نامه 49 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

 

49 و من كتاب له ع إلى معاوية أيضا

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الدُّنْيَا مَشْغَلَةٌ عَنْ غَيْرِهَا-  وَ لَمْ يُصِبْ صَاحِبُهَا مِنْهَا شَيْئاً-  إِلَّا فَتَحَتْ لَهُ حِرْصاً عَلَيْهَا وَ لَهَجاً بِهَا-  وَ لَنْ يَسْتَغْنِيَ صَاحِبُهَا بِمَا نَالَ فِيهَا عَمَّا لَمْ يَبْلُغْهُ مِنْهَا-  وَ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ فِرَاقُ مَا جَمَعَ وَ نَقْضُ مَا أَبْرَمَ-  وَ لَوِ اعْتَبَرْتَ بِمَا مَضَى حَفِظْتَ مَا بَقِيَ وَ السَّلَامُ هذا كما قيل في المثل صاحب الدنيا كشارب ماء البحر-  كلما ازداد شربا ازداد عطشا و الأصل في هذا

 قول الله تعالى لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثا-  و لا يملأ عين ابن آدم إلا التراب-  و هذا من القرآن الذي رفع و نسخت تلاوته- . و قد ذكر نصر بن مزاحم هذا الكتاب و قال-  إن أمير المؤمنين ع كتبه إلى عمرو بن العاص-  و زاد فيه زيادة لم يذكرها الرضيأما بعد فإن الدنيا مشغلة عن الآخرة-  و صاحبها منهوم عليها-  لم يصب شيئا منها قط إلا فتحت عليه حرصا-  و أدخلت عليه مئونة تزيده رغبة فيها-و لن يستغني صاحبها بما نال عما لم يدرك-  و من وراء ذلك فراق ما جمع-  و السعيد من وعظ بغيره-  فلا تحبط أجرك أبا عبد الله و لا تشرك معاوية في باطله-  فإن معاوية غمص الناس و سفه الحق و السلام- .

قال نصر و هذا أول كتاب كتبه علي ع إلى عمرو بن العاص-  فكتب إليه عمرو جوابه-  أما بعد فإن الذي فيه صلاحنا-  و ألفة ذات بيننا أن تنيب إلى الحق-  و أن تجيب إلى ما ندعوكم إليه من الشورى-  فصبر الرجل منا نفسه على الحق-  و عذره الناس بالمحاجزة و السلام- . قال نصر-  فكتب علي ع إلى عمرو بن العاص بعد ذلك كتابا غليظا- . و هو الذي ضرب مثله فيه بالكلب يتبع الرجل-  و هو مذكور في نهج البلاغة-  و اللهج الحرص- . و معنى قوله ع لو اعتبرت بما مضى حفظت ما بقي-  أي لو اعتبرت بما مضى من عمرك لحفظت باقيه-  أن تنفقه في الضلال و طلب الدنيا و تضيعه

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 17

نامه 48 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

48 و من كتاب له ع إلى معاوية

فَإِنَّ الْبَغْيَ وَ الزُّورَ يُوتِغَانِ الْمَرْءَ فِي دِينِهِ وَ دُنْيَاهُ-  وَ يُبْدِيَانِ خَلَلَهُ عِنْدَ مَنْ يَعِيبُهُ-  وَ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ غَيْرُ مُدْرِكٍ مَا قُضِيَ فَوَاتُهُ-  وَ قَدْ رَامَ أَقْوَامٌ أَمْراً بِغَيْرِ الْحَقِّ-  فَتَأَلَّوْا عَلَى اللَّهِ فَأَكْذَبَهُمْ-  فَاحْذَرْ يَوْماً يَغْتَبِطُ فِيهِ مَنْ أَحْمَدَ عَاقِبَةَ عَمَلِهِ-  وَ يَنْدَمُ مَنْ أَمْكَنَ الشَّيْطَانَ مِنْ قِيَادِهِ فَلَمْ يُجَاذِبْهُ-  وَ قَدْ دَعَوْتَنَا إِلَى حُكْمِ الْقُرْآنِ وَ لَسْتَ مِنْ أَهْلِهِ-  وَ لَسْنَا إِيَّاكَ أَجَبْنَا وَ لَكِنَّا أَجَبْنَا الْقُرْآنَ فِي حُكْمِهِ-  وَ السَّلَامُ يوتغان يهلكان و الوتغ بالتحريك الهلاك-  و قد وتغ يوتغ وتغا أي أثم و هلك-  و أوتغه الله أهلكه الله و أوتغ فلان دينه بالإثم- . قوله فتألوا على الله أي حلفوا من الألية و هي اليمين-  و في الحديث من تألى على الله أكذبه الله-  و معناه من أقسم تجبرا و اقتدارا لأفعلن كذا-  أكذبه الله و لم يبلغ أمله- . و قد روي تأولوا على الله-  أي حرفوا الكلم عن مواضعه-  و تعلقوا بشبهة في تأويل القرآن انتصارا لمذاهبهم و آرائهم-  فأكذبهم الله بأن أظهر للعقلاء فساد تأويلاتهم-  و الأول أصح- .

 و يغتبط فيه يفرح و يسر و الغبطة السرور-  روي يغبط فيه أي يتمنى مثل حاله هذه- . قوله و يندم من أمكن الشيطان من قياده فلم يجاذبه-  الياء التي هي حرف المضارعة عائدة على المكلف-  الذي أمكن الشيطان من قياده-  يقول إذا لم يجاذب الشيطان من قياده فإنه يندم-  فأما من جاذبه قياده فقد قام بما عليه- . و مثله قوله و لسنا إياك أجبنا-  قوله و الله ما حكمت مخلوقا و إنما حكمت القرآن-  و معنى مخلوقا بشرا لا محدثا

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 17

نامه 47 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)(وصية له ع للحسن و الحسين ع)

47 و من وصية له ع للحسن و الحسين ع-  لما ضربه ابن ملجم لعنه الله

أُوصِيكُمَا بِتَقْوَى اللَّهِ وَ أَلَّا تَبْغِيَا الدُّنْيَا وَ إِنْ بَغَتْكُمَا-  وَ لَا تَأْسَفَا عَلَى شَيْ‏ءٍ مِنْهَا زُوِيَ عَنْكُمَا-  وَ قُولَا بِالْحَقِّ وَ اعْمَلَا لِلْأَجْرِ-  وَ كُونَا لِلظَّالِمِ خَصْماً وَ لِلْمَظْلُومِ عَوْناً-  أُوصِيكُمَا وَ جَمِيعَ وَلَدِي وَ أَهْلِي وَ مَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي-  بِتَقْوَى اللَّهِ وَ نَظْمِ أَمْرِكُمْ وَ صَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ-  فَإِنِّي سَمِعْتُ جَدَّكُمَا ص يَقُولُ-  صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلَاةِ وَ الصِّيَامِ-  اللَّهَ اللَّهَ فِي الْأَيْتَامِ فَلَا تُغِبُّوا أَفْوَاهَهُمْ-  وَ لَا يَضِيعُوا بِحَضْرَتِكُمْ-  وَ اللَّهَ اللَّهَ فِي جِيرَانِكُمْ فَإِنَّهُمْ وَصِيَّةُ نَبِيِّكُمْ-  مَا زَالَ يُوصِي بِهِمْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُمْ-  وَ اللَّهَ اللَّهَ فِي الْقُرْآنِ-  لَا يَسْبِقُكُمْ بِالْعَمَلِ بِهِ غَيْرُكُمْ-  وَ اللَّهَ اللَّهَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا عَمُودُ دِينِكُمْ-  وَ اللَّهَ اللَّهَ فِي بَيْتِ رَبِّكُمْ لَا تُخَلُّوهُ مَا بَقِيتُمْ-  فَإِنَّهُ إِنْ تُرِكَ لَمْ تُنَاظَرُوا-  وَ اللَّهَ اللَّهَ فِي الْجِهَادِ بِأَمْوَالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ-  وَ أَلْسِنَتِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ-  وَ عَلَيْكُمْ بِالتَّوَاصُلِ وَ التَّبَاذُلِ-  وَ إِيَّاكُمْ وَ التَّدَابُرَ وَ التَّقَاطُعَ-  لَا تَتْرُكُوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ-  فَيُوَلَّى عَلَيْكُمْ أَشْرَارُكُمْ ثُمَّ تَدْعُونَ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ-  ثُمَّ قَالَ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ-  لَا أُلْفِيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ خَوْضاً-  تَقُولُونَ قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ-  أَلَا لَا تَقْتُلُنَّ بِي إِلَّا قَاتِلِي-  انْظُرُوا إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِهِ هَذِهِ-  فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ-  وَ لَا تُمَثِّلُوا بِالرَّجُلِ-  فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص يَقُولُ-  إِيَّاكُمْ وَ الْمُثْلَةَ وَ لَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ روي و اعملا للآخرة و روي فلا تغيروا أفواهكم-  يقول لا تطلبا الدنيا و إن طلبتكما-  فإذا كان من تطلبه الدنيا منهيا عن طلبها-  فمن لا تطلبه يكون منهيا عن طلبها بالطريق الأولى- .

ثم قال و لا تأسفا على شي‏ء منها زوي عنكما-  أي قبض قال رسول الله ص زويت لي الدنيا فأريت مشارقها و مغاربها-  و سيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها- . و روي و لا تأسيا و كلاهما بمعنى واحد أي لا تحزنا-  و هذا من قوله تعالى لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى‏ ما فاتَكُمْ- .قوله صلاح ذات البين-  أخذه هذه اللفظة عبد الملك بن مروان فقال لبنيه-  و قد جمعوا عنده يوم موته- 

انفوا الضغائن بينكم و عليكم
عند المغيب و في حضور المشهد

بصلاح ذات البين طول حياتكم‏
إن مد في عمري و إن لم يمدد

إن القداح إذا اجتمعن فرامها
بالكسر ذو بطش شديد أيد

عزت فلم تكسر و إن هي بددت‏
فالوهن و التكسير للمتبدد

و ذات هاهنا زائدة مقحمة- . قوله فلا تغبوا أفواههم-  أي لا تجيعوهم بأن تطمعوهم غبا-  و من روى فلا تغيروا أفواههم-  فذاك لأن الجائع يتغير فمه-  قال ع لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك- . قال و لا يضيعوا بحضرتكم أي لا تضيعوهم-  فالنهي في الظاهر للأيتام-  و في المعنى للأوصياء و الأولياء-  و الظاهر أنه لا يعني الأيتام-  الذين لهم مال تحت أيدي أوصيائهم-  لأن أولئك الأوصياء محرم عليهم-  أن يصيبوا من أموال اليتامى-  إلا القدر النزر جدا عند الضرورة-  ثم يقضونه مع التمكن-  و من هذه حاله لا يحسن أن يقال له-  لا تغيروا أفواه أيتامكم-  و إنما الأظهر أنه يعني الذين مات آباؤهم-  و هم فقراء يتعين مواساتهم و يقبح القعود عنهم-  كما قال تعالى وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى‏ حُبِّهِ-  مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً-  و اليتم في الناس من قبل الأب و في البهائم من قبل الأم-  لأن الآباء من البهائم لا عناية لهم بالأولاد-  بل العناية للأم لأنها المرضعة المشفقة-  و أما الناس فإن الأب هو الكافل القيم بنفقة الولد-  فإذا مات وصل الضرر إليه لفقد كافله-  و الأم بمعزل عن ذلك-  و جمع يتيم على أيتام كما قالوا شريف و أشراف-  و حكى أبو علي في التكملة كمي‏ء و أكماء-  و لا يسمى الصبي يتيما إلا إذا كان دون البلوغ-  و إذا بلغ زال اسم اليتيم عنه-  و اليتامى أحد الأصناف الذين عينوا في الخمس-  بنص الكتاب العزيز

فصل في الآثار الواردة في حقوق الجار

ثم أوصى بالجيران-  و اللفظ الذي ذكره ع-  قد ورد مرفوعا في رواية عبد الله بن عمر لما ذبح شاة-  فقال أهديتم لجارنا اليهودي-  فإني سمعت رسول الله ص يقول-  ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثهو في الحديث أنه ص قال من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليكرم جارهو عنه ع جار السوء في دار المقامة قاصمة الظهرو عنه ع من جهد البلاء جار سوء معك في دار مقامة-  إن رأى حسنة دفنها-  و إن رأى سيئة أذاعها و أفشاها و من أدعيتهم اللهم إني أعوذ بك من مال يكون علي فتنة-  و من ولد يكون علي كلا-  و من حليلة تقرب الشيب-  و من جار تراني عيناه و ترعاني أذناه-  إن رأى خيرا دفنه و إن سمع شرا طار به ابن مسعود يرفعه و الذي نفسي بيده لا يسلم العبد-  حتى يسلم قلبه و لسانه و يأمن جاره بوائقه-  قالوا ما بوائقه قال غشمه و ظلمه لقمان يا بني حملت الحجارة و الحديد-  فلم أر شيئا أثقل من جار السوء- . و أنشدوا

ألا من يشتري دارا برخص
كراهة بعض جيرتها تباع‏

 و قال الأصمعي-  جاور أهل الشام الروم-  فأخذوا عنهم خصلتين اللؤم و قلة الغيرة-و جاور أهل البصرة الخزر-  فأخذوا عنهم خصلتين الزناء و قلة الوفاء-  و جاور أهل الكوفة السواد-  فأخذوا عنهم خصلتين السخاء و الغيرة- . و كان يقال من تطاول على جاره حرم بركة داره- . و كان يقال من آذى جاره ورثه الله داره- . باع أبو الجهم العدوي داره-  و كان في جوار سعيد بن العاص بمائة ألف درهم-  فلما أحضرها المشتري قال له-  هذا ثمن الدار فأعطني ثمن الجوار-  قال أي جوار قال جوار سعيد بن العاص-  قال و هل اشترى أحد جوارا قط-  فقال رد علي داري و خذ مالك-  لا أدع جوار رجل إن قعدت سأل عني-  و إن رآني رحب بي و إن غبت عنه حفظني-  و إن شهدت عنده قربني و إن سألته قضى حاجتي-  و إن لم أسأله بدأني و إن نابتني نائبة فرج عني-  فبلغ ذلك سعيدا فبعث إليه مائة ألف درهم-  و قال هذا ثمن دارك و دارك لك- . الحسن-  ليس حسن الجوار كف الأذى-  و لكن حسن الجوار الصبر على الأذى- . جاءت امرأة إلى الحسن فشكت إليه الخلة-  و قالت أنا جارتك قال كم بيني و بينك قالت سبع أدؤر-  فنظر الحسن فإذا تحت فراشه سبعة دراهم-  فأعطاها إياها و قال كدنا نهلك- . و كان كعب بن مامة إذا جاوره رجل قام له بما يصلحه-  و حماه ممن يقصده-  و إن هلك له شي‏ء أخلفه عليه و إن مات وداه لأهله-  فجاوره أبو دواد الإيادي فزاره على العادة-  فبالغ في إكرامه-  و كانت العرب إذا حمدت جارا قالت جار كجار أبي دواد-  قال قيس بن زهير

أطوف ما أطوف ثم آوي
إلى جار كجار أبي دواد

ثم تعلم منه أبو دواد و كان يفعل لجاره فعل كعب به- . و قال مسكين الدارمي

ما ضر جارا لي أجاوره
ألا يكون لبابه ستر

أعمى إذا ما إذا جارتي خرجت‏
حتى يواري جارتي الخدر

ناري و نار الجار واحدة
و إلبه قبلي ينزل القدر

استعرض أبو مسلم صاحب الدولة فرسا محضيرا-  فقال لأصحابه لما ذا يصلح هذا فذكروا سباق الخيل-  و صيد الحمر و النعام و اتباع الفار من الحرب-  فقال لم تصنعوا شيئا يصلح للفرار من الجار السوء- . سأل سليمان علي بن خالد بن صفوان عن ابنيه-  محمد و سليمان و كانا جاريه فقال-  كيف إحمادك جوارهما-  فتمثل بقول يزيد بن مفرغ الحميري- 

   سقى الله دارا لي و أرضا تركتها
إلى جنب داري معقل بن يسار

أبو مالك جار لها و ابن مرثد
فيا لك جاري ذلة و صغار

 و في الحديث المرفوع أيضا من رواية جابر الجيران ثلاثة فجار له حق و جار له حقان-  و جار له ثلاثة حقوق-  فصاحب الحق الواحد جار مشرك لا رحم له-  فحقه‏ حق الجوار-  و صاحب الحقين جار مسلم لا رحم له-  و صاحب الثلاثة جار مسلم ذو رحم-  و أدنى حق الجوار ألا تؤذي جارك بقتار قدرك-  إلا أن تقتدح له منها- . قلت تقتدح تغترف و المقدحة المغرفة- . و كان يقال الجيران خمسة-  الجار الضار السيئ الجوار-  و الجار الدمس الحسن الجوار و الجار اليربوعي المنافق-  و الجار البراقشي المتلون في أفعاله و الجار الحسدلي-  الذي عينه تراك و قلبه يرعاك- .

و روى أبو هريرة كان رسول الله ص يقول اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة-  فإن دار البادية تتحول قوله ع الله الله في القرآن-  أمرهما بالمسارعة إلى العمل به-  و نهاها أن يسبقهما غيرهما إلى ذلك-  ثم أمرهما بالصلاة و الحج- . و شدد الوصاة في الحج فقال فإنه إن ترك لم تناظروا-  أي يتعجل الانتقام منكم- . فأما المثلة فمنهي عنها- أمر رسول الله ص أن يمثل بهبار بن الأسود-  لأنه روع زينب حتى أجهضت-  ثم نهى عن ذلك و قال لا مثلة المثلة حرام

 شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 17

نامه 46 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

الجزء السابع عشر

تتمة أبواب الكتب و الرسائل

بسم الله الرحمن الرحيم-  الحمد لله الواحد العدل

46 و من كتاب له ع إلى بعض عماله

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكَ مِمَّنْ أَسْتَظْهِرُ بِهِ عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ-  وَ أَقْمَعُ بِهِ نَخْوَةَ الْأَثِيمِ-  وَ أَسُدُّ بِهِ لَهَاةَ الثَّغْرِ الْمَخُوفِ-  فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ عَلَى مَا أَهَمَّكَ-  وَ اخْلِطِ الشِّدَّةَ بِضِغْثٍ مِنَ اللِّينِ-  وَ ارْفُقْ مَا كَانَ الرِّفْقُ أَرْفَقَ-  وَ اعْتَزِمْ بِالشِّدَّةِ حِينَ لَا تُغْنِي عَنْكَ إِلَّا الشِّدَّةُ-  وَ اخْفِضْ لِلرَّعِيَّةِ جَنَاحَكَ وَ ابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ-  وَ أَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ-  وَ آسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ وَ النَّظْرَةِ وَ الْإِشَارَةِ وَ التَّحِيَّةِ-  حَتَّى لَا يَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ-  وَ لَا يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ وَ السَّلَامُ قد أخذ الشاعر معنى قوله-  و آس بينهم في اللحظة و النظرة-  فقال‏

اقسم اللحظ بيننا إن في اللحظ
لعنوان ما تجن الصدور

إنما البر روضة فإذا ما
كان بشر فروضة و غدير

قوله و آس بينهم في اللحظة أي اجعلهم أسوة-  و روي و ساو بينهم في اللحظة و المعنى واحد- . و أستظهر به أجعله كالظهر- . و النخوة الكبرياء-  و الأثيم المخطئ المذنب- . و قوله و أسد به لهاة الثغر استعارة حسنة- . و الضغث في الأصل-  قبضة حشيش مختلط يابسها بشي‏ء من الرطب-  و منه أضغاث الأحلام-  للرؤيا المختلطة التي لا يصح تأويلها-  فاستعار اللفظة هاهنا-  و المراد امزج الشدة بشي‏ء من اللين فاجعلهما كالضغث-  و قال تعالى وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً- . قوله فاعتزم بالشدة أي إذا جد بك الحد فدع اللين-  فإن في حال الشدة لا تغني إلا الشدة-  قال الفند الزماني

 فلما صرح الشر
فأمسى و هو عريان‏

و لم يبق سوى العدوان‏
دناهم كما دانوا

 قوله حتى لا يطمع العظماء في حيفك-  أي حتى لا يطمع العظماء في أن تمالئهم على حيف الضعفاء-  و قد تقدم مثل هذا فيما سبق

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 17

نامه 45 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)(ذكر ما ورد من السير و الأخبار في أمر فدك)

45 و من كتاب له ع إلى عثمان بن حنيف الأنصاري-  و كان عامله على البصرة

  و قد بلغه أنه دعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها-  قوله- : أَمَّا بَعْدُ يَا ابْنَ حُنَيْفٍ-  فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ-  دَعَاكَ إِلَى مَأْدُبَةٍ فَأَسْرَعْتَ إِلَيْهَا-  تُسْتَطَابُ لَكَ الْأَلْوَانُ وَ تُنْقَلُ إِلَيْكَ الْجِفَانُ-  وَ مَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُجِيبُ إِلَى طَعَامِ قَوْمٍ-  عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ وَ غَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ-  فَانْظُرْ إِلَى مَا تَقْضَمُهُ مِنْ هَذَا الْمَقْضَمِ-  فَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ عِلْمُهُ فَالْفِظْهُ-  وَ مَا أَيْقَنْتَ بِطِيبِ وَجْهِهِ فَنَلْ مِنْهُ-  أَلَا وَ إِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ-  وَ يَسْتَضِي‏ءُ بِنُورِ عِلْمِهِ-  أَلَا وَ إِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ-  وَ مِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ-  أَلَا وَ إِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ-  وَ لَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَ اجْتِهَادٍ وَ عِفَّةٍ وَ سَدَادٍ-  فَوَاللَّهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبْراً-  وَ لَا ادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً-  وَ لَا أَعْدَدْتُ لِبَالِي ثَوْبِي طِمْراً-  وَ لَا حُزْتُ مِنْ أَرْضِهَا شِبْراً-  وَ لَا أَخَذْتُ مِنْهُ إِلَّا كَقُوتِ أَتَانٍ دَبِرَةٍ-  وَ لَهِيَ فِي عَيْنِي أَوْهَى مِنْ عَفْصَةٍ مَقِرَةٍ

عثمان بن حنيف و نسبه

هو عثمان بن حنيف بضم الحاء بن واهب بن العكم-  بن ثعلبة بن الحارث الأنصاري-ثم الأوسي أخو سهل بن حنيف-  يكنى أبا عمرو و قيل أبا عبد الله-  عمل لعمر ثم لعلي ع-  و ولاه عمر مساحة الأرض و جبايتها بالعراق-  و ضرب الخراج و الجزية على أهلها-  و ولاه علي ع على البصرة-  فأخرجه طلحة و الزبير منها حين قدماها-  و سكن عثمان الكوفة بعد وفاة علي ع-  و مات بها في زمن معاوية.

قوله من فتية البصرة أي من فتيانها-  أي من شبابها أو من أسخيائها-  يقال للسخي هذا فتى و الجمع فتية و فتيان و فتو-  و يروى أن رجلا من قطان البصرة أي سكانها- . و المأدبة بضم الدال الطعام يدعى إليه القوم-  و قد جاءت بفتح الدال أيضا-  و يقال أدب فلان القوم يأدبهم بالكسر-  أي دعاهم إلى طعامه و الآدب الداعي إليه-  قال طرفة- 

 نحن في المشتاة ندعو الجفلى
لا ترى الآدب فينا ينتقر

و يقال أيضا آدبهم إلى طعامه يؤدبهم إيدابا-  و يروى و كثرت عليك الجفان فكرعت-  و أكلت أكل ذئب نهم أو ضبع قرم- . و روي و ما حسبتك تأكل طعام قوم- . ثم ذم أهل البصرة فقال-  عائلهم مجفو و غنيهم مدعو-  و العائل الفقير و هذا كقول الشاعر- 

فإن تملق فأنت لنا عدو
فإن تثر فأنت لنا صديق‏

ثم أمره بأن يترك ما فيه شبهة إلى ما لا شبهة فيه-  و سمي ذلك قضما و مقضما-  و إن كان مما لا يقضم لاحتقاره له و ازدرائه إياه-  و أنه عنده ليس مما يستحق-  أن يسمى بأسماء المرغوب فيه المتنافس عليه-  و ذلك لأن القضم يطلق على معنيين-  أحدهما على أكل الشي‏ء اليابس-  و الثاني على ما يؤكل ببعض الفم-  و كلاهما يدلان على أن ذلك المقضم المرغوب عنه لا فيه- . ثم ذكر ع حال نفسه فقال-  إن إمامكم قد قنع من الدنيا بطمريه-  و الطمر الثوب الخلق البالي-  و إنما جعلهما اثنين لأنهما إزار و رداء لا بد منهما-  أي للجسد و الرأس- .

قال و من طعمه بقرصيه-  أي قرصان يفطر عليهما لا ثالث لهما-  و روي قد اكتفى من الدنيا بطمريه-  و سد فورة جوعه بقرصيه-  لا يطعم الفلذة في حوليه إلا في يوم أضحية- . ثم قال إنكم لن تقدروا على ما أقدر عليه-  و لكني أسألكم أن تعينوني بالورع و الاجتهاد- . ثم أقسم أنه ما كنز ذهبا و لا ادخر مالا-  و لا أعد ثوبا باليا سملا لبالي ثوبيه-  فضلا عن أن يعد ثوبا قشيبا-  كما يفعله الناس في إعداد ثوب جديد-  ليلبسوه عوض الأسمال التي ينزعونها-  و لا حاز من أرضها شبرا-  و الضمير في أرضها يرجع إلى دنياكم-  و لا أخذ منها إلا كقوت أتان دبرة-  و هي التي عقر ظهرها فقل أكلها- . ثم قال و لهي في عيني أهون من عفصة مقرة أي مرة-  مقر الشي‏ء بالكسر أي صار مرا-  و أمقره بالهمز أيضا-  قال لبيد

ممقر مر على أعدائه
و على الأدنين حلو كالعسل‏

 

: بَلَى كَانَتْ فِي أَيْدِينَا فَدَكٌ مِنْ كُلِّ مَا أَظَلَّتْهُ السَّمَاءُ-  فَشَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ-  وَ سَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ آخَرِينَ-  وَ نِعْمَ الْحَكَمُ اللَّهُ-  وَ مَا أَصْنَعُ بِفَدَكٍ وَ غَيْرِ فَدَكٍ-  وَ النَّفْسُ مَظَانُّهَا فِي غَدٍ جَدَثٌ تَنْقَطِعُ فِي ظُلْمَتِهِ آثَارُهَا-  وَ تَغِيبُ أَخْبَارُهَا-  وَ حُفْرَةٌ لَوْ زِيدَ فِي فُسْحَتِهَا وَ أَوْسَعَتْ يَدَا حَافِرِهَا-  لَأَضْغَطَهَا الْحَجَرُ وَ الْمَدَرُ-  وَ سَدَّ فُرَجَهَا التُّرَابُ الْمُتَرَاكِمُ-  وَ إِنَّمَا هِيَ نَفْسِي أَرُوضُهَا بِالتَّقْوَى-  لِتَأْتِيَ آمِنَةً يَوْمَ الْخَوْفِ الْأَكْبَرِ-  وَ تَثْبُتَ عَلَى جَوَانِبِ الْمَزْلَقِ الجدث القبر-  و أضغطها الحجر جعلها ضاغطة و الهمزة للتعدية-  و يروى و ضغطها- . و قوله مظانها في غد جدث-  المظان جمع مظنة و هو موضع الشي‏ء و مألفه الذي يكون فيه-  قال

فإن يك عامر قد قال جهلا
فإن مظنة الجهل الشباب‏

 يقول لا مال لي و لا اقتنيت فيما مضى مالا-  و إنما كانت في أيدينا فدك فشحت عليها نفوس قوم-  أي بخلت و سخت عنها نفوس آخرين-  سامحت و أغضت-  و ليس يعني هاهنا بالسخاء إلا هذا-  لا السخاء الحقيقي-  لأنه ع و أهله لم يسمحوا بفدك إلا غصبا و قسرا-  و قد قال هذه الألفاظ في موضع آخر فيما تقدم-  و هو يعني الخلافة بعد وفاة رسول الله ص- .

 

 ثم قال و نعم الحكم الله الحكم الحاكم-  و هذا الكلام كلام شاك متظلم-  ثم ذكر مال الإنسان-  و أنه لا ينبغي أن يكترث بالقينات و الأموال-  فإنه يصير عن قريب إلى دار البلى و منازل الموتى- . ثم ذكر أن الحفرة ضيقة-  و أنه لو وسعها الحافر-  لألجأها الحجر المتداعي و المدر المتهافت-  إلى أن تضغط الميت و تزحمه-  و هذا كلام محمول على ظاهره لأنه خطاب للعامة-  و إلا فأي فرق بين سعة الحفرة و ضيقها على الميت-  اللهم إلا أن يقول قائل إن الميت يحس في قبره-  فإذا قيل ذلك فالجاعل له حساسا بعد عدم الحس-  هو الذي يوسع الحفرة-  و إن كان الحافر قد جعلها ضيقة-  فإذن هذا الكلام جيد لخطاب العرب خاصة-  و من يحمل الأمور على ظواهرها- . ثم قال و إنما هي نفسي أروضها بالتقوى-  يقول تقللي و اقتصاري من المطعم و الملبس-  على الجشب و الخشن رياضة لنفسي-  لأن ذلك إنما أعمله خوفا من الله أن أنغمس في الدنيا-  فالرياضة بذلك هي رياضة في الحقيقة بالتقوى-  لا بنفس التقلل و التقشف-  لتأتي نفسي آمنة يوم الفزع الأكبر-  و تثبت في مداحض الزلق

ذكر ما ورد من السير و الأخبار في أمر فدك

و اعلم أنا نتكلم في شرح هذه الكلمات بثلاثة فصول-  الفصل الأول فيما ورد في الحديث و السير من أمر فدك-  و الفصل الثاني في هل النبي ص يورث أم لا-  و الفصل الثالث-  في أن فدك هل صح كونها نحلة-  من رسول الله ص لفاطمة أم لا- .

 

الفصل الأول-  فيما ورد من الأخبار و السير-  المنقولة من أفواه أهل الحديث و كتبهم-  لا من كتب الشيعة و رجالهم

لأنا مشترطون على أنفسنا ألا نحفل بذلك-  جميع ما نورده في هذا الفصل-  من كتاب أبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري-  في السقيفة و فدك-  و ما وقع من الاختلاف و الاضطراب-  عقب وفاة النبي ص-  و أبو بكر الجوهري هذا عالم محدث كثير الأدب ثقة ورع-  أثنى عليه المحدثون و رووا عنه مصنفاته- . قال أبو بكر حدثني أبو زيد عمر بن شبة قال-  حدثنا حيان بن بشر قال حدثنا يحيى بن آدم قال-  أخبرنا ابن أبي زائدة عن محمد بن إسحاق-  عن الزهري قال بقيت بقية من أهل خيبر تحصنوا-  فسألوا رسول الله ص أن يحقن دماءهم و يسيرهم ففعل-  فسمع ذلك أهل فدك فنزلوا على مثل ذلك-  و كانت للنبي ص خاصة-  لأنه لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب- .

قال أبو بكر و روى محمد بن إسحاق أيضا-  أن رسول الله ص لما فرغ من خيبر-  قذف الله الرعب في قلوب أهل فدك-  فبعثوا إلى رسول الله ص-  فصالحوه على النصف من فدك-  فقدمت عليه رسلهم بخيبر أو بالطريق-  أو بعد ما أقام بالمدينة فقبل ذلك منهم-  و كانت فدك لرسول الله ص خالصة له-  لأنه لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب- . قال و قد روى أنه صالحهم عليها كلها-  الله أعلم أي الأمرين كان- . قال و كان مالك بن أنس-  يحدث عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم-  أنه صالحهم على النصف فلم يزل الأمر كذلك-  حتى أخرجهم عمر بن الخطاب و أجلاهم-  بعد أن عوضهم عن النصف-  الذي كان لهم عوضا من إبل و غيرها- .

 

و قال غير مالك بن أنس-  لما أجلاهم عمر بعث إليهم من يقوم الأموال-  بعث أبا الهيثم بن التيهان و فروة بن عمرو-  و حباب بن صخر و زيد بن ثابت-  فقوموا أرض فدك و نخلها فأخذها عمر-  و دفع إليهم قيمة النصف الذي لهم-  و كان مبلغ ذلك خمسين ألف درهم-  أعطاهم إياها من مال أتاه من العراق-  و أجلاهم إلى الشام- .

