خطبه 19 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

19 و من كلام له ع- قاله للأشعث بن قيس

 

و هو على منبر الكوفة يخطب- فمضى في بعض كلامه شي‏ء اعترضه الأشعث فيه- فقال يا أمير المؤمنين هذه عليك لا لك- فخفض إليه بصره ع ثم قال- : وَ مَا يُدْرِيكَ مَا عَلَيَّ مِمَّا لِي- عَلَيْكَ لَعْنَةُ اللَّهِ وَ لَعْنَةُ اللَّاعِنِينَ- حَائِكٌ ابْنُ حَائِكٍ مُنَافِقٌ ابْنُ كَافِرٍ- وَ اللَّهِ لَقَدْ أَسَرَكَ الْكُفْرُ مَرَّةً وَ الْإِسْلَامُ أُخْرَى- فَمَا فَدَاكَ مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَالُكَ وَ لَا حَسَبُكَ- وَ إِنَّ امْرَأً دَلَّ عَلَى قَوْمِهِ السَّيْفَ- وَ سَاقَ إِلَيْهِمُ الْحَتْفَ- لَحَرِيٌّ أَنْ يَمْقُتَهُ الْأَقْرَبُ وَ لَا يَأْمَنَهُ الْأَبْعَدُ قال الرضي رحمه الله- يريد ع أنه أسر في الكفر مرة و في الإسلام مرة- . و أما قوله ع دل على قومه السيف- فأراد به حديثا- كان للأشعث مع خالد بن الوليد باليمامة- غر فيه قومه و مكر بهم- حتى أوقع بهم خالد- و كان قومه بعد ذلك يسمونه عرف النار- و هو اسم للغادر عندهم‏ خفض إليه بصره طأطأه- و قوله فما فداك لا يريد به الفداء الحقيقي- فإن الأشعث فدي في الجاهلية بفداء يضرب به المثل- فقال أغلى فداء من الأشعث و سنذكره- و إنما يريد ما دفع عنك الأسر مالك و لا حسبك- و يمقته يبغضه و المقت البغض

الأشعث بن قيس و نسبه و بعض أخباره

اسم الأشعث معديكرب و أبوه قيس الأشج- سمي الأشج لأنه شج في بعض حروبهم- ابن معديكرب بن معاوية بن معديكرب- بن معاوية بن جبلة بن عبد العزى بن ربيعة- بن معاوية الأكرمين بن الحارث بن معاوية- بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع- بن معاوية بن كندة بن عفير بن عدي- بن الحارث بن مرة بن أدد- . و أم الأشعث كبشة بنت يزيد بن شرحبيل بن يزيد- بن إمرئ القيس بن عمرو المقصور الملك- . كان الأشعث أبدا أشعث الرأس- فسمي الأشعث و غلب عليه حتى نسي اسمه- و لعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث يقول أعشى همدان-

 

يا ابن الأشج قريع كندة
لا أبالي فيك عتبا

 
أنت الرئيس ابن الرئيس
و أنت أعلى الناس كعبا

 

تزوج رسول الله ص قتيلة أخت الأشعث- فتوفي قبل أن تصل إليه- . فأما الأسر- الذي أشار أمير المؤمنين ع إليه في الجاهلية- فقد ذكره ابن الكلبي في جمهرة النسب- فقال إن مرادا لما قتلت قيسا الأشج- خرج الأشعث طالبا بثأره- فخرجت كندة متساندين على ثلاثة ألوية- على أحد الألوية كبس بن هانئ بن شرحبيل- بن الحارث بن عدي بن ربيعة بن معاوية الأكرمين- و يعرف هانئ بالمطلع- لأنه كان يغزو فيقول اطلعت بني فلان فسمي المطلع- و على أحدها القشعم أبو جبر بن يزيد الأرقم- و على أحدها الأشعث فأخطئوا مرادا- و لم يقعوا عليهم و وقعوا على بني الحارث بن كعب- فقتل كبس و القشعم أبو جبر و أسر الأشعث- ففدي بثلاثة آلاف بعير لم يفد بها عربي بعده و لا قبله- فقال في ذلك عمرو بن معديكرب الزبيدي-

 

فكان فداؤه ألفي بعير
و ألفا من طريفات و تلد

 

– . و أما الأسر الثاني في الإسلام- فإن رسول الله ص لما قدمت كندة حجاجا قبل الهجرة- عرض رسول الله ص نفسه عليهم- كما كان يعرض نفسه على أحياء العرب- فدفعه بنو وليعة من بني عمرو بن معاوية و لم يقبلوه- فلما هاجر ص و تمهدت دعوته و جاءته وفود العرب- جاءه وفد كندة فيهم الأشعث و بنو وليعة فأسلموا- فأطعم رسول الله ص بني وليعة طعمة من صدقات حضرموت- و كان قد استعمل على حضرموت- زياد بن لبيد البياضي الأنصاري- فدفعها زياد إليهم فأبوا أخذها- و قالوا لا ظهر لنا- فابعث بها إلى بلادنا على ظهر من عندك- فأبى زياد و حدث بينهم و بين زياد شر كاد يكون حربا- فرجع منهم قوم إلى رسول الله ص- و كتب زياد إليه ع يشكوهم- و في هذه الوقعة كان الخبر المشهور عن رسول الله ص قال لبني وليعة لتنتهن يا بني وليعة- أو لأبعثن عليكم رجلا عديل نفسي- يقتل مقاتلتكم و يسبي ذراريكم- قال عمر بن الخطاب فما تمنيت الإمارة إلا يومئذ- و جعلت أنصب له صدري رجاء أن يقول هو هذا- فأخذ بيد علي ع و قال هو هذا – . ثم كتب لهم رسول الله ص إلى زياد- فوصلوا إليه بالكتاب و قد توفي رسول الله ص- و طار الخبر بموته إلى قبائل العرب- فارتدت بنو وليعة و غنت بغاياهم- و خضبن له أيديهن- . و قال محمد بن حبيب كان إسلام بني وليعة ضعيفا- و كان رسول الله ص يعلم ذلك منهم- و لما حج رسول الله ص حجة الوداع- و انتهى إلى فم الشعب دخل أسامة بن زيد ليبول- فانتظره رسول الله ص و كان أسامة أسود أفطس- فقال بنو وليعة هذا الحبشي حبسنا- فكانت الردة في أنفسهم- . قال أبو جعفر محمد بن جرير- فأمر أبو بكر زيادا على حضرموت- و أمره بأخذ البيعة على أهلها و استيفاء صدقاتهم- فبايعوه إلا بني وليعة- فلما خرج ليقبض الصدقات من بني عمرو بن معاوية- أخذ ناقة لغلام منهم يعرف بشيطان بن حجر- و كانت صفية نفيسة اسمها شذرة- فمنعه الغلام عنها و قال خذ غيرها- فأبى زياد ذلك و لج- فاستغاث شيطان بأخيه العداء بن حجر- فقال لزياد دعها و خذ غيرها- فأبى زياد ذلك و لج الغلامان في أخذها- و لج زياد و قال لهما لا تكونن شذرة عليكما كالبسوس- فهتف الغلامان يا لعمرو أ نضام و نضطهد- إن الذليل من أكل في داره- و هتفا بمسروق بن معديكرب- فقال مسروق لزياد أطلقها فأبى- فقال مسروق

 

يطلقها شيخ بخديه الشيب
ملمع فيه كتلميع الثوب‏

ماض على الريب إذا كان الريب‏

 

– . ثم قام فأطلقها فاجتمع إلى زياد بن لبيد أصحابه- و اجتمع بنو وليعة و أظهروا أمرهم- فبيتهم زياد و هم غارون- فقتل منهم جمعا كثيرا و نهب و سبى- و لحق فلهم بالأشعث بن قيس فاستنصروه- فقال لا أنصركم حتى تملكوني عليكم- فملكوه و توجوه كما يتوج الملك من قحطان- فخرج إلى زياد في جمع كثيف- و كتب أبو بكر إلى المهاجر بن أبي أمية و هو على صنعاء- أن يسير بمن معه إلى زياد- فاستخلف على صنعاء و سار إلى زياد- فلقوا الأشعث فهزموه و قتل مسروق- و لجأ الأشعث و الباقون إلى الحصن المعروف بالنجير- فحاصرهم المسلمون حصارا شديدا حتى ضعفوا- و نزل الأشعث ليلا إلى المهاجر و زياد- فسألهما الأمان على نفسه حتى يقدما به على أبي بكر- فيرى فيه رأيه- على أن يفتح لهم الحصن و يسلم إليهم من فيه- . و قيل بل كان في الأمان عشرة من أهل الأشعث- . فأمناه و أمضيا شرطه ففتح لهم الحصن- فدخلوه و استنزلوا كل من فيه و أخذوا أسلحتهم- و قالوا للأشعث اعزل العشرة فعزلهم- فتركوهم و قتلوا الباقين و كانوا ثمانمائة- و قطعوا أيدي النساء اللواتي شمتن برسول الله ص- و حملوا الأشعث‏ إلى أبي بكر- موثقا في الحديد هو و العشرة- فعفا عنه و عنهم- و زوجه أخته أم فروة بنت أبي قحافة و كانت عمياء- فولدت للأشعث محمدا و إسماعيل و إسحاق- .

و خرج الأشعث يوم البناء عليها إلى سوق المدينة- فما مر بذات أربع إلا عقرها- و قال للناس هذه وليمة البناء و ثمن كل عقيرة في مالي- فدفع أثمانها إلى أربابها- . قال أبو جعفر محمد بن جرير في التاريخ- و كان المسلمون يلعنون الأشعث- و يلعنه الكافرون أيضا و سبايا قومه- و سماه نساء قومه عرف النار و هو اسم للغادر عندهم- . و هذا عندي هو الوجه- و هو أصح مما ذكره الرضي رحمه الله تعالى- من قوله في تفسير قول أمير المؤمنين- و إن امرأ دل على قومه السيف- أنه أراد به حديثا كان للأشعث مع خالد بن الوليد- باليمامة غر فيه قومه و مكر بهم حتى قتلهم- فإنا لم نعرف في التواريخ- أن الأشعث جرى له باليمامة مع خالد هذا و لا شبهه- و أين كندة و اليمامة- كندة باليمن و اليمامة لبني حنيفة- و لا أعلم من أين نقل الرضي رحمه الله تعالى هذا- . فأما الكلام الذي كان أمير المؤمنين ع- قاله على منبر الكوفة فاعترضه فيه الأشعث- فإن عليا ع قام إليه و هو يخطب- و يذكر أمر الحكمين رجل من أصحابه- بعد أن انقضى أمر الخوارج- فقال له نهيتنا عن الحكومة ثم أمرتنا بها- فما ندري أي الأمرين أرشد- فصفق ع بإحدى يديه على الأخرى و قال- هذا جزاء من ترك العقدة- و كان مراده ع هذا جزاؤكم إذ تركتم الرأي و الحزم- و أصررتم على إجابة القوم إلى التحكيم- فظن الأشعث أنه أراد- هذا جزائي حيث تركت الرأي و الحزم و حكمت- لأن هذه اللفظة محتملة- أ لا ترى أن الرئيس‏ إذا شغب عليه جنده- و طلبوا منه اعتماد أمر ليس بصواب- فوافقهم تسكينا لشغبهم لا استصلاحا لرأيهم- ثم ندموا بعد ذلك قد يقول- هذا جزاء من ترك الرأي و خالف وجه الحزم- و يعني بذلك أصحابه و قد يقوله يعني به نفسه- حيث وافقهم أمير المؤمنين ع- إنما عنى ما ذكرناه دون ما خطر للأشعث- فلما قال له هذه عليك لا لك قال له- و ما يدريك ما علي مما لي- عليك لعنة الله و لعنة اللاعنين- . و كان الأشعث من المنافقين في خلافة علي ع- و هو في أصحاب أمير المؤمنين ع- كما كان عبد الله بن أبي بن سلول في أصحاب رسول الله ص- كل واحد منهما رأس النفاق في زمانه – . و أما قوله ع للأشعث حائك ابن حائك- فإن أهل اليمن يعيرون بالحياكة- و ليس هذا مما يخص الأشعث- . و من كلام خالد بن صفوان- ما أقول في قوم ليس فيهم إلا حائك برد- أو دابغ جلد أو سائس قرد- ملكتهم امرأة و أغرقتهم فأرة و دل عليهم هدهد

خطبه 18 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(ذم اختلاف العلماء في الفتيا)

18 و من كلام له ع في ذم اختلاف العلماء في الفتيا

 

 : تَرِدُ عَلَى أَحَدِهِمُ الْقَضِيَّةُ فِي حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ- فَيَحْكُمُ فِيهَا بِرَأْيِهِ- ثُمَّ تَرِدُ تِلْكَ الْقَضِيَّةُ بِعَيْنِهَا عَلَى غَيْرِهِ- فَيَحْكُمُ فِيهَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ- ثُمَّ يَجْتَمِعُ الْقُضَاةُ بِذَلِكَ عِنْدَ الْإِمَامِ الَّذِي اسْتَقْضَاهُمْ- فَيُصَوِّبُ آرَاءَهُمْ جَمِيعاً وَ إِلَهُهُمْ وَاحِدٌ- وَ نَبِيُّهُمْ وَاحِدٌ وَ كِتَابُهُمْ وَاحِدٌ- أَ فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالِاخْتِلَافِ فَأَطَاعُوهُ- أَمْ نَهَاهُمْ عَنْهُ فَعَصَوْهُ- أَمْ أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ دِيناً نَاقِصاً- فَاسْتَعَانَ بِهِمْ عَلَى إِتْمَامِهِ- أَمْ كَانُوا شُرَكَاءَ لَهُ فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا وَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْضَى- أَمْ أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ دِيناً تَامّاً- فَقَصَّرَ الرَّسُولُ ص عَنْ تَبْلِيغِهِ وَ أَدَائِهِ- وَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ‏ءٍ- وَ فِيهِ تِبْيَانُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ- وَ ذَكَرَ أَنَّ الْكِتَابَ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضاً- وَ أَنَّهُ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ- فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ- لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً- وَ إِنَّ الْقُرْآنَ ظَاهِرُهُ أَنِيقٌ وَ بَاطِنُهُ عَمِيقٌ- لَا تَفْنَى عَجَائِبُهُ وَ لَا تَنْقَضِي غَرَائِبُهُ- وَ لَا تُكْشَفُ الظُّلُمَاتُ إِلَّا بِهِ‏

الأنيق المعجب و آنقني الشي‏ء أي أعجبني- يقول لا ينبغي أن يحمل جميع ما في الكتاب العزيز- على ظاهره- فكم من ظاهر فيه غير مراد- بل المراد به أمر آخر باطن- و المراد الرد على أهل الاجتهاد في الأحكام الشرعية- و إفساد قول من قال كل مجتهد مصيب- و تلخيص الاحتجاج من خمسة أوجه-

الأول أنه لما كان الإله سبحانه واحدا- و الرسول ص واحدا و الكتاب واحدا- وجب أن يكون الحكم في الواقعة واحدا- كالملك الذي يرسل إلى رعيته رسولا بكتاب- يأمرهم فيه بأوامر يقتضيها ملكه و إمرته- فإنه لا يجوز أن تتناقض أوامره- و لو تناقضت لنسب إلى السفه و الجهل- .

الثاني لا يخلو الاختلاف الذي ذهب إليه المجتهدون- إما أن يكون مأمورا به أو منهيا عنه- و الأول باطل- لأنه ليس في الكتاب و السنة- ما يمكن الخصم أن يتعلق به في كون الاختلاف مأمورا به- و الثاني حق و يلزم منه تحريم الاختلاف- .

الثالث إما أن يكون دين الإسلام ناقصا أو تاما- فإن كان الأول كان الله سبحانه قد استعان بالمكلفين- على إتمام شريعة ناقصة أرسل بها رسوله- إما استعانة على سبيل النيابة عنه أو على سبيل المشاركة له- و كلاهما كفر- و إن كان الثاني- فإما أن يكون الله تعالى أنزل الشرع تاما- فقصر الرسول عن تبليغه- أو يكون الرسول قد أبلغه على تمامه و كماله- فإن كان الأول فهو كفر أيضا- و إن كان الثاني فقد بطل الاجتهاد- لأن الاجتهاد إنما يكون فيما لم يتبين- فأما ما قد بين فلا مجال للاجتهاد فيه- .

الرابع الاستدلال بقوله تعالى- ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ‏ءٍ- و قوله تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ- و قوله سبحانه وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ‏  مُبِينٍ- فهذه الآيات دالة على اشتمال الكتاب العزيز على جميع الأحكام- فكل ما ليس في الكتاب وجب ألا يكون في الشرع- .

الخامس قوله تعالى- وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً- فجعل الاختلاف دليلا على أنه ليس من عند الله- لكنه من عند الله سبحانه- بالأدلة القاطعة الدالة على صحة النبوة- فوجب ألا يكون فيه اختلاف- . و اعلم أن هذه الوجوه هي التي يتعلق بها الإمامية- و نفاه القياس و الاجتهاد في الشرعيات- و قد تكلم عليها أصحابنا في كتبهم- و قالوا إن أمير المؤمنين ع كان يجتهد و يقيس- و ادعوا إجماع الصحابة على صحة الاجتهاد و القياس- و دفعوا صحة هذا الكلام- المنسوب في هذا الكتاب إلى أمير المؤمنين ع- و قالوا إنه من رواية الإمامية- و هو معارض بما ترويه الزيدية عنه و عن أبنائه ع- في صحة القياس و الاجتهاد- و مخالطة الزيدية لأئمة أهل البيت ع- كمخالطة الإمامية لهم- و معرفتهم بأقوالهم و أحوالهم و مذاهبهم- كمعرفة الإمامية- لا فرق بين الفئتين في ذلك- و الزيدية قاطبة جاروديتها و صالحيتها- تقول بالقياس و الاجتهاد- و ينقلون في ذلك نصوصا عن أهل البيت ع- و إذا تعارضت الروايتان تساقطتا- و عدنا إلى الأدلة المذكورة في هذه المسألة- و قد تكلمت في اعتبار الذريعة للمرتضى- على احتجاجه في إبطال القياس و الاجتهاد- بما ليس هذا موضع ذكره

خطبه 17 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

17 و من كلام له ع في صفة من يتصدى للحكم بين الأمة- و ليس لذلك بأهل

 
إِنَّ أَبْغَضَ الْخَلَائِقِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى رَجُلَانِ- رَجُلٌ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ- فَهُوَ جَائِرٌ عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ- مَشْغُوفٌ بِكَلَامِ بِدْعَةٍ وَ دُعَاءِ ضَلَالَةٍ- فَهُوَ فِتْنَةٌ لِمَنِ افْتَتَنَ بِهِ ضَالٌّ عَنْ هُدَى مَنْ كَانَ قَبْلَهُ- مُضِلٌّ لِمَنِ اقْتَدَى بِهِ فِي حَيَاتِهِ وَ بَعْدَ وَفَاتِهِ- حَمَّالٌ خَطَايَا غَيْرِهِ رَهْنٌ بِخَطِيئَتِهِ- وَ رَجُلٌ قَمَشَ جَهْلًا مُوضِعٌ فِي جُهَّالِ الْأُمَّةِ- عَادٍ فِي أَغْبَاشِ الْفِتْنَةِ عَمٍ بِمَا فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ- قَدْ سَمَّاهُ أَشْبَاهُ النَّاسِ عَالِماً وَ لَيْسَ بِهِ- بَكَّرَ فَاسْتَكْثَرَ مِنْ جَمْعٍ مَا قَلَّ مِنْهُ خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ- حَتَّى إِذَا ارْتَوَى مِنْ آجِنٍ وَ اكْتَنَزَ مِنْ غَيْرِ طَائِلٍ- جَلَسَ بَيْنَ النَّاسِ قَاضِياً ضَامِناً لِتَخْلِيصِ مَا الْتَبَسَ عَلَى غَيْرِهِ- فَإِنْ نَزَلَتْ بِهِ إِحْدَى الْمُبْهَمَاتِ- هَيَّأَ لَهَا حَشْواً رَثًّا مِنْ رَأْيِهِ ثُمَّ قَطَعَ بِهِ- فَهُوَ مِنْ لَبْسِ الشُّبُهَاتِ فِي مِثْلِ نَسْجِ الْعَنْكَبُوتِ- لَا يَدْرِي أَصَابَ أَمْ أَخْطَأَ- فَإِنْ أَصَابَ خَافَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخْطَأَ- وَ إِنْ أَخْطَأَ رَجَا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَ- جَاهِلٌ خَبَّاطُ جَهَالَاتٍ عَاشٍ رَكَّابُ عَشَوَاتٍ- لَمْ يَعَضَّ عَلَى الْعِلْمِ بِضِرْسٍ قَاطِعٍ- يُذْرِي الرِّوَايَاتِ إِذْرَاءَ الرِّيحِ الْهَشِيمَ- لَا مَلِي‏ءٌ وَ اللَّهِ بِإِصْدَارِ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ- وَ لَا هُوَ أَهْلٌ لِمَا فُوِّضَ إِلَيْهِ- لَا يَحْسَبُ الْعِلْمَ فِي شَيْ‏ءٍ مِمَّا أَنْكَرَهُ- وَ لَا يَرَى أَنَّ مِنْ وَرَاءِ مَا بَلَغَ مَذْهَباً لِغَيْرِهِ- وَ إِنْ أَظْلَمَ عَلَيْهِ أَمْرٌ اكْتَتَمَ بِهِ- لِمَا يَعْلَمُ مِنْ جَهْلِ نَفْسِهِ- تَصْرُخُ مِنْ جَوْرِ قَضَائِهِ الدِّمَاءُ- وَ تَعَجُّ مِنْهُ‏ الْمَوَارِيثُ إِلَى اللَّهِ- مِنْ مَعْشَرٍ يَعِيشُونَ جُهَّالًا وَ يَمُوتُونَ ضُلَّالًا- لَيْسَ فِيهِمْ سِلْعَةٌ أَبْوَرُ مِنَ الْكِتَابِ إِذَا تُلِيَ حَقَّ تِلَاوَتِهِ- وَ لَا سِلْعَةٌ أَنْفَقُ بَيْعاً- وَ لَا أَغْلَى ثَمَناً مِنَ الْكِتَابِ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ- وَ لَا عِنْدَهُمْ أَنْكَرُ مِنَ الْمَعْرُوفِ وَ لَا أَعْرَفُ مِنَ الْمُنْكَرِ وكله إلى نفسه تركه و نفسه وكلته وكلا و وكولا- و الجائر الضال العادل عن الطريق- و قمش جهلا جمعه و موضع مسرع- أوضع البعير أسرع- و أوضعه راكبه فهو موضع به أي أسرع به- . و أغباش الفتنة ظلمها الواحدة غبش- و أغباش الليل بقايا ظلمته- و منه الحديث في صلاة الصبح و النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغبش – و الماء الآجن الفاسد- و أكثر كقولك استكثر- و يروى اكتنز أي اتخذ العلم كنزا- . و التخليص التبيين و هو و التلخيص متقاربان- و لعلهما شي‏ء واحد من المقلوب- . و المبهمات المشكلات- و إنما قيل لها مبهمة لأنها أبهمت عن البيان- كأنها أصمتت فلم يجعل عليها دليل و لا إليها سبيل- أو جعل عليها دليل و إليها سبيل إلا أنه متعسر مستصعب- و لهذا قيل لما لا ينطق من الحيوان بهيمة- و قيل للمصمت اللون الذي لا شية فيه بهيم- . و قوله حشوا رثا كلام مخرجه الذم- و الرث الخلق ضد الجديد- . و قوله حشوا يعني كثيرا لا فائدة فيه- و عاش خابط في ظلام- و قوله لم يعض يريد أنه لم يتقن و لم يحكم الأمور- فيكون بمنزلة من يعض بالناجذ و هو آخر الأضراس-

و إنمايطلع إذا استحكمت شبيبة الإنسان و اشتدت مرته- و لذلك يدعوه العوام ضرس الحلم- كأن الحلم يأتي مع طلوعه و يذهب نزق الصبا- و يقولون رجل منجذ أي مجرب محكم- كأنه قد عض على ناجذه و كمل عقله- . و قوله يذري الروايات هكذا أكثر النسخ- و أكثر الروايات يذري من أذرى رباعيا- و قد أوضحه قوله إذراء الريح- يقال طعنه فأذراه أي ألقاه- و أذريت الحب للزرع أي ألقيته- فكأنه يقول يلقي الروايات- كما يلقي الإنسان الشي‏ء على الأرض- و الأجود الأصح الرواية الأخرى- يذرو الروايات ذرو الريح الهشيم- و هكذا ذكر ابن قتيبة في غريب الحديث- لما ذكر هذه الخطبة عن أمير المؤمنين ع- قال تعالى فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ- و الهشيم ما يبس من النبت و تفتت- . قوله لا ملي‏ء أي لا قيم به- و فلان غني ملي‏ء أي ثقة بين الملأ و الملاء بالمد- و في كتاب ابن قتيبة تتمة هذا الكلام- و لا أهل لما قرظ به- قال أي ليس بمستحق للمدح الذي مدح به- و الذي رواه ابن قتيبة من تمام كلام أمير المؤمنين ع- هو الصحيح الجيد- لأنه يستقبح في العربية أن تقول لا زيد قائم- حتى تقول و لا عمرو أو تقول و لا قاعد- فقوله ع لا ملي‏ء أي لا هو ملي‏ء- و هذا يستدعي لا ثانية و لا يحسن الاقتصار على الأولى- .

و قوله ع اكتتم به أي كتمه و ستره- و قوله تصرخ منه و تعج العج رفع الصوت- و هذا من باب الاستعارة- . و في كثير من النسخ إلى الله أشكو- فمن روى ذلك وقف على المواريث- و من روى الرواية الأولى وقف على قوله إلى الله- و يكون قوله من معشر من تمام صفات ذلك الحاكم- أي هو من معشر صفتهم كذا- . و أبور أفعل من البور الفاسد- بار الشي‏ء أي فسد و بارت السلعة أي كسدت و لم تنفق- و هو المراد هاهنا و أصله الفساد أيضا- . إن قيل بينوا الفرق بين الرجلين- اللذين أحدهما وكله الله إلى نفسه و الآخر رجل قمش جهلا- فإنهما في الظاهر واحد- . قيل أما الرجل الأول فهو الضال في أصول العقائد- كالمشبه و المجبر و نحوهما- أ لا تراه كيف قال مشغوف بكلام بدعة و دعاء ضلالة- و هذا يشعر بما قلناه- من أن مراده به المتكلم في أصول الدين- و هو ضال عن الحق- و لهذا قال إنه فتنة لمن افتتن به ضال عن هدى من قبله- مضل لمن يجي‏ء بعده- و أما الرجل الثاني فهو المتفقه في فروع الشرعيات- و ليس بأهل لذلك كفقهاء السوء- أ لا تراه كيف يقول جلس بين الناس قاضيا- .

و قال أيضا تصرخ من جور قضائه الدماء- و تعج منه المواريث- فإن قيل ما معنى قوله في الرجل الأول رهن بخطيئته- قيل لأنه إن كان ضالا في دعوته مضلا لمن اتبعه- فقد حمل خطاياه و خطايا غيره- فهو رهن بالخطيئتين معا- و هذا مثل قوله تعالى- وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَ أَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ- . إن قيل ما معنى قوله عم بما في عقد الهدنة- قيل الهدنة أصلها في اللغة السكون- يقال هدن إذا سكن- و معنى الكلام أنه لا يعرف ما في الفتنة من الشر- و لا ما في السكون و المصالحة من الخير- .

 

و يروى بما في غيب الهدنة أي في طيها و في ضمنها- و يروى غار في أغباش الفتنة أي غافل ذو غرة- . و روي من جمع بالتنوين- فتكون ما على هذا اسما موصولا- و هي و صلتها في موضع جر لأنها صفة جمع- و من لم يرو التنوين في جمع حذف الموصوف- تقديره من جمع شي‏ء ما قل منه خير مما كثر- فتكون ما مصدرية- و تقدير الكلام قلته خير من كثرته- و يكون موضع ذلك جرا أيضا بالصفة

خطبه 16 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

16 و من خطبة له ع لما بويع بالمدينة

 

 
: ذِمَّتِي بِمَا أَقُولُ رَهِينَةٌ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ- إِنَّ مَنْ صَرَّحَتْ لَهُ الْعِبَرُ عَمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْمَثُلَاتِ- حَجَزَتْهُ التَّقْوَى عَنْ تَقَحُّمِ الشُّبُهَاتِ- أَلَا وَ إِنَّ بَلِيَّتَكُمْ قَدْ عَادَتْ كَهَيْئَتِهَا يَوْمَ بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ- وَ الَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَةً- وَ لَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً وَ لَتُسَاطُنَّ سَوْطَ الْقِدْرِ- حَتَّى يَعُودَ أَسْفَلُكُمْ أَعْلَاكُمْ وَ أَعْلَاكُمْ أَسْفَلَكُمْ- وَ لَيَسْبِقَنَّ سَابِقُونَ كَانُوا قَصَّرُوا- وَ لَيُقَصِّرَنَّ سَبَّاقُونَ كَانُوا سَبَقُوا- وَ اللَّهِ مَا كَتَمْتُ وَشْمَةً وَ لَا كَذَبْتُ كِذْبَةً- وَ لَقَدْ نُبِّئْتُ بِهَذَا الْمَقَامِ وَ هَذَا الْيَوْمِ- أَلَا وَ إِنَّ الْخَطَايَا خَيْلٌ شُمُسٌ حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا- وَ خُلِعَتْ لُجُمُهَا فَتَقَحَّمَتْ بِهِمْ فِي النَّارِ- أَلَا وَ إِنَّ التَّقْوَى مَطَايَا ذُلُلٌ حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا- وَ أُعْطُوا أَزِمَّتَهَا فَأَوْرَدَتْهُمُ الْجَنَّةَ- حَقٌّ وَ بَاطِلٌ وَ لِكُلٍّ أَهْلٌ- فَلَئِنْ أَمِرَ الْبَاطِلُ لَقَدِيماً فَعَلَ- وَ لَئِنْ قَلَّ الْحَقُّ لَرُبَّمَا وَ لَعَلَّ وَ لَقَلَّمَا أَدْبَرَ شَيْ‏ءٌ فَأَقْبَلَ- قال الرضي و أقول- إن في هذا الكلام الأدنى من مواقع‏ الإحسان- ما لا تبلغه مواقع الاستحسان- و إن حظ العجب منه أكثر من حظ العجب به- و فيه مع الحال التي وصفنا زوائد من الفصاحة- لا يقوم بها لسان و لا يطلع فجها إنسان- و لا يعرف ما أقول إلا من ضرب في هذه الصناعة بحق- و جرى فيها على عرق- وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ- و من هذه الخطبة شُغِلَ مَنِ الْجَنَّةُ وَ النَّارُ أَمَامَهُ- سَاعٍ سَرِيعٌ نَجَا وَ طَالِبٌ بَطِي‏ءٌ رَجَا- وَ مُقَصِّرٌ فِي النَّارِ هَوَى- الْيَمِينُ وَ الشِّمَالُ مَضَلَّةٌ وَ الطَّرِيقُ الْوُسْطَى هِيَ الْجَادَّةُ- عَلَيْهَا بَاقِي الْكِتَابِ وَ آثَارُ النُّبُوَّةِ- وَ مِنْهَا مَنْفَذُ السُّنَّةِ وَ إِلَيْهَا مَصِيرُ الْعَاقِبَةِ- هَلَكَ مَنِ ادَّعَى وَ خَابَ مَنِ افْتَرَى- مَنْ أَبْدَى صَفْحَتَهُ لِلْحَقِّ هَلَكَ عِنْدَ جَهَلَةِ النَّاسِ- وَ كَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلًا أَلَّا يَعْرِفَ قَدْرَهُ- لَا يَهْلِكُ عَلَى التَّقْوَى سِنْخُ أَصْلٍ- وَ لَا يَظْمَأُ عَلَيْهَا زَرْعُ قَوْمٍ- فَاسْتَتِرُوا فِي بُيُوتِكُمْ وَ أَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ- وَ التَّوْبَةُ مِنْ وَرَائِكُمْ- وَ لَا يَحْمَدْ حَامِدٌ إِلَّا رَبَّهُ وَ لَا يَلُمْ لَائِمٌ إِلَّا نَفْسَهُ‏ الذمة العقد و العهد-

يقول هذا الدين في ذمتي كقولك في عنقي- و هما كناية عن الالتزام و الضمان و التقلد- و الزعيم الكفيل- و مخرج الكلام لهم مخرج الترغيب في سماع ما يقوله- كما يقول المهتم بإيضاح أمر لقوم لهم- أنا المدرك المتقلد بصدق ما أقوله لكم- و صرحت كشفت و العبر جمع عبرة و هي الموعظة- و المثلات العقوبات و حجزه منعه- . و قوله لتبلبلن أي لتخلطن تبلبلت الألسن أي اختلطت- و لتغربلن- يجوز أن يكون من الغربال الذي يغربل به الدقيق- و يجوز أن يكون من غربلت اللحم أي قطعته- فإن كان الأول كان له معنيان- أحدهما الاختلاط كالتبلبل- لأن غربلة الدقيق تخلط بعضه ببعض- و الثاني أن يريد بذلك أنه يستخلص الصالح منكم من الفاسد- و يتميز كما يتميز الدقيق عند الغربلة من نخالته- . و تقول ما عصيت فلانا وشمة أي كلمة- و حصان شموس يمنع ظهره- شمس الفرس بالفتح و به شماس و أمر الباطل كثر- . و قوله لقديما فعل أي لقديما فعل الباطل ذلك- و نسب الفعل إلى الباطل مجازا- و يجوز أن يكون فعل بمعنى انفعل- كقوله

قد جبر الدين الإله فجبر

أي فانجبر- و السنخ الأصل و قوله سنخ أصل كقوله-

إذا حاص عينيه كرى النوم‏

 

 و في بعض الروايات من أبدى صفحته للحق هلك عند جهلة الناس و التأويل مختلف- فمراده على الرواية الأولى و هي الصحيحة- من كاشف الحق مخاصما له هلك- و هي كلمة جارية مجرى المثل- و مراده على الرواية الثانية- من أبدى صفحته لنصرة الحق غلبه أهل الجهل- لأنهم العامة و فيهم الكثرة فهلك- . و هذه الخطبة من جلائل خطبه ع و من مشهوراتها- قد رواها الناس كلهم و فيها زيادات حذفها الرضي- إما اختصارا أو خوفا من إيحاش السامعين- و قد ذكرها شيخنا أبو عثمان الجاحظ- في كتاب البيان و التبيين على وجهها- و رواها عن أبي عبيدة معمر بن المثنى- .

 

قال أول خطبة خطبها أمير المؤمنين علي ع بالمدينة- في خلافته- حمد الله و أثنى عليه و صلى على النبي ص ثم قال- ألا لا يرعين مرع إلا على نفسه- شغل من الجنة و النار أمامه- ساع مجتهد ينجو و طالب يرجو و مقصر في النار ثلاثة- و اثنان ملك طار بجناحيه و نبي أخذ الله بيده لا سادس- هلك من ادعى و ردي من اقتحم- اليمين و الشمال مضلة و الوسطى الجادة- منهج عليه باقي الكتاب و السنة و آثار النبوة- إن الله داوى هذه الأمة بدواءين السوط و السيف- لا هوادة عند الإمام فيهما- استتروا في بيوتكم و أصلحوا ذات بينكم- و التوبة من ورائكم- من أبدى صفحته‏ للحق هلك- قد كانت لكم أمور ملتم فيها على ميلة- لم تكونوا عندي فيها محمودين و لا مصيبين- أما إني لو أشاء لقلت عفا الله عما سلف- سبق الرجلان و قام الثالث كالغراب همته بطنه- ويحه لو قص جناحاه و قطع رأسه لكان خيرا له- انظروا فإن أنكرتم فأنكروا و إن عرفتم فآزروا- حق و باطل و لكل أهل- و لئن أمر الباطل لقديما فعل- و لئن قل الحق لربما و لعل- و قلما أدبر شي‏ء فأقبل- و لئن رجعت إليكم أموركم إنكم لسعداء- و إني لأخشى أن تكونوا في فترة و ما علينا إلا الاجتهاد

قال شيخنا أبو عثمان رحمه الله تعالى و قال أبو عبيدة و زاد فيها في رواية جعفر بن محمد ع عن آبائه ع ألا إن أبرار عترتي و أطايب أرومتي- أحلم الناس صغارا و أعلم الناس كبارا- ألا و إنا أهل بيت من علم الله علمنا و بحكم الله حكمنا- و من قول صادق سمعنا- فإن تتبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا- و إن لم تفعلوا يهلككم الله بأيدينا- و معنا راية الحق من تبعها لحق و من تأخر عنها غرق- ألا و بنا يدرك ترة كل مؤمن- و بنا تخلع ربقة الذل عن أعناقكم- و بنا فتح لا بكم و منا يختم لا بكم- .

 

قوله لا يرعين أي لا يبقين- أرعيت عليه أي أبقيت- يقول من أبقى على الناس فإنما أبقى على نفسه- و الهوادة الرفق و الصلح و أصله اللين- و التهويد المشي‏ رويدا-و في الحديث أسرعوا المشي في الجنازة- و لا تهودوا كما تهود أهل الكتاب – و آزرت زيدا أعنته الترة و الوتر- و الربقة الحبل يجعل في عنق الشاة- و ردي هلك من الردى- كقولك عمي من العمى و شجي من الشجا- . و قوله شغل من الجنة و النار أمامه- يريد به أن من كانت هاتان الداران أمامه- لفي شغل عن أمور الدنيا إن كان رشيدا- . و قوله ساع مجتهد إلى قوله لا سادس كلام- تقديره المكلفون على خمسة أقسام- ساع مجتهد و طالب راج و مقصر هالك- ثم قال ثلاثة أي فهؤلاء ثلاثة أقسام- و هذا ينظر إلى قوله سبحانه- ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا- فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ- وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ- ثم ذكر القسمين الرابع و الخامس- فقال هما ملك طار بجناحيه و نبي أخذ الله بيده- يريد عصمة هذين النوعين من القبيح-

 

ثم قال لا سادس أي لم يبق في المكلفين قسم سادس- و هذا يقتضي أن العصمة ليست إلا للأنبياء و الملائكة- و لو كان الإمام يجب أن يكون معصوما لكان قسما سادسا- فإذن قد شهد هذا الكلام بصحة ما تقوله المعتزلة- في نفي اشتراط العصمة في الإمامة- اللهم إلا أن يجعل الإمام المعصوم داخلا في القسم الأول- و هو الساعي المجتهد- و فيه بعد و ضعف- . و قوله هلك من ادعى و ردي من اقتحم- يريد هلك من ادعى و كذب- لا بد من تقدير ذلك لأن الدعوى تعم الصدق و الكذب- و كأنه يقول هلك من ادعى الإمامة- و ردي من اقتحمها و ولجها عن غير استحقاق- لأن كلامه ع في هذه الخطبة- كله كنايات عن الإمامة لا عن غيرها- .

 

و قوله اليمين و الشمال مثال- لأن السالك الطريق المنهج اللاحب ناج- و العادل عنها يمينا و شمالا معرض للخطر- . و نحو هذا الكلام ما روي عن عمر- أنه لما صدر عن منى في السنة التي قتل فيها- كوم كومة من البطحاء فقام عليها فخطب الناس- فقال أيها الناس قد سنت لكم السنن- و فرضت لكم الفرائض و تركتم على الواضحة- إلا أن تميلوا بالناس يمينا و شمالا- ثم قرأ أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَ لِساناً وَ شَفَتَيْنِ- وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ- ثم قال إلا إنهما نجدا الخير و الشر- فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير

 

من كلام للحجاج و زياد نسجا فيه على منوال كلام علي

 

و قوله إن الله داوى هذه الأمة بدواءين كلام شريف- و على منواله نسج الحجاج و زياد- كلامهما المذكور فيه السوط و السيف- فمن ذلك قول الحجاج من أعياه داؤه فعلي دواؤه- و من استبطأ أجله فعلي أن أعجله- و من استثقل رأسه وضعت عنه ثقله- و من استطال ماضي عمره قصرت عليه باقيه- إن للشيطان طيفا و إن للسلطان سيفا- فمن سقمت سريرته صحت عقوبته- و من وضعه ذنبه رفعه صلبه- و من لم تسعه العافية لم تضق عنه الهلكة- و من سبقته بادرة فمه سبق بدنه سفك دمه- إني لأنذر ثم لا أنظر و أحذر ثم لا أعذر- و أتوعد ثم لا أغفر إنما أفسدكم ترقيق ولاتكم- و من استرخى لببه ساء أدبه- إن الحزم و العزم سلباني‏ سوطي- و جعلا سوطي سيفي فقائمه في يدي- و نجاده في عنقي و ذبابه قلادة لمن عصاني- و الله لا آمر أحدا أن يخرج من باب من أبواب المسجد- فيخرج من الباب الذي يليه إلا ضربت عنقه- . و من ذلك قول زياد- إنما هو زجر بالقول ثم ضرب بالسوط- ثم الثالثة التي لا شوى لها- فلا يكونن لسان أحدكم شفرة- تجري على أوداجه- و ليعلم إذا خلا بنفسه أني قد حملت سيفي بيده- فإن شهره لم أغمده و إن أغمده لم أشهره-

و قوله ع كالغراب يعني الحرص و الجشع- و الغراب يقع على الجيفة و يقع على التمرة- و يقع على الحبة- و في الأمثال أجشع من غراب و أحرص من غراب- . و قوله ويحه لو قص- يريد لو كان قتل أو مات قبل أن يتلبس بالخلافة- لكان خيرا له من أن يعيش و يدخل فيها- ثم قال لهم أفكروا فيما قد قلت- فإن كان منكرا فأنكروه و إن كان حقا فأعينوا عليه- . و قوله استتروا في بيوتكم نهي لهم عن العصبية- و الاجتماع و التحزب- فقد كان قوم بعد قتل عثمان تكلموا في قتله- من شيعة بني أمية بالمدينة- .

 
و أما قوله قد كانت أمور لم تكونوا عندي فيها محمودين- فمراده أمر عثمان و تقديمه في الخلافة عليه- و من الناس من يحمل ذلك على خلافة الشيخين أيضا- و يبعد عندي أن يكون أراده- لأن المدة قد كانت طالت- و لم يبق من يعاتبه ليقول- قد كانت أمور لم تكونوا عندي فيها محمودين- فإن هذا الكلام يشعر بمعاتبة قوم على أمر- كان أنكره منهم- و أما بيعة عثمان- ثم ما جرى بينه و بين عثمان من منازعات طويلة- و غضب تارة و صلح أخرى- و مراسلات خشنة و لطيفة- و كون الناس بالمدينة كانوا حزبين و فئتين- إحداهما معه ع و الأخرى مع عثمان- فإن صرف الكلام إلى ما قلناه بهذا الاعتبار أليق- . و لسنا نمنع من أن يكون في كلامه ع الكثير- من التوجد و التألم- لصرف الخلافة بعد وفاة الرسول ص عنه- و إنما كلامنا الآن في هذه اللفظات التي في هذه الخطبة- على أن قوله ع سبق الرجلان- و الاقتصار على ذلك فيه كفاية في انحرافه عنهما- . و أما قوله حق و باطل إلى آخر الفصل- فمعناه كل أمر فهو إما حق و إما باطل- و لكل واحد من هذين أهل- و ما زال أهل الباطل أكثر من أهل الحق- و لئن كان الحق قليلا لربما كثر و لعله ينتصر أهله- . ثم قال على سبيل التضجر بنفسه و قلما أدبر شي‏ء فأقبل- استبعد ع أن تعود دولة قوم بعد زوالها عنهم- و إلى هذا المعنى ذهب الشاعر في قوله-

 

و قالوا يعود الماء في النهر بعد ما
ذوي نبت جنبيه و جف المشارع‏

 

فقلت إلى أن يرجع النهر جاريا
و يعشب جنباه تموت الضفادع‏

 

ثم قال و لئن رجعت عليكم أموركم- أي إن ساعدني الوقت- و تمكنت من أن أحكم فيكم بحكم الله تعالى و رسوله- و عادت إليكم أيام شبيهة بأيام رسول الله ص- و سيرة مماثلة لسيرته في أصحابه إنكم لسعداء- . ثم قال و إني لأخشى أن تكونوا في فترة- الفترة هي الأزمنة التي بين الأنبياء- إذا انقطعت الرسل فيها- كالفترة التي بين عيسى ع و محمد ص- لأنه لم يكن بينهما نبي- بخلاف المدة التي كانت بين موسى و عيسى ع- لأنه بعث فيها أنبياء كثيرون- فيقول ع- إني لأخشى ألا أتمكن من الحكم بكتاب الله تعالى فيكم- فتكونوا كالأمم الذين في أزمنة الفترة- لا يرجعون إلى نبي يشافههم بالشرائع و الأحكام- و كأنه ع قد كان يعلم أن الأمر سيضطرب عليه- . ثم قال و ما علينا إلا الاجتهاد- يقول أنا أعمل ما يجب علي من الاجتهاد- في القيام بالشريعة و عزل ولاة السوء- و أمراء الفساد عن المسلمين- فإن تم ما أريده فذاك- و إلا كنت قد أعذرت- . و أما التتمة المروية عن جعفر بن محمد ع فواضحة الألفاظ- و قوله في آخرها و بنا تختم لا بكم- إشارة إلى المهدي الذي يظهر في آخر الزمان- و أكثر المحدثين على أنه من ولد فاطمة ع- و أصحابنا المعتزلة لا ينكرونه- و قد صرحوا بذكره في كتبهم- و اعترف به شيوخهم إلا أنه عندنا لم يخلق بعد و سيخلق- . و إلى هذا المذهب يذهب أصحاب الحديث أيضا- .

 

و روى قاضي القضاة

 
رحمه الله تعالى عن كافي الكفاة أبي القاسم إسماعيل بن عباد رحمه الله بإسناد متصل بعلي ع أنه ذكر المهدي و قال- إنه من ولد الحسين ع و ذكر حليته- فقال رجل أجلى الجبين أقنى الأنف- ضخم البطن أزيل الفخذين أبلج الثنايا- بفخذه اليمنى شامة و ذكر هذا الحديث بعينه عبد الله بن قتيبة في كتاب غريب الحديث

خطبه 15 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

15 و من كلام له ع فيما رده على المسلمين من قطائع عثمان- رضي الله عنه

 

وَ اللَّهِ لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ النِّسَاءُ وَ مُلِكَ بِهِ الْإِمَاءُ- لَرَدَدْتُهُ- فَإِنَّ فِي الْعَدْلِ سَعَةً- وَ مَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ الْعَدْلُ فَالْجَوْرُ عَلَيْهِ أَضْيَقُ القطائع ما يقطعه الإمام بعض الرعية- من أرض بيت المال ذات الخراج- و يسقط عنه خراجه- و يجعل عليه ضريبة يسيرة عوضا عن الخراج- و قد كان عثمان أقطع كثيرا من بني أمية- و غيرهم من أوليائه و أصحابه- قطائع من أرض الخراج على هذه الصورة- و قد كان عمر أقطع قطائع- و لكن لأرباب الغناء في الحرب- و الآثار المشهورة في الجهاد- فعل ذلك ثمنا عما بذلوه من مهجهم في طاعة الله سبحانه- و عثمان أقطع القطائع صلة لرحمه و ميلا إلى أصحابه- عن غير عناء في الحرب و لا أثر- .

 
و هذه الخطبة ذكرها الكلبي مروية مرفوعة إلى أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عليا ع خطب في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة- فقال ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان- و كل مال أعطاه من مال الله- فهو مردود في بيت المال- فإن الحق القديم لا يبطله شي‏ء- و لو وجدته و قد تزوج به النساء و فرق في البلدان- لرددته إلى حاله- فإن في العدل سعة- و من ضاق عنه الحق فالجور عليه أضيق
و تفسير هذا الكلام- أن الوالي إذا ضاقت عليه تدبيرات أموره في العدل- فهي في الجور أضيق عليه- لأن الجائر في مظنة أن يمنع و يصد عن جوره- . قال الكلبي- ثم أمر ع بكل سلاح وجد لعثمان في داره- مما تقوى به على المسلمين- فقبض- و أمر بقبض نجائب كانت في داره من إبل الصدقة- فقبضت- و أمر بقبض سيفه و درعه- و أمر ألا يعرض لسلاح وجد له لم يقاتل به المسلمون- و بالكف عن جميع أمواله التي وجدت في داره- و في غير داره- و أمر أن ترتجع الأموال التي أجاز بها عثمان- حيث أصيبت أو أصيب أصحابها- . فبلغ ذلك عمرو بن العاص و كان بأيلة من أرض الشام- أتاها حيث وثب الناس على عثمان- فنزلها فكتب إلى معاوية ما كنت صانعا فاصنع- إذ قشرك ابن أبي طالب من كل مال- تملكه كما تقشر عن العصا لحاها- . و قال الوليد بن عقبة و هو أخو عثمان من أمه- يذكر قبض علي ع نجائب عثمان و سيفه و سلاحه-

 

بني هاشم ردوا سلاح ابن أختكم
و لا تنهبوه لا تحل مناهبه‏

 

بني هاشم كيف الهوادة بيننا
و عند علي درعه و نجائبه‏

 

بني هاشم كيف التودد منكم
و بز ابن أروى فيكم و حرائبه‏

 

بني هاشم إلا تردوا فإننا
سواء علينا قاتلاه و سالبه‏

 

بني هاشم إنا و ما كان منكم
كصدع الصفا لا يشعب الصدع شاعبه‏

 

قتلتم أخي كيما تكونوا مكانه‏
كما غدرت يوما بكسرى مرازبه‏

 

فأجابه عبد الله بن أبي سفيان- بن الحارث بن عبد المطلب- بأبيات طويلة من جملتها-

 

فلا تسألونا سيفكم إن سيفكم
أضيع و ألقاه لدى الروع صاحبه‏

 

و شبهته كسرى و قد كان مثله‏
شبيها بكسرى هدبه و ضرائبه‏

 

 أي كان كافرا كما كان كسرى كافرا- . و كان المنصور رحمه الله تعالى إذا أنشد هذا الشعر- يقول لعن الله الوليد- هو الذي فرق بين بني عبد مناف بهذا الشعر

خطبه 14 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

14 و من كلام له ع في مثل ذلك

 
 : أَرْضُكُمْ قَرِيبَةٌ مِنَ الْمَاءِ بَعِيدَةٌ مِنَ السَّمَاءِ- خَفَّتْ عُقُولُكُمْ وَ سَفِهَتْ حُلُومُكُمْ- فَأَنْتُمْ غَرَضٌ لِنَابِلٍ وَ أُكْلَةٌ لآِكِلٍ وَ فَرِيسَةٌ لِصَائِلٍ الغرض ما ينصب اليرمى بالسهام- و النابل ذو النبل و الأكلة بضم الهمزة المأكول- و فريسة الأسد ما يفترسه- . و سفه فلان بالكسر أي صار سفيها و سفه بالضم أيضا- فإذا قلت سفه فلان رأيه أو حلمه أو نفسه- لم تقل إلا بالكسر لأن فعل بالضم لا يتعدى- و قولهم سفه فلان نفسه و غبن رأيه و بطر عيشه- و ألم بطنه و رفق حاله و رشد أمره- كان الأصل فيه كله سفهت نفس زيد- فلما حول الفعل إلى الرجل انتصب ما بعده بالمفعولية- هذا مذهب البصريين و الكسائي من الكوفيين- . و قال الفراء لما حول الفعل إلى الرجل- خرج ما بعده مفسرا ليدل على أن السفاهة فيه- و كان حكمه أن يكون سفه زيد نفسا- لأن المفسر لا يكون إلا نكرة- و لكنه ترك على إضافته- و نصب كنصب النكرة تشبيها بها- . و يجوز عند البصريين و الكسائي تقديم المنصوب- كما يجوز ضرب غلامه زيد- و عند الفراء لا يجوز تقديمه لأن المفسر لا يتقدم- .

 

فأما قوله أرضكم قريبة من الماء بعيدة من السماء- فقد قدمنا معنى قوله قريبة من الماء- و ذكرنا غرقها من بحر فارس دفعتين- و مراده ع بقوله قريبة من الماء- أي قريبة من الغرق بالماء- و أما بعيدة من السماء- فإن أرباب علم الهيئة و صناعة التنجيم يذكرون- أن أبعد موضع في الأرض عن السماء الأبلة- و ذلك موافق لقوله ع- . و معنى البعد عن السماء هاهنا- هو بعد تلك الأرض المخصوصة- عن دائرة معدل النهار و البقاع- و البلاد تختلف في ذلك- و قد دلت الأرصاد و الآلات النجومية- على أن أبعد موضع في المعمورة عن دائرة معدل النهار- هو الأبلة و الأبلة هي قصبة البصرة- . و هذا الموضع من خصائص أمير المؤمنين ع- لأنه أخبر عن أمر لا تعرفه العرب و لا تهتدى إليه- و هو مخصوص بالمدققين من الحكماء- و هذا من أسراره و غرائبه البديعة

خطبه 13 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(ذم أهل البصرة)

13 و من كلام له ع في ذم أهل البصرة

 
– كُنْتُمْ جُنْدَ الْمَرْأَةِ وَ أَتْبَاعَ الْبَهِيمَةِ- رَغَا فَأَجَبْتُمْ وَ عُقِرَ فَهَرَبْتُمْ- أَخْلَاقُكُمْ دِقَاقٌ وَ عَهْدُكُمْ شِقَاقٌ- وَ دِينُكُمْ نِفَاقٌ وَ مَاؤُكُمْ زُعَاقٌ- وَ الْمُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مُرْتَهَنٌ بِذَنْبِهِ- وَ الشَّاخِصُ عَنْكُمْ مُتَدَارَكٌ بِرَحْمَةٍ مِنْ رَبِّهِ- كَأَنِّي بِمَسْجِدِكُمْ كَجُؤْجُؤِ سَفِينَةٍ- قَدْ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهَا الْعَذَابَ مِنْ فَوْقِهَا وَ مِنْ تَحْتِهَا- وَ غَرَّقَ مَنْ فِي ضِمْنِهَا- وَ فِي رِوَايَةٍ وَ ايْمُ اللَّهِ لَتُغْرَقَنَّ بَلْدَتُكُمْ- حَتَّى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَسْجِدِهَا كَجُؤْجُؤِ سَفِينَةٍ- أَوْ نَعَامَةٍ جَاثِمَةٍ- وَ فِي رِوَايَةٍ كَجُؤْجُؤِ طَيْرٍ فِي لُجَّةِ بَحْرٍ- وَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى بِلَادُكُمْ أَنْتَنُ بِلَادِ اللَّهِ تُرْبَةً- أَقْرَبُهَا مِنَ الْمَاءِ وَ أَبْعَدُهَا مِنَ السَّمَاءِ- وَ بِهَا تِسْعَةُ أَعْشَارِ الشَّرِّ- الْمُحْتَبَسُ فِيهَا بِذَنْبِهِ وَ الْخَارِجُ بِعَفْوِ اللَّهِ- كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى قَرْيَتِكُمْ هَذِهِ قَدْ طَبَّقَهَا الْمَاءُ- حَتَّى مَا يُرَى مِنْهَا إِلَّا شُرَفُ الْمَسْجِدِ- كَأَنَّهُ جُؤْجُؤُ طَيْرٍ فِي لُجَّةِ بَحْرٍ

قوله و أتباع البهيمة يعني الجمل- و كان جمل عائشة راية عسكر البصرة- قتلوا دونه كما تقتل الرجال تحت راياتها- . و قوله أخلاقكم دقاق يصفهم باللؤم- و في الحديث أن رجلا قال له يا رسول الله- إني أحب أن أنكح فلانة إلا أن في أخلاق أهلها دقه- فقال له إياك و خضراء الدمن- إياك و المرأة الحسناء في منبت السوء – . قوله و عهدكم شقاق يصفهم بالغدر- يقول عهدكم و ذمتكم لا يوثق بها- بل هي و إن كانت في الصورة عهدا أو ذمة- فإنها في المعنى خلاف و عداوة- . قوله و ماؤكم زعاق أي ملح- و هذا و إن لم يكن من أفعالهم إلا أنه مما تذم به المدينة- كما قال

 

بلاد بها الحمى و أسد عرينة
و فيها المعلى يعتدي و يجور

 

فإني لمن قد حل فيها لراحم‏
و إني من لم يأتها لنذير

 

– و لا ذنب لأهلها في أنها بلاد الحمى و السباع- . ثم وصف المقيم بين أظهرهم بأنه مرتهن بذنبه- لأنه إما أن يشاركهم في الذنوب أو يراها فلا ينكرها- و مذهب أصحابنا أنه لا تجوز الإقامة في دار الفسق- كما لا تجوز الإقامة في دار الكفر- . و جؤجؤ عظم الصدر و جؤجؤ السفينة صدرها- .

