خطبه 139 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(الشورى)

139 و من كلام له ع في وقت الشورى

لَنْ يُسْرِعَ أَحَدٌ قَبْلِي إِلَى دَعْوَةِ حَقٍّ- وَ صِلَةِ رَحِمٍ وَ عَائِدَةِ كَرَمٍ- فَاسْمَعُوا قَوْلِي وَ عُوا مَنْطِقِي- عَسَى أَنْ تَرَوْا هَذَا الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِ هَذَا الْيَوْمِ- تُنْتَضَى فِيهِ السُّيُوفُ وَ تُخَانُ فِيهِ الْعُهُودُ- حَتَّى يَكُونَ بَعْضُكُمْ أَئِمَّةً لِأَهْلِ الضَّلَالَةِ- وَ شِيعَةً لِأَهْلِ الْجَهَالَةِ هذا من جملة كلام قاله ع لأهل الشورى بعد وفاة عمر

من أخبار يوم الشورى و تولية عثمان

و قد ذكرنا من حديث الشورى فيما تقدم ما فيه كفاية- و نحن نذكر هاهنا ما لم نذكره هناك- و هو من رواية عوانة عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي- في كتاب الشورى و مقتل عثمان- و قد رواه أيضا أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري- في زيادات كتاب السقيفة قال- لما طعن عمر جعل الأمر شورى بين ستة نفر- علي بن أبي طالب و عثمان بن عفان- و عبد الرحمن بن عوف و الزبير بن العوام- و طلحة بن عبيد الله و سعد بن مالك- و كان‏طلحة يومئذ بالشام- و قال عمر إن رسول الله ص قبض- و هو عن هؤلاء راض- فهم أحق بهذا الأمر من غيرهم- و أوصى صهيب بن سنان مولى عبد الله بن جدعان- و يقال إن أصله من حي من ربيعة بن نزار يقال لهم عنزة- فأمره أن يصلي بالناس حتى يرضى هؤلاء القوم رجلا منهم- و كان عمر لا يشك أن هذا الأمر صائر إلى أحد الرجلين- علي و عثمان و قال إن قدم طلحة فهو معهم- و إلا فلتختر الخمسة واحدا منها-

و روي أن عمر قبل موته- أخرج سعد بن مالك من أهل الشورى و قال- الأمر في هؤلاء الأربعة- و دعوا سعدا على حاله أميرا بين يدي الإمام- ثم قال و لو كان أبو عبيدة بن الجراح حيا- لما تخالجتني فيه الشكوك- فإن اجتمع ثلاثة على واحد فكونوا مع الثلاثة- و إن اختلفوا فكونوا مع الجانب الذي فيه عبد الرحمن- .

و قال لأبي طلحة الأنصاري يا أبا طلحة- فو الله لطالما أعز الله بكم الدين- و نصر بكم الإسلام اختر من المسلمين خمسين رجلا- فائت بهم هؤلاء القوم في كل يوم مرة- فاستحثوهم حتى يختاروا لأنفسهم و للأمة رجلا منهم- .

ثم جمع قوما من المهاجرين و الأنصار- فأعلمهم ما أوصى به- و كتب في وصيته أن يولي الإمام سعد بن مالك الكوفة- و أبا موسى الأشعري لأنه كان عزل سعدا عن سخطة- فأحب أن يطلب ذلك- إلى من يقوم بالأمر من بعده استرضاء لسعد- . قال الشعبي فحدثني من لا أتهمه من الأنصار- و قال أحمد بن عبد العزيز الجوهري- هو سهل بن سعد الأنصاري قال- مشيت وراء علي بن أبي طالب- حيث انصرف من عند عمر- و العباس بن عبد المطلب يمشي في جانبه- فسمعته يقول للعباس ذهبت منا و الله- فقال كيف علمت قال أ لا تسمعه يقول- كونوا في الجانب الذي فيه عبد الرحمن- لأنه ابن عمه و عبد الرحمن نظير عثمان و هو صهره- فإذا اجتمع هؤلاء- فلو أن الرجلين‏الباقيين كانا معي لم يغنيا عني شيئا- مع أني لست أرجو إلا أحدهما- و مع ذلك فقد أحب عمر أن يعلمنا- أن لعبد الرحمن عنده فضلا علينا- لعمر الله ما جعل الله ذلك لهم علينا- كما لم يجعله لأولادهم على أولادنا- أما و الله لئن عمر لم يمت لأذكرته ما أتى إلينا قديما- و لأعلمته سوء رأيه فينا و ما أتى إلينا حديثا- و لئن مات و ليموتن- ليجتمعن هؤلاء القوم على أن يصرفوا هذا الأمر عنا- و لئن فعلوها و ليفعلن ليرونني حيث يكرهون- و الله ما بي رغبة في السلطان و لا حب الدنيا- و لكن لإظهار العدل و القيام بالكتاب و السنة- . قال ثم التفت فرآني وراءه- فعرفت أنه قد ساءه ذلك فقلت لا ترع أبا حسن- لا و الله لا يستمع أحد الذي سمعت منك في الدنيا- ما اصطحبنا فيها- فو الله ما سمعه مني مخلوق حتى قبض الله عليا إلى رحمته- .

قال عوانة فحدثنا إسماعيل قال حدثني الشعبي قال- فلما مات عمر و أدرج في أكفانه ثم وضع ليصلى عليه- تقدم علي بن أبي طالب فقام عند رأسه- و تقدم عثمان فقام عند رجليه- فقال علي ع هكذا ينبغي أن تكون الصلاة- فقال عثمان بل هكذا فقال عبد الرحمن ما أسرع ما اختلفتم- يا صهيب صل على عمر كما رضي أن تصلي بهم المكتوبة- فتقدم صهيب فصلى على عمر- . قال الشعبي و أدخل أهل الشورى دارا- فأقبلوا يتجادلون عليها و كلهم بها ضنين- و عليها حريص إما لدنيا و إما لآخرة- فلما طال ذلك قال عبد الرحمن- من رجل منكم يخرج نفسه عن هذا الأمر- و يختار لهذه الأمة رجلا منكم- فإني طيبة نفسي أن أخرج منها و أختار لكم- قالوا قد رضينا إلا علي بن أبي طالب فإنه اتهمه-

و قال أنظر و أرى فأقبل أبو طلحة عليه و قال- يا أبا الحسن ارض برأي عبد الرحمن- كان الأمر لك أو لغيرك- فقال علي أعطني يا عبد الرحمن موثقا من الله لتؤثرن الحق- و لا تتبع الهوى‏و لا تمل إلى صهر و لا ذي قرابة- و لا تعمل إلا لله و لا تألو هذه الأمة أن تختار لها خيرها- قال فحلف له عبد الرحمن بالله- الذي لا إله إلا هو- لأجتهدن لنفسي و لكم و للأمة- و لا أميل إلى هوى و لا إلى صهر و لا ذي قرابة- قال فخرج عبد الرحمن- فمكث ثلاثة أيام يشاور الناس- ثم رجع و اجتمع الناس- و كثروا على الباب لا يشكون أنه يبايع علي بن أبي طالب- و كان هوى قريش كافة ما عدا بني هاشم في عثمان- و هوى طائفة من الأنصار مع علي- و هوى طائفة أخرى مع عثمان- و هي أقل الطائفتين و طائفة لا يبالون أيهما بويع- .

قال فأقبل المقداد بن عمرو و الناس مجتمعون- فقال أيها الناس اسمعوا ما أقول أنا المقداد بن عمرو- إنكم إن بايعتم عليا سمعنا و أطعنا- و إن بايعتم عثمان سمعنا و عصينا- فقام عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي- فنادى أيها الناس إنكم إن بايعتم عثمان سمعنا و أطعنا- و إن بايعتم عليا سمعنا و عصينا- فقال له المقداد يا عدو الله و عدو رسوله و عدو كتابه- و متى كان مثلك يسمع له الصالحون- فقال له عبد الله يا ابن الحليف العسيف- و متى كان مثلك يجترئ على الدخول في أمر قريش- .

فقال عبد الله بن سعد بن أبي سرح- أيها الملأ إن أردتم ألا تختلف قريش فيما بينها- فبايعوا عثمان فقال عمار بن ياسر- إن أردتم ألا يختلف المسلمون فيما بينهم فبايعوا عليا- ثم أقبل على عبد الله بن سعد بن أبي سرح فقال- يا فاسق يا ابن الفاسق أ أنت ممن يستنصحه المسلمون- أو يستشيرونه في أمورهم- و ارتفعت الأصوات و نادى مناد لا يدرى من هو- فقريش تزعم أنه رجل من بني مخزوم- و الأنصار تزعم أنه رجل طوال آدم مشرف على الناس- لا يعرفه أحد منهم- يا عبد الرحمن افرغ من أمرك- و امض على ما في نفسك فإنه الصواب- .

قال الشعبي فأقبل عبد الرحمن على علي بن أبي طالب فقال- عليك عهد الله و ميثاقه- و أشد ما أخذ الله على النبيين من عهد و ميثاق- إن بايعتك لتعملن بكتاب الله و سنة رسوله- و سيرة أبي بكر و عمر- فقال علي ع طاقتي و مبلغ علمي و جهد رأيي و الناس يسمعون- . فأقبل على عثمان فقال له مثل ذلك- فقال نعم لا أزول عنه و لا أدع شيئا منه- ثم أقبل على علي فقال له ذلك ثلاث مرات- و لعثمان ثلاث مرات- في كل ذلك يجيب علي مثل ما كان أجاب به- و يجيب عثمان بمثل ما كان أجاب به- . فقال ابسط يدك يا عثمان فبسط يده فبايعه- و قام القوم فخرجوا- و قد بايعوا إلا علي بن أبي طالب فإنه لم يبايع- .

قال فخرج عثمان على الناس و وجهه متهلل- و خرج علي و هو كاسف البال مظلم- و هو يقول يا ابن عوف ليس هذا بأول يوم تظاهرتم علينا- من دفعنا عن حقنا و الاستئثار علينا- و إنها لسنة علينا و طريقة تركتموها- . فقال المغيرة بن شعبة لعثمان- أ ما و الله لو بويع غيرك لما بايعناه- فقال عبد الرحمن بن عوف كذبت- و الله لو بويع غيره لبايعته- و ما أنت و ذاك يا ابن الدباغة- و الله لو وليها غيره لقلت له مثل ما قلت الآن- تقربا إليه و طمعا في الدنيا فاذهب لا أبا لك- . فقال المغيرة لو لا مكان أمير المؤمنين لأسمعتك ما تكره و مضيا- .

قال الشعبي فلما دخل عثمان رحله- دخل إليه بنو أمية حتى امتلأت بهم الدار- ثم أغلقوها عليهم- فقال أبو سفيان بن حرب- أ عندكم أحد من غيركم قالوا لا- قال يا بني أمية تلقفوها تلقف الكرة- فو الذي يحلف به أبو سفيان ما من عذاب و لا حساب- و لا جنة و لا نار و لا بعث و لا قيامة- .

قال فانتهره عثمان و ساءه بما قال و أمر بإخراجه- . قال الشعبي فدخل عبد الرحمن بن عوف على عثمان- فقال له ما صنعت فو الله ما وفقت حيث تدخل رحلك قبل أن تصعد المنبر- فتحمد الله و تثني عليه- و تأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر و تعد الناس خيرا- . قال فخرج عثمان فصعد المنبر- فحمد الله و أثنى عليه ثم قال- هذا مقام لم نكن نقومه- و لم نعد له من الكلام الذي يقام به في مثله- و سأهيئ ذلك إن شاء الله- و لن آلو أمة محمد خيرا و الله المستعان- . ثم نزل- .

قال عوانة فحدثني يزيد بن جرير عن الشعبي عن شقيق بن مسلمة أن علي بن أبي طالب- لما انصرف إلى رحله قال لبني أبيه- يا بني عبد المطلب إن قومكم عادوكم بعد وفاة النبي- كعداوتهم النبي في حياته- و إن يطع قومكم لا تؤمروا أبدا- و و الله لا ينيب هؤلاء إلى الحق إلا بالسيف قال و عبد الله بن عمر بن الخطاب داخل إليهم- قد سمع الكلام كله فدخل- و قال يا أبا الحسن أ تريد أن تضرب بعضهم ببعض- فقال اسكت ويحك فو الله لو لا أبوك و ما ركب مني قديما و حديثا- ما نازعني ابن عفان و لا ابن عوف  فقام عبد الله فخرج- .

قال و أكثر الناس في أمر الهرمزان و عبيد الله بن عمر- و قتله إياه و بلغ ما قال فيه علي بن أبي طالب- فقام عثمان فصعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه- ثم قال أيها الناس إنه كان من قضاء الله- أن عبيد الله بن عمر بن الخطاب أصاب الهرمزان- و هو رجل من‏المسلمين و ليس له وارث إلا الله و المسلمون- و أنا إمامكم و قد عفوت- أ فتعفون عن عبيد الله ابن خليفتكم بالأمس قالوا نعم- فعفا عنه فلما بلغ ذلك عليا تضاحك و قال- سبحان الله لقد بدأ بها عثمان- أ يعفو عن حق امرئ ليس بواليه- تالله إن هذا لهو العجب- قالوا فكان ذلك أول ما بدا من عثمان مما نقم عليه- .

قال الشعبي و خرج المقداد من الغد- فلقي عبد الرحمن بن عوف فأخذ بيده و قال- إن كنت أردت بما صنعت وجه الله- فأثابك الله ثواب الدنيا و الآخرة- و إن كنت إنما أردت الدنيا فأكثر الله مالك- فقال عبد الرحمن اسمع رحمك الله اسمع- قال لا أسمع و الله و جذب يده من يده- و مضى حتى دخل على علي ع- فقال قم فقاتل حتى نقاتل معك- قال علي فبمن أقاتل رحمك الله- و أقبل عمار بن ياسر ينادي-

يا ناعي الإسلام قم فانعه
قد مات عرف و بدا نكر

أما و الله لو أن لي أعوانا لقاتلتهم- و الله لئن قاتلهم واحد لأكونن له ثانيا-فقال علي يا أبا اليقظان و الله لا أجد عليهم أعوانا- و لا أحب أن أعرضكم لما لا تطيقون- و بقي ع في داره و عنده نفر من أهل بيته- و ليس يدخل إليه أحد مخافة عثمان- . قال الشعبي و اجتمع أهل الشورى- على أن تكون كلمتهم واحدة على من لم يبايع- فقاموا إلى علي فقالوا قم فبايع عثمان- قال فإن لم أفعل قالوا نجاهدك- قال فمشى إلى عثمان حتى بايعه و هو يقول صدق الله و رسوله- فلما بايع أتاه عبد الرحمن بن عوف- فاعتذر إليه و قال إن عثمان أعطانا يده و يمينه و لم تفعل أنت- فأحببت أن أتوثق للمسلمين فجعلتها فيه- فقال إيها عنك إنما آثرته بها لتنالها بعده- دق الله بينكما عطر منشم- .

قال الشعبي و قدم طلحة من الشام بعد ما بويع عثمان- فقيل له رد هذا الأمر حتى ترى فيه رأيك فقال- و الله لو بايعتم شركم لرضيت- فكيف و قد بايعتم خيركم- قال ثم عدا عليه بعد ذلك و صاحبه حتى قتلاه- ثم زعما أنهما يطلبان بدمه- . قال الشعبي فأما ما يذكره الناس من المناشدة- وقول علي ع لأهل الشورى أ فيكم أحد قال له رسول الله ص كذا- فإنه لم يكن يوم البيعة- و إنما كان بعد ذلك بقليل- دخل علي ع على عثمان و عنده جماعة من الناس- منهم أهل الشورى- و قد كان بلغه عنهم هنات و قوارص- فقال لهم أ فيكم أ فيكم كل ذلك يقولون لا-

قال لكني أخبركم عن أنفسكم- أما أنت يا عثمان ففررت يوم حنين- و توليت يوم التقى الجمعان- و أما أنت يا طلحة فقلت- إن مات محمد لنركضن بين خلاخيل نسائه- كما ركض بين خلاخيل نسائنا- و أما أنت يا عبد الرحمن فصاحب قراريط- و أما أنت يا سعد فتدق عن أن تذكرقال ثم خرج فقال عثمان- أ ما كان فيكم أحد يرد عليه قالوا- و ما منعك من ذلك و أنت أمير المؤمنين و تفرقوا- قال عوانة قال إسماعيل قال الشعبي فحدثني عبد الرحمن بن جندب عن أبيه جندب بن عبد الله الأزدي قال كنت جالسا بالمدينة حيث بويع عثمان- فجئت فجلست إلى المقداد بن عمرو فسمعته يقول- و الله ما رأيت مثل ما أتي إلى أهل هذا البيت- و كان عبد الرحمن بن عوف جالسا- فقال و ما أنت و ذاك يا مقداد- قال المقداد إني و الله أحبهم لحب رسول الله ص- و إني لأعجب من قريش و تطاولهم على الناس بفضل رسول الله- ثم انتزاعهم سلطانه من أهله- قال عبد الرحمن أما و الله لقد أجهدت نفسي‏لكم- قال المقداد أما و الله لقد تركت رجلا من الذين- يأمرون بالحق و به يعدلون- أما و الله لو أن لي على قريش أعوانا- لقاتلتهم قتالي إياهم ببدر و أحد- فقال عبد الرحمن ثكلتك أمك- لا يسمعن هذا الكلام الناس- فإني أخاف أن تكون صاحب فتنة و فرقة- . قال المقداد إن من دعا إلى الحق و أهله و ولاة الأمر لا يكون صاحب فتنة- و لكن من أقحم الناس في الباطل- و آثر الهوى على الحق فذلك صاحب الفتنة و الفرقة- .

قال فتربد وجه عبد الرحمن ثم قال- لو أعلم أنك إياي تعني لكان لي و لك شأن- . قال المقداد إياي تهدد يا ابن أم عبد الرحمن- ثم قام عن عبد الرحمن فانصرف- . قال جندب بن عبد الله فاتبعته- و قلت له يا عبد الله أنا من أعوانك فقال رحمك الله- إن هذا الأمر لا يغني فيه الرجلان و لا الثلاثة- قال فدخلت من فوري ذلك على علي ع- فلما جلست إليه قلت يا أبا الحسن- و الله ما أصاب قومك بصرف هذا الأمر عنك- فقال صبر جميل و الله المستعان- .

فقلت و الله إنك لصبور- قال فإن لم أصبر فما ذا أصنع- قلت إني جلست إلى المقداد بن عمرو آنفا و عبد الرحمن بن عوف- فقالا كذا و كذا ثم قام المقداد فاتبعته- فقلت له كذا فقال لي كذا- فقال علي ع لقد صدق المقداد فما أصنع- فقلت تقوم في الناس فتدعوهم إلى نفسك- و تخبرهم أنك أولى بالنبي ص- و تسألهم النصر على هؤلاء المظاهرين عليك- فإن أجابك عشرة من مائة شددت بهم على الباقين- فإن دانوا لك فذاك و إلا قاتلتهم و كنت أولى بالعذر- قتلت أو بقيت و كنت أعلى عند الله حجة- . فقال أ ترجو يا جندب أن يبايعني من كل عشرة واحد- قلت أرجو ذلك قال لكني لا أرجو ذلك- لا و الله و لا من المائة واحد و سأخبرك- أن الناس إنما ينظرون‏إلى قريش- فيقولون هم قوم محمد و قبيله- و أما قريش بينها فتقول- إن آل محمد يرون لهم على الناس بنبوته فضلا- و يرون أنهم أولياء هذا الأمر دون قريش- و دون غيرهم من الناس- و هم إن ولوه لم يخرج السلطان منهم إلى أحد أبدا- و متى كان في غيرهم تداولته قريش بينها- لا و الله لا يدفع الناس إلينا هذا الأمر طائعين أبدا- . فقلت جعلت فداك يا ابن عم رسول الله- لقد صدعت قلبي بهذا القول- أ فلا أرجع إلى المصر فأوذن الناس بمقالتك- و أدعو الناس إليك فقال يا جندب ليس هذا زمان ذاك- .

قال فانصرفت إلى العراق- فكنت أذكر فضل علي على الناس- فلا أعدم رجلا يقول لي ما أكره- و أحسن ما أسمعه قول من يقول- دع عنك هذا و خذ فيما ينفعك- فأقول إن هذا مما ينفعني و ينفعك فيقوم عني و يدعني- . و زاد أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري- حتى رفع ذلك من قولي إلى الوليد بن عقبة أيام ولينا- فبعث إلي فحبسني حتى كلم في فخلى سبيلي- . و روى الجوهري قال نادى عمار بن ياسر ذلك اليوم- يا معشر المسلمين- إنا قد كنا و ما كنا نستطيع الكلام قلة و ذلة- فأعزنا الله بدينه و أكرمنا برسوله- فالحمد لله رب العالمين- يا معشر قريش إلى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم- تحولونه هاهنا مرة و هاهنا مرة- ما أنا آمن أن ينزعه الله منكم و يضعه في غيركم- كما نزعتموه من أهله و وضعتموه في غير أهله- . فقال له هاشم بن الوليد بن المغيرة- يا ابن سمية لقد عدوت طورك و ما عرفت قدرك- ما أنت و ما رأت قريش لأنفسها- إنك لست في شي‏ء من أمرها و إماراتها فتنح عنها- . و تكلمت قريش بأجمعها فصاحوا بعمار و انتهروه- فقال الحمد لله رب العالمين- ما زال أعوان الحق أذلاء ثم قام فانصرف

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 9

خطبه 138 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

138 و من خطبة له ع يومئ فيها إلى ذكر الملاحم

يَعْطِفُ الْهَوَى عَلَى الْهُدَى- إِذَا عَطَفُوا الْهُدَى عَلَى الْهَوَى- وَ يَعْطِفُ الرَّأْيَ عَلَى الْقُرْآنِ- إِذَا عَطَفُوا الْقُرْآنَ عَلَى الرَّأْيِ هذا إشارة إلى إمام يخلقه الله تعالى في آخر الزمان- و هو الموعود به في الأخبار و الآثار- و معنى يعطف الهوى- يقهره و يثنيه عن جانب الإيثار و الإرادة- عاملا عمل الهدى- فيجعل الهدى قاهرا له و ظاهرا عليه- . و كذلك قوله و يعطف الرأي على القرآن- أي يقهر حكم الرأي و القياس- و العمل بغلبة الظن عاملا عمل القرآن- . و قوله إذا عطفوا الهدى و إذا عطفوا القرآن- إشارة إلى الفرق المخالفين لهذا الإمام المشاقين له- الذين لا يعملون بالهدى بل بالهوى- و لا يحكمون بالقرآن بل بالرأي‏:

مِنْهَا- حَتَّى تَقُومَ الْحَرْبُ بِكُمْ عَلَى سَاقٍ بَادِياً نَوَاجِذُهَا- مَمْلُوءَةً أَخْلَافُهَا حُلْواً رَضَاعُهَا عَلْقَماً عَاقِبَتُهَا- أَلَا وَ فِي غَدٍ وَ سَيَأْتِي غَدٌ بِمَا لَا تَعْرِفُونَ- يَأْخُذُ الْوَالِي مِنْ غَيْرِهَا عُمَّالَهَا عَلَى مَسَاوِئِ أَعْمَالِهَا- وَ تَخْرُجُ لَهُ الْأَرْضُ أَفَالِيذَ كَبِدِهَا- وَ تُلْقِي إِلَيْهِ سِلْماً مَقَالِيدَهَا- فَيُرِيكُمْ كَيْفَ عَدْلُ السِّيرَةِ- وَ يُحْيِي مَيِّتَ الْكِتَابِ وَ السُّنَّةِ الساق الشدة- و منه قوله تعالى يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ- . و النواجذ أقصى الأضراس- و الكلام كناية عن بلوغ الحرب غايتها- كما أن غاية الضحك أن تبدو النواجذ- . قوله مملوءة أخلافها- و الأخلاف للناقة حلمات الضرع واحدها خلف- و كذلك و قوله حلوا رضاعها علقما عاقبتها- قد أخذه الشاعر فقال-

الحرب أول ما تكون فتية
تسعى بزينتها لكل جهول‏

حتى إذا اشتعلت و شب ضرامها
عادت عجوزا غير ذات حليل‏

شمطاء جزت رأسها و تنكرت
مكروهة للشم و التقبيل‏

و هو الرضاع بالفتح و الماضي رضع بالكسر مثل سمع سماعا- و أهل نجد يقولون رضع بالفتح يرضع بالكسر رضعا- مثل ضرب يضرب ضربا و أنشدوا-

و ذموا لنا الدنيا و هم يرضعونها
أفاويق حتى ما يدر لها ثعل‏

بكسر الضاد

فصل في الاعتراض و إيراد مثل منه

و قوله ألا و في غد تمامه يأخذ الوالي- و بين الكلام جملة اعتراضية- و هي قوله و سيأتي غد بما لا تعرفون- و المراد تعظيم شأن الغد الموعود بمجيئه- و مثل ذلك في القرآن كثير نحو قوله تعالى- فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ- وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ- إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ- فقوله تعالى إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ- هو الجواب المتلقى به قوله- فَلا أُقْسِمُ- و قد اعترض بينهما قوله- وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ- و اعترض بين هذا الاعتراض قوله لَوْ تَعْلَمُونَ- لأنك لو حذفته لبقي الكلام على إفادته- و هو قوله و إنه لقسم عظيم- و المراد تعظيم شأن ما أقسم به من مواقع النجوم- و تأكيد إجلاله في النفوس- و لا سيما بقوله لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ- .

و من ذلك قوله تعالى- وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ- وَ لَهُمْ ما يَشْتَهُونَ- فقوله سُبْحانَهُ اعتراض و المراد التنزيه- و كذلك قوله تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ- ف لَقَدْ عَلِمْتُمُ اعتراض- و المراد به تقرير إثبات البراءة من تهمة السرقة- . و كذلك قوله وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ- وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ‏مُفْتَرٍ- فاعترض بين إذا و جوابها بقوله وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ- فكأنه أراد أن يجيبهم عن دعواهم فجعل الجواب اعتراضا- .

و من ذلك قوله- وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ- حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى‏ وَهْنٍ وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ- أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ- فاعترض بقوله- حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى‏ وَهْنٍ وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ- بين وَصَّيْنَا و بين الموصى به- و فائدة ذلك إذكار الولد بما كابدته أمه- من المشقة في حمله و فصاله- . و من ذلك قوله- وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها- وَ اللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ- فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها- فقوله وَ اللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ- اعتراض بين المعطوف و المعطوف عليه- و المراد أن يقرر في أنفس السامعين- أنه لا ينفع البشر كتمانهم- و إخفاؤهم لما يريد الله إظهاره- . و من الاعتراض في الشعر قول جرير-

و لقد أراني و الجديد إلى بلى
في موكب بيض الوجوه كرام‏

فقوله و الجديد إلى بلى اعتراض- و المراد تعزيته نفسه عما مضى من تلك اللذات- . و كذلك قول كثير

لو أن الباخلين و أنت منهم
رأوك تعلموا منك المطالا

فقوله و أنت منهم اعتراض- و فائدته ألا تظن أنها ليست باخلة- .

و من ذلك قول الشاعر-

فلو سألت سراة الحي سلمى
على أن قد تلون بي زماني‏

لخبرها ذوو أحساب قومي‏
و أعدائي فكل قد بلاني‏

بذبي الذم عن حسبي و مالي
و زبونات أشوس تيحان‏

و إني لا أزال أخا حروب‏
إذا لم أجن كنت مجن جاني‏

فقوله
على أن قد تلون بي زماني‏

اعتراض- و فائدته الإخبار عن أن السن قد أخذت منه- و تغيرت بطول العمر أوصافه- . و من ذلك قول أبي تمام-

رددت رونق وجهي في صحيفته
رد الصقال بهاء الصارم الخذم‏

و ما أبالي و خير القول أصدقه‏
حقنت لي ماء وجهي أم حقنت دمي‏

فقولهو خير القول أصدقه‏اعتراض- و فائدته إثبات صدقه في دعواه أنه لا يبالي أيهما حقن- . فأما قول أبي تمام أيضا-

و إن الغنى لي إن لحظت مطالبي
من الشعر إلا في مديحك أطوع‏

فإن الاعتراض فيه هو قولهإلا في مديحك‏- و ليس قولهإن لحظت مطالبي‏اعتراضا- كما زعم ابن الأثير الموصلي- لأن فائدة البيت معلقة عليه- لأنه لا يريد أن الغنى‏لي على كل حال أطوع من الشعر- و كيف يريد هذا و هو كلام فاسد مختل- بل مراده أن الغنى لي بشرط أن تلحظ مطالبي من الشعر أطوع لي- إلا في مديحك- فإن الشعر في مديحك أطوع لي منه- و إذا كانت الفائدة معلقة بالشرط المذكور لم يكن اعتراضا- و كذلك وهم ابن الأثير أيضا في قول إمرئ القيس-

فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة
كفاني و لم أطلب قليل من المال‏

و لكنما أسعى لمجد مؤثل‏
و قد يدرك المجد المؤثل أمثالي‏

فقال إن قوله و لم أطلب اعتراض و ليس بصحيح- لأن فائدة البيت مرتبطة به- و تقديره لو سعيت لأن آكل و أشرب لكفاني القليل- و لم أطلب الملك فكيف يكون قوله- و لم أطلب الملك اعتراضا- و من شأن الاعتراض أن يكون فضلة ترد لتحسين و تكملة- و ليست فائدته أصلية- . و قد يأتي الاعتراض و لا فائدة فيه- و هو غير مستحسن نحو قول النابغة-

يقول رجال يجهلون خليقتي
لعل زيادا لا أبا لك غافل‏

فقوله لا أبا لك اعتراض لا معنى تحته هاهنا- و مثله قول زهير

سئمت تكاليف الحياة و من يعش
ثمانين حولا لا أبا لك يسأم‏

فإن جاءت لا أبا لك تعطي معنى يليق بالموضع- فهي اعتراض جيد نحو قول أبي تمام-عتابك عني لا أبا لك و اقصدي‏- . فإنه أراد زجرها و ذمها لما أسرفت في عتابه- .و قد يأتي الاعتراض على غاية من القبح و الاستهجان- و هو على سبيل التقديم و التأخير- نحو قول الشاعر-

فقد و الشك بين لي عناء
بوشك فراقهم صرد فصيح‏

تقديره فقد بين لي صرد يصيح بوشك فراقهم و الشك عناء- فلأجل قوله و الشك عناء بين قد و الفعل الماضي- و هو بين عد اعتراضا مستهجنا- و أمثال هذا للعرب كثير- . قوله ع يأخذ الوالي من غيرها عمالها على مساوئ أعمالها- كلام منقطع عما قبله- و قد كان تقدم ذكر طائفة من الناس ذات ملك و أمره- فذكر ع أن الوالي يعني الإمام- الذي يخلقه الله تعالى في آخر الزمان- يأخذ عمال هذه الطائفة على سوء أعمالهم- و على هاهنا متعلقة بيأخذ التي هي بمعنى يؤاخذ- من قولك أخذته بذنبه و آخذته و الهمز أفصح- .

و الأفاليذ جمع أفلاذ و أفلاذ جمع فلذ- و هي القطعة من الكبد- و هذا كناية عن الكنوز التي تظهر للقائم بالأمر- و قد جاء ذكر ذلك في خبر مرفوع في لفظة- و قاءت له الأرض أفلاذ كبدها- و قد فسر قوله تعالى وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها- بذلك في بعض التفاسير- . و المقاليد المفاتيح: مِنْهَا- كَأَنِّي بِهِ قَدْ نَعَقَ بِالشَّامِ- وَ فَحَصَ بِرَايَاتِهِ فِي ضَوَاحِي كُوفَانَ- فَعَطَفَ عَلَيْهَا عَطْفَ الضَّرُوسِ- وَ فَرَشَ الْأَرْضَ بِالرُّءُوسِ- قَدْ فَغَرَتْ فَاغِرَتُهُ وَ ثَقُلَتْ فِي الْأَرْضِ وَطْأَتُهُ بَعِيدَ الْجَوْلَةِ عَظِيمَ الصَّوْلَةِ-وَ اللَّهِ لَيُشَرِّدَنَّكُمْ فِي أَطْرَافِ الْأَرْضِ- حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْكُمْ إِلَّا قَلِيلٌ كَالْكُحْلِ فِي الْعَيْنِ- فَلَا تَزَالُونَ كَذَلِكَ- حَتَّى تَئُوبَ إِلَى الْعَرَبِ عَوَازِبُ أَحْلَامِهَا- فَالْزَمُوا السُّنَنَ الْقَائِمَةَ وَ الآْثَارَ الْبَيِّنَةَ- وَ الْعَهْدَ الْقَرِيبَ الَّذِي عَلَيْهِ بَاقِي النُّبُوَّةِ- وَ اعْلَمُوا أَنَّ الشَّيْطَانَ- إِنَّمَا يُسَنِّي لَكُمْ طُرُقَهُ لِتَتَّبِعُوا عَقِبَهُ هذا إخبار عن عبد الملك بن مروان- و ظهوره بالشام و ملكه بعد ذلك العراق- و ما قتل من العرب فيها أيام عبد الرحمن بن الأشعث- و قتله أيام مصعب بن الزبير- .

و نعق الراعي بغنمه بالعين المهملة- و نغق الغراب بالغين المعجمة- و فحص براياته هاهنا مفعول محذوف- تقديره و فحص الناس براياته أي نحاهم و قلبهم يمينا و شمالا- . و كوفان اسم الكوفة و ضواحيها ما قرب منها من القرى- و الضروس الناقة السيئة الخلق تعض حالبها- قال بشر بن أبي خازم-

عطفنا لهم عطف الضروس من الملا
بشهباء لا يمشي الضراء رقيبها

و قوله و فرش الأرض بالرءوس- غطاها بها كما يغطى المكان بالفراش- . و فغرت فاغرته كأنه يقول فتح فاه- و الكلام استعارة و فغر فعل يتعدى و لا يتعدى- و ثقلت في الأرض وطأته كناية عن الجور و الظلم- . بعيد الجولة استعارة أيضا- و المعنى أن تطواف خيوله و جيوشه في البلاد- أو جولان رجاله في الحرب على الأقران طويل جدا- لا يتعقبه السكون إلا نادرا- . و بعيد منصوب على الحال و إضافته غير محضة- .

و عوازب أحلامها ما ذهب من عقولها- عزب عنه الرأي أي بعد- . و يسني لكم طرقه أي يسهل- و العقب بكسر القاف مؤخر القدم و هي مؤنثة- . فإن قلت فإن قوله حتى تئوب- يدل على أن غاية ملكه- أن تئوب إلى العرب عوازب أحلامها- و عبد الملك مات في ملكه و لم يزل الملك عنه- بأوبة أحلام العرب إليها- فإن فائدة حتى إلى و هي موضوعة للغاية- . قلت إن ملك أولاده ملكه أيضا- و ما زال الملك عن بني مروان- حتى آبت إلى العرب عوازب أحلامها- و العرب هاهنا بنو العباس- و من اتبعهم من العرب أيام ظهور الدولة- كقحطبة بن شبيب الطائي و ابنيه حميد و الحسن- و كبني رزتني بتقديم الراء المهملة- الذين منهم طاهر بن الحسين و إسحاق بن إبراهيم المصعبي- و عداد هم  في خزاعة و غيرهم من العرب من شيعة بني العباس- و قد قيل إن أبا مسلم أيضا عربي أصله- و كل هؤلاء و آبائهم كانوا مستضعفين –  مقهورين مغمورين في دولة بني أمية- لم ينهض منهم ناهض و لا وثب إلى الملك واثب- إلى أن أفاء الله تعالى إلى هؤلاء- ما كان عزب عنهم من إبائهم و حميتهم- فغاروا للدين و المسلمين من جور بني مروان و ظلمهم- و قاموا بالأمر- و أزالوا تلك الدولة التي كرهها الله تعالى و أذن في انتقالها- .

ثم أمرهم ع بأن يلزموا بعد زوال تلك الدولة الكتاب و السنة- و العهد القريب الذي عليه باقي النبوة- يعني عهده و أيامه ع- و كأنه خاف من أن يكون بإخباره لهم- بأن دولة هذا الجبار ستنقضي- إذا آبت إلى العرب عوازب أحلامها- كالأمر لهم باتباع ولاة الدولة الجديدة في كل ما تفعله- فاستظهر عليهم بهذه الوصية و قال لهم- إذا ابتذلت الدولة فالزموا الكتاب و السنة- و العهد الذي فارقتكم عليه

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 2

خطبه 137 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(في شأن طلحة و الزبير)

137 و من كلام له ع في شأن طلحة و الزبير

وَ اللَّهِ مَا أَنْكَرُوا عَلَيَّ مُنْكَراً- وَ لَا جَعَلُوا بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ نِصْفاً- وَ إِنَّهُمْ لَيَطْلُبُونَ حَقّاً هُمْ تَرَكُوهُ وَ دَماً هُمْ سَفَكُوهُ- فَإِنْ كُنْتُ شَرِيكَهُمْ فِيهِ فَإِنَّ لَهُمْ نَصِيبَهُمْ مِنْهُ- وَ إِنْ كَانُوا وَلُوهُ دُونِي فَمَا الطَّلِبَةُ إِلَّا قِبَلَهُمْ- وَ إِنَّ أَوَّلَ عَدْلِهِمْ لَلْحُكْمُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ- وَ إِنَّ مَعِي لَبَصِيرَتِي مَا لَبَسْتُ وَ لَا لُبِسَ عَلَيَّ- وَ إِنَّهَا لَلْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ فِيهَا الْحَمَأُ وَ الْحُمَّةُ- وَ الشُّبْهَةُ الْمُغْدَفَةُ وَ إِنَّ الْأَمْرَ لَوَاضِحٌ- وَ قَدْ زَاحَ الْبَاطِلُ عَنْ نِصَابِهِ- وَ انْقَطَعَ لِسَانُهُ عَنْ شَغْبِهِ- وَ ايْمُ اللَّهِ لَأُفْرِطَنَّ لَهُمْ حَوْضاً أَنَا مَاتِحُهُ- لَا يَصْدُرُونَ عَنْهُ بِرِيٍّ- وَ لَا يَعُبُّونَ بَعْدَهُ فِي حِسْيٍ النصف الإنصاف قال الفرزدق-

و لكن نصفا لو سببت و سبني
بنو عبد شمس من قريش و هاشم‏

و هو على حذف المضاف أي ذا نصف- أي حكما منصفا عادلا يحكم بيني و بينهم- و الطلبة بكسر اللام ما طلبته من شي‏ء- و لبست على فلان الأمر و لبس عليه الأمر- كلاهما بالتخفيف- .

و الحمأ الطين الأسود قال سبحانه- مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ- و حمة العقرب سمتها- أي في هذه الفئة الباغية الضلال و الفساد و الضرر- و إذا أرادت العرب أن تعبر عن الضلال و الفساد قالت الحم‏ء- مثله الحمأة بالتاء- و من أمثالهم ثأطة مدت بماء- يضرب للرجل يشتد موقه و جهله و الثأطة الحمأة- و إذا أصابها الماء ازدادت فسادا و رطوبة- .

و يروى فيها الحما بألف مقصورة و هو كناية عن الزبير- لأن كل ما كان بسبب الرجل فهم الأحماء واحدهم حما- مثل قفا و أقفاء- و ما كان بسبب المرأة فهم الأخاتن- فأما الأصهار فيجمع الجهتين جمعا- و كان الزبير ابن عمة رسول الله ص- و قد كان النبي ص أعلم عليا- بأن فئة من المسلمين تبغي عليه أيام خلافته- فيها بعض زوجاته و بعض أحمائه- فكنى علي ع عن الزوجة بالحمة و هي سم العقرب- و يروى و الحم‏ء يضرب مثلا لغير الطيب و لغير الصافي- و ظهر أن الحم‏ء الذي أخبر النبي ص بخروجه- مع هؤلاء البغاة هو الزبير ابن عمته- و في الحمأ أربع لغات حما مثل قفا و حم‏ء مثل كم‏ء- و حمو مثل أبو و حم مثل أب- .

قوله ع و الشبهة المغدفة أي الخفية- و أصله المرأة تغدف وجهها بقناعها أي تستره- و روي المغدفة بكسر الدال من أغدف الليل أي أظلم- . و زاح الباطل أي بعد و ذهب و أزاحه غيره- . و عن نصابه عن مركزه و مقره- و منه قول بعض المحدثين- .

قد رجع الحق إلى نصابه
و أنت من دون الورى أولى به‏

– و الشغب بالتسكين تهييج الشر- شغب الحقد بالفتح شغبا- و قد جاء بالتحريك في لغة ضعيفة و ماضيها شغب بالكسر- .و لأفرطن لهم حوضا أي لأملأن- يقال أفرطت المزادة أي ملأتها و غدير مفرط أي ملآن- . و الماتح بنقطتين من فوق المستقي من فوق- و بالياء مالئ الدلاء من تحت- و العب الشرب بلا مص كما تشرب الدابة- وفي الحديث الكباد من العب و الحسي ماء كامن في رمل يحفر عنه فيستخرج و جمعه أحساء- .

يقول ع- و الله ما أنكروا علي أمرا هو منكر في الحقيقة- و إنما أنكروا ما الحجة عليهم فيه لا لهم- و حملهم على ذلك الحسد- و حب الاستئثار بالدنيا و التفضيل في العطاء- و غير ذلك مما لم يكن أمير المؤمنين ع يراه- و لا يستجيزه في الدين- قال و لا جعلوا بيني و بينهم نصفا- يعني وسيطا يحكم و ينصف- بل خرجوا عن الطاعة بغتة- و إنهم ليطلبون حقا تركوه- أي يظهرون أنهم يطلبون حقا بخروجهم إلى البصرة- و قد تركوا الحق بالمدينة- .

قال و دما هم سفكوه يعني دم عثمان- و كان طلحة من أشد الناس تحريضا عليه- و كان الزبير دونه في ذلك- . روي أن عثمان قال- ويلي على ابن الحضرمية يعنى طلحة- أعطيته كذا و كذا بهارا ذهبا- و هو يروم دمي يحرض على نفسي- اللهم لا تمتعه به و لقه عواقب بغيه- . و روى الناس الذين صنفوا في واقعة الدار- أن طلحة كان يوم قتل عثمان مقنعا بثوب- قد استتر به عن أعين الناس- يرمي الدار بالسهام- و رووا أيضا- أنه لما امتنع على الذين‏ حصروه الدخول من باب الدار- حملهم طلحة إلى دار لبعض الأنصار- فأصعدهم إلى سطحها- و تسوروا منها على عثمان داره فقتلوه- .

و رووا أيضا أن الزبير كان يقول- اقتلوه فقد بدل دينكم- فقالوا إن ابنك يحامي عنه بالباب- فقال ما أكره أن يقتل عثمان و لو بدئ بابني- إن عثمان لجيفة على الصراط غدا- . و قال مروان بن الحكم يوم الجمل- و الله لا أترك ثأري و أنا أراه- و لأقتلن طلحة بعثمان فإنه قتله- ثم رماه بسهم فأصاب مأبضه فنزف الدم حتى مات- .

ثم قال ع إن كنت شريكهم في دم عثمان- فإن لهم نصيبهم منه- فلا يجوز لهم أن يطلبوا بدمه و هم شركاء فيه- و إن كانوا ولوه دوني فهم المطلوبون إذن به لا غيرهم- . و إنما لم يذكر القسم الثالث- و هو أن يكون هو ع وليه دونهم- لأنه لم يقل به قائل- فإن الناس كانوا على قولين في ذلك- أحدهما أن عليا و طلحة و الزبير مسهم لطخ من عثمان- لا بمعنى أنهم باشروا قتله- بل بمعنى الإغراء و التحريض- و ثانيهما أن عليا ع بري‏ء من ذلك- و أن طلحة و الزبير غير بريئين منه- .

ثم قال و إن أول عدلهم للحكم على أنفسهم يقول- إن هؤلاء خرجوا و نقضوا البيعة- و قالوا إنما خرجنا للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر- و إظهار العدل و إحياء الحق و إماتة الباطل- و أول العدل أن يحكموا على أنفسهم- فإنه يجب على الإنسان أن يقضي على نفسه ثم على غيره- و إذا كان دم عثمان قبلهم- فالواجب أن ينكروا على أنفسهم قبل إنكارهم على غيرهم- .

قال و إن معي لبصيرتي أي عقلي- ما لبست على الناس أمرهم و لا لبس الأمر علي- أي لم يلبسه رسول الله ص علي بل أوضحه لي و عرفنيه- . ثم قال و إنها للفئة الباغية- لام التعريف في الفئة تشعر بأن نصا قد كان عنده- أنه ستخرج عليه فئة باغية- و لم يعين له وقتها و لا كل صفاتها- بل بعض علاماتها- فلما خرج أصحاب الجمل- و رأى تلك العلامات موجودة فيهم قال- و إنها للفئة الباغية أي و إن هذه الفئة- أي الفئة التي وعدت بخروجها علي- و لو لا هذا لقال و إنها لفئة باغية على التنكير- .

ثم ذكر بعض العلامات فقال إن الأمر لواضح- كل هذا يؤكد به عند نفسه و عند غيره- أن هذه الجماعة هي تلك الفئة الموعود بخروجها- و قد ذهب الباطل و زاح و خرس لسانه بعد شغبه- . ثم أقسم ليملأن لهم حوضا هو ماتحه- و هذه كناية عن الحرب و الهيجاء- و ما يتعقبهما من القتل و الهلاك- لا يصدرون عنه بري- أي ليس كهذه الحياض الحقيقية التي إذا وردها الظمآن- صدر عن ري و نقع غليله- بل لا يصدرون عنه إلا و هم جزر السيوف- و لا يعبون بعده في حسي لأنهم هلكوا- فلا يشربون بعده البارد العذب- . و كان عمرو بن الليث الصفار أمير خراسان- أنفذ جيشا لمحاربة إسماعيل بن أحمد الساماني- فانكسر ذلك الجيش و عادوا إلى عمرو بن الليث- فغضب و لقي القواد بكلام غليظ- فقال له بعضهم أيها الأمير- إنه قد طبخ لك مرجل عظيم- و إنما نلنا منه لهمة يسيرة و الباقي مذخور لك- فعلام تتركه اذهب إليهم فكله- فسكت عمرو بن الليث عنه و لم يجب- .

و مرادنا من هذه المشابهة و المناسبة بين الكنايتين: مِنْهُ- فَأَقْبَلْتُمْ إِلَيَّ إِقْبَالَ الْعُوذِ الْمَطَافِيلِ عَلَى أَوْلَادِهَا- تَقُولُونَ الْبَيْعَةَ الْبَيْعَةَ- قَبَضْتُ كَفِّي فَبَسَطْتُمُوهَا- وَ نَازَعْتُكُمْ يَدِي فَجَاذَبْتُمُوهَا- اللَّهُمَّ إِنَّهُمَا قَطَعَانِي وَ ظَلَمَانِي- وَ نَكَثَا بَيْعَتِي وَ أَلَّبَا النَّاسَ عَلَيَّ- فَاحْلُلْ مَا عَقَدَا وَ لَا تُحْكِمْ لَهُمَا مَا أَبْرَمَا- وَ أَرِهِمَا الْمَسَاءَةَ فِيمَا أَمَّلَا وَ عَمِلَا- وَ لَقَدِ اسْتَثَبْتُهُمَا قَبْلَ الْقِتَالِ- وَ اسْتَأْنَيْتُ بِهِمَا أَمَامَ الْوِقَاعِ- فَغَمَطَا النِّعْمَةَ وَ رَدَّا الْعَافِيَةَ العوذ النوق الحديثات النتاج- الواحدة عائذ مثل حائل و حول- و قد يقال ذلك للخيل و الظباء- و يجمع أيضا على عوذان مثل راع و رعيان- و هذه عائذة بينة العئوذ- و ذلك إذا ولدت عن قريب- و هي في عياذها أي بحدثان نتاجها- .

و المطافيل جمع مطفل- و هي التي زال عنها اسم العياذ و معها طفلها- و قد تسمى المطافيل عوذا إلى أن يبعد العهد بالنتاج مجازا- و على هذا الوجه قال أمير المؤمنين إقبال العوذ المطافيل- و إلا فالاسمان معا لا يجتمعان حقيقة- و إذا زال الأول ثبت الثاني- . قوله و ألبا الناس علي أي حرضا- يقال حسود مؤلب- .

و استثبتهما بالثاء المعجمة بثلاث- طلبت منهما أن يثوبا أي يرجعا- و سمي المنزل مثابة لأن أهله ينصرفون في أمورهم ثم يثوبون إليه- و يروى و لقد استتبتهما- أي طلبت منهما أن يتوبا إلى الله- من ذنبهما في نقض البيعة- . و استأنيت بهما من الإناءة و الانتظار- . و الوقاع بكسر الواو مصدر واقعتهم في الحرب وقاعا- مثل نازلتهم نزالا و قاتلتهم قتالا- . و غمط فلان النعمة إذا حقرها و أزرى بها غمطا- و يجوز غمط النعمة بالكسر و المصدر غير محرك- و يقال إن الكسر أفصح من الفتح- .

يقول ع- إنكم أقبلتم مزدحمين كما تقبل النوق إلى أولادها- تسألونني البيعة فامتنعت عليكم- حتى علمت اجتماعكم فبايعتكم- ثم دعا علي على طلحة و الزبير- بعد أن وصفهما بالقطيعة و النكث و التأليب عليه- بأن يحل الله تعالى ما عقدا- و ألا يحكم لهما ما أبرما- و أن يريهما المساءة فيما أملا و عملا- . فأما الوصف لهما بما وصفهما به- فقد صدق ع فيه و أما دعاؤه فاستجيب له- و المساءة التي دعا بها- هي مساءة الدنيا لا مساءة الآخرة- فإن الله تعالى قد وعدهما على لسان رسوله بالجنة- و إنما استوجباها بالتوبة- التي ينقلها أصحابنا رحمهم الله في كتبهم عنهما- و لولاها لكانا من الهالكين

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ أبي ‏الحديد) ج 9 

خطبه 136 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

136 و من كلام له ع

لَمْ تَكُنْ بَيْعَتِكُمْ إِيَّايَ فَلْتَةً- وَ لَيْسَ أَمْرِي وَ أَمْرُكُمْ وَاحِداً- إِنِّي أُرِيدُكُمْ لِلَّهِ وَ أَنْتُمْ تُرِيدُونَنِي لِأَنْفُسِكُمْ- أَيُّهَا النَّاسُ أَعِينُونِي عَلَى أَنْفُسِكُمْ- وَ ايْمُ اللَّهِ لَأُنْصِفَنَّ الْمَظْلُومَ وَ لَأَقُودَنَّ الظَّالِمَ بِخَزَامَتِهِ- حَتَّى أُورِدَهُ مَنْهَلَ الْحَقِّ وَ إِنْ كَانَ كَارِهاً الفلتة الأمر يقع عن غير تدبر و لا روية- و في الكلام تعريض ببيعة أبي بكر- و قد تقدم لنا في معنى قول عمر- كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها كلام- . و الخزامة حلقة من شعر تجعل في أنف البعير- و يجعل الزمام فيها- .

و أعينوني على أنفسكم خذوها بالعدل- و أقنعوها عن اتباع الهوى- و اردعوها بعقولكم عن المسالك التي ترديها و توبقها- فإنكم إذا فعلتم ذلك أعنتموني عليها- لأني أعظكم و آمركم بالمعروف- و أنهاكم عن المنكر- فإذا كبحتم أنفسكم بلجام العقل الداعي إلى ما أدعو إليه- فقد أعنتموني عليها- . فإن قلت ما معنى قوله أريدكم لله و تريدونني لأنفسكم- .

قلت لأنه لا يريد من طاعتهم له- إلا نصرة دين الله و القيام بحدوده و حقوقه- و لا يريدهم لحظ نفسه- و أما هم فإنهم يريدونه- لحظوظ أنفسهم من العطاء و التقريب- و الأسباب الموصلة إلى منافع الدنيا- . و هذا الخطاب منه ع لجمهور أصحابه- فأما الخواص منهم- فإنهم كانوا يريدونه للأمر الذي يريدهم له- من إقامة شرائع الدين و إحياء معالمه

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي‏ الحديد) ج 9 

خطبه 135 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

135 و من كلام له ع- و قد وقعت بينه و بين عثمان مشاجرة

فقال المغيرة بن الأخنس لعثمان- أنا أكفيكه فقال أمير المؤمنين ع للمغيرة- : يَا ابْنَ اللَّعِينِ الْأَبْتَرِ- وَ الشَّجَرَةِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا وَ لَا فَرْعَ- أَنْتَ تَكْفِينِي- فَوَاللَّهِ مَا أَعَزَّ اللَّهُ مَنْ أَنْتَ نَاصِرُهُ- وَ لَا قَامَ مَنْ أَنْتَ مُنْهِضُهُ- اخْرُجْ عَنَّا أَبْعَدَ اللَّهُ نَوَاكَ ثُمَّ ابْلُغْ جَهْدَكَ- فَلَا أَبْقَى اللَّهُ عَلَيْكَ إِنْ أَبْقَيْتَ هو المغيرة بن الأخنس بن شريق- بن عمرو بن وهب بن علاج- بن أبي سلمة الثقفي حليف بني زهرة- و إنما قال له أمير المؤمنين ع يا ابن اللعين- لأن الأخنس بن شريق كان من أكابر المنافقين- ذكره أصحاب الحديث كلهم في المؤلفة قلوبهم- الذين أسلموا يوم الفتح بألسنتهم دون قلوبهم- و أعطاه رسول الله ص مائة من الإبل- من غنائم حنين يتألف بها قلبه- و ابنه أبو الحكم بن الأخنس- قتله أمير المؤمنين ع يوم أحد كافرا في الحرب- و هو أخو المغيرة هذا- و الحقد الذي في قلب المغيرة عليه من هذه الجهة- و إنما قال له يا ابن الأبتر- لأن من كان عقبة ضالا خبيثا- فهو كمن لا عقب له بل من لا عقب له خير منه- و يروى و لا أقام من أنت منهضه بالهمزة- . و يروى أبعد الله نوءك من أنواء النجوم- التي كانت العرب تنسب المطر إليها- و كانوا إذا دعوا على إنسان- قالوا أبعد الله نوءك أي خيرك- .

و الجهد بالفتح الغاية- و يقال قد جهد فلان جهده بالفتح- لا يجوز غير ذلك أي انتهى إلى غايته- و قد روي أن رسول الله ص لعن ثقيفا- . وروي أنه ع قال لو لا عروة بن مسعود للعنت ثقيفا- . و روى الحسن البصري- أن رسول الله ص لعن ثلاث بيوت- بيتان من مكة و هما بنو أمية و بنو المغيرة- و بيت من الطائف و هم ثقيف- .

وفي الخبر المشهور المرفوع و قد ذكر ثقيفا- بئست القبيلة يخرج منها كذاب و مبير- فكان كما قال ص الكذاب المختار و المبير الحجاج- . و اعلم أن هذا الكلام لم يكن بحضرة عثمان- و لكن عوانة روى عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي- أن عثمان لما كثرت شكايته من علي ع أقبل- لا يدخل إليه من أصحاب رسول الله ص أحد إلا شكا إليه عليا- فقال له زيد بن ثابت الأنصاري- و كان من شيعته و خاصته- أ فلا أمشي إليه فأخبره بموجدتك فيما يأتي إليك- قال بلى- فأتاه زيد و معه المغيرة بن الأخنس بن شريق الثقفي- و عداده في بني زهرة و أمه عمة عثمان بن عفان في جماعة- فدخلوا عليه فحمد زيد الله و أثنى عليه- ثم قال أما بعد فإن الله قدم لك سلفا صالحا في الإسلام- و جعلك من الرسول بالمكان الذي أنت به- فأنت للخير كل الخير أهل- و أمير المؤمنين عثمان ابن عمك- و والي هذه الأمة فله عليك حقان- حق الولاية و حق القرابة- و قد شكا إلينا أن عليا يعرض لي- و يرد أمري علي و قد مشينا إليك نصيحة لك- و كراهية أن يقع بينك- و بين ابن عمك أمر نكرهه لكما- .

قال فحمد علي ع الله- و أثنى عليه و صلى على رسوله- ثم قال أما بعد فو الله ما أحب الاعتراض و لا الرد عليه- إلا أن يأبى حقا لله لا يسعني أن أقول فيه إلا بالحق- و و الله لأكفن عنه ما وسعني الكف- .فقال المغيرة بن الأخنس و كان رجلا وقاحا- و كان من شيعة عثمان و خلصائه- إنك و الله لتكفن عنه أو لتكفن- فإنه أقدر عليك منك عليه- و إنما أرسل هؤلاء القوم من المسلمين إعزازا- لتكون له الحجة عندهم عليك- فقال له علي ع يا ابن اللعين الأبتر- و الشجرة التي لا أصل لها و لا فرع- أنت تكفني فو الله ما أعز الله امرأ أنت ناصره- اخرج أبعد الله نواك- ثم اجهد جهدك- فلا أبقى الله عليك و لا على أصحابك إن أبقيتم- .

فقال له زيد- إنا و الله ما جئناك لنكون عليك شهودا- و لا ليكون ممشانا إليك حجة- و لكن مشينا فيما بينكما التماس الأجر- أن يصلح الله ذات بينكما- و يجمع كلمتكما ثم دعا له و لعثمان و قام فقاموا معه- . و هذا الخبر يدل على أن اللفظة أنت تكفني- و ليست كما ذكره الرضي رحمه الله أنت تكفيني- لكن الرضا طبق هذه اللفظة على ما قبلها- و هو قوله أنا أكفيكه- و لا شبهة أنها رواية أخرى

فصل في نسب ثقيف و طرف من أخبارهم

و إنما قال له و الشجرة التي لا أصل لها و لا فرع- لأن ثقيفا في نسبها طعن- فقال قوم من النسابين إنهم من هوازن- و هو القول الذي تزعمه الثقفيون- قالوا هو ثقيف و اسمه قسي بن منبه بن بكر- بن هوازن بن منصور بن عكرمة- بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر- و على هذا القول جمهور الناس- . و يزعم آخرون- أن ثقيفا من إياد بن نزار بن معد بن عدنان- و أن النخع أخوه لأبيه‏ و أمه- ثم افترقا فصار أحدهما في عداد هوازن- و الآخر في عداد مذحج بن مالك- بن زيد بن عريب بن زيد بن كهلان- بن سبإ بن يشجب بن يعرب بن قحطان- . و قد روى أبو العباس المبرد في الكامل- لأخت الأشتر مالك بن الحارث النخعي تبكيه-

أ بعد الأشتر النخعي نرجو
مكاثرة و نقطع بطن واد

و نصحب مذحجا بإخاء صدق‏
و أن ننسب فنحن ذرا إياد

ثقيف عمنا و أبو أبينا
و إخوتنا نزار أولو السداد

قال أبو العباس و هجا يحيى بن نوفل- و كان هجاء خبيث اللسان- العريان بن الهيثم بن الأسود النخعي- و قد كان العريان تزوج امرأة اسمها زباد- مبني على الكسر- و الزاي مفتوحة بعدها باء منقوطة بواحدة- و هي من ولد هانئ بن قبيصة الشيباني- و كانت قبله تحت الوليد بن عبد الملك بن مروان- فطلقها فأنكحها إياه أخ لها يقال له زياد- فقال يحيى بن نوفل

أ عريان ما يدري امرؤ سيل عنكم
أ من مذحج تدعون أم من إياد

فإن قلتم من مذحج إن مذحجا
لبيض الوجوه غير جد جعاد

و أنتم صغار الهام حدل كأنما
وجوهكم مطلية بمداد

و إن قلتم الحي اليمانون أصلنا
و ناصرنا في كل يوم جلاد

فأطول بأير من معد و نزوة
نزت بإياد خلف دار مراد

ضللتم كما ضلت ثقيف فما لكم‏
و لا لهم بين القبائل هاد

لعمر بني شيبان إذ ينكحونه
زباد لقد ما قصروا بزباد

أ بعد وليد أنكحوا عبد مذحج
كمنزية عيرا خلاف جواد

و أنكحها لا في كفاء و لا غنى‏
زياد أضل الله سعي زياد

 قال أبو العباس و كان المغيرة بن شعبة- و هو والي الكوفة صار إلى دير هند بنت النعمان بن المنذر- و هي فيه عمياء مترهبة- فاستأذن عليها فقيل لها أمير هذه المدرة بالباب- قالت قولوا له- من ولد جبلة بن الأيهم أنت قال لا- قالت أ فمن ولد المنذر بن ماء السماء أنت- قال لا قالت فمن أنت- قال أنا المغيرة بن شعبة الثقفي- قالت فما حاجتك- قال جئت خاطبا- قالت لو كنت جئتني لجمال أو حال لأطلبنك- و لكن أردت أن تتشرف بي في محافل العرب- فتقول نكحت ابنة النعمان بن المنذر- و إلا فأي خير في اجتماع أعور و عمياء- فبعث إليها كيف كان أمركم- قالت سأختصر لك الجواب- أمسينا و ليس في الأرض عربي إلا- و هو يرهبنا أو يرغب إلينا- و أصبحنا و ليس في الأرض عربي- إلا و نحن نرهبه و نرغب إليه- قال فما كان أبوك يقول في ثقيف- قالت أذكر و قد اختصم إليه رجلان منهم- أحدهما ينتهي إلى إياد- و الآخر إلى هوازن- فقضى للإيادي و قال-

إن ثقيفا لم تكن هوازنا
و لم تناسب عامرا أو مازنا

فقال المغيرة أما نحن فمن بكر بن هوازن- فليقل أبوك ما شاء ثم انصرف- . و قال قوم آخرون- إن ثقيفا من بقايا ثمود- من العرب القديمة التي بادت و انقرضت- .

قال أبو العباس- و قد قال الحجاج على المنبر- يزعمون أنا من بقايا ثمود- فقد كذبهم الله بقوله وَ ثَمُودَ فَما أَبْقى‏- . و قال مرة أخرى و لئن كنا من بقايا ثمود- لما نجا مع صالح إلا خيارهم- . و قال الحجاج يوما لأبي العسوس الطائي- أي أقدم أ نزول ثقيف الطائف- أم نزول طيئ الجبلين- فقال له أبو العسوس- إن كانت ثقيف من بكر بن هوازن- فنزول طيئ الجبلين قبلها- و إن كانت من بقايا ثمود فهي أقدم- فقال الحجاج- اتقني فإني سريع الخطفة للأحمق المتهور- فقال أبو العسوس- قال أبو العباس- و كان أعرابيا قحا إلا أنه لطيف الطبع- و كان الحجاج يمازحه-

يؤدبني الحجاج تأديب أهله
فلو كنت من أولاد يوسف ما عدا

و إني لأخشى ضربة ثقفية
يقد بها ممن عصاه المقلدا

على أنني مما أحاذر آمن
إذا قيل يوما قد عصى المرء و اعتدى‏

 و قتل المغيرة بن الأخنس مع عثمان يوم الدار- و قد ذكرنا مقتله فيما تقدمتم الجزء الثامن- من شرح نهج البلاغة و يليه الجزء التاسع

 الجزء التاسع

تتمة الخطب و الأوامر

تتمة خطبة 135

ذكر أطراف مما شجر بين علي و عثمان في أثناء خلافته

و اعلم أن هذا الكتاب يستدعي منا- أن نذكر أطرافا مما شجر بين أمير المؤمنين ع و عثمان- أيام خلافته- إذ كان هذا الكلام الذي شرحناه من ذلك النمط- و الشي‏ء يذكر بنظيره- و عادتنا في هذا الشرح أن نذكر الشي‏ء مع ما يناسبه- و يقتضي ذكره- . قال أحمد بن عبد العزيز الجوهري- في كتاب أخبار السقيفة- حدثني محمد بن منصور الرمادي عن عبد الرزاق- عن معمر عن زياد بن جبل- عن أبي كعب الحارثي و هو ذو الإداوة- قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز- و إنما سمي ذا الإداوة لأنه قال- إني خرجت في طلب إبل ضوال- فتزودت لبنا في إداوة- ثم قلت في نفسي ما أنصفت ربي فأين الوضوء- فأرقت اللبن و ملأتها ماء فقلت هذا وضوء و شراب- و طفقت أبغي إبلي- فلما أردت الوضوء اصطببت من الإداوة ماء فتوضأت- ثم أردت الشرب فلما اصطببتها إذا لبن فشربت- فمكثت بذلك ثلاثا فقالت‏له أسماء النحرانية- يا أبا كعب أ حقينا كان أم حليبا-

قال إنك لبطالة كان يعصم من الجوع و يروي من الظمأ- أما إني حدثت بهذا نفرا من قومي- منهم علي بن الحارث سيد بني قنان فلم يصدقني- و قال ما أظن الذي تقول كما قلت- فقلت الله أعلم بذلك و رجعت إلى منزلي- فبت ليلتي تلك فإذا به صلاة الصبح على بابي- فخرجت إليه فقلت رحمك الله لم تعنيت- ألا أرسلت إلي فآتيك- فإني لأحق بذلك منك- قال ما نمت الليلة إلا أتاني آت- فقال أنت الذي تكذب من يحدث بما أنعم الله عليه- قال أبو كعب ثم خرجت حتى أتيت المدينة فأتيت عثمان بن عفان و هو الخليفة يومئذ- فسألته عن شي‏ء من أمر ديني- و قلت يا أمير المؤمنين- إني رجل من أهل اليمن من بني الحارث بن كعب- و إني أريد أن أسألك فأمر حاجبك ألا يحجبني- فقال يا وثاب إذا جاءك هذا الحارثي فأذن له- قال فكنت إذا جئت فقرعت الباب- قال من ذا فقلت الحارثي- فيقول ادخل فدخلت يوما فإذا عثمان جالس- و حوله نفر سكوت لا يتكلمون- كأن على رءوسهم الطير فسلمت ثم جلست- فلم أسأله عن شي‏ء لما رأيت من حالهم و حاله- فبينا أنا كذلك إذ جاء نفر- فقالوا إنه أبى أن يجي‏ء- قال فغضب و قال أبى أن يجي‏ء- اذهبوا فجيئوا به فإن أبى فجروه جرا- .

قال فمكثت قليلا- فجاءوا و معهم رجل آدم طوال أصلع- في مقدم رأسه شعرات و في قفاه شعرات- فقلت من هذا قالوا عمار بن ياسر- فقال له عثمان أنت الذي تأتيك رسلنا فتأبى أن تجي‏ء- قال فكلمه بشي‏ء لم أدر ما هو ثم خرج- فما زالواينفضون من عنده حتى ما بقي غيري فقام- فقلت و الله لا أسأل عن هذا الأمر أحدا أقول حدثني فلان- حتى أدري ما يصنع- فتبعته حتى دخل المسجد- فإذا عمار جالس إلى سارية- و حوله نفر من أصحاب رسول الله ص يبكون- فقال عثمان يا وثاب علي بالشرط- فجاءوا فقال فرقوا بين هؤلاء ففرقوا بينهم- . ثم أقيمت الصلاة فتقدم عثمان فصلى بهم- فلما كبر قالت امرأة من حجرتها يا أيها الناس ثم تكلمت- و ذكرت رسول الله ص و ما بعثه الله به- ثم قالت تركتم أمر الله و خالفتم عهده… و نحو هذا- ثم صمتت و تكلمت امرأة أخرى بمثل ذلك- فإذا هما عائشة و حفصة- .

قال فسلم عثمان ثم أقبل على الناس و قال- إن هاتين لفتانتان يحل لي سبهما- و أنا بأصلهما عالم- . فقال له سعد بن أبي وقاص- أ تقول هذا لحبائب رسول الله ص فقال و فيم أنت و ما هاهنا- ثم أقبل نحو سعد عامدا ليضربه فانسل سعد- . فخرج من المسجد- فاتبعه عثمان فلقي عليا ع بباب المسجد- فقال له ع أين تريد- قال أريد هذا الذي كذا و كذا يعني سعدا يشتمه- فقال له علي ع أيها الرجل دع عنك هذا- قال فلم يزل بينهما كلام حتى غضبا- فقال عثمان أ لست الذي خلفك رسول الله ص له يوم تبوك فقال علي أ لست الفار عن رسول الله ص يوم أحد- . قال ثم حجز الناس بينهما- قال ثم خرجت من المدينة حتى انتهيت إلى الكوفة- فوجدت أهلها أيضا وقع بينهم شر و نشبوا في الفتنة- و ردوا سعيد بن العاص فلم يدعوه يدخل إليهم- فلما رأيت ذلك رجعت حتى أتيت بلاد قومي- .

و روى الزبير بن بكار في كتاب الموفقيات- عن عمه عن عيسى بن داود عن رجاله قال- قال ابن عباس رحمه الله لما بنى عثمان داره بالمدينة- أكثر الناس عليه في ذلك فبلغه- فخطبنا في يوم جمعة ثم صلى بنا- ثم عاد إلى المنبر فحمد الله و أثنى عليه- و صلى على رسوله ثم قال أما بعد- فإن النعمة إذا حدثت حدث لها حساد حسبها و أعداء قدرها- و إن الله لم يحدث لنا نعما ليحدث لها حساد عليها- و منافسون فيها- و لكنه قد كان من بناء منزلنا هذا- ما كان إرادة جمع المال فيه و ضم القاصية إليه- فأتانا عن أناس منكم أنهم يقولون- أخذ فيئنا و أنفق شيئنا- و استأثر بأموالنا يمشون خمرا و ينطقون سرا- كأنا غيب عنهم و كأنهم يهابون مواجهتنا- معرفة منهم بدحوض حجتهم- فإذ غابوا عنا يروح بعضهم إلى بعض يذكرنا- و قد وجدوا على ذلك أعوانا من نظرائهم- و مؤازرين من شبابهم فبعدا بعدا و رغما رغما- ثم أنشد بيتين كأنه يومئ فيهما إلى علي ع- .

توقد بنار أينما كنت و اشتعل
فلست ترى مما تعالج شافيا

تشط فيقضي الأمر دونك أهله‏
وشيكا و لا تدعى إذا كنت نائيا

ما لي و لفيئكم و أخذ مالكم- أ لست من أكثر قريش مالا و أظهرهم من الله نعمة- أ لم أكن على ذلك قبل الإسلام و بعده- و هبوني بنيت منزلا من بيت المال- أ ليس هو لي و لكم أ لم أقم أموركم- و إني من وراء حاجاتكم فما تفقدون من حقوقكم شيئا- فلم لا أصنع في الفضل ما أحببت- فلم كنت إماما إذا- . ألا و إن من أعجب العجب- أنه بلغني عنكم أنكم تقولون لنفعلن به و لنفعلن- فبمن تفعلون لله آباؤكم- أ بنقد البقاع أم بفقع القاع- أ لست أحراكم إن دعا أن يجاب- و أقمنكم إن أمر أن يطاع-لهفي على بقائي فيكم بعد أصحابي- و حياتي فيكم بعد أترابي يا ليتني تقدمت قبل هذا- لكني لا أحب خلاف ما أحبه الله لي عز و جل- إذا شئتم فإن الصادق المصدق محمدا ص- قد حدثني بما هو كائن من أمري و أمركم- و هذا بدء ذلك و أوله- فكيف الهرب مما حتم و قدر- أما إنه ع قد بشرني في آخر حديثه بالجنة دونكم- إذا شئتم فلا أفلح من ندم- .

قال ثم هم بالنزول فبصر بعلي بن أبي طالب ع- و معه عمار بن ياسر رضي الله عنه- و ناس من أهل هواه يتناجون- فقال إيها إيها أ سرارا لا جهارا- أما و الذي نفسي بيده ما أحنق على جرة- و لا أوتى من ضعف مرة- و لو لا النظر لي و لكم و الرفق بي و بكم لعاجلتكم- فقد اغتررتم و أفلتم من أنفسكم- . ثم رفع يديه يدعو و يقول- اللهم قد تعلم حبي للعافية فألبسنيها- و إيثاري للسلامة فآتنيها- . قال فتفرق القوم عن علي ع- و قام عدي بن الخيار فقال- أتم الله عليك يا أمير المؤمنين النعمة و زادك في الكرامة- و الله لأن تحسد أفضل من أن تحسد- و لأن تنافس أجل من أن تنافس- أنت و الله في حسبنا الصميم و منصبنا الكريم- إن دعوت أجبت- و إن أمرت أطعت فقل نفعل و ادع تجب- جعلت الخيرة و الشورى إلى أصحاب رسول الله ص- ليختاروا لهم و لغيرهم- و إنهم ليرون مكانك و يعرفون مكان غيرك- فاختاروك منيبين طائعين غير مكرهين و لا مجبرين- ما غيرت و لا فارقت و لا بدلت و لا خالفت- فعلام يقدمون عليك و هذا رأيهم فيك- أنت و الله كما قال الأول

اذهب إليك فما للحسود
إلا طلابك تحت العثار

حكمت فما جرت في خلة
فحكمك بالحق بادي المنار

فإن يسبعوك فسرا و قد
جهرت بسيفك كل الجهار

قال و نزل عثمان فأتى منزله- و أتاه الناس و فيهم ابن عباس- فلما أخذوا مجالسهم أقبل على ابن عباس- فقال ما لي و لكم يا ابن عباس- ما أغراكم بي و أولعكم بتعقب أمري- أ تنقمون علي أمر العامة- أتيت من وراء حقوقهم أم أمركم- فقد جعلتهم يتمنون منزلتكم- لا و الله لكن الحسد و البغي- و تثوير الشر و إحياء الفتن- و الله لقد ألقى النبي ص إلي ذلك- و أخبرني به عن أهله واحدا واحدا- و الله ما كذبت و لا أنا بمكذوب- .

فقال ابن عباس على رسلك يا أمير المؤمنين- فو الله ما عهدتك جهرا بسرك- و لا مظهرا ما في نفسك فما الذي هيجك و ثورك- إنا لم يولعنا بك أمر و لم نتعقب أمرك بشي‏ء- أتيت بالكذب و تسوف عليك بالباطل- و الله ما نقمنا عليك لنا و لا للعامة- قد أوتيت من وراء حقوقنا و حقوقهم- و قضيت ما يلزمك لنا و لهم- فأما الحسد و البغي و تثوير الفتن و إحياء الشر- فمتى رضيت به عترة النبي و أهل بيته- و كيف و هم منه و إليه على دين الله يثورون الشر أم على الله يحيون الفتن- كلا ليس البغي و لا الحسد من طباعهم- فاتئد يا أمير المؤمنين و أبصر أمرك و أمسك عليك- فإن حالتك الأولى خير من حالتك الأخرى- لعمري إن كنت لأثيرا عند رسول الله- و إن كان يفضي إليك بسره ما يطويه عن غيرك- و لا كذبت و لا أنت بمكذوب- اخسأ الشيطان عنك و لا يركبك- و اغلب غضبك و لا يغلبك- فما دعاك إلى هذا الأمر الذي كان منك- .

قال دعاني إليه ابن عمك علي بن أبي طالب- فقال ابن عباس و عسى أن يكذب مبلغك- قال عثمان إنه ثقة- قال ابن عباس إنه ليس بثقة من بلغ و أغرى- قال عثمان يا ابن عباس- آلله إنك ما تعلم من علي ما شكوت منه- قال اللهم لا إلا أن يقول كما يقول الناس و ينقم كما ينقمون- فمن أغراك به و أولعك بذكره دونهم- فقال عثمان إنما آفتي من أعظم الداء- الذي ينصب نفسه لرأس الأمر و هو علي ابن عمك- و هذا و الله كله من نكده و شؤمه- قال ابن عباس مهلا استثن يا أمير المؤمنين- قل إن شاء الله فقال إن شاء الله- ثم قال إني أنشدك يا ابن عباس الإسلام و الرحم- فقد و الله غلبت و ابتليت بكم- و الله لوددت أن هذا الأمر كان صار إليكم دوني- فحملتموه عني- و كنت أحد أعوانكم عليه- إذا و الله لوجدتموني لكم خيرا مما وجدتكم لي- و لقد علمت أن الأمر لكم- و لكن قومكم دفعوكم عنه و اختزلوه دونكم- فو الله ما أدري أ دفعوه عنكم أم دفعوكم عنه- .

قال ابن عباس مهلا يا أمير المؤمنين- فإنا ننشدك الله و الإسلام و الرحم مثل ما نشدتنا- أن تطمع فينا و فيك عدوا- و تشمت بنا و بك حسودا- إن أمرك إليك ما كان قولا- فإذا صار فعلا فليس إليك و لا في يديك- و إنا و الله لنخالفن إن خولفنا- و لننازعن إن نوزعنا- و ما تمنيك أن يكون الأمر صار إلينا دونك- إلا أن يقول قائل منا ما يقوله الناس- و يعيب كما عابوا- فأما صرف قومنا عنا الأمر- فعن حسد قد و الله عرفته و بغي قد و الله علمته- فالله بيننا و بين قومنا- و أما قولك إنك لا تدري أ دفعوه عنا أم دفعونا عنه- فلعمري إنك لتعرف أنه لو صار إلينا هذا الأمر- ما زدنا به فضلا إلى فضلنا و لا قدرا إلى قدرنا- و إنا لأهل الفضل و أهل القدر- و ما فضل فاضل إلا بفضلنا و لا سبق سابق إلا بسبقنا- و لو لا هدينا ما اهتدى أحد- و لا أبصروا من عمى و لا قصدوا من جور- .

فقال عثمان حتى متى يا ابن عباس- يأتيني عنكم ما يأتيني هبوني كنت بعيدا- أ ما كان لي من الحق عليكم أن أراقب و أن أناظر- بلى و رب الكعبة و لكن الفرقةسهلت لكم القول في- و تقدمت بكم إلى الإسراع إلي و الله المستعان- . قال ابن عباس مهلا حتى ألقى عليا- ثم أحمل إليك على قدر ما رأى- قال عثمان افعل فقد فعلت- و طالما طلبت فلا أطلب و لا أجاب و لا أعتب- . قال ابن عباس فخرجت فلقيت عليا- و إذا به من الغضب و التلظي أضعاف ما بعثمان- فأردت تسكينه فامتنع- فأتيت منزلي و أغلقت بابي و اعتزلتهما- فبلغ ذلك عثمان فأرسل إلي- فأتيته و قد هدأ غضبه فنظر إلي ثم ضحك- و قال يا ابن عباس ما أبطأ بك عنا- إن تركك العود إلينا لدليل على ما رأيت عند صاحبك- و عرفت من حاله فالله بيننا و بينه- خذ بنا في غير ذلك- .

قال ابن عباس- فكان عثمان بعد ذلك إذا أتاه عن علي شي‏ء- فأردت التكذيب عنه يقول- و لا يوم الجمعة حين أبطأت عنا و تركت العود إلينا- فلا أدري كيف أرد عليه- . و روى الزبير بن بكار أيضا في الموفقيات- عن ابن عباس رحمه الله قال- خرجت من منزلي سحرا أسابق إلى المسجد و أطلب الفضيلة- فسمعت خلفي حسا و كلاما فتسمعته- فإذا حس عثمان و هو يدعو و لا يرى أن أحدا يسمعه- و يقول اللهم قد تعلم نيتي فأعني عليهم- و تعلم الذين ابتليت بهم من ذوي رحمي و قرابتي- فأصلحني لهم و أصلحهم لي- . قال فقصرت من خطوتي و أسرع في مشيته- فالتقينا فسلم فرددت عليه فقال- إني خرجت ليلتنا هذه أطلب الفضل و المسابقة إلى المسجد- فقلت إنه أخرجني ما أخرجك فقال و الله لئن سابقت إلى الخير- إنك لمن سابقين مباركين- و إني لأحبكم و أتقرب إلى الله بحبكم- فقلت يرحمك الله يا أمير المؤمنين- إنا لنحبك و نعرف سابقتك و سنك و قرابتك و صهرك- قال يا ابن عباس فما لي و لابن عمك و ابن خالي- قلت أي بني عمومتي و بني أخوالك- قال اللهم اغفر أ تسأل مسألة الجاهل- .

قلت إن بني عمومتي من بني خئولتك كثير- فأيهم تعني قال أعني عليا لا غيره- فقلت لا و الله يا أمير المؤمنين- ما أعلم منه إلا خيرا و لا أعرف له إلا حسنا- قال و الله بالحري أن يستر دونك ما يظهره لغيرك- و يقبض عنك ما ينبسط به إلى سواك- . قال و رمينا بعمار بن ياسر فسلم فرددت عليه سلامه- ثم قال من معك قلت أمير المؤمنين عثمان قال نعم- و سلم بكنيته و لم يسلم عليه بالخلافة فرد عليه- ثم قال عمار ما الذي كنتم فقد سمعت ذروا منه- قلت هو ما سمعت فقال عمار رب مظلوم غافل و ظالم متجاهل- قال عثمان أما إنك من شنائنا و أتباعهم- و ايم الله إن اليد عليك لمنبسطة- و إن السبيل إليك لسهلة و لو لا إيثار العافية- و لم الشعث لزجرتك زجرة تكفي ما مضى و تمنع ما بقي- . فقال عمار و الله ما أعتذر من حبي عليا- و ما اليد بمنبسطة و لا السبيل بسهلة- إني لازم حجة و مقيم على سنة- و أما إيثارك العافية و لم الشعث فلازم ذلك- و أما زجري فأمسك عنه فقد كفاك معلمي تعليمي- فقال عثمان- أما و الله إنك ما علمت من أعوان الشر الحاضين عليه- الخذلة عند الخير و المثبطين عنه- فقال عمار مهلا يا عثمان- فقد سمعت رسول الله ص يصفني بغير ذلك قال عثمان و متى قال يوم دخلت عليه منصرفه عن الجمعة- و ليس عنده غيرك و قد ألقى ثيابه و قعد في فضله- فقبلت صدره و نحره و جبهته- فقال يا عمار إنك لتحبنا و إنا لنحبك- و إنك لمن الأعوان على الخير المثبطين عن الشر- فقال عثمان أجل و لكنك غيرت و بدلت- قال فرفع عمار يده يدعو و قال أمن يا ابن عباس- اللهم من غير فغير به ثلاث مرات- .

قال و دخلنا المسجد فأهوى عمار إلى مصلاه- و مضيت مع عثمان إلى القبلة-فدخل المحراب و قال تلبث علي إذا انصرفنا- فلما رآني عمار وحدي أتاني- فقال أ ما رأيت ما بلغ بي آنفا- قلت أما و الله لقد أصعبت به و أصعب بك- و إن له لسنه و فضله و قرابته قال إن له لذلك- و لكن لا حق لمن لا حق عليه و انصرف- . و صلى عثمان و انصرفت معه يتوكأ علي- فقال هل سمعت ما قال عمار قلت نعم- فسرني ذلك و ساءني- أما مساءته إياي فما بلغ بك- و أما مسرته لي فحلمك و احتمالك- فقال إن عليا فارقني منذ أيام على المقاربة- و إن عمارا آتيه فقائل له و قائل فابدره إليه- فإنك أوثق عنده منه و أصدق قولا- فألق الأمر إليه على وجهه فقلت نعم- .

و انصرفت أريد عليا ع في المسجد فإذا هو خارج منه- فلما رآني تفجع لي من فوت الصلاة و قال ما أدركتها قلت بلى- و لكني خرجت مع أمير المؤمنين ثم اقتصصت عليه القصة- فقال أما و الله يا ابن عباس- إنه ليقرف قرحة ليحورن عليه ألمها- فقلت إن له سنه و سابقته و قرابته و صهره- قال إن ذلك له و لكن لا حق لمن لا حق عليه- . قال ثم رهقنا عمار فبش به علي و تبسم في وجهه و سأله- فقال عمار يا ابن عباس- هل ألقيت إليه ما كنا فيه قلت نعم- قال أما و الله إذا لقد قلت بلسان عثمان و نطقت بهواه- قلت ما عدوت الحق جهدي و لا ذلك من فعلي- و إنك لتعلم أي الحظين أحب إلي- و أي الحقين أوجب علي- .

قال فظن علي أن عند عمار غير ما ألقيت إليه- فأخذ بيده و ترك يدي فعلمت أنه يكره مكاني- فتخلفت عنهما و انشعب بنا الطريق- فسلكاه و لم يدعني فانطلقت إلى منزلي- فإذا رسول عثمان يدعوني فأتيته- فأجد ببابه مروان و سعيد بن العاص- .في رجال من بني أمية- فأذن لي و ألطفني و قربني و أدنى مجلسي- ثم قال ما صنعت فأخبرته بالخبر على وجهه و ما قال الرجل- و قلت له و كتمته قوله- إنه ليقرف قرحة ليحورن عليه ألمها- إبقاء عليه و إجلالا له- و ذكرت مجي‏ء عمار و بش علي له- و ظن علي أن قبله غير ما ألقيت عليه و سلوكهما حيث سلكا- قال و فعلا قلت نعم فاستقبل القبلة- ثم قال اللهم رب السموات و الأرض- عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم- أصلح لي عليا و أصلحني له- أمن يا ابن عباس فأمنت- ثم تحدثنا طويلا و فارقته و أتيت منزلي- .

و روى الزبير بن بكار أيضا في الكتاب المذكور- عن عبد الله بن عباس قال ما سمعت من أبي شيئا قط- في أمر عثمان يلومه فيه و لا يعذره- و لا سألته عن شي‏ء من ذلك- مخافة أن أهجم منه على ما لا يوافقه- فإنا عنده ليلة و نحن نتعشى- إذ قيل هذا أمير المؤمنين عثمان بالباب- فقال ائذنوا له فدخل فأوسع له على فراشه- و أصاب من العشاء معه- فلما رفع قام من كان هناك و ثبت أنا- فحمد عثمان الله و أثنى عليه ثم قال أما بعد يا خال- فإني قد جئتك أستعذرك من ابن أخيك علي- سبني و شهر أمري و قطع رحمي و طعن في ديني- و إني أعوذ بالله منكم يا بني عبد المطلب- إن كان لكم حق تزعمون أنكم غلبتم عليه- فقد تركتموه في يدي من فعل ذلك بكم- و أنا أقرب إليكم رحما منه- و ما لمت منكم أحدا إلا عليا- و لقد دعيت أن أبسط عليه فتركته لله و الرحم- و أنا أخاف ألا يتركني فلا أتركه- .

قال ابن عباس فحمد أبي الله و أثنى عليه- ثم قال أما بعد يا ابن أختي- فإن كنت لا تحمد عليا لنفسك فإني لا أحمدك لعلي- و ما علي وحده قال فيك بل غيره- فلو أنك‏اتهمت نفسك للناس اتهم الناس أنفسهم لك- و لو أنك نزلت مما رقيت و ارتقوا مما نزلوا- فأخذت منهم و أخذوا منك ما كان بذلك بأس- قال عثمان فذلك إليك يا خال و أنت بيني و بينهم- قال أ فأذكر لهم ذلك عنك قال نعم و انصرف- فما لبثنا أن قيل هذا أمير المؤمنين قد رجع بالباب- قال أبي ائذنوا له فدخل فقام قائما و لم يجلس- و قال لا تعجل يا خال حتى أوذنك- فنظرنا فإذا مروان بن الحكم كان جالسا بالباب- ينتظره حتى خرج- فهو الذي ثناه عن رأيه الأول فأقبل علي أبي- و قال يا بني ما إلى هذا من أمره شي‏ء- ثم قال يا بني- أملك عليك لسانك حتى ترى ما لا بد منه- ثم رفع يديه فقال اللهم اسبق بي ما لا خير لي في إدراكه- فما مرت جمعة حتى مات رحمه الله- .

وروى أبو العباس المبرد في الكامل عن قنبر مولى علي ع قال دخلت مع علي على عثمان فأحبا الخلوة- فأومأ إلي علي ع بالتنحي فتنحيت غير بعيد- فجعل عثمان يعاتبه و علي مطرق- فأقبل عليه عثمان و قال ما لك لا تقول- قال إن قلت لم أقل إلا ما تكره و ليس لك عندي إلا ما تحب- .

قال أبو العباس تأويل ذلك- إن قلت اعتددت عليك بمثل ما اعتددت به علي- فلذعك عتابي و عقدي ألا أفعل- و إن كنت عاتبا إلا ما تحب- . و عندي فيه تأويل آخر- و هو أني إن قلت و اعتذرت- فأي شي‏ء حسنته من الأعذار لم يكن ذلك عندك مصدقا- و لم يكن إلا مكروها غير مقبول- و الله تعالى يعلم أنه ليس لك عندي في باطني- و ما أطوي عليه جوانحي إلا ما تحب- و إن كنت لا تقبل المعاذير التي أذكرها- بل تكرهها و تنبو نفسك عنها- .

و روى الواقدي في كتاب الشورى عن ابن عباس رحمه الله قال شهدت عتاب عثمان لعلي ع يوما- فقال له في بعض ما قاله- نشدتك الله أن تفتح للفرقة بابا- فلعهدي بك و أنت تطيع عتيقا- و ابن الخطاب طاعتك لرسول الله ص و لست بدون واحد منهما- و أنا أمس بك رحما و أقرب إليك صهرا- فإن كنت تزعم أن هذا الأمر جعله رسول الله ص لك- فقد رأيناك حين توفي نازعت ثم أقررت- فإن كانا لم يركبا من الأمر جددا- فكيف أذعنت لهما بالبيعة و بخعت بالطاعة- و إن كانا أحسنا فيما وليا- و لم أقصر عنهما في ديني و حسبي و قرابتي- فكن لي كما كنت لهما- .