 قال أبو بكر فحدثني محمد بن زكريا قال حدثني جعفر بن محمد بن عمارة الكندي قال-  حدثني أبي عن الحسين بن صالح بن حي قال حدثني رجلان من بني هاشم عن زينب بنت علي بن أبي طالب ع قال و قال جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه قال أبو بكر و حدثني عثمان بن عمران العجيفي عن نائل بن نجيح بن عمير بن شمر عن جابر الجعفي عن أبي جعفر محمد بن علي ع قال أبو بكر و حدثني أحمد بن محمد بن يزيد عن عبد الله بن محمد بن سليمان عن أبيه عن عبد الله بن حسن بن الحسن قالوا جميعا لما بلغ فاطمة ع-  إجماع أبي بكر على منعها فدك-  لاثت خمارها-  و أقبلت في لمة من حفدتها و نساء قومها-  تطأ في ذيولها-  ما تخرم مشيتها مشية رسول الله ص-  حتى دخلت على أبي بكر-  و قد حشد الناس من المهاجرين و الأنصار-  فضرب بينها و بينهم ريطة بيضاء-  و قال بعضهم قبطية-  و قالوا قبطية بالكسر و الضم-  ثم أنت أنة أجهش لها القوم بالبكاء-  ثم أمهلت طويلا حتى سكنوا من فورتهم ثم قالت-  أبتدئ بحمد من هو أولى بالحمد و الطول و المجد-  الحمد لله على ما أنعم و له الشكر بما ألهم-  و ذكر خطبة طويلة جيدة قالت في آخرها-  فاتقوا الله حق تقاته-  و أطيعوه فيما أمركم به-  فإنما يخشى الله من عباده العلماء-  و احمدوا الله الذي لعظمته و نوره-  يبتغي من في السموات و الأرض إليه الوسيلة-  و نحن وسيلته في خلقه و نحن خاصته و محل قدسه-  و نحن حجته في غيبه و نحن ورثةأنبيائه-  ثم قالت أنا فاطمة ابنة محمد-  أقول عودا على بدء-  و ما أقول ذلك سرفا و لا شططا-  فاسمعوا بأسماع واعية و قلوب راعية-  ثم قالت لقد جاءكم رسول من أنفسكم-  عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم-  بالمؤمنين رءوف رحيم-  فإن تعزوه تجدوه أبي دون آبائكم-  و أخا ابن عمي دون رجالكم-  ثم ذكرت كلاما طويلا سنذكره فيما بعد في الفصل الثاني- 

 تقول في آخره ثم أنتم الآن تزعمون أن لا إرث لي-  أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ-  وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ-  إيها معاشر المسلمين ابتز إرث أبي-  أبى الله أن ترث يا ابن أبي قحافة أباك و لا أرث أبي-  لقد جئت شيئا فريا-  فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك-  فنعم الحكم الله-  و الزعيم محمد و الموعد القيامة-  و عند الساعة يخسر المبطلون-  و لكل نبأ مستقر و سوف تعلمون من يأتيه عذاب-  يخزيه و يحل عليه عذاب مقيم-  ثم التفتت إلى قبر أبيها-  فتمثلت بقول هند بنت أثاثة- 

قد كان بعدك أنباء و هينمة
لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب‏

أبدت رجال لنا نجوى صدورهم‏
لما قضيت و حالت دونك الكتب‏

تجهمتنا رجال و استخف بنا
إذا غبت عنا فنحن اليوم نغتصب‏

 قال و لم ير الناس أكثر باك و لا باكية منهم يومئذ-  ثم عدلت إلى مسجد الأنصار فقالت-  يا معشر البقية و أعضاد الملة و حضنة الإسلام-  ما هذه الفترة عن نصرتي و الونية عن معونتي-  و الغمزة في حقي و السنة عن ظلامتي-  أ ما كان رسول الله ص يقول المرء يحفظ في ولده-  سرعان ما أحدثتم و عجلان ما أتيتم أ لأن مات رسول الله ص أمتم دينه-  ها إن موته لعمري خطب جليل استوسع وهنه‏ و استبهم فتقه و فقد راتقه-  و أظلمت الأرض له و خشعت الجبال و أكدت الآمال-  أضيع بعده الحريم-  و هتكت الحرمة و أذيلت المصونة-  و تلك نازلة أعلن بها كتاب الله قبل موته-  و أنبأكم بها قبل وفاته فقال-  وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ-  أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى‏ أَعْقابِكُمْ-  وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى‏ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً-  وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ-  إيها بني قيلة اهتضم تراث أبي-  و أنتم بمرأى و مسمع تبلغكم الدعوة-  و يشملكم الصوت و فيكم العدة و العدد-  و لكم الدار و الجنن-  و أنتم نخبة الله التي انتخب-  و خيرته التي اختار-  باديتم العرب و بادهتم الأمور-  و كافحتم البهم حتى دارت بكم رحى الإسلام-  و در حلبه و خبت نيران الحرب-  و سكنت فورة الشرك و هدأت دعوة الهرج-  و استوثق نظام الدين-  أ فتأخرتم بعد الإقدام و نكصتم بعد الشدة-  و جبنتم بعد الشجاعة-  عن قوم نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم-  و طعنوا في دينكم-  فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون-  ألا و قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض-  و ركنتم إلى الدعة فجحدتم الذي وعيتم-  و سغتم الذي سوغتم-  و إن تكفروا أنتم و من في الأرض جميعا-  فإن الله لغني حميد-  ألا و قد قلت لكم ما قلت على معرفة مني بالخذلة-  التي خامرتكم-  و خور القناة و ضعف اليقين-  فدونكموها فاحتووها مدبرة الظهر-  ناقبة الخف باقية العار موسومة الشعار-  موصولة بنار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة-  فبعين الله ما تعملون-  وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ‏

 قال و حدثني محمد بن زكريا قال حدثنا محمد بن الضحاك قال حدثنا هشام بن محمد عن عوانة بن الحكم قال لما كلمت فاطمة ع أبا بكر بما كلمته به-  حمد أبو بكر الله و أثنى عليه و صلى على رسوله ثم قال-  يا خيرة النساء و ابنة خير الآباء-  و الله ما عدوت رأي رسول الله ص-  و ما عملت إلا بأمره و إن الرائد لا يكذب أهله-  و قد قلت فأبلغت و أغلظت فأهجرت-  فغفر الله لنا و لك-  أما بعد فقد دفعت آلة رسول الله و دابته و حذاءه إلى علي ع-  و أما ما سوى ذلك فإني سمعت رسول الله ص يقول-  إنا معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا و لا فضة-  و لا أرضا و لا عقارا و لا دارا-  و لكنا نورث الإيمان و الحكمة و العلم و السنة-  فقد عملت بما أمرني و نصحت له-  و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه أنيب قال أبو بكر- 

و روى هشام بن محمد عن أبيه قال-  قالت فاطمة لأبي بكر-  إن أم أيمن تشهد لي-  أن رسول الله ص أعطاني فدك-  فقال لها يا ابنة رسول الله-  و الله ما خلق الله خلقا أحب إلي من رسول الله ص أبيك-  و لوددت أن السماء وقعت على الأرض يوم مات أبوك-  و الله لأن تفتقر عائشة أحب إلي من أن تفتقري-  أ تراني أعطي الأحمر و الأبيض حقه و أظلمك حقك-  و أنت بنت رسول الله ص-  إن هذا المال لم يكن للنبي ص-  و إنما كان مالا من أموال المسلمين-  يحمل النبي به الرجال-  و ينفقه في سبيل الله-  فلما توفي رسول الله ص وليته كما كان يليه-  قالت و الله لا كلمتك أبدا قال و الله لا هجرتك أبدا-  قالت و الله لأدعون الله عليك-  قال و الله لأدعون الله لك-  فلما حضرتها الوفاة أوصت ألا يصلي عليها-  فدفنت ليلا و صلى عليها عباس بن عبد المطلب-  و كان بين وفاتها و وفاة أبيها اثنتان و سبعون ليلة- .

 قال أبو بكر و حدثني محمد بن زكريا قال حدثنا جعفر بن محمد بن عمارة بالإسناد الأول قال فلما سمع أبو بكر خطبتها شق عليه مقالتها-  فصعد المنبر و قال أيها الناس-  ما هذه الرعة إلى كل قالة-  أين كانت هذه الأماني في عهد رسول الله ص-ألا من سمع فليقل و من شهد فليتكلم-  إنما هو ثعالة شهيده ذنبه مرب لكل فتنة-  هو الذي يقول كروها جذعة بعد ما هرمت-  يستعينون بالضعفة و يستنصرون بالنساء-  كأم طحال أحب أهلها إليها البغي-  ألا إني لو أشاء أن أقول لقلت و لو قلت لبحت-  إني ساكت ما تركت-  ثم التفت إلى الأنصار فقال-  قد بلغني يا معشر الأنصار مقالة سفهائكم-  و أحق من لزم عهد رسول الله ص أنتم-  فقد جاءكم فآويتم و نصرتم-  ألا إني لست باسطا يدا و لا لسانا-  على من لم يستحق ذلك منا- .

ثم نزل-  فانصرفت فاطمة ع إلى منزلها- . قلت قرأت هذا الكلام-  على النقيب أبي يحيى جعفر بن يحيى بن أبي زيد البصري-  و قلت له بمن يعرض فقال بل يصرح-  قلت لو صرح لم أسألك فضحك و قال-  بعلي بن أبي طالب ع-  قلت هذا الكلام كله لعلي يقوله-  قال نعم إنه الملك يا بني-  قلت فما مقالة الأنصار-  قال هتفوا بذكر علي-  فخاف من اضطراب الأمر عليهم فنهاهم-  فسألته عن غريبه-  فقال أما الرعة بالتخفيف أي الاستماع و الإصغاء-  و القالة القول-  و ثعالة اسم الثعلب علم غير مصروف-  و مثل ذؤالة للذئب-  و شهيده ذنبه أي لا شاهد له على ما يدعي-  إلا بعضه و جزء منه-  و أصله مثل-  قالوا إن الثعلب أراد أن يغرى الأسد بالذئب فقال-  إنه قد أكل الشاة التي كنت قد أعددتها لنفسك-  و كنت حاضرا-  قال فمن يشهد لك بذلك-  فرفع ذنبه و عليه دم-  و كان الأسد قد افتقد الشاة فقبل شهادته و قتل الذئب-  و مرب ملازم أرب بالمكان-  و كروها جذعة أعيدوها إلى الحال الأولى-  يعني الفتنة و الهرج-  و أم طحال امرأة بغي في الجاهلية-  و يضرب بها المثل فيقال أزنى من أم طحال- .

 

قال أبو بكر و حدثني محمد بن زكريا قال-  حدثني ابن عائشة قال حدثني أبي عن عمه-  قال لما كلمت فاطمة أبا بكر بكى ثم قال-  يا ابنة رسول الله و الله ما ورث أبوك دينارا و لا درهما-  و إنه قال إن الأنبياء لا يورثون-  فقالت إن فدك وهبها لي رسول الله ص-  قال فمن يشهد بذلك-  فجاء علي بن أبي طالب ع فشهد-  و جاءت أم أيمن فشهدت أيضا-  فجاء عمر بن الخطاب و عبد الرحمن بن عوف-  فشهد أن رسول الله ص كان يقسمها-  قال أبو بكر صدقت يا ابنة رسول الله ص-  و صدق علي و صدقت أم أيمن-  و صدق عمر و صدق عبد الرحمن بن عوف-  و ذلك أن مالك لأبيك-  كان رسول الله ص يأخذ من فدك قوتكم-  و يقسم الباقي و يحمل منه في سبيل الله-  فما تصنعين بها قالت أصنع بها كما يصنع بها أبي-  قال فلك على الله أن أصنع فيها كما يصنع فيها أبوك-  قالت الله لتفعلن قال الله لأفعلن-  قالت اللهم اشهد-  و كان أبو بكر يأخذ غلتها فيدفع إليهم منها ما يكفيهم-  و يقسم الباقي-  و كان عمر كذلك ثم كان عثمان كذلك-  ثم كان علي كذلك-  فلما ولي الأمر معاوية بن أبي سفيان-  أقطع مروان بن الحكم ثلثها-  و أقطع عمرو بن عثمان بن عفان ثلثها-  و أقطع يزيد بن معاوية ثلثها-  و ذلك بعد موت الحسن بن علي ع-  فلم يزالوا يتداولونها-  حتى خلصت كلها لمروان بن الحكم أيام خلافته-  فوهبها لعبد العزيز ابنه-  فوهبها عبد العزيز لابنه عمر بن عبد العزيز-  فلما ولي عمر بن العزيز الخلافة كانت أول ظلامة ردها-  دعا حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ع-  و قيل بل دعا علي بن الحسين ع فردها عليه-  و كانت بيد أولاد فاطمة ع-  مدة ولاية عمر بن عبد العزيز-  فلما ولي يزيد بن عاتكة قبضها منهم-  فصارت في أيدي بني مروان كما كانت يتداولونها-  حتى انتقلت الخلافة عنهم-  فلما ولي أبو العباس السفاح-  ردها على عبد الله بن الحسن بن الحسن-  ثم قبضها أبو جعفر لما حدث من بني حسن ما حدث-  ثم ردها المهدي ابنه على ولد فاطمة ع-  ثم قبضها موسى بن المهدي و هارون أخوه-  فلم تزل أيديهم حتى ولي المأمون-  فردها على الفاطميين قال أبو بكر حدثني محمد بن زكريا قال-  حدثني مهدي بن سابق قال-  جلس المأمون للمظالم-  فأول رقعة وقعت في يده نظر فيها و بكى-  و قال للذي على رأسه-  ناد أين وكيل فاطمة-  فقام شيخ عليه دراعة و عمامة و خف تعزى-  فتقدم فجعل يناظره في فدك-  و المأمون يحتج عليه و هو يحتج على المأمون-  ثم أمر أن يسجل لهم بها-  فكتب السجل و قرئ عليه فأنفذه-  فقام دعبل إلى المأمون فأنشده الأبيات التي أولها- 

  أصبح وجه الزمان قد ضحكا
برد مأمون هاشم فدكا

 فلم تزل في أيديهم حتى كان في أيام المتوكل-  فأقطعها عبد الله بن عمر البازيار-  و كان فيها إحدى عشرة نخلة غرسها رسول الله ص بيده-  فكان بنو فاطمة يأخذون ثمرها-  فإذا قدم الحجاج أهدوا لهم من ذلك التمر فيصلونهم-  فيصير إليهم من ذلك مال جزيل جليل-  فصرم عبد الله بن عمر البازيار ذلك التمر-  و وجه رجلا يقال له بشران بن أبي أمية الثقفي-  إلى المدينة فصرمه-  ثم عاد إلى البصرة ففلج- . قال أبو بكر أخبرنا أبو زيد عمر بن شبة-  قال حدثنا سويد بن سعيد و الحسن بن عثمان-  قالا حدثنا الوليد بن محمد عن الزهري-  عن عروة عن عائشة-  أن فاطمة ع أرسلت إلى أبي بكر-  تسأله ميراثها من رسول الله ص-  و هي حينئذ تطلب ما كان لرسول الله ص بالمدينة و فدك-  و ما بقي من خمس خيبر-  فقال أبو بكرإن رسول الله ص قال لا نورث ما تركناه صدقة-  إنما يأكل آل محمد من هذا المال-  و إني و الله لا أغير شيئا من صدقات رسول الله ص-  عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله ص-  و لأعملن فيها بما عمل فيها رسول الله ص-  فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا-  فوجدت من ذلك على أبي بكر-  و هجرته فلم تكلمه حتى توفيت-  و عاشت بعد أبيها ستة أشهر-  فلما توفيت دفنها علي ع ليلا-  و لم يؤذن بها أبا بكر- .

قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال-  حدثنا إسحاق بن إدريس قال حدثنا محمد بن أحمد-  عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة-  أن فاطمة و العباس أتيا أبا بكر-  يلتمسان ميراثهما من رسول الله ص-  و هما حينئذ يطلبان أرضه بفدك و سهمه بخيبر-  فقال لهما أبو بكر إني سمعت رسول الله ص يقول-  لا نورث ما تركنا صدقة-  إنما يأكل آل محمد ص من هذا المال-  و إني و الله لا أغير أمرا-  رأيت رسول الله ص يصنعه إلا صنعته-  قال فهجرته فاطمة فلم تكلمه حتى ماتت- .

 قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال حدثنا عمر بن عاصم و موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد بن سلمه عن الكلبي عن أبي صالح عن أم هانئ أن فاطمة قالت لأبي بكر من يرثك إذا مت-  قال ولدي و أهلي-  قالت فما لك ترث رسول الله ص دوننا-  قال يا ابنة رسول الله-  ما ورث أبوك دارا و لا مالا و لا ذهبا و لا فضة-  قالت بلى سهم الله الذي جعله لنا-  و صار فيئنا الذي بيدك-  فقال لها سمعت رسول الله ص يقول-  إنما هي طعمة أطعمناها الله-  فإذا مت كانت بين المسلمين  قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا محمد بن الفضل عن الوليد بن جميع عن أبي الطفيل قال أرسلت فاطمة إلى أبي بكر-أنت ورثت رسول الله ص أم أهله قال بل أهله-  قالت فما بال سهم رسول الله ص-  قال إني سمعت رسول الله ص يقول-  إن الله أطعم نبيه طعمة-  ثم قبضه و جعله للذي يقوم بعده-  فوليت أنا بعده على أن أرده على المسلمين-  قالت أنت و ما سمعت من رسول الله ص أعلم- .

قلت في هذا الحديث عجب لأنها قالت له-  أنت ورثت رسول الله ص أم أهله-  قال بل أهله-  و هذا تصريح بأنه ص موروث يرثه أهله-  و هو خلاف قوله لا نورث-  و أيضا فإنه يدل-  على أن أبا بكر استنبط من قول رسول الله ص-  أن الله أطعم نبيا طعمة-  أن يجري رسول الله ص عند وفاته مجرى ذلك النبي ص-  أو يكون قد فهم أنه عنى بذلك النبي المنكر لفظا نفسه-  كما فهم من قوله في خطبته-  إن عبدا خيره الله بين الدنيا و ما عند ربه-  فاختار ما عند ربه-  فقال أبو بكر بل نفديك بأنفسنا- .

 قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال أخبرنا القعنبي قال حدثنا عبد العزيز بن محمد عن محمد بن عمر عن أبي سلمة أن فاطمة طلبت فدك من أبي بكر-  فقال إني سمعت رسول الله ص يقول-  إن النبي لا يورث-  من كان النبي يعوله فأنا أعوله-  و من كان النبي ص ينفق عليه فأنا أنفق عليه-  فقالت يا أبا بكر أ يرثك بناتك-  و لا يرث رسول الله ص بناته-  فقال هو ذاك

 قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير قال حدثنا فضيل بن مرزوق قال حدثنا البحتري بن حسان قال قلت لزيد بن علي ع-  و أنا أريد أن أهجن أمر أبي بكر-  إن أبا بكر انتزع فدك من فاطمة ع-  فقال إن أبا بكر كان رجلارحيما-  و كان يكره أن يغير شيئا فعله رسول الله ص-  فأتته فاطمة فقالت-  إن رسول الله ص أعطاني فدك-  فقال لها هل لك على هذا بينة-  فجاءت بعلي ع فشهد لها-  ثم جاءت أم أيمن فقالت-  أ لستما تشهدان أني من أهل الجنة-  قالا بلى قال أبو زيد-  يعني أنها قالت لأبي بكر و عمر-  قالت فأنا أشهد أن رسول الله ص أعطاها فدك-  فقال أبو بكر-  فرجل آخر أو امرأة أخرى لتستحقي بها القضية-  ثم قال أبو زيد و ايم الله لو رجع الأمر إلي-  لقضيت فيها بقضاء أبي بكر قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال حدثنا محمد بن الصباح قال حدثنا يحيى بن المتوكل أبو عقيل عن كثير النوال قال قلت لأبي جعفر محمد بن علي ع-  جعلني الله فداك-  أ رأيت أبا بكر و عمر هل ظلماكم من حقكم شيئا-  أو قال ذهبا من حقكم بشي‏ء فقال لا-  و الذي أنزل القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيرا-  ما ظلمنا من حقنا مثقال حبة من خردل-  قلت جعلت فداك أ فأتولاهما قال نعم ويحك-  تولهما في الدنيا و الآخرة-  و ما أصابك ففي عنقي-  ثم قال فعل الله بالمغيرة و بنان-  فإنهما كذبا علينا أهل البيت قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال حدثنا عبد الله بن نافع و القعنبي عن مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة أن أزواج النبي ص-  أردن لما توفي أن يبعثن عثمان بن عفان إلى أبي بكر-  يسألنه ميراثهن-  أو قال ثمنهن-  قالت فقلت لهن أ ليس قد قال النبي ص لا نورث ما تركنا صدقة

 قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال حدثنا عبد الله بن نافع و القعنبي و بشر بن عمر عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي ص قال لا يقسم ورثتي دينارا و لا درهما-  ما تركت بعد نفقة نسائي و مئونة عيالي فهو صدقةقلت هذا حديث غريب-  لأن المشهور أنه لم يرو حديث انتفاء الإرث إلا أبو بكر وحده- . و قال أبو بكر و حدثنا أبو زيد عن الحزامي عن ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن عبد الرحمن الأعرج أنه سمع أبا هريرة يقول سمعت رسول الله ص يقول و الذي نفسي بيده لا يقسم ورثتي شيئا ما تركت صدقة-  قال و كانت هذه الصدقة بيد علي ع-  غلب عليها العباس و كانت فيها خصومتهما-  فأبى عمر أن يقسمها بينهما حتى أعرض عنها العباس-  و غلب عليها ع-  ثم كانت بيد حسن و حسين ابني علي ع-  ثم كانت بيد علي بن الحسين ع و الحسن بن الحسن-  كلاهما يتداولانها ثم بيد زيد بن علي ع- 

قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال-  حدثنا عثمان بن عمر بن فارس-  قال حدثنا يونس عن الزهري-  عن مالك بن أوس بن الحدثان-  أن عمر بن الخطاب دعاه يوما بعد ما ارتفع النهار-  قال فدخلت عليه و هو جالس على سرير رمال-  ليس بينه و بين الرمال فراش على وسادة أدم-  فقال يا مالك-  إنه قد قدم من قومك أهل أبيات حضروا المدينة-  و قد أمرت لهم برضخ فاقسمه بينهم-  فقلت يا أمير المؤمنين مر بذلك غيري-  قال اقسم أيها المرء-  قال فبينا نحن على ذلك إذ دخل يرفأ فقال-  هل لك في عثمان و سعد و عبد الرحمن و الزبير-  يستأذنون عليك قال نعم فأذن لهم- 

قال ثم لبث قليلا ثم جاء فقال-  هل لك في علي و العباس يستأذنان عليك-  قال ائذن لهما فلما دخلا قال عباس-  يا أمير المؤمنين اقض بيني و بين هذا يعني عليا-  و هما يختصمان في الصوافي-  التي أفاء الله على رسوله‏ من أموال بني النضير-  قال فاستب علي و العباس عند عمر-  فقال عبد الرحمن يا أمير المؤمنين-  اقض بينهما و أرح أحدهما من الآخر-  فقال عمر أنشدكم الله الذي تقوم بإذنه السماوات و الأرض-  هل تعلمون أن رسول الله ص قال-  لا نورث ما تركناه صدقة يعني نفسه-  قالوا قد قال ذلك-  فأقبل على العباس و علي فقال-  أنشدكما الله هل تعلمان ذلك قالا نعم-  قال عمر فإني أحدثكم عن هذا الأمر-  أن الله تبارك و تعالى خص رسوله ص-  في هذا الفي‏ء بشي‏ء لم يعطه غيره- 

قال تعالى وَ ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى‏ رَسُولِهِ مِنْهُمْ-  فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لا رِكابٍ-  وَ لكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ-  وَ اللَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ-  و كانت هذه خاصة لرسول الله ص-  فما اختارها دونكم و لا استأثر بها عليكم-  لقد أعطاكموها و ثبتها فيكم حتى بقي منها هذا المال-  و كان ينفق منه على أهله سنتهم-  ثم يأخذ ما بقي فيجعله فيما يجعل مال الله عز و جل-  فعل ذلك في حياته ثم توفي-  فقال أبو بكر أنا ولي رسول الله ص-  فقبضه الله و قد عمل فيها بما عمل به رسول الله ص-  و أنتما حينئذ و التفت إلى علي و العباس-  تزعمان أن أبا بكر فيها ظالم فاجر-  و الله يعلم أنه فيها لصادق بار راشد تابع للحق-  ثم توفى الله أبا بكر فقلت-  أنا أولى الناس بأبي بكر و برسول الله ص-  فقبضتها سنتين أو قال سنين من إمارتي-  أعمل فيها مثل ما عمل به رسول الله ص و أبو بكر-  ثم قال و أنتما و أقبل على العباس و علي-  تزعمان أني فيها ظالم فاجر-  و الله يعلم أني فيها بار راشد تابع للحق-  ثم جئتماني و كلمتكما واحدة و أمركما جميع-  فجئتني يعني العباس تسألني نصيبك من ابن أخيك-  و جاءني هذا يعني عليا يسألني نصيب امرأته من أبيها-  فقلت لكما أن رسول الله ص قال-  لا نورث ما تركناه صدقة-  فلما بدا لي أن‏ أدفعها إليكما قلت-  أدفعها على أن عليكما عهد الله و ميثاقه-  لتعملان فيها بما عمل رسول الله ص و أبو بكر-  و بما عملت به فيها و إلا فلا تكلماني-  فقلتما ادفعها إلينا بذلك-  فدفعتها إليكما بذلك-  أ فتلتمسان مني قضاء غير ذلك-  و الله الذي تقوم بإذنه السماوات و الأرض-  لا أقضي بينكما بقضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة-  فإن عجزتما عنها فادفعاها إلي فأنا أكفيكماها- .

 قال أبو بكر و حدثنا أبو زيد قال حدثنا إسحاق بن إدريس قال حدثنا عبد الله بن المبارك قال حدثني يونس عن الزهري قال حدثني مالك بن أوس بن الحدثان بنحوه قال فذكرت ذلك لعروة فقال صدق مالك بن أوس أنا سمعت عائشة تقول أرسل أزواج النبي ص عثمان بن عفان-  إلى أبي بكر يسأل لهن ميراثهن-  من رسول الله ص مما أفاء الله عليه-  حتى كنت أردهن عن ذلك فقلت-  أ لا تتقين الله أ لم تعلمن أن رسول الله ص كان يقول-  لا نورث ما تركناه صدقة-  يريد بذلك نفسه-  إنما يأكل آل محمد من هذا المال-  فانتهى أزواج النبي ص إلى ما أمرتهن به قلت هذا مشكل لأن الحديث الأول-  يتضمن أن عمر أقسم على جماعة فيهم عثمان-  فقال نشدتكم الله-  أ لستم تعلمون أن رسول الله ص قال-  لا نورث ما تركناه صدقة-  يعني نفسه-  فقالوا نعم و من جملتهم عثمان-  فكيف يعلم بذلك فيكون مترسلا لأزواج النبي ص-  يسأله أن يعطيهن الميراث-  اللهم إلا أن يكون عثمان و سعد-  و عبد الرحمن و الزبير صدقوا عمر-  على سبيل التقليد لأبي بكر فيما رواه و حسن الظن-  و سموا ذلك علما-  لأنه قد يطلق على الظن اسم العلم- .

 

فإن قال قائل-  فهلا حسن ظن عثمان برواية أبي بكر في مبدإ الأمر-  فلم يكن رسولا لزوجات النبي ص في طلب الميراث-  قيل له يجوز أن يكون في مبدإ الأمر شاكا-  ثم يغلب على ظنه صدقه لأمارات اقتضت تصديقه-  و كل الناس يقع لهم مثل ذلك- . و هاهنا إشكال آخر-  و هو أن عمر ناشد عليا و العباس-  هل تعلمان ذلك فقالا نعم-  فإذا كانا يعلمانه-  فكيف جاء العباس و فاطمة إلى أبي بكر-  يطلبان الميراث على ما ذكره في خبر سابق على هذا الخبر-  و قد أوردناه نحن-  و هل يجوز أن يقال-  كان العباس يعلم ذلك ثم يطلب الإرث الذي لا يستحقه-  و هل يجوز أن يقال أن عليا كان يعلم ذلك-  و يمكن زوجته أن تطلب ما لا تستحقه-  خرجت من دارها إلى المسجد و نازعت أبا بكر-  و كلمته بما كلمته إلا بقوله و إذنه و رأيه-  و أيضا فإنه إذا كان ص لا يورث-  فقد أشكل دفع آلته و دابته و حذائه إلى علي ع-  لأنه غير وارث في الأصل-  و إن كان أعطاه ذلك لأن زوجته بعرضه أن ترث-  لو لا الخبر فهو أيضا غير جائز-  لأن الخبر قد منع أن يرث منه شيئا-  قليلا كان أو كثيرا- .

فإن قال قائل-  نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا-  و لا فضة و لا أرضا و لا عقارا و لا دارا-  قيل هذا الكلام يفهم من مضمونه-  أنهم لا يورثون شيئا أصلا-  لأن عادة العرب جارية بمثل ذلك-  و ليس يقصدون نفي ميراث هذه الأجناس-  المعدودة دون غيرها-  بل يجعلون ذلك-  كالتصريح بنفي أن يورثوا شيئا ما على الإطلاق- . و أيضا فإنه جاء في خبر الدابة و الآلة و الحذاء-  أنه روي عن النبي ص-  لا نورث ما تركناه صدقة-  و لم يقل لا نورث كذا و لا كذا-  و ذلك يقتضي عموم انتفاء الإرث عن كل شي‏ء

 

و أما الخبر الثاني-  و هو الذي رواه هشام بن محمد الكلبي عن أبيه-  ففيه إشكال أيضا-  لأنه قال إنها طلبت فدك-  و قالت إن أبي أعطانيها و إن أم أيمن تشهد لي بذلك-  فقال لها أبو بكر في الجواب-  إن هذا المال لم يكن لرسول الله ص-  و إنما كان مالا من أموال المسلمين-  يحمل به الرجال و ينفقه في سبيل الله-  فلقائل أن يقول له-  أ يجوز للنبي ص أن يملك ابنته أو غير ابنته-  من أفناء الناس ضيعة مخصوصة-  أو عقارا مخصوصا من مال المسلمين-  لوحي أوحى الله تعالى إليه أو لاجتهاد رأيه-  على قول من أجاز له أن يحكم بالاجتهاد-  أو لا يجوز للنبي ص ذلك-  فإن قال لا يجوز-  قال ما لا يوافقه العقل و لا المسلمون عليه-  و إن قال يجوز ذلك-  قيل فإن المرأة ما اقتصرت على الدعوى-  بل قالت أم أيمن تشهد لي-  فكان ينبغي أن يقول لها في الجواب-  شهادة أم أيمن وحدها غير مقبولة-  و لم يتضمن هذا الخبر ذلك-  بل قال لها لما ادعت و ذكرت من يشهد لها-  هذا مال من مال الله لم يكن لرسول الله ص-  و هذا ليس بجواب صحيح- .

و أما الخبر الذي رواه محمد بن زكريا عن عائشة-  ففيه من الإشكال مثل ما في هذا الخبر-  لأنه إذا شهد لها علي ع و أم أيمن-  أن رسول الله ص وهب لها فدك-  لم يصح اجتماع صدقها و صدق عبد الرحمن و عمر-  و لا ما تكلفه أبو بكر من تأويل ذلك بمستقيم-  لأن كونها هبة من رسول الله ص لها-  يمنع من قوله-  كان يأخذ منها قوتكم و يقسم الباقي-  و يحمل منه في سبيل الله-  لأن هذا ينافي كونها هبة لها-  لأن معنى كونها لها انتقالها إلى ملكيتها-  و أن تتصرف فيها خاصة دون كل أحد من الناس-  و ما هذه صفته كيف يقسم و يحمل منه في سبيل الله- .

 

فإن قال قائل هو ص أبوها-  و حكمه في مالها كحكمه في ماله-  و في بيت مال المسلمين-  فلعله كان بحكم الأبوة يفعل ذلك-  قيل فإذا كان يتصرف فيها تصرف الأب في مال ولده-  لا يخرجه ذلك عن كونه مال ولده-  فإذا مات الأب لم يجز لأحد أن يتصرف في مال ذلك الولد-  لأنه ليس باب له فيتصرف في ماله-  تصرف الآباء في أموال أولادهم-  على أن الفقهاء أو معظمهم لا يجيزون للأب-  أن يتصرف في مال الابن- . و هاهنا إشكال آخر-  و هو قول عمر لعلي ع و العباس-  و أنتما حينئذ تزعمان أن أبا بكر فيها ظالم فاجر-  ثم قال لما ذكر نفسه-  و أنتما تزعمان أني فيها ظالم فاجر-  فإذا كانا يزعمان ذلك فكيف يزعم هذا الزعم-  مع كونهما يعلمان أن رسول الله ص قال لا أورث-  إن هذا لمن أعجب العجائب-  و لو لا أن هذا الحديث-  أعني حديث خصومة العباس و علي عند عمر-  مذكور في الصحاح المجمع عليها-  لما أطلت العجب من مضمونه-  إذ لو كان غير مذكور في الصحاح-  لكان بعض ما ذكرناه يطعن في صحته-  و إنما الحديث في الصحاح لا ريب في ذلك- .

قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال-  حدثنا ابن أبي شيبة قال حدثنا ابن علية-  عن أيوب عن عكرمة-  عن مالك بن أوس بن الحدثان قال-  جاء العباس و علي إلى عمر فقال العباس-  اقض بيني و بين هذا الكذا و كذا أي يشتمه-  فقال الناس افصل بينهما فقال لا أفصل بينهما-  قد علما أن رسول الله ص قال-  لا نورث ما تركناه صدقة- . قلت و هذا أيضا مشكل-  لأنهما حضرا يتنازعان لا في الميراث-  بل في ولاية صدقة رسول الله ص-  أيهما يتولاها ولاية لا إرثا-  و على هذا كانت الخصومة-

 

فهل يكون جواب ذلك-  قد علما أن رسول الله ص قال لا نورث- . قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال-  حدثني يحيى بن كثير أبو غسان-  قال حدثنا شعبة عن عمر بن مرة-  عن أبي البختري قال-  جاء العباس و علي إلى عمر و هما يختصمان-  فقال عمر لطلحة و الزبير و عبد الرحمن و سعد-  أنشدكم الله أ سمعتم رسول الله ص يقول-  كل مال نبي فهو صدقة-  إلا ما أطعمه أهله إنا لا نورث-  فقالوا نعم-  قال و كان رسول الله يتصدق به و يقسم فضله-  ثم توفي فوليه أبو بكر سنتين يصنع فيه-  ما كان يصنع رسول الله ص-  و أنتما تقولان أنه كان بذلك خاطئا-  و كان بذلك ظالما-  و ما كان بذلك إلا راشدا-  ثم وليته بعد أبي بكر فقلت لكما-  إن شئتما قبلتماه على عمل رسول الله ص و عهده-  الذي عهد فيه-  فقلتما نعم و جئتماني الآن تختصمان-  يقول هذا أريد نصيبي من ابن أخي-  و يقول هذا أريد نصيبي من امرأتي-  و الله لا أقضي بينكما إلا بذلك- .

قلت و هذا أيضا مشكل-  لأن أكثر الروايات أنه لم يرو هذا الخبر-  إلا أبو بكر وحده-  ذكر ذلك أعظم المحدثين-  حتى إن الفقهاء في أصول الفقه-  أطبقوا على ذلك في احتجاجهم في الخبر-  برواية الصحابي الواحد-  و قال شيخنا أبو علي-  لا تقبل في الرواية إلا رواية اثنين كالشهادة-  فخالفه المتكلمون و الفقهاء كلهم-  و احتجوا عليه بقبول الصحابة رواية أبي بكر وحده-  نحن معاشر الأنبياء لا نورث-  حتى إن بعض أصحاب أبي علي تكلف لذلك جوابا-  فقال قد روي أن أبا بكر يوم حاج فاطمة ع قال-  أنشد الله امرأ سمع من رسول الله ص في هذا شيئا-  فروى مالك بن أوس بن الحدثان أنه سمعه من رسول الله ص-  و هذا الحديث ينطق‏  بأنه استشهد عمر و طلحة و الزبير-  و عبد الرحمن و سعدا-  فقالوا سمعناه من رسول الله ص-  فأين كانت هذه الروايات أيام أبي بكر-  ما نقل أن أحدا من هؤلاء-  يوم خصومة فاطمة ع و أبي بكر-  روى من هذا شيئا- .

قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد عمر بن شبة قال-  حدثنا محمد بن يحيى عن إبراهيم بن أبي يحيى-  عن الزهري عن عروة عن عائشة-  أن أزواج النبي ص أرسلن عثمان إلى أبي بكر-  فذكر الحديث-  قال عروة و كانت فاطمة قد سألت ميراثها من أبي بكر-  مما تركه النبي ص فقال لها-  بأبي أنت و أمي و بأبي أبوك و أمي و نفسي-  إن كنت سمعت من رسول الله ص شيئا-  أو أمرك بشي‏ء لم أتبع غير ما تقولين-  و أعطيتك ما تبتغين-  و إلا فإني أتبع ما أمرت به- .

 قال أبو بكر و حدثنا أبو زيد قال حدثنا عمرو بن مرزوق عن شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي البختري قال قال لها أبو بكر لما طلبت فدك-  بأبي أنت و أمي أنت عندي الصادقة الأمينة-  إن كان رسول الله ص عهد إليك في ذلك عهدا-  أو وعدك به وعدا صدقتك و سلمت إليك-  فقالت لم يعهد إلي في ذلك بشي‏ء-  و لكن الله تعالى يقول يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ-  فقال أشهد لقد سمعت رسول الله ص يقول-  إنا معاشر الأنبياء لا نورث- . قلت و في هذا من الإشكال ما هو ظاهر-  لأنها قد ادعت أنه عهد إليها رسول الله ص في ذلك أعظم العهد-  و هو النحلة-  فكيف سكتت عن ذكر هذا لما سألها أبو بكر-  و هذا أعجب من العجب- .

