نامه 70 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

70 و من كتاب له ع إلى سهل بن حنيف الأنصاري-  و هو عامله على المدينة-  في معنى قوم من أهلها لحقوا بمعاوية

أَمَّا بَعْدُ-  فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالًا مِمَّنْ قِبَلَكَ يَتَسَلَّلُونَ إِلَى مُعَاوِيَةَ-  فَلَا تَأْسَفْ عَلَى مَا يَفُوتُكَ مِنْ عَدَدِهِمْ-  وَ يَذْهَبُ عَنْكَ مِنْ مَدَدِهِمْ-  فَكَفَى لَهُمْ غَيّاً-  وَ لَكَ مِنْهُمْ شَافِياً فِرَارُهُمْ مِنَ الْهُدَى وَ الْحَقِّ-  وَ إِيضَاعُهُمْ إِلَى الْعَمَى وَ الْجَهْلِ-  فَإِنَّمَا هُمْ أَهْلُ دُنْيَا مُقْبِلُونَ عَلَيْهَا وَ مُهْطِعُونَ إِلَيْهَا-  قَدْ عَرَفُوا الْعَدْلَ وَ رَأَوْهُ وَ سَمِعُوهُ وَ وَعَوْهُ-  وَ عَلِمُوا أَنَّ النَّاسَ عِنْدَنَا فِي الْحَقِّ أُسْوَةٌ-  فَهَرَبُوا إِلَى الْأَثَرَةِ-  فَبُعْداً لَهُمْ وَ سُحْقاً-  إِنَّهُمْ وَ اللَّهِ لَمْ يَفِرُّوا مِنْ جَوْرٍ-  وَ لَمْ يَلْحَقُوا بِعَدْلٍ-  وَ إِنَّا لَنَطْمَعُ فِي هَذَا الْأَمْرِ أَنْ يُذَلِّلَ اللَّهُ لَنَا صَعْبَهُ-  وَ يُسَهِّلَ لَنَا حَزْنَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ-  وَ السَّلَامُ عَلَيْكَ وَ رَحْمَةُ اللَّهِ وَ بَرَكَاتُهُ قد تقدم نسب سهل بن حنيف-  و أخيه عثمان فيما مضى- . و يتسللون يخرجون إلى معاوية هاربين في خفية و استتار- . قال فلا تأسف أي لا تحزن-  و الغي الضلال- . قال و لك منهم شافيا-  أي يكفيك في الانتقام منهم و شفاء النفس من عقوبتهم-  أنهم يتسللون إلى معاوية- .

 قال ارض لمن غاب عنك غيبته-  فذاك ذنب عقابه فيه- . و الإيضاع الإسراع-  وضع البعير أي أسرع و أوضعه صاحبه-  قال

  رأى برقا فأوضع فوق بكر
فلا يك ما أسال و لا أعاما

و مهطعون مسرعون أيضا-  و الأثرة الاستئثار-  يقول قد عرفوا أني لا أقسم إلا بالسوية-  و أني لا أنفل قوما على قوم-  و لا أعطي على الأحساب و الأنساب كما فعل غيري-  فتركوني و هربوا إلى من يستأثر و يؤثر- . قال فبعدا لهم و سحقا-  دعاء عليهم بالبعد و الهلاك- . و روي أنهم لم ينفروا بالنون من نفر-  ثم ذكر أنه راج من الله-  أن يذلل له صعب هذا الأمر و يسهل له حزنه-  و الحزن ما غلظ من الأرض-  و ضده السهل

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 18

نامه 69 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)( كتبه إلى الحارث الهمداني)

69 و من كتاب له ع كتبه إلى الحارث الهمداني

وَ تَمَسَّكْ بِحَبْلِ الْقُرْآنِ وَ انْتَصِحْهُ-  وَ أَحِلَّ حَلَالَهُ وَ حَرِّمْ حَرَامَهُ-  وَ صَدِّقْ بِمَا سَلَفَ مِنَ الْحَقِّ-  وَ اعْتَبِرْ بِمَا مَضَى مِنَ الدُّنْيَا لِمَا بَقِيَ مِنْهَا-  فَإِنَّ بَعْضَهَا يُشْبِهُ بَعْضاً-  وَ آخِرَهَا لَاحِقٌ بِأَوَّلِهَا-  وَ كُلُّهَا حَائِلٌ مُفَارِقٌ-  وَ عَظِّمِ اسْمَ اللَّهِ أَنْ تَذْكُرَهُ إِلَّا عَلَى حَقٍّ-  وَ أَكْثِرْ ذِكْرَ الْمَوْتِ وَ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ-  وَ لَا تَتَمَنَّ الْمَوْتَ إِلَّا بِشَرْطٍ وَثِيقٍ-  وَ احْذَرْ كُلَّ عَمَلٍ يَرْضَاهُ صَاحِبُهُ لِنَفْسِهِ-  وَ يَكْرَهُهُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ-  وَ احْذَرْ كُلَّ عَمَلٍ يُعْمَلُ بِهِ فِي السِّرِّ-  وَ يُسْتَحَى مِنْهُ فِي الْعَلَانِيَةِ-  وَ احْذَرْ كُلَّ عَمَلٍ إِذَا سُئِلَ عَنْهُ صَاحِبُهُ أَنْكَرَهُ وَ اعْتَذَرَ مِنْهُ-  وَ لَا تَجْعَلْ عِرْضَكَ غَرَضاً لِنِبَالِ الْقَوْمِ-  وَ لَا تُحَدِّثِ النَّاسَ بِكُلِّ مَا سَمِعْتَ بِهِ-  فَكَفَى بِذَلِكَ كَذِباً-  وَ لَا تَرُدَّ عَلَى النَّاسِ كُلَّ مَا حَدَّثُوكَ بِهِ-  فَكَفَى بِذَلِكَ جَهْلًا-  وَ اكْظِمِ الْغَيْظَ وَ احْلُمْ عِنْدَ الْغَضَبِ-  وَ تَجَاوَزْ عِنْدَ الْمَقْدِرَةِ-  وَ اصْفَحْ مَعَ الدَّوْلَةِ تَكُنْ لَكَ الْعَاقِبَةُ-  وَ اسْتَصْلِحْ كُلَّ نِعْمَةٍ أَنْعَمَهَا اللَّهُ عَلَيْكَ-  وَ لَا تُضَيِّعَنَّ نِعْمَةً مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عِنْدَكَ-  وَ لْيُرَ عَلَيْكَ أَثَرُ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكَ-  وَ اعْلَمْ أَنَّ أَفْضَلَ الْمُؤْمِنِينَ-  أَفْضَلُهُمْ تَقْدِمَةً مِنْ نَفْسِهِ وَ أَهْلِهِ وَ مَالِهِ-  وَ إِنَّكَ مَا تُقَدِّمْ مِنْ خَيْرٍ يَبْقَ لَكَ ذُخْرُهُ-  وَ مَا تُؤَخِّرْهُ يَكُنْ لِغَيْرِكَ خَيْرُهُ-وَ احْذَرْ صَحَابَةَ مَنْ يَفِيلُ رَأْيُهُ-  وَ يُنْكَرُ عَمَلُهُ فَإِنَّ الصَّاحِبَ مُعْتَبَرٌ بِصَاحِبِهِ-  وَ اسْكُنِ الْأَمْصَارَ الْعِظَامَ فَإِنَّهَا جِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ-  وَ احْذَرْ مَنَازِلَ الْغَفْلَةِ وَ الْجَفَاءِ-  وَ قِلَّةَ الْأَعْوَانِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ-  وَ اقْصُرْ رَأْيَكَ عَلَى مَا يَعْنِيكَ-  وَ إِيَّاكَ وَ مَقَاعِدَ الْأَسْوَاقِ-  فَإِنَّهَا مَحَاضِرُ الشَّيْطَانِ وَ مَعَارِيضُ الْفِتَنِ-  وَ أَكْثِرْ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى مَنْ فُضِّلْتَ عَلَيْهِ-  فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الشُّكْرِ-  وَ لَا تُسَافِرْ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ حَتَّى تَشْهَدَ الصَّلَاةَ-  إِلَّا فَاصِلًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ فِي أَمْرٍ تُعْذَرُ بِهِ-  وَ أَطِعِ اللَّهَ فِي جُمَلِ أُمُورِكَ-  فَإِنَّ طَاعَةَ اللَّهِ فَاضِلَةٌ عَلَى مَا سِوَاهَا-  وَ خَادِعْ نَفْسَكَ فِي الْعِبَادَةِ وَ ارْفُقْ بِهَا وَ لَا تَقْهَرْهَا-  وَ خُذْ عَفْوَهَا وَ نَشَاطَهَا-  إِلَّا مَا كَانَ مَكْتُوباً عَلَيْكَ مِنَ الْفَرِيضَةِ-  فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قَضَائِهَا وَ تَعَاهُدِهَا عِنْدَ مَحَلِّهَا-  وَ إِيَّاكَ أَنْ يَنْزِلَ بِكَ الْمَوْتُ-  وَ أَنْتَ آبِقٌ مِنْ رَبِّكَ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا-  وَ إِيَّاكَ وَ مُصَاحَبَةَ الْفُسَّاقِ-  فَإِنَّ الشَّرَّ بِالشَّرِّ مُلْحَقٌ-  وَ وَقِّرِ اللَّهَ وَ أَحْبِبْ أَحِبَّاءَهُ-  وَ احْذَرِ الْغَضَبَ فَإِنَّهُ جُنْدٌ مِنْ جُنُودِ إِبْلِيسَ-  وَ السَّلَامُ

الحارث الأعور و نسبه

هو الحارث الأعور صاحب أمير المؤمنين ع-  و هو الحارث بن عبد الله بن كعب بن أسد بن نخلة بن حرث-  بن سبع بن صعب بن معاوية الهمداني-  كان أحدالفقهاء له قول في الفتيا-  و كان صاحب علي ع-  و إليه تنسب الشيعة الخطاب الذي خاطبه به في قوله ع‏

  يا حار همدان من يمت يرني
من مؤمن أو منافق قبلا

 و هي أبيات مشهورة قد ذكرناها فيما تقدم

نبذ من الأقوال الحكيمة

و قد اشتمل هذا الفصل على وصايا جليلة الموقع-  منها قوله و تمسك بحبل القرآن-  جاء في الخبر المرفوع لما ذكر الثقلين-  فقال أحدهما كتاب الله-  حبل ممدود من السماء إلى الأرض-  طرف بيد الله و طرف بأيديكم- . و منها قوله انتصحه-  أي عده ناصحا لك فيما أمرك به و نهاك عنه- . و منها قوله و أحل حلاله و حرم حرامه-  أي احكم بين الناس في الحلال و الحرام بما نص عليه القرآن- . و منها قوله و صدق بما سلف من الحق-  أي صدق بما تضمنه القرآن من أيام الله-  و مثلاته في الأمم السالفة لما عصوا و كذبوا- . و منها قوله و اعتبر بما مضى من الدنيا لما بقي منها-  و في المثل إذا شئت أن تنظر الدنيا بعدك فانظرها بعد غيرك-  و قال الشاعر- 

و ما نحن إلا مثلهم غير أننا
أقمنا قليلا بعدهم ثم نرحل‏

 و يناسب قوله و آخرها لاحق بأولها-  و كلها حائل مفارق-  قوله أيضا ع‏في غير هذا الفصل الماضي- للمقيم عبرة و الميت للحي عظة-  و ليس لأمس عودة و لا المرء من غد على ثقة-  الأول للأوسط رائد و الأوسط للأخير قائد-  و كل بكل لاحق و الكل للكل مفارق- . و منها قوله و عظم اسم الله أن تذكره إلا على حق-  قال الله سبحانه وَ لا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ-  و قد نهى عن الحلف بالله في الكذب و الصدق-  أما في أحدهما فمحرم و أما في الآخر فمكروه-  و لذلك لا يجوز ذكر اسمه تعالى-  في لغو القول و الهزء و العبث- .

و منها قوله و أكثر ذكر الموت و ما بعد الموت-  جاء في الخبر المرفوع أكثروا ذكر هاذم اللذات-  و ما بعد الموت العقاب و الثواب في القبر و في الآخرة- . و منها قوله و لا تتمن الموت إلا بشرط وثيق-  هذه كلمة شريفة عظيمة القدر-  أي لا تتمن الموت إلا و أنت واثق من أعمالك الصالحة-  أنها تؤديك إلى الجنة و تنقذك من النار-  و هذا هو معنى قوله تعالى لليهود-  إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ-  فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ-  وَ لا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ-  وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ- . و منها قوله و احذر كل عمل يرضاه صاحبه لنفسه-  و يكرهه لعامة المسلمين-  و احذر كل عمل يعمل في السر-  و يستحيا منه في العلانية-  و احذر كل عمل إذا سئل عنه صاحبه أنكره و اعتذر منه-  و هذه الوصايا الثلاث متقاربة في المعنى-  و يشملها معنى قول الشاعر- 

  لا تنه عن خلق و تأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم‏

 و قال الله تعالى حاكيا عن نبي من أنبيائه-  وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى‏ ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ- . و من كلام الجنيد الصوفي-  ليكن عملك من وراء سترك-  كعملك من وراء الزجاج الصافي-  و في المثل و هو منسوب إلى علي ع-  إياك و ما يعتذر منه- . و منها قوله و لا تجعل عرضك غرضا لنبال القوم-  قال الشاعر

  لا تستتر أبدا ما لا تقوم له
و لا تهيجن من عريسة الأسدا

إن الزنابير إن حركتها سفها
من كورها أوجعت من لسعها الجسدا

و قال

مقالة السوء إلى أهلها
أسرع من منحدر سائل‏

و من دعا الناس إلى ذمه‏
ذموه بالحق و بالباطل‏

 و منها قوله و لا تحدث الناس بكل ما سمعت-  فكفى بذلك كذبا-  قد نهى أن يحدث الإنسان بكل ما رأى من العجائب-  فضلا عما سمع-  لأن الحديث الغريب المعجب تسارع النفس إلى تكذيبه-  و إلى أن تقوم الدلالة على صدقه-  قد فرط من سوء الظن فيه ما فرط- . و يقال إن بعض العلوية- 

قال في حضرة عضد الدولة ببغداد-  عندنا في الكوفة نبق وزن كل نبقة مثقالان-  فاستطرف الملك ذلك و كاد يكذبه الحاضرون-  فلما قام ذكر ذلك لأبيه-  فأرسل حماما كان عنده في الحال إلى الكوفة-  يأمر وكلاءه بإرسال مائة حمامة-  في رجلي كل واحدة نبقتان من ذلك النبق-  فجاء النبق في بكرة الغد و حمل إلى عضد الدولة-  فاستحسنه و صدقه حينئذ-  ثم قال له لعمري لقد صدقت-و لكن لا تحدث فيما بعد بكل ما رأيت من الغرائب-  فليس كل وقت يتهيأ لك إرسال الحمام- . و كان يقال الناس يكتبون أحسن ما يسمعون-  و يحفظون أحسن ما يكتبون-  و يتحدثون بأحسن ما يحفظون-  و الأصدق نوع تحت جنس الأحسن و منها قوله و لا ترد على الناس كل ما حدثوك-  فكفى بذلك جهلا-  من الجهل المبادرة بإنكار ما يسمعه- 

و قال ابن سينا في آخر الإشارات-  إياك أن يكون تكيسك و تبرؤك من العامة-  هو أن تنبري منكرا لكل شي‏ء-  فلذلك عجز و طيش-  و ليس الخرق في تكذيبك ما لم يستبن لك بعد جليته-  دون الخرق في تصديقك بما لم تقم بين يديك بينة-  بل عليك الاعتصام بحبل التوقف-  و إن أزعجك استنكار ما يوعيه سمعك-  مما لم يبرهن على استحالته لك-  فالصواب أن تسرح أمثال ذلك إلى بقعة الإمكان-  ما لم يذدك عنها قائم البرهان- . و منها قوله و اكظم الغيظ-  قد مدح الله تعالى ذلك فقال-  وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ- 

و روي أن عبدا لموسى بن جعفر ع قدم إليه صحفة-  فيها طعام حار-  فعجل فصبها على رأسه و وجهه فغضب-  فقال له وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ قال قد كظمت-  قال وَ الْعافِينَ عَنِ النَّاسِ قال قد عفوت-  قال وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ-  قال أنت حر لوجه الله-  و قد نحلتك ضيعتي الفلانية- . و منها قوله و احلم عند الغضب-  هذه مناسبة الأولى-  و قد تقدم منا قول كثير في الحلم و فضله-  و كذلك القول في قوله ع-  و تجاوز عند القدرة-  و كان يقال القدرة تذهب الحفيظة- .

 

و منها قوله و اصفح مع الدولة تكن لك العاقبة-  هذه كانت شيمة رسول الله ص-  و شيمة علي ع-  أما شيمة رسول الله ص فظفر بمشركي مكة و عفا عنهم-  كما سبق القول فيه في عام الفتح-  و أما علي ع فظفر بأصحاب الجمل-  و قد شقوا عصا الإسلام عليه-  و طعنوا فيه و في خلافته فعفا عنهم-  مع علمه بأنهم يفسدون عليه أمره فيما بعد-  و يصيرون إلى معاوية-  إما بأنفسهم أو بآرائهم و مكتوباتهم-  و هذا أعظم من الصفح عن أهل مكة-  لأن أهل مكة لم يبق لهم لما فتحت فئة يتحيزون إليها-  و يفسدون الدين عندها- . و منها قوله و استصلح كل نعمة أنعمها الله عليك-  معنى استصلحها استدمها-  لأنه إذا استدامها فقد أصلحها-  فإن بقاءها صلاح لها و استدامتها بالشكر- . و منها قوله و لا تضيعن نعمة من نعم الله عندك-  أي واس الناس منها و أحسن إليهم-  و اجعل بعضها لنفسك و بعضها للصدقة و الإيثار-  فإنك إن لم تفعل ذلك تكن قد أضعتها- .

و منها قوله و لير عليك أثر النعمة-  قد أمر بأن يظهر الإنسان على نفسه-  آثار نعمة الله عليه-  و قال سبحانه وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ-  و قال الرشيد لجعفر قم بنا لنمضي إلى منزل الأصمعي-  فمضيا إليه خفية-  و معهما خادم معه ألف دينار ليدفع ذلك إليه-  فدخلا داره فوجدا كساء جرداء و بارية سملاء-  و حصيرا مقطوعا و خباء قديمة-  و أباريق من خزف و دواة من زجاج-  و دفاتر عليها التراب و حيطانا مملوءة من نسج العناكب-  فوجم الرشيد-  و سأله مسائل غشة لم تكن من غرضه-  و إنما قطع بها خجله-  و قال الرشيد لجعفر أ لا ترى إلى نفس هذا المهين-  قد بررناه بأكثر  من خمسين ألف دينار و هذه حاله-  لم تظهر عليه آثار نعمتنا-  و الله لا دفعت إليه شيئا-  و خرج و لم يعطه- .

و منها قوله و اعلم أن أفضل المؤمنين-  أفضلهم تقدمة من نفسه و أهله و ماله-  أي أفضلهم إنفاقا في البر و الخير من ماله-  و هي التقدمة-  قال الله تعالى وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ-  فأما النفس و الأهل فإن تقدمتهما في الجهاد-  و قد تكون التقدمة في النفس بأن يشفع شفاعة حسنة-  أو يحضر عند السلطان بكلام طيب و ثناء حسن-  و أن يصلح بين المتخاصمين و نحو ذلك-  و التقدمة في الأهل أن يحج بولده و زوجته-  و يكلفهما المشاق في طاعة الله-  و أن يؤدب ولده إن أذنب-  و أن يقيم عليه الحد و نحو ذلك- . و منها قوله و ما تقدم من خير يبق لك زخره-  و ما تؤخره يكن لغيرك خيره-  و قد سبق مثل هذا-  و أن ما يتركه الإنسان بعده فقد حرم نفعه-  و كأنما كان يكدح لغيره-  و ذلك من الشقاوة و قلة التوفيق- .

و منها قوله و احذر صحابة من يفيل رأيه-  الصحابة بفتح الصاد مصدر صحبت-  و الصحابة بالفتح أيضا جمع صاحب-  و المراد هاهنا الأول-  و فال رأيه فسد و هذا المعنى قد تكرر-  و قال طرفة

عن المرء لا تسأل و سل عن قرينه
فإن القرين بالمقارن يقتدي‏

 و منها قوله و اسكن الأمصار العظام-  قد قيل لا تسكن إلا في مصر فيه سوق قائمة-  و نهر جار و طبيب حاذق و سلطان عادل-  فأما منازل الغفلة و الجفاء-  فمثل قرى السواد الصغار-  فإن أهلها لا نور فيهم و لا ضوء عليهم-  و إنما هم كالدواب‏ و الأنعام-  همهم الحرث و الفلاحة-  و لا يفقهون شيئا أصلا-  فمجاورتهم تعمي القلب و تظلم الحس-  و إذا لم يجد الإنسان من يعينه على طاعة الله-  و على تعلم العلم قصر فيهما- . و منها قوله و اقصر رأيك على ما يعنيك-  كان يقال من دخل فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه- . و منها نهيه إياه عن القعود في الأسواق-  قد جاء في المثل السوق محل الفسوق- .