فأما إخباره ع أن البصرة تغرق عدا المسجد الجامع بها- فقد رأيت من يذكر أن كتب الملاحم- تدل على أن البصرة تهلك بالماء الأسود- ينفجر من أرضها فتغرق و يبقى مسجدها- . و الصحيح أن المخبر به قد وقع فإن البصرة غرقت مرتين- مرة في أيام القادر بالله و مرة في أيام القائم بأمر الله- غرقت بأجمعها و لم يبق منها إلا مسجدها الجامع- بارزا بعضه كجؤجؤ الطائر- حسب ما أخبر به أمير المؤمنين ع- جاءها الماء من بحر فارس- من جهة الموضع المعروف الآن بجزيرة الفرس- و من جهة الجبل المعروف بجبل السنام- و خربت دورها و غرق كل ما في ضمنها- و هلك كثير من أهلها- . و أخبار هذين الغرقين معروفة عند أهل البصرة- يتناقلها خلفهم عن سلفهم
من أخبار يوم الجمل أيضا

قال أبو الحسن علي بن محمد بن سيف المدائني- و محمد بن عمر الواقدي- ما حفظ رجز قط أكثر من رجز قيل يوم الجمل- و أكثره لبني ضبة و الأزد- الذين كانوا حول الجمل يحامون عنه- و لقد كانت الرءوس تندر عن الكواهل- و الأيدي تطيح من المعاصم و أقتاب البطن- تندلق من الأجواف- و هم حول الجمل كالجراد الثابتة لا تتحلحل و لا تتزلزل- حتى لقد صرخ ع بأعلى صوته- ويلكم اعقروا الجمل فإنه شيطان- ثم قال اعقروه و إلا فنيت العرب- لا يزال السيف قائما و راكعا- حتى يهوي هذا البعيرإلى الأرض- فصمدوا له حتى عقروه فسقط و له رغاء شديد- فلما برك كانت الهزيمة- . و من الأراجيز المحفوظة يوم الجمل لعسكر البصرة- قول بعضهم-

 

نحن بني ضبة أصحاب الجمل
ننازل الموت إذا الموت نزل‏

 

ننعى ابن عفان بأطراف الأسل‏
ردوا علينا شيخنا ثم بجل‏

 

الموت أحلى عندنا من العسل
لا عار في الموت إذا حان الأجل‏

 

إن عليا هو من شر البدل‏
إن تعدلوا بشيخنا لا يعتدل‏

أين الوهاد و شماريخ القلل‏

 

 

 فأجابه رجل من عسكر الكوفة- من أصحاب أمير المؤمنين ع-

 

نحن قتلنا نعثلا فيمن قتل
أكثر من أكثر فيه أو أقل‏

 

أنى يرد نعثل و قد قحل‏
نحن ضربنا وسطه حتى انجدل‏

 

لحكمه حكم الطواغيت الأول
آثر بالفي‏ء و جافى في العمل‏

 

فأبدل الله به خير بدل‏
إني امرؤ مستقدم غير وكل‏

مشمر للحرب معروف بطل‏

 

 

و من أراجيز أهل البصرة-

 

 

يا أيها الجند الصليب الإيمان
قوموا قياما و استغيثوا الرحمن‏
إني أتاني خبر ذو ألوان
إن عليا قتل ابن عفان‏

 

ردوا إلينا شيخنا كما كان‏
يا رب و ابعث ناصرا لعثمان‏

 

يقتلهم بقوة و سلطان‏

فأجابه رجل من عسكر الكوفة-

 

أبت سيوف مذحج و همدان
بأن ترد نعثلا كما كان‏

 

خلقا سويا بعد خلق الرحمن‏
و قد قضى بالحكم حكم الشيطان‏

 

و فارق الحق و نور الفرقان
فذاق كأس الموت شرب الظمآن‏

 

 و من الرجز المشهور المقول يوم الحمل- قاله أهل البصرة-

 

يا أمنا عائش لا تراعي
كل بنيك بطل المصاع‏

 

ينعى ابن عفان إليك ناع‏
كعب بن سور كاشف القناع‏

 

فارضي بنصر السيد المطاع
و الأزد فيها كرم الطباع‏

 

 و منه قول بعضهم-

 

 

يا أمنا يكفيك منا دنوه
لن يؤخذ الدهر الخطام عنوه‏

 

و حولك اليوم رجال شنوه‏
و حي همدان رجال الهبوه‏

 

و المالكيون القليلو الكبوه
و الأزد حي ليس فيهم نبوه‏

 

 

 قالوا و خرج من أهل البصرة شيخ صبيح الوجه نبيل- عليه جبة وشي يحض الناس على الحرب و يقول-

 

 

يا معشر الأزد عليكم أمكم
فإنها صلاتكم و صومكم‏

 

و الحرمة العظمى التي تعمكم‏
فأحضروها جدكم و حزمكم‏

 

لا يغلبن سم العدو سمكم
إن العدو إن علاكم زمكم‏

 

و خصكم بجوره و عمكم‏
لا تفضحوا اليوم فداكم قومكم‏

 

– قال المدائني و الواقدي- و هذا الرجز يصدق الرواية- أن الزبير و طلحة قاما في الناس فقالا- إن عليا إن يظفر فهو فناؤكم يا أهل البصرة- فاحموا حقيقتكم- فإنه لا يبقي حرمة إلا انتهكها- و لا حريما إلا هتكه و لا ذرية إلا قتلها- و لا ذوات خدر إلا سباهن- فقاتلوا مقاتلة من يحمي عن حريمه- و يختار الموت على الفضيحة يراها في أهله- . و قال أبو مخنف- لم يقل أحد من رجاز البصرة قولا- كان أحب إلى أهل الجمل من قول هذا الشيخ- استقتل الناس عند قوله و ثبتوا حول الجمل و انتدبوا- فخرج عوف بن قطن الضبي و هو ينادي- ليس لعثمان ثأر إلا علي بن أبي طالب و ولده- فأخذ خطام الجمل و قال-

 

يا أم يا أم خلا مني الوطن
لا أبتغي القبر و لا أبغي الكفن‏

 

من هاهنا محشر عوف بن قطن‏
إن فاتنا اليوم علي فالغبن‏

 

أو فاتنا ابناه حسين و حسن
إذا أمت بطول هم و حزن‏

 

ثم تقدم فضرب بسيفه حتى قتل- . و تناول عبد الله بن أبزى خطام الجمل- و كان كل من أراد الجد في الحرب و قاتل قتال مستميت- يتقدم إلى الجمل فيأخذ بخطامه- ثم شد على عسكر علي ع و قال-

 

أضربهم و لا أرى أبا حسن
ها إن هذا حزن من الحزن‏

 

 فشد عليه علي أمير المؤمنين ع بالرمح فطعنه فقتله- و قال قد رأيت أبا حسن فكيف رأيته و ترك الرمح فيه- .

و أخذت عائشة كفا من حصى- فحصبت به أصحاب علي ع- و صاحت بأعلى صوتها شاهت الوجوه- كما صنع رسول الله ص يوم حنين- فقال لها قائل و ما رميت إذ رميت و لكن الشيطان رمى- و زحف علي ع نحو الجمل بنفسه- في كتيبته الخضراء من المهاجرين و الأنصار- و حوله بنوه حسن و حسين و محمد ع- و دفع الراية إلى محمد- و قال أقدم بها حتى تركزها في عين الجمل و لا تقفن دونه- فتقدم محمد فرشقته السهام- فقال لأصحابه رويدا حتى تنفد سهامهم- فلم يبق لهم إلا رشقة أو رشقتان- فأنفذا إليه علي ع إليه يستحثه و يأمره بالمناجزة- فلما أبطأ عليه جاء بنفسه من خلفه- فوضع يده اليسرى على منكبه الأيمن و قال له- أقدم لا أم لك- فكان محمد رضي الله عنه إذا ذكر ذلك بعد يبكي- و يقول لكأني أجد ريح نفسه في قفاي- و الله لا أنسى أبدا- ثم أدركت عليا ع رقة على ولده- فتناول الراية منه بيده اليسرى- و ذو الفقار مشهور في يمنى يديه- ثم حمل فغاص في عسكر الجمل ثم رجع و قد انحنى سيفه- فأقامه بركبته- فقال له أصحابه و بنوه و الأشتر و عمار- نحن نكفيك يا أمير المؤمنين- فلم يجب أحدا منهم و لا رد إليهم بصره- و ظل ينحط و يزأر زئير الأسد حتى فرق من حوله- و تبادروه و إنه لطامح ببصره نحو عسكر البصرة- لا يبصر من حوله و لا يرد حوارا- ثم دفع الراية إلى ابنه محمد ثم حمل حملة ثانية وحده- فدخل وسطهم فضربهم بالسيف قدما قدما- و الرجال تفر من بين يديه و تنحاز عنه يمنة و يسرة- حتى خضب الأرض بدماء القتلى- ثم رجع و قد انحنى سيفه فأقامه بركبته- فاعصوصب به أصحابه- و ناشدوه الله في نفسه و في الإسلام- و قالوا إنك إن تصب يذهب الدين فأمسك و نحن نكفيك- فقال و الله ما أريد بما ترون إلا وجه الله و الدار الآخرة- ثم قال لمحمد ابنه هكذا تصنع يا ابن الحنفية- فقال الناس من الذي يستطيع ما تستطيعه يا أمير المؤمنين- .

 

و من كلماته الفصيحة ع في يوم الجمل- ما رواه الكلبي عن رجل من الأنصار- قال بينا أنا واقف في أول الصفوف يوم الجمل- إذ جاء علي ع فانحرفت إليه- فقال أين مثرى القوم فقلت هاهنا نحو عائشة- . قال الكلبي- يريد أين عددهم و أين جم و من كلماته الفصيحة ع في يوم الجمل- ما رواه الكلبي عن رجل من الأنصار- قال بينا أنا واقف في أول الصفوف يوم الجمل- إذ جاء علي ع فانحرفت إليه- فقال أين مثرى القوم فقلت هاهنا نحو عائشة- . قال الكلبي- يريد أين عددهم و أين جمهورهم و كثرتهم- و المال الثري على فعيل هو الكثير- و منه رجل ثروان و امرأة ثروى و تصغيرها ثريا- و الصدقة مثراة للمال أي مكثرة له- . قال أبو مخنف- و بعث علي ع إلى الأشتر أن احمل على ميسرتهم- فحمل عليها و فيها هلال بن وكيع فاقتتلوا قتالا شديدا- و قتل هلال قتله الأشتر- فمالت الميسرة إلى عائشة فلاذوا بها- و عظمهم بنو ضبة و بنو عدي- ثم عطفت الأزد و ضبة و ناجية و باهلة إلى الجمل- فأحاطوا به و اقتتل الناس حوله قتالا شديدا- و قتل كعب بن سور قاضي البصرة- جاءه سهم غرب فقتله و خطام الجمل في يده- ثم قتل عمرو بن يثربي الضبي- و كان فارس أصحاب الجمل و شجاعهم- بعد أن قتل كثيرا من أصحاب علي ع- . قالوا كان عمرو أخذ بخطام الجمل فدفعه إلى ابنه- ثم دعا إلى البراز- فخرج إليه علباء بن الهيثم السدوسي فقتله عمرو- ثم دعا إلى البراز- فخرج إليه هند بن عمرو الجملي فقتله عمرو- ثم دعا إلى البراز- فقال زيد بن صوحان العبدي لعلي ع يا أمير المؤمنين- إني رأيت يدا أشرفت علي من السماء- و هي تقول هلم إلينا- و أنا خارج إلى‏
ابن يثربي- فإذا قتلني فادفني بدمي و لا تغسلني- فإني مخاصم عند ربي- ثم خرج فقتله عمرو- ثم رجع إلى خطام الجمل مرتجزا يقول-

 

أرديت علباء و هندا في طلق
ثم ابن صوحان خضيبا في علق‏

 

قد سبق اليوم لنا ما قد سبق‏
و الوتر منا في عدي ذي الفرق‏

 

و الأشتر الغاوي و عمرو بن الحمق
و الفارس المعلم في الحرب الحنق‏

 

ذاك الذي في الحادثات لم يطق‏
أعني عليا ليته فينا مزق‏

 

 قال قوله و الوتر منا في عدي يعني عدي بن حاتم الطائي- و كان من أشد الناس على عثمان و من أشدهم جهادا مع علي ع- ثم ترك ابن يثربي الخطام و خرج يطلب المبارزة- فاختلف في قاتله فقال قوم إن عمار بن ياسر خرج إليه- و الناس يسترجعون له- لأنه كان أضعف من برز إليه يومئذ- أقصرهم سيفا و أقصفهم رمحا و أحمشهم ساقا- حمالة سيفه من نسعة الرحل- و ذباب سيفه قريب من إبطه- فاختلفا ضربتين فنشب سيف ابن يثربي في حجفة عمار- فضربه عمار على رأسه فصرعه- ثم أخذ برجله يسحبه حتى انتهى به إلى علي ع- فقال يا أمير المؤمنين استبقني أجاهد بين يديك- و أقتل منهم مثل ما قتلت منكم- فقال له علي ع أ بعد زيد و هند و علباء أستبقيك- لاها الله إذا- قال فأدنني منك أسارك قال له أنت متمرد- و قد أخبرني رسول الله ص بالمتمردين و ذكرك فيهم- فقال أما و الله لو وصلت إليك لعضضت أنفك عضة أبنته منك- . فأمر به علي ع فضربت عنقه- .

و قال قوم- إن عمرا لما قتل من قتل و أراد أن يخرج لطلب البراز- قال للأزد يا معشر الأزد إنكم قوم لكم حياء و بأس- و إني قد وترت القوم و هم قاتلي- و هذه أمكم نصرها دين و خذلانها عقوق- و لست أخشى أن أقتل حتى أصرع فإن صرعت فاستنقذوني- فقالت له الأزد- ما في هذا الجمع أحد نخافه عليك إلا الأشتر- قال فإياه أخاف- . قال أبو مخنف- فقيضه الله له و قد أعلما جميعا فارتجز الأشتر-

 

إني إذا ما الحرب أبدت نابها
و أغلقت يوم الوغى أبوابها

 

و مزقت من حنق أثوابها
كنا قداماها و لا أذنابها

 

ليس العدو دوننا أصحابها
من هابها اليوم فلن أهابها

 

لا طعنها أخشى و لا ضرابها

 

 

ثم حمل عليه فطعنه فصرعه- و حامت عنه الأزد فاستنقذوه فوثب و هو وقيذ ثقيل- فلم يستطع أن يدفع عن نفسه- و استعرضه عبد الرحمن بن طود البكري- فطعنه فصرعه ثانية- و وثب عليه رجل من سدوس فأخذه مسحوبا برجله- حتى أتى به عليا ع- فناشده الله و قال يا أمير المؤمنين اعف عني- فإن العرب لم تزل قائلة عنك- إنك لم تجهز على جريح قط- فأطلقه و قال اذهب حيث شئت- فجاء إلى أصحابه و هو لما به حضره الموت- فقالوا له دمك عند أي الناس- فقال أما الأشتر فلقيني و أنا كالمهر الأرن فعلا حده حدي- و لقيت رجلا يبتغي له عشرة أمثالي- و أما البكري فلقيني و أنا لما بي- و كان يبتغي لي عشرة أمثاله- و تولى أسري أضعف القوم و صاحبي الأشتر- . قال أبو مخنف فلما انكشفت الحرب- شكرت ابنة عمرو بن يثربي الأزد و عابت قومها فقالت-

 
يا ضب إنك قد فجعت بفارس
حامي الحقيقة قاتل الأقران‏

 

عمرو بن يثرب الذي فجعت به‏
كل القبائل من بني عدنان‏

 

لم يحمه وسط العجاجة قومه
و حنت عليه الأزد أزد عمان‏

 

فلهم علي بذاك حادث نعمة
و لحبهم أحببت كل يمان‏

 

لو كان يدفع عن منية هالك
طول الأكف بذابل المران‏

 

أو معشر وصلوا الخطا بسيوفهم‏
وسط العجاجة و الحتوف دوان‏

 

ما نيل عمر و الحوادث جمة
حتى ينال النجم و القمران‏

 

لو غير الأشتر ناله لندبته‏
و بكيته ما دام هضب أبان‏

 

لكنه من لا يعاب بقتله
أسد الأسود و فارس الفرسان‏

 

 

قال أبو مخنف- و بلغنا أن عبد الرحمن بن طود البكري قال لقومه- أنا و الله قتلت عمرا- و إن الأشتر كان بعدي و أنا أمامه في الصعاليك- فطعنت عمرا طعنة لم أحسب أنها تجعل للأشتر دوني- و إنما الأشتر ذو حظ في الحرب- و إنه ليعلم أنه كان خلفي- و لكن أبى الناس إلا أنه صاحبه- و لا أرى أن أكون خصم العامة و إن الأشتر لأهل ألا ينازع- فلما بلغ الأشتر قوله قال- أما و الله لو لا أني أطفأت جمرته عنه ما دنا منه- و ما صاحبه غيري و إن الصيد لمن وقذه- فقال عبد الرحمن لا أنازع فيه- ما القول إلا ما قاله و أنى لي أن أخالف الناس- . قال و خرج عبد الله بن خلف الخزاعي- و هو رئيس البصرة و أكثر أهلها مالا و ضياعا- فطلب البراز و سأل ألا يخرج إليه إلا علي ع- و ارتجز فقال

 
أبا تراب ادن مني فترا
فإنني دان إليك شبرا
و إن في صدري عليك غمرا

 

 

فخرج إليه علي ع فلم يمهله أن ضربه ففلق هامته- . قالوا استدار الجمل كما تدور الرحى- و تكاثفت الرجال من حوله و اشتد رغاؤه- و اشتد زحام الناس عليه- و نادى الحتات المجاشعي أيها الناس أمكم أمكم- و اختلط الناس فضرب بعضهم بعضا- و تقصد أهل الكوفة قصد الجمل- و الرجال دونه كالجبال- كلما خف قوم جاء أضعافهم- فنادى علي ع ويحكم ارشقوا الجمل بالنبل- اعقروه لعنه الله فرشق بالسهام- فلم يبق فيه موضع إلا أصابه النبل و كان مجففا- فتعلقت السهام به فصار كالقنفذ- و نادت الأزد و ضبة يا لثارات عثمان- فاتخذوها شعارا- و نادى أصحاب علي ع يا محمد فاتخذوها شعارا- و اختلط الفريقان- و نادى علي ع بشعار رسول الله ص يا منصور أمت- و هذا في اليوم الثاني من أيام الجمل- فلما دعا بها تزلزلت أقدام القوم- و ذلك وقت العصر بعد أن كانت الحرب من وقت الفجر- . قال الواقدي-
و قد روي أن شعاره ع كان في ذلك اليوم حم لا ينصرون- اللهم انصرنا على القوم الناكثين – ثم تحاجز الفريقان و القتل فاش فيهما- إلا أنه في أهل البصرة أكثر- و أمارات النصر لائحة لعسكر الكوفة- ثم تواقفوا في اليوم الثالث- فبرز أول الناس عبد الله بن الزبير- و دعا إلى المبارزة فبرز إليه الأشتر- فقالت عائشة من برز إلى عبد الله قالوا الأشتر- فقالت وا ثكل أسماء- فضرب كل منهما صاحبه فجرحه ثم اعتنقا- فصرع الأشتر عبد الله و قعد على صدره- و اختلط الفريقان- هؤلاء لينقذوا عبد الله و هؤلاء ليعينوا الأشتر- و كان الأشتر طاويا ثلاثة أيام‏ لم يطعم- و هذه عادته في الحرب و كان أيضا شيخا عالي السن- فجعل عبد الله ينادي-اقتلوني و مالكا

 فلو قال اقتلوني و الأشتر لقتلوهما- إلا أن أكثر من كان يمر بهما لا يعرفهما- لكثرة من وقع في المعركة صرعى بعضهم فوق بعض- و أفلت ابن الزبير من تحته و لم يكد- فذلك قول الأشتر-

 

 

أ عائش لو لا أنني كنت طاويا
ثلاثا لألفيت ابن أختك هالكا

 

غداة ينادي و الرجال تحوزه‏
بأضعف صوت اقتلوني و مالكا

 

فلم يعرفوه إذ دعاهم و غمه
خدب عليه في العجاجة باركا

 

فنجاه مني أكله و شبابه‏
و أني شيخ لم أكن متماسكا

 

 

 و روى أبو مخنف عن الأصبغ بن نباتة قال- دخل عمار بن ياسر و مالك بن الحارث الأشتر على عائشة- بعد انقضاء أمر الجمل- فقالت عائشة يا عمار من معك قال الأشتر- فقالت يا مالك أنت الذي صنعت بابن أختي ما صنعت- قال نعم- و لو لا أني كنت طاويا ثلاثة أيام لأرحت أمة محمد منه- فقالت أ ما علمت- أن رسول الله ص قال لا يحل دم مسلم إلا بأحد أمور ثلاثة- كفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان- أو قتل نفس بغير حق

– فقال الأشتر- على بعض هذه الثلاثة قاتلناه يا أم المؤمنين- و ايم الله ما خانني سيفي قبلها- و لقد أقسمت ألا يصحبني بعدها- . قال أبو مخنف- ففي ذلك يقول الأشتر من جملة هذا الشعر الذي ذكرناه-

 

 

و قالت على أي الخصال صرعته
بقتل أتى أم رده لا أبا لكا

 

 

أم المحصن الزاني الذي حل قتله‏
فقلت لها لا بد من بعض ذلكا

 

 

قال أبو مخنف- و انتهى الحارث بن زهير الأزدي من أصحاب علي ع- إلى الجمل- و رجل آخذ بخطامه لا يدنو منه أحد إلا قتله- فلما رآه الحارث بن زهير مشى إليه بالسيف و ارتجز- فقال لعائشة-

 

 

يا أمنا أعق أم نعلم
و الأم تغذو ولدها و ترحم

أ ما ترين كم شجاع يكلم‏
و تختلى هامته و المعصم‏

 

 

 فاختلف هو و الرجل ضربتين فكلاهما أثخن صاحبه- . قال جندب بن عبد الله الأزدي- فجئت حتى وقفت عليهما- و هما يفحصان بأرجلهما حتى ماتا- قال فأتيت عائشة بعد ذلك أسلم عليها بالمدينة- فقالت من أنت قلت رجل من أهل الكوفة- قالت هل شهدتنا يوم البصرة قلت نعم- قالت مع أي الفريقين قلت مع علي- قالت هل سمعت مقالة الذي قال-يا أمنا أعق أم نعلم‏

– . قلت نعم و أعرفه- قالت و من هو قلت ابن عم لي- قالت و ما فعل قلت قتل عند الجمل و قتل قاتله- قال فبكت حتى ظننت و الله أنها لا تسكت- ثم قالت لوددت و الله أنني كنت مت قبل ذلك اليوم- بعشرين سنة- . قالوا و خرج رجل من عسكر البصرة- يعرف بخباب بن عمرو الراسبي فارتجز فقال-

 

 

أضربهم و لو أرى عليا
عممته أبيض مشرفيا

أريح منه معشرا غويا

 

 

 فصمد عليه الأشتر فقتله- . ثم تقدم عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد- بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس- و هومن أشراف قريش- و كان اسم سيفه ولول فارتجز فقال-

 

 

أنا ابن عتاب و سيفي ولول
و الموت دون الجمل المجلل‏

 

 

فحمل عليه الأشتر فقتله- ثم خرج عبد الله بن حكيم بن حزام- من بني أسد بن عبد العزى بن قصي من أشراف قريش أيضا- فارتجز و طلب المبارزة- فخرج إليه الأشتر فضربه على رأسه فصرعه- ثم قام فنجا بنفسه- . قالوا و أخذ خطام الجمل سبعون من قريش قتلوا كلهم- و لم يكن يأخذ بخطام الجمل أحد إلا سالت نفسه- أو قطعت يده- و جاءت بنو ناجية فأخذوا بخطام الجمل- و لم يكن يأخذ الخطام أحد إلا سألت عائشة من هذا- فسألت عنهم فقيل بنو ناجية- فقالت عائشة صبرا يا بني ناجية- فإني أعرف فيكم شمائل قريش- قالوا و بنو ناجية مطعون في نسبهم إلى قريش- فقتلوا حولها جميعا- . قال أبو مخنف- و حدثنا إسحاق بن راشد عن عبد الله بن الزبير- قال أمسيت يوم الجمل و بي سبعة و ثلاثون جرحا- من ضربة و طعنة و رمية- و ما رأيت مثل يوم الجمل قط- ما كان الفريقان إلا كالجبلين لا يزولان- 

 

قال أبو مخنف و قام رجل إلى علي ع فقال- يا أمير المؤمنين أي فتنة أعظم من هذه- إن البدرية ليمشي بعضها إلى بعض بالسيف- فقال علي ع ويحك- أ تكون فتنة أنا أميرها و قائدها- و الذي بعث محمدا بالحق و كرم وجهه- ما كذبت و لا كذبت و لا ضللت و لا ضل بي- و لا زللت و لا زل بي- و إني لعلى بينة من ربي بينها الله لرسوله- و بينها رسوله لي و سأدعى يوم القيامة و لا ذنب لي- و لو كان لي ذنب لكفر عني ذنوبي ما أنا فيه من قتالهم قال أبو مخنف و حدثنا مسلم الأعور عن حبة العرني- قال فلما رأى علي ع‏ أن الموت عند الجمل- و أنه ما دام قائما فالحرب لا تطفأ- وضع سيفه على عاتقه و عطف نحوه- و أمر أصحابه بذلك و مشى نحوه و الخطام مع بني ضبة- فاقتتلوا قتالا شديدا و استحر القتل في بني ضبة- فقتل منهم مقتلة عظيمة- و خلص علي ع في جماعة من النخع و همدان إلى الجمل- فقال لرجل من النخع اسمه بجير دونك الجمل يا بجير- فضرب عجز الجمل بسيفه فوقع لجنبه- و ضرب بجرانه الأرض و عج عجيجا لم يسمع بأشد منه- فما هو إلا أن صرع الجمل حتى فرت الرجال- كما يطير الجراد في الريح الشديدة الهبوب- و احتملت عائشة بهودجها- فحملت إلى دار عبد الله بن خلف- و أمر علي ع بالجمل أن يحرق ثم يذرى في الريح- و قال ع لعنه الله من دابة فما أشبهه بعجل بني إسرائيل- ثم قرأ وَ انْظُرْ إِلى‏ إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً- لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً

خطبه 12 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

و من كلام له ( عليه‏السلام ) لما أظفره الله بأصحاب الجمل


وَ قَدْ قَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَدِدْتُ أَنَّ أَخِي فُلَاناً كَانَ شَاهِدَنَا لِيَرَى مَا نَصَرَكَ اللَّهُ بِهِ عَلَى أَعْدَائِكَ فَقَالَ عَلِيٌّ ( عليه‏السلام )أَ هَوَى أَخِيكَ مَعَنَا
فَقَالَ نَعَمْ
قَالَ فَقَدْ شَهِدَنَا
وَ لَقَدْ شَهِدَنَا فِي عَسْكَرِنَا هَذَا قَوْمٌ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ وَ أَرْحَامِ النِّسَاءِ
سَيَرْعَفُ بِهِمُ الزَّمَانُ
وَ يَقْوَى بِهِمُ الْإِيمَانُ

 

12 و من كلام له ع لما أظفره الله بأصحاب الجمل
– وَ قَدْ قَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ- وَدِدْتُ أَنَّ أَخِي فُلَاناً كَانَ شَاهِدَنَا- لِيَرَى مَا نَصَرَكَ اللَّهُ بِهِ عَلَى أَعْدَائِكَ- فَقَالَ عَلِيٌّ ع أَ هَوَى أَخِيكَ مَعَنَا فَقَالَ نَعَمْ- قَالَ فَقَدْ شَهِدَنَا- وَ لَقَدْ شَهِدَنَا فِي عَسْكَرِنَا هَذَا قَوْمٌ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ- وَ أَرْحَامِ النِّسَاءِ- سَيَرْعَفُ بِهِمُ الزَّمَانُ وَ يَقْوَى بِهِمُ الْإِيمَانُ يرعف بهم الزمان يوجدهم و يخرجهم- كما يرعف الإنسان بالدم الذي يخرجه من أنفه- قال الشاعر

 

و ما رعف الزمان بمثل عمرو
و لا تلد النساء له ضريبا

 

و المعنى مأخوذ من قول النبي ص لعثمان- و لم يكن شهد بدرا تخلف على رقية ابنة رسول الله ص- لما مرضت مرض موتها- لقد كنت شاهدا و إن كنت غائبا لك أجرك و سهمك

 

من أخبار يوم الجمل

 

قال الكلبي قلت لأبي صالح- كيف لم يضع علي ع السيف في أهل البصرة يوم الجمل- بعد ظفره- قال سار فيهم بالصفح و المن- الذي سار به رسول الله ص‏ في أهل مكة يوم الفتح- فإنه أراد أن يستعرضهم بالسيف ثم من عليهم- و كان يحب أن يهديهم الله- . قال فطر بن خليفة- ما دخلت دار الوليد بالكوفة التي فيها القصارون- إلا و ذكرت بأصواتهم وقع السيوف يوم الجمل- . حرب بن جيهان الجعفي لقد رأيت الرماح يوم الجمل- قد أشرعها الرجال بعضهم في صدر بعض- كأنها آجام القصب- لو شاءت الرجال أن تمشي عليها لمشت- و لقد صدقونا القتال حتى ما ظننت أن ينهزموا- و ما رأيت يوما قط أشبه بيوم الجمل- من يوم جلولاء الوقيعة- . الأصبغ بن نباتة لما انهزم أهل البصرة- ركب علي ع بغلة رسول الله ص الشهباء- و كانت باقية عنده و سار في القتلى يستعرضهم- فمر بكعب بن سور القاضي قاضي البصرة و هو قتيل- فقال أجلسوه فأجلس فقال له- ويلمك كعب بن سور لقد كان لك علم لو نفعك- و لكن الشيطان أضلك فأزلك فعجلك إلى النار- أرسلوه- ثم مر بطلحة بن عبيد الله قتيلا- فقال أجلسوه فأجلس- قال أبو مخنف في كتابه- فقال ويلمك طلحة لقد كان لك قدم لو نفعك- و لكن الشيطان أضلك فأزلك فعجلك إلى النار- . و أما أصحابنا فيروون غير ذلك- يروون أنه ع قال له لما أجلسوه- أعزز علي أبا محمد أن أراك معفرا تحت نجوم السماء- و في بطن هذا الوادي أ بعد جهادك في الله و ذبك عن رسول الله ص- فجاء إليه إنسان فقال أشهد يا أمير المؤمنين- لقد مررت عليه بعد أن أصابه السهم و هو صريع- فصاح بي فقال من أصحاب من أنت- فقلت من أصحاب أمير المؤمنين ع- فقال امدد يدك لأبايع‏ لأمير المؤمنين ع- فمددت إليه يدي فبايعني لك-
فقال علي ع أبى الله أن يدخل طلحة الجنة- إلا و بيعتي في عنقه – ثم مر بعبد الله بن خلف الخزاعي- و كان ع قتله بيده مبارزة- و كان رئيس أهل البصرة فقال أجلسوه فأجلس- فقال الويل لك يا ابن خلف لقد عانيت أمرا عظيما- . و قال شيخنا أبو عثمان الجاحظ- و مر ع بعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد- فقال أجلسوه فأجلس- فقال هذا يعسوب قريش- هذا اللباب المحض من بني عبد مناف- ثم قال شفيت نفسي و قتلت معشري- إلى الله أشكو عجري و بجري- قتلت الصناديد من بني عبد مناف- و أفلتني الأعيار من بني جمح- فقال له قائل- لشد ما أطريت هذا الفتى منذ اليوم يا أمير المؤمنين- قال إنه قام عني و عنه نسوة لم يقمن عنك- . قال أبو الأسود الدؤلي- لما ظهر علي ع يوم الجمل دخل بيت المال بالبصرة- في ناس من المهاجرين و الأنصار و أنا معهم- فلما رأى كثرة ما فيه قال غري غيري مرارا- ثم نظر إلى المال و صعد فيه بصره و صوب- و قال اقسموه بين أصحابي خمسمائة خمسمائة- فقسم بينهم- فلا و الذي بعث محمدا بالحق- ما نقص درهما و لا زاد درهما- كأنه كان يعرف مبلغه و مقداره- و كان ستة آلاف ألف درهم و الناس اثنا عشر ألفا- .

 

حبة العرني- قسم علي ع بيت مال البصرة على أصحابه- خمسمائة خمسمائة- و أخذ خمسمائة درهم كواحد منهم- فجاءه إنسان لم يحضر الوقعة فقال يا أمير المؤمنين- كنت شاهدا معك بقلبي و إن غاب عنك جسمي- فأعطني من الفي‏ء شيئا- فدفع إليه الذي أخذه لنفسه و هو خمسمائة درهم- و لم يصب من الفي‏ء شيئا- . اتفقت الرواة كلها على- أنه ع قبض ما وجد في عسكر الجمل- من سلاح و دابة و مملوك و متاع و عروض- فقسمه بين أصحابه و أنهم قالوا له- اقسم بيننا أهل البصرة فاجعلهم رقيقا فقال لا- فقالوا فكيف تحل لنا دماءهم و تحرم علينا سبيهم- فقال كيف يحل لكم ذرية ضعيفة في دار هجرة و إسلام- أما ما أجلب به القوم في معسكرهم عليكم فهو لكم مغنم- و أما ما وارت الدور و أغلقت عليه الأبواب فهو لأهله- و لا نصيب لكم في شي‏ء منه- فلما أكثروا عليه قال- فأقرعوا على عائشة لأدفعها إلى من تصيبه القرعة- فقالوا نستغفر الله يا أمير المؤمنين ثم انصرفوا

خطبه 11 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

11 و من كلام له ع لابنه محمد بن الحنفية- لما أعطاه الراية يوم الجمل

 
تَزُولُ الْجِبَالُ وَ لَا تَزُلْ- عَضَّ عَلَى نَاجِذِكَ أَعِرِ اللَّهَ جُمْجُمَتَكَ- تِدْ فِي الْأَرْضِ قَدَمَكَ- ارْمِ بِبَصَرِكَ أَقْصَى الْقَوْمِ وَ غُضَّ بَصَرَكَ- وَ اعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ قوله تزول الجبال و لا تزل خبر فيه معنى الشرط- تقديره إن زالت الجبال فلا تزل أنت و المراد المبالغة- في أخبار صفين أن بني عكل- و كانوا مع أهل الشام- حملوا في يوم من أيام صفين- خرجوا و عقلوا أنفسهم بعمائمهم- و تحالفوا أنا لا نفر حتى يفر هذا الحكر بالكاف- قالوا لأن عكلا تبدل الجيم كافا- . و الناجذ أقصى الأضراس- و تد أمر من وتد قدمه في الأرض أي أثبتها فيها كالوتد- و لا تناقض بين قوله ارم ببصرك و قوله غض بصرك- و ذلك لأنه في الأولى أمره أن يفتح عينه و يرفع طرفه- و يحدق إلى أقاصي القوم ببصره- فعل الشجاع المقدام غير المكترث و لا المبالي- لأن الجبان تضعف نفسه و يخفق قلبه فيقصر بصره- و لا يرتفع طرفه و لا يمتد عنقه- و يكون ناكس الرأس غضيض الطرف- و في الثانية أمره أن يغض بصره- عن بريق سيوفهم و لمعان دروعهم- لئلا يبرق بصره و يدهش و يستشعر خوفا- و تقدير الكلام و احمل و حذف ذلك للعلم به- فكأنه قال إذا عزمت على الحملة و صممت- فغض حينئذ بصرك و احمل- و كن كالعشواء التي تخبط ما أمامها و لا تبالي- . و قوله عض على ناجذك- قالوا إن العاض على نواجذه ينبو السيف عن دماغه- لأن عظام الرأس تشتد و تصلب- و قد جاء في كلامه ع هذا مشروحا في موضع آخر- و هو قوله و عضوا على النواجذ- فإنه أنبى للصوارم عن الهام- و يحتمل أن يريد به شدة الحنق- قالوا فلان يحرق علي الأرم يريدون شدة الغيظ- و الحرق صريف الأسنان و صوتها و الأرم الأضراس- .

و قوله أعر الله جمجمتك معناه ابذلها في طاعة الله- و يمكن أن يقال- إن ذلك إشعار له أنه لا يقتل في تلك الحرب- لأن العارية مردودة- و لو قال له بع الله جمجمتك- لكان ذلك إشعارا له بالشهادة فيها- . و أخذ يزيد بن المهلب هذه اللفظة- فخطب أصحابه بواسط- فقال إني قد أسمع قول الرعاع جاء مسلمة و جاء العباس- و جاء أهل الشام و من أهل الشام- و الله ما هم إلا تسعة أسياف سبعة منها معي و اثنان علي- و أما مسلمة فجرادة صفراء- و أما العباس فنسطوس ابن نسطوس- أتاكم في برابرة و صقالبة و جرامقة و جراجمة- و أقباط و أنباط و أخلاط- إنما أقبل إليكم الفلاحون و أوباش كأشلاء اللحم- و الله ما لقوا قط كحديدكم و عديدكم- أعيروني سواعدكم ساعة تصفقون بها خراطيمهم- فإنما هي غدوة أو روحة- حتى يحكم الله بيننا و بين القوم الظالمين- . من صفات الشجاع قولهم فلان مغامر و فلان غشمشم- أي لا يبصر ما بين يديه في الحرب- و ذلك لشدة تقحمه و ركوبه المهلكة- و قلة نظره في العاقبة- و هذا هو معنى قوله ع لمحمد غض بصرك‏

 

ذكر خبر مقتل حمزة بن عبد المطلب

 
و كان حمزة بن عبد المطلب مغامرا غشمشما لا يبصر أمامه- قال جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف- لعبده وحشي يوم أحد- ويلك إن عليا قتل عمي طعيمة سيد البطحاء يوم بدر- فإن قتلته اليوم فأنت حر- و إن قتلت محمدا فأنت حر و إن قتلت حمزة فأنت حر- فلا أحد يعدل عمي إلا هؤلاء- فقال أما محمد فإن أصحابه دونه و لن يسلموه- و لا أراني أصل إليه- و أما علي فرجل حذر مرس كثير الالتفات في الحرب- لا أستطيع قتله- و لكن سأقتل لك حمزة فإنه رجل لا يبصر أمامه في الحرب- فوقف لحمزة حتى إذا حاذاه زرقه بالحربة- كما تزرق الحبشة بحرابها فقتله

 
محمد بن الحنفية و نسبه و بعض أخباره

 
دفع أمير المؤمنين ع يوم الجمل رايته إلى محمد ابنه ع- و قد استوت الصفوف- و قال له احمل فتوقف قليلا- فقال له احمل فقال يا أمير المؤمنين- أ ما ترى السهام كأنها شآبيب المطر- فدفع في صدره فقال أدركك عرق من أمك- ثم أخذ الراية فهزها ثم قال-

 

 

اطعن بها طعن أبيك تحمد

لا خير في الحرب إذا لم توقد

بالمشرفي و القنا المسدد

 
ثم حمل و حمل الناس خلفه فطحن عسكر البصرة قيل لمحمد لم يغرر بك أبوك في الحرب- و لا يغرر بالحسن و الحسين ع- فقال إنهما عيناه و أنا يمينه فهو يدفع عن عينيه بيمينه كان علي ع يقذف بمحمد في مهالك الحرب- و يكف حسنا و حسينا عنها- .

و من كلامه في يوم صفين املكوا عني هذين الفتيين- أخاف أن ينقطع بهما نسل رسول الله ص أم محمد رضي الله عنه خولة بنت جعفر بن قيس- بن مسلمة بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة بن الدؤل- بن حنيفة بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل- . و اختلف في أمرها فقال قوم إنها سبية من سبايا الردة- قوتل أهلها على يد خالد بن الوليد في أيام أبي بكر- لما منع كثير من العرب الزكاة- و ارتدت بنو حنيفة و ادعت نبوة مسيلمة- و إن أبا بكر دفعها إلى علي ع من سهمه في المغنم- . و قال قوم منهم أبو الحسن علي بن محمد بن سيف المدائني- هي سبية في أيام رسول الله ص- قالوا بعث رسول الله ص عليا إلى اليمن- فأصاب خولة في بني زبيد- و قد ارتدوا مع عمرو بن معديكرب- و كانت زبيد سبتها من بني حنيفة في غارة لهم عليهم- فصارت في سهم علي ع- فقال له رسول الله ص إن ولدت منك غلاما فسمه باسمي و كنه بكنيتي  فولدت له بعد موت فاطمة ع محمدا فكناه أبا القاسم- . و قال قوم و هم المحققون و قولهم الأظهر- إن بني أسد أغارت على بني حنيفة في خلافة أبي بكر الصديق- فسبوا خولة بنت جعفر- و قدموا بها المدينة فباعوها من علي ع-

و بلغ قومها خبرها فقدموا المدينة على علي ع- فعرفوها و أخبروه بموضعها منهم- فأعتقها و مهرها و تزوجها- فولدت له محمدا فكناه أبا القاسم- . و هذا القول هو اختيار أحمد بن يحيى البلاذري- في كتابه المعروف بتاريخ الأشراف- . لما تقاعس محمد يوم الجمل عن الحملة- و حمل علي ع بالراية- فضعضع أركان عسكر الجمل دفع إليه الراية- و قال امح الأولى بالأخرى و هذه الأنصار معك- . و ضم إليه خزيمة بن ثابت ذا الشهادتين- في جمع من الأنصار كثير منهم من أهل بدر- فحمل حملات كثيرة- أزال بها القوم عن مواقفهم و أبلى بلاء حسنا- فقال خزيمة بن ثابت لعلي ع- أما إنه لو كان غير محمد اليوم لافتضح- و لئن كنت خفت عليه الحين- و هو بينك و بين حمزة و جعفر- لما خفناه عليه- و إن كنت أردت أن تعلمه الطعان- فطالما علمته الرجال- .

و قالت الأنصار يا أمير المؤمنين- لو لا ما جعل الله تعالى للحسن و الحسين- لما قدمنا على محمد أحدا من العرب- فقال علي ع أين النجم من الشمس و القمر- أما إنه قد أغنى و أبلى و له فضله- و لا ينقص فضل صاحبيه عليه- و حسب صاحبكم ما انتهت به نعمة الله تعالى إليه- فقالوا يا أمير المؤمنين إنا و الله لا نجعله كالحسن و الحسين- و لا نظلمهما له و لا نظلمه لفضلهما عليه حقه- فقال علي ع أين يقع ابني من ابني بنت رسول الله ص – فقال خزيمة بن ثابت فيه-

محمد ما في عودك اليوم وصمة
و لا كنت في الحرب الضروس معردا

أبوك الذي لم يركب الخيل مثله‏
علي و سماك النبي محمدا

فلو كان حقا من أبيك خليفة
لكنت و لكن ذاك ما لا يرى بدا

و أنت بحمد الله أطول غالب
لسانا و أنداها بما ملكت يدا

و أقربها من كل خير تريده‏
قريش و أوفاها بما قال موعدا

و أطعنهم صدر الكمي برمحه
و أكساهم للهام عضبا مهندا

سوى أخويك السيدين كلاهما
إمام الورى و الداعيان إلى الهدى‏

أبى الله أن يعطي عدوك مقعدا
من الأرض أو في الأوج مرقى و مصعدا

خطبه 10 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

10 و من خطبة له ع

أَلَا وَ إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ جَمَعَ حِزْبَهُ- وَ اسْتَجْلَبَ خَيْلَهُ وَ رَجِلَهُ- وَ إِنَّ مَعِي لَبَصِيرَتِي مَا لَبَّسْتُ عَلَى نَفْسِي وَ لَا لُبِّسَ عَلَيَّ- وَ ايْمُ اللَّهِ لَأُفْرِطَنَّ لَهُمْ حَوْضاً أَنَا مَاتِحُهُ- لَا يَصْدُرُونَ عَنْهُ وَ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ يمكن أن يعني بالشيطان الشيطان الحقيقي- و يمكن أن يعني به معاوية- فإن عنى معاوية- فقوله قد جمع حزبه و استجلب خيله و رجله كلام- جار على حقائقه- و إن عنى به الشيطان كان ذلك من باب الاستعارة- و مأخوذا من قوله تعالى- وَ اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ- وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ- و الرجل جمع راجل كالشرب جمع شارب- و الركب جمع راكب- . قوله و إن معي لبصيرتي- يريد أن البصيرة التي كانت معي في زمن رسول الله ص- تتغير- . و قوله ما لبست تقسيم جيد- لأن كل ضال عن الهداية فإما أن يضل من تلقاء نفسه- أو بإضلال غيره له- . و قوله لأفرطن من رواها بفتح الهمزة- فأصله فرط ثلاثي يقال فرط زيد القوم أي سبقهم- و رجل فرط يسبق القوم إلى البئر- فيهيئ لهم الأرشية و الدلاء- و منه قوله ع إنا فرطكم على الحوض- و يكون تقدير الكلام و ايم الله لأفرطن لهم إلى حوض- فلما حذف الجار عدي الفعل بنفسه فنصب- كقوله تعالى وَ اخْتارَ مُوسى‏ قَوْمَهُ- و تكون اللام في لهم إما لام التعدية- كقوله و يؤمن للمؤمنين أي و يؤمن المؤمنين- أو تكون لام التعليل أي لأجلهم- و من رواها لأفرطن بضم الهمزة- فهو من أفرط المزادة- أي ملأها- . و الماتح المستقي متح يمتح بالفتح- و المائح بالياء الذي ينزل إلى البئر فيملأ الدلو- . و قيل لأبي علي رحمه الله ما الفرق بين الماتح و المائح- فقال هما كإعجامهما يعني أن التاء بنقطتين من فوق- و كذلك الماتح لأنه المستقي فهو فوق البئر- و الياء بنقطتين من تحت- و كذلك المائح- لأنه تحت في الماء الذي في البئر يملأ الدلاء- و معنى قوله أنا ماتحه أنا خبير به- كما يقول من يدعي معرفة الدار أنا باني هذه الدار- و الكلام استعارة- يقول لأملأن لهم حياض الحرب التي هي دربتي و عادتي- أو لأسبقنهم إلى حياض حرب أنا متدرب بها مجرب لها- إذا وردوها لا يصدرون عنها- يعني قتلهم و إزهاق أنفسهم- و من فر منهم لا يعود إليها- و من هذا اللفظ قول الشاعر-

مخضت بدلوه حتى تحسى
ذنوب الشر ملأى أو قرابا

خطبه 9 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

9 و من كلام له ع

وَ قَدْ أَرْعَدُوا وَ أَبْرَقُوا- وَ مَعَ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ الْفَشَلُ- وَ لَسْنَا نُرْعِدُ حَتَّى نُوقِعَ وَ لَا نُسِيلُ حَتَّى نُمْطِرَ أرعد الرجل و أبرق إذا أوعد و تهدد- و كان الأصمي ينكره و يزعم أنه لا يقال إلا رعد و برق- و لما احتج عليه ببيت الكميت-

أرعد و أبرق يا يزيد
فما وعيدك لي بضائر

– . قال الكميت قروي لا يحتج بقوله- . و كلام أمير المؤمنين ع حجة دالة على بطلان قول الأصمي- و الفشل الجبن و الخور- . و قوله و لا نسيل حتى نمطر كلمة فصيحة- يقول إن أصحاب الجمل في وعيدهم و إجلابهم- بمنزلة من يدعي أنه يحدث السيل قبل إحداث المطر- و هذا محال لأن السيل إنما يكون من المطر- فكيف يسبق المطر- و أما نحن فإنا لا ندعي ذلك- و إنما نجري الأمور على حقائقها- فإن كان منا مطر كان منا سيل- و إذا أوقعنا بخصمنا أوعدنا حينئذ بالإيقاع به غيره- من خصومنا- .

و قوله ع و مع هذين الأمرين الفشل معنى حسن- لأن الغالب من الجبناء كثرة الضوضاء و الجلبة- يوم الحرب- كما أن الغالب من الشجعان الصمت و السكون- . و سمع أبو طاهر الجنابي- ضوضاء عسكر المقتدر بالله و دبادبهم و بوقاتهم- و هو في ألف و خمسمائة- و عسكر المقتدر في عشرين ألفا- مقدمهم يوسف بن أبي الساج- فقال لبعض أصحابه ما هذا الزجل- قال فشل قال أجل- . و يقال إنه ما رئي جيش كجيش أبي طاهر- ما كان يسمع لهم صوت حتى أن الخيل لم تكن لها حمحمة- فرشق عسكر ابن أبي الساج القرامطة بالسهام المسمومة- فجرح منهم أكثر من خمسمائة إنسان- . و كان أبو طاهر في عمارية له فنزل و ركب فرسات- و حمل بنفسه و معه أصحابه حملة على عسكر ابن أبي الساج- فكسروه و فلوه و خلصوا إلى يوسف فأسروه- و تقطع عسكره بعد أن أتى بالقتل على كثير منهم- و كان ذلك في سنة خمس عشرة و ثلاثمائة- . و من أمثالهم الصدق ينبئ عنك لا الوعيد

خطبه 8 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(بیعت زبیر)

8: و من كلام له ع يعني به الزبير في حال اقتضت ذلك

– يَزْعُمُ أَنَّهُ قَدْ بَايَعَ بِيَدِهِ وَ لَمْ يُبَايِعْ بِقَلْبِهِ- فَقَدْ أَقَرَّ بِالْبَيْعَةِ وَ ادَّعَى الْوَلِيجَةَ- فَلْيَأْتِ عَلَيْهَا بِأَمْرٍ يُعْرَفُ- وَ إِلَّا فَلْيَدْخُلْ فِيمَا خَرَجَ مِنْهُ الوليجة البطانة و الأمر يسر و يكتم- قال الله سبحانه- وَ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لا رَسُولِهِ وَ لَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً- كان الزبير يقول بايعت بيدي لا بقلبي- و كان يدعي تارة أنه أكره- و يدعي تارة أنه ورى في البيعة تورية- و نوى دخيلة و أتى بمعاريض لا تحمل على ظاهرها- فقال ع هذا الكلام إقرار منه بالبيعة- و ادعاء أمر آخر لم يقم عليه دليلا و لم ينصب له برهانا- فإما أن يقيم دليلا على فساد البيعة الظاهرة- و أنها غير لازمة له- و إما أن يعاود طاعته- .
قال علي ع للزبير يوم بايعه- إني لخائف أن تغدر بي و تنكث بيعتي- قال لا تخافن فإن ذلك لا يكون مني أبدا- فقال ع فلي الله عليك بذلك راع و كفيل- قال نعم الله لك علي بذلك راع و كفيل أمر طلحة و الزبير مع علي بن أبي طالب بعد بيعتهما له لما بويع علي ع كتب إلى معاوية- أما بعد فإن الناس قتلوا عثمان عن غير مشورة مني- و بايعوني عن مشورة منهم و اجتماع- فإذا أتاك كتابي فبايع لي- و أوفد إلي أشراف أهل الشام قبلك – فلما قدم رسوله على معاوية و قرأ كتابه- بعث رجلا من بني عميس- و كتب معه كتابا إلى الزبير بن العوام- و فيه بسم الله الرحمن الرحيم- لعبد الله الزبير أمير المؤمنين- من معاوية بن أبي سفيان- سلام عليك أما بعد فإني قد بايعت لك أهل الشام- فأجابوا و استوسقوا كما يستوسق الجلب- فدونك الكوفة و البصرة لا يسبقك إليها ابن أبي طالب- فإنه لا شي‏ء بعد هذين المصرين- و قد بايعت لطلحة بن عبيد الله من بعدك- فأظهرا الطلب بدم عثمان و ادعوا الناس إلى ذلك- و ليكن منكما الجد و التشمير- أظفركما الله و خذل مناوئكما- . فلما وصل هذا الكتاب إلى الزبير سر به- و أعلم به طلحة و أقرأه إياه- فلم يشكا في النصح لهما من قبل معاوية- و أجمعا عند ذلك على خلاف علي ع- . جاء الزبير و طلحة إلى علي ع بعد البيعة بأيام- فقالا له يا أمير المؤمنين- قد رأيت ما كنا فيه من الجفوة في ولاية عثمان كلها- و علمت رأي عثمان كان في بني أمية- و قد ولاك الله الخلافة من بعده- فولنا بعض أعمالك- فقال لهما ارضيا بقسم الله لكما حتى أرى رأيي- و اعلما أني لا أشرك في أمانتي- إلا من أرضى بدينه و أمانته من أصحابي- و من قد عرفت دخيلته- . فانصرفا عنه و قد دخلهما اليأس فاستأذناه في العمرة- .

طلب طلحة و الزبير من علي ع أن يوليهما المصرين- البصرة و الكوفة- فقال حتى أنظر- ثم استشار المغيرة بن شعبة- فقال له أرى أن توليهما إلى أن يستقيم لك أمر الناس- فخلا بابن عباس و قال ما ترى- قال يا أمير المؤمنين إن الكوفة و البصرة عين الخلافة- و بهما كنوز الرجال- و مكان طلحة و الزبير من الإسلام ما قد علمت- و لست آمنهما إن وليتهما أن يحدثا أمرا- فأخذ علي ع برأي ابن عباس- و قد كان استشار المغيرة أيضا في أمر معاوية- فقال له أرى إقراره على الشام- و أن تبعث إليه بعده إلى أن يسكن شغب الناس- و لك بعد رأيك- فلم يأخذ برأيه- . فقال المغيرة بعد ذلك- و الله ما نصحته قبلها و لا أنصحه بعدها ما بقيت- .