 

قال أبو بكر و حدثنا أبو زيد-  قال حدثنا محمد بن يحيى-  قال حدثنا عبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز بن عبد الله الأنصاري-  عن ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان قال-  سمعت عمر و هو يقول للعباس و علي-  و عبد الرحمن بن عوف و الزبير و طلحة-  أنشدكم الله هل تعلمون أن رسول الله ص قال-  إنا لا نورث معاشر الأنبياء ما تركنا صدقة-  قالوا اللهم نعم-  قال أنشدكم الله هل تعلمون أن رسول الله ص-  يدخل في فيئه أهله السنة من صدقاته-  ثم يجعل ما بقي في بيت المال-  قالوا اللهم نعم-  فلما توفي رسول الله ص قبضها أبو بكر-  فجئت يا عباس تطلب ميراثك من ابن أخيك-  و جئت يا علي تطلب ميراث زوجتك من أبيها-  و زعمتما أن أبا بكر كان فيها خائنا فاجرا-  و الله لقد كان امرأ مطيعا تابعا للحق-  ثم توفي أبو بكر فقبضتها-  فجئتماني تطلبان ميراثكما-  أما أنت يا عباس فتطلب ميراثك من ابن أخيك-  و أما علي فيطلب ميراث زوجته من أبيها-  و زعمتما أني فيها خائن و فاجر-  و الله يعلم أني فيها مطيع تابع للحق-  فأصلحا أمركما و إلا و الله لم ترجع إليكما-  فقاما و تركا الخصومة و أمضيت صدقة- . قال أبو زيد قال أبو غسان-  فحدثنا عبد الرزاق الصنعاني عن معمر بن شهاب-  عن مالك بنحوه و قال في آخره-  فغلب علي عباسا عليها-  فكانت بيد علي ثم كانت بيد الحسن-  ثم كانت بيد الحسين ثم علي بن الحسين-  ثم الحسن بن الحسن ثم زيد بن الحسن- .

قلت و هذا الحديث يدل صريحا-  على أنهما جاءا يطلبان الميراث لا الولاية-  و هذا من المشكلات-  لأن أبا بكر حسم المادة أولا-  و قرر عند العباس و علي و غيرهما-  أن النبي ص لا يورث-  و كان عمر من المساعدين له على ذلك-  فكيف يعود العباس و علي بعد وفاة أبي بكر-  يحاولان امرأ قد كان فرغ منه-  و يئس من حصوله-  اللهم إلا أن يكونا ظنا-  أن عمر ينقض قضاء أبي بكر في هذه المسألة-  و هذا بعيد لأن عليا و العباس-  كانا في هذه المسألة يتهمان عمر-  بممالأة أبي بكر على ذلك أ لا تراه يقول-  نسبتماني و نسبتما أبا بكر إلى الظلم و الخيانة-  فكيف يظنان أنه ينقض قضاء أبي بكر و يورثهما و اعلم أن الناس يظنون-  أن نزاع فاطمة أبا بكر كان في أمرين-  في الميراث و النحلة-  و قد وجدت في الحديث أنها نازعت في أمر ثالث-  و منعها أبو بكر إياه أيضا-  و هو سهم ذوي القربى- 

 قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري أخبرني أبو زيد عمر بن شبة قال حدثني هارون بن عمير قال حدثنا الوليد بن مسلم قال حدثني صدقة أبو معاوية عن محمد بن عبد الله عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك أن فاطمة ع أتت أبا بكر فقالت-  لقد علمت الذي ظلمتنا عنه أهل البيت من الصدقات-  و ما أفاء الله علينا من الغنائم في القرآن-  من سهم ذوي القربى-  ثم قرأت عليه قوله تعالى وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ-  فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى‏ الآية-  فقال لها أبو بكر بأبي أنت و أمي و والد ولدك-  السمع و الطاعة لكتاب الله و لحق رسول الله ص-  و حق قرابته-  و أنا أقرأ من كتاب الله الذي تقرءين منه-  و لم يبلغ علمي منه-  أن هذا السهم من الخمس يسلم إليكم كاملا-  قالت أ فلك هو و لأقربائك-  قال لا بل أنفق عليكم منه-  و أصرف الباقي في مصالح المسلمين-  قالت ليس هذا حكم الله تعالى- 

قال هذا حكم الله-  فإن كان رسول الله عهد إليك‏ في هذا عهدا-  أو أوجبه لكم حقا-  صدقتك و سلمته كله إليك و إلى أهلك-  قالت إن رسول الله ص لم يعهد إلي في ذلك بشي‏ء-  إلا أني سمعته يقول لما أنزلت هذه الآية-  أبشروا آل محمد فقد جاءكم الغنى-  قال أبو بكر لم يبلغ علمي من هذه الآية-  أن أسلم إليكم هذا السهم كله كاملا-  و لكن لكم الغنى الذي يغنيكم و يفضل عنكم-  و هذا عمر بن الخطاب و أبو عبيدة بن الجراح-  فاسأليهم عن ذلك-  و انظري هل يوافقك على ما طلبت أحد منهم-  فانصرفت إلى عمر فقالت له مثل ما قالت لأبي بكر-  فقال لها مثل ما قاله لها أبو بكر-  فعجبت فاطمة ع من ذلك-  و تظنت أنهما كانا قد تذاكرا ذلك و اجتمعا عليه- .

قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال-  حدثنا هارون بن عمير قال حدثنا الوليد-  عن ابن أبي لهيعة عن أبي الأسود-  عن عروة قال-  أرادت فاطمة أبا بكر على فدك و سهم ذوي القربى-  فأبى عليها و جعلهما في مال الله تعالى- . قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد-  قال حدثنا أحمد بن معاوية عن هيثم-  عن جويبر عن أبي الضحاك-  عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب ع-  أن أبا بكر منع فاطمة و بني هاشم سهم ذوي القربى-  و جعله في سبيل الله في السلاح و الكراع- .

 قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال حدثنا حيان بن هلال عن محمد بن يزيد بن ذريع عن محمد بن إسحاق قال سألت أبا جعفر محمد بن علي ع قلت-  أ رأيت عليا حين ولي العراق-  و ما ولي من أمر الناس كيف صنع في سهم ذوي القربى-  قال سلك بهم طريق أبي بكر و عمر-  قلت و كيف و لم و أنتم تقولون ما تقولون-  قال أما و الله ما كان أهله يصدرون إلا عن رأيه-  فقلت فما منعه-  قال كان يكره‏

 

أن يدعى عليه مخالفة أبي بكر و عمر

قال أبو بكر و حدثني المؤمل بن جعفر قال-  حدثني محمد بن ميمون عن داود بن المبارك قال-  أتينا عبد الله بن موسى بن عبد الله بن حسن بن الحسن-  و نحن راجعون من الحج في جماعة-  فسألناه عن مسائل و كنت أحد من سأله-  فسألته عن أبي بكر و عمر فقال-  سئل جدي عبد الله بن الحسن بن الحسن عن هذه المسألة-  فقال كانت أمي صديقة بنت نبي مرسل-  فماتت و هي غضبى على إنسان-  فنحن غضاب لغضبها و إذا رضيت رضينا- . قال أبو بكر و حدثني أبو جعفر محمد بن القاسم-  قال حدثني علي بن الصباح-  قال أنشدنا أبو الحسن رواية المفضل للكميت- 

 أهوى عليا أمير المؤمنين و لا
أرضى بشتم أبي بكر و لا عمرا

و لا أقول و إن لم يعطيا فدكا
بنت النبي و لا ميراثها كفرا

الله يعلم ما ذا يحضران به
يوم القيامة من عذر إذا اعتذرا

 قال ابن الصباح فقال لي أبو الحسن-  أ تقول إنه قد أكفرهما في هذا الشعر قلت نعم-  قال كذاك هو- . قال أبو بكر حدثنا أبو زيد عن هارون بن عمير عن الوليد بن مسلم عن إسماعيل بن عباس عن محمد بن السائب عن أبي صالح عن مولى أم هانئ قال دخلت فاطمة على أبي بكر بعد ما استخلف-  فسألته ميراثها من أبيها فمنعها-  فقالت له لئن مت اليوم من كان يرثك-  قال ولدي و أهلي-  قالت فلم ورثت أنت رسول الله ص-  دون ولده و أهله-  قال فما فعلت يا بنت رسول الله ص-  قالت بلى إنك عمدت إلى فدك-  و كانت صافية لرسول الله ص فأخذتها-  و عمدت إلى ما أنزل الله من السماء فرفعته عنا-  فقال يا بنت رسول الله‏ ص لم أفعل-  حدثني رسول الله ص-  أن الله تعالى يطعم النبي ص الطعمة ما كان حيا-  فإذا قبضه الله إليه رفعت-  فقالت أنت و رسول الله أعلم-  ما أنا بسائلتك بعد مجلسي ثم انصرفت   

قال أبو بكر و حدثنا محمد بن زكريا قال حدثنا محمد بن عبد الرحمن المهلبي عن عبد الله بن حماد بن سليمان عن أبيه عن عبد الله بن حسن بن حسن عن أمه فاطمة بنت الحسين ع قالت لما اشتد بفاطمة بنت رسول الله ص الوجع-  و ثقلت في علتها-  اجتمع عندها نساء من نساء المهاجرين و الأنصار-  فقلن لها كيف أصبحت يا ابنة رسول الله ص-  قالت و الله أصبحت عائفة لدنياكم قالية لرجالكم-  لفظتهم بعد أن عجمتهم-  و شنئتهم بعد أن سبرتهم-  فقبحا لفلول الحد و خور القناة و خطل الرأي-  و بئسما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم-  و في العذاب هم خالدون لا جرم-  قد قلدتهم ربقتها و شنت عليهم غارتها-  فجدعا و عقرا و سحقا للقوم الظالمين-  ويحهم أين زحزحوها عن رواسي الرسالة-  و قواعد النبوة و مهبط الروح الأمين-  و الطيبين بأمر الدنيا و الدين-  ألا ذلك هو الخسران المبين-  و ما الذي نقموا من أبي حسن-  نقموا و الله نكير سيفه-  و شدة وطأته و نكال وقعته-  و تنمره في ذات الله-  و تالله لو تكافوا عن زمام-  نبذه إليه رسول الله ص لاعتلقه-  و لسار إليهم سيرا سجحا-  لا تكلم حشاشته و لا يتعتع راكبه-  و لأوردهم منهلا نميرا فضفاضا يطفح ضفتاه-  و لأصدرهم بطانا قد تحير بهم الرأي غير متحل بطائل-  إلا بغمر الناهل و ردعه سورة الساغب-  و لفتحت عليهم بركات من السماء و الأرض-  و سيأخذهم الله بما كانوا يكسبون-  ألا هلم فاستمع و ما عشت‏ أراك الدهر عجبه-  و إن تعجب فقد أعجبك الحادث-  إلى أي لجإ استندوا و بأي عروة تمسكوا-  لبئس المولى و لبئس العشير-  و لبئس للظالمين بدلا-  استبدلوا و الله الذنابى بالقوادم و العجز بالكاهل-  فرغما لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعا-  ألا إنهم هم المفسدون و لكن لا يشعرون-  ويحهم أ فمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع-  أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون-  أما لعمر الله لقد لقحت فنظرة ريثما تنتج-  ثم احتلبوها طلاع العقب دما عبيطا و ذعاقا ممقرا-  هنالك يخسر المبطلون-  و يعرف التالون غب ما أسس الأولون-  ثم طيبوا عن أنفسكم نفسا و اطمئنوا للفتنة جأشا-  و أبشروا بسيف صارم و هرج شامل-  و استبداد من الظالمين-  يدع فيئكم زهيدا و جمعكم حصيدا-  فيا حسرة عليكم-  و أنى لكم و قد عميت عليكم أ نلزمكموها-  و أنتم لها كارهون-  و الحمد لله رب العالمين-  و صلاته على محمد خاتم النبيين و سيد المرسلين- .

قلت هذا الكلام و إن لم يكن فيه ذكر فدك و الميراث-  إلا أنه من تتمة ذلك-  و فيه إيضاح لما كان عندها-  و بيان لشدة غيظها و غضبها-  فإنه سيأتي فيما بعد-  ذكر ما يناقض به قاضي القضاة و المرتضى-  في أنها هل كانت غضبى أم لا-  و نحن لا ننصر مذهبا بعينه-  و إنما نذكر ما قيل-  و إذا جرى بحث نظري قلنا ما يقوى في أنفسنا منه- . و اعلم أنا إنما نذكر في هذا الفصل-  ما رواه رجال الحديث و ثقاتهم-  و ما أودعه أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتابه-  و هو من الثقات الأمناء عند أصحاب الحديث-  و أما ما يرويه رجال الشيعة و الأخباريون منهم في كتبهم-  من قولهم إنهما أهاناها و أسمعاها كلاما غليظا-  و إن أبا بكر رق لها حيث لم يكن عمر حاضرا-  فكتب لها بفدك كتابا-  فلما خرجت به وجدها عمر-  فمد يده إليه ليأخذه مغالبة فمنعته-  فدفع بيده في صدرها و أخذ الصحيفة-  فخرقها بعد أن تفل فيها فمحاها-  و إنها دعت عليه فقالت-  بقر الله بطنك كما بقرت صحيفتي-  فشي‏ء لا يرويه أصحاب الحديث و لا ينقلونه-  و قدر الصحابة يجل عنه-  و كان عمر أتقى لله و أعرف لحقوق الله من ذلك-  و قد نظمت الشيعة بعض هذه الواقعة-  التي يذكرونها شعرا-  أوله أبيات لمهيار بن مرزويه الشاعر من قصيدته التي أولها- 

يا ابنة القوم تراك
بالغ قتلي رضاك‏

و قد ذيل عليها بعض الشيعة و أتمها و الأبيات-

يا ابنة الطاهر كم تقرع
بالظلم عصاك‏

غضب الله لخطب‏
ليلة الطف عراك‏

و رعى النار غدا قط
رعى أمس حماك‏

مر لم يعطفه شكوى‏
و لا استحيا بكاك‏

و اقتدى الناس به بعد
فأردى ولداك‏

يا ابنة الراقي إلى السدرة
في لوح السكاك‏

لهف نفسي و على مثلك
فلتبك البواكي‏

كيف لم تقطع يد مد
إليك ابن صحاك‏

فرحوا يوم أهانوك
بما ساء أباك‏

و لقد أخبرهم أن‏
رضاه في رضاك‏

دفعا النص على إرثك
لما دفعاك‏

و تعرضت لقدر
تافه و انتهراك‏

و ادعيت النحلة المشهود
فيها بالصكاك‏

فاستشاطا ثم ما إن‏
كذبا إن كذباك‏

فزوى الله عن الرحمة
زنديقا ذواك‏

و نفى عن بابه الواسع‏
شيطانا نفاك‏

 فانظر إلى هذه البلية التي صبت من هؤلاء-  على سادات المسلمين و أعلام المهاجرين-  و ليس ذلك بقادح في علو شأنهم و جلالة مكانهم-  كما أن مبغضي الأنبياء و حسدتهم-  و مصنفي الكتب-  في إلحاق العيب و التهجين لشرائعهم-  لم تزدد لأنبيائهم إلا رفعة-  و لا زادت شرائعهم إلا انتشارا في الأرض-  و قبولا في النفس-  و بهجة و نورا عند ذوي الألباب و العقول- . و قال لي علوي في الحلة-  يعرف بعلي بن مهنإ ذكي ذو فضائل-  ما تظن قصد أبي بكر و عمر بمنع فاطمة فدك-  قلت ما قصدا-  قال أرادا ألا يظهرا لعلي و قد اغتصباه الخلافة-  رقة ولينا و خذلانا-  و لا يرى عندهما خورا فأتبعا القرح بالقرح- . و قلت لمتكلم من متكلمي الإمامية-  يعرف بعلي بن تقي من بلدة النيل-  و هل كانت فدك إلا نخلا يسيرا و عقارا-  ليس بذلك الخطير-  فقال لي ليس الأمر كذلك بل كانت جليلة جدا-  و كان فيها من النخل نحو ما بالكوفة الآن من النخل-  و ما قصد أبو بكر و عمر بمنع فاطمة عنها-  إلا ألا يتقوى علي بحاصلها و غلتها-  على المنازعة في الخلافة-  و لهذا أتبعا ذلك بمنع فاطمة و علي-  و سائر بني هاشم و بني المطلب حقهم في الخمس-  فإن‏الفقير الذي لا مال له-  تضعف همته و يتصاغر عند نفسه-  و يكون مشغولا بالاحتراف و الاكتساب-  عن طلب الملك و الرئاسة-  فانظر إلى ما قد وقر في صدور هؤلاء-  و هو داء لا دواء له-  و ما أكثر ما تزول الأخلاق و الشيم-  فأما العقائد الراسخة فلا سبيل إلى زوالها

الفصل الثاني في النظر في أن النبي ص هل يورث أم لا

نذكر في هذا الموضع-  ما حكاه المرتضى رحمه الله في الشافي-  عن قاضي القضاة في هذا المعنى-  و ما اعترضه به-  و إن استضعفنا شيئا من ذلك قلنا ما عندنا-  و إلا تركناه على حاله- . قال المرتضى أول ما ابتدأ به قاضي القضاة حكايته عنا-  استدلالنا على أنه ص مورث بقوله تعالى-  يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ-  و هذا الخطاب عام يدخل فيه النبي و غيره- . ثم أجاب يعني قاضي القضاة عن ذلك-  فقال إن الخبر الذي احتج به أبو بكر-  يعني قوله نحن معاشر الأنبياء لا نورث-  لم يقتصر على روايته هو وحده-  حتى استشهد عليه عمر و عثمان و طلحة-  و الزبير و سعدا و عبد الرحمن فشهدوا به-  فكان لا يحل لأبي بكر و قد صار الأمر إليه-  أن يقسم التركة ميراثا-  و قد خبر رسول الله ص بأنها صدقة و ليست بميراث-  و أقل ما في هذا الباب أن يكون الخبر من أخبار الآحاد- فلو أن شاهدين شهدا في التركة أن فيها حقا-  أ ليس كان يجب أن يصرف ذلك عن الإرث-  فعلمه بما قال رسول الله ص مع شهادة غيره أقوى-  و لسنا نجعله مدعيا لأنه لم يدع ذلك لنفسه-  و إنما بين أنه ليس بميراث و أنه صدقة-  و لا يمتنع تخصيص القرآن بذلك-  كما يخص في العبد و القاتل و غيرهما-  و ليس ذلك بنقص في الأنبياء بل هو إجلال لهم-  يرفع الله به قدرهم عن أن يورثوا المال-  و صار ذلك من أوكد الدواعي ألا يتشاغلوا بجمعه لأن أحد الدواعي القوية إلى ذلك-  تركه على الأولاد و الأهلين-  و لما سمعت فاطمة ع ذلك من أبي بكر-  كفت عن الطلب فيما ثبت من الأخبار الصحيحة-  فلا يمتنع أن تكون غير عارفة بذلك فطلبت الإرث-  فلما روى لها ما روى كفت-  فأصابت أولا و أصابت ثانيا- . و ليس لأحد أن يقول-  كيف يجوز أن يبين النبي ص ذلك للقوم-  و لا حق لهم في الإرث-  و يدع أن يبين ذلك لمن له حق في الإرث-  مع أن التكليف يتصل به-  و ذلك لأن التكليف في ذلك يتعلق بالإمام-  فإذا بين له جاز ألا يبين لغيره-  و يصير البيان له بيانا لغيره-  و إن لم يسمعه من الرسول-  لأن هذا الجنس من البيان-  يجب أن يكون بحسب المصلحة- .

قال ثم حكى عن أبي علي أنه قال-  أ تعلمون كذب أبي بكر في هذه الرواية-  أم تجوزون أن يكون صادقا-  قال و قد علم أنه لا شي‏ء يقطع به على كذبه-  فلا بد من تجويز كونه صادقا-  و إذا صح ذلك قيل لهم-  فهل كان يحل له مخالفة الرسول-  فإن قالوا لو كان صدقا لظهر و اشتهر-  قيل لهم إن ذلك من باب العمل-  و لا يمتنع أن ينفرد بروايته جماعة يسيرة-  بل الواحد و الاثنان مثل سائر الأحكام و مثل الشهادات-  فإن قالوا نعلم أنه لا يصح لقوله تعالى في كتابه-  وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ-  قيل لهم‏ و من أين أنه ورثه الأموال-  مع تجويز أن يكون ورثه العلم و الحكمة-  فإن قالوا إطلاق الميراث لا يكون إلا في الأموال-  قيل لهم إن كتاب الله يبطل قولكم-  لأنه قال ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا-  و الكتاب ليس بمال-  و يقال في اللغة-  ما ورثت الأبناء عن الآباء شيئا أفضل من أدب حسن-  و قالوا العلماء ورثة الأنبياء-  و إنما ورثوا منهم العلم دون المال-  على أن في آخر الآية ما يدل على ما قلناه-  و هو قوله تعالى حاكيا عنه-  وَ قالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ-  وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ-  فنبه على أن الذي ورث هو هذا العلم و هذا الفضل-  و إلا لم يكن لهذا القول تعلق بالأول-  فإن قالوا فقد قال تعالى-  فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ-  و ذلك يبطل الخبر-  قيل لهم ليس في ذلك بيان المال أيضا-  و في الآية ما يدل على أن المراد النبوة و العلم-  لأن زكريا خاف على العلم أن يندرس-

  و قوله وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي يدل على ذلك-  لأن الأنبياء لا تحرص على الأموال-  حرصا يتعلق خوفها بها-  و إنما أراد خوفه على العلم أن يضيع-  فسأل الله تعالى وليا يقوم بالدين مقامه-  و قوله وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ-  يدل على أن المراد العلم و الحكمة-  لأنه لا يرث أموال يعقوب في الحقيقة-  و إنما يرث ذلك غيره-  قال فأما من يقول-  إن المراد أنا معاشر الأنبياء لا نورث-  ما تركناه صدقة-  أي ما جعلناه صدقة في حال حياتنا لا نورثه-  فركيك من القول-  لأن إجماع الصحابة يخالفه-  لأن أحدا لم يتأوله على هذا الوجه-  لأنه لا يكون في ذلك تخصيص الأنبياء-  و لا مزية لهم و لأن قوله ما تركناه صدقة-  جملة من الكلام مستقلة بنفسها-  كأنه ع مع بيانه أنهم لا يورثون المال-  يبين أنه صدقة-  لأنه كان يجوز ألا يكون ميراثا-  و يصرف إلى وجه آخر غير الصدقة- .

قال فأما خبر السيف و البغلة و العمامة و غير ذلك-  فقد قال أبو علي إنه لم يثبت أن أبا بكر دفع ذلك-  إلى أمير المؤمنين ع على جهة الإرث-  كيف يجوز ذلك مع الخبر الذي رواه-  و كيف يجوز لو كان وارثا أن يخصه بذلك-  و لا إرث له مع العم لأنه عصبة-  فإن كان وصل إلى فاطمة ع-  فقد كان ينبغي أن يكون العباس شريكا في ذلك-  و أزواج رسول الله ص-  و لوجب أن يكون ذلك ظاهرا مشهورا-  ليعرف أنهم أخذوا نصيبهم من ذلك أو بدله-  و لا يجب إذا لم يدفع أبو بكر ذلك إليه على جهة الإرث-  ألا يحصل ذلك في يده-  لأنه قد يجوز أن يكون النبي ص نحله ذلك-  و يجوز أيضا أن يكون أبو بكر رأى الصلاح في ذلك-  أن يكون بيده لما فيه من تقوية الدين-  و تصدق ببدله بعد التقويم-  لأن الإمام له أن يفعل ذلك- . قال و حكى عن أبي علي في البرد و القضيب-  أنه لم يمتنع أن يكون جعله عدة في سبيل الله-  و تقوية على المشركين-  فتداولته الأئمة لما فيه من التقوية-  و رأى أن ذلك أولى من أن يتصدق به-  إن ثبت أنه ع لم يكن قد نحله غيره في حياته-  ثم عارض نفسه بطلب أزواج النبي ص الميراث-  و تنازع أمير المؤمنين ع و العباس بعد موت فاطمة ع-  و أجاب عن ذلك بأن قال-  يجوز أن يكونوا لم يعرفوا رواية أبي بكر و غيره للخبر- .

و قد روي أن عائشة لما عرفتهن الخبر أمسكن-  و قد بينا أنه لا يمتنع في مثل ذلك-  أن يخفى على من يستحق الإرث-  و يعرفه من يتقلد الأمر-  كما يعرف العلماء و الحكام من أحكام المواريث-  ما لا يعلمه أرباب الإرث-  و قد بينا أن رواية أبي بكر مع الجماعة-أقوى من شاهدين لو شهد أن بعض تركته ع دين-  و هو أقوى من رواية سلمان و ابن مسعود لو رويا ذلك- .

قال و متى تعلقوا بعموم القرآن-  أريناهم جواز التخصيص بهذا الخبر-  كما أن عموم القرآن يقتضي كون الصدقات للفقراء-  و قد ثبت أن آل محمد لا تحل لهم الصدقة- . هذا آخر ما حكاه المرتضى من كلام قاضي القضاة- . ثم قال نحن نبين أولا ما يدل على أنه ص يورث المال-  و نرتب الكلام في ذلك الترتيب الصحيح-  ثم نعطف على ما أورده و نتكلم عليه- . قال رضي الله عنه و الذي يدل على ما ذكرنا قوله تعالى-  مخبرا عن زكريا ع-  وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي-  وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً-  فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا-  يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا-  فخبر أنه خاف من بني عمه-  لأن الموالي هاهنا هم بنو العم بلا شبهة-  و إنما خافهم أن يرثوا ماله فينفقوه في الفساد-  لأنه كان يعرف ذلك من خلائقهم و طرائقهم-  فسأل ربه ولدا يكون أحق بميراثه منهم-  و الذي يدل على أن المراد بالميراث المذكور ميراث المال-  دون العلم و النبوة-  على ما يقولون إن لفظة الميراث في اللغة و الشريعة-  لا يفيد إطلاقها إلا على ما يجوز أن ينتقل على الحقيقة-  من الموروث إلى الوارث-  كالأموال و ما في معناها-  و لا يستعمل في غير المال إلا تجوزا و اتساعا-  و لهذا لا يفهم من قول القائل-  لا وارث لفلان إلا فلان-  و فلان يرث مع فلان بالظاهر و الإطلاق-  إلا ميراث الأموال و الأعراض دون العلوم و غيرها-  و ليس لنا أن نعدل عن ظاهر الكلام و حقيقته-  إلى مجازه بغير دلالة-  و أيضا فإنه تعالى خبر عن نبيه-  أنه اشترط في وارثه أن يكون رضيا-  و متى لم يحمل الميراث في الآية على المال-  دون العلمو النبوة-  لم يكن للاشتراط معنى و كان لغوا و عبثا-  لأنه إذا كان إنما سأل من يقوم مقامه و يرث مكانه-  فقد دخل الرضا-  و ما هو أعظم من الرضا في جملة كلامه و سؤاله-  فلا مقتضي لاشتراطه-  أ لا ترى أنه لا يحسن أن يقول-  اللهم ابعث إلينا نبيا و اجعله عاقلا و مكلفا-  فإذا ثبتت هذه الجملة-  صح أن زكريا موروث ماله-  و صح أيضا لصحتها أن نبينا ص ممن يورث المال-  لأن الإجماع واقع على أن حال نبينا ع-  لا يخالف حال الأنبياء المتقدمين في ميراث المال-  فمن مثبت للأمرين و ناف للأمرين- .

قلت إن شيخنا أبا الحسين قال في كتاب الغرر-  صورة الخبر الوارد في هذا الباب-  و هو الذي رواه أبو بكر لا نورث-  و لم يقل نحن معاشر الأنبياء لا نورث-  فلا يلزم من كون زكريا يورث الطعن في الخبر-  و تصفحت أنا كتب الصحاح في الحديث-  فوجدت صيغة الخبر كما قاله أبو الحسين-  و إن كان رسول الله ص عنى نفسه خاصة بذلك-  فقد سقط احتجاج الشيعة بقصة زكريا و غيره من الأنبياء-  إلا أنه يبعد عندي أن يكون أراد نفسه خاصة-  لأنه لم تجر عادته أن يخبر عن نفسه في شي‏ء بالنون- . فإن قلت-  أ يصح من المرتضى أن يوافق على أن صورة الخبر هكذا-  ثم يحتج بقصة زكريا بأن يقول-  إذا ثبت أن زكريا موروث-  ثبت أن رسول الله ص يجوز أن يكون موروثا-  لإجماع الأمة على أن لا فرق بين الأنبياء كلهم-  في هذا الحكم- .

قلت و إن ثبت له هذا الإجماع صح احتجاجه-  و لكن ثبوته يبعد-  لأن من نفى كون زكريا ع موروثا من الأمة-  إنما نفاه لاعتقاده أن رسول الله ص قال-  نحن معاشر الأنبياء-  فإذا كان لم يقل هكذا-  لم يقل إن زكريا ع غير موروث قال المرتضى و مما يقوي ما قدمناه-  أن زكريا ع خاف بني عمه-  فطلب وارثا لأجل خوفه-  و لا يليق خوفه منهم إلا بالمال دون العلم و النبوة-  لأنه ع كان أعلم بالله تعالى-  من أن يخاف أن يبعث نبيا ليس بأهل للنبوة-  و أن يورث علمه و حكمه من ليس أهلا لهما-  و لأنه إنما بعث لإذاعة العلم و نشره في الناس-  فلا يجوز أن يخاف من الأمر الذي هو الغرض في البعثة-  فإن قيل هذا يرجع عليكم في الخوف عن إرث المال-  لأن ذلك غاية الضن و البخل-  قلنا معاذ الله أن يستوي الحال-  لأن المال قد يصح أن يرزقه الله تعالى المؤمن و الكافر-  و العدو و الولي-  و لا يصح ذلك في النبوة و علومها-  و ليس من الضن أن يأسى على بني عمه-  و هم من أهل الفساد-  أن يظفروا بماله فينفقوه على المعاصي-  و يصرفوه في غير وجوهه المحبوبة-  بل ذلك غاية الحكمة و حسن التدبير في الدين-  لأن الدين يحظر تقوية الفساق و إمدادهم-  بما يعينهم على طرائقهم المذمومة-  و ما يعد ذلك شحا و لا بخلا إلا من لا تأمل له- .

فإن قيل أ فلا جاز أن يكون خاف من بني عمه-  أن يرثوا علمه-  و هم من أهل الفساد على ما ادعيتم-  فيستفسدوا به الناس و يموهوا به عليهم-  قلنا لا يخلو هذا العلم الذي أشرتم إليه-  من أن يكون هو كتب علمه و صحف حكمته-  لأن ذلك قد يسمى علما على طريق المجاز-  أو يكون هو العلم الذي يحل القلب-  فإن كان الأول فهو يرجع إلى معنى المال-  و يصحح أن الأنبياء يورثون أموالهم و ما في معناها-  و إن كان الثاني لم يخل هذا-  من أن يكون هو العلم الذي بعث النبي لنشره و أدائه-  أو أن يكون علما مخصوصا لا يتعلق بالشريعة-  و لا يجب إطلاع جميع الأمة عليه-  كعلم العواقب و ما يجري في مستقبل الأوقات-  و ما جرى مجرى ذلك-  و القسم الأول لا يجوز على النبي-  أن يخاف من وصوله إلى بني عمه-  و هم من جملة أمته الذين بعث لإطلاعهم على ذلك-  و تأديته إليهم-  و كأنه على هذا الوجه يخاف مما هو الغرض من بعثته-  و القسم الثاني فاسد أيضا-  لأن هذا العلم المخصوص إنما يستفاد من جهته-  و يوقف عليه بإطلاعه و إعلامه-  و ليس هو مما يجب نشره في جميع الناس-  فقد كان يجب إذا خاف من إلقائه-  إلى بعض الناس فسادا-  ألا يلقيه إليه-  فإن ذلك في يده و لا يحتاج إلى أكثر من ذلك- .

قلت لعاكس أن يعكس هذا على المرتضى رحمه الله حينئذ-  و يقول له و قد كان يجب-  إذا خاف من أن يرث بنو عمه أمواله-  فينفقوها في الفساد-  أن يتصدق بها على الفقراء و المساكين-  فإن ذلك في يده فيحصل له ثواب الصدقة-  و يحصل له غرضه من حرمان أولئك المفسدين ميراثه- . قال المرتضى رضي الله عنه-  و مما يدل على أن الأنبياء يورثون قوله تعالى-  وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ-  و الظاهر من إطلاق لفظة الميراث-  يقتضي الأموال و ما في معناها على ما دللنا به من قبل- .

قال و يدل على ذلك أيضا قوله تعالى-  يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ الآية-  و قد أجمعت الأمة على عموم هذه اللفظة-  إلا من أخرجه الدليل-  فيجب أن يتمسك بعمومها لمكان هذه الدلالة-  و لا يخرج عن حكمها إلا من أخرجه دليل قاطع- . قلت أما قوله تعالى وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ-  فظاهرها يقتضي وراثة النبوة أو الملك أو العلم-  الذي قال في أول الآية-  وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً-  لأنه لا معنى لذكر ميراث سليمان المال-  فإن غيره من أولاد داود قد ورث أيضا أباه داود-  و في كتب اليهود و النصارى-  أن بني داود كانوا تسعة عشر-  و قد قال بعض المسلمين أيضا ذلك-  فأي معنى في تخصيص سليمان بالذكر إذا كان إرث المال-  و أما يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ-  فالبحث في تخصيص ذلك بالخبر-  فرع من فروع مسألة خبر الواحد-  هل هو حجة فيالشرعيات أم لا-  فإن ثبت مذهب المرتضى في كونه ليس بحجة-  فكلامه هنا جيد-  و إن لم يثبت فلا مانع من تخصيص العموم بالخبر-  فإن الصحابة قد خصصت عمومات الكتاب-  بالأخبار في مواضع كثيرة- .

قال المرتضى و أما تعلق صاحب الكتاب-  بالخبر الذي رواه أبو بكر-  و ادعاؤه أنه استشهد عمر و عثمان و فلانا و فلانا-  فأول ما فيه أن الذي ادعاه من الاستشهاد غير معروف-  و الذي روي أن عمر استشهد هؤلاء النفر-  لما تنازع أمير المؤمنين ع-  و العباس رضي الله عنه في الميراث-  فشهدوا بالخبر المتضمن لنفي الميراث-  و إنما مقول مخالفينا في صحة الخبر-  الذي رواه أبو بكر عند مطالبة فاطمة ع بالإرث-  على إمساك الأمة عن النكير عليه و الرد لقضيته- .

قلت صدق المرتضى رحمه الله فيما قال-  أما عقيب وفاة النبي ص-  و مطالبة فاطمة ع بالإرث-  فلم يرو الخبر إلا أبو بكر وحده-  و قيل إنه رواه معه مالك بن أوس بن الحدثان-  و أما المهاجرون الذين ذكرهم قاضي القضاة-  فإنما شهدوا بالخبر في خلافة عمر-  و قد تقدم ذكر ذلك- . قال المرتضى-  ثم لو سلمنا استشهاد من ذكر على الخبر لم يكن فيه حجة-  لأن الخبر على كل حال لا يخرج من أن يكون غير موجب للعلم-  و هو في حكم أخبار الآحاد-  و ليس يجوز أن يرجع عن ظاهر القرآن-  بما يجرى هذا المجرى-  لأن المعلوم لا يخص إلا بمعلوم-  و إذا كانت دلالة الظاهر معلومة-  لم يجز أن يخرج عنها بأمر مظنون- .