و جاء في الخبر المرفوع الأسواق مواطن إبليس و جنده-  و ذلك لأنها قلما تخلو عن الأيمان الكاذبة-  و البيوع الفاسدة-  و هي أيضا مجمع النساء المومسات و فجار الرجال-  و فيها اجتماع أرباب الأهواء و البدع-  فلا يخلو أن يتجادل اثنان منهم-  في المذاهب و النحل فيفضي إلى الفتن- .

و منها قوله و انظر إلى من فضلت عليه-  كان يقال انظر إلى من دونك-  و لا تنظر إلى من فوقك-  و قد بين ع السر فيه فقال-  إن ذلك من أبواب الشكر-  و صدق ع لأنك إذا رأيت جاهلا و أنت عالم-  أو عالما و أنت أعلم منه-  أو فقيرا و أنت أغنى منه-  أو مبتلى بسقم و أنت معافى عنه-  كان ذلك باعثا و داعيا لك إلى الشكر- . و منها نهيه عن السفر يوم الجمعة-  ينبغي أن يكون هذا النهي-  عن السفر يوم الجمعة قبل الصلاة-  و أما بعد الصلاة فلا بأس به-  و استثنى فقال إلا فاصلا في سبيل الله-  أي شاخصا إلى الجهاد- . قال أو في أمر تعذر به-  أي لضرورة دعتك إلى ذلك- .

 

و قد ورد نهي كثير عن السفر يوم الجمعة-  قبل أداء الفرض-  على أن من الناس من كره ذلك بعد الصلاة أيضا-  و هو قول شاذ- . و منها قوله و أطع الله في جمل أمورك-  أي في جملتها و فيها كلها-  و ليس يعني في جملتها دون تفاصيلها-  قال فإن طاعة الله فاضلة على غيرها-  و صدق ع لأنها توجب السعادة الدائمة-  و الخلاص من الشقاء الدائم-  و لا أفضل مما يؤدي إلى ذلك- . و منها قوله و خادع نفسك في العبادة-  أمره أن يتلطف بنفسه في النوافل-  و أن يخادعها و لا يقهرها فتمل و تضجر و تترك-  بل يأخذ عفوها و يتوخى أوقات النشاط-  و انشراح الصدر للعبادة- .

قال فأما الفرائض فحكمها غير هذا الحكم-  عليك أن تقوم بها كرهتها النفس أو لم تكرهها-  ثم أمره أن يقوم بالفريضة في وقتها-  و لا يؤخرها عنه فتصير قضاء- . و منها قوله و إياك أن ينزل بك المنون-  و أنت آبق من ربك في طلب الدنيا-  هذه وصية شريفة جدا-  جعل طالب الدنيا المعرض عن الله عند موته-  كالعبد الآبق يقدم به على مولاه أسيرا مكتوفا ناكس الرأس-  فما ظنك به حينئذ- . و منها قوله و إياك و مصاحبة الفساق-  فإن الشر بالشر ملحق-  يقول إن الطباع ينزع بعضها إلى بعض-  فلا تصحبن الفساق-  فإنه ينزع بك ما فيك من طبع الشر-  إلى مساعدتهم على الفسوق و المعصية-  و ما هو إلا كالنار تقوى بالنار-  فإذا لم تجاورها و تمازجها نار-  كانت إلى الانطفاء و الخمود أقرب- .

 

و روي ملحق بكسر الحاء-  و قد جاء ذلك في الخبر النبوي فإن عذابك بالكفار ملحقبالكسر- . و منها قوله و أحب أحباءه-  قد جاء في الخبر لا يكمل إيمان امرئ حتى يحب من أحب الله-  و يبغض من أبغض الله-  و منها قوله و احذر الغضب-  قد تقدم لنا كلام طويل في الغضب-  وقال إنسان للنبي ص أوصني-  قال لا تغضب-  فقال زدني فقال لا تغضب-  قال زدني قال لا أجد لك مزيدا-  و إنما جعله ع جندا عظيما من جنود إبليس-  لأنه أصل الظلم و القتل و إفساد كل أمر صالح-  و هو إحدى القوتين المشئومتين-  اللتين لم يخلق أضر منهما على الإنسان-  و هما منبع الشر الغضب و الشهوة

 شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 18

نامه 68 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)(كتبه إلى سلمان الفارسي رحمه الله)

68 و من كتاب له ع كتبه إلى سلمان الفارسي رحمه الله-  قبل أيام خلافته

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّمَا مَثَلُ الدُّنْيَا مَثَلُ الْحَيَّةِ-  لَيِّنٌ مَسُّهَا قَاتِلٌ سَمُّهَا-  فَأَعْرِضْ عَمَّا يُعْجِبُكَ فِيهَا-  لِقِلَّةِ مَا يَصْحَبُكَ مِنْهَا-  وَ ضَعْ عَنْكَ هُمُومَهَا-  لِمَا أَيْقَنْتَ بِهِ مِنْ فِرَاقِهَا-  وَ تَصَرُّفِ حَالَاتِهَا-  وَ كُنْ آنَسَ مَا تَكُونُ بِهَا أَحْذَرَ مَا تَكُونُ مِنْهَا-  فَإِنَّ صَاحِبَهَا كُلَّمَا اطْمَأَنَّ فِيهَا إِلَى سُرُورٍ-  أَشْخَصَتْهُ إِلَى مَحْذُورٍ-  أَوْ إِلَى إِينَاسٍ أَزَالَتْهُ عَنْهُ إِلَى إِيحَاشٍ وَ السَّلَامُ

سلمان الفارسي و خبر إسلامه

سلمان رجل من فارس من رامهرمز-  و قيل بل من أصبهان-  من قرية يقال لها جي-  و هو معدود من موالي رسول الله ص-  و كنيته أبو عبد الله-  و كان إذا قيل ابن من أنت-  يقول أنا سلمان ابن الإسلام أنا من بني آدم- . و قد روي أنه قد تداوله أرباب كثيرة-  بضعة عشر ربا-  من واحد إلى آخر حتى أفضى إلى رسول الله ص- .

و روى أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب-  أن سلمان أتى رسول الله‏ ص بصدقة-  فقال هذه صدقة عليك و على أصحابك-  فلم يقبلها و قال إنه لا تحل لنا الصدقة-  فرفعها ثم جاء من الغد بمثلها-  و قال هدية هذه فقال لأصحابه كلوا- . و اشتراه من أربابه و هم قوم يهود بدراهم-  و على أن يغرس لهم من النخيل كذا و كذا-  و يعمل فيها حتى تدرك-  فغرس رسول الله ص ذلك النخل كله بيده-  إلا نخلة واحدة غرسها عمر بن الخطاب-  فأطعم النخل كله إلا تلك النخلة-  فقال رسول الله ص من غرسها قيل عمر-  فقلعها و غرسها رسول الله ص بيده فأطعمت- .

قال أبو عمر و كان سلمان يسف الخوص-  و هو أمير على المدائن و يبيعه و يأكل منه-  و يقول لا أحب أن آكل إلا من عمل يدي-  و كان قد تعلم سف الخوص من المدينة- . و أول مشاهده الخندق و هو الذي أشار بحفره-  فقال أبو سفيان و أصحابه لما رأوه-  هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها- . قال أبو عمر و قد روي أن سلمان شهد بدرا و أحدا-  و هو عبد يومئذ و الأكثر أن أول مشاهده الخندق-  و لم يفته بعد ذلك مشهد- . قال و كان سلمان خيرا فاضلا حبرا-  عالما زاهدا متقشفا- .

قال و ذكر هشام بن حسان عن الحسن البصري-  قال كان عطاء سلمان خمسة آلاف-  و كان إذا خرج عطاؤه تصدق به-  و يأكل من عمل يده-  و كانت له عباءة يفرش بعضها و يلبس بعضها- .قال و قد ذكر ابن وهب و ابن نافع-  أن سلمان لم يكن له بيت-  إنما كان يستظل بالجدر و الشجر-  و أن رجلا قال له أ لا أبني لك بيتا تسكن فيه-  قال لا حاجة لي في ذلك-  فما زال به الرجل حتى قال له-  أنا أعرف البيت الذي يوافقك قال فصفه لي-  قال أبني لك بيتا إذا أنت قمت فيه-  أصاب رأسك سقفه-  و إن أنت مددت فيه رجليك أصابهما الجدار-  قال نعم فبنى له- .

 قال أبو عمر و قد روي عن رسول الله ص من وجوه أنه قال لو كان الدين في الثريا لناله سلمانو في رواية أخرى لناله رجل من فارسقال و قد روينا عن عائشة قالت كان لسلمان مجلس من رسول الله ص-  ينفرد به بالليل حتى كاد يغلبنا على رسول الله ص قال و قد روي من حديث ابن بريدة عن أبيه أن رسول الله ص قال أمرني ربي بحب أربعة و أخبرني أنه يحبهم-  علي و أبو ذر و المقداد و سلمان قال و روى قتادة عن أبي هريرة قال سلمان صاحب الكتابين-  يعني الإنجيل و القرآن- .

و قد روى الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن علي ع أنه سئل عن سلمان فقال-  علم العلم الأول و العلم الآخر-  ذاك بحر لا ينزف و هو منا أهل البيت قال و في رواية زاذان عن علي ع سلمان الفارسي كلقمان الحكيم قال و قال فيه كعب الأحبار سلمان حشي علما و حكمة- .

 

قال و في الحديث المروي-  أن أبا سفيان مر على سلمان و صهيب و بلال-  في نفر من المسلمين-  فقالوا ما أخذت السيوف من عنق عدو الله مأخذها-  و أبو سفيان يسمع قولهم-  فقال لهم أبو بكر أ تقولون هذا لشيخ قريش و سيدها-  و أتى النبي ص و أخبره فقال-  يا أبا بكر لعلك أغضبتهم-  لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت الله فأتاهم أبو بكر-  فقال أبو بكر يا إخوتاه لعلي أغضبتكم-  قالوا لا يا أبا بكر يغفر الله لك- . قال و آخى رسول الله ص بينه و بين أبي الدرداء-  لما آخى بين المسلمين- .

قال و لسلمان فضائل جمة و أخبار حسان-  و توفي في آخر خلافة عثمان سنة خمس و ثلاثين-  و قيل توفي في أول سنة ست و ثلاثين-  و قال قوم توفي في خلافة عمر و الأول أكثر- . و أما حديث إسلام سلمان-  فقد ذكره كثير من المحدثين و رووه عنه-  قال كنت ابن دهقان قرية جي من أصبهان-  و بلغ من حب أبي لي أن حبسني في البيت-  كما تحبس الجارية-  فاجتهدت في المجوسية حتى صرت قطن بيت النار-  فأرسلني أبي يوما إلى ضيعة له-  فمررت بكنيسة النصارى فدخلت عليهم-  فأعجبتني صلاتهم-  فقلت دين هؤلاء خير من ديني-  فسألتهم أين أصل هذا الدين-  قالوا بالشام فهربت من والدي حتى قدمت الشام-  فدخلت على الأسقف فجعلت أخدمه و أتعلم منه-  حتى حضرته الوفاة-  فقلت إلى من توصي بي فقال-  قد هلك الناس و تركوا دينهم إلا رجلا بالموصل فالحق به-  فلما قضى نحبه لحقت بذلك الرجل-فلم يلبث إلا قليلا حتى حضرته الوفاة-  فقلت إلى من توصي بي فقال-  ما أعلم رجلا بقي على الطريقة المستقيمة إلا رجلا بنصيبين-  فلحقت بصاحب نصيبين-  قالوا و تلك الصومعة اليوم باقية-  و هي التي تعبد فيها سلمان قبل الإسلام- 

قال ثم احتضر صاحب نصيبين-  فبعثني إلى رجل بعمورية من أرض الروم-  فأتيته و أقمت عنده و اكتسبت بقيرات و غنيمات-  فلما نزل به الموت قلت له بمن توصي بي-  فقال قد ترك الناس دينهم و ما بقي أحد منهم على الحق-  و قد أظل زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم-  يخرج بأرض العرب مهاجرا إلى أرض بين حرتين-  لها نخل قلت فما علامته-  قال يأكل الهدية-  و لا يأكل الصدقة-  بين كتفيه خاتم النبوة قال و مر بي ركب من كلب فخرجت معهم-  فلما بلغوا بي وادي القرى ظلموني و باعوني من يهودي-  فكنت أعمل له في زرعه و نخله-  فبينا أنا عنده إذ قدم ابن عم له-  فابتاعني منه و حملني إلى المدينة-  فو الله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها-  و بعث الله محمدا بمكة-  و لا أعلم بشي‏ء من أمره-  فبينا أنا في رأس نخلة إذ أقبل ابن عم لسيدي- 

فقال قاتل الله بني قيلة-  قد اجتمعوا على رجل بقباء قدم عليهم من مكة-  يزعمون أنه نبي قال فأخذني القر و الانتفاض-  و نزلت عن النخلة و جعلت أستقصي في السؤال-  فما كلمني سيدي بكلمة-  بل قال أقبل على شأنك و دع ما لا يعنيك-  فلما أمسيت أخذت شيئا كان عندي من التمر-  و أتيت به النبي ص فقلت له بلغني أنك رجل صالح-  و أن لك أصحابا غرباء ذوي حاجة-  و هذا شي‏ء عندي للصدقة-  فرأيتكم أحق به من غيركم-  فقال ع لأصحابه كلوا و أمسك فلم يأكل-  فقلت في نفسي هذه واحدة و انصرفت-  فلما كان من الغد أخذت ما كان بقي عندي و أتيته به-  فقلت له إني رأيتك لا تأكل الصدقة-  و هذه هدية فقال كلوا و أكل معهم-  فقلت إنه لهو فأكببت عليه أقبله و أبكي-  فقال ما لك فقصصت عليه القصة فأعجبه-  ثم قال يا سلمان كاتب صاحبك-  فكاتبته على ثلاثمائة نخلة و أربعين أوقية-  فقال رسول الله ص للأنصار أعينوا أخاكم-  فأعانوني بالنخل حتى جمعت ثلاثمائة ودية-  فوضعها رسول الله ص بيده فصحت كلها-  و أتاه مال من بعض المغازي فأعطاني منه-  و قال أد كتابتك فأديت و عتقت- .

و كان سلمان من شيعة علي ع و خاصته-  و تزعم الإمامية أنه أحد الأربعة الذين حلقوا رءوسهم-  و أتوه متقلدي سيوفهم في خبر يطول-  و ليس هذا موضع ذكره-  و أصحابنا لا يخالفونهم في أن سلمان كان من الشيعة-  و إنما يخالفونهم في أمر أزيد من ذلك-  و ما يذكره المحدثون من قوله للمسلمين يوم السقيفة-  كرديد و نكرديد-  محمول عند أصحابنا على أن المراد صنعتم شيئا و ما صنعتم-  أي استخلفتم خليفة و نعم ما فعلتم-  إلا أنكم عدلتم عن أهل البيت-  فلو كان الخليفة منهم كان أولى-  و الإمامية تقول معناه أسلمتم و ما أسلمتم-  و اللفظة المذكورة في الفارسية لا تعطي هذا المعنى-  و إنما تدل على الفعل و العمل لا غير-  و يدل على صحة قول أصحابنا أن سلمان عمل لعمر على المدائن-  فلو كان ما تنسبه الإمامية إليه حقا لم يعمل له.

فأما ألفاظ الفصل و معانيه فظاهرة-  و مما يناسب مضمونه قول بعض الحكماء-  تعز عن الشي‏ء إذا منعته بقلة صحبته لك إذا أعطيته- . و كان يقال الهالك على الدنيا رجلان-  رجل نافس في عزها و رجل أنف من ذلها- .

 

و مر بعض الزهاد بباب دار و أهلها يبكون ميتا لهم-  فقال وا عجبا لقوم مسافرين-  يبكون مسافرا قد بلغ منزله- . و كان يقال يا ابن آدم-  لا تأسف على مفقود لا يرده عليك الفوت-  و لا تفرح بموجود لا يتركه عليك الموت- . لقي عالم من العلماء راهبا فقال أيها الراهب-  كيف ترى الدنيا قال تخلق الأبدان-  و تجدد الآمال و تباعد الأمنية و تقرب المنية-  قال فما حال أهلها-  قال من ظفر بها نصب و من فاتته أسف-  قال فكيف الغنى عنها-  قال بقطع الرجاء منها-  قال فأي الأصحاب أبر و أوفى-  قال العمل الصالح-  قال فأيهم أضر و أنكى-  قال النفس و الهوى-  قال فكيف المخرج قال في سلوك المنهج-  قال و بما ذا أسلكه-  قال بأن تخلع لباس الشهوات الفانية-  و تعمل للدار الباقية

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 18

نامه 67 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

67 و من كتاب له ع كتبه إلى قثم بن العباس-  و هو عامله على مكة

أَمَّا بَعْدُ فَأَقِمْ لِلنَّاسِ الْحَجَّ-  وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ-  وَ اجْلِسْ لَهُمُ الْعَصْرَيْنِ-  فَأَفْتِ الْمُسْتَفْتِيَ-  وَ عَلِّمِ الْجَاهِلَ وَ ذَاكِرِ الْعَالِمَ-  وَ لَا يَكُنْ لَكَ إِلَى النَّاسِ سَفِيرٌ إِلَّا لِسَانُكَ-  وَ لَا حَاجِبٌ إِلَّا وَجْهُكَ-  وَ لَا تَحْجُبَنَّ ذَا حَاجَةٍ عَنْ لِقَائِكَ بِهَا-  فَإِنَّهَا إِنْ ذِيدَتْ عَنْ أَبْوَابِكَ فِي أَوَّلِ وِرْدِهَا-  لَمْ تُحْمَدْ فِيمَا بَعْدُ عَلَى قَضَائِهَا-  وَ انْظُرْ إِلَى مَا اجْتَمَعَ عِنْدَكَ مِنْ مَالِ اللَّهِ-  فَاصْرِفْهُ إِلَى مَنْ قِبَلَكَ مِنْ ذَوِي الْعِيَالِ وَ الْمَجَاعَةِ-  مُصِيباً بِهِ مَوَاضِعَ الْمَفَاقِرِ وَ الْخَلَّاتِ-  وَ مَا فَضَلَ عَنْ ذَلِكَ فَاحْمِلْهُ إِلَيْنَا لِنَقْسِمَهُ فِيمَنْ قِبَلَنَا-  وَ مُرْ أَهْلَ مَكَّةَ أَلَّا يَأْخُذُوا مِنْ سَاكِنٍ أَجْراً-  فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ-  سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَ الْبادِ-  فَالْعَاكِفُ الْمُقِيمُ بِهِ-  وَ الْبَادِي الَّذِي يَحُجُّ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ-  وَفَّقَنَا اللَّهُ وَ إِيَّاكُمْ لِمَحَابِّهِ وَ السَّلَامُ‏

 

قد تقدم ذكر قثم و نسبه-  أمره أن يقيم للناس حجهم-  و أن يذكرهم بأيام الله و هي أيام الإنعام-  و أيام الانتقام لتحصل الرغبة و الرهبة- . و اجلس لهم العصرين الغداة و العشي- . ثم قسم له ثمرة جلوسه لهم ثلاثة أقسام-  إما أن يفتي مستفتيا من العامة في بعض الأحكام-  و إما أن يعلم متعلما يطلب الفقه-  و إما أن يذاكر عالما و يباحثه و يفاوضه-  و لم يذكر السياسة و الأمور السلطانية-  لأن غرضه متعلق بالحجيج و هم أضيافه-  يقيمون ليالي يسيرة و يقفلون- 

و إنما يذكر السياسة و ما يتعلق بها فيما يرجع إلى أهل مكة-  و من يدخل تحت ولايته دائما-  ثم نهاه عن توسط السفراء و الحجاب بينه و بينهم-  بل ينبغي أن يكون سفيره لسانه و حاجبه وجهه-  و روي و لا يكن إلا لسانك سفيرا لك إلى الناس-  بجعل لسانك اسم كان مثل قوله-  فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا-  و الرواية الأولى هي المشهورة-  و هو أن يكون سفيرا اسم كان-  و لك خبرها-  و لا يصح ما قاله الراوندي إن خبرها إلى الناس-  لأن إلى هاهنا متعلقة بنفس سفير-  فلا يجوز أن تكون-  الخبر عن سفير تقول سفرت إلى بني فلان في الصلح-  و إذا تعلق حرف الجر بالكلمة صار كالشي‏ء الواحد- . ثم قال فإنها إن ذيدت أي طردت و دفعت- . كان أبو عباد ثابت بن يحيى كاتب المأمون إذا سئل الحاجة-  يشتم السائل و يسطو عليه و يخجله و يبكته ساعة-  ثم يأمر له بها فيقوم و قد صارت إليه-  و هو يذمه و يلعنه قال علي بن جبلة العكوك-

 

  لعن الله أبا عباد
لعنا يتوالى‏

يوسع السائل شتما
ثم يعطيه السؤالا

و كان الناس يقفون لأبي عباد وقت ركوبه-  فيتقدم الواحد منهم إليه بقصته ليناوله إياها-  فيركله برجله بالركاب و يضربه بسوطه-  و يطير غضبا ثم لا ينزل عن فرسه حتى يقضي حاجته-  و يأمر له بطلبته فينصرف الرجل بها-  و هو ذام له ساخط عليه فقال فيه دعبل- 