فقال علي ع أما الفرقة فمعاذ الله أن أفتح لها بابا- و أسهل إليها سبيلا- و لكني أنهاك عما ينهاك الله و رسوله عنه- و أهديك إلى رشدك و أما عتيق و ابن الخطاب- فإن كانا أخذا ما جعله رسول الله ص لي- فأنت أعلم بذلك و المسلمون- و ما لي و لهذا الأمر و قد تركته منذ حين- فإما ألا يكون حقي بل المسلمون فيه شرع- فقد أصاب السهم الثغرة- و إما أن يكون حقي دونهم فقد تركته لهم- طبت به نفسا و نفضت يدي عنه استصلاحا- و أما التسوية بينك و بينهما- فلست كأحدهما إنهما وليا هذا الأمر- فظلفا أنفسهما و أهلهما عنه- و عمت فيه و قومك عوم السابح في اللجة- فارجع إلى الله أبا عمرو- و انظر هل بقي من عمرك إلا كظم‏ء الحمار- فحتى متى و إلى متى- أ لا تنهى سفهاء بني أمية عن أعراض المسلمين- و أبشارهم و أموالهم- و الله لو ظلم عامل من عمالك حيث تغرب الشمس- لكان إثمه مشتركا بينه و بينك
– .

قال ابن عباس فقال عثمان لك العتبى- و افعل و اعزل من عمالي كل من تكرهه‏و يكرهه المسلمون- ثم افترقا- فصده مروان بن الحكم عن ذلك- و قال يجترئ عليك الناس فلا تعزل أحدا منهم- . وروى الزبير بن بكار أيضا في كتابه- عن رجال أسند بعضهم عن بعض عن علي بن أبي طالب ع قال أرسل إلي عثمان في الهاجرة فتقنعت بثوبي و أتيته- فدخلت عليه و هو على سريره- و في يده قضيب و بين يديه مال دثر- صبرتان من ورق و ذهب- فقال دونك خذ من هذا حتى تملأ بطنك فقد أحرقتني- فقلت وصلتك رحم إن كان هذا المال ورثته- أو أعطاكه معط أو اكتسبته من تجارة- كنت أحد رجلين- إما آخذ و أشكر أو أوفر و أجهد- و إن كان من مال الله و فيه حق المسلمين- و اليتيم و ابن السبيل- فو الله ما لك أن تعطينيه و لا لي أن آخذه- فقال أبيت و الله إلا ما أبيت- ثم قام إلي بالقضيب فضربني- و الله ما أرد يده حتى قضى حاجته- فتقنعت بثوبي و رجعت إلى منزلي- و قلت الله بيني و بينك- إن كنت أمرتك بمعروف أو نهيت عن منكر
و- روى الزبير بن بكار عن الزهري قال- لما أتي عمر بجوهر كسرى وضع في المسجد- فطلعت عليه الشمس فصار كالجمر- فقال لخازن بيت المال ويحك- أرحني من هذا و اقسمه بين المسلمين- فإن نفسي تحدثني أنه سيكون في هذا بلاء و فتنة بين الناس- فقال يا أمير المؤمنين إن قسمته بين المسلمين لم يسعهم- و ليس أحد يشتريه لأن ثمنه عظيم و لكن ندعه إلى قابل- فعسى الله أن يفتح على المسلمين بمال- فيشتريه منهم من يشتريه- قال ارفعه فأدخله بيت المال- . و قتل عمر و هو بحاله- فأخذه عثمان لما ولي الخلافة فحلى به بناته- .

قال الزبير فقال الزهري كل قد أحسن- عمر حين حرم نفسه و أقاربه و عثمان حين وصل أقاربه- .قال الزبير و حدثنا محمد بن حرب قال حدثنا سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد قال جاء رجل إلى علي ع يستشفع به إلى عثمان- فقال حمال الخطايا- لا و الله لا أعود إليه أبدا فآيسه منهو روى الزبير أيضا عن شداد بن عثمان قال سمعت عوف بن مالك في أيام عمر يقول: يا طاعون خذني فقلنا له لم تقول هذا- وقد سمعت رسول الله ص يقول إن المؤمن لا يزيده طول العمر إلا خيرا

قال إني أخاف ستا خلافة بني أمية- و إمارة السفهاء من أحداثهم- و الرشوة في الحكم و سفك الدم الحرام- و كثرة الشرط و نشأ ينشأ يتخذون القرآن مزامير- . و روى الزبير عن أبي غسان عن عمر بن زياد- عن الأسود بن قيس عن عبيد بن حارثة قال- سمعت عثمان و هو يخطب- فأكب الناس حوله فقال اجلسوا يا أعداء الله- فصاح به طلحة إنهم ليسوا بأعداء الله- لكنهم عباده و قد قرءوا كتابه- . و روى الزبير عن سفيان بن عيينة عن إسرائيل عن الحسن قال شهدت المسجد يوم جمعة- فخرج عثمان فقام رجل فقال أنشد كتاب الله- فقال عثمان اجلس أ ما لكتاب الله ناشد غيرك فجلس- ثم قام آخر فقال مثل مقالته- فقال اجلس فأبى‏أن يجلس- فبعث إلى الشرط ليجلسوه- فقام الناس فحالوا بينهم و بينه- قال ثم تراموا بالبطحاء حتى يقول القائل- ما أكاد أرى أديم السماء من البطحاء- فنزل عثمان فدخل داره و لم يصل الجمعة

فصل فيما شجر بين عثمان و ابن عباس من الكلام بحضرة علي

و روى الزبير أيضا في الموفقيات عن ابن عباس رحمه الله قال- صليت العصر يوما ثم خرجت فإذا أنا بعثمان بن عفان في أيام خلافته- في بعض أزقة المدينة وحده- فأتيته إجلالا و توقيرا لمكانه- فقال لي هل رأيت عليا قلت خلفته في المسجد- فإن لم يكن الآن فيه فهو في منزله- قال أما منزله فليس فيه فابغه لنا في المسجد- فتوجهنا إلى المسجد و إذا علي ع يخرج منه- قال ابن عباس و قد كنت أمس ذلك اليوم عند علي- فذكر عثمان و تجرمه عليه و قال- أما و الله يا ابن عباس- إن من دوائه لقطع كلامه و ترك لقائه- فقلت له يرحمك الله كيف لك بهذا- فإن تركته ثم أرسل إليك فما أنت صانع- قال أعتل و أعتل فمن يقسرني قال لا أحد- . قال ابن عباس- فلما تراءينا له و هو خارج من المسجد- ظهر منه من التفلت و الطلب للانصراف ما استبان لعثمان- فنظر إلي عثمان و قال يا ابن عباس- أ ما ترى ابن خالنا يكره لقاءنا- فقلت و لم و حقك ألزم و هو بالفضل أعلم- فلما تقاربا رماه عثمان بالسلام فرد عليه- فقال عثمان إن تدخل فإياك أردنا- و إن تمض فإياك طلبنا- فقال علي أي ذلك أحببت قال تدخل- فدخلا و أخذ عثمان بيده فأهوى به إلى القبلة- فقصر عنها و جلس قبالتها فجلس عثمان إلى جانبه- فنكصت عنهما فدعواني جميعا فأتيتهما- فحمد عثمان الله و أثنى عليه و صلى على رسوله- ثم قال أما بعد يا بني خالي و ابني‏عمي- فإذ جمعتكما في النداء فسأجمعكما في الشكاية- عن رضاي على أحدكما و وجدي على الآخر- إني أستعذركما من أنفسكما- و أسألكما فيئتكما- و أستوهبكما رجعتكما- فو الله لو غالبني الناس ما انتصرت إلا بكما- و لو تهضموني ما تعززت إلا بعزكما- و لقد طال هذا الأمر بيننا حتى تخوفت أن يجوز قدره- و يعظم الخطر فيه- و لقد هاجني العدو عليكما و أغراني بكما- فمنعني الله و الرحم مما أراد- و قد خلونا في مسجد رسول الله ص و إلى جانب قبره- و قد أحببت أن تظهرا لي رأيكما في- و ما تنطويان لي عليه و تصدقا- فإن الصدق أنجى و أسلم و أستغفر الله لي و لكما- .

قال ابن عباس- فأطرق علي ع و أطرقت معه طويلا- أما أنا فأجللته أن أتكلم قبله- و أما هو فأراد أن أجيب عني و عنه- ثم قلت له أ تتكلم أم أتكلم عنك قال بل تكلم عني و عنك- فحمدت الله و أثنيت عليه و صليت على رسوله- ثم قلت أما بعد يا ابن عمنا و عمتنا- فقد سمعنا كلامك لنا- و خلطك في الشكاية بيننا على رضاك- زعمت- عن أحدنا و وجدك على الآخر- و سنفعل في ذلك فنذمك و نحمدك- اقتداء منك بفعلك فينا فإنا نذم مثل تهمتك إيانا- على ما اتهمتنا عليه بلا ثقة إلا ظنا- و نحمد منك غير ذلك من مخالفتك عشيرتك- ثم نستعذرك من نفسك استعذارك إيانا من أنفسنا- و نستوهبك فيئتك استيهابك إيانا فيئتنا- و نسألك رجعتك مسألتك إيانا رجعتنا- فإنا معا أيما حمدت و ذممت منا كمثلك في أمر نفسك- ليس بيننا فرق و لا اختلاف- بل كلانا شريك صاحبه في رأيه و قوله- فو الله ما تعلمنا غير معذرين فيما بيننا و بينك- و لا تعرفنا غير قانتين عليك- و لا تجدنا غير راجعين إليك- فنحن نسألك من نفسك مثل ما سألتنا من أنفسنا- و أما قولك لو غالبتني الناس ما انتصرت إلا بكما- أو تهضموني ما تعززت إلا بعزكما- فأين بنا و بك عن ذلك و نحن و أنت كما قال أخو كنانة-

بدا بحتر ما رام نال و إن يرم
يخض دونه غمرا من الغر رائمه‏

لنا و لهم منا و منهم على العدا
مراتب عز مصعدات سلالمه‏

و أما قولك في هيج العدو إياك علينا- و إغرائه لك بنا- فو الله ما أتاك العدو من ذلك شيئا- إلا و قد أتانا بأعظم منه- فمنعنا مما أراد ما منعك من مراقبة الله و الرحم- و ما أبقيت أنت و نحن إلا على أدياننا- و أعراضنا و مروءاتنا- و لقد لعمري طال بنا و بك هذا الأمر- حتى تخوفنا منه على أنفسنا و راقبنا منه ما راقبت- . و أما مساءلتك إيانا عن رأينا فيك و ما ننطوي عليه لك- فإنا نخبرك أن ذلك إلى ما تحب- لا يعلم واحد منا من صاحبه إلا ذلك- و لا يقبل منه غيره- و كلانا ضامن على صاحبه ذلك و كفيل به- و قد برأت أحدنا و زكيته و أنطقت الآخر و أسكته- و ليس السقيم منا مما كرهت بأنطق من البري‏ء فيما ذكرت- و لا البري‏ء منا مما سخطت بأظهر من السقيم فيما وصفت- فإما جمعتنا في الرضا و إما جمعتنا في السخط- لنجازيك بمثل ما تفعل بنا في ذلك- مكايلة الصاع بالصاع فقد أعلمناك رأينا- و أظهرنا لك ذات أنفسنا و صدقناك- و الصدق كما ذكرت أنجى و أسلم- فأجب إلى ما دعوت إليه- و أجلل عن النقض و الغدر مسجد رسول الله ص و موضع قبره- و اصدق تنج و تسلم و نستغفر الله لنا و لك-قال ابن عباس فنظر إلي علي ع نظر هيبة- و قال دعه حتى يبلغ رضاه فيما هو فيه- فو الله لو ظهرت له قلوبنا- و بدت له سرائرنا حتى رآها بعينه كما يسمع الخبر عنها بأذنه- ما زال متجرما منتقما و الله ما أنا ملقى على وضمة- و إني لمانع ما وراء ظهري- و إن هذا الكلام لمخالفة منه و سوء عشرة- فقال عثمان مهلا أبا حسن- فو الله إنك لتعلم أن رسول الله ص وصفني‏ بغير ذلك- يوم يقول و أنت عنده- إن من أصحابي لقوما سالمين لهم و إن عثمان- لمنهم- إنه لأحسنهم بهم ظنا و أنصحهم لهم حبا- فقال علي ع فتصدق قوله ص بفعلك و خالف ما أنت الآن عليه- فقد قيل لك ما سمعت و هو كاف إن قبلت- قال عثمان فتثق يا أبا الحسن- قال نعم أثق و لا أظنك إلا فاعلا- قال عثمان قد وثقت و أنت ممن لا يخفر صاحبه- و لا يكذب لقيله – .

قال ابن عباس فأخذت بأيديهما- حتى تصافحا و تصالحا و تمازحا و نهضت عنهما- فتشاورا و تآمرا و تذاكرا ثم افترقا- فو الله ما مرت ثالثة حتى لقيني كل واحد منهما- يذكر من صاحبه ما لا تبرك عليه الإبل- فعلمت أن لا سبيل إلى صلحهما بعدها- . و روى أحمد بن عبد العزيز الجوهري- في كتاب أخبار السقيفة- عن محمد بن قيس الأسدي عن المعروف بن سويد- قال كنت بالمدينة أيام بويع عثمان- فرأيت رجلا في المسجد جالسا- و هو يصفق بإحدى يديه على الأخرى و الناس حوله- و يقول وا عجبا من قريش و استئثارهم بهذا الأمر- على أهل هذا البيت معدن الفضل- و نجوم الأرض و نور البلاد- و الله إن فيهم لرجلا- ما رأيت رجلا بعد رسول الله ص أولى منه بالحق- و لا أقضي بالعدل و لا آمر بالمعروف و لا أنهى عن المنكر- فسألت عنه فقيل هذا المقداد- فتقدمت إليه و قلت أصلحك الله- من الرجل الذي تذكر- فقال ابن عم نبيك رسول الله ص علي بن أبي طالب- . قال فلبثت ما شاء الله ثم إني لقيت أبا ذر رحمه الله- فحدثته ما قال المقداد فقال صدق- قلت فما يمنعكم أن تجعلوا هذا الأمر فيهم- قال أبى ذلك قومهم- قلت فما يمنعكم أن تعينوهم- قال مه لا تقل هذا إياكم و الفرقة و الاختلاف- .

قال فسكت عنه ثم كان من الأمر بعد ما كان- . و ذكر شيخنا أبو عثمان الجاحظ- في الكتاب الذي أورد فيه المعاذير عن أحداث عثمان- أن عليا اشتكى فعاده عثمان من شكايته- فقال علي ع-

و عائدة تعود لغير ود
تود لو أن ذا دنف يموت‏

فقال عثمان و الله ما أدري أ حياتك أحب إلي أم موتك- إن مت هاضني فقدك- و إن حييت فتنتني حياتك- لا أعدم ما بقيت طاعنا يتخذك رديئة يلجأ إليها- . فقال علي ع- ما الذي جعلني رديئة للطاعنين العائبين- إنما سوء ظنك بي أحلني من قبلك هذا المحل- فإن كنت تخاف جانبي- فلك علي عهد الله و ميثاقه أن لا بأس عليك مني- ما بل بحر صوفة و إني لك لراع- و إني عنك لمحام- و لكن لا ينفعني ذلك عندك- و أما قولك إن فقدي يهيضك- فكلا أن تهاض لفقدي ما بقي لك الوليد و مروان- . فقام عثمان فخرج- . و قد روي أن عثمان هو الذي أنشد هذا البيت- و قد كان اشتكى فعاده علي ع فقال عثمان-

و عائدة تعود بغير نصح
تود لو أن ذا دنف يموت‏

و روى أبو سعد الآبي في كتابه عن ابن عباس- قال وقع بين عثمان و علي‏ ع كلام- فقال عثمان ما أصنع إن كانت قريش لا تحبكم- و قد قتلتم منهم يوم بدر سبعين- كأن وجوههم شنوف الذهب- تصرع أنفهم قبل شفاههم- . و روى المذكور أيضا- أن عثمان لما نقم الناس عليه ما نقموا- قام متوكئا على مروان فخطب الناس- فقال إن لكل أمة آفة و لكل نعمة عاهة- و إن آفة هذه الأمة و عاهة هذه النعمة- قوم عيابون طعانون يظهرون لكم ما تحبون- و يسرون ما تكرهون- طغام مثل النعام يتبعون أول ناعق- و لقد نقموا علي ما نقموا على عمر مثله- فقمعهم و وقمهم- و إني لأقرب ناصرا و أعز نفرا- فما لي لا أفعل في فضول الأموال ما أشاء- .

و روى المذكور أيضا- أن عليا ع اشتكى فعاده عثمان- فقال ما أراك أصبحت إلا ثقيلا- قال أجل قال و الله ما أدري أ موتك أحب إلي أم حياتك- إني لأحب موتك و أكره أن أعيش بعدك- فلو شئت جعلت لنا من نفسك مخرجا- إما صديقا مسالما و إما عدوا مغالبا- و إنك لكما قال أخو إياد

جرت لما بيننا حبل الشموس فلا
يأسا مبينا نرى منها و لا طمعا

فقال علي ع- ليس لك عندي ما تخافه- و إن أجبتك لم أجبك إلا بما تكرهه- . و كتب عثمان إلى علي ع حين أحيط به- أما بعد فقد جاوز الماء الزبى- و بلغ الحزام الطبيين- و تجاوز الأمر في قدره فطمع في من لا يدفع عن نفسه-

فإن كنت مأكولا فكن خير آكل
و إلا فأدركني و لما أمزق‏

و روى الزبير خبر العيادة على وجه آخر- قال مرض علي ع فعاده عثمان- و معه مروان بن الحكم- فجعل عثمان يسأل عليا عن حاله و علي ساكت لا يجيبه- فقال عثمان لقد أصبحت يا أبا الحسن مني بمنزلة الولد العاق لأبيه- إن عاش عقه و إن مات فجعه- فلو جعلت لنا من أمرك فرجا إما عدوا أو صديقا- و لم تجعلنا بين السماء و الماء- أما و الله لأنا خير لك من فلان و فلان- و إن قتلت لا تجد مثلي- فقال مروان أما و الله لا يرام ما وراءنا- حتى تتواصل سيوفنا و تقطع أرحامنا- . فالتفت إليه عثمان- و قال اسكت لا سكت و ما يدخلك فيما بيننا- .

وروى شيخنا أبو عثمان الجاحظ عن زيد بن أرقم قال سمعت عثمان و هو يقول لعلي ع- أنكرت علي استعمال معاوية و أنت تعلم أن عمر استعمله- قال علي ع نشدتك الله- أ لا تعلم أن معاوية كان أطوع لعمر من يرفأ غلامه- إن عمر كان إذا استعمل عاملا وطئ على صماخه- و إن القوم ركبوك و غلبوك- و استبدوا بالأمر دونك فسكت عثمان

أسباب المنافسة بين علي و عثمان

قلت حدثني جعفر بن مكي الحاجب رحمه الله- قال سألت محمد بن سليمان حاجب الحجاب- و قد رأيت أنا محمدا هذا- و كانت لي به معرفة غير مستحكمة- و كان ظريفاأديبا و قد اشتغل بالرياضيات من الفلسفة- و لم يكن يتعصب لمذهب بعينه- قال جعفر سألت عما عنده في أمر علي و عثمان- فقال هذه عداوة قديمة النسب بين عبد شمس و بين بني هاشم- و قد كان حرب بن أمية نافر عبد المطلب بن هاشم- و كان أبو سفيان يحسد محمدا ص و حاربه- و لم تزل الثنتان متباغضتين و إن جمعتهما المنافية-

ثم إن رسول الله ص زوج عليا بابنته- و زوج عثمان بابنته الأخرى- و كان اختصاص رسول الله ص لفاطمة- أكثر من اختصاصه للبنت الأخرى- و للثانية التي تزوجها عثمان بعد وفاة الأولى- و اختصاصه أيضا لعلي و زيادة قربه منه و امتزاجه به- و استخلاصه إياه لنفسه أكثر و أعظم من اختصاصه لعثمان- فنفس عثمان ذلك عليه فتباعد ما بين قلبيهما- و زاد في التباعد ما عساه يكون بين الأختين- من مباغضة أو مشاجرة- أو كلام ينقل من إحداهما إلى الأخرى- فيتكدر قلبها على أختها- و يكون ذلك التكدير- سببا لتكدير ما بين البعلين أيضا- كما نشاهده في عصرنا و في غيره من الأعصار-

و قد قيل ما قطع من الأخوين كالزوجتين- ثم اتفق أن عليا ع قتل جماعة كثيرة من بني عبد شمس- في حروب رسول الله ص فتأكد الشنئان- و إذا استوحش الإنسان من صاحبه استوحش صاحبه منه- ثم مات رسول الله ص- فصبا إلى علي جماعة يسيرة لم يكن عثمان منهم- و لا حضر في دار فاطمة مع من حضر من المخلفين عن البيعة- و كانت في نفس علي ع أمور من الخلافة- لم يمكنه إظهارها في أيام أبي بكر و عمر- لقوة عمر و شدته و انبساط يده و لسانه- فلما قتل عمر و جعل الأمر شورى بين الستة- و عدل عبد الرحمن بها عن علي إلى عثمان- لم يملك علي نفسه فأظهر ما كان كامنا- و أبدى ما كان مستورا- و لم يزل الأمر يتزايد بينهما حتى شرف و تفاقم- و مع ذلك فلم يكن علي ع لينكر من أمره إلا منكرا- و لا ينهاه إلا كما تقتضي الشريعة نهيه عنه- و كان عثمان مستضعفا في نفسه- رخوا قليل الحزم واهي العقدة- و سلم عنانه إلىمروان يصرفه كيف شاء- الخلافة له في المعنى و لعثمان في الاسم- فلما انتقض على عثمان أمره استصرخ عليا و لاذ به- و ألقى زمام أمره إليه فدافع عنه حيث لا ينفع الدفاع- و ذب عنه حين لا يغني الذب- فقد كان الأمر فسد فسادا لا يرجى صلاحه- . قال جعفر فقلت له- أ تقول إن عليا وجد من خلافة عثمان- أعظم مما وجده من خلافة أبي بكر و عمر- فقال كيف يكون ذلك و هو فرع لهما- و لولاهما لم يصل إلى الخلافة- و لا كان عثمان ممن يطمع فيها من قبل و لا يخطر له ببال- و لكن هاهنا أمر يقتضي في عثمان زيادة المنافسة- و هو اجتماعهما في النسب و كونهما من بني عبد مناف- و الإنسان ينافس ابن عمه الأدنى- أكثر من منافسة الأبعد- و يهون عليه من الأبعد ما لا يهون عليه من الأقرب- .

قال جعفر فقلت له- أ فتقول لو أن عثمان خلع و لم يقتل- أ كان الأمر يستقيم لعلي ع إذا بويع بعد خلعه- فقال لا و كيف يتوهم ذلك- بل يكون انتقاض الأمور عليه- و عثمان حي مخلوع أكثر من انتقاضها عليه بعد قتله- لأنه موجود يرجى و يتوقع عوده- فإن كان محبوسا عظم البلاء و الخطب- و هتف الناس باسمه في كل يوم بل في كل ساعة- و إن كان مخلى سربه و ممكنا من نفسه- و غير محول بينه و بين اختياره لجأ إلى بعض الأطراف- و ذكر أنه مظلوم غصبت خلافته و قهر على خلع نفسه- فكان اجتماع الناس عليه أعظم و الفتنة به أشد و أغلظ- .

قال جعفر فقلت له- فما تقول في هذا الاختلاف الواقع في أمر الإمامة- من مبدأ الحال- و ما الذي تظنه أصله و منبعه- فقال لا أعلم لهذا أصلا إلا أمرين- أحدهما أن رسول الله ص أهمل أمر الإمامة- فلم يصرح فيه بأحد بعينه- و إنما كان هناك رمز و إيماء و كناية و تعريض- لو أراد صاحبه أن يحتج به وقت الاختلاف- و حال المنازعةلم يقم منه صورة حجة تغني- و لا دلالة تحسب و تكفي- و لذلك لم يحتج علي ع يوم السقيفة بما ورد فيه- لأنه لم يكن نصا جليا يقطع العذر و يوجب الحجة- و عادة الملوك إذا تمهد ملكهم- و أرادوا العقد لولد من أولادهم أو ثقة من ثقاتهم- أن يصرحوا بذكره و يخطبوا باسمه على أعناق المنابر- و بين فواصل الخطب- و يكتبوا بذلك إلى الآفاق البعيدة عنهم- و الأقطار النائية منهم- و من كان منهم ذا سرير و حصن و مدن كثيرة- ضرب اسمه على صفحات الدنانير و الدراهم مع اسم ذلك الملك- بحيث تزول الشبهة في أمره و يسقط الارتياب بحاله- فليس أمر الخلافة بهين و لا صغير- ليترك حتى يصير في مظنة الاشتباه و اللبس- و لعله كان لرسول الله ص في ذلك عذر لا نعلمه نحن- إما خشية من فساد الأمر أو إرجاف المنافقين- و قولهم إنها ليس بنبوة و إنما هي ملك- به أوصى لذريته و سلالته- و لما لم يكن أحد من تلك الذرية في تلك الحال صالحا- للقيام بالأمر لصغر السن جعله لأبيهم- ليكون في الحقيقة لزوجته التي هي ابنته- و لأولاده منها من بعده- .

و أما ما تقوله المعتزلة و غيرهم من أهل العدل- أن الله تعالى علم أن المكلفين يكونون على ترك الأمر- مهملا غير معين أقرب إلى فعل الواجب و تجنب القبيح- قال و لعل رسول الله ص لم يكن يعلم في مرضه- أنه يموت في ذلك المرض- و كان يرجو البقاء فيمهد للإمامة قاعدة واضحة- و مما يدل على ذلك أنه لما نوزع في إحضار الدواة و الكتف- ليكتب لهم ما لا يضلون بعده- غضب و قال اخرجوا عني- لم يجمعهم بعد الغضب ثانية و يعرفهم رشدهم- و يهديهم إلى مصالحهم- بل ارجأ الأمر إرجاء من يرتقب الإفاقة و ينتظر العافية- .

قال فبتلك الأقوال المحجمة و الكنايات المحتملة- و الرموز المشتبهة مثل حديث‏خصف النعل- و منزلة هارون من موسى و من كنت مولاه- و هذا يعسوب الدين و لا فتى إلا علي و أحب خلقك إليك…- و ما جرى هذا المجرى مما لا يفصل الأمر- و يقطع العذر و يسكت الخصم و يفحم المنازع- وثبت الأنصار فادعتها و وثب بنو هاشم فادعوها- و قال أبو بكر بايعوا عمر أو أبا عبيدة- و قال العباس لعلي امدد يدك لأبايعك- و قال قوم ممن رعف به الدهر فيما بعد- و لم يكن موجودا حينئذ- إن الأمر كان للعباس لأنه العم الوارث- و إن أبا بكر و عمر غصباه حقه فهذا أحدهما- .

و أما السبب الثاني للاختلاف- فهو جعل عمر الأمر شورى في الستة- و لم ينص على واحد بعينه إما منهم أو من غيرهم- فبقي في نفس كل واحد منهم- أنه قد رشح للخلافة و أهل للملك و السلطنة- فلم يزل ذلك في نفوسهم و أذهانهم مصورا بين أعينهم- مرتسما في خيالاتهم منازعة إليه نفوسهم- طامحة نحوه عيونهم- حتى كان من الشقاق بين علي و عثمان ما كان- و حتى أفضى الأمر إلى قتل عثمان- و كان أعظم الأسباب في قتله طلحة- و كان لا يشك أن الأمر له من بعده لوجوه- منها سابقته و منها أنه ابن عم لأبي بكر- و كان لأبي بكر في نفوس أهل ذلك العصر منزلة عظيمة- أعظم منها الآن و منها أنه كان سمحا جوادا- و قد كان نازع عمر في حياة أبي بكر- و أحب أن يفوض أبو بكر الأمر إليه من بعده- فما زال يفتل في الذروة و الغارب في أمر عثمان- و ينكر له القلوب و يكدر عليه النفوس- و يغري أهل المدينة و الأعراب و أهل الأمصار به- و ساعده الزبير- و كان أيضا يرجو الأمر لنفسه- و لم يكن رجاؤهما الأمر بدون رجاء علي- بل رجاؤهما كان أقوى- لأن عليا دحضه الأولان و أسقطاه- و كسرا ناموسه بين الناس فصار نسيا منسيا- و مات الأكثر ممن يعرف خصائصه- التي كانت في أيام النبوة و فضله- و نشأ قوم لا يعرفونه و لا يرونه- إلا رجلا من عرض المسلمين- و لم يبق له مما يمت به إلا أنه ابن عم الرسول- و زوج ابنته و أبو سبطيه و نسي ما وراء ذلك كله- و اتفق له من بغضقريش و انحرافها ما لم يتفق لأحد- و كانت قريش بمقدار ذلك البغض تحب طلحة و الزبير- لأن الأسباب الموجبة لبغضهم لم تكن موجودة فيهما- و كانا يتألفان قريشا في أواخر أيام عثمان- و يعدانهم بالعطاء و الإفضال- و هما عند أنفسهما و عند الناس خليفتان بالقوة لا بالفعل- لأن عمر نص عليهما و ارتضاهما للخلافة- و عمر متبع القول و مرضى الفعال- موفق مؤيد مطاع نافذ الحكم في حياته و بعد وفاته- فلما قتل عثمان أرادها طلحة و حرص عليها- فلو لا الأشتر و قوم معه من شجعان العرب- جعلوها في علي لم تصل إليه أبدا-

فلما فاتت طلحة و الزبير فتقا ذلك الفتق العظيم على علي- و أخرجا أم المؤمنين معهما و قصدا العراق و أثارا الفتنة- و كان من حرب الجمل ما قد علم و عرف- ثم كانت حرب الجمل مقدمة و تمهيدا لحرب صفين- فإن معاوية لم يكن ليفعل ما فعل- لو لا طمعه بما جرى في البصرة- ثم أوهم أهل الشام أن عليا قد فسق بمحاربة أم المؤمنين- و محاربة المسلمين و أنه قتل طلحة و الزبير و هما من أهل الجنة- و من يقتل مؤمنا من أهل الجنة فهو من أهل النار- فهل كان الفساد المتولد في صفين- إلا فرعا للفساد الكائن يوم الجمل- ثم نشأ من فساد صفين و ضلال معاوية- كل ما جرى من الفساد و القبيح في أيام بني أمية- و نشأت فتنة ابن الزبير فرعا من فروع يوم الدار- لأن عبد الله كان يقول- إن عثمان لما أيقن بالقتل نص علي بالخلافة- و لي بذلك شهود- و منهم مروان بن الحكم- أ فلا ترى كيف تسلسلت هذه الأمور فرعا على أصل- و غصنا من شجرة و جذوة من ضرام- هكذا يدور بعضه على بعض و كله من الشورى في الستة- .

قال و أعجب من ذلك قول عمر و قد قيل له- إنك استعملت يزيد بن أبي سفيان و سعيد بن العاص و معاوية- و فلانا و فلانا من المؤلفة قلوبهم- من الطلقاء و أبناء الطلقاء- و تركت أن تستعمل عليا و العباس و الزبير و طلحة- فقال أما علي فأنبه من ذلك و أما هؤلاء النفرمن قريش- فإني أخاف أن ينتشروا في البلاد- فيكثروا فيها الفساد- فمن يخاف من تأميرهم لئلا يطمعوا في الملك- و يدعيه كل واحد منهم لنفسه- كيف لم يخف من جعلهم ستة متساوين في الشورى- مرشحين للخلافة و هل شي‏ء أقرب إلى الفساد من هذا- و قد روي أن الرشيد- رأى يوما محمدا و عبد الله ابنيه يلعبان و يضحكان- فسر بذلك- فلما غابا عن عينه بكى- فقال له الفضل بن الربيع- ما يبكيك يا أمير المؤمنين- و هذا مقام جذل لا مقام حزن- فقال أ ما رأيت لعبهما و مودة بينهما- أما و الله ليتبدلن ذلك بغضا و شنفا- و ليحتلسن كل واحد منهما نفس صاحبه عن قريب- فإن الملك عقيم- و كان الرشيد قد عقد الأمر لهما على ترتيب هذا بعد هذا- فكيف من لم يرتبوا في الخلافة بل جعلوا فيها كأسنان المشط- . فقلت أنا لجعفر هذا كله تحكيه عن محمد بن سليمان- فما تقول أنت فقال-

إذا قالت حذام فصدقوها
فإن القول ما قالت حذام‏

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 8-9

خطبه 134 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(قد شاوره عمر بن الخطاب في الخروج إلى غزو الروم)

134 و من كلام له ع- و قد شاوره عمر بن الخطاب في الخروج إلى غزو الروم

وَ قَدْ تَوَكَّلَ اللَّهُ- لِأَهْلِ هَذَا الدِّينِ بِإِعْزَازِ الْحَوْزَةِ- وَ سَتْرِ الْعَوْرَةِ وَ الَّذِي نَصَرَهُمْ- وَ هُمْ قَلِيلٌ لَا يَنْتَصِرُونَ- وَ مَنَعَهُمْ وَ هُمْ قَلِيلٌ لَا يَمْتَنِعُونَ- حَيٌّ لَا يَمُوتُ- إِنَّكَ مَتَى تَسِرْ إِلَى هَذَا الْعَدُوِّ بِنَفْسِكَ- فَتَلْقَهُمْ فَتُنْكَبْ- لَا يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ كَهْفٌ دُونَ أَقْصَى بِلَادِهِمْ- لَيْسَ بَعْدَكَ مَرْجِعٌ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ- فَابْعَثْ إِلَيْهِمْ رَجُلًا مِحْرَباً- وَ احْفِزْ مَعَهُ أَهْلَ الْبَلَاءِ وَ النَّصِيحَةِ- فَإِنْ أَظْهَرَ اللَّهُ فَذَاكَ مَا تُحِبُّ- وَ إِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى- كُنْتَ رِدْءاً لِلنَّاسِ وَ مَثَابَةً لِلْمُسْلِمِينَ توكل لهم صار وكيلا- و يروى و قد تكفل أي صار كفيلا- . و الحوزة الناحية و حوزة الملك بيضته- و يقول إنما الذي نصرهم في الابتداء على ضعفهم- هو الله تعالى و هو حي لا يموت- فأجدر به أن ينصرهم ثانيا- كما نصرهم أولا- و قوله فتنكب مجزوم لأنه عطف على تسر- . و كهف أي و كهف يلجأ إليه- و يروى كانفة أي جهة عاصمة- من قولك كنفت الإبل- جعلت لها كنيفا من الشجر تستتر به و تعتصم- .

و رجل محرب أي صاحب حروب- . و حفزت الرجل أحفزه- دفعته من خلفه و سقته سوقا شديدا- . و كنت ردءا أي عونا- قال سبحانه فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي- . و مثابة أي مرجعا- و منه قوله تعالى مَثابَةً لِلنَّاسِ وَ أَمْناً- أشار ع ألا يشخص بنفسه حذرا أن يصاب- فيذهب المسلمون كلهم لذهاب الرأس- بل يبعث أميرا من جانبه على الناس- و يقيم هو بالمدينة فإن هزموا كان مرجعهم إليه- . فإن قلت فما بال رسول الله ص- كان يشاهد الحروب بنفسه- و يباشرها بشخصه- قلت إن رسول الله ص كان موعودا بالنصر- و آمنا على نفسه بالوعد الإلهي- في قوله سبحانه وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ- و ليس عمر كذلك- . فإن قلت فما بال أمير المؤمنين ع- شهد حرب الجمل و صفين و النهروان بنفسه- فهلا بعث أميرا محربا- و أقام بالمدينة ردءا و مثابة- .

قلت عن هذا جوابان- أحدهما أنه كان عالما من جهة النبي ص- أنه لا يقتل في هذه الحروب- و يشهد لذلك الخبر المتفق عليه بين الناس كافة- يقاتل بعدي الناكثين و القاسطين و المارقين- و ثانيهما يجوز أن يكون غلب على ظنه- أن غيره لا يقوم مقامه- في حرب هذه الفرق الخارجة عليه- و لم يجد أميرا محربا من أهل البلاء و النصيحة- لأنه ع هكذا قال لعمر- و اعتبر هذه القيود و الشروط- فمن كان من‏ أصحابه ع محربا- لم يكن من أهل النصيحة له- و من كان من أهل النصيحة له لم يكن محربا- فدعته الضرورة إلى مباشرة الحرب بنفسه

غزوة فلسطين و فتح بيت المقدس

و اعلم أن هذه الغزاة هي غزاة فلسطين- التي فتح فيها بيت المقدس- و قد ذكرها أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ- و قال إن عليا ع هو كان المستخلف على المدينة- لما شخص عمر إلى الشام- و إن عليا ع قال له- لا تخرج بنفسك- إنك تريد عدوا كلبا- فقال عمر- إني أبادر بجهاد العدو موت العباس بن عبد المطلب- إنكم لو فقدتم العباس لانتقض بكم الشر- كما ينتقض الحبل- فمات العباس لست سنين خلت من إمارة عثمان- و انتقض بالناس الشر- .

قال أبو جعفر- و قد كان الروم عرفوا من كتبهم- أن صاحب فتح مدينة إيلياء و هي بيت المقدس- رجل اسمه على ثلاثة أحرف- فكان من حضر من أمراء المسلمين يسألون عن اسمه- فيعلمون أنه ليس بصاحبهم- فلما طال عليهم الأمر في حرب الروم استمدوا عمر- و قالوا إن لم تحضر بنفسك لم يفتح علينا- فكتب إليهم أن يلقوه برأس الجابية- ليوم سماه لهم فلقوه و هو راكب حمارا- و كان أول من لقيه يزيد بن أبي سفيان- ثم أبو عبيدة بن الجراح- ثم خالد بن الوليد- على الخيول و عليهم الديباج و الحرير- فنزل عمر عن حماره و أخذ الحجارة و رماهم بها- و قال سرعان ما لفتم عن رأيكم- إياي‏تستقبلون في هذا الزي- و إنما شبعتم منذ سنتين- سرع ما ترت بكم البطنة- و تالله لو فعلتموها على رأس المائتين- لاستبدلت بكم غيركم- فقالوا يا أمير المؤمنين- إنما هي يلامقه و تحتها السلاح فقال فنعم إذا- قال أبو جعفر- فلما علم الروم مقدم عمر نفسه سألوه الصلح- فصالحهم و كتب لهم كتابا على أن يؤدوا الجزية- ثم سار إلى بيت المقدس- فقصر فرسه عن المشي- فأتي ببرذون فركبه فهزه و هملج تحته- فنزل عنه و ضرب وجهه بردائه- و قال قبح الله من علمك هذا ردوا على فرسي- فركبه و سار حتى انتهى إلى بيت المقدس- .

قال و لم يركب برذونا قبله و لا بعده- و قال أعوذ بالله من الخيلاء- . قال أبو جعفر- و لقيه معاوية و عليه ثياب ديباج- و حوله جماعة من الغلمان و الخول- فدنا منه فقبل يده- فقال ما هذا يا ابن هند- و إنك لعلى هذه الحال مترف صاحب لبوس و تنعم- و قد بلغني أن ذوي الحاجات يقفون ببابك- فقال يا أمير المؤمنين أما اللباس فأنا ببلاد عدو- و نحب أن يرى أثر نعمة الله علينا- و أما الحجاب فأنا نخاف من البذلة جرأة الرعية- فقال ما سألتك عن شي‏ء- إلا تركتني منه في أضيق من الرواجب- إن كنت صادقا فإنه رأي لبيب- و إن كنت كاذبا فإنها خدعة أريب- . و قد روى الناس كلام معاوية لعمر على وجه آخر- قيل لما قدم عمر الشام قدمها- و هو راكب حمارا قريبا من الأرض- و معه عبد الرحمن بن عوف راكب حمار قريب أيضا- فتلقاهما معاوية في كوكبة خشناء- فثنى وركه و نزل و سلم بالخلافة فلم يرد عليه- .

فقال له عبد الرحمن- أحصرت الفتى يا أمير المؤمنين فلو كلمته- قال إنك لصاحب الجيش الذي أرى قال نعم- قال مع شدة احتجابك- و وقوف ذوي الحاجات ببابك- قال أجل قال لم ويحك- قال لأنا ببلاد عدو كثير فيها جواسيسهم- فإن لم نتخذ العدة و العدد استخف بنا- و هجم على عوراتنا- و أنا بعد عاملك فإن استنقصتني نقصت- و إن استزدتني زدت و إن استوقفتني وقفت- فقال إن كنت كاذبا إنه لرأي أريب- و إن كنت صادقا إنه لتدبير لبيب- ما سألتك عن شي‏ء قط إلا تركتني منه- في أضيق من رواجب الضرس- لا آمرك و لا أنهاك- فلما انصرف قال عبد الرحمن- لقد أحسن الفتى في إصدار ما أردت عليه- فقال لحسن إيراده و إصداره جشمناه ما جشمناه- .

قال أبو جعفر- شخص عمر من المدينة إلى الشام أربع مرات- و دخلها مرة راكب فرس و مرة راكب بعير- و مرة راكب بغل و مرة راكب حمار- و كان لا يعرف و ربما استخبره الواحد- أين أمير المؤمنين فيسكت- أو يقول سل الناس و كان يدخل الشام- و عليه سحق فرو مقلوب- و إذا حضر الناس طعامه رأوا أخشن الطعام- . قال أبو جعفر- و قدم الشام في إحدى هذه المرات الأربع- فصادف الطاعون بها فاشيا فاستشار الناس- فكل أشار عليه بالرجوع و ألا يدخلها- إلا أبا عبيدة بن الجراح- فإنه قال أ تفر من قدر الله قال نعم- أفر من قدر الله بقدر الله إلى قدر الله- لو غيرك قالها يا أبا عبيدة- فما لبث أن جاء عبد الرحمن بن عوف- فروى لهمعن النبي ص أنه قال إذا كنتم ببلاد الطاعون- فلا تخرجوا منها- و إذا قدمتم إلى بلاد الطاعون فلا تدخلوها- فحمد الله على موافقة الخبر لما كان في نفسه- و ما أشار به الناس و انصرف راجعا إلى المدينة- و مات أبو عبيدة في ذلك الطاعون- و هو الطاعون المعروف بطاعون عمواس- و كان في سنة سبع عشرة من الهجرة

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 8

خطبه 133 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

133 و من كلام له ع

وَ انْقَادَتْ لَهُ الدُّنْيَا وَ الآْخِرَةُ بِأَزِمَّتِهَا- وَ قَذَفَتْ إِلَيْهِ السَّمَاوَاتُ وَ الْأَرَضُونَ مَقَالِيدَهَا- وَ سَجَدَتْ لَهُ بِالْغُدُوِّ وَ الآْصَالِ الْأَشْجَارُ النَّاضِرَةُ- وَ قَدَحَتْ لَهُ مِنْ قُضْبَانِهَا النِّيرَانُ الْمُضِيئَةُ- وَ آتَتْ أُكُلَهَا بِكَلِمَاتِهِ الثِّمَارُ الْيَانِعَةُ الضمير في له يرجع إلى الله تعالى- و قد كان تقدم ذكر سبحانه في أول الخطبة- و إن لم يذكره الرضي رحمه الله- و معنى انقياد الدنيا و الآخرة له نفوذ حكمه فيهما- و شياع قدرته و عمومها- . و أزمتها لفظة مستعارة- من انقياد الإبل بأزمتها مع قائدها- و المقاليد المفاتيح- . و معنى سجود الأشجار الناضرة له- تصرفها حسب إرادته- و كونها مسخرة له محكوما عليها بنفوذ قدرته فيها- فجعل ع ذلك خضوعا منها لمشيئته- و استعار لها ما هو أدل على خضوع الإنسان من جمع أفعاله- و هو السجود و منه قوله تعالى- أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ- مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ- وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ وَ النُّجُومُ وَ الْجِبالُ- وَ الشَّجَرُ وَ الدَّوَابُّ وَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ- .

قوله و قدحت له من قضبانها بالضم جمع قضيب و هو الغصن- و المعنى أنه بقدرته أخرج من الشجر الأخضر نارا- و النار ضد هذا الجسم المخصوص- و هذا هو قوله تعالى- الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً- فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ بعينه- . و آتت أكلها أعطت ما يؤكل منها- و هو أيضا من الألفاظ القرآنية- . و اليانعة الناضجة و بكلماته أي بقدرته و مشيئته- و هذه اللفظة من الألفاظ المنقولة- على أحد الأقسام الأربعة المذكورة- في كتبنا في أصول الفقه- و هو استعمال لفظة متعارفة في اللغة العربية- في معنى لم يستعملها أهل اللغة فيه- كنقل لفظة الصلاة الذي هو في أصل اللغة- للدعاء إلى هيئات و أوضاع مخصوصة- و لم تستعمل العرب تلك اللفظة فيها- و لا يصح قول من قال المراد بذلك قوله كن- لأنه تعالى لا يجوز أن يخاطب المعدوم- و قوله تعالى إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ‏ءٍ إِذا أَرَدْناهُ- أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ- من باب التوسع و الاستعارة المملوء منهما القرآن- و المراد سرعة المؤاتاة و عجلة الإيجاد- و أنه إذا أراد من أفعاله أمرا كان: مِنْهَا وَ كِتَابُ اللَّهِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ- نَاطِقٌ لَا يَعْيَا لِسَانُهُ- وَ بَيْتٌ لَا تُهْدَمُ أَرْكَانُهُ- وَ عِزٌّ لَا تُهْزَمُ أَعْوَانُهُ‏

يقال هو نازل بين أظهرهم- و بين ظهريهم و بين ظهرانيهم- بفتح النون أي نازل بينهم- فإن قلت لما ذا قالت العرب بين أظهرهم- و لم تقل بين صدورهم- قلت أرادت بذلك الإشعار بشدة المحاماة عنه- و المراماة من دونه- لأن النزيل إذا حامى القوم عنه استقبلوا شبا الأسنة- و أطراف السيوف عنه بصدورهم- و كان هو محروسا مصونا عن مباشرة ذلك وراء ظهورهم- . و لا يعيا لسانه لا يكل عييت بالمنطق- فأنا عيي على فعيل- و يجوز عي الرجل في منطقه بالتشديد- فهو عي على فعل: مِنْهَا أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ- وَ تَنَازُعٍ مِنَ الْأَلْسُنِ- فَقَفَّى بِهِ الرُّسُلَ وَ خَتَمَ بِهِ الْوَحْيَ- فَجَاهَدَ فِي اللَّهِ الْمُدْبِرِينَ عَنْهُ وَ الْعَادِلِينَ بِهِ الضمير في أرسله راجع إلى النبي ص- و هو مذكور في كلام لم يحكه جامع الكتاب- .

و الفترة زمان انقطاع الوحي- و التنازع من الألسن- أن قوما في الجاهلية كانوا يعبدون‏الصنم- و قوما يعبدون الشمس و قوما يعبدون الشيطان- و قوما يعبدون المسيح- فكل طائفة تجادل مخالفيها بألسنتها لتقودها إلى معتقدها- . و قفى به الرسل أتبعها به- قال سبحانه ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى‏ آثارِهِمْ بِرُسُلِنا- و منه الكلام المقفى و سميت قوافي الشعر- لأن بعضها يتبع بعضا- . و العادلين به الجاعلين له عديلا أي مثلا- و هو من الألفاظ القرآنية أيضا- قال الله تعالى بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ: مِنْهَا وَ إِنَّمَا الدُّنْيَا مُنْتَهَى بَصَرِ الْأَعْمَى- لَا يُبْصِرُ مِمَّا وَرَاءَهَا شَيْئاً- وَ الْبَصِيرُ يَنْفُذُهَا بَصَرُهُ- وَ يَعْلَمُ أَنَّ الدَّارَ وَرَاءَهَا- فَالْبَصِيرُ مِنْهَا شَاخِصٌ- وَ الْأَعْمَى إِلَيْهَا شَاخِصٌ- وَ الْبَصِيرُ مِنْهَا مُتَزَوِّدٌ- وَ الْأَعْمَى لَهَا مُتَزَوِّدٌ شبه الدنيا و ما بعدها بما يتصوره الأعمى- من الظلمة التي يتخيلها- و كأنها محسوسة له- و ليست بمحسوسة على الحقيقة- و إنما هي عدم الضوء- كمن يطلع في جب ضيق- فيتخيل ظلاما فإنه لم ير شيئا- و لكن لما عدم الضوء فلم ينفذ البصر- تخيل أنه يرى الظلمة- فأما من يرى المبصرات في الضياء- فإن بصره ينفذ فيشاهد المحسوسات يقينا- و هذه حال الدنيا و الآخرة- أهل الدنيا منتهى بصرهم دنياهم- و يظنون أنهم يبصرون شيئا- و ليسوا بمبصرين على الحقيقة- و لا حواسهم نافذة في شي‏ء- و أهل الآخرة قد نفذت أبصارهم- فرأوا الآخرة و لم يقف إحساسهم على الدنيا خاصة- فأولئك هم أصحاب الأبصار على الحقيقة- و هذا معنى شريف من معاني أصحاب الطريقة و الحقيقة- و إليه الإشارة بقوله سبحانه- أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها- فأما قوله فالبصير منها شاخص- و الأعمى إليها شاخص- فمن مستحسن التجنيس- و هذا هو الذي يسميه أرباب الصناعة الجناس التام- فالشاخص الأول الراحل- و الشاخص الثاني من شخص بصره بالفتح- إذا فتح عينه نحو الشي‏ء مقابلا له و جعل لا يطرف

فصل في الجناس و أنواعه

و اعلم أن الجناس على سبعة أضرب- أولها الجناس التام كهذا اللفظ- و حده أن تتساوى حروف ألفاظ الكلمتين- في تركيبها و في وزنها- قالوا و لم يرد في القرآن العزيز منه إلا موضع واحد- و هو قوله وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ- يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ- . و عندي أن هذا ليس بتجنيس أصلا- و قد ذكرته في كتابي المسمى- بالفلك الدائر على المثل السائر- و قلت إن الساعة في الموضعين بمعنى واحد- و التجنيس أن يتفق اللفظ و يختلف المعنى- و لا يكون أحدهما حقيقة و الآخر مجازا- بل يكونان حقيقتين- و إن‏زمان القيامة و إن طال- لكنه عند الله في حكم الساعة الواحدة- لأن قدرته لا يعجزها أمر- و لا يطول عندها زمان- فيكون إطلاق لفظ الساعة- على أحد الموضعين حقيقة و على الآخر مجازا- و ذلك يخرج الكلام عن حد التجنيس- كما لو قلت ركبت حمارا و لقيت حمارا- و أردت بالثاني البليد- . و أيضا فلم لا يجوز أن يكون أراد بقوله- وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ- الأولى خاصة من زمان البعث- فيكون لفظ الساعة مستعملا- في الموضعين حقيقة بمعنى واحد- فيخرج عن التجنيس- و عن مشابهة التجنيس بالكلية- . قالوا و ورد في السنة من التجنيس التام خبر واحد- وهو قوله ص لقوم من الصحابة- كانوا يتنازعون جرير بن عبد الله البجلي في زمام ناقته- خلوا بين جرير و الجريرفالجرير الثاني الحبل- . و جاء من ذلك في الشعر لأبي تمام قوله-

فأصبحت غرر الإسلام مشرقة
بالنصر تضحك عن أيامك الغرر

فالغرر الأولى مستعارة من غرة الوجه- و الغرر الثانية من غرة الشي‏ء- و هي أكرمه و كذلك قوله-

من القوم جعد أبيض الوجه و الندى
و ليس بنان يجتدى منه بالجعد

فالجعد الأول السيد- و الثاني ضد السبط و هو من صفات البخيل- . و كذلك قوله-

بكل فتى ضرب يعرض للقنا
محيا محلى حلية الطعن و الضرب‏

فالضرب الأول الرجل الخفيف- و الثاني مصدر ضرب- . و كذلك قوله-

عداك حر الثغور المستضامة عن
برد الثغور و عن سلسالها الحصب‏

فأحدهما جمع ثغر- و هو ما يتاخم العدو من بلاد الحرب- و الثاني للأسنان- . و من هذه القصيدة-

كم أحرزت قضب الهندي مصلته
تهتز من قضب تهتز في كثب‏

بيض إذا انتضيت من حجبها رجعت‏
أحق بالبيض أبدانا من الحجب‏

 و قد أكثر الناس في استحسان هذا التجنيس و أطنبوا- و عندي أنه ليس بتجنيس أصلا- لأن تسمية السيوف قضبا- و تسمية الأغصان قضبا كله بمعنى واحد- و هو القطع فلا تجنيس إذا- و كذلك البيض للسيوف و البيض للنساء- كله بمعنى البياض- فبطل معنى التجنيس- و أظنني ذكرت هذا أيضا في كتاب الفلك الدائر- . قالوا و من هذا القسم قوله أيضا-

إذا الخيل جابت قسطل الخيل صدعوا
صدور العوالي في صدور الكتائب‏

 و هذا عندي أيضا ليس بتجنيس- لأن الصدور في الموضعين بمعنى واحد- و هو جزء الشي‏ء المتقدم البارز عن سائره- فأما قوله أيضا-

عامي و عام العيس بين وديقة
مسجورة و تنوفة صيخود

حتى أغادر كل يوم بالفلا
للطير عيدا من بنات العيد

 فإنه من التجنيس التام- لا شبهة في ذلك لاختلاف المعنى- فالعيد الأول هو اليوم المعروف من الأعياد- و العيد الثاني فحل من فحول الإبل- . و نحو هذا قول أبي نواس-

عباس عباس إذا احتدم الوغى
و الفضل فضل و الربيع ربيع‏

و قول البحتري-

إذا العين راحت و هي عين على الهوى
فليس بسر ما تسر الأضالع‏

فالعين الثانية الجاسوس- و الأولى العين المبصرة- و للغزى المتأخر قصيدة أكثر من التجنيس التام فيها أولها-

لو زارنا طيف ذات الخال أحيانا
و نحن في حفر الأجداث أحيانا

و قال في أثنائها-

تقول أنت امرؤ جاف مغالطة
فقلت لا هومت أجفان أجفانا

 و قال في مديحها-

لم يبق غيرك إنسان يلاذ به
فلا برحت لعين الدهر إنسانا

و قد ذكر الغانمي في كتابه من صناعة الشعر بابا- سماه رد الأعجاز على الصدور- ذكر أنه خارج عن باب التجنيس- قال مثل قول الشاعر-

و نشري بجميل الصنع
ذكرا طيب النشر

و نفري بسيوف الهند
من أسرف في النفر

و بحري في شرى الحمد
على شاكلة البحر

و هذا من التجنيس- و ليس بخارج عنه و لكنه تجنيس مخصوص- و هو الإتيان به في طرفي البيت- . و عد ابن الأثير الموصلي في كتابه- من التجنيس قول الشاعر في الشيب-

يا بياضا أذرى دموعي حتى
عاد منها سواد عيني بياضا

 و كذلك قول البحتري-

و أغر في الزمن البهيم محجل
قد رحت منه على أغر محجل‏

و هذا عندي ليس بتجنيس لاتفاق المعنى- و العجب منه أنه بعد إيراده هذا أنكر على من قال- إن قول أبي تمام-

أظن الدمع في خدي سيبقى
رسوما من بكائي في الرسوم‏

 من التجنيس و قال أي تجنيس هاهنا و المعنى متفق- و لو أمعن النظر لرأى هذا مثل البيتين السابقين- . قالوا فأما الأجناس الستة الباقية- فإنها خارجة عن التجنيس التام و مشبهة به- . فمنها أن تكون الحروف متساوية في تركيبها- مختلفة في وزنها- فمن ذلكقول النبي ص اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي- و قول بعضهم لن تنالوا غرر المعالي- إلا بركوب الغرر- و اهتبال الغرر و قول البحتري-

و فر الحائن المغرور يرجو
أمانا أي ساعة ما أمان‏

يهاب الالتفات و قد تصدى
للحظة طرفه طرف السنان‏

 و قال آخر

قد ذبت بين حشاشة و ذماء
ما بين حر هوى و حر هواء

 و منها أن تكون الألفاظ متساوية في الوزن- مختلفة في التركيب بحرف واحد لا غير- فإن زاد على ذلك خرج من باب التجنيس- و ذلك نحو قوله تعالى- وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ- إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ- و كذلك قوله سبحانه- وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ- و قوله تعالى ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ- فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ- وَ بِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ- و نحو هذاما ورد عن النبي ص من قوله الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة– و قال بعضهم- لا تنال المكارم إلا بالمكاره- . و قال أبو تمام-

يمدون من أيد عواص عواصم
تصول بأسياف قواض قواضب‏

و قال البحتري-

من كل ساجي الطرف أغيد أجيد
و مهفهف الكشحين أحوى أحور

 و قال أيضا-

شواجر أرماح تقطع بينهم
شواجن أرحام ملوم قطوعها

و هذا البيت حسن الصنعة- لأنه قد جمع بين التجنيس الناقص و بين المقلوب- و هو أرماح و أرحام- . و منها أن تكون الألفاظ مختلفة- في الوزن و التركيب بحرف واحد- كقوله تعالى- وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ- إِلى‏ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ- و كقوله تعالى- وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً وكقول النبي ص المسلم من سلم الناس من لسانه و يده- و قول بعضهم الصديق لا يحاسب- و العدو لا يحتسب له- هكذا ذكر ابن الأثير هذه الأمثلة- . قال و من هذا القسم قول أبي تمام-

أيام تدمى عينه تلك الدمى
حسنا و تقمر لبه الأقمار

بيض فهن إذا رمقن سوافرا
صور و هن إذا رمقن صوار

– و كذلك قوله أيضا-

بدر أطاعت فيك بادرة النوى
ولعا و شمس أولعت بشماس‏

و قوله أيضا-

جهلوا فلم يستكثروا من طاعة
معروفة بعمارة الأعمار

 و قوله أيضا-

إن الرماح إذا غرسن بمشهد
فجنى العوالي في ذراه معال‏

و قوله أيضا-

إذا أحسن الأقوام أن يتطاولوا
بلا نعمة أحسنت أن تتطولا

 و قوله أيضا-

شد ما استنزلتك عن دمعك الأظعان
حتى استهل صوب العزالي‏

أي ربع يكذب الدهر عنه‏
و هو ملقى على طريق الليالي‏

بين حال جنت عليه و حول
فهو نضو الأوحال و الأحوال‏

أي حسن في الذاهبين تولى‏
و جمال على ظهور الجمال‏

و دلال مخيم في ذرى الخيم
و حجل مقصر في الحجال‏

فالبيت الثالث و الخامس هما المقصودان بالتمثيل- . و من ذلك قول علي بن جبلة-

و كم لك من يوم رفعت عماده
بذات جفون أو بذات جفان‏

و كقول البحتري-

نسيم الروض في ريح شمال
و صوب المزن في راح شمول‏

 و كقوله أيضا-

جدير بأن تنشق عن ضوء وجهه
ضبابة نقع تحتها الموت ناقع‏

و اعلم أن هذه الأمثلة لهذا القسم- ذكرها ابن الأثير في كتابه- و هو عندي مستدرك- لأنه حد هذا القسم بما يختلف تركيبه- يعني حروفه الأصلية- و يختلف أيضا وزنه و يكون اختلاف تركيبه بحرف واحد- هكذا قال في تحديده لهذا القسم- و ليس بقمر و الأقمار تختلف بحرف واحد- و كذلك عمارة و الأعمار- و كذلك العوالي و المعالي- و أما قوله تعالى وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً- فخارج عن هذا بالكلية- لأن جميع أمثلة هذا القسم- يختلف فيه الكلمات بالحروف الزائدة- و هذه الآية اختلاف كلمتيها بحروف أصلية- فليست من التجنيس الذي نحن بصدده- بل هي من باب تجنيس التصحيف- كقول البحتري

و لم يكن المعتز بالله إذ سرى
ليعجز و المعتز بالله طالبه‏

ثم قال ابن الأثير في هذا القسم أيضا- و من ذلك قول محمد بن وهيب الحميري-

قسمت صروف الدهر بأسا و نائلا
فمالك موتور و سيفك واتر

و هذا أيضا عندي مستدرك- لأن اللفظتين كلاهما من الوتر- و يرجعان إلى أصل واحد- إلا أن أحد اللفظين مفعول و الآخر فاعل- و ليس أحد يقول إن شاعرا لو قال في شعره- ضارب و مضروب لكان قد جانس- . و منها القسم المكنى بالمعكوس- و هو على ضربين عكس لفظ و عكس حرف- فالأول كقولهم عادات السادات سادات العادات- و كقولهم شيم الأحرار أحرار الشيم- . و من ذلك قول الأضبط بن قريع-

قد يجمع المال غير آكله
و يأكل المال غير من جمعه

و يقطع الثوب غير لابسه
و يلبس الثوب غير من قطعه‏

و مثله قول المتنبي-

فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله
و لا مال في الدنيا لمن قل مجده‏

و مثله قول الرضي رحمه الله من أبيات يذم فيها الزمان-

أسف بمن يطير إلى المعالي
و طار بمن يسف إلى الدنايا

و مثله قول آخر-

إن الليالي للأنام مناهل
تطوى و تنشر بينها الأعمار

فقصارهن مع الهموم طويلة
و طوالهن مع السرور قصار

 و لبعض شعراء الأندلس يذكر غلامه-

غيرتنا يد الزمان
فقد شبت و التحى‏

فاستحال الضحى دجى‏
و استحال الدجى ضحى‏

 و يسمى هذا الضرب التبديل- و قد مثله قدامة بن جعفر الكاتب بقولهم- اشكر لمن أنعم عليك- و أنعم على من شكرك- . و مثله قول النبي ص جار الدار أحق بدار الجار- قالوا و منه قوله تعالى- يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ- و لا أراه منه بل هو من باب الموازنة- و مثلوه أيضابقول أمير المؤمنين ع أما بعد فإن الإنسان يسره درك ما لم يكن ليفوته- و يسوءه فوت ما لم يكن ليدركه– و بقول أبي تمام لأبي العميثل‏ و أبي سعيد الضرير- فإنهما قالا- لما امتدح عبد الله بن طاهر بقصيدة و في افتتاحها تكلف و تعجرف- لم لا تقول ما يفهم- فقال لهما لم لا تفهمان ما يقال- . و الضرب الثاني من هذا القسم عكس الحروف- و هو كقول بعضهم- و قد أهدى لصديق له كرسيا-

أهديت شيئا يقل لو لا
أحدوثة الفأل و التبرك‏

كرسي تفاءلت فيه لما
رأيت مقلوبه يسرك‏

 و كقول الآخر-

كيف السرور بإقبال و آخره
إذا تأملته مقلوب إقبال‏

أي لا بقاء و كقول الآخر-

جاذبتها و الريح تجذب عقربا
من فوق خد مثل قلب العقرب‏

و طفقت الثم ثغرها فتمنعت‏
و تحجبت عني بقلب العقرب‏

 يريد برقعا- و منها النوع المسمى المجنب- و هو أن يجمع بين كلمتين إحداهما- كالجنيبة التابعة للأخرى مثل قول بعضهم-

أبا الفياض لا تحسب بأني
لفقري من حلى الأشعار عار

فلي طبع كسلسال معين‏
زلال من ذرا الأحجار جار

– و هذا في التحقيق هو الباب المسمى لزوم ما لا يلزم- و ليس من باب التجنيس- و منها المقلوب و هو ما يتساوى وزنه و تركيبه- إلا أن حروفه تتقدم و تتأخر- مثل قول أبي تمام-

بيض الصفائح لا سود الصحائف في
متونهن جلاء الشك و الريب‏

 و قد ورد مثل ذلك في المنثور- نحوما روي عن النبي ص أنه يقال يوم القيامة لصاحب القرآن اقرأ و ارق- . و قد تكلمت في كتابي المسمى بالعبقري الحسان- على أقسام الصناعة البديعة نثرا و نظما- و بينت أن كثيرا منها يتداخل- و يقوم البعض من ذلك مقام بعض- فليلمح من هناك مِنْهَا وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَيْ‏ءٍ- إِلَّا وَ يَكَادُ صَاحِبُهُ يَشْبَعُ مِنْهُ- وَ يَمَلُّهُ إِلَّا الْحَيَاةَ فَإِنَّهُ لَا يَجِدُ فِي الْمَوْتِ رَاحَةً- وَ إِنَّمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْحِكْمَةِ- الَّتِي هِيَ حَيَاةٌ لِلْقَلْبِ الْمَيِّتِ- وَ بَصَرٌ لِلْعَيْنِ الْعَمْيَاءِ- وَ سَمْعٌ لِلْأُذُنِ الصَّمَّاءِ- وَ رِيٌّ لِلظَّمْآنِ وَ فِيهَا الْغِنَى كُلُّهُ وَ السَّلَامَةُ- كِتَابُ اللَّهِ تُبْصِرُونَ بِهِ- وَ تَنْطِقُونَ بِهِ وَ تَسْمَعُونَ بِهِ- وَ يَنْطِقُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ- وَ يَشْهَدُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ- وَ لَا يَخْتَلِفُ فِي اللَّهِ- وَ لَا يُخَالِفُ بِصَاحِبِهِ عَنِ اللَّهِ- قَدِ اصْطَلَحْتُمْ عَلَى الْغِلِّ فِيمَا بَيْنَكُمْ- وَ نَبَتَ الْمَرْعَى عَلَى دِمَنِكُمْ- وَ تَصَافَيْتُمْ عَلَى حُبِّ الآْمَالِ- وَ تَعَادَيْتُمْ فِي كَسْبِ الْأَمْوَالِ- لَقَدِ اسْتَهَامَ بِكُمُ الْخَبِيثُ وَ تَاهَ بِكُمُ الْغُرُورُ- وَ اللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى نَفْسِي وَ أَنْفُسِكُمْ‏هذا الفصل ليس بمنتظم من أوله إلى آخره- بل هو فصول متفرقة التقطها الرضي- من خطبة طويلة على عادته- في التقاط ما يستفصحه من كلامه ع- و إن كان كل كلامه فصيحا- و لكن كل واحد له هوى و محبة لشي‏ء مخصوص- و ضروب الناس عشاق ضروبا- . أما قوله كل شي‏ء مملول إلا الحياة- فهو معنى قد طرقه الناس قديما و حديثا- قال أبو الطيب-

و لذيذ الحياة أنفس في النفس
و أشهى من أن يمل و أحلى‏

و إذا الشيخ قال أف فما مل‏
حياة و لكن الضعف ملا

و قال أيضا-

أرى كلنا يبغي الحياة لنفسه
حريصا عليها مستهاما بها صبا

فحب الجبان النفس أورده البقا
و حب الشجاع النفس أورده الحربا

 و قال أبو العلاء-

فما رغبت في الموت كدر مسيرها
إلى الورد خمسا ثم تشربن من أجن‏

يصادفن صقرا كل يوم و ليلة
و يلقين شرا من مخالبه الحجن‏

و لا قلقات الليل باتت كأنها
من الأين و الإدلاج بعض القنا اللدن‏

ضربن مليعا بالسنابك أربعا
إلى الماء لا يقدرن منه على معن‏

و خوف الردى آوى إلى الكهف أهله‏
و كلف نوحا و ابنه عمل السفن‏

و ما استعذبته روح موسى و آدم
و قد وعدا من بعده جنتي عدن‏

و لي من قصيدة أخاطب رجلين فرا في حرب-

عذرتكما إن الحمام لمبغض
و إن بقاء النفس للنفس محبوب‏

و يكره طعم الموت و الموت طالب‏
فكيف يلذ الموت و الموت مطلوب‏

 و قال أبو الطيب أيضا-

طيب هذا النسيم أوقر في الأنفس
أن الحمام مر المذاق‏

و الأسى قبل فرقة الروح عجز
و الأسى لا يكون بعد الفراق‏

البحتري-

ما أطيب الأيام إلا أنها
يا صاحبي إذا مضت لم ترجع‏

 و قال آخر-

أوفى يصفق بالجناح مغلسا
و يصيح من طرب إلى الندمان‏

يا طيب لذة هذه الدنيا لنا
لو أنها بقيت على الإنسان‏

و قال آخر-

أرى الناس يهوون البقاء سفاهة
و ذلك شي‏ء ما إليه سبيل‏

و من يأمن الأيام أما بلاؤها
فجم و أما خيرها فقليل‏

و قال محمد بن وهيب الحميري-و نحن بنو الدنيا خلقنا لغيرهاو ما كنت منه فهو شي‏ء محبب‏- و هذا مأخوذ منقول أمير المؤمنين ع و قد قيل له ما أكثر حب الناس للدنيا- فقال هم أبناؤها أ يلام الإنسان على حب أمه- . و قال آخر-

يا موت ما أفجاك من نازل
تنزل بالمرء على رغمه‏

تستلب العذراء من خدرها
و تأخذ الواحد من أمه‏

 أبو الطيب-

و هي معشوقة على الغدر لا تحفظ
عهدا و لا تتمم وصلا

كل دمع يسيل منها عليها
و بفك اليدين عنها نخلى‏

شيم الغانيات فيها فلا أدري
لذا أنث اسمها الناس أم لا

فإن قلت كيف يقول إنه لا يجد في الموت راحة- و أين هذا منقول رسول الله ص الدنيا سجن المؤمن- و جنة الكافرو منقوله ع و الله ما أرجو الراحة إلا بعد الموت- و ما ذا يعمل بالصالحين- الذين آثروا فراق هذه العاجلة- و اختاروا الآخرة و هو ع سيدهم و أميرهم- قلت لا منافاة فإن الصالحين- إنما طلبوا أيضا الحياة المستمرة بعد الموت- ورسول الله ص إنما قال إن الدنيا سجن المؤمن- لأن الموت غير مطلوب للمؤمن لذاته- إنما يطلبه للحياة المتعقبة له- و كذلكقوله ع و الله ما أرجو الراحة إلا بعد الموت- تصريح بأن الراحة في الحياة التي تتعقب الموت- و هي حياة الأبد- فلا منافاة إذا بين هذه الوجوه- و بين ما قاله ع- لأنه ما نفى إلا الراحة في الموت نفسه- لا في الحياة الحاصلة بعده- .

فإن قلت فقد تطرأ على الإنسان حالة- يستصعبها قيود الموت لنفسه- و لا يفكر فيما يتعقبه- من الحياة التي تشير إليها و لا يخطر بباله- قلت ذاك شاذ نادر فلا يلتفت إليه- و إنما الحكم للأعم الأغلب- و أيضا فإن ذاك لا يلتذ بالموت- و إنما يتخلص به من الألم- وأمير المؤمنين قال ما من شي‏ء من الملذات إلا و هو مملول إلا الحياة- و بين الملذ و المخلص من الألم فرق واضح- فلا يكون نقضا على كلامه- . فإن قلت قد ذكرت ما قيل- في حب الحياة و كراهية الموت- فهل قيل في عكس ذلك و نقيضه شي‏ء- قلت نعم فمن ذلك قول أبي الطيب-

كفى بك داء أن ترى الموت شافيا
و حسب المنايا إن يكن أمانيا

تمنيتها لما تمنيت أن ترى‏
صديقا فأعيا أو عدوا مداجيا

و قال آخر-

قد قلت إذ مدحوا الحياة فأسرفوا
في الموت ألف فضيلة لا تعرف‏

منها أمان لقائه بلقائه‏
و فراق كل معاشر لا ينصف‏

 و قيل لأعرابي و قد احتضر إنك ميت- قال إلى أين يذهب بي قيل إلى الله- قال ما أكره أن أذهب إلى من لم أر الخير إلا منه- . إبراهيم بن مهدي-

و إني و إن قدمت قبلي لعالم
بأني و إن أبطأت عنك قريب‏

و إن صباحا نلتقي في مسائه‏
صباح إلى قلبي الغداة حبيب‏

 و قال بعض السلف- ما من مؤمن إلا و الموت خير له من الحياة- لأنه إن كان محسنافالله تعالى يقول- وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقى‏ لِلَّذِينَ آمَنُوا- و إن كان مسيئا فالله تعالى يقول- وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا- أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ- إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً- .

و قال ميمون بن مهران- بت ليلة عند عمر بن عبد العزيز- فرأيته يبكي و يكثر من تمني الموت- فقلت له إنك أحييت سننا- و أمت بدعا و في بقائك خير للمسلمين- فما بالك تتمني الموت- فقال أ لا أكون كالعبد الصالح- حين أقر الله له عينه و جمع له أمره قال- رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ- وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ- فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ- أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ- تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ- و قالت الفلاسفة- لا يستكمل الإنسان حد الإنسانية إلا بالموت- لأن الإنسان هو الحي الناطق الميت- . و قال بعضهم- الصالح إذا مات استراح- و الطالح إذا مات استريح منه- . و قال الشاعر-

جزى الله عنا الموت خيرا فإنه
أبر بنا من كل بر و أرأف‏

يعجل تخليص النفوس من الأذى‏
و يدني من الدار التي هي أشرف‏

و قال آخر-

من كان يرجو أن يعيش فإنني
أصبحت أرجو أن أموت لأعتقا

في الموت ألف فضيلة لو أنها
عرفت لكان سبيله أن يعشقا

 و قال أبو العلاء-

جسمي و نفسي لما استجمعا صنعا
شرا إلي فجل الواحد الصمد

فالجسم يعذل فيه النفس مجتهدا
و تلك تزعم أن الظالم الجسد

إذا هما بعد طول الصحبة افترقا
فإن ذاك لأحداث الزمان يد

 و قال أبو العتاهية-

المرء يأمل أن يعيش
و طول عمر قد يضره‏

تفنى بشاشته و يبقى‏
بعد حلو العيش مره‏

و تخونه الأيام حتى
لا يرى شيئا يسره‏

كم شامت بي أن هلكت‏
و قائل لله دره‏

و قال ابن المعتز-

أ لست ترى يا صاح ما أعجب الدهرا
فذما له لكن للخالق الشكرا

لقد حبب الموت البقاء الذي أرى‏
فيا حسدا مني لمن يسكن القبرا

 فأما قوله ع و إنما ذلك بمنزلة الحكمة- إلى قوله و فيها الغنى كله و السلامة- ففصل آخر غير ملتئم بما قبله- و هو إشارة إلى كلام من كلام رسول الله ص رواه لهم- ثم حضهم على التمسك به- و الانتفاع بمواعظه- و قال إنه بمنزلة الحكمة التي هي حياة القلوب- و نور الأبصار و سمع الآذان الصم- و ري الأكباد الحري- و فيها الغنى كله و السلامة- و الحكمة المشبه كلام الرسول ص بها- هي المذكورة في قوله تعالى- وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً- و في قوله وَ لَقَدْ آتَيْنالُقْمانَ الْحِكْمَةَ- و في قوله وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا- و هي عبارة عن المعرفة بالله تعالى- و بما في مبدعاته من الأحكام الدالة على علمه- كتركيب الأفلاك و وضع العناصر مواضعها- و لطائف صنعة الإنسان و غيره من الحيوان- و كيفية إنشاء النبات و المعادن- و ما في العالم من القوى المختلفة- و التأثيرات المتنوعة- الراجع ذلك كله إلى حكمة الصانع و قدرته و علمه- تبارك اسمه- .

فأما قوله و كتاب الله- إلى قوله و لا يخالف بصاحبه عن الله- ففصل آخر مقطوع عما قبله- و متصل بما لم يذكره جامع نهج البلاغة- فإن قلت ما معنى قوله و لا يختلف في الله- و لا يخالف بصاحبه عن الله- و هل بين هاتين الجملتين فرق- قلت نعم أما قوله و لا يختلف في الله- فهو أنه لا يختلف في الدلالة على الله و صفاته- أي لا يتناقض أي ليس في القرآن آيات مختلفة- يدل بعضها على أنه يعلم كل المعلومات  مثلا- و تدل الأخرى على أنه لا يعلم كل المعلومات- أو يدل بعضها على أنه لا يرى- و بعضها على أنه يرى- و ليس وجودنا للآيات المشتبهة بقادح في هذا القول- لأن آيات الجبر و التشبيه لا تدل- و إنما توهم- و نحن إنما نفينا أن يكون فيه ما يدل على الشي‏ء و نقيضه- .

و أما قوله و لا يخالف بصاحبه عن الله- فهو أنه لا يأخذ بالإنسان المعتمد عليه إلى غير الله- أي لا يهديه إلا إلى جناب الحق سبحانه- و لا يعرج به إلى جناب الشيطان- يقال خالفت بفلان عن فلان- إذا أخذت به غير نحوه- و سلكت به غير جهته- .فأما قوله قد اصطلحتم على الغل إلى آخر الفصل- فكلام مقطوع أيضا عما قبله و الغل الحقد- . و الدمن جمع دمنة و هي الحقد أيضا- و قد دمنت قلوبهم بالكسر أي ضغنت- و نبت المرعى عليها أي دامت و طال الزمان عليها- حتى صارت بمنزلة الأرض الجامدة الثابتة التي تنبت النبات- و يجوز أن يريد بالدمن هاهنا جمع دمن- و هو البعر المجتمع كالمزبلة- أو جمع دمنة و هي آثار الناس و ما سودوا من الأرض- يقال قد دمن الشاء الماء- و قد دمن القوم الأرض- فشبه ما في قلوبهم من الغل و الحقد و الضغائن- بالمزبلة المجتمعة من البعر و غيره- من سقاطة الديار التي قد طال مكثها- حتى نبت عليها المرعى- قال الشاعر

و قد ينبت المرعى على دمن الثرى
و تبقى حزازات النفوس كما هيا

قوله ع لقد استهام بكم الخبيث- يعني الشيطان و استهام بكم جعلكم هائمين أي استهامكم- فعداه بحرف الجر- كما تقول في استنفرت القوم إلى الحرب- استنفرت بهم أي جعلتهم نافرين- و يمكن أن يكون بمعنى الطلب و الاستدعاء- كقولك استعلمت منه حال كذا- أي استدعيت أن يعلمني- و استمنحت فلانا أي طلبت و استدعيت أن يعطيني- فيكون قوله و استهام بكم الخبيث- أي استدعى منكم أن تهيموا و تقعوا- في التيه و الضلال و الحيرة- . قوله و تاه بكم الغرور هو الشيطان أيضا- قال سبحانه وَ غَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ- و تاه بكم جعلكم تائهين حائرين- ثم سأل الله أن يعينه على نفسه و عليهم- و من كلام بعض الصالحين- اللهم انصرني على أقرب الأعداء إلي دارا- و أدناهم مني جوارا و هي نفسي

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 8

خطبه 132 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

132 و من خطبة له ع

نَحْمَدُهُ عَلَى مَا أَخَذَ وَ أَعْطَى- وَ عَلَى مَا أَبْلَى وَ ابْتَلَى- الْبَاطِنُ لِكُلِّ خَفِيَّةٍ- وَ الْحَاضِرُ لِكُلِّ سَرِيرَةٍ- الْعَالِمُ بِمَا تُكِنُّ الصُّدُورُ- وَ مَا تَخُونُ الْعُيُونُ- وَ نَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ- وَ أَنَّ مُحَمَّداً ص نَجِيبُهُ وَ بَعِيثُهُ- شَهَادَةً يُوَافِقُ فِيهَا السِّرُّ الْإِعْلَانَ وَ الْقَلْبُ اللِّسَانَ على ما أبلى أي ما أعطى- يقال قد أبلاه الله بلاء حسنا أي أعطاه- قال زهير-

جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم
و أبلاهما خير البلاء الذي يبلو

 و أما قوله و ابتلى- فالابتلاء إنزال مضرة بالإنسان على سبيل الاختبار- كالمرض و الفقر و المصيبة- و قد يكون الابتلاء بمعنى الاختبار في الخير- إلا أنه أكثر ما يستعمل في الشر- . و الباطن العالم يقال بطنت الأمر أي خبرته- و تكن الصدور تستر- و ما تخون العيون ما تسترق من اللحظات و الرمزات- على غير الوجه الشرعي- . و النجيب المنجب و البعيث المبعوث‏

: مِنْهَا فَإِنَّهُ وَ اللَّهِ الْجِدُّ لَا اللَّعِبُ- وَ الْحَقُّ لَا الْكَذِبُ- وَ مَا هُوَ إِلَّا الْمَوْتُ أَسْمَعَ دَاعِيهِ- وَ أَعْجَلَ حَادِيهِ- فَلَا يَغُرَّنَّكَ سَوَادُ النَّاسِ مِنْ نَفْسِكَ- وَ قَدْ رَأَيْتَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ- مِمَّنْ جَمَعَ الْمَالَ وَ حَذِرَ الْإِقْلَالَ- وَ أَمِنَ الْعَوَاقِبَ طُولَ أَمَلٍ وَ اسْتِبْعَادَ أَجَلٍ- كَيْفَ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ فَأَزْعَجَهُ عَنْ وَطَنِهِ- وَ أَخَذَهُ مِنْ مَأْمَنِهِ- مَحْمُولًا عَلَى أَعْوَادِ الْمَنَايَا- يَتَعَاطَى بِهِ الرِّجَالُ الرِّجَالَ- حَمْلًا عَلَى الْمَنَاكِبِ- وَ إِمْسَاكاً بِالْأَنَامِلِ- أَ مَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَأْمُلُونَ بَعِيداً- وَ يَبْنُونَ مَشِيداً وَ يَجْمَعُونَ كَثِيراً- أَصْبَحَتْ بُيُوتُهُمْ قُبُوراً- وَ مَا جَمَعُوا بُوراً- وَ صَارَتْ أَمْوَالُهُمْ لِلْوَارِثِينَ- وَ أَزْوَاجُهُمْ لِقَوْمٍ آخَرِينَ- لَا فِي حَسَنَةٍ يَزِيدُونَ- وَ لَا مِنْ سَيِّئَةٍ يُسْتَعْتَبُونَ- فَمَنْ أَشْعَرَ التَّقْوَى قَلْبَهُ بَرَزَ مَهَلُهُ- وَ فَازَ عَمَلُهُ فَاهْتَبِلُوا هَبَلَهَا- وَ اعْمَلُوا لِلْجَنَّةِ عَمَلَهَا- فَإِنَّ الدُّنْيَا لَمْ تُخْلَقْ لَكُمْ دَارَ مُقَامٍ- بَلْ خُلِقَتْ لَكُمْ مَجَازاً- لِتَزَوَّدُوا مِنْهَا الْأَعْمَالَ إِلَى دَارِ الْقَرَارِ- فَكُونُوا مِنْهَا عَلَى أَوْفَازٍ- وَ قَرِّبُوا الظُّهُورَ لِلزِّيَالِ قوله ع فإنه و الله الجد الضمير للأمر و الشأن- الذي خاض معهم في ذكره و وعظهم بنزوله- ثم أوضحه بعد إجماله- فقال إنه الموت الذي دعا فأسمع و حدا فأعجل- .

و سواد الناس عامتهم- . و من هاهنا إما بمعنى الباء- أي لا يغرنك الناس بنفسك و صحتك و شبابك- فتستبعد الموت اغترارا بذلك- فتكون متعلقة بالظاهر- و إما أن تكون متعلقة بمحذوف- تقديره متمكنا من نفسك و راكنا إليها- .و الإقلال الفقر و طول أمل منصوب على أنه مفعول- . فإن قلت- المفعول له ينبغي أن يكون الفعل علة في المصدر- و هاهنا ليس الأمن علة طول الأمل- بل طول الأمل علة الأمن- قلت كما يجوز أن يكون طول الأمل علة الأمن- يجوز أن يكون الأمن علة طول الأمل- أ لا ترى أن الإنسان قد يأمن المصائب- فيطول أمله في البقاء و وجوه المكاسب- لأجل ما عنده من الأمن- و يجوز أن ينصب طول أمل على البدل- من المفعول المنصوب برأيت و هو من- و يكون التقدير قد رأيت طول أمل من كان- و هذا بدل الاشتمال- و قد حذف منه الضمير العائد- كما حذف من قوله تعالى- قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ…- .

و أعواد المنايا النعش- و يتعاطى به الرجال الرجال يتداولونه- تارة على أكتاف هؤلاء- و تارة على أكتاف هؤلاء- و قد فسر ذلك بقوله- حملا على المناكب و إمساكا بالأنامل- . و المشيد المبني بالشيد و هو الجص- . البور الفاسد الهالك- و قوم بور أي هلكى- قال سبحانه وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً- و هو جمع واحدة بائر كحائل و حول- .

و يستعتبون هاهنا يفسر بتفسيرين- على اختلاف الروايتين- فمن رواه بالضم على فعل ما لم يسم فاعله- فمعناه لا يعاتبون على فعل سيئة صدرت منهم- كما كانوا في أيام حياتهم- أي لا يعاتبهم الناس أو لا يستطيعون- و هم موتى أن يسيئوا إلى أحد إساءة عليها- و من رواه يستعتبون- بفتح حرف المضارعة- فهو من استعتب فلان- أي طلب أن يعتب أي يرضى- تقول استعتبته فأعتبني- أي استرضيته فأرضاني- . و أشعر فلان التقوى قلبه جعله كالشعار له- أي يلازمه ملازمة شعار الجسد- .

و برز مهله و يروى بالرفع و النصب- فمن رواه بالرفع جعله فاعل برز- أي من فاق شوطه برز الرجل على أقرانه أي فاقهم- و المهل شوط الفرس- و من رواه بالنصب جعل برز بمعنى أبرز- أي أظهر و أبان- فنصب حينئذ على المفعولية- . و اهتبلت غرة زيد أي اغتنمتها- و الهبال الصياد الذي يهتبل الصيد أن يغره- و ذئب هبل أي محتال- هبلها منصوب على المصدر- كأنه من هبل مثل غضب غضبا- أي اغتنموا و انتهزوا الفرصة- الانتهاز الذي يصلح لهذه الحال- أي ليكن هذا الاهتبال بجد و همة عظيمة- فإن هذه الحال حال عظيمة- لا يليق بها إلا الاجتهاد العظيم- .

و كذا قوله و اعملوا للجنة عملها- أي العمل الذي يصلح أن يكون ثمرته الجنة- . و دار مقام أي دار إقامة- و المجاز الطريق يجاز عليه إلى المقصد- . و الأوفاز جمع وفز بسكون الفاء و هو العجلة- و الظهور الركاب جمع ظهر- و بنو فلان مظهرون أي لهم ظهور ينقلون عليها الأثقال- كما يقال منجبون إذا كانوا أصحاب نجائب- و الزيال المفارقة زايله مزايلة و زيالا أي فارقه

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 8

خطبه 131 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

131 و من كلام له ع

أَيَّتُهَا النُّفُوسُ الْمُخْتَلِفَةُ وَ الْقُلُوبُ الْمُتَشَتِّتَةُ- الشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ وَ الْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ- أَظْأَرُكُمْ عَلَى الْحَقِّ- وَ أَنْتُمْ تَنْفِرُونَ عَنْهُ نُفُورَ الْمِعْزَى مِنْ وَعْوَعَةِ الْأَسَدِ- هَيْهَاتَ أَنْ أُطْلِعَ بِكُمْ سِرَارَ الْعَدْلِ- أَوْ أُقِيمَ اعْوِجَاجَ الْحَقِّ- اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ- أَنَّهُ لَمْ يَكُنِ الَّذِي كَانَ مِنَّا مُنَافَسَةً فِي سُلْطَانٍ- وَ لَا الْتِمَاسَ شَيْ‏ءٍ مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ- وَ لَكِنْ لِنَرِدَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ- وَ نُظْهِرَ الْإِصْلَاحَ فِي بِلَادِكَ- فَيَأْمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ- وَ تُقَامَ الْمُعَطَّلَةُ مِنْ حُدُودِكَ- اللَّهُمَّ إِنِّي أَوَّلُ مَنْ أَنَابَ- وَ سَمِعَ وَ أَجَابَ- لَمْ يَسْبِقْنِي إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ ص بِالصَّلَاةِ- وَ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى الْفُرُوجِ- وَ الدِّمَاءِ وَ الْمَغَانِمِ وَ الْأَحْكَامِ- وَ إِمَامَةِ الْمُسْلِمِينَ الْبَخِيلُ- فَتَكُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ نَهْمَتُهُ- وَ لَا الْجَاهِلُ فَيُضِلَّهُمْ بِجَهْلِهِ- وَ لَا الْجَافِي فَيَقْطَعَهُمْ بِجَفَائِهِ- وَ لَا الْحَائِفُ لِلدُّوَلِ فَيَتَّخِذَ قَوْماً دُونَ قَوْمٍ- وَ لَا الْمُرْتَشِي فِي الْحُكْمِ- فَيَذْهَبَ بِالْحُقُوقِ- وَ يَقِفَ بِهَا دُونَ الْمَقَاطِعِ- وَ لَا الْمُعَطِّلُ لِلسُّنَّةِ فَيُهْلِكَ الْأُمَّةَ أظأركم أعطفكم ظأرت الناقة ظأرا- و هي ناقة مظئورة- إذا عطفتها علي ولد غيرها-

و في المثل الطعن يظأر أي يعطف علي الصلح- و ظأرت الناقة أيضا إذا عطفت على البو- يتعدى و لا يتعدى فهي ظئور- . و الوعوعة الصوت و الوعواع مثله- . و قوله هيهات أن أطلع بكم سرار العدل- يفسره الناس بمعنى هيهات أن أطلعكم- مضيئين و منورين لسرار العدل- و السرار آخر ليلة في الشهر و تكون مظلمة- و يمكن عندي أن يفسر على وجه آخر- و هو أن يكون السرار هاهنا بمعنى السرور- و هي خطوط مضيئة في الجبهة- و قد نص أهل اللغة- على أنه يجوز سرر و سرار- و قالوا و يجمع سرار على أسرة مثل حمار و أحمرة- قال عنترة-

بزجاجة صفراء ذات أسرة
قرنت بأزهر في الشمال مفدم‏

 يصف الكأس- و يقول إن فيها خطوطا بيضا- و هي زجاج أصفر- و يقولون برقت أسرة وجهه و أسارير وجهه- فيكون معنى كلامه ع- هيهات أن تلمع بكم لوامع العدل- و تنجلي أوضاحه و يبرق وجهه- و يمكن فيه أيضا وجه آخر- و هو أن ينصب سرار هاهنا على الظرفية- و يكون التقدير- هيهات أن أطلع بكم الحق- زمان استسرار العدل و استخفائه- فيكون قد حذف المفعول و حذفه كثير- . ثم ذكر أن الحروب التي كانت منه- لم تكن طلبا للملك و لا منافسة على الدنيا- و لكن لتقام حدود الله على وجهها- و يجري أمر الشريعة و الرعية- على ما كان يجري عليه أيام النبوة- . ثم ذكر أنه سبق المسلمين كلهم- إلى التوحيد و المعرفة- و لم يسبقه بالصلاة أحد إلا رسول الله ص- و هكذا روى جمهور المحدثين- و قد تقدم ذكر ذلك- .