قال و هذا الكلام مبني-  على أن التخصيص للكتاب و السنة المقطوع بها-  لا يقع‏ بأخبار الآحاد-  و هو المذهب الصحيح-  و قد أشرنا إلى ما يمكن أن يعتمد في الدلالة عليه-  من أن الظن لا يقابل العلم-  و لا يرجع عن المعلوم بالمظنون-  قال و ليس لهم أن يقولوا-  إن التخصيص بأخبار الآحاد يستند أيضا إلى علم-  و إن كان الطريق مظنونا-  و يشيروا إلى ما يدعونه-  من الدلالة على وجوب العمل بخبر الواحد في الشريعة-  و أنه حجة لأن ذلك مبني من قولهم على ما لا نسلمه-  و قد دل الدليل على فساده-  أعني قولهم خبر الواحد حجة في الشرع-  على أنهم لو سلم لهم ذلك لاحتاجوا إلى دليل مستأنف-  على أنه يقبل في تخصيص القرآن-  لأن ما دل على العمل به في الجملة لا يتناول هذا الموضع-  كما لا يتناول جواز النسخ به- .

قلت أما قول المرتضى-  لو سلمنا أن هؤلاء المهاجرين الستة رووه-  لما خرج عن كونه خبرا واحدا-  و لما جاز أن يرجع عن عموم الكتاب به-  لأنه معلوم و الخبر مظنون- . و لقائل أن يقول-  ليته حصل في كل واحد من آيات القرآن رواية-  مثل هذه الستة-  حيث جمع القرآن على عهد عثمان و من قبله من الخلفاء-  فإنهم بدون هذا العدد-  كانوا يعملون في إثبات الآية في المصحف-  بل كانوا يحلفون من أتاهم بالآية-  و من نظر في كتب التواريخ عرف ذلك-  فإن كان هذا العدد إنما يفيد الظن-  فالقول في آيات الكتاب كذلك-  و إن كانت آيات الكتاب أثبتت عن علم مستفاد-  من رواية هذا العدد و نحوه-  فالخبر مثل ذلك- . فأما مذهب المرتضى في خبر الواحد فإنه-  قول انفرد به عن سائر الشيعة-  لأن من قبله من فقهائهم ما عولوا في الفقه-  إلا على أخبار الآحاد كزرارة و يونس و أبي بصير-  و ابني بابويه و الحلبي و أبي جعفر القمي و غيرهم-  ثم من كان في عصر المرتضى منهم‏ كأبي جعفر الطوسي و غيره-  و قد تكلمت في اعتبار الذريعة-  على ما أعتمد عليه في هذه المسألة-  و أما تخصيص الكتاب بخبر الواحد-  فالظاهر أنه إذا صح كون خبر الواحد حجة في الشرع-  جاز تخصيص الكتاب به-  و هذا من فن أصول الفقه فلا معنى لذكره هنا- .

قال المرتضى رضي الله عنه-  و هذا يسقط قول صاحب الكتاب-  إن الشاهدين لو شهدا أن في التركة حقا-  لكان يجب أن ينصرف عن الإرث-  و ذلك لأن الشهادة و إن كانت مظنونة-  فالعمل بها يستند إلى علم-  لأن الشريعة قد قررت العمل بالشهادة-  و لم تقرر العمل بخبر الواحد-  و ليس له أن يقيس خبر الواحد على الشهادة-  من حيث اجتمعا في غلبة الظن-  لأنا لا نعمل على الشهادة من حيث غلبة الظن-  دون ما ذكرناه من تقرير الشريعة العمل بها-  أ لا ترى أنا قد نظن بصدق الفاسق و المرأة و الصبي-  و كثير ممن لا يجوز العمل بقوله-  فبان أن المعول في هذا على المصلحة-  التي نستفيدها على طريق الجملة من دليل الشرع- .

قال و أبو بكر في حكم المدعي لنفسه و الجار إليها-  بخلاف ما ظنه صاحب الكتاب-  و كذلك من شهد له إن كانت هناك شهادة-  و ذلك أن أبا بكر و سائر المسلمين-  سوى أهل بيت الرسول ص يحل لهم الصدقة-  و يجوز أن يصيبوا فيها-  و هذه تهمة في الحكم و الشهادة- . قال و ليس له أن يقول-  فهذا يقتضي ألا يقبل شهادة شاهدين في تركة-  فيها صدقة لمثل ما ذكرتم- .

قال و ذلك لأن الشاهدين إذا شهدا في الصدقة-  فحظهما منها كحظ صاحب الميراث بل سائر المسلمين-  و ليس كذلك حال تركة الرسول-  لأن كونها صدقة يحرمها على ورثته-  و يبيحها لسائر المسلمين- . قلت هذا فرق غير مؤثر-  اللهم إلا أن يعني به تهمة أبي بكر و الشهود الستة-  في جر النفع إلى أنفسهم يكون أكثر من تهمتهم-  لو شهدوا على أبي هريرة مثلا أن ما تركه صدقة-  لأن أهل أبي هريرة يشاركون في القسمة-  و أهل النبي ص لا يشاركون الشهود فيما يصيبهم-  إذ هم لا تحل لهم الصدقة-  فتكون حصة أبي بكر و الشهود مما تركه رسول الله-  أكثر من حصتهم مما يتركه أبو هريرة-  فيكون تطرق التهمة إلى أبي بكر و الشهود-  أكثر حسب زيادة حصتهم-  و ما وقفت للمرتضى على شي‏ء أطرف من هذا-  لأن رسول الله ص مات-  و المسلمون أكثر من خمسين ألف إنسان-  لأنه قاد في غزاة تبوك عشرين ألفا-  ثم وفدت إليه الوفود كلها بعد ذلك-  فليت شعري كم مقدار ما يتوفر على أبي بكر و ستة نفر معه-  و هم من جملة خمسين ألفا-  بين ما إذا كان بنو هاشم و بنو المطلب-  و هم حينئذ عشرة نفر-  لا يأخذون حصة-  و بين ما إذا كانوا يأخذون-  أ ترى أ يكون المتوفر على أبي بكر و شهوده-  من التركة عشر عشر درهم-  ما أظن أنه يبلغ ذلك-  و كم مقدار ما يقلل حصص الشهود على أبي هريرة-  إذا شركهم أهله في التركة-  لتكون هذه القلة موجبة رفع التهمة-  و تلك الزيادة و الكثرة موجبة حصول التهمة-  و هذا الكلام لا أرتضيه للمرتضى- . قال المرتضى رضي الله عنه- 

و أما قوله يخص القرآن بالخبر-  كما خصصناه في العبد و القاتل-  فليس بشي‏ء-  لأنا إنما خصصنا من ذكر بدليل مقطوع عليه معلوم-  و ليس هذا موجودا في الخبر الذي ادعاه-  فأما قوله و ليس ذلك ينقص الأنبياء-  بل هو إجلال لهم-فمن الذي قال له إن فيه نقصا-  و كما أنه لا نقص فيه فلا إجلال فيه و لا فضيلة-  لأن الداعي و إن كان قد يقوى على جمع المال-  ليخلف على الورثة-  فقد يقويه أيضا إرادة صرفه في وجوه الخير و البر-  و كلا الأمرين يكون داعيا إلى تحصيل المال-  بل الداعي الذي ذكرناه أقوى فيما يتعلق بالدين- . قال و أما قوله-  إن فاطمة لما سمعت ذلك كفت عن الطلب-  فأصابت أولا و أصابت ثانيا-  فلعمري إنها كفت عن المنازعة و المشاحة-  لكنها انصرفت مغضبة متظلمة متألمة-  و الأمر في غضبها و سخطها-  أظهر من أن يخفى على منصف-  فقد روى أكثر الرواة-  الذين لا يتهمون بتشيع و لا عصبية فيه-  من كلامها في تلك الحال-  و بعد انصرافها عن مقام المنازعة و المطالبة-  ما يدل على ما ذكرناه من سخطها و غضبها- .

 أخبرنا أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني قال حدثني محمد بن أحمد الكاتب قال حدثنا أحمد بن عبيد بن ناصح النحوي قال حدثني الزيادي قال حدثنا الشرقي بن القطامي عن محمد بن إسحاق قال حدثنا صالح بن كيسان عن عروة عن عائشة قالت لما بلغ فاطمة إجماع أبي بكر على منعها فدك-  لاثت خمارها على رأسها و اشتملت بجلبابها-  و أقبلت في لمة من حفدتها…

 قال المرتضى و أخبرنا المرزباني قال حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد المكي قال حدثنا أبو العيناء بن القاسم اليماني قال حدثنا ابن عائشة قال لما قبض رسول الله ص-  أقبلت فاطمة إلى أبي بكر في لمة من حفدتها-  ثم اجتمعت الروايتان من هاهنا…-  و نساء قومها تطأ ذيولها-  ما تخرم مشيتها مشية رسول الله ص-حتى دخلت على أبي بكر-  و هو في حشد من المهاجرين و الأنصار و غيرهم-  فنيطت دونها ملاءة-  ثم أنت أنة أجهش لها القوم بالبكاء-  و ارتج المجلس-  ثم أمهلت هنيهة حتى إذا سكن نشيج القوم-  و هدأت فورتهم-  افتتحت كلامها بالحمد لله عز و جل و الثناء عليه-  و الصلاة على رسول الله ص-  ثم قالت لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ-  عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ-  بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ-  فإن تعزوه تجدوه أبي دون آبائكم-  و أخا ابن عمي دون رجالكم-  فبلغ الرسالة صادعا بالنذارة-  مائلا عن سنن المشركين ضاربا ثبجهم- 

يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة و الموعظة الحسنة-  آخذا بأكظام المشركين-  يهشم الأصنام و يفلق الهام-  حتى انهزم الجمع و ولوا الدبر-  و حتى تفرى الليل عن صبحه-  و أسفر الحق عن محضه و نطق زعيم الدين-  و خرست شقائق الشياطين و تمت كلمة الإخلاص-  و كنتم على شفا حفرة من النار نهزة الطامع-  و مذقة الشارب و قبسة العجلان-  و موطإ الأقدام تشربون الطرق-  و تقتاتون القد أذلة خاسئين-  يختطفكم الناس من حولكم-  حتى أنقذكم الله برسوله ص بعد اللتيا و التي-  و بعد أن مني بهم الرجال-  و ذؤبان العرب و مردة أهل الكتاب-  و كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله-  أو نجم قرن الشيطان أو فغرت فاغرة-  قذف أخاه في لهواتها-  و لا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه-  و يطفئ عادية لهبها بسيفه-  أو قالت يخمد لهبها بحده-  مكدودا في ذات الله-  و أنتم في رفاهية فكهون آمنون وادعون-إلى هنا انتهى خبر أبي العيناء عن ابن عائشة-  و أما عروة عن عائشة فزاد بعد هذا حتى إذا اختار الله لنبيه دار أنبيائه-  ظهرت حسيكة النفاق و شمل جلباب الدين-  و نطق كاظم الغاوين و نبغ خامل الآفكين-  و هدر فنيق المبطلين فخطر في عرصاتكم-  و أطلع الشيطان رأسه صارخا بكم-  فدعاكم فألفاكم لدعوته مستجيبين و لقربه متلاحظين-  ثم استنهضكم فوجدكم خفافا-  و أحمشكم فألفاكم غضابا-  فوسمتم غير إبلكم و وردتم غير شربكم-  هذا و العهد قريب و الكلم رحيب و الجرح لما يندمل- 

إنما زعمتم ذلك خوف الفتنة-  ألا في الفتنة سقطوا و إن جهنم لمحيطة بالكافرين-  فهيهات و أنى بكم و أنى تؤفكون-  و كتاب الله بين أظهركم زواجره بينة-  و شواهده لائحة و أوامره واضحة-  أ رغبة عنه تريدون أم لغيره تحكمون-  بئس للظالمين بدلا-  و من يتبع غير الإسلام دينا فلن يقبل منه-  و هو في الآخرة من الخاسرين-  ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفرتها-  تسرون حسوا في ارتغاء-  و نحن نصبر منكم على مثل حز المدى-  و أنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا-  أ فحكم الجاهلية يبغون-  و من أحسن من الله حكما لقوم يوقنون-  يا ابن أبي قحافة أ ترث أباك و لا أرث أبي-  لقد جئت شيئا فريا-  فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك-  فنعم الحكم الله و الزعيم محمد و الموعد القيامة-  و عند الساعة يخسر المبطلون-  ثم انكفأت إلى قبر أبيها ع فقالت- 

قد كان بعدك أنباء و هنبثة
لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب‏

إذا فقدناك فقد الأرض وابلها
و اختل قومك فاشهدهم و لا تغب‏

و روى حرمي بن أبي العلاء مع هذين البيتين بيتا ثالثا-

فليت بعدك كان الموت صادفنا
لما قضيت و حالت دونك الكتب‏

 

قال-  فحمد أبو بكر الله و أثنى عليه و صلى على رسوله ص-  و قال يا خير النساء و ابنة خير الآباء-  و الله ما عدوت رأي رسول الله ص و لا عملت إلا بإذنه-  و إن الرائد لا يكذب أهله-  و إني أشهد الله و كفى بالله شهيدا-  أني سمعت رسول الله يقول إنا معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا-  و لا فضة و لا دارا و لا عقارا-  و إنما نورث الكتاب و الحكمة و العلم و النبوة قال فلما وصل الأمر إلى علي بن أبي طالب ع-  كلم في رد فدك فقال إني لأستحيي من الله-  أن أرد شيئا منع منه أبو بكر و أمضاه عمر قال المرتضى و أخبرنا أبو عبد الله المرزباني قال حدثني علي بن هارون قال أخبرني عبيد الله بن أحمد بن أبي طاهر عن أبيه قال ذكرت لأبي الحسين زيد بن علي بن الحسين-  بن علي بن أبي طالب ع-  كلام فاطمة ع عند منع أبي بكر إياها فدك-  و قلت له إن هؤلاء يزعمون أنه مصنوع-  و أنه من كلام أبي العيناء لأن الكلام منسوق البلاغة-  فقال لي رأيت مشايخ آل أبي طالب يروونه عن آبائهم-  و يعلمونه أولادهم-  و قد حدثني به أبي عن جدي-  يبلغ به فاطمة ع على هذه الحكاية-  و قد رواه مشايخ الشيعة و تدارسوه-  قبل أن يوجد جد أبي العيناء-  و قد حدث الحسين بن علوان عن عطية العوفي-  أنه سمع عبد الله بن الحسن بن الحسن-  يذكر عن أبيه هذا الكلام- .

ثم قال أبو الحسن زيد-  و كيف تنكرون هذا من كلام فاطمة ع-  و هم‏يروون من كلام عائشة عند موت أبيها-  ما هو أعجب من كلام فاطمة ع-  و يحققونه لو لا عداوتهم لنا أهل البيت-  ثم ذكر الحديث بطوله على نسقه-  و زاد في الأبيات بعد البيتين الأولين- 

 ضاقت علي بلادي بعد ما رحبت
وسم سبطاك خسفا فيه لي نصب‏

فليت قبلك كان الموت صادفنا
قوم تمنوا فأعطوا كل ما طلبوا

تجهمتنا رجال و استخف بنا
مذ غبت عنا و كل الإرث قد غصبوا

قال فما رأينا يوما أكثر باكيا أو باكية-  من ذلك اليوم- . قال المرتضى و قد روى هذا الكلام على هذا الوجه-  من طرق مختلفة و وجوه كثيرة-  فمن أرادها أخذها من مواضعها-  فكيف يدعي أنها ع كفت راضية-  و أمسكت قانعة لو لا البهت و قلة الحياء- . قلت ليس في هذا الخبر ما يدل على فساد-  ما ادعاه قاضي القضاة-  لأنه ادعى أنها نازعت و خاصمت-  ثم كفت لما سمعت الرواية و انصرفت-  تاركة للنزاع راضية بموجب الخبر المروي-  و ما ذكره المرتضى من هذا الكلام-  لا يدل إلا على سخطها حال حضورها-  و لا يدل على أنها بعد رواية الخبر-  و بعد أن أقسم لها أبو بكر بالله تعالى-  أنه ما روى عن رسول الله ص إلا ما سمعه منه-  انصرفت ساخطة-  و لا في الحديث المذكور و الكلام المروي ما يدل على ذلك-  و لست أعتقد أنها انصرفت راضية-  كما قال قاضي القضاة-  بل أعلم أنها انصرفت ساخطة-  و ماتت و هي على أبي بكر واجدة-  و لكن لا من هذا الخبر بل من أخبار أخر-  كان الأولى بالمرتضى أن يحتج بها-  على‏ ما يرويه في انصرافها ساخطة-  و موتها على ذلك السخط-  و أما هذا الخبر و هذا الكلام فلا يدل على هذا المطلوب- .

قال المرتضى رحمه الله-  فأما قوله إنه يجوز أن يبين ع-  أنه لا حق لميراثه في ورثته لغير الورثة-  و لا يمتنع أن يرد من جهة الآحاد لأنه من باب العمل-  و كل هذا بناء منه على أصوله الفاسدة-  في أن خبر الواحد حجة في الشرع و أن العمل به واجب-  و دون صحة ذلك خرط القتاد-  و إنما يجوز أن يبين من جهة أخرى-  إذا تساويا في الحجة و وقوع العمل-  فأما مع تباينهما فلا يجوز التخيير فيهما-  و إذا كان ورثة النبي ص متعبدين بألا يرثوه-  فلا بد من إزاحة علتهم في هذه العبادة-  بأن يوقفهم على الحكم و يشافههم به-  و يلقيه إلى من يقيم الحجة عليهم بنقله-  و كل ذلك لم يكن- .

فأما قوله-  أ تجوزون صدقه في الرواية أم لا تجوزون ذلك-  فالجواب إنا لا نجوزه-  لأن كتاب الله أصدق منه و هو يدفع روايته و يبطلها-  فأما اعتراضه على قولنا-  إن إطلاق الميراث لا يكون إلا في الأموال بقوله تعالى-  ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا-  و قولهم ما ورثت الأبناء من الآباء شيئا-  أفضل من أدب حسن-  و قولهم العلماء ورثة الأنبياء-  فعجيب لأن كل ما ذكر مقيد غير مطلق-  و إنما قلنا إن مطلق لفظ الميراث من غير قرينة-  و لا تقييد يفيد بظاهره ميراث الأموال-  فبعد ما ذكره و عارض به لا يخفى على متأمل- .

فأما استدلاله على أن سليمان ورث داود علمه دون ماله-  بقوله يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ-  إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ-  و أن المراد أنه‏ورث العلم و الفضل-  و إلا لم يكن لهذا القول تعلق بالأول-  فليس بشي‏ء يعول عليه-  لأنه لا يمتنع أن يريد به أنه ورث المال بالظاهر-  و العلم بهذا المعنى من الاستدلال-  فليس يجب إذا دلت الدلالة في بعض الألفاظ-  على معنى المجاز أن يقتصر بها عليه-  بل يجب أن يحملها على الحقيقة-  التي هي الأصل إذا لم يمنع من ذلك مانع-  على أنه لا يمتنع أن يريد ميراث المال خاصة-  ثم يقول مع ذلك إنا عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ-  و يشير الْفَضْلُ الْمُبِينُ إلى العلم و المال جميعا-  فله بالأمرين جميعا فضل على من لم يكن عليهما-  و قوله وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ-  يحتمل المال كما يحتمل العلم-  فليس بخالص ما ظنه- .

فأما قوله في قصة زكريا-  إنه خاف على العلم أن يندرس-  لأن الأنبياء و إن كانوا لا يحرصون على الأموال-  و إنما خاف أن يضيع العلم-  فسأل الله تعالى وليا يقوم بالدين مقامه-  فقد بينا أن الأنبياء و إن كانوا لا يحرصون على الأموال-  و لا يبخلون بها-  فإنهم يجتهدون في منع المفسدين-  من الانتفاع بها على الفساد-  و لا يعد ذلك بخلا و لا حرصا بل فضلا و دينا-  و ليس يجوز من زكريا-  أن يخاف على العلم الاندراس و الضياع-  لأنه يعلم أن حكمة الله تعالى تقتضي حفظ العلم-  الذي هو الحجة على العباد-  و به تنزاح عللهم في مصالحهم-  فكيف يخاف ما لا يخاف من مثله- .

فإن قيل فهبوا أن الأمر كما ذكرتم-  من أن زكريا كان يأمن على العلم أن يندرس-  أ ليس لا بد أن يكون مجوزا-  أن يحفظه الله تعالى بمن هو من أهله و أقاربه-  كما يجوز حفظه بغريب أجنبي-  فما أنكرتم أن يكون خوفه إنما كان من بني عمه-  ألا يتعلموا العلم و لا يقوموا فيه مقامه-  فسأل الله ولدا يجمع فيه هذه العلوم-  حتى لا يخرج العلم عن بيته و يتعدى إلى غير قومه-  فيلحقه بذلك وصمة- .

 

قلنا أما إذا رتب السؤال هذا الترتيب-  فالجواب عنه ما أجبنا به صاحب الكتاب-  و هو أن الخوف الذي أشاروا إليه-  ليس من ضرر ديني-  و إنما هو من ضرر دنياوي-  و الأنبياء إنما بعثوا لتحمل المضار الدنياوية-  و منازلهم في الثواب-  إنما زادت على كل المنازل لهذا الوجه-  و من كانت حاله هذه الحال-  فالظاهر من خوفه إذا لم يعلم وجهه بعينه-  أن يكون محمولا على مضار الدين-  لأنها هي جهة خوفهم-  و الغرض في بعثهم تحمل ما سواها من المضار-  فإذا قال النبي ص أنا خائف-  فلم يعلم جهة خوفه على التفصيل-  يجب أن يصرف خوفه بالظاهر-  إلى مضار الدين دون الدنيا-  لأن أحوالهم و بعثهم يقتضي ذلك-  فإذا كنا لو اعتدنا من بعضنا الزهد في الدنيا-  و أسبابها و التعفف عن منافعها-  و الرغبة في الآخرة و التفرد بالعمل لها-  لكنا نحمل على ما يظهر لنا-  من خوفه الذي لا يعلم وجهه بعينه-  على ما هو أشبه و أليق بحاله-  و نضيفه إلى الآخرة دون الدنيا-  و إذا كان هذا واجبا فيمن ذكرناه-  فهو في الأنبياء ع أوجب- .

قلت ينبغي ألا يقول المعترض-  فيلحقه بذلك وصمة-  فيجعل الخوف من هذه الوصمة-  بل يقول إنه خاف ألا يفلح بنو عمه و لا يتعلموا العلم-  لما رأى من الأمارات الدالة على ذلك-  فالخوف على هذا الترتيب يتعلق بأمر ديني لا دنيوي-  فسأل الله تعالى أن يرزقه ولدا يرث عنه علمه-  أي يكون عالما بالدينيات كما أنا عالم بها-  و هذا السؤال متعلق بأمر ديني لا دنيوي-  و على هذا يندفع ما ذكره المرتضى-  على أنه لا يجوز إطلاق القول-  بأن الأنبياء بعثوا لتحمل المضار الدنياوية-  و لا القول الغرض في بعثتهم-  تحمل ما سوى المضار الدينية من المضار-  فإنهم ما بعثوا لذلك و لا الغرض في بعثتهم ذلك-  و إنما بعثوا لأمر آخر-  و قد تحصل المضار في أداء الشرع ضمنا و تبعا-  لا على أنها الغرض و لا داخلةفي الغرض و على أن قول المرتضى لا يجوز أن يخاف زكريا-  من تبديل الدين و تغييره-  لأنه محفوظ من الله-  فكيف يخاف ما لا يخاف من مثله غير مستمر على أصوله-  لأن المكلفين الآن قد حرموا بغيبة الإمام-  عنده ألطافا كثيرة الوصلة بالشرعيات-  كالحدود و صلاة الجمعة و الأعياد-  و هو و أصحابه يقولون في ذلك أن اللوم على المكلفين-  لأنهم قد حرموا أنفسهم اللطف-  فهلا جاز أن يخاف زكريا من تبديل الدين و تغييره-  و إفساد الأحكام الشرعية-  لأنه إنما يجب على الله تعالى-  التبليغ بالرسول إلى المكلفين-  فإذا أفسدوا هم الأديان و بدلوها-  لم يجب عليه أن يحفظها عليهم-  لأنهم هم الذين حرموا أنفسهم اللطف- .

و اعلم أنه قد قرئ وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي-  و قيل إنها قراءة زين العابدين-  و ابنه محمد بن علي الباقر ع-  و عثمان بن عفان-  و فسروه على وجهين-  أحدهما أن يكون ورائي بمعنى خلفي و بعدي-  أي قلت الموالي و عجزوا عن إقامة الدين-  تقول قد خف بنو فلان أي قل عددهم-  فسأل زكريا ربه تقويتهم و مظاهرتهم بولي يرزقه- . و ثانيهما أن يكون ورائي بمعنى قدامي-  أي خف الموالي و أنا حي و درجوا و انقرضوا-  و لم يبق منهم من به اعتضاد-  و على هذه القراءة لا يبقى متعلق بلفظة الخوف- . و قد فسر قوم قوله وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ-  أي خفت الذين يلون الأمر من بعدي-  لأن الموالي يستعمل في الوالي و جمعه موال-  أي خفت أن يلي بعد موتي أمراء و رؤساء-  يفسدون شيئا من الدين-  فارزقني ولدا تنعم عليه بالنبوة و العلم-  كما أنعمت علي-  و اجعل الدين محفوظا به-  و هذا التأويل غير منكر-  و فيه أيضا دفع لكلام المرتضى- .

قال المرتضى و أما تعلق صاحب الكتاب-  في أن الميراث محمول على العلم بقوله-  وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ-  لأنه لا يرث أموال آل يعقوب في الحقيقة-  و إنما يرث ذلك غيره-  فبعيد من الصواب-  لأن ولد زكريا يرث بالقرابة من آل يعقوب أموالهم-  على أنه لم يقل يرث آل يعقوب-  بل قال يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ-  تنبيها بذلك-  على أنه يرث من كان أحق بميراثه في القرابة- . فأما طعنه على من تأول الخبر بأنه ع لا يورث-  ما تركه للصدقة بقوله-  إن أحدا من الصحابة لم يتأوله على هذا الوجه-  فهذا التأويل الذي ذكرناه أحد-  ما قاله أصحابنا في هذا الخبر-  فمن أين له إجماع الصحابة على خلافه-  و إن أحدا لم يتأوله على هذا الوجه- . فإن قال لو كان ذلك لظهر و اشتهر-  و لوقف أبو بكر عليه-  فقد مضى من الكلام فيما يمنع من الموافقة-  على هذا المعنى ما فيه كفاية- . قلت لم يكن ذلك اليوم أعني يوم حضور فاطمة ع-  و قولها لأبي بكر ما قالت يوم تقية و خوف-  و كيف يكون يوم تقية و هي تقول له و هو الخليفة-  يا ابن أبي قحافة أ ترث أباك و لا أرث أبي-  و تقول له أيضا لقد جئت شيئا فريا-  فكان ينبغي إذا لم يؤثر أمير المؤمنين ع-  أن يفسر لأبي بكر معنى الخبر أن يعلم فاطمة ع‏ تفسيره-  فتقول لأبي بكر أنت غالط فيما ظننت-  إنما قال أبي ما تركناه صدقة فإنه لا يورث- . و اعلم أن هذا التأويل كاد يكون مدفوعا بالضرورة-  لأن من نظر في الأحاديث التي ذكرناها-  و ما جرت عليه الحال يعلم بطلانه علما قطعيا- .

قال المرتضى و قوله إنه لا يكون-  إذ ذلك تخصيص للأنبياء و لا مزية-  ليس بصحيح-  و قد قيل في الجواب عن هذا-  إن النبي ص يجوز أن يريد أن ما ننوي فيه الصدقة-  و نفرده لها من غير أن نخرجه عن أيدينا لا تناله ورثتنا-  و هذا تخصيص للأنبياء و مزية ظاهرة- . قلت هذه مخالفة لظاهر الكلام-  و إحالة اللفظ عن وضعه-  و بين قوله ما ننوي فيه الصدقة-  و هو بعد في ملكنا ليس بموروث-  و قوله ما نخلفه صدقة ليس بموروث فرق عظيم-  فلا يجوز أن يراد أحد المعنيين-  باللفظ المفيد للمعنى الآخر-  لأنه إلباس و تعمية-  و أيضا فإن العلماء ذكروا خصائص الرسول-  في الشرعيات عن أمته و عددوها-  نحو حل الزيادة في النكاح على أربع-  و نحو النكاح بلفظ الهبة على قول فرقة من المسلمين-  و نحو تحريم أكل البصل و الثوم عليه و إباحة شرب دمه-  و غير ذلك-  و لم يذكروا في خصائصه أنه إذا كان قد نوى أن يتصدق بشي‏ء-  فإنه لا يناله ورثته لو قدرنا أنه يورث الأموال-  و لا الشيعة قبل المرتضى ذكرت ذلك-  و لا رأينا في كتاب من كتبهم-  و هو مسبوق بإجماع طائفته عليه و إجماعهم عندهم حجة- .

قال المرتضى فأما قوله إن قوله ع ما تركناه صدقة-  جملة من الكلام‏مستقلة بنفسها-  فصحيح إذا كانت لفظة ما مرفوعة على الابتداء-  و لم تكن منصوبة بوقوع الفعل عليها-  و كانت لفظة صدقة أيضا مرفوعة غير منصوبة-  و في هذا وقع النزاع-  فكيف يدعى أنها جملة مستقلة بنفسها-  و أقوى ما يمكن أن نذكره أن نقول-  الرواية جاءت بلفظ صدقة بالرفع-  و على ما تأولتموه لا تكون إلا منصوبة-  و الجواب عن ذلك إنا لا نسلم الرواية بالرفع-  و لم تجر عادة الرواة-  بضبط ما جرى هذا المجرى من الإعراب-  و الاشتباه يقع في مثله-  فمن حقق منهم و صرح بالرواية بالرفع-  يجوز أن يكون اشتبه عليه فظنها مرفوعة و هي منصوبة-  قلت و هذا أيضا خلاف الظاهر-  و فتح الباب فيه يؤدي إلى إفساد الاحتجاج-  بكثير من الأخبار- .

قال و أما حكايته عن أبي علي-  أن أبا بكر لم يدفع إلى أمير المؤمنين ع-  السيف و البغلة و العمامة على جهة الإرث-  و قوله كيف يجوز ذلك مع الخبر الذي رواه-  و كيف خصصه بذلك دون العم الذي هو العصبة-  فما نراه زاد على التعجب-  و مما عجب منه عجبنا-  و لم يثبت عصمة أبي بكر فينتفي عن أفعاله التناقض- . قلت لا يشك أحد في أن أبا بكر كان عاقلا-  و إن شك قوم في ذلك-  فالعاقل في يوم واحد-  لا يدفع فاطمة ع عن الإرث و يقول-  إن أباك قال لي إنني لا أورث-  ثم يورث في ذلك اليوم شخصا آخر من مال ذلك المتوفى-  الذي حكى عنه أنه لا يورث-  و ليس انتفاء هذا التناقض عن أفعاله-  موقوفا على العصمة بل على العقل- .

 

قال المرتضى و قوله يجوز أن يكون النبي ص نحله إياه-  و تركه أبو بكر في يده لما في ذلك من تقوية الدين-  و تصدق ببدله-  و كل ما ذكره جائز-  إلا أنه قد كان يجب أن يظهر أسباب النحلة-  و الشهادة بها و الحجة عليها-  و لم يظهر من ذلك شي‏ء فنعرفه-  و من العجائب أن تدعي فاطمة فدك نحلة-  و تستشهد على قولها أمير المؤمنين ع و غيره-  فلا يصغى إلى قولها-  و يترك السيف و البغلة و العمامة في يد أمير المؤمنين-  على سبيل النحلة بغير بينة ظهرت-  و لا شهادة قامت- . قلت لعل أبا بكر سمع الرسول ص-  و هو ينحل ذلك عليا ع-  فلذلك لم يحتج إلى البينة و الشهادة-  فقد روى أنه أعطاه خاتمه و سيفه في مرضه-  و أبو بكر حاضر-  و أما البغلة فقد كان نحله إياها-  في حجة الوداع على ما وردت به الرواية-  و أما العمامة فسلب الميت-  و كذلك القميص و الحجزة و الحذاء-  فالعادة أن يأخذ ذلك ولد الميت-  و لا ينازع فيه لأنه خارج أو كالخارج عن التركة-  فلما غسل ع أخذت ابنته ثيابه التي مات فيها-  و هذه عادة الناس-  على أنا قد ذكرنا في الفصل الأول-  كيف دفع إليه آلة النبي ص و حذاءه و دابته-  و الظاهر أنه فعل ذلك اجتهادا لمصلحة رآها-  و للإمام أن يفعل ذلك- .

قال المرتضى-  على أنه كان يجب على أبي بكر أن يبين ذلك-  و يذكر وجهه بعينه-  لما نازع العباس فيه-  فلا وقت لذكر الوجه في ذلك أولى من هذا الوقت- . قلت لم ينازع العباس في أيام أبي بكر-  لا في البغلة و العمامة و نحوها و لا في غير ذلك-  و إنما نازع عليا في أيام عمر-  و قد ذكرنا كيفية المنازعة و فيما ذا كانت- . قال المرتضى رضي الله عنه في البردة و القضيب-  إن كان نحلة أو على الوجه الآخر-  يجري مجرى ما ذكرناه-  في وجوب الظهور و الاستشهاد-  و لسنا نرى أصحابنا يعني المعتزلة-  يطالبون أنفسهم في هذه المواضع بما يطالبوننا بمثله-  إذا ادعينا وجوها و أسبابا و عللا مجوزة-  لأنهم لا يقنعون منا بما يجوز و يمكن-  بل يوجبون فيما ندعيه الظهور و الاستشهاد-  و إذا كان هذا عليهم نسوه أو تناسوه- .

قلت أما القضيب-  فهو السيف الذي نحله رسول الله ص عليا ع في مرضه-  و ليس بذي الفقار بل هو سيف آخر-  و أما البردة فإنه وهبها كعب بن زهير-  ثم صار هذا السيف و هذه البردة إلى الخلفاء-  بعد تنقلات كثيرة مذكورة في كتب التواريخ- . قال المرتضى فأما قوله-  فإن أزواج النبي ص إنما طلبن الميراث-  لأنهن لم يعرفن رواية أبي بكر للخبر-  و كذلك إنما نازع علي ع-  بعد موت فاطمة ع في الميراث لهذا الوجه-  فمن أقبح ما يقال في هذا الباب و أبعده عن الصواب-  و كيف لا يعرف أمير المؤمنين ع رواية أبي بكر-  و بها دفعت زوجته عن الميراث-  و هل مثل ذلك المقام الذي قامته-  و ما رواه أبو بكر في دفعها-  يخفى على من هو في أقاصي البلاد-  فضلا عمن هو في المدينة حاضر شاهد يراعي الأخبار-  و يعني بها-  إن هذا لخروج في المكابرة عن الحد-  و كيف يخفى على الأزواج ذلك-  حتى يطلبنه مرة بعد أخرى-  و يكون عثمان الرسول لهن و المطالب عنهن-  و عثمان على زعمهم أحد من شهد- أن النبي ص لا يورث-  و قد سمعن على كل حال أن بنت النبي ص لم تورث ماله-  و لا بد أن يكن قد سألن عن السبب في دفعها-  فذكر لهن الخبر-  فكيف يقال إنهن لم يعرفنه- .