دخل الزبير و طلحة على علي ع فاستأذناه في العمرة- فقال ما العمرة تريدان- فحلفا له بالله أنهما ما يريدان غير العمرة- فقال لهما ما العمرة تريدان- و إنما تريدان الغدرة و نكث البيعة- فحلفا بالله ما الخلاف عليه و لا نكث بيعة يريدان- و ما رأيهما غير العمرة- قال لهما فأعيدا البيعة لي ثانية- فأعاداها بأشد ما يكون من الإيمان و المواثيق فأذن لهما- فلما خرجا من عنده قال لمن كان حاضرا- و الله لا ترونهما إلا في فتنة يقتتلان فيها- قالوا يا أمير المؤمنين فمر بردهما عليك- قال ليقضي الله أمرا كان مفعولا- لما خرج الزبير و طلحة من المدينة إلى مكة- لم يلقيا أحدا إلا و قالا له ليس لعلي في أعناقنا بيعة- و إنما بايعناه مكرهين- فبلغ عليا ع قولهما- فقال أبعدهما الله و أغرب دارهما- أما و الله لقد علمت أنهما سيقتلان أنفسهما أخبث مقتل- و يأتيان من‏ وردا عليه بأشأم يوم- و الله ما العمرة يريدان- و لقد أتياني بوجهي فاجرين- و رجعا بوجهي غادرين ناكثين- و الله لا يلقيانني بعد اليوم إلا في كتيبة خشناء- يقتلان فيها أنفسهما فبعدا لهما و سحقا و ذكر أبو مخنف في كتاب الجمل أن عليا ع خطب لما سار الزبير و طلحة من مكة- و معهما عائشة يريدون البصرة فقال أيها الناس- إن عائشة سارت إلى البصرة و معها طلحة و الزبير- و كل منهما يرى الأمر له دون صاحبه- أما طلحة فابن عمها و أما الزبير فختنها- و الله لو ظفروا بما أرادوا- و لن ينالوا ذلك أبدا- ليضربن أحدهما عنق صاحبه بعد تنازع منهما شديد- و الله إن راكبة الجمل الأحمر- ما تقطع عقبة و لا تحل عقدة- إلا في معصية الله و سخطه- حتى تورد نفسها و من معها موارد الهلكة- إي و الله ليقتلن ثلثهم و ليهربن ثلثهم- و ليتوبن ثلثهم- و إنها التي تنبحها كلاب الحوأب- و إنهما ليعلمان أنهما مخطئان- و رب عالم قتله جهله و معه علمه لا ينفعه- و حسبنا الله و نعم الوكيل- فقد قامت الفتنة فيها الفئة الباغية- أين المحتسبون أين المؤمنون ما لي و لقريش- أما و الله لقد قتلتهم كافرين و لأقتلنهم مفتونين- و ما لنا إلى عائشة من ذنب إلا أنا أدخلناها في حيزنا- و الله لأبقرن الباطل حتى يظهر الحق من خاصرته- فقل لقريش فلتضج ضجيجها ثم نزل برز علي ع يوم الجمل- و نادى بالزبير يا أبا عبد الله مرارا فخرج الزبير- فتقاربا حتى اختلفت أعناق خيلهما- فقال له علي ع إنما دعوتك لأذكرك حديثا- قاله لي و لك رسول الله ص- أ تذكر يوم رآك و أنت معتنقي فقال لك‏ أ تحبه- قلت و ما لي لا أحبه و هو أخي و ابن خالي- فقال أما إنك ستحاربه و أنت ظالم له – فاسترجع الزبير- و قال أذكرتني ما أنسانيه الدهر و رجع إلى صفوفه- فقال له عبد الله ابنه- لقد رجعت إلينا بغير الوجه الذي فارقتنا به- فقال أذكرني علي حديثا أنسانيه الدهر فلا أحاربه أبدا- و إني لراجع و تارككم منذ اليوم- فقال له عبد الله- ما أراك إلا جبنت عن سيوف بني عبد المطلب- إنها لسيوف حداد تحملها فتية أنجاد- فقال الزبير ويلك أ تهيجني على حربه- أما إني قد حلفت ألا أحاربه- قال كفر عن يمينك- لا تتحدث نساء قريش أنك جبنت و ما كنت جبانا- فقال الزبير غلامي مكحول حر كفارة عن يميني- ثم أنصل سنان رمحه- و حمل على عسكر علي ع برمح لا سنان له- فقال علي ع أفرجوا له فإنه محرج- ثم عاد إلى أصحابه ثم حمل ثانية ثم ثالثة- ثم قال لابنه أ جبنا ويلك ترى فقال لقد أعذرت- . لما أذكر علي ع الزبير بما أذكره به و رجع الزبير قال-

نادى علي بأمر لست أنكره
و كان عمر أبيك الخير مذ حين‏

فقلت حسبك من عذل أبا حسن‏
بعض الذي قلت منذ اليوم يكفيني‏

ترك الأمور التي تخشى مغبتها
و الله أمثل في الدنيا و في الدين‏

فاخترت عارا على نار مؤججة
أنى يقوم لها خلق من الطين‏

لما خرج علي ع لطلب الزبير خرج حاسرا- و خرج إليه الزبير دارعا مدججا- فقال للزبير يا أبا عبد الله- قد لعمري أعددت سلاحا- و حبذا فهل أعددت عند الله عذرا- فقال الزبير إن مردنا إلى الله- قال علي ع- يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق- و يعلمون أن الله هو الحق المبين- ثم أذكره الخبر- فلما كر الزبير راجعا إلى أصحابه نادما واجما- رجع علي ع إلى أصحابه جذلا مسرورا- فقال له أصحابه يا أمير المؤمنين- تبرز إلى الزبير حاسرا و هو شاك في السلاح- و أنت تعرف شجاعته- قال إنه ليس بقاتلي- إنما يقتلني رجل خامل الذكر ضئيل النسب- غيلة في غير مأقط حرب و لا معركة رجال- ويلمه أشقى البشر- ليودن أن أمه هبلت به- أما إنه و أحمر ثمود لمقرونان في قرن- . لما انصرف الزبير عن حرب علي ع مر بوادي السباع- و الأحنف بن قيس هناك في جمع من بني تميم- قد اعتزل الفريقين- فأخبر الأحنف بمرور الزبير فقال رافعا صوته- ما أصنع بالزبير لف غارين من المسلمين- حتى أخذت السيوف منهما مأخذها انسل و تركهم- أما إنه لخليق بالقتل قتله الله- فاتبعه عمرو بن جرموز و كان فاتكا- فلما قرب منه وقف الزبير و قال ما شأنك- قال جئت لأسألك عن أمر الناس- قال الزبير إني تركتهم قياما في الركب- يضرب بعضهم وجه بعض بالسيف- فسار ابن جرموز معه و كل واحد منهما يتقي الآخر- فلما حضرت الصلاة قال الزبير يا هذا إنا نريد أن نصلي- . فقال ابن جرموز و أنا أريد ذلك- فقال الزبير فتؤمني و أؤمنك قال نعم- فثنى الزبير رجله و أخذ وضوءه- فلما قام إلى الصلاة شد ابن جرموز عليه فقتله- و أخذ رأسه و خاتمه و سيفه و حثا عليه ترابا يسيرا- و رجع إلى الأحنف فأخبره- فقال و الله ما أدري أسأت أم أحسنت- اذهب إلى علي ع فأخبره- فجاء إلى علي ع فقال للآذن قل له عمرو بن جرموز بالباب- و معه رأس الزبير و سيفه- فأدخله- و في كثير من الروايات أنه لم يأت بالرأس بل بالسيف- فقال له و أنت قتلته قال نعم- قال و الله ما كان ابن صفية جبانا و لا لئيما- و لكن الحين و مصارع السوء-

ثم قال ناولني سيفه فناوله فهزه- و قال سيف طالما جلى به الكرب عن وجه رسول الله ص- فقال ابن جرموز الجائزة يا أمير المؤمنين- فقال أما إني سمعت رسول الله ص يقول- بشر قاتل ابن صفية بالنار
– فخرج ابن جرموز خائبا و قال-

أتيت عليا برأس الزبير
أبغي به عنده الزلفه‏

فبشر بالنار يوم الحساب‏
فبئست بشارة ذي التحفه‏

فقلت له إن قتل الزبير
لو لا رضاك من الكلفه‏

فإن ترض ذاك فمنك الرضا
و إلا فدونك لي حلفه‏

و رب المحلين و المحرمين
و رب الجماعة و الألفه‏

لسيان عندي قتل الزبير
و ضرطة عنز بذي الجحفه‏

 ثم خرج ابن جرموز على علي ع مع أهل النهر- فقتله معهم فيمن قتل

خطبه 7 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

7 و من خطبة له ع

اتَّخَذُوا الشَّيْطَانَ لِأَمْرِهِمْ مِلَاكاً- وَ اتَّخَذَهُمْ لَهُ أَشْرَاكاً- فَبَاضَ وَ فَرَّخَ فِي صُدُورِهِمْ- وَ دَبَّ وَ دَرَجَ فِي حُجُورِهِمْ- فَنَظَرَ بِأَعْيُنِهِمْ وَ نَطَقَ بِأَلْسِنَتِهِمْ- فَرَكِبَ بِهِمُ الزَّلَلَ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الْخَطَلَ- فِعْلَ مَنْ قَدْ شَرِكَهُ الشَّيْطَانُ فِي سُلْطَانِهِ- وَ نَطَقَ بِالْبَاطِلِ عَلَى لِسَانِهِ يجوز أن يكون أشراكا جمع شريك- كشريف و أشراف- و يجوز أن يكون جمع شرك كجبل و أجبال- و المعنى بالاعتبارين مختلف- . و باض و فرخ في صدورهم استعارة للوسوسة و الإغواء- و مراده طول مكثه و إقامته عليهم- لأن الطائر لا يبيض و يفرخ إلا في الأعشاش- التي هي وطنه و مسكنه- و دب و درج في حجورهم أي ربوا الباطل- كما يربي الوالدان الولد في حجورهما- ثم ذكر أنه لشدة اتحاده بهم و امتزاجه- صار كمن ينظر بأعينهم و ينطق بألسنتهم- أي صار الاثنان كالواحد- قال أبو الطيب-

 

ما الخل إلا من أود بقلبه
و أرى بطرف لا يرى بسوائه‏

 

و قال آخر

 

كنا من المساعده
نحيا بروح واحده‏

 
و قال آخر

 

جبلت نفسك في نفسي كما
تجبل الخمرة بالماء الزلال‏

فإذا مسك شي‏ء مسني‏
فإذا أنت أنا في كل حال‏

 

 و الخطل القول الفاسد- و يجوز أشركه الشيطان في سلطانه بالهمزة و شركه أيضا- و بغير الهمزة أفصح

خطبه 6 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی) (طلحه وزبیر)

6: و من كلام له لما أشير عليه بألا يتبع طلحة و الزبير- و لا يرصد لهما القتال
– وَ اللَّهِ لَا أَكُونُ كَالضَّبُعِ تَنَامُ عَلَى طُولِ اللَّدْمِ- حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهَا طَالِبُهَا وَ يَخْتِلَهَا رَاصِدُهَا- وَ لَكِنِّي أَضْرِبُ بِالْمُقْبِلِ إِلَى الْحَقِّ الْمُدْبِرَ عَنْهُ- وَ بِالسَّامِعِ الْمُطِيعِ الْعَاصِيَ الْمُرِيبَ أَبَداً- حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيَّ يَوْمِي- فَوَاللَّهِ مَا زِلْتُ مَدْفُوعاً عَنْ حَقِّي- مُسْتَأْثَراً عَلَيَّ مُنْذُ قَبَضَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ- حَتَّى يَوْمِ النَّاسِ هَذَا يقال أرصد له بشر أي أعد له و هيأه- و في الحديث إلا أن أرصده لدين علي- و اللدم صوت الحجر أو العصا أو غيرهما- تضرب به الأرض ضربا ليس بشديد- . و لما شرح الراوندي هذه اللفظات- قال و في الحديث و الله لا أكون مثل الضبع- تسمع اللدم حتى تخرج فتصاد- و قد كان سامحه الله وقت تصنيفه الشرح- ينظر في صحاح الجوهري و ينقل منها- فنقل هذا الحديث ظنا منه أنه حديث عن رسول الله ص- و ليس كما ظن- بل الحديث الذي أشار إليه الجوهري هو حديث علي ع- الذي نحن بصدد تفسيره- . و يختلها راصدها يخدعها مترقبها- ختلت فلانا خدعته و رصدته ترقبته- و مستأثرا علي أي مستبدا دوني بالأمر- و الاسم الأثرة و في الحديث أنه ص قال للأنصار- ستلقون بعدي أثرة- فإذا كان ذلك فاصبروا حتى تردوا علي الحوض – . و العرب تقول في رموزها و أمثالها أحمق من الضبع- و يزعمون أن الصائد يدخل عليها وجارها- فيقول لها أطرقي أم طريق خامري أم عامر- و يكرر ذلك عليها مرارا- معنى أطرقي أم طريق طأطئي رأسك- و كناها أم طريق لكثرة إطراقها- على فعيل كالقبيط للناطف و العليق لنبت- و معنى خامري الزمي وجارك و استتري فيه- خامر الرجل منزله إذا لزمه- قالوا فتلجأ إلى أقصى مغارها و تتقبض- فيقول أم عامر ليست في وجارها- أم عامر نائمة فتمد يديها و رجليها و تستلقي- فيدخل عليها فيوثقها و هو يقول لها- أبشري أم عامر بكم الرجال- أبشري أم عامر بشاء هزلى و جراد عظلى- أي يركب بعضه بعضا- فتشد عراقيبها فلا تتحرك- و لو شاءت أن تقتله لأمكنها- قال الكميت

فعل المقرة للمقالة
خامري يا أم عامر

 

و قال الشنفري-

 

لا تقبروني إن قبري محرم
عليكم و لكن خامري أم عامر

 

إذا ما مضى رأسي و في الرأس أكثري‏
و غودر عند الملتقى ثم سائري‏

 

هنا لك لا أرجو حياة تسرني
سجيس الليالي مبسلا بالجرائر

 

أوصاهم ألا يدفنوه إذا قتل- و قال اجعلوني أكلا للسباع- كالشي‏ء الذي يرغب به الضبع في الخروج- و تقدير الكلام لا تقبروني- و لكن اجعلوني كالتي يقال لها- خامري أم عامر و هي الضبع فإنها لا تقبر- و يمكن أن يقال أيضا- أراد لا تقبروني و اجعلوني فريسة- للتي يقال لها خامري أم عامر- لأنها تأكل الجيف و أشلاء القتلى و الموتى- . و قال أبو عبيدة يأتي الصائد- فيضرب بعقبه الأرض عند باب مغارها ضربا خفيفا- و ذلك هو اللدم- و يقول خامري أم عامر مرارا- بصوت ليس بشديد فتنام على ذلك- فيدخل إليها فيجعل الحبل في عرقوبها- و يجرها فيخرجها- يقول لا أقعد عن الحرب و الانتصار لنفسي و سلطاني- فيكون حالي مع القوم المشار إليهم- حال الضبع مع صائدها- فأكون قد أسلمت نفسي فعل العاجز الأحمق- و لكني أحارب من عصاني بمن أطاعني حتى أموت- ثم عقب ذلك بقوله إن الاستئثار علي- و التغلب أمر لم يتجدد الآن- و لكنه كان منذ قبض رسول الله ص

طلحة و الزبير و نسبهما

و طلحة هو أبو محمد طلحة بن عبيد الله بن عثمان- بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة- أبوه ابن عم أبي بكر و أمه الصعبة بنت الحضرمي- و كانت قبل أن تكون عند عبيد الله- تحت أبي سفيان صخر بن حرب- فطلقها ثم تبعتها نفسه فقال فيها شعرا أوله-

 

و إني و صعبة فيما أرى
بعيدان و الود ود قريب‏

 

في أبيات مشهورة- و طلحة أحد العشرة المشهود لهم بالجنة- و أحد أصحاب الشورى- و كان له في الدفاع عن رسول الله ص يوم أحد أثر عظيم- و شلت بعض‏ أصابعه يومئذ- وقى رسول الله ص بيده من سيوف المشركين- و قال رسول الله ص يومئذ اليوم أوجب طلحة الجنة – . و الزبير هو أبو عبد الله الزبير بن العوام- بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي- أمه صفية بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف- عمة رسول الله ص- و هو أحد العشرة أيضا و أحد الستة- و ممن ثبت مع رسول الله ص يوم أحد- و أبلى بلاء حسنا-
و قال النبي ص لكل نبي حواري و حواري الزبير – . و الحواري الخالصة تقول فلان خالصة فلان- و خلصانه و حواريه- أي شديد الاختصاص به و الاستخلاص له

خروج طارق بن شهاب لاستقبال علي بن أبي طالب

خرج طارق بن شهاب الأحمسي يستقبل عليا ع- و قد صار بالربذة طالبا عائشة و أصحابها- و كان طارق من صحابة علي ع و شيعته- قال فسألت عنه قبل أن ألقاه ما أقدمه- فقيل خالفه طلحة و الزبير و عائشة فأتوا البصرة- فقلت في نفسي إنها الحرب أ فأقاتل أم المؤمنين- و حواري رسول الله ص- إن هذا لعظيم ثم قلت أ أدع عليا- و هو أول المؤمنين إيمانا بالله- و ابن عم رسول الله ص و وصيه هذا أعظم- ثم أتيته فسلمت عليه ثم جلست إليه- فقص علي قصة القوم و قصته ثم صلى بنا الظهر- فلما انفتل جاءه الحسن ابنه ع- فبكى بين يديه قال ما بالك- قال أبكي لقتلك غدا بمضيعة و لا ناصر لك- أما إني أمرتك فعصيتني ثم أمرتك فعصيتني- فقال ع لا تزال تخن خنين الأمة- ما الذي أمرتني به فعصيتك- قال أمرتك حين أحاط الناس بعثمان أن تعتزل- فإن الناس إذا قتلوه طلبوك أينما كنت- حتى يبايعوك فلم تفعل- ثم أمرتك لما قتل عثمان ألا توافقهم على‏ البيعة- حتى يجتمع الناس و يأتيك وفود العرب فلم تفعل- ثم خالفك هؤلاء القوم- فأمرتك ألا تخرج من المدينة و أن تدعهم و شأنهم- فإن اجتمعت عليك الأمة فذاك- و إلا رضيت بقضاء الله- فقال ع و الله لا أكون كالضبع تنام على اللدم- حتى يدخل إليها طالبها فيعلق الحبل برجلها- و يقول لها دباب دباب حتى يقطع عرقوبها- … و ذكر تمام الفصل- فكان طارق بن شهاب يبكي إذا ذكر هذا الحديث- دباب اسم الضبع- مبني على الكسر كبراح اسم للشمس

خطبه 5 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

 5 و من كلام له ع لما قبض رسول الله ص- و خاطبه العباس و أبو سفيان بن حرب- في أن يبايعا له بالخلافة

– أَيُّهَا النَّاسُ شُقُّوا أَمْوَاجَ الْفِتَنِ بِسُفُنِ النَّجَاةِ- وَ عَرِّجُوا عَنْ طَرِيقِ الْمُنَافَرَةِ- وَ ضَعُوا تِيجَانَ الْمُفَاخَرَةِ- أَفْلَحَ مَنْ نَهَضَ بِجَنَاحٍ أَوِ اسْتَسْلَمَ فَأَرَاحَ- مَاءٌ آجِنٌ وَ لُقْمَةٌ يَغَصُّ بِهَا آكِلُهَا- وَ مُجْتَنِي الثَّمَرَةِ لِغَيْرِ وَقْتِ إِينَاعِهَا- كَالزَّارِعِ بِغَيْرِ أَرْضِهِ- فَإِنْ أَقُلْ يَقُولُوا حَرَصَ عَلَى الْمُلْكِ- وَ إِنْ أَسْكُتْ يَقُولُوا جَزِعَ مِنَ الْمَوْتِ- هَيْهَاتَ بَعْدَ اللَّتَيَّا وَ الَّتِي- وَ اللَّهِ لَابْنُ أَبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالْمَوْتِ- مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْيِ أُمِّهِ- بَلِ انْدَمَجْتُ عَلَى مَكْنُونِ عِلْمٍ لَوْ بُحْتُ بِهِ لَاضْطَرَبْتُمْ- اضْطِرَابَ الْأَرْشِيَةِ فِي الطَّوِيِّ الْبَعِيدَةِ المفاخرة أن يذكر كل واحد من الرجلين- مفاخره و فضائله و قديمه- ثم يتحاكما إلى ثالث- و الماء الآجن المتغير الفاسد- أجن الماء بفتح الجيم- يأجن و يأجن بالكسر و الضم- و الإيناع إدراك الثمرة- و اللتيا تصغير التي كما أن اللذيا تصغير الذي- و اندمجت انطويت و الطوي البئر المطوية بالحجارة- يقول تخلصوا عن الفتنة و انجوا منها بالمتاركة و المسالمة- و العدول عن المنافرة و المفاخرة- .

أفلح من نهض بجناح أي مات- شبه الميت المفارق للدنيا- بطائر نهض عن الأرض بجناحه- و يحتمل أن يريد بذلك- أفلح من اعتزل هذا العالم و ساح في الأرض- منقطعا عن تكاليف الدنيا- و يحتمل أيضا أن يريد- أفلح من نهض في طلب الرئاسة بناصر ينصره- و أعوان يجاهدون بين يديه- و على التقادير كلها تنطبق اللفظة الثانية- و هي قوله أو استسلم فأراح- أي أراح نفسه باستسلامه- . ثم قال الإمرة على الناس وخيمة العاقبة- ذات مشقة في العاجلة- فهي في عاجلها كالماء الآجن يجد شاربه مشقة- و في آجلها كاللقمة التي تحدث عن أكلها الغصة- و يغص مفتوح حرف المضارعة و مفتوح الغين- أصله غصصت بالكسر- و يحتمل أن يكون الأمران معا للعاجلة- لأن الغصص في أول البلع- كما أن ألم شرب الماء الآجن يحدث في أول الشرب- و يجوز ألا يكون عنى الإمرة المطلقة- بل هي الإمرة المخصوصة يعني بيعة السقيفة- .

ثم أخذ في الاعتذار عن الإمساك و ترك المنازعة- فقال مجتني الثمرة قبل أن تدرك لا ينتفع بما اجتناه- كمن زرع في غير أرضه و لا ينتفع بذلك الزرع- يريد أنه ليس هذا الوقت هو الوقت- الذي يسوغ لي فيه طلب الأمر و أنه لم يأن بعد- . ثم قال قد حصلت بين حالين- إن قلت قال الناس حرص على الملك- و إن لم أقل قالوا جزع من الموت- . قال هيهات استبعادا لظنهم فيه الجزع- ثم قال اللتيا و التي أي أ بعد اللتيا و التي أجزع- أ بعد أن قاسيت الأهوال الكبار و الصغار- و منيت بكل داهية عظيمة و صغيرة- فاللتيا للصغيرة و التي للكبيرة- .

ذكر أن أنسه بالموت كأنس الطفل بثدي أمه- و أنه انطوى على علم هو ممتنع لموجبه من المنازعة- و أن ذلك العلم لا يباح به- و لو باح به لاضطرب سامعوه- كاضطراب الأرشية و هي الحبال- في البئر البعيدة القعر- و هذا إشارة إلى الوصية التي خص بها ع- إنه قد كان من جملتها الأمر بترك النزاع- في مبدأ الاختلاف عليه
استطراد بذكر طائفة من الاستعارات
و اعلم أن أحسن الاستعارات- ما تضمن مناسبة بين المستعار و المستعار منه- كهذه الاستعارات- فإن قوله ع- شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة من هذا النوع- و ذلك لأن الفتن قد تتضاعف و تترادف- فحسن تشبيهها بأمواج البحر المضطربة- و لما كانت السفن الحقيقية تنجي من أمواج البحر- حسن أن يستعار لفظ السفن لما ينجي من الفتن- و كذلك قوله و ضعوا تيجان المفاخرة- لأن التاج لما كان مما يعظم به قدر الإنسان استعارة- لما يتعظم به الإنسان من الافتخار و ذكر القديم- و كذلك استعارة النهوض بالجناح لمن اعتزل الناس- كأنه لما نفض يديه عنهم صار كالطائر- الذي ينهض من الأرض بجناحيه- . و في الاستعارات ما هو خارج عن هذا النوع- و هو مستقبح و ذلك كقول أبي نواس-

بح صوت المال مما
منك يبكي و ينوح‏

 

و كذلك قوله

 

ما لرجل المال أضحت
تشتكي منك الكلالا
و قول أبي تمام-

و كم أحرزت منكم على قبح قدها
صروف النوى من مرهف حسن القد

و كقوله

بلوناك أما كعب عرضك في العلا
فعال و لكن خد مالك أسفل‏

– . فإنه لا مناسبة بين الرجل و المال- و لا بين الصوت و المال- و لا معنى لتصييره للنوى قدا- و لا للعرض كعبا و لا للمال خدا- . و قريب منه أيضا قوله-

لا تسقني ماء الملام فإنني
صب قد استعذبت ماء بكائي‏

– . و يقال إن مخلدا الموصلي بعث إليه بقارورة- يسأله أن يبعث له فيها قليلا من ماء الملام- فقال لصاحبه قل له يبعث إلي بريشة من جناح الذل- لأستخرج بها من القارورة ما أبعثه إليه- . و هذا ظلم من أبي تمام المخلد و ما الأمران سوء- لأن الطائر إذا أعيا و تعب ذل و خفض جناحيه- و كذلك الإنسان إذا استسلم ألقى بيديه ذلا و يده جناحه- فذاك هو الذي حسن قوله تعالى- وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ- أ لا ترى أنه لو قال و اخفض لهما ساق الذل- أو بطن الذل لم يكن مستحسنا- . و من الاستعارة المستحسنة في الكلام المنثور- ما اختاره قدامة بن جعفر في كتاب الخراج- نحو قول أبي الحسين جعفر بن محمد بن ثوابة- في جوابه لأبي الجيش خمارويه‏ بن أحمد بن طولون- عن المعتضد بالله لما كتب بإنفاذ ابنته قطر الندى- التي تزوجها المعتضد- و ذلك قول ابن ثوابة هذا- و أما الوديعة فهي بمنزلة ما انتقل من شمالك إلى يمينك- عناية بها و حياطة لها و رعاية لمودتك فيها- . و قال ابن ثوابة لما كتب هذا الكتاب- لأبي القاسم عبيد الله بن سليمان بن وهب- وزير المعتضد- و الله إن تسميتي إياها بالوديعة نصف البلاغة- . و ذكر أحمد بن يوسف الكاتب رجلا خلا بالمأمون- فقال ما زال يفتله في الذروة و الغارب- حتى لفته عن رأيه- . و قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي النبيذ قيد الحديث- . و ذكر بعضهم رجلا فذمه- فقال هو أملس ليس فيه مستقر لخير و لا شر- . و رضي بعض الرؤساء عن رجل من موجدة- ثم أقبل يوبخه عليها- فقال إن رأيت ألا تخدش وجه رضاك بالتوبيخ فافعل- . و قال بعض الأعراب خرجنا في ليلة حندس- قد ألقت على الأرض أكارعها- فمحت صورة الأبدان فما كنا نتعارف إلا بالآذان- . و غزت حنيفة نميرا فأتبعتهم نمير فأتوا عليهم- فقيل لرجل منهم كيف صنع قومك- قال اتبعوهم و الله- و قد أحقبوا كل جمالية خيفانة- فما زالوا يخصفون آثار المطي بحوافر الخيل- حتى لحقوهم- فجعلوا المران أرشية الموت فاستقوا بها أرواحهم- . و من كلام لعبد الله بن المعتز يصف القلم- يخدم الإرادة و لا يمل الاستزادة-

و يسكت واقفا و ينطق سائرا- على أرض بياضها مظلم و سوادها مضي‏ء – . فأما القطب الراوندي فقال- قوله ع شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة- معناه كونوا مع أهل البيت لأنهم سفن النجاة-

لقوله ع مثل أهل بيتي كسفينة نوح- من ركبها نجا و من تخلف عنها غرق – . و لقائل أن يقول لا شبهة أن أهل البيت سفن النجاة- و لكنهم لم يرادوا هاهنا بهذه اللفظة- لأنه لو كان ذلك هو المراد- لكان قد أمر أبا سفيان و العباس بالكون مع أهل البيت- و مراده الآن ينقض ذلك- لأنه يأمر بالتقية و إظهار اتباع الذين عقد لهم الأمر- و يرى أن الاستسلام هو المتعين- فالذي ظنه الراوندي لا يحتمله الكلام و لا يناسبه- . و قال أيضا التعريج على الشي‏ء الإقامة عليه- يقال عرج فلان على المنزل- إذا حبس نفسه عليه- فالتقدير عرجوا على الاستقامة- منصرفين عن المنافرة- . و لقائل أن يقال التعريج يعدى تارة بعن- و تارة بعلى- فإذا عديته بعن أردت التجنب و الرفض- و إذا عديته بعلى أردت المقام و الوقوف- و كلامه ع معدى بعن- قال و عرجوا عن طريق المنافرة- . و قال أيضا آنس بالموت أي أسر به- و ليس بتفسير صحيح بل هو من الأنس ضد الوحشة

اختلاف الرأي في الخلافة بعد وفاة رسول الله

لما قبض رسول الله ص- و اشتغل علي ع بغسله و دفنه- و بويع أبو بكر خلا الزبير و أبو سفيان- و جماعة من المهاجرين بعباس و علي ع لإجالة الرأي- و تكلموا بكلام يقتضي الاستنهاض و التهييج- فقال العباس رضي الله عنه- قد سمعنا قولكم فلا لقلة نستعين بكم- و لا لظنة نترك آراءكم- فأمهلونا نراجع الفكر- فإن يكن لنا من الإثم مخرج يصر بنا- و بهم الحق صرير الجدجد- و نبسط إلى المجد أكفا لا نقبضها أو نبلغ المدى- و إن تكن الأخرى فلا لقلة في العدد- و لا لوهن في الأيد- و الله لو لا أن الإسلام قيد الفتك- لتدكدكت جنادل صخر- يسمع اصطكاكها من المحل العلي- .

فحل علي ع حبوته و قال الصبر حلم- و التقوى دين و الحجة محمد و الطريق الصراط- أيها الناس شقوا أمواج الفتن… الخطبة- ثم نهض فدخل إلى منزله و افترق القوم- . و قال البراء بن عازب لم أزل لبني هاشم محبا- فلما قبض رسول الله ص- خفت أن تتمالأ قريش على إخراج هذا الأمر عنهم- فأخذني ما يأخذ الوالهة العجول- مع ما في نفسي من الحزن لوفاة رسول الله ص- فكنت أتردد إلى بني هاشم- و هم عند النبي ص في الحجرة- و أتفقد وجوه قريش- فإني كذلك إذ فقدت أبا بكر و عمر- و إذا قائل يقول القوم في سقيفة بني ساعدة- و إذا قائل آخر يقول قد بويع أبو بكر فلم ألبث- و إذا أنا بأبي بكر قد أقبل و معه عمر و أبو عبيدة- و جماعة من أصحاب السقيفة و هم محتجزون بالأزر الصنعانية- لا يمرون بأحد إلا خبطوه- و قدموه فمدوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه- شاء ذلك أو أبى فأنكرت عقلي- و خرجت أشتد حتى انتهيت إلى بني هاشم و الباب مغلق- فضربت عليهم الباب ضربا عنيفا- و قلت قد بايع الناس لأبي بكر بن أبي قحافة- فقال العباس تربت أيديكم إلى آخر الدهر- أما إني قد أمرتكم فعصيتموني- فمكثت أكابد ما في نفسي- و رأيت في الليل المقداد و سلمان و أبا ذر- و عبادة بن الصامت و أبا الهيثم بن التيهان- و حذيفة و عمارا- و هم يريدون أن يعيدوا الأمر شورى بين المهاجرين- . و بلغ ذلك أبا بكر و عمر- فأرسلا إلى أبي عبيدة و إلى المغيرة بن شعبة- فسألاهما عن الرأي- فقال المغيرة الرأي أن تلقوا العباس- فتجعلوا له و لولده في هذه الإمرة نصيبا- ليقطعوا بذلك ناحية علي بن أبي طالب- . فانطلق أبو بكر و عمر و أبو عبيدة و المغيرة- حتى دخلوا على العباس- و ذلك في الليلة الثانية من وفاة رسول الله ص- فحمد أبو بكر الله و أثنى عليه و قال- إن الله ابتعث لكم محمدا ص نبيا و للمؤمنين وليا- فمن الله عليهم بكونه بين ظهرانيهم- حتى اختار له ما عنده فخلى على الناس أمورهم- ليختاروا لأنفسهم متفقين غير مختلفين- فاختاروني عليهم واليا و لأمورهم راعيا- فتوليت ذلك- و ما أخاف بعون الله و تسديده وهنا و لا حيرة و لا جبنا- و ما توفيقي إلا بالله- عليه توكلت و إليه أنيب- و ما أنفك يبلغني عن طاعن يقول بخلاف قول عامة المسلمين- يتخذكم لجأ فتكونون حصنه المنيع و خطبه البديع- فإما دخلتم فيما دخل فيه الناس- أو صرفتموهم عما مالوا إليه- فقد جئناك و نحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيبا- و لمن بعدك من عقبك- إذ كنت عم رسول الله ص- و إن كان المسلمون قد رأوا مكانك من رسول الله ص- و مكان أهلك- ثم عدلوا بهذا الأمر عنكم و على رسلكم بني هاشم- فإن رسول الله ص منا و منكم- . فاعترض كلامه عمر- و خرج إلى مذهبه في الخشونة و الوعيد- و إتيان الأمر من أصعب جهاته- فقال إي و الله و أخرى- إنا لم نأتكم حاجة إليكم- و لكن كرهنا أن يكون الطعن- فيما اجتمع عليه المسلمون منكم- فيتفاقم الخطب بكم و بهم- فانظروا لأنفسكم و لعامتهم ثم سكت- .

فتكلم العباس فحمد الله و أثنى عليه ثم قال- إن الله ابتعث محمدا نبيا كما وصفت و وليا للمؤمنين- فمن الله به على أمته حتى اختار له ما عنده- فخلى الناس على أمرهم ليختاروا لأنفسهم- مصيبين للحق مائلين عن زيغ الهوى- فإن كنت برسول الله طلبت فحقنا أخذت- و إن كنت بالمؤمنين فنحن منهم- ما تقدمنا في أمركم فرطا و لا حللنا وسطا- و لا نزحنا شحطا- فإن كان هذا الأمر يجب لك بالمؤمنين- فما وجب إذ كنا كارهين- و ما أبعد قولك- إنهم طعنوا من قولك إنهم مالوا إليك- و أما ما بذلت لنا- فإن يكن حقك أعطيتناه فأمسكه عليك- و إن يكن حق المؤمنين فليس لك أن تحكم فيه- و إن يكن حقنا لم نرض لك ببعضه دون بعض- و ما أقول هذا أروم صرفك عما دخلت فيه- و لكن للحجة نصيبها من البيان- و أما قولك إن رسول الله ص منا و منكم- فإن رسول الله ص من شجرة نحن أغصانها و أنتم جيرانها- و أما قولك يا عمر إنك تخاف الناس علينا- فهذا الذي قدمتموه أول ذلك و بالله المستعان- . لما اجتمع المهاجرون على بيعة أبي بكر- أقبل أبو سفيان و هو يقول- أما و الله إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا الدم- يا لعبد مناف فيم أبو بكر من أمركم- أين المستضعفان أين الأذلان يعني عليا و العباس- ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش- ثم قال لعلي ابسط يدك أبايعك- فو الله إن شئت لأملأنها على أبي فصيل يعني أبا بكر- … خيلا و رجلا- فامتنع عليه علي ع- فلما يئس منه قام عنه و هو ينشد شعر المتلمس-

 

و لا يقيم على ضيم يراد به
إلا الأذلان عير الحي و الوتد

 

هذا على الخسف مربوط برمته‏
و ذا يشج فلا يرثي له أحد

 

– . قيل لأبي قحافة يوم ولي الأمر ابنه- قد ولي ابنك الخلافة فقرأ- قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ- وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ- ثم قال لم ولوه- قالوا لسنه قال أنا أسن منه- . نازع أبو سفيان أبا بكر في أمر فأغلظ له أبو بكر- فقال له أبو قحافة يا بني- أ تقول هذا لأبي سفيان شيخ البطحاء- قال إن الله تعالى رفع بالإسلام بيوتا و وضع بيوتا- فكان مما رفع بيتك يا أبت- و مما وضع بيت أبي سفيان

خطبه 4 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

4 و من خطبة له ع

بِنَا اهْتَدَيْتُمْ فِي الظَّلْمَاءِ وَ تَسَنَّمْتُمُ الْعَلْيَاءَ- وَ بِنَا انْفَجَرْتُمْ عَنِ السِّرَارِ- وُقِرَ سَمْعٌ لَمْ يَفْقَهِ الْوَاعِيَةَ- وَ كَيْفَ يُرَاعِي النَّبْأَةَ مَنْ أَصَمَّتْهُ الصَّيْحَةُ- رُبِطَ جَنَانٌ لَمْ يُفَارِقْهُ الْخَفَقَانُ- مَا زِلْتُ أَنْتَظِرُ بِكُمْ عَوَاقِبَ الْغَدْرِ- وَ أَتَوَسَّمُكُمْ بِحِلْيَةِ الْمُغْتَرِّينَ- سَتَرَنِي عَنْكُمْ جِلْبَابُ الدِّينِ- وَ بَصَّرَنِيكُمْ صِدْقُ النِّيَّةِ- أَقَمْتُ لَكُمْ عَلَى سَنَنِ الْحَقِّ فِي جَوَادِّ الْمَضَلَّةِ- حَيْثُ تَلْتَقُونَ وَ لَا دَلِيلَ- وَ تَحْتَفِرُونَ وَ لَا تُمِيهُونَ- الْيَوْمَ أُنْطِقُ لَكُمُ الْعَجْمَاءَ ذَاتَ الْبَيَانِ- عَزَبَ رَأْيُ امْرِئٍ تَخَلَّفَ عَنِّي- مَا شَكَكْتُ فِي الْحَقِّ مُذْ أُرِيتُهُ- لَمْ يُوجِسْ مُوسَى خِيفَةً عَلَى نَفْسِهِ- أَشْفَقَ مِنْ غَلَبَةِ الْجُهَّالِ وَ دُوَلِ الضَّلَالِ- الْيَوْمَ تَوَاقَفْنَا عَلَى سَبِيلِ الْحَقِّ وَ الْبَاطِلِ- مَنْ وَثِقَ بِمَاءٍ لَمْ يَظْمَأْ

هذه الكلمات و الأمثال ملتقطة من خطبة طويلة- منسوبة إليه ع- قد زاد فيها قوم أشياء حملتهم عليها أهواؤهم- لا توافق ألفاظها طريقته ع في الخطب- و لا تناسب فصاحتها فصاحته- و لا حاجة إلى ذكرها فهي شهيرة- و نحن نشرح هذه الألفاظ لأنها كلامه ع- لا يشك في ذلك من له ذوق و نقد- و معرفة بمذاهب الخطباء و الفصحاء في خطبهم و رسائلهم- و لأن الرواية لها كثيرة- و لأن الرضي رحمة الله تعالى عليه قد التقطها- و نسبها إليه ع و صححها و حذف ما عداها- . و أما قوله ع بنا اهتديتم في الظلماء- فيعني بالظلماء الجهالة- و تسنمتم العلياء ركبتم سنامها و هذه استعارة- . قوله و بنا انفجرتم عن السرار أي دخلتم في الفجر- و السرار الليلة و الليلتان يستتر فيهما القمر- في آخر الشهر فلا يظهر- و روي أفجرتم و هو أفصح و أصح- لأن انفعل لا يكون إلا مطاوع فعل- نحو كسرته فانكسر و حطمته فانحطم- إلا ما شذ من قولهم أغلقت الباب فانغلق- و أزعجته فانزعج- و أيضا فإنه لا يقع إلا حيث يكون علاج و تأثير- نحو انكسر و انحطم- و لهذا قالوا إن قولهم انعدم خطأ- و أما أفعل فيجي‏ء لصيرورة الشي‏ء على حال و أمر- نحو أغد البعير أي صار ذا غدة- و أجرب الرجل إذا صار ذا إبل جربى و غير ذلك- فأفجرتم أي صرتم ذوي فجر- .

و أما عن في قوله عن السرار- فهي للمجاوزة على حقيقة معناها الأصلي- أي منتقلين عن السرار و متجاوزين له- . و قوله ع وقر سمع- هذا دعاء على السمع الذي لم يفقه الواعية- بالثقل و الصمم- وقرت أذن زيد بضم الواو فهي موقورة- و الوقر بالفتح الثقل في الأذن-وقرت أذنه بفتح الواو و كسر القاف- توقر وقرا أي صمت- و المصدر في هذا الموضع جاء بالسكون و هو شاذ- و قياسه التحريك بالفتح نحو ورم ورما- و الواعية الصارخة من الوعاء- و هو الجلبة و الأصوات و المراد العبر و المواعظ- . قوله كيف يراعي النبأة هذا مثل آخر- يقول كيف يلاحظ و يراعي العبر الضعيفة- من لم ينتفع بالعبر الجلية الظاهرة بل فسد عندها- و شبه ذلك بمن أصمته الصيحة القوية- فإنه محال أن يراعي بعد ذلك الصوت الضعيف- و النبأة هي الصوت الخفي- .

فإن قيل هذا يخالف قولكم- إن الاستفساد لا يجوز على الحكيم سبحانه- فإن كلامه ع صريح- في أن بعض المكلفين يفسد عند العبر و المواعظ- . قيل إن لفظة أفعل قد تأتي لوجود الشي‏ء على صفة- نحو أحمدته إذا أصبته محمودا- و قالوا أحييت الأرض إذا وجدتها حية النبات- فقوله أصمته الصيحة- ليس معناه أن الصيحة كانت علة لصممه- بل معناه صادفته أصم- و بهذا تأول أصحابنا قوله تعالى- وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى‏ عِلْمٍ- . قوله ربط جنان لم يفارقه الخفقان- هذا مثل آخر- و هو دعاء لقلب لا يزال خائفا من الله- يخفق بالثبوت و الاستمساك- .

قوله ما زلت أنتظر بكم- يقول كنت مترقبا غدركم متفرسا فيكم الغرر- و هو الغفلة- . و قيل إن هذه الخطبة خطبها بعد مقتل طلحة و الزبير- مخاطبا بها لهما و لغيرهما من أمثالهما- كما قال النبي ص يوم بدر بعد قتل من قتل من قريش- يا عتبة بن ربيعة يا شيبة بن ربيعة يا عمرو بن هشام- و هم جيف منتنة قد جروا إلى القليب- .

قوله سترني عنكم هذا يحتمل وجوها- أوضحها أن إظهاركم شعار الإسلام عصمكم مني- مع علمي بنفاقكم- و إنما أبصرت نفاقكم و بواطنكم الخبيثة- بصدق نيتي- كما يقال المؤمن يبصر بنور الله- و يحتمل أن يريد سترني عنكم جلباب ديني- و منعني أن أعرفكم نفسي- و ما أقدر عليه من عسفكم- كما تقول لمن استهان بحقك- أنت لا تعرفني و لو شئت لعرفتك نفسي- . و فسر القطب الراوندي قوله ع- و بصرنيكم صدق النية- قال معناه أنكم إذا صدقتم نياتكم- و نظرتم بأعين لم تطرف بالحسد و الغش- و أنصفتموني أبصرتم عظيم منزلتي- . و هذا ليس بجيد لأنه لو كان هو المراد لقال- و بصركم إياي صدق النية- و لم يقل ذلك و إنما قال بصرنيكم- فجعل صدق النية مبصرا له لا لهم- و أيضا فإنه حكم بأن صدق النية هو علة التبصير- و أعداؤه لم يكن فيهم صادق النية- و ظاهر الكلام الحكم و القطع لا التعليق بالشرط- .

قوله أقمت لكم على سنن الحق- يقال تنح عن سنن الطريق و سنن الطريق- بفتح السين و ضمها فالأول مفرد و الثاني جمع سنة- و هي جادة الطريق و الواضح منها- و أرض مضلة و مضلة بفتح الضاد و كسرها يضل سالكها- و أماه المحتفر يميه أنبط الماء- يقول فعلت من إرشادكم و أمركم بالمعروف- و نهيكم عن المنكر ما يجب على مثلي- فوقفت لكم على جادة الحق و منهجه- حيث طرق الضلال كثيرة مختلفة من سائر جهاتي- و أنتم تائهون فيها تلتقون و لا دليل لكم- و تحتفرون لتجدوا ماء تنقعون به- غلتكم فلا تظفرون بالماء و هذه كلها استعارات- .

قوله اليوم أنطق هذا مثل آخر- و العجماء التي لا نطق لها- و هذا إشارة إلى الرموز التي تتضمنها هذه الخطبة- يقول هي خفية غامضة- و هي مع غموضها جلية لأولى الألباب- فكأنها تنطق كما ينطق ذوو الألسنة- كما قيل ما الأمور الصامتة الناطقة- فقيل الدلائل المخبرة و العبر الواعظة- و في الأثر سل الأرض من شق أنهارك- و أخرج ثمارك فإن لم تجبك حوارا أجابتك اعتبارا- . قوله عزب رأي امرئ تخلف عني هذا كلام آخر- عزب أي بعد و العازب البعيد- و يحتمل أن يكون هذا الكلام إخبارا و أن يكون دعاء- كما أن قوله تعالى حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ يحتمل الأمرين- . قوله ما شككت في الحق مذ رأيته هذا كلام آخر- يقول معارفي ثابتة لا يتطرق إليها الشك و الشبهة- .

قوله لم يوجس موسى هذا كلام شريف جدا- يقول إن موسى لما أوجس الخيفة- بدلالة قوله تعالى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى‏- لم يكن ذلك الخوف على نفسه- و إنما خاف من الفتنة و الشبهة الداخلة على المكلفين- عند إلقاء السحرة عصيهم- فخيل إليه من سحرهم أنها تسعى- و كذلك أنا لا أخاف على نفسي من الأعداء- الذين نصبوا لي الحبائل و أرصدوا لي المكايد- و سعروا علي نيران الحرب- و إنما أخاف أن يفتتن المكلفون بشبههم و تمويهاتهم- فتقوى دولة الضلال و تغلب كلمة الجهال- .

قوله اليوم تواقفنا القاف قبل الفاء- تواقف القوم على الطريق أي وقفوا كلهم عليها- يقول اليوم اتضح الحق و الباطل و عرفناهما نحن و أنتم- . قوله من وثق بماء لم يظمأ- الظمأ الذي يكون عند عدم الثقة بالماء- و ليس‏ يريد النفي المطلق- لأن الواثق بالماء قد يظمأ- و لكن لا يكون عطشه على حد العطش الكائن عند عدم الماء- و عدم الوثوق بوجوده- و هذا كقول أبي الطيب-

و ما صبابة مشتاق على أمل
من اللقاء كمشتاق بلا أمل‏

– . و الصائم في شهر رمضان يصبح جائعا- تنازعه نفسه إلى الغذاء- و في أيام الفطر لا يجد تلك المنازعة في مثل ذلك الوقت- لأن الصائم ممنوع- و النفس تحرص على طلب ما منعت منه- يقول إن وثقتم بي و سكنتم إلى قولي- كنتم أبعد عن الضلال و أقرب إلى اليقين و ثلج النفس- كمن وثق بأن الماء في إداوته- يكون عن الظمأ و خوف الهلاك من العطش- أبعد ممن لم يثق بذلك

خطبه 3 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(المعروفة بالشقشقية)

3 و من خطبة له و هي المعروفة بالشقشقية

 

أَمَا وَ اللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ وَ إِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنْ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ وَ لَا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ- فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً وَ طَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً- وَ طَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ- أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ- يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ وَ يَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ- وَ يَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ- فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى- فَصَبَرْتُ وَ فِي الْعَيْنِ قَذًى وَ فِي الْحَلْقِ شَجًا أَرَى تُرَاثِي نَهْباً سدلت دونها ثوبا أي أرخيت- يقول ضربت بيني و بينها حجابا- فعل الزاهد فيها الراغب عنها- و طويت عنها كشحا أي قطعتها و صرمتها- و هو مثل قالوا لأن من كان إلى جانبك الأيمن ماثلا- فطويت كشحك الأيسر فقد ملت عنه- و الكشح ما بين الخاصرة و الجنب- و عندي أنهم أرادوا غير ذلك- و هو أن من أجاع نفسه فقد طوى كشحه- كما أن من أكل و شبع فقد ملأ كشحه- فكأنه أراد أني أجعت نفسي عنها و لم ألقمها- و اليد الجذاء بالدال المهملة و بالذال المعجمة- و الحاء المهملة مع الذال المعجمة- كله بمعنى المقطوعة- و الطخية قطعة من الغيم و السحاب- و قوله عمياء تأكيد لظلام الحال و اسودادها- يقولون مفازة عمياء أي يعمى فيها الدليل-
و يكدح يسعى و يكد مع مشقة- قال تعالى إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ كَدْحاً- و هاتا بمعنى هذه ها للتنبيه- و تا للإشارة و معنى تا ذي- و هذا أحجى من كذا أي أليق بالحجا و هو العقل- . و في هذا الفصل من باب البديع في علم البيان- عشرة ألفاظ- . أولها قوله لقد تقمصها- أي جعلها كالقميص مشتملة عليه- و الضمير للخلافة و لم يذكرها للعلم بها- كقوله سبحانه حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ- و كقوله كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ- و كقول حاتم

 

أماوي ما يغني الثراء عن الفتى
إذا حشرجت يوما و ضاق بها الصدر

 

و هذه اللفظة مأخوذة من كتاب الله تعالى- في قوله سبحانه وَ لِباسُ التَّقْوى‏- و قول النابغة

 

تسربل سربالا من النصر و ارتدى
عليه بعضب في الكريهة قاصل‏

 

– . الثانية قوله ينحدر عني السيل- يعني رفعة منزلته ع- كأنه في ذروة جبل أو يفاع مشرف- ينحدر السيل عنه إلى الوهاد و الغيطان- قال الهذلي

 

و عيطاء يكثر فيها الزليل
و ينحدر السيل عنها انحدارا

 

– . الثالثة قوله ع و لا يرقى إلي الطير- هذه أعظم في الرفعة و العلو من التي قبلها- لأن السيل ينحدر عن الرابية و الهضبة- و أما تعذر رقي الطير- فربما يكون للقلال الشاهقة جدا- بل ما هو أعلى من قلال الجبال- كأنه يقول إني لعلو منزلتي- كمن في السماء التي يستحيل أن يرقى الطير إليها- قال أبو الطيب

 

فوق السماء و فوق ما طلبوا
فإذا أرادوا غاية نزلوا
و قال حبيب

 

مكارم لجت في علو كأنما
تحاول ثأرا عند بعض الكواكب‏

 

– . الرابعة قوله سدلت دونها ثوبا قد ذكرناه- . الخامسة قوله و طويت عنها كشحا قد ذكرناه أيضا- . السادسة قوله أصول بيد جذاء قد ذكرناه- . السابعة قوله أصبر على طخية عمياء قد ذكرناه أيضا- . الثامنة قوله و في العين قذى- أي صبرت على مضض كما يصبر الأرمد- . التاسعة قوله و في الحلق شجا- و هو ما يعترض في الحلق- أي كما يصبر من غص بأمر فهو يكابد الخنق- . العاشرة قوله أرى تراثي نهبا- كنى عن الخلافة بالتراث- و هو الموروث من المال- . فأما قوله ع إن محلي منها محل القطب من الرحى- فليس من هذا النمط الذي نحن فيه- و لكنه تشبيه محض- خارج من باب الاستعارة و التوسع- يقول كما أن الرحى لا تدور إلا على القطب- و دورانها بغير قطب لا ثمرة له و لا فائدة فيه- كذلك نسبتي إلى الخلافة- فإنها لا تقوم إلا بي و لا يدور أمرها إلا علي- . هكذا فسروه و عندي أنه أراد أمرا آخر- و هو أني من الخلافة في الصميم- و في وسطها و بحبوحتها- كما أن القطب وسط دائرة الرحى- قال الراجز

 

على قلاص مثل خيطان السلم
إذا قطعن علما بدا علم‏

 

حتى أنحناها إلى باب الحكم‏
خليفة الحجاج غير المتهم‏

في سرة المجد و بحبوح الكرم‏

 

 و قال أمية بن أبي الصلت لعبد الله بن جدعان-

 

فحللت منها بالبطاح
و حل غيرك بالظواهر

 

– . و أما قوله يهرم فيها الكبير و يشيب فيها الصغير- فيمكن أن يكون من باب الحقائق- و يمكن أن يكون من باب المجازات و الاستعارات- أما الأول فإنه يعني به طول مدة ولاية المتقدمين عليه- فإنها مدة يهرم فيها الكبير و يشيب فيها الصغير- . و أما الثاني فإنه يعني بذلك صعوبة تلك الأيام- حتى أن الكبير من الناس يكاد يهرم لصعوبتها- و الصغير يشيب من أهوالها- كقولهم هذا أمر يشيب له الوليد- و إن لم يشب على الحقيقة- .
و اعلم أن في الكلام تقديما و تأخيرا- و تقديره و لا يرقى إلي الطير- فطفقت أرتئي بين كذا و كذا- فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى فسدلت دونها ثوبا- و طويت عنها كشحا- ثم فصبرت و في العين قذى إلى آخر القصة- لأنه لا يجوز أن يسدل دونها ثوبا و يطوي عنها كشحا- ثم يطفق يرتئي بين أن ينابذهم أو يصبر- أ لا ترى أنه إذا سدل دونها ثوبا- و طوى عنها كشحا فقد تركها و صرمها- و من يترك و يصرم لا يرتئي في المنابذة- و التقديم و التأخير طريق لاحب- و سبيل مهيع في لغة العرب- قال سبحانه الَّذِي أَنْزَلَ عَلى‏ عَبْدِهِ الْكِتابَ- وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً- أي أنزل على عبده الكتاب قيما- و لم يجعل له عوجا و هذا كثير- . و قوله ع حتى يلقى ربه بالوقف و الإسكان- كما جاءت به الرواية في قوله سبحانه ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ بالوقف أيضا

نسب أبي بكر و نبذة من أخبار أبيه

ابن أبي قحافة المشار إليه هو أبو بكر- و اسمه القديم عبد الكعبة- فسماه رسول الله ص عبد الله- و اختلفوا في عتيق فقيل كان اسمه في الجاهلية- و قيل بل سماه به رسول الله ص- و اسم أبي قحافة عثمان- و هو عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب- بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب- و أمه ابنة عم أبيه- و هي أم الخير بنت صخر بن عمرو بن كعب بن سعد- أسلم أبو قحافة يوم الفتح- جاء به ابنه أبو بكر إلى النبي ص و هو شيخ كبير- رأسه كالثغامة البيضاء فأسلم- فقال رسول الله ص غيروا شيبته- .