فإن قلت أي وجه لإدخال هذا الكلام- في غضون مقصده في هذه الخطبة- فإنها مبنية على ذم أصحابه- و تقرير قاعدة الإمامة- و أنه لا يجوز أن يليها الفاسق- و أنه لا بد للإمام من صفات مخصوصة عددها ع- و كل هذا لا تعلق لسبقه إلى الإسلام- قلت بل الكلام متعلق بعضه ببعض من وجهين- أحدهما أنه لما قال- اللهم إنك تعلم أني ما سللت السيف طلبا للملك- أراد أن يؤكد هذا القول في نفوس السامعين- فقال أنا أول من أسلم- و لم يكن الإسلام حينئذ معروفا أصلا- و من يكون إسلامه هكذا- لا يكون قد قصد بإسلامه- إلا وجه الله تعالى و القربة إليه- فمن تكون هذه حاله في مبدإ أمره- كيف يخطر ببال عاقل أنه يطلب الدنيا و حطامها- و يجرد عليها السيف في آخر عمره- و وقت انقضاء مدة عمره- .

و الوجه الثاني أنه إذا كان أول السابقين- وجب أن يكون أقرب المقربين- لأنه تعالى قال- وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ- أ لا ترى أنه إذا قال الملك- العالمون العاملون هم المختصون بنا- وجب أن يكون أعلمهم أشدهم به اختصاصا- و إذا كان ع أقرب المقربين- وجب أن تنتفي عنه الموانع الستة- التي جعل كل واحد منها صادا عن الإمامة- و قاطعا عن استحقاقها- و هي البخل و الجهل و الجفاء- أي الغلظة العصبية في دولته- أي تقديم قوم على قوم- و الارتشاء في الحكم و التعطيل للسنة- و إذا انتفت عنه هذه الموانع الستة- تعين أن يكون هو الإمام- لأن شروط الإمامة موجودة فيه بالاتفاق- فإذا كانت موانعها عنه منتفية- و لم يحصل لغيره اجتماع الشروط و ارتفاع الموانع- وجب أن يكون هو الإمام- لأنه لا يجوز خلو العصر من إمام- سواء كانت هذه القضية عقلية أو سمعية- .

فإن قلت أ فتراه عني بهذا قوما بأعيانهم- قلت الإمامية تزعم أنه رمز في الجفاء و العصبية- لقوم دون قوم إلى عمر- و رمز بالجهل إلى من كان قبله- و رمز بتعطيل السنة إلى عثمان و معاوية- و أما نحن فنقول إنه ع لم يعن ذلك- و إنما قال قولا كليا غير مخصوص- و هذا هو اللائق بشرفه ع- و قول الإمامية دعوى لا دليل عليها- و لا يعدم كل أحد أن يستنبط من كل كلام- ما يوافق غرضه و إن غمض- و لا يجوز أن تبنى العقائد- على مثل هذه الاستنباطات الدقيقة- . و النهمة الهمة الشديدة بالأمر- قد نهم بكذا بالضم فهو منهوم- أي مولع به حريص عليه- يقول إذا كان الإمام بخيلا- كان حرصه و جشعه على أموال رعيته- و من رواها نهمته بالتحريك- فهي إفراط الشهوة في الطعام- و الماضي نهم بالكسر- .

قوله ع فيقطعهم بجفائه- أي يقطعهم عن حاجاتهم لغلظته عليهم- لأن الوالي إذا كان غليظا جافيا- أتعب الرعية و قطعهم عن مراجعته في حاجاتهم- خوفا من بادرته و معرته- . قوله و لا الحائف للدول- أي الظالم لها و الجائر عليها- و الدول جمع دولة بالضم و هي اسم المال المتداول به- و يقال هذا الفي‏ء دولة بينهم أي يتداولونه- و المعنى أنه يجب أن يكون الإمام يقسم بالسوية- و لا يخص قوما دون قوم على وجه العصبية- لقبيلة دون قبيلة أو لإنسان من المسلمين دون غيره- فيتخذ بذلك بطانة- . قوله فيقف بها دون المقاطع- المقاطع جمع مقطع و هو ما ينتهي الحق إليه- أي لا تصل الحقوق إلى أربابها- لأجل ما أخذ من الرشوة عليها- .

فإن قلت فما باله قال في المانع السادس- فيهلك الأمة- و كل واحد من الموانع قبله يفضي إلى هلاك الأمة- . قلت كل واحد من الموانع الخمسة- يفضي إلى هلاك بعض الأمة- و أما من يعطل السنة أصلا- فإنه لا محالة مهلك للأمة كلها- لأنه إذا عطل السنة مطلقا- عادت الجاهلية الجهلاء كما كانت- . و قد روي و لا الخائف الدول بالخاء المعجمة- و نصب الدول أي من يخاف دول الأيام و تقلبات الدهر- فيتخذ قوما دون قوم ظهريا- و هذا معنى لا بأس به

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن‏ أبي‏ الحديد) ج 8 

خطبه 130 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(لأبي ذر رحمه الله- لما أخرج إلى الربذة)

130 و من كلام له ع لأبي ذر رحمه الله- لما أخرج إلى الربذة

يَا أَبَا ذَرٍّ إِنَّكَ غَضِبْتَ لِلَّهِ فَارْجُ مَنْ غَضِبْتَ لَهُ- إِنَّ الْقَوْمَ خَافُوكَ عَلَى دُنْيَاهُمْ وَ خِفْتَهُمْ عَلَى دِينِكَ- فَاتْرُكْ فِي أَيْدِيهِمْ مَا خَافُوكَ عَلَيْهِ- وَ اهْرُبْ مِنْهُمْ بِمَا خِفْتَهُمْ عَلَيْهِ- فَمَا أَحْوَجَهُمْ إِلَى مَا مَنَعْتَهُمْ- وَ أَغْنَاكَ عَمَّا مَنَعُوكَ- وَ سَتَعْلَمُ مَنِ الرَّابِحُ غَداً وَ الْأَكْثَرُ حَسَداً- وَ لَوْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرَضِينَ كَانَتَا عَلَى عَبْدٍ رَتْقاً- ثُمَّ اتَّقَى اللَّهَ لَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْهُمَا مَخْرَجاً- لَا يُؤْنِسَنَّكَ إِلَّا الْحَقُّ- وَ لَا يُوحِشَنَّكَ إِلَّا الْبَاطِلُ- فَلَوْ قَبِلْتَ دُنْيَاهُمْ لَأَحَبُّوكَ- وَ لَوْ قَرَضْتَ مِنْهَا لَأَمَّنُوكَ

أخبار أبي ذر الغفاري حين خروجه إلى الربذة

واقعة أبي ذر رحمه الله و إخراجه إلى الربذة- أحد الأحداث التي نقمت على عثمان- و قد روى هذا الكلام- أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري- في كتاب السقيفة عن عبد الرزاق عن أبيه- عن عكرمة عن ابن عباس قال- لما أخرج أبو ذر إلى الربذة أمر عثمان- فنودي في الناس ألا يكلم أحد أبا ذر و لا يشيعه- و أمر مروان بن الحكم أن يخرج به فخرج به- و تحاماه الناس إلا علي‏بن أبي طالب ع و عقيلا أخاه- و حسنا و حسينا ع و عمارا- فإنهم خرجوا معه يشيعونه- فجعل الحسن ع يكلم أبا ذر- فقال له مروان إيها يا حسن- أ لا تعلم أن أمير المؤمنين- قد نهى عن كلام هذا الرجل- فإن كنت لا تعلم فاعلم ذلك- فحمل علي ع على مروان- فضرب بالسوط بين أذني راحلته- و قال تنح لحاك الله إلى النار- .

فرجع مروان مغضبا إلى عثمان فأخبره الخبر- فتلظى على علي ع و وقف أبو ذر فودعه القوم- و معه ذكوان مولى أم هانئ بنت أبي طالب- . قال ذكوان فحفظت كلام القوم و كان حافظا- فقال علي ع يا أبا ذر إنك غضبت لله- إن القوم خافوك على دنياهم و خفتهم على دينك- فامتحنوك بالقلى و نفوك إلى الفلا- و الله لو كانت السماوات و الأرض على عبد رتقا- ثم اتقى الله لجعل له منها مخرجا- يا أبا ذر لا يؤنسنك إلا الحق- و لا يوحشنك إلا الباطل- ثم قال لأصحابه ودعوا عمكم- و قال لعقيل ودع أخاك- . فتكلم عقيل- فقال ما عسى أن نقول يا أبا ذر- و أنت تعلم أنا نحبك و أنت تحبنا- فاتق الله فإن التقوى نجاة- و اصبر فإن الصبر كرم- و اعلم أن استثقالك الصبر من الجزع- و استبطاءك العافية من اليأس- فدع اليأس و الجزع- .

ثم تكلم الحسن فقال يا عماه- لو لا أنه لا ينبغي للمودع أن يسكت- و للمشيع أن ينصرف لقصر الكلام و إن طال الأسف- و قد أتى القوم إليك ما ترى- فضع عنك الدنيا بتذكر فراغها- و شدة ما اشتد منها برجاء ما بعدها- و اصبر حتى تلقى نبيك ص و هو عنك راض- . ثم تكلم الحسين ع فقال يا عماه- إن الله تعالى قادر أن يغير ما قد ترى-و الله كل يوم هو في شأن- و قد منعك القوم دنياهم و منعتهم دينك- فما أغناك عما منعوك- و أحوجهم إلى ما منعتهم- فاسأل الله الصبر و النصر- و استعذ به من الجشع و الجزع- فإن الصبر من الدين و الكرم- و إن الجشع لا يقدم رزقا- و الجزع لا يؤخر أجلا- .

ثم تكلم عمار رحمه الله مغضبا- فقال لا آنس الله من أوحشك- و لا آمن من أخافك- أما و الله لو أردت دنياهم لأمنوك- و لو رضيت أعمالهم لأحبوك- و ما منع الناس أن يقولوا بقولك إلا الرضا بالدنيا- و الجزع من الموت- مالوا إلى ما سلطان جماعتهم عليه- و الملك لمن غلب فوهبوا لهم دينهم- و منحهم القوم دنياهم- فحسروا الدنيا و الآخرة- إلا ذلك هو الخسران المبين- . فبكى أبو ذر رحمه الله و كان شيخا كبيرا- و قال رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة- إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله ص- ما لي بالمدينة سكن و لا شجن غيركم- إني ثقلت على عثمان بالحجاز- كما ثقلت على معاوية بالشام- و كره أن أجاور أخاه و ابن خاله بالمصرين- فأفسد الناس عليهما- فسيرني إلى بلد ليس لي به ناصر و لا دافع إلا الله- و الله ما أريد إلا الله صاحبا- و ما أخشى مع الله وحشة- .

و رجع القوم إلى المدينة فجاء علي ع إلى عثمان- فقال له ما حملك على رد رسولي و تصغير أمري- فقال علي ع أما رسولك- فأراد أن يرد وجهي فرددته و أما أمرك فلم أصغره- . قال أ ما بلغك نهيي عن كلام أبي ذر- قال أ و كلما أمرت بأمر معصية أطعناك فيه- قال عثمان أقد مروان من نفسك قال مم ذا- قال من شتمه و جذب راحلته- قال أما راحلته فراحلتي بها- و أما شتمه إياي- فو الله لا يشتمني شتمه إلا شتمتك مثلها- لا أكذب عليك- .

فغضب عثمان و قال لم لا يشتمك كأنك خير منه- قال علي إي و الله و منك ثم قام فخرج- . فأرسل عثمان إلى وجوه المهاجرين- و الأنصار و إلى بني أمية- يشكو إليهم عليا ع فقال القوم- أنت الوالي عليه و إصلاحه أجمل- قال وددت ذاك فأتوا عليا ع- فقالوا لو اعتذرت إلى مروان و أتيته- فقال كلا أما مروان فلا آتيه و لا أعتذر منه- و لكن إن أحب عثمان أتيته- . فرجعوا إلى عثمان فأخبروه- فأرسل عثمان إليه- فأتاه و معه بنو هاشم-فتكلم علي ع- فحمد الله و أثنى عليه- ثم قال أما ما وجدت علي فيه من كلام أبي ذر و وداعه- فو الله ما أردت مساءتك و لا الخلاف عليك- و لكن أردت به قضاء حقه- و أما مروان فإنه اعترض- يريد ردي عن قضاء حق الله عز و جل- فرددته رد مثلي مثله- و أما ما كان مني إليك فإنك أغضبتني- فأخرج الغضب مني ما لم أرده- .

فتكلم عثمان فحمد الله و أثنى عليه- ثم قال أما ما كان منك إلي فقد وهبته لك- و أما ما كان منك إلى مروان فقد عفا الله عنك- و أما ما حلفت عليه فأنت البر الصادق- فأدن يدك فأخذ يده فضمها إلى صدره- . فلما نهض قالت قريش و بنو أمية لمروان- أ أنت رجل جبهك علي و ضرب راحلتك- و قد تفانت وائل في ضرع ناقة- و ذبيان و عبس في لطمة فرس و الأوس و الخزرج في نسعة- أ فتحمل لعلي ع ما أتاه إليك- فقال مروان و الله لو أردت ذلك لما قدرت عليه- .

و اعلم أن الذي عليه أكثر أرباب السيرة- و علماء الأخبار و النقل- أن عثمان نفى‏أبا ذر أولا إلى الشام- ثم استقدمه إلى المدينة لما شكا منه معاوية- ثم نفاه من المدينة إلى الربذة- لما عمل بالمدينة نظير ما كان يعمل بالشام- . أصل هذه الواقعة- أن عثمان لما أعطى مروان بن الحكم و غيره- بيوت الأموال- و اختص زيد بن ثابت بشي‏ء منها- جعل أبو ذر يقول بين الناس و في الطرقات و الشوارع- بشر الكافرين بعذاب أليم- و يرفع بذلك صوته و يتلو قوله تعالى- وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ- وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ- فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ- فرفع ذلك إلى عثمان مرارا و هو ساكت- .

ثم إنه أرسل إليه مولى من مواليه- أن انته عما بلغني عنك- فقال أبو ذر أ و ينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله تعالى- و عيب من ترك أمر الله تعالى- فو الله لأن أرضي الله بسخط عثمان أحب إلي و خير لي- من أن أسخط الله برضا عثمان- . فأغضب عثمان ذلك و أحفظه فتصابر و تماسك- إلى أن قال عثمان يوما و الناس حوله- أ يجوز للإمام أن يأخذ من المال شيئا قرضا- فإذا أيسر قضى فقال كعب الأحبار لا بأس بذلك- فقال أبو ذر يا ابن اليهوديين أ تعلمنا ديننا- فقال عثمان قد كثر أذاك لي و تولعك بأصحابي- الحق بالشام فأخرجه إليها- .

فكان أبو ذر ينكر على معاوية أشياء يفعلها- فبعث إليه معاوية يوما ثلاثمائة دينار- فقال أبو ذر لرسوله- إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا أقبلها- و إن كانت صلة فلا حاجة لي فيها و ردها عليه- . ثم بنى معاوية الخضراء بدمشق- فقال أبو ذر يا معاوية- إن كانت هذه من مال الله فهي الخيانة- و إن كانت من مالك فهي الإسراف- و كان أبو ذر يقول بالشام- و الله لقد حدثت أعمال ما أعرفها- و الله ما هي في كتاب الله و لا سنة نبيه ص-و الله إني لأرى حقا يطفأ و باطلا يحيا- و صادقا مكذبا و أثرة بغير تقى و صالحا مستأثرا عليه- .

قال حبيب بن مسلمة الفهري لمعاوية- إن أبا ذر لمفسد عليكم الشام- فتدارك أهله إن كان لك فيه حاجة- . و روى شيخنا أبو عثمان الجاحظ- في كتاب السفيانية عن جلام بن جندل الغفاري- قال كنت غلاما لمعاوية على قنسرين و العواصم- في خلافة عثمان فجئت إليه يوما أسأله عن حال عملي- إذ سمعت صارخا على باب داره يقول- أتتكم القطار تحمل النار- اللهم العن الآمرين بالمعروف التاركين له- اللهم العن الناهين عن المنكر المرتكبين له- فازبأر معاوية و تغير لونه و قال- يا جلام أ تعرف الصارخ- فقلت اللهم لا- قال من عذيري من جندب بن جنادة- يأتينا كل يوم فيصرخ على باب قصرنا بما سمعت-

ثم قال أدخلوه علي- فجي‏ء بأبي ذر بين قوم يقودونه- حتى وقف بين يديه- فقال له معاوية يا عدو الله و عدو رسوله- تأتينا في كل يوم فتصنع ما تصنع- أما أني لو كنت قاتل رجل من أصحاب محمد- من غير إذن أمير المؤمنين عثمان لقتلتك- و لكني أستأذن فيك- قال جلام و كنت أحب أن أرى أبا ذر- لأنه رجل من قومي- فالتفت إليه فإذا رجل أسمر ضرب من الرجال- خفيف العارضين في ظهره جنأ- فأقبل على معاوية- و قال ما أنا بعدو لله و لا لرسوله- بل أنت و أبوك عدوان لله و لرسوله- أظهرتما الإسلام و أبطنتما الكفر- و لقد لعنك رسول الله ص- و دعا عليك مرات ألا تشبع-سمعت رسول الله ص يقول إذا ولي الأمة الأعين الواسع البلعوم- الذي يأكل و لا يشبع- فلتأخذ الأمة حذرها منه- فقال معاوية ما أنا ذاك‏الرجل- قال أبو ذر بل أنت ذلك الرجل- أخبرني بذلك رسول الله ص- وسمعته يقول و قد مررت به اللهم العنه و لا تشبعه إلا بالترابوسمعته ص يقول است معاوية في النار- فضحك معاوية و أمر بحبسه- و كتب إلى عثمان فيه- .

فكتب عثمان إلى معاوية- أن احمل جندبا إلي- على أغلظ مركب و أوعره- فوجه به مع من سار به الليل و النهار- و حمله على شارف ليس عليها إلا قتب- حتى قدم به المدينة و قد سقط لحم فخذيه من الجهد- . فلما قدم بعث إليه عثمان الحق بأي أرض شئت- قال بمكة قال لا- قال بيت المقدس قال لا- قال بأحد المصرين قال لا- و لكني مسيرك إلى ربذة فسيره إليها- فلم يزل بها حتى مات- . و في رواية الواقدي- أن أبا ذر لما دخل على عثمان قال له-

لا أنعم الله بقين عينا
نعم و لا لقاه يوما زينا
تحية السخط إذا التقينا

فقال أبو ذر ما عرفت اسمي قينا قط- و في رواية أخرى لا أنعم الله بك عينا يا جنيدب- فقال أبو ذر أنا جندب- و سماني رسول الله ص عبد الله- فاخترت اسم رسول الله ص الذي سماني به على اسمي- فقال له عثمان أنت الذي تزعم أنا نقول يد الله مغلولة- و إن الله فقير و نحن أغنياء- فقال أبو ذر لو كنتم لا تقولون هذا لأنفقتم مال الله على عباده- و لكني أشهد أنيسمعت رسول الله ص يقول إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا- جعلوا مال الله دولا- و عباده خولا و دينه دخلا- .

فقال عثمان لمن حضر أ سمعتموها من رسول الله قالوا لا- قال عثمان ويلك يا أبا ذر- أ تكذب على رسول الله- فقال أبو ذر لمن حضر- أ ما تدرون أني صدقت- قالوا لا و الله‏ما ندري- فقال عثمان ادعوا لي عليا- فلما جاء قال عثمان لأبي ذر- اقصص عليه حديثك في بني أبي العاص فأعاده- فقال عثمان لعلي ع- أ سمعت هذا من رسول الله ص قال لا- و قد صدق أبو ذر- فقال كيف عرفت صدقه- قال لأني
سمعت رسول الله ص يقول ما أظلت الخضراء و لا أقلت الغبراء- من ذي لهجة أصدق من أبي ذر- فقال من حضر- أما هذا فسمعناه كلنا من رسول الله- فقال أبو ذر أحدثكم- أني سمعت هذا من رسول الله ص فتتهمونني- ما كنت أظن أني أعيش- حتى أسمع هذا من أصحاب محمد ص- .

و روى الواقدي في خبر آخر بإسناده- عن صهبان مولى الأسلميين- قال رأيت أبا ذر يوم دخل به على عثمان- فقال له أنت الذي فعلت و فعلت- فقال أبو ذر نصحتك فاستغششتني- و نصحت صاحبك فاستغشني- قال عثمان كذبت و لكنك تريد الفتنة و تحبها- قد انغلت الشام علينا- فقال له أبو ذر اتبع سنة صاحبيك- لا يكن لأحد عليك كلام- فقال عثمان ما لك و ذلك لا أم لك- قال أبو ذر و الله ما وجدت لي عذرا- إلا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر- فغضب عثمان- و قال أشيروا علي في هذا الشيخ الكذاب- إما أن أضربه أو أحبسه أو أقتله- فإنه قد فرق جماعة المسلمين- أو أنفيه من أرض الإسلام- فتكلم علي ع و كان حاضرا- فقال أشير عليك بما قال مؤمن آل فرعون- وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ- وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ- إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ- فأجابه عثمان بجواب غليظ- و أجابه علي ع بمثله- و لم نذكر الجوابين تذمما منهما- .

قال الواقدي- ثم إن عثمان حظر على الناس- أن يقاعدوا أبا ذر أو يكلموه- فمكث‏كذلك أياما- ثم أتى به فوقف بين يديه- فقال أبو ذر ويحك يا عثمان- أ ما رأيت رسول الله ص- و رأيت أبا بكر و عمر هل هديك كهديهم- أما إنك لتبطش بي بطش جبار- فقال عثمان اخرج عنا من بلادنا- فقال أبو ذر ما أبغض إلي جوارك- فإلى أين أخرج قال حيث شئت- قال أخرج إلى الشام أرض الجهاد- قال إنما جلبتك من الشام لما قد أفسدتها- أ فأردك إليها قال أ فأخرج إلى العراق- قال لا إنك إن تخرج إليها تقدم على قوم- أولي شبه و طعن على الأئمة و الولاة- قال أ فأخرج إلى مصر- قال لا قال فإلى أين أخرج- قال إلى البادية- قال أبو ذر أصير بعد الهجرة أعرابيا قال نعم- قال أبو ذر فأخرج إلى بادية نجد- قال عثمان بل إلى الشرق الأبعد أقصى فأقصى- امض على وجهك هذا- فلا تعدون الربذة فخرج إليها- .

وروى الواقدي أيضا عن مالك بن أبي الرجال عن موسى بن ميسرة أن أبا الأسود الدؤلي قال- كنت أحب لقاء أبي ذر- لأسأله عن سبب خروجه إلى الربذة- فجئته فقلت له أ لا تخبرني- أخرجت من المدينة طائعا أم أخرجت كرها- فقال كنت في ثغر من ثغور المسلمين أغني عنهم- فأخرجت إلى المدينة- فقلت دار هجرتي و أصحابي- فأخرجت من المدينة إلى ما ترى- ثم قال بينا أنا ذات ليلة نائم في المسجد- علي عهد رسول الله ص- إذ مر بي ع فضربني برجله- و قال لا أراك نائما في المسجد- فقلت بأبي أنت و أمي- غلبتني عيني فنمت فيه- قال فكيف تصنع إذا أخرجوك منه- قلت إذا ألحق بالشام- فإنها أرض مقدسة و أرض الجهاد- قال فكيف تصنع إذا أخرجت منها- قلت أرجع إلى المسجد- قال فكيف تصنع‏إذا أخرجوك منه- قلت آخذ سيفي فأضربهم به- فقال أ لا أدلك على خير من ذلك- انسق معهم حيث ساقوك و تسمع و تطيع- فسمعت و أطعت و أنا أسمع و أطيع- و الله ليلقين الله عثمان و هو آثم في جنبي- .

و اعلم أن أصحابنا رحمهم الله قد رووا أخبارا كثيرة- معناها أنه أخرج إلى الربذة باختياره- . و حكى قاضي القضاة رحمه الله في المغني- عن شيخنا أبي علي رحمه الله- أن الناس اختلفوا في أمر أبي ذر- و أن الرواية وردت بأنه قيل له- أ عثمان أنزلك الربذة- فقال لا بل أنا اخترت لنفسي ذلك- . و روى أبو علي أيضا: أن معاوية كتب يشكوه و هو بالشام- فكتب إليه عثمان أن صر إلى المدينة- فلما صار إليها- قال له ما أخرجك إلى الشام- قالإني سمعت رسول الله ص يقول إذا بلغت عمارة المدينة- موضع كذا فاخرج منها- فلذلك خرجت- فقال أي البلاد أحب إليك بعد الشام- قال الربذة فقال صر إليها- .

و روى الشيخ أبو علي أيضا عن زيد بن وهب- قال قلت لأبي ذر و هو بالربذة- ما أنزلك هذا المنزل- قال أخبرك أني كنت بالشام- فذكرت قوله تعالى- وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ- وَ لا يُنْفِقُونَها- فقال لي معاوية هذه نزلت في أهل الكتاب- فقلت فيهم و فينا- فكتب معاوية إلى عثمان في ذلك- فكتب إلى أن أقدم فقدمت عليه- فانثال الناس إلي كأنهم لم يعرفوني- فشكوت ذلك إلى عثمان- فخيرني و قال انزل حيث شئت فنزلت الربذة- . و نحن نقول هذه الأخبار و إن كانت قد رويت- لكنها ليست في الاشتهارو الكثرة كتلك الأخبار- و الوجه أن يقال في الاعتذار عن عثمان و حسن الظن بفعله- أنه خاف الفتنة و اختلاف كلمة المسلمين- فغلب على ظنه- أن إخراج أبي ذر إلى الربذة أحسم للشغب- و أقطع لأطماع من يشرئب إلى شق العصا- فأخرجه مراعاة للمصلحة- و مثل ذلك يجوز للإمام- هكذا يقول أصحابنا المعتزلة- و هو الأليق بمكارم الأخلاق- فقد قال الشاعر-

إذا ما أتت من صاحب لك زلة
فكن أنت محتالا لزلته عذرا

و إنما يتأول أصابنا لمن يحتمل حاله التأويل كعثمان- فأما من لم يحتمل حاله التأويل- و إن كانت له صحبة سالفة- كمعاوية و أضرابه فإنهم لا يتأولون لهم- إذا كانت أفعالهم و أحوالهم لا وجه لتأويلها- و لا تقبل العلاج و الإصلاح

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 8

خطبه 129 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

129 و من خطبة له ع في ذكر المكاييل و الموازين

عِبَادَ اللَّهِ إِنَّكُمْ وَ مَا تَأْمُلُونَ- مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا أَثْوِيَاءُ مُؤَجَّلُونَ- وَ مَدِينُونَ مُقْتَضَوْنَ أَجَلٌ مَنْقُوصٌ- وَ عَمَلٌ مَحْفُوظٌ- فَرُبَّ دَائِبٍ مُضَيَّعٌ وَ رُبَّ كَادِحٍ خَاسِرٌ- وَ قَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي زَمَنٍ لَا يَزْدَادُ الْخَيْرُ فِيهِ إِلَّا إِدْبَاراً- وَ الشَّرُّ إِلَّا إِقْبَالًا- وَ الشَّيْطَانُ فِي هَلَاكِ النَّاسِ إِلَّا طَمَعاً- فَهَذَا أَوَانٌ قَوِيَتْ عُدَّتُهُ- وَ عَمَّتْ مَكِيدَتُهُ وَ أَمْكَنَتْ فَرِيسَتُهُ- اضْرِبْ بِطَرْفِكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ النَّاسِ- فَهَلْ تُبْصِرُ إِلَّا فَقِيراً يُكَابِدُ فَقْراً- أَوْ غَنِيّاً بَدَّلَ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً- أَوْ بَخِيلًا اتَّخَذَ الْبُخْلَ بِحَقِّ اللَّهِ وَفْراً- أَوْ مُتَمَرِّداً كَأَنَّ بِأُذُنِهِ عَنْ سَمْعِ الْمَوَاعِظِ وَقْراً- أَيْنَ أَخْيَارُكُمْ وَ صُلَحَاؤُكُمْ- وَ أَيْنَ أَحْرَارُكُمْ وَ سُمَحَاؤُكُمْ- وَ أَيْنَ الْمُتَوَرِّعُونَ فِي مَكَاسِبِهِمْ- وَ الْمُتَنَزِّهُونَ فِي مَذَاهِبِهِمْ- أَ لَيْسَ قَدْ ظَعَنُوا جَمِيعاً- عَنْ هَذِهِ الدُّنْيَا الدَّنِيَّةِ- وَ الْعَاجِلَةِ الْمُنَغِّصَةِ- وَ هَلْ خُلِّفْتُمْ إِلَّا فِي حُثَالَةٍ- لَا تَلْتَقِي بِذَمِّهِمُ الشَّفَتَانِ- اسْتِصْغَاراً لِقَدْرِهِمْ وَ ذَهَاباً عَنْ ذِكْرِهِمْ- فَإِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ- ظَهَرَ الْفَسَادُ فَلَا مُنْكِرٌ مُغَيِّرٌ- وَ لَا زَاجِرٌ مُزْدَجِرٌ- أَ فَبِهَذَا تُرِيدُونَ أَنْ تُجَاوِرُوا اللَّهَ فِي دَارِ قُدْسِهِ- وَ تَكُونُوا أَعَزَّ أَوْلِيَائِهِ عِنْدَهُ- هَيْهَاتَ لَا يُخْدَعُ اللَّهُ عَنْ جَنَّتِهِ- وَ لَا تُنَالُ مَرْضَاتُهُ إِلَّا بِطَاعَتِهِ-لَعَنَ اللَّهُ الآْمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ التَّارِكِينَ لَهُ- وَ النَّاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ الْعَامِلِينَ بِهِ أثوياء جمع ثوي و هو الضيف كقوي و أقوياء- و مؤجلون مؤخرون إلى أجل أي وقت معلوم- . و مدينون مقرضون دنت الرجل أقرضته- فهو مدين و مديون و دنت أيضا- إذا استقرضت و صارت على دين فأنا دائن- و أنشد

ندين و يقضي الله عنا و قد نرى
مصارع قوم لا يدينون ضيعا

و مقتضون جمع مقتضى أي مطالب بأداء الدين- كمرتضون جمع مرتضى و مصطفون جمع مصطفى- . و قوله أجل منقوص أي عمر- و قد جاء عنهم أطال الله أجلك- أي عمرك و بقاءك و الدائب المجتهد ذو الجد و التعب- و الكادح الساعي- . و مثل قوله فرب دائب مضيع- و رب كادح خاسر قول الشاعر-

إذا لم يكن عون من الله للفتى
فأكثر ما يجني عليه اجتهاده‏

 و مثله

إذا لم يكن عون من الله للفتى
أتته الرزايا من وجوه الفوائد

و هو كثير و الأصل فيه قوله تعالى- وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ- عامِلَةٌ ناصِبَةٌ- تَصْلى‏ ناراً حامِيَةً- و يروى فرب دائب مضيع بغير تشديد- .و قوله و أمكنت فريسته- أي و أمكنته فحذف المفعول- . و قوله فاضرب بطرفك لفظة فصيحة- و قد أخذها الشاعر فقال-فاضرب بطرفك حيث شئت فلن ترى إلا بخيلا…- و الوفر المال الكثير- أي بخل و لم يؤد حق الله سبحانه فكثر ماله- . و الوقر بفتح الواو الثقل في الأذن- و روي المنغصة بفتح الغين- . الحثالة الساقط الردي‏ء من كل شي‏ء- .

و قوله لا تلتقي بذمهم الشفتان- أي يأنف الإنسان أن يذمهم- لأنه لا بد في الذم من إطباق أحد الشفتين على الأخرى- و كذلك في كل الكلام- . و ذهابا عن ذكرهم أي ترفعا- يقال فلان يذهب بنفسه عن كذا أي يرفعها- . و لا زاجر مزدجر- أي ليس في الناس من يزجر عن القبيح و ينزجر هو عنه- . و دار القدس هي الجنة و لا يخدع الله عنها- لأنه لا تخفى عليه خافية و لا يجوز عليه النفاق و التمويه- ثم لعن الآمر بالمعروف و لا يفعله- و الناهي عن المنكر و يرتكبه و هذا من قوله تعالى- أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ- . و لست أرى في هذه الخطبة ذكرا- للموازين و المكاييل- التي أشار إليها الرضي رحمه الله- اللهم إلا أن يكون قوله ع- و أين المتورعون في مكاسبهم أو قوله ظهر الفساد- و دلالتهما على الموازين و المكاييل بعيدةنبذ من أقوال الحكماء و الصالحين

و اعلم أن هذه الخطبة قد اشتملت على كلام فصيح- و موعظة بالغة من ذكر الدنياو ذكر أهلها- و نحن نذكر كلمات وردت- عن الحكماء و الصالحين تناسبها- على عادتنا في إيراد الأشباه و النظائر- . قال بعض الصالحين- ما أدري كيف أعجب من الدنيا- أ من حسن منظرها و قبح مخبرها- أم من ذم الناس لها و تناحرهم عليها- قيل لبعضهم كيف أصبحت- قال آسفا على أمسي كارها ليومي متهما لغدي- .

قيل لأعرابي كيف ترى الدهر- قال خدوعا خلوبا وثوبا غلوبا- . قيل لصوفي لم تركت الدنيا- قال لأني منعت صفوها- و امتنعت من كدرها- . و قيل لآخر لم تركت الدنيا- قال لأني عدمت الوسيلة إليها إلا بعشقها- و أعشق ما أكون لها أغدر ما تكون بي- و أنشد لبشر الحافي-

قرير العين لا ولد يموت
و لا حذر يبادر ما يفوت‏

رخي البال ليس له عيال‏
خلي من حربت و من دهيت‏

قضى وطر الصبا و أفاد علما
فعاتبه التفرد و السكوت‏

و أكبر همه مما عليه‏
تذابح من ترى خلق و قوت‏

قال أبو حيان سمعت ابن القصاب الصوفي- يقول اسمع و اسكت و انظر و أعجب- قال ابن المعتز-

مل سقامي عوده
و خان دمعي مسعده‏

و ضاع من ليلي غده‏
طوبى لعين تجده‏

قلت من الدهر يده
يفنى و يبقى أبده‏

و الموت ضار أسده‏
و قاتل من يلده‏

و من الشعر القديم المختلف في قائله-

قصر الجديد إلى بلى
و الوصل في الدنيا انقطاعه‏

أي اجتماع لم يعد
بتفرق منها اجتماعه‏

أم أي شعب ذي التئام
لم يبدده انصداعه‏

أم أي منتفع بشي‏ء
ثم تم له انتفاعه‏

يا بؤس للدهر الذي
ما زال مختلفا طباعه‏

قد قيل في مثل خلا
يكفيك من شر سماعه‏

قيل لصوفي كيف ترى الدنيا- قال و ما الدنيا لا أعرف لها وجودا- قيل له فأين قلبك قال عند ربي- قيل فأين ربك قال و أين ليس هو- قال ابن عائشة كان يقال- مجالسة أهل الديانة تجلو عن القلوب صدا الذنوب- و مجالسة ذوي المروءات تدل على مكارم الأخلاق- و مجالسة العلماء تزكي النفوس- . و من كلام بعض الحكماء الفصحاء- كن لنفسك نصيحا و استقبل توبة نصوحا- و ازهد في دار سمها ناقع و طائرها واقع- و ارغب في دار طالبها منجح- و صاحبها مفلح- و متى حققت و آثرت الصدق- بان لك أنهما لا يجتمعان- و أنهما كالضدين لا يصطلحان- فجرد همك في تحصيل الباقية- فإن الأخرى أنت فان عنها و هي فانية عنك- و قد عرفت آثارها في أصحابها و رفقائها- و صنعها بطلابها و عشقائها معرفة عيان- فأي حجة تبقى لك و أي حجة لا تثبت عليك- و من كلام هذا الحكيم- فإنا قد أصبحنا في دار رابحها خاسر- و نائلها قاصر و عزيزها ذليل و صحيحها عليل- و الداخل إليها مخرج و المطمئن فيها مزعج- و الذائق من شرابها سكران و الواثق بسرابها ظمآن- ظاهرها غرور و باطنها شرور- و طالبها مكدود و عاشقها مجهود و تاركها محمود- العاقل من قلاها و سلا عنها- و الظريف من عافها و أنف منها- و السعيد من غمض بصره عن زهرتها- و صرفه عن نضرتها- و ليس لها فضيلة إلا دلالتها على نفسها- و إشارتها إلى نقصها- و لعمري إنها لفضيلة لو صادفت قلبا عقولا- لا لسانا قئولا و عملا مقبولا لا لفظا منقولا- فإلى الله الشكوى من هوى مطاع- و عمر مضاع فبيده الداء و الدواء و المرض و الشفاء- .

قال أبو حرة أتينا بكر بن عبد الله المري نعوده- فدخلنا عليه و قد قام لحاجته فجلسنا ننتظره- فأقبل إلينا يتهادى بين رجلين- فلما نظر إلينا سلم علينا- ثم قال رحم الله عبدا أعطي قوة فعمل بها في طاعة الله- أو قصر به ضعف فكف عن محارم الله- . و قال بكر بن عبد الله- مثل الرجل في الدنيا مثل رجل له ثلاثة خلان- قال له أحدهم أنا خازنك خذ مني ما شئت- فاعمل به ما شئت- و قال الآخر أنا معك أحملك و أضعك فإذا مت تركتك- و قال الآخر أنا أصحبك أبدا حياتك و موتك- فأما الأول فماله و أما الثاني فعشيرته- و أما الثالث فعمله- . قيل للزهري من الزاهد في الدنيا- قال من لم يمنع الحلال شكره- و من لم يمنع الحرام صبره- .

و قال سفيان الثوري ما عبد الله بمثل العقل- و لا يكون الرجل عاقلا حتى تكون فيه عشر خصال- يكون الكبر منه مأمونا و الخير منه مأمولا- يقتدي بمن قبله و يكون إماما لمن بعده- و حتى يكون الذل في طاعة الله أحب إليه- من العز في معصية الله- و حتى يكون الفقر في الحلال- أحب إليه من الغنى في الحرام- و حتى يكون عيشة القوت- و حتى يستقل الكثير من عمله- و يستكثر القليل من عمل غيره- و حتى لا يتبرم بطلب الحوائج‏قبله- و العاشرة و ما العاشرة- بها شاد مجده و علا ذكره- أن يخرج من بيته فلا يستقبله أحد- من الناس إلا رأى أنه دونه- .

قال يونس بن حبيب- كان عندنا بالبصرة جندي عابد فأحب الغزو- فلما خرج شيعته فقلت أوصني- فقال أوصيك بتقوى الله و أوصيك بالقرآن- فإنه نور الليل المظلم و هدى النهار المشرق- فاعمل به على ما كان من جهد و فاقة- فإن عرض بلاء فقدم مالك دون نفسك- فإن تجاوز البلاء فقدم مالك و نفسك دون دينك- و اعلم أن المحروب من حرب دينه- و المسلوب من سلب يقينه- إنه لا غنى مع النار و لا فقر مع الجنة- و إن جهنم لا يفك أسيرها و لا يستغني فقيرها- . ابن المبارك كان فيما مضى جبار- يقتل الناس على أكل لحوم الخنازير- فلم يزل الأمر يترقى حتى بلغ إلى عابد مشهور- فأراده على أكلها و هدده بالقتل- فشق ذلك على الناس- فقال له صاحب شرطته- إني ذابح لك غدا جديا- فإذا دعاك هذا الجبار لتأكل- فكل فإنما هو جدي- فلما دعاه ليأكل أبى أن يأكل- فقال أخرجوه و اضربوا عنقه- فقال له الشرطي ما منعك أن تأكل من لحم جدي- قال إني رجل منظور إلي- و إني كرهت أن يتأسى بي الناس في معاصي الله- فقدمه فقتله- .

سفيان الثوري كان رجل يبكي كثيرا- فقال له أهله لو قتلت قتيلا ثم أتيت وليه- فرآك تبكي هذا البكاء لعفا عنك- فقال قد قتلت نفسي فلعل وليها يعفو عني- . و كان أيوب السختياني كثير البكاء- و كان يغالط الناس عن بكائه- يبكي مرة فيأخذ أنفه- و يقول الزكمة ربما عرضت لي و يبكي مرة- فإذا استبان من حوله بكاءه- قال إن الشيخ إذا كبر مج- .

و من كلام أبي حيان التوحيدي في البصائر- ما أقول في عالم الساكن فيه وجل- و الصاحي بين أهله ثمل- و المقيم على ذنوبه خجل- و الراحل عنه مع تماديه عجل- و إن دارا هذه من آفاتها و صروفها لمحقوقة بهجرانها و تركها- و الصدوف منها خاصة- و لا سبيل لساكنها إلى دار القرار إلا بالزهد فيها- و الرضا بالطفيف منها- كبلغة الثاوي و زاد المنطلق

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 8

خطبه 128 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

128 و من كلام له ع فيما يخبر به عن الملاحم بالبصرة

يَا أَحْنَفُ كَأَنِّي بِهِ وَ قَدْ سَارَ بِالْجَيْشِ- الَّذِي لَا يَكُونُ لَهُ غُبَارٌ وَ لَا لَجَبٌ- وَ لَا قَعْقَعَةُ لُجُمٍ وَ لَا حَمْحَمَةُ خَيْلٍ- يُثِيرُونَ الْأَرْضَ بِأَقْدَامِهِمْ- كَأَنَّهَا أَقْدَامُ النَّعَامِ قال الشريف الرضي أبو الحسن رحمه الله تعالى- يومئ بذلك إلى صاحب الزنج ثُمَّ قَالَ ع- وَيْلٌ لِسِكَكِكُمُ الْعَامِرَةِ وَ الدُّورِ الْمُزَخْرَفَةِ- الَّتِي لَهَا أَجْنِحَةٌ كَأَجْنِحَةِ النُّسُورِ- وَ خَرَاطِيمُ كَخَرَاطِيمِ الْفِيَلَةِ- مِنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَا يُنْدَبُ قَتِيلُهُمْ- وَ لَا يُفْقَدُ غَائِبُهُمْ- أَنَا كَابُّ الدُّنْيَا لِوَجْهِهَا- وَ قَادِرُهَا بِقَدْرِهَا وَ نَاظِرُهَا بِعَيْنِهَا اللجب الصوت- و الدور المزخرفة المزينة المموهة بالزخرف- و هو الذهب- . و أجنحة الدور التي شبهها بأجنحة النسور رواشينها- و الخراطيم ميازيبها- .

و قوله لا يندب قتيلهم- ليس يريد به من يقتلونه بل القتيل منهم- و ذلك لأن أكثر الزنج الذين أشار إليهم- كانوا عبيدا لدهاقين البصرة و بناتها- و لم يكونوا ذوي زوجات و أولاد- بل كانوا على هيئة الشطار عزابا فلا نادبة لهم- . و قوله و لا يفقد غائبهم يريد به كثرتهم- و أنهم كلما قتل منهم قتيل سد مسده غيره- فلا يظهر أثر فقده- .

و قوله أنا كأب الدنيا لوجهها- مثل الكلمات المحكية-عن عيسى ع أنا الذي كببت الدنيا على وجهها- ليس لي زوجة تموت و لا بيت يخرب- وسادي الحجر و فراشي المدر و سراجي القمرأخبار صاحب الزنج و فتنته و ما انتحله من عقائدفأما صاحب الزنج هذا فإنه ظهر في فرات البصرة- في سنة خمس و خمسين و مائتين رجل- زعم أنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى- بن زيد بن علي بن الحسين- بن علي بن أبي طالب ع- فتبعه الزنج الذين كانوا يكسحون السباخ في البصرة- .

و أكثر الناس يقدحون في نسبه- و خصوصا الطالبيين و جمهور النسابين اتفقوا على‏ أنه من عبد القيس- و أنه علي بن محمد بن عبد الرحيم- و أمه أسدية من أسد بن خزيمة- جدها محمد بن حكيم الأسدي من أهل الكوفة- أحد الخارجين مع زيد بن علي بن الحسين ع- على هشام بن عبد الملك- فلما قتل زيد هرب فلحق بالري- و جاء إلى القرية التي يقال لها ورزنين- فأقام بها مدة- و بهذه القرية ولد علي بن محمد صاحب الزنج و بها منشؤه- و كان أبو أبيه المسمى عبد الرحيم رجلا من عبد القيس- كان مولده بالطالقان فقدم العراق- و اشترى جارية سندية فأولدها محمدا أباه- .

و كان علي هذا متصلا بجماعة- من حاشية السلطان و خول بني العباس- منهم غانم الشطرنجي و سعيد الصغير- و بشير خادم المنتصر- و كان منهم معاشه و من قوم- من كتاب الدولة يمدحهم و يستمنحهم بشعره- و يعلم الصبيان الخط و النحو و النجوم- و كان حسن الشعر مطبوعا عليه- فصيح اللهجة بعيد الهمة- تسمو نفسه إلى معالي الأمور و لا يجد إليها سبيلا- و من شعره القصيدة المشهورة التي أولها-

رأيت المقام على الاقتصاد
قنوعا به ذلة في العباد

 و من جملتها-

إذا النار ضاق بها زندها
ففسحتها في فراق الزناد

إذا صارم قر في غمده‏
حوى غيره السبق يوم الجلاد

 و من الشعر المنسوب إليه-

و أنا لتصبح أسيافنا
إذا ما انتضين ليوم سفوك‏

منابرهن بطون الأكف‏
و أغمادهن رءوس الملوك‏

و من شعره في الغزل-

و لما تبينت المنازل بالحمى
و لم أقض منها حاجة المتورد

زفرت إليها زفرة لو حشوتها
سرابيل أبدان الحديد المسرد

لرقت حواشيها و ظلت متونها
تلين كما لانت لداود في اليد

و من شعره أيضا-

و إذا تنازعني أقول لها قري
موت يريحك أو صعود المنبر

ما قد قضى سيكون فاصطبري له‏
و لك الأمان من الذي لم يقدر

 و قد ذكر المسعودي في كتابه المسمى مروج الذهب- أن أفعال علي بن محمد صاحب الزنج- تدل على أنه لم يكن طالبيا- و تصدق ما رمي به من دعوته في النسب- لأن ظاهر حاله كان ذهابه إلى مذهب الأزارقة- في قتل النساء و الأطفال و الشيخ الفاني و المريض-و قد روي أنه خطب مرة- فقال في أول خطبته- لا إله إلا الله و الله أكبر- الله أكبر لا حكم إلا لله- و كان يرى الذنوب كلها شركا- . و من الناس من يطعن في دينه- و يرميه بالزندقة و الإلحاد- و هذا هو الظاهر من أمره- لأنه كان متشاغلا في بدايته- بالتنجيم و السحر و الأصطرلابات- .

و ذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري- أن علي بن محمد شخص من سامراء- و كان يعلم الصبيان بها و يمدح الكتاب- و يستميح الناس في سنة تسع و أربعين و مائتين إلى البحرين- فادعى بها أنه علي بن محمد بن الفضل- بن الحسن بن عبيد الله بن العباس- بن علي بن أبي طالب ع- و دعا الناس بهجر إلى طاعته- فاتبعه جماعة كثيرة من أهلها- و اتبعه جماعة أخرى- فكانت بسببه بين الذين اتبعوه- و الذين أبوه عصبية قتل فيها بينهم جماعة- فانتقل عنهم لما حدث ذلك إلى الأحساء- و ضوى إلى حي من بني تميم- ثم من بني سعد يقال لهم بنو الشماس- فكان بينهم مقامه- و قد كان أهل البحرين أحلوه من أنفسهم محل النبي ص- فيما ذكر حتى جبي له الخراج هنالك و نفذ حكمه فيهم- و قاتلوا أسباب السلطان لأجله- و وتر منهم جماعة كثيرة فتنكروا له- فتحول عنهم إلى البادية- و لما انتقل إلى البادية صحبه جماعة من أهل البحرين- منهم رجل كيال من أهل الأحساء- يقال له يحيى بن محمد الأزرق- مولى بني دارم و يحيى بن أبيثعلب- و كان تاجرا من أهل هجر- و بعض موالي بني حنظلة أسود يقال له سليمان بن جامع- و كان قائد جيشه حيث كان بالبحرين- .

ثم تنقل في البادية من حي إلى حي- فذكر عنه أنه كان يقول- أوتيت في تلك الأيام آيات من آيات إمامتي- منها أني لقيت سورا من القرآن لم أكن أحفظها- فجرى بها لساني في ساعة واحدة- منها سبحان و الكهف و صاد- و منها أني ألقيت نفسي على فراشي- و جعلت أفكر في الموضع الذي أقصد له- و أجعل مقامي به إذا نبت البادية بي- و ضقت ذرعا بسوء طاعة أهلها- فأظلتني سحابه فبرقت و رعدت- و اتصل صوت الرعد منها بسمعي- فخوطبت فقيل لي اقصد البصرة- فقلت لأصحابي و هم يكتنفونني- إني أمرت بصوت من هذا الرعد بالمصير إلى البصرة- . و ذكر عنه أنه عند مصيره إلى البادية أوهم أهلها- أنه يحيى بن عمر أبو الحسين المقتول- بناحية الكوفة في أيام المستعين- فاختدع بذلك قوما منهم- حتى اجتمع عليه منهم جماعة- فزحف بهم إلى موضع من البحرين- يقال له الردم فكانت بينه و بين أهله وقعة عظيمة- كانت الدبرة فيها عليه و على أصحابه- قتلوا فيها قتلا ذريعا- فتفرقت عنه العرب و كرهته و تجنبت صحبته- .

فلما تفرقت العرب عنه و نبت به البادية- شخص عنها إلى البصرة فنزل بها في بني ضبيعة- فاتبعه بها جماعة منهم علي بن أبان المعروف بالمهلبي- من ولد المهلب بن أبي صفرة- و أخواه محمد و الخليل و غيرهم- و كان قدومه البصرة في سنة أربع و خمسين و مائتين-و عامل السلطان بها يومئذ محمد بن رجاء- و وافق ذلك فتنة أهل البصرة بالبلالية و السعدية فطمع في أحد الفريقين أن يميل إليه- فأرسل أربعة من أصحابه يدعون إليه- و هم محمد بن سلم القصاب الهجري- و بريش القريعي و علي الضراب- و الحسين الصيدناني- و هم الذين كانوا صحبوه بالبحرين- فلم يستجب لهم أحد من أهل البلد- و ثار عليهم الجند فتفرقوا- و خرج علي بن محمد من البصرة هاربا- و طلبه ابن رجاء فلم يقدر عليه- و أخبر ابن رجاء بميل جماعة من أهل البصرة إليه- فأخذهم فحبسهم و حبس معهم زوجة علي بن محمد- و ابنه الأكبر و جارية له كانت حاملا- و مضى علي بن محمد لوجهه يريد بغداد و معه قوم من خاصته- منهم محمد بن سلم و يحيى بن محمد- و سليمان بن جامع و بريش القريعي- فلما صاروا بالبطيحة- نذر بهم بعض موالي الباهليين- كان يلي أمر البطيحة- فأخذهم و حملهم إلى محمد بن أبي عون- و هو عامل السلطان بواسط- فاحتال لابن أبي عون حتى تخلص هو و أصحابه من يده- ثم صار إلى بغداد فأقام بها سنة- و انتسب في هذه السنة إلى محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد- و كان يزعم أنه ظهر له أيام مقامه ببغداد في هذه السنة آيات- و عرف ما في ضمائر أصحابه و ما يفعله كل واحد منهم- و أنه سأل ربه أن يعلمه حقيقة أمور كانت في نفسه- فرأى كتابا يكتب له على حائط- و لا يرى شخص كاتبه- .

قال أبو جعفر و استمال ببغداد جماعة- منهم جعفر بن محمد الصوحاني- من ولد زيد بن صوحان العبدي- و محمد بن القاسم و غلامان لبني خاقان- و هما مشرق و رفيق فسمى مشرقا حمزة و كناه أبا أحمد- و سمى رفيقا جعفرا و كناه أبا الفضل- فلما انقضى عامه ذلك ببغداد- عزل محمد بن رجاء عن البصرة- فوثبت رؤساء الفتنة بها من البلالية و السعدية-ففتحوا المحابس و أطلقوا من كان فيها- فتخلص أهله و ولده فيمن تخلص- فلما بلغه ذلك شخص عن بغداد- فكان رجوعه إلى البصرة في شهر رمضان- من سنة خمس و خمسين و مائتين- و معه علي بن أبان المهلبي- و قد كان لحق به و هو بمدينة السلام مشرق و رفيق- و أربعة أخر من خواصه- و هم يحيى بن محمد و محمد بن سلم- و سليمان بن جامع و أبو يعقوب المعروف بجربان- فساروا جميعا حتى نزلوا بالموضع المعروف ببرنخل- من أرض البصرة في قصر هناك- يعرف بقصر القرشي- على نهر يعرف بعمود بن المنجم- كان بنو موسى بن المنجم احتفروه- و أظهر أنه وكيل لولد الواثق- في بيع ما يملكونه هناك من السباخ- .

قال أبو جعفر فذكر عن ريحان بن صالح- أحد غلمان الشورجيين الزنوج و هو أول من صحبه منهم- قال كنت موكلا بغلمان مولاي- أنقل الدقيق إليهم- فمررت به و هو مقيم بقصر القرشي يظهر الوكالة لأولاد الواثق- فأخذني أصحابه و صاروا بي إليه- و أمروني بالتسليم عليه بالإمرة ففعلت ذلك- فسألني عن الموضع الذي جئت منه- فأخبرته أني أقبلت من البصرة- فقال هل سمعت لنا بالبصرة خبرا قلت لا- قال فخبر البلالية و السعدية- قلت لم أسمع لهم خبرا- فسألني عن غلمان الشورجيين- و ما يجري لكل جماعة منهم من الدقيق و السويق و التمر- و عمن يعمل في الشورج من الأحرار و العبيد- فأعلمته ذلك فدعاني إلى ما هو عليه فأجبته- فقال لي احتل فيمن قدرت عليه من الغلمان- فأقبل بهم إلي- و وعدني أن يقودني على من آتيه به منهم- و أن يحسن إلي و استحلفني ألا أعلم أحدا بموضعه- و أن أرجع إليه فخلى سبيلي- فأتيت بالدقيق الذي معي إلى غلمان مولاي-

و أخبرتهم خبره و أخذت له البيعة عليهم- و وعدتهم عنه بالإحسان و الغنى- و رجعت إليه من غد ذلك اليوم- و قد وافاه رفيق غلام الخاقانية-و قد كان وجهه إلى البصرة- يدعو إليه غلمان الشورج- و وافى إليه صاحب له آخر يعرف بشبل بن سالم- قد كان دعا إليه قوما منهم أيضا- و أحضر معه حريرة كان أمره بابتياعها ليتخذها لواء- فكتب فيها بالحمرة- إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ- بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية- و كتب اسمه و اسم أبيه عليها- و علقها في رأس مردي-

و خرج وقت السحر من ليلة السبت- لليلتين بقيتا من شهر رمضان- فلما صار إلى مؤخر القصر الذي كان فيه- لقيه غلمان رجل من الشورجيين- يعرف بالعطار متوجهين إلى أعمالهم- فأمر بأخذ وكيلهم فأخذ و كتف- و استضم غلمانه إلى غلمانه- و كانوا خمسين غلاما- ثم صار إلى الموضع المعروف بالسنائي- فاتبعه الغلمان الذين كانوا فيه- و هم خمسمائة غلام فيهم الغلام المعروف بأبي حديد- و أمر بأخذ وكيلهم- و كتفه ثم مضى إلى الموضع المعروف بالسيرافي- فاتبعه من كان فيه من غلمان- و هم مائة و خمسون غلاما- منهم زريق و أبو الخنجر- ثم صار إلى الموضع المعروف بسبخة ابن عطاء- فأخذ طريفا و صبيحا الأعسر- و راشد المغربي و راشد القرمطي- و كل هؤلاء من وجوه الزنج و أعيانهم- الذين صاروا قوادا و أمراء في جيوشهم- و أخذ معهم ثمانين غلاما- . ثم أتى إلى الموضع المعروف بغلام سهل الطحان- فاستضاف من كان به من الغلمان- ثم لم يزل يفعل مثل ذلك في يومه- حتى اجتمع إليه بشر كثير من الزنج- ثم قام فيهم‏ آخر الليل خطيبا- فمناهم و وعدهم أن يقودهم و يرئسهم- و يملكهم الأموال و الضياع- و حلف لهم بالأيمان الغليظة ألا يغدر بهم و لا يخذلهم- و لا يدع شيئا من الإحسان إلا أتى إليهم- .

ثم دعا وكلاءهم فقال قد أردت ضرب أعناقكم- لما كنتم تأتون إلى هؤلاء الغلمان- الذين استضعفتموهم و قهرتموهم- و فعلتم بهم ما حرم الله عليكم أن تفعلوه بهم- و كلفتموهم ما لا يطيقونه- فكلمني أصحابي فيكم فرأيت إطلاقكم- . فقالوا له أصلحك الله- إن هؤلاء الغلمان أباق- و إنهم سيهربون منك فلا يبقون عليك و لا علينا- فخذ من مواليهم مالا و أطلقهم- . فأمر الغلمان فأحضروا شطوبا- ثم بطح كل قوم وكيلهم- فضرب كل رجل منهم خمسمائة شطبة- و أحلفهم بطلاق نسائهم ألا يعلموا أحدا بموضعه- ثم أطلقهم فمضوا نحو البصرة- و مضى رجل منهم حتى عبر دجيل الأهواز- فأنذر الشورجيين ليحفظوا غلمانهم- و كان هناك خمسة عشر ألف غلام زنجي- ثم سار و عبر دجيلا- و سار إلى نهر ميمون بأصحابه- و اجتمع إليه السودان من كل جهة- .

فلما كان يوم الفطر جمعهم و خطب خطبة- ذكر فيها ما كانوا عليه من سوء الحال- و أن الله تعالى قد استنقذهم من ذلك- و أنه يريد أن يرفع أقدارهم- و يملكهم العبيد و الأموال و المنازل- و يبلغ بهم أعلى الأمور- ثم حلف لهم على ذلك- فلما فرغ من خطبته‏أمر الذين فهموا عنه قوله- أن يفهموه من لا فهم له من عجمهم- لتطيب بذلك أنفسهم ففعلوا ذلك- . قال أبو جعفر- فلما كان في اليوم الثالث من شوال- وافاه الحميري أحد عمال السلطان بتلك النواحي في عدد كثير- فخرج إليه صاحب الزنج في أصحابه فطرده و هزم أصحابه- حتى صاروا في بطن دجلة- و استأمن إلى صاحب الزنج رجل من رؤساء السودان- يعرف بأبي صالح القصير في ثلاثمائة من الزنج- فلما كثر من اجتمع إليه من الزنج قود قواده- و قال لهم من أتى منكم برجل من السودان فهو مضموم إليه- .

قال أبو جعفر- و انتهى إليه أن قوما من أعوان السلطان هناك- منهم خليفة بن أبي عون علي الأبلة- و منهم الحميري قد أقبلوا نحوه- فأمر أصحابه بالاستعداد لهم فاجتمعوا للحرب- و ليس في عسكره يومئذ إلا ثلاثة أسياف- سيفه و سيف علي بن أبان و سيف محمد بن سلم- و لحقه القوم و نادى الزنج- فبدر مفرج النوبي- و المكنى بأبي صالح و ريحان بن صالح و فتح الحجام- و قد كان فتح حينئذ يأكل و بين يديه طبق- فلما نهض تناول ذلك الطبق- و تقدم أمام أصحابه- فلقيه رجل من عسكر أصحاب السلطان- فلما رآه فتح حمل عليه و حذفه بالطبق الذي كان في يده- فرمى الرجل سلاحه و ولى هاربا- و انهزم القوم كلهم و كانوا أربعة آلاف- فذهبوا على وجوههم- و قتل من قتل منهم و مات بعضهم عطشا و أسر كثير منهم- فأتى بهم صاحب الزنج فأمر بضرب أعناقهم فضربت- و حملت الرءوس على بغال- كان أخذها من الشورجيين- كانت تنقل الشورج- .

قال أبو جعفر- و مر في طريقه بالقرية المعروفة بالمحمدية- فخرج منها رجل من موالي الهاشميين- فحمل على بعض السودان فقتله- و دخل القرية فقال له أصحابه- ائذن لنا في انتهاب القرية و طلب قاتل صاحبنا- فقال لا سبيل إلى ذلك دون أن نعرف ما عند أهلها- و هل فعل القاتل ما فعل عن رأيهم- و نسائلهم أن يدفعوه إلينا- فإن فعلوا و إلا حل لنا قتالهم- و عجل المسير من القرية فتركها و سار- . قال أبو جعفر- ثم مر على القرية المعروفة بالكرخ- فأتاه كبراؤها و أقاموا له الأنزال- و بات ليلته تلك عندهم- فلما أصبح أهدى له رجل- من أهل القرية المسماة جبى فرسا كميتا- فلم يجد سرجا و لا لجاما- فركبه بحبل و سنفه بحبل ليف- .

قلت هذا تصديق قول أمير المؤمنين ع- كأنه به قد سار في الجيش- الذي ليس له غبار و لا لجب و لا قعقعة لجم- و لا حمحمة خيل- يثيرون الأرض بأقدامهم كأنها أقدام النعام- . قال أبو جعفر- و أول مال صار إليه مائتا دينار و ألف درهم- لما نزل القرية المعروفة بالجعفرية- أحضر بعض رؤسائها و سأله عن المال فجحد- فأمر بضرب عنقه- فلما خاف‏ أحضر له هذا القدر- و أحضر له ثلاثة برازين- كميتا و أشقر و أشهب- فدفع أحدها إلى محمد بن سلم- و الآخر إلى يحيى بن محمد- و الآخر إلى مشرق غلام الخاقانية- و وجدوا في دار لبعض الهاشميين سلاحا فانتهبوه- فصار ذلك اليوم بأيدي بعض الزنج سيوف و آلات و أتراس- . قال أبو جعفر- ثم كانت بينه و بين من يليه من أعوان السلطان- كالحميري و رميس و عقيل و غيرهم وقعات- كان الظفر فيها كلها له- و كان يأمر بقتل الأسرى- و يجمع الرءوس معه و ينقلها من منزل إلى منزل- و ينصبها أمامه إذا نزل- و أوقع الهيبة و الرهبة في صدور الناس بكثرة القتلى- و قلة العفو و على الخصوص المأسورين- فإنه كان يضرب أعناقهم و لا يستبقي منهم أحدا- .

قال أبو جعفر- ثم كان له مع أهل البصرة وقعة بعد ذلك- سار يريدها في ستة آلاف زنجي- فاتبعه أهل الناحية المعروفة بالجعفرية ليحاربوه- فعسكر عليهم فقتل منهم مقتلة عظيمة- أكثر من خمسمائة رجل- فلما فرغ منهم صمد نحو البصرة- و اجتمع أهلها و من بها من الجند- و حاربوه حربا شديدا- فكانت الدائرة عليه- و انهزم أصحابه- و وقع كثير منهم في النهرين المعروفين- بنهر كثير و نهر شيطان- و جعل يهتف بهم و يردهم و لا يرجعون- و غرق من أعيان جنده و قواده جماعة- منهم أبو الجون و مبارك البحراني- و عطاء البربري و سلام الشامي- فلحقه قوم من جند البصرة و هو على قنطرة نهر كثير- فرجع إليهم بنفسه و سيفه في يده- فرجعوا عنه حتى صاروا إلى الأرض- و هو يومئذ في دراعة و عمامة و نعل و سيف- و في يده اليسرى ترس و نزل عن القنطرة- فصعدها البصريون يطلبونه فرجع إليهم- فقتل منهم رجلا بيده على خمس مراق من القنطرة- و جعل يهتف بأصحابه و يعرفهم مكانه- و لم يكن بقي معه في ذلك الموضع من أصحابه-إلا أبو الشوك و مصلح و رفيق و مشرق غلاما الخاقانية- و ضل أصحابه عنه و انحلت عمامته- فبقي على رأسه كور منها أو كوران- فجعل يسحبها من ورائه و يعجله المشي عن رفعها- و أسرع غلاما الخاقانية في الانصراف- و قصر عنهما فغابا عنه فاتبعه رجلان من أهل البصرة بسيفيهما- فرجع إليهما فانصرفا عنه- و خرج إلى الموضع الذي فيه مجمع أصحابه- و قد كانوا تحيروا فلما رأوه سكنوا- . قال أبو جعفر- ثم سأل عن رجاله و إذا قد هرب كثير منهم- و نظر فإذا هو من جميع أصحابه في مقدار خمسمائة رجل- فأمر بالنفخ في البوق الذي كانوا يجتمعون لصوته- فنفخ فيه فلم يرجع إليه أحد- .

قال و انتهب أهل البصرة سفنا كانت معه- و ظفروا بمتاع من متاعه- و كتب من كتبه و أصطرلابات كان معه- ثم تلاحق به جماعة ممن كان هرب- فأصبح و إذا معه ألف رجل- فأرسل محمد بن سلم و سليمان بن جامع- و يحيى بن محمد إلى أهل البصرة يعظهم- و يعلمهم أنه لم يخرج إلا غضبا لله و للدين- و نهيا عن المنكر- فعبر محمد بن سلم حتى توسط أهل البصرة- و جعل يكلمهم و يخاطبهم- فرأوا منه غرة فوثبوا عليه فقتلوه- و رجع سليمان و يحيى إلى صاحب الزنج- فأخبراه فأمرهما بطي ذلك عن أصحابه- حتى يكون هو الذي يخبرهم- . فلما صلى بهم العصر نعى إليهم محمد بن سلم- و قال لهم إنكم تقتلون به في غد عشرة آلاف من أهل البصرة- .

قال أبو جعفر- و كان الوقعة التي كانت الدبرة عليه فيها- يوم الأحد لثلاث عشرةليلة- خلون من ذي القعدة سنة خمس و خمسين و مائتين- فلما كان يوم الإثنين جمع له أهل البصرة و حشدوا- لما رأوا من ظهورهم عليه يوم الأحد- و انتدب لذلك رجل من أهل البصرة يعرف بحماد الساجي- و كان من غزاة البحر في الشذا- و له علم بركوبها و الحرب فيها- فجمع المطوعة و رماه الأهداف و أهل المسجد الجامع- و من خف معه من حزبي البلالية و السعدية- و من غير هذه الأصناف من الهاشميين و القرشيين- و من يحب النظر و مشاهدة الحرب من سائر أصناف الناس- و شحن ثلاثة مراكب من الشذا بالرماة- و جعل الناس يزدحمون في الشذا- حرصا على حضور ذلك المشهد- و مضى جمهور الناس رجالة- منهم من معه سلاح و منهم من لا سلاح معه بل نظارة- فدخلت السفن النهر المعروف بأم حبيب- بعد زوال الشمس من ذلك اليوم في المد- و مرت الرجالة و النظارة على شاطئ النهر- قد سدوا ما ينفذ فيه البصر كثرة و تكاثفا- فوجه صاحب الزنج صاحبه زريقا و أبا الليث الأصبهاني- فجعلهم كمينا من الجانب الشرقي من نهر شيطان- و كان مقيما بموضع منه- و وجه صاحبيه شبلا و حسينا الحمامي- فجعلهما كمينا في غربيه و مع كل من الكمينين جماعة- و أمر علي بن أبان المهلبي أن يتلقى القوم- فيمن بقي معه من جمعه- و أمره أن يستتر هو و أصحابه بتراسهم- و لا يثور إليهم منه ثائر- حتى يوافيهم القوم و يخالطوهم بأسيافهم- فإذا فعلوا ذلك ثاروا إليهم- و تقدم إلى الكمينين إذا جاوزهما الجمع- و أحسا بثورة أصحابهم إليهم- أن يخرجا من جنبي النهر و يصيحا بالناس- .

و كان يقول لأصحابه بعد ذلك- لما أقبل إلى جمع البصرة و عاينته- رأيت أمرا هائلا راعني و ملأ صدري رهبة و جزعا- ففزعت إلى الدعاء- و ليس معي من أصحابي إلا نفر يسير منهم مصلح- و ليس منا أحد إلا و قد خيل إليه مصرعه- فجعل مصلح يعجبني من‏ كثرة ذلك الجمع- و جعلت أومئ إليه أن اسكت- فلما قرب القوم مني قلت- اللهم إن هذه ساعة العسرة فأعني- فرأيت طيورا بيضا أقبلت فتلقت ذلك الجمع- فلم أستتم دعائي حتى بصرت بسميرية- من سفنهم قد انقلبت بمن فيها فغرقوا- ثم تلتها الشذا فغرقت واحدة بعد واحدة- و ثار أصحابي إلى القوم- و خرج الكمينان من جنبي النهر- و صاحوا و خبطوا الناس- فغرقت طائفة و قتلت طائفة- و هربت طائفة نحو الشط طمعا فأدركها السيف- فمن ثبت قتل و من رجع إلى الماء غرق- حتى أبيد أكثر ذلك الجمع- و لم ينج منهم إلا الشريد- و كثر المفقودون بالبصرة- و علا العويل من نسائهم- .

قال أبو جعفر- و هذا يوم الشذا الذي ذكره الناس في أشعارهم- و عظموا ما فيه من القتل- فكان ممن قتل من بني هاشم- جماعة من ولد جعفر بن سليمان- و انصرف صاحب الزنج و جمع الرءوس و ملأ بها سفنا- و أخرجها من النهر المعروف بأم حبيب في الجزر و أطلقها- فوافت البصرة- فوقفت في مشرعة تعرف بمشرعة القيار- فجعل الناس يأتون تلك الرءوس- فيأخذ رأس كل رجل أولياؤه- و قوي صاحب الزنج بعد هذا اليوم- و سكن الرعب قلوب أهل البصرة منه- و أمسكوا عن حربه- و كتب إلى السلطان بخبره- فوجه جعلان التركي مددا لأهل البصرة- في جيش ذوي عدة و أسلحة- .

قال أبو جعفر- و قال أصحاب علي بن محمد له- أنا قد قتلنا مقاتلة أهل البصرة- و لم يبق فيها إلا ضعفاؤهم و من لا حراك به- فأذن لنا في تقحمها فنهاهم و هجن آراءهم- و قال بل نبعد عنها- فقد رعبناهم و أخفناهم- و لنقتحمها وقتا آخر- و انصرف بأصحابه إلى سبخة في آخر أنهار البصرة- تعرف بسبخة أبي قرة- قريبة من النهر المعروف بالحاجر فأقام هناك- و أمر أصحابه باتخاذ الأكواخ- و هذه السبخة متوسطة النخل و القرى و العمارات- و بث أصحابه يمينا و شمالا- يعيثون و يغيرون على القرى و يقتلون الأكرة- و ينهبون أموالهم و يسرقون مواشيهم- . و جاءه شخص من أهل الكتاب من اليهود يعرف بمارويه- فقبل يده و سجد له و سأله عن مسائل كثيرة فأجابه عنها- فزعم اليهودي أنه يجد صفته في التوراة- و أنه يرى القتال معه- و سأله عن علامات في يده و جسده- ذكر أنها مذكورة في الكتب فأقام معه- .

قال أبو جعفر- و لما صار جعلان التركي إلى البصرة بعسكره- أقام ستة أشهر يحارب صاحب الزنج- فإذا التقوا لم يكن بينهم- إلا الرمي بالحجارة و النشاب- و لم يجد جعلان إلى لقائه سبيلا- لضيق الموضع بما فيه من النخل و الدغل- عن مجال الخيل-و لأن صاحب الزنج قد كان خندق على نفسه و أصحابه- . ثم إن صاحب الزنج بيت جعلان- فقتل جماعة من أصحابه- و روع الباقون روعا شديدا- فانصرف جعلان إلى البصرة- و وجه إليه مقاتلة السعدية و البلالية في جمع كثيف- فواقعهم صاحب الزنج فقهرهم- و قتل منهم مقتلة عظيمة و انصرفوا مفلولين- و رجع جعلان بأصحابه إلى البصرة- فأقام بها معتصما بجدرانها- و ظهر عجزه للسلطان فصرفه عن حرب الزنج- و أمر سعيد الحاجب بالشخوص إلى البصرة لحربهم- .

قال أبو جعفر و اتفق لصاحب الزنج من السعادة- أن أربعا و عشرين مركبا من مراكب البحر- كانت اجتمعت تريد البصرة- و انتهى إلى أصحابها خبر الزنج و قطعهم السبل- و فيها أموال عظيمة للتجار- فاجتمعت آراؤهم على أن شدوا المراكب بعضها إلى بعض- حتى صارت كالجزيرة يتصل أولها بآخرها- و سارت في دجلة فكان صاحب الزنج يقول- نهضت ليلة إلى الصلاة- و أخذت في الدعاء و التضرع- فخوطبت بأن قيل لي قد أظلك فتح عظيم- فالتفت فلم ألبث أن طلعت المراكب- فنهض أصحابي إليها في شذاتها- فلم يلبثوا أن حووها و قتلوا مقاتلتها- و سبوا ما فيها من الرقيق- و غنموا منها أموالا لا تحصى و لا يعرف قدرها- فأنهبت ذلك أصحابي ثلاثة أيام- و أمرت بما بقي منها فحيز لي- . قال أبو جعفر ثم دخل الزنج الأبلة- في شهر رجب من سنة ست و خمسين و مائتين- و ذلك أن جعلان لما تنحى إلى البصرة- ألح صاحب الزنج بالسرايا على أهل الأبلة- فجعل يحاربهم من ناحية شط عثمان بالرجالة- و بما خف له من السفن من ناحية دجلة- و جعلت سراياه تضرب إلى ناحية نهر معقل- .

فذكر عن صاحب الزنج- أنه قال ميلت بين عبادان و الأبلة- فملت إلى التوجه إلى عبادان فندبت الرجال إلى ذلك- فخوطبت و قيل لي إن أقرب عدو دارا- و أولاه ألا يتشاغل عنه بغيره أهل الأبلة- فرددت بالجيش الذي كنت سيرته نحو عبادان إلى الأبلة- و لم يزالوا يحاربون أهلها- إلى أن اقتحموها و أضرموها نارا- و كانت مبنية بالساج بناء متكاثفا- فأسرعت فيها النار- و نشأت ريح عاصف- فأطارت شرر ذلك الحريق إلى أن انتهى إلى شط عثمان- و قتل بالأبلة خلق كثير- و حويت الأسلاب و الأموال- على أن الذي أحرق منها كان أكثر مما انتهب- و استسلم أهل عبادان بعدها لصاحب الزنج- فإن قلوبهم ضعفت و خافوه على أنفسهم و حرمهم- فأعطوا بأيديهم و سلموا إليه بلدهم فدخلها أصحابه- فأخذوا من كان فيها من العبيد- و حملوا ما كان فيها من السلاح- ففرقه على أصحابه و صانعه أهلها بمال كف به عنهم- .

قال أبو جعفر ثم دخل الزنج بعد عبادان- إلى الأهواز و لم يثبت لهم أهلها- فأحرقوا ما فيها و قتلوا و نهبوا و أخربوا- فكان بالأهواز إبراهيم بن محمد المدبر الكاتب- و إليه خراجها و ضياعها- فأسروه بعد أن ضربوه ضربة على وجهه- و حووا كل ما كان يملكه من مال و أثاث و رقيق و كراع- و اشتد خوف أهل البصرة- و انتقل كثير من أهلها عنها- و تفرقوا في بلاد شتى- و كثرت الأراجيف من عوامها- .

قال أبو جعفر فلما دخلت سنة سبع و خمسين- أنفذ السلطان بغراج التركي على حرب البصرة- و سعيد بن صالح الحاجب للقاء صاحب الزنج- و أمر بغراج بإمداده بالرجال- فلما صار سعيد إلى نهر معقل- وجد هناك جيشا لصاحب الزنج- في النهر المعروف بالمرغاب- فأوقع بهم سعيد فهزمهم- و استنقذ ما في أيديهم من النساء و النهب- و أصابت سعيدا في تلك الوقعة جراحات منها جراحة في فيه- .

ثم بلغه أن جيشا لصاحب الزنج- في الموضع المعروف بالفرات فتوجه إليه فهزمه- و استأمن إليه بعض قواد صاحب الزنج- حتى لقد كان المرأة من سكان ذلك الموضع- تجد الزنجي مستترا بتلك الأدغال فتقبض عليه- حتى تأتي به عسكر سعيد ما به عنها امتناع- ثم قصد سعيد حرب صاحب الزنج- فعبر إليه إلى غربي دجلة- فأوقع به وقعات متتالية- كلها يكون الظفر فيها لسعيد- إلى أن تهيأ لصاحب الزنج عليه- أن وجه إلى يحيى بن محمد البحراني صاحبه- و هو إذ ذاك مقيم بنهر معقل- في جيش من الزنج- فأمره بتوجيه ألف رجل من أصحابه- عليهم سليمان بن جامع و أبو الليث القائدان- و يأمرهما بقصد عسكر سعيد ليلا- حتى يوقعا به وقت طلوع الفجر- من ليلة عينها لهم ففعلا ذلك- و صارا إلى عسكر سعيد في ذلك الوقت- فصادفا منه غرة و غفلة- فأوقعا به و بأصحابه وقت طلوع الفجر- فقتل منهم مقتلة عظيمة- و أصبح سعيد و قد ضعف أمره- و اتصل بالسلطان خبره- فأمره بالانصراف إلى باب السلطان- و تسليم الجيش الذي معه إلى منصور بن جعفر الخياط- و كان إليه يومئذ حرب الأهواز- و كوتب بحرب صاحب الزنج- و أن يصمد له فكانت بينهم وقعة كان الظفر فيها للزنج- فقتل من أصحاب منصور خلق كثير عظيم- و حمل من الرءوس خمسمائة رأس- إلى عسكر يحيى بن محمد البحراني القائد- فنصبت على نهر معقل- .

قال أبو جعفر ثم كانت بين الزنج- و بين أصحاب السلطان بالأهواز وقعات كثيرة- تولاها علي بن أبان المهلبي- فقتل شاهين بن بسطام- و كان من أكابر أصحاب السلطان- و هزم إبراهيم بن سيما- و كان أيضا من الأمراء المشهورين- و استولى الزنج على عسكره- . قال أبو جعفر- ثم كانت الواقعة العظمى بالبصرة في هذه السنة- و ذلك أن صاحب الزنج قطع الميرة عنهم فأضر ذلك بهم- و ألح بجيوشه و زنوجه عليهم بالحرب صباحا و مساء- فلما كان في شوال من هذه السنة- أزمع على جمع أصحابه للهجوم على البصرة و الجد في خراجها- و ذلك لعلمه بضعف أهلها و تفرقهم- و إضرار الحصار بهم و خراب ما حولها من القرى- و كان قد نظر في حساب النجوم- و وقف على انكساف القمر- الليلة الرابعة عشرة من هذا الشهر- فذكر محمد بن الحسن بن سهل أنه قال- سمعته يقول اجتهدت في الدعاء على أهل البصرة- و ابتهلت إلى الله تعالى في تعجيل خرابها- فخوطبت و قيل لي إنما البصرة خبزة لك تأكلها من جوانبها- فإذا انكسر نصف الرغيف خربت البصرة- فأولت انكسار نصف الرغيف- بانكساف نصف القمر المتوقع في هذه الليالي- و ما أخلق أمر أهل البصرة أن يكون بعده- قال فكان يحدث بهذا حتى أفاض فيه أصحابه- و كثر تردده في أسماعهم و إجالتهم إياه بينهم- .

ثم ندب محمد بن يزيد الدارمي- و هو أحد من كان صحبه بالبحرين- للخروج إلى‏ الأعراب و استنفار من قدر عليه منهم- فأتاه منهم بخلق كثير- و وجه إلى البصرة سليمان بن موسى الشعراني- فأمره بتطرق البصرة و الإيقاع بأهلها- و تقدم إلى سليمان بن موسى بتمرين الأعراب على ذلك- فلما وقع الكسوف أنهض إليها علي بن أبان- و ضم إليه جيشا من الزنج و طائفة من الأعراب- و أمره بإتيان البصرة مما يلي بني سعد- و كتب إلى يحيى بن محمد البحراني في إتيانها مما يلي نهر عدي- و ضم باقي الأعراب إليه- فكان أول من واقع أهل البصرة- علي بن أبان و بغراج التركي- يومئذ بالبصرة في جماعة من الجند- فأقام يقاتلهم يومين- و أقبل يحيى بن محمد مما يلي قصر أنس- قاصدا نحو الجسر- فدخل علي بن أبان البلد وقت صلاة الجمعة- لثلاث عشرة بقين من شوال- فأقبل يقتل الناس و يحرق المنازل و الأسواق بالنار- فتلقاه بغراج و إبراهيم بن محمد- بن إسماعيل بن جعفر بن سليمان الهاشمي- المعروف ببريه و كان وجيها مقدما مطاعا- في جمع عظيم فرداه فرجع فأقام ليلته تلك- ثم غاداهم و قد تفرق جند البصرة- فلم يكن في وجهه أحد يدافعه- و انحاز بغراج بمن معه- و هرب إبراهيم بن محمد الهاشمي المعروف ببريه- فوضع علي بن أبان السيف في الناس- و جاء إليه إبراهيم بن محمد المهلبي- و هو ابن عمه فاستأمنه لأهل البصرة- فحضر أهل البصرة قاطبة- فأمنهم و نادى مناديه- من أراد الأمان فليحضر دار إبراهيم بن محمد المهلبي- فحضر أهل البصرة قاطبة- حتى ملئوا الأزقة- فلما رأى اجتماعهم انتهز الفرصة- فأمر بأخذ السكك و الطرق عليهم- و غدر بهم و أمر الزنوج بوضع السيف فيهم- فقتل كل من شهد ذلك المشهد- .

ثم انصرف آخر نهار يومه ذلك- فأقام بقصر عيسى بن جعفر بالخربية- . و روى أبو جعفر- قال حدثني محمد بن الحسن بن سهل- قال حدثني محمد بن سمعان- قال كنت يومئذ بالبصرة- فمضيت مبادرا إلى منزلي لأتحصن به- و هو في سكة المربد فلقيت أهل البصرة هاربين- يدعون بالويل و الثبور- و في آخرهم القاسم بن جعفر بن سليمان الهاشمي- على بغل متقلدا سيفا- يصيح بالناس ويحكم تسلمون بلدكم و حرمكم- هذا عدوكم قد دخل البلد- فلم يلووا عليه و لم يسمعوا منه فمضى هاربا- و دخلت أنا منزلي- و أغلقت بابي- و أشرفت فمر بي الأعراب و رجالة الزنج- يقدمهم رجل على حصان كميت- بيده رمح و عليه عذبة صفراء- فسألت بعد ذلك عنه فقيل لي إنه علي بن أبان- .

قال و نادى منادي علي بن أبان- من كان من آل المهلب فليدخل دار إبراهيم بن يحيى المهلبي- فدخلت جماعة قليلة و أغلق الباب دونهم- ثم قيل للزنج دونكم الناس فاقتلوهم و لا تبقوا منهم أحدا- و خرج إليهم أبو الليث الأصفهاني أحد قود الزنج- فقال للزنج كيلوا- و هي العلامة التي كانوا يعرفونها- فيمن يؤمرون بقتله- فأخذ الناس السيف قال- فو الله إني لأسمع تشهدهم و ضجيجهم و هم يقتلون- و قد ارتفعت أصواتهم بالتشهد- حتى سمعت بالطفاوة- و هو على بعد من الموضع الذي كانوا فيه- . قال ثم انتشر الزنج في سكك البصرة و شوارعها- يقتلون من وجدوا- و دخل علي بن أبان يومئذ المسجد فأحرقه- و بلغ إلى الكلاء فأحرقه إلى الجسر- و أخذت النار كل ما مرت به- من إنسان و بهيمة و أثاث و متاع- ثم ألحوا بالغدو و الرواح على من وجدوه- و يسوقونهم إلى يحيى بن محمد البحراني- و هو نازل ببعض سكك البصرة- فمن كان ذا مال قرره حتى يستخرج ماله ثم يقتله- و من كان مختلا قتله معجلا- .

قال أبو جعفر- و قد كان علي بن أبان كف بعض الكف- عن العيث بناحية بني سعد- و راقب قوما من المهلبيين و أتباعهم- فانتهى ذلك إلى علي بن محمد صاحب الزنج- فصرفه عن البصرة- و أقر يحيى بن محمد البحراني بها- لموافقته على رأيه في الإثخان في القتل و وقوع ذلك بمحبته- و كتب إلى يحيى بن محمد يأمره- بإظهار الكف ليسكن الناس و يظهر المستخفي- و من قد عرف باليسار و الثروة- فإذا ظهر فليؤخذوا بالدلالة على ما دفعوه و أخفوه من أموالهم- ففعل يحيى بن محمد ذلك- و كان لا يخلو في اليوم من الأيام من جماعة يؤتى بهم- فمن عرف منهم باليسار استنزف ما عنده ثم قتله- و من ظهرت له خلته عاجله بالقتل- حتى لم يدع أحدا ظهر له إلا قتله- .

قال أبو جعفر و حدثني محمد بن الحسن قال- لما انتهى إلى علي بن محمد عظيم ما فعل أصحابه بالبصرة- سمعته يقول دعوت على أهل البصرة- في غداة اليوم الذي دخل فيه أصحابي إليها- و اجتهدت في الدعاء- و سجدت و جعلت أدعو في سجودي- فرفعت إلى البصرة- فرأيتها و رأيت أصحابي يقاتلون فيها- و رأيت بين السماء و الأرض رجلا واقفا- في صورة جعفر المعلوف المتولي- كان للاستخراج في ديوان الخراج بسامراء- و هو قائم قد خفض يده اليسرى و رفع يده اليمنى- يريد قلب البصرة- فعلمت أن الملائكة تولت إخرابها دون أصحابي- و لو كان أصحابي تولوا ذلك- ما بلغوا هذا الأمر العظيم الذي يحكى عنها- و لكن الله تعالى نصرني بالملائكة- و أيدني في حروبي- و ثبت بهم من ضعف قلبه من أصحابي- قال أبو جعفر و انتسب صاحب الزنج في هذه الأيام- إلى محمد بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين- بعد انتسابه الذي كان إلى أحمد بن عيسى بن زيد- و ذلك لأنه بعد إخرابه البصرة- جاء إليه جماعة من العلوية الذين كانوا بالبصرة- و أتاه فيمن أتاه منهم قوم- من ولد أحمد بن عيسى بن زيد- في جماعة من نسائهم و حرمهم- فلما خافهم ترك الانتساب إلى أحمد بن عيسى- و انتسب إلى محمد بن محمد بن زيد- .

قال أبو جعفر فحدثني محمد بن الحسن بن سهل- قال كنت حاضرا عنده و قد حضر جماعة من النوفليين- فقال له القاسم بن إسحاق النوفلي- أنه انتهى إلينا أن الأمير من ولد أحمد بن عيسى بن زيد- فقال لست من ولد عيسى- أنا من ولد يحيى بن زيد- . قال محمد بن الحسن- فانتقل من أحمد بن عيسى بن زيد- إلى محمد بن محمد بن زيد- ثم انتقل من محمد إلى يحيى بن زيد- و هو كاذب لأن الإجماع واقع- على أن يحيى بن زيد مات و لم يعقب- و لم يولد له إلا بنت واحدة ماتت و هي ترضع- . فهذا ما ذكره أبو جعفر الطبري في التاريخ الكبير- . و ذكر علي بن الحسن المسعودي في مروج الذهب- أن هذه الواقعة بالبصرة- هلك فيها من أهلها ثلاثمائة ألف إنسان- و أن علي بن أبان المهلبي بعد فراغه من الواقعة- نصب منبرا في الموضع المعروف ببني يشكر- صلى فيه يوم الجمعة و خطب لعلي بن محمد صاحب الزنج- و ترحم بعد ذلك على أبي بكر و عمر- و لم يذكر عثمان و لا عليا ع في خطبته- و لعن أبا موسى الأشعري- و عمرو بن العاص و معاوية بن أبي سفيان- قال‏و هذا يؤكد ما ذكرناه و حكيناه من رأيه- و أنه كان يذهب إلى قول الأزارقة- .

قال و استخفى من سلم من أهل البصرة في آبار الدور- فكانوا يظهرون ليلا- فيطلبون الكلاب فيذبحونها و يأكلونها- و الفأر و السنانير- فأفنوها حتى لم يقدروا على شي‏ء منها- فصاروا إذا مات الواحد منهم أكلوه- فكان يراعي بعضهم موت بعض- و من قدر على صاحبه قتله و أكله- و عدموا مع ذلك الماء- و ذكر عن امرأة منهم أنها حضرت امرأة قد احتضرت- و عندها أختها و قد احتوشوها- ينتظرون أن تموت فيأكلوا لحمها- قالت المرأة فما ماتت حسناء- حتى ابتدرناها فقطعنا لحمها فأكلناه- و لقد حضرت أختها- و نحن على شريعة عيسى بن حرب- و هي تبكي و معها رأس الميت- فقال لها قائل ويحك ما لك تبكين- فقالت اجتمع هؤلاء على أختي- فما تركوها تموت حسناء حتى قطعوها- و ظلموني فلم يعطوني من لحمها شيئا إلا الرأس- و إذا هي تبكي شاكية من ظلمهم لها في أختها- .

