرة و على هذا أخرى- و أما التعريض فإنه يختص باللفظ المركب- و لا يأتي في اللفظ المفرد البتة- لأنه لا يفهم المعنى فيه من جهة الحقيقة- و لا من جهة المجاز- بل من جهة التلويح و الإشارة- و هذا أمر لا يستقل به اللفظ المفرد- و يحتاج في الدلالة عليه إلى اللفظ المركب- . قال فقد ظهر فيما قلنا في البيت- الذي ذكره ابن سنان مثال الكناية- و مثال التعريض هو بيت إمرئ القيس- لأن غرض الشاعر منه أن يذكر الجماع- إلا أنه لم يذكره بل ذكر كلاما آخر- ففهم الجماع من عرضه- لأن المصير إلى الحسنى و رقة الكلام- لا يدلان على الجماع لا حقيقة و لا مجازا- . ثم ذكر أن من باب الكناية قوله سبحانه- أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها- فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً- وَ مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ… الآية- قال كنى بالماء عن العلم و بالأودية عن القلوب- و بالزبد عن الضلال- . قال و قد تحقق ما اخترعناه و قدرناه من هذه الآية- لأنه يجوز حملها على جانب الحقيقة- كما يجوز حملها على جانب المجاز- . قال و قد أخطأ الفراء- حيث زعم أن قوله سبحانه و تعالى- وَ إِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ- كناية عن أمر النبي ص و أنه كنى عنه بالجبال- قال و وجه الخطأ أنه لا يجوز- أن يتجاذب اللفظ هاهنا جانبا الحقيقة و المجاز- لأن مكرهم لم يكن لتزول منه الجبال الحقيقية- فالآية إذا من باب المجاز لا من باب الكناية- .

قال و من الكنايات المستحسنةقوله ع للحادي بالنساء يا أنجشة رفقا بالقوارير- . و قول امرأة لرجل قعد منها مقعد القابلة- لا يحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه- . و قول بديل بن ورقاء الخزاعي لرسول الله ص- إن قريشا قد نزلت على ماء الحديبية- معها العوذ المطافيل و إنهم صادوك عن البيت- . قال فهذه كناية عن النساء و الصبيان- لأن العوذ المطافيل- الإبل الحديثات النتاج و معها أولادها- .

و من الكناية ما ورد في شهادة الزنا- أن يشهد عليه برؤية الميل في المكحلة- .و منها قول عمر لرسول الله ص هلكت يا رسول الله قال و ما أهلكك- قال حولت رحلي البارحة- قال أشار بذلك إلى الإتيان في غير المأتي- . و منها قول ابن سلام لمن رأى عليه ثوبا معصفرا- لو أن ثوبك في تنور أهلك لكان خيرا لك- . قال و من الكنايات المستقبحة قول الرضي يرثي امرأة-إن لم تكن نصلا فغمد نصول‏- لأن الوهم يسبق في هذا الموضع إلى ما يقبح- و إنما سرقه من قول الفرزدق في امرأته- و قد ماتت بجمع-

و جفن سلاح قد رزئت فلم أنح
عليه و لم أبعث عليه البواكيا

و في جوفه من دارم ذو حفيظة
لو أن المنايا أخطأته لياليا

فأخذه الرضي فأفسده و لم يحسن تصريفه- . قال فأما أمثلة التعريض فكثيرة- منها قوله تعالى فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ- ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا- وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ- وَ ما نَرى‏ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ- فقوله ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا تعريض- بأنهم أحق بالنبوة- و أن الله تعالى لو أراد أن يجعلها في واحد من البشر- لجعلها فيهم- فقالوا هب إنك واحد من الملأ و موازيهم في المنزلة- فما جعلك أحق بالنبوة منهم- أ لا ترى إلى قوله وَ ما نَرى‏ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ- . هذه خلاصة ما ذكره ابن الأثير في هذا الباب- . و اعلم أنا قد تكلمنا عليه في كثير من هذا الموضع- في كتابنا الذي أفردناه للنقض عليه- و هو الكتاب المسمى بالفلك الدائر على المثل السائر- فقلنا أولا أنه اختار حد الكناية- و شرع يبرهن على التحديد و الحدود لا يبرهن عليها- و لا هي من باب الدعاوي التي تحتاج إلى الأدلة- لأن من وضع لفظ الكناية لمفهوم مخصوص- لا يحتاج إلى دليل- كمن وضع لفظ الجدار للحائط لا يحتاج إلى دليل- .

ثم يقال له لم قلت- إنه لا بد من أن يتردد لفظ الكناية- بين محملي حقيقة و مجاز- و لم لا يتردد بين مجازين- و ما استدللت به على ذلك لا معنى له…- . أما أولا فلأنك أردت أن تقول- إما أن تكون للفظة الدالة على المجازين شركة- في الدلالة على الحقيقة- أو لا يكون لها في الدلالة على الحقيقة شركة- لأن كلامك هكذا يقتضي- و لا ينتظم إلا إذا قلت هكذا فلم تقله- و قلت إما أن يكون للحقيقة شركة- فياللفظ الدال على المجازين- و هذا قلب للكلام الصحيح و عكس له- .

و أما ثانيا فلم قلت- إنه لا يكون للفظة الدالة على المجازين شركة- في الدلالة على الحقيقة التي هي أصل لهما- فأما قولك هذا- فيقتضي أن يكون الإنسان متكلما بشي‏ء- و هو يريد شيئين غيره- و أصل الوضع أن يتكلم بشي‏ء و هو يريد غيره- فليس معنى قولهم الكناية أن تتكلم بشي‏ء- و أنت تريد غيره- أنك تريد شيئا واحدا غيره- كلا ليس هذا هو المقصود- بل المقصود أن تتكلم بشي‏ء و أنت تريد ما هو مغاير له- و إن أردت شيئا واحدا- أو شيئين أو ثلاثة أشياء أو ما زاد- فقد أردت ما هو مغاير له- لأن كل مغاير لما دل عليه ظاهر لفظك- فليس في لفظه غير ما يقتضي الوحدة و الإفراد- .

و أما ثالثا فلم لا يجوز- أن يكون للفظ الدال على المجازين شركة- في الدلالة على الحقيقة أصلا- بل يدل على المجازين فقط- فأما قولك إذا خرجت الحقيقة- عن أن يكون لها في ذلك شركة- لم يكن الذي تكلمت به دالا على ما تكلمت به- و هو محال- و مرادك بهذا الكلام المقلوب- أنه إذا خرجت اللفظة- عن أن يكون لها شركة- في الدلالة على الحقيقة- التي هي موضوعة لها في الأصل- لم يكن ما تكلم به الإنسان دالا- على ما تكلم به و هو حقيقة- و لا دالا أيضا على ما تكلم به و هو مجاز- لأنه إذا لم يدل على الحقيقة و هي الأصل- لم يجز أن يدل على المجاز الذي هو الفرع- لأن انتفاء الدلالة على الأصل- يوجب انتفاء الدلالة على الفرع- و هكذا يجب أن يتأول استدلاله- و إلا لم يكن له معنى محصل- لأن اللفظ هو الدال على مفهوماته- و ليس المفهوم دالا على اللفظ- و لا له شركة في الدلالة عليه- و لا على مفهوم آخر- يعترض اللفظ بتقدير انتقال اللفظ- اللهم إلا أن يكون دلالة عقلية- و كلامنا في الألفاظ و دلالتها- .

فإذا أصلحنا كلامه على ما ينبغي- قلنا له في الاعتراض عليه- لم قلت إنه إذا خرج اللفظ- عن أن يكون له شركة في الدلالة على الحقيقة- لم يكن ما تكلم به الإنسان دالا على ما تكلم به- و لم لا يجوز أن يكون للحقيقة مجازان- قد كثر استعمالهما حتى نسيت تلك الحقيقة- فإذا تكلم الإنسان بذلك اللفظ- كان دالا به على أحد ذينك المجازين- و لا يكون له تعرض ما بتلك الحقيقة- فلا يكون الذي تكلم به غير دال على ما تكلم به- لأن حقيقة تلك اللفظة قد صارت ملغاة منسية- فلا يكون عدم إرادتها موجبا- أن يكون اللفظ الذي يتكلم به المتكلم- غير دال على ما تكلم به- لأنها قد خرجت بترك الاستعمال- عن أن تكون هي ما تكلم به المتكلم- . ثم يقال إنك منعت أن يكون قولنا زيد أسد كناية- و قلت لأنه لا يجوز أن يحمل أحد هذا اللفظ- على أن زيدا هو السبع ذو الأنياب و المخالب- و منعت من قول الفراء إن الجبال في قوله- لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ- كناية عن دعوة محمد ص و شريعته- لأن أحدا لا يعتقد و لا يتصور- أن مكر البشر يزيل الجبال الحقيقية عن أماكنها- و منعت من قول من قال إن قول الشاعر-

و لو سكتوا أثنت عليك الحقائب‏

من باب الكناية- لأن أحدا لا يتصور أن الحقائب و هي جمادات تثني و تشكر- . و قلت لا بد أن يصح حمل لفظ الكناية- على محملي الحقيقة و المجاز- ثم قلت إن‏قول عبد الله بن سلام لصاحب الثوب المعصفر- لو أنك جعلت ثوبك في تنور أهلك كناية- و قول الرضي في امرأة ماتتإن لم تكن نصلا فغمد نصول‏- كناية و إن كانت مستقبحة-و قول النبي ص يا أنجشة رفقا بالقوارير- و هو يحدو بالنساء كناية- فهل يجيز عاقل قط أو يتصور في الأذهان- أن تكون المرأة غمدا للسيف- و هل يحمل أحد قط قوله للحادي رفقا بالقوارير- على أنه يمكن أن يكون نهاه عن العنف بالزجاج- أو يحمل أحد قط قول ابن سلام- على أنه أراد إحراق الثوب بالنار- أو يحمل قط أحد قوله الميل في المكحلة على حقيقتها- أو يحمل قط أحد قوله لا يحل لك فض الخاتم على حقيقته- و هل يشك عاقل قط في أن هذه الألفاظ- ليست دائرة بين المحملين- دوران اللمس و الجماع و المصافحة- و هذه مناقضة ظاهرة و لا جواب عنها- إلا بإخراج هذه المواضع من باب الكناية- أو بحذف ذلك الشرط الذي اشترطته في حد الكناية- .

فأما ما ذكره حكاية عن غيره في حد الكناية- بأنها اللفظ الدال على الشي‏ء بغير الوضع الحقيقي- بوصف جامع بين الكناية و المكنى عنه- و قوله هذا الحد هو حد التشبيه- فلا يجوز أن يكون حد الكناية- . فلقائل أن يقول إذا قلنا زيد أسد- كان ذلك لفظا دالا على غير الوضع الحقيقي- و ذلك المدلول هو بعينه- الوصف المشترك بين المشبه و المشبه به- أ لا ترى أن المدلول هو الشجاعة- و هي المشترك بين زيد و الأسد- و أصحاب الحد قالوا في حدهم- الكناية هي اللفظ الدال على الشي‏ء- بغير الوضع الحقيقي- باعتبار وصف جامع بينهما- فجعلوا المدلول أمرا و الوصف الجامع أمرا آخر- باعتباره وقت الدلالة- أ لا ترى أن لفظ لامَسْتُمُ يدل على الجماع- الذي لم يوضع لفظ لامَسْتُمُ له- و إنما يدل عليه باعتبار أمر آخر- هو كون الملامسة مقدمة الجماع و مفضية إليه فقد تغاير إذن حد التشبيه و حد الكناية- و لم يكن أحدهما هو الآخر- .

فأما قوله إن الكناية قد تكون بالمفردات- و التعريض لا يكون بالمفردات فدعوى- و ذلك أن اللفظ المفرد لا ينتظم منه فائدة- و إنما تفيد الجملة المركبة من مبتدأ و خبر- أو من فعل و فاعل- و الكناية و التعريض في هذا الباب سواء- و أقل ما يمكن أن يقيد في الكناية قولك لامست هندا- و كذلك أقل ما يمكن أن يفيد في التعريض أنا عزب- كما قد ذكره هو في أمثلة التعريض- فإن قال أردت أنه قد يقال- اللمس يصلح أن يكنى به عن الجماع- و اللمس لفظ مفرد- قيل له و قد يقال- التعزب يصلح أن يعرض به في طلب النكاح- .

فأما قوله إن بيت نصر بن سيار- إذا نظر إليه لمفرده صلح أن يكون كناية- و إنما يخرجه عن كونه كناية- ضم الأبيات التي بعده إليه- و يدخله في باب الاستعارة- فلزم عليه أن يخرج قول عمر حولت رحلي عن باب الكناية- بما انضم إليه من قوله هلكت-و بما أجابه رسول الله ص من قوله أقبل و أدبر و اتق الدبر و الحيضة- و بقرينة الحال- و كان يجب إلا تذكر هذه اللفظة في أمثلة الكنايات- .

فأما بيت إمرئ القيس فلا وجه لإسقاطه- من باب الكناية- و إدخاله في باب‏ التعريض- إلا فيما اعتمد عليه- من أن من شرط الكناية أن يتجاذبها جانبا حقيقة و مجاز- و قد بينا بطلان اشتراط ذلك فبطل ما يتفرع عليه- . و أما قول بديل بن ورقاء معها العوذ المطافيل- فإنه ليس بكناية عن النساء و الأولاد كما زعم- بل أراد به الإبل و نتاجها-

فإن كتب السير كلها متفقة- على أن قريشا- لم يخرج معها في سنة الحديبية نساؤها و أولادها- و لم يحارب رسول الله ص قوما- أحضروا معهم نساءهم و أولادهم- إلا هوازن يوم حنين- و إذا لم يكن لهذا الوجه حقيقة و لا وجود- فقد بطل حمل اللفظ عليه- . فأما ما زرى به على الرضي رحمه الله تعالى من قوله-إن لم تكن نصلا فغمد نصول‏- و قوله هذا مما يسبق الوهم فيه إلى ما يستقبح- و استحسانه شعر الفرزدق- و قوله إن الرضي أخذه منه فأساء الأخذ- فالوهم الذي يسبق إلى بيت الرضي- يسبق مثله إلى بيت الفرزدق- لأنه قد جعل هذه المرأة جفن السلاح- فإن كان الوهم يسبق هناك إلى قبيح- فهاهنا أيضا يسبق إلى مثله- .

و أما الآية التي مثل بها على التعريض- فإنه قال إن قوله تعالى ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا- تعريض بأنهم أحق بالنبوة منه- و لم يبين ذلك و إنما قال فحوى الكلام أنهم قالوا له- هب إنك واحد من الملإ و موازيهم في المنزلة- فما جعلك أحق بالنبوة منهم- أ لا ترى إلى قوله وَ ما نَرى‏ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ- و هذا الكلام لا يقتضي ما ادعاه أولا من التعريض- لأنه ادعى أن قوله ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا- تعريض بأنهم أحق بالنبوة منه- و ما قرره به يقتضي مساواته لهم- و لا يقتضي كونهم أحق بالنبوة منه- فبطل دعوى الأحقية- التي زعم أن التعريض إنما كان بها- .

فأما قوله تعالى أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً- فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً- و قوله إن هذا من باب الكناية- و إنه تعالى كنى به عن العلم و الضلال و قلوب البشر فبعيد- و الحكيم سبحانه لا يجوز أن يخاطب قوما بلغتهم- فيعمي عليهم- و أن يصطلح هو نفسه على ألفاظ لا يفهمون المراد بها- و إنما يعلمها هو وحده- أ لا ترى أنه لا يجوز أن يحمل قوله تعالى- وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ- وَ جَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ- على أنه أراد أنا زينا رءوس البشر- بالحواس الباطنة و الظاهرة المجعولة فيها- و جعلناها بالقوى الفكرية و الخيالية- المركبة في الدماغ- راجمة و طاردة للشبه المضلة- و إن من حمل كلام الحكيم سبحانه على ذلك- فقد نسبه إلى الإلغاز و التعمية- و ذلك يقدح في حكمته تعالى- و المراد بالآية المقدم ذكرها ظاهرها- و المتكلف لحملها على غيرها سخيف العقل- و يؤكد ذلك قوله تعالى- وَ مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ- أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ- أ فترى الحكيم سبحانه يقول- إن للذهب و الفضة زبدا مثل الجهل و الضلال- و يبين ذلك قوله كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ- فضرب سبحانه الماء الذي يبقى في الأرض- فينتفع به الناس- و الزبد الذي يعلو فوق الماء- فيذهب جفاء مثلا للحق و الباطل- كما صرح به سبحانه فقال- كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَ الْباطِلَ- و لو كانت هذه الآية من باب الكنايات- و قد كنى سبحانه بالأودية عن القلوب- و بالماء الذي أنزله من السماء عن العلم- و بالزبد عن الضلال- لما جعل تعالى هذه الألفاظ أمثالا- فإن الكناية خارجة عن باب المثل- و لهذا لا تقول إن قوله تعالى أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ- من باب المثل- و لهذا أفرد هذا الرجل في كتابه بابا آخر- غير باب الكناية سماه باب المثل- و جعلهما قسمين متغايرين في علم البيان- و الأمر في هذاالموضع واضح- و لكن هذا الرجل كان يحب هذه الترهات- و يذهب وقته فيها- و قد استقصينا في مناقضته و الرد عليه- في كتابنا الذي أشرنا إليه- . فأما قوله ع- كلما نجم منهم قرن قطع فاستعارة حسنة- يريد كلما ظهر منهم قوم استؤصلوا- فعبر عن ذلك بلفظة قرن- كما يقطع قرن الشاة إذا نجم- و قد صح إخباره ع عنهم أنهم لم يهلكوا بأجمعهم- في وقعة النهروان- و أنها دعوة سيدعو إليها قوم لم يخلقوا بعد- و هكذا وقع و صح إخباره ع أيضا- أنه سيكون آخرهم لصوصا سلابين- فإن دعوة الخوارج اضمحلت و رجالها فنيت- حتى أفضى الأمر إلى أن صار خلفهم قطاع طريق- متظاهرين بالفسوق و الفساد في الأرض

مقتل الوليد بن طريف الخارجي و رثاء أخته له

فممن انتهى أمره منهم إلى ذلك- الوليد بن طريف الشيباني- في أيام الرشيد بن المهدي- فأشخص إليه يزيد بن مزيد الشيباني فقتله- و حمل رأسه إلى الرشيد و قالت أخته ترثيه- و تذكر أنه كان من أهل التقى و الدين- على قاعدة شعراء الخوارج و لم يكن الوليد كما زعمت-

أيا شجر الخابور ما لك مورقا
كأنك لم تجزع على ابن طريف‏

فتى لا يحب الزاد إلا من التقى‏
و لا المال إلا من قنا و سيوف‏

و لا الذخر إلا كل جرداء شطبة
و كل رقيق الشفرتين خفيف‏

فقدناك فقدان الربيع و ليتنا
فديناك من ساداتنا بألوف‏

 و قال مسلم بن الوليد يمدح يزيد بن مزيد- و يذكر قتله الوليد-

و المارق ابن طريف قد دلفت له
بعارض للمنايا مسبل هطل‏

لو أن شيئا بكى مما أطاف به‏
فاز الوليد بقدح الناضل الخصل‏

ما كان جمعهم لما لقيتهم
إلا كرجل جراد ريع منجفل‏

فاسلم يزيد فما في الملك من أود
إذا سلمت و لا في الدين من خلل‏

خروج ابن عمرو الخثعمي و أمره مع محمد بن يوسف الطائيثم خرج في أيام المتوكل ابن عمرو الخثعمي بالجزيرة- فقطع الطريق و أخاف السبيل و تسمى بالخلافة- فحاربه أبو سعيد محمد بن يوسف الطائي الثغري الصامتي- فقتل كثيرا من أصحابه- و أسر كثيرا منهم و نجا بنفسه هاربا- فمدحه أبو عبادة البحتري و ذكر ذلك فقال-

كنا نكفر من أمية عصبة
طلبوا الخلافة فجرة و فسوقا

و نلوم طلحة و الزبير كليهما
و نعنف الصديق و الفاروقا

و نقول تيم أقربت و عديها
أمرا بعيدا حيث كان سحيقا

و هم قريش الأبطحون إذا انتموا
طابوا أصولا في العلا و عروقا

حتى غدت جشم بن بكر تبتغي
إرث النبي و تدعيه حقوقا

جاءوا براعيهم ليتخذوا به‏
عمدا إلى قطع الطريق طريقا

عقدوا عمامته برأس قناته
و رأوه برا فاستحال عقوقا

و أقام ينفذ في الجزيرة حكمه‏
و يظن وعد الكاذبين صدوقا

حتى إذا ما الحية الذكر انكفى
من أرزن حربا يمج حريقا

غضبان يلقى الشمس منه بهامة
يعشى العيون تألقا و بروقا

أوفى عليه فظل من دهش
يظن البر بحرا و الفضاء مضيقا

غدرت أمانيه به و تمزقت‏
عنه غيابة سكره تمزيقا

طلعت جيادك من ربا الجودي قد
حملن من دفع المنون وسوقا

فدعا فريقا من سيوفك حتفهم‏
و شددت في عقد الحديد فريقا

و مضى ابن عمرو قد أساء بعمره
ظنا ينزق مهره تنزيقا

فاجتاز دجلة خائضا و كأنها
قعب على باب الكحيل أريقا

لو خاضها عمليق أو عوج إذا
ما جوزت عوجا و لا عمليقا

لو لا اضطراب الخوف في أحشائه‏
رسب العباب به فمات غريقا

لو نفسته الخيل لفتة ناظر
ملأ البلاد زلازلا و فتوقا

لثنى صدور الخيل تكشف كربة
و لوى رماح الخط تفرج ضيقا

و لبكرت بكر و راحت تغلب
في نصر دعوته إليه طروقا

حتى يعود الذئب ليثا ضيغما
و الغصن ساقا و القرارة نيقا

هيهات مارس فليقا متيقظا
قلقا إذا سكن البليد رشيقا

مستسلفا جعل الغبوق صبوحه‏
و مرى صبوح غد فكان غبوقا

 و هذه القصيدة من ناصع شعر البحتري و مختاره

ذكر جماعة ممن كان يرى رأي الخوارج

و قد خرج بعد هذين جماعة من الخوارج بأعمال كرمان- و جماعة أخرى من أهل عمان لا نباهة لهم- و قد ذكرهم أبو إسحاق الصابي في الكتاب التاجي- و كلهم بمعزل عن طرائق سلفهم- و إنما وكدهم و قصدهم إخافة السبيل- و الفساد في الأرض و اكتساب الأموال من غير حلها- و لا حاجة لنا إلى الإطالة بذكرهم- و من المشهورين برأي الخوارج- الذين تم بهم صدق قول أمير المؤمنين ع- إنهم نطف في أصلاب الرجال و قرارات النساء- عكرمة مولى ابن عباس و مالك بن أنس الأصبحي الفقيه- يروى عنه أنه كان يذكر عليا ع و عثمان و طلحة و الزبير- فيقول و الله ما اقتتلوا إلا على الثريد الأعفر- .

و منهم المنذر بن الجارود العبدي- و منهم يزيد بن أبي مسلم مولى الحجاج- . و روي أن الحجاج أتي بامرأة من الخوارج- و بحضرته مولاه يزيد بن أبي مسلم- و كان يستسر برأي الخوارج- فكلم الحجاج المرأة فأعرضت عنه- فقال لها يزيد الأمير ويلك يكلمك- فقالت بل الويل لك أيها الفاسق الردي‏ء- و الردي‏ء عند الخوارج- هو الذي يعلم الحق من قولهم و يكتمه- . و منهم صالح بن عبد الرحمن صاحب ديوان العراق- . و ممن ينسب إلى هذا الرأي من السلف- جابر بن زيد و عمرو بن دينار و مجاهد- . و ممن ينسب إليه بعد هذه الطبقة- أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي- يقال إنه كان يرى رأي الصفرية- .

و منهم اليمان بن رباب و كان على رأي البيهسية- و عبد الله بن يزيد و محمد بن حرب و يحيى بن كامل- و هؤلاء إباضية- . و قد نسب إلى هذا المذهب أيضا من قبل- أبو هارون العبدي و أبو الشعثاء و إسماعيل بن سميع و هبيرة بن بريم- .
و زعم ابن قتيبة أن ابن هبيرة كان من غلاة الشيعة- . و نسب أبو العباس محمد بن يزيد المبرد- إلى رأي الخوارج- لإطنابه في كتاب المعروف ب الكامل في ذكرهم- و ظهور الميل منه إليهم

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 5 

خطبه 58 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

الجزء الخامس

تتمة الخطب و الأوامر

بسم الله الرحمن الرحيم- و الحمد لله رب العالمين- و الصلاة و السلام على خير خلقه محمد و آله أجمعين

58 و قال ع لما عزم على حرب الخوارج- و قيل له إن القوم قد عبروا جسر النهروان

مَصَارِعُهُمْ دُونَ النُّطْفَةِ- وَ اللَّهِ لَا يُفْلِتُ مِنْهُمْ عَشَرَةٌ وَ لَا يَهْلِكُ مِنْكُمْ عَشَرَةٌ قال الرضي رحمه الله يعنى بالنطفة ماء النهر- و هي أفصح كناية عن الماء و إن كان كثيرا جما- و قد أشرنا إلى ذلك فيما تقدم عند مضي ما أشبهه هذا الخبر من الأخبار التي تكاد تكون متواترة- لاشتهاره و نقل الناس كافة له- و هو من معجزاته و أخباره المفصلة عن الغيوب- . و الأخبار على قسمين- أحدهما الأخبار المجملة و لا إعجاز فيها- نحو أن يقول الرجل لأصحابه- إنكم‏ ستنصرون على هذه الفئة التي تلقونها غدا- فإن نصر جعل ذلك حجة له عند أصحابه و سماها معجزة- و إن لم ينصر قال لهم- تغيرت نياتكم و شككتم في قولي فمنعكم الله نصره- و نحو ذلك من القول- و لأنه قد جرت العادة أن الملوك و الرؤساء- يعدون أصحابهم بالظفر و النصر و يمنونهم الدول- فلا يدل وقوع ما يقع من ذلك على إخبار عن غيب- يتضمن إعجاز- .

و القسم الثاني في الأخبار المفصلة عن الغيوب- مثل هذا الخبر- فإنه لا يحتمل التلبيس- لتقييده بالعدد المعين في أصحابه و في الخوارج- و وقوع الأمر بعد الحرب بموجبه- من غير زيادة و لا نقصان- و ذلك أمر إلهي عرفه من جهة رسول الله ص- و عرفه رسول الله ص من جهة الله سبحانه- و القوة البشرية تقصر عن إدراك مثل هذا- و لقد كان له من هذا الباب ما لم يكن لغيره- .

و بمقتضى ما شاهد الناس من معجزاته و أحواله- المنافية لقوى البشر- غلا فيه من غلا- حتى نسب إلى أن الجوهر الإلهي حل في بدنه- كما قالت النصارى في عيسى ع- و قد أخبره النبي ص بذلك-فقال يهلك فيك رجلان محب غال و مبغض قالوقال له تارة أخرى و الذي نفسي بيده- لو لا أني أشفق أن يقول طوائف من أمتي فيك- ما قالت النصارى في ابن مريم- لقلت اليوم فيك مقالا- لا تمر بملإ من الناس- إلا أخذوا التراب من تحت قدميك للبركةذكر الخبر عن ظهور الغلاةو أول من جهر بالغلو في أيامه عبد الله بن سبإ- قام إليه و هو يخطب فقال له- أنت أنت و جعل يكررها- فقال له ويلك من أنا فقال أنت الله- فأمر بأخذه و أخذ قوم كانوا معه على رأيه- .

و روى أبو العباس أحمد بن عبيد الله عن عمار الثقفي عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي عن أبيه و عن غيره من مشيخته أن عليا قال يهلك في رجلان- محب مطر يضعني غير موضعي و يمدحني بما ليس في- و مبغض مفتر يرميني بما أنا منه بري‏ء- . و قال أبو العباس و هذا تأويل الحديث- المروي عن النبي ص فيه- و هوقوله إن فيك مثلا من عيسى ابن مريم- أحبته النصارى فرفعته فوق قدره- و أبغضته اليهود حتى بهتت أمه- .

قال أبو العباس- و قد كان علي عثر على قوم خرجوا من محبته- باستحواذ الشيطان عليهم- إلى أن كفروا بربهم و جحدوا ما جاء به نبيهم- و اتخذوه ربا و إلها- و قالوا أنت خالقنا و رازقنا- فاستتابهم و توعدهم فأقاموا على قولهم- فحفر لهم حفرا دخن عليهم فيها طمعا في رجوعهم- فأبوا فحرقهم بالنارو قال‏

أ لا ترون قد حفرت حفرا
إني إذا رأيت أمرا منكرا
وقدت ناري و دعوت قنبرا

و روى أصحابنا في كتب المقالات- أنه لما حرقهم صاحوا إليه- الآن ظهر لنا ظهورا بينا أنك أنت الإله- لأن ابن عمك الذي أرسلته
قال لا يعذب بالنار إلا رب النار

و روى أبو العباس عن محمد بن سليمان بن حبيب المصيصي عن علي بن محمد النوفلي عن أبيه و مشيخته أن عليا مر بهم و هم يأكلون في شهر رمضان نهارا- فقال أ سفر أم مرضى- قالوا و لا واحدة منهما- قال أ فمن أهل الكتاب أنتم قالوا لا- قال فما بال الأكل في شهر رمضان نهارا- قالوا أنت أنت لم يزيدوه على ذلك- ففهم مرادهم فنزل عن فرسه- فألصق خده بالتراب- ثم قال ويلكم إنما أنا عبد من عبيد الله- فاتقوا الله و ارجعوا إلى الإسلام- فأبوا فدعاهم مرارا فأقاموا على أمرهم- فنهض عنهم ثم قال شدوهم وثاقا- و علي بالفعلة و النار و الحطب- ثم أمر بحفر بئرين فحفرتا- فجعل إحداهما سربا و الأخرى مكشوفة- و ألقى الحطب في المكشوفة و فتح بينهما فتحا- و ألقى النار في الحطب فدخن عليهم- و جعل يهتف بهم و يناشدهم- ارجعوا إلى الإسلام فأبوا فأمر بالحطب و النار- و ألقى عليهم فاحترقوا
فقال الشاعر-

لترم بي المنية حيث شاءت
إذا لم ترم بي في الحفرتين‏

إذا ما حشتا حطبا بنار
فذاك الموت نقدا غير دين‏

 قال فلم يبرح واقفا عليهم حتى صاروا حمما- . قال أبو العباس- ثم إن جماعة من أصحاب علي منهم عبد الله بن عباس- شفعوا في عبد الله بن سبإ خاصة- و قالوا يا أمير المؤمنين إنه قد تاب فاعف عنه- فأطلقه بعد أن اشترط عليه ألا يقيم بالكوفة- فقال أين أذهب قال المدائن فنفاه إلى المدائن-فلما قتل أمير المؤمنين ع أظهر مقالته- و صارت له طائفة و فرقة يصدقونه و يتبعونه- و قال لما بلغه قتل علي- و الله لو جئتمونا بدماغه في سبعين صرة- لعلمنا أنه لم يمت- و لا يموت حتى يسوق العرب بعصاه- فلما بلغ ابن عباس ذلك- قال لو علمنا أنه يرجع لما تزوجنا نساءه- و لا قسمنا ميراثه- . قال أصحاب المقالات- و اجتمع إلى عبد الله بن سبإ بالمدائن جماعة- على هذا القول- منهم عبد الله بن صبرة الهمداني- و عبد الله بن عمرو بن حرب الكندي- و آخرون غيرهما و تفاقم أمرهم- .

و شاع بين الناس قولهم- و صار لهم دعوة يدعون إليها- و شبهة يرجعون إليها و هي ما ظهر و شاع بين الناس- من إخباره بالمغيبات حالا بعد حال- فقالوا إن ذلك لا يمكن أن يكون إلا من الله تعالى- أو ممن حلت ذات الإله في جسده- و لعمري إنه لا يقدر على ذلك- إلا بإقدار الله تعالى إياه عليه- و لكن لا يلزم من إقداره إياه عليه أن يكون هو الإله- أو تكون ذات الإله حالة فيه- و تعلق بعضهم بشبهة ضعيفة- نحو قول عمر و قد فقأ علي عين إنسان ألحد في الحرم- ما أقول في يد الله فقأت عينا في حرم الله- و نحوقول علي و الله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية- بل بقوة إلهيةو نحوقول رسول الله ص لا إله إلا الله وحده- صدق وعده و نصر عبده و هزم الأحزاب وحده- و الذي هزم الأحزاب هو علي بن أبي طالب- لأنه قتل بارعهم و فارسهم عمرا لما اقتحموا الخندق- فأصبحوا صبيحة تلك الليلة هاربين مفلولين- من غير حرب سوى قتل فارسهم- و قد أومأ بعض شعراء الإمامية إلى هذه المقالة- فجعلها من فضائله- و ذلك قوله

إذا كنتم ممن يروم لحاقه
فهلا برزتم نحو عمرو و مرحب‏

و كيف فررتم يوم أحد و خيبر
و يوم حنين مهربا بعد مهرب‏

أ لم تشهدوا يوم الإخاء و بيعة
الغدير و كل حضر غير غيب‏

فكيف غدا صنو النفيلي ويحه
أميرا على صنو النبي المرجب‏

و كيف علا من لا يطأ ثوب أحمد
على من علا من أحمد فوق منكب‏

إمام هدى ردت له الشمس جهرة
فصلى أداء عصره بعد مغرب‏

و من قبله أفنى سليمان خيله‏
رجاء فلم يبلغ بها نيل مطلب‏

يجل عن الأفهام كنه صفاته
و يرجع عنها الذهن رجعة أخيب‏

فليس بيان القول عنه بكاشف‏
غطاء و لا فصل الخطاب بمعرب‏

و حق لقبر ضم أعضاء حيدر
و غودر منه في صفيح مغيب

يكون ثراه سر قدس ممنع
و حصباؤه من نور وحي محجب‏

و تغشاه من نور الإله غمامة
تغاديه من قدس الجلال بصيب‏

و تنقض أسراب النجوم عواكفا
على حجرتيه كوكب بعد كوكب‏

فلولاك لم ينج ابن متى و لا خبا
سعير لإبراهيم بعد تلهب‏

و لا فلق البحر ابن عمران
بالعصا و لا فرت الأحزاب عن أهل يثرب‏

و لا قبلت من عابد صلواته‏
و لا غفر الرحمن زلة مذنب‏

و لم يغل فيك المسلمون جهالة
و لكن لسر في علاك مغيب‏

و قالوا أيضا إن بكريا و شيعيا تجادلا- و احتكما إلى بعض أهل الذمة- ممن لا هوى له مع أحد الرجلين في التفضيل- فأنشدهما

كم بين من شك في عقيدته
و بين من قيل إنه الله‏

طرق الإخبار عن الغيوب

فأما الإخبار عن الغيوب- فلمعترض أن يقول قد يقع الإخبار عن الغيوب- من طريق النجوم- فإن المنجمين قد اتفقوا- على أن شكلا من أشكال الطالع إذا وقع لمولود- اقتضى أن يكون صاحبه متمكنا من الإخبار عن الغيوب- . و قد يقع الإخبار عن الغيوب من الكهان- كما يحكى عن سطيح و شق و سواد بن قارب و غيرهم- .

و قد يقع الإخبار عن الغيوب لأصحاب زجر الطير و البهائم- كما يحكى عن بني لهب في الجاهلية- . و قد يقع الإخبار عن الغيوب للقافة- كما يحكى عن بني مدلج- . و قد يخبر أرباب النيرنجات- و أرباب السحر و الطلسمات بالمغيبات- و قد يقع الإخبار عن الغيوب- لأرباب النفس الناطقة القوية الصافية- التي تتصل مادتها الروحانية- على ما تقوله الفلاسفة- و قد يقع الإخبار عن الغيوب بطريق المنامات الصادقة- على ما رآه أكثر الناس و قد وردت الشريعة نصا به- .

و قد يقع الإخبار عن الغيوب بأمر صناعي يشبه الطبيعي- كما رأيناه عن أبي البيان و ابنه- . و قد يقع الإخبار عن الغيوب- بواسطة إعلام ذلك الغيب إنسانا آخر- لنفسه بنفس ذلك المخبر اتحاد أو كالاتحاد- و ذلك كما يحكي أبو البركات بن ملكا الطبيب- في كتاب المعتبر- قال و المرأة العمياء التي رأيناها ببغداد- و تكررت مشاهدتنا لها منذ مدة مديدة- قدرها ما يقارب ثلاثين سنة- و هي على ذلك إلى الآن تعرض عليها الخبايا- فتدل عليها بأنواعها و أشكالها و مقاديرها- و أعدادها غريبها و مألوفها دقيقهاو جليلها- تجيب على أثر السؤال من غير توقف- و لا استعانة بشي‏ء من الأشياء- إلا أنها كانت تلتمس أن ترى الذي يسأل عنه أبوها- أو يسمعه في بعض الأوقات دون بعض- و عند قوم دون قوم- فيتصور في أمرها أن الذي تقوله بإشارة من أبيها- و كان الذي تقوله يبلغ من الكثرة- إلى ما يزيد على عشرين كلمة- إذا قيل بصريح الكلام الذي هو الطريق الأخصر- و إنما كان أبوها يقول إذا رأى ما يراه من أشياء كثيرة- مختلفة الأنواع و الأشكال في مدة واحدة كلمة واحدة- و أقصاه كلمتان و هي التي يكررها في كل قول- و مع كل ما يسمع و يرى- سلها و سلها تخبرك أو قولي له أو قولي يا صغيرة- .

قال أبو البركات و لقد عاندته يوما- و حاققته في ألا يتكلم البتة- و أريته عدة أشياء- فقال لفظة واحدة فقلت له الشرط أملك- فاغتاظ و احتد طيشه عن أن يملك نفسه- فباح بخبيئته- قال و مثلك يظن أنني أشرت إلى هذا كله بهذه اللفظة- فاسمع الآن ثم التفت إليها- و أخذ يشير بإصبعه إلى شي‏ء و هو يقول تلك الكلمة- و هي تقول هذا كذا و هذا كذا- على الاتصال من غير توقف- و هو يقول تلك الكلمة لا زيادة عليها- و هي لفظة واحدة بلحن واحد و هيئة واحدة- حتى ضجرنا و اشتد تعجبنا- و رأينا أن هذه الإشارة لو كانت تتضمن هذه الأشياء- لكانت أعجب من كل ما تقوله العمياء- .

قال أبو البركات و من عجيب ما شاهدناه من أمرها- أن أباها كان يغلط في شي‏ء يعتقده على خلاف ما هو به- فتخبر هي عنه على معتقد أبيها كان نفسها هي نفسه- . قال أبو البركات- و رأيناها تقول ما لا يعلمه أبوها- من خبيئة في الخبيئة التي اطلع عليها أبوها- فكانت تطلع على ما قد علمه أبوها- و على ما لم يعلمه أبوها و هذا أعجب و أعجب- .

قال أبو البركات و حكاياتها أكثر من أن تعد- و عند كل أحد من الناس من حديثها ما ليس عند الآخر- لأنها كانت تقول من ذلك على الاتصال- لشخص شخص جوابا بحسب السؤال- . قال و ما زلت أقول- إن من يأتي بعدنا لا يصدق ما رأيناه منها- فإن قلت لي أريد- أن تفيدني العلة في معرفة المغيبات هذه- قلت لك العلة التي تصلح في جواب لم- في نسبة المحمول إلى الموضوع- تكون الحد الأوسط في القياس و هذه- فالعلة الفاعلة الموجبة لذلك فيها- هي نفسها بقوتها و خاصتها- فما الذي أقوله في هذا- و هل لي أن أجعل ما ليس بعلة علة- .

و اعلم أنا لا ننكر أن يكون في نوع البشر- أشخاص يخبرون عن الغيوب- و لكن كل ذلك مستند إلى البارئ سبحانه- بإقداره و تمكينه و تهيئة أسبابه- فإن كان المخبر عن الغيوب ممن يدعي النبوة- لم يجز أن يكون ذلك إلا بإذن الله سبحانه و تمكينه- و أن يريد به تعالى استدلال المكلفين- على صدق مدعى النبوة- لأنه لو كان كاذبا- لكان يجوز أن يمكن الله تعالى الجن من تعليمه ذلك- إضلالا للمكلفين- و كذلك لا يجوز أن يمكن سبحانه الكاذب- في ادعاء النبوة من الإخبار عن الغيب- بطريق السحر و تسخير الكواكب و الطلسمات- و لا بالزجر و لا بالقيافة- و لا بغير ذلك من الطرق المذكورة- لما فيه من استفساد البشر و إغوائهم- . و أما إذا لم يكن المخبر عن الغيوب مدعيا للنبوة- نظر في حاله- فإن كان ذلك من الصالحين الأتقياء- نسب ذلك إلى أنه كرامة أظهرها الله تعالى على يده- إبانة له و تمييزامن غيره- كما في حق علي ع- و إن لم يكن كذلك أمكن أن يكون ساحرا أو كاهنا- أو نحو ذلك- . و بالجملة فصاحب هذه الخاصية أفضل- و أشرف ممن لا تكون فيه من حيث اختصاصه بها- فإن كان للإنسان العاري منها مزية أخرى- يختص بها توازيها أو تزيد عليها- فنرجع إلى التمييل و الترجيح بينهما- و إلا فالمختص بهذه الخاصية أرجح- و أعظم من الخالي منها على جميع الأحوال

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 5 

خطبه 57 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(قسمت دوم)

عبد ربه الصغير

و منهم عبد ربه الصغير- أحد موالي قيس بن ثعلبة- . لما اختلفت الخوارج على قطري- بايعه منهم جمع كثير- و كان قطري قد عزم على أن يبايع للمقعطر العبدي- و يخلع نفسه فجعله أمير الجيش في الحرب- قبل أن يعهد إليه بالخلافة فكرهه القوم و أبوه- و قال صالح بن مخراق عنهم و عن نفسه- ابغ لنا غير المقعطر فقال لهم قطري- إني أرى طول العهد قد غيركم و أنتم بصدد عدو- فاتقوا الله و أقبلوا على شأنكم و استعدوا للقاء القوم- فقال صالح إن الناس قبلنا قد سألوا عثمان بن عفان- أن يعزل سعيد بن العاصي عنهم ففعل- و يجب على الإمام أن يعفي الرعية مما كرهت- فأبى قطري أن يعزل المقعطر فقال له القوم- فإنا قد خلعناك و بايعنا عبد ربه الصغير- و كان عبد ربه هذا معلم كتاب- و كان عبد ربه الكبير بائع رمان- و كلاهما من موالي قيس بن ثعلبة- فانفصل إلى عبد ربه الصغير أكثر من شطرهم- و جلهم الموالي و العجم- و كان منهم هناك ثمانية آلاف و هم القراء- ثم ندم صالح بن مخراق و قال لقطري- هذه نفخة من نفخات الشيطان فأعفنا من المقعطر- و سر بنا إلى عدونا و عدوك- فأبى قطري إلا للمقعطر- و حمل فتى من الشراة على صالح بن مخراق- فطعنه فأنفذه و أوجره الرمح- . فنشبت الحرب بينهم فتهايجوا- ثم انحاز كل قوم إلى صاحبهم- فلما كان الغد اجتمعوا فاقتتلوا- فأجلت الحرب عن ألفي قتيل- فلما كان الغد عاودوا الحرب- فلم ينتصف النهار حتى أخرجت العجم العرب عن المدينة-

فأقام عبد ربه بها- و صار قطري خارجا من‏ مدينة جيرفت بإزائهم- فقال له عبيدة بن هلال يا أمير المؤمنين- إن أقمت لم آمن هذه العبيد عليك- إلا أن تخندق على نفسك- فخندق على باب المدينة و جعل يناوشهم- و ارتحل المهلب و كان منهم على ليلة- و رسول الحجاج معه يستحثه فقال له أصلح الله الأمير- عاجلهم قبل أن يصطلحوا- فقال المهلب إنهم لن يصطلحوا- و لكن دعهم فإنهم سيصيرون إلى حال لا يفلحون معها- ثم دس رجلا من أصحابه- فقال ائت عسكر قطري- فقل إني لم أزل أرى قطريا يصيب الرأي- حتى نزل منزله هذا فظهر خطؤه- أ يقيم بين المهلب و عبد ربه- يغاديه القتال هذا و يراوحه هذا- فنمي الكلام إلى قطري- فقال صدق تنحوا بنا عن هذا الموضع- فإن اتبعنا المهلب قاتلناه- و إن أقام على عبد ربه رأيتم فيه ما تحبون- . فقال له الصلت بن مرة يا أمير المؤمنين- إن كنت إنما تريد الله فأقدم على القوم- و إن كنت إنما تريد الدنيا- فأعلم أصحابك حتى يستأمنوا ثم قال-

قل للمحلين قد قرت عيونكم
بفرقة القوم و البغضاء و الهرب‏

كنا أناسا على دين فغيرنا
طول الجدال و خلط الجد باللعب‏

ما كان أغنى رجالا قل جيشهم
عن الجدال و أغناهم عن الخطب‏

إني لأهونكم في الأرض مضطربا
ما لي سوى فرسي و الرمح من نشب‏

ثم قال أصبح المهلب يرجو منا ما كنا نطمع منه فيه- . و ارتحل قطري و بلغ ذلك المهلب- فقال لهزيم بن أبي طحمة المجاشعي- إني لا آمن أن يكون كاذبا بترك موضعه- اذهب فتعرف الخبر- فمضى الهزيم في اثني عشر فارسا- فلم ير في المعسكر إلا عبدا و علجا مريضين- فسألهما عن قطري و أصحابه- فقالا مضوا يرتادون غير هذا المنزل- فرجع هزيم إلى المهلب فأخبره- فارتحل حتى نزل خندق قطري- فجعل يقاتل عبد ربه أحيانا بالغداة و أحيانا بالعشي- فقال رجل من سدوس يقال له المعتق و كان فارسا-

ليت الحرائر بالعراق شهدننا
و رأيننا بالسفح ذي الأجبال‏

فنكحن أهل الجد من فرساننا
و الضاربين جماجم الأبطال‏

و وجه المهلب يزيد ابنه إلى الحجاج- يخبره بأنه قد نزل منزل قطري- و أنه مقيم على عبد ربه- و يسأله أن يوجه في أثر قطري رجلا جلدا- فسر بذلك الحجاج سرورا أظهره- ثم كتب إلى المهلب يستحثه لمناجزة القوم مع عبيد بن موهب- . أما بعد فإنك تتراخى عن الحرب- حتى تأتيك رسلي فيرجعون بعذرك- و ذلك أنك تمسك حتى تبرأ الجراح- و تنسى القتلى و تحمل الكال ثم تلقاهم- فتحمل منهم ثقل ما يحتملون منك من وحشة القتل- و ألم الجراح- و لو كنت تلقاهم بذلك الجد- لكان الداء قد حسم و القرن قد قصم- و لعمري ما أنت و القوم سواء- لأن من ورائك رجالا و أمامك أموالا- و ليس للقوم إلا ما نعهد- و لا يدرك الوجيف بالدبيب- و لا الظفر بالتعذير- . فلما ورد عليه الكتاب قال لأصحابه- يا قوم إن الله قد أراحكم من أمور أربعة- قطري بن الفجاءة و صالح بن مخراق- و عبيدة بن هلال و سعد بن الطلائع- و إنما بين أيديكم عبد ربه الصغير في خشار من خشار الشيطان- تقتلونهم إن شاء الله تعالى- .

فكانوا يتغادون القتال و يتراوحون- فتصيبهم الجراح ثم يتحاجزون- فكأنما انصرفوا عن مجلس كانوا يتحدثون فيه- يضحك بعضهم إلى بعض- فقال عبيد بن موهب للمهلب قد بان عذرك- فاكتب فإني مخبر الأمير- . فكتب إلى الحجاج- أما بعد فإني لم أعط رسلك على قول الحق أجرا- و لم أحتج منهم عن المشاهدة إلى تلقين- ذكرت إني أجم القوم- و لا بد من وقت راحة يستريح فيه الغالب- و يحتال فيه المغلوب- و ذكرت أن في الجمام ما ينسي القتلى و تبرأ منه الجراح- هيهات أن ينسى ما بيننا و بينهم- تأبى ذلك قتلى لم تجن- و قروح لم تتقرب و نحن و القوم على حالة- و هم يرقبون منا حالات- إن طمعوا حاربوا و إن ملوا وقفوا- و إن يئسوا انصرفوا و علينا أن نقاتلهم إذا قاتلوا- و نتحرز إذا وقفوا و نطلب إذا هربوا- فإن تركتني و الرأي كان القرن مقصوما- و الداء بإذن الله محسوما- و إن أعجلتني لم أطعك و لم أعصك- و جعلت وجهي إلى بابك- و أعوذ بالله من سخط الله و مقت الناس- . قال و لما اشتد الحصار على عبد ربه قال لأصحابه- لا تفتقروا إلى من ذهب عنكم من الرجال- فإن المسلم لا يفتقر مع الإسلام إلى غيره- و المسلم إذا صح توحيده عز بربه- و قد أراحكم الله من غلظة قطري- و عجلة صالح بن مخراق و نخوته و اختلاط عبيدة بن هلال- و وكلكم إلى بصائركم- فالقوا عدوكم بصبر و نية و انتقلوا عن منزلكم هذا- فمن قتل منكم قتل شهيدا- و من سلم من القتل فهو المحروم- .

قال- و ورد في ذلك الوقت على المهلب- عبيد بن أبي ربيعة بن أبي الصلت الثقفي من عند الحجاج- يستحثه بالقتال و معه أمينان- فقال للمهلب خالفت وصية الأمير و آثرت المدافعة و المطاولة- فقال له المهلب و الله ما تركت جهدا- . فلما كان العشي خرجت الأزارقة- و قد حملوا حريمهم و أموالهم و خف متاعهم لينتقلوا- فقال المهلب لأصحابه الزموا مصافكم- و أشرعوا رماحكم و دعوهم و الذهاب- فقال له عبيدة بن أبي ربيعة هذا لعمري أيسر عليك- فغضب و قال للناس ردوهم عن وجههم- و قال لبنيه تفرقوا في الناس- و قال لعبيدة بن أبي ربيعة كن مع يزيد- فخذه بالمحاربة أشد الأخذ- و قال لأحد الأمينين كن مع المغيرة- و لا ترخص له في الفتور- . فاقتتلوا قتالا شديدا حتى عقرت الخيل- و صرع الفرسان و قتلت الرجالة- و جعلت الخوارج تقاتل عن القدح يؤخذ منها- و السوط و العلف و الحشيش أشد قتال- . و سقط رمح لرجل من مراد من الخوارج- فقاتلوا عليه حتى كثر الجراح و القتل- و ذلك مع المغرب و المرادي يرتجز و يقول-

الليل ليل فيه ويل ويل
قد سال بالقوم الشراة السيل‏
إن جاز للأعداء فينا قول‏

فلما عظم الخطب في ذلك الرمح- بعث المهلب إلى المغيرة- خل لهم عن الرمح عليهم لعنة الله- فخلوا لهم عنه و مضت الخوارج- فنزلت على أربعة فراسخ من جيرفت فدخلها المهلب- و أمر بجمع ما كان لهم من متاع و ما خلفوه من دقيق- و جثم عليه و هو و الثقفي و الأمينان- ثم اتبعهم فوجدهم قد نزلوا على ماء و عين- لا يشرب منها أحد إلا قوي- يأتي الرجل بالدلو قد شدها في طرف رمحه فيستقي بها- و هناك قرية فيها أهلها فغاداهم القتال- و ضم الثقفي إلى ابنه يزيد و أحد الأمينين إلى المغيرة- فاقتتل القوم إلى نصف النهار- . و قال المهلب لأبي علقمة العبدي و كان شجاعا- و كان عاتيا هازلا أمددنا يا أبا علقمة بخيل اليحمد- و قل لهم فليعيرونا جماجمهم ساعة- فقال أيها الأمير إن جماجمهم ليست بفخار فتعار- و لا أعناقهم كرادي فتنبت- . و قال لحبيب بن أوس كر على القوم فلم يفعل و قال-

يقول لي الأمير بغير علم
تقدم حين جد به المراس‏

فما لي إن أطعتك من حياة
و ما لي غير هذا الرأس رأس‏

و قال لمعن بن المغيرة بن أبي صفرة احمل فقال- لا إلا أن تزوجني ابنتك أم مالك- فقال قد زوجتك فحمل على الخوارج فكشفهم و طعن فيهم- و قال

ليت من يشتري الحياة بمال
ملكة كان عندنا فيرانا

نصل الكر عند ذاك بطعن
إن للموت عندنا ألوانا

 قوله ملكة أي تزويجا و نكاحا- . قال ثم جال الناس جولة عند حملة حملها عليهم الخوارج- فالتفت المهلب فقال للمغيرة ابنه- ما فعل الأمين الذي كان معك- قال قتل و هرب الثقفي- فقال ليزيد ما فعل عبيد بن أبي ربيعة- قال لم أره منذ كانت الجولة- فقال الأمين الآخر للمغيرة أنت قتلت صاحبي- فلما كان العشي رجع الثقفي- فقال رجل من بني عامر بن صعصعة-

ما زلت يا ثقفي تخطب بيننا
و تغمنا بوصية الحجاج‏

حتى إذا ما الموت أقبل زاخرا
و سقى لنا صرفا بغير مزاج‏

وليت يا ثقفي غير مناظر
تنساب بين أحزة و فجاج‏

ليست مقارعة الكماة لدى الوغى‏
شرب المدامة في إناء زجاج‏

فقال المهلب للأمين الآخر- ينبغي أن تتوجه مع ابني حبيب في ألف رجل- حتى تبيتوا عسكرهم فقال- ما تريد أيها الأمير إلا أن تقتلني كما فعلت بصاحبي- فضحك المهلب و قال ذاك إليك و لم يكن للقوم خنادق- فكان كل حذرا من صاحبه- غير أن الطعام و العدة مع المهلب- و هو في زهاء ثلاثين ألفا- فلما أصبح أشرف على واد- فإذا هو برجل معه رمح مكسور مخضوب بالدم و هو ينشد-

و إني لأعفي ذا الخمار و صنعتي
إذا راح أطواء بني الأصاغر

أخادعهم عنه ليغبق دونهم
و أعلم غير الظن أني مغاور

كأني و أبدان السلاح عشية
يمر بنا في بطن فيحان طائر

 فقال له أ تميمي أنت قال نعم قال أ حنظلي قال نعم- قال أ يربوعي قال نعم قال أ من آل نويرة قال نعم- أنا ولد مالك بن نويرة قال قد عرفتك بالشعر- . قال أبو العباس و ذو الخمار فرس مالك بن نويرة- . قال فمكثوا أياما يتحاربون و دوابهم مسرجة- و لا خنادق لهم حتى ضعف الفريقان- فلما كان الليلة التي قتل في صبيحتها عبد ربه- جمع أصحابه فقال يا معشر المهاجرين- إن قطريا و عبيدة هربا طلبا للبقاء- و لا سبيل إلى البقاء فالقوا عدوكم غدا- فإن غلبوكم على الحياة فلا يغلبنكم على الموت- فتلقوا الرماح بنحوركم و السيوف بوجوهكم- و هبوا أنفسكم لله في الدنيا يهبها لكم في الآخرة- . فلما أصبحوا غادوا المهلب- فاقتتلوا قتالا شديدا أنسى ما كان قبله- و قال رجل من الأزد من أصحاب المهلب- من يبايعني على الموت فبايعه أربعون رجلا من الأزد- فصرع بعضهم و قتل بعضهم و جرح بعضهم- .
و قال عبد الله بن رزام الحارثي للمهلب احملوا- فقال المهلب أعرابي مجنون- و كان من أهل نجران فحمل وحده- فاخترق القوم حتى خرج من ناحية أخرى- ثم كر ثانية ففعل فعلته الأولى و تهايج الناس- فترجلت الخوارج و عقروا دوابهم- فناداهم عمرو القنا- و لم يترجل هو و لا أصحابه و هم زهاء أربعمائة فقال- موتوا على ظهور دوابكم كراما و لا تعقروها فقالوا- إنا إذا كنا على الدواب ذكرنا الفرار فاقتتلوا- و نادى المهلب بأصحابه الأرض الأرض- و قال لبنيه تفرقوا في الناس ليروا وجوهكم- و نادت الخوارج ألا إن العيال لمن غلب- فصبر بنو المهلب- و قاتل يزيد بين يدي أبيه قتالا شديدا أبلى فيه-

فقال له أبوه يا بني- إني أرى موطنا لا ينجو فيه إلا من صبر- و ما مر بي يوم مثل هذا منذ مارست الحروب- . و كسرت الخوارج أجفان سيوفها و تجاولوا- فأجلت جولتهم عن عبد ربه مقتولا- . فهرب عمرو القنا و أصحابه و استأمن قوم- و أجلت الحرب عن أربعة آلاف- قتيل و جريح من الخوارج و مأسور- و أمر المهلب أن يدفع كل جريح إلى عشيرته- و ظفر بعسكرهم فحوى ما فيه ثم انصرف إلى جيرفت- فقال الحمد لله الذي ردنا إلى الخفض و الدعة- فما كان عيشنا ذلك العيش- . ثم نظر المهلب إلى قوم في عسكره و لم يعرفهم فقال- ما أشد عادة السلاح ناولني درعي فلبسها ثم قال- خذوا هؤلاء فلما صيرهم إليه قال ما أنتم قالوا- جئنا لنطلب غرتك للفتك بك فأمر بهم فقتلوا

طرف من أخبار المهلب و بينه

و وجه كعب بن معدان الأشقري و مرة بن بليد الأزدي- فوردا على الحجاج فلما طلعا عليه تقدم كعب فأنشده-يا حفص إني عداني عنكم السفر فقال الحجاج أ شاعر أم خطيب قال شاعر- فأنشده القصيدة فأقبل عليه الحجاج و قال- خبرني عن بني المهلب قال المغيرة سيدهم و فارسهم- و كفى بيزيد فارسا شجاعا و جوادهم و سخيهم قبيصة- و لا يستحي الشجاع أن يفر من مدرك- و عبد الملك سم ناقع و حبيب موت ذعاف- و محمد ليث غاب و كفاك بالفضل نجدة- فقال له فكيف خلفت جماعة الناس قال خلفتهم بخير- قد أدركوا ما أملوا و أمنوا ما خافوا قال- فكيف كان بنو المهلب فيهم قال- كانوا حماة السرح فإذا أليلوا ففرسان البيات-

قال فأيهم كان أنجد قال كانوا كالحلقة المفرغة- لا يدرى أين طرفاها- قال فكيف كنتم أنتم و عدوكم قال- كنا إذا أخذنا عفونا و إذا أخذوا يئسنا منهم- و إذا اجتهدنا و اجتهدوا طمعنا فيهم- قال الحجاج إن العاقبة للمتقين فكيف أفلتكم قطري- قال كدناه و ظن أن قد كادنا بأن صرنا منه إلى التي نحب- قال فهلا اتبعتموه قال- كان حرب الحاضر آثر عندنا من اتباع الفل- قال فكيف كان المهلب لكم و كنتم له- قال كان لنا منه شفقة الوالد و له منا بر الولد- قال فكيف كان اغتباط الناس به- قال نشأ فيهم الأمن و شملهم النفل- قال أ كنت أعددت لي هذا الجواب قال- لا يعلم الغيب إلا الله قال هكذا و الله تكون الرجال- المهلب كان أعلم بذلك حيث بعثك- . هذه رواية أبي العباس- . و روى أبو الفرج في الأغاني- أن كعبا لما أوفده المهلب إلى الحجاج- أنشده قصيدته التي أولها-

يا حفص إني عداني عنكم السفر
و قد سهرت و آذى عيني السهر

 يذكر فيها حروب المهلب مع الخوارج- و يصف وقائعه فيهم في بلد و هي طويلة و من جملتها-

كنا نهون قبل اليوم شأنهم
حتى تفاقم أمر كان يحتقر

لما وهنا و قد حلوا بساحتنا
و استنفر الناس تارات فما نفروا

نادى امرؤ لا خلاف في عشيرته
عنه و ليس به عن مثله قصر

خبوا كمينهم بالسفح إذ نزلوا
بكازرون فما عزوا و لا نصروا

باتت كتائبنا تردي مسمومة
حول المهلب حتى نور القمر

هناك ولوا خزايا بعد ما هزموا
و حال دونهم الأنهار و الجدر

تأبى علينا حزازات النفوس فما
نبقي عليهم و لا يبقون إن قدروا

فضحك الحجاج و قال إنك لمنصف يا كعب- ثم قال له كيف كانت حالكم مع عدوكم- قال كنا إذا لقيناهم بعفونا و عفوهم يئسنا منهم- و إذا لقيناهم بجدنا وجدهم طمعنا فيهم- قال فكيف كان بنو المهلب قال- حماة الحريم نهارا و فرسان الليل تيقظا- قال فأين السماع من العيان قال السماع دون العيان- قال‏صفهم لي رجلا رجلا قال- المغيرة فارسهم و سيدهم نار ذاكية و صعدة عالية- و كفى بيزيد فارسا شجاعا ليث غاب و بحر جم العباب- و جوادهم قبيصة ليث المغار و حامي الذمار- و لا يستحي الشجاع أن يفر من مدرك و كيف لا يفر من مدرك- و كيف لا يفر من الموت الحاضر و الأسد الخادر- و عبد الملك سم ناقع و سيف قاطع- و حبيب الموت الذعاف طود شامخ و بحر باذح- و أبو عيينة البطل الهمام و السيف الحسام- و كفاك بالمفضل نجدة ليث هدار و بحر مواز- و محمد ليث غاب و حسام ضراب- قال فأيهم أفضل- قال هم كالحلقة المفرغة لا يعرف طرفاها- قال فكيف جماعة الناس قال- على أحسن حال أرضاهم العدل و أغناهم النفل- قال فكيف رضاهم بالمهلب قال- أحسن رضا لا يعدمون منه إشفاق الوالد- و لا يعدم منهم بر الولد و ذكر تمام الحديث- .

و قال إن الحجاج أمر له بعشرين ألف درهم- و حمله على فرس و أوفده على عبد الملك- فأمر له بعشرين ألفا أخرى- . قال أبو الفرج- و كعب الأشقري من شعراء المهلب و مادحيه- و هو شاعر مجيد- قال عبد الملك بن مروان للشعراء- تشبهونني مرة بالأسد و مرة بالبازي- ألا قلتم كما قال كعب الأشقري للمهلب و ولده-

براك الله حين براك بحرا
و فجر منك أنهارا غزارا

بنوك السابقون إلى المعالي
إذا ما أعظم الناس الخطارا

كأنهم نجوم حول بدر
تكمل إذ تكمل فاستدارا

ملوك ينزلون بكل ثغر
إذا ما الهام يوم الروع طارا

رزان في الخطوب ترى عليهم‏
من الشيخ الشمائل و النجارا

نجوم يهتدى بهم إذا ما
أخو الغمرات في الظلماء حارا

قال أبو الفرج و هذا الشعر من قصيدة لكعب- يمدح بها المهلب و يذكر الخوارج و منها-

سلوا أهل الأباطح من قريش
عن المجد المؤثل أين صارا

لقوم الأزد في الغمرات أمضى
و أوفى ذمة و أعز جارا

هم قادوا الجياد على وجاها
من الأمصار يقذفن المهارا

إلى كرمان يحملن المنايا
بكل ثنية يوقدن نارا

شوازب ما أصبنا الثار حتى‏
رددناها مكلمة مرارا

غداة تركن مصرع عبد رب
نثرن عليه من رهج غبارا

و يوم الزحف بالأهواز ظلنا
نروي منهم الأسل الحرارا

فقرت أعين كانت حزينا
قليلا نومها إلا غرارا

و لو لا الشيخ بالمصرين ينفي‏
عدوهم لقد نزلوا الديارا

و لكن قارع الأبطال حتى
أصابوا الأمن و احتلوا القرارا

إذا وهنوا و حل بهم عظيم
يدق العظم كان لهم جبارا

و مبهمة يحيد الناس عنها
تشب الموت شد لها إزارا

شهاب تنجلي الظلماء عنه
يرى في كل مظلمة منارا

براك الله حين براك بحرا
و فجر منك أنهارا غزارا

 الأبيات المتقدمة- . قال أبو الفرج و حدثني محمد بن خلف وكيع بإسناد ذكره- أن الحجاج لما كتب إلى المهلب- يأمره بمناجزة الخوارج حينئذ و يستبطئه و يضعفه- و يعجزه من تأخيره أمرهم و مطاولته لهم- قال المهلب لرسوله قل له- إنما البلاء أن يكون الأمر لمن يملكه لا لمن يعرفه- فإن كنت نصبتني لحرب هؤلاء القوم- على أن أدبرها كما أرى فإذا أمكنتني فرصة انتهزتها- و إن لم تمكني توقفت فأنا أدبر ذلك بما يصلحه- و إن أردت أن أعمل برأيك و أنا حاضر و أنت غائب- فإن كان صوابا فلك و إن كان خطأ فعلي- فابعث من رأيت مكاني- و كتب من فوره بذلك إلى عبد الملك- فكتب عبد الملك إلى الحجاج- لا تعارض المهلب فيما يراه و لا تعجله و دعه يدبر أمره- . قال و قام كعب الأشقري إلى المهلب- فأنشده بحضرة رسول الحجاج-

إن ابن يوسف غره من أمركم
خفض المقام بجانب الأمصار

لو شهد الصفين حيث تلاقيا
ضاقت عليه رحيبة الأقطار

من أرض سابور الجنود و خيلنا
مثل القداح بريتها بشفار

من كل صنديد يرى بلبانه
وقع الظبات مع القنا الخطار

لرأى معاودة الرباع غنيمة
أزمان كان محالف الإقتار

فدع الحروب لشيبها و شبابها
و عليك كل غريرة معطار

 فبلغت أبياته الحجاج- فكتب إلى المهلب يأمره بإشخاص كعب الأشقري إليه- فأعلم المهلب كعبا بذلك- و أوفده إلى عبد الملك من ليلته- و كتب إليه يستوهبه منه- فقدم كعب على عبد الملك برسالة المهلب- فاستنطقه فأعجبه و أوفده إلى الحجاج- و كتب إليه يقسم عليه أن يصفح- و يعفو عما بلغه من شعره فلما دخل قال إيه يا كعب-

لرأي معاودة الرباع غنيمة

فقال أيها الأمير- و الله لوددت في بعض ما شاهدته من تلك الحروب- و ما أوردناه المهلب من خطرها- أن أنجو منها و أكون حجاما أو حائكا قال أولى لك- لو لا قسم أمير المؤمنين ما نفعك ما تقول- الحق بصاحبك و رده إلى المهلب- . قال أبو العباس و كان كتاب المهلب إلى الحجاج- الذي بشره فيه بالظفر و النصر- بسم الله الرحمن الرحيم- الحمد لله الكافي بالإسلام فقد ما سواه- الحاكم بألا ينقطع المزيد من فضله- حتى ينقطع الشكر من عباده أما بعد-فقد كان من أمرنا ما قد بلغك- و كنا نحن و عدونا على حالين مختلفين- يسرنا منهم أكثر مما يسوءنا- و يسوءهم منا أكثر مما يسرهم على اشتداد شوكتهم- فقد كان علا أمرهم حتى ارتاعت له الفتاة- و نوم به الرضيع- فانتهزت الفرصة منهم في وقت إمكانها- و أدنيت السواد من السواد حتى تعارفت الوجوه- فلم نزل كذلك حتى بلغ الكتاب أجله- فقطع دابر القوم الذين ظلموا- و الحمد لله رب العالمين- .

فكتب إليه الحجاج- أما بعد فقد فعل الله بالمسلمين خيرا- و أراحهم من بأس الجلاد و ثقل الجهاد- و لقد كنت أعلم بما قبلك- فالحمد لله رب العالمين- فإذا ورد عليك كتابي فأقسم في المجاهدين فيئهم- و نفل الناس على قدر بلائهم- و فضل من رأيت تفضيله- و إن كانت بقيت من القوم بقية- فخلف خيلا تقوم بإزائهم- و استعمل على كرمان من رأيت- و ول الخيل شهما من ولدك- و لا ترخص لأحد في اللحاق بمنزلة دون أن تقدم بهم علي- و عجل القدوم إن شاء الله- . فولى المهلب يزيد ابنه كرمان و قال له يا بني- إنك اليوم لست كما كنت- إنما لك من كرمان ما فضل عن الحجاج- و لن تحتمل إلا على ما احتمل عليه أبوك- فأحسن إلى من تبعك- و إن أنكرت من إنسان شيئا فوجه إلي- و تفضل على قومك إن شاء الله- .ثم قدم المهلب على الحجاج فأجلسه إلى جانبه- و أظهر بره و إكرامه و قال يا أهل العراق- أنتم عبيد قن للمهلب- ثم قال أنت و الله كما لقيط-

فقلدوا أمركم لله دركم
رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا

لا يطعم النوم إلا ريث يبعثه‏
هم يكاد حشاه يقصم الضلعا

لا مترفا إن رخاء العيش ساعده
و لا إذا عض مكروه به خشعا

ما زال يحلب هذا الدهر أشطره‏
يكون متبعا طورا و متبعا

حتى استمرت على شرر مريرته
مستحكم الرأي لا قحما و لا ضرعا

 و روى أنه قام إليه رجل فقال أصلح الله الأمير- و الله لكأني أسمع الساعة قطريا و هو يقول لأصحابه- المهلب و الله كما قال لقيط الأيادي ثم أنشد هذا الشعر- فسر الحجاج حتى امتلأ سرورا- فقال المهلب أما و الله ما كنا أشد من عدونا و لا أحد- و لكن دمغ الحق الباطل- و قهرت الجماعة الفتنة و العاقبة للمتقين- و كان ما كرهناه من المطاولة خيرا لنا- مما أحببناه من المعاجلة- .

فقال الحجاج صدقت- اذكر لي القوم الذين أبلوا و صف لي بلاءهم- فأمر الناس فكتبوا ذلك إلى الحجاج- فقال لهم المهلب ما ذخر الله لكم خير لكم- من عاجل الدنيا إن شاء الله- فذكرهم المهلب على مراتبهم في البلاء- و تفاضلهم في الغناء و قدم بنيه- المغيرة و يزيد و مدركا و حبيبا- و قبيصة و المفضل و عبد الملك و محمدا- و قال و الله لو واحد يقدمهم في البلاء لقدمته عليهم- و لو لا أن أظلمهم لآخرتهم- فقال الحجاج صدقت و ما أنت أعلم بهم مني- و إن حضرت و غبت إنهم لسيوف من سيوف الله- ثم ذكر معن بن المغيرة و الرقاد و أشباههما- . فقال الحجاج من الرقاد- فدخل رجل طويل أجنأ- فقال المهلب هذا فارس العرب- فقال الرقاد للحجاج أيها الأمير- إني كنت أقاتل مع غير المهلب فكنت كبعض الناس- فلما صرت مع من يلزمني الصبر- و يجعلني أسوة نفسه و ولده و يجازيني على البلاء- صرت أنا و أصحابي فرسانا- . فأمر الحجاج بتفضيل قوم على قوم على قدر بلائهم- و زاد ولد المهلب ألفين ألفين- و فعل بالرقاد و بجماعة شبيها بذلك- . و قال يزيد بن حبناء من الأزارقة-

دعي اللوم إن العيش ليس بدائم
و لا تعجلي باللوم يا أم عاصم‏

فإن عجلت منك الملامة فاسمعي‏
مقالة معني بحقك عالم‏

و لا تعذلينا في الهدية إنما
تكون الهدايا من فضول المغانم‏

و ليس بمهد من يكون نهاره
جلادا و يمسي ليله غير نائم‏

يريد ثواب الله يوما بطعنه‏
غموس كشدق العنبري بن سالم‏

أبيت و سربالي دلاص حصينة
و مغفرها و السيف فوق الحيازم‏

حلفت برب الواقفين عشية
لدى عرفات حلفة غير آثم‏

لقد كان في القوم الذين لقيتهم
بسابور شغل عن بزوز اللطائم‏

توقد في أيديهم زاعبية
و مرهفة تفري شئون الجماجم‏

و قال المغيرة الحنظلي من أصحاب المهلب-

إني امرؤ كفني ربي و أكرمني
عن الأمور التي في غبها وخم‏

و إنما أنا إنسان أعيش كما
عاشت رجال و عاشت قبلها أمم‏

ما عاقني عن قفول الجند إذ قفلوا
عي بما صنعوا حولي و لا صمم‏

و لو أردت قفولا ما تجهمني‏
إذن الأمير و لا الكتاب إذ رقموا

إن المهلب إن أشتق لرؤيته
أو أمتدحه فإن الناس قد علموا

أنه الأريب الذي ترجى نوافله‏
و المستنير الذي تجلى به الظلم‏

و القائل الفاعل الميمون طائره
أبو سعيد إذا ما عدت النعم‏

أزمان كرمان إذ غص الحديد بهم‏
و إذ تمنى رجال أنهم هزموا

و قال حبيب بن عوف من قواد المهلب-

أبا سعيد جزاك الله صالحة
فقد كفيت و لم تعنف على أحد

داويت بالحلم أهل الجهل فانقمعوا
و كنت كالوالد الحاني على الولد

و قال عبيدة بن هلال الخارجي يذكر رجلا من أصحابه-

يهوي فترفعه الرماح كأنه
شلو تنشب في مخالب ضار

يهوي صريعا و الرماح تنوشه‏
إن الشراة قصيرة الأعمار

شبيب بن يزيد الشيباني

و منهم شبيب بن يزيد الشيباني- و كان في ابتداء أمره يصحب صالح بن مسرح- أحد الخوارج الصفرية- و كان ناسكا مصفر الوجه صاحب عبادة- و له أصحاب يقرئهم القرآن و يفقههم و يقص عليهم- و يقدم الكوفة فيقيم بها الشهر و الشهرين- و كان بأرض الموصل و الجزيرة- و كان إذا فرغ من التحميد و الصلاة على النبي ص- ذكر أبا بكر فأثنى عليه و ثنى بعمر- ثم ذكر عثمان و ما كان من أحداثه- ثم عليا ع و تحكيمه الرجال في دين الله- و يتبرأ من عثمان و علي- ثم‏ يدعو إلى مجاهدة أئمة الضلال و قال- تيسروا يا إخواني للخروج من دار الفناء إلى دار البقاء- و اللحاق بإخواننا المؤمنين- الذين باعوا الدنيا بالآخرة- و لا تجزعوا من القتل في الله- فإن القتل أيسر من الموت و الموت نازل بكم- مفرق بينكم و بين آبائكم و إخوانكم- و أبنائكم و حلائلكم و دنياكم- و إن اشتد لذلك جزعكم- ألا فبيعوا أنفسكم طائعين و أموالكم تدخلوا الجنة- و أشباه هذا من الكلام- .

و كان فيمن يحضره من أهل الكوفة سويد و البطين- فقال يوما لأصحابه ما ذا تنتظرون- ما يزيد أئمة الجور إلا عتوا و علوا- و تباعدا من الحق و جراءة على الرب- فراسلوا إخوانكم حتى يأتوكم- و ننظر في أمورنا ما نحن صانعون- و أي وقت إن خرجنا نحن خارجون- . فبينا هو كذلك- إذ أتاه المحلل بن وائل بكتاب من شبيب بن يزيد- و قد كتب إلى صالح- أما بعد فقد أردت الشخوص- و قد كنت دعوتني إلى أمر أستجيب لك- فإن كان ذلك من شأنك- فإنك شيخ المسلمين- و لم يعدل بك منا أحد- و إن أردت تأخير ذلك أعلمني- فإن الآجال غادية و رائحة- و لا آمن أن تخترمني المنية- و لما أجاهد الظالمين فيا له غبنا و يا له فضلا- جعلنا الله و إياكم ممن يريد الله بعلمه- و رضوانه و النظر إلى وجهه- و مرافقة الصالحين في دار السلام و السلام عليك- .

فأجابه صالح بجواب جميل يقول فيه- إنه لم يمنعني من الخروج- مع ما أنا فيه من الاستعداد إلا انتظارك- فأقدم علينا ثم اخرج بنا- فإنك ممن لا تقضى الأمور دونه و السلام عليك- . فلما ورد كتابه على شبيب- دعا القراء من أصحابه فجمعهم إليه- منهم أخوه مصاد بن يزيد و المحلل بن وائل- و الصقر بن حاتم و إبراهيم بن حجر و جماعة مثلهم- ثم خرج حتى قدم على صالح بن مسرح- و هو بدارات أرض الموصل- فبث صالح رسله و واعدهم بالخروج- في هلال صفر ليلة الأربعاء سنة ست و تسعين- . فاجتمع بعضهم إلى بعض- و اجتمعوا عنده تلك الليلة- فحدث فروة بن لقيط قال- إني لمعهم تلك الليلة عند صالح- و كان رأيي استعراض الناس- لما رأيت من المكر و الفساد في الأرض فقمت إليه- فقلت يا أمير المؤمنين كيف ترى السيرة في هؤلاء الظلمة- أ نقتلهم قبل الدعاء أم ندعوهم قبل القتال- فإني أخبرك برأيي فيهم قبل أن تخبرني بذلك- إنا نخرج على قوم طاغين- قد تركوا أمر الله أو راضين بذلك- فأرى أن نضع السيف فقال لا بل ندعوهم- و لعمري لا يجيبك إلا من يرى رأيك- و ليقاتلنك من يزري عليك و الدعاء أقطع لحجتهم- و أبلغ في الحجة عليهم لك- فقلت‏ و كيف ترى فيمن قاتلنا فظفرنا به- و ما تقول في دمائهم و أموالهم فقال- إن قتلنا و غنمنا فلنا- و إن تجاوزنا و عفونا فموسع علينا- . ثم قال صالح لأصحابه ليلته تلك- اتقوا الله عباد الله- و لا تعجلوا إلى قتال أحد من الناس- إلا أن يكونوا قوما يريدونكم و ينصبون لكم- فإنكم إنما خرجتم غضبا لله حيث انتهكت محارمه- و عصي في الأرض و سفكت الدماء بغير حقها- و أخذت الأموال غصبا- فلا تعيبوا على قوم أعمالا ثم تعملونها- فإن كل ما أنتم عاملون أنتم عنه مسئولون- و إن عظمكم رجالة- و هذه دواب لمحمد بن مروان في هذا الرستاق- و ابدءوا بها فاحملوا عليها راجلكم- و تقووا بها على عدوكم- .

ففعلوا ذلك و تحصن منهم أهل دارا- . و بلغ خبرهم محمد بن مروان و هو يومئذ أمير الجزيرة- فاستخف بأمرهم- و بعث إليهم عدي بن عميرة في خمسمائة- و كان صالح في مائة و عشرة- فقال عدي أصلح الله‏ الأمير- تبعثني إلى رأس الخوارج منذ عشرين سنة- و معه رجال سموا لي كانوا يعازوننا- و إن الرجل منهم خير من مائة فارس في خمسمائة- فقال له إني أزيدك خمسمائة فسر إليهم في ألف فارس- . فسار من حران في ألف رجل و كأنما يساقون إلى الموت- و كان عدي رجلا ناسكا- فلما نزل دوغان نزل بالناس- و أنفذ إلى صالح بن مسرح رجلا دسه إليه فقال- إن عديا بعثني إليك يسألك أن تخرج عن هذا البلد- و تأتي بلدا آخر فتقاتل أهله فإني للقتال كاره- فقال له صالح ارجع إليه فقل له إن كنت ترى رأينا- فأرنا من ذلك ما نعرف ثم نحن مدلجون عنك- و إن كنت على رأي الجبابرة و أئمة السوء رأينا رأينا- فإما بدأنا بك و إلا رحلنا إلى غيرك- .

فانصرف إليه الرسول فأبلغه فقال له عدي- ارجع إليه فقل له إني و الله لا أرى رأيك- و لكني أكره قتالك و قتال غيرك من المسلمين- . فقال صالح لأصحابه اركبوا فركبوا و احتبس الرجل عنده- و مضى بأصحابه حتى أتى عديا في سوق دوغان- و هو قائم يصلي الضحى فلم يشعر إلا بالخيل طالعة عليهم- فلما دنا صالح منهم رآهم على غير تعبئة و قد تنادوا- و بعضهم يجول في بعض- فأمر شبيبا فحمل عليهم في كتيبة- ثم أمر سويدا فحمل في كتيبة فكانت هزيمتهم-و أتى عدي بدابته فركبها و مضى على وجهه- و احتوى صالح على عسكره و ما فيه- و ذهب فل عدي حتى لحقوا بمحمد بن مروان فغضب- ثم دعا بخالد بن جزء السلمي فبعثه في ألف و خمسمائة- و دعا الحارث بن جعونة في ألف و خمسمائة و قال لهما- اخرجا إلى هذه الخارجة القليلة الخبيثة- و عجلا الخروج و أغذا السير- فأيكما سبق فهو الأمير على صاحبه- فخرجا و أغذا في السير و جعلا يسألان عن صالح فقيل لهما- توجه نحو آمد فاتبعاه حتى انتهيا إليه بأمد- فنزلا ليلا و خندقا و هما متساندان- كل واحد منهما على حدته- فوجه صالح شبيبا إلى الحارث بن جعونة في شطر أصحابه- و توجه هو نحو خالد السلمي- فاقتتلوا أشد قتال اقتتله قوم- حتى حجز بينهم الليل و قد انتصف بعضهم من بعض- .

فتحدث بعض أصحاب صالح قال- كنا إذا حملنا عليهم استقبلنا رجالهم بالرماح- و نضحنا رماتهم بالنبل- و خيلهم تطاردنا في خلال ذلك- فانصرفنا عند الليل و قد كرهناهم و كرهونا- فلما رجعنا و صلينا و تروحنا و أكلنا من الكسر- دعانا صالح و قال يا أخلائي ما ذا ترون- فقال شبيب إنا إن قاتلنا هؤلاء القوم- و هم معتصمون بخندقهم لم ننل منهم طائلا- و الرأي أن نرحل عنهم- فقال صالح و أنا أرى ذلك- فخرجوا من تحت ليلتهم- حتى قطعوا أرض الجزيرة و أرض الموصل- و مضوا حتى قطعوا أرض الدسكرة- فلما بلغ ذلك الحجاج- سرح عليهم الحارث بن عميرة في ثلاثة آلاف-فسار و خرج صالح نحو جلولاء و خانقين- و اتبعه الحارث حتى انتهى إلى قرية يقال لها المدبج- و صالح يومئذ في تسعين رجلا- فعبى الحارث بن عميرة أصحابه ميمنة و ميسرة- و جعل صالح أصحابه ثلاثة كراديس و هو في كردوس- و شبيب في ميمنة في كردوس- و سويد بن سليم في كردوس في ميسرته- في كل كردوس منهم ثلاثون رجلا- فلما شد عليهم الحارث بن عميرة انكشف سويد بن سليم- و ثبت صالح فقتل و ضارب شبيب حتى صرع عن فرسه- فوقع بين رجاله فجاء حتى انتهى إلى موقف صالح- فوجده قتيلا فنادى إلى يا معشر المسلمين فلاذوا به-

فقال لأصحابه ليجعل كل رجل منكم ظهره إلى ظهر صاحبه- و ليطاعن عدوه إذا قدم عليه- حتى ندخل هذا الحصن و نرى رأينا- . ففعلوا ذلك حتى دخلوا الحصن- و هم سبعون رجلا مع شبيب- و أحاط بهم الحارث بن عميرة ممسيا- و قال لأصحابه أحرقوا الباب فإذا صار جمرا فدعوه- فإنهم لا يقدرون على الخروج حتى نصبح فنقتلهم- ففعلوا ذلك بالباب ثم انصرفوا إلى معسكرهم- . فقال شبيب لأصحابه يا هؤلاء ما تنتظرون- فو الله إن صبحوكم غدوة إنه لهلاككم- فقالوا له مرنا بأمرك فقال لهم إن الليل أخفى للويل- بايعوني إن شئتم أو بايعوا من شئتم منكم- ثم اخرجوا بنا حتى نشد عليهم في عسكرهم- فإنهم آمنون منكم و إني أرجو أن ينصركم الله عليهم- قالوا ابسط يدك فبايعوه فلما جاءواإلى الباب- وجدوه جمرا فأتوه باللبود فبلوها بالماء- ثم ألقوها عليه و خرجوا- فلم يشعر الحارث بن عميرة- إلا و شبيب و أصحابه يضربونهم بالسيوف- في جوف عسكرهم- فضارب الحارث حتى صرع و احتمله أصحابه- و انهزموا و خلوا لهم المعسكر و ما فيه- و مضوا حتى نزلوا المدائن- و كان ذلك الجيش أول جيش هزمه شبيب

دخول شبيب الكوفة و أمره مع الحجاج

ثم ارتفع في أداني أرض الموصل- ثم ارتفع إلى نحو آذربيجان يجبي الخراج- و كان سفيان بن أبي العالية قد أمر- أن يحارب صاحب طبرستان فأمر بالقفول نحو شبيب- و أن يصالح صاحب طبرستان فصالحه فأقبل في ألف فارس- و قد ورد عليه كتاب من الحجاج- . أما بعد فأقم بالدسكرة فيمن معك- حتى يأتيك جيش الحارث بن عميرة- قاتل صالح بن مسرح ثم سر إلى شبيب حتى تناجزه- . ففعل سفيان ذلك و نزل إلى الدسكرة حتى أتوه- و خرج مرتحلا في طلب شبيب فارتفع شبيب عنهم- كأنه يكره قتالهم و لقاءهم- و قد أكمن لهم أخاه مصادا في خمسين رجلا في هضم من الأرض- فلما رأوا شبيبا جمع أصحابه- و مضى في سفح من الجبل‏مشرقا قالوا- هرب عدو الله و اتبعوه- فقال لهم عدي بن عميرة الشيباني أيها الناس- لا تعجلوا عليهم حتى نضرب في الأرض و نستبرئها- فإن يكونوا أكمنوا كمينا حذرناه- و إلا كان طلبهم بين أيدينا لن يفوتنا- فلم يسمعوا منه فأسرعوا في آثارهم- . فلما رأى شبيب أنهم قد جازوا الكمين عطف عليهم- فحمل من أمامهم و خرج الكمين من ورائهم- فلم يقاتل أحد و إنما كانت الهزيمة- و ثبت سفيان بن أبي العالية في مائتي رجل- فقاتل قتالا شديدا حتى انتصف من شبيب- فقال سويد بن سليم لأصحابه- أ منكم أحد يعرف أمير القوم ابن أبي العالية- فقال له شبيب أنا من أعرف الناس به- أ ما ترى صاحب الفرس الأغر الذي دونه المرامية- فإنه هو فإن كنت تريده فأمهله قليلا- .

ثم قال يا قعنب اخرج في عشرين فأتهم من ورائهم- فخرج قعنب في عشرين فارتفع عليهم- فلما رأوه يريد أن يأتيهم من ورائهم- جعلوا ينتقصون و يتسللون- و حمل سويد بن سليم على سفيان بن أبي العالية يطاعنه- فلم تصنع رماحهما شيئا ثم اضطربا بسيفهما- ثم اعتنق كل واحد منهما صاحبه- فوقعا إلى الأرض يعتركان ثم تحاجزا و حمل عليهم شبيب- فانكشف من كان مع سفيان- و نزل غلام له يقال له غزوان عن برذونه- و قال لسفيان اركب يا مولاي فركب سفيان- و أحاط به أصحاب شبيب- فقاتل دونه غزوان حتى قتل و كان معه رايته- و أقبل سفيان منهزما حتى انتهىإلى بابل مهروذ- فنزل بها و كتب إلى الحجاج- و كان الحجاج أمر سورة بن أبجر أن يلحق بسفيان- فكاتب سورة سفيان و قال له انتظرني- فلم يفعل و عجل نحو الخوارج- فلما عرف الحجاج خبر سفيان و قرأ كتابه- قال للناس من صنع كما صنع هذا- و أبلى كما أبلى فقد أحسن- ثم كتب إليه يعذره و يقول- إذا خف عليك الوجع فأقبل مأجورا إلى أهلك- و كتب إلى سورة بن أبجر- .

أما بعد يا ابن أم سورة- فما كنت خليقا أن تجترئ على ترك عهدي و خذلان جندي- فإذا أتاك كتابي فابعث رجلا ممن معك- صليبا إلى المدائن فلينتخب من جندها خمسمائة رجل- ثم ليقدم بهم عليك ثم سر بهم- حتى تلقى هذه المارقة و احزم أمرك و كد عدوك- فإن أفضل أمر الحروب حسن المكيدة و السلام- . فلما أتى سورة كتاب الحجاج- بعث عدي بن عمير إلى المدائن و كان بها ألف فارس- فانتخب منهم خمسمائة- ثم رحل بهم حتى قدم على سورة ببابل مهروذ-

فخرج بهم في طلب شبيب- و خرج شبيب يجول في جوخى و سورة في طلبه- فجاء شبيب إلى المدائن فتحصن منه أهلها- فانتهب المدائن الأولى و أصاب دواب من دواب الجند- و قتل من ظهر له و لم يدخل البيوت- ثم أتى فقيل له هذا سورة قد أقبل إليك- فخرج في أصحابه حتى انتهى إلى النهروان- فنزلوا به و توضئوا و صلوا- ثم أتوا مصارع إخوانهم الذين قتلهم علي بن أبي طالب- فاستغفروا لهم و تبرءوا من علي و أصحابه- و بكوا فأطالوا البكاء ثم عبروا جسر النهروان- فنزلوا جانبه الشرقي- و جاء سورة حتى نزل بنفطرانا و جاءته عيونه- فأخبروه بمنزل شبيب بالنهروان- فدعا سورة رءوس أصحابه فقال لهم- إن الخوارج قلما يلقون في صحراء أو على ظهر إلا انتصفوا- و قد حدثت أنهم لا يزيدون على مائة رجل- و قد رأيت أن انتخبكم و أسير في ثلاثمائة رجل منكم- من أقويائكم و شجعانكم فأبيتهم- فإنهم آيسون من بياتكم- و إني و الله أرجو أن يصرعهم الله- مصارع إخوانهم في النهروان من قبل- فقالوا اصنع ما أحببت- .

فاستعمل على عسكره حازم بن قدامة- و انتخب ثلاثمائة من شجعان أصحابه- ثم أقبل بهم حتى قرب من النهروان- و بات و قد أذكى الحرس ثم بيتهم- فلما دنا أصحاب سورة منهم نذروا بهم- فاستووا على خيولهم و تعبوا تعبيتهم- فلما انتهى إليهم سورة و أصحابه أصابوهم و قد نذروا- فحمل عليهم سورة فصاح شبيب بأصحابه- فحمل عليهم‏حتى تركوا له العرصة- و حمل شبيب و جعل يضرب و يقول-
من ينك العير ينك نياكا

 فرجع سورة مفلولا قد هزم فرسانه و أهل القوة من أصحابه- و أقبل نحو المدائن و تبعه شبيب- حتى انتهى سورة إلى بيوت المدائن- و انتهى شبيب إليهم و قد دخل الناس البيوت- و خرج ابن أبي عصيفير و هو أمير المدائن يومئذ في جماعة- فلقيهم في شوارع المدائن- و رماهم الناس بالنبل و الحجارة من فوق البيوت- . ثم سار شبيب إلى تكريت- فبينا ذلك الجند بالمدائن إذ أرجف الناس فقالوا- هذا شبيب قد أقبل يريد أن يبيت أهل المدائن- فارتحل عامة الجند فلحقوا بالكوفة- و إن شبيبا بتكريت- فلما أتى الحجاج الخبر قال قبح الله سورة- ضيع العسكر و خرج يبيت الخوارج و الله لأسوءنه- .

ثم دعا الحجاج بالجزل و هو عثمان بن سعيد فقال له- تيسر للخروج إلى هذه المارقة- فإذا لقيتهم فلا تعجل عجلة الخرق النزق- و لا تحجم إحجام الواني الفرق أ فهمت قال نعم- أصلح الله الأمير قد فهمت قال- فاخرج و عسكر بدير عبد الرحمن حتى يخرج الناس إليك- فقال أصلح الله الأمير- لا تبعث معي أحدا من الجند المهزوم المفلول- فإن الرعب قد دخل قلوبهم- و قد خشيت ألا ينفعك و المسلمين منهم أحد- قال ذلك لك و لا أراك إلا قد أحسنت الرأي و وفقت- ثم دعا أصحاب الدواوين فقال- اضربوا على الناس البعث- و أخرجوا أربعة آلاف من الناس و عجلوا- فجمعت العرفاء و جلس أصحاب الدواوين- و ضربوا البعث فأخرجوا أربعة آلاف- فأمرهم باللحاق بالعسكر- ثم نودي فيهم بالرحيل فارتحلوا و نادى منادي الحجاج- أن برئت الذمة من رجل أصبناه من بعث الجزل متخلفا- . فمضى بهم الجزل- و قد قدم بين يديه عياض بن أبي لينة الكندي على مقدمته- فخرج حتى أتى المدائن فأقام بها ثلاثا- ثم خرج و بعث إليه ابن أبي عصيفير بفرس- و برذون و ألفي درهم- و وضع للناس من الحطب و العلف ما كفاهم ثلاثة أيام- و أصاب الناس ما شاءوا من ذلك- .

ثم إن الجزل خرج بالناس أثر شبيب- فطلبه في أرض جوخى فجعل شبيب يريه الهيبة- فيخرج من رستاق إلى رستاق- و من طسوج إلى طسوج و لا يقيم له-يريد بذلك أن يفرق الجزل أصحابه- و يتعجل إليه فيلقاه في عدد يسير على غير تعبئة- فجعل الجزل لا يسير إلا على تعبئة- و لا ينزل إلا خندق على نفسه و أصحابه- فلما طال ذلك على شبيب دعا يوما أصحابه- و هم مائة و ستون رجلا هو في أربعين- و مصاد أخوه في أربعين- و سويد بن سليم في أربعين- و المحلل بن وائل في أربعين- و قد أتته عيونه فأخبرته- أن الجزل بن سعيد قد نزل ببئر سعيد- فقال لأخيه و للأمراء الذين ذكرناهم- إني أريد أن أبيت الليلة هذا العسكر- فأتهم أنت يا مصاد من قبل حلوان- و سآتيهم أنا من أمامهم من قبل الكوفة- و ائتهم أنت يا سويد من قبل المشرق- و ائتهم أنت يا محلل من قبل المغرب- و ليلج كل امرئ منكم على الجانب الذي يحمل عليه- و لا تقلعوا عنهم حتى يأتيكم أمري- .

قال فروة بن لقيط- و كنت أنا في الأربعين الذين كانوا معه- فقال لجماعتنا تيسروا و ليسر كل امرئ منكم مع أميره- و لينظر ما يأمره به أميره فليتبعه- فلما قضمت دوابنا و ذلك أول ما هدأت العيون- خرجنا حتى انتهينا إلى دير الخرارة- فإذا القوم عليهم مسلحة ابن أبي لينة- فما هو إلا أن رآهم مصاد أخو شبيب- حتى حمل عليهم في أربعين رجلا- و كان شبيب أراد أن يرتفع عليهم- حتى يأتيهم من ورائهم كما أمره- .

فلما لقي هؤلاء قاتلهم فصبروا له ساعة و قاتلوه- ثم إنا دفعنا إليهم جميعا فهزمناهم- و أخذوا الطريق الأعظم- و ليس بينهم و بين عسكرهم بدير يزدجرد إلا نحو ميل- فقال لنا شبيب اركبوا معاشر المسلمين أكتافهم- حتى تدخلوا معهم عسكرهم إن استطعتم- فاتبعناهم ملظين بهم ملحين عليهم- ما نرفه عنهم و هم منهزمون ما لهم همة إلا عسكرهم- .

فمنعهم أصحابهم أن يدخلوا عليهم و رشقوهم بالنبل- و كانت لهم عيون قد أتتهم فأخبرتهم بمكاننا- و كان الجزل قد خندق عليهم و تحرز- و وضع هذه المسلحة الذين لقيناهم بدير الخرارة- و وضع مسلحة أخرى مما يلي حلوان- . فلما اجتمعت المسالح و رشقوهم بالنبل- و منعونا من خندقهم رأى شبيب أنه لا يصل إليهم- فقال لأصحابه سيروا و دعوهم- فلما سار عنهم أخذ على طريق حلوان- حتى كان منهم على سبعة أميال- قال لأصحابه انزلوا فاقضموا دوابكم و قيلوا و تروحوا- فصلوا ركعتين ثم اركبوا ففعلوا ذلك- ثم أقبل بهم راجعا إلى عسكر الكوفة و قال- سيروا على تعبيتكم التي عبأتكم عليها أول الليل- و أطيفوا بعسكرهم كما أمرتكم فأقبلنا معه- و قد أدخل أهل العسكر مسالحهم إليهم و أمنوا- فما شعروا حتى سمعوا وقع حوافر الخيل- فانتهينا إليهم قبيل الصبح و أحطنا بعسكرهم- و صحنا بهم من كل ناحية فقاتلونا و رمونا بالنبل- فقال شبيب لأخيه مصاد- و كان يقاتلهم من الجانب‏ الذي يلي الكوفة- خل لهم سبيل [طريق‏]- الكوفة فخلى لهم- و قاتلناهم من تلك الوجوه الثلاثة الأخرى إلى الصبح- ثم سرنا و تركناهم لأنا لم نظفر بهم- فلما سار شبيب سار الجزل في أثره يطلبه- و جعل لا يسير إلا على تعبية و ترتيب- و لا ينزل إلا على خندق- و أما شبيب فضرب في أرض جوخى و ترك الجزل- فطال أمره على الحجاج- فكتب إلى الجزل كتابا قرئ على الناس و هو- أما بعد فإني بعثتك في فرسان أهل المصر و وجوه الناس- و أمرتك باتباع هذه المارقة- و ألا تقلع عنها حتى تقتلها و تفنيها- فجعلت التعريس في القرى- و التخييم في الخنادق أهون عليك من المضي- لمناهضتهم و مناجزتهم و السلام- .

قال فشق كتاب الحجاج على الجزل- و أرجف الناس بأمره و قالوا سيعزله فما لبث الناس- أن بعث الحجاج سعيد بن المجالد أميرا بدله و عهد إليه- إذا لقي المارقة أن يزحف إليهم و لا يناظرهم- و لا يطاولهم و لا يصنع صنع الجزل- و كان الجزل يومئذ قد انتهى في طلب شبيب إلى النهروان- و قد لزم عسكره و خندق عليهم- فجاء سعيد حتى دخل عسكر أهل الكوفة أميرا- فقام فيهم خطيبا فحمد الله و أثنى عليه ثم قال- يا أهل الكوفة إنكم قد عجزتم و وهنتم- و أغضبتم عليكم أميركم- أنتم في طلب هذه الأعاريب العجف منذ شهرين- قد أخربوا بلادكم و كسروا خراجكم- و أنتم‏ حذرون في جوف هذه الخنادق لا تزايلونها- إلا أن يبلغكم أنهم قد ارتحلوا عنكم- و نزلوا بلدا سوى بلدكم اخرجوا على اسم الله إليهم- .

ثم خرج و خرج الناس معه- فقال له الجزل ما تريد أن تصنع قال- أقدم على شبيب و أصحابه في هذه الخيل- فقال له الجزل أقم أنت في جماعة الناس- فارسهم و راجلهم و لا تفرق أصحابك و دعني أصحر له- فإن ذلك خير لك و شر لهم- . فقال سعيد بل تقف أنت في الصف و أنا أصحر له- فقال الجزل إني بري‏ء من رأيك هذا- سمع الله و من حضر من المسلمين- فقال سعيد هو رأيي إن أصبت فيه فالله وفقني- و إن أخطأت فيه فأنتم برآء- . فوقف الجزل في صف أهل الكوفة و قد أخرجهم من الخندق- و جعل على ميمنتهم عياض بن أبي لينة الكندي- و على ميسرتهم عبد الرحمن بن عوف أبا حميد الراسبي- و وقف الجزل في جماعتهم- و استقدم سعيد بن مجالد فخرج و أخرج الناس معه- و قد أخذ شبيب إلى براز الروز فنزل قطفتا- و أمر دهقانها أن يشوي لهم غنما و يعد لهم غداء ففعل- و أغلق مدينة قطفتا- و لم يفرغ الدهقان من طعامه حتى أحاط بها ابن مجالد- فصعد الدهقان ثم نزل و قد تغير لونه- فقال شبيب ما بالك قال قد جاءك جمع عظيم- قال أ بلغ شواؤك قال لا قال دعه يبلغ- ثم أشرف الدهقان إشرافة أخرى- ثم نزل فقال قد أحاطوا بالجوسق قال هات شواءك- فجعل يأكل غير مكترث بهم و لا فزع- فلما فرغ قال لأصحابه قوموا إلى الصلاة و قام فتوضأ- فصلى بأصحابه صلاة الأولى و لبس درعه و تقلد سيفه- و أخذ عموده الحديد ثم قال أسرجوا لي بغلتي-

فقال أخوه أ في مثل هذا اليوم تركب بغلة- قال نعم أسرجوها فركبها- ثم قال يا فلان أنت على الميمنة- و أنت يا فلان على الميسرة- و أنت يا مصاد يعني أخاه على القلب- و أمر الدهقان ففتح الباب في وجوههم- . فخرج إليهم و هو يحكم و حمل حملة عظيمة- فجعل سعيد و أصحابه يرجعون القهقرى- حتى صار بينهم و بين الدير ميل- و شبيب يصيح أتاكم الموت الزؤام فاثبتوا- و سعيد يصيح يا معشر همدان إلي إلي أنا ابن ذي مران- فقال شبيب لمصاد ويحك استعرضهم استعراضا- فإنهم قد تقطعوا و إني حامل على أميرهم- و أثكلنيك الله إن لم أثكله ولده- ثم حمل على سعيد فعلاه بالعمود- فسقط ميتا و انهزم أصحابه- و لم يقتل يومئذ من الخوارج إلا رجل واحد- .

و انتهى قتل سعيد إلى الجزل فناداهم- أيها الناس إلي إلي و صاح عياض بن أبي لينة- أيها الناس إن يكن أميركم هذا القادم هلك- فهذا أميركم الميمون النقيبة أقبلوا إليه- فمنهم من أقبل إليه و منهم من ركب فرسه منهزما- و قاتل الجزل يومئذ قتالا شديدا حتى صرع- و حامى عنه خالد بن نهيك و عياض بن أبي لينة- حتى استنقذاه مرتثا- و أقبل الناس منهزمين حتى دخلوا الكوفة- و أتي بالجزل جريحا حتى دخل المدائن فكتب إلى الحجاج- أما بعد فإني أخبر الأمير أصلحه الله- أني خرجت فيمن قبلي من الجند الذي وجهني فيه إلى عدوه- و قد كنت حفظت عهد الأمير إلي فيهم و رأيه- فكنت أخرج إلى المارقين إذا رأيت الفرصة- و أحبس الناس عنهم إذا خشيت الورطة- فلم أزل كذلك أدير الأمر و أرفق في التدبير- و قد أرادني العدو بكل مكيدة- فلم يصب مني غرة حتى قدم علي سعيد بن مجالد- فأمرته بالتؤدة و نهيته عن العجلة- و أمرته ألا يقاتلهم إلا في جماعة الناس عامة- فعصاني و تعجل إليهم في الخيل- فأشهدت الله عليه و أهل المصرين- إني بري‏ء من رأيه الذي رأى- و إني لا أهوى الذي صنع فمضى فقتل تجاوز الله عنه- و دفع الناس إلي فنزلت و دعوتهم إلى نفسي- و رفعت رايتي و قاتلت حتى صرعت- فحملني أصحابي من بين القتلى- فما أفقت إلا و أنا على أيديهم على رأس ميل من المعركة- و أنا اليوم بالمدائن- و في جراحات قد يموت الإنسان من دونها- و قد يعافى من مثلها- فليسأل الأمير أصلحه الله عن نصيحتي له و لجنده- و عن مكايدتي عدوه و عن موقفي يوم البأس- فإنه سيبين له عند ذلك أني صدقته و نصحت له و السلام- .

فكتب إليه الحجاج‏أما بعد- فقد أتاني كتابك و قرأته- و فهمت كل ما ذكرته فيه من أمر سعيد و أمر نفسك- و قد صدقتك في نصيحتك لأميرك و حيطتك على أهل مصرك- و شدتك على عدوك و قد رضيت عجلة سعيد و تؤدتك- فأما عجلته فإنها أفضت به إلى الجنة- و أما تؤدتك فإنها ما لم تدع الفرصة إذا أمكنت حزم- و قد أحسنت و أصبت و أجرت- و أنت عندي من أهل السمع و الطاعة و النصيحة- و قد أشخصت إليك حيان بن أبجر الطبيب ليداويك- و يعالج جراحاتك- و قد بعثت إليك بألفي درهم نفقة تصرفها في حاجتك- و ما ينوبك و السلام- .

و بعث عبد الله بن أبي عصيفير والي المدائن إلى الجزل- بألف درهم و كان يعوده و يتعاهده بالألطاف و الهدايا- . و أما شبيب فأقبل حتى قطع دجلة عند الكرخ- و أخذ بأصحابه نحو الكوفة- و بلغ الحجاج مكانه بحمام أعين- فبعث إليه سويد بن عبد الرحمن السعدي- فجهزه بألفي فارس منتخبين و قال له- اخرج إلى شبيب فالقه و لا تتبعه- فخرج بالناس بالسبخة و بلغه أن شبيبا قد أقبل- فسار نحوه كأنما يساق إلى الموت هو و أصحابه- و أمر الحجاج عثمان بن قطن فعسكر بالناس في السبخة- و نادى ألا برئت الذمة من رجل من هذا الجند- بات الليلة بالكوفة- و لم يخرج إلى عثمان بن قطن بالسبخة- فبينا سويد بن عبد الرحمن يسير في الألفين الذين معه- و هو يعبيهم و يحرضهم إذ قيل له‏ قد غشيك شبيب- فنزل و نزل معه جل أصحابه و قدم رايته- فأخبر أن شبيبا لما علم بمكانه تركه- و وجد مخاضة فعبر الفرات- يريد الكوفة من غير الوجه الذي سويد بن عبد الرحمن به- ثم قيل أ ما تراهم فنادى في أصحابه فركبوا في آثارهم- فأتى شبيب دار الرزق فنزلها- و قيل له إن أهل الكوفة بأجمعهم معسكرون- فلما بلغهم مكان شبيب ماج الناس بعضهم إلى بعض- و جالوا و هموا بدخول الكوفة حتى قيل- هذا سويد بن عبد الرحمن في آثارهم قد لحقهم- و هو يقاتلهم في الخيل- و مضى شبيب حتى أخذ على شاطئ الفرات- ثم أخذ على الأنبار ثم دخل دقوقاء- ثم ارتفع إلى أداني آذربيجان- .

و خرج الحجاج من الكوفة إلى البصرة حيث بعد شبيب- و استخلف على الكوفة عروة بن المغيرة بن شعبة- فما شعر الناس إلا بكتاب من مادارست- دهقان بابل مهروز إلى عروة بن المغيرة بن شعبة- أن تاجرا من تجار الأنبار من أهل بلادي-أتاني يذكر أن شبيبا يريد- أن يدخل الكوفة في أول هذا الشهر المستقبل- و أحببت إعلامك ذلك لترى رأيك- و إني لم ألبث بعد ذلك إذ جاءني اثنان من جيراني- فحدثاني أن شبيبا قد نزل خانيجار- . فأخذ عروة كتابه فأدرجه- و سرح به إلى الحجاج إلى البصرة- فلما قرأ الحجاج أقبل جادا إلى الكوفة- و أقبل شبيب يسير- حتى انتهى إلى قرية حربى على شاطئ دجلة فعبرها- و قال لأصحابه يا هؤلاء إن الحجاج ليس بالكوفة- و ليس دون أخذها شي‏ء إن شاء الله فسيروا بنا- فخرج يبادر الحجاج إلى الكوفة- و كتب عروة إلى الحجاج- إن شبيبا قد أقبل مسرعا يريد الكوفة فالعجل العجل- . فطوى الحجاج المنازل مسابقا لشبيب إلى الكوفة- فسبقه و نزلها صلاة العصر- و نزل شبيب السبخة صلاة العشاء الآخرة- فأصاب هو و أصحابه من الطعام شيئا يسيرا- ثم ركبوا خيولهم- فدخل شبيب الكوفة في أصحابه حتى انتهى إلى السوق- و شد حتى ضرب باب القصر بعموده- فحدث جماعة أنهم رأوا- أثر ضربة شبيب بالعمود بباب القصر- ثم أقبل حتى وقف عند باب المصطبة و أنشد-

و كأن حافرها بكل ثنية
فرق يكيل به شحيح معدم‏

ثم أقحم هو و أصحابه المسجد الجامع- و لا يفارقه قوم يصلون فيه فقتل منهم جماعة- و مر هو بدار حوشب و كان هو على شرطة الحجاج- فوقف على بابه في جماعة فقالوا- إن الأمير يعنون الحجاج يدعو حوشبا- و قد أخرج ميمون غلامه برذونه ليركب- فكأنه أنكرهم فظنوا أنه قد اتهمهم- فأراد أن يدخل إلى صاحبه فقالوا له- كما أنت حتى يخرج صاحبك إليك- فسمع حوشب الكلام فأنكر القوم- و ذهب لينصرف فعجلوا نحوه فأغلق الباب دونه- فقتلوا غلامه ميمونا و أخذوا برذونه- و مضوا حتى مروا بالجحاف بن نبيط الشيباني- من رهط حوشب فقال له سويد انزل إلينا فقال- ما تصنع بنزولي فقال انزل- إني لم أقضك ثمن البكرة التي ابتعتها منك بالبادية- فقال الجحاف بئس ساعة القضاء هذه- و بئس المكان لقضاء الدين هذا- ويحك أ ما ذكرت أداء أمانتك إلا و الليل مظلم- و أنت على متن فرسك- قبح الله يا سويد دينا لا يصلح- و لا يتم إلا بقتل الأنفس و سفك الدماء- ثم مروا بمسجد بني ذهل- فلقوا ذهل بن الحارث و كان يصلي في مسجد قومه- فيطيل الصلاة إلى الليل- فصادفوه منصرفا إلى منزله فقتلوه- ثم خرجوا متوجهين نحو الردمة- و أمر الحجاج المنادي يا خيل الله اركبي و أبشري- و هو فوق باب القصر و هناك مصباح مع غلام له قائم- .

و كان أول من جاء من الناس عثمان بن قطن- و معه مواليه و ناس من أهله و قال- أعلموا الأمير مكاني أنا عثمان بن قطن فليأمرني بأمره- فناداه الغلام صاحب المصباح- قف مكانك حتى يأتيك أمر الأمير- و جاء الناس من كل جانب و بات عثمان مكانه- فيمن اجتمع إليه من الناس حتى أصبح- .

و قد كان عبد الملك بن مروان بعث- محمد بن موسى بن طلحة على سجستان و كتب له عهده عليها و كتب إلى الحجاج- إذا قدم عليك محمد بن موسى الكوفة- فجهز معه ألفي رجل و عجل سراحه إلى سجستان- . فلما قدم الكوفة جعل يتجهز- فقال له أصحابه و نصحاؤه تعجل أيها الرجل إلى عملك- فإنك لا تدري ما يحدث- و عرض أمر شبيب حينئذ و دخوله الكوفة- فقيل للحجاج إن محمد بن موسى إن سار إلى سجستان- مع نجدته و صهره لأمير المؤمنين عبد الملك- فلجأ إليه أحد ممن تطلبه منعك منه قال فما الحيلة- قالوا أن تذكر له أن شبيبا في طريقه و قد أعياك- و أنك ترجو أن يريح الله منه على يده- فيكون له ذكر ذلك و شهرته- .

فكتب إليه الحجاج إنك عامل على كل بلد مررت به- و هذا شبيب في طريقك تجاهده و من معه- و لك أجره و ذكره و صيته- ثم تمضي إلى عملك فاستجاب له- . و بعث الحجاج بشر بن غالب الأسدي في ألفي رجل- و زياد بن قدامة في ألفين- و أبا الضريس مولى تميم في ألف من الموالي- و أعين صاحب حمام أعين مولى لبشر بن مروان في ألف- و جماعة غيرهم فاجتمعت تلك الأمراء في أسفل الفرات- و ترك شبيب الوجه الذي فيه جماعة هؤلاء القواد- و أخذ نحو القادسية- فوجه الحجاج زحر بن قيس‏ في جريدة خيل نقاوة- عدتها ألف و ثمانمائة فارس و قال له- اتبع شبيبا حتى تواقعه حيثما أدركته- فخرج زحر بن قيس حتى انتهى إلى السيلحين- و بلغ شبيبا مسيره إليه فأقبل نحوه فالتقيا- و قد جعل زحر على ميمنته عبد الله بن كناز و كان شجاعا- و على ميسرته عدي بن عدي بن عميرة الكندي- و جمع شبيب خيله كلها كبكبة واحدة- ثم اعترض بها الصف يوجف وجيفا- حتى انتهى إلى زحر بن قيس فنزل زحر- فقاتل حتى صرع و انهزم أصحابه و ظن أنه قد قتل- .

فلما كان الليل و أصابه البرد قام يمشي حتى دخل قرية- فبات بها و حمل منها إلى الكوفة- و بوجهه أربع عشرة ضربة فمكث أياما- ثم أتى الحجاج و على وجهه و جراحه القطن- فأجلسه معه على السرير- و قال أصحاب شبيب لشبيب-و هم يظنون أنهم قد قتلوا زحرا قد هزمنا جندهم- و قتلنا أميرا من أمرائهم عظيما- فانصرف بنا الآن موفورين فقال لهم- إن قتلكم هذا الرجل و هزيمتكم هذا الجند- قد أرعب هؤلاء الأمراء فاقصدوا بنا قصدهم- فو الله لئن نحن قتلناهم- ما دون قتل الحجاج و أخذ الكوفة شي‏ء- فقالوا له نحن طوع لأمرك و رأيك فانقض بهم جادا- حتى أتى ناحية عين التمر و استخبر عن القوم- فعرف اجتماعهم في روذبار في أسفل الفرات- على رأس أربعة و عشرين فرسخا من الكوفة- . و بلغ الحجاج مسير شبيب إليهم- فبعث إليهم إن جمعكم قتال- فأمير الناس زائدة بن قدامة- .

فانتهى إليهم شبيب و فيهم سبعة أمراء- على جماعتهم زائدة بن قدامة- و قد عبى كل أمير أصحابه على حدة و هو واقف في أصحابه- فأشرف شبيب على الناس و هو على فرس أغر كميت- فنظر إلى تعبيتهم ثم رجع إلى أصحابه- و أقبل في ثلاث كتائب يزحف بها- حتى إذا دنا من الناس مضت كتيبة فيها سويد بن سليم- .فوقفت بإزاء ميمنة زائدة بن قدامة- و فيها زياد بن عمرو العتكي- و مضت كتيبة فيها مصاد أخو شبيب- فوقفت بإزاء الميسرة و فيها بشر بن غالب الأسدي- و جاء شبيب في كتيبة حتى وقف مقابل القوم في القلب- فخرج زائدة بن قدامة يسير في الناس- بين الميمنة و الميسرة يحرض الناس و يقول عباد الله- إنكم الطيبون الكثيرون- و قد نزل بكم الخبيثون القليلون- فاصبروا جعلت لكم الفداء- إنما هي حملتان أو ثلاث ثم هو النصر ليس دونه شي‏ء- أ لا ترونهم و الله لا يكونون مائتي رجل- إنما هم أكلة رأس و هم السراق المراق- إنما جاءوكم ليهريقوا دماءكم و يأخذوا فيئكم- فلا يكونوا على أخذه أقوى منكم على منعه- و هم قليل و أنتم كثير و هم أهل فرقة و أنتم أهل جماعة- غضوا الأبصار و استقبلوهم بالأسنة- و لا تحملوا عليهم حتى آمركم- .

ثم انصرف إلى موقفه- فحمل سويد بن سليم على زياد بن عمرو العتكي فكشف صفه- و ثبت زياد قليلا ثم ارتفع سويد عنهم يسيرا- ثم كر عليهم ثانية- . فقال فروة بن لقيط الخارجي اطعنا ذلك اليوم ساعة- فصبروا لنا حتى ظننت أنهم لن يزولوا- و قاتل زياد بن عمرو قتالا شديدا- و لقد رأيت سويد بن سليم يومئذ- و إنه لأشد العرب قتالا و أشجعهم- و هو واقف لا يعرض لهم ثم ارتفعنا عنهم- فإذا هم يتقوضون فقال بعض أصحابنا لبعض- أ لا ترونهم يتقوضون احملوا عليهم فأرسل إلينا شبيب- خلوهم لا تحملوا عليهم حتى يخفوا فتركناهم قليلا- ثم حملنا عليهم الثالثة فانهزموا- فنظرت إلى زياد بن عمرو و إنه ليضرب بالسيوف- و ما من سيف يضرب به‏ إلا نبا عنه- و لقد اعتوره أكثر من عشرين سيفا و هو مجفف- فما ضره شي‏ء منها ثم انهزم- .

و انتهينا إلى محمد بن موسى بن طلحة أمير سجستان- عند المغرب و هو قائم في أصحابه- فقاتلناه قتالا شديدا و صبر لنا- . ثم إن مصادا حمل على بشر بن غالب في الميسرة فصبر- و كرم و أبلى و نزل معه رجال من أهل البصرة نحو خمسين- فضاربوا بأسيافهم حتى قتلوا- ثم انهزم أصحابه فشددنا على أبي الضريس فهزمناه- ثم انتهينا إلى موقف أعين ثم شددنا على أعين- فهزمناهم حتى انتهينا إلى زائدة بن قدامة- فلما انتهوا إليه نزل و نادى يا أهل الإسلام الأرض الأرض- ألا لا يكونون على كفرهم أصبر منكم على إيمانكم- فقاتلوا عامة الليل إلى السحر- . ثم إن شبيبا شد على زائدة بن قدامة في جماعة من أصحابه- فقتله و قتل ربضة حوله من أهل الحفاظ- و نادى شبيب في أصحابه ارفعوا السيف- و ادعوهم إلى البيعة فدعوهم عند الفجر إلى البيعة- .

قال عبد الرحمن بن جندب- فكنت فيمن تقدم فبايعه بالخلافة- و هو واقف على‏فرس أغر كميت و خيله واقفة دونه- و كل من جاء ليبايعه ينزع سيفه عن عاتقه و يؤخذ سلاحه- ثم يدنو من شبيب فيسلم عليه بإمرة المؤمنين ثم يبايع- فإنا كذلك إذ أضاء الفجر- و محمد بن موسى بن طلحة في أقصى العسكر مع أصحابه- و كان الحجاج قد جعل موقفه آخر الناس- و زائدة بن قدامة بين يديه- و مقام محمد بن موسى مقام الأمير على الجماعة كلها- فأمر محمد مؤذنه فأذن فلما سمع شبيب الأذان قال- ما هذا قيل هذا ابن طلحة لم يبرح- قال ظننت أن حمقه و خيلاءه سيحملانه على هذا- نحوا هؤلاء عنا و انزلوا بنا فلنصل فنزل و أذن هو- ثم استقدم فصلى بأصحابه و قرأ- وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ- و أَ رَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ثم سلم و ركب- و أرسل إلى محمد بن موسى بن طلحة- إنك امرؤ مخدوع قد اتقى بك الحجاج المنية- و أنت لي جار بالكوفة- و لك حق فانطلق لما أمرت به و لك الله ألا أسوءك- فأبى محاربته فأعاد عليه الرسول فأبى إلا قتاله-

فقال له شبيب كأني بأصحابك لو التقت- حلقتا البطان قد أسلموك- و صرعت مصرع أمثالك فأطعني و انصرف‏لشأنك- فإني أنفس بك عن القتل- فأبى و خرج بنفسه و دعا إلى البراز فبرز له البطين- ثم قعنب بن سويد و هو يأبى إلا شبيبا- فقالوا لشبيب إنه قد رغب عنا إليك قال- فما ظنكم بمن يرغب عن الأشراف ثم برز له- و قال له أنشدك الله يا محمد في دمك فإن لك جوارا- فأبى إلا قتاله فحمل عليه بعموده الحديد- و كان فيه اثنا عشر رطلا- فهشم رأسه و بيضة كانت عليه فقتله- و نزل إليه فكفنه و دفنه- و تتبع ما غنم الخوارج من عسكره- فبعث به إلى أهله و اعتذر إلى أصحابه و قال- هو جاري بالكوفة و لي أن أهب ما غنمت- فقال له أصحابه ما دون الكوفة الآن أحد يمنعك- فنظر فإذا أصحابه قد فشا فيهم الجراح- فقال ليس عليكم أكثر مما قد فعلتم- .

و خرج بهم على نفر- ثم خرج بهم نحو بغداد يطلب خانيجار- و بلغ الحجاج أن شبيبا قد أخذ نحو نفر- فظن أنه يريد المدائن و هي باب الكوفة- و من أخذ المدائن كان ما في يديه من أرض الكوفة أكثر- فهال ذلك الحجاج و بعث إلى عثمان بن قطن- فسرحه إلى المدائن- و ولاه منبرها و الصلاة و معونة جوخى كلها و خراج الأستان- فجاء مسرعا حتى نزل المدائن- و عزل الحجاج ابن أبي عصيفير عن المدائن- و كان الجزل مقيما بها يداوي جراحاته- و كان ابن أبي عصيفير يعوده و يكرمه و يلطفه- فلما قدم عثمان بن قطن لم يكن يتعاهده و لا يلطفه بشي‏ء- فكان الجزل يقول- اللهم زد ابن أبي عصيفير فضلا و كرما- و زد عثمان بن قطن ضيقا و بخلا- .ثم إن الحجاج دعا عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث- فقال له انتخب الناس- فأخرج ستمائة من قومه من كندة- و أخرج من سائر الناس ستة آلاف- و استحثه الحجاج على الشخوص- فخرج بعسكره بدير عبد الرحمن- فلما استتموا هناك- كتب إليهم الحجاج كتابا قرئ عليهم- .

أما بعد فقد اعتدتم عادة الأذلاء- و وليتم الدبر يوم الزحف دأب الكافرين- و قد صفحت عنكم مرة بعد مرة و تارة بعد أخرى- و إني أقسم بالله قسما صادقا- لئن عدتم لذلك لأوقعن بكم إيقاعا- يكون أشد عليكم من هذا العدو الذي- تنهزمون منه في بطون الأودية و الشعاب- و تستترون منه بأثناء الأنهار و الواد الجبال- فليخف من كان له معقول على نفسه- و لا يجعل عليها سبيلا فقد أعذر من أنذر و السلام- . و ارتحل عبد الرحمن بالناس حتى مر بالمدائن- فنزل بها يوما ليشتري أصحابه منها حوائجهم- ثم نادى في الناس بالرحيل- و أقبل حتى دخل على عثمان بن قطن مودعا- ثم أتى الجزل عائدا- فسأله عن جراحته و حادثه- فقال الجزل يا ابن عم- إنك تسير إلى فرسان العرب- و أبناء الحرب و أحلاس الخيل- و الله لكأنما خلقوا من ضلوعها- ثم ربوا على ظهورها ثم هم أسد الأجم- الفارس منهم أشد من مائة- إن لم يبدأ به بدأ هو و إن هجهج أقدم- و إني قد قاتلتهم و بلوتهم- فإذا أصحرت لهم انتصفوا مني و كان لهم الفضل علي- و إذا خندقت أو قاتلت في مضيق نلت منهم ما أحب- و كانت لي عليهم- فلا تلقهم و أنت تستطيع إلا و أنت في تعبية أو خندق- ثم ودعه و قال له هذه فرسي الفسيفساء خذها فيها لا تجارى- فأخذها ثم خرج بالناس نحو شبيب- فلما دنا منه ارتفع شبيب عنه إلى دقوقاء و شهرزور- فخرج عبد الرحمن في طلبه- حتى إذا كان على تخوم تلك الأرض أقام- و قال إنما هو في أرض الموصل- فليقاتل أمير الموصل و أهلها عن بلادهم أو فليدعوا- .

و بلغ ذلك الحجاج فكتب إليه أما بعد- فاطلب شبيبا و اسلك في أثره أين سلك حتى تدركه- فتقتله أو تنفيه عن الأرض- فإنما السلطان سلطان أمير المؤمنين- و الجند جنده و السلام- . فلما قرأ عبد الرحمن كتاب الحجاج خرج في طلب شبيب- فكان شبيب يدعه- حتى إذا دنا منه ليبيته فيجده قد خندق و حذر- فيمضي و يتركه فيتبعه عبد الرحمن- فإذا بلغ شبيبا أنه قد تحمل و سار يطلبه كر في الخيل نحوه- فإذا انتهى إليه وجده قد صف خيله و رجالته المرامية- فلا يصيب له غرة و لا غفلة فيمضي و يدعه- . و لما رأى شبيب أنه لا يصيب غرته و لا يصل إليه- صار يخرج كلما دنا منه عبد الرحمن- حتى ينزل على مسيرة عشرين فرسخا- ثم يقيم في أرض غليظة وعرة- فيجي‏ء عبد الرحمن في ثقله و خيله- حتى إذا دنا من شبيب ارتحل- فسار عشرين أو خمسة عشر فرسخا فنزل منزلا غليظا خشنا- ثم يقيم حتى يبلغ عبد الرحمن ذلك المنزل ثم يرتحل- فعذب العسكر و شق عليهم و أحفى دوابهم- و لقوا منه كل بلاء- .

فلم يزل عبد الرحمن يتبعه- حتى صار إلى خانقين و جلولاء- ثم أقبل على تامرا فصار إلى البت- و نزل على تخوم الموصل- ليس بينه و بين الكوفة إلا نهر حولايا- و جاء عبد الرحمن حتى نزل بشرقي حولايا- و هم في راذان الأعلى من أرض جوخى و نزل في عواقيل من النهر- و نزلها عبد الرحمن حيث نزلها و هي تعجبه- يرى أنها مثل الخندق الحصين- . فأرسل شبيب إلى عبد الرحمن- أن هذه الأيام أيام عيد لنا و لكم- فإن رأيتم أن توادعونا حتى تمضي هذه الأيام فعلتم- فأجابه عبد الرحمن إلى ذلك- و لم يكن شي‏ء أحب إلى عبد الرحمن- من المطاولة و الموادعة- فكتب عثمان بن قطن إلى الحجاج- أما بعد فإني أخبر الأمير أصلحه الله- أن عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث قد حفر جوخى كلها- عليه خندقا واحدا و خلى شبيبا و كسر خراجها- فهو يأكل أهلها و السلام- . فكتب إليه الحجاج- قد فهمت ما ذكرت و قد لعمري فعل عبد الرحمن- فسر إلى الناس فأنت أميرهم- و عاجل المارقة حتى تلقاهم- فإن الله إن شاء ناصرك عليهم و السلام- .

و بعث الحجاج على المدائن مطرف بن المغيرة بن شعبة- و خرج عثمان حتى قدم على‏ عبد الرحمن و من معه- و هم معسكرون على نهر حولايا قريبا من البت- و ذلك يوم التروية عشاء- فنادى في الناس و هو على تلعة- أيها الناس اخرجوا إلى عدوكم فوثبوا إليه و قالوا- ننشدك الله هذا المساء قد غشينا- و الناس لم يوطنوا أنفسهم على القتال- فبت الليلة ثم اخرج على تعبية فجعل يقول- لأناجزنهم الليلة و لتكونن الفرصة لي أو لهم- فأتاه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث- فأخذ بعنان بغلته و ناشده الله لما نزل- و قال له عقيل بن شداد السلوني- إن الذي تريده من مناجزتهم الساعة أنت فاعله غدا- و هو خير لك و للناس- إن هذه ساعة ريح قد اشتدت مساء فانزل ثم أبكر بنا غدوة- .

فنزل و سفت عليه الريح و شق عليه الغبار- فاستدعى صاحب الخراج علوجا فبنوا له قبة- فبات فيها ثم أصبح فخرج بالناس- فاستقبلتهم ريح شديدة و غبرة فصاح الناس إليه- و قالوا ننشدك الله ألا تخرج بنا في هذا اليوم- فإن الريح علينا فأقام ذلك اليوم- . و كان شبيب يخرج إليهم- فلما رآهم لا يخرجون إليه أقام- فلما كان الغد خرج عثمان يعبئ الناس على أرباعهم- و سألهم من كان على ميمنتكم و ميسرتكم فقالوا- خالد بن نهيك بن قيس الكندي على ميسرتنا- و عقيل بن شداد السلوني على ميمنتنا- فدعاهما و قال لهما قفا في مواقفكما التي كنتما بها- فقد وليتكما المجنبتين فاثبتا و لا تفرا- فو الله لا أزول حتى تزول نخيل راذان عن أصولها- فقالا نحن و الله الذي لا إله إلا هو لا نفر حتى نظفر أو نقتل- فقال لهما جزاكما الله خيرا- ثم أقام حتى صلى بالناس الغداة ثم خرج بالخيل- فنزل يمشي في الرجال- و خرج شبيب و معه يومئذ مائة و أحد و ثمانون رجلا- فقطع إليهم النهر و كان هو في ميمنة أصحابه- و جعل على الميسرة سويد بن سليم- و جعل في القلب مصادا أخاه و زحفوا- و كان عثمان بن قطن يقول لأصحابه فيكثر- قل لن‏ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل- و إذا لا تمتعون إلا قليلا- . ثم قال شبيب لأصحابه- إني حامل على ميسرتهم مما يلي النهر- فإذا هزمتها فليحمل صاحب ميسرتي على ميمنتهم- و لا يبرح صاحب القلب حتى يأتيه أمري- ثم حمل في ميمنة أصحابه مما يلي النهر- على ميسرة عثمان بن قطن فانهزموا- و نزل عقيل بن شداد مع طائفة من أهل الحفاظ- فقاتل حتى قتل و قتلوا معه- .

و دخل شبيب عسكرهم- و حمل سويد بن سليم في ميسرة شبيب- على ميمنة عثمان بن قطن فهزمها- و عليها خالد بن نهيك الكندي فنزل خالد- و قاتل قتالا شديدا فحمل عليه شبيب من ورائه- فلم ينثن حتى علاه بالسيف فقتله و مشى عثمان بن قطن- و قد نزلت معه العرفاء و الفرسان- و أشراف الناس نحو القلب- و فيه أخو شبيب في نحو من ستين رجلا- فلما دنا منهم عثمان شد عليهم في الأشراف و أهل الصبر- فضربهم مصاد و أصحابه حتى فرقوا بينهم- و حمل شبيب من ورائهم بالخيل- فما شعروا إلا و الرماح في أكتافهم تكبهم لوجوههم- و عطف عليهم سويد بن سليم أيضا في خيله- و قاتل عثمان فأحسن القتال- .

ثم إن الخوارج شدوا عليهم فأحاطوا بعثمان- و حمل عليه مصاد أخو شبيب- فضربه ضربة بالسيف فاستدار لها و سقط و قال- و كان أمر الله قدرا مقدورا- فقتل و قتل معه العرفاء و وجوه الناس- و قتل من كندة يومئذ مائة و عشرون رجلا- و قتل من سائر الناس نحو ألف- و وقع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث إلى الأرض- فعرفه‏ابن أبي سبرة فنزل و أركبه و صار رديفا له- و قال له عبد الرحمن ناد في الناس- ألحقوا بدير ابن أبي مريم فنادى بذلك- و انطلقا ذاهبين و أمر شبيب أصحابه- فرفعوا عن الناس السيف و دعاهم إلى البيعة- فأتاه من بقي من الرجال فبايعوه- و بات عبد الرحمن بدير اليعار فأتاه فارسان ليلا- فخلا به أحدهما يناجيه طويلا- و قام الآخر قريبا منهما ثم مضيا و لم يعرفا- فتحدث الناس أن المناجي له كان شبيبا- و أن الذي كان يرقبهما كان مصادا أخاه- و اتهم عبد الرحمن بمكاتبة شبيب من قبل- .

ثم خرج عبد الرحمن آخر الليل- فسار حتى أتى دير ابن أبي مريم- فإذا هو بالناس قبله قد سبقوه- و قد وضع لهم ابن أبي سبرة صبر الشعير و ألقت- كأنها القصور و نحر لهم من الجزور ما شاءوا- و اجتمع الناس إلى عبد الرحمن فقالوا له- إن علم شبيب بمكانك أتاك فكنت له غنيمة- قد تفرق الناس عنك و قتل خيارهم- فالحق أيها الرجل بالكوفة- . فخرج و خرج معه الناس- حتى دخل الكوفة مستترا من الحجاج- إلى أن أخذ له الأمان بعد ذلك- .

ثم إن شبيبا اشتد عليه الحر و على أصحابه- فأتى ماه بهراذان فصيف بها ثلاثة أشهر- و أتاه ناس ممن كان يطلب الدنيا و الغنيمة كثير- و لحق به ناس ممن كان يطلبهم‏ الحجاج بمال و تبعة- فمنهم رجل يقال له الحر بن عبد الله بن عوف- كان قتل دهقانين من أهل نهر درقيط كانا أساءا إليه- و لحق بشبيب حتى شهد معه مواطنه إلى أن هلك- و له مقام عند الحجاج و كلام سلم به من القتل- و هو أن الحجاج بعد هلاك شبيب- أمن كل من خرج إليه ممن كان يطلبهم الحجاج بمال أو تبعة- فخرج إليه الحر فيمن خرج- فجاء أهل الدهقانين يستعدون عليه الحجاج فأحضره- و قال يا عدو الله قتلت رجلين من أهل الخراج فقال- قد كان أصلحك الله مني ما هو أعظم من هذا قال و ما هو- قال خروجي عن الطاعة و فراقي الجماعة- ثم إنك أمنت كل من خرج عليك و هذا أماني و كتابك لي- . فقال الحجاج قد لعمري فعلت- ذلك أولى لك و خلى سبيله- .

ثم لما باخ الحر و سكن عن شبيب- خرج من ماه نهروان في نحو من ثمانمائة رجل- فأقبل نحو المدائن و عليها المطرف بن المغيرة بن شعبة- فجاء حتى نزل قناطر حذيفة بن اليمان- فكتب ماذراسب و هو عظيم بابل مهروذ إلى الحجاج- يخبره خبر شبيب و قدومه إلى قناطر حذيفة- فقام الحجاج في الناس و خطبهم و قال- أيها الناس لتقاتلن عن بلادكم و فيئكم- أو لأبعثن إلى قوم هم أطوع و أسمع- و أصبر على البلاء منكم- فيقاتلون عدوكم و يأكلون فيئكم يعني جند الشام- .

فقام إليه الناس من كل جانب يقولون بل نحن نقاتلهم- و نغيث الأمير ليندبنا إليهم فإنا حيث يسره- .و قام إليه زهرة بن حوية- و هو يومئذ شيخ كبير لا يستتم قائما حتى يؤخذ بيده فقال- أصلح الله الأمير- إنك إنما تبعث الناس متقطعين- فاستنفر إليهم الناس كافة- و ابعث عليهم رجلا متينا شجاعا مجربا- يرى الفرار هضما و عارا و الصبر مجدا و كرما- فقال الحجاج فأنت ذاك فاخرج- . فقال أصلح الله الأمير- إنما يصلح لهذا الموقف رجل يحمل الرمح و الدرع- و يهز السيف و يثبت على متن الفرس و أنا لا أطيق ذلك- قد ضعفت و ضعف بصرى- و لكن ابعثني مع أمير تعتمده- فأكون في عسكره و أشير عليه برأيي- .

فقال جزاك الله عن الإسلام و الطاعة خيرا- لقد نصحت و صدقت و أنا مخرج الناس كافة- ألا فسيروا أيها الناس- . فانصرف الناس يتجهزون و ينتشرون- و لا يدرون من أميرهم- . و كتب الحجاج إلى عبد الملك- أما بعد فإني أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله- أن شبيبا قد شارف المدائن و إنما يريد الكوفة- و قد عجز أهل العراق عن قتاله في مواطن كثيرة- في كلها تقتل أمراؤهم و يفل خيولهم و أجنادهم- فإن رأى أمير المؤمنين أن يبعث إلي جندا من جند الشام- ليقاتلوا عدوهم و يأكلوا بلادهم فعل إن شاء الله- . فلما أتى عبد الملك كتابه- بعث إليه سفيان بن الأبرد في أربعة آلاف- و بعث إليه حبيب بن عبد الرحمن الحكمي من مذحج في ألفين- و سرحهم نحوه حين أتاه الكتاب- .

و قد كان الحجاج بعث- إلى عتاب بن ورقاء الرياحي ليأتيه- و كان على خيل الكوفة مع المهلب- و دعا الحجاج أشراف أهل الكوفة- منهم زهرة بن حوية و قبيصة بن والق فقال- من ترون أن أبعث على هذا الجيش قالوا- رأيك أيها الأمير أفضل قال- إني قد بعثت إلى عتاب بن ورقاء- و هو قادم عليكم الليلة فيكون هو الذي يسير بالناس- فقال زهرة بن حوية أصلح الله الأمير رميتهم بحجرهم- لا و الله لا يرجع إليك حتى يظفر أو يقتل- .

فقال قبيصة بن والق- و إني مشير عليك أيها الأمير برأي اجتهدته- نصيحة لك و لأمير المؤمنين و لعامة المسلمين- إن الناس قد تحدثوا أن جيشا قد وصل إليك من الشام- لأن أهل الكوفة قد هزموا- و هان عليهم الفرار و العار من الهزيمة- فكأنما قلوبهم في صدور قوم آخرين- فإن رأيت أن تبعث إلى الجيش الذي- قد أمددت به من أهل الشام فليأخذوا حذرهم- و لا يثبتوا بمنزل إلا و هم يرون أنهم يبيتون فعلت- فإن فعلت فإنك إنما تحارب حولا قلبا محلالا مظعانا- إن شبيبا بينا هو في أرض إذا هو في أخرى- و لا آمن أن يأتيهم و هم غارون- فإن يهلكوا يهلك العراق كله- . فقال الحجاج لله أبوك ما أحسن ما رأيت- و ما أصح ما أشرت به- فبعث إلى الجيش الوارد عليه من الشام كتابا قرءوه- و قد نزلوا هيت و هو- أما بعد فإذا حاذيتم هيت- فدعوا طريق الفرات و الأنبار و خذوا على عين التمر- حتى تقدموا الكوفة إن شاء الله- . فأقبل القوم سراعا- و قدم عتاب بن ورقاء في الليلة التي- قال الحجاج إنه فيها قادم فأمره الحجاج- فخرج بالناس و عسكر بحمام أعين- و أقبل شبيب حتى انتهى‏إلى كلواذا فقطع منها دجلة- و أقبل حتى نزل بهرسير- و صار بينه و بين مطرف بن المغيرة بن شعبة جسر دجلة- فقطع مطرف الجسر و رأى رأيا صالحا كاد به شبيبا- حتى حبسه عن وجهه و ذلك أنه بعث إليه- أن ابعث إلي رجالا من فقهاء أصحابك و قرائهم- و أظهر له أنه يريد أن يدارسهم القرآن-

و ينظر فيما يدعون إليه فإن وجد حقا اتبعه- فبعث إليه شبيب رجالا فيهم قعنب و سويد و المحلل- و وصاهم ألا يدخلوا السفينة حتى يرجع رسوله من عند مطرف- و أرسل إلى مطرف- أن ابعث إلي من أصحابك و وجوه فرسانك بعدة أصحابي- ليكونوا رهنا في يدي حتى ترد على أصحابي- فقال مطرف لرسوله القه و قل له- كيف آمنك الآن على أصحابي إذ أبعثهم إليك- و أنت لا تأمنني على أصحابك- فأبلغه الرسول فقال قل له- قد علمت أنا لا نستحل الغدر في ديننا- و أنتم قوم غدر تستحلون الغدر و تفعلونه- فبعث إليه مطرف جماعة من وجوه أصحابه- فلما صاروا في يد شبيب سرح إليه أصحابه- فعبروا إليه في السفينة فأتوه- فمكثوا أربعة أيام يتناظرون و لم يتفقوا على شي‏ء- فلما تبين لشبيب أن مطرفا كاده و أنه غير متابع له- تعبى للمسير و جمع إليه أصحابه و قال لهم- إن هذا الثقفي قطعني عن رأيي منذ أربعة أيام- و ذلك أني هممت أن أخرج في جريدة من الخيل- حتى ألقى هذا الجيش المقبل من الشام- و أرجو أن أصادف غرتهم قبل أن يحذروا- و كنت ألقاهم منقطعين عن المصر- ليس عليهم أمير كالحجاج يستندون إليه- و لا لهم مصر كالكوفة يعتصمون به- و قد جاءني عيون أن أوائلهم قد دخلوا عين التمر- فهم الآن قد شارفوا الكوفة- و جاءني أيضا عيون من نحو عتاب- أنه نزل بحمام أعين بجماعة أهل الكوفة و أهل البصرة- فما أقرب ما بيننا و بينهم- فتيسروا بنا للمسير إلى عتاب- .

و كان عتاب حينئذ قد أخرج معه خمسين ألفا من المقاتلة- و هددهم الحجاج إن هربوا كعادة أهل الكوفة و توعدهم- و عرض شبيب أصحابه بالمدائن- فكانوا ألف رجل فخطبهم و قال يا معشر المسلمين- إن الله عز و جل كان ينصركم و أنتم مائة و مائتان- و اليوم فأنتم مئون و مئون- ألا و إني مصل الظهر ثم سائر بكم إن شاء الله- . فصلى الظهر ثم نادى في الناس فتخلف عنه بعضهم- . قال فروة بن لقيط فلما جاز ساباط و نزلنا معه- قص علينا و ذكرنا بأيام الله- و زهدنا في الدنيا و رغبنا في الآخرة- ثم أذن مؤذنه فصلى بنا العصر- ثم أقبل حتى أشرف على عتاب بن ورقاء- فلما رأى جيش عتاب نزل من ساعته و أمر مؤذنه- فأذن ثم تقدم فصلى بأصحابه صلاة المغرب- و خرج عتاب بالناس كلهم فعبأهم- و كان قد خندق على نفسه مذ يوم نزل- .

و جعل على ميمنته محمد بن عبد الرحمن- بن سعيد بن قيس الهمداني قال له- يا ابن أخي إنك شريف فاصبر و صابر فقال- أما أنا فو الله لأقاتلن ما ثبت معي إنسان- . و قال لقبيصة بن والق التغلبي اكفني الميسرة فقال- أنا شيخ كبير غايتي أن أثبت تحت رايتي- أ ما تراني لا أستطيع القيام إلا أن أقام- و أخي نعيم بن عليم ذو غناء- فابعثه على الميسرة فبعثه عليها- و بعث حنظلة بن الحارث الرياحي ابن عمه- و شيخ‏أهل بيته على الرجالة و بعث معه ثلاثة صفوف- صف فيه الرجالة و معهم السيوف- و صف هم أصحاب الرماح و صف فيه المرامية- . ثم سار عتاب بين الميمنة و الميسرة- يمر بأهل راية راية فيحرض من تحتها على الصبر- و من كلامه يومئذ إن أعظم الناس نصيبا من الجنة الشهداء- و ليس الله لأحد أمقت منه لأهل البغي- أ لا ترون عدوكم هذا يستعرض المسلمين بسيفه- لا يرى ذلك إلا قربة لهم- فهم شرار أهل الأرض و كلاب أهل النار فلم يجبه أحد- فقال أين القصاص يقصون على الناس و يحرضونهم- فلم يتكلم أحد فقال أين من يروي شعر عنترة- فيحرك الناس فلم يجبه أحد و لا رد عليه كلمة- فقال لا حول و لا قوة إلا بالله- و الله لكأني بكم و قد تفرقتم عن عتاب- و تركتموه تسفي في استه الريح- ثم أقبل حتى جلس في القلب- و معه زهرة بن حوية و عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث- .

و أقبل شبيب في ستمائة- و قد تخلف عنه من الناس أربعمائة فقال- إنه لم يتخلف عني إلا من لا أحب أن أراه معي- فبعث سويد بن سليم في مائتين إلى الميسرة- و بعث المحلل بن وائل في مائتين إلى القلب- و مضى هو في مائتين إلى الميمنة- و ذلك بين المغرب و العشاء الآخرة حين أضاء القمر- فناداهم لمن هذه الرايات قالوا رايات همدان- . فقال رايات طالما نصرت الحق و طالما نصرت الباطل- لها في كل نصيب أنا أبو المدلة اثبتوا إن شئتم- ثم حمل عليهم و هم على مسناة أمام الخندق ففضهم- و ثبت أصحاب رايات قبيصة بن والق- .

فجاء شبيب فوقف عليه و قال لأصحابه- مثل هذا قوله تعالى- وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ‏ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها- فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ- . ثم حمل على الميسرة ففضها و صمد نحو القلب- و عتاب جالس على طنفسة هو و زهرة بن حوية- فغشيهم شبيب فانفض الناس عن عتاب و تركوه- فقال عتاب يا زهرة- هذا يوم كثر فيه العدد و قل فيه الغناء- لهفي على خمسمائة فارس من وجوه الناس- أ لا صابر لعدوه أ لا مواس بنفسه- فمضى الناس على وجوههم- فلما دنا منه شبيب- وثب إليه في عصابة قليلة صبرت معه- فقال له بعضهم إن عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث قد هرب- و انصفق معه ناس كثير فقال- أما إنه قد فر قبل اليوم- و ما رأيت مثل ذلك الفتى ما يبالي ما صنع- ثم قاتلهم ساعة و هو يقول- ما رأيت كاليوم قط موطنا لم أبل بمثله- أقل ناصرا و لا أكثرها ربا خاذلا- فرآه رجل من بني تغلب من أصحاب شبيب- و كان أصاب دما في قومه و التحق بشبيب فقال- إني لأظن هذا المتكلم عتاب بن ورقاء فحمل عليه فطعنه- فوقع و قتل و وطئت الخيل زهرة بن حوية- فأخذ يذبب بسيفه و هو شيخ كبير لا يستطيع أن ينهض- فجاءه الفضل بن عامر الشيباني فقتله- و انتهى إليه شبيب فوجده صريعا فعرفه فقال- من قتل هذا قال الفضل أنا قتلته- فقال شبيب هذا زهرة بن حوية- أما و الله لئن كنت قتلت على ضلالة- لرب يوم من أيام المسلمين قد حسن فيه بلاؤك- و عظم فيه غناؤك- و لرب خيل للمشركين هزمتها و سرية لهم ذعرتها- و مدينة لهم فتحتها- ثم كان في علم الله أن تقتل ناصرا للظالمين- .

