خطبه79 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام فى صفة الدنيا

مَا أَصِفُ مِنْ دَارٍ أَوَّلُهَا عَنَاءٌ وَ آخِرُهَا فَنَاءٌ- فِي حَلَالِهَا حِسَابٌ وَ فِي حَرَامِهَا عِقَابٌ- مَنِ اسْتَغْنَى فِيهَا فُتِنَ- وَ مَنِ افْتَقَرَ

فِيهَا حَزِنَ وَ مَنْ سَاعَاهَا فَاتَتْهُ- وَ مَنْ قَعَدَ عَنْهَا وَاتَتْهُ وَ مَنْ أَبْصَرَ بِهَا بَصَّرَتْهُ- وَ مَنْ أَبْصَرَ إِلَيْهَا أَعْمَتْهُ

قال الشريف: أقول: و إذا تامل المتأمل قوله عليه السّلام «من أبصر بها بصرته» وجد تحته من المعنى العجيب و الغرض البعيد ما لا تبلغ غايته و لا يدرك غوره، و لا سيما إذا قرن إليه قوله «و من أبصر إليها أعمته»، فإنه يجد الفرق بين «أبصر بها» و «أبصر إليها» واضحا نيرا و عجيبا باهرا

اللغة

أقول: العناء: التعب،

و قد ذكر للدنيا في معرض ذمّها و التنفير عنها أوصافا عشرة:

الأوّل: كون أوّلها عناء
و هو إشارة إلى أنّ الإنسان من لدن ولادته في تعب‏ و شقاء، و يكفى في الإشارة إلى متاعب الإنسان فيها ما ذكره الحكيم برزويه في صدر كتاب كليلة و دمنة في معرض تطويع نفسه بالصبر على عيش النسّاك: أو ليست الدنيا كلّها أذى و بلاء أو ليس الإنسان يتقلّب في ذلك من حين يكون جنينا إلى أن يستوفى أيّامه فإنّا قد وجدنا في كتب الطبّ أنّ الماء الّذي يقدّر منه الولد السوىّ إذا وقع في رحم المرأة اختلط بمائها و دمها و غلظ ثمّ الريح تمحص ذلك الماء و الدم حتّى تتركه كالرائب الغليظ ثمّ تقسمه في أعضائه لآناء أيّامه فإن كان ذكرا فوجهه قبل ظهر امّه و إن كان انثى فوجهها قبل بطن امّها، و ذقنه على ركبتيه و يداه على جنبيه مقبض في المشيمة كأنّه مصرور، و يتنفّس من متنفّس شاقّ، و ليس منه عضو إلّا كأنّه مقموط، فوقه حرّ البطن و تحته ما تحته، و هو منوط بمعاء من سرّته إلى سرّة امّه منها يمصّ و يعيش من طعام امّه و شرابها فهو بهذه الحالة في الغمّ و الظلمات و الضيق حتّى إذا كان يوم ولادته سلّط اللّه الريح على بطن امّه و قوى عليه التحريك فتصوّب رأسه قبل المخرج فيجد من ضيق المخرج و عصره ما يجده صاحب الرهق [الرمق خ‏] فإذا وقع على الأرض فأصابته ريح أو مسّته يد وجد من ذلك من الألم ما لم يجده من سلخ جلده ثمّ هو في ألوان من العذاب إن جاع فليس له استطعام، و إن عطش فليس له استقاء، أو وجع فليس له استغاثة مع ما يلقى من الرفع و الوضع و اللفّ و الحلّ و الدهن و المرخ، إذا انيم على ظهره لم يستطع تقلّبا. فلا يزال في أصناف هذا العذاب ما دام رضيعا. فإذا أفلت من ذلك اخذ بعذاب الأدب فاذيق منه ألوانا، و في الحميّة و الأدواء و الأوجاع و الأسقام. فإذا أدرك فهمّ المال و الأهل و الولد و الشره و الحرص و مخاطرة الطلب و السعى. و كلّ هذا يتقلّب معه فيها أعداؤه الأربعة: المرّة و البلغم و الدم و الريح، و السمّ المميت و الحيّات اللادغة مع و خوف السباع و الناس و خوف البرد و الحرّ ثمّ ألوان عذاب الهرم لمن بلغه.

الثاني: كون آخرها فناء.
هو تنفير عنها بذكر غايتها و هو الموت و ما يستصحبه من فراق الأهل و الأحبّة، و الإشراف على أهوانه العظيمة المعضلة.

الثالث: كونها في حلالها حساب.
و هو إشارة إلى ما يظهر في صحيفة الإنسان يوم القيامة من الآثار المكتوبة عليه ممّا خاض فيه من مباحات الدنيا، و توسّع فيه من المآكل‏ و المشارب و المناكح و المراكب، و ما يظهر في لوح نفسه من محبّة ذلك فيعوقه عن اللحوق بالمجرّدين عنها الّذين لم يتصرّفوا فيها تصرّف الملّاك فلم يكتب عليه في شي‏ء منها ما يحاسبون عليه. و إليه إشارة سيّد المرسلين صلى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ الفقراء ليدخلون الجنّة قبل الأغنياء بخمس مائة عام، و إنّ فقراء امّتى ليدخلون الجنّة سعيا، و عبد الرحمن يدخلها حبوا. و ما ذاك إلّا لكثرة حساب الأغنيا بتعويقهم بثقل ما حملوا من محبّة الدنيا و قيناتها عن اللحوق بدرجة المخفّين منها. و قد عرفت كيفيّة الحساب.

الرابع: كونها في حرامها عقاب.
و هو تنفير عمّا يوجب العقاب من الآثام بذكره.

الخامس: كونها من استغنى فيها فتن
أى كانت محبّته لما اقتنى فيها سببا لفتنته و ضلاله عن سبيل اللّه كما قال تعالى وَ اعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ«»

السادس: كونها من افتقر فيها حزن.
و ظاهر أنّ الفقير الطالب للدنيا غير الواجد لها في غاية المحنة و الحزن على ما يفوته منها، و خاصّة ما يفوته بعد حصوله له.

السابع: من ساعاها فاتته.
و أقوى أسباب هذا الفوات أنّ تحصيلها أكثر ما يكون بمنازعة أهلها عليها و مجاذبتهم إيّاها، و قد علمت ثوران الشهوة و الغضب و الحرص عند المجاذبة للشي‏ء و قوّة منع الإنسان له. و تجاذب الخلق للشي‏ء و عزّته عندهم سبب لتفويت بعضهم له على بعض، و فيه تنبيه على وجوب ترك الحرص عليها و الإعراض عنها.
إذ كان فواتها اللازم عن شدّة السعى في فضلها مكروها للسامعين.

الثامن: كونها من قعد عنها و اتته.
و هو أيضا جذب إلى القعود عنها و تركها و إن كان الغرض مواتاتها كما يفعله أهل الزهد الظاهرىّ المشوب بالرياء، و قد علمت أنّ الزهد الظاهرىّ مطلوب أيضا للشارع إذ كان وسيلة إلى الزهد الحقيقىّ كما قال الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم: الرياء قنطرة الإخلاص. و قد راعى في القرائن السجع المتوازى.

التاسع: من أبصر بها بصّرته:
أى من جعلها سبب هدايته و بصره استفاد منها البصر و الهداية، و ذلك أنّك علمت أنّ مقصود الحكمة الإلهيّة من خلق هذا البدن و ما فيه من الآلات و المنافع إنّما هو استكمال نفسه باستخلاص العلوم الكلّيّة و فضايل‏ الأخلاق من تصفّح جزئيّات الدنيا و مقايسات بعضها إلى بعض كالاستدلال بحوادثها و عجائب مخلوقات اللّه فيها على وجوده و حكمته وجوده، و تحصيل الهداية بها إلى أسرار ملكه فكانت سببا مادّيا لذلك فلأجله صدق أنّها تبصّر من أبصر بها.

العاشر: و من أبصر إليها أعمته:
أى من مدّ إليها بصر بصيرته، و تطّلع إليها بعين قلبه محبّة و عشقا أعمت عين بصيرته عن إدراك أنوار اللّه و الاهتداء لكيفيّة سلوك سبيله.

و إليه الإشارة بالنهى في قوله تعالى وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى‏ ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ«» و قد ظهر الفرق بين قوله: من أبصر بها، و من أبصر إليها، و مدح السيّد لهذا الفصل مدح في موضعه.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه‏ى 228

خطبه 78 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام

أَيُّهَا النَّاسُ الزَّهَادَةُ قِصَرُ الْأَمَلِ- وَ الشُّكْرُ عِنْدَ النِّعَمِ وَ التَّوَرُّعُ عِنْدَ الْمَحَارِمِ- فَإِنْ عَزَبَ ذَلِكَ عَنْكُمْ فَلَا يَغْلِبِ الْحَرَامُ صَبْرَكُمْ-

وَ لَا تَنْسَوْا عِنْدَ النِّعَمِ شُكْرَكُمْ- فَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ بِحُجَجٍ مُسْفِرَةٍ ظَاهِرَةٍ- وَ كُتُبٍ بَارِزَةِ الْعُذْرِ وَاضِحَةٍ

اللغة

أقول: عزب: ذهب و بعد.

و أعذر: أظهر عذره.

و مسفرة: مشرقة.

المعنى

و أعلم أنّ قوله: أيّها الناس. إلى قوله: عند المحارم. تفسير للزهد

و قد رسمه بثلاثة لوازم له:

الأوّل: قصور الأمل. و لمّا علمت فيما سلف أنّ الزهد هو إعراض النفس عن متاع الدنيا و طيّباتها و قطع الالتفات إلى ما سوى اللّه تعالى ظهر أنّ ذلك الإعراض مستلزم لقصر الأمل في الدنيا إذ كان الآمل إنّما يتوجّه نحو مأمول، و المتلفت إلى اللّه من الدنيا كيف يتصوّر طول أمله لشي‏ء منها.

الثاني: الشكر على النعمة. و ذلك أنّ العبد بقدر التفاته عن أعراض الدنيا يكون‏ محبّته للّه و إقباله عليه و اعترافه الحقّ بالآية، و ذلك أنّ الشكر حال للقلب يثمرها العلم بالمشكور و هو في حقّ اللّه أن يعلم أنّه لا منعم سواه، و أنّ كلّ منعم يقال في العرف فهو واسطة مسخّرة من نعمته. و تلك الحال تثمر العمل بالجوارح.

الثالث: الورع و هو لزوم الأعمال الجميلة و الوقوف على حدود عن التوّرط في محارمه و هو ملكة تحت العفّه، و قد علمت أنّ الوقوف على التوّرط في المحارم و لزوم الأعمال الجميلة لازمة للالتفات عن محابّ الدنيا و لذّاتها المنهىّ عن الميل إليها. و هذا التفسير منه عليه السّلام مستلزم للأمر به.

و قوله: بعد ذلك: فإن عزب عنكم
إلى آخره يحتمل معنيين: أحدهما: و هو الظاهر أنّه إن بعد عليكم و شقّ استجماع هذه الامور الثلاثة فالزموا منها الورع و الشكر. و كأنّه رخّص لهم في طول الأمل، و ذلك أنّه قد يتصوّر طوله فيما ينبغي من عمارة الأرض لغرض الآخرة، و لأنّ قصر الأمل لا يصدر إلّا عن غلبة الخوف من اللّه تعالى على القلب و الإعراض بالكلّيّة عن الدنيا و ذلك في غاية الصعوبة فلذلك نبّه على لزوم الشكر و الورع و رخّص في طول الأمل، و فسّر الورع بالصبر إذ كان لازما للورع، و هما تحت ملكة العفّة، ثمّ شجّعهم بذكر الغلب عن مقاومة الهوى، و نبّهم بذكر النسيان على لزوم التذكّر. الثاني: يحتمل أن يكون لمّا فسّر الزهد باللوازم الثلاثة في معرض الأمر بلزومها قال بعدها: فإن صعب عليكم لزوم الشكر و الثناء للّه و لزوم الأعمال الجميلة فاعدلوا إلى امور أسهل منها. فرخّص لهم في طول الأمل لما ذكرناه، ثمّ في التذكّر لنعم اللّه بحيث لا ينسى بالكلّيّة و يلتفت عنها عوضا عن دوام الحمد و الثناء، ثمّ في الصبر عند المحارم و عند الانقهار لغلبة دواعى الشيطان عوضا من لزوم الأعمال الجميلة عندها فإنّ الصبر عند شرب الخمر مثلا عند حضورها أهون على الطبع من الصوم عن ساير المباحات حينئذ و لزوم ساير الأعمال الجميلة.
 
و قوله: فقد أعذر. إلى آخره.
تأكيد لما سبق من أمره بالزهد، و جذب إليه. و أشار بالحجج إلى الرسل لقوله تعالى‏

رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ«» و لفظ الحجج مستعار، و وجه المشابهة أنّه لمّا كان ظهور الرسل قاطعا ألسنة حال الظالمين لأنفسهم في محفل القيامة عن أن يقولوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَ نَخْزى‏«» أشبه الحجّة القاطعة فاستعير لفظها له، و بإسفارها و ظهورها إلى إشراق أنوار الدين عن نفوسهم الكاملة على نفوس الناقصين و هو استعارة أيضا، و أشار ببروز عذر الكتب إلى ظهورها أعذارا للّه إلى خلقه بتخويفهم و ترغيبهم و إرشادهم إلى طريق النجاة، و إسناد الأعذار إلى اللّه تعالى استعارة من الأقوال المخصوصة الّتي يبديها الإنسان عذرا لأفعال اللّه و أقواله الّتي عرّف خلقه فيها صلاحهم و أشعرهم فيها بلزوم العقاب لهم لو لم يلتفتوا إليها. و باللّه التوفيق.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه‏ى 226

خطبه 77 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام بعد حرب الجمل، فى ذم النساء

مَعَاشِرَ النَّاسِ إِنَّ النِّسَاءَ نَوَاقِصُ الْإِيمَانِ- نَوَاقِصُ الْحُظُوظِ نَوَاقِصُ الْعُقُولِ- فَأَمَّا نُقْصَانُ إِيمَانِهِنَّ- فَقُعُودُهُنَّ عَنِ الصَّلَاةِ وَ

الصِّيَامِ فِي أَيَّامِ حَيْضِهِنَّ- وَ أَمَّا نُقْصَانُ عُقُولِهِنَّ- فَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ كَشَهَادَةِ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ- وَ أَمَّا نُقْصَانُ حُظُوظِهِنَّ-

فَمَوَارِيثُهُنَّ عَلَى الْأَنْصَافِ مِنْ مَوَارِيثِ الرِّجَالِ- فَاتَّقُوا شِرَارَ النِّسَاءِ وَ كُونُوا مِنْ خِيَارِهِنَّ عَلَى حَذَرٍ- وَ لَا تُطِيعُوهُنَّ فِي

الْمَعْرُوفِ حَتَّى لَا يَطْمَعْنَ فِي الْمُنْكَرِ

المعنى

أقول: لمّا كانت واقعة الجمل و ما اشتملت عليه من هلاك جمع عظيم من المسلمين منسوبا إلى رأى امرأة أراد أن ينبّه على وجوه نقصان النساء و أسبابه فذكر نقصانهنّ من وجوه ثلاثة:

أحدها: كونهنّ نواقص الايمان
و أشار إلى جهة النقص فيه بقعود إحديهنّ عن الصلاة و الصوم أيّام الحيض، و لمّا كان الصوم و الصلاة من كمال الإيمان و متمّمات الرياضة كان قعودهنّ عن الارتياض بالصوم و الصلاة في تلك الأيّام نقصانا لايمانهنّ، و إنّما رفعت الشريعة التكليف عنهنّ بالعبادتين المذكورتين لكونهنّ في حال مستقذرة لا يتأهّل صاحبها للوقوف بين يدي الملك الجبّار، و يعقل للصوم وجه آخر و هو أنّه يزيد الحائض إلى ضعفها ضعفا بخروج الدم. و أسرار الشريعة أدقّ و أجلّ أن يطّلع عليها عقول ساير الخلق.

الثاني: كونهنّ نواقص حظّ
و أشار إلى جهة نقصانه بأنّ ميراثهنّ على النصف من ميراث الرجال كما قال تعالى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ يُوصِيكُمُ«» و الّذي يلوح من سرّ ذلك كثرة المئونة على الرجل و هو أهل التصرّف و كون المرأة من شأنها أن تكون مكفولة محتاجة إلى قيّم هولها كالخادم.

الثالث: كونهنّ نواقص عقول
و لذلك سبب من داخل و هو نقصان استعداد أمزجتهنّ، و قصورهنّ عن قبول تصرّف العقل كما يقبله مزاج الرجل كما نبّه تعالى عليه بقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى‏ أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ«» فإنّه نبّه على ضعف القوّة الذاكرة فيهنّ، و لذلك جعل شهادة امرأتين بشهادة رجل واحد، و له أيضا سبب عارض من خارج و هو قلّة معاشرتهنّ لأهل العقل و التصرّفات و قلّة رياضتهنّ لقواهنّ الحيوانيّة بلزوم القوانين العقليّة في تدبير أمر المعاش و المعاد و لذلك كانت أحكام القوى الحيوانيّة فيهنّ أعلب على أحكام عقولهنّ فكانت المرأة أرّق و أبكى و أحسد و ألجّ و أبغى و أجزع و أوقح و أكذب و أمكر و أقبل للمكر و أذكر لمحقّرات الامور و لكونها بهذه الصفة اقتضت الحكمة الإلهيّة أن يكون عليها حاكم و مدبّر تعيش بتدبيره و هو الرجل فقال تعالى الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ«» و لشدّة قبولها للمكر و قلّة طاعتها للعقل مع كونها مشتركة و داعية إلى نفسها اقتضت أيضا أن يسنّ في حقّها التستّر و التخدّر.

و قوله: فاتّقوا شرار النساء و كونوا من خيارهنّ على حذر.
 لمّا نبّه على جهة نقصانهنّ، و قد علمت أنّ النقضان يستلزم الشرّ لا جرم نفّر عنهنّ فأمر أوّلا بالخشية من شرارهنّ و هو يستلزم الأمر بالهرب منهنّ و عدم مقاربتهنّ فأمّا خيارهنّ فإنّه أمر بالكون منهنّ على حذر. و يفهم من ذلك أنّه لا بدّ من مقاربتهنّ، و كان الإنسان إنّما يختار مقاربة الخيرة منهنّ فينبغى أن يكون معها على تحرّز و تثبّت في سياستها و سياسة نفسه معها إذ لم تكن الخيرة منهنّ خيرة إلّا بالقياس إلى الشريرة. ثمّ نهى عن طاعتهنّ بالمعروف كيلا يطمعن في المنكر، و أشار به إلى طاعتهنّ فيما يشرن به و يأمرن مطلقا و إن كان معروفا صوابا، و فيما يطلبنه من زيادة المعروف و الإحسان إليهنّ و إكرامهنّ بالزينة و نحوها فإنّ طاعة امرائهنّ فيما يشرون من معروف تدعوهنّ‏ إلى الشور بما لا ينبغي، و التسلّط على الأمر به فإن فعل فليفعل لأنّه معروف لا لأنّه مقتضى رأيهنّ. و زيادة إكرامهنّ من مقوّيات دواعى الشهوة و الشرّ فيهنّ حتّى ينتهى بهنّ الطمع إلى الاقتراح و طلب الخروج إلى المواضع الّتي يرى فيها زينتهنّ و نحو ذلك إذ العقل مغلوب فيهنّ بدواعى الشهوات. و في المثل المشهور: لا تعط عبدك كراعا فيأخذ ذراعا. و روى: أنّ رسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم كان يخطب يوم عيد فالتفت إلى صفوف النساء فقال: معاشر النساء تصدّقن فإنّى رأيتكنّ أكثر أهل النار عددا. فقالت واحدة منهنّ: و لم يا رسول اللّه فقال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: لأنكنّ تكثرن اللعن، و تكفرن العشير، و تمكث إحديكنّ شطر عمرها لا تصوم و لا تصلّى.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه‏ى 223

خطبه76 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام

قاله لبعض أصحابه لما عزم على المسير إلى الخوارج، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن سرت فى هذا الوقت خشيت أن لا تظفر بمرادك، من طريق علم النجوم.

فقال عليه السّلام: أَ تَزْعُمُ أَنَّكَ تَهْدِي إِلَى السَّاعَةِ- الَّتِي مَنْ سَارَ فِيهَا صُرِفَ عَنْهُ السُّوءُ- وَ تُخَوِّفُ مِنَ السَّاعَةِ الَّتِي مَنْ

سَارَ فِيهَا حَاقَ بِهِ الضُّرُّ- فَمَنْ صَدَّقَكَ بِهَذَا فَقَدْ كَذَّبَ الْقُرْآنَ- وَ اسْتَغْنَى عَنِ الِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ- فِي نَيْلِ الْمَحْبُوبِ وَ دَفْعِ

الْمَكْرُوهِ- وَ تَبْتَغِي فِي قَوْلِكَ لِلْعَامِلِ بِأَمْرِكَ- أَنْ يُولِيَكَ الْحَمْدَ دُونَ رَبِّهِ- لِأَنَّكَ بِزَعْمِكَ أَنْتَ هَدَيْتَهُ إِلَى السَّاعَةِ- الَّتِي نَالَ

فِيهَا النَّفْعَ وَ أَمِنَ الضُّرَّ ثم أقبل ع على الناس فقال أَيُّهَا النَّاسُ- إِيَّاكُمْ وَ تَعَلُّمَ النُّجُومِ إِلَّا مَا يُهْتَدَى بِهِ فِي بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ- فَإِنَّهَا

تَدْعُو إِلَى الْكَهَانَةِ- وَ الْمُنَجِّمُ كَالْكَاهِنِ وَ الْكَاهِنُ كَالسَّاحِرِ وَ السَّاحِرُ كَالْكَافِرِ- وَ الْكَافِرُ فِي النَّارِ سِيرُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ

اللغة

أقول: حاق به: أحاط. و يوليه كذا: يعطيه إيّاه و يجعله أولى به.

المعنى

و روى أنّ المشير عليه بذلك كان عفيف بن قيس أخا لأشعث بن قيس و كان يتعاطى‏ علم النجوم. و اعلم أنّ الّذي يلوح من سرّ نهى الحكمة النبوّية عن تعلّم النجوم أمران:

أحدها: اشتغال متعلّمها بها، و اعتماد كثير من الخلق السامعين لأحكامها فيما يرجون و يخافون عليه فيما يسنده إلى الكواكب و الأوقات، و الاشتغال بالفزع إليه و إلى ملاحظة الكواكب عن الفزع إلى اللّه و الغفلة عن الرجوع إليه فيمايهمّ من الأحوال و قد علمت أنّ ذلك يضادّ مطلوب الشارع إذ كان غرضه ليس إلّا دوام التفات الخلق إلى اللّه و تذكّرهم لمعبودهم بدوام حاجتهم إليه.

الثاني: أنّ الأحكام النجوميّة إخبارات عن امور سيكون و هى تشبه الاطّلاع على الامور الغيبيّة. و أكثر الخلق من العوامّ و النساء و الصبيّان لا يتميّزون بينها و بين علم الغيب و الإخبار به. فكان تعلّم تلك الأحكام و الحكم بها سببا لضلال كثير من الخلق موهنا لاعتقاداتهم في المعجزات إذ الإخبار عن الكائنات منها، و كذلك في عظمة بارئهم. و يسلكهم في عموم صدق قوله تعالى قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ و عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ«» و قوله إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ«» فالمنجّم إذا حكم لنفسه بأنّه يصيب كذا في وقت كذا فقد ادّعى أنّ نفسه تعلم ما تكسب غدا و بأىّ أرض تموت. و ذلك عين التكذيب للقرآن، و كأنّ هذين الوجهين هما المقتضيان لتحريم الكهانة و السحر و العزائم و نحوها، و أمّا مطابقة لسان الشريعة للعقل في تكذيب هذه الأحكام فبيانها أنّ أهل النظر أمّا متكلّمون فإمّا معتزلة أو أشعريّة.

أمّا المعتزلة فاعتمادهم في تكذيب المنجّم على أحد أمرين: أحدهما: أنّ الشريعة كذّبته. و عندهم أنّ كلّ حكم شرعىّ فيشتمل على وجه عقلىّ و إن لم يعلم عين ذلك الوجه، و الثاني مناقشته في ضبطه لأسباب ما اخبر عنه من كون أو فساد.

