نامه 29 شرح ابن میثم بحرانی

و من كتاب له عليه السّلام إلى أهل البصرة

وَ قَدْ كَانَ مِنِ انْتِشَارِ حَبْلِكُمْ وَ شِقَاقِكُمْ- مَا لَمْ تَغْبَوْا عَنْهُ- فَعَفَوْتُ عَنْ مُجْرِمِكُمْ وَ رَفَعْتُ السَّيْفَ عَنْ مُدْبِرِكُمْ- وَ قَبِلْتُ مِنْ مُقْبِلِكُمْ- فَإِنْ خَطَتْ بِكُمُ‏ الْأُمُورُ الْمُرْدِيَةُ- وَ سَفَهُ الْآرَاءِ الْجَائِرَةِ إِلَى مُنَابَذَتِي وَ خِلَافِي- فَهَا أَنَا ذَا قَدْ قَرَّبْتُ جِيَادِي وَ رَحَلْتُ رِكَابِي- وَ لَئِنْ أَلْجَأْتُمُونِي إِلَى الْمَسِيرِ إِلَيْكُمْ لَأُوقِعَنَّ بِكُمْ وَقْعَةً- لَا يَكُونُ يَوْمُ الْجَمَلِ إِلَيْهَا إِلَّا كَلَعْقَةِ لَاعِقٍ- مَعَ أَنِّي عَارِفٌ لِذِي الطَّاعَةِ مِنْكُمْ فَضْلَهُ- وَ لِذِي النَّصِيحَةِ حَقَّهُ- غَيْرُ مُتَجَاوِزٍ مُتَّهَماً إِلَى بَرِيٍّ وَ لَا نَاكِثاً إِلَى وَفِيٍّ

اللغة

أقول: غبت عن الشي‏ء و غبته: إذا لم تفطن له، و المردية: المهلكة. و الجائرة: المنحرفة عن الصواب. و المنابذة: المخالفة و المراماة بالعهد و البيعة.

المعنى

و قد بدء في هذا الفصل بوضع ذنوبهم و تقريرها عليهم ليحسن عقيبها العفو أو المؤاخذة. و استعار لفظ الحبل لبيعتهم إيّاه، و لفظ الانتشار لنكثهم. وجه الاستعارة الأولى كون البيعة سببا جامعا لها و ناظما لامورهم و متمسّكا يوصل إلى رضاه اللّه كالحبل الناظم لما يربط به، و وجه الثانية ظاهر. و نبّه بقوله: ما لم تغبوا عنه. على علمهم بما فعلوه و تعهّدهم لفعله ليتأكّد عليهم الحجّة. ثمّ لمّا قرّر ذنوبهم أردفها بذكر امور قابلها بها كرما و هي العفو عن مجرمهم و رفع السيف عمّن أدبر منهم و قبول من أقبل إليه منهم و الرضا عنه. ثمّ أردف ذلك بوعيدهم بكونه مستعدّا لقتالهم و إيقاعه بهم وقعة يستصغر معها وقعة الجمل إن لو عادوا إلى الفتنة ثانيا. و استعار لفظ الخطو لسوق الامور المهلكة و سفه آرائهم الجايرة بهم إلى منا بذته و محاربته ثانيا. و وجه المشابهة تأدّيها بهم إلى خلافه كتأدّي القدم بصاحبها إلى غايته. و تقدير الشرط فإن عدتم إلى خلافي فها أنا مستعدّ لكم. و كنّى بتقريب جياده و ترحيل ركابه عن كونه مستعدّا للكرّة عليهم. و رحّلتها: شدّدت الرحال على ظهورها. و يكفى ذلك في وعيدهم على خلافه لأنّ مجرّد خلافهم عليه لا يستلزم وجوب إيقاع الوقعة بهم لاحتمال أن يرجعوا و يتوبوا بوعيده أو بعلمهم ببقائه على الاستعداد لحربهم و الإيقاع بهم فلذلك جعل الشرط في وعيده بالإيقاع بهم أن يلجئوه إلى المسير إليهم و محاربتهم، و ذلك بأن يعلم أنّ الأمر لا يستقيم إلّا بالإيقاع بهم فيحمله ضرورة حفظ الدين على ذلك.

و قوله: في وصف تلك الوقعة لا يكون يوم الجمل. إلى قوله: لا عق. كناية عن غاية شدّة إيقاعه بهم. و وجه تشبيه وقعة الجمل بالنسبة إليها باللعقة هو الحقارة و الصغر. ثمّ لمّا توعّدهم بما يخشى من الوعيد أردفه بما يرجى معه من ذكر اعترافه بفضل ذي الطاعة و بحقّ ذي النصيحة منهم و أنّه غير متجاوز متّهما بعقوبة إلى بري‏ء و لا ناكثا بعهده إلى وفيّ به لئلّا تشتدّ عليهم و طأته فيئسوا من رحمته فيشتدّ نفارهم منه، و يكون ذلك داعية فسادهم.

شرح نهج البلاغة (ابن ميثم بحراني)، ج 4 ، صفحه‏ ى 447

 

نامه 28 شرح ابن میثم بحرانی

و من كتاب له عليه السّلام إلى معاوية جوابا، و هو من محاسن الكتب

أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ أَتَانِي كِتَابُكَ- تَذْكُرُ فِيهِ اصْطِفَاءَ اللَّهِ مُحَمَّداً ص‏ لِدِينِهِ- وَ تَأْيِيدَهُ إِيَّاهُ لِمَنْ أَيَّدَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ- فَلَقَدْ خَبَّأَ لَنَا الدَّهْرُ مِنْكَ عَجَباً- إِذْ طَفِقْتَ تُخْبِرُنَا بِبَلَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا- وَ نِعْمَتِهِ عَلَيْنَا فِي نَبِيِّنَا- فَكُنْتَ فِي ذَلِكَ كَنَاقِلِ التَّمْرِ إِلَى هَجَرَ- أَوْ دَاعِي مُسَدِّدِهِ إِلَى النِّضَالِ- وَ زَعَمْتَ أَنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ فِي الْإِسْلَامِ فُلَانٌ وَ فُلَانٌ- فَذَكَرْتَ أَمْراً إِنْ تَمَّ اعْتَزَلَكَ كُلُّهُ- وَ إِنْ نَقَصَ لَمْ يَلْحَقْكَ ثَلْمُهُ- وَ مَا أَنْتَ وَ الْفَاضِلَ وَ الْمَفْضُولَ وَ السَّائِسَ وَ الْمَسُوسَ- وَ مَا لِلطُّلَقَاءِ وَ أَبْنَاءِ الطُّلَقَاءِ- وَ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ- وَ تَرْتِيبَ دَرَجَاتِهِمْ وَ تَعْرِيفَ طَبَقَاتِهِمْ- هَيْهَاتَ لَقَدْ حَنَّ قِدْحٌ لَيْسَ مِنْهَا- وَ طَفِقَ يَحْكُمُ فِيهَا مَنْ عَلَيْهِ الْحُكْمُ لَهَا- أَ لَا تَرْبَعُ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ عَلَى ظَلْعِكَ- وَ تَعْرِفُ قُصُورَ ذَرْعِكَ- وَ تَتَأَخَّرُ حَيْثُ أَخَّرَكَ الْقَدَرُ- فَمَا عَلَيْكَ غَلَبَةُ الْمَغْلُوبِ وَ لَا ظَفَرُ الظَّافِرِ- وَ إِنَّكَ لَذَهَّابٌ فِي التِّيهِ رَوَّاغٌ عَنِ الْقَصْدِ- أَ لَا تَرَى غَيْرَ مُخْبِرٍ لَكَ- وَ لَكِنْ بِنِعْمَةِ اللَّهِ أُحَدِّثُ- أَنَّ قَوْماً اسْتُشْهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَ الْأَنْصَارِ- وَ لِكُلٍّ فَضْلٌ- حَتَّى إِذَا اسْتُشْهِدَ شَهِيدُنَا قِيلَ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ- وَ خَصَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ص بِسَبْعِينَ تَكْبِيرَةً عِنْدَ صَلَاتِهِ عَلَيْهِ أَ وَ لَا تَرَى أَنَّ قَوْماً قُطِّعَتْ أَيْدِيهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ- وَ لِكُلٍّ فَضْلٌ- حَتَّى إِذَا فُعِلَ بِوَاحِدِنَا مَا فُعِلَ بِوَاحِدِهِمْ- قِيلَ الطَّيَّارُ فِي الْجَنَّةِ وَ ذُو الْجَنَاحَيْنِ- وَ لَوْ لَا مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ تَزْكِيَةِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ- لَذَكَرَ ذَاكِرٌ فَضَائِلَ جَمَّةً تَعْرِفُهَا قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ- وَ لَا تَمُجُّهَا آذَانُ السَّامِعِينَ- فَدَعْ عَنْكَ مَنْ مَالَتْ بِهِ الرَّمِيَّةُ- فَإِنَّا صَنَائِعُ رَبِّنَا وَ النَّاسُ بَعْدُ صَنَائِعُ لَنَا- لَمْ يَمْنَعْنَا قَدِيمُ عِزِّنَا- وَ لَا عَادِيُّ طَوْلِنَا عَلَى قَوْمِكَ أَنْ خَلَطْنَاكُمْ بِأَنْفُسِنَا- فَنَكَحْنَا وَ أَنْكَحْنَا- فِعْلَ الْأَكْفَاءِ وَ لَسْتُمْ هُنَاكَ- وَ أَنَّى يَكُونُ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَ مِنَّا النَّبِيُّ وَ مِنْكُمُ الْمُكَذِّبُ- وَ مِنَّا أَسَدُ اللَّهِ وَ مِنْكُمْ أَسَدُ الْأَحْلَافِ- وَ مِنَّا سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَ مِنْكُمْ صِبْيَةُ النَّارِ- وَ مِنَّا خَيْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ وَ مِنْكُمْ حَمَّالَةُ الْحَطَبِ- فِي كَثِيرٍ مِمَّا لَنَا وَ عَلَيْكُمْ- فَإِسْلَامُنَا مَا قَدْ سُمِعَ وَ جَاهِلِيَّتُنَا لَا تُدْفَعُ- وَ كِتَابُ اللَّهِ يَجْمَعُ لَنَا مَا شَذَّ عَنَّا- وَ هُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى- وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى‏ بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ- وَ قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ- وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا- وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ- فَنَحْنُ مَرَّةً أَوْلَى بِالْقَرَابَةِ وَ تَارَةً أَوْلَى بِالطَّاعَةِ- وَ لَمَّا احْتَجَّ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى الْأَنْصَارِ- يَوْمَ السَّقِيفَةِ بِرَسُولِ اللَّهِ ص فَلَجُوا عَلَيْهِمْ- فَإِنْ يَكُنِ الْفَلَجُ بِهِ فَالْحَقُّ لَنَا دُونَكُمْ- وَ إِنْ يَكُنْ بِغَيْرِهِ فَالْأَنْصَارُ عَلَى دَعْوَاهُمْ- وَ زَعَمْتَ أَنِّي لِكُلِّ الْخُلَفَاءِ حَسَدْتُ وَ عَلَى كُلِّهِمْ بَغَيْتُ- فَإِنْ يَكُنْ ذَلِكَ كَذَلِكَ‏ فَلَيْسَتِ الْجِنَايَةُ عَلَيْكَ- فَيَكُونَ الْعُذْرُ إِلَيْكَ-
وَ تِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا وَ قُلْتَ إِنِّي كُنْتُ أُقَادُ- كَمَا يُقَادُ الْجَمَلُ الْمَخْشُوشُ حَتَّى أُبَايِعَ- وَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ أَرَدْتَ أَنْ تَذُمَّ فَمَدَحْتَ- وَ أَنْ تَفْضَحَ فَافْتَضَحْتَ- وَ مَا عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْ غَضَاضَةٍ فِي أَنْ يَكُونَ مَظْلُوماً- مَا لَمْ يَكُنْ شَاكّاً فِي دِينِهِ وَ لَا مُرْتَاباً بِيَقِينِهِ- وَ هَذِهِ حُجَّتِي إِلَى غَيْرِكَ قَصْدُهَا- وَ لَكِنِّي أَطْلَقْتُ لَكَ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا سَنَحَ مِنْ ذِكْرِهَا- ثُمَّ ذَكَرْتَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِي وَ أَمْرِ عُثْمَانَ- فَلَكَ أَنْ تُجَابَ عَنْ هَذِهِ لِرَحِمِكَ مِنْهُ- فَأَيُّنَا كَانَ أَعْدَى لَهُ وَ أَهْدَى إِلَى مَقَاتِلِهِ أَ مَنْ بَذَلَ لَهُ نُصْرَتَهُ فَاسْتَقْعَدَهُ وَ اسْتَكَفَّهُ- أَمَّنِ اسْتَنْصَرَهُ فَتَرَاخَى عَنْهُ وَ بَثَّ الْمَنُونَ إِلَيْهِ- حَتَّى أَتَى قَدَرُهُ عَلَيْهِ- كَلَّا وَ اللَّهِ لَ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ- وَ الْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا- وَ لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا وَ مَا كُنْتُ لِأَعْتَذِرَ مِنْ أَنِّي كُنْتُ أَنْقِمُ عَلَيْهِ أَحْدَاثاً- فَإِنْ كَانَ الذَّنْبُ إِلَيْهِ إِرْشَادِي وَ هِدَايَتِي لَهُ- فَرُبَّ مَلُومٍ لَا ذَنْبَ لَهُ- وَ قَدْ يَسْتَفِيدُ الظِّنَّةَ الْمُتَنَصِّحُ‏ – وَ مَا أَرَدْتُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ‏ وَ ما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ وَ ذَكَرْتَ أَنَّهُ لَيْسَ لِي وَ لِأَصْحَابِي عِنْدَكَ إِلَّا السَّيْفُ- فَلَقَدْ أَضْحَكْتَ بَعْدَ اسْتِعْبَارٍ- مَتَى أَلْفَيْتَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَنِ الْأَعْدَاءِ نَاكِلِينَ- وَ بِالسَّيْفِ مُخَوَّفِينَ- فَلَبِّثْ قَلِيلًا يَلْحَقِ الْهَيْجَا حَمَلْ‏ – فَسَيَطْلُبُكَ مَنْ تَطْلُبُ- وَ يَقْرُبُ مِنْكَ مَا تَسْتَبْعِدُ- وَ أَنَا مُرْقِلٌ نَحْوَكَ فِي جَحْفَلٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَ الْأَنْصَارِ- وَ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ- شَدِيدٍ زِحَامُهُمْ سَاطِعٍ قَتَامُهُمْ- مُتَسَرْبِلِينَ سَرَابِيلَ الْمَوْتِ- أَحَبُّ اللِّقَاءِ إِلَيْهِمْ لِقَاءُ رَبِّهِمْ- وَ قَدْ صَحِبَتْهُمْ ذُرِّيَّةٌ بَدْرِيَّةٌ وَ سُيُوفٌ هَاشِمِيَّةٌ- قَدْ عَرَفْتَ مَوَاقِعَ نِصَالِهَا- فِي أَخِيكَ وَ خَالِكَ وَ جَدِّكَ وَ أَهْلِكَ- وَ ما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ

أقول: هذا الكتاب ملتقط من كتاب ذكر السيّد منه فصلا سابقا، و هو قوله: فأراد قومنا إهلاك نبيّنا. و قد ذكرنا كتاب معاوية الّذي هو هذا الكتاب جواب له، و ذكرنا الكتاب له بأسره هناك و إن كان فيه اختلاف ألفاظ يسيرة بين الروايات.

اللغة
و خبأت الشي‏ء: سترته. و طفق: أخذ و جعل. و هجر: مدينة من بلاد البحرين. و النضال: المراماة. و المسدّد: الّذي يقوّم غيره لأمر و يهديه إليه. و اعتزلك: تباعد عنك. و الثلم: الكسر. و الطليق: من اطلق بعد الأسر. و الربع: الوقوف. و الظلع: العرج. و الذرع: بسط اليد. و التيه: الضلال و التحيّر في المفاوز. و الروّاغ: كثير الميل عن القصد. و الجمّة: الكثيرة. و مجّ الماء من فيه: ألقاه. و الرميّة. الصيد يرمى، و الصنيعة: الحسنة. و الفلج:الفوز. و الشكاة و الشكيّة و الشكاية: ظاهرة و الظاهر: الزائل و المخشوش: الّذي جعل في أنفه خشاش، و هو خشبة تدخل في أنف البعير ليقاد بها. و الغضاضة: الذلّة و المنقصة. و سنح: اعترض. و أعدى: أشدّ عدوانا. و المعّوقين: المثبّطين. و الظنّة: التهمة. و المنصّح: المبالغ في النصيحة. و الاستعبار: البكاء. و ألفيت كذا: وجدته. و النكول: التأخّر جبنا. و الإرقال: ضرب من السير السريع. و الجحفل: الجيش العظيم. و الساطع: المرتفع. و القتام: الغبار. و السرابيل: القمصان. و النصال: السيوف.