قال و كان مثل هذا و أكثر منه و أضعافه- و بلغ من أمر عسكره أنه ينادى فيه على المرأة- من ولد الحسن و الحسين و العباس و غيرهم من أشراف قريش- فكانت الجارية تباع منهم بدرهمين و بثلاثة دراهم- و ينادى عليها بنسبها- هذه ابنة فلان بن فلان- و أخذ كل زنجي منهم العشرين و الثلاثين- يطؤهن الزنج و يخدمن النساء الزنجيات- كما تخدم الوصائف و لقد استغاثت إلى صاحب الزنج امرأة- من ولد الحسن بن علي ع- و كانت عند بعض الزنج و سألته- أن يعتقها مما هي فيه- أو ينقلها من عنده إلى غيره- فقال لها هو مولاك و هو أولى بك- .

قال أبو جعفر و أشخص السلطان- لحرب صاحب الزنج محمدا المعروف بالمولد- في جيش كثيف فجاء حتى نزل الأبلة- و كتب صاحب الزنج إلى يحيى بن محمد البحراني- يأمره بالمصير إليه- فصار إليه بزنوجه- و أقام على محاربته عشرة أيام- ثم فتر المولد عن الحرب- و كتب علي بن محمد إلى يحيى- يأمره أن يبيته فبيته فهزمه- و دخل الزنج عسكره فغنموا ما فيه- و كتب يحيى إلى صاحب الزنج يخبره- فأمره باتباعه فاتبعه إلى الحوانيت- ثم انصرف عنه فمر بالجامدة- و أوقع بأهلها- و انتهب كل ما كان في تلك القرى- و سفك ما قدر على سفكه من الدماء- ثم عاد إلى نهر معقل- .

قال أبو جعفر- و اتصلت الأخبار بسامراء و بغداد- و بالقواد و الموالي و أهل الحضرة بما جرى على أهل البصرة- فقامت عليهم القيامة- و علم المعتمد أنه لا يرتق هذا الفتق- إلا بأخيه أبي أحمد طلحة بن المتوكل- و كان منصورا مؤيدا عارفا بالحرب و قيادة الجيوش- و هو الذي أخذ بغداد للمعتز- و كسر جيوش المستعين و خلعه من الخلافة- و لم يكن لبني العباس في هذا الباب مثله و مثل ابنه أبي العباس- فعقد له المعتمد- على ديار مضر و قنسرين و العواصم- و جلس له مستهل شهر ربيع الآخر- من سنة سبع و خمسين- فخلع عليه و على مفلح- و شخصا نحو البصرة لحرب علي بن محمد- و إصلاح ما أفسده من الأعمال- و ركب المعتمد ركوبا ظاهرا- يشيع أخاه أبا أحمد إلى القرية المعروفة ببركوارا و عاد- . قال أبو جعفر و أما صاحب الزنج- فإنه بعد هزيمة محمد المولد- أنفذ علي بن أبان المهلبي- إلى حرب منصور بن جعفر و إلى الأهواز- فكانت بينهما حروب كثيرة في أيام متفرقة- حتى كان آخرها اليوم الذي انهزم فيه أصحاب منصور- و تفرقوا عنه و أدركت منصورا طائفة من الزنج- فلم يزل يكر عليهم حتى انقصف رمحه و نفدت سهامه- و لم يبق معه سلاح-و انتهى إلى نهر يعرف بنهر ابن مروان- فصاح بحصان كان تحته ليعبر- فوثب فقصر فانغمس في الماء- .

و قيل إن الحصان لم يقصر في الوثبة- و لكن رجلا من الزنج سبقه إلى النهر- فألقى نفسه فيه لعلمه أنه لا محيص لمنصور عن النهر- فلما وثب الفرس تلقاه الأسود- فنكس فغاص الفرس و منصور- ثم أطلع منصور رأسه- فنزل إليه غلام من السودان من عرفاء مصلح- يقال له أبرون فاحتز رأسه و أخذ سلبه- فولى يارجوخ التركي صاحب حرب خوزستان- ما كان مع منصور من العمل أصغجون التركي- .

و قال أبو جعفر- و أما أبو أحمد فإنه شخص عن سامراء- في جيش لم يسمع السامعون بمثله كثرة و عدة- قال و قد عاينت أنا ذلك الجيش- و أنا يومئذ ببغداد بباب الطاق- فسمعت جماعة من مشايخ أهل بغداد يقولون- قد رأينا جيوشا كثيرة للخلفاء- فما رأينا مثل هذا الجيش أحسن عدة- و أكمل عتادا و سلاحا- و أكثر عددا و جمعا- و اتبع ذلك الجيش من متسوقة أهل بغداد خلق كثير- . قال أبو جعفر فحدثني محمد بن الحسن بن سهل- أن يحيى بن محمد البحراني كان مقيما بنهر معقل- قبل موافاة أبي أحمد- فاستأذن صاحب الزنج- في المصير إلى نهر العباس فكره ذلك-

و خاف أن يوافيه جيش من قبل السلطان- و أصحابه متفرقون فألح عليه يحيى حتى أذن له- فخرج و اتبعه أكثر أهل عسكر صاحب الزنج- و كان علي بن أبان‏  مقيما بجبى في جمع كثير من الزنج- و البصرة قد صارت مغنما لأهل عسكر صاحب الزنج- يغادونها و يراوحونها- لنقل ما نالته أيديهم منها إلى منازلهم- فليس بمعسكر علي بن محمد يومئذ من أصحابه إلا القليل- فهو على ذلك من حاله- حتى وافى أبو أحمد في الجيش و معه مفلح- فورد جيش عظيم لم يرد على الزنج مثله- فلما وصل إلى نهر معقل- انصرف من كان هناك من الزنج- فالتحقوا بصاحبهم مرعوبين- فراعه ذلك و دعا برئيسين منهما- فسألهما عن السبب الذي له تركا موضعهما- فأخبراه بما عاينا من عظم أمر الجيش الوارد- و كثرة عدد أهله و أحكام عدتهم- و إن الذي عايناه من ذلك- لم يكن في قوتهما الوقوف له في العدة التي كانا فيها- فسألهما هل علما من يقود هذا الجيش- فقالا قد اجتهدنا في علم ذلك- فلم نجد من يصدقنا عنه- .

فوجه صاحب الزنج طلائعه- في سميريات ليعرف الخبر- فرجعت طلائعه إليه بتعظيم أمر الجيش و تفخيمه- و لم يقف أحد منهم على من يقوده- فزاد ذلك في جزعه و ارتياعه- فأمر بالإرسال إلى علي بن أبان يعلمه خبر الجيش الوارد- و يأمره بالمصير إليه فيمن معه- و وافى جيش أبي أحمد- فأناخ بإزاء صاحب الزنج- فلما كان اليوم الذي كانت فيه الواقعة- خرج علي بن محمد يطوف في عسكره ماشيا- و يتأمل الحال فيمن هو من حزبه- و من هو مقيم بإزائه على حزبه- و قد كانت السماء مطرت ذلك اليوم مطرا خفيفا- و الأرض ثرية تزل عنها الأقدام- فطوف ساعة من أول النهار و رجع- فدعا بدواة و قرطاس ليكتب كتابا إلى علي بن أبان- ليعلمه ما قد أظله من الجيش- و يأمره بتقديم من قدر على تقديمه من الرجال- فإنه لفي ذلك- إذ أتاه أبو دلف القائد أحد قواد الزنج- فقال له إن‏ القوم قد غشوك و رهقوك- و انهزم الزنج من بين أيديهم- و ليس في وجوههم من يردهم- فانظر لنفسك فإنهم قد انتهوا إليك- فصاح به و انتهره-

و قال اغرب عني فإنك كاذب فيما حكيت- إنما ذلك جزع داخل قلبك- لكثرة من رأيت من الجمع- فانخلع قلبك فلست تدري ما تقول- فخرج أبو دلف من بين يديه و أقبل يكتب- و قال لجعفر بن إبراهيم السجان ناد في الزنج- و حركهم للخروج إلى موضع الحرب- فقال له إنهم قد خرجوا- و قد ظفروا بسميريتين من سفن أصحاب السلطان- فأمره بالرجوع لتحريك الرجالة- و كان من القضاء و القدر أن أصيب مفلح- و هو القائد الجليل المرشح لقيادة الجيش بعد أبي أحمد- بسهم غرب لا يدرى من رماه فمات لوقته- و وقعت الهزيمة على أصحاب أبي أحمد- و قوي الزنج على حربهم- فقتلوا منهم جمعا كثيرا- و وافى علي بن محمد زنجه بالرءوس- قابضين عليها بأسنانهم حتى ألقوها بين يديه- فكثرت الرءوس يومئذ حتى ملأت الفضاء- و جعل الزنج يقتسمون لحوم القتلى- و يتهادونها بينهم- و أتي بأسير من الجيش فسأله عن رأس العسكر- فذكر أبا أحمد و مفلحا- فارتاع لذكر أبي أحمد- و كان إذا راعه أمر كذب به- و قال ليس في الجيش إلا مفلح- لأني لست أسمع الذكر إلا له- و لو كان في الجيش من ذكر هذا الأسير- لكان صوته أبعد- و لما كان مفلح إلا تابعا له و مضافا إليه- .

قال أبو جعفر- و قد كان قبل أن يصيب السهم مفلحا- انهزم الزنج لما خرج عليهم‏ جيش أبي أحمد- و جزعوا جزعا شديدا- و لجئوا إلى النهر المعروف بنهر أبي الخصيب- و لا جسر يومئذ عليه- فغرق منهم خلق كثير- و لم يلبث صاحب الزنج إلا يسيرا- حتى وافاه علي بن أبان في أصحابه- فوافاه و قد استغنى عنه بهزيمة الجيش السلطاني- و تحيز أبو أحمد بالجيش إلى الأبلة- ليجمع ما فرقت الهزيمة منه- و يجدد الاستعداد للحرب- ثم صار إلى نهر أبي الأسد فأقام به- . قال أبو جعفر فحدثني محمد بن الحسن- قال فكان صاحب الزنج لا يدري كيف قتل مفلح- فلما لم ير أحدا ينتحل رميه- ادعى أنه كان الرامي له- قال فسمعته يقول سقط بين يدي سهم من السماء- فأتاني به واح خادمي- فدفعه إلي فرميت به فأصاب مفلحا فقتله- قال محمد و كذب في ذلك- لأني كنت حاضرا معه ذلك المشهد- ما زال عن فرسه حتى أتاه خبر الهزيمة- .

قال أبو جعفر- ثم إن الله تعالى أصاب صاحب الزنج- بمصيبة تعادل فرحه و سروره- بقتل مفلح عقيب قتل مفلح- و ذلك أن قائده الجليل يحيى بن محمد البحراني أسر و قتل- و صورة ذلك أن صاحب الزنج- كان قد كتب إلى يحيى بن محمد- يعلمه ورود هذا الجيش عليه- و يأمره بالقدوم و التحرر في منصرفه- من أن يلقاه أحد منهم- و قد كان يحيى غنم سفنا فيها متاع و أموال- لتجار الأهواز جليلة- و حامى عنها أصحاب أصغجون التركي فلم يغن- و هزمهم يحيى و مضى الزنج بالسفن المذكورة- يمدونها متوجهين نحو معسكر صاحب الزنج- على سمت البطيحة المعروفة ببطيحة الصحناة- و هي طريقة متعسقة وعرة فيها مشاق متعبة- و إنما سلكها يحيى و أصحابه- و تركوا الطريق الواضح- للتحاسد الذي كان بين يحيى بن محمد و علي بن أبان- فإن أصحاب يحيى أشاروا عليه ألا يسلك الطريق- التي يمر فيها على أصحاب علي بن أبان- فأصغى إلى مشورتهم فشرعوا له- الطريق المؤدي إلى البطيحة المذكورة فسلكها-

و هذه البطيحة ينتهي السائر فيها إلى نهر أبي الأسد- و قد كان أبو أحمد انحاز إليه- لأن أهل القرى و السواد كاتبوه- يعرفونه خبر يحيى بن محمد البحراني- و شدة بأسه و كثرة جمعه- و أنه ربما خرج من البطيحة إلى نهر أبي الأسد- فعسكر به و منع أبا أحمد الميرة- و حال بينه و بين من يأتيه من الأعراب و غيرهم- فسبقه أبو أحمد إلى نهر أبي الأسد- و سار يحيى حتى إذا قرب من نهر أبي الأسد- وافته طلائعه فأخبرته بالجيش- و عظمت أمره و خوفته منه- فرجع من الطريق الذي كان سلكه- بمشقة شديدة نالته و نالت أصحابه- و أصابهم مرض لترددهم في تلك البطيحة- و جعل يحيى على مقدمته سليمان بن جامع- و سار حتى وقف على قنطرة فورج نهر العباس- في موضع ضيق تشتد فيه جرية الماء- و هو مشرف ينظر أصحابه الزنج- كيف يجرون تلك السفن التي فيها الغنائم- فمنها ما يغرق و ما يسلم- . قال أبو جعفر فحدثني محمد بن سمعان-

قال كنت في تلك الحال واقفا مع يحيى على القنطرة- و قد أقبل علي متعجبا من شدة جرية الماء- و شدة ما يلقى أصحابه من تلقيه بالسفن- فقال أ رأيت لو هجم علينا عدو في هذه الحال- من كان يكون أسوأ حالا منا- فو الله ما انقضى كلامه- حتى وافى كاشهم التركي في جيش- قد أنفذه معه أبو أحمد عند رجوعه- من الأبلة إلى نهر أبي الأسد يتلقى به يحيى- فوقعت الصيحة و اضطربت الزنج- فنهضت متشوفا للنظر- فإذا الأعلام الحمر قد أقبلت في الجانب الغربي- من نهر العباس و يحيى به- فلما رآها الزنج ألقوا أنفسهم جملة في الماء- فعبروا إلى الجانب الشرقي- و خلا الموضع الذي فيه يحيى- فلم يبق معه إلا بضعة عشر رجلا منهم- فنهض عند ذلك فأخذ درقته و سيفه و احتزم بمنديل ثم تلقى القوم في النفر الذين تخلفوا معه- فرشقهم أصحاب كاشهم التركي بالسهام- حتى كثر فيهم الجراح- و جرح يحيى بأسهم ثلاثة في عضده اليمنى و ساقه اليسرى- فلما رآه أصحابه جريحا- تفرقوا عنه و لم يعرف فيقصد له- فرجع حتى دخل بعض تلك السفن- و عبر به إلى الجانب الشرقي من النهر- و ذلك وقت الضحى و أثقلته الجراحات التي أصابته- فلما رأت الزنج شدة ما نزل به- اشتد جزعهم و ضعفت قلوبهم فتركوا القتال- و كانت همتهم النجاة بأنفسهم- و حاز أصحاب السلطان تلك الغنائم التي كانت في السفن- في الجانب الغربي من النهر- و انفض الزنج بالجانب الشرقي عن يحيى- فجعلوا يتسللون بقية نهارهم- بعد قتل ذريع فيهم و أسر كثير- فلما أمسوا و أسدف الليل- طاروا على وجوههم- فلما رأى يحيى تفرق أصحابه ركب سميرية كانت هناك- و أقعد معه فيها متطببا- يقال له عباد و طمع في الخلاص إلى عسكر صاحب الزنج- فسار حتى قرب من فوهة النهر- فأبصر سميريات و شذايات لأصحاب السلطان في فوهة النهر- فخاف أن تعترض سميريته- و جزع من المرور بها- فعبر به الملاح إلى الجانب الغربي من النهر- فألقاه و طبيبه على الأرض في زرع هناك- فخرج يمشي و هو مثقل- حتى ألقى نفسه في بعض تلك المواضع- فأقام هناك ليلته تلك- فلما أصبح نزفه الدم و نهض عباد الطبيب- فجعل يمشي متشوفا أن يرى إنسانا- فرأى بعض أصحاب السلطان- فأشار لهم إلى موضع يحيى- فجاءوا حتى وقفوا عليه فأخذوه- و انتهى خبره إلى الخبيث صاحب الزنج- فجزع عليه جزعا شديدا و عظم عليه توجعه- .

ثم حمل يحيى إلى أبي أحمد- فحمله أبو أحمد إلى المعتمد- فأدخل إلى سامراء راكب جمل- و الناس مجتمعون ينظرونه- ثم أمر المعتمد ببناء دكة عالية- بحضرة مجرى الحلية فبنيت- و رفع للناس عليها حتى أبصره الخلائق كافة- ثم ضرب بين يدي المعتمد- و قد جلس له مائتي سوط بثمارها- ثم قطعت يداه و رجلاه من خلاف- ثم خبط بالسيوف ثم ذبح و أحرق- . قال أبو جعفر فحدثني محمد بن الحسن- قال لما قتل يحيى البحراني- فانتهى خبره إلى صاحب الزنج- قال لأصحابه لما عظم علي قتله و اشتد اهتمامي به- خوطبت فقيل لي قتله خير لك إنه كان شرها- ثم أقبل على جماعة أنا فيهم- فقال من شرهه أنا غنمنا غنيمة- من بعض ما كنا نغنمه و كان فيها عقدان- فوقعا في يد يحيى- فأخفى عني أعظمهما خطرا- و عرض علي أخسهما- ثم استوهبه فوهبته له- فرفع إلي العقد الذي أخفاه حتى رأيته- فدعوته فقلت أحضر لي العقد الذي أخفيته- فأتاني بالعقد الذي وهبته له- و جحد أن يكون أخذ غيره- فرفع إلي العقد ثانية- فجعلت أصفه له و أنا أراه و هو لا يراه- فبهت و ذهب فأتاني- ثم استوهبنيه فوهبته له و أمرته بالاستغفار- . قال أبو جعفر و ذكر محمد بن الحسن- أن محمد بن سمعان حدثه- أن صاحب الزنج قال في بعض أيامه- لقد عرضت علي النبوة فأبيتها- فقيل له و لم ذاك- قال إن لها أعباء خفت ألا أطيق حملها- .

قال أبو جعفر فأما الأمير أبو أحمد- فإنه لما صار إلى نهر أبي الأسد و أقام به- كثرت العلل في من معه من جنده و غيرهم- و فشا فيهم الموت- فلم يزل مقيما هنالك- حتى أبل من نجا منهم من علته ثم انصرف- راجعا إلى باذاورد فعسكر به- و أمر بتجديد الآلات و إصلاح الشذوات و السميريات- و إعطاء الجند أرزاقهم- و شحن السفن بقواده و مواليه و غلمانه- و نهض نحو عسكر الناجم- و أمر جماعة من قواده بقصد مواضع سماها لهم- من نهر أبي الخصيب و غيره- و أمر الباقين بملازمته و المحاربة معه- في الموضع الذي يكون فيه و هم الأقلون- و عرف الزنج تفرق أصحاب أبي أحمد عنه- فكثروا في جهته و استعرت الحرب بينه و بينهم- و كثرت القتلى و الجراح بين الفريقين- و أحرق أصحاب أبي أحمد قصورا و منازل كان الزنج ابتنوها- و استنقذوا من نساء أهل البصرة جمعا كثيرا- ثم صرف الزنج سورتهم و شدة حملتهم- إلى الموضع الذي به أبو أحمد- فجاءه منهم جمع لا يقاوم- بمثل العدة اليسيرة التي كان فيها- فرأى أن الحزم في محاجزتهم- فأمر أصحابه بالرجوع إلى سفنهم على تؤدة و تمهل- ففعلوا و بقيت طائفة من جنده- و لجوا تلك الأدغال و المضايق- فخرج عليهم كمين للزنج فأوقعوا بهم- فحاموا عن أنفسهم و قتلوا عددا كثيرا- من الزنج إلى أن قتلوا بأجمعهم- و حملت رءوسهم إلى الناجم- فزاد ذلك في قوته و عتوه و عجبه بنفسه- و انصرف أبو أحمد بالجيش إلى باذاورد- و أقام يعبئ أصحابه للرجوع إلى الزنج- فوقعت نار في طرف من أطراف عسكره- و ذلك في أيام عصوف الرياح فاحترق العسكر- و رحل أبو أحمد منصرفا- و ذلك في شعبان من هذه السنة إلى واسط- .

فأقام بها إلى ربيع الأول- ثم انصرف عنها إلى سامراء- و ذلك أن المعتمد كاتبه و استقدمه-لحرب يعقوب بن الليث الصفار أمير خراسان- فاستخلف على حرب الناجم محمد المولد- و أما الناجم فإنه لم يعلم خبر الحريق- الذي وقع في عسكر أبي أحمد- حتى ورد عليه رجلان من أهل عبادان فأخبراه- فأظهر أن ذلك من صنع الله تعالى له- و نصره على أعدائه- و أنه دعا الله على أبي أحمد و جيشه- فنزلت نار من السماء فأحرقتهم- . و عاد إلى العبث و اشتد طغيانه و عتوه- و أنهض علي بن أبان المهلبي و ضم إليه أكثر الجيش- و جعل على مقدمته سليمان بن جامع- و أضاف إليه الجيش الذي كان مع يحيى بن محمد البحراني- و سليمان بن موسى الشعراني- و أمرهم بأن يقصدوا الأهواز- و بها حينئذ أصغجون التركي- و معه نيزك القائد- فالتقى العسكران بصحراء تعرف بدشت ميسان- و اقتتلوا فظهرت الزنج- و قتل نيزك في كثير من أصحابه- و غرق أصغجون التركي- و أسر كثير من قواد السلطان- منهم الحسن بن هرثمة المعروف بالشاري و الحسن بن جعفر- و كتب علي بن أبان بالخبر إلى الناجم- و حمل إليه أعلاما و رءوسا كثيرة و أسرى- و دخل علي بن أبان الأهواز- و أقام بها بزنوجه يعيث و ينهب القرى و السواد- إلى أن ندب المعتمد على الله موسى بن بغا لحربه- فشخص عن سامراء في ذي القعدة من هذه السنة- و شيعه المعتمد بنفسه إلى خلف الحائطين- و خلع عليه هنالك فقدم أمامه عبد الرحمن بن مفلح إلى الأهواز- و إسحاق بن كنداخ إلى البصرة- و إبراهيم بن سيما إلى الباذاورد- .

قال أبو جعفر- فلما ورد عبد الرحمن بن مفلح على الأهواز- أناخ بقنطرة أريق عشرة أيام- ثم مضى إلى علي بن أبان المهلبي فواقعه- فهزمه علي بن أبان- فانصرف فاستعد ثم عاد لمحاربته- فأوقع به وقعة عظيمة- و قتل من الزنج قتلا ذريعا و أسر أسرى كثيرة- و انهزم علي بن أبان و من معه من الزنج- حتى أتوا الموضع المعروف ببيان- فأراد الناجم ردهم فلم يرجعوا- للذعر الذي خالط قلوبهم- فلما رأى ذلك أذن لهم في دخول عسكره- فدخلوا جميعا- فأقاموا معه بالمدينة التي كان بناها- و وافى عبد الرحمن بن مفلح حصن مهدي ليعسكر به- فوجه إليه الناجم علي بن أبان فواقعه فلم يقدر عليه- و مضى علي بن أبان إلى قريب من الباذاورد- و هناك إبراهيم بن سيما فواقعه إبراهيم- فهزم علي بن أبان فعاوده فهزمه إبراهيم- فمضى في الليل و سلك الأدغال و الآجام- حتى وافى نهر يحيى- فانتهى خبره إلى عبد الرحمن بن مفلح- فوجه إليه طاشتمر التركي في جمع من الموالي- فلم يصل إلى علي بن أبان و من معه- لوعورة الموضع الذي كانوا فيه- و امتناعه بالقصب و الحلافي- فأضرمه عليهم نارا- فخرجوا منه هاربين و أسر منهم أسرى- و انصرف إلى عبد الرحمن بن مفلح بالأسرى و الظفر- و مضى علي بن أبان- فأقام بأصحابه في الموضع المسمى بنسوخا- و انتهى الخبر بذلك إلى عبد الرحمن بن مفلح- فصار إلى العمود فأقام به- و صار علي بن أبان إلى نهر السدرة- و كتب إلى الناجم يستمده- و يسأله التوجيه إليه بالشذا- فوجه إليه ثلاث عشرة شذاة- فيها جمع كثير من أصحابه- فسار علي بن أبان و من معه في الشذا- و وافى عبد الرحمن بمن معه- فلم يكن بينهما قتال- و تواقف الجيشان يومهما ذلك- .

فلما كان الليل انتخب علي بن أبان- من أصحابه جماعة يثق بجلدهم و صبرهم- و مضى و معه سليمان بن موسى المعروف بالشعراني- و ترك سائر عسكره مكانه ليخفى أمره- فصار من وراء عبد الرحمن ثم بيته و عسكره- فنال منه و من أصحابه نيلا ما- و انحازعبد الرحمن عنه- و ترك أربع شذوات من شذواته- فغنمها علي بن أبان- و انصرف و مضى عبد الرحمن لوجهه- حتى وافى دولاب- فأقام بها و أعد رجالا من رجاله- و ولى عليهم طاشتمر التركي- و أنفذهم إلى علي بن أبان- فوافوه و هو في الموضع المعروف بباب آزر- فأوقعوا به وقعة انهزم منها إلى نهر السدرة- و كتب طاشتمر إلى عبد الرحمن بانهزامه عنه- فأقبل عبد الرحمن بجيشه حتى وافى العمود- فأقام به و استعد أصحابه للحرب- و هيأ شذواته و ولى عليها طاشتمر- و سار إلى فوهة نهر السدرة- فواقع علي بن أبان وقعة عظيمة- انهزم منها علي بن أبان- و أخذ منه عشر شذوات- و رجع علي بن أبان إلى الناجم مفلولا مهزوما- و سار عبد الرحمن من فوره فعسكر ببيان- فكان عبد الرحمن بن مفلح و إبراهيم بن سيما- يتناوبان المصير إلى عسكر الناجم- فيوقعان به و يخيفان من فيه- و إسحاق بن كنداجيق يومئذ بالبصرة- و قد قطع الميرة عن عسكر الناجم- فكان الناجم يجمع أصحابه في اليوم الذي يخاف فيه- موافاة عبد الرحمن بن مفلح و إبراهيم بن سيما- حتى ينقضي الحرب- ثم يصرف فريقا منهم إلى ناحية البصرة- فيواقع بهم إسحاق بن كنداجيق- فأقاموا على هذه الحال بضعة عشر شهرا- إلى أن صرف موسى بن بغا عن حرب الزنج- .

قال أبو جعفر و سبب ذلك- أن المعتمد رد أمر فارس و الأهواز و البصرة و غيرها- من‏ النواحي و الأقطار إلى أخيه أبي أحمد- بعد فراغه من حرب يعقوب بن الليث الصفار و هزيمته له- فاستخلف أبو أحمد- على حرب صاحب الزنج مسرورا البلخي- و صرف موسى بن بغا عن ذلك- و اتفق أن ابن واصل حارب عبد الرحمن بن مفلح- فأسره و قتله و قتل طاشتمر التركي أيضا- و ذلك بناحية رامهرمز- فاستخلف مسرور البلخي- على الحرب أبا الساج و ولي الأهواز- فكانت بينه و بين علي بن أبان المهلبي- وقعة بناحية دولاب قتل فيها عبد الرحمن صهر أبي الساج- و انحاز أبو الساج إلى عسكر مكرم- و دخل الزنج الأهواز- فقتلوا أهلها و سبوا و أحرقوا دورها- .

قال أبو جعفر- ثم وجه صاحب الزنج جيوشه- بعد هزيمة أبي الساج إلى ناحية البطيحة و الحوانيت و دستميسان- قال و ذلك لأن واسطا خلت- من أكثر الجند في وقعة أبي أحمد- و يعقوب بن الليث- التي كانت عند دير العاقول- فطمع الزنج فيها- فتوجه إليها سليمان بن جامع في عسكر من الزنج- و أردفه الناجم بجيش آخر- مع أحمد بن مهدي في سميريات فيها رماة من أصحابه- أنفذه إلى نهر المرأة- و أنفذ عسكرا آخر فيه سليمان بن موسى- فأمره أن يعسكر بالنهر المعروف باليهودي- فكانت بين هؤلاء و بين من تخلف بهذه الأعمال- من عساكر السلطان حروب شديدة- و كانت سجالا لهم و عليهم- حتى ملكوا البطيحة و الحوانيت- و شارفوا واسطا- و بها يومئذ محمد المولد من قبل السلطان- فكانت بينه و بين سليمان بن جامع حروب كثيرة- يطول شرحها و تعداده- و أمده الناجم بالخليل بن أبان- أخي علي بن أبان المهلبي- في ألف و خمسمائة فارس- و معه أبو عبد الله الزنجي المعروف بالمذوب- أحد قوادهم المشهورين- فقوى سليمان بهم- و أوقع بمحمد المولد فهزمه- و دخل واسطا في ذي الحجة- سنة أربع و ستين و مائتين بزنوجه و قواده- فقتل منها خلقا كثيرا- و نهبها و أحرق دورها و أسواقها- و أخرب كثيرا من منازل أهلها-و ثبت للمحاماة عنها قائد كان بها- من جانب محمد بن المولد- يقال له كنجور البخاري- فحامى يومه ذلك إلى العصر ثم قتل- و كان الذي يقود الخيل يومئذ- في عسكر سليمان بن جامع الخليل بن أبان- و عبد الله المعروف بالمذوب- و كان أحمد بن مهدي الجبائي في السميريات- و كان مهربان الزنجي في الشذوات- و كان سليمان بن موسى الشعراني- و أخوه في ميمنته و ميسرته- و كان سليمان بن جامع- و هو الأمير على الجماعة في قواده السودان و رجالته منهم- و كان الجميع يدا واحدة- فلما قضوا وطرهم من نهب واسط و قتل أهلها- خرجوا بأجمعهم عنها فمضوا إلى جنبلاء- و أقاموا هناك يعيثون و يخربون- . و في أوائل سنة خمس و ستين- دخلوا إلى النعمانية و جرجرايا و جبل- فنهبوا و أخربوا و قتلوا و أحرقوا- و هرب منهم أهل السواد فدخلوا إلى بغداد- .

قال أبو جعفر فأما علي بن أبان المهلبي- فإنه استولى على معظم أعمال الأهواز- و عاث هناك و أخرب و أحرق- و كانت بينه و بين عمال السلطان و قواده- مثل أحمد بن ليثويه- و محمد بن عبد الله الكردي- و تكين البخاري و مطر بن جامع- و أغرتمش التركي و غيرهم- و بينه و بين عمال يعقوب بن الليث الصفار- مثل خضر بن العنبر و غيره حروب عظيمة- و وقعات كثيرة و كانت سجالا- تارة له و تارة عليه- و هو في أكثرها المستظهر عليهم- و كثرت أموال الزنج و الغنائم- التي حووها من البلاد و النواحي- و عظم أمرهم و أهم الناس شأنهم- و عظم على المعتمد و أخيه أبي أحمد خطبهم- و اقتسموا الدنيا- فكان علي بن محمد الناجم صاحب الزنج و إمامهم- مقيما بنهر أبي الخصيب- قد بنى مدينة عظيمة سماها المختارة و حصنها بالخنادق- و اجتمع إليه فيها من الناس- ما لا ينتهي العد و الحصر إليه رغبة و رهبة- و صارت مدينة تضاهي سامراء و بغداد- و تزيد عليهما- و أمراؤه و قواده بالبصرة- و أعمالها يجبون الخراج على عادة السلطان- لما كانت البصرة في يده- و كان علي بن أبان المهلبي و هو أكبر أمرائه و قواده- قد استولى على الأهواز و أعمالها- و دوخ بلادها كرامهرمز و تستر و غيرهما- و دان له الناس و جبا الخراج- و ملك أموالا لا تحصى- .

و كان سليمان بن جامع و سليمان بن موسى الشعراني- و معهما أحمد بن مهدي الجبائي في الأعمال الواسطية- قد ملكوها و بنوا بها المدن الحصينة- و فازوا بأموالها و ارتفاعها و جبوا خراجها- و رتبوا عمالهم و قوادهم فيها- إلى أن دخلت سنة سبع و ستين و مائتين- و قد عظم الخطب و جل- و خيف على ملك بني العباس أن يذهب و ينقرض- فلم يجد أبو أحمد الموفق- و هو طلحة بن المتوكل على الله- بدا من التوجه بنفسه- و مباشرته هذا الأمر الجليل برأيه و تدبيره- و حضوره معارك الحرب- فندب أمامه ابنه أبا العباس- و ركب أبو أحمد إلى بستان الهادي ببغداد- و عرض أصحاب أبي العباس- و ذلك في شهر ربيع الآخر من هذه السنة- فكانوا عشرة آلاف- فرسانا و رجالة في أحسن زي و أجمل هيئة و أكمل عدة- و معهم الشذوات و السميريات و المعابر برسم الرجالة- كل ذلك قد أحكمت صنعته- فركب أبو العباس من بستان الهادي- و ركب أبو أحمد مشيعا له- حتى نزل القرية المعروفة بالفرك- ثم عاد و أقام أبو العباس بالفرك أياما- حتى تكامل عدده و تلاحق به أصحابه- .

ثم رحل إلى المدائن فأقام بها أياما- ثم رحل إلى دير العاقول- فورد عليه كتاب نصير المعروف بأبي حمزة- و هو من جلة أصحابه- و كان صاحب الشذا و السميريات- و قد كان قدمه على مقدمته بدجلة يعلمه فيه- أن سليمان بن جامع قد وافى- لما علم بشخوص أبي العباس و الجبائي يقدمه- في خيلهما و رجالهما و سفنهما- حتى نزلا الجزيرة التي بحضرة بردودا- فوق واسط بأربعة فراسخ- و أن سليمان بن موسى الشعراني قد وافى نهر أبان بعسكره- عسكر البر و عسكر الماء- فرحل أبو العباس لما قرأ هذا الكتاب- حتى وافى جرجرايا ثم منها إلى فم الصلح- ثم ركب الظهر و سار حتى وافى الصلح- و وجه طلائعه ليتعرف الخبر فأتاه منهم من أخبره بموافاة القوم- و أن أولهم قريب من الصلح- و آخرهم ببستان موسى بن بغا أسفل واسط- فلما عرف ذلك عدل عن سنن الطريق- و لقي أصحابه أوائل القوم- فتطاردوا لهم عن وصية أوصاهم أبو العباس بها- حتى طمع الزنج فيهم- و اغتروا و أمعنوا في اتباعهم- و جعلوا يصيحون بهم- اطلبوا أميرا للحرب فإن أميركم مشغول بالصيد- فلما قربوا من أبي العباس بالصلح- خرج إليهم فيمن معه من الخيل و الرجل- و أمر فصيح بأبي حمزة يا نصير- إلى أين تتأخر عن هؤلاء الكلاب ارجع إليهم- فرجع نصير بشذواته و سميرياته و فيها الرجال- و ركب أبو العباس في سميرية- و معه محمد بن شعيب- و حف أصحابه بالزنج من جميع جهاتهم فانهزموا- و منح الله أبا العباس و أصحابه أكتافهم- يقتلونهم و يطردونهم- إلى أن وافوا قرية عبد الله- و هي على ستة فراسخ- من الموضع الذي لقوهم فيه- و أخذوا منهم خمس شذوات و عشر سميريات- و استأمن منهم قوم و أسر منهم أسرى- و غرق من سفنهم كثير- فكان هذا اليوم أول الفتح على أبي العباس- .

قال أبو جعفر فلما انقضى هذا اليوم- أشار على أبي العباس قواده و أولياؤه- أن يجعل معسكره بالموضع الذي كان انتهى إليه- إشفاقا عليه من مقاربة القوم- فأبى إلا نزول واسط بنفسه- و لما انهزم سليمان بن جامع و من معه- و ضرب الله وجوههم- انهزم سليمان بن موسى الشعراني عن نهر أبان- حتى وافى سوق الخميس- و لحق سليمان بن جامع بنهر الأمير- و قد كان القوم حين لقوا أبا العباس- أجالوا الرأي بينهم فقالوا- هذا فتى حدث لم تطل ممارسته الحرب و تدربه بها- و الرأي أن نرميه بحدنا كله- و نجتهد في أول لقية نلقاه في إزالته- فلعل ذلك أن يروعه- فيكون سببا لانصرافه عنا- ففعلوا ذلك و حشدوا و اجتهدوا- فأوقع الله تعالى بهم بأسه و نقمته- و لم يتم لهم ما قدروه- و ركب أبو العباس من غد يوم الوقعة- حتى دخل واسطا في أحسن زي- و كان ذلك يوم جمعة- فأقام حتى صلى بها صلاة الجمعة- و استأمن إليه خلق كثير- من أتباع الزنج و أصحابهم ثم انحدر إلى العمر- و هو على فرسخ واحد من واسط- فاتخذه معسكرا- و قد كان أبو حمزة نصير و غيره أشاروا عليه- أن يجعل معسكره فوق واسط- حذرا عليه من الزنج فامتنع- و قال لست نازلا إلا العمر- و أمر أبا حمزة أن ينزل فوهة بردودا فوق واسط- و أعرض أبو العباس عن مشاورة أصحابه و استماع شي‏ء من آرائهم- و استبد برأي نفسه فنزل العمر- و أخذ في بناء الشذوات و السميريات- و جعل يراوح الزنج القتال و يغاديهم- و قد رتب خاصة غلمانه و مواليه في سميريات- فجعل في كل سميرية أميرا منهم- .

ثم إن سليمان استعد و حشد و فرق أصحابه- فجعلهم في ثلاثة أوجه- فرقة أتت من نهر أبان- و فرقة من بر تمرتا و فرقة من بردودا- فلقيهم أبو العباس فلم يلبثوا أن انهزموا- فلحقت طائفة منهم بسوق الخميس- و طائفة بمازروان و طائفة ببر تمرتا- و سلك آخرون نهر الماذيان- و اعتصم قوم منهم ببردودا- و تبعهم أصحاب أبي العباس- و جعل أبو العباس قصده القوم الذين سلكوا نهر الماذيان- فلم يرجع عنهم حتى وافى بهم برمساور ثم انصرف- فجعل يقف على القرى و المسالك- و يسأل عنها و يتعرفها- و معه الأدلاء و أرباب الخبرة- حتى عرف جميع تلك الأرض و منافذها- و ما ينتهي إليه منالبطائح و الآجام و غيرها- و عاد إلى معسكره بالعمر- فأقام به أياما مريحا نفسه و أصحابه- . ثم أتاه مخبر فأخبره أن الزنج قد اجتمعوا- و استعدوا لكبس عسكره- و أنهم على إتيانه من ثلاثة أوجه- و أنهم قالوا إن أبا العباس غلام يغرر بنفسه- و أجمع رأيهم على تكمين الكمناء- و المصير إليه من الجهات الثلاث- فحذر أبو العباس من ذلك و استعد له- و أقبلوا إليه و قد كمنوا زهاء عشرة آلاف في بر تمرتا- و نحوا من العدة في قس هثا- و تقدم منها عشرون سميرية إلى عسكر أبي العباس- على أن يخرج إليهم فيهربوا بعد مناوشة يسيرة- فيجيزوا أبا العباس و أصحابه إلى أن يجاوزوا الكمناء-

ثم يخرج الكمين عليهم من ورائهم- . فمنع أبو العباس أصحابه من اتباعهم لما واقعوهم- و أظهروا الكسرة و العود- فعلموا أن كيدهم لم ينفذ فيه- و خرج حينئذ سليمان و الجبائي- في الشذا و السميريات العظيمة- و قد كان أبو العباس أحسن تعبئة أصحابه- فأمر أبا حمزة نصيرا- أن يخرج إليهم في الشذا و السميريات المرتبة فخرج إليهم- و نزل أبو العباس في شذاة من شذوات- قد كان سماها الغزال- و اختار لها جدافين- و أخذ معه محمد بن شعيب الاشتيام- و اختار من خاصة أصحابه و غلمانه جماعة- دفع إليهم الرماح- و أمر الخيالة بالمسير بإزائه على شاطئ النهر- و قال لهم لا تدعوا المسير ما أمكنكم- إلى أن تقطعكم الأنهار- و نشبت الحرب بين الفريقين- فكانت معركة القتال من حد قرية الرمل إلى الرصافة- حتى أذن الله في هزيمة الزنج فانهزموا- و حاز أصحاب أبي العباس منهم أربع عشرة شذاة- و أفلت سليمان و الجبائي في ذلك اليوم- بعد أن أشفيا على الهلاك راجلين- و أخذت دوابهما- و مضى جيش الزنج بأجمعه- لا ينثني أحد منهم حتى وافوا طهيثا- و أسلموا ما كان معهم من أثاث و آلة- و رجعأبو العباس فأقام بمعسكره بالعمر- و أصلح ما كان أخذ منهم من الشذا و السفن- و رتب الرجال فيها- و أقام الزنج بعد ذلك عشرين يوما لا يظهر منهم أحد- .

قال أبو جعفر ثم إن الجبائي صار بعد ذلك- يجي‏ء في الطلائع كل ثلاثة أيام و ينصرف- و حفر في طريق عسكر أبي العباس آبارا- و صير فيها سفافيد حديد- و غشاها بالبواري و أخفى مواضعها- و جعلها على سنن مسير الخيل ليتهور فيها المجتازون بها- و جعل بواقي طرف العسكر متعرضا به- لتخرج الخيل طالبة له- فجاء يوما و طلبته الخيل كما كانت تطلبه- فقطر فرس رجل من قواد الفراعنة في بعض تلك الآبار- فوقف أصحاب أبي العباس بما ناله من ذلك- على ما كان دبره الجبائي فحذروا ذلك- و تنكبوا سلوك تلك الطريق- . قال أبو جعفر- و ألح الزنج في مغاداة العسكر في كل يوم بالحرب- و عسكروا بنهر الأمير في جمع كثير- و كتب سليمان إلى الناجم يسأله إمداده بسميريات- لكل واحدة منهن أربعون مجدافا- فوافاه من ذلك في مقدار عشرين يوما أربعون سميرية- فيها الرجال و السيوف و التراس و الرماح- فكانت لأبي العباس معهم وقعات عظيمة- و في أكثرها الظفر لأصحابه و الخذلان على الزنج- و لج أبو العباس في دخول الأنهار و المضايق- حتى انتهى إلى مدينة سليمان بن موسى الشعراني- بنهر الخميس التي بناها و سماها المنيعة- و خاطر أبو العباس بنفسه مرارا- و سلم بعد أن شارف العطب- و استأمن إليه جماعة من قواد الزنج فأمنهم- و خلع عليهم و ضمهم إلى عسكره- و قتل من قواد الزنج جماعة- و تمادت الأيام بينه و بينهم- و اتصل بأبي أحمد الموفق- أن سليمان بن موسى الشعراني و الجبائي- و من بالأعمال الواسطية من قواد صاحب الزنج- كاتبوا صاحبهم و سألوه إمدادهم بعلي بن أبان المهلبي- و هو المقيم حينئذ بأعمال الأهواز و المستولي عليها- و كان علي بن أبان قائد القواد و أمير الأمراء فيهم- فكتب الناجم إلى علي بن أبان- يأمره بالمصير بجميع من معه إلى ناحية سليمان بن جامع- ليجتمعا على حرب أبي العباس- .

فصح عزم أبي أحمد على الشخوص- إلى واسط و حضور الحرب بنفسه- فخرج عن بغداد في صفر من هذه السنة- و عسكر بالفرك و أقام بها أياما- حتى تلاحق به عسكره- و من أراد المسير معه- و قد أعد آلة الماء- و رحل من الفرك إلى المدائن- ثم إلى دير العاقول ثم إلى جرجرايا- ثم قنى ثم جبل ثم نزل الصلح- ثم نزل على فرسخ من واسط- . و تلقاه ابنه أبو العباس- في جريدة خيل فيها وجوه قواده- فسأله أبوه عن خبرهم فوصف له بلاءهم و نصحهم- فخلع أبو أحمد على أبي العباس- ثم على القواد الذين كانوا معه- و انصرف أبو العباس إلى معسكره بالعمر فبات به- فلما كان صبيحة الغد رجل أبو أحمد منحدرا في الماء- و تلقاه ابنه أبو العباس في آلات الماء- بجميع العسكر في هيئة الحرب- على الوضع الذي كانوا يحاربون الزنج عليه- فاستحسن أبو أحمد هيئتهم و سر بذلك- و سار أبو أحمد حتى نزل- بإزاء القرية المعروفة بقرية عبد الله و وضع العطاء- فأعطى الجيش كله أرزاقهم- و قدم ابنه أبا العباس أمامه في السفن- و سار وراءه- فتلقاه‏ أبو العباس برءوس- و أسرى من أصحاب الشعراني- و كان لقيهم فأمر أبو أحمد بالأسرى فضربت أعناقهم- و رحل يريد المدينة التي بناها الشعراني- بسوق الخميس و سماها المنيعة- .

و إنما بدأ أبو أحمد بحرب الشعراني- قبل حرب سليمان بن جامع- لأن الشعراني كان وراءه- فخاف إن بدأ بابن جامع- أن يأتيه الشعراني من ورائه- فيشغله عمن هو أمامه- فلما قرب من المدينة- خرج إليه الزنج- فحاربوه حربا ضعيفة و انهزموا- فعلا أصحاب أبي العباس السور- و وضعوا السيف فيمن لقيهم- و تفرق الزنج و دخل أبو العباس المدينة- فقتلوا و أسروا- و حووا ما كان فيها- و أفلت الشعراني هاربا و معه خواصه- فأتبعهم أصحاب أبي العباس- حتى وافوا بهم البطائح- فغرق منهم خلق كثير- و لجأ الباقون إلى الآجام- و انصرف الناس- و قد استنقذ من المسلمات اللواتي كن بأيدي الزنج- في هذه المدينة خاصة خمسة آلاف امرأة- سوى من ظفر به من الزنجيات- .

فأمر أبو أحمد بحمل النساء- اللواتي سباهن الزنج إلى واسط- و أن يدفعن إلى أوليائهن- و بات أبو أحمد بحيال المدينة ثم باكرها- و أذن للناس في نهب ما فيها من أمتعة الزنج- فدخلت و نهب كل ما كان بها- و أمر بهدم سورها- و طم خندقها و إحراق ما كان بقي منها- و ظفر في تلك القرى التي كانت في يد الشعراني- بما لا يحصى من الأرز و الحنطة و الشعير- و قد كان الشعراني استولى على ذلك كله و قتل أصحابه- فأمر أبو أحمد ببيعه- و صرف ثمنه في أعطيات مواليه و غلمانه و جنده- .

و أما الشعراني فإنه التحق هو و أخوه بالمذار- و كتب إلى الناجم يعرفه ذلك و أنه معتصم بالمذار- . قال أبو جعفر فحدثني محمد بن الحسن بن سهل- قال حدثني محمد بن هشام الكرنبائي المعروف بأبي واثلة- قال كنت بين يدي الناجم ذلك اليوم- و هو يتحدث- إذ ورد عليه كتاب سليمان بخبر الواقعة و ما نزل به- و انهزامه إلى المذار- فما كان إلا أن فض الكتاب- و وقعت عينه على ذكر الهزيمة- حتى انحل وكاء بطنه فنهض لحاجته ثم عاد- .

فلما استوى به مجلسه- أخذ الكتاب و تأمله- فوقعت عينه على الموضع الذي أنهضه أولا- فنهض لحاجته حتى فعل ذلك مرارا- فلم أشك في عظم المصيبة و كرهت أن أسأله- فلما طال الأمر تجاسرت- فقلت أ ليس هذا كتاب سليمان بن موسى- قال بلى ورد بقاصمة الظهر- ذكر أن الذين أناخوا عليه- أوقعوا به وقعة لم تبق منه و لم تذر- فكتب كتابه هذا و هو بالمذار- و لم يسلم بشي‏ء غير نفسه- قال فأكبرت ذلك- و الله يعلم ما أخفي من السرور الذي وصل إلى قلبي- قال و صبر علي بن محمد على مكروه ما وصل إليه- و جعل يظهر الجلد- و كتب إلى سليمان بن جامع يحذره- مثل الذي نزل بالشعراني- و يأمره بالتيقظ في أمره و حفظ ما قبله- .

قال أبو جعفر- ثم لم يكن لأبي أحمد بعد ذلك هم- إلا في طلب سليمان بن جامع فأتته طلائعه- فأخبرته أنه بالحوانيت- فقدم أمامه ابنه أبا العباس في عشرة آلاف- فانتهى إلى الحوانيت- فلم يجد سليمان بن جامع بها- و ألفى هناك من قواد السودان- المشتهرين بالبأس و النجدة القائدين- المعروف أحدهما بشبل و الآخر بأبي الندى- و هما من قدماء أصحاب الناجم- الذين كان قودهم في بدء مخرجه- و كان سليمان قد خلف هذين القائدين بالحوانيت- لحفظ غلات كثيرة كانوا قد أخذوها- فحاربهما أبو العباس- فقتل من رجالهما و جرح بالسهام خلقا كثيرا- و كانوا أجلد رجال سليمان بن جامع و نخبتهم الذين يعتمد عليهم- و دامت الحرب بين أبي العباس- و بينهم ذلك اليوم إلى أن حجز الليل بين الفريقين- و رمى أبو العباس في ذلك اليوم كركيا طائرا- فوقع بين الزنج و السهم فيه- فقالوا هذا سهم أبي العباس- و أصابهم منه ذعر- و استأمن في هذا اليوم بعضهم إلى أبي العباس- فسأله عن الموضع الذي فيه سليمان بن جامع- فأخبره أنه مقيم بمدينته التي بناها بطهيثا- فانصرف أبو العباس حينئذ- إلى أبيه بحقيقة مقام سليمان- و أن معه هنالك جميع أصحابه إلا شبلا و أبا الندى- فإنهما بالحوانيت لحفظ الغلات التي حووها- فأمر حينئذ أبو أحمد أصحابه بالتوجه إلى طهيثا- و وضع العطاء فأعطى عسكره- و شخص مصاعدا إلى بردودا ليخرج منها إلى طهيثا- إذ كان لا سبيل له إليها إلا بذلك- فظن عسكره أنه هارب- و كادوا ينفضون لو لا أنهم عرفوا حقيقة الحال-

فانتهى إلى القرية بالحوذية- و عقد جسرا على النهر المعروف بمهروذ- و عبر عليه الخيل- و سار إلى أن صار بينه و بين مدينة سليمان- التي سماها المنصورة بطهيثا ميلان- فأقام هناك بعسكره- و مطرت السماء مطرا جودا- و اشتد البرد أيام مقامه هنالك- فشغل بالمطر و البرد عن الحرب فلم يحارب- فلما فتر ركب في نفر من قواده- و مواليه لارتياد موضع لمجال الخيل- فانتهى إلى قريب من سور تلك المدينة- فتلقاه منهم خلق كثير- و خرج عليه كمناء من مواضع شتى- و نشبت الحرب و اشتدت- فترجل جماعة من الفرسان- و دافعوا حتى خرجوا عن المضايق التي كانوا أوغلوها- و أسر من غلمان أبي أحمد غلام- يقال له وصيف العلمدار و عدة من قواد زيرك- و قتل في هذا اليوم أحمد بن مهدي الجبائي- أحد القواد العظماء من الزنج- رماه أبو العباس بسهم- فأصاب أحد منخريه حتى خالط دماغه- فخر صريعا و حمل من المعركة و هو حي-

فسأل أن يحمل إلى الناجم- فحمل من هناك إلى نهر أبي الخصيب- إلى مدينة الناجم التي سماها المختارة- فوضع بين يديه و هو على ما به- فعظمت المصيبة عليه به- إذ كان من أعظم أصحابه غناء- و أشدهم تصبرا لإطاعته- فمكث الجبائي يعالج هنالك أياما ثم هلك- فاشتد جزع الناجم عليه و صار إليه- فولي غسله و تكفينه و الصلاة عليه- و الوقوف على قبره إلى أن دفن- ثم أقبل على أصحابه فوعظهم- و ذكر موت الجبائي- و كانت وفاته في ليلة ذات رعود و بروق- . فقال فيما ذكر عنه- لقد سمعت وقت قبض روحه- زجل الملائكة بالدعاء له و الترحم عليه- و انصرف من دفنه منكسرا عليه الكآبة- .

قال أبو جعفر- فلما انصرف أبو أحمد ذلك اليوم من الوقعة- غاداهم بكرة الغد- و عبأ أصحابه كتائب فرسانا و رجالة- و أمر بالشذا و السميريات- أن يسار بها معه في النهر الذي يشق مدينة طهيثا- و هو النهر المعروف بنهر المنذر و سار نحو الزنج- حتى انتهى إلى سور المدينة قريب قواد غلمانه في المواضع- التي يخاف خروج الزنج عليه منها- و قدم الرجالة أمام الفرسان- و نزل فصلى أربع ركعات- و ابتهل إلى الله تعالى في النصر و الدعاء للمسلمين- ثم دعا بسلاحه فلبسه- و أمر ابنه أبا العباس أن يتقدم إلى السور- و يحض الغلمان على الحرب ففعل- و قد كان سليمان بن جامع أعد أمام سور المدينة- التي سماها المنصورة خندقا- فلما انتهى الغلمان إليه تهيبوا عبوره- و أحجموا عنه فحرضهم قوادهم- و ترجلوا معهم فاقتحموه متجاسرين عليه-

فعبروه و انتهوا إلى الزنج- و هم مشرفون من سور مدينتهم- فوضعوا السلاح فيهم- و عبرت شرذمة من الفرسان الخندق خوضا- فلما رأى الزنج خبر هؤلاء الذين لقوهم و جرأتهم عليهم- ولوا منهزمين و اتبعهم أصحاب أبي أحمد- و دخلوا المدينة من جوانبها- و كان الزنج قد حصنوها بخمسة خنادق- و جعلوا أمام كل خندق منها سورا يمتنعون به- فجعلوا يقفون عند كل سور و خندق انتهوا إليه- و أصحاب أبي أحمد يكشفونهم في كل موقف وقفوه- و دخلت الشذا و السميريات مدينتهم- مشحونة بالغلمان المقاتلة- من النهر الذي يشقها بعد انهزامهم- فأغرقت كل ما مرت به لهم من شذاة أو سميرية- و اتبعوا من تجافى النهر منهم- يقتلون و يأشرون- حتى أجلوهم عن المدينة و عما يتصل بها- و كان ذلك زهاء فرسخ- فحوى أبو أحمد ذلك كله-

و أفلت سليمان بن جامع في نفر من أصحابه- و استحر القتل فيهم و الأسر- و استنقذ من نساء أهل واسط و صبيانهم و ما اتصل بذلك- من القرى و نواحي الكوفة زهاء عشرة آلاف- فأمر أبو أحمد بحياطتهم و الإنفاق عليهم- و حملوا إلى واسط فدفعوا إلى أهليهم- و احتوى أبو أحمد على كل ما كان في تلك المدينة- من الذخائر و الأموال و الأطعمة و المواشي- فكان شيئا جليل القدر- فأمر ببيع الغلات و غيرها من العروض- و صرفه في أعطيات عسكره و مواليه- و أسر من نساء سليمان و أولاده عدة- و استنقذ يومئذ وصيف العلمدار- و من كان أسره الزنج معه فأخرجوا من الحبس- قد كان الزنج أعجلهم الأمر عن قتله و قتلهم-

و أقام أبو أحمد بطهيثا سبعة عشر يوما- و أمر بهدم سور المدينة و طم خنادقها- ففعل ذلك و أمر بتتبع من لجأ منهم إلى الآجام- و جعل لكل من أتاه برجل منهم جعلا- فسارع الناس إلى طلبهم- فكان إذا أتي بالواحد منهم خلع عليه و أحسن إليه- و ضمه إلى قواد غلمانه لما دبر من استمالتهم- و صرفهم عن طاعة صاحبهم- و ندب نصيرا صاحب الماء في شذا و سميريات- لطلب سليمان بن جامع و الهاربين معه من الزنج و غيرهم- و أمره بالجد في اتباعهم حتى يجاوز البطائح- و حتى يلح دجلة المعروفة بالعوراء- و تقدم إليه في فتح السكور التي كان سليمان أحدثها- ليقطع بها الشذا عن دجلة- فيما بينه و بين النهر المعروف بأبي الخصيب- و تقدم إلى زيرك في المقام بطهيثا في جمع كثير من العسكر- ليتراجع إليها الذين كان سليمان أجلاهم عنها من أهلها- فلما أحكم ما أراد إحكامه- تراجع بعسكره مزمعا على التوجه إلى الأهواز ليصلحها- و قد كان قدم أمامه ابنه أبا العباس- و قد تقدم ذكر علي بن أبان المهلبي- و كونه استولى على معظم كور الأهواز- و دوخ جيوش السلطان هناك- و أوقع بهم و غلب على معظم تلك النواحي و الأعمال- .

فلما تراجع أبو أحمد وافى بردودا فأقام بها أياما- و أمر بإعداد ما يحتاج إليه للمسير على الظهر إلى الأهواز- و قدم أمامه من يصلح الطرق و المنازل- و يعد فيها الميرة للجيوش التي معه- و وافاه قبل أن يرحل عن واسط زيرك منصرفا عن طهيثا- بعد أن تراجع إلى النواحي التي كان بها الزنج أهلها- و خلفهم آمنين- فأمره أبو أحمد بالاستعداد و الانحدار- في الشذا و السميريات في نخبة عسكره و أنجادهم- فيصير بهم إلى دجلة العوراء فتجتمع يده و يد نصير صاحب الماء على نقض دجلة- و اتباع المنهزمين من الزنج و الإيقاع- بكل من لقوا من أصحاب سليمان إلى أن ينتهي بهم المسير- إلى مدينة الناجم بنهر أبي الخصيب- فإن رأوا موضع حرب حاربوه في مدينة- و كتبوا بما يكون منهم إلى أبي أحمد- ليرد عليهم من أمره ما يعملون بحسبه- .

و استخلف أبو أحمد على من خلفه- من عسكره بواسط ابنه هارون- و أزمع على الشخوص في خف من رجاله و أصحابه- ففعل ذلك بعد أن تقدم إلى ابنه هارون- في أن يحذر الجيش الذي خلفه معه- في السفن إلى مستقره بدجلة- إذا وافاه كتابه بذلك- و ارتحل شاخصا من واسط الأهواز و كورها- فنزل باذبين إلى الطيب- إلى قرقوب إلى وادي السوس- و قد كان عقد له عليه جسر- فأقام به من أول النهار إلى وقت الظهر- حتى عبر عسكره أجمع- ثم سار حتى وافى السوس فنزلها- و قد كان أمر مسرورا البلخي و هو عامله على الأهواز بالقدوم- عليه فوافاهم في جيشه و قواده- من غد اليوم الذي نزل فيه السوس-فخلع عليه و عليهم و أقام بالسوس ثلاثا- و كان ممن أسر من الزنج بطهيثا- أحمد بن موسى بن سعيد البصري المعروف بالقلوص- و كان قائدا جليلا عندهم- و أحد عدد الناجم و من قدماء أصحابه- أسر بعد أن أثخن جراحات كانت فيها منيته- فأمر أبو أحمد باحتزاز رأسه و نصبه على جسر واسط- .

قال أبو جعفر- و اتصل بالناجم خبر هذه الوقعة بطهيثا- و علم ما نيل من أصحابه- فانتقض عليه تدبيره و ضلت حيلته- فحمله الهلع إلى أن كتب إلى علي بن أبان المهلبي- و هو يومئذ مقيم بالأهواز في زهاء ثلاثين ألفا- يأمره بترك كل ما كان قبله من الميرة و الأثاث- و الإقبال إليه بجميع جيوشه- فوصل الكتاب إلى المهلبي- و قد أتاه الخبر بإقدام أبي أحمد إلى الأهواز و كورها- فهو لذلك طائر العقل- فقرأ الكتاب و هو يحفزه فيه حفزا بالمصير إليه- فترك جميع ما كان قبله- و استخلف عليه محمد بن يحيى بن سعيد الكرنبائي- فلما شخص المهلبي عنه لم يثبت و لم يقم- لما عنده من الوجل و ترادف الأخبار بوصول أبي أحمد إليه- فأخلى ما استخلف عليه و تبع المهلبي- و بالأهواز يومئذ و نواحيها- من أصناف الحبوب و التمر و المواشي شي‏ء عظيم- فخرجوا عن ذلك كله-

و كتب الناجم أيضا إلى بهبوذ بن عبد الوهاب القائد- و إليه يومئذ الأعمال التي بين الأهواز و فارس- يأمره بالقدوم عليه بعسكره- فترك بهبوذ ما كان قبله من الطعام و التمر و المواشي- فكان ذلك شيئا عظيما- فحوى جمع ذلك أبو أحمد- فكان قوة له على الناجم و ضعفا للناجم- . و لما رحل المهلبي عن الأهواز- بث أصحابه في القرى- التي بينه و بين مدينة الناجم- فانتهبوها و أجلوا عنها أهلها و كانوا في سلمهم- و تخلف خلق كثير ممن كان مع المهلبي- من الفرسان و الرجالة عن اللحاق به- و أقاموا بنواحي الأهواز- و كتبوا يسألون أبا أحمد الأمان- لما انتهى عنه إليهم من عفوه- عمن ظفر به من أصحاب الناجم- و كان الذي دعا الناجم إلى أمر المهلبي و بهبوذ بسرعة المصير إليه- خوفه موافاة أبي أحمد بجيوشه إليه- على الحالة التي كان الزنج عليها من الوجل و شدة الرعب- مع انقطاع المهلبي و بهبوذ فيمن كان معهما عنه- و لم يكن الأمر كما قدر- فإن أبا أحمد إنما كان قاصدا إلى الأهواز- فلو أقام المهلبي بالأهواز و بهبوذ بمكانه في جيوشهما- لكان أقرب إلى دفاع جيش أبي أحمد عن الأهواز- و أحفظ للأموال و الغلات التي تركت- بعد أن كانت اليد قابضة عليها- .

قال أبو جعفر- و أقام أبو أحمد حتى أحرز الأموال- التي كان المهلبي و بهبوذ و خلفاؤهما تركوها- و فتحت السكور التي كان الناجم أحدثها في دجلة- و أصلحت له طرقه و مسالكه- و رحل أبو أحمد عن السوس- إلى جنديسابور فأقام بها ثلاثا- و قد كانت الأعلاف ضاقت على أهل العسكر- فوجه في طلبها و حملها- و رحل عن جنديسابور إلى تستر- فأقام بها لجباية الأموال من كور الأهواز- و أنفذ إلى كل كورة قائدا- ليروج بذلك حمل المال- و وجه أحمد بن أبي الأصبغ- إلى محمد بن عبد الله الكردي- صاحب رامهرمز و ما يليها من القلاع و الأعمال- و قد كان مالأ المهلبي- و حمل إلى الناجم أموالا كثيرة- و أمره بإيناسه و إعلامه ما عليه رأيه في العفو عنه و التغمد لزلته- و أن يتقدم إليه في حمل الأموال و المسير إلى سوق الأهواز- بجميع من معه من الموالي و الغلمان و الجند- ليعرضهم و يأمر بإعطائهم الأرزاق- و ينهضهم معه لحرب الناجم- ففعل و أحضرهم و عرضوا رجلا رجلا- و أعطوا ثم رحل إلى عسكر مكرم- فجعله منزله أياما-

ثم رحل منه فوافى الأهواز- و هو يرى أنه قد تقدمه إليها من الميرة ما يحمل عساكره- فلم يكن كذلك و غلظ الأمر في ذلك اليوم- و اضطرب الناس اضطرابا شديدا- فأقام ثلاثة أيام ينتظر ورود الميرة فلم ترد- فساءت أحوال الناس- و كاد ذلك يفرق جماعتهم- فبحث عن السبب المؤخر لورودها-فوجد الزنج قد كانوا قطعوا قنطرة قديمة أعجمية- كانت بين سوق الأهواز و رامهرمز- يقال لها قنطرة أربق فامتنع التجار- و من كان يحمل الميرة من الورود- لقطع تلك القنطرة فركب أبو أحمد إليها- و هي على فرسخين من سوق الأهواز- فجمع من كان في العسكر من السودان- و أخذهم بنقل الصخر و الحجارة لإصلاح هذه القنطرة- و بذل لهم من أموال الرعية- فلم يرم حتى أصلحت في يومه ذلك- و ردت إلى ما كانت عليه- فسلكها الناس و وافت القوافل بالميرة- فحيي أهل العسكر و حسنت أحوالهم- و أمر بجمع السفن لعقد الجسر على دجيل الأهواز- فجمعت من جميع الكور-

و أقام بالأهواز أياما حتى أصلح أصحابه أمورهم- و ما احتاجوا إليه من آلاتهم- و حسنت أحوال دوابهم- و ذهب عنها ما كان بها من الضر بتأخر الأعلاف- و وافت كتب القوم الذين تخلفوا عن المهلبي- و أقاموا بعده بسوق الأهواز- يسألون أبا أحمد الأمان فأمنهم- فأتاه منهم نحو ألف رجل فأحسن إليهم- و ضمهم إلى قواد غلمانه- و أجرى لهم الأرزاق- و عقد الجسر على دجيل الأهواز- و رحل بعد أن قدم جيوشه أمامه- و عبر دجيلا فأقام بالموضع المعروف بقصر المأمون ثلاثا- و قد كان قدم ابنه أبا العباس إلى نهر المبارك- من فرات البصرة و كتب إلى ابنه هارون- بالانحدار إليه ليجتمع العساكر هناك- و رحل أبو أحمد عن قصر المأمون إلى قورج العباس- و وافاه أحمد بن أبي الأصبغ هنالك- بهدايا محمد بن عبد الله الكردي صاحب رامهرمز- من دواب و مال- ثم رحل عن القورج فنزل الجعفرية- و لم يكن بها ماء- و قد كان أنفذ إليها و هو بعد في القورج من حفر آبارها- فأقام بها يوما و ليلة و ألفى بها ميرا مجموعة- فاتسع الجند بها و تزودوا منها- ثم رحل إلى المنزل المعروف بالبشير- فألفى فيه غديرا من ماء المطر- فأقام به يوما و ليلة- و رحل إلى المبارك- و كان منزلا بعيد المسافة-فتلقاه ابناه أبو العباس و هارون في طريقه- و سلما عليه و سارا بسيره- حتى ورد بهم المبارك- و ذلك يوم السبت للنصف- من رجب سنة سبع و ستين- .

قال أبو جعفر فأما نصير و لزيرك- فقد كانا اجتمعا بدجلة العوراء- و انحدرا حتى وافيا الأبلة بسفنهما و شذاهما- فاستأمن إليهما رجل من أصحاب الناجم- فأعلمهما أنه قد أنفذ عددا كثيرا- من السميريات و الزواريق مشحونة بالزنج- يرأسهم قائد من قواده- يقال له محمد بن إبراهيم و يكنى أبا عيسى- .

قال أبو جعفر و محمد بن إبراهيم هذا- رجل من أهل البصرة- جاء به إلى الناجم صاحب شرطته المعروف بيسار- و استصلحه لكتابته فكان يكتب له حتى مات- و قد كانت ارتفعت حال أحمد بن مهدي الجبائي عند الناجم- و ولاة أكثر أعماله- فضم محمد بن إبراهيم هذا إليه فكان كاتبه- فلما قتل الجبائي في وقعة سليمان الشعرائي- طمع محمد بن إبراهيم هذا في مرتبته- و أن يحله الناجم محله- فنبذ القلم و الدواة و لبس آلة الحرب- و تجرد للقتال- فأنهضه الناجم في هذا الجيش- و أمره بالاعتراض في دجلة- لمدافعة من يردها من الجيوش- فكان يدخله أحيانا- و أحيانا يأتي بالجمع الذي معه- إلى النهر المعروف بنهر يزيد- و كان معه في ذلك الجيش- من قواد الزنج شبل بن سالم و عمرو المعروف بغلام بوذي- و أخلاط من السودان و غيرهم- فاستأمن رجل منهم-

كان في ذلك الجيش إلى لزيرك و نصير- و أخبرهما خبره- و أعلمهما أنه على القصد لسواد عسكر نصير- و كان نصير يومئذ معسكرا بنهر المرأة- و إنهم على أن يسلكوا الأنهار المعترضة- على نهر معقل و بثق شيرين حتى يوافوا الشرطة- و يخرجوا من وراء العسكر- فيكبوا على من فيه- فرجع نصير عند وصول هذا الخبر إليه من الأبلة- مبارزا إلى عسكره- و سار لزيرك قاصدا بثق شيرين- معارضا لمحمد بن إبراهيم- فلقيه في الطريق- فوهب الله له العلو عليه- بعد صبر من الزنج له و مجاهدة شديدة- فانهزموا و لجئوا إلى النهر الذي فيه كمينهم- و هو نهر يزيد فدل لزيرك عليهم- فتوغلت إليهم سميرياته- فقتل منهم طائفة و أسر طائفة- فكان محمد بن إبراهيم فيمن أسر- و عمرو غلام بوذي- و أخذ ما كان معهم من السميريات- و هي نحو ثلاثين سميرية- و أفلت شبل بن سالم في الذين نجوا معه- فلحق بعسكر الناجم- و خرج لزيرك في بثق شيرين سالما ظافرا- و معه الأسارى و رءوس القتلى- مع ما حوى من السميريات و السفن- و انصرف من دجلة العوراء إلى واسط- و كتب إلى أبي أحمد بالفتح- و عظم الجزع على كل من كان بدجلة- و كورها من اتباع الناجم- فاستأمن إلى نصير صاحب الماء- و هو مقيم حينئذ بنهر المرأة- زهاء ألفي رجل من الزنج و أتباعهم- .

فكتب إلى أبي أحمد بخبرهم- فأمره بقبولهم و إقرارهم على الأمان- و إجراء الأرزاق عليهم- و خلطهم بأصحابه و مناهضة العدو بهم- ثم كتب إلى نصير يأمره- بالإقبال إليه إلى نهر المبارك فوافاه هنالك- . و قد كان أبو العباس عند منصرفه إلى نهر المبارك- انحدر إلى عسكر الناجم في الشذا- فأوقع بهم في مدينته بنهر أبي الخصيب- فكانت الحرب بينهما- من أول النهار إلى آخر وقت الظهر- .

و استأمن إليه قائد جليل من قواد الناجم من المضمومين- كانوا إلى سليمان بن جامع يقال له منتاب- و معه جماعة من أصحابه- فكان ذلك مما كسر من الناجم- و انصرف أبو العباس بالظفر- و خلع على منتاب الزنجي و وصله و حمله- فلما لقي أباه أخبره خبره- و ذكرإليه خروجه إليه في الأمان- فأمر أبو أحمد له بخلع و صلة و حملان- و كان منتاب أول من استأمن من جملة قواد الناجم- . قال أبو جعفر- و لما نزل أبو أحمد نهر المبارك- كان أول ما عمل به في أمر الناجم- أن كتب إليه كتابا يدعوه فيه- إلى التوبة و الإنابة إلى الله تعالى- مما ارتكب من سفك الدماء و انتهاك المحارم- و إخراب البلدان و الأمصار- و استحلال الفروج و الأموال- و انتحال ما لم يجعله الله له أهلا من النبوة و الإمامة- و يعلمه أن التوبة له مبسوطة و الأمان له موجود- فإن نزع عما هو عليه- من الأمور التي يسخطها الله تعالى-

و دخل في جماعة المسلمين- محا ذلك ما سلف من عظيم جرائمه- و كان له به الحظ الجزيل في دنياه و آخرته- و أنفذ ذلك إليه مع رسول- فالتمس الرسول إيصاله إليه- فامتنع الزنج من قبول الكتاب- و من إيصاله إلى صاحبهم- فألقى الرسول الكتاب إليهم إلقاء- فأخذوه و أتوا به صاحبهم- فقرأه و لم يجب عنه بشي‏ء- و رجع الرسول إلى أبي أحمد فأخبره- فأقام خمسة أيام متشاغلا بعرض السفن- و ترتيب القواد و الموالي و الغلمان فيها- و تخير الرماة و انتخابهم للمسير بها- . ثم سار في اليوم السادس في أصحابه- و معه ابنه أبو العباس إلى مدينة الناجم- التي سماها المختارة- من نهر أبي الخصيب فأشرف عليها- و تأملها فرأى منعتها- و حصانتها بالسور و الخنادق المحيطة بها- و غور الطريق المؤدي إليها- و ما قد أعد من المجانيق‏ و العرادات و القسي الناوكية- و سائر الآلات على سورها- فرأى ما لم ير مثله ممن تقدم من منازعي السلطان- و رأى من كثرة عدد مقاتلتهم و اجتماعهم ما استغلظ أمره- .

و لما عاين الزنج أبا أحمد و أصحابه- ارتفعت أصواتهم بما ارتجت له الأرض- فأمر أبو أحمد عند ذلك ابنه أبا العباس- بالتقدم إلى سور المدينة- و رشق من عليه بالسهام ففعل و دنا- حتى ألصق شذواته بمسناة قصر الناجم- و انحاز الزنج بأسرهم إلى المواضع الذي دنت منه الشذا- و تحاشدوا و تتابعت سهامهم و حجارة منجنيقاتهم- و عراداتهم و مقاليعهم- و رمى عوامهم بالحجارة عن أيديهم- حتى ما يقع طرف ناظر- على موضع إلا رأى فيه سهما أو حجرا- . و ثبت أبو العباس فرأى الناجم و أشياعه- من جهدهم و اجتهادهم و صبرهم- ما لا عهد لهم بمثله من أحد ممن حاربهم- و حينئذ أمر أبو أحمد ابنه أبا العباس- بالرجوع بمن معه إلى مواقفهم ليروحوا عن أنفسهم- و يداووا جروحهم ففعلوا ذلك- و استأمن في هذه الحال إلى أبي أحمد مقاتلان- من مقاتلة السميريات من الزنج- فأتياه بسميرياتهما و ما فيها من الملاحين و الآلات-

فأمر لها بخلع ديباج و مناطق محلاة بالذهب- و وصلهما بمال- و أمر للملاحين بخلع من الحرير الأحمر- و الأخضر الذي حسن موقعه منهم- و عمهم جميعا بصلاته- و أمر بإدنائهم من الموضع الذي يراهم فيه نظراؤهم- فكان ذلك من أنجع المكايد التي كيد بها صاحب الزنج- فلما رأى الباقون ما صار إليه أصحابهم- من العفو عنهم و الإحسان إليهم رغبوا في الأمان- و تنافسوا فيه- فابتدر منهم جمع كثير مسرعين نحوه- راغبين فيما شرع لهم منه- فأمر أبو أحمد لهم بمثل ما أمر به لأصحابه- فلما رأى الناجم ركون أصحاب السميريات إلى الأمان- و رغبتهم فيه- أمر برد من كان منهم في دجلة إلى نهر أبي الخصيب- و وكل بفوهة النهر من يمنعهم الخروج-

و أمر بإظهار شذاوته الخاصة- و ندب لهم بهبوذ بن عبد الوهاب- و هو من أشد كماته بأسا- و أكثرهم عددا و عدة- فانتدب بهبود لذلك- و خرج في جمع كثيف من الزنج- فكانت بينه و بين أبي حمزة نصير صاحب الماء- و بين أبي العباس بن أبي أحمد وقعات شديدة- في كلها يظهر عليه أصحاب السلطان- ثم يعود فيرتاش و يحتشد- فيخرج فيواقعهم حتى صدقوه الحرب- و هزموه و ألجئوه إلى فناء قصر الناجم- و أصابته طعنتان و جرح بالسهام- و أوهنت أعضاءه الحجارة- و أولجوه نهر أبي الخصيب و قد أشفى على الموت- و قتل قائد جليل معه من قواد الزنج ذو بأس و نجدة- و تقدم في الحرب يقال له عميرة- . و استأمن إلى أبي أحمد جماعة أخرى- فوصلهم و حباهم و خلع عليهم- و ركب أبو أحمد في جميع جيشه- و هو يومئذ في خمسين ألف رجل- و الناجم في ثلاثمائة ألف رجل كلهم يقاتل و يدافع- فمن ضارب بسيف و طاعن برمح- و رام بقوس و قاذف بمقلاع- و رام بعرادة و منجنيق- و أضعفهم أمر الرماة بالحجارة عن أيديهم- و هم النظارة المكثرون للسواد- و المعينون بالنعير و الصياح- و النساء يشركنهم في ذلك أيضا-

فأقام أبو أحمد بإزاء عسكر الناجم إلى أن أضحى- و أمر فنودي الأمان مبسوط للناس- أسودهم و أحمرهم- إلا لعدو الله الداعي علي بن محمد- و أمر بسهام فعلقت فيها رقاع مكتوب فيها من الأمان- مثل الذي نودي به- و وعد الناس فيها الإحسان و رمى بها إلى عسكر الناجم- فمالت إليه قلوب خلق كثير من أولئك- ممن لم يكن له بصيرة في اتباع الناجم- فأتاه في ذلك اليوم جمع كثير- يحملهم الشذا و السميريات – فوصلهم و حباهم و قدم عليه قائدان من قواده- و كلاهما من مواليه ببغداد- أحدهما بكتمر و الآخر بغرا في جمعمن أصحابهما- فكان ورودهما زيادة في قوته- ثم رحل في غد هذا اليوم بجميع جيشه- فنزل متاخما لمدينة الناجم- في موضع كان تخيره للنزول- فأوطن هذا الموضع و جعله معسكرا له و أقام به- و رتب قواده و رؤساء أصحابه مراتبهم- فجعل نصيرا صاحب الماء في أول العسكر- و جعل زيرك التركي في موضع آخر- و علي بن جهشار حاجبه في موضع آخر- و راشدا مولاه في مواليه و غلمانه الأتراك- و الخزر و الروم و الديالمة و الطبرية- و المغاربة و الزنج و الفراعنة و العجم و الأكراد- محيطا هو و أصحابه- بمضارب أبي أحمد و فساطيطه و سرادقاته- و جعل صاعد بن مخلد وزيره و كاتبه- في جيش آخر من الموالي و الغلمان- فوق عسكر راشد- و أنزل مسرورا البلخي القائد صاحب الأهواز- في جيش آخر على جانب من جوانب عسكره-

و أنزل الفضل و محمدا ابني موسى بن بغا- في جانب آخر بجيش آخر- و تلاهما القائد المعروف بموسى- و لجوا في جيشه و أصحابه- و جعل بغراج التركي على ساقته- في جيش كثيف بعدة عظيمة و عدد جم- و رأى أبو أحمد من حال الناجم- و حصانة موضعه و كثرة جمعه ما علم معه- أنه لا بد له من الصبر عليه- و طول الأيام في محاصرته- و تفريق جموعه و بذل الأمان لهم- و الإحسان إلى من أناب منهم- و الغلظة على من أقام على غيه منهم- و احتاج إلى الاستكثار من الشذا- و ما يحارب به في الماء- و شرع في بناء مدينة مماثلة لمدينة الناجم- و أمر بإنفاذ الرسل- في حمل الآلات و الصناع من البر و البحر- و إنفاذ المير و الأزواد و الأقوات- و إيرادها إلى عسكره بالمدينة التي شرع فيها و سماها الموفقية- و كتب إلى عماله بالنواحي في حمل الأموال- إلى بيت ماله في هذه المدينة- و ألا يحمل إلى بيت المال بالحضرة درهم واحد- و أنفذ رسلا إلى سيراف و جنابة- في بناء الشذاو الاستكثار منها لحاجته إلى أن يبثها- و يفرقها في المواضع التي يقطع بها الميرة عن الناجم و أصحابه- و أمر بالكتاب إلى عماله في إنفاذ كل من يصلح- للإثبات و العرض في الدواوين من الجند و المقاتلة-

و أقام ينتظر ذلك شهرا أو نحوه- فوردت المير متتابعة يتلو بعضها بعضا- و وردت الآلات و الصناع و بنيت المدينة- و جهز التجار صنوف التجارات في الأمتعة- و حملوها إليها و اتخذت بها الأسواق- و كثر بها التجار و المجهزون من كل بلد- و وردت إليها مراكب من البحر- و قد كانت انقطعت لقطع الناجم و أصحابه سبلها- قبل ذلك بأكثر من عشر سنين- و بنى أبو أحمد في هذه المدينة المسجد الجامع- و صلى بالناس فيه و اتخذ دور الضرب- فضرب بها الدنانير و الدراهم- فجمعت هذه المدينة جميع المرافق- و سيق إليها صنوف المنافع- حتى كان ساكنوها لا يفقدون فيها شيئا- مما يوجد في الأمصار العظيمة القديمة- و حملت الأموال و أدر العطاء على الناس في أوقاته- فاتسعوا و حسنت أحوالهم- و رغب الناس جميعا في المصير إلى هذه و المقام بها- .

قال أبو جعفر و أمر الناجم بهبوذ بن عبد الوهاب- فعبر و الناس غارون في سميريات- إلى طرف عسكر أبي حمزة صاحب الماء- فأوقع به و قتل جماعة من أصحابه- و أسر جماعة و أحرق أكواخا كانت لهم- و أرسل إبراهيم بن جعفر الهمداني- و هو من جملة قواد الناجم في أربعة آلاف زنجي- و محمد بن أبان المكنى أبا الحسين- أخا علي بن أبان المهلبي في ثلاثة آلاف- و القائد المعروف بالدور في ألف و خمسمائة- ليغيروا على أطراف عسكر أبي أحمد و يوقعوا بهم- فنذر بهم أبو العباس- فنهد إليهم في جمع كثيف من أصحابه- و كانت بينه و بينهم حروب كان الاستظهار فيها كلها له- و استأمن إليه جماعة منهم فخلع عليهم- و أمر أن يوقفوا بإزاء مدينة الناجم ليعاينهم أصحابه- و أقام أبو أحمد يكايد الناجم- و يبذل الأموال لأصحابه تارة- و يواقعهم و يحاربهم تارة- و يقطع الميرة عنهم- فسرى بهبوذ الزنجي في الأجلاد المنتخبين- من رجاله ليلة من الليالي- و قد تأدى إليه خبر قيروان ورد للتجار- فيه صنوف التجارات و الأمتعة و المير- فكمن في النخل فلما ورد القيروان- خرج إلى أهله و هم غارون- فقتل منهم و أسر- و أخذ ما شاء أن يأخذ من الأموال- .

و قد كان أبو أحمد علم بورود ذلك القيروان- و أنفذ قائدا من قواده لبذرقته في جمع خفيف- فلم يكن لذلك القائد ببهبوذ طاقة فانصرف عنه منهزما- . فلما انتهى إلى أبي أحمد ذلك- غلظ عليه ما نال الناس في أموالهم و تجاراتهم- فأمر بتعويضهم و أخلف عليهم مثل الذي ذهب منهم- و رتب على فوهة النهر المعروف بنهر بيان- و هو الذي دخل القيروان فيه جيشا قويا لحراسته- .

قال أبو جعفر- ثم أنفذ الناجم جيشا عليه القائد المعروف بصندل الزنجي- و كان صندل هذا فيما ذكر- يكشف وجوه الحرائر المسلمات و رءوسهن- و يقلبهن تقليب الإماء- فإن امتنعت منهن امرأة لطم وجهها- و دفعها إلى بعض علوج الزنج يواقعها- ثم يخرجها بعد ذلك إلى سوق الرقيق- فيبيعها بأوكس الثمن- فيسر الله تعالى قتله في وقعة جرت بينه و بين أبي العباس- أسر و أحضر بين يدي أبي أحمد- فشده كتافا و رماه بالسهام حتى هلك- .

قال أبو جعفر ثم ندب الناجم جيشا آخر- و أمره أن يغير على طرف من أطراف عسكر أبي أحمد- و هم غارون- فاستأمن من ذلك الجيش زنجي مذكور- يقال له مهذب-كان من فرسان الزنج و شجعانهم- فأتي به إلى أبي أحمد وقت إفطاره- فأعلمه أنه جاء راغبا في الطاعة و الأمان- و أن الزنج على العبور في ساعتهم تلك- إلى عسكره للبيات- و أن المندوبين لذلك أنجادهم و أبطالهم- فأمر أبو أحمد أبا العباس ابنه- أن ينهض إليهم في قواد عينهم له فنهضوا- فلما أحس ذلك الجيش بأنهم قد نذروا بهم- و عرفوا استئمان صاحبهم رجعوا إلى مدينتهم- .

قال أبو جعفر- ثم إن الناجم ندب أجل قواده و أكبرهم قدرا عنده- و هو علي بن أبان المهلبي- و انتخب له أهل البأس و الجلد- و أمره أن يبيت عسكر أبي أحمد- فعبر في زهاء خمسة آلاف رجل أكثرهم الزنج- و فيهم نحو مائتي قائد من مذكوريهم و عظمائهم- فعبر ليلا إلى شرقي دجلة- و عزموا على أن يفترقوا قسمين- أحدهما خلف عسكر أبي أحمد و الثاني أمامه- و يغير الذين أمامه على أصحاب أبي أحمد- فإذا ثاروا إليهم و استعرت الحرب- أكب أولئك الذين من وراء العسكر على من يليهم- و هم مشاغيل بحرب من بإزائهم- و قدر الناجم و علي بن أبان- أن يتهيأ لهما من ذلك ما أحبا- فاستأمن منهم إلى أبي أحمد غلام- كان معهم من الملاحين ليلا- فأخبره خبرهم و ما اجتمعت عليه آراؤهم- فأمر ابنه أبا العباس و الغلمان و القواد- بالحذر و الاحتياط و الجد و فرقهم في الجهتين المذكورتين-

فلما رأى الزنج أن تدبيرهم قد انتقض- و أنه قد فطن لهم و نذر بهم- كروا راجعين في الطريق الذي أقبلوا فيه طالبين التخلص- فسبقهم أبو العباس و لزيرك إلى فوهة النهر ليمنعوهم من عبوره- و أرسل أبو أحمد غلامه الأسود الزنجي- الذي يقال له ثابت- و كان له قيادة على السودان الذين بعسكر الموفق- فأمره أن يعترضهم- و يقف لهم في طريقهم‏ بأصحابه- فأدركهم و هو في خمسمائة رجل- فواقعهم و شد عضده أبو العباس و لزيرك بمن معهما- فقتل من الزنج أصحاب الناجم خلق كثير- و أسر منهم كثير و أفلت الباقون فلحقوا بمدينتهم- و انصرف أبو العباس بالفتح- و قد علق رءوس الزنج- في الشذا و صلب الأسارى أحياء فيها- فاعترضوا بهم مدينتهم ليرهبوا أصحابهم-

فلما رأوهم رعبوا و انكسروا- و اتصل بأبي أحمد أن الناجم موه على أصحابه- و أوهم أن الرءوس المرفوعة مثل مثلها لهم أبو أحمد ليراعوا- و أن الأسارى من المستأمنة- فأمر أبو أحمد عند ذلك بجميع الرءوس- و المسير بها إلى إزاء قصر الناجم- و القذف بها في منجنيق منصوب في سفينة إلى عسكره ففعل ذلك- فلما سقطت الرءوس في مدينتهم- عرف أولياء القتلى رءوس أصحابهم- فظهر بكاؤهم و صراخهم- .

قال أبو جعفر و كانت لهم وقعات كثيرة بعد هذه- في أكثرها ينهزم الزنج و يظفر بهم- و طلب وجوههم الأمان- فكان ممن استأمن محمد بن الحارث القائد- و إليه كان حفظ النهر المعروف بمنكى- و السور الذي يلي عسكر أبي أحمد- كان خروجه ليلا مع عدة من أصحابه- فوصله أبو أحمد بصلات كثيرة- و خلع عليه و حمله على عدة دواب بحليتها و آلاتها- و أسنى له الرزق- . و كان محمد هذا حاول إخراج زوجته معه- و هي إحدى بنات عمه- فعجزت المرأة عن اللحاق به- فأخذها الزنج فردوها إلى الناجم فحبسها مدة- ثم أمر بإخراجها و النداء عليها في السوق فبيعت- . و ممن استأمن القائد المعروف بأحمد البرذعي- كان من أشجع رجالهم و كان يكون أبدا مع المهلبي- .و كان ممن استأمن مربدا القائد- و برنكوبة و بيلويه- فخلعت عليهم الخلع و وصلوا بالصلات الكثيرة- و حملوا على الخيول المحلاة- و أحسن إلى كل من جاء معهم من أصحابهم- .

قال أبو جعفر فضاقت المير على الناجم و أصحابه- فندب شبلا القائد و أبا الندى- و هما من رؤساء قواده و قدماء أصحابه- الذين يعتمد عليهم و يثق بمناصحتهم- و أمرهما بالخروج في عشرة آلاف من الزنج و غيرهم- و القصد إلى نهر الدير و نهر المرأة و نهر أبي الأسد- و الخروج من هذه الأنهار إلى البطيحة- و الغارة على المسلمين و أهل القرى و قطع الطرقات- و أخذ جميع ما يقدرون عليه- من الطعام و الميرة و حمله إلى مدينته- و قطعه عن الوصول إلى عسكر أبي أحمد- فندب أبو أحمد لقصدهم مولاه لزيرك في جيش كثيف- بعضه في الماء و بعضه على الظهر- فواقعهم في الموضع المعروف بنهر عمر- فكانت بينه و بينهم حرب شديدة- أسفرت عن انكسارهم و خذلان الله لهم- فأخذ منهم أربعمائة سفينة و أسرى كثيرين- و أقبل بها و بهم و بالرءوس إلى عسكر أبي أحمد- .