و أمّا الاشعريّة فهم و إن قالوا: إنّه لا مؤثّر له إلّا اللّه و زعم بعضهم أنّهم خلصوا بذلك من إسناد التأثيرات إلى الكواكب إلّا أنّه لا مانع على مذهبهم أن يجعل اللّه‏ تعالى اتّصال نجم بنجم أو حركته علامة على كون كاين أو فساده و ذلك ممّا لا يبطل على منجّم قاعدة. فيرجعون أيضا إلى بيان عدم إحاطته بأسباب كون ما اخبر عنه. و مناقشته في ذلك.

و أمّا الحكماء فاعلم أنّه قد ثبت في اصولهم أنّ كلّ كائن فاسد في هذا العالم فلا بدّ له من أسباب أربعة: فاعلىّ، و مادّىّ، و صورىّ، و غائىّ: أمّا السبب الفاعلىّ القريب فالحركات السماوية و الّذي هو أسبق منها فالمحرّك لها إلى أن ينتهى إلى الجود الإلهىّ المعطى لكلّ قابل ما يستحقّه، و أمّا سببه المادىّ فهو القابل لصورته و تنتهى القوابل إلى القابل الأوّل و هو مادّة العناصر المشتركة بينها، و أمّا الصورىّ فصورته الّتي يقبلها مادّته، و أمّا الغائىّ فهى الّتي لأجلها وجد. أمّا الحركات السماويّة فإنّ من الكاينات ما يحتاج في كونه إلى دورة واحدة للفلك، و منها ما يحتاج إلى جملة من أدواره و اتّصالاته. و أمّا القوابل للكائنات فقد تقرّر عندهم أيضا أنّ قبولها لكلّ كاين معيّن مشروط باستعداد معيّن له و ذلك الاستعداد يكون بحصول صورة سابقة عليه و هكذا قبل كلّ صورة صورة معدّة لحصول الصورة بعدها و كلّ صورة منها أيضا تستند إلى الاتّصالات و الحركات الفلكيّة، و لكلّ استعداد معيّن زمان معيّن و حركة معيّنة و اتّصال معيّن يخصّه لا يفي بدركها القوّة البشريّة.

إذا عرفت ذلك فنقول: الأحكام النجوميّة إمّا أن تكون جزئيّة و إمّا كلّيّة.

أمّا الجزئيّة فأن يحكم مثلا بأنّ هذا الإنسان يكون من حاله كذا و كذا، و ظاهر أنّ مثل هذا الحكم لا سبيل إلى معرفته إذ العلم به إنّما هو من جهة أسبابه أمّا الفاعليّة فأن يعلم أنّ الدورة المعيّنة و الاتّصال المعيّن سبب لملك هذا الرجل البلد المعيّن مثلا و أنّه لا سبب فاعلىّ لذلك إلّا هو، و الأوّل باطل لجواز أن يكون السبب غير ذلك الاتّصال أو هو مع غيره. أقصى ما في الباب أن يقال:

إنّما كانت هذه الدورة و هذه الاتّصال سببا لهذا الكاين لأنّها كانت سببا لمثله فى الوقت الفلانىّ لكن هذا أيضا باطل لأنّ كونها سببا للكائن السابق لا يجب أن يكون لكونها مطلق دورة و اتّصال بل لعلّه أن يكون لخصوصيّة كونه تلك المعيّنة الّتى لا تعود بعينها فيما بعد، و حينئذ لا يمكن الاستدلال بحصولها على كون هذا الكاين لأنّ المؤثرات المختلفة لا يجب تشابه آثارها، و الثاني‏ أيضا باطل لأنّ العقل يجزم بأنّه لا اطّلاع له على أنّه لا يقتضى لذلك الكاين من الأسباب الفاعلة إلّا الاتّصال المعيّن. كيف و قد ثبت أنّ من الكاينات ما يفتقر إلى أكثر من اتّصال واحد و دورة واحدة أو أقلّ، و أمّا القابليّة فأن يعلم أنّ المادّة قد استعدّت لقبول مثل هذا الكاين و استجمعت جميع شرائط قبوله الزمانيّة و المكانيّة و السماويّة و الأرضيّة. و ظاهر أنّ الإحاطة بذلك ممّا لا يفي به القوّة البشريّة، و أمّا الصوريّة و الغائيّة فأن يعلم ما يقتضيه استعداد مادّة ذلك المعيّن و قبولها من الصورة و ما يستلزمه من الشكل و المقدار، و أن يعلم ما غاية وجوده و ما أعدّته العناية له، و ظاهر أنّ الإحاطة بذلك غير ممكنة للإنسان.

و أمّا أحكامهم الكلّيّة فكأن يقال كلّما حصلت الدورة الفلانيّة كان كذا. و المنجّم إنّما يحكم بذلك الحكم من جزئيّات من الدورات تشابهت آثارها فظنّها متكرّرة و لذلك يعدلون إذا حقّق القول عليهم إلى دعوى التجربة، و قد علمت أنّ التجربة تعود إلى تكرّر مشاهدات يضبطها الحسّ. و العقل يحصل منها حكما كليّا كحكمه بأنّ كلّ نار محرقة فإنّه لمّا أمكن العقل استبتات الإحراق بواسطة الحسّ أمكنه الجزم الكلّى بذلك. فأمّا التشكّلات الفلكيّة و الاتّصالات الكوكبيّة المقتضية لكون ما يكون فليس شي‏ء منها يعود بعينه كما علمت و إن جاز أن يكون تشكّلات و عودات متقاربة الأحوال و متشابهة إلّا أنّه لا يمكن الإنسان ضبطها و لا الاطّلاع على مقدار ما بينها من المشابهة و التفاوت، و ذلك أنّ حساب المنجّم مبنىّ على قسمة الزمان بالشهور و الأيّام و الساعات و الدرج و الدقايق و أجزائها، و تقسيم الحركة بإزائها و رفعهم بينها نسبة عدديّة و كلّ هذه امور غير حقيقيّة و إنّما تؤخذ على سبيل التقريب. أقصى ما في الباب أنّ التفاوت فيها لا يظهر في المدد المتقاربة لكنّه يشبه أن يظهر في المدد المتباعدة، و مع ظهور التفاوت في الأسباب كيف يمكن دعوى التجربة و حصول العلم الكلّى الثابت الّذي لا يتغيّر باستمرار أثرها على و تيرة واحدة. ثمّ لو سلّمنا أنّه لا يظهر تفاوت أصلا إلّا أنّ العلم بعود مثل الدورة

إذا عرفت ذلك فنقول: قوله: أ تزعم إلى قوله: الضرّ. استثبات لما في العادة أن يدّعيه الأحكاميّون كما ادّعاه المنجّم المشير بعدم المسير في ذلك الوقت. و قوله: فمن صدّقك [صدّق خ‏] بهذا إلى قوله: الضرر. إلزامات له على ما يعتقده عن نفرتها عن قبول أحكام المنجّم و الاعتقاد فيه.

أوّلها: أنّ من صدّقه فقد كذّب القرآن، و وجه التكذيب ما ذكرناه.

الثاني: كون مصدّقه يستغنى عن الاستعانة باللّه في نيل محبوبه و رفع مكروهه: أى يفزع إليه في كلّ أمريهمّ به و يجعلهم عمدة له فيعرض عن الفزع إلى اللّه كما سبق.

الثالث: أنّه ينبغي للعامل أن يوليه الحمد دون ربّه. و علّل هذا الإلزام بقياس ضمير من الشكل الأوّل. صورته: تزعم أنّك تهدى إلى ساعة النفع و الضرر، و كلّ من زعم ذلك فقد أهّل نفسه لاستحقاق الحمد من مصدّقه دون اللّه. فينتج أنّه قد أهّل نفسه لاستحقاق الحمد من مصدّقه دون اللّه. و الكبرى من المخيّلات، و قد يستعملها الخطيب للتنفير عن بعض الامور الّتى يقصد النهى عنها. و قوله: أيّها الناس. إلى قوله: برّ أو بحر. تحذير عن تعلّمها لما ذكرناه، و استثنى من ذلك تعلّمها للاهتداء بها في السفر.

و اعلم أنّ الّذي ذكرناه ليس إلّا بيان أنّ الاصول الّتي ينبى‏ء عليها الأحكاميّون و ما يخبرون به في المستقبل اصول غير موثوق بها فلا يجوز الاعتماد عليها في تلك الأحكام و الجزم بها. و هذا لا ينافي كون تلك القواعد ممهّدة بالتقريب كقسمة الزمان و حركة الفلك بالسنة و الشهر و اليوم مأخوذا عنها حساب يبنى عليه مصالح دينيّة كمعرفة أوقات العبادات كالصوم و الحجّ و نحوهما أو دنيويّة كآجال المداينات و ساير المعاملات و كمعرفة الفصول الأربعة ليعمل في كلّ منها ما يليق به من الحراثة و السفر و أسباب المعاش، و كذلك معرفة قوانين تقريبيّة من أوضاع الكواكب و حركاتها يهتدى بقصدها و على‏ سمتها المسافرون في برّ أو بحر فإنّ ذلك القدر منها غير محرّم بل لعلّه من الامور المستحبّة لخلوّ المصالح المذكورة فيه عن وجوه المفاسد الّتي تشتمل عليها الأحكام كما سبق. و لذلك أمتن اللّه سبحانه على عباده بخلق الكواكب في قوله وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ«» و قوله لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ«» و قوله: فإنّها. إلى آخره.

تعليل للتحذير عن تعلّمها و تنفير عنها بقياس آخر موصول يستنتج منه أنّ المنجّم في النار. و على تقدير تفصيله فالنتيجة الاولى كون المنجّم كالساحر و هى مع قوله: و الساحر كالكافر. و هذه النتيجة مع قوله: و الكافر في النار ينتج المطلوب، و هو أنّ المنجّم في النار، و القياسان الأوّلان من قياس المساواة. و قد علمت أنّه عسر الانحلال إلى الحدود المرتّبة في القياس المنتج لأنّ موضوع الكبرى جزء من محمول الصغرى فليس الأوسط بمشترك فهو معدول عن وجهه إلى وقوع الشركة في بعض الأوسط. و لذلك يستحقّ أن يفرد باسم و يجعل لتحليله قانون يرجع إليه في أمثاله. و قد سبق مثله في الخطبة الاولى. و إذا حمل على القياس الصحيح كان تقديره المنجّم يشبه الكاهن المشبه للساحر و مشبه الكاهن المشبه للساحر مشبه للساحر فينتج أنّ المنجّم يشبه الساحر، و هكذا في القياس الثاني المنجّم يشبه الساحر المشبه للكافر و مشبه الساحر المشبه للكافر يشبه الكافر فالمنجّم يشبه الكافر و الكافر في النار فالمنجّم كذلك و هو القياس الثالث و نتيجته. فأمّا بيان معنى الكاهن و الساحر و الإشارة إلى وجوه التشبيهات المذكورة: فاعلم أنّا قد أشرنا في المقدّمة إلى مكان وجود نفس تقوى على اطّلاع ما سيكون و على التصرّفات العجيبة في هذا العالم فتلك النفس إن كانت كاملة خيّرة مجذوبة من اللّه تعالى بدواعى السلوك إلى سبيله و ما يقود إليه فهى نفوس الأنبياء و الأولياء ذوى المعجزات و الكرامات، و إن كانت ناقصة شريرة منجذبة عن تلك الجهة و غير طالبة لتلك المرتبة بل مقتصرة على رذايل الأخلاق و خسائس الامور كالتكهّن و نحوه‏ فهى نفوس الكهنة و السحرة.

و أعلم أنّ أكثر ما تظهر قوّة الكهانة و نحوها من قوى النفوس في أوقات الأنبياء و قبل ظهورهم. و ذلك أنّ الفلك إذا أخذ في التشكّل بشكل يتمّ به في العالم حدث عظيم عرض من ابتداء ذلك الشكل و غايته أحداث في الأرض شبيهة بما يريد أن يتمّ و لكنّها تكون غير تامّه فإذا استكمل ذلك الشكل في الفلك و تمّ وجد به في العالم ما يقتضيه في أسرع زمان لسرعة تبدّل أشكال الفلك فتظهر تلك القوّة الّتي يوجبها ذلك الشكل في شخص واحد أو شخصين أو أكثر على حسب ما يقتضيه العناية الإلهيّة و يستوعب ذلك الشخص تلك القوّة على الكمال. فأمّا من قرب من ذلك الشكل و لم يستوفه فإنّه يكون ناقص القوّة بحسب بعده من الشكل. و يظهر ذلك النقصان بظهور النبوّة المقصودة من ذلك الشكل.
فتبيّن قصور القوى المتقدّمة على النبىّ و المتأخّرة عنه و نقصانهما عن ذلك التمام.

فأمّا صفة الكاهن من أصحاب تلك القوى فإنّ صاحب قوّة الكهانة إذا أحسّ بها من نفسه تحرّك إليها بالإرادة ليكملها فيبرزها في امور حسيّة و يثيرها في علامات تجرى مجرى الفال و الزجر و طرق الحصى، و ربّما استعان بالكلام الّذي فيه سجع و موازنة أو بحركة عنيفة من عدو حثيث كما حكى عن كاهن من الترك، و كما نقل إلىّ من شاهد كاهنا كان في زماننا و توفّى مند عشرين سنة يكنّى بأبى عمرو كان بناحية من ساحل البحر يقال لها قلهات، و إنّه كان إذا سئل عن أمر استعان بتحريك رأسه تحريكا يقوى و يضعف بحسب الحاجة و أجاب عقيب ذلك، و قيل إنّه كان قد يستغنى في بعض الإخبارات عن تلك الحركة. و الغرض من ذلك اشتغال النفس عن المحسوسات فتداخل نفسه و يقوى فيها ذلك الأثر و يهجس في نفسه عن تلك الحركة ما تقذفه على لسانه، و ربّما صدق الكاهن، و ربّما كذب. و ذلك أنّه يتمّم نقصه بأمر مباين لكماله غير داخل فيه فيعرض له الكذب و يكون غير موثوق به، و ربّما تعمد الكذب خوفا من كساد بضاعته فيستعمل الزرق و يخبر بمالا أثر له في نفسه و يضطرّ إلى التخمين. و درجات هؤلاء متفاوتة بحسب قربهم من الافق الإنسانىّ و بعدهم منه و بقدر قبولهم للأثر العلوىّ. و يتميّزون عن الأنبياء بالكذب و ما يدّعونه من المحالات فإن اتّفق أن يلزم أحدهم الصدق فإنّه لا يتجاوز قدره في قوّته و يبادر إلى التصديق بأوّل أمر يلوح من النبىّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم و يعرف فضله كما روى عن طلحة و سواد بن قارب و نحوهما من الكهنة في زمان الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم.

إذا عرفت ذلك فنقول: أمّا قوله: فإنّها تدعو إلى الكهانة. أىّ أنّها تدعو المنجّم في آخر أمره إلى أن يصّير نفسه كالكاهن في دعوى الإخبار عمّا سيكون، ثمّ أكّد كونها داعية إلى التمكين بتشبيهه بالكاهن. و أعلم أنّ الكاهن يتميّز عن المنجّم بكون ما يخبر به من الأمور الكاينة إنّما هو عن قوّة نفسانيّة له، و ظاهر أنّ ذلك أدعى إلى فساد أذهان الخلق و إغوائهم لزيادة اعتقادهم فيه على المنجّم، و أمّا الساحر فيتميّز عن الكائن بأنّ له قوّة على التأثير في أمر خارج عن بدنه آثارا خارجة عن الشريعة موذية للخلق كالتفريق بين الزوجين و نحوه و تلك زيادة شرّ آخر على الكاهن أدعى إلى فساد أذهان الناس و زيادة اعتقادهم فيه و انفعالهم عنه خوفا و رغبة، و أمّا الكافر فيتميّز عن الساحر بالبعد الأكبر عن اللّه تعالى و عن دينه و إن شاركه في أصل الانحراف عن سبيل اللّه. و حينئذ صار الضلال و الفساد في الأرض مشتركا بين الأربعة إلّا أنّه مقول عليهم بالأشدّ و الأضعف فالكاهن أقوى في ذلك من المنجّم، و الساحر أقوى من الكاهن، و الكافر أقوى من الساحر. و لذلك التفاوت جعل عليه السّلام الكاهن أصلا في التشبيه للمنجّم لزيادة فساده عليه ثمّ ألحقه به، و جعل الساحر أصلا للكاهن، و الكافر أصلا للساحر. لأنّ التشبيه يستدعى كون المشبّه به أقوى في الوصف الّذي فيه التشبيه و أحقّ به. و قد لاح من ذلك أنّ وجه الشبه في الكلّ هو ما يشتركون فيه من العدول و الانحراف عن طريق اللّه بالتنجيم و الكهانة و السحر و الكفر و ما يلزم من ذلك من صدّ كثير من الخلق عن سبيل اللّه و إن اختلف جهات هذا العدول بالشدّة و الضعف كما بيّناه. و لمّا فرغ عليه السّلام من تنفير أصحابه عن تعلّم النجوم و قبول أحكامها و غسّل أذهانهم من ذلك بالتخويف المذكور أمرهم بالمسير إلى الحرب. و روى: أنّه سار في تلك الساعة إلى الخوارج و كان منه ما علمت من الظفر بهم و قتلهم حتّى لم يفلت منهم غير تسعة نفر، و لم يهلك من رجاله غير ثمانية نفر كما سبق بيانه، و ذلك يستلزم خطأ ذلك المنجّم و تكذيبه في مقاله. و باللّه التوفيق.

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه‏ ى 216

خطبه 75 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلمات كان يدعو بها  

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي- فَإِنْ عُدْتُ فَعُدْ عَلَيَّ بِالْمَغْفِرَةِ- اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا وَأَيْتُ مِنْ نَفْسِي وَ لَمْ تَجِدْ لَهُ

وَفَاءً عِنْدِي- اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا تَقَرَّبْتُ بِهِ إِلَيْكَ بِلِسَانِي- ثُمَّ خَالَفَهُ قَلْبِي اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي رَمَزَاتِ الْأَلْحَاظِ- وَ سَقَطَاتِ

الْأَلْفَاظِ وَ شَهَوَاتِ الْجَنَانِ وَ هَفَوَاتِ اللِّسَانِ

اللغة

أقول: الوأى: الوعد.

و الرمزات: جمع رمزة و هى الإشارة بالعين أو الحاجب أو الشفة.

و السقط من الشي‏ء: رديئه.

و الهفوة: الزلّة.

المعنى

و قد سأل اللّه سبحانه في جميع هذا الفصل المغفرة. و مغفرة اللّه للعبد تعود إلى ستره عليه أن يقع في مهاوى الهلكة في الآخرة أو يكشف مقابحه لأهل الدنيا فيها و كلّ ذلك يعود إلى توفيقه لأسباب السعادة و جذبه بها عن متابعة الشيطان في المعاصى قبل صدورها منه أو قبل صيرورتها ملكات في جوهر نفسه و المطلوب غفره امور:

الأوّل: ما اللّه أعلم به منه ممّا هو عند اللّه معصية و سيّئة في حقّه و هو لا يعلمها فيفعلها، ثمّ طلب تكرار مغفرة اللّه لما يعاوده و يتكرّر منه كذلك. و إذا تصوّرت معنى المغفرة تصوّرت كيف تكرارها.

الثاني: ما وعد نفسه أن يفعله للّه ثمّ لم يوف به. و ما هاهنا مصدريّة. و لا شكّ أنّ مطال النفس بفعل الخير و عدم الوفاء به إنّما يكون عن خاطر شيطانىّ يجب أن يستغفر اللّه له و يسأل ستره ببعث الدواعى الجاذبة عن متابعة الشيطان المحرّك له.

الثالث: شوب النفس ما يتقرّب به من الأعمال إلى اللّه بالرياء و السمعة و مخالفة نيّة القربة إليه بقصد غيره لها. و لا شكّ أنّ ذلك شرك خفىّ جاذب عن الترقّى في درجات العلى، و يحتاج إلى تدارك اللّه بالمغفرة و الجذب عنه قبل تمكّنه من النفس.

الرابع: الإشارة باللحظ. و هو الايماء الخارج عن الحدود الشريعة كما يفعل‏  عند التنبيه على شخص ليعاب أو ليضحك منه أو يظلم. و كلّ تلك عن خواطر شيطانيّة ينبغي أن يسأل اللّه تعالى رفع أسبابها و ستر النفس عن التدنّس بها.

الخامس: سقطات الألفاظ و الردى‏ء من القول. هو ما تجاوز حدود اللّه و خرج بها الإنسان عن مستقيم صراطه.

السادس: شهوات القلوب. فمن روى بالشين المعجمة فالمراد جذب القوّة الشهويّة للنفس: أى مشتهياتها، و من روى بالسين فسهوات القلب خواطره الّتي لا يشعر بتفصيلها إذا خالفت أو امر اللّه و قد تستتبع حركة بعض الجوارح إلى فعل خارج عن حدود اللّه أيضا و ذلك و إن كان لا يوجب أثرا في النفس و لا يؤخذ به إلّا أنّه ربّما يقوى بقوّة أسبابه و كثرتها فيقطع العبد عن سلوك سبيل اللّه كما في حقّ المنهمكين في لذّات الدنيا المتجرّ دين لها فإنّ أحدهم ربّما رام أن يصلّى الفرض فيصلّى الصلاة الواحدة مرّتين أو مرارا و لا يستثبت عدد ركعاتها و سجداتها، و غفر مثل ذلك بجذب العبد عن الأسباب الموجبة له.

السابع: هفوات اللسان: أى الزلل الحاصل من قبله. و مادّته أيضا خاطر شيطانىّ، و غفره بتوفيقه لمقاومة هواه. و أعلم أنّ الشيعة لمّا أوجبوا عصمته عليه السّلام عن المعاصى حملوا طلبه لمغفرة هذه الامور على وجهين: أحدهما: و هو الأدّق أنّ طلبه لغفرانها إنّما هو على تقدير وقوعها منه فكأنّه قال: اللهمّ إن صدر عنّى شي‏ء من هذه الامور فاغفره لى، و قد علمت أنّه لا يلزم من صدق الشرطيّة صدق كلّ واحد من جزئيها فلا يلزم من صدق كلامه صدور شي‏ء منها حتّى يحتاج إلى المغفرة.
الثاني: أنّهم حملوا ذلك على تأديب الناس و تعليمهم كيفيّة الاستغفار من الذنوب أو على التواضع و الاعتراف بالعبوديّة و أنّ البشر في مظنّة التقصير و الإساءة. و أمّا من لم يوجب عصمته فالأمر معه ظاهر. و باللّه التوفيق.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه‏ ى 214

خطبه74 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام

إِنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَيُفَوِّقُونَنِي تُرَاثَ مُحَمَّدٍ ص تَفْوِيقاً- وَ اللَّهِ لَئِنْ بَقِيتُ لَهُمْ- لَأَنْفُضَنَّهُمْ نَفْضَ اللَّحَّامِ الْوِذَامَ التَّرِبَةَ و يروى «التراب

الوذمة». و هو على القلب. قال الشريف: و قوله عليه السّلام «ليفوقوننى» أى. يعطونني من المال قليلا كفواق الناقة،

و هو الحلبة الواحدة من لبنها، و الوذام: جمع و ذمة و هى: الحزة من الكرش أو الكبد تقع فى التراب فتنفض.

المعنى

أقول: استعار لفظ التفويق لعطيّتهم له المال قليلا، و وجه المشابهه هو قلّة ما يعطونه منه مع كونه في دفعات كما يعطى الفصيل ضرع امّه لتدرّ، ثم يدفع عنها لتحلب، ثمّ يعاد إليها لتدرّ. و تراث محمّد إشارة إلى الفى‏ء الحاصل ببركة محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم و هو التراث اللغوىّ المكتسب عن الميّت بوجه ما، ثمّ أقسم إن بقى لبنى اميّة ليحرمنّهم التقدّم في الامور، و استعار لفظ النفض لإبعادهم عن ذلك، و شبّه نفضه لهم بنفض القصّاب القطعة من الكبد أو الكرش من التراب إذا أصابته. و هذه الرواية هو الحقّ، و الثانية سهو من الناقلين.

و قد ورد عنه هذا الكلام بزيادة و نقصان في رواية اخرى و ذلك أنّ سعيد بن العاص حيث كان أمير الكوفة من قبل عثمان بعث إليه بصلة فقال: و اللّه لا يزال غلام من عثمان بني اميّة يبعث إلينا ما أفاء اللّه على رسوله بمثل قوت الأرملة، و اللّه لئن بقيت لأنفضنّها نفض القصّاب الوذام التربة.