المعنى
و قد أجاب عليه السّلام عن كلّ فصل من كتاب معاوية بفصل. و الكتاب أفصح ما اختار السيّد- رحمه اللّه- من الكتب و فيه نكت:

الاولى: أنّه استعار لفظ الخبأ
لما ستره الدهر في وجود معاوية من العجب ثمّ فسّر العجب فقال: إذ طفقت. إلى قوله: النضال. و وجه العجب هنا أنّه أخبر أهل بيت النبيّ بحال النبيّ و ما أنعم اللّه به عليه من اصطفائه له لدينه و تأييده بأصحابه مع علمهم البالغ بحاله و كونهم أولى بالإخبار عنها. و ضرب له في ذلك مثلين: أحدهما: قوله: كنا قل التمر إلى هجر. و أصل هذا المثل أنّ رجلا قدم من هجر إلى البصرة بمال اشترى به شيئا للربح فلم يجد فيها أكسد من التمر فاشترى بماله تمرا و حمله إلى هجر و ادّخره في البيوت ينتظر به السعر فلم يزدد إلّا رخصا حتّى فسد جميعه و تلف ماله فضرب مثلا لمن يحمل الشي‏ء إلى معدنه لينتفع به فيه، و وجه مطابقة المثل هنا أنّ معاوية حمل الخبر بما أخبر به إلى معدنه الّذي هو أولى به منه كحامل التمر إلى معدنه. و هجر معروفة بكثرة التمر حتّى أنّه ربما يبلغ خمسين جلّة بدينار- و وزن الجلّة مائة رطل، فذلك خمسة ألف رطل- و لم يسمع مثل ذلك في بلاد اخرى. و هجر اسم قد يذكّر لقصد الموضع و لذلك صرفها شاعرهم حيث يقول:
و خطّها الخطّ إرقالا و قال قلى: اوّل لا نادما أهجر قرى هجر
الثانية: أنّه شبّه بداعى مسدّده إلى النضال، و وجه التشبيه هنا أيضا حمل الخبر إلى من هو أولى به منه كما يدعو الإنسان مسدّده و استاده في الرمى إلى المراماة، و مسدّده أولى بأن يدعوه إلى ذلك.
الثانية: أنّ معاوية لمّا اقتصّ حال أصحابه و ذكر الأفضل فالأفضل منهم
معرّضا بأفضليّتهم عليه مع عدم مشاركتهم له في الفضل أجابه بأنّ ذلك التفضيل و الترتيب إمّا أن يتمّ أولا. فإن تمّ فهو بمعزل عنك. إذ ليس لك نصيب و لا شرك في درجاتهم و مراتبهم و سابقتهم في الإسلام فيكون إذن خوضك فيه خوضا فيما لا يعنيك، و إن نقص فليس عليك من نقصانه عار و لا يلحقك منه و هن. فخوضك فيه أيضا فضول. و قوله: و ما أنت. إلى و ما للطلقاء. استفهام على سبيل الاستحقار و الإنكار عليه أن يخوض على صغر شأنه و حقارته في هذه الامور الكبار. و المنقول أنّ أبا سفيان كان من الطلقاء فكذلك معاوية فهو طليق و ابن طليق. و قوله: هيهات. استبعاد لأهليّته لمثل هذا الحكم و ترتيب طبقات المهاجرين في الفضل. ثمّ ضرب له في حكميه ذلك مثلين آخرين: أحدهما: قوله: لقد حنّ قدح ليس منها، و أصله أنّ أحد قداح الميسر.
– إذ كان ليس من جوهر باقى القداح ثمّ أجاله المفيض- خرج له صوت تخالف أصواتها فيعرف به أنّه ليس من جملتها فضرب مثلا لمن يمدح قوما و يطريهم و يفتخر بهم مع أنّه ليس منهم، و تمثّل به عمر حين قال الوليد بن عقبة بن أبي معيط: أقبل من دون قريش. فقال عمر: حنّ قدح ليس منها.

الثاني: قوله: و طفق يحكم فيها من عليه الحكم لها. يضرب لمن يحكم على قوم و فيهم و هو من أراذلهم، و ليس للحكم بأهل بل هم أولى منه. إذ شأن الأشراف أن يكونوا حكّاما. و مراده أنّ معاوية ليس من القوم الّذين حكم بتفضيل بعضهم‏ على بعض في شي‏ء، و ليس أهلا للحكم فيهم.

الثالثة: قوله: ألا تربع أيّها الإنسان على ظلعك.
استفهام على سبيل التنبيه له على قصوره عن درجة السابقين و التقريع له على ادّعائه لها: أى أنّه فليترفّق بنفسك و لا يكلّفها عليه و ليقف بها عن مجاراة أهل الفضل حال ظلعك. و استعار لفظ الظلع لقصوره، و وجه المشابهة قصوره عن لحوق رتبة السابقين في الفضل كقصور الظالع عن شأو الضليع، و كذلك قوله: و تعرف قصور ذرعك، و قصور ذرعه كناية عن قصور قوّته و عجزه عن تناول تلك المرتبة. و حيث أخّره القدر إشارة إلى مرتبته النازلة الّتي جرى القدر بها أن تكون نازلة عن مراتب السابقين. و قد أمره بالتأخّر فيها و الوقوف عندها تقريعا و توبيخا بها. و قوله: فما عليك. إلى قوله: الظافر. في قوّة احتجاج على وجوب تأخّره بحسب هذه المرتبة بقياس ضمير من الشكل الأوّل، و المذكور في قوّة صغراه و تقديرها: فغلب المغلوب في هذا الأمر الكبير ليس عليك منه شي‏ء، و تقدير الكبرى: و كل من كان كذلك فيجب تأخّره عنه و اعتزاله إيّاه و إلّا لكان سفيها بدخوله فيما لا يعنيه.

الرابعة: قوله: و إنّك لذهّاب في التيه
أى كثير الذهاب و التوغّل في الضلال عن معرفة الحقّ، كثير العدول عن العدل و الصراط المستقيم في حقّنا و عن الفرق بيننا و بينكم و معرفة فضائلنا و رذائلكم. ثمّ نبّهه على وجه الفرق بينهم و بين من عداهم من المهاجرين و الأنصار بذكر أفضليّة بيته الّتي انفردوا بها دونهم في الحياة و بعد الممات بعد أن قرّر أنّ لكلّ من الصحابة فضلا لتثبت الأفضليّة لبيته بالقياس إليهم، و ذلك قوله: ألا ترى. إلى قوله: الجناحين. فمن ذلك أفضليّتهم في الشهادة. و شهيدهم الّذي أشار إليه عمّه حمزة بن عبد المطّلب- رضى اللّه عنه- و أشار إلى وجه أفضليّته بالنسبة إلى ساير الشهداء من وجهين: أحدهما: قولىّ و هو تسميته الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سيّد الشهداء. و الثاني: فعلىّ و هو أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خصّه بسبعين تكبيرة عند صلاته‏ عليه في أربع عشرة صلاة، و ذلك أنّه كان كلّما كبّر عليه خمسا حضرت جماعة اخرى من الملائكة فصلّى بهم عليه أيضا، و ذلك من خصائص حمزة- رضى اللّه عنه- و شرف بنى هاشم في حياتهم و موتهم، و منه أفضليّتهم لما فعل ببعضهم من التمثيل به كما فعل بأخيه جعفر بن أبي طالب من قطع يديه فسمّاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بذلك الاعتبار ذا الجناحين و الطيّار في الجنّة. و من المنقول عن علىّ عليه السّلام من الشعر فيه و الفخر إلى معاوية:
و جعفر الّذي يضحى و يمسى يطير مع الملائكة ابن امّي‏

و قد ذكرنا مقتلهما و قاتلهما من قبل. ثمّ أشار إلى أنّ له فضايل جمّة تعرفها فيه قلوب المؤمنين و لا تمجّها آذانهم، و إنّما ترك تعديدها و ذكرها في معرض الفخر بها لنهى اللّه سبحانه عن تزكيته لنفسه، و الذاكر يعنى نفسه. و إنّما نكّره و لم يأت بالألف و اللام و لم ينسبه إلى نفسه لأنّ في ذلك صريح الدلالة على تزكيته لنفسه. و استعار لفظ المجّ لكراهيّة النفس لبعض ما تكرّر سماعه و إعراضها عنه فإنّها تصير كالقاذف له من الاذن كما يقذف الماجّ الماء. و قوله: فدع عنك من مالت به الرميّة. أى فدع عنك أصحاب الأغراض و المقاصد المفسدة و لا تلتفت إلى ما يقولون في حقّنا كعمرو بن العاص، و يحتمل أن تكون الإشارة إليه بعينه على طريقة قولهم: إيّاك أعنى فاسمعى يا جارة. و استعار لفظ الرميّة، و كنّى بها عن الامور الّتي تقصدها النفوس و ترميها بقصودها، و نسب الميل إليها لأنّها هى الجاذبة للإنسان و المايلة الحاملة على الفعل.

الخامسة: قوله: فإنّا صنايع ربّنا. إلى قوله. لنا.
و هذا تنبيه من وجه آخر على أفضليّتهم من جهة اختصاص اللّه سبحانه إيّاهم بالنعمة الجزيلة، و هى نعمة الرسالة و ما يستلزمه من الشرف و الفضل حتّى كان الناس عيالا لهم فيها، إذ كانت تلك النعمة و لوازمها إنّما وصلت إلى الناس بواسطتهم و منهم. و أكرم بها فضيلة و شرفا على ساير الخلق. و هذا التشبيه في قوّة صغرى من‏ الشكل الأوّل في معرض الافتخار و الاحتجاج على أنّه لا ينبغي لأحد أن يعارضهم في شرف أو يفاخرهم و ينافسهم في فضيلة، و تقدير الكبرى: و كلّ من كان بصفة أنّه صنيعة ربّه بلا واسطة و الناس بعده صنايع له و بواسطته فلا ينبغي لأحد من الناس أن يعارضه في فضل أو يجاريه في شرف. و يجوّز بلفظ الصنائع في الموضعين إطلاقا لاسم المقبول على القابل و الحالّ على المحلّ. ثمّ كثر ذلك المجاز، يقال: فلان صنيعة فلان. إذا اختصّه لموضع نعمته كقوله تعالى وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي«». و قوله: لم يمنعنا، إلى قوله: هناك. امتنان في معرض الافتخار أيضا. و عادىّ منسوب إلى عاد قوم هود، و النسبة إليه كناية عن القدم، و وجه الامتنان هو أنّهم لم يمتنعوا على فضلهم عليهم من خلطهم إيّاهم بأنفسهم في مناكحتهم. و فعل الأكفاء منصوب على المصدر عن فعل مضمر. و قوله: هناك. كناية عن مرتبة الكفاءة في النكاح: أى و لستم أهلا لتلك المرتبة، و الواو في و لستم للحال و العامل خلطناكم. ثمّ أشار إلى بيان ما ادّعاه من نفى كونهم أهلا لمخالطتهم بالمقابلة بين حال بنى هاشم و حال بنى اميّة ليظهر من تلك المقابلة رذيلة كلّ واحد ممّن ذكر من بنى اميّة بإزاء فضيلة كلّ واحد ممّن ذكر من بنى هاشم و بظهور فضائل الأفراد و رذائلهم يتبيّن نسبة البيتبين في الشرف و الخسّة.

فذكر النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قابله بالمكذّب له من بنى اميّة و هو أبو جهل بن هشام. و إليه الإشارة بقوله وَ ذَرْنِي وَ الْمُكَذِّبِينَ«» الآية. قيل: نزلت في المطلبين ببدر،- و كانوا عشرة- و هم أبو جهل، و عتبة و شيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس، و نبيه و منبّه ابنا الحجّاج، و أبو البخترى بن هشام، و النضر بن الحرث، و الحرث بن عامر، و ابىّ بن خلف، و زمعة بن الأسود. فذكر النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بفضيلته و هى النبوّة و ذكر أبا جهل برذيلته و هى تكذيبه. ثمّ أسد اللّه و هو حمزة بن عبد المطّلب وسمّاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بذلك لشجاعته و ذبّه عن دين اللّه. و قابله بأسد الأحلاف و هو أسد بن عبد العزّى و الأحلاف هم عبد مناف و زهرة و أسد و تيم و الحرث بن فهر، و سمّوا الأحلاف لأنّ بنى قصىّ أرادوا أن ينتزعوا بعض ما كان بأيدى بنى عبد الدار من اللواء و النداوة و الحجابة و الرفادة و هى كلّ شي‏ء كان فرضه قصىّ على قريش لطعام الحاجّ في كلّ سنة و لم يكن لهم إلّا السقاية فتحالفوا على حربهم و أعدّوا للقتال ثمّ رجعوا عن ذلك ناكصين و أقرّوا ما كان بأيديهم. ثمّ سيّدا- شياب أهل الجنّة و هما الحسن و الحسين عليهما السّلام و قابلهما بصبية النار. و قيل: هم صبية عقبة بن أبى معيط حيث قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم له: لك و لهم النار.

و قيل: هم ولد مروان بن الحكم الّذين صاروا أهل النار عند البلوغ و كانوا صبية حين أخبر عليه السّلام بذلك.
ثمّ خير نساء العالمين و أراد فاطمة عليها السّلام و قابلها منهم بحمّالة الحطب و هى امّ جميل بنت حرب عمّة معاوية كانت تحمل حزم الشوك فتنشرها بالليل في طريق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليعقره. و عن قتادة أنّها كانت تمشى بالنميمة بين الناس فتلقى بينهم العداوة و تهيج نارها كما توقد النار بالحطب فاستعير لفظ الحطب لتلك النميمة للمشابهة المذكورة، و منه قولهم: فلان يحطب على فلان. إذا كان يغرى به. و قوله: في كثير. إلى قوله: و عليكم. أى و هذا الّذي ذكرناه من فضائلنا و رذائلكم قليل في كثير ممّا لنا من الفضايل و عليكم من الرذائل. قال: عليكم من الرذائل. لأنّ الامور بثمراتها و ما تستلزمه و ثمرة الرذائل على الشخص مضرّتها و تبعاتها. و قوله: فإسلامنا. إلى قوله: لا تدفع. إشارة إلى أنّ شرف بيته على غيره لا يختصّ به في الإسلام فقط فإنّ شرف بنى هاشم في الجاهليّة أيضا مشهور و مكارم أخلاقهم لا يدفعها دافع، و قد نبّهنا على ذلك في المقدّمات، و كما نقل عن جعفر بن أبي طالب لمّا أسلم قال له النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه شكر لك ثلاث خصال في الجاهليّة فما هى قال: يا رسول اللّه ما زنيت قطّ لأنّى قلت في نفسى: إنّ ما لا يرضاه العاقل لنفسه لا ينبغي أن يرضاه‏ لغيره تكرّما، و لا كذبت كذبة قطّ تأثّما، و لا شربت الخمر قطّ تذمّما لأنّه يذهب العقول. و قوله: و كتاب اللّه يجمع لنا ما شذّ عنّا. أى يوجب لنا بصريح حكمه و يجمع لنا ما شذّ عنّا من هذا الأمر و سلبناه و هو شروع في الاحتجاج على أولويّته من غيره بهذا الأمر من الخلفاء و من يطمع في الخلافة و بيّن ذلك من وجوه: أحدها: قوله تعالى وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى‏ بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ«» و وجه الاستدلال أنّه عليه السّلام من أخصّ اولى الأرحام بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كلّ من كان كذلك فهو أولى به و بالقيام مقامه مع كمال استعداده لذلك أمّا الصغرى فظاهرة و أمّا الكبرى فللآية. الثاني: قوله تعالى إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ«» الآية. و وجه الاستدلال أنّه عليه السّلام كان أقرب الخلق إلى اتّباع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أوّل من آمن به و صدّقه و أفضل من أخذ عنه الحكمة و فصل الخطاب كما بيّناه. و كلّ من كان كذلك فهو أولى بخلافته و القيام مقامه فيما جاء به الآية. فظهر إذن أنّه عليه السّلام أولى برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بمنصبه تارة من جهة قرابته و تارة من جهة طاعته و اتّباعه. الثالث: قوله: و لمّا احتجّ. إلى قوله: دعواهم. و هو إلزام لهم. و صورته أنّ الأنصار لمّا طلبوا الإمامة لأنفسهم و قالوا للمهاجرين: منّا أمير و منكم أمير. احتجّت المهاجرون عليهم برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أنّهم من شجرته الّتي أشار إلى كون الأئمّة منها بما رووه عنه من قوله: الأئمّة من قريش. فسلّموا لهم ذلك و غلبوا عليهم. فلا يخلو ذلك الغلب إمّا أن يكون لكونهم أقرب إليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الأنصار أو لغير ذلك، فإن كان الأوّل فأهل بيته أولى بذلك الحقّ لأنّهم أقرب إليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ممّن عداهم و هم ثمرة تلك الشجرة و غايتها و إن كان بغيره فحجّة الأنصار قائمة و دعواهم للإمامة باق، إذ لم يكن ما رووه من‏ الخبر دافعا لقولهم إلّا من جهة كونهم من قريش الموجب لهم لقربهم و بعد الأنصار عنه و قد فرض أنّ جهة الأقربيّة غير معتبرة هنا.