قال أبو جعفر و ندب أبو أحمد ابنه أبا العباس- لقصد مدينة الناجم و العلو عليها- فقصدها من النهر المعروف بالغربي- و قد أعد الناجم به علي بن أبان المهلبي- فاستعرت الحرب بين الفريقين- فأمد الناجم عليا بسليمان بن جامع- في جمع كثير من قواد الزنج و اتصلت الحرب- و استأمن كثير من قواد الزنج إلى أبي العباس- و امتدت الحرب إلى بعد العصر- ثم انصرف أبو العباس- فاجتاز في منصرفه بمدينة الناجم-

و قد انتهى إلى الموضع المعروف‏ بنهر الأتراك- فرأى في ذلك النهر قلة من الزنج الذين يحرسونه- فطمع فيهم فقصد نحوهم- و صعد جماعة من أصحابه سور المدينة- و عليه فريق من الزنج- فقتلوا من أصابوا هناك و نذر الناجم بهم- فأنجدهم بقواد من قواده- فأرسل أبو العباس إلى أبيه يستمده- فوافى من عسكر أبي أحمد من خف من الغلمان- فقوى بهم عسكر أبي العباس- . و قد كان سليمان بن جامع- لما رأى أن أبا العباس قد أوغل في نهر الأتراك- صعد في جمع كثير من الزنج- ثم استدبر أصحاب أبي العباس- و هم متشاغلون بحرب من بإزائهم على سور المدينة- فخرج عليهم من ورائهم و خفقت طبولهم- فانكشف أصحاب أبي العباس- و حملت الزنج عليهم من أمامهم- فأصيب في هذه الوقعة جماعة من غلمان أبي أحمد و قواده-

و صار في أيدي الزنج عدة أعلام و مطارد- و حامى أبو العباس عن نفسه حتى انصرف سالما- فأطمعت هذه الوقعة الزنج و أتباعهم- و شدت قلوبهم فأجمع أبو أحمد على العبور بجيشه أجمع- و أمر بالاستعداد و التأهب- فلما تهيأ له ذلك عبر في آخر ذي الحجة- من سنة سبع و ستين- في أكثف جمع و أكمل عدة- و فرق قواده على أقطار مدينة الناجم- و قصد هو بنفسه ركنا من أركانها- و قد كان الناجم حصنه بابنه الذي يقال له أنكلاني- و كنفه بعلي بن أبان و سليمان بن جامع- و إبراهيم بن جعفر الهمداني- و حفه بالمجانيق و العرادات و القسي الناوكية- و أعد فيه الناشبة جمع فيه أكثر جيشه- فلما التقى الجمعان أمر أبو أحمد غلمانه الناشبة- و الرامحة و السودان بالدنو من هذا الركن- و بينه و بينهم النهر المعروف بنهر الأتراك-

و هو نهر عريض غزير الماء- فلما انتهوا إليه أحجموا عنه فصيح بهم- و حرضوا على العبور فعبروه سباحة- و الزنج ترميهم بالمجانيق- و العرادات و المقاليع و الحجارة عن الأيدي- و السهام عن قسي اليد و قسي الرجل- و صنوف الآلات التي يرمى عنها- فصبروا على جميع ذلك- حتى جاوزوا النهر و انتهوا إلى السور- و لم يكن لحقهم من الفعلة من كان أعده لهدمه- فتولى الغلمان تشعيث السور بما كان معهم من السلاح- و يسر الله تعالى ذلك- و سهلوا لأنفسهم السبيل إلى علوه- و حضرهم بعض السلاليم التي كانت اتخذت لذلك- فعلوا الركن و نصبوا عليه علما- عليه مكتوب- الموفق بالله و أكبت عليهم الزنج- فحاربوا أشد حرب- و قتل من قواد أبي أحمد القائد المعروف بثابت الأسود- رمي بسهم في بطنه فمات- و كان من جلة القواد- و أحرق أصحاب الموفق ما على ذلك الركن- من المنجنيقات و العرادات- .

و قصد أبو العباس بأصحابه جهة أخرى من جهات المدينة- ليدخلها من النهر المعروف بمنكى- فعارضه علي بن أبان في جمع من الزنج- فظهر أبو العباس عليه و هزمه- و قتل قوما من أصحابه- و أفلت علي بن أبان المهلبي راجعا- و انتهى أبو العباس إلى نهر منكى- و هو يرى أن المدخل من ذلك الموضع سهل- فوصل إلى الخندق فوجده عريضا منيعا- فحمل أصحابه أن يعبروه فعبروه- و عبرته الرجالة سباحة- و وافوا السور فثلموا منه ثلمة و اتسع لهم دخولها فدخلوا- فلقي أولهم سليمان بن جامع- و قد أقبل للمدافعة عن تلك الناحية- فحاربوه و كشفوه و انتهوا إلى النهر المعروف بابن سمعان- و هو نهر سيق بالمدينة- و صارت الدار المعروفة بدار ابن سمعان في أيديهم- فأحرقوا ما كان فيها و هدموها- .

فوقفت الزنج على نهر ابن سمعان وقوفا طويلا- و دافعوا مدافعة شديدة- و شد بعض موالي الموفق على علي بن أبان- فأدبر عنه هاربا فقبض على مئزره- فحل على المئزر و نبذه إلى الغلام- و نجا بعد أن أشرف على الهلكة- و حمل أصحاب أبي أحمد على الزنج- فكشفوهم‏ عن نهر ابن سمعان- حتى وافوا بهم طرف المدينة- و ركب الناجم بنفسه في جمع من خواصه- فتلقاه أصحاب الموفق فعرفوه و حملوا عليه- و كشفوا من كان معه حتى أفرد- و قرب منه بعض الرجالة حتى ضرب وجه فرسه بترسه- و كان ذلك وقت غروب الشمس- و حجز الليل بينهم و بينه و أظلم- و هبت ريح شمال عاصف و قوي الجزر- فلصق أكثر سفن الموفق بالطين- و حرض الناجم أصحابه- فثاب منهم جمع كثير- فشدوا على سفن الموفق- فنالوا منها نيلا و قتلوا نفرا- و صمد بهبوذ الزنجي لمسرور البلخي بنهر الغربي- فأوقع به و قتل جماعة من أصحابه و أسر أسرى- و صار في يده دواب من دوابهم-

فكسر ذلك من نشاط أصحاب الموفق- و قد كان هرب في هذا اليوم كثير- من قواد صاحب الزنج- و تفرقوا على وجوههم نحو نهر الأمير و عبادان و غيرهما- و كان ممن هرب ذلك اليوم منهم- أخو سليمان بن موسى الشعراني و محمد و عيسى- فمضيا يؤمان البادية- حتى انتهى إليهما رجوع أصحاب الموفق- و ما نيل منهم فرجعا- و هرب جماعة من العرب الذين كانوا في عسكر الناجم- و صاروا إلى البصرة- و بعثوا يطلبون الأمان من أبي أحمد- فأمنهم و وجه إليهم السفن و حملهم إلى الموفقية- و خلع عليهم و أجرى لهم الأرزاق و الأنزال- .

و كان ممن رغب في الأمان من قواد الناجم القائد- المعروف بريحان بن صالح المغربي- و كانت له رئاسة و قيادة- و كان يتولى حجبة أنكلاني بن الناجم- فكتب ريحان يطلب الأمان لنفسه و لجماعة من أصحابه- فأجيب إلى ذلك- و أنفذ إليه عدد كثير- من الشذا و السميريات و المعابر مع لزيرك القائد- صاحب مقدمة أبي العباس- فسلك نهر اليهودي إلى آخره- فألفى به ريحان القائد و من كان معه من أصحابه- و قد كان الموعد تقدم منه في موافاة ذلك الموضع- فسار لزيرك به و بهم إلى دار الموفق- فأمر لريحان بخلع جليلة-و حمل على عدة أفراس بآلتها و حليتها- و أجيز بجائزة سنية- و خلع على أصحابه و أجيزوا على أقدارهم و مراتبهم- و ضم ريحان إلى أبي العباس- و أمر بحمله و حمل أصحابه- و المصير بهم إلى إزاء دار الناجم- فوقفوا هنالك في الشذا- عليهم الخلع الملونة بصنوف الألوان و الذهب- حتى عاينوهم مشاهدة- فاستأمن في هذا اليوم من أصحاب ريحان- الذين كانوا تخلفوا عنه و من غيرهم جماعة- فألحقوا في البر و الإحسان بأصحابهم- .

ثم استأمن جعفر بن إبراهيم المعروف بالسجان- في أول يوم من سنة ثمان و ستين و مائتين- و كان أحد ثقات الناجم- ففعل به من الخلع و الإحسان ما فعل بريحان- و حمل في سميرية حتى وقف بإزاء قصر الناجم- حتى يراه أصحابه- و كلمهم و أخبرهم أنهم في غرور من صاحبهم- و أعلمهم ما وقف عليه من كذبه و فجوره- فاستأمن في هذا اليوم خلق كثير- من قواد الزنج و غيرهم- و تتابع الناس في طلب الأمان- و أقام أبو أحمد يجم أصحابه- و يداوي جراحهم- و لا يحارب و لا يعبر إلى الزنج إلى شهر ربيع الآخر- .

ثم عبر جيشه في هذا الشهر المذكور- مرتبا على ما استصلحه من تفريقه في جهات مختلفة- و أمرهم بهدم سور المدينة- و تقدم إليهم أن يقتصروا على الهدم- و لا يدخلوا المدينة- و وكل بكل ناحية من النواحي- التي وجه إليها قواده سفنا فيها الرماة- و أمرهم أن يحموا بالسهام من يهدم السور من الفعلة- فثلمت في هذا اليوم من السور ثلم كثيرة- و اقتحم أصحاب أبي أحمد المدينة من جميع تلك الثلم- و هزموا من كان عليها من الزنج- و أوغلوا في طلبهم- و اختلف بهم طرق المدينة- و تفرقت بهم السكك و الفجاج-و انتهوا إلى أبعد من المواضع- التي كانوا وصلوا إليها في المرة التي قبلها- فتراجعت إليهم الزنج- و خرج عليهم كمناؤهم من نواح يهتدون إليها- و لا يعرفها جيش أبي أحمد- فتحير جيش أبي أحمد- فقتل منهم خلق كثير- و أصاب الزنج منهم أسلحة و أسلابا- و أقام ثلاثون ديلميا من أصحاب أبي أحمد- يدافعون عن الناس و يحمونهم- حتى خلص إلى السفن من خلص- و قتلت الديالمة عن آخرها- و عظم على الناس ما أصابهم في هذا اليوم- و انصرف أبو أحمد إلى مدينته الموفقية فجمع قواده- و عذلهم على ما كان منهم من مخالفة أمره- و الإفساد عليه في رأيه و تدبيره- و توعدهم بأغلظ العقوبة إن عادوا لمثل ذلك- و أمر بإحصاء المقتولين من أصحابه فأتي بأسمائهم- فأقر ما كان جاريا لهم على أولادهم و أهاليهم- فحسن موقع ذلك و زاد في صحة نيات أصحابه- لما رأوا من خياطته خلف من أصيب في طاعته- .

قال أبو جعفر و شرع أبو أحمد في قطع الميرة- عن مدينة الناجم من جميع الجهات- و قد كان يجلب إليهم من السمك- الشي‏ء العظيم من مواضع كثيرة- فمنع ذلك عنهم و قتل القوم الذين كانوا يجلبونه- و أخذت عليهم الطرق- و انسد عليهم كل مسلك كان لهم- و أضر بهم الحصار- و أضعف أبدانهم و طالت المدة- فكان الأسير منهم يؤسر و المستأمن يستأمن- فيسأل عن عهده بالخبز- فيقول مذ سنة أو سنتين- و احتاج من كان منهم مقيما في مدينة الناجم إلى الحيلة لقوته- فتفرقوا في الأنهار النائية عن عسكرهم طلبا للقوت- و كثرت الأسارى منهم في عسكر أبي أحمد- لأنه كان يلتقطهم بأصحابه يوما فيوما- فأمر باعتراضهم لما رأى كثرتهم- فمن كان منهم ذا قوة و جلد و نهوض بالسلاح من عليه- و أحسن إليه و خلطه بغلمانه السودان- و عرفهم ما لهم عنده من البر و الإحسان- و من كان منهم ضعيفا لا حراك به- أو شيخا فانيا لا يطيق حمل السلاح- أو مجروحا جراحة قد أزمنته- أمر بأن يكسى ثوبين و يوصل بدارهم- و يزود و يحمل إلى عسكرالناجم- فيلقى هناك بعد أن يوصى بوصف- ما عاين من إحسان أبي أحمد إلى كل من يصير إليه- و أن ذلك رأيه في جميع من يأتيه مستأمنا أو يأسره- فتهيأ له بذلك ما أراد من استمالة الزنج- حتى استشعروا الميل إلى ناحيته- و الدخول في سلمه و طاعته- .

قال أبو جعفر- ثم كانت الوقعة التي قتل فيها بهبوذ الزنجي القائد- و جرح أبو العباس- و ذلك أن بهبوذ كان أكثر أصحاب الناجم غارات- و أشدهم تعرضا لقطع السبل و أخذ الأموال- و كان قد جمع من ذلك لنفسه مالا جليلا- و كان كثير الخروج في السميريات الخفاف- فيخترق بها الأنهار المؤدية إلى دجلة- فإذا صادف سفينة لأصحاب أبي أحمد- أخذها و استولى على أهلها- و أدخلها النهر الذي خرج منه- فإن تبعه تابع حتى توغل في طلبه- خرج عليه من ذلك النهر قوم من أصحابه- قد أعدهم لذلك فأقطعوه و أوقعوا به- فوقع التحرز حينئذ منه و الاستعداد لغاراته- فركب شذاة و شبهها بشذوات أبي أحمد- و نصب عليها علما مثل أعلامه- و سار بها و معه كثير من الزنج- فأوقع بكثير من أصحاب أبي أحمد و قتل و أسر- فندب له أبو أحمد ابنه أبا العباس في جمع كثيف- فكانت بينهما وقعة شديدة- و رمي فيها أبو العباس بسهم فأصابه- و أصابت بهبوذ طعنة في بطنه- من يد غلام من بعض سميريات أبي العباس- فهوى إلى الماء فابتدره أصحابه- فحملوه و رجعوا به إلى عسكر الناجم- فلم يصلوا به إلا و هو ميت- فعظمت الفجيعة به على الناجم و أوليائه- و اشتد عليه جزعهم و خفي موته على أبي أحمد- حتى استأمن إليه رجل من الملاحين- فأخبره بذلك فسر- و أمر بإحضار الغلام الذي طعنه- فوصله و كساه و طوقه و زاد في رزقه- و أمر لجميع من كان في تلك السميرية بصلات و خلع- و عولج أبو العباس من جرحه مدة حتى برأ- و أقام أبو أحمد في مدينته الموفقية- ممسكا عن حرب الزنج- محاصرا لهم بسد الأنهار و سكرها- و اعترض من يخرج منهم لجلب الميرة- و منتظرا برء ولده حتى كمل بعد شهور كثيرة- و انقضت سنة ثمان و ستين- .

و نقل إسحاق بن كنداجيق عن البصرة و أعمالها- فولي الموصل و الجزيرة و ديار ربيعة و ديار مضر- . و دخلت سنة تسع و ستين- و أبو أحمد مقيم على الحصار- فلما أمن على أبي العباس و ركب على عادته- عاود النهوض إلى حرب الناجم- . قال أبو جعفر- و قد كان بهبوذ لما هلك طمع الناجم- في أمواله لكثرتها و وفورها- و صح عنده أنه ترك مائتي ألف دينار عينا- و من الجواهر و غيرها بمثل ذلك- فطلب المال المذكور بكل حيلة- و حبس أولياء بهبوذ و قرابته و أصحابه- و ضربهم بالسياط و أثار دورا من دوره- و هدم أبنية من أبنيته- طمعا في أن يجد في شي‏ء منها دفينا- فلم يجد من ذلك شيئا- فكان فعله هذا أحد ما أفسد قلوب أصحابه عليه- و دعاهم إلى الهرب منه و الزهد في صحبته- فاستأمن منهم إلى أبي أحمد خلق كثير- فوصلهم و خلع عليهم- و رأى أن يعبر دجلة من الجانب الشرقي إلى الجانب الغربي- فيجعل لنفسه هناك معسكرا- و يبني به مدينة أخرى و يضيق خناق الناجم- و يتمكن من مغاداته و مراوحته بالحرب- فقد كانت الريح العاصف تحول بينه- و بين عبور دجلة في كثير من الأيام بالجيش- فأمر بقطع النخل المقارب لمدينة الناجم لذلك- و إصلاح موضع يتخذه معسكرا- و أن يحف بالخنادق و يحصر بالسور ليأمن بيات الزنج- و جعل على قواده نوانب لذلك- و معهم الفعلة و الرجال فقابل الناجم ذلك- بأن جعل علي بن أبان المهلبي و سليمان بن جامع- و إبراهيم بن جعفر الهمداني نوبا للحرب- و المدافعة عن ذلك- و كان أنكلاني بن الناجم ربما حضر في نوبة أيضا- و ضم إليه سليمان بن موسى بن الشعراني-

و قد كان صار إليه من المذار بعد الوقعة التي انهزم فيها- و علم الناجم أن أبا أحمد إذا جاوره صعب أمره- و قرب على من يريد اللحاق به- من الزنج المسافة مع ما يدخل قلوب أصحابه- بمجاورته من الرعب و الرهبة- و في ذلك انتقاض تدبيره- و فساد جميع أموره- فكانت الحرب بين قواد أبي أحمد- و قواد الناجم متصلة- على إصلاح هذا الموضع و مدافعة الزنج عنه- . و اتفق أن عصفت الرياح يوما- و جماعة من قواد أبي أحمد- بالجانب الغربي للعمل الذي يريدونه- فانتهز الناجم الفرصة في امتناع العبور بدجلة- لعصف الريح فرماهم بجميع جيشه و كاثرهم برجله- فلم تجد الشذوات التي مع قواد أبي أحمد سبيلا- إلى الوقوف بحيث كانت واقفة به- لحمل الرياح إياها على الحجارة- و خوف أصحابها عليها من التكسر- و لم يجدوا سبيلا إلى العبور في دجلة- لشدة الريح و اضطراب الأمواج- فأوقعت الزنج بهم فقتلوهم عن آخرهم- و أفلت منهم نفر فعبروا إلى الموفقية- فاشتد جزع أبي أحمد و أصحابه لما نالهم- .

و لما تهيأ للزنج عليهم- و عظم بذلك اهتمامهم- و تعقب أبو أحمد الرأي- فرأى أن نزوله و مقامه بالجانب الغربي- مجاور مدينة الناجم خطأ- و أنه لا يؤمن منه حيلة و انتهاز فرصة- فيوقع بالعسكر بياتا- أو يجد مساغا إلى ما يكون له قوة- لكثرة الأدغال في ذلك الموضع و صعوبة المسالك- و أن الزنج على التوغل في تلك المواضع الوعرة الموحشة أقدر- و هو عليهم أسهل من أصحابه- فانصرف عن رأيه في نزول الجانب الغربي- و صرف همه و قصده‏إلى هدم سور مدينة الناجم- و توسعة الطريق و المسالك لأصحابه في دخولها- فندب القواد لذلك- و ندب الناجم قواده للمدافعة عنها- و طال الأمد و تمادت الأيام- .

فلما رأى أبو أحمد تحاشد الزنج و تعاونهم- على المنع من هدم السور- أزمع على مباشرة ذلك بنفسه و حضوره إياه- ليستدعي بذلك جد أصحابه و اجتهادهم- و يزيد في عنايتهم و هممهم- فحضر بنفسه و اتصلت الحرب- و غلظت على الفريقين- و كثر القتل و الجراح في الحزبين- و أقام أبو أحمد أياما كثيرة- يغاديهم الحرب و يراوحهم- فكانوا لا يفترون يوما من الأيام- و صعب على أصحاب أبي أحمد ما كانوا يرومونه- و اشتدت حماية الزنج عن مدينتهم- و باشر الناجم الحرب بنفسه- و معه نخبة أصحابه و أبطالهم- و المؤمنون أنفسهم على الصبر معه- فحاموا جهدهم حتى لقد كانوا يقفون الموقف- فيصيب أحدا منهم السهم أو الطعنة أو الضربة فيسقط- فيجذبه الذي إلى جانبه فينحيه- و يقف موقفه إشفاقا من أن يخلو موقف رجل منهم- فيدخل الخلل عليهم- .

و اتفق في بعض الأيام شدة ضباب- ستر بعض الناس عن بعض- فما يكاد الرجل يبصر صاحبه- و ظهر أصحاب أبي أحمد- و لاحت تباشير الفتح- و دخل الجند إلى المدينة و ولجوها- و ملكوا مواضع منها و إنهم لعلى ذلك- حتى وصل سهم من سهام الزنج إلى أبي أحمد- رماه به رومي كان مع الناجم- يقال له قرطاس فأصابه في صدره و ذلك لخمس بقين- من جمادى الأولى سنة تسع و ستين و مائتين- فستر أبو أحمد و خواصه ما ناله من ذلك عن الناس- و انصرف إلى الموفقية آخر نهار يومه هذا- فعولج في ليلته تلك و شدت الجراحة- و غدا على الحرب على ما ناله من ألمها- ليشد بذلك قلوب أصحابه- من أن يدخلها وهن أو ضعف- فزاد في قوة علته- بما حمل على نفسه من الحركة- فغلظت و عظم أمرها حتى خيف عليه العطب- و احتاج إلى علاج نفسه بأعظم ما يعالج به الجراح- و اضطرب لذلك العسكر و الجند و الرعية- و خافوا قوة الزنج عليهم- حتى خرج عن الموفقية جماعة من التجار- كانوا مقيمين بها لما وصل إلى قلوبهم من الرهبة- .

قال أبو جعفر- و حدثت على أبي أحمد في حال صعوبة علته- حادثة في سلطانه و أمور متعلقة بما بينه و بين أخيه المعتمد- فأشار عليه مشيرون من أصحابه و ثقاته- بالرحلة عن معسكره إلى بغداد- و أن يخلف من يقوم مقامه فأتى ذلك- و حاذر أن يكون فيه تلافى ما قد فرق من شمل صاحب الزنج- فأقام على صعوبة علته- و غلظ الأمر الحادث في سلطانه و صبر إلى أن عوفي- فظهر لقواده و خاصته- و قد كان أطال الاحتجاب عنهم- فقويت برؤيته منتهم- و أقام متماثلا مودعا نفسه إلى شعبان من هذه السنة- فلما أبل و قوي على الركوب و النهوض- نهض و عاود ما كان مواظبا عليه من الحرب- و جعل الناجم لما صح عنده الخبر- بما أصاب أبا أحمد يعد أصحابه العدات- و يمنيهم الأماني- و اشتدت شوكتهم و قويت آمالهم- فلما اتصل به ظهور أبي أحمد- جعل يحلف للزنج على منبره- أن ذلك باطل لا أصل له- و أن الذي رأوه في الشذا مثال موه و شبه عليهم- .

قلت الحادث الذي حدث على أبي أحمد من جهة سلطانه- أن أخاه المعتمد و هو الخليفة يومئذ- فارق دار ملكه- و مستقر خلافته مغاضبا له متجنيا عليه- زاعما أنه مستبد بأموال المملكة و جبايتها- مضطهدا له مستأثرا عليه- فكاتب ابن طولون صاحب مصر- و سأله أن يأذن له في اللحاق به- فأجابه ابن طولون إلى ذلك- فخرج من سامراء في جماعة من قواده و مواليه قاصدا مصر- و كان أبو أحمد هو الخليفة في المعنى- و إنما المعتمد صورةخالية من معاني الخلافة- لا أمر له و لا نهي و لا حل و لا عقد- و أبو أحمد هو الذي يرتب الوزراء و الكتاب- و يقود القواد و يقطع الأقطاع- و لا يراجع المعتمد في شي‏ء من الأمور أصلا- فاتصل به خبر المعتمد في شخوصه عن سامراء- و قصده ابن طولون- فكاتب إسحاق بن كنداحيق- و هو يومئذ على الموصل و الجزيرة- فأمره أن يعترض المعتمد- و يقبض عليه و على القواد و الموالي الذين معه- و يعيدهم إلى سامراء- و كتب لإسحاق بإقطاعه ضياع- أولئك القواد و الموالي بأجمعهم- فاعترضهم إسحاق- و قد قربوا من الرقة فأخذهم و قبض عليهم- و قيدهم بالقيود الثقيلة- و دخل على المعتمد فعنفه- و هجنه و عذله في شخوصه عن دار ملكه و ملك آبائه- و مفارقة أخيه على الحال التي هو بها- و حرب من يحاول قتله- و قتل أهل بيته و زوال ملكهم- .

ثم حملهم في قيودهم حتى وافى بهم سامراء- فأقر المعتمد على خلافته- و منعه عن الخروج- و أرسل أبو أحمد ابنه هارون- و كاتبه صاعد بن مخلد من الموفقية إلى سامراء- فخلعا على ابن كنداحيق خلعا جليلة- و قلد بسيفين من ذهب- و لقب ذا السيفين و هو أول من قلد بسيفين- ثم خلع عليه بعد ذلك بيوم قباء ديباج أسود- و وشاحين مرصعين بالجوهر الثمين- و توج بتاج من ذهب مرصع بنفيس الجوهر- و قلد سيفا من ذهب مرصع بالجواهر العظيمة- و شيعه إلى منزله هارون و صاعد- و قعدا على طعامه- كل ذلك مكافأة له عن صنيعه في أمر المعتمد- فليعجب المتعجب من همة الموفق أبي أحمد- و قوة نفسه و شدة شكيمته- أن يكون بإزاء ذلك العدو- و يقتل من أصحابه كل وقت من يقتل- ثم يصاب ولده بسهم- و يصاب هو بسهم آخر في صدره- يشارف منه على الموت- و يحدث من أخيه و هو الخليفة ما يحدث- و لا تنكسر نفسه و لا يهي عزمه- و لا تضعف قوته و بحقما سمي المنصور الثاني- و لو لا قيامه في حرب الزنج- لانقرض ملك أهل بيته- و لكن الله تعالى ثبته لما يريده من بقاء هذه الدولة- .

قال أبو جعفر- ثم جد الموفق في تخريب السور و إحراق المدينة- و جد الناجم في إعداد المقاتلة- و المحاطة عن سوره و مدينته- فكانت بين الفريقين حروب عظيمة- تجل عن الوصف- و رمى الناجم سفن الموفق المقاربة- لسور مدينته بالرصاص المذاب- و المجانيق و العرادات- و أمر أبو أحمد بإعداد ظلة من خشب للشذا- و إلباسها جلود الجواميس- و تغطية ذلك بالخيوش المطلية- بصنوف العقاقير و الأدوية- التي تمنع النار من الإحراق ففعل ذلك- و حورب صاحب الزنج من تحتها- فلم تعمل ناره و رصاصه المذاب فيها شيئا- و استأمن إلى أبي أحمد محمد بن سمعان- كاتب الناجم و وزيره في شعبان من هذه السنة- فهد باستئمانه أركان الناجم و أضعف قوته- و انتدب أبو العباس لقصد دار محمد بن يحيى الكرنبائي- و كانت بإزاء دار الناجم- و شرع في الحيلة في إحراقها- و أحرق الموفق كثيرا- من الرواشين المظلة على سور المدينة و شعثها- و علا غلمان أبي أحمد على دار الناجم و ولجوها و انتهبوها- و أضرموا النار فيها- و فعل أبو العباس بدار الكرنبائي مثل ذلك- و جرح أنكلاني بن الناجم في بطنه جراحة شديدة- أشفى منها على التلف- و اتفق مع هذا الظفر العظيم- أن غرق أبو حمزة نصير صاحب جيش الماء- عند ازدحام الشذوات و إكباب الزنج على الحرب- فصعب ذلك على أبي أحمد- و قوي بغرقه أمر الزنج- و انصرف أبو أحمدآخر نهار هذا اليوم- و عرضت له علة أقام فيها بقية شعبان و شهر رمضان- و أياما من شوال ممسكا عن حرب الزنج- إلى أن استبل من علته- .

قال أبو جعفر- فلما أحرقت دار الناجم و دور أصحابه- و شارف أن يؤخذ و عرضت لأبي أحمد هذه العلة- فأمسك فيها عن الحرب- انتقل الناجم من مدينته التي بناها- بغربي نهر أبي الخصيب إلى شرقيه إلى منزل وعر- لا يخلص إليه أحد لاشتباك القصب و الأدغال و الأحطاب فيه- و عليه خنادق من أنهار قاطعة معترضة- فقطن هناك في خواصه- و من تخلف معه من جلة أصحابه و ثقاته- و من بقي في نصرته من الزنج- و هم حدود عشرين ألف مقاتل- و انقطعت الميرة عنهم- و بان للناس ضعف أمرهم- فتأخر الجلب الذي كان يصل إليهم- فبلغ الرطل من خبز البر عندهم عشرة دراهم- فأكلوا الشعير ثم أكلوا أصناف الحبوب- ثم لم يزل الأمر كذلك إلى أن كانوا يتبعون الناس- فإذا خلا أحد منهم بصبي أو امرأة أو رجل ذبحوه و أكلوه- ثم صار قوي الزنج يعدو على ضعيفهم- فإذا خلا به ذبحه و أكل لحمه- ثم ذبحوا أولادهم فأكلوا لحومهم- و كان الناجم لا يعاقب أحدا- ممن فعل شيئا من ذلك إلا بالحبس- و إذا تطاول حبسه أطلقه- .

و لما أبل الموفق من علته- و علم انتقال الناجم إلى شرقي نهر أبي الخصيب و اعتصامه به- أعمل فكره في تخريب الجانب الشرقي عليه- كما فعل بالجانب الغربي- ليتمكن من قتله أو أسره- فكانت له آثار عظيمة من قطع الأدغال- و الدحال و سد الأنهار و طم الخنادق- و توسيع المسالك و إحراق الأسوار المبنية- و إدخال الشذا و فيها المقاتلة إلى حريم الناجم- و في كل ذلك يدافع الزنج عن أنفسهم بحرب شديدة- و قتال عظيم تذهب فيها النفوس و تراق فيها الدماء- و كان الظفر في ذلك كله لأبي أحمد- و أمر الزنج يزداد ضعفاو طالت الأيام على ذلك- إلى أن استأمن سليمان بن موسى الشعراني- و هو من عظمائهم و قد تقدم ذكره- فوجه يطلب الأمان من أبي أحمد- فمنعه ذلك لما كان سلف منه- من العيث و سفك الدماء بنواحي واسط- .

ثم اتصل بأبي أحمد أن جماعة من رؤساء الزنج- قد استوحشوا لمنعه الشعراني من الأمان- فأجاب إلى إعطائه الأمان- استصلاحا بذلك غيره من رؤساء الزنج- و أمر بتوجيه الشذا إلى موضع وقع الميعاد عليه- فخرج سليمان الشعراني و أخوه و جماعة من قواده- فنزلوا الشذا فصاروا إلى أبي العباس- فحملهم إلى أبي أحمد- فخلع على سليمان و من معه- و حمله على عدة أفراس بسروجها و آلتها- و أنزل له و لأصحابه إنزالا سنية- و وصله بمال جليل و وصل أصحابه- و ضمه و ضمهم إلى أبي العباس- و أمر بإظهاره و إظهارهم في الشذا لأصحاب الناجم- ليزدادوا ثقة بأمانته- فلم تبرح الشذا ذلك اليوم من موضعها- حتى استأمن جمع كثير من قواد الزنج- فوصلوا و ألحقوا بإخوانهم- في الحباء و البر و الخلع و الجوائز- فلما استأمن الشعراني اختل ما كان الناجم- قد ضبطه به من مؤخر عسكره- و قد كان جعله على مؤخر نهر أبي الخصيب- فوهى أمره و ضعف- و قلد ما كان سليمان يتولاه القائد المعروف بشبل بن سالم- و هو من قوادهم المشهورين- فلم يمس أبو أحمد- حتى وافاه رسول شبل بن سالم يطلب الأمان-

و يسأل أن يوقف له شذوات عند دار ابن سمعان- ليكون قصده في الليل إليها و معه من يثق به من أصحابه- فأجيب إلى سؤاله- و وافى آخر الليل و معه عياله و ولده- و جماعة من قواده- فصاروا إلى أبي أحمد- فوصله بصلة جليلة- و خلع عليه خلعا كثيرة- و حمله على عدة أفراس بسروجها و آلتها- و وصل أصحابه و خلع عليهم و أحسن إليهم- و أرسله في الشذوات- فوقفوا بحيث يراهم الناجم و أصحابه نهارا- فعظم ذلك عليه و على أوليائه- و أخلص شبل في مناصحة أبي أحمد- فسأل أن يضم إليه عسكر يبيت به عسكر الناجم- و يسلك إليه من مسالك يعرفها هو- و لا يعرفها أصحاب أبي أحمد- ففعلو كبس عسكر الناجم سحرا- فأوقع بهم و هم غارون- فقتل منهم مقتلة عظيمة- و أسر جمعا من قواد الزنج و انصرف بهم إلى الموفق- و ذعر الزنج من شبل و ما فعله- فامتنعوا من النوم و خافوا خوفا شديدا- فكانوا يتحارسون بعد ذلك في كل ليلة- و لا تزال النفرة تقع في عسكرهم- لما استشعروا من الخوف- و وصل إلى قلوبهم من الوحشة- حتى لقد كان ضجيجهم و تحارسهم يسمع بالموفقية- .

و صح عزم الموفق على العبور- لمحاربة الناجم في الجانب الشرقي- من نهر أبي الخصيب فجلس مجلسا عاما- و أمر بإحضار قواد المستأمنة- و وجوه فرسانهم و رجالتهم من الزنج و البيضان فأدخلوا إليه- فخطبهم و عرفهم ما كانوا عليه- من الضلالة و الجهل و انتهاك المحارم- و ما كان صاحبهم زينه لهم من معاصي الله سبحانه- و أن ذلك قد كان أحل له دماءهم- و أنه قد غفر الزلة و عفا عن العقوبة و بذل الأمان- و عاد على من لجأ إليه بالفضل و الإحسان- فأجزل الصلات و أسنى الأرزاق- و ألحقهم بالأولياء و أهل الطاعة- و أن ما كان منه من ذلك يوجب عليهم حقه و طاعته- و أنهم لن يأتوا بشي‏ء يتعرضون به لطاعة ربهم- و الاستدعاء لرضا سلطانهم أولى بهم- من الجد في مجاهدة الناجم و أصحابه- و أنهم من الخبرة بمسالك عسكر الناجم و مضايق طرق مدينته- و المعاقل التي أعدها للحرب- على ما ليس عليه من غيرهم- فهم أحرى أن يمحضوه نصحهم- و يجهدوا على الولوج إلى الناجم- و التوغل إليه في حصونه- حتى يمكنهم الله منه و من أشياعه- فإذا فعلوا ذلك فلهم الإحسان و المزيد- و من قصر منهم استدعى من سلطانه إسقاط حاله- و تصغير منزلته و وضع مرتبته- .

فارتفعت أصواتهم جميعا- بالدعاء للموفق و الإقرار بإحسانه- و بما هم عليه من صحة الضمائر- من السمع و الطاعة و الجد في مجاهدة عدوه- و بذل دمائهم و مهجهم في كل ما يقربهم منه- و أن ما دعاهم إليه قد قوى مننهم- و دلهم على ثقته بهم- و إحلاله إياهم‏محل أوليائه- و سألوه أن يفردهم ناحية و لا يخلطهم بعسكره- ليظهر من حسن جهادهم بين يديه- و خلوص نياتهم في الحرب- و نكايتهم في العدو و ما يعرف به طاعتهم- و إقلاعهم عما كانوا عليه من جهلهم- . فأجابهم إلى ذلك- و عرفهم حسن ما ظهر له من طاعتهم- فخرجوا من عنده مبتهجين- بما أجيبوا به من حسن القول و جميل الوعد- . قال أبو جعفر- ثم استعد أبو أحمد و رتب جيشه- و دخل إلى عسكر الناجم بشرقي نهر أبي الخصيب- في خمسين ألف مقاتل- من البر و البحر فرسانا و رجالة- يكبرون و يهللون و يقرءون القرآن- و لهم ضجيج و أصوات هائلة- فرأى الناجم منهم ما هاله و تلقاهم بنفسه و جيشه- و ذلك في ذي القعدة سنة تسع و ستين و مائتين- .

و اشتبكت الحرب و كثر القتل و الجراح- و حامى الزنج عن صاحبهم و أنفسهم أشد محاماة و استماتوا- و صبر أصحاب أبي أحمد و صدقوا القتال- فمن الله عليهم بالنصر و انهزم الزنج- و قتل منهم خلق عظيم- و أسر منهم أسرى كثيرة- فضرب أبو أحمد أعناق الأسارى في المعركة- و قصد بنفسه دار الناجم- فوافاها و قد لجأ الناجم إليها- و معه أنجاد أصحابه للمدافعة عنه- . فلما لم يغنوا شيئا أسلموها و تفرقوا عنها- و دخلها غلمان الموفق- و بها بقايا ما كان سلم له من مال و أثاث- فأخذوه و انتهبوه- و أخذوا حرمه و ولده الذكور و الإناث- و تخلص الناجم بنفسه- و مضى هاربا نحو دار علي بن أبان المهلبي- لا يلوي على أهل و لا ولد و لا مال و أحرقت داره- و حمل أولاده و نساؤه إلى الموفقية في التوكيل- و قصد أصاب أبي أحمد دار المهلبي- و قد لجأ إليها الناجم و أكثر الزنج- و تشاغل أصحاب أبي أحمد بنهبالأموال من دور الزنج- فاغتنم الناجم تشاغلهم بالنهب- فأمر قواده بانتهاز الفرصة و الإكباب عليهم- فخرجوا عليهم من عدة مواضع- و خرج عليهم كمناء أيضا قد كانوا كمنوهم لهم- فكشفوهم و اتبعوهم- حتى وافوا بهم نهر أبي الخصيب- فقتلوا من فرسانهم و رجالتهم جماعة- و ارتجعوا بعض ما كانوا أخذوه من المال و المتاع- .

ثم تراجع الناس- و دامت الحرب إلى وقت العصر- فرأى أبو أحمد عند ذلك أن يصرف أصحابه- فأمرهم بالرجوع فرجعوا على هدوء و سكون- كي لا تكون هزيمة حتى دخلوا سفنهم- و أحجم الزنج عن أتباعهم- و عاد أبو أحمد بالجيش إلى مراكزهم- . قال أبو جعفر- و وافى إلى أبي أحمد في هذا الشهر- كاتبه صاعد بن مخلد من سامراء في عشرة آلاف- و وافى إليه لؤلؤ صاحب ابن طولون- و كان إليه أمر الرقة و ديار مضر- في عشرة آلاف من نخبة الفرسان و أنجادهم- فأمر أبو أحمد لؤلؤا- أن يخرج في عسكره فيحارب الزنج- فخرج بهم و معه من أصحاب أبي أحمد- من يدله على الطرق و المضايق- فكانت بين لؤلؤ و بين الزنج حرب شديدة- في ذي الحجة من هذه السنة- استظهر فيها لؤلؤ عليهم- و بان من نجدته و شجاعته و إقدام أصحابه- و صبرهم على ألم الجراح و ثبات قلوبهم- ما سر أبا أحمد و ملأ قلبه- .

قال أبو جعفر- فلما دخلت سنة سبعين و مائتين- تتابعت الأمداد إلى أبي أحمد من سائر الجهات- فوصل إليه أحمد بن دينار- في جمع عظيم من المطوعة- من كور الأهواز و نواحيها- و قدم بعده من أهل البحرين جمع كثير- من المطوعة زهاء ألفي رجل- يقودهم رجل من عبد القيس- و ورد بعد ذلك زهاء ألف رجل من فارس- و رئيسهم شيخ من المطوعة يكنى أبا سلمة- و كان أبو أحمد يجلس- لكل من يرد و يخلع عليه- و يقيم لأصحابه الأنزال الكثيرة و يصلهم بالصلات- فعظم جيشه جدا و امتلأت بهم الأرض- و صحعزمه على لقاء الناجم بجميع عسكره- فرتب جيوشه و قسمهم على القواد- و أمر كل واحد من القواد- أن يقصد جهة من جهات معسكر الناجم عينها له- و ركب بنفسه و ركب جيشه- و توغلوا في مسالك شرقي نهر أبي الخصيب- و لقيهم الزنج و قد حشدوا و استقبلوا- فكانت بينهم وقعة شديدة- منحهم الله تعالى فيها أكتاف الزنج- فولوا منهزمين- فاتبعهم أصحاب أبي أحمد يقتلون و يأسرون- فقتل منهم كثير و غرق كثير- و حوى أصحاب أبي أحمد معسكر الناجم و مدينته- و ظفروا بعيال علي بن أبان المهلبي و داره و أمواله- فاحتووا عليها- و عبر أهله و أولاده إلى الموفقية مع كلابهم- و مضى الناجم و معه المهلبي و ابنه أنكلاني- و سليمان بن جامع و الهمداني و جماعة من أكابر القواد- عامدين إلى موضع كان الناجم- قد أعده لنفسه ملجأ إذا غلب على مدينته و داره- في النهر المعروف بالسفياني- فتقدم أبو أحمد و معه لؤلؤ قاصدين هذا النهر- لأن أبا أحمد دل عليه- فأوغل في الدخول و فقده أصحابه- فظنوا أنه رجع فرجعوا كلهم- و عبروا دجلة في الشذا ظانين أنه عبر راجعا- و انتهى أبو أحمد و معه لؤلؤ قاصدين هذا النهر- فاقتحمه لؤلؤ بفرسه- و عبر أصحاب لؤلؤ خلفه- .

و وقف أبو أحمد في جماعة من أصحابه عند النهر- و مضى الناجم هاربا- و لؤلؤ يتبعه في أصحابه- حتى انتهى إلى النهر المعروف بالقربري- فوصل إليه لؤلؤ و أصحابه- فأوقعوا به و بمن معه فكشفوهم- فولوا هاربين حتى عبروا النهر المذكور- و لؤلؤ و أصحابه يطردونهم من ورائهم- حتى ألجئوهم إلى نهر آخر- فعبروه و اعتصموا بدحال وراءه فولجوها- و أشرف لؤلؤ و أصحابه عليها- فأرسل إليه الموفق ينهاه عن اقتحامها- و يشكر سعيه و يأمره بالانصراف- فانفرد لؤلؤ هذا اليوم و أصحابه بهذا الفعل- دون أصحاب الموفق فانصرف لؤلؤ محمود الفعل- فحمله الموفق معه في شذاته- و جدد له من البر و الكرامة و رفع المنزلة- لما كان منه في أمر الناجم- حسبما كان مستحقا له- و لهذا نادىأهل بغداد- لما أدخل إليهم رأس الناجم- بين يدي أبي العباس ما شئتم قولوا- كان الفتح للؤلؤ- . قال أبو جعفر فجمع الموفق في غد هذا اليوم قواده- و هو حنق عليهم لانصرافهم عنه و إفرادهم إياه- و كان لؤلؤ و أصحابه تولوا طلب الناجم دونهم- فعنقهم و عذلهم و وبخهم على ما كان منهم- و عجزهم و أغلظ لهم- فاعتذروا إليه بما توهموه من انصرافه- و أنهم لم يعلموا أنه قد لجج و أوغل في طلب الناجم- و أنهم لو علموا ذلك لأسرعوا نحوه- .

ثم تحالفوا بين يديه- و تعاقدوا ألا يبرحوا في غد موضعهم- إذا توجهوا نحو الزنج حتى يظفرهم الله تعالى به- فإن أعياهم ذلك أقاموا- حيث انتهى بهم النهار في أي موضع كان- حتى يحكم الله بينهم و بينه- و سألوا الموفق أن يرد السفن إلى الموفقية- بحيث لا يطمع طامع من العسكر- في الالتجاء إليها و العبور فيها- . فقبل أبو أحمد عذرهم و جزاهم الخير عن تنصلهم- و وعدهم بالإحسان و أمرهم بالتأهب للعبور- ثم عبر بهم على ترتيب و نظام قد أحكمه و قرره- و ذلك في يوم السبت لليلتين خلتا من صفر- من سنة سبعين و مائتين- و قد كان الناجم عاد من تلك الأنهار إلى معسكره- بعد انصراف الجيش عنه فأقام به- و أمل أن تتطاول به و بهم الأيام و تندفع عنه المناجزة- فلقيه في هذا اليوم سرعان العسكر- و هم مغيظون محنقون من التقريع و التوبيخ اللاحقين بهم بالأمس- فأوقعوا به و بأصحابه وقعة شديدة- أزالوهم عن مواقفهم- فتفرقوا لا يلوي بعضهم على بعض- و اتبعهم الجيش يقتلون و يأسرون من لحقوا منهم- و انقطعالناجم في جماعة من كماته من قواد الزنج- منهم المهلبي و فارقه ابنه أنكلاني و سليمان بن جامع- فكانا في أول الأمر مجتمعين ثم افترقا في الهزيمة- فصادف سليمان بن جامع قوم من قواد الموفق- فحاربوه و هو في جمع كثيف من الزنج- فقتل جماعة من كماته و ظفر به فأسر- و حمل إلى الموفق بغير عهد و لا عقد- فاستبشر الناس بأسر سليمان- و كثر التكبير و الضجيج- و أيقنوا بالفتح إذ كان أكثر أصحابه غناء- و أسر بعده إبراهيم بن جعفر الهمداني- و كان من عظماء قواده و أكابر أمراء جيوشه- و أسر نادر الأسود المعروف بالحفار- و هو من قدماء قواد الناجم- فأمر الموفق بتقييدهم بالحديد و تصييرهم في شذاة لأبي العباس- و معهم الرجال بالسلاح و جد الموفق في طلب الناجم- و أمعن في نهر أبي الخصيب حتى انتهى إلى آخره- .

فبينا هو كذلك أتاه البشير بقتل الناجم فلم يصدق- فوافاه بشير آخر و معه كف زعم أنها كفه- فقوي الخبر عنده بعض القوة- فلم يلبث أن أتاه غلام من غلمان لؤلؤ يركض- و معه رأس الناجم فوضعه بين يديه- فعرضه الموفق على من كان حاضرا تلك الحال معه- من قواد المستأمنة فعرفوه و شهدوا أنه رأس صاحبه- فخر ساجدا و سجد ابنه أبو العباس- و سجد القواد كلهم شكرا لله تعالى- و رفعوا أصواتهم بالتهليل و التكبير- و أمر برفع الرأس على قناة و نصبه بين يديه فرآه الناس- و ارتفعت الأصوات و الضجيج- . قال أبو جعفر و قد قيل إنه لما أحيط بالناجم- لم يبق معه من رؤساء أصحابه إلا المهلبي- فلما علما أنهما مقتولان افترقا- فوقف الناجم حتى وصل إليه هذا الغلام- و معه جماعة من غلمان لؤلؤ- فمانع عن نفسه بسيفه حتى عجز عن الممانعة- فأحاطوا به و ضربوه بسيوفهم حتى سقط- و نزل هذا الغلام فاحتز رأسه- و أما المهلبي فإنه قصد النهر المعروفبنهر الأمير- فقذف بنفسه يروم النجاة- و قبل ذلك كان ابن الناجم- و هو المعروف بأنكلاني فارق أباه- و مضى يؤم النهر المعروف بالديناري- متحصنا فيه بالأدغال و الآجام فلم يظفر بهما ذلك اليوم- و دل الموفق عليهما بعد ذلك- .

و قيل له إن معهما جمعا من الزنج- و جماعة من جلة قوادهم- فأرسل غلمانه في طلبهما و أمرهم بالتضييق عليهما- فلما أحاطت الغلمان بهم- أيقنوا أن لا ملجأ لهم- و أعطوا بأيديهم فظفر بهم الغلمان- و حملوهم إلى الموفق- فقتل منهم جماعة- و أمر بالاستيثاق من المهلبي- و أنكلاني بالحديد و الرجال الموكلين بهما- . قال أبو جعفر- و انصرف في هذا اليوم و هو يوم السبت- لليلتين خلتا من صفر أبو أحمد من نهر أبي الخصيب- و رأس الناجم منصوب بين يديه على قناة- في شذاة يخترق به في النهر- و الناس من جانبي النهر ينظرون إليه- حتى وافى دجلة- فخرج إليها و الرأس بين يديه- و سليمان بن جامع و الهمداني مصلوبان أحياء- في شذاتين عن جانبيه- حتى وافى قصره بالموفقية- هذه رواية أبي جعفر و أكثر الناس عليهما- . و ذكر المسعودي في كتاب مروج الذهب- أن الناجم ارتث و حمل إلى أبي أحمد و هو حي- فسلمه إلى ابنه أبي العباس- و أمر بتعذيبه فجعله كردناجا على النار- و جلده ينتفخ و يتفرقع حتى هلك- . و الرواية الأولى هي الصحيحة- و الذي جعل كردناجا هو قرطاس- الذي رمى أبا أحمدبالسهم- ذكر ذلك التنوخي في نشوار المحاضرة- قال كان الزنج يصيحون لما رمى أبو أحمد بالسهم- و تأخر لعلاج جراحته عن الحرب- ملحوه ملحوه أي قد مات و أنتم تكتمون موته- فاجعلوه كاللحم المكسود- .

قال و كان قرطاس الرامي لأبي أحمد- يصيح بأبي العباس في الحرب- إذا أخذتني فاجعلني كردناجا يهزأ به- . قال فلما ظفر به أدخل في دبره سيخا من حديد- فأخرجه من فيه و جعله على النار كردناجا- . قال أبو جعفر- ثم تتابع مجي‏ء الزنج إلى أبي أحمد في الأمان- فحضر منهم في ثلاثة أيام نحو سبعة آلاف زنجي- لما عرفوا قتل صاحبهم- و رأى أبو أحمد بذل الأمان لهم- كي لا يبقى منهم بقية- يخاف معرتها في الإسلام و أهله- و انقطعت منهم قطعة نحو ألف زنجي مالت نحو البر- فمات أكثرها عطشا- و ظفر الأعراب بمن سلم منهم- فاسترقوهم و أقام الموفق بالموفقية- بعد قتل الناجم مدة- ليزداد الناس بمقامه أنسا و أمانا- و يتراجع أهل البلاد إليها- فقد كان الناجم أجلاهم عنها- و قدم ابنه أبو العباس إلى بغداد- و معه رأس الناجم- فدخلها يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة- بقين من جمادى الأولى من هذه السنة- و رأس الناجم بين يديه على قناة- و الناس مجتمعون يشاهدونه- . و قد روى غير أبي جعفر- و ذكره الآبي في مجموعة المسمى نثر الدرر- عن العلاء بن صاعد بن مخلد- قال لما حمل رأس صاحب الزنج- و دخل به المعتضد إلى بغداد دخل في جيش‏لم ير مثله- و اشتق أسواق بغداد و الرأس بين يديه- فلما صرنا بباب الطاق صاح قوم من درب من تلك الدروب- رحم الله معاوية و زاد- حتى علت أصوات العامة بذلك فتغير وجه المعتضد- و قال أ لا تسمع يا أبا عيسى ما أعجب هذا- و ما الذي اقتضى ذكر معاوية في هذا الوقت- و الله لقد بلغ أبي إلى الموت- و ما أفلت أنا إلا بعد مشارفته و لقينا كل جهد و بلاء- حتى أنجينا هؤلاء الكلاب من عدوهم- و حصنا حرمهم و أولادهم- فتركوا أن يترحموا على العباس- و عبد الله ابنه و من ولد من الخلفاء- و تركوا الترحم على علي بن أبي طالب- و حمزة و جعفر و الحسن و الحسين- و الله لا برحت أو أؤثر في تأديب هؤلاء أثرا- لا يعاودون بعد هذا الفعل مثله- ثم أمر بجمع النفاطين ليحرق الناحية- فقلت له أيها الأمير أطال الله بقاءك- إن هذا اليوم من أشرف أيام الإسلام- فلا تفسده بجهل عامة لا أخلاق لهم- و لم أزل أداريه و أرفق به حتى سار- .

فأما الذي يرويه الناس- من أن صاحب الزنج ملك سواد بغداد- و نزل بالمدائن- و أن الموفق أرسل إليه من بغداد عسكرا- و أصحبهم دنان النبيذ- و أمرهم أن ينهزموا من بين يدي الزنج عند اللقاء- و يتركوا خيامهم و أثقالهم- لينتهبها الزنج و أنهم فعلوا ذلك- فظفر الزنج فيما ظفروا به- من أمتعتهم بتلك الدنان- و كانت كثيرة جدا- فشربوا تلك الليلة و سكروا- و باتوا على غرة- فكبسهم الموفق و بيتهم ليلا و هم سكارى- فأصاب منهم ما أراد- فباطل موضوع لا أصل له- و الذي بيتهم و هم سكارى- فنال منهم نيلا تكين البخاري- و كان على الأهواز بيت أصحاب علي بن أبان- في سنة خمس و ستين و مائتين- و قد أتاه الخبر بأنهم تلك الليلة قد عمل النبيذ فيهم- و الصحيح أنه لم يتجاوز نهبهم و دخولهم البلاد النعمانية- هكذا رواه الناس كلهم- .

قال أبو جعفر فأما علي بن أبان- و أنكلاني بن الناجم و من أسر معهما- فإنهم‏حملوا إلى بغداد في الحديد و القد- فجعلوا بيد محمد بن عبد الله بن طاهر- و معهم غلام للموفق يقال له فتح السعيدي- فكانوا كذلك إلى شوال- من سنة اثنتين و سبعين و مائتين- فكانت للزنج حركة بواسط- و صاحوا أنكلاني يا منصور- و كان الموفق يومئذ بواسط- فكتب إلى محمد بن عبد الله و إلى فتح السعيدي- يأمرهما بتوجيه رءوس الزنج الذين في الأسر إليه- فدخل فتح السعيدي إليهم- فجعل يخرج الأول فالأول فيذبحه على البالوعة كما تذبح الشاة- و كانوا خمسة أنكلاني بن الناجم- و علي بن أبان المهلبي و سليمان بن جامع- و إبراهيم بن جعفر الهمداني و نادر الأسود- و قلع رأس البالوعة و طرحت فيها أبدانهم و سد رأسها- و وجه برءوسهم إلى الموفق فنصبها بواسط- و انقطعت حركه الزنج و يئس منهم- .

ثم كتب الموفق إلى محمد بن عبد الله بن طاهر- في جثث هؤلاء الخمسة- فأمر بصلبهم بحضرة الجسر- فأخرجوا من البالوعة- و قد انتفخوا و تغيرت روائحهم- و تقشرت جلودهم- فصلب اثنان منهم على جانب الجسر الشرقي- و ثلاثة على الجانب الغربي- و ذاك لسبع بقين من شوال من هذه السنة- و ركب محمد بن عبد الله بن طاهر- و هو أمير بغداد يومئذ بنفسه حتى صلبوا بحضرته- و قد قال الشعراء في وقائع الزنج- فأكثروا كالبحتري و ابن الرومي و غيرهما- فمن أراد ذلك فليأخذه من مظانه: مِنْهَا فِي وَصْفِ الْأَتْرَاكِ- كَأَنِّي أَرَاهُمْ قَوْماً- كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الْمَجَانُّ الْمُطْرَقَةُ- يَلْبَسُونَ السَّرَقَ وَ الدِّيبَاجَ- وَ يَعْتَقِبُونَ الْخَيْلَ الْعِتَاقَ- وَ يَكُونُ هُنَاكَ اسْتِحْرَارُ قَتْلٍ- حَتَّى يَمْشِيَ الْمَجْرُوحُ عَلَى الْمَقْتُولِ- وَ يَكُونَ الْمُفْلِتُ أَقَلَّ مِنَ الْمَأْسُورِ- فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ- لَقَدْ أُعْطِيتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عِلْمَ الْغَيْبِ- فَضَحِكَ ع وَ قَالَ لِلرَّجُلِ وَ كَانَ كَلْبِيّاً- يَا أَخَا كَلْبٍ لَيْسَ هُوَ بِعِلْمِ غَيْبٍ- وَ إِنَّمَا هُوَ تَعَلُّمٌ مِنْ ذِي عِلْمٍ- وَ إِنَّمَا عِلْمُ الْغَيْبِ عِلْمُ السَّاعَةِ- وَ مَا عَدَّدَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَوْلِهِ- إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ- وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ- وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً- وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ الآْيَةَ- فَيَعْلَمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مَا فِي الْأَرْحَامِ- مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَ قَبِيحٍ أَوْ جَمِيلٍ- وَ سَخِيٍّ أَوْ بَخِيلٍ- وَ شَقِيٍّ أَوْ سَعِيدٍ- وَ مَنْ يَكُونُ لِلنَّارِ حَطَباً- أَوْ فِي الْجِنَانِ لِلنَّبِيِّينَ مُرَافِقاً- فَهَذَا عِلْمُ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلَّا اللَّهُ- وَ مَا سِوَى ذَلِكَ فَعِلْمٌ- عَلَّمَهُ اللَّهُ نَبِيَّهُ ص فَعَلَّمَنِيهِ- وَ دَعَا لِي بِأَنْ يَعِيَهُ صَدْرِي- وَ تَضْطَمَّ عَلَيْهِ جَوَانِحِي‏المجان جمع مجن بكسر الميم و هو الترس- و إنما سمي مجنا لأنه يستتر به- و الجنة السترة و الجمع جنن- يقال استجن بجنة أي استتر بسترة- .

و المطرقة بسكون الطاء- التي قد أطرق بعضها إلى بعض- أي ضمت طبقاتها فجعل بعضها يتلو بعضا- يقال جاءت الإبل مطاريق- أي يتلو بعضها بعضا- و النعل المطرقة المخصوفة- و أطرقت بالجلد و العصب أي ألبست- و ترس مطرق و طراق النعل- ما أطرقت و خرزت به- و ريش طراق إذا كان بعضه فوق بعض- و طارق الرجل بين الثوبين- إذا لبس أحدهما علي الآخر- و كل هذا يرجع إلى مفهوم واحد- و هو مظاهرة الشي‏ء بعضه بعضا- و يروى المجان المطرقة بتشديد الراء- أي كالترسة المتخذة من حديد مطرق بالمطرقة- .

و السرق شقق الحرير- و قيل لا تسمى سرقا إلا إذا كانت بيضا الواحدة سرقة- . و يعتقبون الخيل- أي يجنبونها لينتقلوا من غيرها إليها- و استحرار القتل شدته استحر و حر بمعنى- قال ابن الزبعري-حيث ألقت بقباء بركها و استحر القتل في عبد الأشل‏- و المفلت الهارب- . يقول ع إن الأمور المستقبلة على قسمين- أحدهما ما تفرد الله تعالى بعلمه- و لم يطلع عليه أحدا من خلقه- و هي الأمور الخمسة المعدودة في الآية المذكورة- إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ- وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ- وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً- وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ-و القسم الثاني ما يعلمه بعض البشر- بإعلام الله تعالى إياه- و هو ما عدا هذه الخمسة- و الإخبار بملحمة الأتراك من جملة ذلك- . و تضطم عليه جوانحي تفتعل من الضم و هو الجمع- أي يجتمع عليه جوانح صدري- و يروى جوارحي وقد روي أن إنسانا قال لموسى بن جعفر ع- إني رأيت الليلة في منامي أني سألتك- كم بقي من عمري- فرفعت يدك اليمنى- و فتحت أصابعها في وجهي مشيرا إلي- فلم أعلم خمس سنين أم خمسة أشهر أم خمسة أيام- فقال و لا واحدة منهن- بل ذاك إشارة إلى الغيوب الخمسة- التي استأثر الله تعالى بها في قوله- إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ الآية- .

فإن قلت لم ضحك ع- لما قال له الرجل لقد أوتيت علم الغيب- و هل هذا إلا زهو في النفس و عجب بالحال- قلت قد روي أن رسول الله ص- ضحك في مناسب هذه الحال- لما استسقى فسقي و أشرف درور المطر- فقام إليه الناس- فسألوه أن يسأل الله تعالى أن يحبسه عنهم فدعا- و أشار بيده إلى السحاب- فانجاب حول المدينة كالإكليل- و هو ع يخطب على المنبر- فضحك حتى بدت نواجده- و قال أشهد أني رسول الله- و سر هذا الأمر أن النبي أو الولي- إذا تحدث عنده نعمة الله سبحانه- أو عرف الناس وجاهته عند الله- فلا بد أن يسر بذلك- و قد يحدث الضحك من السرور- و ليس ذلك بمذموم إذا خلا من التيه و العجب- و كان محض السرور و الابتهاج- و قد قال تعالى في صفة أوليائه- فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ- . فإن قلت فإن من جمله الخمسة- وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً- و قد أعلم‏الله تعالى نبيه بأمور يكسبها في غده- نحو قوله ستفتح مكة- و أعلم نبيه وصيه ع بما يكسبه في غده- نحو قوله له ستقاتل بعدي الناكثين الخبر- . قلت المراد بالآية- أنه لا تدري نفس جميع ما تكسبه في مستقبل زمانها- و ذلك لا ينفي جواز أن يعلم الإنسان- بعض ما يكسبه في مستقبل زمانه

فصل في ذكر جنكزخان و فتنة التتر

و اعلم أن هذا الغيب الذي أخبر ع عنه- قد رأيناه نحن عيانا و وقع في زماننا- و كان الناس ينتظرونه من أول الإسلام- حتى ساقه القضاء و القدر إلى عصرنا- و هم التتار الذين خرجوا من أقاصي المشرق- حتى وردت خيلهم العراق و الشام- و فعلوا بملوك الخطا و قفجاق- و ببلاد ما وراء النهر و بخراسان- و ما والاها من بلاد العجم- ما لم تحتو التواريخ منذ خلق الله آدم- إلى عصرنا هذا على مثله- فإن بابك الخرمي لم تكن نكايته- و إن طالت مدته نحو عشرين سنة- إلا في إقليم واحد و هو أذربيجان- و هؤلاء دوخوا المشرق كله- و تعدت نكايتهم إلى بلاد أرمينية و إلى الشام- و وردت خيلهم إلى العراق-

و بخت‏نصر الذي قتل اليهود إنما أخرب بيت المقدس- و قتل من كان بالشام من بني إسرائيل- و أي نسبة بين من كان بالبيت المقدس- من بني إسرائيل إلى البلاد و الأمصار التي أخربها هؤلاء- و إلى الناس الذين قتلوهم من المسلمين و غيرهم-و نحن نذكر طرفا من أخبارهم- و ابتداء ظهورهم على سبيل الاختصار- فنقول إنا على كثرة اشتغالنا بالتواريخ- و بالكتب المتضمنة أصناف الأمم- لم نجد ذكر هذه الأمة أصلا- و لكنا وجدنا ذكر أصناف الترك- من القفجاق و اليمك و البرلو- و التفريه و اليتبه و الروس- و الخطا و القرغز و التركمان- و لم يمر بنا في كتاب ذكر هذه الأمة سوى كتاب واحد- و هو كتاب مروج الذهب للمسعودي- فإنه ذكرهم هكذا بهذا اللفظ التتر- و الناس اليوم يقولون التتار بألف- و هذه الأمة كانت في أقاصي بلاد المشرق- في جبال طمغاج من حدود الصين- و بينهم و بين بلاد الإسلام التي ما وراء النهر- ما يزيد على مسير ستة أشهر- و قد كان خوارزمشاه و هو محمد بن تكش- استولى على بلاد ما وراء النهر- و قتل ملوكها من الخطا الذين كانوا ببخارى و سمرقند و بلاد تركستان- نحو كاشغر و بلاساغون- و أفناهم و كانوا حجابا بينه و بين هذه الأمة- و شحن هذه البلاد بقواده و جنوده- و كان في ذلك غالطا- لأن ملوك الخطا كانوا وقاية له و مجنا من هؤلاء- فلما أفناهم صار هو المتولي لحرب هؤلاء أو سلمهم- فأساء قواده و أمراؤه الذين بتركستان السيرة معهم- و سدوا طرق التجارة عنهم- فانتدبت منهم طائفة نحو عشرين ألفا مجتمعة- كل بيت منها له رئيس مفرد فهم متساندون- و خرجوا إلى بلاد تركستان- فأوقعوا بقواد خوارزمشاه و عماله هناك و ملكوا البلاد- و تراجع من بقي من عسكر خوارزمشاه- و سلم من سيف التتار إلى خوارزمشاه- فأغضى على ذلك- و رأى أن سعة ملكه تمنعه- عن مباشرة حربهم بنفسه- و أن غيره من قواده لا يقوم مقامه في ذلك- و ترك بلاد تركستان لهم- و استقر الأمر على أن تركستان لهم- و ما عداها من بلاد ما وراء النهر- كسمرقند و بخارى و غيرهما لخوارزمشاه- فمكثوا كذلك نحو أربع سنين- .

ثم إن المعروف بجنكزخان و الناس يلفظونه بالراء- و ذكر لي جماعة من أهل المعرفة بأحوال التتر- أنه جنكز بالزاي المعجمة- عن له رأي في النهوض إلى بلاد تركستان- و ذلك أن جنكزخان هذا- هو رئيس التتار الأقصين في المشرق و ابن رئيسهم- و ما زال سلفه رؤساء تلك الجهة- و كان شجاعا عاقلا موفقا منصورا في الحرب- و إنما عن له هذا الرأي- لأنه رأى أن طائفة من التتار لا ملك لهم- و إنما يقوم بكل فرقة منهم مدبر لها من أنفسها- قد نهضت فملكت بلاد تركستان على جلالتها- غار من ذلك و أراد الرئاسة العامة لنفسه- و أحب الملك و طمع في البلاد- فنهض بمن معه من أقاصي الصين- حتى صار إلى حدود أعمال تركستان- فحاربه التتار الذين هناك- و منعوه عن تطرق البلاد- فلم يكن لهم به طاقة- و هزمهم و قتل كثيرا منهم- و ملك بلاد تركستان بأجمعها- و صار كالمجاور لبلاد خوارزمشاه- و إن كان بينهما مسافة بعيدة- و صار بينه و بين خوارزمشاه سلم و مهادنة- إلا أنها هدنة على دخن- .

فمكثت الحال على ذلك يسيرا- ثم فسدت بما كان يصل إلى خوارزمشاه- على ألسنة التجار من الأخبار- و أن جنكزخان على عزم النهوض إلى سمرقند و ما يليها- و أنه في التأهب و الاستعداد- فلو داراه لكان أولى له- لكنه شرع فسد طرق التجار القاصدين إليهم- فتعذرت عليهم الكسوات- و منع عنهم الميرة و الأقوات التي تجلب و تحمل- من أعمال ما وراء النهر إلى تركستان- فلو اقتنع بذلك لكان قريبا- لكنه أنهى إليه نائبة بالمدينة المعروفة بأوتران- و هي آخر ولايته بما وراء النهر- أن جنكزخان قد سير جماعة من تجار التتار- و معهم شي‏ء عظيم من الفضة إلى سمرقند- ليشتروا له و لأهله و بني عمه كسوة و ثيابا و غير ذلك- .

فبعث إليه خوارزمشاه يأمره بقتل أولئك التجار- و أخذ ما معهم من الفضة و إنفاذها إليه- فقتلهم و سير إليه الفضة- و كان ذلك شيئا كثيرا جدا- ففرقه خوارزمشاه على تجار سمرقند و بخارى- و أخذ ثمنه منهم لنفسه- ثم علم أنه قد أخطأ- فأرسل إلى نائبه بأوتران- يأمره أن ينفذ جواسيس من عنده إليهم- ليخبروه بعدتهم فمضت الجواسيس- و سلكت مفاوز و جبالا كثيرة- و عادوا إليه بعد مدة- فأخبروه بكثرة عددهم- و أنهم لا يبلغهم الإحصاء و لا يدركهم- و أنهم من أصبر الناس على القتال لا يعرفون الفرار- و يعملون ما يحتاجون إليه من السلاح بأيديهم- و أن خيلهم لا تحتاج إلى الشعير- بل تأكل نبات الأرض و عروق المراعي- و أن عندهم من الخيل و البقر ما لا يحصى- و أنهم يأكلون الميتة و الكلاب و الخنازير- و هم أصبر خلق الله على الجوع و العطش و الشقاء- و ثيابهم من أخشن الثياب مسا- و منهم من يلبس جلود الكلاب و الدواب الميتة- و أنهم أشبه شي‏ء بالوحش و السباع- .

فأنهي ذلك كله إلى خوارزمشاه- فندم على قتل أصحابهم- و على خرق الحجاب بينه و بينهم و أخذ أموالهم- و غلب عليه الفكر و الوجل- فأحضر الشهاب الخيوفي- و هو فقيه فاضل كبير المحل عنده- لا يخالف ما يشير به- فقال له قد حدث أمر عظيم لا بد من الفكر فيه- و إجالة الرأي فيما نفعل- و ذلك أنه قد تحرك إلينا خصم- من الترك في عدد لا يحصى- فقال له عساكرك كثيرة- و تكاتب الأطراف و تجمع الجنود- و يكون من ذلك نفير عام- فإنه يجب على المسلمين كافة مساعدتك بالأموال و الرجال- ثم تذهب بجميع العساكر إلى جانب سيحون- و هو نهر كبير يفصل بين بلاد الترك- و بين بلاد خوارزمشاه فتكون هناك- فإذا جاء العدو و قد سار مسافة بعيدة- لقيناه و نحن جامون مستريحون- و قد مسه و عساكره النصب و اللغوب- .

فجمع خوارزمشاه أمراءه- و من عنده من أرباب المشورة فاستشارهم- فقالوا لا بل الرأي أن نتركهم ليعبروا سيحون إلينا- و يسلكوا هذه الجبال و المضايق- فإنهم جاهلون بطرقها و نحن عارفون بها- فنظهر عليهم و نهلكهم عن آخرهم- . فكانوا على ذلك حتى وصل رسول- من جنكزخان و معه جماعة- يتهدد خوارزمشاه- و يقول تقتل أصحابي و تجاري- و تأخذ مالي منهم استعد للحرب- فإني واصل إليك بجمع لا قبل لك به- . فلما أدى هذه الرسالة إلى خوارزمشاه- أمر بقتل الرسول فقتل- و حلق لحى الجماعة الذين كانوا معه- و أعادهم إلى صاحبهم جنكزخان- ليخبروه بما فعل بالرسول و يقولوا له- إن خوارزمشاه يقول لك إني سائر إليك- فلا حاجة لك أن تسير إلي- فلو كنت في آخر الدنيا لطلبتك حتى أقتلك- و أفعل بك و بأصحابك ما فعلت برسلك- .

و تجهز خوارزمشاه و سار بعد نفوذ الرسول- مبادرا لسبق خبره- و يكبس التتار على غرة- فقطع مسيرة أربعة أشهر في شهر واحد- و وصل إلى بيوتهم و خركاواتهم- فلم ير فيها إلا النساء و الصبيان و الأثقال- فأوقع بهم و غنم الجميع و سبى النساء و الذرية- . و كان سبب غيبوبة التتار عن بيوتهم- أنهم ساروا إلى محاربة ملك من ملوك الترك- يقال له كشلوخان فقاتلوه فهزموه- و غنموا أمواله و عادوا- فلقيهم الخبر في طريقهم بما فعل خوارزمشاه بمخلفيهم- فأغذوا السير فأدركوه- و هو على الخروج من بيوتهم‏بعد فراغه من الغنيمة- فواقعوه و تصافوا للحرب ثلاثة أيام بلياليها- لا يفترون نهارا و لا ليلا- فقتل من الفريقين ما لا يعد- و لم ينهزم منهم أحد- .

أما المسلمون فصبروا حمية للدين- و علموا أنهم إن انهزموا لم يبق للإسلام باقية- ثم إنهم لا ينجون بل يؤخذون و يؤسرون- لبعدهم عن بلاد يمتنعون بها- و أما التتار فصبروا لاستنقاذ أموالهم و أهلهم- و اشتد الخطب بين الطائفتين- حتى أن أحدهم كان ينزل عن فرسه- و يقاتل قرنه راجلا مضاربة بالسكاكين- و جرى الدم على الأرض- حتى كانت الخيل تزلق فيه لكثرته- و لم يحضر جنكزخان بنفسه هذه الوقعة- و إنما كان فيها قاآن ولده- فأحصي من قتل من المسلمين- فكانوا عشرين ألفا- و لم يحص عدة من قتل من التتار- .

فلما جاءت الليلة الرابعة افترقوا- فنزل بعضهم مقابل بعض- فلما أظلم الليل أوقد التتار نيرانهم و تركوها بحالها- و ساروا راجعين إلى جنكزخان ملكهم- و أما المسلمون فرجعوا و معهم محمد خوارزمشاه- فلم يزالوا سائرين حتى وافوا بخارى- و علم خوارزمشاه أنه لا طاقة له بجنكزخان- لأن طائفة من عسكره لم يلقوا خوارزمشاه- بجميع عساكره بهم- فكيف إذا حشدوا و جاءوا على بكرة أبيهم- و ملكهم جنكزخان بينهم- . فاستعد للحصار و أرسل إلى سمرقند- يأمر قواده المقيمين بها بالاستعداد للحصار- و جمع الذخائر للامتناع و المقام من وراء الأسوار- و جعل في بخارى عشرين ألف فارس يحمونها- و في سمرقند خمسين ألفا- و تقدم إليهم بحفظ البلاد حتى يعبر هو إلى خوارزم و خراسان- فيجمع العساكر- و يستنجد بالمسلمين و الغزاة المطوعة و يعود إليهم- .

ثم رحل إلى خراسان فعبر جيحون- و كانت هذه الوقعة في سنة ست عشرة و ستمائة- فنزل بالقرب من بلخ- فعسكر هناك و استنفر الناس- . و أما التتار فإنهم رحلوا بعد أن استعدوا- يطلبون بلاد ما وراء النهر- فوصلوا إلى بخارى بعد خمسة أشهر- من رحيل خوارزمشاه عنها و حصروها- فقاتلوا العسكر المرابط بها ثلاثة أيام قتالا متتابعا- فلم يكن للعسكر الخوارزمي بهم قوة- ففتحوا أبواب المدينة ليلا- و خرجوا بأجمعهم عائدين إلى خراسان- فأصبح أهل بخارى و ليس عندهم من العسكر أحد أصلا- فضعفت نفوسهم- فأرسلوا قاضي بخارى ليطلب الأمان للرعية- فأعطاه التتار الأمان- و قد كان بقي في قلعة بخارى خاصة طائفة- من عسكر خوارزمشاه معتصمون بها- .

فلما رأى أهل بخارى بذلهم للأمان- فتحوا أبواب المدينة- و ذلك في رابع ذي الحجة من سنة ست عشرة و ستمائة- فدخل التتار بخارى- و لم يتعرضوا لأحد من الرعية بل قالوا لهم- كل ما لخوارزمشاه عندكم- من وديعة أو ذخيرة أخرجوه إلينا- و ساعدونا على قتال من بالقلعة- و لا بأس عليكم- و أظهروا فيهم العدل و حسن السيرة- و دخل جنكزخان بنفسه إلى البلد- و أحاط بالقلعة و نادى مناديه في البلدان- لا يتخلف أحد و من تخلف قتل- فحضر الناس بأسرهم- فأمرهم بطم الخندق- فطموه بالأخشاب و الأحطاب و التراب- ثم زحفوا نحو القلعة- و كان عدة من بها من الجند الخوارزمية أربعمائة إنسان- فبذلوا جهدهم- و منعوا القلعة عشرة أيام- إلى أن وصل النقابون إلى سور القلعة- فنقبوه و دخلوا القلعة- فقتلوا كل من بها من الجند و غيرهم- .

فلما فرغوا منها أمر جنكزخان- أن يكتب له وجوه البلد و رؤساؤهم ففعل ذلك- فلما عرضوا عليه أمر بإحضارهم فأحضروا- فقال لهم أريد منكم الفضة النقرة- التي باعها إياكم خوارزمشاه- فإنها لي و من أصحابي أخذت- فكان كل من عنده شي‏ء منها يحضره- فلما فرغ من ذلك أمرهم- بالخروج عن البلد بأنفسهم خاصة- فخرجوا مجردين عن أموالهم- ليس مع كل واحد منهم- إلا ثيابه التي على جسده- فأمر بقتلهم فقتلوا عن آخرهم- و أمر حينئذ بنهب البلد فنهب كل ما فيه- و سبيت النساء و الأطفال- و عذبوا الناس بأنواع العذاب في طلب المال- ثم رحلوا عنه نحو سمرقند- و قد تحققوا عجز خوارزمشاه عنهم- و استصحبوا معهم من سلم من أهل بخارى- أسارى مشاة على أقبح صورة- و كل من أعيا و عجز عن المشي قتلوه- .

فلما قاربوا سمرقند قدموا الخيالة- و تركوا الرجالة و الأسارى و الأثقال وراءهم- حتى يلتحقوا بهم شيئا فشيئا- ليرعبوا قلوب أهل البلد- فلما رأى أهل سمرقند سوادهم استعظموهم- فلما كان اليوم الثاني وصل الأسارى- و الرجالة و الأثقال- و مع كل عشرة من الأسارى علم- فظن أهل البلد أن الجميع عسكر مقاتلة- فأحاطوا بسمرقند- و فيها خمسون ألفا من الخوارزمية- و ما لا يحصى كثرة من عوام البلد- فأحجم العسكر الخوارزمي عن الخروج إليهم- و خرجت العامة بالسلاح- فأطمعهم التتار في أنفسهم- و قهقروا عنهم و قد كمنوا لهم كمناء- فلما جاوزوا الكمين- خرج عليهم من ورائهم- و شد عليهم من ورائهم جمهور التتار- فقتلوهم عن آخرهم- .

فلما رأى من تخلف بالبلد ذلك- ضعفت قلوبهم- و خيلت للجند الخوارزمي أنفسهم-أنهم إن استأمنوا إلى التتار أبقوا عليهم- للمشاركة في جنسية التركية- فخرجوا بأموالهم و أهليهم إليهم مستأمنين- فأخذوا سلاحهم و خيلهم- ثم وضعوا السيف فيهم- فقتلوهم كلهم ثم نادوا في البلد- برئت الذمة ممن لم يخرج و من خرج فهو آمن- فخرج الناس إليهم بأجمعهم- فاختلطوا عليهم و وضعوا فيهم السيف- و عذبوا الأغنياء منهم- و استصفوا أموالهم و دخلوا سمرقند- فأخربوها و نقضوا دورها- و كانت هذه الوقعة في المحرم سنة سبع عشرة و ستمائة- .

و كان خوارزمشاه مقيما بمنزله الأول- كلما اجتمع له جيش سيره إلى سمرقند- فيرجع و لا يقدم على الوصول إليها- فلما قضوا وطرا من سمرقند- سير جنكزخان عشرين ألف فارس- و قال لهم اطلبوا خوارزمشاه أين كان- و لو تعلق بالسماء حتى تدركوه و تأخذوه- و هذه الطائفة تسميها التتار المغربة- لأنها سارت نحو غرب خراسان- و هم الذين أوغلوا في البلاد- و مقدمهم جرماغون نسيب جنكزخان- . و حكي أن جنكزخان كان قد أمر على هذا الجيش- ابن عم له شديد الاختصاص به- يقال له متكلى‏نويرة و أمره بالجد و سرعة المسير- فلما ودعه عطف متكلى‏نويرة هذا- فدخل إلى خركاه- فيها امرأة له كان يهواها ليودعها- فاتصل ذلك بجنكزخان- فصرفه في تلك الساعة عن إمارة الجيش-

و قال من يثني عزمه امرأة لا يصلح لقيادة الجيوش- و رتب مكانه جرماغون- فساروا و قصدوا من جيحون موضعا- يسمى بنج‏آب أي خمسة مياه و هو يمنع العبور- فلم يجدوا به سفنا- فعملوا من الخشب مثل الأحواض الكبار- و لبسوه جلود البقر و وضعوا فيه أسلحتهم- و أقحموا خيولهم الماء و أمسكوا بأذنابها-و تلك الأحواض مشدودة إليها- فكان الفرس يجذب الرجل- و الرجل يجذب الحوض- فعبروا كلهم ذلك الماء دفعة واحدة- فلم يشعر خوارزمشاه بهم- إلا و هم معه على أرض واحدة- و كان جيشه قد ملئ رعبا منهم- فلم يقدروا على الثبات- فتفرقوا أيدي سبأ و طلب كل فريق منهم جهة- و رحل خوارزمشاه في نفر من خواصه- لا يلوي على شي‏ء و قصد نيسابور- فلما دخلها اجتمع عليه بعض عسكره فلم يستقر- حتى وصل جرماغون إليه- و كان لا يتعرض في مسيره بنهب و لا قتل- بل يطوي المنازل طيا- يطلب خوارزمشاه و لا يمهله ليجمع عسكرا- فلما عرف قرب التتار منه- هرب من نيسابور إلى مازندران- فدخلها و رحل جرماغون خلفه- و لم يعرج على نيسابور- بل قصد مازندران- فخرج خوارزمشاه عنها- فكان كلما رحل عن منزل نزله التتار- حتى وصل إلى بحر طبرستان- فنزل هو و أصحابه في سفن- و وصل التتار فلما عرفوا نزوله البحر رجعوا و أيسوا منه- .

و هؤلاء الذين ملكوا عراق العجم و أذربيجان- فأقاموا بناحية تبريز إلى يومنا هذا- . ثم اختلف في أمر خوارزمشاه- فقوم يحكون أنه أقام بقلعة له- في بحر طبرستان منيعة فتوفي بها- و قوم يحكون أنه غرق في البحر- و قوم يحكون أنه غرق و نجا عريانا- فصعد إلى قرية من قرى طبرستان فعرفه أهلها- فجاءوا و قبلوا الأرض بين يديه- و أعلموا عاملهم به فجاء إليه و خدمه- فقال له خوارزمشاه- احملني في مركب إلى الهند- فحمله إلى شمس الدين أنليمش ملك الهند- و هو نسيبه من جهة زوجته- والدة منكبوني بن خوارزمشاه الملك جلال الدين- فإنها هندية من أهل بيت الملك- فيقال إنه وصل إلى أنليمش- و قد تغيرعقله مما اعتراه من خوف التتار- أو لأمر سلطه الله تعالى عليه- فكان يهذي بالتتار بكرة و عشية- و كل وقت و كل ساعة- و يقول هو ذا هم قد خرجوا من هذا الباب- قد هجموا من هذه الدرجة- و يرعد و يحول لونه و يختل كلامه و حركاته- . و حكى لي فقيه خراساني- وصل إلى بغداد يعرف بالبرهان- قال كان أخي معه و كان ممن يثق خوارزمشاه به و يختصه- قال لهج خوارزمشاه لما تغير عقله بكلمة- كان يقولها قرا تتر كلدي يكررها- و تفسيرها التتر السود قد جاءوا- و في التتر صنف سود يشبهون الزنج- لهم سيوف عريضة جدا على غير صورة هذه السيوف- يأكلون لحوم الناس- فكان خوارزمشاه قد أهتر و أغري بذكرهم- .

و حدثني البرهان قال رقي به شمس الدين أنليمش إلى قلعة- من قلاع الهند حصينة عالية شاهقة لا يعلوها الغيم أبدا- و إنما تمطر السحب من تحتها- و قال له هذه القلعة لك و ذخائرها أموالك- فكن فيها وادعا آمنا إلى أن يستقيم طالعك- فالملوك ما زالوا هكذا- يدبر طالعهم ثم يقبل- فقال له لا أقدر على الثبات فيها و المقام بها- لأن التتر سوف يطلبونني- و يقدمون إلى هاهنا- و لو شاءوا لوضعوا سروج خيلهم- واحدا على واحد تحت القلعة- فبلغت إلى ذروتها و صعدوا عليها- فأخذوني قبضا باليد- فعلم أنليمش أن عقله قد تغير- و أن الله تعالى قد بدل ما به من نعمة- فقال فما الذي تريد- قال أريد أن تحملني في البحر المعروف ببحر المعبر إلى كرمان- فحمله في نفر يسير من مماليكه إلى كرمان- ثم خرج منها إلى أطراف بلاد فارس- فمات هناك في قرية من قرى فارس- و أخفي موته لئلا يقصده التتر و تطلب جثته- .

و جملة الأمر أن حاله مشتبهة ملتبسة- لم يتحقق على يقين- و بقي الناس بعد هلاكه نحو سبع سنين ينتظرونه- . و يذهب كثير منهم إلى أنه حي مستتر- إلى أن ثبت عند الناس كافة أنه هلك- . فأما جرماغون- فإنه لما يئس من الظفر بخوارزمشاه- عاد من ساحل البحر إلى مازندران- فملكها في أسرع وقت- مع حصانتها و صعوبة الدخول إليها و امتناع قلاعها- فإنها لم تزل ممتنعة على قديم الوقت- حتى أن المسلمين لما ملكوا بلاد الأكاسرة- من العراق إلى أقصى خراسان- بقيت أعمال مازندران بحالها تؤدي الخراج- و لا يقدر المسلمون على دخولها- إلى أيام سليمان بن عبد الملك- . و لما ملكت التتار مازندران- قتلوا فيها و نهبوا و سلبوا- ثم سلكوا نحو الري- فصادفوا في الطريق والدة خوارزمشاه و نساءه- و معهن أموال بيت خوارزمشاه و ذخائرهم- التي ما لا يسمع بمثلها من الأعلاق النفيسة- و هن قاصدات نحو الري- ليعتصمن ببعض القلاع المنيعة- فاستولى التتار عليهن و على ما معهن بأسره- و سيروه كله إلى جنكزخان بسمرقند- و صمدوا صمد الري- و قد كان اتصل بهم- أن محمدا خوارزمشاه قصدها- كما يتسامع الناس بالأراجيف الصحيحة و الباطلة- فوصلوها على حين غفلة من أهلها- فلم يشعر بهم عسكر الري- إلا و قد ملكوها و نهبوها و سبوا الحرم- و استرقوا الغلمان و فعلوا كل قبيح منكر فيها- و لم يقيموا بها- و مضوا مسرعين في طلب خوارزمشاه- فنهبوا في طريقهم ما مروا به من المدن و القرى- و أحرقوا و خربوا- و قتلوا الذكران و الإناث- و لم يبقوا على شي‏ء و قصدوا نحو همذان- فخرج إليهم رئيسها- و معه أموال جليلة قد جمعها من أهل همذان- عينا و عروضا و خيلا- و طلب منهم الأمان لأهل البلد- فأمنوهم و لم يعرضوا لهم و ساروا إلى زنجان و استباحوها- و إلى قزوين فاعتصم أهلها منهم بقصبة مدينتهم- فدخلوها بالسيف عنوة- و قاتلهم أهلها قتالا شديدا بالسكاكين- و هم معتادون بقتال السكين من حروبهم مع الإسماعيلية- فقتل من الفريقين ما لا يحصى-

و يقال إن القتلى بلغت أربعين ألفا من أهل قزوين خاصة- . ثم هجم على التتار البرد الشديد و الثلج المتراكم- فساروا إلى أذربيجان فنهبوا القرى- و قتلوا من وقف بين أيديهم- و أخربوا و أحرقوا- حتى وصلوا إلى تبريز- و بها صاحب أذربيجان أزبك بن البهلوان بن أيلدكر- فلم يخرج إليهم و لا حدث نفسه بقتالهم- لاشتغاله بما كان عليه من اللهو- و إدمان الشرب ليلا و نهارا- فأرسل إليهم و صالح لهم على مال و ثياب و دواب- و حمل الجميع إليهم- فساروا من عنده يطلبون ساحل البحر- لأنه مشتى صالح لهم و المراعي به كثيرة- فوصلوا إلى موقان- و هي المنزل الذي نزلته الخرمية في أيام المعتصم- و قد ذكره الطائيان في أشعارهما في غير موضع- و الناس اليوم يقولون بالغين المعجمة عوض القاف- و قد كانوا تطرقوا في طريقهم بعض أعمال الكرج- فخرج إليهم منهم عشرة آلاف مقاتل- فحاربوهم و هزموهم و قتلوا أكثرهم- . فلما استقروا بموقان- راسلت الكرج أزبك بن البهلوان- في الاتفاق على حربهم- و راسلوا موسى بن أيوب المعروف بالأشرف- و كان صاحب خلاط و إرمينية بمثل ذلك- و ظنوا أنهم يصبرون إلى أيام الربيع و انحسار الثلوج- فلم يصبروا و صاروا من موقان في صميم الشتاء نحو بلاد الكرج- فخرجت إليهم الكرج- و اقتتلوا قتالا شديدا فلم يثبتوا للتتار- و انهزموا أقبح هزيمة- و قتل منهم من لا يحصى- فكانت هذه الوقعة في ذي الحجة- من سنة سبع عشرة و ستمائة- .

ثم توجهوا إلى المراغة في أول سنة ثماني عشرة- فملكوها في صفر- و كانت لامرأة من بقايا ملوك المراغة تدبرها هي و وزراؤها- فنصبوا عليها المجانيق- و قدموا أسارى المسلمين بين أيديهم- و هذه عادتهم يتترسون بهم في الحروب- فيصيبهم حدها و يسلمون هم من مضرتها- فملكوها عنوة و وضعوا السيف في أهلها- و نهبوا ما يصلح لهم و أحرقوا ما لا يصلح لهم- و خذل الناس عنهم- حتى كان الواحد منهم يقتل بيده مائة إنسان- و السيوف في أيديهم لا يقدر أحد منهم- أن يحرك يده بسيفه نحو ذلك التتري- خذلان صب على الناس و أمر سمائي اقتضاه- .

ثم عادوا إلى همذان- فطالبوا أهلها بمثل المال الذي بذلوه لهم في الدفعة الأولى- فلم يكن في الناس فضل لذلك- لأنه كان عظيما جدا- فقام إلى رئيس همذان جماعة من أهلها- و أسمعوه كلاما غليظا- فقالوا أفقرتنا أولا- و تريد أن تستصفينا دفعة ثانية- ثم لا بد للتتار أن يقتلونا- فدعنا نجاهدهم بالسيف و نموت كراما- ثم وثبوا على شحنة كان للتتار بهمذان فقتلوه- و اعتصموا بالبلد فحصرهم التتار فيه- فقلت عليهم الميرة و عدمت الأقوات- و أضر ذلك بأهل همذان- و لم ينل التتار مضرة من عدم القوت- لأنهم لا يأكلون إلا اللحم و الخيل معهم كثيرة- و معهم غنم عظيمة يسوقونها حيث شاءوا- و خيلهم لا تأكل الشعير و لا تأكل إلا نبات الأرض- تحفر بحوافرها الأرض عن العروق فتأكلها- .