شرح‏ نهج‏ البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه‏ ى 213

خطبه 73شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ حُكْماً فَوَعَى- وَ دُعِيَ إِلَى رَشَادٍ فَدَنَا وَ أَخَذَ بِحُجْزَةِ هَادٍ فَنَجَا- رَاقَبَ رَبَّهُ وَ خَافَ ذَنْبَهُ قَدَّمَ خَالِصاً وَ

عَمِلَ صَالِحاً- اكْتَسَبَ مَذْخُوراً وَ اجْتَنَبَ مَحْذُوراً- وَ رَمَى غَرَضاً وَ أَحْرَزَ عِوَضاً كَابَرَ هَوَاهُ وَ كَذَّبَ مُنَاهُ- جَعَلَ الصَّبْرَ مَطِيَّةَ

نَجَاتِهِ وَ التَّقْوَى عُدَّةَ وَفَاتِهِ- رَكِبَ الطَّرِيقَةَ  

الْغَرَّاءَ وَ لَزِمَ الْمَحَجَّةَ الْبَيْضَاءَ- اغْتَنَمَ الْمَهَلَ وَ بَادَرَ الْأَجَلَ وَ تَزَوَّدَ مِنَ الْعَمَلِ

اللغة

أقول: الحجزة: معقد الإزار.

و المراقبة: المحافظة.

و ا لغرّاء: البيضاء.

المعنى

و اعلم أنّ هذا الفصل يشتمل على استنزاله عليه السّلام الرحمة لعبد استجمع ما ذكر من الامور، و هى عشرون وصفا:

الأوّل يسمع الحكم فيعيه، و الحكم الحكمة، و دعاؤه لسامعها و واعيها يستلزم أمره بتعلّمها و تعليمها، و هى أعمّ من العلميّة و العمليّة. و وعاها: أى فهمها كما القيت إليه.

الثاني: كونه إذا دعى إلى رشاد دنا من الداعى إليه و أجاب دعاؤه. و الرشاد يعود إلى ما يهديه و يرشده إلى طريق معاشه و معاده من العلوم و الأعمال الّتي وردت بها الشريعة.

الثالث: أن يأخذ بحجزة هاد فينجو به: أى يكون في سلوكه لسبيل اللّه مقتديا باستاد مرشد عالم لتحصل به نجاته، و استعار لفظ الحجزه لأثر الاستاد و سنّته. و وجه المشابهة كون ذهن المقتدى لازما لسنّة شيخه في مضايق طريق اللّه و ظلماتها لينجو به كما يلزم السالك لطريق مظلم لم يسلكه قبل بحجزة آخر قد سلك تلك الطريق و صار دليلا فيها ليهتدى به و ينجو من التيه في ظلماتها. و بين أهل السلوك حلاف أنّه هل يضطرّ المريد إلى الشيخ في سلوكه أم لا. و أكثرهم يرى وجوبه. و يفهم من كلامه عليه السّلام وجوب ذلك و بمثل شهادته يتبجّح الموجبون له إذ كان لسان العارفين و منتهى طبقاتهم. و ظاهر أنّ طريق المريد مع الشيخ أقرب إلى الهداية، و بدونه أطول و أقرب إلى الضلال عنها. فلذلك قال عليه السّلام: فنجا: أى أنّ النجاة معلّقة به، و قد ذكرنا ما احتجّ به الفريقان في كتاب مصباح العارفين.

الرابع: أن يراقب ربّه. و أعلم أنّ المراقبة إحدى ثمرات الإيمان و هى رتبة عظيمة من رتب السالكين قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم: اعبد اللّه كأنّك تراه فإن لم تك تراه فإنّه يراك قال تعالى

أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى‏ كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ«» و قال إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً«» قال الإمام الغزّالىّ: و حقيقتها أنّها حالة للنفس بثمرها نوع من المعرفة، و تثمر أعمالا في الجوارح و القلب: أمّا الحالة فهى مراعاة القلب للرقيب و اشتغاله به، و أمّا العلم المثمر لها فهو العلم بأنّ اللّه تعالى مطّلع على الضمائر و السرائر قائم على كلّ نفس بما كسبت و أنّ سرّ القلوب مكشوف له كظاهر البشرة للخلق بل هو أشدّ فهذه المعرفة إذا استولت على القلب و لم يبق فيها شبهة فلا بدّ أن تجذبه إلى مراعات الرقيب. و الموقنون بهذه المعرفة فمنهم الصدّيقون و مراقبتهم التعظيم و الإجلال و استغراق القلب بملاحظة ذلك الجلال و الانكسار تحت الهيبة و العظمة بحيث لا يبقى فيه متّسع للالتفات إلى الغير أصلا. و هى مراقبة مقصورة على القلب. أمّا الجوارح فإنّها تتعطّل عن التلفّت إلى المباحات فضلا عن المحظورات، و إذا تحرّكت بالطاعة كانت كالمستعمل لها فلا تصلح لغيرها و لا يحتاج إلى تدبير في ضبطها على سنن السداد، و من نال هذه الرتبة فقد يغفل عن الخلق حتّى لا يبصرهم و لا يسمع أقوالهم. و مثّل هذا بمن يحضر في خدمة ملك عظيم فإنّ بعضهم قد لا يحسّ بما يجرى في حضرة الملك من استغراقه بهيبته، و بمن يشغله أمر مهمّ يفكّر فيه.

و روى: أنّ يحيى بن زكريّا عليه السّلام مرّ بامراة فدفعها على وجهها. فقيل له: لم فعلت فقال: ما ظننتها إلّا جدارا. الثانية مراقبة الورعين من أصحاب اليمين و هم قوم غلب بعض اطّلاع اللّه تعالى على قلوبهم و لكن لم تدهشهم ملاحظة الجلال بل بقيت قلوبهم على الاعتدال متّسعة للتلفّت إلى الأقوال و الأعمال إلّا أنّها مع مدارستها للعمل لا تخلو عن المراقبة، و قد غلب الحياء من اللّه على قلوبهم فلا يقدمون و لا يجمحون إلّا عن تثبّت فيمتنعون عن كلّ أمر فاضح في القيامة إذ يرون اللّه تعالى مشاهدا لأعمالهم في الدنيا كما يرونه في القيامة. و من كان في هذه الدرجة فيحتاج أن يراقب جميع حركاته و سكناته و لحظاته و جميع اختياراته و يرصد كلّ خاطر يسنح له فإن كان إلهيّا يعجّل مقتضاه و إن كانت شيطانيّا بادر إلى قمعه   استحيا من ربّه و لام نفسه على اتّباع هواه فيه و إن شكّ فيه توقّف إلى أن يظهر له بنور اللّه سبحانه من أىّ جانب هو كما قال عليه السّلام: الهوى شريك‏

العمى. و من التوفيق التوقّف عند الحيرة و لا يهمل شيئا من أعماله و خواطره و إن قلّ ليسلم من مناقشة الحساب. فقد قال الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم: الرجل ليسئل عن كحل عينيه و عن فتلة الطين بإصبعه و عن لمسه ثوب أخيه.

الخامس: أن يخاف ذنبه. و اعلم أنّ الخوف ليس ممّا هو ذنب بل من المعاقب على الذنب لكن لمّا كان الذنب سببا موجبا لسخط المعاقب و عقابه نسب الخوف إليه. و قد سبق منّا بيان حقيقتى الخوف و الرجاء.

السادس: أن يقدّم خالصا بأن يكون أحواله كلّها خالصة للّه من قول أو عمل، و خاطره بريئة عن الالتفات إلى غيره فيها. و قد سبق معنى الإخلاص في الخطبة الاولى.

السابع: أن يعمل صالحا. و صلاح العمل الإتيان به كما امر به و هو نوع ممّا تقدّمه.

الثامن: أن يكتسب مذخورا. و هو أمر بساير ما أمرت الشريعة باكتسابه. و نبّه على وجوب السعى فيه بأنّه يبقى ذخرا ليوم الفاقة إليه.

التاسع: أن يجتنب محذورا. و هو أمر باجتناب ما نهت الشريعة عنه، و نبّه على وجوب اجتنابه بكونه محذورا يستلزم العقاب في الآخرة.

العاشر: أن يرمى غرضا: أى يحذف أعراض الدنيا عن درجة الاعتبار، و هو إشارة إلى الزهد و التخلّى عن موانع الرحمة.

الحادى عشر: أن يحرز عوضا: أى يذخر في جوهر نفسه ملكات الخير و يوجّه سرّه إلى مطالعة أنوار كبرياء اللّه و يحرز ما يفاض عليه من الحسنات و يثبتها بتكريرها.
فنعم العوض من متاع الدنيا و أعراضها الفانية.

الثاني عشر: أن يكابر هواه: أى يطوّع نفسه الأمّارة بالسوء بالأعمال الدينيّة و يراقبها في كلّ خاطر يلقيه إلى نفسيه و يقابلها بكسره و قمعه.

الثالث عشر: أن يكذب مناه: أى يقابل ما يلفته إليه الشيطان من الأمانى و يعده به بالتكذيب و القمع له بتجويز عدم نيلها. و يحسم مادّه ذلك بالمراقبة فإنّ الوساوس الشيطانيّة يتبع بعضها بعضا، و من إشاراته عليه السّلام إلى ذلك: إيّاكم و المنى فإنّها بضايع‏ النوكى: أى الحمقى.

الرابع عشر: أن يجعل الصبر مطيّة نجاته. و الصبر هو مقاومة النفس لئلّا تنقاد إلى قبايح اللذّات. و لمّا علمت أنّ الانقياد في مسلكها إلى اللذّات القبيحة هو سبب الهلاك في الآخرة علمت أنّ مقاومتها و دفعها عنها هو سبب النجاة هناك، و قد استعار لفظ المطيّة للصبر، و وجه المشابهة كون لزومه سببا للنجاة كما أنّ ركوب المطيّة و الهرب عليها سبب النجاة من العدوّ.

الخامس عشر: أن يجعل التقوى عدّة وفاته. و لمّا كان التقوى قد يراد به الزهد، و قد يراد به الخوف من اللّه المستلزم للزهد كما علمت و كانت العدّة هو ما استعدّ به الإنسان للقاء الحوادث، و كان الموت أعظم حادث يسبق إلى الإنسان من أحوال الآخرة كان التقوى عدّة للموت. إذ كان المتّقى مشغول السرّ بعظمة اللّه و هيبته عن كلّ حالة تلحقه فلا يكون للموت. عنده كثير وقع و لا عظيم كرب، و قد يراد بالتقوى مطلق الإيمان، و بالوفاة ما بعدها مجازا، و ظاهر كون الإيمان عدّة واقية من عذاب اللّه.

السادس عشر: أن يرتكب الطريقة الغرّاء. و هو أن يسلك إلى اللّه تعالى الطريقة الواضحة المستقيمة و هى سريعة.

السابع عشر: و أن يلزم المحجّة البيضاء. و الفرق بين هذا الأمر و الّذي قبله أنّ الأوّل أمر بركوب الطريقة الغرّاء، و الثاني أمر بلزومها و عدم مفارقتها و أنّها و إن كانت واضحة إلّا أنّها طويلة كثيرة المخاوف و سالكها أبدا محارب للشيطان و هو في معرض أن يستزلّه عنها.

الثامن عشر: أن يغتنم المهل: أى أيّام مهلته و هى حياته الدنيا و اغتنامه العمل فيها قبل يوم الحساب.

التاسع عشر: أن يبادر الأجل: أى يسابقه إلى العمل قبل أن يسبقه فيقتطعه عنه.

العشرون: أن يتزوّد من العمل. و هو الأمر بما يتبادر إليه من اتّخاذ العمل زادا.
و قد سبق وجه استعارة الزاد له. و قد راعى عليه السّلام في كلّ مرتبتين من هذا الكلام السجع المتوازى، و جعل الصدر ثلاثا و الآخر ثلاثا و عطف كلّ قرينة على مشاركتها في‏ الحرف الأخير منها، و حذف حرف العطف من الباقى ليتميّز ما يتناسب منها عن غيره.
و كلّ ذلك بلاغة.

 

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه‏ ى 212

خطبه72 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام لما بلغه اتهام بنى أمية له بالمشاركة فى دم عثمان

أَ وَ لَمْ يَنْهَ بَنِي أُمَيَّةَ عِلْمُهَا بِي عَنْ قَرْفِي- أَ وَ مَا وَزَعَ الْجُهَّالَ سَابِقَتِي عَنْ تُهَمَتِي- وَ لَمَا وَعَظَهُمُ اللَّهُ بِهِ أَبْلَغُ مِنْ

لِسَانِي- أَنَا حَجِيجُ الْمَارِقِينَ وَ خَصِيمُ النَّاكِثِينَ الْمُرْتَابِينَ- وَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تُعْرَضُ الْأَمْثَالُ- وَ بِمَا فِي الصُّدُورِ تُجَازَى الْعِبَادُ

اللغة

أقول:

قرفنى بكذا: أى اتّهمنى به و نسبه إلىّ.

و وزع: كفّ.

و حجيجهم: محاجّهم.

و الخصيم: المخاصم.

المعنى

و قوله: أو لم ينه. إلى أو ما وزع.

استفهام من عدم انتهائهم عن نسبته إلى دم عثمان مع علمهم بحاله و قوّته في الدين و عصمته عن دم حرام فضلا عن مثل دم عثمان استفهاما على سبيل الإنكار عليهم و التعجّب منهم، و نسبة لهم إلى الجهل لجهلهم بمناسبة حاله و سابقته في الإسلام لبراءته عمّا قرفوه به. و قوله: و لما وعظهم اللّه به أبلغ من لسانى. تعذير لنفسه في عدم ردعه لهم عن الغيبة و أمثالها: أى إذا كان وعظ اللّه لهم مع كونه أبلغ من كلامى لا يرد عهم فكلامى بطريق الأولى و زواجر كتاب اللّه كقوله إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ و قوله وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً«» الآية و قوله وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً«» و نحوه من القرآن كثير، و أراد بلسانه وعظه مجازا إطلاقا لاسم السبب على المسبّب.

و قوله: أنا حجيج المارقين.

أى الخوارج أو كلّ من خرج عن دين اللّه، و خصيم المرتابين: أى الشاكّين في نسبة هذا الأمر إلىّ، و قيل: المنافقين الشاكّين في صحّة الدين. و قوله: و على كتاب اللّه تعرض الامثال. إلى آخره.
إشارة إلى الحجّة الّتي يحجّ بها. و يخاصهم، و تقريرها: أنّ تعلّق هذا المنكر به إمّا من جهة أقواله، و أفعاله، و اعتقاداته و إرادته، و الثلاثة باطلة فتعلّق هذا المنكر به و نسبته إليه باطلة. بيان الحصر أنّ هذه الجهات هى جهات صدور المنكر عن الإنسان.

بيان بطلان الأوّل و الثاني أنّه إن كان قد حصل في أقواله و أفعاله ما يشبه الأمر بالقتل أو فعله فأوقع في نفوس الجهّال شبهة القتل نحو ما روى منه لمّا سئل عن قتل عثمان: اللّه قتله و أنا معه، و كتخلّفه في داره يوم قتل عن الخروج. فينبغى أن يعرض ذلك على كتاب اللّه تعالى فإنّه عليه تعرض الأمثال و الأشباه فإن دلّ على كون شي‏ء من ذلك قتلا فليحكم به و إلّا فلا. و لن يدلّ أبدا. فليس لهم أن يحكموا بالقتل من جهة قول أو فعل، و أمّا بطلان الثالث فلأنّ علم ما في القلوب إلى اللّه و هو الجازى بما فيها من خير أو شرّ و ليسوا مطّلعين على ما هناك حتّى يحكموا بالقتل من جهتها فإذن حكمهم بتعلّق هذا المنكر به باطل. و باللّه التوفيق.

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه ‏ى 207

خطبه 71 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام لما عزموا على بيعة عثمان

لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَحَقُّ النَّاسِ بِهَا مِنْ غَيْرِي- وَ وَ اللَّهِ لَأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ

الْمُسْلِمِينَ- وَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً- الْتِمَاساً لِأَجْرِ ذَلِكَ وَ فَضْلِهِ- وَ زُهْداً

فِيمَا تَنَافَسْتُمُوهُ مِنْ زُخْرُفِهِ وَ زِبْرِجِهِ

اللغة

أقول: الزخرف: الزينة،

و يقال: الذهب.

و الزبرج: النقش و الزينة بالحلية أيضا.

المعنى

و قوله: لقد علمتم أنّى أحقّ بها. يشير إلى ما علموه من وجه استحقاقه للخلافة و هو استجماعه للفضايل الداخليّة و الخارجيّة، و الضمير في بها للخلافة و هو إمّا أن يعود إلى ذكرها في فصل تقدّم متّصلا بهذا الفصل أو لشهرتها، و كون الحديث فيها قرينة معيّنة لها كما قال قبل: لقد تقمّصها.

و قوله: و اللّه لاسلّمنّ ما سلمت امور المسلمين. أى لأتركنّ المنافسة في هذا الأمر مهما سلمت امور المسلمين من الفتنة. و فيه إشارة إلى أنّ غرضه عليه السّلام من المنافسة في هذا الأمر هو صلاح حال المسلمين و استقامة امورهم و سلامتهم عن الفتن و قد كان لهم بمن سلف من الخلفاء قبله استقامة أمر و إن كانت لا تبلغ عنده كمال استقامتها لو ولى هو هذا الأمر فلذلك أقسم ليسلمنّ ذلك الأمر و لا ينازع فيه إذ لو نازع فيه لثارث الفتنة بين المسلمين و انشقّت عصا الإسلام و ذلك ضدّ مطلوب الشارع، و إنّما يتعيّن عليه النزاع و القتال عند خوف الفتنة و قيامها.

فإن قلت: السؤال من وجهين: الأوّل: ما وجه منافسته في هذا الأمر مع أنّه منصب يتعلّق بامور الدنيا و صلاحها مع ما اشتهر منه عليه السّلام من الزهد فيها و الإعراض عنها و ذمّها و رفضها. الثاني: كيف سلّم هاهنا خوف الفتنة و لم يسلّم لمعاوية و لطلحة و الزبير مع قيام الفتنة في حربهم. قلت: الجواب عن الأوّل: أنّ منصب رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم ليس منصبا دنيا ويّا و إن كان متعلّقا بإصلاح أحوال الدنيا لكن لا لكونها دنيا بل لأنّها مضمار الآخرة و مزرعتها و الغرض من إصلاحها إنّما هو نظام أحوال الخلق في معاشهم و معادهم فمنافسته عليه السّلام في هذا الأمر على هذا الوجه من الامور المندوب إليها إذا اعتقد أنّ غيره لا يغنى غناه في القيام به فضلا أن يقال: إنّها لا تجوز.

و عن الثاني: أنّ الفرق بين الخلفاء الثلاثة و بين معاوية في إقامة حدود اللّه و العمل بمقتضى أوامره و نواهيه ظاهر. و قوله: و لم يكن فيها جور إلّا علىّ خاصّة. تظلّم ممّن عدل بها عنه، و نسبة لهم إلى الجور دون من استحقّها في أنظارهم. فأوصلوها إليه من ساير الخلفاء. و خاصّة نصب على الحال. و قوله: إليها التماسا لأجر ذلك. إلى آخره.

التماسا مفعول له و العامل لاسلمنّ: أى ألتمس ثواب اللّه و فضله بتسليمى و صبري

و كذلك قوله: و زهدا. مفعول له، و فيه إيماء إلى أنّ مقصود غيره من طلب هذا الأمر و المنافسة فيه ليس إلّا الدنيا و زخرفها. و باللّه التوفيق.

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه‏ى 206

خطبه 70 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام
قاله لمروان بن الحكم بالبصرة قالوا: أخذ مروان بن الحكم أسيرا يوم الجمل، فاستشفع الحسن و الحسين عليهما السلام إلى أمير المؤمنين عليه السّلام فكلماه فيه، فخلى سبيله، فقالا له:

يبايعك يا أمير المؤمنين فقال عليه السّلام: أَ وَ لَمْ يُبَايِعْنِي بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ- لَا حَاجَةَ

لِي فِي بَيْعَتِهِ إِنَّهَا كَفٌّ يَهُودِيَّةٌ- لَوْ بَايَعَنِي بِكَفِّهِ لَغَدَرَ بِسَبَّتِهِ- أَمَا إِنَّ لَهُ إِمْرَةً كَلَعْقَةِ

الْكَلْبِ أَنْفَهُ- وَ هُوَ أَبُو الْأَكْبُشِ الْأَرْبَعَةِ- وَ سَتَلْقَى الْأُمَّةُ مِنْهُ وَ مِنْ وَلَدِهِ يَوْماً أَحْمَرَ

اللغة

أقول:

السّبة: الاست.

و الإمرة بالكسر: الولاية.

و كبش القوم: رئيسهم.

المعنى

و لمّا امتنع من بيعة مروان نبّه على سبب امتناعه من ذلك و هو أنّه مظنّة الغدر و ذلك قوله: إنّها كفّ يهوديّة. إذ من شأن اليهود الخبث و المكر و الغدر، ثمّ فسّر تلك الكناية بقوله: لو بايعنى بيده لغدر بسبّته، و ذكر السّبة إهانة له لأنّ الغدر من أقبح الرذائل فنسبته إلى السّبة أولى النسب. و العرب تسلك مثل ذلك في كلامها. قال المتوكّل يوما لأبى العيناء: إلى متى تمدح الناس و تذمّهم. فقال: ما أحسنوا و أساءوا، ثمّ قال: يا أمير المؤمنين: إنّ اللّه تعالى رضى فمدح فقال نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ و سخط فذمّ فقال عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ و الزنيم ولد الزنا. ثمّ ذكر ممّا سيكون من أمر مروان ثلاثة امور:

أحدها: أنّه سيصير أميرا للمسلمين و نبّه على قصر مدّة إمارته بتشبيهها بلعقة الكلب أنفه، و وجه الشبه هو القصر، و كانت مدّة إمرته أربعة أشهر و عشرا، و روى ستّةأشهر، و إنّما خصّه بلعقة الكلب لأنّه في معرض الذمّ، و البحث في أمّا كهو في قوله: أمّا أنّه سيظهر عليكم.

الثاني: أنّه سيكون أبا للأكبش الأربعة. و كان له أربعة ذكور لصلبه و هم عبد الملك و ولى الخلافة، و عبد العزيز و ولى مصر، و بشر و ولى العراق، و محمّد و ولى الجزيرة، و يحتمل أن يريد بالأربعة أولاد عبد الملك و هم الوليد و سليمان و يزيد و هشام كلّهم و لوا الخلافة و لم يلها أربعة إخوة إلّا هم.

الثالث: ما يصدر منه و من ذريّته من الفساد في الأرض، و ما يلقى الناس منهم من القتل و انتهاك الحرمة. و كنّى عن قتلهم للناس و شدايد ما يلقون منهم بالموت الأحمر. و من لسان العرب وصف الأمر الشديد بالأحمر، و لعلّه لكون الحمرة وصف الدم كنّى به عن القتل، و روى يوما أحمر. و هو كناية عن مدّة أمرهم و وصفه بالحمرة كناية عن شدّته.
و فساد بني اميّة و دمارهم للإسلام و أهله مشهور، و في كتب التواريخ مسطور.