أولى الأمور بضيعة و فساد
ملك يدبره أبو عباد

متعمد بدواته جلساءه‏
فمضرج و مخضب بمداد

و كأنه من دير هزقل مفلت
حرب يجر سلاسل الأقياد

فاشدد أمير المؤمنين صفاده‏
بأشد منه في يد الحداد

و قال فيه بعض الشعراء-

قل للخليفة يا ابن عم محمد
قيد وزيرك إنه ركال‏

فلسوطه بين الرءوس مسالك‏
و لرجله بين الصدور مجال‏

و المفاقر الحاجات يقال سد الله مفاقره-  أي أغنى الله فقره-  ثم أمره أن يأمر أهل مكة-  ألا يأخذوا من أحد من الحجيج أجرة مسكن-  و احتج على ذلك بالآية-  و أصحاب أبي حنيفة يتمسكون بها-  في امتناع بيع دور مكة و إجارتها-  و هذا بناء على أن‏المسجد الحرام هو مكة كلها-  و الشافعي يرى خلاف ذلك و يقول إنه الكعبة-  و لا يمنع من بيع دور مكة و لا إجارتها-  و يحتج بقوله تعالى الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ-  و أصحاب أبي حنيفة يقولون-  إنها إضافة اختصاص لا إضافة تمليك-  كما تقول جل الدابة-  و قرأ سواء بالنصب على أن يكون أحد مفعولي جعلنا-  أي جعلناه مستويا فيه العاكف و الباد-  و من قرأ بالرفع جعل الجملة هي المفعول الثاني

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 18

 

نامه 66 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

66 و من كتاب له ع كتبه إلى عبد الله بن العباس

و قد تقدم ذكره بخلاف هذه الرواية: أَمَّا بَعْدُ-  فَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَفْرَحُ بِالشَّيْ‏ءِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لِيَفُوتَهُ-  وَ يَحْزَنُ عَلَى الشَّيْ‏ءِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ-  فَلَا يَكُنْ أَفْضَلَ مَا نِلْتَ فِي نَفْسِكَ-  مِنْ دُنْيَاكَ بُلُوغُ لَذَّةٍ-  أَوْ شِفَاءُ غَيْظٍ-  وَ لَكِنْ إِطْفَاءُ بَاطِلٍ وَ إِحْيَاءُ حَقٍّ-  وَ لْيَكُنْ سُرُورُكَ بِمَا قَدَّمْتَ-  وَ أَسَفُكَ عَلَى مَا خَلَّفْتَ-  وَ هَمُّكَ فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ هذا الفصل قد تقدم شرح نظيره-  و ليس في ألفاظه و لا معانيه ما يفتقر إلى تفسير-  و لكنا سنذكر من كلام الحكماء و الصالحين-  كلمات تناسبه

نبذ من كلام الحكماء

فمن كلام بعضهم ما قدر لك أتاك-  و ما لم يقدر لك تعداك-  فعلام تفرح بما لم يكن بد من وصوله إليك-  و علام تحزن بما لم يكن ليقدم عليك- . و من كلامهم الدنيا تقبل إقبال الطالب-  و تدبر إدبار الهارب-  و تصل وصال المتهالك-  و تفارق فراق المبغض الفارك-  فخيرها يسير و عيشها قصير-  و إقبالها خدعة و إدبارهافجعة-  و لذاتها فانية و تبعاتها باقية-  فاغتنم غفلة الزمان و انتهز فرصة الإمكان-  و خذ من نفسك لنفسك-  و تزود من يومك لغدك قبل نفاذ المدة-  و زوال القدرة-  فلكل امرئ من دنياه ما ينفعه على عمارة أخراه- .

و من كلامهم من نكد الدنيا أنها لا تبقى على حالة-  و لا تخلو من استحالة-  تصلح جانبا بإفساد جانب و تسر صاحبا بمساءة صاحب-  فالسكون فيها خطر و الثقة إليها غرر-  و الالتجاء إليها محال و الاعتماد عليها ضلال- . و من كلامهم-  لا تبتهجن لنفسك بما أدركت من لذاتها الجسمانية-  و ابتهج لها بما تناله من لذاتها العقلية-  و من القول بالحق و العمل بالحق-  فإن اللذات الحسية خيال ينفد-  و المعارف العقلية باقية بقاء الأبد

 شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 18

نامه 65 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

65 و من كتاب له ع إليه أيضا

أَمَّا بَعْدُ-  فَقَدْ آنَ لَكَ أَنْ تَنْتَفِعَ بِاللَّمْحِ الْبَاصِرِ مِنْ عِيَانِ الْأُمُورِ-  فَلَقَدْ سَلَكْتَ مَدَارِجَ أَسْلَافِكَ بِادِّعَائِكَ الْأَبَاطِيلَ-  وَ اقْتِحَامِكَ غُرُورَ الْمَيْنِ وَ الْأَكَاذِيبِ مِنِ انْتِحَالِكَ مَا قَدْ عَلَا عَنْكَ-  وَ ابْتِزَازِكَ لِمَا قَدِ اخْتُزِنَ دُونَكَ-  فِرَاراً مِنَ الْحَقِّ-  وَ جُحُوداً لِمَا هُوَ أَلْزَمُ لَكَ مِنْ لَحْمِكَ وَ دَمِكَ-  مِمَّا قَدْ وَعَاهُ سَمْعُكَ-  وَ مُلِئَ بِهِ صَدْرُكَ-  فَمَا ذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ-  وَ بَعْدَ الْبَيَانِ إِلَّا اللَّبْسُ-  فَاحْذَرِ الشُّبْهَةَ وَ اشْتِمَالَهَا عَلَى لُبْسَتِهَا-  فَإِنَّ الْفِتْنَةَ طَالَمَا أَغْدَفَتْ جَلَابِيبَهَا-  وَ أَعْشَتِ الْأَبْصَارَ ظُلْمَتُهَا-  وَ قَدْ أَتَانِي كِتَابٌ مِنْكَ ذُو أَفَانِينَ مِنَ الْقَوْلِ-  ضَعُفَتْ قُوَاهَا عَنِ السِّلْمِ-  وَ أَسَاطِيرَ لَمْ يَحُكْهَا عَنْكَ عِلْمٌ وَ لَا حِلْمٌ-  أَصْبَحْتَ مِنْهَا كَالْخَائِضِ فِي الدَّهَاسِ-  وَ الْخَابِطِ فِي الدِّيمَاسِ-  وَ تَرَقَّيْتَ إِلَى مَرْقَبَةٍ بَعِيدَةِ الْمَرَامِ-  نَازِحَةِ الْأَعْلَامِ-  تَقْصُرُ دُونَهَا الْأَنُوقُ-  وَ يُحَاذَى بِهَا الْعَيُّوقُ-  وَ حَاشَ لِلَّهِ أَنْ تَلِيَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ بَعْدِي صَدْراً أَوْ وِرْداً-  أَوْ أُجْرِيَ لَكَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ عَقْداً أَوْ عَهْداً-  فَمِنَ الآْنَ فَتَدَارَكْ نَفْسَكَ وَ انْظُرْ لَهَا-  فَإِنَّكَ إِنْ فَرَّطْتَ حَتَّى يَنْهَدَ إِلَيْكَ عِبَادُ اللَّهِ-  أُرْتِجَتْ عَلَيْكَ الْأُمُورُ-  وَ مُنِعْتَ أَمْراً هُوَ مِنْكَ الْيَوْمَ مَقْبُولٌ وَ السَّلَامُ‏

 

آن لك و أنى لك بمعنى أي قرب و حان-  تقول آن لك أن تفعل كذا يئين أينا و قال- 

  أ لم يأن أن لي تجل عني عمايتي
و أقصر عن ليلى بلى قد أنى ليا

فجمع بين اللغتين-  و أنى مقلوبة عن آن-  و مما يجري مجرى المثل قولهم لمن يرونه شيئا-  شديدا يبصره و لا يشك فيه-  قد رأيته لمحا باصرا-  قالوا أي نظرا بتحديق شديد-  و مخرجه مخرج رجل لابن و تامر-  أي ذو لبن و تمر-  فمعنى باصر ذو بصر-  يقول ع لمعاوية-  قد حان لك أن تنتفع بما تعلمه من معاينة الأمور و الأحوال-  و تتحققه يقينا بقلبك-  كما يتحقق ذو اللمح الباصر ما يبصره بحاسة بصره-  و أراد ببيان الأمور هاهنا معاينتها-  و هو ما يعرفه ضرورة من استحقاق علي ع للخلافة دونه-  و براءته من كل شبهة ينسبها إليه- . ثم قال له فقد سلكت-  أي اتبعت طرائق أبي سفيان أبيك-  و عتبة جدك و أمثالهما من أهلك-  ذوي الكفر و الشقاق- . و الأباطيل جمع باطل على غير قياس-  كأنهم جمعوا إبطيلا- . و الاقتحام إلقاء النفس في الأمر من غير روية- . و المين الكذب-  و الغرور بالضم المصدر و بالفتح الاسم- . و انتحلت القصيدة أي ادعيتها كذبا- . قال ما قد علا عنك أي أنت دون الخلافة-  و لست من أهلها-  و الابتزاز الاستلاب- .

 

قال لما قد اختزن دونك-  يعني التسمي بإمرة المؤمنين- . ثم قال فرارا من الحق-  أي فعلت ذلك كله هربا من التمسك بالحق و الدين-  و حبا للكفر و الشقاق و التغلب- . قال و جحودا لما هو ألزم-  يعني فرض طاعة علي ع لأنه قد وعاها سمعه-  لا ريب في ذلك إما بالنص في أيام رسول الله ص-  كما تذكره الشيعة فقد كان معاوية حاضرا يوم الغدير-  لأنه حج معهم حجة الوداع-  و قد كان أيضا حاضرا يوم تبوك-  حين قال له بمحضر من الناس كافة-  أنت مني بمنزلة هارون من موسى-  و قد سمع غير ذلك-  و أما بالبيعة كما نذكره نحن فإنه قد اتصل به خبرها-  و تواتر عنده وقوعها-  فصار وقوعها عنده معلوما بالضرورة-  كعلمه بأن في الدنيا بلدا اسمها مصر-  و إن كان ما رآها- .

و الظاهر من كلام أمير المؤمنين ع-  أنه يريد المعنى الأول-  و نحن نخرجه على وجه لا يلزم منه ما تقوله الشيعة-  فنقول لنفرض أن النبي ص ما نص عليه بالخلافة بعده-  أ ليس يعلم معاوية و غيره من الصحابة-  أنه لو قال له في ألف مقام-  أنا حرب لمن حاربت و سلم لمن سالمت-  و نحو ذلك من قوله اللهم عاد من عاداه-  و وال من والاه-  و قوله حربك حربي و سلمك سلمي-  و قوله أنت مع الحق و الحق معك-  و قوله هذا مني و أنا منه-  و قوله هذا أخي-  و قوله يحب الله و رسوله-  و يحبه الله و رسوله-  و قوله اللهم ائتني بأحب خلقك إليك-  و قوله إنه ولي كل مؤمن و مؤمنة بعدي-  و قوله في كلام قاله خاصف النعل-  و قوله لا يحبه إلا مؤمن و لا يبغضه إلا منافق-  و قوله إن الجنة لتشتاق إلى أربعة-  و جعله أولهم-  و قوله لعمار تقتلك الفئة الباغية-  و قوله ستقاتل الناكثين و القاسطين-و المارقين بعدي-  إلى غير ذلك مما يطول تعداده جدا-  و يحتاج إلى كتاب مفرد يوضع له-  أ فما كان ينبغي لمعاوية أن يفكر في هذا و يتأمله-  و يخشى الله و يتقيه-  فلعله ع إلى هذا أشار بقوله-  و جحودا لما هو ألزم لك من لحمك و دمك-  مما قد وعاه سمعك و ملئ به صدرك- . قوله فما ذا بعد الحق إلا الضلال-  كلمة من الكلام الإلهي المقدس- .

قال و بعد البيان إلا اللبس-  يقال لبست عليه الأمر لبسا-  أي خلطته و المضارع يلبس بالكسر- . قال فاحذر الشبهة و اشتمالها على اللبسة بالضم-  يقال في الأمر لبسة أي اشتباه و ليس بواضح-  و يجوز أن يكون اشتمال مصدرا مضافا إلى معاوية-  أي احذر الشبهة و احذر اشتمالك إياها على اللبسة-  أي ادراعك بها و تقمصك بها على ما فيها-  من الإبهام و الاشتباه-  و يجوز أن يكون مصدرا مضافا إلى ضمير الشبهة فقط-  أي احذر الشبهة و احتواءها على اللبسة التي فيها- .

و تقول أغدفت المرأة قناعها-  أي أرسلته على وجهها-  و أغدف الليل-  أي أرخى سدوله-  و أصل الكلمة التغطية- . و الجلابيب جمع جلباب و هو الثوب- . قال و أعشت الأبصار ظلمتها-  أي أكسبتها العشي و هو ظلمة العين-  و روي و أغشت بالغين المعجمة ظلمتها بالنصب-  أي جعلت الفتنة ظلمتها غشاء للأبصار- . و الأفانين الأساليب المختلفة- . قوله ضعفت قواها عن السلم أي عن الإسلام-  أي لا تصدر تلك الأفانين‏المختلطة عن مسلم-  و كان كتب إليه يطلب منه أن يفرده بالشام-  و أن يوليه العهد من بعده-  و ألا يكلفه الحضور عنده-  و قرأ أبو عمرو ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً-  و قال ليس المعني بهذا الصلح-  بل الإسلام و الإيمان لا غير-  و معنى ضعفت قواها أي ليس لتلك الطلبات و الدعاوي-  و الشبهات التي تضمنها كتابك من القوة-  ما يقتضي أن يكون المتمسك به مسلما-  لأنه كلام لا يقوله إلا من هو-  إما كافر منافق أو فاسق-  و الكافر ليس بمسلم-  و الفاسق أيضا ليس بمسلم على قول أصحابنا و لا كافر- . ثم قال و أساطير لم يحكها منك علم و لا حلم-  الأساطير الأباطيل واحدها أسطورة بالضم-  و إسطارة بالكسر و الألف-  و حوك الكلام صنعته و نظمه-  و الحلم العقل يقول له-  ما صدر هذا الكلام و الهجر الفاسد عن عالم و لا عاقل- .

و من رواها الدهاس بالكسر فهو جمع دهس-  و من قرأها بالفتح فهو مفرد-  يقول هذا دهس و دهاس بالفتح مثل لبث و لباث-  للمكان السهل الذي لا يبلغ أن يكون رملا-  و ليس هو بتراب و لا طين- . و الديماس بالكسر السرب المظلم تحت الأرض-  و في حديث المسيح أنه سبط الشعر-  كثير خيلان الوجه كأنه خرج من ديماس-  يعني في نضرته و كثرة ماء وجهه-  كأنه خرج من كن-  لأنه قال في وصفه كان رأسه يقطر ماء-  و كان للحجاج سجن اسمه الديماس لظلمته-  و أصله من دمس الظلام يدمس أي اشتد-  و ليل دامس و داموس أي مظلم-  و جاءنا فلان بأمور دمس أي مظلمة عظيمة-  يقول له أنت في كتابك هذا كالخائض في تلك الأرض الرخوة-  و تقوم و تقع و لا تتخلص-  و كالخابط في الليل المظلم يعثر و ينهض-  و لا يهتدى الطريق- .

 

و المرقبة الموضع العالي و الأعلام جمع علم-  و هو ما يهتدى به في الطرقات من المنار-  يقول له سمت همتك إلى دعوى الخلافة-  و هي منك كالمرقبة التي لا ترام بتعد على من يطلبها-  و ليس فيها أعلام تهدى إلى سلوك طريقها-  أي الطرق إليها غامضة-  كالجبل الأملس الذي ليس فيه درج و مراق-  يسلك منها إلى ذروته- . و الأنوق على فعول بالفتح كأكول و شروب طائر-  و هو الرخمة و في المثل أعز من بيض الأنوق-  لأنها تحرزه و لا يكاد أحد يظفر به-  و ذلك لأن أوكارها في رءوس الجبال-  و الأماكن الصعبة البعيدة- . و العيوق كوكب معروف فوق زحل في العلو-  و هذه أمثال ضربها في بعد معاوية عن الخلافة- .

ثم قال حاش لله-  إن أوليك شيئا من أمور المسلمين بعدي-  أي معاذ الله و الأصل إثبات الألف في حاشا-  و إنما اتبع فيها المصحف- . و الورد و الصدر الدخول و الخروج-  و أصله في الإبل و الماء-  و ينهد إليك عباد الله أي ينهض-  و أرتجت عليك الأمور أغلقت- . و هذا الكتاب هو جواب كتاب وصل من معاوية إليه ع-  بعد قتل علي ع الخوارج-  و فيه تلويح بما كان يقوله من قبل-  إن رسول الله وعدني بقتال طائفة أخرى-  غير أصحاب الجمل و صفين و إنه سماهم المارقين-  فلما واقعهم ع بالنهروان و قتلهم كلهم بيوم واحد-  و هم عشرة آلاف فارس-  أحب أن يذكر معاوية بما كان يقول من قبل-  و يعد به أصحابه و خواصه-  فقال له قد آن لك أن تنتفع بما عاينت-  و شاهدت معاينة و مشاهدة-  من صدق القول الذي كنت أقوله للناس-  و يبلغك فتستهزئ به

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 18

نامه 64 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

 64 و من كتاب له ع إلى معاوية جوابا عن كتابه

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّا كُنَّا نَحْنُ وَ أَنْتُمْ عَلَى مَا ذَكَرْتَ-  مِنَ الْأُلْفَةِ وَ الْجَمَاعَةِ-  فَفَرَّقَ بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمْ أَمْسِ أَنَّا آمَنَّا وَ كَفَرْتُمْ-  وَ الْيَوْمَ أَنَّا اسْتَقَمْنَا وَ فُتِنْتُمْ-  وَ مَا أَسْلَمَ مُسْلِمُكُمْ إِلَّا كَرْهاً-  وَ بَعْدَ أَنْ كَانَ أَنْفُ الْإِسْلَامِ كُلُّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ ص حَرْباً-  وَ ذَكَرْتَ أَنِّي قَتَلْتُ طَلْحَةَ وَ الزُّبَيْرَ-  وَ شَرَّدْتُ بِعَائِشَةَ وَ نَزَلْتُ بَيْنَ الْمِصْرَيْنِ-  وَ ذَلِكَ أَمْرٌ غِبْتَ عَنْهُ فَلَا عَلَيْكَ وَ لَا الْعُذْرُ فِيهِ إِلَيْكَ-  وَ ذَكَرْتَ أَنَّكَ زَائِرِي فِي جَمْعِ الْمُهَاجِرِينَ وَ الْأَنْصَارِ-  وَ قَدِ انْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ يَوْمَ أُسِرَ أَخُوكَ-  فَإِنْ كَانَ فِيكَ عَجَلٌ فَاسْتَرْفِهْ-  فَإِنِّي إِنْ أَزُرْكَ فَذَلِكَ جَدِيرٌ-  أَنْ يَكُونَ اللَّهُ إِنَّمَا بَعَثَنِي إِلَيْكَ لِلنِّقْمَةِ مِنْكَ-  وَ إِنْ تَزُرْنِي فَكَمَا قَالَ أَخُو بَنِي أَسَدٍ- 

  مُسْتَقْبِلِينَ رِيَاحَ الصَّيْفِ تَضْرِبُهُمْ
بِحَاصِبٍ بَيْنَ أَغْوَارٍ وَ جُلْمُودِ

 وَ عِنْدِي السَّيْفُ الَّذِي أَعْضَضْتُهُ بِجَدِّكَ-  وَ خَالِكَ وَ أَخِيكَ فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ-  فَإِنَّكَ وَ اللَّهِ مَا عَلِمْتُ الْأَغْلَفُ الْقَلْبِ الْمُقَارِبُ الْعَقْلِ-  وَ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ لَكَ-  إِنَّكَ رَقِيتَ سُلَّماً أَطْلَعَكَ مَطْلَعَ سُوءٍ عَلَيْكَ لَا لَكَ-  لِأَنَّكَ نَشَدْتَ غَيْرَ ضَالَّتِكَ وَ رَعَيْتَ غَيْرَ سَائِمَتِكَ-  وَ طَلَبْتَ أَمْراً لَسْتَ مِنْ أَهْلِهِ وَ لَا فِي مَعْدِنِهِ-  فَمَا أَبْعَدَ قَوْلَكَ مِنْ فِعْلِكَ-وَ قَرِيبٌ مَا أَشْبَهْتَ مِنْ أَعْمَامٍ وَ أَخْوَالٍ-  حَمَلَتْهُمُ الشَّقَاوَةُ وَ تَمَنِّي الْبَاطِلِ عَلَى الْجُحُودِ بِمُحَمَّدٍ ص-  فَصُرِعُوا مَصَارِعَهُمْ حَيْثُ عَلِمْتَ-  لَمْ يَدْفَعُوا عَظِيماً وَ لَمْ يَمْنَعُوا حَرِيماً-  بِوَقْعِ سُيُوفٍ مَا خَلَا مِنْهَا الْوَغَى-  وَ لَمْ تُمَاشِهَا الْهُوَيْنَى-  وَ قَدْ أَكْثَرْتَ فِي قَتَلَةِ عُثْمَانَ-  فَادْخُلْ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ ثُمَّ حَاكِمِ الْقَوْمَ إِلَيَّ-  أَحْمِلْكَ وَ إِيَّاهُمْ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى-  وَ أَمَّا تِلْكَ الَّتِي تُرِيدُ-  فَإِنَّهَا خُدْعَةُ الصَّبِيِّ عَنِ اللَّبَنِ فِي أَوَّلِ الْفِصَالِ-  وَ السَّلَامُ لِأَهْلِهِ