فاضطر رئيس همذان و أهلها إلى الخروج إليهم- فخرجوا و التحمت الحرب بينهم أياما- و فقد رئيس همذان- هرب في سرب قد كان أعده- إلى موضع اعتصم به ظاهر البلد- و لم يعلم حقيقة حاله- فتحير أهل همذان بعد فقده و دخلوا المدينة- و اجتمعت كلمتهم على القتال في قصبة البلد إلى أن يموتوا- و كان التتار قد عزموا على الرحيل عنهم- لكثرة من قتل منهم- فلما لم يروا أحدا يخرج إليهم من البلد- طمعوا و استدلوا على ضعف أهله- فقصدوهم و قاتلوهم-و ذلك في شهر رجب من سنة ثماني عشرة و ستمائة- و دخلوا المدينة بالسيف- و قاتلهم الناس في الدروب- و بطل السلاح للازدحام- و اقتتلوا بالسكاكين- فقتل من الفريقين ما لا يحصى- و ظهر التتار على المسلمين فأفنوهم قتلا- و لم يسلم منهم إلا من كان له نفق في الأرض يستخفي فيه- ثم ألقوا النار في البلد فأحرقوها- و رحلوا إلى مدينة أردبيل و أعمال أذربيجان- فملكوا أردبيل و قتلوا فيها فأكثروا- .

ثم ساروا إلى تبريز- و كان بها شمس الدين عثمان الطغرائي- قد جمع كلمة أهلها- بعد مفارقة صاحب أذربيجان أزبك بن البهلوان للبلاد- خوفا من التتار و مقامه بنقجوان- فقوى الطغرائي نفوس الناس على الامتناع- و حذرهم عاقبة التخاذل و حصن البلد- فلما وصل التتار- و رأوا اجتماع كلمة المسلمين و حصانة البلد- طلبوا منهم مالا و ثيابا- فاستقر الأمر بينهم على شي‏ء معلوم- فسيروه إليهم- فلما أخذوه رحلوا إلى بيلقان- فقاتلهم أهلها- فملكها التتار في شهر رمضان من هذه السنة- و وضعوا فيهم السيف حتى أفنوهم أجمعين- ثم ساروا إلى مدينة كنجة- و هي أم بلاد أران- و أهلها ذوو شجاعة و بأس و جلد- لمقاومتهم الكرج و تدربهم بالحرب- فلم يقدر التتار عليهم- و أرسلوا إليهم يطلبون مالا و ثيابا فأرسلوه إليهم- فساروا عنهم فقصدوا الكرج- و قد أعدوا لهم- فلما صافوهم هرب الكرج و أخذهم السيف- فلم يسلم إلا الشريد- و نهبت بلادهم و أخربت- و لم يوغل التتار في بلاد الكرج- لكثرة مضايقها و دربنداتها- فقصدوا دربند شروان- فحصروا مدينة شماخي- و صعدوا سورها في السلاليم- و ملكوا البلد بعد حرب شديدة- و قتلوا فيه فأكثروا- .

فلما فرغوا أرادوا عبور الدربند- فلم يقدموا عليه- فأرسلوا إلى شروانشاه ملك الدربند- فطالبوه بإنفاذ رسول يسعى بينه و بينهم في الصلح- فأرسل إليهم عشرة من ثقاته- فلما وصلوا إليهم جمعوهم- ثم قتلوا واحدا منهم بحضور الباقين- و قالوا للتسعة إن أنتم عرفتمونا طريقا نعبر فيه فلكم الأمان- و إلا قتلناكم كما قتلنا صاحبكم- فقالوا لهم لا طريق في هذا الدربند- و لكن نعرفكم موضعا- هو أسهل المواضع لعبور الخيل- .

و ساروا بين أيديهم إليه- فعبروا الدربند و تركوه وراء ظهورهم- و ساروا في تلك البلاد- و هي مملوءة من طرائق مختلفة- منهم اللان و اللكر و أصناف من الترك- فنهبوها و قتلوا الكثير من ساكنيها- و رحلوا إلى اللان و هم أمم كثيرة- و قد وصلهم خبرهم و جمعوا و حذروا- و انضاف إليهم جموع من قفجاق- فقاتلوهم فلم يظفر أحد العسكرين بالآخر- فأرسل التتار إلى قفجاق- أنتم إخواننا و جنسنا واحد- و اللان ليسوا من جنسكم لتنصروهم- و لا دينهم دينكم- و نحن نعاهدكم ألا نعرض لكم- و نحمل إليكم من المال- و الثياب ما يستقر بيننا و بينكم- على أن تنصرفوا إلى بلادكم- .

فاستقر الأمر بينهم على مال و ثياب- حملها التتار إليهم- و فارقت قفجاق اللان- فأوقع التتار باللان فقتلوهم- و نهبوا أموالهم و سبوا نساءهم- فلما فرغوا منهم ساروا إلى بلاد قفجاق- و هم آمنون متفرقون- لما استقر بينهم و بين التتار من الصلح- فلم يشعروا بهم إلا و قد طرقوهم- و دخلوا بلادهم فأوقعوا بهم الأول فالأول- و أخذوا منهم أضعاف ما حملوا إليهم- و سمع ما كان بعيد الدار من قفجاق بما جرى- .
ففروا عن غير قتال فأبعدوا- فبعضهم بالغياض و بعضهم بالجبال- و بعضهم لحقوا ببلاد الروس- و أقام التتار في بلاد قفجاق- و هي أرض كثيرة المراعي في الشتاء- و فيها أيضا أماكن باردة في الصيف كثيرة المراعي- و هي غياض على ساحل البحر- .

ثم سارت طائفة منهم إلى بلاد الروس- و هي بلاد كثيرة عظيمة و أهلها نصارى- و ذلك في سنة عشرين و ستمائة- فاجتمع الروس و قفجاق عن منعهم عن البلاد- فلما قاربهم التتار و عرفوا اجتماعهم- رجعوا القهقرى إيهاما للروس- أن ذلك عن خوف و حذر- فجدوا في اتباعهم- و لم يزل التتار راجعين- و أولئك يقفون آثارهم اثني عشر يوما- .

ثم رجعت التتار على الروس و قفجاق- فأثخنوا فيهم قتلا و أسرا- و لم يسلم منهم إلا القليل- و من سلم نزل في المراكب- و خرج في البحر إلى الساحل الشامي- و غرق بعض المراكب- . و هذه الوقائع كلها تولاها التتر المغربة- الذين قادهم جرماغون- فأما ملكهم الأكبر جنكزخان- فإنه كان في هذه المدة بسمرقند ما وراء النهر- فقسم أصحابه أقساما- فبعث قسما منهم إلى فرغانة و أعمالها فملكوها- و بعث قسما آخر إلى ترمذ و ما يليها فملكوها- و بعث قسما آخر إلى بلخ- و ما يليها من أعمال خراسان- فأما بلخ فإنهم أمنوا أهلها- و لم يتعرضوا لها بنهب و لا قتل- و جعلوا فيها شحنة- و كذلك فارياب و كثير من المدن- إلا أنهم أخذوا أهلها- يقاتلون بهم من يمتنع عليهم- حتى وصلوا إلى الطالقان و هي عدة بلاد- و فيها قلعة حصينة و بها رجال أنجاد- فأقاموا على حصارها شهورا فلم يفتحوها- فأرسلوا إلى جنكزخان يعرفونه عجزهم عنها- فسار بنفسه و عبر جيحون- و معه من الخلائق ما لا يحصى- فنزل على هذه القلعة- و بنى حولها شبه قلعة أخرى من طين و تراب و خشب و حطب- و نصب عليها المنجنيقات- و رمى القلعة بها فلما رأى أهلها ذلك فتحوها- و خرجوا و حملوا حملة واحدة- فقتل منهم من قتل و سلم من سلم- و خرج السالمون فسلكوا تلك الجبال و الشعاب- ناجين بأنفسهم و دخل التتار القلعة- فنهبوا الأموال و الأمتعة- و سبوا النساء و الأطفال- .

ثم سير جنكزخان جيشا عظيما- مع أحد أولاده إلى مدينة مرو- و بها مائتا ألف من المسلمين- فكانت بين التتار- و بينهم حروب عظيمة شديدة- صبر فيها المسلمون ثم انهزموا- و دخلوا البلد و أغلقوا أبوابه- فحاصره التتار حصارا طويلا- ثم أمنوا متقدم البلد- فلما خرج إليهم في الأمان- خلع عليه ابن جنكزخان و أكرمه- و عاهده ألا يتعرض لأحد من أهل مرو- ففتح الناس الأبواب- فلما تمكنوا منهم- استعرضوهم بالسيف عن آخرهم- فلم يبقوا منهم باقية- بعد أن استصفوا أرباب الأموال- عقيب عذاب شديد عذبوهم به- .

ثم ساروا إلى نيسابور- ففعلوا به ما فعلوا بمرو من القتل و الاستئصال- ثم عمدوا إلى طوس- فنهبوها و قتلوا أهلها- و أخرجوا المشهد الذي به علي بن موسى الرضا ع- و الرشيد هارون بن المهدي- و ساروا إلى هراة فحصروها- ثم أمنوا أهلها- فلما فتحوها قتلوا بعضهم- و جعلوا على الباقين شحنة- فلما بعدوا وثب أهل هراة على الشحنة فقتلوه- فعاد عليهم عسكر من التتار- فاستعرضوهم بالسيف- فقتلوهم عن آخرهم- . ثم عادوا إلى طالقان- و بها ملكهم الأكبر جنكزخان- فسير طائفة منهم إلى خوارزم- و جعل فيها مقدم أصحابه و كبراءهم- لأن خوارزم حينئذ كانت مدينة الملك- و بها عسكر كثير من الخوارزمية- و عوام البلد معروفون بالبأس و الشجاعة- فساروا و وصلوا إليها فالتقى الفئتان- و اقتتلوا أشد قتال سمع به- و دخل المسلمون البلد- و حصرتهم التتار خمسة أشهر- و أرسل التتار إلى جنكزخان يطلبون المدد- فأمدهم بجيش من جيوشه- فلما وصل قويت منتهم به- و زحفوا إلى البلد زحفا متتابعا فملكوا طرفا منه- و ولجوا المدينة فقاتلهم المسلمون داخل البلد- فلم يكن لهم به طاقة- فملكوه و قتلوا كل من فيه- فلما فرغوا منه و قضوا- وطرهم من القتل و النهب- فتحوا السكر الذي يمنعماء جيحون عن خوارزم- فدخل الماء البلد فغرق كله- و انهدمت الأبنية فبقي بحرا- و لم يسلم من أهل خوارزم أحد البتة- فإن غيره من البلاد كان يسلم نفر يسير من أهلها- و أما خوارزم فمن وقف للسيف قتل- و من استخفى غرقه الماء أو أهلكه الهدم- فأصبحت خوارزم يبابا- .

فلما فرغ التتر من هذه البلاد- سيروا جيشا إلى غزنة- و بها حينئذ جلال الدين منكبري بن محمد خوارزمشاه مالكها- و قد اجتمع إليه من سلم من عسكر أبيه و غيرهم- فكانوا نحو ستين ألفا- و كان الجيش الذي سار إليهم التتار اثني عشر ألفا- فالتقوا في حدود غزنة- و اقتتلوا قتالا شديدا ثلاثة أيام- ثم أنزل الله النصر على المسلمين- فانهزم التتر و قتلهم المسلمون- كيف شاءوا و تحيز الناجون منهم إلى الطالقان- و بها جنكزخان و أرسل جلال الدين إليه رسولا- يطلب منه أن يعين موضعا للحرب- فاتفقوا على أن يكون الحرب بكابل- فأرسل جنكزخان إليها جيشا- و سار جلال الدين إليها بنفسه و تصافوا هناك- فكان الظفر للمسلمين- و هرب التتار فالتجئوا إلى الطالقان- و جنكزخان مقيم بها أيضا- و غنم المسلمون منهم غنائم عظيمة- فجرت بينهم فتنة عظيمة في الغنائم- و ذلك- لأن أميرا من أمرائهم اسمه بغراق- كان قد أبلي في حرب التتر هذه- جرت بينه و بين أمير- يعرف بملك خان نسيب خوارزمشاه مقاولة- أفضت إلى أن قتل أخ لبغراق- فغضب و فارق جلال الدين في ثلاثين ألفا- فتبعه جلال الدين و استرضاه و استعطفه- فلم يرجع فضعف جانب جلال الدين بذلك- فبينا هو كذلك وصله الخبر- أن جنكزخان قد سار إليه من الطالقان بنفسه و جيوشه- فعجز عن مقاومته- و علم أنه لا طاقة له به- فسار نحو بلاد الهند و عبر نهر السند- و ترك غزنة شاغرة كالفريسة للأسد- فوصل إليهاجنكزخان فملكها- و قتل أهلها و سبى نساءها- و أخرب القصور و تركها كأمس الغابر- .

ثم كانت لهم بعد ملك غزنة و استباحتها- وقائع كثيرة مع ملوك الروم بني قلج‏أرسلان- لم يوغلوا فيها في البلاد- و إنما كانوا يتطرقونها- و ينهبون ما تاخمهم منها- و أذعن لهم ملوك فارس و كرمان و التيز و مكران بالطاعة- و حملوا إليهم الإتاوة- و لم يبق في البلاد الناطقة باللسان الأعجمي بلد- إلا حكم فيه سيفهم أو كتابهم- فأكثر البلاد قتلوا أهلها- و سبق السيف فيهم العذل- و الباقي أدى الإتاوة إليهم رغما- و أعطى الطاعة صاغرا- و رجع جنكزخان إلى ما وراء النهر و توفي هناك- .

و قام بعده ابنه قاآن مقامه- و ثبت جرماغون في مكانه بأذربيجان- و لم يبق لهم إلا أصبهان- فإنهم نزلوا عليها مرارا- في سنة سبع و عشرين و ستمائة و حاربهم أهلها- و قتل من الفريقين مقتلة عظيمة- و لم يبلغوا منها غرضا- حتى اختلف أهل أصبهان- في سنة ثلاث و ثلاثين و ستمائة و هم طائفتان- حنفية و شافعية- و بينهم حروب متصلة و عصبية ظاهرة- فخرج قوم من أصحاب الشافعي- إلى من يجاورهم و يتاخمهم من ممالك التتار- فقالوا لهم اقصدوا البلد حتى نسلمه إليكم- فنقل ذلك إلى قاآن بن جنكزخان بعد وفاة أبيه- و الملك يومئذ منوط بتدبيره- فأرسل جيوشا من المدينة المستجدة- التي بنوها و سموها قراحرم- فعبرت جيحون مغربة- و انضم إليها قوم ممن أرسله- جرماغون على هيئة المدد لهم- فنزلوا على أصفهان- في سنة ثلاث و ثلاثين المذكورة و حصروها- فاختلف سيفا الشافعية و الحنفية في المدينة- حتى قتل كثير منهم- و فتحت أبواب المدينة- و فتحها الشافعية على عهد بينهم- و بين التتار أن يقتلوا الحنفية- و يعفوا عن الشافعية- فلما دخلوا البلد بدءوا بالشافعية- فقتلوهم قتلا ذريعا- و لم يقفوا مع العهد الذي عهدوه لهم- ثم قتلوا الحنفية ثم قتلوا سائر الناس- و سبوا النساء و شقوا بطون الحبالى- و نهبوا الأموال و صادروا الأغنياء- ثم أضرموا النار فأحرقوا أصبهان- حتى صارت تلولا من الرماد- .

فلما لم يبق لهم بلد من بلاد العجم- إلا و قد دوخوه- صمدوا نحو إربل في سنة أربع و ثلاثين و ستمائة- و قد كانوا طرقوها مرارا- و تحيفوا بعض نواحيها فلم يوغلوا فيها- و الأمير المرتب بها يومئذ باتكين الرومي- فنزل عليها في ذي القعدة- من هذه السنة منهم نحو ثلاثين ألف فارس- أرسلهم جرماغون- و عليهم مقدم كبير من رؤسائهم يعرف بجكتاي- فغاداها القتال و رواحها- و بها عسكر جم من عساكر الإسلام- فقتل من الفريقين خلق كثير- و استظهر التتار و دخلوا المدينة- و هرب الناس إلى القلعة- فاعتصموا بها و حصرهم التتار- و طال الحصار حتى هلك الناس في القلعة عطشا- و طلب باتكين منهم- أن يصالحوه عن المسلمين بمال يؤديه إليهم- فأظهروا الإجابة- فلما أرسل إليهم ما تقرر بينهم و بينه- أخذوا المال و غدروا به- و حملوا على القلعة بعد ذلك حملات عظيمة- و زحفوا إليها زحفا متتابعا- و علقوا عليها المنجنيقات الكثيرة- و سير المستنصر بالله الخليفة جيوشه- مع مملوكه و خادم حضرته- و أخص مماليكه به شرف الدين إقبال الشرامي- فساروا إلى تكريت- فلما عرف التتر شخوصهم رحلوا عن إربل- بعد أن قتلوا منها ما لا يحصى- و أخربوها و تركوها كجوف حمار- و عادوا إلى تبريز و بها مقام جرماغون- و قد جعلها دار ملكه- .

فلما رحلوا عن إربل- عاد العسكر البغدادي إلى بغداد- و كانت للتتار بعد ذلك نهضات و سرايا كثيرة إلى بلاد الشام- قتلوا و نهبوا و سبوا فيها- حتى انتهت خيولهم إلى حلب فأوقعوا بها- و صانعهم عنها أهلها و سلطانها- ثم عمدوا إلى بلاد كيخسرو صاحب الروم- و ذلك بعد أن هلك جرماغون- و قام عوضه المعروف ببابايسيجو- و كانقد جمع لهم ملك الروم قضه و قضيضه- و جيشه و لفيفه- و استكثر من الأكراد العتمرية- و من عساكر الشام و جند حلب- فيقال إنه جمع مائة ألف فارس و راجل- فلقيه التتار في عشرين ألفا- فجرت بينه و بينهم حروب شديدة- قتلوا فيها مقدمته- و كانت المقدمة كلها أو أكثرها من رجال حلب- و هم أنجاد أبطال فقتلوا عن آخرهم- و انكسر العسكر الرومي- و هرب صاحب الروم حتى انتهى إلى قلعة له- على البحر تعرف بأنطاكية- فاعتصم بها و تمزقت جموعه- و قتل منهم عدد لا يحصى- و دخلت التتار إلى المدينة المعروفة بقيسارية- ففعلوا فيها أفاعيل منكرة- من القتل و النهب و التحريق- و كذلك بالمدينة المعروفة بسيواس و غيرها- من كبار المدن الرومية- و بخع لهم صاحب الروم بالطاعة- و أرسل إليهم يسألهم قبول المال و المصانعة- فضربوا عليه ضريبة يؤديها إليهم كل سنة- و رجعوا عن بلاده- .

و أقاموا على جملة السكون و الموادعة- للبلاد الإسلامية كلها- إلى أن دخلت سنة ثلاث و أربعين و ستمائة- فاتفق أن بعض أمراء بغداد- و هو سليمان بن برجم- و هو مقدم الطائفة المعروفة بالإيواء- و هي من التركمان قتل شحنة من شحنهم- في بعض قلاع الجبل يعرف بخليل بن بدر- فأثار قتله أن سار من تبريز عشرة آلاف غلام منهم- يطوون المنازل و يسبقون خبرهم- و مقدمهم المعروف بجكتاي الصغير- فلم يشعر الناس ببغداد إلا و هم على البلد- و ذلك في شهر ربيع الآخر- من هذه السنة في فصل الخريف- و قد كان الخليفة المستعصم بالله- أخرج عسكره إلى ظاهر سور بغداد- على سبيل الاحتياط- و كان التتر قد بلغهم ذلك إلا أن جواسيسهم غرتهم- و أوقعت في أذهانهم- أنه ليس خارج السور إلا خيام مضروبة- و فساطيط مضروبة لا رجال تحتها- و أنكم متى أشرفتم عليهم ملكتم سوادهم و ثقلهم- و يكون قصارى أمر قوم قليلين تحتها- أن ينهزموا إلى البلد- و يعتصموا بجدرانه- فأقبلتالتتر على هذا الظن- و سارت على هذا الوهم- فلما قربوا من بغداد- و شارفوا الوصول إلى المعسكر- أخرج المستعصم بالله الخليفة مملوكه- و قائد جيوشه شرف الدين إقبالا الشرابي إلى ظاهر السور- و كان خروجه في ذلك اليوم- من لطف الله تعالى بالمسلمين- فإن التتار لو وصلوا و هو بعد لم يخرج لاضطرب العسكر- لأنهم كانوا يكونون بغير قائد و لا زعيم- بل كل واحد منهم أمير نفسه و آراؤهم مختلفة- لا يجمعهم رأي واحد- و لا يحكم عليها حاكم واحد- فكانوا في مظنة الاختلاف و التفرق- و الاضطراب و التشتت- فكان خروج شرف الدين إقبال الشرابي- في اليوم السادس عشر من هذا الشهر المذكور- و وصلت التتر إلى سور البلد في اليوم السابع عشر- فوقفوا بإزاء عساكر بغداد صفا واحدا- و ترتب العسكر البغدادي ترتيبا منتظما- و رأى التتر من كثرتهم- و جودة سلاحهم و عددهم و خيولهم- ما لم يكونوا يظنونه و لا يحسبونه- و انكشف ذلك الوهم- الذي أوهمهم جواسيسهم عن الفساد و البطلان- .

و كان مدبر أمر الدولة و الوزارة في هذا الوقت- هو الوزير مؤيد الدين محمد بن أحمد بن العلقمي- و لم يحضر الحرب- بل كان ملازما ديوان الخلافة بالحضرة- لكنه كان يمد العسكر الإسلامي من آرائه و تدبيراته- بما ينتهون إليه و يقفون عنده- فحملت التتار على عسكر بغداد حملات متتابعة- ظنوا أن واحدة منها تهزمهم- لأنهم قد اعتادوا أنه لا يقف عسكر- من العساكر بين أيديهم- و أن الرعب و الخوف منهم يكفي- و يغني عن مباشرتهم الحرب بأنفسهم- فثبت لهم عسكر بغداد أحسن ثبوت- و رشقوهم بالسهام و رشقت التتار أيضا بسهامها- و أنزل الله سكينته على عسكر بغداد- و أنزل بعد السكينة نصره- فما زال العسكر البغدادي تظهر عليه أمارات القوة- و تظهر على التتار أمارات الضعف و الخذلان- إلى أن حجز الليل بين الفريقين- و لم يصطدم الفيلقان- و إنماكانت مناوشات و حملات خفيفة- لا تقتضي الاتصال و الممازجة- و رشق بالنشاب شديد- .

فلما أظلم الليل أوقد التتار نيرانا عظيمة- و أوهموا أنهم مقيمون عندها- و ارتحلوا في الليل راجعين إلى جهة بلادهم- فأصبح العسكر البغدادي- فلم ير منهم عينا و لا أثرا- و ما زالوا يطوون المنازل- و يقطعون القرى عائدين- حتى دخلوا الدربند و لحقوا ببلادهم- . و كان ما جرى من دلائل النبوة- لأن الرسول ص وعد هذه الملة- بالظهور و البقاء إلى يوم القيامة- و لو حدث على بغداد منهم حادثة- كما جرى على غيرها من البلاد- لانقرضت ملة الإسلام و لم يبق لها باقية- . و إلى أن بلغنا من هذا الشرح إلى هذا الموضع- لم يذعر العراق منهم ذاعر بعد تلك النوبة التي قدمنا ذكرها- .

قلت و قد لاح لي من فحوى كلام أمير المؤمنين ع- أنه لا بأس على بغداد و العراق منهم- و أن الله تعالى يكفي هذه المملكة شرهم- و يرد عنها كيدهم- و ذلك من قوله ع- و يكون هناك استحرار قتل- فأتى بالكاف و هي إذا وقعت عقيب الإشارة أفادت البعد- تقول للقريب هنا و للبعيد هناك- و هذا منصوص عليه في العربية- و لو كان لهم استحرار قتل في العراق- لما قال هناك بل كان يقول هنا- لأنه ع خطب بهذه الخطبة في البصرة- و معلوم أن البصرة و بغداد شي‏ء واحد و بلد واحد- لأنهما جميعا من إقليم العراق- و ملكهما ملك واحد- فيلمح هذا الموضع فإنه لطيف- .

و كتبت إلى مؤيد الدين الوزير- عقيب هذه الوقعة التي نصر فيها الإسلام- و رجع التتر مخذولين ناكصين على أعقابهم- أبياتا أنسب إليه الفتح- و أشير إلى أنه هو الذي قام بذلك- و إن لم يكن حاضرا له بنفسه- و أعتذر إليه عن الإغباب بمديحه- فقد كانت الشواغل و القواطع تصد عن الانتصاب لذلك-

أبقى لنا الله الوزير و حاطه
بكتائب من نصره و مقانب‏

و امتد وارف ظله لنزيله‏
وصفت متون غديره للشارب‏

يا كالئ الإسلام إذ نزلت به
فرغاء تشهق بالنجيع السالب‏

في خطة بهماء ديمومية
لا يهدى فيها السليك للاحب‏

لا يمتطي سلساتها مرهوبة
الإبساس جلس لا تدر لعاصب‏

فرجت غمرتها بقلب ثابت‏
في حملة ذعرى و رأي ثاقب‏

ما غبت ذاك اليوم عن تدبيرها
كم حاضر يعصى بسيف الغائب‏

عمر الذي فتح العراق و إنما
سعد حسام في يمين الضارب‏

أثني عليك ثناء غير موارب
و أجيد فيك المدح غير مراقب‏

و أنا الذي يهواك حبا صادقا
متقادما و لرب حب كاذب‏

حبا ملأت به شعاب جوانحي
يفعا و ها أنا ذو عذار شائب‏

إن القريض و إن أغب متيم
بكم و رب مجانب كمواظب‏

و لقد يخالصك القصي و ربما
يمنى بود مماذق متقارب‏

سدت مسالكه هموم جعجعت
بالفكر حتى لا يبض لحالب‏

و من العناء مغلب في حظه‏
يبغي مغالبة القضاء الغالب‏

– و هي طويلة و إنما ذكرنا منها ما اقتضته الحال

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 8

خطبه 127 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

127 و من كلام له ع قاله للخوارج أيضا

فَإِنْ أَبَيْتُمْ إِلَّا أَنْ تَزْعُمُوا أَنِّي أَخْطَأْتُ وَ ضَلَلْتُ- فَلِمَ تُضَلِّلُونَ عَامَّةَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ص بِضَلَالِي- وَ تَأْخُذُونَهُمْ بِخَطَئِي- وَ تُكَفِّرُونَهُمْ بِذُنُوبِي- سُيُوفُكُمْ عَلَى عَوَاتِقِكُمْ- تَضَعُونَهَا مَوَاضِعَ الْبُرْءِ وَ السُّقْمِ- وَ تَخْلِطُونَ مَنْ أَذْنَبَ بِمَنْ لَمْ يُذْنِبْ- وَ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص رَجَمَ الزَّانِيَ الْمُحْصَنَ- ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ وَرَّثَهُ أَهْلَهُ- وَ قَتَلَ الْقَاتِلَ وَ وَرَّثَ مِيرَاثَهُ أَهْلَهُ- وَ قَطَعَ يَدَ السَّارِقِ وَ جَلَدَ الزَّانِيَ غَيْرَ الْمُحْصَنِ- ثُمَّ قَسَمَ عَلَيْهِمَا مِنَ الْفَيْ‏ءِ وَ نَكَحَا الْمُسْلِمَاتِ- فَأَخَذَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ص بِذُنُوبِهِمْ- وَ أَقَامَ حَقَّ اللَّهِ فِيهِمْ- وَ لَمْ يَمْنَعْهُمْ سَهْمَهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ- وَ لَمْ يُخْرِجْ أَسْمَاءَهُمْ مِنْ بَيْنِ أَهْلِهِ- ثُمَّ أَنْتُمْ شِرَارُ النَّاسِ- وَ مَنْ رَمَى بِهِ الشَّيْطَانُ مَرَامِيَهُ وَ ضَرَبَ بِهِ تِيهَهُ- وَ سَيَهْلِكُ فِيَّ صِنْفَانِ- مُحِبٌّ مُفْرِطٌ يَذْهَبُ بِهِ الْحُبُّ إِلَى غَيْرِ الْحَقِّ- وَ مُبْغِضٌ مُفْرِطٌ يَذْهَبُ بِهِ الْبُغْضُ إِلَى غَيْرِ الْحَقِّ- وَ خَيْرُ النَّاسِ فِيَّ حَالًا النَّمَطُ الْأَوْسَطُ فَالْزَمُوهُ- وَ الْزَمُوا السَّوَادَ الْأَعْظَمَ- فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ- وَ إِيَّاكُمْ وَ الْفُرْقَةَ- فَإِنَّ الشَّاذَّ مِنَ النَّاسِ لِلشَّيْطَانِ- كَمَا أَنَّ الشَّاذَّ مِنَ الْغَنَمِ لِلذِّئْبِ- أَلَا مَنْ دَعَا إِلَى هَذَا الشِّعَارِ فَاقْتُلُوهُ- وَ لَوْ كَانَ تَحْتَ عِمَامَتِي هَذِهِ- فَإِنَّمَا حُكِّمَ‏ الْحَكَمَانِ لِيُحْيِيَا مَا أَحْيَا الْقُرْآنُ- وَ يُمِيتَا مَا أَمَاتَ الْقُرْآنُ- وَ إِحْيَاؤُهُ الِاجْتِمَاعُ عَلَيْهِ- وَ إِمَاتَتُهُ الِافْتِرَاقُ عَنْهُ- فَإِنْ جَرَّنَا الْقُرْآنُ إِلَيْهِمْ اتَّبَعْنَاهُمْ- وَ إِنْ جَرَّهُمْ إِلَيْنَا اتَّبَعُونَا- فَلَمْ آتِ لَا أَبَا لَكُمْ بُجْراً- وَ لَا خَتَلْتُكُمْ عَنْ أَمْرِكُمْ- وَ لَا لَبَّسْتُهُ عَلَيْكُمْ- إِنَّمَا اجْتَمَعَ رَأْيُ مَلَئِكُمْ عَلَى اخْتِيَارِ رَجُلَيْنِ- أَخَذْنَا عَلَيْهِمَا أَلَّا يَتَعَدَّيَا الْقُرْآنَ فَتَاهَا عَنْهُ- وَ تَرَكَا الْحَقَّ وَ هُمَا يُبْصِرَانِهِ- وَ كَانَ الْجَوْرُ هَوَاهُمَا فَمَضَيَا عَلَيْهِ- وَ قَدْ سَبَقَ اسْتِثْنَاؤُنَا عَلَيْهِمَا فِي الْحُكُومَةِ بِالْعَدْلِ- وَ الصَّمْدِ لِلْحَقِّ سُوءَ رَأْيِهِمَا وَ جَوْرَ حُكْمِهِمَا ليس لقائل أن يقول له ع معتذرا عن الخوارج- إنهم إنما ضللوا عامة أمة محمد ص- و حكموا بخطئهم و كفرهم و قتلهم بالسيف خبطا- لأنهم وافقوك في تصويب التحكيم- و هو عندهم كفر فلم يؤاخذوهم بذنبك كما قلت لهم- و ذلك لأن أمير المؤمنين ع ما قال هذه المقالة- إلا لمن رأى منهم استعراض العامة- و قتل الأطفال حتى البهائم- فقد كان منهم قوم فعلوا ذلك- و قد سبق منا شرح أفعالهم و وقائعهم بالناس- و قالوا إن الدار دار كفر لا يجوز الكف- عن أحد من أهلها- فهؤلاء هم الذين وجه أمير المؤمنين ع إليهم خطابه و إنكاره- دون غيرهم من فرق الخوارج

مذهب الخوارج في تكفير أهل الكبائر

و اعلم أن الخوارج كلها تذهب إلى تكفير أهل الكبائر- و لذلك كفروا عليا ع- و من اتبعه على تصويب التحكيم- و هذا الاحتجاج الذي احتج به عليهم‏لازم و صحيح- لأنه لو كان صاحب الكبيرة كافرا- لما صلى عليه رسول الله ص و لا ورثه من المسلم- و لا مكنه من نكاح المسلمات- و لا قسم عليه من الفي‏ء و لأخرجه عن لفظ الإسلام- . و قد احتجت الخوارج لمذهبها بوجوه- منها قوله تعالى- وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ- مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا- وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ- قالوا فجعل تارك الحج كافرا- . و الجواب أن هذه الآية مجملة لأنه تعالى لم يبين- وَ مَنْ كَفَرَ بما ذا- فيحتمل أن يريد تارك الحج- و يحتمل أن يريد تارك اعتقاد وجوبه- على من استطاع إليه سبيلا- فلا بد من الرجوع إلى دلالة- و الظاهر أنه أراد لزوم الكفر لمن كفر- باعتقاد كون الحج غير واجب أ لا تراه في أول الآية قال- وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ- فأنبأ عن اللزوم- ثم قال وَ مَنْ كَفَرَ بلزوم ذلك- و نحن نقول- إن من لم يقل لله على الناس حج البيت فهو كافر- .

و منها قوله تعالى إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ- إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ- قالوا و الفاسق لفسقه و إصراره عليه- آيس من روح الله فكان كافرا- . و الجواب أنا لا نسلم أن الفاسق آيس من روح الله- مع تجويزه تلافي أمره بالتوبة و الإقلاع- و إنما يكون اليأس مع القطع و ليس هذه صفة الفاسق- فأما الكافر الذي يجحد الثواب و العقاب- فإنه آيس من روح الله- لأنه لا تخطر له التوبة و الإقلاع- و يقطع على حسن معتقده- .
و منها قوله تعالى- وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ- فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ- و كل مرتكب للذنوب فقد حكم بغير ما أنزل الله- و لم يحكم بما أنزل الله- .

و الجواب أن هذا مقصور على اليهود- لأن ذكرهم هو المقدم في الآية- قال سبحانه و تعالى سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ- ثم قال عقيب قوله- هُمُ الْكافِرُونَ وَ قَفَّيْنا عَلى‏ آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ- فدل على أنها مقصورة على اليهود- . و منها قوله تعالى- فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى- لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى- الَّذِي كَذَّبَ وَ تَوَلَّى- قالوا و قد اتفقنا مع المعتزلة- على أن الفاسق يصلى النار فوجب أن يسمى كافرا- .

و الجواب أن قوله تعالى ناراً نكرة في سياق الإثبات- فلا تعم و إنما تعم النكرة في سياق النفي- نحو قولك ما في الدار من رجل- و غير ممتنع أن يكون في الآخرة نار مخصوصة- لا يصلاها إلا الذين كذبوا و تولوا- و يكون للفساق نار أخرى غيرها- . و منها قوله تعالى- وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ- قالوا و الفاسق تحيط به جهنم فوجب أن يكون كافرا- . و الجواب أنه لم يقل سبحانه- و إن جهنم لا تحيط إلا بالكافرين- و ليس يلزم من كونها محيطة بقوم ألا تحيط بقوم سواهم- . و منها قوله سبحانه يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ- فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ- أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ- فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ- قالواو الفاسق لا يجوز أن يكون ممن ابيضت وجوههم- فوجب أن يكون ممن اسودت- و وجب أن يسمى كافرا لقوله بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ- . و الجواب أن هذه القسمة ليست متقابلة- فيجوز أن يكون المكلفون ثلاثة أقسام- بيض الوجوه و سود الوجوه- و صنف آخر ثالث بين اللونين و هم الفساق- .

و منها قوله تعالى وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ- ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ- وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ- أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ- قالوا و الفاسق على وجهه غبرة- فوجب أن يكون من الكفرة و الفجرة- . و الجواب أنه يجوز أن يكون الفساق قسما ثالثا- لا غبرة على وجوههم- و لا هي مسفرة ضاحكة- بل على ما كانت عليه في دار الدنيا- . و منها قوله تعالى- ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا- وَ هَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ- قالوا و الفاسق لا بد أن يجازى- فوجب أن يكون كفورا- .

و الجواب أن المراد بذلك- و هل نجازي بعقاب الاستئصال إلا الكفور- لأن الآية وردت في قصة أهل سبإ- لكونهم استؤصلوا بالعقوبة- . و منها أنه تعالى قال- إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ- إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ- و قال في آية أخرى- إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ- وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ- فجعل الغاوي الذي يتبعه مشركا- . و الجواب أنا لا نسلم أن لفظة إنما تفيد الحصر- و أيضا فإنه عطف قوله-وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ- على قوله الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ- فوجب أن يثبت التغاير بين الفريقين- و هذا مذهبنا لأن الذين يتولونه هم الفساق- و الذين هم به مشركون هم الكفار- .

و منها قوله تعالى- وَ أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ- إلى قوله تعالى- وَ قِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ- الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ- فجعل الفاسق مكذبا- . و الجواب أن المراد به الذين فسقوا عن الدين- أي خرجوا عنه بكفرهم- و لا شبهة أن من كان فسقه من هذا الوجه فهو كافر مكذب- و لا يلزم منه أن كل فاسق على الإطلاق- فهو مكذب و كافر- .

و منها قوله تعالى- وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ- قالوا فأثبت الظالم جاحدا و هذه صفة الكفار- . و الجواب أن المكلف قد يكون ظالما بالسرقة و الزنا- و إن كان عارفا بالله تعالى- و إذا جاز إثبات ظالم ليس بكافر- و لا جاحد بآيات الله تعالى- جاز إثبات فاسق ليس بكافر- . و منها قوله تعالى- وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ- فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ- . و الجواب أن هذه الآية تدل على أن الكافر فاسق- و لا تدل على أن الفاسق كافر- . و منها قوله تعالى- فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ- فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ- وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ- فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ- تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَ هُمْ فِيها كالِحُونَ- أَ لَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى‏ عَلَيْكُمْ- فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ- .

فنص سبحانه على أن من تخف موازينه يكون مكذبا- و الفاسق تخف موازينه- فكان مكذبا و كل مكذب كافر- . الجواب أن ذلك لا يمنع من قسم ثالث- و هم الذين لا تخف موازينهم و لا تثقل و هم الفساق- و لا يلزم من كون كل من خفت موازينه يدخل النار- ألا يدخل النار إلا من خفت موازينه- . و منها قوله تعالى- هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ- و هذا يقتضي أن من لا يكون مؤمنا فهو كافر- و الفاسق ليس بمؤمن- فوجب أن يكون كافرا- . و الجواب أن من هاهنا للتبعيض- و ليس في ذكر التبعيض نفي الثالث- كما أن قوله وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى‏ رِجْلَيْنِ- وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى‏ أَرْبَعٍ- لا ينفي وجود دابة تمشي على أكثر- من أربع كبعض الحشرات- . ثم نعود إلى الشرح- قوله ع و من رمى به الشيطان مراميه- أي أضله كأنه رمى به مرمى بعيدا- فضل عن الطريق و لم يهتد إليها- . قوله و ضرب به تيهه أي حيره و جعله تائها- . ثم قال ع يهلك في رجلان- فأحدهما من أفرط حبه له و اعتقاده فيه- حتى ادعى له الحلول كما ادعت النصارى ذلك في المسيح ع- و الثاني من أفرط بغضه له حتى حاربه أو لعنه- أو برئ منه أو أبغضه- هذه المراتب الأربع و البغض أدناها- و هو موبق مهلك- و في الخبر الصحيح المتفق عليه أنه لا يحبه إلا مؤمن- و لا يبغضه إلا منافق- و حسبك بهذا الخبر ففيه وحده كفاية

فصل في ذكر الغلاة من الشيعة و النصيرية و غيرهم

فأما الغلاة فيه فهالكون- كما هلك الغلاة في عيسى ع- وقد روى المحدثون أن رسول الله ص قال له ع فيك مثل من عيسى ابن مريم- أبغضته اليهود فبهتت أمه- و أحبته النصارى فرفعته فوق قدره- و قد كان أمير المؤمنين عثر على قوم من أصحابه خرجوا من حد محبته- باستحواذ الشيطان عليهم أن كفروا بربهم- و جحدوا ما جاء به نبيهم- فاتخذوه ربا و ادعوه إلها- و قالوا له أنت خالقنا و رازقنا- فاستتابهم و استأنى و توعدهم فأقاموا على قولهم- فحفر لهم حفرا دخن عليهم فيها- طمعا في رجوعهم فأبوا فحرقهم- و قال

أ لا تروني قد حفرت حفرا
أني إذا رأيت أمرا منكرا
أوقدت ناري و دعوت قنبرا

وروى أبو العباس أحمد بن عبيد الله بن عمار الثقفي عن محمد بن سليمان بن حبيب المصيصي المعروف بنوين و روي أيضا عن علي بن محمد النوفلي عن مشيخته أن عليا ع مر بقوم- و هم يأكلون في شهر رمضان نهارا- فقال أ سفر أم مرضى- قالوا لا و لا واحدة منهما- قال فمن أهل الكتاب أنتم- فتعصمكم الذمة و الجزية- قالوا لا- قال فما بال الأكل في نهار رمضان- فقاموا إليه فقالوا أنت أنت- يؤمون إلى ربوبيته- فنزل ع عن فرسه- فألصق خده بالأرض- و قال ويلكم إنما أنا عبد من عبيد الله- فاتقوا الله و ارجعوا إلى الإسلام- فأبوا فدعاهم مرارا فأقاموا على كفرهم- فنهض إليهم و قال شدوهم وثاقا- و علي بالفعلة و النار و الحطب- ثم أمربحفر بئرين فحفرتا- إحداهما سربا و الأخرى مكشوفة- و ألقى الحطب في المكشوفة- و فتح بينهما فتحا- و ألقى النار في الحطب فدخن عليهم- و جعل يهتف بهم- و يناشدهم ليرجعوا إلى الإسلام- فأبوا فأمر بالحطب و النار فألقى عليهم- فأحرقوا- فقال الشاعر

لترم بي المنية حيث شاءت
إذا لم ترمني في الحفرتين‏

إذا ما حشتا حطبا بنار
فذاك الموت نقدا غير دين‏

قال فلم يبرح ع حتى صاروا حمما- . ثم استترت هذه المقالة سنة أو نحوها- ثم ظهر عبد الله بن سبإ و كان يهوديا- يتستر بالإسلام بعد وفاة أمير المؤمنين ع فأظهرها- و اتبعه قوم فسموا السبئية- و قالوا إن عليا ع لم يمت و إنه في السماء- و الرعد صوته و البرق صوته- و إذا سمعوا صوت الرعد- قالوا السلام عليك يا أمير المؤمنين- و قالوا في رسول الله ص أغلظ قول- و افتروا عليه أعظم فرية- فقالوا كتم تسعة أعشار الوحي- فنعى عليهم قولهم- الحسن بن علي بن محمد بن الحنفية رضي الله عنه في رسالته- التي يذكر فيها الإرجاء- رواها عنه سليمان بن أبي شيخ- عن الهيثم بن معاوية- عن عبد العزيز بن أبان- عن عبد الواحد بن أيمن المكي- قال شهدت الحسن بن علي بن محمد بن الحنفية- يملي هذه الرسالة فذكرها و قال فيها- و من قول هذه السبئية- هدينا لوحي ضل عنه الناس و علم خفي عنهم- و زعموا أن رسول الله ص كتم تسعة أعشار الوحي- و لو كتم ص شيئا مما أنزل الله عليه- لكتم شأن امرأة زيد- و قوله تعالى تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ- .

ثم ظهر المغيرة بن سعيد مولى بجيلة- فأراد أن يحدث لنفسه مقالة يستهوي بها قوما- و ينال بها ما يريد الظفر به من الدنيا- فغلا في علي ع- و قال لو شاء علي لأحيا عادا و ثمود و قرونا بين ذلك كثيرا- . و روى علي بن محمد النوفلي- قال جاء المغيرة بن سعيد- فاستأذن على أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين- و قال له أخبر الناس أني أعلم الغيب- و أنا أطعمك العراق- فزجره أبو جعفر زجرا شديدا- و أسمعه ما كره فانصرف عنه- فأتى أبا هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية رحمه الله- فقال له مثل ذلك- و كان أبو هاشم أيدا- فوثب عليه فضربه ضربا شديدا أشفى به على الموت- فتعالج حتى برئ- ثم أتى محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن رحمه الله- و كان محمد سكيتا- فقال له كما قال للرجلين- فسكت محمد فلم يجبه- فخرج و قد طمع فيه بسكوته-

و قال أشهد أن هذا هو المهدي- الذي بشر به رسول الله ص- و أنه قائم أهل البيت- و ادعى أن علي بن الحسين ع- أوصى إلى محمد بن عبد الله بن الحسن- ثم قدم المغيرة الكوفة و كان مشعبذا- فدعا الناس إلى قوله- و استهواهم و استغواهم- فاتبعه خلق كثير- و ادعى على محمد بن عبد الله أنه أذن له- في خنق الناس و إسقائهم السموم- و بث أصحابه في الأسفار يفعلون ذلك بالناس- فقال له بعض أصحابه- إنا نخنق من لا نعرف- فقال لا عليكم إن كان من أصحابكم عجلتموه إلى الجنة- و إن كان من عدوكم عجلتموه إلى النار- و لهذا السبب كان المنصور يسمي محمد بن عبد الله الخناق- و ينحله ما ادعاه عليه المغيرة- .

ثم تفاقم أمر الغلاة بعد المغيرة- و أمعنوا في الغلو- فادعوا حلول الذات الإلهية المقدسة- في قوم من سلالة أمير المؤمنين ع- و قالوا بالتناسخ و جحدوا البعث و النشور- و أسقطوا الثواب و العقاب- و قال قوم منهم- إن الثواب و العقاب إنما هو ملاذ هذه الدنيا و مشاقها- و تولدت من هذه المذاهب القديمة- التي قال بها سلفهم مذاهب أفحش منها قال بها خلفهم- حتى صاروا إلى المقالة المعروفة بالنصيرية- و هي التي أحدثها محمد بن نصير النميري- و كان من أصحاب الحسن العسكري ع- و المقالة المعروفة بالإسحاقية- و هي التي أحدثها إسحاق بن زيد بن الحارث- و كان من أصحاب عبد الله بن معاوية- بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب- كان يقول بالإباحة و إسقاط التكاليف- و يثبت لعلي ع شركة مع رسول الله ص في النبوة على وجه- غير هذا الظاهر الذي يعرفه الناس- و كان محمد بن نصير- من أصحاب الحسن بن علي بن محمد بن الرضا- فلما مات ادعى وكالة لابن الحسن- الذي تقول الإمامية بإمامته- ففضحه الله تعالى بما أظهره- من الإلحاد و الغلو و القول بتناسخ الأرواح- ثم ادعى أنه رسول الله و نبي من قبل الله تعالى- و أنه أرسله علي بن محمد بن الرضا- و جحد إمامة الحسن العسكري و إمامة ابنه- و ادعى بعد ذلك الربوبية و قال بإباحة المحارم- . و للغلاة أقوال كثيرة طويلة عريضة- و قد رأيت أنا جماعة منهم- و سمعت أقوالهم و لم أر فيهم محصلا- و لا من يستحق أن يخاطب- و سوف أستقصي ذكر فرق الغلاة و أقوالهم- في الكتاب الذي كنت متشاغلا بجمعه- و قطعني عنه اهتمامي بهذا الشرح- و هو الكتاب المسمى بمقالات الشيعة إن شاء الله تعالى- .

قوله ع و الزموا السواد الأعظم و هو الجماعة- وقد جاء في الخبر عن‏ رسول الله ص هذه اللفظة التي ذكرها ع و هي يد الله على الجماعة و لا يبالي بشذوذ من شذ- و جاء في معناها كثير نحوقوله ع الشيطان مع الواحد و هو من الاثنين أبعد و قوله لا تجتمع أمتي على خطإو قوله سألت الله ألا تجتمع أمتي على خطإ فأعطانيها وقوله ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسنوقوله لا تجتمع أمتي على ضلالة- و سألت ربي ألا تجتمع أمتي على ضلالة فأعطانيها- و لم يكن الله ليجمع أمتي على ضلال و لا خطإوقوله ع عليكم بالسواد الأعظموقوله من خرج من الجماعة قيد شبر- فقد خلع ربقة الإسلام عن عنقهوقوله من فارق الجماعة مات ميتة جاهليةوقوله من سره بحبوحة الجنة فيلزم الجماعة- .

و الأخبار في هذا المعنى كثيرة جدا- . ثم قال ع- من دعا إلى هذا الشعار فاقتلوه يعني الخوارج- و كان شعارهم أنهم يحلقون وسط رءوسهم- و يبقى الشعر مستديرا حوله كالإكليل- . قال و لو كان تحت عمامتي هذه- أي لو اعتصم و احتمى بأعظم الأشياء حرمة- فلا تكفوا عن قتله- . ثم ذكر أنه إنما حكم الحكمان- ليحييا ما أحياه القرآن- أي ليجتمعا على ما شهد القرآن باستصوابه و استصلاحه- و يميتا ما أماته القرآن- أي ليفترقا و يصدا و ينكلا- عما كرهه القرآن و شهد بضلاله- . و البجر بضم الباء الشر العظيم- قال الراجز أرمي عليها و هي شي‏ء بجر أي داهية- . و لا ختلتكم أي خدعتكم- ختله و خاتله أي خدعه- و التخاتل التخادع- و لا لبسته عليكم أي جعلته مشتبها ملتبسا- ألبست عليهم الأمر ألبسه بالكسر- . و الملأ الجماعة من الناس و الصمد القصد- . قال سبق شرطنا سوء رأيهما- لأنا اشترطنا عليهما في كتاب الحكومة ما لا مضرة علينا- مع تأمله فيما فعلاه من اتباع الهوى و ترك النصيحة للمسلمين

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 8

خطبه 126 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

126 و من كلام له ع- لما عوقب على التسوية في العطاء- و تصييره الناس أسوة في العطاء- من غير تفضيل أولي السابقات و الشرف

أَ تَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ- فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ- وَ اللَّهِ لَا أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَمِيرٌ- وَ مَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْماً- وَ لَوْ كَانَ الْمَالُ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ- فَكَيْفَ وَ إِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللَّهِ- ثُمَّ قَالَ ع- أَلَا وَ إِنَّ إِعْطَاءَ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ تَبْذِيرٌ وَ إِسْرَافٌ- وَ هُوَ يَرْفَعُ صَاحِبَهُ فِي الدُّنْيَا- وَ يَضَعُهُ فِي الآْخِرَةِ- وَ يُكْرِمُهُ فِي النَّاسِ وَ يُهِينُهُ عِنْدَ اللَّهِ- وَ لَمْ يَضَعِ امْرُؤٌ مَالَهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ- إِلَّا حَرَمَهُ اللَّهُ شُكْرَهُمْ- وَ كَانَ لِغَيْرِهِ وُدُّهُمْ- فَإِنْ زَلَّتْ بِهِ النَّعْلُ يَوْماً- فَاحْتَاجَ إِلَى مَعُونَتِهِمْ فَشَرُّ خَلِيلٍ- وَ أَلْأَمُ خَدِينٍ أصل تأمروني تأمرونني بنونين- فأسكن الأولى و أدغم- قال تعالى أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ- .

و لا أطور به لا أقربه و لا تطر حولنا- أي لا تقرب ما حولنا- و أصله من طوار الدار و هو ما كان ممتدا معها من الفناء- . و قوله ما سمر سمير يعني الدهر- أي ما أقام الدهر و ما بقي- و الأشهر في المثل ما سمر ابنا سمير- قالوا السمير الدهر و ابناه الليل و النهار- و قيل ابنا سمير الليل و النهار لأنه يسمر فيهما- و يقولون لا أفعله السمر و القمر- أي ما دام الناس يسمرون في ليلة قمراء- و لا أفعله سمير الليالي أي أبدا قال الشنفري-

هنالك لا أرجو حياة تسرني
سمير الليالي مبسلا بالجرائر

 قوله و ما أم نجم في السماء نجما أي قصد و تقدم- لأن النجوم تتبع بعضها بعضا- فلا بد من تقدم و تأخر- فلا يزال النجم يقصد نجما غيره- و لا يزال النجم يتقدم نجما غيره- . و الخدين الصديق- يقول ع كيف تأمرونني أن أطلب النصر من الله- بأن أجور على قوم وليت عليهم- يعني الذين لا سوابق لهم و لا شرف- و كان عمر ينقصهم في العطاء عن غيرهم- .

ثم قال ع- لو كان المال لي و أنا أفرقه بينهم لسويت- فكيف و إنما هو مال الله و فيئه- ثم ذكر أن إعطاء المال في غير حقه تبذير و إسراف- و قد نهى الله عنه و أنه يرفع صاحبه عند الناس- و يضعه عند الله- و أنه لم يسلك أحد هذه المسلك- إلا حرمه الله ود الذين يتحبب إليهم بالمال- و لو احتاج إليهم يوما عند عثرة يعثرها لم يجدهم- .

و اعلم أن هذه مسألة فقهية- و رأي علي ع و أبي بكر فيها واحد- و هو التسوية بين المسلمين في قسمة الفي‏ء و الصدقات- و إلى هذا ذهب الشافعي رحمه الله- و أما عمر فإنه لما ولي الخلافة فضل بعض الناس على بعض- ففضل السابقين على غيرهم- و فضل المهاجرين من قريش على غيرهم من المهاجرين- و فضل المهاجرين كافة على الأنصار كافة- و فضل العرب على العجم- و فضل الصريح على المولى- و قد كان أشار على أبي بكر أيام خلافته بذلك- فلم يقبل و قال إن لم يفضل أحدا على أحد- و لكنه قال إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ- و لم يخص قوما دون قوم- فلما أفضت إليه الخلافة- عمل بما كان أشار به أولا- و قد ذهب كثير من فقهاء المسلمين إلى قوله- و المسألة محل اجتهاد- و للإمام أن يعمل بما يؤديه إليه اجتهاده- و إن كان اتباع علي ع عندنا أولى- لا سيما إذا عضده موافقة أبي بكر على المسألة- و إن صح الخبر أن رسول الله ص سوى- فقد صارت المسألة منصوصا عليها- لأن فعله ع كقوله

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ أبي‏ الحديد) ج 8 

خطبه 125 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

125 و من كلام له ع في الخوارج- لما أنكروا تحكيم الرجال- و يذم فيه أصحابه في التحكيم

إِنَّا لَمْ نُحَكِّمِ الرِّجَالَ- وَ إِنَّمَا حَكَّمْنَا الْقُرْآنَ هَذَا الْقُرْآنُ- إِنَّمَا هُوَ خَطٌّ مَسْطُورٌ بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ- لَا يَنْطِقُ بِلِسَانٍ وَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَرْجُمَانٍ- وَ إِنَّمَا يَنْطِقُ عَنْهُ الرِّجَالُ- وَ لَمَّا دَعَانَا الْقَوْمُ- إلَى أَنْ نُحَكِّمَ بَيْنَنَا الْقُرْآنَ- لَمْ نَكُنِ الْفَرِيقَ الْمُتَوَلِّيَ- عَنْ كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى- وَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَزَّ مِنْ قَائِلٍ- فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ- فَرَدُّهُ إِلَى اللَّهِ أَنْ نَحْكُمَ بِكِتَابِهِ- وَ رَدُّهُ إِلَى الرَّسُولِ أَنْ نَأْخُذَ بِسُنَّتِهِ- فَإِذَا حُكِمَ بِالصِّدْقِ فِي كِتَابِ اللَّهِ- فَنَحْنُ أَحَقُّ النَّاسِ بِهِ- وَ إِنْ حُكِمَ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ص- فَنَحْنُ أَحَقُّ النَّاسِ وَ أَوْلَاهُمْ بِهَا- وَ أَمَّا قَوْلُكُمْ- لِمَ جَعَلْتَ بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُمْ أَجَلًا فِي التَّحْكِيمِ- فَإِنَّمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ لِيَتَبَيَّنَ الْجَاهِلُ- وَ يَتَثَبَّتَ الْعَالِمُ- وَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ فِي هَذِهِ الْهُدْنَةِ- أَمْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ- وَ لَا تُؤْخَذَ بِأَكْظَامِهَا- فَتَعْجَلَ عَنْ تَبَيُّنِ الْحَقِّ- وَ تَنْقَادَ لِأَوَّلِ الْغَيِّ- إِنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ- مَنْ كَانَ الْعَمَلُ بِالْحَقِّ أَحَبَّ إِلَيْهِ- وَ إِنْ نَقَصَهُ وَ كَرَثَهُ مِنَ الْبَاطِلِ- وَ إِنْ جَرَّ إِلَيْهِ وَ زَادَهُ- فَأَيْنَ يُتَاهُ بِكُمْ- وَ مِنْ أَيْنَ أُتِيتُمْ-اسْتَعِدُّوا لِلْمَسِيرِ إِلَى قَوْمٍ حَيَارَى- عَنِ الْحَقِّ لَا يُبْصِرُونَهُ- وَ مُوزَعِينَ بِالْجَوْرِ لَا يَعْدِلُونَ عَنْهُ- جُفَاةٍ عَنِ الْكِتَابِ- نُكُبٍ عَنِ الطَّرِيقِ- مَا أَنْتُمْ بِوَثِيقَةٍ يُعْلَقُ بِهَا- وَ لَا زَوَافِرَ عِزٍّ يُعْتَصَمُ إِلَيْهَا- لَبِئْسَ حُشَاشُ نَارِ الْحَرْبِ أَنْتُمْ- أُفٍّ لَكُمْ- لَقَدْ لَقِيتُ مِنْكُمْ بَرْحاً يَوْماً أُنَادِيكُمْ- وَ يَوْماً أُنَاجِيكُمْ- فَلَا أَحْرَارُ صِدْقٍ عِنْدَ النِّدَاءِ- وَ لَا إِخْوَانُ ثِقَةٍ عِنْدَ النَّجَاءِ دفتا المصحف جانباه اللذان يكنفانه- و كان الناس يعملونهما قديما من خشب- و يعملونهما الآن من جلد- يقول ع لا اعتراض علي في التحكيم- و قول الخوارج حكمت الرجال دعوى غير صحيحة- و إنما حكمت القرآن- و لكن القرآن لا ينطق بنفسه- و لا بد له ممن يترجم عنه- و الترجمان بفتح التاء و ضم الجيم- هو مفسر اللغة بلسان آخر- و يجوز ضم التاء لضمة الجيم- قال الراجز

كالترجمان لقي الأنباطا

ثم قال لما دعينا إلى تحكيم الكتاب- لم نكن القوم الذين قال الله تعالى في حقهم- وَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ- إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ بل أجبنا إلى ذلك- و عملنا بقول الله تعالى فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ- فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ- و قال معنى ذلك أن نحكم بالكتاب و السنة- فإذا عمل الناس بالحق في هذه الواقعة- و اطرحوا الهوى و العصبية- كنا أحق بتدبير الأمة- و بولاية الخلافة من المنازع لنا عليها-فإن قلت إنه ع لم يقل هكذا- و إنما قال إذا حكم بالصدق في كتاب الله- فنحن أولى به- و إذا حكم بالسنة فنحن أحق بها- . قلت إنه رفع نفسه ع- أن يصرح بذكر الخلافة فكني عنها- و قال نحن إذا حكم بالكتاب و السنة أولى بالكتاب و السنة- و يلزم من كونه أولى بالكتاب و السنة من جميع الناس- أن يكون أولى بالخلافة من جميع الناس- فدل على ما كنى عنه بالأمر المستلزم له- .

فإن قلت- إذا كان الرجال الذين يترجمون القرآن و يفسرونه- و قد كلفوا أن يحكموا في واقعة أهل العراق و أهل الشام- بما يدلهم القرآن عليه- يجوز أن يختلفوا في تفسير القرآن و تأويله- فيدعي صاحب أهل العراق- من تفسيره ما يستدل به على مراده- و يدعي وكيل أهل الشام ما يقابل ذلك و يناقضه- بطريق الشبهة التي تمسكوا بها من دم عثمان- و من كون الإجماع لم يحصل على بيعة أمير المؤمنين ع- احتاج الحكمان حينئذ- إلى أن يحكم بينهما حكمان آخران-

و القول فيهما كالقول في الأول إلى ما لا نهاية له- و إنما كان يكون التحكيم قاطعا للشغب- لو كان القرآن ينص بالصريح الذي لا تأويل فيه- إما على أمير المؤمنين ع- و إما على معاوية و لا نص صريح فيه- بل الذي فيه يحتمل التأويل و التجاذب- فما الذي يفيد التحكيم و الحال تعود لا محالة جذعة- قلت لو تأمل الحكمان الكتاب حق التأمل- لوجدا فيه النص الصريح- على صحة خلافة أمير المؤمنين ع- لأن فيه النص الصريح على أن الإجماع حجة- و معاوية لم يكن مخالفا في هذه المقدمة و لا أهل الشام- و إذا كان الإجماع حجة- فقد وقع الإجماع لما توفي رسول الله ص- على أن اختيار خمسة من صلحاء المسلمين لواحد منهم و بيعته- توجب لزوم طاعته و صحة خلافته- و قد بايع أمير المؤمنين عخمسة من صلحاء الصحابة بل خمسون- فوجب أن تصح خلافته- و إذا صحت خلافته نفذت أحكامه- و لم يجب عليه أن يقيد بعثمان- إلا أن حضر أولياؤه عنده- طائعين له مبايعين ملتزمين لأحكامه- ثم بعد ذلك يطلبون القصاص من أقوام بأعيانهم- يدعون عليهم دم المقتول- فقد ثبت أن الكتاب لو تؤمل حق التأمل- لكان الحق مع أهل العراق- و لم يكن لأهل الشام من الشبهة- ما يقدح في استنباطهم المذكور- .

ثم قال ع فأما ضربي للأجل في التحكيم- فإنما فعلته لأن الأناة و التثبت من الأمور المحمودة- أما الجاهل فيعلم فيه ما جهله- و أما العالم فيثبت فيه على ما علمه- فرجوت أن يصلح الله في ذلك الأجل- أمر هذه الأمة المفتونة- . و لا تؤخذ بأكظامها جمع كظم و هو مخرج النفس- يقول كرهت أن أعجل القوم عن التبين و الاهتداء- فيكون إرهاقي لهم و تركي للتنفيس عن خناقهم- و عدولي عن ضرب الأجل بيني- و بينهم أدعى إلى استفسادهم- و أحرى أن يركبوا غيهم و ضلالهم- و لا يقلعوا عن القبيح الصادر عنهم- . ثم قال أفضل الناس من آثر الحق و إن كرثه- أي اشتد عليه و بلغ منه المشقة- . و يجوز أكرثه بالألف على الباطل- و إن انتفع به و أورثه زيادة- . ثم قال فأين يتاه بكم- أي أين تذهبون في التيه يعني في الحيرة- و روي فأنى يتاه بكم- . و من أين أتيتم- أي كيف دخل عليكم الشيطان أو الشبهة- و من أي المداخل دخل اللبس عليكم- .

ثم أمرهم بالاستعداد للمسير إلى حرب أهل الشام- و ذكر أنهم موزعون بالجورأي ملهمون- قال تعالى رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ- أي ألهمني أوزعته بكذا و هو موزع به- و الاسم و المصدر جميعا الوزع بالفتح- و استوزعت إليه تعالى شكره فأوزعني- أي استلهمته فألهمني- . و لا يعدلون عنه لا يتركونه إلى غيره- و روي لا يعدلون به أي لا يعدلون بالجور شيئا آخر- أي لا يرضون إلا بالظلم و الجور- و لا يختارون عليهما غيرهما- .

قوله جفاة عن الكتاب- جمع جاف و هو النابي عن الشي‏ء- أي قد نبوا عن الكتاب لا يلائمهم و لا يناسبونه- تقول جفا السرج عن ظهر الفرس- إذا نبا و ارتفع و أجفيته أنا- و يجوز أن يريد أنهم أعراب جفاة- أي أجلاف لا أفهام لهم- . قوله نكب عن الطريق أي عادلون جمع ناكب- نكب ينكب عن السبيل بضم الكاف نكوبا- . قوله و ما أنتم بوثيقة أي بذي وثيقة- فحذف المضاف و الوثيقة الثقة- يقال قد أخذت في أمر فلان بالوثيقة- أي بالثقة و الثقة مصدر- . و الزوافر العشيرة و الأنصار- و يقال هم زافرتهم عند السلطان- للذين يقومون بأمره عنده- . و قوله يعتصم إليها أي بها- فأناب إلى مناب الباء كقول طرفة-

و إن يلتق الحي الجميع تلاقني
إلى ذروة البيت الرفيع المصمد

و حشاش النار ما تحش به أي توقد- قال الشاعر

أ في أن أحش الحرب فيمن يحشها
ألام و في ألا أقر المخازيا

و روي حشاش بالفتح كالشياع- و هو الحطب الذي يلقى في النار قبل الجزل- و روي حشاش بضم الحاء و تشديد الشين- جمع حاش و هو الموقد للنار- . قوله أف لكم من الألفاظ القرآنية- و فيها لغات أف بالكسر و بالضم و بالفتح- و أف منونا بالثلاث أيضا- و يقال أفا و تفا و هو إتباع له و أفة و تفة- و المعنى استقذار المعني بالتأفيف- . قوله لقد لقيت منكم برحا أي شدة- يقال لقيت منهم برحا بارحا أي شدة و أذى- قال الشاعر

أ جدك هذا عمرك الله كلما
دعاك الهوى برح لعينك بارح‏

و يروى ترحا أي حزنا- . ثم ذكر أنه يناديهم جهارا طورا- و يناجيهم سرا طورا- فلا يجدهم أحرارا عند ندائه- أي لا ينصرون و لا يجيبون- و لا يجدهم ثقاتا و ذوي أمانة عند المناجاة- أي لا يكتمون السر- . و النجاء المناجاة مصدر ناجيته نجاء- مثل ضاربته ضرابا و صارعته صراعا

شرح‏ نهج‏ البلاغة(ابن‏ أبي ‏الحديد) ج 8 

خطبه 124 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

الجزء الثامن

تتمة الخطب و الأوامر

بسم الله الرحمن الرحيم- الحمد لله الواحد العدل

124 و من كلام له ع في حث أصحابه على القتال

فَقَدِّمُوا الدَّارِعَ وَ أَخِّرُوا الْحَاسِرَ- وَ عَضُّوا عَلَى الْأَضْرَاسِ- فَإِنَّهُ أَنْبَى لِلسُّيُوفِ عَنِ الْهَامِ- وَ الْتَوُوا فِي أَطْرَافِ الرِّمَاحِ فَإِنَّهُ أَمْوَرُ لِلْأَسِنَّةِ- وَ غُضُّوا الْأَبْصَارَ فَإِنَّهُ أَرْبَطُ لِلْجَأْشِ وَ أَسْكَنُ لِلْقُلُوبِ- وَ أَمِيتُوا الْأَصْوَاتَ فَإِنَّهُ أَطْرَدُ لِلْفَشَلِ- وَ رَايَتَكُمْ فَلَا تُمِيلُوهَا وَ لَا تُخِلُّوهَا- وَ لَا تَجْعَلُوهَا إِلَّا بِأَيْدِي شُجْعَانِكُمْ- وَ الْمَانِعِينَ الذِّمَارَ مِنْكُمْ- فَإِنَّ الصَّابِرِينَ عَلَى نُزُولِ الْحَقَائِقِ- هُمُ الَّذِينَ يَحُفُّونَ بِرَايَاتِهِمْ- وَ يَكْتَنِفُونَهَا حِفَافَيْهَا وَ وَرَاءَهَا وَ أَمَامَهَا- لَا يَتَأَخَّرُونَ عَنْهَا فَيُسْلِمُوهَا- وَ لَا يَتَقَدَّمُونَ عَلَيْهَا فَيُفْرِدُوهَا الدارع لابس الدرع- و الحاسر الذي لا درع عليه و لا مغفر- أمرهم ع بتقديم المستلئم على غير المستلئم- لأن سورة الحرب و شدتها- تلقي و تصادف الأول فالأول- فواجب أن يكون أول القوم مستلئما- و أن يعضوا على الأضراس- و قد تقدم شرح هذا و قلنا- إنه يجوز أن يبدءوهم بالحنق و الجد- و يجوز أن يريد- أن العض على الأضراس يشد شئون الدماغ و رباطاته- فلا يبلغ السيف منه مبلغه لو صادفه رخوا- و أمرهم بأن يلتووا إذا طعنوا-لأنهم إذا فعلوا ذلك- فبالحري أن يمور السنان- أي يتحرك عن موضع الطعنة- فيخرج زالفا و إذا لم يلتووا لم يمر السنان- و لم يتحرك عن موضعه فيخرق و ينفذ فيقتل- . و أمرهم بغض الأبصار في الحرب- فإنه أربط للجأش أي أثبت للقلب- لأن الغاض بصره في الحرب أحرى- ألا يدهش و لا يرتاع لهول ما ينظر- . و أمرهم بإماتة الأصوات و إخفائها- فإنه أطرد للفشل- و هو الجبن و الخوف- و ذلك لأن الجبان يرعد و يبرق- و الشجاع صامت- . و أمرهم بحفظ رايتهم ألا يميلوها- فإنها إذا مالت انكسر العسكر- لأنهم إنما ينظرون إليها و إلا يخلوها من محام عنها- و إلا يجعلوها بأيدي الجبناء و ذوي الهلع منهم- كي لا يخيموا و يجبنوا عن إمساكها- . و الذمار ما وراء الرجل مما يحق عليه أن يحميه- و سمي ذمارا لأنه يجب على أهله التذمر له أي الغضب- . و الحقائق جمع حاقة- و هي الأمر الصعب الشديد- و منه قول الله تعالى الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ يعني الساعة- . و يكتنفونها يحيطون بها- و حفافاها جانباها و منه قول طرفة-

كان جناحي مضرحي تكنفا
حفافيه شكا في العسيب بمسرد

أَجْزَأَ امْرُؤٌ قِرْنَهُ وَ آسَى أَخَاهُ بِنَفْسِهِ- وَ لَمْ يَكِلْ قِرْنَهُ إِلَى أَخِيهِ- فَيَجْتَمِعَ‏عَلَيْهِ قِرْنُهُ وَ قِرْنُ أَخِيهِ- وَ ايْمُ اللَّهِ لَئِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ سَيْفِ الْعَاجِلَةِ- لَا تَسْلَمُونَ مِنْ سَيْفِ الآْخِرَةِ- وَ أَنْتُمْ لَهَامِيمُ الْعَرَبِ وَ السَّنَامُ الْأَعْظَمُ- إِنَّ فِي الْفِرَارِ مَوْجِدَةَ اللَّهِ وَ الذُّلَّ اللَّازِمَ وَ الْعَارَ الْبَاقِيَ- وَ إِنَّ الْفَارَّ لَغَيْرُ مَزِيدٍ فِي عُمُرِهِ- وَ لَا مَحْجُوزٍ بَيْنَهُ وَ بَيْنَ يَوْمِهِ- مَنْ رَائِحٌ إِلَى اللَّهِ كَالظَّمْآنِ يَرِدُ الْمَاءَ- الْجَنَّةُ تَحْتَ أَطْرَافِ الْعَوَالِي- الْيَوْمَ تُبْلَى الْأَخْبَارُ- وَ اللَّهِ لَأَنَا أَشْوَقُ إِلَى لِقَائِهِمْ مِنْهُمْ إِلَى دِيَارِهِمْ- اللَّهُمَّ فَإِنْ رَدُّوا الْحَقَّ فَافْضُضْ جَمَاعَتَهُمْ- وَ شَتِّتْ كَلِمَتَهُمْ وَ أَبْسِلْهُمْ بِخَطَايَاهُمْ من الناس من يجعل هذه الصيغة- و هي صيغة الإخبار بالفعل الماضي- في قوله أجزأ امرؤ قرنه في معنى الأمر- كأنه قال ليجزئ كل امرئ قرنه- لأنه إذا جاز الأمر بصيغة الإخبار في المستقبل- جاز الأمر بصيغة الماضي و قد جاز الأول- نحو قوله تعالى وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ- فوجب أن يجوز الثاني- و من الناس من قال معنى ذلك- هلا أجزأ امرؤ قرنه- فيكون تحضيضا محذوف الصيغة للعلم بها- و أجزأ بالهمزة أي كفى- و قرنك مقارنك في القتال أو نحوه- . و آسى أخاه بنفسه مؤاساة بالهمز أي جعله أسوة نفسه- و يجوز واسيت زيدا بالواو و هي لغة ضعيفة- . و لم يكل قرنه إلى أخيه- أي لم يدع قرنه ينضم إلى قرن أخيه- فيصيرا معا في‏ مقاومة الأخ المذكور- و ذلك قبيح محرم- مثاله زيد و عمرو مسلمان- و لهما قرنان كافران في الحرب- لا يجوز لزيد أن ينكل عن قرنه- فيجتمع قرنه و قرن عمرو على عمرو- . ثم أقسم ع أنهم إن سلموا من الألم النازل بهم- لو قتلوا بالسيف في الدنيا- فإنهم لم يسلموا من عقاب الله تعالى في الآخرة- على فرارهم و تخاذلهم- و سمى ذلك سيفا على وجه الاستعارة و صناعة الكلام- لأنه قد ذكر سيف الدنيا- فجعل ذلك في مقابلته- . و اللهاميم السادات الأجواد من الناس- و الجياد من الخيل الواحد لهموم- و السنام الأعظم يريد شرفهم و علو أنسابهم- لأن السنام أعلى أعضاء البعير- . و موجدة الله غضبه و سخطه- . و يروى و الذل اللاذم بالذال المعجمة- و هو بمعنى اللازم أيضا- لذمت المكان بالكسر أي لزمته- . ثم ذكر أن الفرار لا يزيد في العمر- و قال الراجز

قد علمت حسناء دعجاء المقل
أن الفرار لا يزيد في الأجل‏

ثم قال لهم أيكم يروح إلى الله- فيكون كالظمآن يرد الماء- . ثم قال الجنة تحت أطراف العوالي- و هذا منقول رسول الله ص الجنة تحت ظلال السيوف وسمع بعض الأنصار رسول الله ص يقول يوم أحد الجنة تحت ظلال السيوف- و في يده تميرات يلوكها- فقال بخ بخ ليس بيني و بين الجنة إلا هذه التميرات- ثم قذفها من يده و كسر جفن سيفه- و حمل على قريش فقاتل حتى قتل- . ثم قال اليوم تبلى الأخبار- هذا من قول الله تعالى- وَ نَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ أي نختبر أفعالكم- .

ثم دعا على أهل الشام إن ردوا الحق- بأن يفض الله جماعتهم- أي يهزمهم و يشتت أي يفرق كلمتهم- و أن يبسلهم بخطاياهم- أي يسلمهم لأجل خطاياهم التي اقترفوها و لا ينصرهم- أبسلت فلانا إذا أسلمته إلى الهلكة فهو مبسل- قال تعالى أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ أي تسلم- و قال أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا- أي أسلموا للهلاك لأجل ما اكتسبوه من الإثم- و هذه الألفاظ كلها لا يتلو بعضها بعضا- و إنما هي منتزعة من كلام طويل- انتزعها الرضي رحمه الله و اطرح ما عداها: إِنَّهُمْ لَنْ يَزُولُوا عَنْ مَوَاقِفِهِمْ- دُونَ طَعْنٍ دِرَاكٍ يَخْرُجُ مِنْهُ النَّسِيمُ- وَ ضَرْبٍ يَفْلِقُ الْهَامَ وَ يُطِيحُ الْعِظَامَ- وَ يُنْدِرُ السَّوَاعِدَ وَ الْأَقْدَامَ- وَ حَتَّى يُرْمَوْا بِالْمَنَاسِرِ تَتْبَعُهَا الْمَنَاسِرُ- وَ يُرْجَمُوا بِالْكَتَائِبِ تَقْفُوهَا الْحَلَائِبُ- وَ حَتَّى يُجَرَّ بِبِلَادِهِمُ الْخَمِيسُ يَتْلُوهُ الْخَمِيسُ- وَ حَتَّى تَدْعَقَ الْخُيُولُ فِي نَوَاحِرِ أَرْضِهِمْ- وَ بِأَعْنَانِ مَسَارِبِهِمْ وَ مَسَارِحِهِمْ قال الشريف الرضي رحمه الله تعالى- الدعق الدق أي تدق الخيول بحوافرها أرضهم- و نواحر أرضهم متقابلاتها- و يقال منازل بني فلان تتناحر أي تتقابل طعن دراك أي متتابع يتلو بعضه بعضا- و يخرج منه النسيم أي لسعته- و من هذا النحو قول الشاعر-

طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائر
لها نفذ لو لا الشعاع أضاءها

ملكت بها كفي فأنهرت فتقها
يرى قائم من دونها ما وراءها

فهذا وصف الطعنة- بأنها لاتساعها يرى الإنسان المقابل لها- ببصره ما وراءها- و أنه لو لا شعاع الدم و هو ما تفرق منه لبان منها الضوء- و أمير المؤمنين ع أراد من أصحابه طعنات يخرج النسيم- و هو الريح اللينة منهن- . و فلقت الشي‏ء أفلقه بكسر اللام فلقا أي شققته- و يطيح العظام يسقطها- طاح الشي‏ء أي سقط أو هلك أو تاه في الأرض- و أطاحه غيره و طوحه- . و يندر السواعد يسقطها أيضا- ندر الشي‏ء يندر ندرا أي سقط- و منه النوادر و أندره غيره- و الساعد من الكوع إلى المرفق و هو الذراع- . و المناسر جمع منسر- و هو قطعة من الجيش تكون أمام الجيش الأعظم- بكسر السين و فتح الميم- و يجوز منسر بكسر الميم و فتح السين- و قيل إنها اللغة الفصحى- . و يرجموا أي يغزوا بالكتائب- جمع كتيبة و هي طائفة من الجيش- . تقفوها الحلائب أي تتبعها طوائف لنصرها و المحاماة عنها- يقال قد أحلبوا إذا جاءوا من كل أوب للنصرة- و رجل محلب أي ناصر- و حالبت الرجل إذا نصرته و أعنته و قال الشاعر-

أ لهفا بقرى سحبل حين أحلبت
علينا الولايا و العدو المباسل‏

أي أعانت و نصرت و الخميس الجيش- و الدعق قد فسره الرضي رحمه الله- و يجوز أن يفسر بأمر آخر- و هو الهيج و التنفير- دعق القوم يدعقهم دعقا أي هاج منهم و نفرهم- . و نواحر أرضهم قد فسره رحمه الله أيضا- و يمكن أن يفسر بأمر آخر- و هو أن يراد به أقصى أرضهم و آخرها- من قولهم لآخر ليلة في الشهر ناحرة- . و أعنان مساربهم و مسارحهم جوانبها- و المسارب ما يسرب فيه المال الراعي- و المسارح ما يسرح فيه- و الفرق بين سرح و سرب- أن السروح إنما يكون في أول النهار- و ليس ذلك بشرط في السروب

عود إلى أخبار صفين

و اعلم أن هذا الكلام قاله أمير المؤمنين ع- لأصحابه في صفين يحرضهم به- و قد ذكرنا من حديث صفين فيما تقدم أكثره- و نحن نذكر هاهنا تتمة القصة- ليكون من وقف على ما تقدم و على هذا المذكور آنفا هنا- قد وقف على قصة صفين بأسرها- . اتفق الناس كلهم أن عمارا رضي الله عنه- أصيب مع علي ع بصفين- و قال كثير منهم بل الأكثر- أن أويسا القرني أصيب أيضا مع علي ع بصفين- .

و ذكر ذلك نصر بن مزاحم في كتاب صفين- رواه عن حفص بن عمران البرجمي- عن عطاء بن السائب عن أبي البختري- و قد قال رسول الله ص في أويس ما قال- و قال الناس كلهم إن رسول الله ص قال إن الجنة لتشتاق إلى‏ عمار و رووا عنه ص أن عمارا جاء يستأذن عليه- فقال ائذنوا له مرحبا بالطيب المطيبوروى سلمة بن كهيل عن مجاهد أن النبي ص رأى عمارا- و هو يحمل أحجار المسجد فقال- ما لهم و لعمار يدعوهم إلى الجنة- و يدعونه إلى الناروروى الناس كافة أن رسول الله ص قال له- تقتلك الفئة الباغية- .

و روى نصر بن مزاحم في كتاب صفين- عن عمرو بن شمر عن مالك بن أعين- عن زيد بن وهب الجهني- أن عمار بن ياسر نادى في صفين يوما- قبل مقتله بيوم أو يومين- أين من يبغي رضوان الله عز و جل- و لا يئوب إلى مال و لا ولد- فأتته عصابة من الناس- فقال أيها الناس اقصدوا بنا قصد هؤلاء القوم- الذين يتبعون دم عثمان- و يزعمون أنه قتل مظلوما- و الله إن كان إلا ظالما لنفسه- الحاكم بغير ما أنزل الله- و دفع علي ع الراية إلى هاشم بن عتبة بن أبي وقاص- و كان عليه ذلك اليوم درعان- فقال له علي ع كهيئة المازح- أيا هاشم أ ما تخشى على نفسك أن تكون أعور جبانا- قال ستعلم يا أمير المؤمنين- و الله لألفن بين جماجم العرب لف رجل ينوي الآخرة- فأخذ رمحا فهزه فانكسر- ثم أخذ آخر فوجده جاسيا فألقاه- ثم دعا برمح لين فشد به اللواء- .

قال نصر و حدثنا عمرو قال- لما دفع علي ع الراية إلى هاشم بن عتبة- قال‏ له رجل من أصحابه من بكر بن وائل- أقدم هاشم يكررها- ثم قال ما لك يا هاشم قد انتفخ سحرك- أعورا و جبنا- قال من هذا- قالوا فلان قال أهلها و خير منها- إذا رأيتني قد صرعت فخذها- ثم قال لأصحابه شدوا شسوع نعالكم و شدوا أزركم- فإذا رأيتموني قد هززت الراية ثلاثا- فاعلموا أن أحدا منكم لا يسبقني إلى الحملة- ثم نظر إلى عسكر معاوية- فرأى جمعا عظيما-

فقال من أولئك قيل أصحاب ذي الكلاع- ثم نظر فرأى جندا فقال من أولئك- قيل قريش و قوم من أهل المدينة- فقال قومي لا حاجة لي في قتالهم- من عند هذه القبة البيضاء- قيل معاوية و جنده- قال فإني أرى دونهم أسودة- قيل ذاك عمرو بن العاص و ابناه و مواليه- فأخذ الراية فهزها- فقال رجل من أصحابه- البث قليلا و لا تعجل فقال هاشم-

قد أكثرا لومي و ما أقلا
إني شريت النفس لن أعتلا

أعور يبغي أهله محلا
قد عالج الحياة حتى ملا

لا بد أن يفل أو يفلا
أشلهم بذي الكعوب شلا

مع ابن عم أحمد المعلى
أول من صدقه و صلى‏

قال نصر و حدثنا عبد العزيز بن سياه- عن حبيب بن أبي ثابت- قال لما تناول هاشم الراية- جعل عمار بن ياسر يحرضه على الحرب- و يقرعه بالرمح و يقول أقدم يا أعور-لا خير في أعور لا يأتي الفزع‏- . فيستحيي من عمار- و يتقدم و يركز الراية- فإذا ركزها عاوده عمار بالقول فيتقدم أيضا- فقال عمرو بن العاص- إني لأرى لصاحب الراية السوداء عملا- لئن دام على هذا لتفنين العرب اليوم- فاقتتلوا قتالا شديدا- و عمار ينادي صبرا و الله إن الجنة تحت ظلال البيض- فكان بإزاء هاشم و عمار أبو الأعور السلمي- و لم يزل عمار بهاشم ينخسه و هو يزحف بالراية- حتى اشتد القتال و عظم و التقى الزحفان- و اقتتلا قتالا لم يسمع السامعون بمثله- و كثرت القتلى في الفريقين جميعا- . و روى نصر عن عمرو بن شمر- قال حدثني من أثق به من أهل العراق-قال لما التقينا بالقوم في ذلك اليوم- وجدناهم خمسة صفوف- قد قيدوا أنفسهم بالعمائم- فقتلنا صفا ثم صفا- ثم خلصنا إلى الرابع- ما على الأرض شامي و لا عراقي يولي دبره- و أبو الأعور يقول-

إذا ما فررنا كان أسوأ فرارنا
صدود الخدود و ازورار المناكب‏

صدود الخدود و القنا متشاجر
و لا تبرح الأقدام عند التضارب‏

قال نصر- و التقت في هذا اليوم همدان العراق بعك الشام- فقال قائلهم

همدان همدان و عك عك
ستعلم اليوم من الأرك‏

و كانت على عك الدروع و ليس عليهم رايات- فقالت همدان خدموا القوم أي اضربوا سوقهم- فقالت عك ابركوا برك الكمل- فبركوا كما يبرك الجمل ثم رموا الحجر- و قالوا لا نفر حتى يفر الحكر- . قال نصر- و اقتتل الناس من لدن اعتدال النهار إلى صلاة المغرب- ما كان صلاة القوم إلا التكبير عند مواقيت الصلاة- . ثم إن أهل العراق كشفوا ميمنة أهل الشام- فطاروا في سواد الليل- و كشف أهل الشام ميسرة أهل العراق- فاختلطوا في سواد الليل- و تبدلت الرايات بعضها ببعض- فلما أصبح الناس وجد أهل الشام لواءهم- و ليس حوله إلا ألف رجل- فاقتلعوه و ركزوه من‏ وراء موضعه الأول و أحاطوا به- و وجد أهل العراق لواءهم مركوزا- و ليس حوله إلا ربيعة و علي ع بينها- و هم محيطون به- و هو لا يعلم من هم و يظنهم غيرهم- فلما أذن مؤذن علي ع الفجر- قال علي ع

يا مرحبا بالقائلين عدلا
و بالصلاة مرحبا و أهلا

ثم وقف و صلى الفجر- فلما انفتل أبصر وجوها ليست بوجوه أصحابه بالأمس- و إذا مكانه الذي هو فيه ما بين الميسرة إلى القلب- فقال من القوم قالوا ربيعة- و إنك يا أمير المؤمنين لعندنا منذ الليلة- فقالفخر طويل لك يا ربيعة- . ثم قال لهاشم بن عتبة خذ اللواء- فو الله ما رأيت مثل هذه الليلة- فخرج هاشم باللواء حتى ركزه في القلب- . قال نصر حدثنا عمرو بن شمر عن الشعبي- قال عبى معاوية تلك الليلة أربعة آلاف و ثلاثمائة- من فارس و راجل معلمين بالخضرة- و أمرهم أن يأتوا عليا ع من ورائه- ففطنت لهم همدان فواجهوهم و صمدوا إليهم- فباتوا تلك الليلة يتحارسون- و علي ع قد أفضى به ذهابه و مجيئه إلى رايات ربيعة- فوقف بينها و هو لا يعلم- و يظن أنه في العسكر الأشعث- فلما أصبح لم ير الأشعث و لا أصحابه- و رأى سعيد بن قيس الهمداني على مركزه- فجاء إلى سعيد رجل من ربيعة يقال له زفر- فقال له أ لست القائل بالأمس- لئن لم تنته ربيعة لتكونن ربيعة ربيعة و همدان همدان- فما أغنت همدان‏البارحة- فنظر إليه علي ع نظر منكر- و نادى منادي علي ع- أن اتعدوا للقتال و اغدوا عليه- و انهدوا إلى عدوكم- فكلهم تحرك إلا ربيعة لم تتحرك- فبعث إليهم علي ع- أن انهدوا إلى عدوكم- فبعث إليهم أبا ثروان- فقال إن أمير المؤمنين ع يقرئكم السلام- و يقول لكم يا معشر ربيعة- ما لكم لا تنهدون إلى عدوكم و قد نهد الناس- قالوا كيف ننهد و هذه الخيل من وراء ظهرنا- قل لأمير المؤمنين- فليأمر همدان أو غيرها بمناجزتهم لننهد- فرجع أبو ثروان إلى علي ع- فأخبره فبعث إليهم الأشتر-

فقال يا معشر ربيعة- ما منعكم أن تنهدوا و قد نهد الناس- و كان جهير الصوت- و أنتم أصحاب كذا و أصحاب كذا- فجعل يعدد أيامهم- فقالوا لسنا نفعل- حتى ننظر ما تصنع هذه الخيل التي خلف ظهورنا- و هي أربعة آلاف- قل لأمير المؤمنين فليبعث إليهم من يكفيه أمرهم- . و راية ربيعة يومئذ مع الحضين بن المنذر- فقال لهم الأشتر فإن أمير المؤمنين يقول لكم اكفونيها- إنكم لو بعثتم إليهم طائفة منكم- لتركوكم في هذه الفلاة- و فروا كاليعافير- فوجهت حينئذ ربيعة إليهم تيم الله- و النمر بن قاسط و عنزة- قالوا فمشينا إليهم مستلئمين مقنعين في الحديد- و كان عامة قتال صفين مشيا-

قال فلما أتيناهم هربوا و انتشروا انتشار الجراد- فذكرت قوله و فروا كاليعافير- ثم رجعنا إلى أصحابنا و قد نشب القتال بينهم و بين أهل الشام- و قد اقتطع أهل الشام طائفة من أهل العراق- بعضها من ربيعة فأحاطوا بها- فلم نصل إليها حتى حملنا على أهل الشام- فعلوناهم بالأسياف حتى انفرجوا لنا- فأفضينا إلى أصحابنا فاستنقذناهم- و عرفناهم تحت النقع بسيماهم و علامتهم- و كانت علامة أهل العراق بصفين الصوف الأبيض- قد جعلوه في رءوسهم و على‏أكتافهم و شعارهم- يا الله يا الله يا أحد يا صمد- يا رب محمد يا رحمان يا رحيم- و كانت علامة أهل الشام خرقا صفرا- قد جعلوها على رءوسهم و أكتافهم و شعارهم-نحن عباد الله حقا حقا- يا لثارات عثمان-

قال نصر فاجتلدوا بالسيوف و عمد الحديد- فلم يتحاجزوا حتى حجز بينهم الليل- و ما يرى رجل من هؤلاء و من هؤلاء موليا- . قال نصر حدثنا عمر بن سعد- قال كانوا عربا يعرف بعضهم بعضا في الجاهلية- و إنهم لحديثو عهد بها- فالتقوا في الإسلام- و فيهم بقايا تلك الحمية- و عند بعضهم بصيرة الدين و الإسلام- فتضاربوا و استحيوا من الفرار- حتى كادت الحرب تبيدهم- و كانوا إذا تحاجزوا دخل هؤلاء عسكر هؤلاء- فيستخرجون قتلاهم فيدفنونهم- . قال نصر فحدثنا عمر بن سعد- قال فبينا علي ع واقفا بين جماعة- من همدان و حمير و غيرهم من أفناء قحطان- إذ نادى رجل من أهل الشام- من دل على أبي نوح الحميري- فقيل له قد وجدته- فما ذا تريد قال فحسر عن لثامة- فإذا هو ذو الكلاع الحميري و معه جماعة من أهله و رهطه- فقال لأبي نوح سر معي- قال إلى أين قال إلى أن نخرج عن الصف- قال و ما شأنك قال إن لي إليك لحاجة- فقال أبو نوح معاذ الله أن أسير إليك إلا في كتيبة- قال ذو الكلاع- بلى فسر فلك ذمة الله و ذمة رسوله‏ و ذمة ذي الكلاع- حتى ترجع إلى خيلك-

فإنما أريد أن أسألك عن أمر فيكم تمارينا فيه- فسار أبو نوح و سار ذو الكلاع- فقال له إنما دعوتك أحدثك حديثا- حدثناه عمرو بن العاص قديما في خلافة عمر بن الخطاب- ثم أذكرناه الآن به فأعاده- أنه يزعم أنه سمع رسول الله ص- قال يلتقي أهل الشام و أهل العراق- و في إحدى الكتيبتين الحق و إمام الهدى- و معه عمار بن ياسر- فقال أبو نوح نعم و الله إنه لفينا- قال نشدتك الله أ جاد هو على قتالنا- قال أبو نوح- نعم و رب الكعبة لهو أشد على قتالكم مني- و لوددت أنكم خلق واحد- فذبحته و بدأت بك قبلهم- و أنت ابن عمي- قال ذو الكلاع ويلك علام تمنى ذلك منا- فو الله ما قطعتك فيما بيني و بينك قط- و إن رحمك لقريبة و ما يسرني أن أقتلك-

قال أبو نوح إن الله قطع بالإسلام أرحاما قريبة- و وصل به أرحاما متباعدة- و إني قاتلك و أصحابك لأنا على الحق و أنتم على الباطل- قال ذو الكلاع- فهل تستطيع أن تأتي معي صف أهل الشام- فأنا لك جار منهم حتى تلقى عمرو بن العاص- فتخبره بحال عمار و جده في قتالنا- لعله أن يكون صلح بين هذين الجندين- . قلت وا عجباه من قوم يعتريهم الشك- في أمرهم لمكان عمار- و لا يعتريهم الشك لمكان علي ع- و يستدلون على أن الحق مع أهل العراق- بكون عمار بين أظهرهم- و لا يعبئون بمكان علي ع- و يحذرون من قول النبي ص تقتلك الفئة الباغية- و يرتاعون لذلك- و لا يرتاعون لقوله ص في علي ع اللهم وال من والاه و عاد من عاداه- و لالقوله لا يحبك إلا مؤمن‏و لا يبغضك إلا منافق- و هذا يدلك على أن عليا ع اجتهدت قريش كلها- من مبدإ الأمر في إخمال ذكره و ستر فضائله- و تغطية خصائصه حتى محي فضله و مرتبته- من صدور الناس كافة إلا قليلا منهم- .