السادسة: جوابه عمّا ادّعاه بزعمه من حسده عليه السّلام لساير الخلفاء و بغيه عليهم، و تقرير الجواب أنّه لا يخلو إمّا أن يكون هذه الدعوى صادقة أو كاذبة فإن كانت صادقة كما زعمت فليست جنايتى عليك حتّى يكون عذرى عنها إليك بل ذلك فضول منك و خوض فيما لا يعنيك. و أكّد ذلك بالمثل. و البيت لأبى ذويب و أوّله:

و عيّرها الواشون أنّى احبّها               و تلك شكاة ظاهر عنك عارها

و يضرب لمن ينكر أمرا ليس منه في شي‏ء و لا يلزمه إنكاره.

السابعة: جوابه عمّا ادّعاه توبيخا له و غضّا من منصبه و هو قوده إلى البيعة للخلفاء قبله كما يقاد الجمل المخشوش
قهرا و كرها و إذلالا و هو وجه التشبيه فقلّب عليه السّلام تلك الدعوى و بيّن أنّ ذلك ليس ذمّا له بل مدحا، و لا فضيحة بل على مدّعيها، و أشار إلى كونها مدحا و ليست ذمّا بقوله: و ما على المسلم. إلى قوله: بيقينه. و وجه ذلك أنّه عليه السّلام لمّا كان ثابتا على اليقين التامّ في علومه مبرّء عن الريب و الشبهة في دينه فكان ذلك هو الكمال الحقّ و الفضل المبين الّذي لا نقصان معه لم يكن عليه غضاضة في ظلم غيره له و لم يلحقه بذلك نقصان و لا ذمّ بل كان انفراده بالثبات على الدين الخالص مع الاجتماع على ظلمه فضيلة تخصّه فيكون ذكرها مستلزما لمدحه و تعظيمه، و كذلك ليس في ذكرها فضيحة عليه، إذ الفضيحة هي إظهار عيب الإنسان و نقصه و حيث لا عيب فلا فضيحة، و أمّا أنّها فضيحة لمعاوية فلظهور نقصانه في عدم الفرق بين ما يمدح به و يذمّ. و قوله: و هذه حجّتى. إلى قوله: ذكرها. أى أنّ حجّتى هذه على كونى مظلوما في أخذى لبيعة غيرى لست أنت المقصود بها. إذ لست في هذا الأمر في شي‏ء فتخاطب فيه بل القصد بها غيرك، و أراد الّذين ظلموا و إنّما ذكرت لك منها بقدر ما دعت الحاجة إليه و سنح لى أن أذكره في جوابك.

الثامنة: جوابه عمّا ادّعاه عليه في أمر عثمان
و تأليبه و خذلانه و ذلك قوله: فلك أن تجاب عن هذه لرحمك. مع إنكاره عليه ما سبق من الكلام فإنّ فيه إرشادا عظيما لوضع الكلام مواضعه، و تنبيه على أنّه لا يجوز أن يخوض الإنسان فيما لا يعنيه. و قرب رحمه منه لكونه من بني اميّة. و حاصل جوابه أنّه عكّس عليه ما ادّعاه و بيّن أنّه هو الّذي كان عدوّه و خاذله فإنّه عليه السّلام كان ناصره و معرض نفسه للذبّ عنه فاستفهم عن أيّهما كان أعدى عليه و أهدى لمقاتله: أى لوجوه قتله و مواضعه من الآراء و الحيل استفهام توبيخ له، و أراد بقوله: أمن بذل نصرته. إلى قوله: فاستعقده و استكفّه. نفسه عليه السّلام، و ذلك أنّ عثمان كان متّهما له عليه السّلام بالدخول في أمره. فلمّا اشتدّ عليه الحصار بعث إليه و عرض نصرته. فقال: لا أحتاج إلى نصرتك لكن اقعد عنّى و كفّ شرّك. و ذكر نفسه بصفة بذل النصرة ليظهر خروجه ممّا نسب إليه من دمه و هو في قوّة صغرى قياس ضمير تقديرها: إنّي بذلت له نصرتي. و تقدير كبراه: و كلّ من بذل لغيره نصرته فليس من شأنه أن يتّهم بخذلانه و ينسب إلى المشاركة في دمه، و أشار إلى دخول معاوية في دمه بقوله: أمّن استنصره فتراخى عنه و بثّ المنون إليه. و ذلك أنّه بعث حال حصاره إلى الشام مستصرخا بمعاوية فلم يزل يعده و يتراخى عنه لطمعه في الأمر إلى أن قتل. و ذكر القدر و نسبة القتل إليه هاهنا مناسب لتبرّيه من دمه، و الكلام أيضا في قوّة صغرى قياس ضمير احتجّ به على أنّ معاوية هو الساعي في قتله، و تقديرها أنّك ممّن استنصره و استعان به فسوّفه و قعد عنه و بثّ المنون إليه و عوّق و عنه و ثبّط عن نصرته، و أشار إلى ذلك بقوله: لَوْ عَلِمَ اللَّهُ الآية بعد أن ردّ دعواه عن نفسه بقوله: كلّا: أى كلّا لم أكن أنا أعدى عليه و لا أهدى لمقاتله منك. و تقدير الكبرى: و كلّ من كان كذلك فهو أولى بالنسبة إلى دمه و السعي في قتله. و الآية نزلت في جماعة من المنافقين كانوا يثبّطون أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عنه.

التاسعة: قوله: و ما كنت اعتذر.
إشارة إلى ما عساه كان سببا لتوهّم كثير من الجهّال أنّه دخل في دمه و هو إنكاره عليه ما كان نقمه الناس عليه من أحداثه الّتي‏ أشرنا إليها قبل، و بيان أنّ ذلك ليس ممّا يعتذر عنه لأنّ ذلك كان إرشادا له و هداية فإن يكن ذلك هو الّذي توهّمه ذنبا إليه فلا منى عليه فربّ ملوم لا ذنب له و أنا ذلك الملوم، إذ لم يكن ما فعلته ذنبا، و قد يستفيد الظنّة المتنصّح و أنا ذلك المتنصّح إذ لم يكن قصدى إلّا إصلاح ذات البين بقدر الاستطاعة.
و قوله: فربّ ملوم لا ذنب له. مثل لأكتم بن صيفى و يضرب لمن قد ظهر للناس منه أمر أنكروه عليه و هم لا يعرفون حجّته و عذره فيه، و كذلك قوله: و قد يستفيد الظنّة المتنصّح يضرب مثلا لمن يبالغ في النصيحة حتّى يتّهم أنّه غاش. و صدر البيت:
و كم سقت في آثاركم من نصيحة          و قد يستفيد الظنّة المتنصّح‏

العاشرة: جوابه عن وعيده له بالحرب الّتي كنّى بالسيف عنها.
فقوله: فلقد أضحكت بعد استعبار. كناية عن أنّ وعيده لمثله عليه السّلام من أبلغ الأسباب المستلزمة لأبلغ عجب.
إذ كان الضحك بعد البكاء إنّما يكون لتعجّب بالغ غريب و هو كالمثل في معرض الاستهزاء به. و قيل: معناه لقد أضحك من سمع منك هذا تعجّبا بعد بكائه على الدين لتصرّفك به. و قوله: متى ألفيت. إلى آخره. استفهام له عن وقت وجدانه لبني عبد المطّلب بصفة النكول عن الحرب و الخوف من السيف استفهام إنكار لوقت وجدانهم كذلك في معرض التنزيه لهم عن الجبن و الفشل. و قوله:

فلبّث قليلا تلحق الهيجا حمل.  مثل يضرب للوعيد بالحرب. و أصله أنّ حمل بن بدر رجل من قشير اغير على إبل في الجاهليّة في حرب داحس و أغار و استنقذها. و قال:
لبّث قليلا يلحق الهيجا حمل              ما أحسن الموت إذ الموت نزل‏

و قيل: أصله أنّ مالك بن زهير توعّد حمل بن بدر. فقال حمل: لبّث قليلا يلحق الهيجا حمل. البيت. فارسل مثلا. ثمّ أتى و قتل مالكا، فظفر أخوه قيس بن زهير به و بأخيه حذيفة ففتلهما و قال:
شفيت النفس من حمل بن بدر              و سيفى من حذيفة قد شفانى‏

و قوله: فسيطلبك. إلى آخر. شروع في المقابلة بالوعيد بالسير الشديد إليه في الجيش العظيم، و وصفه بأوصاف تزلزل أركان العدوّ من شدّة الزحام و سطوح القتام. إلى آخره. و شديدا و متسربلين نصبا على الحال. و سربال مفعول به لمتسربلين. و سربال الموت كناية إمّا عن الدرع أو العدّة الّتي يلقون بها الموت و يخوضون في غمراته، و إمّا عن ملابسهم من الثياب أو الهيئات و الأحوال الّتي وطّنوا أنفسهم على القتل فيها كالأكفان لهم. و إنّما كان أحبّ اللقاء إليهم لقاء ربّهم لكمال يقينهم بما هم عليه من الدين الحقّ و ثقتهم بالوعد الإلهىّ الصادق. و الذريّة البدريّة الّتي صحبتهم إشارة إلى أولاد من كان من المسلمين مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم بدر، و قد ذكرنا أنّ أخاه المقتول حنظلة بن أبي سفيان و خاله الوليد بن عتبة و جدّه عتبة بن ربيعة إذ هو أبو هند امّ معاوية، و كنّى بالظالمين في الآية عن معاوية و أصحابه. و جميع ما ذكره من أوصاف الجحفل و ما يصحبه من الذرّية البدريّة و السيوف الهاشميّة و التذكير بمواقعها بمن وقعت به من أهله و وعيده أن يصيبه منها ما أصابهم من أبلغ ما يعدّ به الخطيب للانفعال و الخوف. و باللّه التوفيق.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحه‏ى 432

نامه27 شرح ابن میثم بحرانی

و من عهد له عليه السّلام إلى محمد بن أبى بكر، رضى اللّه عنه حين قلده مصر

القسم الأول
فَاخْفِضْ لَهُمْ جَنَاحَكَ وَ أَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ- وَ ابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ وَ آسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ وَ النَّظْرَةِ- حَتَّى لَا يَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ لَهُمْ- وَ لَا يَيْأَسَ‏ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ- فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُسَائِلُكُمْ مَعْشَرَ عِبَادِهِ- عَنِ الصَّغِيرَةِ مِنْ أَعْمَالِكُمْ وَ الْكَبِيرَةِ وَ الظَّاهِرَةِ وَ الْمَسْتُورَةِ- فَإِنْ يُعَذِّبْ فَأَنْتُمْ أَظْلَمُ وَ إِنْ يَعْفُ فَهُوَ أَكْرَمُ- وَ اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ- أَنَّ الْمُتَّقِينَ ذَهَبُوا بِعَاجِلِ الدُّنْيَا وَ آجِلِ الْآخِرَةِ- فَشَارَكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ- وَ لَمْ يُشَارِكْهُمْ أَهْلُ الدُّنْيَا فِي آخِرَتِهِمْ- سَكَنُوا الدُّنْيَا بِأَفْضَلِ مَا سُكِنَتْ وَ أَكَلُوهَا بِأَفْضَلِ مَا أُكِلَتْ- فَحَظُوا مِنَ الدُّنْيَا بِمَا حَظِيَ بِهِ الْمُتْرَفُونَ- وَ أَخَذُوا مِنْهَا مَا أَخَذَهُ الْجَبَابِرَةُ الْمُتَكَبِّرُونَ- ثُمَّ انْقَلَبُوا عَنْهَا بِالزَّادِ الْمُبَلِّغِ وَ الْمَتْجَرِ الرَّابِحِ- أَصَابُوا لَذَّةَ زُهْدِ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ- وَ تَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ جِيرَانُ اللَّهِ غَداً فِي آخِرَتِهِمْ- لَا تُرَدُّ لَهُمْ دَعْوَةٌ وَ لَا يَنْقُصُ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ لَذَّةٍ- فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللَّهِ الْمَوْتَ وَ قُرْبَهُ- وَ أَعِدُّوا لَهُ عُدَّتَهُ- فَإِنَّهُ يَأْتِي بِأَمْرٍ عَظِيمٍ وَ خَطْبٍ جَلِيلٍ- بِخَيْرٍ لَا يَكُونُ مَعَهُ شَرٌّ أَبَداً- أَوْ شَرٍّ لَا يَكُونُ مَعَهُ خَيْرٌ أَبَداً- فَمَنْ أَقْرَبُ إِلَى الْجَنَّةِ مِنْ عَامِلِهَا- وَ مَنْ أَقْرَبُ إِلَى النَّارِ مِنْ عَامِلِهَا- وَ أَنْتُمْ طُرَدَاءُ الْمَوْتِ- إِنْ أَقَمْتُمْ لَهُ أَخَذَكُمْ وَ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنْهُ أَدْرَكَكُمْ- وَ هُوَ أَلْزَمُ لَكُمْ مِنْ ظِلِّكُمْ- الْمَوْتُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيكُمْ وَ الدُّنْيَا تُطْوَى مِنْ خَلْفِكُمْ- فَاحْذَرُوا نَاراً قَعْرُهَا بَعِيدٌ وَ حَرُّهَا شَدِيدٌ وَ عَذَابُهَا جَدِيدٌ- دَارٌ لَيْسَ فِيهَا رَحْمَةٌ- وَ لَا تُسْمَعُ فِيهَا دَعْوَةٌ وَ لَا تُفَرَّجُ فِيهَا كُرْبَةٌ- وَ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ يَشْتَدَّ خَوْفُكُمْ مِنَ اللَّهِ- وَ أَنْ يَحْسُنَ ظَنُّكُمْ بِهِ فَاجْمَعُوا بَيْنَهُمَا- فَإِنَّ الْعَبْدَ إِنَّمَا يَكُونُ حُسْنُ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ- عَلَى قَدْرِ خَوْفِهِ مِنْ رَبِّهِ- وَ إِنَّ أَحْسَنَ النَّاسِ ظَنّاً بِاللَّهِ أَشَدُّهُمْ خَوْفاً لِلَّهِ- وَ اعْلَمْ يَا مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ- أَنِّي قَدْ وَلَّيْتُكَ أَعْظَمَ أَجْنَادِي فِي نَفْسِي أَهْلَ مِصْرَ- فَأَنْتَ مَحْقُوقٌ أَنْ تُخَالِفَ عَلَى نَفْسِكَ- وَ أَنْ تُنَافِحَ عَنْ دِينِكَ- وَ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَكَ إِلَّا سَاعَةٌ مِنَ الدَّهْرِ- وَ لَا تُسْخِطِ اللَّهَ بِرِضَا أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ- فَإِنَّ فِي اللَّهِ خَلَفاً مِنْ غَيْرِهِ- وَ لَيْسَ مِنَ اللَّهِ خَلَفٌ فِي غَيْرِهِ- صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا الْمُؤَقَّتِ لَهَا- وَ لَا تُعَجِّلْ وَقْتَهَا لِفَرَاغٍ- وَ لَا تُؤَخِّرْهَا عَنْ وَقْتِهَا لِاشْتِغَالٍ- وَ اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ شَيْ‏ءٍ مِنْ عَمَلِكَ تَبَعٌ لِصَلَاتِكَ


اللغة
أقول: قلّده الأمر: جعله في عنقه كالقلادة. و اللفظ مستعار. و حظى من كذا: أي صار له منه حظوة و هى المنزلة و الحظّ الوافر. و الجبّار: البالغ في التكبّر. و الطرداء: جمع طريد و هو ما يطرد من صيد. و الخلف: العوض.