قلت الصحيح أن أمير المؤمنين ع-  لم ينازع بعد موت فاطمة في الميراث-  و إنما نازع في الولاية لفدك و غيرها-  من صدقات رسول الله ص-  و جرى بينه و بين العباس في ذلك ما هو مشهور-  و أما أزواج النبي ص فما ثبت أنهن نازعن في ميراثه-  و لا أن عثمان كان المرسل لهن و المطالب عنهن-  إلا في رواية شاذة-  و الأزواج لما عرفن أن فاطمة ع-  قد دفعت عن الميراث أمسكن-  و لم يكن قد نازعن و إنما اكتفين بغيرهن-  و حديث فدك و حضور فاطمة عند أبي بكر-  كان بعد عشرة أيام من وفاة رسول الله ص-  و الصحيح أنه لم ينطق أحد بعد ذلك من الناس-  من ذكر أو أنثى بعد عود فاطمة ع من ذلك المجلس-  بكلمة واحدة في الميراث- . قال المرتضى فإن قيل-  فإذا كان أبو بكر قد حكم بالخطإ-  في دفع فاطمة ع عن الميراث-  و احتج بخبر لا حجة فيه-  فما بال الأمة أقرته على هذا الحكم و لم تنكر عليه-  و في رضاها و إمساكها دليل على صوابه- . قلت قد مضى أن ترك النكير لا يكون دليل الرضا-  إلا في هذا الموضع الذي لا يكون له وجه سوى الرضا-  و ذكرنا في ذلك قولا شافيا-  و قد أجاب أبو عثمان الجاحظ في كتاب العباسية-  عن هذا السؤال جوابا حسن المعنى و اللفظ-  نحن نذكره على وجهه-  ليقابل بينه و بين كلامه في العثمانية و غيرها- .

قلت ما كناه المرتضى رحمه الله في غير هذا الموضع أصلا-  بل كان ساخطا عليه-  و كناه في هذا الموضع و استجاد قوله-  لأنه موافق غرضه-  فسبحان الله ما أشد حب الناس لعقائدهم- . قال قال أبو عثمان و قد زعم أناس-  أن الدليل على صدق خبرهما يعني أبا بكر و عمر-  في منع الميراث و براءة ساحتهما-  ترك أصحاب رسول الله ص النكير عليهما-  ثم قال قد يقال لهم-  لئن كان ترك النكير دليلا على صدقهما-  ليكونن ترك النكير على المتظلمين-  و المحتجين عليهما و المطالبين لهما-  دليلا على صدق دعواهم أو استحسان مقالتهم-  و لا سيما و قد طالت المناجاة-  و كثرت المراجعة و الملاحاة-  و ظهرت الشكية و اشتدت الموجدة-  و قد بلغ ذلك من فاطمة ع-  حتى إنها أوصت ألا يصلي عليها أبو بكر-  و لقد كانت قالت له حين أتته طالبة بحقها-  و محتجة لرهطها-  من يرثك يا أبا بكر إذا مت-  قال أهلي و ولدي- 

قالت فما بالنا لا نرث النبي ص-  فلما منعها ميراثها و بخسها حقها-  و اعتل عليها و جلح في أمرها-  و عاينت التهضم و أيست من التورع-  و وجدت نشوة الضعف و قلة الناصر-  قالت و الله لأدعون الله عليك-  قال و الله لأدعون الله لك-  قالت و الله لا أكلمك أبدا قال و الله لا أهجرك أبدا-  فإن يكن ترك النكير على أبي بكر دليلا على صواب منعها-  إن في ترك النكير على فاطمة ع-  دليلا على صواب طلبها-  و أدنى ما كان يجب عليهم في ذلك تعريفها ما جهلت-  و تذكيرها ما نسيت-  و صرفها عن الخطإ و رفع قدرها عن البذاء-  و أن تقول هجرا-  أو تجور عادلا أو تقطع واصلا-  فإذا لم تجدهم أنكروا على الخصمين جميعا-  فقد تكافأت‏الأمور و استوت الأسباب-  و الرجوع إلى أصل حكم الله من المواريث أولى بنا و بكم-  و أوجب علينا و عليكم- .

قال فإن قالوا كيف تظن به ظلمها و التعدي عليها-  و كلما ازدادت عليه غلظة ازداد لها لينا و رقة-  حيث تقول له و الله لا أكلمك أبدا-  فيقول و الله لا أهجرك أبدا-  ثم تقول و الله لأدعون الله عليك-  فيقول و الله لأدعون الله لك-  ثم يحتمل منها هذا الكلام الغليظ-  و القول الشديد في دار الخلافة-  و بحضرة قريش و الصحابة-  مع حاجة الخلافة إلى البهاء و التنزيه-  و ما يجب لها من الرفعة و الهيبة-  ثم لم يمنعه ذلك أن قال معتذرا متقربا-  كلام المعظم لحقها المكبر لمقامها-  و الصائن لوجهها المتحنن عليها-  ما أحد أعز علي منك فقرا-  و لا أحب إلي منك غنى-  و لكني سمعت رسول الله ص يقول-  إنا معاشر الأنبياء لا نورث-  ما تركناه فهو صدقة-  قيل لهم ليس ذلك بدليل على البراءة من الظلم-  و السلامة من الجور-  و قد يبلغ من مكر الظالم و دهاء الماكر إذا كان أريبا-  و للخصومة معتادا-  أن يظهر كلام المظلوم و ذلة المنتصف-  و حدب الوامق و مقة المحق-  و كيف جعلتم ترك النكير حجة قاطعة-  و دلالة واضحة-  و قد زعمتم أن عمر قال على منبره-  متعتان كانتا على عهد رسول الله ص-  متعة النساء و متعة الحج-  أنا أنهى عنهما و أعاقب عليهما-  فما وجدتم أحدا أنكر قوله-  و لا استشنع مخرج نهيه و لا خطأه في معناه-  و لا تعجب منه و لا استفهمه-  و كيف تقضون بترك النكير و قد شهد عمر يوم السقيفة-  و بعد ذلك أن النبي ص قال الأئمة من قريش-  ثم قال في شكاته-  لو كان سالم حيا ما تخالجني فيه شك-  حين أظهر الشك في استحقاق كل واحد من الستة-  الذين‏جعلهم شورى-  و سالم عبد لامرأة من الأنصار-  و هي أعتقته و حازت ميراثه-  ثم لم ينكر ذلك من قوله منكر-  و لا قابل إنسان بين قوله و لا تعجب منه- 

و إنما يكون ترك النكير على من لا رغبة و لا رهبة عنده-  دليلا على صدق قوله و صواب عمله-  فأما ترك النكير على من يملك الضعة و الرفعة-  و الأمر و النهي و القتل و الاستحياء و الحبس و الإطلاق-  فليس بحجة تشفي و لا دلالة تضي‏ء- . قال و قال آخرون-  بل الدليل على صدق قولهما و صواب عملهما-  إمساك الصحابة عن خلعهما و الخروج عليهما-  و هم الذين وثبوا على عثمان في أيسر من جحد التنزيل-  و رد النصوص و لو كان كما تقولون و ما تصفون-  ما كان سبيل الأمة فيهما إلا كسبيلهم فيه-  و عثمان كان أعز نفرا و أشرف رهطا-  و أكثر عددا و ثروة و أقوى عدة- .

قلنا إنهما لم يجحدا التنزيل و لم ينكرا النصوص-  و لكنهما بعد إقرارهما بحكم الميراث-  و ما عليه الظاهر من الشريعة ادعيا رواية-  و تحدثا بحديث لم يكن محالا كونه-  و لا ممتنعا في حجج العقول مجيئه-  و شهد لهما عليه من علته مثل علتهما فيه-  و لعل بعضهم كان يرى تصديق الرجل-  إذا كان عدلا في رهطه مأمونا في ظاهره-  و لم يكن قبل ذلك عرفه بفجرة و لا جرت عليه غدرة-  فيكون تصديقه له على جهة حسن الظن-  و تعديل الشاهد-  و لأنه لم يكن كثير منهم يعرف حقائق الحجج-  و الذي يقطع بشهادته على الغيب-  و كان ذلك شبهة على أكثرهم-  فلذلك قل النكير و تواكل الناس فاشتبه الأمر-  فصار لا يتخلص إلى معرفة حق ذلك من باطله إلا العالم المتقدم أو المؤيد المرشد-  و لأنه لم يكن لعثمان في صدور العوام-  و قلوب السفلة و الطغام-  ما كان لهما من المحبة و الهيبة-  و لأنهما كانا أقل استئثارا بالفي‏ء و تفضلا بمال الله منه-  و من شأن الناس إهمال السلطان ما وفر عليهم أموالهم-  و لم يستأثر بخراجهم و لم يعطل ثغورهم-  و لأن الذي صنع أبو بكرمن منع العترة حقها-  و العمومة ميراثها-  قد كان موافقا لجلة قريش و كبراء العرب-  و لأن عثمان أيضا كان مضعوفا في نفسه-  مستخفا بقدره-  لا يمنع ضيما و لا يقمع عدوا-  و لقد وثب ناس على عثمان-  بالشتم و القذف و التشنيع و النكير-  لأمور لو أتى أضعافها و بلغ أقصاها-  لما اجترءوا على اغتيابه-  فضلا على مبادأته و الإغراء به و مواجهته-  كما أغلظ عيينة بن حصن له فقال له-  أما إنه لو كان عمر لقمعك و منعك-  فقال عيينة إن عمر كان خيرا لي منك-  أرهبني فاتقاني- .

ثم قال و العجب أنا وجدنا جميع من خالفنا في الميراث-  على اختلافهم في التشبيه و القدر و الوعيد-  يرد كل صنف منهم من أحاديث مخالفيه و خصومه-  ما هو أقرب إسنادا و أصح رجالا و أحسن اتصالا-  حتى إذا صاروا إلى القول في ميراث النبي ص-  نسخوا الكتاب-  و خصوا الخبر العام بما لا يداني بعض ما ردوه-  و أكذبوا قائليه-  و ذلك أن كل إنسان منهم إنما يجري إلى هواه-  و يصدق ما وافق رضاه- . هذا آخر كلام الجاحظ ثم قال المرتضى رضي الله عنه فإن قيل-  ليس ما عارض به الجاحظ من الاستدلال بترك النكير-  و قوله كما لم ينكروا على أبي بكر-  فلم ينكروا أيضا على فاطمة ع-  و لا على غيرها من الطالبين بالإرث-  كالأزواج و غيرهن معارضة صحيحة-  و ذلك أن نكير أبي بكر لذلك-  و دفعها و الاحتجاج عليها-  و يكفيهم و يغنيهم عن تكلف نكير آخر-  و لم ينكر على أبي بكر ما رواه منكر فيستغنوا بإنكاره- . قلنا أول ما يبطل هذا السؤال-  أن أبا بكر لم ينكر عليها ما أقامت عليه-  بعد احتجاجها من التظلم و التألم-  و التعنيف و التبكيت-  و قولها على ما روي و الله لأدعون الله عليك-  و لا أكلمك أبدا و ما جرى هذا المجرى-  فقد كان يجب أن ينكره غيره-  و من المنكر الغضب على المنصف-  و بعد فإن كان إنكار أبي بكر مقنعا و مغنيا-  عن إنكار غيره من المسلمين-  فإنكار فاطمة حكمه و مقامها على التظلم منه-  مغن عن نكير غيرها-  و هذا واضح

الفصل الثالث في أن فدك هل صح كونها نحلة رسول الله ص لفاطمة ع أم لا

نذكر في هذا الفصل ما حكاه المرتضى-  عن قاضي القضاة في المغني و ما اعترض به عليه-  ثم نذكر ما عندنا في ذلك- . قال المرتضى حاكيا عن قاضي القضاة-  و مما عظمت الشيعة القول في أمر فدك-  قالوا و قد روى أبو سعيد الخدري أنه لما أنزلت-  وَ آتِ ذَا الْقُرْبى‏ حَقَّهُ-  أعطى رسول الله ص فاطمة ع فدك-  ثم فعل عمر بن عبد العزيز مثل ذلك فردها على ولدها-  قالوا و لا شك أن أبا بكر أغضبها-  إن لم يصح كل الذي روي في هذا الباب-  و قد كان الأجمل أن يمنعهم التكرم مما ارتكبوا منها-  فضلا عن الدين-  ثم ذكروا أنها استشهدت أمير المؤمنين ع و أم أيمن-  فلم يقبل شهادتهما-  هذا مع تركه أزواج النبي ص في حجرهن-  و لم يجعلها صدقة-  و صدقهن في ذلك أن ذلك لهن و لم يصدقها- .

 

قال و الجواب عن ذلك-  أن أكثر ما يروون في هذا الباب غير صحيح-  و لسنا ننكر صحة ما روي من ادعائها فدك-  فأما أنها كانت في يدها فغير مسلم-  بل إن كانت في يدها لكان الظاهر أنها لها-  فإذا كانت في جملة التركة فالظاهر أنها ميراث-  و إذا كان كذلك فغير جائز لأبي بكر قبول دعواها-  لأنه لا خلاف في أن العمل على الدعوى لا يجوز-  و إنما يعمل على مثل ذلك إذا علمت صحته بمشاهدة-  أو ما جرى مجراها أو حصلت بينة أو إقرار-  ثم إن البينة لا بد منها-  و إن أمير المؤمنين ع لما خاصمه اليهودي حاكمه-  و أن أم سلمة التي يطبق على فضلها-  لو ادعت نحلا ما قبلت دعواها- .

ثم قال و لو كان أمير المؤمنين ع هو الوالي-  و لم يعلم صحة هذه الدعوى-  ما الذي كان يجب أن يعمل-  فإن قلتم يقبل الدعوى فالشرع بخلاف ذلك-  و إن قلتم يلتمس البينة-  فهو الذي فعله أبو بكر- . ثم قال و أما قول أبي بكر-  رجل مع الرجل و امرأة مع المرأة-  فهو الذي يوجبه الدين-  و لم يثبت أن الشاهد في ذلك كان أمير المؤمنين ع-  بل الرواية المنقولة أنه شهد لها-  مولى لرسول الله ص مع أم أيمن- . قال و ليس لأحد أن يقول-  فلما ذا ادعت و لا بينة معها-  لأنه لا يمتنع أن تجوز-  أن يحكم أبو بكر بالشاهد و اليمين-  أو تجوز عند شهادة من شهد لها أن تذكر غيره فيشهد-  لا و هذا هو الموجب على ملتمس الحق-  و لا عيب عليها في ذلك-  و لا على أبي بكر في التماس البينة-  و إن لم يحكم لها لما لم يتم و لم يكن لها خصم-  لأن التركة صدقة على ما ذكرنا-  و كان لا يمكن أن يعول في ذلك على يمين أو نكول-  و لم يكن في الأمر إلا ما فعله-  قال و قد أنكر أبو علي ما قاله السائل-  من أنها لما ردت في دعوى النحلة ادعته إرثا-  و قال بل كان طلبت الإرث قبل ذلك-  فلما سمعت منه الخبر كفت و ادعت النحلة- .

قال فأما فعل عمر بن عبد العزيز-  فلم يثبت أنه رده على سبيل النحلة-  بل عمل في ذلك ما عمله عمر بن الخطاب-  بأن أقره في يد أمير المؤمنين ع-  ليصرف غلاتها في المواضع-  التي كان يجعلها رسول الله ص فيه-  فقام بذلك مدة ثم ردها إلى عمر في آخر سنته-  و كذلك فعل عمر بن عبد العزيز-  و لو ثبت أنه فعل بخلاف ما فعل السلف-  لكان هو المحجوج بفعلهم و قولهم-  و أحد ما يقوي ما ذكرناه-  أن الأمر لما انتهى إلى أمير المؤمنين ع-  ترك فدك على ما كان و لم يجعله ميراثا لولد فاطمة-  و هذا يبين أن الشاهد كان غيره-  لأنه لو كان هو الشاهد لكان الأقرب أن يحكم بعلمه-  على أن الناس اختلفوا في الهبة إذا لم تقبض-  فعند بعضهم تستحق بالعقد-  و عند بعضهم أنها إذا لم تقبض يصير وجودها كعدمها-  فلا يمتنع من هذا الوجه-  أن يمتنع أمير المؤمنين ع من ردها-  و إن صح عنده عقد الهبة-  و هذا هو الظاهر-  لأن التسليم لو كان وقع لظهر أنه كان في يدها-  و لكان ذلك كافيا في الاستحقاق-  فأما حجر أزواج النبي ص-  فإنما تركت في أيديهن لأنها كانت لهن-  و نص الكتاب يشهد بذلك-  و قوله وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ-  و روي في الأخبار أن النبي ص-  قسم ما كان له من الحجر على نسائه و بناته-  و يبين صحة ذلك أنه لو كان ميراثا أو صدقة-  لكان أمير المؤمنين ع لما أفضى الأمر إليه يغيره- .

قال و ليس لأحد أن يقول-  إنما لم يغير ذلك لأن الملك قد صار له فتبرع به-  و ذلك أن الذي يحصل له ليس-  إلا ربع ميراث فاطمة ع-  و هو الثمن من ميراث رسول الله ص-  فقد كان يجب أن ينتصف لأولاد العباس-  و أولاد فاطمة منهن في باب الحجر-  و يأخذ هذا الحق منهن-  فتركه ذلك يدل على صحة ما قلناه-  و ليس يمكنهم بعد ذلك إلا التعلق بالتقية-  و قد سبق الكلام فيها- .

قال و مما يذكرونه أن فاطمة ع-  لغضبها على أبي بكر و عمر أوصت ألا يصليا عليها-  و أن تدفن سرا منهما فدفنت ليلا-  و هذا كما ادعوا رواية رووها عن جعفر بن محمد ع و غيره-  أن عمر ضرب فاطمة ع بالسوط-  و ضرب الزبير بالسيف-  و أن عمر قصد منزلها و فيه علي ع-  و الزبير و المقداد و جماعة ممن تخلف عن أبي بكر-  و هم مجتمعون هناك-  فقال لها ما أحد بعد أبيك أحب إلينا منك-  و ايم الله لئن اجتمع هؤلاء النفر عندك-  لنحرقن عليهم-  فمنعت القوم من الاجتماع- .

قال و نحن لا نصدق هذه الروايات و لا نجوزها-  و أما أمر الصلاة فقد روي أن أبا بكر-  هو الذي صلى على فاطمة ع و كبر عليها أربعا-  و هذا أحد ما استدل به كثير من الفقهاء-  في التكبير على الميت-  و لا يصح أيضا أنها دفنت ليلا-  و إن صح ذلك فقد دفن رسول الله ص ليلا-  و دفن عمر ابنه ليلا-  و قد كان أصحاب رسول الله ص-  يدفنون بالنهار و يدفنون بالليل-  فما في هذا مما يطعن به-  بل الأقرب في النساء-  أن دفنهن ليلا أستر و أولى بالسنة- .

ثم حكى عن أبي علي تكذيب ما روي من الضرب بالسوط-  قال و المروي عن جعفر بن محمد ع أنه كان يتولاهما-  و يأتي القبر فيسلم عليهما-  مع تسليمه على رسول الله ص-  روى ذلك عباد بن صهيب و شعبة بن الحجاج-  و مهدي بن هلال و الدراوردي و غيرهم-  و قد روى عن أبيه محمد بن علي ع-  و عن علي بن الحسين مثل ذلك-  فكيف يصح ما ادعوه-  و هل هذه الرواية إلا كروايتهم-  على أن علي بن أبي طالب ع هو إسرافيل-  و الحسن ميكائيل و الحسين جبرائيل-  و فاطمة ملك الموت-  و آمنة أم النبي ص ليلة القدر-  فإن صدقوا ذلك أيضا قيل لهم-  فعمر بن الخطاب كيف يقدر على ضرب ملك الموت-  و إن قالوا لا نصدق ذلك-  فقد جوزوا رد هذه الروايات-  و صح أنه لا يجوز التعويل على هذا الخبر-و إنما يتعلق بذلك من غرضه الإلحاد كالوراق- 

و ابن الراوندي-  لأن غرضهم القدح في الإسلام- . و حكى عن أبي علي أنه قال و لم صار غضبها-  إن ثبت كأنه غضب رسول الله ص من حيث قال فمن أغضبها فقد أغضبني أولى من أن يقال-  فمن أغضب أبا بكر و عمر فقد نافق و فارق الدين-  لأنه روي عنه ع قال حب أبي بكر و عمر إيمان و بغضهما نفاق-  و من يورد مثل هذا فقصده الطعن في الإسلام-  و أن يتوهم الناس أن أصحاب النبي ص نافقوا-  مع مشاهدة الأعلام-  ليضعفوا دلالة العلم في النفوس- . قال و أما حديث الإحراق فلو صح لم يكن طعنا على عمر-  لأن له أن يهدد من امتنع من المبايعة-  إرادة للخلاف على المسلمين لكنه غير ثابت-  انتهى كلام قاضي القضاة- .

قال المرتضى نحن نبتدئ فندل على أن فاطمة ع-  ما ادعت من نحل فدك إلا ما كانت مصيبة فيه-  و إن مانعها و مطالبها بالبينة متعنت-  عادل عن الصواب-  لأنها لا تحتاج إلى شهادة و بينة-  ثم نعطف على ما ذكره على التفصيل فنتكلم عليه- . أما الذي يدل على ما ذكرناه-  فهو أنها كانت معصومة من الغلط-  مأمونا منها فعل القبيح-  و من هذه صفته لا يحتاج فيما يدعيه إلى شهادة و بينة فإن قيل دللوا على الأمرين قلنا بيان الأول قوله تعالى-  إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ-  وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً-  و الآية تتناول جماعة منهم فاطمةع-  بما تواترت الأخبار في ذلك-  و الإرادة هاهنا دلالة على وقوع الفعل للمراد-  و أيضا فيدل على ذلك قوله ع فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني-  و من آذاني فقد آذى الله عز و جل-  و هذا يدل على عصمتها-  لأنها لو كانت ممن تقارف الذنوب-  لم يكن من يؤذيها مؤذيا له على كل حال-  بل كان متى فعل المستحق من ذمها أو إقامة الحد عليها-  إن كان الفعل يقتضيه سارا له و مطيعا-  على أنا لا نحتاج أن ننبه هذا الموضع-  على الدلالة على عصمتها-  بل يكفي في هذا الموضع العلم بصدقها فيما ادعته-  و هذا لا خلاف فيه بين المسلمين-  لأن أحدا لا يشك أنها لم تدع ما ادعته كاذبة-  و ليس بعد ألا تكون كاذبة إلا أن تكون صادقة-  و إنما اختلفوا في هل يجب مع العلم بصدقها-  تسلم ما ادعته بغير بينة أم لا يجب ذلك- 

قال الذي يدل على الفصل الثاني-  أن البينة إنما تراد ليغلب في الظن صدق المدعي-  أ لا ترى أن العدالة معتبرة في الشهادات-  لما كانت مؤثرة في غلبة الظن لما ذكرناه-  و لهذا جاز أن يحكم الحاكم بعلمه من غير شهادة-  لأن علمه أقوى من الشهادة-  و لهذا كان الإقرار أقوى من البينة-  من حيث كان أغلب في تأثير غلبة الظن-  و إذا قدم الإقرار على الشهادة لقوة الظن عنده-  فأولى أن يقدم العلم على الجميع-  و إذا لم يحتج مع الإقرار إلى شهادة-  لسقوط حكم الضعيف مع القوي-  لا يحتاج أيضا مع العلم إلى ما يؤثر الظن-  من البينات و الشهادات- . و الذي يدل على صحة ما ذكرناه أيضا-  أنه لا خلاف بين أهل النقل-  في أن أعرابيا نازع النبي ص في ناقة-  فقال ع هذه لي و قد خرجت إليك من ثمنها-  فقال الأعرابي من يشهد لك بذلك-  فقال خزيمة بن ثابت أنا أشهد بذلك-  فقال النبي ص من أين علمت و ما حضرت ذلك-  قال لا و لكن علمت ذلك-  من حيث علمت أنك رسول الله-  فقال قد أجزت شهادتك و جعلتها شهادتين-  فسمي ذا الشهادتين- .

و هذه القصة شبيهة لقصة فاطمة ع-  لأن خزيمة اكتفى في العلم بأن الناقة له ص-  و شهد بذلك من حيث علم لأنه رسول الله ص-  و لا يقول إلا حقا و أمضى النبي ص ذلك له-  من حيث لم يحضر الابتياع و تسليم الثمن-  فقد كان يجب على من علم-  أن فاطمة ع لا تقول إلا حقا-  ألا يستظهر عليها بطلب شهادة أو بينة-  هذا و قد روي أن أبا بكر لما شهد أمير المؤمنين ع-  كتب بتسليم فدك إليها-  فاعترض عمر قضيته و خرق ما كتبه- .

 روى إبراهيم بن السعيد الثقفي عن إبراهيم بن ميمون قال حدثنا عيسى بن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب ع عن أبيه عن جده عن علي ع قال جاءت فاطمة ع إلى أبي بكر و قالت-  إن أبي أعطاني فدك و علي و أم أيمن يشهدان-  فقال ما كنت لتقولي على أبيك إلا الحق قد أعطيتكها-  و دعا بصحيفة من أدم فكتب لها فيها-  فخرجت فلقيت عمر-  فقال من أين جئت يا فاطمة-  قالت جئت من عند أبي بكر-  أخبرته أن رسول الله ص أعطاني فدك-  و أن عليا و أم أيمن يشهدان لي بذلك-  فأعطانيها و كتب لي بها-  فأخذ عمر منها الكتاب-  ثم رجع إلى أبي بكر فقال-  أعطيت فاطمة فدك و كتبت بها لها قال نعم-  فقال إن عليا يجر إلى نفسه-  و أم أيمن امرأة-  و بصق في الكتاب فمحاه و خرقه- .

و قد روي هذا المعنى من طرق مختلفة على وجوه مختلفة-  فمن أراد الوقوف عليها و استقصاءها-  أخذها من مواضعها- . و ليس لهم أن يقولوا إنها أخبار آحاد-  لأنها و إن كانت كذلك-  فأقل أحوالها أن توجب الظن-  و تمنع من القطع على خلاف معناها-  و ليس لهم أن يقولوا كيف يسلم إليها فدك-  و هو يروي عن الرسول أن ما خلفه صدقة-  و ذلك لأنه لا تنافي بين الأمرين-  لأنه إنما سلمها على ما وردت به الرواية-  على سبيل النحل-  فلما وقعت المطالبة بالميراث روى الخبر في معنى الميراث-  فلا اختلاف بين الأمرين- .

فأما إنكار صاحب الكتاب لكون فدك في يدها-  فما رأيناه اعتمد في إنكار ذلك على حجة-  بل قال لو كان ذلك في يدها لكان الظاهر أنها لها-  و الأمر على ما قال-  فمن أين أنه لم يخرج عن يدها-  على وجه يقتضي الظاهر خلافه-  و قد روي من طرق مختلفة-  غير طريق أبي سعيد الذي ذكره صاحب الكتاب-  أنه لما نزل قوله تعالى-  وَ آتِ ذَا الْقُرْبى‏ حَقَّهُ-  دعا النبي ص فاطمة ع فأعطاها فدك-  و إذا كان ذلك مرويا فلا معنى لدفعه بغير حجة- .

و قوله لا خلاف أن العمل على الدعوى لا يجوز صحيح-  و قد بينا أن قولها كان معلوما صحته-  و إنما قوله إنما يعمل على ذلك متى علم صحته بشهادة-  أو ما يجري مجراها-  أو حصلت بينة أو إقرار-  فيقال له إما علمت بمشاهدة فلم يكن هناك-  و إما بينة فقد كانت على الحقيقة-  لأن شهادة أمير المؤمنين ع-  من أكبر البينات و أعدلها-  و لكن على مذهبك أنه لم تكن هناك بينة-  فمن أين زعمت أنه لم يكن هناك علم-  و إن لم يكن عن مشاهدة-  فقد أدخلت ذلك في جملة الأقسام- .

فإن قال لأن قولها بمجرده لا يكون جهة للعلم-  قيل له لم قلت ذلك أو ليس قد دللنا على أنها معصومة-  و أن الخطأ مأمون عليها ثم لو لم يكن كذلك-  لكان قولها في تلك القضية معلوما صحته على كل حال-  لأنها لو لم تكن مصيبة لكانت مبطلة عاصية فيما ادعته-  إذ الشبهة لا تدخل في مثله-  و قد أجمعت الأمة-  على أنها لم يظهر منها بعد رسول الله ص معصية-  بلا شك و ارتياب-  بل أجمعوا على أنها لم تدع إلا الصحيح-  و إن اختلفوا فمن قائل يقول مانعها مخطئ-  و آخر يقول هو أيضا مصيب-  لفقد البينة و إن علم صدقها- . و أما قوله إنه لو حاكم غيره لطولب بالبينة-  فقد تقدم في هذا المعنى ما يكفي-  و قصة خزيمة بن ثابت-  و قبول شهادته تبطل هذا الكلام- .

و أما قوله إن أمير المؤمنين ع حاكم يهوديا-  على الوجه الواجب في سائر الناس-  فقد روي ذلك إلا أن أمير المؤمنين لم يفعل من ذلك-  ما كان يجب عليه أن يفعله-  و إنما تبرع به و استظهر بإقامة الحجة فيه-  و قد أخطأ من طالبه ببينة كائنا من كان-  فأما اعتراضه بأم سلمة-  فلم يثبت من عصمتها ما ثبت من عصمة فاطمة ع-  فلذلك احتاجت في دعواها إلى بينة-  فأما إنكاره و ادعاؤه أنه لم يثبت-  أن الشاهد في ذلك كان أمير المؤمنين-  فلم يزد في ذلك إلا مجرد الدعوى و الإنكار-  و الأخبار مستفيضة بأنه ع شهد لها-  فدفع ذلك بالزيغ لا يغني شيئا-  و قوله إن الشاهد لها مولى لرسول الله ص-  هو المنكر الذي ليس بمعروف- .

و أما قوله-  إنها جوزت أن يحكم أبو بكر بالشاهد و اليمين فطريف-  مع قوله فيما بعد إن التركة صدقة و لا خصم فيها-  فتدخل اليمين في مثلها-  أ فترى أن فاطمة لم تكن تعلم من الشريعة هذا المقدار-  الذي نبه صاحب الكتاب عليه-  و لو لم تعلمه ما كان أمير المؤمنين ع-  و هو أعلم الناس بالشريعة يوافقها عليه- .

و قوله إنها جوزت عند شهادة من شهد لها-  أن يتذكر غيرهم فيشهد باطل-  لأن مثلها لا يتعرض للظنة و التهمة-  و يعرض قوله للرد-  و قد كان يجب أن تعلم من يشهد لها ممن لا يشهد-  حتى تكون دعواها على الوجه-  الذي يجب معه القبول و الإمضاء-  و من هو دونها في الرتبة و الجلالة-  و الصيانة من أفناء الناس-  لا يتعرض لمثل هذه الخطة و يتورطها-  للتجويز الذي لا أصل له و لا أمارة عليه- . فأما إنكار أبي علي-  لأن يكون النحل قبل ادعاء الميراث-  و عكسه الأمر فيه-  فأول ما فيه أنا لا نعرف له غرضا صحيحا في إنكار ذلك-  لأن كون أحد الأمرين قبل الآخر-  لا يصحح له مذهبا-  فلا يفسد على مخالفه مذهبا- .

ثم إن الأمر في أن الكلام في النحل كان المتقدم ظاهرا-  و الروايات كلها به واردة-  و كيف يجوز أن تبتدئ بطلب الميراث-  فيما تدعيه بعينه نحلا-  أ و ليس هذا يوجب أن تكون قد طالبت بحقها-  من وجه لا تستحقه منه مع الاختيار-  و كيف يجوز ذلك و الميراث يشركها فيه غيرها-  و النحل تنفرد به-  و لا ينقلب مثل ذلك علينا-  من حيث طالبت بالميراث بعد النحل-  لأنها في الابتداء طالبت بالنحل-  و هو الوجه الذي تستحق فدك منه-  فلما دفعت عنه طالبت ضرورة بالميراث-  لأن للمدفوع عن حقه-  أن يتوصل إلى تناوله بكل وجه و سبب-  و هذا بخلاف قول أبي علي-  لأنه أضاف إليها ادعاء الحق من وجه لا تستحقه منه و هي مختارة- .

و أما إنكاره أن يكون عمر بن عبد العزيز-  رد فدك على وجه النحل-  و ادعاؤه أنه فعل في ذلك ما فعله عمر بن الخطاب-  من إقرارها في يد أمير المؤمنين ع-  ليصرف غلاتها في وجوهها-  فأول ما فيه أنا لا نحتج عليه بفعل عمر بن عبد العزيز-  على أي وجه وقع-  لأن فعله ليس بحجة-  و لو أردنا الاحتجاج بهذا الجنس من الحجج-  لذكرنا فعل المأمون-  فإنه رد فدك بعد أن جلس مجلسا مشهورا-  حكم فيه بين خصمين نصبهما-  أحدهما لفاطمة و الآخر لأبي بكر-  و ردها بعد قيام الحجة و وضوح الأمر و مع ذلك فإنه قد أنكر من فعل عمر بن عبد العزيز-  ما هو معروف مشهور بلا خلاف بين أهل النقل فيه-  و قد روى محمد بن زكريا الغلابي عن شيوخه-  عن أبي المقدام هشام بن زياد مولى آل عثمان- 

قال لما ولي عمر بن عبد العزيز رد فدك على ولد فاطمة-  و كتب إلى واليه على المدينة-  أبي بكر بن عمرو بن حزم يأمره بذلك-  فكتب إليه إن فاطمة قد ولدت في آل عثمان-  و آل فلان و فلان فعلى من أرد منهم-  فكتب إليه أما-  بعد فإني لو كتبت إليك-  آمرك أن تذبح شاة لكتبت إلي أ جماء أم قرناء-  أو كتبت إليك أن تذبح بقرة لسألتني ما لونها-  فإذا ورد عليك كتابي هذا فاقسمها في ولد فاطمة ع-  من علي ع و السلام- . قال أبو المقدام فنقمت بنو أمية ذلك-  على عمر بن عبد العزيز و عاتبوه فيه-  و قالوا له هجنت فعل الشيخين-  و خرج إليه عمر بن قيس في جماعة من أهل الكوفة-  فلما عاتبوه على فعله قال-  إنكم جهلتم و علمت و نسيتم و ذكرت-  إن أبا بكر محمد بن عمرو بن حزم حدثني عن أبيه عن جده-  أن رسول الله ص قال فاطمة بضعة مني يسخطها ما يسخطني-  و يرضيني ما أرضاها-  و إن فدك كان صافية على عهد أبي بكر و عمر- 

ثم صار أمرها إلى مروان-  فوهبها لعبد العزيز أبي-  فورثتها أنا و إخوتي عنه-  فسألتهم أن يبيعوني حصتهم منها-  فمن بائع و واهب حتى استجمعت لي-  فرأيت أن أردها على ولد فاطمة-  قالوا فإن أبيت إلا هذا فأمسك الأصل-  و اقسم الغلة ففعل- . و أما ما ذكره من ترك أمير المؤمنين ع فدك-  لما أفضى الأمر إليه-  و استدلاله بذلك على أنه لم يكن الشاهد فيها-  فالوجه في تركه ع رد فدك-  هو الوجه في إقراره‏ أحكام القوم-  و كفه عن نقضها و تغييرها و قد بينا ذلك فيما سبق-  و ذكرنا أنه كان في انتهاء الأمر إليه-  في بقية من التقية قوية- . فأما استدلاله على أن حجر أزواج النبي ص-  كانت لهن بقوله تعالى-  وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ-  فمن عجيب الاستدلال-  لأن هذه الإضافة لا تقتضي الملك-  بل العادة جارية فيها أن تستعمل من جهة السكنى-  و لهذا يقال هذا بيت فلان و مسكنه-  و لا يراد بذلك الملك و قد قال تعالى-  لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَ لا يَخْرُجْنَ-  إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ-  و لا شبهة في أنه تعالى-  أراد منازل الرجال التي يسكنون فيها زوجاتهم-  و لم يرد بهذه الإضافة الملك- . فأما ما رواه من أن رسول الله ص-  قسم حجره على نسائه و بناته-  فمن أين له إذا كان الخبر صحيحا-  أن هذه القسمة على وجه التمليك-  دون الإسكان و الإنزال-  و لو كان قد ملكهن ذلك-  لوجب أن يكون ظاهرا مشهورا- . فأما الوجه في ترك أمير المؤمنين لما صار الأمر إليه في يده-  منازعة الأزواج في هذه الحجر فهو ما تقدم و تكرر- .