و ولي ابنه الخلافة و هو حي منقطع في بيته- مكفوف عاجز عن الحركة- فسمع ضوضاء الناس فقال ما الخبر- فقالوا ولي ابنك الخلافة- فقال رضيت بنو عبد مناف بذلك قالوا نعم- قال اللهم لا مانع لما أعطيت و لا معطي لما منعت- . و لم يل الخلافة من أبوه حي إلا أبو بكر- و أبو بكر عبد الكريم الطائع لله- ولي الأمر و أبوه المطيع حي- خلع نفسه من الخلافة و عهد بها إلى ابنه- و كان المنصور يسمي عبد الله بن الحسن بن الحسن- أبا قحافة تهكما به- لأن ابنه محمدا ادعى الخلافة و أبوه حي- . و مات أبو بكر و أبو قحافة حي- فسمع الأصوات فسأل فقيل مات ابنك- فقال رزء جليل- و توفي أبو قحافة في أيام عمر في سنة أربع عشرة للهجرة- و عمره سبع و تسعون سنة- و هي السنة التي توفي فيها نوفل- بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم- .

إن قيل بينوا لنا ما عندكم في هذا الكلام- أ ليس صريحه دالا على تظليم القوم- و نسبتهم إلى اغتصاب الأمر- فما قولكم في ذلك- إن حكمتم عليهم بذلك فقد طعنتم فيهم- و إن لم تحكموا عليهم بذلك- فقد طعنتم في المتظلم المتكلم عليهم- . قيل أما الإمامية من الشيعة- فتجري هذه الألفاظ على ظواهرها- و تذهب إلى أن النبي ص- نص على أمير المؤمنين ع- و أنه غصب حقه- .

و أما أصحابنا رحمهم الله فلهم أن يقولوا- إنه لما كان أمير المؤمنين ع هو الأفضل و الأحق- و عدل عنه إلى من لا يساويه في فضل- و لا يوازيه في جهاد و علم و لا يماثله في سؤدد و شرف- ساغ إطلاق هذه الألفاظ- و إن كان من وسم بالخلافة قبله عدلا تقيا- و كانت بيعته بيعة صحيحة- أ لا ترى أن البلد قد يكون فيه فقيهان- أحدهما أعلم من الآخر بطبقات كثيرة- فيجعل السلطان الأنقص علما منهما قاضيا- فيتوجد الأعلم و يتألم- و ينفث أحيانا بالشكوى- و لا يكون ذلك طعنا في القاضي و لا تفسيقا له- و لا حكما منه بأنه غير صالح- بل للعدول عن الأحق و الأولى- و هذا أمر مركوز في طباع البشر- و مجبول في أصل الغريزة و الفطرة- فأصحابنا رحمهم الله لما أحسنوا الظن بالصحابة- و حملوا ما وقع منهم على وجه الصواب- و أنهم نظروا إلى مصلحة الإسلام- و خافوا فتنة لا تقتصر على ذهاب الخلافة فقط- بل و تفضي إلى ذهاب النبوة و الملة- فعدلوا عن الأفضل الأشرف الأحق إلى فاضل آخر دونه- فعقدوا له- احتاجوا إلى تأويل هذه الألفاظ- الصادرة عمن يعتقدونه في الجلالة و الرفعة- قريبا من منزلة النبوة- فتأولوها بهذا التأويل- و حملوها على التألم للعدول عن الأولى- .

و ليس هذا بأبعد من تأويل الإمامية قوله تعالى- وَ عَصى‏ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى‏- و قولهم معنى عصى أنه عدل عن الأولى- لأن الأمر بترك أكل الشجرة كان أمرا على سبيل الندب- فلما تركه آدم كان تاركا للأفضل و الأولى- فسمي عاصيا باعتبار مخالفة الأولى- و حملوا غوى على خاب- لا على الغواية بمعنى الضلال- و معلوم أن تأويل كلام أمير المؤمنين ع- و حمله على أنه شكا من تركهم الأولى- أحسن من حمل قوله تعالى وَ عَصى‏ آدَمُ على أنه ترك الأولى- .

إن قيل لا تخلو الصحابة- إما أن تكون عدلت عن الأفضل- لعلة و مانع في الأفضل أو لا لمانع- فإن كان لا لمانع كان ذلك عقدا للمفضول بالهوى- فيكون باطلا- و إن كان لمانع- و هو ما تذكرونه من خوف الفتنة- و كون الناس كانوا يبغضون عليا ع و يحسدونه- فقد كان يجب أن يعذرهم أمير المؤمنين ع- في العدول عنه- و يعلم أن العقد لغيره هو المصلحة للإسلام- فكيف حسن منه أن يشكوهم بعد ذلك و يتوجد عليهم- . و أيضا فما معنى قوله- فطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء- على ما تأولتم به كلامه- فإن تارك الأولى لا يصال عليه بالحرب- . قيل يجوز أن يكون أمير المؤمنين ع لم يغلب على ظنه- ما غلب على ظنون الصحابة- من الشغب و ثوران الفتنة- و الظنون تختلف باختلاف الأمارات- فرب إنسان يغلب على ظنه أمر يغلب على ظن غيره خلافه- و أما قوله أرتئي بين أن أصول- فيجوز أن يكون لم يعن به صيال الحرب- بل صيال الجدل و المناظرة- يبين ذلك أنه لو كان جادلهم- و أظهر ما في نفسه لهم- فربما خصموه بأن يقولوا له- قد غلب على ظنوننا أن الفساد يعظم و يتفاقم- إن وليت الأمر- و لا يجوز مع غلبة ظنوننا لذلك أن نسلم الأمر إليك- فهو ع قال- طفقت أرتئي بين أن أذكر لهم فضائلي عليهم- و أحاجهم بها فيجيبوني بهذا الضرب من الجواب- الذي تصير حجتي به جذاء مقطوعة- و لا قدرة لي على تشييدها و نصرتها- و بين أن أصبر على ما منيت به و دفعت إليه- . إن قيل إذا كان ع لم يغلب على ظنه- وجود العلة و المانع فيه- و قد استراب الصحابة و شكاهم لعدولهم- عن الأفضل الذي لا علة فيه عنده- فقد سلمتم أنه ظلم الصحابة و نسبهم إلى غصب حقه- فما الفرق بين ذلك و بين أن يستظلمهم لمخالفة النص- و كيف‏ هربتم من نسبته لهم إلى الظلم لدفع النص- و وقعتم في نسبته لهم إلى الظلم- لخلاف الأولى من غير علة في الأولى- و معلوم أن مخالفة الأولى من غير علة في الأولى- كتارك النص- لأن العقد في كلا الموضعين يكون فاسدا- . قيل الفرق بين الأمرين ظاهر- لأنه ع لو نسبهم إلى مخالفة النص لوجب وجود النص- و لو كان النص موجودا- لكانوا فساقا أو كفارا لمخالفته- و أما إذا نسبهم إلى ترك الأولى من غير علة في الأولى- فقد نسبهم إلى أمر يدعون فيه خلاف ما يدعي ع- و أحد الأمرين لازم- و هو إما أن يكون ظنهم صحيحا أو غير صحيح- فإن كان ظنهم هو الصحيح فلا كلام في المسألة- و إن لم يكن ظنهم صحيحا- كانوا كالمجتهد إذا ظن و أخطأ فإنه معذور- و مخالفة النص أمر خارج عن هذا الباب- لأن مخالفه غير معذور بحال فافترق المحملان

مرض رسول الله و أمره أسامة بن زيد على الجيش

لما مرض رسول الله ص مرض الموت- دعا أسامة بن زيد بن حارثة- فقال سر إلى مقتل أبيك فأوطئهم الخيل- فقد وليتك على هذا الجيش و إن أظفرك الله بالعدو- فأقلل اللبث و بث العيون و قدم الطلائع- فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين و الأنصار- إلا كان في ذلك الجيش- منهم أبو بكر و عمر- فتكلم قوم و قالوا- يستعمل هذا الغلام على جلة المهاجرين و الأنصار- فغضب رسول الله ص لما سمع ذلك- و خرج عاصبا رأسه فصعد المنبر و عليه قطيفة- فقال أيها الناس- ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأمير أسامة- لئن طعنتم في تأميري أسامة- فقد طعنتم في تأميري أباه من قبله- و ايم الله إن كان لخليقا بالإمارة- و ابنه من بعده لخليق بها و إنهما لمن أحب الناس إلي- فاستوصوا به خيرا فإنه من خياركم – ثم نزل و دخل بيته- و جاء المسلمون يودعون رسول الله ص- و يمضون إلى عسكر أسامة بالجرف- . و ثقل رسول الله ص و اشتد ما يجده- فأرسل بعض نسائه إلى أسامة و بعض من كان معه- يعلمونهم ذلك- فدخل أسامة من معسكره و النبي ص مغمور- و هو اليوم الذي لدوه فيه- فتطأطأ أسامة عليه فقبله- و رسول الله ص قد أسكت فهو لا يتكلم- فجعل يرفع يديه إلى السماء- ثم يضعهما على أسامة كالداعي له- ثم أشار إليه بالرجوع إلى عسكره- و التوجه لما بعثه فيه- فرجع أسامة إلى عسكره- ثم أرسل نساء رسول الله ص إلى أسامة يأمرنه بالدخول- و يقلن إن رسول الله ص قد أصبح بارئا- فدخل أسامة من معسكره يوم الإثنين- الثاني عشر من شهر ربيع الأول- فوجد رسول الله ص مفيقا- فأمره بالخروج و تعجيل النفوذ- و قال اغد على بركة الله- و جعل يقول أنفذوا بعث أسامة و يكرر ذلك- فودع رسول الله ص و خرج و معه أبو بكر و عمر- فلما ركب جاءه رسول أم أيمن- فقال إن رسول الله ص يموت- فأقبل و معه أبو بكر و عمر و أبو عبيدة- فانتهوا إلى رسول الله ص حين زالت الشمس- من هذا اليوم و هو يوم الإثنين- و قد مات و اللواء مع بريدة بن الحصيب- فدخل باللواء فركزه عند باب رسول الله ص و هو مغلق- و علي ع و بعض بني هاشم مشتغلون بإعداد جهازه و غسله- فقال العباس لعلي و هما في الدار- امدد يدك أبايعك- فيقول الناس عم رسول الله بايع ابن عم رسول الله- فلا يختلف عليك‏

اثنان- فقال له أ و يطمع يا عم فيها طامع غيري قال ستعلم- فلم يلبثا أن جاءتهما الأخبار- بأن الأنصار أقعدت سعدا لتبايعه- و أن عمر جاء بأبي بكر فبايعه و سبق الأنصار بالبيعة- فندم علي ع على تفريطه في أمر البيعة و تقاعده عنها- و أنشده العباس قول دريد-

أمرتهم أمري بمنعرج اللوى
فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد

– . و تزعم الشيعة أن رسول الله ص كان يعلم موته- و أنه سير أبا بكر و عمر في بعث أسامة- لتخلو دار الهجرة منهما فيصفو الأمر لعلي ع- و يبايعه من تخلف من المسلمين بالمدينة- على سكون و طمأنينة- فإذا جاءهما الخبر بموت رسول الله ص- و بيعة الناس لعلي ع بعده- كانا عن المنازعة و الخلاف أبعد- لأن العرب كانت تلتزم بإتمام تلك البيعة- و يحتاج في نقضها إلى حروب شديدة- فلم يتم له ما قدر و تثاقل أسامة بالجيش أياما- مع شدة حث رسول الله ص على نفوذه و خروجه بالجيش- حتى مات ص و هما بالمدينة- فسبقا عليا إلى البيعة و جرى ما جرى- . و هذا عندي غير منقدح- لأنه إن كان ص يعلم موته- فهو أيضا يعلم أن أبا بكر سيلي الخلافة- و ما يعلمه لا يحترس منه- و إنما يتم هذا و يصح- إذا فرضنا أنه ع كان يظن موته و لا يعلمه حقيقة- و يظن أن أبا بكر و عمر يتمالآن على ابن عمه- و يخاف وقوع ذلك منهما و لا يعلمه حقيقة- فيجوز إن كانت الحال هكذا أن ينقدح هذا التوهم- و يتطرق هذا الظن كالواحد منا له ولدان- يخاف من أحدهما
أن يتغلب بعد موته على جميع ماله- و لا يوصل أخاه إلى شي‏ء من حقه- فإنه قد يخطر له عند مرضه الذي يتخوف أن يموت فيه- أن يأمر الولد المخوف جانبه بالسفر إلى بلد بعيد- في تجارة يسلمها إليه- يجعل ذلك طريقا إلى دفع تغلبه على الولد الآخر
حَتَّى مَضَى الْأَوَّلُ لِسَبِيلِهِ- فَأَدْلَى بِهَا إِلَى ابْنِ الْخَطَّابِ بَعْدَهُ-

شَتَّانَ مَا يَوْمِي عَلَى كُورِهَا
وَ يَوْمُ حَيَّانَ أَخِي جَابِرِ

– فَيَا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِهِ- إِذْ عَقَدَهَا لآِخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا- فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَغْلُظُ كَلْمُهَا- وَ يَخْشُنُ مَسُّهَا وَ يَكْثُرُ الْعِثَارُ فِيهَا وَ الِاعْتِذَارُ مِنْهَا- فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ الصَّعْبَةِ- إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ وَ إِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ- فَمُنِيَ النَّاسُ لَعَمْرُ اللَّهِ بِخَبْطٍ وَ شِمَاسٍ وَ تَلَوُّنٍ وَ اعْتِرَاضٍ- فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ الْمُدَّةِ وَ شِدَّةِ الْمِحْنَةِ مضى لسبيله مات و السبيل الطريق- و تقديره مضى على سبيله و تجي‏ء اللام بمعنى على- كقوله

فخر صريعا لليدين و للفم‏

– . و قوله فأدلى بها من قوله تعالى- وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ- وَ تُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ- أي تدفعوها إليهم رشوة- و أصله من أدليت الدلو في البئر أرسلتها- . فإن قلت فإن أبا بكر إنما دفعها إلى عمر حين مات- و لا معنى للرشوة عند الموت- . قلت لما كان ع يرى أن العدول بها عنه إلى غيره- إخراج لها إلى غير جهة الاستحقاق- شبه ذلك بإدلاء الإنسان بماله إلى الحاكم- فإنه إخراج للمال إلى غير وجهه- فكان ذلك من باب الاستعارة- .

عهد أبي بكر بالخلافة إلى عمر بن الخطاب

و ابن الخطاب هو أبو حفص عمر الفاروق- و أبوه الخطاب بن نفيل بن عبد العزى- بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح- بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب- و أم عمر حنتمة بنت هاشم بن المغيرة- بن عبد الله بن عمر بن مخزوم- . لما احتضر أبو بكر قال للكاتب اكتب- هذا ما عهد عبد الله بن عثمان- آخر عهده بالدنيا و أول عهده بالآخرة- في الساعة التي يبر فيها الفاجر و يسلم فيها الكافر- ثم أغمي عليه فكتب الكاتب عمر بن الخطاب- ثم أفاق أبو بكر فقال اقرأ ما كتبت- فقرأ و ذكر اسم عمر فقال أنى لك هذا- قال ما كنت لتعدوه فقال أصبت- ثم قال أتم كتابك قال ما أكتب- قال اكتب و ذلك حيث أجال رأيه و أعمل فكره- فرأى أن هذا الأمر لا يصلح آخره إلا بما يصلح به أوله- و لا يحتمله إلا أفضل العرب مقدرة و أملكهم لنفسه- و أشدهم في حال الشدة و أسلسهم في حال اللين- و أعلمهم برأي ذوي الرأي- لا يتشاغل بما لا يعنيه و لا يحزن لما لم ينزل به- و لا يستحي من التعلم- و لا يتحير عند البديهة قوي على الأمور- لا يجوز بشي‏ء منها حده عدوانا و لا تقصيرا- يرصد لما هو آت عتاده من الحذر- . فلما فرغ من الكتاب دخل عليه قوم من الصحابة- منهم طلحة فقال له ما أنت قائل لربك غدا- و قد وليت علينا فظا غليظا- تفرق منه النفوس و تنفض عنه القلوب- . فقال أبو بكر أسندوني و كان مستلقيا فأسندوه- فقال لطلحة أ بالله تخوفني- إذا قال لي ذلك غدا قلت له وليت عليهم خير أهلك- .

و يقال أصدق الناس فراسة ثلاثة- العزيز في قوله لامرأته عن يوسف ع- وَ قالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ- أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى‏ أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً- و ابنة شعيب حيث قالت لأبيها في موسى- يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ- و أبو بكر في عمر- . و روى كثير من الناس أن أبا بكر لما نزل به الموت- دعا عبد الرحمن بن عوف فقال أخبرني عن عمر- فقال إنه أفضل من رأيك فيه إلا أن فيه غلظة- فقال أبو بكر ذاك لأنه يراني رقيقا- و لو قد أفضى الأمر إليه لترك كثيرا مما هو عليه- و قد رمقته إذا أنا غضبت على رجل أراني الرضا عنه- و إذا لنت له أراني الشدة عليه- ثم دعا عثمان بن عفان فقال أخبرني عن عمر- فقال سريرته خير من علانيته و ليس فينا مثله- فقال لهما لا تذكرا مما قلت لكما شيئا- و لو تركت عمر لما عدوتك يا عثمان- و الخيرة لك ألا تلي من أمورهم شيئا- و لوددت أني كنت من أموركم خلوا- و كنت فيمن مضى من سلفكم- و دخل طلحة بن عبيد الله على أبي بكر- فقال إنه بلغني أنك يا خليفة
رسول الله- استخلفت على الناس عمر- و قد رأيت ما يلقى الناس منه و أنت معه- فكيف به إذا خلا بهم- و أنت غدا لاق ربك فيسألك عن رعيتك- فقال أبو بكر أجلسوني ثم قال أ بالله تخوفني- إذا لقيت ربي فسألني قلت استخلفت عليهم خير أهلك- فقال طلحة أ عمر خير الناس يا خليفة رسول الله- فاشتد غضبه و قال إي و الله هو خيرهم و أنت شرهم- أما و الله لو وليتك لجعلت أنفك في قفاك- و لرفعت نفسك فوق قدرها- حتى يكون الله هو الذي يضعها- أتيتني و قد دلكت عينك- تريد أن تفتنني عن ديني و تزيلني عن رأيي- قم لا أقام الله رجليك- أما و الله لئن عشت فواق ناقة و بلغني أنك غمصته فيها- أو ذكرته بسوء لألحقنك بمحمضات قنة- حيث كنتم تسقون و لا تروون و ترعون و لا تشبعون- و أنتم بذلك بجحون راضون فقام طلحة فخرج- . أحضر أبو بكر عثمان و هو يجود بنفسه- فأمره أن يكتب عهدا- و قال اكتب بسم الله الرحمن الرحيم- هذا ما عهد عبد الله بن عثمان إلى المسلمين أما بعد ثم أغمي عليه و كتب عثمان- قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب- و أفاق أبو بكر فقال اقرأ فقرأه- فكبر أبو بكر و سر- و قال أراك خفت أن يختلف الناس أن مت في غشيتي- قال نعم قال جزاك الله خيرا عن الإسلام و أهله- ثم أتم العهد و أمر أن يقرأ على الناس فقرئ عليهم- ثم أوصى عمر فقال له- إن لله حقا بالليل لا يقبله في النهار- و حقا في النهار لا يقبله بالليل- و إنه لا يقبل نافلة ما لم تؤد الفريضة- و إنما ثقلت موازين من اتبع الحق مع ثقله عليه- و إنما خفت موازين من اتبع الباطل لخفته عليه- إنما أنزلت آية الرخاء مع آية الشدة- لئلا يرغب المؤمن رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له- و لئلايرهب رهبة يلقى فيها بيده- فإن حفظت وصيتي- فلا يكن غائب أحب إليك من الموت و لست معجزة- ثم توفي أبو بكر- . دعا أبو بكر عمر يوم موته بعد عهده إليه- فقال إني لأرجو أن أموت في يومي هذا- فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى بن حارثة- و إن تأخرت إلى الليل فلا تصبحن حتى تندب الناس معه- و لا تشغلنكم مصيبة عن دينكم- و قد رأيتني متوفى رسول الله ص كيف صنعت- . و توفي أبو بكر ليلة الثلاثاء- لثمان بقين من جمادى الآخرة من سنة ثلاث عشرة – . و أما البيت الذي تمثل به ع- فإنه للأعشى الكبير أعشى قيس- و هو أبو بصير ميمون بن قيس بن جندل- من القصيدة التي قالها- في منافرة علقمة بن علاثة و عامر بن الطفيل- و أولها

علقم ما أنت إلى عامر
الناقض الأوتار و الواتر

يقول فيها

و قد أسلي الهم إذ يعتري
بجسرة دوسرة عاقر

زيافة بالرحل خطارة
تلوي بشرخي ميسة قاتر

شرخا الرحل مقدمه و مؤخره- و الميس شجر يتخذ منه الرحال- و رحل قاتر جيد الوقوع على ظهر البعير-
شتان ما يومي على كورها
و يوم حيان أخي جابر

أرمي بها البيداء إذ هجرت‏
و أنت بين القرو و العاصر

في مجدل شيد بنيانه
يزل عنه ظفر الطائر

– . تقول شتان ما هما و شتان هما- و لا يجوز شتان ما بينهما إلا على قول ضعيف- . و شتان أصله شتت كوشكان ذا خروجا من وشك- و حيان و جابر ابنا السمين الحنفيان- و كان حيان صاحب شراب و معاقرة خمر- و كان نديم الأعشى- و كان أخوه جابر أصغر سنا منه- فيقال إن حيان قال للأعشى- نسبتني إلى أخي و هو أصغر سنا مني- فقال إن الروي اضطرني إلى ذلك- فقال و الله لا نازعتك كأسا أبدا ما عشت- يقول شتان يومي و أنا في الهاجرة و الرمضاء- أسير على كور هذه الناقة- و يوم حيان و هو في سكرة الشراب- ناعم البال مرفه من الأكدار و المشاق- و القرو شبه حوض يتخذ من جذع- أو من شجر ينبذ فيه- و العاصر الذي يعتصر العنب و المجدل الحصن المنيع- . و شبيه بهذا المعنى قول الفضل بن الربيع- في أيام فتنة الأمين يذكر حاله و حال أخيه المأمون- إنما نحن شعب من أصل- إن قوي قوينا و إن ضعف ضعفنا- و إن هذا الرجل قد ألقى بيده إلقاء الأمة الوكعاء- يشاور النساء و يقدم على الرؤيا- قد أمكن أهل الخسارة و اللهو من سمعه- فهم يمنونه الظفر و يعدونه عقب الأيام- و الهلاك أسرع إليه من السيل إلى قيعان الرمل- ينام نوم الظربان و ينتبه انتباه الذئب- همه بطنه و فرجه لا يفكر في زوال نعمة- و لا يروى في إمضاء رأي و لا مكيدة- قد شمر له عبد الله‏ عن ساقه و فوق إليه أسد سهامه- يرميه على بعد الدار بالحتف النافذ- و الموت القاصد قد عبا له المنايا على متون الخيل- و ناط له البلايا بأسنة الرماح و شفار السيوف- فهو كما قال الشاعر-

لشتان ما بيني و بين ابن خالد
أمية في الرزق الذي الله يقسم‏

 

يقارع أتراك ابن خاقان ليله‏
إلى أن يرى الإصباح لا يتلعثم‏

 

و آخذها حمراء كالمسك ريحها
لها أرج من دنها يتنسم‏

 

فيصبح من طول الطراد و جسمه‏
نحيل و أضحي في النعيم أصمم‏

 

– . و أمية المذكور في هذا الشعر- هو أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد- بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس- كان والي خراسان و حارب الترك- و الشعر للبعيث- . يقول أمير المؤمنين ع- شتان بين يومي في الخلافة مع ما انتقض علي من الأمر- و منيت به من انتشار الحبل و اضطراب أركان الخلافة- و بين يوم عمر حيث وليها على قاعدة ممهدة- و أركان ثابتة و سكون شامل- فانتظم أمره و اطرد حاله و سكنت أيامه- . قوله ع فيا عجبا أصله فيا عجبي- كقولك يا غلامي ثم قلبوا الياء ألفا- فقالوا يا عجبا كقولهم يا غلاما- فإن وقفت وقفت على هاء السكت- فقلت يا عجباه و يا غلاماه- قال العجب منه و هو يستقيل المسلمين- من الخلافة أيام حياته- فيقول أقيلوني ثم يعقدها عند وفاته لآخر- و هذا يناقض الزهد فيها و الاستقالة منها- و قال شاعر من شعراء الشيعة

حملوها يوم السقيفة
أوزارا تخف الجبال و هي ثقال‏
ثم جاءوا من بعدها
يستقيلون و هيهات عثرة لا تقال‏

– . و قد اختلف الرواة في هذه اللفظة- فكثير من الناس رواها- أقيلوني فلست بخيركم- و من الناس من أنكر هذه اللفظة و لم يروها- و إنما روى قوله وليتكم و لست بخيركم- و احتج بذلك من لم يشترط الأفضلية في الإمامة- و من رواها اعتذر لأبي بكر فقال إنما قال أقيلوني- ليثور ما في نفوس الناس من بيعته- و يخبر ما عندهم من ولايته- فيعلم مريدهم و كارههم و محبهم و مبغضهم- فلما رأى النفوس إليه ساكنة- و القلوب لبيعته مذعنة- استمر على إمارته و حكم حكم الخلفاء في رعيته- و لم يكن منكرا منه أن يعهد إلى من استصلحه لخلافته- . قالوا و قد جرى مثل ذلك لعلي ع- فإنه قال للناس بعد قتل عثمان-
دعوني و التمسوا غيري- فأنا لكم وزيرا خير مني لكم أميرا- و قال لهم اتركوني فأنا كأحدكم- بل أنا أسمعكم و أطوعكم لمن وليتموه أمركم
– فأبوا عليه و بايعوه فكرهها أولا- ثم عهد بها إلى الحسن ع عند موته- . قالت الإمامية هذا غير لازم- و الفرق بين الموضعين ظاهر- لأن عليا ع لم يقل إني لا أصلح و لكنه كره الفتنة- و أبو بكر قال كلاما معناه أني لا أصلح لها- لقوله لست بخيركم- و من نفى عن نفسه صلاحيته للإمامة- لا يجوز أن يعهد بها إلى غيره- . و اعلم أن الكلام في هذا الموضع- مبني على أن الأفضلية هل هي شرط في الإمامة أم لا- و قد تكلمنا في شرح الغرر- لشيخنا أبي الحسين رحمه الله تعالى في هذا البحث- بما لا يحتمله هذا الكتاب-

و قوله ع لشد ما تشطرا ضرعيها- شد أصله شدد كقولك حب في حبذا أصله حبب- و معنى شد صار شديدا جدا و معنى حب صار حبيبا- قال البحتري

شد ما أغريت ظلوم بهجري
بعد وجدي بها و غلة صدري‏

– . و للناقة أربعة أخلاف خلفان قادمان و خلفان آخران- و كل اثنين منهما شطر- و تشطرا ضرعيها اقتسما فائدتهما و نفعهما- و الضمير للخلافة و سمى القادمين معا ضرعا- و سمى الآخرين معا ضرعا لما كانا لتجاورهما- و لكونهما لا يحلبان إلا معا كشي‏ء واحد- . قوله ع فجعلها في حوزة خشناء- أي في جهة صعبة المرام شديدة الشكيمة- و الكلم الجرح- . و قوله يغلظ- من الناس من قال كيف قال يغلظ كلمها- و الكلم لا يوصف بالغلظ و هذا قلة فهم بالفصاحة- أ لا ترى كيف قد وصف الله سبحانه العذاب بالغلظ- فقال وَ نَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ أي متضاعف- لأن الغليظ من الأجسام هو ما كثف و جسم- فكان أجزاؤه و جواهره متضاعفة- فلما كان العذاب أعاذنا الله منه متضاعفا سمي غليظا- و كذلك الجرح إذا أمعن و عمق- فكأنه قد تضاعف و صار جروحا فسمي غليظا- . إن قيل قد قال ع في حوزة خشناء فوصفها بالخشونة- فكيف أعاد ذكر الخشونة ثانية فقال يخشن مسها- . قيل الاعتبار مختلف- لأن مراده بقوله في حوزة خشناء- أي لا ينال ما عندها و لا يرام- يقال إن فلانا لخشن الجانب و وعر الجانب- و مراده بقوله يخشن‏ مسها- أي تؤذي و تضر و تنكئ من يمسها- يصف جفاء أخلاق الوالي المذكور- و نفور طبعه و شدة بادرته- . قوله ع و يكثر العثار فيها و الاعتذار منها- يقول ليست هذه الجهة جددا مهيعا- بل هي كطريق كثير الحجارة لا يزال الماشي فيه عاثرا- . و أما منها في قوله ع و الاعتذار منها- فيمكن أن تكون من على أصلها- يعني أن عمر كان كثيرا ما يحكم بالأمر ثم ينقضه- و يفتي بالفتيا ثم يرجع عنها- و يعتذر مما أفتى به أولا- و يمكن أن تكون من هاهنا للتعليل و السببية- أي و يكثر اعتذار الناس عن أفعالهم و حركاتهم لأجلها- قال

أ من رسم دار مربع و مصيف
لعينيك من ماء الشئون و كيف‏

– . أي لأجل أن رسم المربع و المصيف هذه الدار- و كف دمع عينيك- . و الصعبة من النوق ما لم تركب و لم ترض- إن أشنق لها راكبها بالزمام خرم أنفها- و إن أسلس زمامها تقحم في المهالك- فألقته في مهواة أو ماء أو نار- أو ندت فلم تقف حتى ترديه عنها فهلك- . و أشنق الرجل ناقته إذا كفها بالزمام و هو راكبها- و اللغة المشهورة شنق ثلاثية- و في الحديث أن طلحة أنشد قصيدة- فما زال شانقا راحلته حتى كتبت له- و أشنق البعير نفسه إذا رفع رأسه يتعدى و لا يتعدى- و أصله من الشناق و هو خيط يشد به فم القربة- . و قال الرضي أبو الحسن رحمه الله تعالى- إنما قال ع أشنق لها و لم يقل أشنقها- لأنه جعل ذلك في مقابلة قوله أسلس لها و هذا حسن- فإنهم إذا
قصدوا الازدواج في الخطابة فعلوا مثل هذا- قالوا الغدايا و العشايا- و الأصل الغدوات جمع غدوة-و قال ص ارجعن مأزورات غير مأجورات – و أصله موزورات بالواو لأنه من الوزر- . و قال الرضي رحمه الله تعالى- و مما يشهد على أن أشنق بمعنى شنق- قول عدي بن زيد العبادي-

ساءها ما لها تبين في الأيدي
و إشناقها إلى الأعناق‏

 قلت تبين في هذا البيت فعل ماض تبين يتبين تبينا- و اللام في لها تتعلق بتبين- يقول ظهر لها ما في أيدينا فساءها- و هذا البيت من قصيدة أولها-

ليس شي‏ء على المنون بباق
غير وجه المسبح الخلاق‏

و قد كان زارته بنية له صغيرة اسمها هند- و هو في الحبس حبس النعمان- و يداه مغلولتان إلى عنقه فأنكرت ذلك- و قالت ما هذا الذي في يدك و عنقك يا أبت و بكت- فقال هذا الشعر و قبل هذا البيت-

و لقد غمني زيارة ذي قربى
صغير لقربنا مشتاق‏

ساءها ما لها تبين في الأيدي‏
و إشناقها إلى الأعناق‏

أي ساءها ما ظهر لها من ذلك- و يروى ساءها ما بنا تبين أي ما بان و ظهر- و يروى ما بنا تبين بالرفع على أنه مضارع- . و يروى إشناقها بالرفع عطفا على ما- التي هي بمعنى الذي و هي فاعلة- و يروى بالجر عطفا على الأيدي- .

و قال الرضي رحمه الله تعالى أيضا- و يروى أن رسول الله ص خطب الناس- و هو على ناقة قد شنق لها و هي تقصع بجرتها- . قلت الجرة ما يعلو من الجوف و تجتره الإبل- و الدرة ما يسفل و تقصع بها تدفع- و قد كان للرضي رحمه الله تعالى إذا كانت الرواية- قد وردت هكذا أن يحتج بها على جواز أشنق لها- فإن الفعل في الخبر قد عدي باللام لا بنفسه- قوله ع فمني الناس أي بلي الناس- قال منيت بزمردة كالعصاو الخبط السير على غير جادة- و الشماس النفار و التلون التبدل- و الاعتراض السير لا على خط مستقيم- كأنه يسير عرضا في غضون سيره طولا- و إنما يفعل ذلك البعير الجامح الخابط- و بعير عرضي يعترض في مسيره لأنه لم يتم رياضته- و في فلان عرضية أي عجرفة و صعوبة
طرف من أخبار عمر بن الخطاب
و كان عمر بن الخطاب صعبا- عظيم الهيبة شديد السياسة- لا يحابي أحدا و لا يراقب شريفا و لا مشروفا- و كان أكابر الصحابة يتحامون و يتفادون من لقائه- كان أبو سفيان بن حرب في مجلس عمر- و هناك زياد بن سمية و كثير من الصحابة- فتكلم زياد فأحسن و هو يومئذ غلام- فقال علي ع و كان حاضرا- لأبي سفيان و هو إلى جانبه- لله هذا الغلام لو كان قرشيا لساق العرب بعصاه- فقال له أبو سفيان أما و الله لو عرفت أباه- لعرفت أنه من خير أهلك- قال و من أبوه قال أنا وضعته و الله في رحم أمه- فقال علي ع فما يمنعك من استلحاقه- قال أخاف هذا العير الجالس أن يخرق علي إهابي-

و قيل لابن عباس لما أظهر قوله في العول- بعد موت عمر و لم يكن قبل يظهره- هلا قلت هذا و عمر حي- قال هبته و كان امرأ مهابا- . و استدعى عمر امرأة ليسألها عن أمر و كانت حاملا- فلشدة هيبته ألقت ما في بطنها- فأجهضت به جنينا ميتا- فاستفتى عمر أكابر الصحابة في ذلك- فقالوا لا شي‏ء عليك إنما أنت مؤدب- فقال له علي ع إن كانوا راقبوك فقد غشوك- و إن كان هذا جهد رأيهم فقد أخطئوا- عليك غرة يعني عتق رقبة- فرجع عمر و الصحابة إلى قوله- . و عمر هو الذي شد بيعة أبي بكر و وقم المخالفين فيها- فكسر سيف الزبير لما جرده و دفع في صدر المقداد- و وطئ في السقيفة سعد بن عبادة- و قال اقتلوا سعدا قتل الله سعدا- و حطم أنف الحباب بن المنذر الذي قال يوم السقيفة- أنا جذيلها المحكك و عذيقها المرجب- و توعد من لجأ إلى دار فاطمة ع من الهاشميين- و أخرجهم منها- و لولاه لم يثبت لأبي بكر أمر و لا قامت له قائمة- .

و هو الذي ساس العمال و أخذ أموالهم في خلافته- و ذلك من أحسن السياسات- . و روى الزبير بن بكار- قال لما قلد عمر عمرو بن العاص مصر- بلغه أنه قد صار له مال عظيم من ناطق و صامت- فكتب إليه أما بعد- فقد ظهر لي من مالك ما لم يكن في رزقك- و لا كان لك مال قبل أن أستعملك- فأنى لك هذا فو الله لو لم يهمني في ذات الله- إلا من اختان في مال الله- لكثر همي و انتثر أمري- و لقد كان عندي من المهاجرين الأولين من هو خير منك- و لكني قلدتك رجاء غنائك- فاكتب إلي من أين لك هذا المال و عجل- .

فكتب إليه عمرو- أما بعد فقد فهمت كتاب أمير المؤمنين- فأما ما ظهر لي من مال- فأنا قدمنا بلادا رخيصة الأسعار كثيرة الغزو- فجعلنا ما أصابنا في الفضول- التي اتصل بأمير المؤمنين نبؤها- و و الله لو كانت خيانتك حلالا ما خنتك و قد ائتمنتني- فإن لنا أحسابا إذا رجعنا إليها أغنتنا عن خيانتك- و ذكرت أن عندك من المهاجرين الأولين من هو خير مني- فإذا كان ذاك فو الله ما دققت لك يا أمير المؤمنين بابا- و لا فتحت لك قفلا- فكتب إليه عمر- أما بعد فإني لست من تسطيرك الكتاب- و تشقيقك الكلام في شي‏ء- و لكنكم معشر الأمراء قعدتم على عيون الأموال- و لن تعدموا عذرا- و إنما تأكلون النار و تتعجلون العار- و قد وجهت إليك محمد بن مسلمة- فسلم إليه شطر مالك- . فلما قدم محمد صنع له عمرو طعاما و دعاه فلم يأكل- و قال هذه تقدمة الشر و لو جئتني بطعام الضيف لأكلت- فنح عني طعامك و أحضر لي مالك- فأحضره فأخذ شطره- فلما رأى عمرو كثرة ما أخذ منه قال- لعن الله زمانا صرت فيه عاملا لعمر- و الله لقد رأيت عمر و أباه- على كل واحد منهما عباءة قطوانية- لا تجاوز مأبض ركبتيه و على عنقه حزمة حطب- و العاص بن وائل في مزررات الديباج- فقال محمد إيها عنك يا عمرو- فعمر و الله خير منك و أما أبوك و أبوه فإنهما في النار- و لو لا الإسلام لألفيت معتلقا شاة- يسرك غزرها و يسوؤك بكوؤها- قال صدقت فاكتم علي قال أفعل- قال الربيع بن زياد الحارثي- كنت عاملا لأبي موسى الأشعري على البحرين-

فكتب إليه عمر بالقدوم عليه هو و عماله- و أن يستخلفوا جميعا- فلما قدمنا المدينة- أتيت يرفأ حاجب عمر- فقلت يا يرفأ مسترشد و ابن سبيل- أي الهيئات أحب إلى أمير المؤمنين أن يرى فيها عماله- فأومأ إلي بالخشونة فاتخذت خفين مطارقين- و لبست جبة صوف و لثت عمامتي على رأسي- ثم دخلنا على عمر فصفنا بين يديه- فصعد بصره فينا و صوب- فلم تأخذ عينه أحدا غيري فدعاني- فقال من أنت قلت الربيع بن زياد الحارثي- قال و ما تتولى من أعمالنا قلت البحرين- قال كم ترزق قلت ألفا قال كثير فما تصنع به- قلت أتقوت منه شيئا و أعود بباقيه على أقارب لي- فما فضل منهم فعلى فقراء المسلمين- قال لا بأس ارجع إلى موضعك- فرجعت إلى موضعي من الصف فصعد فينا و صوب- فلم تقع عينه إلا علي فدعاني- فقال كم سنك قلت خمس و أربعون- فقال الآن حيث استحكمت ثم دعا بالطعام- و أصحابي حديث عهدهم بلين العيش- و قد تجوعت له فأتى بخبز يابس و أكسار بعير- فجعل أصحابي يعافون ذلك و جعلت آكل فأجيد- و أنا أنظر إليه و هو يلحظني من بينهم- ثم سبقت مني كلمة تمنيت لها أني سخت في الأرض- فقلت يا أمير المؤمنين إن الناس يحتاجون إلى صلاحك- فلو عمدت إلى طعام ألين من هذا- فزجرني ثم قال كيف قلت فقلت يا أمير المؤمنين- أن تنظر إلى قوتك من الطحين- فيخبز قبل إرادتك إياه بيوم- و يطبخ لك اللحم كذلك- فتؤتى بالخبز لينا و باللحم غريضا- فسكن من غربه و قال أ هاهنا غرت قلت نعم- فقال يا ربيع- إنا لو نشاء لملأنا هذه الرحاب- من صلائق و سبائك و صناب- و لكني رأيت الله نعى على قوم شهواتهم- فقال أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ‏ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا – ثم أمر أبا موسى بإقراري و أن يستبدل بأصحابي- . أسلم عمر بعد جماعة من الناس- و كان سبب إسلامه أن أخته و بعلها أسلما سرا من عمر- فدخل إليهما خباب بن الأرت يعلمهما الدين خفية- فوشى بهم واش إلى عمر فجاء دار أخته- فتوارى خباب منه داخل البيت- فقال عمر ما هذه الهينمة عندكم- قالت أخته ما عدا حديثا تحدثناه بيننا- قال أراكما قد صبوتما- قال ختنه أ رأيت إن كان هو الحق- فوثب عليه عمر فوطئه وطئا شديدا- فجاءت أخته فدفعته عنه فنفحها بيده- فدمي وجهها ثم ندم و رق و جلس واجما- فخرج إليه خباب فقال أبشر يا عمر- فإني أرجو أن تكون دعوة رسول الله لك الليلة- فإنه لم يزل يدعو منذ الليلة- اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام- . قال فانطلق عمر متقلدا سيفه- حتى- أتى إلى الدار التي فيها رسول الله ص يومئذ- و هي الدار التي في أصل الصفا- و على الباب حمزة و طلحة و ناس من المسلمين- فوجل القوم من عمر إلا حمزة فإنه قال قد جاءنا عمر- فإن يرد الله به خيرا يهده- و إن يرد غير ذلك كان قتله علينا هينا- و النبي ص داخل الدار يوحى إليه فسمع كلامهم- فخرج حتى أتى عمر فأخذ بمجامع ثوبه و حمائل سيفه- و قال ما أنت بمنته يا عمر- حتى ينزل الله بك من الخزي و النكال- ما أنزل بالوليد بن المغيرة- اللهم هذا عمر اللهم أعز الإسلام بعمر- فقال عمر أشهد أن لا إله إلا الله- و أشهد أن محمدا رسول الله- . مر يوما عمر في بعض شوارع المدينة فناداه إنسان- ما أراك إلا تستعمل عمالك و تعهد إليهم العهود- و ترى أن ذلك قد أجزأك- كلا و الله إنك المأخوذ بهم إن لم تتعهدهم-

قال ما ذاك قال عياض بن غنم يلبس اللين- و يأكل الطيب و يفعل كذا و كذا- قال أ ساع قال بل مؤد ما عليه- فقال لمحمد بن مسلمة الحق بعياض بن غنم- فأتني به كما تجده- فمضى محمد بن مسلمة حتى أتى باب عياض- و هو أمير على حمص و إذا عليه بواب- فقال له قل لعياض على بابك رجل يريد أن يلقاك- قال ما تقول قال قل له ما أقول لك- فقام كالمعجب فأخبره فعرف عياض أنه أمر حدث- فخرج فإذا محمد بن مسلمة فأدخله- فرأى على عياض قميصا رقيقا و رداء لينا- فقال إن أمير المؤمنين أمرني ألا أفارقك- حتى آتيه بك كما أجدك- فأقدمه على عمر و أخبره أنه وجده في عيش ناعم- فأمر له بعصا و كساء- و قال اذهب بهذه الغنم فأحسن رعيها- فقال الموت أهون من ذلك فقال كذبت- و لقد كان ترك ما كنت عليه أهون عليك من ذلك- فساق الغنم بعصاه و الكساء في عنقه فلما بعد رده- و قال أ رأيت إن رددتك إلى عملك أ تصنع خيرا- قال نعم و الله يا أمير المؤمنين- لا يبلغك مني بعدها ما تكره- فرده إلى عمله فلم يبلغه عنه بعدها ما ينقمه عليه- . كان الناس بعد وفاة رسول الله ص يأتون الشجرة- التي كانت بيعة الرضوان تحتها فيصلون عندها- فقال عمر أراكم أيها الناس رجعتم إلى العزى- ألا لا أوتي منذ اليوم بأحد عاد لمثلها- إلا قتلته بالسيف كما يقتل المرتد- ثم أمر بها فقطعت- . لما مات رسول الله ص و شاع بين الناس موته- طاف عمر على الناس قائلا إنه لم يمت- و لكنه غاب عنا كما غاب موسى عن قومه- و ليرجعن فليقطعن أيدي رجال و أرجلهم يزعمون أنه مات- فجعل لا يمر بأحد يقول إنه مات إلا و يخبطه و يتوعده- حتى جاء أبو بكر فقال أيها الناس- من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات-

و من كان يعبد رب محمد فإنه حي لم يمت- ثم تلا قوله تعالى- أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى‏ أَعْقابِكُمْ- قالوا فو الله لكان الناس ما سمعوا هذه الآية- حتى تلاها أبو بكر- و قال عمر لما سمعته يتلوها هويت إلى الأرض- و علمت أن رسول الله قد مات- . لما قتل خالد مالك بن نويرة و نكح امرأته- كان في عسكره أبو قتادة الأنصاري- فركب فرسه و التحق بأبي بكر- و حلف ألا يسير في جيش تحت لواء خالد أبدا- فقص على أبي بكر القصة- فقال أبو بكر لقد فتنت الغنائم العرب- و ترك خالد ما أمر به- فقال عمر إن عليك أن تقيده بمالك فسكت أبو بكر- و قدم خالد فدخل المسجد- و عليه ثياب قد صدئت من الحديد- و في عمامته ثلاثة أسهم- فلما رآه عمر قال أ رياء يا عدو الله- عدوت على رجل من المسلمين فقتلته و نكحت امرأته- أما و الله إن أمكنني الله منك لأرجمنك- ثم تناول الأسهم من عمامته فكسرها- و خالد ساكت لا يرد عليه- ظنا أن ذلك عن أمر أبي بكر و رأيه- فلما دخل إلى أبي بكر و حدثه- صدقه فيما حكاه و قبل عذره- فكان عمر يحرض أبا بكر على خالد- و يشير عليه أن يقتص منه بدم مالك- فقال أبو بكر إيها يا عمر- ما هو بأول من أخطأ فارفع لسانك عنه- ثم ودى مالكا من بيت مال المسلمين- . لما صالح خالد أهل اليمامة و كتب بينه و بينهم كتاب الصلح- و تزوج ابنة مجاعة بن مرارة الحنفي- وصل إليه كتاب أبي بكر لعمري يا ابن أم خالد- إنك لفارغ حتى تزوج النساء- و حول حجرتك دماء المسلمين لم تجف بعد- في كلام أغلظ له فيه- فقال خالد هذا الكتاب ليس من عمل أبي بكر- هذا عمل الأعيسر يعني عمر-

عزل عمر خالدا عن إمارة حمص في سنة سبع عشرة- و إقامة للناس و عقله بعمامته- و نزع قلنسوته عن رأسه- و قال أعلمني من أين لك هذا المال- و ذلك أنه أجاز الأشعث بن قيس بعشرة آلاف درهم- فقال من الأنفال و السهمان- فقال لا و الله لا تعمل لي عملا بعد اليوم- و شاطره ماله و كتب إلى الأمصار بعزله- و قال إن الناس فتنوا به فخفت أن يوكلوا إليه- و أحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع- . لما أسر الهرمزان حمل إلى عمر من تستر إلى المدينة- و معه رجال من المسلمين- منهم الأحنف بن قيس و أنس بن مالك- فأدخلوه المدينة في هيئته و تاجه و كسوته- فوجدوا عمر نائما في جانب المسجد- فجلسوا عنده ينتظرون انتباهه- فقال الهرمزان و أين عمر قالوا ها هو ذا- قال أين حرسه قالوا لا حاجب له و لا حارس- قال فينبغي أن يكون هذا نبيا- قالوا إنه يعمل بعمل الأنبياء- و استيقظ عمر فقال الهرمزان فقالوا نعم- قال لا أكلمه أو لا يبقى عليه من حليته شي‏ء- فرموا ما عليه و ألبسوه ثوبا صفيقا- فلما كلمه عمر أمر أبا طلحة أن ينتضي سيفه- و يقوم على رأسه ففعل- ثم قال له ما عذرك في نقض الصلح و نكث العهد- و قد كان الهرمزان صالح أولا ثم نقض و غدر- فقال أخبرك قال قل قال و أنا شديد العطش- فاسقني ثم أخبرك فأحضر له ماء- فلما تناوله جعلت يده ترعد- قال ما شأنك قال أخاف أن أمد عنقي- و أنا أشرب فيقتلني سيفك- قال لا بأس عليك حتى تشرب- فألقى الإناء عن يده فقال ما بالك- أعيدوا عليه الماء و لا تجمعوا عليه بين القتل و العطش- قال إنك قد أمنتني قال كذبت قال لم أكذب- قال أنس صدق يا أمير المؤمنين- قال ويحك يا أنس- أنا أؤمن قاتل مجزأة بن ثور و البراء بن مالك- و الله لتأتيني بالمخرج أو لأعاقبنك- قال أنت يا أمير المؤمنين قلت- لا بأس عليك حتى تشرب- و قال له ناس من المسلمين

مثل قول أنس- فقال للهرمزان ويحك أ تخدعني- و الله لأقتلنك إلا أن تسلم ثم أومأ إلى أبي طلحة- فقال الهرمزان أشهد أن لا إله إلا الله- و أشهد أن محمدا رسول الله فأمنه و أنزله المدينة- . سأل عمر عمرو بن معديكرب عن السلاح- فقال له ما تقول في الرمح قال أخوك و ربما خانك- قال فالنبل قال رسل المنايا تخطئ و تصيب- قال فالدرع قال مشغلة للفارس متعبة للراجل- و إنها مع ذلك لحصن حصين- قال فالترس قال هو المجن و عليه تدور الدوائر- قال فالسيف قال هناك قارعت أمك الهبل- قال بل أمك قال و الحمى أضرعتني لك- . و أول من ضرب عمر بالدرة أم فروة بنت أبي قحافة- مات أبو بكر فناح النساء عليه و فيهن أخته أم فروة- فنهاهن عمر مرارا و هن يعاودن- فأخرج أم فروة من بينهن و علاها بالدرة- فهربن و تفرقن- . كان يقال درة عمر أهيب من سيف الحجاج- و في الصحيح أن نسوة كن عند رسول الله ص قد كثر لغطهن- فجاء عمر فهربن هيبة له- فقال لهن يا عديات أنفسهن- أ تهبنني و لا تهبن رسول الله- قلن نعم أنت أغلظ و أفظ- . و كان عمر يفتي كثيرا بالحكم ثم ينقضه- و يفتي بضده و خلافه- قضى في الجد مع الإخوة قضايا كثيرة مختلفة- ثم خاف من الحكم في هذه المسألة- فقال من أراد أن يتقحم جراثيم جهنم- فليقل في الجد برأيه- .

و قال مرة لا يبلغني أن امرأة تجاوز صداقها صداق نساء النبي- إلا ارتجعت ذلك منها- فقالت له امرأة ما جعل الله لك ذلك- إنه تعالى قال وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً- أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً- فقال كل النساء أفقه من عمر حتى ربات الحجال- أ لا تعجبون من إمام أخطأ و امرأة أصابت- فاضلت إمامكم ففضلته- . و مر يوما بشاب من فتيان الأنصار و هو ظمآن- فاستسقاه فجدح له ماء بعسل فلم يشربه- و قال إن الله تعالى يقول أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا- فقال له الفتى يا أمير المؤمنين- إنها ليست لك و لا لأحد من هذه القبيلة- اقرأ ما قبلها وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ- أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا- فقال عمر كل الناس أفقه من عمر- . و قيل إن عمر كان يعس بالليل- فسمع صوت رجل و امرأة في بيت فارتاب- فتسور الحائط فوجد امرأة و رجلا و عندهما زق خمر- فقال يا عدو الله- أ كنت ترى أن الله يسترك و أنت على معصيته- قال يا أمير المؤمنين إن كنت أخطأت في واحدة- فقد أخطأت في ثلاث- قال الله تعالى وَ لا تَجَسَّسُوا و قد تجسست- و قال وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها و قد تسورت- و قال فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا و ما سلمت- . و قال متعتان كانتا على عهد رسول الله و أنا محرمهما- و معاقب عليهما- متعة النساء و متعة الحج- و هذا الكلام و إن كان ظاهره منكرا- فله عندنا مخرج و تأويل- و قد ذكره أصحابنا الفقهاء في كتبهم- .

و كان في أخلاق عمر و ألفاظه جفاء و عنجهية ظاهرة- يحسبه السامع لها أنه أراد بها ما لم يكن قد أراد- و يتوهم من تحكى له أنه قصد بها ظاهرا ما لم يقصده- فمنها الكلمة التي قالها في مرض رسول الله ص- و معاذ الله أن يقصد بها ظاهرها- و لكنه أرسلها على مقتضى خشونة غريزته و لم يتحفظ منها- و كان الأحسن أن يقول مغمور أو مغلوب بالمرض- و حاشاه أن يعني بها غير ذلك- . و لجفاة الأعراب من هذا الفن كثير- سمع سليمان بن عبد الملك أعرابيا يقول في سنة قحط-

رب العباد ما لنا و ما لكا
قد كنت تسقينا فما بدا لكا

أنزل علينا القطر لا أبا لكا

– . فقال سليمان أشهد أنه لا أب له و لا صاحبه و لا ولد- فأخرجه أحسن مخرج- . و على نحو هذا يحتمل كلامه في صلح الحديبية- لما قال للنبي ص أ لم تقل لنا ستدخلونها- في ألفاظ نكره حكايتها- حتى شكاه النبي ص إلى أبي بكر- و حتى قال له أبو بكر الزم بغرزه فو الله إنه لرسول الله- . و عمر هو الذي أغلظ على جبلة بن الأيهم- حتى اضطره إلى مفارقة دار الهجرة- بل مفارقة دار الإسلام كلها- و عاد مرتدا داخلا في دين النصرانية لأجل لطمة لطمها- و قال جبلة بعد ارتداده متندما على ما فعل-

 

تنصرت الأشراف من أجل لطمة
و ما كان فيها لو صبرت لها ضرر

فيا ليت أمي لم تلدني و ليتني‏
رجعت إلى القول الذي قاله عمر

: حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِهِ- جَعَلَهَا فِي سِتَّةٍ زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ فَيَا لَلَّهِ وَ لِلشُّورَى- مَتَى اعْتَرَضَ الرَّيْبُ فِيَّ مَعَ الْأَوَّلِ مِنْهُمْ- حَتَّى صِرْتُ أَقْرَنُ إِلَى هَذِهِ النَّظَائِرِ- لَكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا وَ طِرْتُ إِذْ طَارُوا- فَصَغَا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ- وَ مَالَ الآْخَرُ لِصِهْرِهِ مَعَ هَنٍ وَ هَنٍ اللام في يا لله مفتوحة- و اللام في و للشورى مكسورة- لأن الأولى للمدعو و الثانية للمدعو إليه- قال

 

يا للرجال ليوم الأربعاء أما
ينفك يحدث لي بعد النهي طربا

 

– . اللام في للرجال مفتوحة و في ليوم مكسورة- و أسف الرجل إذا دخل في الأمر الدني‏ء- أصله من أسف الطائر إذا دنا من الأرض في طيرانه- و الضغن الحقد- . و قوله مع هن و هن- أي مع أمور يكنى عنها و لا يصرح بذكرها- و أكثر ما يستعمل ذلك في الشر- قال على هنوات شرها متتابع‏- . يقول ع إن عمر لما طعن جعل الخلافة في ستة- هو ع أحدهم ثم تعجب من ذلك- فقال متى اعترض الشك في مع أبي بكر- حتى أقرن بسعد بن أبي وقاص- و عبد الرحمن بن عوف و أمثالهما- لكني طلبت الأمر و هو موسوم بالأصاغر منهم- كما طلبته أولا و هو موسوم بأكابرهم- أي هو حقي فلا أستنكف من طلبه- إن كان المنازع فيه جليل القدر أو صغير المنزلة- . و صغا الرجل بمعنى مال الصغو الميل بالفتح و الكسر
قصة الشورى

و صورة هذه الواقعة أن عمر لما طعنه أبو لؤلؤة- و علم أنه ميت استشار فيمن يوليه الأمر بعده- فأشير عليه بابنه عبد الله فقال لاها الله إذا- لا يليها رجلان من ولد الخطاب حسب عمر ما حمل- حسب عمر ما احتقب- لاها الله لا أتحملها حيا و ميتا- ثم قال إن رسول الله مات- و هو راض عن هذه الستة من قريش- علي و عثمان و طلحة و الزبير- و سعد و عبد الرحمن بن عوف- و قد رأيت أن أجعلها شورى بينهم ليختاروا لأنفسهم- ثم قال إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني- يعني أبا بكر- و إن أترك فقد ترك من هو خير مني يعني رسول الله ص- ثم قال ادعوهم لي فدعوهم- فدخلوا عليه و هو ملقى على فراشه يجود بنفسه- . فنظر إليهم فقال أ كلكم يطمع في الخلافة بعدي فوجموا- فقال لهم ثانية فأجابه الزبير و قال- و ما الذي يبعدنا منها وليتها أنت فقمت بها- و لسنا دونك في قريش و لا في السابقة و لا في القرابة- . قال الشيخ أبو عثمان الجاحظ- و الله لو لا علمه أن عمر يموت في مجلسه ذلك- لم يقدم على أن يفوه من هذا الكلام بكلمة- و لا أن ينبس منه بلفظة- . فقال عمر أ فلا أخبركم عن أنفسكم- قال قل فإنا لو استعفيناك لم تعفنا- فقال أما أنت يا زبير فوعق لقس- مؤمن الرضا كافر الغضب يوما إنسان و يوما شيطان- و لعلها لو أفضت إليك ظلت يومك- تلاطم بالبطحاء على مد من شعير- أ فرأيت إن أفضت إليك- فليت شعري من يكون للناس يوم تكون شيطانا- و من يكون يوم تغضب- و ما كان الله ليجمع لك أمر هذه الأمة- و أنت على هذه الصفة- .