كتاب معاوية إلى علي

أما الكتاب الذي كتبه إليه معاوية-  و هذا الكتاب جوابه فهو-  من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب-  أما بعد فإنا بني عبد مناف-  لم نزل ننزع من قليب واحد و نجري في حلبة واحدة-  ليس لبعضنا على بعض فضل-  و لا لقائمنا على قاعدنا فخر-  كلمتنا مؤتلفة و ألفتنا جامعة و دارنا واحدة-  يجمعنا كرم العرق و يحوينا شرف النجار-  و يحنو قوينا على ضعيفنا و يواسي غنينا فقيرنا-  قد خلصت قلوبنا من وغل الحسد-  و طهرت أنفسنا من خبث النية-  فلم نزل كذلك حتى كان منك ما كان من الإدهان-  في أمر ابن عمك و الحسد له-  و نصرة الناس عليه حتى قتل بمشهد منك-  لا تدفع عنه بلسان و لا يد-  فليتك‏ أظهرت نصره حيث أسررت خبره-  فكنت كالمتعلق بين الناس بعذر و إن ضعف-  و المتبرئ من دمه بدفع و إن وهن-  و لكنك جلست في دارك تدس إليه الدواهي-  و ترسل إليه الأفاعي-  حتى إذا قضيت وطرك منه-  أظهرت شماتة و أبديت طلاقة-  و حسرت للأمر عن ساعدك و شمرت عن ساقك-  و دعوت الناس إلى نفسك-  و أكرهت أعيان المسلمين على بيعتك-  ثم كان منك بعد ما كان-  من قتلك شيخي المسلمين-  أبي محمد طلحة و أبي عبد الله الزبير-  و هما من الموعودين بالجنة-  و المبشر قاتل أحدهما بالنار في الآخرة-  هذا إلى تشريدك بأم المؤمنين عائشة-  و إحلالها محل الهون-  متبذلة بين أيدي الأعراب و فسقة أهل الكوفة-  فمن بين مشهر لها و بين شامت بها و بين ساخر منها-  ترى ابن عمك كان بهذه لو رآه راضيا-  أم كان يكون عليك ساخطا و لك عنه زاجرا-  أن تؤذي أهله و تشرد بحليلته و تسفك دماء أهل ملته-  ثم تركك دار الهجرة التي قال رسول الله ص عنها إن المدينة لتنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد-  فلعمري لقد صح وعده و صدق قوله-  و لقد نفت خبثها-  و طردت عنها من ليس بأهل أن يستوطنها-  فأقمت بين المصرين و بعدت عن بركة الحرمين-  و رضيت بالكوفة بدلا من المدينة-  و بمجاورة الخورنق و الحيرة عوضا من مجاورة خاتم النبوة-  و من قبل ذلك ما عبت خليفتي رسول الله ص أيام حياتهما-  فقعدت عنهما و ألبت عليهما و امتنعت من بيعتهما-  و رمت أمرا لم يرك الله تعالى له أهلا-  و رقيت سلما وعرا و حاولت مقاما دحضا-  و ادعيت ما لم تجد عليه ناصرا-  و لعمري لو وليتها حينئذ لما ازدادت-  إلا فسادا و اضطرابا-  و لا أعقبت ولايتكها إلا انتشارا و ارتدادا-  لأنك الشامخ بأنفه الذاهب بنفسه-  المستطيل على الناس بلسانه و يده-  و ها أنا سائر إليك في جمع‏من المهاجرين و الأنصار-  تحفهم سيوف شامية و رماح قحطانية-  حتى يحاكموك إلى الله-  فانظر لنفسك و للمسلمين و ادفع إلي قتلة عثمان-  فإنهم خاصتك و خلصاؤك و المحدقون بك-  فإن أبيت إلا سلوك سبيل اللجاج-  و الإصرار على الغي و الضلال-  فاعلم أن هذه الآية إنما نزلت فيك-  و في أهل العراق معك وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً-  يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ-  فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ.

ثم نعود إلى تفسير ألفاظ الفصل و معانيه-  قال ع لعمري إنا كنا بيتا واحدا في الجاهلية-  لأنا بنو عبد مناف إلا أن الفرقة بيننا و بينكم-  حصلت منذ بعث الله محمدا ص فإنا آمنا و كفرتم-  ثم تأكدت الفرقة اليوم-  بأنا استقمنا على منهاج الحق و فتنتم- . ثم قال و ما أسلم من أسلم منكم إلا كرها-  كأبي سفيان و أولاده يزيد و معاوية-  و غيرهم من بني عبد شمس- . قال و بعد أن كان أنف الإسلام محاربا لرسول الله ص-  أي في أول الإسلام-  يقال كان ذلك في أنف دولة بني فلان أي في أولها-  و أنف كل شي‏ء أوله و طرفه-  و كان أبو سفيان و أهله من بني عبد شمس-  أشد الناس على رسول الله ص في أول الهجرة-  إلى أن فتح مكة-  ثم أجابه عن قوله قتلت طلحة و الزبير و شردت بعائشة-  و نزلت بين المصرين-  بكلام مختصر أعرض فيه عنه‏هوانا به-  فقال هذا أمر غبت عنه-  فليس عليك كان العدوان الذي تزعم-  و لا العذر إليك لو وجب على العذر عنه- .

فأما الجواب المفصل فأن يقال-  إن طلحة و الزبير قتلا أنفسهما ببغيهما و نكثهما-  و لو استقاما على الطريقة لسلما-  و من قتله الحق فدمه هدر-  و أما كونهما شيخين من شيوخ الإسلام فغير مدفوع-  و لكن العيب يحدث-  و أصحابنا يذهبون إلى أنهما تابا و فارقا الدنيا-  نادمين على ما صنعا-  و كذلك نقول نحن فإن الأخبار كثرت بذلك-  فهما من أهل الجنة لتوبتهما-  و لو لا توبتهما لكانا هالكين كما هلك غيرهما-  فإن الله تعالى لا يحابي أحدا في الطاعة و التقوى-  لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى‏ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ- . و أما الوعد لهما بالجنة فمشروط بسلامة العاقبة-  و الكلام في سلامتهما-  و إذا ثبتت توبتهما فقد صح الوعد لهما و تحقق- 

وقوله بشر قاتل ابن صفية بالنار-  فقد اختلف فيه-  فقال قوم من أرباب السير و علماء الحديث-  هو كلام أمير المؤمنين ع غير مرفوع-  و قوم منهم جعلوه مرفوعا-  و على كل حال فهو حق-  لأن ابن جرموز قلته موليا خارجا من الصف-  مفارقا للحرب-  فقد قتله على توبة و إنابة و رجوع من الباطل-  و قاتل من هذه حاله فاسق مستحق للنار-  و أما أم المؤمنين عائشة فقد صحت توبتها-  و الأخبار الواردة في توبتها-  أكثر من الأخبار الواردة في توبة طلحة و الزبير-  لأنها عاشت زمانا طويلا و هما لم يبقيا-  و الذي جرى لها كان خطأ منها-  فأي ذنب لأمير المؤمنين ع في ذلك-  و لو أقامت في منزلها-  لم تبتذل بين الأعراب و أهل الكوفة-  على أن أمير المؤمنين ع أكرمها و صانها و عظم من شأنها-  و من أحب أن يقف على ما فعله معها-  فليطالع كتب السيرة-  و لو كانت فعلت بعمر ما فعلت به-  و شقت عصا الأمة عليه ثم ظفر بها-  لقتلها و مزقها إربا إربا-  و لكن عليا كان حليما كريما- .

 

و أما قوله لو عاش رسول الله ص-  فبربك هل كان يرضى لك أن تؤذي حليلته-  فلعلي ع أن يقلب الكلام عليه فيقول-  أ فتراه لو عاش أ كان يرضى لحليلته أن تؤذي أخاه و وصيه-  و أيضا أ تراه لو عاش أ كان يرضى لك يا ابن أبي سفيان-  أن تنازع عليا الخلافة و تفرق جماعة هذه الأمة-  و أيضا أ تراه لو عاش-  أ كان يرضى لطلحة و الزبير أن يبايعا-  ثم ينكثا لا لسبب بل قالا جئنا نطلب الدراهم-  فقد قيل لنا إن بالبصرة أموالا كثيرة-  هذا كلام يقوله مثلهما- .

فأما قوله تركت دار الهجرة فلا عيب عليه-  إذا انقضت عليه أطراف الإسلام بالبغي و الفساد-  أن يخرج من المدينة إليها و يهذب أهلها-  و ليس كل من خرج من المدينة كان خبثا-  فقد خرج عنها عمر مرارا إلى الشام-  ثم لعلي ع أن يقلب عليه الكلام فيقول له-  و أنت يا معاوية فقد نفتك المدينة أيضا عنها-  فأنت إذا خبث و كذلك طلحة و الزبير و عائشة-  الذين تتعصب لهم و تحتج على الناس بهم-  و قد خرج عن المدينة الصالحون-  كابن مسعود و أبي ذر و غيرهما-  و ماتوا في بلاد نائية عنها و أما قوله بعدت عن حرمة الحرمين-  و مجاورة قبر رسول الله ص-  فكلام إقناعي ضعيف-  و الواجب على الإمام أن يقدم الأهم فالأهم-  من مصالح الإسلام-  و تقديم قتال أهل البغي على المقام بين الحرمين أولى-  فأما ما ذكره من خذلانه عثمان و شماتته به-  و دعائه الناس بعد قتله إلى نفسه-  و إكراهه طلحة و الزبير و غيرهما على بيعته-  فكله دعوى و الأمر بخلافها-  و من نظر كتب السير عرف أنه قد بهته-  و ادعى عليه ما لم يقع منه- .

و أما قوله التويت على أبي بكر و عمر و قعدت عنهما-  و حاولت الخلافة بعد رسول الله ص-  فإن عليا ع لم يكن يجحد ذلك و لا ينكره-  و لا ريب‏أنه كان يدعى الأمر بعد وفاة رسول الله ص لنفسه-  على الجملة-  أما لنص كما تقوله الشيعة-  أو لأمر آخر كما يقوله أصحابنا-  فأما قوله لو وليتها حينئذ لفسد الأمر و اضطرب الإسلام-  فهذا علم غيب لا يعلمه إلا الله-  و لعله لو وليها حينئذ لاستقام الأمر-  و صلح الإسلام و تمهد-  فإنه ما وقع الاضطراب عند ولايته بعد عثمان-  إلا لأن أمره هان عندهم بتأخره عن الخلافة-  و تقدم غيره عليه-  فصغر شأنه في النفوس-  و قرر من تقدمه في قلوب الناس-  أنه لا يصلح لها كل الصلاحية-  و الناس على ما يحصل في نفوسهم-  و لو كان وليها ابتداء و هو على تلك الحالة-  التي كان عليها أيام حياة رسول الله ص-  و تلك المنزلة الرفيعة و الاختصاص الذي كان له-  لكان الأمر غير الذي رأيناه عند ولايته بعد عثمان-  و أما قوله لأنك الشامخ بأنفه الذاهب بنفسه-  فقد أسرف في وصفه بما وصفه به-  و لا شك أن عليا ع كان عنده زهو لكن لا هكذا-  و كان ع مع زهوه ألطف الناس خلقا- .

ثم نرجع إلى تفسير ألفاظه ع-  قوله و ذكرت أنك زائري في جمع من المهاجرين و الأنصار-  و قد انقطعت الهجرة يوم أسر أخوك-  هذا الكلام تكذيب له في قوله-  في جمع من المهاجرين و الأنصار أي ليس معك مهاجر-  لأن أكثر من معك ممن رأى رسول الله ص هم أبناء الطلقاء-  و من أسلم بعد الفتح و قد قال النبي ص لا هجرة بعد الفتح- . و عبر عن يوم الفتح بعبارة حسنة-  فيها تقريع لمعاوية و أهله بالكفر-  و أنهم ليسوا من ذوي السوابق-  فقال قد انقطعت الهجرة يوم أسر أخوك-  يعني يزيد بن أبي سفيان أسر يوم الفتح في باب الخندمة-  و كان خرج في نفر من قريش-  يحاربون و يمنعون‏من دخول مكة-  فقتل منهم قوم و أسر يزيد بن أبي سفيان-  أسره خالد بن الوليد-  فخلصه أبو سفيان منه و أدخله داره-  فأمن لأن رسول الله ص قال يومئذ من دخل دار أبي سفيان فهو آمن

ذكر الخبر عن فتح مكة

و يجب أن نذكر في هذا الموضع-  ملخص ما ذكره الواقدي في كتاب المغازي-  في فتح مكة فإن الموضع يقتضيه-  لقوله ع ما أسلم مسلمكم إلا كرها-  و قوله يوم أسر أخوك- . قال محمد بن عمر الواقدي في كتاب المغازي-  كان رسول الله ص-  قد هادن قريشا في عام الحديبية عشر سنين-  و جعل خزاعة داخلة معه-  و جعلت قريش بني بكر بن عبد مناة من كنانة داخلة معهم-  و كان بين بني بكر و بين خزاعة-  تراث في الجاهلية و دماء-  و قد كانت خزاعة من قبل حالفت عبد المطلب بن هاشم-  و كان معها كتاب منه و كان رسول الله ص يعرف ذلك-  فلما تم صلح الحديبية و أمن الناس-  سمع غلام من خزاعة إنسانا من بني كنانة-  يقال له أنس بن زنيم الدؤلي-  ينشد هجاء له في رسول الله ص-  فضربه فشجه-  فخرج أنس إلى قومه فأراهم شجته فثار بينهم الشر-  و تذاكروا أحقادهم القديمة-  و القوم مجاورون بمكة-  فاستنجدت بكر بن عبد مناة قريشا على خزاعة-  فمن قريش من كره ذلك و قال لا انقض عهد محمد-  و منهم من خف إليه و كان أبو سفيان أحد من كره ذلك-  و كان صفوان بن أمية و حويطب بن عبد العزى-  و مكرز بن حفص‏ممن أعان بني بكر-  و دسوا إليهم الرجال بالسلاح سرا-  و بيتوا خزاعة ليلا فأوقعوا بهم-  فقتلوا منهم عشرين رجلا-  فلما أصبحوا عاتبوا قريشا-  فجحدت قريش أنها أعانت بكرا و كذبت في ذلك-  و تبرأ أبو سفيان و قوم من قريش مما جرى-  و شخص قوم من خزاعة إلى المدينة مستصرخين برسول الله ص-  فدخلوا عليه و هو في المسجد-  فقام عمرو بن سالم الخزاعي فأنشده- 

  لا هم إني ناشد محمدا
حلف أبينا و أبيه الأتلدا

لكنت والدا و كنا ولدا
ثمت أسلمنا و لم ننزع يدا

إن قريشا أخلفوك الموعدا
و نقضوا ميثاقك المؤكدا

هم بيتونا بالوتير هجدا
نتلو القران ركعا و سجدا

و زعموا أن لست تدعو أحدا
و هم أذل و أقل عددا

فانصر هداك الله نصرا أيدا
و ادع عباد الله يأتوا مددا

في فيلق كالبحر يجري مزبدا
فيهم رسول الله قد تجردا
قرم لقوم من قروم أصيدا

ثم ذكروا له ما أثار الشر-  و قالوا له إن أنس بن زنيم هجاك-  و إن صفوان بن أمية-  و فلانا و فلانا-  دسوا إلينا رجال قريش مستنصرين-  فبيتونا بمنزلنا بالوتير فقتلونا-  و جئناك مستصرخين بك-  فزعموا أن رسول الله ص قام مغضبا يجر رداءه و يقول-  لا نصرت إن لم أنصر خزاعة فيما أنصر منه نفسي- .

قلت-  فصادف ذلك من رسول الله ص إيثارا و حبا لنقض العهد-  لأنه كان يريد أن يفتح مكة و هم بها في عام الحديبية فصد-  ثم هم بها في عمرة القضية-  ثم وقف لأجل العهد و الميثاق الذي كان عقده معهم-  فلما جرى ما جرى على خزاعة اغتنمها- . قال الواقدي-  فكتب إلى جميع الناس في أقطار الحجاز و غيرها-  يأمرهم أن يكونوا بالمدينة في رمضان من سنة ثمان للهجرة-  فوافته الوفود و القبائل من كل جهة-  فخرج من المدينة بالناس-  يوم الأربعاء لعشر خلون من رمضان في عشرة آلاف-  فكان المهاجرون سبعمائة و معهم من الخيل ثلاثمائة فرس-  و كانت الأنصار أربعة آلاف معهم من الخيل خمسمائة-  و كانت مزينة ألفا فيها من الخيل مائة فرس-  و كانت أسلم أربعمائة فيها من الخيل ثلاثون فرسا-  و كانت جهينة ثمانمائة معها خمسون فرسا-  و من سائر الناس تمام عشرة آلاف-  و هم بنو ضمرة و بنو غفار و أشجع-  و بنو سليم و بنو كعب بن عمرو و غيرهم-  و عقد للمهاجرين ثلاثة ألوية-  لواء مع علي و لواء مع الزبير-  و لواء مع سعد بن أبي وقاص-  و كانت الرايات في الأنصار و غيرهم-  و كتم عن الناس الخبر فلم يعلم به إلا خواصه-  و أما قريش بمكة فندمت على ما صنعت بخزاعة-  و عرفت أن ذلك انقضاء ما بينهم و بين النبي ص من العهد-  و مشى الحارث بن هشام و عبد الله بن أبي ربيعة-  إلى أبي سفيان فقالا له-  إن هذا أمر لا بد له أن يصلح-  و الله إن لم يصلح لا يروعكم إلا محمد في أصحابه-  و قال أبو سفيان قد رأت هند بنت عتبة رؤيا-  كرهتها و أفظعتها و خفت من شرها-  قالوا ما رأت قال رأت كان دما أقبل من الحجون يسيل-  حتى وقف بالخندمة مليا-  ثم كان ذلك الدم لم يكن-  فكره القوم ذلك و قالوا هذا شر- .

قال الواقدي-  فلما رأى أبو سفيان ما رأى من الشر قال-  هذا و الله أمر لم أشهده‏و لم أغب عنه-  لا يحمل هذا إلا علي-  و لا و الله ما شوورت و لا هونت حيث بلغني-  و الله ليغزونا محمد إن صدق ظني و هو صادق-  و ما لي بد أن آتي محمدا فأكلمه أن يزيد في الهدنة-  و يجدد العهد قبل أن يبلغه هذا الأمر-  قالت قريش قد و الله أصبت-  و ندمت قريش على ما صنعت بخزاعة-  و عرفت أن رسول الله ص لا بد أن يغزوها-  فخرج أبو سفيان و خرج معه مولى له على راحلتين-  و أسرع السير-  و هو يرى أنه أول من خرج من مكة إلى رسول الله ص قال الواقدي و قد روى الخبر على وجه آخر-  و هو أنه لما قدم ركب خزاعة على رسول الله ص-  فأخبروه بمن قتل منهم- 

قال لهم بمن تهمتكم و طلبتكم-  قالوا بنو بكر بن عبد مناة-  قال كلها قالوا لا و لكن تهمتنا بنو نفاثة قصرة-  و رأسهم نوفل بن معاوية النفاثي-  فقال هذا بطن من بكر-  فأنا باعث إلى أهل مكة فسائلهم عن هذا الأمر-  و مخيرهم في خصال-  فبعث إليهم ضمرة يخيرهم بين إحدى خلال ثلاث-  بين أن يدوا خزاعة أو يبرءوا من حلف نفاثة-  أو ينبذ إليهم على سواء-  فأتاهم ضمرة فخيرهم بين الخلال الثلاث-  فقال قريظة بن عبد عمرو الأعمى-  أما أن ندي قتلى خزاعة-  فإنا إن وديناهم لم يبق لنا سبد و لا لبد-  و أما أن نبرأ من حلف نفاثة-  فإنه ليس قبيلة تحج هذا البيت أشد تعظيما له من نفاثة-  و هم حلفاؤنا فلا نبرأ من حلفهم-  و لكنا ننبذ إليه على سواء-  فعاد ضمرة إلى رسول الله ص بذلك-  و ندمت قريش أن ردت ضمرة بما ردته به- . قال الواقدي و قد روي غير ذلك-  روي أن قريشا لما ندمت على قتل خزاعة-  و قالت محمد غازينا- 

قال لهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح-  و هو يومئذ كافر مرتد عندهم-  أن عندي رأيا أن محمدا ليس يغزوكم-  حتى يعذر إليكم و يخيركم في خصال-  كلها أهون عليكم من غزوة-  قالوا ما هي قال يرسل إليكم أن تدوا قتلى خزاعة-  أو تبرءوا من حلف من نقض العهد و هم بنو نفاثة-  أو ينبذ إليكم العهد-  فقال القوم أحر بما قال ابن أبي سرح أن يكون-  فقال سهيل بن عمرو-  ما خصلة أيسر علينا من أن نبرأ من حلف نفاثة-  فقال شيبة بن عثمان العبدري-  حطت أخوالك خزاعة و غضبت لهم-  قال سهيل و أي قريش لم تلد خزاعة-  قال شيبة لا و لكن ندي قتلى خزاعة فهو أهون علينا-  فقال قريظة بن عبد عمرو-  لا و الله لا نديهم و لا نبرأ عن نفاثة أبر العرب بنا-  و أعمرهم لبيت ربنا-  و لكن ننبذ إليهم على سواء-  فقال أبو سفيان ما هذا بشي‏ء و ما الرأي إلا جحد هذا الأمر-  أن تكون قريش دخلت في نقض العهد أو قطع مدة-  فإن قطعه قوم بغير هوى منا و لا مشورة فما علينا- 

قالوا هذا هو الرأي لا رأي إلا الجحد لكل ما كان من ذلك-  فقال أنا أقسم أني لم أشهد و لم أوامر و أنا صادق-  لقد كرهت ما صنعتم و عرفت أن سيكون له يوم غماس-  قالت قريش لأبي سفيان فاخرج أنت بذلك فخرج- . قال الواقدي و حدثني عبد الله بن عامر الأسلمي-  عن عطاء بن أبي مروان قال-  قال رسول الله ص لعائشة صبيحة الليلة-  التي أوقعت فيها نفاثة و قريش بخزاعة بالوتير-  يا عائشة لقد حدث الليلة في خزاعة أمر-  فقالت عائشة يا رسول الله-  أ ترى قريشا تجترئ على نقض العهد بينك و بينهم-  أ ينقضون و قد أفناهم السيف-  فقال العهد لأمر يريده الله بهم-  فقالت خير أم شر يا رسول الله فقال خير- .