و أما قوله إن أبا بكر هو الذي صلى على فاطمة و كبر أربعا-  و إن كثيرا من الفقهاء-  يستدلون به في التكبير على الميت-  و هو شي‏ء ما سمع إلا منه-  و إن كان تلقاه عن غيره فممن يجري مجراه في العصبية-  و إلا فالروايات المشهورة و كتب الآثار و السير-  خالية من ذلك-  و لم يختلف أهل النقل-  في أن عليا ع هو الذي صلى على فاطمة-  إلا رواية نادرة شاذة-  وردت بأن العباس رحمه الله صلى عليها- . و روى الواقدي بإسناده في تاريخه عن الزهري-  قال سألت ابن عباس-متى دفنتم فاطمة ع-  قال دفناها بليل بعد هدأة-  قال قلت فمن صلى عليها قال علي- . و روى الطبري عن الحارث بن أبي أسامة-  عن المدائني عن أبي زكريا العجلاني-  أن فاطمة ع عمل لها نعش قبل وفاتها-  فنظرت إليه فقالت سترتموني ستركما الله- .

قال أبو جعفر محمد بن جرير-  و الثبت في ذلك أنها زينب لأن فاطمة دفنت ليلا-  و لم يحضرها إلا علي و العباس و المقداد و الزبير- . و روى القاضي أبو بكر أحمد بن كامل-  بإسناده في تاريخه عن الزهري-  قال حدثني عروة بن الزبير أن عائشة أخبرته-  أن فاطمة عاشت بعد رسول الله ص ستة أشهر-  فلما توفيت دفنها علي ليلا و صلى عليها-  و ذكر في كتابه هذا-  أن عليا و الحسن و الحسين ع دفنوها ليلا-  و غيبوا قبرها- . و روى سفيان بن عيينة-  عن عمرو بن عبيد عن الحسن بن محمد بن الحنفية-  أن فاطمة دفنت ليلا- . و روى عبد الله بن أبي شيبة عن يحيى بن سعيد القطان-  عن معمر عن الزهري مثل ذلك- .

و قال البلاذري في تاريخه-  إن فاطمة ع لم تر متبسمة بعد وفاة النبي ص-  و لم يعلم أبو بكر و عمر بموتها- . و الأمر في هذا أوضح و أشهر-  من أن نطنب في الاستشهاد عليه-  و نذكر الروايات فيه-فأما قوله و لا يصح أنها دفنت ليلا و إن صح-  فقد دفن فلان و فلان ليلا-  فقد بينا أن دفنها ليلا في الصحة أظهر من الشمس-  و أن منكر ذلك كالدافع للمشاهدات-  و لم يجعل دفنها ليلا بمجرده هو الحجة-  ليقال لقد دفن فلان و فلان ليلا-  بل يقع الاحتجاج بذلك-  على ما وردت به الروايات المستفيضة الظاهرة التي هي كالتواتر-  أنها أوصت بأن تدفن ليلا-  حتى لا يصلي الرجلان عليها-  و صرحت بذلك و عهدت فيه عهدا-  بعد أن كانا استأذنا عليها في مرضها ليعوداها-  فأبت أن تأذن لهما-  فلما طالت عليهما المدافعة-  رغبا إلى أمير المؤمنين ع في أن يستأذن لهما-  و جعلاها حاجة إليه-  و كلمها ع في ذلك و ألح عليها-  فأذنت لهما في الدخول-  ثم أعرضت عنهما عند دخولهما و لم تكلمهما-  فلما خرجا قالت لأمير المؤمنين ع-  هل صنعت ما أردت قال نعم-  قالت فهل أنت صانع ما آمرك به قال نعم-  قالت فإني أنشدك الله-  ألا يصليا على جنازتي و لا يقوما على قبري- .

و روى أنه عفى قبرها و علم عليه-  و رش أربعين قبرا في البقيع-  و لم يرش قبرها حتى لا يهتدى إليه-  و أنهما عاتباه على ترك إعلامهما بشأنها-  و إحضارهما الصلاة عليها-  فمن هاهنا احتججنا بالدفن ليلا-  و لو كان ليس غير الدفن بالليل-  من غير ما تقدم عليه و ما تأخر عنه-  لم يكن فيه حجة- .

و أما حكايته عن أبي علي إنكار ضرب الرجل لها-  و قوله إن جعفر بن محمد و أباه و جده كانوا يتولونهما-  فكيف لا ينكر أبو علي ذلك-  و اعتقاده فيهما اعتقاده-  و قد كنا نظن أن مخالفينا يقتنعون-  أن ينسبوا إلى أئمتنا الكف عن القوم و الإمساك-  و ما ظننا أنهم يحملون أنفسهم-  على أن ينسبوا إليهم الثناء و الولاء-و قد علم كل أحد أن أصحاب هؤلاء السادة المختصين بهم-  قد رووا عنهم ضد ما روى شعبة بن الحجاج و فلان و فلان-  و قولهم هما أول من ظلمنا حقنا و حمل الناس على رقابنا-  و قولهم أنهما أصفيا بإنائنا و اضطجعا بسبلنا-  و جلسا مجلسا نحن أحق به منهما-  إلى غير ذلك من فنون التظلم و الشكاية-  و هو طويل متسع-  و من أراد استقصاء ذلك فلينظر في كتاب المعرفة-  لأبي إسحاق إبراهيم بن سعيد الثقفي-  فإنه قد ذكر عن رجل من أهل البيت-  بالأسانيد النيرة ما لا زيادة عليه-  ثم لو صح ما ذكره شعبة لجاز أن يحمل على التقية- . و أما ذكره إسرافيل و ميكائيل-  فما كنا نظن أن مثله يذكر ذلك-  و هذا من أقوال الغلاة-  الذين ضلوا في أمير المؤمنين ع و أهل البيت-  و ليسوا من الشيعة و لا من المسلمين-  فأي عيب علينا فيما يقولونه-  ثم إن جماعة من مخالفينا قد غلوا في أبي بكر و عمر-  و رووا روايات مختلفة فيهما-  تجري مجرى ما ذكره في الشناعة-  و لا يلزم العقلاء و ذوي الألباب من المخالفين عيب من ذلك- . و أما معارضة ما روي في فاطمة ع-  بما روي في أن حبهما إيمان و بغضهما نفاق-  فالخبر الذي رويناه مجمع عليه-  و الخبر الآخر مطعون فيه-  فكيف يعارض ذلك بهذا- .

و أما قوله إنما قصد من يورد هذه الأخبار-  تضعيف دلالة الأعلام في النفوس-  من حيث أضاف النفاق إلى من شاهدها-  فتشنيع في غير موضعه-  و استناد إلى ما لا يجدي نفعا-  لأن من شاهد الأعلام لا يضعفها و لا يوهن دليلها-  و لا يقدح في كونها حجة-  لأن الأعلام ليست ملجئة إلى العلم-  و لا موجبة لحصوله على كل حال-  و إنما تثمر العلم لمن أمعن النظر فيها-  من الوجه الذي تدل منه-  فمن عدل عن ذلك لسوء اختياره-  لا يكون‏ عدوله مؤثرا في دلالتها-  فكم قد عدل من العقلاء و ذوي الأحلام الراجحة-  و الألباب الصحيحة عن تأمل هذه الأعلام و إصابة الحق منها-  و لم يكن ذلك عندنا و عند صاحب الكتاب-  قادحا في دلالة الأعلام-  على أن هذا القول يوجب أن ينفي الشك و النفاق-  عن كل من صحب النبي ص-  و عاصره و شاهد أعلامه كأبي سفيان و ابنه-  و عمرو بن العاص و فلان و فلان-  ممن قد اشتهر نفاقهم و ظهر شكهم في الدين-  و ارتيابهم باتفاق بيننا و بينه-  و إن كانت إضافة النفاق إلى هؤلاء-  لا تقدح في دلالة الأعلام فكذلك القول في غيرهم- . فأما قوله إن حديث الإحراق لم يصح-  و لو صح لساغ لعمر مثل ذلك-  فقد بينا أن خبر الإحراق قد رواه غير الشيعة- .

و قوله إنه يسوغ مثل ذلك-  فكيف يسوغ إحراق بيت علي و فاطمة ع-  و هل في ذلك عذر يصغى إليه أو يسمع-  و إنما يكون علي و أصحابه خارقين للإجماع-  و مخالفين للمسلمين-  لو كان الإجماع قد تقرر و ثبت-  و ليس بمتقرر و لا ثابت مع خلاف علي وحده-  فضلا عن أن يوافقه على ذلك غيره-  و بعد فلا فرق بين أن يهدد بالإحراق لهذه العلة-  و بين أن يضرب فاطمة ع لمثلها-  فإن إحراق المنازل أعظم من ضرب سوط أو سوطين-  فلا وجه لامتعاض المخالف من حديث الضرب-  إذا كان عنده مثل هذا الاعتذار قلت أما الكلام في عصمة فاطمة ع-  فهو بفن الكلام أشبه-  و للقول فيه موضع غير هذا- .

و أما قول المرتضى-  إذا كانت صادقة لم يبق حاجة إلى من يشهد لها-  فلقائل أن‏يقول لم قلت ذلك-  و لم زعمت أن الحاجة إلى البينة-  إنما كانت لزيادة غلبة الظن-  و لم لا يجوز أن يكون الله تعالى يعبد بالبينة-  لمصلحة يعلمها-  و إن كان المدعي لا يكذب-  أ ليس قد تعبد الله تعالى بالعدة في العجوز-  التي قد أيست من الحمل-  و إن كان أصل وضعها لاستبراء الرحم- . و أما قصة خزيمة بن ثابت-  فيجوز أن يكون الله تعالى قد علم-  أن مصلحة المكلفين في تلك الصورة-  أن يكتفى بدعوى النبي ص وحدها-  و يستغنى فيها عن الشهادة- . و لا يمتنع أن يكون غير تلك الصورة مخالفا لها-  و إن كان المدعي لا يكذب-  و يبين ذلك أن مذهب المرتضى-  جواز ظهور خوارق العادات على أيدي الأئمة و الصالحين-  و لو قدرنا أن واحدا من أهل الصلاح و الخير ادعى دعوى-  و قال بحضرة جماعة من الناس من جملتهم القاضي-  اللهم إن كنت صادقا فأظهر علي معجزة خارقة للعادة-  فظهرت عليه لعلمنا أنه صادق-  و مع ذلك لا تقبل دعواه إلا ببينة- . و سألت علي بن الفارقي مدرس المدرسة الغربية ببغداد-  فقلت له أ كانت فاطمة صادقة قال نعم-  قلت فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدك و هي عنده صادقة-  فتبسم ثم قال كلاما لطيفا مستحسنا-  مع ناموسه و حرمته و قلة دعابته-  قال لو أعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها-  لجاءت إليه غدا و ادعت لزوجها الخلافة-  و زحزحته عن مقامه-  و لم يكن يمكنه الاعتذار و الموافقة بشي‏ء-  لأنه يكون قد أسجل على نفسه أنها صادقة فيها تدعي-  كائنا ما كان من غير حاجة إلى بينة و لا شهود-  و هذا كلام صحيح-  و إن كان أخرجه مخرج الدعابة و الهزل- .

فأما قول قاضي القضاة-  لو كان في يدها لكان الظاهر أنها لها-  و اعتراض المرتضى عليه بقوله-  إنه لم يعتمد في إنكار ذلك على حجة-  بل قال لو كانت في يدها لكان الظاهر إنها لها-  و الأمر على ما قال-  فمن أين أنها لم تخرج عن يدها على وجه-  كما أن الظاهر يقتضي خلافه-  فإنه لم يجب عما ذكره قاضي القضاة-  لأن معنى قوله إنها لو كانت في يدها أي متصرفة فيها-  لكانت اليد حجة في الملكية-  لأن اليد و التصرف حجة لا محالة-  فلو كانت في يدها تتصرف فيها و في ارتفاقها-  كما يتصرف الناس في ضياعهم و أملاكهم-  لما احتاجت إلى الاحتجاج بآية الميراث-  و لا بدعوى النحل لأن اليد حجة-  فهلا قالت لأبي بكر هذه الأرض في يدي-  و لا يجوز انتزاعها مني إلا بحجة-  و حينئذ كان يسقط احتجاج أبي بكر بقوله-  نحن معاشر الأنبياء لا نورث-  لأنها ما تكون قد ادعتها ميراثا ليحتج عليها بالخبر-  و خبر أبي سعيد في قوله فأعطاها فدك-  يدل على الهبة لا على القبض و التصرف-  و لأنه يقال أعطاني فلان كذا فلم أقبضه-  و لو كان الإعطاء هو القبض و التصرف-  لكان هذا الكلام متناقضا- .

فأما تعجب المرتضى من قول أبي علي-  إن دعوى الإرث كانت متقدمة على دعوى النحل-  و قوله إنا لا نعرف له غرضا في ذلك-  فإنه لا يصح له بذلك مذهب-  و لا يبطل على مخالفيه مذهب-  فإن المرتضى لم يقف على مراد الشيخ أبي علي في ذلك-  و هذا شي‏ء يرجع إلى أصول الفقه-  فإن أصحابنا استدلوا-  على جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد بإجماع الصحابة-  لأنهم أجمعوا على تخصيص قوله تعالى-  يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ

 برواية أبي بكر عن النبي ص لا نورث ما تركناه صدقة

–  قالوا و الصحيح في الخبر أن فاطمة ع-  طالبت بعد ذلك بالنحل لا بالميراث-  فلهذا قال الشيخ أبو علي-  إن دعوى الميراث تقدمت على دعوى النحل-  و ذلك لأنه ثبت أن فاطمة-  انصرفت عن ذلك المجلس غير راضية و لا موافقة لأبي بكر-  فلو كانت دعوى الإرث متأخرة-  و انصرفت عن سخط-  لم يثبت الإجماع على تخصيص الكتاب بخبر الواحد-  أما إذا كانت دعوى الإرث متقدمة فلما روى لها الخبر-  أمسكت و انتقلت إلى النزاع من جهة أخرى-  فإنه يصح حينئذ الاستدلال بالإجماع-  على تخصيص الكتاب بخبر الواحد- .

فأما أنا فإن الأخبار عندي متعارضة-  يدل بعضها على أن دعوى الإرث متأخرة-  و يدل بعضها على أنها متقدمة-  و أنا في هذا الموضع متوقف- . و ما ذكره المرتضى من أن الحال تقتضي-  أن تكون البداية بدعوى النحل فصحيح-  و أما إخفاء القبر و كتمان الموت و عدم الصلاة-  و كل ما ذكره المرتضى فيه فهو الذي يظهر و يقوى عندي-  لأن الروايات به أكثر و أصح من غيرها-  و كذلك القول في موجدتها و غضبها-  فأما المنقول عن رجال أهل البيت فإنه يختلف-  فتارة و تارة و على كل حال-  فميل أهل البيت إلى ما فيه نصرة أبيهم و بيتهم- .

و قد أخل قاضي القضاة بلفظة حكاها عن الشيعة-  فلم يتكلم عليها و هي لفظة جيدة-  قال قد كان الأجمل أن يمنعهم التكرم-  مما ارتكبا منها فضلا عن الدين-  و هذا الكلام لا جواب عنه-  و لقد كان التكرم و رعاية حق رسول الله ص-  و حفظ عهده يقتضي أن تعوض ابنته بشي‏ء يرضيها-  إن لم يستنزل المسلمون عن فدك-  و تسلم إليها تطييبا لقلبها-  و قد يسوغ للإمام أن يفعل ذلك-  من غير مشاورة المسلمين إذا رأى المصلحة فيه-  و قد بعد العهد الآن بيننا و بينهم-  و لا نعلم حقيقة ما كان و إلى الله نرجع الأمور

وَ لَوْ شِئْتُ لَاهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ إِلَى مُصَفَّى هَذَا الْعَسَلِ-  وَ لُبَابِ هَذَا الْقَمْحِ وَ نَسَائِجِ هَذَا الْقَزِّ-  وَ لَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ-  وَ يَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الْأَطْعِمَةِ-  وَ لَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ بِالْيَمَامَةِ مَنْ لَا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ-  وَ لَا عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ-  أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَ حَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى-  وَ أَكْبَادٌ حَرَّى أَوْ أَكُونَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ- 

وَ حَسْبُكَ عَاراً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَةٍ
وَ حَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلَى الْقِدِّ

أَ أَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ-  هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ-  وَ لَا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ-  أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ-  فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ-  كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا-  أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا-  تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلَافِهَا وَ تَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا-  أَوْ أُتْرَكَ سُدًى أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً-  أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ الضَّلَالَةِ أَوْ أَعْتَسِفَ طَرِيقَ الْمَتَاهَةِ قد روي و لو شئت لاهتديت إلى هذا العسل المصفى-  و لباب هذا البر المنقى فضربت هذا بذاك-  حتى ينضج وقودا و يستحكم معقودا- .

و روي و لعل بالمدينة يتيما تربا يتضور سغبا-  أ أبيت مبطانا و حولي بطون غرثى-  إذن يحضرني يوم القيامة و هم من ذكر و أنثى- . و روي بطون غرثى-  بإضافة بطون إلى غرثى- . و القمح الحنطة- . و الجشع أشد الحرص- . و المبطان الذي لا يزال عظيم البطن من كثرة الأكل-  فأما المبطن فالضامر البطن-  و أما البطين فالعظيم البطن لا من الأكل-  و أما البطن فهو الذي لا يهمه إلا بطنه-  و أما المبطون فالعليل البطن-  و بطون غرثى جائعة و البطنة الكظة-  و ذلك أن يمتلئ الإنسان من الطعام امتلاء شديدا-  و كان يقال ينبغي للإنسان أن يجعل وعاء بطنه أثلاثا-  فثلث للطعام و ثلث للشراب و ثلث للنفس- .

 

و التقمم أكل الشاة ما بين يديها بمقمتها أي بشفتها-  و كل ذي ظلف كالثور و غيره فهو ذو مقمة- . و تكترش من أعلافها تملأ كرشها من العلف- . قوله أو أجر حبل الضلالة-  منصوب بالعطف على يشغلني-  و كذلك أترك و يقال أجررته رسنه إذا أهملته- . و الاعتساف السلوك في غير طريق واضح- . و المتاهة الأرض يتاه فيها أي يتحير- . و في قوله لو شئت لاهتديت-  شبه من قول عمر-  لو نشاء لملأنا هذا الرحاب من صلائق و صناب-  و قد ذكرناه فيما تقدم- . و هذا البيت من أبيات منسوبة-  إلى حاتم بن عبد الله الطائي الجواد و أولها- 

   أيا ابنة عبد الله و ابنة مالك
و يا ابنة ذي الجدين و الفرس الورد

إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له‏
أكيلا فإني لست آكله وحدي‏

قصيا بعيدا أو قريبا فإنني
أخاف مذمات الأحاديث من بعدي‏

كفى بك عارا أن تبيت ببطنة
و حولك أكباد تحن إلى القد

و إني لعبد الضيف ما دام نازلا
و ما من خلالي غيرها شيمة العبد

وَ كَأَنِّي بِقَائِلِكُمْ يَقُولُ-  إِذَا كَانَ هَذَا قُوتَ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ-  فَقَدْ قَعَدَ بِهِ الضَّعْفُ عَنْ قِتَالِ الْأَقْرَانِ-  وَ مُنَازَلَةِ الشُّجْعَانِ-  أَلَا وَ إِنَّ الشَّجَرَةَ الْبَرِّيَّةَ أَصْلَبُ عُوداً-  وَ الرَّوَاتِعَ الْخَضِرَةَ أَرَقُّ جُلُوداً-  وَ النَّابِتَاتِ الْعِذْيَةَ أَقْوَى وَقُوداً وَ أَبْطَأُ خُمُوداً- . وَ أَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ كَالضَّوْءِ مِنَ الضَّوْءِ-  وَ الذِّرَاعِ مِنَ الْعَضُدِ-  وَ اللَّهِ لَوْ تَظَاهَرَتِ الْعَرَبُ عَلَى قِتَالِي لَمَا وَلَّيْتُ عَنْهَا-  وَ لَوْ أَمْكَنَتِ الْفُرَصُ مِنْ رِقَابِهَا لَسَارَعْتُ إِلَيْهَا-  وَ سَأَجْهَدُ فِي أَنْ أُطَهِّرَ الْأَرْضَ مِنْ هَذَا الشَّخْصِ الْمَعْكُوسِ-  وَ الْجِسْمِ الْمَرْكُوسِ-  حَتَّى تَخْرُجَ الْمَدَرَةُ مِنْ بَيْنِ حَبِّ الْحَصِيدِ الشجرة البرية التي تنبت في البر الذي لا ماء فيه-  فهي أصلب عودا من الشجرة التي تنبت في الأرض الندية-  و إليه وقعت الإشارة بقوله-  و الرواتع الخضرة أرق جلودا- .

ثم قال و النابتات العذية التي تنبت عذيا-  و العذي بسكون الذال الزرع لا يسقيه إلا ماء المطر-  و هو يكون أقل أخذا من الماء من النبت سقيا-  قال ع إنها تكون أقوى وقودا-  مما يشرب الماء السائح أو ماء الناضح-  و أبطأ خمودا و ذلك لصلابة جرمها- . ثم قال و أنا من رسول الله ص-  كالضوء من الضوء و الذراع من العضد-و ذلك لأن الضوء الأول يكون علة في الضوء الثاني-  أ لا ترى أن الهواء المقابل للشمس-  يصير مضيئا من الشمس-  فهذا الضوء هو الضوء الأول ثم إنه يقابل وجه الأرض فيضي‏ء وجه الأرض منه-  فالضوء الذي على وجه الأرض هو الضوء الثاني-  و ما دام الضوء الأول ضعيفا فالضوء الثاني ضعيف-  فإذا ازداد الجو إضاءة-  ازداد وجه الأرض إضاءة-  لأن المعلول يتبع العلة-  فشبه ع نفسه بالضوء الثاني-  و شبه رسول الله ص بالضوء الأول-  و شبه منبع الأضواء و الأنوار سبحانه-  و جلت أسماؤه بالشمس التي توجب الضوء الأول-  ثم الضوء الأول يوجب الضوء الثاني-  و هاهنا نكتة-  و هي أن الضوء الثاني يكون أيضا علة لضوء ثالث-  و ذلك أن الضوء الحاصل على وجه الأرض-  و هو الضوء الثاني-  إذا أشرق على جدار مقابل ذلك الجدار-  قريبا منه مكان مظلم-  فإن ذلك المكان يصير مضيئا بعد أن كان مظلما-  و إن كان لذلك المكان المظلم باب-  و كان داخل البيت مقابل ذلك الباب جدار-  كان ذلك الجدار أشد إضاءة من باقي البيت-  ثم ذلك الجدار إن كان فيه ثقب إلى موضع آخر-  كان ما يحاذي ذلك البيت-  أشد إضاءة مما حواليه-  و هكذا لا تزال الأضواء-  يوجب بعضها بعضا على وجه الانعكاس بطريق العلية-  و بشرط المقابلة و لا تزال تضعف درجة درجة-  إلى أن تضمحل و يعود الأمر إلى الظلمة-  و هكذا عالم العلوم-  و الحكم المأخوذة من أمير المؤمنين ع-  لا تزال تضعف كما انتقلت من قوم إلى قوم-  إلى أن يعود الإسلام غريبا كما بدأ-  بموجب الخبر النبوي الوارد في الصحاح- . و أما قوله و الذراع من العضد-  فلأن الذراع فرع على العضد و العضد أصل-  أ لا ترى أنه لا يمكن أن يكون ذراع إلا إذا كان عضد-  و يمكن أن يكون عضد لا ذراع له-  و لهذا قال الراجز لولده- 

يا بكر بكرين و يا خلب الكبد
أصبحت مني كذراع من عضد

 

فشبه ع بالنسبة إلى رسول الله ص بالذراع-  الذي العضد أصله و أسه-  و المراد من هذا التشبيه-  الإبابة عن شدة الامتزاج و الاتحاد و القرب بينهما-  فإن الضوء الثاني شبيه بالضوء الأول-  و الذراع متصل بالعضد اتصالا بينا-  و هذه المنزلة قد أعطاه إياها رسول الله ص-  في مقامات كثيرة نحو قوله في قصة براءة قد أمرت أن لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل منيو قولهلتنتهن يا بني وليعة-  أو لأبعثن إليكم رجلا مني-  أو قال عديل نفسي-  و قد سماه الكتاب العزيز نفسه-  فقال وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ و قد قال له لحمك مختلط بلحمي-  و دمك مسوط بدمي و شبرك و شبري واحد- .

فإن قلت أما قوله-  لو تظاهرت العرب علي لما وليت عنها فمعلوم-  فما الفائدة في قوله-  و لو أمكنت الفرصة من رقابها لسارعت إليها-  و هل هذا مما يفخر به الرؤساء و يعدونه منقبة-  و إنما المنقبة أن لو أمكنته الفرصة تجاوز و عفا- . قلت غرضه أن يقرر في نفوس أصحابه-  و غيرهم من العرب أنه يحارب على حق-  و أن حربه لأهل الشام كالجهاد أيام رسول الله ص-  و أن من يجاهد الكفار يجب عليه أن يغلظ عليهم-  و يستأصل شأفتهم-  أ لا ترى أن رسول الله ص لما جاهد بني قريظة-  و ظفر لم يبق و لم يعف-  و حصد في يوم واحد رقاب ألف إنسان صبرا في مقام واحد-  لما علم في ذلك من إعزاز الدين و إذلال المشركين-  فالعفو له مقام و الانتقام له مقام- .

قوله و سأجهد في أن أطهر الأرض-  الإشارة في هذا إلى معاوية-  سماه شخصا معكوسا و جسما مركوسا-  و المراد انعكاس عقيدته و أنها ليست عقيدة هدى-  بل هي معاكسة للحق و الصواب-  و سماه مركوسا من قولهم ارتكس في الضلال-  و الركس‏ رد الشي‏ء مقلوبا قال تعالى-  وَ اللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أي قلبهم-  و ردهم إلى كفرهم-  فلما كان تاركا للفطرة التي كل مولود يولد عليها-  كان مرتكسا في ضلالة-  و أصحاب التناسخ يفسرون هذا بتفسير آخر-  قالوا الحيوان على ضربين منتصب و منحن-  فالمنتصب الإنسان-  و المنحني ما كان رأسه منكوسا إلى جهة الأرض-  كالبهائم و السباع- .

قالوا و إلى ذلك وقعت الإشارة بقوله-  أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى‏ وَجْهِهِ أَهْدى‏-  أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ- . قالوا فأصحاب الشقاوة-  تنتقل أنفسهم عند الموت إلى الحيوان المكبوب-  و أصحاب السعادة تنتقل أنفسهم إلى الحيوان المنتصب-  و لما كان معاوية عنده ع من أهل الشقاوة-  سماه معكوسا و مركوسا رمزا إلى هذا المعنى- . قوله حتى تخرج المدرة من بين حب الحصيد-  أي حتى يتطهر الدين و أهله منه-  و ذلك لأن الزراع يجتهدون في إخراج المدر-  و الحجر و الشوك و العوسج و نحو ذلك-  من بين الزرع كي تفسد منابته-  فيفسد الحب الذي يخرج منه-  فشبه معاوية بالمدر و نحوه من مفسدات الحب-  و شبه الدين بالحب الذي هو ثمرة الزرع: وَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَ هُوَ آخِرُهُ-  إِلَيْكِ عَنِّي يَا دُنْيَا فَحَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ-  قَدِ انْسَلَلْتُ مِنْ مَخَالِبِكِ-  وَ أَفْلَتُّ مِنْ حَبَائِلِكِ-  وَ اجْتَنَبْتُ الذَّهَابَ فِي مَدَاحِضِكِ-أَيْنَ الْقُرُونُ الَّذِينَ غَرَرْتِهِمْ بِمَدَاعِبِكِ-  أَيْنَ الْأُمَمُ الَّذِينَ فَتَنْتِهِمْ بِزَخَارِفِكِ-  فَهَا هُمْ رَهَائِنُ الْقُبُورِ وَ مَضَامِينُ اللُّحُودِ-  وَ اللَّهِ لَوْ كُنْتِ شَخْصاً مَرْئِيّاً وَ قَالَباً حِسِّيّاً-  لَأَقَمْتُ عَلَيْكِ حُدُودَ اللَّهِ فِي عِبَادٍ غَرَرْتِهِمْ بِالْأَمَانِيِّ-  وَ أُمَمٍ أَلْقَيْتِهِمْ فِي الْمَهَاوِي-  وَ مُلُوكٍ أَسْلَمْتِهِمْ إِلَى التَّلَفِ-  وَ أَوْرَدْتِهِمْ مَوَارِدَ الْبَلَاءِ إِذْ لَا وِرْدَ وَ لَا صَدَرَ-  هَيْهَاتَ مَنْ وَطِئَ دَحْضَكِ زَلِقَ-  وَ مَنْ رَكِبَ لُجَجَكِ غَرِقَ-  وَ مَنِ ازْوَرَّ عَنْ حَبَائِلِكِ وُفِّقَ-  وَ السَّالِمُ مِنْكِ لَا يُبَالِي إِنْ ضَاقَ بِهِ مُنَاخُهُ-  وَ الدُّنْيَا عِنْدَهُ كَيَوْمَ حَانَ انْسِلَاخُهُ إليك عني أي ابعدي-  و حبلك على غاربك كناية من كنايات الطلاق-  أي اذهبي حيث شئت-  لأن الناقة إذا ألقي حبلها على غاربها-  فقد فسح لها أن ترعى حيث شاءت-  و تذهب أين شاءت لأنه إنما يردها زمامها-  فإذا ألقي حبلها على غاربها فقد أهملت- . و الغارب ما بين السنام و العنق-  و المداحض المزالق- . و قيل إن في النسخة التي بخط الرضي رضي الله عنه-  غررتيهم بالياء-  و كذلك فتنتيهم و ألقيتيهم-  و أسلمتيهم و أوردتيهم-  و الأحسن حذف الياء-  و إذا كانت الرواية وردت بها-  فهي من إشباع الكسرة كقوله- 

 أ لم يأتيك و الأنباء تنمي
بما فعلت لبون بني زياد

و مضامين اللحود أي الذين تضمنتهم-  و في الحديث نهى عن بيع المضامين و الملاقيح-  و هي ما في أصلاب الفحول و بطون الإناث- .ثم قال لو كنت أيتها الدنيا إنسانا محسوسا-  كالواحد من البشر لأقمت عليك الحد كما فعلت بالناس- . ثم شرح أفعالها فقال-  منهم من غررت-  و منهم من ألقيت في مهاوي الضلال و الكفر-  و منهم من أتلفت و أهلكت- . ثم قال و من وطئ دحضك زلق-  مكان دحض أي مزلة- . ثم قال لا يبالي من سلم منك إن ضاق مناخه-  لا يبالي بالفقر و لا بالمرض-  و لا بالحبوس و السجون و غير ذلك من أنواع المحن-  لأن هذا كله حقير لا اعتداد به-  في جنب السلامة من فتنة الدنيا- .

قال و الدنيا عند من قد سلم منها-  كيوم قرب انقضاؤه و فناؤه: اعْزُبِي عَنِّي فَوَاللَّهِ لَا أَذِلُّ لَكِ فَتَسْتَذِلِّينِي-  وَ لَا أَسْلَسُ لَكِ فَتَقُودِينِي-  وَ ايْمُ اللَّهِ يَمِيناً أَسْتَثْنِي فِيهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ-  لَأَرُوضَنَّ نَفْسِي رِيَاضَةً تَهِشُّ مَعَهَا إِلَى الْقُرْصِ-  إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهِ مَطْعُوماً-  وَ تَقْنَعُ بِالْمِلْحِ مَأْدُوماً-  وَ لَأَدَعَنَّ مُقْلَتِي كَعَيْنِ مَاءٍ نَضَبَ مَعِينُهَا-  مُسْتَفْرِغَةً دُمُوعَهَا-  أَ تَمْتَلِئُ السَّائِمَةُ مِنْ رِعْيِهَا فَتَبْرُكَ-  وَ تَشْبَعُ الرَّبِيضَةُ مِنْ عُشْبِهَا فَتَرْبِضَ-  وَ يَأْكُلُ عَلِيٌّ مِنْ زَادِهِ فَيَهْجَعَ-  قَرَّتْ إِذاً عَيْنُهُ إِذَا اقْتَدَى بَعْدَ السِّنِينَ الْمُتَطَاوِلَةِ-  بِالْبَهِيمَةِ الْهَامِلَةِ وَ السَّائِمَةِ الْمَرْعِيَّةِ-  طُوبَى لِنَفْسٍ أَدَّتْ إِلَى رَبِّهَا فَرْضَهَا-  وَ عَرَكَتْ بِجَنْبِهَا بُؤْسَهَا وَ هَجَرَتْ فِي‏ اللَّيْلِ غُمْضَهَا-  حَتَّى إِذَا غَلَبَ الْكَرَى عَلَيْهَا افْتَرَشَتْ أَرْضَهَا-  وَ تَوَسَّدَتْ كَفَّهَا-  فِي مَعْشَرٍ أَسْهَرَ عُيُونَهُمْ خَوْفُ مَعَادِهِمْ-  وَ تَجَافَتْ عَنْ مَضَاجِعِهِمْ جُنُوبُهُمْ-  وَ هَمْهَمَتْ بِذِكْرِ رَبِّهِمْ شِفَاهُهُمْ-  وَ تَقَشَّعَتْ بِطُولِ اسْتِغْفَارِهِمْ ذُنُوبُهُمْ-  أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ-  فَاتَّقِ اللَّهَ يَا ابْنَ حُنَيْفٍ وَ لْتَكْفُفْ أَقْرَاصُكَ-  لِيَكُونَ مِنَ النَّارِ خَلَاصُكَ اعزبي ابعدي يقال عزب الرجل بالفتح أي بعد-  و لا أسلس لك بفتح اللام أي لا أنقاد لك-  سلس الرجل بالكسر يسلس فهو بين السلس-  أي سهل قياده- .