قال نصر فقال له أبو نوح إنك رجل غادر- و أنت في قوم غدر- و إن لم يرد الغدر أغدروك- و إني أن أموت أحب إلى من أن أدخل مع معاوية- فقال ذو الكلاع أنا جار لك من ذلك- ألا تقتل و لا تسلب و لا تكره على بيعة- و لا تحبس عن جندك- و إنما هي كلمة تبلغها عمرو بن العاص- لعل الله أن يصلح بذلك بين هذين الجندين- و يضع عنهم الحرب- فقال أبو نوح إني أخاف غدراتك و غدرات أصحابك- قال ذو الكلاع أنا لك بما قلت زعيم-

قال أبو نوح اللهم إنك ترى ما أعطاني ذو الكلاع- و أنت تعلم ما في نفسي- فاعصمني و اختر لي و انصرني و ادفع عني- ثم سار مع ذي الكلاع حتى أتى عمرو بن العاص- و هو عند معاوية و حوله الناس- و عبد الله بن عمر يحرض الناس على الحرب- فلما وقفا على القوم قال ذو الكلاع لعمرو- يا أبا عبد الله هل لك في رجل ناصح لبيب مشفق- يخبرك عن عمار بن ياسر فلا يكذبك- قال و من هو قال هو ابن عمي هذا- و هو من أهل الكوفة- فقال عمرو أرى عليك سيما أبي تراب- فقال أبو نوح على سيما محمد و أصحابه- و عليك سيما أبي جهل و سيما فرعون- فقام أبو الأعور فسل سيفه- و قال لا أرى هذا الكذاب اللئيم- يسبنا بين أظهرنا و عليه سيما أبي تراب- فقال ذو الكلاع أقسم بالله- لئن بسطت يدك إليه لأحطمن أنفك بالسيف- ابن عمي و جاري عقدت له ذمتي- و جئت به إليكم ليخبركم عما تماريتم فيه- فقال له عمرو بن العاص يا أبا نوح- أذكرك بالله إلا ما صدقتنا و لم تكذبنا- أ فيكم عمار بن ياسر-

قال أبو نوح ما أنا بمخبرك حتى تخبر لم تسأل عنه- و معنا من أصحاب محمد ص عدة غيره- و كلهم جاد على قتالكم-فقال عمرو سمعت رسول الله ص يقول إن‏ عمارا تقتله الفئة الباغية- و إنه ليس لعمار أن يفارق الحق- و لن تأكل النار من عمار شيئا- فقال أبو نوح لا إله إلا الله و الله أكبر- و الله إنه لفينا جاد على قتالكم- فقال عمرو الله الذي لا إله إلا هو إنه لجاد على قتالنا- قال نعم و الله الذي لا إله إلا هو- و لقد حدثني يوم الجمل أنا سنظهر على أهل البصرة- و لقد قال لي أمس- إنكم لو ضربتمونا حتى تبلغوا بنا سعفات هجر- لعلمنا أنا على الحق و أنكم على باطل- و لكانت قتلانا في الجنة و قتلاكم في النار- قال عمرو فهل تستطيع أن تجمع بيني و بينه-

قال نعم فركب عمرو بن العاص و ابناه- و عتبة بن أبي سفيان و ذو الكلاع- و أبو الأعور السلمي و حوشب- و الوليد بن عقبة و انطلقوا- و سار أبو نوح و معه شرحبيل بن ذي الكلاع يحميه- حتى انتهى إلى أصحابه- فذهب أبو نوح إلى عمار- فوجده قاعدا مع أصحاب له- منهم الأشتر و هاشم و ابنا بديل- و خالد بن معمر و عبد الله بن حجل- و عبد الله بن العباس- . فقال لهم أبو نوح إنه دعاني ذو الكلاع و هو ذو رحم- فقال أخبرني عن عمار بن ياسر أ فيكم هو- فقلت لم تسأل-فقال أخبرني عمرو بن العاص في إمرة عمر بن الخطاب أنه سمع رسول الله ص يقول يلتقي أهل الشام و أهل العراق و عمار مع أهل الحق- و تقتله الفئة الباغية- فقلت نعم إن عمارا فينا- فسألني أ جاد هو على قتالنا- فقلت نعم و الله إنه لأجد مني في ذلك- و لوددت أنكم خلق واحد فذبحته- و بدأت بك يا ذا الكلاع- فضحك عمار و قال أ يسرك ذلك-

قال نعمثم قال أبو نوح أخبرني الساعة عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله ص يقول تقتل عمارا الفئة الباغية- قال عمار أ قررته بذلك- قال نعم لقد قررته بذلك فأقر-فقال عمار صدق و ليضرنه ما سمع و لا ينفعه- قال أبو نوح فإنه يريد أن يلقاك- فقال عمار لأصحابه اركبوا فركبوا و ساروا- قال فبعثنا إليهم فارسا من عبد القيس- يسمى عوف بن بشر فذهب حتى إذا كان قريبا منهم- نادى أين عمرو بن العاص قالوا هاهنا- فأخبره بمكان عمار و خيله- قال عمرو قل له فليسر إلينا-

قال عوف إنه يخاف غدارتك و فجراتك- قال عمرو ما أجرأك علي و أنت على هذه الحال- قال عوف جرأني عليك بصري فيك و في أصحابك- و إن شئت نابذتك الآن على سواء- و إن شئت التقيت أنت و خصماؤك و أنت كنت غادرا- فقال عمرو إنك لسفيه- و إني باعث إليك رجلا من أصحابي يواقفك- قال ابعث من شئت فلست بالمستوحش- و إنك لا تبعث إلا شقيا فرجع عمرو- و أنفذ إليه أبا الأعور- فلما تواقفا تعارفا- فقال عوف إني لأعرف الجسد و أنكر القلب- و إني لا أراك مؤمنا و لا أراك إلا من أهل النار- قال أبو الأعور يا هذا- لقد أعطيت لسانا يكبك الله به على وجهك في النار-

قال عوف كلا- و الله إني لأتكلم بالحق و تتكلم بالباطل- و إني أدعوك إلى الهدى و أقاتلك على الضلال- و أفر من النار و أنت بنعمة الله ضال- تنطق بالكذب و تقاتل على ضلالة- و تشتري العقاب بالمغفرة و الضلالة بالهدى- انظر إلى وجوهنا و وجوهكم و سيمانا و سيماكم- و اسمع دعوتنا و دعوتكم- فليس أحد منا إلا و هو أولى بالحق و بمحمد- و أقرب إليه منكم- فقال أبو الأعور لقد أكثرت الكلام و ذهب النهار- ويحك ادع أصحابك و أدعو أصحابي- و ليأت أصحابك في قلة إن شاءوا أو كثرة- فإني أجي‏ء من أصحابي بعدتهم- فإن شاء أصحابك فليقلواو إن شاءوا فليكثروا- فسار عمار في اثني عشر فارسا- حتى إذا كانوا بالمنصف سار عمرو بن العاص في اثني عشر فارسا- حتى اختلفت أعناق الخيل خيل عمار و خيل عمرو- و نزل القوم و احتبوا بحمائل سيوفهم- فتشهد عمرو بن العاص-

فقال له عمار اسكت- فلقد تركتها و أنا أحق بها منك- فإن شئت كانت خصومة فيدفع حقنا باطلك- و إن شئت كانت خطبة- فنحن أعلم بفصل الخطاب منك- و إن شئت أخبرتك بكلمة تفصل بيننا و بينك- و تكفرك قبل القيام و تشهد بها على نفسك- و لا تستطيع أن تكذبني فيها- فقال عمرو يا أبا اليقظان ليس لهذا جئت- إنما جئت لأني رأيتك أطوع أهل هذا العسكر فيهم- أذكرك الله إلا كففت سلاحهم- و حقنت دماءهم و حرصت على ذلك- فعلام تقاتلوننا أ و لسنا نعبد إلها واحدا- و نصلي إلى قبلتكم و ندعو دعوتكم- و نقرأ كتابكم و نؤمن بنبيكم فقال عمار الحمد لله الذي أخرجها من فيك- أنها لي و لأصحابي القبلة و الدين- و عبادة الرحمن و النبي و الكتاب من دونك و دون أصحابك- الحمد لله الذي قررك لنا بذلك- و جعلك ضالا مضلا أعمى- و سأخبرك على ما أقاتلك عليه و أصحابك- إن رسول الله ص أمرني أن أقاتل الناكثين فقد فعلت- و أمرني أن أقاتل القاسطين و أنتم هم- و أما المارقون فلا أدري أدركهم أو لا أيها الأبتر- أ لست تعلم
أن رسول الله ص قال من كنت مولاه فعلي مولاه- اللهم وال من والاه و عاد من عاداه- فأنا مولى الله و رسوله و علي مولاي بعدهما-

قال عمرو لم تشتمني يا أبا اليقظان و لست أشتمك- قال عمار و بم تشتمني- أ تستطيع أن تقول أني عصيت الله و رسوله يوما قط- قال عمرو إن فيك لمساب سوى ذلك- قال عمار إن الكريم من أكرمه‏ الله- كنت وضيعا فرفعني الله و مملوكا فأعتقني الله- و ضعيفا فقواني الله و فقيرا فأغناني الله- قال عمرو فما ترى في قتل عثمان- قال فتح لكم باب كل سوء- قال عمرو فعلي قتله- قال عمار بل الله رب علي قتله و علي معه- قال عمرو فكنت فيمن قتله- قال كنت مع من قتله و أنا اليوم أقاتل معهم- قال عمرو فلم قتلتموه- قال عمار إنه أراد أن يغير ديننا فقتلناه- فقال عمرو أ لا تسمعون- قد اعترف بقتل إمامكم- فقال عمار قد قالها فرعون قبلك لقومه أَ لا تَسْتَمِعُونَ- فقام أهل الشام و لهم زجل فركبوا خيولهم و رجعوا- و قام عمار و أصحابه فركبوا خيولهم و رجعوا- و بلغ معاوية ما كان بينهم- فقال هلكت العرب- أن حركتهم خفة العبد الأسود يعني عمارا- .

قال نصر فحدثنا عمرو بن شمر- قال فخرجت الخيول إلى القتال و اصطفت بعضها لبعض- و تزاحف الناس و على عمار درع بيضاء- و هو يقول أيها الناس الرواح إلى الجنة- . فقاتل القوم قتالا شديدا لم يسمع السامعون بمثله- و كثرت القتلى حتى أن كان الرجل ليشد طنب فسطاطه- بيد الرجل أو برجله- و حكى الأشعث بعد ذلك- قال لقد رأيت أخبية صفين و أروقتها- و ما فيها خباء و لا رواق و لا فسطاط- إلا مربوطا بيد إنسان أو برجله- . قال نصر و جعل أبو السماك الأسدي- يأخذ إداوة من ماء و شفرة حديدة- فيطوف في القتلى فإذا رأى رجلا جريحا و به رمق أقعده- فيقول له من أمير المؤمنين- فإذا قال‏علي غسل الدم عنه و سقاه من الماء- و إن سكت وجأه بالسكين حتى يموت و لا يسقيه- .

قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر- قال سمعت الشعبي يقول قال الأحنف بن قيس- و الله إني إلى جانب عمار بن ياسر- بيني و بينه رجل من بني الشعيراء- . فتقدمنا حتى دنونا من هاشم بن عتبة- فقال له عمار احمل فداك أبي و أمي- فقال له هاشم يرحمك الله يا أبا اليقظان- إنك رجل تأخذك خفة في الحرب- و إني إنما أزحف باللواء زحفا- أرجو أن أنال بذلك حاجتي- و إن خففت لم آمن الهلكة- و قد كان قال معاوية لعمرو ويحك- إن اللواء اليوم مع هاشم بن عتبة- و قد كان من قبل يرقل به إرقالا- و إن زحف به اليوم زحفا- إنه لليوم الأطول على أهل الشام- فإن زحف في عنق من أصحابه- إني لأطمع أن تقتطع- فلم يزل به عمار حتى حمل فبصر به معاوية- فوجه إليه حماة أصحابه- و من يزن بالبأس و النجدة منهم في ناحية- و كان في ذلك الجمع عبد الله بن عمرو بن العاص- و معه يومئذ سيفان قد تقلد بأحدهما- و هو يضرب بالآخر- فأطافت به خيول علي ع- و جعل عمرو يقول يا الله يا رحمان ابني ابني- فيقول معاوية اصبر فلا بأس عليه- فقال عمرو لو كان يزيد بن معاوية أ صبرت- فلم يزل حماة أهل الشام تذب عن عبد الله- حتى نجا هاربا على فرسه و من معه- و أصيب هاشم في المعركة- .

قال نصر و حدثنا عمر بن سعد- قال و في هذا اليوم قتل عمار بن ياسر رضي الله عنه- أصيب في المعركة- و قد كان قال حين نظر إلى راية عمرو بن العاص- و الله إنها لراية قد قاتلتها ثلاث عركات و ما هذه بأرشدهن- ثم قال

نحن ضربناكم على تأويله
كما ضربناكم على تنزيله‏

ضربا يزيل الهام عن مقيله‏
و يذهل الخليل عن خليله‏
أو يرجع الحق إلى سبيله‏

ثم استسقى و قد اشتد عطشه- فأتته امرأة طويلة اليدين- ما أدري أ عس معها أم إداوة فيها ضياح من لبن- فقال حين شرب الجنة تحت الأسنة- اليوم ألقي الأحبة محمدا و حزبه- و الله لو ضربونا حتى يبلغونا سعفات هجر- لعلمنا أنا على الحق و أنهم على الباطل- ثم حمل و حمل عليه ابن حوى السكسكي و أبو العادية- فأما أبو العادية فطعنه- و أما ابن حوى فاحتز رأسه-و قد كان ذو الكلاع يسمع عمرو بن العاص يقول إن النبي ص يقول لعمار تقتلك الفئة الباغية- و آخر شربك ضياح من لبن- فقال ذو الكلاع لعمرو ويحك ما هذا- قال عمرو إنه سيرجع إلينا و يفارق أبا تراب- و ذلك قبل أن يصاب عمار- فلما أصيب عمار في هذا اليوم أصيب ذو الكلاع- فقال عمرو لمعاوية- و الله ما أدري بقتل أيهما أنا أشد فرحا- و الله لو بقي ذو الكلاع حتى يقتل عمار- لمال بعامة قومه إلى علي و لأفسد علينا أمرنا- .

قال نصر و حدثنا عمر بن سعد- قال كان لا يزال رجل يجي‏ء فيقول لمعاوية و عمرو- أنا قتلت عمارا فيقول له عمرو فما سمعته يقول فيخلط- حتى أقبل ابن حوى‏ فقال أنا قتلته- فقال عمرو فما كان آخر منطقه- قال سمعته يقول اليوم ألقى الأحبة محمدا و حزبه- فقال صدقت أنت صاحبه- أما و الله ما ظفرت يداك- و لقد أسخطت ربك- . قال نصر حدثنا عمرو بن شمر- قال حدثني إسماعيل السدي- عن عبد خير الهمداني- قال نظرت إلى عمار بن ياسر يوما من أيام صفين- قد رمي رمية فأغمي عليه- فلم يصل الظهر و لا العصر- و لا المغرب و لا العشاء و لا الفجر- ثم أفاق فقضاهن جميعا يبدأ بأول شي‏ء فاته- ثم بالتي تليها- . قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر- عن السدي عن أبي حريث- قال أقبل غلام لعمار بن ياسر اسمه راشد- يحمل إليه يوم قتل بشربة من لبن-فقال عمار أما إني سمعت خليلي رسول الله ص يقول إن آخر زادك من الدنيا شربة لبن- .

قال نصر و روى عمرو بن شمر- عن السدي أن رجلين بصفين اختصما في سلب عمار و في قتله- فأتيا عبد الله بن عمرو بن العاص- فقال ويحكما اخرجا عني-فإن رسول الله ص قال ما لقريش و لعمار- يدعوهم إلى الجنة و يدعونه إلى النار- قاتله و سالبه في النار- .قال السدي- فبلغني أن معاوية قال لما سمع ذلك- إنما قتله من أخرجه- يخدع بذلك طغام أهل الشام- . قال نصر و حدثنا عمرو عن جابر عن أبي الزبير- قال أتى حذيفة بن اليمان رهط من جهينة- فقالوا له يا أبا عبد الله- إن رسول الله ص استجار من أن تصطلم أمته- فأجير من ذلك- و استجار من أن يذيق أمته بعضها بأس بعض- فمنع من ذلكفقال حذيفة إني سمعت رسول الله ص يقول إن ابن سمية لم يخير بين أمرين قط إلا اختار أشدهما- يعني عمارا فالزموا سمته- . قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر- قال حمل عمار ذلك اليوم على صف أهل الشام- و هو يرتجز-

كلا و رب البيت لا أبرح أجي
حتى أموت أو أرى ما أشتهي‏

لا أفتأ الدهر أحامي عن علي‏
صهر الرسول ذي الأمانات الوفي‏

ينصرنا رب السماوات العلي
و يقطع الهام بحد المشرفي‏

يمنحنا النصر على من يبتغي‏
ظلما علينا جاهدا ما يأتلي‏

قال فضرب أهل الشام حتى اضطرهم إلى الفرار- .قال نصر و قد كان عبد الله بن سويد الحميري- من آل ذي الكلاع- قال لذي الكلاع- ما حديث سمعته من ابن العاص في عمار فأخبره- فلما قتل عمار خرج عبد الله ليلا يمشي- فأصبح في عسكر علي ع- و كان عبد الله من عباد الله زمانه- و كاد أهل الشام أن يضطربوا- لو لا أن معاوية قال لهم- إن عليا قتل عمارا لأنه أخرجه إلى الفتنة- ثم أرسل معاوية إلى عمرو- لقد أفسدت على أهل الشام- أ كل ما سمعت من رسول الله ص تقوله- فقال عمرو قلتها و لست أعلم الغيب- و لا أدري أن صفين تكون- قلتها و عمار يومئذ لك ولي- و قد رويت أنت فيه مثل ما رويت- فغضب معاوية و تنمر لعمرو- و عزم على منعه خيره- فقال عمرو لابنه و أصحابه- لا خير في جوار معاوية- إن تجلت هذه الحرب عنه لأفارقنه- و كان عمرو حمي الأنف قال-

تعاتبني أن قلت شيئا سمعته
و قد قلت لو أنصفتني مثله قبلي‏

أ نعلك فيما قلت نعل ثبيته‏
و تزلق بي في مثل ما قلته نعلي‏

و ما كان لي علم بصفين أنها
تكون و عمار يحث على قتلي‏

و لو كان لي بالغيب علم كتمتها
و كايدت أقواما مراجلهم تغلي‏

أبى الله إلا أن صدرك واغر
علي بلا ذنب جنيت و لا ذحل‏

سوى أنني و الراقصات عشية
بنصرك مدخول الهوى ذاهل العقل‏

فلا وضعت عني حصان قناعها
و لا حملت وجناء ذعلبة رحلي‏

و لا زلت أدعى في لؤي بن غالب‏
قليلا غنائي لا أمر و لا أحلى‏

إن الله أرخى من خناقك مرة
و نلت الذي رجيت إن لم أزر أهلي‏

و أترك لك الشام التي ضاق رحبها
عليك و لم يهنك بها العيش من أجلي‏

فأجابه معاوية-

أ الآن لما ألقت الحرب بركها
و قام بنا الأمر الجليل على رجل‏

غمزت قناتي بعد ستين حجة
تباعا كأني لا أمر و لا أحلى‏

أتيت بأمر فيه للشام فتنة
و في دون ما أظهرته زلة النعل‏

فقلت لك القول الذي ليس ضائرا
و لو ضر لم يضررك حملك لي ثقلي‏

تعاتبني في كل يوم و ليلة
كأن الذي أبليك ليس كما أبلي‏

فيا قبح الله العتاب و أهله‏
أ لم تر ما أصبحت فيه من الشغل‏

فدع ذا و لكن هل لك اليوم حيلة
ترد بها قوما مراجلهم تغلي‏

دعاهم علي فاستجابوا لدعوة
أحب إليهم من ثرى المال و الأهل‏

إذا قلت هابوا حومة الموت أرقلوا
إلى الموت إرقال الهلوك إلى الفحل‏

قال فلما أتى عمرا شعر معاوية أتاه- فأعتبه و صار أمرهما واحدا- . قال نصر- ثم إن عليا ع دعا في هذا اليوم هاشم بن عتبة- و معه لواؤه و كان أعور- فقال له يا هاشم حتى متى- فقال هاشم لأجهدن ألا أرجع إليك أبدا- فقال علي ع إن بإزائك ذا الكلاع- و عنده الموت الأحمر فتقدم هاشم-فلما أقبل قال معاوية من هذا المقبل- فقيل هاشم المرقال- فقال أعور بني زهرة قاتله الله- فأقبل هاشم و هو يقول-

أعور يبغي نفسه خلاصا
مثل الفنيق لابسا دلاصا

لا دية يخشى و لا قصاصا
كل امرئ و إن كبا و حاصا
ليس يرى من يومه مناصا

فحمل صاحب لواء ذي الكلاع- و هو رجل من عذرة- فقال

يا أعور العين و ما بي من عور
اثبت فإني لست من فرعي مضر

نحن اليمانون و ما فينا خور
كيف ترى وقع غلام من عذر

ينعى ابن عفان و يلحى من عذر
سيان عندي من سعى و من أمر

فاختلفا طعنتين فطعنه هاشم فقتله- و كثرت القتلى حول هاشم- و حمل ذو الكلاع و اختلط الناس و اجتلدوا- فقتل هاشم و ذو الكلاع جميعا- و أخذ عبد الله بن هاشم اللواء و ارتجز- فقال

يا هاشم بن عتبة بن مالك
أعزز بشيخ من قريش هالك‏

تحيطه الخيلان بالسنابك‏
في أسود من نقعهن حالك‏

أبشر بحور العين في الأرائك
و الروح و الريحان عند ذلك‏

قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الشعبي- قال أخذ عبد الله بن هاشم بن عتبة راية أبيه- ثم قال أيها الناس- إن هاشما كان عبدا من عباد الله الذي قدر أرزاقهم-و كتب آثارهم و أحصى أعمالهم و قضى آجالهم- فدعاه الله ربه فاستجاب لأمره و سلم لأمره- و جاهد في طاعة ابن عم رسوله- أول من آمن به و أفقههم في دين الله- الشديد على أعداء الله المستحلين حرم الله- الذين عملوا في البلاد بالجور و الفساد- و استحوذ عليهم الشيطان- فأنساهم ذكر الله و زين لهم الإثم و العدوان- فحق عليكم جهاد من خالف الله- و عطل حدوده و نابذ أولياءه- جودوا بمهجكم في طاعة الله في هذه الدنيا- تصيبوا الآخرة و المنزل الأعلى- و الأبد الذي لا يفنى- فو الله لو لم يكن ثواب و لا عقاب- و لا جنة و لا نار- لكان القتال مع علي أفضل من القتال مع معاوية- فكيف و أنتم ترجون ما ترجون- قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر- قال لما انقضى أمر صفين- و سلم الحسن ع الأمر إلى معاوية- و وفدت عليه الوفود- أشخص عبد الله بن هاشم إليه أسيرا- فلما مثل بين يديه و عنده عمرو بن العاص-

قال يا أمير المؤمنين هذا المختال ابن المرقال- فدونك الضب المضب المعر المفتون- فاقتله فإن العصا من العصية- و إنما تلد الحية حيية و جزاء السيئة سيئة مثلها- . فقال عبد الله- إن تقتلني فما أنا بأول رجل خذله قومه- و أسلمه يومه- فقال عمرو يا أمير المؤمنين- أمكني منه أشخب أوداجه على أثباجه- فقال عبد الله فهلا كانت هذه الشجاعة منك- يا ابن العاص في أيام صفين- و نحن ندعوك إلى النزال- و قد ابتلت أقدام الرجال من نقيع الجريال- و قد تضايقت بك المسالك- و أشرفت منها على المهالك- و ايم الله لو لا مكانك منه- لرميتك بأحد من وقع الأشافي- فإنك لا تزال تكثر في‏ هوسك- و تخبط في دهسك و تنشب في مرسك- تخبط العشواء في الليلة الحندس الظلماء- فأمر معاوية به إلى الحبس- فكتب عمرو إلى معاوية-

أمرتك أمرا حازما فعصيتني
و كان من التوفيق قتل ابن هاشم‏

و كان أبوه يا معاوية الذي‏
رماك على حرب بحز الغلاصم‏

فقتلنا حتى جرت من دمائنا
بصفين أمثال البحور الخضارم‏

و هذا ابنه و المرء يشبه أصله‏
ستقرع إن أبقيته سن نادم‏

فبعث معاوية بالشعر إلى عبد الله بن هاشم- فكتب في جوابه من السجن-

معاوي إن المرء عمرا أبت له
ضغينة صدر ودها غير سالم‏

يرى لك قتلي يا ابن حرب و إنما
يرى ما يرى عمرو ملوك الأعاجم‏

على أنهم لا يقتلون أسيرهم
إذا كان فيه منعة للمسالم‏

و قد كان منا يوم صفين نفرة
عليك جناها هاشم و ابن هاشم‏

قضى الله فيها ما قضى ثمت انقضى
و ما ما مضى إلا كأضغاث حالم‏

فإن تعف عني تعف عن ذي قرابة
و إن تر قتلي تستحل محارمي‏

هذه رواية نصر بن مزاحم- .و روى أبو عبيد الله محمد بن عمران- بن موسى بن عبيد الله المرزباني- أن معاوية لما تم له الأمر بعد وفاة علي ع- بعث زيادا على البصرة- و ناد منادي معاوية أمن الأسود و الأحمر بأمان الله- إلا عبد الله بن هاشم بن عتبة- فمكث معاوية يطلبه أشد الطلب- و لا يعرف له خبرا- حتى قدم عليه رجل من أهل البصرة- فقال له أنا أدلك على عبد الله بن هاشم بن عتبة- اكتب إلى زياد فإنه عند فلانة المخزومية- فدعا كاتبه- فكتب من معاوية بن أبي سفيان أمير المؤمنين- إلى زياد بن أبي سفيان- أما بعد فإذا أتاك كتابي هذا- فاعمد إلى حي بني مخزوم- ففتشه دارا دارا- حتى تأتي إلى دار فلانة المخزومية- فاستخرج عبد الله بن هاشم المرقال منها- فاحلق رأسه و ألبسه جبة شعر و قيده- و غل يده إلى عنقه- و احمله على قتب بعير بغير وطاء و لا غذاء- و أنفذ به إلي- .

قال المرزباني فأما الزبير بن بكار فإنه قال- إن معاوية قال لزياد لما بعثه إلى البصرة- إن عبد الله بن المرقال في بني ناجية بالبصرة- عند امرأة منهم يقال لها فلانة- و أنا أعزم عليك إلا حططت رحلك ببابها- ثم اقتحمت الدار و استخرجته منها و حملته إلي- . فلما دخل زياد إلى البصرة- سأل عن بني ناجية و عن منزل المرأة فاقتحم الدار- و استخرج عبد الله منها- فأنفذه إلى معاوية فوصل إليه يوم الجمعة- و قد لاقى نصبا كثيرا- و من الهجير ما غير جسمه- و كان معاوية يأمر بطعام- فيتخذ في كل جمعة لأشراف قريش و لأشراف الشام و وفود العراق- فلم يشعر معاوية إلا و عبد الله بين يديه- و قد ذبل و سهم وجهه- فعرفه و لم يعرفه عمرو بن العاص- فقال معاوية يا أبا عبد الله- أ تعرف هذا الفتى قال لا- قال هذا ابن الذي كان يقول في صفين-

أعور يبغي أهله محلا
قد عالج الحياة حتى ملا
لا بد أن يفل أو يفلا

قال عمرو و إنه لهو دونك الضب المضب- فاشخب أوداجه- و لا ترجعه إلى أهل‏العراق فإنهم أهل فتنة و نفاق- و له مع ذلك هوى يرديه و بطانة تغويه- فو الذي نفسي بيده لئن أفلت من حبائلك- ليجهزن إليك جيشا تكثر صواهله لشر يوم لك- . فقال عبد الله و هو في القيد- يا ابن الأبتر هلا كانت هذه الحماسة عندك يوم صفين- و نحن ندعوك إلى البراز- و تلوذ بشمائل الخيل- كالأمة السوداء و النعجة القوداء- أما إنه إن قتلني قتل رجلا كريم المخبرة حميد المقدرة- ليس بالجبس المنكوس و لا الثلب المركوس- فقال عمرو دع كيت و كيت- فقد وقعت بين لحيي لهزم فروس للأعداء- يسعطك إسعاط الكودن الملجم-

قال عبد الله أكثر إكثارك- فإني أعلمك بطرا في الرخاء- جبانا في اللقاء هيابة عند كفاح الأعداء- ترى أن تقي مهجتك بأن تبدي سوءتك- أ نسيت يوم صفين و أنت تدعى إلى النزال فتحيد عن القتال- خوفا أن يغمرك رجال لهم أبدان شداد- و أسنة حداد ينهبون السرح- و يذلون العزيز- . قال عمر لقد علم معاوية أني شهدت تلك المواطن- فكنت فيها كمدرة الشوك- و لقد رأيت أباك في بعض تلك المواطن تخفق أحشاؤه- و تنق أمعاؤه- قال أما و الله لو لقيك أبي في ذلك المقام- لارتعدت منه فرائصك- و لم تسلم منه مهجتك- و لكنه قاتل غيرك فقتل دونك- . فقال معاوية أ لا تسكت لا أم لك- فقال يا ابن هند أ تقول لي هذا- و الله لئن شئت لأعرقن جبينك- و لأقيمنك و بين عينيك وسم يلين له أخدعاك- أ بأكثر من الموت تخوفني- فقال معاوية أو تكف يا ابن أخي و أمر به إلى السجن- . فقال عمرو و ذكر الأبيات- فقال عبد الله و ذكر الأبيات أيضا- و زاد فأطرق معاوية طويلا حتى ظن أنه لن يتكلم- ثم قال‏

أرى العفو عن عليا قريش وسيلة
إلى الله في اليوم العبوس القماطر

و لست أرى قتلي فتى ذا قرابة
له نسب في حي كعب و عامر

بل العفو عنه بعد ما خاب قدحه
و زلت به إحدى الجدود العواثر

و كان أبوه يوم صفين محنقا
علينا فأردته رماح يحابر

ثم قال له أ تراك فاعلا ما قال عمرو من الخروج علينا- قال لا تسل عن عقيدات الضمائر- لا سيما إذا أرادت جهادا في طاعة الله- قال إذن يقتلك الله كما قتل أباك- قال و من لي بالشهادة- قال فأحسن معاوية جائزته- و أخذ عليه موثقا ألا يساكنه بالشام- فيفسد عليه أهله- . قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر- عن السدي عن عبد خير الهمداني- قال قال هاشم بن عتبة يوم مقتله- أيها الناس إني رجل ضخم- فلا يهولنكم مسقطي إذا سقطت- فإنه لا يفرغ مني أقل من نحر جزور- حتى يفرغ الجزار من جزرها- ثم حمل فصرع- فمر عليه رجل و هو صريع بين القتلى- فناداه اقرأ على أمير المؤمنين السلام- و قل له بركات الله و رحمته عليك يا أمير المؤمنين- أنشدك الله إلا أصبحت- و قد ربطت مقاود خيلك بأرجل القتلى- فإن الدبرة تصبح غدا لمن غلب على القتلى- فأخبر الرجل عليا ع بما قاله- فسار في الليل بكتائبه حتى جعل القتلى خلف ظهره- فأصبح و الدبرة له على أهل الشام- .

قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر- عن السدي عن عبد خير- قال قاتل هاشم الحارث بن المنذر التنوخي- حمل عليه بعد أن أعيا و كل- و قتل بيده فطعنه بالرمح فشق بطنه فسقط- و بعث إليه علي ع و هو لا يعلم أقدم بلوائك- فقال للرسول انظر إلى بطني فإذا هو قد انشق- فجاء علي ع حتى وقف عليه- و حوله عصابة من أسلم قد صرعوا معه- و قوم من القراء فجزع عليه- و قال

جزى الله خيرا عصبة أسلمية
صباح الوجوه صرعوا حول هاشم‏

يزيد و سعدان و بشر و معبد
و سفيان و ابنا معبد ذي المكارم‏

و عروة لا يبعد نثاه و ذكره
إذا اخترطت يوما خفاف الصوارم‏

قال نصر و حدثنا عمر بن سعد- عن الشعبي عن أبي سلمة- أن هاشم بن عتبة استصرخ الناس عند المساء- ألا من كان له إلى الله حاجة- و من كان يريد الآخرة فليقبل- فأقبل إليه ناس كثير شد بهم على أهل الشام مرارا- ليس من وجه يحمل عليه إلا صبروا له- فقاتل قتالا شديدا- ثم قال لأصحابه لا يهولنكم ما ترون من صبرهم- فو الله ما ترون منهم إلا حمية العرب- و صبرها تحت راياتها- و عند مراكزها- و إنهم لعلى الضلال و إنكم لعلى الحق- يا قوم اصبروا و صابروا و اجتمعوا- و امشوا بنا إلى عدونا على تؤدة- رويدا و اذكروا الله و لا يسلمن رجل أخاه- و لا تكثروا الالتفات- و اصمدوا صمدهم و جالدوهم محتسبين- حتى يحكم الله بيننا و بينهم و هو خير الحاكمين- . قال أبو سلمة- فبينا هو و عصابة من القراء يجالدون أهل الشام- إذ طلع عليهم فتى شاب- و هو يقول

أنا ابن أرباب ملوك غسان
و الدائن اليوم بدين عثمان‏

أنبأنا قراؤنا بما كان
أن عليا قتل ابن عفان‏

ثم شد لا ينثني حتى يضرب بسيفه- ثم جعل يلعن عليا و يشتمه و يسهب في ذمه- فقال له هاشم بن عتبة- يا هذا إن الكلام بعده الخصام- و إن لعنك سيد الأبرار بعده عقاب النار- فاتق الله فإنك راجع إلى ربك- فيسألك عن هذا الموقف و عن هذا المقال- . قال الفتى إذا سألني ربي قلت- قاتلت أهل العراق- لأن صاحبهم لا يصلي كما ذكر لي- و إنهم لا يصلون و صاحبهم قتل خليفتنا- و هم آزروه على قتله- فقال له هاشم يا بني و ما أنت و عثمان- إنما قتله أصحاب محمد- الذين هم أولى بالنظر في أمور المسلمين- و إن صاحبنا كان أبعد القوم عن دمه- و أما قولك إنه لا يصلي- فهو أول من صلى مع رسول الله- و أول من آمن به- و أما قولك إن أصحابه لا يصلون- فكل من ترى معه قراء الكتاب- لا ينامون الليل تهجدا- فاتق الله و اخش عقابه- و لا يغررك من نفسك الأشقياء الضالون- . فقال الفتى يا عبد الله- لقد دخل قلبي وجل من كلامك- و إني لأظنك صادقا صالحا- و أظنني مخطئا آثما- فهل لي من توبة- قال نعم ارجع إلى ربك و تب إليه- فإنه يقبل التوبة و يعفو عن السيئات- و يحب التوابين و يحب المتطهرين- فرجع الفتى إلى صفه منكسرا نادما- فقال له قوم من أهل الشام- خدعك العراقي قال لا- و لكن نصحني العراقي- . قال نصر و في قتل هاشم و عمار تقول امرأة من أهل الشام-

لا تعدموا قوما أذاقوا ابن ياسر
شعوبا و لم يعطوكم بالخزائم‏

فنحن قتلنا اليثربي ابن محصن
خطيبكم و ابني بديل و هاشم‏

قال نصر أما اليثربي فهو عمرو بن محصن الأنصاري- و قد رثاه النجاشي شاعر أهل العراق- فقال

لنعم فتى الحيين عمرو بن محصن
إذا صارخ الحي المصبح ثوبا

إذا الخيل جالت بينها قصد القنا
يثرن عجاجا ساطعا متنصبا

لقد فجع الأنصار طرا بسيد
أخي ثقة في الصالحات مجربا

فيا رب خير قد أفدت و جفنة
ملأت و قرن قد تركت مسلبا

و يا رب خصم قد رددت بغيظه
فآب ذليلا بعد أن كان مغضبا

و راية مجد قد حملت و غزوة
شهدت إذ النكس الجبان تهيبا

حويطا على جل العشيرة ماجدا
و ما كنت في الأنصار نكسا مؤنبا

طويل عماد المجد رحبا فناؤه‏
خصيبا إذا ما رائد الحي أجدبا

عظيم رماد النار لم يك فاحشا
و لا فشلا يوم النزال مغلبا

و كنت ربيعا ينفع الناس سيبه‏
و سيفا جرازا باتك الحد مقضبا

فمن يك مسرورا بقتل ابن محصن
فعاش شقيا ثم مات معذبا

و غودر منكبا لفيه و وجهه‏
يعالج رمحا ذا سنان و ثعلبا

فإن يقتلوا الحر الكريم ابن محصن
فنحن قتلنا ذا الكلاع و حوشبا

و إن يقتلوا ابني بديل و هاشما
فنحن تركنا منكم القرن أعضبا

و نحن تركنا حميرا في صفوفكم‏
لدى الحرب صرعى كالنخيل مشذبا

و أفلتنا تحت الأسنة مرثد
و كان قديما في الفرار مدربا

و نحن تركنا عند مختلف القنا
أخاكم عبيد الله لحما ملحبا

بصفين لما ارفض عنه رجالكم
و وجه ابن عتاب تركناه ملغبا

و طلحة من بعد الزبير و لم ندع‏
لضبة في الهيجا عريفا و منكبا

و نحن أحطنا بالبعير و أهله
و نحن سقيناكم سماما مقشبا

قال نصر- و كان ابن محصن من أعلام أصحاب علي ع- قتل في المعركة و جزع علي ع لقتله- . قال و في قتل هاشم بن عتبة- يقول أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني- و هو من الصحابة- و قيل إنه آخر من بقي من صحب رسول الله ص- و شهد مع علي صفين- و كان من مخلصي الشيعة-

يا هاشم الخير جزيت الجنه
قاتلت في الله عدو السنه‏

و التاركي الحق و أهل الظنه‏
أعظم بما فزت به من منه‏

صيرني الدهر كأني شنه
و سوف تعلو حول قبري رنه‏
من زوجة و حوبة و كنه‏

قال نصر و الحوبة القرابة- يقال لي في بني فلان حوبة أي قربى- . قال نصر و قال رجل من عذرة من أهل الشام-

لقد رأيت أمورا كلها عجب
و ما رأيت كأيام بصفينا

لما غدوا و غدونا كلنا حنق‏
كما رأيت الجمال الجلة الجونا

خيل تجول و أخرى في أعنتها
و آخرون على غيظ يرامونا

ثم ابتذلنا سيوفا في جماجمهم‏
و ما نساقيهم من ذاك يجزونا

كأنها في أكف القوم لامعة
سلاسل البرق يجدعن العرانينا

ثم انصرفنا كأشلاء مقطعة
و كلهم عند قتلاهم يصلونا

قال نصر و قال رجل لعدي بن حاتم الطائي- و كان من جملة أصحاب علي ع- يا أبا طريف أ لم أسمعك تقول يوم الدار- و الله لا تحبق فيها عناق حولية- و قد رأيت ما كان فيها- و قد كان فقئت عين عدي- و قتل بنوه- فقال أما و الله لقد حبقت في قتله العناق و التيس الأعظم- .

قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر- قال بعث علي ع خيلا ليحبسوا عن معاوية مادته- فبعث معاوية الضحاك بن قيس الفهري- في خيل إلى تلك الخيل- فأزالوهاو جاءت عيون علي ع فأخبروه بما كان- فقال لأصحابه ما ترون فيما هاهنا- فقال بعضهم نرى كذا- و قال بعضهم نرى كذا- فلما زاد الاختلاف قال علي ع اغدوا إلى القتال- فغاداهم إلى القتال- فانهزمت صفوف الشام من بين يديه ذلك اليوم- حتى فر عتبة بن أبي سفيان عشرين فرسخا عن موضع المعركة- فقال النجاشي فيه من قصيدة أولها-

لقد أمعنت يا عتب الفرارا
و أورثك الوغى خزيا و عارا

فلا يحمد خصاك سوى طمر
إذا أجريته انهمر انهمارا

و قال كعب بن جعيل و هو شاعر أهل الشام بعد رفع المصاحف- يذكر أيام صفين و يحرض معاوية-

معاوي لا تنهض بغير وثيقة
فإنك بعد اليوم بالذل عارف‏

تركتم عبيد الله بالقاع مسندا
يمج نجيعا و العروق نوازف‏

ألا إنما تبكي العيون لفارس
بصفين أجلت خيله و هو واقف‏

ينوء و تعلوه شآبيب من دم‏
كما لاح في جيب القميص اللفائف‏

تبدل من أسماء أسياف وائل
و أي فتى لو أخطأته المتالف‏

ألا إن شر الناس في الناس كلهم‏
بنو أسد إني بما قلت عارف‏

و فرت تميم سعدها و ربابها
و خالفت الجعراء فيمن يخالف‏

و قد صبرت حول ابن عم محمد
على الموت شهباء المناكب شارف‏

فما برحوا حتى رأى الله صبرهم
و حتى أتيحت بالأكف المصاحف‏

و قد تقدم ذكر هذه الأبيات بزيادة على ما ذكرناه الآن- . قال نصر- و هجا كعب بن جعيل عتبة بن أبي سفيان و عيره بالفرار- و كان كعب من شيعة معاوية- لكنه هجا عتبة تحريضا له- فهجاه عتبة جوابا فقال له-

و سميت كعبا بشر العظام
و كان أبوك يسمى الجعل‏

و إن مكانك من وائل‏
مكان القراد من است الجمل‏

قال نصر- ثم كانت بين الفريقين الوقعة المعروفة بوقعة الخميس- حدثنا بها عمر بن سعد عن سليمان الأعمش- عن إبراهيم النخعي- قال حدثنا القعقاع بن الأبرد الطهوي- قال و الله إني لواقف قريبا من علي ع- بصفين يوم وقعة الخميس- و قد التقت مذحج- و كانوا في ميمنة علي ع- و عك لخم و جذام و الأشعريون- و كانوا مستبصرين في قتال علي ع- فلقد و الله رأيت ذلك اليوم من قتالهم- و سمعت من وقع السيوف على الرءوس- و خبط الخيول بحوافرها في الأرض و في القتلى- ما الجبال تهد و لا الصواعق تصعق- بأعظم من هؤلاء في الصدور من تلك الأصوات- و نظرت إلى علي ع و هو قائم- فدنوت منه فأسمعه يقول لا حول و لا قوة إلا بالله- اللهم إليك الشكوى و أنت المستعان- ثم نهض حين قام قائم الظهبرة و هو يقول- ربنا افتح بيننا و بين قومنا بالحق- و أنت خير الفاتحين- و حمل على الناس بنفسه- و سيفه مجرد بيده- فلا و الله ما حجز بين الناس ذلك اليوم- إلا الله رب العالمين- في قريب من ثلث الليل‏ الأول- و قتلت يومئذ أعلام العرب- و كان في رأس علي ع ثلاث ضربات- و في وجهه ضربتان- .

قال نصر و قد قيل إن عليا ع لم يخرج قط- و قتل في هذا اليوم خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين- و قتل من أهل الشام- عبد الله بن ذي الكلاع الحميري- فقال معقل بن نهيك بن يساف الأنصاري-

يا لهف نفسي و من يشفي حزازتها
إذ أفلت الفاسق الضليل منطلقا

و أفلت الخيل عمرو و هي شاحبة
تحت العجاج تحث الركض و العنقا

وافت منية عبد الله إذ لحقت
قب الخيول به أعجز بمن لحقا

و أنساب مروان في الظلماء مستترا
تحت الدجى كلما خاف الردى أرقا

و قال مالك الأشتر-

نحن قتلنا حوشبا
لما غدا قد أعلما

و ذا الكلاع قبله‏
و معبدا إذ أقدما

أن تقتلوا منا أبا
اليقظان شيخا مسلما

فقد قتلنا منكم‏
سبعين كهلا مجرما

أضحوا بصفين و قد
لاقوا نكالا مؤثما

و قالت ضبيعة بنت خزيمة- بن ثابت ذي الشهادتين ترثي أباها رحمه الله-

عين جودي على خزيمة بالدمع
قتيل الأحزاب يوم الفرات‏

قتلوا ذا الشهادتين عتوا
أدرك الله منهم بالترات‏

قتلوه في فتية غير عزل
يسرعون الركوب في الدعوات‏

نصروا السيد الموفق ذا العدل‏
و دانوا بذاك حتى الممات‏

لعن الله معشرا قتلوه
و رماهم بالخزي و الآفات‏

قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الأعمش- قال كتب معاوية إلى أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري- صاحب منزل رسول الله ص- و كان سيدا معظما من سادات الأنصار- و كان من شيعة علي ع كتابا- و كتب إلى زياد بن سمية- و كان عاملا لعلي ع على بعض فارس كتابا ثانيا- فأما كتابه إلى أبي أيوب فكان سطرا واحدا- حاجيتك لا تنسى الشيباء أبا عذرها- و لا قاتل بكرها- فلم يدر أبو أيوب ما هو- قال فأتى به عليا ع فقال يا أمير المؤمنين- إن معاوية كهف المنافقين- كتب إلي بكتاب لا أدري ما هو- قال علي ع فأين الكتاب- فدفعه إليه فقرأه- و قال نعم هذا مثل ضربه لك- يقول لا تنسى الشيباء أبا عذرها- و الشيباء المرأة البكر ليلة افتضاضها- لا تنسى بعلها الذي افترعها أبدا- و لا تنسى قاتل بكرها- و هو أول ولدها- كذلك لا أنسى أنا قتل عثمان- . و أما الكتاب الذي كتبه إلى زياد- فإنه كان وعيدا و تهددا- فقال زياد ويلي على معاوية- كهف المنافقين و بقية الأحزاب- يتهددني و يتوعدني و بيني و بينه ابن عم محمد- معه سبعون ألفا- سيوفهم على عواتقهم- يطيعونه في جميع ما يأمرهم به- لا يلتفت رجل منهم وراءه حتى يموت- أما و الله لو ظفر ثم خلص إلي- ليجدنني أحمر ضرابا بالسيف- . قال نصر أحمر أي مولى- فلما ادعاه معاوية عاد عربيا منافيا- .قال نصر و روى عمرو بن شمر- أن معاوية كتب في أسفل كتابه إلى أبي أيوب-

أبلغ لديك أبا أيوب مألكة
أنا و قومك مثل الذئب و النقد

إما قتلتم أمير المؤمنين فلا
ترجوا الهوادة منا آخر الأبد

إن الذي نلتموه ظالمين له
أبقت حزازته صدعا على كبدي‏

إني حلفت يمينا غير كاذبة
لقد قتلتم إماما غير ذي أود

لا تحسبوا إنني أنسى مصيبته
و في البلاد من الأنصار من أحد

قد أبدل الله منكم خير ذي كلع‏
و اليحصبيين أهل الخوف و الجند

إن العراق لنا فقع بقرقرة
أو شحمة بزها شاو و لم يكد

و الشام ينزلها الأبرار بلدتها
أمن و بيضتها عريسة الأسد

فلما قرئ الكتاب على علي ع- قال لشد ما شحذكم معاوية- يا معشر الأنصار أجيبوا الرجل- فقال أبو أيوب يا أمير المؤمنين- إني ما أشاء أن أقول شيئا من الشعر- يعيا به الرجال إلا قلته- فقال فأنت إذا أنت- . فكتب أبو أيوب إلى معاوية- أما بعد فإنك كتبت لا تنسى الشيباء أبا عذرها و لا قاتل بكرها- فضربتها مثلا بقتل عثمان- و ما نحن و قتل عثمان- إن الذي تربص بعثمان‏ و ثبط يزيد بن أسد و أهل الشام عن نصرته لأنت- و إن الذين قتلوه لغير الأنصار- و كتب في آخر كتابه-

لا توعدنا ابن حرب إننا نفر
لا نبتغي ود ذي البغضاء من أحد

و اسعوا جميعا بني الأحزاب كلكم‏
لسنا نريد رضاكم آخر الأبد

نحن الذين ضربنا الناس كلهم
حتى استقاموا و كانوا عرضة الأود

و العام قصرك منا أن ثبت لنا
ضرب يزيل بين الروح و الجسد

أما علي فأنا لا نفارقه
ما رفرف الآل في الدوية الجرد

إما تبدلت منا بعد نصرتنا
دين الرسول أناسا ساكني الجند

لا يعرفون أضل الله سعيهم
إلا اتباعكم يا راعي النقد

فقد بغى الحق هضما شر ذي كلع‏
و اليحصبيون طرا بيضة البلد

قال فلما أتى معاوية كتاب أبي أيوب كسره- . قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر- قال حدثني مجالد عن الشعبي عن زياد بن النضر الحارثي- قال شهدت مع علي ع صفين- فاقتتلنا مرة ثلاثة أيام و ثلاث ليال- حتى تكسرت الرماح و نفدت السهام- ثم صرنا إلى المسايفة فاجتلدنا بها إلى نصف الليل- حتى صرنا نحن و أهل الشام في اليوم الثالث- يعانق بعضنا بعضا- و لقد قاتلت ليلتئذ بجميع السلاح- فلم يبق شي‏ء من السلاح إلا قاتلت به- حتى تحاثينا بالتراب و تكادمنا بالأفواه- حتى صرنا قياما ينظر بعضنا إلى بعض- ما يستطيع أحد من الفريقين- أن ينهض إلى صاحبه و لا يقاتل- فلما كان نصف الليل من الليلة الثالثة- انحاز معاوية و خيله من الصف و غلب علي ع على القتلى- فلما أصبح أقبل على أصحابه يدفهم و قد قتل كثير منهم- و قتل من أصحاب معاوية أكثر- و قتل فيهم تلك الليلة شمر بن أبرهة- . قال نصر و حدثنا عمرو عن جابن عن تميم- قال و الله إني لمع علي ع- إذ أتاه علقمة بن زهير الأنصاري- فقال يا أمير المؤمنين- إن عمرو بن العاص يرتجز في الصف بشعر- أ فأسمعكه قال نعم قال إنه يقول-

إذا تخازرت و ما بي من خزر
ثم كسرت العين من غير عور

ألفيتني ألوى بعيد المستمر
ذا صولة في المصمئلات الكبر

أحمل ما حملت من خير و شر
كالحية الصماء في أصل الحجر

فقال علي اللهم العنه فإن رسولك لعنه- قال علقمة و إنه يا أمير المؤمنين يرتجز برجز آخر- فأنشدك قال قل- فقال

أنا الغلام القرشي المؤتمن
الماجد الأبلج ليث كالشطن‏

ترضى بي الشام إلى أرض عدن‏
يا قادة الكوفة يا أهل الفتن‏

أضربكم و لا أرى أبا حسن
كفى بهذا حزنا من الحزن‏

فضحك علي ع و قال إنه لكاذب و إنه بمكاني لعالم- كما قال العربي غير الوهي ترقعين و أنت مبصرة- ويحكم أروني مكانه لله أبوكم و خلاكم ذم- و قال محمد بن عمرو بن العاص-

لو شهدت جمل مقامي و مشهدي
بصفين يوما شاب منها الذوائب‏

غداة غدا أهلي العراق كأنهم‏
من البحر موج لجه متراكب‏

و جئناهم نمشي صفوفا كأننا
سحاب خريف صففته الجنائب‏

فطارت إلينا بالرماح كماتهم‏
و طرنا إليهم و السيوف قواضب‏

فدارت رحانا و استدارت رحاهم
سراة نهار ما تولى المناكب‏

إذا قلت يوما قد ونوا برزت لنا
كتائب منهم و احجنت كتائب‏

و قالوا نرى من رأينا أن تبايعوا
عليا فقلنا بل نرى أن نضاربا

فأبنا و قد أردوا سراة رجالنا
و ليس لما لاقوا سوى الله حاسب‏

فلم أر يوما كان أكثر باكيا
و لا عارضا منهم كميا يكالب‏

كأن تلألؤ البيض فينا و فيهم‏
تلألؤ برق في تهامة ثاقب‏

و قال النجاشي يذكر عليا ع و جده في الأمر-

إني إخال عليا غير مرتدع
حتى تقام حقوق الله و الحرم‏

أ ما ترى النقع معصوبا بلمته‏
كأنه الصقر في عرنينه شمم‏

غضبان يحرق نابيه على حنق
كما يغط الفنيق المصعب القطم‏

حتى يزيل ابن حرب عن إمارته‏
كما تنكب تيس الحبلة الحلم‏

قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الشعبي- قال بلغ النجاشي أن معاوية تهدده- فقال

يا أيها الرجل المبدي عداوته
روئ لنفسك أي الأمر تأتمر

لا تحسبني كأقوام ملكتهم‏
طوع الأعنه لما ترشح الغدر

و ما علمت بما أضمرت من حنق
حتى أتتني به الركبان و النذر

إذا نفست على الأنجاد مجدهم‏
فابسط يديك فإن الخير مبتدر

و اعلم بأن على الخير من نفر
شم العرانين لا يعلوهم بشر

لا يجحد الحاسد الغضبان فضلهم‏
ما دام بالحزن من صمائها حجر

نعم الفتى أنت إلا أن بينكما
كما تفاضل ضوء الشمس و القمر

و لا إخالك إلا لست منتهيا
حتى يمسك من أظفاره ظفر

لا تحمدن امرأ حتى تجربه‏
و لا تذمن من لم يبله الخبر

إني امرؤ قلما أثني على أحد
حتى أرى بعض ما يأتي و ما يذر

و إن طوى معشر عني عداوتهم‏
في الصدر أو كان في أبصارهم خزر

أجمعت عزما جراميزي بقافية
لا يبرح الدهر منها فيهم أثر

قال فلما بلغ معاوية هذا الشعر- قال ما أراه إلا قد قارب- . قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن محمد بن إسحاق- أن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب- كان يحمل على الخيل يوما- فجاءه رجل فقال هل من فرس يا ابن ذي الجناحين- قال تلك الخيل فخذ أيتها شئت- فلما ولي قال ابن جعفر إن تصب أفضل الخيل تقتل- فما عتم أن أخذ أفضل الخيل فركبه- ثم حمل على فارس قد كان دعاه إلى البراز فقتله الشامي- و حمل غلامان آخران من أهل العراق- حتى انتهيا إلى سرادق معاوية فقتلا عنده- و أقبلت الكتائب بعضها نحو بعض- فاقتتلت قياما في الركب- لا يسمع السامع إلا وقع السيوف على البيض و الدرق- . و قال عمرو بن العاص

أ جئتم إلينا تسفكون دماءنا
و ما رمتم وعر من الأمر أعسر

لعمري لما فيه يكون حجاجنا
إلى الله أدهى لو عقلتم و أنكر

تعاورتم ضربا بكل مهند
إذا شد وردان تقدم قنبر

كتائبكم طورا تشد و تارة
كتائبنا فيها القنا و السنور

إذا ما التقوا يوما تدارك بينهم
طعان و موت في المعارك أحمر

و قال رجل من كلب مع معاوية- يهجو أهل العراق و يوبخهم-

لقد ضلت معاشر من نزار
إذا انقادوا لمثل أبي تراب‏

و إنهم و بيعتهم عليا
كواشمة التغضن بالخضاب‏

تزين من سفاهتها يديها
و تحسر باليدين عن النقاب‏

فإياكم و داهية نئودا
تسير إليكم تحت العقاب‏

إذا ساروا سمعت لحافتيهم
دويا مثل تصفيق السحاب‏

يجيبون الصريخ إذا دعاهم‏
و قد طعن الفوارس بالحراب‏

عليهم كل سابغة دلاص
و أبيض صارم مثل الشهاب‏

و قال أبو حية بن غزية الأنصاري- و هو الذي عقر الجمل يوم البصرة و اسمه عمرو-
سائل حليلة معبد عن بعلها
و حليلة اللخمي و ابن كلاع‏

و اسأل عبيد الله عن فرساننا
لما ثوى متجدلا بالقاع‏

و اسأل معاوية المولى هاربا
و الخليل تمعج و هي جد سراع‏

ما ذا يخبرك المخبر منهم‏
عنهم و عنا عند كل وقاع‏

إن يصدقوك يخبروك بأننا
أهل الندى قدما مجيبو الداعي‏

إن يصدقوك يخبروك بأننا
نحمي الحقيقة كل يوم مصاع‏

ندعو إلى التقوى و نرعى أهلها
برعاية المأمون لا المضياع‏

و نسن للأعداء كل مثقف
لدن و كل مشطب قطاع‏

و قال عدي بن حاتم الطائي-

أقول لما أن رأيت المعمعه
و اجتمع الجندان وسط البلقعه‏

هذا علي و الهدى حقا معه‏
يا رب فاحفظه و لا تضيعه‏

فإنه يخشاك رب فارفعه
و من أراد عيبه فضعضعه‏
أو كاده بالبغي منك فاقمعه‏

و قال النعمان بن جعلان الأنصاري-

سائل بصفين عنا عند غدوتنا
أم كيف كنا إلى العلياء نبتدر

و سل غداة لفينا الأزد قاطبة
يوم البصيرة لما استجمعت مضر

لو لا الإله و عفو من أبي حسن
عنهم و ما زال منه العفو ينتظر

لما تداعت لهم بالمصر داعية
إلا الكلاب و إلا الشاء و الحمر

كم مقعص قد تركناه بمقفرة
تعوي السباع عليه و هو منعفر

ما إن يئوب و لا ترجوه أسرته‏
إلى القيامة حتى ينفخ الصور

قال عمرو بن الحمق الخزاعي-

تقول عرسي لما أن رأت أرقي
ما ذا يهيجك من أصحاب صفينا

أ لست في عصبة يهدي الإله بهم‏
لا يظلمون و لا بغيا يريدونا

فقلت إني على ما كان من رشد
أخشى عواقب أمر سوف يأتينا

إدالة القوم في أمر يراد بنا
فأقني حياء و كفى ما تقولينا

و قال حجر بن عدي الكندي-

يا ربنا سلم لنا عليا
سلم لنا المهذب التقيا

المؤمن المسترشد الرضيا
و اجعله هادي أمة مهديا

و احفظه رب حفظك النبيا
لا خطل الرأي و لا غبيا

فإنه كان لنا وليا
ثم ارتضيه بعده وصيا

قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الشعبي- قال قال الأحنف بن قيس في صفين لأصحابه- هلكت العرب- قالوا له و إن غلبنا يا أبا بحر قال نعم- قالوا و إن غلبنا قال نعم- قالوا و الله ما جعلت لنا مخرجا- فقال الأحنف- إنا إن غلبناهم لم نترك بالشام رئيسا إلا ضربنا عنقه- و إن غلبونا لم يعرج بعدها رئيس عن معصية الله أبدا- . قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الشعبي- قال ذكر معاوية يوما صفين بعد عام الجماعة- و تسليم الحسن ع الأمر إليه- فقال للوليد بن عقبة- أي بني عمك‏ كان أفضل يوم صفين يا وليد- عند وقدان الحرب و استشاطة لظاها- حين قاتلت الرجال على الأحساب-

قال كلهم قد وصل كنفيها عند انتشار وقعتها- حتى ابتلت أثباج الرجال من الجريال- بكل لدن عسال و بكل عضب قصال- فقال عبد الرحمن بن خالد بن الوليد- أما و الله لقد رأيتنا يوما من الأيام- و قد غشينا ثعبان في مثل الطود الأرعن- قد أثار قسطلا حال بيننا و بين الأفق- و هو على أدهم شائل الغرة- يعني عليا ع يضربهم بسيفه ضرب غرائب الإبل- كاشرا عن نابه كشر المخدر الحرب- فقال معاوية نعم إنه كان يقاتل عن ترة له و عليه- . قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الشعبي-

قال أرسل علي ع إلى معاوية- أن ابرز إلي و اعف الفريقين من القتال- فأينا قتل صاحبه كان الأمر له- فقال عمرو لقد أنصفك الرجل- فقال معاوية أنا أبارز الشجاع الأخرق- أظنك يا عمرو طمعت فيها- فلما لم يجب قال علي ع- وا نفساه أ يطاع معاوية و أعصى- ما قاتلت أمة قط أهل بيت نبيها- و هي مقرة بنبيها غير هذه الأمة- ثم إن عليا ع أمر الناس أن يحملوا على أهل الشام- فحملوا فنقضوا صفوف الشام- فقال عمرو على من هذا الرهج الساطع- قالوا على ابنيك عبد الله و محمد- فقال عمرو يا وردان قدم لوائي- فأرسل إليه معاوية- أنه ليس على ابنيك بأس فلا تنقض الصف- و الزم موقفك فقال عمرو هيهات هيهات- .

الليث يحمي شبليه
ما خيره بعد ابنيه‏

ثم تقدم باللواء فأدركه رسول معاوية- فقال إنه ليس على ابنيك بأس فلا تحملن-فقال قل له إنك لم تلدهما و إني أنا ولدتهما- و بلغ مقدم الصفوف- فقال له الناس مكانك- إنه لا بأس على ابنيك إنهما في مكان حريز- فقال أسمعوني أصواتهما حتى أعلم- أ حيان هما أم قتيلان- و نادى يا وردان قدم لواءك قيد قوس- فقدم لواءه- فأرسل علي ع إلى أهل الكوفة أن احملوا- و إلى أهل البصرة أن احملوا- فحمل الناس من كل جانب- فاقتتلوا قتالا شديدا- و خرج رجل من أهل الشام- فقال من يبارز فبرز إليه رجل من أهل العراق- فاقتتلا ساعة- و ضرب العراقي الشامي على رجله فاسقط قدمه- فقاتل و لم يسقط إلى الأرض- فضربه العراقي أخرى- فاسقط يده فرمى الشامي سيفه إلى أهل الشام- و قال دونكم سيفي هذا- فاستعينوا به على قتال عدوكم- فاشتراه معاوية من أوليائه بعشرة آلاف درهم- .

قال نصر و حدثنا مالك الجهني- عن زيد بن وهب- أن عليا ع مر على جماعة من أهل الشام بصفين- منهم الوليد بن عقبة- و هم يشتمونه و يقصبونه- فأخبر بذلك فوقف على ناس من أصحابه- و قال انهدوا إليهم- و عليكم السكينة و الوقار و سيما الصالحين- أقرب بقوم من الجهل- قائدهم و مؤدبهم معاوية- و ابن النابغة و أبو الأعور السلمي- و ابن أبي معيط شارب الحرام- و المحدود في الإسلام و هم أولاء- يقصبونني و يشتمونني- و قبل اليوم ما قاتلوني و شتموني- و أنا إذ ذاك ادعوهم إلى الإسلام- و هم يدعونني إلى عبادة الأصنام- فالحمد لله و لا إله إلا الله- لقديما ما عاداني الفاسقون- إن هذا لهو الخطب الجلل- إن فساقا كانوا عندنا غير مرضيين- و على الإسلام‏ و أهله متخوفين- أصبحوا و قد خدعوا شطر هذه الأمة- و أشربوا في قلوبهم حب الفتنة- و استمالوا أهواءهم بالإفك و البهتان- و نصبوا لنا الحرب- و جدوا في إطفاء نور الله- و الله متم نوره و لو كره الكافرون- اللهم فإنهم قد ردوا الحق فافضض جمعهم- و شتت كلمتهم و أبلسهم بخطاياهم- فإنه لا يذل من واليت- و لا يعز من عاديت- . قال نصر و كان علي ع- إذا أراد الحملة هلل و كبر- ثم قال

من أي يومي من الموت أفر
أ يوم لم يقدر أو يوم قدر

فجعل معاوية لواءه الأعظم- مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد- فأمر علي ع جارية بن قدامة السعدي أن يلقاه بأصحابه- و أقبل عمرو بن العاص بعده في خيل و معه لواء ثان- فتقدم حتى خالط صفوف العراق- فقال علي ع لابنه محمد- امش نحو هذا اللواء رويدا- حتى إذا أشرعت الرماح في صدورهم- فأمسك يدك حتى يأتيك أمري- ففعل و قد كان أعد علي ع مثلهم مع الأشتر- فلما أشرع محمد الرماح في صدور القوم- أمر علي ع الأشتر أن يحمل فحمل- فأزالهم عن مواقفهم- و أصاب منهم رجالا- و اقتتل الناس قتالا شديدا- فما صلى من أراد الصلاة إلا إيماء- فقال النجاشي في ذلك اليوم يذكر الأشتر-

و لما رأينا اللواء العقاب
يقحمه الشانئ الأخزر

كليث العرين خلال العجاج‏
و أقبل في خيله الأبتر

دعونا لها الكبش كبش العراق
و قد أضمر الفشل العسكر

فرد اللواء على عقبه‏
و فاز بحظوتها الأشتر

كما كان يفعل في مثلها
إذا ناب معصوصب منكر

فإن يدفع الله عن نفسه‏
فحظ العراق به الأوفر

إذا الأشتر الخير خلى العراق
فقد ذهب العرف و المنكر

و تلك العراق و من عرفت‏
كفقع تضمنه القرقر

قال نصر و حدثنا محمد بن عتبة الكندي- قال حدثني شيخ من حضرموت شهد مع علي ع صفين- قال كان منا رجل يعرف بهانئ بن فهد- و كان شجاعا فخرج رجل من أهل الشام يدعو إلى البراز- فلم يخرج إليه أحد- فقال هانئ سبحان الله- ما يمنعكم أن يخرج منكم رجل إلى هذا- فو الله لو لا أني موعوك- و أني أجد ضعفا شديدا لخرجت إليه- فما رد أحد عليه فقام و شد عليه سلاحه ليخرج- فقال له أصحابه يا سبحان الله- أنت موعوك وعكة شديدة فكيف تخرج- قال و الله لأخرجن و لو قتلني فخرج- فلما رآه عرفه و إذا الرجل من قومه من حضرموت- يقال له يعمر بن أسد الحضرمي- فقال يا هانئ ارجع- فإنه إن يخرج إلى رجل غيرك أحب إلي- فإني لا أحب قتلك- قال هانئ سبحان الله- ارجع و قد خرجت لا و الله لأقاتلن اليوم حتى أقتل- و لا أبالي قتلتني أنت أو غيرك- ثم مشى نحوه-

و قال اللهم في سبيلك و نصرا لابن عم رسولك- و اختلفا ضربتين فقتله هانئ- و شد أصحاب يعمر بن أسد على هانئ- فشد أصحاب هانئ عليهم- فاقتتلوا و انفرجوا عن اثنين و ثلاثين قتيلا- ثم إن عليا ع أرسل إلى جميع العسكر أن احملوا- فحمل الناس كلهم على راياتهم- كل منهم‏ يحمل على من بإزائه- فتجالدوا بالسيوف و عمد الحديد- لا يسمع إلا صوت ضرب الهامات- كوقع المطارق على السنادين- و مرت الصلوات كلها- فلم يصل أحد إلا تكبيرا عند مواقيت الصلاة- حتى تفانوا و رق الناس- و خرج رجل من بين الصفين- لا يعلم من هو- فقال أيها الناس أ خرج فيكم المحلقون- فقيل لا فقال إنهم سيخرجون- ألسنتهم أحلى من العسل- و قلوبهم أمر من الصبر- لهم حمة كحمة الحيات- ثم غاب الرجل فلم يعلم من هو-

قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن السدي- قال اختلط أمر الناس تلك الليلة- و زال أهل الرايات عن مراكزهم- و تفرق أصحاب علي ع عنه- فأتى ربيعة ليلا فكان فيهم- و تعاظم الأمر جدا- و أقبل عدي بن حاتم- يطلب عليا ع في موضعه الذي تركه فيه فلم يجده- فطاف يطلبه فأصابه بين رماح ربيعة- فقال يا أمير المؤمنين أما إذ كنت حيا- فالأمر أمم ما مشيت إليك إلا على قتيل- و ما أبقت هذه الوقعة لهم عميدا- فقاتل حتى يفتح الله عليك- فإن في الناس بقية بعد- و أقبل الأشعث يلهث جزعا- فلما رأى عليا ع هلل فكبر- و قال يا أمير المؤمنين- خيل كخيل و رجال كرجال- و لنا الفضل عليهم إلى ساعتنا هذه- فعد إلى مكانك الذي كنت فيه- فإن الناس إنما يظنونك حيث تركوك- و أرسل سعيد بن قيس الهمداني إلى علي ع- إنا مشتغلون بأمرنا مع القوم و فينا فضل- فإن أردت أن نمد أحدا أمددناه- فأقبل علي ع على ربيعة- فقال أنتم درعي و رمحي- قال فربيعة تفخر بهذا الكلام إلى اليوم فقال عدي بن حاتم- يا أمير المؤمنين إن قوما أنست بهم- و كنت في هذه الجولة فيهم لعظيم حقهم- و الله إنهم لصبر عند الموت أشداء عند القتال- فدعا علي ع بفرس رسول الله ص الذي كان يقال له المرتجز- فركبه ثم تقدم أمام الصفوف- ثم قال بل البغلة بل البغلة- فقدمت له بغلة رسول الله ص- و كانت الشهباء فركبها- ثم تعصب بعمامة رسول الله ص و كانت سوداء- ثم نادى أيها الناس من يشر نفسه الله يربح- إن هذا ليوم له ما بعده- إن عدوكم قد مسه القرح كما مسكم- فانتدبوا لنصرة دين الله- فانتدب له ما بين عشرة آلاف إلى اثني عشر ألفا- قد وضعوا سيوفهم على عواتقهم- فشد بهم على أهل الشام و هو يقول-

دبوا دبيب النمل لا تفوتوا
و أصبحوا في حربكم و بيتوا

حتى تنالوا الثأر أو تموتوا
أو لا فإني طالما عصيت‏

قد قلتموا لو جئتنا فجيت
ليس لكم ما شئتم و شيت‏
بل ما يريد المحيي المميت‏

و تبعه عدي بن حاتم بلوائه و هو يقول-

أ بعد عمار و بعد هاشم
و ابن بديل فارس الملاحم‏

نرجو البقاء ضل حلم الحالم‏
لقد عضضنا أمس بالأباهم‏

فاليوم لا نقرع سن نادم
ليس امرؤ من حتفه بسالم‏

و حمل و حمل الأشتر بعدهما في أهل العراق كافة- فلم يبق لأهل الشام صف إلا انتقض- و أهمد أهل العراق ما أتوا عليه- حتى أفضى الأمر إلى مضرب معاوية- و علي ع يضرب الناس بسيفه قدما قدما- و يقول‏

أضربهم و لا أرى معاوية
الأخزر العين العظيم الحاوية
هوت به النار أم هاوية

فدعا معاوية بفرسه لينجو عليه- فلما وضع رجله في الركاب توقف و تلوم قليلا- ثم أنشد قول عمرو بن الأطنابة-

أبت لي عفتي و أبى بلائي
و أخذ الحمد بالثمن الربيح‏

و إقدامي على المكروه نفسي‏
و ضربي هامة البطل المشيح‏

و قولي كلما جشأت و جاشت
مكانك تحمدي أو تستريحي‏

لأدفع عن مآثر صالحات‏
و أحمي بعد عن عرض صحيح‏

بذي شطب كلون الملح صاف
و نفس ما تقر على القبيح‏

ثم قال يا عمرو بن العاص اليوم صبر و غدا فخر- قال صدقت إنك و ما أنت فيه- كقول القائل-

ما علتي و أنا جلد نابل
و القوس فيها وتر عنابل‏

تزل عن صفحتها المعابل‏
الموت حق و الحياة باطل‏

فثنى معاوية رجله من الركاب- و نزل و استصرخ بعك و الأشعريين- فوقفوا دونه و جالدوا عنه- حتى كره كل من الفريقين صاحبه و تحاجز الناس- .

قال نصر- جاء رجل إلى معاوية بعد انقضاء صفين و خلوص الأمر له- فقال يا أمير المؤمنين إن لي عليك حقا- قال و ما هو قال حق عظيم- قال ويحك ما هو- قال أ تذكر يوما قدمت فرسك لتفر- و قد غشيك أبو تراب و الأشتر- فلما أردت أن تستوثبه و أنت على ظهره- أمسكت بعنانك و قلت لك أين تذهب- أنه للؤم بك أن تسمح العرب بنفوسها لك شهرين- و لا تسمح لها بنفسك ساعة و أنت ابن ستين- و كم عسى أن تعيش في الدنيا بعد هذه السن إذا نجوت- فتلومت في نفسك ساعة- ثم أنشدت شعرا لا أحفظه ثم نزلت- فقال ويحك فإنك لأنت هو- و الله ما أحلني هذا المحل إلا أنت- و أمر له بثلاثين ألف درهم- .

قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن النخعي عن ابن عباس- قال تعرض عمرو بن العاص لعلي ع يوما من أيام صفين- و ظن أنه يطمع منه في غرة فيصيبه- فحمل عليه علي ع- فلما كاد أن يخالطه أذرى نفسه عن فرسه- و رفع ثوبه و شغر برجله فبدت عورته- فصرف ع وجهه عنه و ارتث- و قام معفرا بالتراب هاربا على رجليه معتصما بصفوفه- فقال أهل العراق يا أمير المؤمنين- أفلت الرجل فقال أ تدرون من هو قالوا لا- قال فإنه عمرو بن العاص- تلقاني بسوءته فصرفت وجهي عنه- و رجع عمرو إلى معاوية- فقال ما صنعت يا أبا عبد الله- فقال لقيني علي فصرعني- قال احمد الله و عورتك- و الله إني لأظنك لو عرفته لما أقحمت عليه- و قال معاوية في ذلك

ألا لله من هفوات عمرو
يعاتبني على تركي برازي‏

فقد لاقى أبا حسن عليا
فآب الوائلي مآب خازي‏

فلو لم يبد عورته لطارت‏
بمهجته قوادم أي بازي‏

فإن تكن المنية أخطأته
فقد غنى بها أهل الحجاز

فغضب عمرو- و قال ما أشد تعظيمك عليا أبا تراب في أمري- هل أنا إلا رجل لقيه ابن عمه فصرعه- أ فترى السماء لذلك دما- قال لا و لكنها معقبة لك خزيا- . قال نصر و حدثنا عمر بن سعد- قال لما اشتد الأمر و عظم على أهل الشام- قال معاوية لأخيه عتبة بن أبي سفيان- الق الأشعث فإنه إن رضي رضيت العامة- و كان عتبة فصيحا- فخرج فنادى الأشعث- فقال الأشعث سلوا من هو المنادي- قالوا عتبة بن أبي سفيان-

قال غلام مترف و لا بد من لقائه- فخرج إليه فقال ما عندك يا عتبة- فقال أيها الرجل- إن معاوية لو كان لاقيا رجلا غير علي للقيك- إنك رأس أهل العراق و سيد أهل اليمن- و قد سلف من عثمان إليك ما سلف من الصهر و العمل- و لست كأصحابك- أما الأشتر فقتل عثمان- و أما عدي فحرض عليه- و أما سعيد بن قيس فقلد عليا ديته- و أما شريح و زحر بن قيس فلا يعرفان غير الهوى- و إنك حاميت عن أهل العراق تكرما- و حاربت أهل الشام حمية- و قد بلغنا منك و بلغت منا ما أردت- و إنا لا ندعوك إلى ترك علي و نصرة معاوية- و لكنا ندعوك إلى البقية التي فيها صلاحك و صلاحنا- فتكلم الأشعث- فقال يا عتبة أما قولك إن معاوية لا يلقى إلا عليا-فلو لقيني و الله لما عظم عني و لا صغرت عنه- و إن أحب أن أجمع بينه و بين علي فعلت- و أما قولك إني رأس أهل العراق و سيد أهل اليمن- فإن الرأس المتبع و السيد المطاع هو علي بن أبي طالب- و أما ما سلف من عثمان إلي- فو الله ما زادني صهره شرفا و لا عمله عزا- و أما عيبك أصحابي- فإنه لا يقربك مني و لا يباعدني عنهم- و أما محاماتي عن أهل العراق فمن نزل بيتا حماه- و أما البقية فلستم بأحوج إليها منا- و سترى رأينا فيها- . فلما عاد عتبة إلى معاوية- و أبلغه قوله قال له لا تلقه بعدها- فإن الرجل عظيم عند نفسه- و إن كان قد جنح للسلم- و شاع في أهل العراق ما قاله عتبة للأشعث- و ما رده الأشعث عليه- فقال النجاشي يمدحه-

يا ابن قيس و حارث و يزيد
أنت و الله رأس أهل العراق‏

أنت و الله حية تنفث السم‏
قليل منها غناء الراقي‏

أنت كالشمس و الرجال نجوم
لا يرى ضوءها مع الإشراق‏

قد حميت العراق بالأسل السمر
و بالبيض كالبروق الرقاق‏

و سعرت القتال في الشام بالبيض
المواضي و بالرماح الدقاق‏

لا ترى غير أذرع و أكف‏
و رءوس بهامها أفلاق‏

كلما قلت قد تصرمت الهيجا
سقيتهم بكأس دهاق‏

قد قضيت الذي عليك من الحق‏
و سارت به القلاس المناقي‏

أنت حلو لمن تقرب بالود
و للشانئين مر المذاق‏

بئسما ظنه ابن هند و من مثلك‏
في الناس عند ضيق الخناق‏

قال نصر فقال معاوية- لما يئس من جهة الأشعث لعمرو بن العاص- إن رأس الناس بعد علي هو عبد الله بن العباس- فلو كتبت إليه كتابا لعلك ترققه- و لعله لو قال شيئا لم يخرج علي منه- و قد أكلتنا الحرب- و لا أرانا نصل إلى العراق إلا بهلاك أهل الشام- فقال عمرو إن ابن عباس لا يخدع- و لو طمعت فيه لطمعت في علي- قال معاوية على ذلك فاكتب- فكتب عمرو إليه- أما بعد- فإن الذي نحن فيه و أنتم ليس بأول أمر قاده البلاء- و أنت رأس هذا الجمع بعد علي- فانظر فيما بقي و دع ما مضى- فو الله ما أبقت هذه الحرب لنا- و لا لكم حياة و لا صبرا- فاعلم أن الشام لا تهلك إلا بهلاك العراق- و أن العراق لا تهلك إلا بهلاك الشام- فما خيرنا بعد هلاك أعدادنا منكم- و ما خيركم بعد هلاك أعدادكم منا- و لسنا نقول ليت الحرب عادت- و لكنا نقول ليتها لم تكن- و إن فينا من يكره اللقاء- كما أن فيكم من يكرهه- و إنما هو أمير مطاع و مأمور مطيع- أو مؤتمن مشاور و هو أنت- فأما الأشتر الغليظ الطبع القاسي القلب- فليس بأهل أن يدعى في الشورى- و لا في خواص أهل النجوى- و كتب في أسفل الكتاب-

طال البلاء و ما يرجى له آسي
بعد الإله سوى رفق ابن عباس‏

قولا له قول من يرجو مودته‏
لا تنس حظك إن الخاسر الناسي‏

انظر فدى لك نفسي قبل قاصمة
للظهر ليس لها راق و لا آس‏

إن العراق و أهل الشام لن يجدوا
طعم الحياة مع المستغلق القاسي‏

يا ابن الذي زمزم سقيا الحجيج له
أعظم بذلك من فخر على الناس‏

إني أرى الخير في سلم الشام لكم‏
و الله يعلم ما بالسلم من بأس‏

فيها التقى و أمور ليس يجهلها
إلا الجهول و ما نوكى كأكياس‏

فلما وصل الكتاب إلى ابن عباس- عرضه على أمير المؤمنين ع فضحك- و قال قاتل الله ابن العاص- ما أغراه بك يا عبد الله- أجبه و ليرد إليه شعره الفضل بن العباس- فإنه شاعر فكتب ابن عباس إلى عمرو- أما بعد- فإني لا أعلم أحدا من العرب أقل حياء منك- إنه مال بك معاوية إلى الهوى- فبعته دينك بالثمن اليسير- ثم خبطت الناس في عشوة- طمعا في الدنيا فأعظمتها إعظام أهل الدنيا- ثم تزعم أنك تتنزه عنها تنزه أهل الورع- فإن كنت صادقا فارجع إلى بيتك- و دع الطمع في مصر و الركون إلى الدنيا الفانية- و اعلم أن هذه الحرب ما معاوية فيها كعلي- بدأها علي بالحق- و انتهى فيها إلى العذر- و بدأها معاوية بالبغي و انتهى فيها إلى السرف- و ليس أهل العراق فيها كأهل الشام- بايع أهل العراق عليا و هو خير منهم- و بايع أهل الشام معاوية و هم خير منه- و لست أنا و أنت فيها سواء- أردت الله و أردت مصر- و قد عرفت الشي‏ء الذي باعدك مني- و لا أعرف الشي‏ء الذي قربك من معاوية- فإن ترد شرا لا نسبقك به- و إن ترد خيرا لا تسبقنا إليه و السلام- . ثم دعا أخاه الفضل فقال يا ابن أم أجب عمرا- فقال الفضل

يا عمرو حسبك من مكر و وسواس
فاذهب فليس لداء الجهل من آس‏

إلا تواتر طعن في نحوركم‏
يشجي النفوس و يشفي نخوة الرأس‏

أما علي فإن الله فضله
بفضل ذي شرف عال على الناس‏

إن تعقلوا الحرب نعقلها مخيسة
أو تبعثوها فإنا غير إنكاس‏

قتلى العراق بقتلى الشام ذاهبة
هذا بهذا و ما بالحق من بأس‏

ثم عرض الشعر و الكتاب على علي ع- فقال لا أراه يجيبك بعدها أبدا بشي‏ء إن كان يعقل- و إن عاد عدت عليه- فلما انتهى الكتاب إلى عمرو بن العاص عرضه على معاوية- فقال إن قلب ابن عباس و قلب علي قلب واحد- و كلاهما ولد عبد المطلب- و إن كان قد خشن فلقد لان- و إن كان قد تعظم أو عظم صاحبه- فلقد قارب و جنح إلى السلم- .

قال نصر و قال معاوية- لأكتبن إلى ابن عباس كتابا أستعرض فيه عقله- و أنظر ما في نفسه فكتب إليه- أما بعد فإنكم معشر بني هاشم- لستم إلى أحد أسرع بالمساءة منكم إلى أنصار ابن عفان- حتى أنكم قتلتم طلحة و الزبير- لطلبهما دمه و استعظامهما ما نيل منه- فإن كان ذلك منافسة لبني أمية في السلطان- فقد وليها عدي و تيم فلم تنافسوهم- و أظهرتم لهم الطاعة- و قد وقع من الأمر ما ترى- و أكلت هذه الحروب بعضها بعضا- حتى استوينا فيها- فما يطمعكم فينا يطمعنا فيكم- و ما يؤيسنا منكم يؤيسكم منا- و لقد رجونا غير ما كان- و خشينا دون ما وقع- و لست ملاقينا اليوم بأحد من حد أمس- و لا غدا بأحد من حد اليوم- و قد قنعنا بما في أيدينا من ملك الشام- فاقنعوا بما في أيديكم من ملك العراق- و أبقوا على قريش- فإنما بقي من رجالها ستة- رجلان بالشام و رجلان بالعراق و رجلان بالحجاز- فأما اللذان بالشام فأنا و عمرو- و أما اللذان بالعراق فأنت‏ و علي- و أما اللذان بالحجاز فسعد و ابن عمر- فاثنان من الستة ناصبان لك و اثنان واقفان فيك- و أنت رأس هذا الجمع- و لو بايع لك الناس بعد عثمان- كنا إليك أسرع منا إلى علي- .