 قال الواقدي و حدثني عبد الحميد بن جعفر قال حدثني عمران بن أبي أنس عن ابن عباس قال قام رسول الله ص و هو يجر طرف ردائه و يقول-لا نصرت إن لم أنصر بني كعب يعني خزاعة-  فيما أنصر منه نفسي- .

قال الواقدي و حدثني حرام بن هشام عن أبيه قال-  قال رسول الله ص لكأنكم بأبي سفيان قد جاءكم يقول-  جدد العهد و زد في الهدنة و هو راجع بسخطه-  و قال لبني خزاعة عمرو بن سالم و أصحابه-  ارجعوا و تفرقوا في الأودية-  و قام فدخل على عائشة و هو مغضب فدعا بماء فدخل يغتسل  قالت عائشة فأسمعه يقول و هو يصب الماء على رجليه-  لا نصرت أن لم أنصر بني كعب- .

قال الواقدي فأما أبو سفيان فخرج من مكة و هو متخوف-  أن يكون عمرو بن سالم-  و رهطه من خزاعة سبقوه إلى المدينة-  و كان القوم لما رجعوا من المدينة و أتوا الأبواء-  تفرقوا كما أوصاهم رسول الله ص-  فذهبت طائفة إلى الساحل تعارض الطريق-  و لزم بديل بن أم أصرم الطريق في نفر معه-  فلقيهم أبو سفيان فلما رآهم أشفق أن يكونوا-  لقوا محمدا ص بل كان اليقين عنده-  فقام للقوم منذ كم عهدكم بيثرب قالوا لا عهد لنا بها-  فعرف أنهم كتموه فقال-  أ ما معكم من تمر يثرب شي‏ء تطعموناه-  فإن لتمر يثرب فضلا على تمر تهامة-  قالوا لا-  ثم أبت نفسه أن تقر فقال يا بديل هل جئت محمدا-  قال لا و لكني سرت في بلاد خزاعة من هذا الساحل-  في قتيل كان بينهم حتى أصلحت بينهم-  قال يقول أبو سفيان إنك و الله ما علمت بر واصل-  فلما راح بديل و أصحابه جاء أبو سفيان إلى أبعار إبلهم-  ففتها فإذا فيها النوى-  و وجد في منزلهم نوى من تمر عجوة كأنه ألسنة العصافير-  فقال أحلف بالله لقد جاء القوم محمدا-  و أقبل حتى قدم المدينة فدخل على النبي ص-  فقال يا محمد إني كنت غائبا في صلح الحديبية-  فاشدد العهد و زدنا في المدة-  فقال رسول الله ص و لذلك قدمت يا أبا سفيان-  قال نعم قال فهل كان قبلكم حدث-

 فقال معاذ الله-  فقال رسول الله-  فنحن على موثقنا و صلحنا يوم الحديبية لا نغير و لا نبدل-  فقام من عنده فدخل على ابنته أم حبيبة-  فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله ص طوته دونه-  فقال أ رغبت بهذا الفراش عني أم رغبت بي عنه-  فقالت بل هو فراش رسول الله ص-  و أنت امرؤ نجس مشرك-  قال يا بنية لقد أصابك بعدي شر-  فقالت إن الله هداني للإسلام-  و أنت يا أبت سيد قريش و كبيرها-  كيف يخفى عنك فضل الإسلام-  و تعبد حجرا لا يسمع و لا يبصر-  فقال يا عجبا و هذا منك أيضا-  أ أترك ما كان يعبد آبائي و أتبع دين محمد-  ثم قام من عندها فلقي أبا بكر فكلمه-  و قال تكلم أنت محمدا و تجير أنت بين الناس-  فقال أبو بكر جواري جوار رسول الله ص-  ثم لقي عمر فكلمه بمثل ما كلم به أبا بكر فقال عمر-  و الله لو وجدت السنور تقاتلكم لأعنتها عليكم- 

قال أبو سفيان جزيت من ذي رحم شرا-  ثم دخل على عثمان بن عفان فقال له-  إنه ليس في القوم أحد أمس بي رحما منك-  فزدني الهدنة و جدد العهد-  فإن صاحبك لا يرد عليك أبدا-  و الله ما رأيت رجلا قط أشد إكراما لصاحب من محمد لأصحابه-  فقال عثمان جواري جوار رسول الله ص-  فجاء أبو سفيان حتى دخل على فاطمة بنت رسول الله ص-  فكلمها و قال أجيري بين الناس-  فقالت إنما أنا امرأة-  قال إن جوارك جائز-  و قد أجارت أختك أبا العاص بن الربيع-  فأجاز محمد ذلك-  فقالت فاطمة ذلك إلى رسول الله ص و أبت عليه-  فقال مري أحد هذين ابنيك يجير بين الناس-  قالت إنهما صبيان و ليس يجير الصبي-  فلما أبت عليه أتى عليا ع فقال يا أبا حسن-  أجر بين الناس و كلم محمدا ليزيد في المدة-  فقال علي ع ويحك يا أبا سفيان-  إن رسول الله ص قد عزمألا يفعل-  و ليس أحد يستطيع أن يكلمه في شي‏ء يكرهه-  قال أبو سفيان فما الرأي عندك فتشير لأمري-  فإنه قد ضاق علي فمرني بأمر ترى أنه نافعي- 

قال علي ع و الله ما أجد لك شيئا-  مثل أن تقوم فتجير بين الناس-  فإنك سيد كنانة-  قال أ ترى ذلك مغنيا عني شيئا-  قال علي إني لا أظن ذلك و الله و لكني لا أجد لك غيره-  فقام أبو سفيان بين ظهري الناس فصاح-  ألا إني قد أجرت بين الناس و لا أظن محمدا يحقرني-  ثم دخل على رسول الله ص فقال-  يا محمد ما أظن أن ترد جواري-  فقال ع أنت تقول ذلك يا أبا سفيان-  و يقال إنه لما صاح لم يأت النبي ص-  و ركب راحلته و انطلق إلى مكة-  و يروى أنه أيضا أتى سعد بن عبادة فكلمه في ذلك-  و قال يا أبا ثابت قد عرفت الذي كان بيني و بينك-  و إني كنت لك في حرمنا جارا و كنت لي بيثرب مثل ذلك-  و أنت سيد هذه المدرة فأجر بين الناس و زدني في المدة-  فقال سعد جواري جوار رسول الله ص-  ما يجير أحد على رسول الله ص-  فلما انطلق أبو سفيان إلى مكة-  و قد كان طالت غيبته عن قريش و أبطأ فاتهموه و قالوا-  نراه قد صبا و اتبع محمدا سرا و كتم إسلامه-  فلما دخل على هند ليلا قالت-  قد احتبست حتى اتهمك قومك-  فإن كنت جئتهم بنجح فأنت الرجل-  و قد كان دنا منها ليغشاها-  فأخبرها الخبر و قال لم أجد إلا ما قال لي علي-  فضربت برجلها في صدوره و قالت-  قبحت من رسول قوم- .

قال الواقدي فحدثني عبد الله بن عثمان-  عن أبي سليمان عن أبيه قال-  لما أصبح أبو سفيان حلق رأسه عند الصنمين-  أساف و نائلة و ذبح لهما-  و جعل يمسح بالدم رءوسهما و يقول-  لا أفارق عبادتكما حتى أموت على ما مات عليه أبي-  قال فعل ذلك ليبرئ نفسه مما اتهمته قريش به‏

قال الواقدي و قالت قريش لأبي سفيان-  ما صنعت و ما وراءك-  و هل جئتنا بكتاب من محمد و زيادة في المدة-  فإنا لا نأمن من أن يغزونا-  فقال و الله لقد أبى علي-  و لقد كلمت عليه أصحابه فما قدرت على شي‏ء منهم-  و رموني بكلمة منهم واحدة-  إلا أن عليا قال لما ضاقت بي الأمور-  أنت سيد كنانة فأجر بين الناس فناديت بالجوار-  ثم دخلت على محمد فقلت إني قد أجرت بين الناس-  و ما أظن محمدا يرد جواري-  فقال محمد أنت تقول ذاك يا أبا سفيان-  لم يزد على ذلك-  قالوا ما زاد علي على أن يلعب بك تلعبا-  قال فو الله ما وجدت غير ذلك- .

 قال الواقدي فحدثني محمد بن عبد الله عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم قال لما خرج أبو سفيان عن المدينة-  قال رسول الله ص لعائشة-  جهزينا و أخفي أمركو قال رسول الله ص اللهم خذ عن قريش الأخبار و العيون حتى نأتيهم بغتةو روي أنه قال اللهم خذ على أبصارهم فلا يروني إلا بغتة-  و لا يسمعون بي إلا فجأة-  قال و أخذ رسول الله ص الأنقاب و جعل عليها الرجال-  و منع من يخرج من المدينة-  فدخل أبو بكر على عائشة و هي تجهز رسول الله ص-  تعمل له قمحا سويقا و دقيقا و تمرا-  فقال لها أ هم رسول الله ص بغزو قالت لا أدري-  قال إن كان هم بسفر فآذنينا نتهيأ له-  قالت لا أدري لعله أراد بني سليم-  لعله أراد ثقيفا أو هوازن فاستعجمت عليه-  فدخل على رسول الله ص فقال-  يا رسول الله أردت سفرا قال نعم قال أ فأتجهز قال نعم-  قال و أين تريد قال قريشا و أخف ذلك يا أبا بكر-  و أمر رسول الله ص الناس فتجهزوا-  و طوى عنهم الوجه الذي يريد- 

و قال له أبو بكر يا رسول الله أ و ليس بيننا و بينهم مدة-  فقال إنهم غدروا و نقضوا العهدفأنا غازيهم-  فاطو ما ذكرت لك-  فكان الناس بين ظان يظن أنه يريد سليما-  و ظان يظن أنه يريد هوازن و ظان يظن أنه يريد ثقيفا-  و ظان يظن أنه يريد الشام-  و بعث رسول الله ص أبا قتادة بن ربعي في نفر إلى بطن-  ليظن الناس أن رسول الله ص قدم أمامه أولئك الرجال-  لتوجهه إلى تلك الجهة و لتذهب بذلك الأخبار- .

قال الواقدي حدثني المنذر بن سعد-  عن يزيد بن رومان قال-  لما أجمع رسول الله ص المسير إلى قريش-  و علم بذلك من علم من الناس-  كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش-  يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله ص في أمرهم-  و أعطى الكتاب امرأة من مزينة-  و جعل لها على ذلك جعلا على أن تبلغه قريشا-  فجعلت الكتاب في رأسها-  ثم فتلت عليه قرونها و خرجت به-  و أتى الخبر إلى النبي ص من السماء بما صنع حاطب-  فبعث عليا ع و الزبير فقال-  أدركا امرأة من مزينة-  قد كتب معها حاطب كتابا يحذر قريشا-  فخرجا و أدركاها بذي الحليفة-  فاستنزلاها و التمسا الكتاب في رحلها فلم يجدا شيئا-  فقالا لها نحلف بالله ما كذب رسول الله ص-  و لا كذبنا-  و لتخرجن الكتاب أو لنكشفنك-  فلما رأت منهما الجد حلت قرونها-  و استخرجت الكتاب فدفعته إليهما-  فأقبلا به إلى رسول الله ص-  فدعا حاطبا و قال له ما حملك على هذا-  فقال يا رسول الله و الله إني لمسلم مؤمن بالله و رسوله-  ما غيرت و لا بدلت-  و لكني كنت امرأ ليس لي في القوم أصل و لا عشيرة-  و كان لي بين أظهرهم أهل و ولد فصانعتهم-  فقال عمر قاتلك الله ترى رسول الله ص يأخذ بالأنقاب-  و تكتب إلى قريش تحذرهم-  دعني يا رسول الله أضرب عنقه فإنه قد نافق-  فقال رسول الله ص‏و ما يدريك يا عمر-  لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال- 

اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم-  قال الواقدي فلما خرج رسول الله ص من المدينة-  بالألوية المعقودة و الرايات-  بعد العصر من يوم الأربعاء لعشر خلون من شهر رمضان-  لم يحل عقده حتى انتهى إلى الصلصل-  و المسلمون يقودون الخيل و قد امتطوا الإبل-  و قدم أمامه الزبير بن العوام في مائتين-  قال فلما كان بالبيداء نظر إلى عنان السماء-  فقال إني لأرى السحاب تستهل بنصر بني كعب يعني خزاعة- . قال الواقدي-  و جاء كعب بن مالك ليعلم أي جهة يقصد-  فبرك بين يديه على ركبتيه ثم أنشده- 

قضينا من تهامة كل نحب
و خيبر ثم أحمينا السيوفا

فسائلها و لو نطقت لقالت‏
قواضبهن دوسا أو ثقيفا

فلست بحاضر إن لم تروها
بساحة داركم منها ألوفا

فننتزع الخيام ببطن وج‏
و نترك دوركم منها خلوفا

قال فتبسم رسول الله ص و لم يزد على ذلك-  فجعل الناس يقولون و الله ما بين لك رسول الله ص شيئا-  فلم تزل الناس كذلك حتى نزلوا بمر الظهران- . قال الواقدي و خرج العباس بن عبد المطلب-  و مخرمة بن نوفل-  من مكة يطلبان رسول الله ص-  ظنا منهما أنه بالمدينة يريدان الإسلام-  فلقياه بالسقيا- .

قال الواقدي فلما كانت الليلة التي أصبح فيها بالجحفة-  رأى فيها أبو بكر في منامه أن النبي ص و أصحابه-  قد دنوا من مكة فخرجت عليهم كلبة تهر-  فلما دنوا منها استلقت على قفاها-  و إذا أطباؤها تشخب لبنا-  فقصها على رسول الله ص-  فقال ذهب كلبهم و أقبل درهم-  و هم سائلونا بأرحامهم و أنتم لاقون بعضهم-  فإن لقيتم أبا سفيان فلا تقتلوه قال الواقدي و إلى أن وصل مر الظهران-  لم يبلغ قريشا حرف واحد من حاله-  فلما نزل بمر الظهران أمر أصحابه أن يوقدوا النار-  فأوقدوا عشرة آلاف نار-  و أجمعت قريش أن يبعثوا أبا سفيان يتجسس لهم الأخبار-  فخرج هو و حكيم بن حزام و بديل بن ورقاء-  قال و قد كان العباس بن عبد المطلب قال-  وا سوء صباح قريش-  و الله إن دخلها رسول الله ص عنوة-  إنه لهلاك قريش آخر الدهر-  قال العباس فأخذت بغلة رسول الله ص الشهباء فركبتها-  و قلت ألتمس حطابا أو إنسانا أبعثه إلى قريش-  فيلقوا رسول الله ص قبل أن يدخلها عليهم عنوة-  فو الله إني لفي الأراك ليلا أبتغي ذلك إذ سمعت كلاما يقول-  و الله إن رأيت كالليلة نارا- 

قال يقول بديل بن ورقاء-  إنها نيران خزاعة جاشها الحرب-  قال يقول أبو سفيان خزاعة أذل-  من أن تكون هذه نيرانها و عسكرها-  فعرفت صوته فقلت أبا حنظلة-  فعرف صوتي فقال لبيك أبا الفضل-  فقلت ويحك هذا رسول الله ص في عشرة آلاف و هو مصبحكم-  فقال بأبي و أمي فهل من حيلة فقلت نعم-  تركب عجز هذه البغلة فأذهب بك إلى رسول الله ص-  فإنه إن ظفر بك دون ذلك ليقتلنك-  قال و الله أنا أرى ذلك فركب خلفي-  و رحل‏بديل و حكيم فتوجهت به-  فلما مررت به على نار من نيران المسلمين قالوا من هذا-  فإذا رأوني قالوا عم رسول الله ص على بغلة رسول الله-  حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فلما رآني قال من هذا- 

قلت العباس فذهب ينظر فرأى أبا سفيان خلفي-  فقال أبو سفيان عدو الله-  الحمد لله الذي أمكن منك بغير عهد و لا عقد-  ثم خرج يشتد نحو رسول الله ص-  و ركضت البغلة-  حتى اجتمعنا جميعا على باب قبة رسول الله ص-  فدخلت و دخل عمر بن الخطاب على أثري-  فقال عمر يا رسول الله هذا أبو سفيان عدو الله-  قد أمكن الله منه بغير عقد و لا عهد فدعني أضرب عنقه-  فقلت يا رسول الله إني قد أجرته-  ثم لزمت رسول الله ص فقلت-  و الله لا يناجيه الليلة أحد دوني-  فلما أكثر عمر فيه قلت مهلا يا عمر-  فإنه لو كان رجلا من عدي بن كعب ما قلت هذا-  و لكنه أحد بني عبد مناف-  فقال عمر مهلا يا أبا الفضل-  فو الله لإسلامك كان أحب إلي من إسلام الخطاب-  أو قال من إسلام رجل من ولد الخطاب لو أسلم-  فقال رسول الله ص اذهب به فقد أجرناه-  فليبت عندك حتى تغدو به علينا إذا أصبحت-  فلما أصبحت غدوت به-  فلما رآه رسول الله ص قال ويحك يا أبا سفيان-  أ لم يأن لك أن تعلم لا إله إلا الله-  قال بأبي أنت ما أحلمك و أكرمك و أعظم عفوك-  قد كان يقع في نفسي أن لو كان مع الله إله آخر لأغنى- 

قال يا أبا سفيان أ لم يأن لك أن تعلم أني رسول الله-  قال بأبي أنت ما أحلمك و أكرمك و أعظم عفوك-  أما هذه فو الله إن في النفس منها لشيئا بعد-  قال العباس فقلت ويحك-  تشهد و قل لا إله الله محمد رسول الله قبل أن تقتل-  فتشهد-  و قال العباس يا رسول الله-  إنك قد عرفت أبا سفيان و فيه الشرف و الفخر فاجعل له شيئا- 

 فقال من دخل دار أبي سفيان فهو آمن-  و من أغلق داره فهو آمن-  ثم قال خذه فاحبسه بمضيق الوادي إلى خطم الجبل-حتى تمر عليه جنود الله فيراها-  قال العباس فعدلت به في مضيق الوادي إلى خطم الجبل-  فحبسته هناك فقال أ غدرا يا بني هاشم-  فقلت له إن أهل النبوة لا يغدرون-  و إنما حبستك لحاجة-  قال فهلا بدأت بها أولا فأعلمتنيها فكان أفرخ لروعي-  ثم مرت به القبائل على قادتها و الكتائب على راياتها-  فكان أول من مر به خالد بن الوليد في بني سليم و هم ألف-  و لهم لواءان يحمل أحدهما العباس بن مرداس-  و الآخر خفاف بن ندبة و راية يحملها المقداد-  فقال أبو سفيان يا أبا الفضل من هؤلاء-  قال هؤلاء بنو سليم و عليهم خالد بن الوليد-  قال الغلام قال نعم-  فلما حاذى خالد العباس و أبا سفيان كبر ثلاثا-  و كبروا معه ثم مضوا-  و مر على أثره الزبير بن العوام في خمسمائة-  فيهم جماعة من المهاجرين و قوم من أفناء الناس-  و معه راية سوداء فلما حاذاهما كبر ثلاثا و كبر أصحابه-  فقال من هذا-  قال هذا الزبير قال ابن أختك قال نعم-  قال ثم مرت به بنو غفار في ثلاثمائة يحمل رايتهم أبو ذر-  و يقال إيماء بن رحضة-  فلما حاذوهما كبروا ثلاثا- 