و قتل يومئذ وجوه العرب من عسكر العراق في المعركة- و استمكن شبيب من أهل العسكر فقال- ارفعوا عنهم السيف و دعاهم إلى البيعة- فبايعه الناس عامة من ساعتهم- و احتوى على جميع ما في العسكر- و بعث إلى أخيه و هو بالمدائن- فأتاه فأقام بموضع المعركة يومين- و دخل سفيان بن الأبرد الكلبي- و حبيب بن عبد الرحمن فيمن معهما إلى الكوفة- فشدوا ظهر الحجاج و استغنى بهم عن أهل العراق- و وصلته أخبار عتاب و عسكره فصعد المنبر فقال- يا أهل الكوفة لا أعز الله من أراد بكم العز- و لا نصر من أراد منكم النصر- اخرجوا عنا فلا تشهدوا معنا قتال عدونا- و الحقوا بالحيرة فانزلوا مع اليهود و النصارى- و لا يقاتلن معنا إلا من لم يشهد قتال عتاب بن ورقاء- .

و خرج شبيب يريد الكوفة فانتهى إلى سورا فقال لأصحابه- أيكم يأتيني برأس عاملها- فانتدب إليه قطين و قعنب و سويد- و رجلان من أصحاب شبيب فكانوا خمسة- و ساروا حتى انتهوا إلى دار الخراج و العمال فيها- فقالوا أجيبوا الأمير فقال الناس أي أمير- قالوا أمير قد خرج من قبل الحجاج- يريد هذا الفاسق شبيبا- فاغتر بذلك عامل سورا فخرج إليهم- فلما خالطهم شهروا السيوف- و حكموا و خبطوه بها حتى قتلوه- و قبضوا ما وجدوا في دار الخراج من مال و لحقوا بشبيب- . فلما رأى شبيب البدر قال أتيتمونا بفتنة المسلمين- هلم يا غلام الحربة فخرق بها البدر- و أمر أن تنخس الدواب التي كانت البدر عليها- فمرت رائحة و المال يتناثر من البدر- حتى وردت الصراة فقال- إن كان بقي شي‏ء فاقذفوه في الماء- .

و قال سفيان بن الأبرد للحجاج- ابعثني إلى شبيب أستقبله قبل أن يرد الكوفة- فقال لا ما أحب أن نفترق حتى ألقاه في جماعتكم- و الكوفة في ظهرنا و أقبل شبيب حتى نزل حمام أعين- و دعا الحجاج الحارث بن معاوية- بن أبي زرعة بن مسعود الثقفي- فوجهه في ناس لم يكونوا شهدوا يوم عتاب- فخرج في ألف رجل حتى انتهى إلى شبيب- ليدفعه عن الكوفة- فلما رآه شبيب حمل عليه فقتله و فل أصحابه- فجاءوا حتى دخلواالكوفة- و بعث شبيب البطين في عشرة فوارس- يرتادون له منزلا على شاطئ الفرات في دار الرزق- فوجه الحجاج حوشب بن يزيد في جمع من أهل الكوفة- فأخذوا بأفواه السكك- فقاتلهم البطين فلم يقو عليهم- فبعث إلى شبيب فأمده بفوارس من أصحابه- فعقروا فرس حوشب و هزموه فنجا بنفسه- و مضى البطين إلى دار الرزق في أصحابه- و نزل شبيب بها و لم يوجه إليه الحجاج أحدا- فابتنى مسجدا في أقصى السبخة- و أقام ثلاثا لم يوجه إليه الحجاج أحدا- و لا يخرج إليه من أهل الكوفة و لا من أهل الشام أحد- و كانت امرأته غزالة نذرت- أن تصلي في مسجد الكوفة ركعتين- تقرأ فيهما بالبقرة و آل عمران- .

فجاء شبيب مع امرأته حتى أوفت بنذرها في المسجد- و أشير على الحجاج أن يخرج بنفسه إليه- فقال لقتيبة بن مسلم إني خارج فاخرج أنت- فارتد لي معسكرا فخرج و عاد فقال- وجدت المدى سهلا- فسر أيها الأمير على اسم الله و الطائر الميمون- فخرج الحجاج بنفسه و مر على مكان فيه كناسة و أقذار- فقال ألقوا لي هنا بساطا فقيل له إن الموضع قذر- فقال ما تدعوني إليه أقذر- الأرض تحته طيبة و السماء فوقه طيبة- .

و وقف هناك و أخرج مولى له يعرف بأبي الورد- و عليه تجفاف و أحاط به غلمان كثير- و قيل هذا الحجاج فحمل عليه شبيب فقتله- و قال إن يكن الحجاج فقد أرحت الناس منه- و دلف الحجاج نحوه حينئذ و على ميمنته مطر بن ناجية- و على ميسرته خالد بن عتاب بن ورقاء- و هو في زهاء أربعة آلاف فقيل له- أيها الأمير لا نعرف‏ شبيبا بمكانك فتنكر و أخفى مكانه- و تشبه به مولى آخر للحجاج في هيئته و زيه- فحمل عليه شبيب فضربه بالعمود فقتله- و يقال إنه قال لما سقط أخ بالخاء المعجمة- فقال شبيب قاتل الله ابن أم الحجاج- اتقى الموت بالعبيد- و ذلك أن العرب تقول عند التأوه أح بالحاء المهملة- .

ثم تشبه بالحجاج أعين صاحب حمام أعين و لبس لبسته- فحمل عليه شبيب فقتله- فقال الحجاج علي بالبغل لأركبه فأتي ببغل محجل- و قيل أيها الأمير أصلحك الله- إن الأعاجم كانت تتطير أن تركب مثل هذا البغل- في مثل هذا اليوم فقال أدنوه مني فإنه أغر محجل- و هذا يوم أغر محجل فركبه- ثم سار في الناس يمينا و شمالا ثم قال- اطرحوا لي عباءة فطرحت له فنزل فجلس عليها ثم قال- ائتوني بكرسي فأتي به فقام فجلس عليه- ثم نادى أهل الشام فقال- يا أهل الشام يا أهل السمع و الطاعة- لا يغلبن باطل هؤلاء الأرجاس حقكم- غضوا الأبصار و اجثوا على الركب- و استقبلوا القوم بأطراف الأسنة- فجثوا على الركب و كأنهم حرة سوداء- . و منذ هذا الوقت ركدت ريح شبيب- و أذن الله تعالى في إدبار أمره و انقضاء أيامه فأقبل- حتى إذا دنا من أهل الشام عبى أصحابه ثلاثة كراديس- كتيبة معه و كتيبة مع سويد بن سليم- و كتيبة مع المحلل بن وائل- و قال لسويد احمل عليهم في خيلك- فحمل عليهم فثبتوا له حتى إذا غشي أطراف أسنتهم- وثبوا في وجهه فقاتلهم طويلا فصبروا له ثم طاعنوه- قدما قدما حتى ألحقوه بأصحابه- .

فلما رأى شبيب صبرهم نادى يا سويد- احمل في خيلك في هذه الرايات الأخرى- لعلك تزيل أهلها فتأتي الحجاج من ورائه- و نحمل نحن عليه من أمامه- فحمل سويد على تلك الرايات و هي بين جدران الكوفة- فرمى بالحجارة من سطوح البيوت- و من أفواه السكك فانصرف و لم يظفروا- .و رماه عروة بن المغيرة بن شعبة بالسهام- و قد كان الحجاج جعله في ثلاثمائة رام من أهل الشام- ردءا له كي لا يؤتى من ورائه فصاح شبيب في أصحابه- . يا أهل الإسلام إنما شريتم لله- و من يكن شراؤه لله لم يضره ما أصابه من ألم و أذى- لله أبوكم الصبر الصبر- شدة كشداتكم الكريمة في مواطنكم المشهورة- . فشدوا شدة عظيمة- فلم يزل أهل الشام عن مراكزهم- فقال شبيب الأرض دبوا دبيبا تحت تراسكم- حتى إذا صارت أسنة أصحاب الحجاج فوقها- فأذلقوها صعدا و ادخلوا تحتها- و اضربوا سوقهم و أقدامهم و هي الهزيمة بإذن الله- فأقبلوا يدبون دبيبا تحت الحجف- صمدا صمدا نحو أصحاب الحجاج- .

فقال خالد بن عتاب بن ورقاء أيها الأمير- أنا موتور و لا أتهم في نصيحتي- فأذن لي حتى آتيهم من ورائهم- فأغير على معسكرهم و ثقلهم فقال افعل ذلك- فخرج في جمع من مواليه و شاكريته و بني عمه- حتى صار من ورائهم فالتقى بمصاد أخي شبيب فقتله- و قتل غزالة امرأة شبيب و ألقى النار في معسكرهم- و التفت شبيب و الحجاج فشاهدا النار- فأما الحجاج فكبر و كبر أصحابه- و أما شبيب فوثب هو- و كل راجل من أصحابه على خيولهم مرعوبين- فقال الحجاج لأصحابه شدوا عليهم- فقد أتاهم ما أرعبهم فشدوا عليهم فهزموهم- و تخلف شبيب في خاصة الناس حتى خرج من الجسر- و تبعه خيل الحجاج و غشيه النعاس- فجعل يخفق برأسه و الخيل تطلبه- .
قال أصغر الخارجي كنت معه ذلك اليوم- فقلت يا أمير المؤمنين التفت‏ فانظر من خلفك- فالتفت غير مكترث و جعل يخفق برأسه- قال و دنوا منا فقلت يا أمير المؤمنين- قد دنا القوم منك- فالتفت و الله ثانية غير مكترث بهم و جعل يخفق برأسه- و بعث الحجاج خيلا تركض تقول- دعوه يذهب في حرق الله فتركوه و انصرفوا عنه- .

و مضى شبيب بأصحابه حتى قطعوا جسر المدائن- فدخلوا ديرا هناك و خالد بن عتاب يقفوهم- فحصرهم في الدير فخرج شبيب إليه- فهزمه و أصحابه نحوا من فرسخين- حتى ألقى خالد نفسه في دجلة هو و أصحابه بخيولهم- فمر به شبيب فرآه في دجلة و لواؤه في يده فقال- قاتله الله فارسا و قاتل فرسه- فرس هذا أشد الناس قوة- و فرسه أقوى فرس في الأرض و انصرف- فقيل له بعد انصرافه- إن الفارس الذي رأيت هو خالد بن عتاب بن ورقاء فقال- معرق في الشجاعة لو علمت لأقحمت خلفه و لو دخل النار- . ثم دخل الحجاج الكوفة بعد هزيمة شبيب فصعد المنبر- و قال و الله ما قوتل شبيب قط قبل اليوم ولى هاربا- و ترك امرأته يكسر في استها القصب- .

ثم دعا حبيب بن عبد الرحمن- فبعثه في أثره في ثلاثة آلاف من أهل الشام و قال- احذر بياته و حيثما لقيته فنازله- فإن الله تعالى قد فل حده و قصم نابه- فخرج حبيب في أثره حتى نزل الأنبار- و بعث الحجاج إلى العمال أن دسوا إلى أصحاب شبيب- من جاءنا منكم فهو آمن- فكان كل من ليست له بصيرة في دين الخوارج- ممن هزه القتال و كرهه ذلك اليوم يجي‏ء فيؤمن- و قبل ذلك كان الحجاج نادى يوم هزم شبيب- من جاءنا فهو آمن- فتفرق عن شبيب ناس كثير من أصحابه- .

و بلغ شبيبا منزل حبيب بن عبد الرحمن بالأنبار- فأقبل بأصحابه حتى دنا منه- فقال يزيد السكسكي- كنت مع أهل الشام بالأنبار ليلة جاءنا شبيب- فبيتنا فلما أمسينا جمعنا حبيب بن عبد الرحمن- فجعلنا أرباعا و جعل على كل ربع أميرا- و قال لنا ليحم كل ربع منكم جانبه- فإن قتل هذا الربع فلا يعنهم الربع الآخر- فإنه بلغني أن الخوارج منكم قريب- فوطنوا أنفسكم على أنكم مبيتون فمقاتلون- قال فما زلنا على تعبيتنا- حتى جاءنا شبيب تلك الليلة فبيتنا- فشد على ربع منا فصابرهم طويلا- فما زالت قدم إنسان منهم- ثم تركهم و أقبل إلى ربع آخر- فقاتلهم طويلا فلم يظفر بشي‏ء- ثم طاف بنا يحمل علينا ربعا ربعا- حتى ذهب ثلاثة أرباع الليل- و لصق بنا حتى قلنا لا يفارقنا- ثم ترجل فنازلنا راجلا نزالا طويلا هو و أصحابه- فسقطت و الله بيننا و بينهم الأيدي و الأرجل- و فقئت الأعين و كثرت القتلى- فقتلنا منهم نحو ثلاثين و قتلوا منا نحو مائة- و ايم الله لو كانوا أكثر من مائتي رجل لأهلكونا- ثم فارقونا و قد مللناهم و ملونا و كرهناهم و كرهونا- و لقد رأيت الرجل منا يضرب الرجل منهم بالسيف- فما يضره من الإعياء و الضعف- و لقد رأيت الرجل منا يقاتل جالسا- ينفخ بسيفه ما يستطيع أن يقوم من الإعياء و البهر- حتى ركب شبيب و قال لأصحابه الذين نزلوا معه- اركبوا و توجه بهم منصرفا عنا- . فقال فروة بن لقيط الخارجي- و كان شهد معه مواطنه كلها قال لنا ليلتئذ- و قد رأى‏بنا كآبة ظاهرة و جراحات شديدة- ما أشد هذا الذي بنا لو كنا نطلب الدنيا- و ما أيسر هذا في طاعة الله و ثوابه- فقال أصحابه صدقت يا أمير المؤمنين- .

قال فروة بن لقيط- و سمعته تلك الليلة يحدث سويد بن سليم و يقول له- لقد قتلت منهم أمس رجلين من أشجع الناس- خرجت عشية أمس طليعة لكم- فلقيت منهم ثلاثة نفر دخلوا قرية- يشترون منها حوائجهم فاشترى أحدهم حاجته- و خرج قبل أصحابه فخرجت معه فقال لي- أراك لم تشتر علفا فقلت إن لي رفقاء قد كفوني ذلك- ثم قلت له أين ترى عدونا هذا نزل فقال- بلغني أنه قد نزل قريبا منا- و ايم الله لوددت أني لقيت شبيبهم هذا- قلت أ فتحب ذلك قال إي و الله- قلت فخذ حذرك فأنا و الله شبيب- و انتضيت السيف فخر و الله ميتا- فقلت له ارتفع ويحك و ذهبت أنظر فإذا هو قد مات- فانصرفت راجعا فاستقبلت الآخر خارجا من القرية فقال- أين تذهب هذه الساعة التي- يرجع فيها الناس إلى معسكرهم- فلم أكلمه و مضيت فنفرت بي فرسي و ذهبت تتمطر- فإذا به في أثري حتى لحقني فعطفت عليه و قلت- ما بالك قال أظنك و الله من عدونا قلت أجل و الله- قال إذا لا تبرح حتى أقتلك أو تقتلني- فحملت عليه و حمل علي فاضطربنا بسيفينا ساعة- فو الله ما فضلته في شدة نفس و لا إقدام- إلا أن سيفي كان أقطع من سيفه فقتلته- . و بلغ شبيبا أن جند الشام الذي مع حبيب- حملوا معهم حجرا و حلفوا لا يفرون حتى يفر هذا الحجر- فأراد أن يكذبهم فعمد إلى أربعة أفراس- و ربط في أذنابها ترسة
في ذنب كل فرس ترسين- ثم ندب ثمانية نفر من أصحابه- و غلاما له يقال له حيان كان شجاعا فاتكا- و أمره أن يحمل معه إداوة من ماء- ثم سار ليلا حتى أتى ناحية من عسكر أهل الشام-

فأمر أصحابه أن يكونوا في نواحي العسكر الأربع- و أن يكون مع كل رجلين فرس- ثم يلبسوها الحديد حتى تجد حره ثم يخلوها في العسكر- و واعدهم تلعة قريبة من العسكر و قال- من نجا منكم فإن موعده التلعة- فكره أصحابه الإقدام على ما أمرهم- فنزل بنفسه حتى صنع بالخيل ما أمرهم به- حتى دخلت في العسكر و دخل هو يتلوها- و يشد خلفها شدا محكما فتفرقت في نواحي العسكر- و اضطرب الناس فضرب بعضهم بعضا و ماجوا- و نادى حبيب بن عبد الرحمن ويحكم إنها مكيدة- فالزموا الأرض حتى يتبين لكم الأمر ففعلوا- و حصل شبيب بينهم فلزم الأرض معهم حتى رآهم قد سكنوا- و قد أصابته ضربة عمود أوهنته- .

فلما هدأ الناس و رجعوا إلى مراكزهم خرج في غمارهم- حتى أتى التلعة فإذا مولاه حيان فقال- أفرغ ويحك على رأسي من هذه الإداوة- فلما مد رأسه ليصب عليه من الماء هم حيان بضرب عنقه- و قال لنفسه لا أجد مكرمة لي- و لا ذكرا أرفع من هذا في هذه الخلوة- و هو أماني من الحجاج فأخذته الرعدة حين هم بما هم به- فلما أبطأ عليه قال له ويحك ما انتظارك بحلها- ناولنيها و تناول السكين من موزجه فخرقها به- ثم ناوله إياها فأفرغ عليه من الماء- فكان حيان بعد ذلك يقول- لقد هممت فأخذتني الرعدة فجبنت عنه- و ما كنت أعهد نفسي جبانا- . ثم إن الحجاج أخرج الناس إلى شبيب- و قسم فيهم أموالا عظيمة و أعطى الجرحى و كل ذي بلاء- و أمر سفيان بن الأبرد أن يسير بهم- فشق ذلك على حبيب‏ بن عبد الرحمن و قال- تبعث سفيان إلى رجل قد فللته و قتلت فرسانه- و كان شبيب قد أقام بكرمان حتى جبر- و استراش هو و أصحابه فمضى سفيان بالرجال- و استقبله شبيب بدجيل الأهواز و عليه جسر معقود- فعبر إلى سفيان فوجده قد نزل بالرجال- و جعل مهاصر بن صيفي على خيله- و بشر بن حسان الفهري على ميمنته- و عمر بن هبيرة الفزاري على ميسرته- و أقبل شبيب في ثلاثة كراديس هو في كتيبة- و سويد بن سليم في كتيبة و قعنب في كتيبة- و خلف المحلل في عسكره- فلما حمل سويد و هو في ميمنته على ميسرة سفيان- و قعنب و هو في ميسرته على ميمنة سفيان- حمل هو على سفيان ثم اضطربوا مليا- حتى رجعت الخوارج إلى مكانها الذي كانوا فيه- .

فقال يزيد السكسكي و كان من أصحاب سفيان يومئذ- كر علينا شبيب و أصحابه أكثر من ثلاثين كرة- و لا يزول من صفنا أحد- فقال لنا سفيان لا تحملوا عليهم متفرقين- و لكن لتزحف عليهم الرجال زحفا ففعلنا- و ما زلنا نطاعنهم حتى اضطررناهم إلى الجسر- فقاتلونا عليه أشد قتال يكون لقوم قط- ثم نزل شبيب و نزل معه نحو مائة رجل- فما هو إلا أن نزلوا حتى أوقعوا بنا- من الضرب و الطعن شيئا ما رأينا مثله قط و لا ظنناه يكون- فلما رأى سفيان أنه لا يقدر عليهم و لا يأمن ظفرهم- دعا الرماة فقال ارشقوهم بالنبل و ذلك عند المساء- و كان الالتقاء ذلك اليوم نصف النهار فرشقهم أصحابه- و قد كان سفيان صفهم على حدة و عليهم أمير- فلما رشقوهم شدوا عليهم- فشددنا نحن و شغلناهم عنهم- فلما رأوا ذلك ركب شبيب و أصحابه- و كروا على أصحاب النبل كرة شديدة- صرعوا منهم فيها أكثر من ثلاثين راميا- ثم عطف علينا يطاعننا بالرماح- حتى اختلط الظلام ثم انصرف عنا- فقال سفيان بن الأبرد لأصحابه‏ يا قوم دعوهم لا تتبعوهم- يا قوم دعوهم لا تتبعوهم حتى نصبحهم قال- فكففنا عنهم و ليس شي‏ء أحب إلينا من أن ينصرفوا عنا- . قال فروة بن لقيظ الخارجي- فلما انتهينا إلى الجسر قال شبيب- اعبروا معاشر المسلمين- فإذا أصبحنا باكرناهم إن شاء الله تعالى- قال فعبرنا أمامه و تخلف في آخرنا- و أقبل يعبر الجسر و تحته حصان جموح- و بين يديه فرس أنثى ماذيانة- فنزا حصانه عليها و هو على الجسر فاضطربت الماذيانة- و زل حافر فرس شبيب عن حرف السفينة- فسقط في الماء فسمعناه يقول لما سقط- ليقضي الله أمرا كان مفعولا- و اغتمس في الماء ثم ارتفع فقال- ذلك تقدير العزيز العليم- ثم اغتمس في الماء فلم يرتفع- .

هكذا روى أكثر الناس و قال قوم- إنه كان مع شبيب رجال كثير بايعوه في الوقائع التي- كان يهزم الجيش فيها- و كانت بيعتهم إياه على غير بصيرة- و قد كان أصاب عشائرهم و ساداتهم فهم منه موتورون- فلما تخلف في أخريات الناس يومئذ- قال بعضهم لبعض هل لكم أن نقطع به الجسر- فندرك ثارنا الساعة فقالوا هذا هو الرأي- فقطعوا الجسر فمالت به السفينة- ففزع حصانه و نفر فسقط في الماء و غرق- . و الرواية الأولى أشهر- فحدث قوم من أصحاب سفيان قالوا- سمعنا صوت الخوارج يقولون غرق أمير المؤمنين- فعبرنا إلى عسكرهم فإذا هو ليس فيه صافر و لا أثر- فنزلنا فيه و طلبنا شبيبا- حتى استخرجناه من الماء و عليه الدرع- فيزعم الناس أنهم‏شقوا بطنه و أخرجوا قلبه- فكان مجتمعا صلبا كالصخرة- و أنه كان يضرب به الأرض فينبو و يثب قامة الإنسان- . و يحكى أن أم شبيب كانت لا تصدق أحدا نعاه إليها- و قد كان قيل لها مرارا إنه قد قتل فلا تقبل- فلما قيل لها إنه قد غرق بكت- فقيل لها في ذلك فقالت رأيت في المنام حين ولدته- أنه خرج من فرجي نار ملأت الآفاق ثم سقطت في ماء فخمدت- فعلمت أنه لا يهلك إلا بالغرق

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن ‏أبی ‏الحدید) ج ۴

خطبه 57 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(قسمت اول)

57 و من كلام له ع كلم به الخوارج- :

أَصَابَكُمْ حَاصِبٌ وَ لَا بَقِيَ مِنْكُمْ آبِرٌ- أَ بَعْدَ إِيمَانِي بِاللَّهِ وَ جِهَادِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ص- أَشْهَدُ عَلَى نَفْسِي بِالْكُفْرِ- لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَ مَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ- فَأُوبُوا شَرَّ مَآبٍ وَ ارْجِعُوا عَلَى أَثَرِ الْأَعْقَابِ- أَمَا إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي ذُلًّا شَامِلًا وَ سَيْفاً قَاطِعاً- وَ أَثَرَةً يَتَّخِذُهَا الظَّالِمُونَ فِيكُمْ سُنَّةً قال الرضي رحمه الله- قوله ع و لا بقي منكم آبر يروى على ثلاثة أوجه- أحدها أن يكون كما ذكرناه آبر بالراء- من قولهم رجل آبر للذي يأبر النخل أي يصلحه- . و يروى آثر بالثاء بثلاث نقط- يراد به الذي يأثر الحديث- أي يرويه و يحكيه و هو أصح الوجوه عندي- كأنه ع قال لا بقي منكم مخبر- . و يروى آبز بالزاي المعجمة و هو الواثب- و الهالك أيضا يقال له آبزالحاصب الريح الشديدة التي تثير الحصباء- و هو صغار الحصى و يقال لها أيضا حصبة- قال لبيد

جرت عليها إذ خوت من أهلها
أذيالها كل عصوف حصبه‏

فأما التفسيرات التي فسر بها الرضي رحمه الله- تعالى قوله ع آبر فيمكن أن يزاد فيها- فيقال يجوز أن يريد بقوله و لا بقي منكم آبر- أي نمام يفسد ذات البين- و المئبرة النميمة و أبر فلان أي نم- و الآبر أيضا من يبغي القوم الغوائل خفية- مأخوذ من أبرت الكلب إذا أطعمته الإبرة في الخبز- و في الحديث المؤمن كالكلب المأبور – و يجوز أن يكون أصله هابر- أي من يضرب بالسيف فيقطع- و أبدلت الهاء همزة كما قالوا في آل أهل- و إن صحت الرواية الأخرى آثر بالثاء بثلاث نقط- فيمكن أن يريد به ساجي باطن خف البعير- و كانوا يسجون باطن الخف بحديدة ليقتص أثره- رجل آثر و بعير مأثور- . و قوله ع فأوبوا شر مآب أي ارجعوا شر مرجع- و الأعقاب جمع عقب بكسر القاف و هو مؤخر القدم- و هذا كله دعاء عليهم- قال لهم أولا أصابكم حاصب و هذا من دعاء العرب- قال تميم بن أبي مقبل-

فإذا خلت من أهلها و قطينها
فأصابها الحصباء و السفان‏

 ثم قال لهم ثانيا لا بقي منكم مخبر- ثم قال لهم ثالثا ارجعوا شر مرجع- ثم قال لهم رابعا عودوا على أثر الأعقاب- و هو مأخوذ من قوله تعالى- وَ نُرَدُّعَلى‏ أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ- و المراد انعكاس حالهم و عودهم من العز إلى الذل- و من الهداية إلى الضلال- . و قوله ع و أثرة يتخذها الظالمون فيكم سنة- فالأثرة هاهنا الاستبداد عليهم بالفي‏ء و الغنائم- و اطراح جانبهم- و قال النبي ص للأنصار ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني

أخبار الخوارج و ذكر رجالهم و حروبهم

و اعلم أن الخوارج على أمير المؤمنين ع- كانوا أصحابه و أنصاره في الجمل و صفين قبل التحكيم- و هذه المخاطبة لهم و هذا الدعاء عليهم- و هذا الإخبار عن مستقبل حالهم و قد وقع ذلك- فإن الله تعالى سلط على الخوارج بعده الذل الشامل- و السيف القاطع و الأثرة من السلطان- و ما زالت حالهم تضمحل- حتى أفناهم الله تعالى و أفنى جمهورهم- و لقد كان لهم من سيف المهلب بن أبي صفرة- و بنيه الحتف القاضي و الموت الزؤام- . و نحن نذكر من أخبار الخوارج و حروبهم هاهنا طرفا

عروة بن حدير

فمنهم عروة بن حدير أحد بني ربيعة بن حنظلة من بني تميم- و يعرف بعروة بن أدية و أدية جدة له جاهلية- و كان له أصحاب و و أتباع و شيعة- فقتله زياد في خلافة معاوية صبرا

نجدة بن عويمر الحنفي

و منهم نجدة بن عويمر الحنفي كان من رؤسائهم- و له مقالة مفردة من مقالة الخوارج‏ و له أتباع و أصحاب- و إليهم أشار الصلتان العبدي بقوله-

أرى أمة شهرت سيفها
و قد زيد في سوطها الأصبحي‏

بنجدية أو حررية
و أزرق يدعو إلى أزرقي‏

فملتنا أننا مسلمون
على دين صديقنا و النبي‏

أشاب الصغير و أفنى‏
الكبير مر الغداة و كر العشي‏

إذا ليلة أهرمت يومها
أتى بعد ذلك يوم فتي‏

نروح و نغدو لحاجاتنا
و حاجة من عاش لا تنقضي‏

تموت مع المرء حاجاته
و تبقى له حاجة ما بقي‏

و كان نجدة يصلي بمكة بحذاء عبد الله بن الزبير في جمعة [في كل جمعة]- و عبد الله يطلب الخلافة- فيمسكان عن القتال من أجل الحرم- . و قال الراعي يخاطب عبد الملك-

إني حلفت على يمين برة
لا أكذب اليوم الخليفة قيلا

ما إن أتيت أبا خبيب وافدا
يوما أريد لبيعتي تبديلا

و لما أتيت نجيدة بن عويمر
أبغي الهدى فيزيدني تضليلا

من نعمة الرحمن لا من حيلتي‏
أنى أعد له علي فضولا

 و استولى نجدة على اليمامة و عظم أمره- حتى ملك اليمن و الطائف و عمان و البحرين- و وادي تميم و عامر- ثم إن أصحابه نقموا عليه أحكاما أحدثها في مذهبهم- منها قوله إن‏ المخطئ بعد الاجتهاد معذور- و إن الدين أمران معرفة الله و معرفة رسوله- و ما سوى ذلك فالناس معذورون بجهله- إلى أن تقوم عليهم الحجة- فمن استحل محرما من طريق الاجتهاد فهو معذور- حتى أن من تزوج أخته أو أمه مستحلا لذلك بجهالة- فهو معذور و مؤمن- فخلعوه و جعلوا اختيار الإمام إليه- فاختار لهم أبا فديك أحد بني قيس بن ثعلبة- فجعله رئيسهم- ثم إن أبا فديك أنفذ إلى نجدة بعد من قتله- ثم تولاه بعد قتله طوائف من أصحابه بعد أن تفرقوا عليه- و قالوا قتل مظلوما

المستورد بن سعد التميمي

و منهم المستورد بن سعد أحد بني تميم- كان ممن شهد يوم النخيلة- و نجا بنفسه فيمن نجا من سيف علي ع- ثم خرج بعد ذلك بمدة على المغيرة بن شعبة- و هو والي الكوفة لمعاوية بن أبي سفيان- في جماعة من الخوارج- فوجه المغيرة إليه معقل بن قيس الرياحي- فلما تواقفا دعاه المستورد إلى المبارزة- و قال له علام تقتل الناس بيني و بينك- فقال معقل النصف سألت فأقسم عليه أصحابه- فقال ما كنت لآبى عليه فخرج إليه فاختلفا ضربتين- خر كل واحد منهما من ضربة صاحبه قتيلا- . و كان المستورد ناسكا كثير الصلاة- و له آداب و حكم مأثارة

حوثرة الأسدي

و منهم حوثرة الأسدي خرج على معاوية في عام الجماعة في عصابة من الخوارج- فبعث إليه معاوية جيشا من أهل الكوفة- فلما نظر حوثرة إليهم قال لهم يا أعداء الله- أنتم بالأمس تقاتلون معاوية لتهدوا سلطانه- و أنتم اليوم تقاتلون معه لتشدوا سلطانه- فلماالتحمت الحرب قتل حوثرة- قتله رجل من طيئ و فضت جموعه

قريب بن مرة و زحاف الطائي

و منهم قريب بن مرة الأزدي و زحاف الطائي- كانا عابدين مجتهدين من أهل البصرة- فخرجا في أيام معاوية في إمارة زياد- و اختلف الناس أيهما كان الرئيس فاعترضا الناس- فلقيا شيخا ناسكا من بني ضبيعة- من ربيعة بن نزار فقتلاه- و كان يقال له رؤبة الضبعي و تنادى الناس- فخرج رجل من بني قطيعة من الأزد و في يده السيف- فناداه الناس من ظهور البيوت الحرورية أنج بنفسك- فنادوه لسنا حرورية نحن الشرط فوقف فقتلوه- فبلغ أبا بلال مرداس بن أدية خبرهما- فقال قريب لا قربه الله و زحاف لا عفا الله عنه- ركباها عشواء مظلمة يريد اعتراضهما الناس- ثم جعلا لا يمران بقبيلة إلا قتلا من وجدا- حتى مرا على بني علي بن سود من الأزد- و كانوا رماة كان فيهم مائة يجيدون الرمي- فرموهم رميا شديدا- فصاحوا يا بني علي البقيا لا رماء بيننا- فقال رجل من بني علي بن سود-

لا شي‏ء للقوم سوى السهام
مشحوذة في غلس الظلام‏

فعرد عنهم الخوارج و خافوا الطلب- و اشتقوا مقبرة بني يشكر حتى نفذوا إلى مزينة- ينتظرون من يلحق بهم من مضر و غيرها- فجاءهم ثمانون و خرجت إليهم بنو طاحية من بنو سود- و قبائل من مزينة و غيرها- فاستقتلت الخوارج و حاربت حتى قتلت عن آخرها- و قتل قريب و زحاف- .

أبو بلال مرداس بن أدية

و منهم أبو بلال مرداس بن أدية- و هو أخو عروة بن حدير الذي ذكرناه أولا- خرج في أيام عبيد الله بن زياد- و أنفذ إليه ابن زياد عباس بن أخضر المازني- فقتله و قتل أصحابه و حمل رأسه إلى ابن زياد- و كان أبو بلال عابدا ناسكا شاعرا- و من قدماء أصحابنا من يدعيه- لما كان يذهب إليه من العدل و إنكار المنكر- و من قدماء الشيعة من يدعيه أيضا

نافع بن الأزرق الحنفي

و منهم نافع بن الأزرق الحنفي- و كان شجاعا مقدما في فقه الخوارج- و إليه تنسب الأزارقة- و كان يفتي بأن الدار دار كفر و أنهم جميعا في النار- و كل من فيها كافر إلا من أظهر إيمانه- و لا يحل للمؤمنين أن يجيبوا داعيا منهم إلى الصلاة- و لا أن يأكلوا من ذبائحهم و لا أن يناكحوهم- و لا يتوارث الخارجي و غيره- و هم مثل كفار العرب و عبدة الأوثان- لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف- و القعد بمنزلتهم و التقية لا تحل- لأن الله تعالى يقول إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ- كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً- و قال فيمن كان على خلافهم- يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ- فتفرق عنه جماعة من الخوارج منهم نجدة بن عامر- و احتج نجدة بقول الله تعالى- وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ- فسار نجدة و أصحابه إلى اليمامة- و أضاف نافع إلى مقالته التي قدمناها- استحلاله الغدر بأمانته لمن خالفه فكتب نجدة إليه-

أما بعد فإن عهدي بك و أنت لليتيم كالأب الرحيم- و للضعيف كالأخ البر تعاضد قوى المسلمين- و تصنع للأخرق منهم لا تأخذك في الله لومة لائم و لا ترى معونة ظالم- كذلك كنت أنت و أصحابك- أ و لا تتذكر قولك- لو لا أني أعلم أن للإمام العادل مثل أجر رعيته- ما توليت أمر رجلين من المسلمين- فلما شريت نفسك في طاعة ربك ابتغاء مرضاته- و أصبت من الحق فصه و صبرت على مره- تجرد لك الشيطان- و لم يكن أحد أثقل عليه وطأة منك و من أصحابك- فاستمالك و استهواك و أغواك فغويت- و أكفرت الذين عذرهم الله تعالى في كتابه- من قعدة المسلمين و ضعفتهم- قال الله عز و جل و قوله الحق و وعده الصدق- لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى الْمَرْضى‏- وَ لا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ- إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ- ثم سماهم تعالى أحسن الأسماء- فقال ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ- ثم استحللت قتل الأطفال- و قد نهى رسول الله ص عن قتلهم-

و قال الله جل ثناؤه وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‏- و قال سبحانه في القعدة خيرا- فقال وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً- فتفضيله المجاهدين على القاعدين- لا يدفع منزلة من هو دون المجاهدين- أ و ما سمعت قوله تعالى- لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ- فجعلهم من المؤمنين- و فضل عليهم المجاهدين بأعمالهم- ثم إنك لا تؤدي أمانة إلى من خالفك- و الله تعالى قد أمر أن تؤدى الأمانات إلى أهلها- فاتق الله في نفسك و اتق يوما لا يجزى فيه والد عن ولده- و لا مولود هو جاز عن والده شيئا- فإن الله بالمرصاد و حكمه العدل و قوله الفصل و السلام-

فكتب إليه نافع- أما بعد أتاني كتابك تعظني فيه- و تذكرني و تنصح لي و تزجرني- و تصف ما كنت عليه من الحق- و ما كنت أوثره من الصواب- و أنا أسأل الله أن يجعلني من القوم- الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه- . و عبت علي ما دنت به- من إكفار القعدة و قتل الأطفال- و استحلال الأمانة من المخالفين- و سأفسر لك إن شاء الله- . أما هؤلاء القعدة- فليسوا كمن ذكرت ممن كان على عهد رسول الله ص- لأنهم كانوا بمكة مقهورين محصورين- لا يجدون إلى الهرب سبيلا- و لا إلى الاتصال بالمسلمين طريقا- و هؤلاء قد تفقهوا في الدين و قرءوا القرآن- و الطريق لهم نهج واضح- و قد عرفت ما قال الله تعالى فيمن كان مثلهم- إذ قالوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ- فقال أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها- و قال سبحانه فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ- وَ كَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ- و قال وَ جاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ- فخبر بتعذيرهم و أنهم كذبوا الله و رسوله- ثم قال سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ- فانظر إلى أسمائهم و سماتهم- . و أما الأطفال فإن نوحا نبي الله كان أعلم بالله مني و منك- و قد قال رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً- إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ- وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً- فسماهم بالكفر و هم أطفال و قبل أن يولدوا- فكيف كان ذلك‏ في قوم نوح و لا تقوله في قومنا- و الله تعالى يقول- أَ كُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ- و هؤلاء كمشركي العرب لا يقبل منهم جزية- و ليس بيننا و بينهم إلا السيف أو الإسلام- .

و أما استحلال أمانات من خالفنا- فإن الله تعالى أحل لنا أموالهم- كما أحل دماءهم لنا فدماؤهم حلال طلق- و أموالهم في‏ء للمسلمين فاتق الله و راجع نفسك- فإنه لا عذر لك إلا بالتوبة- و لن يسعك خذلاننا- و القعود عنا و ترك ما نهجناه لك من مقالتنا- و السلام على من أقر بالحق و عمل به- . و كتب إلى من بالبصرة من المحكمة- أما بعد فإن الله اصطفى لكم الدين- فلا تموتن إلا و أنتم مسلمون- إنكم لتعلمون أن الشريعة واحدة و الدين واحد- ففيم المقام بين أظهر الكفار ترون الظلم ليلا و نهارا- و قد ندبكم الله عز و جل إلى الجهاد-

فقال وَ قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً- و لم يجعل لكم في التخلف عذرا في حال من الأحوال- فقال انْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالًا- و إنما عذر الضعفاء و المرضى- و الذين لا يجدون ما ينفقون- و من كانت إقامته لعلة- ثم فضل عليهم مع ذلك المجاهدين- فقال لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ- وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ- فلا تغتروا و تطمئنوا إلى الدنيا- فإنها غرارة مكارة لذتها نافدة و نعيمها بائد- حفت بالشهوات اغترارا و أظهرت حبرة و أضمرت عبرة- فليس آكل منها أكلة تسره- و لا شارب منها شربة تؤنقه إلا و دنا بها درجة إلى أجله- و تباعد بها مسافة من أمله- و إنما جعلها الله دار المتزود منها- إلى النعيم المقيم و العيش السليم- فليس يرضى بها حازم دارا و لا حكيم قرارا- فاتقوا الله و تزودوا فإن خير الزاد التقوى- و السلام على من اتبع الهدى- .

فلما أظهر نافع مقالته هذه و انفرد عن الخوارج بها- أقام في أصحابه بالأهواز يستعرض الناس و يقتل الأطفال- و يأخذ الأموال و يجبي الخراج- و فشا عماله بالسواد فارتاع لذلك أهل البصرة- و اجتمع منهم عشرة آلاف إلى الأحنف- و سألوه أن يؤمر عليهم أميرا يحميهم من الخوارج و يجاهد بهم- فأتى عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب- و هو المسمى ببة- فسأله أن يؤمر عليهم- و ببة يومئذ أمير البصرة من قبل ابن الزبير- فأمر عليهم مسلم بن عبيس بن كريز و كان دينا شجاعا- فلما خرج بهم من جسر البصرة أقبل عليهم- و قال أيها الناس إني ما خرجت لامتيار ذهب و لا فضة- و إني لأحارب قوما إن ظفرت بهم- فما وراءهم إلا السيوف و الرماح- فمن كان شأنه الجهاد فلينهض- و من أحب الحياة فليرجع- .

فرجع نفر يسير و مضى الباقون معه- فلما صاروا بدولاب خرج إليهم نافع و أصحابه- فاقتتلوا قتالا شديدا حتى تكسرت الرماح- و عقرت الخيل و كثر الجراح و القتل- و تضاربوا بالسيوف و العمد- فقتل ابن عبيس أمير أهل البصرة- و قتل نافع بن الأزرق أمير الخوارج- و ادعى قتله سلامة الباهلي- و كان نافع قد استخلف عبيد الله بن بشير- بن الماحوز السليطي اليربوعي- و استخلف ابن عبيس الربيع- بن عمرو الأجذم الغداني اليربوعي- فكان الرئيسان من بني يربوع- فاقتتلوا بعد قتل ابن عبيس و نافع- قتالا شديدا نيفا و عشرين يوما- حتى قال الربيع لأصحابه إني رأيت البارحة- كأن يدي‏ التي أصيبت بكابل انحطت من السماء- فاستشلتني- فلما كان الغد قاتلهم إلى الليل ثم عاودهم القتال- فقتل فتدافع أهل البصرة الراية- حتى خافوا العطب إذ لم يكن لهم رئيس- ثم أجمعوا على الحجاج بن رباب الحميري فأباها- فقيل له أ لا ترى رؤساء العرب قد اختاروك من بينهم- فقال إنها مشئومة لا يأخذها أحد إلا قتل- ثم أخذها فلم يزل يقاتل القوم بدولاب- – حتى التقى بعمران بن الحارث الراسبي- و ذلك بعد أن اقتتلوا زهاء شهر- فاختلفا ضربتين فخرا ميتين- . و قام حارثة بن بدر الغداني بأمر أهل البصرة بعده- و ثبت بإزاء الخوارج يناوشهم القتال مناوشة خفيفة- و يزجي الأوقات انتظارا- لقدوم أمير من قبل ببة يلي حرب الخوارج- و هذه الحرب تسمى حرب دولاب- و هي من حروب الخوارج المشهورة- انتصف فيها الخوارج من المسلمين- و انتصف المسلمون منهم- فلم يكن فيها غالب و لا مغلوب

عبيد الله بن بشير بن الماحوز اليربوعي

و منهم عبيد الله بن بشير بن الماحوز اليربوعي- قام بأمر الخوارج يوم دولاب بعد قتل نافع بن الأزرق- و قام بأمر أهل البصرة عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي- ولاه عبد الله بن الزبير ذلك- و لقيه كتابه بالإمارة و هو يريد الحج- و قد صار إلى بعض الطريق فرجع فأقام بالبصرة- و ولى أخاه عثمان بن عبيد الله بن معمر محاربة الأزارقة- فخرج إليهم في اثني عشر ألفا- فلقيه أهل البصرة الذين كانوا في وجه الأزارقة- و معهم حارثة بن بدر الغداني- يقوم بأمرهم عن غير ولاية- و كان ابن الماحوز حينئذ في سوق الأهواز- فلما عبرعثمان إليهم دجيلا- نهضت إليه الخوارج- فقال عثمان لحارثه ما الخوارج إلا ما أرى- فقال حارثة حسبك بهؤلاء قال لا جرم- لا أتغدى حتى أناجزهم- فقال حارثة إن هؤلاء القوم لا يقاتلون بالتعسف- فأبق على نفسك و جندك- فقال أبيتم يا أهل العراق إلا جبنا- و أنت يا حارثة ما علمك بالحرب- أنت و الله بغير هذا أعلم يعرض له بالشراب- و كان حارثة بن بدر صاحب شراب فغضب حارثة فاعتزل- و حاربهم عثمان يومه إلى أن غربت الشمس- فأجلت الحرب عنه قتيلا و انهزم الناس- و أخذ حارثة بن بدر الراية و صاح بالناس- أنا حارثة بن بدر فثاب إليه قوم فعبر بهم دجيلا- و بلغ قتل عثمان البصرة- فقال شاعر من بني تميم-

مضى ابن عبيس صابرا غير عاجز
و أعقبنا هذا الحجازي عثمان‏

فأرعد من قبل اللقاء ابن معمر
و أبرق و البرق اليماني خوان‏

فضحت قريشا غثها و سمينها
و قيل بنو تيم بن مرة عزلان‏

فلو لا ابن بدر للعراقين لم يقم‏
بما قام فيه للعراقين إنسان‏

إذا قيل من حامي الحقيقة أومأت
إليه معد بالأكف و قحطان‏

 و وصل الخبر إلى عبد الله بن الزبير بمكة- فكتب إلى عمر بن عبيد الله بن معمر بعزله- و ولى الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي- المعروف بالقباع البصرة فقدمها- فكتب إليه حارثة بن بدر يسأله الولاية و المدد- فأراد توليته- فقال له رجل من بكر بن‏ وائل- إن حارثة ليس بذلك إنما هو صاحب شراب- و كان حارثة مستهترا بالشراب معاقرا للخمر- و فيه يقول رجل من قومه-

أ لم تر أن حارثة بن بدر
يصلي و هو أكفر من حمار

أ لم تر أن للفتيان حظا
و حظك في البغايا و العقار

فكتب إليه القباع تكفى حربهم إن شاء الله- فأقام حارثة يدافعهم حتى تفرق أصحابه عنه- و بقي في خف منهم- فأقام بنهر تيري فعبرت إليه الخوارج- فهرب من تخلف معه من أصحابه- و خرج يركض حتى أتى دجيلا فجلس في سفينة- و اتبعه جماعة من أصحابه فكانوا معه فيها- و وافاه رجل من بني تميم عليه سلاحه و الخوارج وراءه- و قد توسط حارثة دجيلا- فصاح به يا حارثة ليس مثلي يضيع- فقال للملاح قرب فقرب إلى جرف و لا فرضة هناك- فطفر بسلاحه في السفينة فساخت بالقوم جميعا- و هلك حارثة- .

و روى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني الكبير- أن حارثة لما عقدوا له الرئاسة و سلموا إليه الراية- أمرهم بالثبات و قال لهم إذا فتح الله عليكم- فللعرب زيادة فريضتين و للموالي زيادة فريضة- و ندب الناس- فالتقوا و ليس بأحد منهم طرق قد فشت فيهم الجراحات- و ما تطأ الخيل إلا على القتلى فبينا هم كذلك- إذ أقبل جمع‏ من الشراة من جهة اليمامة- يقول المكثر إنهم مائتان و المقلل إنهم أربعون- فاجتمعوا و هم مريحون مع أصحابهم- فصاروا كوكبة واحدة- فلما رآهم حارثة بن بدر ركض برايته منهزما- و قال لأصحابه

كرنبوا و دولبوا
أو حيث شئتم فاذهبوا

 و قال

أير الحمار فريضة لعبيدكم
و الخصيتان فريضة الأعراب‏

 قال كرنبوا أي اطلبوا كرنبى- و هي قرية قريبة من الأهواز و دولبوا اطلبوا دولاب- و هي ضيعة بينها و بين الأهواز أربعة فراسخ- . قال فتتابع الناس على أثره منهزمين و تبعتهم الخوارج- فألقى الناس أنفسهم في الماء- فغرق منهم بدجيل الأهواز خلق كثير

الزبير بن علي السليطي و ظهور أمر المهلب

و منهم الزبير بن علي السليطي التميمي- كان على مقدمة ابن الماحوز- و كان ابن الماحوز يخاطب بالخلافة- و يخاطب الزبير بالإمارة- و وصل الزبير بعد هلاك حارثة بن بدر- و هرب أصحابه إلى البصرة فخافه الناس خوفا شديدا- و ضج أهل البصرة إلى الأحنف فأتى القباع- فقال أصلح الله الأمير- إن هذا العدو قد غلبنا على سوادنا و فيئنا- فلم يبق إلا أن يحصرنا في بلدنا حتى نموت هزالا- قال فسموا إلى رجلا يلي الحرب- فقال الأحنف لا أرى لها رجلا إلا المهلب بن أبي صفرة- فقال أ و هذا رأي‏ جميع أهل البصرة- اجتمعوا إلي في غد لأنظر- و جاء الزبير حتى نزل على البصرة و عقد الجسر ليعبر إليها- فخرج أكثر أهل البصرة إليه- و انضم إلى الزبير جميع كور الأهواز و أهلها رغبة و رهبة- فوافاه البصريون في السفن و على الدواب- فاسودت بهم الأرض-

فقال الزبير لما رآهم أبى قومنا إلا كفرا و قطع الجسر- و أقام الخوارج بإزائهم و اجتمع الناس عند القباع- و خافوا الخوارج خوفا شديدا و كانوا ثلاث فرق- سمى قوم المهلب و سمى قوم مالك بن مسمع- و سمى قوم زياد بن عمرو بن أشرف العتكي- فاختبر القباع ما عند مالك و زياد- فوجدهما متثاقلين عن الحرب و عاد إليه من أشار بهما- و قالوا قد رجعنا عن رأينا ما نرى لها إلا المهلب- فوجه إليه القباع فأتاه فقال له يا أبا سعيد- قد ترى ما قد رهقنا من هذا العدو- و قد أجمع أهل مصرك عليك- و قال له الأحنف يا أبا سعيد أنا و الله ما آثرناك- و لكنا لم نر من يقوم مقامك- .

ثم قال القباع و أومأ إلى الأحنف- أن هذا الشيخ لم يسمك إلا إيثارا للدين و البقيا- و كل من في مصرك ماد عينه إليك- راج أن يكشف الله عنه هذه الغمة بك- فقال المهلب لا حول و لا قوة إلا بالله- إني عند نفسي لدون ما وصفتم و لست آبى ما دعوتم إليه- لكن لي شروطا أشترطها- قالوا قل قال على أن أنتخب من أحببت- قال الأحنف ذاك لك قال و لي إمرة كل بلد أغلب عليه- قالوا لك ذلك قال و لي في‏ء كل بلد أظفر به- قال الأحنف ليس ذاك لك و لا لنا إنما هو في‏ء للمسلمين- فإن سلبتهم إياه كنت عليهم كعدوهم- و لكن لك أن تعطي أصحابك- من في‏ء كل بلد تغلب عليه ما أحببت- و تنفق منه على محاربة عدوك- فما فضل عنكم كان للمسلمين- فقال المهلب لا حول و لا قوة إلا بالله فمن لي بذلك- قال الأحنف نحن و أميرك و جماعة أهل مصرك قال قد قبلت- فكتبوا بينهم بذلك كتابا- و وضع على يدي الصلت بن حريث بن جابر الجعفي-

و انتخب المهلب من جميع الأخماس- فبلغت نخبته اثني عشر ألفا و نظروا في بيت المال-فلم يكن إلا مائتي ألف درهم- فعجزت فبعث المهلب إلى التجار- فقال إن تجاراتكم منذ حول- قد فسدت بانقطاع مواد الأهواز و فارس عنكم- فهلموا فبايعوني و اخرجوا معي أوفكم حقوقكم- فبايعوه و تاجروه- فأخذ منهم من المال ما أصلح به عسكره- و اتخذ لأصحابه الخفاتين و الرانات المحشوة بالصوف- ثم نهض و كان أكثر أصحابه رجالة- حتى إذا صار بحذاء القوم أمر بسفن فأصلحت و أحضرت- فما ارتفع النهار حتى فرغ منها- ثم أمر الناس بالعبور- و أمر عليهم ابنه المغيرة فخرج الناس- فلما قاربوا الشط خاضت إليهم الخوارج- فحاربوهم و حاربهم المغيرة- و نضحهم بالسهام حتى تنحوا- و صار هو و أصحابه على الشط فحاربوا الخوارج فكشفوهم و شغلوهم حتى عقد المهلب الجسر و عبر- و الخوارج منهزمون- فنهى الناس عن اتباعهم- ففي ذلك يقول شاعر من الأزد-

إن العراق و أهله لم يخبروا
مثل المهلب في الحروب فسلموا

أمضى و أيمن في اللقاء نقيبة
و أقل تهليلا إذا ما أحجموا

 و أبلى مع المغيرة يومئذ عطية بن عمرو العنبري- من فرسان تميم و شجعانهم- و من شعر عطية

يدعى رجال للعطاء و إنما
يدعى عطية للطعان الأجرد

و قال فيه شاعر من بني تميم-

و ما فارس إلا عطية فوقه
إذا الحرب أبدت عن نواجذها الفما

به هزم الله الأزارق بعد ما
أباحوا من المصرين حلا و محرما

 فأقام المهلب أربعين ليلة يجبي الخراج بكور دجلة- و الخوارج بنهر تيرى- و الزبير بن علي منفرد بعسكره عن عسكر ابن الماحوز- فقضى المهلب التجار و أعطى أصحابه-فأسرع الناس إليه رغبة في مجاهدة العدو- و طمعا في الغنائم و التجارات- فكان فيمن أتاه محمد بن واسع الأزدي- و عبد الله بن رباح و معاوية بن قرة المزني- و كان يقول لو جاءت الديلم من هاهنا- و الحرورية من هاهنا لحاربت الحرورية- و جاءه أبو عمران الجوني- و كان يروى عن كعب- أن قتيل الحرورية يفضل قتيل غيرهم بعشرة أبواب- . ثم أتى المهلب إلى نهر تيرى- فتنحوا عنه إلى الأهواز- و أقام المهلب يجبي ما حواليه من الكور- و قد دس الجواسيس إلى عسكر الخوارج- يأتونه بأخبارهم و من في عسكرهم- و إذا حشوه ما بين قصاب و حداد و داعر- فخطب المهلب الناس و ذكر لهم ذلك- و قال أ مثل هؤلاء يغلبونكم على فيئكم- و لم يزل مقيما حتى فهمهم- و أحكم أمرهم و قوى أصحابه- و كثرت الفرسان في عسكره- و تتام أصحابه عشرين ألفا- .

ثم مضى يؤم كور الأهواز- فاستخلف أخاه المعارك بن أبي صفرة على نهر تيرى- و جعل المغيرة على مقدمته فسار حتى قاربهم- فناوشهم و ناوشوه فانكشف عن المغيرة بعض أصحابه- و ثبت المغيرة نفسه بقية يومه و ليلته يوقد النيران- ثم غاداهم فإذا القوم قد أوقدوا النيران في بقية متاعهم- و ارتحلوا عن سوق الأهواز فدخلها المغيرة- و قد جاءت أوائل خيل المهلب فأقام بسوق الأهواز- و كتب بذلك إلى الحارث القباع كتابا يقول فيه- . أما بعد فإنا مذ خرجنا نؤم العدو- في نعم من فضل الله متصلة علينا- و نقم متتابعة عليهم نقدم و يحجمون- و نحل و يرتحلون إلى أن حللنا سوق الأهواز- و الحمد لله رب العالمين الذي من عنده النصر- و هو العزيز الحكيم-فكتب إليه الحارث- هنيئا لك أخا الأزد الشرف في الدنيا و الأجر في الآخرة- إن شاء الله- .

فقال المهلب لأصحابه ما أجفى أهل الحجاز- أ ما ترونه عرف اسمي و كنيتي و اسم أبي- قالوا و كان المهلب يبث الأحراس في الأمن- كما يبثهم في الخوف و يذكي العيون في الأمصار- كما يذكيها في الصحاري و يأمر أصحابه بالتحرز- و يخوفهم البيات- و إن بعد منه العدو- و يقول احذروا أن تكادوا كما تكيدون- و لا تقولوا هزمناهم و غلبناهم و القوم خائفون وجلون- فإن الضرورة تفتح باب الحيلة- .

ثم قام فيهم خطيبا فقال أيها الناس- قد عرفتم مذهب هؤلاء الخوارج- و أنهم إن قدروا عليكم فتنوكم في دينكم و سفكوا دماءكم- فقاتلوهم على ما قاتلهم عليه أولكم علي بن أبي طالب- لقد لقيهم الصابر المحتسب مسلم بن عبيس- و العجل المفرط عثمان بن عبيد الله- و المعصي المخالف حارثة بن بدر فقتلوا جميعا و قتلوا- فالقوهم بحد و جد فإنما هم مهنتكم و عبيدكم- و عار عليكم و نقص في أحسابكم- و أديانكم أن يغلبكم هؤلاء على فيئكم- و يطئوا حريمكم- .

ثم سار يريدهم و هم بمناذر الصغرى- فوجه عبيد الله بن بشير بن الماحوز رئيس الخوارج رجلا- يقال له واقد- مولى لآل أبي صفرة من سبي الجاهلية في خمسين رجلا- فيهم صالح بن مخراق إلى نهر تيرى- و بها المعارك بن أبي صفرة فقتلوه و صلبوه- فنمي‏ الخبر إلى المهلب فوجه ابنه المغيرة- فدخل نهر تيرى و قد خرج واقد منها- فاستنزل عمه فدفنه و سكن الناس- و استخلف بها و رجع إلى أبيه- و قد نزل بسولاف و الخوارج بها فواقعهم- و جعل على بني تميم الحريش بن هلال-

فخرج رجل من أصحاب المهلب يقال له عبد الرحمن الإسكاف- فجعل يحض الناس و يهون أمر الخوارج- و يختال بين الصفين- فقال رجل من الخوارج لأصحابه- يا معشر المهاجرين هل لكم في قتلة فيها الجنة- فحمل جماعة منهم على الإسكاف فقاتلهم وحده فارسا- ثم كبا به فرسه فقاتلهم راجلا قائما و باركا- ثم كثرت به الجراحات فذبب بسيفه- ثم جعل يحثو في وجوههم التراب- و المهلب غير حاضر فقتل- ثم حضر المهلب فأعلم فقال للحريش و لعطية العنبري- أ سلمتما سيد أهل العراق- لم تعيناه و لم تستنقذاه حسدا له- لأنه رجل من الموالي و وبخهما- . و حمل رجل من الخوارج على رجل من أصحاب المهلب فقلته- فحمل عليه المهلب فطعنه فقتله- و مال الخوارج بأجمعهم على العسكر- فانهزم الناس و قتل منهم سبعون رجلا- و ثبت المهلب و ابنه المغيرة يومئذ و عرف مكانه- . و يقال حاص المهلب يومئذ حيصة- و يقول الأزد بل كان يرد المنهزمة و يحمي أدبارهم- و بنو تميم تزعم أنه فر- و قال شاعرهم

بسولاف أضعت دماء قومي
و طرت على مواشكة درور

و قال آخر من بني تميم-

تبعنا الأعور الكذاب طوعا
يزجي كل أربعة حمارا

فيا ندمى على تركي عطائي
معاينة و أطلبه ضمارا

إذا الرحمن يسر لي قفولا
فحرق في قرى سولاف نارا

 قوله الأعور الكذاب يعني به المهلب- كانت عينه عارت بسهم أصابها- و سموه الكذاب لأنه كان فقيها- و كان يتأول ما ورد في الأثر- من أن كل كذب يكتب كذبا إلا ثلاثة- الكذب في الصلح بين رجلين- و كذب الرجل لامرأته بوعد- و كذب الرجل في الحرب بتوعد و تهدد-
قالوا و جاء عنه ص إنما أنت رجل فخذل عنا ما استطعت و قال إنما الحرب خدعة – فكان المهلب ربما صنع الحديث- ليشد به من أمر المسلمين ما ضعف- و يضعف به من أمر الخوارج ما اشتد- و كان حي من الأزد يقال لهم الندب- إذا رأوا المهلب رائحا إليهم قالوا راح ليكذب- و فيه يقول رجل منهم-

أنت الفتى كل الفتى
لو كنت تصدق ما تقول‏

 فبات المهلب في ألفين فلما أصبح رجع بعض المنهزمة- فصاروا في أربعة آلاف فخطب أصحابه- فقال و الله ما بكم من قلة- و ما ذهب عنكم إلا أهل الجبن و الضعف و الطبع و الطمع- فإن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله- فسيروا إلى عدوكم على بركة الله- . فقام إليه الحريش بن هلال- فقال أنشدك الله أيها الأمير أن تقاتلهم إلا أن يقاتلوك- فإن في أصحابك جراحا و قد أثخنتهم هذه الجولة- . فقبل منه و مضى المهلب في عشرة- فأشرف على عسكر الخوارج فلم ير منهم أحدا يتحرك- فقال له الحريش ارتحل عن هذا المنزل فارتحل- فعبر دجيلا و صار إلى عاقول لا يؤتى إلا من جهة واحدة- فأقام به و أقام الناس ثلاثا مستريحين- . و في يقوم سولاف يقول ابن قيس الرقيات-

أ لا طرقت من آل مية طارقه
على أنها معشوقة الدل عاشقه‏

تراءت و أرض السوس بيني و بينها
و رستاق سولاف حمته الأزارقه‏

إذا نحن شئنا صادفتنا عصابة
حرورية فيها من الموت بارقه‏

أجازت عيلنا العسكرين كليهما
فباتت لنا دون اللحاف معانقه‏

فأقام المهلب في ذلك العاقول ثلاثة أيام ثم ارتحل- و الخوارج بسلى و سلبرى فنزل قريبا منهم- فقال ابن الماحوز لأصحابه- ما تنتظرون بعدوكم و قد هزمتموهم بالأمس- و كسرتم حدهم- فقال له واقد مولى أبي صفرة- يا أمير المؤمنين إنما تفرق عنهم أهل الضعف و الجبن- و بقي أهل النجدة و القوة- فإن أصبتهم لم يكن ظفرا هينا- لأني أراهم لا يصابون حتى يصيبوا- و إن غلبوا ذهب الدين- فقال أصحابه نافق واقد فقال ابن الماحوز لا تعجلوا على أخيكم- فإنه إنما قال هذا نظرا لكم- .

ثم وجه الزبير بن علي إلى عسكر المهلب- لينظر ما حالهم فأتاهم في مائتين فحزرهم و رجع- و أمر المهلب أصحابه بالتحارس- حتى إذا أصبح ركب إليهم في تعبئة- فالتقوا بسلى و سلبرى فتصافوا- فخرج من الخوارج مائة فارس- فركزوا رماحهم بين الصفين و اتكئوا عليها- و أخرج إليهم المهلب أعدادهم ففعلوا مثل ما فعلوا- لا يرعون إلا الصلاة- حتى إذا أمسوا رجع كل قوم إلى معسكرهم- ففعلوا هكذا ثلاثة أيام- .

ثم إن الخوارج تطاردوا لهم في اليوم الثالث- فحمل عليهم هؤلاء الفرسان فجالوا ساعة- ثم إن رجلا من الخوارج حمل على رجل فطعنه- فحمل عليه المهلب فطعنه فحمل الخوارج بأجمعهم- كما صنعوا يوم سولاف فضعضعوا الناس- و فقد المهلب و ثبت المغيرة في جمع أكثرهم أهل عمان- . ثم نجم المهلب في مائة و قد انغمس كماه في الدم- و على رأسه قلنسوة مربعة فوق المغفر- محشوة قزا و قد تمزقت- و إن حشوها ليتطاير و هو يلهث و ذلك في وقت الظهر- فلم يزل يحاربهم حتى أتى الليل- و كثر القتلى في الفريقين فلما كان الغد غاداهم- و قد كان وجه بالأمس رجلا- من طاحية بن سود بن مالك بن فهم- من الأزد من ثقاته و أصحابه يرد المنهزمين- فمر به عامر بن مسمع فرده- فقال إن الأمير أذن لي في الانصراف فبعث إلى المهلب فأعلمه- فقال دعه فلا حاجة لي في مثله من أهل الجبن و الضعف- ثم غاداهم المهلب في ثلاثة آلاف- و قد تفرق عنه أكثر الناس-

و قال لأصحابه ما بكم من قلة- أ يعجز أحدكم أن يلقي رمحه ثم يتقدم فيأخذه- ففعل ذلك رجل من كندة و اتبعه قوم- ثم قال المهلب لأصحابه أعدوا مخالي فيها حجارة- و ارموا بها في وقت الغفلة- فإنها تصد الفارس و تصرع الراجل- ففعلوا ثم أمر مناديا ينادي في أصحابه- يأمرهم بالجد و الصبر و يطمعهم في العدو- ففعل ذلك حتى مر ببني العدوية- من بني مالك بن حنظلة فنادى فيهم فضربوه- فدعا المهلب بسيدهم و هو معاوية بن عمرو- فجعل يركله برجله فقال أصلح الله الأمير- اعفني من أم كيسان و الأزد تسمى الركبة أم كيسان- ثم حمل المهلب و حملوا و اقتتلوا قتالا شديدا- فجهد الخوارج و نادى مناد منهم- ألا إن المهلب قد قتل-فركب المهلب برذونا وردا- و أقبل يركض بين الصفين- و إن إحدى يديه لفي القباء و ما يشعر لها- و هو يصيح أنا المهلب- فسكن الناس بعد أن كانوا قد ارتاعوا- و ظنوا أن أميرهم قد قتل- و كل الناس مع العصر فصاح المهلب بابنه المغيرة تقدم- ففعل و صاح بذكوان مولاه قدم رايتك ففعل-

فقال له رجل من ولده إنك تغرر بنفسك فزبره و زجره- و صاح يا بني سلمة آمركم فتعصونني- فتقدم و تقدم الناس فاجتلدوا أشد جلاد- حتى إذا كان مع المساء قتل ابن الماحوز- و انصرف الخوارج و لم يشعر المهلب بقتله- فقال لأصحابه ابغوا لي رجلا جلدا يطوف في القتلى- فأشاروا عليه برجل من جرم- و قالوا إنا لم نر قط رجلا أشد منه- فجعل يطوف و معه النيران- فجعل إذا مر بجريح من الخوارج- قال كافر و رب الكعبة فأجهز عليه- و إذا مر بجريح من المسلمين أمر بسقيه و حمله- و أقام المهلب يأمرهم بالاحتراس حتى إذا كان في نصف الليل- وجه رجلا من اليحمد في عشرة- فصاروا إلى عسكر الخوارج- فإذا هم قد تحملوا إلى أرجان- فرجع إلى المهلب فأعلمه-

فقال لهم أنا الساعة أشد خوفا احذروا البيات- . و يروى عن شعبة بن الحجاج- أن المهلب قال لأصحابه يوما- إن هؤلاء الخوارج قد يئسوا من ناحيتكم- إلا من جهة البيات- فإن يكن ذلك فاجعلوا شعاركم- حم لا ينصرون- فإن رسول الله ص كان يأمر بها- . و يروى أنه كان شعار أصحاب علي بن أبي طالب ع- . فلما أصبح القوم غدوا على القتلى- فأصابوا ابن الماحوز قتيلا- ففي ذلك يقول رجل من الخوارج-

بسلى و سلبرى مصارع فتية
كرام و عقرى من كميت و من ورد

و قال آخر

بسلى و سلبرى جماجم فتية
كرام و صرعى لم توسد خدودها

و قال رجل من موالي المهلب- لقد صرعت يومئذ بحجر واحد ثلاثة- رميت به رجلا فصرعته- ثم رميت به رجلا فأصبت به أصل أذنه فصرعته- ثم أخذت الحجر و صرعت به ثالثا- و في ذلك يقول رجل من الخوارج-

أتانا بأحجار ليقتلنا بها
و هل يقتل الأبطال ويحك بالحجر

و قال رجل من أصحاب المهلب في يوم سلى و سلبرى- و قتل ابن الماحوز-

و يوم سلى و سلبرى أحاط بهم
منا صواعق لا تبقي و لا تذر

حتى تركنا عبيد الله منجدلا
كما تجدل جذع مال منقعر

 و يروى أن رجلا من الخوارج يوم سلى- حمل على رجل من أصحاب المهلب فطعنه- فلما خالطه الرمح صاح يا أمتاه- فصاح به المهلب لا كثر الله منك في المسلمين- فضحك الخارجي و قال-

أمك خير لك مني صاحبا
تسقيك محضا و تعل رائبا

و كان المغيرة بن المهلب إذا نظر إلى الرماح- قد تشاجرت في وجهه- نكس على‏قربوس السرج و حمل من تحتها- فبرأها بسيفه و أثر في أصحابها- فتحوميت الميمنة من أجله- و كان أشد ما تكون الحرب استعارا أشد ما يكون تبسما- و كان المهلب يقول ما شهد معي حربا قط- إلا رأيت البشرى في وجهه- . و قال رجل من الخوارج في هذا اليوم-

فإن تك قتلى يوم سلى تتابعت
فكم غادرت أسيافنا من قماقم‏

غداة نكر المشرقية فيهم‏
بسولاف يوم المأزق المتلاحم‏

 فكتب المهلب- إلى الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة القباع- . أما بعد فإنا لقينا الأزارقة المارقة بحد و جد- فكانت في الناس جولة- ثم ثاب أهل الحفاظ و الصبر بنيات صادقة- و أبدان شداد و سيوف حداد- فأعقب الله خير عاقبة- و جاوز بالنعمة مقدار الأمل- فصاروا دريئة رماحنا و ضرائب سيوفنا- و قتل الله أميرهم ابن الماحوز- و أرجو أن يكون آخر هذه النعمة كأولها و السلام- .

فكتب إليه القباع- قد قرأت كتابك يا أخا الأزد- فرأيتك قد وهب لك شرف الدنيا و عزها- و ذخر لك إن شاء الله ثواب الآخرة و أجرها- و رأيتك أوثق حصون المسلمين- و هادأركان المشركين و ذا الرئاسة و أخا السياسة- فاستدم الله بشكره يتمم عليكم نعمه و السلام- . و كتب إليه أهل البصرة يهنئونه و لم يكتب إليه الأحنف- و لكن قال اقرءوا عليه السلام و قولوا- إنا لك على ما فارقتك عليه- فلم يزل يقرأ الكتب و ينظر في تضاعيفها- و يلتمس كتاب الأحنف فلا يراه- فلما لم يره قال لأصحابه أ ما كتب أبو بحر- فقال له الرسول إنه حملني إليك رسالة فأبلغه- فقال هذا أحب إلي من هذه الكتب- .

و اجتمعت الخوارج بأرجان فبايعوا الزبير بن علي- و هو من بني سليط بن يربوع من رهط ابن الماحوز- فرأى فيهم انكسارا شديدا و ضعفا بينا- فقال لهم اجتمعوا فاجتمعوا- فحمد الله و أثنى عليه و صلى على محمد رسوله ص- ثم أقبل عليهم فقال إن البلاء للمؤمنين تمحيص و أجر- و هو على الكافرين عقوبة و خزي- و إن يصب منكم أمير المؤمنين- فما صار إليه خير مما خلف- و قد أصبتم منهم مسلم بن عبيس- و ربيعا الأجذم و الحجاج بن رباب و حارثة بن بدر- و أشجيتم المهلب و قتلتم أخاه المعارك- و الله يقول لإخوانكم المؤمنين- إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ- وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ- فيوم سلى كان لكم بلاء و تمحيصا- و يوم سولاف كان لهم عقوبة و نكالا- فلا تغلبن علي الشكر في حينه و الصبر في وقته- و ثقوا بأنكم المستخلفون في الأرض و العاقبة للمتقين- .

ثم تحمل للمحاربة نحو المهلب فنفحهم المهلب نفحة- فرجعوا و أكمنوا للمهلب في غمض من غموض الأرض- يقرب من عسكره مائة فارس ليغتالوه- فسار المهلب‏ يوما يطيف بعسكره و يتفقد سواده- فوقف على جبل- فقال إن من التدبير لهذه المارقة- أن تكون قد أكمنت في سفح هذا الجبل كمينا- فبعث المهلب عشرة فوارس فاطلعوا على المائة- فلما علموا بهم قطعوا القنطرة- و نجوا و انكشفت الشمس- فصاحوا يا أعداء الله- لو قامت القيامة لجددنا و نحن في جهادكم- . ثم يئس الزبير من ناحية المهلب- فضرب إلى ناحية أصبهان- ثم كر راجعا إلى أرجان و قد جمع جموعا- و كان المهلب يقول كأني بالزبير و قد جمع لكم- فلا ترهبوهم فتنخب قلوبكم- و لا تغفلوا الاحتراس فيطمعوا فيكم- فجاءوه من أرجان فلقوه مستعدا آخذا بأفواه الطرق- فحاربهم فظهر عليهم ظهورا بينا- ففي ذلك يقول رجل من بني يربوع-

سقى الله المهلب كل غيث
من الوسمي ينتحر انتحارا

فما وهن المهلب يوم جاءت‏
عوابس خيلهم تبغي الغوارا

 و قال المهلب يومئذ- ما وقفت في مضيق من الحرب إلا رأيت أمامي رجالا- من بني الهجيم بن عمرو بن تميم يجالدون- و كان لحاهم أذناب العقاعق- و كانوا صبروا معه في غير مواطن- . و قال رجل من أصحاب المهلب من بني تميم-

ألا يا من لصب مستهام
قريح القلب قد مل المزونا

لهان على المهلب ما لقينا
إذا ما راح مسرورا بطينا

يجر السابري و نحن شعث
كأن جلودنا كسيت طحينا

و حمل يومئذ الحارث بن هلال على قيس الإكاف- و كان من أنجد فرسان الخوارج فطعنه فدق صلبه- و قال

قيس الإكاف غداة الروع يعلمني
ثبت المقام إذا لاقيت أقراني‏

و قد كان بعض جيش المهلب يوم سلى و سلبرى- صاروا إلى البصرة- فذكروا أن المهلب قد أصيب- فهم أهل البصرة بالنقلة إلى البادية- حتى ورد كتابه بظفره فأقام الناس- و تراجع من كان ذهب منهم- فعند ذلك قال الأحنف البصرة بصرة المهلب- و قدم رجل من كندة يعرف بابن أرقم فنعى ابن عم له- و قال إني رأيت رجلا من الخوارج- و قد مكن رمحه من صلبه- فلم ينشب أن قدم المنعي سالما فقيل له ذلك- فقال صدق ابن أرقم- لما أحسست برمحه بين كتفي صحت به البقية- فرفعه و تلا بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ- و وجه المهلب بعقب هذه الوقعة رجلا من الأزد- برأس عبيد الله بن بشير بن الماحوز- إلى الحارث بن عبد الله- فلما صار بكربج دينار لقيته إخوة عبيد الله- حبيب و عبد الملك و علي بنو بشير بن الماحوز-

فقالوا ما الخبر و هو لا يعرفهم- فقال قتل الله ابن الماحوز المارق و هذا رأسه معي- فوثبوا عليه فقتلوه و صلبوه- و دفنوا رأس أخيهم عبيد الله- فلما ولي الحجاج دخل عليه علي بن بشير و كان وسيما جسيما- فقال من هذا فخبره فقتله و وهب ابنه الأزهر و ابنته لأهل الأزدي المقتول- و كانت زينب بنت بشير لهم مواصلة فوهبوهما لها- . قال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتاب الكامل- و لم يزل المهلب يقاتل الخوارج في ولاية الحارث القباع- حتى عزل و ولي مصعب بن الزبير- فكتب إلى المهلب أن أقدم علي و استخلف ابنك المغيرة- ففعل بعد أن جمع الناس و قال لهم- إني قد استخلفت المغيرة عليكم- و هو أبو صغيركم رقة و رحمة- و ابن كبيركم طاعة و برا و تبجيلا- و أخو مثله مواساة و مناصحة- فلتحسن له طاعتكم و ليلن له جانبكم- فو الله ما أردت صوابا قط إلا سبقني إليه- .

ثم مضى إلى مصعب- فكتب مصعب إلى المغيرة بولايته- و كتب إليه أنك إن لم تكن كأبيك- فإنك كاف لما وليت- فشمر و ائتزر و جد و اجتهد- . ثم شخص المصعب إلى المزار- فقتل أحمر بن شميط ثم أتى الكوفة فقتل المختار- و قال للمهلب- أشر علي برجل أجعله بيني و بين عبد الملك- فقال له اذكر واحدا من ثلاثة- محمد بن عمير بن عطارد الدارمي- أو زياد بن عمرو بن الأشرف العتكي- أو داود بن قحذم- قال أ و تكفيني أنت قال أكفيك إن شاء الله- فشخص فولاه الموصل فخرج إليها- و صار مصعب إلى البصرة لينفر إلى أخيه بمكة- فشاور الناس فيمن يستكفيه‏ أمر الخوارج- فقال قوم ول عبد الله بن أبي بكرة- و قال قوم ول عمر بن عبيد الله بن معمر-

و قال قوم ليس لهم إلا المهلب فاردده إليهم- و بلغت المشورة الخوارج فأداروا الأمر بينهم- فقال قطري بن الفجاءة المازني- و لم يكن أمروه عليهم بعد- إن جاءكم عبد الله بن أبي بكرة- أتاكم سيد سمح كريم جواد مضيع لعسكره- و إن جاءكم عمر بن عبيد الله أتاكم فارس شجاع- بطل جاد يقاتل لدينه و لملكه- و بطبيعة لم أر مثلها لأحد فقد شهدته في وقائع- فما نودي في القوم لحرب إلا كان أول فارس- حتى يشد على قرنه و يضربه- و إن رد المهلب فهو من قد عرفتموه- إذا أخذتم بطرف ثوب أخذ بطرفه الآخر- يمده إذا أرسلتموه و يرسله إذا مددتموه- لا يبدؤكم إلا أن تبدءوه- إلا أن يرى فرصة فينتهزها- فهو الليث المبر و الثعلب الرواغ و البلاء المقيم- .

فولى مصعب عليهم عمر بن عبيد الله بن معمر ولاه فارس- و الخوارج بأرجان يومئذ- و عليهم الزبير بن علي السليطي- فشخص إليهم فقاتلهم- و ألح عليهم حتى أخرجهم منها- فألحقهم بأصبهان- فلما بلغ المهلب أن مصعبا ولى حرب الخوارج عمر بن عبيد الله- قال رماهم بفارس العرب و فتاها فجمع الخوارج له- و أعدوا و استعدوا ثم أتوا سابور- فسار إليهم حتى نزل منهم على أربعة فراسخ- فقال له مالك بن أبي حسان الأزدي- إن المهلب كان يذكي العيون- و يخاف البيات و يرتقب الغفلة- و هو على أبعد من هذه المسافة منهم- .

فقال عمر اسكت خلع الله قلبك- أ تراك تموت قبل أجلك و أقام هناك- فلما كان ذات ليلة بيته الخوارج- فخرج إليهم فحاربهم حتى أصبح- فلم يظفروا منه بشي‏ء- فأقبل على مالك بن أبي حسان فقال كيف رأيت- فقال قد سلم الله- و لم يكونوا يطمعون في مثلها من المهلب- فقال أما إنكم لو ناصحتموني مناصحتكم المهلب- لرجوت أن أنفي هذا العدو و لكنكم تقولون- قرشي حجازي بعيد الدار خيره لغيرنا- فتقاتلون معي تعذيرا- ثم زحف إلى الخوارج من غد ذلك اليوم- فقاتلهم قتالا شديدا حتى ألجأهم إلى قنطرة- فتكاثف الناس عليها حتى سقطت- فأقام حتى أصلحها ثم عبر- و تقدم ابنه عبيد الله بن عمر- و أمه من بني سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب- فقاتلهم حتى قتل-

فقال قطري للخوارج لا تقاتلوا عمر اليوم- فإنه موتور قد قتلتم ابنه- و لم يعلم عمر بقتل ابنه حتى أفضى إلى القوم- و كان مع ابنه النعمان بن عباد- فصاح به عمر يا نعمان أين ابني- قال أحتسبه فقد استشهد صابرا مقبلا غير مدبر- فقال إنا لله و إنا إليه راجعون- ثم حمل على الخوارج حملة لم ير مثلها- و حمل أصحابه بحملته- فقتلوا في وجههم ذلك تسعين رجلا من الخوارج- و حمل على قطري فضربه على جبينه ففلقه- و انهزمت الخوارج و انتهبها- فلما استقروا و رأى ما نزل بهم- قال أ لم أشر عليكم بالانصراف- فجعلوه حينئذ من وجوههم حتى خرجوا من فارس- و تلقاهم في ذلك الوقت الفزر بن مهزم العبدي- فسألوه عن خبره و أرادوا قتله- فأقبل على قطري و قال إني مؤمن مهاجر- فسأله عن أقاويلهم فأجاب إليها- فخلوا عنه ففي ذلك يقول في كلمة له-

فشدوا وثاقي ثم ألجوا خصومتي
إلى قطري ذي الجبين المفلق‏

و حاججتهم في دينهم فحججتهم‏
و ما دينهم غير الهوى و التخلق‏

ثم رجعوا و تكانفوا و عادوا إلى ناحية أرجان- فسار إليهم عمر بن عبيد الله و كتب إلى مصعب-أما بعد فإني لقيت الأزارقة- فرزق الله عز و جل عبيد الله بن عمر الشهادة- و وهب له السعادة و رزقنا بعد عليهم الظفر- فتفرقوا شذر مذر و بلغني عنهم عودة فيممتهم- و بالله أستعين و عليه أتوكل- . فسار إليهم و معه عطية بن عمرو و مجاعة بن سعر فالتقوا- فألح عليهم عمر حتى أخرجهم و انفرد من أصحابه- فعمد إلى أربعة عشر رجلا من مذكوريهم و شجعانهم- و في يده عمود فجعل لا يضرب رجلا منهم ضربة إلا صرعه- فركض إليه قطري على فرس طمر و عمر على مهر- فاستعلاه قطري بقوة فرسه حتى كاد يصرعه فبصر به مجاعة- فأسرع إليه فصاحت الخوارج- يا أبا نعامة إن عدو الله قد رهقك- فانحط قطري على قربوسه و طعنه مجاعة- و على قطري درعان فهتكهما و أسرع السنان في رأس قطري- فكشط جلده و نجا و ارتحل القوم إلى أصفهان- فأقاموا برهة ثم رجعوا إلى الأهواز- و قد ارتحل عمر بن عبيد الله إلى إصطخر- فأمر مجاعة فجبى الخراج أسبوعا فقال له كم جبيت- قال تسعمائة ألف فقال هي لك- . و قال يزيد بن الحكم لمجاعة-

و دعاك دعوة مرهق فأجبته
عمر و قد نسي الحياة و ضاعا

فرددت عادية الكتيبة عن فتى‏
قد كاد يترك لحمه أوزاعا

قال ثم عزل مصعب بن الزبير- و ولى عبد الله بن الزبير العراق ابنه- حمزةبن عبد الله بن الزبير فمكث قليلا- ثم أعيد مصعب إلى العراق و الخوارج بأطراف أصبهان- و الوالي عليها عتاب بن ورقاء الرياحي- فأقام الخوارج هناك يجبون شيئا من القرى- ثم أقبلوا إلى الأهواز من ناحية فارس- فكتب مصعب إلى عمر بن عبيد الله ما أنصفتنا- أقمت بفارس تجبي الخراج- و مثل هذا العدو يجتاز بك لا تحاربه- و الله لو قاتلت ثم هزمت لكان أعذر لك- . و خرج مصعب من البصرة يريدهم- و أقبل عمر بن عبيد الله يريدهم- فتنحى الخوارج إلى السوس- ثم أتوا إلى المدائن و بسطوا في القتل- فجعلوا يقتلون النساء و الصبيان- حتى أتوا المذار فقتلوا أحمر طيئ و كان شجاعا- و كان من فرسان عبيد الله بن الحر و في ذلك يقول الشاعر-

تركتم فتى الفتيان أحمر طيئ
بساباط لم يعطف عليه خليل‏

ثم خرجوا عامدين إلى الكوفة فلما خالطوا سوادها- و واليها الحارث القباع تثاقل عن الخروج و كان جبانا- فذمره إبراهيم بن الأشتر و لامه الناس- فخرج متحاملا حتى أتى النخيلة ففي ذلك يقول الشاعر-

إن القباع سار سيرا نكرا
يسير يوما و يقيم عشرا

 و جعل يعد الناس بالخروج و لا يخرج- و الخوارج يعيثون حتى أخذوا امرأة- فقتلوا أباها بين يديها و كانت جميلة- ثم أرادوا قتلها فقالت أ تقتلون من ينشأ في الحلية- و هو في الخصام غير مبين- فقال قائل منهم دعوها فقالوا قد فتنتك- ثم قدموها فقتلوها- .و قربوا امرأة أخرى و هم بإزاء القباع- و الجسر معقود بينهم فقطعه القباع و هو في ستة آلاف- و المرأة تستغيث به و هي تقبل و تقول علام تقتلونني- فو الله ما فسقت و لا كفرت و لا زنيت- و الناس يتفلتون إلى القتال و القباع يمنعهم- . فلما خاف أن يعصوه أمر عند ذاك بقطع الجسر- فأقام بين دبيرى و دباها خمسة أيام و الخوارج بقربه- و هو يقول للناس في كل يوم إذا لقيتم العدو غدا- فأثبتوا أقدامكم و اصبروا- فإن أول الحرب الترامي- ثم إشراع الرماح ثم السلة- فثكلت رجلا أمه فر من الزحف- . فقال بعضهم لما أكثر عليهم- أما الصفة فقد سمعناها فمتى يقع الفعل- . و قال الراجز-

إن القباع سار سيرا ملسا
بين دباها و دبيرى خمسا

 و أخذ الخوارج حاجتهم و كان شأن القباع التحصن منهم- ثم انصرفوا و رجع إلى الكوفة- و ساروا من فورهم إلى أصبهان- فبعث عتاب بن ورقاء الرياحي إلى الزبير بن علي- أنا ابن عمك- و لست أراك تقصد في انصرافك من كل حرب غيري- فبعث إليه الزبير- إن أدنى الفاسقين و أبعدهم في الحق سواء- . فأقام الخوارج يغادون عتاب بن ورقاء القتال- و يراوحونه حتى طال عليهم المقام- و لم يظفروا بكبير شي‏ء فلما كثر عليهم ذلك انصرفوا- لا يمرون بقرية بين أصبهان و الأهواز إلا استباحوها- و قتلوا من فيها و شاور المصعب الناس فيهم- فأجمع رأيهم على‏المهلب فبلغ الخوارج مشاورتهم-

فقال لهم قطري إن جاءكم عتاب بن ورقاء فهو فاتك- يطلع في أول المقنب و لا يظفر بكثير- و إن جاءكم عمر بن عبيد الله ففارس يقدم- إما عليه و إما له- و إن جاءكم المهلب فرجل لا يناجزكم حتى تناجزوه- و يأخذ منكم و لا يعطيكم- فهو البلاء الملازم و المكروه الدائم- . و عزم مصعب على توجيه المهلب- و أن يشخص هو لحرب عبد الملك- فلما أحس به الزبير خرج إلى الري- و بها يزيد بن الحارث بن رويم فحاربه ثم حصره- فلما طال عليه الحصار خرج إليه فكان الظفر للخوارج- فقتل يزيد بن الحارث بن رويم- و نادى يزيد ابنه حوشبا ففر عنه و عن أمه لطيفة- و كان علي بن أبي طالب ع دخل على الحارث بن رويم- يعود ابنه يزيد فقال عندي جارية لطيفة الخدمة أبعث بها إليك- فسماها يزيد لطيفة- فقتلت مع بعلها يزيد يومئذ و قال الشاعر-

مواقفنا في كل يوم كريهة
أسر و أشفى من مواقف حوشب‏

دعاه أبوه و الرماح شوارع‏
فلم يستجب بل راغ ترواغ ثعلب‏

و لو كان شهم النفس أو ذا حفيظة
رأى ما رأى في الموت عيسى بن مصعب‏

و قال آخر-

نجا حليلته و أسلم شيخه
نصب الأسنة حوشب بن يزيد

قال ثم انحط الزبير على أصفهان- فحصر بها عتاب بن ورقاء سبعة أشهر- و عتاب يحاربه في بعضهن- فلما طال به الحصار قال لأصحابه ما تنتظرون- و الله ما تؤتون من قلة و إنكم لفرسان عشائركم- و لقد حاربتموهم مرارا فانتصفتم منهم- و ما بقي مع هذا الحصار إلا أن تفنى ذخائركم- فيموت أحدكم فيدفنه أخوه- ثم يموت أخوه فلا يجد من يدفنه فقاتلوا القوم- و بكم قوة من قبل أن يضعف أحدكم عن أن يمشي إلى قرنه- . فلما أصبح صلى بهم الصبح- ثم خرج إلى الخوارج و هم غارون- و قد نصب لواء لجارية له يقال لها ياسمين- فقال من أراد البقاء فليلحق بلواء ياسمين- و من أراد الجهاد فليخرج معي- فخرج في ألفين و سبعمائة فارس- فلم يشعر بهم الخوارج حتى غشوهم- فقاتلوهم بجد لم تر الخوارج منهم مثله- فعقروا منهم خلقا كثيرا و قتل الزبير بن علي- و انهزمت الخوارج فلم يتبعهم عتاب- ففي ذلك يقول القائل-

و يوم بجي تلافيته
و لو لاك لاصطلم العسكر

– . و قال آخر-
خرجت من المدينة مستميتا
و لم أك في كتيبة ياسمينا

أ ليس من الفضائل أن قومي
غدوا مستلئمين مجاهدينا

قال و تزعم الرواة أنهم في أيام حصارهم كانوا يتواقفون- و يحمل بعضهم على بعض- و ربما كانت مواقفة بغير حرب- و ربما اشتدت الحرب بينهم- و كان رجل من أصحاب عتاب- يقال له شريح و يكنى أبا هريرة- إذا تحاجز القوم مع المساء- نادى بالخوارج و الزبير بن علي-

يا ابن أبي الماحوز و الأشرار
كيف ترون يا كلاب النار

شد أبي هريرة الهرار
يهركم بالليل و النهار

أ لم تروا جيا على المضمار
تمسي من الرحمن في جوار

فغاظهم ذلك فكمن له عبيدة بن هلال- فضربه بالسيف و احتمله أصحابه- و ظنت الخوارج أنه قد قتل- فكانوا إذا تواقفوا نادوهم ما فعل الهرار- فيقولون ما به من بأس حتى أبل من علته فخرج إليهم- فقال يا أعداء الله أ ترون بي بأسا فصاحوا به- قد كنا نرى أنك قد لحقت بأمك الهاوية- إلى النار الحامية

قطري بن الفجاءة المازني

و منهم قطري بن الفجاءة المازني قال أبو العباس- لما قتل الزبير بن علي أدارت الخوارج أمرها- فأرادوا تولية عبيدة بن هلال فقال- أدلكم على من هو خير لكم مني- من يطاعن في قبل و يحمي في دبر- عليكم‏بقطري بن الفجاءة المازني فبايعوه- و قالوا يا أمير المؤمنين امض بنا إلى فارس فقال- إن بفارس عمر بن عبيد الله بن معمر- و لكن نسير إلى الأهواز- فإن خرج مصعب من البصرة دخلناها- فأتوا الأهواز ثم ترفعوا عنها على إيذج- و كان المصعب قد عزم على الخروج إلى باجميرا- و قال لأصحابه إن قطريا لمطل علينا- و إن خرجنا عن البصرة دخلها فبعث إلى المهلب فقال- اكفنا هذا العدو فخرج إليهم المهلب- فلما أحس به قطري يمم نحو كرمان- و أقام المهلب بالأهواز ثم كر عليه قطري و قد استعد- و كانت الخوارج في حالاتهم أحسن عدة- ممن يقاتلهم بكثرة السلاح و كثرة الدواب- و حصانة الجنن فحاربهم المهلب- فدفعهم فصاروا إلى رامهرمز- و كان الحارث بن عميرة الهمداني قد صار إلى المهلب- مراغما لعتاب بن ورقاء و يقال- إنه لم يرضه عن قتله الزبير بن علي- و كان الحارث بن عميرة هو الذي قتله و خاض إليه أصحابه- ففي ذلك يقول أعشى همدان-

إن المكارم أكملت أسبابها
لابن الليوث الغر من همدان‏

للفارس الحامي الحقيقة معلما
زاد الرفاق و فارس الفرسان‏

الحارث بن عميرة الليث الذي
يحمي العراق إلى قرى نجران‏

ود الأزراق لو يصاب بطعنة
و يموت من فرسانهم مائتان‏

قال أبو العباس و خرج مصعب إلى باجميرا- ثم أتى الخوارج خبر مقتله بمسكن- و لم يأت المهلب و أصحابه- فتواقفوا يوما برامهرمز على الخندق- فناداهم الخوارج ما تقولون في مصعب قالوا إمام هدى- قالوا فما تقولون في عبد الملك قالوا ضال مضل- فلما كان بعد يومين أتى المهلب قتل المصعب- و إن أهل العراق قد اجتمعوا على عبد الملك- و ورد عليه كتاب عبد الملك بولايته- فلما تواقفوا ناداهم الخوارج- ما تقولون في المصعب قالوا لا نخبركم- قالوا فما تقولون في عبد الملك قالوا إمام هدى- قالوا يا أعداء الله بالأمس ضال مضل و اليوم إمام هدى- يا عبيد الدنيا عليكم لعنة الله- . و روى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني الكبير- قال كان الشراة و المسلمون في حرب المهلب و قطري- يتواقفون و يتساءلون بينهم عن أمر الدين و غير ذلك- على أمان و سكون لا يهيج بعضهم بعضا- فتواقف يوما عبيدة بن هلال اليشكري- و أبو حزابة التميمي-

فقال عبيدة يا أبا حزابة إني أسألك عن أشياء- أ فتصدقني عنها في الجواب- قال نعم إن ضمنت لي مثل ذلك قال قد فعلت- قال فسل عما بدا لك قال ما تقولون في أئمتكم- قال يبيحون الدم الحرام قال ويحك- فكيف فعلهم في المال قال يحبونه من غير حله- و ينفقونه في غير وجهه- قال فكيف فعلهم في اليتيم- قال يظلمونه ماله و يمنعونه حقه و ينيكون أمه- قال ويحك يا أبا حزابة أ مثل هؤلاء تتبع- قال قد أجبتك فاسمع سؤالي و دع عتابي على رأيي-قال سل قال أي الخمر أطيب خمر السهل أم خمر الجبل- قال ويحك أ مثلي يسأل عن هذا قال- قد أوجبت على نفسك أن تجيب قال- أما إذ أبيت فإن خمر الجبل أقوى و أسكر- و خمر السهل أحسن و أسلس- قال فأي الزواني أفره أ زواني رامهرمز أم زواني أرجان- قال ويحك إن مثلي لا يسأل عن هذا- قال لا بد من الجواب أو تغدر- . قال أما إذ أبيت فزواني رامهرمز أرق أبشارا- و زواني أرجان أحسن أبدانا- قال فأي الرجلين أشعر جرير أم الفرزدق- قال عليك و عليهما لعنة الله قال لا بد أن تجيب- قال أيهما الذي يقول-

و طوى الطراد مع القياد بطونها
طي التجار بحضرموت برودا

 قال جرير قال فهو أشعرهما- . قال أبو الفرج و قد كان الناس تجادلوا- في أمر جرير و الفرزدق في عسكر المهلب- حتى تواثبوا و صاروا إليه محكمين له في ذلك- فقال أ تريدون أن أحكم بين هذين الكلبين المتهارشين- فيمضغاني ما كنت لأحكم بينهما- و لكني أدلكم على من يحكم بينهما- ثم يهون عليه سبابهما- عليكم بالشراة فاسألوهم إذا تواقفتم- فلما تواقفوا سأل أبو حزابة عبيدة بن هلال عن ذلك- فأجابه بهذا الجواب- . و روى أبو الفرج أن امرأة من الخوارج- كانت مع قطري بن الفجاءة يقال لها أم حكيم- و كانت من أشجع الناس و أجملهم وجها- و أحسنهم بالدين تمسكا- و خطبهاجماعة منهم فردتهم و لم تجبهم- فأخبر من شاهدها في الحرب- أنها كانت تحمل على الناس و ترتجز فتقول-

أحمل رأسا قد سئمت حمله
و قد مللت دهنه و غسله‏
أ لا فتى يحمل عني ثقله‏

 و الخوارج يفدونها بالآباء و الأمهات- فما رأينا قبلها و لا بعدها مثلها- . و روى أبو الفرج قال- كان عبيدة بن هلال إذا تكاف الناس ناداهم- ليخرج إلي بعضكم فيخرج إليه فتيان من عسكر المهلب- فيقول لهم أيما أحب إليكم- أقرأ عليكم القرآن أم أنشدكم الشعر- فيقولون له أما القرآن فقد عرفناه مثل معرفتك- و لكن تنشدنا فيقول يا فسقة- قد و الله علمت أنكم تختارون الشعر على القرآن- ثم لا يزال ينشدهم و يستنشدهم حتى يملوا و يفترقوا- . قال أبو العباس- و ولى خالد بن عبد الله بن أسيد فقدم فدخل البصرة- فأراد عزل المهلب فأشير عليه بألا يفعل- و قيل له إنما أمن أهل هذا المصر- لأن المهلب بالأهواز و عمر بن عبيد الله بفارس- فقد تنحى عمر و إن نحيت المهلب لم تأمن على البصرة- فأبى إلا عزله فقدم المهلب البصرة- و خرج خالد إلى الأهواز فاستصحبه- فلما صار بكربج دينار لقيه قطري- فمنعه حط أثقاله و حاربه ثلاثين يوما- . ثم أقام قطري بإزائه و خندق على نفسه-

فقال المهلب لخالد إن قطريا ليس‏ بأحق بالخندق منك- فعبر دجيلا إلى شق نهر تيرى- و اتبعه قطري فصار إلى مدينة نهر تيرى- فبنى سورها و خندق عليها- فقال المهلب لخالد خندق على نفسك- فإني لا آمن البيات- فقال يا أبا سعيد الأمر أعجل من ذاك- فقال المهلب لبعض ولده إني أرى أمرا ضائعا- ثم قال لزياد بن عمرو خندق علينا- فخندق المهلب على نفسه و أمر بسفنه ففرغت- و أبى خالد أن يفرغ سفنه- فقال المهلب لفيروز حصين صر معنا- فقال يا أبا سعيد إن الحزم ما تقول- غير إني أكره أن أفارق أصحابي- قال فكن بقربنا قال أما هذه فنعم- . و قد كان عبد الملك كتب إلى بشر بن مروان يأمره- أن يمد خالدا بجيش كثيف- أميره عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ففعل- فقدم عليه عبد الرحمن- فأقام قطري يغاديهم القتال و يراوحهم أربعين يوما- فقال المهلب لمولى أبي عيينة سر إلى ذلك الناوس- فبت عليه كل ليلة فمتى أحسست خبرا للخوارج- أو حركة أو صهيل خيل فأعجل إلينا- .

فجاءه ليلة فقال قد تحرك القوم- فجلس المهلب بباب الخندق- و أعد قطري سفنا فيها حطب و أشعلها نارا- و أرسلها على سفن خالد و خرج في أدبارها حتى خالطهم- لا يمر برجل إلا قتله و لا بدابة إلا عقرها- و لا بفسطاط إلا هتكه- فأمر المهلب يزيد ابنه فخرج في مائة فارس فقاتل- و أبلي عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث يومئذ بلاء حسنا- و خرج فيروز حصين في مواليه- فلم يزل يرميهم بالنشاب هو و من معه فأثر أثرا جميلا- و صرع يزيد بن المهلب يومئذ- و صرع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث- فحامى عنهما أصحابهما حتى ركبا- و سقط فيروز حصين في‏ الخندق- فأخذ بيده رجل من الأزد فاستنقذه- فوهب له فيروز عشرة آلاف- و أصبح عسكر خالد كأنه حرة سوداء- فجعل لا يرى إلا قتيلا أو جريحا- فقال للمهلب يا أبا سعيد كدنا نفتضح- فقال خندق على نفسك فإن لم تفعل عادوا إليك- فقال اكفني أمر الخندق- فجمع له الأحماس فلم يبق شريف إلا عمل فيه- فصاح بهم الخوارج و الله لو لا هذا الساحر المزوني- لكان الله قد دمر عليكم- و كانت الخوارج تسمى المهلب الساحر- لأنهم كانوا يدبرون الأمر- فيجدون المهلب قد سبق إلى نقض تدبيرهم- . و قال أعشى همدان لابن الأشعث- يذكره بلاء القحطانية عنده في كلمة طويلة-

و يوم أهوازك لا تنسه
ليس الثنا و الذكر بالبائد

 ثم مضى قطري إلى كرمان و انصرف خالد إلى البصرة- و أقام قطري بكرمان شهرا ثم عمد لفارس- فخرج خالد إلى الأهواز و ندب الناس للرحيل- فجعلوا يطلبون المهلب- فقال خالد ذهب المهلب بحظ هذا المصر- إني قد وليت أخي قتال الأزارقة- . فولى أخاه عبد العزيز- و استخلف المهلب على الأهواز في ثلاثمائة- و مضى عبد العزيز و الخوارج بدرابجرد- و هو في ثلاثين ألفا فجعل عبد العزيز يقول في طريقه- يزعم أهل البصرة أن هذا الأمر لا يتم إلا بالمهلب سيعلمون- . قال صقعب بن يزيد فلما خرج عبد العزيز عن الأهواز- جاءني كردوس‏ حاجب المهلب فدعاني- فجئت إلى المهلب و هو في سطح و عليه ثياب هروية-

فقال يا صقعب أنا ضائع كأني أنظر إلى هزيمة عبد العزيز- و أخشى أن توافيني الأزارقة و لا جند معي- فابعث رجلا من قبلك يأتيني بخبرهم سابقا إلي به- فوجهت رجلا من قبلي يقال له عمران بن فلان- و قلت له اصحب عسكر عبد العزيز- و اكتب إلي بخبر يوم فيوم- فجعلت أورده على المهلب- فلما قاربهم عبد العزيز وقف وقفة- فقال له الناس هذا منزل- فينبغي أن تنزل فيه أيها الأمير- حتى نطمئن ثم نأخذ أهبتنا- فقال كلا الأمر قريب فنزل الناس عن غير أمره- فلم يستتم النزول- حتى ورد عليه سعد الطلائع في خمسمائة فارس- كأنهم خيط ممدود- فناهضهم عبد العزيز فواقفوه ساعة- ثم انهزموا عنه مكيدة و اتبعهم-

فقال له الناس لا تتبعهم فإنا على غير تعبية فأبى- فلم يزل في آثارهم حتى اقتحموا عقبة- فاقتحمها وراءهم و الناس ينهونه و يأبى- و كان قد جعل على بني تميم عبس بن طلق الصريمي- الملقب عبس الطعان- و على بكر بن وائل مقاتل بن مسمع- و على شرطته رجلا من بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار- فنزلوا عن العقبة و نزل خلفهم- و كان لهم في بطن العقبة كمين- فلما صاروا من ورائها خرج عليهم الكمين- و عطف سعد الطلائع فترجل عبس بن طلق- فقتل و قتل مقاتل بن مسمع- و قتل الضبيعي صاحب شرطة عبد العزيز- و انحاز عبد العزيز و اتبعهم الخوارج فرسخين- يقتلونهم كيف شاءوا- و كان عبد العزيز قد أخرج معه أم حفص- بنت المنذر بن الجارود امرأته- فسبوا النساء يومئذ و أخذوا أسارى لا تحصى- فقذفوهم في غار بعد أن شدوهم وثاقا- ثم سدوا عليهم بابه حتى ماتوا فيه- .

و قال بعض من حضر ذلك اليوم- رأيت عبد العزيز- و إن ثلاثين رجلا ليضربونه‏ بسيوفهم- فما تحيك في جنبه- و نودي على السبي يومئذ- فغولي بأم حفص فبلغ بها رجل سبعين ألفا- و كان ذلك الرجل من مجوس كانوا أسلموا- و لحقوا بالخوارج- ففرضوا لكل رجل منهم خمسمائة- فكاد ذلك الرجل يأخذ أم حفص- فشق ذلك على قطري و قال- ما ينبغي لرجل مسلم أن يكون عنده سبعون ألفا- إن هذه لفتنة- فوثب عليها أبو الحديد العبدي فقتلها- فأتي به قطري- فقال مهيم يا أبا الحديد- فقال يا أمير المؤمنين- رأيت المؤمنين تزايدوا في هذه المشركة- فخشيت عليهم الفتنة- فقال قطري أحسنت- فقال رجل من الخوارج-

كفانا فتنة عظمت و جلت
بحمد الله سيف أبي الحديد

إهاب المسلمون بها و قالوا
على فرط الهوى هل من مزيد

فزاد أبو الحديد بنصل سيف
رقيق الحد فعل فتى رشيد

و كان العلاء بن مطرف السعدي- ابن عم عمرو القنا- و كان يحب أن يلقاه في صدر مبارزة- فلحقه عمرو القنا يومئذ و هو منهزم- فضحك منه و قال متمثلا-

تمناني ليلقاني لقيط
أعام لك ابن صعصعة بن سعد

ثم صاح به أنج يا أبا المصدي- و كان العلاء بن مطرف قد حمل معه امرأتين-إحداهما من بني ضبة يقال لها أم جميل- و الأخرى بنت عمه- يقال لها فلانة بنت عقيل فطلق الضبية- و حملها أولا و تخلص بابنة عمه- فقال في ذلك-

أ لست كريما إذ أقول لفتيتي
قفوا فاحملوها قبل بنت عقيل‏

و لو لم يكن عودي نضارا لأصبحت‏
تجر على المتنين أم جميل‏

قال الصقعب بن يزيد- و بعثني المهلب لآتيه بالخبر- فصرت إلى قنطرة أربك- على فرس اشتريته بثلاثة آلاف درهم- فلم أحس خبرا- فسرت مهجرا إلى أن أمسيت- فلما أمسينا و أظلمنا- سمعت كلام رجل عرفته من الجهاضم- فقلت ما وراءك قال الشر- قلت فأين عبد العزيز قال أمامك- فلما كان آخر الليل- إذا أنا بزهاء خمسين فارسا معهم لواء- فقلت لواء من هذا قالوا لواء عبد العزيز- فتقدمت إليه فسلمت عليه- و قلت أصلح الله الأمير- لا يكبرن عليك ما كان- فإنك كنت في شر جند و أخبثه- قال لي أ و كنت معنا قلت لا- و لكن كأني شاهد أمرك- ثم أقبلت إلى المهلب و تركته- فقال لي ما وراءك- قلت ما يسرك هزم الرجل و فل جيشه- فقال ويحك- و ما يسرني من هزيمة رجل من قريش- و فل جيش من المسلمين- قلت قد كان ذلك ساءك أو سرك- فوجه رجلا إلى خالد يخبره بسلامة أخيه- قال الرجل فلما خبرت خالدا- قال كذبت و لؤمت- و دخل رجل من قريش فكذبني- فقال لي خالد- و الله لقد هممت أن أضرب عنقك- فقلت أصلح الله الأمير- إن كنت كاذبا فاقتلني- و إن كنت صادقا فأعطني مطرف هذا المتكلم- فقال خالد لبئس ما أخطرت به دمك- فما برحت حتى دخل عليه بعض الفل- و قدم عبد العزيز سوق الأهواز- فأكرمه المهلب و كساه- و قدم معه على خالد- و استخلف المهلب ابنه حبيبا- و قال له‏ تجسس الأخبار- فإن أحسست بخيل الأزارقة قريبا منك- فانصرف إلى البصرة على نهر تيرى- فلما أحس حبيب بهم- دخل البصرة و أعلم خالدا بدخوله- فغضب و خاف حبيب منه- فاستتر في بني عامر بن صعصعة- و تزوج هناك في استتاره الهلالية- و هي أم ابنه عباد بن حبيب- و قال الشاعر لخالد يفيل رأيه-

بعثت غلاما من قريش فروقة
و تترك ذا الرأي الأصيل المهلبا

أبى الذم و اختار الوفاء و أحكمت‏
قواه و قد ساس الأمور و جربا

و قال الحارث بن خالد المخزومي-

فر عبد العزيز إذ راء عيسى
و ابن داود نازلا قطريا

عاهد الله إن نجا ملمنايا
ليعودن بعدها حرميا

يسكن الخل و الصفاح فغورينا
مرارا و مرة نجديا

حيث لا يشهد القتال و لا
يسمع يوما لكر خيل دويا

و كتب خالد إلى عبد الملك بعذر عبد العزيز- و قال للمهلب- ما ترى أمير المؤمنين صانعا بي- قال يعزلك قال أ تراه قاطعا رحمي- قال نعم قد أتته هزيمة أمية أخيك- ففعل يعني هرب أمية من سجستان- فكتب عبد الملك إلى خالد-أما بعد فإني كنت حددت لك حدا في أمر المهلب- فلما ملكت أمرك نبذت طاعتي وراءك- و استبددت برأيك- فوليت المهلب الجباية و وليت أخاك حرب الأزارقة- فقبح الله هذا رأيا- أ تبعث غلاما غرا لم يجرب الأمور و الحروب للحرب- و تترك سيدا شجاعا مدبرا حازما- قد مارس الحروب ففلج فشغلته بالجباية- أما لو كافأتك على قدر ذنبك- لأتاك من- نكيري ما لا بقية لك معه- و لكن تذكرت رحمك فكفتني عنك- و قد جعلت عقوبتك عزلك و السلام- قال و ولى بشر بن مروان الإمارة و هو بالكوفة- و كتب إليه- أما بعد فإنك أخو أمير المؤمنين- يجمعك و إياه مروان بن الحكم- و إن خالدا لا مجتمع له مع أمير المؤمنين دون أمية- فانظر المهلب بي أبي صفرة- فوله حرب الأزارقة- فإنه سيد بطل مجرب- و امدده من أهل الكوفة بثمانية آلاف رجل و السلام- فشق على بشر ما أمره به في المهلب- و قال و الله لأقتلنه فقال له موسى بن نصير- أيها الأمير إن للمهلب حفاظا و وفاء و بلاء- .

و خرج بشر بن مروان يريد البصرة- فكتب موسى بن نصير و عكرمة بن ربعي- إلى المهلب أن يتلقاه لقاء لا يعرفه به- فتلقاه المهلب على بغل- و سلم عليه في غمار الناس- فلما جلس بشر مجلسه قال ما فعل أميركم المهلب- قالوا قد تلقاك أيها الأمير و هو شاك- فهم بشر أن يولي حرب الأزارقة- عمر بن عبيد الله بن معمر- و شد عزمه أسماءبن خارجة- و قال له إنما ولاك أمير المؤمنين لترى رأيك- فقال له عكرمة بن ربعي- اكتب إلى أمير المؤمنين فأعلمه علة المهلب- فكتب إليه بذلك- و أن بالبصرة من يغني غناءه- و وجه بالكتاب مع وفد أوفدهم إليه- رئيسهم عبد الله بن حكيم المجاشعي- فلما قرأ عبد الملك الكتاب خلا بعبد الله- فقال له إن لك دينا و رأيا و حزما- فمن لقتال هؤلاء الأزارقة- قال المهلب قال إنه عليل- قال ليست علته بمانعة-

فقال عبد الملك- لقد أراد بشر أن يفعل ما فعل خالد- فكتب إليه يعزم عليه أن يولي المهلب الحرب- فوجه إليه فقال أنا عليل- و لا يمكنني الاختلاف فأمر بشر بحمل الدواوين إليه- فجعل ينتخب فعزم عليه بشر بالخروج- فاقتطع أكثر نخبته- ثم عزم عليه ألا يقيم بعد ثالثة- و قد أخذت الخوارج الأهواز- و خلفوها وراء ظهورهم و صاروا بالفرات- فخرج المهلب حتى صار إلى شهار طاق- فأتاه شيخ من بني تميم- فقال أصلح الله الأمير- إن سني ما ترى فهبني لعيالي- فقال على أن تقول للأمير إذا خطب فحثكم على الجهاد- كيف تحثنا على الجهاد- و أنت تحبس عنه أشرافنا- و أهل النجدة منا- ففعل الشيخ ذلك فقال له بشر- و ما أنت و ذاك- ثم أعطى المهلب رجلا ألف درهم- على أن يأتي بشرا فيقول له- أيها الأمير أعن المهلب بالشرطة و المقاتلة- ففعل الرجل ذلك- فقال له بشر و ما أنت و ذاك-

فقال نصيحة حضرتني للأمير و المسلمين- و لا أعود إلى مثلها- فأمده بشر بالشرطة و المقاتلة- و كتب إلى خليفته على الكوفة- أن يعقد لعبد الرحمن بن مخنف على ثمانية آلاف- من كل ربع ألفين و يوجه بهم مددا للمهلب-فلما أتاه الكتاب- بعث إلى عبد الرحمن بن مخنف الأزدي يعقد له- و اختار من كل ربع ألفين- فكان على ربع أهل المدينة- بشر بن جرير بن عبد الله البجلي- و على ربع تميم و همدان- محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني- و على ربع كندة- محمد بن إسحاق بن الأشعث بن قيس الكندي- و على ربع مذحج- و أسد زحر بن قيس المذحجي- فقدموا على بشر بن مروان- فخلا بعبد الرحمن بن مخنف- و قال له قد عرفت رأيي فيك و ثقتي بك- فكن عند ظني بك- و انظر إلى هذا المزوني- فخالفه في أمره و أفسد عليه رأيه- .

فخرج عبد الرحمن و هو يقول- ما أعجب ما طلب مني هذا الغلام- يأمرني أن أصغر شأن شيخ من مشايخ أهلي- و سيد من ساداتهم فلحق بالمهلب- . فلما أحس الأزارقة بدنو المهلب منهم- انكشفوا عن الفرات- فأتبعهم المهلب إلى سوق الأهواز فنفاهم عنها- ثم اتبعهم إلى رامهرمز فهزمهم عنها فدخلوا فارس- و أبلى يزيد ابنه في وقائعه هذه بلاء شديدا- تقدم فيه و هو ابن إحدى و عشرين سنة- . فلما صار القوم إلى فارس- وجه إليهم ابنه المغيرة- فقال له عبد الرحمن بن صالح أيها الأمير- إنه ليس لك برأي قتل هذه الأكلب- و لئن و الله قتلتهم لتقعدن في بيتك- و لكن طاولهم و كل بهم- فقال ليس هذا من الوفاء- فلم يلبث برامهرمز إلا شهرا- حتى أتاه موت بشر بن مروان- .

فاضطرب الجند على ابن مخنف- فوجه إلى إسحاق بن الأشعث و ابن زحر- فاستحلفهما ألا يبرحا فحلفا له و لم يفيا- و جعل الجند من أهل الكوفة يتسللون- حتى اجتمعوا بسوق الأهواز- و أراد أهل البصرة الانسلال من المهلب- فخطبهم فقال إنكم لستم كأهل الكوفة- إنما تذبون عن مصركم و أموالكم و حرمكم- . فأقام منهم قوم و تسلل منهم قوم كثير- .

و كان خالد بن عبد الله خليفة بشر بن مروان- فوجه مولى له بكتاب منه إلى من بالأهواز- يحلف بالله مجتهدا- لئن لم يرجعوا إلى مراكزهم- و انصرفوا عصاة لا يظفر بأحد إلا قتله- فجاءهم مولاه فجعل يقرأ عليهم الكتاب- و لا يرى في وجوههم قبولا- فقال إني أرى وجوها ما القبول من شأنها- فقال له ابن زحر أيها العبد- اقرأ ما في الكتاب و انصرف إلى صاحبك- فإنك لا تدري ما في أنفسنا- و جعلوا يستحثونه بقراءته ثم قصدوا قصد الكوفة- فنزلوا النخيلة- و كتبوا إلى خليفة بشر- يسألونه أن يأذن لهم في دخول الكوفة فأبى فدخلوها بغير إذن- .

فلم يزل المهلب و من معه من قواده و ابن مخنف- في عدد قليل فلم يلبثوا أن ولي الحجاج العراق- . فدخل الكوفة قبل البصرة- و ذلك في سنة خمس و سبعين- فخطبهم الخطبة المشهورة و تهددهم- ثم نزل فقال لوجوه أهلها- ما كانت الولاة تفعل بالعصاة- قالوا كانت تضرب و تحبس فقال- و لكن ليس لهم عندي إلا السيف- إن المسلمين لو لم يغزوا المشركين لغزاهم المشركون- و لو ساغت المعصية لأهلها- ما قوتل عدو و لا جبي في‏ء و لا عز دين- . ثم جلس لتوجيه الناس- فقال قد أجلتكم ثلاثا- و أقسم بالله لا يتخلف أحد- من‏ أصحاب ابن مخنف بعدها إلا قتلته- ثم قال لصاحب حرسه و لصاحب شرطته- إذا مضت ثلاثة أيام فاشحذا سيوفكما- فجاءه عمير بن ضابئ البرجمي بابنه- فقال أصلح الله الأمير- إن هذا أنفع لكم مني- و هو أشد بني تميم أبدانا- و أجمعهم سلاحا و أربطهم جأشا- و أنا شيخ كبير عليل- و استشهد جلساءه- فقال له الحجاج إن عذرك لواضح و إن ضعفك لبين- و لكني أكره أن يجترئ بك الناس علي- و بعد فأنت ابن ضابئ صاحب عثمان- و أمر به فقتل فاحتمل الناس- و إن أحدهم ليتبع بزاده و سلاحه- ففي ذلك يقول عبد الله بن الزبير الأسدي-

أقول لعبد الله يوم لقيته
أرى الأمر أمسى منصبا متشعبا

تجهز فإما أن تزور ابن ضابئ
عميرا و إما أن تزور المهلبا

هما خطتا خسف نجاؤك منهما
ركوبك حوليا من الثلج أشهبا

فما إن أرى الحجاج يغمد سيفه
مدى الدهر حتى يترك الطفل أشيبا

فأضحى و لو كانت خراسان دونه‏
رآها مكان السوق أو هي أقربا

 و هرب سوار بن المضرب السعدي من الحجاج و قال-

أ قاتلي الحجاج إن لم أزر له
دراب و أترك عند هند فؤاديا

في قصيدة مشهورة له- . فخرج الناس عن الكوفة- و أتى الحجاج البصرة- فكان أشد عليهم إلحاحا- و قد كان أتاهم خبره بالكوفة- فتحمل الناس قبل قدومه- و أتاه رجل من بني يشكر و كان شيخا أعور- يجعل على عينه العوراء صوفة- فكان يلقب ذا الكرسفة فقال-أصلح الله الأمير إن بي فتقا- و قد عذرني بشر بن مروان و قد رددت العطاء- فقال إنك عندي لصادق- ثم أمر به فضربت عنقه- ففي ذلك يقول كعب الأشقري أو الفرزدق-

لقد ضرب الحجاج بالمصر ضربة
تقرقر منها بطن كل عريف‏

و يروى عن أبي البئر- قال إنا لنتغدى معه يوما- إذ جاءه رجل من بني سليم برجل يقوده- فقال أصلح الله الأمير إن هذا عاص- فقال له الرجل أنشدك الله أيها الأمير في دمي- فو الله ما قبضت ديوانا قط- و لا شهدت عسكرا قط- و إني لحائك أخذت من تحت الحف- فقال اضربوا عنقه فلما أحس بالسيف سجد- فلحقه السيف و هو ساجد- فأمسكنا عن الأكل فأقبل علينا- و قال ما لي أراكم قد صفرت أيديكم- و اصفرت وجوهكم- و حد نظركم من قتل رجل واحد- ألا إن العاصي يجمع خلالا- يخل بمركزه و يعصي أميره و يغر المسلمين- و هو أجير لهم و إنما يأخذ الأجرة لما يعمل- و الوالي مخير فيه إن شاء قتل و إن شاء عفا- .

ثم كتب إلى المهلب- أما بعد فإن بشرا استكره نفسه عليك- و أراك غناه عنك- و أنا أريك حاجتي إليك- فأرني الجد في قتال عدوك- و من خفته على المعصية ممن قبلك فاقتله-فإني قاتل من قبلي- و من كان عندي ممن هرب عنك فأعلمني مكانه- فإني أرى أن آخذ السمي بالسمي و الولي بالولي- . فكتب إليه المهلب- ليس قبلي إلا مطيع- و إن الناس إذا خافوا العقوبة كبروا الذنب- و إذا أمنوا العقوبة صغروا الذنب- و إذا يئسوا من العفو أكفرهم ذلك- فهب لي هؤلاء الذين سميتهم عصاة- فإنهم فرسان أبطال- أرجو أن يقتل الله بهم العدو و نادم على ذنبه- . فلما رأى المهلب كثرة الناس عنده- قال اليوم قوتل هذا العدو- . و لما رأى ذلك قطري قال لأصحابه- انهضوا بنا نريد السردن فنتحصن فيها- فقال عبيدة بن هلال أو تأتي سابور- فتأخذ منها ما نريد و تصير إلى كرمان- فأتوا سابور- و خرج المهلب في آثارهم فأتى أرجان- و خاف أن يكونوا قد تحصنوا بالسردن و ليست بمدينة- و لكنها جبال محدقة منيعة فلم يصب بها أحدا- فخرج فعسكر بكازرون و استعدوا لقتاله فخندق على نفسه- و وجه إلى عبد الرحمن‏ بن مخنف خندق على نفسك- فوجه إليه خنادقنا سيوفنا- فوجه المهلب إليه إني لا آمن عليك البيات- فقال ابنه جعفر- ذاك أهون علينا من ضرطة جمل- فأقبل المهلب على ابنه المغيرة- فقال لم يصيبوا الرأي و لم يأخذوا بالوثيقة- .

فلما أصبح القوم عاودوه الحرب- فبعث إلى ابن مخنف يستمده- فأمده بجماعة جعل عليهم ابنه جعفرا- فجاءوا و عليهم أقبية بيض جدد- فأبلوا يومئذ حتى عرف مكانهم المهلب- و أبلى بنوه يومئذ كبلاء الكوفيين أو أشد- . ثم أتى رئيس من الخوارج- يقال له صالح بن مخراق- و هو ينتخب قوما من جلة العسكر حتى بلغ أربعمائة- فقال لابنه المغيرة- ما أراه يعد هؤلاء إلا للبيات- . و انكشفت الخوارج و الأمر للمهلب عليهم- و قد كثر فيهم الجراح و القتل- و قد كان الحجاج يتفقد العصاة و يوجه الرجال- و كان يحبسهم نهارا و يفتح الحبس ليلا- فيتسلل الرجال إلى ناحية المهلب- و كان الحجاج لا يعلم فإذا رأى إسراعهم تمثل-

إن لها لسائقا عشنزرا
إذا وثبن وثبة تغشمرا

ثم كتب الحجاج إلى المهلب يستحثه- أما بعد فإنه قد بلغني- أنك قد أقبلت على جباية الخراج- و تركت قتال العدو- و إني وليتك و أنا أرى مكان عبد الله بن حكيم المجاشعي- و عباد بن الحصين الحبطي- و اخترتك و أنت من أهل عمان ثم رجل من الأزد- فالقهم يوم كذا في مكان كذا- و إلا أشرعت إليك صدر الرمح- .

فشاور المهلب بنيه- فقالوا أيها الأمير- لا تغلظ عليه في الجواب- . فكتب إليه- ورد إلي كتابك- تزعم أني أقبلت على جباية الخراج- و تركت قتال العدو و من عجز عن جباية الخراج- فهو عن قتال العدو أعجز- و زعمت أنك وليتني- و أنت ترى مكان عبد الله بن حكيم و عباد بن الحصين- و لو وليتهما لكانا مستحقين لذلك- لفضلهما و غنائهما و بطشهما- و زعمت أنك اخترتني و أنا رجل من الأزد- و لعمري إن شرا من الأزد لقبيلة تنازعتها ثلاث قبائل- لم تستقر في واحدة منهن- و زعمت أني إن لم ألقهم يوم كذا في مكان كذا- أشرعت إلى صدر الرمح- لو فعلت لقلبت لك ظهر المجن و السلام- .

قال ثم كانت الوقعة بينه و بين الخوارج عقيب هذا الكتاب- . فلما انصرف الخوارج تلك الليلة- قال لابنه المغيرة إني أخاف البيات على بني تميم- فانهض إليهم فكن فيهم فأتاهم المغيرة- فقال له الحريش بن هلال يا أبا حاتم- أ يخاف الأمير أن يؤتى من ناحيتنا- قل له فليبت آمنا فإنا كافوه ما قبلنا إن شاء الله- . فلما انتصف الليل و قد رجع المغيرة إلى أبيه- سرى صالح بن مخراق في القوم الذين كان أعدهم للبيات- إلى ناحية بني تميم و معه عبيدة بن هلال و هو يقول-

إني لمذك للشراة نارها
و مانع ممن أتاها دارها
و غاسل بالسيف عنها عارها

فوجد بني تميم أيقاظا متحارسين- و خرج إليهم الحريش بن هلال و هو يقول-

وجدتمونا وقرا أنجادا
لا كشفا ميلا و لا أوغادا

ثم حمل على الخوارج- فرجعوا عنه فاتبعهم ثم صاح بهم- إلى أين يا كلاب النار- فقالوا إنما أعدت لك و لأصحابك- فقال الحريش كل مملوك لي حر إن لم تدخلوا النار- ما دخلها مجوسي فيما بين سفوان و خراسان- . ثم قال بعضهم لبعض نأتي عسكر ابن مخنف- فإنه لا خندق عليه- و قد بعث فرسانهم اليوم مع المهلب- و قد زعموا أنا أهون عليهم من ضرطة جمل- فأتوهم فلم يشعر ابن مخنف و أصحابه- إلا و قد خالطوهم في عسكرهم- . و كان ابن مخنف شريفا- و فيه يقول رجل من بني عامر لرجل يعاتبه- و يضرب بابن مخنف المثل-

تروح و تغدو كل يوم معظما
كأنك فينا مخنف و ابن مخنف‏

 فترجل عبد الرحمن تلك الليلة يجالدهم- حتى قتل و قتل معه سبعون رجلا من القراء- فيهم نفر من أصحاب علي بن أبي طالب- و نفر من أصحاب ابن مسعود و بلغ الخبر المهلب- و جعفر بن عبد الرحمن بن مخنف عند المهلب- فجاءهم مغيثا فقاتل حتى ارتث- و وجه المهلب إليهم ابنه حبيبا فكشفهم ثم جاء المهلب- حتى صلى على عبد الرحمن بن مخنف و أصحابه- و صار جنده في جند المهلب- فضمهم إلى ابنه حبيب- فعيرهم البصريون و سموا جعفرا خضفة الجمل- .و قال رجل منهم لجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف-

تركت أصحابكم تدمى نحورهم
و جئت تسعى إلينا خضفة الجمل‏

فلام المهلب أهل البصرة- و قال بئسما قلتم و الله ما فروا و لا جبنوا- و لكنهم خالفوا أميرهم- أ فلا تذكرون فراركم بدولاب عني- و فراركم بدارس عن عثمان- . و وجه الحجاج البراء بن قبيصة إلى المهلب- يستحثه في مناجزة القوم- و كتب إليه إنك تحب بقاءهم لتأكل بهم- فقال المهلب لأصحابه حركوهم- فخرج فرسان من أصحابه- فخرج إليهم من الخوارج جمع كثير- فاقتتلوا إلى الليل- فقال لهم الخوارج ويلكم أ ما تملون- فقالوا لا حتى تملوا- فقالوا فمن أنتم قالوا تميم-

فقالت الخوارج و نحن تميم أيضا- فلما أمسوا افترقوا- فلما كان الغد خرج عشرة من أصحاب المهلب- و خرج إليهم من الخوارج عشرة- و احتفر كل واحد منهم حفيرة- و أثبت قدميه فيها- كلما قتل رجل جاء رجل من أصحابه- فاجتره و قام مكانه حتى أعتموا- فقال لهم الخوارج ارجعوا- فقالوا بل ارجعوا أنتم- قالوا لهم ويلكم من أنتم- قالوا تميم قالوا و نحن‏تميم أيضا- فرجع البراء بن قبيصة إلى الحجاج- فقال له مهيم قال- رأيت أيها الأمير قوما لا يعين عليهم إلا الله- . و كتب المهلب جواب الحجاج- إني منتظر بهم إحدى ثلاث- موتا ذريعا أو جوعا مضرا أو اختلافا من أهوائهم- . و كان المهلب لا يتكل في الحراسة على أحد- كان يتولى ذلك بنفسه و يستعين عليه بولده- و بمن يحل محلهم في الثقة عنده- . قال أبو حرملة العبدي يهجو المهلب و كان في عسكره-

عدمتك يا مهلب من أمير
أ ما تندى يمينك للفقير

بدولاب أضعت دماء قومي‏
و طرت على مواشكة درور

فقال له المهلب ويحك- و الله إني لاقيكم بنفسي و ولدي- قال جعلني الله فداء الأمير- فذاك الذي نكره منك ما كلنا يحب الموت- قال ويحك و هل عنه من محيص- قال لا و لكنا نكره التعجيل- و أنت تقدم عليه إقداما- قال المهلب ويلك أ ما سمعت قول الكلحبة اليربوعي-

فقلت لكأس ألجميها فإنما
نزلنا الكثيب من زرود لنفزعا

فقال بلى قد سمعت و لكن قولي أحب إلي منه-

و لما وقفتم غدوة و عدوكم
إلى مهجتي وليت أعداءكم ظهري‏

و طرت و لم أحفل ملامة جاهل‏
يساقي المنايا بالردينية السمر

فقال المهلب- بئس حشو الكتيبة أنت و الله يا أبا حرملة- إن شئت أذنت لك فانصرفت إلى أهلك- قال بل أقيم معك أيها الأمير- فوهب له المهلب و أعطاه فقال يمدحه-

يرى حتما عليه أبو سعيد
جلاد القوم في أولى النفير

إذا نادى الشراة أبا سعيد
مشى في رفل محكمة القتير

قال و كان المهلب يقول- ما يسرني أن في عسكري ألف شجاع مكان بيهس بن صهيب- فيقال له أيها الأمير بيهس ليس بشجاع- فيقول أجل و لكنه سديد الرأي محكم العقل- و ذو الرأي حذر سئول- فأنا آمن أن يغتفل- و لو كان مكانه ألف شجاع- لخلت أنهم ينشامون حيث يحتاج إليهم- . قال و مطرت السماء مطرا شديدا و هم بسابور- و بين المهلب و بين الشراة عقبة- فقال المهلب من يكفينا أمر هذه العقبة الليلة- فلم يقم أحد فلبس المهلب سلاحه- و قام إلى العقبة و اتبعه ابنه المغيرة- فقال رجل من أصحابه- دعانا الأمير إلى ضبط العقبة- و الحظ في ذلك لنا فلم نطعه- و لبس سلاحه و اتبعه جماعة من العسكر فصاروا إليه- فإذا المهلب و المغيرة و لا ثالث لهما- فقالوا انصرف أيها الأمير- فنحن نكفيك إن شاء الله- فلما أصبحوا إذا هم بالشراة على العقبة- فخرج إليهم غلام من أهل عمان على فرس- فجعل يحمل و فرسه تزلق- و يلقاه مدرك في جماعة معه- حتى ردوهم عن العقبة- فلما كان يوم النحر و المهلب على المنبر يخطب الناس- إذ الشراة قد أكبوا-

فقال المهلب سبحان الله- أ في مثل هذا اليوم يا مغيرة اكفنيهم- فخرج إليهم المغيرة- و أمامه سعد بن نجد القردوسي- و كان سعد مقدما في شجاعته- و كان الحجاج إذا ظن برجل أن نفسه قد أعجبته قال له- لو كنت سعد بن نجد القردوسي ما عدا- فخرج أمام المغيرة و مع المغيرة جماعة من فرسان المهلب فالتقوا- و أمام الخوارج غلام جامع السلاح- مديد القامة كريه الوجه شديد الحملة صحيح الفروسية- فأقبل يحمل على الناس و يرتجز فيقول-

نحن صبحناكم غداة النحر
بالخيل أمثال الوشيج تجري‏

 فخرج إليه سعد بن نجد القردوسي من الأزد- فتجاولا ساعة ثم طعنه سعد فقتله و التقى الناس- فصرع المغيرة يومئذ- فحامى عليه سعد بن نجد و دينار السجستاني و جماعة من الفرسان- حتى ركب و انكشف الناس عند سقطة المغيرة- حتى صاروا إلى المهلب فقالوا- قتل المغيرة فأتاه دينار السجستاني فأخبره بسلامته- فأعتق كل مملوك كان بحضرته- .

قال و وجه الحجاج الجراح بن عبد الله إلى المهلب- يستبطئه في مناجزة القوم و كتب إليه- أما بعد فإنك جبيت الخراج بالعلل- و تحصنت بالخنادق و طاولت القوم- و أنت أعز ناصرا و أكثر عددا- و ما أظن بك مع هذا معصية و لا جبنا- و لكنك اتخذتهم أكلا- و كان بقاؤهم أيسر عليك من قتالهم- فناجزهم و إلا أنكرتني و السلام- . فقال المهلب للجراح يا أبا عقبة- و الله ما تركت حيلة إلا احتلتها و لا مكيدة إلا أعملتها- و ما العجب من إبطاء النصرة و تراخي الظفر- و لكن العجب أن يكون الرأي لمن يملكه دون من يبصره- . ثم ناهضهم ثلاثة أيام يغاديهم القتال- فلا يزالون كذلك إلى العصر- و ينصرف أصحابه و بهم قرح و بالخوارج قرح و قتل- فقال له الجراح قد أعذرت- . فكتب المهلب إلى الحجاج- أتاني كتابك تستبطئني في لقاء القوم- على أنك لا تظن بي معصية و لا جبنا- و قد عاتبتني معاتبة الجبان- و أوعدتني وعيد العاصي- فسل الجراح و السلام- .

فقال الحجاج للجراح كيف رأيت أخاك- قال و الله أيها الأمير ما رأيت مثله قط- و لا ظننت أن أحدا يبقى على مثل ما هو عليه- و لقد شهدت أصحابه أياما ثلاثة يغدون إلى الحرب- ثم ينصرفون عنها و هم يتطاعنون بالرماح- و يتجالدون بالسيوف‏ و يتخابطون بالعمد- ثم يروحون كأن لم يصنعوا شيئا- رواح قوم تلك عادتهم و تجارتهم- . فقال الحجاج- لشد ما مدحته أبا عقبة فقال الحق أولى- . و كانت ركب الناس قديما من الخشب- فكان الرجل يضرب ركابه فينقطع- فإذا أراد الضرب أو الطعن لم يكن له معتمد- فأمر المهلب بضرب الركب من الحديد- فهو أول من أمر بطبعها- و في ذلك يقول عمران بن عصام العنزي-

ضربوا الدراهم في إمارتهم
و ضربت للحدثان و الحرب‏

حلقا ترى منها مرافقهم‏
كمناكب الجمالة الجرب‏

قال و كتب الحجاج إلى عتاب بن ورقاء الرياحي- من بني رياح بن يربوع و هو والي أصفهان- يأمره بالمسير إلى المهلب- و أن يضم إليه جند عبد الرحمن بن مخنف- فكل بلد يدخلانه من فتوح أهل البصرة- فالمهلب أمير الجماعة فيه- و أنت على أهل الكوفة- فإذا دخلتم بلدا فتحه أهل الكوفة- فأنت أمير الجماعة و المهلب على أهل البصرة- . فقدم عتاب في إحدى جماديين- من سنة ست و سبعين على المهلب و هو بسابور- و هي من فتوح أهل البصرة- فكان المهلب أمير الناس- و عتاب على أصحاب ابن مخنف- و الخوارج بأيديهم كرمان- و هم بإزاء المهلب بفارس يحاربونه من جميع النواحي- .

قال و وجه الحجاج إلى المهلب رجلين- يستحثانه لمناجزة القوم- أحدهما يقال له زياد بن عبد الرحمن- من بني عامر بن صعصعة- و الآخر من آل أبي عقيل من رهط الحجاج- فضم المهلب زيادا إلى ابنه حبيب- و ضم الثقفي إلى ابنه يزيد و قال لهما- خذا يزيد و حبيبا بالمناجزة و غادوا الخوارج- فاقتتلوا أشد قتال- فقتل زياد بن عبد الرحمن العامري و فقد الثقفي- ثم باكروهم في اليوم الثاني- و قد وجد الثقفي فدعا به المهلب و دعا بالغداء- فجعل النبل يقع قريبا منهم و يتجاوزهم- و الثقفي يعجب من أمر المهلب فقال الصلتان العبدي-

ألا يا أصبحاني قبل عوق العوائق
و قبل اختراط القوم مثل العقائق‏

غداة حبيب في الحديد يقودنا
يخوض المنايا في ظلال الخوافق‏

حرون إذا ما الحرب طار شرارها
و هاج عجاج النقع فوق المفارق‏

فمن مبلغ الحجاج أن أمينه‏
زيادا أطاحته رماح الأزارق‏

 فلم يزل عتاب بن ورقاء مع المهلب ثمانية أشهر- حتى ظهر شبيب بن يزيد- فكتب الحجاج إلى عتاب يأمره بالمصير إليه- ليوجهه إلى شبيب- و كتب إلى المهلب يأمره أن يرزق الجند- فرزق أهل البصرة و أبى أن يرزق أهل الكوفة- فقال له عتاب ما أنا ببارح حتى ترزق أهل الكوفة- فأبى فجرت بينهما غلظة فقال له عتاب- قد كان يبلغني أنك شجاع فرأيتك جبانا- و كان يبلغني أنك جواد فرأيتك بخيلا- فقال له المهلب يا ابن اللخناء- فقال له عتاب لكنك معم مخول- .

فغضبت بكر بن وائل للمهلب للحلف- و وثب نعيم بن هبيرة- ابن أخي مصقلة بن هبيرة على عتاب فشتمه- و قد كان المهلب كارها للحلف- فلما رأى نصرة بكر بن وائل له سره و اغتبط به- فلم يزل يؤكده و غضبت تميم البصرة لعتاب- و غضبت أزد الكوفة للمهلب- فلما رأى ذلك المغيرة مشى بين أبيه و بين عتاب- و قال لعتاب يا أبا ورقاء- إن الأمير يصير إلى كل ما تحب- و سأل أباه أن يرزق أهل الكوفة- ففعل فصلح الأمر فكانت تميم قاطبة و عتاب بن ورقاء- يحمدون المغيرة بن المهلب- و كان عتاب يقول إني لأعرف فضله على أبيه- . و قال رجل من الأزد من بني أياد بن سود-

ألا أبلغ أبا ورقاء عنا
فلو لا أننا كنا غضابا

على الشيخ المهلب إذ جفانا
للاقت خيلكم منا ضرابا

قال و كان المهلب يقول لبنيه- لا تبدءوا الخوارج بقتال حتى يبدءوكم و يبغوا عليكم- فإنهم إذا بغوا عليكم نصرتم عليهم- . فشخص عتاب إلى الحجاج في سنة سبع و سبعين- فوجهه إلى شبيب فقتله شبيب- . و أقام المهلب على حربهم- فلما انقضى من مقامه ثمانية عشر شهرا- اختلفوا و افترقت كلمتهم- و كان سبب اختلافهم أن رجلا حدادا من الأزارقة- كان يعمل نصالا مسمومة فيرمي بها أصحاب المهلب- فرفع ذلك إلى المهلب- فقال أنا أكفيكموه إن شاء الله- فوجه رجلا من أصحابه بكتاب و ألف درهم إلى عسكر قطري- فقال له ألق هذا الكتاب في العسكر و الدراهم- و احذر على نفسك و كان الحداد يقال له أبزى- فمضى الرجل و كان في الكتاب- أما بعد فإن نصالك قد وصلت إلي- و قد وجهت إليك بألف درهم- فاقبضها و زدنا من هذه النصال- .