المعنى
و هذا الفصل من العهد ملتقط من كلام طويل و مداره على امور:

الأوّل: وصيّته محمّدا- رضى اللّه عنه- بمكارم الأخلاق في حقّ رعيّته، و ذكر أوامر: أحدها: أمره بخفض الجناح. قيل: و أصله أنّ الطائر يمدّ جناحيه و يخفضهما ليجمع فراخه تحتها إيهاما للشفقّة عليها. فاستعمل كناية عن التواضع الكائن عن‏ الرحمة و الشفقّة كما قال تعالى وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ«» و قد بيّنا أنّ التواضع ملكة تحت فضيلة العفّة.

الثاني: أمره بإلانة جانبه كناية عن الرفق في الأقوال و الأفعال و عدم الغلظة عليهم و الجفاوة في حقّهم في كلّ الأحوال. و هو قريب من التواضع، و من لوازمه.

الثالث: أمره أن يبسط لهم وجهه و هو كناية عن لقائهم بالبشاشة و الطلاقة من غير تقطيب و عبوس. و هو من لوازم التواضع أيضا.

الرابع: أن يواسى بينهم في النظرة و اللحظة و هى أخفّ من النظرة، و هو كناية عن الاستقصاء في العدل بينهم في جليل الامور و حقيرها و قليلها و كثيرها. و قوله: حتّى لا يطمع. إلى قوله: عليهم. بيان وجه الحكمة في أمره بالمساواة بينهم في اللحظة و النظرة على حقارتهما.
فإن قلت: فلم خصّص العظماء بالطمع في الحيف و الضعفاء باليأس من العدل.
قلت: لأنّ العادة أنّ الولاة و الأمراء إنّما يخصّصون بالنظرة و الإقبال بالبشاشة الأغنياء و العظماء دون الضعفاء و ذلك التخصيص مستلزم لطمعهم أن يحاف لهم، و الإعراض عن الضعفاء مستلزم لليأس من العدل في حقّهم. و الضمير في قوله: عليهم. يرجع إلى العظماء.

الثاني: الوعيد للعباد بسؤال اللّه لهم عن صغير أعمالهم و كبيرها و ظاهرها و مستورها، و الإعلام بأنّهم مظنّة عذابه لبدأهم بمعصيته و البادى أظلم. قال الراوندى- رحمه اللّه- : المراد بأظلم الظالم. قلت: و يحتمل أن يكون قد سمىّ ما يجازيهم به من العدل ظلما مجازا لمشابهة الظلم في الكميّة و الصورة كما سمىّ في القصاص اعتداء في قوله فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى‏ عَلَيْكُمْ«» ثمّ نسب إليه فعلهم فصدق إذن أفعل التفضيل باعتبار كونهم بدءوا بالمعصية و كذلك الإعلام بأنّه تعالى مظنّة الكرم بالعفو عنهم.

الثالث: إعلامهم بما ينبغي لهم من استعمال الدنيا و التنبيه على كيفيّة استعمالها الواجب بوصف حال المتّقين فيها ليقتدوا بحالهم و هي ما أخبر عنه بقوله: ذهبوا بعاجل الدنيا. إلى قوله: و لا ينقص لهم نصيب من لذّة، و خلاصة حالهم المذكورة أنّهم أكثر فايدة من أهل الدنيا. إذ حصلوا من اللذّة في دنياهم على أفضل ما حصل لأهلها من لذّاتهم بها مع زيادة الفوز الأكبر في الآخرة بما وعد فيها المتّقون، و اعلم أنّ الّذي يشير إليه من عاجل الدنيا في حق المتّقين الّذين شاركوا أهلها فيها و حظوا به منها ممّا حظى به المترفون و أخذه الجبابرة المتكبّرون هو ما حصلوا عليه من لذّات الدنيا المباحة لهم بقدر ضرورتهم و حاجتهم كما روى عنه في صفتهم بلفظ آخر: شاركوا أهل الدنيا في دنياهم و لم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم أباحهم في الدنيا ما كفاهم و به أغناهم قال اللّه عزّ اسمه قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ«» الآية سكنوا من الدنيا بأفضل ما سكنت و أكلوها بأفضل ما اكلت شاركوا أهل الدنيا في دنياهم فأكلوا معهم من طيّبات ما يأكلون و شربوا من طيّبات ما يشربون و لبسوا من أفضل ما يلبسون و تزوّجوا من أفضل ما يتزوّجون و ركبوا من أفضل ما يركبون أصابوا لذّة الدنيا مع أهل الدنيا و هم فيها جيران اللّه يتمنّون عليه فيعطيهم ما يتمنّون لا يردّ لهم دعوة و لا ينقص لهم نصيبا من لذّة. فأمّا وجه كونهم أكلوها على أفضل ما اكلت و سكنوها بأفضل ما سكنت فلأنّهم استعملوها على الوجه الّذي ينبغي لهم و قد امروا باستعمالها عليه. و ظاهر أنّ ذلك الوجه أفضل الوجوه، و أمّا أنّهم شاركوا أهل الدنيا في طيّباتها فظاهر، بل نقول: إنّ لذّتهم بما استعملوا منها أتمّ و أكمل، و ذلك أنّ كلّ ما استعملوه منها من مأكول و مشروب و منكوح و مركوب إنّما كان عند الحاجة و الضرورة إليه، و قد علمت أنّ الحاجة إلى الشي‏ء كلّما كانت أشدّ و أقوى كانت اللذّة به عند حصوله أتمّ و أعلى و ذلك من الامور الوجدانيّة. فثبت إذن أنّهم حظوا منها بما حظى به المترفون و أخذوا منها أخذة الجبابرة المتكبّرين مع ما فضّلوا به من الحصول على آجل الآخرة الّذي لم يشاركهم أهل الدنيا فيه كقوله تعالى وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ«» و أمّا الزاد المبلّغ لهم إلى ساحل العزّة و حضرة الجلال فهو التقوى الّذى اتّصفوا به كما قال تعالي وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى‏«» و قد علمت معنى كونه زادا غير مرّة. و استعار للتقوى و الطاعة لفظ المتجر باعتبار كون الغاية المقصودة منها استعاضة ثواب اللّه المشبه للثمن، و رشّح بذكر المربح: أى المكسب للربح، و ذلك باعتبار زيادة فضل ثواب اللّه في الآخرة على ما بذله العبد من نفسه من العمل. و قوله: أصابوا لذّة زهد الدنيا. إشارة إلى بعض ما يزود به من اللذّات في الدنيا و هو لذّة الزهد. إذ كان لهم بطرح الدنيا عن أعناق نفوسهم و وصولهم بسببه إلى ما وصلوا إليه من الكمالات العالية ابتهاجات عظيمة أجلّ و أعلى ممّا يعده المترفون و المتكبّرون لذّة و خيرا.

و هم الّذين يحقّ لهم أن يتكبّروا على المتكبّرين. إذ كان الكمال الّذي به تكبّر المتكبّرون أمرا خاليا ضعيفا بالقياس إلى الكمال الحقّ الّذي حصل عليه هؤلاء. و قوله: و تيقّنوا أنّهم جيران اللّه غدا. أى يوم القيامة، و هو إشارة إلى جهة فرحهم بجوار اللّه و التذاذهم به المضاف إلى ما أصابوه من لذّة زهد الدنيا و تلك الجهة هى ما حصلوا عليه من اليقين باللّه و الوصول التامّ إليه بعد مفارقة الأبدان، و ذلك معنى جواره. و قوله: لا تردّ لهم دعوة. إشارة إلى بعض فضائلهم الّتي انفردوا بها أيضا المتفرّعة على كمال نفوسهم و كرامتهم عند اللّه اللازمة عن لزوم طاعته و هو كونهم مجابى الدعوة مع ما شاركوا غيرهم فيه من تمام اللذّة في الدنيا و انفردوا به من تمامها في الآخرة.

الرابع: تحذيرهم من الموت و قربه و تنبيههم على غايته من ذلك التحذير و هو أن يعدّوا له عدّته الّتي يلقى بها و لا يكون كثير ضرر و قد علمت أنّه التقوى و العمل الصالح، و أكّد الأمر بإعداد عدّته بالتنبيه على عظم ما يأتي به من الأمر و الخطب الجليل، و أشار إلى أنّ ذلك الأمر قد يكون خيرا خالصا دائما و قد يكون شرّا خالصا دائما لتشتدّ الرغبة و تقوى في إكمال العدّة المستلزمة لتحصيل ذلك الخير و لدفع ذلك الشرّ. ثمّ نبّه على أنّ ذلك الخير الّذى يأتي به الموت هو الجنّة و ذلك الشرّ هو النار و أنّ المقرّب إلى كلّ منهما و المستلزم للحصول عليه هو العمل له بقوله: فمن أقرب. إلى قوله: عاملها. ثمّ نبّه بقوله: و أنتم.

إلى قوله: خلقكم. على أنّ هذا الأمر المستعقب لإحدى هاتين الغايتين العظيمتين و هو الموت لا بدّ من لقائه ليتأكّد الأمر عليهم بالاستعداد له. و استعار لهم لفظ الطرداء ملاحظة لشبههم بما يطرد من صيد و نحوه و لشبههه بالفارس المجدّ في الطلب الّذي لا بدّ من إدراكه الطريدة، و ظاهر أنّه ألزم لكلّ امرء من ظلّه. إذ كان ظلّ المرء قد ينفكّ عنه حيث لا ضوء و الموت أمر لازم لا بدّ منه. و قوله: و الموت معقود بنواصيكم. كناية عن لزومه و كونه لا بدّ منه من اقتضاء: أى مشدود و مربوط بنواصيكم و ذلك الربط إشارة إلى حكم القضاء الإلهى به و كونه ضروريّا للحيوان، و إنّما خصّ الناصية لأنّها أعزّ ما في الإنسان و أشرف، و اللازم لها أملك له و أقدر على ضبطه. و نحوه قوله تعالى يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ«» و استعار لفظ الطىّ لتقضّى أحوال الدنيا و أيّامها الّتي يقطعها الإنسان وقتا فوقتا ملاحظة لشبه أحوالها بما يطوى من بساط و نحوه، و ظاهر أنّ ذلك الطىّ من خلفهم خلفا خياليّا بالنسبة إلى ما يستقبلونه من أحوالها بوجوه هممهم. ثمّ لمّا كرّر ذكر الموت و أكّد لزومه بطىّ الدنيا رجع إلى التحذير من غايته و هى النار و وصفها بأوصافها ليشتدّ الحذر منها و هى بعد قعرها. و ممّا ينبّه عليه ما روى أنّ النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سمع هدّة فقال‏ لأصحابه: هذا حجر القى من شفير جهنّم فهو يهوى فيها منذ سبعين خريفا و الآن حين وصل إلى قعرها. و كان ذلك إشارة إلى منافق مات في ذلك الوقت و عمره سبعون سنة، و قد أشرنا إلى ذلك من قبل.

و شدّة حرّها كقوله تعالى قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا«» و حدّة عذابها كقوله تعالى كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ«» و كونه ليست بدار رحمة و لا يسمع لها دعوة كقوله تعالى رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها«» الآية. إلى قوله تُكَلِّمُونِ و كونها لا تفرّج فيها كربة كقوله تعالى فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ و قوله وَ نادَوْا يا مالِكُ إلى قوله ماكِثُونَ«».

الخامس: قوله: و ان استطعتم. إلى قوله: بينهما. أمر لهم بالجمع من شدّة الخوف من اللّه و حسن ظنّ به و هما بابان عظيمان من أبواب الجنّة كما علمته فيما سلف. ثمّ أشار إلى أنّهما متلازمان بقوله: فإنّ العبد. إلى قوله: خوفا للّه: أى أنّ مقدار حسن ظنّ العبد بربّه مطابق و ملازم لمقدار خوفه منه و إنّ زيادته مع زيادته و نقصانه مع نقصانه.

و اعلم أنّه عليه السّلام لم يجعل أحدهما علّة للآخر بل هما معلولا علّة واحدة مساويا بها و هى معرفة اللّه. ثمّ لمّا كانت معرفة اللّه تعالى مقولة بحسب الشدّة و الضعف كان حسن الظنّ به و رجاؤه و شدّة الخوف منه أيضا ممّا يشتدّ و يضعف بحسب قوّة المعرفة و ضعفها إلّا أنّ كلّ واحد منها يستند إلى ضعف من المعرفة و اعتبار خاصّ يكون هو مبدء القريب أمّا في حسن الظنّ و الرجاء فأن يلحظ العبد من ربّه و يعتبر جميع أسباب نعمه على خلقه حتّى إذا علم لطايفها في حقّهم ممّا هو ضروريّ لهم كآلات الغذاء، و ما لهم إليه حاجة كالأظفار، و ما هو زينة كتقويس الحاجبين و اختلاف ألوان العينين، و بالجملة ما ليس بضرورىّ علم أنّ العناية الإلهيّة إذا لم يقصر في أمثال هذه الدقايق حتّى لم يرض لعباده أن يفوتهم‏ الموائد و المزايا في الزينة و الحاجة كيف يرضى بسياقتهم إلى الهلاك الأبدىّ بل إذا أراد اعتبارا في هذا الباب علم أنّه‏ تعالى هيّأ لأكثر الخلق أسباب السعادة في الدنيا حتّى كان الغالب على أكثرهم الخير و السلامة سنّة اللّه الّتي قد خلت في عباده و علم أنّ الغالب في أمر الآخرة ذلك أيضا لأنّ مدبّر الدنيا و الاخرة واحد و هو اللطيف بعباده و هو الغفور الرحيم، و حينئذ تكون الملاحظات و الاعتبارات مستلزمة لحسن الظنّ و باعثة على الرجاء. و من هذه الاعتبارات النظر في حكمة الشريعة و سببها و مصالح الدنيا، و وجه الرحمة على العباد بها، و بالجملة أن يعتبر صفات الرحمة و اللطف. و أمّا في الخوف فأقوى أسبابه أن يعرف اللّه تعالى و صفات جلاله و عظمته و تعاليه و سطوته و استغناه، و أنّه لو أهلك العالمين لم يبال و لم يمنعه مانع، و كذلك ساير اعتبارات الصفات الّتي يقتضى العنف و إيقاع المكاره كالسخط و الغضب، و لذلك قال تعالى إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ«» و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنا أخوفكم للّه.

و بحسب اشتداد المعرفة بتلك الاعتبارات يكون حال الخوف و احتراق القلب ثمّ يفيض أثر ذلك على البدن فيحصل التحوّل و الصغار و الغشية و الرعقة و الرعدة على الجوارح فيكفّها عن المعاصى و يقيّدها بالطاعات استدراكا لما فرّط منه في الصفات فيفيد قمع الشهوات و تكدير اللذّات، و لاحتراق القلب بالخوف يحصل له ذبول و ذلّة يفارقه معها كثير من الرذائل كالكبر و الحسد و الحقد و البخل و غيرها. ثمّ إنّ الجمع بينهما يستلزم كثيرا من الفضائل، و ذلك أنّ معرفة اللّه تعالى و اليقين به إذ حصل هيّج الخوف من عقابه و الرجاء لثوابه بالضرورة، و هما يفيدان الصبر إذ حفّت الجنّة بالمكاره فلا صبر على تحمّلها إلّا بقوّة الرضا، و حفّت النار بالشهوات فلا صبر على قمعها إلّا بقوّة الخوف. و لذلك قال علىّ عليه السّلام: من اشتاق إلى الجنّة سلّى عن الشهوات، و من أشفق من النار رجع عن المحرّمات. ثمّ يؤدّى مقام الصبر إلى مقام المجاهدة و التجرّد لذكر اللّه و دوام الفكر فيه و هى مؤدّية إلى كمال المعرفة المؤدّى إلى الانس المؤدّى‏ إلى المحبّة المستلزمة لمقام الرضا و التوكّل. إذ من ضرورة المحبّة الرضا بفعل المحبوب و الثقة بعنايته. و لمّا ثبت أنّهما معلولا علّة واحدة ثبت أنّهما متلازمان و ليسا بمتضادّين و إن ظنّ ذلك في ظاهر الأمر بل ربّما غلب أحدهما على الآخر بحسب غلبة أسبابه فيشتغل القلب به و يغفل عن الآخر فيظنّ أنّه يعانده و ينافيه، و لذلك أتى عليه السّلام هنا بإن المقتضية للشكّ في استطاعتهم للجمع بينهما ثمّ نبّهه على إحسانه إليه بتوليته أعظم أجناده ليتبنى عن التذكير بتلك النعمة ما يريد أن يوصيه به.