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه‏ى 204

خطبه 69 ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام علم فيها الناس الصلاة على النبي صلى اللّه عليه و آله

اللَّهُمَّ دَاحِيَ الْمَدْحُوَّاتِ وَ دَاعِمَ الْمَسْمُوكَاتِ- وَ جَابِلَ الْقُلُوبِ عَلَى فِطْرَتِهَا شَقِيِّهَا وَ

سَعِيدِهَا اجْعَلْ شَرَائِفَ صَلَوَاتِكَ- وَ نَوَامِيَ بَرَكَاتِكَ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَ رَسُولِكَ- الْخَاتِمِ

لِمَا سَبَقَ وَ الْفَاتِحِ لِمَا انْغَلَقَ- وَ الْمُعْلِنِ الْحَقَّ بِالْحَقِّ وَ الدَّافِعِ جَيْشَاتِ الْأَبَاطِيلِ- وَ

الدَّامِغِ صَوْلَاتِ الْأَضَالِيلِ- كَمَا حُمِّلَ فَاضْطَلَعَ قَائِماً بِأَمْرِكَ مُسْتَوْفِزاً فِي مَرْضَاتِكَ- غَيْرَ نَاكِلٍ

عَنْ قُدُمٍ وَ لَا وَاهٍ فِي عَزْمٍ- وَاعِياً لِوَحْيِكَ حَافِظاً لِعَهْدِكَ- مَاضِياً عَلَى نَفَاذِ أَمْرِكَ حَتَّى

أَوْرَى قَبَسَ الْقَابِسِ- وَ أَضَاءَ الطَّرِيقَ لِلْخَابِطِ- وَ هُدِيَتْ بِهِ الْقُلُوبُ بَعْدَ خَوْضَاتِ الْفِتَنِ وَ

الْآثَامِ- وَ أَقَامَ بِمُوضِحَاتِ الْأَعْلَامِ وَ نَيِّرَاتِ الْأَحْكَامِ- فَهُوَ أَمِينُكَ الْمَأْمُونُ وَ خَازِنُ عِلْمِكَ

الْمَخْزُونِ- وَ شَهِيدُكَ يَوْمَ الدِّينِ وَ بَعِيثُكَ بِالْحَقِّ- وَ رَسُولُكَ إِلَى الْخَلْقِ- اللَّهُمَّ افْسَحْ لَهُ

مَفْسَحاً فِي ظِلِّكَ- وَ اجْزِهِ مُضَاعَفَاتِ الْخَيْرِ مِنْ فَضْلِكَ- اللَّهُمَّ وَ أَعْلِ عَلَى بِنَاءِ الْبَانِينَ

بِنَاءَهُ- وَ أَكْرِمْ لَدَيْكَ مَنْزِلَتَهُ وَ أَتْمِمْ لَهُ نُورَهُ- وَ اجْزِهِ مِنِ ابْتِعَاثِكَ لَهُ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ-

مَرْضِيَّ الْمَقَالَةِ ذَا مَنْطِقٍ عَدْلٍ وَ خُطْبَةٍ فَصْلٍ- اللَّهُمَّ اجْمَعْ بَيْنَنَا وَ بَيْنَهُ فِي بَرْدِ الْعَيْشِ وَ

قَرَارِ النِّعْمَةِ- وَ مُنَى الشَّهَوَاتِ وَ أَهْوَاءِ اللَّذَّاتِ وَ رَخَاءِ الدَّعَةِ- وَ مُنْتَهَى الطُّمَأْنِينَةِ وَ تُحَفِ

الْكَرَامَةِ

اللغة

أقول:

المدحوّات: المبسوطات.

و المسموكات: المرفوعات.

و دعمها: حفظها بالدعامة.

جبل: خلق.

و الفطرات: جمع فطرة و هى الخلقة.

و الدمغ: كسر عظم الدماغ.

و جيشات: جمع جيشه من جاشت القدر إذا ارتفع غليانها.

و اضطلع بالأمر: قوى على حمله و القيام به من الضلاعة و هى القوّة.

و الاستيفاز: الاستعجال.

و النكول: الرجوع.

و القدم: التقدّم.

و الوهى: الضعف.

و وعى الأمر: فقهه.

و القبس: شعلة النار.

و أورى: زكى و اشتعل.

و قد اشتملت هذه الخطبة على ثلاثة فصول.

الاوّل: في صفات المدعوّ و تمجيده و هو اللّه سبحانه.
الثاني: في صفات المدعوّ له و هو النبىّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم.
الثالث: في صفات أنواع المدعوّ به. و ذلك هو الترتيب الطبيعىّ.

فبدأه ممجّدا للّه تعالى باعتبارات ثلاثه:

أحدهما:

كونه داحى المدحوّات: أى باسط الأرضين السبع و ظاهر كونها مدحوّات فإنّ كلّ طبقة منها إذا اعتبرت كانت مبسوطة فأمّا صدق البسط على جملة الأرض مع أنّها كرة و شهادة قوله: و الأرض بعد ذلك دحيها. بذلك، و قوله: و الأرض مددناها. فهو باعتبار طبقاتها. و قد يصدق عليها البسط باعتبار سطحها البارز من الماء الذى يتصرّف عليه الحيوان فإنّه في الأوهام سطح مبسوط و إن كان عند الاعتبار العقلىّ محدّبا، و إليه الإشارة بقوله تعالى الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً

الثاني:

داعم المسموكات: أى حافظ السماوات أن تقع على الأرض.
فإن قلت: قد قال في الخطبة الاولى: بلا عمد تدعمها ثمّ جعلها هنا مدعومة فما وجه الجمع.
قلت: لم ينف هناك إلّا كونها مدعومه بعمد و هذا لا ينافي كونها مدعومة بغير العمد، و قد بيّنا هناك أنّ الدعامة الّتى تقوم بها السماوات قدرته تعالى.

الثالث:

كونه جابل القلوب على فطراتها شقيّها و سعيدها: أى خالق النفوس على ما خلقها عليه من التهيّوء و الاستعداد لسلوك سبيلى الخير و الشرّ و استحقاق الشقاوة و السعادة

  بحسب القضاء الإلهىّ كما قال تعالى وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها«» و قوله وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ أى ألهمناه معرفة سلوك طريقى الخير و الشرّ. و أهل العرفان كثيرا ما يعتبرون عن النفس بالقلب. و شقيّها. بدل من القلوب: أى خالق شقىّ القلوب و سعيدها على فطراتها المكتوبة في اللوح المحفوظ فمن أخذت العناية الإلهيّة بزمام عقله على وفق ما كتب له فأعدّته لقبول الهداية لسلوك سبيل اللّه فهو السعيد، و من لحقته حبايل القضاء الإلهىّ فحطّته إلى مهاوى الهلكة فذلك هو الشقّى البعيد. و إليه الإشارة بقوله تعالى يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ«» الآية. و قوله: و اجعل شرائف صلواتك و نوامى بركاتك على محمّد عبدك و رسولك. بعض مطلوباته من هذا الدعاء. و شرايف صلواته ما عظم من رحمته و كمال جوده على النفوس المستعدّه لها، و نوامى بركاته ما زاد منها.

الفصل الثاني:

ذكر للنبىّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم أحد و عشرين وصفا
على جهات استحقاق الرحمة من اللّه و زيادة البركة المدعوّ بها.

الأوّل: كونه عبدا للّه
و ظاهر كون العبوديّة جهة لاستحقاق الرحمة.
الثاني: كونه رسولا له
و الرسالة نوع خاصّ من الاستعباد توجب مزيد الرحمة و الشفقة.
الثالث: كونه خاتما لما سبق
من أنوار الوحى و الرسالة بنوره و ما جاء من الدين الحقّ. و ظاهر كون ذلك جهة استعداد منه لقبول الرحمة و درجات الكمال.
الرابع: كونه فاتحا لما انغلق من سبيل اللّه قبله
و طريق جنّته و حضرة قدسه باندراس الشرائع ففتح صلى اللّه عليه و آله و سلّم تلك السبيل بشرعه و كيفيّة هدايته للخلق فيها.
الخامس: كونه قد أظهر الحقّ بالحقّ.
و الأوّل هو الدين و ما يدعو إليه، و الثاني فيه أقوال: فقيل: هو المعجزات إذ بسببها تمكّن من إظهار الدين، و قيل: الحرب و الخصومة يقال فلان حاقّ فلانا فحقّه: أى خاصمه فغلبه، و قيل: هو البيان: أى أظهر الدين بالبيان الواضح. و أقول: الأشبه أنّه أراد: أظهر الحقّ بعضه ببعض. و كلّ جزئىّ‏

من الحقّ حقّ، و ذلك أنّ الدين لم يظهر دفعة و إنّما بنى الإسلام على خمس ثمّ كثرت فروعه و هو بالأصل يظهر الفرع، و ظاهر كون إظهاره للحقّ جهة لاستحقاقه الرحمة.
السادس: كونه دافعا لجيشات الأباطيل:
أى لثوران فتن المشركين و انبعاثهم لإطفاء أنوار اللّه، أو لفتنتهم السابقة الّتى كانت معتادة من الغارات و حروب بعضهم لبعض فإنّ كلّ ذلك امور باطلة على غير قانون عدلىّ من اللّه، و ذلك الدفع من جهات قبول الرحمة.
السابع: كونه دامغا لصولات الأضاليل،
و هو قريب من السادس، و استعار لفظ الدمغ لهلاك الضلّال بالكلّيّة ببركة مقدمه صلى اللّه عليه و آله و سلّم، و وجه الاستعارة كون الدمغ مهلكا للإنسان فأشبه ما أهلك الباطل و محاه من أفعال الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم. و الضلال هنا الانحراف عن طريق اللّه اللازم عن الجهل بها، و استعار لفظ وصف الصولات له ملاحظة لشبه المنحرفين عن سبيل اللّه إلى الفساد في قوّة انحرافهم و شدّة فسادهم بالفحل الصايل.
الثامن: كونه حمل الرسالة
فقام بما كلّف به و قوى عليه، و قائما. نصب على الحال، و كذلك المنصوبات بعده و هى مستوفزا، و غير ناكل، و كذلك محلّ لا واه، و واعيا، و حافطا، و ماضيا. و في قوله: كما حمّل. لطف: أى صلّ عليه صلاة مناسبة مشابهة لتحميلك له الرسالة و قيامه بأمرها لأنّ الجزاء من الحكيم العدل يكون مناسبا للفعل المجزّى و لأجل كونها جهة استحقاق طلب ما يناسبها.
التاسع: كونه عجلا في رضا اللّه
بامتثال أوامره.
العاشر: كونه غيرنا كل ما يتقدّم فيه من طاعة اللّه.
الحادى عشر: كونه ماضى العزم
في القيام بأمر اللّه غير و ان فيه.
الثاني عشر:
كونه واعيا لوحيه، ضابطا، قوىّ النفس على قبوله.
الثالث عشر: كونه حافظا لعهده
المأخوذ عليه من تبليغ الرسالة و أداء الأمانة، و قد سبق بيان معنى العهد في الخطبة الاولى.
الرابع عشر: كونه ماضيا على إنفاذ أمره
في العالم و جذب الخلق إلى سلوك سبيله.
الخامس عشر: ما انتهى إليه من الغاية
باجتهاده في إرضاء اللّه، و هو كونه أورى‏

قبس القابس: أى اشتعل أنوار الدين و قدح زناد الأفكار حتّى أظهر أنوار العلوم منها للمقتبسين، و استعار لفظ القبس لنور العلم و الحكمة، و لفظ الورى لإظهار الرسول لتلك الأنوار في طريق اللّه، و قد سبق وجه الاستعارة.
السادس عشر: كونه أضاء الطريق للخابط.
فالطريق هى طريق الجنّة و الحضرة الالهيّة، و إضاءته لها بإظهار تلك الأنوار و بيانها بتعليم كيفيّة سلوكها و الإرشاد إليها، و الخابط هو الجاهل الّذي قصدت الحكمة الالهيّة إرشاده حيث كان يخبط في ظلمات الجهل.
السابع عشر: كونه قد هديت به القلوب إلى موضحات الأعلام:
أى الأدلّة الواضحة على الحقّ. و نيّرات الأحكام هى المطالب الحقّة الواضحة اللازمة من تلك الأدلّة بعد ما كانت القلوب فيه من خوضات الفتن و الآثام اللازمة عمّا اجترحته من السيّئات.
و ذلك أمر ظاهر.
الثامن عشر: كونه أمين اللّه:
أى على وحيه و رسالته، و المأمون تأكيد لأمانته.
و قد عرفت معنى الأمانة.
التاسع عشر: كونه خازن علمه المخزون:
أى علومه اللدنيّة الغيبيّة الّتي لا يتأهّل لحملها كلّ البشر المشار إليها بقوله تعالى عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى‏ غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى‏ مِنْ رَسُولٍ«».
العشرون: كونه شهيدا يوم الدين
كقوله تعالى فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى‏ هؤُلاءِ شَهِيداً«» أى شاهدا يقوم القيامة على امّته بما علم منهم من خير و شرّ.
فإن قلت: ما حقيقة هذه الشهادة و ما فايدتها مع أنّ اللّه تعالى عالم الغيب و الشهادة.
قلت: أمّا حقيقتها فيعود إلى اطّلاعه صلى اللّه عليه و آله و سلّم على أفعال امّته، و بيان ذلك أنّك علمت فيما سلف أنّ للنفوس القدسيّة الاطّلاع على الامور الغايبة و الانتقاش بها مع كونه في جلابيب في أبدانها فكيف بها إذا فارقت هذا العالم و الجسم المظلم فإنّها إذن تكون‏

مطّلعة على جميع أفعال اممها و مشاهدة لها من خير أو شرّ، و أمّا فايدتها فقد علمت أنّ أكثر أحكام الناس وهمّية، و الوهم منكر للإله على الوجه الّذي هو اله فبالحرىّ أن ينكر كونه عالما بجزئيّات أفعال عباده و دقايق خطرات أوهامهم، و ظاهر أنّ ذلك الإنكار يستتبع عدم المبالات بفعل القبيح و الانهماك في الامور الباطلة الّتى نهى اللّه تعالى عنها فإذا ذكر لهم أنّ عليهم شهداء و رقباء و كتّابا لما يفعلون مع صدق كلّ ذلك بأحسن تأويل كان ذلك ممّا يعين العقل على كسر النفس الأمّارة بالسوء و قهر الأوهام الكاذبة، و يردع النفس عن متابعة الهوى ثمّ لا بدّ لكلّ رسول من امناء على دينه و حفظة له هم شهداء أيضا على من بعده إلى قيام الساعة، و إذا كان معنى الشهادة يعود إلى اطّلاع الشاهد على ما في ذمّة المشهود عليه و علمه بحقيقته و فائدتها حفظ ما في ذمّة المشهود عليه و تخوّفه أن جحده أو لم يوصله إلى مستحقّه أن يشهد عليه الشاهد فيفضحه و ينتزع منه على أقبح وجه، و كان هذا المعنى و الفائدة قائمين في شهادة الأنبياء عليهم السّلام إذ بها تتحفّظ أو

امر اللّه و تكاليفه الّتي هى حقوقه الواجبة، و يحصل الخوف للمقصّرين فيها بذكر شهادة الرسل عليهم بالتقصير فيفتضحوا في محفل القيامة و يستوفى منهم جزاء ما كلّفوا به فقصروا فيه بالعقاب الأليم لا جرم ظهر معنى كونهم شهداء اللّه على خلقه.
الحادى و العشرون: كونه مبعوثا بالحقّ
و هو الدين الثابت الباقى نفعه و ثمرته في الآخرة، ثمّ أعاد ذكر كونه رسول اللّه إلى خلقه. و إنّما كررّه لأنّه الأصل في باقى الأوصاف، و ظاهر أنّ كلّ هذه الأوصاف جهات استحقاق الرحمة و البركة و إفاضة الصلوات الالهيّة على نفسه القدسيّة.
الفصل الثالث: في تفصيل المطلوب من هذا الدعاء
و هو قوله: اللّهم افسح. إلى آخره، و طلب امورا:

أحدها: أن يفسح له مفسحا في ظلّة: أى مكانا متّسعا في حضرة قدسه و ظلّ وجوده، و لفظ الظلّ مستعار للجود، و وجه المشابهة راحة المستظلّ بالظلّ من حرّ الشمس فأشبهها راحة الملتجى‏ء إلى جود اللّه المستظلّ به من حرارة جهنّم و سعير عذابه، و إليه الإشارة بقوله تعالى وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ.

الثاني: أن يجزيه مضاعفات الخير من فضله: أى يضاعف له الكمالات من نعمه، و قد علمت أنّ مراتب استحقاق نعم اللّه غير متناهية.
الثالث: أن يعلى على بناء البانين بناءه، و يحتمل أن يريد ببنائه ما شيّده من الدين فيكون أعلاه المطلوب هو إتمام دينه و إظهاره بعده على الأديان كلّها، و يحتمل أن يريد به ما شيّده من الملكات الخيريّة و استحقّه من مراتب الجنّة و قصورها.
الرابع: أن يكرّم لديه منزلته و هو إنزاله المنزل المبارك الموعود، و قل ربّ انزلنى منزلا مباركا.
الخامس: أن يتمّ له نوره و هو إمّا النور الّذي بعث به و إتمامه انتشاره في قلوب العالمين، و إمّا النور الّذي في جوهر ذاته. و تمامه زيادة كماله.
السادس: أن يجزيه عن بعثته قبول شهادته و رضا مقالته، و مقبول مفعول آخر.
و ذا منطق. نصب على الحال. و قبول شهادته. كناية عن تمام الرضى عنه إذ من كان مقبول الشهادة مرضىّ القول فلا بدّ و أن يكون بريئا من جهات الرذائل المسخطة، أو كناية عن كون معتقداته و مشاهداته من أعمال امّته و غيرها بريئة عن كدر الأغاليط و شوائب الأوهام، و كذلك رضا أقواله في شفاعته و غيرها. و كونه ذا منطق عدل: أى لا جور فيه عن الحقّ، و خطبة فصل: أى مميّزة للحقّ فاصلة له من الباطل، و كلّ هذه الاعتبارات و إن اختلفت مفهوماتها ترجع إلى مطلوب واحد و هو طلب زيادة كمالاتة عليه السّلام و قربه من اللّه تعالى، و قوله: اللهمّ اجمع. إلى آخر سأل اللّه أن يجمع بينه و بين الرسول في امور: أحدها: برد العيش. و العرب يقول: عيش بارد إذا كان لا كلفة فيه من حرب و خصومة. و هو في الآخرة يعود إلى ثمرات الجنّة البريئة من كدر الأتعاب.
الثاني: قرار النعمة: أى مستقرّها و هو الجنّة و حضرة ربّ العالمين.
الثالث: منى الشهوات، و هو ما تتمنّاه النفس من المشتهيات و تهواه من اللذّات بنعيم الأبد.
الرابع: رخاء الدعة و منتهى الطمأنينة: أى اتّساع سكون النفس بلذّة مفارقة الحقّ و الانس بالملأ الأعلى و أمنها من مزعجات الدنيا و راحتها من معافاة آفاتها.

الخامس: تحف الكرامة. و هى ثمرات الجنّة و قطوفها الدانية و ساير ما أعدّه لتحف أوليائه الأبرار ممّا لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی) ، ج 2 ، صفحه ى 196

خطبه68 ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام فى ذم أهل العراق

أَمَّا بَعْدُ يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ فَإِنَّمَا أَنْتُمْ كَالْمَرْأَةِ الْحَامِلِ- حَمَلَتْ فَلَمَّا أَتَمَّتْ أَمْلَصَتْ وَ مَاتَ

قَيِّمُهَا- وَ طَالَ تَأَيُّمُهَا وَ وَرِثَهَا أَبْعَدُهَا- . أَمَا وَ اللَّهِ مَا أَتَيْتُكُمُ اخْتِيَاراً- وَ لَكِنْ جِئْتُ إِلَيْكُمْ

سَوْقاً- وَ لَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تَقُولُونَ عَلِيٌّ يَكْذِبُ قَاتَلَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى- فَعَلَى مَنْ أَكْذِبُ أَ عَلَى

اللَّهِ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ- أَمْ عَلَى نَبِيِّهِ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَهُ- كَلَّا وَ اللَّهِ لَكِنَّهَا لَهْجَةٌ غِبْتُمْ

عَنْهَا- وَ لَمْ تَكُونُوا مِنْ أَهْلِهَا- وَيْلُ أُمِّهِ كَيْلًا بِغَيْرِ ثَمَنٍ لَوْ كَانَ لَهُ وِعَاءٌ- وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ

حِينٍ

اللغة

أقول:

أملصت: أسقطت.

و الأيّم: الّتى. لا بعل لها.

و اللهجة: اللسان و القول الفصيح.

و هذا الكلام صدر عنه بعد حرب صفّين. و فيه مقصودان:

الأوّل: توبيخهم على تركهم للقتال بعد أن شارفوا النصر على أهل الشام، و تخاذلهم إلى التحكيم

و أبرز هذا المقصود في تشبيههم بالمرأة الحامل، و ذكر لها أوصافا

خمسة، و هى وجود الشبه بينها و بينهم فالحمل يشبه استعدادهم و تعبيتهم للحرب، و الاتمام يشبه مشارفتهم للظفر، و الإملاص يشبه رجوعهم عن عدوّهم بعد طمعهم في الظفر به و ذلك رجوع غير طبيعىّ و لا معتاد للعقلاء كما أنّ الإملاص أمر غير طبيعىّ للحامل و لا معتاد لها، ثمّ موت القيّم بامورها و هو زوجها و طول غربتها، و ذلك يشبه عدم طاعتهم له الجارى مجرى موته عنهم و طول ضعفهم لذلك و دوام عجزهم و ذلّتهم بعد رجوعهم لتفرّقهم إلى خوارج و رهم فإنّ موت قيّم المرأة مستلزم لضعفها و دوام عجزها و ذلّتها، ثمّ كونها قد استحقّ ميراثها البعيد عنها لعدم ولدها و زوجها و ذلك يشبه من حالهم أخذ عدوّهم الّذي هو أبعد الناس عنهم ما لهم من البلاد، و استحقاقه ذلك بسبب تقصيرهم عن مقاومته. و بهذه الوجوه من الشبه اشبهوا المرأة المذكورة و تمّ توبيخهم من هذه الجهة، ثمّ أخبرهم على التضجّر من حاله معهم بأنّه لم يأتهم إيثارا للمقام بينهم و لكن سوقا قدريّا اضطرّه إلى ذلك. و صدق. إذ لم يكن خروجه من المدينة الّتي هى دار الهجرة و مفارقة منزل رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و قبره إلى الكوفة إلّا لقتال أهل البصرة، و حاجته إلى الاستنصار بأهل الكوفة عليهم إذ لم يكن جيش الحجاز وافيا بمقاتلتهم ثمّ اتّصلت تلك الفتنة بفتنة أهل الشام فدامت حاجته إلى المقام بينهم، و روى و لا حبئت إليكم شوقا بالشين المعجمة.

و المقصود الثاني: توبيخهم على ما بلغه من تكذيبهم له، و مقابلته لهم على ذلك
بردّ أحكام أوهامهم الفاسدة في حقّه، و ذمّهم بجهلهم و قصور أفهامهم عمّا يفيده من الحكمة: و هو قوله: و لقد بلغنى أنّكم تقولون. يكذّب صورة دعواهم المقولة و قد كان جماعة من منافقى أصحابه إذا أخبر عن امور ستكون، أو كانت ثمّ أخبر عنها و أسند ذلك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم يتحادثون فيما بينهم بتكذيبه فيبلغه ذلك كإخباره عن قصّة الخوارج و ما يكون منهم، و عن ذى الثدية، و أنّه سيقاتل الناكثين و القاسطين و المارقين و نحو ذلك من الامور الغريبة الّتى تستنكرها طباع العوامّ و لا يعقل أسرارها إلّا العالمون بل كانوا يكذّبونه بمحضره. روى أنّه لمّا قال: لو كسرت لى الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، و بين أهل الإنجيل بإنجيلهم، و بين أهل الفرقان بفرقانهم، و اللّه ما من آية نزلت في

برّ أو بحر أو سهل أو جبل و لا سماء و لا أرض إلّا و أنا أعلم فيمن نزلت و في أىّ شي‏ء انزلت. قال رجل من تحت المنبر: يا للّه و للدعوى الكاذبة. و كذلك لمّا قال: سلونى قبل أن تفقدونى أما و اللّه لتشعرنّ الفتنة الغماء برجلها و يطأ في خطامها يا لها فتنة شبّت نارها بالحطب الجزل مقبلة من شرق الأرض رافعة ذيلها داعية ويلها بدجلة أو حولها ذاك إذا استدار الفلك و قلتم مات أو هلك بأىّ واد سلك. فقال قوم من تحت منبره: للّه أبوه ما أفصحه كاذبا. و كأنّها إشارة إلى واقعة التتار. و قابل دعواهم بأمرين: أحدهما: الدعاء عليهم بقتال اللّه لهم، و قد علمت أنّ قتاله يعود إلى مقته و إبعادهم عن رحمته.
الثاني: الحجّة و تقريرها: أنّ الّذي أخبركم به من هذه الامور إنّما هو عن اللّه و عن رسوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم فلو كذبت فيه لكذبت إمّا على اللّه و هو باطل لأنّى أوّل من آمن به و أوّل مؤمن به لا يكون أوّل مكذّب له، أو على نبيّه و هو باطل لأنّى أوّل من صدّقه و اتّبع ملته.

و قوله: كلّا و اللّه. ردّ لصدق دعواهم بعد الحجّة كأنّه قال: فإذن دعواكم علىّ الكذب فيما اخبركم به باطلة.

و قوله: و لكنّها لهجة غبتم عنها و لم تكونوا من أهلها.