فوقع الكتاب إلى قطري فدعا بأبزى- فقال ما هذا الكتاب قال لا أدري- قال فما هذه الدراهم قال لا أعلم- فأمر به فقتل- فجاءه عبد ربه الصغير مولى بني قيس بن ثعلبة- فقال له أ قتلت رجلا على غير ثقة و لا تبين- قال قطري فما حال هذه الألف- قال يجوز أن يكون أمرها كذبا- و يجوز أن يكون حقا فقال قطري- إن قتل رجل في صلاح الناس غير منكر- و للإمام أن يحكم بما رآه صلاحا- و ليس للرعية أن تعترض عليه- فتنكر له عبد ربه في جماعة معه و لم يفارقوه- . و بلغ ذلك المهلب فدس إليهم رجلا نصرانيا- جعل له جعلا يرغب في مثله- و قال له إذا رأيت قطريا فاسجد له- فإذا نهاك فقل إنما سجدت لك- ففعل ذلك النصراني- فقال قطري إنما السجود لله تعالى-

فقال ما سجدت إلا لك فقال رجل من الخوارج- إنه قد عبدك من دون الله و تلا- إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ- أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ- فقال قطري- إن النصارى قد عبدوا عيسى ابن مريم- فما ضر عيسى ذلك شيئا- فقام رجل من الخوارج إلى النصراني فقتله- فأنكر قطري ذلك عليه- و أنكر قوم من الخوارج إنكاره- . و بلغ المهلب ذلك- فوجه إليهم رجلا يسألهم فأتاهم الرجل- فقال أ رأيتم رجلين خرجا مهاجرين إليكم- فمات أحدهما في الطريق و بلغ الآخر إليكم- فامتحنتموه فلم يجز المحنة ما تقولون فيهما- فقال بعضهم أما الميت فمؤمن من أهل الجنة- و أما الذي لم يجز المحنة فكافر حتى يجيز المحنة- . و قال قوم آخرون- بل هما كافران حتى يجيز المحنة فكثر الاختلاف- . و خرج قطري إلى حدود إصطخر فأقام شهرا- و القوم في اختلافهم ثم أقبل- فقال‏ لهم صالح بن مخراق يا قوم- إنكم أقررتم عين عدوكم- و أطمعتموه فيكم بما يظهر من خلافكم- فعودوا إلى سلامة القلوب و اجتماع الكلمة- . و خرج عمرو القنا و هو من بني سعد بن زيد مناة بن تميم- فنادى يا أيها المحلون- هل لكم في الطراد فقد طال عهدي به ثم قال-

أ لم تر أنا مذ ثلاثين ليلة
جديب و أعداء الكتاب على خفض‏

فتهايج القوم و أسرع بعضهم إلى بعض- و كانت الوقعة و أبلى يومئذ المغيرة بن المهلب- و صار في وسط الأزارقة فجعلت الرماح تحطه و ترفعه- و اعتورت رأسه السيوف و عليه ساعد حديد- فوضع يده على رأسه فلم يعمل السيف فيه شيئا- و استنقذه فرسان من الأزد بعد أن صرع- و كان الذي صرعه عبيدة بن هلال- بن يشكر بن بكر بن وائل و كان يقول يومئذ-

أنا ابن خير قومه هلال
شيخ على دين أبي بلال‏
و ذاك ديني آخر الليالي‏

فقال رجل للمغيرة- كنا نعجب كيف تصرع و الآن نعجب كيف تنجو- و قال المهلب لبنيه- إن سرحكم لغار و لست آمنهم عليه- أ فوكلتم به أحدا قالوا لا فلم يستتم الكلام حتى أتاه آت- فقال إن صالح بن مخراق قد أغار على السرح- فشق على المهلب و قال- كل أمر لا إليه بنفسي فهو ضائع و تذمر عليهم- فقال له بشر بن المغيرة أرح نفسك- فإن كنت إنما تريد مثلك- فو الله ما يعدل خيرنا شسع نعلك-فقال خذوا عليهم الطريق- فبادر بشر بن المغيرة و مدرك و المفضل ابنا المهلب- فسبق بشر إلى الطريق- فإذا رجل أسود من الأزارقة- يشل السرح و هو يقول-

نحن قمعناكم بشل السرح
و قد نكانا القرح بعد القرح‏

 و لحقه المفضل و مدرك فصاحا برجل من طيئ- اكفنا الأسود فاعتوره الطائي و بشر بن المغيرة فقتلاه- و أسرا رجلا من الأزارقة من همدان- و استردا السرح- . قال و كان عياش الكندي شجاعا بئيسا فأبلي يومئذ- فلما مات على فراشه بعد ذلك- قال المهلب لا وألت نفس الجبان بعد عياش- و قال المهلب ما رأيت تالله كهؤلاء القوم- كلما انتقص منهم يزيد فيهم- . و وجه الحجاج رجلين إلى المهلب يستحثانه بالقتال- أحدهما من كلب و الآخر من سليم- فقال المهلب متمثلا بشعر لأوس بن حجر-

و مستعجب مما يرى من أناتنا
و لو زبنته الحرب لم يترمرم‏

فقال المهلب ليزيد ابنه حرك القوم- فحركهم فتهايجوا- و ذلك في قرية من قرى إصطخر- فحمل رجل من الخوارج على رجل- من أصحاب المهلب و طعنه- فشك فخذه بالسرج- فقال المهلب للسلمي و الكلبي- كيف يقاتل قوم هذا طعنهم- و حمل‏يزيد عليهم- و قد جاء الرقاد و هو من فرسان المهلب- و هو أحد بني مالك بن ربيعة على فرس له أدهم- و به نيف و عشرون جراحة و قد وضع عليها القطن- فلما حمل يزيد ولى الجمع و حماهم فارسان منهم- فقال يزيد لقيس الخشني مولى العتيك من لهذين- قال أنا فحمل عليهما- فعطف عليه أحدهما فطعنه قيس فصرعه- و حمل عليه الآخر فتعانقا- فسقطا جميعا إلى الأرض- فصاح قيس الخشني اقتلونا جميعا- فحملت خيل هؤلاء و خيل هؤلاء فحجزوا بينهما- فإذا معانق قيس امرأة فقام قيس مستحييا- فقال له يزيد يا أبا بشر- أما أنت فبارزتها على أنها رجل- فقال أ رأيت لو قتلت أ ما كان يقال قتلته امرأة- و أبلى يومئذ ابن المنجب السدوسي- فقال غلام له يقال له خلاج- و الله لوددنا أنا فضضنا عسكرهم حتى نصير إلى مستقرهم- فاستلب مما هناك جاريتين- فقال له مولاه ابن المنجب- و كيف تمنيت ويحك اثنتين- فقال لأعطيك إحداهما و آخذ الأخرى- فقال ابن المنجب-

أ خلاج إنك لن تعانق طفلة
شرقا بها الجادي كالتمثال‏

حتى تلاقي في الكتيبة معلما
عمرو القنا و عبيدة بن هلال‏

و ترى المقعطر في الفوارس مقدما
في عصبة نشطوا على الضلال‏

أو أن يعلمك المهلب غزوه
و ترى جبالا قد دنت لجبال‏

قال و كان بدر بن الهذيل من أصحاب المهلب شجاعا- و كان لحانة كان إذا أحس بالخوارج ينادي- يا خيل الله اركبي و إليه يشير القائل-

و إذا طلبت إلى المهلب حاجة
عرضت توابع دونه و عبيد

العبد كردس و بدر مثله‏
و علاج باب الأحمرين شديد

قال و كان بشر بن المغيرة بن أبي صفرة- أبلى يومئذ بلاء حسنا عرف مكانه فيه- و كانت بينه و بين المهلب جفوة- فقال لبنيه يا بني عم- إني قد قصرت عن شكاة العاتب- و جاوزت شكاة المستعتب- حتى كأني لا موصول و لا محروم- فاجعلوا لي فرجة أعيش بها- و هبوني امرأ رجوتم نصره أو خفتم لسانه- فرجعوا له و وصلوه و كلموا فيه المهلب فوصله- . و ولى الحجاج كردما فارس- و وجهه إليها و الحرب قائمة- فقال رجل من أصحاب المهلب-

و لو رآها كردم لكردما
كردمة العير أحس الضيغما

فكتب المهلب إلى الحجاج يسأله- أن يتجافى له عن إصطخر و دارابجرد لأرزاق الجند ففعل- و قد كان قطري هدم مدينة إصطخر- لأن أهلها كانوا يكاتبون المهلب بأخباره- و أراد مثل ذلك بمدينة فسا- فاشتراها منه آزاذ مرد بن الهربذ بمائة ألف درهم-فلم يهدمها فواقعه وجه المهلب فهزمه- فنفاه إلى كرمان و اتبعه المغيرة ابنه- و قد كان دفع إليه سيفا وجه به الحجاج إلى المهلب- و أقسم عليه أن يتقلده فدفعه إلى المغيرة بعد ما تقلده- فرجع به المغيرة إليه و قد دماه فسر المهلب- و قال ما يسرني أن يكون كنت دفعته إلى غيرك من ولدي- و قال له اكفني جباية خراج هاتين الكورتين و ضم إليه الرقاد- فجعلا يجبيان و لا يعطيان الجند شيئا- ففي ذلك يقول رجل من بني تميم في كلمة له-

و لو علم ابن يوسف ما نلاقي
من الآفات و الكرب الشداد

لفاضت عينه جزعا علينا
و أصلح ما استطاع من الفساد

ألا قل للأمير جزيت خيرا
أرحنا من مغيرة و الرقاد

فما رزق الجنود بهم قفيزا
و قد ساست مطامير الحصاد

أي وقع فيها السوس- . قال ثم حاربهم المهلب بالسيرجان- حتى نفاهم عنها إلى جيرفت و اتبعهم و نزل قريبا منهم- . ثم اختلفت كلمة الخوارج- و كان سبب ذلك أن عبيدة بن هلال اتهم بامرأة رجل نجار- رأوه يدخل مرارا إليها بغير إذن- فأتى قطريا فذكروا ذلك له- فقال لهم إن عبيدة من الدين بحيث علمتم- و من الجهاد بحيث رأيتم- فقالوا إنا لا نقار على الفاحشة فقال‏ انصرفوا- ثم بعث إلى عبيدة فأخبره- و قال له أنا لا أقار على الفاحشة-

فقال بهتوني يا أمير المؤمنين فما ترى- قال إني جامع بينك و بينهم- فلا تخضع خضوع المذنب- و لا تتطاول تطاول البري‏ء فجمع بينهم فتكلموا- فقام عبيدة فقال بسم الله الرحمن الرحيم- إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ… حتى تلا الآيات- فبكوا و قاموا إليه فاعتنقوه- و قالوا استغفر لنا ففعل- فقال عبد ربه الصغير مولى بني قيس بن ثعلبة- و الله لقد خدعكم فتابع عبد ربه منهم ناس كثير- و لم يظهروا و لم يجدوا على عبيدة في إقامة الحد ثبتا- . و كان قطري قد استعمل رجلا من الدهاقين- فظهرت له أموال كثيرة فأتوا قطريا فقالوا- إن عمر بن الخطاب لم يكن يقار عماله على مثل هذا-

فقال قطري إني استعملته و له ضياع و تجارات- فأوغر ذلك صدورهم و بلغ المهلب ذلك- فقال اختلافهم أشد عليهم مني- ثم قالوا لقطري أ لا تخرج بنا إلى عدونا- فقال لا ثم خرج فقالوا قد كذب و ارتد فاتبعوه يوما- فأحس بالشر و دخل دارا مع جماعة من أصحابه- فاجتمعوا عليه و صاحوا اخرج إلينا يا دابة- فخرج إليهم فقال أ رجعتم بعدي كفارا- قالوا أ و لست دابة قال الله تعالى- وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها- و لكنك قد كفرت بقولك- أنا قد رجعنا كفارا فتب إلى الله فشاور عبيدة في ذلك- فقال له إن تبت لم يقبلوا منك- فقل إني استفهمت فقلت أ رجعتم بعدي كفارا- فقال لهم ذلك فقبلوا منه فرجع إلى منزله

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 4

خطبه 56 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

56 و من كلام له ع لأصحابه

أَمَا إِنَّهُ سَيَظْهَرُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي رَجُلٌ رَحْبُ الْبُلْعُومِ- مُنْدَحِقُ الْبَطْنِ يَأْكُلُ مَا يَجِدُ وَ يَطْلُبُ مَا لَا يَجِدُ- فَاقْتُلُوهُ وَ لَنْ تَقْتُلُوهُ- أَلَا وَ إِنَّهُ سَيَأْمُرُكُمْ بِسَبِّي وَ الْبَرَاءَةِ مِنِّي- فَأَمَّا السَّبُّ فَسُبُّونِي فَإِنَّهُ لِي زَكَاةٌ وَ لَكُمْ نَجَاةٌ- وَ أَمَّا الْبَرَاءَةُ فَلَا تَتَبَرَّءُوا مِنِّي- فَإِنِّي وُلِدْتُ عَلَى الْفِطْرَةِ وَ سَبَقْتُ إِلَى الْإِيمَانِ وَ الْهِجْرَةِ مندحق البطن بارزها- و الدحوق من النوق التي يخرج رحمها عند الولادة- و سيظهر سيغلب و رحب البلعوم واسعه- . و كثير من الناس يذهب إلى أنه ع عنى زيادا- و كثير منهم يقول إنه عنى الحجاج- و قال قوم إنه عنى المغيرة بن شعبة- و الأشبه عندي أنه عنى معاوية- لأنه كان موصوفا بالنهم و كثرة الأكل و كان بطينا- يقعد بطنه إذا جلس على فخذيه- و كان معاوية جوادا بالمال و الصلات و بخيلا على الطعام- يقال إنه مازح أعرابيا على طعامه- و قد قدم بين يديه خروف- فأمعن الأعرابي في أكله فقال له- ما ذنبه إليك أ نطحك أبوه- فقال الأعرابي و ما حنوك عليه أ أرضعتك أمه- . و قال لأعرابي يأكل بين يديه و قد استعظم أكله- أ لا أبغيك سكينا فقال‏ كل امرئ سكينه في رأسه فقال- ما اسمك قال لقيم قال منها أتيت- . كان معاوية يأكل فيكثر ثم يقول ارفعوا- فو الله ما شبعت و لكن مللت و تعبت- . تظاهرت الأخبار-أن رسول الله ص دعا على معاوية لما بعث إليه يستدعيه- فوجده يأكل ثم بعث فوجده يأكل- فقال اللهم لا تشبع بطنه- قال الشاعر-

و صاحب لي بطنه كالهاوية
كأن في أحشائه معاوية

و في هذا الفصل مسائل- الأولى في تفسير قوله ع فاقتلوه و لن تقتلوه فنقول- إنه لا تنافي بين الأمر بالشي‏ء و الإخبار عن أنه لا يقع- كما أخبر الحكيم سبحانه- عن أن أبا لهب لا يؤمن و أمره بالإيمان و كما قال تعالى- فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ- ثم قال وَ لا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً- و أكثر التكليفات على هذا المنهاج

مسألة كلامية في الأمر بالشي‏ء مع العلم بأنه لا يقع

و اعلم أن أهل العدل و المجبرة لم يختلفوا- في أنه تعالى قد يأمر بما يعلم أنه لا يقع- أو يخبر عن أنه لا يقع و إنما اختلفوا- هل يصح أن يريد ما يعلم أنه لا يقع أو يخبر عنه أنه لا يقع- فقال أصحابنا يصح ذلك و قال المجبرة لا يصح- لأن إرادة ما يعلم المريد أنه لا يقع قضية متناقضة- لأن تحت قولنا أراد- مفهوم أن ذلك المراد مما يمكن حصوله- لأن إرادة المحال ممتنعة- و تحت قولنا إنه يعلم أنه لا يقع- مفهوم أن ذلك المراد مما لا يمكن حصوله- لأنا قد فرضنا أنه لا يقع- و ما لا يقع لا يمكن حصوله مع فرض كونه لا يقع- فقال لهم أصحابنا هذا يلزمكم في الأمر- لأنكم قد أجزتم أن يأمر بما يعلم أنه لا يقع- فقالوا في الجواب نحن عندنا أنه يأمر بما لا يريد- فإذا أمر بما يعلم أنه لا يقع أو يخبر عن أنه لا يقع- كان ذلك الأمر أمرا عاريا عن الإرادة- و المحال إنما نشأ من إرادة ما علم المريد أنه لا يقع- و هاهنا لا إرادة- .

فقيل لهم هب أنكم ذهبتم- إلى أن الأمر قد يعرى من الإرادة مع كونه أمرا- أ لستم تقولون أن الأمر يدل على الطلب- و الطلب شي‏ء آخر غير الإرادة- و تقولون إن ذلك الطلب قائم بذات البارئ- فنحن نلزمكم في الطلب القائم بذات البارئ- الذي لا يجوز أن يعرى الأمر منه ما ألزمتمونا في الإرادة- . و نقول لكم- كيف يجوز أن يطلب الطالب ما يعلم أنه لا يقع- أ ليس تحت قولنا طلب مفهوم- أن ذلك المطلوب مما يمكن وقوعه- فالحال في الطلب كالحال في الإرادة حذو النعل بالنعل- و لنا في هذا الموضع أبحاث دقيقة- ذكرناها في كتبنا الكلامية
فصل فيما روي من سب معاوية و حزبه لعلي المسألة الثانية في قوله ع- يأمركم بسبي و البراءة مني-

فنقول إن معاوية أمر الناس بالعراق و الشام- و غيرهما بسب علي ع و البراءة منه- . و خطب بذلك على منابر الإسلام- و صار ذلك سنة في أيام بني أمية- إلى أن قام عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه فأزاله- و ذكر شيخنا أبو عثمان الجاحظ- أن معاوية كان يقول في آخر خطبة الجمعة- اللهم إن أبا تراب ألحد في دينك- و صد عن سبيلك‏ فالعنه لعنا وبيلا و عذبه عذابا أليما- و كتب بذلك إلى الآفاق- فكانت هذه الكلمات- يشار بها على المنابر إلى خلافة عمر بن عبد العزيز- . و ذكر أبو عثمان أيضا- أن هشام بن عبد الملك لما حج خطب بالموسم- فقام إليه إنسان فقال يا أمير المؤمنين- إن هذا يوم كانت الخلفاء تستحب فيه لعن أبي تراب- فقال اكفف فما لهذا جئنا- . و ذكر المبرد في الكامل أن خالد بن عبد الله القسري- لما كان أمير العراق في خلافة هشام- كان يلعن عليا ع على المنبر فيقول- اللهم العن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم- صهر رسول الله ص على ابنته و أبا الحسن و الحسين- ثم يقبل على الناس فيقول هل كنيت- .

و روى أبو عثمان أيضا- أن قوما من بني أمية قالوا لمعاوية يا أمير المؤمنين- إنك قد بلغت ما أملت فلو كففت عن لعن هذا الرجل- فقال لا و الله حتى يربو عليه الصغير- و يهرم عليه الكبير و لا يذكر له ذاكر فضلا- . و قال أبو عثمان أيضا- و ما كان عبد الملك مع فضله و أناته و سداده و رجحانه- ممن يخفى عليه فضل علي ع- و أن لعنه على رءوس الأشهاد و في أعطاف الخطب- و على صهوات المنابر مما يعود عليه نقصه- و يرجع إليه وهنه لأنهما جميعا من بني عبد مناف- و الأصل واحد و الجرثومة منبت لهما- و شرف علي ع و فضله عائد عليه و محسوب له- و لكنه أراد تشييد الملك و تأكيد ما فعله الأسلاف- و أن يقرر في أنفس الناس- أن بني هاشم لا حظ لهم في هذا الأمر- و أن سيدهم الذي به يصولون و بفخره يفخرون-هذا حاله و هذا مقداره- فيكون من ينتمي إليه و يدلي به عن الأمر أبعد- و عن الوصول إليه أشحط و أنزح- .

و روى أهل السيرة- أن الوليد بن عبد الملك في خلافته ذكر عليا ع- فقال لعنه الله بالجر كان لص ابن لص- . فعجب الناس من لحنه فيما لا يلحن فيه أحد- و من نسبته عليا ع إلى اللصوصية- و قالوا ما ندري أيهما أعجب و كان الوليد لحانا- . و أمر المغيرة بن شعبة- و هو يومئذ أمير الكوفة من قبل معاوية- حجر بن عدي أن يقوم في الناس- فليلعن عليا ع فأبى ذلك فتوعده- فقام فقال أيها الناس- إن أميركم أمرني أن ألعن عليا فالعنوه- فقال أهل الكوفة لعنه الله- و أعاد الضمير إلى المغيرة بالنية و القصد- . و أراد زياد أن يعرض أهل الكوفة أجمعين- على البراءة من علي ع- و لعنه و أن يقتل كل من امتنع من ذلك و يخرب منزله- فضربه الله ذلك اليوم بالطاعون- فمات لا رحمه الله بعد ثلاثة أيام- و ذلك في خلافة معاوية- . و كان الحجاج لعنه الله يلعن عليا ع و يأمر بلعنه- و قال له متعرض به يوما و هو راكب أيها الأمير- إن أهلي عقوني فسموني عليا فغير اسمي- و صلني بما أتبلغ به فإني فقير- فقال للطف ما توصلت به قد سميتك كذا- و وليتك العمل الفلاني فاشخص إليه- . فأما عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فإنه قال- كنت غلاما أقرأ القرآن على بعض ولد عتبة بن مسعود- فمر بي يوما و أنا ألعب مع الصبيان- و نحن نلعن عليا- .

فكره ذلك و دخل المسجد- فتركت الصبيان و جئت إليه لأدرس عليه وردي- فلما رآني قام فصلى- و أطال في الصلاة شبه المعرض عني- حتى أحسست منه بذلك- فلما انفتل من صلاته كلح في وجهي- فقلت له ما بال الشيخ- فقال لي يا بني أنت اللاعن عليا منذ اليوم قلت نعم- قال فمتى علمت أن الله سخط على أهل بدر- بعد أن رضي عنهم- فقلت يا أبت و هل كان علي من أهل بدر- فقال ويحك و هل كانت بدر كلها إلا له- فقلت لا أعود فقال الله أنك لا تعود- قلت نعم فلم ألعنه بعدها- ثم كنت أحضر تحت منبر المدينة- و أبي يخطب يوم الجمعة و هو حينئذ أمير المدينة- فكنت أسمع أبي يمر في خطبه تهدر شقاشقه- حتى يأتي إلى لعن علي ع فيجمجم- و يعرض له من الفهاهة و الحصر ما الله عالم به- فكنت أعجب من ذلك- فقلت له يوما يا أبت أنت أفصح الناس و أخطبهم- فما بالي أراك أفصح خطيب يوم حفلك- حتى إذا مررت بلعن هذا الرجل صرت ألكن عليا- فقال يا بني إن من ترى تحت منبرنا من أهل الشام و غيرهم- لو علموا من فضل هذا الرجل- ما يعلمه أبوك لم يتبعنا منهم أحد- فوقرت كلمته في صدري- مع ما كان قاله لي معلمي أيام صغري- فأعطيت الله عهدا- لئن كان لي في هذا الأمر نصيب لأغيرنه- فلما من الله علي بالخلافة أسقطت ذلك و جعلت مكانه- إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى‏- وَ يَنْهى‏ عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ- يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ- و كتب به إلى الآفاق فصار سنة- . و قال كثير بن عبد الرحمن يمدح عمر و يذكر قطعه السب-

وليت فلم تشتم عليا و لم تخف
بريا و لم تقبل إساءة مجرم‏

و كفرت بالعفو الذنوب مع الذي‏
أتيت فأضحى راضيا كل مسلم‏

ألا إنما يكفي الفتى بعد زيغه
من الأود البادي ثقاف المقوم‏

و ما زلت تواقا إلى كل غاية
بلغت بها أعلى العلاء المقدم‏

فلما أتاك الأمر عفوا و لم يكن
لطالب دنيا بعده من تكلم‏

تركت الذي يفنى لأن كان بائدا
و آثرت ما يبقى برأي مصمم‏

و قال الرضي أبو الحسن رحمه الله تعالى-

يا ابن عبد العزيز لو بكت العين
فتى من أمية لبكيتك‏

غير أني أقول أنك قد طبت‏
و إن لم يطب و لم يزك بيتك‏

أنت نزهتنا عن السب و القذف
فلو أمكن الجزاء جزيتك‏

و لو أني رأيت قبرك لاستحييت‏
من أن أرى و ما حييتك‏

و قليل أن لو بذلت دماء
البدن صرفا على الذرا و سقيتك‏

دير سمعان فيك مأوى أبي حفص‏
بودي لو أنني آويتك‏

دير سمعان لا أغبك غيث
خير ميت من آل مروان ميتك‏

أنت بالذكر بين عيني و قلبي‏
إن تدانيت منك أو إن نأيتك‏

و إذا حرك الحشا خاطر منك
توهمت أنني قد رأيتك‏

و عجيب أني قليت بني مروان‏
طرا و أنني ما قليتك‏

قرب العدل منك لما نأى الجور
بهم فاجتويتهم و اجتبيتك‏

فلو أني ملكت دفعا لما نابك‏
من طارق الردى لفديتك‏

و روى ابن الكلبي عن أبيه- عن عبد الرحمن بن السائب- قال قال الحجاج يوما لعبد الله بن هانئ- و هو رجل من بني أود حي من قحطان- و كان شريفا في قومه- قد شهد مع الحجاج مشاهده كلها- و كان من أنصاره و شيعته- و الله ما كافأتك بعد- ثم أرسل إلى أسماء بن خارجة سيد بني فزارة- أن زوج عبد الله بن هانئ بابنتك- فقال لا و الله و لا كرامة فدعا بالسياط- فلما رأى الشر قال نعم أزوجه- ثم بعث إلى سعيد بن قيس الهمداني رئيس اليمانية- زوج ابنتك من عبد الله بن أود-

فقال و من أود لا و الله لا أزوجه و لا كرامة- فقال علي بالسيف- فقال دعني حتى أشاور أهلي فشاورهم- فقالوا زوجه و لا تعرض نفسك لهذا الفاسق فزوجه- فقال الحجاج لعبد الله- قد زوجتك بنت سيد فزارة و بنت سيد همدان- و عظيم كهلان و ما أود هناك- فقال لا تقل أصلح الله الأمير ذاك- فإن لنا مناقب ليست لأحد من العرب- قال و ما هي- قال ما سب أمير المؤمنين عبد الملك في ناد لنا قط- قال منقبة و الله- قال و شهد منا صفين مع أمير المؤمنين معاوية سبعون رجلا- ما شهد منا مع أبي تراب إلا رجل واحد- و كان و الله ما علمته امرأ سوء- قال منقبة و الله- قال و منا نسوة نذرن- إن قتل الحسين بن علي- أن تنحر كل واحدة عشر قلائص ففعلن- قال منقبة و الله- قال و ما منا رجل عرض عليه شتم أبي تراب و لعنه- إلا فعل و زاد ابنيه حسنا و حسينا و أمهما فاطمة- قال منقبة و الله- قال و ما أحد من العرب له من الصباحة و الملاحة ما لنا- فضحك الحجاج- و قال أما هذه يا أبا هانئ فدعها- و كان عبد الله دميما شديد الأدمة مجدورا- في رأسه عجر مائل الشدق- أحول قبيح الوجه شديد الحول- . و كان عبد الله بن الزبير يبغض عليا ع- و ينتقصه و ينال من عرضه- .

و روى عمر بن شبة و ابن الكلبي و الواقدي- و غيرهم من رواة السير- أنه مكث أيام ادعائه الخلافة أربعين جمعة- لا يصلي فيها على النبي ص- و قال لا يمنعني من ذكره إلا أن تشمخ رجال بآنافها- . و في رواية محمد بن حبيب و أبي عبيدة معمر بن المثنى- أن له أهيل سوء ينغضون رءوسهم عند ذكره- . و روى سعيد بن جبير أن عبد الله بن الزبير- قال لعبد الله بن عباس- ما حديث أسمعه عنك- قال و ما هو قال تأنيبي و ذمي-فقال إني سمعت رسول الله ص يقول- بئس المرء المسلم يشبع و يجوع جارهفقال ابن الزبير- إني لأكتم بغضكم أهل هذا البيت منذ أربعين سنة- و ذكر تمام الحديث- .

و روى عمر بن شبة أيضا عن سعيد بن جبير- قال خطب عبد الله بن الزبير فنال من علي ع- فبلغ ذلك محمد بن الحنفية- فجاء إليه و هو يخطب- فوضع له كرسي فقطع عليه خطبته- و قال يا معشر العرب شاهت الوجوه- أ ينتقص علي و أنتم حضور- إن عليا كان يد الله على أعداء الله- و صاعقة من أمره أرسله على الكافرين و الجاحدين لحقه- فقتلهم بكفرهم فشنئوه و أبغضوه- و أضمروا له الشنف و الحسد- و ابن عمه ص حي بعد لم يمت- فلما نقله الله إلى جواره و أحب له ما عنده- أظهرت له رجال أحقادها و شفت أضغانها- فمنهم من ابتز حقه و منهم من ائتمر به ليقتله- و منهم من شتمه و قذفه بالأباطيل- فإن يكن لذريته و ناصري دعوته دولة تنشر عظامهم- و تحفر على أجسادهم و الأبدان منهم يومئذ بالية- بعد أن تقتل الأحياء منهم و تذل رقابهم- فيكون الله عز اسمه قد عذبهم بأيدينا و أخزاهم- و نصرنا عليهم و شفا صدورنا منهم- إنه و الله ما يشتم عليا إلا كافر- يسر شتم رسول الله ص- و يخاف أن يبوح به-فيكني بشتم علي ع عنه- أما إنه قد تخطت المنية منكم من امتد عمره- و سمعقول رسول الله ص فيه لا يحبك إلا مؤمن و لا يبغضك إلا منافقوَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ فعاد ابن الزبير إلى خطبته- و قال عذرت بني الفواطم يتكلمون- فما بال ابن أم حنيفة- فقال محمد يا ابن أم رومان- و ما لي لا أتكلم- و هل فاتني من الفواطم إلا واحدة- و لم يفتني فخرها- لأنها أم أخوي- أنا ابن فاطمة بنت عمران بن عائذ بن مخزوم- جده رسول الله ص- و أنا ابن فاطمة بنت أسد بن هاشم- كافلة رسول الله ص و القائمة مقام أمه- أما و الله لو لا خديجة بنت خويلد- ما تركت في بني أسد بن عبد العزى عظما إلا هشمته- ثم قام فانصرف

فصل في ذكر الأحاديث الموضوعة في ذم علي

و ذكر شيخنا أبو جعفر الإسكافي رحمه الله تعالى- و كان من المتحققين بموالاة علي ع و المبالغين في تفضيله- و إن كان القول بالتفضيل عاما شائعا في البغداديين من أصحابنا كافة- إلا أن أبا جعفر أشدهم في ذلك قولا- و أخلصهم فيه اعتقادا- أن معاوية وضع قوما من الصحابة و قوما من التابعين- على رواية أخبار قبيحة في علي ع- تقتضي الطعن فيه و البراءة منه- و جعل لهم على ذلك جعلا يرغب في مثله- فاختلقوا ما أرضاه- منهم أبو هريرة و عمرو بن العاص و المغيرة بن شعبة- و من التابعين عروة بن الزبير- .

روى الزهري أن عروة بن الزبير حدثه قال حدثتني عائشة قالت كنت عندرسول الله إذ أقبل العباس و علي- فقال يا عائشة إن هذين يموتان على غير ملتي أو قال ديني- .

و روى عبد الرزاق عن معمر- قال كان عند الزهري حديثان عن عروة عن عائشة في علي ع- فسألته عنهما يوما- فقال ما تصنع بهما و بحديثهما الله أعلم بهما- إني لأتهمهما في بني هاشم- . قال فأما الحديث الأول فقد ذكرناه- و أما الحديث الثاني فهو أن عروة زعم أن عائشة حدثته-قالت كنت عند النبي ص- إذ أقبل العباس و علي- فقال يا عائشة- إن سرك أن تنظري إلى رجلين من أهل النار- فانظري إلى هذين قد طلعا- فنظرت فإذا العباس و علي بن أبي طالب- .

و أما عمرو بن العاص- فروي عنه الحديث الذي أخرجه البخاري و مسلم- في صحيحيهما مسندا متصلا بعمرو بن العاص-قال سمعت رسول الله ص يقول إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء- إنما وليي الله و صالح المؤمنينو أما أبو هريرة: فروي عنه الحديث- الذي معناه أن عليا ع خطب ابنة أبي جهل- في حياة رسول الله ص فأسخطه فخطب على المنبر- و قال لاها الله- لا تجتمع ابنة ولي الله و ابنة عدو الله أبي جهل- إن فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها- فإن كان علي يريد ابنة أبي جهل- فليفارق ابنتي و ليفعل ما يريد- أو كلاما هذا معناه- و الحديث مشهور من رواية الكرابيسي- . قلت- هذا الحديث أيضا مخرج في صحيحي مسلم و البخاري- عن المسور بن مخرمة الزهري- و قد ذكره المرتضى في كتابه- المسمى تنزيه الأنبياء و الأئمة- و ذكر أنه رواية حسين الكرابيسي- و أنه مشهور بالانحراف عن أهل البيت ع- و عداوتهم و المناصبة لهم فلا تقبل روايته- . و لشياع هذا الخبر و انتشاره ذكره مروان بن أبي حفصة- في قصيدة يمدح بها الرشيد- و يذكر فيها ولد فاطمة ع- و ينحي عليهم و يذمهم- و قد بالغ حين ذم عليا ع و نال منه و أولها-

سلام على جمل و هيهات من جمل
و يا حبذا جمل و إن صرمت حبلي‏

يقول فيها

علي أبوكم كان أفضل منكم
أباه ذوو الشورى و كانوا ذوي الفضل‏

و ساء رسول الله إذ ساء بنته‏
بخطبته بنت اللعين أبي جهل‏

فذم رسول الله صهر أبيكم
على منبر بالمنطق الصادع الفضل‏

و حكم فيها حاكمين أبوكم‏
هما خلعاه خلع ذي النعل للنعل‏

و قد باعها من بعده الحسن ابنه
فقد أبطلت دعواكم الرثة الحبل‏

و خليتموها و هي في غير أهلها
و طالبتموها حين صارت إلى أهل‏

و قد روي هذا الخبر على وجوه مختلفة- و فيه زيادات متفاوتة- فمن الناس من يروي فيه- مهما ذممنا من صهر- فإنا لم نذم صهر أبي العاص بن الربيع- و من الناس من يروي فيه- ألا إن بني المغيرة أرسلوا إلى علي- ليزوجوه كريمتهم و غير ذلك- . و عندي أن هذا الخبر لو صح- لم يكن على أمير المؤمنين فيه غضاضة و لا قدح- لأن‏الأمة مجمعة على أنه لو نكح ابنة أبي جهل- مضافا إلى نكاح فاطمة ع لجاز- لأنه داخل تحت عموم الآية المبيحة للنساء الأربع- فابنة أبي جهل المشار إليها كانت مسلمة- لأن هذه القصة كانت بعد فتح مكة- و إسلام أهلها طوعا و كرها- و رواة الخبر موافقون على ذلك- فلم يبق إلا أنه إن كان هذا الخبر صحيحا- فإن رسول الله ص لما رأى فاطمة ع قد غارت- و أدركها ما يدرك النساء- عاتب عليا ع عتاب الأهل- و كما يستثبت الوالد رأي الولد- و يستعطفه إلى رضا أهله و صلح زوجته- و لعل الواقع كان بعض هذا الكلام فحرف و زيد فيه- و لو تأملت أحوال النبي ص مع زوجاته- و ما كان يجري بينه و بينهن من الغضب تارة- و الصلح أخرى و السخط تارة و الرضا أخرى- حتى بلغ الأمر إلى الطلاق مرة- و إلى الإيلاء مرة و إلى الهجر و القطيعة مرة- و تدبرت ما ورد في الروايات الصحيحة- مما كن يلقينه ع به و يسمعنه إياه- لعلمت أن الذي عاب الحسدة و الشائنون عليا ع به- بالنسبة إلى تلك الأحوال قطرة من البحر المحيط- و لو لم يكن إلا قصة مارية- و ما جرى بين رسول الله ص- و بين تينك الامرأتين من الأحوال و الأقوال- حتى أنزل فيهما قرآن يتلى في المحاريب- و يكتب في المصاحف- و قيل لهما ما لا يقال للإسكندر ملك الدنيا لو كان حيا- منابذا لرسول الله ص- وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ- وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ- ثم أردف بعد ذلك بالوعيد و التخويف- عَسى‏ رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ الآيات بتمامها- ثم ضرب لهما مثلا امرأة نوح و امرأة لوط- اللتين خانتا بعليهما- فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً و تمام الآية معلوم-

فهل ما روي في الخبر- من تعصب فاطمة على علي ع‏ و غيرتها- من تعريض بني المغيرة له بنكاح عقيلتهم- إذا قويس إلى هذه الأحوال و غيرها- مما كان يجري إلا كنسبة التأفيف إلى حرب البسوس- و لكن صاحب الهوى و العصبية لا علاج له- . ثم نعود إلى حكاية كلام شيخنا- أبي جعفر الإسكافي رحمه الله تعالى- قال أبو جعفر و روى الأعمش- قال لما قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة- جاء إلى مسجد الكوفة- فلما رأى كثرة من استقبله من الناس جثا على ركبتيه- ثم ضرب صلعته مرارا- و قال يا أهل العراق- أ تزعمون أني أكذب على الله و على رسوله- و أحرق نفسي بالنار-و الله لقد سمعت رسول الله ص يقول إن لكل نبي حرما و إن حرمي بالمدينة- ما بين عير إلى ثور- فمن أحدث فيها حدثا- فعليه لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين و أشهد بالله أن عليا أحدث فيها- فلما بلغ معاوية قوله- أجازه و أكرمه و ولاه أمارة المدينة- . قلت أما قوله ما بين عير إلى ثور- فالظاهر أنه غلط من الراوي- لأن ثورا بمكة و هو جبل يقال له ثور أطحل- و فيه الغار الذي دخله النبي ص و أبو بكر-

و إنما قيل أطحل- لأن أطحل بن عبد مناف بن أد بن طابخة- بن إلياس بن مضر بن نزار بن عدنان كان يسكنه- و قيل اسم الجبل أطحل- فأضيف ثور إليه و هو ثور بن عبد مناف- و الصواب ما بين عير إلى أحد- . فأما قول أبي هريرة- أن عليا ع أحدث في المدينة- فحاش لله كان علي ع أتقى لله من ذلك- و الله لقد نصر عثمان نصرا- لو كان المحصور جعفر بن أبي طالب لم يبذل له إلا مثله- . قال أبو جعفر- و أبو هريرة مدخول عند شيوخنا غير مرضي الرواية- ضربه عمربالدرة- و قال قد أكثرت من الرواية- و أحر بك أن تكون كاذبا على رسول الله ص- . و روى سفيان الثوري عن منصور- عن إبراهيم التيمي قال- كانوا لا يأخذون عن أبي هريرة إلا ما كان من ذكر جنة أو نار- .

و روى أبو أسامة عن الأعمش- قال كان إبراهيم صحيح الحديث- فكنت إذا سمعت الحديث أتيته فعرضته عليه- فأتيته يوما بأحاديث من حديث أبي صالح- عن أبي هريرة- فقال دعني من أبي هريرة- إنهم كانوا يتركون كثيرا من حديثه- .

و قد روي عن علي ع أنه قال- ألا إن أكذب الناس- أو قال أكذب الأحياء- على رسول الله ص أبو هريرة الدوسي- . و روى أبو يوسف- قال قلت لأبي حنيفة- الخبر يجي‏ء عن رسول الله ص- يخالف قياسنا ما تصنع به- قال إذا جاءت به الرواة الثقات- عملنا به و تركنا الرأي- فقلت ما تقول في رواية أبي بكر و عمر- فقال ناهيك بهما- فقلت علي و عثمان قال كذلك- فلما رآني أعد الصحابة- قال و الصحابة كلهم عدول ما عدا رجالا- ثم عد منهم أبا هريرة و أنس بن مالك- .

و روى سفيان الثوري- عن عبد الرحمن بن القاسم- عن عمر بن عبد الغفار- أن أبا هريرة لما قدم الكوفة مع معاوية- كان يجلس بالعشيات بباب كندة- و يجلس الناس إليه فجاء شاب من الكوفة فجلس إليه- فقال يا أبا هريرة أنشدك الله- أ سمعت رسول الله ص يقول لعلي بن أبي طالب اللهم وال من والاه و عاد من عاداه فقال اللهم نعم قال فأشهد بالله لقد واليت عدوه و عاديت وليه ثم قام عنه- .

و روت الرواة- أن أبا هريرة كان يؤاكل الصبيان في الطريق- و يلعب معهم و كان يخطب و هو أمير المدينة- فيقول الحمد لله الذي جعل الدين قياما- و أبا هريرة إماما يضحك الناس بذلك- و كان يمشي و هو أمير المدينة في السوق- فإذا انتهى إلى رجل يمشي أمامه- ضرب برجليه الأرض- و يقول الطريق الطريق- قد جاء الأمير يعني نفسه- . قلت قد ذكر ابن قتيبة هذا كله- في كتاب المعارف في ترجمة أبي هريرة- و قوله فيه حجة لأنه غير متهم عليه- . قال أبو جعفر- و كان المغيرة بن شعبة يلعن عليا ع لعنا صريحا- على منبر الكوفة- و كان بلغه عن علي ع في أيام عمر- أنه قال لئن رأيت المغيرة لأرجمنه بأحجاره- يعني واقعة الزناء بالمرأة التي شهد عليه فيها أبو بكرة- و نكل زياد عن الشهادة- فكان يبغضه لذاك و لغيره من أحوال اجتمعت في نفسه- .

قال و قد تظاهرت الرواية عن عروة بن الزبير- أنه كان يأخذه الزمع عند ذكر علي ع- فيسبه و يضرب بإحدى يديه على الأخرى- و يقول و ما يغني أنه لم يخالف إلى ما نهي عنه- و قد أراق من دماء المسلمين ما أراق- . قال و قد كان في المحدثين من يبغضه ع- و يروي فيه الأحاديث المنكرة منهم حريز بن عثمان- كان يبغضه و ينتقصه- و يروي فيه أخبارا مكذوبة-

و قد روى‏ المحدثون أن حريزا رؤي في المنام بعد موته- فقيل له ما فعل الله بك- قال كاد يغفر لي لو لا بغض علي- . قلت- قد روى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري- في كتاب السقيفة- قال حدثني أبو جعفر بن الجنيد- قال حدثني إبراهيم بن الجنيد- قال حدثني محفوظ بن المفضل بن عمر- قال حدثني أبو البهلول يوسف بن يعقوب- قال حدثنا حمزة بن حسان- و كان مولى لبني أمية- و كان مؤذنا عشرين سنة و حج غير حجة- و أثنى أبو البهلول عليه خيرا- قال حضرت حريز بن عثمان- و ذكر علي بن أبي طالب- فقال ذاك الذي أحل حرم رسول الله ص حتى كاد يقع- . قال محفوظ- قلت ليحيي بن صالح الوحاظي- قد رويت عن مشايخ من نظراء حريز- فما بالك لم تحمل عن حريز- قال إني أتيته فناولني كتابا فإذا فيه- حدثني فلان عن فلان إن النبي ص- لما حضرته الوفاة أوصى أن تقطع يد علي بن أبي طالب ع – فرددت الكتاب و لم أستحل أن أكتب عنه شيئا- .

قال أبو بكر و حدثني أبو جعفر- قال حدثني إبراهيم- قال حدثني محمد بن عاصم صاحب الخانات- قال قال لنا حريز بن عثمان- أنتم يا أهل العراق تحبون علي بن أبي طالب ع و نحن نبغضه- قالوا لم قال لأنه قتل أجدادي- . قال محمد بن عاصم و كان حريز بن عثمان نازلا علينا- . قال أبو جعفر رحمه الله تعالى- و كان المغيرة بن شعبة صاحب دنيا- يبيع دينه بالقليل النزر منها- و يرضي معاوية بذكر علي بن أبي طالب ع- قال يوما في مجلس معاوية- إن عليا لم ينكحه رسول الله ابنته حبا- و لكنه أراد أن يكافئ بذلك إحسان أبي طالب إليه- .

قال و قد صح عندنا- أن المغيرة لعنه على منبر العراق مرات لا تحصى- و يروى أنه لما مات و دفنوه- أقبل رجل راكب ظليما- فوقف قريبا منه ثم قال-

أ من رسم دار من مغيرة تعرف
عليها زواني الإنس و الجن تعزف‏

فإن كنت قد لاقيت فرعون بعدنا
و هامان فاعلم أن ذا العرش منصف‏

قال فطلبوه فغاب عنهم و لم يروا أحدا- فعلموا أنه من الجن- . قال فأما مروان بن الحكم فأحقر و أقل- من أن يذكر في الصحابة الذين- قد غمصناهم و أوضحنا سوء رأينا فيهم- لأنه كان مجاهرا بالإلحاد هو و أبوه الحكم بن أبي العاص- و هما الطريدان اللعينان- كان أبوه عدو رسول الله ص يحكيه في مشيه- و يغمز عليه عينه و يدلع له لسانه- و يتهكم به و يتهانف عليه- هذا و هو في قبضته و تحت يده- و في دار دعوته بالمدينة- و هو يعلم أنه قادر على قتله أي وقت شاء من ليل أو نهار- فهل يكون هذا إلا من شانئ شديد البغضة و مستحكم العداوة- حتى أفضى أمره إلى أن طرده رسول الله ص عن المدينة- و سيره إلى الطائف- . و أما مروان ابنه فأخبث عقيدة- و أعظم إلحادا و كفرا- و هو الذي خطب يوم- وصل إليه رأس الحسين ع إلى المدينة- و هو يومئذ أميرها و قد حمل الرأس على يديه فقال-

يا حبذا بردك في اليدين
و حمرة تجري على الخدين‏
كأنما بت بمسجدين‏

ثم رمى بالرأس نحو قبر النبي و قال- يا محمد يوم بيوم بدر- و هذا القول مشتق من الشعر الذي تمثل به يزيد بن معاوية- و هو شعر ابن الزبعري يوم وصل الرأس إليه- . و الخبر مشهور- . قلت هكذا قال شيخنا أبو جعفر- و الصحيح أن مروان لم يكن أمير المدينة يومئذ- بل كان أميرها عمرو بن سعيد بن العاص- و لم يحمل إليه الرأس- و إنما كتب إليه عبيد الله بن زياد- يبشره بقتل الحسين ع- فقرأ كتابه على المنبر و أنشد الرجز المذكور- و أومأ إلى القبر قائلا يوم بيوم بدر- فأنكر عليه قوله قوم من الأنصار- .

ذكر ذلك أبو عبيدة في كتاب المثالب- . قال و روى الواقدي- أن معاوية لما عاد من العراق إلى الشام- بعد بيعة الحسن ع و اجتماع الناس إليه خطب فقال- أيها الناس إن رسول الله ص قال لي إنك ستلي الخلافة من بعدي- فاختر الأرض المقدسة فإن فيها الأبدال- و قد اخترتكم فالعنوا أبا تراب فلعنوه- فلما كان من الغد كتب كتابا- ثم جمعهم فقرأه عليهم و فيه- هذا كتاب كتبه أمير المؤمنين معاوية- صاحب وحي الله الذي بعث محمدا نبيا- و كان أميا لا يقرأ و لا يكتب- فاصطفى له من أهله وزيرا كاتبا أمينا- فكان الوحي ينزل على محمد و أنا أكتبه- و هو لا يعلم ما أكتب- فلم يكن بيني و بين الله أحد من خلقه- فقال له الحاضرون كلهم صدقت يا أمير المؤمنين- .

قال أبو جعفر و قد روي- أن معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم- حتى يروي أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب- وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا- وَ يُشْهِدُ اللَّهَ عَلى‏ ما فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ- وَ إِذا تَوَلَّى سَعى‏ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها- وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ- و أن الآية الثانية نزلت في ابن ملجم و هي قوله تعالى- وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ- فلم يقبل فبذل له مائتي ألف درهم فلم يقبل- فبذل له ثلاثمائة ألف فلم يقبل- فبذل له أربعمائة ألف فقبل و روى ذلك- . قال و قد صح أن بني أمية منعوا من إظهار فضائل علي ع- و عاقبوا على ذلك الراوي له- حتى أن الرجل إذا روى عنه حديثا- لا يتعلق بفضله بل بشرائع الدين لا يتجاسر على ذكر اسمه- فيقول عن أبي زينب- .

و روى عطاء عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال- وددت أن أترك- فأحدث بفضائل علي بن أبي طالب ع يوما إلى الليل- و أن عنقي هذه ضربت بالسيف- .قال فالأحاديث الواردة في فضله- لو لم تكن في الشهرة و الاستفاضة- و كثرة النقل إلى غاية بعيدة- لانقطع نقلها للخوف و التقية من بني مروان- مع طول المدة و شدة العداوة- . و لو لا أن لله تعالى في هذا الرجل سرا يعلمه من يعلمه- لم يرو في فضله حديث و لا عرفت له منقبة- أ لا ترى أن رئيس قرية لو سخط على واحد من أهلها- و منع الناس أن يذكروه بخير و صلاح لخمل ذكره و نسي اسمه- و صار و هو موجود معدوما و هو حي ميتا- هذه خلاصة ما ذكره شيخنا أبو جعفر رحمه الله تعالى- في هذا المعنى في كتاب التفضيل

فصل في ذكر المنحرفين عن علي

و ذكر جماعة من شيوخنا البغداديين- أن عدة من الصحابة و التابعين و المحدثين- كانوا منحرفين عن علي ع قائلين فيه السوء- و منهم من كتم مناقبه و أعان أعداءه- ميلا مع الدنيا و إيثارا للعاجلة- فمنهم أنس بن مالكناشد علي ع الناس في رحبة القصر- أو قال رحبة الجامع بالكوفة- أيكم سمع رسول الله ص يقول- من كنت مولاه فعلي مولاه- فقام اثنا عشر رجلا فشهدوا بها- و أنس بن مالك في القوم لم يقم فقال له يا أنس- ما يمنعك أن تقوم فتشهد و لقد حضرتها- فقال يا أمير المؤمنين كبرت و نسيتفقال اللهم إن كان كاذبا فارمه بها بيضاء- لا تواريها الغمامة- قال طلحة بن عمير فو الله- لقد رأيت الوضح به بعد ذلك أبيض بين عينيه- .

و روى عثمان بن مطرف أن رجلا سأل أنس بن مالك في آخر عمره- عن علي بن أبي طالب- فقال إني آليت ألا أكتم حديثا سئلت عنه- في علي بعد يوم الرحبة- ذاك رأس المتقين يوم القيامة سمعته و الله من نبيكم- .

و روى أبو إسرائيل عن الحكم عن أبي سليمان المؤذن أن عليا ع نشد الناس من سمع رسول الله ص يقول- من كنت مولاه فعلي مولاه- فشهد له قوم و أمسك زيد بن أرقم فلم يشهد و كان يعلمها- فدعا علي ع عليه بذهاب البصر فعمي- فكان يحدث الناس بالحديث بعد ما كف بصره- . قالوا و كان الأشعث بن قيس الكندي- و جرير بن عبد الله البجلي يبغضانه- و هدم علي ع دار جرير بن عبد الله- . قال إسماعيل بن جرير هدم علي دارنا مرتين- .

و روى الحارث بن حصين أن رسول الله ص دفع إلى جرير بن عبد الله نعلين نعاله- و قال احتفظ بهما فإن ذهابهما ذهاب دينك- فلما كان يوم الجمل ذهبت إحداهما- فلما أرسله علي ع إلى معاوية ذهبت الأخرى- ثم فارق عليا و اعتزل الحرب- . و روى أهل السيرة أن الأشعث خطب إلى علي ع ابنته فزبره-و قال يا ابن الحائك أ غرك ابن أبي قحافة- .

و روى أبو بكر الهذلي عن الزهري عن عبيد الله بن عدي بن الخيار بن نوفل بن عبد مناف قال قام الأشعث إلى علي ع فقال- إن الناس يزعمون أن رسول الله ص عهد إليك عهدا- لم يعهده إلى غيرك- فقال إنه عهد إلي ما في قراب سيفي لم يعهد إلي غير ذلك- فقال الأشعث هذه إن قلتها فهي عليك لا لك- دعها ترحل عنك- فقال له و ما علمك بما علي مما لي- منافق ابن كافر حائك ابن حائك- إني لأجد منك بنة الغزل- ثم التفت إلى عبيد الله بن عدي بن الخيار فقال يا عبيد الله إنك لتسمع خلافا و ترى عجبا ثم أنشد-

أصبحت هزءا لراعي الضأن أتبعه
ما ذا يريبك مني راعي الضأن‏

و قد ذكرنا في بعض الروايات المتقدمات- أن سبب قوله هذه عليك لا لك أمر آخر- و الروايات تختلف- . و روى يحيى بن عيسى الرملي عن الأعمش- أن جريرا و الأشعث خرجا إلى جبان الكوفة- فمر بهما ضب يعدو و هما في ذم علي ع فنادياه- يا أبا حسل هلم‏يدك نبايعك بالخلافة- فبلغ عليا ع قولهما-فقال أما إنهما يحشران يوم القيامة و إمامهما ضب و كان أبو مسعود الأنصاري منحرفا عنه ع-روى شريك عن عثمان بن أبي زرعة عن زيد بن وهب قال تذاكرنا القيام إذا مرت الجنازة عند علي ع- فقال أبو مسعود الأنصاري قد كنا نقوم- فقال علي ع ذاك و أنتم يومئذ يهود-.

و روى شعبة عن عبيد بن الحسن عن عبد الرحمن بن معقل قال حضرت عليا ع- و قد سأله رجل عن امرأة توفي عنها زوجها و هي حامل فقال- تتربص أبعد الأجلين فقال رجل فإن أبا مسعود يقول- وضعها انقضاء عدتها فقال علي ع إن فروجا لا يعلم- فبلغ قوله أبا مسعود فقال بلى- و الله إني لأعلم أن الآخر شر- .

و روى المنهال عن نعيم بن دجاجة قال كنت جالسا عند علي ع إذ جاء أبو مسعود- فقال علي ع جاءكم فروج فجاء فجلس- فقال له علي ع بلغني أنك تفتي الناس- قال نعم و أخبرهم أن الآخر شر- قال فهل سمعت من رسول الله ص شيئا- قال نعم سمعته يقول لا يأتي على الناس سنة مائة- و على الأرض عين تطرف- قال أخطأت استك الحفرة و غلطت في أول ظنك- إنما عنى من حضره يومئذ و هل الرخاء إلا بعد المائة-.

و روى جماعة من أهل السير أن عليا ع كان يقول عن كعب الأحبار إنه لكذابو كان كعب منحرفا عن علي ع- و كان النعمان بن بشير الأنصاري منحرفا عنه و عدوا له- و خاض الدماء مع معاوية خوضا- و كان من أمراء يزيد ابنه حتى قتل و هو على حاله- . و قد روي أن عمران بن الحصين كان من المنحرفين عنه ع- و أن عليا سيره إلى المدائن و ذلك أنه كان يقول- إن مات علي فلا أدري ما موته- و إن قتل فعسى أني إن قتل رجوت له- . و من الناس من يجعل عمران في الشيعة- . و كان سمرة بن جندب من شرطة زياد-

روى عبد الملك بن حكيم عن الحسن قال- جاء رجل من أهل خراسان إلى البصرة- فترك مالا كان معه في بيت المال و أخذ براءة- ثم دخل المسجد فصلى ركعتين- فأخذه سمرة بن جندب و اتهمه برأي الخوارج- فقدمه فضرب عنقه و هو يومئذ على شرطة زياد- فنظروا فيما معه فإذا البراءة بخط بيت المال- فقال أبو بكرة يا سمرة- أ ما سمعت الله تعالى يقول قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى- وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى- فقال أخوك أمرني بذلك- . و روى الأعمش عن أبي صالح قال قيل لنا- قد قدم رجل من أصحاب رسول الله ص- فأتيناه فإذا هو سمرة بن جندب- و إذا عند إحدى رجليه خمر و عند الأخرى ثلج- فقلنا ما هذا قالوا به النقرس و إذا قوم قد أتوه- فقالوا يا سمرةما تقول لربك غدا- تؤتى بالرجل فيقال لك هو من الخوارج فتأمر بقتله- ثم تؤتى بآخر فيقال لك ليس الذي قتلته بخارجي- ذاك فتى وجدناه ماضيا في حاجته فشبه علينا- و إنما الخارجي هذا فتأمر بقتل الثاني- فقال سمرة و أي بأس في ذلك- إن كان من أهل الجنة مضى إلى الجنة- و إن كان من أهل النار مضى إلى النار- .

و روى واصل مولى أبي عيينة عن جعفر بن محمد بن علي ع عن آبائه قال كان لسمرة بن جندب نخل في بستان رجل من الأنصار- فكان يؤذيه فشكا الأنصاري ذلك إلى رسول الله ص- فبعث إلى سمرة فدعاه فقال له- بع نخلك من هذا و خذ ثمنه قال لا أفعل- قال فخذ نخلا مكان نخلك قال لا أفعل- قال فاشتر منه بستانه قال لا أفعل- قال فاترك لي هذا النخل و لك الجنة قال لا أفعل- فقال ص للأنصاري اذهب فاقطع نخله فإنه لا حق له فيه- .

و روى شريك قال أخبرنا عبد الله بن سعد عن حجر بن عدي- قال قدمت المدينة فجلست إلى أبي هريرة فقال- ممن أنت قلت من أهل البصرة قال- ما فعل سمرة بن جندب قلت هو حي قال- ما أحد أحب إلي طول حياة منه قلت و لم ذاك-قال إن رسول الله ص قال لي و له و لحذيفة بن اليمان- آخركم موتا في النار- فسبقنا حذيفة و أنا الآن أتمنى أن أسبقه- قال فبقي سمرة بن جندب حتى شهد مقتل الحسين-.

و روى أحمد بن بشير عن مسعر بن كدام قال- كان سمرة بن جندب أيام مسيرالحسين ع إلى الكوفة- على شرطة عبيد الله بن زياد- و كان يحرض الناس على الخروج إلى الحسين ع و قتاله- . و من المنحرفين عنه المبغضين له عبد الله بن الزبير- و قد ذكرناه آنفا- كان علي ع يقول ما زال الزبير منا أهل البيت حتى نشأ ابنه عبد الله- فأفسده- . و عبد الله هو الذي حمل الزبير على الحرب- و هو الذي زين لعائشة مسيرها إلى البصرة- و كان سبابا فاحشا يبغض بني هاشم- و يلعن و يسب علي بن أبي طالب ع- و كان علي ع يقنت في صلاة الفجر و في صلاة المغرب- و يلعن معاوية و عمر و المغيرة و الوليد بن عقبة- و أبا الأعور و الضحاك بن قيس و بسر بن أرطاة- و حبيب بن مسلمة و أبا موسى الأشعري و مروان بن الحكم- و كان هؤلاء يقنتون عليه و يلعنونه- .

و روى شيخنا أبو عبد الله البصري المتكلم رحمه الله تعالى- عن نصر بن عاصم الليثي عن أبيه قال- أتيت مسجد رسول الله ص و الناس يقولون- نعوذ بالله من غضب الله و غضب رسوله فقلت ما هذا- قالوا معاوية قام الساعة- فأخذ بيد أبي سفيان فخرجا من المسجد-
فقال رسول الله ص لعن الله التابع و المتبوع- رب يوم لأمتي من معاوية ذي الأستاه- قالوا يعني الكبير العجز- . و قال روى العلاء بن حريز القشيري أن رسول الله ص قال لمعاوية- لتتخذن يا معاوية البدعة سنة و القبح حسنا- أكلك كثير و ظلمك عظيم قال و روى الحارث بن حصيرة عن أبي صادق عن ربيعة بن ناجذ قال قال‏علي ع نحن و آل أبي سفيان قوم تعادوا في الأمر- و الأمر يعود كما بدا- .

قلت و قد ذكرنا نحن في تلخيص نقض السفيانية- ما فيه كفاية في هذا الباب- . و روى صاحب كتاب الغارات عن أبي صادق عن جندب بن عبد الله قال ذكر المغيرة بن شعبة عند علي ع و جده مع معاوية- قال و ما المغيرة- إنما كان إسلامه لفجرة و غدرة غدرها بنفر من قومه- فتك بهم و ركبها منهم فهرب منهم- فأتى النبي ص كالعائذ بالإسلام- و الله ما رأى أحد عليه منذ ادعى الإسلام خضوعا و لا خشوعا- ألا و إنه يكون من ثقيف فراعنة قبل يوم القيامة- يجانبون الحق و يسعرون نيران الحرب- و يوازرون الظالمين- ألا إن ثقيفا قوم غدر لا يوفون بعهد- يبغضون العرب كأنهم ليسوا منهم- و لرب صالح قد كان منهم- فمنهم عروة بن مسعود و أبو عبيد بن مسعود- المستشهد يوم قس الناطف- و إن الصالح في ثقيف لغريب – .

قال شيخنا أبو القاسم البلخي- من المعلوم الذي لا ريب فيه لاشتهار الخبر به- و إطباق الناس عليه- أن الوليد بن عقبة بن أبي معيط كان يبغض عليا و يشتمه- و أنه هو الذي لاحاه في حياة رسول الله ص و نابذه- و قال له أنا أثبت منك جنانا و أحد سنانا- فقال له علي ع اسكت يا فاسق فأنزل الله تعالى فيهما- أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ- الآيات المتلوة- و سمي الوليد بحسب ذلك في حياة رسول الله ص الفاسق- فكان لا يعرف إلا بالوليد الفاسق- .

و هذه الآية من الآيات التي- نزل فيها القرآن بموافقة علي ع- كما نزل في مواضع بموافقة عمر- و سماه الله تعالى فاسقا في آية أخرى و هو قوله تعالى- إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا و سبب نزولها مشهور- و هو كذبه على بني المصطلق- و ادعاؤه أنهم منعوا الزكاة و شهروا السيف- حتى أمر النبي ص بالتجهز للمسير إليهم- فأنزل الله تعالى في تكذيبه- و براءة ساحة القوم هذه الآية- . و كان الوليد مذموما معيبا عند رسول الله ص- يشنؤه و يعرض عنه- و كان الوليد يبغض رسول الله ص أيضا و يشنؤه- و أبوه عقبة بن أبي معيط هو العدو الأزرق بمكة- و الذي كان يؤذي رسول الله ص في نفسه و أهله- و أخباره في ذلك مشهورة- فلما ظفر به يوم بدر ضرب عنقه- و ورث ابنه الوليد الشنئان و البغضة لمحمد و أهله- فلم يزل عليهما إلى أن مات- .

قال الشيخ أبو القاسم- و هو أحد الصبية الذين قال أبو عقبة فيهم- و قد قدم ليضرب عنقه من للصبية يا محمد- فقال: النار اضربوا عنقه- . قال و للوليد شعر يقصد فيه الرد على رسول الله ص حيث قال إن تولوها عليا تجدوه هاديا مهديا – قال و ذلك أن عليا ع لما قتل- قصد بنوه أن يخفوا قبره خوفا من بني أمية- أن يحدثوا في قبره حدثا- فأوهموا الناس في موضع قبره تلك الليلة- و هي ليلة دفنه إيهامات مختلفة- فشدوا على جمل تابوتا موثقا بالحبال- يفوح منه روائح الكافور- و أخرجوه من الكوفة في سواد الليل صحبة ثقاتهم- يوهمون أنهم يحملونه إلى المدينة- فيدفنونه عند فاطمة ع- و أخرجوا بغلا و عليه جنازة مغطاة-يوهمون أنهم يدفنونه بالحيرة و حفروا حفائر عدة- منها بالمسجد و منها برحبة القصر قصر الإمارة- و منها في حجرة من دور آل جعدة بن هبيرة المخزومي- و منها في أصل دار عبد الله بن يزيد القسري- بحذاء باب الوراقين مما يلي قبلة المسجد- و منها في الكناسة و منها في الثوية- فعمي على الناس موضع قبره- و لم يعلم دفنه على الحقيقة إلا بنوه- و الخواص المخلصون من أصحابه- فإنهم خرجوا به ع وقت السحر- في الليلة الحادية و العشرين من شهر رمضان- فدفنوه على النجف بالموضع المعروف بالغري- بوصاة منه ع إليهم في ذلك و عهد كان عهد به إليهم- و عمي موضع قبره على الناس- و اختلفت الأراجيف في صبيحة ذلك اليوم اختلافا شديدا- و افترقت الأقوال في موضع قبره الشريف و تشعبت- و ادعى قوم أن جماعة من طيئ وقعوا على جمل في تلك الليلة- و قد أضله أصحابه ببلادهم و عليه صندوق فظنوا فيه مالا- فلما رأوا ما فيه خافوا أن يطلبوا به- فدفنوا الصندوق بما فيه و نحروا البعير و أكلوه- و شاع ذلك في بني أمية و شيعتهم و اعتقدوه حقا- فقال الوليد بن عقبة من أبيات يذكره ع فيها-

فإن يك قد ضل البعير بحمله
فما كان مهديا و لا كان هاديا

و روى الشيخ أبو القاسم البلخي أيضا- عن جرير بن عبد الحميد عن مغيرة الضبي قال- مر ناس بالحسن بن علي ع- و هم يريدون عيادة الوليد بن عقبة و هو في علة له شديدة- فأتاه الحسن ع معهم عائدا- فقال للحسن أتوب إلى الله تعالى- مما كان بيني و بين جميع الناس- إلا ما كان بيني و بين أبيك فإني لا أتوب منه- . قال شيخنا أبو القاسم البلخي- و أكد بغضه له ضربه إياه الحد في ولاية عثمان- و عزله عن الكوفة- .

و قد اتفقت الأخبار الصحيحة- التي لا ريب فيها عند المحدثين- على أن النبي ص قال لا يبغضك إلا منافق و لا يحبك إلا مؤمنقال و روى حبة العرني عن علي ع أنه قال إن الله عز و جل أخذ ميثاق كل مؤمن على حبي- و ميثاق كل منافق على بغضي- فلو ضربت وجه المؤمن بالسيف ما أبغضني- و لو صببت الدنيا على المنافق ما أحبني-.

و روى عبد الكريم بن هلال عن أسلم المكي عن أبي الطفيل قال سمعت عليا ع و هو يقول لو ضربت خياشيم المؤمن بالسيف ما أبغضني- و لو نثرت على المنافق ذهبا و فضة ما أحبني- إن الله أخذ ميثاق المؤمنين بحبي- و ميثاق المنافقين ببغضي- فلا يبغضني مؤمن و لا يحبني منافق أبدا- .

قال الشيخ أبو القاسم البلخي- و قد روى كثير من أرباب الحديث- عن جماعة من الصحابة قالوا- ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله ص- إلا ببغض علي بن أبي طالب- . ذكر إبراهيم بن هلال صاحب كتاب الغارات- فيمن فارق عليا ع و التحق بمعاوية يزيد بن حجية التيمي- من بني تيم بن ثعلبة بن بكر بن وائل- و كان ع قد استعمله على الري و دستبني- فكسر الخوارج و احتجن المال لنفسه- فحبسه علي ع و جعل معه سعدا مولاه- فقرب يزيد ركائبه و سعد نائم فالتحق بمعاوية و قال-

خادعت سعدا و ارتمت بي ركائبي
إلى الشام و اخترت الذي هو أفضل‏

و غادرت سعدا نائما في عباءة
و سعد غلام مستهام مضلل‏

ثم خرج حتى أتى الرقة و كذلك كان يصنع من يفارق عليا ع- يبدأ بالرقة حتى يستأذن معاوية في القدوم عليه- و كانت الرقة و الرها و قرقيسيا و حران من حيز معاوية- و عليها الضحاك بن قيس- و كانت هيت و عانات و نصيبين و دارا- و آمد و سنجار من حيز علي ع و عليها الأشتر- و كانا يقتتلان في كل شهر- . و قال يزيد بن حجية و هو بالرقة يهجو عليا ع-

يا طول ليلي بالرقات لم أنم
من غير عشق صبت نفسي و لا سقم‏

لكن لذكر أمور جمة طرقت‏
أخشى على الأصل منها زلة القدم‏

أخشى عليا عليهم أن يكون لهم
مثل العقور الذي عفى على إرم‏

و بعد ذلك ما لا نذكره- . قال إبراهيم بن هلال- و قد كان زياد بن خصفة التيمي قال لعلي ع يوم- هرب يزيد بن حجية- ابعثني يا أمير المؤمنين في أثره أرده إليك- فبلغ قوله يزيد بن حجية فقال في ذلك-

أبلغ زيادا أنني قد كفيته
أموري و خليت الذي هو عاتبه‏

و باب شديد موثق قد فتحته‏
عليك و قد أعيت عليك مذاهبه‏

هبلت أ ما ترجو غنائي و مشهدي
إذ الخصم لم يوجد له من يجاذبه‏

فأقسم لو لا أن أمك أمنا
و أنك مولى ما طفقت أعاتبه‏

و أقسم لو أدركتني ما رددتني‏
كلانا قد اصطفت إليه جلائبه‏

قال ابن هلال و كتب إلى العراق شعرا يذم فيه عليا ع- و يخبره أنه من أعدائه فدعا عليه- و قال لأصحابه عقيب الصلاة- ارفعوا أيديكم فادعوا عليه فدعا عليه و أمن أصحابه- .قال أبو الصلت التيمي كان دعاؤه عليه اللهم إن يزيد بن حجية هرب بمال المسلمين- و لحق بالقوم الفاسقين- فاكفنا مكره و كيده و اجزه جزاء الظالمين- .

قال و رفع القوم أيديهم يؤمنون- و كان في المسجد عفاق بن شرحبيل- بن أبي رهم التيمي شيخا كبيرا- و كان يعد ممن شهد على حجر بن عدي حتى قتله معاوية- فقال عفاق على من يدعو القوم- قالوا على يزيد بن حجية فقال- تربت أيديكم أ على أشرافنا تدعون- فقاموا إليه فضربوه حتى كاد يهلك- و قام زياد بن خصفة و كان من شيعة علي ع- فقال دعوا لي ابن عمي- فقال علي ع دعوا للرجل ابن عمه فتركه الناس- فأخذ زياد بيده فأخرجه من المسجد- و جعل يمشي معه يمسح التراب عن وجهه- و عفاق يقول و الله لا أحبكم ما سعيت و مشيت- و الله لا أحبكم ما اختلفت الدرة و الجرة- و زياد يقول ذلك أضر لك ذلك شر لك- . و قال زياد بن خصفة يذكر ضرب الناس عفاقا-

دعوت عفاقا للهدى فاستغشني
و ولى فريا قوله و هو مغضب‏

و لو لا دفاعي عن عفاق و مشهدي‏
هوت بعفاق عوض عنقاء مغرب‏

أنبئه أن الهدى في اتباعنا
فيأبى و يضريه المراء فيشغب‏

فإن لا يشايعنا عفاق فإننا
على الحق ما غنى الحمام المطرب‏

سيغني الإله عن عفاق و سعيه
إذا بعثت للناس جأواء تحرب‏

قبائل من حيي معد و مثلها
يمانية لا تنثني حين تندب‏

لهم عدد مثل التراب و طاعة
تود و بأس في الوغى لا يؤنب‏

فقال له عفاق لو كنت شاعرا لأجبتك- و لكني أخبركم عن ثلاث خصال كن منكم- و الله ما أرى أن تصيبوا بعدهن شيئا مما يسركم- . أما واحدة فإنكم سرتم إلى أهل الشام- حتى إذا دخلتم عليهم بلادهم قاتلتموهم- فلما ظن القوم أنكم لهم قاهرون رفعوا المصاحف- فسخروا بكم فردوكم عنهم- فلا و الله لا تدخلونها بمثل ذلك الجد- و الحد و العدد الذي دخلتم به أبدا- . و أما الثانية فإنكم بعثتم حكما و بعث القوم حكما- فأما حكمكم فخلعكم و أما حكمهم فأثبتهم- فرجع صاحبهم يدعى أمير المؤمنين- و رجعتم متلاعنين متباغضين- فو الله لا يزال القوم في علاء و لا تزالون في سفال- . و أما الثالثة فإنه خالفكم قراؤكم و فرسانكم- فعدوتم عليهم فذبحتموهم بأيديكم- فو الله لا تزالون بعدها متضعضعين- . قال و كان يمر عليهم بعد فيقول- اللهم إني منهم بري‏ء و لابن عفان ولي- فيقولون اللهم إنا لعلي أولياء- و من ابن عفان برآء و منك يا عفاق- .

قال فأخذ لا يقلع- فدعوا رجلا منهم له سجاعة كسجاعة الكهان فقالوا- ويحك أ ما تكفينا بسجعك و خطبك هذا- فقال كفيتكم فمر عفاق عليهم فقال كما كان يقول- فلم يمهله أن قال له اللهم اقتل عفاقا- فإنه أسر نفاقا و أظهر شقاقا و بين فراقا و تلون أخلاقا- . فقال عفاق ويحكم من سلط علي هذا- قال الله بعثني إليك و سلطني عليك- لأقطع لسانك و أنصل سنامك و أطرد شيطانك- . قال فلم يك يمر عليهم بعد إنما يمر على مزينة- . و ممن فارقه ع عبد الله بن عبد الرحمن بن مسعود- بن أوس بن إدريس بن معتب الثقفي- شهد مع علي ع صفين- و كان في أول أمره مع معاوية ثم صار إلى علي ع- ثم رجع بعد إلى معاوية و كان علي ع يسميه الهجنع- و الهجنع الطويل- . و منهم القعقاع بن شور- استعمله علي ع على كسكر فنقم منه أمورا- منها أنه تزوج امرأة فأصدقها مائة ألف درهم- فهرب إلى معاوية- . و منهم النجاشي الشاعر من بني الحارث بن كعب- كان شاعر أهل العراق بصفين- و كان علي ع يأمره بمحاربة شعراء أهل الشام- مثل كعب بن جعيل و غيره- فشرب الخمر بالكوفة فحده علي ع- فغضب و لحق بمعاوية و هجا عليا ع- .

حدث ابن الكلبي عن عوانة قال- خرج النجاشي في أول يوم من شهر رمضان- فمر بأبي سمال الأسدي و هو قاعد بفناء داره فقال له- أين تريد قال أردت الكناسة- فقال هل لك في رءوس و أليات- قد وضعت في التنور من أول الليل- فأصبحت قد أينعت و قد تهرأت- قال ويحك في أول يوم من رمضان- قال دعنا مما لا نعرف قال ثم مه- قال أسقيك من شراب كالورس يطيب النفس- و يجرى في العرق و يزيد في الطرق- يهضم الطعام و يسهل للفدم الكلام- فنزل فتغديا ثم أتاه بنبيذ فشرباه- فلما كان آخر النهار علت أصواتهما- و لهما جار من شيعة علي ع فأتاه فأخبره بقصتهما- فأرسل إليهما قوما فأحاطوا بالدار- فأما أبو سمال فوثب إلى دور بني أسد فأفلت- و أخذ النجاشي فأتي ع به فلما أصبح أقامه في سراويل- فضربه ثمانين ثم زاده عشرين سوطا- فقال يا أمير المؤمنين أما الحد فقد عرفته فما هذه العلاوة- قال لجراءتك على الله و إفطارك في شهر رمضان- ثم أقامه في سراويله للناس فجعل الصبيان يصيحون به- خرئ النجاشي خرئ النجاشي- و جعل يقول كلا إنها يمانية وكاؤها شعر- . قال و مر به هند بن عاصم السلولي فطرح عليه مطرفا- فجعل الناس يمرون به و يطرحون عليه المطارف- حتى اجتمعت عليه مطارف كثيرة فمدح بني سلول فقال-

إذا الله حيا صالحا من عباده
تقيا فحيا الله هند بن عاصم‏

و كل سلولي إذا ما دعوته‏
سريع إلى داعي العلا و المكارم‏

هم البيض أقداما و ديباج أوجه
جلوها إذا اسودت وجوه الملائم‏

و لا يأكل الكلب السروق نعالهم‏
و لا يبتغي المخ الذي في الجماجم‏

ثم لحق معاوية و هجا عليا ع فقال-

أ لا من مبلغ عني عليا
بأني قد أمنت فلا أخاف‏

عمدت لمستقر الحق لما
رأيت أموركم فيها اختلاف‏

و روى عبد الملك بن قريب الأصمعي عن ابن أبي الزناد قال- دخل النجاشي على معاوية و قد أذن للناس عامة- فقال لحاجبه ادع النجاشي و النجاشي بين يديه- و لكن اقتحمته عينه فقال- ها أنا ذا النجاشي بين يديك يا أمير المؤمنين- إن الرجال ليست بأجسامها- إنما لك من الرجل أصغراه قلبه و لسانه- قال ويحك أنت القائل-

و نجا ابن حرب سابح ذو علالة
أجش هزيم و الرماح دواني‏

إذا قلت أطراف الرماح تنوشه‏
مرته به الساقان و القدمان‏

ثم ضرب بيده إلى ثديه- فقال ويحك إن مثلي لا تعدو به الخيل- فقال يا أمير المؤمنين إني لم أعنك إنما عنيت عتبة- . و روى صاحب كتاب الغارات- أن عليا ع لما حد النجاشي غضبت اليمانية لذلك- و كان أخصهم به طارق بن عبد الله بن كعب النهدي- فدخل عليه فقال يا أمير المؤمنين- ما كنا نرى أن أهل المعصية و الطاعة- و أهل الفرقة و الجماعة عند ولاة العدل- و معادن الفضل سيان في الجزاء- حتى رأينا ما كان من صنيعك بأخي الحارث-فأوغرت صدورنا و شتت أمورنا- و حملتنا على الجادة التي كنا نرى- أن سبيل من ركبها النار-
فقال علي ع وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ- يا أخا نهد- و هل هو إلا رجل من المسلمين انتهك حرمة من حرم الله- فأقمنا عليه حدا كان كفارته- إن الله تعالى يقول- وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى‏ أَلَّا تَعْدِلُوا- اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى‏-

قال فخرج طارق من عنده فلقيه الأشتر فقال يا طارق- أنت القائل لأمير المؤمنين- أوغرت صدورنا و شتت أمورنا- قال طارق نعم أنا قائلها- قال و الله ما ذاك كما قلت- إن صدورنا له لسامعة و إن أمورنا له لجامعة- فغضب طارق و قال ستعلم يا أشتر أنه غير ما قلت- فلما جنه الليل همس هو و النجاشي إلى معاوية- فلما قدما عليه دخل آذنه فأخبره بقدومهما- و عنده وجوه أهل الشام- منهم عمرو بن مرة الجهني و عمرو بن صيفي و غيرهما- فلما دخلا نظر إلى طارق- و قال مرحبا بالمورق غصنه- و المعرق أصله المسود غير المسود- من رجل كانت منه هفوة و نبوة باتباعه صاحب الفتنة- و رأس الضلالة و الشبهة- الذي اغترز في ركاب الفتنة حتى استوى على رجلها- ثم أوجف في عشوة ظلمتها و تيه ضلالتها- و اتبعه رجرجة من الناس- و أشبابة من الحثالة لا أفئدة لهم- أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى‏ قُلُوبٍ أَقْفالُها- .

فقام طارق فقال يا معاوية إني متكلم فلا يسخطك- ثم قال و هو متكئ على سيفه- إن المحمود على كل حال رب علا فوق عباده- فهم منه بمنظر و مسمع- بعث فيهم‏ رسولا منهم- يتلو كتابا لم يكن من قبله و لا يخطه بيمينه- إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ- فعليه السلام من رسول كان بالمؤمنين برا رحيما- أما بعد فإن ما كنا نوضع- فيما أوضعنا فيه بين يدي إمام تقي عادل- مع رجال من أصحاب رسول الله ص أتقياء مرشدين- ما زالوا منارا للهدى و معالم للدين- خلفا عن سلف مهتدين أهل دين لا دنيا كل الخير فيهم- و اتبعهم من الناس ملوك و أقيال- و أهل بيوتات و شرف- ليسوا بناكثين و لا قاسطين- فلم يكن رغبة من رغب عنهم و عن صحبتهم إلا لمرارة الحق- حيث جرعوها و لوعورته حيث سلكوها- و غلبت عليهم دنيا مؤثرة و هو متبع- و كان أمر الله قدرا مقدورا- و قد فارق الإسلام قبلنا جبلة بن الأيهم فرارا من الضيم- و أنفا من الذلة فلا تفخرن يا معاوية- إن شددنا نحوك الرحال و أوضعنا إليك الركاب- أقول قولي هذا- و أستغفر الله العظيم لي و لجميع المسلمين- . فعظم على معاوية ما سمعه و غضب لكنه أمسك- و قال يا عبد الله إنا لم نرد بما قلناه أن نوردك مشرع ظمأ- و لا أن نصدرك عن مكرع ري و لكن القول- قد يجري بصاحبه إلى غير ما ينطوي عليه من الفعل- ثم أجلسه معه على سريره- و دعا له بمقطعات و برود فصبها عليه- و أقبل نحوه بوجهه يحدثه حتى قام- .

و قام معه عمرو بن مرة و عمرو بن صيفي الجهنيان- فأقبلا عليه بأشد العتاب و أمضه- يلومانه في خطبته و ما واجه به معاوية- . فقال طارق و الله ما قمت بما سمعتماه حتى خيل لي- أن بطن الأرض خير لي من ظهرها عند سماعي- ما أظهر من العيب و النقص- لمن هو خير منه في الدنيا و الآخرة- و ما زهت به نفسه و ملكه عجبه- و عاب أصحاب رسول الله ص و استنقصهم- فقمت مقاما أوجب الله علي فيه إلا أقول إلا حقا- و أي خير فيمن لا ينظر ما يصير إليه غدا-فبلغ عليا ع قوله-فقال لو قتل النهدي يومئذ لقتل شهيدا- .

و قال معاوية للهيثم بن الأسود أبي العريان- و كان عثمانيا و كانت امرأته علوية الرأي- تكتب بأخبار معاوية في أعنة الخيل- و تدفعها إلى عسكر علي ع بصفين فيدفعونها إليه- فقال معاوية بعد التحكيم يا هيثم- أهل العراق كانوا أنصح لعلي في صفين أم أهل الشام لي- فقال أهل العراق قبل أن يضربوا بالبلاء- كانوا أنصح لصاحبهم قال كيف قلت ذلك- قال لأن القوم ناصحوه على الدين- و ناصحك أهل الشام على الدنيا- و أهل الدين أصبر و هم أهل بصيرة- و إنما أهل الدنيا أهل طمع ثم و الله- ما لبث أهل العراق أن نبذوا الدين وراء ظهورهم- و نظروا إلى الدنيا فالتحقوا بك- .

فقال معاوية فما الذي يمنع الأشعث أن يقدم علينا- فيطلب ما قبلنا- قال إن الأشعث يكرم نفسه أن يكون رأسا في الحرب- و ذنبا في الطمع- . و من المفارقين لعلي ع أخوه عقيل بن أبي طالب- قدم على أمير المؤمنين بالكوفة يسترفده- فعرض عليه عطاءه فقال إنما أريد من بيت المال- فقال تقيم إلى يوم الجمعة فلما صلى ع الجمعة- قال له ما تقول فيمن خان هؤلاء أجمعين- قال بئس الرجل- قال فإنك أمرتني أن أخونهم و أعطيك- فلما خرج من عنده شخص إلى معاوية- فأمر له يوم قدومه بمائة ألف درهم- و قال له يا أبا يزيد أنا خير لك أم علي- قال وجدت عليا أنظر لنفسه منه لي- و وجدتك أنظر لي منك لنفسك- . و قال معاوية لعقيل إن فيكم يا بني هاشم لينا- قال أجل إن فينا لينا من غيرضعف و عزا من غير عنف- و إن لينكم يا معاوية غدر و سلمكم كفر- فقال معاوية و لا كل هذا يا أبا يزيد- .

و قال الوليد بن عقبة لعقيل في مجلس معاوية- غلبك أخوك يا أبا يزيد على الثروة- قال نعم و سبقني و إياك إلى الجنة- قال أما و الله إن شدقيه لمضمومان من دم عثمان- فقال و ما أنت و قريش- و الله ما أنت فينا إلا كنطيح التيس- فغضب الوليد و قال- و الله لو أن أهل الأرض اشتركوا في قتله لأرهقوا صعودا- و إن أخاك لأشد هذه الأمة عذابا فقال صه- و الله إنا لنرغب بعبد من عبيده- عن صحبة أبيك عقبة بن أبي معيط- . و قال معاوية يوما و عنده عمرو بن العاص- و قد أقبل عقيل لأضحكنك من عقيل- فلما سلم قال معاوية مرحبا برجل عمه أبو لهب- فقال عقيل و أهلا برجل عمته- حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد- لأن امرأة أبي لهب أم جميل بنت حرب بن أمية- .

قال معاوية يا أبا يزيد ما ظنك بعمك أبي لهب- قال إذا دخلت النار فخذ على يسارك- تجده مفترشا عمتك حمالة الحطب- أ فناكح في النار خير أم منكوح قال- كلاهما شر و الله- . و ممن فارقه ع حنظلة الكاتب خرج هو- و جرير بن عبد الله البجلي من الكوفة إلى قرقيسيا- و قالا لا نقيم ببلدة يعاب فيها عثمان- .و ممن فارقه وائل بن حجر الحضرمي- و خبره مذكور في قصة بسر بن أرطاة- . و روى صاحب كتاب الغارات- عن إسماعيل بن حكيم عن أبي مسعود الجريري قال كان ثلاثة من أهل البصرة يتواصلون على بغض علي ع- مطرف بن عبد الله بن الشخير- و العلاء بن زياد و عبد الله بن شفيق- . قال صاحب كتاب الغارات و كان مطرف عابدا ناسكا-

و قد روى هشام بن حسان عن ابن سيرين- أن عمار بن ياسر دخل على أبي مسعود و عنده ابن الشخير- فذكر عليا بما لا يجوز أن يذكر به- فقال عمار يا فاسق و إنك لهاهنا- فقال أبو مسعود أذكرك الله يا أبا اليقظان في ضيفي- . قال و أكثر مبغضيه ع أهل البصرة كانوا عثمانية- و كانت في أنفسهم أحقاد يوم الجمل- و كان هو ع قليل التألف للناس شديدا في دين الله- لا يبالي مع علمه بالدين و اتباعه الحق من سخط و من رضي- .

قال و قد روى يونس بن أرقم عن يزيد بن أرقم عن أبي ناجية مولى أم هانئ قال كنت عند علي ع فأتاه رجل عليه زي السفر- فقال يا أمير المؤمنين- إني أتيتك من بلدة ما رأيت لك بها محبا- قال من أين أتيت قال من البصرة- قال أما إنهم لو يستطيعون أن يحبوني لأحبوني- إني و شيعتي في ميثاق الله لا يزاد فينا رجل- و لا ينقص إلى يوم القيامة- .

و روى أبو غسان البصري قال- بنى عبيد الله بن زياد أربعة مساجد بالبصرة- تقوم على بغض علي بن أبي طالب و الوقيعة فيه- مسجد بني عدي و مسجد بني مجاشع-و مسجد كان في العلافين على فرضة البصرة و مسجد في الأزد- . و مما قيل عنه إنه يبغض عليا ع و يذمه- الحسن بن أبي الحسن البصري أبو سعيد-.

و روى عنه حماد بن سلمة أنه قال- لو كان علي يأكل الحشف بالمدينة- لكان خيرا له مما دخل فيه- و رواه عنه أنه كان من المخذلين عن نصرته- .

و روي عنه أن عليا ع رآه و هو يتوضأ للصلاة و كان ذا وسوسة- فصب على أعضائه ماء كثيرا فقال له- أرقت ماء كثيرا يا حسن فقال- ما أراق أمير المؤمنين من دماء المسلمين أكثر- قال أ و ساءك ذلك قال نعم قال فلا زلت مسوأ- . قالوا فما زال الحسن عابسا قاطبا مهموما إلى أن مات- . فأما أصحابنا فإنهم يدفعون ذلك عنه- و ينكرونه و يقولون- إنه كان من محبي علي بن أبي طالب ع و المعظمين له- . و روى أبو عمر بن عبد البر المحدث في كتابه المعروف- بالاستيعاب في معرفة الصحاب- أن إنسانا سأل الحسن عن علي ع فقال- كان و الله سهما صائبا من مرامي الله على عدوه- و رباني هذه الأمة و ذا فضلها و ذا سابقتها- و ذا قرابتها من رسول الله ص- لم يكن بالنؤمة عن أمر الله- و لا بالملومة في دين الله و لا بالسروقة لمال الله- أعطى القرآن عزائمه ففاز منه برياض مونقة- ذلك علي بن أبي طالب يا لكع- .

و روى الواقدي قال: سئل الحسن عن علي ع- و كان يظن به الانحراف عنه و لم يكن كما يظن فقال- ما أقول فيمن جمع الخصال الأربع- ائتمانه على براءةو ما قال له الرسول في غزاة تبوك- فلو كان غير النبوة شي‏ء يفوته لاستثناه-و قول النبي ص الثقلان كتاب الله و عترتي
– و إنه لم يؤمر عليه أمير قط و قد أمرت الأمراء على غيره- .

و روى أبان بن عياش قال سألت الحسن البصري عن علي ع- فقال ما أقول فيه كانت له السابقة- و الفضل و العلم و الحكمة و الفقه و الرأي- و الصحبة و النجدة و البلاء و الزهد و القضاء و القرابة- إن عليا كان في أمره عليا رحم الله عليا و صلى عليه- فقلت يا أبا سعيد أ تقول صلى عليه لغير النبي- فقال ترحم على المسلمين إذا ذكروا- و صل على النبي و آله و علي خير آله- فقلت أ هو خير من حمزة و جعفر قال نعم- قلت و خير من فاطمة و ابنيها قال نعم- و الله إنه خير آل محمد كلهم و من يشك أنه خير منهم-و قد قال رسول الله ص و أبوهما خير منهماو لم يجر عليه اسم شرك و لا شرب خمر-و قد قال رسول الله ص لفاطمة ع زوجتك خير أمتي- فلو كان في أمته خير منه لاستثناه- و لقد آخى رسول الله ص بين أصحابه فآخى بين علي و نفسه- فرسول الله ص خير الناس نفسا و خيرهم أخا- فقلت يا أبا سعيد- فما هذا الذي يقال عنك إنك قلته في علي فقال- يا ابن أخي احقن دمي من هؤلاء الجبابرة- و لو لا ذلك لشالت بي الخشب- .

قال شيخنا أبو جعفر الإسكافي رحمه الله تعالى- و وجدته أيضا في كتاب الغارات لإبراهيم بن هلال الثقفي- و قد كان بالكوفة من فقهائها من يعادي عليا و يبغضه- مع غلبة التشيع على الكوفة فمنهم مرة الهمداني- .

و روى أبو نعيم الفضل بن دكين عن فطر بن خليفة قال- سمعت مرة يقول- لأن يكون علي جملا يستقى عليه أهله خير له مما كان عليه- . و روى إسماعيل بن بهرام عن إسماعيل بن محمد- عن عمرو بن مرة قال قيل لمرة الهمداني- كيف تخلفت عن علي قال سبقنا بحسناته- و ابتلينا بسيئاته- . قال إسماعيل بن بهرام- و قد روينا عنه أنه قال أشد فحشا من هذا- و لكنا نتورع عن ذكره- . و روى الفضل بن دكين عن الحسن بن صالح- قال لم يصل أبو صادق على مرة الهمداني- .

قال الفضل بن دكين و سمعت- أن أبا صادق قال في أيام حياة مرة- و الله لا يظلني و إياه سقف بيت أبدا- . قال و لما مات لم يحضره عمرو بن شرحبيل- قال لا أحضره لشي‏ء كان في قلبه على علي بن أبي طالب- . قال إبراهيم بن هلال فحدثنا المسعودي- عن عبد الله بن نمير بهذا الحديث قال- ثم كان عبد الله بن نمير يقول و كذلك أنا- و الله لو مات رجل في نفسه شي‏ء على علي ع لم أحضره- و لم أصل عليه- . و منهم الأسود بن يزيد و مسروق بن الأجدع روى سلمة بن كهيل- أنهما كانا يمشيان إلى بعض أزواج رسول الله ص- فيقعان في علي ع فأما الأسود فمات على ذلك- و أما مسروق فلم يمت حتى كان لا يصلى لله تعالى صلاة-إلا صلى بعدها على علي بن أبي طالب ع- لحديث سمعه من عائشة في فضله- .

و روى أبو نعيم الفضل بن دكين عن عبد السلام بن حرب- عن ليث بن أبي سليم قال- كان مسروق يقول كان علي كحاطب ليل- قال فلم يمت مسروق حتى رجع عن رأيه هذا- . و روى سلمة بن كهيل قال- دخلت أنا و زبيد اليمامي على امرأة مسروق بعد موته- فحدثتنا قالت كان مسروق و الأسود بن يزيد- يفرطان في سب علي بن أبي طالب- ثم ما مات مسروق حتى سمعته يصلي عليه- و أما الأسود فمضى لشأنه- . قال فسألناها لم ذلك قالت شي‏ء سمعه من عائشة- ترويه عن النبي ص فيمن أصاب الخوارج- . و روى أبو نعيم عن عمرو بن ثابت عن أبي إسحاق قال ثلاثة لا يؤمنون على علي بن أبي طالب مسروق و مرة و شريح- . و روي أن الشعبي رابعهم- . و روي عن هيثم عن مجالد عن الشعبي- أن مسروقا ندم على إبطائه عن علي بن أبي طالب ع- .

و روى الأعمش عن إبراهيم التيمي قال قال علي ع لشريح و قد قضى قضية نقم عليه أمرها- و الله لأنفينك إلى بانقيا شهرين تقضي بين اليهود- قال ثم قتل علي ع و مضى دهر- فلما قام المختار بن أبي عبيد قال لشريح- ما قال لك أمير المؤمنين ع يوم كذا- قال إنه قال لي كذا قال- فلا و الله لا تقعد حتى تخرج إلى بانقيا تقضي بين اليهود- فسيره إليها فقضى بين اليهود شهرين- .و منهم أبو وائل شقيق بن سلمة كان عثمانيا يقع في علي ع- و يقال إنه كان يرى رأي الخوارج- و لم يختلف في أنه خرج معهم- و أنه عاد إلى علي ع منيبا مقلعا- . روى خلف بن خليفة قال قال أبو وائل- خرجنا أربعة آلاف فخرج إلينا علي- فما زال يكلمنا حتى رجع منا ألفان- . و روى صاحب كتاب الغارات عن عثمان بن أبي شيبة- عن الفضل بن دكين عن سفيان الثوري قال- سمعت أبا وائل يقول شهدت صفين و بئس الصفوف كانت- .

قال و قد روى أبو بكر بن عياش عن عاصم بن أبي النجود قال- كان أبو وائل عثمانيا و كان زر بن حبيش علويا- . و من المبغضين القالين أبو بردة بن أبي موسى الأشعري- ورث البغضة له لا عن كلالة- . و روى عبد الرحمن بن جندب قال قال أبو بردة لزياد- أشهد أن حجر بن عدي قد كفر بالله كفرة أصلع- قال عبد الرحمن إنما عنى بذلك- نسبة الكفر إلى علي بن أبي طالب ع لأنه كان أصلع- . قال و قد روى عبد الرحمن المسعودي- عن ابن عياش المنتوف قال رأيت أبا بردة- قال لأبي العادية الجهني قاتل عمار بن ياسر- أ أنت قتلت عمار بن ياسر قال نعم- قال ناولني يدك فقبلها و قال لا تمسك النار أبدا- .

و روى أبو نعيم عن هشام بن المغيرة عن الغضبان بن يزيد- قال رأيت أبا بردة قال لأبي العادية قاتل عمار بن ياسر- مرحبا بأخي هاهنا فأجلسه إلى جانبه- . و من المنحرفين عنه ع أبو عبد الرحمن السلمي القارئ- روى صاحب كتاب الغارات عن عطاء بن السائب قال- قال رجل لأبي عبد الرحمن السلمي- أنشدك بالله إن سألتك لتخبرني قال نعم- فلما أكد عليه قال- بالله هل أبغضت عليا إلا يوم قسم المال في الكوفة- فلم يصلك و لا أهل بيتك منه بشي‏ء قال- أما إذ أنشدتني بالله فلقد كان كذلك- .

قال و روى أبو عمر الضرير عن أبي عوانة قال- كان بين عبد الرحمن بن عطية- و بين أبي عبد الرحمن السلمي شي‏ء في أمر علي ع- فأقبل أبو عبد الرحمن على حيان فقال هل تدري ما جرأ صاحبك على الدماء يعني عليا- قال و ما جرأه لا أبا لغيرك-قال حدثنا أن رسول الله ص قال لأهل بدر- اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم- أو كلاما هذا معناه- . و كان عبد الله بن عكيم عثمانيا- و كان عبد الرحمن بن أبي ليلى علويا- فروى موسى الجهني عن ابنة عبد الله بن عكيم قالت- تحدثا يوما فسمعت أبي يقول لعبد الرحمن- أما إن صاحبك لو صبر لأتاه الناس- . و كان سهم بن طريف عثمانيا و كان علي بن ربيعة علويا- فضرب أمير الكوفة على الناس بعثا- و ضرب على سهم بن طريف معهم-

فقال سهم لعلي بن ربيعة- اذهب إلى الأمير فكلمه في أمري ليعفيني- فأتى علي بن ربيعة الأمير فقال أصلحك الله-إن سهما أعمى فأعفه قال قد أعفيته- فلما التقيا قال قد أخبرت الأمير أنك أعمى- و إنما عنيت عمى القلب- . و كان قيس بن أبي حازم يبغض عليا ع- روى وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم- قال أتيت عليا ع ليكلم لي عثمان في حاجة- فأبى فأبغضته- . قلت و شيوخنا المتكلمون رحمهم الله- يسقطون روايته عن النبي ص إنكم لترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر- و يقولون إنه كان يبغض عليا ع فكان فاسقا- و نقلوا عنهأنه قال سمعت عليا ع يخطب على المنبر و يقول انفروا إلى بقية الأحزاب- فدخل بغضه في قلبي- . و كان سعيد بن المسيب منحرفا عنه ع- و جبهه عمر بن علي ع في وجهه بكلام شديد- .

روى عبد الرحمن بن الأسود عن أبي داود الهمداني- قال شهدت سعيد بن المسيب- و أقبل عمر بن علي بن أبي طالب ع- فقال له سعيد يا ابن أخي- ما أراك تكثر غشيان مسجد رسول الله ص- كما يفعل إخوتك و بنو أعمامك- فقال عمر يا ابن المسيب- أ كلما دخلت المسجد أجي‏ء فأشهدك- فقال سعيد ما أحب أن تغضب-سمعت أباك يقول إن لي من الله مقاما- لهو خير لبني عبد المطلب مما على الأرض من شي‏ءفقال عمر و أنا سمعت أبي يقول ما كلمة حكمةفي قلب منافق فيخرج من الدنيا- حتى يتكلم بها- فقال سعيد يا ابن أخي جعلتني منافقا- قال هو ما أقول لك ثم انصرف- . و كان الزهري من المنحرفين عنه ع- .

و روى جرير بن عبد الحميد عن محمد بن شيبة قال شهدت مسجد المدينة- فإذا الزهري و عروة بن الزبير جالسان يذكران عليا ع- فنالا منه فبلغ ذلك علي بن الحسين ع- فجاء حتى وقف عليهما فقال- أما أنت يا عروة فإن أبي حاكم أباك إلى الله- فحكم لأبي على أبيك- و أما أنت يا زهري فلو كنت بمكة لأريتك كبر أبيك- .

و قد روي من طرق كثيرة- أن عروة بن الزبير كان يقول- لم يكن أحد من أصحاب رسول الله ص يزهو- إلا علي بن أبي طالب و أسامة بن زيد- . و روى عاصم بن أبي عامر البجلي عن يحيى بن عروة قال- كان أبي إذا ذكر عليا نال منه- . و قال لي مرة يا بني- و الله ما أحجم الناس عنه إلا طلبا للدنيا- لقد بعث إليه أسامة بن زيد أن ابعث إلي بعطائي- فو الله إنك لتعلم أنك لو كنت في فم أسد لدخلت معك- فكتب إليه أن هذا المال لمن جاهد عليه- و لكن لي مالا بالمدينة فأصب منه ما شئت- . قال يحيى فكنت أعجب من وصفه إياه بما وصفه به- و من عيبه له و انحرافه عنه- . و كان زيد بن ثابت عثمانيا شديدا في ذلك- و كان عمرو بن ثابت عثمانيا- من أعداء علي ع و مبغضيه- و عمرو بن ثابت هو الذي روى عن أبي أيوب الأنصاري حديث- ستة أيام من شوال- .

روي عن عمرو أنه كان يركب- و يدور القرى بالشام و يجمع أهلها و يقول- أيها الناس إن عليا كان رجلا منافقا- أراد أن ينخس برسول الله ص ليلة العقبة فالعنوه- فيلعنه أهل تلك القرية- ثم يسير إلى القرية الأخرى فيأمرهم بمثل ذلك- و كان في أيام معاوية- . و كان مكحول من المبغضين له ع- روى زهير بن معاوية عن الحسن بن الحر قال- لقيت مكحولا فإذا هو مطبوع يعني مملوءا بغضا لعلي ع- فلم أزل به حتى لان و سكن- .

و روى المحدثون عن حماد بن زيد أنه قال- أرى أن أصحاب علي أشد حبا له من أصحاب العجل لعجلهم- و هذا كلام شنيع- . و روي عن شبابة بن سوار أنه ذكر عنده ولد علي ع- و طلبهم الخلافة فقال و الله لا يصلون إليها أبدا- و الله ما استقامت لعلي و لا فرح بها يوما- فكيف تصير إلى ولده هيهات هيهات- لا و الله لا يذوق طعم الخلافة من رضي بقتل عثمان- . و قال شيخنا أبو جعفر الإسكافي- كان أهل البصرة كلهم يبغضونه- و كثير من أهل الكوفة و كثير من أهل المدينة- و أما أهل مكة فكلهم كانوا يبغضونه قاطبة- و كانت قريش كلها على خلافه- و كان جمهور الخلق مع بني أمية عليه- .

و روى عبد الملك بن عمير عن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال سمعت عليا ع و هو يقول ما لقي أحد من الناس ما لقيت ثم بكى ع
و روى الشعبي عن شريح بن هانئ قال قال علي ع اللهم إني أستعديك‏ على قريش- فإنهم قطعوا رحمي و أصغوا إنائي- و صغروا عظيم منزلتي و أجمعوا على منازعتيو روى جابر عن أبي الطفيل قال سمعت عليا ع يقول اللهم إني أستعديك على قريش- فإنهم قطعوا رحمي و غصبوني حقي- و أجمعوا على منازعتي أمرا كنت أولى به- ثم قالوا إن من الحق أن نأخذه و من الحق أن تتركهو روى المسيب بن نجبة الفزاري قال قال علي ع من وجدتموه من بني أمية في ماء فغطوا على صماخه- حتى يدخل الماء في فيه- .

و روى عمرو بن دينار عن ابن أبي مليكة- عن المسور بن مخرمة قال- لقي عبد الرحمن بن عوف عمر بن الخطاب فقال- أ لم نكن نقرأ من جملة القرآن- قاتلوهم في آخر الأمر كما قاتلتموهم في أوله قال بلى- و لكن ذاك إذا كان الأمراء بني أمية و الوزراء بني مخزوم- .
و روى أبو عمر النهدي قال سمعت علي بن الحسين يقول ما بمكة و المدينة عشرون رجلا يحبناو روى سفيان الثوري عن عمرو بن مرة عن أبي البختري قال أثنى رجل على علي بن أبي طالب في وجهه و كان يبغضه- فقال علي أنا دون ما تقول و فوق ما في نفسك

و روى أبو غسان النهدي قال دخل قوم من الشيعة على علي ع في الرحبة- و هو على حصير خلق فقال ما جاء بكم- قالوا حبك يا أمير المؤمنين- قال أما إنه من أحبني رآني حيث يحب أن يراني- و من أبغضني رآني حيث يكره أن يراني ثم قال- ما عبد الله أحد قبلي إلا نبيه ع- و لقد هجم أبو طالب علينا و أنا و هو ساجدان- فقال أ و فعلتموها ثم قال لي و أنا غلام ويحك- انصر ابن عمك ويحك لا تخذله-و جعل يحثني على مؤازرته و مكانفته- فقال له رسول الله ص أ فلا تصلي أنت معنا يا عم فقال- لا أفعل يا ابن أخي لا تعلوني استي ثم انصرف
و روى جعفر بن الأحمر عن مسلم الأعور عن حبة العرني قال قال علي ع من أحبني كان معي- أما إنك لو صمت الدهر كله و قمت الليل كله- ثم قتلت بين الصفا و المروة- أو قال بين الركن و المقام- لما بعثك الله إلا مع هواك بالغا ما بلغ- إن في جنة ففي جنة و إن في نار ففي نارو روى جابر الجعفي عن علي ع أنه قال من أحبنا أهل البيت فليستعد عدة للبلاءو روى أبو الأحوص عن أبي حيان عن علي ع يهلك في رجلان محب غال و مبغض

قالو روى حماد بن صالح عن أيوب عن كهمس أن عليا ع قال يهلك في ثلاثة اللاعن و المستمع المقر و حامل الوزر- و هو الملك المترف الذي يتقرب إليه بلعنتي- و يبرأ عنده من ديني و ينتقص عنده حسبي- و إنما حسبي حسب رسول الله ص و ديني دينه- و ينجو في ثلاثة من أحبني و من أحب محبي و من عادى عدوي- فمن أشرب قلبه بغضي أو ألب على بغضي أو انتقصني- فليعلم أن الله عدوه و خصمه و الله عدو للكافرين و روى محمد بن الصلت عن محمد بن الحنفية قال من أحبنا نفعه الله بحبنا و لو كان أسيرا بالديلمو روى أبو صادق عن ربيعة بن ناجد عن علي ع قال قال لي رسول الله ص- إن فيك لشبها من عيسى ابن مريم- أحبته النصارى حتى أنزلته بالمنزلة التي ليست له- و أبغضته اليهود حتى بهتت أمه

و روى صاحب كتاب الغارات حديث البراءة- على غير الوجه المذكور في كتاب نهج البلاغة-قال أخبرنا يوسف بن كليب المسعودي عن يحيى بن سليمان العبدي عن أبي مريم الأنصاري عن محمد بن علي الباقر ع قال خطب علي ع على منبر الكوفة فقال سيعرض عليكم سبي و ستذبحون عليه- فإن عرض عليكم سبي فسبوني- و إن عرض عليكم البراءة مني فإني على دين محمد ص- و لم يقل فلا تبرءوا مني

و قال أيضا حدثني أحمد بن مفضل قال حدثني الحسن بن صالح عن جعفر بن محمد ع قال قال علي ع و الله لتذبحن على سبي و أشار بيده إلى حلقه ثم قال- فإن أمروكم بسبي فسبوني- و إن أمروكم أن تبرءوا مني فإني على دين محمد ص- و لم ينههم عن إظهار البراءة
و روى شيخنا أبو القاسم البلخي رحمه الله تعالى- عن سلمة بن كهيل عن المسيب بن نجبة قال بينا علي ع يخطب إذ قام أعرابي فصاح وا مظلمتاه- فاستدناه علي ع فلما دنا قال له- إنما لك مظلمة واحدة و أنا قد ظلمت عدد المدر و الوبر

قال و في رواية عباد بن يعقوب إنه دعاه فقال له ويحك- و أنا و الله مظلوم أيضا هات فلندع على من ظلمناو روى سدير الصيرفي عن أبي جعفر محمد بن علي قال اشتكى علي ع شكاة فعاده أبو بكر و عمر و خرجا من عنده- فأتيا النبي ص فسألهما من أين جئتما قالا عدنا عليا- قال كيف رأيتماه قال رأيناه يخاف عليه مما به فقال- كلا إنه لن يموت حتى يوسع غدرا و بغيا- و ليكونن في هذه الأمة عبرة يعتبر به الناس من بعده

و روى عثمان بن سعيد عن عبد الله بن الغنوي أن عليا ع خطب بالرحبة فقال أيها الناس- إنكم قد أبيتم إلا أن أقولها و رب السماء و الأرض- إن من عهد النبي الأمي إلي أن الأمة ستغدر بك بعدي

و روى هيثم بن بشير عن إسماعيل بن سالم: مثله- و قد روى أكثر أهل الحديث هذا الخبر- بهذا اللفظ أو بقريب منه- .

و روى أبو جعفر الإسكافي أيضا أن النبي ص دخل على فاطمة ع فوجد عليا نائما- فذهبت تنبهه فقال دعيه فرب سهر له بعدي طويل- و رب جفوة لأهل بيتي من أجله شديدة- فبكت فقال لا تبكي فإنكما معي- و في موقف الكرامة عندي

و روى الناس كافة أن رسول الله ص قال له- هذا وليي و أنا وليه عاديت من عاداه و سالمت من سالمه- أو نحو هذا اللفظ- .

و روى أيضا محمد بن عبيد الله بن أبي رافع عن زيد بن علي بن الحسين ع قال قال رسول الله ص لعلي ع- عدوك عدوي و عدوي عدو الله عز و جل

و روى يونس بن حباب عن أنس بن مالك قال كنا مع رسول الله ص و علي بن أبي طالب معنا- فمررنا بحديقة فقال علي يا رسول الله- أ لا ترى ما أحسن هذه الحديقة فقال- إن حديقتك في الجنة أحسن منها- حتى مررنا بسبع حدائق يقول علي ما قال- و يجيبه رسول الله ص بما أجابه- ثم إن رسول الله ص وقف فوقفنا- فوضع رأسه على رأس علي و بكى- فقال علي ما يبكيك يا رسول الله قال- ضغائن في صدور قوم لا يبدونها لك حتى يفقدوني-

فقال يا رسول الله- أ فلا أضع سيفي على عاتقي فأبيد خضراءهم قال بل تصبر- قال فإن صبرت قال تلاقي جهدا- قال أ في سلامة من ديني قال نعم قال فإذا لا أبالي

و روى جابر الجعفي عن محمد بن علي ع قال قال علي ع ما رأيت منذ بعث الله محمدا ص رخاء- لقد أخافتني قريش صغيرا و أنصبتني كبيرا- حتى قبض الله رسوله فكانت الطامة الكبرى- وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى‏ ما تَصِفُونَ‏

و روى صاحب كتاب الغارات عن الأعمش عن أنس بن مالك قال سمعت رسول الله ص يقول سيظهر على الناس رجل من أمتي- عظيم السرم واسع البلعوم- يأكل و لا يشبع يحمل وزر الثقلين يطلب الإمارة يوما- فإذا أدركتموه فابقروا بطنه- قال و كان في يد رسول الله ص قضيب- قد وضع طرفه في بطن معاوية- . قلت هذا الخبر مرفوع- مناسب لما قاله علي ع في نهج البلاغة- و مؤكد لاختيارنا أن المراد به معاوية- دون ما قاله كثير من الناس إنه زياد و المغيرة- .

و روى جعفر بن سليمان الضبعي عن أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري قال ذكر رسول الله ص يوما لعلي ما يلقى بعده من العنت- فأطال فقال له ع أنشدك الله و الرحم يا رسول الله- لما دعوت الله أن يقبضني إليه قبلك- قال كيف أسأله في أجل مؤجل- قال يا رسول الله فعلام أقاتل من أمرتني بقتاله- قال على الحدث في الدين

و روى الأعمش عن عمار الدهني عن أبي صالح الحنفي عن علي ع قال‏قال لنا يوما لقد رأيت الليلة رسول الله ص في المنام- فشكوت إليه ما لقيت حتى بكيت- فقال لي انظر فنظرت فإذا جلاميد- و إذا رجلان مصفدان- قال الأعمش هما معاوية و عمرو بن العاص- قال فجعلت أرضخ رءوسهما ثم تعود- ثم أرضخ ثم تعود حتى انتبهت

و روى نحو هذا الحديث عمرو بن مرة عن أبي عبد الله بن سلمة عن علي ع قال رأيت الليلة رسول الله ص فشكوت إليه فقال- هذه جهنم فانظر من فيها- فإذا معاوية و عمرو بن العاص معلقين بأرجلهما منكسين- ترضخ رءوسهما بالحجارة أو قال تشدخ

و روى قيس بن الربيع عن يحيى بن هانئ المرادي عن رجل من قومه يقال له رياد بن فلان قال كنا في بيت مع علي ع نحن شيعته و خواصه- فالتفت فلم ينكر منا أحدا فقال- إن هؤلاء القوم سيظهرون عليكم- فيقطعون أيديكم و يسملون أعينكم- فقال رجل منا و أنت حي يا أمير المؤمنين قال- أعاذني الله من ذلك فالتفت فإذا واحد يبكي- فقال له يا ابن الحمقاء- أ تريد اللذات في الدنيا و الدرجات في الآخرة- إنما وعد الله الصابرين

 و روى زرارة بن أعين عن أبيه عن أبي جعفر محمد بن علي ع قال كان علي ع إذا صلى الفجر- لم يزل معقبا إلى أن تطلع الشمس- فإذا طلعت اجتمع إليه الفقراء و المساكين- و غيرهم من الناس فيعلمهم الفقه و القرآن- و كان له وقت يقوم فيه من مجلسه ذلك- فقام يوما فمر برجل فرماه بكلمة هجر قال- لم يسمه محمد بن علي ع- فرجع عوده على بدئه حتى صعد المنبر- و أمر فنودي الصلاة جامعة فحمد الله و أثنى عليه- و صلى على نبيه ثم قال أيها الناس- إنه ليس شي‏ء أحب إلى الله- و لا أعم نفعا من‏حلم إمام و فقهه- و لا شي‏ء أبغض إلى الله و لا أعم ضررا من جهل إمام و خرقه- ألا و إنه من لم يكن له من نفسه واعظ- لم يكن له من الله حافظ- ألا و إنه من أنصف من نفسه لم يزده الله إلا عزا- ألا و إن الذل في طاعة الله أقرب- إلى الله من التعزز في معصيته- ثم قال أين المتكلم آنفا فلم يستطع الإنكار- فقال ها أنا ذا يا أمير المؤمنين فقال- أما إني لو أشاء لقلت فقال- إن تعف و تصفح فأنت أهل ذلك- قال قد عفوت و صفحت- فقيل لمحمد بن علي ع ما أراد أن يقول قال أراد أن ينسبه

و روى زرارة أيضا قال قيل لجعفر بن محمد ع إن قوما هاهنا ينتقصون عليا ع- قال بم ينتقصونه لا أبا لهم و هل فيه موضع نقيصة- و الله ما عرض لعلي أمران قط- كلاهما لله طاعة إلا عمل بأشدهما و أشقهما عليه- و لقد كان يعمل العمل كأنه قائم بين الجنة و النار- ينظر إلى ثواب هؤلاء فيعمل له- و ينظر إلى عقاب هؤلاء فيعمل له- و إن كان ليقوم إلى الصلاة- فإذا قال وجهت وجهي تغير لونه- حتى يعرف ذلك في وجهه- و لقد أعتق ألف عبد من كد يده- كل منهم يعرق فيه جبينه و تحفى فيه كفه- و لقد بشر بعين نبعت في ماله مثل عنق الجزور- فقال بشر الوارث بشر- ثم جعلها صدقة على الفقراء و المساكين و ابن السبيل- إلى أن يرث الله الأرض و من عليها- ليصرف الله النار عن وجهه و يصرف وجهه عن النار

و روى القناد عن أبي مريم الأنصاري عن علي ع لا يحبني كافر و لا ولد زنا- . و روى جعفر بن زياد عن أبي هارون العبدي- عن أبي سعيد الخدري قال- كنا بنور إيماننا نحب علي بن أبي طالب ع- فمن أحبه عرفنا أنه منا

فصل في معنى قول علي فسبوني فإنه لي زكاة

المسألة الثالثة- في معنى قوله ع فسبوني فإنه لي زكاة و لكم نجاة- فنقول إنه أباح لهم سبه عند الإكراه- لأن الله تعالى قد أباح عند الإكراه التلفظ بكلمة الكفر- فقال إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ- و التلفظ بكلمة الكفر أعظم من التلفظ بسب الإمام- . فأما قوله فإنه لي زكاة و لكم نجاة- فمعناه أنكم تنجون من القتل إذا أظهرتم ذلك- و معنى الزكاة يحتمل أمرين- أحدهما ما ورد في الأخبار النبوية- أن سب المؤمن زكاة له و زيادة في حسناته- . و الثاني- أن يريد به أن سبهم لي لا ينقص في الدنيا من قدري- بل أزيد به شرفا و علو قدر و شياع ذكر و هكذا كان- فإن الله تعالى جعل الأسباب التي- حاول أعداؤه بها الغض منه- عللا لانتشار صيته في مشارق الأرض و مغاربها- . و قد لمح هذا المعنى أبو نصر بن نباته- فقال للشريف الجليل محمد بن عمر العلوي-

و أبوك الوصي أول من شاد
منار الهدى و صام و صلى‏

نشرت حبله قريش فأعطته‏
إلى صبحة القيامة فتلا

 و احتذيت أنا حذوه فقلت لأبي المظفر- هبة الله بن موسى الموسوي رحمه الله تعالى- في قصيده أذكر فيها أباه-

أمك الدرة التي أنجبت من
جوهر المجد راضيا مرضيا

و أبوك الإمام موسى كظيم‏
الغيظ حتى يعيده منسيا

و أبوه تاج الهدى جعفر الصادق
وحيا عن الغيوب وحيا

و أبوه محمد باقر العلم‏
مضى لنا هاديا مهديا

و أبوه السجاد أتقى عباد
الله لله مخلصا و وفيا

و الحسين الذي تخير أن‏
يقضي عزيزا و لا يعيش دنيا

و أبوه الوصي أول من
طاف و لبى سبعا و ساق الهديا

طامنت مجده قريش فأعطته‏
إلى سدرة السماء رقيا

أخملت صيته فطار إلى أن
ملأ الأفق ضجة و دويا

و أبو طالب كفيل أبي‏
القاسم كهلا و يافعا و فتيا

و لشيخ البطحاء تاج معد
شيبة الحمد هل علمت سميا

و أبو عمر العلا هاشم الجود
و من مثل هاشم بشريا

و أبوه الهمام عبد مناف
قل تقل صادقا و تبدي بديا

ثم زيد أعني قصي الذي لم‏
يك عن ذروة العلاء قصيا

نسب إن تلفع النسب المحض
لفاعا كان السليب العريا

و إذا أظلمت مناسخة الأحساب‏
يوما كان المنير الجليا

يا له مجدة على قدم الدهر
و قد يفضل العتيق الطريا

 و ذكرنا هاهنا ما قبل المعنى و ما بعده لأن الشعر حديث- و الحديث كما قيل يأخذ بعضه برقاب بعض- و لأن ما قبل المعنى و ما بعده مكمل له و موضح مقصده- . فإن قلت أي مناسبة بين لفظ الزكاة- و انتشار الصيت و السمع- . قلت لأن الزكاة هي النماء و الزيادة- و منه سميت الصدقة المخصوصة زكاة- لأنها تنمي المال المزكى- و انتشار الصيت نماء و زيادة

فصل في اختلاف الرأي في معنى السب و البراءة

المسألة الرابعة- أن يقال كيف قال ع- فأما السب فسبوني فإنه لي زكاة و لكم نجاة- و أما البراءة فلا تبرءوا مني- و أي فرق بين السب و البراءة- و كيف أجاز لهم السب و منعهم عن التبرؤ- و السب أفحش من التبرؤ- . و الجواب أما الذي يقوله أصحابنا في ذلك- فإنه لا فرق عندهم بين سبه و التبرؤ منه- في أنهما حرام و فسق و كبيرة- و أن المكره عليهما يجوز له فعلهما عند خوفه على نفسه- كما يجوز له إظهار كلمة الكفر عند الخوف- . و يجوز ألا يفعلهما و إن قتل- إذا قصد بذلك إعزاز الدين- كما يجوز له أن يسلم نفسه للقتل- و لا يظهر كلمة الكفر إعزازا للدين- و إنما استفحش ع البراءة لأن هذه اللفظة ما وردت في القرآن العزيز- إلا عن المشركين أ لا ترى إلى قوله تعالى- بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ- و قال تعالى أَنَّ اللَّهَ بَرِي‏ءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ- فقد صارت بحسب العرف الشرعي مطلقة- على المشركين خاصة- فإذن يحمل هذا النهي على ترجيح تحريم لفظ البراءة- على لفظ السب و إن كان حكمهما واحدا- أ لا ترى إن إلقاء المصحف في القذر أفحش- من إلقاء المصحف في دن الشراب- و إن كانا جميعا محرمين و كان حكمهما واحدا- .
فأما الإمامية فتروي عنه ع أنه قال إذا عرضتم على البراءة منا فمدوا الأعناقو يقولون إنه لا يجوز التبرؤ منه- و إن كان الحالف صادقا و إن عليه الكفارة- .

و يقولون إن حكم البراءة من الله تعالى و من الرسول- و منه ع و من أحد الأئمة ع حكم واحد- . و يقولون إن الإكراه على السب يبيح إظهاره- و لا يجوز الاستسلام للقتل معه- و أما الإكراه على البراءة- فإنه يجوز معه الاستسلام للقتل و يجوز أن يظهر التبرؤ- و الأولى أن يستسلم للقتل

فصل في معنى قول علي إني ولدت على الفطرة

المسألة الخامسة- أن يقال كيف علل نهيه لهم على البراءة منه ع بقوله- فإني ولدت على الفطرة- فإن هذا التعليل لا يختص به ع- لأن كل أحد يولد على الفطرة-قال النبي ص كل مولود يولد على الفطرة- و إنما أبواه يهودانه و ينصرانهو الجواب- أنه ع علل نهيه لهم عن البراءة منه بمجموع أمور و علل- و هي كونه ولد على الفطرة- و كونه سبق إلى الإيمان و الهجرة- و لم يعلل بآحاد هذا المجموع- و مراده هاهنا بالولادة على الفطرة- أنه لم يولد في الجاهلية- لأنه ولد ع لثلاثين عاما مضت من عام الفيل- و النبي ص أرسل لأربعين سنة مضت من عام الفيل- و قد جاء في الأخبار الصحيحة- أنه ص مكث قبل الرسالة سنين عشرا- يسمع الصوت و يرى الضوء و لا يخاطبه أحد- و كان ذلك إرهاصا لرسالته ع- فحكم تلك السنين العشر حكم أيام رسالته ص- فالمولود فيها إذا كان في حجره- و هو المتولي لتربيته مولود في أيام كأيام النبوة- و ليس بمولود في جاهلية محضة- ففارقت حاله حال من- يدعى له من الصحابة مماثلته في الفضل- و قد روي أن السنة التي ولد فيها علي‏

و أبوه تاج الهدى جعفر الصادق
وحيا عن الغيوب وحيا

و أبوه محمد باقر العلم‏
مضى لنا هاديا مهديا

و أبوه السجاد أتقى عباد
الله لله مخلصا و وفيا

و الحسين الذي تخير أن‏
يقضي عزيزا و لا يعيش دنيا

و أبوه الوصي أول من
طاف و لبى سبعا و ساق الهديا

طامنت مجده قريش فأعطته‏
إلى سدرة السماء رقيا

أخملت صيته فطار إلى أن
ملأ الأفق ضجة و دويا

و أبو طالب كفيل أبي‏
القاسم كهلا و يافعا و فتيا

و لشيخ البطحاء تاج معد
شيبة الحمد هل علمت سميا

و أبو عمر العلا هاشم الجود
و من مثل هاشم بشريا

و أبوه الهمام عبد مناف
قل تقل صادقا و تبدي بديا

ثم زيد أعني قصي الذي لم‏
يك عن ذروة العلاء قصيا

نسب إن تلفع النسب المحض
لفاعا كان السليب العريا

و إذا أظلمت مناسخة الأحساب‏
يوما كان المنير الجليا

يا له مجدة على قدم الدهر
و قد يفضل العتيق الطريا

و ذكرنا هاهنا ما قبل المعنى و ما بعده لأن الشعر حديث- و الحديث كما قيل يأخذ بعضه برقاب بعض- و لأن ما قبل المعنى و ما بعده مكمل له و موضح مقصده- . فإن قلت أي مناسبة بين لفظ الزكاة- و انتشار الصيت و السمع- . قلت لأن الزكاة هي النماء و الزيادة- و منه سميت الصدقة المخصوصة زكاة- لأنها تنمي المال المزكى- و انتشار الصيت نماء و زيادة

فصل في اختلاف الرأي في معنى السب و البراءة

المسألة الرابعة- أن يقال كيف قال ع- فأما السب فسبوني فإنه لي زكاة و لكم نجاة- و أما البراءة فلا تبرءوا مني- و أي فرق بين السب و البراءة- و كيف أجاز لهم السب و منعهم عن التبرؤ- و السب أفحش من التبرؤ- . و الجواب أما الذي يقوله أصحابنا في ذلك- فإنه لا فرق عندهم بين سبه و التبرؤ منه- في أنهما حرام و فسق و كبيرة- و أن المكره عليهما يجوز له فعلهما عند خوفه على نفسه- كما يجوز له إظهار كلمة الكفر عند الخوف- . و يجوز ألا يفعلهما و إن قتل- إذا قصد بذلك إعزاز الدين- كما يجوز له أن يسلم نفسه للقتل- و لا يظهر كلمة الكفر إعزازا للدين- و إنما استفحش ع البراءة لأن هذه اللفظة ما وردت في القرآن العزيز- إلا عن المشركين أ لا ترى إلى قوله تعالى- بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ-

و قال تعالى أَنَّ اللَّهَ بَرِي‏ءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ- فقد صارت بحسب العرف الشرعي مطلقة- على المشركين خاصة- فإذن يحمل هذا النهي على ترجيح تحريم لفظ البراءة- على لفظ السب و إن كان حكمهما واحدا- أ لا ترى إن إلقاء المصحف في القذر أفحش- من إلقاء المصحف في دن الشراب- و إن كانا جميعا محرمين و كان حكمهما واحدا- .فأما الإمامية فتروي عنه ع أنه قال إذا عرضتم على البراءة منا فمدوا الأعناقو يقولون إنه لا يجوز التبرؤ منه- و إن كان الحالف صادقا و إن عليه الكفارة- .و يقولون إن حكم البراءة من الله تعالى و من الرسول- و منه ع و من أحد الأئمة ع حكم واحد- . و يقولون إن الإكراه على السب يبيح إظهاره- و لا يجوز الاستسلام للقتل معه- و أما الإكراه على البراءة- فإنه يجوز معه الاستسلام للقتل و يجوز أن يظهر التبرؤ- و الأولى أن يستسلم للقتل

فصل في معنى قول علي إني ولدت على الفطرة

المسألة الخامسة- أن يقال كيف علل نهيه لهم على البراءة منه ع بقوله- فإني ولدت على الفطرة- فإن هذا التعليل لا يختص به ع- لأن كل أحد يولد على الفطرة-قال النبي ص كل مولود يولد على الفطرة- و إنما أبواه يهودانه و ينصرانه و الجواب- أنه ع علل نهيه لهم عن البراءة منه بمجموع أمور و علل- و هي كونه ولد على الفطرة- و كونه سبق إلى الإيمان و الهجرة- و لم يعلل بآحاد هذا المجموع- و مراده هاهنا بالولادة على الفطرة- أنه لم يولد في الجاهلية- لأنه ولد ع لثلاثين عاما مضت من عام الفيل- و النبي ص أرسل لأربعين سنة مضت من عام الفيل- و قد جاء في الأخبار الصحيحة- أنه ص مكث قبل الرسالة سنين عشرا- يسمع الصوت و يرى الضوء و لا يخاطبه أحد- و كان ذلك إرهاصا لرسالته ع- فحكم تلك السنين العشر حكم أيام رسالته ص- فالمولود فيها إذا كان في حجره- و هو المتولي لتربيته مولود في أيام كأيام النبوة- و ليس بمولود في جاهلية محضة- ففارقت حاله حال من- يدعى له من الصحابة مماثلته في الفضل- و قد روي أن السنة التي ولد فيها علي‏ ع- هي السنة التي- بدئ فيها برسالة رسول الله ص- فأسمع الهتاف من الأحجار و الأشجار و كشف عن بصره- فشاهد أنوارا و أشخاصا و لم يخاطب فيها بشي‏ء- و هذه السنة هي السنة التي ابتدأ فيها بالتبتل- و الانقطاع و العزلة في جبل حراء- فلم يزل به حتى كوشف بالرسالة و أنزل عليه الوحي- و كان رسول الله ص يتيمن بتلك السنة- و بولادة علي ع فيها و يسميها سنة الخير و سنة البركة-

و قال لأهله ليلة ولادته- و فيها شاهد ما شاهد من الكرامات و القدرة الإلهية- و لم يكن من قبلها شاهد من ذلك شيئا-لقد ولد لنا الليلة مولود- يفتح الله علينا به أبوابا كثيرة من النعمة و الرحمة- و كان كما قال ص فإنه ع كان ناصره- و المحامي عنه و كاشف الغماء عن وجهه- و بسيفه ثبت دين الإسلام و رست دعائمه- و تمهدت قواعده- . و في المسألة تفسير آخر و هو أن يعنيبقوله ع فإني ولدت على الفطرة- أي على الفطرة التي لم تتغير و لم تحل- و ذلك أن معنىقول النبي ص كل مولود يولد على الفطرة- أن كل مولود فإن الله تعالى قد هيأه بالعقل الذي- خلقه فيه و بصحة الحواس و المشاعر- لأن يعلم التوحيد و العدل- و لم يجعل فيه مانعا يمنعه عن ذلك- و لكن التربية و العقيدة في الوالدين- و الإلف لاعتقادهما و حسن الظن فيهما يصده عما فطر عليه- و أمير المؤمنين ع دون غيره- ولد على الفطرة التي لم تحل و لم يصد عن مقتضاها مانع- لا من جانب الأبوين و لا من جهة غيرهما- و غيره ولد على الفطرة- و لكنه حال عن مقتضاها و زال عن موجبها- . و يمكن أن يفسر بأنه ع أراد بالفطرة العصمة- و أنه منذ ولد لم يواقع قبيحاو لا كان كافرا طرفة عين قط- و لا مخطئا و لا غالطا في شي‏ء من الأشياء المتعلقة بالدين- و هذا تفسير الإمامية

فصل فيما قيل من سبق علي إلى الإسلام

المسألة السادسة- أن يقال كيف قال و سبقت إلى الإيمان- و قد قال قوم من الناس إن أبا بكر سبقه- و قال قوم إن زيد بن حارثة سبقه- . و الجواب- أن أكثر أهل الحديث و أكثر المحققين من أهل السيرة- رووا أنه ع أول من أسلم- و نحن نذكر كلام أبي عمر يوسف بن عبد البر- المحدث في كتابه المعروف بالإستيعاب- . قال أبو عمر في ترجمة علي ع- المروي عن سلمان و أبي ذر و المقداد و خباب- و أبي سعيد الخدري و زيد بن أسلم أن عليا ع أول من أسلم- و فضله هؤلاء على غيره- . قال أبو عمر و قال ابن إسحاق- أول من آمن بالله- و بمحمد رسول الله ص علي بن أبي طالب ع- و هو قول ابن شهاب إلا أنه قال من الرجال بعد خديجة- .

قال أبو عمر و حدثنا أحمد بن محمد قال حدثنا أحمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن جرير قال حدثنا علي بن عبد الله الدهقان قال حدثنا محمد بن صالح عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال لعلي ع أربع خصال ليست‏ لأحد غيره- هو أول عربي و عجمي صلى مع رسول الله ص- و هو الذي كان معه لواؤه في كل زحف- و هو الذي صبر معه يوم فر عنه غيره- و هو الذي غسله و أدخله قبرهقال أبو عمر و روي عن سلمان الفارسي أنه قال أول هذه الأمة ورودا على نبيها ص الحوض أولها إسلاما علي بن أبي طالب-

و قد روي هذا الحديث مرفوعا-عن سلمان عن النبي ص أنه قال أول هذه الأمة ورودا علي الحوض أولها إسلاما- علي بن أبي طالب
– . قال أبو عمر و رفعه أولى لأن مثله لا يدرك بالرأي- . قال أبو عمر فأما إسناد المرفوع-فإن أحمد بن قاسم قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا ابن الحارث بن أبي أسامة قال حدثني يحيى بن هاشم قال حدثنا سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل عن أبي صادق عن حنش بن المعتمر عن عليم الكندي عن سلمان الفارسي قال قال رسول الله ص أولكم واردا علي الحوض أولكم إسلاما- علي بن أبي طالب قال أبو عمر و روى أبو داود الطيالسي قال حدثنا أبو عوانة عن أبي بلج عن عمرو بن ميمون عن ابن عباس أنه قال أول من صلى مع النبي ص بعد خديجة علي بن أبي طالب

قال أبو عمر و حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا أحمد بن زهير بن حرب قال حدثنا الحسن بن حماد قال حدثنا أبو عوانة عن أبي بلج عن عمرو بن ميمون عن ابن عباس قال كان علي أول من آمن من الناس بعد خديجة- .

قال أبو عمر هذا الإسناد لا مطعن فيه لأحد- لصحته و ثقة نقلته- و قد عارض‏ما ذكرنا في باب أبي بكر الصديق-عن ابن عباس و الصحيح في أمر أبي بكر أنه أول من أظهر إسلامه- كذلك قاله مجاهد و غيره قالوا و منعه قومه- . قال أبو عمر اتفق ابن شهاب و عبد الله بن محمد بن عقيل- و قتادة و ابن إسحاق على أن أول من أسلم من الرجال علي- و اتفقوا على أن خديجة أول من آمن بالله و رسوله- و صدقه فيما جاء به ثم علي بعد- . و روي عن أبي رافع مثل ذلك- .

قال أبو عمر و حدثنا عبد الوارث قال- حدثنا قاسم قال حدثنا أحمد بن زهير قال- حدثنا عبد السلام بن صالح قال- حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي قال- حدثنا عمر مولى غفرة قال- سئل محمد بن كعب القرظي عن أول من أسلم علي أم أبي بكر- فقال سبحان الله علي أولهما إسلاما- و إنما شبه على الناس لأن عليا أخفى إسلامه من أبي طالب- و أسلم أبو بكر فأظهر إسلامه- . قال أبو عمر و لا شك عندنا أن عليا أولهما إسلاما- ذكر عبد الرزاق في جامعه- عن معمر عن قتادة عن الحسن و غيره قالوا- أول من أسلم بعد خديجة علي بن أبي طالب ع- .

و روى معمر عن عثمان الجزري عن مقسم عن ابن عباس قال أول من أسلم علي بن أبي طالب قال أبو عمر و روى ابن فضيل عن الأجلح عن حبة بن جوين العرني قال سمعت عليا ع يقول لقد عبدت الله قبل أن يعبده أحد- من هذه الأمة خمس سنين قال أبو عمر و روى شعبة عن سلمة بن كهيل عن حبة العرني قال سمعت عليا يقول إنا أول من صلى مع رسول الله ص قال أبو عمر و قد روى سالم بن أبي الجعد قال- قلت لابن الحنفية أبو بكر كان أولهما إسلاما قال لا- .

قال أبو عمر و روى مسلم الملائي عن أنس بن مالك قال- استنبئ النبي ص يوم الإثنين و صلى علي يوم الثلاثاء- . قال أبو عمر و قال زيد بن أرقم- أول من آمن بالله بعد رسول الله ص علي بن أبي طالب- . قال و قد روي حديث زيد بن أرقم من وجوه- ذكرها النسائي و أسلم بن موسى و غيرهما- منها ما حدثنا به عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال- حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا علي بن الجعد قال- حدثنا شعبة قال أخبرني عمرو بن مرة قال- سمعت أبا حمزة الأنصاري قال سمعت زيد بن أرقم يقول- أول من صلى مع رسول الله ص علي بن أبي طالب- .

قال أبو عمر و حدثنا عبد الوارث حدثنا قاسم- حدثنا أحمد بن زهير بن حرب حدثنا أبي قال- حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد قال- حدثنا ابن إسحاق قال حدثنا يحيى بن أبي الأشعث- عن إسماعيل بن إياس بن عفيف الكندي عن أبيه عن جده- قال كنت امرأ تاجرا فقدمت الحج- فأتيت العباس بن عبد المطلب- لأبتاع منه بعض التجارة و كان امرأ تاجرا- فو الله إني لعنده بمنى إذ خرج رجل من خباء قريب منه- فنظر إلى الشمس فلما رآها قد مالت قام يصلي- ثم خرجت امرأة من ذلك الخباء الذي- خرج منه ذلك الرجل فقامت خلفه تصلي- ثم خرج غلام حين راهق الحلم من ذلك الخباء- فقام معه يصلي فقلت للعباس ما هذا يا عباس قال- هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ابن أخي- قلت من هذه المرأة-

قال امرأته خديجة بنت خويلد- قلت ما هذا الفتى قال علي بن أبي طالب ابن عمه- قلت ما هذا الذي يصنع قال يصلي و هو يزعم أنه نبي- و لم يتبعه على أمره إلا امرأته و ابن عمه هذا الغلام- و هو يزعم أنه سيفتح على أمته كنوز كسرى و قيصر- قال فكان عفيف الكندي يقول- و قد أسلم بعد ذلك و حسن إسلامه- لو كان الله رزقني الإسلام يومئذ كنت أكون ثانيا مع علي- . قال أبو عمر و قد ذكرنا هذا الحديث من طرق- في باب عفيف الكندي من هذا الكتاب- .

قال أبو عمر و لقد قال علي ع صليت مع رسول الله ص كذا و كذا- لا يصلي معه غيري إلا خديجة- . فهذه الروايات و الأخبار كلها- ذكرها أبو عمر يوسف بن عبد البر في الكتاب المذكور- و هي كما تراها تكاد تكون إجماعا- . قال أبو عمر و إنما الاختلاف في كمية سنه ع يوم أسلم- ذكر الحسن بن علي الحلواني في كتاب المعرفة له- قال حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثنا الليث بن سعد- عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن- أنه بلغه أن عليا و الزبير أسلما و هما ابنا ثماني سنين- كذا يقول أبو الأسود يتيم عروة- و ذكره أيضا ابن أبي خيثمة عن قتيبة بن سعيد- عن الليث بن سعد عن أبي الأسود و ذكره عمر بن شبة- عن الحزامي عن أبي وهب عن الليث عن أبي الأسود- قال الليث و هاجرا و هما ابنا ثمان عشرة سنة- .

قال أبو عمر و لا أعلم أحدا قال بقول أبي الأسود هذا- . قال أبو عمر و روى الحسن بن علي الحلواني قال- حدثنا عبد الرزاق قال حدثنا معمر عن قتادة عن الحسن- قال أسلم علي و هو ابن خمس عشرة سنة-قال أبو عمر و أخبرنا أبو القاسم خلف بن قاسم بن سهل- قال حدثنا أبو الحسن علي بن محمد بن إسماعيل الطوسي- قال أخبرنا أبو العباس- محمد بن إسحاق بن إبراهيم السراج قال- حدثنا محمد بن مسعود قال أخبرنا عبد الرزاق قال- أخبرنا معمر عن قتادة عن الحسن قال أسلم علي- و هو أول من أسلم و هو ابن خمس عشرة سنة أو ست عشرة سنة- . قال أبو عمر قال ابن وضاح- و ما رأيت أحدا قط أعلم بالحديث من محمد بن مسعود- و لا بالرأي من سحنون- .

قال أبو عمر قال ابن إسحاق- أول ذكر آمن بالله و رسوله علي بن أبي طالب ع- و هو يومئذ ابن عشر سنين- . قال أبو عمر و الروايات في مبلغ سنه ع مختلفة- قيل أسلم و هو ابن ثلاث عشرة سنة- و قيل ابن اثنتي عشرة سنة و قيل ابن خمس عشرة سنة- و قيل ابن ست عشرة و قيل ابن عشر و قيل ابن ثمان- . قال أبو عمر و ذكر عمر بن شبة عن المدائني- عن ابن جعدة عن نافع عن ابن عمر قال- أسلم علي و هو ابن ثلاث عشرة سنة- . قال و أخبرنا إبراهيم بن المنذر الحرامي قال- حدثنا محمد بن طلحة قال- حدثني جدي إسحاق بن يحيى عن طلحة قال- كان علي بن أبي طالب ع و الزبير بن العوام- و طلحة بن عبيد الله و سعد بن أبي وقاص أعمارا واحدة- . قال و أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال- حدثنا إسماعيل بن علي الخطبي قال- حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال- حدثنا حجين أبو عمر قال- حدثنا حبان عن معروف عن أبي معشر قال- كان علي ع و طلحة و الزبير في سن واحدة- .

قال و روى عبد الرزاق عن الحسن و غيره- أن أول من أسلم بعد خديجة علي بن أبي طالب ع- و هو ابن خمس عشرة سنة أو ست عشرة- . قال أبو عمر و روى أبو زيد عمر بن شبة قال- حدثنا شريح بن النعمان قال حدثنا الفرات بن السائب- عن ميمون بن مهران عن ابن عمر قال- أسلم علي و هو ابن ثلاث عشرة سنة- و توفي و هو ابن ثلاث و ستين سنة- . قال أبو عمر هذا أصح ما قيل في ذلك و الله أعلم- . انتهى حكاية كلام أبي عمر في كتاب الإستيعاب- . و اعلم أن شيوخنا المتكلمين لا يكادون- يختلفون في أن أول الناس إسلاما علي بن أبي طالب ع- إلا من عساه خالف في ذلك من أوائل البصريين- فأما الذي تقررت المقالة عليه الآن- فهو القول بأنه أسبق الناس إلى الإيمان- لا تكاد تجد اليوم في تصانيفهم- و عند متكلميهم و المحققين منهم خلافا في ذلك- . و اعلم أن أمير المؤمنين ع ما زال يدعي ذلك لنفسه- و يفتخر به و يجعله في أفضليته على غيره و يصرح بذلك- و قد قال غير مرة أنا الصديق الأكبر و الفاروق الأول- أسلمت قبل إسلام أبي بكر و صليت قبل صلاته- . و روى عنه هذا الكلام بعينه أبو محمد بن قتيبة- في كتاب المعارف و هو غير متهم في أمره- .و من الشعر المروي عنه ع في هذا المعنى- الأبيات التي أولها

محمد النبي أخي و صهري
و حمزة سيد الشهداء عمي‏

و من جملتها-

سبقتكم إلى الإسلام طرا
غلاما ما بلغت أوان حلمي‏

و الأخبار الواردة في هذا الباب كثيرة جدا- لا يتسع هذا الكتاب لذكرها فلتطلب من مظانها- . و من تأمل كتب السير و التواريخ- عرف من ذلك ما قلناه- . فأما الذاهبون- إلى أن أبا بكر أقدمهما إسلاما فنفر قليلون- و نحن نذكر ما أورده ابن عبد البر أيضا- في كتاب الإستيعاب في ترجمة أبي بكر- . قال أبو عمر حدثني خالد بن القاسم قال- حدثنا أحمد بن محبوب قال حدثنا محمد بن عبدوس قال- حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا شيخ لنا قال- أخبرنا مجالد عن الشعبي قال سألت ابن عباس أو سئل- أي الناس كان أول إسلاما- فقال أ ما سمعت قول حسان بن ثابت-

إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة
فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا

خير البرية أتقاها و أعدلها
بعد النبي و أوفاها بما حملا

و الثاني التالي المحمود مشهده
و أول الناس منهم صدق الرسلا

و يروى أن النبي ص قال لحسان- هل قلت في أبي بكر شيئا قال نعم- و أنشده هذه الأبيات و فيها بيت رابع-

و ثاني اثنين في الغار المنيف و قد
طاف العدو به إذ صعدوا الجبلا

فسر بذلك رسول الله ص و قال- أحسنت يا حسان و قد روي فيها بيت خامس

و كان حب رسول الله قد علموا
من البرية لم يعدل به رجلا

و قال أبو عمر و روى شعبة عن عمرو بن مرة- عن إبراهيم النخعي قال أول من أسلم أبو بكر- . قال و روى الجريري عن أبي نصر قال- قال أبو بكر لعلي ع أنا أسلمت قبلك- في حديث ذكره فلم ينكره عليه- . قال أبو عمر و قال فيه أبو محجن الثقفي-

و سميت صديقا و كل مهاجر
سواك يسمى باسمه غير منكر

سبقت إلى الإسلام و الله شاهد
و كنت جليسا بالعريش المشهر

و بالغار إذ سميت خلا و صاحبا
و كنت رفيقا للنبي المطهر

قال أبو عمر و روينا من وجوه عن أبي أمامة الباهلي قال حدثني عمرو بن عبسة قال أتيت رسول الله ص و هو نازل بعكاظ- فقلت يا رسول الله ص من اتبعك على هذا الأمر فقال- حر و عبد أبو بكر و بلال قال فأسلمت عند ذلك- و ذكر الحديث- . هذا مجموع ما ذكره أبو عمر بن عبد البر- في هذا الباب في ترجمة أبي بكر- و معلوم أنه لا نسبة لهذه الروايات إلى الروايات التي- ذكرها في ترجمة علي ع الدالة على سبقه- و لا ريب أن الصحيح ما ذكره أبو عمر- أن عليا ع كان هو السابق- و أن أبا بكر هو أول من أظهر إسلامه فظن أن السبق له- . و أما زيد بن حارثة- فإن أبا عمر بن عبد البر رضي الله تعالى عنه- ذكر في كتاب الإستيعاب أيضا في ترجمة زيد بن حارثة- قال ذكر معمر بن شبة في جامعه عن الزهري أنه قال- ما علمنا أحدا أسلم قبل زيد بن حارثة- .قال عبد الرزاق و ما أعلم أحدا ذكره غير الزهري- . و لم يذكر صاحب الإستيعاب- ما يدل على سبق زيد إلا هذه الرواية و استغربها- فدل مجموع ما ذكرناه أن عليا ع أول الناس إسلاما- و أن المخالف في ذلك شاذ و الشاذ لا يعتد به

فصل فيما ذكر من سبق علي إلى الهجرة

المسألة السابعة- أن يقال كيف قال إنه سبق إلى الهجرة- و معلوم أن جماعة من المسلمين هاجروا قبله- منهم عثمان بن مظعون و غيره- و قد هاجر أبو بكر قبله لأنه هاجر في صحبة النبي ص- و تخلف علي ع عنهما فبات على فراش رسول الله ص- و مكث أياما يرد الودائع التي كانت عنده- ثم هاجر بعد ذلك- . و الجواب أنه ع لم يقل و سبقت كل الناس إلى الهجرة- و إنما قال و سبقت فقط- و لا يدل ذلك على سبقه للناس كافة- و لا شبهة أنه سبق معظم المهاجرين إلى الهجرة- و لم يهاجر قبله أحد إلا نفر يسير جدا- . و أيضا فقد قلنا إنه علل أفضليته- و تحريم البراءة منه مع الإكراه بمجموع أمور- منها ولادته على الفطرة و منها سبقه إلى الإيمان- و منها سبقه إلى الهجرة- و هذه الأمور الثلاثة لم تجتمع لأحد غيره- فكان بمجموعها متميزا عن كل أحد من الناس- .

و أيضا فإن اللام في الهجرة- يجوز ألا تكون للمعهود السابق بل تكون للجنس- و أمير المؤمنين ع سبق أبا بكر و غيره- إلى الهجرة التي قبل هجرة المدينة- فإن النبي ص هاجر عن مكة مرارا- يطوف على أحياء العرب و ينتقل من‏ أرض قوم إلى غيرها- و كان علي ع معه دون غيره- . أما هجرته إلى بني شيبان- فما اختلف أحد من أهل السيرة- أن عليا ع كان معه هو و أبو بكر- و أنهم غابوا عن مكة ثلاثة عشر يوما و عادوا إليها- لما لم يجدوا عند بني شيبان ما أرادوه من النصرة- .

و روى المدائني في كتاب الأمثال عن المفضل الضبي- أن رسول الله ص لما خرج عن مكة- يعرض نفسه على قبائل العرب- خرج إلى ربيعة و معه علي ع و أبو بكر- فدفعوا إلى مجلس من مجالس العرب- فتقدم أبو بكر و كان نسابة فسلم فردوا عليه السلام فقال- ممن القوم قالوا من ربيعة- قال أ من هامتها أم من لهازمها- قالوا من هامتها العظمى- فقال من أي هامتها العظمى أنتم قالوا من ذهل الأكبر- قال أ فمنكم عوف الذي يقال له لا حر بوادي عوف قالوا لا- قال أ فمنكم بسطام ذو اللواء و منتهى الأحياء قالوا لا- قال أ فمنكم جساس حامي الذمار و مانع الجار قالوا لا- قال أ فمنكم الحوفزان- قاتل الملوك و سالبها أنفسها قالوا لا- قال أ فمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة قالوا لا- قال أ فأنتم أخوال الملوك من كندة قالوا لا- قال فلستم إذن ذهلا الأكبر أنتم ذهل الأصغر- فقام إليه غلام قد بقل وجهه اسمه دغفل فقال-

إن على سائلنا أن نسأله
و العب‏ء لا تعرفه أو تحمله‏

يا هذا إنك قد سألتنا فأجبناك و لم نكتمك شيئا- فممن الرجل قال من قريش قال بخ بخ- أهل الشرف و الرئاسة فمن أي قريش أنت- قال من تيم بن مرة قال أمكنت و الله الرامي من الثغرة- أ منكم قصي بن كلاب الذي جمع القبائل من فهر- فكان يدعى مجمعا قال لا- قال أ فمنكم هاشم الذي هشم لقومه الثريد قال لا- قال أ فمنكم شيبة الحمد مطعم طير السماء قال لا- قال أ فمن المفيضين بالناس أنت قال لا- قال أ فمن أهل الندوة أنت قال لا- قال أ فمن أهل الرفادة أنت قال لا- قال أ فمن أهل الحجابة أنت قال لا- قال أ فمن أهل السقاية قال لا- قال فاجتذب أبو بكر زمام ناقته- و رجع إلى رسول الله ص هاربا من الغلام فقال دغفل-

صادف درء السيل درء يصدعه‏

أما و الله لو ثبت لأخبرتك أنك من زمعات قريش- فتبسم رسول الله ص-و قال علي ع لأبي بكر لقد وقعت يا أبا بكر من الأعرابي على باقعة- قال أجل إن لكل طامة طامة- و البلاء موكل بالمنطق فذهبت مثلا- . و أما هجرته ص إلى الطائف- فكان معه علي ع و زيد بن‏ 
حارثة- في رواية أبي الحسن المدائني و لم يكن معهم أبو بكر- و أما رواية محمد بن إسحاق فإنه قال- كان معه زيد بن حارثة وحده- و غاب رسول الله ص عن مكة في هذه الهجرة أربعين يوما- و دخل إليها في جوار مطعم بن عدي- .

و أما هجرته ص إلى بني عامر بن صعصعة- و إخوانهم من قيس عيلان فإنه لم يكن معه إلا علي ع وحده- و ذلك عقيب وفاة أبي طالب أوحي إليه ص أخرج منها- فقد مات ناصرك فخرج إلى بني عامر بن صعصعة- و معه علي ع وحده فعرض نفسه عليهم و سألهم النصر- و تلا عليهم القرآن فلم يجيبوه فعادا ع إلى مكة- و كانت مدة غيبته في هذه الهجرة عشرة أيام- و هي أول هجرة هاجرها ص بنفسه- . فأما أول هجرة هاجرها أصحابه- و لم يهاجر بنفسه فهجرة الحبشة- هاجر فيها كثير من أصحابه ع إلى بلاد الحبشة في البحر- منهم جعفر بن أبي طالب ع فغابوا عنه سنين- ثم قدم عليه منهم من سلم و طالت أيامه- و كان قدوم جعفر عليه عام فتح خيبر-
فقال ص ما أدري بأيهما أنا أسر أ بقدوم جعفر أم بفتح خيبر

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 4 

خطبه 55 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

55 و من كلام له ع

وَ لَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ص- نَقْتُلُ آبَاءَنَا وَ أَبْنَاءَنَا وَ إِخْوَانَنَا وَ أَعْمَامَنَا- مَا يَزِيدُنَا ذَلِكَ إِلَّا إِيمَاناً وَ تَسْلِيماً- وَ مُضِيّاً عَلَى اللَّقْمِ وَ صَبْراً عَلَى مَضَضِ الْأَلَمِ- وَ جِدّاً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ- وَ لَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا وَ الآْخَرُ مِنْ عَدُوِّنَا- يَتَصَاوَلَانِ تَصَاوُلَ الْفَحْلَيْنِ يَتَخَالَسَانِ أَنْفُسَهُمَا- أَيُّهُمَا يَسْقِي صَاحِبَهُ كَأْسَ الْمَنُونِ- فَمَرَّةً لَنَا مِنْ عَدُوِّنَا وَ مَرَّةً لِعَدُوِّنَا مِنَّا- فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ صِدْقَنَا أَنْزَلَ بِعَدُوِّنَا الْكَبْتَ- وَ أَنْزَلَ عَلَيْنَا النَّصْرَ- حَتَّى اسْتَقَرَّ الْإِسْلَامُ مُلْقِياً جِرَانَهُ وَ مُتَبَوِّئاً أَوْطَانَهُ- وَ لَعَمْرِي لَوْ كُنَّا نَأْتِي مَا أَتَيْتُمْ- مَا قَامَ لِلدِّينِ عَمُودٌ وَ لَا اخْضَرَّ لِلْإِيمَانِ عُودٌ- وَ ايْمُ اللَّهِ لَتَحْتَلِبُنَّهَا دَماً وَ لَتُتْبِعُنَّهَا نَدَماً لقم الطريق الجادة الواضحة منها- و المضض لذع الألم و برحاؤه- و التصاول أن يحمل كل واحد من القرنين على صاحبه- و التخالس التسالب و الانتهاب- و الكبت الإذلال و جران البعير مقدم عنقه- و تبوأت المنزل نزلته- و يقال لمن أسرف في الأمر لتحتلبن دما- و أصله الناقة يفرط في حلبها فيحلب الحالب الدم- .