ثم حلف و استثنى بالمشيئة أدبا-  كما أدب الله تعالى رسوله ص-  ليروضن نفسه أي يدربها بالجوع-  و الجوع هو أصل الرياضة عند الحكماء و أرباب الطريقة- . قال حتى أهش إلى القرص-  أي إلى الرغيف و أقنع من الإدام بالملح- . و نضب معينها فني ماؤها- . ثم أنكر على نفسه فقال-  أ تشبع السائمة من رعيها بكسر الراء-  و هو الكلأ و الربيضة-  جماعة من الغنم أو البقر تربض في أماكنها-  و أنا أيضا مثلها أشبع و أنام- . لقد قرت عيني إذا حيث أشابه البهائم-  بعد الجهاد و السبق و العبادة و العم و الجد في السنين المتطاولة- . قوله و عركت بجنبها بؤسها-  أي صبرت على بؤسها و المشقة التي تنالها-  يقال قد عرك فلان بجنبه الأذى-  أي أغضى عنه و صبر عليه- .

قوله افترشت أرضها-  أي لم يكن لها فراش إلا الأرض- . و توسدت كفها لم يكن لها وسادة إلا الكف- . و تجافت عن مضاجعهم جنوبهم-  لفظ الكتاب العزيز-  تَتَجافى‏ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ- . و همهمت تكلمت كلاما خفيا- . و تقشعت ذنوبهم-  زالت و ذهبت كما يتقشع السحاب- . قوله و لتكفف أقراصك-  إنما هو نهي لابن حنيف أن يكف عن الأقراص-  و إن كان اللفظ يقتضي أن تكف الأقراص عن ابن حنيف-  و قد رواها قوم بالنصب-  قالوا فاتق الله يا ابن حنيف و لتكفف أقراصك-  لترجو بها من النار خلاصك-  و التاء هاهنا للأمر عوض الياء-  و هي لغة لا بأس بها-  و قد قيل إن رسول الله ص قرأ-  فبذلك فلتفرحوا بالتاء

 

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 16

نامه 44 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

44 و من كتاب له ع إلى زياد بن أبيه

و قد بلغه أن معاوية كتب إليه يريد خديعته باستلحاقه- : وَ قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَيْكَ-  يَسْتَزِلُّ لُبَّكَ وَ يَسْتَفِلُّ غَرْبَكَ-  فَاحْذَرْهُ فَإِنَّمَا هُوَ الشَّيْطَانُ-  يَأْتِي الْمَرْءَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ-  وَ عَنْ يَمِينِهِ وَ عَنْ شِمَالِهِ-  لِيَقْتَحِمَ غَفْلَتَهُ وَ يَسْتَلِبَ غِرَّتَهُ-  وَ قَدْ كَانَ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَلْتَةٌ-  مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ-  وَ نَزْغَةٌ مِنْ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ-  لَا يَثْبُتُ بِهَا نَسَبٌ وَ لَا يُسْتَحَقُّ بِهَا إِرْثٌ-  وَ الْمُتَعَلِّقُ بِهَا كَالْوَاغِلِ الْمُدَفَّعِ وَ النَّوْطِ الْمُذَبْذَبِ-  فَلَمَّا قَرَأَ زِيَادٌ الْكِتَابَ قَالَ-  شَهِدَ بِهَا وَ رَبِّ الْكَعْبَةِ-  وَ لَمْ تَزَلْ فِي نَفْسِهِ حَتَّى ادَّعَاهُ مُعَاوِيَةُ

قال الرضي رحمه الله تعالى-  قوله ع الواغل-  هو الذي يهجم على الشرب-  ليشرب معهم و ليس منهم-  فلا يزال مدفعا محاجزا-  و النوط المذبذب هو ما يناط برحل الراكب-  من قعب أو قدح أو ما أشبه ذلك-  فهو أبدا يتقلقل إذا حث ظهره و استعجل سيره‏ يستزل لبك يطلب زلله و خطأه-  أي يحاول أن تزل-  و اللب العقل-  و يستفل غربك يحاول أن يفل حدك أي عزمك-  و هذا من باب المجاز-  ثم أمره أن يحذره و قال إنه يعني معاوية-  كالشيطان يأتي المرء من كذا و من كذا-  و هو مأخوذ من قول الله تعالى-  ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ-  وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ-  قالوا في تفسيره من بين أيديهم-  يطمعهم في العفو و يغريهم بالعصيان-  و من خلفهم يذكرهم مخلفيهم و يحسن لهم جمع المال و تركه لهم-  و عن أيمانهم يحبب إليهم الرئاسة و الثناء-  و عن شمائلهم يحبب إليهم اللهو و اللذات- .

و قال شقيق البلخي-  ما من صباح إلا قعد لي الشيطان على أربعة مراصد-  من بين يدي و من خلفي و عن يميني و عن شمالي-  أما من بين يدي فيقول-  لا تخف فإن الله غفور رحيم-  فأقرأ وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ-  وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى‏-  و أما من خلفي فيخوفني الضيعة على مخلفي-  فأقرأ وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها-  و أما من قبل يميني فيأتيني من جهة الثناء-  فأقرأ وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ-  و أما من قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات-  فأقرأ وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ- . فإن قلت لم لم يقل و من فوقهم و من تحتهم-

  قلت لأن جهة فوق جهة نزول الرحمة-  و مستقر الملائكة و مكان العرش-  و الأنوار الشريفة و لا سبيل له إليها-  و أما من جهة تحت فلأن الإتيان منها يوحش-  و ينفر عنه لأنها الجهة المعروفة بالشياطين-  فعدل عنها إلى ما هو أدعى إلى قبول وساوسه و أضاليله- . و قد فسر قوم المعنى الأول فقالوا-  مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ من جهة الدنيا-  و مِنْ خَلْفِهِمْ من جهة الآخرة-  و عَنْ أَيْمانِهِمْ الحسنات-  و عَنْ شَمائِلِهِمْ أي يحثهم على طلب الدنيا-  و يؤيسهم من الآخرة و يثبطهم عن الحسنات-  و يغريهم بالسيئات- .

قوله ليقتحم غفلته أي ليلج و يهجم عليه و هو غافل-  جعل اقتحامه إياه-  اقتحاما للغرة نفسها لما كانت غالبة عليه- . و يستلب غرته ليس المعنى باستلابه الغرة-  أن يرفعها و يأخذها لأنه لو كان كذلك-  لصار ذلك الغافل المغتر فاقدا للغفلة و الغرة-  و كان لبيبا فطنا فلا يبقى له سبيل عليه-  و إنما المعنى بقوله و يستلب غرته-  ما يعنيه الناس بقولهم أخذ فلان غفلتي و فعل كذا- . و معنى أخذها هنا أخذ ما يستدل به على غفلتي- . و فلتة أمر وقع من غير تثبت و لا روية- . و نزغة كلمة فاسدة من نزغات الشيطان-  أي من حركاته القبيحة التي يستفسد بها مكلفين-  و لا يثبت بها نسب و لا يستحق بها إرث-  لأن المقر بالزناء لا يلحقه النسب-  و لا يرثه المولود لقوله ص الولد للفراش و للعاهر الحجر

نسب زياد بن أبيه و ذكر بعض أخباره و كتبه و خطبه

فأما زياد فهو زياد بن عبيد و من الناس من يقول-  عبيد بن فلان و ينسبه إلى‏ثقيف-  و الأكثرون يقولون إن عبيدا كان عبدا-  و إنه بقي إلى أيام زياد فابتاعه و أعتقه-  و سنذكر ما ورد في ذلك و نسبة زياد لغير أبيه لخمول أبيه-  و الدعوة التي استلحق بها-  فقيل تارة زياد بن سمية و هي أمه-  و كانت أمة للحارث بن كلدة بن عمرو بن علاج الثقفي-  طبيب العرب و كانت تحت عبيد- . و قيل تارة زياد بن أبيه و قيل تارة زياد بن أمه-  و لما استلحق قال له أكثر الناس-  زياد بن أبي سفيان-  لأن الناس مع الملوك الذين هم مظنة الرهبة و الرغبة-  و ليس أتباع الدين بالنسبة إلى أتباع الملوك-  إلا كالقطرة في البحر المحيط-  فأما ما كان يدعى به قبل الاستلحاق فزياد بن عبيد-  و لا يشك في ذلك أحد- . و روى أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب-  عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه-  عن أبي صالح عن ابن عباس-  أن عمر بعث زيادا في إصلاح فساد واقع باليمن-  فلما رجع من وجهه خطب عند عمر خطبة لم يسمع مثلها-  و أبو سفيان حاضر و علي ع و عمرو بن العاص-  فقال عمرو بن العاص لله أبو هذا الغلام-  لو كان قرشيا لساق العرب بعصاه-  فقال أبو سفيان إنه لقرشي-  و إني لأعرف الذي وضعه في رحم أمه-  فقال علي ع و من هو قال أنا-  فقال مهلا يا أبا سفيان فقال أبو سفيان- 

أما و الله لو لا خوف شخص
يراني يا علي من الأعادي‏

لأظهر أمره صخر بن حرب‏
و لم يخف المقالة في زياد

و قد طالت مجاملتي ثقيفا
و تركي فيهم ثمر الفؤاد

عنى بقوله لو لا خوف شخص عمر بن الخطاب‏

 

و روى أحمد بن يحيى البلاذري قال-  تكلم زياد و هو غلام حدث-  بحضرة عمر كلاما أعجب الحاضرين-  فقال عمرو بن العاص لله أبوه-  لو كان قرشيا لساق العرب بعصاه-  فقال أبو سفيان أما و الله إنه لقرشي-  و لو عرفته لعرفت أنه خير من أهلك-  فقال و من أبوه قال أنا و الله وضعته في رحم أمه-  فقال فهلا تستلحقه-  قال أخاف هذا العير الجالس-  أن يخرق علي إهابي- . و روى محمد بن عمر الواقدي قال قال أبو سفيان-  و هو جالس عند عمر و علي هناك-  و قد تكلم زياد فأحسن-  أبت المناقب إلا أن تظهر في شمائل زياد-  فقال علي ع من أي بني عبد مناف هو قال ابني-  قال كيف قال أتيت أمه في الجاهلية سفاحا-  فقال علي ع مه يا أبا سفيان-  فإن عمر إلى المساءة سريع-  قال فعرف زياد ما دار بينهما فكانت في نفسه- . و روى علي بن محمد المدائني قال لما كان زمن علي ع-  ولى زيادا فارس أو بعض أعمال فارس-  فضبطها ضبطا صالحا و جبى خراجها و حماها-  و عرف ذلك معاوية فكتب إليه-  أما بعد فإنه غرتك قلاع تأوي إليها ليلا-  كما تأوي الطير إلى وكرها-  و ايم الله لو لا انتظاري بك ما الله أعلم به-  لكان لك مني ما قاله العبد الصالح-  فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها-  وَ لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَ هُمْ صاغِرُونَ-  و كتب في أسفل الكتاب شعرا من جملته- 

تنسى أباك و قد شالت نعامته
إذ يخطب الناس و الوالي لهم عمر

 فلما ورد الكتاب على زياد قام فخطب الناس و قال-  العجب من ابن آكلة الأكباد و رأس النفاق-  يهددني و بيني و بينه ابن عم رسول الله ص-  و زوج سيدة نساء العالمين و أبو السبطين-  و صاحب الولاية و المنزلة و الإخاء في مائة ألف-من المهاجرين و الأنصار و التابعين لهم بإحسان-  أما و الله لو تخطى هؤلاء أجمعين إلي-  لوجدني أحمر مخشا ضرابا بالسيف-  ثم كتب إلى علي ع و بعث بكتاب معاوية في كتابه- .

 فكتب إليه علي ع و بعث بكتابه أما بعد فإني قد وليتك ما وليتك-  و أنا أراك لذلك أهلا-  و إنه قد كانت من أبي سفيان فلتة في أيام عمر-  من أماني التيه و كذب النفس-  لم تستوجب بها ميراثا و لم تستحق بها نسبا-  و إن معاوية كالشيطان الرجيم-  يأتي المرء من بين يديه و من خلفه-  و عن يمينه و عن شماله-  فاحذره ثم احذره ثم احذره و السلام

و روى أبو جعفر محمد بن حبيب قال-  كان علي ع قد ولى زيادا قطعة من أعمال فارس-  و اصطنعه لنفسه-  فلما قتل علي ع بقي زياد في عمله-  و خاف معاوية جانبه و علم صعوبة ناحيته-  و أشفق من ممالأته الحسن بن علي ع فكتب إليه-  من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان-  إلى زياد بن عبيد أما بعد-  فإنك عبد قد كفرت النعمة و استدعيت النقمة-  و لقد كان الشكر أولى بك من الكفر-  و إن الشجرة لتضرب بعرقها و تتفرع من أصلها-  إنك لا أم لك بل لا أب لك قد هلكت و أهلكت-  و ظننت أنك تخرج من قبضتي-  و لا ينالك سلطاني هيهات-  ما كل ذي لب يصيب رأيه-  و لا كل ذي رأي ينصح في مشورته-  أمس عبد و اليوم أمير-  خطة ما ارتقاها مثلك يا ابن سمية-  و إذا أتاك كتابي هذا فخذ الناس بالطاعة و البيعة-  و أسرع الإجابة-  فإنك أن تفعل فدمك حقنت-  و نفسك تداركت و إلا اختطفتك‏ بأضعف ريش-  و نلتك بأهون سعي-  و أقسم قسما مبرورا إلا أوتى بك إلا في زمارة-  تمشي حافيا من أرض فارس إلى الشام-  حتى أقيمك في السوق و أبيعك عبدا-  و أردك إلى حيث كنت فيه و خرجت منه و السلام- .

فلما ورد الكتاب على زياد غضب غضبا شديدا-  و جمع الناس و صعد المنبر فحمد الله ثم قال-  ابن آكلة الأكباد و قاتلة أسد الله-  و مظهر الخلاف و مسر النفاق و رئيس الأحزاب-  و من أنفق ماله في إطفاء نور الله-  كتب إلي يرعد و يبرق عن سحابة جفل لا ماء فيها-  و عما قليل تصيرها الرياح قزعا-  و الذي يدلني على ضعفه تهدده قبل القدرة-  أ فمن إشفاق علي تنذر و تعذر كلا-  و لكن ذهب إلى غير مذهب-  و قعقع لمن ربي بين صواعق تهامة-  كيف أرهبه و بيني و بينه ابن بنت رسول الله ص-  و ابن ابن عمه في مائة ألف من المهاجرين و الأنصار-  و الله لو أذن لي فيه أو ندبني إليه-  لأريته الكواكب نهارا و لأسعطته ماء الخردل-  دونه الكلام اليوم و الجمع غدا-  و المشورة بعد ذلك إن شاء الله ثم نزل- .

و كتب إلى معاوية أما بعد فقد وصل إلي كتابك يا معاوية-  و فهمت ما فيه-  فوجدتك كالغريق يغطيه الموج فيتشبث بالطحلب-  و يتعلق بأرجل الضفادع طمعا في الحياة-  إنما يكفر النعم-  و يستدعي النقم من حاد الله و رسوله-  و سعى في الأرض فسادا-  فأما سبك لي فلو لا حلم ينهاني عنك-  و خوفي أن أدعى سفيها-  لأثرت لك مخازي لا يغسلها الماء-  و أما تعييرك لي بسمية-  فإن كنت ابن سمية فأنت ابن جماعة-  و أما زعمك أنك تختطفني بأضعف ريش-  و تتناولني بأهون سعي-  فهل رأيت بازيا يفزعه صغير القنابر-  أم هل سمعت بذئب أكله خروف-  فامض الآن لطيتك و اجتهد جهدك-  فلست أنزل إلا بحيث تكره-  و لا أجتهد إلا فيما يسوؤك-  و ستعلم أينا الخاضع لصاحبه الطالع إليه و السلام- .

فلما ورد كتاب زياد على معاوية غمه و أحزنه-  و بعث إلى المغيرة بن شعبة فخلا به و قال-  يا مغيرة إني أريد مشاورتك في أمر أهمني-  فانصحني فيه و أشر علي برأي المجتهد-  و كن لي أكن لك فقد خصصتك بسري-  و آثرتك على ولدي-  قال المغيرة فما ذاك-  و الله لتجدني في طاعتك أمضى من الماء إلى الحدور-  و من ذي الرونق في كف البطل الشجاع-  قال يا مغيرة إن زيادا قد أقام بفارس-  يكش لنا كشيش الأفاعي-  و هو رجل ثاقب الرأي ماضي العزيمة-  جوال الفكر مصيب إذا رمى-  و قد خفت منه الآن ما كنت آمنه-  إذ كان صاحبه حيا و أخشى ممالأته حسنا-  فكيف السبيل إليه و ما الحيلة في إصلاح رأيه-  قال المغيرة أنا له إن لم أمت-  إن زيادا رجل يحب الشرف و الذكر و صعود المنابر-  فلو لاطفته المسألة و ألنت له الكتاب-  لكان لك أميل و بك أوثق-  فاكتب إليه و أنا الرسول-  فكتب معاوية إليه-  من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان-  إلى زياد بن أبي سفيان-  أما بعد فإن المرء ربما طرحه الهوى في مطارح العطب-  و إنك للمرء المضروب به المثل-  قاطع الرحم و واصل العدو-  و حملك سوء ظنك بي و بغضك لي-  على أن عققت قرابتي و قطعت رحمي-  و بتت نسبي و حرمتي حتى كأنك لست أخي-  و ليس صخر بن حرب أباك و أبي-  و شتان ما بيني و بينك-  أطلب بدم ابن أبي العاص و أنت تقاتلني-  و لكن أدركك عرق الرخاوة من قبل النساء-  فكنت‏

 

 كتاركة بيضها بالعراء
و ملحفة بيض أخرى جناحا

و قد رأيت أن أعطف عليك-  و لا أؤاخذك بسوء سعيك و أن أصل رحمك-  و أبتغي الثواب في أمرك-  فاعلم أبا المغيرة إنك لو خضت البحر في طاعة القوم-  فتضرب بالسيف حتى انقطع متنه-  لما ازددت منهم إلا بعدا-  فإن بني عبد شمس أبغض إلى بني هاشم-  من الشفرة إلى الثور الصريع و قد أوثق للذبح-  فارجع رحمك الله إلى أصلك و اتصل بقومك-  و لا تكن كالموصول بريش غيره-  فقد أصبحت ضال النسب-  و لعمري ما فعل بك ذلك إلا اللجاج فدعه عنك-  فقد أصبحت على بينة من أمرك-  و وضوح من حجتك-  فإن أحببت جانبي و وثقت بي فأمره بأمره-  و إن كرهت جانبي و لم تثق بقولي-  ففعل جميل لا علي و لا لي و السلام- . فرحل المغيرة بالكتاب حتى قدم فارس-  فلما رآه زياد قربه و أدناه و لطف به-  فدفع إليه الكتاب فجعل يتأمله و يضحك-  فلما فرغ من قراءته وضعه تحت قدمه-  ثم قال حسبك يا مغيرة-  فإني أطلع على ما في ضميرك-  و قد قدمت من سفرة بعيدة-  فقم و أرح ركابك- 

قال أجل فدع عنك اللجاج يرحمك الله-  و ارجع إلى قومك و صل أخاك-  و انظر لنفسك و لا تقطع رحمك-  قال زياد إني رجل صاحب أناة-  و لي في أمري روية فلا تعجل علي-  و لا تبدأني بشي‏ء حتى أبدأك-  ثم جمع الناس بعد يومين أو ثلاثة-  فصعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه-  ثم قال أيها الناس ادفعوا البلاء ما اندفع عنكم-  و ارغبوا إلى الله في دوام العافية لكم-  فقد نظرت في أمور الناس منذ قتل عثمان-  و فكرت فيهم فوجدتهم كالأضاحي-  في كل عيد يذبحون و لقد أفنى هذان اليومان-  يوم الجمل و صفين ما ينيف على مائة ألف-  كلهم يزعم أنه طالب حق و تابع إمام-  و على بصيرة من أمره-  فإن كان الأمر هكذا فالقاتل و المقتول في الجنة-  كلاليس كذلك-  و لكن أشكل الأمر و التبس على القوم-  و إني لخائف أن يرجع الأمر كما بدأ-  فكيف لامرئ بسلامة دينه-  و قد نظرت في أمر الناس فوجدت أحد العاقبتين العافية-  و سأعمل في أموركم ما تحمدون عاقبته و مغبته-  فقد حمدت طاعتكم إن شاء الله ثم نزل و كتب جواب الكتاب-  أما بعد فقد وصل كتابك يا معاوية مع المغيرة بن شعبة-  و فهمت ما فيه-  فالحمد لله الذي عرفك الحق و ردك إلى الصلة-  و لست ممن يجهل معروفا و لا يغفل حسبا-  و لو أردت أن أجيبك بما أوجبته الحجة-  و احتمله الجواب لطال الكتاب و كثر الخطاب-  و لكنك إن كنت كتبت كتابك هذا-  عن عقد صحيح و نية حسنة-  و أردت بذلك برا فستزرع في قلبي مودة و قبولا-  و إن كنت إنما أردت مكيدة و مكرا و فساد نية-  فإن النفس تأبى ما فيه العطب-  و لقد قمت يوم قرأت كتابك مقاما يعبأ به الخطيب المدره-  فتركت من حضر لا أهل ورد و لا صدر-  كالمتحيرين بمهمة ضل بهم الدليل-  و أنا على أمثال ذلك قدير-  و كتب في أسفل الكتاب- 

إذا معشري لم ينصفوني وجدتني
أدافع عني الضيم ما دمت باقيا

و كم معشر أعيت قناتي عليهم‏
فلاموا و ألفوني لدى العزم ماضيا

و هم به ضاقت صدور فرجته
و كنت بطبي للرجال مداويا

أدافع بالحلم الجهول مكيدة
و أخفى له تحت العضاه الدواهيا

فإن تدن مني أدن منك و إن تبن
تجدني إذا لم تدن مني نائيا

 فأعطاه معاوية جميع ما سأله-  و كتب إليه بخط يده ما وثق به-  فدخل إليه الشام فقربه و أدناه-  و أقره على ولايته ثم استعمله على العراق- .

 

و روى علي بن محمد المدائني قال-  لما أراد معاوية استلحاق زياد و قد قدم عليه الشام-  جمع الناس و صعد المنبر-  و أصعد زيادا معه فأجلسه بين يديه على المرقاة-  التي تحت مرقاته-  و حمد الله و أثنى عليه ثم قال-  أيها الناس-  إني قد عرفت نسبنا أهل البيت في زياد-  فمن كان عنده شهادة فليقم بها-  فقام ناس فشهدوا أنه ابن أبي سفيان-  و أنهم سمعوا ما أقر به قبل موته-  فقام أبو مريم السلولي و كان خمارا في الجاهلية-  فقال أشهد يا أمير المؤمنين-  أن أبا سفيان قدم علينا بالطائف-  فأتاني فاشتريت له لحما و خمرا و طعاما-  فلما أكل قال يا أبا مريم أصب لي بغيا-  فخرجت فأتيت بسمية فقلت لها-  إن أبا سفيان ممن قد عرفت شرفه و جوده-  و قد أمرني أن أصيب له بغيا فهل لك-  فقالت نعم يجي‏ء الآن عبيد بغنمه و كان راعيا-  فإذا تعشى و وضع رأسه أتيته-  فرجعت إلى أبي سفيان فأعلمته-  فلم نلبث أن جاءت تجر ذيلها-  فدخلت معه فلم تزل عنده حتى أصبحت-  فقلت له لما انصرفت كيف رأيت صاحبتك-  قال خير صاحبة لو لا ذفر في إبطيها- .

فقال زياد من فوق المنبر يا أبا مريم-  لا تشتم أمهات الرجال فتشتم أمك- . فلما انقضى كلام معاوية و مناشدته قام زياد-  و أنصت الناس فحمد الله و أثنى عليه ثم قال-  أيها الناس إن معاوية و الشهود قد قالوا ما سمعتم-  و لست أدري حق هذا من باطله-  و هو و الشهود أعلم بما قالوا-  و إنما عبيد أب مبرور و وال مشكور-  ثم نزل- . و روى شيخنا أبو عثمان أن زيادا مر-  و هو والي البصرة بأبي العريان العدوي-  و كان شيخا مكفوفا ذا لسن و عارضة شديدة-  فقال أبو العريان ما هذه الجلبة-  قالوا زياد بن أبي سفيان-  قال و الله ما ترك أبو سفيان-  إلا يزيد و معاوية و عتبة و عنبسة و حنظلة و محمدا-  فمن أين جاء زياد-  فبلغ الكلام زيادا و قال له قائل-  لو سددت‏عنك فم هذا الكلب-  فأرسل إليه بمائتي دينار فقال له رسول زياد-  إن ابن عمك زيادا الأمير-  قد أرسل إليك مائتي دينار لتنفقها-  فقال وصلته رحم إي و الله ابن عمي حقا-  ثم مر به زياد من الغد في موكبه-  فوقف عليه فسلم و بكى أبو العريان-  فقيل له ما يبكيك-  قال عرفت صوت أبي سفيان في صوت زياد-  فبلغ ذلك معاوية فكتب إلى أبي العريان- 

ما ألبثتك الدنانير التي بعثت
أن لونتك أبا العريان ألوانا

أمسى إليك زياد في أرومته‏
نكرا فأصبح ما أنكرت عرفانا

لله در زياد لو تعجلها
كانت له دون ما يخشاه قربانا

فلما قرئ كتاب معاوية على أبي العريان قال- اكتب جوابه يا غلام-

أحدث لنا صلة تحيا النفوس بها
قد كدت يا ابن أبي سفيان تنسانا

أما زياد فقد صحت مناسبه‏
عندي فلا أبتغي في الحق بهتانا

من يسد خيرا يصبه حين يفعله
أو يسد شرا يصبه حيثما كانا

و روى أبو عثمان أيضا قال-  كتب زياد إلى معاوية ليستأذنه في الحج-  فكتب إليه إني قد أذنت لك و استعملتك على الموسم-  و أجزتك بألف ألف درهم-  فبينا هو يتجهز إذ بلغ ذلك أبا بكرة أخاه-  و كان مصارما له-  منذ لجلج في الشهادة على المغيرة بن شعبة-  أيام عمر-  لا يكلمه قد لزمته أيمان عظيمة ألا يكلمه أبدا-  فأقبل أبو بكرة يدخل القصر يريد زيادا-  فبصر به الحاجب فأسرع إلى زياد قائلا-  أيها الأمير هذا أخوك أبو بكرة قد دخل القصر-  قال ويحك أنت رأيته-  قال ها هو ذا قد طلع-  و في حجر زياد بني يلاعبه-  و جاء أبو بكرة حتى وقف عليه-  فقال للغلام كيف أنت يا غلام-  إن أباك ركب في الإسلام عظيما-  زنى أمه و انتفى من أبيه-  و لا و الله ما علمت سمية رأت‏ أبا سفيان قط-  ثم أبوك يريد أن يركب ما هو أعظم من ذلك-  يوافي الموسم غدا-  و يوافي أم حبيبة بنت أبي سفيان-  و هي من أمهات المؤمنين-  فإن جاء يستأذن عليها فأذنت له-  فأعظم بها فرية على رسول الله ص و مصيبة-  و إن هي منعته فأعظم بها على أبيك فضيحة-  ثم انصرف-  فقال جزاك الله يا أخي عن النصيحة خيرا-  ساخطا كنت أو راضيا-  ثم كتب إلى معاوية إني قد اعتللت عن الموسم-  فليوجه إليه أمير المؤمنين من أحب-  فوجه عتبة بن أبي سفيان- .

فأما أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب-  فإنه قال لما ادعى معاوية زيادا في سنة أربع و أربعين-  و ألحقه به أخا-  زوج ابنته من ابنه محمد بن زياد-  ليؤكد بذلك صحة الاستلحاق-  و كان أبو بكرة أخا زياد لأمه أمهما جميعا سمية-  فحلف ألا يكلم زيادا أبدا-  و قال هذا زنى أمه و انتفى من أبيه-  و لا و الله ما علمت سمية رأت أبا سفيان قبل-  ويله ما يصنع بأم حبيبة أ يريد أن يراها-  فإن حجبته فضحته و إن رآها فيا لها مصيبة-  يهتك من رسول الله ص حرمة عظيمة- . و حج زياد مع معاوية-  و دخل المدينة فأراد الدخول على أم حبيبة-  ثم ذكر قول أبي بكرة فانصرف عن ذلك-  و قيل إن أم حبيبة حجبته-  و لم تأذن له في الدخول عليها-  و قيل إنه حج و لم يرد المدينة من أجل قول أبي بكرة-  و إنه قال جزى الله أبا بكرة خيرا-  فما يدع النصيحة في حال-  و روى أبو عمر بن عبد البر في هذا الكتاب قال-  دخل بنو أمية و فيهم عبد الرحمن بن الحكم على معاوية-  أيام ما استلحق زيادا-  فقال له عبد الرحمن يا معاوية-  لو لم تجد إلا الزنج لاستكثرت بهم علينا قلة و ذلة-  يعني على بني أبي العاص-  فأقبل معاوية على مروان و قال أخرج عنا هذا الخليع-  فقال مروان إي و الله إنه لخليع ما يطاق-  فقال معاوية و الله لو لا حلمي و تجاوزي-  لعلمت أنه يطاق-  أ لم يبلغني شعره في و في زياد-  ثم قال مروان أسمعنيه فأنشد- 

   ألا أبلغ معاوية بن حرب
لقد ضاقت بما يأتي اليدان‏

أ تغضب أن يقال أبوك عف‏
و ترضى أن يقال أبوك زان‏

فأشهد أن رحمك من زياد
كرحم الفيل من ولد الأتان‏

و أشهد أنها حملت زيادا
و صخر من سمية غير دان‏

ثم قال و الله لا أرضى عنه- حتى يأتي زيادا فيترضاه و يعتذر إليه- فجاء عبد الرحمن إلى زياد معتذرا- يستأذن عليه فلم يأذن له- فأقبلت قريش إلى زياد تكلمه في أمر عبد الرحمن- فلما دخل سلم فتشاوس له زياد بعينه- و كان يكسر عينه- فقال له زياد أنت القائل ما قلت- قال عبد الرحمن ما الذي قلت قال قلت ما لا يقال- قال أصلح الله الأمير- إنه لا ذنب لمن أعتب و إنما الصفح عمن أذنب- فاسمع مني ما أقول قال هات فأنشده-

إليك أبا المغيرة تبت مما
جرى بالشام من خطل اللسان‏

و أغضبت الخليفة فيك حتى‏
دعاه فرط غيظ إن هجاني‏

و قلت لمن لحاني في اعتذاري
إليك اذهب فشأنك غير شأني‏

عرفت الحق بعد ضلال رأيي
و بعد الغي من زيغ الجنان‏

زياد من أبي سفيان غصن‏
تهادى ناضرا بين الجنان‏

أراك أخا و عما و ابن عم
فما أدري بعيب ما تراني‏

و إن زيادة في آل حرب‏
أحب إلي من وسطي بناني‏

ألا أبلغ معاوية بن حرب
فقد ظفرت بما تأتي اليدان‏

فقال زياد أراك أحمق صرفا شاعرا ضيع اللسان-  يسوغ لك ريقك ساخطا و مسخوطا-  و لكنا قد سمعنا شعرك و قبلنا عذرك-  فهات حاجتك-  قال تكتب إلى أمير المؤمنين بالرضا عني قال نعم-  ثم دعا كاتبه فكتب له بالرضا عنه-  فأخذ كتابه و مضى حتى دخل على معاوية-  فلما قرأه قال لحا الله زيادا لم يتنبه لقوله-و إن زيادة في آل حرب‏- . ثم رضي عن عبد الرحمن و رده إلى حالته- . و أما أشعار يزيد بن مفرغ الحميري-  و هجاؤه عبيد الله و عبادا-  ابني زياد بالدعوة فكثيرة مشهورة نحو قوله- 

 أ عباد ما للؤم عنك تحول
و لا لك أم من قريش و لا أب‏

و قل لعبيد الله ما لك والد
بحق و لا يدري امرؤ كيف تنسب‏

 و نحو قوله

شهدت بأن أمك لم تباشر
أبا سفيان واضعة القناع‏

و لكن كان أمر فيه لبس
على حذر شديد و ارتياع‏

إذا أودى معاوية بن حرب‏
فبشر شعب قعبك بانصداع‏

 و نحو قوله-

إن زيادا و نافعا و أبا بكرة
عندي من أعجب العجب‏

هم رجال ثلاثة خلقوا
في رحم أنثى و كلهم لأب‏

ذا قرشي كما تقول و ذا
مولى و هذا بزعمه عربي‏

 كان عبيد الله بن زياد يقول- ما شجيت بشي‏ء أشد علي من قول ابن مفرغ-

فكر ففي ذاك إن فكرت معتبر
هل نلت مكرمة إلا بتأمير

عاشت سمية ما عاشت و ما علمت‏
أن ابنها من قريش في الجماهير

 و يقال إن الأبيات النونية المنسوبة- إلى عبد الرحمن بن أم الحكم ليزيد بن مفرغ- و إن أولها-

أ لا أبلغ معاوية بن حرب
مغلغلة من الرجل اليماني‏

و نحو قوله- و قد باع برد غلامه- لما حبسه عباد بن زياد بسجستان-

يا برد ما مسنا دهر أضر بنا
من قبل هذا و لا بعنا له ولدا

لامتني النفس في برد فقلت لها
لا تهلكي إثر برد هكذا كمدا

لو لا الدعي و لو لا ما تعرض بي
من الحوادث ما فارقته أبدا

 و نحو قوله-

أبلغ لديك بني قحطان مألكة
عضت بأير أبيها سادة اليمن‏

أضحى دعي زياد فقع قرقرة
يا للعجائب يلهو بابن ذي يزن‏

 

و روى ابن الكلبي أن عبادا استلحقه زياد-  كما استلحق معاوية زيادا كلاهما لدعوة-  قال لما أذن لزياد في الحج تجهز-  فبينا هو يتجهز و أصحاب القرب يعرضون عليه قربهم-  إذ تقدم عباد و كان خرازا-  فصار يعرض عليه و يحاوره و يجيبه-  فقال زياد ويحك من أنت قال أنا ابنك-  قال ويحك و أي بني-  قال قد وقعت على أمي فلانة-  و كانت من بني كذا فولدتني-  و كنت في بني قيس بن ثعلبة و أنا مملوك لهم-  فقال صدقت و الله إني لأعرف ما تقول-  فبعث فاشتراه و ادعاه و ألحقه-  و كان يتعهد بني قيس بن ثعلبة بسببه و يصلهم-  و عظم أمر عباد-  حتى ولاه معاوية سجستان بعد موت زياد-  و ولى أخاه عبيد الله البصرة-  فتزوج عباد الستيرة ابنة أنيف بن زياد الكلبي-  فقال الشاعر يخاطب أنيفا و كان سيد كلب في زمانه- 

  أبلغ لديك أبا تركان مألكة
أ نائما كنت أم بالسمع من صمم‏

أنكحت عبد بني قيس مهذبة
آباؤها من عليم معدن الكرم‏

أ كنت تجهل عبادا و محتده
لا در درك أم أنكحت من عدم‏

أ بعد آل أبي سفيان تجعله‏
صهرا و بعد بني مروان و الحكم‏

أعظم عليك بذا عارا و منقصة
ما دمت حيا و بعد الموت في الرحم‏

و قال الحسن البصري ثلاث كن في معاوية-  لو لم تكن فيه إلا واحدة منهن لكانت موبقة-  انتزاؤه على هذه الأمة بالسفهاء حتى ابتزها أمرها-  و استلحاقه زيادا مراغمة لقول رسول الله الولد للفراش و للعاهر الحجر-  و قتله حجر بن عدي-  فيا ويله من حجر و أصحاب حجر- .