قال يا أبا الفضل من هؤلاء قال بنو غفار-  قال ما لي و لبني غفار-  ثم مرت به أسلم في أربعمائة-  يحمل لواءها يزيد بن الخصيب-  و لواء آخر مع ناجية بن الأعجم فلما حاذوه كبروا ثلاثا-  فسأل عنهم فقال هؤلاء أسلم فقال ما لي و لأسلم-  ما كان بيننا و بينهم ترة قط-  ثم مرت بنو كعب بن عمرو بن خزاعة في خمسمائة-  يحمل رايتهم بشر بن سفيان-  فقال من هؤلاء قال كعب بن عمرو قال نعم حلفاء محمد-  فلما حاذوه كبروا ثلاثا-  ثم مرت مزينة في ألف فيها ثلاثة ألوية-  مع النعمان بن مقرن و بلال بن الحارث و عبد الله بن عمرو-  فلما حاذوهما كبروا-  قال من هؤلاء قال مزينة قال يا أبا الفضل ما لي و لمزينة-  قد جاءتني تقعقع من شواهقها-ثم مرت جهينة في ثمانمائة فيها أربعة ألوية-  مع معبد بن خالد و سويد بن صخر و رافع بن مكيث-  و عبد الله بن بدر-  فلما حاذوه كبروا ثلاثا فسأل عنهم فقيل جهينة-  ثم مرت بنو كنانة و بنو ليث و ضمرة و سعد بن أبي بكر-  في مائتين يحمل لواءهم أبو واقد الليثي-  فلما حاذوه كبروا ثلاثا- 

قال من هؤلاء قال بنو بكر قال نعم أهل شؤم هؤلاء-  الذين غزانا محمد لأجلهم-  أما و الله ما شوورت فيهم و لا علمته-  و لقد كنت له كارها حيث بلغني و لكنه أمر حم-  قال العباس لقد خار الله لك في غزو محمد إياكم-  و دخلتم في الإسلام كافة-  ثم مرت أشجع-  و هم آخر من مر به قبل أن تأتي كتيبة رسول الله ص-  و هم ثلاثة يحمل لواءهم معقل بن سنان-  و لواء آخر مع نعيم بن مسعود فكبروا-  قال من هؤلاء قال أشجع-  فقال هؤلاء كانوا أشد العرب على محمد-  قال العباس نعم و لكن الله أدخل الإسلام قلوبهم-  و ذلك من فضل الله-  فسكت و قال أ ما مر محمد بعد قال لا-  و لو رأيت الكتيبة التي هو فيها-  لرأيت الحديد و الخيل و الرجال و ما ليس لأحد به طاقة-  فلما طلعت كتيبة رسول الله ص الخضراء-  طلع سواد شديد و غبرة من سنابك الخيل-  و جعل الناس يمرون كل ذلك يقول أ ما مر محمد بعد-  فيقول العباس لا حتى مر رسول الله ص-  يسير على ناقته القصوى بين أبي بكر و أسيد بن حضير-  و هو يحدثهما- 

و قال له العباس هذا رسول الله ص في كتيبته الخضراء-  فانظر-  قال و كان في تلك الكتيبة وجوه المهاجرين و الأنصار-  و فيها الألوية و الرايات-  و كلهم منغمسون في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق-  و لعمر بن الخطاب فيها زجل و عليه الحديد و صوته عال و هو يزعها-  فقال يا أبا الفضل من هذا المتكلم-  قال هذاعمر بن الخطاب-  قال لقد أمر أمر بني عدي بعد قلة و ذلة-  فقال إن الله يرفع من يشاء بما يشاء-  و إن عمر ممن رفعه الإسلام-  و كان في الكتيبة ألفا دارع-  و راية رسول الله ص مع سعد بن عبادة و هو أمام الكتيبة-  فلما حاذاهما سعد نادى يا أبا سفيان- 

   اليوم يوم الملحمة
اليوم تسبى الحرمة

اليوم أذل الله قريشا- فلما حاذاهما رسول الله ص ناداه أبو سفيان- يا رسول الله أمرت بقتل قومك أن سعدا قال-

اليوم يوم الملحمة
اليوم تسبى الحرمة

 اليوم أذل الله قريشا-  و إني أنشدك الله في قومك فأنت أبر الناس-  و أرحم الناس و أوصل الناس-  فقال عثمان بن عفان و عبد الرحمن بن عوف-  يا رسول الله إنا لا نأمن سعدا أن يكون له في قريش صولة- فوقف رسول الله ص و ناداه-  يا أبا سفيان بل اليوم يوم المرحمة-  اليوم أعز الله قريشا-  و أرسل إلى سعد فعزله عن اللواء-  و اختلف فيمن دفع إليه اللواء-  فقيل دفعه إلى علي بن أبي طالب ع-  فذهب به حتى دخل مكة فغرزه عند الركن-  و هو قول ضرار بن الخطاب الفهري-  و قيل دفعه إلى قيس بن سعد بن عبادة-  و رأى رسول الله ص أنه لم يخرجه عن سعد حيث دفعه إلى ولده-  فذهب به حتى غرزه بالحجون-  قال و قال أبو سفيان للعباس-  ما رأيت مثل هذه الكتيبة قط و لا أخبرنيه مخبر-  سبحان الله ما لأحد بهؤلاء طاقة و لا يدان-  لقد أصبح ملك ابن أخيك يا عباس عظيما-  قال فقلت ويحك إنه ليس بملك و إنها النبوة قال نعم- .

قال الواقدي قال العباس فقلت له-  انج ويحك فأدرك قومك قبل أن يدخل‏ عليهم-  فخرج أبو سفيان حتى دخل من كداء و هو ينادي-  من دخل دار أبي سفيان فهو آمن-  و من أغلق عليه بابه فهو آمن-  حتى انتهى إلى هند بنت عتبة فقالت ما وراءك-  قال هذا محمد في عشرة آلاف عليهم الحديد-  و قد جعل لي أنه من دخل داري فهو آمن-  و من أغلق عليه بابه فهو آمن و من ألقى سلاحه فهو آمن-  فقالت قبحك الله من رسول قوم و جعلت تقول ويحكم-  اقتلوا وافدكم قبحه الله من وافد قوم-  فيقول أبو سفيان ويحكم-  لا تغرنكم هذه من أنفسكم فإني رأيت ما لم تروا-  الرجال و الكراع و السلاح ليس لأحد بهذا طاقة-  محمد في عشرة آلاف فأسلموا تسلموا-  و قال المبرد في الكامل-  أمسكت هند برأس أبي سفيان و قالت بئس طليعة القوم-  و الله ما خدشت خدشا يا أهل مكة-  عليكم الحميت الدسم فاقتلوه-  قال الحميت الزق المزفت- .

قال الواقدي و خرج أهل مكة إلى ذي طوى-  ينظرون إلى رسول الله ص-  و انضوى إلى صفوان بن أمية و عكرمة بن أبي جهل-  و سهيل بن عمرو ناس من أهل مكة و من بني بكر و هذيل-  فلبسوا السلاح و أقسموا لا يدخل محمد مكة عنوة أبدا-  و كان رجل من بني الدؤل يقال له-  حماس بن قيس بن خالد الدؤلي-  لما سمع برسول الله ص جلس يصلح سلاحه-  فقالت له امرأته لم تعد السلاح قال لمحمد و أصحابه-  و إني لأرجو أن أخدمك منهم خادما فإنك إليه محتاجة-  قالت ويحك لا تفعل لا تقاتل محمدا-  و الله ليضلن هذا عنك لو رأيت محمدا و أصحابه-  قال سترين و أقبل رسول الله ص-  و هو على ناقته القصواء معتجرا ببرد حبرة-  و عليه عمامة سوداء و رايته سوداء و لواؤه أسود-  حتى وقف بذي طوى و توسط الناس-  و إن عثنونه ليمس واسطة الرحل أو يقرب منه تواضعا لله-  حيث رأى ما رأى من الفتح و كثرة المسلمين-  و قال لا عيش إلا عيش الآخرة- .

   و جعلت الخيل تعج بذي طوى في كل وجه-  ثم ثابت و سكنت و التفت رسول الله ص إلى أسيد بن حضير-  فقال كيف قال حسان بن ثابت قال فأنشده- 

   عدمنا خيلنا إن لم تروها
تثير النقع موعدها كداء

تظل جيادنا متمطرات‏
تلطمهن بالخمر النساء

 فتبسم رسول الله ص و حمد الله-  و أمر الزبير بن العوام أن يدخل من كداء-  و أمر خالد بن الوليد أن يدخل من الليط-  و أمر قيس بن سعد أن يدخل من كدى-  و دخل هو ص من أذاخر- . قال الواقدي-  و حدثني مروان بن محمد عن عيسى بن عميلة الفزاري-  قال دخل رسول الله ص مكة بين الأقرع بن حابس و عيينة بن حصن- . قال الواقدي و روى عيسى بن معمر-  عن عباد بن عبد الله عن أسماء بنت أبي بكر قالت-  صعد أبو قحافة بصغرى بناته و اسمها قريبة-  و هو يومئذ أعمى و هي تقوده حتى ظهرت به إلى أبي قبيس-  فلما أشرفت به قال يا بنية ما ذا ترين- 

قالت أرى سوادا مجتمعا مقبلا كثيرا-  قال يا بنية تلك الخيل فانظري ما ذا ترين-  قالت أرى رجلا يسعى بين ذلك السواد مقبلا و مدبرا-  قال ذاك الوازع فانظري ما ذا ترين-  قالت قد تفرق السواد قال قد تفرق الجيش البيت البيت-  قالت فنزلت الجارية به و هي ترعب لما ترى-  فقال يا بنية لا تخافي-  فو الله إن أخاك عتيقا لآثر أصحاب محمد عند محمد-  قالت و عليها طوق من فضة-  فاختلسه بعض من دخل- فلما دخل رسول الله ص مكة-  جعل أبو بكر ينادي أنشدكم الله أيها الناس طوق أختي-  فلم يرد أحد عليه-  فقال يا أخية احتسبي طوقك-  فإن الأمانة في الناس قليل- . قال الواقدي و نهى رسول الله ص عن الحرب-  و أمر بقتل ستة رجال و أربع نسوة-  عكرمة بن أبي جهل و هبار بن الأسود-  و عبد الله بن سعد بن أبي سرح-  و مقيس بن صبابة الليثي و الحويرث بن نفيل-  و عبد الله بن هلال بن خطل الأدرمي-  و هند بنت عتبة و سارة مولاة لبني هاشم-  و قينتين لابن خطل قريبا و قريبة-  و يقال قرينا و أرنب- .

قال الواقدي و دخلت الجنود كلها-  فلم تلق حربا إلا خالد بن الوليد-  فإنه وجد جمعا من قريش و أحابيشها قد جمعوا له-  فيهم صفوان بن أمية و عكرمة بن أبي جهل-  و سهيل بن عمرو-  فمنعوه الدخول و شهروا السلاح و رموه بالنبل-  و قالوا لا تدخلها عنوة أبدا-  فصاح خالد في أصحابه و قاتلهم-  فقتل من قريش أربعة و عشرون و من هذيل أربعة-  و انهزموا أقبح انهزام حتى قتلوا بالحزورة-  و هم مولون من كل وجه-  و انطلقت طائفة منهم فوق رءوس الجبال-  و اتبعهم المسلمون-  و جعل أبو سفيان بن حرب و حكيم بن حزام يناديان-  يا معشر قريش علام تقتلون أنفسكم-  من دخل داره فهو آمن و من أغلق عليه بابه فهو آمن-  و من وضع السلاح فهو آمن-  فجعل الناس يقتحمون الدور و يغلقون عليهم الأبواب-  و يطرحون السلاح في الطرق حتى يأخذه المسلمون- . قال الواقدي و أشرف رسول الله ص من على ثنية أذاخر-  فنظر إلى البارقة فقال ما هذه البارقة-  أ لم أنه عن القتال-  قيل يا رسول الله خالد بن الوليدقوتل-  و لو لم يقاتل ما قاتل-  فقال قضاء الله خير-  و أقبل ابن خطل مدججا في الحديد-  على فرس ذنوب بيده قناة يقول-  لا و الله لا يدخلها عنوة حتى يرى ضربا كأفواه المزاد-  فلما انتهى إلى الخندمة و رأى القتال-  دخله رعب حتى ما يستمسك من الرعدة-  و مر هاربا حتى انتهى إلى الكعبة-  فدخل بين أستارها بعد أن طرح سلاحه و ترك فرسه-  و أقبل حماس بن خالد الدؤلي منهزما حتى أتى بيته فدقه-  ففتحت له امرأته فدخل و قد ذهبت روحه-  فقالت أين الخادم التي وعدتني-  ما زلت منتظرتك منذ اليوم تسخر به-  فقال دعي هذا و أغلقي الباب-  فإنه من أغلق بابه فهو آمن-  قالت ويحك أ لم أنهك عن قتال محمد-  و قلت لك إني ما رأيته يقاتلكم مرة-  إلا و ظهر عليكم و ما بابنا-  قال إنه لا يفتح على أحد بابه-  ثم أنشدها- 

   إنك لو شهدتنا بالخندمه
إذ فر صفوان و فر عكرمه‏

و بو يزيد كالعجوز المؤتمه‏
و ضربناهم بالسيوف المسلمه‏

لهم زئير خلفنا و غمغمه
لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه‏

 قال الواقدي و حدثني قدامة بن موسى-  عن بشير مولى المازنيين عن جابر بن عبد الله قال-  كنت ممن لزم رسول الله ص يومئذ-  فدخلت معه يوم الفتح من أذاخر-  فلما أشرف نظر إلى بيوت مكة فحمد الله و أثنى عليه-  و نظر إلى موضع قبة بالأبطح تجاه شعب بني هاشم-  حيث حصر رسول الله ص و أهله ثلاث‏سنين-  و قال يا جابر-  إن منزلنا اليوم حيث تقاسمت علينا قريش في كفرها-  قال جابر فذكرت كلاما كنت أسمعه في المدينة قبل ذلك-  كان يقول منزلنا غدا إن شاء الله إذا فتح علينا مكة-  في الخيف حيث تقاسموا على الكفر- . قال الواقدي-  و كانت قبته يومئذ بالأدم ضربت له بالحجون-  فأقبل حتى انتهى إليها و معه أم سلمة و ميمونة قال الواقدي و حدثني معاوية بن عبد الله بن عبيد الله-  عن أبيه عن أبي رافع قال-  قيل للنبي ص أ لا تنزل منزلك من الشعب-  قال و هل ترك لنا عقيل من منزل-  و كان عقيل قد باع منزل رسول الله ص-  و منازل إخوته من الرجال و النساء بمكة-  فقيل لرسول الله ص فانزل في بعض بيوت مكة من غير منازلك-  فأبى و قال لا أدخل البيوت-  فلم يزل مضطربا بالحجون لم يدخل بيتا-  و كان يأتي إلى المسجد من الحجون-  قال و كذلك فعل في عمرة القضية و في حجته- .

قال الواقدي و كانت أم هانئ بنت أبي طالب-  تحت هبيرة بن أبي وهب المخزومي-  فلما كان يوم الفتح دخل عليها حموان لها-  عبد الله بن أبي ربيعة و الحارث بن هشام المخزوميان-  فاستجارا بها و قالا نحن في جوارك-  فقالت نعم أنتما في جواري-  قالت أم هانئ-  فهما عندي إذ دخل علي فارس مدجج في الحديد و لا أعرفه-  فقلت له أنا بنت عم رسول الله فأسفر عن وجهه-  فإذا علي أخي فاعتنقته-  و نظر إليهما فشهر السيف عليهما-  فقلت أخي من بين الناس تصنع بي هذا-  فألقيت عليهما ثوبا فقال أ تجيرين المشركين-  فحلت دونهما و قلت لا و الله و ابتدئ بي قبلهما-  قالت فخرج و لم يكد فأغلقت عليهما بيتا و قلت لا تخافا-  و ذهبت إلى خباء رسول الله ص‏بالبطحاء فلم أجده-  و وجدت فيه فاطمة فقلت لها ما لقيت من ابن أمي علي-  أجرت حموين لي من المشركين فتفلت عليهما ليقتلهما-  قالت و كانت أشد علي من زوجها-  و قالت لم تجيرين المشركين-  و طلع رسول الله ص و عليه الغبار-  فقال مرحبا بفاختة و هو اسم أم هانئ-  فقلت ما ذا لقيت من ابن أمي علي ما كدت أفلت منه-  أجرت حموين لي من المشركين فتفلت عليهما ليقتلهما-  فقال ما كان ذلك له قد أجرنا من أجرت و أمنا من أمنت-  ثم أمر فاطمة فسكبت له غسلا فاغتسل-  ثم صلى ثماني ركعات-  في ثوب واحد ملتحفا به وقت الضحى-  قالت فرجعت إليهما و أخبرتهما و قلت إن شئتما فأقيما-  و إن شئتما فارجعا إلى منازلكما-  فأقاما عندي في منزلي يومين ثم انصرفا إلى منازلهما- .

و أتى آت إلى النبي ص فقال-  إن الحارث بن هشام و عبد الله بن أبي ربيعة-  جالسان في ناديهما متفضلان في الملإ المزعفر-  فقال لا سبيل إليهما قد أجرناهما- . قال الواقدي-  و مكث رسول الله ص في قبة ساعة من النهار-  ثم دعا براحلته بعد أن اغتسل و صلى-  فأدنيت إلى باب القبة-  و خرج و عليه السلاح و المغفر على رأسه و قد صف له الناس-  فركبها و الخيل تمعج ما بين الخندمة إلى الحجون-  ثم مر و أبو بكر إلى جانبه على راحلة أخرى يسير و يحادثه-  و إذا بنات أبي أحيحة سعيد بن العاص بالبطحاء-  حذاء منزل أبي أحيحة و قد نشرن شعورهن-  فلطمن وجوه الخيل بالخمر-  فنظر رسول الله ص إلى أبي بكر فتبسم و أنشده قول حسان-

تظل جيادنا متمطرات
تلطمهن بالخمر النساء

فلما انتهى إلى الكعبة تقدم على راحلته-  فاستلم الركن بمحجنه و كبر فكبر المسلمون لتكبيره-  و عجوا بالتكبير حتى ارتجت مكة-  و جعل رسول الله ص يشير إليهم أن اسكتوا-  و المشركون فوق الجبال ينظرون-  ثم طاف بالبيت على راحلته-  و محمد بن مسلمة آخذ بزمامها-  و حول الكعبة ثلاثمائة و ستون صنما مرصوصة بالرصاص-  و كان هبل أعظمها و هو تجاه الكعبة على بابها-  و إساف و نائلة حيث ينحرون و يذبحون الذبائح-  فجعل كلما يمر بصنم منها يشير بقضيب في يده-  و يقول جاء الحق و زهق الباطل إن الباطل كان زهوقا-  فيقع الصنم لوجهه ثم أمر بهبل فكسر و هو واقف عليه-  فقال الزبير لأبي سفيان يا أبا سفيان قد كسر هبل-  أ ما إنك قد كنت منه يوم أحد في غرور-  حين تزعم أنه قد أنعم-  فقال دع هذا عنك يا ابن العوام-  فقد أرى أن لو كان مع إله محمد غيره لكان غير ما كان- .

قال الواقدي ثم انصرف رسول الله ص-  فجلس ناحية من المسجد-  و أرسل بلالا إلى عثمان بن طلحة يأتيه بالمفتاح-  مفتاح الكعبة-  فقال عثمان نعم فخرج إلى أمه و هي بنت شيبة-  فقال لها و المفتاح عندها يومئذ-  إن رسول الله ص قد طلب المفتاح-  فقالت أعيذك بالله-  أن يكون الذي يذهب مأثرة قومه على يده-  فقال فو الله لتأتيني به أو ليأتينك غيري فيأخذه منك-  فأدخلته في حجرتها و قالت-  أي رجل يدخل يده هاهنا-  فبينما هما على ذلك و هو يكلمها-  إذ سمعت صوت أبي بكر و عمر في الدار-  و عمر رافع صوته حين رأى عثمان أبطأ-  يا عثمان اخرج فقالت أمه خذ المفتاح-  فلأن تأخذه أنت أحب إلي من أن يأخذه تيم و عدي-  فأخذه فأتى به رسول الله ص-  فلما تناوله بسط العباس بن عبد المطلب يده و قال-  يا رسول الله بأبي أنت اجمع لنا بين السقاية و الحجابة-  فقال إنما أعطيكم ما ترضون فيه-  و لا أعطيكم ما ترزءون منه-قالوا و كان عثمان بن طلحة قد قدم على رسول الله ص-  مع خالد بن الوليد و عمرو بن العاص مسلما قبل الفتح- .

قال الواقدي-  و بعث رسول الله ص عمر بن الخطاب-  و معه عثمان بن طلحة-  و أمره أن يفتح البيت فلا يدع فيه صورة و لا تمثالا-  إلا صورة إبراهيم الخليل ع-  فلما دخل الكعبة-  رأى صورة إبراهيم شيخا كبيرا يستقسم بالأزلام- .