و هذه ألفاظ مجازية من باب الاستعارة و هي- . قوله استقر الإسلام ملقيا جرانه أي ثابتا متمكنا- كالبعير يلقي جرانه على الأرض- . و قوله متبوئا أوطانه- جعله كالجسم المستقر في وطنه و مكانه- . و قوله ما قام للدين عمود- جعله كالبيت القائم على العمد- . و قوله و لا اخضر للإيمان عود- جعله كالشجرة ذات الفروع و الأغصان- . فأما قتلهم الأقارب في ذات الله فكثير- قتل علي ع الجم الغفير من بني عبد مناف- و بني عبد الدار في يوم بدر و أحد و هم عشيرته و بنو عمه- و قتل عمر بن الخطاب يوم بدر- خاله العاص بن هشام بن المغيرة- و قتل حمزة بن عبد المطلب شيبة بن ربيعة يوم بدر- و هو ابن عمه لأنهما ابنا عبد مناف- و مثل ذلك كثير مذكور في كتب السيرة- . و أما كون الرجل منهم و قرنه يتصاولان و يتخالسان- فإن الحال كذلك كانت- بارز علي ع الوليد بن عتبة- و بارز طلحة بن أبي طلحة و بارز عمرو بن عبد ود- و قتل هؤلاء الأقران مبارزة- و بارز كثيرا من الأبطال غيرهم و قتلهم- و بارز جماعة من شجعان الصحابة جماعة من المشركين- فمنهم من قتل و منهم من قتل- و كتب المغازي تتضمن تفصيل ذلك

فتنة عبد الله بن الحضرمي بالبصرة

و هذا الكلام قاله أمير المؤمنين ع في قصة ابن الحضرمي- حيث قدم البصرة من قبل معاوية- و استنهض أمير المؤمنين ع أصحابه إلى البصرة- فتقاعدوا- . قال أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال الثقفي- في كتاب الغارات‏حدثنا محمد بن يوسف قال- حدثنا الحسن بن علي الزعفراني- عن محمد بن عبد الله بن عثمان عن ابن أبي سيف- عن يزيد بن حارثة الأزدي عن عمرو بن محصن- أن معاوية لما أصاب محمد بن أبي بكر بمصر و ظهر عليها- دعا عبد الله بن عامر الحضرمي فقال له سر إلى البصرة- فإن جل أهلها يرون رأينا في عثمان و يعظمون قتله- و قد قتلوا في الطلب بدمه- فهم موتورون حنقون لما أصابهم- ودوا لو يجدون من يدعوهم و يجمعهم- و ينهض بهم في الطلب بدم عثمان- و احذر ربيعة و انزل في مضر و تودد الأزد- فإن الأزد كلها معك إلا قليلا منهم- و إنهم إن شاء الله غير مخالفيك- .

فقال عبد الله بن الحضرمي له إنا سهم في كنانتك- و أنا من قد جربت و عدو أهل حربك- و ظهيرك على قتلة عثمان فوجهني إليهم متى شئت- فقال اخرج غدا إن شاء الله فودعه و خرج من عنده- . فلما كان الليل جلس معاوية و أصحابه يتحدثون- فقال لهم معاوية في أي منزل ينزل القمر الليلة- فقالوا بسعد الذابح فكره معاوية ذلك- و أرسل إليه ألا تبرح حتى يأتيك أمري فأقام- . و رأى معاوية أن يكتب إلى عمرو بن العاص- و هو يومئذ بمصر عامله عليها- يستطلع رأيه في ذلك فكتب إليه- و قد كان تسمى بإمرة المؤمنين بعد يوم صفين- و بعد تحكيم الحكمين- من عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص- سلام عليك أما بعد- فإني قد رأيت رأيا هممت بإمضائه- و لم يخذلني عنه إلا استطلاع رأيك- فإن توافقني أحمد الله و أمضه- و إن تخالفني فإني أستخير الله و أستهديه- إني نظرت في أمر أهل البصرة- فوجدت معظم أهلها لنا وليا و لعلي و شيعته عدوا- و قد أوقع بهم علي الوقعة التي علمت- فأحقاد تلك الدماء ثابتة في صدورهم لا تبرح و لا تريم- و قد علمت أن قتلنا ابن أبي بكر- و وقعتنا بأهل مصر قد أطفأت نيران أصحاب علي في الآفاق- و رفعت رءوس أشياعنا أينما كانوا من البلاد- و قد بلغ من كان بالبصرة- على مثل رأينا من ذلك ما بلغ الناس- و ليس أحد ممن يرى رأينا أكثر عددا- و لا أضر خلافا على علي من أولئك- فقد رأيت أن أبعث إليهم عبد الله بن عامر الحضرمي- فينزل في مضر و يتودد الأزد و يحذر ربيعة- و يبتغي دم ابن عفان و يذكرهم وقعة علي بهم- التي أهلكت صالحي إخوانهم و آبائهم و أبنائهم- فقد رجوت عند ذلك- أن يفسد على علي و شيعته ذلك الفرج من الأرض- و متى يؤتوا من خلفهم و أمامهم يضل سعيهم و يبطل كيدهم- فهذا رأيي فما رأيك- فلا تحبس رسولي إلا قدر مضي الساعة التي- ينتظر فيها جواب كتابي هذا- أرشدنا الله و إياك- و السلام عليك و رحمة الله و بركاته- .

فكتب عمرو بن العاص إلى معاوية- . أما بعد فقد بلغني رسولك و كتابك- فقرأته و فهمت رأيك الذي رأيته فعجبت له- و قلت إن الذي ألقاه في روعك- و جعله في نفسك هو الثائر بابن عفان و الطالب بدمه- و إنه لم يك منك و لا منا- منذ نهضنا في هذه الحروب و بادينا أهلها- و لا رأى الناس رأيا أضر على عدوك- و لا أسر لوليك من هذا الأمر الذي ألهمته- فامض رأيك مسددا- فقد وجهت الصليب الأريب الناصح غير الظنين و السلام- .

فلما جاءه كتاب عمرو دعا ابن الحضرمي- و قد كان ظن حين تركه معاوية أياما لا يأمره بالشخوص- أن معاوية قد رجع عن إشخاصه إلى ذلك الوجه فقال- يا ابن الحضرمي سر على بركة الله إلى أهل البصرة- فانزل في مضر و احذر ربيعة و تودد الأزد و انع ابن عفان- و ذكرهم الوقعة التي أهلكتهم- و من لمن سمع و أطاع دنيا لا تفنى- و أثرة لا يفقدها حتى يفقدنا أو نفقده- . فودعه ثم خرج من عنده و قد دفع إليه كتابا- و أمره إذا قدم أن يقرأه على الناس- . قال عمرو بن محصن فكنت معه حين خرج- فلما خرجنا سرنا ما شاء الله أن نسير- فسنح لنا ظبي أعضب عن شمائلنا فنظرت إليه- فو الله لرأيت الكراهية في وجهه- ثم مضينا حتى نزلنا البصرة في بني تميم- فسمع بقدومنا أهل البصرة- فجاءنا كل من يرى رأي عثمان- فاجتمع إلينا رءوس أهلها- فحمد الله ابن الحضرمي و أثنى عليه ثم قال- أما بعد أيها الناس- فإن إمامكم إمام الهدى عثمان بن عفان- قتله علي بن أبي طالب ظلما- فطلبتم بدمه و قاتلتم من قتله- فجزاكم الله من أهل مصر خيرا- و قد أصيب منكم الملأ الأخيار- و قد جاءكم الله بإخوان لكم- لهم بأس يتقى و عدد لا يحصى- فلقوا عدوكم الذين قتلوكم- فبلغوا الغاية التي أرادوا صابرين- و رجعوا و قد نالوا ما طلبوا فمالئوهم و ساعدوهم- و تذكروا ثاركم لتشفوا صدوركم من عدوكم- . فقام إليه الضحاك بن عبد الله الهلالي فقال- قبح الله ما جئتنا به و ما دعوتنا إليه- جئتنا و الله بمثل ما جاء به صاحباك طلحة و الزبير- أتيانا و قد بايعنا عليا و اجتمعنا له- فكلمتنا واحدة و نحن على سبيل مستقيم- فدعوانا إلى الفرقة و قاما فينا بزخرف القول- حتى ضربنا بعضنا ببعض عدوانا و ظلما- فاقتتلنا على ذلك و ايم الله- ما سلمنا من عظيم وبال‏ ذلك- و نحن الآن مجمعون على بيعة هذا العبد الصالح الذي- أقال العثرة و عفا عن المسي‏ء- و أخذ بيعة غائبنا و شاهدنا- أ فتأمرنا الآن أن نختلع أسيافنا من أغمادها- ثم يضرب بعضنا بعضا- ليكون معاوية أميرا و تكون له وزيرا- و نعدل بهذا الأمر عن علي- و الله ليوم من أيام علي مع رسول الله ص خير- من بلاء معاوية و آل معاوية لو بقوا في الدنيا- ما الدنيا باقية- .

فقام عبد الله بن خازم السلمي فقال للضحاك اسكت- فلست بأهل أن تتكلم في أمر العامة- ثم أقبل على ابن الحضرمي فقال نحن يدك و أنصارك- و القول ما قلت و قد فهمنا عنك فادعنا أنى شئت- فقال الضحاك لابن خازم يا ابن السوداء- و الله لا يعز من نصرت و لا يذل بخذلانك من خذلت فتشاتما- . قال صاحب كتاب الغارات- و الضحاك هذا هو الذي يقول-

يا أيهذا السائلي عن نسبي
بين ثقيف و هلال منصبي‏
أمي أسماء و ضحاك أبي‏

قال و هو القائل في بني العباس-

ما ولدت من ناقة لفحل
في جبل نعلمه و سهل‏

كستة من بطن أم الفضل‏
أكرم بها من كهلة و كهل‏

عم النبي المصطفى ذي الفضل
و خاتم الأنبياء بعد الرسل‏

قال فقام عبد الرحمن بن عمير بن عثمان القرشي- ثم التيمي فقال عباد الله- إنا لم ندعكم إلى الاختلاف و الفرقة- و لا نريد أن تقتتلوا و لا تتنابزوا- و لكنا إنما ندعوكم إلى أن تجمعوا كلمتكم- و توازروا إخوانكم الذين هم على رأيكم- و أن تلموا شعثكم‏ و تصلحوا ذات بينكم- فمهلا مهلا رحمكم الله- استمعوا لهذا الكتاب- و أطيعوا الذي يقرأ عليكم- . ففضوا كتاب معاوية و إذا فيه- من عبد الله معاوية أمير المؤمنين- إلى من قرئ كتاب هذا عليه من المؤمنين- و المسلمين من أهل البصرة- . سلام عليكم أما بعد- فإن سفك الدماء بغير حلها- و قتل النفوس التي حرم الله قتلها- هلاك موبق و خسران مبين- لا يقبل الله ممن سفكها صرفا و لا عدلا- و قد رأيتم رحمكم الله آثار ابن عفان و سيرته- و حبه للعافية و معدلته و سده للثغور- و إعطاءه في الحقوق و إنصافه للمظلوم و حبه الضعيف- حتى توثب عليه المتوثبون و تظاهر عليه الظالمون- فقتلوه مسلما محرما ظمآن صائما لم يسفك فيهم دما- و لم يقتل منهم أحدا و لا يطلبونه بضربة سيف و لا سوط- و إنما ندعوكم أيها المسلمون إلى الطلب بدمه- و إلى قتال من قتله- فإنا و إياكم على أمر هدى واضح و سبيل مستقيم- إنكم إن جامعتمونا طفئت النائرة- و اجتمعت الكلمة و استقام أمر هذه الأمة- و أقر الظالمون المتوثبون الذين قتلوا إمامهم بغير حق- فأخذوا بجرائرهم و ما قدمت أيديهم- إن لكم أن أعمل فيكم بالكتاب- و أن أعطيكم في السنة عطاءين- و لا أحتمل فضلا من فيئكم عنكم أبدا- .

فسارعوا إلى ما تدعون إليه رحمكم الله- و قد بعثت إليكم رجلا من الصالحين- كان من أمناء خليفتكم المظلوم ابن عفان و عماله- و أعوانه على الهدى و الحق- جعلنا الله و إياكم ممن يجيب إلى الحق و يعرفه- و ينكر الباطل و يجحده و السلام عليكم و رحمة الله- .

قال فلما قرئ عليهم الكتاب- قال معظمهم سمعنا و أطعنا- . قال و روى محمد بن عبد الله بن عثمان عن علي- عن أبي زهير عن أبي منقر الشيباني قال- قال الأحنف لما قرئ عليهم كتاب معاوية- أما أنا فلا ناقة لي في هذا و لا جمل و أعتزل أمرهم ذلك- .

و قال عمرو بن مرجوم من عبد القيس- أيها الناس الزموا طاعتكم و لا تنكثوا بيعتكم- فتقع بكم واقعة و تصيبكم قارعة- و لا يكن بعدها لكم بقية- ألا إني قد نصحت لكم و لكن لا تحبون الناصحين- . قال إبراهيم بن هلال و روى محمد بن عبد الله- عن ابن أبي سيف عن الأسود بن قيس عن ثعلبة بن عباد- أن الذي كان سدد لمعاوية رأيه- في تسريح ابن الحضرمي كتاب- كتبه إليه عباس بن ضحاك العبدي- و هو ممن كان يرى رأي عثمان- و يخالف قومه في حبهم عليا ع و نصرتهم إياه- و كان الكتاب- .

أما بعد فقد بلغنا وقعتك بأهل مصر- الذين بغوا على إمامهم و قتلوا خليفتهم طمعا و بغيا- فقرت بذلك العيون و شفيت بذلك النفوس- و بردت أفئدة أقوام كانوا لقتل عثمان كارهين- و لعدوه مفارقين و لكم موالين و بك راضين- فإن رأيت أن تبعث إلينا أميرا طيبا- ذكيا ذا عفاف و دين إلى الطلب بدم عثمان فعلت- فإني لا إخال الناس إلا مجمعين عليك- و إن ابن عباس غائب عن المصر و السلام- . قال فلما قرأ معاوية كتابه قال- لا عزمت رأيا سوى ما كتبت به إلي هذا و كتب إليه جوابه- . أما بعد فقد قرأت كتابك- فعرفت نصيحتك و قبلت مشورتك رحمك الله و سددك- اثبت هداك الله على رأيك الرشيد- فكأنك بالرجل الذي سألت قد أتاك- و كأنك بالجيش قد أطل عليك فسررت و حبيت و السلام- .

قال إبراهيم و حدثنا محمد بن عبد الله قال حدثني علي بن أبي سيف عن أبي زهيرقال- لما نزل ابن الحضرمي في بني تميم- أرسل إلى الرءوس فأتوه- فقال لهم أجيبوني إلى الحق و انصروني على هذا الأمر- . قال و إن الأمير بالبصرة يومئذ زياد بن عبيد- قد استخلفه عبد الله بن عباس- و قدم على علي ع إلى الكوفة يعزيه عن محمد بن أبي بكر- قال فقام إليه ابن ضحاك فقال- إي و الذي له أسعى و إياه أخشى- لننصرنك بأسيافنا و أيدينا- . و قام المثنى بن مخرمة العبدي فقال- لا و الذي لا إله إلا هو- لئن لم ترجع إلى مكانك الذي أقبلت منه- لنجاهدنك بأسيافنا و أيدينا و نبالنا و أسنة رماحنا- نحن ندع ابن عم رسول الله ص و سيد المسلمين- و ندخل في طاعة حزب من الأحزاب طاغ- و الله لا يكون ذلك أبدا حتى نسير كتيبة- و نفلق السيوف بالهام- . فأقبل ابن الحضرمي على صبرة بن شيمان الأزدي فقال- يا صبرة أنت رأس قومك و عظيم من عظماء العرب- و أحد الطلبة بدم عثمان رأينا رأيك و رأيك رأينا- و بلاء القوم عندك في نفسك و عشيرتك ما قد ذقت و رأيت- فانصرني و كن من دوني- فقال له إن أنت أتيتني فنزلت في داري نصرتك و منعتك-

فقال إن أمير المؤمنين معاوية أمرني- أن أنزل في قومه من مضر فقال اتبع ما أمرك به- . و انصرف من عنده و أقبل الناس إلى ابن الحضرمي- و كثر تبعه ففزع لذلك زياد و هاله و هو في دار الإمارة- فبعث إلى الحضين بن المنذر و مالك بن مسمع فدعاهما- فحمد الله و أثنى عليه ثم قال- أما بعد فإنكم أنصار أمير المؤمنين و شيعته و ثقته- و قد جاءكم هذا الرجل بما قد بلغكم- فأجيروني حتى يأتيني أمر أمير المؤمنين و رأيه- .

فأما مالك بن مسمع فقال هذا أمر فيه نظر- أرجع إلى من ورائي و أنظر و أستشير في ذلك- . و أما الحضين بن المنذر فقال نعم- نحن فاعلون و لن نخذلك و لن نسلمك- .فلم ير زياد من القوم ما يطمئن إليه- فبعث إلى صبرة بن شيمان الأزدي فقال- يا ابن شيمان أنت سيد قومك و أحد عظماء هذا المصر- فإن يكن فيه أحد هو أعظم أهله فأنت ذاك- أ فلا تجيرني و تمنعني و تمنع بيت مال المسلمين- فإنما أنا أمين عليه- فقال بلى إن تحملت حتى تنزل في داري منعتك- فقال إني فاعل- . فارتحل ليلا حتى نزل دار صبرة بن شيمان- و كتب إلى عبد الله بن عباس- و لم يكن معاوية ادعى زيادا بعد- لأنه إنما ادعاه بعد وفاة علي ع- . للأمير عبد الله بن عباس من زياد بن عبيد- .

سلام عليك أما بعد- فإن عبد الله بن عامر بن الحضرمي أقبل من قبل معاوية- حتى نزل في بني تميم و نعى ابن عفان و دعا إلى حرب- فبايعه جل أهل البصرة- فلما رأيت ذلك استجرت بالأزد بصبرة بن شيمان- و قومه لنفسي و لبيت مال المسلمين- و رحلت من قصر الإمارة فنزلت فيهم و إن الأزد معي- و شيعة أمير المؤمنين من فرسان القبائل تختلف إلي- و شيعة عثمان تختلف إلى ابن الحضرمي- و القصر خال منا و منهم- فارفع ذلك إلى أمير المؤمنين ليرى فيه رأيه- و أعجل إلي بالذي ترى أن يكون منه فيه- و السلام عليك و رحمة الله و بركاته- . قال فرفع ذلك ابن عباس إلى علي ع- و شاع في الناس بالكوفة ما كان من ذلك- و كانت بنو تميم و قيس و من يرى رأي عثمان- قد أمروا ابن الحضرمي- أن يسير إلى قصر الإمارة حين خلاه زياد- فلما تهيأ لذلك و دعا أصحابه- ركبت الأزد و بعثت إليه و إليهم- إنا و الله لا ندعكم تأتون القصر فتنزلون فيه من لا نرضى- و من نحن له كارهون حتى يأتي رجل لنا و لكم رضا- فأبى أصحاب ابن الحضرمي إلا أن يسيروا إلى القصر- و أبت الأزد إلا أن يمنعوهم- فركب الأحنف فقال لأصحاب ابن الحضرمي- إنكم و الله ما أنتم أحق بقصر الإمارة من القوم- و ما لكم أن تؤمروا عليهم من يكرهونه- فانصرفوا عنهم ففعلوا ثم جاء إلى الأزد فقال- إنه لم يكن ما تكرهون و لا يؤتى إلا ما تحبون- فانصرفوا رحمكم الله ففعلوا- .

قال إبراهيم و حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي سيف- عن الكلبي أن ابن الحضرمي لما أتى البصرة- و دخلها نزل في بني تميم في دار سنبيل- و دعا بني تميم و أخلاط مضر- فقال زياد لأبي الأسود الدؤلي- أ ما ترى ما صغى أهل البصرة إلى معاوية- و ما في الأزد لي مطمع فقال- إن كنت تركتهم لم ينصروك و إن أصبحت فيهم منعوك- .

فخرج زياد من ليلته- فأتى صبرة بن شيمان الحداني الأزدي فأجاره- و قال له حين أصبح يا زياد إنه ليس حسنا بنا- أن تقيم فينا مختفيا أكثر من يومك هذا- فأعد له منبرا و سريرا في مسجد الحدان و جعل له شرطا- و صلى بهم الجمعة في مسجد الحدان- . و غلب ابن الحضرمي على ما يليه من البصرة و جباها- و أجمعت الأزد على زياد- فصعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه ثم قال- يا معشر الأزد- إنكم كنتم أعدائي فأصبحتم أوليائي و أولى الناس بي- و إني لو كنت في بني تميم و ابن الحضرمي فيكم- لم أطمع فيه أبدا و أنتم دونه- فلا يطمع ابن الحضرمي في و أنتم دوني- و ليس ابن آكلة الأكباد في بقية الأحزاب- و أولياء الشيطان بأدنى إلى الغلبة- من أمير المؤمنين في المهاجرين و الأنصار- و قد أصبحت فيكم مضمونا و أمانة مؤداة- و قد رأينا وقعتكم يوم الجمل- فاصبروا مع الحق صبركم مع الباطل- فإنكم لا تحمدون إلا على النجدة و لا تعذرون على الجبن- .

فقام شيمان أبو صبرة و لم يكن شهد يوم الجمل و كان غائبا- فقال يا معشر الأزد-ما أبقت عواقب الجمل عليكم إلا سوء الذكر- و قد كنتم أمس على علي ع فكونوا اليوم له- و اعلموا أن إسلامكم له ذل و خذلانكم إياه عار- و أنتم حي مضماركم الصبر و عاقبتكم الوفاء- فإن سار القوم بصاحبهم فسيروا بصاحبكم- و إن استمدوا معاوية فاستمدوا عليا ع- و إن وادعوكم فوادعوهم- . ثم قام صبرة ابنه فقال يا معشر الأزد- إنا قلنا يوم الجمل نمنع مصرنا و نطيع أمنا- نطلب دم خليفتنا المظلوم فجددنا في القتال- و أقمنا بعد انهزام الناس- حتى قتل منا من لا خير فينا بعده- و هذا زياد جاركم اليوم و الجار مضمون- و لسنا نخاف من علي ما نخاف من معاوية- فهبوا لنا أنفسكم و امنعوا جاركم أو فأبلغوه مأمنه- . فقالت الأزد إنما نحن لكم تبع فأجيروه- فضحك زياد و قال يا صبرة أ تخشون ألا تقوموا لبني تميم- فقال صبرة إن جاءونا بالأحنف جئناهم بأبي صبرة- و إن جاءونا بالحباب جئت أنا- و إن كان فيهم شباب كثير- فقال زياد إنما كنت مازحا- .

فلما رأت بنو تميم أن الأزد قد قامت دون زياد- بعثت إليهم أخرجوا صاحبكم و نحن نخرج صاحبنا- فأي الأميرين غلب علي أو معاوية دخلنا في طاعته- و لا نهلك عامتنا- . فبعث إليهم أبو صبرة- إنما كان هذا يرجى عندنا قبل أن نجيره- و لعمري ما قتل زياد و إخراجه إلا سواء- و إنكم لتعلمون أنا لم نجره إلا كرما فالهوا عن هذا- . قال و روى أبو الكنود- أن شبث بن ربعي قال لعلي ع- يا أمير المؤمنين ابعث إلى هذا الحي من تميم- فادعهم إلى طاعتك و لزوم بيعتك- و لا تسلط عليهم أزد عمان البعداء البغضاء- فإن واحدا من قومك خير لك من عشرة من غيرهم- .

فقال له مخنف بن سليم الأزدي- إن البعيد البغيض من عصى الله- و خالف أمير المؤمنين و هم قومك- و إن الحبيب القريب من أطاع الله- و نصر أمير المؤمنين و هم قومي- و أحدهم خير لأمير المؤمنين من عشرة من قومك- .

فقال أمير المؤمنين ع مه تناهوا أيها الناس- و ليردعكم الإسلام و وقاره عن التباغي و التهاذي- و لتجتمع كلمتكم- و الزموا دين الله الذي لا يقبل من أحد غيره- و كلمة الإخلاص التي هي قوام الدين- و حجة الله على الكافرين- و اذكروا إذ كنتم قليلا مشركين متباغضين متفرقين- فألف بينكم بالإسلام فكثرتم و اجتمعتم و تحاببتم- فلا تفرقوا بعد إذ اجتمعتم- و لا تتباغضوا بعد إذ تحاببتم- و إذا رأيتم الناس بينهم النائرة- و قد تداعوا إلى العشائر و القبائل- فاقصدوا لهامهم و وجوههم بالسيف حتى يفزعوا إلى الله- و إلى كتابه و سنة نبيه- فأما تلك الحمية من خطرات الشياطين فانتهوا عنها- لا أبا لكم تفلحوا و تنجحوا- ثم إنه ع دعا أعين بن ضبيعة المجاشعي- و قال يا أعين أ لم يبلغك أن قومك وثبوا على عاملي- مع ابن الحضرمي بالبصرة- يدعون إلى فراقي و شقاقي- و يساعدون الضلال القاسطين علي- فقال لا تسأ يا أمير المؤمنين- و لا يكن ما تكره ابعثني إليهم- فأنا لك زعيم بطاعتهم و تفريق جماعتهم- و نفي ابن الحضرمي من البصرة أو قتله- قال فاخرج الساعة- . فخرج من عنده و مضى حتى قدم البصرة- .هذه رواية ابن هلال صاحب كتاب الغارات- .

و روى الواقدي أن عليا ع استنفر بني تميم أياما- لينهض منهم إلى البصرة- من يكفيه أمر ابن الحضرمي- و يرد عادية بني تميم الذين أجاروه بها- فلم يجبه أحد فخطبهم و قال- أ ليس من العجب أن ينصرني الأزد و تخذلني مضر- و أعجب من ذلك تقاعد تميم الكوفة بي- و خلاف تميم البصرة علي- و أن أستنجد بطائفة منها- تشخص إلى إخوانها فتدعوهم إلى الرشاد- فإن أجابت و إلا فالمنابذة و الحرب- فكأني أخاطب صما بكما لا يفقهون حوارا و لا يجيبون نداء- كل هذا جبنا عن البأس و حبا للحياة- لقد كنا مع رسول الله ص نقتل آباءنا و أبناءنا- الفصل إلى آخره- .

قال فقام إليه أعين بن ضبيعة المجاشعي فقال- أنا إن شاء الله أكفيك يا أمير المؤمنين هذا الخطب- و أتكفل لك بقتل ابن الحضرمي أو إخراجه عن البصرة- فأمره بالتهيؤ للشخوص فشخص حتى قدم البصرة- . قال إبراهيم بن هلال- فلما قدمها دخل على زياد و هو بالأزد مقيم- فرحب به و أجلسه إلى جانبه- فأخبره بما قال له علي ع و ما رد عليه و ما الذي عليه رأيه- فإنه إذ يكلمه جاءه كتاب من علي ع فيه-من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى زياد بن عبيد سلام عليك أما بعد- فإني قد بعثت أعين بن ضبيعة- ليفرق قومه عن ابن الحضرمي فارقب ما يكون منه- فإن فعل و بلغ من ذلك ما يظن به- و كان في ذلك تفريق تلك الأوباش فهو ما نحب- و إن ترامت الأمور بالقوم إلى الشقاق و العصيان-فانبذ بمن أطاعك إلى من عصاك فجاهدهم- فإن ظهرت فهو ما ظننت و إلا فطاولهم و ماطلهم- فكان كتائب المسلمين قد أطلت عليك- فقتل الله المفسدين الظالمين- و نصر المؤمنين المحقين و السلام- .

فلما قرأه زياد أقرأه أعين بن ضبيعة فقال له- إني لأرجو أن يكفى هذا الأمر إن شاء الله- ثم خرج من عنده فأتى رحله- فجمع إليه رجالا من قومه فحمد الله و أثنى عليه ثم قال- يا قوم على ما ذا تقتلون أنفسكم- و تهريقون دماءكم على الباطل مع السفهاء الأشرار- و إني و الله ما جئتكم حتى عبيت إليكم الجنود- فإن تنيبوا إلى الحق يقبل منكم و يكف عنكم- و إن أبيتم فهو و الله استئصالكم و بواركم- . فقالوا بل نسمع و نطيع فقال- انهضوا الآن على بركة الله عز و جل- فنهض بهم إلى جماعة ابن الحضرمي- فخرجوا إليه مع ابن الحضرمي فصافوه- و واقفهم عامة يومه يناشدهم الله و يقول- يا قوم لا تنكثوا بيعتكم و لا تخالفوا إمامكم- و لا تجعلوا على أنفسكم سبيلا- فقد رأيتم و جربتم- كيف صنع الله بكم عند نكثكم بيعتكم و خلافكم- . فكفوا عنه و لم يكن بينه و بينهم قتال- و هم في ذلك يشتمونه و ينالون منه- فانصرف عنهم و هو منهم منتصف- فلما أوى إلى رحله تبعه عشرة نفر يظن الناس أنهم خوارج- فضربوه بأسيافهم و هو على فراشه- و لا يظن أن الذي كان يكون فخرج يشتد عريانا- فلحقوه في الطريق فقتلوه- فأراد زياد أن يناهض ابن الحضرمي حين قتل أعين- بجماعة من معه من الأزد و غيرهم من شيعة علي ع- فأرسل بنو تميم إلى الأزد- و الله ما عرضنا لجاركم إذ أجرتموه و لا لمال هو له- و لا لأحد ليس على رأينا- فما تريدون‏ إلى حربنا و إلى جارنا- فكان الأزد عند ذلك كرهت قتالهم- . فكتب زياد إلى علي ع أما بعد يا أمير المؤمنين- فإن أعين بن ضبيعة قدم علينا من قبلك- بجد و مناصحة و صدق و يقين- فجمع إليه من أطاعه من عشيرته- فحثهم على الطاعة و الجماعة و حذرهم الخلاف و الفرقة- ثم نهض بمن أقبل معه إلى من أدبر عنه- فواقفهم عامة النهار فهال أهل الخلاف تقدمه- و تصدع عن ابن الحضرمي كثير ممن كان يريد نصرته- فكان كذلك حتى أمسى- فأتى في رحله فبيته نفر من هذه الخارجة المارقة- فأصيب رحمه الله تعالى- فأردت أن أناهض ابن الحضرمي عند ذلك فحدث أمر- قد أمرت صاحب كتابي هذا أن يذكره لأمير المؤمنين- و قد رأيت إن رأى أمير المؤمنين ما رأيت- أن يبعث إليهم جارية بن قدامة فإنه نافذ البصيرة- و مطاع في العشيرة شديد على عدو أمير المؤمنين- فإن يقدم يفرق بينهم بإذن الله- و السلام على أمير المؤمنين و رحمة الله و بركاته- .

فلما جاء الكتاب دعا جارية بن قدامة- فقال له يا ابن قدامة تمنع الأزد عاملي و بيت مالي- و تشاقني مضر و تنابذني- و بنا ابتدأها الله تعالى بالكرامة و عرفها الهدى- و تداعوا إلى المعشر الذين حادوا الله و رسوله- و أرادوا إطفاء نور الله سبحانه- حتى علت كلمة الله و هلك الكافرون- .

فقال يا أمير المؤمنين- ابعثني إليهم و استعن بالله عليهم- قال قد بعثتك إليهم و استعنت بالله عليهم- . قال إبراهيم فحدثنا محمد بن عبد الله قال- حدثني ابن أبي السيف عن سليمان بن أبي راشد- عن كعب بن قعين قال- خرجت مع جارية من الكوفة إلى البصرة-في خمسين رجلا من بني تميم- ما كان فيهم يماني غيري و كنت شديد التشيع- فقلت لجارية إن شئت كنت معك- و إن شئت ملت إلى قومي- فقال بل معي- فو الله لوددت أن الطير و البهائم تنصرني عليهم- فضلا عن الإنس- .

قال و روى كعب بن قعين أن عليا ع كتب مع جارية كتابا- و قال أقرئه على أصحابك قال فمضينا معه- فلما دخلنا البصرة بدأ بزياد- فرحب به و أجلسه إلى جانبه- و ناجاه ساعة و ساءله- ثم خرج فكان أفضل ما أوصاه به أن قال- احذر على نفسك- و اتق أن تلقى ما لقي صاحبك القادم قبلك- . و خرج جارية من عنده فقام في الأزد فقال- جزاكم الله من حي خيرا- ما أعظم غناءكم و أحسن بلاءكم و أطوعكم لأميركم- لقد عرفتم الحق إذ ضيعه من أنكره- و دعوتم إلى الهدى إذ تركه من لم يعرفه- ثم قرأ عليهم و على من كان معه- من شيعة علي ع و غيرهم كتاب علي ع فإذا فيه-من عبد الله علي أمير المؤمنين- إلى من قرئ عليه كتابي هذا من ساكني البصرة- من المؤمنين و المسلمين- سلام عليكم أما بعد- فإن الله حليم ذو أناة- لا يعجل بالعقوبة قبل البينة- و لا يأخذ المذنب عند أول وهلة- و لكنه يقبل التوبة- و يستديم الأناة و يرضي بالإنابة- ليكون أعظم للحجة و أبلغ في المعذرة- و قد كان من شقاق جلكم- أيها الناس ما استحققتم أن تعاقبوا عليه- فعفوت عن مجرمكم- و رفعت السيف عن مدبركم- و قبلت من مقبلكم و أخذت بيعتكم- فإن تفوا ببيعتي و تقبلوا نصيحتي- و تستقيموا على طاعتي- أعمل‏ فيكم بالكتاب و السنة و قصد الحق- و أقم فيكم سبيل الهدى- فو الله ما أعلم أن واليا بعد محمد ص أعلم بذلك مني- و لا أعمل بقولي أقول قولي هذا صادقا- غير ذام لمن مضى و لا منتقصا لأعمالهم- و إن خبطت بكم الأهواء المردية- و سفه الرأي الجائر إلى منابذتي تريدون خلافي- فها أنا ذا قربت جيادي و رحلت ركابي و ايم الله- لئن ألجأتموني إلى المسير إليكم لأوقعن بكم وقعة- لا يكون يوم الجمل عندها إلا كلعقة لاعق- و إني لظان ألا تجعلوا إن شاء الله على أنفسكم سبيلا- و قد قدمت هذا الكتاب إليكم حجة عليكم- و لن أكتب إليكم من بعده كتابا- إن أنتم استغششتم نصيحتي و نابذتم رسولي- حتى أكون أنا الشاخص نحوكم إن شاء الله تعالى و السلام- .

قال فلما قرئ الكتاب على الناس- قام صبرة بن شيمان فقال سمعنا و أطعنا- و نحن لمن حارب أمير المؤمنين حرب و لمن سالم سلم- إن كفيت يا جارية قومك بقومك فذاك- و إن أحببت أن ننصرك نصرناك- . و قام وجوه الناس فتكلموا بمثل ذلك و نحوه- فلم يأذن لأحد منهم أن يسير معه و مضى نحو بني تميم- . فقام زياد في الأزد فقال- يا معشر الأزد- إن هؤلاء كانوا أمس سلما فأصبحوا اليوم حربا- و إنكم كنتم حربا فأصبحتم سلما- و إني و الله ما اخترتكم إلا على التجربة- و لا أقمت فيكم إلا على الأمل- فما رضيتم أن أجرتموني- حتى نصبتم لي منبرا و سريرا- و جعلتم لي شرطا و أعوانا و مناديا و جمعة- فما فقدت بحضرتكم شيئا إلا هذا الدرهم لا أجبيه اليوم- فإن لم أجبه اليوم أجبه غدا إن شاء الله- و اعلموا أن حربكم اليوم معاوية- أيسر عليكم في الدنيا و الدين من حربكم أمس عليا- و قد قدم عليكم جارية بن قدامة- و إنما أرسله علي‏ ليصدع أمر قومه و الله ما هو بالأمير المطاع- و لو أدرك أمله في قومه لرجع إلى أمير المؤمنين- أو لكان لي تبعا و أنتم الهامة العظمى- و الجمرة الحامية فقدموه إلى قومه- فإن اضطر إلى نصركم فسيروا إليه إن رأيتم ذلك- .

فقام أبو صبرة شيمان فقال يا زياد- إني و الله لو شهدت قومي يوم الجمل- رجوت ألا يقاتلوا عليا و قد مضى الأمر بما فيه- و هو يوم بيوم و أمر بأمر- و الله إلى الجزاء بالإحسان- أسرع منه إلى الجزاء بالسيئ- و التوبة مع الحق و العفو مع الندم- و لو كانت هذه فتنة لدعونا القوم إلى إبطال الدماء- و استئناف الأمور و لكنها جماعة دماؤها حرام- و جروحها قصاص و نحن معك نحب ما أحببت- .

فعجب زياد من كلامه و قال ما أظن في الناس مثل هذا- . ثم قام صبرة ابنه فقال- إنا و الله ما أصبنا بمصيبة في دين و لا دنيا- كما أصبنا أمس يوم الجمل و إنا لنرجو اليوم- أن نمحص ذلك بطاعة الله و طاعة أمير المؤمنين- و أما أنت يا زياد فو الله ما أدركت أملك فينا- و لا أدركنا أملنا فيك دون ردك إلى دارك- و نحن رادوك إليها غدا إن شاء الله تعالى- فإذا فعلنا فلا يكن أحد أولى بك منا- فإنك إلا تفعل لم تأت ما يشبهك- و إنا و الله نخاف من حرب علي في الآخرة- ما لا نخاف من حرب معاوية في الدنيا- فقدم هواك و أخر هوانا فنحن معك و طوعك- . ثم قام خنقر الحماني فقال أيها الأمير- إنك لو رضيت منا بما ترضى به من غيرنا- لم نرض ذلك لأنفسنا سر بنا إلى القوم إن شئت- و ايم الله ما لقينا قوما قط- إلا اكتفينا بعفونا دون جهدنا إلا ما كان أمس- .

قال إبراهيم فأما جارية فإنه كلم قومه فلم يجيبوه- و خرج إليه منهم أوباش- فناوشوه بعد أن شتموه و أسمعوه- فأرسل إلى زياد و الأزد- يستصرخهم و يأمرهم أن يسيروا إليه- فسارت الأزد بزياد و خرج إليهم ابن الحضرمي- و على خيله عبد الله بن خازم السلمي فاقتتلوا ساعة- و أقبل شريك بن الأعور الحارثي- و كان من شيعة علي ع و صديقا لجارية بن قدامة فقال- أ لا أقاتل معك عدوك فقال بلى- فما لبثت بنو تميم أن هزموهم- و اضطروهم إلى دار سنبيل السعدي- فحصروا ابن الحضرمي و حدوه- فأتى رجل من بني تميم و معه عبد الله بن خازم السلمي- فجاءت أمه و هي سوداء حبشية اسمها عجلى فنادته- فأشرف عليها فقالت يا بني انزل إلي- فأبى فكشفت رأسها و أبدت قناعها- و سألته النزول فأبى فقالت و الله لتنزلن أو لأتعرين- و أهوت بيدها إلى ثيابها- فلما رأى ذلك نزل فذهبت به- و أحاط جارية و زياد بالدار و قال جارية علي بالنار- فقالت الأزد لسنا من الحريق بالنار في شي‏ء- و هم قومك و أنت أعلم فحرق جارية الدار عليهم- فهلك ابن الحضرمي في سبعين رجلا- أحدهم عبد الرحمن بن عمير بن عثمان القرشي التيمي- و سمي جارية منذ ذلك اليوم محرقا- و سارت الأزد بزياد حتى أوطنوه قصر الإمارة- و معه بيت المال و قالت له- هل بقي علينا من جوارك شي‏ء قال لا قالوا فبرئنا منه- فقال نعم فانصرفوا عنه- و كتب زياد إلى أمير المؤمنين ع- أما بعد فإن جارية بن قدامة العبد الصالح قدم من عندك- فناهض جمع ابن الحضرمي بمن نصره و أعانه من الأزد- ففضه و اضطره إلى دار من دور البصرة في عدد كثير من أصحابه- فلم يخرج حتى حكم الله تعالى بينهما- فقتل ابن الحضرمي و أصحابه- منهم من أحرق بالنار و منهم من ألقي عليه جدار- و منهم من هدم عليه البيت من أعلاه- و منهم من قتل بالسيف- و سلم‏ منهم نفر أنابوا و تابوا- فصفح عنهم و بعدا لمن عصى و غوى- و السلام على أمير المؤمنين و رحمة الله و بركاته- . فلما وصل كتاب زياد قرأه علي ع على الناس- و كان زياد قد أنفذه مع ظبيان بن عمارة- فسر علي ع بذلك و سر أصحابه- و أثنى على جارية و على الأزد و ذم البصرة-فقال إنها أول القرى خرابا أما غرقا و أما حرقا- حتى يبقى مسجدها كجؤجؤ سفينة- ثم قال لظبيان أين منزلك منها فقال مكان كذا فقال- عليك بضواحيها- . و قال ابن العرندس الأزدي يذكر تحريق ابن الحضرمي- و يعير تميما بذلك-

رددنا زيادا إلى داره
و جار تميم ينادي الشجب‏

لحا الله قوما شووا جارهم‏
لعمري لبئس الشواء الشصب‏

ينادي الخناق و أبناءها
و قد شيطوا رأسها باللهب‏

و الخناق لقب قوم بني تميم

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 4 

خطبه 54 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

54 و من كلام له ع- و قد استبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال بصفين

أَمَّا قَوْلُكُمْ أَ كُلَّ ذَلِكَ كَرَاهِيَةَ الْمَوْتِ- فَوَاللَّهِ مَا أُبَالِي- دَخَلْتُ إِلَى الْمَوْتِ أَوْ خَرَجَ الْمَوْتُ إِلَيَّ- وَ أَمَّا قَوْلُكُمْ شَكّاً فِي أَهْلِ الشَّامِ- فَوَاللَّهِ مَا دَفَعْتُ الْحَرْبَ يَوْماً- إِلَّا وَ أَنَا أَطْمَعُ أَنْ تَلْحَقَ بِي طَائِفَةٌ فَتَهْتَدِيَ بِي- وَ تَعْشُوَ إِلَى ضَوْئِي- فَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَهَا عَلَى ضَلَالِهَا- وَ إِنْ كَانَتْ تَبُوءُ بِآثَامِهَا من رواه أ كل ذلك بالنصب- فمفعول فعل مقدر أي تفعل كل ذلك- و كراهية منصوب لأنه مفعول له- و من رواه أ كل ذلك بالرفع- أجاز في كراهية الرفع و النصب- أما الرفع فإنه يجعل كل مبتدأ و كراهية خبره- و أما النصب فيجعلها مفعولا له- كما قلنا في الرواية الأولى- و يجعل خبر المبتدأ محذوفا- و تقديره أ كل هذا مفعول- أو تفعله كراهية للموت- ثم أقسم إنه لا يبالي أ تعرض هو للموت حتى يموت- أم جاءه الموت ابتداء من غير أن يتعرض له- . و عشا إلى النار يعشو- استدل عليها ببصر ضعيف- قال

متى تأته تعشو إلى ضوء ناره
تجد خير نار عندها خير موقد

و هذا الكلام استعارة شبه من عساه- يلحق به من أهل الشام بمن يعشو ليلا إلى النار- و ذلك لأن بصائر أهل الشام ضعيفة- فهم من الاهتداء بهداه ع- كمن يعشو ببصر ضعيف إلى النار في الليل- قال ذاك أحب إلي من أن أقتلهم على ضلالهم- و إن كنت لو قتلتهم على هذه الحالة لباءوا بآثامهم- أي رجعوا قال سبحانه- إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ أي ترجع

من أخبار يوم صفين

لما ملك أمير المؤمنين ع الماء بصفين- ثم سمح لأهل الشام بالمشاركة فيه و المساهمة- رجاء أن يعطفوا إليه و استمالة لقلوبهم- و إظهارا للمعدلة و حسن السيرة فيهم- مكث أياما لا يرسل إلى معاوية- و لا يأتيه من عند معاوية أحد- و استبطأ أهل العراق إذنه لهم في القتال- و قالوا يا أمير المؤمنين- خلفنا ذرارينا و نساءنا بالكوفة- و جئنا إلى أطراف الشام لنتخذها وطنا- ائذن لنا في القتال فإن الناس قد قالوا- قال لهم ع ما قالوا- فقال منهم قائل إن الناس يظنون- أنك تكره الحرب كراهية للموت- و إن من الناس من يظن أنك في شك من قتال أهل الشام-

فقال ع و متى كنت كارها للحرب قط- إن من العجب حبي لها غلاما و يفعا- و كراهيتي لها شيخا بعد نفاد العمر و قرب الوقت- و أما شكي في القوم فلو شككت فيهم- لشككت في أهل البصرة- و الله لقد ضربت هذا الأمر ظهرا و بطنا- فما وجدت يسعني إلا القتال أو أن أعصي الله و رسوله- و لكني أستأني بالقوم- عسى أن يهتدوا أو تهتدي منهم طائفة- فإن‏رسول الله ص قال لي يوم خيبر- لأن يهدي الله بك رجلا واحدا- خير لك مما طلعت عليه الشمس-.

قال نصر بن مزاحم حدثنا محمد بن عبيد الله عن الجرجاني قال فبعث علي ع إلى معاوية بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري- و سعيد بن قيس الهمداني- و شبث بن الربعي التميمي فقال- ائتوا هذا الرجل فادعوه إلى الله عز و جل- و إلى الطاعة و الجماعة و إلى اتباع أمر الله سبحانه- فقال له شبث يا أمير المؤمنين- أ لا تطمعه في سلطان توليه إياه- و منزلة يكون له بها أثره عندك إن هو بايعك- فقال ائتوه الآن و القوه و احتجوا عليه- و انظروا ما رأيه في هذا- . فأتوه فدخلوا عليه- فحمد أبو عمرو بن محصن الله و أثنى عليه و قال- أما بعد يا معاوية فإن الدنيا عنك زائلة- و إنك راجع إلى الآخرة- و إن الله مجازيك بعملك و محاسبك بما قدمت يداك- و إنني أنشدك الله ألا تفرق جماعة هذه الأمة- و ألا تسفك دماءها بينها- فقطع معاوية عليه الكلام و قال فهلا أوصيت صاحبك- فقال سبحان الله إن صاحبي لا يوصى إن صاحبي ليس مثلك- صاحبي أحق الناس بهذا الأمر في الفضل و الدين- و السابقة في الإسلام و القرابة من الرسول- قال معاوية فتقول ما ذا- قال أدعوك إلى تقوى ربك- و إجابة ابن عمك إلى ما يدعوك إليه من الحق- فإنه أسلم لك في دينك و خير لك في عاقبة أمرك- قال و يطل دم عثمان لا و الرحمن لا أفعل ذلك أبدا- .

فذهب سعيد بن قيس يتكلم- فبدره شبث بن الربعي فحمد الله و أثنى عليه- ثم قال يا معاوية قد فهمت ما رددت على ابن محصن- إنه لا يخفى علينا ما تقر و ما تطلب- إنك لا تجد شيئا تستغوي به الناس- و لا شيئا تستميل به أهواءهم- و تستخلص به طاعتهم إلا أن قلت لهم- قتل إمامكم مظلوما فهلموا نطلب بدمه- فاستجاب لك سفهاء طغام رذال- و قد علمنا أنك أبطأت عنه بالنصر- و أحببت له القتل لهذه المنزلة التي تطلب- و رب مبتغ أمرا و طالب له يحول الله دونه- و ربما أوتي المتمني أمنيته و ربما لم يؤتها- و و الله ما لك في واحدة منهما خير- و الله لئن أخطأك ما ترجو أنك لشر العرب حالا- و لئن أصبت ما تتمناه لا تصيبه حتى تستحق صلى النار- فاتق الله يا معاوية و دع ما أنت عليه- و لا تنازع الأمر أهله- .

فحمد معاوية الله و أثنى عليه و قال- أما بعد فإن أول ما عرفت به سفهك و خفة حلمك- قطعك على هذا الحسيب الشريف سيد قومه منطقه- ثم عتبت بعد فيما لا علم لك به- و لقد كذبت و لؤمت أيها الأعرابي الجلف- الجافي في كل ما وصفت و ذكرت- انصرفوا من عندي فإنه ليس بيني و بينكم إلا السيف- . و غضب فخرج القوم و شبث يقول- أ علينا تهول بالسيف أما و الله لنجعلنه إليك- فأتوا عليا ع فأخبروه بالذي كان من قوله- و ذلك في شهر ربيع الآخر- . قال نصر و خرج قراء أهل العراق- و قراء أهل الشام فعسكروا ناحية صفين ثلاثين ألفا- .

قال و عسكر علي ع على الماء- و عسكر معاوية فوقه على الماء أيضا- و مشت القراء فيما بين علي ع و معاوية- منهم عبيدة السلماني- و علقمة بن قيس النخعي- و عبد الله بن عتبة- و عامر بن عبد القيس و قد كان في بعض تلك السواحل- فانصرف إلى عسكر علي ع فدخلوا على معاوية فقالوا- يا معاوية ما الذي تطلب قال أطلب بدم عثمان- قالوا ممن تطلب بدم عثمان قال أطلبه من علي- قالوا و علي قتله قال نعم هو قتله و آوى قتلته- فانصرفوا من عنده فدخلوا على علي ع- فقالوا إن معاوية يزعم أنك قتلت عثمان- قال اللهم لكذب فيما قال لم أقتله- . فرجعوا إلى معاوية فأخبروه- فقال لهم إنه إن لم يكن قتله بيده فقد أمر و مالأ- فرجعوا إلى علي فقالوا إن معاوية يزعم- أنك إن لم تكن قلت بيدك- فقد أمرت و مالأت على قتل عثمان- فقال اللهم لكذب فيما قال- فرجعوا إلى معاوية فقالوا إن عليا يزعم أنه لم يفعل- فقال معاوية إن كان صادقا فليقدنا من قتلة عثمان- فإنهم في عسكره و جنده و أصحابه و عضده- فرجعوا إلى علي ع- فقالوا إن معاوية يقول لك- إن كنت صادقا فادفع إلينا قتلة عثمان أو مكنا منهم- فقال لهم إن القوم تأولوا عليه القرآن- و وقعت الفرقة فقتلوه في سلطانه- و ليس على ضربهم قود فخصم علي معاوية- .

قلت على ضربهم هاهنا على مثلهم- يقال زيد ضرب عمرو و من ضربه- أي مثله و من صنفه- و لا أدري لم عدل ع عن الحجة بما هو أوضح من هذا الكلام- و هو أن يقول إن الذين باشروا قتله بأيديهم كانوا اثنين- و هما قتيرة بن وهب و سودان بن حمران- و كلاهما قتل يوم الدار قتلهما عبيد عثمان- و الباقون الذين هم جندي و عضدي‏ كما تزعمون- لم يقتلوا بأيديهم و إنما أغروا به- و حصروه و أجلبوا عليه و هجموا على داره- كمحمد بن أبي بكر و الأشتر و عمرو بن الحمق و غيرهم- و ليس على مثل هؤلاء قود- . قال نصر فقال لهم معاوية إن كان الأمر كما تزعمون- فلم ابتز الأمر دوننا على غير مشورة منا- و لا ممن هاهنا معنا- فقال علي ع إن الناس تبع المهاجرين و الأنصار- و هم شهود للمسلمين في البلاد على ولاتهم و أمراء دينهم- فرضوا بي و بايعوني- و لست أستحل أن أدع ضرب معاوية يحكم بيده على الأمة- و يركبهم و يشق عصاهم- . فرجعوا إلى معاوية فأخبروه بذلك-

فقال ليس كما يقول- فما بال من هاهنا من المهاجرين و الأنصار- لم يدخلوا في هذا الأمر و يؤامروا فيه- . فانصرفوا إلى علي ع فأخبروه بقوله فقال ويحكم- هذا للبدريين دون الصحابة- ليس في الأرض بدري إلا و قد بايعني و هو معي- أو قد قام و رضي فلا يغرنكم معاوية من أنفسكم و دينكم- . قال نصر فتراسلوا بذلك ثلاثة أشهر- ربيع الآخر و جماديين- و هم مع ذلك يفزعون الفزعة فيما بينهما- فيزحف بعضهم إلى بعض و تحجز القراء بينهم- . قال فزعوا في ثلاثة أشهر خمسا و ثمانين فزعة- كل فزعة يزحف بعضهم إلى بعض- و تحجز القراء بينهم لا يكون بينهم قتال- .

قال نصر و خرج أبو أمامة الباهلي و أبو الدرداء- فدخلا على معاوية و كانا معه فقالا يا معاوية علام تقاتل هذا الرجل- فو الله لهو أقدم منك إسلاما و أحق بهذاالأمر- و أقرب من رسول الله ص فعلام تقاتله- فقال أقاتله على دم عثمان و إنه آوى قتلته- فقولوا له فليقدنا من قتلته- و أنا أول من بايعه من أهل الشام- . فانطلقوا إلى علي ع فأخبروه بقول معاوية- فقال إنما يطلب الذين ترون- فخرج عشرون ألفا أو أكثر متسربلين الحديد- لا يرى منهم إلا الحدق فقالوا كلنا قتله- فإن شاءوا فليروموا ذلك منا- فرجع أبو أمامة و أبو الدرداء فلم يشهدا شيئا من القتال- . قال نصر حتى إذا كان رجب- و خشي معاوية أن يتابع القراء عليا ع أخذ في المكر- و أخذ يحتال للقراء لكيما يحجموا و يكفوا حتى ينظروا- . قال فكتب في سهم من عبد الله الناصح- إني أخبركم أن معاوية يريد أن يفجر عليكم الفرات- فيغرقكم فخذوا حذركم- ثم رمى بالسهم في عسكر علي ع- فوقع السهم في يد رجل فقرأه ثم أقرأه صاحبه- فلما قرأه و قرأته الناس و أقرأه من أقبل و أدبر- قالوا هذا أخ لنا ناصح- كتب إليكم يخبركم بما أراد معاوية- فلم يزل السهم يقرأ و يرتفع حتى رفع إلى علي ع- و قد بعث معاوية مائتي رجل من العملة إلى عاقول من النهر- بأيديهم المرور و الزبل يحفرون فيها بحيال عسكر علي ع- فقال علي ع ويحكم إن الذي يعالج معاوية لا يستقيم له و لا يقوى عليه- إنما يريد أن يزيلكم عن مكانكم فانتهوا عن ذلك- فقالوا له لا ندعهم و الله يحفرون- فقال علي ع لا تكونوا ضعفى ويحكم لا تغلبوني على رأيي- فقالوا و الله لنرتحلن فإن شئت فارتحل و إن شئت فأقم- فارتحلوا و صعدوا بعسكرهم مليا- و ارتحل علي ع في أخريات الناس- و هو يقول‏

فلو أني أطعت عصمت قومي
إلى ركن اليمامة أو شمام‏

و لكني متى أبرمت أمرا
منيت بخلف آراء الطغام‏

قال و ارتحل معاوية حتى نزل معسكر علي ع الذي كان فيه- فدعا علي ع الأشتر- فقال أ لم تغلبني على رأيي أنت و الأشعث فدونكما- فقال الأشعث أنا أكفيك يا أمير المؤمنين- سأداوي ما أفسدت اليوم من ذلك- فجمع كندة فقال لهم يا معشر كندة- لا تفضحوني اليوم و لا تخزوني- فإني إنما أقارع بكم أهل الشام- فخرجوا معه رجاله يمشون- و بيده رمح له يلقيه على الأرض- و يقول امشوا قيد رمحي هذا فيمشون- فلم يزل يقيس لهم الأرض برمحه و يمشون معه رجاله- حتى لقي معاوية وسط بني سليم واقفا على الماء- و قد جاءه أداني عسكره- فاقتتلوا قتالا شديدا على الماء ساعة- و انتهى أوائل أهل العراق فنزلوا- و أقبل الأشتر في خيل من أهل العراق- فحمل على معاوية و الأشعث يحارب في ناحية أخرى- فانحاز معاوية في بني سليم- فرد وجوه إبله قدر ثلاثة فراسخ- ثم نزل و وضع أهل الشام أثقالهم- و الأشعث يهدر و يقول أرضيتك يا أمير المؤمنين- ثم تمثل بقول طرفة بن العبد-

ففداء لبني سعد على
ما أصاب الناس من خير و شر

ما أقلت قدماي إنهم‏
نعم الساعون في الحي الشطر

و لقد كنت عليكم عاتبا
فعقبتم بذنوب غير مر

كنت فيكم كالمغطى رأسه
فانجلى اليوم قناعي و خمر

سادرا أحسب غيي رشدا
فتناهيت و قد صابت بقر

و قال الأشتر- يا أمير المؤمنين قد غلب الله لك على الماء- فقال علي ع أنتما كما قال الشاعر-

تلاقين قيسا و أشياعه
فيوقد للحرب نارا فنارا

أخو الحرب إن لقحت بازلا
سما للعلا و أجل الخطارا

قال نصر فكان كل واحد من علي و معاوية- يخرج الرجل الشريف في جماعة فيقاتل مثله- و كانوا يكرهون- أن يتزاحفوا بجميع الفيلق مخافة الاستئصال و الهلاك- فاقتتل الناس ذا الحجة كله- فلما انقضى تداعوا إلى أن يكف بعضهم عن بعض- إلى أن ينقضي المحرم- لعل الله أن يجري صلحا أو إجماعا- فكف الناس في المحرم بعضهم عن بعض- .

قال نصر حدثنا عمر بن سعد- عن أبي المجاهد عن المحل بن خليفة قال- لما توادعوا في المحرم- اختلفت الرسل فيما بين الرجلين رجاء الصلح- فأرسل علي ع إلى معاوية عدي بن حاتم الطائي- و شبث بن ربعي التميمي و يزيد بن قيس و زياد بن خصفة- فلما دخلوا عليه- حمد الله تعالى عدي بن حاتم الطائي و أثنى عليه ثم قال- أما بعد فإنا أتيناك لندعوك إلى أمر- يجمع الله فيه كلمتنا و أمتنا و يحقن به دماءالمسلمين- ندعوك إلى أفضل الناس سابقة- و أحسنهم في الإسلام آثارا و قد اجتمع إليه الناس- و قد أرشدهم الله بالذي رأوا و أتوا- فلم يبق أحد غيرك و غير من معك- فانته يا معاوية- من قبل أن يصيبك الله و أصحابك بمثل يوم الجمل- .

فقال له معاوية كأنك إنما جئت مهددا و لم تأت مصلحا- هيهات يا عدي إني لابن حرب ما يقعقع لي بالشنان- أما و الله إنك من المجلبين على عثمان- و إنك لمن قتلته و إني لأرجو أن تكون ممن يقتله الله- . فقال له شبث بن ربعي و زياد بن خصفة- و تنازعا كلاما واحدا أتيناك فيما يصلحنا و إياك- فأقبلت تضرب لنا الأمثال- دع ما لا ينفع من القول و الفعل- و أجبنا فيما يعمنا و إياك نفعه- .

و تكلم يزيد بن قيس الأرحبي- فقال إنا لم نأتك إلا لنبلغك ما بعثنا به إليك- و لنؤدي عنك ما سمعنا منك و لم ندع أن ننصح لك- و أن نذكر ما ظننا أن لنا عليك به حجة- أو أنه راجع بك إلى الألفة و الجماعة- إن صاحبنا من قد عرفت و عرف المسلمون فضله- و لا أظنه يخفى عليك- إن أهل الدين و الفضل لا يعدلونك بعلي- و لا يميلون بينك و بينه- فاتق الله يا معاوية و لا تخالف عليا- فإنا و الله ما رأينا رجلا قط أعمل بالتقوى- و لا أزهد في الدنيا و لا أجمع لخصال الخير كلها منه- . فحمد الله معاوية و أثنى عليه- و قال أما بعد فإنكم دعوتم إلى الجماعة و الطاعة- فأما الجماعة التي دعوتم إليها فنعما هي- و أما الطاعة لصاحبكم فإنا لا نراها- إن صاحبكم قتل خليفتنا- و فرق جماعتنا و آوى ثأرنا و قتلتنا- و صاحبكم يزعم أنه لم يقتله- فنحن‏ لا نرد ذلك عليه أ رأيتم قتلة صاحبنا- أ لستم تعلمون أنهم أصحاب صاحبكم- فليدفعهم إلينا فلنقتلهم به- و نحن نجيبكم إلى الطاعة و الجماعة- .

فقال له شبث بن ربعي أ يسرك بالله يا معاوية- إن أمكنت من عمار بن ياسر فقتلته- قال و ما يمنعني من ذلك- و الله لو أمكنني صاحبكم من ابن سمية ما قتلته بعثمان- و لكني كنت أقتله بنائل مولى عثمان- . فقال شبث و إله السماء ما عدلت معدلا- و لا و الذي لا إله إلا هو- لا تصل إلى قتل ابن ياسر حتى تندر الهام عن كواهل الرجال- و تضيق الأرض الفضاء عليك برحبها- . فقال معاوية إنه إذا كان ذلك كانت عليك أضيق- . ثم رجع القوم عن معاوية- فبعث إلى زياد بن خصفة من بينهم فأدخل عليه- فحمد معاوية الله و أثنى عليه- ثم قال أما بعد يا أخا ربيعة فإن عليا قطع أرحامنا- و قتل إمامنا و آوى قتلة صاحبنا- و إني أسألك النصرة بأسرتك و عشيرتك- و لك علي عهد الله و ميثاقه إذا ظهرت- أن أوليك أي المصرين أحببت- .

قال أبو المجاهد- فسمعت زياد بن خصفة يحدث بهذا الحديث- . قال فلما قضى معاوية كلامه حمدت الله و أثنيت عليه- ثم قلت أما بعد فإني لعلى بينة من ربي و بما أنعم علي- فلن أكون ظهيرا للمجرمين ثم قمت- . فقال معاوية لعمرو بن العاص و كان إلى جانبه- ما لهم عضبهم الله ما قلبهم إلا قلب رجل واحد- . قال نصر و حدثنا سليمان بن أبي راشد- عن عبد الرحمن بن عبيد أبي الكنود-

قال بعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري- إلى علي بن أبي طالب ع- و بعث معه شرحبيل بن السمط- و معن بن يزيد بن الأخنس السلمي- فدخلوا على علي ع فتكلم حبيب بن مسلمة- فحمد الله و أثنى عليه- و قال أما بعد فإن عثمان بن عفان كان خليفة مهديا- يعمل بكتاب الله و يثيب إلى أمر الله- فاستسقلتم حياته و استبطأتم وفاته- فعدوتم عليه فقتلتموه- فادفع إلينا قتلة عثمان نقتلهم به- فإن قلت إنك لم تقتله فاعتزل أمر الناس- فيكون أمرهم هذا شورى بينهم- يولي الناس أمرهم من أجمع عليه رأيهم- . فقال له علي و ما أنت لا أم لك و الولاية- و العزل و الدخول في هذا الأمر- اسكت فإنك لست هناك و لا بأهل لذاك- فقام حبيب بن مسلمة و قال أما و الله لتريني حيث تكره- فقال له ع و ما أنت و لو أجلبت بخيلك و رجلك- اذهب فصوب و صعد ما بدا لك- فلا أبقى الله عليك إن أبقيت- .

فقال شرحبيل بن السمط- إن كلمتك فلعمري ما كلامي لك إلا نحو كلام صاحبي- فهل لي عندك جواب غير الجواب الذي أجبته به- فقال نعم قال فقله-فحمد الله علي ع و أثنى عليه- ثم قال أما بعد- فإن الله سبحانه بعث محمدا ص فأنقذ به من الضلالة- و نعش به من الهلكة و جمع به بعد الفرقة- ثم قبضه الله إليه و قد أدى ما عليه- فاستخلف الناس أبا بكر ثم استخلف أبو بكر عمر- فأحسنا السيرة و عدلا في الأمة- و وجدناعليهما أن توليا الأمر دوننا- و نحن آل الرسول و أحق بالأمر فغفرنا ذلك لهما- ثم ولي أمر الناس عثمان- فعمل بأشياء عابها الناس عليه- فسار إليه ناس فقتلوه- ثم أتاني الناس و أنا معتزل أمرهم- فقالوا لي بايع فأبيت عليهم- فقالوا لي بايع فإن الأمة لا ترضى إلا بك- و إنا نخاف إن لم تفعل أن يفترق الناس- فبايعتهم فلم يرعني إلا شقاق رجلين قد بايعا- و خلاف معاوية إياي الذي لم يجعل الله له سابقة في الدين- و لا سلف صدق في الإسلام طليق ابن طليق و حزب من الأحزاب- لم يزل لله و لرسوله و للمسلمين عدوا هو و أبوه- حتى دخلا في الإسلام كارهين مكرهين- فيا عجبا لكم و لإجلابكم معه و انقيادكم له- و تدعون آل بيت نبيكم- الذين لا ينبغي لكم شقاقهم و لا خلافهم- و لا تعدلوا بهم أحدا من الناس- إني أدعوكم إلى كتاب ربكم و سنة نبيكم- و إماتة الباطل و إحياء معالم الدين أقول قولي هذا- و أستغفر الله لنا و لكل مؤمن و مؤمنة و مسلم و مسلمة.

فقال له شرحبيل و معن بن يزيد- أ تشهد أن عثمان قتل مظلوما- فقال لهما إني لا أقول ذلك- قالا فمن لم يشهد أن عثمان قتل مظلوما فنحن برآء منه- ثم قاما فانصرفا- .

فقال علي ع إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى‏- وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ- وَ ما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ- إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ- ثم أقبل على أصحابه- فقال لا يكن هؤلاء في ضلالتهم بأولى- بالجد منكم في حقكم و طاعة إمامكم- ثم مكث الناس متوادعين إلى انسلاخ المحرم- فلما انسلخ المحرم- و استقبل الناس صفرا من سنة سبع و ثلاثين- بعث علي ع نفرا من أصحابه- حتى إذا كانوامن معسكر معاوية بحيث يسمعونهم الصوت- قام مرثد بن الحارث الجشمي فنادى عند غروب الشمس- يا أهل الشام إن أمير المؤمنين عليا- و أصحاب رسول الله ص يقولون لكم- إنا لم نكف عنكم شكا في أمركم و لا إبقاء عليكم- و إنما كففنا عنكم لخروج المحرم و قد انسلخ- و إنا قد نبذنا إليكم على سواء إن الله لا يحب الخائنين- .

قال فتحاجز الناس و ثاروا إلى أمرائهم- . قال نصر فأما رواية عمرو بن شمر عن جابر عن أبي الزبير- أن نداء مرثد بن الحارث الجشمي كانت صورته- يا أهل الشام ألا إن أمير المؤمنين يقول لكم- إني قد استدمتكم و استأنيت بكم- لتراجعوا الحق و تثوبوا إليه- و احتججت عليكم بكتاب الله و دعوتكم إليه- فلم تتناهوا عن طغيان و لم تجيبوا إلى حق- و إني قد نبذت إليكم على سواء إن الله لا يحب الخائنين- . قال فثار الناس إلى أمرائهم و رؤسائهم- . قال نصر و خرج معاوية و عمرو بن العاص- يكتبان الكتائب و يعبيان العساكر- و أوقدوا النيران و جاءوا بالشموع- و بات علي ع تلك الليلة كلها- يعبئ الناس و يكتب الكتائب- و يدور في الناس و يحرضهم- .

قال نصر حدثنا عمر بن سعد بإسناده عن عبد الله بن جندب عن أبيه أن عليا ع كان يأمرنا في كل موطن لقينا معه عدوه- فيقول‏ لا تقاتلوا القوم حتى يبدءوكم- فهي حجة أخرى لكم عليهم- فإذا قاتلتموهم فهزمتموهم فلا تقتلوا مدبرا- و لا تجهزوا على جريح و لا تكشفوا عورة و لا تمثلوا بقتيل- فإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا سترا- و لا تدخلوا دارا إلا بإذن- و لا تأخذوا شيئا من أموالهم إلا ما وجدتم في عسكرهم- و لا تهيجوا امرأة و إن شتمن أعراضكم- و تناولن أمراءكم و صلحاءكم- فإنهن ضعاف القوى و الأنفس و العقول- و لقد كنا و إنا لنؤمر بالكف عنهن و هن مشركات- و إن كان الرجل ليتناول المرأة في الجاهلية- بالهراوة أو الحديد فيعير بها عقبه من بعده.

قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن إسماعيل بن يزيد يعني ابن أبي خالد عن أبي صادق أن عليا ع حرض الناس في حروبه- فقال عباد الله اتقوا الله و غضوا أبصاركم- و اخفضوا الأصوات و أقلوا الكلام- و وطنوا أنفسكم على المنازلة- و المجاولة و المبارزة و المعانقة- و فَاثْبُتُوا وَ اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ- وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ- وَ اصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ- اللهم ألهمهم الصبر- و أنزل عليهم النصر و أعظم لهم الأجر- .

قال نصر و كان ترتيب عسكر علي ع- بموجب ما رواه لنا عمرو بن شمر عن جابر- عن محمد بن علي و زيد بن حسن و محمد بن عبد المطلب- أنه جعل على الخيل عمار بن ياسر- و على الرجالة عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي- و دفع اللواءإلى هاشم بن عتبة بن أبي وقاص الزهري- و جعل على الميمنة الأشعث بن قيس- و على الميسرة عبد الله بن العباس- و جعل على رجالة الميمنة سليمان بن صرد الخزاعي- و على رجالة الميسرة الحارث بن مرة العبدي- و جعل القلب مضر الكوفة و البصرة- و جعل على ميمنة القلب اليمن و على ميسرته ربيعة- و عقد ألوية القبائل فأعطاها قوما منهم بأعيانهم- و جعلهم رؤساءهم و أمراءهم- و جعل على قريش و أسد و كنانة عبد الله بن عباس- و على كندة حجر بن عدي الكندي- و على بكر البصرة الحصين بن المنذر الرقاشي- و على تميم البصرة الأحنف بن قيس- و على خزاعة عمرو بن الحمق- و على بكر الكوفة نعيم بن هبيرة- و على سعد البصرة و ربابها جارية بن قدامة السعدي- و على بجيلة رفاعة بن شداد- و على ذهل الكوفة رويما الشيباني أو يزيد بن رويم- و على عمرو البصرة و حنظلتها أعين بن ضبيعة- و على قضاعة و طيئ عدي بن حاتم الطائي- و على لهازم الكوفة عبد الله بن حجل العجلي- و على تميم الكوفة عمير بن عطارد- و على الأزد و اليمن جندب بن زهير- و على ذهل البصرة خالد بن المعمر السدوسي- و على عمرو الكوفة و حنظلتها شبث بن ربعي- و على همدان سعيد بن قيس- و على لهازم البصرة حريث بن جابر الجعفي- و على سعد الكوفة و ربابها الطفيل أبا صريمة- و على مذحج الأشتر بن الحارث النخعي- و على عبد القيس الكوفة صعصعة بن صوحان- و على عبد القيس البصرة عمرو بن حنظلة- و على قيس الكوفة عبد الله بن الطفيل البكائي- و على قريش البصرة الحارث بن نوفل الهاشمي- و على قيس البصرة قبيصة بن شداد الهلالي- و على اللفيف من القواصي القاسم بن حنظلة الجهني- .

و أما معاوية- فاستعمل على الخيل عبيد الله بن عمر بن الخطاب- و على الرجالة مسلم بن عقبة المري- و جعل على الميمنة عبد الله بن عمرو بن العاص- و على الميسرة حبيب‏ بن مسلمة الفهري- و أعطى اللواء عبد الرحمن بن خالد بن الوليد- و جعل على أهل دمشق و هم القلب الضحاك بن قيس الفهري- و على أهل حمص و هم الميمنة ذا الكلاع الحميري- و على أهل قنسرين- و هم في الميمنة أيضا زفر بن الحارث الكلابي- و على أهل الأردن و هم الميسرة سفيان بن عمرو أبا الأعور السلمي- و على أهل فلسطين و هم في الميسرة أيضا مسلمة بن مخلد- و على رجالة أهل دمشق- بسر بن أبي أرطاة العامري بن لؤي بن غالب- و على رجالة أهل حمص حوشبا ذا ظليم- و على رجالة قيس طريف بن حابس الألهاني- و على رجالة الأردن عبد الرحمن بن قيس القيني- و على رجالة أهل فلسطين الحارث بن خالد الأزدي- و على رجالة قيس دمشق همام بن قبيصة- و على قضاعة حمص و إيادها بلال بن أبي هبيرة الأزدي- و حاتم بن المعتمر الباهلي- و على رجالة الميمنة حابس بن سعيد الطائي- و على قضاعة دمشق حسان بن بحدل الكلبي- و على قضاعة عباد بن يزيد الكلبي- و على كندة دمشق حسان بن حوي السكسكي- و على كندة حمص يزيد بن هبيرة السكوني- و على سائر اليمن يزيد بن أسد البجلي- و على حمير و حضرموت اليمان بن غفير- و على قضاعة الأردن حبيش بن دلجة القيني- و على كنانة فلسطين شريكا الكناني- و على مذحج الأردن المخارق بن الحارث الزبيدي- و على جذام فلسطين و لخمها ناتل بن قيس الجذامي- و على همدان الأردن حمزة بن مالك الهمداني- و على الخثعم حمل بن عبد الله الخثعمي- و على غسان الأردن يزيد بن الحارث- و على جميع القواصي القعقاع بن أبرهة الكلاعي- أصيب في المبارزة أول يوم تراءت فيه الفئتان- .

قال نصر فأما رواية الشعبي التي- رواها عنه إسماعيل بن أبي عميرة- فإن علياع بعث على ميمنته- عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي- و على ميسرته عبد الله بن العباس- و على خيل الكوفة الأشتر- و على البصرة سهل بن حنيف- و على رجالة الكوفة عمار بن ياسر- و على رجالة أهل البصرة قيس بن سعد- كان قد أقبل من مصر إلى صفين و جعل معه هاشم بن عتبة- و جعل مسعود بن فدكي التميمي على قراء أهل البصرة- و أما قراء أهل الكوفة- فصاروا إلى عبد الله بن بديل و عمار بن ياسر- .

قال نصر و أما ترتيب عسكر الشام- فيما رواه لنا عمر بن سعد عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر- عن القاسم مولى يزيد بن معاوية- فإن معاوية بعث على ميمنته ذا الكلاع- و على ميسرته حبيب بن مسلمة الفهري- و على مقدمته من يوم أقبل من دمشق أبا الأعور السلمي- و كان على خيل دمشق كلها عمرو بن العاص- و معه خيول أهل الشام بأسرها- و جعل مسلم بن عقبة المري على رجالة دمشق- و الضحاك بن قيس على سائر الرجالة بعد- .

قال نصر و تبايع رجال من أهل الشام على الموت- و تحالفوا عليه و عقلوا أنفسهم بالعمائم- و كانوا صفوفا خمسة معقلين- كانوا يخرجون فيصطفون أحد عشر صفا- و يخرج أهل العراق فيصطفون أحد عشر صفا أيضا- . قال نصر فخرجوا أول يوم من صفر من سنة سبع و ثلاثين- و هو يوم الأربعاء فاقتتلوا- و على من خرج يومئذ من أهل الكوفة الأشتر- و على أهل الشام حبيب بن مسلمة-فاقتتلوا قتالا شديدا جل النهار- ثم تراجعوا و قد انتصف بعضهم من بعض- ثم خرج في اليوم الثاني هاشم بن عتبة في خيل- و رجال حسن عددها و عدتها- فخرج إليه من أهل الشام أبو الأعور السلمي- فاقتتلوا يومهم ذلك- تحمل الخيل على الخيل و الرجال على الرجال- .

ثم انصرفوا و قد صبر القوم بعضهم لبعض- و خرج في اليوم الثالث عمار بن ياسر- و خرج إليه عمرو بن العاص- فاقتتل الناس كأشد قتال كان- و جعل عمار يقول يا أهل الشام- أ تريدون أن تنظروا إلى من عادى الله و رسوله و جاهدهما- و بغى على المسلمين و ظاهر المشركين- فلما أراد الله أن يظهر دينه- و ينصر رسوله أتى إلى النبي ص فأسلم- و هو و الله فيما يرى راهب غير راغب- ثم قبض الله رسوله- و إنا و الله لنعرفه بعداوة المسلم و مودة المجرم- ألا و إنه معاوية فقاتلوه و العنوه- فإنه ممن يطفئ نور الله و يظاهر أعداء الله- .

قال و كان مع عمار زياد بن النضر على الخيل- فأمره أن يحمل في الخيل فحمل فصبروا له- و شد عمار في الرجالة- فأزال عمرو بن العاص عن موقفه- و بارز يومئذ زياد بن النضر أخا له من بني عامر- يعرف بمعاوية بن عمرو العقيلي و أمهما هند الزبيدية- فانصرف كل واحد منهما عن صاحبه بعد المبارزة سالما- و رجع الناس يومهم ذلك- .

قال نصر و حدثني أبو عبد الرحمن المسعودي قال حدثني يونس بن الأرقم عمن حدثه من شيوخ بكر بن وائل قال كنا مع علي ع بصفين- فرفع عمرو بن العاص شقة خميصة سوداء في رأس رمح- فقال ناس هذا لواء عقده له رسول الله ص- فلم يزالوا يتحدثون حتى وصل ذلك إلى علي ع- فقال‏ أ تدرون ما أمر هذا اللواء- إن عدو الله عمرا أخرج له رسول الله ص هذه الشقة- فقال من يأخذها بما فيها- فقال عمرو و ما فيها يا رسول الله قال- فيها ألا تقاتل بها مسلما و لا تقربها من كافر فأخذها- فقد و الله قربها من المشركين- و قاتل بها اليوم المسلمين- و الذي فلق الحبة و برأ النسمة- ما أسلموا و لكنهم استسلموا و أسروا الكفر- فلما وجدوا عليه أعوانا أظهروه.

و روى نصر عن أبي عبد الرحمن المسعودي عن يونس بن الأرقم عن عوف بن عبد الله عن عمرو بن هند البجلي عن أبيه قال لما نظر علي ع إلى رايات معاوية و أهل الشام قال- و الذي فلق الحبة و برأ النسمة- ما أسلموا و لكن استسلموا و أسروا الكفر- فلما وجدوا عليه أعوانا رجعوا إلى عداوتهم لنا- إلا أنهم لم يتركوا الصلاة.

و روى نصر عن عبد العزيز بن سياه عن حبيب بن أبي ثابت- قال لما كان قتال صفين قال رجل لعمار يا أبا اليقظان- أ لم يقل رسول الله ص قاتلوا الناس حتى يسلموا- فإذا أسلموا عصموا مني دماءهم و أموالهم- قال بلى و لكن و الله ما أسلموا و لكن استسلموا- و أسروا الكفر حتى وجدوا عليه أعوانا- .

و روى نصر عن عبد العزيز عن حبيب بن أبي ثابت- عن منذر الثوري قال قال محمد بن الحنفية- لما أتاهم رسول الله ص من أعلى الوادي و من أسفله-و ملأ الأودية كتائب يعني يوم فتح مكة- استسلموا حتى وجدوا أعوانا- .

و روى نصر عن الحكم بن ظهير عن إسماعيل عن الحسن قال و حدثنا الحكم أيضا عن عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله ص إذا رأيتم معاوية بن أبي سفيان يخطب على منبري- فاضربوا عنقه- فقال الحسن فو الله ما فعلوا و لا أفلحوا

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ أبي ‏الحديد) ج 4 

خطبه 53 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

53 و من كلام له ع في ذكر البيعة- :

فَتَدَاكُّوا عَلَيَّ تَدَاكَّ الْإِبِلِ الْهِيمِ يَوْمَ وِرْدِهَا- وَ قَدْ أَرْسَلَهَا رَاعِيهَا وَ خُلِعَتْ مَثَانِيهَا- حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُمْ قَاتِلِيَّ أَوْ بَعْضُهُمْ قَاتِلُ بَعْضٍ لَدَيَّ- وَ قَدْ قَلَّبْتُ هَذَا الْأَمْرَ بَطْنَهُ وَ ظَهْرَهُ حَتَّى مَنَعَنِي النَّوْمَ- فَمَا وَجَدْتُنِي يَسَعُنِي إِلَّا قِتَالُهُمْ- أَوِ الْجُحُودُ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ص- فَكَانَتْ مُعَالَجَةُ الْقِتَالِ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مُعَالَجَةِ الْعِقَابِ- وَ مَوْتَاتُ الدُّنْيَا أَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ مَوْتَاتِ الآْخِرَةِ تداكوا ازدحموا و الهيم العطاش- و يوم وردها يوم شربها الماء- و المثاني الحبال- جمع مثناة و مثناة بالفتح و الكسر و هو الحبل- . و جهاد البغاة واجب على الإمام إذا وجد أنصارا- فإذا أخل بذلك أخل بواجب و استحق العقاب- . فإن قيل-إنه ع قال لم يسعني إلا قتالهم أو الجحود بما جاء به محمد ص- فكيف يكون تارك الواجب جاحدا لما جاء به النبي ص- . قيل إنه في حكم الجاحد لأنه مخالف و عاص- لا سيما على مذهبنا- في أن تارك الواجب يخلد في النار و إن لم يجحد النبوة

بيعة علي و أمر المتخلفين عنها

اختلف الناس في بيعة أمير المؤمنين ع- فالذي عليه أكثر الناس و جمهور أرباب السير- أن طلحة و الزبير بايعاه طائعين غير مكرهين- ثم تغيرت عزائمهما و فسدت نياتهما و غدرا به- . و قال الزبيريون منهم عبد الله بن مصعب- و الزبير بن بكار و شيعتهم- و من وافق قولهم من بني تيم بن مرة- أرباب العصبية لطلحة إنهما بايعا مكرهين- و إن الزبير كان يقول بايعت و اللج على قفي- و اللج سيف الأشتر و قفي لغة هذلية- إذا أضافوا المقصور إلى أنفسهم قلبوا الألف ياء- و أدغموا إحدى الياءين في الأخرى فيقولون- قد وافق ذلك هوي أي هواي- و هذه عصي أي عصاي- . و ذكر صاحب كتاب الأوائل- أن الأشتر جاء إلى علي ع حين قتل عثمان- فقال قم فبايع الناس فقد اجتمعوا لك و رغبوا فيك- و الله لئن نكلت عنها لتعصرن عليها عينيك مرة رابعة- فجاء حتى دخل بئر سكن و اجتمع الناس- و حضر طلحة و الزبير لا يشكان أن الأمر شورى- فقال الأشتر أ تنتظرون أحدا- قم يا طلحة فبايع فتقاعس- فقال قم يا ابن الصعبة و سل سيفه- فقام طلحة يجر رجله حتى بايع- فقال قائل أول من بايعه أشل لا يتم أمره ثم لا يتم- قال قم يا زبير- و الله لا ينازع أحد إلا و ضربت قرطة بهذا السيف- فقام الزبير فبايع ثم انثال الناس عليه فبايعوا- . و قيل أول من بايعه الأشتر- ألقى خميصة كانت عليه و اخترط سيفه- و جذب يد علي ع فبايعه- و قال للزبير و طلحة قوما فبايعا- و إلا كنتما الليلة عند عثمان- فقاما يعثران في ثيابهما لا يرجوان نجاة- حتى صفقا بأيديهما على يده ثم قام بعدهما البصريون-و أولهم عبد الرحمن بن عديس البلوي فبايعوا- و قال له عبد الرحمن-

خذها إليك و اعلمن أبا حسن
أنا نمر الأمر إمرار الرسن‏

و قد ذكرنا نحن في شرح الفصل الذي فيه- أن الزبير أقر بالبيعة و ادعى الوليجة- أن بيعة أمير المؤمنين لم تقع- إلا عن رضا جميع أهل المدينة- أولهم طلحة و الزبير- و ذكرنا في ذلك ما يبطل رواية الزبير- . و ذكر أبو مخنف في كتاب الجمل- أن الأنصار و المهاجرين اجتمعوا في مسجد رسول الله ص- لينظروا من يولونه أمرهم حتى غص المسجد بأهله- فاتفق رأي عمار و أبي الهيثم بن التيهان- و رفاعة بن رافع و مالك بن عجلان- و أبي أيوب خالد بن يزيد- على إقعاد أمير المؤمنين ع في الخلافة- و كان أشدهم تهالكا عليه عمار- فقال لهم أيها الأنصار- قد سار فيكم عثمان بالأمس بما رأيتموه- و أنتم على شرف من الوقوع في مثله إن لم تنظروا لأنفسكم- و إن عليا أولى الناس بهذا الأمر لفضله و سابقته- فقالوا رضينا به حينئذ- و قالوا بأجمعهم لبقية الناس من الأنصار و المهاجرين- أيها الناس إنا لن نألوكم خيرا و أنفسنا إن شاء الله- و إن عليا من قد علمتم- و ما نعرف مكان أحد أحمل لهذا الأمر منه و لا أولى به- فقال الناس بأجمعهم قد رضينا- و هو عندنا ما ذكرتم و أفضل- .

و قاموا كلهم فأتوا عليا ع- فاستخرجوه من داره و سألوه بسط يده- فقبضها فتداكوا عليه تداك الإبل الهيم على وردها- حتى كاد بعضهم يقتل بعضا- فلما رأى منهم ما رأى- سألهم أن تكون بيعته في المسجد ظاهرة للناس- و قال إن كرهني رجل واحد من الناس لم أدخل في هذا الأمر- . فنهض الناس معه حتى دخل المسجد- فكان أول من بايعه طلحة- فقال قبيصة بن ذؤيب الأسدي تخوفت ألا يتم له أمره- لأن أول يد بايعته شلاء ثم بايعه الزبير-و بايعه المسلمون بالمدينة إلا محمد بن مسلمة و عبد الله بن عمر- و أسامة بن زيد و سعد بن أبي وقاص- و كعب بن مالك و حسان بن ثابت و عبد الله بن سلام- .

فأمر بإحضار عبد الله بن عمر فقال له بايع- قال لا أبايع حتى يبايع جميع الناس- فقال له ع فأعطني حميلا ألا تبرح- قال و لا أعطيك حميلا- فقال الأشتر يا أمير المؤمنين- إن هذا قد أمن سوطك و سيفك فدعني أضرب عنقه- فقال لست أريد ذلك منه على كره خلوا سبيله- فلما انصرف قال أمير المؤمنين- لقد كان صغيرا و هو سيئ الخلق و هو في كبره أسوأ خلقا- . ثم أتي بسعد بن أبي وقاص فقال له بايع- فقال يا أبا الحسن خلني فإذا لم يبق غيري بايعتك- فو الله لا يأتيك من قبلي أمر تكرهه أبدا- فقال صدق خلوا سبيله- . ثم بعث إلى محمد بن مسلمة فلما أتاه قال له بايع- قال إن رسول الله ص أمرني إذا اختلف الناس- و صاروا هكذا و شبك بين أصابعه- أن أخرج بسيفي فأضرب به عرض أحد- فإذا تقطع أتيت منزلي- فكنت فيه لا أبرحه حتى تأتيني يد خاطية أو منية قاضية- فقال له ع فانطلق إذا فكن كما أمرت به- . ثم بعث إلى أسامة بن زيد فلما جاء قال له بايع- فقال إني مولاك و لا خلاف مني عليك- و ستأتيك بيعتي إذا سكن الناس- فأمره بالانصراف و لم يبعث إلى أحد غيره- .و قيل له أ لا تبعث إلى حسان بن ثابت- و كعب بن مالك و عبد الله بن سلام- فقال لا حاجة لنا فيمن لا حاجة له فينا- .

فأما أصحابنا فإنهم يذكرون في كتبهم- أن هؤلاء الرهط إنما اعتذروا بما اعتذروا به-لما ندبهم إلى الشخوص معه لحرب أصحاب الجمل- و أنهم لم يتخلفوا عن البيعة و إنما تخلفوا عن الحرب- .

و روى شيخنا أبو الحسين رحمه الله تعالى في كتاب الغرر أنهم لما اعتذروا إليه بهذه الأعذار- قال لهم ما كل مفتون يعاتب- أ عندكم شك في بيعتي قالوا لا- قال فإذا بايعتم فقد قاتلتم و أعفاهم من حضور الحرب- .

فإن قيل رويتم أنه قال- إن كرهني رجل واحد من الناس لم أدخل في هذا الأمر- ثم رويتم أن جماعة من أعيان المسلمين كرهوا- و لم يقف مع كراهتهم- . قيل إنما مراده ع- أنه متى وقع الاختلاف قبل البيعة- نفضت يدي عن الأمر و لم أدخل فيه- فأما إذا بويع ثم خالف ناس بعد البيعة- فلا يجوز له أن يرجع عن الأمر و يتركه- لأن الإمامة تثبت بالبيعة- و إذا ثبتت لم يجز له تركها- . و روى أبو مخنف عن ابن عباس قال- لما دخل علي ع المسجد- و جاء الناس ليبايعوه- خفت أن يتكلم بعض أهل الشنئان لعلي ع- ممن قتل أباه أو أخاه- أو ذا قرابته في حياة رسول الله ص- فيزهد علي في الأمر و يتركه- فكنت أرصد ذلك و أتخوفه- فلم يتكلم أحد حتى بايعه الناس كلهم- راضين مسلمين غير مكرهين- .

لما بايع الناس عليا ع- و تخلف عبد الله بن عمر- و كلمه علي ع في البيعة فامتنع عليه- أتاه في اليوم الثاني فقال إني لك ناصح- إن بيعتك لم يرض بها كلهم- فلو نظرت لدينك و رددت الأمر شورى بين المسلمين- فقال علي ع ويحك- و هل ما كان عن طلب مني له أ لم يبلغك صنيعهم- قم عني يا أحمق ما أنت و هذا الكلام-فلما خرج أتى عليا في اليوم الثالث آت فقال- إن ابن عمر قد خرج إلى مكة يفسد الناس عليك- فأمر بالبعث في أثره فجاءت أم كلثوم ابنته- فسألته و ضرعت إليه فيه- و قالت يا أمير المؤمنين إنما خرج إلى مكة ليقيم بها- و إنه ليس بصاحب سلطان و لا هو من رجال هذا الشأن- و طلبت إليه أن يقبل شفاعتها في أمره لأنه ابن بعلها- فأجابها و كف عن البعثة إليه و قال دعوه و ما أراده

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 4 

خطبه 52 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

52 و من خطبة له ع

و قد تقدم مختارها برواية- و نذكر ما نذكره هنا برواية أخرى لتغاير الروايتين- : أَلَا وَ إِنَّ الدُّنْيَا قَدْ تَصَرَّمَتْ وَ آذَنَتْ بِانْقِضَاءٍ- وَ تَنَكَّرَ مَعْرُوفُهَا وَ أَدْبَرَتْ حَذَّاءَ- فَهِيَ تَحْفِزُ بِالْفَنَاءِ سُكَّانَهَا- وَ تَحْدُو بِالْمَوْتِ جِيرَانَهَا- وَ قَدْ أَمَرَّ فِيهَا مَا كَانَ حُلْواً- وَ كَدِرَ مِنْهَا مَا كَانَ صَفْواً- فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا سَمَلَةٌ كَسَمَلَةِ الْإِدَاوَةِ- أَوْ جُرْعَةٌ كَجُرْعَةِ الْمَقْلَةِ- لَوْ تَمَزَّزَهَا الصَّدْيَانُ لَمْ يَنْقَعْ- فَأَزْمِعُوا عَبِادَ اللَّهِ- الرَّحِيلَ عَنْ هَذِهِ الدَّارِ الْمَقْدُورِ عَلَى أَهْلِهَا الزَّوَالُ- وَ لَا يَغْلِبَنَّكُمْ فِيهَا الْأَمَلُ- وَ لَا يَطُولَنَّ عَلَيْكُمْ فِيهَا الْأَمَدُ- فَوَاللَّهِ لَوْ حَنَنْتُمْ حَنِينَ الْوُلَّهِ الْعِجَالِ- وَ دَعَوْتُمْ بِهَدِيلِ الْحَمَامِ- وَ جَأَرْتُمْ جُؤَارَ مُتَبَتِّلِي الرُّهْبَانِ- وَ خَرَجْتُمْ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَ الْأَوْلَادِ- الْتِمَاسَ الْقُرْبَةِ إِلَيْهِ فِي ارْتِفَاعِ دَرَجَةٍ عِنْدَهُ- أَوْ غُفْرَانِ سَيِّئَةٍ أَحْصَتْهَا كُتُبُهُ- وَ حَفِظَتْهَا رُسُلُهُ لَكَانَ قَلِيلًا فِيمَا أَرْجُو لَكُمْ مِنْ ثَوَابِهِ- وَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِنْ عِقَابِهِ- وَ بِاللَّهِ لَوِ انْمَاثَتْ قُلُوبُكُمُ انْمِيَاثاً- وَ سَالَتْ عُيُونُكُمْ مِنْ رَغْبَةٍ إِلَيْهِ أَوْ رَهْبَةٍ مِنْهُ دَماً- ثُمَّ عُمِّرْتُمْ فِي الدُّنْيَا- مَا الدُّنْيَا بَاقِيَةٌ مَا جَزَتْ أَعْمَالُكُمْ- وَ لَوْ لَمْ تُبْقُوا شَيْئاً مِنْ جُهْدِكُمْ- أَنْعُمَهُ عَلَيْكُمُ الْعِظَامَ- وَ هُدَاهُ إِيَّاكُمْ لِلْإِيمَانِ‏

تصرمت انقطعت و فنيت- و آذنت بانقضاء أعلمت بذلك- آذنته بكذا أي أعلمته- و تنكر معروفها جهل منها ما كان معروفا- . و الحذاء السريعة الذهاب- و رحم حذاء مقطوعة غير موصولة- و من رواه جذاء بالجيم- أراد منقطعة الدر و الخير- . و تحفر بالفناء سكانها تعجلهم و تسوقهم- و أمر الشي‏ء صار مرا- و كدر الماء بكسر الدال و يجوز كدر بضمها- و المصدر من الأول كدرا و من الثاني كدورة- . و السملة بفتح الميم البقية من الماء تبقى في الإناء- و المقلة بفتح الميم و تسكين القاف- حصاة القسم التي تلقى في الماء- ليعرف قدر ما يسقى كل واحد منهم- و ذلك عند قلة الماء في المفاوز قال-

قذفوا سيدهم في ورطة
قذفك المقلة وسط المعترك‏

و التمزز تمصص الشراب قليلا قليلا- و الصديان العطشان- . و لم ينقع لم يرو و هذا يمكن أن يكون لازما- و يمكن أن يكون متعديا- تقول نقع الرجل بالماء- أي روي و شفى غليله- ينقع و نقع الماء الصدى ينقع أي سكنه- . فأزمعوا الرحيل أي اعزموا عليه- يقال أزمعت الأمر- و لا يجوز أزمعت على الأمر- و أجازه الفراء. قوله المقدور على أهلها الزوال أي المكتوب قال-

و اعلم بأن ذا الجلال قد قدر
في الصحف الأولى الذي كان سطر

أي كتب و الوله العجال- النوق الوالهة الفاقدة أولادها الواحدة عجول- و الوله ذهاب العقل و فقد التمييز- و هديل الحمام صوت نوحه- و الجؤار صوت مرتفع- و المتبتل المنقطع عن الدنيا- و انماث القلب أي ذاب- . و قوله و لو لم تبقوا شيئا من جهدكم اعتراض في الكلام- . و أنعمه منصوب لأنه مفعول جزت- . و في هذا الكلام تلويح- و إشارة إلى مذهب البغداديين من أصحابنا- في أن الثواب على فعل الطاعة غير واجب- لأنه شكر النعمة فلا يقتضي وجوب ثواب آخر- و هو قوله ع لو انماثت قلوبكم انمياثا… إلى آخر الفصل- . و أصحابنا البصريون لا يذهبون إلى ذلك- بل يقولون إن الثواب واجب على الحكيم سبحانه- لأنه قد كلفنا ما يشق علينا- و تكليف المشاق كإنزال المشاق- فكما اقتضت الآلام و المشاق- النازلة بنا من جهته سبحانه أعواضا- مستحقه عليه تعالى عن إنزالها بنا- كذلك تقتضي التكليفات الشاقة ثوابا- مستحقا عليه تعالى عن إلزامه إيانا بها- قالوا فأما ما سلف من نعمه علينا فهو تفضل منه تعالى- و لا يجوز في الحكمة- أن يتفضل الحكيم على غيره بأمر من الأمور- ثم يلزمه أفعالا شاقة و يجعلها بإزاء ذلك التفضل- إلا إذا كان في تلك الأمور منافع عائدة على ذلك الحكيم- فكان ما سلف من المنافع جاريا مجرى الأجرة- كمن يدفع درهما إلى إنسان ليخيط له ثوبا- و البارئ تعالى منزه عن المنافع- و نعمه علينا منزهة- أن تجري مجرى الأجرة على تكليفنا المشاق- . و أيضا فقد يتساوى اثنان من الناس في النعم- المنعم بها عليهما و يختلفان في التكاليف-

فلو كان التكليف لأجل ما مضى من النعم- لوجب أن يقدر بحسبها- فإن قيل فعلى ما ذا يحمل كلام أمير المؤمنين ع- و فيه إشارة إلى مذهب البغداديين- . قيل إنه ع لم يصرح بمذهب البغداديين- و لكنه قال لو عبدتموه بأقصى ما ينتهي الجهد إليه- و ما وفيتم بشكر أنعمه و هذا حق غير مختلف فيه- لأن نعم البارئ تعالى لا تقوم العباد بشكرها- و إن بالغوا في عبادته و الخضوع له و الإخلاص في طاعته- و لا يقتضي صدق هذه القضية- و صحتها صحة مذهب البغداديين- في أن الثواب على الله تعالى غير واجب- لأن التكليف إنما كان باعتبار أنه شكر النعمة السالفة

ما قيل من الأشعار في ذم الدنيا

فأما ما قاله الناس في ذم الدنيا و غرورها- و حوادثها و خطوبها و تنكرها لأهلها- و الشكوى منها و العتاب لها و الموعظة بها- و تصرمها و تقلبها فكثير من ذلك قول بعضهم-

هي الدنيا تقول بمل‏ء فيها
حذار حذار من بطشي و فتكي‏

فلا يغرركم حسن ابتسامي‏
فقولي مضحك و الفعل مبك‏

 و قال آخر-

تنح عن الدنيا و لا تطلبنها
و لا تخطبن قتالة من تناكح‏

فليس يفي مرجوها بمخوفها
و مكروهها إما تأملت راجح‏

لقد قال فيها القائلون فأكثروا
و عندي لها وصف لعمرك صالح‏

سلاف قصاراها ذعاف و مركب‏
شهي إذا استلذذته فهو جامح‏

و شخص جميل يعجب الناس حسنه
و لكن له أفعال سوء قبائح‏

و قال أبو الطيب-

أبدا تسترد ما تهب الدنيا
فيا ليت جودها كان بخلا

و هي معشوقه على الغدر لا تحفظ
عهدا و لا تتم وصلا

كل دمع يسيل منها عليها
و بفك اليدين عنها تخلى‏

شيم الغانيات فيها و لا أدري‏
لذا أنث اسمها الناس أم لا

 و قال آخر-

إنما الدنيا عوار
و العواري مسترده‏

شدة بعد رخاء
و رخاء بعد شده‏

و قال محمد بن هانئ المغربي

و ما الناس إلا ظاعن فمودع
و ثاو قريح الجفن يبكي لراحل‏

فما الدهر إلا كالزمان الذي مضى‏
و لا نحن إلا كالقرون الأوائل

نساق من الدنيا إلى غير دائم
و نبكي من الدنيا على غير طائل‏

فما عاجل نرجوه إلا كآجل‏
و لا آجل نخشاه إلا كعاجل‏

و قال ابن المظفر المغربي

دنياك دار غرور
و نعمة مستعاره‏

و دار أكل و شرب‏
و مكسب و تجاره‏

و رأس مالك نفس
فخف عليها الخساره‏

و لا تبعها بأكل
و طيب عرف و شاره‏

فإن ملك سليمان‏
لا يفي بشراره‏

و قال أبو العتاهية

ألا إنما التقوى هي البر و الكرم
و حبك للدنيا هو الفقر و العدم‏

و ليس على عبد تقي غضاضة
إذا صحح التقوى و إن حاك أو حجم‏

و قال أيضا

تعلقت بآمال
طوال أي آمال‏

و أقبلت على الدنيا
ملحا أي إقبال‏

أيا هذا تجهز لفراق
الأهل و المال‏

فلا بد من الموت‏
على حال من الحال‏

 و قال أيضا

سكن يبقى له سكن
ما بهذا يؤذن الزمن‏

نحن في دار يخبرنا
ببلاها ناطق لسن‏

دار سوء لم يدم فرح
لامرئ فيها و لا حزن‏

في سبيل الله أنفسنا
كلنا بالموت مرتهن‏

كل نفس عند موتتها
حظها من مالها الكفن‏

إن مال المرء ليس له‏
منه إلا ذكره الحسن‏

و قال أيضا

ألا إننا كلنا بائد
و أي بني آدم خالد

و بدؤهم كان من ربهم‏
و كل إلى ربه عائد

فوا عجبا كيف يعصي الإله
أم كيف يجحده الجاحد

و في كل شي‏ء له آية
تدل على أنه الواحد

و قال الرضي الموسوي

يا آمن الأيام بادر صرفها
و اعلم بأن الطالبين حثاث‏

خذ من ثرائك ما استطعت فإنما
شركاؤك الأيام و الوراث‏

لم يقض حق المال إلا معشر
نظروا الزمان يعيث فيه فعاثوا

تحثو على عيب الغني يد الغنى‏
و الفقر عن عيب الفتى بحاث‏

المال مال المرء ما بلغت به
الشهوات أو دفعت به الأحداث‏

ما كان منه فاضلا عن قوته‏
فليعلمن بأنه ميراث‏

ما لي إلى الدنيا الدنية حاجة
فليجن ساحر كيدها النفاث‏

طلقتها ألفا لأحسم داءها
و طلاق من عزم الطلاق ثلاث‏

و ثباتها مرهوبة و عداتها
مكذوبة و حبالها أنكاث‏

أم المصائب لا تزال تروعنا
منها ذكور حوادث و إناث‏

إني لأعجب للذين تمسكوا
بحبائل الدنيا و هن رثاث‏

كنزوا الكنوز و اعقلوا شهواتهم‏
فالأرض تشبع و البطون غراث‏

أ تراهم لم يعلموا أن التقى
أزوادنا و ديارنا الأجداث‏

و قال آخر

هذه الدنيا إذا صرفت
وجهها لم تنفع الحيل‏

و إذا ما أقبلت لعم‏
بصرته كيف يفتعل‏

و إذا ما أدبرت لذكي
غاب عنه السهل و الجبل‏

فهي كالدولاب دائرة
ترتقي طورا و تستفل‏

في زمان صار ثعلبة
أسدا و استذاب الحمل‏

فالذنابى فيه ناصية
و النواصي خشع ذلل‏

فاصبري يا نفس و احتملي
إن نفس الحر تحتمل‏

و قال أبو الطيب

نعد المشرفية و العوالي
و تقتلنا المنون بلا قتال‏

و نرتبط السوابق مقربات‏
و ما ينجين من خبب الليالي‏

و من لم يعشق الدنيا قديما
و لكن لا سبيل إلى الوصال‏

نصيبك في حياتك من حبيب‏
نصيبك في منامك من خيال‏

رماني الدهر بالأرزاء حتى
فؤادي في غشاء من نبال‏

فصرت إذا أصابتني سهام‏
تكسرت النصال على النصال‏

و هان فما أبالي بالرزايا
لأني ما انتفعت بأن أبالي‏

يدفن بعضنا بعضا و يمشي‏
أواخرنا على هام الأوالي‏

و كم عين مقبلة النواحي
كحيل في الجنادل و الرمال‏

و مغض كان لا يغضي لخطب
و بال كان يفكر في الهزال‏

 و قال أبو العتاهية في أرجوزته-

المشهورة في ذم الدنيا و فيها أنواع مختلفة من الحكمة-

ما زالت الدنيا لنا دار أذى
ممزوجة الصفو بألوان القذى‏

الخير و الشر بها أزواج‏
لذا نتاج و لذا نتاج‏

من لك بالمحض و ليس محض
يخبث بعض و يطيب بعض‏

لكل إنسان طبيعتان‏
خير و شر و هما ضدان‏

و الخير و الشر إذا ما عدا
بينهما بون بعيد جدا

إنك لو تستنشق الشحيحا
وجدته أنتن شي‏ء ريحا

حسبك مما تبتغيه القوت
ما أكثر القوت لمن يموت‏

الفقر فيما جاوز الكفافا
من اتقى الله رجا و خافا

هي المقادير فلمني أو فذر
إن كنت أخطأت فما أخطأ القدر

لكل ما يؤذي و إن قل ألم‏
ما أطول الليل على من لم ينم‏

ما انتفع المرء بمثل عقله
و خير ذخر المرء حسن فعله‏

إن الفساد ضده الصلاح‏
و رب جد جره المزاح‏

من جعل النمام عينا هلكا
مبلغك الشر كباغيه لكا

إن الشباب و الفراغ و الجده‏
مفسدة للمرء أي مفسده‏

يغنيك عن كل قبيح تركه
قد يوهن الرأي الأصيل شكه‏

ما عيش من آفته بقاه‏
نغص عيشا ناعما فناه‏

يا رب من أسخطنا بجهده
قد سرنا الله بغير حمده‏

ما تطلع الشمس و لا تغيب‏
إلا لأمر شأنه عجيب‏

لكل شي‏ء قدر و جوهر
و أوسط و أصغر و أكبر

و كل شي‏ء لاحق بجوهره‏
أصغره متصل بأكبره‏

من لك بالمحض و كل ممتزج
وساوس في الصدر منك تعتلج‏

عجبت و استغرقني السكوت‏
حتى كأني حائر مبهوت‏

إذا قضى الله فكيف أصنع
و الصمت إن ضاق الكلام أوسع‏

و قال أيضا

كل على الدنيا له حرص
و الحادثات لنا بها قرص‏

و كان من واروه في جدث‏
لم يبد منه لناظر شخص‏

يهوى من الدنيا زيادتها
و زيادة الدنيا هي النقص‏

ليد المنية في تلطفها
عن ذخر كل نفيسة فحص‏

و قال أيضا

أبلغ الدهر في مواعظه بل
زاد فيهن لي من الإبلاغ‏

أي عيش يكون أطيب من عيش‏
كفاف قوت بقدر البلاغ‏

غصبتني الأيام أهلي و مالي
و شبابي و صحتي و فراغي‏

صاحب البغي ليس يسلم منه‏
و على نفسه بغي كل باغ‏

رب ذي نعمة تعرض منها
حائل بينه و بين المساغ‏

و قال ابن المعتز

حمدا لربي و ذما للزمان فما
أقل في هذه الدنيا مسراتي‏

كفت يدي أملى عن كل مطلب‏
و أغلقت بابها من دون حاجاتي‏

و له أيضا

أ لست ترى يا صاح ما أعجب الدهرا
فذما له لكن للخالق الشكرا

لقد حبب الموت البقاء الذي أرى‏
فيا حبذا مني لمن سكن القبرا

و سبحان ربي راضيا بقضائه
و كان اتقائي الشر يغري بي الشرا

 و له

قل لدنياك قد تمكنت مني
فافعلي ما أردت أن تفعلي بي‏

و اخرقي كيف شئت خرق جهول‏
إن عندي لك اصطبار لبيب‏

 و قال أبو العلاء المعري-

و الدهر إبرام و نقض و تفريق
و جمع و نهار و ليل‏

لو قال لي صاحبه سمه‏
ما جزت عن ناجية أو بديل‏

و قال آخر

و الدهر لا يبقى على حالة
لا بد أن يدبر أو يقبلا

و قال أبو الطيب

ما لي و للدنيا طلابي نجومها
و مسعاي منها في شدوق الأراقم‏

و قال آخر

لعمرك ما الأيام إلا معارة
فما اسطعت من معروفها فتزود

و قال آخر

لعمرك ما الأيام إلا كما ترى
رزية مال أو فراق حبيب‏

 الوزير المهلبي

أ لا موت يباع فأشتريه
فهذا العيش ما لا خير فيه‏

أ لا رحم المهيمن نفس حر
تصدق بالممات على أخيه‏

 و له

أشكو إلى الله أحداثا من الزمن
يبرينني مثل بري القدح بالسفن‏

لم يبق بالعيش لي إلا مرارته‏
إذا تذوقته و الحلو منه فني‏

لا تحسبن نعما سرتك صحبتها
إلا مفاتيح أبواب من الحزن‏

 عبيد الله بن عبد الله بن طاهر-

ألا أيها الدهر الذي قد مللته
سألتك إلا ما سللت حياتي‏

فقد و جلال الله حببت جاهدا
إلي على كره الممات مماتي‏

 و له

أ لم تر أن الدهر يهدم ما بنى
و يسلب ما أعطى و يفسد ما أسدى‏

فمن سره ألا يرى ما يسوءه‏
فلا يتخذ شيئا يخاف له فقدا

 البحتري

كان الليالي أغريت حادثاتها
بحب الذي نأبى و بغض الذي نهوى‏

و من عرف الأيام لم ير خفضها
نعيما و لم يعدد مضرتها بلوى‏

 أبو بكر الخوارزمي

ما أثقل الدهر على من ركبه
حدثني عنه لسان التجربه‏

لا تشكر الدهر لخير سببه‏
فإنه لم يتعمد بالهبه‏

و إنما أخطأ فيك مذهبه
كالسيل قد يسقي مكانا أخربه‏
و السم يستشفي به من شربه‏

و قال آخر

يسعى الفتى في صلاح العيش مجتهدا
و الدهر ما عاش في إفساده ساعى‏

آخر

يغر الفتى مر الليالي سليمة
و هن به عما قليل عواثر

 آخر

إذا ما الدهر جر على أناس
كلاكله أناخ بآخرينا

فقل للشامتين بنا أفيقوا
سيلقى الشامتون كما لقينا

آخر

قل لمن أنكر حالا منكره
و رأى من دهره ما حيره‏

ليس بالمنكر ما أنكرته‏
كل من عاش رأى ما لم يره‏

 ابن الرومي

سكن الزمان و تحت سكنته
دفع من الحركات و البطش‏

كالأفعوان تراه منبطحا
بالأرض ثم يثور للنهش‏

أبو الطيب

أنا لفي زمن ترك القبيح به
من أكثر الناس إحسان و إجمال‏

ذكر الفتى عمره الثاني و حاجته‏
ما قاته و فضول العيش أشغال‏

و قال آخر

جار الزمان علينا في تصرفه
و أي حر عليه الدهر لم يجر

عندي من الدهر ما لو أن أيسره‏
يلقى على الفلك الدوار لم يدر

آخر

هذا الزمان الذي كنا نحاذره
فيما يحدث كعب و ابن مسعود

إن دام هذا و لم تعقب له غير
لم يبك ميت و لم يفرح بمولود

 آخر

يا زمانا ألبس
الأحرار ذلا و مهانه‏

لست عندي بزمان‏
إنما أنت زمانه‏

أ جنون ما نراه
منك يبدو أم مجانه‏

 الرضي الموسوي-

تأبى الليالي أن تديما
بؤسا لخلق أو نعيما

و المرء بالإقبال يبلغ‏
وادعا خطرا جسيما

فإذا انقضى إقباله
رجع الشفيع له خصيما

و هو الزمان إذا نبا
سلب الذي أعطى قديما

كالريح ترجع عاصفا
من بعد ما بدأت نسيما

أبو عثمان الخالدي-

ألفت من حادثات الدهر أكبرها
فما أعادي على أحداثها الصغر

تزيدني قسوة الأيام طيب نثا
كأنني المسك بين الفهر و الحجر

 السري الرفاء

تنكد هذا الدهر فيما يرومه
على أنه فيما نحاذره ندب‏

فسير الذي نرجوه سير مقيد
و سير الذي نخشى غوائله وثب‏

ابن الرومي

ألا إن في الدنيا عجائب جمة
و أعجبها ألا يشيب وليدها

إذا ذل في الدنيا الأعزاء و اكتست‏
أذلتها عزا و ساد مسودها

هناك فلا جادت سماء بصوبها
و لا أمرعت أرض و لا اخضر عودها

أرى الناس مخسوفا بهم غير أنهم‏
على الأرض لم يقلب عليهم صعيدها

و ما الخسف أن يلفى أسافل بلدة
أعاليها بل أن يسود عبيدها

السري الرفاء

لنا من الدهر خصم لا نطالبه
فما على الدهر لو كفت نوائبه‏

يرتد عنه جريحا من يسالمه‏
فكيف يسلم منه من يحاربه‏

و لو أمنت الذي تجنى أراقمه
علي هان الذي تجنى عقاربه‏

أبو فراس بن حمدان

تصفحت أحوال الزمان و لم يكن
إلى غير شاك للزمان وصول‏

أ كل خليل هكذا غير منصف‏
و كل زمان بالكرام بخيل‏

ابن الرومي

رأيت الدهر يرفع كل وغد
و يخفض كل ذي شيم شريفه‏

كمثل البحر يغرق فيه حي‏
و لا ينفك تطفو فيه جيفه‏

أو الميزان يخفض كل واف
و يرفع كل ذي زنة خفيفه‏

 ابن نباتة

و أصغر عيب في زمانك أنه
به العلم جهل و العفاف فسوق‏

و كيف يسر الحر فيه بمطلب‏
و ما فيه شي‏ء بالسرور حقيق‏

 أبو العتاهية-

لتجذبني يد الدنيا بقوتها
إلى المنايا و إن نازعتها رسني‏

لله دنيا أناس دائبين لها
قد ارتعوا في غياض الغي و الفتن‏

كسائمات رواع تبتغي سمنا
و حتفها لو درت في ذلك السمن‏

 و له أيضا-

أنساك محياك المماتا
فطلبت في الدنيا الثباتا

و قال يزيد بن مفرغ الحميري-

لا ذعرت السوام في فلق الصبح
مغيرا و لا دعيت يزيدا

يوم أعطى من المخافة ضيما
و المنايا يرصدنني أن أحيدا

و قال آخر-

لا تحسبيني يا أمامة
عاجزا دنسا ثيابه‏

إني إذا خفت الهوان‏
مشيع ذلل ركابه‏

مثله قول عنترة-

ذلل ركابي حيث شئت مشايعي
لبي و أحفزه برأي مبرم‏

 و قال آخر-

أ خشية الموت در دركم
أعطيتم القوم فوق ما سألوا

إنا لعمر الإله نأبى الذي قالوا
و لما تقصف الأسل‏

نقبل ضيما و نحن نعرفه
ما دام منا بظهرها رجل‏

 و قال آخر-

و رب يوم حبست النفس مكرهة
فيه لأكبت أعداء أحاشيها

آبى و آنف من أشياء آخذها
رث القوى و ضعيف القوم يعطيها

مثله للشداخ-

أبينا فلا نعطي مليكا ظلامة
و لا سوقة إلا الوشيج المقوما

تروم الخلد في دار التفاني
و كم قد رام قبلك ما تروم‏

لأمر ما تصرمت الليالي‏
و أمر ما تقلبت النجوم‏

تنام و لم تنم عنك المنايا
تنبه للمنية يا نئوم‏

إلى ديان يوم الدين نمضي‏
و عند الله تجتمع الخصوم‏

حسبنا الله وحده- و صلواته على خيرته من خلقه سيدنا محمد و آله الطاهرين- تم الجزء الثالث و يليه الجزء الرابع- و أوله في ذكر يوم النحر و صفة الأضحية

الجزء الرابع

تتمة الخطب و الأوامر

بسم الله الرحمن الرحيم- الحمد لله الواحد العدل الحكيم- و صلى الله على رسوله الكريم 

تتمة الخطبة الثانية و الخمسين

وَ مِنْهَا فِي ذِكْرِ يَوْمِ النَّحْرِ وَ صِفَةِ الْأُضْحِيَّةِ: وَ مِنْ تَمَامِ الْأُضْحِيَّةِ اسْتِشْرَافُ أُذُنِهَا وَ سَلَامَةُ عَيْنِهَا- فَإِذَا سَلِمَتِ الْأُذُنُ وَ الْعَيْنُ سَلِمَتِ الْأُضْحِيَّةُ وَ تَمَّتْ- وَ لَوْ كَانَتْ عَضْبَاءَ الْقَرْنِ تَجُرُّ رِجْلَهَا إِلَى الْمَنْسَكِ قال الرضي رحمه الله- و المنسك هاهنا المذبح الأضحية ما يذبح يوم النحر- و ما يجري مجراه أيام التشريق من النعم- و استشراف أذنها انتصابها و ارتفاعها- أذن شرفاء أي منتصبة- . و العضباء المكسورة القرن- و التي تجر رجلها إلى المنسك كناية عن العرجاء- و يجوز المنسك بفتح السين و كسرها

اختلاف الفقهاء في حكم الأضحية

و اختلف الفقهاء في وجوب الأضحية- فقال أبو حنيفة هي واجبة على المقيمين من أهل‏الأمصار- و يعتبر في وجوبها النصاب- و به قال مالك و الثوري إلا أن مالكا لم يعتبر الإقامة- . و قال الشافعي الأضحية سنة مؤكدة- و به قال أبو يوسف و محمد و أحمد- . و اختلفوا في العمياء هل تجزئ أم لا- فأكثر الفقهاء على أنها لا تجزئ- و كلام أمير المؤمنين ع في هذا الفصل يقتضي ذلك- لأنه قال إذا سلمت العين سلمت الأضحية- فيقتضي أنه إذا لم تسلم العين لم تسلم الأضحية- و معنى انتفاء سلامة الأضحية انتفاء أجزائها- . و حكي عن بعض أهل الظاهر أنه قال تجزئ العمياء- .

و قال محمد بن النعمان- المعروف بالمفيد رضي الله تعالى عنه- أحد فقهاء الشيعة في كتابه المعروف بالمقنعة-إن الصادق ع سئل عن الرجل يهدي الهدي أو الأضحية- و هي سمينة فيصيبها مرض- أو تفقأ عينها أو تنكسر- فتبلغ يوم النحر و هي حية أ تجزئ عنه فقال نعم- .

فأما الأذن فقال أحمد لا يجوز التضحية بمقطوعة الأذن- و كلام أمير المؤمنين ع يقتضي ذلك- و قال سائر الفقهاء تجزئ إلا أنه مكروه- . و أما العضباء- فأكثر الفقهاء على أنها تجزئ إلا أنه مكروه- و كلام أمير المؤمنين ع يقتضي ذلك- و كذلك الحكم في الجلحاء- و هي التي لم يخلق لها قرن- و القصماء و هي التي انكسر غلاف قرنها- و الشرفاء و هي التي انثقبت أذنها من الكي- و الخرقاء و هي التي شقت أذنها طولا- . و قال مالك إن كانت العضباء يخرج من قرنها دم لم تجزئ- . و قال أحمد و النخعي لا تجوز التضحية بالعضباء- .

فأما العرجاء التي كنى عنها بقوله- تجر رجلها إلى المنسك- فأكثر الفقهاء على أنها لا تجزئ- و كلام أمير المؤمنين ع يقتضي أنها تجزئ- و قد نقل أصحاب الشافعي عنه في أحد قوليه- أن الأضحية إذا كانت مريضة مرضا يسيرا أجزأت- . و قال الماوردي من الشافعية- في كتابه المعروف بالحاوي- إن عجزت عن أن تجر رجلها خلقة أجزأت- و إن كان ذلك عن مرض لم تجزئ

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن‏ أبي ‏الحديد)، ج 3 -4

خطبه 51 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

51 و من كلام له ع لما غلب أصحاب معاوية أصحابه ع- على شريعة الفرات بصفين و منعوهم من الماء– :

قَدِ اسْتَطْعَمُوكُمُ الْقِتَالَ- فَأَقِرُّوا عَلَى مَذَلَّةٍ وَ تَأْخِيرِ مَحَلَّةٍ- أَوْ رَوُّوا السُّيُوفَ مِنَ الدِّمَاءِ تَرْوَوْا مِنَ الْمَاءِ- فَالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ- وَ الْحَيَاةُ فِي مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ- أَلَا وَ إِنَّ مُعَاوِيَةَ قَادَ لُمَةً مِنَ الْغُوَاةِ- وَ عَمَّسَ عَلَيْهِمُ الْخَبَرَ- حَتَّى جَعَلُوا نُحُورَهُمْ أَغْرَاضَ الْمَنِيَّةِ استطعموكم القتال كلمة مجازية- و معناها طلبوا القتال منكم- كأنه جعل القتال شيئا يستطعم أي يطلب أكله- و في الحديث إذا استطعمكم الإمام فأطعموه- يعني إمام الصلاة أي إذا ارتج فاستفتحكم فافتحوا عليه- و تقول فلان يستطعمني الحديث- أي يستدعيه مني و يطلبه- . و اللممة بالتخفيف جماعة قليلة- . و عمس عليهم الخبر يجوز بالتشديد و يجوز بالتخفيف- و التشديد يعطي الكثرة و يفيدها- و معناه أبهم عليهم الخبر و جعله مظلما- ليل عماس أي مظلم- و قد عمس الليل نفسه‏ بالكسر- إذا أظلم و عمسه غيره- و عمست عليه عمسا- إذا أريته أنك لا تعرف الأمر و أنت به عارف- . و الأغراض جمع غرض و هو الهدف- . و قوله فأقروا على مذلة و تأخير محلة- أي أثبتوا على الذل و تأخر المرتبة و المنزلة- أو فافعلوا كذا و كذا- . و نحو قوله ع فالموت في حياتكم مقهورين- قول أبي نصر بن نباتة- و الحسين الذي رأى الموت في العز حياة- و العيش في الذل قتلا- . و قال التهامي-

و من فاته نيل العلا بعلومه
و أقلامه فليبغها بحسامه‏

فموت الفتى في العز مثل حياته‏
و عيشته في الذل مثل حمامه‏

و الأشعار في الإباء الأنف من احتمال الضيم- و الذل و التحريض على الحرب كثيرة- و نحن نذكر منها هاهنا طرفا- فمن ذلك قول عمرو بن براقة الهمداني-

و كيف ينام الليل من جل ماله
حسام كلون الملح أبيض صارم‏

كذبتم و بيت الله لا تأخذونها
مراغمة ما دام للسيف قائم‏

و من يطلب المال الممنع بالقنا
يعش ماجدا أو تخترمه الخوارم‏

و مثله-

و من يطلب المال الممنع بالقنا
يعش ماجدا أو يؤذ فيما يمارس‏

و قال حرب بن مسعر

عطفت عليه المهر عطفة باسل
كمي و من لا يظلم الناس يظلم‏

فأوجرته لدن الكعوب مثقفا
فخر صريعا لليدين و للفم‏

و قال الحارث بن الأرقم

و ما ضاق صدري يا سليمى بسخطكم
و لكنني في الحادثات صليب‏

تروك لدار الخسف و الضيم منكر
بصير بفعل المكرمات أريب‏

إذا سامني السلطان ذلا أبيته
و لم أعط خسفا ما أقام عسيب‏

و قال العباس بن مرداس السلمي

بأبي فوارس لا يعرى صواهلها
أن يقبلوا الخسف من ملك و إن عظما

لا و السيوف بأيدينا مجردة
لا كان منا غداة الروع منهزما

و قال وهب بن الحارث

لا تحسبني كأقوام عبثت بهم
لن يأنفوا الذل حتى تأنف الحمر

لا تعلقني قذاة لست فاعلها
و احذر شباتي فقدما ينفع الحذر

فقد علمت بأني غير مهتضم
حتى يلوح ببطن الراحة الشعر

و قال المسيب بن علس

أبلغ ضبيعة أن البلاد
فيها لذي قوة مغضب‏

و قد يقعد القوم في دارهم
إذا لم يضاموا و إن أجدبوا

و يرتحل القوم عند الهوان‏
عن دارهم بعد ما أخصبوا

و قد كان سامة في قومه
له مطعم و له مشرب‏

فساموه خسفا فلم يرضه‏
و في الأرض عن ضيمهم مهرب‏

و قال آخر

إن الهوان حمار القوم يعرفه
و الحر ينكره و الرسلة الأجد

و لا يقيم على خسف يراد به‏
إلا الأذلان عير الحي و الوتد

هذا على الخسف مشدود برمته
و ذا يشج فلا يأوي له أحد

فإن أقمتم على ضيم يراد بكم‏
فإن رحلي له وال و معتمد

و في البلاد إذا ما خفت بادرة
مكروهة عن ولاة السوء مفتقد

و قال بعض بني أسد

إني امرؤ من بني خزيمة لا
أطعم خسفا لناعب نعبا

لست بمعط ظلامة أبدا
عجما و لا أتقي بها عربا

دخل مويلك السدوسي إلى البصرة يبيع إبلا- فأخذ عامل الصدقة بعضها- فخرج إلى البادية و قال-

ناق إني أرى المقام على الضيم
عظيما في قبة الإسلام‏

قد أراني و لي من العامل النصف‏
بحد السنان أو بالحسام‏

ترى جماعتها شتاتا
و عزمت ويك على الحياة

و طولها عزما بتاتا

يا من رأى أبويه فيمن
قد رأى كانا فماتا

هل فيهما لك عبرة
أم خلت إن لك انفلاتا

و من الذي طلب التفلت
من منيته ففاتا

كل تصبحه المنية
أو تبيته بياتا

و له

أرى الدنيا لمن هي في يديه
عذابا كلما كثرت لديه‏

تهين المكرمين لها بصغر
و تكرم كل من هانت عليه‏

إذا استغنيت عن شي‏ء فدعه
و خذ ما أنت محتاج إليه‏

و له

أ لم تر ريب الدهر في كل ساعة
له عارض فيه المنية تلمع‏

أيا باني الدنيا لغيرك تبتني‏
و يا جامع الدنيا لغيرك تجمع‏

أرى المرء وثابا على كل فرصة
و للمرء يوما لا محالة مصرع‏

ينازل ما لا يملك الملك غيره‏
متى تنقضي حاجات من ليس يشبع‏

و أي امرئ في غاية ليس نفسه
إلى غاية أخرى سواها تطلع‏

و له

سل الأيام عن أمم تقضت
ستخبرك المعالم و الرسوم‏

و إلا حساما يبهر العين لمحه
كصاعقة في عارض قد تبسما

أباة الضيم و أخبارهم

سيد أهل الإباء- الذي علم الناس الحمية- و الموت تحت ظلال السيوف اختيارا له على الدنية- أبو عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب ع- عرض عليه الأمان و أصحابه فأنف من الذل- و خاف من ابن زياد أن يناله بنوع من الهوان إن لم يقتله- فاختار الموت على ذلك- . و سمعت النقيب أبا زيد يحيى بن زيد العلوي البصري- يقول كان أبيات أبي تمام في محمد بن حميد الطائي- ما قيلت إلا في الحسين ع-

و قد كان فوت الموت سهلا فرده
إليه الحفاظ المر و الخلق الوعر

و نفس تعاف الضيم حتى كأنه‏
هو الكفر يوم الروع أو دونه الكفر

فأثبت في مستنقع الموت رجله
و قال لها من تحت أخمصك الحشر

تردى ثياب الموت حمرا فما أتى‏
لها الليل إلا و هي من سندس خضر

لما فر أصحاب مصعب عنه- و تخلف في نفر يسير من أصحابه كسر جفن سيفه و أنشد-

فإن الألى بالطف من آل هاشم
تأسوا فسنوا للكرام التأسيا

 فعلم أصحابه أنه قد استقتل- . و من كلام الحسين ع يوم الطف المنقول عنه نقله عنه زين العابدين علي ابنه ع ألا و إن الدعي بن الدعي قد خيرنا بين اثنتين- السلةأو الذلة و هيهات منا الذلة- يأبى الله ذلك لنا و رسوله و المؤمنون- و حجور طابت و حجز طهرت- و أنوف حمية و نفوس أبية و هذا نحو قول أبيه ع و قد ذكرناه فيما تقدم- إن امرأ أمكن عدوا من نفسه- يعرق لحمه و يفري جلده- و يهشم عظمه لعظيم عجزه- ضعيف ما ضمت عليه جوانح صدره- فكن أنت ذاك إن شئت- فأما أنا فدون أن أعطي ذلك ضرب بالمشرفية- تطير منه فراش الهام- و تطيح السواعد و الأقدام – . و قال العباس بن مرداس السلمي-

مقال امرئ يهدي إليك نصيحة
إذا معشر جادوا بعرضك فابخل‏

و إن بوءوك منزلا غير طائل‏
غليظا فلا تنزل به و تحول‏

و لا تطعمن ما يعلفونك إنهم
أتوك على قرباهم بالمثمل‏

أراك إذا قد صرت للقوم ناضحا
يقال له بالغرب أدبر و أقبل‏

فخذها فليست للعزيز بخطة
و فيها مقام لامرئ متذلل‏

و له أيضا

فحارب فإن مولاك حارد نصره
ففي السيف مولى نصره لا يحارد

و قال مالك بن حريم الهمداني-

و كنت إذا قوم غزوني غزوتهم
فهل أنا في ذا يا ل همدان ظالم‏

متى تجمع القلب الذكي و صارما
و أنفا حميا تجتنبك المظالم‏

و قال رشيد بن رميض العنزي

باتوا نياما و ابن هند لم ينم
بات يقاسيها غلام كالزلم‏

خدلج الساقين خفاق القدم‏
قد لفها الليل بسواق حطم‏

ليس براعي إبل و لا غنم
و لا بجزار على ظهر و ضم‏
من يلقني يود كما أودت إرم‏

و قال آخر

و لست بمبتاع الحياة بسبة
و لا مرتق من خشية الموت سلما

و لما رأيت الود ليس بنافعي‏
عمدت إلى الأمر الذي كان أحزما

و من أباة الضيم يزيد بن المهلب- كان يزيد بن عبد الملك يشنؤه قبل خلافته- لأسباب ليس هذا موضع ذكرها- فلما أفضت إليه الخلافة- خلعه يزيد بن المهلب- و نزع يده من طاعته- و علم أنه إن ظفر به قتله و ناله من الهوان ما القتل دونه- فدخل البصرة و ملكها عنوة- و حبس عدي بن أرطاة عامل يزيد بن عبد الملك عليها- فسرح إليه يزيد بن عبد الملك جيشا كثيفا- و يشتمل على ثمانين ألفا من أهل الشام و الجزيرة- و بعث مع الجيش أخاه مسلمة بن عبد الملك- و كان أعرف الناس بقيادة الجيوش و تدبيرها- و أيمن الناس نقيبه في الحرب- و ضم إليه ابن أخيه- العباس بن الوليد بن عبد الملك- فسار يزيد بن المهلب من البصرة فقدم واسط- فأقام بها أياما ثم سار عنها فنزل العقر- و اشتملت جريدة جيشه على مائة و عشرين ألفا- و قدم مسلمة بجيوش الشام- فلما تراءى العسكران و شبت الحرب- أمر مسلمة قائدا من قواده أن يحرق الجسور- التي كان عقدها يزيد بن المهلب فأحرقها- فلما رأى أهل العراق الدخان قد علا انهزموا- فقيل ليزيد بن المهلب قد انهزم الناس- قال و مم انهزموا هل كان قتال ينهزم الناس من مثله- فقيل له إن مسلمة أحرق الجسور فلم يثبتوا- فقال قبحهم الله بق دخن عليه فطار- ثم وقف و معه أصحابه- فقال اضربوا وجوه المنهزمين- ففعلوا ذلك حتى كثروا عليه- و استقبله منهم أمثال الجبال- فقال دعوهم قبحهم الله- غنم عدا في نواحيها الذئب- و كان يزيد لا يحدث نفسه بالفرار- و قد كان أتاه يزيد بن الحكم بن أبي العاص الثقفي بواسط- فقال له

فعش ملكا أو مت كريما فإن تمت
و سيفك مشهور بكفك تعذر

فقال ما شعرت فقال-

إن بني مروان قد باد ملكهم
فإن كنت لم تشعر بذلك فاشعر

 فقال أما هذا فعسى فلما رأى يزيد انهزام أصحابه- نزل عن فرسه و كسر جفن سيفه و استقتل فأتاه آت- فقال إن أخاك حبيبا قد قتل- فزاده ذلك بصيرة في توطينه نفسه على القتل- و قال لا خير في العيش بعد حبيب- و الله لقد كنت أبغض الحياة بعد الهزيمة- و قد ازددت لها بغضا امضوا قدما- فعلم أصحابه أنه مستميت فتسلل عنه من يكره القتال- و بقي معه جماعة خشية فهو يتقدم كلما مر بخيل كشفها- و هو يقصد مسلمة بن عبد الملك لا يريد غيره فلما دنا منه- أدنى مسلمة فرسه ليركب- و حالت خيول أهل الشام بينهما- و عطفت على يزيد بن المهلب- فجالدهم بالسيف مصلتا- حتى قتل و حمل رأسه إلى مسلمة- و قتل معه أخوه محمد بن المهلب- و كان أخوهما المفضل بن المهلب- يقاتل أهل الشام في جهة أخرى- و لا يعلم بقتل أخويه يزيد و محمد- فأتاه أخوه عبد الملك بن المهلب- و قال له ما تصنع و قد قتل يزيد و محمد- و قبلهما قتل حبيب و قد انهزم الناس- . و قد روي أنه لم يأته بالخبر على وجهه- و خاف أن يخبره بذلك فيستقتل و يقتل- فقال له إن الأمير قد انحدر إلى واسط فاقتص أثره- فانحدر المفضل حينئذ- فلما علم بقتل إخوته- حلف ألا يكلم أخاه عبد الملك أبدا- و كانت عين المفضل قد أصيبت من قبل في حرب الخوارج- فقال فضحني عبد الملك فضحه الله- ما عذري إذا رآني الناس- فقالوا شيخ أعور مهزوم ألا صدقني فقتلت ثم قال-

و لا خير في طعن الصناديد بالقنا
و لا في لقاء الناس بعد يزيد

فلما اجتمع من بقي من آل المهلب بالبصرة بعد الكسرة- أخرجوا عدي بن أرطاة أمير البصرة من الحبس- فقتلوه و حملوا عيالهم في السفن البحرية- و لججوا في البحر- فبعث إليهم مسلمة بن عبد الملك بعثا- عليه قائد من قواده فأدركهم في قندابيل- فحاربهم‏ و حاربوه- و تقدم بنو المهلب بأسيافهم- فقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم- و هم المفضل بن المهلب و زياد بن المهلب و مروان بن المهلب و عبد الملك بن المهلب و معاوية بن يزيد بن المهلب و المنهال بن أبي عيينة بن المهلب- و عمرو و المغيرة ابنا قبيصة بن المهلب- و حملت رءوسهم إلى مسلمة بن عبد الملك- و في أذن كل واحد منهم رقعة فيها اسمه- و استؤسر الباقون في الوقعة- فحملوا إلى يزيد بن عبد الملك بالشام- و هم أحد عشر رجلا- فلما دخلوا عليه قام كثير بن أبي جمعة فأنشد-

حليم إذا ما نال عاقب مجملا
أشد العقاب أو عفا لم يثرب‏

فعفوا أمير المؤمنين و حسبة
فما تأته من صالح لك يكتب‏

أساءوا فإن تصفح فإنك قادر
و أفضل حلم حسبة حلم مغضب‏

فقال يزيد أطت بك الرحم يا أبا صخر- لو لا أنهم قدحوا في الملك لعفوت عنهم- ثم أمر بقتلهم فقتلوا- و بقي منهم صبي صغير- فقال اقتلوني فلست بصغير- فقال يزيد بن عبد الملك انظروا هل أنبت- فقال أنا أعلم بنفسي- قد احتلمت و وطئت النساء فاقتلوني- فلا خير في العيش بعد أهلي فأمر به فقتل- . قال أبو عبيدة معمر بن المثنى- و أسماء الأسارى الذين قتلوا صبرا و هم أحد عشر مهلبيا- المعارك و عبد الله و المغيرة و المفضل و المنجاب- بنو يزيد بن المهلب- و دريد و الحجاج و غسان و شبيب و الفضل- بنو المفضل بن المهلب لصلبه- و الفضل بن قبيصة بن المهلب- قال و لم يبق بعد هذه الوقعة الثانية لأهل المهلب باقية- إلا أبو عيينة بن المهلب و عمر بن يزيد بن المهلب- و عثمان بن المفضل بن المهلب- فإنهم لحقوا برتبيل ثم أومنوا بعد ذلك- .و قال الرضي الموسوي رحمه الله تعالى-

ألا لله بادرة الطلاب
و عزم لا يروع بالعتاب‏

و كل مشمر البردين يهوي‏
هوى المصلتات إلى الرقاب‏

أعاتبه على بعد التنائي
فيعذلني على قرب الإياب‏

رأيت العجز يخضع لليالي‏
و يرضى عن نوائبها الغضاب‏

و آمل أن تطاوعني الليالي
و ينشب في المنى ظفري و نابي

و لو لا صولة الأقدار دوني‏
هجمت على العلا من كل باب‏

و قال أيضا

لا يبذ الهموم إلا غلام
يركب الهول و الحسام رديف‏

ما يذل الزمان بالفقر حرا
كيفما كان فالشريف شريف‏

و قال أيضا رحمه الله تعالى-

و لست أضل في طرق المعالي
و نار العز عالية الشعاع‏

و دون المجد رأي مستطيل‏
و باع غير مجبوب الذراع‏

و يعجبني البعاد كان قلبي
يحدث عن عدي بن الرقاع‏

فرد نهي العلاء بلا رقيب‏
و شمر في الأمور بلا نزاع‏

و لا تغررك قعقعة الأعادي
فذاك الصخر خر من اليفاع‏

و نحن أحق بالدنيا و لكن‏
تخيرت القطوف على الوساع‏

و قال حارثة بن بدر الغداني-

أهان و أقصى ثم ينتصحونني
و من ذا الذي يعطي نصيحته قسرا

رأيت أكف المصلتين عليكم‏
ملاء و كفى من عطائكم صفرا

متى تسألوني ما علي و تمنعوا
الذي لي لا أستطيع في ذلكم صبرا

و قال بعض الخوارج-

تعيرني بالحرب عرسي و ما درت
بأني لها في كل ما أمرت ضد

لحا الله قوما يقعدون و عندهم‏
سيوف و لم يعصب بأيديهم قد

و قال الأعشى-

أ بالموت خشتني عباد و إنما
رأيت منايا القوم يسعى دليلها

و ما موتة إن متها غير عاجز
بعار إذا ما غالت النفس غولها

و قال آخر-

فلا أسمعن فيكم بأمر هضيمة
و ضيم و لا تسمع به هامتي بعدي‏

فإن السنان يركب المرء حده‏
من الضيم أو يعدو على الأسد الورد

و مثله

إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته
على طرف الهجران إن كان يعقل‏

و يركب حد السيف من أن تضيمه‏
إذا لم يكن عن شفرة السيف معدل‏

و قال آخر-

كرهوا الموت فاستبيح حماهم
و أقاموا فعل اللئيم الذليل‏

أ من الموت تهربون فإن‏
الموت الذليل غير جميل‏

و قال بشامة بن الغدير-

و إن التي سامكم قومكم
هم جعلوها عليكم عدولا

أ خزي الحياة و كره الممات‏
فكلا أراه طعاما وبيلا

فإن لم يكن غير إحداهما
فسيروا إلى الموت سيرا جميلا

و لا تقعدوا و بكم منة
كفى بالحوادث للمرء غولا

قال يزيد بن المهلب في حرب جرجان لأخيه أبي عيينة- ما أحسن منظر رأيت في هذه الحرب- قال سيف بن أبي سبرة و بيضته- و كان عبد الله بن أبي سبرة حمل على غلام تركي- قد أفرج الناس له و صدوا عنه لبأسه و شجاعته- فتضاربا ضربتين- فقتله ابن أبي سبرة بعد أن ضربه التركي في رأسه- فنشب سيفه في بيضة ابن أبي سبرة- فعاد إلى الصف و سيفه مصبوغ بدم التركي- و سيف التركي ناشب في بيضته كجزء منها يلمع- فقال الناس هذا كوكب الذنب و عجبوا من منظره- . و قال هدبة بن خشرم

و إني إذ ما الموت لم يك دونه
قدى الشبر أحمى الأنف أن أتأخرا

و لكنني أعطي الحفيظة حقها
فأعرف معروفا و أنكر منكرا

و قال آخر

إني أنا المرء لا يغضي على ترة
و لا يقر على ضيم إذا غشما

ألقى المنية خوفا أن يقال فتى
أمسى و قد ثبت الصفان منهزما

و قال آخر-

قوض خيامك و التمس بلدا
تنأى عن الغاشيك بالظلم‏

أو شد شدة بيهس فعسى‏
أن يتقوك بصفحة السلم‏

استنصر سبيع بن الخطيم التيمي من بني تيم- اللات بن ثعلبة زيد الفوارس الضبي فنصره- فقال

نبهت زيدا فلم أفزع إلى وكل
رث السلاح و لا في الحي مغمور

سالت عليه شعاب الحي حين دعا
أنصاره بوجوه كالدنانير

و قال أبو طالب بن عبد المطلب-

كذبتم و بيت الله نخلي محمدا
و لما نطاعن دونه و نناضل‏

و ننصره حتى نصرع حوله‏
و نذهل عن أبنائنا و الحلائل‏

لما برز علي و حمزة و عبيدة ع يوم بدر- إلى عتبة و شيبة و الوليد- قتل علي ع الوليد- و قتل حمزة شيبة على اختلاف في رواية ذلك- هل كان شيبة قرنه أم عتبة- و تجالد عبيدة و عتبة بسيفيهما- فجرح عبيدة عتبة في رأسه- و قطع عتبة ساق عبيدة- فكر علي و حمزة ع على صاحبهما- فاستنقذاه من عتبة- و خبطاه بسيفيهما حتى قتلاه و احتملا صاحبهما- فوضعاه بين يدي رسول الله ص في العريش- و هو يجود بنفسه و إن مخ ساقه ليسيل- فقال يا رسول الله لو كان أبو طالب حيا لعلم- أني أولى منه بقوله-

كذبتم و بيت الله نخلي محمدا
و لما نطاعن دونه و نناضل‏

و ننصره حتى نصرع حوله‏
و نذهل عن أبنائنا و الحلائل‏

فبكى رسول الله صو قال اللهم أنجز لي ما وعدتني- اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض لما قدم جيش الحرة إلى المدينة- و على الجيش مسلم بن عقبة المري أباح المدينة ثلاثا- و استعرض أهلها بالسيف جزرا- كما يجزر القصاب الغنم- حتى ساخت الأقدام في الدم- و قتل أبناء المهاجرين و الأنصار و ذرية أهل بدر- و أخذ البيعة ليزيد بن معاوية- على كل من استبقاه من الصحابة و التابعين- على أنه عبد قن لأمير المؤمنين يزيد بن معاوية- هكذا كانت صورة المبايعة يوم الحرة- إلا علي بن الحسين بن علي ع- فإنه أعظمه و أجلسه معه على سريره- و أخذ بيعته على أنه أخو أمير المؤمنين- يزيد بن معاوية و ابن عمه- دفعا له عما بايع عليه غيره- و كان ذلك بوصاة من يزيد بن معاوية له- فهرب علي بن عبد الله بن العباس رحمه الله تعالى- إلى أخواله من كندة- فحموه من مسلم بن عقبة- و قالوا لا يبايع ابن أختنا- إلا على ما بايع عليه ابن عمه علي بن الحسين- فأبى مسلم بن عقبة ذلك- و قال إني لم أفعل ما فعلت إلا بوصاة أمير المؤمنين- و لو لا ذلك لقتلته- فإن أهل هذا البيت أجدر بالقتل- أو لأخذت بيعته على ما أخذت عليه بيعة غيره- و سفر السفراء بينه و بينهم- حتى وقع الاتفاق على أن يبايع و يقول- أنا أبايع لأمير المؤمنين يزيد بن معاوية- و ألتزم طاعته و لا يقول غير ذلك- فقال علي بن عبد الله بن العباس-

أبي العباس رأس بني قصي
و أخوالي الملوك بنو وليعه‏

هم منعوا ذماري يوم جاءت‏
كتائب مسرف و بنو اللكيعه‏

أراد بي التي لا عز فيها
فحالت دونه أيد منيعه‏

مسرف كناية عن مسلم- و أم علي بن عبد الله بن العباس زرعة بنت مشرح- بن معديكرب بن وليعة بن شرحبيل بن معاوية بن كندة- . قال الحسين بن الحمام-

و لست بمبتاع الحياة بسبة
و لا مرتق من خشية الموت سلما

تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد
لنفسي حياة مثل أن أتقدما

فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا
و لكن على أقدامنا تقطر الدما

نفلق هاما من رجال أعزة
علينا و هم كانوا أعق و أظلما

أبى لابن سلمى أنه غير خالد
ملاقي المنايا أي صرف تيمما

ابن سلمى يعني نفسه و سلمى أمه- . و قال الطرماح بن حكيم-

و ما منعت دار و لا عز أهلها
من الناس إلا بالقنا و القنابل

و قال آخر-

و إن التي حدثتها في أنوفنا
و أعناقنا من الإباء كما هيا

و قال آخر-

فإن تكن الأيام فينا تبدلت
ببؤسي و نعمى و الحوادث تفعل‏

فما لينت منا قناة صليبة
و لا ذللتنا للتي ليس تجمل‏

و لكن رحلناها نفوسا كريمة
تحمل ما لا يستطاع فتحمل‏

و قال آخر-

إذا جانب أعياك فاعمد لجانب
فإنك لاق في البلاد معولا

و قال أبو النشناش-

إذا المرء لم يسرح سواما و لم يرح
سواما و لم تعطف عليه أقاربه‏

فللموت خير للفتى من قعوده‏
عديما و من مولى تدب عقاربه‏

و لم أر مثل الهم ضاجعه الفتى
و لا كسواد الليل أخفق طالبه‏

فعش معدما أو مت كريما فإنني‏
أرى الموت لا ينجو من الموت هاربه‏

– . وفد يحيى بن عروة بن الزبير على عبد الملك- فجلس يوما على بابه ينتظر إذنه- فجرى ذكر عبد الله بن الزبير- فنال منه حاجب عبد الملك- فلطم يحيى وجهه حتى أدمى أنفه- فدخل على عبد الملك و دمه يجري من أنفه- فقال من ضربك قال يحيى بن عروة- قال أدخله و كان عبد الملك متكئا فجلس فلما دخل- قال ما حملك على ما صنعت بحاجبي- قال يا أمير المؤمنين- إن عمي عبد الله كان أحسن جوارا لعمتك منك لنا- و الله إن كان ليوصي أهل ناحيته ألا يسمعوها قذعا- و لا يذكروكم عندها إلا بخير- و إن كان ليقول لها من سب أهلك فقد سب أهله- فأنا و الله المعم المخول- تفرقت العرب بين عمي و خالي- فكنت كما قال الأول-

يداه أصابت هذه حتف هذه
فلم تجد الأخرى عليها مقدما

 فرجع عبد الملك إلى متكئه- و لم يزل يعرف منه الزيادة في إكرام يحيى بعدها- .
و أم يحيى هذه- ابنة الحكم بن أبي العاص عمة عبد الملك بن مروان- . و قال سعيد بن عمر الحرشي أمير خراسان-

فلست لعامر إن لم تروني
أمام الخيل أطعن بالعوالي‏

و أضرب هامة الجبار منهم‏
بماضي الغرب حودث بالصقال‏

فما أنا في الحروب بمستكين
و لا أخشى مصاولة الرجال‏

أبى لي والدي من كل ذم‏
و خالي حين يذكر خير خال‏

– . قال عبد الله بن الزبير لما خطب حين أتاه نعي مصعب- أما بعد فإنه أتانا من العراق خبر أفرحنا و أحزننا- أتانا خبر قتل المصعب- فأما الذي أحزننا فلوعة يجدها الحميم عند فراق حميمه- ثم يرعوي بعدها ذو اللب إلى حسن الصبر و كرم العزاء- . و أما الذي أفرحنا فإن ذلك كان له شهادة- و كان لنا و له خيرة- إنا و الله ما نموت حبجا كما يموت آل أبي العاص- ما نموت إلا قتلا قعصا بالرماح- و موتا تحت ظلال السيوف- فإن يهلك المصعب فإن في آل الزبير لخلفا- . و خطب مرة أخرى فذكره فقال- لوددت و الله أن الأرض قاءتني عنده- حين لفظ غصته و قضى نحبه- شعر-

خذيه فجريه ضباع و أبشري
بلحم امرئ لم يشهد اليوم ناصره‏

و قال الشداخ بن يعمر الكناني-

قاتلوا القوم يا خزاع و لا
يدخلكم من قتالهم فشل‏

القوم أمثالكم لهم شعر
في الرأس لا ينشرون إن قتلوا

و قال يحيى بن منصور الحنفي-

و لما نأت عنا العشيرة كلها
أنخنا فحالفنا السيوف على الدهر

فما أسلمتنا عند يوم كريهة
و لا نحن أغضينا الجفون على وتر

– . قيل لرجل شهد يوم الطف مع عمر بن سعد- و يحك أ قتلتم ذرية رسول الله ص- فقال عضضت بالجندل- إنك لو شهدت ما شهدنا لفعلت ما فعلنا- ثارت علينا عصابة- أيديها في مقابض سيوفها كالأسود الضارية- تحطم الفرسان يمينا و شمالا- و تلقي أنفسها على الموت- لا تقبل الأمان و لا ترغب في المال- و لا يحول حائل بينها و بين الورود على حياض المنية- أو الاستيلاء على الملك- فلو كففنا عنها رويدا- لأتت على نفوس العسكر بحذافيرها- فما كنا فاعلين لا أم لك- . السخاء من باب الشجاعة و الشجاعة من باب السخاء- لأن الشجاعة إنفاق العمر و بذله فكانت سخاء- و السخاء إقدام على إتلاف ما هو عديل المهجة- فكان شجاعة- أبو تمام في تفضيل الشجاعة على السخاء-

كم بين قوم إنما نفقاتهم
مال و قوم ينفقون نفوسا

قيل لشيخنا أبي عبد الله البصري رحمه الله تعالى- أ تجد في النصوص ما يدل على تفضيل علي ع- بمعنى كثرة الثواب لا بمعنى كثرة مناقبه- فإن ذاك أمر مفروغ منه فذكر حديث الطائر المشوي- و أن المحبة من الله تعالى إرادة الثواب- فقيل له قد سبقك الشيخ أبو علي رحمه الله تعالى إلى هذا- فهل تجد غير ذلك- قال نعم قول الله تعالى- إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا- كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ- فإذا كان أصل المحبة لمن ثبت- كثبوت البنيان المرصوص- فكل من زاد ثباته زادت المحبة له- و معلوم أن عليا ع ما فر في زحف قط- و فر غيره في غير موطن- . و قال أبو تمام-

السيف أصدق أنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد و اللعب‏

بيض الصفائح لا سود الصحائف في‏
متونهن جلاء الشك و الريب‏

و العلم في شهب الأرماح لامعة
بين الخميسين لا في السبعة الشهب‏

و قال أبو الطيب المتنبي

حتى رجعت و أقلامي قوائل لي
المجد للسيف ليس المجد للقلم‏

اكتب بنا أبدا بعد الكتاب به
فإنما نحن للأسياف كالخدم‏

أسمعتني و دوائي ما أشرت به‏
فإن غفلت فدائي قلة الفهم‏

من اقتضى بسوى الهندي حاجته
أجاب كل سؤال عن هل بلم‏

قال عطاف بن محمد الألوسي-

أ مكابد الزفرات مؤصدة
تلتذ خوف القطع بالشلل‏

صرف همومك تنتدب همما
فالسكر يعقب نشوة الثمل‏

و لليلة الميلاد مفرحة
تنسي الحوامل أشهر الحبل‏

سر في البلاد تخوضها لججا
فالدر ليس يصاب في الوشل‏

و اجعل لصبوتك الظبا سكنا
و الدور أكوارا على الإبل‏

و العيش و الوطن الممهد في‏
غرب الحسام و غارب الجمل

و اشدد عليك و خذ إليك و دع
ضعة الخمول و فترة الكسل

و ارم العداة بكل صائبة
ما الرمي موقوفا على ثعل‏

لا تحسب النكبات منقصة
قد يستجاد السيف بالفلل‏

و قال عروة بن الورد-

لحا الله صعلوكا إذا جن ليله
مصافي المشاش آلفا كل مجزر

يعد الغنى من نفسه كل ليلة
أصاب قراها من صديق ميسر

ينام عشاء ثم يصبح ناعسا
يحت الحصى من جنبه المتعفر

يعين نساء الحي ما يستعنه
و يمسي طليحا كالبعير المحسر

و لكن صعلوكا صفيحة وجهه‏
كضوء شهاب القابس المتنور

مطلا على أعدائه يزجرونه
بساحتهم زجر المنيح المشهر

و إن قعدوا لا يأمنون اقترابه‏
تشوف أهل الغائب المتنظر

فذلك إن يلق المنية يلقها
حميدا و إن يستغن يوما فأجدر

 و قال آخر-

و لست بمولى سوءة أدعي لها
فإن لسوآت الأمور مواليا

و سيان عندي أن أموت و أن أرى‏
كبعض رجال يوطنون المخازيا

و لن يجد الناس الصديق و لا العدا
أديمي إذا عدوا أديمي واهيا

و إن نجاري بابن غنم مخالف‏
نجار لئام فابغني من ورائيا

و لست بهياب لمن لا يهابني
و لست أرى للمرء ما لا يرى ليا

إذا المرء لم يحببك إلا تكرها
عراض العلوق لم يكن ذاك باقيا

نهار بن توسعة في يزيد بن المهلب-

و ما كنا نؤمل من أمير
كما كنا نؤمل من يزيد

فأخطأ ظننا فيه و قدما
زهدنا في معاشرة الزهيد

إذا لم يعطنا نصفا أمير
مشينا نحوه مشي الأسود

كان هدبة اليشكري- و هو ابن عم شوذب الخارجي اليشكري شجاعا مقداما- و كان ابن عمه بسطام الملقب شوذبا- الخارج في خلافة عمر بن عبد العزيز و يزيد بن عبد الملك- فأرسل إليه يزيد بن عبد الملك جيشا كثيفا فحاربه- فانكشفت الخوارج و ثبت هدبة و أبى الفرار- فقاتل حتى قتل- فقال أيوب بن خولي يرثيه-

فيا هدب للهيجا و يا هدب للندى
و يا هدب للخصم الألد يحاربه‏

و يا هدب كم من ملحم قد أجبته‏
و قد أسلمته للرماح كتائبه‏

تزودت من دنياك درعا و مغفرا
و عضبا حساما لم تخنك مضاربه‏

و أجرد محبوك السراة كأنه‏
إذا انفض وافى الريش حجن مخالبه‏

 كانت وصايا إبراهيم الإمام و كتبه- ترد إلى أبي مسلم بخراسان- إن استطعت ألا تدع بخراسان أحدا- يتكلم بالعربية إلا و قتلته فافعل- و أيما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه‏

فاقتله و عليك بمضر- فإنهم العدو القريب الدار فأبد خضراءهم- و لا تدع على الأرض منهم ديارا- . قال المتنبي-

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدم‏

و له-

و من عرف الأيام معرفتي بها
و بالناس روى رمحه غير راحم‏

فليس بمرحوم إذا ظفروا به‏
و لا في الردى الجاري عليهم بآثم‏

و قال المتنبي أيضا-

ردي حياض الردى يا نفس و اطرحي
حياض خوف الردى للشاء و النعم‏

إن لم أذرك على الأرماح سائلة
فلا دعيت ابن أم المجد و الكرم‏

و من أباة الضيم- قتيبة بن مسلم الباهلي أمير خراسان و ما وراء النهر- لم يصنع أحد صنيعه في فتح بلاد الترك- و كان الوليد بن عبد الملك- أراد أن ينزع أخاه سليمان بن عبد الملك من العهد بعده- و يجعله في ابنه عبد العزيز بن الوليد- فأجابه إلى ذلك قتيبة بن مسلم و جماعة من الأمراء- فلما مات الوليد قبل إتمام ذلك- و قام سليمان بالأمر بعده- و كان‏ قتيبة أشد الناس في أمر سليمان و خلعه عن العهد- علم أنه سيعزله عن خراسان و يوليها يزيد بن المهلب- لود كان بينه و بين سليمان- فكتب قتيبة إليه كتابا يهنئه بالخلافة- و يذكر بلاءه و طاعته لعبد الملك و للوليد بعده- و أنه على مثل ذلك إن لم يعزله عن خراسان- و كتب إليه كتابا آخر يذكره فيه بفتوحه و آثاره- و نكايته في الترك- و عظم قدره عند ملوكهم- و هيبة العجم و العرب له و عظم صيته فيهم- و يذم آل المهلب و يحلف له بالله- لئن استعمل يزيد بن المهلب خراسان ليخلعنه- و ليملأنها عليه خيلا و رجلا- و كتب كتابا ثالثا فيه خلع سليمان- و بعث بالكتب الثلاثة مع رجل من قومه من باهلة يثق به- و قال له ادفع الكتاب الأول إليه- فإن كان يزيد بن المهلب حاضرا عنده- فقرأ الكتاب ثم دفعه إلى يزيد فادفع إليه هذا الثاني- فإن قرأه و ألقاه إليه أيضا فادفع إليه الثالث- و إن قرأ الكتاب الأول و لم يدفعه إلى يزيد- فاحتبس الكتابين الآخرين معك- .