ثم أقبل على طلحة و كان له مبغضا- منذ قال لأبي بكر يوم وفاته ما قال في عمر- فقال له أقول أم أسكت- قال قل فإنك لا تقول من الخير شيئا- قال أما إني أعرفك منذ أصيبت إصبعك يوم أحد- و البأو الذي حدث لك- و لقد مات رسول الله ص‏ ساخطا عليك- بالكلمة التي قلتها يوم أنزلت آية الحجاب- . قال شيخنا أبو عثمان الجاحظ رحمه الله تعالى- الكلمة المذكورة أن طلحة لما أنزلت آية الحجاب- قال بمحضر ممن نقل عنه إلى رسول الله ص- ما الذي يغنيه حجابهن اليوم و سيموت غدا فننكحهن- قال أبو عثمان أيضا لو قال لعمر قائل أنت قلت- إن رسول الله ص مات و هو راض عن الستة- فكيف تقول الآن لطلحة إنه مات ع ساخطا عليك- للكلمة التي قلتها- لكان قد رماه بمشاقصه- و لكن من الذي كان يجسر على عمر أن يقول له ما دون هذا- فكيف هذا- . قال ثم أقبل على سعد بن أبي وقاص فقال- إنما أنت صاحب مقنب من هذه المقانب تقاتل به- و صاحب قنص و قوس و أسهم- و ما زهرة و الخلافة و أمور الناس- . ثم أقبل على عبد الرحمن بن عوف فقال- و أما أنت يا عبد الرحمن- فلو وزن نصف إيمان المسلمين بإيمانك- لرجح إيمانك به- و لكن ليس يصلح هذا الأمر لمن فيه ضعف كضعفك- و ما زهرة و هذا الأمر- . ثم أقبل على علي ع فقال- لله أنت لو لا دعابة فيك أما و الله لئن وليتهم- لتحملنهم على الحق الواضح و المحجة البيضاء- ثم أقبل على عثمان فقال هيها إليك- كأني بك قد قلدتك قريش هذا الأمر لحبها إياك- فحملت بني أمية و بني أبي معيط على رقاب الناس- و آثرتهم بالفي‏ء فسارت إليك عصابة من ذؤبان العرب- فذبحوك على فراشك ذبحا- و الله لئن فعلوا لتفعلن و لئن فعلت ليفعلن- ثم أخذ بناصيته فقال- فإذا كان ذلك فاذكر قولي فإنه كائن- .

ذكر هذا الخبر كله شيخنا أبو عثمان في كتاب السفيانية- و ذكره جماعة غيره في باب فراسة عمر- و ذكر أبو عثمان في هذا الكتاب عقيب رواية هذا الخبر- قال و روى‏ معمر بن سليمان التيمي عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس قال سمعت عمر بن الخطاب يقول لأهل الشورى- إنكم إن تعاونتم و توازرتم و تناصحتم- أكلتموها و أولادكم- و إن تحاسدتم و تقاعدتم و تدابرتم و تباغضتم- غلبكم على هذا الأمر معاوية بن أبي سفيان- و كان معاوية حينئذ أمير الشام- . ثم رجع بنا الكلام إلى تمام قصة الشورى- ثم قال ادعوا إلي أبا طلحة الأنصاري- فدعوه له فقال انظر يا أبا طلحة- إذا عدتم من حفرتي- فكن في خمسين رجلا من الأنصار حاملي سيوفكم- فخذ هؤلاء النفر بإمضاء الأمر و تعجيله- و اجمعهم في بيت و قف بأصحابك على باب البيت- ليتشاوروا و يختاروا واحدا منهم- فإن اتفق خمسة و أبى واحد فاضرب عنقه- و إن اتفق أربعة و أبى اثنان فاضرب أعناقهما- و إن اتفق ثلاثة و خالف ثلاثة- فانظر الثلاثة التي فيها عبد الرحمن- فارجع إلى ما قد اتفقت عليه- فإن أصرت الثلاثة الأخرى على خلافها فاضرب أعناقها- و إن مضت ثلاثة أيام و لم يتفقوا على أمر- فاضرب أعناق الستة- و دع المسلمين يختاروا لأنفسهم- . فلما دفن عمر جمعهم أبو طلحة- و وقف على باب البيت بالسيف- في خمسين من الأنصار حاملي سيوفهم- ثم تكلم القوم و تنازعوا- فأول ما عمل طلحة أنه أشهدهم على نفسه- أنه قد وهب حقه من الشورى لعثمان- و ذلك لعلمه أن الناس لا يعدلون به عليا و عثمان- و أن الخلافة لا تخلص له و هذان موجودان- فأراد تقوية أمر عثمان و إضعاف جانب علي ع- بهبة أمر لا انتفاع له به و لا تمكن له منه- .

فقال الزبير في معارضته- و أنا أشهدكم على نفسي- أني قد وهبت حقي من الشورى لعلي- و إنما فعل ذلك لأنه لما رأى عليا قد ضعف- و انخزل بهبة طلحة حقه لعثمان دخلته حمية النسب- لأنه ابن عمة أمير المؤمنين ع- و هي صفية بنت عبد المطلب و أبو طالب خاله- و إنما مال طلحة إلى عثمان لانحرافه عن علي ع- باعتبار أنه‏ تيمي و ابن عم أبي بكر الصديق- و قد كان حصل في نفوس بني هاشم- من بني تيم حنق شديد لأجل الخلافة- و كذلك صار في صدور تيم على بني هاشم- و هذا أمر مركوز في طبيعة البشر- و خصوصا طينة العرب و طباعها- و التجربة إلى الآن تحقق ذلك- فبقي من الستة أربعة- . فقال سعد بن أبي وقاص- و أنا قد وهبت حقي من الشورى لابن عمي عبد الرحمن- و ذلك لأنهما من بني زهرة و لعلم سعد أن الأمر لا يتم له- فلما لم يبق إلا الثلاثة- قال عبد الرحمن لعلي و عثمان- أيكما يخرج نفسه من الخلافة- و يكون إليه الاختيار في الاثنين الباقيين- فلم يتكلم منهما أحد- فقال عبد الرحمن أشهدكم أنني قد أخرجت نفسي- من الخلافة على أن أختار أحدهما- فأمسكا فبدأ بعلي ع و قال له- أبايعك على كتاب الله و سنة رسول الله- و سيرة الشيخين أبي بكر و عمر- فقال بل على كتاب الله و سنة رسوله و اجتهاد رأيي- فعدل عنه إلى عثمان فعرض ذلك عليه فقال نعم- فعاد إلى علي ع فأعاد قوله فعل ذلك عبد الرحمن ثلاثا- فلما رأى أن عليا غير راجع عما قاله- و أن عثمان ينعم له بالإجابة صفق على يد عثمان- و قال السلام عليك يا أمير المؤمنين- فيقال إن عليا ع قال له- و الله ما فعلتها إلا لأنك رجوت منه- ما رجا صاحبكما من صاحبه- دق الله بينكما عطر منشم- .

قيل ففسد بعد ذلك بين عثمان و عبد الرحمن- فلم يكلم أحدهما صاحبه حتى مات عبد الرحمن – ثم نرجع إلى تفسير ألفاظ الفصل- أما قوله ع فصغا رجل منهم لضغنه فإنه يعني طلحة- و قال القطب الراوندي يعني سعد بن أبي وقاص- لأن عليا ع قتل أباه يوم بدر- و هذا خطأ فإن أباه أبو وقاص- و اسمه مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة- بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب مات في الجاهلية حتف أنفه- . و أما قوله و مال الآخر لصهره- يعني عبد الرحمن مال إلى عثمان- لأن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط كانت تحته- و أم كلثوم هذه هي أخت عثمان من أمه أروى بنت كريز- . و روى القطب الراوندي أن عمر لما قال- كونوا مع الثلاثة التي عبد الرحمن فيها-

قال ابن عباس لعلي ع ذهب الأمر منا- الرجل يريد أن يكون الأمر في عثمان- فقال علي ع و أنا أعلم ذلك- و لكني أدخل معهم في الشورى- لأن عمر قد أهلني الآن للخلافة- و كان قبل ذلك يقول- إن رسول الله ص قال- إن النبوة و الإمامة لا يجتمعان في بيت- فأنا أدخل في ذلك لأظهر للناس- مناقضة فعله لروايته الذي ذكره الراوندي غير معروف- و لم ينقل عمر هذا عن رسول الله ص- و لكنه قال لعبد الله بن عباس يوما يا عبد الله- ما تقول منع قومكم منكم- قال لا أعلم يا أمير المؤمنين قال اللهم غفرا- إن قومكم كرهوا أن تجتمع لكم النبوة و الخلافة- فتذهبون في السماء بذخا و شمخا- لعلكم تقولون إن أبا بكر أراد الإمرة عليكم و هضمكم- كلا لكنه حضره أمر لم يكن عنده أحزم مما فعل- و لو لا رأي أبي بكر في بعد موته لأعاد أمركم إليكم- و لو فعل ما هنأكم مع قومكم- إنهم لينظرون إليكم نظر الثور إلى جازره- . فأما الرواية التي جاءت- بأن طلحة لم يكن حاضرا يوم الشورى- فإن صحت فذو الضغن هو سعد بن أبي وقاص- لأن أمه حمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس و الضغينة التي عنده على علي ع من قبل أخواله- الذين قتل صناديدهم و تقلد دماءهم- و لم يعرف أن عليا ع قتل أحدا من بني زهرة- لينسب الضغن إليه- . و هذه الرواية هي التي اختارها أبو جعفر- محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ- قال لما طعن عمر قيل له لو استخلفت- يا أمير المؤمنين فقال من أستخلف- لو كان أبو عبيدة حيا لاستخلفته- و قلت لربي لو سألني-
سمعت نبيك يقول أبو عبيدة أمين هذه الأمة
 و لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا استخلفته- و قلت لربي إن سألني-
سمعت نبيك ع يقول إن سالما شديد الحب لله
 فقال له رجل ول عبد الله بن عمر- فقال قاتلك الله و الله ما الله أردت بهذا الأمر- ويحك كيف أستخلف رجلا عجز عن طلاق امرأته- لا أرب لعمر في خلافتكم- ما حمدتها فأرغب فيها لأحد من أهل بيتي- إن تك خيرا فقد أصبنا منه و إن تك شرا يصرف عنا- حسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد- و يسأل عن أمر أمة محمد- . فخرج الناس من عنده- ثم راحوا إليه فقالوا له لو عهدت عهدا- قال قد كنت أجمعت بعد مقالتي لكم- أن أولي أمركم رجلا هو أحراكم أن يحملكم على الحق-

و أشار إلى علي ع فرهقتني غشية- فرأيت رجلا يدخل جنة قد غرسها- فجعل يقطف كل غضة و يانعة فيضمها إليه- و يصيرها تحته فخفت أن أتحملها حيا و ميتا- و علمت أن الله غالب أمره عليكم بالرهط- الذي قال رسول الله عنهم إنهم من أهل الجنة- ثم ذكر خمسة عليا و عثمان و عبد الرحمن و الزبير و سعدا- . قال و لم يذكر في هذا المجلس طلحة- و لا كان طلحة يومئذ بالمدينة- ثم قال لهم انهضوا إلى حجرة عائشة فتشاوروا فيها- و وضع رأسه و قد نزفه الدم- فقال العباس لعلي ع لا تدخل معهم و ارفع نفسك عنهم- قال إني أكره الخلاف قال إذن ترى ما تكره- فدخلوا الحجرة فتناجوا حتى ارتفعت أصواتهم- فقال عبد الله بن عمر إن أمير المؤمنين لم يمت بعد- ففيم هذا اللغط- و انتبه عمر و سمع الأصوات فقال- ليصل بالناس صهيب- و لا يأتين اليوم الرابع من يوم موتي إلا و عليكم أمير- و ليحضر عبد الله بن عمر مشيرا- و ليس له شي‏ء من الأمر- و طلحة بن عبيد الله شريككم في الأمر- فإن قدم إلى ثلاثة أيام فأحضروه أمركم- و إلا فأرضوه و من لي برضا طلحة- فقال سعد أنا لك به و لن يخالف إن شاء الله تعالى- . ثم ذكر وصيته لأبي طلحة الأنصاري- و ما خص به عبد الرحمن بن عوف- من كون الحق في الفئة التي هو فيها- و أمره بقتل من يخالف- ثم خرج الناس فقال علي ع لقوم معه من بني هاشم- إن أطيع فيكم قومكم من قريش لم تؤمروا أبدا- و قال للعباس عدل بالأمر عني يا عم-

قال و ما علمك قال قرن بي عثمان – و قال عمر كونوا مع الأكثر- فإن رضي رجلان رجلا و رجلان رجلا- فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن- فسعد لا يخالف ابن عمه- و عبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفان- فيوليها أحدهما الآخر- فلو كان الآخران معي لم يغنيا شيئا- فقال العباس لم أدفعك إلى شي‏ء- إلا رجعت إلي‏ مستأخرا بما أكره- أشرت عليك عند مرض رسول الله ص- أن تسأله عن هذا الأمر فيمن هو فأبيت- و أشرت عليك عند وفاته أن تعاجل البيعة فأبيت- و قد أشرت عليك حين سماك عمر في الشورى اليوم- أن ترفع نفسك عنها و لا تدخل معهم فيها فأبيت- فاحفظ عني واحدة- كلما عرض عليك القوم الأمر فقل لا إلا أن يولوك- و اعلم أن هؤلاء لا يبرحون يدفعونك عن هذا الأمر- حتى يقوم لك به غيرك- و ايم الله لا تناله إلا بشر لا ينفع معه خير- فقال ع أما إني أعلم أنهم سيولون عثمان- و ليحدثن البدع و الأحداث و لئن بقي لأذكرنك- و إن قتل أو مات ليتداولنها بنو أمية بينهم- و إن كنت حيا لتجدني حيث تكرهون- ثم تمثل

حلفت برب الراقصات عشية
غدون خفافا يبتدرن المحصبا

ليجتلبن رهط ابن يعمر غدوة
نجيعا بنو الشداخ وردا مصلبا

– . قال ثم التفت فرأى أبا طلحة الأنصاري فكره مكانه- فقال أبو طلحة لا ترع أبا حسن- فلما مات عمر و دفن و خلوا بأنفسهم للمشاورة في الأمر- و قام أبو طلحة يحجبهم بباب البيت- جاء عمرو بن العاص و المغيرة بن شعبة فجلسا بالباب- فحصبهما سعد و أقامهما- و قال إنما تريدان أن تقولا حضرنا و كنا في أصحاب الشورى- . فتنافس القوم في الأمر و كثر بينهم الكلام- فقال أبو طلحة أنا كنت لأن تدافعوها- أخوف مني عليكم أن تنافسوها- أما و الذي ذهب بنفس عمر- لا أزيدكم على الأيام الثلاثة التي وقفت لكم- فاصنعوا ما بدا لكم- . قال ثم إن عبد الرحمن قال لابن عمه سعد بن أبي وقاص- إني قد كرهتها و سأخلع نفسي منها- لأني رأيت الليلة روضة خضراء كثيرة العشب- فدخل فحل ما رأيت‏ أكرم منه- فمر كأنه سهم لم يلتفت إلى شي‏ء منها حتى قطعها- لم يعرج- و دخل بعير يتلوه تابع أثره حتى خرج منها- ثم دخل فحل عبقري يجر خطامه و مضى قصد الأولين- ثم دخل بعير رابع فوقع في الروضة يرتع و يخضم- و لا و الله لا أكون الرابع- و إن أحدا لا يقوم مقام أبي بكر و عمر فيرضى الناس عنه- . ثم ذكر خلع عبد الرحمن نفسه من الأمر- على أن يوليها أفضلهم في نفسه- و أن عثمان أجاب إلى ذلك و أن عليا ع سكت- فلما روجع رضي على موثق أعطاه عبد الرحمن- أن يؤثر الحق و لا يتبع الهوى- و لا يخص ذا رحم و لا يألو الأمة نصحا- و أن عبد الرحمن ردد القول بين علي و عثمان متلوما- و أنه خلا بسعد تارة- و بالمسور بن مخرمة الزهري تارة أخرى- و أجال فكره و أعمل نظره- و وقف موقف الحائر بينهما- قال
قال علي ع لسعد بن أبي وقاص- يا سعد اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ- أسألك برحم ابني هذا من رسول الله ص- و برحم عمي حمزة منك- ألا تكون مع عبد الرحمن لعثمان ظهيرا
– قلت رحم حمزة من سعد هي أن أم حمزة- هالة بنت أهيب بن عبد مناف بن زهرة- و هي أيضا أم المقوم و حجفل- و اسمه المغيرة و الغيداق- أبناء عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف- هؤلاء الأربعة بنو عبد المطلب من هالة- و هالة هذه هي عمة سعد بن أبي وقاص- فحمزة إذن ابن عمة سعد و سعد ابن خال حمزة- . قال أبو جعفر- فلما أتى اليوم الثالث جمعهم عبد الرحمن- و اجتمع الناس كافة فقال عبد الرحمن أيها الناس- أشيروا علي في هذين الرجلين- فقال عمار بن ياسر- إن أردت ألا يختلف الناس فبايع عليا ع- فقال المقداد صدق عمار- و إن بايعت عليا سمعنا و أطعنا- فقال عبد الله بن أبي سرح- إن أردت ألا تختلف قريش‏ فبايع عثمان- قال عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي صدق- إن بايعت عثمان سمعنا و أطعنا- فشتم عمار ابن أبي سرح و قال له- متى كنت تنصح الإسلام- . فتكلم بنو هاشم و بنو أمية و قام عمار- فقال أيها الناس إن الله أكرمكم بنبيه- و أعزكم بدينه- فإلى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم- فقال رجل من بني مخزوم- لقد عدوت طورك يا ابن سمية- و ما أنت و تأمير قريش لأنفسها- فقال سعد يا عبد الرحمن افرغ من أمرك قبل أن يفتتن الناس- فحينئذ عرض عبد الرحمن على علي ع- العمل بسيرة الشيخين فقال بل أجتهد برأيي- فبايع عثمان بعد أن عرض عليه فقال نعم-
فقال علي ع ليس هذا بأول يوم تظاهرتم فيه علينا- فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى‏ ما تَصِفُونَ- و الله ما وليته الأمر إلا ليرده إليك- و الله كل يوم في شأن – .

فقال عبد الرحمن- لا تجعلن على نفسك سبيلا يا علي- يعني أمر عمر أبا طلحة أن يضرب عنق المخالف- فقام علي ع فخرج- و قال سيبلغ الكتاب أجله- فقال عمار يا عبد الرحمن- أما و الله لقد تركته- و إنه من الذين يقضون بالحق و به كانوا يعدلون- فقال المقداد تالله ما رأيت- مثل ما أتى إلى أهل هذا البيت بعد نبيهم- وا عجبا لقريش لقد تركت رجلا ما أقول- و لا أعلم أن أحدا أقضى بالعدل و لا أعلم و لا أتقى منه- أما و الله لو أجد أعوانا- فقال عبد الرحمن اتق الله يا مقداد- فإني خائف عليك الفتنة- .
و قال علي ع إني لأعلم ما في أنفسهم- إن الناس ينظرون إلى قريش- و قريش تنظر في صلاح شأنها- فتقول إن ولي الأمر بنو هاشم لم يخرج منهم أبدا- و ما كان في غيرهم فهو متداول في بطون قريش
– . قال و قدم طلحة في اليوم الذي بويع فيه لعثمان- فتلكأ ساعة ثم بايع- .و روى أبو جعفر رواية أخرى أطالها و ذكر خطب أهل الشورى و ما قاله كل منهم- و ذكر كلاما قاله علي ع في ذلك اليوم- و هو الحمد لله الذي اختار محمدا منا نبيا- و ابتعثه إلينا رسولا- فنحن أهل بيت النبوة و معدن الحكمة- أمان لأهل الأرض و نجاة لمن طلب- إن لنا حقا إن نعطه نأخذه- و إن نمنعه نركب أعجاز الإبل و إن طال السرى- لو عهد إلينا رسول الله ص عهدا لأنفذنا عهده- و لو قال لنا قولا لجالدنا عليه حتى نموت- لن يسرع أحد قبلي إلى دعوة حق و صلة رحم- و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم- اسمعوا كلامي و عوا منطقي- عسى أن تروا هذا الأمر بعد هذا الجمع- تنتضى فيه السيوف و تخان فيه العهود- حتى لا يكون لكم جماعة- و حتى يكون بعضكم أئمة لأهل الضلالة و شيعة لأهل الجهالة- .

قلت و قد ذكر الهروي في كتاب الجمع بين الغريبين- قوله و إن نمنعه نركب أعجاز الإبل و فسره على وجهين- أحدهما أن من ركب عجز البعير يعاني مشقة- و يقاسي جهدا- فكأنه قال و إن نمنعه نصبر على المشقة- كما يصبر عليها راكب عجز البعير- . و الوجه الثاني أنه أراد نتبع غيرنا- كما أن راكب عجز البعير يكون رديفا لمن هو أمامه- فكأنه قال و إن نمنعه نتأخر و نتبع غيرنا- كما يتأخر راكب البعير- .

و قال أبو هلال العسكري في كتاب الأوائل- استجيبت دعوة علي ع في عثمان و عبد الرحمن- فما ماتا إلا متهاجرين متعاديين- أرسل عبد الرحمن إلى عثمان يعاتبه و قال لرسوله- قل له لقد وليتك ما وليتك من أمر الناس- و إن لي لأمورا ما هي لك- شهدت بدرا و ما شهدتها- و شهدت بيعة الرضوان و ما شهدتها- و فررت يوم أحد و صبرت- فقال عثمان لرسوله قل له أما يوم بدر- فإن رسول الله ص ردني إلى ابنته لما بها من المرض- و قد كنت خرجت للذي خرجت له- و لقيته عند منصرفه فبشرني بأجر مثل أجوركم- و أعطاني سهما مثل سهامكم- و أما بيعة الرضوان- فإنه ص بعثني أستأذن قريشا في دخوله إلى مكة- فلما قيل له إني قتلت- بايع المسلمين على الموت لما سمعه عني- و قال إن كان حيا فأنا أبايع عنه- و صفق بإحدى يديه على الأخرى- و قال يساري خير من يمين عثمان- فيدك أفضل أم يد رسول الله ص- و أما صبرك يوم أحد و فراري فلقد كان ذلك- فأنزل الله تعالى العفو عني في كتابه- فعيرتني بذنب غفره الله لي- و نسيت من ذنوبك ما لا تدري أ غفر لك أم لم يغفر- . لما بنى عثمان قصره طمار بالزوراء- و صنع طعاما كثيرا و دعا الناس إليه- كان فيهم عبد الرحمن فلما نظر للبناء و الطعام قال- يا ابن عفان لقد صدقنا عليك ما كنا نكذب فيك- و إني أستعيذ بالله من بيعتك- فغضب عثمان و قال أخرجه عني يا غلام فأخرجوه- و أمر الناس ألا يجالسوه- فلم يكن يأتيه أحد إلا ابن عباس- كان يأتيه فيتعلم منه القرآن و الفرائض- و مرض عبد الرحمن فعاده عثمان و كلمه فلم يكلمه حتى مات‏: إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ الْقَوْمِ نَافِجاً حِضْنَيْهِ- بَيْنَ نَثِيلِهِ وَ مُعْتَلَفِهِ- وَ قَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضَمُونَ مَالَ اللَّهِ- خَضْمَ الْإِبِلِ نِبْتَةَ الرَّبِيعِ- إِلَى أَنِ انْتَكَثَ فَتْلُهُ وَ أَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ- وَ كَبَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ نافجا حضنيه رافعا لهما- و الحضن ما بين الإبط و الكشح- يقال للمتكبر جاء نافجا حضنيه- و يقال لمن امتلأ بطنه طعاما جاء نافجا حضنيه- و مراده ع هذا الثاني- و النثيل الروث و المعتلف موضع العلف- يريد أن همه الأكل و الرجيع- و هذا من ممض الذم و أشد من قول الحطيئة الذي قيل- إنه أهجى بيت للعرب-

دع المكارم لا ترحل لبغيتها
و اقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي‏

 

و الخضم أكل بكل الفم و ضده القضم- و هو الأكل بأطراف الأسنان- و قيل الخضم أكل الشي‏ء الرطب- و القضم أكل الشي‏ء اليابس- و المراد على التفسيرين لا يختلف- و هو أنهم على قدم عظيمة من النهم- و شدة الأكل و امتلاء الأفواه- و قال أبو ذر رحمه الله تعالى إن بني أمية- يخضمون و نقضم و الموعد لله- و الماضي خضمت بالكسر و مثله قضمت- . و النبتة بكسر النون كالنبات- تقول نبت الرطب نباتا و نبتة- و انتكث فتله انتقض و هذه استعارة- و أجهز عليه عمله تمم قتله- يقال أجهزت على الجريح- مثل ذففت إذا أتممت قتله- و كبت به بطنته كبا الجواد إذا سقط لوجهه- و البطنة الإسراف في الشبع‏
نتف من أخبار عثمان بن عفان

و ثالث القوم هو عثمان بن عفان بن أبي العاص- بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف- كنيته أبو عمرو و أمه أروى بنت كريز- بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس- . بايعه الناس بعد انقضاء الشورى و استقرار الأمر له- و صحت فيه فراسة عمر- فإنه أوطأ بني أمية رقاب الناس- و ولاهم الولايات و أقطعهم القطائع- و افتتحت إفريقية في أيامه- فأخذ الخمس كله فوهبه لمروان- فقال عبد الرحمن بن حنبل الجمحي-

 

أحلف بالله رب الأنام
ما ترك الله شيئا سدى‏

 

و لكن خلقت لنا فتنة
لكي نبتلى بك أو تبتلى‏

 

فإن الأمينين قد بينا
منار الطريق عليه الهدى‏

 

فما أخذا درهما غيلة
و لا جعلا درهما في هوى‏

 

و أعطيت مروان خمس البلاد
فهيهات سعيك ممن سعى‏

 

– . الأمينان أبو بكر و عمر- . و طلب منه عبد الله بن خالد بن أسيد صلة- فأعطاه أربعمائة ألف درهم- . و أعاد الحكم بن أبي العاص- بعد أن كان رسول الله ص قد سيره- ثم لم يرده أبو بكر و لا عمر- و أعطاه مائة ألف درهم- . و تصدق رسول الله ص بموضع سوق بالمدينة- يعرف بمهزور على المسلمين- فأقطعه عثمان الحارث بن الحكم أخا مروان بن الحكم- . و أقطع مروان فدك- و قد كانت فاطمة ع طلبتها بعد وفاة أبيها ص-تارة بالميراث و تارة بالنحلة فدفعت عنها- . و حمى المراعي حول المدينة كلها- من مواشي المسلمين كلهم إلا عن بني أمية- . و أعطى عبد الله بن أبي سرح جميع ما أفاء الله عليه- من فتح إفريقية بالمغرب- و هي من طرابلس الغرب إلى طنجة- من غير أن يشركه فيه أحد من المسلمين- . و أعطى أبا سفيان بن حرب مائتي ألف من بيت المال- في اليوم الذي أمر فيه لمروان بن الحكم- بمائة ألف من بيت المال- و قد كان زوجه ابنته أم أبان- فجاء زيد بن أرقم صاحب بيت المال بالمفاتيح- فوضعها بين يدي عثمان و بكى- فقال عثمان أ تبكي أن وصلت رحمي قال لا- و لكن أبكي لأني أظنك أنك أخذت هذا المال- عوضا عما كنت أنفقته في سبيل الله- في حياة رسول الله ص- و الله لو أعطيت مروان مائة درهم لكان كثيرا- فقال ألق المفاتيح يا ابن أرقم فأنا سنجد غيرك- . و أتاه أبو موسى بأموال من العراق جليلة- فقسمها كلها في بني أمية- و أنكح الحارث بن الحكم ابنته عائشة- فأعطاه مائة ألف من بيت المال أيضا- بعد صرفه زيد بن أرقم عن خزنة- . و انضم إلى هذه الأمور أمور أخرى نقمها عليه المسلمون- كتسيير أبي ذر رحمه الله تعالى إلى الربذة- و ضرب عبد الله بن مسعود حتى كسر أضلاعه- و ما أظهر من الحجاب و العدول عن طريقة عمر- في إقامة الحدود و رد المظالم- و كف الأيدي العادية و الانتصاب لسياسة الرعية- و ختم ذلك ما وجدوه من كتابه إلى معاوية- يأمره فيه بقتل قوم من المسلمين- و اجتمع عليه كثير من أهل المدينة- مع القوم الذين وصلوا من مصر- لتعديد أحداثه عليه فقتلوه- . و قد أجاب أصحابنا عن المطاعن في عثمان- بأجوبة مشهورة مذكورة في كتبهم- و الذي نقول نحن إنها و إن كانت أحداثا- إلا أنها لم تبلغ المبلغ الذي يستباح به دمه-

و قد كان الواجب عليهم أن يخلعوه من الخلافة- حيث لم يستصلحوه لها و لا يعجلوا بقتله- و أمير المؤمنين ع أبرأ الناس من دمه- و قد صرح بذلك في كثير من كلامه- من ذلك قوله ع و الله ما قتلت عثمان و لا مالأت على قتله

– و صدق ص: فَمَا رَاعَنِي إِلَّا وَ النَّاسُ إِلَيَّ كَعُرْفِ الضَّبُعِ- يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ- حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ الْحَسَنَانِ وَ شُقَّ عِطْفَايَ- مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ الْغَنَمِ- فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالْأَمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ- وَ مَرَقَتْ أُخْرَى وَ فَسَقَ آخَرُونَ- كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا كَلَامَ اللَّهِ حَيْثُ يَقُولُ- تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ- لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً- وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ- بَلَى وَ اللَّهِ لَقَدْ سَمِعُوهَا وَ وَعَوْهَا- وَ لَكِنَّهُمْ حَلِيَتِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ وَ رَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا عرف الضبع ثخين و يضرب به المثل في الازدحام- و ينثالون يتتابعون مزدحمين- و الحسنان الحسن و الحسين ع- و العطفان الجانبان من المنكب إلى الورك- و يروى عطافي و العطاف الرداء و هو أشبه بالحال- إلا أن الرواية الأولى أشهر- و المعنى خدش جانباي لشدة الاصطكاك منهم و الزحام- و قال القطب الراوندي- الحسنان إبهاما الرجل و هذا لا أعرفه- .

و قوله كربيضة الغنم أي كالقطعة الرابضة من الغنم- يصف شدة ازدحامهم حوله و جثومهم بين يديه- . و قال القطب الراوندي- يصف بلادتهم و نقصان عقولهم- لأن الغنم توصف بقلة الفطنة- و هذا التفسير بعيد و غير مناسب للحال- . فأما الطائفة الناكثة فهم أصحاب الجمل- و أما الطائفة الفاسقة فأصحاب صفين- و سماهم رسول الله ص القاسطين- و أما الطائفة المارقة فأصحاب النهروان- و أشرنا نحن بقولنا- سماهم رسول الله ص القاسطين- إلى قوله ع ستقاتل بعدي الناكثين و القاسطين و المارقين – و هذا الخبر من دلائل نبوته ص- لأنه إخبار صريح بالغيب- لا يحتمل التمويه و التدليس- كما تحتمله الأخبار المجملة- و صدق قوله ع و المارقين-

قوله أولا في الخوارج يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية – و صدق قوله ع الناكثين- كونهم نكثوا البيعة بادئ بدء- و قد كان ع يتلو وقت مبايعتهم له- فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى‏ نَفْسِهِ- . و أما أصحاب صفين- فإنهم عند أصحابنا رحمهم الله مخلدون في النار لفسقهم- فصح فيهم قوله تعالى- وَ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً- . و قوله ع حليت الدنيا في أعينهم- تقول حلا الشي‏ء في فمي يحلو و حلي لعيني يحلى- و الزبرج الزينة من وشي أو غيره و يقال الزبرج الذهب- . فأما الآية فنحن نذكر بعض ما فيها- فنقول إنه تعالى لم يعلق الوعد- بترك العلو في الأرض و الفساد- و لكن بترك إرادتهما- و هو كقوله تعالى وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ‏ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ- علق الوعيد بالركون إليهم و الميل معهم- و هذا شديد في الوعيد- .

و يروى عن أمير المؤمنين ع أنه قال إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله- أحسن من شراك نعل صاحبه – فيدخل تحت هذه الآية- و يقال إن عمر بن عبد العزيز كان يرددها حتى قبض: أَمَا وَ الَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَ بَرَأَ النَّسَمَةَ- لَوْ لَا حُضُورُ الْحَاضِرِ وَ قِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ- وَ مَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْعُلَمَاءِ- أَلَّا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَ لَا سَغَبِ مَظْلُومٍ- لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا- وَ لَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا- وَ لَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ فلق الحبة من قوله تعالى فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى‏- و النسمة كل ذي روح من البشر خاصة- . قوله لو لا حضور الحاضر- يمكن أن يريد به لو لا حضور البيعة- فإنها بعد عقدها تتعين المحاماة عنها- و يمكن أن يريد بالحاضر من حضره من الجيش- الذين يستعين بهم على الحرب- و الكظة بكسر الكاف- ما يعتري الإنسان من الثقل و الكرب- عند الامتلاء من الطعام- و السغب الجوع- و قولهم قد ألقى فلان حبل فلان على غاربه-
أي تركه هملا يسرح حيث يشاء من غير وازع و لا مانع- و الفقهاء يذكرون هذه اللفظة في كنايات الطلاق- و عفطة عنز ما تنثره من أنفها عفطت تعفط بالكسر- و أكثر ما يستعمل ذلك في النعجة- فأما العنز فالمستعمل الأشهر فيها النفطة بالنون- و يقولون ما له عافط و لا نافط أي نعجة و لا عنز- فإن قيل أ يجوز أن يقال العفطة هاهنا الحبقة- فإن ذلك يقال في العنز خاصة عفطت تعفط- قيل ذلك جائز إلا أن الأحسن- و الأليق بكلام أمير المؤمنين ع التفسير الأول- فإن جلالته و سؤدده تقتضي- أن يكون ذاك أراد لا الثاني- فإن صح أنه لا يقال في العطسة عفطة إلا للنعجة- قلنا إنه استعمله في العنز مجازا- .

يقول ع لو لا وجود من ينصرني- لا كما كانت الحال عليها أولا بعد وفاة رسول الله ص- فإني لم أكن حينئذ واجدا للناصر مع كوني مكلفا- إلا أمكن الظالم من ظلمه لتركت الخلافة- و لرفضتها الآن كما رفضتها قبل- و لوجدتم هذه الدنيا عندي أهون من عطسة عنز- و هذا إشارة إلى ما يقوله أصحابنا- من وجوب النهي عن المنكر عند التمكن: قَالُوا وَ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ السَّوَادِ- عِنْدَ بُلُوغِهِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ مِنْ خُطْبَتِهِ- فَنَاوَلَهُ كِتَاباً فَأَقْبَلَ يَنْظُرُ فِيهِ- فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِهِ قَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ- لَوِ اطَّرَدَتْ مَقَالَتُكَ مِنْ حَيْثُ أَفْضَيْتَ- فَقَالَ هَيْهَاتَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ- تِلْكَ شِقْشِقَةٌ هَدَرَتْ ثُمَّ قَرَّتْ- قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَوَاللَّهِ مَا أَسَفْتُ عَلَى كَلَامٍ قَطُّ- كَأَسَفِي عَلَى هَذَا الْكَلَامِ- أَلَّا يَكُونَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ بَلَغَ مِنْهُ حَيْثُ أَرَادَ

قوله عليه السلام في هذه الخطبة- كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم- و إن أسلس لها تقحم- يريد أنه إذا شدد عليها في جذب الزمام- و هي تنازعه رأسها خرم أنفها- و إن أرخى لها شيئا مع صعوبتها- تقحمت به فلم يملكها- يقال أشنق الناقة إذا جذب رأسها بالزمام فرفعه- و شنقها أيضا ذكر ذلك ابن السكيت في إصلاح المنطق- و إنما قال ع أشنق لها و لم يقل أشنقها- لأنه جعله في مقابلة قوله أسلس لها- فكأنه قال إن رفع لها رأسها بالزمام- يعني أمسكه عليها- و في الحديث أن رسول الله ص خطب على ناقة- و قد شنق لها فهي تقصع بجرتها- و من الشاهد على أن أشنق بمعنى شنق- قول عدي بن زيد العبادي-

 

ساءها ما لها تبين في الأيدي
و إشناقها إلى الأعناق‏

 

سمي السواد سوادا لخضرته بالزروع و الأشجار و النخل- و العرب تسمي الأخضر أسود- قال سبحانه مُدْهامَّتانِ يريد الخضرة- و قوله لو اطردت مقالتك- أي أتبعت الأول قولا ثانيا- من قولهم اطرد النهر إذا تتابع جريه- . و قوله من حيث أفضيت- أصل أفضى خرج إلى الفضاء- فكأنه شبهه ع حيث سكت عما كان يقوله- بمن خرج من خباء أو جدار إلى فضاء من الأرض- و ذلك لأن النفس و القوى و الهمة- عند ارتجال الخطب و الأشعار تجتمع إلى القلب- فإذا قطع الإنسان و فرغ- تفرقت و خرجت عن حجر الاجتماع و استراحت-

و الشقشقة بالكسر فيهما- شي‏ء يخرجه البعير من فيه إذا هاج- و إذا قالوا للخطيب- ذو شقشقة فإنما شبهوه بالفحل- و الهدير صوتها- . و أما قول ابن عباس ما أسفت على كلام إلى آخره- فحدثني شيخي أبو الخير مصدق بن شبيب الواسطي- في سنة ثلاث و ستمائة قال- قرأت على الشيخ أبي محمد عبد الله بن أحمد- المعروف بابن الخشاب- هذه الخطبة- فلما انتهيت إلى هذا الموضع قال لي- لو سمعت ابن عباس يقول هذا لقلت له- و هل بقي في نفس ابن عمك أمر لم يبلغه في هذه الخطبة- لتتأسف ألا يكون بلغ من كلامه ما أراد- و الله ما رجع عن الأولين و لا عن الآخرين- و لا بقي في نفسه أحد لم يذكره إلا رسول الله ص- . قال مصدق و كان ابن الخشاب صاحب دعابة و هزل قال فقلت له أ تقول إنها منحولة- فقال لا و الله و إني لأعلم أنها كلامه- كما أعلم أنك مصدق- قال فقلت له إن كثيرا من الناس يقولون- إنها من كلام الرضي رحمه الله تعالى- فقال أنى للرضي و لغير الرضي هذا النفس- و هذا الأسلوب- قد وقفنا على رسائل الرضي- و عرفنا طريقته و فنه في الكلام المنثور- و ما يقع مع هذا الكلام في خل و لا خمر- ثم قال و الله لقد وقفت على هذه الخطبة- في كتب صنفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة- و لقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها- و أعرف خطوط من هو من العلماء و أهل الأدب- قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي- . قلت و قد وجدت أنا كثيرا من هذه الخطبة في- تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي-
إمام البغداديين من المعتزلة- و كان في دولة المقتدر قبل أن يخلق الرضي بمدة طويلة- و وجدت أيضا كثيرا منها في كتاب أبي جعفر بن قبة- أحد متكلمي الإمامية- و هو الكتاب المشهور المعروف بكتاب الإنصاف- و كان أبو جعفر هذا من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي رحمه الله تعالى- و مات في ذلك العصر- قبل أن يكون الرضي رحمه الله تعالى موجودا

خطبه2 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

متن عربی خطبه

و من خطبة له ( عليه‏السلام ) بعد انصرافه من صفين‏
أَحْمَدُهُ اسْتِتْمَاماً لِنِعْمَتِهِ وَ اسْتِسْلَاماً لِعِزَّتِهِ وَ اسْتِعْصَاماً مِنْ مَعْصِيَتِهِ
وَ أَسْتَعِينُهُ فَاقَةً إِلَى كِفَايَتِهِ
إِنَّهُ لَا يَضِلُّ مَنْ هَدَاهُ وَ لَا يَئِلُ مَنْ عَادَاهُ وَ لَا يَفْتَقِرُ مَنْ كَفَاهُ
فَإِنَّهُ أَرْجَحُ مَا وُزِنَ وَ أَفْضَلُ مَا خُزِنَ
وَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةً مُمْتَحَناً إِخْلَاصُهَا مُعْتَقَداً مُصَاصُهَا نَتَمَسَّكُ بِهَا أَبَداً
مَا أَبْقَانَا وَ نَدَّخِرُهَا لِأَهَاوِيلِ مَا يَلْقَانَا
فَإِنَّهَا عَزِيمَةُ الْإِيمَانِ وَ فَاتِحَةُ الْإِحْسَانِ وَ مَرْضَاةُ الرَّحْمَنِ وَ مَدْحَرَةُ الشَّيْطَانِ
وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بِالدِّينِ الْمَشْهُورِ وَ الْعَلَمِ الْمَأْثُورِ
وَ الْكِتَابِ الْمَسْطُورِ وَ النُّورِ السَّاطِعِ وَ الضِّيَاءِ اللَّامِعِ وَ الْأَمْرِ الصَّادِعِ
إِزَاحَةً لِلشُّبُهَاتِ وَ احْتِجَاجاً بِالْبَيِّنَاتِ وَ تَحْذِيراً بِالْآيَاتِ وَ تَخْوِيفاً بِالْمَثُلَاتِ
وَ النَّاسُ فِي فِتَنٍ انْجَذَمَ فِيهَا حَبْلُ الدِّينِ وَ تَزَعْزَعَتْ سَوَارِي الْيَقِينِ وَ اخْتَلَفَ النَّجْرُ وَ تَشَتَّتَ الْأَمْرُ وَ ضَاقَ الْمَخْرَجُ وَ عَمِيَ الْمَصْدَرُ
فَالْهُدَى خَامِلٌ وَ الْعَمَى شَامِلٌ
عُصِيَ الرَّحْمَنُ وَ نُصِرَ الشَّيْطَانُ وَ خُذِلَ الْإِيمَانُ فَانْهَارَتْ دَعَائِمُهُ وَ تَنَكَّرَتْ مَعَالِمُهُ وَ دَرَسَتْ سُبُلُهُ وَ عَفَتْ شُرُكُهُ
أَطَاعُوا الشَّيْطَانَ فَسَلَكُوا مَسَالِكَهُ وَ وَرَدُوا مَنَاهِلَهُ
بِهِمْ سَارَتْ أَعْلَامُهُ وَ قَامَ لِوَاؤُهُ
فِي فِتَنٍ دَاسَتْهُمْ بِأَخْفَافِهَا وَ وَطِئَتْهُمْ بِأَظْلَافِهَا وَ قَامَتْ عَلَى سَنَابِكِهَا
فَهُمْ فِيهَا تَائِهُونَ حَائِرُونَ جَاهِلُونَ مَفْتُونُونَ فِي خَيْرِ دَارٍ وَ شَرِّ جِيرَانٍ
نَوْمُهُمْ سُهُودٌ وَ كُحْلُهُمْ دُمُوعٌ بِأَرْضٍ عَالِمُهَا مُلْجَمٌ وَ جَاهِلُهَا مُكْرَمٌ
وَ مِنْهَا وَ يَعْنِي آلَ النَّبِيِّ ( صلى‏ الله ‏عليه )
هُمْ مَوْضِعُ سِرِّهِ وَ لَجَأُ أَمْرِهِ وَ عَيْبَةُ عِلْمِهِ وَ مَوْئِلُ حُكْمِهِ وَ كُهُوفُ كُتُبِهِ وَ جِبَالُ دِينِهِ
بِهِمْ أَقَامَ انْحِنَاءَ ظَهْرِهِ وَ أَذْهَبَ ارْتِعَادَ فَرَائِصِهِ
وَ مِنْهَا فِي الْمُنَافِقِينَ‏
زَرَعُوا الْفُجُورَ وَ سَقَوْهُ الْغُرُورَ وَ حَصَدُوا الثُّبُورَ
لَا يُقَاسُ بِآلِ مُحَمَّدٍ ( صلى‏الله‏عليه )مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَحَدٌ وَ لَا يُسَوَّى بِهِمْ مَنْ جَرَتْ نِعْمَتُهُمْ عَلَيْهِ أَبَداً
هُمْ أَسَاسُ الدِّينِ وَ عِمَادُ الْيَقِينِ
إِلَيْهِمْ يَفِي‏ءُ الْغَالِي وَ بِهِمْ يُلْحَقُ‏ التَّالِي
وَ لَهُمْ خَصَائِصُ حَقِّ الْوِلَايَةِ وَ فِيهِمُ الْوَصِيَّةُ وَ الْوِرَاثَةُ
الْآنَ إِذْ رَجَعَ الْحَقُّ إِلَى أَهْلِهِ وَ نُقِلَ إِلَى مُنْتَقَلِهِ

**************************************************

شرح ابن ابی الحدید

2 و من خطبة له ع بعد انصرافه من صفين

صفين اسم الأرض التي كانت فيها الحرب- و النون فيها أصلية ذكر ذلك صاحب الصحاح- فوزنها على هذا فعيل- كفسيق و خمير و صريع و ظليم و ضليل- . فإن قيل فاشتقاقه مما ذا يكون- . قيل لو كان اسما لحيوان- لأمكن أن يكون من صفن الفرس- إذا قام على ثلاث و أقام الرابعة على طرف الحافر- يصفن بالكسر صفونا- أو من صفن القوم- إذا صفوا أقدامهم لا يخرج بعضها من بعض- . فإن قيل أ يمكن أن يشتق من ذلك و هو اسم أرض- . قيل يمكن على تعسف- و هو أن تكون تلك الأرض لما كانت مما تصفن فيها الخيل- أو تصطف فيها الأقدام سميت صفين- . فإن قيل أ يمكن أن تكون النون زائدة مع الياء- كما هما في غسلين و عفرين- . قيل لو جاء في الأصل صف بكسر الصاد- لأمكن أن تتوهم الزيادة- كالزيادة في غسل و هو ما يغتسل به- نحو الخطمي و غيره- فقيل غسلين لما يسيل من صديد أهل النار و دمائهم- و كالزيادة في عفر و هو الخبيث الداهي- فقيل عفرين لمأسدة بعينها- و قيل عفريت للداهية هكذا ذكروه- و لقائل أن يقول لهم أ ليس قد قالوا للأسد- عفرني بفتح العين و أصله العفر بالكسر- فقد بان أنهم لم يراعوا في اشتقاقهم- و تصريف كلامهم الحركة المخصوصة- و إنما يراعون الحرف و لا كل الحروف بل الأصلي منها- فغير ممتنع على هذا عندنا- أن تكون الياء و النون زائدتين في صفين- . و صفين اسم غير منصرف للتأنيث و التعريف- قال

إني أدين بما دان الوصي به
يوم الخريبة من قتل المحلينا

و بالذي دان يوم النهر دنت به‏
و شاركت كفه كفي بصفينا

تلك الدماء معا يا رب في عنقي
ثم اسقني مثلها آمين آمينا

أَحْمَدُهُ اسْتِتْمَاماً لِنِعْمَتِهِ وَ اسْتِسْلَاماً لِعِزَّتِهِ- وَ اسْتِعْصَاماً مِنْ مَعْصِيَتِهِ- وَ أَسْتَعِينُهُ فَاقَةً إِلَى كِفَايَتِهِ- إِنَّهُ لَا يَضِلُّ مَنْ هَدَاهُ وَ لَا يَئِلُ مَنْ عَادَاهُ- وَ لَا يَفْتَقِرُ مَنْ كَفَاهُ- فَإِنَّهُ أَرْجَحُ مَا وُزِنَ وَ أَفْضَلُ مَا خُزِنَ- وَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ- شَهَادَةً مُمْتَحَناً إِخْلَاصُهَا مُعْتَقَداً مُصَاصُهَا- نَتَمَسَّكُ بِهَا أَبَداً مَا أَبْقَانَا- وَ نَدَّخِرُهَا لِأَهَاوِيلِ مَا يَلْقَانَا- فَإِنَّهَا عَزِيمَةُ الْإِيمَانِ وَ فَاتِحَةُ الْإِحْسَانِ- وَ مَرْضَاةُ الرَّحْمَنِ وَ مَدْحَرَةُ الشَّيْطَانِ وأل أي نجا يئل- و المصاص خالص الشي‏ء و الفاقة الحاجة و الفقر- الأهاويل جمع أهوال و الأهوال جمع هول- فهو جمع الجمع كما قالوا أنعام و أناعيم- و قيل أهاويل أصله تهاويل- و هي ما يهولك من شي‏ء أي يروعك- و إن جاز هذا فهو بعيد لأن التاء قل أن تبدل همزة- و العزيمة النية المقطوع عليها- و مدحرة الشيطان أي تدحره أي تبعده و تطرده- . و قوله ع استتماما و استسلاما و استعصاما- من لطيف الكناية و بديعها- فسبحان من خصه بالفضائل- التي لا تنتهي ألسنة الفصحاء إلى وصفها- و جعله إمام كل ذي علم و قدوة كل صاحب خصيصة- . و قوله فإنه أرجح- الهاء عائدة إلى ما دل عليه قوله أحمده يعني الحمد- و الفعل يدل على المصدر و ترجع الضمائر إليه- كقوله تعالى بَلْ هُوَ شَرٌّ- و هو ضمير البخل الذي دل عليه قوله يَبْخَلُونَ

باب لزوم ما لا يلزم و إيراد أمثلة منه

و قوله ع وزن و خزن بلزوم الزاي- من الباب المسمى لزوم ما لا يلزم- و هو أحد أنواع البديع- و ذلك أن تكون الحروف التي قبل الفاصلة حرفا واحدا- هذافي المنثور- و أما في المنظوم فأن تتساوى الحروف التي قبل الروي- مع كونها ليست بواجبة التساوي- مثال ذلك قول بعض شعراء الحماسة-

بيضاء باكرها النعيم فصاغها
بلباقة فأدقها و أجلها

حجبت تحيتها فقلت لصاحبي‏
ما كان أكثرها لنا و أقلها

و إذا وجدت لها وساوس سلوة
شفع الضمير إلى الفؤاد فسلها

أ لا تراه كيف قد لزم اللام الأولى من اللامين- اللذين صارا حرفا مشددا- فالثاني منهما هو الروي- و اللام الأول الذي قبله التزام ما لا يلزم- فلو قال في القصيدة وصلها و قبلها و فعلها لجاز- . و احترزنا نحن بقولنا- مع كونها ليست بواجبة التساوي- عن قول الراجز و هو من شعر الحماسة أيضا-

و فيشة ليست كهذي الفيش
قد ملئت من نزق و طيش‏

إذا بدت قلت أمير الجيش‏
من ذاقها يعرف طعم العيش‏

فإن لزوم الياء قبل حرف الروي ليس من هذا الباب- لأنه لزوم واجب- أ لا ترى أنه لو قال في هذا الرجز- البطش و الفرش و العرش لم يجز- لأن الردف لا يجوز- أن يكون حرفا خارجا عن حروف العلة- و قد جاء من اللزوم في الكتاب العزيز مواضع-ليست بكثيرة- فمنها قوله سبحانه فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا- قالَ أَ راغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ- لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اهْجُرْنِي مَلِيًّا- و قوله تعالى وَ لكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ- قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ- و قوله اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ- خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ- و قوله وَ الطُّورِ وَ كِتابٍ مَسْطُورٍ- و قوله بِكاهِنٍ وَ لا مَجْنُونٍ- أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ- و قوله فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَ طَلْحٍ مَنْضُودٍ- و قوله فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ- وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ- نِعْمَ الْمَوْلى‏ وَ نِعْمَ النَّصِيرُ- و الظاهر أن ذلك غير مقصود قصده- . و مما ورد منه في كلام العرب- أن لقيط بن زرارة تزوج ابنة قيس بن خالد الشيباني- فأحبته- فلما قتل عنها تزوجت غيره- فكانت تذكر لقيطا فسألها عن حبها له- فقالت أذكره و قد خرج تارة في يوم دجن- و قد تطيب و شرب الخمر و طرد بقرا فصرع بعضها- ثم جاءني و به نضح دم و عبير- فضمني ضمة و شمني شمة- فليتني كنت مت ثمة- . و قد صنع أبو العلاء المعري كتابا في اللزوم من نظمه- فأتى فيه بالجيد و الردي‏ء و أكثره متكلف- و من جيده قوله-

لا تطلبن بآلة لك حالة
قلم البليغ بغير حظ مغزل‏

سكن السماكان السماء كلاهما
هذا له رمح و هذا أعزل‏

وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ- أَرْسَلَهُ بِالدِّينِ الْمَشْهُورِ وَ الْعَلَمِ الْمَأْثُورِ-وَ الْكِتَابِ الْمَسْطُورِ وَ النُّورِ السَّاطِعِ- وَ الضِّيَاءِ اللَّامِعِ وَ الْأَمْرِ الصَّادِعِ- إِزَاحَةً لِلشُّبُهَاتِ وَ احْتِجَاجاً بِالْبَيِّنَاتِ- وَ تَحْذِيراً بِالآْيَاتِ وَ تَخْوِيفاً بِالْمَثُلَاتِ- وَ النَّاسُ فِي فِتَنٍ انْجَذَمَ فِيهَا حَبْلُ الدِّينِ- وَ تَزَعْزَعَتْ سَوَارِي الْيَقِينِ- وَ اخْتَلَفَ النَّجْرُ وَ تَشَتَّتَ الْأَمْرُ- وَ ضَاقَ الْمَخْرَجُ وَ عَمِيَ الْمَصْدَرُ- فَالْهُدَى خَامِلٌ وَ الْعَمَى شَامِلٌ- عُصِيَ الرَّحْمَنُ وَ نُصِرَ الشَّيْطَانُ وَ خُذِلَ الْإِيمَانُ- فَانْهَارَتْ دَعَائِمُهُ وَ تَنَكَّرَتْ مَعَالِمُهُ- وَ دَرَسَتْ سُبُلُهُ وَ عَفَتْ شُرُكُهُ- أَطَاعُوا الشَّيْطَانَ فَسَلَكُوا مَسَالِكَهُ وَ وَرَدُوا مَنَاهِلَهُ- بِهِمْ سَارَتْ أَعْلَامُهُ وَ قَامَ لِوَاؤُهُ- فِي فِتَنٍ دَاسَتْهُمْ بِأَخْفَافِهَا وَ وَطِئَتْهُمْ بِأَظْلَافِهَا- وَ قَامَتْ عَلَى سَنَابِكِهَا- فَهُمْ فِيهَا تَائِهُونَ حَائِرُونَ جَاهِلُونَ مَفْتُونُونَ- فِي خَيْرِ دَارٍ وَ شَرِّ جِيرَانٍ- نَوْمُهُمْ سُهُودٌ وَ كُحْلُهُمْ دُمُوعٌ- بِأَرْضٍ عَالِمُهَا مُلْجَمٌ وَ جَاهِلُهَا مُكْرَمٌ قوله ع و العلم المأثور- يجوز أن يكون عنى به القرآن- لأن المأثور المحكي و العلم ما يهتدى به- و المتكلمون يسمون المعجزات أعلاما- و يجوز أن يريد به أحد معجزاته غير القرآن- فإنها كثيرة و مأثورة و يؤكد هذا قوله بعد- و الكتاب المسطور فدل على تغايرهما- و من يذهب إلى الأول يقول المراد بهما واحد- و الثانية توكيد الأولى على قاعدة الخطابة و الكتابة- . و الصادع الظاهر الجلي- قال تعالى فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ أي أظهره و لا تخفه- . و المثلات بفتح الميم و ضم الثاء العقوبات جمع مثلة- قال تعالى وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ- وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ- . و انجذم انقطع و السواري جمع سارية- و هي الدعامة يدعم بها السقف- و النجرالأصل و مثله النجار- و انهارت تساقطت و الشرك الطرائق جمع شراك- و الأخفاف للإبل و الأظلاف للبقر و المعز- .