يريد به بيان منشأ دعويهم الفاسدة لتكذيبه، و ذلك كون ما يقوله و يخبر به من الامور المستقبلة و نحوها طورا وراء عقولهم الضعيفة الّتى هى بمنزلة أوهام ساير الحيوان و ليسوا لفهم أسرارها بأهل. و أشار باللهجة إلى تلك الأقوال و أسرارها و بغيبتهم عنها إلى غيبة عقولهم عن إدراكها و معرفة إمكانها في حقّ مثله أو إلى غيبتهم عنها عند إلقاء الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم قوانينها الكلّية إليه و تعليمه لأبوابها و تفصيل‏

ما فصّل منها له. و ظاهر أنّه لمّا كانت عقول اولئك و أمثالهم مقهورة تحت سلطان أوهامهم و كان الوهم مكذّبا و منكرا لمثل هذه الأحكام لا جرم لم تنتهض عقولهم لتصديقه عليه السّلام فيها و لم تجوّز اطّلاعه عليها بل تابعت أوهامهم في الحكم بتكذيبه. و حاله في ذلك مختصرة من حال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم‏

مع منافقى قومه.

و قوله: ويل امّه.

فالويل في الأصل دعاء بالشرّ، أو خبر به: و إضافته إلى الامّ دعاء عليها أن تصاب بأولادها، و قيل: إنّها تستعمل للرحمة، و قيل تستعمل للتعجّب و استعظام الأمر.

و قوله: كيلا بغير ثمن.

إشارة إلى ما يفيضه عليهم من الأخلاق الكريمة و الحكم البالغة الّتى لا يريد بها جزاء و لا ثمنا ثمّ لا يفقهونها و لا يهذّبون بها أنفسهم لكون نفوسهم غير مستعدّة لقبولها فليس لها إذن من تلك الأنفس وعاء يقبلها. و استعار لفظ الكيل و كنّى به عن كثرة ما يلقيه إليهم منها و هو مصدر استغنى به عن ذكر فعله. فعلى هذا يحتمل أن يكون ويل امّه دعاء بالشرّ على من لم يفقه مقاله و لم يقتبس الحكمة منه، و الضمير لإنسان ذلك الوقت و إن لم يجر له ذكر سابق مفرد يعود إليه لكنّه موجود في كلّ شخص منهم و كأنّه قال: ويل لامّهم، و يحتمل أن يكون ترحّما لهم فإنّ الجاهل مرحوم، و يحتمل أن يكون تعجّبا من قوّة جهلهم أو من كثرة كيله للحكم عليهم مع إعراضهم عنها.

و قوله: و لتعلمّن نبأه بعد حين.

اقتباس لهذه الآية المفصحة عن مقصوده: أى و لتعلمّن نبأ جهلكم و إعراضكم عمّا أمركم به و ألقاه إليكم من الحكم و الآراء الصالحة، و ينكشف لهم ثمرة ذلك بعد حين.
و أشار بالحين إمّا إلى مدّة الحياة الدنيا. و ثمرة أفعالهم إذن الندامة و الحسرة على ما فرّطوا في جنب اللّه حيث لا ينفع إلّا الأعمال الصالحة و ذلك حين تزول عنهم غواشى أبدانهم و تطرح نفوسهم جلابيبها بالموت، و إمّا إلى مدّة حياته هو: أى ستعلمون عاقبة فعلكم هذا بعد مفارقتى لكم. و العاقبة إذن ابتلاؤهم بمن بعده من بنى اميّة و غيرهم بالقتل و الذلّ و الصغار.

و باللّه العصمة و التوفيق.

شرح نهج البلاغه ابن میثم بحرانی ج2 صفحه ی193

خطبه67ابن میثم بحرانی

و قال عليه السّلام فى سحرة اليوم الذى ضرب فيه  

مَلَكَتْنِي عَيْنِي وَ أَنَا جَالِسٌ- فَسَنَحَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ص فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ- مَا ذَا لَقِيتُ مِنْ أُمَّتِكَ مِنَ الْأَوَدِ

وَ اللَّدَدِ فَقَالَ ادْعُ عَلَيْهِمْ- فَقُلْتُ أَبْدَلَنِي اللَّهُ بِهِمْ خَيْراً مِنْهُمْ- وَ أَبْدَلَهُمْ بِي شَرّاً لَهُمْ مِنِّي قال الشريف:

يعنى بالأود الاعوجاج، و باللدد الخصام و هذا من أفصح الكلام

المعنى

أقول: السحرة: السحر الأعلى، و أمّا كيفيّة قتله عليه السّلام فمذكور في التواريخ.

و قوله: ملكتنى عينى. استعارة حسنة و تجوّز في التركيب أمّا الاستعارة فلفظ الملك للنوم، و وجه الاستعارة دخول النائم في غلبة النوم و قهره و منعه له أن يتصرّف في نفسه كما يمنع الملك العبد من التصرّف في أمره، و أمّا التجوّز ففى العين و في الإسناد إليها. أمّا الأول فأطلق لفظ العين على النوم لما بينها من الملابسة إذ إطباق الجفون من عوارضها، و أمّا الثاني فإسناد الملك إلى النوم المتجوّز فيه بلفظ العين. و الواو في قوله: و أنا. للحال.

و قوله: فسنح إلى آخره.

أراد بالسنح حضور صورة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم في لوح خياله كما علمت و شكايته منهم و جواب الرسول له يستلزم أمرين: أحدهما أنّه عليه السّلام كان في غاية الكرب من تقصيرهم في إجابة ندائه و دعوته إلى الجهاد حتّى انتهت الحال إلى قتله. الثاني عدم رضا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم عنهم.

و قوله: أبدلهم بى شرّا لهم منّى. لا يستلزم أنّ فيه شرّا كما قدّمنا بيانه. و باللّه التوفيق.

 

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه‏ ى 192

خطبه 66 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام

كَمْ أُدَارِيكُمْ كَمَا تُدَارَى الْبِكَارُ الْعَمِدَةُ- وَ الثِّيَابُ الْمُتَدَاعِيَةُ- كُلَّمَا حِيصَتْ مِنْ جَانِبٍ تَهَتَّكَتْ مِنْ آخَرَ- كُلَّمَا أَطَلَّ عَلَيْكُمْ مَنْسِرٌ

مِنْ مَنَاسِرِ أَهْلِ الشَّامِ- أَغْلَقَ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بَابَهُ- وَ انْجَحَرَ انْجِحَارَ الضَّبَّةِ فِي جُحْرِهَا وَ الضَّبُعِ فِي وِجَارِهَا- الذَّلِيلُ وَ اللَّهِ

مَنْ نَصَرْتُمُوهُ- وَ مَنْ رُمِيَ بِكُمْ فَقَدْ رُمِيَ بِأَفْوَقَ نَاصِلٍ- إِنَّكُمْ وَ اللَّهِ لَكَثِيرٌ فِي الْبَاحَاتِ قَلِيلٌ تَحْتَ الرَّايَاتِ- وَ إِنِّي لَعَالِمٌ بِمَا

يُصْلِحُكُمْ وَ يُقِيمُ أَوَدَكُمْ- وَ لَكِنِّي لَا أَرَى إِصْلَاحَكُمْ بِإِفْسَادِ نَفْسِي- أَضْرَعَ اللَّهُ خُدُودَكُمْ وَ أَتْعَسَ جُدُودَكُمْ- لَا تَعْرِفُونَ الْحَقَّ

كَمَعْرِفَتِكُمُ الْبَاطِلَ- وَ لَا تُبْطِلُونَ الْبَاطِلَ كَإِبْطَالِكُمُ الْحَقَّ

اللغة

أقول البكار: جمع بكر و هو الفتى من الإبل.

و العمده: هى الّتى شدخ أسنمتها ثقل الحمل.

و الحوص: الخياطة.

و تهتّكت: تخرّقت.

و أطلّ: أشرق. و المنسر بكسر الميم و فتح السين،

و العكس: القطعة من الجيش من الماءة إلى المائتين. و قد سبق.

و انجحر الضبّ: دخل جحره و هو في بيته.

و بيت الضبع: وجاره.

و الأفوق الناصل: السهم لا فوق له و لا نصل.

و الباحة: ساحة الدار.

و الأود. الاعوجاج.

و أضرع: أذلّ.

و أتعس: أهلك.

 

المعنى

و هذا الفصل يشتمل على توبيخ أصحابه لتقاعدهم عن النهوض معه إلى حرب أهل الشام، و ذكر وجوه التوبيخ:

الأوّل: حاجتهم إلى المداراة الكثيرة. و ليس ذلك من شيم الرجال ذوى العقول بل من شأن البهايم و من لا عقل له، و نبّههم في حاجتهم إلى المدارة بتشبيهين. أحدهما: بالبكارة الّتى قد انهكها حملها. و وجه الشبه بينهما و بينهم هو قلّة صبرهم و شدّة إشفاقهم و فرارهم من التكليف بالجهاد و استغاثتهم كما يشتدّ جرجرة البكر العمد، و فراره من معاودة الحمل.

الثاني: بالثياب المتداعية، و هى الّتى يتبع ما لم يتخرّق منها ما انخرق في مثل حاله. و وجه الشبه ما ذكره، و هو قوله: كلّما حيصت من جانب تهتّكت من آخر: أى كما أنّ الثياب المتداعية كذلك. فكذلك أصحابه كلّها أصلح حال بعضهم و جمعهم للحرب فسد بعض آخر عليه. الثاني: شهادة حالهم عليهم بالجبن و الخوف و هو قوله: كلّما أطلّ. إلى قوله: و جارها، و كنّى بإغلاق كلّ منهم بابه عند سماعهم بقرب بعض جيوش الشام منهم عن فرارهم من القتال و كراهية سماعهم للحرب، و شبّههم في ذلك الخوف و الفرار بالضبّة و الضبع حين ترى الصائد أو أمرا تخافه. و إنّما خصّ الإناث لأنّها أولى بالمخافة من الذكران.

الثالث: وصفهم بالذلّة و قلّة الانتفاع بهم. فنبّه على وصف الذلّ بقوله: الذليل و اللّه من نصرتموه. فإنّه إنّما يكون ذليلا لكونهم كذلك، و يحتمل أن يشير بذلك إلى سوء آرائهم في التفرّق و الاختلاف، ثمّ بالغ في ذلك بحصر الذلّ لكلّ منتصر بهم فيمن نصروه، و نبّه على قلّة الانتفاع بهم بقوله: و من رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل. استعار لهم من أوصاف السهم أرداها، و كنّى بذلك عن عدم فايدتهم و نكايتهم في العدوّ كما لا فايدة في الرمى بالسهم الموصوف.

الرابع: وصفهم بالكثرة في المجامع و الأندية مع قلّتهم في الحرب و تحت الألوية. و ذلك يعود إلى الذمّ بالجبن أيضا و العار به فإن قلّة الاجتماع في الحرب و التفرّق عنه من لوازم الخوف، و كما أنّ مقابل هذا الوصف و هو الاجتماع و الكثرة في الحرب مع القلّة في غيره مدح كما قال أبو الطيّب.

ثقال إذا لائوا خفاف إذا دعوا            قليل إذا عدّوا كثير إذا شدّوا

فبالحرىّ أن كان هذا الوصف ذمّا كما قال عويف القوافي.

أ لستم أقلّ الناس عند لوائهم        و أكثرهم عند الذبيحة و القدر

و قوله: و إنّى لعالم إلى قوله: أودكم. أراد أنّه لا يصلحهم إلّا السياسة بالقتل و نحوه كما فعل الحجّاج حين أرسل المهلبّ إلى الخوارج. روى أنّه نادى في الكوفة من تخلّف عن المهلبّ بعد ثلاث فقد أحلّ دمه، و قتل جماعة فخرج الناس إلى المهلّب يهرعون، و كما يفعله كثير من الملوك.

و قوله: و لكنّى لا أري إصلاحكم بإفساد نفسى: أى لمّا لم يكن ليستحلّ من دماء أصحابه ما يستحلّ ملوك الدنيا من رعيّتهم إذا أراد و إثبات ملكهم و لو بفساد دينهم لا جرم لم ير إصلاحهم بالقتل إذ كان إصلاحهم بذلك سببا لفساد نفسه بلزوم آثامهم لها. و لمّا كان من الواجب في الحكمة أن يكون إصلاح الإنسان للغير فرعا على إصلاح نفسه أوّلا لم يتصوّر من مثله عليه السّلام أن يفعل فعلا يستلزم فساد نفسه و إن اشتمل على وجه من المصلحة.

فإن قلت: الجهاد بين يدي الإمام العادل واجب و له أن يحملهم عليه. فلم لا يستجيز قتلهم.
قلت: الجواب من وجهين: أحدهما: أنّه ليس كلّ واجب يجب في تركه القتل كالحجّ. الثاني: لعلّه عليه السّلام لو شرع في عقوبتهم بالقتل على ترك الجهاد معه لتفرّقوا عنه إلى خصمه أو سلّموه إليه و اتّفقوا على قتله. و كلّ هذه مفاسد أعظم من تقاعدهم عن دعوته لهم في بعض الأوقات. و قوله: أضرع اللّه. إلى آخره. دعا عليهم بالذلّ و هلاك الحظّ، ثمّ نبّهم على علّة استحقاقهم لدعائه و هى الجهل، ثمّ ما ينشأ عنه من ظلم أنفسهم. أمّا الجهل فعدم معرفتهم للحقّ كمعرفتهم الباطل، و أراد به ما يلزمهم من أوامر اللّه، و أراد بمعرفتهم الباطل معرفتهم بأحوال الدنيا و باطلها و الاشتغال به عن أوامر اللّه، و يحتمل أن يشير به إلى ما يعرض لبعضهم من الشبه الباطلة في قتال أهل القبلة فيوجب لهم التوقّف و التخاذل عن الحرب، و يكون مكاثرته بين معرفتهم للباطل و الحقّ تنبيها على قوّة جهلهم المركّب و هو أشدّ الجهل، و غايته توبيخهم بكونهم على قسمى الجهل. فالبسيط هو عدم معرفتهم للحقّ، و المركّب هو تصديقهم بالباطل. و أمّا الظلم فهو إبطالهم للحقّ و ذلك إشارة إلى تعاميهم عن طاعة اللّه و تصاممهم عن سماع مناديه و إجابته، و عدم إبطالهم للباطل إشارة إلى عدم إنكارهم للمنكر من أنفسهم و غيرهم. و باللّه التوفيق.

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه‏ى 189

خطبه 65 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام لما قلد محمد بن أبى بكر مصر فملكت عليه فقتل

وَ قَدْ أَرَدْتُ تَوْلِيَةَ مِصْرَ هَاشِمَ بْنَ عُتْبَةَ- وَ لَوْ وَلَّيْتُهُ إِيَّاهَا لَمَّا خَلَّى لَهُمُ الْعَرْصَةَ- وَ لَا أَنْهَزَهُمُ الْفُرْصَةَ- بِلَا ذَمٍّ لِمُحَمَّدِ بْنِ

أَبِي بَكْرٍ- فَلَقَدْ كَانَ إِلَيَّ حَبِيباً وَ كَانَ لِي رَبِيباً

أقول: كان عليه السّلام ولىّ محمّد بن أبى بكر مصر فلمّا اضطرب الأمر عليه بعد صفّين و قوى أمر معاوية طمع في مصر. و قد كان عمرو بن العاص بايعه على أن يكون معه في قتال علىّ و بكون مصر له طعمة. فبعثه إليها بعد صفّين في ستّة آلاف فارس و قد كان فيها جماعة عظيمة ممّن يطلب بدم عثمان، و كانوا يزعمون أنّ محمّدا قتله فانضافوا إلى عمرو، و كان معاوية كتب إلى وجوه أهل مصر أمّا إلى شيعته فبالترغيب، و أمّا إلى أعدائه فبالترهيب، و كتب محمّد بن أبى بكر إلى علىّ بالقصّة يستمدّه بالمال و الرجال فكتب إليه بعده بذلك.
فجعل محمّد يدعو أهل مصر لقتال عمرو فانتدب معه منهم أربعة آلاف رجل فوجّه منهم ألفين‏

عند كنانة بن بشر لاستقبال عمرو، و بقى هو في ألفين فابتلى كنانة في ذلك اليوم بلاء حسنا و قتل من عسكر عمرو خلقا كثيرا، و لم يزل يقاتل حتّى قتل هو و من معه فلمّا قتل تفرّق الناس عن محمّد، و أقبل عمرو يطلب محمّدا فهرب منه مختفيا فالتجئ إلى حزبه اختبى فيها فدخل عمرو فسطاطه. و خرج معاوية بن خديج الكندى و كان من امراء جيش عمرو في طلب محمّد فطفر به و قد كاد يموت عطشا فقدّمه فضرب عنقه ثمّ أخذ جثّته فحشاها في جوف حمار ميّت و أحرقه، و قد كان على عليه السّلام وجّه لنصرته مع مالك بن كعب إلى مصر نحو من ألفى رجل فصار بهم خمس ليال و ورد الخبر إلى علىّ عليه السّلام بقتله و أخذ مصر. فخرج عليه السّلام عليه جزعا ظهر أثره في وجهه ثمّ قال: رحم اللّه محمّدا كان غلاما حدثا، و قد كنت أردت. الفصل.

اللغة

و النهز: النهوض لتناول الشي‏ء.

و الفرصة: النهضة، و هى ما أمكنك من نفسك.

المعنى

و إنّما أراد تولية هاشم لقوّته على هذا الأمر و كثرة تجاربه، و هاشم هذا ابن عتبة بن أبي وقّاص الّذي كسر رباعية رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم يوم احد و كلم شفته، و كان هاشم من شيعة علىّ و المخلصين فى ولائه شهد معه حرب صفّين و ابلى فيه بلاء حسنا و استشهد بين يديه بها.

و قوله: لما خلّى لهم العرصة. أى عرصة الحرب كما فرّ محمّد، و ظنّ أنّه ينجو بفراره. و لو ثبت لثبت معه الناس و قتل كريما.

و قوله: و لا أنهزهم الفرصة. كنّى بالفرصة عن مصر: أي و لم يمكنهم من تناولها كما تمكّنوا مع محمّد.

و قوله: بلا ذمّ لمحمّد. أى لست في مدحى لهاشم ذامّا لمحمّد. و نبّه على براءته من استحقاق الذمّ بوجهين.

الأوّل: أنّه كان لى حبيبا. و ظاهر أنّه عليه السّلام لا يحبّ إلّا مرضيّا للّه و رسوله بريئا من العيوب الفاضحة. و قد كان محمّد- رضى اللّه عنه- من نسّاك قريش و عبّادها.

الثاني: أنّه كان ربيبا له. و ذلك ممّا يستلزم محبّته و عدم ذمّه فأمّا كونه ربيبا فلأنّ ام محمّد هى أسماء بنت عميس و كانت تحت جعفر بن أبي طالب و هاجرت معه إلى الحبشة فولدت له عبد اللّه بن جعفر و قتل عنها يوم موته فتزوّجها أبو بكر فأولدها محمّدا ثمّ لمّا مات عنها تزوجها علىّ عليه السّلام فكان محمّد ربيبته و نشأ على ولائه منذ صباه، و كان علىّ عليه السّلام يحبّه و يكرمه و يقول: محمّد ابنى من ظهر أبى بكر. و باللّه التوفيق.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه‏ى 187

 

خطبه 64 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام فى معنى الأنصار

قالوا: لما انتهت إلى أمير المؤمنين عليه السّلام أنباه السقيفه بعد وفاة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم. قال

عليه السّلام:: فَهَلَّا احْتَجَجْتُمْ عَلَيْهِمْ- بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص وَصَّى بِأَنْ يُحْسَنَ إِلَى مُحْسِنِهِمْ- وَ يُتَجَاوَزَ عَنْ مُسِيئِهِمْ- قَالُوا

وَ مَا فِي هَذَا مِنَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ- فَقَالَ ع لَوْ كَانَ الْإِمَامَةُ فِيهِمْ لَمْ تَكُنِ الْوَصِيَّةُ بِهِمْ- ثُمَّ قَالَ ع‏ فَمَا ذَا قَالَتْ قُرَيْشٌ- قَالُوا

احْتَجَّتْ بِأَنَّهَا شَجَرَةُ الرَّسُولِ ص- فَقَالَ ع احْتَجُّوا بِالشَّجَرَةِ وَ أَضَاعُوا الثَّمَرَةَ

المعنى

أقول: الأنباء الّتى بلغته عليه السّلام هى أخبار ما جرى بين الأنصار و المهاجرين من المشاجرة في أمر الإمامة و ايقاعهم البيعة لأبى بكر، و خلاصة القصّة أنّه لمّا قبض رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم اجتمعت الأنصار في سقيفة بنى ساعدة: و هى صفّة كانوا يجتمعون بها فخطبهم سعد بن عبادة، و مدحهم في خطبته و أغراهم بطلب الإمامة. و قال: إنّ لكم سابقة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب. إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم لبث في قومه بضع عشرة سنة يدعوهم إلى عبادة الرحمن فما آمن به من قومه إلّا قليل، و اللّه ما كانوا يقدرون أن يمنعوه و لا يدفعوا عنه ضيما حتّى أراد اللّه بكم خير الفضيلة، و ساق إليكم الكرامة، و رزقكم الايمان به و الإقرار بدينه. فكنتم أشدّ الناس على من تخلّف عنه منكم، و أثقله على عدوّه من غيركم حتّى استقاموا لأمره و دانت لأسيافكم العرب، و انجز اللّه لنبيّكم الوعد و توفّاه و هو عنكم راض. فشدّوا أيديكم لهذا الأمر. فأنتم أحقّ الناس به. فأجابوه جميعا إن وفّقت و أصبت لم نعد و أن نولّيك هذا الأمر.

و أتى الخبر أبا بكر و عمر فجاء امسرعين إلى السقيفة فتكلّم أبو بكر فقال للأنصار: ألم تعلموا أنّا معاشر المهاجرين أوّل الناس إسلاما و نحن عشيرة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و أنتم أنصار الدين و وزراء رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و إخواننا في كتاب اللّه، و أنتم المؤثرون على أنفسهم و أحقّ الناس بالرضاء بقضاء اللّه و التسليم لما ساق اللّه إلى إخوانكم، و أن لا يكون انتقاض هذا الدين على أيديكم، و أنا أدعوكم إلى بيعة أبى عبيدة أو عمر فكلاهما قد رضيت لهذا الأمر.

فقال عمرو أبو عبيدة: ما ينبغي لأحد من الناس أن يكون فوقك أنت صاحب الغار، و ثانى اثنين، و أمرك رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم بالصلوة.
فأنت أحقّ بهذا الأمر. فقالت الأنصار: نحن أنصار الدار و الايمان لم يعبد اللّه علانية إلّا عندنا و في بلادنا، و لا عرف الايمان إلّا من أسيافنا، و لا جمعت الصلاة إلّا في مساجدنا. فنحن أولى بهذا الأمر. فإن أبيتم فمنّا أمير و منكم أمير. فقال عمر: هيهات لا يجمع سيفان في غمد إنّ العرب لا ترضى أن تؤمّركم و بينها من غيركم. فقال الحباب بن المنذر: نحن‏ و اللّه أحقّ بهذا الأمر إنّه قددان لهذا الأمر بأسيافنا من لم يكن يدين له و إن لم ترضوا اجليناكم عن بلادنا إنّا جذيلها المحلّك و عذيقها المرجّب إن شئتم لنعيدنّها جذعة. و اللّه لا يردّ علىّ أحد ما أقول إلّا حطمت أنفه بسيفى هذا. فقام بشر بن سعد الخزرجىّ و كان يحسد سعد بن عباده أن يصل إليه هذا الأمر و كان سيّدا في الخزرج و قال: إنّا لم نرد بجهادنا و إسلامنا إّ وجه ربّنا لا غرضا من الدنيا، و إنّ محمّدا رجل من قريش و قومه أحقّ بميراث أمره و اتّقو اللّه و لا تنازعوهم معشر الأنصار. فقام أبو بكر فقال: هذا عمرو أبو عبيدة بايعوا أيّهما شئتم فقالا: لا يتولّى هذا الأمر غيرك و أنت أحقّ به ابسط يدك فبسط يده فبايعاه و بايعه بشر بن سعد و بايعته الأوس كلّهم، و حمل سعد بن عبادة و هو مريض فأدخل منزله، و قيل: إنّه بقى ممتنعا من البيعة حتّى مات بحوران في طريق الشام.