فقدم الرسول على سليمان- و دخل عليه و عنده يزيد بن المهلب- فدفع إليه الكتاب الأول- فقرأ و ألقاه إلى يزيد- فدفع إليه الكتاب الثاني- فقرأه و ألقاه إلى يزيد أيضا فدفع إليه الكتاب الثالث- فقرأه و تغير لونه و طواه و أمسكه بيده- و أمر بإنزال الرسول و إكرامه- ثم أحضره ليلا و دفع إليه جائزته- و أعطاه عهد قتيبة على خراسان- و كان ذلك مكيدة من سليمان يسكنه ليطمئن ثم يعزله- و بعث مع رسوله رسولا- فلما كان بحلوان بلغه خلع قتيبة سليمان بن عبد الملك- فرجع رسول سليمان إليه- فلما اختلفت العرب على قتيبة حين أبدى صفحته لسليمان- و خلع ربقة الطاعة- بايعوا وكيع بن أبي سود التميمي على أمارة خراسان- و كانت أمراء القبائل قد تنكرت لقتيبة لإذلاله إياهم- و استهانته بهم و استطالته عليهم و كرهوا إمارته- فكانت بيعة وكيع في أول الأمر را- ثم ظهر لقتيبة أمره فأرسل إليه يدعوه- فوجده قد طلا رجله بمغرة و علق في عنقه خرزا- و عنده رجلان يرقيان رجله- فقال للرسول قد ترى ما برجلي- فرجع و أخبر قتيبة فأعاده إليه- فقال قل له ليأتيني محمولا قال لا أستطيع- فقال قتيبة لصاحب شرطته انطلق إلى وكيع فأتني به- فإن أبى فاضرب عنقه و ائتني برأسه و وجه معه خيلا- فقال وكيع لصاحب الشرطة- البث قليلا تلحق الكتائب- و قام فلبس سلاحه- و نادى في الناس فأتوه فخرج فتلقاه رجل- فقال ممن أنت فقال من بني أسد- فقال ما اسمك فقال ضرغام- فقال ابن من قال ابن ليث فتيمن به و أعطاه رايته- و أتاه الناس إرسالا من كل وجه فتقدم بهم و هو يقول-

قرم إذا حمل مكروهة
شد الشراسيف لها و الحزيم‏

 و اجتمع إلى قتيبة أهله و ثقاته- و أكثر العرب ألسنتهم له و قلوبهم عليه- فأمر قتيبة رجلا فنادى أين بنو عامر- و قد كان قتيبة جفاهم في أيام سلطانه- فقال له مجفر بن جزء الكلابي نادهم حيث وضعتهم- فقال قتيبة أنشدكم الله و الرحم- و ذاك لأن باهلة و عامرا من قيس عيلان- فقال مجفر أنت قطعتها- قال فلكم العتبى- فقال مجفر لا أقالنا الله إذا- فقال قتيبة

يا نفس صبرا على ما كان من ألم
إذ لم أجد لفضول العيش أقرانا

ثم دعا ببرذون له مدرب ليركبه- فجعل يمنعه الركوب حتى أعيا- فلما رأى ذلك‏ عاد إلى سريره فجلس- و قال دعوه فإن هذا أمر يراد- و جاء حيان النبطي و هو يومئذ أمير الموالي- و عدتهم سبعة آلاف و كان واجدا على قتيبة- فقال له عبد الله بن مسلم أخو قتيبة احمل يا حيان- فقال لم يأن بعد فقال له ناولني قوسك- فقال حيان ليس هذا بيوم قوس- ثم قال حيان لابنه إذ رأيتني قد حولت قلنسوتي- و مضيت نحو عسكر وكيع فمل بمن معك من العجم إلي- فلما حول حيان قلنسوته و مضى نحو عسكر وكيع- مالت الموالي معه بأسرها- فبعث قتيبة أخاه صالح بن مسلم إلى الناس- فرماه رجل من بني ضبة فأصاب رأسه- فحمل إلى قتيبة و رأسه مائل فوضعه على مصلاه- و جلس عند رأسه ساعة و تهايج الناس- و أقبل عبد الرحمن بن مسلم أخو قتيبة نحوهم- فرماه الغوغاء و أهل السوق فقتلوه- و أشير على قتيبة بالانصراف- فقال الموت أهون من الفرار- و أحرق وكيع موضعا كانت فيه إبل قتيبة و دوابه- و زحف بمن معه حتى دنا منه- فقاتل دونه رجل من أهله قتالا شديدا- فقال له قتيبة أنج بنفسك- فإن مثلك يضن به عن القتل- قال بئسما جزيتك به أيها الأمير إذا- و قد أطعمتني الجردق و ألبستني النمرق- و تقدم الناس حتى بلغوا فسطاط قتيبة- فأشار عليه نصحاؤه بالهرب- فقال إذا لست لمسلم بن عمرو- ثم خرج إليهم بسيفه يجالدهم- فجرح جراحات كثيرة- حتى ارتث و سقط فأكبوا عليه فاحتزوا رأسه- و قتل معه من إخوته عبد الرحمن و عبد الله و صالح- و الحصين و عبد الكريم و مسلم- و قتل معه جماعة من أهله- و عدة من قتل معه من أهله و إخوته أحد عشر رجلا- و صعد وكيع بن أبي سود المنبر و أنشد-

من ينك العير ينك نياكا

إن قتيبة أراد قتلي و أنا قتال الأقران ثم أنشد-

قد جربوني ثم جربوني
من غلوتين و من المئين‏

حتى إذا شبت و شيبوني‏
خلوا عناني ثم سيبوني‏

حذار مني و تنكبوني
فإنني رام لمن يرميني‏

 ثم قال أنا أبو مطرف يكررها مرارا ثم قال-

أنا ابن خندف تنميني قبائلها
للصالحات و عمي قيس عيلانا

ثم أخذ بلحيته- و قال إني لأقتلن ثم لأقتلن و لأصلبن ثم لأصلبن- إن مرزبانكم هذا ابن الزانية قد أغلى أسعاركم- و الله لئن لم يصر القفيز بأربعة دراهم لأصلبنه- صلوا على نبيكم- . ثم نزل و طلب رأس قتيبة و خاتمه- فقيل له إن الأزد أخذته فخرج مشهرا- و قال و الله الذي لا إله إلا هو لا أبرح حتى أوتي بالرأس- أو يذهب رأسي معه- فقال له الحصين بن المنذر يا أبا مطرف فإنك تؤتى به- ثم ذهب إلى الأزد فأخذ الرأس و أتاه به- فسيره إلى سليمان بن عبد الملك- فأدخل عليه و معه رءوس إخوته و أهله- و عنده الهذيل بن زفر بن الحارث الكلابي- فقال أ ساءك هذا يا هذيل- قال لو ساءني لساء ناسا كثيرا- فقال سليمان ما أردت هذا كله- و إنما قال سليمان ذلك للهذيل- لأن قيس عيلان تجمع كلابا و باهلة- قالوا ما ولي خراسان أحد كقتيبة بن مسلم- و لو كانت باهلة في الدناءة و الضعة- و اللؤم إلى أقصى غاية- لكان لها بقتيبة الفخر على قبائل العرب- .

قال رؤساء خراسان من العجم لما قتل قتيبة- يا معشر العرب قتلتم قتيبة- و الله لو كان منا ثم مات لجعلناه في تابوت- فكنا نستفتح به إذا غزونا- . و قال الأصبهبذ يا معشر العرب- قتلتم قتيبة و يزيد بن المهلب لقد جئتم شيئا إدا- فقيل له أيهما كان أعظم عندكم و أهيب- قال لو كان قتيبة بأقصى حجرة في المغرب- مكبلا بالحديد و القيود- و يزيد معنا في بلدنا وال علينا- لكان قتيبة أهيب في صدورنا و أعظم- . و قال عبد الرحمن بن جماعة الباهلي يرثي قتيبة-

كأن أبا حفص قتيبة لم يسر
بجيش إلى جيش و لم يعل منبرا

و لم تخفق الرايات و الجيش حوله‏
صفوفا و لم يشهد له الناس عسكرا

دعته المنايا فاستجاب لربه
و راح إلى الجنات عفا مطهرا

فما رزئ الإسلام بعد محمد
بمثل أبي حفص فبكيه عبهرا

عبهر أم ولد له- .

و في الحديث الصحيح أن من خير الناس رجلا ممسكا بعنان فرسه في سبيل الله- كلما سمع هيعة طار إليها – . كتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد- و اعلم أن عليك عيونا من الله ترعاك و تراك- فإذا لقيت العدو- فاحرص على الموت توهب لك الحياة- و لا تغسل الشهداء من دمائهم- فإن دم الشهيد يكون له نورا يوم القيامة- .عمر لا تزالون أصحاء ما نزعتم و نزوتم- يزيد ما نزعتم في القوس و نزوتم على الخيل- بعض الخوارج

و من يخش أظفار المنايا فإننا
لبسنا لهن السابغات من الصبر

و إن كريه الموت عذب مذاقه‏
إذا ما مزجناه بطيب من الذكر

حفص منصور بن عمار في قصصه على الغزو و الجهاد- فطرحت في المجلس صرة فيها شي‏ء- ففتحت فإذا فيها ضفيرتا امرأة و قد كتبت- رأيتك يا ابن عمار تحض على الجهاد- و و الله إني لا أملك لنفسي مالا- و لا أملك سوى ضفيرتي هاتين- و قد ألقيتهما إليك- فتالله إلا جعلتهما قيد فرس غاز في سبيل الله- فلعل الله أن يرحمني بذلك- . فارتج المجلس بالبكاء و الضجيج- . لبعض شعراء العجم-

وا سوءتا لامرئ شبيبته
في عنفوان و ماؤه خضل‏

راض بنزر المعاش مضطهد
على تراث الآباء يتكل‏

لا حفظ الله ذاك من رجل
و لا رعاه ما أطت الإبل‏

كلا و ربي حتى تكون فتى‏
قد نهكته الأسفار و الرحل‏

مشمرا يطلب الرئاسة أو
يضرب يوما بهلكه المثل‏

حتى متى تتبع الرجال و لا
تتبع يوما لأمك الهبل‏

عبد الله بن ثعلبة الأزدي

فلئن عمرت لأشفين
النفس من تلك المساعي‏

و لأعلمن البطن أن‏
الزاد ليس بمستطاع‏

أما النهار فقد أرى
قومي بمرقبة يفاع‏

في قرة هلك و شوك‏
مثل أنياب الأفاعي‏

ترد السباع معي فتحسبني
السباع من السباع‏

مجير الجراد أبو حنبل حارثة بن مر الطائي- أجار جرادا نزل به و منع من صيده- حتى طار من أرضه فسمي مجير الجراد- . و قال هلال بن معاوية الطائي-

و بالجبلين لنا معقل
صعدنا إليه بصم الصعاد

ملكناه في أوليات الزمان‏
من قبل نوح و من قبل عاد

و منا ابن مر أبو حنبل
أجار من الناس رجل الجراد

و زيد لنا و لنا حاتم‏
غياث الورى في السنين الشداد

و قال يحيى بن منصور الحنفي-

و لما نأت عنا العشيرة كلها
أنخنا فحالفنا السيوف على الدهر

فما أسلمتنا عند يوم كريهة
و لا نحن أغضينا الجفون على وتر

و قال آخر-

أرق لأرحام أراها قريبة
لحار بن كعب لا لجرم و راسب‏

و و إنا نرى أقدامنا في نعالهم‏
و آنفنا بين اللحى و الحواجب‏

و أقدامنا يوم الوغى و إباءنا
إذا ما أبينا لا ندر لعاصب‏

حاصرت الترك مدينة برذعة من أعمال آذربيجان- في أيام هشام بن عبد الملك حصارا شديدا- و استضعفتها و كادت تملكها- و توجه إليها لمعاونتها سعيد الحرشي- من قبل هشام بن عبد الملك في جيوش كثيفة- و علم الترك بقربه منهم فخافوا- و أرسل سعيد واحدا من أصحابه إلى أهل برذعة سرا- يعرفهم وصوله و يأمرهم بالصبر خوفا ألا يدركهم- فسار الرجل و لقيه قوم من الترك- فأخذوه و سألوه عن حاله فكتمهم فعذبوه- فأخبرهم و صدقهم- فقالوا إن فعلت ما نأمرك به أطلقناك و إلا قتلناك- فقال ما تريدون- قالوا أنت عارف بأصحابك ببرذعة و هم يعرفونك- فإذا وصلت تحت السور فنادهم إنه ليس خلفي مدد- و لا من يكشف ما بكم و إنما بعثت جاسوسا- فأجابهم إلى ذلك فلما صار تحت سورها- وقف حيث يسمع أهلها كلامه و قال لهم أ تعرفونني- قالوا نعم أنت فلان بن فلان- قال فإن سعيدا الحرشي قد وصل إلى مكان كذا- في مائة ألف سيف- و هو يأمركم بالصبر و حفظ البلد- و هو مصبحكم أو ممسيكم- فرفع أهل برذعة أصواتهم بالتكبير- و قتلت الترك ذلك الرجل و رحلوا عنها و وصل سعيد- فوجد أبوابها مفتوحة و أهلها سالمين- . و قال الراجز-

من كان ينوي أهله فلا رجع
فر من الموت و في الموت وقع‏

أشرف معاوية يوما فرأى عسكر علي ع بصفين فهاله- فقال من طلب عظيما خاطر بعظيمته- . و قال الكلحبة

إذا المرء لم يغش المكارة أوشكت
حبال الهوينى بالفتى أن تقطعا

و من شعر الحماسة-

أقول لها و قد طارت شعاعا
من الأبطال ويحك لا تراعي‏

فإنك لو سألت بقاء يوم‏
على الأجل الذي لك لم تطاعي

فصبرا في مجال الموت صبرا
فما نيل الخلود بمستطاع‏

و لا ثوب البقاء بثوب عز
فيطوى عن أخي الخنع اليراع‏

سبيل الموت غاية كل حي
فداعيه لأهل الأرض داع‏

و من لا يعتبط يسأم و يهرم‏
و تسلمه المنون إلى انقطاع‏

و ما للمرء خير في حياة
إذا ما عد من سقط المتاع‏

و منه أيضا-

و في الشر نجاة حين لا ينجيك إحسان‏

و منه أيضا-

و لم ندر إن جضنا عن الموت جيضة
كم العمر باق و المدى متطاول‏

و منه أيضا-

و لا يكشف الغماء إلا ابن حرة
يرى غمرات الموت ثم يزورها

و منه أيضا-

فلا تحسبي أني تخشعت بعدكم
لشي‏ء و لا أني من الموت أفرق‏

و لا أن نفسي يزدهيها وعيدكم‏
و لا أنني بالمشي في القيد أخرق‏

و منه أيضا-

سأغسل عني العار بالسيف جالبا
على قضاء الله ما كان جالبا

و أذهل عن داري و أجعل هدمها
لعرصي من باقي المذمة حاجبا

و يصغر في عيني تلادي إذا انثنت
يميني بإدراك الذي كنت طالبا

فإن تهدموا بالغر داري فإنها
تراث كريم لا يبالي العواقبا

أخي عزمات لا يطيع على الذي
يهم به من مفظع الأمر عاتبا

إذا هم ألقى بين عينيه عزمه‏
و نكب عن ذكر العواقب جانبا

فيا لرزام رشحوا بي مقدما
إلى الموت خواضا إليه السباسبا

إذا هم لم تردع عزيمة همه‏
و لم يأت ما يأتي من الأمر هائبا

و لم يستشر في أمره غير نفسه
و لم يرض إلا قائم السيف صاحبا

– . و منه أيضا-

هما خطتا إما إسار و منة
و إما دم و القتل بالحر أجدر

و منه أيضا-

و أنا لقوم لا نرى القتل سبة
إذا ما رأته عامر و سلول‏

يقصر حب الموت آجالنا لنا
و تكرهه آجالهم فتطول‏

و ما مات منا سيد حتف أنفه
و لا طل منا حيث كان قتيل‏

تسيل على حد الظبات نفوسنا
و ليست على غير السيوف تسيل‏

و منه أيضا-

لا يركنن أحد إلى الإحجام
يوم الوغى متخوفا لحمام‏

فلقد أراني للرماح دريئة
من عن يميني تارة و أمامي‏

حتى خضبت بما تحدر من دمي
أكناف سرجي أو عنان لجامي‏

ثم انصرفت و قد أصبت و لم أصب‏
جذع البصيرة قارح الأقدام‏

و منه أيضا-

و إني لدى الحرب الضروس موكل
بإقدام نفس لا أريد بقاءها

متى يأت هذا الموت لا تلف حاجة
لنفسي إلا قد قضيت قضاءها

كتب عبد الحميد بن يحيى- عن مروان بن محمد إلى أبي مسلم كتابا- حمل على جمل لعظمه و كثرته- و قيل إنه لم يكن في الطول إلى هذه الغاية- و قد حمل على جمل تعظيما لأمره- و قال لمروان بن محمد إن قرأه خاليا نخب قلبه- و إن قرأه في ملإ من‏
أصحابه ثبطهم و خذلهم- فلما وصل إلى أبي مسلم أحرقه بالنار و لم يقرأه- و كتب على بياض كان على رأسه و أعاده إلى مروان-

محا السيف أسطار البلاغة و انتحت
إليك ليوث الغاب من كل جانب‏

فإن تقدموا نعمل سيوفا شحيذة
يهون عليها العتب من كل عاتب‏

و يقال إن أول الكتاب كان- لو أراد الله بالنملة صلاحا لما أنبت لها جناحا- و كتب أبو مسلم إلى نصر بن سيار- و هو أول كتاب صدر عن أبي مسلم إلى نصر- و ذلك حين لبس السواد- و أعلن بالدعوة في شهر رمضان من سنة تسع و عشرين و مائة- أما بعد فإن الله جل ثناؤه ذكر أقواما فقال- وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ- لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى‏ مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ- فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً- اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَ مَكْرَ السَّيِّئِ- وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ- فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ- فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا- . فلما ورد الكتاب إلى نصر تعاظمه أمره- و كسر له إحدى عينيه- و قال إن لهذا الكتاب لأخوات- و كتب إلى مروان يستصرخه- و إلى يزيد بن هبيرة يستنجده- فقعدا عنه حتى أفضى ذلك إلى خروج الأمر عن بني عبد شمس- . الرضي الموسوي رحمه الله تعالى-

سأمضي للتي لا عيب فيها
و إن لم أستفد إلا عناء

و أطلب غاية إن طوحت بي
أصابت بي الحمام أو العلاء

نماني من أباة الضيم آب‏
أفاض علي تلك الكبرياء

و منا كل أغلب مستميت
إذا أنت لددته بالذل قاء

إذا ما ضيم نمر صفحتيه‏
و قام على براثنه إباء

و نأبى أن ينال النصف منا
و أن نعطي مقارعنا السواء

و لو كان العداء يسوغ فينا
لما سمنا الورى إلا العداء

و له

سيقطعك المهند ما تمنى
و يعطيك المثقف ما تشاء

و ما ينجي من الغمرات إلا
طعان أو ضراب أو رماء

و من أهل الإباء الذين كرهوا الدنية- و اختاروا عليها المنية عبد الله بن الزبير- تفرق عنه لما حاربه الحجاج بمكة- و حصره في الحرم عامة أصحابه- و خرج كثير منهم إلى الحجاج في الأمان- حتى حمزة و خبيب ابناه- فدخل عبد الله على أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق- و كانت قد كف بصرها و هي عجوز كبيرة- فقال لها خذلني الناس حتى ولدي و أهلي- و لم يبق معي إلا من ليس عنده من الدفع أكثر من ساعة- و القوم يعطونني من الدنيا ما سألت فما رأيك- فقالت أنت يا بني أعلم بنفسك- إن كنت تعلم أنك على حق و إليه تدعو فامض له- فقد قتل أكثر أصحابك- فلا تمكن من رقبتك يتلاعب بها غلمان بني أمية- و إن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت- أهلكت‏
نفسك و أهلكت من قتل معك- و إن كنت قاتلت على الحق- فما وهن أصحابك إلا ضعفت- فليس هذا فعل الأحرار و لا أهل الدين- و كم خلودك في الدنيا القتل أحسن- . فدنا عبد الله منها فقبل رأسها- و قال هذا و الله رأيي- و الله ما ركنت إلى الدنيا و لا أحببت الحياة فيها- و ما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله تعالى عز و جل- أن تستحل محارمه- و لكنني أحببت أن أعلم رأيك- فقد زدتني بصيرة- فانظري يا أماه أني مقتول يومي هذا- فلا يشتد جزعك و سلمي لأمر الله- فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر و لا عملا بفاحشة- و لم يجر في حكم الله- و لم يظلم مسلما و لا معاهدا- و لا بلغني ظلم عن عامل من عمالي فرضيت به بل أنكرته- و لم يكن شي‏ء عندي آثر من رضا الله- .

اللهم إني لا أقول هذا تزكية لنفسي أنت أعلم بي- و لكني أقوله تعزية لأمي لتسلو عني- فقالت إني لأرجو من الله- أن يكون عزائي فيك حسنا إن تقدمتني- فاخرج لأنظر إلى ما ذا يصير أمرك- فقال جزاك الله خيرا يا أمي- فلا تدعي الدعاء لي حيا و ميتا- قالت لا أدعه أبدا- فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق- ثم قالت اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل- و ذلك النحيب في الظلماء- و ذلك الصوم في هواجر مكة و المدينة و بره بأبيه و بي- اللهم إني قد أسلمت لأمرك- و رضيت بما قضيت فيه- فأثبني عليه ثواب الصابرين- .

و قد روي في قصة عبد الله مع أمه أسماء رواية أخرى- أنه لما دخل عليها و عليه الدرع و المغفر- و هي عمياء لا تبصر وقف فسلم- ثم دنا فتناول يدها فقبلها- قالت هذا وداع فلا تبعد- فقال نعم إنما جئت مودعا- إني لأرى هذا اليوم آخر أيامي من الدنيا- و اعلمي يا أمي أني إذا قتلت- فإنما أنا لحم لا يضرني ما صنع بي- فقالت صدقت يا بني أقم على بصيرتك- و لا تمكن ابن أبي عقيل منك- ادن مني لأودعك فدنا منها فقبلته‏ و عانقته- فوجدت مس الدرع- فقالت ما هذا صنع من يريد ما تريد- فقال إنما لبسته لأشد منك- قالت إنه لا يشد مني- ثم انصرف عنها و هو يقول-

إني إذا أعرف يومي أصبر
إذ بعضهم يعرف ثم ينكر

و أقام أهل الشام على كل باب من أبواب الحرم- رجالا و قائدا- فكان لأهل حمص الباب الذي يواجه باب الكعبة- و لأهل دمشق باب بني شيبة- و لأهل الأردن باب الصفا- و لأهل فلسطين باب جمع- و لأهل قنسرين باب بني سهم- و خرج ابن الزبير فمرة يحمل هاهنا و مرة يحمل هاهنا- و كأنه أسد لا يقدم عليه الرجال- و أرسلت إليه زوجته أ أخرج فأقاتل معك- فقال لا و أنشد-

كتب القتل و القتال علينا
و على المحصنات جر الذيول‏

فلما كان الليل قام يصلي إلى قريب السحر- ثم أغفى محتبيا بحمائل سيفه- ثم قام فتوضأ و صلى و قرأ- ن وَ الْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ- ثم قال بعد انقضاء صلاته- من كان عني سائلا فإني في الرعيل الأول ثم أنشد-

و لست بمبتاع الحياة بسبة
و لا مرتق من خشية الموت سلما

ثم حمل حتى بلغ الحجون فرمي بآجرة- فأصابت وجهه فدمي- فلما وجد سخونة الدم يسيل على وجهه أنشد-

و لسنا على الأعقاب تدمى كلومنا
و لكن على أقدامنا تقطر الدما

ثم حمل على أهل الشام فغاص فيهم- و اعتوروه بأسيافهم حتى سقط- و جاء الحجاج‏ فوقف عليه و هو ميت- و معه طارق بن عمرو- فقال ما ولدت النساء أذكر من هذا- و بعث برأسه إلى المدينة فنصب بها ثم حمل إلى عبد الملك- . أبو الطيب المتنبي-

أطاعن خيلا من فوارسها الدهر
وحيدا و ما قولي كذا و معي الصبر

و أشجع مني كل يوم سلامتي‏
و ما ثبتت إلا و في نفسها أمر

تمرست بالآفات حتى تركتها
تقول أ مات الموت أم ذعر الذعر

و أقدمت إقدام الأبي كأن لي‏
سوى مهجتي أو كان لي عندها وتر

ذر النفس تأخذ حظها قبل بينها
فمفترق جاران دارهما العمر

و لا تحسبن المجد زقا و قينة
فما المجد إلا السيف و الفتكة البكر

و تضريب هامات الملوك و أن ترى
لك الهبوات السود و العسكر المجر

و تركك في الدنيا دويا كأنما
تداول سمع المرء أنمله العشر

و قال ابن حيوس-

و لست كمن أخنى عليه زمانه
فظل على أحداثه يتعتب‏

تلذ له الشكوى و إن لم يفد بها
صلاحا كما يلتذ بالحك أجرب‏

و لكنني أحمي ذماري بعزمة
تنوب مناب السيف و السيف مقضب‏

و ليس الفتى من لم تسم جسمه الظبا
و يحطم فيه من قنا الخط أكعب‏

و له أيضا-

أخفق المترف الجنوح إلى الخفض
و فاز المخاطر المقدام‏

و إذا ما السيوف لم تشهد الحرب‏
فسيان صارم و كهام‏

و ممن تقبل مذاهب الأسلاف في إباء الضيم و كراهية الذل- و اختار القتل على ذلك و أن يموت كريما- أبو الحسين زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب- أمه أم ولد- و كان السبب في خروجه و خلعه طاعة بني مروان- أنه كان يخاصم عبد الله بن حسن بن حسن بن علي- بن أبي طالب ع في صدقات علي ع- هذا يخاصم عن بني حسين و هذا عن بني حسن- فتنازعا يوما- عند خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم- أمير المدينة- فأغلظ كل واحد منهما لصاحبه- فسر خالد بن عبد الملك بذلك و أعجبه سبابهما- و قال لهما حين سكنا اغدوا علي- فلست بابن عبد الملك إن لم أفصل بينكما غدا- فباتت المدينة تغلي كالمرجل- فمن قائل يقول قال زيد كذا- و قائل يقول قال عبد الله كذا- فلما كان الغد جلس خالد في المسجد و جمع الناس- فمن بين شامت و مغموم- و دعا بهما و هو يحب أن يتشاتما- فذهب عبد الله يتكلم- فقال زيد لا تعجل يا أبا محمد- أعتق زيد ما يملك إن خاصمك إلى خالد أبدا- ثم أقبل على خالد فقال له- أجمعت ذرية رسول الله ص لأمر- ما كان يجمعهم عليه أبو بكر و لا عمر- فقال خالد أ ما لهذا السفيه أحد يكلمه- . فتكلم رجل من الأنصار من آل عمرو بن حزم- فقال يا ابن أبي تراب و يا ابن‏ حسين السفيه- أ ما ترى عليك لوال حقا و لا طاعة- فقال زيد اسكت أيها القحطاني فإنا لا نجيب مثلك- فقال الأنصاري و لم ترغب عني- فو الله إني لخير منك و أبي خير من أبيك- و أمي خير من أمك فتضاحك زيد- و قال يا معشر قريش- هذا الدين قد ذهب أ فذهبت الأحساب- فتكلم عبد الله بن واقد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب- فقال كذبت أيها القحطاني- و الله لهو خير منك نفسا و أبا و أما و محتدا- و تناوله بكلام كثير و أخذ كفا من الحصى فضرب به الأرض- و قال إنه و الله ما لنا على هذا من صبر و قام- .

فقام زيد أيضا و شخص من فوره إلى هشام بن عبد الملك- فجعل هشام لا يأذن له و زيد يرفع إليه القصص- و كلما رفع إليه قصة كتب هشام في أسفلها- ارجع إلى أرضك- فيقول زيد و الله لا أرجع إلى ابن الحارث أبدا- ثم أذن له بعد حبس طويل و هشام في علية له فرقي زيد إليها- و قد أمر هشام خادما له أن يتبعه حيث لا يراه زيد- و يسمع ما يقول- فصعد زيد و كان بادنا فوقف في بعض الدرجة- فسمعه الخادم و هو يقول- ما أحب الحياة إلا من ذل- فأخبر الخادم هشاما بذلك- فلما قعد زيد بين يدي هشام و حدثه حلف له على شي‏ء- فقال هشام لا أصدقك- فقال زيد إن الله لا يرفع أحدا عن أن يرضى بالله- و لم يضع أحدا عن أن يرضى بذلك منه- قال له هشام إنه بلغني أنك تذكر الخلافة و تتمناها- و لست هناك لأنك ابن أمة- فقال زيد إن لك جوابا قال تكلم- قال إنه ليس أحد أولى بالله- و لا أرفع درجة عنده من نبي ابتعثه- و هو إسماعيل بن إبراهيم و هو ابن أمة- قد اختاره الله لنبوته و أخرج منه خير البشر- فقال هشام فما يصنع أخوك البقرة- فغضب زيد حتى كاد يخرج من إهابه- ثم قال سماه رسول الله ص الباقر- و تسميه أنت البقرة لشد ما اختلفتما- لتخالفنه في الآخرة كما خالفته في الدنيا- فيرد الجنة و ترد النار- .

فقال هشام خذوا بيد هذا الأحمق المائق فأخرجوه- فأخذ الغلمان بيده فأقاموه- فقال هشام احملوا هذا الخائن الأهوج إلى عامله- فقال زيد و الله لئن حملتني إليه- لا أجتمع أنا و أنت حيين و ليموتن الأعجل منا- فأخرج زيد و أشخص إلى المدينة- و معه نفر يسيرونه حتى طردوه عن حدود الشام- فلما فارقوه عدل إلى العراق و دخل الكوفة- و بايع لنفسه فأعطاه البيعة أكثر أهلها- و العامل عليها و على العراق يومئذ يوسف بن عمر الثقفي- فكان بينهما من الحرب ما هو مذكور في كتب التواريخ- و خذل أهل الكوفة زيدا- و تخلف معه ممن تابعه نفر يسير- و أبلى بنفسه بلاء حسنا و جهادا عظيما- حتى أتاه سهم غرب- فأصاب جانب جبهته اليسرى- فثبت في دماغه فحين نزع منه مات ع- . عنف محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب ع زيدا لما خرج- و حذره القتل- و قال له إن أهل العراق خذلوا أباك عليا و حسنا و حسينا ع- و إنك مقتول و إنهم خاذلوك- فلم يثن ذلك عزمه و تمثل-

بكرت تخوفني الحتوف كأنني
أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل‏

فأجبتها إن المنية منهل‏
لا بد أن أسقى بذاك المنهل‏

إن المنية لو تمثل مثلت
مثلي إذا نزلوا بضيق المنزل‏

فاقني حياءك لا أبا لك و اعلمي‏
أني امرؤ سأموت إن لم أقتل‏

العلوي البصري صاحب الزنج يقول-

و إذا تنازعني أقول لها قري
موت الملوك على صعود المنبر

ما قد قضى سيكون فاصطبري له‏
و لك الأمان من الذي لم يقدر

و قال أيضا-

إني و قومي في أنساب قومهم
كمسجد الخيف في بحبوحة الخيف‏

ما علق السيف منا بابن عاشرة
إلا و عزمته أمضى من السيف‏

بعض الطالبيين-

و إنا لتصبح أسيافنا
إذا ما انتضين ليوم سفوك‏

منابرهن بطون الأكف‏
و أغمادهن رءوس الملوك‏

بعض الخوارج يصف أصحابه-

و هم الأسود لدى العرين بسالة
و من الخشوع كأنهم أحبار

يمضون قد كسروا الجفون إلى الدعا
متبسمين و فيهم استبشار

فكأنما أعداؤهم أحبابهم
فرحا إذا خطر القنا الخطار

يردون حومات الحمام و إنها
تالله عند نفوسهم لصغار

و لقد مضوا و أنا الحبيب إليهم
و هم لدي أحبة أبرار

قدر يخلفني و يمضيهم به‏
يا لهف كيف يفوتني المقدار

و في الحديث المرفوع خلقان يحبهما الله الشجاعة و السخاء – . كان بشر بن المعتمر من قدماء شيوخنا رحمه الله تعالى- يقول بتفضيل علي ع- و يقول كان أشجعهم و أسخاهم- و منه سرى القول بالتفضيل- إلى أصحابنا البغداديين قاطبة- و في كثير من البصريين- . دخل النضر بن راشد العبدي على امرأته- في حرب الترك بخراسان- في ولاية الجنيد بن عبد الرحمن المري- في خلافة هشام بن عبد الملك و الناس يقتتلون- فقال لها كيف تكونين- إذا أتيت بي في لبد قتيلا مضرجا بالدماء- فشقت جيبها و دعت بالويل- فقال حسبك- لو أعولت علي كل أنثى لعصيتها شوقا إلى الجنة- ثم خرج فقاتل حتى قتل- و حمل إلى امرأته في لبد و دمه يقطر من خلاله- . قال أبو الطيب المتنبي-

إذا غامرت في شرف مروم
فلا تقنع بما دون النجوم‏

فطعم الموت في أمر حقير
كطعم الموت في أمر عظيم‏

يرى الجبناء إن الجبن حزم
و تلك خديعة الطبع اللئيم‏

و كل شجاعة في المرء تغني‏
و لا مثل الشجاعة في الحكيم‏

و قال-

إذا لم تجد ما يبتر العمر قاعدا
فقم و اطلب الشي‏ء الذي يبتر العمرا

و قال

أهم بشي‏ء و الليالي كأنها
تطاردني عن كونه و أطارد

وحيدا من الخلان في كل بلدة
إذا عظم المطلوب قل المساعد

قيل لأبي مسلم في أيام صباه- نراك تنظر إلى السماء كثيرا كأنك تسترق السمع- أو تنتظر نزول الوحي- قال لا و لكن لي همة عالية- و نفس تتطلع إلى معالي الأمور- مع عيش كعيش الهمج و الرعاع- و حال متناهية في الاتضاع- قيل فما الذي يشفي علتك و يروي غلتك- قال الملك قيل فاطلب الملك- قال إن الملك لا يطلب هكذا- قيل فما تصنع و أنت تذوب حسرا و تموت كمدا- قال سأجعل بعض عقلي جهلا- و أطلب به ما لا يطلب إلا بالجهل- و أحرس بالباقي ما لا يحرس إلا بالعقل- فأعيش بين تدبير ضدين- فإن الخمول أخو العدم- و الشهرة أخت الكون- . قال ابن حيوس-

أمواتهم بالذكر كالأحياء
و لحيهم فضل على الأحياء

نزلوا على حكم المروءة و امتطوا
بالبأس ظهر العزة القعساء

و العز لا يبقى لغير معود
أن يكشف الغماء بالغماء

لا تحسب الضراء ضراء إذا
أفضت بصاحبها إلى السراء

 و قال-

و هي الرئاسة لا تبوح بسرها
إلا لأروع لا يباح ذماره‏

يحمي حماه قلبه و لسانه‏
و تذود عنه يمينه و يساره‏

لا العذل ناهيه و لا الحرص الذي
أمر النفوس بشحها أماره‏

فليعلم الساعي ليبلغ ذا المدى‏
أن الطريق كثيرة أخطاره‏

كان ثابت قطنة في خيل عبد الله بن بسطام- في فتح شكند من بلاد الترك في أيام هشام بن عبد الملك- فاشتدت شوكة الترك- و انحاز كثير من المسلمين و استؤسر منهم خلق- فقال ثابت- و الله لا ينظر إلي بنو أمية غدا مشدودا في الحديد- أطلب الفداء- اللهم إني كنت ضيف ابن بسطام البارحة- فاجعلني ضيفك الليلة- ثم حمل و حمل معه جماعة فكسرتهم الترك- فرجع أصحابه و ثبت هو- فرمي برذونه فشب و ضربه فأقدم- فصرع ثابت و ارتث- فقال اللهم إنك استجبت دعوتي و أنا الآن ضيفك- فاجعل قراي الجنة فنزل تركي فأجهز عليه- . قال يزيد بن المهلب لابنه خالد- و قد أمره على جيش في حرب جرجان- يا بني إن غلبت على الحياة فلا تغلبن علي الموت- و إياك أن أراك غدا عندي مهزوما- .

عن النبي ص الخير في السيف و الخير مع السيف- و الخير بالسيف – كما يقال المنية و لا الدنية- و النار و لا العار- و السيف و لا الحيف- . قال سيف بن ذي يزن حين أعانه بوهرز الديلمي و من معه- لأنوشروان- أيها الملك أين تقع ثلاثة آلاف من خمسين ألفا- فقال يا أعرابي كثير الحطب يكفيه قليل النار- . لما حبس مروان بن محمد إبراهيم الإمام- خرج أبو العباس السفاح و أخوه أبو جعفر- و عبد الوهاب و محمد ابنا إبراهيم الإمام- و عيسى و صالح و إسماعيل و عبد الله و عبد الصمد- أبناء علي بن عبد الله بن العباس- و عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس- و يحيى بن جعفر بن تمام بن العباس- من الحميمة من أرض السراة يطلبون الكوفة- و قد كان داود بن علي بن عبد الله بن العباس- و ابنه موسى بن داود بالعراق- فخرجا يطلبان الشام- فتلقاهما أبو العباس و أهل بيته بدومة الجندل- فسألهم داود عن‏خروجهم- فأخبروه أنهم يريدون الكوفة ليظهروا بها- و يدعوا إلى البيعة لأبي العباس- فقال يا أبا العباس يظهر أمرك الآن بالكوفة- و مروان بن محمد شيخ بني أمية بحران- مطل على العراق في جيوش أهل الشام و الجزيرة- و يزيد بن عمر بن هبيرة- شيخ العرب بالعراق في فرسان العرب- فقال يا عم من أحب الحياة ذل- ثم تمثل بقول الأعشى-

فما ميتة إن متها غير عاجز
بعار إذا ما غالت النفس غولها

فقال داود لابنه موسى- صدق ابن عمك ارجع بنا معه- فإما أن نهلك أو نموت كراما- . و كان عيسى بن موسى يقول بعد ذلك- إذا ذكر خروجهم من الحميمة يريدون الكوفة- إن ثلاثة عشر رجلا خرجوا من ديارهم و أهليهم- يطلبون ما طلبنا لعظيمة هممهم- كبيرة نفوسهم شديدة قلوبهم- . أبو الطيب المتنبي

و إذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادها الأجسام‏

و له

إلى أي حين أنت في زي محرم
و حتى متى في شقوة و إلى كم

و إلا تمت تحت السيوف مكرما
تمت و تقاسى الذل غير مكرم‏

فثب واثقا بالله وثبة ماجد
يرى الموت في الهيجا جنى النحل في الفم‏

و قال آخر-

إن تقتلوني فآجال الرجال كما
حدثت قتل و ما بالقتل من عار

و إن سلمت لوقت بعده فعسى‏
و كل شي‏ء إلى حد و مقدار

خطب الحجاج فشكا سوء ضاعة أهل العراق- فقام إليه جامع المحاربي فقال أيها الأمير- دع ما يباعدهم منك إلى ما يقربهم إليك- و التمس العافية ممن دونك تعطها ممن فوقك- فلو أحبوك لأطاعوك- إنهم ما شنئوك بنسبك و لا لبأوك- و لكن لإيقاعك بعد وعيدك و وعيدك بعد وعدك- . فقال الحجاج- ما أراني أرد بني اللكيعة إلى طاعتي إلا بالسيف- فقال جامع أيها الأمير- إن السيف إذا لاقى السيف ذهب الخيار- فقال الحجاج الخيار يومئذ لله- فقال أجل و لكنك لا تدري لمن يجعله الله- فقال يا هناه إيها فإنك من محارب- فقال جامع-

و للحرب سمينا فكنا محاربا
إذا ما القنا أمسى من الطعن أحمرا

و من الشعر الجيد في تحسين الإباء و الحمية- و التحريض على النهوض و الحرب- و طلب الملك و الرئاسة- قصيدة عمارة اليمني شاعر المصريين- في فخر الدين تورانشاه بن أيوب- التي يغريه فيها بالنهوض إلى اليمن- و الاستيلاء على ملكها- و صادفت هذه القصيدة محلا قابلا- و ملك تورانشاه اليمن- بما هزت هذه القصيدة من عطفه- و حركت من عزمه و أولها-

العلم مذ كان محتاج إلى العلم
و شفرة السيف تستغني عن القلم‏

و خير خيلك إن غامرت في شرف‏
عزم يفرق بين الساق و القدم‏

إن المعالي عروس غير واصلة
ما لم تخلق رادءيها بنضح دم‏

ترى مسامع فخر الدين تسمع ما
أملاه خاطر أفكاري على قلمي‏

فإن أصبت فلي حظ المصيب و إن
أخطأت قصدك فاعذرني و لا تلم‏

كم تترك البيض في الأجفان ظامئة
إلى الموارد في الأعناق و القمم‏

و مقلة المجد نحو العزم شاخصة
فاترك قعودك عن إدراكها و قم‏

فعمك الملك المنصور سومها
من الفرات إلى مصر بلا سأم‏

و اخلق لنفسك أمرا لا تضاف به
إلى سواك و أور النار في العلم‏

و انه المشيرين إن لجت نصيحتهم‏
أو لا فأنعم على العميان بالصمم‏

و اعزم و صمم فقد طالت و قد سمجت
قضية لفظتها ألسن الأمم‏

فرب أمر يهاب الناس غايته‏
و الأمر أهون فيه من يد لفم‏

فكيف إن نهضت فيما هممت به
أسد تسير من الخطى في أجم‏

لا يدرك المجد إلا كل مقتحم‏
في موج ملتطم أو فوج مضطرم‏

لا ينقض الخطوة الأولى بثانية
و لا يفكر في العقبى من الندم‏

كأنما السيف أفتاه بقتلهم‏
في فتح مكة حل القتل في الحرم‏

و لم يراعوا لعثمان و لا عمر
و لا الحسين ذمام الأشهر الحرم‏

فما تروم سوى فتح صوارمه‏
يضحكن في كل يوم عابس البهم‏

حتى كأن لسان السيف في يده
يروي الشريعة عن عاد و عن إرم‏

هذا ابن تومرت قد كانت بدايته
فيما يقول الورى لحما على وضم‏

و قد ترقى إلى أن صار طالعة
من الكواكب بالأنفاس و الكظم‏

و كان أول هذا الدين من رجل
سعى إلى أن دعوه سيد الأمم‏

 كذب- لم يظهر الدين الحنيف المقدس على الأديان بسعي البشر- بل بالتأييد الإلهي و السر الرباني- صلوات الله و سلامه على القائم به و المتحمل له-

و البدر يبدو هلالا ثم يكشف بالأنوار
ما سترته شملة الظلم‏

و الغيث فهو كما قد قيل أوله‏
قطر و بدء خراب السد بالعرم‏

تنمو قوى الشي‏ء بالتدريج إن رزقت
لطفا و يقوى شرار النار بالضرم‏

حاسب ضميرك عن رأي أتاك و قل‏
نصيحة وردت من غير متهم‏

أقسمت ما أنت ممن جل همته
ما راق من نعم أو رق من نعم‏

و إنما أنت مرجو لواحدة
بنى بها الدهر مجدا غير منهدم‏

كأنني بالليالي و هي هاتفة
قد صم سمع رجال دونها و عمي‏

و بالعلى كلما لاقتك قائلة
أهلا بمنشر آمالي من الرمم‏

و من أباة الضيم الذين اختاروا القتل على الأسر- و الموت على الدنية مصعب بن الزبير- كان أمير العراقين من قبل عبد الله بن الزبير- و كان قد كسر جيوش عبد الملك مرارا و أعياه أمره- فخرج إليه من الشام بنفسه فليم في ذلك- و قيل له إنك تغرر بنفسك و خلافتك- فقال إنه لا يقوم لحرب مصعب غيري- هذا أمر يحتاج إلى أن يقوم به شجاع ذو رأي- و ربما بعثت شجاعا و لا رأي له- أو ذا رأي و لا شجاعة عنده- و أنا بصير بالحرب شجاع بالسيف- فلما أجمع على الخروج إلى حرب مصعب- جاءته‏امرأته عاتكة بنت يزيد بن معاوية- فالتزمته و بكت لفراقه و بكى جواريها حولها- فقال عبد الملك قاتل الله ابن أبي جمعة- كأنه شاهد هذه الصورة حيث يقول-

إذا هم بالأعداء لم يثن عزمه
حصان عليها نظم در يزينها

نهته فلما لم تر النهي عاقه‏
بكت فبكى مما عراها قطينها

فسار عبد الملك حتى إذا كان بمسكن من أرض العراق- و قد دنا منه عسكر مصعب- تقاعد بمصعب أصحابه و قواده و خذلوه- فقال لابنه عيسى الحق بمكة فانج بنفسك- و أخبر عمك عبد الله بما صنع أهل العراق بي- و دعني فإني مقتول- فقال لا تتحدث نساء قريش أني فررت عنك- و لكن أقاتل دونك حتى نقتل- فالفرار عار و لا عار في القتل- ثم قاتل دونه حتى قتل- و خف من يحامي عن مصعب من أهل العراق و أيقن بالقتل- فأنفذ عبد الملك إليه أخاه محمد بن مروان- فأعطاه الأمان و ولاية العراقين أبدا ما دام حيا- و ألفي ألف درهم صلة فأبى- و قال إن مثلي لا ينصرف عن هذا المكان إلا غالبا أو مقتولا- فشد عليه أهل الشام و رموه بالنبل فأثخنوه- و طعنه زائدة بن قيس بن قدامة السعدي- و نادى يا لثارات المختار فوقع إلى الأرض- فنزل إليه عبد الملك بن زياد بن ظبيان- فاحتز رأسه و حمله إلى عبد الملك- . لما حمل رأس مصعب إلى عبد الملك بكى- و قال لقد كان أحب الناس إلي و أشدهم مودة لي- و لكن الملك عقيم- . كتب مصعب إلى سكينة بنت الحسين ع- و كانت زوجته لما شخص إلى حرب عبد الملك- و هي بالكوفة بعد ليال من فراقها-

و كان عزيزا إن أبيت و بيننا
حجاب فقد أصبحت مني على عشر

و أبكاهما و الله للعين فاعلمي
إذا ازددت مثليها فصرت على شهر

و أنكى لقلبي منهما اليوم أنني‏
أخاف بألا نلتقي آخر الدهر

ثم أرسل إليها و أشخصها- فشهدت معه حرب عبد الملك فدخل عليها يوم قتل- و قد نزع ثيابه ثم لبس غلالة و توشح بثوب واحد- و هو محتضن سيفه فعلمت أنه غير راجع- فصاحت وا حزناه عليك يا مصعب- فالتفت إليها و قال إن كل هذا في قلبك- قالت و ما أخفي أكثر- قال لو كنت أعلم هذا لكان لي و لك شأن- ثم خرج فلم يرجع- . فقال عبد الملك يوما لجلسائه من أشجع الناس- فقالوا قطري شبيب فلان و فلان- قال عبد الملك- بل رجل جمع بين سكينة بنت الحسين و عائشة بنت طلحة- و أمة الحميد بنت عبد الله بن عامر بن كريز- و قلابة ابنة زبان بن أنيف الكلبي سيد العرب- و ولي العراقين خمس سنين- فأصاب كذا و كذا ألف درهم- و أعطي الأمان على ذلك كله و على ولايته و ماله فأبى- و مشى بسيفه إلى الموت حتى قتل ذاك مصعب بن الزبير- لا من قطع الجسور مرة هاهنا و مرة هاهنا- . سئل سالم بن عبد الله بن عمر أي ابني الزبير أشجع- فقال كلاهما جاءه الموت و هو ينظر إليه- . لما وضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك أنشد-

لقد أردى الفوارس يوم حسي
غلاما غير مناع المتاع‏

و لا فرح بخير إن أتاه‏
و لا هلع من الحدثان لاع‏

و لا وقافة و الخيل تردي
و لا خال كأنبوب اليراع‏

كان ابن ظبيان يقول ما ندمت على شي‏ء ندمي- على ألا أكون لما حملت إلى عبد الملك رأس مصعب- فسجد قتلته في سجدته- فأكون قد قتلت ملكي العرب في يوم واحد- . قال رجل لعبد الله بن ظبيان- بما ذا تحتج عند الله عز و جل غدا و قد قتلت مصعبا- قال إن تركت أحتج كنت أخطب من صعصعة بن صوحان- . كان مصعب لما خرج إلى حرب عبد الملك- سأل عن الحسين بن علي ع و كيف كان قتله- فجعل عروة بن المغيرة يحدث عن ذلك- فقال متمثلا بقول سليمان بن قتة-

و إن الألى بالطف من آل هاشم
تأسوا فسنوا للكرام التأسيا

 قال عروة فعلمت أن مصعبا لا يفر- . لما كان يوم السبخة و عسكر الحجاج بإزاء شبيب- قال له الناس أيها الأمير- لو تنحيت عن هذه السبخة فإنها منتنة الريح- قال ما تنحونني و الله إليه أنتن- و هل ترك مصعب لكريم مفرا- ثم أنشد قول الكلحبة-

إذا المرء لم يغش الكريهة أوشكت
حبال الهوينى بالفتى أن تقطعا

و روى أبو الفرج في كتاب الأغاني- خطبة عبد الله بن الزبير في قتل مصعب برواية- هي أتم مما ذكرناه نحن فيما تقدم- قال لما أتي خبر المصعب إلى مكة- أضرب عبد الله بن الزبير عن ذكره أياما- حتى تحدث به جميع أهل مكة في الطريق- ثم صعد المنبر فجلس عليه مليا لا يتكلم- فنظر الناس إليه و إن الكآبة على وجهه لبادية- و إن‏ جبينه ليرشح عرفا- فقال واحد لآخر ما له لا يتكلم- أ تراه يهاب النطق فو الله إنه لخطيب فما تراه يهاب- قال أراه يريد أن يذكر قتل المصعب سيد العرب- فهو يقطع بذلك- فابتدأ فقال الحمد لله الذي له الخلق و الأمر- ملك الدنيا و الآخرة يعز من يشاء و يذل من يشاء- إلا أنه لا يذل من كان الحق معه و إن كان مفردا ضعيفا- و لا يعز من كان الباطل معه و إن كان ذا عدد و كثرة- ثم قال أتانا خبر من العراق بلد الغدر و الشقاق- فساءنا و سرنا أتانا أن مصعبا قتل رحمه الله- فأما الذي أحزننا من ذلك- فإن لفراق الحميم لذعة و لوعة- يجدها حميمه عند المصيبة- ثم يرعوي ذو الرأي و الدين إلى جميل الصبر- و أما الذي سرنا منه فإن قتله كان له شهادة- و إن الله جاعل لنا و له في ذلك الخيرة- ألا إن أهل العراق باعوه بأقل الأثمان و أخسرها- و أسلموه إسلام النعم المخطمة فقتل- و إن قتل لقد قتل أبوه و عمه و أخوه- و كانوا الخيار الصالحين- و إنا و الله ما نموت حتف آنافنا- ما نموت إلا قتلا قتلا و قعصا قعصا- بين قصد الرماح و تحت ظلال السيوف- ليس كما تموت بنو مروان- و الله ما قتل منهم رجل في جاهلية و لا إسلام- و إنما الدنيا عارية من الملك القهار- الذي لا يزول سلطانه و لا يبيد ملكه- فإن تقبل الدنيا علي لا آخذها أخذ اللئيم البطر- و إن تدبر عني لا أبكي عليها بكاء الخرف المهتر ثم نزل- .و قال الطرماح بن حكيم و كان يرى رأي الخوارج-

و إني لمقتاد جوادي فقاذف
به و بنفسي اليوم إحدى المتالف‏

لأكسب مالا أو أءوب إلى غنى‏
من الله يكفيني عداة الخلائف‏

فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن
على شرجع يعلى بخضر المطارف‏

و لكن قبري بطن نسر مقيله‏
بجو السماء في نسور عواكف‏

و أمسي شهيدا ثاويا في عصابة
يصابون في فج من الأرض خائف‏

فوارس أشتات يؤلف بينهم‏
هدى الله نزالون عند المواقف‏

قال ابن شبرمة مررت يوما في بعض شوارع الكوفة- فإذا بنعش حوله رجال- و عليه مطرف خز أخضر- فسألت عنه فقيل الطرماح- فعلمت أن الله تعالى لم يستجب له- . و قال محمد بن هانئ-

و لم أجد الإنسان إلا ابن سعيه
فمن كان أسعى كان بالمجد أجدرا

و بالهمة العلياء ترقي إلى العلا
فمن كان أعلى همه كان أظهرا

و لم يتأخر من أراد تقدما
و لم يتقدم من أراد تأخرا

الرضي الموسوي رحمه الله تعالى-

و من أخرته نفسه مات عاجزا
و من قدمته نفسه مات سيدا

و له رحمه الله-

ما مقامي على الهوان و عندي
مقول صارم و أنف حمي‏

و إباء محلق بي عن الضيم‏
كما زاغ طائر وحشي‏

 أبو الطيب المتنبي-

تقولين ما في الناس مثلك عاشق
جدي مثل من أحببته تجدي مثلي‏

محب كنى بالبيض عن مرهفاته‏
و بالحسن في أجسامهن عن الصقل‏

و بالسمر عن سمر القنا غير أنني
جناها أحبائي و أطرافها رسلي‏

عدمت فؤادا لم يبت فيه فضلة
لغير ثنايا الغر و الحدق النجل‏

تريدين إدراك المعالي رخيصة
و لا بد دون الشهد من أبر النحل‏

 ابن الهبارية الهمم العلية و المهج الأبية- تقرب المنية منك أو الأمنية- . أبو تمام

فتى النكبات من يأوي إذا ما
قطفن به إلى خلق و ساع‏

يثير عجاجة في كل فج‏
يهيم بها عدي بن الرقاع‏

يخوض مع السباع الماء حتى
لتحسبه السباع من السباع‏

فلب العزم إن حاولت يوما
بأن تستطيع غير المستطاع‏

فلم تركب كناجية المهاري‏
و لم تركب همومك كالزماع‏

و له أيضا-

إن خيرا مما رأيت من الصفح
عن النائبات و الإغماض‏

غربة تقتدي بغربة قيس‏
بن زهير و الحارث بن مضاض‏

غرضي نكبتين ما فتلا رأيا
فخافا عليه نكث انتقاض‏

من أبن البيوت أصبح في ثوب‏
من العيش ليس بالفضفاض‏

صلتان أعداؤه حيث حلوا
في حديث من ذكره مستفاض‏

و الفتى من تعرقته الليالي‏
و الفيافي كالحية النضناض‏

كل يوم له بصرف الليالي
فتكة مثل فتكة البراض‏

و له أيضا-

إن تريني ترى حساما صقيلا
مشرفيا من السيوف الحداد

ثاني الليل ثالث البيد و السير
نديم النجوم ترب السهاد

– أخذ هذا اللفظ أبو عبادة البحتري فقال-

يا نديمي بالسواجير من شمس
بن عمرو و بحتر بن عتود

اطلبا ثالثا سواي فإني
رابع العيس و الدجى و البيد

لست بالعاجز الضعيف و لا القائل‏
يوما إن الغنى بالجدود

و إذا استصعبت مقادة أمر
سهلته أيدي المهاري القود

و قال الرضي رحمه الله تعالى-

و لم أر كالرجاء اليوم شيئا
تذل له الجماجم و الرقاب‏

و بعض العدم مأثرة و فخر
و بعض المال منقصة و عاب‏

بناني و العنان إذا نبت بي
ربا أرض و رجلي و الركاب‏

و قد عرفت توقلي الليالي‏
كما عرفت توقلي العقاب‏

لأمنع جانبا و أفيد عزا
و عز الموت ما عز الجناب‏

إذا هول دعاك فلا تهبه‏
فلم يبق الذين أبوا و هابوا

كليب عافصته يد و أودى
عتيبة يوم أقعصه ذؤاب‏

سواء من أقل الترب منا
و من وارى معالمه التراب

و إن مزايل العيش اعتباطا
مساو للذين بقوا و شابوا

و أولنا العناء إذا طلعنا
إلى الدنيا و آخرنا الذهاب‏

إلى كم ذا التردد في الأماني
و كم يلوي بناظري السراب‏

و لا نقع يثار و لا قتام‏
و لا طعن يشب و لا ضراب‏

و لا خيل معقدة النواصي
يموج على شكائمها اللعاب‏

عليها كل ملتهب الحواشي‏
يصيب من العدو و لا يصاب‏

سأخطبها بحد السيف فعلا
إذا لم يغن قول أو خطاب‏

و آخذها و إن رغمت أنوف‏
مغالبة و إن ذلت رقاب‏

قعد سليمان بن عبد الملك يعرض و يفرض- فأقبل فتى من بني عبس وسيم فأعجبه- فقال ما اسمك قال سليمان- قال ابن من قال ابن عبد الملك فأعرض عنه- و جعل يفرض لمن دونه- فعلم الفتى أنه كره موافقة اسمه و اسم أبيه- فقال يا أمير المؤمنين لا عدمت اسمك- و لا شقي اسم يوافق اسمك- فافرض فإنما أنا سيف بيدك- إن ضربت به قطعت و إن أمرتني أطعت- و سهم في كنانتك أشتد إن أرسلت و أنفذ حيث وجهت- فقال له سليمان و هو يروزه و يختبره- ما قولك يا فتى لو لقيت عدوا- قال أقول حسبي الله و نعم الوكيل- قال سليمان- أ كنت مكتفيا بهذا لو لقيت عدوك دون ضرب شديد- قال الفتى إنما سألتني يا أمير المؤمنين- ما أنت قائل فأخبرتك- و لو سألتني ما أنت فاعل لأنبأتك- أنه لو كان ذلك لضربت بالسيف حتى يتعقف- و لطعنت بالرمح حتى يتقصف- و لعلمت إن ألمت فإنهم يألمون- و لرجوت من الله ما لا يرجون- فأعجب سليمان به و ألحقه في العطاء بالأشراف و تمثل-

إذا ما اتقى الله الفتى ثم لم يكن
على أهله كلا فقد كمل الفتى‏

السر تحت قوله ثم لم يكن على أهله كلا- يقال في المثل لا تكن كلا على أهلك فتهلك- . عدي بن زيد

فهل من خالد إما هلكنا
و هل بالموت يا للناس عار

الرضي الموسوي رحمه الله تعالى-

إذا لم يكن إلا الحمام فإنني
سأكرم نفسي عن مقال اللوائم‏

و ألبسها حمراء تضفو ذيولها
من الدم بعدا عن لباس الملاوم‏

فمن قبل ما اختار ابن الأشعث عيشه
على شرف عال رفيع الدعائم‏

فطار ذميما قد تقلد عارها
بشر جناح يوم دير الجماجم‏

و جاءهم يجرى البريد برأسه
و لم يغن إيغال به في الهزائم‏

و قد حاص من خوف الردى كل حيصة
فلم ينج و الأفدار ضربة لازم‏

و هذا يزيد بن المهلب نافرت
به الذل أعراق الجدود الأكارم‏

فقال و قد عن الفرار أو الردى‏
لحا الله أخزى ذكرة في المواسم‏

و ما غمرات الموت إلا انغماسة
و لا ذي المنايا غير تهويم نائم‏

رأى أن هذا السيف أهون محملا
من العار يبقى وسمه في المخاطم‏

و ما قلد البيض المباتير عنقه‏
سوى الخوف من تقليدها بالأداهم‏

فعاف الدنايا و امتطى الموت شامخا
بمارن عز لا يذل لخاطم

و قد حلقت خوف الهوان بمصعب‏
قوادم آباء كرام المقادم‏

على حين أعطوه الأمان فعافه
و خير فاختار الردى غير نادم‏

و في خدره غراء من آل طلحة
علاقة قلب للنديم المخالم‏

تحبب أيام الحياة و إنها
لأعذب من طعم الخلود لطاعم‏

ففارقها و الملك لما رآهما
يجران إذلال النفوس الكرائم‏

و لما ألاح الحوفزان من الردى
حذاه المخازي رمح قيس بن عاصم‏

و غادرها شنعاء إن ذكرت له‏
من العار طأطأ رأس خزيان واجم‏

كذاك مني بعد الفرار أمية
بشقشقة لوثاء من آل دارم‏

و سل لها سل الحسام ابن معمر
فكر على أعقاب ناب بصارم‏

يردد ذكري كل نجد و غائر
و ألجم خوفي كل باع و ظالم‏

و هددني الأعداء في المهد لم يحن‏
نهوضي و لم تقطع عقود تمائمي

و عندي يوم لو يزيد و مسلم
بدا لهما لاستصغرا يوم واقم‏

على العز مت لا ميتة مستكينة
تزيل عن الدنيا بشم المراغم‏

و خاطر على الجلى خطار ابن حرة
و إن زاحم الأمر العظيم فزاحم‏

و من أباة الضيم- و مؤثري الموت على الحياة الذليلة محمد و إبراهيم- ابنا عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ع- لما أحاطت عساكر عيسى بن موسى بمحمد و هو بالمدينة- قيل له أنج بنفسك- فإن لك خيلا مضمرة و نجائب سابقة- فاقعد عليها و التحق بمكة أو باليمن- قال إني إذا لعبد- و خرج إلى الحرب يباشرها بنفسه و بمواليه- فلما أمسى تلك الليلة و أيقن بالقتل- أشير عليه بالاستتار- فقال إذن يستعرض عيسى أهل المدينة بالسيف- فيكون لهم يوم كيوم الحرة- لا و الله لا أحفظ نفسي بهلاك أهل المدينة- بل أجعل دمي دون دمائهم- فبذل له عيسى الأمان على نفسه و أهله و أمواله- فأبى و نهد إلى الناس بسيفه- لا يقاربه أحد إلا قتله لا و الله ما يبقي شيئا- و إن أشبه خلق الله به فيما ذكر هو حمزة بن عبد المطلب- و رمي بالسهام و دهمته الخيل- فوقف إلى ناحية جدار- و تحاماه الناس فوجد الموت- فتحامل على سيفه فكسره- فالزيدية تزعم أنه كان سيف رسول الله ص ذا الفقار- .

و روى أبو الفرج الأصفهاني- في كتاب مقال الطالبيين- أن محمدا ع قال لأخته ذلك اليوم- إني في هذا اليوم على قتال هؤلاء- فإن زالت الشمس و أمطرت السماء فإني مقتول- و إن زالت الشمس و لم تمطر السماء و هبت الريح- فإني أظفر بالقوم فأججي التنانير- و هيئي هذه الكتب- يعني كتب البيعة الواردة عليه من الآفاق- فإن زالت الشمس- و مطرت السماء فاطرحي هذه الكتب في التنانير- فإن قدرتم على بدني‏ فخذوه- و إن لم تقدروا على رأسي فخذوا سائر بدني- فأتوا به ظلة بني بلية- على مقدار أربعة أذرع أو خمسة منها- فاحفروا لي حفيرة و ادفنوني فيها- فمطرت السماء وقت الزوال و قتل محمد ع- و كان عندهم مشهورا أن آية قتل النفس الزكية- أن يسيل دم بالمدينة حتى يدخل بيت عاتكة- فكانوا يعجبون كيف يسيل الدم حتى يدخل ذلك البيت- فأمطرت السماء ذلك اليوم- و سال الدم بالمطر حتى دخل بيت عاتكة و أخذ جسده- فحفر له حفيرة في الموضع الذي حده لهم- فوقعوا على صخرة فأخرجوها- فإذا فيها مكتوب- هذا قبر الحسن بن علي بن أبي طالب ع- فقالت زينب أخت محمد ع- رحم الله أخي كان أعلم حيث أوصى أن يدفن في هذا الموضع- .

و روى أبو الفرج قال قدم على المنصور قادم- فقال هرب محمد فقال له كذبت- إنا أهل البيت لا نفر- . و أما إبراهيم ع- فروى أبو الفرج عن المفضل بن محمد الضبي- قال كان إبراهيم بن عبد الله بن الحسن متواريا- عندي بالبصرة- و كنت أخرج و أتركه- فقال لي إذا خرجت ضاق صدري- فأخرج إلي شيئا من كتبك أتفرج به- فأخرجت إليه كتبا من الشعر- فاختار منها القصائد السبعين- التي صدرت بها كتاب لمفضليات –  ثم أتممت عليها باقي الكتاب- . فلما خرج خرجت معه- فلما صار بالمربد مربد سليمان بن علي- وقف عليهم و أمنهم و استسقى ماء فأتي به فشرب- فأخرج إليه صبيان من صبيانهم فضمهم إليه- و قال هؤلاء و الله منا و نحن منهم لحمنا و دمنا- و لكن آباءهم انتزوا على أمرنا- و ابتزوا حقوقنا و سفكوا دماءنا ثم تمثل-

مهلا بني عمنا ظلامتنا
إن بنا سورة من الغلق‏

لمثلكم نحمل السيوف و لا
تغمز أحسابنا من الرقق‏

إني لأنمي إذا انتميت إلى
عز عزيز و معشر صدق‏

بيض سباط كان أعينهم‏
تكحل يوم الهياج بالعلق‏

فقلت له ما أجود هذه الأبيات و أفحلها فلمن هي- فقال هذه يقولها ضرار بن الخطاب الفهري- يوم عبر الخندق على رسول الله ص- و تمثل بها علي بن أبي طالب يوم صفين- و الحسين يوم الطف و زيد بن علي يوم السبخة- و يحيى بن زيد يوم الجوزجان- فتطيرت له من تمثله بأبيات لم يتمثل بها أحد إلا قتل- ثم سرنا إلى باخمرى فلما قرب منها أتاه نعي أخيه محمد- فتغير لونه و جرض بريقه ثم أجهش باكيا- و قال اللهم إن كنت تعلم أن محمدا خرج يطلب مرضاتك- و يؤثر أن تكون كلمتك العليا و أمرك المتبع المطاع- فاغفر له و ارحمه و ارض عنه- و اجعل ما نقلته إليه من الآخرة خيرا- مما نقلته عنه من الدنيا- ثم انفجر باكيا ثم تمثل-

أبا المنازل يا خير الفوارس من
يفجع بمثلك في الدنيا فقد فجعا

الله يعلم إني لو خشيتهم‏
أو آنس القلب من خوف لهم فزعا

لم يقتلوك و لم أسلم أخي لهم
حتى نعيش جميعا أو نموت معا

قال المفضل فجعلت أعزيه و أعاتبه على ما ظهر من جزعه- فقال إني و الله في هذا كما قال دريد بن الصمة-

يقول ألا تبكي أخاك و قد أرى
مكان البكا لكن بنيت على الصبر

لمقتل عبد الله و الهالك الذي‏
على الشرف الأعلى قتيل أبي بكر

و عبد يغوث تحجل الطير حوله
و جل مصابا جثو قبر على قبر

فأما ترينا لا تزال دماؤنا
لدى واتر يسعى بها آخر الدهر

فإنا للحم السيف غير نكيرة
و نلحمه طورا و ليس بذي نكر

يغار علينا واترين فيشتفى‏
بنا إن أصبنا أو نغير على وتر

بذاك قسمنا الدهر شطرين بيننا
فما ينقضي إلا و نحن على شطر

قال المفضل ثم ظهرت لنا جيوش أبي جعفر مثل الجراد- فتمثل إبراهيم ع قوله-

إن يقتلوني لا تصب أرماحهم
ثأري و يسعى القوم سعيا جاهدا

نبئت أن بني جذيمة أجمعت‏
أمرا تدبره لتقتل خالدا

أرمي الطريق و إن رصدت بضيقه
و أنازل البطل الكمي الحاردا

فقلت له من يقول هذا الشعر يا ابن رسول الله- فقال يقوله خالد بن جعفر بن كلاب يوم شعب جبلة- و هذا اليوم الذي لقيت فيه قيس تميما- قال و أقبلت عساكر أبي جعفر فطعن رجلا و طعنه آخر- فقلت له أ تباشر القتال بنفسك- و إنما العسكر منوط بك- فقال إليك يا أخا بني ضبة- فإني لكما قال عويف القوافي-

ألمت سعاد و إلمامها
أحاديث نفس و أحلامها

محجبة من بني مالك‏
تطاول في المجد أعلامها

و إن لنا أصل جرثومة
ترد الحوادث أيامها

ترد الكتيبة مفلولة
بها أفنها و بها ذامها

و التحمت الحرب و اشتدت- فقال يا مفضل احكني بشي‏ء- فذكرت أبياتا لعويف القوافي- لما كان ذكره هو من شعره فأنشدته-

ألا أيها الناهي فزارة بعد ما
أجدت لسير إما أنت ظالم‏

أبى كل حر أن يبيت بوتره‏
و تمنع منه النوم إذ أنت نائم‏

أقول لفتيان كرام تروحوا
على الجرد في أفواههن الشكائم‏

قفوا وقفة من يحي لا يخز بعدها
و من يخترم لا تتبعه اللوائم‏

و هل أنت إن باعدت نفسك عنهم
لتسلم فيما بعد ذلك سالم‏

فقال أعد و تبينت من وجهه أنه يستقتل فانتهبت- و قلت أو غير ذلك- فقال لا بل أعد الأبيات فأعدتها- فتمطى في ركابيه فقطعهما- و حمل فغاب عني و أتاه سهم عائر فقتله- و كان آخر عهدي به ع- قلت في هذا الخبر ما يحتاج إلى تفسير أما قوله- إن بنا سورة من الغلق‏- . فالغلق الضجر و ضيق الصدر و الحدة- يقال احتد فلان فنشب في حدته و غلق- و السورة الوثوب- يقال إن لغضبه لسورة و إنه لسوار أي وثاب معربد و سورة الشراب وثوبه في الرأس- و كذلك سورة السم و سورة السلطان سطوته و اعتداؤه- . و أما قوله لمثلكم نحمل السيوف- فمعناه أن غيركم ليس بكف‏ء لنا- لنحمل له السيوف و إنما نحملها لكم لأنكم أكفاؤنا- فنحن نحاربكم على الملك و الرئاسة- و إن كانت أحسابنا واحدة- و هي شريفة لا مغمز فيها- .و الرقق بفتح الراء الضعف و منه قول الشاعر-

لم تلق في عظمها وهنا و لا رققا

و قوله-

تكحل يوم الهياج بالعلق‏

فالعلق الدم- يريد أن عيونهم حمر لشدة الغيظ و الغضب- فكأنها كحلت بالدم- . و قوله لكن بنيت على الصبر- أي خلقت و بنيت بنية تقتضي الصبر- و الشرف لأعلى العالي- و بنو أبي بكر بن كلاب من قيس عيلان- ثم أحد بني عامر بن صعصعة- . و أما قوله- إن يقتلوني لا تصب أرماحهم‏- . فمعناه أنهم إن قتلوني- ثم حاولوا أن يصيبوا رجلا آخر مثلي- يصلح أن يكون لي نظيرا- و أن يجعل دمه بواء لدمي- و سعوا في ذلك سعيا جاهدا- فإنهم لم يجدوا و لم يقدروا عليه- . و قوله أرمي الطريق… البيت- يقول أسلك الطريق الضيق- و لو جعل علي فيه الرصد لقتلي- . و الحارد المنفرد في شجاعته الذي لا مثل له غلبة معاوية على الماء بصفين ثم غلبة علي عليه بعد ذلك فأما حديث الماء- و غلب أصحاب معاوية على شريعة الفرات بصفين- فنحن نذكره من كتاب صفين لنصر بن مزاحم- .

قال نصر كان أبو الأعور السلمي على مقدمة معاوية- و كان قد ناوش مقدمةعلي ع- و عليها الأشتر النخعي مناوشة ليست بالعظيمة- و قد ذكرنا ذلك فيما سبق من هذا الكتاب- و انصرف أبو الأعور عن الحرب راجعا فسبق إلى الماء- فغلب عليه في الموضع المعروف بقناصرين- إلى جانب صفين و ساق الأشتر يتبعه- فوجده غالبا على الماء- و كان في أربعة آلاف من مستبصري أهل العراق- فصدموا أبا الأعور و أزالوه عن الماء- فأقبل معاوية في جميع الفيلق بقضه و قضيضه- فلما رآهم الأشتر انحاز إلى علي ع- و غلب معاوية و أهل الشام على الماء- و حالوا بين أهل العراق و بينه- و أقبل علي ع في جموعه- فطلب موضعا لعسكره- و أمر الناس أن يضعوا أثقالهم- و هم أكثر من مائة ألف فارس فلما نزلوا- تسرع فوارس من فوارس علي ع على خيولهم إلى جهة معاوية- يتطاعنون و يرمون بالسهام و معاوية بعد لم ينزل- فناوشهم أهل الشام القتال فاقتتلوا هويا- . قال نصر فحدثني عمر بن سعد- عن سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباته- فكتب معاوية إلى علي ع عافانا الله و إياك-

ما أحسن العدل و الإنصاف من عمل
و أقبح الطيش ثم النفش في الرجل‏

 و كتب بعده-

اربط حمارك لا تنزع سويته
إذا يرد و قيد العير مكروب‏

ليست ترى السيد زيدا في نفوسهم‏
كما يراه بنو كوز و مرهوب‏

إن تسألوا الحق نعط الحق سائله
و الدرع محقبة و السيف مقروب‏

أو تأنفون فإنا معشر أنف‏
لا نطعم الضيم إن السم مشروب‏

فأمر علي ع أن يوزع الناس عن القتال- حتى أخذ أهل الشام مصافهم- ثم قال أيها الناس إن هذا موقف- من نطف فيه نطف يوم القيامة- و من فلج فيه فلج يوم القيامة ثم قال لما رأى نزول معاوية بصفين‏

لقد أتانا كاشرا عن نابه
يهمط الناس على اعتزابه‏
فليأتينا الدهر بما أتى به‏

قال نصر و كتب علي ع إلى معاوية جواب كتابه أما بعد-

فإن للحرب عراما شررا
إن عليها قائدا عشنزرا

ينصف من أحجر أو تنمرا
على نواحيها مزجا زمجرا
إذا ونين ساعة تغشمرا

و كتب بعده-

أ لم تر قومي إن دعاهم أخوهم
أجابوا و إن يغضب على القوم يغضبوا

هم حفظوا غيبي كما كنت حافظا
لقومي أخرى مثلها إن يغيبوا

بنو الحرب لم تقعد بهم أمهاتهم
و آباؤهم آباء صدق فأنجبوا

قال قد تراجع الناس كل من الفريقين إلى معسكرهم- و ذهب شباب من الناس إلى أن يستقوا- فمنعهم أهل الشام- . قلت في هذه الألفاظ ما ينبغي أن يشرح- .

قوله فاقتتلوا هويا بفتح الهاء- أي قطعة من الزمان و ذهب هوي من الليل أي فريق منه- . و النفش كثرة الكلام و الدعاوي و أصله من نفش الصوف- . و السوية كساء محشو بثمام و نحوه كالبرذعة- و كرب القيد إذا ضيقه على المقيد- و قيد مكروب أي ضيق- يقول لا تنزع برذعة حمارك عنه و اربطه و قيده- و إلا أعيد إليك و قيده ضيق- و هذا مثل ضربه لعلي ع- يأمره فيه بأن يردع جيشه عن التسرع و العجلة في الحرب- . و زيد المذكور في الشعر- هو زيد بن حصين بن ضرار بن عمرو بن مالك- بن زيد بن كعب بن بجالة بن ذهل بن مالك بن بكر- بن سعد بن ضبة بن أد بن طابخة- بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان- و هو المعروف بزيد الخيل و كان فارسهم- و بنو السيد من ضبة أيضا- و هم بنو السيد بن مالك بن بكر بن سعد- بن ضبة بن أد بن طابخة… إلى آخر النسب- و بنو السيد بنو عم زيد الفوارس – لأنه من بني ذهل بن مالك- و هؤلاء بنو السيد بن مالك و بينهم عداوة النسب- يقول إن بني السيد لا يرون زيدا في نفوسهم- كما تراه أهله الأدنون منه نسبا- و هم بنو كوز و بنو مرهوب- فأما بنو كوز- فإنهم بنو كوز بن كعب بن بجالة بن ذهل بن مالك- و أما بنو مرهوب – فإنهم بنو مرهوب بن عبيد بن هاجر- بن كعب بن بجالة بن ذهل بن مالك- يقول نحن لا نعظم زيدا- و لا نعتقد فيه من الفضيلة- ما يعتقده أهله و بنو عمه الأدنون- و المثل لعلي ع- أي نحن لا نرى في علي- ما يراه أهل العراق من تعظيمه و تبجيله- . و قوله-

و الدرع محقبة و السيف مقروب‏

 أي و الدرع بحالها في حقابها و هو ما يشد به في غلافها- و السيف بحاله أي في قرابه‏و هو جفنه- يقال حقبت الدرع و قربت السيف كلاهما ثلاثيان- يقول إن سألتم الحق- أعطيناكموه من غير حاجة إلى الحرب- بل نجيبكم إليه و الدروع بحالها لم تلبس- و السيوف في أجفانها لم تشهر- . و أما إثبات النون في تأنفون- فإن الأصوب حذفها لعطف الكلمة على المجزوم قبلها- و لكنه استأنف و لم يعطف- كأنه قال أ و كنتم تأنفون- يقول و إن أنفتم و أبيتم إلا الحرب- فإنا نأنف مثلكم أيضا- لا نطعم الضيم و لا نقبله- ثم قال إن السم مشروب- أي إن السم قد نشربه و لا نشرب الضيم- أي نختار الموت على الضيم و الذلة و يروى-

و إن أنفتم فإنا معشر أنف
لا نطعم الضيم إن الضيم مرهوب‏

 و الشعر لعبد الله بن عنمة الضبي- من بني السيد و من جملته-

و قد أروح أمام الحي يقدمني
صافي الأديم كميت اللون منسوب‏

محنب مثل شاة الربل محتفز
بالقصريين على أولاه مصبوب‏

يبذ ملجمه هاد له تلع
كأنه من جذوع العين مشذوب‏

فذاك ذخري إذا ما خيلهم ركضت‏
إلى المثوب أو مقاء سرحوب‏

فأما قوله ع- هذا موقف من نطف فيه نطف يوم القيامة- أي من تلطخ‏ فيه بعيب من فرار أو نكول عن العدو- يقال نطف فلان بالكسر إذا تدنس بعيب- و نطف أيضا إذا فسد- يقول من فسدت حاله اليوم في هذا الجهاد- فسدت حاله غدا عند الله- . قوله من فلج فيه بفتح اللام- أي من ظهر و فاز- و كذلك يكون غدا عند الله- يقال فلج زيد على خصمه بالفتح يفلج بضم اللام- أي ظهرت حجته عليه- و في المثل من يأت الحكم وحده يفلج- . قوله يهمط الناس أي يقهرهم و يخبطهم- و أصله الأخذ بغير تقدير- .

و قوله على اعتزابه- أي على بعده عن الإمارة و الولاية على الناس- و العرام بالضم الشراسة و الهوج- و العشنزر الشديد القوي- . و أحجر ظلم الناس حتى ألجأهم- إلى أن دخلوا حجرهم أو بيوتهم- و تنمر أي تنكر حتى صار كالنمر- يقول هذا القائد الشديد القوي- ينصف من يظلم الناس و يتنكر لهم أي ينصف منه- فحذف حرف الجر كقوله وَ اخْتارَ مُوسى‏ قَوْمَهُ أي من قومه- و المزج بكسر الميم السريع النفوذ- و أصله الرمح القصير كالمزراق- . و رجل زمجر أي مانع حوزته و الميم زائدة- و من رواها زمخرا بالخاء- عنى به المرتفع العالي الشأن- و جعل الميم زائدة أيضا- من زخر الوادي أي علا و ارتفع- . و غشمر السيل أقبل- و الغشمرة إثبات الأمر بغير تثبيت- يقول إذا أبطأن ساقهن سوقا عنيفا- . و الأبيات البائية لربيعة بن مقروم الطائي- .

قال نصر حدثنا عمر بن سعد- عن يوسف بن يزيد- عن عبد الله بن عوف بن‏الأحمر- قال لما قدمنا على معاوية و أهل الشام بصفين- وجدناهم قد نزلوا منزلا- اختاروه مستويا بساطا واسعا- و أخذوا الشريعة فهي في أيديهم- و قد صف عليها أبو الأعور الخيل و الرجالة- و قدم الرامية و معهم أصحاب الرماح و الدرق- و على رءوسهم البيض و قد أجمعوا أن يمنعونا الماء- ففزعنا إلى أمير المؤمنين ع فأخبرناه بذلك- فدعا صعصعة بن صوحان- فقال ائت معاوية و قل له- إنا سرنا إليك مسيرنا هذا- و أنا كره لقتالكم قبل الإعذار إليكم- و إنك قدمت خيلك- فقاتلتنا قبل أن نقاتلك و بدأتنا بالحرب- و نحن ممن رأينا الكف حتى ندعوك و نحتج عليك- و هذه أخرى قد فعلتموها- قد حلتم بين الناس و بين الماء- فخل بينهم و بينه حتى ننظر فيما بيننا و بينكم- و فيما قدمنا له و قدمتم له- و إن كان أحب إليك أن ندع ما جئنا له- و ندع الناس يقتتلون- حتى يكون الغالب هو الشارب فعلنا – . فلما مضى صعصعة برسالته إلى معاوية- قال معاوية لأصحابه ما ترون- فقال الوليد بن عقبة أمنعهم الماء كما منعوه ابن عفان- حصروه أربعين يوما يمنعونه برد الماء و لين الطعام- أقتلهم عطشا قتلهم الله- .

و قال عمرو بن العاص خل بين القوم و بين الماء- فإنهم لن يعطشوا و أنت ريان- و لكن لغير الماء فانظر فيما بينك و بينهم- . فأعاد الوليد مقالته- . و قال عبد الله بن سعيد بن أبي سرح- و كان أخا عثمان من الرضاعة- أمنعهم الماء إلى الليل- فإنهم إن لم يقدروا عليه رجعوا- و كان رجوعهم هزيمتهم- أمنعهم الماء منعهم‏ الله يوم القيامة- فقال صعصعة بن صوحان- إنما يمنعه الله يوم القيامة الفجرة الكفرة- شربة الخمر ضربك و ضرب هذا الفاسق- يعني الوليد بن عقبة- . فتواثبوا إليه يشتمونه و يتهددونه- فقال معاوية كفوا عن الرجل فإنما هو رسول- . قال عبد الله بن عوف بن أحمر- إن صعصعة لما رجع إلينا حدثنا بما قال معاوية- و ما كان منه و ما رده عليه- قلنا و ما الذي رده عليك معاوية- قال لما أردت الانصراف من عنده- قلت ما ترد علي قال سيأتيكم رأيي- قال فو الله ما راعنا إلا تسوية الرجال و الصفوف و الخيل- فأرسل إلى أبي الأعور امنعهم الماء- فازدلفنا و الله إليهم فارتمينا و أطعنا بالرماح- و اضطربنا بالسيوف- فطال ذلك بيننا و بينهم حتى صار الماء في أيدينا- فقلنا لا و الله لا نسقيهم- فأرسل إلينا علي ع أن خذوا من الماء حاجتكم- و ارجعوا إلى معسكركم و خلوا بينهم و بين الماء- فإن الله قد نصركم عليهم بظلمهم و بغيهم – .

و روى نصر بن محمد بن عبد الله قال- قام ذلك اليوم رجل من أهل الشام من السكون- يعرف بالشليل بن عمر إلى معاوية فقال-

اسمع اليوم ما يقول الشليل
إن قولي قول له تأويل‏

امنع الماء من صحاب علي‏
أن يذوقوه فالذليل ذليل‏

و اقتل القوم مثل ما قتل الشيخ
صدى فالقصاص أمر جميل‏

إننا و الذي تساق له البدن‏
هدايا كأنهن الفيول‏

لو علي و صحبه وردوا الماء
لما ذقتموه حتى تقولوا

قد رضينا بأمركم و علينا
بعد ذاك الرضا جلاد ثقيل‏

فامنع القوم ماءكم ليس للقوم‏
بقاء و إن يكن فقليل‏

فقال معاوية أما أنت فندري ما تقول و هو الرأي- و لكن عمرا لا يدري- فقال عمرو خل بينهم و بين الماء- فإن عليا لم يكن ليظمأ و أنت ريان- و في يده أعنة الخيل- و هو ينظر إلى الفرات حتى يشرب أو يموت- و أنت تعلم أنه الشجاع المطرق- و معه أهل العراق و أهل الحجاز- و قد سمعته أنا مرارا و هو يقول لو استمكنت من أربعين رجلا يعني في الأمر الأول- .

و روى نصر- قال لما غلب أهل الشام على الفرات فرحوا بالغلبة- و قال معاوية يا أهل الشام هذا و الله أول الظفر- لا سقاني الله و لا أبا سفيان- أن شربوا منه أبدا حتى يقتلوا بأجمعهم عليه- و تباشر أهل الشام- فقام إلى معاوية رجل من أهل الشام همداني- ناسك يتأله و يكثر العبادة- يعرف بمعري بن أقبل- و كان صديقا لعمرو بن العاص و أخا له- فقال يا معاوية سبحان الله- لأن سبقتم القوم إلى الفرات فغلبتموهم عليه- تمنعوهم الماء- أما و الله لو سبقوكم إليه لسقوكم منه- أ ليس أعظم ما تنالون من القوم أن تمنعوهم الفرات- فينزلوا على فرضة أخرى و يجازوكم بما صنعتم- أ ما تعلمون أن فيهم العبد و الأمة و الأجير و الضعيف- و من لا ذنب له- هذا و الله أول الجور- لقد شجعت الجبان و نصرت المرتاب- و حملت من لا يريد قتالك على كتفيك- فأغلظ له معاوية- و قال لعمرو اكفني صديقك- فأتاه عمرو فأغلظ له- فقال الهمداني في ذلك شعرا-

لعمر أبي معاوية بن حرب
و عمرو ما لدائمها دواء

سوى طعن يحار العقل فيه
و ضرب حين تختلط الدماء

و لست بتابع دين ابن هند
طوال الدهر ما أرسى حراء

لقد ذهب العتاب فلا عتاب
و قد ذهب الولاء فلا ولاء

و قولي في حوادث كل خطب‏
على عمرو و صاحبه العفاء

ألا لله درك يا ابن هند
لقد برح الخفاء فلا خفاء

أ تحمون الفرات على رجال‏
و في أيديهم الأسل الظماء

و في الأعناق أسياف حداد
كأن القوم عندهم نساء

أ ترجو أن يجاوركم علي‏
بلا ماء و للأحزاب ماء

دعاهم دعوة فأجاب قوم
كجرب الإبل خالطها الهناء

قال ثم سار الهمداني في سواد الليل حتى لحق بعلي ع- . قال و مكث أصحاب علي ع بغير ماء- و اغتم علي ع بما فيه أهل العراق- . قال نصر و حدثنا محمد بن عبد الله عن الجرجاني- قال لما اغتم علي بما فيه أهل العراق من العطش- خرج ليلا قبل رايات مذحج- فإذا رجل ينشد شعرا-

أ يمنعنا القوم ماء الفرات
و فينا الرماح و فينا الحجف‏

و فينا الشوازب مثل الوشيج‏
و فينا السيوف و فينا الزغف‏

و فينا علي له سورة
إذا خوفوه الردى لم يخف‏

و نحن الذين غداة الزبير
و طلحة خضنا غمار التلف‏

فما بالنا أمس أسد العرين
و ما بالنا اليوم شاء النجف‏

فما للعراق و ما للحجاز
سوى الشام خصم فصكوا الهدف‏

و ثوروا عليهم كبزل الجمال
دوين الذميل و فوق القطف‏

فإما تفوزوا بماء الفرات‏
و منا و منهم عليه جيف‏

و إما تموتوا على طاعة
تحل الجنان و تحبو الشرف‏

و إلا فأنتم عبيد العصا
و عبد العصا مستذل نطف‏

قال فحرك ذلك عليا ع ثم مضى إلى رايات كندة- فإذا إنسان ينشد إلى جانب منزل الأشعث و هو يقول-

لئن لم يجل الأشعث اليوم كربة
من الموت فيها للنفوس تعنت‏

فنشرب من ماء الفرات بسيفه‏
فهبنا أناسا قبل ذاك فموتوا

فإن أنت لم تجمع لنا اليوم أمرنا
و تنض التي فيها عليك المذلة

فمن ذا الذي تثني الخناصر باسمه
سواك و من هذا إليه التلفت‏

و هل من بقاء بعد يوم و ليلة
نظل خفوتا و العدو يصوت‏

هلموا إلى ماء الفرات و دونه
صدور العوالي و الصفيح المشتت‏

و أنت امرؤ من عصبة يمنية
و كل امرئ من سنخه حين ينبت‏

قال فلما سمع الأشعث قول الرجل قام فأتى عليا ع- فقال يا أمير المؤمنين- أ يمنعنا القوم ماء الفرات و أنت فينا- و السيوف في أيدينا- خل عنا و عن القوم- فو الله لا نرجع حتى نرده أو نموت- و مر الأشتر فليعل بخيله و يقف حيث تأمره- فقال علي ع ذلك إليكم- . فرجع الأشعث فنادى في الناس- من كان يريد الماء أو الموت فميعاده موضع كذا- فإني ناهض- فأتاه اثنا عشر ألفا من كندة و أفناء قحطان- واضعي سيوفهم على عواتقهم- فشد عليه سلاحه و نهض بهم- حتى كاد يخالط أهل الشام و جعل يلقي رمحه-

و يقول لأصحابه بأبي و أمي أنتم- تقدموا إليهم قاب رمحي هذا- فلم يزل ذلك دأبه حتى خالط القوم و حسر عن رأسه و نادى أنا الأشعث بن قيس خلوا عن الماء- فنادى أبو الأعور- أما و الله حتى لا تأخذنا و إياكم السيوف- فقال الأشعث‏ قد و الله أظنها دنت منا و منكم- و كان الأشتر قد تعالى بخيله حيث أمره علي- فبعث إليه الأشعث أقحم الخيل- فأقحمها حتى وضعت سنابكها في الفرات- و أخذت أهل الشام السيوف فولوا مدبرين- .

قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر- عن جابر عن أبي جعفر و زيد بن الحسن- قال فنادى الأشعث عمرو بن العاص- فقال ويحك يا ابن العاص خل بيننا و بين الماء- فو الله لئن لم تفعل لتأخذنا و إياكم السيوف- فقال عمرو و الله لا نخلي عنه حتى تأخذنا السيوف و إياكم- فيعلم ربنا أينا أصبر اليوم- فترجل الأشعث و الأشتر- و ذوو البصائر من أصحاب علي ع- و ترجل معهما اثنا عشر ألفا- فحملوا على عمرو و أبي الأعور و من معهما من أهل الشام- فأزالوهم عن الماء- حتى غمست خيل علي ع سنابكها في الماء- .

قال نصر فروى عمر بن سعد أن عليا ع قال ذلك اليوم هذا يوم نصرتم فيه بالحمية – . قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر- قال سمعت تميما الناجي يقول سمعت الأشعث يقول- حال عمرو بن العاص بيننا و بين الفرات- فقلت له ويحك يا عمرو- أما و الله إن كنت لأظن لك رأيا- فإذا أنت لا عقل لك أ ترانا نخليك و الماء- تربت يداك أ ما علمت أنا معشر عرب- ثكلتك أمك و هبلتك لقد رمت أمرا عظيما- فقال لي عمرو أما و الله لتعلمن اليوم- أنا سنفي بالعهد و نحكم العقد- و نلقاكم‏ بصبر و جد- فنادى به الأشتر يا ابن العاص- أما و الله لقد نزلنا هذه الفرضة- و إنا لنريد القتال على البصائر و الدين- و ما قتالنا سائر اليوم إلا حمية- . ثم كبر الأشتر و كبرنا معه و حملنا- فما ثار الغبار حتى انهزم أهل الشام- . قالوا فلقي عمرو بن العاص بعد انقضاء صفين الأشعث- فقال له يا أخا كندة- أما و الله لقد أبصرت صواب قولك يوم الماء- و لكن كنت مقهورا على ذلك الرأي- فكابرتك بالتهدد و الوعيد و الحرب خدعة- .

قال نصر- و لقد كان من رأي عمرو التخلية بين أهل العراق و الماء- و رجع معاوية بأخرة إلى قوله بعد اختلاط القوم في الحرب- فإن عمرا فيما روينا أرسل إلى معاوية- أن خل بين القوم و بين الماء- أ ترى القوم يموتون عطشا و هم ينظرون إلى الماء- فأرسل معاوية إلى يزيد بن أسد القسري- أن خل بين القوم و بين الماء يا أبا عبد الله- فقال يزيد و كان شديد العثمانية- كلا و الله لنقتلنهم عطشا كما قتلوا أمير المؤمنين- .

قال فحدثنا عمرو بن شمر عن جابر قال خطب علي ع يوم الماء فقال أما بعد فإن القوم قد بدءوكم بالظلم و فاتحوكم بالبغي- و استقبلوكم بالعدوان- و قد استطعموكم القتال حيث منعوكم الماء- فأقروا على مذلة و تأخير مهلة – … الفصل إلى آخره- . قال نصر و كان قد بلغ أهل الشام- أن عليا ع جعل للناس إن فتح الشام- أن يقسم بينهم التبر و الذهب و هما الأحمران- و أن يعطي كلا منهم خمسمائة كما أعطاهم بالبصرة- فنادى ذلك اليوم منادي أهل الشام- يا أهل العراق لما ذا نزلتم بعجاج‏ من الأرض- نحن أزد شنوءة لا أزد عمان يا أهل العراق-

لا خمس إلا جندل الأحرين
و الخمس قد تجشمك الأمرين‏

قال نصر فحدثني عمرو بن شمر- عن إسماعيل السدي عن بكر بن تغلب- قال حدثني من سمع الأشعث يوم الفرات- و قد كان له غناء عظيم من أهل العراق- و قتل رجالا من أهل الشام بيده- و هو يقول و الله إن كنت لكارها قتال أهل الصلاة- و لكن معي من هو أقدم مني في الإسلام- و أعلم بالكتاب و السنة فهو الذي يسخي بنفسه- .قال نصر و حمل ظبيان بن عمارة التميمي على أهل الشام- و هو يقول

هل لك يا ظبيان من بقاء
في ساكني الأرض بغير ماء

لا و إله الأرض و السماء
فاضرب وجوه الغدر الأعداء

بالسيف عند حمس الهيجاء
حتى يجيبوك إلى السواء

 قال فضربهم و الله حتى خلوا له الماء- . قال نصر و دعا الأشتر بالحارث بن همام النخعي- ثم الصهباني فأعطاه لواءه- و قال له يا حارث لو لا أني أعلم أنك تصبر عند الموت لأخذت لوائي منك- و لم أحبك بكرامتي- فقال و الله يا مالك لأسرنك أو لأموتن فاتبعني- ثم تقدم باللواء و ارتجز فقال-

يا أخا الخيرات يا خير النخع
و صاحب النصر إذا عم الفزع‏

و كاشف الخطب إذا الأمر وقع‏
ما أنت في الحرب العوان بالجذع‏

قد جزع القوم و عموا بالجزع
و جرعوا الغيظ و غصوا بالجرع‏

إن تسقنا الماء فليست بالبدع‏
أو نعطش اليوم فجند مقتطع‏

ما شئت خذ منها و ما شئت فدع‏

فقال الأشتر ادن مني يا حارث- فدنا منه فقبل رأسه- فقال لا يتبع رأسه اليوم إلا خير- ثم صاح الأشتر في أصحابه فدتكم نفسي- شدوا شدة المحرج الراجي للفرج- فإذا نالتكم الرماح فالتووا فيها- فإذا عضتكم السيوف فليعض الرجل على نواجذه- فإنه أشد لشئون الرأس- ثم استقبلوا القوم بهامكم- .

قال و كان الأشتر يومئذ على فرس له محذوف أدهم- كأنه حلك الغراب- و قتل بيده من أهل الشام من فرسانهم و صناديدهم سبعة- صالح بن فيروز العكي- و مالك بن أدهم السلماني- و رياح بن عتيك الغساني- و الأجلح بن منصور الكندي- و كان فارس أهل الشام- و إبراهيم بن وضاح الجمحي- و زامل بن عبيد الحزامي- و محمد بن روضة الجمحي- . قال نصر- فأول قتيل قتله الأشتر بيده ذلك اليوم صالح بن فيروز- ارتجز على الأشتر و قال له-

يا صاحب الطرف الحصان الأدهم
أقدم إذا شئت علينا أقدم‏

أنا ابن ذي العز و ذي التكرم‏
سيد عك كل عك فاعلم‏

قال و كان صالح مشهورا بالشدة و البأس- فارتجز عليه الأشتر فقال له-

أنا ابن خير مذحج مركبا
و خيرها نفسا و أما و أبا

آليت لا أرجع حتى أضربا
بسيفي المصقول ضربا معجبا

ثم شد عليه فقتله- فخرج إليه مالك بن أدهم السلماني- و هو من مشهوريهم أيضا- فحمل على الأشتر بالرمح- فلما رهقه التوى الأشتر على فرسه و مار السنان فأخطأه- ثم استوى على فرسه- و شد على الشامي فقتله طعنا بالرمح- ثم قتل بعده رياح بن عقيل و إبراهيم بن وضاح- ثم برز إليه زامل بن عقيل و كان فارسا- فطعن الأشتر في موضع الجوشن فصرعه عن فرسه- و لم يصب مقتلا و شد عليه الأشتر بالسيف راجلا- فكشف قوائم فرسه و ارتجز عليه فقال-

لا بد من قتلي أو من قتلكا
قتلت منكم أربعا من قبلكا
كلهم كانوا حماة مثلكا

ثم ضربه بالسيف و هما راجلان فقتله- ثم خرج إليه محمد بن روضة- فقال و هو يضرب في أهل العراق ضربا منكرا-

يا ساكني الكوفة يا أهل الفتن
يا قاتلي عثمان ذاك المؤتمن‏

أورث قلبي قتله طول الحزن‏
أضربكم و لا أرى أبا حسن‏

فشد عليه الأشتر فقتله و قال-

لا يبعد الله سوى عثمانا
و أنزل الله بكم هوانا
و لا يسلى عنكم الأحزانا

ثم برز إليه الأجلح بن منصور الكندي- و كان من شجعان العرب و فرسانها- و هو على فرس له اسمه لاحق فلما استقبله الأشتر- كره لقاءه و استحيا أن يرجع عنه فتضاربا بسيفيهما- فسبقه الأشتر بالضربة فقتله- فقالت أخته ترثيه-

ألا فابكي أخا ثقة
فقد و الله أبكينا

لقتل الماجد القمقام‏
لا مثل له فينا

أتانا اليوم مقتله
فقد جزت نواصينا

كريم ماجد الجدين‏
يشفي من أعادينا

شفانا الله من أهل
العراق فقد أبادونا

أ ما يخشون ربهم‏
و لم يرعوا له دينا

قال و بلغ شعرها عليا ع-فقال أما إنهن ليس بملكهن ما رأيتم من الجزع- أما إنهم قد أضروا بنسائهم- فتركوهن أيامى حزانى بائسات- قاتل الله معاوية- اللهم حمله آثامهم و أوزارا و أثقالا مع أثقاله- اللهم لا تعف عنه – . قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر- عن جابر عن الشعبي عن الحارث بن أدهم- و عن صعصعة- قال أقبل الأشتر يوم الماء- فضرب بسيفه جمهور أهل الشام حتى كشفهم عن الماء- و هو يقول

لا تذكروا ما قد مضى وفاة
و الله ربي الباعث الأمواتا

من بعد ما صاروا كذا رفاتا
لأوردن خيلي الفراتا
شعث النواصي أو يقال ماتا

قال و كان لواء الأشعث بن قيس مع معاوية بن الحارث- فقال له الأشعث لله أبوك- ليست النخع بخير من كندة- قدم لواءك فإن الحظ لمن سبق- فتقدم لواء الأشعث- و حملت الرجال بعضها على بعض- و حمل في ذلك اليوم أبو الأعور السلمي- و حمل الأشتر عليه فلم ينتصف أحدهما من صاحبه- و حمل شرحبيل بن السمط على الأشعث فكانا كذلك- و حمل حوشب ذو ظليم على الأشعث أيضا- و انفصلا و لم ينل أحدهما من صاحبه أمرا- فما زالوا كذلك حتى انكشف أهل الشام عن الماء- و ملك أهل العراق المشرعة- . قال نصر فحدثنا محمد بن عبد الله عن الجرجاني- قال قال عمرو بن العاص لمعاوية لما ملك أهل العراق الماء- ما ظنك يا معاوية بالقوم- إن منعوك اليوم الماء كما منعتهم‏ أمس- أ تراك تضاربهم عليه كما ضاربوك عليه- ما أغنى عنك أن تكشف لهم السوأة- فقال معاوية دع عنك ما مضى فما ظنك بعلي- قال ظني أنه لا يستحل منك ما استحللت منه- و أن الذي جاء له غير الماء- قال فقال له معاوية قولا أغضبه- فقال عمرو

أمرتك أمرا فسخفته
و خالفني ابن أبي سرحة

و أغمضت في الرأي إغماضة
و لم تر في الحرب كالفسحة

فكيف رأيت كباش العراق
أ لم ينطحوا جمعنا نطحة

فإن ينطحونا غدا مثلها
نكن كالزبيري أو طلحة

أظن لها اليوم ما بعدها
و ميعاد ما بيننا صبحه‏

و إن أخروها لما بعدها
فقد قدموا الخبط و النفحة

و قد شرب القوم ماء الفرات
و قلدك الأشتر الفضحة

قال نصر فقال أصحاب علي ع له- امنعهم الماء يا أمير المؤمنين كما منعوك فقال لا- خلوا بينهم و بينه لا أفعل ما فعله الجاهلون- سنعرض عليهم كتاب الله و ندعوهم إلى الهدى- فإن أجابوا و إلا ففي حد السيف ما يغني إن شاء الله – . قال فو الله ما أمسى الناس- حتى رأوا سقاتهم و سقاة أهل الشام و رواياهم و روايا أهل الشام- يزدحمون على الماء- ما يؤذي إنسان إنسانا

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ أبي ‏الحديد) ج 3   

خطبه 50 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

50 و من خطبة له ع

إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ وَ أَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ-  يُخَالَفُ فِيهَا كِتَابُ اللَّهِ-  وَ يَتَوَلَّى عَلَيْهَا رِجَالٌ رِجَالًا عَلَى غَيْرِ دِينِ اللَّهِ-  فَلَوْ أَنَّ الْبَاطِلَ خَلَصَ مِنْ مِزَاجِ الْحَقِّ-  لَمْ يَخْفَ عَلَى الْمُرْتَادِينَ-  وَ لَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ الْبَاطِلِ-  انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ الْمُعَانِدِينَ-  وَ لَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ وَ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ-  فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ-  وَ يَنْجُو الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْحُسْنَى المرتاد الطالب-  و الضغث من الحشيش القبضة منه-  قال الله تعالى وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً- .

يقول ع إن المذاهب الباطلة و الآراء الفاسدة-  التي يفتتن الناس بها أصلها اتباع الأهواء-  و ابتداع الأحكام التي لم تعرف يخالف فيها الكتاب-  و تحمل العصبية و الهوى على تولي أقوام قالوا بها-  على غير وثيقة من الدين-  و مستند وقوع هذه الشبهات-  امتزاج الحق بالباطل-  في النظر الذي هو الطريق إلى استعلام المجهولات-  فلو أن النظر تخلص مقدماته-  و ترتب قضاياه من قضايا باطلة-  لكان الواقع عنه هو العلم المحض-  و انقطع عنه ألسن المخالفين-  و كذلك لو كان النظر تخلص مقدماته من قضايا صحيحة-  بأن كان كله مبنيا على الفساد لظهر فساده لطلبة الحق-  و إنما يقع الاشتباه-  لامتزاج قضاياه الصادقة بالقضايا الكاذبة- .

مثال ذلك احتجاج من أجاز الرؤية-  بأن البارئ تعالى ذات موجودة-  و كل موجود يصح أن يرى فإحدى المقدمتين حق و الأخرى باطل-  فالتبس أمر النتيجة على كثير من الناس- . و مثال ما يكون المقدمتان جميعا باطلتين-  قول قوم من الباطنية البارئ لا موجود و لا معدوم-  و كل ما لا يكون موجودا و لا معدوما يصح أن يكون حيا قادرا-  فالبارئ تعالى يصح أن يكون حيا قادرا-  فهاتان المقدمتان جميعا باطلتان-  لا جرم أن هذه المقالة مرغوب عنها عند العقلاء- .و مثال ما تكون مقدماته حقا كلها-  العالم متغير و كل متغير ممكن فالعالم ممكن-  فهذا مما لا خلاف فيه بين العقلاء- . فإن قيل فما معنى قوله ع-  فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه-  و ينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى-  أ ليس هذا إشعارا بقول المجبرة و تلويحا به- .

قيل لا إشعار في ذلك بالجبر-  و مراده ع أنه إذا امتزج في النظر الحق بالباطل-  و تركبت المقدمات من قضايا صحيحة و فاسدة-  تمكن الشيطان من الإضلال و الإغواء-  و وسوس إلى المكلف-  و خيل له النتيجة الباطلة و أماله إليها و زينها عنده-  بخلاف ما إذا كانت المقدمات حقا كلها-  فإنه لا يقدر الشيطان-  على أن يخيل له ما يخالف العقل الصريح-  و لا يكون له مجال في تزيين الباطل عنده-  أ لا ترى أن الأوليات لا سبيل للإنسان إلى جحدها و إنكارها-  لا بتخييل الشيطان و لا بغير ذلك- .

 و معنى قوله على أوليائه-  أي على من عنده استعداد للجهل-  و تمرن على اتباع الهوى-  و زهد في تحقيق الأمور العقلية على وجهها-  تقليدا للأسلاف و محبة لأتباع المذهب المألوف-  فذاك هو الذي يستولي عليه الشيطان و يضله-  و ينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى-  و هم الذين يتبعون محض العقل-  و لا يركنون إلى التقليد-  و يسلكون مسلك التحقيق-  و ينظرون النظر الدقيق-  يجتهدون في البحث عن مقدمات أنظارهم-  و ليس في هذا الكلام تصريح بالجبر-  و لا إشعار به على وجه من الوجوه و هذا واضح- .

و حمل الراوندي قوله ع-  فلو أن الباطل خلص إلى آخره-  على أن المراد به نفي القياس في الشرع-  قال لأن القائسين يحملون المسكوت عنه على المنطوق-  فيمتزج المجهول بالمعلوم-  فيلتبس و يظن لامتزاج بعضه ببعض حقا و هذا غير مستقيم-  لأن لفظ الخطبة أن الحق يمتزج بالباطل-  و أصحاب القياس-  لا يسلمون أن استخراج العلة من الحكم المعلوم باطل-  بل يقولون إنه حق-  و إن الدليل الدال على ورود العبارة بالقياس-  قد أمنهم من كونه باطلا- .

و اعلم أن هذا الكلام الذي قاله ع حق إذا تأملته-  و إن لم تفسره على ما قدمناه من التفسير-  فإن الذين ضلوا من مقلدة اليهود و النصارى-  و أرباب المقالات الفاسدة-  من أهل الملة الإسلامية و غيرها-  إنما ضل أكثرهم بتقليد الأسلاف-  و من يحسن الظن فيه من الرؤساء و أرباب المذاهب-  و إنما قلدهم الأتباع لما شاهدوا من إصلاح ظواهرهم-  و رفضهم الدنيا و زهدهم فيها-  و إقبالهم على العبادة و تمسكهم بالدين-  و أمرهم بالمعروف و نهيهم عن المنكر-  و شدتهم في ذات الله-  و جهادهم في سبيله-  و قوتهم في‏ مذاهبهم و صلابتهم في عقائدهم-  فاعتقد الأتباع و الخلف و القرون-  التي جاءت بعدهم أن هؤلاء يجب اتباعهم-  و تحرم مخالفتهم-  و أن الحق معهم و أن مخالفهم مبتدع ضال-  فقلدوهم في جميع ما نقل إليهم عنهم-  و وقع الضلال و الغلط بذلك-  لأن الباطل استتر و انغمر-  بما مازجه من الحق الغالب الظاهر المشاهد عيانا-  أو الحكم الظاهر و لولاه لما تروج الباطل-  و لا كان له قبول أصلا

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 3   

خطبه 49 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

49 و من خطبة له ع

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بَطَنَ خَفِيَّاتِ الْأَمُوُرِ- وَ دَلَّتْ عَلَيْهِ أَعْلَامُ الظُّهُورِ- وَ امْتَنَعَ عَلَى عَيْنِ الْبَصِيرِ- فَلَا عَيْنُ مَنْ لَمْ يَرَهُ تُنْكِرُهُ- وَ لَا قَلْبُ مَنْ أَثْبَتَهُ يُبْصِرُهُ- سَبَقَ فِي الْعُلُوِّ فَلَا شَيْ‏ءَ أَعْلَى مِنْهُ- وَ قَرُبَ فِي الدُّنُوِّ فَلَا شَيْ‏ءَ أَقْرَبُ مِنْهُ- فَلَا اسْتِعْلَاؤُهُ بَاعَدَهُ عَنْ شَيْ‏ءٍ مِنْ خَلْقِهِ- وَ لَا قُرْبُهُ سَاوَاهُمْ فِي الْمَكَانِ بِهِ- لَمْ يُطْلِعِ الْعُقُولَ عَلَى تَحْدِيدِ صِفَتِهِ- وَ لَمْ يَحْجُبْهَا عَنْ وَاجِبِ مَعْرِفَتِهِ- فَهُوَ الَّذِي تَشْهَدُ لَهُ أَعْلَامُ الْوُجُودِ- عَلَى إِقْرَارِ قَلْبِ ذِي الْجُحُودِ- تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُهُ الْمُشَبِّهُونَ بِهِ- وَ الْجَاحِدُونَ لَهُ عُلُوّاً كَبِيراً بطنت سر فلان أي أخفيته- . و الأعلام جمع علم و هو المنار يهتدى به- ثم جعل لكل ما دل على شي‏ء- فقيل لمعجزات الأنبياء أعلام لدلالتها على نبوتهم- و قوله ع أعلام الظهور- أي الأدلة الظاهرة الواضحة- . و قوله فيما بعد أعلام الوجود- أي الأدلة الموجودة- و الدلالة هي الوجود نفسه- و سيأتي شرح ذلك- . و قوله و امتنع على عين البصير- يقول إنه سبحانه ليس بمرئي بالعين- و مع‏ ذلك فلا يمكن من لم يره بعينه أن ينكره- لدلالة كل شي‏ء عليه- بل لدلالته سبحانه على نفسه- . ثم قال و لا قلب من أثبته يبصره- أي لا سبيل لمن أثبت وجوده- أن يحيط علما بجميع أحواله و معلوماته و مصنوعاته- أو أراد أنه لا تعلم حقيقة ذاته- كما قاله قوم من المحققين- . و قد روي هذا الكلام على وجه آخر قالوا في الخطبة- فلا قلب من لم يره ينكره- و لا عين من أثبته تبصره- و هذا غير محتاج إلى تفسير لوضوحه- .

و قوله ع فلا استعلاؤه باعده- أي ليس علوه و لا قربه- كما نعقله من العلو و القرب المكانيين- بل هو علو و قرب خارج من ذلك- فليس علوه يقتضي بعده بالمكان عن الأجسام- و لا قربه يقتضي مساواته إياها- في الحاجة إلى المكان و الجهة- . و الباء في به متعلقة بساواهم- معناه و لا قربه ساواهم به في الحاجة إلى المكان- أي لم يقتض قربه مماثلته و مساواته إياهم في ذلك

فصول في العلم الإلهي

و هذا الفصل يشتمل على عدة مباحث من العلم الإلهي-

أولها كونه تعالى عالما بالأمور الخفية- .

و الثاني كونه تعالى مدلولا عليه بالأمور الظاهرة- يعني أفعاله- .

و الثالث أن هويته تعالى غير معلومة للبشر- .

و الرابع نفي تشبيهه بشي‏ء من مخلوقاته- .

و الخامس بيان أن الجاحد لإثباته مكابر بلسانه- و عارف به بقلبه- .

و نحن نذكر القول في جميع ذلك- على سبيل اقتصاص المذاهب و الأقوال- و نحيل في البرهان على الحق من ذلك- و بطلان شبه المخالفين فيه- على ما هو مذكور في كتبنا الكلامية- إذ ليس هذا الكتاب موضوعا لذلك- و إن كنا قد لا نخلي بعض فصوله- من إشارة إلى الدليل موجزة- و تلويح إلى الشبهة لطيف فنقول أماالفصل الأول و هو الكلام في كونه تعالى عالما بالأمور الخفية

فاعلم أن أمير المؤمنين ع إنما قال بطن خفيات الأمور- و هذا القدر من الكلام يقتضي كونه تعالى عالما- يعلم الأمور الخفية الباطنة- و هذا منقسم قسمين- أحدهما أن يعلم الأمور الخفية الحاضرة- . و الثاني أن يعلم الأمور الخفية المستقبلة- . و الكلام من حيث إطلاقه يحتمل الأمرين- فنحمله عليهما معا- فقد خالف في كل واحدة من المسألتين قوم- فمن الناس من نفى كونه عالما بالمستقبلات- و من الناس من نفى كونه عالما بالأمور الحاضرة- سواء كانت خفية أو ظاهرة- و هذا يقتضينا أن نشرح أقوال العقلاء في هذه المسائل- فنقول إن الناس فيها على أقوال-

القول الأول قول جمهور المتكلمين- و هو أن البارئ سبحانه يعلم كل معلوم- الماضي و الحاضر و المستقبل- ظاهرها و باطنها و محسوسها و غير محسوسها- فهو تعالى العالم بما كان و ما هو حاضر- و ما سيكون و ما لم يكن- أن لو كان كيف كان يكون كقوله‏ تعالى- وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ- فهذا علم بأمر مقدر على تقدير وقوع أصله- الذي قد علم أنه لا يكون- .

القول الثاني– قول من زعم أنه تعالى لا يعلم الأمور المستقبلة- و شبهوه بكونه مدركا- قالوا كما أنه لا يدرك المستقبلات- فكذلك لا يعلم المستقبلات- و هو قول هشام بن الحكم- .

القول الثالث– قول من زعم أنه لا يعلم الأمور الحاضرة- و هذا القول نقيض القول الثاني- و شبهوه بكونه قادرا- قالوا كما أنه لا يقدر على الموجود- فكذلك لا يعلم الموجود- و نسب ابن الراوندي هذا القول إلى معمر بن عباد- أحد شيوخنا و أصحابنا يكذبونه في ذلك- و يدفعون الحكاية عنه- .

القول الرابع– قول من زعم أنه تعالى لا يعلم نفسه خاصة- و يعلم كل ما عدا ذاته- و نسب ابن الراوندي هذه المقالة إلى معمر أيضا- و قال إنه يقول إن العالم غير المعلوم- و الشي‏ء لا يكون غير نفسه- و أصحابنا يكذبون ابن الراوندي في هذه الحكاية- و ينزهون معمرا عنها- .

القول الخامس قول من قال- إنه تعالى لم يكن فيما لم يزل عالما بشي‏ء أصلا- و إنما أحدث لنفسه علما علم به الأشياء- و هو قول جهم بن صفوان- .

القول السادس قول من قال- إنه تعالى لا يعلم كل المعلومات على تفاصيلها- و إنما يعلم ذلك إجمالا و هؤلاء يسمون المسترسلية- لأنهم يقولون- يسترسل علمه على المعلومات‏ إجمالا لا تفصيلا- و هو مذهب الجويني من متكلمي الأشعرية- .

القول السابع– قول من قال إنه تعالى يعلم المعلومات المفصلة- ما لم يفض القول به إلى محال- و زعموا أن القول بأنه يعلم كل شي‏ء يفضي إلى محال- و هو أن يعلم و يعلم أنه يعلم- و هلم جرا إلى ما لا نهاية له- و كذلك المحال لازم إذا قيل إنه يعلم الفروع- و فروع الفروع و لوازمها- و لوازم لوازمها إلى ما لا نهاية له- قالوا و محال اجتماع كل هذه العلوم- غير المتناهية في الوجود- و هذا مذهب أبي البركات البغدادي صاحب المعتبر- .

القول الثامن– قول من زعم أنه تعالى لا يعلم الشخصيات الجزئية- و إنما يعلم الكليات التي لا يجوز عليها التغيير- كالعلم بأن كل إنسان حيوان و يعلم نفسه أيضا- و هذا مذهب أرسطو- و ناصري قوله من الفلاسفة كابن سينا و غيره- . القول التاسع- قول من زعم أنه تعالى لا يعلم شيئا أصلا- لا كليا و لا جزئيا- و إنما وجد العالم عنه لخصوصية ذاته فقط من غير أن يعلمه- كما أن المغناطيس يجذب الحديد لقوة فيه- من غير أن يعلم بالجذب- و هذا قول قوم من قدماء الفلاسفة- . فهذا تفصيل المذاهب في هذه المسألة- .

و اعلم أن حجة المتكلمين على كونه عالما بكل شي‏ء- إنما تتضح بعد إثبات حدوث العالم- و أنه فعله بالاختيار- فحينئذ لا بد من كونه عالما- لأنه لو لم يكن عالما بشي‏ء أصلا- لما صح أن يحدث العالم على طريق الاختيار- لأن الإحداث على طريق الاختيار- إنما يكون بالغرض و الداعي- و ذلك يقتضي كونه عالما- فإذا ثبت أنه عالم بشي‏ء أفسدوا حينئذ- أن يكون عالما بمعنى اقتضى له العالمية- أو بأمر خارج عن ذاته- مختارا كان أو غير مختار-فحينئذ ثبت لهم أنه إنما علم- لأنه هذه الذات المخصوصة لا لشي‏ء أزيد منها- فإذا كان لهم ذلك وجب أن يكون عالما بكل معلوم- لأن الأمر الذي أوجب كونه عالما بأمر ما- هو ذاته يوجب كونه عالما بغيره من الأمور- لأن نسبة ذاته إلى الكل نسبة واحدة- . فأما الجواب عن شبه المخالفين- فمذكور في المواضع المختصة بذلك- فليطلب من كتبنا الكلامية

الفصل الثاني في تفسير قوله ع و دلت عليه أعلام الظهور

فنقول إن الذي يستدل به على إثبات الصانع- يمكن أن يكون من وجهين- و كلاهما يصدق عليه أنه أعلام الظهور- أحدهما الوجود و الثاني الموجود- . أما الاستدلال عليه بالوجود نفسه- فهي طريقة المدققين من الفلاسفة- فإنهم استدلوا على أن مسمى الوجود مشترك- و أنه زائد على ماهيات الممكنات- و أن وجود البارئ لا يصح أن يكون زائدا على ماهيته- فتكون ماهيته وجودا- و لا يجوز أن تكون ماهيته عارية عن الوجود- فلم يبق إلا أن تكون ماهيته هي الوجود نفسه- و أثبتوا وجوب ذلك الوجود- و استحالة تطرق العدم بوجه ما- فلم يفتقروا في إثبات البارئ- إلى تأمل أمر غير نفس الوجود- .

و أما الاستدلال عليه بالموجود لا بالوجود نفسه- فهو الاستدلال عليه بأفعاله- و هي طريقة المتكلمين- قالوا كل ما لم يعلم بالبديهة و لا بالحس- فإنما يعلم بآثاره الصادرة عنه- و البارئ تعالى كذلك- فالطريق إليه ليس إلا أفعاله- فاستدلوا عليه بالعالم- و قالوا تارة العالم محدث و كل محدث له محدث- و قالوا تارة أخرى العالم ممكن فله مؤثر-و قال ابن سينا إن الطريقة الأولى- و هي الاستدلال عليه بالوجود نفسه أعلى و أشرف- لأنه لم يحتج فيها إلى الاحتجاج بأمر خارج عن ذاته- و استنبط آية من الكتاب العزيز في هذا المعنى- و هي قوله تعالى- سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ- حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ- . قال ابن سينا أقول- إن هذا حكم لقوم يعني المتكلمين و غيرهم- ممن يستدل عليه تعالى بأفعاله و تمام الآية- أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ شَهِيدٌ- . قال هذا حكم الصديقين الذين يستشهدون به لا عليه- يعني الذين استدلوا عليه بنفس الوجود- و لم يفتقروا إلى التعلق بأفعاله في إثبات ربوبيته

الفصل الثالث في أن هويته تعالى غير هوية البشر

و ذلك معنى قوله ع و امتنع على عين البصير- و قوله و لا قلب من أثبته يبصره- و قوله و لم يطلع العقول على تحديد صفته- فنقول إن جمهور المتكلمين زعموا أنا نعرف حقيقة ذات الإله- و لم يتحاشوا من القول- بأنه تعالى لا يعلم من ذاته إلا ما نعلمه نحن منها- و ذهب ضرار بن عمرو- أن لله تعالى ماهية لا يعلمها إلا هو- و هذا هو مذهب‏ الفلاسفة- و قد حكي عن أبي حنيفة و أصحابه أيضا- و هو الظاهر من كلام أمير المؤمنين ع في هذا الفصل

الفصل الرابع في نفي التشبيه عنه تعالى

و هو معنى قوله ع بعد و قرب أي في حال واحدة- و ذلك يقتضي نفي كونه تعالى جسما- و كذلك قوله ع فلا استعلاؤه باعده- و لا قربه ساواهم في المكان به- فنقول إن مذهب جمهور المتكلمين نفي التشبيه- و هذا القول يتنوع أنواعا- .

النوع الأول نفي كونه تعالى جسما مركبا- أو جوهرا فردا غير مركب- و المراد بالجوهر هاهنا الجرم و الحجم و هو قول المعتزلة- و أكثر محققي المتكلمين من سائر الفرق- و إليه ذهبت الفلاسفة أيضا- .

و قال قوم من مستضعفي المتكلمين خلاف ذلك- فذهب هشام بن الحكم- إلى أنه تعالى جسم مركب كهذه الأجسام- و اختلفت الحكاية عنه- فروي عنه أنه قال إنه يشبر نفسه سبعة أشبار- و روي عنه أنه قال إنه على هيئة السبيكة- و روي عنه أنه قال- إنه على هيئة البلورة الصافية المستوية- الاستدارة من حيث أتيتها رأيتها على هيئة واحدة- و روي عنه أيضا قال إنه ذو صورة- و أصحابه من الشيعة يدفعون اليوم هذه الحكايات عنه- و يزعمون أنه لم يزد على قوله- أنه جسم لا كالأجسام- و أنه إنما أراد بإطلاق هذا اللفظ عليه إثباته- .و صدقوا عنه أنه كان يطلق عليه كونه نورا- لقول الله سبحانه اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ- .

و حكي عن محمد بن النعمان الأحول- المعروف بشيطان الطاق- و هشام بن سالم المعروف بالجواليقي- و أبي مالك بن الحضرمي- أنه نور على صورة الإنسان- و أنكروا مع ذلك أن يكون جسما- و هذه مناقضة ظاهرة- . و حكي عن علي بن ميثم مثله- و قد حكي عنه أنه كان يقول بالصورة و الجسم- .

و حكي عن مقاتل بن سليمان- و داود الجواربي و نعيم بن حماد المصري- أنه في صورة الإنسان و أنه لحم و دم- و له جوارح و أعضاء من يد و رجل و لسان و رأس و عينين- و هو مع ذلك لا يشبه غيره و لا يشبهه غيره- وافقهم على ذلك جماعة من العامة و من لا نظر له- . و حكي عن داود الجواربي أنه قال- اعفوني من الفرج و اللحية و سلوني عما وراء ذلك- و حكي عنه أنه قال هو أجوف من فيه إلى صدره- و ما سوى ذلك مصمت- . و حكى أبو عيسى الوراق- أن هشام بن سالم الجواليقي كان يقول إن له وفرة سوداء- . و ذهب جماعة من هؤلاء إلى القول بالمؤانسة- و الخلوة و المجالسة و المحادثة- .

و سئل بعضهم عن معنى قوله تعالى- فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ- فقال يقعد معه على سريره و يغلفه بيده- . و قال بعضهم سألت معاذا العنبري- فقلت أ له وجه- فقال نعم حتى عددت‏ جميع الأعضاء من أنف و فم و صدر و بطن- و استحييت أن أذكر الفرج فأومأت بيدي إلى فرجي- فقال نعم فقلت أ ذكر أم أنثى فقال ذكر- . و يقال إن ابن خزيمة أشكل عليه القول في أنه أ ذكر أم أنثى-

فقال له بعض أصحابه إن هذا مذكور في القرآن- و هو قوله تعالى وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى‏- فقال أفدت و أجدت و أودعه كتابه- . و دخل إنسان على معاذ بن معاذ يوم عيد- و بين يديه لحم في طبيخ سكباج- فسأله عن البارئ تعالى في جملة ما سأله- فقال هو و الله مثل هذا الذي بين يدي لحم و دم- . و شهد بعض المعتزلة عند معاذ بن معاذ- فقال له لقد هممت أن أسقطك- لو لا أني سمعتك تلعن حماد بن سلمة- فقال أما حماد فلم ألعنه- و لكني ألعن من يقول- إنه سبحانه ينزل ليلة عرفة من السماء إلى الأرض- على جمل أحمر في هودج من ذهب- فإن كان حماد يروي هذا أو يقوله فعليه لعنة الله- فقال أخرجوه فأخرج- .

و قال بعضهم خرجنا يوم عيد إلى المصلى- فإذا جماعة بين يدي أمير- و الطبول تضرب و الأعلام تخفق فقال واحد من خلفنا- اللهم لا طبل إلا طبلك- فقل له لا تقل هكذا- فليس لله تعالى طبل فبكى- و قال أ رأيتم هو يجي‏ء وحده و لا يضرب بين يديه طبل- و لا ينصب على رأسه علم فإذن هو دون الأمير- . و روى بعضهم أنه تعالى أجرى خيلا فخلق نفسه من مثلها- . و روى قوم منهم أنه نظر في المرآة- فرأى صورة نفسه فخلق آدم عليها- . و رووا أنه يضحك حتى تبدو نواجذه- .

و رووا أنه أمرد جعد قطط- في رجليه نعلان من ذهب- و أنه في روضة خضراء على كرسي تحمله الملائكة- . و رووا أنه يضع رجلا على رجل و يستلقي فإنها جلسة الرب- . و رووا أنه خلق الملائكة من زغب ذراعيه- و أنه اشتكى عينه فعادته الملائكة- و أنه يتصور بصورة آدم- و يحاسب الناس في القيامة- و له حجاب من الملائكة يحجبونه- .

و رووا عن النبي ص أنه قال رأيت ربي في أحسن صورة- فسألته عما يختلف فيه الملأ الأعلى- فوضع يده بين كتفي فوجدت بردها- فعلمت ما اختلفوا فيه- .

و رووا أنه ينزل إلى السماء الدنيا في نصف شعبان- و أنه جالس على العرش- قد فضل منه أربع أصابع من كل جانب- و أنه يأتي الناس يوم القيامة فيقول أنا ربكم- فيقولون نعوذ بالله منك- فيقول لهم أ فتعرفونه إن رأيتموه- فيقولون بيننا و بينه علامة- فيكشف لهم عن ساقه- و قد تحول في الصورة التي يعرفونها- فيخرون له سجدا- . و رووا أنه يأتي في غمام فوقه هواء و تحته هواء- . و كان بطبرستان قاص من المشبهة يقص على الناس- فقال يوما في قصصه- إن يوم القيامة تجي‏ء فاطمة بنت محمد- معها قميص الحسين ابنها- تلتمس القصاص من يزيد بن معاوية- فإذا رآها الله تعالى من بعيد- دعا يزيد و هو بين يديه- فقال له ادخل تحت قوائم العرش- لا تظفر بك فاطمة فيدخل و يختبئ- و تحضر فاطمة فتتظلم و تبكي- فيقول سبحانه انظري يا فاطمة إلى قدمي- و يخرجها إليها و به جرح من سهم نمرود-فيقول هذا جرح نمرود في قدمي و قد عفوت عنه- أ فلا تعفين أنت عن يزيد- فتقول هي أشهد يا رب أني قد عفوت عنه- . و ذهب بعض متكلمي المجسمة- إلى أن البارئ تعالى مركب من أعضاء على حروف المعجم- .

و قال بعضهم إنه ينزل على حمار في صورة غلام أمرد- في رجليه نعلان من ذهب- و على وجهه فراش من ذهب يتطاير- . و قال بعضهم إنه في صورة غلام أمرد صبيح الوجه- عليه كساء أسود ملتحف به- . و سمعت أنا في عصري هذا من قال في قوله تعالى- وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ- إنهم قيام على رأسه بسيوفهم و أسلحتهم- فقال له آخر على سبيل التهكم به- يحرسونه من المعتزلة أن يفتكوا به- فغضب و قال هذا إلحاد- .

و رووا أن النار تزفر و تتغيظ تغيظا شديدا- فلا تسكن حتى يضع قدمه فيها- فتقول قط قط أي حسبي حسبي- و يرفعون هذا الخبر مسندا- و قد ذكر شبيه به في الصحاح- . و روي في الكتب الصحاح أيضا- أن الله خلق آدم على صورته- و قيل إن في التوراة نحو ذلك في السفر الأول- . و اعلم أن أهل التوحيد- يتأولون ما يحتمل التأويل من هذه الروايات- على وجوه محتملة غير مستبعدة- و ما لا يحتمل التأويل منها يقطعون ببطلانه و بأنه موضوع- و للاستقصاء في هذا المعنى موضع غير هذا الموضع- . و حكى أبو إسحاق النظام- و محمد بن عيسى برغوث أن قوما قالوا- إنه تعالى الفضاء نفسه و ليس بجسم- لأن الجسم يحتاج إلى مكان و نفسه مكان الأشياء- .

و قال برغوث و طائفة منهم يقولون هو الفضاء نفسه- و هو جسم تحل الأشياء فيه- و ليس بذي غاية و لا نهاية و احتجوا بقوله تعالى- وَ جاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ- . فأما من قال إنه جسم لا كالأجسام- على معنى أنه بخلاف العرض- الذي يستحيل أن يتوهم منه فعل- و نفوا عنه معنى الجسمية- و إنما أطلقوا هذه اللفظة لمعنى أنه شي‏ء لا كالأشياء- و ذات لا كالذوات فأمرهم سهل- لأن خلافهم في العبارة و هم- علي بن منصور و السكاك و يونس بن عبد الرحمن- و الفضل بن شاذان- و كل هؤلاء من قدماء رجال الشيعة- و قد قال بهذا القول ابن كرام و أصحابه- قالوا معنى قولنا فيه سبحانه أنه جسم- أنه قائم بذاته لا بغيره- . و المتعصبون لهشام بن الحكم من الشيعة في وقتنا هذا- يزعمون أنه لم يقل بالتجسيم المعنوي- و إنما قال إنه جسم لا كالأجسام- بالمعنى الذي ذكرناه عن يونس و السكاك و غيرهما- و إن كان الحسن بن موسى النوبختي- و هو من فضلاء الشيعة- قد روي عنه التجسيم المحض في كتاب الآراء و الديانات- .

النوع الثاني نفي الأعضاء و الجوارح عنه سبحانه- فالذي يذهب إليه المعتزلة- و سائر المحققين من المتكلمين نفي ذلك عنه- و قد تأولوا ما ورد في القرآن العزيز من ذلك- من نحو قوله تعالى لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ- و قوله سبحانه عَلى‏ ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ و غير ذلك- و حملوه على وجوه صحيحة جائزة في اللغة العربية- . و أطلقت الكرامية عليه سبحانه لفظ اليدين و الوجه- و قالوا لا نتجاوز الإطلاق-و لا نفسر ذلك و لا نتأوله- و إنما نقتصر على إطلاق ما ورد به النص- . و أثبت الأشعري اليدين صفة قائمة بالبارئ سبحانه- و كذلك الوجه من غير تجسيم- . و قالت المجسمة إن لله تعالى يدين هما عضوان له- و كذلك الوجه و العين- و أثبتوا له رجلين قد فضلتا عن عرشه- و ساقين يكشف عنهما يوم القيامة- و قدما يضعها في جهنم فتمتلئ- و أثبتوا له ذلك معنى لا لفظا و حقيقة لا مجازا- . فأما أحمد بن حنبل فلم يثبت عنه تشبيه و لا تجسيم أصلا- و إنما كان يقول بترك التأويل فقط- و يطلق ما أطلقه الكتاب و السنة- و لا يخوض في تأويله- و يقف على قوله تعالى وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ- و أكثر المحصلين من أصحابه على هذا القول- .

النوع الثالث نفي الجهة عنه سبحانه- فالذي يذهب إليه المعتزلة- و جمهور المحققين من المتكلمين- أنه سبحانه ليس في جهة و لا مكان- و أن ذلك من توابع الجسمية- أو العرضية اللاحقة بالجسمية- فإذا انتفى عنه كونه جسما و كونه عرضا لم يكن في جهة أصلا- و إلى هذا القول يذهب الفلاسفة- .و ذهبت الكرامية و الحشوية- إلى أن الله تعالى في جهة فوق- و إليه ذهب هشام بن الحكم و علي بن منصور- و يونس بن عبد الرحمن- و هشام بن سالم الجواليقي- و كثير من أهل الحديث- . و ذهب محمد بن الهيصم- متكلم الكرامية إلى أنه تعالى ذات موجودة- منفردة بنفسها عن سائر الموجودات- لا تحل شيئا حلول الأعراض- و لا تمازج شيئا ممازجة الأجسام-بل هو مباين للمخلوقين إلا أنه في جهة فوق- و بينه و بين العرش بعد لا يتناهى- .

هكذا يحكي المتكلمون عنه- و لم أره في شي‏ء من تصانيفه و أحالوا ذلك- لأن ما لا يتناهى لا يكون محصورا بين حاصرين- و أنا أستبعد عنه هذه الحكاية- لأنه كان أذكى من أن يذهب عليه فساد هذا القول- و حقيقة مذهب مثبتي المكان- أنه سبحانه متمكن على العرش- كما يتمكن الملك على سريره- فقيل لبعض هؤلاء أ هو أكبر من العرش- أم أصغر أم مساو له- فقال بل أكبر من العرش- فقيل له فكيف يحمله- فقال كما تحمل رجلا الكركي جسم الكركي- و جسمه أكبر من رجليه- و منهم من يجعله مساويا للعرش في المقدار- و لا يمتنع كثير منهم من إطلاق القول- بأن أطرافه تفضل عن العرش- و قد سمعت أنا من قال منهم- إنه مستو على عرشه- كما أنا مستو على هذه الدكة- و رجلاه على الكرسي الذي وسع السموات و الأرض- و الكرسي تحت العرش- كما يجعل اليوم الناس تحت أسرتهم كراسي- يستريحون بوضع أرجلهم عليها- .

و قال هؤلاء كلهم- إنه تعالى ينزل و يصعد حقيقة لا مجازا- و إنه يتحرك و ينزل- فمن ذلك نزوله إلى السماء الدنيا كما ورد في الخبر- و من ذلك إتيانه و مجيئه- كما نطق به الكتاب العزيز في قوله سبحانه- هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ- و قوله وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا- .و أطلق ابن الهيصم عليه هذه الألفاظ- اتباعا لما ورد في الكتاب و السنة- و قال لا أقول بمعانيها و لا أعتقد حركته الحقيقية- و إنما أرسلها إرسالا كما وردت- و أما غيره فاعتقد معانيها حقيقة- و قال ابن الهيصم في كتاب المقالات- إن أكثر الحشوية يجيز عليه تعالى العدو و الهرولة- .