السادس: نبّهه على ما ينبغي له و هو أولى به و ذلك أن يخالف على نفسه الأمّارة فيما تأمر به من السوء و الفحشاء و ساير مناهى اللّه إلى ما يحكم به العقل و الشرع من طاعته و أن ينافخ عن دينه و يجاهد شياطين الإنس و الجنّ عنه و لو لم يكن له من الدهر إلّا ساعة فينبغى أن لا يشغلها إلّا بالمجاهدة عن دينه و أن لا يسخط اللّه برضا أحد من خلقه: أى لمتابعة أحد من خلق اللّه فيما يسخط اللّه. و قوله: فإنّ في اللّه. إلى قوله: في غيره. احتجاج على وجوب مراعات رضاه تعالى دون غيره بقياس ضمير من الأوّل المذكور في قوّة صغرى. و تقدير الكبرى: و كلّما كان في اللّه خلف عن غيره و ليس في غيره خلف منه فالواجب اتّباع رضاه و أن لا يسخط برضا غيره. ثمّ أمره أن يصلّى الصلاة لوقتها الموقّت لها: أى المعيّن. و اللام للتخصيص و التعليل و أن لا يقدّمها على وقتها لفراغه في ذلك الوقت و لا يؤخّرها عن وقتها لشغله عنها بغيرها فإنّها أهمّ من كلّ شغل و أولى. ثمّ أعلمه أنّ كلّ شي‏ء من الأعمال الصالحة تبع للصلاة. و المراد أنّ الإنسان إذا حافظ على صلاته و أتى بوظائفها في أوقاتها يوشك أن يكون على غيرها أولى بالمحافظة و إذا تساهل فيها فهو في غيرها أكثر تساهلا، و ذلك أنّها عمود الدين و أفضل العبادات كما روى عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد سئل عن أفضل الأعمال فقال: الصلاة لأوّل وقتها، و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أوّل ما يحاسب به العبد الصلاة فمن تمّت صلاته سهل عليه غيرها من العبادات و من نقصت‏ صلاته فإنّه يحاسب عليها و على غيرها. و اعلم أنّه ذكر أمر الصلاة في هذا العهد بكلام طويل هدّه السيّد- رحمه اللّه- و فيه بيان حال الصلاة و لواحقها و أوّله أنّه قال: و انظر إلى صلاتك كيف هى فإنّك إمام لقومك إن تتمّها أو تخفّفها. فليس من إمام يصلّى بقوم يكون في صلاتهم نقصان إلّا كان عليه و لا ينقص من صلاتهم شي‏ء و إن تتمّها بحفظ فيها يكن لك مثل اجورهم و لا ينقص به ذلك من اجورهم شيئا. و انظر إلى الوضوء فإنّه من تمام الصلاة تمضمض ثلاثا و استنشق ثلاثا، و اغسل وجهك، ثمّ يدك اليمنى، ثمّ اليسرى، ثمّ امسح رأسك و رجليك فإنّى رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يصنع ذلك.

و اعلم أنّ الوضوء نصف الإيمان. ثمّ ارتقب وقت الصلاة فصلّها لوقتها و لا تعجّل بها قبله لفراغ و لا تؤخّرها عنه لشغل فإنّ رجلا سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن أوقات الصلاة فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أتانى جبرئيل فأرانى وقت صلاة الظهر حين زالت الشمس و كانت على حاجبه الإيمن، ثمّ أرانى وقت العصر و كان ظلّ كلّ شي‏ء مثله، ثمّ صلّى المغرب حين غربت الشمس، ثمّ صلّى العشاء الأخيرة حين غابت الشمس، ثمّ صلّى الصبح فأغلس بها و النجوم مشتبكة. فصلّ بهذه الأوقات و الزم السنّة المعروفة و الطريق الواضح. ثمّ انظر ركوعك و سجودك فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان أتمّ الناس صلاتهم و أخفّهم عملا فيها، و اعلم أنّ كلّ شي‏ء من عملك تبع لصلاتك فمن ضيّع الصلاة فإنّه لغيرها أضيع. أسأل اللّه الّذي يرى و لا يرى و هو بالمنظر الأعلى أن يجعلنا و إيّاك ممّن يحبّ أن يرضى حتّى يعيننا و إيّاك على شكره و ذكره و حسن عبادته و أداء حقّه و على كلّ شي‏ء اختار لنا في ديننا و دنيانا و آخرتنا.


القسم الثاني و من هذا العهد ايضا
فَإِنَّهُ لَا سَوَاءَ إِمَامُ الْهُدَى وَ إِمَامُ الرَّدَى- وَ وَلِيُّ النَّبِيِّ وَ عَدُوُّالنَّبِيِّ- وَ لَقَدْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ص- إِنِّي لَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مُؤْمِناً وَ لَا مُشْرِكاً- أَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَمْنَعُهُ اللَّهُ بِإِيمَانِهِ- وَ أَمَّا الْمُشْرِكُ فَيَقْمَعُهُ اللَّهُ بِشِرْكِهِ- وَ لَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ كُلَّ مُنَافِقِ الْجَنَانِ- عَالِمِ اللِّسَانِ- يَقُولُ مَا تَعْرِفُونَ وَ يَفْعَلُ مَا تُنْكِرُونَ

أقول: هذا الفصل متّصل بقوله: و آخرتنا من فصل الصلاة، و أوّله: و أنتم يا أهل مصر فليصدق قولكم فعلكم و سرّكم علانيتكم. و لا تخالف ألسنتكم قلوبكم إنّه لا يستوى. إلى قوله: تنكرون. ثمّ يتّصل به يا محمّد بن أبي بكر اعلم أنّ أفضل العفّة الورع في دين اللّه و العمل بطاعته و إنّى اوصيك بتقوى اللّه في سرّ أمرك و علانيتك و على أىّ حال كنت عليه: الدنيا دار بلاء و دار فناء، و الآخرة دار الجزاء و دار البقاء. فاعمل لما يبقى و اعدل عمّا يفنى، و لا تنس نصيبك من الدنيا: إنّى اوصيك بسبع هى جوامع الإسلام: اخش اللّه عزّ و جلّ في الناس و لا تخش الناس في اللّه، و خير العلم ما صدّقه العمل، و لا تقض في أمر واحد بقضائين مختلفين فيختلف أمرك و تزوغ عن الحقّ و أحبّ لعامّة رعيّتك ما تحبّ لنفسك و أهل بيتك و أكره لهم ما تكره لنفسك و أهل بيتك فإنّ ذلك أوجب للحجّة و أصلح للرعيّة، و خض الغمرات إلى الحقّ و لا تخف في اللّه لومة لائم و انصح المرء إذا استشارك و اجعل نفسك اسوة لقريب المسلمين و بعيدهم جعل اللّه مودّتنا في الدين و خلّتنا إيّاكم و خلّة المتّقين و أبقى لكم حتّى يجعلنا بها إخوانا على سرر متقابلين.
أحسنوا أهل مصر موازرة أميركم و أثبتوا على طاعتكم تردوا حوض نبيّكم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أعاننا اللّه و إيّاكم على ما يرضيه. و السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته. و القمع: القهر و الاذلال. و اعلم أنّه لما أمرهم بترك النفاق و موافقة الفعل الجميل نلقول الجميل‏ استدرجهم إلى ذلك و جذبهم إليه بالفرق بينه و بين غيره من الأئمّة فأشار بإمام الهدى و ولىّ النبىّ إلى نفسه. و بإمام الردى و بعدوّ النبىّ إلى معاوية، و أسند الخبر المشهور إلى النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أراد بمنافق الجنان عالم اللسان معاوية و أصحابه كلّ ذلك ليفيئوا إلى طاعته عليه السّلام و ينفروا عن خصمه. و أمّا سرّ الخبر فظاهر أنّ المؤمن لإيمانه لا يخاف منه على المسلمين، و أمّا المشرك فإنّ اللّه يقمعه و يذلّه بشركه ما دام مشركا متظاهرا بالشرك لظهور الإسلام و غلبة المسلين و اتّفاقهم على مجانبته و معاداته و عدم الإصغاء إلى ما يقول، و إنّما يخاف عليهم المنافق الّذي من شأنه إسرار الكفر و إظهار الإسلام و تعلّم أحكامه و مخالطة أهله فهو يقول بلسانه ما يقولون و يفعل ما ينكرون، و وجه المخافة منه أنّ مخالطته لأهل الإسلام مع إظهاره له يكون سببا لاصغائهم إليه و مجالستهم له و الاغترار بما يدّعيه من إصداقه.
و صدق علمه اللسانىّ و قدرته على الشبه المضلّة و تنميقها بالأقوال المزّوقة يكون سببا لانفعال كثير من عوامّ المسلمين و فتنتهم عن الدين. و قوله: إنّ أفضل العفّة الورع.
فالورع هو لزوم الأعمال الجميلة و هو ملكة تحت فضيلة العفّة، و ظاهر أنّها جماع الفضايل الّتي تحت العفّة فيكون أفضل من كلّ منها.
و قوله: و اخش اللّه في الناس.
أى خف منه فيما تفعله بهم من شرّ تعصّيه به.
و قوله: و لا تخش الناس في اللّه.
أى لا تخف أحدا منهم و لا تراقبه فيما يفعله من طاعة اللّه فتعدل عن طاعته لخوفك منهم. و باللّه التوفيق.


شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحه‏ى 420

نامه 26 شرح ابن میثم بحرانی

و من عهد له عليه السّلام إلى بعض عماله، و قد بعثه على الصدقة

آمُرُهُ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي سَرَائِرِ أَمْرِهِ وَ خَفِيَّاتِ عَمَلِهِ- حَيْثُ لَا شَاهِدَ غَيْرُهُ وَ لَا وَكِيلَ دُونَهُ- وَ آمُرُهُ أَلَّا يَعْمَلَ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ فِيمَا ظَهَرَ- فَيُخَالِفَ إِلَى غَيْرِهِ فِيمَا أَسَرَّ- وَ مَنْ لَمْ يَخْتَلِفْ سِرُّهُ وَ عَلَانِيَتُهُ وَ فِعْلُهُ وَ مَقَالَتُهُ- فَقَدْ أَدَّى الْأَمَانَةَ وَ أَخْلَصَ الْعِبَادَةَ- وَ آمُرُهُ أَلَّا يَجْبَهَهُمْ وَ لَا يَعْضَهَهُمْ- وَ لَا يَرْغَبَ عَنْهُمْ تَفَضُّلًا بِالْإِمَارَةِ عَلَيْهِمْ- فَإِنَّهُمُ الْإِخْوَانُ فِي الدِّينِ- وَ الْأَعْوَانُ عَلَى اسْتِخْرَاجِ الْحُقُوقِ- وَ إِنَّ لَكَ فِي هَذِهِ الصَّدَقَةِ نَصِيباً مَفْرُوضاً وَ حَقّاً مَعْلُوماً- وَ شُرَكَاءَ أَهْلَ مَسْكَنَةٍ وَ ضُعَفَاءَ ذَوِي فَاقَةٍ- وَ إِنَّا مُوَفُّوكَ حَقَّكَ فَوَفِّهِمْ حُقُوقَهُمْ- وَ إِلَّا فَإِنَّكَ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ خُصُوماً يَوْمَ الْقِيَامَةِ- وَ بُؤْسَى لِمَنْ خَصْمُهُ عِنْدَ اللَّهِ الْفُقَرَاءُ وَ الْمَسَاكِينُ- وَ السَّائِلُونَ وَ الْمَدْفُوعُونَ وَ الْغَارِمُونَ وَ ابْنُ السَّبِيلِ- وَ مَنِ‏ اسْتَهَانَ بِالْأَمَانَةِ وَ رَتَعَ فِي الْخِيَانَةِ- وَ لَمْ يُنَزِّهْ نَفْسَهُ وَ دِينَهُ عَنْهَا- فَقَدْ أَحَلَّ بِنَفْسِهِ الذُّلَّ وَ الْخِزْيَ فِي الدُّنْيَا- وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ أَذَلُّ وَ أَخْزَى- وَ إِنَّ أَعْظَمَ الْخِيَانَةِ خِيَانَةُ الْأُمَّةِ- وَ أَفْظَعَ الْغِشِّ غِشُّ الْأَئِمَّةِ وَ السَّلَامُ

اللغة
أقول: يقال: جبهته بالمكروه: إذا استقبلته به. و عضهته عضها: رميته بالبهتان و الكذب. و الفاقة و البؤس و الفظع: الشدّة.

المعنى
و قد أمر عليه السّلام بأوامر بعضها يتعلّق بأداء حقّ اللّه تعالى و بعضها يتعلّق بأحوال الرعيّة و الشفقّة عليهم لغاية نظام حالهم و تدبير امورهم. فالّذي يتعلّق بحقّ اللّه تعالى أمران: أحدهما: أن يتّقيه فيما يسرّ من اموره و يخفى من أعماله و هى التقوى الحقّة المنتفع بها. و قوله: حيث. إشارة إلى موضع إسرار العمل و إخفاء الامور. و أتى بقوله: لا شهيد غيره و لا وكيل دونه في معرض الوعد له و التخويف باطّلاعه تعالى على سرائر العباد و خفيّات أعمالهم و تولّيه لها دون غيره. و نبّه بكونه هو الشهيد دون غيره على عظمته مع الردّ لما عسى أن يحكم به الوهم مطلقا من أنّ السرائر و الامور الخفيّة لا يطّلع عليها غير من هى له.
الثاني: أن يوافق في طاعته للّه تعالى بين ما أظهره و ما أبطنه، و يخلص أعماله الظاهرة من الرياء و السمعة، و ذلك قوله: و أمره أن لا يعمل. إلى قوله: فيما أسرّ. و- ما- في قوله: فيما. بمعنى الّذي و يحتمل أن تكون مصدريّة. و فيما ظهر: أى للناس من طاعة اللّه. و قوله: و من لم يختلف. إلى قوله: العبادة. ترغيب له فيما أمره به من عدم اختلاف السريرة و العلانية و الفعل و القول‏ بكون ذلك مستلزما لإخلاص عبادة اللّه و لأداء أمانته الّتي كلّفها عباده على ألسنة رسله و أئمّة دينه، و ظاهر كون ذلك مستلزما لثواب اللّه و الأمن من سخطه. و أمّا ما يتعلّق بأحوال الرعيّة و الشفقّة عليهم فمنه ما يتعلّق بحال أرباب الأموال الّتي يستحقّ عليهم الصدقة، و منه ما يتعلّق بأرباب الصدقة المستحقّين لها: أمّا الأوّل فأن لا يلقاهم بمكروه و لا يرميهم ببهتان و كذب و أن لا ينقبض عنهم و يترفّع عليهم تفضيلا لنفسه بالإمارة. و انتصب تفضيلا على المفعول له.