و لنرجع إلى المتن فنقول: أمّا الخبر الّذي رواه عليه السّلام عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم حجّة عليهم فهو صحيح أخرجه مسلم و البخارى في مسنديهما عن أنس قال أبو بكر و العبّاس بمجلس من مجالس الأنصار في مرض رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و هم يبكون فقالا: ما يبكيكم.
فقالوا: ذكرنا مجلس رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم فدخلا على الرسول فأخبراه بذلك فخرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم معصّبا على رأسه حاشية برد فصعد المنبر و لم يصعده بعد ذلك اليوم فحمد اللّه و أثنى عليه ثمّ قال: اوصيكم بالأنصار فإنّهم كرشى و عيبتى و قد قضوا الّذي عليهم و بقى الّذي لهم فاقيلوا من محسنهم و تجاوزوا عن مسيئهم. فأمّا وجه احتجاجه بهذا الخبر فهو في صورة شرطيّة متّصلة يستثنى فيها نقيض تاليها. و تقريرها: لو كانت الإمامة حقّا لهم لمّا كانت الوصيّة بهم لكنّها بهم فليست الإمامة لهم. بيان الملازمة أنّ العرف قاض بأنّ الوصيّة و الشفاعة و نحوها إنّما يكون إلى الرئيس في حقّ المرءوس من غير عكس، و أمّا بطلان التالى للخبر المذكور. و أمّا قوله: احتجّوا بالشجرة و أضاعوا الثمرة. فأشار بالثمرة إمّا إلى نفسه و أهل بيته فإنّهم ثمرة الغصن المورق المثمر لتلك الشجرة، و لمّا استعير لفظ الشجرة لقريش استعار لفظ الثمرة لنفسه. و قد عرفت فرعيّته عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و كونه ثمرة. و إضاعتهم لها إهمالهم له من هذا الأمر، و يحتمل‏ أن يريد بالثمرة الّتى أضاعوها سنّة اللّه الموجبة في اعتقاده استحقاقه لهذا لأمر و ظاهر كونها ثمرة الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم و إهمالهم لها تركهم العمل بها فى حقّه، و هو كلام في قوّة احتجاج له على قريش بمثل ما احتجّوا به على الأنصار. و تقديره: أنّهم إن كانوا أولى من الأنصار لكونهم شجرة رسول اللّه فنحن أولى لكوننا ثمرة، و للثمرة اختصاص بالمثمر من وجهين: أحدهما: القرب و مزيّته ظاهرة. و الثاني: أنّ الثمرة هى المطلوبة بالذات من الشجرة و غرسها فإن كانت الشجرة معتبرة فبالأولى اعتبار الثمرة، و إن لم يلتفت إلى الثمرة فبالأولى لا التفات إلى الشجرة.

و يلزم من هذا الاحتجاج أحد أمرين: إمّا بقاء الأنصار على حجّتهم لقيام هذه المعارضة، أو كونه عليه السّلام أحقّ بهذا الأمر و هو المطلوب. و اللّه أعلم بالصواب.

شرح‏ نهج‏ البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه‏ى 184

 

خطبه 63 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام كان يقوله لأصحابه فى بعض أيام صفين

مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ اسْتَشْعِرُوا الْخَشْيَةَ- وَ تَجَلْبَبُوا السَّكِينَةَ وَ عَضُّوا عَلَى النَّوَاجِذِ- فَإِنَّهُ أَنْبَى لِلسُّيُوفِ عَنِ الْهَامِ وَ أَكْمِلُوا

اللَّأْمَةَ- وَ قَلْقِلُوا السُّيُوفَ فِي أَغْمَادِهَا قَبْلَ سَلِّهَا- وَ الْحَظُوا الْخَزْرَ وَ اطْعُنُوا الشَّزْرَ- وَ نَافِحُوا بِالظُّبَى وَ صِلُوا السُّيُوفَ

بِالْخُطَا- وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ بِعَيْنِ اللَّهِ وَ مَعَ ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ- فَعَاوِدُوا الْكَرَّ وَ اسْتَحْيُوا مِنَ الْفَرِّ- فَإِنَّهُ عَارٌ فِي الْأَعْقَابِ وَ نَارٌ

يَوْمَ الْحِسَابِ- وَ طِيبُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ نَفْساً- وَ امْشُوا إِلَى الْمَوْتِ مَشْياً سُجُحاً- وَ عَلَيْكُمْ بِهَذَا السَّوَادِ الْأَعْظَمِ وَ الرِّوَاقِ

الْمُطَنَّبِ- فَاضْرِبُوا ثَبَجَهُ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ كَامِنٌ فِي كِسْرِهِ- وَ قَدْ قَدَّمَ لِلْوَثْبَةِ يَداً وَ أَخَّرَ لِلنُّكُوصِ رِجْلًا- فَصَمْداً صَمْداً حَتَّى

يَنْجَلِيَ لَكُمْ عَمُودُ الْحَقِّ- وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَ اللَّهُ مَعَكُمْ وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ

أقول: المشهور أنّ هذا الكلام قاله عليه السّلام لأصحابه في اليوم الّذي كان مساؤه ليلة الهرير، و روى أنّه قال في أوّل اللقاء بصفّين و ذلك في صفر سنة سبع و ثلاثين.

 

اللغة

استشعرت الشي‏ء: اتّخذته شعارا: و هو ما يلي الجسد من الثياب.

و الجلباب: الملحفة.

و السكينة: الثبات و الوقار.

و النواجذ: أقاصى الأضراس.

و نبا السيف: إذا رجع في الضربة و لم يعمل و اللأمة بالهمزة الساكنة: الدرع، و بالمدودة مع تضعيف الميم جميع آلات الحرب و القلقلة: التحريك الخزر بفتح الزاء: ضيق العين و صغرها، و كذلك تضييقها و النظر بمؤخّرها عند الغضب.

و الطعن الشزر بسكون الزاء: الضرب على غير استقامة بل يمينا و شمالا.

و الظبى: جمع ظبّة: و هو طرف السيف و المنافحة: التناول بأطراف السيوف.

و الأعقاب: جمع عقب أو جمع عقب و هو العاقبة.

و سجحا: أى سهلا.

و السواد: العدد الكثير.

و الرواق: بيت كالفسطاط يعمل على عمود واحد.

و ثبجه: وسطه.

و الكسر: جانب الخباء و النكوص: الرجوع.

و الصمد. القصد. و لن يتركم: أى ينقصكم.

و اعلم أنّ هذه الأوامر مشتملة على تعليم الحرب و المقاتلة و هى كيفيّة يستلزم الاستعداد بها إفاضة النصر لا محالة.

فأوّلها: الأمر باستشعار خشية اللّه
كما يلزم الشعار الجسد. و هو استعارة كما سبق.
و فايدة هذا الأمر الصبر على الحرب و امتثال جميع امور الباقية. إذ خشية اللّه مستلزمة لامتثال أوامره و لذلك قدّمه.

الثاني: الأمر باتّخاذ السكينة جلبابا  تنزيلا للثياب الشامل للإنسان منزلة الملحفة في شمولها للبدن. و الشمول هو وجه الاستعارة، و فايدة هذا الأمر طرد الفشل و إرهاب العدوّ فإنّ الطيش و الاضطراب يستلزمان الفشل و طمع العدوّ.

الثالث: الأمر بالعضّ على النواجذ و فايدته ما ذكر و هو أن ينبو السيف عن الهامة. و علّته أنّ العضّ على الناجذ يستلزم تصلّب العضلات و الأعصاب المتّصلة بالدماغ فيقاوم ضربة السيف و يكون نكايته فيه أقلّ، و الضمير في قوله: فإنّه. يعود إلى الصدر الّذي دلّ عليه عضوّا كقولك: من أحسن كان خيرا له. و قال بعض الشارحين: عضّ الناجذ كناية عن تسكين القلب و طرد الرعدة و ليس المراد حقيقته. قلت: هذا و إن كان محتملا لو قطع عن التعليل إلّا أنّه غير مراد هنا لأنّه يضيع تعليله بكونه أنبا للسيوف عن الهامّ.

الرابع: الأمر بإكمال اللأمة، و إكمال الدرع البيضة و السواعد، و يحتمل أن‏ يريد باللامة جميع آلات الحرب و ما يحتاج إليه فيه و فايدته شدة التحصّن.

الخامس: الأمر بقلقلة السيوف في الأغماد
و فايدته سهولة جذبها حال اٍلٍحاجة إليها فإنّ طول مكثها في الأغماد يوجب صداها و صعوبة مخرجها حال الحاجة

السادس: الأمر بلحظ الخزر
و ذلك من هيئات الغضب فإنّ الإنسان إذا نظر من غضب عليه نظره خزرا، و فائدته امور: أحدها: إحماء الطبع و استثارة الغضب، و الثاني: أنّ النظر بكلّية العين إلى العدوّ أمارة الفشل و من عوارض الطيش و الخوف، و ذلك يوجب طمع العدوّ. الثالث: أنّ النظر بكلّيتها إليه يوجب له التفطّن و الحذر و أخذ الاهبّة و التحرّز، و النظر خززا استغفال له و مظنّة لأخذ عزّته.

السابع: الأمر بالطعن الشرز
و ذلك أنّ الطعن يمينا و شمالا يوسّع المجال على الطاعن و لأن أكثر المناوشة للخصم في الحرب يكون عن يمينه و شماله.

الثامن: الضرب بأطراف السيوف.
و فائدته أنّ مخالطة العدوّ و القرب الكثير منه يشغل عن التمكّن من ضربه.

التاسع: الأمر بوصل السيوف بالخطا.
و له فايدتان: إحداهما أنّ السيف ربّما يكون قصيرا فلا ينال الغرض به فإذا انصاف إليه مدّ اليد و الخطوات بلغ به المراد. و فيه قول الشاعر.
إذا قصرت أسيافنا كان وصلها خطانا إلى أعدائنا فنضارب‏

و قول الآخر:
نصل السيوف إذا قصرن بخطونا يوما و نلحقها إذا لم تلحق‏

و قيل له عليه السّلام: ما أقصر سيفك فقال: اطوّله بخطوة. الثانية: أنّ الزحف في الحرب إلى العدوّ و التقدّم إليه خطوات في حال المكافحة يكسر توهّمه الضعف في عدوّه و يلقى في قلبه الرعب و يداخله الرهبة، و إليه أشار حميد بن ثور الهذلىّ.
و وصل الخطا بالسيف و السيف بالخطا إذا ظنّ أنّ المرء ذا السيف قاصر

ثمّ لمّا أراد تأكيد تلك الأوامر في قلوبهم و أن يزيدهم أوامر اخرى أردف ذلك بأمرين: أحدهما: أنّ اللّه تعالى يراهم و ينظر كيف يعملون، و ذلك قوله: و اعلموا أنّكم‏ بعين اللّه، و الباء هنا كهى في قولك: أنت منّى بمرأى و مسمع. الثاني: تذكيرهم بكونهم مع ابن عمّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم تنبيها لهم على فضيلته، و أنّ طاعة كطاعته رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم، و حربه كحربه كما هو المنقول عنه: حربك يا علىّ حربى. فيثبتوا على قتال عدوّهم كما ثبتوا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم

العاشر: الأمر بمعاودة الكرّ.
و ذلك عند التحرّف للقتال و الانحياز إلى الفئة، و أن يستحيوا من الفرار. ثمّ نبّهم على قبحه بأمرين: أحدهما: أنّه عار في الأعقاب: أى أنّه عار في عاقبة أمركم و سبّة باقية خلفكم، و العرب تستقبح الفرار كثيرا، الثاني: كونه نارا يوم الحساب: أى يوجب استحقاق النار، و هو من كبائر المعاصى، و جعله نارا مجازا تسمية له باسم غايته و هو تذكير لهم بوعيده تعالى وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى‏ فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ.  

الحادى عشر قوله: و طيّبوا عن أنفسكم نفسا
و هو تسهيل للموت عليهم الّذي هو غاية ما يلقونه من الشدائد في الحرب بالبشارة بما هو أعظم و أجلّ من الحياة الدنيا المطلوبة بترك القتال و هو ما أعدّ لهم من الثواب الباقى، و هذا كما يقول أحدنا للمنفق ماله مع حبّه له طب نفسا عمّا ذهب منك فإنّ الصدقة مضاعفة لك عند اللّه و تجدها خيرا و أعظم أجرا. و نفسا منصوب على التمييز، و أشار بها إلى النفس المدّبرة لهذا البدن، و بالاولى إلى الشخص الزايل بالقتل.

الثاني عشر: الأمر بالمشى إلى الموت سجحا:
أى مشيا سهلا لا تكلّف فيه و لا تخشّع فإنّ المتكلّف سريع الفرار، و هو أمر لهم بالمشى إلى غاية ما يخافون من القتال ليوطّنوا نفوسهم عليه إو لنفروا بسرعة إلى الحرب إذ من العادة أن يستنفر الشجاع بمثل ذلك فيسارع إلى داعيه لما يتصوّره فيه من جميل الذكر و حسن الاحدوثه، و روى سمحا و المعنى واحد. و قوله: عليكم بهذا السواد الأعظم. إلى قوله: رجلا. أقول لمّا شحذهم بالأوامر المذكورة عيّن مقصدهم، و أشار بالسواد الأعظم إلى أهل الشام مجتمعين، و بالرواق المطنّب إلى مضرب معاوية، و كان معاوية إذن في مضرب‏ عليه قبّة عالية بأطناب عظيمة و حوله من أهل الشام مائة ألف كانوا تعاهدوا أن لا ينفرجوا عنه حتّى يقتلوا. و عيّن لهم وسط الرواق و أغراهم به بقوله: إنّ الشيطان كامن في كسره. و أراد بالشيطان معاوية، و قيل عمرو بن العاص، و ذلك أنّ الشيطان لمّا كان عبارة عن شخص يضلّ الناس عن سبيل اللّه، و كان معاوية في أصحابه كذلك عنده عليه السّلام لا جرم أطلق عليه لفظ الشيطان، و قد سبقت الإشارة إلى معنى الشيطان. و يحتمل أن يريد الشيطان، و لمّا كانت محالّ الفساد هى مظنّة إبليس، و كان المضرب قد ضرب على غير طاعة اللّه كان محلّا للشيطان فلذلك استعار له لفظ الجلوس في كسره و قوله: و قد قدّم للوثبه يدا و أخّر للنكوص رجلا. كناية عن تردّد معاوية و انتطاره لأمرهم إن جبنوا وثب، و إن شجعوا نكص و هرب، أو عن الشيطان على سبيل استعارة الوثبة و النكوص و اليد و الرجل، و يكون تقديم يده للوثبة كناية عن تزيينه لأصحاب معاوية الحرب و المعصية و تأخيره الرجل للنكوص كناية عن تهيّته للفرار إذا التقى الجمعان كما حكى اللّه سبحانه عنه وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَ قالَ لا غالِبَ لَكُمُ«» الاية.

فإن قلت: فما معنى نكوص الشيطان على رأى من فسرّه بالقوّة الواهمة و نحوها.
قلت: لمّا كانت وسوسته تعود إلقائه إلى النفس صورة ما يحكم بحسنه لها فقط دون أمر آخر كما حكى اللّه تعالى عنه وَ قالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ«» الآية كان نكوصه يعود إلى إعراض الوهم عند عضّ الحرب و مشاهدة المكروه عن ذلك الحكم و رجوعه عنه، و هو معنى قوله: إنّى برى‏ء منكم إنّى أرى ما لا ترون، و ذلك أنّ الوهم إذن يحكم بالهرب و الاندفاع من المخوف بعد أن كان قد زيّن الدخول فيه فيكون إذن قوله إنّى أخاف اللّه و اللّه شديد العقاب موافقة لحكم العقل فيما كان يراه من طاعة اللّه بترك المعصية بالحرب. و كلّ ذلك من تمام إغراء أصحابه بأهل الشام و تنبيههم على أنّ باعثهم في الحرب ليس إلّا الشيطان و أنّه لا غرض له إلّا فتنتهم ثمّ الرجوع و الإعراض عنهم.

الثالث عشر: أمرهم بقصد عدوّهم مؤكّدا له بتكريره
أى اصمد و لهم صمدا إلى غاية أن يظهر لكم نور الحقّ بالنصر، و استعار لفظ العمود للحقّ الظاهر عن الصبح للمشاركة بينهما في الوضوح و الجلاء فالصبح للحسّ، و الحقّ للعقل، و لفظ التجلّى ترشيح الاستعارة كنّى به عن ظهوره و وضوحه، و المعنى: الي أن يتّضح لكم أنّ الحقّ معكم يظفركم بعدوّكم و قهره.
إذا الطالب لغير حقّه سريع الانفعال قريب الفرار في المقاومة. و قوله: و أنتم الأعلون. الاية. تسكين لنفوسهم و بشارة بالمطلوب بالحرب، و هو العلوّ و القهر كما بشّر اللّه تعالى به الصحابة في قتال المشركين و تثبيت لهم على المضىّ في طاعته فإنّ حزب اللّه هم الغالبون. و قوله: و لن يتركم أعمالكم. تذكير لهم بجزاء اللّه لهم أعمالهم في الآخرة، و بعث لهم بذلك على لزوم العمل له. و باللّه التوفيق.

شرح‏ نهج‏ البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی) ، ج 2 ، صفحه‏ى 179

خطبه 62 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ تَسْبِقْ لَهُ حَالٌ حَالًا- فَيَكُونَ أَوَّلًا قَبْلَ أَنْ يَكُونَ آخِراً- وَ يَكُونَ ظَاهِراً قَبْلَ أَنْ يَكُونَ بَاطِناً- كُلُّ مُسَمًّى

بِالْوَحْدَةِ غَيْرَهُ قَلِيلٌ- وَ كُلُّ عَزِيزٍ غَيْرَهُ ذَلِيلٌ وَ كُلُّ قَوِيٍّ غَيْرَهُ ضَعِيفٌ- وَ كُلُّ مَالِكٍ غَيْرَهُ مَمْلُوكٌ وَ كُلُّ عَالِمٍ غَيْرَهُ مُتَعَلِّمٌ- وَ كُلُّ

قَادِرٍ غَيْرَهُ يَقْدِرُ وَ يَعْجَزُ- وَ كُلُّ سَمِيعٍ غَيْرَهُ يَصَمُّ عَنْ لَطِيفِ الْأَصْوَاتِ- وَ يُصِمُّهُ كَبِيرُهَا وَ يَذْهَبُ عَنْهُ مَا بَعُدَ مِنْهَا- وَ كُلُّ بَصِيرٍ

غَيْرَهُ يَعْمَى عَنْ خَفِيِّ الْأَلْوَانِ وَ لَطِيفِ الْأَجْسَامِ- وَ كُلُّ ظَاهِرٍ غَيْرَهُ بَاطِنٌ وَ كُلُّ بَاطِنٍ غَيْرَهُ غَيْرُ ظَاهِرٍ- لَمْ يَخْلُقْ مَا خَلَقَهُ

لِتَشْدِيدِ سُلْطَانٍ- وَ لَا تَخَوُّفٍ مِنْ عَوَاقِبِ زَمَانٍ- وَ لَا اسْتِعَانَةٍ عَلَى نِدٍّ مُثَاوِرٍ وَ لَا شَرِيكٍ مُكَاثِرٍ وَ لَا ضِدٍّ مُنَافِرٍ- وَ لَكِنْ خَلَائِقُ

مَرْبُوبُونَ وَ عِبَادٌ دَاخِرُونَ- لَمْ يَحْلُلْ فِي الْأَشْيَاءِ فَيُقَالَ هُوَ فِيهَا كَائِنٌ- وَ لَمْ يَنْأَ عَنْهَا فَيُقَالَ هُوَ مِنْهَا بَائِنٌ- لَمْ يَؤُدْهُ خَلْقُ مَا

ابْتَدَأَ- وَ لَا تَدْبِيرُ مَا ذَرَأَ وَ لَا وَقَفَ بِهِ عَجْزٌ عَمَّا خَلَقَ- وَ لَا وَلَجَتْ عَلَيْهِ شُبْهَةٌ فِيمَا قَضَى وَ قَدَّرَ- بَلْ قَضَاءٌ مُتْقَنٌ وَ عِلْمٌ

مُحْكَمٌ- وَ أَمْرٌ مُبْرَمٌ الْمَأْمُولُ مَعَ النِّقَمِ- الْمَرْهُوبُ مَعَ النِّعَمِ

اللغة

أقول: المثاور: المواثب.

و الداخر: الذليل،

و آده الأمر: أثقله.

و ذرء: خلق.

و المبرم: المحكم.

المعنى

و قد اشتملت هذه الخطبة على مباحث لطيفة من العلم إلالهىّ أيضا لا يطّلع عليها إلّا المتبحّرون فيه.

الأوّل: الّذي لم يسبق. إلى قوله: باطنا.

أقول: إنّه لمّا ثبت أنّ السبق و المقارنة و القبليّة و البعديّة امور تلحق الزمان لذاته و تلحق الزمانيّات به، و ثبت أنّه تعالى منزّه عن الزمان إذ كان من لواحق الحركة المتأخّرة عن وجود الجسم المتأخّر عن وجود اللّه سبحانه كما علم ذلك في موضعه لا جرم لم تلحق ذاته المقدّسة و مالها من صفات الكمال و نعوت الجلال شي‏ء من لواحق الزمان. فلم يجز إذن أن يقال مثلا كونه عالما قبل كونه قادر و سابقا عليه، و كونه قادرا قبل كونه عالما، و لا كونه أوّلا للعالم قبل كونه آخرا له قبليّة و سبقا زمانيّا.

بقى أن يقال: إنّ القبليّة و البعديّة قد تطلق بمعان اخر كالقبليّة بالشرف و الفضيلة و الذات و العليّة، و قد بيّنا في الخطبة الاولى أنّ كلّ ما يلحق ذاته المقدّسة من الصفات فاعتبارات ذهنيّة تحدثها العقول عند مقايسته إلى مخلوقاته، و شي‏ء من تلك الاعتبارات لا تتفاوت أيضا بالقبليّة و البعديّة بأحد المعاني المذكورة بالنظر إلى ذاته المقدّسة فلا يقال مثلا هو المستحقّ لهذا الاعتبار قبل هذا الاعتبار أو بعده و إلّا لكان كمال ذاته قابلا للزيادة و النقصان، بل استحقاقه بالنظر إلى ذاته لمّا يصحّ أن يعبّر لها استحقاق واحد لجميعها دائما فلا حال يفرض إلّا و هو يستحقّ فيه أن يعتبر له الأوّليّة و الآخريّة معا استحقاقا أوّليا ذاتيّا لا على وجه الترتّب‏ و إن تفاوتت الاعتبارات بالنظر إلى اعتبارنا، و هذا بخلاف غيره من الامور الزمانيّه فإنّ الجوهر مثلا يصدق عليه كونه أوّلا من العرض و لا يصدق عليه مع ذلك أنّه آخر له حتّى لو فرضنا عدم جميع الأعراض و بقاء الجوهر بعدها لم يكن استحقاقه للاعتبارين معا بل استحقاقه لاعتبار الأوّليّة متقدّم إذ كانت بعض أحواله سابقة على بعض، و لا استحقاقه لهما لذاته بل بحسب بقاء أسبابه. و لا العرض لما صدق عليه أنّه بعد الجوهر يصدق عليه أنّه قبله باعتبار ما، و خلاف المختلفين في أيّ الصفات أقدم مبنىّ على سوء تصوّرهم لصانعهم سبحانه و تعالى عمّا يقولون علوّا كبيرا.

إذا عرفت ذلك فنقول: أوّليّته هو اعتبار كونه مبدء لكلّ موجود، و آخريّته هو كونه غاية لكلّ ممكن، و قد سبق معنى كونه ظاهرا و باطنا في الخطبة الّتي أوّلها: الحمد للّه الّذي بطن خفيّات الامور.

الثاني: كلّ مسمّى بالوحدة غيره قليل.

مقصود هذه الكلمة أنّه تعالى لا يوصف بالقلّة و إن كان واحدا، و تقرير ذلك أنّ الواحد يقال بمعان و المشهور منها المتعارف بين الخلق كون الشي‏ء مبدءا لكثرة يكون عادّا لها و مكيالا و هو الّذي تلحقه القلّة و الكثرة الإضافيّتان فإنّ كلّ واحد بهذا هو قليل بالنسبة إلى الكثرة الّتي يصلح أن يكون مبدءا لها و المتصوّر لأكثر أهل العالم صدق هذا الاعتبار على اللّه بل ربّما لا يتصوّر بعضهم كونه تعالى واحدا إلّا بهذا الوجه، و لمّا كان تعالى منزّها عن الوصف بالقلّة و الكثرة لما يستلزمانه من الحاجة و النقصان اللازمين لطبيعة الإمكان أثبت القلّة لكلّ ما سواه فاستلزم إثباتها لغيره في معرض المدح له و نفيهما عنه. و استلزم ذلك تنزيهه تعالى عن الواحديّة بالمعنى المذكور. إذ سلب اللازم يستلزم سلب ملزومه، و ليس إذا بطل كونه واحدا بهذا المعنى بطل كونه واحدا. فإنّا بيّنا صدق الواحد عليه بمعان اخر في الخطبة الاولى، و قد يفهم من هذا أنّه لمّا نفى عنه القلّة استلزم ذلك أن يثبت له الكثرة، و هو من سوء الفهم و قلّة العلم فإنّ عدم القلّة إنّما يستلزم ثبوت الكثرة عند تعاقبها على محلّ من شأنه قبولهما. و ربّما قيل: إنّ المراد بالقليل هنا الحقير، و هو غير مناسب لذكر الوحدة و إنّما قال عليه السّلام: كلّ‏ مسمّى بالوحدة، و لم يقل كلّ واحد ليشعر بأنّ قول الوحدة على واحديّته تعالى و على واحديّة غيره قول بحسب اشتراك الاسم.