و قال قوم منهم- إنه تعالى يجوز أن ينزل فيطوف البلدان- و يدور في السكك- . و قال بعض الأشعريين إن سائلا سأل السكاك- فقال إذا أجزت عليه الحركة- فهلا أجزت عليه أن يطفر- فقال لا يجوز عليه الطفر- لأن الطفر إنما يكون فرارا من ضد أو اتصالا بشكل- فقال له فالحركة أيضا كذلك فلم يأت بفرق- . فأما القول بأنه تعالى في كل مكان- فإن المعتزلة يقولون ذلك- و تريد به أنه و إن لم يكن في مكان أصلا- فإنه عالم بما في كل مكان- و مدبر لما في كل مكان- و كأنه موجود في جميع الأمكنة لإحاطته بالجميع- . و قال قوم من قدماء الفلاسفة- إن البارئ تعالى روح شديد في غاية اللطافة- و في غاية القوة ينفذ في كل العالم- و هؤلاء يطلقون عليه أنه في كل مكان حقيقة لا تأويلا- و من هؤلاء من أوضح هذا القول- و قال إنه تعالى سار في هذا العالم- سريان نفس الواحد منا في بدنه- فكما أن كل بدن منا له نفس سارية فيه تدبره- كذلك البارئ سبحانه هو نفس العالم- و سار في كل جزء من العالم- فهو إذا في كل مكان بهذا الاعتبار- لأن النفس في كل جزء من البدن- . و حكى الحسن بن موسى النوبختي- عن أهل الرواق من الفلاسفة- أن الجوهر الإلهي سبحانه روح ناري عقلي ليس له صورة- لكنه قادر على أن يتصور بأي صورة شاء و يتشبه بالكل- و ينفذ في الكل بذاته و قوته لا بعلمه و تدبيره- .

النوع الرابع نفي كونه عرضا حالا في المحل- فالذي تذهب إليه المعتزلة- و أكثر المسلمين و الفلاسفة نفي ذلك القول- باستحالته عليه سبحانه لوجوب وجوده- و كون كل حال في الأجسام ممكنا بل حادثا- .و ذهبت الحلولية من أهل الملة و غيرها- إلى أنه تعالى يحل في بعض الأجسام دون بعض- كما يشاء سبحانه- و إلى هذا القول ذهب أكثر الغلاة في أمير المؤمنين- و منهم من قال بانتقاله من أمير المؤمنين ع إلى أولاده- و منهم من قال بانتقاله من أولاده- إلى قوم من شيعته و أوليائه- و اتبعهم على هذه المقالة قوم من المتصوفة- كالحلاجية و البسطامية و غيرهم- . و ذهبت النسطورية من النصارى- إلى حلول الكلمة في بدن عيسى ع- كحلول السواد في الجسم- . فأما اليعقوبية من النصارى فلا تثبت الحلول- و إنما تثبت الاتحاد- بين الجوهر الإلهي و الجوهر الجسماني- و هو أشد بعدا من الحلول- .

النوع الخامس في نفي كونه تعالى محلا لشي‏ء- ذهبت المعتزلة- و أكثر أهل الملة و الفلاسفة إلى نفي ذلك- و القول باستحالته على ذاته سبحانه- . و ذهبت الكرامية إلى أن الحوادث تحل في ذاته- فإذا أحدث جسما أحدث معنى حالا في ذاته و هو الإحداث- فحدث ذلك الجسم مقارنا لذلك المعنى أو عقيبه- قالوا و ذلك المعنى هو قول كن و هو المسمى خلقا- و الخلق غير المخلوق قال الله تعالى- ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ- قالوا لكنه قد أشهدنا ذواتها- فدل على أن خلقها غيرها- .

و صرح ابن الهيصم في كتاب المقالات- بقيام الحوادث بذات البارئ- فقال إنه تعالى إذا أمر أو نهى أو أراد شيئا- كان أمره و نهيه و إراداته كائنة بعد أن لم تكن- و هي قائمة به لأن قوله منه يسمع و كذلك إرادته منه توجد- . قال و ليس قيام الحوادث بذاته دليلا على حدوثه- و إنما يدل على الحدوث- تعاقب الأضداد التي لا يصح أن يتعطل منها- و البارئ تعالى لا تتعاقب عليه الأضداد- . و ذهب أبو البركات البغدادي صاحب المعتبر- إلى أن الحوادث تقوم بذات البارئ سبحانه- و إنه لا يصح إثبات الإلهية إلا بذلك- و قال إن المتكلمين ينزهونه عن ذلك- و التنزيه عن هذا التنزيه هو الواجب- . و ذهب أصحابنا و أكثر المتكلمين- إلى أن ذلك لا يصح في حق واجب الوجود- و أنه دليل على إمكان ذاته بل على حدوثها- و أجازوا مع ذلك عليه أن يتجدد له صفات- يعنون الأحوال لا المعاني- نحو كونه مدركا بعد أن لم يكن- و كقول أبي الحسين أنه يتجدد له عالمية بما وجد- و كان من قبل عالما بأنه سيوجد- و إحدى هاتين الصفتين غير الأخرى- . و قالوا إن الصفات و الأحوال قيل مفرد عن المعاني- و المحال إنما هو حلول المعاني في ذاته- لا تجدد الصفات لذاته- و للكلام في هذا الباب موضع هو أليق به- .

النوع السادس في نفي اتحاده تعالى بغيره- ذهب أكثر العقلاء إلى استحالة ذلك- و ذهبت اليعقوبية من النصارى- إلى أن الكلمة اتحدت بعيسى- فصارت جوهرا من جوهرين أحدهما إلهي و الآخر جسماني- و قد أجاز الاتحاد في نفس الأمر- لا في ذات‏ البارئ قوم من قدماء الفلاسفة منهم فرفريوس- و أجازه أيضا منهم من ذهب- إلى أن النفس إنما تعقل المعقولات- لاتحادها بالجوهر- المفارق المفيض للنفوس على الأبدان- و هو المسمى بالعقل الفعال- .

النوع السابع– في نفي الأعراض الجسمانية عنه من التعب و الاستراحة- و الألم و اللذة و الغم و السرور و نحو ذلك- . و ذهبت المعتزلة و أكثر العقلاء من أهل الملة- و غيرهم إلى نفي ذلك- و القول باستحالته عليه سبحانه- . و ذهبت الفلاسفة إلى جواز اللذة عليه- و قالوا إنه يلتذ بإدراك ذاته و كماله- لأن إدراك الكمال هو اللذة أو سبب اللذة- و هو تعالى أكمل الموجودات- و إدراكه أكمل الإدراكات- و إلى هذا القول ذهب محمد الغزالي من الأشعرية- . و حكى ابن الراوندي عن الجاحظ- أن أحد قدماء المعتزلة و يعرف بأبي شعيب- كان يجوز عليه تعالى السرور و الغم و الغيرة و الأسف- و يذكر في ذلك ما رويعن النبي ص أنه قال لا أحد أغير من الله- و إنه تعالى يفرح بتوبة عبده و يسر بها- .

و قال تعالى فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ- و قال مقال المتحسر على الشي‏ء- يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ- و حكي عنه أيضا أنه يجوز عليه أن يتعب و يستريح- و يحتج بقوله وَ ما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ- .و هذه الألفاظ كلها عند أصحابنا متأولة- محمولة على محامل صحيحة- تشتمل على شرحها الكتب المبسوطة- .

النوع الثامن في أنه تعالى ليس بمتلون- لم يصرح أحد من العقلاء- قاطبة بأن الله تعالى متلون- و إنما ذهب قوم من أهل التشبيه و التجسيم إلى أنه نور- فإذا أبصرته العيون- و أدركته أبصرت شخصا نورانيا مضيئا- لم يزيدوا على ذلك- و لم يصرحوا بإثبات اللون بهذه العبارة- و إن كان كل مضي‏ء ملونا- .

النوع التاسع في أنه تعالى لا يشتهي و لا ينفر- ذهب شيوخنا المتكلمون إلى أنه سبحانه- لا يصح عليه الشهوة و النفرة- لأنهما إنما يصحان على ما يقبل الزيادة و النقصان- بطريق الاغتذاء و النمو- و البارئ سبحانه و تعالى يتعالى عن ذلك- و ما عرفت لأحد من الناس خلافا في ذلك- اللهم إلا أن يطلق هاتان اللفظتان- على مسمى الإرادة و الكراهية على سبيل المجاز- .

النوع العاشر في أن البارئ تعالى غير متناهي الذات- قالت المعتزلة- لما كان البارئ تعالى ليس بجسم و جسماني- و كانت النهاية من لواحق الأشياء ذوات المقادير- يقال هذا الجسم متناه أي ذو طرف- . قلنا إن ذات البارئ تعالى غير متناهية- لا على معنى أن امتداد ذاته غير متناه- فإنه سبحانه ليس بذي امتداد- بل بمعنى أن الموضوع الذي يصدق عليه النهاية- ليس بمتحقق في حقه سبحانه- فقلنا إن ذاته غير متناهية- كما يقول المهندس إن النقطة غير متناهية- لا على معنى أن لها امتدادا غير متناه- فإنها ليست بممتدة أصلا- بل على معنى أن الأمر الذي تصدق عليه النهاية- و هو الامتداد لا يصدق عليها- فإذن صدق عليها أنها غير متناهية- و هذا قول الفلاسفة و أكثر المحققين- .

و قالت الكرامية- البارئ تعالى ذات واحدة- منفردة عن العالم قائمة بنفسها- مباينة للموجودات متناهية في ذاتها- و إن كنا لا نطلق عليها هذا اللفظ- لما فيه من إيهام انقطاع وجودها و تصرم بقائها- . و أطلق هشام بن الحكم و أصحابه عليه تعالى القول- بأنه متناهي الذات غير متناهي القدرة- . و قال الجاحظ إن لي قوما زعموا- أنه تعالى ذاهب في الجهات الست التي لا نهاية لها- . النوع الحادي عشر في أنه تعالى لا تصح رؤيته- قالت المعتزلة- رؤية البارئ تعالى مستحيلة في الدنيا و الآخرة- و إنما يصح أن يرى المقابل ذو الجهة- . و قالت الكرامية و الحنابلة و الأشعرية- تصح رؤيته و يرى في الآخرة يراه المؤمنون ثم اختلفوا- فقالت الكرامية و الحنابلة يرى في جهة فوق- و حكي عن مضر و كهمس و أحمد الجبي- أنهم أجازوا رؤيته في الدنيا و ملامسته و مصافحته- و زعموا أن المخلصين يعانقونه متى شاءوا- و يسمون الحبية- . و حكى شيخنا أبو الحسين في التصفح- عن أيوب السجستاني من المرجئة- أن البارئ تعالى تصح رؤيته و لمسه- . و ذهب قوم إلى أنهم لا يزالون يرون الله تعالى- و أن الناس كلهم كافرهم و مؤمنهم يرونه- و لكن لا يعرفونه- .

و قال من ترفع عن هذه الطبقة منهم- لا يجوز أن يرى بعين خلقت للفناء- و إنما يرى في الآخرة بعين خلقت للبقاء- . و قال كثير من هؤلاء- إن محمدا ص رأى ربه بعيني رأسه ليلة المعراج- . و رووا عن كعب الأحبار- أن الله تعالى قسم كلامه و رؤيته بين موسى و محمد ع- . و رووا عن المبارك بن فضالة أن الحسن كان يحلف بالله- قد رأى محمد ربه- . و تعلق كثير منهم بقوله تعالى- وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى‏- و قالوا كلمه موسى ع مرتين- و رآه محمد ص مرتين- . و أنكر ابن الهيصم مع اعتقاده أقوال الكرامية ذلك- و قال إن محمدا ص لم يره- و لكنه سوف يراه في الآخرة- . قال و إلى هذا القول ذهبت عائشة و أبو ذر و قتادة- و قد روي مثله عن ابن عباس و ابن مسعود- . و اختلف من قال إنه يرى في الآخرة- هل يجوز أن يراه الكافر- فقال أكثرهم إن الكفار لا يرونه- لأن رؤيته كرامة و الكافر لا كرامة له- و قالت السالمية و بعض الحشوية- إن الكفار يرونه يوم القيامة- و هو قول محمد بن إسحاق بن خزيمة- ذكر ذلك عنه محمد بن الهيصم- . فأما الأشعري و أصحابه- فإنهم لم يقولوا كما قال هؤلاء- إنه يرى كما يرى الواحد منا- بل قالوا يرى و ليس فوقا و لا تحتا- و لا يمينا و لا شمالا و لا أماما و لا وراء- و لا يرى كله و لا بعضه- و لا هو في مقابلة الرائي و لا منحرفا عنه- و لا تصح الإشارة إليه إذا رئي-و هو مع ذلك يرى و يبصر- و أجازوا أيضا عليه أن تسمع ذاته- و أن تشم و تذاق و تحس لا على طريق الاتصال- بل تتعلق هذه الإدراكات كلها بذاته- تعلقا عاريا عن الاتصال- و أنكرت الكرامية ذلك- و لم يجيزوا عليه إلا إدراك البصر وحده- و ناقضهم شيخنا أبو الحسين في التصفح- و ألزمهم أحد أمرين- إما نفي الجميع أو إثبات إدراكه من جميع الجهات- كما يقوله الأشعرية- . و ذهب ضرار بن عمرو- إلى أن الله تعالى يرى يوم القيامة بحاسة سادسة- لا بهذا البصر- و قيل ذلك عن جماعة غيره- . و قال قوم يجوز أن يحول الله تعالى قوة القلب إلى العين- فيعلم الله تعالى بها- فيكون ذلك الإدراك علما باعتبار أنه بقوة القلب- و رؤية باعتبار أنه قد وقع بالمعنى الحال في العين- . فهذه الأنواع الأحد عشر هي الأقوال- و المذاهب التي يشتمل قوله ع بنفي التشبيه عليها- و سيأتي من كلامه ع في نفي التشبيه- ما هو أشد تصريحا من الألفاظ التي نحن في شرحها

الفصل الخامس في بيان أن الجاحد له مكابر بلسانه و مثبت له بقلبه

و هو معنى قوله ع فهو الذي تشهد له أعلام الوجود- على إقرار قلب ذي الجحود- . لا شبهة في أن العلم بافتقار المتغير إلى المغير ضروري- و العلم بأن المتغير ليس هو المغير-إما أن يكون ضروريا أو قريبا من الضروري- فإذا قد شهدت أعلام الوجود- على أن الجاحد لإثبات الصانع- إنما هو جاحد بلسانه لا بقلبه- لأن العقلاء لا يجحدون الأوليات بقلوبهم- و إن كابروا بألسنتهم- و لم يذهب أحد من العقلاء إلى نفي الصانع سبحانه- . و أما القائلون بأن العالم وجد عن طبيعة- و أن الطبيعة هي المدبرة له- و القائلون بتصادم الأجزاء في الخلاء الذي لا نهاية له- حتى حصل منها هذا العالم- و القائلون بأن أصل العالم- و أساس بنيته هو النور و الظلمة- و القائلون بأن مبادئ العالم هي الأعداد المجردة- و القائلون بالهيولى القديمة- التي منها حدث العالم- و القائلون بعشق النفس للهيولى- حتى تكونت منها هذه الأجسام- فكل هؤلاء أثبتوا الصانع- و إنما اختلفوا في ماهيته و كيفية فعله- .

و قال قاضي القضاة إن أحدا من العقلاء- لم يذهب إلى نفي الصانع للعالم بالكلية- و لكن قوما من الوراقين اجتمعوا و وضعوا بينهم مقالة- لم يذهب أحد إليها- و هي أن العالم قديم لم يزل على هيئته هذه- و لا إله للعالم و لا صانع أصلا و إنما هو هكذا ما زال- و لا يزال من غير صانع و لا مؤثر- . قال و أخذ ابن الراوندي هذه المقالة- فنصرها في كتابه المعروف بكتاب التاج- قال فأما الفلاسفة القدماء و المتأخرون- فلم ينفوا الصانع- و إنما نفوا كونه فاعلا بالاختيار و تلك مسألة أخرى- قال و القول بنفي الصانع قريب من القول بالسفسطة- بل هو هو بعينه- لأن من شك في المحسوس أعذر ممن قال- إن المتحركات تتحرك من غير محرك حركها- .و قول قاضي القضاة هذا- هو محض كلام أمير المؤمنين ع و عينه- و ليس قول الجاحظ هو هذا- لأن الجاحظ يذهب إلى أن جميع المعارف- و العلوم الإلهية ضرورية- و نحن ما ادعينا في هذا المقام- إلا أن العلم بإثبات الصانع فقط هو الضروري- فأين أحد القولين من الآخر

 

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي‏ الحديد) ج 3 

خطبه 48 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

48 و من خطبة له ع عند المسير إلى الشام

الْحَمْدُ لِلَّهِ كُلَّمَا وَقَبَ لَيْلٌ وَ غَسَقَ- وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ كُلَّمَا لَاحَ نَجْمٌ وَ خَفَقَ- وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ غَيْرَ مَفْقُودِ الْإِنْعَامِ وَ لَا مُكَافَإِ الْإِفْضَالِ- أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَعَثْتُ مُقَدِّمَتِي- وَ أَمَرْتُهُمْ بِلُزُومِ هَذَا الْمِلْطَاطِ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرِي- وَ قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أَقْطَعَ هَذِهِ النُّطْفَةَ إِلَى شِرْذِمَةٍ مِنْكُمْ- مُوطِنِينَ أَكْنَافَ دِجْلَةَ- فَأُنْهِضَهُمْ مَعَكُمْ إِلَى عَدُوِّكُمْ- وَ أَجْعَلَهُمْ مِنْ أَمْدَادِ الْقُوَّةِ لَكُمْ قال الرضي رحمه الله- يعني ع بالملطاط هاهنا- السمت الذي أمرهم بلزومه و هو شاطئ الفرات- و يقال ذلك أيضا لشاطئ البحر- و أصله ما استوى من الأرض- و يعني بالنطفة ماء الفرات- و هو من غريب العبارات و عجيبها- وقب الليل أي دخل قال الله تعالى- وَ مِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ- . و غسق أي أظلم و خفق النجم أي غاب- .و مقدمة الجيش بكسر الدال أوله- و ما يتقدم منه على جمهور العسكر- و مقدمة الإنسان بفتح الدال صدره- و الملطاط حافة الوادي و شفيرة- و ساحل البحر قال رؤبة-نحن جمعنا الناس بالملطاط– .

قال الأصمعي يعني به ساحل البحر- و قول ابن مسعود هذا الملطاط طريق بقية المؤمنين- هرابا من الدجال يعني به شاطئ الفرات- . فأما قول الرضي رحمه الله تعالى- الملطاط السمت الذي أمرهم بلزومه و هو شاطئ الفرات- و يقال ذلك لشاطئ البحر فلا معنى له- لأنه لا فرق بين شاطئ الفرات و شاطئ البحر- و كلاهما أمر واحد- و كان الواجب أن يقول الملطاط السمت في الأرض- و يقال أيضا لشاطئ البحر- . و الشرذمة نفر قليلون- . و موطنين أكناف دجلة- أي قد جعلوا أكنافها وطنا أوطنت البقعة- و الأكناف الجوانب واحدها كنف- و الأمداد جمع مدد و هو ما يمد به الجيش تقوية له- . و هذه الخطبة خطب بها أمير المؤمنين ع و هو بالنخيلة- خارجا من الكوفة- و متوجها إلى صفين لخمس بقين من شوال سنة سبع و ثلاثين- ذكرها جماعة من أصحاب السير و زادوا فيها-قد أمرت على المصر عقبة بن عمرو الأنصاري- و لم آلكم و لا نفسي- فإياكم و التخلف و التربص- فإني قد خلفت مالك بن حبيب اليربوعي- و أمرته ألا يترك متخلفا إلا ألحقه بكم عاجلا إن شاء الله -.

و روى نصر بن مزاحم عوض قوله- فأنهضهم معكم إلى عدوكم- فأنهضهم معكم إلى عدو الله-قال نصر فقام إليه معقل بن قيس الرياحي- فقال يا أمير المؤمنين و الله ما يتخلف عنك إلا ظنين- و لا يتربص بك إلا منافق- فمر مالك بن حبيب فليضرب أعناق المتخلفين- فقال قد أمرته بأمري و ليس بمقصر إن شاء الله

أخبار علي في جيشه و هو في طريقه إلى صفين

قال نصر بن مزاحم ثم سار ع حتى انتهى إلى مدينة بهرسير- و إذا رجل من أصحابه يقال له حر بن سهم بن طريف- من بني ربيعة بن مالك ينظر إلى آثار كسرى- و يتمثل بقول الأسود بن يعفر-

جرت الرياح على محل ديارهم
فكأنما كانوا على ميعاد

فقال له ع ألا قلت- كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ- وَ زُرُوعٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ- وَ نَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ- كَذلِكَ وَ أَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ- فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ وَ ما كانُوا مُنْظَرِينَ- إن هؤلاء كانوا وارثين فأصبحوا مورثين- و لم يشكروا النعمة- فسلبوا دنياهم بالمعصية- إياكم و كفر النعم لا تحل بكم النقم- انزلوا بهذه الفجوة- .

قال نصر و حدثنا عمر بن سعد- عن مسلم الأعور عن حبة العرني- قال أمر علي ع الحارث الأعور فصاح في أهل المدائن- من كان من المقاتلة فليواف أمير المؤمنين ع صلاة العصر- فوافوه في تلك الساعة فحمد الله و أثنى عليه-ثم قال أما بعد- فإني قد تعجبت من تخلفكم عن دعوتكم- و انقطاعكم عن أهل مصركم في هذه المساكن الظالم أهلها- الهالك أكثر ساكنيها- لا معروف يأمرون به- و لا منكر ينهون عنه- .

قالوا يا أمير المؤمنين- إنا ننتظر أمرك مرنا بما أحببت- فسار و خلف عليهم عدي بن حاتم- أقام عليهم ثلاثا ثم خرج في ثمانمائة رجل منهم- و خلف ابنه زيدا بعده- فلحقه في أربعمائة رجل منهم- . و جاء علي ع حتى مر بالأنبار- فاستقبله بنو خشنوشك دهاقينها- قال نصر الكلمة فارسية- أصلها خش أي الطيب- قال فلما استقبلوه نزلوا عن خيولهم- ثم جاءوا يشتدون معه- و بين يديه و معهم براذين قد أوقفوها في طريقه- فقال ما هذه الدواب التي معكم- و ما أردتم بهذا الذي صنعتم- قالوا أما هذا الذي صنعنا فهو خلق منا نعظم به الأمراء- و أما هذه البراذين فهدية لك- و قد صنعنا للمسلمين طعاما- و هيأنا لدوابكم علفا كثيرا- .

فقال ع أما هذا الذي زعمتم أنه فيكم خلق تعظمون به الأمراء- فو الله ما ينفع ذلك الأمراء- و إنكم لتشقون به على أنفسكم و أبدانكم- فلا تعودواله- و أما دوابكم هذه- فإن أحببتم أن آخذها منكم- و أحسبها لكم من خراجكم أخذناها منكم- و أما طعامكم الذي صنعتم لنا- فإنا نكره أن نأكل من أموالكم إلا بثمن- قالوا يا أمير المؤمنين نحن نقومه ثم نقبل ثمنه- قال إذا لا تقومونه قيمته- نحن نكتفي بما هو دونه- قالوا يا أمير المؤمنين- فإن لنا من العرب موالي و معارف- أ تمنعنا أن نهدي لهم أو تمنعهم أن يقبلوا منا- فقال كل العرب لكم موال- و ليس ينبغي لأحد من المسلمين أن يقبل هديتكم- و إن غصبكم أحد فأعلمونا- قالوا يا أمير المؤمنين- إنا نحب أن تقبل هديتنا و كرامتنا- قال ويحكم فنحن أغنى منكم و تركهم و سار- .

قال نصر و حدثنا عبد العزيز بن سياه- قال حدثنا حبيب بن أبي ثابت- قال حدثنا أبو سعيد التيمي المعروف بعقيصي- قال كنا مع علي ع في مسيره إلى الشام- حتى إذا كنا بظهر الكوفة من جانب هذا السواد- عطش الناس و احتاجوا إلى الماء- فانطلق بنا علي ع حتى أتى بنا إلى صخرة ضرس في الأرض- كأنها ربضة عنز فأمرنا فاقتلعناها- فخرج لنا من تحتها ماء فشرب الناس منه و ارتووا- ثم أمرنا فأكفأناها عليه- و سار الناس حتى إذا مضى قليلا- قال ع أ منكم أحد يعلم مكان هذا الماء الذي شربتم منه- قالوا نعم يا أمير المؤمنين-

قال فانطلقوا إليه- فانطلق منا رجال ركبانا و مشاة فاقتصصنا الطريق إليه- حتى انتهينا إلى المكان الذي نرى أنه فيه- فطلبناه فلم نقدر على شي‏ء- حتى إذا عيل علينا انطلقنا إلى دير قريب‏منا- فسألناهم أين هذا الماء الذي عندكم- قالوا ليس قربنا ماء- فقلنا بلى إنا شربنا منه- قالوا أنتم شربتم منه قلنا نعم- فقال صاحب الدير- و الله ما بني هذا الدير إلا بذلك الماء- و ما استخرجه إلا نبي أو وصي نبي- .

قال نصر ثم مضى ع حتى نزل بأرض الجزيرة- فاستقبله بنو تغلب و النمر بن قاسط بجزور- فقال ع ليزيد بن قيس الأرحبي يا يزيد- قال لبيك يا أمير المؤمنين- قال هؤلاء قومك من طعامهم فاطعم و من شرابهم فاشرب- . قال ثم سار حتى أتى الرقة و جل أهلها عثمانية- فروا من الكوفة إلى معاوية- فأغلقوا أبوابها دونه و تحصنوا- و كان أميرهم سماك بن مخرقة الأسدي في طاعة معاوية- و قد كان فارق عليا ع في نحو من مائة رجل من بني أسد- ثم كاتب معاوية و أقام بالرقة- حتى لحق به سبعمائة رجل- .

قال نصر فروى حبة أن عليا ع لما نزل على الرقة- نزل بموضع يقال له البليخ على جانب الفرات- فنزل راهب هناك من صومعته- فقال لعلي ع إن عندنا كتابا توارثناه عن آبائنا- كتبه أصحاب عيسى ابن مريم أعرضه عليك- قال نعم فقرأ الراهب الكتاب- بسم الله الرحمن الرحيم- الذي قضي فيما قضي- و سطر فيما كتب- أنه باعث في الأميين رسولا منهم- يعلمهم الكتاب و الحكمة- و يدلهم على سبيل الله لا فظ و لا غليظ- و لا صخاب في الأسواق و لا يجزي بالسيئة السيئة- بل يعفو و يصفح- أمته الحمادون الذين يحمدون الله على كل نشر- و في كل صعود و هبوط- تذل ألسنتهم‏ بالتكبير و التهليل و التسبيح- و ينصره الله على من ناواه- فإذا توفاه الله اختلفت أمته من بعده ثم اجتمعت- فلبثت ما شاء الله ثم اختلفت- فيمر رجل من أمته بشاطئ هذا الفرات- يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر- و يقضي بالحق و لا يركس الحكم- الدنيا أهون عليه من الرماد في يوم عصفت به الريح- و الموت أهون عليه من شرب الماء على الظمآن- يخاف الله في السر و ينصح له في العلانية- لا يخاف في الله لومة لائم- فمن أدرك ذلك النبي من أهل هذه البلاد- فآمن به كان ثوابه رضواني و الجنة- و من أدرك ذلك العبد الصالح فلينصره- فإن القتل معه شهادة- . ثم قال له أنا مصاحبك- فلا أفارقك حتى يصيبني ما أصابك فبكى ع-ثم قال الحمد لله الذي لم أكن عنده منسيا- الحمد لله الذي ذكرني عنده في كتب الأبرار- . فمضى الراهب معه- فكان فيما ذكروا يتغدى مع أمير المؤمنين و يتعشى- حتى أصيب يوم صفين- فلما خرج الناس يدفنون قتلاهم-قال ع اطلبوه فلما وجدوه صلى عليه و دفنه- و قال هذا منا أهل البيت و استغفر له مرارا- .

روى هذا الخبر نصر بن مزاحم في كتاب صفين- عن عمر بن سعد عن مسلم الأعور عن حبة العرني- و رواه أيضا إبراهيم بن ديزيل الهمداني- بهذا الإسناد عن حبة أيضا في كتاب صفين- .

و روى ابن ديزيل في هذا الكتاب قال حدثني يحيى بن سليمان حدثني يحيى بن عبد الملك بن حميد بن عتيبة عن أبيه عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه و محمد بن فضيل عن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أبي سعيد الخدري رحمه الله قال كنا مع رسول الله ص فانقطع شسع نعله- فألقاها إلى علي ع يصلحها- ثم قال إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن- كما قاتلت على تنزيله- فقال أبو بكر الصديق أنا هو يا رسول الله فقال لا- فقال عمر بن الخطاب أنا هو يا رسول الله- قال لا و لكنه ذاكم خاصف النعل- و يد علي ع على نعل النبي ص يصلحها- . قال أبو سعيد فأتيت عليا ع فبشرته بذلك فلم يحفل به- كأنه شي‏ء قد كان علمه من قبل- .

و روى ابن ديزيل في هذا الكتاب أيضا- عن يحيى بن سليمان عن ابن فضيل- عن إبراهيم الهجري عن أبي صادق- قال قدم علينا أبو أيوب الأنصاري العراق- فأهدت له الأزد جزرا فبعثوها معي- فدخلت إليه فسلمت عليه- و قلت له يا أبا أيوب- قد كرمك الله عز و جل بصحبة نبيه ص و نزوله عليك- فما لي أراك تستقبل الناس بسيفك- تقاتلهم هؤلاء مرة و هؤلاء مرة- قال إن رسول الله ص عهد إلينا- أن نقاتل مع علي الناكثين فقد قاتلناهم- و عهد إلينا أن نقاتل معه القاسطين- فهذا وجهنا إليهم يعني معاوية و أصحابه- و عهد إلينا أن نقاتل معه المارقين و لم أرهم بعد- .

و روى ابن ديزيل أيضا في هذا الكتاب عن يحيى عن يعلى بن عبيد الحنفي عن إسماعيل السدي عن زيد بن أرقم قال كنا مع رسول الله ص و هو في الحجرة يوحى إليه- و نحن ننتظره حتى اشتد الحر- فجاء علي بن أبي طالب و معه فاطمة- و حسن و حسين ع- فقعدوا في ظل حائط ينتظرونه- فلما خرج رسول الله ص رآهم فأتاهم- و وقفنا نحن مكاننا- ثم جاء إلينا و هو يظلهم بثوبه- ممسكا بطرف الثوب- و علي ممسك بطرفه الآخر و هو يقول- اللهم إني أحبهم فأحبهم- اللهم إني سلم لمن سالمهم و حرب لمن حاربهم- قال فقال ذلك ثلاث مرات
قال إبراهيم في الكتاب المذكور و حدثنا يحيى بن سليمان قال حدثنا ابن فضيل قال حدثنا الحسن بن الحكم النخعي عن رباح بن الحارث النخعي قال كنت جالسا عند علي ع إذ قدم عليه قوم متلثمون- فقالوا السلام عليك يا مولانا- فقال لهم أ و لستم قوما عربا قالوا بلى- و لكنا سمعنا رسول الله ص يقول يوم غدير خم- من كنت مولاه فعلي مولاه- اللهم وال من والاه- و عاد من عاداه- و انصر من نصره و اخذل من خذله- قال فلقد رأيت عليا ع ضحك حتى بدت نواجذه- ثم قال اشهدوا- . ثم إن القوم مضوا إلى رحالهم فتبعتهم- فقلت لرجل منهم من القوم- قالوا نحن رهط من الأنصار- و ذاك يعنون رجلا منهم أبو أيوب- صاحب منزل رسول الله ص قال فأتيته فصافحته- .

قال نصر و حدثني عمر بن سعد- عن نمير بن وعلة عن أبي الوداك أن عليا ع- بعث من المدائن معقل بن قيس الرياحي في ثلاث آلاف- و قال له خذ على‏الموصل ثم نصيبين ثم القنى بالرقة- فإني موافيها و سكن الناس و أمنهم- و لا تقاتل إلا من قاتلك و سر البردين و غور بالناس- أقم الليل و رفه في السير- و لا تسر أول الليل- فإن الله جعله سكنا- أرح فيه بدنك و جندك و ظهرك- فإذا كان السحر أو حين يتبلج الفجر فسر- . فسار حتى أتى الحديثة- و هي إذ ذاك منزل الناس- و إنما بنى مدينة الموصل بعد ذلك محمد بن مروان- فإذا بكبشين ينتطحان- و مع معقل بن قيس رجل من خثعم يقال له شداد بن أبي ربيعة- قتل بعد ذلك مع الحرورية فأخذ يقول إيه إيه- فقال معقل ما تقول فجاء رجلان نحو الكبشين- فأخذ كل واحد منهما كبشا و انصرفا- فقال الخثعمي لمعقل لا تغلبون و لا تغلبون- فقال معقل من أين علمت- قال أ ما أبصرت الكبشين- أحدهما مشرق و الآخر مغرب- التقيا فاقتتلا و انتطحا- فلم يزل كل واحد من مصاحبه منتصفا- حتى أتى كل واحد منهما صاحبه فانطلق به- فقال معقل أ و يكون خيرا مما تقول يا أخا خثعم- ثم مضى حتى وافى عليا ع بالرقة- .

قال نصر و قالت طائفة من أصحاب علي ع له- يا أمير المؤمنين اكتب إلى معاوية و من قبله من قومك- فإن الحجة لا تزداد عليهم بذلك إلا عظما-فكتب إليهم ع بسم الله الرحمن الرحيم- من عبد الله- علي أمير المؤمنين إلى معاوية و من قبله من قريش-سلام عليكم- فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو- أما بعد فإن لله عبادا آمنوا بالتنزيل- و عرفوا التأويل و فقهوا في الدين- و بين الله فضلهم في القرآن الحكيم- و أنتم في ذلك الزمان أعداء للرسول- تكذبون بالكتاب مجمعون على حرب المسلمين- من ثقفتم منهم حبستموه أو عذبتموه أو قتلتموه- حتى أراد الله تعالى إعزاز دينه و إظهار أمره- فدخلت العرب في الدين أفواجا- و أسلمت له هذه الأمة طوعا و كرها- فكنتم فيمن دخل في هذا الدين- إما رغبة و إما رهبة- على حين فاز أهل السبق بسبقهم- و فاز المهاجرون الأولون بفضلهم- و لا ينبغي لمن ليست له مثل سوابقهم في الدين- و لا فضائلهم في الإسلام- أن ينازعهم الأمر الذي هم أهله و أولى به- فيجور و يظلم- و لا ينبغي لمن كان له عقل أن يجهل قدره و يعدو طوره- و يشقى نفسه بالتماس ما ليس بأهله- فإن أولى الناس بأمر هذه الأمة قديما و حديثا- أقربها من الرسول و أعلمها بالكتاب- و أفقهها في الدين أولها إسلاما- و أفضلها جهادا- و أشدها بما تحمله الأئمة من أمر الأمة اضطلاعا- فاتقوا الله الذي إليه ترجعون- و لا تلبسوا الحق بالباطل و تكتموا الحق و أنتم تعلمون- و اعلموا أن خيار عباد الله الذين يعملون بما يعلمون- و أن شرارهم الجهال الذين ينازعون بالجهل أهل العلم- فإن للعالم بعلمه فضلا- و إن الجاهل لا يزداد بمنازعته العالم إلا جهلا- ألا و إني أدعوكم إلى كتاب الله و سنة نبيه- و حقن دماء هذه الأمة- فإن قبلتم أصبتم رشدكم- و اهتديتم لحظكم- و إن أبيتم إلا الفرقة و شق عصا هذه الأمة- لم تزدادوا من الله إلا بعدا- و لا يزداد الرب عليكم إلا سخطا و السلام- . فكتب إليه معاوية جواب هذا الكتاب سطرا واحدا- و هو أما بعد فإنه-

ليس بيني و بين قيس عتاب
غير طعن الكلي و ضرب الرقاب‏

فقال علي ع لما أتاه هذا الجواب إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ- وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ‏قال نصر و قال علي ع لأهل الرقة- جسروا لي جسرا أعبر عليه من هذا المكان إلى الشام فأبوا- و قد كانوا ضموا السفن إليهم- فنهض من عندهم ليعبر على جسر منبج و خلف عليهم الأشتر- فقال يا أهل هذا الحصن إني أقسم بالله- إن مضى أمير المؤمنين ع- و لم تجسروا له عند مدينتكم حتى يعبر منها- لأجردن فيكم السيف فلأقتلن مقاتلكم- و لأخربن أرضكم و لآخذن أموالكم- . فلقي بعضهم بعضا- فقالوا إن الأشتر يفي بما حلف عليه- و إنما خلفه علي عندنا ليأتينا بشر- فبعثوا إليه إنا ناصبون لكم جسرا فأقبلوا- فأرسل الأشتر إلى علي ع فجاء و نصبوا له الجسر- فعبر الأثقال و الرجال- و أمر الأشتر فوقف في ثلاثة آلاف فارس- حتى لم يبق من الناس أحد إلا عبر- ثم عبر آخر الناس رجلا- . قال نصر و ازدحمت الخيل حين عبرت- فسقطت قلنسوة عبد الله بن أبي الحصين- فنزل فأخذها و ركب- ثم سقطت قلنسوة عبد الله بن الحجاج فنزل فأخذها- ثم ركب فقال لصاحبه-

فإن يك ظن الزاجري الطير صادقا
كما زعموا أقتل وشيكا و تقتل‏

 فقال عبد الله بن أبي الحصين- ما شي‏ء أحب إلي مما ذكرت فقتلا معا يوم صفين- .قال نصر فلما قطع علي ع الفرات- دعا زياد بن النضر و شريح بن هانئ- فسرحهما أمامه نحو معاوية- على حالهما الذي كانا عليه حين خرجا من الكوفة- في اثني عشر ألفا- و قد كانا حيث سرحهما من الكوفة مقدمة له- أخذا على شاطئ الفرات من قبل البر- مما يلي الكوفة حتى بلغا عانات- فبلغهم أخذ علي ع طريق الجزيرة و علما- أن معاوية قد أقبل في جنود الشام من دمشق لاستقباله- فقالا و الله ما هذا برأي- أن نسير و بيننا و بين أمير المؤمنين هذا البحر- و ما لنا خير في أن نلقى جموع الشام في قلة من العدد- منقطعين عن المدد- فذهبوا ليعبروا من عانات- فمنعهم أهلها و حبسوا عنهم السفن- فأقبلوا راجعين حتى عبروا من هيت- و لحقوا عليا ع بقرية دون قرقيسيا- فلما لحقوا عليا ع عجب- و قال مقدمتي تأتي من ورائي- فقام له زياد و شريح و أخبراه بالرأي الذي رأيا- فقال قد أصبتما رشدكما- فلما عبروا الفرات قدمهما أمامه نحو معاوية- فلما انتهيا إلى معاوية- لقيهما أبو الأعور السلمي في جنود من أهل الشام- و هو على مقدمة معاوية- فدعواه إلى الدخول في طاعة أمير المؤمنين ع فأبى- فبعثوا إلى علي ع- إنا قد لقينا أبا الأعور السلمي بسور الروم- في جند من أهل الشام- فدعوناه و أصحابه إلى الدخول في طاعتك- فأبى علينا فمرنا بأمرك- .

فأرسل علي ع إلى الأشترفقال يا مال إن زيادا و شريحا أرسلا إلي يعلمانني- أنهما لقيا أبا الأعور السلمي- في جند من أهل الشام بسور الروم- و نبأني الرسول أنه تركهم متواقفين- فالنجاء النجاء إلى أصحابك- فإذا أتيتهم فأنت عليهم- و إياك أن تبدأ القوم بقتال إن لم يبدءوك- و ألقهم و اسمع منهم- و لا يجرمنك شنآنهم على قتالهم قبل‏ دعائهم- و الإعذار إليهم مرة بعد مرة- و اجعل على ميمنتك زيادا- و على ميسرتك شريحا- و قف من أصحابك وسطا- و لا تدن منهم دنو من يريد أن ينشب الحرب- و لا تتباعد عنهم تباعد من يهاب الناس- حتى أقدم عليك فإني حثيث السير إليك إن شاء الله- قال و كتب علي ع إليهما- و كان الرسول الحارث بن جمهان الجعفي-أما بعد فإني قد أمرت عليكما مالكا- فاسمعا له و أطيعا أمره- و هو ممن لا يخاف رهقه و لا سقاطه- و لا بطؤه عما الإسراع إليه أحزم- و لا إسراعه إلى ما البطء عنه أمثل- و قد أمرته بمثل الذي أمرتكما- ألا يبدأ القوم بقتال حتى يلقاهم و يدعوهم- و يعذر إليهم إن شاء الله– .

قال فخرج الأشتر حتى قدم على القوم- فاتبع ما أمره به علي ع- و كف عن القتال فلم يزالوا متواقفين- حتى إذا كان عند المساء- حمل عليهم أبو الأعور فثبتوا له و اضطربوا ساعة- ثم إن أهل الشام انصرفوا- ثم خرج هاشم بن عتبة في خيل و رجال حسن عدتها و عددها- فخرج إليهم أبو الأعور السلمي فاقتتلوا يومهم ذلك- تحمل الخيل على الخيل و الرجال على الرجال- و صبر بعضهم لبعض ثم انصرفوا- و بكر عليهم الأشتر- فقتل من أهل الشام عبد الله بن المنذر التنوخي- قتله ظبيان بن عمارة التميمي- و ما هو يومئذ إلا فتى حديث السن- و إن كان الشامي لفارس أهل الشام- و أخذ الأشتر يقول ويحكم أروني أبا الأعور- . ثم إن أبا الأعور دعا الناس فرجعوا نحوه- فوقف على تل من وراء المكان الذي كان فيه أول مرة- و جاء الأشتر حتى صف أصحابه في المكان- الذي كان فيه أبو الأعور أول مرة- فقال الأشتر لسنان بن مالك النخعي- انطلق إلى أبو الأعور فادعه إلى المبارزة-فقال إلى مبارزتي أم إلى مبارزتك-

فقال أ و لو أمرتك بمبارزته فعلت قال نعم- و الذي لا إله إلا هو- لو أمرتني أن أعترض صفهم بسيفي- لفعلت حتى أضربه بالسيف- فقال يا ابن أخي أطال الله بقاءك- قد و الله ازددت فيك رغبة- لا ما أمرتك بمبارزته- إنما أمرتك أن تدعوه لمبارزتي- فإنه لا يبارز إن كان ذلك من شأنه- إلا ذوي الأسنان و الكفاءة و الشرف- و أنت بحمد الله من أهل الكفاءة و الشرف- و لكنك حديث السن و ليس يبارز الأحداث- فاذهب فادعه إلى مبارزتي- .فأتاهم فقال أنا رسول فآمنوني- فجاء حتى انتهى إلى أبي الأعور- .

قال نصر فحدثني عمر بن سعد- عن أبي زهير العبسي- عن صالح بن سنان عن أبيه- قال فقلت له إن الأشتر يدعوك إلى المبارزة- قال فسكت عني طويلا- ثم قال إن خفة الأشتر و سوء رأيه و هوانه- دعاه إلى إجلاء عمال عثمان و افترائه عليه يقبح محاسنه- و يجهل حقه و يظهر عداوته- و من خفة الأشتر و سوء رأيه- أنه سار إلى عثمان في داره و قراره فقتله فيمن قتله- و أصبح متبعا بدمه- لا حاجة لي في مبارزته- . فقلت إنك قد تكلمت فاسمع حتى أجيبك- فقال لا حاجة لي في جوابك و لا الاستماع منك اذهب عني- و صاح بي أصحابه فانصرفت عنه- و لو سمع لأسمعته عذر صاحبي و حجته- . فرجعت إلى الأشتر- فأخبرته أنه قد أبى المبارزة- فقال لنفسه نظر- .

قال فتواقفنا فإذا هم قد انصرفوا- قال و صبحنا علي ع غدوة سائرا نحو معاوية- فإذا أبو الأعور قد سبق إلى سهولة الأرض و سعة المنزل- و شريعة الماء مكان‏أفيح- و كان أبو الأعور على مقدمة معاوية- و اسمه سفيان بن عمرو- و قد جعل على ساقته بسر بن أرطاة العامري- و على الخيل عبيد الله بن عمر بن الخطاب- و دفع اللواء إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد- و جعل على ميمنته حبيب بن مسلمة الفهري- و على رجالته من الميمنة يزيد بن زحر الضبي- و على الميسرة عبد الله بن عمرو بن العاص- و على الرجالة من الميسرة حابس بن سعيد الطائي- و على خيل دمشق الضحاك بن قيس الفهري- و على رجالة أهل دمشق يزيد بن أسد بن كرز البجلي- و على أهل حمص ذا الكلاع- و على أهل فلسطين مسلمة بن مخلد- و كان وصول علي ع إلى صفين- لثمان بقين من المحرم من سنة سبع و ثلاثين

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن‏ أبي ‏الحديد) ج 3

خطبه 47 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

47 و من كلام له ع في ذكر الكوفة

كَأَنِّي بِكِ يَا كُوفَةُ تُمَدِّينَ مَدَّ الْأَدِيمِ الْعُكَاظِيِّ- تُعْرَكِينَ بِالنَّوَازِلِ- وَ تُرْكَبِينَ بِالزَّلَازِلِ- وَ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِكِ جَبَّارٌ سُوءاً- إِلَّا ابْتَلَاهُ اللَّهُ بِشَاغِلٍ أَوْ رَمَاهُ بِقَاتِلٍ عكاظ اسم سوق للعرب بناحية مكة- كانوا يجتمعون بها في كل سنة- يقيمون شهرا و يتبايعون- و يتناشدون شعرا و يتفاخرون- قال أبو ذؤيب-

إذا بني القباب على عكاظ
و قام البيع و اجتمع الألوف‏

 فلما جاء الإسلام هدم ذلك- و أكثر ما كان يباع الأديم بها فنسب إليها- . و الأديم واحد و الجمع أدم- كما قالوا أفيق للجلد الذي لم تتم دباغته و جمعه أفق- و قد يجمع أديم على آدمة- كما قالوا رغيف و أرغفة- . و الزلازل هاهنا الأمور المزعجة و الخطوب المحركة- .
و قوله ع تمدين مد الأديم- استعارة لما ينالها من العسف و الخبط- و قوله تعركين- من عركت القوم الحرب إذا مارستهم حتى أتعبتهم

فصل في ذكر فضل الكوفة

و قد جاء في فضل الكوفة عن أهل البيت ع شي‏ء كثير- نحوقول أمير المؤمنين ع نعمت المدرةو قوله ع إنه يحشر من ظهرها يوم القيامة سبعون ألفا- وجوههم على صورة القمرو قوله ع هذه مدينتنا و محلتنا و مقر شيعتناو قول جعفر بن محمد ع اللهم ارم من رماها و عاد من عاداهاو قوله ع تربة تحبنا و نحبها- . فأما ما هم به الملوك و أرباب السلطان فيها من السوء- و دفاع الله تعالى عنها فكثير- .

قال المنصور لجعفر بن محمد ع- إني قد هممت أن أبعث إلى الكوفة من ينقض منازلها- و يجمر نخلها- و يستصفي أموالها- و يقتل أهل الريبة منها- فأشر علي- فقال يا أمير المؤمنين إن المرء ليقتدي بسلفه- و لك أسلاف ثلاثة سليمان أعطي فشكر- و أيوب ابتلي فصبر- و يوسف قدر فغفر- فاقتد بأيهم شئت- فصمت قليلا ثم قال قد غفرت.

و روى أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي- في كتاب المنتظم أن زيادا لما حصبه أهل الكوفة- و هو يخطب على المنبر- قطع أيدي ثمانين منهم- و هم أن يخرب دورهم و يجمر نخلهم- فجمعهم حتى ملأ بهم المسجد و الرحبة- يعرضهم على البراءة من علي ع- و علم أنهم سيمتنعون- فيحتج بذلك على استئصالهم- و إخراب بلدهم- . قال عبد الرحمن بن السائب الأنصاري- فإني لمع نفر من قومي- و الناس يومئذ في أمر عظيم- إذ هومت تهويمه- فرأيت شيئا أقبل طويل العنق- مثل عنق البعير أهدر أهدل- فقلت ما أنت- فقال أنا النقاد ذو الرقبة- بعثت إلى صاحب هذا القصر فاستيقظت فزعا- فقلت لأصحابي هل رأيتم ما رأيت- قالوا لا فأخبرتهم- و خرج علينا خارج من القصر- فقال انصرفوا- فإن الأمير يقول لكم إني عنكم اليوم مشغول- و إذا بالطاعون قد ضربه- فكان يقول إني لأجد في النصف من جسدي حر النار حتى مات- فقال عبد الرحمن بن السائب-

ما كان منتهيا عما أراد بنا
حتى تناوله النقاد ذو الرقبة

فاثبت الشق منه ضربة عظمت‏
كما تناول ظلما صاحب الرحبة

 قلت قد يظن ظان أن قوله صاحب الرحبة- يمكن أن يحتج به من قال- إن قبر أمير المؤمنين ع في رحبة المسجد بالكوفة- و لا حجة في ذلك- لأن أمير المؤمنين كان يجلس معظم زمانه في رحبة المسجد- يحكم بين الناس فجاز أن ينسب إليه بهذا الاعتبار

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن‏ أبي ‏الحديد) ج 3

خطبه 46 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

46 و من كلام له ع عند عزمه على المسير إلى الشام

اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ- وَ كَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ وَ سُوءِ الْمَنْظَرِ- فِي الْأَهْلِ وَ الْمَالِ وَ الْوَلَدِ- اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ- وَ أَنْتَ الْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ- وَ لَا يَجْمَعُهُمَا غَيْرُكَ- لِأَنَّ الْمُسْتَخْلَفَ لَا يَكُونُ مُسْتَصْحَباً- وَ الْمُسْتَصْحَبُ لَا يَكُونُ مُسْتَخْلَفاً قال الرضي رحمه الله- و ابتداء هذا الكلام مروي عن رسول الله ص- و قد قفاه أمير المؤمنين ع بأبلغ كلام و تممه بأحسن تمام- من قوله و لا يجمعهما غيرك- إلى آخر الفصل وعثاء السفر مشقته- و أصل الوعث المكان السهل الكثير الدهس- تغيب فيه الأقدام- و يشق على من يمشي فيه- أوعث القوم أي وقعوا في الوعث و الكآبة الحزن- و المنقلب مصدر من انقلب منقلبا- أي رجع و سوء المنظر قبح المرأى- .و صدر الكلام مروي عن رسول الله ص في المسانيد الصحيحة- و ختمه أمير المؤمنين ع- و تممه بقوله و لا يجمعهما غيرك و هو الصحيح- لأن من يستصحب لا يكون مستخلفا فإنه مستحيل- أن يكون الشي‏ء الواحد في المكانين مقيما و سائرا- و إنما تصح هذه القضية في الأجسام- لأن الجسم الواحد لا يكون في جهتين في وقت واحد- فأما ما ليس بجسم و هو البارئ سبحانه فإنه في كل مكان- لا على معنى أن ذاته ليست مكانية- و إنما المراد علمه و إحاطته و نفوذ حكمه و قضائه و قدره- فقد صدق ع أنه المستخلف و أنه المستصحب- و أن الأمرين مجتمعان له جل اسمه- . و هذا الدعاء- دعا به أمير المؤمنين ع بعد وضع رجله في الركاب- من منزله بالكوفة- متوجها إلى الشام لحرب معاوية و أصحابه- ذكره نصر بن مزاحم في كتاب صفين- و ذكره غيره أيضا من رواة السيرة

أدعية علي عند خروجه من الكوفة لحرب معاوية

قال نصر لما وضع علي ع رجله في ركاب دابته- يوم خرج من الكوفة إلى صفين- قال بسم الله فلما جلس على ظهرها- قال سبحان الذي سخر لنا هذا- و ما كنا له مقرنين- و إنا إلى ربنا لمنقلبون- اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر- إلى آخر الفصل- و زاد فيه نصر و من الحيرة بعد اليقين- قال ثم خرج أمامه الحر بن سهم بن طريف- و هو يرتجز و يقول-

يا فرسي سيري و أمي الشاما
و قطعي الحزون و الأعلاما

و نابذي من خالف الإماما
إني لأرجو إن لقينا العاما

جمع بني أمية الطغاما
أن نقتل العاصي و الهماما

و أن نزيل من رجال هاما

 قال و قال حبيب بن مالك- و هو على شرطة علي ع و هو آخذ بعنان دابته- يا أمير المؤمنين- أ تخرج بالمسلمين فيصيبوا أجر الجهاد بالقتال- و تخلفني بالكوفة لحشر الرجال- فقال ع إنهم لن يصيبوا من الأجر شيئا إلا كنت شريكهم فيه- و أنت هاهنا أعظم غناء عنهم منك لو كنت معهم- فخرج علي ع حتى إذا حاذى الكوفة صلى ركعتين قال و حدثنا عمرو بن خالد- عن أبي الحسين زيد بن علي ع- عن آبائه أن عليا ع خرج و هو يريد صفين- حتى إذا قطع النهر أمر مناديه فنادى بالصلاة- فتقدم فصلى ركعتين- حتى إذا قضى الصلاة- أقبل على الناس بوجهه-فقال أيها الناس- ألا من كان مشيعا أو مقيما فليتم الصلاة- فإنا قوم سفر- ألا و من صحبنا فلا يصومن المفروض- و الصلاة المفروضة ركعتان- .

قال نصر ثم خرج حتى نزل دير أبي موسى- و هو من الكوفة على فرسخين- فصلى به العصر فلما انصرف من الصلاة-قال سبحان الله ذي الطول و النعم- سبحان الله ذي القدرة و الإفضال- أسأل الله الرضا بقضائه- و العمل بطاعته و الإنابة إلى أمره- إنه سميع الدعاء- .

قال نصر ثم خرج ع حتى نزل على شاطئ نرس- بين موضع حمام أبي بردة و حمام عمر- فصلى بالناس المغرب فلما انصرف-
قال الحمد لله الذي يولج‏ الليل في النهار- و يولج النهار في الليل- و الحمد لله كلما وقب ليل و غسق- و الحمد لله كلما لاح نجم و خفق- . ثم أقام حتى صلى الغداة- ثم شخص حتى بلغ إلى قبة قبين- و فيها نخل طوال إلى جانب البيعة من وراء النهر- فلما رآها قال- و النخل باسقات لها طلع نضيد- ثم أقحم دابته النهر- فعبر إلى تلك البيعة فنزلها- و مكث قدر الغداء- .

قال نصر و حدثنا عمر بن سعد- عن محمد بن مخنف بن سليم- قال إني لأنظر إلى أبي و هو يساير عليا ع- و علي يقول له إن بابل أرض قد خسف بها- فحرك دابتك لعلنا نصلي العصر خارجا منها- فحرك دابته و حرك الناس دوابهم في أثره- فلما جاز جسر الفرات- نزل فصلى بالناس العصر- قال حدثني عمر بن عبد الله بن يعلى بن مرة الثقفي- عن أبيه عن عبد خير- قال كنت مع علي أسير في أرض بابل- قال و حضرت الصلاة صلاة العصر- قال فجعلنا لا نأتي مكانا إلا رأيناه أفيح من الآخر- قال حتى أتينا على مكان أحسن ما رأينا- و قد كادت الشمس أن تغيب- قال فنزل علي ع فنزلت معه- قال فدعا الله- فرجعت الشمس كمقدارها من صلاة العصر- قال فصليت العصر ثم غابت الشمس- ثم خرج حتى أتى دير كعب- ثم خرج منه فبات بساباط- فأتاه دهاقينها يعرضون عليه النزل و الطعام- فقال لا ليس ذلك لنا عليكم- فلما أصبح و هو بمظلم ساباط-قرأ أَ تَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ- . قال نصر و بلغ عمرو بن العاص مسيره فقال-

لا تحسبني يا علي غافلا
لأوردن الكوفة القنابلا
بجمعي العام و جمعي قابلا

قال فبلغ ذلك عليا عفقال‏

لأوردن العاصي ابن العاصي
سبعين ألفا عاقدي النواصي‏

مستحقبين حلق الدلاص‏
قد جنبوا الخيل مع القلاص‏

أسود غيل حين لا مناص‏
نزول علي بكربلاء

قال نصر و حدثنا منصور بن سلام التميمي قال حدثنا حيان التيمي عن أبي عبيدة عن هرثمة بن سليم قال غزونا مع علي ع صفين- فلما نزل بكربلاء صلى بنا- فلما سلم رفع إليه من تربتها فشمها- ثم قال واها لك يا تربة- ليحشرن منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب- .

قال فلما رجع هرثمة من غزاته إلى امرأته- جرداء بنت سمير و كانت من شيعة علي ع- حدثها هرثمة فيما حدث- فقال لها ألا أعجبك من صديقك أبي حسن-قال لما نزلنا كربلاء- و قد أخذ حفنة من تربتها فشمها- و قال واها لك أيتها التربة- ليحشرن منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب و ما علمه بالغيب فقالت المرأة له دعنا منك أيها الرجل- فإن أمير المؤمنين ع لم يقل إلا حقا- . قال فلما بعث عبيد الله بن زياد- البعث الذي بعثه إلى الحسين ع- كنت في الخيل التي بعث إليهم- فلما انتهيت إلى الحسين ع و أصحابه- عرفت المنزل الذي نزلنا فيه مع علي ع- و البقعة التي رفع إليه من تربتها و القول الذي قاله- فكرهت مسيري- فأقبلت على فرسي حتى وقفت على الحسين ع فسلمت عليه- و حدثته بالذي سمعت من أبيه في هذا المنزل-.

فقال الحسين أ معنا أم علينا- فقلت يا ابن رسول الله لا معك و لا عليك- تركت ولدي و عيالي أخاف عليهم من ابن زياد- فقال الحسين ع فول هربا حتى لا ترى مقتلنا- فو الذي نفس حسين بيده- لا يرى اليوم مقتلنا أحد ثم لا يعيننا إلا دخل النار- . قال فأقبلت في الأرض أشتد هربا حتى خفي على مقتلهم- .

قال نصر و حدثنا مصعب قال حدثنا الأجلح بن عبد الله الكندي عن أبي جحيفة قال جاء عروة البارقي إلى سعد بن وهب فسأله فقال حديث حدثتناه عن علي بن أبي طالب- قال نعم بعثني مخنف بن سليم إلى علي عند توجهه إلى صفين- فأتيته بكربلاء فوجدته يشير بيده- و يقول هاهنا هاهنا- فقال له‏ رجل و ما ذاك يا أمير المؤمنين- فقال ثقل لآل محمد ينزل هاهنا- فويل لهم منكم و ويل لكم منهم- فقال له الرجل ما معنى هذا الكلام يا أمير المؤمنين- قال ويل لهم منكم تقتلونهم- و ويل لكم منهم يدخلكم الله بقتلهم النارقال نصر و قد روي هذا الكلام على وجه آخر أنه ع قال فويل لكم منهم و ويل لكم عليهم- فقال الرجل أما ويل لنا منهم فقد عرفناه- فويل لنا عليهم ما معناه- فقال ترونهم يقتلون لا تستطيعون نصرتهم قال نصر و حدثنا سعيد بن حكيم العبسي عن الحسن بن كثير عن أبيه أن عليا ع أتى كربلاء فوقف بها- فقيل له يا أمير المؤمنين هذه كربلاء- فقال ذات كرب و بلاء ثم أومأ بيده إلى مكان- فقال هاهنا موضع رحالهم و مناخ ركابهم- ثم أومأ بيده إلى مكان آخر- فقال هاهنا مراق دمائهم- ثم مضى إلى ساباط خروج علي لحرب معاوية و ما دار بينه و بين أصحابه
و ينبغي أن نذكر هاهنا ابتداء عزمه على مفارقة الكوفة- و المسير إلى الشام و ما خاطب به أصحابه- و ما خاطبوه به- و ما كاتب به العمال و كاتبوه جوابا عن كتبه- و جميع ذلك منقول من كتاب نصر بن مزاحم- .

قال نصر حدثنا عمر بن سعد عن إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الرحمن بن عبيد أبي الكنود قال لما أراد علي ع المسير إلى الشام- دعا من كان معه من المهاجرين و الأنصار- فجمعهم ثم حمد الله و أثنى عليه- و قال أما بعد فإنكم ميامين‏ الرأي مراجيح الحلم- مباركو الأمر و مقاويل بالحق- و قد عزمنا على المسير إلى عدونا و عدوكم- فأشيروا علينا برأيكم- . فقام هاشم بن عتبة بن أبي وقاص- فحمد الله و أثنى عليه- و قال أما بعد يا أمير المؤمنين- فأنا بالقوم جد خبير- هم لك و لأشياعك أعداء- و هم لمن يطلب حرث الدنيا أولياء- و هم مقاتلوك و مجادلوك- لا يبقون جهدا مشاحة على الدنيا- و ضنا بما في أيديهم منها- ليس لهم إربة غيرها- إلا ما يخدعون به الجهال من طلب دم ابن عفان- كذبوا ليس لدمه ينفرون- و لكن الدنيا يطلبون- انهض بنا إليهم- فإن أجابوا إلى الحق- فليس بعد الحق إلا الضلال- و إن أبوا إلا الشقاق فذاك ظني بهم- و الله ما أراهم يبايعون- و قد بقي فيهم أحد ممن يطاع إذا نهى و يسمع إذا أمر- .

قال نصر و حدثنا عمر بن سعد- عن الحارث بن حصيرة- عن عبد الرحمن بن عبيد أبي الكنود- أن عمار بن ياسر قام فحمد الله و أثنى عليه- و قال يا أمير المؤمنين- إن استطعت ألا تقيم يوما واحدا فافعل- اشخص بنا قبل استعار نار الفجرة- و اجتماع رأيهم على الصدود و الفرقة- و ادعهم إلى حظهم و رشدهم- فإن قبلوا سعدوا- و إن أبوا إلا حربنا- فو الله إن سفك دمائهم- و الجد في جهادهم- لقربة عند الله و كرامة منه- ثم قام قيس بن سعد بن عبادة- فحمد الله و أثنى عليه- ثم قال يا أمير المؤمنين- انكمش بنا إلى عدونا و لا تعرج- فو الله لجهادهم أحب إلي من جهاد الترك‏ و الروم- لإدهانهم في دين الله- و استذلالهم أولياء الله من أصحاب محمد ص- من المهاجرين و الأنصار و التابعين بإحسان- إذا غضبوا على رجل حبسوه و ضربوه و حرموه و سيروه- و فيئنا لهم في أنفسهم حلال- و نحن لهم فيما يزعمون قطين- قال يعني رقيق- فقال أشياخ الأنصار- منهم خزيمة بن ثابت و أبو أيوب و غيرهما- لم تقدمت أشياخ قومك و بدأتهم بالكلام يا قيس- فقال أما إني عارف بفضلكم معظم لشأنكم- و لكني وجدت في نفسي الضغن الذي في صدوركم- جاش حين ذكرت الأحزاب- .

فقال بعضهم لبعض- ليقم رجل منكم فليجب أمير المؤمنين عن جماعتكم- فقام سهل بن حنيف فحمد الله و أثنى عليه- ثم قال يا أمير المؤمنين نحن سلم لمن سالمت- و حرب لمن حاربت و رأينا رأيك و نحن يمينك- و قد رأينا أن تقوم بهذا الأمر في أهل الكوفة- فتأمرهم بالشخوص- و تخبرهم بما صنع لهم في ذلك من الفضل- فإنهم أهل البلد و هم الناس- فإن استقاموا لك استقام لك الذي تريد و تطلب- فأما نحن فليس عليك خلاف منا- متى دعوتنا أجبناك و متى أمرتنا أطعناك- .

قال نصر فحدثنا عمر بن سعد عن أبي مخنف عن زكريا بن الحارث عن أبي خشيش عن معبد قال قام علي ع خطيبا على منبره فكنت تحت المنبر- أسمع تحريضه الناس- و أمره لهم بالمسير إلى صفين لقتال أهل الشام- فسمعته يقول‏سيروا إلى أعداء الله- سيروا إلى أعداء القرآن و السنن- سيروا إلى بقية الأحزاب و قتلة المهاجرين و الأنصار- فقام رجل من بني فزارة- فقال له أ تريد أن تسير بنا إلى إخواننا من أهل الشام- فنقتلهم لك- كما سرت بنا إلى إخواننا من أهل البصرة فقتلتهم- كلا ها الله إذا لا نفعل ذلك- . فقام الأشتر فقال من هذا المارق- . فهرب الفزاري و اشتد الناس على أثره- فلحق في مكان من السوق تباع فيه البراذين- فوطئوه بأرجلهم- و ضربوه بأيديهم و نعال سيوفهم حتى قتل-فأتى علي ع فقيل له يا أمير المؤمنين قتل الرجل- قال و من قتله- قالوا قتلته همدان و معهم شوب من الناس- فقال قتيل عمية لا يدرى من قتله- ديته من بيت مال المسلمين- فقال بعض بني تيم اللات بن ثعلبة-

أعوذ بربي أن تكون منيتي
كما مات في سوق البراذين أربد

تعاوره همدان خفق نعالهم‏
إذا رفعت عنه يد وضعت يد

فقام الأشتر- فقال يا أمير المؤمنين لا يهدنك ما رأيت- و لا يؤيسنك من نصرنا- ما سمعت من مقالة هذا الشقي الخائن- إن جميع من ترى من الناس شيعتك- لا يرغبون بأنفسهم عن نفسك- و لا يحبون البقاء بعدك- فإن شئت فسر بنا إلى عدوك- فو الله ما ينجو من الموت من خافه- و لا يعطي البقاء من أحبه- و إنا لعلى بينة من ربنا- و إن أنفسنا لن تموت حتى يأتي أجلها- و كيف لا نقاتل قوما هم كما وصف أمير المؤمنين- و قد وثبت عصابة منهم على طائفة من المسلمين بالأمس- و باعوا خلاقهم بعرض من الدنيا يسير- .

فقال علي ع الطريق مشترك و الناس في الحق سواء- و من اجتهد رأيه في نصيحة العامة فقد قضى ما عليه- ثم نزل فدخل منزله
– . قال نصر و حدثنا عمر بن سعد- قال حدثني أبو زهير العبسي- عن النضر بن صالح- أن عبد الله بن المعتم العبسي- و حنظلة بن الربيع التميمي- لما أمر علي ع الناس بالمسير إلى الشام- دخلا عليه في رجال كثير من غطفان و بني تميم- فقال له حنظلة يا أمير المؤمنين- إنا قد مشينا إليك في نصيحة فاقبلها- و رأينا لك رأيا فلا تردنه علينا- فإنا نظرنا لك و لمن معك- أقم و كاتب هذا الرجل- و لا تعجل إلى قتال أهل الشام- فإنا و الله ما ندري و لا تدري لمن تكون الغلبة إذا التقيتم- و لا على من تكون الدبرة- . و قال ابن المعتم مثل قوله- و تكلم القوم الذين دخلوا معهما بمثل كلامهما-فحمد علي ع الله و أثنى ثم قال- أما بعد فإن الله وارث العباد و البلاد- و رب السموات السبع و الأرضين السبع- و إليه ترجعون يؤتي الملك من يشاء- و ينزع الملك ممن يشاء- و يعز من يشاء و يذل من يشاء- أما الدبرة- فإنها على الضالين العاصين ظفروا أو ظفر بهم- و ايم الله إني لأسمع كلام قوم ما أراهم يعرفون معروفا- و لا ينكرون منكرا- . فقام إليه معقل بن قيس الرياحي- فقال يا أمير المؤمنين إن هؤلاء و الله ما آثروك بنصح- و لا دخلوا عليك إلا بغش- فاحذرهم فإنهم أدنى العدو- . و قال له مالك بن حبيب- إنه بلغني يا أمير المؤمنين- أن حنظلة هذا يكاتب معاوية- فادفعه إلينا نحبسه حتى تنقضي غزاتك و تنصرف- .و قام من بني عبس قائد بن بكير- و عياش بن ربيعة العبسيان- فقالا يا أمير المؤمنين- إن صاحبنا عبد الله بن المعتم- قد بلغنا أنه يكاتب معاوية- فاحبسه أو مكنا من حبسه- حتى تنقضي غزاتك ثم تنصرف- . فقالا هذا جزاء لمن نظر لكم- و أشار عليكم بالرأي فيما بينكم و بين عدوكم- .
فقال لهما علي ع الله بيني و بينكم و إليه أكلكم- و به أستظهر عليكم اذهبوا حيث شئتم قال نصر و بعث علي ع إلى حنظلة بن الربيع- المعروف بحنظلة الكاتب و هو من الصحابة- فقال له يا حنظلة أنت علي أم لي- فقال لا لك و لا عليك- قال فما تريد- قال اشخص إلى الرها فإنه فرج من الفروج- اصمد له حتى ينقضي هذا الأمر – . فغضب من قوله خيار بني عمرو بن تميم و هم رهطه- فقال إنكم و الله لا تغروني من ديني- دعوني فأنا أعلم منكم- فقالوا و الله إن لم تخرج مع هذا الرجل- لا ندع فلانة تخرج معك لأم ولده و لا ولدها- و لئن أردت ذلك لنقتلنك- . فأعانه ناس من قومه و اخترطوا سيوفهم- فقال أجلوني حتى أنظر- و دخل منزله و أغلق بابه- حتى إذا أمسى هرب إلى معاوية- و خرج من بعده إليه من قومه رجال كثير- و هرب ابن المعتم أيضا- حتى أتى معاوية في أحد عشر رجلا من قومه- . و أما حنظلة فخرج إلى معاوية في ثلاثة و عشرين رجلا من قومه- لكنهما لم يقاتلا مع معاوية و اعتزلا الفريقين جميعا- .و قال و أمر علي ع بهدم دار حنظلة فهدمت- هدمها عريفهم شبث بن ربعي و بكر بن تميم- فقال حنظلة بهجوهما-

أيا راكبا إما عرضت فبلغن
مغلغلة عني سراة بني عمرو

فأوصيكم بالله و البر و التقى‏
و لا تنظروا في النائبات إلى بكر

و لا شبث ذي المنخرين كأنه
أزب جمال قد رغا ليلة النفر

و قال أيضا يحرض معاوية بن أبي سفيان-

أبلغ معاوية بن حرب خطة
و لكل سائلة تسيل قرار

لا تقبلن دنية ترضونها
في الأمر حتى تقتل الأنصار

و كما تبوء دماؤهم بدمائكم
و كما تهدم بالديار ديار

و ترى نساؤهم يجلن حواسرا
و لهن من ثكل الرجال جؤار

قال نصر حدثنا عمر بن سعد- عن سعد بن طريف- عن أبي المجاهد عن المحل بن خليفة- قال قام عدي بن حاتم الطائي بين يدي علي ع- فحمد الله و أثنى عليه- و قال يا أمير المؤمنين ما قلت إلا بعلم- و لا دعوت إلا إلى حق و لا أمرت إلا برشد- و لكن إذا رأيت أن تستأني هؤلاء القوم- و تستديمهم حتى تأتيهم كتبك- و يقدم عليهم رسلك فعلت- فإن يقبلوا يصيبوا رشدهم و العافية أوسع لنا و لهم-و إن يتمادوا في الشقاق و لا ينزعوا عن الغي فسر إليهم- و قد قدمنا إليهم بالعذر- و دعوناهم إلى ما في أيدينا من الحق- فو الله لهم من الحق أبعد و على الله أهون- من قوم قاتلناهم أمس بناحية البصرة- لما دعوناهم إلى الحق فتركوه- ناوجناهم براكاء القتال- حتى بلغنا منهم ما نحب و بلغ الله منهم رضاه- . فقام زيد بن حصين الطائي و كان من أصحاب البرانس المجتهدين- فقال الحمد لله حتى يرضى و لا إله إلا الله ربنا- أما بعد فو الله إن كنا في شك من قتال من خالفنا- و لا تصلح لنا النية في قتالهم حتى نستديمهم و نستأنيهم- ما الأعمال إلا في تباب- و لا السعي إلا في ضلال- و الله تعالى يقول وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ- إننا و الله ما ارتبنا طرفة عين فيمن يتبعونه- فكيف بأتباعه القاسية قلوبهم- القليل من الإسلام حظهم- أعوان الظلمة و أصحاب الجور و العدوان- ليسوا من المهاجرين و لا الأنصار و لا التابعين بإحسان- . فقام رجل من طيئ فقال- يا زيد بن حصين أ كلام سيدنا عدي بن حاتم تهجن- فقال زيد ما أنتم بأعرف بحق عدي مني- و لكني لا أدع القول بالحق و إن سخط الناس- .

قال نصر و حدثنا عمر بن سعد- عن الحارث بن حصين- قال دخل أبو زينب‏ بن عوف على علي ع فقال يا أمير المؤمنين- لئن كنا على الحق لأنت أهدانا سبيلا- و أعظمنا في الخير نصيبا- و لئن كنا على ضلال إنك لأثقلنا ظهرا و أعظمنا وزرا- قد أمرتنا بالمسير إلى هذا العدو- و قد قطعنا ما بيننا و بينهم من الولاية- و أظهرنا لهم العداوة- نريد بذلك ما يعلمه الله تعالى من طاعتك- أ ليس الذي نحن عليه هو الحق المبين- و الذي عليه عدونا هو الحوب الكبير- .

فقال ع بلى- شهدت أنك إن مضيت معنا ناصرا لدعوتنا- صحيح النية في نصرنا قد قطعت منهم الولاية- و أظهرت لهم العداوة كما زعمت- فإنك ولي الله تسبح في رضوانه- و تركض في طاعته فأبشر أبا زينب- . و قال له عمار بن ياسر اثبت أبا زينب- و لا تشك في الأحزاب أعداء الله و رسوله- . فقال أبو زينب- ما أحب أن لي شاهدين من هذه الأمة- شهدا لي عما سألت من هذا الأمر الذي أهمني مكانكما- . قال و خرج عمار بن ياسر و هو يقول-

سيروا إلى الأحزاب أعداء النبي
سيروا فخير الناس أتباع علي‏

هذا أوان طاب سل المشرفي‏
وقودنا الخيل و هز السمهري‏

قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن أبي روق- قال دخل يزيد بن قيس الأرحبي على علي ع- فقال يا أمير المؤمنين نحن أولو جهاز و عدة- و أكثرالناس أهل قوة- و من ليس به ضعف و لا علة فمر مناديك- فليناد الناس يخرجوا إلى معسكرهم بالنخيلة- فإن أخا الحرب ليس بالسئوم و لا النئوم- و لا من إذا أمكنته الفرص أجلها و استشار فيها- و لا من يؤخر عمل الحرب في اليوم لغد و بعد غد- . فقال زياد بن النضر- لقد نصح لك يزيد بن قيس يا أمير المؤمنين- و قال ما يعرف فتوكل على الله و ثق به- و اشخص بنا إلى هذا العدو راشدا معانا- فإن يرد الله بهم خيرا- لا يتركوك رغبة عنك إلى من ليس له مثل سابقتك و قدمك- و إلا ينيبوا و يقبلوا و يأبوا إلا حربنا- نجد حربهم علينا هينا- و نرجو أن يصرعهم الله مصارع إخوانهم بالأمس- . ثم قام عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي- فقال يا أمير المؤمنين إن القوم لو كانوا الله يريدون- و لله يعملون ما خالفونا- و لكن القوم إنما يقاتلوننا فرارا من الأسوة- و حبا للأثرة و ضنا بسلطانهم- و كرها لفراق دنياهم التي في أيديهم- و على إحن في نفوسهم- و عداوة يجدونها في صدورهم- لوقائع أوقعتها يا أمير المؤمنين بهم قديمة- قتلت فيها آباءهم و أعوانهم- . ثم التفت إلى الناس- فقال كيف يبايع معاوية عليا- و قد قتل أخاه حنظلة و خاله الوليد- و جده عتبة في موقف واحد- و الله ما أظنهم يفعلون- و لن يستقيموا لكم دون أن تقصف فيهم قنا المران- و تقطع على هامهم السيوف- و تنثر حواجبهم بعمد الحديد- و تكون أمور جمة بين الفريقين- .

قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الحارث بن حصين عن عبد الله بن شريك قال خرج حجر بن عدي و عمرو بن الحمق- يظهران البراءة من أهل الشام- فأرسل علي ع إليهما أن كفا عما يبلغني عنكما فأتياه- فقالا يا أمير المؤمنين أ لسنا محقين قال بلى- قالا أ و ليسوا مبطلين قال بلى- قالا فلم منعتنا من شتمهم- قال كرهت لكم أن تكونوا لعانين شتامين- تشتمون و تتبرءون- و لكن لو وصفتم مساوئ أعمالهم- فقلتم من سيرتهم كذا و كذا- و من أعمالهم كذا و كذا- كان أصوب في القول و أبلغ في العذر- و قلتم مكان لعنكم إياهم- و براءتكم منهم- اللهم احقن دماءهم و دماءنا- و أصلح ذات بينهم و بيننا- و اهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق منهم من جهله- و يرعوي عن الغي و العدوان منهم من لهج به- لكان أحب إلي و خيرا لكم- فقالا يا أمير المؤمنين نقبل عظتك و نتأدب بأدبك- .

قال نصر و قال له عمرو بن الحمق يومئذ- و الله يا أمير المؤمنين إني ما أحببتك- و لا بايعتك على قرابة بيني و بينك- و لا إرادة مال تؤتينيه- و لا التماس سلطان ترفع ذكري به- و لكنني أحببتك بخصال خمس- إنك ابن عم رسول الله ص و وصيه- و أبو الذرية التي بقيت فينا من رسول الله ص- و أسبق الناس إلى الإسلام- و أعظم المهاجرين سهما في الجهاد- فلو أني كلفت نقل الجبال الرواسي- و نزح البحور الطوامي- حتى يأتي علي يومي في أمر أقوي به وليك و أهين عدوك- ما رأيت أني قد أديت فيه كل الذي يحق علي من حقك- .
فقال علي ع اللهم نور قلبه بالتقى- و اهده إلى صراطك المستقيم-

ليت أن في جندي مائة مثلك

فقال حجر إذا و الله يا أمير المؤمنين- صح جندك و قل فيهم من يغشك- . قال نصر و قام حجر بن عدي- فقال يا أمير المؤمنين نحن بنو الحرب و أهلها- الذين نلقحها و ننتجها- قد ضارستنا و ضارسناها- و لنا أعوان و عشيرة ذات عدد و رأي مجرب و بأس محمود- و أزمتنا منقادة لك بالسمع و الطاعة- فإن شرقت شرقنا- و إن غربت غربنا- و ما أمرتنا به من أمر فعلنا-فقال علي ع أ كل قومك يرى مثل رأيك- قال ما رأيت منهم إلا حسنا- و هذه يدي عنهم بالسمع و الطاعة و حسن الإجابة- فقال له علي ع خيرا- .

قال نصر حدثنا عمر بن سعد- قال كتب ع إلى عماله حينئذ يستفزهم-فكتب إلى مخنف بن سليم سلام عليك- فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد- فإن جهاد من صدف عن الحق رغبة عنه- و عب في نعاس العمى و الضلال اختيارا له- فريضة على العارفين- إن الله يرضى عمن أرضاه- و يسخط على من عصاه- و إنا قد هممنا بالسير إلى هؤلاء القوم- الذين عملوا في عباد الله بغير ما أنزل الله- و استأثروا بالفي‏ء و عطلوا الحدود و أماتوا الحق- و أظهروا في الأرض الفساد- و اتخذوا الفاسقين وليجة من دون المؤمنين- فإذا ولي لله أعظم أحداثهم أبغضوه و أقصوه و حرموه- و إذا ظالم ساعدهم على ظلمهم أحبوه و أدنوه و بروه- فقد أصروا على الظلم- و أجمعوا على الخلاف- و قديما ما صدوا عن الحق- و تعاونوا على الإثم و كانوا ظالمين- فإذا أتيت بكتابي هذا- فاستخلف على عملك أوثق أصحابك في نفسك- و أقبل إلينا لعلك تلقى معنا هذا العدوالمحل- فتأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر- و تجامع الحق و تباين الباطل- فإنه لا غناء بنا و لا بك عن أجر الجهاد- و حسبنا الله و نعم الوكيل– .

و كتبه عبيد الله بن أبي رافع في سنة سبع و ثلاثين- . قال فاستعمل مخنف على أصبهان الحارث- بن أبي الحارث بن الربيع- و استعمل على همذان سعيد بن وهب و كلاهما من قومه- و أقبل حتى شهد مع علي ع صفين- . قال نصر- و كتب عبد الله بن العباس من البصرة إلى علي ع- يذكر له اختلاف أهل البصرة-فكتب إليه علي ع من عبد الله علي أمير المؤمنين- إلى عبد الله بن عباس- أما بعد فقد قدم علي رسولك- و قرأت كتابك- تذكر فيه حال أهل البصرة- و اختلافهم بعد انصرافي عنهم- و سأخبرك عن القوم- و هم بين مقيم لرغبة يرجوها- أو خائف من عقوبة يخشاها- فأرغب راغبهم بالعدل عليه- و الإنصاف له و الإحسان إليه- و احلل عقدة الخوف عن قلوبهم- و انته إلى أمري و لا تعده- و أحسن إلى هذا الحي من ربيعة- و كل من قبلك فأحسن إليه ما استطعت إن شاء الله- .

قال نصر و كتب إلى أمراء أعماله كلهم- بنحو ما كتب به إلى مخنف بن سليم و أقام ينتظرهم- . قال فحدثنا عمر بن سعد عن أبي روق- قال قال زياد بن النضر الحارثي لعبد الله بن بديل- إن يومنا اليوم عصبصب ما يصبر عليه إلا كل مشيع القلب- الصادق‏النية رابط الجأش- و ايم الله ما أظن ذلك اليوم يبقي منهم- و لا منا إلا الرذال- . فقال عبد الله بن بديل أنا و الله أظن ذلك- فبلغ كلامهما عليا ع فقال لهما ليكن هذا الكلام مخزونا في صدوركما لا تظهراه- و لا يسمعه منكما سامع- إن الله كتب القتل على قوم و الموت على آخرين- و كل آتيه منيته كما كتب الله له- فطوبى للمجاهدين في سبيله و المقتولين في طاعته- .

قال نصر فلما سمع هاشم بن عتبة ما قالاه- أتى عليا ع- فقال سر بنا يا أمير المؤمنين إلى هؤلاء القوم- القاسية قلوبهم- الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم- و عملوا في عباد الله بغير رضا الله- فأحلوا حرامه و حرموا حلاله- و استوى بهم الشيطان و وعدهم الأباطيل- و مناهم الأماني حتى أزاغهم عن الهدى- و قصد بهم قصد الردى- و حبب إليهم الدنيا- فهم يقاتلون على دنياهم رغبة فيها- كرغبتنا في الآخرة و انتجاز موعد ربنا- و أنت يا أمير المؤمنين- أقرب الناس من رسول الله ص رحما- و أفضل الناس سابقة و قدما- و هم يا أمير المؤمنين يعلمون منك مثل الذي نعلم- و لكن كتب عليهم الشقاء- و مالت بهم الأهواء و كانوا ظالمين- فأيدينا مبسوطة لك بالسمع و الطاعة- و قلوبنا منشرحة لك ببذل النصيحة- و أنفسنا تنصرك على من خالفك- و تولى الأمر دونك جذلة- و الله ما أحب أن لي ما على الأرض مما أقلت- و لا ما تحت السماء مما أظلت- و أني واليت عدوا لك- أو عاديت وليا لك-

فقال ع اللهم ارزقه الشهادة في سبيلك و المرافقة لنبيك قال نصر ثم إن عليا ع صعد المنبر فخطب الناس- و دعاهم إلى الجهاد فبدأ بحمد الله و الثناء عليه- ثم قال‏إن الله قد أكرمكم بدينه و خلقكم لعبادته- فانصبوا أنفسكم في أداء حقه- و تنجزوا موعوده- و اعلموا أن الله جعل أمراس الإسلام متينة و عراه وثيقة- ثم جعل الطاعة حظ الأنفس و رضا الرب- و غنيمة الأكياس عند تفريط العجزة- و قد حملت أمر أسودها و أحمرها- و لا قوة إلا بالله- و نحن سائرون إن شاء الله إلى من سفه نفسه- و تناول ما ليس له و ما لا يدركه معاوية و جنده- الفئة الطاغية الباغية يقودهم إبليس- و يبرق لهم ببارق تسويفه و يدليهم بغروره- و أنتم أعلم الناس بالحلال و الحرام- فاستغنوا بما علمتم- و احذروا ما حذركم الله من الشيطان- و ارغبوا فيما عنده من الأجر و الكرامة- و اعلموا أن المسلوب من سلب دينه و أمانته- و المغرور من آثر الضلالة على الهدى- فلا أعرفن أحدا منكم تقاعس عني- و قال في غيري كفاية- فإن الذود إلى الذود إبل- و من لا يذد عن حوضه يتهدم- ثم إني آمركم بالشدة في الأمر و الجهاد في سبيل الله- و ألا تغتابوا مسلما- و انتظروا للنصر العاجل من الله إن شاء الله قال نصر ثم قام ابنه الحسن بن علي ع فقال- الحمد لله لا إله غيره و لا شريك له- ثم قال إن مما عظم الله عليكم من حقه- و أسبغ عليكم من نعمه ما لا يحصى ذكره- و لا يؤدى شكره و لا يبلغه قول و لا صفة- و نحن إنما غضبنا لله و لكم- إنه لم يجتمع قوم قط على أمر واحد إلا اشتد أمرهم- و استحكمت عقدتهم- فاحتشدوا في قتال عدوكم معاوية و جنوده و لا تخاذلوا- فإن الخذلان يقطع نياط القلوب- و إن الإفدام على الأسنة نخوة و عصمة- لم يتمنع قوم قط إلا رفع الله عنهم العلة- و كفاهم جوائح الذلة- و هداهم إلى معالم الملة ثم أنشد-

و الصلح تأخذ منه ما رضيت به
و الحرب يكفيك من أنفاسها جرع‏

ثم قام الحسين بن علي ع فحمد الله و أثنى عليه- و قال يا أهل الكوفة- أنتم الأحبة الكرماء و الشعار دون الدثار- جدوا في إطفاء ما دثر بينكم- و تسهيل ما توعر عليكم- ألا إن الحرب شرها ذريع و طعمها فظيع- فمن أخذ لها أهبتها- و استعد لها عدتها- و لم يألم كلومها قبل حلولها فذاك صاحبها- و من عاجلها قبل أوان فرصتها- و استبصار سعيه فيها- فذاك قمن ألا ينفع قومه و أن يهلك نفسه- نسأل الله بقوته أن يدعمكم بالفيئة ثم نزل قال نصر فأجاب عليا ع إلى السير جل الناس- إلا أن أصحاب عبد الله بن مسعود أتوه- فيهم عبيدة السلماني و أصحابه- فقالوا له إنا نخرج معكم- و لا نترك عسكركم و نعسكر على حدة- حتى ننظر في أمركم و أمر أهل الشام- فمن رأيناه أراد ما لا يحل له- أو بدا لنا منه بغي كنا عليه- فقال لهم علي ع- مرحبا و أهلا- هذا هو الفقه في الدين و العلم بالسنة- من لم يرض بهذا فهو خائن جبار- . و أتاه آخرون من أصحاب عبد الله بن مسعود- منهم الربيع بن خثيم و هم يومئذ أربعمائة رجل- فقالوا يا أمير المؤمنين- إنا قد شككنا في هذا القتال على معرفتنا بفضلك- و لا غناء بنا و لا بك و لا بالمسلمين عمن يقاتل العدو- فولنا بعض هذه الثغور نكمن ثم نقاتل عن أهله- فوجه علي ع بالربيع بن خثيم على ثغر الري- فكان أول لواء عقده ع بالكوفة لواء الربيع بن خثيم- .

قال نصر و حدثني عمر بن سعد- عن يوسف بن يزيد- عن عبد الله بن عوف بن الأحمر- أن عليا ع لم يبرح النخيلة- حتى قدم عليه ابن عباس بأهل البصرة- قال- و كان كتاب علي ع إلى ابن عباس- أما بعد فاشخص إلي بمن قبلك من المسلمين و المؤمنين- و ذكرهم بلائي عندهم- و عفوي عنهم في الحرب- و أعلمهم الذي لهم في ذلك من الفضل و السلام-قال فلما وصل كتابه إلى ابن عباس بالبصرة- قام في الناس فقرأ عليهم الكتاب- و حمد الله و أثنى عليه و قال- أيها الناس استعدوا للشخوص إلى إمامكم- و انفروا خفافا و ثقالا- و جاهدوا بأموالكم و أنفسكم- فإنكم تقاتلون المحلين القاسطين- الذين لا يقرءون القرآن- و لا يعرفون حكم الكتاب- و لا يدينون دين الحق- مع أمير المؤمنين و ابن عم رسول الله- الآمر بالمعروف و الناهي عن المنكر- و الصادع بالحق و القيم بالهدى- و الحاكم بحكم الكتاب- الذي لا يرتشي في الحكم و لا يداهن الفجار- و لا تأخذه في الله لومة لائم- .

فقام إليه الأحنف بن قيس- فقال نعم و الله لنجيبنك- و لنخرجن معك على العسر و اليسر و الرضا و الكره- نحتسب في ذلك الأجر- و نأمل به من الله العظيم حسن الثواب- . و قام خالد بن المعمر السدوسي- فقال سمعنا و أطعنا- فمتى استنفرتنا نفرتا- و متى دعوتنا أجبنا- . و قام عمرو بن مرجوم العبدي- فقال وفق الله أمير المؤمنين و جمع له أمر المسلمين- و لعن المحلين القاسطين لا يقرءون القرآن- نحن و الله عليهم حنقون- و لهم في الله مفارقون- فمتى أردتنا صحبك خيلنا و رجالنا إن شاء الله- . قال و أجاب الناس إلى المسير و نشطوا و خفوا- فاستعمل ابن عباس على البصرة أبا الأسود الدؤلي- و خرج حتى قدم على علي ع بالنخيلة

كتاب محمد بن أبي بكر إلى معاوية و جوابه عليه

قال نصر و كتب محمد بن أبي بكر إلى معاوية- من محمد بن أبي بكر إلى الغاوي معاوية بن صخر- سلام على أهل طاعة الله- ممن هو سلم لأهل ولاية الله- أما بعد فإن الله بجلاله و عظمته و سلطانه و قدرته- خلق خلقا بلا عبث و لا ضعف في قوته- لا حاجة به إلى خلقهم- و لكنه خلقهم عبيدا- و جعل منهم شقيا و سعيدا و غويا و رشيدا- ثم اختارهم على علمه- فاصطفى و انتخب منهم محمدا ص- فاختصه برسالته- و اختاره لوحيه- و ائتمنه على أمره- و بعثه رسولا مصدقا لما بين يديه من الكتب- و دليلا على الشرائع- فدعا إلى سبيل أمره بالحكمة و الموعظة الحسنة- فكان أول من أجاب و أناب- و صدق و وافق- فأسلم و سلم أخوه و ابن عمه علي بن أبي طالب ع- فصدقه بالغيب المكتوم- و آثره على كل حميم و وقاه كل هول- و واساه بنفسه في كل خوف- فحارب حربه و سالم سلمه- فلم يبرح مبتذلا لنفسه في ساعات الأزل و مقامات الروع- حتى برز سابقالا نظير له في جهاده- و لا مقارب له في فعله- و قد رأيتك تساميه و أنت أنت- و هو هو السابق المبرز في كل خير- أول الناس إسلاما- و أصدق الناس نية- و أطيب الناس ذرية- و أفضل الناس زوجة- و خير الناس ابن عم- و أنت اللعين ابن اللعين- لم تزل أنت و أبوك تبغيان لدين الله الغوائل- و تجتهدان على إطفاء نور الله- و تجمعان على ذلك الجموع- و تبذلان فيه المال- و تحالفان في ذلك القبائل- على هذا مات أبوك و على ذلك خلفته- و الشاهد عليك بذلك من يأوي و يلجأ إليك- من بقية الأحزاب و رءوس النفاق و الشقاق لرسول الله ص- و الشاهد لعلي مع فضله و سابقته القديمة- أنصاره الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن- ففضلهم و أثنى عليهم من المهاجرين و الأنصار- فهم معه كتائب و عصائب- يجالدون حوله بأسيافهم- و يهريقون دماءهم دونه- يرون الفضل في اتباعه- و الشقاق و العصيان في خلافه- فكيف يا لك الويل تعدل نفسك بعلي- و هو وارث رسول الله ص و وصيه و أبو ولده- و أول الناس له اتباعا و آخرهم به عهدا- يخبره بسره و يشركه في أمره- و أنت عدوه و ابن عدوه- فتمتع ما استطعت بباطلك- و ليمددك لك ابن العاص في غوايتك- فكان أجلك قد انقضى و كيدك قد وهى- و سوف تستبين لمن تكون العاقبة العليا- و اعلم أنك إنما تكايد ربك الذي قد أمنت كيده- و أيست من روحه و هو لك بالمرصاد- و أنت منه في غرور- و بالله و بأهل بيت رسوله عنك الغناء- و السلام على من اتبع الهدى- .

فكتب إليه معاوية- من معاوية بن أبي سفيان- إلى الزاري على أبيه محمد بن أبي بكر سلام على أهل طاعة الله- أما بعد فقد أتاني كتابك- تذكر فيه ما الله أهله في قدرته و سلطانه- و ما أصفى به نبيه مع كلام ألفته و وضعته- لرأيك فيه تضعيف- و لأبيك فيه تعنيف- ذكرت حق‏ابن أبي طالب و قديم سابقته- و قرابته من نبي الله و نصرته له- و مواساته إياه في كل خوف و هول- و احتجاجك علي و فخرك بفضل غيرك لا بفضلك- فاحمد إلها صرف ذلك الفضل عنك و جعله لغيرك- فقد كنا و أبوك معنا في حياة نبينا- نرى حق ابن أبي طالب لازما لنا- و فضله مبرزا علينا- فلما اختار الله لنبيه ما عنده و أتم له ما وعده- و أظهر دعوته و أفلج حجته قبضه الله إليه- فكان أبوك و فاروقه- أول من ابتزه و خالفه- على ذلك اتفقا و اتسقا- ثم دعواه إلى أنفسهما فأبطأ عنهما- و تلكأ عليهما فهما به الهموم- و أرادا به العظيم- فبايعهما و سلم لهما- لا يشركانه في أمرهما- و لا يطلعانه على سرهما حتى قبضا و انقضى أمرهما- ثم أقاما بعدهما ثالثهما عثمان بن عفان- يهتدي بهديهما و يسير بسيرتهما- فعبته أنت و صاحبك- حتى طمع فيه الأقاصي من أهل المعاصي و بطنتما و ظهرتما- و كشفتما له عداوتكما و غلكما- حتى بلغتما منه مناكما- فخذ حذرك يا ابن أبي بكر فسترى وبال أمرك- و قس شبرك بفترك- تقصر عن أن تساوي أو توازي من يزن الجبال حلمه- و لا تلين على قسر قناته- و لا يدرك ذو مدى أناته- أبوك مهد له مهاده- و بنى ملكه و شاده- فإن يكن ما نحن فيه صوابا فأبوك أوله- و إن يكن جورا فأبوك أسه و نحن شركاؤه- فبهداه أخذنا و بفعله اقتدينا- رأينا أباك فعل ما فعل- فاحتذينا مثاله و اقتدينا بفعاله- فعب أباك بما بدا لك أو دع- و السلام على من أناب- و رجع من غوايته و ناب- . قال و أمر علي ع الحارث الأعور أن ينادي في الناس- اخرجوا إلى معسكركم‏ بالنخيلة- فنادى الحارث في الناس بذلك- و بعث إلى مالك بن حبيب اليربوعي صاحب شرطته- يأمره أن يحشر الناس إلى المعسكر- و دعا عقبة بن عمرو الأنصاري فاستخلفه على الكوفة- و كان أصغر أصحاب العقبة السبعين- ثم خرج ع و خرج الناس معه- .

قال نصر و دعا علي ع زياد بن النضر و شريح بن هانئ- و كانا على مذحج و الأشعريين- فقال يا زياد- اتق الله في كل ممسى و مصبح- و خف على نفسك الدنيا الغرور- لا تأمنها على حال- و اعلم أنك إن لم تزعها عن كثير مما تحب مخافة مكروهة- سمت بك الأهواء إلى كثير من الضرر- فكن لنفسك مانعا وازعا من البغي و الظلم و العدوان- فإني قد وليتك هذا الجند فلا تستطيلن عليهم- إن خيركم عند الله أتقاكم- تعلم من عالمهم و علم جاهلهم و احلم عن سفيههم- فإنك إنما تدرك الخير بالحلم و كف الأذى و الجهل- .

فقال زياد أوصيت يا أمير المؤمنين حافظا لوصيتك- مؤديا لأربك- يرى الرشد في نفاذ أمرك و الغي في تضييع عهدك- . فأمرهما أن يأخذا في طريق واحد و لا يختلفا- و بعثهما في اثني عشر ألفا على مقدمته- و كل واحد منهما على جماعة من ذلك الجيش- فأخذ شريح يعتزل بمن معه من أصحابه على حدة- و لا يقرب زيادا- فكتب زياد إلى علي ع مع مولى له يقال له شوذب- لعبد الله علي أمير المؤمنين من زياد بن النضر- سلام عليك- فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو- أما بعد فإنك وليتني أمرالناس- و إن شريحا لا يرى بي عليه طاعة و لا حقا- و ذلك من فعله بي استخفاف بأمرك و ترك لعهدك- و السلام- . و كتب شريح بن هانئ إلى علي ع- لعبد الله علي أمير المؤمنين من شريح بن هانئ- سلام عليك- فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو- أما بعد فإن زياد بن النضر حين أشركته في أمرك- و وليته جندا من جنودك طغى و استكبر- و مال به العجب و الخيلاء- و الزهو إلى ما لا يرضى الله تعالى به من القول و الفعل- فإن رأى أمير المؤمنين ع أن يعزله عنا- و يبعث مكانه من يحب فليفعل فإنا له كارهون و السلام- .

فكتب علي ع إليهما من عبد الله- علي أمير المؤمنين إلى زياد بن النضر و شريح بن هانئ- سلام عليكما فإني أحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو- أما بعد- فإني قد وليت مقدمتي زياد بن النضر و أمرته عليها- و شريح بن هانئ على طائفة منها أمير- فإن انتهى جمعكما إلى بأس- فزياد بن النضر على الناس كلهم- و إن افترقتما- فكل واحد منكما أمير الطائفة التي وليناه أمرها- و اعلما أن مقدمة القوم عيونهم- و عيون المقدمة طلائعهم- فإذا أنتما خرجتما من بلادكما فلا تسأما من توجيه الطلائع- و من نفض الشعاب و الشجر و الخمر في كل جانب- كي لا يغتركما عدو أو يكون لهم كمين- و لا تسيرن الكتائب و القبائل- من لدن الصباح إلى المساء إلا على تعبئة- فإن دهمكم عدو أو غشيكم مكروه- كنتم قد تقدمتم في التعبئة- فإذا نزلتم بعدو أو نزل بكم- فليكن معسكركم في قبل الأشراف- أو سفاح‏ الجبال و أثناء الأنهار- كيما يكون ذلك لكم ردءا- و تكون مقاتلتكم من وجه واحد أو اثنين- و اجعلوا رقباءكما في صياصي الجبال و بأعالي الأشراف- و مناكب الأنهار يرون لكم- كي لا يأتيكم عدو من مكان مخافة أو أمن- و إياكم و التفرق- فإذا نزلتم فانزلوا جميعا- و إذا رحلتم فارحلوا جميعا- فإذا غشيكم الليل فنزلتم- فحفوا عسكركم بالرماح و الترسة- و لتكن رماتكم من وراء ترسكم و رماحكم يلونهم- و ما أقمتم فكذلك- فافعلوا كي لا تصاب لكم غفلة- و لا تلفى لكم غرة- فما قوم يحفون عسكرهم برماحهم- و ترستهم من ليل أو نهار إلا كانوا كأنهم في حصون- و احرسا عسكركما بأنفسكما- و إياكما أن تذوقا نوما حتى تصبحا إلا غرارا أو مضمضة- ثم ليكن ذلك شأنكما و دأبكما حتى تنتهيا إلى عدوكما- و ليكن كل يوم عندي خبركما و رسول من قبلكما- فإني و لا شي‏ء إلا ما شاء الله حثيث السير في أثركما- عليكما في جريكما بالتؤدة- و إياكما و العجلة- إلا أن تمكنكما فرصة بعد الإعذار و الحجة- و إياكما أن تقاتلا حتى أقدم عليكما- إلا أن تبدءا أو يأتيكما أمري إن شاء الله– .

قال نصر و كتب علي ع إلى أمراء الأجناد- و كان قد قسم عسكره أسباعا- فجعل على كل سبع أميرا- فجعل سعد بن مسعود الثقفي على قيس و عبد القيس- و معقل بن قيس اليربوعي على تميم- و ضبة و الرباب و قريش‏ و كنانة و أسد- و مخنف بن سليم على الأزد- و بجيلة و خثعم و الأنصار و خزاعة- و حجر بن عدي الكندي على كندة و حضرموت و قضاعة- و زياد بن النضر على مذحج و الأشعريين- و سعيد بن مرة الهمداني على همدان و من معهم من حمير- و عدي بن حاتم الطائي على طيئ- تجمعهم الدعوة مع مذحج- و تختلف الرايتان راية مذحج مع زياد بن النضر- و راية طيئ مع عدي بن حاتم هذه عساكر الكوفة- و أما عساكر البصرة- فخالد بن معمر السدوسي على بكر بن وائل- و عمرو بن مرجوم العبدي على عبد القيس- و ابن شيمان الأزدي على الأزد- و الأحنف على تميم و ضبة و الرباب- و شريك بن الأعور الحارثي على أهل العالية-أما بعد- فإني أبرأ إليكم من معرة الجنود- إلا من جوعة إلى شبعة و من فقر إلى غنى أو عمى إلى هدى- فإن ذلك عليهم- فأغربوا الناس عن الظلم و العدوان- و خذوا على أيدي سفهائكم- و احترسوا أن تعملوا أعمالا لا يرضى الله بها عنا- فيرد بها علينا و عليكم دعاءنا فإنه تعالى يقول- ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ- و إن الله إذا مقت قوما من السماء هلكوا في الأرض- فلا تألوا أنفسكم خيرا و لا الجند حسن سيرة- و لا الرعية معونة و لا دين الله قوة- و أبلوا في سبيله ما استوجب عليكم- فإن الله قد اصطنع عندنا و عندكم- ما يجب علينا أن نشكره بجهدنا- و أن ننصره ما بلغت قوتنا و لا قوة إلا بالله قال و كتب ع إلى جنوده- يخبرهم بالذي لهم و عليهم أما بعد فإن الله جعلكم في الحق جميعا سواء- أسودكم و أحمركم- و جعلكم من الوالي- و جعل الوالي منكم بمنزلة الوالد من الولد- و بمنزلة الولد من الوالد- الذي لا يكفيه منعه إياهم طلب عدوه و التهمة به- ما سمعتم و أطعتم و قضيتم الذي عليكم- فحقكم عليه إنصافكم و التعديل بينكم- و الكف عن فيئكم- فإذا فعل معكم ذلك- وجبت عليكم طاعته فيما وافق الحق- و نصرته و الدفع عن سلطان الله- فإنكم وزعة الله في الأرض- فكونوا له أعوانا و لدينه أنصارا- و لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها- إن الله لا يحب المفسدين

قال نصر و حدثنا عمر بن سعد قال حدثنا سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباته قال قال علي ع ما يقول الناس في هذا القبر و في النخيلة- و بالنخيلة قبر عظيم يدفن اليهود موتاهم حوله- فقال الحسن بن علي ع- يقولون هذا قبر هود لما عصاه قومه جاء فمات هاهنا- فقال كذبوا لأنا أعلم به منهم- هذا قبر يهودا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم- بكر يعقوب- ثم قال أ هاهنا أحد من مهرة- فأتي بشيخ كبير- فقال أين منزلك- قال على شاطئ البحر- قال أين أنت من الجبل- قال أنا قريب منه- قال فما يقول قومك فيه- قال يقولون إن فيه قبر ساحر- قال كذبوا ذاك قبر هود النبي ع- و هذا قبر يهودا بن يعقوب- ثم قال‏ع يحشر من ظهر الكوفة سبعون ألفا على غرة الشمس- يدخلون الجنة بغير حساب- .

قال نصر- فلما نزل علي ع النخيلة متوجها إلى الشام- و بلغ معاوية خبره و هو يومئذ بدمشق- قد ألبس منبر دمشق قميص عثمان مختضبا بالدم- و حول المنبر سبعون ألف شيخ يبكون حوله- لا تجف دموعهم على عثمان- خطبهم و قال يا أهل الشام- قد كنتم تكذبونني في علي- و قد استبان لكم أمره- و الله ما قتل خليفتكم غيره- و هو أمر بقتله و ألب الناس عليه و آوى قتلته- و هم جنده و أنصاره و أعوانه- و قد خرج بهم قاصدا بلادكم و دياركم لإبادتكم- يا أهل الشام الله الله في دم عثمان- فأنا وليه و أحق من طلب بدمه- و قد جعل الله لولي المقتول ظلما سلطانا- فانصروا خليفتكم المظلوم- فقد صنع القوم به ما تعلمون قتلوه ظلما و بغيا- و قد أمر الله تعالى بقتال الفئة الباغية- حتى تفي‏ء إلى أمر الله- ثم نزل- . قال نصر فأعطوه الطاعة و انقادوا له- و جمع إليه أطرافه- و استعد للقاء علي ع

 

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 3

خطبه 45 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

45 و من خطبة له ع

الْحَمْدُ لِلَّهِ غَيْرَ مَقْنُوطٍ مِنْ رَحْمَتِهِ- وَ لَا مَخْلُوٍّ مِنْ نِعْمَتِهِ- وَ لَا مَأْيُوسٍ مِنْ مَغْفِرَتِهِ- وَ لَا مُسْتَنْكَفٍ عَنْ عِبَادَتِهِ- الَّذِي لَا تَبْرَحُ مِنْهُ رَحْمَةٌ- وَ لَا تُفْقَدُ لَهُ نِعْمَةٌ- وَ الدُّنْيَا دَارٌ مُنِيَ لَهَا الْفَنَاءُ- وَ لِأَهْلِهَا مِنْهَا الْجَلَاءُ- وَ هِيَ حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ- وَ قَدْ عَجِلَتْ لِلطَّالِبِ- وَ الْتَبَسَتْ بِقَلْبِ النَّاظِرِ- فَارْتَحِلُوا مِنْهَا بِأَحْسَنِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ مِنَ الزَّادِ- وَ لَا تَسْأَلُوا فِيهَا فَوْقَ الْكَفَافِ- وَ لَا تَطْلُبُوا مِنْهَا أَكْثَرَ مِنَ الْبَلَاغِ مني لها الفناء أي قدر- و الجلاء بفتح الجيم الخروج عن الوطن- قال سبحانه وَ لَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ- . و حلوة خضرة مأخوذ من قول رسول الله ص إن الدنيا حلوة خضرة- و إن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون – . و الكفاف من الرزق قدر القوت- و هو ما كف عن الناس أي أغنى- . و البلاغ و البلغة من العيش ما يتبلغ به- .

و اعلم أن هذا الفصل- يشتمل على فصلين من كلام أمير المؤمنين ع- أحدهما حمد الله و الثناء عليه إلى قوله- و لا تفقد له نعمة- و الفصل الثاني ذكر الدنيا إلى آخر الكلام- و أحدهما غير مختلط بالآخر و لا منسوق عليه- و لكن الرضي رحمة الله تعالى- يلتقط كلام أمير المؤمنين ع التقاطا- و لا يقف مع الكلام المتوالي- لأن غرضه ذكر فصاحته ع لا غير- و لو أتى بخطبه كلها على وجه ها- لكانت أضعاف كتابه الذي جمعه

فصل بلاغي في الموازنة و السجع

فأما الفصل الأول– فمشتمل من علم البيان على باب كبير يعرف بالموازنة- و ذلك غير مقنوط- فإنه وازنه في الفقرة الثانية بقوله و لا مخلو- أ لا ترى أن كل واحدة منهما على وزن مفعول- ثم قال في الفقرة الثالثة و لا مأيوس- فجاء بها على وزن مفعول أيضا- و لم يمكنه في الفقرة الرابعة ما أمكنه في الأولى- فقال و لا مستنكف فجاء به على وزن مستفعل- و هو و إن كان خارجا عن الوزن- فإنه غير خارج عن المفعولية- لأن مستفعل مفعول في الحقيقة- كقولك زيد مستحسن- أ لا ترى أن مستحسنا من استحسنه- فهو أيضا غير خارج عن المفعولية- . ثم وازن ع بين قوله لا تبرح- و قوله لا تفقد و بين رحمة و نعمة- فأعطت هذه الموازنات الكلام من الطلاوة- و الصنعة ما لا تجده عليه- لو قال الحمد لله غير مخلو من نعمته و لا مبعد من رحمته- لأن مبعد بوزن مفعل- و هو غير مطابق و لا مماثل لمفعول بل هو بناء آخر- . و كذلك لو قال لا تزول منه رحمة- فإن تزول ليست في المماثلة و الموازنة لتفقد كتبرح- أ لا ترى أنها معتلة و تلك صحيحة- و كذلك لو قال لا تبرح منه رحمة و لا يفقد له أنعام- فإن أنعاما ليس في وزن رحمة- و الموازنة مطلوبة في الكلام الذي يقصد فيه الفصاحة- لأجل الاعتدال الذي هو مطلوب الطبع في جميع الأشياء- و الموازنة أعم من السجع- لأن السجع تماثل أجزاء الفواصل- لو أوردها على حرف واحد- نحو القريب و الغريب و النسيب و ما أشبه ذلك- و أما الموازنة فنحو القريب و الشديد و الجليل- و ما كان على هذا الوزن- و إن لم يكن الحرف الآخر بعينه واحدا- و كل سجع موازنة و ليس كل موازنة سجعا- و مثال الموازنة في الكتاب العزيز- وَ آتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ- وَ هَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ- و قوله تعالى- لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا- ثم قال وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا- ثم قال تَؤُزُّهُمْ أَزًّا- ثم قال نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا فهذه الموازنة- . و مما جاء من المثال في الشعر قوله-

بأشدهم بأسا على أعدائهم
و أعزهم فقدا على الأصحاب

فقوله و أعزهم بإزاء أشدهم- و قوله فقدا بإزاء بأسا- . و الموازنة كثيرة في الكلام- و هي في كتاب الله تعالى أكثر نبذ من كلام الحكماء في مدح القناعة و ذم الطمع

فأما الفصل الثاني فيشتمل على التحذير من الدنيا- و على الأمر بالقناعة و الرضا بالكفاف- فأما التحذير من الدنيا فقد ذكرنا و نذكر منه ما يحضرنا- و أما القناعة فقد ورد فيها شي‏ء كثير- .قال رسول الله ص لأخوين من الأنصار لا تيئسا من روح الله ما تهزهزت رءوسكما- فإن أحدكم يولد لا قشر عليه ثم يكسوه الله و يرزقه و عنه ص و يعزى إلى أمير المؤمنين ع القناعة كنز لا ينفد – و ما يقال إنه من كلام لقمان الحكيم كفى بالقناعة عزا و بطيب النفس نعيما و من كلام عيسى ع اتخذوا البيوت منازل و المساجد مساكن- و كلوا من بقل البرية- و اشربوا من الماء القراح- و اخرجوا من الدنيا بسلام- لعمري لقد انقطعتم إلى غير الله فما ضيعكم- أ فتحافون الضيعة إذا انقطعتم إليه – . و في بعض الكتب الإلهية القديمة- يقول الله تعالى يا ابن آدم- أ تخاف أن أقتلك بطاعتي هزلا- و أنت تتفتق بمعصيتي سمنا
قال أبو وائل- ذهبت أنا و صاحب لي إلى سلمان الفارسي فجلسنا عنده- فقال لو لا أن رسول الله ص نهى عن التكلف لتكلفت لكم- ثم جاء بخبز و ملح ساذج لا أبزار عليه- فقال صاحبي لو كان لنا في ملحنا هذا سعتر- فبعث سلمان بمطهرته فرهنها على سعتر- فلما أكلنا قال صاحبي الحمد لله الذي قنعنا بما رزقنا- فقال سلمان لو قنعت بما رزقك لم تكن مطهرتي مرهونة- . عباد بن منصور- لقد كان بالبصرة من هو أفقه من عمرو بن عبيد و أفصح- و لكنه كان أصبرهم عن الدينار و الدرهم- فساد أهل البصرة- . قال خالد بن صفوان لعمرو بن عبيد لم لا تأخذ مني- فقال لا يأخذ أحد من أحد إلا ذل له- و أنا أكره أن أذل لغير الله- .

كان معاش عمرو بن عبيد من دار ورثها- كان يأخذ أجرتها في كل شهر دينارا واحدا فيتبلغ به- . الخليل بن أحمد كان الناس يكتسبون الرغائب بعلمه- و هو بين أخصاص البصرة- لا يلتفت إلى الدنيا و لا يطلبها- . وهب بن منبه أرملت مرة حتى كدت أقنط- فأتاني آت في المنام و معه شبه لوزة- فقال افضض ففضضتها- فإذا حريرة فيها ثلاثة أسطر- لا ينبغي لمن عقل عن الله أمره و عرف لله عدله- أن يستبطئ الله في رزقه فقنعت و صبرت- ثم أعطاني الله فأكثر- .

قيل للحسن ع إن أبا ذر كان يقول- الفقر أحب إلي من الغنى- و السقم أحب إلي من الصحة- فقال رحم الله أبا ذر- أما أنا فأقول من اتكل إلى حسن الاختيار من الله- لم يتمن أنه في غير الحال التي اختارها الله له- لعمري يا ابن آدم الطير لا تأكل رغدا- و لا تخبأ لغد و أنت تأكل رغدا و تخبأ لغد- فالطير أحسن ظنا منك بالله عز و جل – حبس عمر بن عبد العزيز الغذاء عن مسلمة- حتى برح به الجوع- ثم دعا بسويق فسقاه- فلما فرغ منه لم يقدر على الأكل- فقال يا مسلمة- إذا كفاك من الدنيا ما رأيت- فعلام التهافت في النار- . عبد الواحد بن زيد- ما أحسب شيئا من الأعمال- يتقدم الصبر إلا الرضا و القناعة- و لا أعلم درجة أرفع من الرضا و هو رأس المحبة- . قال ابن شبرمة في محمد بن واسع- لو أن إنسانا اكتفى بالتراب لاكتفى به- .

يقال من جملة ما أوحى الله تعالى إلى موسى ع قل لعبادي المتسخطين لرزقي- إياكم أن أغضب فأبسط عليكم الدنيا – . كان لبعض الملوك نديم فسكر ففاتته الصلاة- فجاءت جارية له بجمرة نار- فوضعتها على رجله فانتبه مذعورا- فقالت إنك لم تصبر على نار الدنيا- فكيف تصبر على نار الآخرة- فترك الدنيا و انقطع إلى العبادة و قعد يبيع البقل- فدخل عليه الفضيل و ابن عيينة فإذا تحت رأسه لبنة- و ليس تحت جنبه حصير- فقالا له إنا روينا- أنه لم يدع أحد شيئا لله إلا عوضه خيرا منه فما عوضك- قال القناعة و الرضا بما أنا فيه- . أصابت داود الطائي ضائقة شديدة- فجاء حماد بن أبي حنيفة بأربعمائة درهم من تركة أبيه- فقال داود هي لعمري من مال رجل- ما أقدم عليه أحدا في زهده و ورعه و طيب كسبه- و لو كنت قابلا من أحد شيئا- لقبلتها إعظاما للميت و إيجابا للحي- و لكني أحب أن أعيش في عز القناعة- . سفيان الثوري ما أكلت طعام أحد قط إلا هنت عليه- . مسعر بن كدام من صبر على الخل و البقل لم يستعبد- . فضيل أصل الزهد الرضا بما رزقك الله- أ لا تراه كيف يصنع بعبده- ما تصنع الوالدة الشفيقة بولدها- تطعمه مرة خبيصا و مرة صبرا- تريد بذلك ما هو أصلح له- . المسيح ع أنا الذي كببت الدنيا على وجهها و قدرتها بقدرها- ليس لي ولد يموت و لا بيت يخرب- وسادي الحجر و فراشي المدر و سراجي القمر أمير المؤمنين ع أكل تمر دقل ثم شرب عليه ماء و مسح بطنه و قال من أدخلته بطنه النار فأبعده الله ثم أنشد-

فإنك إن أعطيت بطنك سؤله
و فرجك نالا منتهى الذم أجمعا

في الحديث الصحيح المرفوع إن روح القدس نفث في روعي- أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها- فأجملوا في الطلب – . من كلام الحكماء- من ظفر بالقناعة فقد ظفر بالكيمياء الأعظم- . الحسن الحريص الراغب- و القانع الزاهد كلاهما مستوف أجله مستكمل أكله- غير مزداد و لا منتقص مما قدر له- فعلام التقحم في النار- .ابن مسعود رفعه إنه ليس أحد بأكيس من أحد- قد كتب النصيب و الأجل- و قسمت المعيشة و العمل- و الناس يجرون منهما إلى منتهى معلوم المسيح ع انظروا إلى طير السماء تغدو و تروح- ليس معها شي‏ء من أرزاقها- لا تحرث و لا تحصد و الله يرزقها- فإن زعمتم أنكم أوسع بطونا من الطير- فهذه الوحوش من البقر و الحمر- لا تحرث و لا تحصد و الله يرزقها – .

سويد بن غفلة كان إذا قيل له قد ولي فلان- يقول حسبي كسرتي و ملحي- . وفد عروة بن أذينة على هشام بن عبد الملك- فشكا إليه خلته- فقال له أ لست القائل-

لقد علمت و ما الإشراف من خلقي
أن الذي هو رزقي سوف يأتيني‏

أسعى له فيعنيني تطلبه‏
و لو قعدت أتاني لا يعنيني‏

فكيف خرجت من الحجاز إلى الشام تطلب الرزق- ثم اشتغل عنه- فخرج و قعد على ناقته و نصها راجعا إلى الحجاز- فذكره هشام في الليل فسأل عنه- فقيل إنه رجع إلى الحجاز فتذمر و ندم- و قال رجل قال حكمة و وفد علي مستجديا فجبهته‏ و رددته- ثم وجه إليه بألفي درهم- فجاء الرسول و هو بالمدينة فدفعها إليه- فقال له قل لأمير المؤمنين كيف رأيت سعيت فأكديت- و قعدت في منزلي فأتاني رزقي- . عمر بن الخطاب تعلم أن الطمع فقر و أن اليأس غنى- و من يئس من شي‏ء استغنى عنه- أهدي لرسول الله ص طائران- فأكل أحدهما عشية- فلما أصبح طلب غداء- فأتته بعض أزواجه بالطائر الآخر- فقال أ لم أنهك أن ترفعي شيئا لغد- فإن من خلق الغد خلق رزقه و في الحديث المرفوع قد أفلح من رزق كفافا و قنعه الله بما آتاه من حكمة سليمان ع قد جربنا لين العيش و شدته فوجدنا أهنأه أدناه وهب في قوله تعالى- فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً قال القناعة- . بعض حكماء الشعراء-

فلا تجزع إذا أعسرت يوما
فقد أيسرت في الدهر الطويل‏

و لا تظنن بربك ظن سوء
فإن الله أولى بالجميل‏

و إن العسر يتبعه يسار
و قيل الله أصدق كل قيل‏

و لو أن العقول تجر رزقا
لكان المال عند ذوي العقول‏

عائشة قال لي رسول الله ص إن أردت اللحوق بي- فيكفيك من الدنيا زاد الراكب- و لا تخلقي ثوبا حتى ترقعيه- و إياك و مجالسة الأغنياء يقال إن جبرائيل ع- جاء إلى رسول الله ص بمفاتيح خزائن الدنيا- فقال لا حاجة لي فيها بل جوعتان و شبعة – . وجد مكتوبا على صخرة عادية- يا ابن آدم لست ببالغ أملك- و لا سابق أجلك و لا مغلوب على رزقك- و لا مرزوق ما ليس لك- فعلام تقتل نفسك- . الحسين بن الضحاك-

يا روح من عظمت قناعته
حسم المطامع من غد و غد

من لم يكن لله متهما
لم يمس محتاجا إلى أحد

أوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه- أ تدري لم رزقت الأحمق قال لا- قال ليعلم العاقل أن طلب الرزق ليس بالاحتمال قنط يوسف بن يعقوب ع في الجب لجوع اعتراه- فأوحي إليه انظر إلى حائط البئر- فنظر فانفرج الحائط عن ذرة على صخرة معها طعامها- فقيل له أ تراني لا أغفل عن هذه الذرة و أغفل عنك- و أنت نبي ابن نبي دخل علي ع المسجد- و قال لرجل أمسك على بغلتي- فخلع لجامها و ذهب به- فخرج علي ع بعد ما قضى صلاته- و بيده درهمان ليدفعهما إليه مكافأة له- فوجد البغلة عطلا- فدفع إلى أحد غلمانه الدرهمين- ليشتري بهما لجاما- فصادف الغلام اللجام المسروق في السوق- قد باعه الرجل بدرهمين- فأخذه بالدرهمين و عاد إلى مولاه- فقال علي ع- إن العبد ليحرم نفسه الرزق الحلال بترك الصبر- و لا يزاد على ما قدر له سليمان بن المهاجر البجلي-

كسوت جميل الصبر وجهي فصانه
به الله عن غشيان كل بخيل‏

فلم يتبذلني البخيل و لم أقم‏
على بابه يوما مقام ذليل‏

و إن قليلا يستر الوجه أن يرى
إلى الناس مبذولا لغير قليل‏

وقف بعض الملوك على سقراط و هو في المشرقة- فقال له سل حاجتك- قال حاجتي أن تزيل عني ظلك- فقد منعتني الرفق بالشمس- فأحضر له ذهبا و كسوة ديباج- فقال إنه لا حاجة بسقراط إلى حجارة الأرض و لعاب الدود- إنما حاجته إلى أمر يصحبه حيثما توجه- . صلى معروف الكرخي خلف إمام- فلما انفتل سأل ذلك الإمام معروفا من أين تأكل- قال اصبر علي حتى أعيد ما صليته خلفك قال لما ذا- قال لأن من شك في الرزق شك في الرازق- قال الشاعر

و لا تهلكن النفس وجدا و حسرة
على الشي‏ء أسداه لغيرك قادرة

و لا تيأسن من صالح أن تناله‏
و إن كان نهبا بين أيد تبادره‏

فإنك لا تعطي أمرا حظ نفسه
و لا تمنع الشق الذي الغيث ناصره‏

قال عمر بن الخطاب لعلي بن أبي طالب- قد مللت الناس و أحببت أن ألحق بصاحبي- فقال إن سرك اللحوق بهما فقصر أملك- و كل دون الشبع و اخصف النعل- و كن كميش الإزار مرقوع القميص تلحق بهما – . و قال بعض شعراء العجم-

غلا السعر في بغداد من بعد رخصة
و إني في الحالين بالله واثق‏

فلست أخاف الضيق و الله واسع‏
غناه و لا الحرمان و الله رازق‏

قيل لعلي ع لو سد على رجل باب بيت و ترك فيه- من أين كان يأتيه رزقه- قال من حيث كان يأتيه أجله – . قال بعض الشعراء-

صبرت النفس لا أجز
ع من حادثة الدهر

رأيت الرزق لا يكسب‏
بالعرف و لا النكر

و لا بالسلف الأمثل
أهل الفضل و الذكر

و لا بالسمر اللدن‏
و لا بالخذم البتر

و لا بالعقل و الدين
و لا الجاه و لا القدر

و لا يدرك بالطيش‏
و لا الجهل و لا الهذر

و لكن قسم تجري
بما ندري و لا ندري‏

جاء فتح بن شخرف إلى منزله بعد العشاء- فلم يجد عندهم ما يتعشى به- و لا وجد دهنا للسراج و هم في الظلمة- فجلس ليلة يبكي من الفرح- و يقول بأي يد قد كانت مني- بأي طاعة تنعم علي بأن أترك على مثل هذه الحال- . لقي هرم بن حيان أويسا القرني- فقال السلام عليك يا أويس بن عامر- فقال و عليك السلام يا هرم بن حيان- فقال هرم أما إني عرفتك بالصفة فكيف عرفتني- قال إن أرواح المؤمنين لتشام كما تشام الخيل- فيعرف بعضها بعضا قال أوصني- قال عليك بسيف البحر- قال فمن أين المعاش- قال أف لك خالطت الشك الموعظة- أ تفر إلى الله بدينك و تتهمه في رزقك- . منصور الفقيه-

الموت أسهل عندي
بين القنا و الأسنه‏

و الخيل تجري سراعا
مقطعات الأعنه‏

من أن يكون لنذل
على فضل و منه‏

أعرابي-

أ تيئس أن يقارنك النجاح
فأين الله و القدر المتاح‏

قال رجل لرسول الله ص أوصني- قال إياك و الطمع فإنه فقر حاضر- و عليك باليأس مما في أيدي الناس – . حكيم أحسن الأحوال حال يغبطك بها من دونك- و لا يحقرك لها من فوقك- . أبو العلاء المعري-

فإن كنت تهوى العيش فابغ توسطا
فعند التناهي يقصر المتطاول‏

توقي البدور النقص و هي أهلة
و يدركها النقصان و هي كوامل‏

 خالد بن صفوان كن أحسن ما تكون في الظاهر حالا- أقل ما تكون في الباطن مالا- فإن الكريم من كرمت عند الحاجة خلته- و اللئيم من لؤمت عند الفاقة طعمته- . شعر-

و كم ملك جانبته من كراهة
لإغلاق باب أو لتشديد حاجب‏

ولي في غنى نفسي مراد و مذهب‏
إذا أبهمت دوني وجوه المذاهب‏

 بعض الحكماء- ينبغي للعاقل أن يكون في دنياه كالمدعو إلى الوليمة- إن أتته صحفة تناولها- و إن جازته لم يرصدها و لم يطلبها

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 3

خطبه 44 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

44 و من كلام له ع- لما هرب مصقلة بن هبيرة الشيباني إلى معاوية

و كان قد ابتاع سبي بني ناجية من عامل أمير المؤمنين ع- و أعتقه فلما طالبه بالمال خاس به و هرب إلى الشام- فقال‏قَبَحَ اللَّهُ مَصْقَلَةَ- فَعَلَ فِعْلَ السَّادَةِ وَ فَرَّ فِرَارَ الْعَبِيدِ- فَمَا أَنْطَقَ مَادِحَهُ حَتَّى أَسْكَتَهُ- وَ لَا صَدَّقَ وَاصِفَهُ حَتَّى بَكَّتَهُ- وَ لَوْ أَقَامَ لَأَخَذْنَا مَيْسُورَهُ- وَ انْتَظَرْنَا بِمَالِهِ وُفُورَهُ خاس به يخيس و يخوس أي غدر به- و خاس فلان بالعهد أي نكث- . و قبح الله فلانا أي نحاه عن الخير فهو مقبوح- . و التبكيت كالتقريع و التعنيف- و الوفور مصدر وفر المال أي تم و يجي‏ء متعديا- و يروى موفوره و الموفور التام- و قد أخذ هذا المعنى بعض الشعراء فقال-

يا من مدحناه فأكذبنا
بفعاله و أثابنا خجلا

بردا قشيبا من مدائحنا
سربلت فاردده لنا سملا

إن التجارب تهتك المستور من
أبنائها و تبهرج الرجلا

نسب بني ناجية

فأما القول في نسب بني ناجية- فإنهم ينسبون أنفسهم إلى سامة بن لؤي بن غالب- بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة- بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر- بن نزار بن معد بن عدنان- و قريش تدفعهم عن هذا النسب- و يسمونهم بني ناجية و هي أمهم- و هي امرأة سامة بن لؤي بن غالب- و يقولون إن سامة خرج إلى ناحية البحرين- مغاضبا لأخيه كعب بن لؤي في مماظة كانت بينهما- فطأطأت ناقته رأسها لتأخذ العشب- فعلق بمشفرها أفعى- ثم عطفت على قتبها فحكته به- فدب الأفعى على القتب حتى نهش ساق سامة فقتله- فقال أخوه كعب بن لؤي يرثيه-

عين جودي لسامة بن لؤي
علقت ساق سامة العلاقه‏

رب كأس هرقتها ابن لؤي‏
حذر الموت لم تكن مهراقه‏

 قالوا و كانت معه امرأته ناجية- فلما مات تزوجت رجلا في البحرين- فولدت منه الحارث و مات أبوه و هو صغير- فلما ترعرع طمعت أمه أن تلحقه بقريش- فأخبرته أنه ابن سامة بن لؤي بن غالب- فرحل من البحرين إلى مكة و معه أمه- فأخبر كعب بن لؤي أنه ابن أخيه سامة- فعرف كعب أمه ناجية- فظن أنه صادق في دعواه- فقبله و مكث عنده مدة- حتى قدم مكة ركب من البحرين- فرأوا الحارث فسلموا عليه و حادثوه- فسألهم كعب بن لؤي من أين يعرفونه- فقالوا هذا ابن رجل من بلدنا يعرف بفلان- و شرحوا له خبره- فنفاه كعب عن مكة و نفى أمه فرجعا إلى البحرين- فكانا هناك و تزوج الحارث فأعقب هذا العقب- .

و قال هؤلاء إنه روي عن رسول الله ص أنه قال عمي سامة لم يعقب – . و زعم ابن الكلبي أن سامة بن لؤي ولد غالب بن سامة- و الحارث بن سامة و أم غالب بن سامة ناجية ثم هلك سامة- فخلف عليها ابنه الحارث بن سامة نكاح مقت- ثم هلك ابنا سامة و لم يعقبا- و إن قوما من بني ناجية بن جرم بن ربان بن علاف- ادعوا أنهم بنو سامة بن لؤي و أن أمهم ناجية هذه- و نسبوها هذا النسب- و انتموا إلى الحارث بن سامة- و هم الذين باعهم علي ع على مصقلة بن هبيرة- و هذا هو قول الهيثم بن عدي- كل هذا ذكره أبو الفرج الأصفهاني- في كتاب الأغاني الكبير- . و وجدت أنا في جمهرة النسب لابن الكلبي كلاما- قد صرح فيه بأن سامة بن لؤي أعقب- فقال ولد سامة بن لؤي الحارث و أمه هند بنت تيم- و غالب بن سامة و أمه ناجية بنت جرم بن بابان من قضاعة- فهلك غالب بعد أبيه و هو ابن اثنتي عشرة سنة- فولد الحارث بن سامة لؤيا و عبيدة و ربيعة و سعدا- و أمهم سلمى بنت ثيم بن شيبان بن محارب بن فهر- و عبد البيت و أمه ناجية بنت جرم- خلف عليها الحارث بعد أبيه بنكاح مقت- فهم الذين قتلهم علي ع- .

قال أبو الفرج الأصفهاني أما الزبير بن بكار- فإنه أدخلهم في قريش و هم قريش العازبة- قال و إنما سموا العازبة لأنهم عزبوا عن قومهم- فنسبوا إلى أمهم ناجية بنت جرم بن ربان بن علاف- و هو أول من اتخذ الرحال العلافية فنسبت إليه-و اسم ناجية ليلى- و إنما سميت ناجية- لأنها سارت مع سامة في مفازة فعطشت فاستسقته- فقال لها الماء بين يديك و هو يريها السراب- حتى أتت إلى الماء فشربت فسميت ناجية- .

قال أبو الفرج- و للزبير بن بكار في إدخالهم في قريش مذهب- و هو مخالفة أمير المؤمنين علي ع- و ميله إليهم لإجماعهم على بغضه ع- حسب المشهور المأثور من مذهب الزبير في ذلك

نسب علي بن الجهم و ذكر طائفة من أخباره و شعره

و من المنتسبين إلى سامة بن لؤي علي بن الجهم الشاعر- و هو علي بن الجهم بن بدر- بن جهم بن مسعود بن أسيد بن أذينة بن كراز- بن كعب بن جابر بن مالك بن عتبة بن الحارث- بن عبد البيت بن سامة بن لؤي بن غالب- . هكذا ينسب نفسه و كان مبغضا لعلي ع- ينحو نحو مروان بن أبي حفصة- في هجاء الطالبيين و ذم الشيعة و هو القائل-

و رافضة تقول بشعب رضوى
إمام خاب ذلك من إمام‏

إمام من له عشرون ألفا
من الأتراك مشرعة السهام‏

و قد هجاه أبو عبادة البحتري فقال فيه-

إذا ما حصلت عليا قريش
فلا في العير أنت و لا النفير

و لو أعطاك ربك ما تمنى‏
لزاد الخلق في عظم الأيور

و ما الجهم بن بدر حين يعزى
من الأقمار ثم و لا البدور

علام هجوت مجتهدا عليا
بما لفقت من كذب و زور

أ ما لك في استك الوجعاء شغل
يكفك عن أذى أهل القبور

و سمع أبو العيناء علي بن الجهم يوما- يطعن على أمير المؤمنين- فقال له أنا أدري لم تطعن على أمير المؤمنين- فقال أ تعني قصة بيعة أهلي من مصقلة بن هبيرة- قال لا أنت أوضع من ذلك- و لكنه ع قتل الفاعل من قوم لوط و المفعول به- و أنت أسفلهما- و من شعر علي بن الجهم لما حبسه المتوكل-

أ لم تر مظهرين علي عتبا
و هم بالأمس إخوان الصفاء

فلما أن بليت غدوا و راحوا
علي أشد أسباب البلاء

أبت أخطارهم أن ينصروني
بمال أو بجاه أو ثراء

و خافوا أن يقال لهم خذلتم‏
صديقا فادعوا قدم الجفاء

تظافرت الروافض و النصارى
و أهل الاعتزال على هجائي

و عابوني و ما ذنبي إليهم
سوى علمي بأولاد الزناء

يعني بالروافض نجاح بن مسلمة و النصارى بختيشوع- و أهل الاعتزال علي بن يحيى بن المنجم- . قال أبو الفرج- و كان علي بن الجهم من الحشوية شديد النصب- عدوا للتوحيد و العدل- فلما سخط المتوكل على أحمد بن أبي دواد و كفاه- شمت به علي بن الجهم فهجاه و قال فيه-

يا أحمد بن أبي دواد دعوة
بعثت عليك جنادلا و حديدا

ما هذه البدع التي سميتها
بالجهل منك العدل و التوحيدا

أفسدت أمر الدين حين وليته
و رميته بأبي الوليد وليدا

أبو الوليد بن أحمد بن أبي دواد و كان رتبه قاضيا-

لا محكما جلدا و لا مستطرفا
كهلا و لا مستحدثا محمودا

شرها إذا ذكر المكارم و العلا
ذكر القلايا مبدئا و معيدا

و يود لو مسخت ربيعة كلها
و بنو أياد صحفة و ثريدا

و إذا تربع في المجالس خلته‏
ضبعا و خلت بني أبيه قرودا

و إذا تبسم ضاحكا شبهته
شرقا تعجل شربه مردودا

لا أصبحت بالخير عين أبصرت‏
تلك المناخر و الثنايا السودا

و قال يهجوه لما فلج-

لم يبق منك سوى خيالك لامعا
فوق الفراش ممهدا بوساد

فرحت بمصرعك البرية كلها
من كان منهم موقنا بمعاد

كم مجلس لله قد عطلته
كي لا يحدث فيه بالإسناد

و لكم مصابيح لنا أطفأتها
حتى تحيد عن الطريق الهادي‏

و لكم كريمة معشر أرملتها
و محدث أوثقت في الأقياد

إن الأسارى في السجون تفرجوا
لما أتتك مواكب العواد

و غدا لمصرعك الطبيب فلم يجد
لدواء دائك حيلة المرتاد

فذق الهوان معجلا و مؤجلا
و الله رب العرش بالمرصاد

لا زال فالجك الذي بك دائما
و فجعت قبل الموت بالأولاد

و روى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني- في ترجمة مروان بن أبي حفصة الأصغر- أن علي بن الجهم خطب امرأة من قريش- فلم يزوجوه و بلغ المتوكل ذلك- فسأل عن السبب فحدث بقصة بني سامة بن لؤي- و أن أبا بكر و عمر لم يدخلاهم في قريش- و أن عثمان أدخلهم فيها- و أن عليا ع أخرجهم منها فارتدوا- و أنه قتل من ارتد منهم و سبى بقيتهم- فباعهم من مصقلة بن هبيرة فضحك المتوكل- و بعث إلى علي بن الجهم فأحضره- و أخبره بما قال القوم- و كان فيهم مروان بن أبي حفصة المكنى أبا السمط- و هو مروان الأصغر- و كان المتوكل يغريه بعلي بن الجهم- و يضعه على هجائه و ثلبه فيضحك منهما- فقال مروان

إن جهما حين تنسبه
ليس من عجم و لا عرب‏

لج في شتمي بلا سبب‏
سارق للشعر و النسب‏

من أناس يدعون أبا
ما له في الناس من عقب

فغضب علي بن الجهم و لم يجبه لأنه كان يستحقره- فأومأ إليه المتوكل أن يزيده فقال-

أ أنتم يا ابن جهم من قريش
و قد باعوكم ممن تريد

أ ترجو أن تكاثرنا جهارا
بأصلكم و قد بيع الجدود

فلم يجبه ابن الجهم فقال فيه أيضا-

علي تعرضت لي ضله
لجهلك بالشعر يا مائق‏

تروم قريشا و أنسابها
و أنت لأنسابها سارق‏

فإن كان سامة جدا لكم
فأمك مني إذا طالق‏

نسب مصقلة بن هبيرة

فأما نسب مصقلة بن هبيرة- فإن ابن الكلبي قد ذكره في جمهرة النسب- فقال هو مصقلة بن هبيرة بن شبل بن يثربي- بن إمرئ القيس بن ربيعة بن مالك بن ثعلبة- بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب- بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب- بن أفصى بن دعمي بن جديلة- بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان

خبر بني ناجية مع علي

و أما خبر بني ناجية مع أمير المؤمنين ع- فقد ذكره إبراهيم بن هلال الثقفي في كتاب الغارات- قال حدثني محمد بن عبد الله بن عثمان عن نصر بن مزاحم- قال حدثني عمر بن سعد- عمن حدثه ممن أدرك أمر بني ناجية- قال لما بايع أهل البصرة عليا بعد الهزيمة- دخلوا في الطاعة غير بني ناجية فإنهم عسكروا- فبعث إليهم علي ع رجلا من أصحابه في خيل ليقاتلهم- فأتاهم فقال ما بالكم عسكرتم- و قد دخل الناس في الطاعة غيركم- فافترقوا ثلاث فرق- فرقه قالوا كنا نصارى فأسلمنا- و دخلنا فيما دخل الناس فيه من الفتنة- و نحن نبايع كما بايع الناس فأمرهم فاعتزلوا- و فرقة قالوا كنا نصارى فلم نسلم- و خرجنا مع القوم الذين كانوا خرجوا- قهرونا فاخرجونا كرها فخرجنا معهم فهزموا- فنحن ندخل فيما دخل الناس فيه- و نعطيكم الجزية كما أعطيناهم- فقال اعتزلوا فاعتزلوا- و فرقة قالوا كنا نصارى فأسلمنا فلم يعجبنا الإسلام- فرجعنا إلى النصرانية- فنحن نعطيكم الجزية كما أعطاكم النصارى- فقال لهم توبوا و ارجعوا إلى الإسلام فأبوا- فقتل مقاتلهم و سبى ذراريهم- و قدم بهم على علي ع

قصة الخريت بن راشد الناجي و خروجه على علي

قال ابن هلال الثقفي- و روى محمد بن عبد الله بن عثمان عن أبي سيف- عن الحارث بن كعب الأزدي- عن عمه عبد الله بن قعين الأزدي قال كان الخريت بن راشد الناجي أحد بني ناجية- قد شهد مع علي ع صفين- فجاء إلى علي ع بعد انقضاء صفين- و بعد تحكيم الحكمين في ثلاثين من أصحابه- يمشي بينهم حتى قام بين يديه- فقال لا و الله لا أطيع أمرك و لا أصلي خلفك- و إني غدا لمفارق لك- فقال له ثكلتك أمك- إذا تنقض عهدك و تعصي ربك- و لا تضر إلا نفسك أخبرني لم تفعل ذلك- قال لأنك حكمت في الكتاب- و ضعفت عن الحق إذ جد الجد- و ركنت إلى القوم الذين ظلموا أنفسهم- فأنا عليك راد و عليهم ناقم و لكم جميعا مباين- . فقال له علي ع ويحك- هلم إلي أدارسك و أناظرك في السنن- و أفاتحك أمورا من الحق أنا أعلم بها منك- فلعلك تعرف ما أنت الآن له منكر- و تبصر ما أنت الآن عنه عم و به جاهل- فقال الخريت فإني غاد عليك غدا- فقال علي ع اغد و لا يستهوينك الشيطان- و لا يتقحمن بك رأي السوء- و لا يستخفنك الجهلاء الذين لا يعلمون- فو الله إن استرشدتني و استنصحتني- و قبلت مني لأهدينك سبيل الرشاد- .

فخرج الخريت من عنده منصرفا إلى أهله- . قال عبد الله بن قعين فعجلت في أثره مسرعا- و كان لي من بني عمه صديق- فأردت أن ألقى ابن عمه في ذلك- فأعلمه بما كان من قوله لأمير المؤمنين- و آمر ابن عمه أن يشتد بلسانه عليه- و أن يأمره بطاعة أمير المؤمنين و مناصحته- و يخبره أن ذلك خير له في عاجل الدنيا و آجل الآخرة- . قال فخرجت حتى انتهيت إلى منزله و قد سبقني- فقمت عند باب دار فيها رجال من أصحابه- لم يكونوا شهدوا معه دخوله على أمير المؤمنين ع- فو الله ما رجع-و لا ندم على ما قال لأمير المؤمنين و ما رد عليه- و لكنه قال لهم يا هؤلاء- إني قد رأيت أن أفارق هذا الرجل- و قد فارقته على أن أرجع إليه من غد- و لا أرى إلا المفارقة- فقال له أكثر أصحابه لا تفعل حتى تأتيه- فإن أتاك بأمر تعرفه قبلت منه- و إن كانت الأخرى فما أقدرك على فراقه- قال لهم نعم ما رأيتم- قال فاستأذنت عليهم فأذنوا لي- فأقبلت على ابن عمه- و هو مدرك بن الريان الناجي و كان من كبراء العرب- فقلت له إن لك على حقا لإحسانك و ودك- و حق المسلم على المسلم- إن ابن عمك كان منه ما قد ذكر لك- فأخل به فاردد عليه رأيه و عظم عليه ما أتى- و اعلم أني خائف- إن فارق أمير المؤمنين أن يقتلك و نفسه و عشيرته-

فقال جزاك الله خيرا من أخ- إن أراد فراق أمير المؤمنين ع ففي ذلك هلاكه- و إن اختار مناصحته و الإقامة معه- ففي ذلك حظه و رشده- . قال فأردت الرجوع إلى علي ع لأعلمه الذي كان- ثم اطمأننت إلى قول صاحبي- فرجعت إلى منزلي فبت ثم أصبحت- فلما ارتفع النهار أتيت أمير المؤمنين ع- فجلست عنده ساعة- و أنا أريد أن أحدثه بالذي كان على خلوة- فأطلت الجلوس و لا يزداد الناس إلا كثرة- فدنوت منه فجلست وراءه فأصغى إلي برأسه- فأخبرته بما سمعته من الخريت- و ما قلت لابن عمه و ما رد علي- فقال ع دعه- فإن قبل الحق و رجع عرفنا له ذلك و قبلناه منه- فقلت يا أمير المؤمنين فلم لا تأخذه الآن فتستوثق منه- فقال إنا لو فعلنا هذا بكل من يتهم من الناس- ملأنا السجون منهم- و لا أراني يسعني الوثوب بالناس- و الحبس لهم و عقوبتهم حتى يظهروا لي الخلاف- . قال فسكت عنه و تنحيت فجلست مع أصحابي هنيهة-

فقال لي ع‏ادن مني فدنوت- فقال لي مسرا اذهب إلى منزل الرجل فاعلم ما فعل- فإنه قل يوم لم يكن يأتيني فيه قبل هذه الساعة- فأتيت إلى منزله فإذا ليس في منزله منهم ديار- فدرت على أبواب دور أخرى- كان فيها طائفة من أصحابه- فإذا ليس فيها داع و لا مجيب- فأقبلت إلى أمير المؤمنين ع فقال لي حين رآني- أ وطنوا فأقاموا أم جبنوا فظعنوا- قلت لا بل ظعنوا- فقال أبعدهم الله كما بعدت ثمود- أما و الله لو قد أشرعت لهم الأسنة- و صبت على هامهم السيوف لقد ندموا- إن الشيطان قد استهواهم و أضلهم- و هو غدا متبرئ منهم و مخل عنهم- فقام إليه زياد بن خصفة- فقال يا أمير المؤمنين- إنه لو لم يكن من مضرة هؤلاء إلا فراقهم إيانا- لم يعظم فقدهم علينا- فإنهم قلما يزيدون في عددنا لو أقاموا معنا- و قلما ينقصون من عددنا بخروجهم منا- و لكنا نخاف أن يفسدوا علينا جماعة كثيرة- ممن يقدمون عليهم من أهل طاعتك- فائذن لي في اتباعهم حتى أردهم عليك إن شاء الله- . فقال له ع فاخرج في آثارهم راشدا- فلما ذهب ليخرج قال له و هل تدري أين توجه القوم- قال لا و الله و لكني أخرج فأسأل و أتبع الأثر- فقال اخرج رحمك الله حتى تنزل دير أبي موسى- ثم لا تبرحه حتى يأتيك أمري- فإنهم إن كانوا خرجوا ظاهرين بارزين للناس في جماعة- فإن عمالي ستكتب إلي بذلك- و إن كانوا متفرقين مستخفين فذلك أخفى لهم- و سأكتب إلى من حولي من عمالي فيهم- .