قال الواقدي-  و قد روي أنه أمره بمحو الصور كلها لم يستثن-  فترك عمر صورة إبراهيم-  فقال لعمر أ لم آمرك ألا تدع فيها صورة-  فقال عمر كانت صورة إبراهيم قال فامحها-  و قال قاتلهم الله جعلوه شيخا يستقسم بالأزلام- . قال و محا صورة مريم-  قال و قد روي أن رسول الله ص محا الصور بيده-  روى ذلك ابن أبي ذئب عن عبد الرحمن بن مهران عن عمير مولى ابن عباس عن أسامة بن زيد قال دخلت مع رسول الله ص الكعبة-  فرأى فيها صورا فأمرني أن آتيه في الدلو بماء-  فجعل يبل به الثوب و يضرب به الصور و يقول-  قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون

 قال الواقدي و أمر رسول الله ص بالكعبة فأغلقت عليه-  و معه فيها أسامة بن زيد و بلال بن رباح و عثمان بن طلحة-  فمكث فيها ما شاء الله-  و خالد بن الوليد واقف على الباب يذب الناس عنه-  حتى خرج رسول الله ص-  فوقف و أخذ بعضادتي الباب-  و أشرف على الناس و في يده المفتاح-  ثم جعله في كمه و أهل مكة قيام تحته-  و بعضهم جلوس قد ليط بهم-  فقال الحمد لله الذي‏ صدق وعده و نصر عبده-  و هزم الأحزاب وحده ما ذا تقولون-  و ما ذا تظنون قالوا نقول خيرا و نظن شرا-  أخ كريم و ابن أخ كريم و قد قدرت-  فقال إني أقول كما قال أخي يوسف-  لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ-  يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ-  ألا إن كل ربا في الجاهلية أو دم أو مأثرة-  فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة الكعبة و سقاية الحاج-  ألا و في قتيل شبه العمد-  قتيل العصا و السوط الدية مغلظة مائة ناقة-  منها أربعون في بطونها أولادها-  إن الله قد أذهب نخوة الجاهلية و تكبرها بآبائها-  كلكم لآدم و آدم من تراب-  و أكرمكم عند الله أتقاكم-  ألا إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات و الأرض-  فهي حرام بحرم الله لم تحل لأحد كان قبل-  و لا تحل لأحد يأتي بعدي-  و ما أحلت لي إلا ساعة من النهار- 

قال يقصدها رسول الله ص بيده هكذا-  لا ينفر صيدها و لا يعضد عضاهها-  و لا تحل لقطتها إلا لمنشد و لا يختلى خلاها-  فقال العباس إلا الإذخر يا رسول الله-  فإنه لا بد منه للقبور و البيوت-  فسكت رسول الله ص ساعة-  ثم قال إلا الإذخر فإنه حلال-  و لا وصية لوارث و الولد للفراش و للعاهر الحجر-  و لا يحل لامرأة أن تعطي من مالها إلا بإذن زوجها-  و المسلم أخو المسلم و المسلمون إخوة-  يد واحدة على من سواهم تتكافأ دماؤهم-  يسعى بذمتهم أدناهم و يرد عليهم أقصاهم-  و لا يقتل مسلم بكافر و لا ذو عهد في عهده-  و لا يتوارث أهل ملتين مختلفتين-  و لا تنكح المرأة على عمتها و لا على خالتها-  و البينة على من ادعى و اليمين على من أنكر-  و لا تسافر امرأة مسيرة ثلاث إلا مع ذي محرم-  و لا صلاة بعد العصر و لا بعد الصبح-  و أنهاكم عن صيام يومين يوم الأضحى و يوم الفطرثم قال ادعوا لي عثمان بن طلحة فجاء-  و قد كان رسول الله ص قال له يوما بمكة قبل الهجرة-  و مع عثمان المفتاح-  لعلك سترى هذا المفتاح بيدي يوما أضعه حيث شئت-  فقال عثمان لقد هلكت قريش إذا و ذلت-  فقال ع بل عمرت و عزت- 

قال عثمان فلما دعاني يومئذ و المفتاح بيده-  ذكرت قوله حين قال-  فاستقبلته‏ببشر فاستقبلني بمثله-  ثم قال خذوها يا بني أبي طلحة خالدة تالدة-  لا ينزعها منكم إلا ظالم-  يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته-  فكلوا بالمعروف-  قال عثمان فلما وليت ناداني فرجعت-  فقال أ لم يكن الذي قلت لك-  يعني ما كان قاله بمكة من قبل-  فقلت بلى أشهد أنك رسول الله ص قال الواقدي و أمر رسول الله ص يومئذ برفع السلاح-  و قال إلا خزاعة عن بني بكر إلى صلاة العصر-  فخبطوهم بالسيف ساعة و هي الساعة التي أحلت لرسول الله ص- .

قال الواقدي و قد كان نوفل بن معاوية الدؤلي من بني بكر-  استأمن رسول الله ص على نفسه فأمنه-  و كانت خزاعة-  تطلبه بدماء من قتلت بكر و قريش منها بالوتير-  و قد كانت خزاعة قالت أيضا لرسول الله ص-  إن أنس بن زنيم هجاك فهدر رسول الله ص-  دمه-  فلما فتح مكة هرب و التحق بالجبال-  و قد كان قبل أن يفتح رسول الله ص مكة-  قال شعرا يعتذر فيه إلى رسول الله ص من جملته- 

 أنت الذي تهدى معد بأمره
بك الله يهديها و قال لها ارشدي‏

فما حملت من ناقة فوق كورها
أبر و أوفى ذمة من محمد

أحث على خير و أوسع نائلا
إذا راح يهتز اهتزاز المهند

و أكسى لبرد الخال قبل ارتدائه‏
و أعطى لرأس السابق المتجرد

تعلم رسول الله أنك مدركي
و إن وعيدا منك كالأخذ باليد

تعلم رسول الله أنك قادر
على كل حي من تهام و منجد

و نبي رسول الله أني هجوته
فلا رفعت سوطي إلي إذن يدي‏

سوى أنني قد قلت يا ويح فتية
أصيبوا بنحس يوم طلق و أسعد

أصابهم من لم يكن لدمائهم
كفاء فعزت عبرتي و تلددي‏

ذؤيبا و كلثوما و سلمى تتابعوا
جميعا فإلا تدمع العين أكمد

على أن سلمى ليس منهم كمثله
و إخوته و هل ملوك كأعبد

فإني لا عرضا خرقت و لا دما
هرقت ففكر عالم الحق و اقصد

قال الواقدي و كانت كلمته هذه-  قد بلغت رسول الله ص قبل أن يفتح مكة-  فنهنهت عنه و كلمه يوم الفتح نوفل بن معاوية الدؤلي-  فقال يا رسول الله أنت أولى الناس بالعفو-  و من منا لم يعادك و لم يؤذك-  و نحن في جاهلية لا ندري ما نأخذ و ما ندع-  حتى هدانا الله بك و أنقذنا بيمنك من الهلكة-  و قد كذب عليه الركب و كثروا في أمره عندك-  فقال رسول الله ص دع الركب عنك أنا لم نجد بتهامة أحدا-  من ذوي رحم و لا بعيد الرحم كان أبر بنا من خزاعة-  فاسكت يا نوفل-  فلما سكت قال رسول الله ص-  قد عفوت عنه فقال نوفل فداك أبي و أمي- .

قال الواقدي و جاءت الظهر-  فأمر رسول الله ص بلالا أن يؤذن فوق ظهر الكعبة-  و قريش في رءوس الجبال-  و منهم من قد تغيب و ستر وجهه خوفا من أن يقتلوا-  و منهم من يطلب الأمان و منهم من قد أمن-  فلما أذن بلال و بلغ إلى قوله-  أشهد أن محمدا رسول الله ص-  رفع صوته كأشد ما يكون قال-  تقول جويرية بنت أبي جهل قد لعمري رفع لك ذكرك-  فأما الصلاة فسنصلي-  و لكن و الله لا نحب من قتل الأحبة أبدا-  و لقد كان جاء أبي الذي جاء محمدا من النبوة-  فردها و لم يرد خلاف قومه- .

و قال خالد بن سعيد بن العاص-  الحمد لله الذي أكرم أبي فلم يدرك هذا اليوم-و قال الحارث بن هشام وا ثكلاه-  ليتني مت قبل هذا اليوم-  قبل أن أسمع بلالا ينهق فوق الكعبة-  و قال الحكم بن أبي العاص هذا و الله الحدث العظيم-  أن يصيح عبد بني جمح-  يصيح بما يصيح به على بيت أبي طلحة-  و قال سهيل بن عمرو-  إن كان هذا سخطا من الله تعالى فسيغيره-  و إن كان لله رضا فسيقره-  و قال أبو سفيان أما أنا فلا أقول شيئا-  لو قلت شيئا لأخبرته هذه الحصباء-  قال فأتى جبرئيل ع رسول الله ص فأخبره مقالة القوم- .

قال الواقدي فكان سهيل بن عمرو يحدث فيقول-  لما دخل محمد مكة انقمعت فدخلت بيتي و أغلقته علي-  و قلت لابني عبد الله بن سهيل-  اذهب فاطلب لي جوارا من محمد فإني لا آمن أن أقتل-  و جعلت أتذكر أثري عنده و عند أصحابه-  فلا أرى أسوأ أثرا مني-  فإني لقيته يوم الحديبية بما لم يلقه أحد به-  و كنت الذي كاتبه مع حضوري بدرا و أحدا-  و كلما تحركت قريش كنت فيها-  فذهب عبد الله بن سهيل إلى رسول الله ص فقال-  يا رسول الله أبي تؤمنه قال نعم هو آمن بأمان الله-  فليظهر-  ثم التفت إلى من حوله فقال-  من لقي سهيل بن عمرو فلا يشدن النظر إليه-  ثم قال قل له فليخرج فلعمري إن سهيلا له عقل و شرف-  و ما مثل سهيل جهل الإسلام-  و لقد رأى ما كان يوضع فيه إن لم يكن له تتابع-  فخرج عبد الله إلى أبيه فأخبره بمقالة رسول الله ص-  فقال سهيل كان و الله برا صغيرا و كبيرا-  و كان سهيل يقبل و يدبر غير خائف-  و خرج إلى خيبر مع النبي ص و هو على شركه حتى أسلم بالجعرانة

الجزء الثامن عشر

تتمة أبواب الكتب و الرسائل

تتمة 64 كتاب له ع إلى معاوية

ذكر بقية الخبر عن فتح مكة

بسم الله الرحمن الرحيم-  الحمد لله الواحد العدل قال الواقدي و هرب هبيرة بن أبي وهب-  و عبد الله بن الزبعري جميعا حتى انتهيا إلى نجران-  فلم يأمنا الخوف حتى دخلا حصن نجران-  فقيل ما شأنكما قالا-  أما قريش فقد قتلت و دخل محمد مكة-  و نحن و الله نرى أن محمدا سائر إلى حصنكم هذا-  فجعلت بلحارث بن كعب يصلحون ما رث من حصنهم-  و جمعوا ماشيتهم فأرسل حسان بن ثابت إلى ابن الزبعرى- 

لا تعدمن رجلا أحلك بغضه
نجران في عيش أجد ذميم‏

بليت قناتك في الحروب فألفيت‏
جوفاء ذات معايب و وصوم‏

غضب الإله على الزبعرى و ابنه
بعذاب سوء في الحياة مقيم‏

 فلما جاء ابن الزبعرى شعر حسان تهيأ للخروج-  فقال هبيرة بن وهب أين تريد يا ابن عم-  قال له أريد و الله محمدا-  قال أ تريد أن تتبعه قال إي و الله-  قال هبيرة يا ليت أني كنت رافقت غيرك-  و الله ما ظننت أنك تتبع محمدا أبدا-  قال ابن الزبعرى هو ذاك-  فعلى أي شي‏ء أقيم مع بني الحارث بن كعب-  و أترك ابن عمى و خير الناس و أبرهم-  و بين قومي و داري-  فانحدر ابن الزبعرى-  حتى جاء رسول الله ص-و هو جالس في أصحابه فلما نظر إليه قال-  هذا ابن الزبعرى و معه وجه فيه نور الإسلام-  فلما وقف على رسول الله ص قال-  السلام عليك يا رسول الله-  شهدت أن لا إله إلا الله-  و أنك عبده و رسوله-  و الحمد لله الذي هداني للإسلام-  لقد عاديتك و أجلبت عليك-  و ركبت الفرس و البعير-  و مشيت على قدمي في عداوتك-  ثم هربت منك إلى نجران-  و أنا أريد ألا أقرب الإسلام أبدا-  ثم أرادني الله منه بخير-  فألقاه في قلبي و حببه إلي-  و ذكرت ما كنت فيه من الضلال-  و اتباع ما لا ينفع ذا عقل من حجر يعبد-  و يذبح له لا يدرى من عبده و من لا يعبده-  فقال رسول الله ص الحمد لله الذي هداك للإسلام-  احمد الله إن الإسلام يجب ما كان قبله-  و أقام هبيرة بنجران-  و أسلمت أم هانئ-  فقال هبيرة حين بلغه إسلامها يوم الفتح-  يؤنبها شعرا من جملته- 

    و إن كنت قد تابعت دين محمد
و قطعت الأرحام منك حبالها

فكوني على أعلى سحوق بهضبة
ململمة غبراء يبس بلالها

 فأقام بنجران حتى مات مشركا- . قال الواقدي و هرب حويطب بن عبد العزى-  فدخل حائطا بمكة-  و جاء أبو ذر لحاجته-  فدخل الحائط فرآه-  فهرب حويطب فقال أبو ذر-  تعال فأنت آمن فرجع إليه فقال-  أنت آمن فاذهب حيث شئت-  و إن شئت أدخلتك على رسول الله ص-  و إن شئت فإلى منزلك-  قال و هل من سبيل إلى منزلي ألفى-  فأقتل قبل أن أصل إلى منزلي-أو يدخل علي منزلي فأقتل-  قال فأنا أبلغ معك منزلك-  فبلغ معه منزله ثم جعل ينادي على بابه-  أن حويطبا آمن فلا يهيج-  ثم انصرف إلى رسول الله ص فأخبره-  فقال أ و ليس قد أمنا الناس كلهم-  إلا من أمرت بقتله- .

قال الواقدي و هرب عكرمة بن أبي جهل إلى اليمن-  حتى ركب البحر-  قال و جاءت زوجته أم حكيم بنت الحارث بن هشام-  إلى رسول الله ص في نسوة منهن هند بنت عتبة-  و قد كان رسول الله ص أمر بقتلها-  و البغوم بنت المعدل الكنانية امرأة صفوان بن أمية-  و فاطمة بنت الوليد بن المغيرة امرأة الحارث بن هشام-  و هند بنت عتبة بن الحجاج-  أم عبد الله بن عمرو بن العاص-  و رسول الله ص بالأبطح فأسلمن-  و لما دخلن عليه دخلن و عنده زوجتاه-  و ابنته فاطمة و نساء من نساء بني عبد المطلب-  و سألن أن يبايعهن فقال إني لا أصافح النساء- 

و يقال إنه وضع على يده ثوبا فمسحن عليه-  و يقال كان يؤتى بقدح من ماء فيدخل يده فيه-  ثم يرفعه إليهن فيدخلن أيديهن فيه-  فقالت أم حكيم امرأة عكرمة يا رسول الله-  إن عكرمة هرب منك إلى اليمن-  خاف أن تقتله فأمنه-  فقال هو آمن فخرجت أم حكيم في طلبه-  و معها غلام لها رومي فراودها عن نفسها-  فجعلت تمنيه حتى قدمت به على حي-  فاستغاثت بهم عليه فأوثقوه رباطا-  و أدركت عكرمة و قد انتهى إلى ساحل من سواحل تهامة-  فركب البحر فهاج بهم-  فجعل نوتي السفينة يقول له-  أن أخلص قال أي شي‏ء أقول-  قال قل لا إله إلا الله- 

قال عكرمة ما هربت إلا من هذا-  فجاءت أم حكيم على هذا من الأمر-  فجعلت تلح عليه و تقول يا ابن عم-  جئتك من عند خير الناس و أوصل الناس و أبر الناس-  لا تهلك نفسك فوقف لها حتى أدركته-  فقالت إني قد استأمنت لك رسول الله ص فأمنك-  قال‏أنت فعلت قالت نعم أنا كلمته فأمنك-  فرجع معها فقالت ما لقيت من غلامك الرومي-  و أخبرته خبره فقتله عكرمة-  فلما دنا من مكة قال رسول الله ص لأصحابه يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنا-  فلا تسبوا أباه فإن سب الميت يؤذي الحي-  و لا يبلغ الميت-  فلما وصل عكرمة و دخل على رسول الله ص-  وثب إليه ص و ليس عليه رداء فرحا به-  ثم جلس فوق عكرمة بين يديه-  و معه زوجته منقبة فقال يا محمد-  إن هذه أخبرتني أنك أمنتني-  فقال صدقت أنت آمن-  فقال عكرمة فإلام تدعو-  فقال إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله-  و أني رسول الله و أن تقيم الصلاة و تؤتي الزكاة-  و عد خصال الإسلام فقال عكرمة-  ما دعوت إلا إلى حق و إلى حسن جميل-  و لقد كنت فينا من قبل أن تدعو إلى ما دعوت إليه-  و أنت أصدقنا حديثا و أعظمنا برا-  ثم قال فإني أشهد أن لا إله إلا الله و أنك رسول الله-  فقال رسول الله ص-  لا تسألني اليوم شيئا أعطيه أحدا إلا أعطيتكه- 

قال فإني أسألك أن تغفر لي كل عداوة عاديتكها-  أو مسير أوضعت فيه أو مقام لقيتك فيه-  أو كلام قلته في وجهك أو أنت غائب عنه-  فقال اللهم اغفر له كل عداوة عادانيها-  و كل مسير سار فيه إلي يريد بذلك إطفاء نورك-  و اغفر له ما نال مني و من عرضي-  في وجهي أو أنا غائب عنه-  فقال عكرمة رضيت بذلك يا رسول الله-  ثم قال أما و الله لا أدع نفقة كنت أنفقها-  في صد عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها-  في سبيل الإسلام و في سبيل الله-  و لأجتهدن في القتال بين يديك حتى أقتل شهيدا-  قال فرد عليه رسول الله ص امرأته بذلك النكاح الأول- . قال الواقدي و أما صفوان بن أمية-  فهرب حتى أتى الشعبة و جعل يقول لغلامه‏ يسار-  و ليس معه غيره ويحك انظر من ترى-  فقال هذا عمير بن وهب- 

قال صفوان ما أصنع بعمير-  و الله ما جاء إلا يريد قتلي قد ظاهر محمدا علي-  فلحقه فقال صفوان يا عمير ما لك-  ما كفاك ما صنعت حملتني دينك و عيالك-  ثم جئت تريد قتلي فقال يا أبا وهب-  جعلت فداك جئتك من عند خير الناس-  و أبر الناس و أوصل الناس-  و قد كان عمير قال لرسول الله ص يا رسول الله-  سيد قومي صفوان بن أمية خرج هاربا ليقذف نفسه في البحر-  خاف ألا تؤمنه فأمنه فداك أبي و أمي-  فقال قد أمنته فخرج في أثره فقال-  إن رسول الله ص قد أمنك صفوان-  لا و الله حتى تأتيني بعلامة أعرفها-  فرجع إلى رسول الله ص فأخبره و قال-  يا رسول الله جئته و هو يريد أن يقتل نفسه-  فقال لا أرجع إلا بعلامة أعرفها-  فقال خذ عمامتي-  فرجع عمير إليه بعمامة رسول الله ص-  و هي البرد الذي دخل فيه رسول الله ص مكة-  معتجرا به برد حبرة أحمر-  فخرج عمير في طلبه الثانية حتى جاءه بالبرد فقال-  يا أبا وهب جئتك من عند خير الناس-  و أوصل الناس و أبر الناس و أحلم الناس-  مجده مجدك و عزه عزك-  و ملكه ملكك ابن أبيك و أمك-  أذكرك الله في نفسك-  فقال أخاف أن أقتل-  قال فإنه دعاك إلى الإسلام فإن رضيت-  و إلا سيرك شهرين فهو أوفى الناس و أبرهم-  و قد بعث إليك ببرده الذي دخل به معتجرا-  أ تعرفه قال نعم-  فأخرجه-  فقال نعم هو هو-  فرجع صفوان حتى انتهى إلى رسول الله ص-  فوجده يصلي العصر بالناس فقال-  كم يصلون قالوا خمس صلوات في اليوم و الليلة-  قال أ محمد يصلي بهم قالوا نعم-  فلما سلم من صلاته صاح صفوان يا محمد-  إن عمير بن وهب جاءني ببردك-  و زعم أنك دعوتني إلى القدوم إليك-  فإن رضيت أمرا و إلا سيرتني شهرين-  فقال رسول الله ص انزل أبا وهب-  فقال لا و الله أو تبين لي- 

قال بل سر أربعة أشهر-  فنزل صفوان و خرج معه إلى حنين و هو كافر-  و أرسل إليه يستعير أدراعه و كانت مائة درع-  فقال أ طوعا أم كرها فقال ع-  بل طوعا عارية مؤداة فأعاره إياها-  ثم أعادها إليه بعد انقضاء حنين و الطائف-  فلما كان رسول الله ص بالجعرانة-  يسير في غنائم هوازن ينظر إليها-  فنظر صفوان إلى شعب هناك مملوء نعما وشاء ورعاء-  فأدام النظر إليه و رسول الله ص يرمقه فقال-  أبا وهب يعجبك هذا الشعب-  قال نعم قال هو لك و ما فيه-  فقال صفوان ما طابت نفس أحد بمثل هذا-  إلا نفس نبي أشهد أن لا إله إلا الله-  و أنك رسول الله ص- .