الثالث: و كلّ عزيز غيره ذليل.

أقول: رسّم العزيز بأنّه الخطير الّذي يقلّ وجود مثله و تشتدّ الحاجة إليه و يصعب الوصول إليه. ثمّ في كلّ واحد من هذه القيود الثلاثة كمال و نقصان فالكمال في قلّة الوجود أن يرجع إلى واحد و يستحيل أن يوجد مثله و ليس ذلك إلّا اللّه سبحانه، و الكمال في النفاسة و شدّة الحاجة أن يحتاج كلّ شي‏ء في كلّ شي‏ء، و ليس ذلك على الكمال إلّا اللّه تعالى، و الكمال في صعوبة المنال أن لا يوصل إلى حقيقته على معنى الإحاطة بها، و ليس ذلك على كمال إلّا اللّه تعالى فهو إذن العزيز المطلق الّذي كلّ موجود سواه ففى ذلّ الحاجة إليه و حقارة العبوديّة بالنسبة إلى كمال عزّه. فأمّا العزيز من الخلق فهو الّذي توجد له تلك الاعتبارات لكن لا مطلقا بل بقياسه إلى من هو دونه في الاعتبارات المذكورة فهو إذن و إن صدق عليه أنّه عزيز بذلك الاعتبار إلّا أنّه في ذلّ الحاجة إلى من هو أعلى رتبة منه و أكمل في تلك الاعتبارات، و كذلك من هو أعلى منه إلى أن ينتهى إلى العزيز المطلق الّذي لا يلحقه ذلّ باعتبار ما. فلذلك أثبت عليه السّلام الذلّ لكلّ عزيز سواه.

الرابع: و كلّ قوىّ غيره ضعيف.

القوّة تعودن إلى تمام القدرة، و يقابلها الضعف، و لمّا كان استناد جميع الموجودات إلى تمام قدرته علمت أنّه لا أتمّ من قدرته فكلّ قوّة وصف بها غيره فبالنسبة إلى ضعف يقابلها لمن هو دونه و إذا قيس بالنسبة إلى من هو فوقه كان ضعيفا بالنسبة إليه، و كذلك من هو فوقه إلى أن ينتهى إلى تمام قدرة اللّه فهو القوىّ الّذي لا يلحقه ضعف بالقياس إلى أحد غيره و كذلك قوله: و كلّ مالك غيره مملوك. فإنّ معنى المالك يعود إلى القادر على الشي‏ء الّذي تنفذ مشيّته فيه باستحقاق دون غيره، و غيره بإذنه. و لمّا ثبت أنّ كلّ موجود سواه فهو في تصريف قدرته و مشيّته إذ هما مستند وجوده ثبت أنّه هو المالك المطلق الّذي لست له مملوكيّة بالقياس إلى شي‏ء آخر و أنّ كلّ ما سواه فهو مملوك له و إن صدق عليه‏ بالعرف أنّه مالك بالقياس إلى هو دونه. ثمّ لا يخفى عليك ممّا سلف أنّ قول القوّى و المالك عليه و على غيره قول بحسب اشتراك الاسم أيضا.

الخامس: و كلّ عالم غيره متعلّم.  

لمّا ثبت أنّ علمه تعالى بالأشياء على ما مرّ من التفصيل إنّما هو لذاته، و لم يكن شي‏ء منه بمستفاد من أمر آخر، و كان علم من سواه إنّما هو مستفاد بالتعلّم من الغير ثمّ الغير. من الغير إلى أن ينتهى إلى علمه تعالى الفايض بالخيرات لا جرم كان كلّ عالم سواه متعلّما و إن سمّى عالما بحصول العلم له، و كان هو العالم المطلق الّذي لا حاجة به في تحصيل العلم إلى أمر آخر.

السادس: و كلّ قادر غيره يقدر و يعجز.

أقول: قدرة اللّه تعالى تعود إلى اعتبار كونه مصدرا لآثاره. فأمّا قدرة الغير فقد يراد بها قوّة جسمانيّة منبّثة في الأعضاء محرّكة لها نحو الأفاعيل الاختياريّة. و العجز ما يقابل القدرة بهذا المعنى و هو عدمها عمّا من شأنه أن يقدر كما في حقّ الواحد منّا، و قد يراد بهما اعتباران آخران يتقابلان. إذا عرفت ذلك فنقول: القادر المطلق على كلّ تقدير هو مستند كلّ مخترع و موجود اختراعا ينفرد به و يستغنى فيه عن معاونة غيره و ذلك إنّما يتحققّ في حقّ اللّه سبحانه فأمّا كلّ منسوب إلى القدرة سواه فهو و إن كان بالجملة ذا قدرة إلّا أنّها ناقصة لتناولها بعض الممكنات فقط و قصورها عن البعض الآخر و عدم تناولها له إذا كانت لا تصلح للمخترعات و إن نسب إليه إيجاد شي‏ء فلأنّه فاعل أقرب و واسطة بين القادر الأوّل سبحانه و بين ذلك الأثر لا لذاته استقلالا و تفرّدا به على ما علم في مظانّه. فكلّ قادر سواه فلذاته يستحقّ العجز و عدم القدرة بالنسبة إلى ما يمكن تعلّق قدرته به من سائر المخترعات و الممكنات و إنّما يستحقّ القدرة من وجوده. فهو إذن الفاعل المطلق الّذي لا يعجزه شي‏ء عن شي‏ء و لا يستعصى على قدرته شي‏ء.

السابع: و كلّ سميع غيره يصمّ عن لطيف الأصوات، و يصمّه كبيرها، و يذهب عنه ما بعد منها.

أقول: حسّ السمع في الحيوان عبارة عن قوّة تنفذ من الدماغ إلى الاذن في‏ عصبته ثابتة منه إلى الصماخ مبسوطة عليه كجلد الطبل، و هذه العصبة آلة هذه القوّة.
و الصوت هيئة تحصل في الهواء عن تموجّه بحركة شديدة إمّا من قرع يحصل من اصطكاك جسمين صلبين فيضغط الهواء بينهما و ينفلت بشدّة، و إمّا من قلع شديد فيلج الهواء بين الجسمين المنفصلين الصلبين و يحصل عن السببين تموّج الهواء على هيئة مستديرة كما يفعل وقوع الحجر في الماء فإذا انتهى ذلك التموّج إلى الهواه الّذي في الاذن تحرّك ذلك الهواء الراكد حركة مخصوصه بهيئة مخصوصة فتنفعل العصبة المفروشة على الصماخ عن تلك الحركة و تدركها القوّة السامعة هناك فهذا الإدراك يسمّى سماعا.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ إدراك هذه القوّة للصوت يكون على قرب و بعد و حدّ من القوّة و الضعف مخصوص فإنّه إن كان الصوت ضعيفا أو بعيدا جدّا لم يحصل بسببه تموّج الهواء فلم يصل إلى الصماخ فلم يحصل السماع و ذلك معنى قوله: يصمّ عن لطيف الأصوات، و يذهب عليه ما بعد منها. فإن قلت: لم خصّص اللطيف بالصمّ عنه و البعيد بالذهاب عليه.
قلت: يشبه أن يكون لأنّ البعيد في مظنّة أن يسمع و إنّما يفوته بسبب عدم وصول الهواء الحامل له إليه، و أمّا الخفىّ فلمّا فلم يكن من شأنه أن تدركه القوّة السامعة أشبه عجزها عن إدراكه الصمّ فاستعير لفظه له، و أمّا إن كان الصوت في غاية القوّة و القرب فربّما أحدث الصمّ و ذلك لشدّة قرعه للصماخ و تفرّق اتّصال الروح الحامل لقوّة السمع عنه بحيث يبطل استعدادها لتأدية القوّة إلى الصماخ و كلّ ذلك من نقصان الحيوان و ضعفه، و لمّا كان البارى تعالى منزّها عن الجسميّة و توابعها لا جرم كانت هذه اللواحق من الصمم عن لطيف الأصوات، و ذهاب بعيدها، و الصمّ من كبيرها مخصوصة بمن له تلك القوّة المذكورة و السمع المخصوص فكلّ سامع غيره فهو كذلك. و استلزم ذلك في معرض مدحه بتنزيهه سبحانه عنها. و إذ ليس سميعا بالمعنى المذكور و قد نطق القرآن بإثبات هذه الصفة له فهو سميع بمعنى أنّه لا يعزب عن إدراكه مسموع و إن خفى فيسمع السرّ و النجوى بل ما يسمع هو أدّق و أخفى حمد الحامدين و دعاء الداعين، و ذلك هو السميع الّذي لا يتطرّق إليه الحدثان إذ لم يكن بآلة و آذان.

الثامن: و كل بصير غيره يعمى عن خفىّ الألوان و لطيف الأجسام.

أقول: خفىّ الألوان مثلا كاللون في الظلم، و اللطيف قد يكون بمعنى عديم اللون كما في الهواء، و قد يكون بمعنى رقيق القوام كالجوهر الفرد عند المتكلّمين، و كالذّرة، و اللطيف بالمعنيين غير مدرك للحيوان، و اطلق لفظ. العمى مجازا إذ كان عبارة إمّا عن عدم البصر مطلقا أو عن عدمه عمّا من شأنه أن يبصر و لا واحد من هذين الاعتبارين بموجود للبصير غير اللّه فلم يكن عدم إدراكها عمى حقيقيّا بل لكون العمى من أسباب عدم الرؤية اطلق لفظه عليه إطلاقا لاسم السبب على المسبّب، و هذا الحكم في معرض مدحه إن يستلزم تنزيه بصره عن لاحق العمى و مظنّته إذ كان سبحانه منزّها عن معروض العمى و البصر و متعاليا عن أن يكون إدراكه بحدقة و أجفان و انطباع الصور و الألوان و إن كان يشاهد و يرى حتّى لا يعزب عنه ما تحت الثرى. و إذ ليس بصيرا بالمعنى المذكور فهو البصير باعتبار أنّه مدرك لكمال صفات المبصرات، و ذلك الاعتبار أوضح و أجلى ممّا يفهم من إدراك البصر القاصر على ظواهر المرئيّات.

التاسع: و كلّ ظاهر غيره باطن.

أقول: ظهور الأشياء هو انكشافها للحسّ أو للعقل انكشافا بيّنا، و يقابله بطونها و هو خفاؤها عن أحدهما، و لمّا ثبت أنّه تعالى منزّه عن الجسميّة و لو احقها علم كونه منزّها عن إدراك الحواسّ، و لمّا قام البرهان على أنّه تعالى برى‏ء عن أنحاء التراكيب الخارجيّة و العقليّة وجب تنزّه ذاته المقدّسة عن اطّلاع العقول عليها فعلم من هذا الترتيب أنّه لا يشارك الأشياء في معنى ظهورها و قد وصف نفسه بالظهور فيجب أن يكون ظهوره عبارة عن انكشاف وجوده في جزئيّات آثاره كما قال تعالي سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ«» و إن كانت مشاهدة الحقّ له على مراتب متفاوتة و درجات متصاعدة كما أشار إليه بعض مجرّدى السالكين: ما رأينا اللّه بعده. فلمّا ترقّوا عن تلك المرتبه درجة من المشاهدة و الحضور قالوا: ما رأينا شيئا إلّا و رأينا اللّه فيه. فلمّا ترقّوا قالوا: ما رأينا شيئا إلّا و رأينا اللّه قبله. فلمّا ترقوا قالوا: ما رأينا شيئا سوى اللّه.

و الاولى مرتبة الفكر و الاستدلال عليه، و الثانية مرتبة الحدس، و الثالثة مرتبة المستدلّين به لا عليه، و الرابعة مرتبة الفناء في ساحل عزّته و اعتبار الوحدة المطلقة محذوفا عنها كلّ لاحق. و إذا عرفت معنى ظهوره علمت أنّ شيئا من الممكنات لا يكون له الظهور المذكور فإنّه و إن كان لبعض الأشياء في عقل أو حسّ إلّا أنّه ليس في كلّ عقل و في كل حسّ إذ كلّ مطّلع على شي‏ء فالّذي خفى عته أكثر ممّا اطّلع عليه فكلّ ظاهر غيره فهو باطن بالقياس إليه و هو تعالى الظاهر لكلّ شي‏ء و في كلّ شي‏ء لكونه مبدء كلّ شي‏ء و مرجع كلّ شي‏ء.

العاشر: و كلّ باطن غيره فهو ظاهر [فهو غير ظاهر خ‏].

و قد علمت معنى البطون للممكنات و ظهورها، و علمت أيضا ممّا سبق أنّ كونه باطنا يقال بمعنيين: أحدهما: أنّه الّذي خفى قدس ذاته عن اطّلاع العقول عليه. و الثاني: أنّه الّذي بطن جميع الأشياء خبره و نفذ فيها علمه. ثمّ علمت الظهور المقابل للمعنى الأوّل، و أمّا المقابل للثاني فهو الّذي لم يطّلع إلّا على ظواهر الأشياء لم يكن له اطّلاع على بواطنها يقال فلان ظاهر و ظاهرى.

إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ كلّ باطن غيره سوا كان المراد بالبطون خفاء المتصوّر أو نفوذ العلم في البواطن. فهو ظاهر بالقياس إليه تعالى ظهورا بالمعنى الّذي يقابله. أمّا الأوّل فلأنّ كلّ ممكن و إن خفى على بعض العالمين لم يخف على غيره و إن خفى على الكلّ فهو ظاهر في علمه تعالى و ممكن الظهور في علم غيره فليس إذن بخفى مطلقا و هو تعالى الباطن الّذي لا أبطن منه و كلّ باطن غيره فهو ظاهر بالقياس إليه. و أمّا الثاني فلأنّ كلّ عالم و إن جلّ قدره فلا إحاطة له ببعض المعلومات و هو قاصر عن بعضها، و بعضها غير ممكن له و هو تعالى الّذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في الأرض و لا في السماء و لا أصغر من ذلك و لا أكبر و كلّ ظاهر بالقياس إليه، و في بعض النسخ و كلّ ظاهر غيره غير باطن و كلّ باطن غيره غير ظاهر، و معنى القضيّتين أنّ كلّ ممكن إن كان ظاهرا منكشفا لعقل أو حسّ لم يوصف مع ذلك بأنّه باطن كالشمس مثلا و إن كان باطنا خفيّا عن العقل و الحسّ لم يوصف مع ذلك بأنّه ظاهر، و هو تعالى الموصوف بأنّه الباطن الظاهر معا. و في هذه النسخة نظر. فإنّا إنّما أثبتنا كونه تعالى ظاهرا و باطنا معا باعتبارين‏

و في بعض الممكنات ما هو كذلك كالزمان مثلا فإنّ كلّ عاقل يعلم بالضرورة وجود الزمان و إن خفيت حقيقته على جمهور الحكماء و اضطربت عليه أقوال العلماء و كذلك العلم فليس إذن كلّ ظاهر غيره غير باطن و لا كلّ باطن غيره غير ظاهر. و اللّه أعلم.

الحادى عشر: لم يخلق ما خلقه لتشديد سلطان. إلى قوله: منافر.

أقول: إنّه تعالى لا يفعل لغرض و متى كان كذلك كان منزّها عن خصوصيّات هذه الأغراض. أمّا الأوّل فبرهانه أنّه لو فعل لغرض لكان وجود ذلك الغرض و عدمه بالنسبة إليه تعالى إمّا أن يكونا على سواء، أو ليس. و الأوّل باطل و إلّا لكان حصول الغرض له ترجيحا من غير مرجّح، و الثاني باطل لأنّهما إذ الم يستويا كان حصول الغرض أولى به فحينئذ يكون حصول ذلك الغرض معتبرا في كماله فيكون بدونه ناقصا تعالى اللّه عن ذلك.
لا يقال: ليست أولوّية الغرض بالنسبة إلى ذاته بل بالنسبة إلى العبد إذ غرضه الإحسان إلى الغير.
لأنّا نقول: غرض إحسانه إلى الغير و عدمه إن كانا بالنسبة إليه على سواء عاد حديث الرجحان بلا مرجّح، و إن كان أحدهما أولى به عاد حديث الكمال و النقصان. و إذا عرفت أنّه تعالى لا يفعل لغرض، و كلّ ما ذكره عليه السّلام في هذا الفصل من تشديد سلطان و تقويته أو تخوّف عاقبة زمان أو استعانة على ندّ و شريك و ضدّ أغراض علمت صدق قوله: إنّه لم يخلق شيئا من خلقه لشي‏ء من هذه الامور. و هذا تنزيه من طريق نفى الغرض المطلق.

و أمّا تنزيهه تعالى عن خصوصيّات هذه الأغراض فلأنّ تشديد السلطان إنّما يحتاج إليه ذو النقصان في ملكه، و لمّا كان تعالى هو الغنىّ المطلق في كلّ شي‏ء عن كلّ شي‏ء صدق أنّ ذلك بغرض له ممّا خلق، و أمّا التخوّف عن عواقب الزمان فلأنّ التضرّر و الانتفاع و لواحقهما من الخوف و الرجاء و نحوهما إنّما هى من لواحق الممكنات القابلة للنقصان و الكمال و ما هو في معرض التغيّر و الزوال، و لمّا ثبت تنزيهه تعالى عن الانفعال عن شي‏ء لم يتصوّر أن يكون أحد هذه الامور غرضا له، و لذلك الاستعانة على النّدو الضدّ و الشريك فإنّ الاستعانة هى طلب العون من الغير و ذلك من لوازم الضعف‏ و العجز و الخوف و أنّه لا عجز فلا استعانة فلا ندّ و لا شريك و لا ضدّ، و كذلك نقول: لا ندّ و لا شريك و لا ضدّ فلا استعانه و الغرض تنزيهه سبحانه عن صفات المخلوقين و خواصّ المحدثين.

و قوله: و لكن خلايق مربوبون و عباد داخرون.
 أى بل خلايق خلقهم بمحض جوده و هو فيضان الخير عنه على كلّ قابل بقدر ما يقبله من غير بخل و لا منع و تعويق، و بذلك الاعتبار كان كلّ شي‏ء و كلّ عبد ذليل و هو مالكه و مولاه:
 
و قوله: لم يحلل في الأشياء فيقال هو فيها كائن.

إشارة إلى وصفه بسلب كونه ذا محلّ. و للناس في تنزيهه تعالى عن المحلّ كلام طويل. و المعقول من الحلول عند الجمهور قيام موجود بموجود على سبيل التعبية له، و ظاهر أنّ الحلول بهذا المعنى على الواجب الوجود محال لأنّ كونه تبعا للغير يستلزم حاجته إليه و كلّ محتاج ممكن. قال أفضل المتأخّرين نصير الدين الطوسى- أبقاه اللّه- : و الحق أنّ حلول الشي‏ء في الشي‏ء لا يتصوّر إلّا إذا كان الحال بحيث لا يتعيّن إلّا بتوسّط المحل و إذ لا يمكن أن يتعيّن واجب الوجود بغيره فإذن يستحيل حلوله في غيره.
إذا عرفت ذلك فنقول: لمّا كان الكون في المحلّ و النائى عنه و المباينة له امورا إنّما يقال على ما يصحّ حلوله فيه و يحلّه و كان هو تعالى منزّها عن الحلول وجب أن يمتنع عليه إطلاق هذه الامور. فإذ ليس هو بحالّ في الأشياء فليس هو بكائن فيها، و إذ ليس بكائن فيها فليس بنائى عنها و لا مباين لها.

و قوله: لم يؤده خلق ما ابتدء و لا تدبير ما ذرء
الإعياء إنّما يقال لذى الأعضاء من الحيوان و إذ ليس تعالى بجسم و لا ذى آلة جسمانيّة لم يلحقه بسبب فعله إعياء، و إنّما قال: ما ابتدء. ليكون سلب الإعياء عنه أبلغ إذ ما ابتدء من الأفعال يكون المشقّة فيه أتمّ و تدبيره يعود إلى تصريفه لجميع الذوات و الصفات دائما تصريفا كلّيّا و جزئيّا على وفق حكمته و عنايته، و نحوه قوله تعالى أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ«».

و قوله: و لا وقف به عجز عمّا خلق.
 إشارة إلى كمال قدرته و أنّ العجز عليه محال. و قد سبق بيانه.

و قوله: و لا ولجت عليه شبهة فيما قضى و قدّر.
 إشارة إلى كمال علمه و نفى الشبهة إن تعرض له. و أعلم أنّ الشبهة إنّما تدخل على العقل في الامور المعقولة الصرفة غير الضروريّة. و ذلك أنّك علمت أنّ الوهم لا يصدق حكمه إلّا في المحسوسات فأمّا الامور المعقولة الصرفة فحكمه فيها كاذب فالعقل حال استفصاله وجه الحقّ فيها يكون معارضا بالأحكام الوهميّة فإذا كان المطلوب غامضا فربّما كان في الأحكام الوهميّة ما يشبه بعض أسباب المطلوب فتتصوّره النفس بصورته و تعتقده مبدءا فينتج الباطل في صورة المطلوب و ليس به، و لمّا كان البارى تعالى منزّها عن القوى البدنيّة و كان علمه لذاته لم يجز أن تعرض لقضائه و لا قدره شبهة، أو يدخل عليه فيه شكّ لكونهما من عوارضيها. و قد عرفت معنى القضاء و القدر فيما سبق.

و قوله: بلا قضاء متقن و علم محكم.
 أى برى‏ء من فساد الشبهة و الغلط.