و قال الراوندي في تفسير قوله خير دار و شر جيران- خير دار الكوفة و قيل الشام لأنها الأرض المقدسة- و أهلها شر جيران يعني أصحاب معاوية- و على التفسير الأول يعني أصحابه ع- . قال و قوله نومهم سهود- يعني أصحاب معاوية لا ينامون طول الليل- بل يرتبون أمره- و إن كان وصفا لأصحابه ع بالكوفة و هو الأقرب- فالمعنى أنهم خائفون يسهرون و يبكون- لقلة موافقتهم إياه- و هذا شكاية منه ع لهم- . و كحلهم دموع أي نفاقا- فإنه إذا تم نفاق المرء ملك عينيه- . و لقائل أن يقول- لم يجر فيما تقدم ذكر أصحابه ع و لا أصحاب معاوية- و الكلام كله في وصف أهل الجاهلية قبل مبعث محمد ص- ثم لا يخفى ما في هذا التفسير من الركاكة و الفجاجة- و هو أن يريد بقوله نومهم سهود- أنهم طوال الليل يرتبون أمر معاوية لا ينامون- و أن يريد بذلك أن أصحابه يبكون- من خوف معاوية و عساكره- أو أنهم يبكون نفاقا- و الأمر أقرب من أن يتمحل له مثل هذا- . و نحن نقول إنه ع لم يخرج من صفة أهل الجاهلية- و قوله في خير دار يعني مكة و شر جيران يعني قريشا- و هذا لفظ النبي ص حين حكى بالمدينة- حالة كانت في مبدأ البعثة- فقال كنت في خير دار و شر جيران- ثم حكى ع ما جرى له مع عقبة بن أبي معيط و الحديث مشهور- . و قوله نومهم سهود و كحلهم دموع- مثل أن يقول جودهم بخل و أمنهم خوف- أي لو استماحهم محمد ع النوم- لجادوا عليه بالسهود عوضا عنه- و لو استجداهم الكحل- لكان كحلهم الذي يصلونه به الدموع- .

ثم قال بأرض عالمها ملجم- أي من عرف صدق محمد ص و آمن به في تقية و خوف- و جاهلها مكرم أي من جحد نبوته و كذبه في عز و منعة- و هذا ظاهر: وَ مِنْهَا وَ يَعْنِي آلَ النَّبِيِّ ص- هُمْ مَوْضِعُ سَرِّهِ وَ لَجَأُ أَمْرِهِ- وَ عَيْبَةُ عِلْمِهِ وَ مَوْئِلُ حُكْمِهِ- وَ كُهُوفُ كُتُبِهِ وَ جِبَالُ دِينِهِ- بِهِمْ أَقَامَ انْحِنَاءَ ظَهْرِهِ وَ أَذْهَبَ ارْتِعَادَ فَرَائِصِهِ اللجأ ما تلتجئ إليه كالوزر ما تعتصم به- و الموئل ما ترجع إليه- يقول إن أمر النبي ص أي شأنه ملتجئ إليهم- و علمه مودع عندهم كالثوب يودع العيبة- . و حكمه أي شرعه يرجع و يؤول إليهم- و كتبه يعني القرآن و السنة عندهم- فهم كالكهوف له لاحتوائهم عليه- و هم جبال دينه لا يتحلحلون عن الدين- أو أن الدين ثابت بوجودهم- كما أن الأرض ثابتة بالجبال و لو لا الجبال لمادت بأهلها- . و الهاء في ظهره ترجع إلى الدين- و كذلك الهاء في فرائصه- و الفرائص جمع فريصة و هي اللحمة بين الجنب و الكتف- لا تزال ترعد من الدابة: وَ مِنْهَا فِي الْمُنَافِقِينَ زَرَعُوا الْفُجُورَ وَ سَقَوْهُ الْغُرُورَ وَ حَصَدُوا الثُّبُورَ- لَا يُقَاسُ بِآلِ مُحَمَّدٍ ص مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَحَدٌ- وَ لَا يُسَوَّى بِهِمْ مَنْ جَرَتْ نِعْمَتُهُمْ عَلَيْهِ أَبَداً- هُمْ أَسَاسُ الدِّينِ وَ عِمَادُ الْيَقِينِ- إِلَيْهِمْ يَفِي‏ءُ الْغَالِي وَ بِهِمْ يُلْحَقُ‏ التَّالِي- وَ لَهُمْ خَصَائِصُ حَقِّ الْوِلَايَةِ- وَ فِيهِمُ الْوَصِيَّةُ وَ الْوِرَاثَةُ- الآْنَ إِذْ رَجَعَ الْحَقُّ إِلَى أَهْلِهِ وَ نُقِلَ إِلَى مُنْتَقَلِهِ جعل ما فعلوه من القبيح بمنزلة زرع زرعوه ثم سقوه- فالذي زرعوه الفجور ثم سقوه بالغرور- و الاستعارة واقعة موقعها- لأن تماديهم و ما سكنت إليه نفوسهم من الإمهال- هو الذي أوجب استمرارهم على القبائح التي واقعوها- فكان ذلك كما يسقى الزرع و يربى بالماء و يستحفظ- . ثم قال و حصدوا الثبور- أي كانت نتيجة ذلك الزرع و السقي- حصاد ما هو الهلاك و العطب- . و إشارته هذه ليست إلى المنافقين- كما ذكر الرضي رحمه الله- و إنما هي إشارة إلى من تغلب عليه و جحد حقه- كمعاوية و غيره- و لعل الرضي رحمه الله تعالى عرف ذلك و كنى عنه- . ثم عاد إلى الثناء على آل محمد ص- فقال هم أصول الدين إليهم يفي‏ء الغالي- و بهم يلحق التالي- جعلهم كمقنب يسير في فلاة- فالغالي منه أي الفارط المتقدم- الذي قد غلا في سيره يرجع إلى ذلك المقنب- إذا خاف عدوا- و من قد تخلف عن ذلك المقنب فصار تاليا له- يلتحق به إذا أشفق من أن يتخطف- .

ثم ذكر خصائص حق الولاية و الولاية الإمرة- فأما الإمامية فيقولون- أراد نص النبي ص عليه و على أولاده- و نحن نقول لهم خصائص حق ولاية الرسول ص على الخلق- . ثم قال ع و فيهم الوصية و الوراثة- أما الوصية فلا ريب عندنا- أن عليا ع كان وصي رسول الله ص- و إن خالف في ذلك من هو منسوب‏ عندنا إلى العناد- و لسنا نعني بالوصية النص و الخلافة- و لكن أمورا أخرى لعلها إذا لمحت أشرف و أجل- . و أما الوراثة- فالإمامية يحملونها على ميراث المال و الخلافة- و نحن نحملها على وراثة العلم- . ثم ذكر ع أن الحق رجع الآن إلى أهله- و هذا يقتضي أن يكون فيما قبل في غير أهله- و نحن نتأول ذلك على غير ما تذكره الإمامية- و نقول إنه ع كان أولى بالأمر و أحق- لا على وجه النص بل على وجه الأفضلية- فإنه أفضل البشر بعد رسول الله ص- و أحق بالخلافة من جميع المسلمين- لكنه ترك حقه لما علمه من المصلحة- و ما تفرس فيه هو و المسلمون- من اضطراب الإسلام و انتشار الكلمة- لحسد العرب له و ضغنهم عليه- و جائز لمن كان أولى بشي‏ء فتركه ثم استرجعه- أن يقول قد رجع الأمر إلى أهله- . و أما قوله و انتقل إلى منتقله ففيه مضاف محذوف- تقديره إلى موضع منتقله- و المنتقل بفتح القاف مصدر بمعنى الانتقال- كقولك لي في هذا الأمر مضطرب أي اضطراب- قال

قد كان لي مضطرب واسع
في الأرض ذات الطول و العرض‏

و تقول ما معتقدك أي ما اعتقادك- قد رجع الأمر إلى نصابه- و إلى الموضع الذي هو على الحقيقة الموضع- الذي يجب أن يكون انتقاله إليه- . فإن قيل ما معنى قوله ع- لا يقاس بآل محمد من هذه الأمة أحد- و لا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا- . قيل لا شبهة أن المنعم أعلى و أشرف من المنعم عليه- و لا ريب أن محمدا ص-و أهله الأدنين من بني هاشم- لا سيما عليا ع- أنعموا على الخلق كافة بنعمة لا يقدر قدرها- و هي الدعاء إلى الإسلام و الهداية إليه- فمحمد ص و إن كان هدى الخلق بالدعوة- التي قام بها بلسانه و يده- و نصره الله تعالى له بملائكته و تأييده- و هو السيد المتبوع و المصطفى المنتجب الواجب الطاعة- إلا أن لعلي ع من الهداية أيضا- و إن كان ثانيا لأول و مصليا على إثر سابق- ما لا يجحد- و لو لم يكن إلا جهاده بالسيف أولا و ثانيا- و ما كان بين الجهادين من نشر العلوم- و تفسير القرآن و إرشاد العرب- إلى ما لم تكن له فاهمة و لا متصورة- لكفى في وجوب حقه و سبوغ نعمته ع- . فإن قيل لا ريب في أن كلامه هذا تعريض بمن تقدم عليه- فأي نعمة له عليهم قيل نعمتان- الأولى منهما الجهاد عنهم و هم قاعدون- فإن من أنصف علم أنه لو لا سيف علي ع لاصطلم المشركون- من أشار إليه و غيرهم من المسلمين- و قد علمت آثاره في بدر و أحد و الخندق و خيبر و حنين- و أن الشرك فيها فغرفاه- فلو لا أن سده بسيفه لالتهم المسلمين كافة- و الثانية علومه التي لولاه لحكم بغير الصواب- في كثير من الأحكام- و قد اعترف عمر له بذلك- و الخبر مشهور لو لا علي لهلك عمر- .

و يمكن أن يخرج كلامه على وجه آخر- و ذلك أن العرب تفضل القبيلة- التي منها الرئيس الأعظم على سائر القبائل- و تفضل الأدنى منه نسبا فالأدنى- على سائر آحاد تلك القبيلة- فإن بني دارم يفتخرون بحاجب و إخوته- و بزرارة أبيهم على سائر بني تميم- و يسوغ للواحد من أبناء بني دارم أن يقول- لا يقاس ببني دارم أحد من بني تميم- و لا يستوي بهم من جرت رئاستهم عليه أبدا- و يعني بذلك أن واحدا من بني دارم قد رأس على بني تميم- فكذلك لما كان رسول الله ص رئيس الكل-و المنعم على الكل- جاز لواحد من بني هاشم لا سيما مثل علي ع- أن يقول هذه الكلمات- و اعلم أن عليا ع كان يدعي التقدم على الكل- و الشرف على الكل و النعمة على الكل- بابن عمه ص و بنفسه و بأبيه أبي طالب- فإن من قرأ علوم السير- عرف أن الإسلام لو لا أبو طالب لم يكن شيئا مذكورا- . و ليس لقائل أن يقول- كيف يقال هذا في دين تكفل الله تعالى بإظهاره- سواء كان أبو طالب موجودا أو معدوما- لأنا نقول فينبغي على هذا ألا يمدح رسول الله ص- و لا يقال إنه هدى الناس من الضلالة- و أنقذهم من الجهالة- و إن له حقا على المسلمين- و إنه لولاه لما عبد الله تعالى في الأرض- و ألا يمدح أبو بكر- و لا يقال إن له أثرا في الإسلام- و إن عبد الرحمن و سعدا و طلحة و عثمان- و غيرهم من الأولين في الدين- اتبعوا رسول الله ص لاتباعه له- و إن له يدا غير مجحودة في الإنفاق- و اشتراء المعذبين و إعتاقهم- و إنه لولاه لاستمرت الردة بعد الوفاة- و ظهرت دعوة مسيلمة و طليحة و إنه لو لا عمر لما كانت الفتوح و لا جهزت الجيوش- و لا قوي أمر الدين بعد ضعفه- و لا انتشرت الدعوة بعد خمولها- . فإن قلتم في كل ذلك- إن هؤلاء يحمدون و يثنى عليهم- لأن الله تعالى أجرى هذه الأمور على أيديهم- و وفقهم لها- و الفاعل بذلك بالحقيقة هو الله تعالى- و هؤلاء آلة مستعملة- و وسائط تجرى الأفعال على أيديها- فحمدهم و الثناء عليهم- و الاعتراف لهم إنما هو باعتبار ذلك- . قيل لكم في شأن أبي طالب مثله- .

و اعلم أن هذه الكلمات- و هي قوله ع الآن إذ رجع الحق إلى أهله إلى آخرها- يبعد عندي أن تكون مقولة عقيب انصرافه ع من صفين- لأنه انصرف عنها وقتئذ مضطرب الأمر- منتشر الحبل بواقعة التحكيم- و مكيدة ابن العاص و ما تم لمعاوية عليه من الاستظهار- و ما شاهد في عسكره من الخذلان- و هذه الكلمات لا تقال في مثل هذه الحال- و أخلق بها أن تكون قيلت في ابتداء بيعته- قبل أن يخرج من المدينة إلى البصرة- و أن الرضي رحمه الله تعالى نقل ما وجد- و حكى ما سمع و الغلط من غيره- و الوهم سابق له و ما ذكرناه واضح
ما ورد في الوصاية من الشعر و مما رويناه من الشعر المقول في صدر الإسلام- المتضمن كونه ع وصي رسول الله- قول عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب-

و منا علي ذاك صاحب خيبر
و صاحب بدر يوم سالت كتائبه‏

وصي النبي المصطفى و ابن عمه‏
فمن ذا يدانيه و من ذا يقاربه‏

– . و قال عبد الرحمن بن جعيل-

لعمري لقد بايعتم ذا حفيظة
على الدين معروف العفاف موفقا

عليا وصي المصطفى و ابن عمه‏
و أول من صلى أخا الدين و التقى‏

 و قال أبو الهيثم بن التيهان و كان بدريا-

قل للزبير و قل لطلحة إننا
نحن الذين شعارنا الأنصار

نحن الذين رأت قريش فعلنا
يوم القليب أولئك الكفار

كنا شعار نبينا و دثاره
يفديه منا الروح و الأبصار

إن الوصي إمامنا و ولينا
برح الخفاء و باحت الأسرار

 و قال عمر بن حارثة الأنصاري- و كان مع محمد بن الحنفية يوم الجمل- و قد لامه أبوه ع لما أمره بالحملة فتقاعس-

أبا حسن أنت فصل الأمور
يبين بك الحل و المحرم‏

جمعت الرجال على راية
بها ابنك يوم الوغى مقحم‏

و لم ينكص المرء من خيفة
و لكن توالت له أسهم‏

فقال رويدا و لا تعجلوا
فإني إذا رشقوا مقدم‏

فأعجلته و الفتى مجمع
بما يكره الوجل المحجم‏

سمي النبي و شبه الوصي‏
و رايته لونها العندم‏

و قال رجل من الأزد يوم الجمل-

هذا علي و هو الوصي
آخاه يوم النجوة النبي‏

و قال هذا بعدي الولي‏
وعاه واع و نسي الشقي‏

و خرج يوم الجمل غلام من بني ضبة- شاب معلم من عسكر عائشة و هو يقول-

نحن بني ضبة أعداء علي
ذاك الذي يعرف قدما بالوصي‏

و فارس الخيل على عهد النبي‏
ما أنا عن فضل علي بالعمي‏

لكنني أنعى ابن عفان التقي
إن الولي طالب ثأر الولي‏

و قال سعيد بن قيس الهمداني يوم الجمل- و كان في عسكر علي ع-

أية حرب أضرمت نيرانها
و كسرت يوم الوغى مرانها

قل للوصي أقبلت قحطانها
فادع بها تكفيكها همدانها

هم بنوها و هم إخوانها

و قال زياد بن لبيد الأنصاري يوم الجمل- و كان من أصحاب علي ع-

كيف ترى الأنصار في يوم الكلب
إنا أناس لا نبالي من عطب‏

و لا نبالي في الوصي من غضب‏
و إنما الأنصار جد لا لعب‏

هذا علي و ابن عبد المطلب
ننصره اليوم على من قد كذب‏

من يكسب البغي
فبئس ما اكتسب‏

 و قال حجر بن عدي الكندي في ذلك اليوم أيضا-

يا ربنا سلم لنا عليا
سلم لنا المبارك المضيا

المؤمن الموحد التقيا
لا خطل الرأي و لا غويا

بل هاديا موفقا مهديا
و احفظه ربي و احفظ النبيا

فيه فقد كان له وليا
ثم ارتضاه بعده وصيا

و قال خزيمة بن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين و كان بدريا- في يوم الجمل أيضا-

ليس بين الأنصار في جحمة الحرب
و بين العداة إلا الطعان‏

و قراع الكمأة بالقضب‏
البيض إذا ما تحطم المران‏

فادعها تستجب فليس من الخز
رج و الأوس يا علي جبان‏

يا وصي النبي قد أجلت‏
الحرب الأعادي و سارت الأظعان‏

و استقامت لك الأمور سوى
الشام و في الشام يظهر الإذعان‏

حسبهم ما رأوا و حسبك منا
هكذا نحن حيث كنا و كانوا

و قال خزيمة أيضا في يوم الجمل-

أ عائش خلي عن علي و عيبه
بما ليس فيه إنما أنت والده‏

وصي رسول الله من دون أهله‏
و أنت على ما كان من ذاك شاهده‏

و حسبك منه بعض ما تعلمينه
و يكفيك لو لم تعلمي غير واحده‏

إذا قيل ما ذا عبت منه رميته‏
بخذل ابن عفان و ما تلك آبده‏

و ليس سماء الله قاطرة دما
لذاك و ما الأرض الفضاء بمائده‏

 و قال ابن بديل بن ورقاء الخزاعي يوم الجمل أيضا-

يا قوم للخطة العظمى التي حدثت
حرب الوصي و ما للحرب من آسي‏

الفاصل الحكم بالتقوى إذا ضربت‏
تلك القبائل أخماسا لأسداس‏

و قال عمرو بن أحيحة يوم الجمل- في خطبة الحسن بن علي ع بعد خطبة عبد الله بن الزبير- .

حسن الخير يا شبيه أبيه
قمت فينا مقام خير خطيب‏

قمت بالخطبة التي صدع‏
الله بها عن أبيك أهل العيوب‏

و كشفت القناع فاتضح
الأمر و أصلحت فاسدات القلوب‏

لست كابن الزبير لجلج في‏
القول و طأطأ عنان فسل مريب‏

و أبى الله أن يقوم بما
قام به ابن الوصي و ابن النجيب‏

إن شخصا بين النبي لك‏
الخير و بين الوصي غير مشوب‏

و قال زحر بن قيس الجعفي يوم الجمل أيضا-

أضربكم حتى تقروا لعلي
خير قريش كلها بعد النبي‏

من زانه الله و سماه الوصي‏
إن الولي حافظ ظهر الولي‏

كما الغوي تابع أمر الغوي‏

ذكر هذه الأشعار و الأراجيز بأجمعها- أبو مخنف لوط بن يحيى- في كتاب وقعة الجمل- و أبو مخنف من المحدثين- و ممن يرى صحة الإمامة بالاختيار- و ليس من الشيعة و لا معدودا من رجالها- . و مما رويناه من أشعار صفين- التي تتضمن تسميته ع بالوصي- ما ذكره نصر بن مزاحم بن يسار المنقري في كتاب صفين- و هو من رجال الحديث- قال نصر بن مزاحم قال زحر بن قيس الجعفي-

فصلى الإله على أحمد
رسول المليك تمام النعم‏

رسول المليك و من بعده‏
خليفتنا القائم المدعم‏

عليا عنيت وصي النبي
نجالد عنه غواه الأمم‏

 قال نصر و من الشعر المنسوب إلى الأشعث بن قيس-

أتانا الرسول رسول الإمام
فسر بمقدمه المسلمونا

رسول الوصي وصي النبي‏
له السبق و الفضل في المؤمنينا

و من الشعر المنسوب إلى الأشعث أيضا-

أتانا الرسول رسول الوصي
علي المهذب من هاشم‏

وزير النبي و ذو صهره‏
و خير البرية و العالم‏

 قال نصر بن مزاحم من شعر أمير المؤمنين ع في صفين

يا عجبا لقد سمعت منكرا
كذبا على الله يشيب الشعرا

ما كان يرضى أحمد لو أخبرا
أن يقرنوا وصيه و الأبترا

شاني الرسول و اللعين الأخزرا
إني إذا الموت دنا و حضرا

شمرت ثوبي و دعوت قنبرا
قدم لوائي لا تؤخر حذرا

لا يدفع الحذار ما قد قدرا
لو أن عندي يا ابن حرب جعفرا

أو حمزة القرم الهمام الأزهرا
رأت قريش نجم ليل ظهرا

و قال جرير بن عبد الله البجلي- كتب بهذا الشعر إلى شرحبيل بن السمط الكندي-رئيس اليمانية من أصحاب معاوية

نصحتك يا ابن السمط لا تتبع الهوى
فما لك في الدنيا من الدين من بدل‏

و لا تك كالمجرى إلى شر غاية
فقد خرق السربال و استنوق الجمل‏

مقال ابن هند في علي عضيهة
و لله في صدر ابن أبي طالب أجل‏

و ما كان إلا لازما قعر بيته‏
إلى أن أتى عثمان في بيته الأجل‏

وصي رسول الله من دون أهله
و فارسه الحامي به يضرب المثل‏

و قال النعمان بن عجلان الأنصاري-

كيف التفرق و الوصي إمامنا
لا كيف إلا حيرة و تخاذلا

لا تغبنن عقولكم لا خير في‏
من لم يكن عند البلابل عاقلا

و ذروا معاوية الغوي و تابعوا
دين الوصي لتحمدوه آجلا

و قال عبد الرحمن بن ذؤيب الأسلمي-

ألا أبلغ معاوية بن حرب
فما لك لا تهش إلى الضراب‏

فإن تسلم و تبق الدهر يوما
نزرك بجحفل عدد التراب‏

يقودهم الوصي إليك حتى
يردك عن ضلال و ارتياب‏

و قال المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب-

يا عصبة الموت صبرا لا يهولكم
جيش ابن حرب فإن الحق قد ظهرا

و أيقنوا أن من أضحى يخالفكم‏
أضحى شقيا و أمسى نفسه خسرا

فيكم وصي رسول الله قائدكم
و صهره و كتاب الله قد نشرا

و قال عبد الله بن العباس بن عبد المطلب-

وصي رسول الله من دون أهله
و فارسه إن قيل هل من منازل‏

فدونكه إن كنت تبغي مهاجرا
أشم كنصل السيف عير حلاحل‏

– . و الأشعار التي تتضمن هذه اللفظة كثير جدا- و لكنا ذكرنا منها هاهنا- بعض ما قيل في هذين الحزبين- فأما ما عداهما فإنه يجل عن الحصر- و يعظم عن الإحصاء و العد- و لو لا خوف الملالة و الإضجار- لذكرنا من ذلك ما يملأ أوراقا كثيرة شرح‏نه

 

خطبه ۱ شرح ابن ابی الحدید(شرح عربی)

1: فمن خطبة له ع- يذكر فيها ابتداء خلق السماء و الأرض و خلق آدم

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يَبْلُغُ مِدْحَتَهُ الْقَائِلُونَ- وَ لَا يُحْصِي نَعْمَاءَهُ الْعَادُّونَ- وَ لَا يُؤَدِّي حَقَّهُ الْمُجْتَهِدُونَ- الَّذِي لَا يُدْرِكُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ- وَ لَا يَنَالُهُ غَوْصُ الْفِطَنِ- الَّذِي لَيْسَ لِصِفَتِهِ حَدٌّ مَحْدُودٌ- وَ لَا نَعْتٌ مَوْجُودٌ وَ لَا وَقْتٌ مَعْدُودٌ- وَ لَا أَجْلٌ مَمْدُودٌ- فَطَرَ الْخَلَائِقَ بِقُدْرَتِهِ- وَ نَشَرَ الرِّيَاحَ بِرَحْمَتِهِ- وَ وَتَّدَ بِالصُّخُورِ مَيَدَانَ أَرْضِهِ‏

الذي عليه أكثر الأدباء و المتكلمين- أن الحمد و المدح أخوان لا فرق بينهما- تقول حمدت زيدا على إنعامه و مدحته على إنعامه- و حمدته على شجاعته و مدحته على شجاعته- فهما سواء يدخلان فيما كان من فعل الإنسان- و فيما ليس من فعله كما ذكرناه من المثالين- فأما الشكر فأخص من المدح- لأنه لا يكون إلا على النعمة خاصة- و لا يكون إلا صادرا من منعم عليه- فلا يجوز عندهم أن يقال- شكر زيد عمرا لنعمة أنعمها عمرو على إنسان غير زيد- . إن قيل الاستعمال خلاف ذلك- لأنهم يقولون حضرنا عند فلان- فوجدناه يشكر الأمير على معروفه عند زيد- قيل ذلك إنما يصح إذا كان إنعام الأمير على زيد- أوجب سرور فلان- فيكون شكر إنعام الأمير على زيد- شكرا على السرور الداخل على قلبه بالإنعام على زيد- و تكون لفظة زيد التي استعيرت ظاهرا- لاستناد الشكر إلى مسماها كناية لا حقيقة- و يكون ذلك الشكر شكرا باعتبار السرور المذكور- و مدحا باعتبار آخر- و هو المناداة على ذلك الجميل و الثناء- الواقع بجنسه- . ثم إن هؤلاء المتكلمين الذين حكينا قولهم- يزعمون أن الحمد و المدح و الشكر- لا يكون إلا باللسان مع انطواء القلب- على الثناء و التعظيم- فإن استعمل شي‏ء من ذلك- في الأفعال بالجوارح كان مجازا- و بقي البحث عن اشتراطهم مطابقة القلب للسان- فإن الاستعمال لا يساعدهم- لأن أهل الاصطلاح يقولون لمن مدح غيره- أو شكره رياء و سمعة- إنه قد مدحه و شكره و إن كان منافقا عندهم- و نظير هذا الموضع الإيمان- فإن أكثر المتكلمين لا يطلقونه- على مجرد النطق اللساني- بل يشترطون فيه الاعتقاد القلبي- فأما أن يقصروا به عليه- كما هو مذهب الأشعرية و الإمامية- أو تؤخذ معه أمور أخرى- و هي فعل الواجب و تجنب القبيح- كما هو مذهب المعتزلة- و لا يخالف جمهور المتكلمين في هذه المسألة- إلا الكرامية- فإن المنافق عندهم يسمى مؤمنا- و نظروا إلى مجرد الظاهر- فجعلوا النطق اللساني وحده إيمانا- . و المدحة هيئة المدح كالركبة هيئة الركوب- و الجلسة هيئة الجلوس و المعنى مطروق جدا- و منه في الكتاب العزيز كثير- كقوله تعالى وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها و في الأثر النبوي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك
– و قال الكتاب من ذلك ما يطول ذكره- فمن جيد ذلك قول بعضهم- الحمد لله على نعمه التي منها- إقدارنا على الاجتهاد في حمدها- و إن عجزنا عن إحصائها و عدها- و قالت الخنساء بنت عمرو بن الشريد-

فما بلغت كف امرئ متناول
بها المجد إلا و الذي نلت أطول‏
و لا حبر المثنون في القول مدحة
و إن أطنبوا إلا و ما فيك أفضل‏

– . و من مستحسن ما وقفت عليه- من تعظيم البارئ عز جلاله بلفظ الحمد- قول بعض الفضلاء في خطبة أرجوزة علمية-

الحمد لله بقدر الله
لا قدر وسع العبد ذي التناهي‏

و الحمد لله الذي برهانه‏
أن ليس شأن ليس فيه شانه‏

و الحمد لله الذي من ينكره
فإنما ينكر من يصوره‏

– . و أما قوله الذي لا يدركه- فيريد أن همم النظار و أصحاب الفكر- و إن علت و بعدت فإنها لا تدركه تعالى و لا تحيط به- و هذا حق لأن كل متصور فلا بد أن يكون محسوسا- أو متخيلا أو موجودا من فطرة النفس- و الاستقراء يشهد بذلك- مثال المحسوس السواد و الحموضة- مثال المتخيل إنسان يطير أو بحر من دم- مثال الموجود من فطرة النفس تصور الألم و اللذة- و لما كان البارئ سبحانه خارجا عن هذا أجمع- لم يكن متصورا- . فأما قوله الذي ليس لصفته حد محدود- فإنه يعني بصفته هاهنا كنهه و حقيقته- يقول ليس لكنهه حد- فيعرف بذلك الحد قياسا على الأشياء المحدودة- لأنه ليس بمركب و كل محدود مركب- . ثم قال و لا نعت موجود- أي و لا يدرك بالرسم كما تدرك الأشياء برسومها- و هو أن تعرف بلازم من لوازمها و صفة من صفاتها- ثم قال و لا وقت معدود و لا أجل ممدود- فيه إشارة إلى الرد على من قال- إنانعلم كنه البارئ سبحانه لا في هذه الدنيا بل في الآخرة- فإن القائلين برؤيته في الآخرة يقولون- إنا نعرف حينئذ كنهه- فهو ع رد قولهم- و قال إنه لا وقت أبدا على الإطلاق- تعرف فيه حقيقته و كنهه لا الآن و لا بعد الآن- و هو الحق لأنا لو رأيناه في الآخرة- و عرفنا كنهه لتشخص تشخصا- يمنع من حمله على كثيرين- و لا يتصور أن يتشخص هذا التشخص- إلا ما يشار إلى جهته و لا جهة له سبحانه- و قد شرحت هذا الموضع في كتابي- المعروف بزيادات النقضين- و بينت أن الرؤية المنزهة عن الكيفية- التي يزعمها أصحاب الأشعري- لا بد فيها من إثبات الجهة- و أنها لا تجري مجرى العلم- لأن العلم لا يشخص المعلوم و الرؤية تشخص المرئي- و التشخيص لا يمكن إلا مع كون المتشخص ذا جهة- . و اعلم أن نفي الإحاطة مذكور في الكتاب العزيز- في مواضع منها قوله تعالى وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً- و منها قوله يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ- و قال بعض الصحابة- العجز عن درك الإدارك إدراك- و قد غلا محمد بن هانئ- فقال في ممدوحه المعز أبي تميم معد بن المنصور العلوي-

أتبعته فكري حتى إذا بلغت
غاياتها بين تصويب و تصعيد

رأيت موضع برهان يلوح و ما
رأيت موضع تكييف و تحديد

– . و هذا مدح يليق بالخالق تعالى و لا يليق بالمخلوق- . فأما قوله فطر الخلائق إلى آخر الفصل- فهو تقسيم مشتق من الكتاب العزيز- فقوله فطر الخلائق بقدرته- من قوله تعالى قالَ رَبُّ السَّماواتِ‏ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا- و قوله و نشر الرياح برحمته- من قوله يرسل الرياح نشرا بين يدي رحمته- . و قوله و وتد بالصخور ميدان أرضه- من قوله وَ الْجِبالَ أَوْتاداً- و الميدان التحرك و التموج- . فأما القطب الراوندي رحمه الله فإنه قال- إنه ع أخبر عن نفسه بأول هذا الفصل أنه يحمد الله- و ذلك من ظاهر كلامه- ثم أمر غيره من فحوى كلامه أن يحمد الله- و أخبر ع أنه ثابت على ذلك مدة حياته- و أنه يجب على المكلفين ثبوتهم عليه ما بقوا- و لو قال أحمد الله لم يعلم منه جميع ذلك- ثم قال و الحمد أعم من الشكر و الله أخص من الإله- قال فأما قوله الذي لا يبلغ مدحته القائلون- فإنه أظهر العجز عن القيام بواجب مدائحه- فكيف بمحامده- و المعنى أن الحمد كل الحمد ثابت للمعبود- الذي حقت العبادة له في الأزل- و استحقها حين خلق الخلق- و أنعم بأصول النعم التي يستحق بها العبادة- . و لقائل أن يقول- إنه ليس في فحوى كلامه أنه أمر غيره أن يحمد الله- و ليس يفهم من قول بعض رعية الملك لغيره منهم- العظمة و الجلال لهذا الملك- أنه قد أمرهم بتعظيمه و إجلاله- و لا أيضا في الكلام ما يدل على أنه ثابت على ذلك- مدة حياته- و أنه يجب على المكلفين ثبوتهم عليه ما بقوا- . و لا أعلم كيف قد وقع ذلك للراوندي- فإن زعم أن العقل يقتضي ذلك فحق- و لكن ليس مستفادا من الكلام- و هو أنه قال إن ذلك موجود في الكلام- . فأما قوله لو كان قال أحمد الله لم يعلم منه جميع ذلك- فإنه لا فرق في انتفاء دلالة أحمد الله على ذلك- و دلالة الحمد لله- و هما سواء في أنهما لا يدلان على شي‏ء- من أحوال غير القائل- فضلا عن دلالتهما على ثبوت ذلك- و دوامه في حق غير القائل- . و أما قوله الله أخص من الإله- فإن أراد في أصل اللغة فلا فرق- بل الله هو الإله و فخم بعد حذف الهمزة- هذا قول كافة البصريين- و إن أراد أن أهل الجاهلية- كانوا يطلقون على الأصنام لفظة الإلهة- و لا يسمونها الله- فحق و ذلك عائد إلى عرفهم و اصطلاحهم- لا إلى أصل اللغة و الاشتقاق- أ لا ترى أن الدابة في العرف لا تطلق على القملة- و إن كانت في أصل اللغة دابة- . فأما قوله قد أظهر العجز عن القيام بواجب مدائحه- فكيف بمحامده- فكلام يقتضي أن المدح غير الحمد- و نحن لا نعرف فرقا بينهما- و أيضا فإن الكلام لا يقتضي العجز عن القيام بالواجب- لا من الممادح و لا من المحامد- و لا فيه تعرض لذكر الوجوب- و إنما نفى أن يبلغ القائلون مدحته لم يقل غير ذلك- . و أما قوله الذي حقت العبادة له في الأزل- و استحقها حين خلق الخلق و أنعم بأصول النعم- فكلام ظاهره متناقض- لأنه إذا كان إنما استحقها حين خلق الخلق- فكيف يقال إنه استحقها في الأزل- و هل يكون في الأزل مخلوق ليستحق عليه العبادة- . و اعلم أن المتكلمين لا يطلقون على البارئ سبحانه- أنه معبود في الأزل أو مستحق للعبادة في الأزل- إلا بالقوة لا بالفعل- لأنه ليس في الأزل مكلف يعبده تعالى- و لا أنعم على أحد في الأزل- بنعمة يستحق بها العبادة- حتى أنهم قالوا في الأثر الوارد- يا قديم الإحسان- إن معناه أن إحسانه متقادم العهد- لا أنه قديم حقيقة كما جاء في الكتاب العزيز- حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ- أي الذي قد توالت عليه الأزمنة المتطاولة- . ثم قال الراوندي- و الحمد و المدح يكونان بالقول و بالفعل- و الألف و اللام في القائلون لتعريف الجنس- كمثلهما في الحمد- و البلوغ المشارفة- يقال بلغت المكان إذا أشرفت عليه- و إذا لم تشرف على حمده تعالى بالقول- فكيف توصل إليه بالفعل- و الإله مصدر بمعنى المألوه- . و لقائل أن يقول الذي سمعناه- أن التعظيم يكون بالقول و الفعل- و بترك القول و الفعل- قالوا فمن قال لغيره يا عالم فقد عظمه- و من قام لغيره فقد عظمه- و من ترك مد رجله بحضرة غيره فقد عظمه- و من كف غرب لسانه عن غيره فقد عظمه- و كذلك الاستخفاف و الإهانة- تكون بالقول و الفعل و بتركهما- حسب ما قدمنا ذكره في التعظيم- . فأما الحمد و المدح فلا وجه لكونهما بالفعل- و أما قوله إن اللام في القائلون لتعريف الجنس- كما أنها في الحمد كذلك فعجيب- لأنها للاستغراق في القائلون- لا شبهة في ذلك كالمؤمنين و المشركين- و لا يتم المعنى إلا به لأنه للمبالغة- بل الحق المحض أنه لا يبلغ مدحته كل القائلين بأسرهم- و جعل اللام للجنس ينقص عن هذا المعنى- إن أراد بالجنس المعهود- و إن أراد الجنسية العامة فلا نزاع بيننا و بينه- إلا أن قوله كما أنها في الحمد كذلك- يمنع من أن يحمل كلامه على المحمل الصحيح- لأنها ليست في الحمد للاستغراق- يبين ذلك أنها لو كانت للاستغراق- لما جاز أن يحمد رسول الله ص و لا غيره من الناس- و هذا باطل- .

و أيضا فإنها لفظ واحد مفرد معرف بلام الجنس- و الأصل في مثل ذلك أن يفيد الجنسية المطلقة- و لا يفيد الاستغراق- فإن جاء منه شي‏ء للاستغراق- كقوله إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ- و أهلك الناس الدرهم و الدينار- فمجاز و الحقيقة ما ذكرناه- فأما قوله البلوغ المشارفة- يقال بلغت المكان إذا أشرفت عليه- فالأجود أن يقول قالوا بلغت المكان إذا شارفته- و بين قولنا شارفته و أشرفت عليه فرق- . و أما قوله و إذا لم يشرف على حمده بالقول- فكيف يوصل إليه بالفعل- فكلام مبني على أن الحمد قد يكون بالفعل- و هو خلاف ما يقوله أرباب هذه الصناعة- . و قوله و الإله مصدر بمعنى المألوه كلام طريف- أما أولا فإنه ليس بمصدر بل هو اسم- كوجار للضبع و سرار للشهر- و هو اسم جنس كالرجل و الفرس- يقع على كل معبود بحق أو باطل- ثم غلب على المعبود بالحق- كالنجم اسم لكل كوكب ثم غلب على الثريا- و السنة اسم لكل عام ثم غلب على عام القحط- و أظنه رحمه الله لما رآه فعالا- ظن أنه اسم مصدر كالحصاد و الجذاذ و غيرهما- و أما ثانيا فلأن المألوه صيغة مفعول- و ليست صيغة مصدر إلا في ألفاظ نادرة- كقولهم ليس له معقول و لا مجلود- و لم يسمع مألوه في اللغة- لأنه قد جاء أله الرجل إذا دهش و تحير- و هو فعل لازم لا يبنى منه مفعول- . ثم قال الراوندي و في قول الله تعالى- وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها بلفظ الإفراد- و قول أمير المؤمنين ع- لا يحصي نعماءه العادون بلفظ الجمع- سر عجيب- لأنه تعالى أراد أن نعمة واحدة من نعمه- لا يمكن العباد عد وجوه كونها نعمة- و أراد أمير المؤمنين ع أن أصول نعمه لا تحصى لكثرتها- فكيف تعد وجوه فروع نعمائه- و كذلك في كون الآية واردة بلفظة إن الشرطية- و كلام أمير المؤمنين ع على صيغة الخبر- تحته لطيفة عجيبة- لأنه سبحانه يريد أنكم إن أردتم أن تعدوا نعمه- لم تقدروا على حصرها- و علي ع أخبر أنه قد أنعم النظر- فعلم أن أحدا لا يمكنه حصر نعمه تعالى- . و لقائل أن يقول الصحيح أن المفهوم من قوله- وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ الجنس- كما يقول القائل- أنا لا أجحد إحسانك إلى و امتنانك علي- و لا يقصد بذلك إحسانا واحدا بل جنس الإحسان- . و ما ذكره من الفرق بين كلام البارئ- و كلام أمير المؤمنين ع- غير بين- فإنه لو قال تعالى و إن تعدوا نعم الله- و قال ع و لا يحصي نعمته العادون- لكان كل واحد منهما سادا مسد الآخر- . أما اللطيفة الثانية فغير ظاهرة أيضا و لا مليحة- لأنه لو انعكس الأمر فكان القرآن بصيغة الخبر- و كلام علي ع بصيغة الشرط- لكان مناسبا أيضا حسب مناسبته- و الحال بعكس ذلك- اللهم إلا أن تكون قرينة السجعة من كلام علي ع- تنبو عن لفظة الشرط- و إلا فمتى حذفت القرينة السجعية عن وهمك- لم تجد فرقا- و نحن نعوذ بالله من التعسف و التعجرف- الداعي إلى ارتكاب هذه الدعاوي المنكرة- . ثم قال الراوندي- إنه لو قال أمير المؤمنين ع- الذي لا يعد نعمه الحاسبون- لم تحصل المبالغة التي أرادها بعبارته- لأن اشتقاق الحساب من الحسبان و هو الظن- قال و أما اشتقاق العدد فمن العد- و هو الماء الذي له مادة- و الإحصاء الإطاقة أحصيته أي أطقته- فتقدير الكلام لا يطيق عد نعمائه العادون-

و معنى ذلك أن مدائحه تعالى- لا يشرف على ذكرها الأنبياء و المرسلون- لأنها أكثر من أن تعدها الملائكة المقربون- و الكرام الكاتبون- . و لقائل أن يقول- أما الحساب فليس مشتقا من الحسبان بمعنى الظن- كما توهمه- بل هو أصل برأسه- أ لا ترى أن أحدهما حسبت أحسب- و الآخر حسبت أحسب و أحسب بالفتح و الضم- و هو من الألفاظ الأربعة التي جاءت شاذة- و أيضا فإن حسبت بمعنى ظننت- يتعدى إلى مفعولين لا يجوز الاقتصار على أحدهما- و حسبت من العدد يتعدى إلى مفعول واحد- ثم يقال له و هب أن الحاسبين- لو قالها مشتقة من الظن لم تحصل المبالغة- بل المبالغة كادت تكون أكثر- لأن النعم التي لا يحصرها الظان بظنونه- أكثر من النعم التي لا يعدها العالم بعلومه- و أما قوله العدد مشتق من العد- و هو الماء الذي له مادة فليس كذلك بل هما أصلان- و أيضا لو كان أحدهما مشتقا من الآخر- لوجب أن يكون العد مشتقا من العدد- لأن المصادر هي الأصول التي يقع الاشتقاق منها- سواء أ كان المشتق فعلا أو اسما- أ لا تراهم قالوا في كتب الاشتقاق- أن الضرب الرجل الخفيف مشتق من الضرب- أي السير في الأرض للابتغاء- قال الله تعالى لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ- فجعل الاسم منقولا و مشتقا من المصدر- . و أما الإحصاء فهو الحصر و العد- و ليس هو الإطاقة كما ذكر- لا يقال أحصيت الحجر أي أطقت حمله- . و أما ما قال إنه معنى الكلمة فطريف- لأنه ع لم يذكر الأنبياء و لاالملائكة- لا مطابقة و لا تضمنا و لا التزاما- و أي حاجة إلى هذا التقدير الطريف- الذي لا يشعر الكلام به- و مراده ع- و هو أن نعمه جلت لكثرتها أن يحصيها عاد ما- هو نفي لمطلق العادين من غير تعرض لعاد مخصوص- .

قال الراوندي فأما قوله لا يدركه بعد الهمم- فالإدراك هو الرؤية و النيل و الإصابة- و معنى الكلام الحمد لله الذي ليس بجسم و لا عرض- إذ لو كان أحدهما لرآه الراءون إذا أصابوه- و إنما خص بعد الهمم بإسناد نفي الإدراك- و غوص الفطن بإسناد نفي النيل لغرض صحيح- و ذلك أن الثنوية يقولون بقدم النور و الظلمة- و يثبتون النور جهة العلو و الظلمة جهة السفل- و يقولون إن العالم ممتزج منهما- فرد ع عليهم بما معناه- أن النور و الظلمة جسمان- و الأجسام محدثة و البارئ تعالى قديم- . و لقائل أن يقول إنه لم يجر للرؤية ذكر في الكلام- لأنه ع لم يقل الذي لا تدركه العيون و لا الحواس- و إنما قال لا يدركه بعد الهمم- و هذا يدل على أنه إنما أراد- أن العقول لا تحيط بكنهه و حقيقته- . و أيضا فلو سلمنا أنه إنما نفى الرؤية- لكان لمحاج أن يحاجه فيقول له- هب أن الأمر كما تزعم- أ لست تريد بيان الأمر- الذي لأجله خصص بعد الهمم بنفي الإدراك- و خصص غوص الفطن بنفي النيل- و قلت إنما قسم هذا التقسيم لغرض صحيح- و ما رأيناك أوضحت هذا الغرض- و إنما حكيت مذهب الثنوية- و ليس يدل مذهبهم على وجوب تخصيص بعد الهمم- بنفي الإدراك دون نفي النيل- و لا يوجب تخصيص غوص الفطن-

بنفي النيل دون نفي الإدراك- و أكثر ما في حكاية مذهبهم- أنهم يزعمون أن إلهي العالم النور و الظلمة- و هما جسمان- و أمير المؤمنين ع يقول- لو كان صانع العالم جسما لرئي- و حيث لم ير لم يكن جسما- أي شي‏ء في هذا مما يدل على وجوب ذلك التقسيم- و التخصيص الذي زعمت- أنه إنما خصصه و قسمه لغرض صحيح- .

ثم قال الراوندي- و يجوز أن يقال البعد و الغوص مصدران- هاهنا بمعنى الفاعل- كقولهم فلأن عدل أي عادل- و قوله تعالى إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً أي غائرا- فيكون المعنى- لا يدركه العالم البعيد الهمم فكيف الجاهل- و يكون المقصد بذلك الرد على من قال- إن محمدا ص رأى ربه ليلة الإسراء- و إن يونس ع رأى ربه ليلة هبوطه إلى قعر البحر- . و لقائل أن يقول- أن المصدر الذي جاء بمعنى الفاعل ألفاظ معدودة- لا يجوز القياس عليها- و لو جاز لما كان المصدر هاهنا بمعنى الفاعل- لأنه مصدر مضاف- و المصدر المضاف لا يكون بمعنى الفاعل- و لو جاز أن يكون المصدر المضاف بمعنى الفاعل- لم يجز أن يحمل كلامه ع على الرد- على من أثبت أن البارئ سبحانه مرئي- لأنه ليس في الكلام نفي الرؤية أصلا- و إنما غرض الكلام نفي معقوليته سبحانه- و أن الأفكار و الأنظار لا تحيط بكنهه- و لا تتعقل خصوصية ذاته جلت عظمته- . ثم قال الراوندي- فأما قوله الذي ليس لصفته حد محدود- و لا نعت موجود و لا وقت معدود و لا أجل ممدود- فالوقت تحرك الفلك و دورانه على وجه- و الأجل‏ مدة الشي‏ء- و معنى الكلام أن شكري لله تعالى متجدد- عند تجدد كل ساعة- و لهذا أبدل هذه الجملة من الجملة التي قبلها و هي الثانية- كما أبدل الثانية من الأولى- . و لقائل أن يقول- الوقت عند أهل النظر مقدار حركة الفلك- لا نفس حركته- و الأجل ليس مطلق الوقت- أ لا تراهم يقولون جئتك وقت العصر- و لا يقولون أجل العصر- و الأجل عندهم هو الوقت الذي يعلم الله تعالى- أن حياة الحيوان تبطل فيه- مأخوذ من أجل الدين و هو الوقت الذي يحل قضاؤه فيه- .

فأما قوله و معنى الكلام أن شكري- متجدد لله تعالى في كل وقت- ففاسد- و لا ذكر في هذه الألفاظ للشكر- و لا أعلم من أين خطر هذا للراوندي- و ظنه أن هذه الجمل من باب البدل غلط- لأنها صفات كل واحدة منها صفة بعد أخرى- كما تقول مررت بزيد العالم الظريف الشاعر- . قال الراوندي فأما قوله الذي ليس لصفته حد- فظاهره إثبات الصفة له سبحانه- و أصحابنا لا يثبتون لله سبحانه صفة- كما يثبتها الأشعرية- لكنهم يجعلونه على حال أو يجعلونه متميزا بذاته- فأمير المؤمنين ع بظاهر كلامه و إن أثبت له صفة- إلا أن من له أنس بكلام العرب يعلم- أنه ليس بإثبات على الحقيقة- و قد سألني سائل فقال هاهنا كلمتان- إحداهما كفر و الأخرى ليست بكفر- و هما لله تعالى شريك غير بصير- ليس شريك الله تعالى بصيرا- فأيهما كلمة الكفر- فقلت له القضية الثانية- و هي ليس شريك الله تعالى بصيرا كفر- لأنها تتضمن إثبات الشريك- و أما الكلمة الأخرى- فيكون معناها لله شريك غير بصير- بهمزة الاستفهام المقدرة المحذوفة- .

ثم أخذ في كلام طويل يبحث فيه عن الصفة و المعنى- و يبطل مذهب الأشعرية- بما يقوله المتكلمون من أصحابنا- و أخذ في توحيد الصفة- لم جاء و كيف يدل نفي الصفة الواحدة- على نفي مطلق الصفات- و انتقل من ذلك إلى الكلام في الصفة الخامسة- التي أثبتها أبو هاشم- ثم خرج إلى مذهب أبي الحسين- و أطال جدا فيما لا حاجة إليه- . و لقائل أن يقول الأمر أسهل مما تظن- فإنا قد بينا أن مراده نفي الإحاطة بكنهه- و أيضا يمكن أن يجعل الصفة هاهنا قول الواصف- فيكون المعنى لا ينتهي الواصف إلى حد- إلا و هو قاصر عن النعت لجلالته و عظمته جلت قدرته- .

فأما القضيتان اللتان سأله السائل عنهما- فالصواب غير ما أجاب به فيهما- و هو أن القضية الأولى كفر- لأنها صريحة في إثبات الشريك- و الثانية لا تقتضي ذلك- لأنه قد ينفي قول الشريك بصيرا على أحد وجهين- إما لأن هناك شريكا لكنه غير بصير- أو لأن الشريك غير موجود- و إذا لم يكن موجودا لم يكن بصيرا- فإذا كان هذا الاعتبار الثاني مرادا- لم يكن كفرا و صار كالأثر المنقول- كان مجلس رسول الله ص لا تؤثر هفواته- أي لم يكن فيه هفوات فتؤثر و تحكى- و ليس أنه كان المراد في مجلسه هفوات إلا أنها لم تؤثر- . قال الراوندي- فإن قيل تركيب هذه الجملة- يدل على أنه تعالى فطر الخليقة- قبل خلق السموات و الأرض- .