 

و روى الشرقي بن القطامي قال-  كان سعيد بن سرح مولى حبيب بن عبد شمس-  شيعة لعلي بن أبي طالب ع-  فلما قدم زياد الكوفة طلبه و أخافه-  فأتى الحسن بن علي ع مستجيرا به-  فوثب زياد على أخيه و ولده و امرأته فحبسهم-  و أخذ ماله و نقض داره-  فكتب الحسن بن علي ع إلى زياد أما بعد فإنك عمدت إلى رجل من المسلمين-  له ما لهم و عليه ما عليهم-  فهدمت داره و أخذت ماله-  و حبست أهله و عياله-  فإن أتاك كتابي هذا فابن له داره-  و اردد عليه عياله و ماله-  و شفعني فيه فقد أجرته و السلام

فكتب إليه زياد-  من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن بن فاطمة-  أما بعد فقد أتاني كتابك تبدأ فيه بنفسك قبلي-  و أنت طالب حاجة و أنا سلطان و أنت سوقة-  و تأمرني فيه بأمر المطاع المسلط على رعيته-  كتبت إلي في فاسق آويته-  إقامة منك على سوء الرأي و رضا منك بذلك-  و ايم الله لا تسبقني به و لو كان بين جلدك و لحمك-  و إن نلت بعضك غير رفيق بك و لا مرع عليك-  فإن أحب لحم علي أن آكله-  للحم الذي أنت منه-  فسلمه بجريرته إلى من هو أولى به منك-  فإن عفوت عنه لم أكن شفعتك فيه-  و إن قتلته لم أقتله إلا لحبه أباك الفاسق-  و السلام- .

فلما ورد الكتاب على الحسن ع قرأه و تبسم-  و كتب بذلك إلى معاوية-  و جعل كتاب زياد عطفه و بعث به إلى الشام-  و كتب جواب كتابه كلمتين لا ثالثة لهما-  من الحسن بن فاطمة إلى زياد بن سمية أما بعد فإن رسول الله ص قال-  الولد للفراش و للعاهر الحجر-  و السلام

 فلما قرأ معاوية كتاب زياد إلى الحسن ضاقت به الشام-  و كتب إلى زياد-  أما بعد فإن الحسن بن علي بعث إلي بكتابك إليه-  جوابا عن كتاب كتبه‏ إليك في ابن سرح-  فأكثرت العجب منك و علمت أن لك رأيين-  أحدهما من أبي سفيان و الآخر من سمية-  فأما الذي من أبي سفيان فحلم و حزم-  و أما الذي من سمية فما يكون من رأي مثلها-  من ذلك كتابك إلى الحسن تشتم أباه-  و تعرض له بالفسق و لعمري إنك الأولى بالفسق من أبيه-  فأما أن الحسن بدأ بنفسه ارتفاعا عليك-  فإن ذلك لا يضعك لو عقلت-  و أما تسلطه عليك بالأمر-  فحق لمثل الحسن أن يتسلط-  و أما تركك تشفيعه فيما شفع فيه إليك-  فحظ دفعته عن نفسك إلى من هو أولى به منك-  فإذا ورد عليك كتابي فخل ما في يديك لسعيد بن أبي سرح-  و ابن له داره و اردد عليه ماله و لا تعرض له-  فقد كتبت إلى الحسن أن يخيره-  إن شاء أقام عنده و إن شاء رجع إلى بلده-  و لا سلطان لك عليه لا بيد و لا لسان-  و أما كتابك إلى الحسن باسمه و اسم أمه-  و لا تنسبه إلى أبيه-  فإن الحسن ويحك من لا يرمى به الرجوان-  و إلى أي أم وكلته لا أم لك-  أ ما علمت أنها فاطمة بنت رسول الله ص-  فذاك أفخر له لو كنت تعلمه و تعقله-  و كتب في أسفل الكتاب شعرا من جملته- 

 أما حسن فابن الذي كان قبله
إذا سار سار الموت حيث يسير

و هل يلد الرئبال إلا نظيره‏
و ذا حسن شبه له و نظير

و لكنه لو يوزن الحلم و الحجا
بأمر لقالوا يذبل و ثبير

و روى الزبير بن بكار في الموفقيات- أن عبد الملك أجرى خيلا فسبقه عباد بن زياد- فأنشد عبد الملك-

سبق عباد و صلت لحيته
و كان خرازا تجود قربته‏

فشكا عباد قول عبد الملك إلى خالد بن يزيد بن معاوية-  فقال له أما و الله لأنصفنك منه بحيث يكره-  فزوجه أخته فكتب الحجاج إلى عبد الملك-  يا أمير المؤمنين إن مناكح آل أبي سفيان قد ضاعت-  فأخبر عبد الملك خالدا بما كتب به الحجاج-  فقال خالد يا أمير المؤمنين-  ما أعلم امرأة منا ضاعت و نزلت-  إلا عاتكة بنت يزيد بن معاوية فإنها عندك-  و لم يعن الحجاج غيرك-  قال عبد الملك بل عنى الدعي ابن الدعي عبادا-  قال خالد يا أمير المؤمنين ما أنصفتني-  أدعي رجلا ثم لا أزوجه-  إنما كنت ملوما لو زوجت دعيك-  فأما دعيي فلم لا أزوجه- . فأما أول ما ارتفع به زياد-  فهو استخلاف ابن عباس له على البصرة-  في خلافة علي ع-  و بلغت عليا عنه هنات فكتب إليه يلومه و يؤنبه-  فمنها الكتاب الذي ذكر الرضي رحمه الله بعضه-  و قد شرحنا فيما تقدم ما ذكر الرضي منه-  و كان علي ع أخرج إليه سعدا مولاه-  يحثه على حمل مال البصرة إلى الكوفة-  و كان بين سعد و زياد ملاحاة و منازعة-  و عاد سعد و شكاه إلى علي ع و عابه- 

 فكتب علي ع إليه أما بعد فإن سعدا ذكر أنك شتمته ظلما-  و هددته و جبهته تجبرا و تكبرا-  فما دعاك إلى التكبر و قد قال رسول الله ص-  الكبر رداء الله-  فمن نازع الله رداءه قصمه-  و قد أخبرني أنك تكثر من الألوان المختلفة في الطعام-  في اليوم الواحد-و تدهن كل يوم فما عليك لو صمت لله أياما-  و تصدقت ببعض ما عندك محتسبا-  و أكلت طعامك مرارا قفارا-  فإن ذلك شعار الصالحين-  أ فتطمع و أنت متمرغ في النعيم-  تستأثر به على الجار و المسكين و الضعيف و الفقير-  و الأرملة و اليتيم-  أن يحسب لك أجر المتصدقين-  و أخبرني أنك تتكلم بكلام الأبرار و تعمل عمل الخاطئين-  فإن كنت تفعل ذلك فنفسك ظلمت و عملك أحبطت-  فتب إلى ربك يصلح لك عملك و اقتصد في أمرك-  و قدم إلى ربك الفضل ليوم حاجتك و ادهن غبا-  فإني سمعت رسول الله ص يقول-  ادهنوا غبا و لا تدهنوا رفها- .

فكتب إليه زياد أما بعد يا أمير المؤمنين-  فإن سعدا قدم علي فأساء القول و العمل-  فانتهرته و زجرته-  و كان أهلا لأكثر من ذلك-  و أما ما ذكرت من الإسراف و اتخاذ الألوان-  من الطعام و النعم-  فإن كان صادقا فأثابه الله ثواب الصالحين-  و إن كان كاذبا فوقاه الله أشد عقوبة الكاذبين-  و أما قوله إني أصف العدل و أخالفه إلى غيره-  فإني إذن من الأخسرين-  فخذ يا أمير المؤمنين بمقال قلته في مقام قمته-  الدعوى بلا بينة كالسهم بلا نصل-  فإن أتاك بشاهدي عدل-  و إلا تبين لك كذبه و ظلمه- . و من كلام زياد تأخير جزاء المحسن لؤم-  و تعجيل عقوبة المسي‏ء طيش- . و كتب إليه معاوية أما بعد-  فاعزل حريث بن جابر عن العمل-  فإني لا أذكر مقاماته بصفين إلا كانت حزازة في صدري-  فكتب إليه زياد-  أما بعد فخفض عليك يا أمير المؤمنين-  فإن حريثا قد سبق شرفا لا يرفعه معه عمل-  و لا يضعه معه عزل- .

 

و قال لابنه عبيد الله عليك بالحجاب-  و إنما اجترأت الرعاة على السباع بكثرة نظرها إليها- . و من كلامه أحسنوا إلى أهل الخراج-  فإنكم لا تزالون سمانا ما سمنوا- . قدم رجل خصما له إلى زياد في حق له عليه و قال-  أيها الأمير-  إن هذا يدل بخاصة ذكر أنها له منك-  قال زياد صدق-  و سأخبرك بما ينفعه عندي من خاصته و مودته-  إن يكن له الحق عليك آخذك به أخذا عنيفا-  و إن يكن الحق لك قضيت عليه ثم قضيت عنه- . و قال ليس العاقل من يحتال للأمر إذا وقع فيه-  لكن العاقل من يحتال للأمر ألا يقع فيه- .

و قال في خطبة له-  إلا رب مسرور بقدومنا لا نسره و خائف ضرنا لا نضره- . كان مكتوبا في الحيطان الأربعة-  في قصر زياد كتابة بالجص-  أربعة أسطر أولها-  الشدة في غير عنف و اللين في غير ضعف-  و الثاني المحسن مجازى بإحسانه و المسي‏ء يكافأ بإساءته-  و الثالث العطيات و الأرزاق في إبانها و أوقاتها-  و الرابع لا احتجاب عن صاحب ثغر و لا عن طارق ليل- . و قال يوما على المنبر-  إن الرجل ليتكلم بالكلمة يشفي بها غيظه-  لا يقطع بها ذنب عنز فتضره-  لو بلغتنا عنه لسفكنا دمه- . و قال ما قرأت كتاب رجل قط إلا عرفت عقله منه- . و قال في خطبة استوصوا بثلاثة منكم خيرا-  الشريف و العالم و الشيخ-  فو الله لا يأتيني وضيع بشريف يستخف به إلا انتقمت منه-  أو شاب بشيخ يستخف به إلا أوجعته ضربا-  و لا جاهل بعالم يستخف به إلا نكلت به- .

 

و قيل لزياد ما الحظ-  قال أن يطول عمرك و ترى في عدوك ما يسرك- . قيل كان زياد يقول-  هما طريقان للعامة الطاعة و السيف- . و كان المغيرة يقول-  لا و الله حتى يحملوا على سبعين طريقا غير السيف- . و قال الحسن البصري لرجل-  أ لا تحدثني بخطبتي زياد و الحجاج حين دخلا العراق-  قال بلى أما زياد فلما قدم البصرة-  حمد الله و أثنى عليه ثم قال أما بعد-  فإن معاوية غير مخوف على قومه-  و لم يكن ليلحق بنسبة من ليس منه-  و قد شهدت الشهود بما قد بلغكم-  و الحق أحق أن يتبع-  و الله حيث وضع البينات كان أعلم-  و قد رحلت عنكم و أنا أعرف صديقي من عدوي-  ثم قدمت عليكم و قد صار العدو صديقا مناصحا-  و الصديق عدوا مكاشحا-  فليشتمل كل امرئ على ما في صدره-  و لا يكونن لسانه شفرة تجري على أوداجه-  و ليعلم أحدكم إذا خلا بنفسه أني قد حملت سيفي بيدي-  فإن أشهره لم أغمده و إن أغمده لم أشهره-  ثم نزل-  و أما الحجاج فإنه قال-  من أعياه داؤه فعلي دواؤه-  و من استبطأ أجله فعلي أن أعجله-  ألا إن الحزم و العزم استلبا مني سوطي-  و جعلا سوطي سيفي-  فنجاده في عنقي و قائمه بيدي-  و ذبابه قلادة لمن اغتر بي- .

فقال الحسن البؤس لهما ما أغرهما بربهما-  اللهم اجعلنا ممن يعتبر بهما- . و قال بعضهم ما رأيت زيادا كاسرا إحدى عينيه-  واضعا إحدى رجليه على الأخرى-  يخاطب رجلا إلا رحمت المخاطب- . و من كلامه نعم الشي‏ء الإمارة-  لو لا قعقعة لجام البريد و تسنم ذروة المنبر- .

قال لحاجبه يا عجلان-  إني قد وليتك هذا الباب و عزلتك عن أربعة-  المنادي إذا جاء يؤذن بالصلاة-  فإنها كانت كتابا موقوتا-  و رسول صاحب الثغر-  فإنه إن أبطأ ساعة فسد تدبير سنة-  و طارق الليل فشر ما جاء به-  و الطباخ إذا فرغ من الطعام-  فإنه متى أعيد عليه التسخين فسد- . و كان حارثة بن بدر الغداني قد غلب على زياد-  و كان حارثة مشتهرا بالشراب-  فقيل لزياد في ذلك فقال-  كيف بإطراح رجل هو يسايرني منذ قدمت العراق-  فلا يصل ركابه ركابي-  و لا تقدمني قط فنظرت إلى قفاه-  و لا تأخر عني فلويت عنقي إليه-  و لا أخذ علي الشمس في شتاء قط-  و لا الروح في صيف قط-  و لا سألته عن علم إلا ظننته لا يحسن غيره- . و من كلامه كفى بالبخل عارا أن اسمه لم يقع في حمد قط-  و كفى بالجود فخرا أن اسمه لم يقع في ذم قط- . و قال ملاك السلطان الشدة على المريب-  و اللين للمحسن و صدق الحديث و الوفاء بالعهد- . و قال ما أتيت مجلسا قط-  إلا تركت منه ما لو أخذته لكان لي-  و ترك ما لي أحب إلي من أخذ ما ليس لي- . و قال ما قرأت مثل كتب الربيع بن زياد الحارثي-  ما كتب إلي كتابا قط إلا في اجترار منفعة-  أو دفع مضرة-  و لا شاورته يوما قط في أمر مبهم إلا و سبق إلى الرأي- .

و قال يعجبني من الرجل-  إذا أتى مجلسا أن يعلم أين مكانه منه-  فلا يتعداه إلى غيره-  و إذا سيم خطة خسف أن يقول لا بمل‏ء فيه- . فأما خطبة زياد المعروفة بالبتراء-  و إنما سميت بذلك لأنه لم يحمد الله فيها-  و لا صلى على رسوله-  فقد ذكرها علي بن محمد المدائني قال-  قدم زياد البصرة أميرا عليها أيام معاوية-  و الفسق فيها فاش جدا-  و أموال الناس منتهبة و السياسة ضعيفة-  فصعد المنبر فقال-أما بعد فإن الجاهلية الجهلاء و الضلالة العمياء-  و الغي الموفد لأهله على النار-  ما فيه سفهاؤكم و يشتمل عليه حلماؤكم-  من الأمور العظام-  ينبت فيها الصغير و لا يتحاشى منها الكبير-  كأنكم لم تقرءوا كتاب الله-  و لم تستمعوا ما أعد من الثواب الكثير لأهل طاعته-  و العذاب الأليم لأهل معصيته-  في الزمن السرمد الذي لا يزول- . أ تكونون كمن طرفت عينه الدنيا-  و سدت مسامعه الشهوات و اختار الفانية على الباقية-  لا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث-  الذي لم تسبقوا به-  من ترككم الضعيف يقهر و يؤخذ ماله-  و الضعيفة المسلوبة في النهار المبصر- 

هذا و العدد غير قليل- . أ لم يكن منكم نهاه تمنع الغواة-  عن دلج الليل و غارة النهار-  قربتم القرابة-  و باعدتم الذين يعتذرون بغير العذر-  و يعطون على المختلس-  كل امرئ منكم يذب عن سيفه-  صنيع من لا يخاف عاقبة و لا يرجو معادا-  ما أنتم بالحلماء و قد اتبعتم السفهاء-  فلم يزل بهم ما ترون من قيامكم دونهم-  حتى انتهكوا حرمة الإسلام-  ثم أطرقوا وراءكم كنوسا في مكانس الريب-  حرم علي الطعام و الشراب-  حتى أسويها بالأرض هدما و إحراقا-  إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله-  لين في غير ضعف و شدة في غير عنف-  و أنا أقسم بالله لآخذن الولي بالولي و الظاعن بالظاعن-  و المقبل بالمدبر و الصحيح منكم في نفسه بالسقيم-  حتى يلقى الرجل أخاه فيقول-  انج سعد فقد هلك سعيد أو تستقيم لي قناتكم- .

إن كذبة المنبر تلفى مشهورة-  فإذا تعلقتم علي بكذبة فقد حلت لكم معصيتي-  من نقب عليه منكم فأنا ضامن لما ذهب منه-  فإياكم و دلج الليل فإني لا أوتى بمدلج إلا سفكت دمه-  و قد أجلتكم بقدر ما يأتي الخبر الكوفة و يرجع إليكم- . إياكم و دعوى الجاهلية-  فإني لا أجد أحدا دعا بها إلا قطعت لسانه-  و قد أحدثتم أحداثا و قد أحدثنا لكل ذنب عقوبة-  فمن غرق بيوت قوم غرقناه-  و من حرق على قوم حرقناه-  و من نقب على أحد بيتا نقبنا على قلبه-  و من نبش قبرا دفناه فيه حيا- .

كفوا عني أيديكم و ألسنتكم أكف عنكم يدي و لساني-  و لا يظهرن من أحدكم خلاف ما عليه عامتكم فأضرب عنقه-  و قد كانت بيني و بين أقوام إحن-  فقد جعلت ذلك وراء أذني و تحت قدمي-  فمن كان منكم محسنا فليزدد إحسانا-  و من كان مسيئا فلينزع عن إساءته-  إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السلال من بغضي-  لم أكشف عنه قناعا-  و لم أهتك له سترا حتى يبدي لي صفحته-  فإذا فعل لم أناظره-  فاستأنفوا أموركم و أعينوا على أنفسكم-  فرب مبتئس بقدومنا سيسر و مسرور بقدومنا سيبأس أيها الناس إنا أصبحنا لكم ساسة و عنكم ذادة-  نسوسكم بسلطان الله الذي أعطاناه-  و نذود عنكم بفي‏ء الله الذي خولناه-  فلنا عليكم السمع و الطاعة فيما أحببنا-  و لكم علينا العدل و الإنصاف فيما ولينا-  فاستوجبوا عدلنا و فيئنا بمناصحتكم لنا- 

و اعلموا أني مهما قصرت عنه فلن أقصر عن ثلاث-  لست محتجبا عن طالب حاجة منكم- و لا حابسا عطاء و لا مجمرا بعثا-  فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم-  فإنهم ساستكم المؤدبون و كهفكم الذي إليه تأوون-  و متى يصلحوا تصلحوا-  فلا تشربوا قلوبكم بغضهم فيشتد لذلك غيظكم-  و يطول لذلك حزنكم-  و لا تدركوا حاجتكم-  مع أنه لو استجيب لأحد منكم لكان شرا لكم-  أسأل الله أن يعين كلا على كل-  و إذا رأيتموني أنفذ فيكم الأمر فانفذوه على أذلاله-  و ايم الله إن لي فيكم لصرعى كثيرة-  فليحذر كل امرئ منكم أن يكون من صرعاي- . فقام عبد الله بن الأهتم فقال أشهد أيها الأمير-  لقد أوتيت الحكمة و فصل الخطاب- .

فقال كذبت ذاك نبي الله داود- . فقام الأحنف فقال إنما الثناء بعد البلاء-  و الحمد بعد العطاء و إنا لا نثني حتى نبتلى-  و لا نحمد حتى نعطى فقال زياد صدقت-  فقام أبو بلال مرداس بن أدية يهمس و يقول-  أنبأنا الله بغير ما قلت فقال-  وَ إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى-  أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‏-  فسمعها زياد فقال يا أبا بلال-  إنا لا نبلغ ما نريد بأصحابك-  حتى نخوض إليهم الباطل خوضا- . و روى الشعبي قال-  قدم زياد الكوفة لما جمعت له مع البصرة-  فدنوت من المنبر لأسمع كلامه-  فلم أر أحدا يتكلم فيحسن-  إلا تمنيت أن يسكت مخافة أن يسي‏ء-  إلا زيادا فإنه كان لا يزداد إكثارا إلا ازداد إحسانا-  فكنت أتمنى ألا يسكت- .

 

و روى الشعبي أيضا قال-  لما خطب زياد خطبته البتراء بالبصرة-  و نزل سمع تلك الليلة أصوات الناس يتحارسون-  فقال ما هذا قالوا إن البلد مفتونة-  و إن المرأة من أهل المصر لتأخذها الفتيان الفساق-  فيقال لها نادي ثلاث أصوات-  فإن أجابك أحد و إلا فلا لوم علينا فيما نصنع-  فغضب فقال ففيم أنا و فيم قدمت-  فلما أصبح أمر فنودي في الناس-  فاجتمعوا فقال أيها الناس-  إني قد نبئت بما أنتم فيه و سمعت ذروا منه-  و قد أنذرتكم و أجلتكم شهرا مسير الرجل إلى الشام-  و مسيره إلى خراسان و مسيره إلى الحجاز-  فمن وجدناه بعد شهر-  خارجا من منزله بعد العشاء الآخرة فدمه هدر-  فانصرف الناس يقولون-  هذا القول كقول من تقدمه من الأمراء-  فلما كمل الشهر دعا صاحب شرطته-  عبد الله بن حصين اليريوعي-  و كانت رجال الشرطة معه أربعة آلاف-  فقال له هيئ خيلك و رجلك-  فإذا صليت العشاء الآخرة-  و قرأ القارئ مقدار سبع من القرآن-  و رفع الطن القصب من القصر-  فسر و لا تلقين أحدا عبيد الله بن زياد فمن دونه-  إلا جئتني برأسه-  و إن راجعتني في أحد ضربت عنقك- .

قال فصبح على باب القصر تلك الليلة سبعمائة رأس-  ثم خرج الليلة الثانية فجاء بخمسين رأسا-  ثم خرج الليلة الثالثة فجاء برأس واحد-  ثم لم يجي‏ء بعدها بشي‏ء-  و كان الناس إذا صلوا العشاء الآخرة-  أحضروا إلى منازلهم شدا حثيثا-  و قد يترك بعضهم نعاله- . كتبت عائشة إلى زياد كتابا-  فلم تدر ما تكتب عنوانه-  إن كتبت زياد بن عبيد أو ابن أبيه أغضبته-  و إن كتبت زياد بن أبي سفيان أثمت-  فكتبت من أم المؤمنين إلى ابنها زياد-  فلما قرأه ضحك و قال-  لقد لقيت أم المؤمنين من هذا العنوان نصبا

 

 

نامه 43 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

43 و من كتاب له ع-  إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني-  و كان عامله على أردشيرخرة

بَلَغَنِي عَنْكَ أَمْرٌ إِنْ كُنْتَ فَعَلْتَهُ فَقَدْ أَسْخَطْتَ إِلَهَكَ-  وَ عَصَيْتَ إِمَامَكَ-  أَنَّكَ تَقْسِمُ فَيْ‏ءَ الْمُسْلِمِينَ-  الَّذِي حَازَتْهُ رِمَاحُهُمْ وَ خُيُولُهُمْ وَ أُرِيقَتْ عَلَيْهِ دِمَاؤُهُمْ-  فِيمَنِ اعْتَامَكَ مِنْ أَعْرَابِ قَوْمِكَ-  فَوَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَ بَرَأَ النَّسَمَةَ-  لَئِنْ كَانَ ذَلِكَ حَقّاً-  لَتَجِدَنَّ لَكَ عَلَيَّ هَوَاناً وَ لَتَخِفَّنَّ عِنْدِي مِيزَاناً-  فَلَا تَسْتَهِنْ بِحَقِّ رَبِّكَ-  وَ لَا تُصْلِحْ دُنْيَاكَ بِمَحْقِ دِينِكَ-  فَتَكُونَ مِنَ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا-  أَلَا وَ إِنَّ حَقَّ مَنْ قِبَلَكَ وَ قِبَلَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ-  فِي قِسْمَةِ هَذَا الْفَيْ‏ءِ سَوَاءٌ-  يَرِدُونَ عِنْدِي عَلَيْهِ وَ يَصْدُرُونَ عَنْهُ قد تقدم ذكر نسب مصقلة بن هبيرة-  و أردشيرخرة كورة من كور فارس- . و اعتامك اختارك من بين الناس-  أصله من العيمة بالكسر و هي خيار المال-  اعتام المصدق إذا أخذ العيمة-  و قد روي فيمن اعتماك بالقلب-  و الصحيح‏المشهور الأول- 

و روي و لتجدن بك عندي هوانا بالباء-  و معناها اللام-  و لتجدن بسبب فعلك هوانك عندي-  و الباء ترد للسببية كقوله تعالى-  فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ- . و المحق الإهلاك- . و المعنى أنه نهى مصقلة-  عن أن يقسم الفي‏ء على أعراب قومه-  الذين اتخذوه سيدا و رئيسا-  و يحرم المسلمين الذين حازوه بأنفسهم و سلاحهم-  و هذا هو الأمر الذي كان ينكره على عثمان-  و هو إيثار أهله و أقاربه بمال الفي‏ء-  و قد سبق شرح مثل ذلك مستوفى

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 16

نامه 42 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

42 و من كتاب له ع إلى عمر بن أبي سلمة المخزومي

و كان عامله على البحرين-  فعزله و استعمل النعمان بن عجلان الزرقي مكانه- : أَمَّا بَعْدُ-  فَإِنِّي قَدْ وَلَّيْتُ النُّعْمَانَ بْنِ عَجْلَانَ الزُّرَقِيَّ عَلَى الْبَحْرَيْنِ-  وَ نَزَعْتُ يَدَكَ بِلَا ذَمٍّ لَكَ وَ لَا تَثْرِيبٍ عَلَيْكَ-  فَلَقَدْ أَحْسَنْتَ الْوِلَايَةَ وَ أَدَّيْتَ الْأَمَانَةَ-  فَأَقْبِلْ غَيْرَ ظَنِينٍ وَ لَا مَلُومٍ-  وَ لَا مُتَّهَمٍ وَ لَا مَأْثُومٍ-  فَقَدْ أَرَدْتُ الْمَسِيرَ إِلَى ظَلَمَةِ أَهْلِ الشَّامِ-  وَ أَحْبَبْتُ أَنْ تَشْهَدَ مَعِي-  فَإِنَّكَ مِمَّنْ أَسْتَظْهِرُ بِهِ عَلَى جِهَادِ الْعَدُوِّ-  وَ إِقَامَةِ عَمُودِ الدِّينِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ

عمر بن أبي سلمة و نسبه و بعض أخباره

أما عمر بن أبي سلمة فهو ربيب رسول الله ص-  و أبوه أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر-  بن مخزوم بن يقظة-  يكنى أبا حفص-  ولد في السنة الثانية من الهجرة بأرض الحبشة-  و قيل إنه كان يوم قبض رسول الله ص ابن تسع سنين-  و توفي في المدينة في خلافة عبد الملك-  سنة ثلاث و ثمانين-  و قد حفظ عن رسول الله ص الحديث-  و روى عنه سعيد بن المسيب و غيره-  ذكرذلك كله ابن عبد البر في كتاب الإستيعاب

النعمان بن عجلان و نسبه و بعض أخباره

و أما النعمان بن عجلان الزرقي فمن الأنصار-  ثم من بني زريق-  و هو الذي خلف على خولة-  زوجة حمزة بن عبد المطلب رحمه الله بعد قتله-  قال ابن عبد البر في كتاب الإستيعاب-  كان النعمان هذا لسان الأنصار و شاعرهم-  و يقال إنه كان رجلا أحمر قصيرا تزدريه العين-  إلا أنه كان سيدا و هو القائل يوم السقيفة- 

و قلتم حرام نصب سعد و نصبكم
عتيق بن عثمان حلال أبا بكر

و أهل أبو بكر لها خير قائم‏
و إن عليا كان أخلق بالأمر

و إن هوانا في علي و إنه
لأهل لها من حيث يدرى و لا يدرى‏

قوله و لا تثريب عليك-  فالتثريب الاستقصاء في اللوم-  و يقال ثربت عليه و عربت عليه-  إذا قبحت عليه فعله- . و الظنين المتهم و الظنة التهمة و الجمع الظنن-  يقول قد أظن زيد عمرا-  و الألف ألف وصل و الظاء مشددة-  و النون مشددة أيضا-  و جاء بالطاء المهملة أيضا أي اتهمه-  و في حديث ابن سيرين-  لم يكن علي ع يظن في قتل عثمان-  الحرفان مشددان و هو يفتعل من يظنن و أدغم-  قال الشاعر

    و ما كل من يظنني أنا معتب
و ما كل ما يروى علي أقول‏

 شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 16

 

نامه 40 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

40 و من كتاب له ع إلى بعض عماله

أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنِي عَنْكَ أَمْرٌ-  إِنْ كُنْتَ فَعَلْتَهُ فَقَدْ أَسْخَطْتَ رَبَّكَ-  وَ عَصَيْتَ إِمَامَكَ وَ أَخْزَيْتَ أَمَانَتَكَ-  بَلَغَنِي أَنَّكَ جَرَّدْتَ الْأَرْضَ فَأَخَذْتَ مَا تَحْتَ قَدَمَيْكَ-  وَ أَكَلْتَ مَا تَحْتَ يَدَيْكَ فَارْفَعْ إِلَيَّ حِسَابَكَ-  وَ اعْلَمْ أَنَّ حِسَابَ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ حِسَابِ النَّاسِ وَ السَّلَامُ

أخزيت أمانتك أذللتها و أهنتها-  و جردت الأرض قشرتها-  و المعنى أنه نسبه إلى الخيانة في المال-  و إلى إخراب الضياع-  و في حكمة أبرويز أنه قال لخازن بيت المال-  إني لا أحتملك على خيانة درهم-  و لا أحمدك على حفظ عشرة آلاف ألف درهم-  لأنك إنما تحقن بذلك دمك و تعمر به أمانتك-  و إنك إن خنت قليلا خنت كثيرا-  فاحترس من خصلتين-  من النقصان فيما تأخذ و من الزيادة فيما تعطي- 

و اعلم أني لم أجعلك على ذخائر الملك-  و عمارة المملكة و العدة على العدو-  إلا و أنت أمين عندي من الموضع الذي هي فيه-  و من خواتمها التي هي عليها-  فحقق ظني في اختياري إياك أحقق ظنك في رجائك لي-  و لا تتعوض بخير شرا و لا برفعة ضعة-  و لا بسلامة ندامة و لا بأمانة خيانة- .

 

و في الحديث المرفوع من ولي لنا عملا فليتزوج-  و ليتخذ مسكنا و مركبا و خادما-  فمن اتخذ سوى ذلك جاء يوم القيامة عادلا غالا سارقاو قال عمر في وصيته لابن مسعود-  إياك و الهدية و ليست بحرام-  و لكني أخاف عليك الدالة- . و أهدى رجل لعمر فخذ جزور فقبله-  ثم ارتفع إليه بعد أيام مع خصم له-  فجعل في أثناء الكلام يقول-  يا أمير المؤمنين افصل القضاء بيني و بينه-  كما يفصل فخذ الجزور-  فقضى عمر عليه ثم قام فخطب الناس-  و حرم الهدايا على الولاة و القضاة- . و أهدى إنسان إلى المغيرة سراجا من شبه-  و أهدى آخر إليه بغلا-  ثم اتفقت لهما خصومة في أمر فترافعا إليه-  فجعل صاحب السراج يقول-  إن أمري أضوأ من السراج-  فلما أكثر قال المغيرة ويحك-  إن البغل يرمح السراج فيكسره- . و مر عمر ببناء يبنى بآجر و جص لبعض عماله-  فقال أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها-  و روي هذا الكلام عن علي ع-  و كان عمر يقول على كل عامل أمينان الماء و الطين- . و لما قدم أبو هريرة من البحرين قال له عمر-  يا عدو الله و عدو كتابه-  أ سرقت مال الله تعالى- 

قال أبو هريرة لست بعدو الله و لا عدو كتابه-  و لكني عدو من عاداهما و لم أسرق مال الله-  فضربه بجريدة على رأسه ثم ثناه بالدرة-  و أغرمه عشرة آلاف درهم-  ثم أحضره فقال يا أبا هريرة-  من أين لك عشرة آلاف درهم-  قال خيلي تناسلت و عطائي تلاحق و سهامي تتابعت-  قال عمر كلا و الله ثم تركه أياما-  ثم قال له أ لا تعمل قال لا-  قال قد عمل من هو خير منك يا أبا هريرة-  قال من هو قال يوسف الصديق-  فقال أبو هريرة إن يوسف عمل لمن لم يضرب رأسه‏و ظهره-  و لا شتم عرضه و لا نزع ماله-  لا و الله لا أعمل لك أبدا- . و كان زياد إذا ولى رجلا قال له-  خذ عهدك و سر إلى عملك- 

و اعلم أنك محاسب رأس سنتك-  و أنك ستصير إلى أربع خصال فاختر لنفسك-  إنا إن وجدناك أمينا ضعيفا استبدلنا بك لضعفك-  و سلمتك من معرتنا أمانتك-  و إن وجدناك خائنا قويا استعنا بقوتك-  و أحسنا أدبك على خيانتك و أوجعنا ظهرك-  و أثقلنا غرمك-  و إن جمعت علينا الجرمين جمعنا عليك المضرتين-  و إن وجدناك أمينا قويا زدنا رزقك-  و رفعنا ذكرك و كثرنا مالك-  و أوطأنا الرجال عقبك- . و وصف أعرابي عاملا خائنا فقال-  الناس يأكلون أماناتهم لقما-  و هو يحسوها حسوا- . قال أنس بن أبي إياس الدؤلي لحارثة بن بدر الغداني-  و قد ولي سرق-  و يقال إنها لأبي الأسود- 

   أ حار بن بدر قد وليت ولاية
فكن جرذا فيها تخون و تسرق‏

و لا تحقرن يا حار شيئا أصبته‏
فحظك من ملك العراقين سرق‏

و باه تميما بالغنى إن للغني
لسانا به المرء الهيوبة ينطق‏

فإن جميع الناس إما مكذب‏
يقول بما تهوى و إما مصدق‏

يقولون أقوالا و لا يتبعونها
و إن قيل هاتوا حققوا لم يحققوا

فيقال إنها بلغت حارثة بن بدر فقال-  أصاب الله به الرشاد-  فلم يعد بإشارته ما في نفسي

 شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 16