فلما وصل الكتاب إلى ابن عباس أسخطه- و قال حتى متى يخطب ابن هند إلى عقلي- و حتى متى أجمجم على ما في نفسي- و كتب إليه أما بعد فقد أتاني كتابك و قرأته- فأما ما ذكرت من سرعتنا إليك- بالمساءة إلى أنصار ابن عفان- و كراهتنا لسلطان بني أمية- فلعمري لقد أدركت في عثمان حاجتك- حين استنصرك فلم تنصره- حتى صرت إلى ما صرت إليه- و بيني و بينك في ذلك ابن عمك و أخو عثمان- و هو الوليد بن عقبة- و أما طلحة و الزبير فإنهما أجلبا عليه و ضيقا خناقه- ثم خرجا ينقضان البيعة و يطلبان الملك- فقاتلناهما على النكث- كما قاتلناك على البغي- و أما قولك إنه لم يبق من قريش غير ستة- فما أكثر رجالها و أحسن بقيتها- و قد قاتلك من خيارها من قاتلك- و لم يخذلنا إلا من خذلك- و أما إغراؤك إيانا بعدي و تيم- فإن أبا بكر و عمر خير من عثمان- كما أن عثمان خير منك- و قد بقي لك منا ما ينسيك ما قبله و تخاف ما بعده- و أما قولك لو بايع الناس لي لاستقاموا- فقد بايع الناس عليا و هو خير مني فلم يستقيموا له- و ما أنت و الخلافة يا معاوية- و إنما أنت طليق و ابن طليق- و الخلافة للمهاجرين الأولين- و ليس الطلقاء منها في شي‏ء و السلام- . فلما وصل الكتاب إلى معاوية قال هذا عملي بنفسي- لا أكتب و الله إليه كتابا سنة كاملة- و قال‏

دعوت ابن عباس إلى جل حظه
و كان امرأ أهدي إليه رسائلي‏

فأخلف ظني و الحوادث جمة
و ما زاد أن أغلى عليه مراجلي‏

فقل لابن عباس أراك مخوفا
بجهلك حلمي إنني غير غافل‏

فأبرق و أرعد ما استطعت فإنني‏
إليك بما يشجيك سبط الأنامل‏

قال نصر و حدثنا عمر بن سعد- قال عقد معاوية يوما من أيام صفين- الرئاسة على اليمن من قريش- قصد بذلك إكرامهم و رفع منازلهم- منهم عبيد الله بن عمر بن الخطاب- و محمد و عتبة ابنا أبي سفيان- و بسر بن أبي أرطاة- و عبد الرحمن بن خالد بن الوليد- و ذلك في الوقعات الأولى من صفين- فغم ذلك أهل اليمن- و أرادوا ألا يتأمر عليهم أحد إلا منهم- فقام إليه رجل من كندة- يقال له عبد الله بن الحارث السكوني- فقال أيها الأمير إني قد قلت شيئا فاسمعه- و ضعه مني على النصيحة قال هات- فأنشده

معاوي أحييت فينا الإحن
و أحدثت بالشام ما لم يكن‏

عقدت لبسر و أصحابه‏
و ما الناس حولك إلا اليمن‏

فلا تخلطن بنا غيرنا
كما شيب بالماء صفو اللبن‏

و إلا فدعنا على حالنا
فإنا و إنا إذا لم نهن‏

ستعلم أن جاش بحر العراق
و أبدى نواجذه في الفتن‏

و شد علي بأصحابه‏
و نفسك إذ ذاك عند الذقن‏

بأنا شعارك دون الدثار
و أنا الرماح و أنا الجنن‏

و أنا السيوف و أنا الحتوف‏
و أنا الدروع و أنا المجن‏

قال فبكى لها معاوية- و نظر إلى وجوه أهل اليمن- فقال أ عن رضاكم يقول ما قال- قالوا لا مرحبا بما قال- إنما الأمر إليك فاصنع ما أحببت- فقال معاوية إنما خلطت بكم أهل ثقتي- و من كان لي فهو لكم و من كان لكم فهو لي- فرضي القوم و سكتوا- فلما بلغ أهل الكوفة مقال عبد الله بن الحارث لمعاوية- فيمن عقد له من رءوس أهل الشام- قام الأعور الشني إلى علي ع- فقال يا أمير المؤمنين- إنا لا نقول لك كما قال صاحب أهل الشام لمعاوية- و لكن نقول زاد الله في سرورك و هداك- نظرت بنور الله- فقدمت رجالا و أخرت رجالا- عليك أن تقول و علينا أن نفعل- أنت الإمام- فإن هلكت فهذان من بعدك يعني حسنا و حسينا ع- و قد قلت شيئا فاسمعه- قال هات فأنشده-

أبا حسن أنت شمس النهار
و هذان في الحادثات القمر

و أنت و هذان حتى الممات‏
بمنزلة السمع بعد البصر

و أنتم أناس لكم سورة
تقصر عنها أكف البشر

يخبرنا الناس عن فضلكم‏
و فضلكم اليوم فوق الخبر

عقدت لقوم أولي نجدة
من أهل الحياء و أهل الخطر

مساميح بالموت عند اللقاء
منا و إخواننا من مضر

و من حي ذي يمن جلة
يقيمون في النائبات الصعر

فكل يسرك في قومه‏
و من قال لا فبفيه الحجر

و نحن الفوارس يوم الزبير
و طلحة إذ قيل أودى غدر

ضربناهم قبل نصف النهار
إلى الليل حتى قضينا الوطر

و لم يأخذ الضرب إلا الرءوس
و لم يأخذ الطعن إلا الثغر

فنحن أولئك في أمسنا
و نحن كذلك فيما غبر

قال فلم يبق أحد من الرؤساء- إلا و أهدى إلى الشني أو أتحفه- . قال نصر و حدثنا عمر بن سعد- قال لما تعاظمت الأمور على معاوية- قبل قتل عبيد الله بن عمر بن الخطاب- دعا عمرو بن العاص و بسر بن أبي أرطاة- و عبيد الله بن عمر بن الخطاب- و عبد الرحمن بن خالد بن الوليد- فقال لهم إنه قد غمني مقام رجال من أصحاب علي- منهم سعيد بن قيس الهمداني في قومه- و الأشتر في قومه- و المرقال و عدي بن حاتم- و قيس بن سعد في الأنصار- و قد علمتم أن يمانيتكم وقتكم بأنفسها أياما كثيرة- حتى لقد استحييت لكم- و أنتم عدتهم من قريش- و أنا أحب أن يعلم الناس أنكم أهل غناء- و قد عبأت لكل رجل منهم رجلا منكم- فاجعلوا ذلك إلي قالوا ذاك إليك- قال فأنا أكفيكم غدا سعيد بن قيس و قومه- و أنت يا عمرو للمرقال أعور بني زهرة- و أنت يا بسر لقيس بن سعيد- و أنت يا عبيد الله للأشتر- و أنت يا عبد الرحمن لأعور طي‏ء يعني عدي بن حاتم- و قد جعلتها نوبا في خمسة أيام- لكل رجل منكم يوم- فكونوا على أعنة الخيل قالوا نعم- فأصبح معاوية في غده فلم يدع فارسا إلا حشده- ثم قصد لهمدان بنفسه- و ارتجز فقال

لن تمنع الحرمة بعد العام
بين قتيل و جريح دام‏

سأملك العراق بالشآم‏
أنعى ابن عفان مدى الأيام‏

فطعن في أعرض الخيل مليا- ثم إن همدان تنادت بشعارها- و أقحم سعيد بن قيس فرسه على معاوية- و اشتد القتال حتى حجز بينهم الليل- فهمدان تذكر أن سعيدا كاد يقتنصه- إلا أنه فاته ركضا- و قال سعيد في ذلك

يا لهف نفسي فاتني معاوية
فوق طمر كالعقاب هاوية
و الراقصات لا يعود ثانية

قال نصر و انصرف معاوية ذلك اليوم و لم يصنع شيئا- و غدا عمرو بن العاص في اليوم الثاني في حماة الخيل- فقصد المرقال- و مع المرقال لواء علي ع الأعظم في حماة الناس- و كان عمرو من فرسان قريش- فارتجز عمرو فقال

لا عيش إن لم ألق يوما هاشما
ذاك الذي جشمني المجاشما

ذاك الذي يشتم عرضي ظالما
ذاك الذي إن ينج مني سالما
يكن شجى حتى الممات لازما

فطعن في أعراض الخيل مزبدا و حمل المرقال عليه- و ارتجز فقال

لا عيش إن لم ألق يوما عمرا
ذاك الذي أحدث فينا الغدرا

أو يبدل الله بأمر أمرا
لا تجزعي يا نفس صبرا صبرا

ضربا هذا ذيك و طعنا شزرا
يا ليت ما تجني يكون القبرا

فطاعن عمرا حتى رجع- و انصرف الفريقان بعد شدة القتال- و لم يسر معاوية ذلك- و غدا بسر بن أبي أرطاة- في اليوم الثالث في حماة الخيل- فلقي قيس بن سعد بن عبادة في كمأة الأنصار- فاشتدت الحرب بينهما- و برز قيس كأنه فنيق مقرم- و هو يقول

أنا ابن سعد زانه عباده
و الخزرجيون كمأة ساده‏

ليس فراري في الوغى بعاده‏
إن الفرار للفتى قلاده‏

يا رب أنت لقني الشهاده
فالقتل خير من عناق غاده‏
حتى متى تثنى لي الوساده‏

و طاعن خيل بسر و برز بسر فارتجز و قال-

أنا ابن أرطاة العظيم القدر
مردد في غالب و فهر

ليس الفرار من طباع بسر
إن أرجع اليوم بغير وتر

و قد قضيت في العدو نذري
يا ليت شعري كم بقي من عمري‏

و يطعن بسر قيسا و يضربه قيس بالسيف- فرده على عقبيه و رجع القوم جميعا و لقيس الفضل- و تقدم عبيد الله بن عمر بن الخطاب في اليوم الرابع- لم يترك فارسا مذكورا إلا جمعه- و استكثر ما استطاع- فقال له معاوية- إنك اليوم تلقى أفعى أهل العراق فارفق و اتئد- فلقيه الأشتر أمام الخيل مزبدا- و كان الأشتر إذا أراد القتال أزبد- و هو يقول

يا رب قيض لي سيوف الكفره
و اجعل وفاتي بأكف الفجره‏

فالقتل خير من ثياب الحبره‏
لا تعدل الدنيا جميعا وبره‏
و لا بعوضا في ثواب البرره‏

و شد على الخيل خيل الشام فردها- فاستحيا عبيد الله و برز أمام الخيل- و كان فارسا شجاعا و قال-

أنعى ابن عفان و أرجو ربي
ذاك الذي يخرجني من ذنبي‏

ذاك الذي يكشف عني كربي‏
أن ابن عفان عظيم الخطب‏

يأبى له حبي بكل قلبي
إلا طعاني دونه و ضربي‏
حسبي الذي أنويه حسبي حسبي‏

فحمل عليه الأشتر و طعنه و اشتد الأمر- و انصرف القوم و للأشتر الفضل- فغم ذلك معاوية- و غدا عبد الرحمن بن خالد في اليوم الخامس- و كان رجاء معاوية أن ينال حاجته- فقواه بالخيل و السلاح- و كان معاوية يعده ولدا- فلقيه عدي بن حاتم في كمأة مذحج و قضاعة- فبرز عبد الرحمن أمام الخيل و قال-

قل لعدي ذهب الوعيد
أنا ابن سيف الله لا مزيد

و خالد يزينه الوليد
ذاك الذي قيل له الوحيد

ثم حمل فطعن الناس- فقصده عدي بن حاتم و سدد إليه الرمح- و قال

أرجو إلهي و أخاف ذنبي
و لست أرجو غير عفو ربي‏

يا ابن الوليد بغضكم في قلبي‏
كالهضب بل فوق قنان الهضب‏

فلما كاد أن يخالطه بالرمح- توارى عبد الرحمن في العجاج- و استتر بأسنة أصحابه و اختلط القوم- ثم تحاجزوا و رجع عبد الرحمن مقهورا- و انكسر معاوية- و بلغ أيمن بن خزيم ما لقي معاوية و أصحابه- فشمت بهم و كان ناسكا من أنسك أهل الشام- و كان معتزلا للحرب في ناحية عنها- فقال‏

معاوي إن الأمر لله وحده
و إنك لا تسطيع ضرا و لا نفعا

عبأت رجالا من قريش لعصبة
يمانية لا تستطيع لها دفعا

فكيف رأيت الأمر إذ جد جده
لقد زادك الأمر الذي جئته جدعا

تعبي لقيس أو عدي بن حاتم‏
و الأشتر يا للناس أغمارك الجدعا

و تجعل للمرقال عمرا و إنه
لليث لقي من دون غايته ضبعا

و إن سعيدا إذ برزت لرمحه‏
لفارس همدان الذي يشعب الصدعا

ملي بضرب الدارعين بسيفه
إذا الخيل أبدت من سنابكها نقعا

رجعت فلم تظفر بشي‏ء تريده‏
سوى فرس أعيت و أبت بها ظلعا

فدعهم فلا و الله لا تستطيعهم
مجاهرة فاعمل لقهرهم خدعا

قال و إن معاوية أظهر لعمرو شماتة- و جعل يقرعه و يوبخه- و قال لقد أنصفتكم- إذ لقيت سعيد بن قيس في همدان و فررتم- و إنك لجبان يا عمرو- فغضب عمرو- و قال فهلا برزت إلى علي إذ دعاك إن كنت شجاعا كما تزعم- و قال
تسير إلى ابن ذي يزن سعيد
و تترك في العجاجة من دعاكا

فهل لك في أبي حسن علي‏
لعل الله يمكن من قفاكا

دعاك إلى البراز فلم تجبه
و لو نازلته تربت يداكا

و كنت أصم إذ ناداك عنها
و كان سكوته عنها مناكا

فآب الكبش قد طحنت رحاه
بنجدته و ما طحنت رحاكا

فما أنصفت صحبك يا ابن هند
أ تفرقه و تغضب من كفاكا

فلا و الله ما أضمرت خيرا
و لا أظهرت لي إلا هواكا

قال و إن القرشيين استحيوا ما صنعوا- و شمت بهم اليمانية من أهل الشام- فقال معاوية يا معشر قريش- و الله لقد قربكم لقاء القوم إلى الفتح- و لكن لا مرد لأمر الله و مم تستحيون- إنما لقيتم كباش العراق- فقتلتم منهم و قتلوا منكم- و ما لكم علي من حجة- لقد عبأت نفسي لسيدهم و شجاعهم سعيد بن قيس- فانقطعوا عن معاوية أياما- فقال معاوية في ذلك-

لعمري لقد أنصفت و النصف عادتي
و عاين طعنا في العجاج المعاين‏

و لو لا رجائي أن تئوبوا بنهزة
و أن تغسلوا عارا وعته الكنائن‏

لناديت للهيجا رجالا سواكم
و لكنما تحمى الملوك البطائن‏

أ تدرون من لاقيتم فل جيشكم‏
لقيتم ليوثا أصحرتها العرائن‏

لقيتم صناديد العراق و من بهم
إذا جاشت الهيجاء تحمى الظعائن‏

و ما كان منكم فارس دون فارس‏
و لكنه ما قدر الله كائن‏

فلما سمع القوم ما قاله معاوية أتوه فاعتذروا إليه- و استقاموا إليه على ما يحب- . قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر- قال لما اشتد القتال و عظم الخطب- أرسل معاوية إلى عمرو بن العاص- إن قدم عكا و الأشعريين إلى من بإزائهم- فبعث عمرو إليه أن بإزاء عك همدان- فبعث إليه معاوية أن قدم عكا- فأتاهم عمرو فقال يا معشر عك- إن عليا قد عرف أنكم حي أهل الشام- فعبأ لكم حي أهل العراق همدان-فاصبروا و هبوا إلي جماجمكم ساعة من النهار- فقد بلغ الحق مقطعه- فقال ابن مسروق العكي أمهلني حتى آتي معاوية- فأتاه فقال يا معاوية- اجعل لنا فريضة ألفي رجل في ألفين ألفين- و من هلك فابن عمه مكانه لنقر اليوم عينك- فقال لك ذلك فرجع ابن مسروق إلى أصحابه- فأخبرهم الخبر- فقالت عك نحن لهمدان- ثم تقدمت عك و نادى سعيد بن قيس- يا همدان إن تقدموا- فشدت همدان على عك رجالة- فأخذت السيوف أرجل عك- فنادى ابن مسروقيا لعك بركا كبرك الكمل‏- فبركوا تحت الحجف- فشجرتهم همدان بالرماح- و تقدم شيخ من همدان و هو يقول-

يا لبكيل لخمها و حاشد
نفسي فداكم طاعنوا و جالدوا

حتى تخر منكم القماحد
و أرجل يتبعها سواعد
بذاك أوصى جدكم و الوالد

و قام رجل من عك- فارتجز فقال

تدعون همدان و ندعو عكا
بكوا الرجال يا لعك بكا

إن خدم القوم فبركا بركا
لا تدخلوا اليوم عليكم شكا
قد محك القوم فزيدوا محكا

قال فالتقى القوم جميعا بالرماح- و صاروا إلى السيوف و تجالدوا حتى أدركهم الليل- فقالت همدان يا معشر عك- نحن نقسم بالله أننا لا ننصرف حتى تنصرفوا- و قالت عك مثل ذلك- فأرسل معاوية إلى عك- أن أبروا قسم إخوتكم و هلموا- فانصرفت عك فلما انصرفت انصرفت همدان- فقال عمرو يا معاوية- و الله لقد لقيت أسد أسدا- لم أر و الله كهذا اليوم قط لو أن معك حيا كعك- أو مع علي حي كهمدان لكان الفناء- و قال عمرو في ذلك-

إن عكا و حاشدا و بكيلا
كأسود الضراء لاقت أسودا

و جثا القوم بالقنا و تساقوا
بظباة السيوف موتا عتيدا

ازورار المناكب الغلب بالشم
و ضرب المسومين الخدودا

ليس يدرون ما الفرار و لو كان‏
فرارا لكان ذاك سديدا

يعلم الله ما رأيت من القوم
ازورارا و لا رأيت صدودا

غير ضرب فوق الطلى و على الهام‏
و قرع الحديد يعلو الحديدا

و لقد قال قائل خدموا السوق
فخرت هناك عك قعودا

كبروك الجمال أثقلها الحمل‏
فما تستقل إلا وئيدا

قال و لما اشترطت علك و الأشعريون على معاوية- ما اشترطوا من الفريضة و العطاء فأعطاهم- لم يبق من أهل العراق أحد- في قلبه مرض إلا طمع في معاوية- و شخص ببصره إليه- حتى فشا ذلك في الناس- و بلغ عليا ع فساءه- .

قال نصر و جاء عدي بن حاتم يلتمس عليا ع- ما يطأ إلا على قتيل أو قدم أو ساعد- فوجده تحت رايات بكر بن وائل- فقال يا أمير المؤمنين أ لا تقوم حتى نقاتل إلى أن نموت- فقال له علي ع- ادن فدنا حتى وضع أذنه عند أنفه- فقال ويحك إن عامة من معي اليوم يعصيني- و إن معاوية فيمن يطيعه و لا يعصيه- قال نصر و جاء المنذر بن أبي حميصة الوادعي- و كان شاعر همدان و فارسها عليا ع- فقال يا أمير المؤمنين- إن عكا و الأشعريين طلبوا- إلى معاوية الفرائض و العطاء فأعطاهم- فباعوا الدين بالدنيا- و إنا قد رضينا بالآخرة من الدنيا- و بالعراق من الشام و بك من معاوية- و الله لآخرتنا خير من دنياهم- و لعراقنا خير من شامهم- و لإمامنا أهدى من إمامهم- فاستفتحنا بالحرب و ثق منا بالنصر- و احملنا على الموت- و أنشده

إن عكا سألوا الفرائض و الأشعر
سألوا جوائزا بثنيه‏

تركوا الدين للعطاء و للفرض‏
فكانوا بذاك شر البريه‏

و سألنا حسن الثواب من الله
و صبرا على الجهاد و نيه‏

فلكل ما سأله و نواه‏
كلنا يحسب الخلاف خطيه‏

و لأهل العراق أحسن في الحرب
إذا ما تدانت السمهريه‏

و لأهل العراق أحمل للثقل‏
إذا عمت البلاد بليه‏

ليس منا من لم يكن في الله
وليا يا ذا الولاء و الوصية

فقال علي ع حسبك الله يرحمك الله- و أثنى عليه و على قومه خيرا- و انتهى شعره إلى معاوية- فقال و الله لأستميلن بالدنيا ثقات علي- و لأقسمن فيهم الأموال حتى تغلب دنياي آخرته- . قال نصر فلما أصبح الناس غدوا على مصافهم- و أصبح معاوية يدور في أحياء اليمن- و قال عبوا إلى كل فارس مذكور فيكم- أتقوى به على هذا الحي من همدان-فخرجت خيل عظيمة- فلما رآها علي ع و عرف أنها عيون الرجال- فنادى يا لهمدان فأجابه سعيد بن قيس- فقال له علي ع احمل- فحمل حتى خالط الخيل بالخيل و اشتد القتال- و حطمتهم همدان حتى ألحقتهم بمعاوية- فقال معاوية ما لقيت من همدان- و جزع جزعا شديدا- و أسرع القتل في فرسان الشام- و جمع علي ع همدان- فقال لهم يا معشر همدان- أنتم درعي و رمحي و مجني- يا همدان ما نصرتم إلا الله و لا أجبتم غيره- فقال سعيد بن قيس- أجبنا الله و أجبناك- و نصرنا رسول الله في قبره- و قاتلنا معك من ليس مثلك فارمنا حيث شئت- .قال نصر و في هذا اليوم قال علي ع‏و لو كنت بوابا على باب جنةلقلت لهمدان ادخلي بسلام‏- فقال علي ع لصاحب لواء همدان- اكفني أهل حمص- فإني لم ألق من أحد ما لقيت منهم
– فتقدم و تقدمت همدان- و شدوا شدة واحدة على أهل حمص فضربوهم ضربا شديدا متداركا- بالسيوف و عمد الحديد- حتى ألجئوهم إلى قبة معاوية- و ارتجز من همدان رجل عداده في أرحب فقال-

قد قتل الله رجال حمص
غروا بقول كذب و خرص‏

حرصا على المال و أي حرص‏
قد نكص القوم و أي نكص‏
عن طاعة الله و فحوى النص‏

قال نصر فحدثنا عمر بن سعد- قال لما ردت خيول معاوية أسف- فجرد سيفه و حمل في كماة أصحابه- فحملت عليه فوارس همدان- ففاز منها ركضا و انكسرت كماته- و رجعت همدان إلى مراكزها- فقال حجر بن قحطان الهمداني- يخاطب سعيد بن قيس-

ألا ابن قيس قرت العين إذا رأت
فوارس همدان بن زيد بن مالك‏

على عارفات للقاء عوابس‏
طوال الهوادي مشرفات الحوارك‏

معودة للطعن في ثغراتها
يجلن فيحطمن الحصى بالسنابك‏

عباها علي لابن هند و خيله‏
فلو لم يفتها كان أول هالك‏

و كانت له في يومه عند ظنه
و في كل يوم كاسف الشمس حالك‏

و كانت بحمد الله في كل كربة
حصونا و عزا للرجال الصعالك‏

فقل لأمير المؤمنين أن ادعنا
متى شئت إنا عرضة للمهالك‏

و نحن حطمنا السمر في حي حمير
و كندة و الحي الخفاف السكاسك‏

و عك و لخم شائلين سياطهم
حذار العوالي كالإماء العوارك‏

قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن رجاله- أن معاوية دعا يوما بصفين مروان بن الحكم- فقال له إن الأشتر قد غمني و أقلقني- فاخرج بهذه الخيل في يحصب و الكلاعيين- فالقه فقال مروان ادعا لهما عمرا- فإنه شعارك دون دثارك- قال فأنت نفسي دون وريدي- قال لو كنت كذلك ألحقتني به في العطاء- و ألحقته بي في الحرمان- و لكنك أعطيته ما في يدك و منيته ما في يد غيرك- فإن غلبت طاب له المقام- و إن غلبت خف عليه الهرب- فقال معاوية سيغني الله عنك- قال أما إلى اليوم فلم يغن- فدعا معاوية عمرا فأمره بالخروج إلى الأشتر- فقال أما إني لا أقول لك ما قال مروان- قال و كيف نقوله و قد قدمتك و أخرته- و أدخلتك و أخرجته- قال أما و الله إن كنت فعلت- لقد قدمتني كافيا و أدخلتني ناصحا- و قد أكثر القوم عليك في أمر مصر- و إن كان لا يرضيهم‏ إلا رجوعك- فيما وثقت لي به منها فارجع فيه- ثم قام فخرج في تلك الخيل- فلقيه الأشتر أمام القوم و قد علم أنه سيلقاه- و هو يرتجز و يقول

يا ليت شعري كيف لي بعمرو
ذاك الذي أوجبت فيه نذري‏

ذاك الذي أطلبه بوتري‏
ذاك الذي فيه شفاء صدري‏

من بائعي يوما بكل عمري
يعلي به عند اللقاء قدري‏

أجعله فيه طعام النسر
أو لا فربي عاذري بعذري‏

فلما سمع عمرو هذا الرجز فشل و جبن- و استحيا أن يرجع و أقبل نحو الصوت- و قال

يا ليت شعري كيف لي بمالك
كم كاهل جببته و حارك‏

و فارس قتلته و فاتك‏
و مقدم آب بوجه حالك‏
ما زلت دهري عرضة المهالك‏

فغشيه الأشتر بالرمح- فراغ عمرو عنه فلم يصنع الرمح شيئا- و لوى عمرو عنان فرسه- و جعل يده على وجهه- و جعل يرجع راكضا نحو عسكره- فنادى غلام من يحصب- يا عمرو عليك العفاء ما هبت الصبا- يا آل حمير إنا لكم ما كان معكم هاتوا اللواء- فأخذه و تقدم و كان غلاما حدثا- فقال‏

إن يك عمرو قد علاه الأشتر
بأسمر فيه سنان أزهر

فذاك و الله لعمري مفخر
يا عمرو تكفيك الطعان حمير

و اليحصبي بالطعان أمهر
دون اللواء اليوم موت أحمر

فنادى الأشتر ابنه إبراهيم- خذ اللواء فغلام لغلام- و تقدم فأخذ إبراهيم اللواء- و قال

يا أيها السائل عني لا ترع
أقدم فإني من عرانين النخع‏

كيف ترى طعن العراقي الجذع‏
أطير في يوم الوغى و لا أفع‏

ما ساءكم سر و ما ضر نفع
أعددت ذا اليوم لهول المطلع‏

و يحمل على الحميري فالتقاه الحميري بلوائه و رمحه- فلم يبرحا يطعن كل واحد منهما صاحبه- حتى سقط الحميري قتيلا- و شمت مروان بعمرو- و غضب القحطانيون على معاوية- و قالوا تولى علينا من لا يقاتل معنا- ول رجلا منا و إلا فلا حاجة لنا فيك- و قال شاعرهم

معاوي إما تدعنا لعظيمة
يلبس من نكرائها الغرض بالحقب‏

فول علينا من يحوط ذمارنا
من الحميريين الملوك على العرب‏

و لا تأمرنا بالتي لا نريدها
و لا تجعلنا بالهوى موضع الذنب‏

و لا تغضبنا و الحوادث جمة
عليك فيفشو اليوم في يحصب الغضب‏

فإن لنا حقا عظيما و طاعة
و حبا دخيلا في المشاش و في العصب‏

فقال لهم معاوية- و الله لا أولى عليكم بعد هذا اليوم إلا رجلا منكم-قال نصر و حدثنا عمر بن سعد- قال لما أسرع أهل العراق في أهل الشام- قال لهم معاوية هذا يوم تمحيص- و إن لهذا اليوم ما بعده- و قد أسرعتم في القوم كما أسرعوا فيكم- فاصبروا و موتوا كراما- و حرض علي ع أصحابه- فقام إليه الأصبغ بن نباتة- و قال يا أمير المؤمنين- قدمني في البقية من الناس- فإنك لا تفقد لي اليوم صبرا و لا نصرا- أما أهل الشام فقد أصبنا- و أما نحن ففينا بعض البقية ائذن لي فأتقدم- فقال له تقدم على اسم الله و البركة- فتقدم و أخذ الراية و مضى بها و هو يقول-

إن الرجاء بالقنوط يدمغ
حتى متى يرجو البقاء الأصبغ‏

أ ما ترى أحداث دهر تنبغ‏
فادبغ هواك و الأديم يدبغ‏

و الرفق فيما قد تريد أبلغ
اليوم شغل و غدا لا تفرغ‏

فما رجع إلى علي ع حتى خضب سيفه دما و رمحه- و كان شيخا ناسكا عابدا- و كان إذا لقي القوم بعضهم بعضا يغمد سيفه- و كان من ذخائر علي ع ممن قد بايعه على الموت- و كان علي ع يضن به عن الحرب و القتال- . قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر عن جابر- قال نادى الأشتر يوما أصحابه- فقال أ ما من رجل يشري نفسه لله- فخرج أثال بن حجل بن عامر المذحجي- فنادى بين العسكرين هل من مبارز- فدعا معاوية و هو لا يعرفه- أباه حجل بن عامر المذحجي- فقال دونك الرجل- قال و كان مستبصرين في رأيهما- فبرز كل واحد منهما إلى صاحبه- فبدره بطعنة و طعنه الغلام- و انتسبا فإذا هو ابنه- فنزلا فاعتنق كل‏واحد منهما صاحبه و بكيا- فقال له الأب يا بني هلم إلى الدنيا- فقال له الغلام يا أبي هلم إلى الآخرة- ثم قال يا أبت- و الله لو كان من رأيي الانصراف إلى أهل الشام- لوجب عليك أن يكون من رأيك لي أن تنهاني وا سوأتاه- فما ذا أقول لعلي و للمؤمنين الصالحين- كن على ما أنت عليه- و أنا على ما أنا عليه- فانصرف حجل إلى صف الشام- و انصرف ابنه أثال إلى أهل العراق- فخبر كل واحد منهما أصحابه- و قال في ذلك حجل-

إن حجل بن عامر و أثالا
أصبحا يضربان في الأمثال‏

أقبل الفارس المدجج في النقع‏
أثال يدعو يريد نزالي‏

دون أهل العراق يخطر كالفحل
على ظهر هيكل ذيال‏

فدعاني له ابن هند و ما زال‏
قليلا في صحبة أمثالي‏

فتناولته ببادرة الرمح
و أهوى بأسمر عسال‏

فأطعنا و ذاك من حدث الدهر
عظيم فتى لشيخ بجال‏

شاجرا بالقناة صدر أبيه
و عزيز علي طعن أثال‏

لا أبالي حين اعترضت أثالا
و أثال كذاك ليس يبالي‏

فافترقنا على السلامة و النفس
يقيها مؤخر الآجال‏

لا يراني على الهدى و أراه‏
من هداي على سبيل ضلال‏

فلما انتهى شعره إلى أهل العراق- قال أثال ابنه مجيبا له-

إن طعني وسط العجاجة حجلا
لم يكن في الذي نويت عقوقا

كنت أرجو به الثواب من الله‏
و كوني مع النبي رفيقا

لم أزل أنصر العراق على الشام
أراني بفعل ذاك حقيقا

قال أهل العراق إذ عظم الخطب‏
و نق المبارزون نقيقا

من فتى يسلك الطريق إلى الله
فكنت الذي سلكت الطريقا

حاسر الرأس لا أريد سوى الموت‏
أرى الأعظم الجليل دقيقا

فإذا فارس تقحم في الروع
خدبا مثل السحوق عتيقا

فبداني حجل ببادرة الطعن‏
و ما كنت قبلها مسبوقا

فتلقيته بعالية الرمح
كلانا يطاول العيوقا

أحمد الله ذا الجلالة و القدرة
حمدا يزيدني توفيقا

إذ كففت السنان عنه و لم أدن
قتيلا منه و لا ثغروقا

قلت للشيخ لست أكفر نعماك‏
لطيف الغذاء و التفنيقا

غير أني أخاف أن تدخل النار
فلا تعصني و كن لي رفيقا

و كذا قال لي فغرب تغريبا
و شرقت راجعا تشريقا

قال نصر و حدثنا عمرو بن شمر بالإسناد المذكور- أن معاوية دعا النعمان بن بشير بن سعد الأنصاري- و مسلمة بن مخلد الأنصاري- و لم يكن معه من الأنصار غيرهما- فقال يا هذان- لقد غمني ما لقيت من الأوس و الخزرج- واضعي سيوفهم على عواتقهم يدعون إلى النزال- حتى لقد جبنوا أصحابي الشجاع منهم و الجبان- و حتى و الله ما أسأل عن‏فارس من أهل الشام- إلا قيل قتله الأنصار- أما و الله لألقينهم بحدي و حديدي- و لأعبين لكل فارس منهم فارسا ينشب في حلقه- و لأرمينهم بأعدادهم من قريش- رجال لم يغذهم التمر و الطفيشل- يقولون نحن الأنصار- قد و الله آووا و نصروا- و لكن أفسدوا حقهم بباطلهم- فغضب النعمان- و قال يا معاوية لا تلومن الأنصار- في حب الحرب و السرعة نحوها- فإنهم كذلك كانوا في الجاهلية- و أما دعاؤهم إلى النزال- فقد رأيتهم مع رسول الله ص يفعلون ذلك كثيرا- و أما لقاؤك إياهم في أعدادهم من قريش- فقد علمت ما لقيت قريش منهم قديما- فإن أحببت أن ترى فيهم مثل ذلك آنفا فافعل- و أما التمر و الطفيشل فإن التمر كان لنا- فلما ذقتموه شاركتمونا فيه- و أما الطفيشل فكان لليهود- فلما أكلناه غلبناهم عليه- كما غلبت قريش على السخينة- .

ثم تكلم مسلمة بن مخلد- فقال يا معاوية- إن الأنصار لا تعاب أحسابها و لا نجداتها- و أما غمهم إياك فقد و الله غمونا- و لو رضينا ما فارقونا و لا فارقنا جماعتهم- و إن في ذلك ما فيه من مباينة العشيرة- و لكنا حملنا ذلك لك- و رجونا منك عوضه- و أما التمر و الطفيشل- فإنهما يجران عليك السخينة و الخرنوب- . قال و انتهى هذا الكلام إلى الأنصار- فجمع قيس بن سعد الأنصار- ثم قام فيهم خطيبا- فقال إن معاوية قال ما بلغكم- و أجابه عنكم صاحباكم- و لعمري إن غظتم‏ معاوية اليوم- لقد غظتموه أمس- و إن وترتموه في الإسلام فلقد وترتموه في الشرك- و ما لكم إليه من ذنب أعظم من نصر هذا الدين- فجدوا اليوم جدا تنسونه به ما كان أمس- و جدوا غدا جدا تنسونه به ما كان اليوم- فأنتم مع هذا اللواء الذي كان يقاتل عن يمينه جبريل- و عن يساره ميكائيل- و القوم مع لواء أبي جهل و الأحزاب- فأما التمر فإنا لم نغرسه- و لكن غلبنا عليه من غرسه- و أما الطفيشل فلو كان طعامنا لسمينا به- كما سميت قريش بسخينة- ثم قال سعد في ذلك-

يا ابن هند دع التوثب في الحرب
إذا نحن بالجياد سرينا

نحن من قد علمت فادن إذا شئت‏
بمن شئت في العجاج إلينا

إن تشأ فارس له فارس منا
و إن شئت باللفيف التقينا

أي هذين ما أردت فخذه‏
ليس منا و ليس منك الهوينى‏

ثم لا نسلخ العجاجة حتى
تنجلي حربنا لنا أو علينا

ليت ما تطلب الغداة أتانا
أنعم الله بالشهادة عينا

فلما أتى شعره و كلامه معاوية- دعا عمرو بن العاص- فقال ما ترى في شتم الأنصار- قال أرى أن توعدهم و لا تشتمهم- ما عسى أن تقول لهم إذا أردت ذمهم- فذم أبدانهم و لا تذم أحسابهم- فقال إن قيس بن سعد يقوم كل يوم خطيبا- و أظنه و الله يفنينا غدا إن لم يحبسه عنا حابس الفيل- فما الرأي قال الصبر و التوكل- و أرسل‏ إلى رءوس الأنصار مع علي- فعاتبهم و أمرهم أن يعاتبوه- فأرسل معاوية إلى أبي مسعود و البراء بن عازب- و خزيمة بن ثابت- و الحجاج بن غزية و أبي أيوب- فعاتبهم فمشوا إلى قيس بن سعد- و قالوا له إن معاوية لا يحب الشتم- فكف عن شتمه- فقال إن مثلي لا يشتم- و لكني لا أكف عن حربه حتى ألقى الله- قال و تحركت الخيل غدوة- فظن قيس أن فيها معاوية- فحمل على رجل يشبهه- فضربه بالسيف فإذا هو ليس به- ثم حمل على آخر يشبهه أيضا فقنعه بالسيف- .

فلما تحاجز الفريقان- شتمه معاوية شتما قبيحا- و شتم الأنصار فغضب النعمان و مسلمة- فأرضاهما بعد أن هما أن ينصرفا إلى قومهما- . ثم إن معاوية سأل النعمان أن يخرج إلى قيس- فيعاتبه و يسأله السلم- فخرج النعمان فوقف بين الصفين- و نادى يا قيس بن سعد أنا النعمان بن بشير- فخرج إليه و قال هيه يا نعمان ما حاجتك- قال يا قيس- إنه قد أنصفكم من دعاكم إلى ما رضي لنفسه- يا معشر الأنصار- إنكم أخطأتم في خذل عثمان يوم الدار- و قتلتم أنصاره يوم الجمل- و أقحمتم خيولكم على أهل الشام بصفين- فلو كنتم إذ خذلتم عثمان خذلتم عليا- لكانت واحدة بواحدة- و لكنكم لم ترضوا أن تكونوا كالناس- حتى أعلمتم في الحرب- و دعوتم‏ إلى البراز- ثم لم ينزل بعلي حطب قط إلا هونتم عليه المصيبة- و وعدتموه الظفر- و قد أخذت الحرب منا و منكم ما قد رأيتم- فاتقوا الله في البقية- . فضحك قيس- و قال ما كنت أظنك يا نعمان محتويا على هذه المقالة- إنه لا ينصح أخاه من غش نفسه- و أنت الغاش الضال المضل- أما ذكرك عثمان- فإن كانت الأخبار تكفيك فخذ مني واحدة- قتل عثمان من لست خيرا منه- و خذله من هو خير منك- و أما أصحاب الجمل فقاتلناهم على النكث- و أما معاوية- فو الله لو اجتمعت عليه العرب قاطبة لقاتلته الأنصار- و أما قولك إنا لسنا كالناس- فنحن في هذه الحرب كما كنا مع رسول الله- نتقي السيوف بوجوهنا- و الرماح بنحورنا- حتى جاء الحق و ظهر أمر الله و هم كارهون- و لكن انظر يا نعمان- هل ترى مع معاوية إلا طليقا- أو أعرابيا أو يمانيا مستدرجا بغرور- انظر أين المهاجرون و الأنصار- و التابعون لهم بإحسان- الذين رضي الله عنهم و رضوا عنه- ثم انظر هل ترى مع معاوية أنصاريا- غيرك و غير صويحبك- و لستما و الله ببدريين و لا عقبيين و لا أحديين- و لا لكما سابقة في الإسلام- و لا آية في القرآن- و لعمري لئن شغبت علينا لقد شغب علينا أبوك- .

قال نصر و حدثنا عمر بن سعد- عن مالك بن أعين عن زيد بن وهب- قال كان فارس أهل الشام الذي لا ينازع- عوف بن مجزأة المرادي المكنى أبا أحمر- و كان فارس أهل الكوفة العكبر بن جدير الأسدي- فقام العكبر إلى علي ع- و كان‏ منطيقا فقال يا أمير المؤمنين- إن في أيدينا عهدا من الله لا نحتاج فيه إلى الناس- قد ظننا بأهل الشام الصبر و ظنوا بنا- فصبرنا و صبروا- و قد عجبت من صبر أهل الدنيا لأهل الآخرة- و صبر أهل الحق على أهل الباطل و رغبة أهل الدنيا- ثم قرأت آية من كتاب الله فعلمت أنهم مفتونون- الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا- أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ- وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ- فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا- وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ- فقال له ع خيرا- و خرج الناس إلى مصافهم- و خرج عوف بن مجزأة المرادي نادرا من الناس- و كذا كان يصنع- و قد كان قتل نفرا من أهل العراق مبارزة- فنادى يا أهل العراق- هل من رجل عصاه سيفه يبارزني- و لا أغركم من نفسي أنا عوف بن مجزأة- فنادى الناس بالعكبر- فخرج إليه منقطعا عن أصحابه ليبارزه فقال عوف-

بالشام أمن ليس فيه خوف
بالشام عدل ليس فيه حيف‏

بالشام جود ليس فيه سوف‏
أنا ابن مجزاة و اسمي عوف‏

هل من عراقي عصاه سيف
يبرز لي و كيف لي و كيف‏

فقال له العكبر-

الشام محل و العراق ممطر
بها إمام طاهر مطهر

و الشام فيها أعور و معور
أنا العراقي و اسمي عكبر

ابن جدير و أبوه المنذر
ادن فإني في البراز قسور

فاطعنا فصرعه العكبر و قتله- و معاوية على التل في وجوه قريش- و نفر قليل من الناس- فوجه العكبر فرسه- يملأ فروجه ركضا- و يضربه بالسوط مسرعا نحو التل- فنظر معاوية إليه فقال- هذا الرجل مغلوب على عقله أو مستأمن- فاسألوه فأتاه رجل و هو في حمو فرسه- فناداه فلم يجبه و مضى مبادرا- حتى انتهى إلى معاوية- فجعل يطعن في أعراض الخيل و رجا- أن ينفرد بمعاوية فيقتله- فاستقبله رجال قتل منهم قوما- و حال الباقون بينه و بين معاوية بسيوفهم و رماحهم- فلما لم يصل إليه قال- أولى لك يا ابن هند أنا الغلام الأسدي- و رجع إلى صف العراق و لم يكلم- فقال له علي ع- ما دعاك إلى ما صنعت- لا تلق نفسك إلى التهلكة- قال يا أمير المؤمنين- أردت غرة ابن هند فحيل بيني و بينه- و كان العكبر شاعرا فقال-

قتلت المرادي الذي كان باغيا
ينادي و قد ثار العجاج نزال‏

يقول أنا عوف بن مجزاة و المنى‏
لقاء ابن مجزاة بيوم قتال‏

فقلت له لما علا القوم صوته
منيت بمشبوح اليدين طوال‏

فأوجرته في ملتقى الحرب صعدة
ملأت بها رعبا صدور رجال‏

فغادرته يكبو صريعا لوجهه
ينوء مرارا في مكر مجال‏

و قدمت مهري راكضا نحو صفهم‏
أصرفه في جريه بشمالي‏

أريد به التل الذي فوق رأسه
معاوية الجاني لكل خبال‏

فقام رجال دونه بسيوفهم‏
و قام رجال دونه بعوالي‏

فلو نلته نلت التي ليس بعدها
و فزت بذكر صالح و فعال‏

و لو مت في نيل المنى ألف موتة
لقلت إذا ما مت لست أبالي‏

قال فانكسر أهل الشام لقتل عوف المرادي- و هدر معاوية دم العكبر- فقال العكبر يد الله فوق يده- فأين الله جل جلاله و دفاعه عن المؤمنين- . قال نصر و روى عمر بن سعد- عن الحارث بن حصين عن أبي الكنود- قال جزع أهل الشام على قتلاهم جزعا شديدا- و قال معاوية بن خديج- قبح الله ملكا يملكه المرء بعد حوشب و ذي الكلاع- و الله لو ظفرنا بأهل الدنيا- بعد قتلهما بغير مئونة ما كان ظفرا- و قال يزيد بن أسد لمعاوية- لا خير في أمر لا يشبه آخره أوله- لا يدمى جريح و لا يبكى قتيل- حتى تنجلي هذه الفتنة- فإن يكن الأمر لك أدميت‏ و بكيت على قرار- و إن يكن لغيرك فما أصبت به أعظم- فقال معاوية يا أهل الشام- ما جعلكم أحق بالجزع على قتلاكم- من أهل العراق على قتلاهم- و الله ما ذو الكلاع فيكم بأعظم من عمار بن ياسر فيهم- و لا حوشب فيكم بأعظم من هاشم فيهم- و ما عبيد الله بن عمر فيكم بأعظم من ابن بديل فيهم- و ما الرجال إلا أشباه و ما التمحيص إلا من عند الله- فأبشروا فإن الله قد قتل من القوم ثلاثة- قتل عمارا و كان فتاهم و قتل هاشما و كان حمزتهم- و قتل ابن بديل و هو الذي فعل الأفاعيل- و بقي الأشتر و الأشعث و عدي بن حاتم- فأما الأشعث فإنما حمى عنه مصره- و أما الأشتر و عدي فغضبا و الله للفتنة- أقاتلهما غدا إن شاء الله تعالى- فقال معاوية بن خديج- إن يكن الرجال عندك أشباها- فليست عندنا كذلك و غضب- و قال شاعر اليمن يرثي ذا الكلاع و حوشبا-

معاوي قد نلنا و نيلت سراتنا
و جدع أحياء الكلاع و يحصب‏

فذو كلع لا يبعد الله داره‏
و كل يمان قد أصيب بحوشب‏

هما ما هما كانا معاوي عصمة
متى قلت كانا عصمة لا أكذب‏

و لو قبلت في هالك بذل فدية
فديتهما بالنفس و الأم و الأب‏

و روى نصر عن عمر بن سعد- عن عبيد الرحمن بن كعب- قال لما قتل عبد الله بن بديل يوم صفين- مر به الأسود بن طهمان الخزاعي- و هو بآخر رمق- فقال له عز علي و الله مصرعك- أما و الله لو شهدتك لآسيتك- و لدافعت عنك- و لو رأيت الذي أشعرك-لأحببت ألا أزايله و لا يزايلني- حتى أقتله أو يلحقني بك- ثم نزل إليه فقال رحمك الله- يا عبد الله و الله إن كان جارك ليأمن بوائقك- و إن كنت لمن الذاكرين الله كثيرا- أوصني رحمك الله- قال أوصيك بتقوى الله- و أن تناصح أمير المؤمنين- و تقاتل معه حتى يظهر الحق أو تلحق بالله- و أبلغ أمير المؤمنين عني السلام- و قل له قاتل على المعركة حتى تجعلها خلف ظهرك- فإنه من أصبح و المعركة خلف ظهره- كان الغالب- . ثم لم يلبث أن مات- فأقبل أبو الأسود إلى علي ع فأخبره- فقال رحمه الله جاهد معنا عدونا في الحياة- و نصح لنا في الوفاة- .

قال نصر- و قد روي نحو هذا عن عبد الرحمن بن كلدة- حدثني محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بحر- عن عبد الرحمن بن حاطب- قال خرجت التمس أخي سويدا في قتلى صفين- فإذا رجل صريع في القتلى- قد أخذ بثوبي فالتفت- فإذا هو عبد الرحمن بن كلدة- فقلت إنا لله و إنا إليه راجعون- هل لك في الماء و معي إداوة- فقال لا حاجة لي فيه قد أنفذ في السلاح و خرقني- فلست أقدر على الشراب- هل أنت مبلغ عني أمير المؤمنين رسالة أرسلك بها- قلت نعم قال إذا رأيته فاقرأ عليه السلام- و قل له يا أمير المؤمنين- احمل جرحاك إلى عسكرك- حتى تجعلهم من وراء ظهرك- فإن الغلبة لمن فعل ذلك- ثم لم أبرح حتى مات- فخرجت حتى أتيت أمير المؤمنين ع- فقلت له إن عبد الرحمن بن كلدة يقرأ عليك السلام- قال و أين هو قلت وجدته و قد أنفذه السلاح و خرقه- فلم يستطع شرب الماء- و لم أبرح حتى مات- فاسترجع ع فقلت قد أرسلني إليك برسالة- قال و ما هي قلت إنه يقول احمل جرحاك إلى عسكرك- و اجعلهم وراء ظهرك فإن الغلبة لمن فعل ذلك- فقال صدق فنادى مناديه في العسكر- أن احملوا جرحاكم من بين القتلى إلى معسكركم ففعلوا- . قال نصر و حدثني عمرو بن شمر- عن جابر عن عامر- عن صعصعة بن صوحان- أن أبرهة بن الصباح الحميري قام بصفين- فقال ويحكم يا معشر أهل اليمن- إني لأظن الله قد أذن بفنائكم- ويحكم خلوا بين الرجلين فليقتتلا- فأيهما قتل صاحبه ملنا معه جميعا- و كان أبرهة من رؤساء أصحاب معاوية- فبلغ قوله عليا ع- فقال صدق أبرهة- و الله ما سمعت بخطبة منذ وردت الشام- أنا بها أشد سرورا مني بهذه الخطبة-

قال و بلغ معاوية كلام أبرهة- فتأخر آخر الصفوف- و قال لمن حوله إني لأظن أبرهة مصابا في عقله- فأقبل أهل الشام يقولون- و الله إن أبرهة لأكملنا دينا و عقلا و رأيا و بأسا- و لكن الأمير كره مبارزة علي- و سمع ما دار من الكلام- أبو داود عروة بن داود العامري- و كان من فرسان معاوية- فقال إن كان معاوية كره مبارزة أبي حسن- فأنا أبارزه ثم خرج بين الصفين- فنادى أنا أبو داود فابرز إلي يا أبا حسن- فتقدم علي ع نحوه فناداه الناس- ارجع يا أمير المؤمنين عن هذا الكلب فليس لك بخطر- فقال و الله ما معاوية اليوم بأغيظ لي منه- دعوني و إياه- ثم حمل عليه فضربه فقطعه قطعتين- سقطت إحداهما يمنية و الأخرى شامية- فارتج العسكران لهول الضربة- و صرخ ابن عم لأبي داود وا سوء صباحاه- و قبح الله البقاء بعد أبي داود- و حمل على علي ع فطعنه فضرب الرمح فبرأه- ثم قنعه ضربة فألحقه بأبي داود- و معاوية واقف على التل يبصر و يشاهد- فقال تبا لهذه الرجال و قبحا- أ ما فيهم من يقتل هذا مبارزة أو غيلة- أو في اختلاط الفيلق و ثوران النقع- فقال الوليد بن عقبة- ابرز إليه أنت فإنك أولى الناس بمبارزته- فقال و الله لقد دعاني إلى البراز- حتى لقد استحييت من قريش و إني و الله لا أبرز إليه- ما جعل العسكر بين يدي الرئيس إلا وقاية له- فقال عتبة بن أبي سفيان- الهوا عن هذا كأنكم لم تسمعوا نداءه- فقد علمتم أنه قتل حريثا- و فضح عمرا و لا أرى أحدا يتحكك به إلا قتله- فقال معاوية لبسر بن أرطاة- أ تقوم لمبارزته فقال ما أحد أحق بها منك- أما إذ بيتموه فأنا له- قال معاوية إنك ستلقاه غدا في أول الخيل- و كان عند بسر ابن عم له- قدم من الحجاز يخطب ابنته فأتى بسرا- فقال له إني سمعت أنك وعدت من نفسك أن تبارز عليا- أ ما تعلم أن الوالي من بعد معاوية عتبة- ثم بعده محمد أخوه- و كل من هؤلاء قرن علي- فما يدعوك إلى ما أرى- قال الحياء خرج مني كلام- فأنا أستحيي أن أرجع عنه- فضحك الغلام و قال-

تنازله يا بسر إن كنت مثله
و إلا فإن الليث للشاء آكل‏

كأنك يا بسر بن أرطاة جاهل‏
بآثاره في الحرب أو متجاهل‏

معاوية الوالي و صنواه بعده
و ليس سواء مستعار و ثاكل‏

أولئك هم أولى به منك إنه‏
علي فلا تقربه أمك هابل‏

متى تلقه فالموت في رأس رمحه
و في سيفه شغل لنفسك شاغل‏

و ما بعده في آخر الخيل عاطف‏
و لا قبله في أول الخيل حامل‏

فقال بسر هل هو إلا الموت- لا بد من لقاء الله فغدا علي ع منقطعا من خيله- و يده في يد الأشتر- و هما يتسايران رويدا- يطلبان التل ليقفا عليه- إذ برز له بسر مقنعا في الحديد- لا يعرف فناداه أبرز إلي أبا حسن- فانحدر إليه على تؤدة غير مكترث به-حتى إذا قاربه طعنه و هو دارع- فألقاه إلى الأرض- و منع الدرع السنان أن يصل إليه- فاتقاه بسر بعورته- و قصد أن يكشفها يستدفع بأسه- فانصرف عنه ع مستدبرا له فعرفه الأشتر حين سقط- فقال يا أمير المؤمنين- هذا بسر بن أرطاة- هذا عدو الله و عدوك- فقال دعه عليه لعنة الله أ بعد أن فعلها- فحمل ابن عم بسر من أهل الشام شاب- على علي ع و قال-

أرديت بسرا و الغلام ثائره
أرديت شيخا غاب عنه ناصره‏
و كلنا حام لبسر واتره‏

فلم يلتفت إليه علي ع و تلقاه الأشتر فقال له-

في كل يوم رجل شيخ شاغره
و عورة وسط العجاج ظاهره‏

تبرزها طعنة كف واتره‏
عمرو و بسر منيا بالفاقره‏

فطعنه الأشتر فكسر صلبه- و قام بسر من طعنة علي ع موليا- و فرت خيله و ناداه علي ع- يا بسر معاوية كان أحق بها منك- فرجع بسر إلى معاوية- فقال له معاوية ارفع طرفك- فقد أدال الله عمرا منك- قال الشاعر في ذلك-

أ في كل يوم فارس تندبونه
له عورة تحت العجاجة باديه‏

يكف بها عنه علي سنانه‏
و يضحك منها في الخلاء معاويه‏

بدت أمس من عمرو فقنع رأسه
و عورة بسر مثلها حذو حاذيه‏

فقولا لعمرو و ابن أرطاة أبصرا
سبيليكما لا تلقيا الليث ثانيه‏

و لا تحمدا إلا الحيا و خصاكما
هما كانتا للنفس و الله واقيه‏

فلولاهما لم تنجوا من سنانه‏
و تلك بما فيها عن العود ناهيه‏

متى تلقيا الخيل المغيرة صبحة
و فيها علي فاتركا الخيل ناحيه‏

و كونا بعيدا حيث لا تبلغ القنا
و نار الوغى إن التجارب كافيه‏

و إن كان منه بعد للنفس حاجة
فعودا إلى ما شئتما هي ما هيه‏

قال فكان بسر بعد ذلك اليوم- إذا لقي الخيل التي فيها علي ينتحي ناحية- و تحامى فرسان الشام بعدها عليا ع- . قال نصر و حدثنا عمر بن سعد- عن الأجلح بن عبد الله الكندي- عن أبي جحيفة- قال جمع معاوية كل قرشي بالشام- و قال لهم العجب يا معشر قريش- أنه ليس لأحد منكم في هذه الحرب فعال- يطول بها لسانه غدا ما عدا عمرا- فما بالكم أين حمية قريش- فغضب الوليد بن عقبه- و قال أي فعال تريد- و الله ما نعرف في أكفائنا من قريش العراق- من يغني غناءنا باللسان و لا باليد- فقال معاوية بلى إن أولئك وقوا عليا بأنفسهم- قال الوليد كلا بل وقاهم علي بنفسه- قال ويحكم- أ ما فيكم من يقوم لقرنه منهم مبارزة و مفاخرة- فقال مروان- أما البراز فإن عليا لا يأذن لحسن- و لا لحسين و لا لمحمد بنيه فيه- و لا لابن عباس و إخوته- و يصلى بالحرب دونهم- فلأيهم نبارز- و أما المفاخرة فبما ذا نفاخرهم- بالإسلام أم بالجاهلية- فإن كان بالإسلام فالفخر لهم بالنبوة- و إن كان بالجاهلية فالملك فيه لليمن- فإن قلنا قريش قالوا لنا عبد المطلب- .

فقال عتبة بن أبي سفيان الهوا عن هذا- فإني لاق بالغداة جعدة بن هبيرة- فقال معاوية بخ بخ قومه بنو مخزوم- و أمه أم هانئ بنت أبي طالب كف‏ء كريم- و كثر العتاب و الخصام بين القوم- حتى أغلظوا لمروان و أغلظ لهم- فقال مروان أما و الله- لو لا ما كان مني إلى علي ع في أيام عثمان- و مشهدي بالبصرة لكان لي في علي رأي- يكفي امرأ ذا حسب و دين- و لكن و لعل- و نابذ معاوية الوليد بن عقبة دون القوم- فأغلظ له الوليد- فقال معاوية- إنك إنما تجترئ علي بنسبك من عثمان- و لقد ضربك الحد و عزلك عن الكوفة- .

ثم إنهم ما أمسوا حتى اصطلحوا- و أرضاهم معاوية من نفسه- و وصلهم بأموال جليلة- و بعث معاوية إلى عتبة- فقال ما أنت صانع في جعدة- قال ألقاه اليوم و أقاتله غدا- و كان لجعدة في قريش شرف عظيم- و كان له لسان- و كان من أحب الناس إلى علي ع- فغدا عليه عتبة- فنادى أبا جعدة أبا جعدة- فاستأذن عليا ع في الخروج إليه- فأذن له و اجتمع الناس- فقال عتبة يا جعدة- و الله ما أخرجك علينا- إلا حب خالك و عمك عامل البحرين- و إنا و الله ما نزعم- أن معاوية أحق بالخلافة من علي- لو لا أمره في عثمان- و لكن معاوية أحق بالشام لرضا أهلها به- فاعفوا لنا عنها- فو الله ما بالشام رجل به طرق- إلا و هو أجد من معاوية في القتال- و ليس بالعراق رجل له مثل جد علي في الحرب- و نحن أطوع لصاحبنا منكم لصاحبكم- و ما أقبح بعلي- أن يكون في قلوب المسلمين أولى الناس بالناس- حتى إذا أصاب سلطانا أفنى العرب- فقال جعدة أما حبي لخالي- فلو كان لك خال مثله لنسيت أباك- و أما ابن أبي سلمة فلم يصب أعظم من قدره- و الجهاد أحب إلي من العمل- و أما فضل علي على معاوية فهذا ما لا يختلف فيه اثنان- و أما رضاكم اليوم بالشام- فقد رضيتم بها أمس فلم نقبل- و أما قولك ليس بالشام أحد إلا و هو أجد من معاوية- و ليس بالعراق رجل مثل جد علي- فهكذا ينبغي أن يكون مضى بعلي يقينه- و قصر بمعاوية شكه- و قصد أهل الحق خير من جهد أهل الباطل- و أما قولك نحن أطوع لمعاوية منكم لعلي- فو الله ما نسأله إن سكت- و لا نرد عليه إن قال- و أما قتل العرب- فإن الله كتب القتل و القتال- فمن قتله الحق فإلى الله- . فغضب عتبة- و فحش على جعدة فلم يجبه و أعرض عنه- فلما انصرف عنه جمع خيله فلم يستبق منها شيئا- و جل أصحابه السكون و الأزد و الصدف- و تهيأ جعدة بما استطاع و التقوا- فصبر القوم جميعا- و باشر جعدة يومئذ القتال بنفسه- و جزع عتبة فأسلم خيله- و أسرع هاربا إلى معاوية- فقال له فضحك جعدة و هزمتك- لا تغسل رأسك منها أبدا- فقال و الله لقد أعذرت- و لكن أبى الله أن يديلنا منهم- فما أصنع و حظي جعدة بعدها عند علي ع- و قال النجاشي فيما كان من فحش عتبة على جعدة-

إن شتم الكريم يا عتب خطب
فاعلمنه من الخطوب عظيم‏

أمه أم هانئ و أبوه‏
من معد و من لؤي صميم‏

ذاك منها هبيرة بن أبي وهب
أقرت بفضا مخزوم‏

كان في حربكم يعد بألف‏
حين يلقى بها القروم القروم‏

و ابنه جعدة الخليفة منه
هكذا تنبت الفروع الأروم‏

كل شي‏ء تريده فهو فيه
حسب ثاقب و دين قويم‏

و خطيب إذا تمعرت الأوجه‏
يشجى به الألد الخصيم‏

و حليم إذا الحبي حلها الجهل
و خفت من الرجال الحلوم‏

و شكيم الحروب قد علم الناس‏
إذا حل في الحروب الشكيم‏

و صحيح الأديم من نغل العيب
إذا كان لا يصح الأديم‏

حامل للعظيم في طلب الحمد
إذا عظم الصغير اللئيم‏

ما عسى أن تقول للذهب الأحمر
عيبا هيهات منك النجوم‏

كل هذا بحمد ربك فيه‏
و سوى ذاك كان و هو فطيم‏

و قال الأعور الشني في ذلك- يخاطب عتبة بن أبي سفيان-

ما زلت تظهر في عطفيك أبهة
لا يرفع الطرف منك التيه و الصلف‏

لا تحسب القوم إلا فقع قرقرة
أو شحمة بزها شاو لها نطف‏

حتى لقيت ابن مخزوم و أي فتى
أحيا مآثر آباء له سلفوا

إن كان رهط أبي وهب جحاجحة
في الأولين فهذا منهم خلف‏

أشجاك جعدة إذ نادى فوارسه
حاموا عن الدين و الدنيا فما وقفوا

هلا عطفت على قوم بمصرعة
فيها السكون و فيها الأزد و الصدف‏

قال نصر و حدثنا عمر بن سعد عن الشعبي- قال كان رجل من أهل الشام-يقال له الأصبغ بن ضرار الأزدي- من مسالح معاوية و طلائعه- فندب له علي ع الأشتر- فأخذه أسيرا من غير قتال- فجاء به ليلا فشده وثاقا- و ألقاه عند أصحابه ينتظر به الصباح- و كان الأصبغ شاعرا مفوها- فأيقن بالقتل و نام أصحابه- فرفع صوته فأسمع الأشتر- و قال

ألا ليت هذا الليل أصبح سرمدا
على الناس لا يأتيهم بنهار

يكون كذا حتى القيامة إنني‏
أحاذر في الإصباح يوم بواري‏

فيا ليل أطبق إن في الليل راحة
و في الصبح قتلي أو فكاك إساري‏

و لو كنت تحت الأرض ستين واديا
لما رد عني ما أخاف حذاري‏

فيا نفس مهلا إن للموت غاية
فصبرا على ما ناب يا ابن ضرار

أ أخشى و لي في القوم رحم قريبة
أبى الله أن أخشى و مالك جاري‏

و لو أنه كان الأسير ببلدة
أطاع بها شمرت ذيل إزاري‏

و لو كنت جار الأشعث الخير فكني‏
و قل من الأمر المخوف فراري‏

و جار سعيد أو عدي بن حاتم
و جار شريح الخير قر قراري‏

و جار المرادي الكريم و هانئ‏
و زحر بن قيس ما كرهت نهاري‏

و لو أنني كنت الأسير لبعضهم
دعوت فتى منهم ففك إساري‏

أولئك قومي لا عدمت حياتهم‏
و عفوهم عني و ستر عواري‏

قال فغدا به الأشتر إلى علي ع- فقال يا أمير المؤمنين إن هذا رجل من مسالح معاوية- أصبته أمس و بات عندنا الليل- فحركنا بشعره و له رحم- فإن كان فيه القتل فاقتله- و إن ساغ لك العفو عنه فهبه لنا- فقال هو لك يا مالك- و إذا أصبت منهم أسيرا فلا تقتله- فإن أسير أهل القبلة لا يقتل- . فرجع به الأشتر إلى منزله و خلى سبيله

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 8

خطبه 123 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

123 و من كلام له ع

وَ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْكُمْ- تَكِشُّونَ كَشِيشَ الضِّبَابِ- لَا تَأْخُذُونَ حَقّاً وَ لَا تَمْنَعُونَ ضَيْماً- قَدْ خُلِّيتُمْ وَ الطَّرِيقَ- فَالنَّجَاةُ لِلْمُقْتَحِمِ وَ الْهَلَكَةُ لِلْمُتَلَوِّمِ الكشيش الصوت يشوبه خور مثل الخشخشة- و كشيش الأفعى صوتها من جلدها لا من فمها- و قد كشت تكش قال الراجز-

كشيش أفعى أجمعت لعض
و هي تحك بعضها ببعض‏

يقرع ع أصحابه بالجبن و الفشل- و يقول لهم لكأني أنظر إليكم- و أصواتكم غمغمة بينكم من الهلع الذي قد اعتراكم- فهي أشبه شي‏ء بأصوات الضباب المجتمعة- . ثم أكد وصف جبنهم حقا و خوفهم- فقال لا تأخذون حقا و لا تمنعون ضيما و هذه غاية ما يكون من الذل- . ثم ترك هذا الكلام و ابتدأ فقال- قد خليتم و طريق النجاة عند الحرب- و دللتم عليهاو هي أن تقتحموا و تلحجوا و لا تهنوا- فإنكم متى فعلتم ذلك نجوتم- و متى تلومتم و تثبطتم و أحجمتم هلكتم- و من هذا المعنى قول الشاعر-
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما- . و قال قطري بن الفجاءة-

لا يركنن أحد إلى الإحجام
يوم الوغى متخوفا لحمام‏

فلقد أراني للرماح دريئة
من عن يميني تارة و أمامي‏

حتى خضبت بما تحدر من دمي
أكناف سرجي أو عنان لجامي‏

ثم انصرفت و قد أصبت و لم أصب‏
جذع البصيرة قارح الإقدام‏

و كتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد- و اعلم أن عليك عيونا من الله ترعاك و تراك- فإذا لقيت العدو- فاحرص على الموت توهب لك الحياة- و لا تغسل الشهداء من دمائهم- فإن دم الشهيد نور له يوم القيامة- و قال أبو الطيب-

يقتل العاجز الجبان و قد يعجز
عن قطع بخنق المولود

و يوقى الفتى المخش و قد خوض في‏
ماء لبة الصنديد

و لهذا المعنى الذي أشار إليه ع سبب معقول- و هو أن المقدم على خصمه يرتاع له خصمه- و تنخذل عنه نفسه- فتكون النجاة و الظفر للمقدم- و أما المتلوم عن خصمه المحجم المتهيب له- فإن نفس خصمه تقوى عليه- و يزداد طمعه فيه فيكون الظفر له- و يكون العطب و الهلاك للمتلوم الهائب- تم الجزء السابع من شرح نهج البلاغة و يليه الجزء الثامن

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 7

خطبه 122 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

122 و من كلام له ع قاله لأصحابه في ساعة الحرب

وَ أَيُّ امْرِئٍ مِنْكُمْ أَحَسَّ مِنْ نَفْسِهِ- رِبَاطَةَ جَأْشٍ عِنْدَ اللِّقَاءِ- وَ رَأَى مِنْ أَحَدٍ مِنْ إِخْوَانِهِ فَشَلًا- فَلْيَذُبَّ عَنْ أَخِيهِ بِفَضْلِ نَجْدَتِهِ- الَّتِي فُضِّلَ بِهَا عَلَيْهِ- كَمَا يَذُبُّ عَنْ نَفْسِهِ- فَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُ مِثْلَهُ- إِنَّ الْمَوْتَ طَالِبٌ حَثِيثٌ لَا يَفُوتُهُ الْمُقِيمُ- وَ لَا يُعْجِزُهُ الْهَارِبُ- إِنَّ أَكْرَمَ الْمَوْتِ الْقَتْلُ- وَ الَّذِي نَفْسُ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ بِيَدِهِ- لَأَلْفُ ضَرْبَةٍ بِالسَّيْفِ أَهْوَنُ عَلَيَّ- مِنْ مِيتَةٍ عَلَى الْفِرَاشِ فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ أحسن علم و وجد و رباطة جأش- أي شدة قلب و الماضي ربط- كأنه يربط نفسه عن الفرار- و المروي رباطة بالكسر- و لا أعرفه نقلا و إنما القياس لا يأباه- مثل عمر عمارة و خلب خلابة- . و الفشل الجبن و ذب الرجل عن صاحبه- أي أكثر الذب و هو الدفع و المنع- . و النجدة الشجاعة و الحثيث السريع- و في بعض الروايات فليذب عن صاحبه بالإدغام- و في بعضها فليذبب بفك الإدغام- و الميتة بالكسر هيئة الميت- كالجلسة و الركبة هيئة الجالس و الراكب- يقال مات فلان ميتة حسنة- و المروي في نهج‏البلاغة بالكسر في أكثر الروايات-

و قد روي من موتة- و هو الأليق يعني المرة الواحدة- ليقع في مقابلة الألف- . و اعلم أنه ع أقسم- أن القتل أهون من الموت حتف الأنف- و ذلك على مقتضى ما منحه الله تعالى- من الشجاعة الخارقة لعادة البشر- و هو ع يحاول أن يحض أصحابه و يحرضهم- ليجعل طباعهم مناسبة لطباعه- و إقدامهم على الحرب مماثلا لإقدامه- على عادة الأمراء في تحريض جندهم و عسكرهم- و هيهات إنما هو كما قال أبو الطيب-

يكلف سيف الدولة الجيش همه
و قد عجزت عنه الجيوش الخضارم‏

و يطلب عند الناس ما عند نفسه‏
و ذلك ما لا تدعيه الضراغم‏

ليست النفوس كلها من جوهر واحد- و لا الطباع و الأمزجة كلها من نوع واحد- و هذه خاصية توجد لمن يصطفيه الله تعالى من عباده- في الأوقات المتطاولة و الدهور المتباعدة- و ما اتصل بنا نحن من بعد الطوفان- فإن التواريخ من قبل الطوفان مجهولة عندنا- أن أحدا أعطي من الشجاعة و الإقدام- ما أعطيه هذا الرجل من جميع فرق العالم على اختلافها- من الترك و الفرس و العرب و الروم و غيرهم- و المعلوم من حاله أنه كان يؤثر الحرب على السلم- و الموت على الحياة- و الموت الذي كان يطلبه و يؤثره- إنما هو القتل بالسيف- لا الموت على الفراش كما قال الشاعر

لو لم يمت بين أطراف الرماح إذا
لمات إذ لم يمت من شدة الحزن‏

و كما قال الآخر-

يستعذبون مناياهم كأنهم
لا ييأسون من الدنيا إذا قتلوا

فإن قلت فما قولك فيما أقسم عليه- هل ألف ضربة بالسيف أهون ألما على المقتول- من موتة واحدة على الفراش بالحقيقة- أم هذا قول قاله على سبيل المبالغة و التجوز- ترغيبا لأصحابه في الجهاد- قلت الحالف يحلف على أحد أمرين- أحدهما أن يحلف على ظنه و اعتقاده- نحو أن يحلف أن زيدا في الدار- أي أنا حالف و مقسم- على أني أظن أن زيدا في الدار- أو أني أعتقد كون زيد في الدار- و الثاني أن يحلف لا على ظنه- بل يحلف على نفس الأمر في الخارج- فإن حملنا قسم أمير المؤمنين ع- على المحمل الأول فقد اندفع السؤال- لأنه ع قد كان يعتقد ذلك- فحلف أنه يعتقد و أنه يظن ذلك-

و هذا لا كلام فيه- و إن حملناه على الثاني فالأمر في الحقيقة يختلف- لأن المقتول بسيف صارم معجل للزهوق- لا يجد من الألم وقت الضربة- ما يجده الميت دون النزع من المد و الكف- نعم قد يجد المقتول قبل الضربة ألم التوقع لها- و ليس كلامنا في ذلك- بل في ألم الضربة نفسها- و ألف سيف صارم مثل سيف واحد- إذا فرضنا سرعة الزهوق- و أما في غير هذه الصورة- نحو أن يكون السيف كالا- و تتكرر الضربات به- و الحياة باقية بعد- و قايسنا بينه و بين ميت- يموت حتف أنفه موتا سريعا- إما بوقوف القوة الغاذية كما يموت الشيوخ- أو بإسهال ذريع تسقط معه القوة- و يبقى العقل و الذهن إلى وقت الموت- فإن الموت هاهنا أهون و أقل ألما- فالواجب أن يحمل كلام أمير المؤمنين ع- إما على جهة التحريض- فيكون قد بالغ كعادة العرب- و الخطباء في المبالغات المجازية- و إما أن يكون أقسم على أنه يعتقد ذلك- و هو صادق فيما أقسم- لأنه هكذا كان يعتقد بناء على‏ ما هو مركوز في طبعه من محبة القتال- و كراهية الموت على الفراش-

و قد روي أنه قيل لأبي مسلم الخراساني- إن في بعض الكتب المنزلة- من قتل بالسيف فبالسيف يقتل- فقال القتل أحب إلي من اختلاف الأطباء- و النظر في الماء و مقاساة الدواء و الداء- فذكر ذلك للمنصور بعد قتل أبي مسلم- فقال قد أبلغناه محبته

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 7

 

خطبه 121 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی) (خوارج)

121 و من كلام له ع قاله للخوارج

 وَ قَدْ خَرَجَ إِلَى مُعَسْكَرِهِمْ- وَ هُمْ مُقِيمُونَ عَلَى إِنْكَارِ الْحُكُومَةِ- فَقَالَ ع أَ كُلُّكُمْ شَهِدَ مَعَنَا صِفِّينَ- فَقَالُوا مِنَّا مَنْ شَهِدَ- وَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَشْهَدْ- قَالَ فَامْتَازُوا فِرْقَتَيْنِ- فَلْيَكُنْ مَنْ شَهِدَ صِفِّينَ فِرْقَةً- وَ مَنْ لَمْ يَشْهَدْهَا فِرْقَةً- حَتَّى أُكَلِّمَ كُلًّا مِنْكُمْ بِكَلَامِهِ- وَ نَادَى النَّاسَ فَقَالَ أَمْسِكُوا عَنِ الْكَلَامِ- وَ أَنْصِتُوا لِقَوْلِي- وَ أَقْبِلُوا بِأَفْئِدَتِكُمْ إِلَيَّ- فَمَنْ نَشَدْنَاهُ شَهَادَةً فَلْيَقُلْ بِعِلْمِهِ فِيهَا- ثُمَّ كَلَّمَهُمْ ع بِكَلَامٍ طَوِيلٍ- مِنْ جُمْلَتِهِ أَنْ قَالَ ع- أَ لَمْ تَقُولُوا عِنْدَ رَفْعِهِمُ الْمَصَاحِفَ حِيلَةً وَ غِيلَةً- وَ مَكْراً وَ خَدِيعَةً- إِخْوَانُنَا وَ أَهْلُ دَعْوَتِنَا- اسْتَقَالُونَا وَ اسْتَرَاحُوا إِلَى كِتَابِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ- فَالرَّأْيُ الْقَبُولُ مِنْهُمْ- وَ التَّنْفِيسُ عَنْهُمْ- فَقُلْتُ لَكُمْ هَذَا أَمْرٌ ظَاهِرُهُ إِيمَانٌ- وَ بَاطِنُهُ عُدْوَانٌ- وَ أَوَّلُهُ رَحْمَةٌ وَ آخِرُهُ نَدَامَةٌ- فَأَقِيمُوا عَلَى شَأْنِكُمْ- وَ الْزَمُوا طَرِيقَتَكُمْ- وَ عَضُّوا عَلَى الْجِهَادِ بَنَوَاجِذِكُمْ- وَ لَا تَلْتَفِتُوا إِلَى نَاعِقٍ نَعَقَ- إِنْ أُجِيبَ أَضَلَّ وَ إِنْ تُرِكَ ذَلَّ- فَلَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ص- وَ إِنَّ الْقَتْلَ لَيَدُورُ عَلَى الآْبَاءِ وَ الْأَبْنَاءِ-وَ الْإِخْوَانِ وَ الْقَرَابَاتِ- فَمَا نَزْدَادُ عَلَى كُلِّ مُصِيبَةٍ وَ شِدَّةٍ- إِلَّا إِيمَاناً وَ مُضِيّاً عَلَى الْحَقِّ- وَ تَسْلِيماً لِلْأَمْرِ- وَ صَبْراً عَلَى مَضَضِ الْجِرَاحِ- وَ لَكِنَّا إِنَّمَا أَصْبَحْنَا نُقَاتِلُ إِخْوَانَنَا فِي الْإِسْلَامِ- عَلَى مَا دَخَلَ فِيهِ مِنَ الزَّيْغِ وَ الِاعْوِجَاجِ- وَ الشُّبْهَةِ وَ التَّأْوِيلِ- فَإِذَا طَمِعْنَا فِي خَصْلَةٍ يَلُمُّ اللَّهُ بِهَا شَعَثَنَا- وَ نَتَدَانَى بِهَا إِلَى الْبَقِيَّةِ فِيمَا بَيْنَنَا- رَغِبْنَا فِيهَا وَ أَمْسَكْنَا عَمَّا سِوَاهَا هذا الكلام يتلو بعضه بعضا- و لكنه ثلاثة فصول لا يلتصق أحدها بالآخر-

و هذه عادة الرضي- تراه ينتخب من جملة الخطبة الطويلة كلمات فصيحة- يوردها على سبيل التتالي- و ليست متتالية حين تكلم بها صاحبها- و سنقطع كل فصل منها عن صاحبه- إذا مررنا على متنها- . قوله إلى معسكرهم الكاف مفتوحة- و لا يجوز كسرها و هو موضع العسكر و محطه- . و شهد صفين حضرها قال تعالى- فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ- . قوله فامتازوا أي انفردوا قال تعالى- وَ امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ- . قوله حتى أكلم كلا منكم بكلامه- أي بالكلام الذي يليق به- و الغيلة الخداع و الناعق المصوت- . قوله إن أجيب ضل و إن ترك ذل…- هو آخر الفصل الأول و قوله ضل أي ازداد ضلالا- لأنه قد ضل قبل أن يجاب- .

فأما قوله فلقد كنا مع رسول الله ص- فهو من كلام آخر و هو قائم بنفسه- إلى قوله و صبرا على مضض الجراح- فهذا آخر الفصل الثاني- . فأما قوله لكنا إنما أصبحنا- فهو كلام ثالث غير منوط بالأولين و لا ملتصق بهما- و هو في الظاهر مخالف و مناقض للفصل الأول- لأن الفصل الأول فيه إنكار الإجابة إلى التحكيم- و هذا يتضمن تصويبها- و ظاهر الحال أنه بعد كلام طويل- و قد قال الرضي رحمه الله في أول الفصل- أنه من جملة كلام طويل- و أنه لما ذكر التحكيم- قال ما كان يقوله دائما- و هو أني إنما حكمت- على أن نعمل في هذه الواقعة بحكم الكتاب- و إن كنت أحارب قوما ما أدخلوا في الإسلام زيغا- و أحدثوا به اعوجاجا- فلما دعوني إلى تحكيم الكتاب أمسكت عن قتلهم- و أبقيت عليهم لأني طمعت في أمر- يلم الله به شعث المسلمين- و يتقاربون بطريقه إلى البقية- و هي الإبقاء و الكف- .

فإن قلت إنه قد قال- نقاتل إخواننا من المسلمين- و أنتم لا تطلقون على أهل الشام المحاربين له لفظة المسلمين- قلت إنا و إن كنا نذهب- إلى أن صاحب الكبيرة لا يسمى مؤمنا و لا مسلما- فإنا نجيز أن يطلق عليه هذا اللفظ- إذا قصد به تمييزه عن أهل الذمة و عابدي الأصنام- فيطلق مع قرينة حال أو لفظ يخرجه- عن أن يكون مقصودا به التعظيم و الثناء و المدح- فإن لفظة مسلم و مؤمن- تستعمل في أكثر الأحوال كذلك- و أمير المؤمنين ع لم يقصد بذلك إلا تمييزهم- من كفار العرب و غيرهم من أهل الشرك- و لم يقصد مدحهم بذلك- فلم ينكر مع هذا القصد إطلاق لفظ المسلمين عليهم

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 7

خطبه 120 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

120 و من كلام له ع

وَ قَدْ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ- فَقَالَ نَهَيْتَنَا عَنِ الْحُكُومَةِ ثُمَّ أَمَرْتَنَا بِهَا- فَمَا نَدْرِي أَيُّ الْأَمْرَيْنِ أَرْشَدُ- فَصَفَّقَ ع إِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى- ثُمَّ قَالَ هَذَا جَزَاءُ مَنْ تَرَكَ الْعُقْدَةَ- أَمَا وَ اللَّهِ لَوْ أَنِّي حِينَ أَمَرْتُكُمْ- بِمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ حَمَلْتُكُمْ عَلَى الْمَكْرُوهِ- الَّذِي يَجْعَلُ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً- فَإِنِ اسْتَقَمْتُمْ هَدَيْتُكُمْ- وَ إِنِ اعْوَجَجْتُمْ قَوَّمْتُكُمْ- وَ إِنْ أَبَيْتُمْ تَدَارَكْتُكُمْ لَكَانَتِ الْوُثْقَى- وَ لَكِنْ بِمَنْ وَ إِلَى مَنْ- أُرِيدُ أَنْ أُدَاوِيَ بِكُمْ وَ أَنْتُمْ دَائِي- كَنَاقِشِ الشَّوْكَةِ بِالشَّوْكَةِ- وَ هُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ضَلْعَهَا مَعَهَا- اللَّهُمَّ قَدْ مَلَّتْ أَطِبَّاءُ هَذَا الدَّاءِ الدَّوِيِّ- وَ كَلَّتِ النَّزَعَةُ بِأَشْطَانِ الرَّكِيِّ- أَيْنَ الْقَوْمُ الَّذِينَ دُعُوا إِلَى الْإِسْلَامِ فَقَبِلُوهُ- وَ قَرَءُوا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ- وَ هِيجُوا إِلَى الْجِهَادِ فَوَلِهُوا- وَلَهَ اللِّقَاحِ إِلَى أَوْلَادِهَا- وَ سَلَبُوا السُّيُوفَ أَغْمَادَهَا- وَ أَخَذُوا بِأَطْرَافِ الْأَرْضِ زَحْفاً زَحْفاً- وَ صَفّاً صَفّاً بَعْضٌ هَلَكَ وَ بَعْضٌ نَجَا- لَا يُبَشَّرُونَ بِالْأَحْيَاءِ- وَ لَا يُعَزَّوْنَ عَنِ الْمَوْتَى- مُرْهُ الْعُيُونِ مِنَ الْبُكَاءِ- خُمْصُ الْبُطُونِ مِنَ الصِّيَامِ- ذُبُلُ الشِّفَاهِ مِنَ الدُّعَاءِ- صُفْرُ الْأَلْوَانِ مِنَ السَّهَرِ- عَلَى وُجُوهِهِمْ غَبَرَةُ الْخَاشِعِينَ- أُولَئِكَ إِخْوَانِي الذَّاهِبُونَ- فَحَقَّ لَنَا أَنْ نَظْمَأَ إِلَيْهِمْ- وَ نَعَضَّ الْأَيْدِي عَلَى فِرَاقِهِمْ- إِنَّ الشَّيْطَانَ يُسَنِّي لَكُمْ طُرُقَهُ- وَ يُرِيدُ أَنْ يَحُلَّ دِينَكُمْ عُقْدَةً عُقْدَةً- وَ يُعْطِيَكُمْ‏ بِالْجَمَاعَةِ الْفُرْقَةَ- وَ بِالْفُرْقَةِ الْفِتْنَةَ- فَاصْدِفُوا عَنْ نَزَغَاتِهِ وَ نَفَثَاتِهِ- وَ اقْبَلُوا النَّصِيحَةَ مِمَّنْ أَهْدَاهَا إِلَيْكُمْ- وَ اعْقِلُوهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ هذه شبهة من شبهات الخوارج- و معناها أنك نهيت عن الحكومة أولا- ثم أمرت بها ثانيا- فإن كانت قبيحة كنت بنهيك عنها مصيبا- و بأمرك بها مخطئا- و إن كانت حسنة كنت بنهيك عنها مخطئا- و بأمرك بها مصيبا- فلا بد من خطئك على كل حال- .

و جوابها أن للإمام أن يعمل- بموجب ما يغلب على ظنه من المصلحة- فهو ع لما نهاهم عنها كان نهيه عنها مصلحة حينئذ- و لما أمرهم بها كانت المصلحة في ظنه قد تغيرت- فأمرهم على حسب ما تبدل و تغير في ظنه- كالطبيب الذي ينهى المريض اليوم- عن أمر و يأمره بمثله غدا- . و قوله هذا جزاء من ترك العقدة- يعني الرأي الوثيق- و في هذا الكلام اعتراف- بأنه بان له- و ظهر فيما بعد أن الرأي الأصلح- كان الإصرار و الثبات على الحرب- و أن ذلك و إن كان مكروها- فإن الله تعالى كان يجعل الخيرة فيه- كما قال سبحانه فَعَسى‏ أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً- وَ يَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً- ثم قال كنت أحملكم على الحرب- و ترك الالتفات إلى مكيدة معاوية و عمرو- من رفع المصاحف- فإن استقمتم لي اهتديتم بي- و إن لم تستقيموا فذلك ينقسم إلى قسمين- أحدهما أن تعوجوا أي يقع منكم بعض الالتواء- و يسير من العصيان- كفتور الهمة و قلة الجد في الحرب- و الثاني التأني و الامتناع المطلق من الحرب- فإن كان الأول قومتكم‏ بالتأديب- و الإرشاد و إرهاق الهمم و العزائم بالتبصير- و الوعظ و التحريض و التشجيع- و إن كان الثاني تداركت الأمر معكم- إما بالاستنجاد بغيركم- من قبائل العرب و أهل خراسان و الحجاز- فكلهم كانوا شيعته و قائلين بإمامته- أو بما أراه في ذلك الوقت من المصلحة- التي تحكم بها الحال الحاضرة- .

قال لو فعلت ذلك لكانت هي العقدة الوثقى- أي الرأي الأصوب الأحزم- . فإن قلت أ فتقولون إنه أخطأ في العدول عن هذا الرأي- قلت لا نقول إنه أخطأ بمعنى الإثم- لأنه إنما فعل ما تغلب على ظنه أنه المصلحة- و ليس الواجب عليه إلا ذلك- و لكنه ترك الرأي الأصوب- كما قال الحسن هلا مضيت قدما لا أبا لك- و لا يلحق الإثم من غلب على ظنه- في حكم السياسة أمر فاعتمده- ثم بان له أن الأصوب كان خلافه- و قد قيل إن قوله

لقد عثرت عثرة لا تنجبر
سوف أكيس بعدها و أستمر
و أجمع الرأي الشتيت المنتشر

إشارة إلى هذا المعنى- و قيل فيه غير ذلك مما قدمنا ذكره قبل- . و قال شيخنا أبو عثمان الجاحظ رضي الله عنه- من عرفه عرف أنه غير ملوم- في الانقياد معهم إلى التحكيم- فإنه مل من القتل و تجريد السيف ليلا و نهارا- حتى ملت الدماء من إراقته لها- و ملت الخيل من تقحمه الأهوال بها- و ضجر من دوام تلك الخطوب الجليلة- و الأرزاء العظيمة و استلاب الأنفس- و تطاير الأيدي و الأرجل بين يديه- و أكلت الحرب أصحابه و أعداءه- و عطلت السواعد- و خدرت الأيدي التي سلمت من وقائع السيوف بها- و لو أن أهل الشام لم يستعفوا من الحرب- و يستقيلوا من‏المقارعة و المصادمة- لأدت الحال إلى قعود الفيلقين معا- و لزومهم الأرض و إلقائهم السلاح- فإن الحال أفضت بعظمها- و هو لها إلى ما يعجز اللسان عن وصفه- .

و اعلم أنه ع قال هذا القول- و استدرك بكلام آخر حذرا- أن يثبت على نفسه الخطأ في الرأي- فقال لقد كان هذا رأيا لو كان لي من يطيعني فيه- و يعمل بموجبة و أستعين به على فعله- و لكن بمن كنت أعمل ذلك- و إلى من أخلد في فعله- أما الحاضرون لنصري فأنتم و حالكم معلومة- في الخلاف و الشقاق و العصيان- و أما الغائبون من شيعتي كأهل البلاد النائية- فإلى أن يصلوا يكون قد بلغ العدو غرضه مني- و لم يبق من أخلد إليه في إصلاح الأمر- و إبرام هذا الرأي الذي كان صوابا لو اعتمد- إلا أن أستعين ببعضكم على بعض- فأكون كناقش الشوكة بالشوكة- و هذا مثل مشهور لا تنقش الشوكة بالشوكة- فإن ضلعها لها و الضلع الميل يقول- لا تستخرج الشوكة الناشبة في رجلك بشوكة مثلها- فإن إحداهما في القوة و الضعف كالأخرى- فكما أن الأولى انكسرت- لما وطئتها فدخلت في لحمك- فالثانية إذا حاولت استخراج الأولى بها تنكسر- و تلج في لحمك- .

ثم قال اللهم إن هذا الداء الدوي- قد ملت أطباؤه- و الدوي الشديد كما تقول ليل أليل- . و كلت النزعة جمع نازع- و هو الذي يستقي الماء- و الأشطان جمع شطن و هو الحبل- و الركي الآبار جمع ركية- و تجمع أيضا على ركايا- . ثم قال أين القوم- هذا كلام متأسف على أولئك متحسر على فقدهم- . و الوله شدة الحب حتى يذهب العقل وله الرجل- . و اللقاح بكسر اللام الإبل- و الواحدة لقوح و هي الحلوب مثل قلاص و قلوص- .

قوله و أخذوا بأطراف الأرض- أي أخذوا على الناس بأطراف الأرض أي حصروهم- يقال لمن استولى على غيره- و ضيق عليه قد أخذ عليه بأطراف الأرض- قال الفرزدق

أخذنا بأطراف السماء عليكم
لنا قمراها و النجوم الطوالع‏

و زحفا زحفا منصوب على المصدر المحذوف الفعل- أي يزحفون زحفا و الكلمة الثانية تأكيد للأولى- و كذلك قوله و صفا صفا- . ثم ذكر أن بعض هؤلاء المتأسف عليهم هلك- و بعض نجا و هذا ينجي قوله تعالى- فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى‏ نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ- . ثم ذكر أن هؤلاء قوم و قذتهم العبادة- و انقطعوا عن الناس و تجردوا عن العلائق الدنيوية- فإذا ولد لأحدهم مولود لم يبشر به- و إذا مات له ميت لم يعز عنه- . و مرهت عين فلان بكسر الراء- إذا فسدت لترك الكحل- لكن أمير المؤمنين ع جعل مره عيون هؤلاء- من البكاء من خوف خالقهم سبحانه- و ذكر أن بطونهم من خماص الصوم- و شفاههم ذابلة من الدعاء- و وجوههم مصفرة من السهر- لأنهم يقومون الليل و على وجوههم غبرة الخشوع- . ثم قال أولئك إخواني الذاهبون-

فإن قلت من هؤلاء الذين يشير ع إليهم- قلت هم قوم كانوا في نأنأة الإسلام- و في زمان ضعفه و خموله أرباب زهد و عبادة- و جهاد شديد في سبيل الله- كمصعب بن عمير من بني عبد الدار- و كسعد بن معاذ من الأوس- و كجعفر بن أبي طالب- و عبد الله بن رواحة و غيرهم- ممن استشهد من الصالحين-أرباب الدين و العبادة و الشجاعة في يوم أحد- و في غيره من الأيام في حياة رسول الله ص- و كعمار و أبي ذر و المقداد- و سلمان و خباب و جماعة- من أصحاب الصفة و فقراء المسلمين أرباب العبادة- الذين قد جمعوا بين الزهد و الشجاعة- وقد جاء في الأخبار الصحيحة أن رسول الله ص قال إن الجنة لتشتاق إلى أربعة- علي و عمار و أبي ذر و المقداد وجاء في الأخبار الصحيحة أيضا أن جماعة من أصحاب الصفة- مر بهم أبو سفيان بن حرب بعد إسلامه- فعضوا أيديهم عليه و قالوا وا أسفاه كيف لم تأخذ السيوف مأخذها- من عنق عدو الله- و كان معه أبو بكر- فقال لهم أ تقولون هذا لسيد البطحاء- فرفع قوله إلى رسول الله ص فأنكره- و قال لأبي بكر- انظر لا تكون أغضبتهم- فتكون قد أغضبت ربك- فجاء أبو بكر إليهم و ترضاهم- و سألهم أن يستغفروا له- فقالوا غفر الله لك- .

قوله فحق لنا- يقال حق له أن يفعل كذا و هو حقيق به و هو محقوق به أي خليق له- و الجمع أحقاء و محقوقون- . و يسني يسهل- و صدف عن الأمر يصدف أي انصرف عنه- و نزغات الشيطان ما ينزغ به بالفتح أي يفسد و يغرى- و نفثاته ما ينفث به و ينفث بالضم- و الكسر أي يخيل و يسحر- . و اعقلوها على أنفسكم- أي اربطوها و الزموها

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 7