قلنا قد اختلف في ذلك- فقيل أول ما يحسن منه تعالى خلقه ذاتا حية- يخلق فيها شهوة لمدرك تدركه فتلتذ به- و لهذا قيل تقديم خلق الجماد على خلق الحيوان عبث و قبيح- و قيل لا مانع من تقديم خلق الجماد- إذا علم أن علم بعض المكلفين- فيما بعد بخلقه قبله لطف له- و لقائل أن يقول أما إلى حيث انتهى به الشرح- فليس في الكلام تركيب يدل على أنه تعالى فطر خلقه- قبل خلق السموات و الأرض- و إنما قد يوهم تأمل كلامه ع فيما بعد شيئا من ذلك- لما قال ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء- على أنا إذا تأملنا لم نجد في كلامه ع- ما يدل على تقديم خلق الحيوان- لأنه قبل أن يذكر خلق السماء- لم يذكر إلا أنه فطر الخلائق- و تارة قال أنشأ الخلق- و دل كلامه أيضا على أنه نشر الرياح- و أنه خلق الأرض و هي مضطربة فأرساها بالجبال- كل هذا يدل عليه كلامه- و هو مقدم في كلامه على فتق الهواء و الفضاء- و خلق السماء- فأما تقديم خلق الحيوان أو تأخيره- فلم يتعرض كلامه ع له- فلا معنى لجواب الراوندي- و ذكره ما يذكره المتكلمون- من أنه هل يحسن تقديم خلق الجماد على الحيوان أم لا:

أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ وَ كَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِيقُ بِهِ- وَ كَمَالُ التَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ- وَ كَمَالُ تَوْحِيدِهِ الْ1: فمن خطبة له ع-

يذكر فيها ابتداء خلق السماء و الأرض و خلق آدم

 الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يَبْلُغُ مِدْحَتَهُ الْقَائِلُونَ- وَ لَا يُحْصِي نَعْمَاءَهُ الْعَادُّونَ- وَ لَا يُؤَدِّي حَقَّهُ الْمُجْتَهِدُونَ- الَّذِي لَا يُدْرِكُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ- وَ لَا يَنَالُهُ غَوْصُ الْفِطَنِ- الَّذِي لَيْسَ لِصِفَتِهِ حَدٌّ مَحْدُودٌ- وَ لَا نَعْتٌ مَوْجُودٌ وَ لَا وَقْتٌ مَعْدُودٌ- وَ لَا أَجْلٌ مَمْدُودٌ- فَطَرَ الْخَلَائِقَ بِقُدْرَتِهِ- وَ نَشَرَ الرِّيَاحَ بِرَحْمَتِهِ- وَ وَتَّدَ بِالصُّخُورِ مَيَدَانَ أَرْضِهِ‏ وَ مَنْ جَهِلَهُ فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ- وَ مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ فَقَدْ حَدَّهُ وَ مَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ- وَ مَنْ قَالَ فِيمَ فَقَدْ ضَمَّنَهُ- وَ مَنْ قَالَ عَلَامَ فَقَدْ أَخْلَى مِنْهُ

إنما قال ع أول الدين معرفته لأن التقليد باطل- و أول الواجبات الدينية المعرفة- و يمكن أن يقول قائل أ لستم تقولون في علم الكلام- أول الواجبات النظر في طريق معرفة الله تعالى- و تارة تقولون القصد إلى النظر- فهل يمكن الجمع بين هذا و بين كلامه ع- .
و جوابه أن النظر و القصد إلى النظر- إنما وجبا بالعرض لا بالذات- لأنهما وصله إلى المعرفة- و المعرفة هي المقصود بالوجوب- و أمير المؤمنين ع أراد- أول واجب مقصود بذاته من الدين- معرفة البارئ سبحانه- فلا تناقض بين كلامه و بين آراء المتكلمين- . و أما قوله و كمال معرفته التصديق به- فلأن معرفته قد تكون ناقصة- و قد تكون غير ناقصة- فالمعرفة الناقصة هي المعرفة بان للعالم صانعا غير العالم- و ذلك باعتبار أن الممكن لا بد له من مؤثر- فمن علم هذا فقط علم الله تعالى و لكن علما ناقصا- و أما المعرفة التي ليست ناقصة- فأن تعلم أن ذلك المؤثر خارج عن سلسلة الممكنات- و الخارج عن كل الممكنات ليس بممكن- و ما ليس بممكن فهو واجب الوجود- فمن علم أن للعالم مؤثرا واجب الوجود- فقد عرفه عرفانا- أكمل من عرفان أن للعالم مؤثرا فقط- و هذا الأمر الزائد هو المكني عنه بالتصديق به- لأن أخص ما يمتاز به البارئ عن مخلوقاته- هو وجوب الوجود- .

و أما قوله ع و كمال التصديق به توحيده- فلأن من علم أنه تعالى واجب الوجود- مصدق بالبارئ سبحانه- لكن ذلك التصديق قد يكون ناقصا و قد يكون غير ناقص- فالتصديق الناقص أن يقتصر- على أن يعلم أنه واجب الوجود فقط- و التصديق الذي هو أكمل من ذلك و أتم- هو العلم بتوحيده سبحانه- باعتبار أن وجوب الوجود لا يمكن أن يكون لذاتين- لأن فرض واجبي الوجود- يفضي إلى عموم وجوب الوجود لهما- و امتياز كل واحد منهما بأمر غير الوجوب المشترك- و ذلك يفضي إلى تركيبهما- و إخراجهما عن كونهما واجبي الوجود- فمن علم البارئ سبحانه واحدا- أي لا واجب الوجود- إلا هو يكون أكمل تصديقا ممن لم يعلم ذلك- و إنما اقتصر على أن صانع العالم واجب الوجود فقط- .

و أما قوله و كمال توحيده الإخلاص له- فالمراد بالإخلاص له هاهنا- هو نفي الجسمية و العرضية و لوازمهما عنه- لأن الجسم مركب و كل مركب ممكن- و واجب الوجود ليس بممكن- و أيضا فكل عرض مفتقر- و واجب الوجود غير مفتقر- فواجب الوجود ليس بعرض- و أيضا فكل جرم محدث و واجب الوجود ليس بمحدث- فواجب الوجود ليس بجرم- و لا عرض- فلا يكون حاصلا في جهة- فمن عرف وحدانية البارئ و لم يعرف هذه الأمور- كان توحيده ناقصا- و من عرف هذه الأمور بعد العلم بوحدانيته تعالى- فهو المخلص في عرفانه جل اسمه- و معرفته تكون أتم و أكمل- . و أما قوله و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه- فهو تصريح بالتوحيد الذي تذهب إليه المعتزلة- و هو نفي المعاني القديمة التي تثبتها الأشعرية و غيرهم-

قال ع‏ لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف- و شهادة كل موصوف أنه غير الصفة- و هذا هو دليل المعتزلة بعينه- قالوا لو كان عالما بمعنى قديم- لكان ذلك المعنى إما هو أو غيره- أو ليس هو و لا غيره- و الأول باطل- لأنا نعقل ذاته قبل أن نعقل أو نتصور له علما- و المتصور مغاير لما ليس بمتصور- و الثالث باطل أيضا- لأن إثبات شيئين أحدهما ليس هو الآخر و لا غيره- معلوم فساده ببديهة العقل- فتعين القسم الثاني و هو محال- أما أولا فبإجماع أهل الملة- و أما ثانيا فلما سبق- من أن وجوب الوجود لا يجوز أن يكون لشيئين- فإذا عرفت هذا فاعرف أن الإخلاص له تعالى- قد يكون ناقصا و قد لا يكون- فالإخلاص الناقص هو العلم بوجوب وجوده- و أنه واحد ليس بجسم و لا عرض- و لا يصح عليه ما يصح على الأجسام و الأعراض- و الإخلاص التام هو العلم بأنه لا تقوم به المعاني القديمة- مضافا إلى تلك العلوم السابقة- و حينئذ تتم المعرفة و تكمل- .

ثم أكد أمير المؤمنين ع هذه الإشارات الإلهية- بقوله فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه- و هذا حق لأن الموصوف يقارن الصفة و الصفة تقارنه- . قال و من قرنه فقد ثناه و هذا حق- لأنه قد أثبت قديمين و ذلك محض التثنية- . قال و من ثناه فقد جزأه و هذا حق- لأنه إذا أطلق لفظة الله تعالى على الذات و العلم القديم- فقد جعل مسمى هذا اللفظ و فائدته متجزئة- كإطلاق لفظ الأسود على الذات التي حلها سواد- . قال و من جزأه فقد جهله و هذا حق- لأن الجهل هو اعتقاد الشي‏ء على خلاف ما هو به- . قال و من أشار إليه فقد حده و هذا حق- لأن كل مشار إليه فهو محدود-لأن المشار إليه لا بد أن يكون في جهة مخصوصة- و كل ما هو في جهة فله حد و حدود- أي أقطار و أطراف- . قال و من حده فقد عده- أي جعله من الأشياء المحدثة و هذا حق- لأن كل محدود معدود في الذوات المحدثة- . قال و من قال فيم فقد ضمنه و هذا حق- لأن من تصور أنه في شي‏ء- فقد جعله إما جسما مستترا في مكان- أو عرضا ساريا في محل- و المكان متضمن للتمكن و المحل متضمن للعرض- . قال و من قال علام فقد أخلى منه و هذا حق- لأن من تصور أنه تعالى على العرش أو على الكرسي- فقد أخلى منه غير ذلك الموضع- و أصحاب تلك المقالة يمتنعون من ذلك- و مراده ع إظهار تناقض أقوالهم- و إلا فلو قالوا- هب أنا قد أخلينا منه غير ذلك الموضع- أي محذور يلزمنا- فإذا قيل لهم لو خلا منه موضع دون موضع- لكان جسما و لزم حدوثه- قالوا لزوم الحدوث و الجسمية- إنما هو من حصوله في الجهة لا من خلو بعض الجهات عنه- و أنتم إنما احتججتم علينا بمجرد خلو بعض الجهات منه- فظهر أن توجيه الكلام عليهم إنما هو إلزام لهم- لا استدلال على فساد قولهم- فأما القطب الراوندي فإنه قال- في معنى قوله نفي الصفات عنه- أي صفات المخلوقين- قال لأنه تعالى عالم قادر و له بذلك صفات- فكيف يجوز أن يقال لا صفة له- .
و أيضا فإنه ع قد أثبت لله تعالى صفة أولا- حيث قال الذي ليس لصفته حد محدود- فوجب أن يحمل كلامه على ما يتنزه عن المناقضة- .

و أيضا فإنه قد قال فيما بعد في صفة الملائكة- أنهم لا يصفون الله تعالى بصفات المصنوعين- فوجب أن يحمل قوله الآن- و كمال توحيده نفي الصفات عنه- على صفات المخلوقين- حملا للمطلق على المقيد- . و لقائل أن يقول لو أراد نفي صفات المخلوقين عنه- لم يستدل على ذلك بدليل الغيرية- و هو قوله لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف- لأن هذا الاستدلال لا ينطبق- على دعوى أنه غير موصوف بصفات المخلوقين- بل كان ينبغي أن يستدل بان صفات المخلوقين- من لوازم الجسمية و العرضية- و البارئ ليس بجسم و لا عرض- و نحن قد بينا أن مراده ع- إبطال القول بالمعاني القديمة- و هي المسماة بالصفات في الاصطلاح القديم- و لهذا يسمى أصحاب المعاني بالصفاتية- فأما كونه قادرا و عالما- فأصحابها أصحاب الأحوال- و قد بينا أن مراده ع بقوله ليس لصفته حد محدود- أي لكنهه و حقيقته- و أما كون الملائكة لا تصف البارئ بصفات المصنوعين- فلا يقتضي أن يحمل كل موضوع فيه- ذكر الصفات على صفات المصنوعين- لأجل تقييد ذلك في ذكر الملائكة- و أين هذا من باب حمل المطلق على المقيد- لا سيما و قد ثبت أن التعليل و الاستدلال- يقضي ألا يكون المراد صفات المخلوقين- . و قد تكلف الراوندي لتطبيق تعليله ع نفي الصفات عنه- بقوله لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف- بكلام عجيب و أنا أحكي ألفاظه لتعلم- قال معنى هذا التعليل- أن الفعل في الشاهد لا يشابه الفاعل- و الفاعل غير الفعل- لأن ما يوصف به الغير إنما هو الفعل أو معنى الفعل- كالضارب و الفهم- فإن الفهم و الضرب كلاهما فعل و الموصوف بهما فاعل- و الدليل لا يختلف شاهدا و غائبا- فإذا كان تعالى قديما و هذه الأجسام محدثة- كانت معدومة ثم وجدت- يدل على أنها غير الموصوف بأنه خالقها و مدبرها- .

انقضى كلامه و حكايته تغني عن الرد عليه- . ثم قال الأول على وزن أفعل- يستوي فيه المذكر و المؤنث- إذا لم يكن فيه الألف و اللام- فإذا كانا فيه قيل للمؤنث الأولى- . و هذا غير صحيح- لأنه يقال كلمت فضلاهن و ليس فيه ألف و لام- و كان ينبغي أن يقول إذا كان منكرا- مصحوبا بمن استوى المذكر و المؤنث في لفظ أفعل- تقول زيد أفضل من عمرو و هند أحسن من دعد: كَائِنٌ لَا عَنْ حَدَثٍ مَوْجُودٌ لَا عَنْ عَدَمٍ- مَعَ كُلِّ شَيْ‏ءٍ لَا بِمُقَارَنَةٍ وَ غَيْرُ كُلِّ شَيْ‏ءٍ لَا بِمُزَايَلَةٍ- فَاعِلٌ لَا بِمَعْنَى الْحَرَكَاتِ وَ الآْلَةِ- بَصِيرٌ إِذْ لَا مَنْظُورَ إِلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ- مُتَوَحِّدٌ إِذْ لَا سَكَنَ يَسْتَأْنِسُ بِهِ وَ لَا يَسْتَوْحِشُ لِفَقْدِهِ- أَنْشَأَ الْخَلْقَ إِنْشَاءً وَ ابْتَدَأَهُ ابْتِدَاءً- بِلَا رَوِيَّةٍ أَجَالَهَا وَ لَا تَجْرِبَةٍ اسْتَفَادَهَا- وَ لَا حَرَكَةٍ أَحْدَثَهَا وَ لَا هَمَامَةِ نَفْسٍ اضْطَرَبَ فِيهَا- أَحَالَ الْأَشْيَاءَ لِأَوْقَاتِهَا وَ لَاءَمَ بَيْنَ مُخْتَلِفَاتِهَا- وَ غَرَّزَ غَرَائِزَهَا وَ أَلْزَمَهَا أَشْبَاحَهَا- عَالِماً بِهَا قَبْلَ ابْتِدَائِهَا- مُحِيطاً بِحُدُودِهَا وَ انْتِهَائِهَا عَارِفاً بِقَرَائِنِهَا وَ أَحْنَائِهَا قوله ع كائن- و إن كان في الاصطلاح العرفي- مقولا على ما ينزه البارئ عنه- فمراده به المفهوم اللغوي- و هو اسم فاعل من كان بمعنى وجد- كأنه قال موجود غير محدث- .

فان قيل فقد قال بعده موجود لا عن عدم- فلا يبقى بين الكلمتين فرق- . قيل بينهما فرق- و مراده بالموجود لا عن عدم هاهنا- وجوب وجوده و نفي إمكانه- لأن من أثبت قديما ممكنا- فإنه و إن نفى حدوثه الزماني فلم ينف حدوثه الذاتي- و أمير المؤمنين ع نفى عن البارئ تعالى- في الكلمة الأولى الحدوث الزماني- و نفى عنه في الكلمة الثاني الذاتي- و قولنا في الممكن أنه موجود من عدم صحيح عند التأمل- لا بمعنى أن عدمه سابق له زمانا بل سابق لوجوده ذاتا- لأن الممكن يستحق من ذاته أنه لا يستحق الوجود من ذاته- . و أما قوله مع كل شي‏ء لا بمقارنة- فمراده بذلك أنه يعلم الجزئيات و الكليات- كما قال سبحانه ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى‏ ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ- . و أما قوله و غير كل شي‏ء لا بمزايلة فحق- لأن الغيرين في الشاهد هما ما زايل أحدهما الآخر- و باينه بمكان أو زمان- و البارئ سبحانه يباين الموجودات مباينة- منزهة عن المكان و الزمان- فصدق عليه أنه غير كل شي‏ء لا بمزايلة- . و أما قوله فاعل لا بمعنى الحركات و الآلة فحق- لأن فعله اختراع- و الحكماء يقولون إبداع و معنى الكلمتين واحد- و هو أنه يفعل لا بالحركة و الآلة- كما يفعل الواحد منا- و لا يوجد شيئا من شي‏ء- . و أما قوله بصير إذ لا منظور إليه من خلقه- فهو حقيقة مذهب أبي هاشم رحمه الله و أصحابه- لأنهم يطلقون عليه في الأزل أنه سميع بصير- و ليس هناك مسموع و لا مبصر- و معنى ذلك كونه بحال- يصح منه إدراك المسموعات و المبصرات إذا وجدت-

و ذلك يرجع إلى كونه حيا لا آفة به- و لا يطلقون عليه أنه سامع مبصر في الأزل- لأن السامع المبصر هو المدرك بالفعل لا بالقوة- . و أما قوله متوحد إذ لا سكن يستأنس به و يستوحش لفقده- فإذ هاهنا ظرف- و معنى الكلام أن العادة و العرف- إطلاق متوحد على من قد كان له من يستأنس بقربه- و يستوحش ببعده فانفرد عنه- و البارئ سبحانه يطلق عليه أنه متوحد في الأزل- و لا موجود سواه- و إذا صدق سلب الموجودات كلها في الأزل- صدق سلب ما يؤنس أو يوحش- فتوحده سبحانه بخلاف توحد غيره- . و أما قوله ع أنشأ الخلق إنشاء و ابتدأه ابتداء- فكلمتان مترادفتان على طريقة الفصحاء و البلغاء- كقوله سبحانه- لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ- و قوله لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً- . و قوله بلا روية أجالها- فالروية الفكرة و أجالها رددها- و من رواه أحالها بالحاء أراد صرفها- و قوله و لا تجربة استفادها- أي لم يكن قد خلق من قبل أجساما- فحصلت له التجربة التي أعانته على خلق هذه الأجسام- . و قوله و لا حركة أحدثها- فيه رد على الكرامية الذين يقولون- إنه إذا أراد أن يخلق شيئا مباينا عنه- أحدث في ذاته حادثا يسمى الأحداث- فوقع ذلك الشي‏ء المباين عن ذلك المعنى المتجدد- المسمى أحداثا- . و قوله و لا همامة نفس اضطرب فيها- فيه رد على المجوس و الثنوية القائلين بالهمامة- و لهم فيها خبط طويل يذكره أصحاب المقالات- و هذا يدل على صحة ما يقال- إن أمير المؤمنين ع كان يعرف آراء المتقدمين و المتأخرين- و يعلم العلوم كلها- و ليس ذلك ببعيد من فضائله و مناقبه ع- .

و أما قوله أحال الأشياء لأوقاتها- فمن رواها أحل الأشياء لأوقاتها- فمعناه جعل محل كل شي‏ء و وقته كمحل الدين- و من رواها أحال- فهو من قولك حال في متن فرسه أي وثب- و أحاله غيره أي أوثبه على متن الفرس عداه بالهمزة- و كأنه لما أقر الأشياء في أحيانها و أوقاتها- صار كمن أحال غيره على فرسه- . و قوله و لاءم بين مختلفاتها- أي جعل المختلفات ملتئمات- كما قرن النفس الروحانية بالجسد الترابي جلت عظمته- و قوله و غرز غرائزها المروي بالتشديد- و الغريزة الطبيعة و جمعها غرائز- و قوله غرزها أي جعلها غرائز- كما قيل سبحان من ضوأ الأضواء- و يجوز أن يكون من غرزت الإبرة بمعنى غرست- و قد رأيناه في بعض النسخ بالتخفيف- . و قوله و ألزمها أشباحها- الضمير المنصوب في ألزمها عائد إلى الغرائز- أي ألزم الغرائز أشباحها أي أشخاصها- جمع شبح و هذا حق- لأن كلا مطبوع على غريزة لازمة- فالشجاع لا يكون جبانا و البخيل لا يكون جوادا- و كذلك كل الغرائز لازمة لا تنتقل- . و قوله عالما بها قبل ابتدائها- إشارة إلى أنه عالم بالأشياء فيما لم يزل- و قوله محيطا بحدودها و انتهائها- أي بأطرافها و نهاياتها- . و قوله عارفا بقرائنها و أحنائها- القرائن جمع قرونة و هي النفس- و الأحناء الجوانب جمع حنو- يقول إنه سبحانه عارف بنفوس هذه الغرائز- التي ألزمها أشباحها- عارف بجهاتها و سائر أحوالها المتعلقة بها و الصادرة عنها- .

فأما القطب الراوندي فإنه قال معنى قوله ع- كائن لا عن حدث موجود لا عن عدم- أنه لم يزل موجودا و لا يزال موجودا- فهو باق أبدا كما كان موجودا أولا- و هذا ليس بجيد- لأن اللفظ لا يدل على ذلك- و لا فيه تعرض بالبقاء فيما لا يزال- . و قال أيضا قوله ع لا يستوحش كلام مستأنف- و لقائل أن يقول كيف يكون كلاما مستأنفا- و الهاء في فقده ترجع إلى السكن المذكور أولا- . و قال أيضا- يقال ما له في الأمر همة و لا همامة أي لا يهم به- و الهمامة التردد كالعزم- و لقائل أن يقول العزم هو إرادة جازمة- حصلت بعد التردد- فبطل قوله أن الهمامة هي نفس التردد كالعزم- و أيضا فقد بينا مراده ع بالهمامة- حكى زرقان في كتاب المقالات- و أبو عيسى الوراق و الحسن بن موسى- و ذكره شيخنا أبو القاسم البلخي- في كتابه في المقالات أيضا عن الثنوية- أن النور الأعظم اضطربت عزائمه و إرادته- في غزو الظلمة و الإغارة عليها- فخرجت من ذاته قطعة و هي الهمامة المضطربة في نفسه- فخالطت الظلمة غازية لها- فاقتطعتها الظلمة عن النور الأعظم- و حالت بينها و بينه- و خرجت همامة الظلمة غازية للنور الأعظم- فاقتطعها النور الأعظم عن الظلمة و مزجها بأجزائه- و امتزجت همامة النور بأجزاء الظلمة أيضا- ثم ما زالت الهمامتان تتقاربان‏ و تتدانيان- و هما ممتزجتان بأجزاء هذا و هذا- حتى انبنى منهما هذا العالم المحسوس- و لهم في الهمامة كلام مشهور- و هي لفظة اصطلحوا عليها- و اللغة العربية ما عرفنا فيها استعمال الهمامة بمعنى الهمة- و الذي عرفناه الهمة بالكسر و الفتح و المهمة- و تقول لا همام لي بهذا الأمر مبني على الكسر كقطام- و لكنها لفظة اصطلاحية مشهورة عند أهلها:

ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ فَتْقَ الْأَجْوَاءِ- وَ شَقَّ الْأَرْجَاءِ وَ سَكَائِكَ الْهَوَاءِ- فَأَجْرَى فِيهَا مَاءً مُتَلَاطِماً تَيَّارُهُ- مُتَرَاكِماً زَخَّارُهُ حَمَلَهُ عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ الْعَاصِفَةِ- وَ الزَّعْزَعِ الْقَاصِفَةِ فَأَمَرَهَا بِرَدِّهِ- وَ سَلَّطَهَا عَلَى شَدِّهِ وَ قَرَنَهَا إِلَى حَدِّهِ- الْهَوَاءُ مِنْ تَحْتِهَا فَتِيقٌ وَ الْمَاءُ مِنْ فَوْقِهَا دَفِيقٌ- ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ رِيحاً اعْتَقَمَ مَهَبَّهَا- وَ أَدَامَ مُرَبَّهَا وَ أَعْصَفَ مَجْرَاهَا- وَ أَبْعَدَ مَنْشَأَهَا فَأَمَرَهَا بِتَصْفِيقِ الْمَاءِ الزَّخَّارِ- وَ إِثَارَةِ مَوْجِ الْبِحَارِ فَمَخَضَتْهُ مَخْضَ السِّقَاءِ- وَ عَصَفَتْ بِهِ عَصْفَهَا بِالْفَضَاءِ- تَرُدُّ أَوَّلَهُ عَلَى آخِرِهِ وَ سَاجِيَهُ عَلَى مَائِرِهِ حَتَّى عَبَّ عُبَابُهُ- وَ رَمَى بِالزَّبَدِ رُكَامُهُ- فَرَفَعَهُ فِي هَوَاءٍ مُنْفَتِقٍ وَ جَوٍّ مُنْفَهِقٍ- فَسَوَّى مِنْهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ- جَعَلَ سُفْلَاهُنَّ مَوْجاً مَكْفُوفاً- وَ عُلْيَاهُنَّ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ سَمْكاً مَرْفُوعاً- بِغَيْرِ عَمَدٍ يَدْعَمُهَا وَ لَا دِسَارٍ يَنْتَظِمُهَا ثُمَّ زَيَّنَهَا بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ وَ ضِيَاءِ الثَّوَاقِبِ- وَ أَجْرَى فِيهَا سِرَاجاً مُسْتَطِيراً وَ قَمَراً مُنِيراً- فِي فَلَكٍ دَائِرٍ وَ سَقْفٍ سَائِرٍ وَ رَقِيمٍ مَائِرٍ

لسائل أن يسأل فيقول- ظاهر هذا الكلام أنه سبحانه خلق الفضاء و السموات- بعد خلق كل شي‏ء- لأنه قد قال قبل- فطر الخلائق و نشر الرياح و وتد الأرض بالجبال- ثم عاد فقال أنشأ الخلق إنشاء و ابتدأه ابتداء- و هو الآن يقول ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء- و لفظة ثم للتراخي- . فالجواب أن قوله ثم هو تعقيب و تراخ- لا في مخلوقات البارئ سبحانه بل في كلامه ع- كأنه يقول ثم أقول الآن بعد قولي المتقدم- إنه تعالى أنشأ فتق الأجواء- و يمكن أن يقال إن لفظة ثم هاهنا- تعطي معنى الجمع المطلق كالواو- و مثل ذلك قوله تعالى- وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى‏- . و اعلم أن كلام أمير المؤمنين ع في هذا الفصل- يشتمل على مباحث- منها أن ظاهر لفظه أن الفضاء الذي هو الفراغ- الذي يحصل فيه الأجسام- خلقه الله تعالى و لم يكن من قبل- و هذا يقتضي كون الفضاء شيئا- لأن المخلوق لا يكون عدما محضا- و ليس ذلك ببعيد فقد ذهب إليه قوم من أهل النظر- و جعلوه جسما لطيفا خارجا عن مشابهة هذه الأجسام- و منهم من جعله مجردا- . فإن قيل هذا الكلام يشعر- بأن خلق الأجسام في العدم المحض قبل خلق الفضاء- ليس بممكن و هذا ينافي العقل- . قيل بل هذا هو محض مذهب الحكماء- فإنهم يقولون إنه لا يمكن وجود جسم-و لا حركة جسم خارج الفلك الأقصى- و ليس ذلك إلا لاستحالة وجود الأجسام و حركتها- إلا في الفضاء- . و منها أن البارئ سبحانه خلق في الفضاء- الذي أوجده ماء جعله على متن الريح- فاستقل عليها و ثبت و صارت مكانا له- ثم خلق فوق ذلك الماء ريحا أخرى سلطها عليه- فموجته تمويجا شديدا حتى ارتفع- فخلق منه السموات- و هذا أيضا قد قاله قوم من الحكماء- و من جملتهم تاليس الإسكندراني- و زعم أن الماء أصل كل العناصر- لأنه إذا انجمد صار أرضا و إذا لطف صار هواء- و الهواء يستحيل نارا لأن النار صفوة الهواء- .

و يقال- إن في التوراة في أول السفر الأول كلاما يناسب هذا- و هو أن الله تعالى خلق جوهرا- فنظر إليه نظر الهيبة فذابت أجزاؤه فصارت ماء- ثم ارتفع من ذلك الماء بخار كالدخان- فخلق منه السموات و ظهر على وجه ذلك الماء زبد- فخلق منه الأرض ثم أرساها بالجبال- . و منها أن السماء الدنيا موج مكفوف- بخلاف السموات الفوقانية- و هذا أيضا قول قد ذهب إليه قوم- و استدلوا عليه بما نشاهده- من حركة الكواكب المتحيرة- و ارتعادها في مرأى العين و اضطرابها- قالوا لأن المتحيرة متحركة في أفلاكها- و نحن نشاهدها بالحس البصري- و بيننا و بينها أجرام الأفلاك الشفافة- و نشاهدها مرتعدة- حسب ارتعاد الجسم السائر في الماء- و ما ذاك إلا لأن السماء الدنيا ماء متموج- فارتعاد الكواكب‏ المشاهدة حسا- إنما هو بحسب ارتعاد أجزاء الفلك الأدنى- قالوا فأما الكواكب الثابتة- فإنا لم نشاهدها كذلك لأنها ليست بمتحركة- و أما القمر و إن كان في السماء الدنيا- إلا أن فلك تدويره من جنس الأجرام الفوقانية- و ليس بماء متموج كالفلك الممثل التحتاني- و كذلك القول في الشمس- . و منها أن الكواكب في قوله- ثم زينها بزينة الكواكب أين هي- فإن اللفظ محتمل- و ينبغي أن يتقدم على ذلك بحث- في أصل قوله تعالى- إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ- وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ- . فنقول إن ظاهر هذا اللفظ- أن الكواكب في السماء الدنيا- و أنها جعلت فيها حراسة للشياطين من استراق السمع- فمن دنا منهم لذلك رجم بشهاب- و هذا هو الذي يقتضيه ظاهر اللفظ- و مذهب الحكماء- أن السماء الدنيا ليس فيها إلا القمر وحده- و عندهم أن الشهب المنقضة- هي آثار تظهر في الفلك الأثيري الناري- الذي تحت فلك القمر- و الكواكب لا ينقض منها شي‏ء- و الواجب التصديق بما في ظاهر لفظ الكتاب العزيز- و أن يحمل كلام أمير المؤمنين ع على مطابقته- فيكون الضمير في قوله زينها- راجعا إلى سفلاهن- التي قال إنها موج مكفوف- و يكون الضمير في قوله و أجرى فيها- راجعا إلى جملة السموات- إذا وافقنا الحكماء في أن الشمس في السماء الرابعة- .

و منها أن ظاهر الكلام يقتضي- أن خلق السموات بعد خلق الأرض- أ لا تراه كيف لم يتعرض فيه لكيفية خلق الأرض أصلا- و هذا قول قد ذهب إليه جماعة من أهل الملة-و استدلوا عليه بقوله تعالى- قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ- وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ- ثم قال ثُمَّ اسْتَوى‏ إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ- . و منها أن الهاء في قوله فرفعه في هواء منفتق- و الهاء في قوله فسوى منه سبع سموات- إلى ما ذا ترجع- فإن آخر المذكورات قبلها الزبد- و هل يجوز أن تكون السموات مخلوقة من زبد الماء- الحق أن الضمائر ترجع إلى الماء الذي عب عبابه- لا إلى الزبد- فإن أحدا لم يذهب إلى أن السماء مخلوقة من زبد الماء- و إنما قالوا إنها مخلوقة من بخاره- . و منها أن يقال إن البارئ سبحانه قادر- على خلق الأشياء إبداعا و اختراعا- فما الذي اقتضى أنه خلق المخلوقات على هذا الترتيب- و هلا أوجدها إيجاد الماء الذي ابتدعه أولا من غير شي‏ء- . فيقال في جواب ذلك على طريق أصحابنا- لعل إخباره للمكلفين بذلك- على هذا الترتيب يكون لطفا بهم- و لا يجوز الإخبار منه تعالى- إلا و المخبر عنه مطابق للإخبار- . فهذا حظ المباحث المعنوية من هذا الفصل- . ثم نشرع في تفسير ألفاظه- أما الأجواء فجمع جو- و الجو هنا الفضاء العالي بين السماء و الأرض- و الأرجاء الجوانب واحدها رجا مثل عصا- و السكائك جمع سكاكة و هي أعلى الفضاء- كما قالوا ذؤابة و ذوائب- و التيار الموج و المتراكم الذي بعضه فوق بعض- و الزخار الذي يزخر أي يمتد و يرتفع- و الريح الزعزع الشديدة الهبوب- و كذلك القاصفة كأنها تهلك الناس بشدة هبوبها- و معنى قوله فأمرها برده أي بمنعه عن الهبوط- لأن الماء ثقيل و من شأن الثقيل الهوي- و معنى قوله و سلطها على شدة أي على وثاقة- كأنه سبحانه لما سلط البريح على منعه من الهبوط- فكأنه قد شده بها و أوثقه و منعه من الحركة- و معنى قوله و قرنها إلى حده أي جعلها مكانا له- أي جعل حد الماء المذكور و هو سطحه الأسفل- مما ساطح الريح التي تحمله و تقله- و الفتيق المفتوق المنبسط- و الدفيق المدفوق- و اعتقم مهبها أي جعل هبوبها عقيما- و الريح العقيم التي لا تلقح سحابا و لا شجرا- و كذلك كانت تلك الريح المشار إليها- لأنه سبحانه إنما خلقها لتمويج الماء فقط- و أدام مربها أي ملازمتها- أرب بالمكان مثل ألب به أي لازمه- .

و معنى قوله و عصفت به عصفها بالفضاء- فيه معنى لطيف- يقول إن الريح إذا عصفت بالفضاء الذي لا أجسام فيه- كان عصفها شديدا لعدم المانع- و هذه الريح عصفت بذلك الماء العظيم عصفا شديدا- كأنها تعصف في فضاء لا ممانع لها فيه من الأجسام- . و الساجي الساكن و المائر الذي يذهب و يجي‏ء- و عب عبابه أي ارتفع أعلاه و ركامه ثبجه و هضبه- و الجو المنفهق المفتوح الواسع- و الموج المكفوف الممنوع من السيلان- و عمد يدعمها يكون لها دعامة- و الدسار واحد الدسر و هي المسامير- . و الثواقب النيرة المشرقة- و سراجا مستطيرا أي منتشر الضوء- يقال قد استطارالفجر أي انتشر ضوءه- و رقيم مائر أي لوح متحرك- سمي الفلك رقيما تشبيها باللوح لأنه مسطح- فأما القطب الراوندي فقال- إنه ع ذكر قبل هذه الكلمات- أنه أنشأ حيوانا له أعضاء و أحناء- ثم ذكر هاهنا أنه فتق السماء و ميز بعضها عن بعض- ثم ذكر أن بين كل سماء و سماء مسيرة خمسمائة عام- و هي سبع سموات- و كذلك بين كل أرض و أرض و هي سبع أيضا- و روى حديث البقرة التي تحمل الملك الحامل للعرش- و الصخرة التي تحمل البقرة و الحوت الذي يحمل الصخرة- . و لقائل أن يقول إنه ع لم يذكر فيما تقدم- أن الله تعالى خلق حيوانا ذا أعضاء- و لا قوله الآن ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء- هو معنى قوله تعالى- أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما- أ لا تراه كيف صرح ع- بأن البارئ سبحانه خلق الهواء الذي هو الفضاء- و عبر عن ذلك بقوله ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء- و ليس فتق الأجواء هو فتق السماء- . فإن قلت فكيف يمكن التطبيق بين كلامه ع و بين الآية- . قلت إنه تعالى لما سلط الريح على الماء فعصفت به- حتى جعلته بخارا و زبدا- و خلق من أحدهما السماء و من الآخر الأرض- كان فاتقا لهما من شي‏ء واحد و هو الماء- . فأما حديث البعد بين السموات- و كونه مسيرة خمسمائة عام بين كل سماء و سماء- فقد ورد ورودا لم يوثق به- و أكثر الناس على خلاف ذلك- و كون الأرض سبعا أيضا-

خلاف ما يقوله جمهور العقلاء- و ليس في القرآن العزيز ما يدل على تعدد الأرض- إلا قوله تعالى وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ- و قد أولوه على الأقاليم السبعة- و حديث الصخرة و الحوت و البقرة- من الخرافات في غالب الظن- و الصحيح أن الله تعالى يمسك الكل بغير واسطة جسم آخر- . ثم قال الراوندي السكائك جمع سكاك و هذا غير جائز- لأن فعالا لا يجمع على فعائل- و إنما هو جمع سكاكة ذكر ذلك الجوهري- . ثم قال و سلطها على شده الشد العدو- و لا يجوز حمل الشد هاهنا على العدو- لأنه لا معنى له و الصحيح ما ذكرناه- . و قال في تفسير قوله ع جعل سفلاهن موجا مكفوفا- أراد تشبيهها بالموج لصفائها و اعتلائها- فيقال له إن الموج ليس بعال ليشبه به الجسم العالي- و أما صفاؤه فإن كل السموات صافية- فلما ذا خص سفلاهن بذلك- . ثم قال و يمكن أن تكون السماء السفلى- قد كانت أول ما وجدت موجا ثم عقدها- يقال له و السموات الأخر كذلك كانت- فلما ذا خص السفلى بذلك- . ثم قال الريح الأولى غير الريح الثانية- لأن إحداهما معرفة و الأخرى نكرة- و هذا مثل قوله صم اليوم صم يوما فإنه يقتضي يومين- . يقال له ليست المغايرة بينهما- مستفادة من مجرد التعريف و التنكير- لأنه لو كان قال‏

ع- و حمله على متن ريح عاصفة و زعزع قاصفة- لكانت الريحان الأولى و الثانية منكرتين معا- و هما متغايرتان و إنما علمنا تغايرهما- لأن إحداهما تحت الماء و الأخرى فوقه- و الجسم الواحد لا يكون في جهتين: ثُمَّ فَتَقَ مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ الْعُلَا- فَمَلَأَهُنَّ أَطْوَاراً مِنْ مَلَائِكَتِهِ- مِنْهُمْ سُجُودٌ لَا يَرْكَعُونَ وَ رُكُوعٌ لَا يَنْتَصِبُونَ- وَ صَافُّونَ لَا يَتَزَايَلُونَ وَ مُسَبِّحُونَ لَا يَسْأَمُونَ- لَا يَغْشَاهُمْ نَوْمُ الْعُيُونِ وَ لَا سَهْوُ الْعُقُولِ- وَ لَا فَتْرَةُ الْأَبْدَانِ وَ لَا غَفْلَةُ النِّسْيَانِ- وَ مِنْهُمْ أُمَنَاءُ عَلَى وَحْيِهِ وَ أَلْسِنَةٌ إِلَى رُسُلِهِ- وَ مُخْتَلِفُونَ بِقَضَائِهِ وَ أَمْرِهِ- وَ مِنْهُمُ الْحَفَظَةُ لِعِبَادِهِ وَ السَّدَنَةُ لِأَبْوَابِ جِنَانِهِ- وَ مِنْهُمُ الثَّابِتَةُ فِي الْأَرَضِينَ السُّفْلَى أَقْدَامُهُمْ- وَ الْمَارِقَةُ مِنَ السَّمَاءِ الْعُلْيَا أَعْنَاقُهُمْ- وَ الْخَارِجَةُ مِنَ الْأَقْطَارِ أَرْكَانُهُمْ- وَ الْمُنَاسِبَةُ لِقَوَائِمِ الْعَرْشِ أَكْتَافُهُمْ- نَاكِسَةٌ دُونَهُ أَبْصَارُهُمْ مُتَلَفِّعُونَ تَحْتَهُ بِأَجْنِحَتِهِمْ- مَضْرُوبَةٌ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَنْ دُونَهُمْ حُجُبُ الْعِزَّةِ- وَ أَسْتَارُ الْقُدْرَةِ- لَا يَتَوَهَّمُونَ رَبَّهُمْ بِالتَّصْوِيرِ- وَ لَا يُجْرُونَ عَلَيْهِ صِفَاتِ الْمَصْنُوعِينَ- وَ لَا يَحُدُّونَهُ بِالْأَمَاكِنِ وَ لَا يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالنَّظَائِرِ

القول في إالملائكة و أقسامهم

الملك عند المعتزلة حيوان نوري- فمنه شفاف عادم اللون كالهواء و منه ملون بلون الشمس- و الملائكة عندهم قادرون عالمون- أحياء بعلوم و قدر و حياة كالواحد منا- و مكلفون كالواحد منا إلا أنهم معصومون- و لهم في كيفية تكليفهم كلام- لأن التكليف‏ مبني على الشهوة- . و في كيفية خلق الشهوة فيهم نظر- و ليس هذا الكتاب موضوعا للبحث في ذلك- و قد جعلهم ع في هذا الفصل أربعة أقسام- القسم الأول أرباب العبادة- فمنهم من هو ساجد أبدا لم يقم من سجوده ليركع- و منهم من هو راكع أبدا لم ينتصب قط- و منهم الصافون في الصلاة- بين يدي خالقهم لا يتزايلون- و منهم المسبحون- الذين لا يملون التسبيح و التحميد له سبحانه- . و القسم الثاني- السفراء بينه تعالى و بين المكلفين من البشر- بتحمل الوحي الإلهي إلى الرسل- و المختلفون بقضائه و أمره إلى أهل الأرض- . و القسم الثالث ضربان- أحدهما حفظة العباد كالكرام الكاتبين- و كالملائكة الذين يحفظون البشر من المهالك و الورطات- و لو لا ذلك لكان العطب أكثر من السلامة- و ثانيهما سدنة الجنان- . القسم الرابع حملة العرش
– . و يجب أن يكون الضمير في دونه و هو الهاء- راجعا إلى العرش لا إلى البارئ سبحانه- و كذلك الهاء في قوله تحته- و يجب أن تكون الإشارة بقوله و بين من دونهم- إلى الملائكة الذين دون هؤلاء في الرتبة- . فأما ألفاظ الفصل فكلها غنية عن التفسير إلا يسيرا- كالسدنة جمع سادن و هو الخادم- و المارق الخارج و تلفعت بالثوب أي التحفت به- . و أما القطب الراوندي فجعل الأمناء على الوحي- و حفظة العباد و سدنة الجنان-

قسما واحدا- فأعاد الأقسام الأربعة إلى ثلاثة و ليس بجيد- لأنه قال و منهم الحفظة- فلفظة و منهم تقتضي كون الأقسام أربعة- لأنه بها فصل بين الأقسام- . و قال أيضا معنى قوله ع لا يغشاهم نوم العيون- يقتضي أن لهم نوما قليلا لا يغفلهم عن ذكر الله سبحانه- فأما البارئ سبحانه فإنه لا تأخذه سنة و لا نوم أصلا- مع أنه حي و هذه هي المدحة العظمى- . و لقائل أن يقول لو ناموا قليلا- لكانوا زمان ذلك النوم و إن قل- غافلين عن ذكر الله سبحانه- لأن الجمع بين النوم و بين الذكر مستحيل- . و الصحيح أن الملك لا يجوز عليه النوم- كما لا يجوز عليه الأكل و الشرب- لأن النوم من توابع المزاج و الملك لا مزاج له- و أما مدح البارئ بأنه لا تأخذه سنة و لا نوم- فخارج عن هذا الباب- لأنه تعالى يستحيل عليه النوم استحالة ذاتية- لا يجوز تبدلها و الملك يجوز أن يخرج عن كونه ملكا- بأن يخلق في أجزاء جسمه رطوبة و يبوسة- و حرارة و برودة- يحصل من اجتماعها مزاج و يتبع ذلك المزاج النوم- فاستحالة النوم عليه إنما هي ما دام ملكا- فهو كقولك الماء بارد أي ما دام ماء- لأنه يمكن أن يستحيل هواء ثم نارا فلا يكون باردا- لأنه ليس حينئذ ماء- و البارئ جلت عظمته يستحيل على ذاته أن يتغير- فاستحال عليه النوم استحالة مطلقة مع أنه حي- و من هذا إنشاء التمدح-
و روى أبو هريرة عن النبي ص أن الله خلق الخلق أربعة أصناف- الملائكة و الشياطين و الجن و الإنس- ثم جعل الأصناف الأربعة عشرة أجزاء- فتسعة منها الملائكة- و جزء واحد الشياطين و الجن و الإنس- ثم جعل هؤلاء الثلاثة عشرة أجزاء- فتسعة منها الشياطين و جزء واحد الجن و الإنس- ثم جعل الجن و الإنس عشرة أجزاء- فتسعة منها الجن و جزء واحد الإنس و في الحديث الصحيح أن الملائكة كانت تصافح عمران بن الحصين و تزوره- ثم افتقدها- فقال يا رسول الله إن رجالا كانوا يأتونني- لم أر أحسن وجوها و لا أطيب أرواحا منهم- ثم انقطعوا- فقال ع أصابك جرح فكنت تكتمه- فقال أجل قال ثم أظهرته قال أجل- قال أما لو أقمت على كتمانه- لزارتك الملائكة إلى أن تموت – و كان هذا الجرح أصابه في سبيل الله- . و قال سعيد بن المسيب و غيره- الملائكة ليسوا بذكور و لا إناث- و لا يتوالدون و لا يأكلون و لا يشربون- و الجن يتوالدون و فيهم ذكور و إناث و يموتون- و الشياطين ذكور و إناث و يتوالدون- و لا يموتون حتى يموت إبليس- .

و قال النبي ص في رواية أبي ذر إني أرى ما لا ترون و أسمع ما لا تسمعون- أطت السماء و حق لها أن تئط- فما فيها موضع شبر إلا و فيه ملك- قائم أو راكع أو ساجد واضع جبهته لله- و الله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا- و لبكيتم كثيرا- و ما تلذذتم بالنساء على الفرش- و لخرجتم إلى الفلوات تجأرون إلى الله- و الله لوددت أني كنت شجرة تعضد  قلت و يوشك هذه الكلمة الأخيرة أن تكون قول أبي ذر- . و اتفق أهل الكتب- على أن رؤساء الملائكة و أعيانهم أربعة- جبرائيل و ميكائيل و إسرافيل و عزرائيل- و هو ملك الموت- و قالوا إن إسرافيل صاحب الصور و إليه النفخة- و إن ميكائيل صاحب النبات و المطر- و إن عزرائيل على أرواح الحيوانات- و إن جبرائيل على جنود السموات و الأرض كلها- و إليه تدبير الرياح- و هو ينزل إليهم كلهم بما يؤمرون به- .

و روى أنس بن مالك أنه قيل لرسول الله ص- ما هؤلاء الذين استثني بهم في قوله تعالى- فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ- فقال جبرائيل و ميكائيل و إسرافيل و عزرائيل- فيقول الله عز و جل لعزرائيل يا ملك الموت من بقي- و هو سبحانه أعلم- فيقول سبحانك ربي ذا الجلال و الإكرام- بقي جبرائيل و ميكائيل و إسرافيل و ملك الموت- فيقول يا ملك الموت خذ نفس إسرافيل- فيقع في صورته التي خلق عليها- كأعظم ما يكون من الأطواد- ثم يقول و هو أعلم من بقي يا ملك الموت- فيقول سبحانك ربي يا ذا الجلال و الإكرام- جبرائيل و ميكائيل و ملك الموت- فيقول خذ نفس ميكائيل- فيقع في صورته التي خلق عليها- و هي أعظم ما يكون من خلق إسرافيل بأضعاف مضاعفة- ثم يقول سبحانه يا ملك الموت من بقي- فيقول سبحانك ربي ذا الجلال و الإكرام- جبرائيل و ملك الموت- فيقول تعالى يا ملك الموت مت فيموت- و يبقى جبرائيل و هو من الله تعالى بالمكان الذي ذكر لكم- فيقول الله يا جبرائيل إنه لا بد من أن يموت أحدنا- فيقع جبرائيل ساجدا يخفق بجناحيه- يقول سبحانك ربي و بحمدك- أنت الدائم القائم الذي لا يموت- و جبرائيل الهالك الميت الفاني- فيقبض الله روحه فيقع على ميكائيل و إسرافيل- و أن فضل خلقه على خلقهما كفضل الطود العظيم- على الظرب من الظراب و في الأحاديث الصحيحة- أن جبرائيل كان يأتي رسول الله ص- على صورة دحية الكلبي- و أنه كان يوم بدر على فرس اسمه حيزوم- و أنه سمع ذلك اليوم صوته أقدم حيزوم- .

و الكروبيون عند أهل الملة سادة الملائكة- كجبرائيل و ميكائيل- و عند الفلاسفة أن سادة الملائكة هم الروحانيون- يعنون العقول الفعالة- و هي المفارقة للعالم الجسماني المسلوبة التعلق به- لا بالحول و لا بالتدبير- و أما الكروبيون فدون الروحانيين في المرتبة- و هي أنفس الأفلاك المدبرة لها- الجارية منها مجرى نفوسنا مع أجسامنا- . ثم هي على قسمين قسم أشرف و أعلى من القسم الآخر- فالقسم الأشرف ما كان نفسا ناطقة- غير حالة في جرم الفلك- كأنفسنا بالنسبة إلى أبداننا- و القسم الثاني ما كان حالا في جرم الفلك- و يجري ذلك مجرى القوى التي في أبداننا- كالحس المشترك و القوة الباصرة:

مِنْهَا فِي صِفَةِ خَلْقِ آدَمَ ع-

ثُمَّ جَمَعَ سُبْحَانَهُ مِنْ حَزْنِ الْأَرْضِ وَ سَهْلِهَا- وَ عَذْبِهَا وَ سَبَخِهَا- تُرْبَةً سَنَّهَا بِالْمَاءِ حَتَّى خَلَصَتْ- وَ لَاطَهَا بِالْبِلَّةِ حَتَّى لَزَبَتْ- فَجَبَلَ مِنْهَا صُورَةً ذَاتَ أَحْنَاءٍ وَ وُصُولٍ وَ أَعْضَاءٍ- وَ فُصُولٍ أَجْمَدَهَا حَتَّى اسْتَمْسَكَتْ- وَ أَصْلَدَهَا حَتَّى صَلْصَلَتْ لِوَقْتٍ مَعْدُودٍ وَ أَجَلٍ مَعْلُومٍ- ثُمَّ نَفَخَ فِيهَا مِنْ رُوحِهِ- فَتَمَثَّلَتْ إِنْسَاناً ذَا أَذْهَانٍ يُجِيلُهَا- وَ فِكَرٍ يَتَصَرَّفُ بِهَا وَ جَوَارِحَ يَخْتَدِمُهَا- وَ أَدَوَاتٍ يُقَلِّبُهَا وَ مَعْرِفَةٍ يَفْرُقُ بِهَا بَيْنَ الْحَقِّ وَ الْبَاطِلِ- وَ الْأَذْوَاقِ وَ الْمَشَامِّ وَ الْأَلْوَانِ وَ الْأَجْنَاسِ- مَعْجُوناً بِطِينَةِ الْأَلْوَانِ الْمُخْتَلِفَةِ-وَ الْأَشْبَاهِ الْمُؤْتَلِفَةِ وَ الْأَضْدَادِ الْمُتَعَادِيَةِ- وَ الْأَخْلَاطِ الْمُتَبَايِنَةِ مِنَ الْحَرِّ وَ الْبَرْدِ- وَ الْبِلَّةِ وَ الْجُمُودِ- وَ الْمَسَاءَةِ وَ السُّرُورِ وَ اسْتَأْدَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمَلَائِكَةَ وَدِيعَتَهُ لَدَيْهِمْ- وَ عَهْدَ وَصِيَّتِهِ إِلَيْهِمْ فِي الْإِذْعَانِ بِالسُّجُودِ لَهُ- وَ الْخُنُوعِ لِتَكْرِمَتِهِ- فَقَالَ لَهُمْ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ- وَ قَبيلَهُ اعْتَرَتْهُمُ الْحَمِيَّةُ- وَ غَلَبَتْ عَلَيْهِمُ الشِّقْوَةُ- وَ تَعَزَّزُوا بِخِلْقَةِ النَّارِ وَ اسْتَوْهَنُوا خَلْقَ الصَّلْصَالِ- فَأَعْطَاهُ اللَّهُ النَّظِرَةَ اسْتِحْقَاقاً لِلسَّخْطَةِ- وَ اسْتِتْمَاماً لِلْبَلِيَّةِ وَ إِنْجَازاً لِلْعِدَةِ- فَقَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى‏ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ

الحزن ما غلظ من الأرض و سبخها ما ملح منها- و سنها بالماء أي ملسها- قال ثم خاصرتها إلى القبة الخضراء تمشي في مرمر مسنون‏- . أي مملس- و لاطها من قولهم لطت الحوض بالطين- أي ملطته و طينته به- و البلة بفتح الباء من البلل- و لزبت بفتح الزاي أي التصقت و ثبتت- فجبل منها أي خلق و الأحناء الجوانب جمع حنو- و أصلدها جعلها صلدا أي صلبا متينا- و صلصلت يبست و هو الصلصال- و يختدمها يجعلها في مآربه و أوطاره- كالخدم الذين تستعملهم و تستخدمهم- و استأدى الملائكة وديعته طلب منهم أداءها- و الخنوع الخضوع و الشقوة بكسر الشين- و في الكتاب العزيز رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا- و استوهنوا عدوه واهنا ضعيفا- و النظرة بفتح النون و كسر الظاء الإمهال و التأخير- . فأما معاني الفصل فظاهرة و فيه مع ذلك مباحث- . منها أن يقال اللام في قوله لوقت معدود بما ذا تتعلق- . و الجواب أنها تتعلق بمحذوف- تقديره حتى صلصلت كائنة لوقت- فيكون الجار و المجرور في موضع الحال- و يكون معنى الكلام أنه أصلدها- حتى يبست و جفت معدة لوقت معلوم- فنفخ حينئذ روحه فيها- و يمكن أن تكون اللام متعلقة بقوله فجبل أي جبل- و خلق من الأرض هذه الجثة لوقت- أي لأجل وقت معلوم و هو يوم القيامة- . و منها أن يقال لما ذا قال- من حزن الأرض و سهلها و عذبها و سبخها- . و الجواب أن المراد من ذلك- أن يكون الإنسان مركبا من طباع مختلفة- و فيه استعداد للخير و الشر و الحسن و القبح- . و منها أن يقال- لما ذا أخر نفخ الروح في جثة آدم مدة طويلة- فقد قيل إنه بقي طينا تشاهده الملائكة أربعين سنة- و لا يعلمون ما المراد به- . و الجواب يجوز أن يكون في ذلك لطف للملائكة- لأنهم تذهب ظنونهم في ذلك كل مذهب- فصار كإنزال المتشابهات- الذي تحصل به رياضة الأذهان و تخريجها- و في ضمن ذلك يكون اللطف- و يجوز أن يكون في أخبار ذرية آدم- بذلك فيما بعد لطف بهم- و لا يجوز إخبارهم بذلك إلا إذا كان المخبر عنه حقا-

و منها أن يقال ما المعني بقوله ثم نفخ فيها من روحه- . الجواب أن النفس لما كانت جوهرا مجردا- لا متحيزة و لا حالة في المتحيز- حسن لذلك نسبتها إلى البارئ- لأنها أقرب إلى الانتساب إليه من الجثمانيات- و يمكن أيضا أن تكون لشرفها مضافة إليه- كما يقال بيت الله للكعبة- و أما النفخ فعبارة عن إفاضة النفس على الجسد- و لما نفخ الريح في الوعاء- عبارة عن إدخال الريح إلى جوفه- و كان الإحياء عبارة عن إفاضة النفس على الجسد- و يستلزم ذلك حلول القوى و الأرواح في الجثة- باطنا و ظاهرا- سمي ذلك نفخا مجازا- . و منها أن يقال ما معنى قوله- معجونا بطينة الألوان المختلفة- . الجواب أنه ع قد فسر ذلك بقوله- من الحر و البرد و البلة و الجمود- يعني الرطوبة و اليبوسة- و مراده بذلك المزاج الذي هو كيفية واحدة- حاصلة من كيفيات مختلفة قد انكسر بعضها ببعض- و قوله معجونا صفة إنسانا- و الألوان المختلفة يعنى الضروب و الفنون- كما تقول في الدار ألوان من الفاكهة- . و منها أن يقال ما المعني بقوله- و استأدى الملائكة وديعته لديهم- و كيف كان هذا العهد و الوصية بينه و بينهم- . الجواب أن العهد و الوصية هو قوله تعالى لهم- إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ- فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ- .