و قوله: و إنّهم الإخوان. إلى قوله: الحقوق. إشارة إلى احتجاج بقياس ضمير من الشكل الأوّل يستلزم حسن الانتهاء عمّا أمر بالانتهاء عنه و وجوبه، و المذكور في قوّة صغرى، و تقدير الكبرى: و كلّ من كان أخا في الدين و عونا على استخراج الحقوق فيجب أن لا يفعل في حقّه شي‏ء ممّا أمرت بالانتهاء عنه، و أمّا أنّهم الأعوان على استخراج الحقوق فلأنّ الحقوق المطلوبة منهم إنّما تحصل بواسطتهم، و حصولها منهم إنّما يتمّ بالشفقّة عليهم و أن لا يفعل معهم شي‏ء ممّا نهى عنه عليه السّلام فإنّ كلّ تلك الامور ممّا ينفّر طباعهم و يشتّت نظام شملهم و منه يكون قلّة مال الصدقة المستحقّة عليهم، و يحتمل أن يدخل في هؤلاء الجند أيضا، و أمّا ما يتعلّق بالمستحقّين للصدقة فأن يوفّيهم حقوقهم منها، و أشار إلى الحجّة على وجوب ذلك عليه بقوله: و إنّ لك.
إلى قوله: و إنّا موّفوك حقّك، و هو في قوّة صغرى ضمير من الشكل الأوّل، و تقدير كبراه: و كلّ من كان له نصيب مفروض و حقّ معلوم في شي‏ء و له شركاء فيه بصفة الفقر و المسكنة و هو مستوف لحقّه منه فواجب عليه أن يوفّى شركاؤه حقوقهم: أمّا الصغرى فظاهره. و أمّا الكبرى فأشار إلى بيانها بقياس آخر من الشكل الأوّل مركّب من متّصلين. فأشار إلى الصغرى بقوله: و إلّا. إلى قوله: إلى يوم القيامة. و نبّه على الكبرى بقوله: و لو شاء إلى قوله: و ابن السبيل. و هى في قوّتها إذ الأصناف المذكورون من مستحقّى الصدقة هم الخصوم و هم أكثر الناس و كان الأوسط متّحدا، و صار تقدير القياس و إن لا توفّهم حقّهم فإنّك ممّن خصومه‏ أكثر الناس: أى الفقراء و المساكين و سائر الأصناف يوم القيامة، و كلّ من كان خصومه أكثر الناس و هم الأصناف المذكورة فبؤسا له عند اللّه يوم القيامة، و ينتج متّصلة مركّبة من مقدم الصغرى و تالى الكبرى و هى إن لا توفّهم حقوقهم فبؤسا لك، و هو في معرض التهديد و التنفير له عن ظلمهم و الاستبداد عليهم بشي‏ء من الصدقة، و شركاء عطف على قوله: حقّا معلوما. و أهل المسكنة صفة له، و بؤسا نصب على المصدر. و أمّا الأصناف المستحقّين للصدقات فهم الثمانية المعدودة في القرآن الكريم بقوله إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ إلى قوله وَ ابْنَ السَّبِيلِ«» فأمّا الفقير فقال ابن عبّاس و جماعة من المفسرين: إنّه المتعفّف الّذي لا يسأل، و المسكين هو الّذي يسأل و عن الأصمعى أنّ الفقير هو الّذي له ما يأكل و المسكين هو الّذي لا شي‏ء له، و أمّا العاملون عليهم فهم السعاة في جباية الصدقات. و يعطيهم الإمام منها بقدر اجور أمثالهم، و أمّا المؤلّفة قلوبهم فكانوا قوما من أشراف العرب يتألّفهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مبدء الإسلام و يعطيهم سهما من الزكاة ليدفعوا عنه قومهم و يعينوه على العدوّ كالعبّاس بن مرداس و عيينة بن الحصن و غيرهما ثمّ استغنى المسلمون عن ذلك عند قوّتهم، و أمّا في الرقاب: أى في فداء الرقاب.

فقال ابن عبّاس: يريد المكاتبين و كانوا يعطون سهما ليعتقوا به، و أمّا الغارمون فهم الّذين لزمتهم الديون في غير معصية و لا إسراف، و أمّا في سبيل اللّه فهم الغزاة و المرابطون، و أمّا ابن السبيل فهو المنقطع به في السفر و يعطى من الصدقة. و إن كان غنيّا في بلده. و قد ذكر عليه السّلام هاهنا في معرض إيجاب الشفقّة و الرحمة له خمسة و هم الفقراء و المساكين و يدخل فيه السائلون ثمّ المدفوعون و يشبه أن يريد بهم العاملين عليها و سمّاهم مدفوعين باعتبار أنّهم يدفعون لجباية الصدقات أو لأنّهم إذا أتوا إلى من لا زكاة عليه فسألوه هل عليه زكاة أم لا دفعهم عن نفسه. ذكرهم هنا بهذا الوصف لكونه وصف ذلّ و انقهار و كونه عليه السّلام في معرض الأمر بالشفقّة عليهم.

قال بعض الشارحين: أراد بهم الفقراء السائلين لكونهم يدفعون عند السؤال. ثمّ‏ الغارم و ابن السبيل. و إنّما ذكر هؤلاء الخمسة أو الأربعة لكونهم أضعف حالا من الباقين. و قوله: و من استهان. إلى قوله: و اخرى. يشبه أن يكون كبرى قياس ضمير احتجّ به في معرض الوعيد و التخويف من الخيانة على لزوم الذلّ و الخزى له في الدارين على تقدير أن لا يوفّيهم حقوقهم و تقدير القياس و إن لا توفّهم حقوقهم تكن مستهينا بالأمانة راتعا في الخيانة غير منزّه نفسك و دينك عنها، و كلّ من كان كذلك فقد أحلّ بنفسه في الدنيا الذلّ و هو في الآخرة أذلّ و أخزى، و روى أخلّ بنفسه: أى ترك ما ينبغي لها، و روي أحلّ نفسه: أى أباحها. و الذلّ على هاتين الروايتين مبتدأ خبره في الدنيا. و الخيانة أعمّ من الغشّ و هى رذيلة التفريط من فضيلة الأمانة. و الغشّ رذيلة تقابل فضيلة النصيحة و هما داخلتان تحت رذيلة الفجور. و قوله: و إنّ أعظم الخيانة. إلى آخره. تنبيه على عظم الخيانة هاهنا. إذ كانت خيانة كلّيّة عامّة الضرر لأكثر المسلمين، و مستلزمة لغشّ الإمام الّذي هو أفضل الناس و أولاهم بالنصيحة فإذا كان مطلق الخيانة و لو في حقّ أقلّ الخلق و أحقر الأشياء منهيّا عنها و يستحقّ العقاب و الخزى عليها فبالأولى مثل هذه الخيانة العظيمة. و كلّ ذلك في معرض الوعيد و التنفير عن الخيانة و الاستهانة بالأمانة. و باللّه التوفيق.


شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحه‏ى 416

 

نامه 25 شرح ابن میثم بحرانی

و من وصيّه له عليه السّلام كان يكتبها لمن يستعمله على الصدقات،و إنما ذكرنا هنا جملا منها ليعلم بها أنه كان يقيم عماد الحق، و يشرع أمثلة العدل: فى صغير الأمور و كبيرها، و دقيقها و جليلها

انْطَلِقْ عَلَى تَقْوَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ- وَ لَا تُرَوِّعَنَّ مُسْلِماً وَ لَا تَجْتَازَنَّ عَلَيْهِ كَارِهاً- وَ لَا تَأْخُذَنَّ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِي مَالِهِ- فَإِذَا قَدِمْتَ عَلَى الْحَيِّ فَانْزِلْ بِمَائِهِمْ- مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخَالِطَ أَبْيَاتَهُمْ- ثُمَّ امْضِ إِلَيْهِمْ بِالسَّكِينَةِ وَ الْوَقَارِ- حَتَّى تَقُومَ بَيْنَهُمْ فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ- وَ لَا تُخْدِجْ بِالتَّحِيَّةِ لَهُمْ ثُمَّ تَقُولَ عِبَادَ اللَّهِ- أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ وَلِيُّ اللَّهِ وَ خَلِيفَتُهُ- لِآخُذَ مِنْكُمْ حَقَّ اللَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ- فَهَلْ لِلَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ مِنْ حَقٍّ فَتُؤَدُّوهُ إِلَى وَلِيِّهِ- فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ لَا فَلَا تُرَاجِعْهُ- وَ إِنْ أَنْعَمَ لَكَ مُنْعِمٌ فَانْطَلِقْ مَعَهُ- مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخِيفَهُ أَوْ تُوعِدَهُ- أَوْ تَعْسِفَهُ أَوْ تُرْهِقَهُ فَخُذْ مَا أَعْطَاكَ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ- فَإِنْ كَانَ لَهُ مَاشِيَةٌ أَوْ إِبِلٌ فَلَا تَدْخُلْهَا إِلَّا بِإِذْنِهِ- فَإِنَّ أَكْثَرَهَا لَهُ- فَإِذَا أَتَيْتَهَا فَلَا تَدْخُلْ عَلَيْهَا دُخُولَ مُتَسَلِّطٍ عَلَيْهِ- وَ لَا عَنِيفٍ بِهِ- وَ لَا تُنَفِّرَنَّ بَهِيمَةً وَ لَا تُفْزِعَنَّهَا- وَ لَا تَسُوأَنَّ صَاحِبَهَا فِيهَا- وَ اصْدَعِ الْمَالَ صَدْعَيْنِ ثُمَّ خَيِّرْهُ- فَإِذَا اخْتَارَ فَلَا تَعْرِضَنَّ لِمَا اخْتَارَهُ- ثُمَّ اصْدَعِ الْبَاقِيَ صَدْعَيْنِ ثُمَّ خَيِّرْهُ- فَإِذَا اخْتَارَ فَلَا تَعْرِضَنَّ لِمَا اخْتَارَهُ- فَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَبْقَى مَا فِيهِ- وَفَاءٌ لِحَقِّ اللَّهِ فِي مَالِهِ- فَاقْبِضْ حَقَّ اللَّهِ مِنْهُ فَإِنِ اسْتَقَالَكَ فَأَقِلْهُ- ثُمَّ اخْلِطْهُمَا ثُمَّ اصْنَعْ مِثْلَ الَّذِي صَنَعْتَ أَوَّلًا- حَتَّى تَأْخُذَ حَقَّ اللَّهِ فِي مَالِهِ- وَ لَا تَأْخُذَنَّ عَوْداً وَ لَا هَرِمَةً وَ لَا مَكْسُورَةً وَ لَا مَهْلُوسَةً وَ لَا ذَاتَ عَوَارٍ- وَ لَا تَأْمَنَنَّ عَلَيْهَا إِلَّا مَنْ تَثِقُ بِدِينِهِ- رَافِقاً بِمَالِ الْمُسْلِمِينَ- حَتَّى يُوَصِّلَهُ إِلَى وَلِيِّهِمْ فَيَقْسِمَهُ بَيْنَهُمْ- وَ لَا تُوَكِّلْ بِهَا إِلَّا نَاصِحاً شَفِيقاً وَ أَمِيناً حَفِيظاً- غَيْرَ مُعْنِفٍ وَ لَا مُجْحِفٍ وَ لَا مُلْغِبٍ وَ لَا مُتْعِبٍ- ثُمَّ احْدُرْ إِلَيْنَا مَا اجْتَمَعَ عِنْدَكَ- نُصَيِّرْهُ حَيْثُ أَمَرَ اللَّهُ- فَإِذَا أَخَذَهَا أَمِينُكَ- فَأَوْعِزْ إِلَيْهِ أَلَّا يَحُولَ بَيْنَ نَاقَةٍ وَ بَيْنَ فَصِيلِهَا- وَ لَا يَمْصُرَ لَبَنَهَا فَيَضُرَّ ذَلِكَ بِوَلَدِهَا- وَ لَا يَجْهَدَنَّهَا رُكُوباً- وَ لْيَعْدِلْ بَيْنَ صَوَاحِبَاتِهَا فِي ذَلِكَ وَ بَيْنَهَا- وَ لْيُرَفِّهْ عَلَى اللَّاغِبِ- وَ لْيَسْتَأْنِ بِالنَّقِبِ وَ الظَّالِعِ- وَ لْيُورِدْهَا مَا تَمُرُّ بِهِ مِنَ الْغُدُرِ- وَ لَا يَعْدِلْ بِهَا عَنْ نَبْتِ الْأَرْضِ إِلَى جَوَادِّ الطُّرُقِ- وَ لْيُرَوِّحْهَا فِي السَّاعَاتِ- وَ لْيُمْهِلْهَا عِنْدَ النِّطَافِ وَ الْأَعْشَابِ- حَتَّى تَأْتِيَنَا بِإِذْنِ اللَّهِ بُدَّناً مُنْقِيَاتٍ- غَيْرَ مُتْعَبَاتٍ وَ لَا مَجْهُودَاتٍ- لِنَقْسِمَهَا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَ سُنَّةِ نَبِيِّهِ ص- فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ لِأَجْرِكَ- وَ أَقْرَبُ لِرُشْدِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ

اللغة
أقول: روّعه: أفزعه. و لا تخدج بالتحيّة: أى لا تنقضها. و روي يخدج‏ التحيّة: من أخدجت السحابة إذا قلّ قطرها. و أنعم له: أى قال: نعم. و العسف: الأخذ بشدّة و على غير وجه. و الإرهاق: تكليف العسر. و الماشية: الغنم و البقر. و العنيف: الّذي لا رفق له. و صدعت المال صدعين: قسّمت بقسمين. و العود: المسنّ من الإبل و هو الّذي جاوز في السنّ البازل. و الهرمة: العالية السنّ. و المكسورة: الّتي انكسرت إحدى قوائمها. و المهلوسة: الّتى بها الهلاس و هو السلّ. و العوار- بالفتح- : العيب، و قد يضمّ. و المجحف: الّذي يسوق المال سوقا عنيفا يذهب بلحمه و الملغب: المتعب. و اللغوب: الإعياء. و أو عزت إليه بكذا: أى أمرته به. و حال بين الشيئين: حجز. و المصر: حلب كلّ ما في الضرع من اللبن، و التمصّر: حلب بقايا اللبن فيه. و الترفيه: الإراحة و استأن: أى ارفق. و النقب: البعير الّذي رقّت أخفافه. و الغدر: جمع غدير الماء. و النطاف: المياه القليلة: و الأعشاب: جمع عشب و هو النبات. و البدن: السمان، الواحد بادن. و المنقيات: الّتي صارت من سمّها ذات نقى و هو مخّ العظام و شحم العين. و النقو: كلّ عظم ذى مخّ.

المعنى

و هذه الوصية مشتملة على تعليم عامله على جباية الصدقات قوانين العدل في أخذها من أهلها. و مداره و أمره له على الشفقّة عليهم و الرفق بهم. و اعلم أنّ الرفق بالرعيّة و إن كان من أهمّ المطالب للشارع صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لاستلزامه تألّف قلوبهم و اجتماعها عليه و على ما جاء به من الحقّ إلّا أنّه هاهنا أهمّ و الحاجة إليه أشدّ، و ذلك أنّ الغرض هنا أخذ بعض ما هو أعزّ المطالب عند الناس من أيديهم و هو المال و مشاركتهم فيه فقلوبهم هنا أقرب إلى النفار ممّا يدعون إليه من سائر التكاليف و هم إلى المداراة و الرفق أشدّ حاجة فلذلك أكّد عليه السّلام وصيّة العامل بالرفق بهم و المساهلة منهم حفظا لقلوبهم. و في الوصيّة مواضع:

الأوّل: أمره بالانطلاق معتمدا على تقوى اللّه غير مشرك في تقواه غيره و لا موجّه نيّته في انطلاقه إلى سواه لأنّ حركته هذه حركة دينيّة من جملة العبادات فيجب توجيهها إليه بالإخلاص.

الثاني: لا يفزع مسلما كما هو عادة الولاة الظالمين، و أن لا تختارنّ عليه‏ كارها: أى لا تختار شيئا من إبله أو ماشيته و هو كاره لاختياره، و روى و لا يجتازنّ بالجيم: أى و لا يمرّنّ على أرض إنسان و مواشيه و هو كاره لمرورك عليها و بها. و انتصب كارها على الحال من الضمير المجرور.

الثالث: أمره إذا نزل بقبيلة أن ينزل بمائهم لأنّ من عادة العرب أن تكون مياههم بارزة عن بيوتهم، و أن لا تخالط بيوتهم لما في ذلك من المشقّة عليهم و التكلّف له.

الرابع: قوله: ثمّ امض إليهم. إلى قوله: و لا تسوءنّ صاحبها. فيها تأديب له بما ينبغي أن يفعله في حقّهم ممّا يستلزم المصلحة، و تعليم لأسباب الشفقّة عليهم من الأفعال كالسكينة و الوقار و القيام فيهم من الأقوال كالسلام و أداء الرسالة و أحوال الأقوال كإتمام التحيّة و الرفق في القول، و من التروك كان لا يخيف المسلم و لا يتوعّده و لا يعسفه و لا يرهقه عسرا و لا يدخل إبله و ماشيته من غير إذنه و لا يدخلها دخول متسلّط و لا جبّار و لا عنيف و أن لا ينفرّ بهيمة و لا يفزعها و لا يسوء صاحبها فيها بضرب و نحوه لما في ذلك كلّه من أذى صاحبها و تنفير قلبه المضادّ لمطلوب الشارع.