و قوله: و أمر مبرم.
 إشارة إلى قدره الّذي هو تفصيل قضاءه المحكم، و ظاهر أنّ تفضيل المحكم لا يكون إلّا محكما:

و قوله: المأمول مع النقم المرهوب مع النعم [المرجوّ من النعم خ‏].
 أقول: منبع هذين الوصفين هو كمال ذاته و عموم فيضه و أنّه لا غرض له و إنّما الجود المطلق و الهبة لكلّ ما يستحقّه، و لمّا كان العبد حال حلول نقمته به قد يستعدّ بالاستغفار و الشكر لإفاضة الغفران و رفع النقمة فيفيضها عليه مع بقاء كثير من نعمه لديه كان تعالى مظنّة الأمل و الفزع إليه في رفع ما القى فيه و إبقاء ما أبقى حتّى أنّه تعالى هو المفيض لصورة الأمل، و إليه أشار بقوله تعالى وَ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ و كذلك حال إفاضة نعمته لمّا كان العبد قد يستعدّ بالغفلة للإعراض عن شكرها كان تعالى في تلك الحال أهلا أن يفيض عليه بوادر نقمته بسلبها فكان هو المأمول مع النقم المرهوب مع النعم فهو المستعان به عليه و هو الّذي لا مفرّ منه إلّا إليه، و من عداه مخلوق نقمته غير مجامع لأمل رحمته، و قيام نعمته معاند لشمول رهبته. فلا مأمول و لا مرهوب في كلا الحالين سواه. و باللّه العصمة و التوفيق.
ِ

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی) ، ج 2 ، صفحه‏ى 168

خطبه 61 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

وَ اتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ وَ بَادِرُوا آجَالَكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ- وَ ابْتَاعُوا مَا يَبْقَى لَكُمْ بِمَا يَزُولُ عَنْكُمْ- وَ تَرَحَّلُوا فَقَدْ جُدَّ بِكُمْ- وَ اسْتَعِدُّوا

لِلْمَوْتِ فَقَدْ أَظَلَّكُمْ- وَ كُونُوا قَوْماً صِيحَ بِهِمْ فَانْتَبَهُوا- وَ عَلِمُوا أَنَّ الدُّنْيَا لَيْسَتْ لَهُمْ بِدَارٍ فَاسْتَبْدَلُوا- فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ

يَخْلُقْكُمْ عَبَثاً وَ لَمْ يَتْرُكْكُمْ سُدًى- وَ مَا بَيْنَ أَحَدِكُمْ وَ بَيْنَ الْجَنَّةِ أَوِ النَّارِ- إِلَّا الْمَوْتُ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ- وَ إِنَّ غَايَةً تَنْقُصُهَا اللَّحْظَةُ وَ

تَهْدِمُهَا السَّاعَةُ- لَجَدِيرَةٌ بِقِصَرِ الْمُدَّةِ- وَ إِنَّ غَائِباً يَحْدُوهُ الْجَدِيدَانِ- اللَّيْلُ وَ النَّهَارُ لَحَرِيٌّ بِسُرْعَةِ الْأَوْبَةِ- وَ إِنَّ قَادِماً يَقْدُمُ

بِالْفَوْزِ أَوِ الشِّقْوَةِ- لَمُسْتَحِقٌّ لِأَفْضَلِ الْعُدَّةِ- فَتَزَوَّدُوا فِي الدُّنْيَا مِنَ الدُّنْيَا- مَا تَحْرُزُونَ بِهِ أَنْفُسَكُمْ غَداً- فَاتَّقَى عَبْدٌ رَبَّهُ نَصَحَ

نَفْسَهُ وَ قَدَّمَ تَوْبَتَهُ وَ غَلَبَ شَهْوَتَهُ- فَإِنَّ أَجَلَهُ مَسْتُورٌ عَنْهُ وَ أَمَلَهُ خَادِعٌ لَهُ- وَ الشَّيْطَانُ مُوَكَّلٌ بِهِ يُزَيِّنُ لَهُ الْمَعْصِيَةَ

لِيَرْكَبَهَا- وَ يُمَنِّيهِ التَّوْبَةَ لِيُسَوِّفَهَا- إِذَا هَجَمَتْ مَنِيَّتُهُ عَلَيْهِ أَغْفَلَ مَا يَكُونُ عَنْهَا- فَيَا لَهَا حَسْرَةً عَلَى كُلِّ ذِي غَفْلَةٍ أَنْ يَكُونَ

عُمُرُهُ عَلَيْهِ حُجَّةً- وَ أَنْ تُؤَدِّيَهُ أَيَّامُهُ إِلَى الشِّقْوَةِ- نَسْأَلُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ- أَنْ يَجْعَلَنَا وَ إِيَّاكُمْ مِمَّنْ لَا تُبْطِرُهُ نِعْمَةٌ- وَ لَا تُقَصِّرُ

بِهِ عَنْ طَاعَةِ رَبِّهِ غَايَةٌ- وَ لَا تَحُلُّ بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ نَدَامَةٌ وَ لَا كَآبَةٌ

اللغة

أقول: المبادرة: المسارعة.

و السدى: المهمل.

و جدير بكذا: أى أولى به.

و حرّي: حقيق.

و التسويف: قول الإنسان سوف أفعل، و هو كناية عن التمادى في الأمر.

و البطر: تجاوز الحدّ في الفرح.

و الكآبة: الحزن.

المعنى

و حاصل هذه الموعظة التنفير من الدنيا و الترغيب في الآخرة و ما يكون وسيلة إلى نعيمها و الترهيب ممّا يكون سببا للشقاء فيها.

فقوله: فاتّقوا اللّه. إلى قوله: بأعمالكم.
فيه تنبيه على وجوب لزوم الأعمال الصالحة، و حثّ عليها بالأمر بمسابقة الآجال و على توقّع سرعة الأجل و إخطاره بالبال، و هو من الجواذب القويّة إلى اللّه تعالى.
و نسب المسابقة إلى الآجال ملاحظة لشبهها بالمراهن إذ كان لحوقها حائلا بينهم و بين‏ الأعمال الصالحة الشبيهة بما يسبق عليه من رهن.

فقوله: و ابتاعوا ما بقى. إلى قوله: عنكم.
 إشارة إلى لزوم الزهد في الدنيا، و التخلّى عن متاعها الفانى، و أن يشترى به ما يبقى من متاع الآخرة. و قد عرفت غير مرّة إطلاق لفظ البيع هنا. و قيّد المشترى بما يبقى، و الثمن بما يزول ليكون المشترى أحبّ إلى النفوس لبقائه.

و قوله: فترحّلوا فقد جدّ بكم.
أمر بالترحّل، و هو قطع منزل منزل من منازل السفر إلى اللّه تعالى في مراتب السلوك لطريقه، و نبّه على وجوب الترحّل بقوله: فقد جدّ بكم: أى في السير إلى آجالكم بقوّة و ذلك الجدّ يعود إلى سرعة توارد الأسباب الّتى تعدّ المزاج للفساد و تقرّبه إلى الآخرة ملاحظة لشبهها بسابق الإبل و نحوها.

و قوله: و استعدّوا للموت فقد أظلّكم.
 الاستعداد له هو باستكمال النفوس كما لها الّذي ينبغي حتّى لا يبقى للموت عندها كثير وقع بل يكون محبوبا لكونه وسيلة إلى المحبوب و هو لقاء اللّه و السعادة الباقية في حضرة الملأ الأعلى، و نبّه بقوله: فقد أظلّكم. على قربه. و استلزم ذلك تشبيهه بالسحاب و الطير فاستعير له وصف الإظلال.

و قوله: و كونوا قوما صيح بهم فانتبهوا.
 تنبيه لهم على الالتفات إلى منادى اللّه، و هو لسان الشريعة و الانتباه بندائه من مراقد الطبيعة.

و قوله: و علموا. إلى قوله: سدى.
تنبيه لهم على أنّ الدنيا ليست بدار لهم ليلتفتوا عن الركون إليها و يتوقّعوا الإخراج منها. ثمّ أمرهم بالاستبدال بها ليذكّروا أنّ هناك عوضا منها يجب أن يلتفت إليه و هو الدار الآخرة، و نبّه بقوله: فإنّ اللّه لم يخلقكم عبثا. إلى آخره على وجوب العمل لذلك البدل فإنّهم لم يخلقوا إلّا لأمر وراء ما هم فيه.

و قوله: ما بين أحدكم. إلى قوله: ينزل به.

تعيين لما خلقوا له و وعدوا بالوصول إليه و أنّه لا حايل بينهم و بينه إلّا الموت. قال بعض الشارحين: و هذا الكلام ممّا يصلح متمسّكا للحكماء في تفسيرهم للجنّة و النار فإنّهم لمّا قالوا: إنّ الجنّة تعود إلى المعارف الإلهيّة و لوازمها، و النار تعود إلى حبّ الدنيا و الميل إلى مشتهياتها. و تمكّن الهيئات الرديئة في جوهر النفس و عشقها بعد المفارقة لما لا يتمكّن من العود إليه كمن نقل عن مجاورة معشوقه و الالتذاذ به إلى موضع ظلمانىّ شديد الظلمة مع عدم تمكّنه من العود إليه كما قال تعالى حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي«» الآية. و كان إدراك لذّة المعارفة التامّة، و إدراك ألم النار بالمعنى أمرا يتحقّق حال مفارقة هذا البدن. إذ كان الإنسان في عالم الشهادة في إدراكه لما حصل في نفسه و تمكّن من الهيئات كعضو مفلوج غطّى خدره على ألمه فإذا أزال الخدر أحسّ بالألم فكذلك النفس بعد الموت تدرك مالها من لذّة أو ألم كما هو لزوال الشواغل البدنيّة عنها.
قلت: و هذا الكلام أيضا ظاهر على مذهب المتكلّمين إذ جاء في الخبر أنّ العبد يكشف له الموت عمّا يستحقّه من جنّة أو نار ثمّ يؤجّل ذلك إلى قيام القيامة الكبرى.

و قوله: و إنّ غاية. إلى قوله: المدّة.
 كنّى بالغاية عن الأجل المعلوم للإنسان ثمّ نبّه على قصره و حقارته بأمرين: أحدهما: كونه تنقصه اللحظة: أى النظرة. و هو ظاهر فإنّ كلّ جزء من الزمان فرصة قد مضى من مدّة الإنسان منقص لها. الثاني: كونه تهدمها الساعة. كنّى بالساعة عن وقت الموت، و لا شكّ أنّ الآن الّذي تنقطع فيه علاقة النفس مع البدن غاية لأجل الإنسان. و غاية الشي‏ء هى ما يتعلّق عندها الشي‏ء فكنّى بالهدم عن ذلك الانقطاع و الانتهاء كناية بالمستعار. و ظاهر أنّ مدّة هذا شأنها في غاية القصر.

و قوله: و إنّ غائبا. إلى قوله: الأوبة
 أشار بالغائب إلى الإنسان إذ كانت الدنيا عالم غربته و محلّ سفره، و منزله الحقيقىّ‏ إنّما هو منشأه و ما إليه مرجعه، و إنّما سمّى الليل و النهار جديدان لتعاقبهما فليس أحدهما مختلفا للآخر. و استعار لفظ الحدو لما يستلزمانه من إعداد الإنسان لقرب أجله المشبه لصوت الحادى الّذي يحدو الإبل لسرعة سيرها و قربها من المنزل المقصود لها.
و ظاهر أنّ من كان الليل و النهار حادييه فهو في غاية سرعة الرجوع إلى مبدئه و وطنه الأصلى. و قال بعض الشارحين: أراد بالغائب الموت. و هو و إن كان محتملا إلا أنّه لا يطابقه لفظ الأوبة لأنّ الموت لم يكن جائيا أو ذاهبا حتّى يرجع.

و قوله: و إنّ قادما. إلى قوله: العدّة
 أشار بالقادم بالفوز أو الشقوة إلى الإنسان حين قدومه على ربّه بعد المفارقة فإنّه إمّا الفوز بالسعادة الباقية، أو الحصول على الخيبة و الشقوة. و نبّه بذكر القدوم على أنّ من هذا شأنه فالواجب عليه أن يستعدّ بأفضل عدّة ليصل بها إلى أحبهما لديه، و يتباعد بها عن أكرههما عنده.

و قوله: فتزوّدوا. إلى قوله: غدا
 فصّل نوع تفصيل أفضل العدّة و هو الزاد الّذي يحرز الإنسان به نفسه يوم القيامة من السقب في نار جهنّم و غليل حرّها، و أشار بذلك الزاد إلى تقوى اللّه و خشيته. و قد علمت حقيقة الخشية و الخوف و أنّه إنّما يحصل في الدنيا. و أمّا كونه من الدنيا فلأنّ الآثار الحاصلة للنفس من الحالات و الملكات كالخشية و الخوف و ساير ما يتزودّه و يستصحبه بعد المفارقة امور إنّما حصلت عن هذا البدن و استفيدت من الدنيا بواسطته. و المشابهة الّتى لأجلها استعار لفظ الزاد هنا هو ما يشترك فيه الزاد المحسوس و التقوى من سلامة المتزوّد بهما كلّ في طريقه فذاك في المنازل المحسوسة من عذاب الجوع و العطش المحسوسين، و هذا في المنازل المعقولة و مراتب السلوك و مراحل السفر إلي اللّه تعالى من عذاب الجوع المعقول.

و قوله: فاتّقى عبد ربّه. إلى قوله شهوته
 أو امر وردت بلفظ الماضى خالية عن العطف و هى بلاغة تريك المعنى في أحسن صورة.
فالأمر بالتقوى تفسير للأمر بالزاد كما قال تعالى وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى‏» و الأمر بنصيحة النفس أمر بالنظر في مصالحها، و الشعور عليها أن تعمل ما هو الأولى بها من التمسّك بحدود اللّه و الوقوف عندها، و الأمر بتقديم التوبة و غلب الشهوة هو من جملة الأمر بالنصيحة كالتفسير له و من لوازم التقوى أردفه بهما، و أراد تقديم التوبة على الموت أو بالنسبة إلى كلّ وقت سيحضر.

و قوله: فإنّ أجله. إلى قوله: شقوة
 حثّ على امتثال أو امره السائقة إلى التوبة و غيرها، و تحذير من هجوم المنيّة على غفلة لما يستلزمه ذلك من شدّة الحسرة و طول الندم على التفريط، و ذلك أنّ ستر الأجل عن الإنسان موجب للغفلة عنه فإذا انضاف إلى ذلك خداع الأمل الناشى‏ء عن وساوس الشيطان في تزيينه المعصية و تسويفه التوبة مع كون موكّلا به و قرينا له كما قال سيّد المرسلين صلى اللّه عليه و آله و سلّم: ما من مولود إلّا و يولد معه قرين من الشيطان. كانت الغفلة أشدّ و النسيان أكدّ، و استعار لفظ الخداع لصورته من النفس الأمّارة بالسوء و هو قولها للإنسان مثلا: تمتّع من شبابك و اغتنم لذّة العيش ما دمت في مهلة و مستقبل من عمرك و ستلحق للتوبة، و نحو ذلك من الأضاليل فإنّ هذه الصورة خداع من الشيطان، و أمّا نسبة ذلك إلى الأمل فلأنّ الأمل هو عزم النفس على فعل تلك الامور و أمثالها في مستقبل الأوقات عن توهّم طول مدّة الحياة و اتّساعها لما تفعله فيها من معصية و توبة، و ذلك العزم من أسباب الانخداع للشيطان و غروره فلذلك نسب الخداع إلى الأمل مجازا، و جعل غاية ذلك الخداع هو أن تهجم على المخدوع منيّته حال ما هو في أشدّ غفلة عنها و اشتغال بما يؤمّله فيكون ذلك مستلزما لأعظم حسرة و أكبر ندامة على أن يكون عمره عليه حجّة شاهدا بلسان حاله على ما اكتسب فيه من الآثام فصار بعد أن كان وسيلة لسعادته سببا لشقاوته. و أغفل نصب على الحال. و حسرة على التميز للمتعجّب منه المدعوّ. و اللام في لها قيل: للاستغاثة. كأنّه قال: يا للحسرة على الغافلين ما أكثرك، و قيل: بل لام الجرّ فتحت لدخولها على الضمير و المنادى محذوف و تقديره يا قوم أدعوكم لها حسرة، و أن في موضع النصب بحذف الجارّ كأنّه قيل: فعلام يقع عليهم الحسرة فقال: على كون أعمارهم حجّة عليهم يوم القيامة.

و قوله: نسأل اللّه تعالى. إلى قوله: كأبة.
 خاتمة الخطبة، و سأل اللّه الخلاص عن امور ثلاثة: الأوّل: أن يخلّصه من شدّة الفرج بنعمة الدنيا فإنّ ذلك من لوازم محبّتها المستلزمة للهلاك الأبدىّ. الثاني: أن لا تقصر به غاية عن طاعة ربّه: أى لا يقصر عن غاية من غايات الطاعة يقال قصرت هذه الغاية بفلان إذا لم يبلغها. الثالث: أن لا تحلّ به بعد الموت ندامة و لا حزن و ذلك سؤال لحسم أسبابها و هو اتّباع الهوى في الدنيا و العدول عن طاعة اللّه. و باللّه العصمة.

شرح‏ نهج البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه‏ى 162

خطبه 60 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

أَلَا إِنَّ الدُّنْيَا دَارٌ لَا يُسْلَمُ مِنْهَا إِلَّا فِيهَا- وَ لَا يُنْجَى بِشَيْ‏ءٍ كَانَ لَهَا- ابْتُلِيَ النَّاسُ بِهَا فِتْنَةً- فَمَا أَخَذُوهُ مِنْهَا لَهَا أُخْرِجُوا

مِنْهُ وَ حُوسِبُوا عَلَيْهِ- وَ مَا أَخَذُوهُ مِنْهَا لِغَيْرِهَا قَدِمُوا عَلَيْهِ وَ أَقَامُوا فِيهِ- فَإِنَّهَا عِنْدَ ذَوِي الْعُقُولِ كَفَيْ‏ءِ الظِّلِّ- بَيْنَا تَرَاهُ

سَابِغاً حَتَّى قَلَصَ وَ زَائِداً حَتَّى نَقَصَ

اللغة

أقول: بينا: أصله بين بمعنى التوسّط فاشبعت الفتحة فحدثت ألف، و قد تزاد ما فيقال بينما و المعنى واحد، و تحقيق الظرفيّة هنا أنّ الظلّ دائر بين السبوغ و التقلّص و الزيادة و النقصان. و قلص الظلّ نقص.

المعنى

و الغرض من هذا الفصل التحذير من الدنيا و التنبيه على وجوب لزوم أوامر اللّه فيها.

و أشار إلى ذلك في أوصاف لها:

الأوّل: كونه لا يسلم منها إلّا فيها. و تحقيق ذلك أنّه لا دار إلّا الدنيا و الآخرة، و قد علمت أنّ أسباب السلامة هى الزهد و العبادة و سائر أجزاء الرياضة و شي‏ء منها لا يمكن في الآخرة بل كلّها أعمال متعلّقة بالبدن فإذن لا يتحقّق ما يلزمها من السلامة من الدنيا إلّا في الدنيا.

الثاني: كونها لا ينجى بشي‏ء كان لها. و فيه إيماء إلى ذمّ الرياء في الأقوال و الأفعال و تحذير من كلّ عمل و قول قصد به الدنيا فإنّ شيئا من ذلك لا حظّ له في استلزام النجاة في الآخرة بل ربّما كان سببا للهلاك فيها لما أنّ الاشتغال بمهمّات الدنيا منس للآخرة.

الثالث: كونها قد ابتلى الناس بها فتنة. و فتنة منصوب بالمفعول له، و يحتمل‏ أن يكون مصدرا سدّ مسدّ الحال. و نحوه قوله تعالى «وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ«» و لنبحث عن معنى الابتلاء بالدنيا و كونها فتنة. و اعلم أنّه ليس المراد أنّ اللّه تعالى لا يعلم ما يؤول إليه أحوال العباد و ما يكون منهم بعد خلقهم و ابتلائهم بالدنيا فإنّه تعالى هو العالم بما كان و ما يكون قبل كونه كما قال تعالى وَ ما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ«»» و قوله تعالى ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ«» بل الكشف عن حقيقة الابتلاء أنّه لمّا كان الإنسان إنّما يكون إنسانا بما خلق فيه من القوى الشهويّة و الغضبيّة و ما يتبعهما، و كان لهذه القوى ميول طبيعيّة إلى حاضر اللذّات الدنيويّة فهى مسشتهياتها و لا ابتهاج لها إلّا بها و لا حظّ لها من غيرها، و كانت النفوس الإنسانيّة مخالطة لهذه القوى و هى آلاتها، و لا وجه لها في تصرّفاتها غالب الأحوال إلّا هى، و كانت تلك القوى في أكثر الخلق جاذبة لنفوسها إلى مسشتهياتها الطبيعيّة بالطبع، و كانت تلك النفوس في أكثر الناس منقادة لقواها معرضة عن الآخرة مشغولة بحاضر ما وجدته من لذّات الدنيا عن تصوّر ما ورائها. ثمّ مع ذلك كان المطلوب منها ما يضادّ ذلك و هو ترك حاضر الدنيا، و منازعة هذه القوى في مسشتهياتها، و جذبها عن التوجّه بكليّتها إليها لمتابعة النفس في التفاتها عن ذلك إلى أمر لا يتصوّر في الدنيا إلّا بالأوصاف الخياليّة كما هو وظيفة الأنبياء عليهم السّلام مع الخلق كانت إرادته تعالى لذلك الالتفات مع ما هم فيه من منازعة الهوى فإن أطاعوه هلكوا و إن عصوه نجوا صورة امتحان. فاشبه ذلك ما يعتمده أحدنا عند عبده إذا أراد مثلا اختبار صبره و محنته له فوهب له جميع ما يشتهيه ثمّ كلّفه مع ذلك بتكاليف شاقّة لا يتمكّن من فعلها إلّا بالتفاته عن مشتهاه و تنغيصه عليه. فلا جرم صدقت صورة الابتلاء و الاختبار من اللّه في الوجود، و كذلك ظهر معنى كونها فتنة. فإنّ الفتنة الامتحان و الاختبار. و إنّ قدّرناها حالا فهى بمعنى الضلال و يعود إلى جذبها للنفوس إلى حاضر لذّاتها عن سنن الحقّ.

الرابع: كونهم ما أخذوه منها اخرجوا منه و حوسبوا عليه. و هو تنبيه على‏ وجوب قصد الآخرة بما يؤخذ من الدنيا و يتصرّف فيه، و تنفير أن يجعل المأخوذ منها لمجرّد التمتّع بها بذكر وصفين: أحدهما: وجوب مفارقة المأخوذ منها و الإخراج منه، و الثاني: الحساب عليه في الآخرة. و اعلم أن الحساب على رأى الملّيّين ظاهر، قالوا: إنّ اللّه تعالى قادر على حساب الخلق دفعة واحدة و لا يشغله كلام عن كلام كما قال: و هو سريع الحساب. أمّا الحكماء فقالوا: إنّ للحساب معنى، و تقريره بتقديم مقدّمات.

الاولى أنّ كثرة الأفعال و تكرّرها يوجب حدوث الملكات في النفوس، و الاستقراء التامّ يكشف عن ذلك، و من كان مواظبته على عمل من الأعمال أكثر كان رسوخ تلك الملكة الصادرة عن ذلك الفعل في نفسه أقوى.
الثانية: أنّه لمّا كان تكرّر العمل يوجب حصول الملكة وجب أن يكون لكلّ عمل يفعله الإنسان أثر في حصول تلك الملكة بل يجب أن يكون لكلّ جزء من أجزاء العمل الواحد أثر في حصول لها بوجه ما و ضربوا لذلك مثالا فقالوا: لو فرضنا سفينة عظيمة بحيث لو القى فيها مائة ألف منّ فإنّها تغوص في الماء قدر شبر واحد و لو لم يكن فيها إلا حبّة واحدة من الحنطة فذلك القدر من الجسم الخفيف فيها يوجب غوصها في الماء بمقدار ماله من الثقل و إن بلغ في القلّة إلى حيث لا يدركه الحسّ. إذا عرفت ذلك فنقول: ما من فعل من الخير و الشر قليل و لا كثير إلّا و يفيد حصول أثر في النفس إمّا سعادة أو شقاوة. و عند هذا ينكشف سرّ قوله تعالى فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ و كذلك لمّا ثبت أنّ الأفعال إنّما تصدر بواسطة الجوارح من اليد و الرجل و غيرهما لا جرم كانت الأيدى و الأرجل شاهدة على الإنسان يوم القيامة بلسان حالها على معنى أنّ تلك الآثار النفسانيّة إنّما حصلت في جواهر النفوس بواسطة الأفعال الصادرة عنها فكان صدور تلك الأفعال من تلك الجوارح جاريا مجرى الشهادة على النفس بما اكتسبه بها. إذا عرفت ذلك فنقول: لمّا كانت حقيقة المحاسبة تعود إلى تعريف الإنسان ماله و ما عليه من مال و نحوه. و كان ما يحصل من النفوس من الملكات الخيريّة و الشرّيّة امورا مضبوطة في جوهرها محصاة عليها و إنّما تنكشف لها كثرة تلك الهيئات و تمكّنها من ذواتها و تضرّرها بها في الآن الّذي تنقطع فيه علاقة النفس مع البدن أشبه ذلك ما تبيّن للإنسان عند المحاسبة ممّا احصى عليه و له. فاطلق عليه لفظ الحساب. و ذلك اليقين و الاطّلاع هو المشار إليه بقوله عليه السّلام: و قدّموا عليه، و ليس المقصود أنّ ما يقدم عليه في الآخرة هو عين ما اخذ من الدنيا بل ثمرته في النفوس من خير أو شرّ فالّذي يتناوله الجاهلون منها لمجرّد التنعم بها فهو الّذى يتمكّن عنه هيئات السوء في جواهر نفوسهم فيقدمون عليها و يقيمون بها في عذاب جهنّم خالدون لا يفتّر عنهم و هم فيه مبلسون.

الخامس: كونها عند ذوى العقول كفى‏ء الظلّ، و نبّه بهذا الوصف على سرعة زوالها، و إنّما خصّص ذوى العقول بذلك لأمرين: أحدهما: أنّ المعتبر لزوالها عامل بمجرّد عقله دون هواه فلذلك نسب إلى العقل. الثاني: أنّ حال ذوى العقول مرغوب فيه لمن سمعه. و لمّا كان مقصوده تحذير السامعين من سرعة زوالها ليعملوا فيها لما بعدها نسب ذلك إلى ذوى العقول ليقتفى السامعون أثرهم. ثمّ أشار إلى وجه شبهها للظلّ بقوله: بينا تراه. إلى آخره: أى أنّها يسرع زوالها كما يسرع زواله، و هو من التشبيهات السائرة، و مثله قول الشاعر.

              ألا إنّما الدنيا كظلّ غمامة       أظلّت يسيرا ثمّ حفّت فولّت‏

شرح ‏نهج‏ البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه‏ى 159