و منها أن يقال- كيف كانت شبهة إبليس و أصحابه في التعزز بخلقة النار- . الجواب لما كانت النار مشرقة بالذات و الأرض مظلمة- و كانت النار أشبه بالنور و النور أشبه بالمجردات- جعل إبليس ذلك حجة احتج بها- في شرف عنصره على عنصر آدم ع- و لأن النار أقرب إلى الفلك من الأرض- و كل شي‏ء كان أقرب إلى الفلك من غيره كان أشرف- و البارئ تعالى لم يعتبر ذلك- و فعل سبحانه ما يعلم أنه المصلحة و الصواب- . و منها أن يقال كيف يجوز السجود لغير الله تعالى- . و الجواب أنه قيل إن السجود لم يكن إلا لله تعالى- و إنما كان آدم ع قبلة- و يمكن أن يقال إن السجود لله على وجه العبادة- و لغيره على وجه التكرمة- كما سجد أبو يوسف و إخوته له- و يجوز أن تختلف الأحوال و الأوقات- في حسن ذلك و قبحه- . و منها أن يقال- كيف جاز على ما تعتقدونه من حكمة البارئ- أن يسلط إبليس على المكلفين- أ ليس هذا هو الاستفساد الذي تأبونه و تمنعونه- . و الجواب أما الشيخ أبو علي رحمه الله فيقول- حد المفسدة ما وقع عند الفساد- و لولاه لم يقع مع تمكن المكلف من الفعل في الحالين- و من فسد بدعاء إبليس لم يتحقق فيه هذا الحد- لأن الله تعالى علم أن كل من فسد عند دعائه- فإنه يفسد و لو لم يدعه- . و أما أبو هاشم رحمه الله- فيحد المفسدة بهذا الحد أيضا- و يقول إن في الإتيان بالطاعة مع دعاء إبليس إلى القبيح- مشقة زائدة على مشقة الإتيان بها- لو لم يدع إبليس إلى‏ القبيح- فصار الإتيان بها مع اعتبار دعاء إبليس إلى خلافها- خارجا عن الحد المذكور و داخلا في حيز التمكن- الذي لو فرضنا ارتفاعه لما صح من المكلف الإتيان بالفعل- و نحن قلنا في الحد- مع تمكن المكلف من الإتيان بالفعل في الحالين- . و منها أن يقال كيف جاز للحكيم سبحانه أن يقول لإبليس- إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إلى يوم القيامة- و هذا إغراء بالقبيح- و أنتم تمنعون أن يقول الحكيم لزيد- أنت لا تموت إلى سنة بل إلى شهر أو يوم واحد- لما فيه من الإغراء بالقبيح- و العزم على التوبة قبل انقضاء الأمد- .

و الجواب أن أصحابنا قالوا- إن البارئ تعالى لم يقل لإبليس- إني منظرك إلى يوم القيامة- و إنما قال إِلى‏ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ- و هو عبارة عن وقت موته و اخترامه- و كل مكلف من الإنس و الجن- منظر إلى يوم الوقت المعلوم على هذا التفسير- و إذا كان كذلك لم يكن إبليس عالما أنه يبقى لا محالة- فلم يكن في ذلك إغراء له بالقبيح- . فإن قلت فما معنى قوله ع و إنجازا للعدة- أ ليس معنى ذلك- أنه قد كان وعده أن يبقيه إلى يوم القيامة- . قلت إنما وعده الإنظار- و يمكن أن يكون إلى يوم القيامة و إلى غيره من الأوقات- و لم يبين له فهو تعالى أنجز له وعده في الإنظار المطلق- و ما من وقت إلا و يجوز فيه أن يخترم إبليس- فلا يحصل الإغراء بالقبيح- و هذا الكلام عندنا ضعيف- و لنا فيه نظر مذكور في كتبنا الكلامية

: ثُمَّ أَسْكَنَ آدَمَ دَاراً أَرْغَدَ فِيهَا عِيشَتَهُ- وَ آمَنَ فِيهَا مَحَلَّتَهُ وَ حَذَّرَهُ إِبْلِيسَ وَ عَدَاوَتَهُ- فَاغْتَرَّهُ عَدُوُّهُ نَفَاسَةً عَلَيْهِ بِدَارِ الْمُقَامِ- وَ مُرَافَقَةِ الْأَبْرَارِ- فَبَاعَ الْيَقِينَ بِشَكِّهِ وَ الْعَزِيمَةَ بِوَهْنِهِ- وَ اسْتَبْدَلَ بِالْجَذَلِ وَجَلًا وَ بِالِاعْتِزَازِ نَدَماً- ثُمَّ بَسَطَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ فِي تَوْبَتِهِ- وَ لَقَّاهُ كَلِمَةَ رَحْمَتِهِ وَ وَعَدَهُ الْمَرَدَّ إِلَى جَنَّتِهِ- فَأَهْبَطَهُ إِلَى دَارِ الْبَلِيَّةِ وَ تَنَاسُلِ الذُّرِّيَّةِ

أماالألفاظ فظاهرة و المعاني أظهر- و فيها ما يسأل عنه- . فمنها أن يقال الفاء في قوله ع فأهبطه- تقتضي أن تكون التوبة على آدم قبل هبوطه من الجنة- . و الجواب أن ذلك أحد قولي المفسرين- و يعضده قوله تعالى- وَ عَصى‏ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى‏- ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى‏ قالَ اهْبِطا مِنْها- فجعل الهبوط بعد قبول التوبة- . و منها أن يقال- إذا كان تعالى قد طرد إبليس من الجنة- لما أبى السجود- فكيف توصل إلى آدم و هو في الجنة- حتى استنزله عنها بتحسين أكل الشجرة له- . الجواب أنه يجوز أن يكون إنما منع من دخول الجنة- على وجه التقريب و الإكرام‏ كدخول الملائكة- و لم يمنع من دخولها على غير ذلك الوجه- و قيل إنه دخل في جوف الحية كما ورد في التفسير- . و منها أن يقال كيف اشتبه على آدم الحال- في الشجرة المنهي عنها فخالف النهي- . الجواب أنه قيل له لا تقربا هذه الشجرة- و أريد بذلك نوع الشجرة فحمل آدم النهي على الشخص- و أكل من شجرة أخرى من نوعها- . و منها أن يقال هذا الكلام من أمير المؤمنين ع- تصريح بوقوع المعصية من آدم ع- و هو قوله فباع اليقين بشكه و العزيمة بوهنه- فما قولكم في ذلك- . الجواب أما أصحابنا فإنهم لا يمتنعون من إطلاق العصيان عليه- و يقولون إنها كانت صغيرة- و عندهم أن الصغائر جائزة على الأنبياء ع- و أما الإمامية فيقولون- إن النهي كان نهي تنزيه لا نهي تحريم- لأنهم لا يجيزون على الأنبياء الغلط و الخطأ- لا كبيرا و لا صغيرا- و ظواهر هذه الألفاظ تشهد بخلاف قولهم
اختلاف الأقوال في ابتداء خلق البشر

و اعلم أن الناس اختلفوا- في ابتداء خلق البشر كيف كان- فذهب أهل الملل من المسلمين و اليهود و النصارى- إلى أن مبدأ البشر هو آدم الأب الأول ع- و أكثر ما في القرآن العزيز من قصة آدم- مطابق لما في التوراة- . و ذهب طوائف من الناس إلى غير ذلك- أما الفلاسفة فإنهم زعموا أنه لا أول لنوع البشر- و لا لغيرهم من الأنواع- . و أما الهند فمن كان منهم على رأي الفلاسفة- فقوله ما ذكرناه- و من لم يكن منهم‏

على رأي الفلاسفة- و يقول بحدوث الأجسام لا يثبت آدم- و يقول إن الله تعالى خلق الأفلاك- و خلق فيها طباعا محركة لها بذاتها- فلما تحركت و حشوها أجسام لاستحالة الخلاء- كانت تلك الأجسام على طبيعة واحدة- فاختلفت طباؤعها بالحركة الفلكية- فكان القريب من الفلك المتحرك أسخن و ألطف- و البعيد أبرد و أكثف- ثم اختلطت العناصر و تكونت منها المركبات- و منها تكون نوع البشر- كما يتكون الدود في الفاكهة و اللحم- و البق في البطائح و المواضع العفنة- ثم تكون بعض البشر من بعض بالتوالد- و صار ذلك قانونا مستمرا- و نسي التخليق الأول الذي كان بالتولد- و من الممكن أن يكون بعض البشر- في بعض الأراضي القاصية مخلوقا بالتولد- و إنما انقطع التولد- لأن الطبيعة إذا وجدت للتكون طريقا- استغنت به عن طريق ثان- . و أما المجوس فلا يعرفون آدم و لا نوحا- و لا ساما و لا حاما و لا يافث- و أول متكون عندهم من البشر البشري- المسمى كيومرث و لقبه كوشاه أي ملك الجبل- لأن كو هو الجبل بالفهلوية- و كان هذا البشر في الجبال- و منهم من يسميه كلشاه أي ملك الطين و كل اسم الطين- لأنه لم يكن حينئذ بشر ليملكهم- .

و قيل تفسير كيومرث حي ناطق ميت- قالوا و كان قد رزق من الحسن- ما لا يقع عليه بصر حيوان- إلا و بهت و أغمي عليه- و يزعمون أن مبدأ تكونه و حدوثه- أن يزدان و هو الصانع الأول عندهم أفكر في أمر أهرمن- و هو الشيطان عندهم- فكرة أوجبت أن عرق جبينه- فمسح العرق و رمى به فصار منه كيومرث- و لهم خبط طويل في كيفية تكون أهرمن من فكرة يزدان- أو من إعجابه بنفسه أو من توحشه- و بينهم خلاف في قدم أهرمن- و حدوثه لا يليق شرحه بهذا الموضع-

ثم اختلفوا في مدة بقاء كيومرث في الوجود- فقال الأكثرون ثلاثون سنة- و قال الأقلون أربعون سنة- و قال قوم منهم إن كيومرث مكث في الجنة- التي في السماء ثلاثة آلاف سنة- و هي ألف الحمل و ألف الثور و ألف الجوزاء- ثم أهبط إلى الأرض فكان بها آمنا مطمئنا- ثلاثة آلاف سنة أخرى- و هي ألف السرطان و ألف الأسد و ألف السنبلة- . ثم مكث بعد ذلك ثلاثين أو أربعين سنة- في حرب و خصام بينه و بين أهرمن حتى هلك- . و اختلفوا في كيفية هلاكه- مع اتفاقهم على أنه هلك قتلا- فالأكثرون قالوا إنه قتل ابنا لأهرمن يسمى خزورة- فاستغاث أهرمن منه إلى يزدان- فلم يجد بدا من أن يقاصه به- حفظا للعهود التي بينه و بين أهرمن- فقتله بابن أهرمن- و قال قوم بل قتله أهرمن في صراع كان بينهما- قهره فيه أهرمن و علاه و أكله- . و ذكروا في كيفية ذلك الصراع- أن كيومرث كان هو القاهر لأهرمن في بادئ الحال- و أنه ركبه و جعل يطوف به في العالم إلى أن سأله أهرمن- أي الأشياء أخوف له و أهولها عنده فقال له باب جهنم- فلما بلغ به أهرمن إليها جمح به حتى سقط من فوقه- و لم يستمسك فعلاه و سأله- عن أي الجهات يبتدئ به في الأكل- فقال من جهة الرجل لأكون ناظرا إلى حسن العالم مدة ما- فابتدأه أهرمن فأكله من عند رأسه- فبلغ إلى موضع الخصي و أوعية المني من الصلب- فقطر من كيومرث قطرتا نطفة على الأرض- فنبت منها ريباستان في جبل بإصطخر- يعرف بجبل دام داذ- ثم ظهرت على تينك الريباستين الأعضاء البشرية- في أول الشهر التاسع و تمت في آخره- فتصور منهما بشران ذكر و أنثى- و هما ميشى و ميشانه- و هما بمنزلة آدم و حواء عند المليين- و يقال لهما أيضا ملهى و ملهيانه- و يسميهما مجوس خوارزم مرد و مردانه-

و زعموا أنهما مكثا خمسين سنة- مستغنين عن الطعام و الشراب- متنعمين غير متأذيين بشي‏ء- إلى أن ظهر لهما أهرمن في صورة شيخ كبير- فحملهما على التناول من فواكه الأشجار و أكل منها- و هما يبصرانه شيخا فعاد شابا- فأكلا منها حينئذ فوقعا في البلايا و الشرور- و ظهر فيهما الحرص حتى تزاوجا- و ولد لهما ولد فأكلاه حرصا- ثم ألقى الله تعالى في قلوبهما رأفة- فولد لهما بعد ذلك ستة أبطن- كل بطن ذكر و أنثى- و أسماؤهم في كتاب أپستا- و هو الكتاب الذي جاء به زرادشت- معروفة- ثم كان في البطن السابع سيامك و فرواك فتزاوجا- فولد لهما الملك المشهور الذي لم يعرف قبله ملك- و هو أوشهنج و هو الذي خلف جده كيومرث- و عقد له التاج و جلس على السرير- و بنى مدينتي بابل و السوس- . فهذا ما يذكره المجوس في مبدأ الخلق
تصويب الزنادقة إبليس لامتناعه عن السجود لآدم
و كان في المسلمين ممن يرمى بالزندقة- من يذهب إلى تصويب إبليس في الامتناع من السجود- و يفضله على آدم- و هو بشار بن برد المرعث- و من الشعر المنسوب إليه-

النار مشرقة و الأرض مظلمة
و النار معبودة مذ كانت النار

و كان أبو الفتوح أحمد بن محمد الغزالي الواعظ- أخو أبي حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي- الفقيه الشافعي- قاصا لطيفا و واعظا مفوها- و هو من خراسان من مدينة طوس- و قدم إلى بغداد و وعظ بها- و سلك في وعظه مسلكا منكرا- لأنه كان يتعصب لإبليس و يقول إنه سيد الموحدين- و قال يوما على المنبر- من لم يتعلم التوحيد من إبليس فهو زنديق- أمر أن يسجد لغير سيده فأبى- و لست بضارع إلا إليكم و أما غيركم حاشا و كلا

– . و قال مرة أخرى لما قال له موسى أرني فقال لن- قال هذا شغلك تصطفي آدم ثم تسود وجهه- و تخرجه من الجنة و تدعوني إلى الطور- ثم تشمت بي الأعداء هذا عملك بالأحباب- فكيف تصنع بالأعداء- . و قال مرة أخرى و قد ذكر إبليس على المنبر- لم يدر ذلك المسكين أن أظافير القضاء إذا حكت أدمت- و أن قسي القدر إذا رمت أصمت-

ثم قال لسان حال آدم ينشد في قصته و قصة إبليس-

و كنت و ليلى في صعود من الهوى
فلما توافينا ثبت و زلت‏

– . و قال مرة أخرى التقى موسى و إبليس عند عقبة الطور- فقال موسى يا إبليس لم لم تسجد لآدم- فقال كلا ما كنت لأسجد لبشر- كيف أوحده ثم ألتفت إلى غيره- و لكنك أنت يا موسى سألت رؤيته ثم نظرت إلى الجبل- فأنا أصدق منك في التوحيد- .

و كان هذا النمط في كلامه ينفق على أهل بغداد- و صار له بينهم صيت مشهور و اسم كبير- و حكى عنه أبو الفرج بن الجوزي في التاريخ- أنه قال على المنبر معاشر الناس- إني كنت دائما أدعوكم إلى الله- و أنا اليوم أحذركم منه- و الله ما شدت الزنانير إلا في حبه- و لا أديت الجزية إلا في عشقه- . و قال أيضا إن رجلا يهوديا أدخل عليه ليسلم على يده- فقال له لا تسلم- فقال له الناس كيف تمنعه من الإسلام- فقال احملوه إلى أبي حامد يعني أخاه ليعلمه لا- لا المنافقين- ثم قال ويحكم أ تظنون أن قوله لا إله إلا الله- منشور ولايته ذا منشور عزله- و هذا نوع تعرفه الصوفية بالغلو و الشطح- . و يروى عن أبي يزيد البسطامي منه كثير- . و مما يتعلق بما نحن فيه ما رووه عنه من قوله-

فمن آدم في البين
و من إبليس لولاكا

فتنت الكل و الكل‏
مع الفتنة يهواكا

– . و يقال أول من قاس إبليس فأخطأ في القياس و هلك بخطئه- و يقال إن أول حمية و عصبية ظهرت عصبية إبليس و حميته
اختلاف الأقوال في خلق الجنة و النار فإن قيل فما قول شيوخكم في الجنة و النار- فإن المشهور عنهم أنهما لم يخلقا- و سيخلقان‏عند قيام الأجسام- و قد دل القرآن العزيز- و نطق كلام أمير المؤمنين ع في هذا الفصل- بأن آدم كان في الجنة و أخرج منها- . قيل قد اختلف شيوخنا رحمهم الله في هذه المسألة- فمن ذهب منهم إلى أنهما غير مخلوقتين الآن- يقول قد ثبت بدليل السمع أن سائر الأجسام تعدم- و لا يبقى في الوجود إلا ذات الله تعالى- بدليل قوله كُلُّ شَيْ‏ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ- و قوله هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ- فلما كان أولا- بمعنى أنه لا جسم في الوجود معه في الأزل- وجب أن يكون آخرا- بمعنى أنه لا يبقى في الوجود- جسم من الأجسام معه فيما لا يزال- و بآيات كثيرة أخرى- و إذا كان لا بد من عدم سائر الأجسام- لم يكن في خلق الجنة و النار- قبل أوقات الجزاء فائدة- لأنه لا بد أن يفنيهما مع الأجسام- التي تفنى يوم القيامة- فلا يبقى مع خلقهما من قبل معنى- و يحملون الآيات التي دلت على كون آدم ع- كان في الجنة و أخرج منها- على بستان من بساتين الدنيا- قالوا و الهبوط لا يدل على كونهما في السماء- لجواز أن يكون في الأرض- إلا أنهما في موضع مرتفع عن سائر الأرض- . و أما غير هؤلاء من شيوخنا فقالوا- إنهما مخلوقتان الآن- و اعترفوا بأن آدم كان في جنة الجزاء و الثواب- و قالوا لا يبعد أن يكون في إخبار المكلفين- بوجود الجنة و النار لطف لهم في التكليف- و إنما يحسن الإخبار بذلك إذا كان صدقا- و إنما يكون صدقا إذا كان خبره على ما هو عليه
القول في آدم و الملائكة أيهما أفضل

فإن قيل فما الذي يقوله شيوخكم في آدم و الملائكة- أيهما أفضل- . قيل لا خلاف بين شيوخنا رحمهم الله- أن الملائكة أفضل من آدم و من جميع الأنبياءع- و لو لم يدل على ذلك إلا قوله تعالى في هذه القصة- إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ- لكفى- . و قد احتج أصحابنا أيضا بقوله تعالى- لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ- وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ- و هذا كما تقول لا يستنكف الوزير أن يعظمني- و يرفع من منزلتي و لا الملك أيضا- فإن هذا يقتضي كون الملك أرفع منزلة من الوزير- و كذلك قوله وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ- يقتضي كونهم أرفع منزلة من عيسى- . و مما احتجوا به قولهم- إنه تعالى لما ذكر جبريل و محمدا ع في معرض المدح- مدح جبريل ع بأعظم مما مدح به محمدا ع- فقال إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ- مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَ ما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ- وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ وَ ما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ- فالمديح الأول لجبريل و الثاني لمحمد ع- و لا يخفى تفاوت ما بين المدحين- . فإن قيل فهل كان إبليس من الملائكة أم من نوع آخر- قيل قد اختلف في ذلك- فمن قال إنه من الملائكة احتج بالاستثناء في قوله- فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ- و قال إن الاستثناء من غير الجنس خلاف الأصل- و من قال إنه لم يكن منهم احتج بقوله تعالى- إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ- . و أجاب الأولون عن هذا فقالوا- إن الملائكة يطلق عليهم لفظ الجن- لاجتنانهم و استتارهم عن الأعين- و قالوا قد ورد ذلك في القرآن أيضا في قوله تعالى- وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ‏ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً

– و الجنة هاهنا هم الملائكة- لأنهم قالوا إن الملائكة بنات الله بدليل قوله- أَ فَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَ اتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً- و كتب التفسير تشتمل من هذا- على ما لا نرى الإطالة بذكره
– . فأما القطب الراوندي- فقال في هذين الفصلين في تفسير ألفاظهما اللغوية- العذب من الأرض ما ينبت و السبخ ما لا ينبت- و هذا غير صحيح لأن السبخ ينبت النخل- فيلزم أن يكون عذبا على تفسيره- . و قال فجبل منها صورة أي خلق خلقا عظيما- و لفظة جبل في اللغة تدل على خلق- سواء كان المخلوق عظيما أو غير عظيم- . و قال الوصول جمع وصل و هو العضو- و كل شي‏ء اتصل بشي‏ء فما بينهما وصلة- و الفصول جمع فصل و هو الشي‏ء المنفصل- و ما عرفنا في كتب اللغة أن الوصل هو العضو- و لا قيل هذا- . و قوله بعد ذلك و كل شي‏ء اتصل بشي‏ء فما بينهما وصلة- لا معنى لذكره بعد ذلك التفسير- و الصحيح أن مراده ع أظهر- من أن يتكلف له هذا التكلف- و مراده ع أن تلك الصورة ذات أعضاء متصلة- كعظم الساق أو عظم الساعد- و ذات أعضاء منفصلة في الحقيقة- و إن كانت متصلة بروابط خارجة عن ذواتها- كاتصال الساعد بالمرفق و اتصال الساق بالفخذ- . ثم قال يقال استخدمته لنفسي و لغيري- و اختدمته لنفسي خاصة- و هذا مما لم أعرفه و لعله نقله من كتاب- .

ثم قال و الإذعان الانقياد و الخنوع الخضوع- و إنما كرر الخنوع بعد الإذعان- لأن الأول يفيد أنهم أمروا بالخضوع له في السجود- و الثاني يفيد ثباتهم على الخضوع لتكرمته أبدا- . و لقائل أن يقول إنه لم يكرر لفظة الخنوع- و إنما ذكر أولا الإذعان و هو الانقياد و الطاعة- و معناه أنهم سجدوا- ثم ذكر الخنوع الذي معناه الخضوع- و هو يعطي معنى غير المعنى الأول- لأنه ليس كل ساجد خاضعا بقلبه- فقد يكون ساجدا بظاهره دون باطنه- و قول الراوندي أفاد بالثاني ثباتهم على الخضوع له- لتكرمته أبدا تفسير لا يدل عليه اللفظ- و لا معنى الكلام- . ثم قال قبيل إبليس نسله- قال تعالى إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ- و كل جيل من الإنس و الجن قبيل- و الصحيح أن قبيله نوعه كما أن البشر قبيل كل بشري- سواء كانوا من ولده أو لم يكونوا- و قد قيل أيضا كل جماعة قبيل و إن اختلفوا- نحو أن يكون بعضهم روما و بعضهم زنجا و بعضهم عربا- و قوله تعالى إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ- لا يدل على أنهم نسله- . و قوله بعد و كل جيل من الإنس و الجن قبيل- ينقض دعواه أن قبيله لا يكون إلا نسله- . ثم تكلم في المعاني فقال- إن القياس الذي قاسه إبليس كان باطلا- لأنه ادعى أن النار أشرف من الأرض- و الأمر بالعكس لأن كل ما يدخل إلى النار ينقص- و كل ما يدخل التراب يزيد و هذا عجيب- فإنا نرى الحيوانات الميتة- إذا دفنت في الأرض تنقص أجسامها- و كذلك الأشجار المدفونة في الأرض- على أن التحقيق أن المحترق بالنار و البالي بالتراب- لم تعدم أجزاؤه و لا بعضها- و إنما استحالت إلى صور أخرى- .

ثم قال و لما علمنا أن تقديم المفضول على الفاضل قبيح- علمنا أن آدم كان أفضل من الملائكة- في ذلك الوقت و فيما بعده- . و لقائل أن يقول- أ ليس قد سجد يعقوب ليوسف ع- أ فيدل ذلك على أن يوسف أفضل من يعقوب- و لا يقال إن قوله تعالى- وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً- لا يدل على سجود الوالدين- فلعل الضمير يرجع إلى الإخوة خاصة- لأنا نقول هذا الاحتمال مدفوع بقوله- وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ- و هو كناية عن الوالدين- . و أيضا قد بينا أن السجود إنما كان لله سبحانه- و أن آدم كان قبلة- و القبلة لا تكون أفضل من الساجد إليها- أ لا ترى أن الكعبة ليست أفضل من النبي ع:

وَ اصْطَفَى سُبْحَانَهُ مِنْ وَلَدِهِ أَنْبِيَاءَ- أَخَذَ عَلَى الْوَحْيِ مِيثَاقَهُمْ- وَ عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَمَانَتَهُمْ- لَمَّا بَدَّلَ أَكْثَرُ خَلْقِهِ عَهْدَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ- فَجَهِلُوا حَقَّهُ وَ اتَّخَذُوا الْأَنْدَادَ مَعَهُ- وَ اجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ- وَ اقْتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبَادَتِهِ فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَهُ- وَ وَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَهُ لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ- وَ يُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ- وَ يَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ- وَ يُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ- وَ يُرُوهُمْ آيَاتِ الْمَقْدِرَةِ- مِنْ سَقْفٍ فَوْقَهُمْ مَرْفُوعٍ وَ مِهَادٍ تَحْتَهُمْ مَوْضُوعٍ- وَ مَعَايِشَ تُحْيِيهِمْ وَ آجَالٍ تُفْنِيهِمْ وَ أَوْصَابٍ تُهْرِمُهُمْ- وَ أَحْدَاثٍ تَتَتَابَعُ عَلَيْهِمْ- وَ لَمْ يُخْلِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ خَلْقَهُ مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ- أَوْ كِتَابٍ مُنْزَلٍ أَوْ حُجَّةٍ لَازِمَةٍأَوْ مَحَجَّةٍ قَائِمَةٍ- رُسُلٌ لَا تُقَصِّرُ بِهِمْ قِلَّةُ عَدَدِهِمْ- وَ لَا كَثْرَةُ الْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ- مِنْ سَابِقٍ سُمِّيَ لَهُ مَنْ بَعْدَهُ أَوْ غَابِرٍ عَرَّفَهُ مَنْ قَبْلَهُ

اجتالتهم الشياطين أدارتهم- تقول اجتال فلان فلانا- و اجتاله عن كذا و على كذا أي أداره عليه- كأنه يصرفه تارة هكذا و تارة هكذا- يحسن له فعله و يغريه به- . و قال الراوندي اجتالتهم عدلت بهم و ليس بشي‏ء- . و قوله ع واتر إليهم أنبياءه- أي بعثهم و بين كل نبيين فترة- و هذا مما تغلط فيه العامة فتظنه كما ظن الراوندي- أن المراد به المرادفة و المتابعة- و الأوصاب الأمراض و الغابر الباقي- . و يسأل في هذا الفصل عن أشياء- منها عن قوله ع أخذ على الوحي ميثاقهم- . و الجواب أن المراد أخذ على أداء الوحي ميثاقهم- و ذلك أن كل رسول أرسل فمأخوذ عليه أداء الرسالة- كقوله تعالى يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ- وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ- . و منها أن يقال ما معنى قوله ع ليستأدوهم ميثاق فطرته- هل هذاإشارة إلى ما يقوله أهل الحديث- في تفسير قوله تعالى وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ- مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ- وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى‏- . و الجواب أنه لا حاجة في تفسير هذه اللفظة- إلى تصحيح ذلك الخبر- و مراده ع بهذا اللفظ- أنه لما كانت المعرفة به تعالى و أدلة التوحيد و العدل- مركوزة في العقول- أرسل سبحانه الأنبياء أو بعضهم- ليؤكدوا ذلك المركوز في العقول- و هذه هي الفطرة المشار إليها بقوله ع كل مولود يولد على الفطرة

– . و منها أن يقال إلى ما ذا يشير بقوله أو حجة لازمة- هل هو إشارة إلى ما يقوله الإمامية- من أنه لا بد في كل زمان من وجود إمام معصوم- . الجواب أنهم يفسرون هذه اللفظة بذلك- و يمكن أن يكون المراد بها حجة العقل- . و أما القطب الراوندي فقال في قوله ع- و اصطفى سبحانه من ولده أنبياء- الولد يقال على الواحد و الجمع لأنه مصدر في الأصل- و ليس بصحيح لأن الماضي فعل بالفتح- و المفتوح لا يأتي مصدره بالفتح- و لكن فعلا مصدر فعل بالكسر- كقولك ولهت عليه ولها و وحمت المرأة وحما- . ثم قال إن الله تعالى بعث يونس قبل نوح- و هذا خلاف إجماع المفسرين و أصحاب السير- . ثم قال و كل واحد من الرسل و الأئمة كان يقوم بالأمر- و لا يردعه عن ذلك قلة عدد أوليائه و لا كثرة عدد أعدائه- فيقال له هذا خلاف قولك في الأئمة المعصومين- فإنك تجيز عليهم التقية و ترك القيام بالأمر- إذا كثرت أعداؤهم- . و قال في تفسير قوله ع- من سابق سمي له من بعده أو غابر عرفه‏ من قبله- كان من ألطاف الأنبياء المتقدمين و أوصيائهم- أن يعرفوا الأنبياء المتأخرين و أوصياءهم- فعرفهم الله تعالى ذلك- و كان من اللطف بالمتأخرين و أوصيائهم- أن يعرفوا أحوال المتقدمين من الأنبياء و الأوصياء- فعرفهم الله تعالى ذلك أيضا فتم اللطف لجميعهم- . و لقائل أن يقول لو كان ع قال- أو غابر عرف من قبله- لكان هذا التفسير مطابقا- و لكنه ع لم يقل ذلك- و إنما قال عرفه من قبله- و ليس هذا التفسير مطابقا لقوله عرفه- و الصحيح أن المراد به- من نبي سابق عرف من يأتي بعده من الأنبياء- أي عرفه الله تعالى ذلك- أو نبي غابر نص عليه من قبله- و بشر به كبشارة الأنبياء بمحمد ع:

عَلَى ذَلِكَ نَسَلَتِ الْقُرُونُ وَ مَضَتِ الدُّهُورُ- وَ سَلَفَتِ الآْبَاءُ وَ خَلَفَتِ الْأَبْنَاءُ- إِلَى أَنْ بَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّداً ص- لِإِنْجَازِ عِدَتِهِ وَ إِتْمَامِ نُبُوَّتِهِ- مَأْخُوذاً عَلَى النَّبِيِّينَ مِيثَاقُهُ- مَشْهُورَةً سِمَاتُهُ كَرِيماً مِيلَادُهُ- وَ أَهْلُ الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَةٌ- وَ أَهْوَاءٌ مُنْتَشِرَةٌ وَ طَرَائِقُ مُتَشَتِّتَةٌ- بَيْنَ مُشَبِّهٍ لِلَّهِ بِخَلْقِهِ أَوْ مُلْحِدٍ فِي اسْمِهِ- أَوْ مُشِيرٍ إِلَى غَيْرِهِ- فَهَدَاهُمْ بِهِ مِنَ الضَّلَالَةِ وَ أَنْقَذَهُمْ بِمَكَانِهِ مِنَ الْجَهَالَةِ- ثُمَّ اخْتَارَ سُبْحَانَهُ لِمُحَمَّدٍ ص لِقَاءَهُ- وَ رَضِيَ لَهُ مَا عِنْدَهُ وَ أَكْرَمَهُ عَنْ دَارِ الدُّنْيَا- وَ رَغِبَ بِهِ عَنْ مَقَامِ الْبَلْوَى- فَقَبَضَهُ إِلَيْهِ كَرِيماً- وَ خَلَّفَ فِيكُمْ مَا خَلَّفَتِ الْأَنْبِيَاءُ فِي أُمَمِهَا- إِذْ لَمْ يَتْرُكُوهُمْ هَمَلًا بِغَيْرِ طَرِيقٍ وَاضِحٍ‏ وَ لَا عَلَمٍ قَائِمٍ- كِتَابَ رَبِّكُمْ مُبَيِّناً حَلَالَهُ وَ حَرَامَهُ- وَ فَرَائِضَهُ وَ فَضَائِلَهُ وَ نَاسِخَهُ وَ مَنْسُوخَهُ- وَ رُخَصَهُ وَ عَزَائِمَهُ وَ خَاصَّهُ وَ عَامَّهُ- وَ عِبَرَهُ وَ أَمْثَالَهُ وَ مُرْسَلَهُ وَ مَحْدُودَهُ- وَ مُحْكَمَهُ وَ مُتَشَابِهَهُ مُفَسِّراً جُمَلَهُ وَ مُبَيِّناً غَوَامِضَهُ- بَيْنَ مَأْخُوذٍ مِيثَاقُ عِلْمِهِ وَ مُوَسَّعٍ عَلَى الْعِبَادِ فِي جَهْلِهِ- وَ بَيْنَ مُثْبَتٍ فِي الْكِتَابِ فَرْضُهُ- وَ مَعْلُومٍ فِي السُّنَّةِ نَسْخُهُ- وَ وَاجِبٍ فِي السُّنَّةِ أَخْذُهُ- وَ مُرَخَّصٍ فِي الْكِتَابِ تَرْكُهُ- وَ بَيْنَ وَاجِبٍ لِوَقْتِهِ وَ زَائِلٍ فِي مُسْتَقْبَلِهِ- وَ مُبَايَنٌ بَيْنَ مَحَارِمِهِ مِنْ كَبِيرٍ أَوْعَدَ عَلَيْهِ نِيرَانَهُ- أَوْ صَغِيرٍ أَرْصَدَ لَهُ غُفْرَانَهُ- وَ بَيْنَ مَقْبُولٍ فِي أَدْنَاهُ وَ مُوَسَّعٍ فِي أَقْصَاهُ قوله ع

نسلت القرون ولدت- و الهاء في قوله لإنجاز عدته- راجعة إلى البارئ سبحانه- و الهاء في قوله و إتمام نبوته- راجعة إلى محمد ص- و قوله مأخوذ على النبيين ميثاقه- قيل لم يكن نبي قط إلا و بشر بمبعث محمد ص- و أخذ عليه تعظيمه و إن كان بعد لم يوجد- . فأما قوله و أهل الأرض يومئذ ملل متفرقة- فإن العلماء يذكرون أن النبي ص بعث- و الناس أصناف شتى في أديانهم- يهود و نصارى و مجوس- و صائبون و عبده أصنام و فلاسفة و زنادقة.

القول في أديان العرب في الجاهلية

فأما الأمة التي بعث محمد ص فيها فهم العرب- و كانوا أصنافا شتى‏فمنهم معطلة و منهم غير معطلة- فأما المعطلة منهم- فبعضهم أنكر الخالق و البعث و الإعادة- و قالوا ما قال القرآن العزيز عنهم- ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا- وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ- فجعلوا الجامع لهم الطبع و المهلك لهم الدهر- و بعضهم اعترف بالخالق سبحانه و أنكر البعث- و هم الذين أخبر سبحانه عنهم بقوله- قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ- و منهم من أقر بالخالق و نوع من الإعادة- و أنكروا الرسل و عبدوا الأصنام- و زعموا أنها شفعاء عند الله في الآخرة- و حجوا لها و نحروا لها الهدي- و قربوا لها القربان و حللوا و حرموا- و هم جمهور العرب و هم الذين قال الله تعالى عنهم- وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ- يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ- . فممن نطق شعره بإنكار البعث بعضهم يرثي قتلى بدر-

فما ذا بالقليب قليب بدر
من الفتيان و القوم الكرام‏

و ما ذا بالقليب قليب بدر
من الشيزى تكلل بالسنام‏

أ يخبرنا ابن كبشة أن سنحي
ا و كيف حياة أصداء وهام‏

إذا ما الرأس زال بمنكبيه‏
فقد شبع الأنيس من الطعام‏

أ يقتلني إذا ما كنت حيا
و يحييني إذ رمت عظامي‏
أ يقتلني إذا ما كنت حيا و يحييني إذ رمت عظامي‏ و كان من العرب من يعتقد التناسخ- و تنقل الأرواح في الأجساد- و من هؤلاء أرباب الهامة التي قال ع عنهم لا عدوى و لا هامة و لا صفر – و قال ذو الإصبع

  يا عمرو إلا تدع شتمي و منقصتي
أضربك حيث تقول الهامة اسقوني‏

– . و قالوا إن ليلى الأخيلية لما سلمت على قبر توبة بن الحمير- خرج إليها هامة من القبر صائحة- أفزعت ناقتها فوقصت بها فماتت- و كان ذلك تصديق قوله-

و لو أن ليلى الأخيلية سلمت
علي و دوني جندل و صفائح‏

لسلمت تسليم البشاشة أو زقا
إليها صدى من جانب القبر صائح

– . و كان توبة و ليلى في أيام بني أمية- . و كانوا في عبادة الأصنام مختلفين- فمنهم من يجعلها مشاركة للبارئ تعالى- و يطلق عليها لفظة الشريك- و من ذلك قولهم في التلبية لبيك اللهم لبيك- لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه و ما ملك- و منهم من لا يطلق عليها لفظ الشريك- و يجعلها وسائل و ذرائع إلى الخالق سبحانه- و هم الذين قالوا ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى‏- . و كان في العرب مشبهة و مجسمة- منهم أمية بن أبي الصلت و هو القائل-

من فوق عرش جالس قد حط
رجليه إلى كرسيه المنصوب‏

– . و كان جمهورهم عبدة الأصنام- فكان ود لكلب بدومة الجندل- و سواع لهذيل‏ و نسر لحمير- و يغوث لهمدان و اللات لثقيف بالطائف- و العزى لكنانة و قريش و بعض بني سليم- و مناة لغسان و الأوس و الخزرج- و كان هبل لقريش خاصة على ظهر الكعبة- و أساف و نائلة على الصفا و المروة- و كان في العرب من يميل إلى اليهودية- منهم جماعة من التبابعة و ملوك اليمن- و منهم نصارى كبني تغلب- و العباديين رهط عدي بن زيد و نصارى نجران- و منهم من كان يميل إلى الصابئة- و يقول بالنجوم و الأنواء- . فأما الذين ليسوا بمعطلة من العرب فالقليل منهم- و هم المتألهون أصحاب الورع و التحرج عن القبائح- كعبد الله و عبد المطلب و ابنه أبي طالب- و زيد بن عمرو بن نفيل و قس بن ساعدة الإيادي- و عامر بن الظرب العدواني و جماعة غير هؤلاء- . و غرضنا من هذا الفصل بيان قوله ع- بين مشبه لله بخلقه أو ملحد في اسمه- إلى غير ذلك و قد ظهر بما شرحناه

– . ثم ذكر ع أن محمدا ص خلف في الأمة بعده- كتاب الله تعالى طريقا واضحا و علما قائما- و العلم المنار يهتدى به- . ثم قسم ما بينه ع في الكتاب أقساما- فمنها حلاله و حرامه- فالحلال كالنكاح و الحرام كالزنا- . و منها فضائله و فرائضه فالفضائل النوافل- أي هي فضلة غير واجبة كركعتي الصبح و غيرهما- و الفرائض كفريضة الصبح- . و قال الراوندي الفضائل هاهنا جمع فضيلة- و هي الدرجة الرفيعة و ليس بصحيح- أ لا تراه كيف جعل الفرائض في مقابلتها و قسيما لها- فدل ذلك على أنه أراد النوافل- .

و منها ناسخه و منسوخه- فالناسخ كقوله فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ- و المنسوخ كقوله لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ- . و منها رخصه و عزائمه- فالرخص كقوله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ- و العزائم كقوله فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ- . و منها خاصه و عامه فالخاص كقوله تعالى- وَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ- و العام كالألفاظ الدالة على الأحكام العامة- لسائر المكلفين- كقوله وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ- و يمكن أن يراد بالخاص العمومات- التي يراد بها الخصوص- كقوله وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ- و بالعام ما ليس مخصوصا بل هو على عمومه- كقوله تعالى وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَلِيمٌ- . و منها عبره و أمثاله فالعبر كقصة أصحاب الفيل- و كالآيات التي تتضمن النكال و العذاب النازل- بأمم الأنبياء من قبل- و الأمثال كقوله كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً- . و منها مرسله و محدوده و هو عبارة عن المطلق و المقيد- و سمي المقيد محدودا و هي لفظة فصيحة جدا- كقوله فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ- و قال في موضع آخر وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ- و منها محكمه و متشابهه- فمحكمه كقوله تعالى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ- و المتشابه كقوله إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ- . ثم قسم ع الكتاب قسمة ثانية- فقال إن منه ما لا يسع أحدا جهله-

و منه ما يسع الناس جهله- مثال الأول قوله اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ- و مثال الثاني كهيعص حم عسق- . ثم قال و منه ما حكمه مذكور في الكتاب منسوخ بالسنة- و ما حكمه مذكور في السنة منسوخ بالكتاب- مثال الأول قوله تعالى- فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ- نسخ بما سنه ع من رجم الزاني المحصن- و مثال الثاني صوم يوم عاشوراء كان واجبا بالسنة- ثم نسخه صوم شهر رمضان الواجب بنص الكتاب- . ثم قال و بين واجب بوقته و زائل في مستقبله- يريد الواجبات الموقتة كصلاة الجمعة- فإنها تجب في وقت مخصوص- و يسقط وجوبها في مستقبل ذلك الوقت- . ثم قال ع و مباين بين محارمه- الواجب أن يكون و مباين بالرفع لا بالجر- فإنه ليس معطوفا على ما قبله- أ لا ترى أن جميع ما قبله يستدعي الشي‏ء و ضده- أو الشي‏ء و نقيضه- و قوله و مباين بين محارمه لا نقيض و لا ضد له- لأنه ليس القرآن العزيز على قسمين- أحدهما مباين بين محارمه و الآخر غير مباين- فإن ذلك لا يجوز فوجب رفع مباين- و أن يكون خبر مبتدأ محذوف- ثم فسر ما معنى المباينة بين محارمه- فقال إن محارمه تنقسم إلى كبيرة و صغيرة- فالكبيرة أوعد سبحانه عليها بالعقاب- و الصغيرة مغفورة- و هذا نص مذهب المعتزلة في الوعيد- . ثم عدل ع عن تقسيم المحارم المتباينة- و رجع إلى تقسيم الكتاب- فقال و بين مقبول في أدناه و موسع في أقصاه- كقوله فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ- . فإن القليل من القرآن مقبول- و الكثير منه موسع مرخص في تركه‏

: وَ فَرَضَ عَلَيْكُمْ حَجَّ بَيْتِهِ الْحَرَامِ- الَّذِي جَعَلَهُ قِبْلَةً لِلْأَنَامِ- يَرِدُونَهُ وُرُودَ الْأَنْعَامِ وَ يَوْلَهُونَ إِلَيْهِ وَلَهَ الْحَمَامِ- وَ جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ عَلَامَةً لِتَوَاضُعِهِمْ لِعَظَمَتِهِ- وَ إِذْعَانِهِمْ لِعِزَّتِهِ- وَ اخْتَارَ مِنْ خَلْقِهِ سُمَّاعاً أَجَابُوا إِلَيْهِ دَعْوَتَهُ- وَ صَدَّقُوا كَلِمَتَهُ وَ وَقَفُوا مَوَاقِفَ أَنْبِيَائِهِ- وَ تَشَبَّهُوا بِمَلَائِكَتِهِ الْمُطِيفِينَ بِعَرْشِهِ- يُحْرِزُونَ الْأَرْبَاحَ فِي مَتْجَرِ عِبَادَتِهِ- وَ يَتَبَادَرُونَ عِنْدَهُ مَوْعِدَ مَغْفِرَتِهِ- جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى لِلْإِسْلَامِ عَلَماً- وَ لِلْعَائِذِينَ حَرَماً وَ فَرَضَ حَقَّهُ وَ أَوْجَبَ حَجَّهُ- وَ كَتَبَ عَلَيْهِ وِفَادَتَهُ- فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا- وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ

الوله شدة الوجد حتى يكاد العقل يذهب- وله الرجل يوله ولها- و من روى يألهون إليه ولوه الحمام- فسره بشي‏ء آخر و هو يعكفون عليه عكوف الحمام- و أصل أله عبد و منه الإله أي المعبود- و لما كان العكوف على الشي‏ء كالعبادة له- لملازمته و الانقطاع إليه- قيل أله فلان إلى كذا أي عكف عليه كأنه يعبده- و لا يجوز أن يقال يألهون إليه في هذا الموضع- بمعنى يولهون- و أن أصل الهمزة الواو
كما فسره الراوندي- لأن فعولا لا يجوز أن يكون مصدرا- من فعلت بالكسر- و لو كان يألهون هو يولهون- كان أصله أله بالكسر- فلم يجز أن يقول ولوه الحمام- و أما على ما فسرناه نحن- فلا يمتنع أن يكون الولوه مصدرا- لأن أله مفتوح فصار كقولك دخل دخولا- و باقي الفصل غني عن التفسير

فصل في فضل البيت و الكعبة

جاء في الخبر الصحيح أن في السماء بيتا- يطوف به الملائكة طواف البشر بهذا البيت- اسمه الضراح- و أن هذا البيت تحته على خط مستقيم- و أنه المراد بقوله تعالى وَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ- أقسم سبحانه به لشرفه و منزلته عنده-
و في الحديث أن آدم لما قضى مناسكه- و طاف بالبيت لقيته الملائكة فقالت يا آدم- لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام
قال مجاهد- إن الحاج إذا قدموا مكة استقبلتهم الملائكة- فسلموا على ركبان الإبل- و صافحوا ركبان الحمير و اعتنقوا المشاة اعتناقا- . من سنة السلف أن يستقبلوا الحاج- و يقبلوا بين أعينهم و يسألوهم الدعاء لهم- و يبادروا ذلك قبل أن يتدنسوا بالذنوب و الآثام- .
و في الحديث أن الله تعالى قد وعد هذا البيت- أن يحجه في كل سنة ستمائة ألف- فإن نقصوا أتمهم الله بالملائكة- و أن الكعبة تحشر كالعروس المزفوفة- و كل من حجها متعلق بأستارها يسعون حولها- حتى تدخل الجنة فيدخلون معها و في الحديث أن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها إلا الوقوف بعرفة- و فيه أعظم الناس ذنبا من وقف بعرفة- فظن أن الله لا يغفر له – . عمر بن ذر الهمداني- لما قضى مناسكه أسند ظهره إلى الكعبة- و قال مودعا للبيت- ما زلنا نحل إليك عروة و نشد إليك أخرى- و نصعد لك أكمة و نهبط أخرى- و تخفضنا أرض و ترفعنا أخرى حتى أتيناك- فليت شعري بم يكون منصرفنا- أ بذنب مغفور فأعظم بها من نعمة- أم بعمل مردود فأعظم بها من مصيبة- فيا من له خرجنا و إليه‏ قصدنا و بحرمه أنخنا ارحم- يا معطي الوفد بفنائك فقد أتيناك بها معراة جلودها- ذابلة أسنمتها نقبة أخفافها- و إن أعظم الرزية أن نرجع و قد اكتنفتنا الخيبة- اللهم و إن للزائرين حقا فاجعل حقنا عليك غفران ذنوبنا- فإنك جواد كريم ماجد لا ينقصك نائل و لا يبخلك سائل- . ابن جريج- ما ظننت أن الله ينفع أحدا بشعر عمر بن أبي ربيعة- حتى كنت باليمن فسمعت منشدا ينشد قوله-
بالله قولا له في غير معتبة
ما ذا أردت بطول المكث في اليمن‏

إن كنت حاولت دنيا أو ظفرت بها
فما أخذت بترك الحج من ثمن‏

– . فحركني ذلك على ترك اليمن و الخروج إلى مكة- فخرجت فحججت- . سمع أبو حازم امرأة حاجة ترفث في كلامها- فقال يا أمة الله أ لست حاجة- أ لا تتقين الله فسفرت عن وجه صبيح- ثم قالت له أنا من اللواتي قال فيهن العرجي-

أماطت كساء الخز عن حر وجهها
و ردت على الخدين بردا مهلهلا

من اللاء لم يحججن يبغين حسبة
و لكن ليقتلن البري‏ء المغفلا

– . فقال أبو حازم- فأنا أسأل الله ألا يعذب هذا الوجه بالنار- فبلغ ذلك سعيد بن المسيب فقال رحم الله أبا حازم- لو كان من عباد العراق- لقال لها اعزبي يا عدوة الله- و لكنه ظرف نساك الحجاز

فصل في الكلام على السجع

و اعلم أن قوما من أرباب علم البيان عابوا السجع- و أدخلوا خطب أمير المؤمنين ع في جملة ما عابوه- لأنه يقصد فيها السجع- و قالوا إن الخطب الخالية من السجع- و القرائن و الفواصل- هي خطب العرب- و هي المستحسنة الخالية من التكلف- كخطبة النبي ص في حجة الوداع و هي الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره و نتوب إليه- و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا- من يهد الله فلا مضل له و من يضلل الله فلا هادي له- و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له- و أشهد أن محمدا عبده و رسوله- أوصيكم عباد الله بتقوى الله- و أحثكم على العمل بطاعته- و أستفتح الله بالذي هو خير- أما بعد أيها الناس اسمعوا مني أبين لكم- فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا- في موقفي هذا- أيها الناس إن دماءكم و أموالكم عليكم حرام- إلى أن تلقوا ربكم- كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا- ألا أ هل بلغت اللهم اشهد- من كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها- و إن ربا الجاهلية موضوع- و أول ربا أبدأ به ربا العباس بن عبد المطلب- و إن دماء الجاهلية موضوعة- و أول دم أبدأ به- دم آدم بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب- و إن مآثر الجاهلية موضوعة غيرالسدانة و السقاية- و العمد قود- و شبه العمد ما قتل بالعصا و الحجر فيه مائة بعير- فمن ازداد فهو من الجاهلية- أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه- و لكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك- فيما تحتقرون من أعمالكم- أيها الناس إنما النسي‏ء زيادة في الكفر- يضل به الذين كفروا يحلونه عاما و يحرمونه عاما- و إن الزمان قد استدار- كهيئته يوم خلق الله السموات و الأرض- و إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا- في كتاب الله يوم خلق السموات و الأرض- منها أربعة حرم ثلاثة متواليات و واحد فرد- ذو القعدة و ذو الحجة و محرم و رجب- الذي بين جمادى و شعبان- ألا هل بلغت- أيها الناس إن لنسائكم عليكم حقا و لكم عليهن حقا- فعليهن ألا يوطئن فرشكم غيركم- و لا يدخلن بيوتكم أحدا تكرهونه إلا بإذنكم- و لا يأتين بفاحشة- فإن فعلن فقد أذن لكم- أن تهجروهن في المضاجع و تضربوهن- فإن انتهين و أطعنكم- فعليكم كسوتهن و رزقهن بالمعروف- فإنما النساء عندكم عوان- لا يملكن لأنفسهن شيئا- أخذتموهن بأمانة الله- و استحللتم فروجهن بكلمة الله- فاتقوا الله في النساء و استوصوا بهن خيرا-

أيها الناس إنما المؤمنون إخوة- و لا يحل لامرئ مال أخيه إلا على طيب نفس- ألا هل بلغت اللهم اشهد- ألا لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض- فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا- كتاب الله ربكم- ألا هل بلغت اللهم اشهد- أيها الناس إن ربكم واحد و إن أباكم واحد- كلكم لآدم و آدم من تراب- إن أكرمكم عند الله أتقاكم- و ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى- ألا فليبلغ الشاهد الغائب- أيها الناس إن الله قسم لكل وارث نصيبه من الميراث- و لا تجوز وصية في أكثر من الثلث- و الولد للفراش و للعاهر الحجر- من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فهو ملعون- لا يقبل الله منه صرفا و لا عدلا- و السلام عليكم و رحمة الله عليكم
– . و اعلم أن السجع لو كان عيبا- لكان كلام الله سبحانه معيبا لأنه مسجوع- كله ذو فواصل و قرائن- و يكفي هذا القدر وحده مبطلا لمذهب هؤلاء- فأما خطبة رسول الله ص هذه- فإنها و إن لم تكن ذات سجع- فإن أكثر خطبه مسجوع-
كقوله إن مع العز ذلا و إن مع الحياة موتا- و إن مع الدنيا آخرة و إن لكل شي‏ء حسابا- و لكل حسنة ثوابا و لكل سيئة عقابا- و إن على كل شي‏ء رقيبا- و إنه لا بد لك من قرين يدفن معك- هو حي و أنت ميت- فإن كان كريما أكرمك و إن كان لئيما أسلمك- ثم لا يحشر إلا معك و لا تبعث إلا معه و لا تسأل إلا عنه- فلا تجعله إلا صالحا فإنه إن صلح أنست به- و إن فسد لم تستوحش إلا منه و هو عملك
– . فأكثر هذا الكلام مسجوع كما تراه- و كذلك خطبه الطوال كلها- و أما كلامه‏ القصير فإنه غير مسجوع- لأنه لا يحتمل السجع- و كذلك القصير من كلام أمير المؤمنين ع- . فأما قولهم إن السجع يدل على التكلف- فإن المذموم هو التكلف الذي تظهر سماجته- و ثقله للسامعين- فأما التكلف المستحسن فأي عيب فيه- أ لا ترى أن الشعر نفسه لا بد فيه من تكلف إقامة الوزن- و ليس لطاعن أن يطعن فيه بذلك- . و احتج عائبو السجع بقوله ع لبعضهم منكرا عليه- أ سجعا كسجع الكهان- و لو لا أن السجع منكر لما أنكر ع سجع الكهان و أمثاله- فيقال لهم إنما أنكر ع السجع الذي يسجع الكهان أمثاله- لا السجع على الإطلاق- و صورة الواقعة أنه ع أمر في الجنين بغرة- فقال قائل أ أدي من لا شرب و لا أكل- و لا نطق و لا استهل- و مثل هذا يطل فأنكر ع ذلك- لأن الكهان كانوا يحكمون في الجاهلية- بألفاظ مسجوعة- كقولهم حبة بر في إحليل مهر- و قولهم عبد المسيح على جمل مشيح- لرؤيا الموبذان و ارتجاس الإيوان- و نحو ذلك من كلامهم- و كان ع قد أبطل الكهانة و التنجيم و السحر و نهى عنها- فلما سمع كلام ذلك القائل أعاد الإنكار- و مراده به تأكيد تحريم العمل على أقوال الكهنة- و لو كان ع قد أنكر السجع لما قاله- و قد بينا أن كثيرا من كلامه مسجوع و ذكرنا خطبته- . و من كلامه ع المسجوع-
خبر ابن مسعود رحمه الله تعالى قال قال رسول الله ص استحيوا من الله حق الحياء- فقلنا إنا لنستحيي يا رسول الله من الله تعالى- فقال ليس ذلك ما أمرتكم به- و إنما الاستحياء من الله أن تحفظ الرأس‏

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي‏ الحديد)، ج 1 ، صفحه‏ى 130

و ما وعى- و البطن و ما حوى و تذكر الموت و البلى- و من أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا
– . و من ذلك
كلامه المشهور لما قدم المدينة ع أول قدومه إليها أيها الناس أفشوا السلام و أطعموا الطعام- و صلوا الأرحام و صلوا بالليل و الناس نيام- تدخلوا الجنة بسلام
و عوذ الحسن ع- فقال أعيذك من الهامة و السامة و كل عين لامة
– و إنما أراد ملمة فقال لامة لأجل السجع- . و كذلك
قوله ارجعن مأزورات غير مأجورات
– و إنما هو موزورات بالواو

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي‏ الحديد)، ج 1 ، صفحه‏ى53- 130