فكتب نسخة واحدة و أخرجها إلى العمال من عبد الله علي أمير المؤمنين- إلى من قرئ عليه كتابي هذا من العمال- أما بعد فإن رجالا لنا عندهم تبعة- خرجوا هرابا نظنهم خرجوا نحو بلاد البصرة- فاسأل عنهم أهل بلادك- و اجعل عليهم العيون في كل ناحية من أرضك- ثم اكتب إلي بما ينتهي إليك عنهم و السلام

فخرج زياد بن خصفة حتى أتى داره- و جمع أصحابه فحمد الله و أثنى عليه- ثم قال يا معشر بكر بن وائل- إن أمير المؤمنين ندبني لأمر من أموره مهم له- و أمرني بالانكماش فيه بالعشيرة- حتى آتي أمره و أنتم شيعته و أنصاره- و أوثق حي من أحياء العرب في نفسه- فانتدبوا معي الساعة و عجلوا- فو الله ما كان إلا ساعة حتى اجتمع إليه مائة و ثلاثون رجلا- فقال اكتفينا لا نريد أكثر من هؤلاء- فخرج حتى قطع الجسر- ثم أتى دير أبي موسى فنزله- فأقام به بقية يومه ذلك- ينتظر أمر أمير المؤمنين ع- .

قال إبراهيم بن هلال- فحدثني محمد بن عبد الله- عن ابن أبي سيف- عن أبي الصلت التيمي- عن أبي سعيد- عن عبد الله بن وأل التيمي- قال إني لعند أمير المؤمنين إذا فيج- قد جاءه يسعى بكتاب- من قرظة بن كعب بن عمرو الأنصاري- و كان أحد عماله فيه- لعبد الله علي أمير المؤمنين من قرظة بن كعب- سلام عليك- فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو- أما بعد فإني أخبر أمير المؤمنين- أن خيلا مرت من قبل الكوفة متوجهة نحو نفر- و أن رجلا من دهاقين أسفل الفرات قد أسلم و صلى- يقال له زاذان فروخ أقبل من عند أخوال له فلقوه- فقالوا له أ مسلم أنت أم كافر- قال بل مسلم- قالوا فما تقول في علي- قال أقول فيه خيرا- أقول إنه أمير المؤمنين ع و سيد البشر- و وصي رسول الله ص- فقالوا كفرت يا عدو الله- ثم حملت عليه عصابة منهم فقطعوه بأسيافهم- و أخذوا معه رجلا من أهل الذمة يهوديا- فقالوا له ما دينك قال يهودي- فقالوا خلوا سبيل هذا لا سبيل لكم عليه- فأقبل إلينا ذلك الذمي فأخبرنا الخبر- و قد سألت عنهم فلم يخبرني أحد عنهم بشي‏ء- فليكتب إلي أمير المؤمنين فيهم برأي أنته إليه- إن شاء الله- .

فكتب إليه أمير المؤمنين ع أما بعد- فقد فهمت ما ذكرت من أمر العصابة التي مرت بعملك- فقتلت البر المسلم- و أمن عندهم المخالف المشرك- و أن أولئك قوم استهواهم الشيطان فضلوا- كالذين حسبوا ألا تكون فتنة فعموا و صموا- فأسمع بهم و أبصر يوم تخبر أعمالهم- فالزم عملك و أقبل على خراجك- فإنك كما ذكرت في طاعتك و نصيحتك و السلام

قال فكتب علي ع إلى زياد بن خصفة- مع عبد الله بن وأل التيمي كتابا نسخته- أما بعد- فقد كنت أمرتك أن تنزل دير أبي موسى- حتى يأتيك أمري- و ذلك أني لم أكن علمت أين توجه القوم- و قد بلغني أنهم أخذوا نحو قرية من قرى السواد- فاتبع آثارهم و سل عنهم- فإنهم قد قتلوا رجلا من أهل السواد مسلما مصليا- فإذا أنت لحقت بهم فارددهم إلي- فإن أبوا فناجزهم- و استعن بالله عليهم- فإنهم قد فارقوا الحق- و سفكوا الدم الحرام- و أخافوا السبيل و السلام – .

قال عبد الله بن وأل- فأخذت الكتاب منه ع و أنا يومئذ شاب- فمضيت به غير بعيد ثم رجعت إليه- فقلت يا أمير المؤمنين- أ لا أمضي مع زياد بن خصفة إلى عدوك- إذا دفعت إليه كتابك- فقال يا ابن أخي افعل- فو الله إني لأرجو أن تكون من أعواني على الحق- و أنصاري على القوم الظالمين- قال فو الله ما أحب أن لي بمقالته‏ تلك حمر النعم- فقلت له يا أمير المؤمنين- أنا و الله كذلك من أولئك- أنا و الله حيث تحب- . ثم مضيت إلى زياد بالكتاب- و أنا على فرس رائع كريم و على السلاح- فقال لي زياد يا ابن أخي و الله ما لي عنك من غنى- و إني أحب أن تكون معي في وجهي هذا- فقلت إني قد استأذنت أمير المؤمنين في ذلك- فأذن لي فسر بذلك- ثم خرجنا حتى أتينا الموضع الذي كانوا فيه- فسألنا عنهم فقيل أخذوا نحو المدائن فلحقناهم- و هم نزول بالمدائن و قد أقاموا بها يوما و ليلة- و قد استراحوا و علفوا خيولهم فهم جامون مريحون- و أتيناهم و قد تقطعنا و لغبنا و نصنا- فلما رأونا وثبوا على خيولهم- فاستووا عليها فجئنا حتى انتهينا إليهم- فنادى الخريت بن راشد يا عميان القلوب و الأبصار- أ مع الله و كتابه أنتم أم مع القوم الظالمين- فقال له زياد بن خصفة- بل مع الله و كتابه و سنة رسوله- و مع من الله و رسوله و كتابه آثر عنده من الدنيا ثوابا- و لو أنها منذ يوم خلقت إلى يوم تفنى لآثر الله عليها- أيها العمي الأبصار الصم الأسماع- . فقال الخريت فأخبرونا ما تريدون-

فقال له زياد و كان مجربا رفيقا- قد ترى ما بنا من النصب و اللغوب- و الذي جئنا له- لا يصلح فيه الكلام علانية على رءوس أصحابك- و لكن تنزلون و ننزل ثم نخلو جميعا- فنتذاكر أمرنا و ننظر فيه- فإن رأيت فيما جئنا له حظا لنفسك قبلته- و إن رأيت فيما أسمع منك أمرا- أرجو فيه العافية لنا و لك لم أرده عليك- .

فقال الخريت انزل فنزل فأقبل إلينا زياد- فقال انزلوا على هذا الماء- فأقبلنا حتى انتهينا إلى الماء فنزلنا به- فما هو إلا أن نزلنا فتفرقنا- فتحلقنا عشرة و تسعة و ثمانية و سبعة- تضع كل حلقة طعامها بين أيديها- لتأكل ثم تقوم إلى الماء فتشرب- .و قال لنا زياد علقوا على خيولكم فعلقنا عليها مخاليها- و وقف زياد في خمسة فوارس- أحدهم عبد الله بن وأل بيننا و بين القوم- و انطلق القوم فتنحوا فنزلوا و أقبل إلينا زياد- فلما رأى تفرقنا و تحلقنا- قال سبحان الله أنتم أصحاب حرب- و الله لو أن هؤلاء جاءوكم الساعة على هذه الحالة- ما أرادوا من غرتكم أفضل من أعمالكم التي أنتم عليها- عجلوا قوموا إلى خيولكم فأسرعنا- فمنا من يتوضأ و منا من يشرب و منا من يسقي فرسه- حتى إذا فرغنا من ذلك أتينا زيادا- و إن في يده لعرقا ينهسه فنهس منه نهستين أو ثلاثة- ثم أتى بإداوة فيها ماء فشرب ثم ألقى العرق من يده- و قال يا هؤلاء إنا قد لقينا العدو- و إن القوم لفي عدتكم- و لقد حزرتهم فما أظن أحد الفريقين- يزيد على الآخر خمسة نفر- فإني أرى أمركم و أمرهم سيصير إلى القتال- فإن كان ذلك فلا تكونوا أعجز الفريقين- .

ثم قال ليأخذ كل رجل منكم بعنان فرسه- فإذا دنوت منهم و كلمت صاحبهم- فإن تابعني على ما أريد- و إلا فإذا دعوتكم فاستووا على متون خيلكم- ثم أقبلوا معا غير متفرقين- ثم استقدم أمامنا و أنا معه- فسمعت رجلا من القوم يقول- جاءكم القوم و هم كالون معيون- و أنتم جامون مريحون- فتركتموهم حتى نزلوا فأكلوا و شربوا- و أراحوا دوابهم هذا و الله سوء الرأي- .

قال و دعا زياد صاحبهم الخريت- فقال له اعتزل ننظر في أمرنا- فأقبل إليه في خمسة نفر- فقلت لزياد أدعو لك ثلاثة نفر من أصحابنا- حتى نلقاهم في عددهم- فقال ادع من أحببت- فدعوت له ثلاثة فكنا خمسة و هم خمسة- . فقال له زياد- ما الذي نقمت على أمير المؤمنين و علينا حتى فارقتنا- فقال لم أرض‏ صاحبكم إماما و لم أرض بسيرتكم سيرة- فرأيت أن أعتزل- و أكون مع من يدعو إلى الشورى بين الناس- فإذا اجتمع الناس على رجل- هو لجميع الأمة رضا كنت مع الناس- .

فقال زياد ويحك- و هل يجتمع الناس على رجل يداني عليا- عالما بالله و بكتابه و سنة رسوله- مع قرابته و سابقته في الإسلام- فقال الخريت هو ما أقول لك- فقال ففيم قتلتم الرجل المسلم- فقال الخريت ما أنا قتلته قتلته طائفة من أصحابي- قال فادفعهم إلينا قال ما إلي ذلك من سبيل- قال أو هكذا أنت فاعل قال هو ما تسمع- . قال فدعونا أصحابنا و دعا الخريت أصحابه ثم اقتتلنا- فو الله ما رأيت قتالا مثله منذ خلقني الله- لقد تطاعنا بالرماح حتى لم يبق في أيدينا رمح- ثم اضطربنا بالسيوف حتى انحنت- و عقرت عامه خيلنا و خيلهم- و كثرت الجراح فيما بيننا و بينهم- و قتل منا رجلان- مولى لزياد كانت معه رأيته يدعى سويدا- و رجل من الأبناء يدعى واقد بن بكر- و صرع منهم خمسة نفر- و حال الليل بيننا و بينهم- و قد و الله كرهونا و كرهناهم- و هرونا و هررناهم- و قد جرح زياد و جرحت- ثم إنا بتنا في جانب و تنحوا- فمكثوا ساعة من الليل ثم مضوا فذهبوا و أصبحنا- فوجدناهم قد ذهبوا فو الله ما كرهنا ذلك- فمضينا حتى أتينا البصرة- و بلغنا أنهم أتوا الأهواز فنزلوا في جانب منها- و تلاحق بهم ناس من أصحابهم نحو مائتين- كانوا معهم بالكوفة- لم يكن لهم من القوة ما ينهضون به معهم حين نهضوا- فاتبعوهم من بعد لحوقهم بالأهواز فأقاموا معهم- .

قال و كتب زياد بن خصفة إلى علي ع- أما بعد- فإنا لقينا عدو الله الناجي و أصحابه بالمدائن- فدعوناهم إلى الهدى و الحق و كلمةالسواء- فتولوا عن الحق و أخذتهم العزة بالإثم- و زين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل- فقصدونا و صمدنا صمدهم- فاقتتلنا قتالا شديدا- ما بين قائم الظهر إلى أن دلكت الشمس- و استشهد منا رجلان صالحان- و أصيب منهم خمسة نفر و خلوا لنا المعركة- و قد فشت فينا و فيهم الجراح- ثم إن القوم لما أدركوا الليل خرجوا من تحته- متنكرين إلى أرض الأهواز- و قد بلغني أنهم نزلوا من الأهواز جانبا- و نحن بالبصرة نداوي جراحنا- و ننتظر أمرك رحمك الله و السلام- . فلما أتاه الكتاب قرأه على الناس- فقام إليه معقل بن قيس الرياحي- فقال أصلحك الله يا أمير المؤمنين- إنما كان ينبغي أن يكون مكان كل رجل من هؤلاء- الذين بعثتهم في طلبهم عشرة من المسلمين- فإذا لحقوهم استأصلوا شأفتهم و قطعوا دابرهم- فأما أن تلقاهم بأعدادهم- فلعمري ليصبرن لهم- فإنهم قوم عرب و العدة تصبر للعدة- فيقاتلون كل القتال- .

قال فقال ع له تجهز يا معقل إليهم- و ندب معه ألفين من أهل الكوفة- فيهم يزيد بن معقل و كتب إلى عبد الله بن العباس بالبصرة رحمه الله تعالى أما بعد- فابعث رجلا من قبلك صليبا شجاعا- معروفا بالصلاح في ألفي رجل من أهل البصرة- فليتبع معقل بن قيس- فإذا خرج من أرض البصرة- فهو أمير أصحابه حتى يلقى معقلا- فإذا لقيه فمعقل أمير الفريقين- فليسمع منه و ليطعه و لا يخالفه- و مر زياد بن خصفة فليقبل إلينا- فنعم المرء زياد و نعم القبيل قبيله و السلام

قال و كتب ع إلى زياد بن خصفة- أما بعد فقد بلغني كتابك- و فهمت ما ذكرت به الناجي و أصحابه- الذين طبع الله على قلوبهم- و زين لهم الشيطان أعمالهم- فهم حيارى عمون- يحسبون أنهم يحسنون صنعا- و وصفت ما بلغ بك و بهم الأمر- فأما أنت و أصحابك فلله سعيكم و عليه جزاؤكم- و أيسر ثواب الله للمؤمن خير له من الدنيا- التي يقبل الجاهلون بأنفسهم عليها- فما عندكم ينفد و ما عند الله باق- و لنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون- و أما عدوكم الذين لقيتم فحسبهم خروجهم من الهدى- و ارتكاسهم في الضلالة و ردهم الحق و جماحهم في التيه- فذرهم و ما يفترون- و دعهم في طغيانهم يعمهون- فأسمع بهم و أبصر- فكأنك بهم عن قليل بين أسير و قتيل- فأقبل إلينا أنت و أصحابك مأجورين- فقد أطعتم و سمعتم و أحسنتم البلاء و السلام- .

قال و نزل الناجي جانبا من الأهواز- و اجتمع إليه علوج كثير من أهلها- ممن أراد كسر الخراج و من اللصوص- و طائفة أخرى من الأعراب ترى رأيه- . قال إبراهيم بن هلال- فحدثنا محمد بن عبد الله- قال حدثني ابن أبي سيف- عن الحارث بن كعب- عن عبد الله بن قعين- قال كنت أنا و أخي كعب بن قعين في ذلك الجيش- مع معقل بن قيس- فلما أراد الخروج أتى أمير المؤمنين ع يودعه- فقال يا معقل بن قيس اتق الله ما استطعت- فإنه وصية الله للمؤمنين- لا تبغ على أهل القبلة- و لا تظلم أهل الذمة و لا تتكبر- فإن الله لا يحب المتكبرين –

فقال معقل الله المستعان فقال خير مستعان- .ثم قام فخرج و خرجنا معه حتى نزل الأهواز- فأقمنا ننتظر بعث البصرة فأبطأ علينا فقام معقل- فقال أيها الناس إنا قد انتظرنا أهل البصرة- و قد أبطئوا علينا- و ليس بنا بحمد الله قلة و لا وحشة إلى الناس- فسيروا بنا إلى هذا العدو القليل الذليل- فإني أرجو أن ينصركم الله و يهلكهم- فقام إليه أخي كعب بن قعين- فقال أصبت إن شاء الله رأينا رأيك- و إني لأرجو أن ينصرنا الله عليهم- و إن كانت الأخرى- فإن في الموت على الحق لتعزية عن الدنيا- فقال سيروا على بركة الله فسرنا- فو الله ما زال معقل بن قيس لي و لأخي مكرما وادا- ما يعدل بنا أحدا من الجند- و لا يزال يقول لأخي- كيف قلت إن في الموت على الحق لتعزية عن الدنيا- صدقت و الله و أحسنت و وفقت وفقك الله- قال فو الله ما سرنا يوما- و إذا بفيج يشتد بصحيفة في يده- . من عبد الله بن عباس إلى معقل بن قيس- أما بعد فإن أدركك رسولي بالمكان الذي كنت مقيما به- أو أدركك و قد شخصت منه- فلا تبرحن من المكان الذي ينتهي إليك رسولي و أنت فيه- حتى يقدم عليك بعثنا الذي وجهناه إليك- فقد وجهت إليك خالد بن معدان الطائي- و هو من أهل الدين و الصلاح و النجدة- فاسمع منه و أعرف ذلك له إن شاء الله و السلام- .

قال فقرأه معقل بن قيس على أصحابه- فسروا به و حمدوا الله- و قد كان ذلك الوجه هالهم- و أقمنا حتى قدم علينا خالد بن معدان الطائي- و جاءنا حتى دخل على صاحبنا- فسلم عليه بالإمرة- و اجتمعنا جميعا في عسكر واحد- ثم خرجنا إلى الناجي و أصحابه- فأخذوا يرتفعون نحو جبال رامهرمز- يريدون قلعة حصينة و جاءنا أهل البلد- فأخبرونا بذلك فخرجنا في آثارهم فلحقناهم- و قد دنوا من الجبل فصففنا لهم ثم أقبلنا نحوهم- فجعل معقل على ميمنته يزيد بن المعقل الأزدي- و على ميسرته منجاب بن راشد الضبي- و وقف‏ الخريت بن راشد الناجي بمن معه من العرب- فكانوا ميمنة- و جعل أهل البلد و العلوج- و من أراد كسر الخراج و جماعة من الأكراد ميسرة- . قال و سار فينا معقل يحرضنا- و يقول يا عباد الله لا تبدءوا القوم و غضوا الأبصار- و أقلوا الكلام- و وطنوا أنفسكم على الطعن و الضرب- و أبشروا في قتالهم بالأجر العظيم- إنما تقاتلون مارقة مرقت و علوجا منعوا الخراج- و لصوصا و أكرادا فما تنتظرون- فإذا حملت فشدوا شدة رجل واحد- . قال فمر في الصف يكلمهم يقول هذه المقالة- حتى إذا مر بالناس كلهم أقبل- فوقف وسط الصف في القلب- و نظرنا إليه ما يصنع- فحرك رأسه تحريكتين- ثم حمل في الثالثة و حملنا معه جميعا- فو الله ما صبروا لنا ساعة حتى ولوا و انهزموا- و قتلنا سبعين عربيا من بني ناجية- و من بعض من اتبعه من العرب- و نحو ثلاثمائة من العلوج و الأكراد- .

قال كعب و نظرت فإذا صديقي مدرك بن الريان قتيلا- و خرج الخريت منهزما- حتى لحق بسيف من أسياف البحر- و بها جماعة من قومه كثير- فما زال يسير فيهم و يدعوهم إلى خلاف علي ع- و يزين لهم فراقه و يخبرهم أن الهدى في حربه و مخالفته- حتى اتبعه منهم ناس كثير- . و أقام معقل بن قيس بأرض الأهواز- و كتب إلى أمير المؤمنين ع بالفتح- و كنت أنا الذي قدم بالكتاب عليه و كان في الكتاب- لعبد الله علي أمير المؤمنين من معقل بن قيس- سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو- أما بعد فإنا لقينا المارقين- و قد استظهروا علينا بالمشركين-فقتلنا منهم ناسا كثيرا و لم نعد فيهم سيرتك- فلم نقتل منهم مدبرا و لا أسيرا- و لم نذفف منهم على جريح- و قد نصرك الله و المسلمين- و الحمد لله رب العالمين- .

قال فلما قدمت بالكتاب على علي ع- قرأه على أصحابه و استشارهم في الرأي- فاجتمع رأي عامتهم على قول واحد- قالوا نرى أن تكتب إلى معقل بن قيس يتبع آثارهم- و لا يزال في طلبهم حتى يقتلهم- أو ينفيهم من أرض الإسلام- فإنا لا نأمن أن يفسدوا عليك الناس- . قال فردني إليه و كتب معي- أما بعد- فالحمد لله على تأييده أولياءه و خذله أعداءه- جزاك الله و المسلمين خيرا- فقد أحسنتم البلاء و قضيتم ما عليكم- فاسأل عن أخي بني ناجية- فإن بلغك أنه استقر في بلد من البلدان- فسر إليه حتى تقتله أو تنفيه- فإنه لم يزل للمسلمين عدوا- و للفاسقين وليا و السلام – .

قال فسأل معقل عن مسيره- و المكان الذي انتهى إليه- فنبئ بمكانه بسيف البحر بفارس- و أنه قد رد قومه عن طاعة علي ع- و أفسد من قبله من عبد القيس- و من والاهم من سائر العرب- و كان قومه قد منعوا الصدقة عام صفين- و منعوها في ذلك العام أيضا- فسار إليهم معقل بن قيس في ذلك الجيش- من أهل الكوفة و البصرة- فأخذوا على أرض فارس- حتى انتهوا إلى أسياف البحر- فلما سمع الخريت بن راشد بمسيره- أقبل على من كان معه من أصحابه- ممن يرى رأي الخوارج- فأسر إليهم إني أرى رأيكم- و أن عليا ما كان ينبغي له أن يحكم الرجال في دين الله- و قال لمن يرى رأي عثمان و أصحابه أنا على رأيكم- و إن عثمان قتل مظلوما معقولا- و قال لمن منع الصدقة-شدوا أيديكم على صدقاتكم- ثم صلوا بها أرحامكم- و عودوا إن شئتم على فقرائكم- فأرضى كل طائفة بضرب من القول- و كان فيهم نصارى كثير- و قد كانوا أسلموا- فلما رأوا ذلك الاختلاف- قالوا و الله لديننا الذي خرجنا منه خير- و أهدى من دين هؤلاء- الذين لا ينهاهم دينهم عن سفك الدماء- و إخافة السبل فرجعوا إلى دينهم- . فلقي الخريت أولئك فقال ويحكم- إنه لا ينجيكم من القتل- إلا الصبر لهؤلاء القوم و لقتالهم- أ تدرون ما حكم علي فيمن أسلم من النصارى- ثم رجع إلى النصرانية- لا و الله لا يسمع له قولا و لا يرى له عذرا- و لا يقبل منه توبة و لا يدعوه إليها- و إن حكمه فيه أن يضرب عنقه ساعة يستمكن منه- فما زال حتى خدعهم- و جاءهم من كان من بني ناجية في تلك الناحية و من غيرهم- فاجتمع إليه ناس كثير و كان منكرا داهيا- .

قال فلما رجع معقل- قرأ على أصحابه كتابا من علي ع-فيه من عبد الله علي أمير المؤمنين- إلى من قرئ عليه كتابي هذا- من المسلمين و المؤمنين- و المارقين و النصارى و المرتدين- سلام على من اتبع الهدى- و آمن بالله و رسوله و كتابه- و البعث بعد الموت وافيا بعهد الله- و لم يكن من الخائنين- أما بعد فإني أدعوكم إلى كتاب الله و سنة نبيه- و أن أعمل فيكم بالحق- و بما أمر الله تعالى في كتابه- فمن رجع منكم إلى رحله و كف يده- و اعتزل هذا المارق الهالك المحارب- الذي حارب الله و رسوله و المسلمين- و سعى في الأرض فسادا- فله الأمان على ماله و دمه- و من تابعه على حربنا و الخروج من طاعتنا- استعنا بالله عليه و جعلناه بيننا و بينه- و كفى بالله وليا و السلام. 

قال فأخرج معقل راية أمان فنصبها- و قال من أتاها من الناس فهو آمن إلا الخريت- و أصحابه الذين نابذوا أول مرة- فتفرق عن الخريت كل من كان معه من غير قومه- و عبأ معقل بن قيس أصحابه- ثم زحف بهم نحوه- و قد حضر مع الخريت جميع‏ قومه- مسلمهم و نصرانيهم و مانعي الصدقة منهم- فجعل مسلميهم يمنة- و النصارى و مانعي الصدقة يسرة- و جعل يقول لقومه امنعوا اليوم حريمكم- و قاتلوا عن نسائكم و أولادكم- و الله لئن ظهروا عليكم ليقتلنكم و ليسلبنكم- . فقال له رجل من قومه- هذا و الله ما جرته علينا يدك و لسانك- فقال لهم قاتلوا فقد سبق السيف العذل- . قال و سار معقل بن قيس يحرض أصحابه- فيما بين الميمنة و الميسرة- و يقول أيها الناس- ما تدرون ما سيق إليكم في هذا الموقف من الأجر العظيم- إن الله ساقكم إلى قوم منعوا الصدقة- و ارتدوا عن الإسلام- و نكثوا البيعة ظلما و عدوانا- إني شهيد لمن قتل منكم بالجنة- و من عاش بأن الله يقر عينه بالفتح و الغنيمة- ففعل ذلك حتى مر بالناس أجمعين- ثم وقف في القلب برايته- و بعث إلى يزيد بن المعقل الأزدي و هو في الميمنة- أن احمل عليهم فحمل فثبتوا له- فقاتل طويلا و قاتلوه- ثم رجع حتى وقف موقفه الذي كان فيه من الميمنة- ثم بعث إلى المنجاب بن راشد الضبي و هو في الميسرة- أن احمل عليهم فحمل فثبتوا له- فقاتل طويلا و قاتلوه- ثم رجع حتى وقف موقفه الذي كان في الميسرة- ثم بعث معقل إلى ميمنته و ميسرته- إذا حملت فاحملوا جميعا- ثم أجرى فرسه و ضربها و حمل أصحابه فصبروا لهم ساعة- .ثم إن النعمان بن صهبان الراسبي بصر بالخريت- فحمل عليه فصرعه عن فرسه- ثم نزل إليه و قد جرحه- فاختلفا بينهما ضربتين- فقتله النعمان و قتل معه في المعركة سبعون و مائة- و ذهب الباقون في الأرض يمينا و شمالا- و بعث معقل الخيل إلى رحالهم- فسبى من أدرك فيها رجالا و نساء و صبيانا ثم نظر فيهم- فمن كان مسلما خلاه و أخذ بيعته و خلى سبيل عياله- و من كان ارتد عن الإسلام- عرض عليه الرجوع إلى الإسلام و إلا القتل فأسلموا- فخلى سبيلهم و سبيل عيالاتهم إلا شيخا منهم نصرانيا- يقال له الرماحس بن منصور- فإنه قال و الله ما زلت مصيبا مذ عقلت- إلا في خروجي من ديني دين الصدق إلى دينكم دين السوء- لا و الله لا أدع ديني و لا أقرب دينكم ما حييت- . فقدمه معقل فضرب عنقه و جمع الناس- فقال أدوا ما عليكم في هذه السنين من الصدقة- فأخذ من المسلمين عقالين- و عمد إلى النصارى و عيالاتهم فاحتملهم معه- و أقبل المسلمون الذين كانوا معهم يشيعونهم- فأمر معقل بردهم- فلما ذهبوا لينصرفوا تصايحوا- و دعا الرجال و النساء بعضهم إلى بعض- .

قال فلقد رحمتهم رحمة ما رحمتها أحدا قبلهم و لا بعدهم- و كتب معقل إلى علي ع- أما بعد- فإني أخبر أمير المؤمنين عن جنده و عن عدوه- إنا دفعنا إلى عدونا بأسياف البحر- فوجدنا بها قبائل ذات حد و عدد و قد جمعوا لنا- فدعوناهم إلى الجماعة و الطاعة- و إلى حكم الكتاب و السنة- و قرأنا عليهم كتاب أمير المؤمنين ع- و رفعنا لهم راية أمان فمالت إلينا طائفة منهم- و ثبتت طائفة أخرى فقبلنا أمر التي أقبلت- و صمدنا إلى التي أدبرت- فضرب الله وجوههم و نصرنا عليهم- فأما من كان مسلما فإنا مننا عليه- و أخذنا بيعته لأمير المؤمنين- و أخذنا منهم الصدقة التي كانت عليهم- و أما من ارتد- فعرضنا عليهم الرجوع إلى الإسلام و إلا قتلناهم- فرجعوا إلى الإسلام غير رجل واحد فقتلناه- و أما النصارى فإنا سبيناهم و أقبلنا بهم- ليكونوا نكالا لمن بعدهم من أهل الذمة- كي لا يمنعوا الجزية- و لا يجترئوا على قتال أهل القبلة- و هم للصغار و الذلة أهل- رحمك الله يا أمير المؤمنين- و عليك الصلاة و السلام- و أوجب لك جنات النعيم و السلام- .

قال ثم أقبل بالأسارى- حتى مر على مصقلة بن هبيرة الشيباني- و هو عامل لعلي ع على أردشيرخرة و هم خمسمائة إنسان- فبكى إليه النساء و الصبيان و تصايح الرجال- يا أبا الفضل يا حامل الثقل- يا مؤي الضعيف و فكاك العصاة- امنن علينا فاشترنا و أعتقنا- فقال مصقلة أقسم بالله لأتصدقن عليهم- إن الله يجزي المتصدقين- فبلغ قوله معقل بن قيس- فقال و الله لو أعلمه قالها توجعا لهم- و إزراء علي لضربت عنقه- و إن كان في ذلك فناء بني تميم و بكر بن وائل- . ثم إن مصقلة بعث ذهل بن الحارث الذهلي إلى معقل- فقال بعني نصارى ناجية- فقال أبيعكهم بألف ألف درهم فأبى عليه- فلم يزل يراوده حتى باعه إياهم بخمسمائة ألف درهم- و دفعهم إليه- و قال عجل بالمال إلى أمير المؤمنين ع- فقال مصقلة أنا باعث الآن بصدر منه- ثم أتبعك بصدر آخر- ثم كذلك حتى لا يبقى منه شي‏ء- و أقبل معقل إلى أمير المؤمنين ع- فأخبره بما كان من الأمر-

فقال له أحسنت و أصبت و وفقت- . و انتظر علي ع مصقلة أن يبعث بالمال فأبطأ به- و بلغ عليا ع أن مصقلة خلى الأسارى- و لم يسألهم أن يعينوه في فكاك أنفسهم بشي‏ء- فقال ما أرى مصقلة إلا قد حمل حمالة- و لا أراكم إلا سترونه عن قريب مبلدحا- ثم كتب إليه‏ أما بعد فإن من أعظم الخيانة خيانة الأمة- و أعظم الغش على أهل المصر غش الإمام- و عندك من حق المسلمين خمسمائة ألف درهم- فابعث بها إلى حين يأتيك رسولي- و إلا فأقبل إلي حين تنظر في كتابي- فإني قد تقدمت إلى رسولي ألا يدعك ساعة واحدة- تقيم بعد قدومه عليك- إلا أن تبعث بالمال و السلام- . و كان الرسول أبو جرة الحنفي- فقال له أبو جرة إن تبعث بهذا المال- و إلا فاشخص معي إلى أمير المؤمنين- فلما قرأ كتابه أقبل حتى نزل البصرة- و كان العمال يحملون المال من كور البصرة إلى ابن عباس- فيكون ابن عباس هو الذي يبعث به إلى أمير المؤمنين ع- ثم أقبل من البصرة حتى أتى عليا ع بالكوفة- فأقره أياما لم يذكر له شيئا ثم سأله المال- فأدى إليه مائتي ألف درهم و عجز عن الباقي- .

قال فروى ابن أبي سيف- عن أبي الصلت عن ذهل بن الحارث- قال دعاني مصقلة إلى رحله- فقدم عشاء فطعمنا منه- ثم قال و الله إن أمير المؤمنين ع يسألني هذا المال- و و الله ما أقدر عليه- فقلت له لو شئت لم يمض عليك جمعة حتى تجمع هذا المال- فقال ما كنت لأحملها قومي و لا أطلب فيها إلى أحد- . ثم قال و الله لو أن ابن هند مطالبي بها- أو ابن عفان لتركها لي- أ لم تر إلى عثمان كيف أعطى الأشعث مائة ألف درهم- من خراج آذربيجان في كل سنة- فقلت إن هذا لا يرى ذلك الرأي- و ما هو بتارك لك شيئا- فسكت ساعة و سكت عنه- فما مكث ليلة واحدة بعد هذا الكلام حتى لحق بمعاوية- . فبلغ ذلك عليا ع- فقال ما له ترحه الله- فعل فعل السيد و فر فرار العبد- و خان خيانة الفاجر- أما إنه لو أقام فعجز ما زدنا على حبسه- فإن وجدنا له شيئا أخذناه-و إن لم نجد له مالا تركناه- ثم سار علي ع إلى داره فهدمها- . و كان أخوه نعيم بن هبيرة الشيباني شيعة لعلي ع مناصحا- فكتب إليه مصقلة من الشام مع رجل من نصارى تغلب- يقال له حلوان- أما بعد فإني كلمت معاوية فيك- فوعدك الكرامة و مناك الإمارة- فأقبل ساعة تلقى رسولي و السلام- . فأخذه مالك بن كعب الأرحبي فسرح به إلى علي ع- فأخذ كتابه فقرأه ثم قدمه فقطع يده فمات- و كتب نعيم إلى أخيه مصقلة شعرا لم يرده عليه-

لا ترمين هداك الله معترضا
بالظن منك فما بالي و حلوانا

ذاك الحريص على ما نال من طمع‏
و هو البعيد فلا يورثك أحزانا

ما ذا أردت إلى إرساله سفها
ترجو سقاط امرئ لم يلف وسنانا

عرضته لعلي إنه أسد
يمشي العرضنة من آساد خفانا

قد كنت في خير مصطاف و مرتبع
تحمي العراق و تدعى خير شيبانا

حتى تقحمت أمرا كنت تكرهه‏
للراكبين له سرا و إعلانا

لو كنت أديت مال الله مصطبرا
للحق زكيت أحيانا و موتانا

لكن لحقت بأهل الشام ملتمسا
فضل ابن هند فذاك الرأي أشجانا

فاليوم تقرع سن العجز من ندم
ما ذا تقول و قد كان الذي كانا

أصبحت تبغضك الأحياء قاطبة
لم يرفع الله بالعصيان إنسانا

فلما بلغ الكتاب إليه علم أن النصراني قد هلك- و لم يلبث التغلبيون إلا قليلا حتى بلغهم هلاك صاحبهم- فأتوا مصقلة فقالوا أنت أهلكت صاحبنا- فإما أن تجيئنا به و إما أن تديه- فقال أما أن أجي‏ء به فلست أستطيع ذلك- و أما أن أديه فنعم فوداه- . قال إبراهيم و حدثني ابن أبي سيف- عن عبد الرحمن بن جندب عن أبيه- قال قيل لعلي ع حين هرب مصقلة- اردد الذين سبوا و لم تستوف أثمانهم في الرق- فقال ليس ذلك في القضاء بحق- قد عتقوا إذ أعتقهم الذي اشتراهم- و صار مالي دينا على الذي اشتراهم- . و روى إبراهيم أيضا عن إبراهيم بن ميمون- عن عمرو بن القاسم بن حبيب التمار عن عمار الدهني- قال لما هرب مصقلة- قال أصحاب علي ع له يا أمير المؤمنين فيئنا- قال إنه قد صار على غريم من الغرماء فاطلبوه- . و قال ظبيان بن عمارة- أحد بني سعد بن زيد مناة في بني ناجية-

هلا صبرت للقراع ناجيا
و المرهفات تختلي الهواديا

و الطعن في نحوركم تواليا
و صائبات الأسهم القواضيا

 و قال ظبيان أيضا-

ألا فاصبروا للطعن و الضرب ناجيا
و للمرهفات يختلين الهواديا

فقد صب رب الناس خزيا عليكم‏
و صيركم من بعد عز مواليا

سما لكم بالخيل جردا عواديا
أخو ثقة لا يبرح الدهر غازيا

فصبحكم في رحلكم و خيولكم‏
بضرب يرى منه المدجج هاويا

فأصبحتم من بعد عز و كثرة
عبيد العصا لا تمنعون الذراريا

قال إبراهيم بن هلال و روى عبد الرحمن بن حبيب عن أبيه أنه لما بلغ عليا ع مصاب بني ناجية و قتل صاحبهم- قال هوت أمه ما كان أنقص عقله و أجرأه إنه جاءني مرة- فقال إن في أصحابك رجالا قد خشيت أن يفارقوك- فما ترى فيهم- فقلت إني لا آخذ على التهمة- و لا أعاقب على الظن- و لا أقاتل إلا من خالفني و ناصبني و أظهر العداوة لي- ثم لست مقاتله حتى أدعوه و أعذر إليه- فإن تاب و رجع قبلنا منه- و إن أبى إلا الاعتزام على حربنا استعنا بالله عليه- و ناجزناه فكف عني ما شاء الله- ثم جاءني مرة أخرى- فقال لي إني قد خشيت- أن يفسد عليك عبد الله بن وهب و زيد بن حصين الطائي- إني سمعتهما يذكرانك بأشياء لو سمعتهما- لم تفارقهما حتى تقتلهما أو توثقهما- فلا يزالان بمحبسك أبدا- فقلت له إني مستشيرك فيهما فما ذا تأمرني به- قال إني آمرك أن تدعو بهما فتضرب رقابهما- فعلمت أنه لا ورع له و لا عقل- فقلت له و الله ما أظن لك ورعا و لا عقلا- لقد كان ينبغي لك أن تعلم أني لا أقتل من لم يقاتلني- و لم يظهر لي عداوته للذي كنت أعلمتكه من رأيي- حيث جئتني في المرة الأولى- و لقد كان ينبغي لك لو أردت قتلهم- أن تقول لي اتق الله- بم تستحل قتلهم و لم يقتلوا أحدا- و لم ينابذوك و لم يخرجوا من طاعتك – .فأما ما يقوله الفقهاء في مثل هذا السبي- فقبل أن نذكر ذلك نقول- إن الرواية قد اختلفت في المرتدين من بني ناجية-

فالرواية الأولى التي رواها محمد بن عبد الله بن عثمان- عن نصر بن مزاحم- تتضمن أن الأمير الذي من قبل علي ع- قتل مقاتلة المرتدين منهم- بعد امتناعهم من العود إلى الإسلام و سبى ذراريهم- فقدم بها على علي ع- فعلى هذه الرواية- يكون الذين اشتراهم مصقلة- ذراري أهل الردة- . و الرواية الثانية التي رواها محمد بن عبد الله- عن ابن أبي سيف- تتضمن أن معقل بن قيس الأمير من قبل علي ع- لم يقتل من المرتدين من بني ناجية إلا رجلا واحدا- و أما الباقون فرجعوا إلى الإسلام- و الاسترقاق إنما كان للنصارى- الذين ساعدوا في الحرب- و شهروا السيف على جيش الإمام- و ليسوا مرتدين بل نصارى في الأصل- و هم الذين اشتراهم مصقلة- . فإن كانت الرواية الأولى هي الصحيحة ففيها إشكال- لأن المرتدين لا يجوز عند الفقهاء استرقاقهم- و لا أعرف خلافا في هذه المسألة- و لا أظن الإمامية أيضا تخالف فيها- و إنما ذهب أبو حنيفة- إلى أن المرأة المرتدة إذا لحقت بدار الحرب- جاز استرقاقها و سائر الفقهاء على خلافه- و لم يختلفوا في أن الذكور البالغين من المرتدين- لا يجوز استرقاقهم- فلا أعلم كيف وقع استرقاق المرتدين- من بني ناجية على هذه الرواية- على أني أرى أن الرواية المذكورة- لم يصرح فيها باسترقاقهم- و لا بأنهم بيعوا على مصقلة- لأن لفظ الراوي فأبوا فقتل مقاتلتهم و سبى ذراريهم- فقدم بهم على علي ع- و ليس في الرواية ذكر استرقاقهم و لا بيعهم على مصقلة- بل فيها ما ينافي بيعهم على مصقلة- و هو قوله فقدم بهم على علي ع- فإن مصقلة ابتاع السبي من الطريق في أردشيرخرة- قبل قدومه على علي ع- و لفظ الخبر فقدم بهم على علي ع- . و إنما يبقى الأشكال على هذه الرواية أن يقال- إذا كان قد قدم بهم على علي ع‏ فمصقلة من اشترى- و لا يمكن دفع كون مصقلة اشترى قوما في الجملة- فإن الخبر بذلك مشهور جدا يكاد يكون متواترا- .

فإن قيل فما قولكم فيما إذا ارتد البالغون من الرجال و النساء- ثم أولدوا ذرية صغارا بعد الردة- هل يجوز استرقاق الأولاد- فإن كان يجوز فهلا حملتم الخبر عليه- قيل إذا ارتد الزوجان فحملت منه في حال الردة- و أتت بولد كان محكوما بكفره- لأنه ولد بين كافرين- . و هل يجوز استرقاقه فيه للشافعي قولان- و أما أبو حنيفة فقال- إن ولد في دار الإسلام لم يجز استرقاقه- و إن ولد في دار الحرب جاز استرقاقه- فإن كان استرقاق هؤلاء الذرية- موافقا لأحد قولي الشافعي فلعله ذاك- .

و أما الرواية الثانية- فإن كانت هي الصحيحة و هو الأولى- فالفقه في المسألة- أن الذمي إذا حارب المسلمين فقد نقض عهده- فصار كالمشركين الذين في دار الحرب- فإذا ظفر به الإمام جاز استرقاقه و بيعه- و كذلك إذا امتنع من أداء الجزية- أو امتنع من التزام أحكام الإسلام- . و اختلف الفقهاء في أمور سبعة- هل ينتقض بها عهدهم و يجوز استرقاقهم أم لا- و هي أن يزني الذمي بمسلمة- أو يصيبها باسم نكاح- أو يفتن مسلما عن دينه- أو يقطع الطريق على المسلمين- أو يؤوي للكفار عينا- أو يدل على عورات المسلمين أو يقتل مسلما- . فأصحاب الشافعي يقولون- إن شرط عليهم في عقد الذمة الكف عن ذلك- فهل ينقض عهدهم بفعله فيه وجهان- و إن لم يشترط ذلك في عقد الذمة- لم ينتقض عهدهم بذلك- .

و قال الطحاوي من أصحاب أبي حنيفة- ينتقض عهدهم بذلك- سواء شورطوا عن‏الكف عنه في عقد الذمة- أو لم يشارطوا عليه- . فنصارى بني ناجية على هذه الرواية- قد انتقض عهدهم بحرب المسلمين فأبيحت دماؤهم- و جاز للإمام قتلهم- و جاز له استرقاقهم كالمشركين الأصليين في دار الحرب- و أما استرقاق أبي بكر بن أبي قحافة لأهل الردة- و سبيه ذراريهم- فإن صح كان مخالفا لما يقول الفقهاء- من تحريم استرقاق المرتدين- إلا أن يقولوا إنه لم يسب المرتدين- و إنما سبى من ساعدهم- و أعانهم في الحرب من المشركين الأصليين- و في هذا الموضع نظر

 

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 3

خطبه 43 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(قسمت دوم)

و قد ذكر الشيخ أبو الحسين الخياط قريبا مما تقدم- من أن إخراج أبي ذر إلى الربذة كان باختياره- و روى في ذلك خبرا- قال و أقل ما في ذلك أن تختلف الأخبار فتطرح- و يرجع إلى الأمر الأول في صحة إمامة عثمان و سلامة أحواله- .

اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام- فقال أما قول أبي علي- إن الأخبار في سبب خروج أبي ذر إلى الربذة متكافئة- فمعاذ الله أن تتكافأ في ذلك- بل المعروف و الظاهر أنه نفاه أولا إلى الشام- ثم استقدمه إلى المدينة لما شكا منه معاوية- ثم نفاه من المدينة إلى الربذة- و قد روى جميع أهل السير على اختلاف طرقهم و أسانيدهم- أن عثمان لما أعطى مروان بن الحكم ما أعطاه- و أعطى الحارث بن الحكم بن أبي العاص- ثلاثمائة ألف درهم- و أعطى زيد بن ثابت مائة ألف درهم- جعل أبو ذر يقول بشر الكانزين بعذاب أليم- و يتلو قول الله تعالى- وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ- وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ- فرفع ذلك مروان إلى عثمان- فأرسل إلى أبي ذر نائلا مولاه- أن انته عما يبلغني عنك- فقال أ ينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله- و عيب من ترك أمر الله- فو الله لأن أرضي الله بسخط عثمان أحب إلي- و خير لي من أن أسخط الله برضاه- فأغضب عثمان ذلك و أحفظه فتصابر- .

و قال يوما أ يجوز للإمام أن يأخذ من المال فإذا أيسر قضى- فقال كعب الأحبار لا بأس بذلك- فقال له أبو ذر يا ابن اليهوديين أ تعلمنا ديننا- فقال عثمان قد كثر أذاك لي و تولعك بأصحابي- الحق بالشام فأخرجه إليها- فكان أبو ذر ينكر علي معاوية أشياء يفعلها- فبعث إليه معاوية ثلاثمائة دينار- فقال أبو ذر إن كانت هذه‏ من عطائي- الذي حرمتمونيه عامي هذا قبلتها- و إن كانت صلة فلا حاجة لي فيها و ردها عليه- . و بنى معاوية الخضراء بدمشق- فقال أبو ذر يا معاوية- إن كانت هذه من مال الله فهي الخيانة- و إن كانت من مالك فهو الإسراف- . و كان أبو ذر رحمه الله تعالى يقول- و الله لقد حدثت أعمال ما أعرفها- و الله ما هي في كتاب الله و لا سنة نبيه- و الله إني لأرى حقا يطفأ و باطلا يحيا و صادقا مكذبا- و أثرة بغير تقى و صالحا مستأثرا عليه- فقال حبيب بن مسلمة الفهري لمعاوية- أن أبا ذر لمفسد عليكم الشام- فتدارك أهله إن كانت لكم حاجة فيه- فكتب معاوية إلى عثمان فيه- فكتب عثمان إلى معاوية- أما بعد فاحمل جندبا إلي على أغلظ مركب و أوعره- فوجه به مع من سار به الليل و النهار- و حمله على شارف ليس عليها إلا قتب حتى قدم به المدينة- و قد سقط لحم فخذيه من الجهد- فلما قدم أبو ذر المدينة- بعث إليه عثمان أن الحق بأي أرض شئت- فقال بمكة قال لا قال فبيت المقدس- قال لا قال فأحد المصرين- قال لا و لكني مسيرك إلى الربذة فسيره إليها- فلم يزل بها حتى مات- .

و في رواية الواقدي أن أبا ذر لما دخل علي عثمان- قال له لا أنعم الله بك عينا يا جنيدب- فقال أبو ذر أنا جنيدب و سماني رسول الله ص عبد الله- فاخترت اسم رسول الله الذي سماني به على اسمي- فقال عثمان أنت الذي تزعم أنا نقول إن يد الله مغلولة- و إن الله فقير و نحن أغنياء- فقال أبو ذر لو كنتم لا تزعمون- لأنفقتم‏ مال الله على عباده-و لكني أشهد لسمعت رسول الله ص يقول إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا جعلوا مال الله دولا- و عباد الله خولا و دين الله دخلا- فقال عثمان لمن حضره أ سمعتموها من نبي الله- فقالوا ما سمعناه- فقال عثمان ويلك يا أبا ذر- أ تكذب على رسول الله- فقال أبو ذر لمن حضر أ ما تظنون أني صدقت- قالوا لا و الله ما ندري- فقال عثمان ادعوا لي عليا فدعي- فلما جاء قال عثمان لأبي ذر- اقصص عليه حديثك في بني أبي العاص فحدثه- فقال عثمان لعلي هل سمعت هذا من رسول الله ص- فقال علي ع لا و قد صدق أبو ذر- قال عثمان بم عرفت صدقه-

قال لأني سمعت رسول الله ص يقول ما أظلت الخضراء- و لا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر- فقال جميع من حضر من أصحاب النبي ص لقد صدق أبو ذر- فقال أبو ذر أحدثكم أني سمعت هذا من رسول الله ص- ثم تتهمونني- ما كنت أظن أني أعيش حتى أسمع هذا من أصحاب محمد ص- . و روى الواقدي في خبر آخر بإسناده- عن صهبان مولى الأسلميين- قال رأيت أبا ذر يوم دخل به على عثمان- فقال له أنت الذي فعلت و فعلت- فقال له أبو ذر نصحتك فاستغششتني- و نصحت صاحبك فاستغشني- فقال عثمان كذبت و لكنك تريد الفتنة و تحبها- قد انغلت الشام علينا- فقال له أبو ذر اتبع سنة صاحبيك- لا يكن لأحد عليك كلام- قال عثمان ما لك و ذلك لا أم لك- قال أبو ذر و الله ما وجدت لي عذرا- إلا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر- فغضب عثمان و قال أشيروا علي في هذا الشيخ الكذاب- إما أن أضربه أو أحبسه أو أقتله- فإنه قد فرق جماعة المسلمين- أو أنفيه من أرض الإسلام- فتكلم علي ع و كان حاضرا- و قال أشير عليك‏ بما قاله مؤمن آل فرعون- وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ- وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ- إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ- قال فأجابه عثمان بجواب غليظ لا أحب ذكره- و أجابه ع بمثله- قال ثم إن عثمان حظر على الناس أن يقاعدوا أبا ذر- أو يكلموه- فمكث كذلك أياما- ثم أمر أن يؤتى به- فلما أتي به وقف بين يديه- قال ويحك يا عثمان- أ ما رأيت رسول الله ص و رأيت أبا بكر و عمر- هل رأيت هذا هديهم- إنك لتبطش بي بطش جبار-

فقال اخرج عنا من بلادنا- فقال أبو ذر ما أبغض إلي جوارك فإلى أين أخرج- قال حيث شئت- قال فأخرج إلى الشام أرض الجهاد- قال إنما جلبتك من الشام لما قد أفسدتها- أ فأردك إليها- قال أ فأخرج إلى العراق- قال لا قال و لم- قال تقدم على قوم أهل شبه و طعن في الأئمة- قال أ فأخرج إلى مصر قال لا- قال فإلى أين أخرج قال حيث شئت- قال أبو ذر فهو إذن التعرب بعد الهجرة أ أخرج إلى نجد- فقال عثمان الشرف الأبعد أقصى فأقصى- امض على وجهك هذا و لا تعدون الربذة فخرج إليها- .

و روى الواقدي عن مالك بن أبي الرجال- عن موسى بن ميسرة أن أبا الأسود الدؤلي قال- كنت أحب لقاء أبي ذر لأسأله عن سبب خروجه- فنزلت الربذة فقلت له أ لا تخبرني- أ خرجت من المدينة طائعا أم أخرجت مكرها- فقال كنت في ثغر من ثغور المسلمين أغني عنهم- فأخرجت إلى مدينة الرسول ع- فقلت أصحابي و دار هجرتي- فأخرجت منها إلى ما ترى-ثم قال بينا أنا ذات ليلة نائم في المسجد- إذ مر بي رسول الله ص فضربني برجله- و قال لا أراك نائما في المسجد- فقلت بأبي أنت‏ و أمي غلبتني عيني فنمت فيه- فقال كيف تصنع إذا أخرجوك منه- فقلت إذن ألحق بالشام فإنها أرض مقدسة- و أرض بقية الإسلام و أرض الجهاد- فقال فكيف تصنع إذا أخرجت منها- فقلت أرجع إلى المسجد- قال فكيف تصنع إذا أخرجوك منه- قلت آخذ سيفي فأضرب به- فقال ص أ لا أدلك على خير من ذلك- انسق معهم حيث ساقوك و تسمع و تطيع- فسمعت و أطعت و أنا أسمع و أطيع- و الله ليلقين الله عثمان و هو آثم في جنبي- .

و كان يقول بالربذة ما ترك الحق لي صديقا- و كان يقول فيها ردني عثمان بعد الهجرة أعرابيا- . و الأخبار في هذا الباب أكثر من أن تحصر- و أوسع من أن نذكرها- و ما يحمل نفسه على ادعاء- أن أبا ذر خرج مختارا إلى الربذة إلا مكابر- و لسنا ننكر أن يكون ما أورده صاحب كتاب المغني- من أنه خرج مختارا قد روي إلا أنه من الشاذ النادر- و بإزاء هذه الرواية الفذة- كل الروايات التي تتضمن خلافها- و من تصفح الأخبار علم- أنها غير متكافئة على ما ظن صاحب المغني- و كيف يجوز خروجه عن اختيار- و إنما أشخص من الشام على الوجه الذي أشخص عليه- من خشونة المركب و قبح السير به للموجدة عليه- ثم لما قدم منع الناس من كلامه و أغلظ له في القول- و كل هذا لا يشبه أن يكون خروجه إلى الربذة باختياره- و كيف يظن عاقل أن أبا ذر يختار الربذة منزلا مع جدبها- و قحطها و بعدها عن الخيرات- و لم تكن بمنزل مثله- . فأما قوله- إنه أشفق عليه من أن يناله بعض أهل المدينة بمكروه- من حيث كان يغلظ لهم القول فليس بشي‏ء- لأنه لم يكن في أهل المدينة- إلا من كان راضيا بقوله عاتبا بمثل عتبة- إلا أنهم كانوا بين مجاهر بما في نفسه و مخف ما عنده- و ما في أهل المدينة إلا من رثى لأبي ذر مما حدث عليه- و من استفظعه و من رجع إلى كتب السيرة عرف ما ذكرناه- .

فأما قوله أن عمر أخرج من المدينة نصر بن حجاج- فيا بعد ما بين الأمرين- و ما كنا نظن أن أحدا يسوي بين أبي ذر- و هو وجه الصحابة و عينهم- و من أجمع المسلمون على توقيره و تعظيمه- و أن رسول الله ص مدحه من صدق اللهجة بما لم يمدح به أحدا- و بين نصر بن الحجاج الحدث- الذي كان خاف عمر من افتتان النساء بشبابه- و لا حظ له في فضل و لا دين- على أن عمر قد ذم بإخراجه نصر بن الحجاج- من غير ذنب كان منه- فإذا كان من أخرج نصر بن حجاج مذموما- فكيف من أخرج أبا ذر- . فأما قوله- إن الله تعالى و الرسول قد ندبا إلى خفض الجناح- و لين القول للمؤمن و الكافر فهو كما قال- إلا أن هذا أدب كان ينبغي أن يتأدب به عثمان في أبي ذر- و لا يقابله بالتكذيب- و قد قطع رسول الله ص على صدقه- و لا يسمعه مكروه الكلام- فإنما نصح له و أهدى إليه عيوبه- و عاتبه على ما لو نزع عنه- لكان خيرا له في الدنيا و الآخرة- .

الطعن العاشر- تعطيله الحد الواجب على عبيد الله بن عمر بن الخطاب- فإنه قتل الهرمزان مسلما فلم يقده به- و قد كان أمير المؤمنين ع يطلبه لذلك- . قال قاضي القضاة في الجواب عن ذلك- أن شيخنا أبا علي رحمه الله تعالى قال- إنه لم يكن للهرمزان ولى يطلب بدمه- و الإمام ولي من لا ولي له- و للولي أن يعفو كما له أن يقتل- و قد روي أنه سأل المسلمين أن يعفوا عنه- فأجابوا عنه إلى ذلك- .
قال و إنما أراد عثمان بالعفو عنه ما يعود إلى عز الدين- لأنه خاف أن يبلغ العدو قتله- فيقال قتلوا إمامهم و قتلوا ولده- و لا يعرفون الحال في ذلك فيكون فيه شماتة- و قد قال الشيخ أبو الحسين الخياط- أن عامة المهاجرين أجمعوا على أنه لا يقاد بالهرمزان- و قالوا لعثمان هذا دم سفك في غير ولايتك- و ليس له ولي يطلب به و أمره إلى الإمام- فاقبل منه الدية فذلك صلاح للمسلمين- .

قال و لم يثبت أن أمير المؤمنين ع كان يطلبه- ليقتله بالهرمزان- لأنه لا يجوز قتل من عفا عنه ولي المقتول- و إنما كان يطلبه ليضع من قدره و يصغر من شأنه- . قال و يجوز أن يكونما روي عن علي ع من أنه قال لو كنت بدل عثمان لقتلته- يعني أنه كان يرى ذلك أقوى في الاجتهاد- و أقرب إلى التشدد في دين الله سبحانه- . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام قال- أما قوله لم يكن للهرمزان ولي يطلب بدمه- فالإمام يكون وليه و له أن يعفو عنه- كما له أن يقتص فليس بمعتمد- لأن الهرمزان رجل من أهل فارس- و لم يكن له ولي حاضر يطالب بدمه- و قد كان الواجب أن يبذل الإنصاف لأوليائه- و يؤمنوا متى حضروا- حتى أنه لو كان له ولي يريد المطالبة حضر و طالب- ثم لو لم يكن له ولي لم يكن عثمان ولي دمه- لأنه قتل في أيام عمر فصار عمر ولي دمه- و قد أوصى عمر على ما جاءت به الروايات- الظاهرة بقتل ابنه عبيد الله- إن لم تقم البينة العادلة على الهرمزان و جفينة- أنهما أمرا أبا لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة بقتله- و كانت وصيته بذلك إلى أهل الشورى- فقال أيكم ولي هذا الأمر فليفعل كذا و كذا مما ذكرناه- فلما مات عمر طلب المسلمون إلى عثمان- إمضاءالوصية في عبيد الله بن عمر- فدافع عن ذلك و عللهم- و لو كان هو ولي الدم على ما ذكروا لم يكن له أن يعفو- و أن يبطل حدا من حدود الله تعالى- و أي شماتة للعدو في إقامة حد من حدود الله تعالى- و إنما الشماتة كلها من أعداء الإسلام في تعطيل الحدود- و أي حرج في الجمع بين قتل الإمام و ابنه- حتى يقال كره أن ينتشر الخبر بأن الإمام و ابنه قتلا- و إنما قتل أحدهما ظلما و الآخر عدلا- أو أحدهما بغير أمر الله و الآخر بأمره سبحانه- .

و قد روى زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح أن أمير المؤمنين ع أتى عثمان بعد ما استخلف- فكلمه في عبيد الله و لم يكلمه أحد غيره- فقال اقتل هذا الفاسق الخبيث الذي قتل أميرا مسلما- فقال عثمان قتلوا أباه بالأمس و أقتله اليوم- و إنما هو رجل من أهل الأرض- فلما أبى عليه مر عبيد الله على علي ع- فقال له إيه يا فاسق- أما و الله لئن ظفرت بك يوما من الدهر لأضربن عنقك- فلذلك خرج مع معاوية عليه-.

و روى القناد عن الحسن بن عيسى بن زيد عن أبيه أن المسلمين لما قال عثمان- إني قد عفوت عن عبيد الله بن عمر- قالوا ليس لك أن تعفو عنه- قال بلى إنه ليس لجفينة و الهرمزان قرابة من أهل الإسلام- و أنا ولي أمر المسلمين و أنا أولى بهما و قد عفوت- فقال علي ع إنه ليس كما تقول- إنما أنت في أمرهما بمنزلة أقصى المسلمين- إنه قتلهما في إمرة غيرك- و قد حكم الوالي الذي قتلا في إمارته بقتله- و لو كان قتلهما في إمارتك لم يكن لك العفو عنه- فاتق الله فإن الله سائلك عن هذا- فلما رأى عثمان أن المسلمين قد أبوا إلا قتل عبيد الله- أمره فارتحل إلى الكوفة- و أقطعه بها دارا و أرضا- و هي التي يقال لها كويفة بن عمر- فعظم ذلك عند المسلمين و أكبروه و كثر كلامهم فيه- .

و روي عن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ع أنه قال ما أمسى عثمان يوم ولي- حتى نقموا عليه في أمر عبيد الله بن عمر- حيث لم يقتله بالهرمزان- فأما قوله إن أمير المؤمنين ع لم يطلبه ليقتله- بل ليضع من قدره- فهو بخلاف ما صرح به ع من أنه إن تمكن ليضربن عنقه- . و بعد فإن ولي الدم إذا عفا عنه على ما ادعوا- لم يكن لأحد أن يستخف به- و لا يضع من قدره كما ليس له أن يقتله- . و أما قوله- إن أمير المؤمنين ع لا يجوز أن يتوعده مع عفو الإمام عنه- فإنما يكون صحيحا لو كان ذلك العفو مؤثرا- و قد بينا أنه غير مؤثر- . و أما قوله يجوز أن يكون ع رأى أن قتله أقوى في الاجتهاد- و أقرب إلى التشدد في دين الله- فلا شك أنه كذلك- و هذا بناء منه على أن كل مجتهد مصيب- و قد بينا أن الأمر بخلاف ذلك- و إذا كان اجتهاد أمير المؤمنين ع يقتضي قتله- فهو الذي لا يسوغ خلافه- .

الطعن الحادي عشر- و هو إجمالي قالوا- وجدنا أحوال الصحابة دالة على تصديقهم المطاعن فيه- و براءتهم منه- و الدليل على ذلك- أنهم تركوه بعد قتله ثلاثة أيام لم يدفنوه- و لا أنكروا على من أجلب عليه من أهل الأمصار- بل أسلموه و لم يدفعوا عنه و لكنهم أعانوا عليه- و لم يمنعوا من حصره و لا من منع الماء عنه و لا من قتله- مع تمكنهم من خلاف ذلك- و هذا من أقوى الدلائل على ما قلناه- و لو لم يدل على أمره عندهم إلا ما روي عن علي ع أنه قال- الله قتله و أنا معه- و أنه كان في أصحابه ع من يصرح بأنه قتل‏ عثمان- و مع ذلك لا يقيدهم بل و لا ينكر عليهم- و كان أهل الشام يصرحون بأن مع أمير المؤمنين قتلة عثمان- و يجعلون ذلك من أوكد الشبه- و لا ينكر ذلك عليهم- مع أنا نعلم أن أمير المؤمنين ع لو أراد أن يتعاضد هو- و أصحابه على المنع عنه لما وقع في حقه ما وقع- فصار كفه و كف غيره عن ذلك من أدل الدلائل- على أنهم صدقوا عليه ما نسب إليه من الأحداث- و أنهم لم يقبلوا منه ما جعله عذرا- . و أجاب قاضي القضاة عن هذا فقال- أما تركه بعد القتل ثلاثة أيام لم يدفن فليس بثابت- و لو صح لكان طعنا على من لزمه القيام به- و قد قال شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى- إنه لا يمتنع أن يشتغلوا بإبرام البيعة لأمير المؤمنين ع- خوفا على الإسلام من الفتنة فيؤخروا دفنه- .

قال و بعيد مع حضور قريش- و قبائل العرب و سائر بني أمية و مواليهم- أن يترك عثمان و لا يدفن هذه المدة- و بعيد أن يكون أمير المؤمنين ع لا يتقدم بدفنه- و لو مات في جواره يهودي أو نصراني- و لم يكن له من يواريه ما تركه أمير المؤمنين ألا يدفن- فكيف يجوز مثل ذلك في عثمان- و قد روي أنه دفن في تلك الليلة و هذا هو الأولى- . فأما التعلق بأن الصحابة لم تنكر على القوم- و لا دفعت عنه فقد سبق القول في ذلك- و الصحيح عن أمير المؤمنين ع أنه تبرأ من قتل عثمان- و لعن قتلته في البر و البحر و السهل و الجبل- و إنما كان يجري من جيشه هذا القول منه على جهة المجاز- لأنا نعلم أن جميع من كان يقول- نحن قتلناه لم يقتله- لأن في الخبر أن العدد الكثير كانوا يصرحون بذلك- و الذين دخلوا عليه و قتلوه اثنان أو ثلاثة- و إنما كانوا يقصدون بهذا القول- أي احسبوا أنا قتلناه فما لكم- و ذلك أن الإمام هو الذي يقوم بأمر القود- و ليس للخارج عليه أن يطالب بذلك- و لم يكن لأمير المؤمنين ع أن يقتل قتلته- لو عرفهم ببينة أو إقرار- و ميزهم من غيرهم إلا عند مطالبة ولي الدم- و الذين كانوا أولياء الدم لم يكونوا يطالبونه- و لا كانت صفتهم صفة من يطالب- لأنهم كانوا كلهم أو بعضهم- يدعون أن عليا ع ليس بإمام- و لا يحل لولي الدم مع هذا الاعتقاد أن يطالب بالقود- فلذلك لم يقتلهم ع- هذا لو صح أنه كان يميزهم- فكيف و ذلك غير صحيح- .

فأما ما روي عنه من قوله ع قتله الله و أنا معه- فإن صح فمعناه مستقيم- يريد أن الله أماته و سيميتني و سائر العباد- . ثم قال سائلا نفسه- كيف يقول ذلك و عثمان مات مقتولا من جهة المكلفين- و أجاب بأنه و إن قتل- فالإماتة من قبل الله تعالى- و يجوز أن يكون ما ناله من الجراح- لا يوجب انتفاء الحياة لا محالة- فإذا مات صحت الإماتة على طريق الحقيقة- . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام- فقال أما تضعيفه- أن يكون عثمان ترك بعد القتل ثلاثة أيام لم يدفن- فليس بحجة لأن ذلك قد رواه جماعة الرواة- و ليس يخالف في مثله أحد يعرف بالرواية- و قد ذكر ذلك الواقدي و غيره- و روى أن أهل المدينة منعوا الصلاة عليه- حتى حمل بين المغرب و العتمة- و لم يشهد جنازته غير مروان و ثلاثة من مواليه و لما أحسوا بذلك رموه بالحجارة- و ذكروه بأسوإ الذكر- و لم يقع التمكن من دفنه- إلا بعد أن أنكر أمير المؤمنين ع المنع من دفنه- و أمر أهله بتولي ذلك منه- .

فأما قوله- إن ذلك إن صح كان طعنا على من لزمه القيام بأمره- فليس الأمر على ما ظنه- بل يكون طعنا على عثمان- من حيث لا يجوز أن يمنع أهل المدينة- و فيها وجوه الصحابة- من دفنه و الصلاة عليه إلا لاعتقاد قبيح- أو لأن أكثرهم و جمهورهم يعتقد ذلك- و هذا طعن لا شبهة فيه- و استبعاد صاحب المغني لذلك- مع ظهور الرواية به‏ لا يلتفت إليه- فأما أمير المؤمنين ع- و استبعاد صاحب المغني منه ألا يتقدم بدفنه- فقد بينا أنه تقدم بذلك بعد مماكسة و مراوضة- و أعجب من كل شي‏ء قول صاحب المغني- إنهم أخروا دفنه تشاغلا بالبيعة لأمير المؤمنين ع- و أي شغل في البيعة لأمير المؤمنين يمنع من دفنه- و الدفن فرض على الكفاية- لو قام به البعض و تشاغل الباقون بالبيعة لجاز- و ليس الدفن و لا البيعة أيضا- مفتقرة إلى تشاغل جميع أهل المدينة بها- .

فأما قوله إنه قد روي أن عثمان دفن تلك الليلة- فما تعرف هذه الرواية- و قد كان يجب أن يسندها و يعزوها إلى راويها- أو الكتاب الذي أخذها منه- فالذي ظهر في الرواية هو ما ذكرناه- . فأما إحالته على ما تقدم في معنى الإنكار- من الصحابة على القوم المجلبين على عثمان- فقد سبق القول في ذلك- .

فأما روايته عن أمير المؤمنين ع تبرؤه من قتل عثمان- و لعنه قتلته في البر و البحر و السهل و الجبل- فلا شك في أنه ع كان بريئا من قتله-و قد روي عنه ع أنه قال و الله ما قتلت عثمان و لا مالأت في قتله- و الممالأة هي المعاونة و الموازرة- و قد صدق ع في أنه ما قتل و لا وازر على القتل- .

فأما لعنه قتلته فضعيف في الرواية و إن كان قد روي- فأظهر منهما رواه الواقدي عن الحكم بن الصلت عن محمد بن عمار بن ياسر عن أبيه قال رأيت عليا ع على منبر رسول الله ص حين قتل و هو يقول- ما أحببت قتله و لا كرهته و لا أمرت به و لا نهيت عنه و قد روى محمد بن سعد عن عفان بن جرير بن بشير عن أبي جلدة أنه سمع عليا ع يقول و هو يخطب فذكر عثمان و قال: و الله الذي لا إله إلا هو- ما قتلته و لا مالأت على قتله و لا ساءني و روى ابن بشير عن عبيدة السلماني قال سمعت عليا ع يقول من كان سائلي عن دم عثمان- فإن الله قتله و أنا معه- و قد روي هذا اللفظ من طرق كثيرة- .

و قد روى شعبة عن أبي حمزة الضبعي قال قلت لابن عباس إن أبي أخبرني أنه سمع عليا يقول ألا من كان سائلي على دم عثمان- فإن الله قتله و أنا معه- فقال صدق أبوك- هل تدري ما معنى قوله- إنما عنى الله قتله و أنا مع الله – . قال فإن قيل كيف يصح الجمع بين معاني هذه الأخبار- . قلنا لا تنافي بينها- لأنه ع تبرأ من مباشرة قتله و المؤازرة عليه- ثم قال ما أمرت بذلك و لا نهيت عنه- يريد أن قاتليه لم يرجعوا إلي- و لم يكن مني قول في ذلك بأمر و لا نهى- فأما قوله الله قتله و أنا معه- فيجوز أن يكون المراد به- الله حكم بقتله و أوجبه و أنا كذلك- لأن من المعلوم أن الله تعالى لم يقتله على الحقيقة- فإضافة القتل إليه لا تكون إلا بمعنى الحكم و الرضا- و ليس يمتنع أن يكون مما حكم الله تعالى به- ما لم يتوله بنفسه و لا آزر عليه و لا شايع فيه- .

فإن قال قائل هذا ينافي ما روي عنه من قوله- ما أحببت قتله و لا كرهته- و كيف يكون من حكم الله- و حكمه أن يقتل و هو لا يحب قتله- . قلنا يجوز أن يريد بقوله- ما أحببت قتله و لا كرهته- أن ذلك لم يكن مني على سبيل التفصيل و لا خطر لي ببال- و إن كان على سبيل الجملة- يحب قتل من غلب المسلمين‏ على أمورهم- و طالبوه بأن يعتزل- لأنه مستول عليهم بغير حق فامتنع من ذلك- و يكون فائدة هذا الكلام التبرؤ من مباشرة قتله- و الأمر به على سبيل التفصيل أو النهي عنه- و يجوز أن يريد أنني ما أحببت قتله- إن كانوا تعمدوا القتل- و لم يقع على سبيل الممانعة و هو غير مقصود- و يريد بقوله ما كرهته- أني لم أكرهه على كل حال و من كل وجه- .

فأما لعنه قتلته- فقد بينا أنه ليس بظاهر ظهور ما ذكرناه- و إن صح فهو مشروط بوقوع القتل- على الوجه المحظور من تعمد له- و قصد إليه و غير ذلك- على أن المتولي للقتل- على ما صحت به الرواية كنانة بن بشير التجيبي- و سودان بن حمران المرادي- و ما منهما من كان غرضه صحيحا في القتل- و لا له أن يقدم عليه فهو ملعون به- فأما محمد بن أبي بكر فما تولى قتله- و إنما روي أنه لما جثا بين يديه قابضا على لحيته- قال له يا ابن أخي دع لحيتي- فإن أباك لو كان حيا لم يقعد مني هذا المقعد- فقال محمد أن أبي لو كان حيا- ثم يراك تفعل ما تفعل لأنكره عليك- ثم وجأه بجماعة قداح كانت في يده- فحزت في جلده و لم تقطع- و بادره من ذكرناه في قتله بما كان فيه قتله- .

فأما تأويله قول أمير المؤمنين ع قتله الله و أنا معه- على أن المراد به الله أماته و سيميتني- فبعيد من الصواب- لأن لفظة أنا لا تكون كناية عن المفعول- و إنما تكون كناية عن الفاعل- و لو أراد ما ذكره لكان يقول و إياي معه- و ليس له أن يقول إننا نجعل قوله- و أنا معه مبتدأ محذوف الخبر- و يكون تقدير الكلام و أنا معه مقتول- و ذلك لأن هذا ترك للظاهر و إحالة على ما ليس فيه- و الكلام إذا أمكن حمله على معنى- يستقل ظاهره به من غير تقدير و حذف- كان أولى مما يتعلق بمحذوف- على أنهم إذا جعلوه مبتدأ و قدروا خبرا- لم يكونوا بأن يقدروا ما يوافق مذهبهم- بأولى من تقدير خلافه- و يجعل بدلا من لفظة المقتول المحذوفة لفظة معين أو ظهير- .و إذا تكافأ القولان في التقدير و تعارضا سقطا- و وجب الرجوع إلى ظاهر الخبر- على أن عثمان مضى مقتولا- فكيف يقال إن الله تعالى أماته- و القتل كاف في انتفاء الحياة- و ليس يحتاج معه إلى ناف للحياة يسمى موتا- .

و قول صاحب المغني- يجوز أن يكون ما ناله من الجراح لا يوجب انتفاء الحياة- ليس بشي‏ء- لأن المروي أنه ضرب على رأسه بعمود عظيم من حديد- و أن أحد قتلته قال جلست على صدره فوجأته تسع طعنات- علمت أنه مات في ثلاث- و وجأته الست الأخر لما كان في نفسي عليه من الحنق- . و بعد فإذا كان جائزا- فمن أين علمه أمير المؤمنين ع حتى يقول إن الله أماته- و إن الحياة لم تنتف بما فعله القاتلون- و إنما انتفت بشي‏ء زاد على فعلهم من قبل الله تعالى- مما لا يعلمه على سبيل التفصيل إلا علام الغيوب سبحانه- .

و الجواب عن هذه المطاعن على وجهين إجمالا و تفصيلا– أما الوجه الإجمالي- فهو أننا لا ننكر أن عثمان أحدث أحداثا- أنكرها كثير من المسلمين- و لكنا ندعي مع ذلك أنها لم تبلغ درجة الفسق- و لا أحبطت ثوابه- و أنها من الصغائر التي وقعت مكفرة- و ذلك لأنا قد علمنا أنه مغفور له- و أنه من أهل الجنة لثلاثة أوجه- .

أحدها أنه من أهل بدر-و قد قال رسول الله ص إن الله اطلع على أهل بدر- فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم- و لا يقال إن عثمان لم يشهد بدرا- لأنا نقول صدقتم أنه لم يشهدها- و لكنه تخلف على رقية- ابنة رسول الله ص‏بالمدينة لمرضها- و ضرب له رسول الله ص بسهمه و أجره باتفاق سائر الناس- .

و ثانيها أنه من أهل بيعة الرضوان- الذين قال الله تعالى فيهم- لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ- و لا يقال إنه لم يشهد البيعة تحت الشجرة- لأنا نقول صدقتم أنه لم يشهدها- و لكنه كان رسول الله ص أرسله إلى أهل مكة- و لأجله كانت بيعة الرضوان- حيث أرجف بأن قريشا قتلت عثمان-فقال رسول الله ص إن كانوا قتلوه لأضرمنها عليهم نارا- ثم جلس تحت الشجرة و بايع الناس على الموت- ثم قال إن كان عثمان حيا فأنا أبايع عنه فصفح بشماله على يمينه- و قال شمالي خير من يمين عثمان- روى ذلك جميع أرباب أهل السيرة متفقا عليه- .

و ثالثها أنه من جملة العشرة- الذين تظاهرت الأخبار بأنهم من أهل الجنة- . و إذا كانت الوجوه الثلاثة دالة على أنه مغفور له- و أن الله تعالى قد رضي عنه و هو من أهل الجنة- بطل أن يكون فاسقا- لأن الفاسق يخرج عندنا من الإيمان و يحبط ثوابه- و يحكم له بالنار و لا يغفر له و لا يرضى عنه- و لا يرى الجنة و لا يدخلها- فاقتضت هذه الوجوه الصحيحة الثابتة أن يحكم- بأن كل ما وقع منه فهو من باب الصغائر المكفرة- توفيقا بين هذه الوجوه- و بين روايات الأحداث المذكورة- . و أما الوجه التفصيلي- فهو مذكور في كتب أصحابنا المطولة في الإمامة- فليطلب من مظانه- فإنهم قد استقصوا في الجواب عن هذه المطاعن- استقصاء لا مزيد عليه

بيعة جرير بن عبد الله البجلي لعلي

فأما خبر جرير بن عبد الله البجلي- و بعث أمير المؤمنين ع إياه إلى معاوية- فنحن نذكره نقلا من كتاب صفين- لنصر بن مزاحم بن بشار المنقري- و نذكر حال أمير المؤمنين ع- منذ قدم الكوفة بعد وقعة الجمل- و مراسلته معاوية و غيره- و مراسلة معاوية له و لغيره- و ما كان من ذلك في مبدأ حالتهما- إلى أن سار علي ع إلى صفين- .

قال نصر حدثني محمد بن عبيد الله عن الجرجاني قال لما قدم علي ع الكوفة بعد انقضاء أمر الجمل- كاتب العمال فكتب إلى جرير بن عبد الله البجلي- مع زحر بن قيس الجعفي- و كان جرير عاملا لعثمان على ثغر همذان- أما بعد ف إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ- حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ- وَ إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ- وَ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ- و إني أخبرك عن نبإ من سرنا إليه من جموع طلحة و الزبير- عند نكثهم بيعتي و ما صنعوا بعاملي عثمان بن حنيف- إني نهضت من المدينة بالمهاجرين و الأنصار- حتى إذا كنت بالعذيب- بعثت إلى أهل الكوفة الحسن بن علي- و عبد الله بن عباس و عمار بن ياسر و قيس بن عبادة- فاستنفرتهم فأجابوا- فسرت بهم حتى نزلت بظهر البصرة- فأعذرت في‏ الدعاء و أقلت العثرة- و ناشدتهم عهد بيعتهم- فأبوا إلا قتالي فاستعنت الله عليهم- فقتل من قتل و ولوا مدبرين إلى مصرهم- و سألوني ما كنت دعوتهم إليه قبل اللقاء- فقبلت العافية و رفعت السيف- و استعملت عليهم عبد الله بن العباس- و سرت إلى الكوفة و قد بعثت إليك زحر بن قيس- فاسأله عما بدا لك و السلام- .

قال فلما قرأ جرير الكتاب قام- فقال أيها الناس- هذا كتاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ع- و هو المأمون على الدين و الدنيا- و قد كان من أمره و أمر عدوه ما نحمد الله عليه- و قد بايعه الناس الأولون من المهاجرين و الأنصار- و التابعين بإحسان- و لو جعل هذا الأمر شورى بين المسلمين كان أحقهم بها- ألا و إن البقاء في الجماعة و الفناء في الفرقة- و إن عليا حاملكم على الحق ما استقمتم- فإن ملتم أقام ميلكم- فقال الناس سمعا و طاعة رضينا رضينا- . فكتب جرير إلى علي ع جواب كتابه بالطاعة- . قال نصر و كان مع علي رجل من طيئ ابن أخت لجرير- فحمل زحر بن قيس شعرا له إلى خاله جرير و هو-

جرير بن عبد الله لا تردد الهدى
و بايع عليا إنني لك ناصح‏

فإن عليا خير من وطي‏ء الحصى‏
سوى أحمد و الموت غاد و رائح‏

و دع عنك قول الناكثين
فإنما أولاك أبا عمرو كلاب نوابح‏

و بايع إذا بايعته بنصيحة
و لا يك منها من ضميرك قادح‏

فإنك إن تطلب بها الدين
تعطه و إن تطلب الدنيا فإنك رابح‏

و إن قلت عثمان بن عفان حقه
علي عظيم و الشكور مناصح‏

فحق علي إذ وليك كحقه‏
و شكرك ما أوليت في الناس صالح‏

و إن قلت لا أرضى عليا إمامنا
فدع عنك بحرا ضل فيه السوابح‏

أبى الله إلا أنه خير دهره‏
و أفضل من ضمت عليه الأباطح‏

 قال نصر ثم إن جريرا قام في أهل همذان خطيبا- فقال الحمد لله الذي اختار لنفسه الحمد- و تولاه دون خلقه- لا شريك له في الحمد- و لا نظير له في المجد- و لا إله إلا الله وحده الدائم القائم- إله السماء و الأرض- و أشهد أن محمدا عبده و رسوله- أرسله بالنور الواضح و الحق الناطق- داعيا إلى الخير و قائدا إلى الهدى- ثم قال أيها الناس إن عليا قد كتب إليكم كتابا- لا يقال بعده إلا رجيع من القول- و لكن لا بد من رد الكلام- إن الناس بايعوا عليا بالمدينة- عن غير محاباة له ببيعتهم- لعلمه بكتاب الله و سنن الحق- و إن طلحة و الزبير نقضا بيعته على غير محاباة حدثت- و ألبا عليه الناس- ثم لم يرضيا حتى نصبا له الحرب- و أخرجا أم المؤمنين فلقيهما فأعذر في الدعاء- و أحسن في البقية- و حمل الناس على ما يعرفون- فهذا عيان ما غاب عنكم- و إن سألتم الزيادة زدناكم- و لا قوة إلا بالله ثم قال-

أتانا كتاب علي
فلم ترد الكتاب بأرض العجم‏

و لم نعص ما فيه لما أتى‏
و لما نذم و لما نلم‏

و نحن ولاة على ثغرنا
نضيم العزيز و نحمي الذمم‏

نساقيهم الموت عند اللقاء
بكأس المنايا و نشفي القرم‏

فصلى الإله على أحمد
رسول المليك تمام النعم‏

رسول المليك و من بعده‏
خليفتنا القائم المدعم‏

عليا عنيت وصي النبي
نجالد عنه غواة الأمم‏

له الفضل و السبق و المكرمات‏
و بيت النبوة لا يهتضم‏

قال نصر فسر الناس بخطبة جرير و شعره- . و قال ابن الأزور القسري في جرير يمدحه بذلك-

لعمر أبيك و الأنباء
تنمي لقد جلى بخطبته جرير

و قال مقالة جدعت رجالا
من الحيين خطبهم كبير

بدا بك قبل أمته علي
و مخك إن رددت الحق رير

أتاك بأمره زحر بن قيس‏
و زحر بالتي حدثت خبير

فكنت لما أتاك به سميعا
و كدت إليه من فرح تطير

فأنت بما سعدت به ولي‏
و أنت لما تعد له نصير

و أحرزت الثواب و رب حاد
حدا بالركب ليس له بعير

بيعة الأشعث لعلي

قال نصر و كتب علي ع إلى الأشعث- و كان عامل عثمان على آذربيجان-يدعوه إلى البيعة و الطاعة- و كتب جرير بن عبد الله البجلي إلى الأشعث- يحضه على طاعة أمير المؤمنين ع و قبول كتابه- أما بعد فإني أتتني بيعة علي- فقبلتها و لم أجد إلى دفعها سبيلا- لأني نظرت فيما غاب عني من أمر عثمان- فلم أجده يلزمني- و قد شهد المهاجرون و الأنصار- فكان أوفق أمرهم فيه الوقوف فأقبل بيعته- فإنك لا تنقلب إلى خير منه- و اعلم أن بيعة علي خير من مصارع أهل البصرة و السلام- . قال نصر فقبل الأشعث البيعة و سمع و أطاع- و أقبل جرير سائرا من ثغر همذان- حتى ورد علي ع الكوفة فبايعه- و دخل فيما دخل فيه الناس من طاعته و لزوم أمره

دعوة علي معاوية إلى البيعة و الطاعة و رد معاوية عليه

قال نصر فلما أراد علي ع أن يبعث إلى معاوية رسولا- قال له جرير ابعثني يا أمير المؤمنين إليه- فإنه لم يزل لي مستخصا و ودا آتيه فأدعوه- على أن يسلم لك هذا الأمر و يجامعك على الحق- على أن يكون أميرا من أمرائك و عاملا من عمالك- ما عمل بطاعة الله و اتبع ما في كتاب الله- و أدعو أهل الشام إلى طاعتك و ولايتك- فجلهم قومي و أهل بلادي- و قد رجوت ألا يعصوني- . فقال له الأشتر لا تبعثه و لا تصدقه- فو الله إني لأظن هواه هواهم و نيته نيتهم- .

فقال له علي ع دعه حتى ننظر ما يرجع به إلينا- فبعثه علي ع و قال له ع حين أراد أن يبعثه- إن حولي من أصحاب رسول الله ص- من أهل الرأي و الدين من قد رأيت- و قد اخترتك عليهم لقول رسول الله فيك-إنك من خير ذي يمن- ائت معاوية بكتابي- فإن دخل فيما دخل فيه المسلمون و إلا فانبذ إليه- و أعلمه إني لا أرضى به أميرا- و أن العامة لا ترضى به خليفة- . فانطلق جرير حتى أتى الشام و نزل بمعاوية- فلما دخل عليه حمد الله و أثنى عليه- و قال أما بعد يا معاوية- فإنه قد اجتمع لابن عمك أهل الحرمين و أهل المصرين- و أهل الحجاز و أهل اليمن و أهل مصر و أهل العروض- و العروض عمان و أهل البحرين و اليمامة- فلم يبق إلا هذه الحصون التي أنت فيها- لو سال عليها سيل من أوديته غرقها- و قد أتيتك أدعوك إلى ما يرشدك- و يهديك إلى مبايعة هذا الرجل- و دفع إليه كتاب علي ع-
و فيه أما بعد فإن بيعتي بالمدينة لزمتك و أنت بالشام- لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر و عمر و عثمان- على ما بويعوا عليه- فلم يكن للشاهد أن يختار و لا للغائب أن يرد-

و إنما الشورى للمهاجرين و الأنصار- إذا اجتمعوا على رجل فسموه إماما كان ذلك لله رضا- فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو رغبة ردوه إلى ما خرج منه- فإن أبى قاتلوه على اتباع سبيل المؤمنين- و ولاه الله ما تولى و يصليه جهنم و ساءت مصيرا- و إن طلحة و الزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي- فكان نقضهما كردتهما فجاهدتهما على ذلك- حتى جاء الحق و ظهر أمر الله و هم كارهون- فادخل فيما دخل فيه المسلمون- فإن أحب الأمور إلي فيك العافية إلا أن تتعرض للبلاء- فإن تعرضت له قاتلتك و استعنت بالله عليك- . و قد أكثرت في قتلة عثمان- فادخل فيما دخل فيه الناس- ثم حاكم القوم إلي أحملك-و إياهم على كتاب الله- فأما تلك التي تريدها فخدعة الصبي عن اللبن- و لعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك- لتجدني أبرأ قريش من دم عثمان- و اعلم أنك من الطلقاء الذين لا يحل لهم الخلافة- و لا تعرض فيهم الشورى- و قد أرسلت إليك- و إلى من قبلك جرير بن عبد الله البجلي- و هو من أهل الإيمان و الهجرة فبايع و لا قوة إلا بالله- .

فلما قرأ الكتاب قام جرير فخطب فقال- الحمد لله المحمود بالعوائد- و المأمول منه الزوائد- المرتجى منه الثواب- المستعان على النوائب- أحمده و أستعينه في الأمور التي تحير دونها الألباب- و تضمحل عندها الأسباب- و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له- كل شي‏ء هالك إلا وجهه- له الحكم و إليه ترجعون- و أشهد أن محمدا عبده و رسوله- أرسله بعد فترة من الرسل الماضية و القرون الخالية- و أبدان البالية و الجبلة الطاغية- فبلغ الرسالة و نصح للأمة- و أدى الحق الذي استودعه الله- و أمره بأدائه إلى أمته ص- من رسول و مبتعث و منتجب- . أيها الناس إن أمر عثمان قد أعيا من شهده- فكيف بمن غاب عنه- و إن الناس بايعوا عليا غير واتر و لا موتور- و كان طلحة و الزبير ممن بايعاه- ثم نكثا بيعته على غير حدث- ألا و إن هذا الدين لا يحتمل الفتن- ألا و إن العرب لا تحتمل الفتن- و قد كانت بالبصرة أمس روعة ملحمة- إن يشفع البلاء بمثلها فلا بقاء للناس-و قد بايعت الأمة عليا- و لو ملكنا و الله الأمور- لم نختر لها غيره و من خالف هذا استعتب- فادخل يا معاوية فيما دخل فيه الناس- . فإن قلت استعملني عثمان ثم لم يعزلني- فإن هذا قول لو جاز لم يقم لله دين- و كان لكل امرئ ما في يديه- و لكن الله جعل للآخر من الولاة حق الأول- و جعل الأمور موطأة ينسخ بعضها بعضا ثم قعد- .

قال نصر فقال معاوية أنظر و تنظر- و أستطلع رأي أهل الشام- . فمضت أيام و أمر معاوية مناديا ينادي الصلاة جامعة- فلما اجتمع الناس صعد المنبر- ثم قال الحمد لله الذي جعل الدعائم للإسلام أركانا- و الشرائع للإيمان برهانا- يتوقد قبسه في الأرض المقدسة- جعلها الله محل الأنبياء و الصالحين من عباده- فأحلهم أرض الشام- و رضيهم لها و رضيها لهم- لما سبق في مكنون علمه من طاعتهم و مناصحتهم خلفاءه- و القوام بأمره و الذابين عن دينه و حرماته- ثم جعلهم لهذه الأمة نظاما- و في سبيل الخيرات أعلاما- يردع الله بهم الناكثين- و يجمع بهم ألفة المؤمنين- و الله نستعين على ما تشعب من أمر المسلمين- بعد الالتئام و تباعد بعد القرب- اللهم انصرنا على أقوام يوقظون نائمنا و يخيفون آمننا- و يريدون إراقة دمائنا و إخافة سبلنا- و قد علم الله أنا لا نريد لهم عقابا- و لا نهتك لهم حجابا و لا نوطئهم زلقا- غير أن الله الحميد كسانا من الكرامة ثوبا- لن ننزعه طوعا ما جاوب الصدى- و سقط الندى و عرف الهدى- حملهم على ذلك البغي و الحسد فنستعين الله عليهم- أيها الناس قد علمتم- أني خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- و خليفة أمير المؤمنين عثمان بن عفان عليكم- و أني لم أقم رجلا منكم على خزاية قط- و أني ولي عثمان و قد قتل مظلوما و الله تعالى يقول- وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً- فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً- و أنا أحب أن تعلموني ذات أنفسكم في قتل عثمان- . فقام أهل الشام بأجمعهم- فأجابوا إلى الطلب بدم عثمان و بايعوه على ذلك- و أوثقوا له على أن يبذلوا بين يديه أموالهم و أنفسهم- حتى يدركوا بثأره أو تلتحق أرواحهم بالله- . قال نصر فلما أمسى معاوية اغتم بما هو فيه- و جنة الليل و عنده أهل بيته فقال-

تطاول ليلي و اعترتني وساوسي
لآت أتى بالترهات البسابس‏

أتاني جرير و الحوادث جمة
بتلك التي فيها اجتداع المعاطس‏

أكايده و السيف بيني و بينه
و لست لأثواب الدني‏ء بلابس‏

إن الشام أعطت طاعة يمنية
تواصفها أشياخها في المجالس‏

فإن يفعلوا أصدم عليا بجبهة
تفت عليه كل رطب و يابس‏

و إني لأرجو خير ما نال نائل‏
و ما أنا من ملك العراق بآيس‏

قلت الجبهة هاهنا الخيل-و منه قول النبي ص ليس في الجبهة صدقةأي زكاة- .قال نصر فاستحثه جرير بالبيعة- فقال يا جرير إنها ليست بخلسة- و إنه أمر له ما بعده- فأبلعني ريقي حتى أنظر و دعا ثقاته- فأشار عليه أخوه بعمرو بن العاص- و قال له إنه من قد عرفت- و قد اعتزل عثمان في حياته- و هو لأمرك أشد اعتزالا إلا أن يثمن له دينه- . و قد ذكرنا فيما تقدم خبر استدعائه عمرا- و ما شرط له من ولاية مصر- و استقدامه شرحبيل بن السمط رئيس اليمنية- و شيخها و المقدم عليها- و تدسيس الرجال إليه يغرونه بعلي ع- و يشهدون عنده أنه قتل عثمان- حتى ملئوا صدره و قلبه حقدا و ترة- و إحنة على علي ع و أصحابه بما لا حاجة إلى إعادته- . قال نصر فحدثني محمد بن عبيد الله عن الجرجاني قال- جاء شرحبيل إلى حصين بن نمير- فقال ابعث إلى جرير فليأتنا- فبعث حصين بن نمير إلى جرير- أن زرنا فعندنا شرحبيل- فاجتمعا عند حصين فتكلم شرحبيل-

فقال يا جرير أتيتنا بأمر ملفف- لتلقينا في لهوات الأسد- و أردت أن تخلط الشام بالعراق- و أطريت عليا و هو قاتل عثمان- و الله سائلك عما قلت يوم القيامة- . فأقبل عليه جرير و قال يا شرحبيل- أما قولك إني جئت بأمر ملفف- فكيف يكون ملففا و قد اجتمع عليه المهاجرون و الأنصار- و قوتل على رده طلحة و الزبير- . و أما قولك إني ألقيك في لهوات الأسد- ففي لهواتها ألقيت نفسك- . و أما خلط أهل الشام بأهل العراق- فخلطهما على حق خير من فرقتهما على باطل- . و أما قولك إن عليا قتل عثمان- فو الله ما في يديك من ذلك إلا القذف بالغيب- من مكان بعيد- و لكنك ملت إلى الدنيا- و شي‏ء كان في نفسك على زمن سعد بن أبي وقاص- . فبلغ ما قالاه إلى معاوية- فبعث إلى جرير فزجره- قال نصر و كتب إلى شرحبيل كتاب لا يعرف كاتبه فيه- .

شرحبيل يا ابن السمط لا تتبع الهوى
فما لك في الدنيا من الدين من بدل‏

و لا تك كالمجرى إلى شر غاية
فقد خرق السربال و استنوق الجمل‏

و قل لابن حرب ما لك اليوم
خلة تروم بها ما رمت و اقطع له الأمل‏

شرحبيل إن الحق قد جد جده‏
فكن فيه مأمون الأديم من النغل‏

و أرود و لا تفرط بشي‏ء نخافه عليك
و لا تعجل فلا خير في العجل‏

مقال ابن هند في علي عضيهة
و لله في صدر بن أبي طالب أجل‏

و ما من علي في ابن عفان سقطة
بقول و لا مالا عليه و لا قتل‏

و ما كان إلا لازما قعر بيته
إلى أن أتى عثمان في داره الأجل‏

فمن قال قولا غير هذا فحسبه‏
من الزور و البهتان بعض الذي احتمل‏

وصى رسول الله من دون أهله
و من باسمه في فضله يضرب المثل‏

 قال نصر فلما قرأ شرحبيل الكتاب ذعر و فكر- و قال هذه نصيحة لي في ديني- و لا و الله لا أعجل في هذا الأمر بشي‏ء- و في نفسي منه حاجة- و كاد يحول عن نصر معاوية و يتوقف- فلفق له معاوية الرجال يدخلون إليه و يخرجون- و يعظمون عنده قتل عثمان و يرمون به عليا- و يقيمون الشهادة الباطلة و الكتب المختلقة- حتى أعادوا رأيه و شحذوا عزمه- .قال نصر و حدثنا عمر بن سعد بإسناده- قال بعث معاوية إلى شرحبيل بن السمط- إنه قد كان من إجابتك إلى الحق- و ما وقع فيه أجرك على الله- و قبله عنك صلحاء الناس ما علمت- و إن هذا الأمر الذي نحن فيه لا يتم إلا برضا العامة- فسر في مدائن الشام- و ناد فيهم بأن عليا قتل عثمان- و أنه يجب علي المسلمين أن يطلبوا بدمه- .

فسار شرحبيل فبدأ بأهل حمص- فقام فيهم خطيبا و كان مأمونا في أهل الشام ناسكا متألها- فقال أيها الناس إن عليا قتل عثمان- فغضب له قوم من أصحاب رسول الله ص- فلقيهم فهزم الجمع- و قتل صلحاءهم و غلب على الأرض فلم يبق إلا الشام- و هو واضع سيفه على عاتقه- ثم خائض غمرات الموت- حتى يأتيكم أو يحدث الله أمرا- و لا نجد أحدا أقوى على قتاله من معاوية فجدوا و انهضوا- . فأجابه الناس كلهم إلا نساكا من أهل حمص- فإنهم قالوا له بيوتنا قبورنا و مساجدنا- و أنت أعلم بما ترى- . قال و جعل شرحبيل يستنهض مدائن الشام حتى استفرغها- لا يأتي على قوم إلا قبلوا ما أتاهم به- فبعث إليه النجاشي بن الحارث و كان له صديقا- .

شرحبيل ما للدين فارقت ديننا
و لكن لبغض المالكي جرير

و شحناء دبت بين سعد و بينه‏
فأصبحت كالحادي بغير بعير

و ما أنت إذ كانت بجيلة
عاتبت قريشا فيا لله بعد نصير

أ تفصل أمرا غبت عنه بشبهة
و قد حار فيه عقل كل بصير

بقول رجال لم يكونوا أئمة
و لا للتي لقوكها بحضور

و ما قول قوم غائبين تقاذفوا
من الغيب ما دلاهم بغرور

و تترك أن الناس أعطوا عهودهم
عليا على أنس به و سرور

إذا قيل هاتوا واحدا يقتدى به‏
نظيرا له لم يفصحوا بنظير

لعلك أن تشقى الغداة
بحربه فليس الذي قد جئته بصغير

قال نصر و حدثنا عمر بن سعد- عن نمير بن وعلة عن الشعبي- أن شرحبيل بن السمط بن الأسود بن جبلة الكندي- دخل على معاوية- فقال له أنت عامل أمير المؤمنين و ابن عمه- و نحن المؤمنون- فإن كنت رجلا تجاهد عليا و قتلة عثمان حتى ندرك ثارنا- أو تذهب أرواحنا استعملناك علينا- و إلا عزلناك و استعملنا غيرك ممن نريد- ثم جاهدنا معه حتى ندرك بدم عثمان أو نهلك- . فقال جرير بن عبد الله و كان حاضرا- مهلا يا شرحبيل فإن الله قد حقن الدماء- و لم الشعث و جمع أمر الأمة- و دنا من هذه الأمة سكون- فإياك أن تفسد بين الناس-
و أمسك عن هذا القول قبل أن يشيع- و يظهر عنك قول لا تستطيع رده- فقال لا و الله لا أسرة أبدا ثم قام فتكلم به- فقال الناس صدق صدق القول ما قال و الرأي ما رأى- فأيس جرير عند ذلك من معاوية و من عوام أهل الشام- .

قال نصر و حدثني محمد بن عبيد الله عن الجرجاني- قال كان معاوية قد أتى جريرا قبل ذلك في منزله- فقال له يا جرير إني قد رأيت رأيا قال هاته- قال اكتب إلى صاحبك يجعل لي الشام و مصر جباية- فإذا حضرته الوفاة لم يجعل لأحد بعده في عنقي بيعة- و أسلم له هذا الأمر- و اكتب إليه بالخلافة- فقال جرير اكتب ما أردت أكتب معك- . فكتب معاوية بذلك إلى علي-فكتب علي ع إلى جرير أما بعد فإنما أراد معاوية ألا يكون لي في عنقه بيعة- و أن يختار من أمره ما أحب- و أراد أن يريثك و يبطئك حتى يذوق أهل الشام- و أن المغيرة بن شعبة قد كان- أشار علي أن أستعمل معاوية على الشام- و أنا حينئذ بالمدينة فأبيت ذلك عليه- و لم يكن الله ليراني أتخذ المضلين عضدا- فإن بايعك الرجل و إلا فأقبل و السلام
 قال نصر و فشا كتاب معاوية في العرب- فبعث إليه الوليد بن عقبة-

معاوي إن الشام شامك فاعتصم
بشامك لا تدخل عليك الأفاعيا

و حام عليها بالصوارم و القنا
و لا تك موهون الذراعين وانيا

و إن عليا ناظر ما تجيبه
فأهد له حربا تشيب النواصيا

و إلا فسلم إن في السلم راحة
لمن لا يريد الحرب فاختر معاويا

و إن كتابا يا ابن حرب كتبته‏
على طمع يزجى إليك الدواهيا

سألت عليا فيه ما لن تناله
و لو نلته لم يبق إلا لياليا

و سوف ترى منه التي ليس بعدها
بقاء فلا تكثر عليك الأمانيا

أ مثل علي تعتريه بخدعة
و قد كان ما جربت من قبل كافيا

قال و كتب الوليد بن عقبة إلى معاوية أيضا يوقظه- و يشير عليه بالحرب و ألا يكتب جواب جرير-

معاوي إن الملك قد جب غاربه
و أنت بما في كفك اليوم صاحبه‏

أتاك كتاب من علي بخطه‏
هي الفصل فاختر سلمه أو تحاربه‏

فلا ترج عند الواترين مودة
و لا تأمن اليوم الذي أنت راهبه‏

و حاربه إن حاربت حرب ابن حرة
و إلا فسلم لا تدب عقاربه‏

فإن عليا غير ساحب ذيله
على خدعة ما سوغ الماء شاربه‏

و لا قابل ما لا يريد و هذه‏
يقوم بها يوما عليه نوادبه‏

فلا تدعن الملك و الأمر مقبل
و تطلب ما أعيت عليك مذاهبه‏

فإن كنت تنوي أن تجيب كتابه‏
فقبح ممليه و قبح كاتبه‏

و إن كنت تنوي أن ترد كتابه
و أنت بأمر لا محالة راكبه‏

فألق إلى الحي اليمانين كلمة
تنال بها الأمر الذي أنت طالبه‏

تقول أمير المؤمنين أصابه
عدو و مالأهم عليه أقاربه‏

أفانين منهم قائل و محرض‏
بلا ترة كانت و آخر سالبه‏

و كنت أميرا قبل بالشام فيكم
فحسبي و إياكم من الحق واجبه‏

فجيئوا و من أرسى ثبيرا مكانه‏
ندافع بحرا لا ترد غواربه‏

فأقلل و أكثر ما لها اليوم صاحب
سواك فصرح لست ممن تواربه‏

قال نصر و خرج جرير يوما يتجسس الأخبار- فإذا هو بغلام يتغنى على قعود له هو يقول-

حكيم و عمار الشجا و محمد
و أشتر و المكشوح جروا الدواهيا

و قد كان فيها للزبير عجاجة
و صاحبه الأدنى أثاروا الدواهيا

فأما علي فاستجار ببيته
فلا آمر فيها و لم يك ناهيا

فقل في جميع الناس ما شئت بعده‏
فلو قلت أخطأ الناس لم تك خاطيا

و إن قلت عم القوم فيه بفتنة
فحسبك من ذاك الذي كان كافيا

فقولا لأصحاب النبي محمد
و خصا الرجال الأقربين الأدانيا

أ يقتل عثمان بن عفان بينكم
على غير شي‏ء ليس إلا تعاميا

فلا نوم حتى نستبيح حريمكم‏
و نخضب من أهل الشنان العواليا

فقال جرير يا ابن أخي من أنت- فقال غلام من قريش و أصلي من ثقيف- أنا ابن المغيرة بن الأخنس بن شريق- قتل أبي مع عثمان يوم الدار- فعجب جريرمن شعره و قوله- و كتب بذلك إلى علي ع- فقال علي و الله ما أخطأ الغلام شيئا- . قال نصر و في حديث صالح بن صدقة- قال أبطأ جرير عند معاوية حتى اتهمه الناس- و قال علي ع قد وقت لجرير وقتا- لا يقيم بعده إلا مخدوعا أو عاصيا- و أبطأ على علي حتى أيس منه- .

قال و في حديث محمد و صالح بن صدقة قالا فكتب علي ع إلى جرير بعد ذلك إذا أتاك كتابي هذا فاحمل معاوية على الفصل- ثم خيره و خذه بالجواب بين حرب مخزية أو سلم محظية- فإن اختار الحرب فانبذ إليه- و إن اختار السلم فخذه ببيعته و السلام- . قال فلما انتهى الكتاب إلى جرير أتى معاوية- فأقرأه الكتاب- و قال له يا معاوية إنه لا يطبع على قلب إلا بذنب- و لا يشرح صدر إلا بتوبة- و لا أظن قلبك إلا مطبوعا عليه- أراك قد وقفت بين الحق و الباطل- كأنك تنتظر شيئا في يد غيرك- . فقال معاوية ألقاك بالفصل في أول مجلس إن شاء الله- . فلما بايع معاوية أهل الشام بعد أن ذاقهم- قال يا جرير الحق بصاحبك و كتب إليه بالحرب- و كتب في أسفل الكتاب شعر كعب بن جعيل-أرى الشام تكره أهل العراق و أهل العراق لهم كارهونا-و قد ذكرنا هذا الشعر فيما تقدم- .

و قال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتاب الكامل- إن عليا ع لما أراد أن يبعث جريرا إلى معاوية- قال و الله يا أمير المؤمنين ما أدخرك من نصرتي شيئا- و ما أطمع لك في معاوية- فقال علي ع إنما قصدي حجة أقيمها عليه- فلما أتى جرير معاوية دافعه بالبيعة- فقال له جرير إن المنافق لا يصلي حتى لا يجد من الصلاة بدا- فقال معاوية إنها ليست بخدعة الصبي عن اللبن- فأبلغني ريقي إنه أمر له ما بعده- . قال و كتب مع جرير إلى علي ع جوابا عن كتابه إليه- من معاوية بن صخر إلى علي بن أبي طالب- أما بعد فلعمري لو بايعك القوم الذين بايعوك- و أنت بري‏ء من دم عثمان كنت كأبي بكر و عمر و عثمان- و لكنك أغريت بعثمان المهاجرين- و خذلت عنه الأنصار- فأطاعك الجاهل و قوي بك الضعيف- و قد أبى أهل الشام إلا قتالك- حتى تدفع إليهم قتلة عثمان- فإن فعلت كانت شورى بين المسلمين- و لعمري ليس حججك علي كحججك على طلحة و الزبير- لأنهما بايعاك و لم أبايعك- و ما حجتك على أهل الشام كحجتك على أهل البصرة- لأن أهل البصرة أطاعوك و لم يطعك أهل الشام- فأما شرفك في الإسلام- و قرابتك من النبي ص و موضعك من قريش فلست أدفعه- .ثم كتب في آخر الكتاب شعر كعب بن جعيل الذي أوله-

أرى الشام تكره أهل العراق
و أهل العراق لهم كارهونا

قال أبو العباس المبرد رحمه الله تعالى فكتب إليه علي ع جوابا عن كتابه هذا من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب- إلى معاوية بن صخر بن حرب- أما بعد فإنه أتاني منك كتاب امرئ ليس له بصر يهديه- و لا قائد يرشده- دعاه الهوى فأجابه- و قاده الضلال فاتبعه- زعمت أنك إنما أفسد عليك بيعتي خطيئتي في عثمان- و لعمري ما كنت إلا رجلا من المهاجرين- أوردت كما أوردوا و أصدرت كما أصدروا- و ما كان الله ليجمعهم على الضلال- و لا ليضربهم بالعمى- و بعد فما أنت و عثمان- إنما أنت رجل من بني أمية- و بنو عثمان أولى بمطالبة دمه- فإن زعمت أنك أقوى على ذلك- فادخل فيما دخل فيه المسلمون ثم حاكم القوم إلي- و أما تمييزك بينك و بين طلحة و الزبير- و بين أهل الشام و أهل البصرة- فلعمري ما الأمر فيما هناك إلا سواء- لأنها بيعة شاملة لا يستثنى فيها الخيار- و لا يستأنف فيها النظر- و أما شرفي في الإسلام و قرابتي من رسول الله ص- و موضعي من قريش فلعمري لو استطعت دفعه لدفعته- . قال ثم دعا النجاشي أحد بني الحارث بن كعب- فقال له إن ابن جعيل شاعر أهل الشام- و أنت شاعر أهل العراق فأجب الرجل- فقال يا أمير المؤمنين أسمعني قوله- قال إذن أسمعك شعر شاعر ثم أسمعه- فقال النجاشي يجيبه-

دعا يا معاوي ما لن يكونا
فقد حقق الله ما تحذرونا

أتاكم علي بأهل العراق‏
و أهل الحجاز فما تصنعونا

على كل جرداء خيفانة
و أشعث نهد يسر العيونا

عليها فوارس مخشية
كأسد العرين حمين العرينا

يرون الطعان خلال العجاج
و ضرب الفوارس في النقع دينا

هم هزموا الجمع جمع الزبير
و طلحة و المعشر الناكثينا

و آلوا يمينا على حلفة
لنهدي إلى الشام حربا زبونا

تشيب النواهد قبل المشيب‏
و تلقى الحوامل منها الجنينا

فإن تكرهوا الملك ملك العراق
فقد رضي القوم ما تكرهونا

فقل للمضلل من وائل‏
و من جعل الغث يوما سمينا

جعلتم عليا و أشياعه
نظير ابن هند أ ما تستحونا

إلى أفضل الناس بعد الرسول‏
و صنو الرسول من العالمينا

و صهر الرسول و من مثله
إذا كان يوم يشيب القرونا

قلت أبيات كعب بن جعيل خير من هذه الأبيات- و أخبث مقصدا و أدهى و أحسن- . و زاد نصر بن مزاحم في هذه الرسالة بعد قوله- و لا ليضربهم بالعمى- و ما ألبت فتلزمني خطيئة الأمر- و لا قتلت فيجب على القصاص- و أما قولك إن‏ أهل الشام هم الحكام على أهل الحجاز- فهات رجلا من أهل الشام يقبل في الشورى- أو تحل له الخلافة- فإن زعمت ذلك كذبك المهاجرون و الأنصار- و إلا أتيتك به من قريش الحجاز- و أما ولوعك بي في أمر عثمان- فما قلت ذلك عن حق العيان و لا يقين الخبر- . و هذه الزيادة التي ذكرها نصر بن مزاحم- تقتضي أنه كان في كتاب معاوية إليه ع- أن أهل الشام هم الحكام على أهل الحجاز- و ما وجدنا هذا الكلام في كتابه

أخبار متفرقة

و روى نصر بن مزاحم- قال لما قتل عثمان ضربت الركبان إلى الشام بقتله- فبينا معاوية يوما إذا أقبل رجل متلفف- فكشف عن وجهه- و قال لمعاوية يا أمير المؤمنين أ تعرفني- قال نعم أنت الحجاج بن خزيمة بن الصمة فأين تريد- قال إليك القربان نعي ابن عفان ثم قال-

إن بني عمك عبد المطلب
هم قتلوا شيخكم غير كذب‏

و أنت أولى الناس بالوثب فثب‏
و اغضب معاوي للإله و احتسب

و سر بنا سير الجرير المتلئب
و انهض بأهل الشام ترشد و تصب‏

ثم اهزز الصعدة للشأس الشغب

قال يعني عليا ع قلت المتلئب المستقيم المطرد- يقال هذا قياس متلئب أي مستمر مطرد-و يقال مكان شأس أي غليظ صلب- و الشغب الهائج للشر- و من رواه للشاسي بالياء- فأصله الشاصي بالصاد و هو المرتفع- يقال شصا السحاب إذا ارتفع- فأبدل الصاد سينا- و مراده هنا نسبة علي ع إلى التيه و الترفع عن الناس- . قال نصر فقال له معاوية أ فيك مهز- فقال نعم فقال أخبر الناس- فقال الحجاج يا أمير المؤمنين- و لم يخاطب معاوية بأمير المؤمنين قبلها- إني كنت فيمن خرج مع يزيد بن أسد القسري مغيثا لعثمان- فقدمت أنا و زفر بن الحارث- فلقينا رجلا زعم أنه ممن قتل عثمان فقتلناه- و إني أخبرك يا أمير المؤمنين- إنك لتقوى على علي بدون ما يقوى به عليك- لأن معك قوما لا يقولون إذا قلت- و لا يسألون إذا أمرت- و إن مع علي قوما يقولون إذا قال و يسألون إذا أمر- فقليل ممن معك خير من كثير ممن معه- و اعلم أنه لا يرضى علي إلا بالرضا- و إن رضاه سخطك- و لست و علي سواء- علي لا يرضى بالعراق دون الشام- و أنت ترضى بالشام دون العراق- . قال نصر فضاق معاوية صدرا بما أتاه- و ندم على خذلان عثمان و قال-

أتاني أمر فيه للنفس
غمة و فيه بكاء للعيون طويل‏

و فيه فناء شامل و خزاية
و فيه اجتداع للأنوف أصيل‏

مصاب أمير المؤمنين
و هدة تكاد لها صم الجبال تزول‏

فلله عينا من رأى مثل هالك‏
أصيب بلا ذنب و ذاك جليل‏

تداعت عليه بالمدينة عصبة
فريقان منهم قاتل و خذول‏

دعاهم فصموا عنه عند دعائه‏
و ذاك على ما في النفوس دليل‏

ندمت على ما كان من تبعي الهوى
و قصري فيه حسرة و عويل‏

سأبغي أبا عمرو بكل مثقف
و بيض لها في الدار عين صليل‏

تركتك للقوم الذين هم هم‏
شجاك فما ذا بعد ذاك أقول‏

فلست مقيما ما حييت
ببلدة أجر بها ذيلي و أنت قتيل‏

فلا نوم حتى تشجر الخيل بالقنا
و يشفي من القوم الغواة غليل‏

و نطحنهم طحن الرحى بثفالها
و ذاك بما أسدوا إليك قليل‏

فأما التي فيها مودة بيننا
فليس إليها ما حييت سبيل‏

سألقحها حربا عوانا ملحة
و إني بها من عامنا لكفيل‏

قال نصر و افتخر الحجاج على أهل الشام- بما كان من تسليمه على معاوية بأمره المؤمنين- . قال نصر و حدثنا صالح بن صدقة- عن ابن إسحاق عن خالد الخزاعي و غيره ممن لا يتهم- أن عثمان لما قتل- و أتي معاوية بكتاب علي ع بعزله عن الشام- صعد المنبر و نادى في الناس أن يحضروا فحضروا فخطبهم- فحمد الله و أثنى عليه و صلى على رسوله- ثم قال يا أهل الشام- قد علمتم أني خليفة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- و خليفة عثمان و قد قتل و أنا ابن عمه و وليه- و الله تعالى يقول- وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً- و أنا أحب أن تعلموني ما في نفوسكم من قتل خليفتكم- .

فقام مرة بن كعب و في المسجد يومئذ- أربعمائة رجل من أصحاب النبي ص أو نحوها- فقال و الله لقد قمت مقامي هذا- و إني لأعلم أن فيكم من هو أقدم صحبة لرسول الله ص مني- و لكني شهدت رسول الله ص نصف النهار في يوم شديد الحر- و هو يقول لتكونن فتنة حاضرة فمر رجل مقنع- فقال رسول الله و هذا المقنع يومئذ على الهدى- فقمت فأخذت بمنكبه و حسرت عن رأسه- فإذا عثمان فأقبلت بوجهه على رسول الله ص- و قلت هذا يا رسول الله فقال نعم- فأصفق أهل الشام مع معاوية حينئذ- و بايعوه على الطلب بدم عثمان أميرا- لا يطمع في الخلافة ثم الأمر شورى- . و روى إبراهيم بن الحسن بن ديزيل في كتاب صفين- عن أبي بكر بن عبد الله الهذلي- أن الوليد بن عقبة كتب إلى معاوية- يستبطئه في الطلب بدم عثمان- و يحرضه و ينهاه عن قطع الوقت بالمكاتبة-

ألا أبلغ معاوية بن حرب
فإنك من أخي ثقة مليم‏

قطعت الدهر كالسدم المعنى‏
تهدر في دمشق و لا تريم‏

فإنك و الكتاب إلى علي
كدابغة و قد حلم الأديم‏

لك الويلات أقحمها عليهم‏
فخير الطالبي الترة الغشوم‏

 قال فكتب معاوية إليه الجواب بيتا من شعر أوس بن حجر-و مستعجب مما يرى من أناتنا و لو زبنته الحرب لم يترمرم‏- . و روى ابن ديزيل- قال لما عزم علي ع على المسير إلى الشام دعا رجلا- فأمره أن يتجهز و يسير إلى دمشق- فإذا دخل أناخ راحلته بباب المسجد- و لا يلقي من ثياب سفره شيئا- فإن الناس إذا رأوه عليه آثار الغربة سألوه- فليقل لهم تركت عليا قد نهد إليكم بأهل العراق- فانظر ما يكون من أمرهم- ففعل الرجل ذلك فاجتمع الناس و سألوه فقال لهم- فكثروا عليه يسألونه- فأرسل‏ إليه معاوية بالأعور السلمي يسأله فأتاه فسأله- فقال له فأتى معاوية فأخبره- فنادى الصلاة جامعة ثم قام فخطب الناس- و قال لهم إن عليا قد نهد إليكم في أهل العراق فما ترون- فضرب الناس بأذقانهم على صدورهم لا يتكلمون- فقام ذو الكلاع الحميري- فقال عليك ام‏رأي و علينا ام‏فعال و هي لغة حمير- .

فنزل و نادى في الناس بالخروج إلى معسكرهم- و عاد إلى علي ع فأخبره- فنادى الصلاة جامعة ثم قام فخطب الناس- فأخبرهم أنه قدم عليه رسول كان بعثه إلى الشام- و أخبره أن معاوية قد نهد إلى العراق في أهل الشام- فما الرأي- . قال فاضطرب أهل المسجد- هذا يقول الرأي كذا- و هذا يقول الرأي كذا- و كثر اللغط و اللجب- فلم يفهم علي ع من كلامهم شيئا- و لم يدر المصيب من المخطئ فنزل عن المنبر- و هو يقول إنا لله و إنا إليه راجعون- ذهب بها ابن آكلة الأكباد يعني معاوية- . و روى ابن ديزيل عن عقبة بن مكرم- عن يونس بن بكير عن الأعمش- قال كان أبو مريم صديقا لعلي ع- فسمع بما كان فيه علي ع من اختلاف أصحابه عليه فجاءه- فلم يرع عليا ع إلا و هو قائم على رأسه بالعراق- فقال له أبا مريم ما جاء بك نحوي- قال ما جاء بي غيرك- عهدي بك لو وليت أمر الأمة كفيتهم- ثم سمعت بما أنت فيه من الاختلاف- فقال يا أبا مريم إني منيت بشرار خلق الله- أريدهم على الأمر الذي هو الرأي فلا يتبعونني- .

و روى ابن ديزيل عن عبد الله بن عمر عن زيد بن الحباب عن علاء بن جرير العنبري عن الحكم بن عمير الثمالي و كانت أمه بنت أبي سفيان بن حرب قال قال رسول الله ص لأصحابه ذات يوم- كيف بك يا أبا بكر إذا وليت- قال لا يكون ذلك أبدا- قال فكيف بك يا عمر إذا وليت- فقال آكل حجرا لقد لقيت إذن شرا- قال فكيف بك يا عثمان إذا وليت- قال آكل و أطعم و أقسم و لا أظلم- قال فكيف بك يا علي إذا وليت- قال آكل الفوت و أحمي الجمرة- و أقسم التمرة و أخفي الصور- قال أي العورة- فقال ص أما إنكم كلكم سيلي و سيرى الله أعمالكم- ثم قال يا معاوية كيف بك إذا وليت- قال الله و رسوله أعلم- فقال أنت رأس الحطم و مفتاح الظلم حصبا و حقبا- تتخذ الحسن قبيحا و السيئة حسنة- يربو فيها الصغير- و يهرم فيها الكبير- أجلك يسير و ظلمك عظيم- .

و روى ابن ديزيل أيضا عن عمر بن عون- عن هشيم عن أبي فلج عن عمرو بن ميمون- قال قال عبد الله بن مسعود- كيف أنتم إذا لقيتكم فتنة يهرم فيها الكبير- و يربو فيها الصغير- تجري بين الناس و يتخذونها سنة- فإذا غيرت قيل هذا منكر- . و روى ابن ديزيل- قال حدثنا الحسن بن الربيع البجلي- عن أبي إسحاق الفزاري عن حميد الطويل عن أنس بن مالك في قوله تعالى- فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ- أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ- قال أكرم الله تعالى نبيه ع- أن يريه في أمته ما يكره رفعه إليه و بقيت النقمة- .

قال ابن ديزيل و حدثنا عبد الله بن عمر قال حدثنا عمرو بن محمد قال أخبرنا أسباط عن السدي عن أبي المنهال عن أبي هريرة قال قال رسول الله ص سألت ربي لأمتي ثلاث خلال- فأعطاني اثنتين و منعني واحدة- سألته ألا تكفر أمتي صفقة واحدة فأعطانيها- و سألته ألا يعذبهم بما عذب به الأمم قبلهم فأعطانيها- و سألته ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها- .

قال ابن ديزيل و حدثنا يحيى بن عبد الله الكرابيسي- قال حدثنا أبو كريب- قال حدثنا أبو معاوية عن عمار بن زريق- عن عمار الدهني عن سالم بن أبي الجعد- قال جاء رجل إلى عبد الله بن مسعود- فقال إن الله تعالى قد آمننا أن يظلمنا- و لم يؤمنا أن يفتننا- أ رأيت إذا أنزلت فتنة كيف أصنع- فقال عليك كتاب الله تعالى- قال أ فرأيت إن جاء قوم كلهم يدعو إلى كتاب الله تعالى-فقال ابن مسعود سمعت رسول الله ص يقول إذا اختلف الناس كان ابن سمية مع الحقيعني عمارا- .

و روى ابن ديزيل قال حدثنا يحيى بن زكريا قال حدثنا علي بن القاسم عن سعيد بن طارق عن عثمان بن القاسم عن زيد بن أرقم قال قال رسول الله ص أ لا أدلكم على ما إن تساءلتم عليه لم تهلكوا- إن وليكم الله و إن إمامكم علي بن أبي طالب- فناصحوه و صدقوه فإن جبريل أخبرني بذلك- . فإن قلت هذا نص صريح في الإمامة- فما الذي تصنع المعتزلة بذلك- . قلت يجوز أن يريد أنه إمامهم في الفتاوي- و الأحكام الشرعية لا في الخلافة- .

و أيضا فإنا قد شرحنا من قول شيوخنا البغداديين ما محصله- إن الإمامة كانت لعلي‏ع إن رغب فيها و نازع عليها- و إن أقرها في غيره و سكت عنها تولينا ذلك الغير- و قلنا بصحة خلافته- و أمير المؤمنين ع لم ينازع الأئمة الثلاثة و لا جرد السيف- و لا استنجد بالناس عليهم- فدل ذلك على إقراره لهم على ما كانوا فيه- فلذلك توليناهم- و قلنا فيهم بالطهارة و الخير و الصلاح- و لو حاربهم و جرد السيف عليهم- و استصرخ العرب على حربهم- لقلنا فيهم ما قلناه فيمن عامله هذه المعاملة- من التفسيق و التضليل- .

 

قال ابن ديزيل و حدثنا عمرو بن الربيع- قال حدثنا السري بن شيبان عن عبد الكريم- أن عمر بن الخطاب قال لما طعن- يا أصحاب محمد تناصحوا- فإنكم إن لم تفعلوا- غلبكم عليها عمرو بن العاص و معاوية بن أبي سفيان- . قلت إن محمد بن النعمان المعروف بالمفيد أحد الإمامية- قال في بعض كتبه- إنما أراد عمر بهذا القول إغراء معاوية- و عمرو بن العاص بطلب الخلافة و إطماعهما فيها- لأن معاوية كان عامله و أميره على الشام- و عمرو بن العاص عامله و أميره على مصر- و خاف أن يضعف عثمان عنها و أن تصير إلى علي ع- فألقى هذه الكلمة إلى الناس لتنقل إليهما- و هما بمصر و الشام- فيتغلبا على هذين الإقليمين إن أفضت إلى علي ع- . و هذا عندي من باب الاستنباطات- التي يوجبها الشنآن و الحنق- و عمر كان أتقى لله من أن يخطر له هذا- و لكنه من فراسته الصادقة- التي كان يعلم بها كثيرا من الأمور المستقبلة- كما قال عبد الله بن عباس في وصفه- و الله ما كان أوس بن حجر عنى أحدا سواه بقوله-الألمعي الذي يظن بك الظن كان قد رأى و قد سمعا-

و روى ابن ديزيل عن عفان بن مسلم- عن وهب بن خالد عن أيوب- عن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن مرة بن كعب- قال ذكر رسول الله ص فتنة فقربها- فمر رجل قد تقنع بثوبه- فقال ع هذا و أصحابه يومئذ على الحق- فقمت إليه فأخذت بمنكبه- فقلت هو هذا فقال نعم فإذا هو عثمان بن عفان- . قلت- هذا الحديث قد رواه كثير من محققي أصحاب الحديث- و رواه محمد بن إسماعيل البخاري- في تاريخه الكبير بعدة روايات- و ليس لقائل أن يقول- فهذا الحديث إذا صححتموه كان حجة للسفيانية- لأنا نقول الخبر يتضمن أن عثمان و أصحابه على الحق- و هذا مذهبنا- لأنا نذهب إلى أن عثمان قتل مظلوما- و أنه و ناصريه يوم الدار على الحق- و أن القوم الذين قتلوه لم يكونوا على الحق- فأما معاوية و أهل الشام الذين حاربوا عليا ع بصفين- فليسوا بداخلين في الخبر- و لا في ألفاظ الخبر لفظ عموم يتعلق به- أ لا ترى أنه ليس فيه كل من أظهر الانتصار لعثمان- في حياته و بعد وفاته فهو على الحق- و إنما خلاصته أنه ستقوم فتنة- يكون عثمان فيها و أصحابه على الحق- و نحن لا نأبى ذلك بل هو مذهبنا- .

و روى نصر بن مزاحم في كتاب صفين- قال لما قدم عبيد الله بن عمر- بن الخطاب على معاوية بالشام- أرسل معاوية إلى عمرو بن العاص- إن الله قد أحيا لك عمر بن الخطاب بالشام- بقدوم عبيد الله بن عمر- و قد رأيت أن أقيمه خطيبا يشهد على علي بقتل عثمان- و ينال منه فقال الرأي ما رأيت فبعث إليه فأتاه- فقال له معاوية يا ابن أخي- إن لك‏ اسم أبيك فانظر بمل‏ء عينيك- و أنطق بمل‏ء فيك فأنت المأمون المصدق- فاصعد المنبر و اشتم عليا و اشهد عليه أنه قتل عثمان- . فقال أيها الأمير أما شتمه- فإن أباه أبو طالب و أمه فاطمة بنت أسد بن هاشم- فما عسى أن أقول في حسبه- و أما بأسه فهو الشجاع المطرق- و أما أيامه فما قد عرفت- و لكني ملزمه دم عثمان- فقال عمرو بن العاص قد و أبيك إذن نكأت القرحة- . فلما خرج عبيد الله بن عمر- قال معاوية أما و الله لو لا قتله الهرمزان- و مخافته عليا على نفسه ما أتانا أبدا- أ لا ترى إلى تقريظه عليا- فقال عمرو يا معاوية إن لم تغلب فاخلب- قال و خرج حديثهما إلى عبيد الله- فلما قام خطيبا تكلم بحاجته- فلما انتهى إلى أمر علي أمسك و لم يقل شيئا- فلما نزل بعث إليه معاوية يا ابن أخي- إنك بين عي و خيانة فبعث إليه- إني كرهت أن أقطع الشهادة على رجل لم يقتل عثمان- و عرفت أن الناس محتملوها عني فتركتها- . قال فهجره معاوية و استخف به و فسقه فقال عبيد الله-

معاوي لم أحرض بخطبة خاطب
و لم أك عيا في لؤي بن غالب‏

و لكنني زاولت نفسا أبية
على قذف شيخ بالعراقين غائب‏

و قذفي عليا بابن عفان جهرة كذاب
و ما طبي سجايا المكاذب‏

و لكنه قد قرب القوم جهده‏
و دبوا حواليه دبيب العقارب‏

فما قال أحسنتم و لا قد أسأتم
و أطرق إطراق الشجاع المواثب‏

فأما ابن عفان فأشهد أنه
أصيب بريئا لابسا ثوب تائب‏

و قد كان فيها للزبير عجاجة
و طلحة فيها جاهد غير لاعب‏

و قد أظهرا من بعد ذلك توبة
فيا ليت شعري ما هما في العواقب‏

قال فلما بلغ معاوية شعره بعث إليه فأرضاه- و قال حسبي هذا منك- . و روى نصر عن عبيد الله بن موسى- قال سمعت سفيان بن سعيد المعروف بسفيان الثوري- يقول ما أشك أن طلحة و الزبير بايعا عليا- و ما نقما عليه جورا في حكم و لا استئثارا بفي‏ء- و ما قاتل عليا أحد إلا و علي أولى بالحق منه- . و روى نصر بن مزاحم- أن عليا ع قدم من البصرة- في غرة شهر رجب من سنة ست و ثلاثين إلى الكوفة- و أقام بها سبعة عشر شهرا- تجري الكتب بينه و بين معاوية و عمرو بن العاص- حتى سار إلى الشام- . قال نصر و قد روي من طريق أبي الكنود و غيره- أنه قدم الكوفة بعد وقعة الجمل- لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رجب سنة ست و ثلاثين- .

قال نصر فدخل الكوفة- و معه أشراف الناس من أهل البصرة و غيرهم- فاستقبله أهل الكوفة- و فيهم قراؤهم و أشرافهم- فدعوا له بالبركة- و قالوا يا أمير المؤمنين أين تنزل أ تنزل القصر- قال لا و لكني أنزل الرحبة- فنزلها و أقبل حتى دخل المسجد الأعظم فصلى فيه ركعتين- ثم صعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه و صلى على رسوله- ثم قال‏ أما بعد يا أهل الكوفة- فإن لكم في الإسلام فضلا ما لم تبدلوا و تغيروا- دعوتكم إلى الحق فأجبتم- و بدأتم بالمنكر فغيرتم- ألا إن فضلكم فيما بينكم و بين الله- فأما في الأحكام و القسم فأنتم أسوة غيركم ممن أجابكم- و دخل فيما دخلتم فيه- ألا إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى و طول الأمل- أما اتباع الهوى فيصد عن الحق- و أما طول الأمل فينسي الآخرة- ألا إن الدنيا قد ترحلت مدبرة- و إن الآخرة قد ترحلت مقبلة- و لكل واحدة منهما بنون- فكونوا من أبناء الآخرة- اليوم عمل و لا حساب و غدا حساب و لا عمل- الحمد لله الذي نصر وليه و خذل عدوه- و أعز الصادق المحق و أذل الناكث المبطل- عليكم بتقوى الله- و طاعة من أطاع الله من أهل بيت نبيكم- الذين هم أولى بطاعتكم- فيما أطاعوا الله فيه من المستحلين- المدعين المقابلين إلينا يتفضلون بفضلنا- و يجاحدوننا أمرنا- و ينازعوننا حقنا- و يباعدوننا عنه- فقد ذاقوا وبال ما اجترحوا فسوف يلقون غيا- ألا إنه قد قعد عن نصرتي رجال منكم- و أنا عليهم عاتب زار- فاهجروهم و أسمعوهم ما يكرهون- حتى يعتبوا ليعرف بذلك حزب الله عند الفرقة- فقام إليه مالك بن حبيب اليربوعي و كان صاحب شرطته- فقال و الله إني لأرى الهجر و سماع المكروه لهم قليلا- و الله لو أمرتنا لنقتلنهم- فقال علي ع سبحان الله يا مال جزت المدى و عدوت الحد- فأغرقت في النزع- فقال يا أمير المؤمنين- لبعض الغشم أبلغ في أمر ينوبك من مهادنة الأعادي- فقال علي ع ليس هكذا قضى الله يا مال- قال سبحانه النَّفْسَ بِالنَّفْسِ- فما بال ذكر الغشم-.

و قال تعالى وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً- فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ- و الإسراف في القتل أن تقتل غير قاتلك- فقد نهى الله عنه و ذاك هو الغشم- فقام إليه أبو بردة بن عوف الأزدي- و كان ممن تخلف عنه- فقال يا أمير المؤمنين- أ رأيت القتلى حول عائشة و طلحة و الزبير علام قتلوا- أو قال بم قتلوا- فقال علي ع قتلوا بما قتلوا شيعتي و عمالي- و قتلوا أخا ربيعة العبدي في عصابة من المسلمين- قالوا إنا لا ننكث كما نكثتم و لا نغدر كما غدرتم- فوثبوا عليهم فقتلوهم- فسألتهم أن يدفعوا إلي قتلة إخواني أقتلهم بهم- ثم كتاب الله حكم بيني و بينهم فأبوا علي- و قاتلوني و في أعناقهم بيعتي- و دماء قريب من ألف رجل من شيعتي فقتلتهم- أ في شك أنت من ذلك- فقال قد كنت في شك فأما الآن فقد عرفت- و استبان لي خطأ القوم- و أنك المهتدي المصيب- .

قال نصر و كان أشياخ الحي يذكرون أنه كان عثمانيا- و قد شهد على ذلك صفين مع علي ع- و لكنه بعد ما رجع كان يكاتب معاوية- فلما ظهر معاوية أقطعه قطيعة بالفلوجة- و كان عليه كريما- . قال ثم إن عليا ع تهيأ لينزل- و قام رجال ليتكلموا- فلما رأوه نزل جلسوا و سكتوا- . قال و نزل علي ع بالكوفة على جعدة بن هبيرة المخزومي- . قلت جعدة ابن أخته أم هانئ بنت أبي طالب- كانت تحت هبيرة بن أبي وهب المخزومي- فأولدها جعدة و كان شريفا- .

قال نصر و لما قدم علي ع إلى الكوفة نزل على باب المسجد- فدخل فصلى ثم تحول فجلس إليه الناس- فسأل عن رجل من الصحابة كان نزل الكوفة- فقال قائل استأثر الله به-فقال علي ع إن الله تبارك و تعالى لا يستأثر بأحد من خلقه- إنما أراد الله جل ذكره بالموت إعزاز نفسه و إذلال خلقه- و قرأ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ- قال نصر فلما لحقه ع ثقله- قالوا أ ننزل القصر- فقال قصر الخبال لا تنزلوا فيه- . قال نصر و دخل سليمان بن صرد الخزاعي على علي ع- مرجعه من البصرة فعاتبه و عذله- و قال له ارتبت و تربصت و راوغت- و قد كنت من أوثق الناس في نفسي- و أسرعهم فيما أظن إلى نصرتي- فما قعد بك عن أهل بيت نبيك- و ما زهدك في نصرتهم- فقال يا أمير المؤمنين لا تردن الأمور على أعقابها- و لا تؤنبني بما مضى منها- و استبق مودتي تخلص لك نصيحتي- فقد بقيت أمور تعرف فيها عدوك من وليك- فسكت عنه و جلس سليمان قليلا ثم نهض- فخرج إلى الحسن بن علي ع و هو قاعد في باب المسجد- فقال أ لا أعجبك من أمير المؤمنين- و ما لقيت منه من التوبيخ و التبكيت- فقال الحسن إنما يعاتب من ترجى مودته و نصيحته- فقال لقد وثبت أمور ستشرع فيها القنا- و تنتضى فيها السيوف- و يحتاج فيها إلى أشباهي- فلاتستغشوا عتبي و لا تتهموا نصحي- فقال الحسن رحمك الله ما أنت عندنا بظنينقال نصر و دخل عليه سعيد بن قيس الأزدي فسلم عليه- فقال و عليك السلام و إن كنت من المتربصين- قال حاش لله يا أمير المؤمنين- فإني لست من أولئك- فقال لعل الله فعل ذلك- .  

قال نصر و حدثنا عمر بن سعد قال حدثنا يحيى بن سعيد عن محمد بن مخنف- قال دخلت مع أبي على علي ع مقدمه من البصرة- و هو عام بلغت الحلم- فإذا بين يديه رجال يؤنبهم-و يقول لهم ما أبطأ بكم عني و أنتم أشراف قومكم- و الله إن كان من ضعف النية و تقصير البصيرة إنكم لبور- و إن كان من شك في فضلي و مظاهرة علي إنكم لعدو- .

فقالوا حاش لله يا أمير المؤمنين- نحن سلمك و حرب عدوك- ثم اعتذر القوم فمنهم من ذكر عذرا- و منهم من اعتل بمرض- و منهم من ذكر غيبة- فنظرت إليهم فعرفتهم- فإذا عبد الله المعتم العبسي- و حنظلة بن الربيع التميمي- و كلاهما كانت له صحبة- و إذا أبو بردة بن عوف الأزدي- و إذا غريب بن شرحبيل الهمداني- . قال و نظر علي ع إلى أبي-فقال و لكن مخنف بن مسلم و قومه لم يتخلفوا- و لم يكن مثلهم كمثل القوم الذين قال الله تعالى فيهم- وَ إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ- فَإِنْ‏ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ- قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً- وَ لَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ- لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُ مَوَدَّةٌ- يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً- .

قال نصر ثم إن عليا ع مكث بالكوفة- فقال الشني في ذلك [شن بن عبد القيس‏]-

قل لهذا الإمام قد خبت
الحرب و تمت بذلك النعماء

و فرغنا من حرب من نقض العهد
و بالشام حية صماء

تنفث السم ما لمن نهشته
فارمها قبل أن تعض شفاء

إنه و الذي يحج له الناس‏
و من دون بيته البيداء

لضعيف النخاع إن رمي
اليوم بخيل كأنها أشلاء

تتبارى بكل أصيد كالفحل‏
بكفيه صعدة سمراء

إن تذره فما معاوية الدهر
بمعطيك ما أراك تشاء

و لنيل السماء أقرب من ذاك‏
و نجم العيوق و العواء

فأعد بالحد و الحديد
إليهم ليس و الله غير ذاك دواء

قال نصر و أتم علي ع صلاته يوم دخل الكوفة- فلما كانت الجمعة خطب الناس- فقال الحمد لله الذي أحمده و أستعينه و أستهديه- و أعوذ بالله من الضلالة من يهد الله فلا مضل له- و من يضلل فلا هادي له- و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له- و أشهد أن محمدا عبده و رسوله- انتجبه لأمره و اختصه بنبوته- أكرم خلقه عليه و أحبهم إليه فبلغ رسالة ربه- و نصح لأمته و أدى الذي عليه- أوصيكم بتقوى الله- فإن تقوى الله خير ما تواصى به عباد الله- و أقربه إلى رضوان الله- و خيره في عواقب الأمور عند الله- و بتقوى الله أمرتم- و للإحسان و الطاعة خلقتم- فاحذروا من الله ما حذركم من نفسه- فإنه حذر بأسا شديدا- و اخشوا خشية ليست بتعذير- و اعملوا في غير رياء و لا سمعة- فإنه من عمل لغير الله وكله الله إلى ما عمل له- و من عمل لله مخلصا تولى الله أجره- أشفقوا من عذاب الله- فإنه لم يخلقكم عبثا- و لم يترك شيئا من أمركم سدى- قد سمى آثاركم و علم أعمالكم و كتب آجالكم- فلا تغتروا بالدنيا فإنها غرارة لأهلها- مغرور من اغتر بها و إلى فناء ما هي- و إن الآخرة هي دار الحيوان لو كانوا يعلمون- أسأل الله منازل الشهداء و مرافقة الأنبياء- و معيشة السعداء فإنما نحن به و له- .

قال نصر ثم استعمل علي ع العمال و فرقهم في البلاد- و كتب إلى معاوية مع جرير بن عبد الله البجلي- ما تقدم ذكره-قال نصر و قال معاوية لعمرو بن العاص- أيام كان جرير عنده ينتظر جوابه- إنني قد رأيت أن نلقي إلى أهل مكة و أهل المدينة كتابا- نذكر فيه أمر عثمان- فإما أن ندرك به حاجتنا أو نكف القوم عنا- فقال له عمرو إنما تكتب إلى ثلاثة نفر- رجل راض بعلي فلا يزيده كتابك إلا بصيرة فيه- أو رجل يهوي عثمان فلن يزيده كتابك على ما هو عليه- أو رجل معتزل فلست في نفسه بأوثق من علي- . قال علي ذاك فكتبا- أما بعد- فإنه مهما غاب عنا من الأمور فلم يغب عنا- أن عليا قتل عثمان- و الدليل على ذلك مكان قتلته منه- و إنما نطلب قتلته حتى يدفعوا إلينا- فنقتلهم بكتاب الله عز و جل- فإن دفعهم علي إلينا كففنا عنه- و جعلناها شورى بين المسلمين- على ما جعلها عليه عمر بن الخطاب- فأما الخلافة فلسنا نطلبها- فأعينونا على أمرنا هذا- و انهضوا من ناحيتكم- فإن أيدينا و أيديكم إذا اجتمعت على أمر واحد- هاب علي ما هو فيه و السلام- .

فكتب إليهما عبد الله بن عمر- أما بعد- فلعمري لقد أخطأتما موضع النصرة- و تناولتماها من مكان بعيد- و ما زاد الله من شك في هذا الأمر بكتابكما إلا شكا- و ما أنتما و المشورة و ما أنتما و الخلافة- أما أنت يا معاوية فطليق- و أما أنت يا عمرو فظنين- ألا فكفا أنفسكما- فليس لكم فينا ولي و لا نصير و السلام- . قال نصر- و كتب رجل من الأنصار إليهما مع كتاب عبد الله بن عمر-

معاوي إن الحق أبلج واضح
و ليس بما ربصت أنت و لا عمرو

نصبت ابن عفان لنا اليوم خدعة
كما نصب الشيخان إذ قضي الأمر

يعني طلحة و الزبير رحمهما الله-

فهذا كهذاك البلا حذو نعله
سواء كرقراق يغر به السفر

رميتم عليا بالذي لا يضيره‏
و إن عظمت فيه المكيدة و المكر

و ما ذنبه إن نال عثمان معشر
أتوه من الأحياء تجمعهم مصر

فثار إليه المسلمون ببيعة
علانية ما كان فيها لهم قسر

و بايعه الشيخان ثم تحملا
إلى العمرة العظمى و باطنها الغدر

فكان الذي قد كان مما اقتصاصه‏
يطول فيا لله ما أحدث الدهر

و ما أنتما و النصر منا
و أنتما بعيثا حروب ما يبوخ لها جمر

و ما أنتما لله در أبيكما
و ذكركما الشورى و قد وضح الفجر

قال نصر و قام عدي بن حاتم الطائي إلى علي ع- فقال يا أمير المؤمنين إن عندي رجلا لا يوازى به رجل- و هو يريد أن يزور ابن عمه حابس بن سعد الطائي بالشام- فلو أمرناه أن يلقى معاوية- لعله أن يكسره و يكسر أهل الشام- فقال علي‏ ع نعم فأمره عدي بذلك- و كان اسم الرجل خفاف بن عبد الله- . فقدم على ابن عمه حابس بن سعد بالشام- و حابس سيد طي‏ء بها- فحدث خفاف حابسا أنه شهد عثمان بالمدينة- و سار مع علي إلى الكوفة- و كان لخفاف لسان و هيئة و شعر- فغدا حابس بخفاف إلى معاوية- فقال إن هذا ابن عم لي قدم الكوفة مع علي- و شهد عثمان بالمدينة و هو ثقة- فقال له معاوية هات- حدثنا عن عثمان فقال نعم حصره المكشوح- و حكم فيه حكيم و وليه عمار- و تجرد في أمره ثلاثة نفر- عدي بن حاتم و الأشتر النخعي و عمرو بن الحمق- و جد في أمره رجلان

شرح ‏نهج‏ البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 3

خطبه 43 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(قسمت اول)

43 و من كلام له ع-

و قد أشار عليه أصحابه بالاستعداد لحرب أهل الشام- بعد إرساله إلى معاوية بجرير بن عبد الله البجلي- :

إِنَّ اسْتِعْدَادِي لِحَرْبِ أَهْلِ الشَّامِ وَ جَرِيرٌ عِنْدَهُمْ- إِغْلَاقٌ لِلشَّامِ وَ صَرْفٌ لِأَهْلِهِ عَنْ خَيْرٍ إِنْ أَرَادُوهُ- وَ لَكِنْ قَدْ وَقَّتُّ لِجَرِيرٍ وَقْتاً لَا يُقِيمُ بَعْدَهُ- إِلَّا مَخْدُوعاً أَوْ عَاصِياً- وَ الرَّأْيُ مَعَ الْأَنَاةِ فَأَرْوِدُوا- وَ لَا أَكْرَهُ لَكُمُ الْإِعْدَادَ- وَ لَقَدْ ضَرَبْتُ أَنْفَ هَذَا الْأَمْرِ وَ عَيْنَهُ- وَ قَلَّبْتُ ظَهْرَهُ وَ بَطْنَهُ- فَلَمْ أَرَ فِيهِ إِلَّا الْقِتَالَ أَوِ الْكُفْرَ- بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ ص- إِنَّهُ قَدْ كَانَ عَلَى الْأُمَّةِ وَالٍ أَحْدَثَ أَحْدَاثاً- وَ أَوْجَدَ النَّاسَ مَقَالًا فَقَالُوا- ثُمَّ نَقَمُوا فَغَيَّرُوا أرودوا أي ارفقوا أرود في السير إروادا أي سار برفق- و الأناة التثبت و التأني و نهيه لهم عن الاستعداد- و قوله بعد و لا أكره لكم الإعداد غير متناقض- لأنه كره منهم إظهار الاستعداد و الجهر به- و لم يكره الإعداد في السر- و على وجه الخفاءو الكتمان- و يمكن أن يقال إنه كره استعداد نفسه- و لم يكره إعداد أصحابه و هذان متغايران- و هذا الوجه اختاره القطب الراوندي- . و لقائل أن يقول التعليل الذي علل به ع- يقتضي كراهية الأمرين معا- و هو أن يتصل بأهل الشام الاستعداد- فيرجعوا عن السلم إلى الحرب- بل ينبغي أن تكون- كراهته لإعداد جيشه و عسكره خيولهم و آلات حربهم أولى- لأن شياع ذلك أعظم من شياع استعداده وحده- لأنه وحده يمكن أن يكتم استعداده- و أما استعداد العساكر العظيمة فلا يمكن أن يكتم- فيكون اتصاله و انتقاله إلى أهل الشام أسرع- فيكون إغلاق الشام عن باب خير إن أرادوه أقرب- و الوجه في الجمع بين اللفظتين ما قدمناه- .

و أما قوله ع ضربت أنف هذا الأمر و عينه- فمثل تقوله العرب- إذا أرادت الاستقصاء في البحث و التأمل و الفكر- و إنما خص الأنف و العين لأنهما صورة الوجه- و الذي يتأمل من الإنسان إنما هو وجهه- . و أما قوله ليس إلا القتال أو الكفر- فلأن النهي عن المنكر واجب على الإمام- و لا يجوز له الإقرار عليه- فإن تركه فسق و وجب عزله عن الإمامة- . و قوله أو الكفر من باب المبالغة- و إنما هو القتال أو الفسق- فسمى الفسق كفرا تغليظا و تشديدا في الزجر عنه- . و قوله ع أوجد الناس مقالا- أي جعلهم واجدين له- . و قال الراوندي أوجد هاهنا بمعنى أغضب- و هذا غير صحيح لأنه لا شي‏ء ينصب به مقالا- إذا كان بمعنى أغضب- و الوالي المشار إليه عثمان‏

ذكر ما أورده القاضي عبد الجبار من دفع ما تعلق به الناس على عثمان من الأحداث

يجب أن نذكر هاهنا أحداثه- و ما يقوله أصحابنا في تأويلاتها- و ما تكلم به المرتضى في كتاب الشافي في هذا المعنى- فنقول إن قاضي القضاة رحمه الله تعالى قال في المغني- قبل الكلام في تفصيل هذه الأحداث كلاما مجملا- معناه أن كل من تثبت عدالته و وجب توليه- إما على القطع و إما على الظاهر فغير جائز- أن يعدل فيه عن هذه الطريقة- إلا بأمر متيقن يقتضي العدول عنها- يبين ذلك أن من شاهدناه- على ما يوجب الظاهر توليه و تعظيمه- يجب أن يبقى فيه على هذه الطريقة و إن غاب عنا- و قد عرفنا أنه مع الغيبة- يجوز أن يكون مستمرا على حالته- و يجوز أن يكون منتقلا- و لم يقدح هذا التجويز في وجوب ما ذكرناه- .