الخامس: أنّه علّل نهيه عن دخولها بغير إذن صاحبها بإنّ أكثرها له. و الكلام في قوّة صغرى قياس ضمير من الشكل الأوّل يستلزم حسن هذا النهى. و تقدير كبراه: و كلّ من كان أكثر المال له فهو أولى بالتصرّف و الحكم و المال فيلزم أن لا يصحّ تصرّف غيره فيه و دخوله إلّا باذنه.

السادس: قوله: و اصدع المال. إلى قوله: في ماله. تعليم لكيفيّة استخراج الصدقة الّتي في الإبل و الماشية، و هو أن يفرّق الإبل و الماشية عند اختلاط الكلّ فرقتين ثمّ يخيّره فإن اختار قسما فلا ينازعه فيه و ليس له أن يستأنف فيه نظرا آخر، و كذلك يقسّم الصدع الباقي بنصفين و لا يزال يفعل كذلك حتّى ينتهى أحد الصدعين إلى مقدار الواجب من حقّ اللّه تعالى في ذلك المال أو فوقه بقليل فيؤخذ منه مقدار الواجب أو دونه بيسير فيتمّم و يجعل لربّ المال اختيار أحد الصدعين‏ و الإقالة إن استقال من أخذ تلك القسمة تسكينا لقلبه و جبرا من تنقّص ماله.

السابع: نهاه أن يأخذ في مال اللّه ما كان بأحد الصفات المذكورة كالعود و الهرمة و المكسورة و المهلوسة و المعيبة بكباد و نحوه مراعاة لحقّ اللّه تعالى و جبرا لحال مصارفه و هم الأصناف الثمانية الّذين عدّدهم اللّه تعالى في كتابه الكريم من الفقراء و المساكين و غيرهم. و قال قطب الدين الراوندىّ- رحمه اللّه- الظاهر من كلامه عليه السّلام أنّه كان يأمر بإخراج كلّ واحد من هذه الأصناف المعيّنة من المال قبل أن يصدع بصدعين.

الثامن: أنّه نهاه أن يأمن عليها و يوكّل بحفظها و سوقها إلّا من يثق بدينه و أمانته واثقا من نفسه بحفظه حتّى يسلّمه إلى وليّهم يعنى نفسه عليه السّلام و يكون ناصحا: أى للّه و لرسوله، شفيقا: أى على ما يقوم عليه، أمينا حفيظا عليه غير ضعيف و لا مجحف و لا متعب له. و ذلك من الامور اللازمة في حفظ الواجب في حقّ اللّه تعالى.

التاسع: أمره أن يحمل إليه ما يجتمع معه و لا يؤخّره لأمرين: أحدهما. الحاجة إلى صرفه في مصارفه. الثاني: الخوف من‏ تلفه بأحد أسباب التلف قبل الانتفاع به.

العاشر: أنّه عاد إلى الوصيّة بحال البهائم و هو أن يأمر أمينه عند تسليم المال أن لا يحول بين ناقة و فصيلها، و لا يحلب جميع لبنها، لأنّ الأمرين يضرّان بالولد، و لا يجهدنّها ركوبا و تخصّصها به دون صواحباتها لأنّ ذلك ممّا يضرّبها و العدل بينها في ذلك ممّا يقلّ معه ضرر الركوب و هو من الشفقّة الطبيعيّة، و كذلك الترفيه على اللاغب و التأنّي بالناقب و الظالع، و كذلك أن يوردها فيما يمرّ به من الماء و الكلاء، و أن يروّجها في ساعات الرواح للغاية الّتي ذكرها و هو أن يأتي بحال السمن و الراحة. و إنّما قال: لنقسمها على كتاب اللّه و سنّة نبيّه و إن كان ذلك أمرا معلوما من حاله عليه السّلام لأنّه لمّا بالغ في الوصيّة بحالها فربّما سبق إلى بعض الأوهام الفاسدة أنّ ذلك لغرض يختصّ به يخالف الكتاب والسنّة. ثمّ رغّبه في ذلك بكونه أعظم لأجره عند اللّه و أقرب لهداه و رشده لطريق اللّه و هو ظاهر: أمّا أنّه أعظم لأجره فلكونه أكثر مشقّة و أكثريّة الثواب تابعة لأكثريّة المشقّة، و أمّا أنّه أقرب لرشده فلسلوكه في ذلك على أثره عليه السّلام و اقتدائه بهداه الّذي لم يكن عارفا به. و باللّه التوفيق.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحه‏ى 410

 

نامه 24 شرح ابن میثم بحرانی

و من وصيّه له عليه السّلام بما يعمل فى أمواله، كتبها بعد منصرفه من صفين

هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ- فِي مَالِهِ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ- لِيُولِجَهُ بِهِ الْجَنَّةَ وَ يُعْطِيَهُ بِهِ الْأَمَنَةَ مِنْهَا فَإِنَّهُ يَقُومُ بِذَلِكَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ- يَأْكُلُ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ- وَ يُنْفِقُ فِي الْمَعْرُوفِ- فَإِنْ حَدَثَ بِحَسَنٍ حَدَثٌ وَ حُسَيْنٌ حَيٌّ- قَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ‏ وَ أَصْدَرَهُ مَصْدَرَهُ- وَ إِنَّ لِابْنَيْ فَاطِمَةَ مِنْ صَدَقَةِ عَلِيٍّ مِثْلَ الَّذِي لِبَنِي عَلِيٍّ- وَ إِنِّي إِنَّمَا جَعَلْتُ الْقِيَامَ بِذَلِكَ- إِلَى ابْنَيْ فَاطِمَةَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ- وَ قُرْبَةً إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ص- وَ تَكْرِيماً لِحُرْمَتِهِ وَ تَشْرِيفاً لِوُصْلَتِهِ- وَ يَشْتَرِطُ عَلَى الَّذِي يَجْعَلُهُ إِلَيْهِ- أَنْ يَتْرُكَ الْمَالَ عَلَى أُصُولِهِ- وَ يُنْفِقَ مِنْ ثَمَرِهِ حَيْثُ أُمِرَ بِهِ وَ هُدِيَ لَهُ- وَ أَلَّا يَبِيعَ مِنْ أَوْلَادِ نَخِيلِ هَذِهِ الْقُرَى وَدِيَّةً- حَتَّى تُشْكِلَ أَرْضُهَا غِرَاساً وَ مَنْ كَانَ مِنْ إِمَائِي اللَّاتِي أَطُوفُ عَلَيْهِنَّ- لَهَا وَلَدٌ أَوْ هِيَ حَامِلٌ- فَتُمْسَكُ عَلَى وَلَدِهَا وَ هِيَ مِنْ حَظِّهِ- فَإِنْ مَاتَ وَلَدُهَا وَ هِيَ حَيَّةٌ فَهِيَ عَتِيقَةٌ- قَدْ أَفْرَجَ عَنْهَا الرِّقُّ وَ حَرَّرَهَا الْعِتْقُ

قال الرضى: قوله عليه السلام فى هذه الوصية أن لا يبيع من نخيلها ودية: الودية: الفسيلة، و جمعها ودى، و قوله عليه السلام حتى تشكل أرضها غراسا.
هو من أفصح الكلام، و المراد به أن الأرض يكثر فيها غراس النخل حتى يراها الناظر على غير تلك الصفة التي عرفها بها فيشكل عليه أمرها و يحسبها غيرها أقول: رويت هذه الوصيّة بروايات مختلفة بالزيادة و النقصان و قد حذف السيّد منها فصولا و لنوردها برواية يغلب على الظنّ صدقها: عن عبد الرحمن بن‏ الحجّاج قال: بعث إلىّ بهذه الوصيّة أبو إبراهيم عليه السّلام. هذا ما أوصى به و قضى في ماله عبد اللّه علىّ ابتغاء وجه اللّه ليولجني به الجنّة و يصرفني به عن النار يوم تبيّض وجوه و تسوّد وجوه. إنّ ما كان لي بينبع من مال يعرف لي فيها و ما حولها صدقة، و رقيقها غير أبي رباح و أبي يبر و عتقاء ليس لأحد عليهم سبيل. فهم موالي يعملون في المال خمس حجج و فيه نفقتهم و رزقهم و رزق أهاليهم. و مع ذلك ما كان بوادي القرى كلّه مال بني فاطمة رقيقها صدقة و ما كان لي لبنى و أهلها صدقة غير أنّ رقيقها لهم مثل ما كتبت لأصحابهم، و ما كان لى بادنية و أهلها صدقة، و القصد كما قد علمتم صدقة في سبيل اللّه و إنّ الّذي كتبت و من أموالى هذه صدقة واجبة ببكّة حيّا أنا كنت أو ميّتا ينفق في كلّ نفقة أبتغى بها وجه اللّه في سبيل اللّه و جهة ذوى الرحم من بني هاشم و بني المطّلب و القريب و البعيد. و إنّه يقوم بذلك الحسن بن علىّ يأكل منه بالمعروف و ينفقه حيث يريد اللّه في كلّ محلّل لا حرج عليه فيه، و إن أراد أن يبيع نصيبا من المال فيقضي به الدين فليفعل إنشاء لا حرج عليه فيه، و إن شاء جعله من الملك، و إنّ ولد علىّ أموالهم إلى الحسن بن علىّ و إن كانت دار الحسن غير دار الصدقة فبدا له أن يبيعها فليبعها إن شاء لا حرج عليه فيه فإن باع فإنّه يقسمها ثلاثة أثلاث فيجعل ثلثا في سبيل اللّه، و يجعل ثلثا في بنى هاشم و بنى المطّلب، و يجعل الثلث في آل أبي طالب و أنّه يضعهم حيث يريد اللّه. ثمّ يتّصل بقوله: و إن حدث بحسن حدث و حسين حىّ فإنّه إلى حسين بن علىّ و إنّ حسينا يفعل فيه مثل الّذي أمرت به حسنا، له مثل الّذي كتبت للحسن و عليه مثل الّذي على الحسن. ثمّ يتّصل بقوله: و إنّ الّذي لبنى فاطمة. إلى قوله: و تشريفا لوصلته. ثمّ يقول: و إن حدث بحسن و حسين حدث فإنّ للآخر منهما أن ينظر في بنى علىّ فإن وجد فيهم من يرضى بهديه و إسلامه و أمانته منهم فإنّه يجعله إليه إنشاء و إن لم يرفيهم بعض الّذي يريد فإنّه يجعله في بنى ابنى فاطمة و يجعله إلى من يرضى بهديه و اسلامه و أمانته منهم. و إنّه شرط على الّذي جعله إليه أن يترك المال على اصوله و ينفق من ثمره حيث أمره اللّه من سبيل اللّه و وجوهه و ذوى الرحم‏ من بنى هاشم و بنى المطّلب و القريب و البعيد، و أن لا يبيع من أولاد نخيل هذه القرى إلى آخره. ثمّ يقول: ليس لأحد عليها سبيل هذا ما قضى علىّ أمواله هذه يوم قدم مسكن ابتغاء وجه اللّه و الدار الآخرة لا يباع منه شي‏ء و لا يوهب و لا يورث و اللّه المستعان على كلّ حال، و لا يحلّ لامرئ مسلم يؤمن باللّه و اليوم الآخر أن يغيّر شيئا ممّا أوصيت به في مال و لا يخالف فيه أمرى من قريب و لا بعيد. و شهد هذا أبو سمر بن أبرهة و صعصعة بن صوحان و سعيد بن قيس و هيّاج بن أبي الهيّاج، و كتب علىّ بن أبي طالب بيده لعشر خلون من جمادى الاولى سنة سبع و ثلاثين.

اللغة
يولجني: يدخلني. و الأمنة: الأمن. و حرّرها: جعلها حرّة.

المعنى
و أكثر هذه الوصيّة واضح عن الشرح غير أنّ فيها نكتا: الاولى: جواز الوصيّة و الوقف على هذا الوجه، و تعليم الناس كيفيّة ذلك. الثانية: قوله: يأكل منه بالمعروف: أى على وجه الاقتصاد الّذي يحلّ له من غير إسراف و تبذير و لا بخل و تقتير و ينفق منه في المعروف: أى في وجوه البرّ المتعارفة غير المنكرة في الدين. الثالثة: قوله: فإن حدث بحسن حدث. كناية عن الموت. و الأمر يحتمل أن يريد به أمره بما أمره به و قيامه به تنفيذه و إجراؤه في موارده، و يحتمل أن يريد به جنس الامور الّتي امر بالتصرّف فيها و بها. الرابعة: الضمير في قوله: بعده. للحسن. و في أصدره. للأمر الّذي يقوم به.
و أمّا الضمير الّذي في مصدره فيحتمل وجهين: أحدهما: عوده إلى الحسن، و تقديره و أصدر الحسين الأمر كإصدار الحسن له و قضى في المال كقضائه. و المصدر بمعنى الإصدار كقوله وَ اللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً«» أى إنباتا، و يحتمل أن يكون المصدر محلّ الإصدار: أى و أصدره في محلّ إصداره.


الثاني: و يحتمل أن يعود إلى الأمر الّذى وصىّ به عليه السّلام و يكون المعنى و وضع كلّ شي‏ء موضعه. الخامسة: قوله: أن يترك المال على اصوله. كناية عن عدم إخراجه ببيع أو هبة أو بوجه من وجوه التمليكات. السادسة: قوله: و أن لا يبيع من أولاد نخيل هذه القرى ودّية حتّى يشكل أرضها غراسا. و الحكمة في ذلك و جهان: أحدهما: أنّ الأرض قبل أن تشكل غراسا ربّما يموت فيها ما يحتاج إلى أخلاف فينبغى أن لا يباع من فسيلها شي‏ء حتّى تكمل غراسا و ثبت بحيث لا يحتاج إلى شي‏ء. الثاني: أنّ النخلة قبل أن يشكل أرضها تكون بعد غير مستحكمة الجذع و لا مشتدّة فلو قلع فسيلها من تحتها ضعف جدّا حتّى لا تكاد نتجت فأمّا إذا قويت و اشتدّت لم يكن عليها بقلع فسيلها كثير مضرّة و ذلك حين يشكل أرضها و يتكامل غراسها و تلتبس على الناظر حسب ما فسرّه السيّد- رحمه اللّه- . السابعة: كنّى بالطواف على إمائه عن نكاحهنّ و كنّ يومئذ سبع عشرة منهنّ امّهات الأولاد أحياء معهنّ أولادهنّ، و منهنّ حبالى، و منهنّ من لا ولد لها.
فقضى فيهنّ إن حدث به حادث الموت أنّ من كانت منهنّ ليس لها ولد و لا حبلى فهى عتيق لوجه اللّه لا سبيل لأحد عليها، و من كان منهنّ لها ولدا و هى حبلى فتمسّك على ولدها و هى من حظّه: أى تلزمه. و يحسب ثمنها من حصّته و تنعتق عليه فإن مات ولدها و هي حيّة فهى عتيق لا سبيل لأحد عليها، و قضاؤه عليه السّلام بكون امّ الولد الحىّ محسوبة من حظّ ولدها و تعتق من مات ولدها من إمائه بعد موته بناء على مذهبه عليه السّلام في بقاء امّ الولد على الرقّ بعد موت سيّدها المستولد و يصحّ بيعها. و هو مذهب الإماميّة، و قول قديم للشافعى، و في الجديد أنّها تنعتق بموت سيّدها المستولد و لا يجوز بيعها، و عليه اتّفاق فقهاء الجمهور حتّى لو بيعت و قضى قاض بصحّة بيعها فالمختار من مذهب الشافعى أنّه ينقض قضاؤه. و باللّه التوفيق.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحه‏ى 406

 

نامه 23 شرح ابن میثم بحرانی

و من كتاب له عليه السّلام قاله قبل موته على سبيل الوصية، لما ضربه ابن ملجم لعنه اللّه

وَصِيَّتِي لَكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئاً- وَ مُحَمَّدٌ ص فَلَا تُضَيِّعُوا سُنَّتَهُ- أَقِيمُوا هَذَيْنِ الْعَمُودَيْنِ- وَ أَوْقِدُوا هَذَيْنِ الْمِصْبَاحَيْنِ وَ خَلَاكُمْ ذَمٌّ- أَنَا بِالْأَمْسِ صَاحِبُكُمْ- وَ الْيَوْمَ عِبْرَةٌ لَكُمْ وَ غَداً مُفَارِقُكُمْ- إِنْ أَبْقَ فَأَنَا وَلِيُّ دَمِي- وَ إِنْ أَفْنَ فَالْفَنَاءُ مِيعَادِي- وَ إِنْ أَعْفُ فَالْعَفْوُ لِي قُرْبَةٌ وَ هُوَ لَكُمْ حَسَنَةٌ- فَاعْفُوا أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَ اللَّهِ مَا فَجَأَنِي مِنَ الْمَوْتِ وَارِدٌ كَرِهْتُهُ- وَ لَا طَالِعٌ أَنْكَرْتُهُ- وَ مَا كُنْتُ إِلَّا كَقَارِبٍ وَرَدَ وَ طَالِبٍ وَجَدَ- وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ قال الرضى رحمه اللّه، و قد مضى بعض هذا الكلام فيما تقدم من الخطب، إلا أن فيه ههنا زيادة أوجبت تكريره.