ثم قال فالحدث الذي يوجب الانتقال عن التعظيم و التولي- إذا كان من باب محتمل لم يجز الانتقال لأجله- و الأحوال المتقررة في النفوس بالعادات و الأحوال- المعروفة فيمن نتولاه أقوى في باب الإمارة- من الأمور المتجددة- فإن مثل فرقد السبخي و مالك بن دينار- لو شوهدا في دار فيها منكر- لقوي في الظن حضورهما للتغيير و الإنكار- أو على وجه الإكراه أو الغلط- و لو كان الحاضر هناك من علم من حاله الاختلاط بالمنكر- لجوز حضوره للفساد بل كان ذلك هو الظاهر من حاله- . ثم قال و اعلم أن الكلام فيما يدعى من الحدث و التغير- فيمن ثبت توليه- قد يكون من وجهين- أحدهما هل علم بذلك أم لا- . و الثاني أنه مع يقين حصوله- هل هو حدث يؤثر في العدالة أم لا- . و لا فرق بين تجويز ألا يكون حدث أصلا- و بين أن يعلم حدوثه و يجوز ألا يكون حدثا- .

ثم قال كل محتمل- لو أخبر الفاعل أنه فعله على أحد الوجهين- و كان يغلب على الظن صدقه لوجب تصديقه- فإذا عرف من حاله المتقررة في النفوس- ما يطابق ذلك جرى مجرى الإقرار- بل ربما كان أقوى- و متى لم نسلك هذه الطريقة في الأمور المشتبهة- لم يصح في أكثر من نتولاه و نعظمه أن تسلم حاله عندنا- فإنا لو رأينا من يظن به الخير- يكلم امرأة حسناء في الطريق- لكان ذلك من باب المحتمل- فإذا كان لو أخبر أنها أخته أو امرأته- لوجب ألا نحول عن توليه- فكذلك إذا كان قد تقدم في النفوس ستره و صلاحه- فالواجب أن نحمله على هذا الوجه- . ثم قال و قول الإمام له مزية في هذا الباب- لأنه آكد من غيره- و أما ما ينقل عن رسول الله ص- فإنه و إن لم يكن مقطوعا به يؤثر في هذا الباب- و يكون أقوى مما تقدم- . ثم قال و قد طعن الطاعنون فيه بأمور متنوعة مختلفة- و نحن نقدم على تلك المطاعن كلاما مجملا- يبين بطلانها على الجملة ثم نتكلم عن تفصيلها- .

قال و ذلك أن شيخنا أبا علي رحمه الله تعالى قد قال- لو كانت هذه الأحداث مما توجب طعنا على الحقيقة- لوجب من الوقت الذي ظهر ذلك من حاله- أن يطلب المسلمون رجلا ينصب للإمامة- و أن يكون ظهور ذلك عن عثمان كموته- فإنه لا خلاف أنه متى ظهر من الإمام ما يوجب خلعه- أن الواجب على المسلمين إقامة إمام سواه- فلما علمنا أن طلبهم لإقامة إمام إنما كان بعد قتله- و لم يكن من قبل و التمكن قائم- علمنا بطلان ما أضيف إليه من الأحداث- .

قال و ليس لأحد أن يقول إنهم لم يتمكنوا من ذلك- لأن المتعالم من حالهم أنهم حصروه- و منعوه من التمكن من نفسه- و من التصرف في سلطانه- خصوصا و الخصوم يدعون- أن الجميع كانوا على قول واحد في خلعه و البراءة منه- . قال و معلوم من حال هذه الأحداث- أنها لم تحصل أجمع في الأيام التي حوصر فيها و قتل- بل كانت تحصل من قبل حالا بعد حال- فلو كان ذلك يوجب الخلع و البراءة- لما تأخر من المسلمين الإنكار عليه- و لكان كبار الصحابة المقيمون بالمدينة- أولى بذلك من الواردين من البلاد- لأن أهل العلم و الفضل بإنكار ذلك أحق من غيرهم- . قال فقد كان يجب على طريقتهم- أن تحصل البراءة و الخلع من أول الوقت- الذي حصل منه ما أوجب ذلك- و ألا ينتظر حصول غيره من الأحداث- لأنه لو وجب انتظار ذلك لم ينته إلى حد إلا و ينتظر غيره- . ثم ذكر أن إمساكهم عن ذلك إذا تيقنوا الأحداث منه- يوجب نسبة الجميع إلى الخطإ و الضلال- و لا يمكنهم أن يقولوا إن علمهم بذلك- إنما حصل في الوقت الذي حصر و منع- لأن من جملة الأحداث التي يذكرونها ما تقدم عن هذه الحال- بل كلها أو جلها تقدم هذا الوقت- و إنما يمكنهم أن يتعلقوا فيما حدث في هذا الوقت- بما يذكرونه من‏حديث الكتاب النافذ- إلى ابن أبي سرح بالقتل- و ما أوجب كون ذلك حدثنا يوجب كون غيره حدثا- فكان يجب أن يفعلوا ذلك من قبل- و احتمال المتقدم للتأويل كاحتمال المتأخر- .

ثم قال و بعد فليس يخلو من أن يدعوا- أن طلب الخلع وقع من كل الأمة أو من بعضهم- فإن ادعوا ذلك في بعض الأمة- فقد علمنا أن الإمامة إذا ثبتت بالإجماع- لم يجز إبطالها بلا خلاف- لأن الخطأ جائز على بعض الأمة- و إن ادعوا في ذلك الإجماع لم يصح- لأن من جملة أهل الإجماع عثمان و من كان ينصره- و لا يمكن إخراجه من الإجماع- بأن يقال إنه كان على باطل- لأن بالإجماع يتوصل إلى ذلك و لم يثبت- . ثم قال على أن الظاهر من حال الصحابة- أنها كانت بين فريقين- أما من نصره فقد روي عن زيد بن ثابت- أنه قال لعثمان و من معه من الأنصار ائذن لنا بنصرك- و روي مثل ذلك عن ابن عمر و أبي هريرة و المغيرة بن شعبة- و الباقون ممتنعون انتظارا لزوال العارض- إلا أنه لو ضيق عليهم الأمر في الدفع ما قعدوا- بل المتعالم من حالهم ذلك- . ثم ذكر ما روي من إنفاذ أمير المؤمنين ع- الحسن و الحسين ع إليه- و أنه لما قتل لامهما ع على وصول القوم إليه- ظنا منه أنهما قصرا- .

و ذكر أن أصحاب الحديث يروون عن النبي ص أنه قال ستكون فتنة و اختلاف- و أن عثمان و أصحابه يومئذ على الهدى- و ما روي عن عائشة من قولها قتل و الله مظلوما- . قال و لا يمتنع أن يتعلق بأخبار الأحاديث في ذلك- لأنه ليس هناك أمر ظاهر يدفعه- نحو دعواهم أن جميع الصحابة كانوا عليه- لأن ذلك دعوى منهم و إن كان فيه رواية من جهة الآحاد- و إذا تعارضت الروايات سقطت- و وجب الرجوع إلى ما ثبت من أحواله السليمة و وجوب توليه- .

قال- و لا يجوز أن يعدل عن تعظيمه و صحة إمامته بأمور محتملة- فلا شي‏ء مما ذكروه إلا و يحتمل الوجه الصحيح- . ثم ذكر أن للإمام أن يجتهد برأيه في الأمور المنوطة به- و يعمل فيها على غالب ظنه و قد يكون مصيبا- و إن أفضت إلى عاقبة مذمومة- . فهذه جملة ما ذكره قاضي القضاة رحمه الله تعالى- في المغني من الكلام إجمالا- في دفع ما يتعلق به على عثمان من الأحداث

رد المرتضى على ما أورده القاضي عبد الجبار من الدفاع عن عثمان

و اعترض المرتضى رحمه الله تعالى في الشافي فقال- أما قوله- من تثبت عدالته و وجب توليه إما قطعا أو على الظاهر- فغير جائز أن يعدل فيه عن هذه الطريقة إلا بأمر متيقن- فغير مسلم لأن من نتولاه على الظاهر- و ثبتت عدالته عندنا من جهة غالب الظن- يجب أن نرجع عن ولايته- بما يقتضي غالب الظن دون اليقين- و لهذا يؤثر في جرح الشهود و سقوط عدالتهم- أقوال الجارحين- و إن كانت مظنونة غير معلومة- و ما يظهر من أنفسهم من الأفعال- التي لها ظاهر يظن معه القبيح بهم- حتى نرجع عما كنا عليه من القول بعدالتهم- و إن لم يكن كل ذلك متيقنا- و إنما يصح ما ذكره- فيمن ثبتت عدالته على القطع و وجب توليه على الباطن- فلا يجوز أن يؤثر في حاله ما يقتضي الظن- لأن الظن لا يقابل العلم و الدلالة لا تقابل الأمارة- .

فإن قال لم أرد بقولي إلا بأمر متيقن أن كونه حدثا متيقن- و إنما أردت تيقن وقوع الفعل نفسه- – . قلنا الأمران سواء في تأثير غلبة الظن فيهما- و لهذا يؤثر- في عدالة من تقدمت‏ عدالته عندنا على سبيل الظن- أقوال من يخبرنا عنه بارتكاب القبائح إذا كانوا عدولا- و إن كانت أقوالهم لا تقتضي اليقين- بل يحصل عندها غالب الظن- و كيف لا نرجع عن ولاية من توليناه على الظاهر- بوقوع أفعال منه يقتضي ظاهرها خلاف الولاية- و نحن إنما قلنا بعدالته في الأصل على سبيل الظاهر- و مع التجويز لأن يكون ما وقع منه في الباطن قبيحا- لا يستحق به التولي و التعظيم- أ لا ترى أن من شاهدناه يلزم مجالس العلم- و يكرر تلاوة القرآن و يدمن الصلاة و الصيام و الحج- يجب أن نتولاه و نعظمه على الظاهر- و إن جوزنا أن يكون جميع ما وقع منه مع خبث باطنه- و أن غرضه في فعله القبيح فلم نتوله إلا على الظاهر- و مع التجويز- فكيف لا نرجع عن ولايته بما يقابل هذه الطريقة- فأما من غاب عنا و تقدمت له أحوال تقتضي الولاية- فيجب أن نستمر على ولايته- و إن جوزنا على الغيبة- أن يكون منتقلا عن الأحوال الجميلة التي عهدناها منه- إلا أن هذا تجويز محض لا ظاهر معه يقابل ما تقدم من الظاهر الجميل- و هو بخلاف ما ذكرناه من مقابلة الظاهر للظاهر- و إن كان في كل واحد من الأمرين تجويز- .

قال و قد أصاب في قوله- إن ما يحتمل لا ينتقل له عن التعظيم و التولي- إن أراد بالاحتمال ما لا ظاهر له- و أما ما له ظاهر و مع ذلك يجوز أن يكون الأمر فيه بخلاف ظاهره- فإنه لا يسمى محتملا- و قد يكون مؤثرا فيما ثبت من التولي على الظاهر- على ما ذكرناه- . قال فأما قوله- إن الأحوال المتقررة في النفوس بالعادات- فيمن نتولاه تؤثر ما لا يؤثر غيرها- و تقتضي حمل أفعاله على الصحة و التأول له- فلا شك أن ما ذكره مؤثر و طريق قوي إلى غلبة الظن- إلا أنه ليس يقتضي ما يتقرر في نفوسنا- لبعض من نتولاه على الظاهر- أن نتأول كل ما يشاهد منه من الأفعال التي لها ظاهر قبيح- و نحمل الجميع على‏ أجمل الوجوه- و إن كان بخلاف الظاهر- بل ربما تبين الأمر فيما يقع منه من الأفعال- التي ظاهرها القبيح إلى أن تؤثر في أحواله المقررة- و نرجع بها عن ولايته- و لهذا نجد كثيرا من أهل العدالة- المتقررة لهم في النفوس- ينسلخون منها حتى يلحقوا بمن لا تثبت له- في وقت من الأوقات عدالة- و إنما يكون ذلك بما يتوالى منهم- و يتكرر من الأفعال القبيحة الظاهرة- .

قال فأما ما استشهد به- من أن مثل مالك بن دينار لو شاهدناه في دار فيها منكر- لقوي في الظن حضوره لأجل التغيير و الإنكار- أو على وجه الإكراه و الغلط- و أن غيره يخالفه في هذا الباب- فصحيح لا يخالف ما ذكرناه- لأن مثل مالك بن دينار- ممن تناصرت أمارات عدالته- و شواهد نزاهته حالا بعد حال- لا يجوز أن يقدح فيه فعل له ظاهر قبيح- بل يجب لما تقدم من حاله أن نتأول فعله- و نخرجه عن ظاهره إلى أجمل وجوهه- و إنما وجب ذلك لأن الظنون المتقدمة- أقوى و أولى بالترجيح و الغلبة- فنجعلها قاضية على الفعل و الفعلين- و لهذا متى توالت منه الأفعال القبيحة الظاهرة و تكررت- قدحت في حاله و أثرت في ولايته- كيف لا يكون كذلك- و طريق ولايته في الأصل هو الظن و الظاهر- و لا بد من قدح الظاهر في الظاهر- و تأثير الظن في الظن على بعض الوجوه- .

قال فأما قوله- فإن كل محتمل لو أخبرنا عنه و هو مما يغلب على الظن- صدقه أنه فعله على أحد الوجهين وجب تصديقه- فمتى عرف من حاله المتقررة في النفوس ما يطابق ذلك- جرى مجرى الإخبار- فأول ما فيه أن المحتمل هو ما لا ظاهر له من الأفعال- و الذي يكون جواز كونه قبيحا كجواز كونه حسنا- و مثل هذا الفعل لا يقتضي ولاية و لا عداوة- و إنما يقتضي الولاية ما له من الأفعال ظاهر جميل- و يقتضي العداوة ما له ظاهر قبيح- . فإن قال أردت بالمحتمل ما له ظاهر- لكنه يجوز أن يكون الأمر بخلاف ظاهره- .

قيل له ما ذكرته لا يسمى محتملا- فإن كنت عنيته فقد وضعت العبارة في غير موضعها- و لا شك في أنه إذا كان ممن لو أخبرنا- بأنه فعل الفعل على أحد الوجهين- لوجب تصديقه و حمل الفعل على خلاف ظاهره- فإن الواجب لما تقرر له في النفوس أن يتأول له- و يعدل بفعله عن الوجه القبيح إلى الوجه الجميل- إلا أنه متى توالت منه الأفعال التي لها ظواهر قبيحة- فلا بد أن تكون مؤثرة في تصديقه- متى خبرنا بأن غرضه في الفعل خلاف ظاهره- كما تكون مانعة من الابتداء بالتأول- . و ضربه المثل بأن من نراه يكلم امرأة حسناء في الطريق- إذا أخبر أنها أخته أو امرأته- في أن تصديقه واجب- و لو لم يخبر بذلك لحملنا كلامه لها على أجمل الوجوه- لما تقدم له في النفوس صحيح- إلا أنه لا بد من مراعاة ما تقدم ذكره- من أنه قد يقوى الأمر لقوة الأمارات و الظواهر- إلى حد لا يجوز معه تصديقه و لا التأول له- و لو لا أن الأمر قد ينتهي إلى ذلك- لما صح أن يخرج أحد عندنا من الولاية إلى العداوة- و لا من العدالة إلى خلافها- لأنه لا شي‏ء مما يفعله الفساق المتهتكون- إلا و يجوز أن يكون له باطن بخلاف الظاهر- و مع ذلك فلا يلتفت إلى هذا التجويز- يبين صحة ما ذكرناه أنا لو رأينا من يظن به الخير- يكلم امرأة حسناء في الطريق و يداعبها و يضاحكها- لظننا به الجميل مرة و مرات- ثم ينتهي الأمر إلى ألا نظنه- و كذلك لو شاهدناه و بحضرته المنكر- لحملنا حضوره على الغلط أو الإكراه- أو غير ذلك من الوجوه الجميلة- ثم لا بد من انتهاء الأمر إلى أن نظن به القبيح- و لا نصدقه في كلامه- .

قال ثم نقول له- أخبرنا عمن شاهدناه من بعد- و هو مفترش امرأة نعلم أنها ليست له بمحرم- و أن لها في الحال زوجا غيره- و هو ممن تقررت له في النفوس عدالة متقدمة- ما ذا يجب أن نظن به- و هل نرجع بهذا الفعل عن ولايته- أم نحمله على أنه غالط و متوهم أن المرأة زوجته- أو على أنه مكره على الفعل أو غير ذلك من الوجوه الجميلة- . فإن قال نرجع عن الولاية- اعترف بخلاف ما قصده في الكلام- و قيل له أي فرق بين هذا الفعل- و بين جميع ما عددناه من الأفعال- و ادعيت أن الواجب أن نعدل عن ظاهرها- و ما جواز الجميل في ذلك إلا كجواز الجميل في هذا الفعل- . و إن قال لا أرجع بهذا الفعل عن ولايته- بل نؤوله على بعض الوجوه الجميلة- . قيل له أ رأيت لو تكرر هذا الفعل- و توالى هو و أمثاله حتى نشاهده حاضرا في دور القمار- و مجالس اللهو و اللعب- و نراه يشرب الخمر بعينها- و كل هذا مما يجوز أن يكون عليه مكرها- و في أنه القبيح بعينه غالطا- أ كان يجب علينا الاستمرار على ولايته أم العدول عنها- فإن قال نستمر و نتأول- ارتكب ما لا شبهة في فساده- و ألزم ما قد قدمنا ذكره- من أنه لا طريق إلى الرجوع عن ولاية أحد- و لو شاهدنا منه أعظم المناكير- و وقف أيضا على أن طريق الولاية المتقدمة- إذا كان الظن دون القطع- فكيف لا نرجع عنها لمثل هذا الطريق- فلا بد إذن من الرجوع- إلى ما بيناه و فصلناه في هذا الباب- . قال فأما قوله- إن قول الإمام له مزية لأنه آكد من غيره- فلا معنى له- لأن قول الإمام على مذهبنا يجب أن يكون له مزية- من حيث كان معصوما مأمون الباطن- و على مذهبه إنما تثبت ولايته بالظاهر- كما تثبت ولاية غيره من سائر المؤمنين- فأي مزية له في هذا الباب- .

و قوله إن ما ينقل عن الرسول- و إن لم يكن مقطوعا عليه يؤثر في هذا الباب- و يكون أقوى مما تقدم- غير صحيح على إطلاقه- لأن تأثير ما ينقل إذا كان يقتضي غلبة الظن لا شبهة فيه- فأما تقويته على غيره فلا وجه له- و قد كان يجب أن يبين من أي الوجوه يكون أقوى- . فهذه جملة ما اعترض به المرتضى- على الفصل الأول من كلام قاضي القضاة رحمه الله تعالى- .

تم الجزء الثاني من شرح نهج البلاغة

الجزء الثالث

تتمة الخطب و الأوامر

تتمة خطبة 43

بسم الله الرحمن الرحيم-

الحمد لله الواحد العدل الكريم- و اعلم أن الذي ذكره المرتضى رحمه الله تعالى- و أورده على قاضي القضاة جيد و لازم- متى ادعى قاضي القضاة أن العدالة إذا ثبتت ظنا أو قطعا- لم يجز العدول عنها و التبرؤ إلا بما يوجب القطع- و يعلم به علما يقينيا زوالها- فأما إذا ادعى أن المعلوم لا يزول إلا بما يوجب العلم- فلا يرد عليه ما ذكره المرتضى رحمه الله تعالى- . و له أن يقول قد ثبتت بالإجماع إمامة عثمان- و الإجماع دليل قطعي عند أصحابنا- و كل من ثبتت إمامته- ثبتت عدالته بالطريق التي بها ثبتت إمامته- لأنه لا يجوز أن تكون إمامته معلومة و شرائطها مظنونة- لأن الموقوف على المظنون مظنون- فتكون إمامته مظنونة و قد فرضناها معلومة- و هذا خلف و محال- و إذا كانت عدالته معلومة- لم يجز القول بانتفائها و زوالها إلا بأمر معلوم- . و الأخبار التي رويت في أحداثه أخبار آحاد لا تفيد العلم- فلا يجوز العدول عن المعلوم بها- فهذا الكلام إذا رتب هذا الترتيب- اندفع به ما اعترض به المرتضى رحمه الله تعالى‏

بقية رد المرتضى على ما أورده القاضي عبد الجبار من الدفاع عن عثمان

فأما كلام المرتضى رحمه الله تعالى- على الفصل الثاني من كلام قاضي القضاة- و هو الفصل المحكي عن شيخنا أبي علي رحمه الله تعالى- فنحن نورده قال رحمه الله تعالى- . أما قوله لو كان ما ذكر من الأحداث قادحا- لوجب من الوقت الذي ظهرت الأحداث فيه- أن يطلبوا رجلا ينصبونه في الإمامة- لأن ظهور الحدث كموته- فلما رأيناهم طلبوا إماما بعد قتله- دل على بطلان ما أضافوه إليه من الأحداث- فليس بشي‏ء معتمد- لأن تلك الأحداث و إن كانت مزيلة عندهم لإمامته- و فاسخة لها و مقتضية لأن يعقدوا لغيره الإمامة- إلا أنهم لم يكونوا قادرين على أن يتفقوا على نصب غيره- مع تشبثه بالأمر خوفا من الفتنة و التنازع و التجاذب- و أرادوا أن يخلع نفسه حتى تزول الشبهة- و ينشط من يصلح للأمر لقبول العقد و التكفل بالأمر- و ليس يجري ذلك مجرى موته- لأن موته يحسم الطمع في استمرار ولايته- و لا تبقى شبهة في خلو الزمان من إمام- و ليس كذلك حدثه الذي يسوغ فيه التأويل على بعده- و تبقى معه الشبهة في استمرار أمره- و ليس نقول إنهم لم يتمكنوا من ذلك كما سأل نفسه- بل الوجه في عدولهم ما ذكرناه من إرادتهم حسم المواد و إزالة الشبهة و قطع أسباب الفتنة- .

قال فأما قوله إنه معلوم من حال هذه الأحداث- أنها لم تحصل أجمع في الأيام التي حصر فيها و قتل- بل كانت تقع حالا بعد حال- فلو كانت توجب الخلع و البراءة- لما تأخر من المسلمين الإنكار عليه- و لكان المقيمون من الصحابة بالمدينة- أولى بذلك من الواردين من البلاد- فلا شك أن الأحداث لم تحصل في وقت واحد- إلا أنه غير منكر أن يكون نكيرهم إنما تأخر- لأنهم تأولوا ما ورد عليهم من أفعاله على أجمل الوجوه- حتى زاد الأمر و تفاقم- و بعد التأويل و تعذر التخريج- و لم يبق للظن الجميل طريق فحينئذ أنكروا- و هذا مستمر على ما قدمنا ذكره- من أن العدالة و الطريقة الجميلة- يتأول لها في الفعل و الأفعال القليلة- بحسب ما تقدم من حسن الظن به- ثم ينتهي الأمر بعد ذلك إلى بعد التأويل- و العمل على الظاهر القبيح- .

قال على أن الوجه الصحيح في هذا الباب- أن أهل الحق كانوا معتقدين بخلعه من أول حدث- بل معتقدين أن إمامته لم تثبت وقتا من الأوقات- و إنما منعهم من إظهار ما في نفوسهم- ما قدمناه من أسباب الخوف و التقية- لأن الاعتذار بالوجل كان عاما- فلما تبين أمره حالا بعد حال- و أعرضت الوجوه عنه- و قل العاذر له قويت الكلمة في خلعه- و هذا إنما كان في آخر الأمر دون أوله- فليس يقتضي الإمساك عنه إلى الوقت الذي وقع الكلام فيه- نسبة الخطأ إلى الجميع على ما ظنه- .

قال فأما دفعه- بأن تكون الأمة أجمعت على خلعه بخروجه نفسه- و خروج من كان في حيزه عن القوم فليس بشي‏ء- لأنه إذا ثبت أن من عداه و عدا عبيده- و الرهيط من فجار أهله و فساقهم- كمروان و من جرى مجراه- كانوا مجمعين على خلعه- فلا شبهة في أن الحق في غير حيزه- لأنه لا يجوز أن يكون هو المصيب و جميع الأمة مبطل- و إنما يدعى أنه على الحق لمن ينازع في إجماع من عداه- فأما مع التسليم لذلك فليس يبقى شبهة- و ما نجد مخالفينا يعتبرون في باب الإجماع بإجماع الشذاذ- و النفر القليل الخارجين من الإجماع- أ لا ترى أنهم لا يحفلون بخلاف سعد و أهله و ولده- في بيعه أبي بكر لقلتهم و كثرة من بإزائهم- و لذلك لا يعتدون بخلاف من امتنع من بيعة أمير المؤمنين ع- و يجعلونه شاذا لا تأثير بخلافه- فكيف فارقوا هذه الطريقة في خلع عثمان- و هل هذا إلا تقلب و تلون- .

قلت أما إذا احتج أصحابنا على إمامة أبي بكر بالإجماع- فاعتراض حجتهم بخلاف سعد و ولده و أهله اعتراض جيد- و ليس يقول أصحابنا في جوابه- هؤلاء شذاذ فلا نحفل بخلافهم- و إنما المعتبر بالكثرة التي بإزائهم- و كيف يقولون هذا- و حجتهم الإجماع و لا إجماع- و لكنهم يجيبون عن ذلك بأن سعدا مات في خلافة عمر- فلم يبق من يخالف في خلافة عمر- فانعقد الإجماع عليها- و بايع ولد سعد و أهله من قبل- و إذا صحت خلافة عمر صحت خلافة أبي بكر لأنها فرع عليها- و محال أن يصح الفرع و يكون الأصل فاسدا- فهكذا يجيب أصحابنا عن الاعتراض بخلاف سعد- إذا احتجوا بالإجماع- فأما إذا احتجوا بالاختيار- فلا يتوجه نحوهم الاعتراض بخلاف سعد و أهله و ولده- لأنه ليس من شرط ثبوت الإمامة بالاختيار- إجماع الأمة على الاختيار- و إنما يكفي فيه بيعة خمسة من أهل الحل و العقد- على الترتيب الذي يرتب أصحابنا الدلالة عليه- و بهذا الطريق يثبت عندهم إمامة علي ع- و لم يحفل بخلاف معاوية و أهل الشام فيها- .

قال رحمه الله تعالى- فأما قوله إن الصحابة كانت بين فريقين- من نصره كزيد بن ثابت و ابن عمر و فلان و فلان- و الباقون ممتنعون انتظارا لزوال العارض- و لأنه ما ضيق عليهم الأمر في الدفع عنه فعجيب- لأن الظاهر أن أنصاره هم الذين كانوا معه في الدار- يقاتلون عنه و يدفعون الهاجمين عليه- . فأما من كان في منزله ما أغنى عنه فتيلا فلا يعد ناصرا- و كيف يجوز ممن أراد نصرته- و كان معتقدا لصوابه- و خطإ المطالبين له بالخلع- أن يتوقف عن النصرة طلبا لزوال العارض- و هل تراد النصرة إلا لدفع العارض- و بعد زواله لا حاجة إليها- و ليس يحتاج في نصرته إلى أن يضيق هو عليهم الأمر فيها- بل من كان معتقدا لها لا يحتاج حمله إلى إذنه فيها- و لا يحفل بنهيه عنها- لأن المنكر مما قد تقدم أمر الله تعالى بالنهي عنه- فليس يحتاج في إنكاره إلى أمر غيره- .

قال فأما زيد بن ثابت فقد روي ميله إلى عثمان- و ما يغني ذلك و بإزائه جميع المهاجرين و الأنصار- و لميله إليه سبب معروف- فإن الواقدي روى في كتاب الدار- أن مروان بن الحكم لما حصر عثمان الحصر الأخير- أتى زيد بن ثابت فاستصحبه إلى عائشة- ليكلمها في هذا الأمر- فمضيا إليها و هي عازمة على الحج- فكلماها في أن تقيم و تذب عنه- فأقبلت على زيد بن ثابت- فقالت و ما منعك يا ابن ثابت- و لك الأشاريف قد اقتطعكها عثمان و لك كذا و كذا- و أعطاك عثمان من بيت المال عشرة آلاف دينار- قال زيد فلم أرجع عليها حرفا واحدا- و أشارت إلى مروان بالقيام- فقام مروان و هو يقول-

حرق قيس علي البلاد
حتى إذا اضطرمت أجذما

فنادته عائشة و قد خرج من العتبة- يا ابن الحكم أ علي تمثل الأشعار- قد و الله سمعت ما قلت- أ تراني في شك من صاحبك- و الذي نفسي بيده- لوددت أنه الآن في غرارة من غرائري مخيط عليه- فألقيه في البحر الأخضر- قال زيد بن ثابت فخرجنا من عندها على اليأس منها- . و روى الواقدي- أن زيد بن ثابت اجتمع عليه عصابة من الأنصار- و هو يدعوهم إلى نصرة عثمان- فوقف عليه جبلة بن عمرو بن حبة المازني- فقال له و ما يمنعك يا زيد أن تذب عنه- أعطاك عشرة آلاف دينار و حدائق من نخل- لم ترث عن أبيك مثل حديقة منها- . فأما ابن عمر فإن الواقدي روى أيضا عنه- أنه قال و الله ما كان فينا إلا خاذل أو قاتل- و الأمر على هذا أوضح من أن يخفى- . فأما ما ذكره من إنفاذ أمير المؤمنين ع الحسن و الحسين ع- فإنما أنفذهما إن كان أنفذهما- ليمنعا من انتهاك حريمه و تعمد قتله- و منع خرمه و نسائه من الطعام و الشراب- و لم ينفذهما ليمنعا من مطالبته بالخلع- و كيف و هو ع مصرح بأنه يستحق بإحداثه الخلع- و القوم الذين سعوا في ذلك إليه كانوا يغدون و يروحون- و معلوم منه ضرورة أنه كان مساعدا على خلعه و نقض أمره- لا سيما في المرة الأخيرة- فأما ادعاؤه أنه ع لعن قتلته- فهو يعلم ما في هذا من الروايات المختلفة- التي‏ هي أظهر من هذه الرواية و إن صحت- فيجوز أن تكون محمولة على لعن من قتله متعمدا قتله- قاصدا إليه فإن ذلك لم يكن لهم- . فأما ادعاؤه أن طلحة رجع لما ناشده عثمان يوم الدار- فظاهر البطلان و غير معروف في الرواية- و الظاهر المعروف أنه لم يكن على عثمان أشد من طلحة- و لا أغلظ منه- .

قال و لو حكينا من كلامه فيه ما قد روي- لأفنينا قطعة كثيرة من هذا الكتاب- و قد روي أن عثمان كان يقول يوم الدار- اللهم اكفني طلحة و يكرر ذلك- علما بأنه أشد القوم عليه- و روي أن طلحة كان عليه يوم الدار درع و هو يرامي الناس- و لم ينزع عن القتال حتى قتل الرجل- . فأما ادعاؤه الرواية-عن رسول الله ص ستكون فتنة- و أن عثمان و أصحابه يومئذ على الهدى – فهو يعلم أن هذه الرواية الشاذة- لا تكون في مقابلة المعلوم- ضرورة من إجماع الأمة على خلعه و خذله- و كلام وجوه المهاجرين و الأنصار فيه- و بإزاء هذه الرواية ما يملأ الطروس عن النبي ص و غيره- مما يتضمن ما تضمنته- و لو كانت هذه الرواية معروفة- لكان عثمان أولى الناس بالاحتجاج بها يوم الدار- و قد احتج عليهم بكل غث و سمين- و قبل ذلك لما خوصم و طولب بأن يخلع نفسه- و لاحتج بها عنه بعض أصحابه و أنصاره- و في علمنا بأن شيئا من ذلك لم يكن- دلالة على أنها مصنوعة موضوعة- . فأما ما رواه عن عائشة من قولها قتل و الله مظلوما- فأقوال عائشة فيه معروفة و معلومة- و إخراجها قميص رسول الله ص و هي تقول- هذا قميصه لم يبل- و قد أبلى عثمان سنته- إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة- .

فأما مدحها له و ثناؤها عليه- فإنما كانا عقيب علمها بانتقال الأمر- إلى من انتقل إليه- و السبب فيه معروف و قد وقفت عليه- و قوبل بين كلامها فيه متقدما و متأخرا- . فأما قوله لا يمتنع أن يتعلق بأخبار الآحاد في ذلك- لأنها في مقابلة ما يدعونه مما طريقه أيضا الآحاد- فواضح البطلان- لأن إطباق الصحابة و أهل المدينة- إلا من كان في الدار معه على خلافه- فإنهم كانوا بين مجاهد و مقاتل مبارز- و بين متقاعد خاذل- معلوم ضرورة لكل من سمع الأخبار- و كيف يدعى أنها من جهة الآحاد- حتى يعارض بأخبار شاذة نادرة- و هل هذا إلا مكابرة ظاهرة- . فأما قوله إنا لا نعدل عن ولايته بأمور محتملة- فقد مضى الكلام في هذا المعنى- و قلنا إن المحتمل هو ما لا ظاهر له- و يتجاذبه أمور محتملة- فأما ما له ظاهر فلا يسمى محتملا و إن سماه بهذه التسمية- فقد بينا أنه مما يعدل من أجله عن الولاية- و فصلنا ذلك تفصيلا بينا- .

و أما قوله إن للإمام أن يجتهد برأيه في الأمور المنوطة به- و يكون مصيبا و إن أفضت إلى عاقبة مذمومة- فأول ما فيه أنه ليس للإمام و لا غيره أن يجتهد في الأحكام- و لا يجوز أن يعمل فيها إلا على النص- ثم إذا سلمنا الاجتهاد- فلا شك أن هاهنا أمورا لا يسوغ فيها الاجتهاد- حتى يكون من خبرنا عنه بأنه اجتهد فيها غير مصوب- و تفصيل هذه الجملة- يبين عند الكلام على ما تعاطاه من الإعذار- عن أحداثه على جهة التفصيل- . قلت الكلام في هذا الموضع على سبيل الاستقصاء- إنما يكون في الكتب الكلامية- المبسوطة في مسألة الإمامة- و ليس هذا موضع ذاك- و لكن يكفي قاضي القضاة أن يقول-قد ثبت بالإجماع صحة إمامة عثمان- فلا يجوز الرجوع عن هذا الإجماع- إلا بإجماع معلوم على خلعه و إباحة قتله- و لم يجمع المسلمون على ذلك- لأنه قد كان بالمدينة من ينكر ذلك و إن قلوا- و قد كان أهل الأمصار ينكرون ذلك- كالشام و البصرة و الحجاز و اليمن و مكة و خراسان- و كثير من أهل الكوفة و هؤلاء مسلمون- فيجب أن تعتبر أقوالهم في الإجماع- فإذا لم يدخلوا فيمن أجلب عليه- لم ينعقد الإجماع على خلعه و لا على إباحة دمه- فوجب البقاء على ما اقتضاه

الإجماع الأول

ذكر المطاعن التي طعن بها على عثمان و الرد عليها

فأما الكلام في المطاعن المفصلة التي طعن بها فيه-

فنحن نذكرها و نحكي ما ذكره قاضي القضاة- و ما اعترضه به المرتضى رحمه الله تعالى- .

الطعن الأول- قال قاضي القضاة في المغني فمما طعن به عليه قولهم- إنه ولى أمور المسلمين من لا يصلح لذلك و لا يؤتمن عليه- و من ظهر منه الفسق و الفساد و من لا علم عنده- مراعاة منه لحرمة القرابة- و عدولا عن مراعاة حرمة الدين و النظر للمسلمين- حتى ظهر ذلك منه و تكرر- و قد كان عمر حذره من ذلك- حيث وصفه بأنه كلف بأقاربه- و قال له إذا وليت هذا الأمر- فلا تسلط بني أبي معيط على رقاب الناس- فوقع منه ما حذره إياه- و عوتب في ذلك فلم ينفع العتب- و ذلك نحو استعماله الوليد بن عقبة و تقليده إياه-حتى ظهر منه شرب الخمر- و استعماله سعيد بن العاص- حتى ظهرت منه الأمور التي عندها أخرجه أهل الكوفة- و توليته عبد الله بن أبي سرح- و عبد الله بن عامر بن كريز- حتى روي عنه في أمر ابن أبي سرح أنه لما تظلم منه أهل مصر- و صرفه عنهم بمحمد بن أبي بكر- كاتبه بأن يستمر على ولايته- فأبطن خلاف ما أظهر- فعل من غرضه خلاف الدين- و يقال إنه كاتبه بقتل محمد بن أبي بكر- و غيره ممن يرد عليه- و ظفر بذلك الكتاب- و لذلك عظم التظلم من بعد و كثر الجمع- و كان سبب الحصار و القتل- حتى كان من أمر مروان- و تسلطه عليه و على أموره ما قتل بسببه- و ذلك ظاهر لا يمكن دفعه- .

قال رحمه الله تعالى- و جوابنا عن ذلك أن نقول- أما ما ذكر من توليته من لا يجوز أن يستعمل- فقد علمنا أنه لا يمكن أن يدعى أنه حين استعملهم- علم من أحوالهم خلاف الستر و الصلاح- لأن الذي ثبت عنهم من الأمور القبيحة حدث من بعد- و لا يمتنع كونهم في الأول مستورين في الحقيقة- أو مستورين عنده- و إنما كان يجب تخطئته لو استعملهم- و هم في الحال لا يصلحون لذلك- . فإن قيل فلما علم بحالهم كان يجب أن يعزلهم- قيل كذلك فعل- لأنه إنما استعمل الوليد بن عقبة- قبل ظهور شرب الخمر عنه-فلما شهد عليه بذلك جلده الحد و صرفه- و قد روي مثله عن عمر- فإنه ولى قدامة بن مظعون بعض أعماله- فشهدوا عليه بشرب الخمر- أشخصه و جلده الحد- فإذا عد ذلك في فضائل عمر- لم يجز أن يعد ما ذكروه في الوليد من معايب عثمان-

و يقال إنه لما أشخصه- أقام عليه الحد بمشهد أمير المؤمنين ع- . و قد اعتذر من عزله سعد بن أبي وقاص بالوليد- بأن سعدا شكاه أهل الكوفة- فأداه اجتهاده إلى عزله بالوليد- . فأما سعيد بن العاص- فإنه عزله عن الكوفة و ولى مكانه أبا موسى- و كذلك عبد الله بن أبي سرح عزله- و ولى مكانه محمد بن أبي بكر- و لم يظهر له من مروان- ما يوجب أن يصرفه عما كان مستعملا فيه- و لو كان ذلك طعنا لوجب مثله في كل من ولى- و قد علمنا أن رسول الله ص ولى الوليد بن عقبة- فحدث منه ما حدث- و حدث من بعض أمراء أمير المؤمنين ع الخيانة- كالقعقاع بن شور لأنه ولاه على ميسان- فأخذ مالها و لحق بمعاوية- و كذلك فعل الأشعث بن قيس بمال آذربيجان- و ولى أبا موسى الحكم فكان منه ما كان- و لا يجب أن يعاب أحد بفعل غيره- و إذا لم يلحقه عيب في ابتداء ولايته- فقد زال العيب فيما بعده- .

و قولهم إنه قسم أكثر الولايات في أقاربه- و زال عن طريقة الاحتياط للمسلمين- و قد كان عمر حذره من ذلك فليس بعيب- لأن تولية الأقارب كتولية الأباعد- في أنه يحسن إذا كانوا على صفات مخصوصة- و لو قيل إن تقديمهم أولى لم يمتنع- إذا كان المولي لهم أشد تمكنا من عزلهم- و الاستبدال بهم- و قد ولى أمير المؤمنين ع عبد الله بن العباس البصرة- و عبيد الله بن العباس اليمن- و قثم بن العباس مكة- حتى قال مالك الأشتر عند ذلك-على ما ذا قتلنا الشيخ أمس فيما يروى- و لم يكن ذلك بعيب إذا أدى ما وجب عليه في اجتهاده- .

فأما قولهم إنه كتب إلى ابن أبي سرح- حيث ولى محمد بن أبي بكر بأنه يقتله و يقتل أصحابه- فقد أنكر ذلك أشد إنكار حتى حلف عليه- و بين أن الكتاب الذي ظهر ليس كتابه- و لا الغلام غلامه و لا الراحلة راحلته- و كان في جملة من خاطبه في ذلك أمير المؤمنين ع فقبل عذره و ذلك بين- لأن قول كل أحد مقبول في مثل ذلك- و قد علم أن الكتاب يجوز فيه التزوير- فهو بمنزلة الخبر الذي يجوز فيه الكذب- . فإن قيل فقد علم أن مروان هو الذي زور الكتاب- لأنه هو الذي كان يكتب عنه فهلا أقام فيه الحد- .

قيل ليس يجب بهذا القدر- أن يقطع على أن مروان هو الذي فعل ذلك- لأنه و إن غلب ذلك في الظن- فلا يجوز أن يحكم به- و قد كان القوم يسومونه تسليم مروان إليهم و ذلك ظلم- لأن الواجب على الإمام- أن يقيم الحد على من يستحقه أو التأديب- و لا يحل له تسليمه إلى غيره- فقد كان الواجب- أن يثبتوا عنده ما يوجب في مروان الحد و التأديب- ليفعله به- و كان إذا لم يفعل و الحال هذه يستحق التعنيف- و قد ذكر الفقهاء في كتبهم- أن الأمر بالقتل لا يوجب قودا و لا دية و لا حدا- فلو ثبت في مروان ما ذكروه لم يستحق القتل- و إن استحق التعزير- لكنه عدل عن تعزيره لأنه لم يثبت- و قد يجوز أن يكون عثمان ظن- أن هذا الفعل فعل بعض من يعادي مروان تقبيحا لأمره- لأن ذلك يجوز- كما يجوز أن يكون من فعله- و لا يعلم كيف كان اجتهاده و ظنه- و بعد فإن هذا الحدث من أجل ما نقموا عليه- فإن كان شي‏ء من ذلك يوجب خلع عثمان و قتله- فليس إلا هذا- و قد علمنا أن هذا الأمر لو ثبت ما كان يوجب القتل- لأن الأمر بالقتل لا يوجب القتل- سيما قبل وقوع القتل المأمور به-

فنقول لهم لو ثبت ذلك على عثمان أ كان يجب قتله- فلا يمكنهم ادعاء ذلك لأنه بخلاف الدين- و لا بد أن يقولوا إن قتله ظلم- و كذلك حبسه في الدار و منعه من الماء- فقد كان يجب أن يدفع القوم عن كل ذلك- و أن يقال إن من لم يدفعهم و ينكر عليهم يكون مخطئا- . و في القول بأن الصحابة اجتمعوا على ذلك كلهم- تخطئة لجميع أصحاب رسول الله ص و ذلك غير جائز- و قد علم أيضا أن المستحق للقتل و الخلع- لا يحل أن يمنع الطعام و الشراب- و علم أن أمير المؤمنين ع- لم يمنع أهل الشام من الماء في صفين- و قد تمكن من منعهم- و كل ذلك يدل على كون عثمان مظلوما- و أن ذلك من صنع الجهال- و أن أعيان الصحابة كانوا كارهين لذلك- و أيضا فإن قتله لو وجب- لم يجز أن يتولاه العوام من الناس- و لا شبهة أن الذين أقدموا على قتله كانوا بهذه الصفة- و إذا صح أن قتله لم يكن لهم- فمنعهم و النكير عليهم واجب- .

و أيضا فقد علم أنه لم يكن من عثمان ما يستحق به القتل- من كفر بعد إيمان أو زنى بعد إحصان- أو قتل نفس بغير حق- و أنه لو كان منه ما يوجب القتل- لكان الواجب أن يتولاه الإمام- فقتله على كل حال منكر- و إنكار المنكر واجب- . و ليس لأحد أن يقول إنه أباح قتل نفسه- من حيث امتنع من دفع الظلم عنهم- لأنه لم يمتنع من ذلك بل أنصفهم و نظر في حالهم- و لأنه لو لم يفعل ذلك لم يحل لهم قتله- لأنه إنما يحل قتل الظالم إذا كان على وجه الدفع- و المروي أنهم أحرقوا بابه- و هجموا عليه في منزله- و بعجوه بالسيف و المشاقص- و ضربوا يد زوجته لما وقعت عليه- و انتهبوا متاع داره- و مثل هذه القتلة لا تحل في الكافر و المرتد- فكيف يظن أن الصحابة لم ينكروا ذلك و لم يعدوه ظلما- حتى يقال إنه مستحق من حيث لم يدفع القوم عنه- و قد تظاهر الخبر بما جرى من تجمع القوم عليه- و توسط أمير المؤمنين ع لأمرهم- و أنه‏ بذل لهم ما أرادوه- و أعتبهم و أشهد على نفسه بذلك- و أن الكتاب الموجود بعد ذلك المتضمن لقتل القوم- و وقف عليه و ممن أوقفه عليه أمير المؤمنين ع- فحلف أنه ما كتبه و لا أمر به- فقال له فمن تتهم- قال ما أتهم أحدا و إن للناس لحيلا- . و الرواية ظاهرة أيضا

بقوله إن كنت أخطأت أو تعمدت فإني تائب و مستغفر- فكيف يجوز و الحال هذه- أن تهتك فيه حرمة الإسلام و حرمة البلد الحرام- و لا شبهة في أن القتل على وجه الغيلة- لا يحل فيمن يستحق القتل فكيف فيمن لا يستحقه- و لو لا أنه كان يمنع من محاربة القوم- ظنا منه أن ذلك يؤدي إلى القتل الذريع لكثر أنصاره- . و قد جاء في الرواية أن الأنصار بدأت معونته و نصرته- و أن أمير المؤمنين ع قد بعث إليه ابنه الحسن ع- فقال له قل لأبيك فلتأتني- فأراد أمير المؤمنين ع المصير إليه- فمنعه من ذلك محمد ابنه و استعان بالنساء عليه- حتى جاء الصريخ بقتل عثمان فمد يده إلى القبلة- و قال اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان- . فإن قالوا إنهم اعتقدوا أنه من المفسدين في الأرض- و أنه داخل تحت آية المحاربين- .

قيل فقد كان يجب أن يتولى الإمام هذا الفعل- لأن ذلك يجري مجرى الحد- و كيف يدعى ذلك- و المشهور عنه أنه كان يمنع من مقاتلتهم- حتى روي أنه قال لعبيدة و مواليه و قد هموا بالقتال- من أغمد سيفه فهو حر- و لقد كان مؤثرا لنكير ذلك الأمر- بما لا يؤدي إلى إراقة الدماء و الفتنة- و لذلك لم يستعن بأصحاب الرسول ص- و إن كان لما اشتد الأمر أعانه من أعان- لأن عند ذلك تجب النصرة و المعونة- فحيث‏ كانت الحال متماسكة- و كان ينهى عن إنجاده و إعانته بالحرب- امتنعوا و توقفوا- و حيث اشتد الأمر أعانه و نصره من أدركه- دون من لم يغلب ذلك في ظنه- . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام-

فقال أما قوله لم يكن عالما بحال الفسقة- الذين ولاهم قبل الولاية فلا تعويل عليه- لأنه لم يول هؤلاء النفر إلا و حالهم مشهورة في الخلاعة- و المجانة و التجرم و التهتك- و لم يختلف اثنان في أن الوليد بن عقبة- لم يستأنف التظاهر بشرب الخمر- و الاستخفاف بالدين على استقبال ولايته للكوفة- بل هذه كانت سنته و العادة المعروفة منه- و كيف يخفى على عثمان و هو قريبه و لصيقه- و أخوه لأمه من حاله ما لا يخفى على الأجانب الأباعد- و لهذا قال له سعد بن أبي وقاص في رواية الواقدي- و قد دخل الكوفة يا أبا وهب أمير أم زائر قال بل أمير-

فقال سعد ما أدري أ حمقت بعدك أم كست بعدي- قال ما حمقت بعدي و لا كست بعدك- و لكن القوم ملكوا فاستأثروا- فقال سعد ما أراك إلا صادقا- . و في رواية أبي مخنف لوط بن يحيى الأزدي- أن الوليد لما دخل الكوفة- مر على مجلس عمرو بن زرارة النخعي فوقف- فقال عمرو يا معشر بني أسد- بئسما استقبلنا به أخوكم ابن عفان- أ من عدله أن ينزع عنا ابن أبي وقاص- الهين اللين السهل القريب- و يبعث بدله أخاه الوليد- الأحمق الماجن الفاجر قديما و حديثا- و استعظم الناس مقدمه و عزل سعد به- و قالوا أراد عثمان كرامة أخيه بهوان أمة محمد ص- و هذا تحقيق ما ذكرناه- من أن حاله كانت مشهورة قبل الولاية- لا ريب فيها عند أحد- فكيف‏ يقال إنه كان مستورا حتى ظهر منه ما ظهر- و في الوليد نزل قوله تعالى- أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ- فالمؤمن هاهنا أمير المؤمنين ع- و الفاسق الوليد على ما ذكره أهل التأويل- و فيه نزل قوله تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا- أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ- فَتُصْبِحُوا عَلى‏ ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ- و السبب في ذلك- أنه كذب على بني المصطلق عند رسول الله ص- و ادعى أنهم منعوه الصدقة- و لو قصصنا مخازيه المتقدمة و مساويه لطال بها الشرح- . و أما شربه الخمر بالكوفة و سكره- حتى دخل عليه [من دخل‏]- و أخذ خاتمه من إصبعه و هو لا يعلم- فظاهر و قد سارت به الركبان- و كذلك كلامه في الصلاة- و التفاته إلى من يقتدي به فيها و هو سكران- و قوله لهم أ أزيدكم- فقالوا لا قد قضينا صلواتنا- حتى قال الحطيئة في ذلك- .

شهد الحطيئة يوم يلقى ربه
أن الوليد أحق بالعذر

نادى و قد نفدت صلاتهم
أ أزيدكم ثملا و ما يدري‏

ليزيدهم خيرا و لو قبلوا
منه لقادهم على عشر

فأبوا أبا وهب و لو فعلوا
لقرنت بين الشفع و الوتر

حبسوا عنانك إذ جريت و لو
خلوا عنانك لم تزل تجري‏

و قال فيه أيضا

تكلم في الصلاة و زاد فيها
علانية و جاهر بالنفاق‏

و مج الخمر في سنن المصلى‏
و نادى و الجميع إلى افتراق‏

أزيدكم على أن تحمدوني
فما لكم و ما لي من خلاق‏

و أما قوله إنه جلده الحد و عزله- فبعد أي شي‏ء كان ذلك- و لم يعزله إلا بعد أن دافع و مانع- و احتج عنه و ناضل- و لو لم يقهره أمير المؤمنين ع على رأيه لما عزله- و لا أمكن من جلده- و قد روى الواقدي أن عثمان لما جاءه الشهود- يشهدون على الوليد بشرب الخمر أوعدهم و تهددهم- . قال الواقدي و يقال إنه ضرب بعض الشهود أيضا أسواطا- فأتوا أمير المؤمنين ع فشكوا إليه فأتى عثمان- فقال عطلت الحدود- و ضربت قوما شهدوا على أخيك فقلبت الحكم- و قد قال لك عمر- لا تحمل بني أمية و آل أبي معيط على رقاب الناس- قال فما ترى- قال أرى أن تعزله و لا توليه شيئا من أمور المسلمين- و أن تسأل عن الشهود- فإن لم يكونوا أهل ظنة و لا عداوة- أقمت على صاحبك الحد- و تكلم في مثل ذلك طلحة و الزبير و عائشة- و قالوا أقوالا شديدة- و أخذته الألسن من كل جانب- فحينئذ عزله و مكن من إقامة الحد عليه- .

و قد روى الواقدي أن الشهود لما شهدوا عليه في وجهه- و أراد عثمان أن يحده ألبسه جبة خز و أدخله بيتا- فجعل إذا بعث إليه رجلا من قريش ليضربه- قال له الوليد أنشدك الله أن تقطع رحمي- و تغضب أمير المؤمنين- فلما رأى علي ع ذلك- أخذ السوط و دخل عليه فجلده به- فأي عذر لعثمان في عزله و جلده- بعد هذه الممانعة الطويلة- و المدافعة الشديدة- . و قصة الوليد مع الساحر الذي كان يلعب بين يديه- و يغر الناس بمكره و خديعته- و أن جندب بن عبد الله الأزدي امتعض من ذلك- و دخل عليه فقتله- و قال له أحي نفسك إن كنت صادقا- و أن الوليد أراد أن يقتل جندبا بالساحر- حتى أنكر الأزد ذلك عليه- فحبسه و طال حبسه- حتى هرب من السجن معروفة مشهورة- . فإن قيل فقد ولى رسول الله ص الوليد بن عقبة- هذا صدقة بني المصطلق- و ولاه عمر صدقة تغلب- فكيف تدعون أن حاله في أنه لا يصلح للولاية ظاهرة- . قلنا لا جرم إنه غر رسول الله ص- و كذب على القوم- حتى نزلت فيه الآية التي قدمنا ذكرها فعزله- و ليس خطب ولاية الصدقة مثل خطب ولاية الكوفة- . فأما عمر فإنه لما بلغه قوله-

إذا ما شددت الرأس مني بمشوذ
فويلك مني تغلب ابنة وائل‏

عزله- . و أما عزل أمير المؤمنين ع بعض أمرائه- لما ظهر من الحدث كالقعقاع بن شور و غيره- و كذلك عزل عمر قدامة بن مظعون- لما شهد عليه بشرب الخمر و جلده له- فإنه لا يشبه ما تقدم- لأن كل واحد ممن ذكرناه- لم يول إلا من هو حسن الظاهر عنده و عند الناس- غير معروف باللعب و لا مشهور بالفساد- ثم لما ظهر منه ما ظهرلم يحام عنه- و لا كذب الشهود عليه و كابرهم- بل عزله مختارا غير مضطر- و كل هذا لم يجر في أمراء عثمان- و قد بينا كيف كان عزل الوليد و إقامة الحد عليه- . فأما أبو موسى- فإن أمير المؤمنين ع لم يوله الحكم مختارا- لكنه غلب على رأيه و قهر على أمره و لا رأى لمقهور- .

فأما قوله إن ولاية الأقارب كولاية الأباعد- بل الأقارب أولى- من حيث كان التمكن من عزلهم أشد- و ذكر تولية أمير المؤمنين ع أولاد العباس- رحمه الله تعالى و غيرهم فليس بشي‏ء- لأن عثمان لم ينقم عليه تولية الأقارب- من حيث كانوا أقارب- بل من حيث كانوا أهل بيت الظنة و التهمة- و لهذا حذره عمر و أشعر بأنه يحملهم على رقاب الناس- و أمير المؤمنين ع لم يول من أقاربه متهما و لا ظنينا- و حين أحس من ابن العباس ببعض الريبة- لم يمهله و لا احتمله و كاتبه بما هو شائع ظاهر- و لو لم يجب على عثمان أن يعدل عن ولاية أقاربه- إلا من حيث جعل عمر ذلك سبب عدوله عن النص عليه- و شرط عليه يوم الشورى ألا يحمل أقاربه على رقاب الناس- و لا يؤثرهم لمكان القرابة بما لا يؤثر به غيرهم- لكان صارفا قويا- فضلا عن أن ينضاف إلى ذلك- ما انضاف من خصالهم الذميمة و طرائقهم القبيحة- .

فأما سعيد بن أبي العاص- فإنه قال في الكوفة إنما السواد بستان لقريش- تأخذ منه ما شاءت و تترك- حتى قالوا له- أ تجعل ما أفاء الله علينا بستانا لك و لقومك- و نابذوه و أفضى الأمر إلى تسييره من سير عن الكوفة- و القصة مشهورة- ثم انتهى الأمر إلى منع أهل الكوفة سعيدا من دخولها- و تكلموا فيه و فيه عثمان كلاما ظاهرا- حتى‏ كادوا يخلعون عثمان- فاضطر حينئذ إلى إجابتهم إلى ولاية أبي موسى- فلم يصرف سعيدا مختارا بل ما صرفه جملة- و إنما صرفه أهل الكوفة عنهم- .

فأما قوله- إنه أنكر الكتاب المتضمن لقتل محمد بن أبي بكر و أصحابه- و حلف على أن الكتاب ليس بكتابه- و لا الغلام غلامه و لا الراحلة راحلته- و أن أمير المؤمنين ع قبل عذره- فأول ما فيه أنه حكى القصة بخلاف ما جرت عليه- لأن جميع من يروي هذه القصة- ذكر أنه اعترف بالخاتم و الغلام و الراحلة- و إنما أنكر أن يكون أمر بالكتابة- لأنه روي أن القوم لما ظفروا بالكتاب قدموا المدينة- فجمعوا أمير المؤمنين ع و طلحة و الزبير و سعدا- و جماعة الأصحاب- ثم فكوا الكتاب بمحضر منهم و أخبروهم بقصة الغلام- فدخلوا على عثمان و الكتاب مع أمير المؤمنين- فقال له أ هذا الغلام غلامك قال نعم- قال و البعير بعيرك قال نعم- قال أ فأنت كتبت هذا الكتاب قال لا- و حلف بالله أنه ما كتب الكتاب و لا أمر به-

فقال له فالخاتم خاتمك قال نعم- قال فكيف يخرج غلامك على بعيرك بكتاب عليه خاتمك- و لا تعلم به- . و في رواية أخرى أنه لما واقفه عليه- قال عثمان أما الخط فخط كاتبي- و أما الخاتم فعلى خاتمي- قال فمن تتهم قال أتهمك و أتهم كاتبي- فخرج أمير المؤمنين ع مغضبا- و هو يقول بل بأمرك و لزم داره- و بعد عن توسط أمره حتى جرى عليه ما جرى- . و أعجب الأمور قوله لأمير المؤمنين ع إني أتهمك- و تظاهره بذلك و تلقيه إياه في وجهه بهذا القول- مع بعده من التهمة و الظنة في كل شي‏ء- و في أمره خاصة- فإن القوم في الدفعة الأولى- أرادوا أن يعجلوا له ما أخبروه- حتى قام أمير المؤمنين ع بأمره و توسطه و أصلحه- و أشار عليه بأن يقاربهم و يعينهم حتى انصرفوا عنه- و هذافعل النصيح المشفق الحدب المتحنن- و لو كان ع و حوشي من ذلك متهما عليه- لما كان للتهمة عليه مجال في أمر الكتاب خاصة- لأن الكتاب بخط عدوه مروان- و في يد غلام عثمان- و محمول على بعيره و مختوم بخاتمه- فأي ظن تعلق بأمير المؤمنين ع في هذا المكان- لو لا العداوة و قلة الشكر للنعمة- . و لقد قال له المصريون- لما جحد أن يكون الكتاب كتابه شيئا- لا زيادة عليه في باب الحجة- لأنهم قالوا له إذا كنت ما كتبت و لا أمرت به- فأنت ضعيف- من حيث تم عليك أن يكتب كاتبك بما تختمه بخاتمك- و ينفذه بيد غلامك و على بعيرك بغير أمرك- و من تم عليه ذلك- لا يصلح أن يكون واليا على أمور المسلمين- فاختلع عن الخلافة على كل حال- .

قال و لقد كان يجب على صاحب المغني- أن يستحيي من قوله- إن أمير المؤمنين ع قبل عذره- و كيف يقبل عذر من يتهمه و يستغشه و هو له ناصح- و ما قاله أمير المؤمنين ع- بعد سماع هذا القول منه معروف- . و قوله إن الكتاب يجوز فيه التزوير ليس بشي‏ء- لأنه لا يجوز التزوير في الكتاب و الغلام و البعير- و هذه الأمور إذا انضاف بعضها إلى بعض- بعد فيها التزوير- و قد كان يجب على كل حال- أن يبحث عن القصة و عمن زور الكتاب و أنفذ الرسول- و لا ينام عن ذلك- حتى يعرف من أين دهي- و كيف تمت الحيلة عليه فيحترز من مثلها- و لا يغضي عن ذلك إغضاء ساتر له- خائف من بحثه و كشفه- .

فأما قوله- إنه و إن غلب على الظن أن مروان كتب الكتاب- فإن الحكم بالظن لا يجوز- و تسليمه إلى القوم على ما سألوه إياه ظلم- لأن الحد و الأدب إذا وجب عليه- فالإمام يقيمه دونهم فتعلل بما لا يجدي- لأنا لا نعمل إلا على قوله- في أنه لم يعلم أن‏ مروان هو الذي كتب الكتاب- و إنما غلب على ظنه- أ ما كان يستحق مروان بهذا الظن بعض التعنيف- و الزجر و التهديد- أ و ما كان يجب مع وقوع التهمة عليه- و قوة الأمارات في أنه جالب الفتنة- و سبب الفرقة أن يبعده عنه و يطرده من داره- و يسلبه ما كان يخصه به من إكرامه- و ما في هذه الأمور أظهر من أن ينبه له- . فأما قوله إن الأمر بالقتل لا يوجب قودا و لا دية- سيما قبل وقوع القتل المأمور به- فهب أن ذلك على ما قال- أ ما أوجب الله تعالى على الأمر بقتل المسلمين تأديبا- و لا تعزيرا و لا طردا و لا إبعادا- .

و قوله لم يثبت ذلك قد مضى ما فيه- و بين أنه لم يستعمل فيه ما يجب استعماله- من البحث و الكشف- و تهديد المتهم و طرده و إبعاده- و التبرؤ من التهمة بما يتبرأ به من مثلها- . فأما قوله إن قتله ظلم- و كذلك حبسه في الدار و منعه من الماء- و إنه لو استحق القتل أو الخلع- لا يحل أن يمنع الطعام و الشراب- و قوله إن من لم يدفع عن ذلك من الصحابة- يجب أن يكون مخطئا- و قوله إن قتله لو وجب- لم يجز أن يتولاه العوام من الناس فباطل- لأن الذين قتلوه غير منكر أن يكونوا تعمدوا قتله- و إنما طالبوه بأن يخلع نفسه لما ظهر لهم من أحداثه- و يعتزل عن الأمر اعتزالا يتمكنون معه من إقامة غيره- فلج و صمم على الامتناع- و أقام على أمر واحد- فقصد القوم بحصره أن يلجئوه إلى خلع نفسه فاعتصم بداره- و اجتمع إليه نفر من أوباش بني أمية يدفعون عنه- و يرمون من دنا إلى الدار- فانتهى الأمر إلى القتال بتدريج ثم إلى القتل- و لم يكن القتال و لا القتل مقصودين في الأصل- و إنما أفضى الأمر إليهما على ترتيب- و جرى ذلك مجرى ظالم غلب إنسانا على رحله أو متاعه- فالواجب على المغلوب أن يمانعه و يدافعه- ليخلص ماله من يده- و لا يقصد إلى إتلافه و لا قتله- فإن أفضى الأمر إلى ذلك بلا قصد كان معذورا-

و إنما خاف القوم في التأني به و الصبر عليه- إلى أن يخلع نفسه من كتبه التي طارت في الآفاق- يستنصر عليهم و يستقدم الجيوش إليهم- و لم يأمنوا أن يرد بعض من يدفع عنه- فيؤدي ذلك إلى الفتنة الكبرى و البلية العظمى- . و أما منع الماء و الطعام فما فعل ذلك إلا تضييقا عليه- ليخرج و يحوج إلى الخلع الواجب عليه- و قد يستعمل في الشريعة مثل ذلك- فيمن لجأ إلى الحرم من ذوي الجنايات- و تعذر إقامة الحد عليه لمكان الحرم- على أن أمير المؤمنين ع قد أنكر منع الماء و الطعام- و أنفذ من مكن من حمل ذلك- لأنه قد كان في الدار من الحرم و النسوان و الصبيان- من لا يحل منعه من الطعام و الشراب- و لو كان حكم المطالبة بالخلع- و التجمع عليه و التضافر فيه- حكم منع الطعام و الشراب في القبح و المنكر- لأنكره أمير المؤمنين ع و منع منه كما منع من غيره- فقد روي عنه ع- أنه لما بلغه أن القوم قد منعوا الدار من الماء- قال لا أرى ذلك إن في الدار صبيانا و عيالا- لا أرى أن يقتل هؤلاء عطشا بجرم عثمان- فصرح بالمعنى الذي ذكرناه- و معلوم أن أمير المؤمنين ع ما أنكر المطالبة بالخلع- بل كان مساعدا على ذلك و مشاورا فيه- . فأما قوله إن قتل الظالم إنما يحل على سبيل الدفع- فقد بينا أنه لا ينكر أن يكون قتله وقع على ذلك الوجه- لأنه في تمسكه بالولاية عليهم و هو لا يستحقها- في حكم الظالم لهم فمدافعته واجبة- .

و أما قصة الكتاب الموجود فلم يحكها على الوجه- و قد شرحنا نحن الرواية الواردة بها- . و أما قوله إنه قال إن كنت أخطأت أو تعمدت- فإني تائب مستغفر- فقد أجابه القوم عن هذا- و قالوا هكذا قلت في المرة الأولى- و خطبت على المنبر بالتوبة و الاستغفار- ثم وجدنا كتابك- بما يقتضي الإصرار على أقبح ما عتبنا منه- فكيف نثق بتوبتك و استغفارك- . فأما قوله- إن القتل على وجه الغيلة لا يحل فيمن يستحق القتل- فكيف فيمن لا يستحقه- فقد بينا أنه لم يكن على سبيل الغيلة- و أنه لا يمتنع أن يكون إنما وقع على سبيل المدافعة- . فأما ادعاؤه أنه منع من نصرته- و أقسم على عبيده بترك القتال- فقد كان ذلك لعمري في ابتداء الأمر- ظنا منه أن الأمر ينصلح- و القوم يرجعون عما هموا به فلما اشتد الأمر- و وقع اليأس من الرجوع و النزوع- لم يمنع أحدا من نصرته و المحاربة عنه- و كيف يمنع من ذلك- و قد بعث إلى أمير المؤمنين ع يستنصره و يستصرخه- . و الذي يدل على أنه لم يمنع في الابتداء من محاربتهم- إلا للوجه الذي ذكرناه دون غيره- أنه لا خلاف بين أهل الرواية- في أن كتبه تفرقت في الآفاق يستنصر و يستدعي الجيوش- فكيف يرغب عن نصرة الحاضر من يستدعي نصرة الغائب- . فأما قوله إن أمير المؤمنين ع أراد أن يأتيه- حتى منعه ابنه محمد- فقول بعيد مما جاءت به الرواية جدا- لأنه لا إشكال في أن أمير المؤمنين ع لما واجهه عثمان- بأنه يتهمه و يستغشه- انصرف مغضبا عامدا- على أنه لا يأتيه أبدا- قائلا فيه ما يستحقه من الأقوال- .

فأما قوله في جواب سؤال من قال إنهم اعتقدوا فيه- أنه من المفسدين في الأرض- و أن آية المحاربة تتناوله- و أنه قد كان يجب أن يتولى الإمام ذلك الفعل بنفسه- لأن ذلك يجري مجرى الحد فطريف- لأن الإمام يتولى ما يجري هذا المجرى- إذا كان منصوبا ثابتا- و لم يكن على مذهب القوم هناك إمام- يجوز أن يتولى ما يجري مجرى الحدود- و متى لم يكن إمام يقوم بالدفع عن الدين و الذب عن الأمة- جاز أن تتولى الأمة ذلك بنفوسها- . قال و ما رأيت أعجب من ادعاء مخالفينا- أن أصحاب الرسول ص كانوا كارهين لما جرى على عثمان- و أنهم كانوا يعتقدونه منكرا و ظلما- و هذا يجري عند من تأمله- مجرى دفع الضرورات قبل النظر في الأخبار- و سماع ما ورد من شرح هذه القصة- لأنه معلوم أن ما يكرهه جميع الصحابة- أو أكثرهم في دار عزهم- و بحيث ينفذ أمرهم و نهيهم لا يجوز أن يتم- و معلوم أن نفرا من أهل مصر لا يجوز أن يقدموا المدينة- فيغلبوا جميع المسلمين على آرائهم- و يفعلوا بإمامهم ما يكرهونه بمرأى منهم و مسمع- و هذا معلوم بطلانه بالبداهة و الضرورات- قبل تصفح الأخبار و تأملها-

و قد روى الواقدي عن ابن أبي الزناد- عن أبي جعفر القارئ مولى بني مخزوم- قال كان المصريون الذين حصروا عثمان ستمائة- عليهم عبد الرحمن بن عديس البلوي- و كنانة بن بشر الكندي و عمرو بن الحمق الخزاعي- و الذين قدموا المدينة من الكوفة مائتين- عليهم مالك الأشتر النخعي- و الذين قدموا من البصرة مائة رجل- رئيسهم حكيم بن جبلة العبدي- و كان أصحاب النبي ص الذين خذلوه- لا يرون أن الأمر يبلغ به القتل- و لعمري لو قام بعضهم- فحثا التراب في وجوه أولئك لانصرفوا- و هذه الرواية تضمنت من عدد القوم- الوافدين في هذا الباب أكثر مما تضمنه غيرها- .

و روى شعبة بن الحجاج- عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف- قال قلت له‏ كيف لم يمنع أصحاب رسول الله ص عن عثمان- فقال إنما قتله أصحاب رسول الله ص- . و روي عن أبي سعيد الخدري- أنه سئل عن مقتل عثمان- هل شهده أحد من أصحاب رسول الله ص- فقال نعم شهده ثمانمائة- . و كيف يقال إن القوم كانوا كارهين- و هؤلاء المصريون كانوا يغدون إلى كل واحد منهم- و يروحون و يشاورونه فيما يصنعونه- و هذا عبد الرحمن بن عوف و هو عاقد الأمر لعثمان- و جالبه إليه و مصيره في يده- يقول على ما رواه الواقدي- و قد ذكر له عثمان في مرضه الذي مات فيه- عاجلوه قبل أن يتمادى في ملكه- فبلغ ذلك عثمان- فبعث إلى بئر كان عبد الرحمن يسقي منها نعمه فمنع منها- و وصى عبد الرحمن ألا يصلي عليه عثمان- فصلى عليه الزبير أو سعد بن أبي وقاص- و قد كان حلف لما تتابعت أحداث عثمان ألا يكلمه أبدا- .

و روى الواقدي قال لما توفي أبو ذر بالربذة- تذاكر أمير المؤمنين ع و عبد الرحمن فعل عثمان- فقال أمير المؤمنين ع له هذا عملك- فقال عبد الرحمن فإذا شئت فخذ سيفك و آخذ سيفي- إنه خالف ما أعطاني- . فأما محمد بن مسلمة- فإنه أرسل إليه عثمان- يقول له عند قدوم المصريين في الدفعة الثانية اردد عني- فقال لا و الله لا أكذب الله في سنة مرتين- و إنما عنى بذلك- أنه كان أحد من كلم المصريين في الدفعة الأولى- و ضمن لهم عن عثمان الرضا- . و في رواية الواقدي- أن محمد بن مسلمة كان يموت و عثمان محصور- فيقال له عثمان مقتول فيقول هو قتل نفسه- .

فأما كلام أمير المؤمنين ع- و طلحة و الزبير و عائشة- و جميع الصحابة واحدا واحدا- فلو تعاطينا ذكره لطال به الشرح- و من أراد أن يقف على أقوالهم مفصلة- و ما صرحوا به من خلعه و الإجلاب عليه- فعليه بكتاب الواقدي- فقد ذكر هو و غيره من ذلك ما لا زيادة عليه- . الطعن الثاني- كونه رد الحكم بن أبي العاص إلى المدينة- و قد كان رسول الله ص طرده- و امتنع أبو بكر من رده- فصار بذلك مخالفا للسنة و لسيرة من تقدمه- مدعيا على رسول الله ص عاملا بدعواه من غير بينة- . قال قاضي القضاة رحمه الله و جوابنا عن ذلك- أن المروي في الأخبار أنه لما عوتب في ذلك- ذكر أنه استأذن رسول الله ص فيه-

و إنما لم يقبل أبو بكر و عمر قوله لأنه شاهد واحد- و كذلك روي عنهما- فكأنهما جعلا ذلك بمنزلة الحقوق التي تختص- فلم يقبلا فيه خبر الواحد- و أجرياه مجرى الشهادة- فلما صار الأمر إليه حكم بعلمه- لأن للحاكم أن يحكم بعلمه في هذا الباب- و في غيره عند شيخينا- و لا يفصلان بين حد و حق- و لا بين أن يكون العلم قبل الولاية أو حال الولاية- و يقولان إنه أقوى من البينة و الإقرار- . و قال شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى- إنه لا وجه يقطع به على كذب روايته في إذن‏ النبي ص في رده- و لا بد من تجويز كونه صادقا- و في تجويز ذلك كونه معذورا- .

فإن قيل الحاكم إنما يحكم بعلمه مع زوال التهمة- و قد كانت التهمة في رد الحكم قوية لقرابته- . قيل الواجب على غيره ألا يتهمه- إذا كان لفعله وجه يصح عليه- لأنه قد نصب منصبا يقتضي زوال التهمة عنه- و حمل أفعاله على الصحة- و متى طرقنا عليه التهمة- أدى إلى بطلان كثير من الأحكام- و قد قال الشيخ أبو الحسين الخياط رحمه الله تعالى- إنه لو لم يكن في رده إذن من رسول الله ص- لجاز أن يكون طريقه الاجتهاد- لأن النفي إذا كان صلاحا في الحال- لا يمتنع أن يتغير حكمه باختلاف الأوقات- و تغير حال المنفي- و إذا كان لأبي بكر- أن يسترد عمر من جيش أسامة للحاجة إليه- و إن كان قد أمر رسول الله ص بنفوذه- من حيث تغيرت الحال- فغير ممتنع مثله في الحكم- .اعترض المرتضى رحمه الله تعالى على هذا- فقال أما دعواه- أن عثمان ادعى أن رسول الله ص أذن في رد الحكم- فشي‏ء لم يسمع إلا من قاضي القضاة- و لا يدرى من أين نقله- و لا في أي كتاب وجده- و الذي رواه الناس كلهم خلاف ذلك-

روى الواقدي من طرق مختلفة و غيره- أن الحكم بن أبي العاص لما قدم المدينة بعد الفتح- أخرجه النبي ص إلى الطائف- و قال لا تساكني في بلد أبدا- فجاءه عثمان فكلمه فأبى- ثم كان من أبي بكر مثل ذلك- ثم كان من عمر مثل ذلك- فلما قام عثمان أدخله و وصله و أكرمه- فمشى في ذلك علي و الزبير و طلحة- و سعد و عبد الرحمن بن عوف‏ و عمار بن ياسر- حتى دخلوا على عثمان فقالوا له- إنك قد أدخلت هؤلاء القوم- يعنون الحكم و من معه- و قد كان النبي ص أخرجهم- و إنا نذكرك الله و الإسلام و معادك- فإن لك معادا و منقلبا- و قد أبت ذلك الولاة قبلك- و لم يطمع أحد أن يكلمها فيهم- و هذا شي‏ء نخاف الله فيه عليك- فقال عثمان إن قرابتهم مني ما تعلمون- و قد كان رسول الله ص حيث كلمته أطعمني في أن يأذن لهم- و إنما أخرجهم لكلمة بلغته عن الحكم- و لم يضركم مكانهم شيئا- و في الناس من هو شر منهم- فقال علي ع لا أجد شرا منه و لا منهم- ثم قال هل تعلم عمر يقول- و الله ليحملن بني أبي معيط على رقاب الناس- و الله إن فعل ليقتلنه-

فقال عثمان ما كان منكم أحد- ليكون بينه و بينه من القرابة ما بيني و بينه- و ينال من المقدرة ما نلت إلا قد كان سيدخله- و في الناس من هو شر منه- قال فغضب علي ع- و قال و الله لتأتينا بشر من هذا إن سلمت- و سترى يا عثمان غب ما تفعل- ثم خرجوا من عنده- .و هذا كما ترى خلاف ما ادعاه صاحب المغني- لأن الرجل لما احتفل- ادعى أن رسول الله ص كان أطمعه في رده- ثم صرح بأن رعايته فيه القرابة- هي الموجبة لرده و مخالفة الرسول ع- و قد روي من طرق مختلفة- أن عثمان لما كلم أبا بكر و عمر في رد الحكم- أغلظا له و زبراه- و قال له عمر يخرجه رسول الله ص و تأمرني أن أدخله- و الله لو أدخلته لم آمن أن يقول قائل- غير عهد رسول الله ص و الله لأن أشق باثنتين كما تشق الأبلمة- أحب إلى من أن أخالف لرسول الله أمرا- و إياك يا ابن عفان أن تعاودني فيه بعد اليوم- و ما رأينا عثمان- قال في جواب هذا التعنيف و التوبيخ من أبي بكر و عمر- إن عندي عهدا من رسول الله ص فيه- لا أستحق معه عتابا و لا تهجينا- و كيف تطيب نفس مسلم موقر لرسول الله ص معظم له- أن يأتي إلى عدو رسول الله ص- مصرح بعداوته و الوقيعة فيه- حتى بلغ به الأمر إلى أن كان يحكى مشيته- طرده رسول الله و أبعده و لعنه- حتى صار مشهورا بأنه طريد رسول الله ص- فيكرمه و يرده إلى حيث أخرج منه- و يصله بالمال العظيم-

إما من مال المسلمين أو من ماله- إن هذا لعظيم كبير قبل التصفح و التأمل- و التعلل بالتأويل الباطل- . فأما قول صاحب المغني- إن أبا بكر و عمر لم يقبلا قوله لأنه شاهد واحد- و جعلا ذلك بمنزلة الحقوق التي تخص- فأول ما فيه أنه لم يشهد عندهما بشي‏ء واحد في باب الحكم- على ما رواه جميع الناس- ثم ليس هذا من باب الذي يحتاج فيه إلى الشاهدين- بل هو بمنزلة كل ما يقبل فيه أخبار الآحاد- و كيف يجوز أن يجري أبو بكر و عمر مجرى الحقوق- ما ليس منها- و قوله لا بد من تجويز كونه صادقا في روايته- لأن القطع على كذب روايته لا سبيل إليه ليس بشي‏ء- لأنا قد بينا أنه لم يرو عن الرسول ص إذنا- إنما ادعى أنه أطمعه في ذلك- و إذا جوزنا كونه صادقا في هذه الرواية- بل قطعنا على صدقه لم يكن معذورا- .

فأما قوله الواجب على غيره ألا يتهمه- إذا كان لفعله وجه يصح عليه- لانتصابه منصبا يزيل التهمة- فأول ما فيه أن الحاكم لا يجوز أن يحكم بعلمه مع التهمة- و التهمة قد تكون لها أمارات و علامات- فما وقع منها عن أمارات و أسباب- تتهم في العادة كان مؤثرا- و ما لم يكن كذلك فلا تأثير له- و الحكم هو عم عثمان و قريبه و نسيبه- و من‏ قد تكلم في رده مرة بعد أخرى و لوال بعد وال- و هذه كلها أسباب التهمة- فقد كان يجب أن يتجنب الحكم بعلمه في هذا الباب خاصة- لتطرق التهمة إليه- . فأما ما حكاه عن أبي الحسين الخياط- من أن الرسول ص لو لم يأذن في رده- لجاز أن يرده إذا أداه اجتهاده إلى ذلك- لأن الأحوال قد تتغير فظاهر البطلان- لأن الرسول ع إذا حظر شيئا أو أباحه- لم يكن لأحد أن يجتهد في إباحة المحظور أو حظر المباح- و من يجوز الاجتهاد في الشريعة لا يقدم على مثل هذا- لأنه إنما يجوز عندهم فيما لا نص فيه- و لو سوغنا الاجتهاد في مخالفة ما تناوله النص- لم يؤمن أن يؤدي اجتهاد مجتهد إلى تحليل الخمر- و إسقاط الصلاة بأن تتغير الحال- و هذا هدم للشريعة- فأما الاستشهاد باسترداد عمر من جيش أسامة- فالكلام في الأمرين واحد- .

الطعن الثالث- أنه كان يؤثر أهل بيته بالأموال العظيمة- التي هي عدة المسلمين- نحو ما روي أنه دفع إلى أربعة أنفس من قريش- زوجهم بناته أربعمائة ألف دينار- و أعطى مروان مائة ألف عند فتح إفريقية و يروى خمس إفريقية و غير ذلك- و هذا بخلاف سيرة من تقدمه- في القسمة على الناس بقدر الاستحقاق- و إيثار الأباعد على الأقارب- .

قال قاضي القضاة و جوابنا عن ذلك أن من الظاهر المشهور- أن عثمان كان عظيم اليسار كثير المال- فلا يمتنع أن يكون إنما أعطى أهل بيته من ماله- و إذا احتمل ذلك وجب حمله على الصحة- . و قد قال شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى- أن الذي روي من دفعه إلى ثلاثة نفر من قريش زوجهم بناته- إلى كل واحد منهم مائة ألف دينار إنما هو من ماله- و لا رواية تصح أنه أعطاهم ذلك من بيت المال- و لو صح ذلك لكان لا يمتنع أن يكون أعطاهم من بيت المال- ليرد عوضه من ماله- لأن للإمام عند الحاجة أن يفعل ذلك- كما له أن يقرض غيره- . و قال شيخنا أبو علي أيضا- أن ما روي من دفعه خمس إفريقية لما فتحت إلى مروان- ليس بمحفوظ و لا منقول على وجه يجب قبوله- و إنما يرويه من يقصد التشنيع-

و قد قال الشيخ أبو الحسين الخياط- أن ابن أبي سرح لما غزا البحر و معه مروان في الجيش- ففتح الله عليهم و غنموا غنيمة عظيمة- اشترى مروان من ابن أبي سرح الخمس بمائة ألف- و أعطاه أكثرها ثم قدم على عثمان بشيرا بالفتح- و قد كانت قلوب المسلمين تعلقت بأمر ذلك الجيش- فرأى عثمان أن يهب له ما بقي عليه من المال- و للإمام فعل مثل ذلك ترغيبا في مثل هذه الأمور- . قال و هذا الصنع كان منه في السنة الأولى من إمامته- و لم يبرأ أحد منه فيها فلا وجه للتعلق بذلك- .

و ذكر أبو الحسين الخياط أيضا فيما أعطاه أقاربه- أنه وصلهم لحاجتهم- فلا يمتنع مثله في الإمام إذا رآه صلاحا- و ذكر في إقطاعه القطائع لبني أمية- أن الأئمة قد تحصل في أيديهم الضياع لا مالك لها- و يعلمون أنها لا بد فيها ممن يقوم بإصلاحها و عمارتها- و يؤدى عنها ما يجب من الحق- فله أن يصرف من ذلك إلى من يقوم به- و له أيضا أن يهد بعضها على بعض- بحسب ما يعلم من الصلاح و التألف- و طريق ذلك الاجتهاد- .اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام- فقال أما قوله يجوز أن يكون إنما أعطاهم من ماله- فالرواية بخلاف ذلك- و قد صرح الرجل بأنه كان يعطي من بيت المال‏ صلة لرحمه- و لما عوتب على ذلك لم يعتذر عنه بهذا الضرب من العذر- و لا قال إن هذه العطايا من مالي فلا اعتراض لأحد فيها- روى الواقدي بإسناده عن المسور بن عتبة- قال سمعت عثمان يقول- إن أبا بكر و عمر كانا يتأولان في هذا المال- ظلف أنفسهما و ذوي أرحامهما- و إني تأولت فيه صلة رحمي- .

و روي عنه أيضا أنه كان بحضرته زياد بن عبيد- مولى الحارث بن كلدة الثقفي- و قد بعث إليه أبو موسى بمال عظيم من البصرة- فجعل عثمان يقسمه بين ولده و أهله بالصحاف فبكى زياد- فقال لا تبك- فإن عمر كان يمنع أهله و ذوي قرابته ابتغاء وجه الله- و أنا أعطي أهلي و ولدي و قرابتي ابتغاء وجه الله- .

و قد روي هذا المعنى عنه من عدة طرق بألفاظ مختلفة- . و روى الواقدي أيضا بإسناده- قال قدمت إبل من إبل الصدقة على عثمان- فوهبها للحارث بن الحكم بن أبي العاص- و روى أيضا أنه ولى الحكم بن أبي العاص صدقات قضاعة- فبلغت ثلاثمائة ألف فوهبها له حين أتاه بها- و روى أبو مخنف و الواقدي- أن الناس أنكروا على عثمان- إعطاء سعيد بن العاص مائة ألف- و كلمه علي و الزبير و طلحة و سعد و عبد الرحمن في ذلك- فقال إن له قرابة و رحما- قالوا فما كان لأبي بكر و عمر قرابة و ذوو رحم- فقال إن أبا بكر و عمر كان يحتسبان في منع قرابتهما- و أنا أحتسب في إعطاء قرابتي- قالوا فهديهما و الله أحب إلينا من هديك- .

و روى أبو مخنف- أن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية- قدم على عثمان من مكة و معه ناس- فأمر لعبد الله بثلاثمائة ألف- و لكل واحد من القوم بمائة ألف- و صك بذلك على عبد الله بن الأرقم- و كان خازن بيت المال- فاستكثره و رد الصك به- و يقال إنه سأل عثمان أن يكتب عليه بذلك كتابا- فأبى و امتنع ابن الأرقم أن يدفع المال إلى القوم- فقال له عثمان إنما أنت خازن لنا- فما حملك على ما فعلت- فقال ابن الأرقم كنت أراني خازن المسلمين- و إنما خازنك غلامك- و الله لا إلي لك بيت المال أبدا- و جاء بالمفاتيح فعلقها على المنبر- و يقال بل ألقاها إلى عثمان فرفعها إلى نائل مولاه- .

و روى الواقدي- أن عثمان أمر زيد بن ثابت أن يحمل من بيت مال المسلمين- إلى عبد الله بن الأرقم في عقيب هذا الفعل- ثلاثمائة ألف درهم فلما دخل بها عليه- قال له يا أبا محمد إن أمير المؤمنين أرسل إليك- يقول إنا قد شغلناك عن التجارة- و لك ذوو رحم أهل حاجة- ففرق هذا المال فيهم- و استعن به على عيالك- فقال عبد الله بن الأرقم ما لي إليه حاجة- و ما عملت لأن يثيبني عثمان- و الله إن كان هذا من بيت مال المسلمين- ما بلغ قدر عملي أن أعطى ثلاثمائة ألف- و لئن كان من مال عثمان- ما أحب أن أرزأه من ماله شيئا- و ما في هذه الأمور أوضح من أن يشار إليه و ينبه عليه- .

فأما قوله و لو صح أنه أعطاهم من بيت المال- لجاز أن يكون ذلك على طريق القرض فليس بشي‏ء- لأن الروايات أولا تخالف ما ذكره- و قد كان يجب لما نقم عليه وجوه الصحابة- إعطاء أقاربه من بيت المال- أن يقول لهم هذا على سبيل القرض و أنا أرد عوضه- و لا يقول ما تقدم ذكره من أنني أصل به رحمي- على أنه ليس للإمام أن يقترض من بيت مال المسلمين- إلا ما ينصرف في مصلحة لهم مهمة يعود عليهم نفعها- أو في سد خلة و فاقة لا يتمكنون من القيام بالأمر معها- فأما أن يقرض المال ليتسع به-و يمرح فيه مترفي بني أمية و فساقهم فلا أحد يجيز ذلك- .

فأما قوله حاكيا عن أبي علي- إن دفعه خمس إفريقية إلى مروان- ليس بمحفوظ و لا منقول فباطل- لأن العلم بذلك يجري مجرى العلم بسائر ما تقدم- و من قرأ الأخبار- علم ذلك على وجه لا يعترض فيه شك كما يعلم نظائره- . روى الواقدي عن أسامة بن زيد- عن نافع مولى الزبير عن عبد الله بن الزبير- قال أغزانا عثمان سنة سبع و عشرين إفريقية- فأصاب عبد الله بن سعد بن أبي سرح غنائم جليلة- فاعطى عثمان مروان بن الحكم تلك الغنائم- و هذا كما ترى يتضمن الزيادة على إعطاء الخمس- و يتجاوزه إلى إعطاء الأصل- . و روى الواقدي عن عبد الله بن جعفر- عن أم بكر بنت المسور- قالت لما بنى مروان داره بالمدينة- دعا الناس إلى طعامه- و كان المسور ممن دعاه- فقال مروان و هو يحدثهم- و الله ما أنفقت في داري هذه- من مال المسلمين درهما فما فوقه-

فقال المسور لو أكلت طعامك و سكت كان خيرا لك- لقد غزوت معنا إفريقية- و إنك لأقلنا مالا و رقيقا و أعوانا و أخفنا ثقلا- فأعطاك ابن عمك خمس إفريقية- و عملت على الصدقات- فأخذت أموال المسلمين- . و روى الكلبي عن أبيه عن أبي مخنف- أن مروان ابتاع خمس إفريقية- بمائتي ألف درهم و مائتي ألف دينار- و كلم عثمان فوهبها له- فأنكر الناس ذلك على عثمان- و هذا بعينه هو الذي اعترف به أبو الحسين الخياط- و اعتذر عنه- بأن قلوب المسلمين تعلقت بأمر ذلك الجيش- فرأى عثمان أن يهب لمروان ثمن ما ابتاعه من الخمس- لما جاءه بشيرا بالفتح على سبيل الترغيب- و هذا الاعتذار ليس بشي‏ء- لأن الذي رويناه من الأخبار في هذا الباب خال من البشارة- و إنما يقتضي أنه سأله ترك ذلك عليه- فتركه و ابتدأ هو بصلته- و لو أتى بشيرا بالفتح كما ادعوا- لما جاز أن يترك عليه خمس الغنيمة- العائد نفعه على المسلمين لأن تلك البشارة- لا تبلغ إلى أن يستحق البشير بها مائتي ألف درهم- و لا اجتهاد في مثل هذا- و لا فرق بين من جوز أن يؤدي الاجتهاد إلى مثله- و من جوز أن يؤدي الاجتهاد- إلى دفع أصل الغنيمة إلى البشير بها- و من ارتكب ذلك- ألزم جواز أن يؤدي الاجتهاد إلى إعطاء هذا البشير- جميع أموال المسلمين في الشرق و الغرب- .

فأما قوله إنه وصل بني عمه لحاجتهم- و رأى في ذلك صلاحا- فقد بينا أن صلاته لهم- كانت أكثر مما تقتضيه الخلة و الحاجة- و أنه كان يصل فيهم المياسير- ثم الصلاح الذي زعم أنه رآه- لا يخلو إما أن يكون عائدا على المسلمين أو على أقاربه- فإن كان على المسلمين فمعلوم ضرورة- أنه لا صلاح لأحد من المسلمين- في إعطاء مروان مائتي ألف دينار- و الحكم بن أبي العاص ثلاثمائة ألف درهم- و ابن أسيد ثلاثمائة ألف درهم إلى غير ما ذكرنا- بل على المسلمين في ذلك غاية الضرر- و إن أراد الصلاح الراجع إلى الأقارب- فليس له أن يصلح أمر أقاربه بفساد أمر المسلمين- و ينفعهم بما يضر به المسلمين- .

و أما قوله إن القطائع التي أقطعها بني أمية- إنما أقطعهم إياها لمصلحة تعود على المسلمين- لأن تلك الضياع كانت خرابا لا عامر لها- فسلمها إلى من يعمرها و يؤدي الحق عنه- فأول ما فيه أنه لو كان الأمر على ما ذكره- و لم تكن هذه القطائع على سبيل الصلة و المعونة لأقاربه- لما خفي ذلك على الحاضرين- و لكانوا لا يعدون ذلك من مثالبه- و لا يواقفونه عليه في جملة ما واقفوه عليه من أحداثه- ثم كان يجب لو فعلوا ذلك- أن يكون جوابه بخلاف ما روي من جوابه- لأنه كان يجب أن يقول لهم- و أي منفعة في هذه القطائع عائدة على قرابتي- حتى تعدوا ذلك من جملة صلاتي لهم- و إيصالي المنافع إليهم- و إنما جعلتهم فيها بمنزلة الأكرة- الذين ينتفع بهم أكثر من انتفاعهم أنفسهم- و ما كان يجب أن يقول ما تقدمت روايته- من أني محتسب في إعطاء قرابتي- و أن ذلك على سبيل الصلة لرحمي- إلى غير ذلك مما هو خال من المعنى الذي ذكره- .

الطعن الرابع– إنه حمى الحمى عن المسلمين- مع أن رسول الله ص جعلهم سواء في الماء و الكلأ- . قال قاضي القضاة و جوابنا عن ذلك- إنه لم يحم الكلأ لنفسه و لا استأثر به- لكنه حماه لإبل الصدقة التي منفعتها تعود على المسلمين- و قد روي عنه هذا الكلام بعينه- و أنه قال إنما فعلت ذلك لإبل الصدقة- و قد أطلقته الآن و أنا أستغفر الله- و ليس في الاعتذار ما يزيد عن ذلك- . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام- فقال أما أولا فالمروي بخلاف ما ذكر- لأن الواقدي روى بإسناده- قال كان عثمان يحمي الربذة و الشرف و البقيع- فكان لا يدخل الحمى بعير له و لا فرس- و لا لبني أمية حتى كان آخر الزمان- فكان يحمي الشرف لإبله و كانت ألف بعير- و لإبل الحكم بن أبي العاص و يحمي الربذة لإبل الصدقة- و يحمي البقيع لخيل المسلمين و خيله و خيل بني أمية- . قال على أنه لو كان إنما حماه لإبل الصدقة- لم يكن بذلك مصيبا- لأن الله تعالى و رسوله أباحا الكلأ و جعلاه مشتركا- فليس لأحد أن يغير هذه الإباحة- و لو كان‏ في هذا الفعل مصيبا- و أنه إنما حماه لمصلحة تعود على المسلمين- لما جاز أن يستغفر الله منه و يعتذر- لأن الاعتذار إنما يكون من الخطإ دون الصواب- .

الطعن الخامس- إنه أعطى من بيت مال الصدقة المقاتلة و غيرها- و ذلك مما لا يحل في الدين- قال قاضي القضاة و جوابنا عن ذلك- أنه إنما جاز له ذلك لعلمه بحاجة المقاتلة- و استغناء أهل الصدقة- ففعل ذلك على سبيل الإفراض- و قد فعل رسول الله ص مثله- و للإمام في مثل هذه الأمور أن يفعل ما جرى هذا المجرى- لأن عند الحاجة ربما يجوز له أن يقترض من الناس- فأن يجوز له أن يتناول من مال في يده- ليرد عوضه من المال الآخر أولى- .

اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام- فقال إن المال الذي جعل الله تعالى له جهة مخصوصة- لا يجوز أن يعدل به عن جهته بالاجتهاد- و لو كانت المصلحة في ذلك موقوفة على الحاجة- لشرطها الله تعالى في هذا الحكم- لأنه سبحانه أعلم بالمصالح و اختلافها منا- و لكان لا يجعل لأهل الصدقة منها القسط مطلقا- . و أما قوله إن الرسول ص فعل مثله- فهي دعوى مجردة من برهان- و قد كان يجب أن يروي ما ذكر في ذلك- و أما ما ذكره من الاقتراض- فأين كان عثمان عن هذا العذر لما ووقف عليه- .

الطعن السادس– أنه ضرب عبد الله بن مسعود حتى كسر بعض أضلاعه-قال قاضي القضاة قال شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى- لم يثبت عندنا و لا صح عندنا- ما يقال من طعن عبد الله عليه و إكفاره له- و الذي يصح من ذلك- أن عبد الله كره منه جمعه الناس على قراءة زيد بن ثابت- و إحراقه المصاحف و ثقل ذلك عليه- كما يثقل على الواحد منا تقديم غيره عليه- . و قد قيل إن بعض موالي عثمان ضربه- لما سمع منه الوقيعة في عثمان- و لو صح أنه أمر بضربة- لم يكن بأن يكون طعنا في عثمان- بأولى من أن يكون طعنا في ابن مسعود- لأن للإمام تأديب غيره- و ليس لغيره الوقيعة فيه إلا بعد البيان- و قد ذكر الشيخ أبو الحسين الخياط- أن ابن مسعود إنما عابه لعزله إياه- و قد روي أن عثمان اعتذر إليه فلم يقبل عذره- و لما أحضر إليه عطاءه في مرضه- قال ابن مسعود منعتني إياه إذ كان ينفعني- و جئتني به عند الموت لا أقبله- و أنه وسط أم حبيبة زوج النبي ص- ليزيل ما في نفسه فلم يجب- و هذا يوجب ذم ابن مسعود إذ لم يقبل الندم- و يوجب براءة عثمان من هذا العيب- لو صح ما صح ما رووه من ضربه- . اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام-

فقال المعلوم المروي خلاف ما ذكره أبو علي- و لا يختلف أهل النقل في طعن ابن مسعود على عثمان و قوله فيه أشد الأقوال و أعظمها- و العلم بذلك كالعلم بكل ما يدعى فيه الضرورة- و قد روى كل من روى السيرة- من أصحاب الحديث على اختلاف طرقهم- أن ابن مسعود كان يقول ليتني و عثمان برمل عالج- يحثو علي و أحثو عليه حتى يموت الأعجز مني و منه- . و رووا أنه كان يطعن عليه- فيقال له أ لا خرجت عليه ليخرج معك- فيقول لأن أزاول جبلا راسيا- أحب إلى من أن أزاول ملكا مؤجلا- .

و كان يقوم كل يوم جمعة بالكوفة جاهرا معلنا- أن أصدق القول كتاب الله- و أحسن الهدي هدي محمد- و شر الأمور محدثاتها- و كل محدث بدعة- و كل بدعة ضلالة و كل ضلالة في النار- و إنما كان يقول ذلك معرضا بعثمان- حتى غضب الوليد بن عقبة من استمرار تعريضه- و نهاه عن خطبته هذه فأبى أن ينتهي- فكتب إلى عثمان فيه فكتب عثمان يستقدمه عليه- . و روي أنه لما خرج عبد الله بن مسعود إلى المدينة- مزعجا عن الكوفة خرج الناس معه يشيعونه- و قالوا له يا أبا عبد الرحمن ارجع- فو الله لا نوصله إليك أبدا فإنا لا نأمنه عليك- فقال أمر سيكون و لا أحب أن أكون أول من فتحه- .

و قد روي عنه أيضا من طرق لا تحصى كثرة أنه كان يقول- ما يزن عثمان عند الله جناح ذباب- و تعاطى ما روي عنه في هذا الباب يطول- و هو أظهر من أن يحتاج إلى الاستشهاد عليه- و أنه بلغ من إصرار عبد الله على مظاهرته بالعداوة- أن قال لما حضره الموت- من يتقبل مني وصية أوصيه بها على ما فيها فسكت القوم- و عرفوا الذي يريد فأعادها- فقال عمار بن ياسر رحمه الله تعالى أنا أقبلها- فقال ابن مسعود ألا يصلي علي عثمان قال ذلك لك- فيقال إنه لما دفن جاء عثمان منكرا لذلك- فقال له قائل أن عمارا ولي الأمر- فقال لعمار ما حملك على أن لم تؤذني- فقال عهد إلي ألا أوذنك- فوقف على قبره و أثنى عليه- ثم انصرف و هو يقول- رفعتم و الله أيديكم عن خير من بقي- فتمثل الزبير بقول الشاعر-

لا ألفينك بعد الموت تندبني
و في حياتي ما زودتني زادي‏

و لما مرض ابن مسعود مرضه الذي مات فيه- أتاه عثمان عائدا فقال ما تشتكي فقال ذنوبي- قال فما تشتهي قال رحمة بي- قال أ لا أدعو لك طبيبا قال‏ الطبيب أمرضني- قال أ فلا آمر لك بعطائك- قال منعتنيه و أنا محتاج إليه- و تعطينيه و أنا مستغن عنه- قال يكون لولدك قال رزقهم على الله تعالى- قال استغفر لي يا أبا عبد الرحمن- قال أسأل الله أن يأخذ لي منك حقي- . قال و صاحب المغني- قد حكى بعض هذا الخبر في آخر الفصل الذي حكاه من كلامه- و قال هذا يوجب ذم ابن مسعود من حيث لم يقبل العذر- و هذا منه طريف- لأن مذهبه لا يقتضي قبول كل عذر ظاهر- و إنما يجب قبول العذر الصادق- الذي يغلب في الظن أن الباطن فيه كالظاهر- فمن أين لصاحب المغني- أن اعتذار عثمان إلى ابن مسعود- كان مستوفيا للشرائط التي يجب معها القبول- و إذا جاز ما ذكرناه- لم يكن على ابن مسعود لوم في الامتناع من قبول عذره- .

فأما قوله إن عثمان لم يضربه- و إنما ضربه بعض مواليه لما سمع وقيعته فيه- فالأمر بخلاف ذلك- و كل من قرأ الأخبار- علم أن عثمان أمر بإخراجه عن المسجد على أعنف الوجوه- و بأمره جرى ما جرى عليه- و لو لم يكن بأمره و رضاه- لوجب أن ينكر على مولاه كسر ضلعه- و يعتذر إلى من عاتبه على فعله بابن مسعود- بأن يقول إني لم آمر بذلك و لا رضيته من فاعله- و قد أنكرت عليه فعله- . و في علمنا بأن ذلك لم يكن دليل على ما قلنا- و قد روى الواقدي بإسناده و غيره- أن ابن مسعود لما استقدم المدينة دخلها ليلة جمعة- فلما علم عثمان بدخوله- قال أيها الناس إنه قد طرقكم الليلة دويبة- من تمشي على طعامه يقي‏ء و يسلح- فقال ابن مسعود لست كذلك- و لكنني صاحب رسول الله ص يوم بدر- و صاحبه يوم أحد و صاحبه يوم بيعة الرضوان- و صاحبه يوم الخندق و صاحبه يوم حنين-

قال و صاحت عائشة يا عثمان- أ تقول هذا لصاحب رسول الله ص- فقال عثمان اسكتي- ثم قال لعبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب- بن عبد العزى بن قصي- أخرجه إخراجا عنيفا فأخذه ابن زمعة فاحتمله حتى جاء به باب مسجد- فضرب به الأرض- فكسر ضلعا من أضلاعه- فقال ابن مسعود قتلني ابن زمعة الكافر بأمر عثمان- و في رواية أخرى أن ابن زمعة الذي فعل به ما فعل- كان مولى لعثمان أسود مسدما طوالا- و في رواية أخرى أن فاعل ذلك يحموم مولى عثمان- و في رواية أنه لما احتمله ليخرجه من المسجد- ناداه عبد الله أنشدك الله- ألا تخرجني من مسجد خليلي ص- .

قال الراوي- فكأني أنظر إلى حموشة ساقي عبد الله بن مسعود- و رجلاه تختلفان على عنق مولى عثمان حتى أخرج من المسجد- و هو الذي يقول فيه رسول الله ص- لساقا ابن أم عبد- أثقل في الميزان يوم القيامة من جبل أحد- . و قد روى محمد بن إسحاق عن محمد بن كعب القرظي- أن عثمان ضرب ابن مسعود أربعين سوطا في دفنه أبا ذر- و هذه قصة أخرى- و ذلك أن أبا ذر رحمه الله تعالى- لما حضرته الوفاة بالربذة- و ليس معه إلا امرأته و غلامه- عهد إليهما أن غسلاني ثم كفناني- ثم ضعاني على قارعة الطريق- فأول ركب يمرون بكم قولوا لهم- هذا أبو ذر صاحب رسول الله ص فأعينونا على دفنه- فلما مات فعلوا ذلك- و أقبل ابن مسعود في ركب من العراق معتمرين- فلم يرعهم إلا الجنازة على قارعة الطريق- قد كادت الإبل تطؤها- فقام إليهم العبد-

فقال هذا أبو ذر صاحب رسول الله ص فأعينونا على دفنه- فانهل ابن مسعود باكيا- و قال صدق رسول الله ص- قال له تمشي وحدك و تموت وحدك و تبعث وحدك- ثم نزل هو و أصحابه فواروه- قال فأما قوله إن ذلك ليس بأن يكون طعنا في عثمان- بأولى من أن يكون طعنا في ابن مسعود فواضح البطلان- و إنما كان طعنا في عثمان دون ابن مسعود- لأنه لا خلاف‏ بين الأمة في طهارة ابن مسعود و فضله و إيمانه- و مدح رسول الله ص و ثنائه عليه- و أنه مات على الجملة المحمودة منه- و في جميع هذا خلاف بين المسلمين في عثمان- .

فأما قوله- إن ابن مسعود كره جمع عثمان الناس على قراءة زيد- و إحراقه المصاحف- فلا شك أن عبد الله كره ذلك- كما كرهه جماعة من أصحاب رسول الله ص و تكلموا فيه- و قد ذكر الرواة كلام كل واحد منهم في ذلك مفصلا- و ما كره عبد الله من ذلك إلا مكروها- و هو الذي يقول رسول الله ص في حقه من سره أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد و روي عن ابن عباس رحمه الله تعالى أنه قال قراءة ابن أم عبد هي القراءة الأخيرة – إن رسول الله ص- كان يعرض عليه القرآن في كل سنة من شهر رمضان- فلما كان العام الذي توفي فيه عرض عليه دفعتين- فشهد عبد الله ما نسخ منه- و ما صح فهي القراءة الأخيرة- .

و روي عن الأعمش قال قال ابن مسعود لقد أخذت القرآن من في رسول الله ص سبعين سورة- و إن زيد بن ثابت لغلام في الكتاب له ذؤابة – . فأما حكايته عن أبي الحسين الخياط- أن ابن مسعود إنما عاب عثمان لعزله إياه- فعبد الله عند كل من عرفه بخلاف هذه الصورة- و إنه لم يكن ممن يخرج على عثمان- و يطعن في إمامته بأمر يعود إلى منفعة الدنيا- و إن كان عزله بما لا شبهة فيه في دين- و لا أمانة عيبا لا شك فيه-

الطعن السابع– أنه جمع الناس على قراءة زيد بن ثابت خاصة- و أحرق المصاحف و أبطل ما لا شك- أنه نزل من القرآن و أنه مأخوذ عن الرسول ص- و لو كان ذلك مما يسوغ- لسبق إليه رسول الله ص و لفعله أبو بكر و عمر- . قال قاضي القضاة و جوابنا عن ذلك- أن الوجه في جمع القرآن على قراءة واحدة- تحصين القرآن و ضبطه- و قطع المنازعة و الاختلاف فيه- و قولهم لو كان ذلك واجبا لفعله الرسول ص غير لازم- لأن الإمام إذا فعله صار كأن الرسول ص فعله- و لأن الأحوال في ذلك تختلف- و قد روي أن عمر كان عزم على ذلك فمات دونه- و ليس لأحد أن يقول- إن إحراقه المصاحف استخفاف بالدين- و ذلك لأنه إذا جاز من الرسول ص- أن يخرب المسجد الذي بني ضرارا و كفرا- فغير ممتنع إحراق المصاحف- .

اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام- فقال إن اختلاف الناس في القراءة- ليس بموجب لما صنعه لأنهم يروون أن النبي ص قال نزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف – فهذا الاختلاف عندهم في القرآن مباح مسند عن الرسول ص- فكيف يحظر عليهم عثمان- من التوسع في الحروف ما هو مباح- فلو كان في القراءة الواحدة تحصين القرآن كما ادعى- لما أباح النبي ص في الأصل إلا القراءة الواحدة- لأنه أعلم بوجوه المصالح من جميع أمته- من حيث كان مؤيدا بالوحي- موفقا في كل ما يأتي و يذر- و ليس له أن يقول- حدث من الاختلاف في أيام عثمان- ما لم يكن في أيام الرسول ص و لا ما أباحه- و ذلك لأن الأمرلو كان على هذا- لوجب أن ينهى عن القراءة الحادثة- و الأمر المبتدع و لا يحمله ما أحدث- من القراءة على تحريم المتقدم بلا شبهة- . و قوله إن الإمام إذا فعل ذلك- فكأن الرسول ص فعله تعلل بالباطل- و كيف يكون كما ادعى- و هذا الاختلاف بعينه قد كان موجودا في أيام الرسول ص- فلو كان سبب الانتشار الزيادة في القرآن- و في قطعه تحصين له- لكان ع بالنهي عن هذا الاختلاف أولى من غيره- اللهم إلا أن يقال حدث اختلاف لم يكن- فقد قلنا فيه ما كفى- .

و أما قوله إن عمر قد كان عزم على ذلك فمات دونه- فما سمعناه إلا منه- و لو فعل ذلك أي فاعل كان لكان منكرا- . فأما الاعتذار عن كون إحراق المصاحف- لا يكون استخفافا بالدين- بحمله إياه على تخريب مسجد الضرار- فبين الأمرين بون بعيد- لأن البنيان إنما يكون مسجدا و بيتا لله تعالى- بنية الباني و قصده- و لو لا ذلك لم يكن بعض البنيان- بأن يكون مسجدا أولى من بعض- و لما كان قصد الباني لذلك الموضع- غير القربة و العبادة- بل خلافها و ضدها من الفساد و المكيدة- لم يكن في الحقيقة مسجدا- و إن سمي بذلك مجازا على ظاهر الأمر- فهدمه لا حرج فيه- و ليس كذلك ما بين الدفتين- لأنه كلام الله تعالى الموقر المعظم- الذي يجب صيانته عن البذلة و الاستخفاف- فأي نسبة بين الأمرين- .

الطعن الثامن- أنه أقدم عمار بن ياسر بالضرب حتى حدث به فتق- و لهذا صار أحد من ظاهر المتظلمين من أهل الأمصار على قتله- و كان يقول قتلناه كافرا- .قال قاضي القضاة- و قد أجاب شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى عن ذلك- فقال إن ضرب عمار غير ثابت- و لو ثبت أنه ضربه للقول العظيم- الذي كان يقوله لم يجب أن يكون طعنا عليه- لأن للإمام تأديب من يستحق التأديب- و مما يبعد صحة ذلك أن عمارا لا يجوز أن يكفره- و لما يقع منه ما يستوجب به الكفر- لأن الذي يكفر به الكافر معلوم- و لأنه لو كان قد وقع ذلك- لكان غيره من الصحابة أولى بذلك- و لوجب أن يجتمعوا على خلعه- و لوجب أن يكون قتله مباحا لهم- بل كان يجب أن يقيموا إماما ليقتله على ما قدمناه- و ليس لأحد أن يقول- إنما كفره عمار من حيث وثب على الخلافة- و لم يكن لها أهلا- لأنا قد بينا القول في ذلك- و لأنه كان منصوبا لأبي بكر و عمر ما تقدم- و قد بينا أن صحة إمامتهما تقتضي صحة إمامة عثمان- .

و قد روي أن عمارا نازع الحسن بن علي ع في أمر عثمان- فقال عمار قتل عثمان كافرا- و قال الحسن ع قتل مؤمنا و تعلق بعضهما ببعض- فصارا إلى أمير المؤمنين ع- فقال ما ذا تريد من ابن أخيك- فقال إني قلت كذا و قال كذا- فقال له أمير المؤمنين ع- أ تكفر برب كان يؤمن به عثمان فسكت عمار – و قد ذكر الشيخ أبو الحسين الخياط- أن عثمان لما نقم عليه ضربه عمارا احتج لنفسه- فقال جاءني سعد و عمار فأرسلا إلي أن ائتنا- فإنا نريد أن نذاكرك أشياء فعلتها- فأرسلت إليهما أني مشغول فانصرفا- فموعدكما يوم كذا- فانصرف سعد و أبى عمار أن ينصرف- فأعدت الرسول إليه فأبى أن ينصرف- فتناوله بغير أمري- و و الله ما أمرت به و لا رضيت- و ها أنا فليقتص مني- .

قال و هذا من أنصف قول و أعدله. اعترض المرتضى رحمه الله تعالى هذا الكلام- فقال أما الدفع لضرب عمار- فهوكالإنكار لطلوع الشمس ظهورا و انتشارا- و كل من قرأ الأخبار و تصفح السير- يعلم من هذا الأمر ما لا تثنيه عنه مكابرة و لا مدافعة- و هذا الفعل أعني ضرب عمار لم تختلف الرواة فيه- و إنما اختلفوا في سببه- فروى عباس بن هشام الكلبي عن أبي مخنف- في إسناده أنه كان في بيت المال بالمدينة سفط- فيه حلي و جوهر- فأخذ منه عثمان ما حلي به بعض أهله- فأظهر الناس الطعن عليه في ذلك- و كلموه فيه بكل كلام شديد حتى أغضبوه فخطب- فقال لنأخذن حاجتنا من هذا الفي‏ء- و إن رغمت به أنوف أقوام- فقال له علي ع إذن تمنع من ذلك و يحال بينك و بينه- فقال عمار أشهد الله أن أنفي أول راغم من ذلك- فقال عثمان أ علي يا ابن ياسر تجترئ- خذوه فأخذ و دخل عثمان فدعا به- فضربه حتى غشي عليه ثم أخرج- فحمل حتى أتي به منزل أم سلمة رضي الله تعالى عنها- فلم يصل الظهر و العصر و المغرب- فلما أفاق توضأ و صلى- و قال الحمد لله ليس هذا أول يوم أوذينا في الله تعالى-

فقال هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي- و كان عمار حليفا لبني مخزوم- يا عثمان أما علي فاتقيته- و أما نحن فاجترأت علينا- و ضربت أخانا حتى أشفيت به على التلف- أما و الله لئن مات لأقتلن به رجلا من بني أمية عظيم الشأن- فقال عثمان و إنك لهاهنا يا ابن القسرية- قال فإنهما قسريتان- و كانت أم هشام و جدته قسريتين من بجيلة- فشتمه عثمان و أمر به فأخرج- فأتي به أم سلمة رضي الله تعالى عنها- فإذا هي قد غضبت لعمار- و بلغ عائشة رضي الله تعالى عنها ما صنع بعمار- فغضبت أيضا و أخرجت شعرا من شعر رسول الله ص- و نعلا من نعاله و ثوبا من ثيابه- و قالت ما أسرع ما تركتم سنة نبيكم- و هذا شعره و ثوبه و نعله لم يبل بعد- .

و روى آخرون أن السبب في ذلك- أن عثمان مر بقبر جديد فسأل عنه- فقيل عبد الله بن مسعود- فغضب على عمار لكتمانه إياه موته- إذ كان المتولي للصلاة عليه و القيام بشأنه- فعندها وطئ عثمان عمارا حتى أصابه الفتق- . و روى آخرون أن المقداد و عمارا و طلحة و الزبير- و عدة من أصحاب رسول الله ص كتبوا كتابا- عددوا فيه أحداث عثمان و خوفوه به- و أعلموه أنهم مواثبوه إن لم يقلع- فأخذ عمار الكتاب فأتاه به فقرأ منه صدرا- ثم قال له أ علي تقدم من بينهم- فقال لأني أنصحهم لك- قال كذبت يا ابن سمية- فقال أنا و الله ابن سمية و ابن ياسر- فأمر عثمان غلمانا له فمدوا بيديه و رجليه- ثم ضربه عثمان برجليه و هي في الخفين على مذاكيره- فأصابه الفتق و كان ضعيفا كبيرا فغشي عليه- .

قال فضرب عمار على ما ترى غير مختلف فيه بين الرواة- و إنما اختلفوا في سببه- و الخبر الذي رواه صاحب المغني- و حكاه عن أبي الحسين الخياط ما نعرفه- و كتب السيرة المعلومة خالية منه و من نظيره- و قد كان يجب أن يضيفه إلى الموضع الذي أخذ منه- فإن قوله و قول من أسند إليه ليس بحجة- و لو كان صحيحا لكان يجب أن يقول بدل قوله- ها أنا فليقتص مني- إذا كان ما أمر بذلك و لا رضي عنه- و إنما ضربه الغلام الجاني- فليقتص منه فإنه أولى و أعدل- . و بعد فلا تنافي بين الروايتين لو كان ما رواه معروفا- لأنه يجوز أن يكون غلامه ضربه في حال- و ضربه هو في حال أخرى- و الروايات إذا لم تتعارض لم يجز إسقاط شي‏ء منها- . فأما قوله إن عمارا لا يجوز أن يكفره- و لم يقع منه ما يوجب الكفر- فإن تكفير عمار و غير عمار له معروف- و قد جاءت به الروايات- و قد روي من طرق مختلفة و بأسانيد كثيرة- أن عمارا كان يقول- ثلاثة يشهدون على عثمان بالكفر و أنا الرابع- و أنا شرالأربعة- وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ- و أنا أشهد أنه قد حكم بغير ما أنزل الله- .

و روي عن زيد بن أرقم من طرق مختلفة- أنه قيل له بأي شي‏ء كفرتم عثمان- فقال بثلاث جعل المال دولة بين الأغنياء- و جعل المهاجرين من أصحاب رسول الله ص- بمنزلة من حارب الله و رسوله و عمل بغير كتاب الله- . و روي عن حذيفة أنه كان يقول- ما في عثمان بحمد الله أشك- لكني أشك في قاتله- لا أدري أ كافر قتل كافرا- أم مؤمن خاض إليه الفتنة حتى قتله- و هو أفضل المؤمنين إيمانا- فأما ما رواه من منازعة الحسن ع عمارا في ذلك- و ترافعهما إلى أمير المؤمنين ع- فهو أولا غير دافع لكون عمار مكفرا له- بل شاهد بذلك من قوله ع- ثم إن كان الخبر صحيحا فالوجه فيه- أن عمارا كان يعلم من لحن كلام أمير المؤمنين ع- و عدوله عن أن يقضي بينهما بصريح من القول- أنه متمسك بالتقية فأمسك عمار متابعة لغرضه- . فأما قوله لا يجوز أن يكفره من حيث وثب على الخلافة- لأنه كان مصوبا لأبي بكر و عمر لما تقدم من كلامه في ذلك- فإنا لا نسلم له أن عمارا كان مصوبا لهما- و ما تقدم من كلامه قد تقدم كلامنا عليه- .

فأما قوله عن أبي علي أنه لو ثبت- أنه ضربه للقول العظيم الذي كان يقوله فيه لم يكن طعنا- لأن للإمام تأديب من يستحق ذلك- فقد كان يجب أن يستوحش صاحب كتاب المغني- أو من حكى كلامه من أبي علي و غيره من أن يعتذر- من ضرب عمار و وقذه- حتى لحقه من الغشي ما ترك له الصلاة- و وطئه بالأقدام امتهانا و استخفافا بشي‏ء من العذر-فلا عذر يسمع من إيقاع نهاية المكروه بمن روي أن النبي ص قال فيه- عمار جلده ما بين العين و الأنف- و متى تنكأ الجلدة يدم الأنف و روي أنه قال ع ما لهم و لعمار- يدعوهم إلى الجنة و يدعونه إلى النار-.

روى العوام بن حوشب عن سلمة بن كهيل عن علقمة عن خالد بن الوليد أن رسول الله ص قال من عادى عمارا عاداه الله- و من أبغض عمارا أبغضه الله – و أي كلام غليظ سمعه عثمان من عمار- يستحق به ذلك المكروه العظيم- الذي يجاوز مقدار ما فرضه الله تعالى في الحدود- و إنما كان عمار و غيره- أثبتوا عليه أحداثه و معايبه أحيانا- على ما يظهر من سيئ أفعاله- و قد كان يجب عليه أحد أمرين- إما أن ينزع عما يواقف عليه من تلك الأفعال أو يبين من عذره عنها- و براءته منها ما يظهر و يشتهر- فإن أقام مقيم بعد ذلك على توبيخه و تفسيقه- زجره عن ذلك بوعظ أو غيره- و لا يقدم على ما يفعله الجبابرة و الأكاسرة من شفاء الغيظ- بغير ما أنزل الله تعالى و حكم به- الطعن التاسع- إقدامه علي أبي ذر مع تقدمه في الإسلام- حتى سيره إلى الربذة و نفاه و قيل إنه ضربه- . قال قاضي القضاة في الجواب عن ذلك- أن شيخنا أبا علي رحمه الله تعالى قال- إن الناس اختلفوا في أمر أبي ذر رحمه الله تعالى- و روي أنه قيل لأبي ذر- عثمان أنزلك الربذة- فقال لا بل اخترت لنفسي ذلك- .

و روي أن معاوية كتب يشكوه و هو بالشام- فكتب عثمان إليه أن صر إلى المدينة فلما صار إليها- قال ما أخرجك إلى الشام قال- لأني سمعت رسول الله ص‏ يقول إذا بلغت عمارة المدينة موضع كذا فاخرج عنها– فلذلك خرجت- فقال فأي البلاد أحب إليك بعد الشام- قال الربذة فقال صر إليها- . قال و إذا تكافأت الأخبار لم يكن لهم في ذلك حجة- و لو ثبت ذلك- لكان لا يمتنع أن يخرجه إلى الربذة لصلاح يرجع إلى الدين- فلا يكون ظلما لأبي ذر بل يكون إشفاقا عليه- و خوفا من أن يناله من بعض أهل المدينة مكروه- فقد روي أنه كان يغلظ في القول و يخشن الكلام- فيقول لم يبق أصحاب محمد على ما عهد و ينغر بهذا القول- فرأى إخراجه أصلح لما يرجع إليه و إليهم و إلى الدين- و قد روي أن عمر أخرج عن المدينة نصر بن الحجاج- لما خاف ناحيته- و قد ندب الله سبحانه إلى خفض الجناح للمؤمنين- و إلى القول اللين للكافرين- و بين للرسول ص- أنه لو استعمل الفظاظة لانفضوا من حوله- فلما رأى عثمان من خشونة كلام أبي ذر- و ما كان يورده مما يخشى منه التنغير فعل ما فعل- .

قال و قد روي عن زيد بن وهب- قال قلت لأبي ذر رحمه الله تعالى و هو بالربذة- ما أنزلك هذا المنزل- قال أخبرك أني كنت بالشام في أيام معاوية- و قد ذكرت هذه الآية- وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ- وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ- فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ- فقال معاوية هذه في أهل الكتاب- فقلت هي فيهم و فينا- فكتب معاوية إلى عثمان في ذلك- فكتب إلي أن أقدم علي فقدمت عليه- فانثال الناس إلي كأنهم لم يعرفوني- فشكوت ذلك إلى عثمان فخيرني- و قال انزل حيث شئت فنزلت الربذة- .

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن‏ أبي ‏الحديد) ج 3

خطبه 42 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

42 و من خطبة له ع

أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ اثْنَتَانِ- اتِّبَاعُ الْهَوَى وَ طُولُ الْأَمَلِ- فَأَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوَى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ- وَ أَمَّا طُولُ الْأَمَلِ فَيُنْسِي الآْخِرَةَ- أَلَا وَ إِنَّ الدُّنْيَا قَدْ وَلَّتْ حَذَّاءَ- فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ الْإِنَاءِ- اصْطَبَّهَا صَابُّهَا- أَلَا وَ إِنَّ الآْخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ وَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا بَنُونَ- فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الآْخِرَةِ وَ لَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا- فَإِنَّ كُلَّ وَلَدٍ سَيُلْحَقُ بِأُمِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ- وَ إِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَ لَا حِسَابَ وَ غَداً حِسَابٌ وَ لَا عَمَلَ قال الرضي رحمه الله- أقول الحذاء السريعة- و من الناس من يرويه جذاء بالجيم و الذال- أي انقطع درها و خيرها الصبابة بقية الماء في الإناء و اصطبها صابها- مثل قولك أبقاها مبقيها أو تركها تاركها- و نحو ذلك يقول- أخوف ما أخافه عليكم اتباع الهوى و طول الأمل- أما اتباع الهوى فيصد عن الحق- و هذا صحيح لا ريب فيه لأن الهوى يعمي البصيرة- و قد قيل‏حبك الشي‏ء يعمي و يصم- و لهذا قال بعض الصالحين- رحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي- و ذاك لأن الإنسان يحب نفسه- و من أحب شيئا عمي عن عيوبه- فلا يكاد الإنسان يلمح عيب نفسه- و قد قيل

أرى كل إنسان يرى عيب غيره
و يعمى عن العيب الذي هو فيه‏

 فلهذا استعان الصالحون على معرفة عيوبهم بأقوال غيرهم- علما منهم أن هوى النفس لذاتها يعميها- عن أن تدرك عيبها- و ما زال الهوى مرديا قتالا- و لهذا قال سبحانه وَ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى‏ و قال ص ثلاث مهلكات شح مطاع- و هوى متبع و إعجاب المرء بنفسه
– . و أنت إذا تأملت هلاك من هلك من المتكلمين- كالمجبرة و المرجئة- مع ذكائهم و فطنتهم و اشتغالهم بالعلوم- عرفت أنه لا سبب لهلاكهم إلا هوى الأنفس- و حبهم الانتصار للمذهب الذي قد ألفوه- و قد رأسوا بطريقه و صارت لهم الأتباع و التلامذة- و أقبلت الدنيا عليهم- و عدهم السلاطين علماء و رؤساء- فيكرهون نقض ذلك كله و إبطاله- و يحبون الانتصار لتلك المذاهب و الآراء- التي نشئوا عليها و عرفوا بها- و وصلوا إلى ما وصلوا إليه بطريقها- و يخافون عار الانتقال عن المذهب- و أن يشتفي بهم الخصوم و يقرعهم الأعداء- و من أنصف علم أن الذي ذكرناه حق- و أما طول الأمل فينسي الآخرة- و هذا حق لأن الذهن إذا انصرف إلى الأمل- و مد الإنسان في مداه فإنه لا يذكر الآخرة- بل يصير مستغرق الوقت بأحوال الدنيا- و ما يرجو حصوله منها في مستقبل الزمان- .و من كلام مسعر بن كدام- كم من مستقبل يوما ليس يستكمله- و منتظر غدا ليس من أجله- و لو رأيتم الأجل و مسيره أبغضتم الأمل و غروره- . و كان يقال تسويف الأمل غرار و تسويل المحال ضرار- . و من الشعر المنسوب إلى علي ع‏

غر جهولا أمله
يموت من جا أجله‏

و من دنا من حتفه‏
لم تغن عنه حيله‏

و ما بقاء آخر
قد غاب عنه أوله‏

و المرء لا يصحبه‏
في القبر إلا عمله‏

و قال أبو العتاهية-

لا تأمن الموت في لحظ و لا نفس
و لو تمنعت بالحجاب و الحرس‏

و اعلم بأن سهام الموت قاصدة
لكل مدرع منا و مترس‏

ما بال دينك ترضى أن تدنسه
و ثوب لبسك مغسول من الدنس‏

ترجو النجاة و لم تسلك مسالكها
إن السفينة لا تجري على اليبس‏

و من الحديث المرفوع أيها الناس إن الأعمال تطوى- و الأعمار تفنى و الأبدان تبلى في الثرى- و إن الليل و النهار يتراكضان تراكض الفرقدين- يقربان كل بعيد و يخلقان كل جديد- و في ذلك ما ألهى عن الأمل- و أذكرك بحلول الأجل

و قال بعض الصالحين- بقاؤك إلى فناء و فناؤك إلى بقاء- فخذ من فنائك الذي لا يبقى لبقائك الذي لا يفنى- . و قال بعضهم اغتنم تنفس الأجل و إمكان العمل- و اقطع ذكر المعاذير و العلل- و دع تسويف الأماني و الأمل- فإنك في نفس معدود و عمر محدود ليس بممدود- . و قال بعضهم اعمل عمل المرتحل- فإن حادي الموت يحدوك ليوم لا يعدوك-

ثم قال ع- ألا إن الدنيا قد أدبرت حذاء بالحاء و الذال المعجمة- و هي السريعة و قطاة حذاء- خف ريش ذنبها و رجل أحذ- أي خفيف اليد و قد روي قد أدبرت جذاء بالجيم- أي قد انقطع خيرها و درها- . ثم قال إن كل ولد سيلحق بأمه يوم القيامة- فكونوا من أبناء الآخرة لتلحقوا بها و تفوزوا- و لا تكونوا من أبناء الدنيا فتلحقوا بها و تخسروا- . ثم قال اليوم عمل و لا حساب و غدا حساب و لا عمل- و هذا من باب المقابلة في علم البيان

شرح ‏نهج‏ البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 2

خطبه 41 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

41 و من خطبة له ع

إِنَّ الْوَفَاءَ تَوْأَمُ الصِّدْقِ وَ لَا أَعْلَمُ جُنَّةً أَوْقَى مِنْهُ- وَ مَا يَغْدِرُ مَنْ عَلِمَ كَيْفَ الْمَرْجِعُ- وَ لَقَدْ أَصْبَحْنَا فِي زَمَانٍ قَدِ اتَّخَذَ أَكْثَرُ أَهْلِهِ الْغَدْرَ كَيْساً- وَ نَسَبَهُمْ أَهْلُ الْجَهْلِ فِيهِ إِلَى حُسْنِ الْحِيلَةِ- مَا لَهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ- قَدْ يَرَى الْحُوَّلُ الْقُلَّبُ وَجْهَ الْحِيلَةِ وَ دُونَهَا مَانِعٌ- مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَ نَهْيِهِ- فَيَدَعُهَا رَأْيَ عَيْنٍ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا- وَ يَنْتَهِزُ فُرْصَتَهَا مَنْ لَا حَرِيجَةَ لَهُ فِي الدِّينِ يقال هذا توأم هذا و هذه توأمته و هما توأمان- و إنما جعل الوفاء توأم الصدق- لأن الوفاء صدق في الحقيقة- أ لا ترى أنه قد عاهد على أمر و صدق فيه و لم يخلف- و كأنهما أعم و أخص- و كل وفاء صدق و ليس كل صدق وفاء- فإن امتنع من حيث الاصطلاح- تسمية الوفاء صدقا فلأمر آخر- و هو أن الوفاء قد يكون بالفعل دون القول- و لا يكون الصدق إلا في القول- لأنه نوع من أنواع الخبر و الخبر قول- .

ثم قال و لا أعلم جنة أي درعا- أوقى منه أي أشد وقاية و حفظا- لأن الوفي محفوظ من الله مشكور بين الناس- . ثم قال و ما يغدر من علم كيف المرجع- أي من علم الآخرة و طوى عليها عقيدته- منعه ذلك أن يغدر لأن الغدر يحبط الإيمان- . ثم ذكر أن الناس في هذا الزمان- ينسبون أصحاب الغدر إلى الكيس- و هو الفطنة و الذكاء- فيقولون لمن يخدع و يغدر و لأرباب الجريرة و المكر- هؤلاء أذكياء أكياس- كما كانوا يقولون في عمرو بن العاص و المغيرة بن شعبة- و ينسبون أرباب ذلك إلى حسن الحيلة و صحة التدبير- . ثم قال ما لهم قاتلهم الله دعاء عليهم- . ثم قال قد يرى الحول القلب وجه الحيلة- و يمنعه عنها نهي الله تعالى عنها- و تحريمه بعد أن قدر عليها و أمكنه- و الحول القلب الذي قد تحول و تقلب في الأمور و جرب- و حنكته الخطوب و الحوادث- .

ثم قال و ينتهز فرصتها أي يبادر إلى افتراصها و يغتنمها- من لا حريجة له في الدين أي ليس بذي حرج- و التحرج التأثم و الحريجة التقوى- و هذه كانت سجيته ع و شيمته- ملك أهل الشام الماء عليه و الشريعة بصفين- و أرادوا قتله و قتل أهل العراق عطشا- فضاربهم على الشريعة حتى ملكها عليهم- و طردهم عنها- فقال له أهل العراق اقتلهم بسيوف العطش- و امنعهم الماء و خذهم قبضا بالأيدي- فقال إن في حد السيف لغنى عن ذلك- و إني لا أستحل منعهم الماء- فأفرج لهم عن الماء فوردوه- ثم قاسمهم الشريعة شطرين بينهم و بينه- و كان الأشتر يستأذنه أن يبيت معاوية- فيقول‏إن رسول الله ص نهى أن يبيت المشركون – و توارث بنوه ع هذا الخلق الأبي- . أراد المضاء أن يبيت عيسى بن موسى- فمنعه إبراهيم بن عبد الله- . و أرسل لما ظهر بالبصرة إلى محمد بن قحطبة مولى باهلة- و كان قد ولي لأبي جعفر المنصور بعض أعمال بفارس-

فقال له هل عندك مال قال لا- قال آلله قال آلله قال خلوا سبيله- فخرج ابن قحطبة و هو يقول بالفارسة- ليس هذا من رجال أبي جعفر- و قال لعبد الحميد بن لاحق بلغني أن عندك مالا للظلمة- يعني آل أبي أيوب المورياني كاتب المنصور- فقال ما لهم عندي مال- قال تقسم بالله قال نعم- فقال إن ظهر لهم عندك مال لأعدنك كذابا- . و أرسل إلى طلحة الغدري و كان للمنصور عنده مال- بلغنا أن عندك مالا فأتنا به- فقال أجل إن عندي مالا- فإن أخذته مني أغرمنيه أبو جعفر فأضرب عنه- . و كان لغير إبراهيم ع من آل أبي طالب- من هذا النوع أخبار كثيرة- و كان القوم أصحاب دين ليسوا من الدنيا بسبيل- و إنما يطلبونها ليقيموا عمود الدين بالإمرة فيها- فلم يستقم لهم و الدنيا إلى أهلها أميل‏

الأخبار و الأحاديث و الآيات الواردة في مدح الوفاء و ذم الغدر

و من الأخبار النبوية المرفوعة في ذم الغدر ذمة المسلمين واحدة- فإن جارت عليهم أمة منهم فلا تخفروا جوارها- فإن لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة

و روى أبو هريرة قال مر رسول الله ص برجل يبيع طعاما- فسأله كيف تبيع فأخبره- فأمر أبا هريرة أن يدخل فيه يده- فأدخلها فإذا هو مبلول- فقال رسول الله ص ليس منا من غش

قال بعض الملوك لرسول ورد إليه من ملك آخر- أطلعني على سر صاحبك- فقال أيها الملك إنا لا نستحسن الغدر- و إنه لو حول ثواب الوفاء إليه- لما كان فيه عوض من قبحه- و لكان سماجة اسمه و بشاعة ذكره ناهيين عنه- . مالك بن دينار كفى بالمرء خيانة أن يكون أمينا للخونة- . وقع جعفر بن يحيى على ظهر كتاب- كتبه علي بن عيسى بن ماهان إلى الرشيد- يسعى فيه بالبرامكة- فدفعه الرشيد إلى جعفر يمن به عليه- و قال أجبه عنه فكتب في ظاهره- حبب الله إليك الوفاء يا أخي فقد أبغضته- و بغض إليك الغدر فقد أحببته- إني نظرت إلى الأشياء حتى أجد لك فيها مشبها فلم أجد- فرجعت إليك فشبهتك بك- و لقد بلغ من حسن ظنك بالأيام- أن أملت السلامة مع البغي- و ليس هذا من عاداتها و السلام- . كان العهد في عيسى بن موسى بن محمد بعد المنصور- بكتاب كتبه السفاح- فلما طالت أيام المنصور سامه أن يخلع نفسه من العهد- و يقدم محمدا المهدي عليه فكتب إليه عيسى

بدت لي أمارات من الغدر شمتها
أرى ما بدا منها سيمطركم دما

و ما يعلم العالي متى هبطاته
و إن سار في ريح الغرور مسلما

أبو هريرة يرفعه اللهم إني أعوذ بك من الجوع فبئس الضجيع- و أعوذ بك من الخيانة فبئست البطانة و عنه مرفوعا المكر و الخديعة و الخيانة في النار

قال مروان بن محمد لعبد الحميد الكاتب عند زوال أمره- أرى أن تصير إلى هؤلاء فلعلك أن تنفعني في مخلفي- فقال و كيف لي بعلم الناس جميعا أن هذا عن رأيك- إنهم ليقولون كلهم إني غدرت بك- ثم أنشد

و غدري ظاهر لا شك فيه
لمبصره و عذري بالمغيب‏

فلما ظفر به عبد الله بن علي قطع يديه و رجليه- ثم ضرب عنقه- . كان يقال لا يغدر غادر إلا لصغر همته عن الوفاء- و اتضاع قدره عن احتمال المكاره في جنب نيل المكارم- .

من كلام أمير المؤمنين ع الوفاء لأهل الغدر غدر- و الغدر بأهل الغدر وفاء عند الله تعالى – . قلت هذا إنما يريد به إذا كان بينهما عهد و مشارطة- فغدر أحد الفريقين و خاس بشرطه- فإن للآخر أن يغدر بشرطه أيضا و لا يفي به- . و من شعر الحماسة و اسم الشاعر العارق الطائي-

من مبلغ عمرو بن هند رسالة
إذا استحقبتها العيس جاءت من البعد

أ يوعدني و الرمل بيني و بينه‏
تبين رويدا ما أمامه من هند

و من أجأ حولي رعان كأنها
قنابل خيل من كميت و من ورد

غدرت بأمر كنت أنت اجتررتنا
إليه و بئس الشيمة الغدر بالعهد

قال أبو بكر الصديق- ثلاث من كن فيه كن عليه البغي و النكث و المكر قال سبحانه يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى‏ أَنْفُسِكُمْ- و قال فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى‏ نَفْسِهِ- و قال وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ

شرح ‏نهج‏ البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 2

خطبه 40 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(من كلام له ع للخوارج لما سمع قولهم لا حكم إلا لله)

40 و من كلام له ع للخوارج لما سمع قولهم لا حكم إلا لله

 

قَالَ: كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ- نَعَمْ إِنَّهُ لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ- وَ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يَقُولُونَ لَا إِمْرَةَ- وَ إِنَّهُ لَا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِيرٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ- يَعْمَلُ فِي إِمْرَتِهِ الْمُؤْمِنُ- وَ يَسْتَمْتِعُ فِيهَا الْكَافِرُ- وَ يُبَلِّغُ اللَّهُ فِيهَا الْأَجَلَ وَ يُجْمَعُ بِهِ الْفَيْ‏ءُ- وَ يُقَاتَلُ بِهِ الْعَدُوُّ وَ تَأْمَنُ بِهِ السُّبُلُ- وَ يُؤْخَذُ بِهِ لِلضَّعِيفِ مِنَ الْقَوِيِّ- حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ وَ يُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِرٍ- وَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ ع لَمَّا سَمِعَ تَحْكِيمَهُمْ قَالَ- حُكْمَ اللَّهِ أَنْتَظِرُ فِيكُمْ- وَ قَالَ أَمَّا الْإِمْرَةُ الْبَرَّةُ فَيَعْمَلُ فِيهَا التَّقِيُّ- وَ أَمَّا الْإِمْرَةُ الْفَاجِرَةُ فَيَتَمَتَّعُ فِيهَا الشَّقِيُّ- إِلَى أَنْ تَنْقَطِعَ مُدَّتُهُ وَ تُدْرِكَهُ مَنِيَّتُهُ
اختلاف الرأي في القول بوجوب الإمامة
هذا نص صريح منه ع بأن الإمامة واجبة- و قد اختلف الناس في هذه‏ المسألة- فقال المتكلمون كافة الإمامة واجبة- إلا ما يحكى عن أبي بكر الأصم من قدماء أصحابنا- أنها غير واجبة إذا تناصفت الأمة و لم تتظالم- . و قال المتأخرون من أصحابنا- إن هذا القول منه غير مخالف لما عليه الأمة- لأنه إذا كان لا يجوز في العادة أن تستقيم أمور الناس- من دون رئيس يحكم بينهم- فقد قال بوجوب الرئاسة على كل حال- اللهم إلا أن يقول- إنه يجوز أن تستقيم أمور الناس من دون رئيس- و هذا بعيد أن يقوله- فأما طريق وجوب الإمامة ما هي- فإن مشايخنا البصريين رحمهم الله يقولون- طريق وجوبها الشرع و ليس في العقل ما يدل على وجوبها- . و قال البغداديون و أبو عثمان الجاحظ من البصريين- و شيخنا أبو الحسين رحمه الله تعالى- إن العقل يدل على وجوب الرئاسة و هو قول الإمامية- إلا أن الوجه الذي منه يوجب أصحابنا الرئاسة- غير الوجه الذي توجب الإمامية منه الرئاسة- و ذاك أن أصحابنا يوجبون الرئاسة على المكلفين- من حيث كان في الرئاسة مصالح دنيوية- و دفع مضار دنيوية- و الإمامية يوجبون الرئاسة على الله تعالى- من حيث كان في الرئاسة لطف- و بعد للمكلفين عن مواقعة القبائح العقلية- . و الظاهر من كلام أمير المؤمنين ع يطابق ما يقوله أصحابنا- أ لا تراه كيف علل قوله لا بد للناس من أمير- فقال في تعليله يجمع به الفي‏ء و يقاتل به العدو- و تؤمن به السبل و يؤخذ للضعيف من القوي- و هذه كلها من مصالح الدنيا- . فإن قيل ذكرتم أن الناس كافة قالوا بوجوب الإمام- فكيف يقول أمير المؤمنين ع عن الخوارج- إنهم يقولون لا إمرة- .
قيل إنهم كانوا في بدء أمرهم يقولون ذلك- و يذهبون إلى أنه لا حاجة إلى الإمام- ثم رجعوا عن ذلك القول- لما أمروا عليهم عبد الله بن وهب الراسبي- .فإن قيل فسروا لنا ألفاظ أمير المؤمنين ع- قيل إن الألفاظ كلها ترجع إلى إمرة الفاجر- . قال يعمل فيها المؤمن- أي ليست بمانعة للمؤمن من العمل- لأنه يمكنه أن يصلي و يصوم و يتصدق- و إن كان الأمير فاجرا في نفسه – . ثم قال و يستمتع فيها الكافر أي يتمتع بمدته- كما قال سبحانه للكافرين- قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ- . و يبلغ الله فيها الأجل لأن إمارة الفاجر كإمارة البر- في أن المدة المضروبة فيها- تنتهي إلى الأجل المؤقت للإنسان- .

 

ثم قال و يجمع به الفي‏ء و يقاتل به العدو- و تأمن به السبل و يؤخذ به للضعيف من القوي- و هذا كله يمكن حصوله في إمارة الفاجر القوي في نفسه- و قد قال رسول الله ص إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر – و قد اتفقت المعتزلة على أن أمراء بني أمية- كانوا فجارا عدا عثمان- و عمر بن عبد العزيز و يزيد بن الوليد- و كان الفي‏ء يجمع بهم و البلاد تفتح في أيامهم- و الثغور الإسلامية محصنة محوطة- و السبل آمنة و الضعيف منصور على القوي الظالم- و ما ضر فجورهم شيئا في هذه الأمور- ثم قال ع- فتكون هذه الأمور حاصلة إلى أن يستريح بر بموته- أو يستراح من فاجر بموته أو عزله- . فأما الرواية الثانية- فإنه قد جعل التقي يعمل فيها للإمرة البرة خاصة- . و باقي الكلام غني عن الشرح‏
من أخبار الخوارج أيضا
و روى إبراهيم بن الحسن بن ديزيل المحدث- في كتاب صفين عن عبد الرحمن بن زياد- عن خالد بن حميد المصري عن عمر مولى غفرة- قال لما رجع علي ع من صفين إلى الكوفة- أقام الخوارج حتى جموا- ثم خرجوا إلى صحراء بالكوفة تسمى حروراء- فنادوا لا حكم إلا لله و لو كره المشركون- ألا إن عليا و معاوية أشركا في حكم الله- .

فأرسل علي ع إليهم عبد الله بن عباس- فنظر في أمرهم و كلمهم- ثم رجع إلى علي ع فقال له ما رأيت- فقال ابن عباس و الله ما أدري ما هم- فقال له علي ع رأيتهم منافقين- قال و الله ما سيماهم بسيما المنافقين- إن بين أعينهم لأثر السجود و هم يتأولون القرآن- فقال علي ع دعوهم ما لم يسفكوا دما أو يغصبوا مالا- و أرسل إليهم ما هذا الذي أحدثتم و ما تريدون- قالوا نريد أن نخرج نحن و أنت و من كان معنا بصفين ثلاث ليال- و نتوب إلى الله من أمر الحكمين- ثم نسير إلى معاوية- فنقاتله حتى يحكم الله بيننا و بينه- فقال علي ع فهلا قلتم هذا حين بعثنا الحكمين- و أخذنا منهم العهد و أعطيناهموه- أ لا قلتم هذا حينئذ- قالوا كنا قد طالت الحرب علينا- و اشتد البأس و كثر الجراح- و خلا الكراع و السلاح- فقال لهم أ فحين اشتد البأس عليكم عاهدتم- فلما وجدتم الجمام قلتم ننقض العهد- إن رسول الله كان يفي للمشركين- أ فتأمرونني بنقضه- .

 

فمكثوا مكانهم لا يزال الواحد منهم يرجع إلى علي ع- و لا يزال الآخريخرج من عند علي ع- فدخل واحد منهم على علي ع بالمسجد و الناس حوله- فصاح لا حكم إلا لله و لو كره المشركون- فتلفت الناس فنادى لا حكم إلا لله و لو كره المتلفتون- فرفع علي ع رأسه إليه- فقال لا حكم إلا لله و لو كره أبو حسن-

فقال علي ع إن أبا الحسن لا يكره أن يكون الحكم لله- ثم قال حكم الله أنتظر فيكم- فقال له الناس- هلا ملت يا أمير المؤمنين على هؤلاء فأفنيتهم- فقال إنهم لا يفنون- إنهم لفي أصلاب الرجال و أرحام النساء- إلى يوم القيامة

روى أنس بن عياض المدني قال حدثني جعفر بن محمد الصادق ع عن أبيه عن جده أن عليا ع كان يوما يؤم الناس و هو يجهر بالقراءة- فجهر ابن الكواء من خلفه- وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ- لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ- وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ- فلما جهر ابن الكواء و هو خلفه بها سكت علي- فلما أنهاها ابن الكواء عاد علي ع فأتم قراءته- فلما شرع علي ع في القراءة- أعاد ابن الكواء الجهر بتلك الآية- فسكت علي فلم يزالا كذلك يسكت هذا- و يقرأ ذاك مرارا حتى قرأ علي ع- فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ- فسكت ابن الكواء و عاد ع إلى قراءته

 

شرح ‏نهج‏ البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 2