أقول: هذا الفصل قال عليه السّلام في بعض أيّام مرضه قبل موته و سيأتى شرح حال مقتله و وصيّته في فصل أطول من هذا و أليق بذكر الحال عنده إنشاء اللّه بعده

اللغة
و فجأه الأمر: أتاه بغتة. و القارب: طالب الماء. و قيل: هو الّذي يكون بينه و بين الماء ليلة.

و قد وصىّ عليه السّلام بأمرين هما عمود الإسلام و بهما يقوم:
أحدهما: أن لا يشركوا باللّه شيئا.
و هو التوحيد الخالص، و الشهادة به أوّل مطلوب بلسان الشريعة كما سبق بيانه.

و الثاني: الاهتمام بأمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المحافظة على سنّته.
و قد علمت أنّ من سنّته وجوب اتّباع كلّما جاء و المحافظة عليه فإذن المحافظة على كتاب اللّه من الواجبات المأمور بها بالالتزام. و ظاهر أنّ إقامة هذين الأمرين مستلزم للخلوّ عن الذمّ، و لفظ العمود مستعار لهما ملاحظة لشبههما بعمودى البيت في كونهما سببين لقيام الإسلام و عليهما مداره كالبيت على عمده، و خلاكم ذمّ. كالمثل. يقال: افعل كذا و خلاك ذمّ: أى فقد أعذرت و سقط عنك الذمّ. ثمّ نعى نفسه إليهم، و أشار إلى وجه العبرة بحاله بذكر تنقّلها و تغيّرها في الأزمان الثلاثة ففي الماضي كان صاحبهم الّذي يعرفونه بالقوّة و الشجاعة و قهر الأعداء و عليه مدار امور الدنيا و الدين، و في الحاضر صار عبرة: أى محلّ عبرة. فحذف المضاف، أو معتبرا. فأطلق اسم المتعلّق على المتعلّق مجازا، و في المستقبل مفارق لهم. ثمّ أردف ذلك ببيان أمره مع قاتله على تقديرى فنائه و بقائه، و يشبه أن يكون في الكلام تقديم و تأخير و التقدير فأنا ولىّ دمى، و روى: أولى بدمى فإن شئت أقمت القصاص و إن شئت عفوت فإن أعف فالعفو لي قربة و إن أفن فالفناء ميعادي فإن شئتم فاقتلوا قاتلى و إن شئتم تعفو فالعفو لكم حسنة فاعفوا، لكنّه ذكر قسمى بقائه و فنائه ثمّ عقّبهما بذكر حكمهما مقترنين و اقتبس الاية في معرض الندب إلى العفو ترغيبا فيه. ثمّ أقسم أنّه ما أتاه من بغتة الموت وارد كرهه و لا طالع أنكره. و صدقه في ذلك ظاهر فإنّه عليه السّلام كان سيّد الأولياء بعد سيّد الأنبياء. و من خواصّ أولياء اللّه شدّة محبّة اللّه و الشوق البالغ إلى ما أعدّ لأوليائه في جنّات عدن. و من كان كذلك كيف يكره وارد الموت الّذي‏ هو باب وصوله إلى محابّه و أشرف مطالبه الّتي قطع وقته في السعي لها و هي المطالب الحقّة الباقية و كيف ينكره و هو دائم الترصّد و الاشتغال و الذكر له. ثمّ شبّه نفسه في هجوم الموت عليه و وصوله بسببه إلى ما اعدّ له من الخيرات الباقية بالقارب الّذي ورد الماء، و وجه الشبه استقرا به لتلك الخيرات و وثوقه بها و استسهاله بسببها آفات الدنيا و شدائد الموت كما يستسهل القارب عند وروده الماء ما كان يجده من شدّة العطش و تعب الطريق، و فيه إيماء إلى تشبيه تلك الخيرات بالماء. و كذلك شبّه نفسه بالطالب الواجد لما يطلبه، و وجه الشبه كونه قرّا عينا بما ظفر به من مطالبه الاخرويّة كما يطيب نفس الطالب للشي‏ء به إذا وجده، و ظاهر أنّ طيب النفس و بهجتها بما تصيبه من مطالبها ممّا يتفاوت لتفاوت المطالب في العزّة و النفاسة، و لمّا كانت المطالب الاخرويّة أهمّ المطالب و أعظمها قدرا و أعزّها جوهرا أوجب أن يكون بهجة نفسه بها و قرّة عينه بما أصاب منها أتمّ كلّ بهجة بمطلوب. ثمّ اقتبس الآية في مساق إشعاره بوجدان مطلوبه منبّها بها على أنّ مطلوبه في الدنيا لم يكن إلّا ما عند اللّه الّذي هو خير لأوليائه الأبرار من كلّ مطلوب يطلب. و باللّه التوفيق.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحه‏ى 404

نامه22 شرح ابن میثم بحرانی

و من كتاب له عليه السّلام إلى عبد اللّه بن العباس رحمه اللّه

و كان عبد اللّه يقول: ما انتفعت بكلام بعد كلام رسول اللّه، صلّى اللّه‏ عليه و آله كانتفاعى بهذا الكلام. أَمَّا بَعْدُ- فَإِنَّ الْمَرْءَ قَدْ يَسُرُّهُ دَرْكُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَفُوتَهُ- وَ يَسُوؤُهُ فَوْتُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيُدْرِكَهُ- فَلْيَكُنْ سُرُورُكَ بِمَا نِلْتَ مِنْ آخِرَتِكَ- وَ لْيَكُنْ أَسَفُكَ عَلَى مَا فَاتَكَ مِنْهَا- وَ مَا نِلْتَ مِنْ دُنْيَاكَ فَلَا تُكْثِرْ بِهِ فَرَحاً- وَ مَا فَاتَكَ مِنْهَا فَلَا تَأْسَ عَلَيْهِ جَزَعاً- وَ لْيَكُنْ هَمُّكَ فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ

اللغة

أقول: الدرك: اللحوق. و لا تأس: و لا تحزن.

المعنى

و حاصل الفصل النهى عن شدّة الفرح بما يحصل من المطالب الدنيويّة و شدّة الأسف على ما يفوت منها، و بيان ما ينبغي للإنسان أن يسرّ بحصوله و يأسف لفقده ممّا لا ينبغي له. فأشار إلى الأوّل بقوله: فإنّ المرء إلى قوله: ليدركه، و هو خبر في معنى النهي، و لفظ ما في الموضعين مهمل يراد به المطالب الدنيويّة، و نبّه بقوله: ما لم يكن ليفوته. على أنّ ما يحصل من مطالب الدنيا أمر واجب في القضاء الإلهىّ وصوله إلى من يحصل له فهو كالحاصل فلا ينبغي أن يشتدّ فرحه عند حصوله، و بقوله: ما لم يكن ليدركه. على أنّ ما يفوت منها فهو أمر واجب فوته فالأسف عليه ممّا لا يجدي نفعا بل هو ضرر عاجل. ثمّ خصّصه بالخطاب على سبيل الوصيّة و الموعظة و فصّل له ما ينبغي أن يسرّ و يأسف عليه ممّا لا ينبغي له فأمّا ما ينبغي أن يسرّ به فهو ما ناله من آخرته و ما ينبغي أن يأسف عليه فهو ما فاته منها، و أمّا ما ينبغي أن لا يفرح به ممّا ناله من دنياه لما عرفت من وجوب فنائها و كون القرب منها مستلزما للبعد عن الآخرة و ما ينبغي أن لا يأسف عليه ممّا لم ينله منها لكون البعد عنها مستلزما للقرب من الآخرة.
فإن قلت: كيف قال: ما نلت من آخرتك. و معلوم أنّه لا ينال شي‏ء من الآخرة إلّا بعد الموت.

قلت: يحتمل وجهين: أحدهما: لا نسلّم أنّ من مطالب الآخرة لا يحصل إلّا بعد الموت فإنّ الكمالات النفسانيّة من العلوم و الأخلاق الفاضلة و الفرح بها من الكمالات الاخرويّة و إن كان الإنسان في الدنيا. الثاني: يحتمل أن يريد فليكن سرورك بما نلت من أسباب آخرتك. فحذف المضاف و أقام المضاف إليه مقامه.
و كذلك بيّن له ما ينبغي أن يكون همّه متوجّها نحوه و قصده متعلّقا به و هو ما بعد الموت من أحوال الآخرة من سعادة دائمة يسعى في تحصيلها أو شقاوة لازمة يعمل للخلاص منها. و باللّه التوفيق.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحه‏ى 402

نامه 21 شرح ابن میثم بحرانی

و من كتاب له عليه السّلام

إليه أيضا فَدَعِ الْإِسْرَافَ مُقْتَصِداً- وَ اذْكُرْ فِي الْيَوْمِ غَداً- وَ أَمْسِكْ مِنَ الْمَالِ بِقَدْرِ ضَرُورَتِكَ- وَ قَدِّمِ الْفَضْلَ لِيَوْمِ حَاجَتِكَ- أَ تَرْجُو أَنْ يُعْطِيَكَ اللَّهُ أَجْرَ الْمُتَوَاضِعِينَ- وَ أَنْتَ عِنْدَهُ مِنَ الْمُتَكَبِّرِينَ- وَ تَطْمَعُ وَ أَنْتَ مُتَمَرِّغٌ فِي النَّعِيمِ تَمْنَعُهُ الضَّعِيفَ وَ الْأَرْمَلَةَ- أَنْ يُوجِبَ لَكَ ثَوَابَ الْمُتَصَدِّقِينَ- وَ إِنَّمَا الْمَرْءُ مَجْزِيٌّ بِمَا أَسْلَفَ وَ قَادِمٌ عَلَى مَا قَدَّمَ وَ السَّلَامُ

اللغة

أقول: التمرّغ: التمعّك [التملّك خ‏] و التقلّب.

المعنى

و قد أمره في هذا الفصل بأوامر:
أحدها: ترك الإسراف
و هو رذيلة الإفراط من فضيلة الاقتصاد المتوسّط بينه و بين الإجحاف بالنفس و الإصرار بها و هو طرف التفريط من هذه الفضيلة.
و الأمر بترك الإسراف مستلزم للأمر بهذه الفضيلة لأنّ الأمر بالشي‏ء على حالة أمر بتلك الحالة أيضا.

الثاني: أن يذكر في اليوم غدا
أى يذكر في حاضر أوقاته مستقبلها من يوم القيامة فإنّ في ذلك زجرا للنفس و انكسارا عن الإشراف على الدنيا و الاشتغال بها.

الثالث: أن يمسك من المال بقدر ضرورته.
و هو تفسير للاقتصاد في تناول الدنيا و حفظها.

الرابع: أن يقدّم الفضل منها ليوم حاجته
و هو يوم القيامة و ما بعد الموت.
و فيه استدراج لإنفاق المال في سبيل اللّه فإنّ كلّ عاقل يعلم أنّ إسلاف ما لا يحتاج إليه من فضول المال في سبيل اللّه و تقديمه لما يحتاج إليه في وقت حاجته من أكبر المصالح المهمّة.
ثمّ استفهم على سبيل الإنكار عن رجائه أن يؤتيه اللّه ثواب المتواضعين حال ما هو مكتوب في علمه من المتكبّرين تنبيها منه على أنّ ثواب كلّ فضيلة إنّما ينال باكتسابها و التخلّق بها لا بالكون على ضدّها. فمن الواجب إذن التخلّق بفضيلة التواضع لينال ثوابها. و لن يحصل التخلّق بها إلّا بعد الانحطاط عن درجات المتكبّرين فهو إذن من الواجبات، و كذلك استفهمه عن طمعه في ثواب المتصدّقين حال اقتنائه للمال و تنعّمه به و منه ما للضعيف و الأرملة استفهام منكر لذلك الطمع على تلك الحال فإنّ ثواب كلّ حسنة بقدرها و من لوازمها، و جزاء كلّ حسنة بحسبها و من لوازمها. و نبّه على ذلك بقوله: و إنّما المرء مجزىّ بما أسلف. إلى آخره، و في قوله: قادم على ما قدّم. من محاسن الكلام، و فيه الاسقاق.


شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی ج 4 ، صفحه‏ى 402

نامه20شرح ابن میثم بحرانی

و من كتاب له عليه السّلام إلى زياد بن أبيه

و هو خليفة عامله عبد اللّه بن عباس على البصرة، و عبد اللّه خليفة أمير المؤمنين على البصرة و الأهواز و فارس و كرمان وَ إِنِّي أُقْسِمُ بِاللَّهِ قَسَماً صَادِقاً- لَئِنْ بَلَغَنِي أَنَّكَ خُنْتَ مِنْ فَيْ‏ءِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئاً صَغِيراً أَوْ كَبِيراً- لَأَشُدَّنَّ عَلَيْكَ شَدَّةً تَدَعُكَ قَلِيلَ الْوَفْرِ- ثَقِيلَ الظَّهْرِ ضَئِيلَ الْأَمْرِ وَ السَّلَامُ أقول: زياد هذا هو زياد بن سميّة امّ أبي بكره، دعىّ أبي سفيان، قد يعدّ في أولاده من غير صريح بنوّة، و روي أنّ أوّل من دعاه ابن أبيه عايشه حين سئلت لمن يدعى. و كان كاتبا لمغيرة بن شعبة ثمّ كتب لأبي موسى ثمّ كتب لابن عامر ثمّ كتب لابن عبّاس. و كان مع علىّ عليه السّلام فولّاه فارس. فكتب إليه معاوية يهدّده.
فكتب إليه: أتوعّدنى و بينى و بينك ابن أبي طالب أما و اللّه لئن وصلت إلىّ لتجدنى أحمز ضرابا بالسيف. ثمّ ادّعاه معاوية أخا له و ولّاه بعد علىّ عليه السّلام البصرة و أعمالها و جمع له بعد المغيرة بن شعبة العراقين. و كان أوّل من جمعا له.

اللغة

و الشدّة: الحملة. و الوفر: المال. و الضئيل: الحقير.

المعنى

و حاصل الفصل تحذير زياد من خيانة مايليه من مال المسلمين و وعيده إن وقعت منه بالعقوبة عليها. و كنّى عنها بالشدّة و وصف شدّة تلك الشدّة باستلزامها امورا ثلاثة فيها سلب الكمالات الدنيويّة و الاخرويّة:

أحدها: نقصان ماله و قلّته.

و الثاني: نقصان جاهه. و كنّى عنه بقوله: ضئيل الأمر. و هما سالبان للكمال الدنيويّ.

الثالث: ثقل ظهره بالأوزار و التبعات. و هو دالّ على سلب كماله الاخروىّ. فإن قلت: كيف يريد ثقل الظهر بالأوزار و ليس ذلك بسبب شدّته عليه السّلام و إنّما الأوزار من اكتساب نفسه.
قلت: إنّ مجموع هذه الامور الثلاثة و هى سلب ماله و جاهه مع ثقل الظهر بالأوزار حالة يدعه عليها و هي حالة مخوفة مكروهة خوّفه بها. و لا شكّ أنّ تلك الحالة من فعله و إن لم يكن بعض أجزائها من فعله، أو نقول: الثلاثة أحوال متعدّدة و الحال لا يلزم أن تكون من فعل ذى الحال، و يحتمل أن يكون ثقل الظهر كناية عن التضعّف و عدم النهوض بما يحتاج إليه و يهمّه: أى يدعك ضعيف الحركة في الامور، و اللّه أعلم.


شرح نهج البلاغة (ابن ميثم بحراني)، ج 4 ، صفحه‏ى 400