قال الواقدي فأما عبد الله بن سعد بن أبي سرح-  فكان قد أسلم و كان يكتب لرسول الله ص الوحي-  فربما أملى عليه رسول الله ص سميع عليم-  فيكتب عزيز حكيم و نحو ذلك-  و يقرأ على رسول الله ص فيقول كذلك الله-  و يقرأ فافتتن-  و قال و الله ما يدري ما يقول-  إني لأكتب له ما شئت فلا ينكر-  و إنه ليوحى إلي كما يوحى إلى محمد-  و خرج هاربا من المدينة إلى مكة مرتدا-  فأهدر رسول الله دمه-  و أمر بقتله يوم الفتح-  فلما كان يومئذ جاء إلى عثمان و كان أخاه من الرضاعة-  فقال يا أخي إني قد أجرتك فاحتبسني هاهنا-  و اذهب إلى محمد فكلمه في-  فإن محمدا إن رآني ضرب عنقي-  أن جرمي أعظم الجرم و قد جئت تائبا-  فقال عثمان قم فاذهب معي إليه-  قال كلا و الله إنه إن رآني ضرب عنقي و لم يناظرني-  قد أهدر دمي و أصحابه يطلبونني في كل موضع-  فقال عثمان انطلق معي فإنه لا يقتلك إن شاء الله-  فلم يرع رسول الله ص إلا بعثمان-آخذا بيد عبد الله بن سعد واقفين بين يديه-  فقال عثمان يا رسول الله هذا أخي من الرضاعة-  إن أمه كانت تحملني و تمشيه و ترضعني و تفطمه-  و تلطفني و تتركه فهبه لي-  فأعرض رسول الله ص عنه-  و جعل عثمان كلما أعرض رسول الله عنه استقبله بوجهه-  و أعاد عليه هذا الكلام-  و إنما أعرض ع عنه إرادة لأن يقوم رجل فيضرب عنقه-  فلما رأى ألا يقوم أحد و عثمان قد انكب عليه-  يقبل رأسه و يقول يا رسول الله-  بايعه فداك أبي و أمي على الإسلام-  فقال رسول الله ص نعم فبايعه- .

قال الواقدي قال رسول الله ص بعد ذلك للمسلمين-  ما منعكم أن يقوم منكم واحد إلى هذا الكلب فيقتله-  أو قال الفاسق-  فقال عباد بن بشر و الذي بعثك بالحق-  إني لأتبع طرفك من كل ناحية-  رجاء أن تشير إلي فأضرب عنقه-  و يقال إن أبا البشير هو الذي قال هذا-  و يقال بل قاله عمر بن الخطاب-  فقال ع إني لا أقتل بالإشارة-  و قيل إنه قال إن النبي لا يكون له خائنة الأعين- . قال الواقدي فجعل عبد الله بن سعد-  يفر من رسول الله ص كلما رآه-  فقال له عثمان بأبي أنت و أمي-  لو ترى ابن أم عبد يفر منك كلما رآك-  فتبسم رسول الله ص فقال-  أ و لم أبايعه و أؤمنه-  قال بلى و لكنه يتذكر عظم جرمه في الإسلام-  فقال إن الإسلام يجب ما قبله

قال الواقدي و أما الحويرث بن معبد-  و هو من ولد قصي بن كلاب-  فإنه كان يؤذي رسول الله ص بمكة فأهدر دمه-  فبينما هو في منزله يوم الفتح و قد أغلق عليه بابه-  جاء علي ع يسأل عنه-  فقيل له هو في البادية-  و أخبر الحويرث أنه جاء يطلبه و تنحى علي ع عن بابه-  فخرج الحويرث يريد أن‏ يهرب من بيت إلى بيت آخر-  فتلقاه علي ع فضرب عنقه- .

قال الواقدي و أما هبار بن الأسود-  فقد كان رسول الله ص أمر أن يحرقه بالنار-  ثم قال إنما يعذب بالنار رب النار-  اقطعوا يديه و رجليه إن قدرتم عليه ثم اقتلوه-  و كان جرمه أن نخس زينب بنت رسول الله ص لما هاجرت-  و ضرب ظهرها بالرمح و هي حبلى فأسقطت-  فلم يقدر المسلمون عليه يوم الفتح-  فلما رجع رسول الله ص إلى المدينة-  طلع هبار بن الأسود قائلا-  أشهد أن لا إله إلا الله-  و أشهد أن محمدا رسول الله-  فقبل النبي ص إسلامه-  فخرجت سلمى مولاة النبي ص فقالت-  لا أنعم الله بك عينا-  أنت الذي فعلت و فعلت-  فقال رسول الله ص و هبار يعتذر إليه-  أن الإسلام محا ذلك و نهى عن التعرض له- .

قال الواقدي قال ابن عباس رضي الله عنه-  رأيت رسول الله ص و هبار يعتذر إليه-  و هو يطأطئ رأسه استحياء مما يعتذر هبار-  و يقول له قد عفوت عنك- . قال الواقدي و أما ابن خطل-  فإنه خرج حتى دخل بين أستار الكعبة-  فأخرجه أبو برزة الأسلمي منها-  فضرب عنقه بين الركن و المقام-  و يقال بل قتله عمار بن ياسر-  و قيل سعد بن حريث المخزومي-  و قيل شريك بن عبدة العجلاني-  و الأثبت أنه أبو برزة-  قال و كان جرمه أنه أسلم و هاجر إلى المدينة-  و بعثه رسول الله ص ساعيا-  و بعث معه رجلا من خزاعة فقتله-  و ساق ما أخذ من مال الصدقة و رجع إلى مكة-  فقالت له قريش ما جاء بك-  قال لم أجد دينا خيرا من دينكم-  و كانت له قينتان إحداهما قرينى-  و الأخرى قرينة أو أرنب-  و كان ابن خطل يقول‏ الشعر-  يهجو به رسول الله ص و يغنيان به-  و يدخل عليه المشركون بيته فيشربون عنده الخمر-  و يسمعون الغناء بهجاء رسول الله ص- .

قال الواقدي و أما مقيس بن صبابة فإن أمه سهمية-  و كان يوم الفتح عند أخواله بني سهم-  فاصطبح الخمر ذلك اليوم في ندامى له-  و خرج ثملا يتغنى و يتمثل بأبيات منها- 

دعيني أصطبح يا بكر إني
رأيت الموت نقب عن هشام‏

و نقب عن أبيك أبي يزيد
أخي القينات و الشرب الكرام‏

يخبرنا ابن كبشة أن سنحيا
و كيف حياة أصداء و هام‏

إذا ما الرأس زال بمنكبيه‏
فقد شبع الأنيس من الطعام‏

أ تقتلني إذا ما كنت حيا
و تحييني إذا رمت عظامي‏

 فلقيه نميلة بن عبد الله الليثي و هو من رهطه- فضربه بالسيف حتى قتله- فقالت أخته ترثيه-

لعمري لقد أخزى نميلة رهطه
و فجع أصناف النساء بمقيس‏

فلله عينا من رأى مثل مقيس‏
إذا النفساء أصبحت لم تخرس‏

 و كان جرم مقيس من قبل أن أخاه-  هاشم بن صبابة أسلم و شهد المريسيع-  مع رسول الله ص-  فقتله رجل من رهط عبادة بن الصامت-  و قيل من بني عمرو بن عوف و هو لا يعرفه-  فظنه من المشركين-  فقضى له رسول الله ص بالدية على العاقلة-  فقدم مقيس أخوه المدينة فأخذ ديته و أسلم-  ثم عدا على قاتل أخيه فقتله-  و هرب مرتدا كافرا يهجو رسول الله ص بالشعر-  فأهدر دمه- .

 

قال الواقدي فأما سارة مولاة بني هاشم-  و كانت مغنية نواحة بمكة-  و كانت قد قدمت على رسول الله ص المدينة-  تطلب أن يصلها و شكت إليه الحاجة-  و ذلك بعد بدر و أحد فقال لها-  أ ما كان لك في غنائك و نياحك ما يغنيك-  قالت يا محمد إن قريشا منذ قتل من قتل منهم ببدر-  تركوا استماع الغناء-  فوصلها رسول الله ص و أوقر لها بعيرا طعاما-  فرجعت إلى قريش و هي على دينها-  و كانت يلقى عليها هجاء رسول الله ص فتغنى به-  فأمر بها رسول الله ص يوم الفتح أن تقتل فقتلت-  و أما قينتا ابن خطل فقتل يوم الفتح إحداهما-  و هي أرنب أو قرينة-  و أما قريني فاستؤمن لها رسول الله ص فأمنها-  و عاشت حتى ماتت في أيام عثمان- . قال الواقدي و قد روي أن رسول الله ص-  أمر بقتل وحشي يوم الفتح-  فهرب إلى الطائف-  فلم يزل بها مقيما حتى قدم مع وفد الطائف-  على رسول الله ص فدخل عليه فقال-  أشهد أن لا إله إلا الله و أنك رسول الله-  فقال أ وحشي قال نعم-  قال اجلس و حدثني كيف قتلت حمزة-  فلما أخبره قال قم و غيب عني وجهك-  فكان إذا رآه توارى عنه- .

 قال الواقدي و حدثني ابن أبي ذئب و معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي عمرو بن عدي بن أبي الحمراء قال سمعت رسول الله ص يقول بعد فراغه من أمر الفتح-  و هو يريد الخروج من مكة أما و الله إنك لخير أرض الله-  و أحب بلاد الله إلي-  و لو لا أن أهلك أخرجوني ما خرجت- . و زاد محمد بن إسحاق في كتاب المغازي-  أن هند بنت عتبة جاءت إلى رسول الله‏ص-  مع نساء قريش متنكرة متنقبة-  لحدثها الذي كان في الإسلام-  و ما صنعت بحمزة حين جدعته و بقرت بطنه عن كبده-  فهي تخاف أن يأخذها رسول الله ص بحدثها ذلك-  فلما دنت منه و قال حين بايعنه-  على ألا يشركن بالله شيئا قلن نعم-  قال و لا يسرقن فقالت هند-  و الله أنا كنت لأصيب من مال أبي سفيان-  الهنة و الهنيهة فما أعلم أ حلال ذلك أم لا-  فقال رسول الله ص و إنك لهند-  قالت نعم أنا هند-  و أنا أشهد أن لا إله إلا الله و أنك رسول الله-  فاعف عما سلف عفا الله عنك-  فقال رسول الله ص و لا يزنين-  فقالت هند و هل تزني الحرة-  فقال لا و لا يقتلن أولادهن-  فقالت هند قد لعمري ربيناهم صغارا و قتلتهم كبارا ببدر-  فأنت و هم أعرف-  فضحك عمر بن الخطاب من قولها حتى أسفرت نواجذه-  قال و لا يأتين ببهتان يفترينه-  فقالت هند إن إتيان البهتان لقبيح-  فقال و لا يعصينك في معروف-  فقالت ما جلسنا هذه الجلسة و نحن نريد أن نعصيك- . قال محمد بن إسحاق-  و من جيد شعر عبد الله بن الزبعرى-  الذي اعتذر به إلى رسول الله ص حين قدم عليه- 

منع الرقاد بلابل و هموم
فالليل ممتد الرواق بهيم‏

مما أتاني أن أحمد لامني‏
فيه فبت كأنني محموم‏

يا خير من حملت على أوصالها
عيرانة سرح اليدين سعوم‏

إني لمعتذر إليك من الذي
أسديت إذ أنا في الضلال أهيم‏

أيان تأمرني بأغوى خطة
سهم و تأمرني به مخزوم‏

و أمد أسباب الردى و يقودني
أمر الغواة و أمرهم مشئوم‏

فاليوم آمن بالنبي محمد
قلبي و مخطئ هذه محروم‏

مضت العداوة و انقضت أسبابها
و دعت أواصر بيننا و حلوم‏

فاغفر فدى لك والدي كلاهما
زللي فإنك راحم مرحوم‏

و عليك من علم المليك علامة
نور أغر و خاتم مختوم‏

أعطاك بعد محبة برهانه‏
شرفا و برهان الإله عظيم‏

و لقد شهدت بأن دينك صادق
بر و شأنك في العباد جسيم‏

و الله يشهد أن أحمد مصطفى‏
متقبل في الصالحين كريم‏

فرع علا بنيانه من هاشم
دوح تمكن في العلا و أروم‏

قال الواقدي و في يوم الفتح-  سمى رسول الله ص أهل مكة الذين دخلها عليهم الطلقاء-  لمنه عليهم بعد أن أظفره الله بهم-  فصاروا أرقاء له-  و قد قيل له يوم الفتح قد أمكنك الله تعالى-  فخذ ما شئت من أقمار على غصون يعنون النساء-  فقال ع يأبى ذلك إطعامهم الضيف-  و إكرامهم البيت و وجؤهم مناحر الهدي.

ثم نعود إلى تفسير ما بقي من ألفاظ الفصل-  قوله فإن كان فيك عجل فاسترفه-أي كن ذا رفاهية-  و لا ترهقن نفسك بالعجل-  فلا بد من لقاء بعضنا بعضا-  فأي حاجة بك إلى أن تعجل-  ثم فسر ذلك فقال إن أزرك في بلادك-  أي إن غزوتك في بلادك-  فخليق أن يكون الله بعثني للانتقام منك-  و إن زرتني أي إن غزوتني في بلادي-  و أقبلت بجموعك إلي- . كنتم كما قال أخو بني أسد كنت أسمع قديما-  أن هذا البيت من شعر بشر بن أبي خازم الأسدي-  و الآن فقد تصفحت شعره فلم أجده-  و لا وقفت بعد على قائله-  و إن وقفت فيما يستقبل من الزمان عليه ألحقته- . و ريح حاصب تحمل الحصباء-  و هي صغار الحصى-  و إذا كانت بين أغوار و هي ما سفل من الأرض-  و كانت مع ذلك ريح صيف-  كانت أعظم مشقة-  و أشد ضررا على من تلاقيه-  و جلمود يمكن أن يكون عطفا على حاصب-  و يمكن أن يكون عطفا على أغوار-  أي بين غور من الأرض و حرة-  و ذلك أشد لأذاها لما تكسبه الحرة-  من لفح السموم و وهجها و الوجه الأول أليق- .

و أعضضته أي جعلته معضوضا برءوس أهلك-  و أكثر ما يأتي أفعلته أن تجعله فاعلا-  و هي هاهنا من المقلوب-  أي أعضضت رءوس أهلك به-  كقوله قد قطع الحبل بالمرود- . و جده عتبة بن ربيعة و خاله الوليد بن عتبة-  و أخوه حنظلة بن أبي سفيان-  قتلهم علي ع يوم بدر- . و الأغلف القلب الذي لا بصيرة له-  كأن قلبه في غلاف قال تعالى-  وَ قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ- .

 

و المقارب العقل بالكسر-  الذي ليس عقله بجيد-  و العامة تقول فيما هذا شأنه-  مقارب بفتح الراء- . ثم قال الأولى أن يقال هذه الكلمة لك- . و نشدت الضالة طلبتها-  و أنشدتها عرفتها أي طلبت ما ليس لك- . و السائمة المال الراعي-  و الكلام خارج مخرج الاستعارة- . فإن قلت كل هذا الكلام يطابق بعضه بعضا-  إلا قوله فما أبعد قولك من فعلك-  و كيف استبعد ع ذلك و لا بعد بينهما-  لأنه يطلب الخلافة قولا و فعلا-  فأي بعد بين قوله و فعله- . قلت لأن فعله البغي-  و الخروج على الإمام الذي ثبتت إمامته و صحت-  و تفريق جماعة المسلمين و شق العصا-  هذا مع الأمور التي كانت تظهر عليه و تقتضي الفسق-  من لبس الحرير و المنسوج بالذهب-  و ما كان يتعاطاه في حياة عثمان من المنكرات-  التي لم تثبت توبته منها فهذا فعله- .

و أما قوله فزعمه أنه أمير المؤمنين-  و خليفة المسلمين-  و هذا القول بعيد من ذلك الفعل جدا- . و ما في قوله و قريب ما أشبهت مصدرية-  أي و قريب شبهك بأعمام و أخوال-  و قد ذكرنا من قتل من بني أمية-  في حروب رسول الله ص فيما تقدم-  و إليهم الإشارة بالأعمام و الأخوال-  لأن أخوال معاوية من بني عبد شمس-  كما أن أعمامه من بني عبد شمس- . قوله و لم تماشها الهوينى أي لم تصحبها-  يصفها بالسرعة و المضي في الرءوس الأعناق-

 

و أما قوله ادخل فيما دخل فيه الناس و حاكم القوم-  فهي الحجة التي يحتج بها أصحابنا له-  في أنه لم يسلم قتلة عثمان إلى معاوية-  و هي حجة صحيحة-  لأن الإمام يجب أن يطاع-  ثم يتحاكم إليه أولياء الدم و المتهمون-  فإن حكم بالحق استديمت حكومته-  و إلا فسق و بطلت إمامته- .

قوله فأما تلك التي تريدها-  قيل إنه يريد التعلق بهذه الشبهة-  و هي قتلة عثمان-  و قيل أراد به ما كان معاوية يكرر طلبه-  من أمير المؤمنين ع و هو أن يقره على الشام وحده-  و لا يكلفه البيعة-  قال إن ذلك كمخادعة الصبي في أول فطامه عن اللبن-  بما تصنعه النساء له مما يكره إليه الثدي و يسليه عنه-  و يرغبه في التعوض بغيره-  و كتاب معاوية الذي ذكرناه لم يتضمن حديث الشام

 

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 17-18

 

نامه 63 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

63 و من كتاب له ع إلى أبي موسى الأشعري

و هو عامله على الكوفة-  و قد بلغه عنه تثبيطه الناس عن الخروج إليه-  لما ندبهم لحرب أصحاب الجمل-  مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ-  أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنِي عَنْكَ قَوْلٌ هُوَ لَكَ وَ عَلَيْكَ-  فَإِذَا قَدِمَ عَلَيْكَ رَسُولِي فَارْفَعْ ذَيْلَكَ-  وَ اشْدُدْ مِئْزَرَكَ وَ اخْرُجْ مِنْ جُحْرِكَ وَ انْدُبْ مَنْ مَعَكَ-  فَإِنْ حَقَّقْتَ فَانْفُذْ وَ إِنْ تَفَشَّلْتَ فَابْعُدْ-  وَ ايْمُ اللَّهِ لَتُؤْتَيَنَّ مِنْ حَيْثُ أَنْتَ-  وَ لَا تُتْرَكُ حَتَّى يُخْلَطَ زُبْدُكَ بِخَاثِرِكَ-  وَ ذَائِبُكَ بِجَامِدِكَ-  وَ حَتَّى تُعْجَلُ عَنْ قِعْدَتِكَ-  وَ تَحْذَرَ مِنْ أَمَامِكَ كَحَذَرِكَ مِنْ خَلْفِكَ-  وَ مَا هِيَ بِالْهُوَيْنَى الَّتِي تَرْجُو-  وَ لَكِنَّهَا الدَّاهِيَةُ الْكُبْرَى-  يُرْكَبُ جَمَلُهَا وَ يُذَلُّ صَعْبُهَا وَ يُسَهَّلُ جَبَلُهَا-  فَاعْقِلْ عَقْلَكَ وَ امْلِكْ أَمْرَكَ وَ خُذْ نَصِيبَكَ وَ حَظَّكَ-  فَإِنْ كَرِهْتَ فَتَنَحَّ إِلَى غَيْرِ رَحْبٍ وَ لَا فِي نَجَاةٍ-  فَبِالْحَرِيِّ لَتُكْفَيَنَّ وَ أَنْتَ نَائِمٌ حَتَّى لَا يُقَالَ أَيْنَ فُلَانٌ-  وَ اللَّهِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مَعَ مُحِقٍّ وَ مَا يُبَالِي مَا صَنَعَ الْمُلْحِدُونَ-  وَ السَّلَامُ المراد بقوله قول هو لك و عليك-  أن أبا موسى كان يقول لأهل الكوفة-  إن عليا إمام هدى و بيعته صحيحة-  ألا إنه لا يجوز القتال معه لأهل القبلة-  و هذا القول بعضه حق و بعضه باطل- .

و قوله فارفع ذيلك-  أي شمر للنهوض معي و اللحاق بي-  لنشهد حرب أهل البصرة-  و كذلك قوله و اشدد مئزرك-  و كلتاهما كنايتان عن الجد و التشمير في الأمر- . قال و اخرج من جحرك-  أمر له بالخروج من منزله للحاق به-  و هي كناية فيها غض من أبي موسى و استهانة به-  لأنه لو أراد إعظامه لقال و اخرج من خيسك-  أو من غيلك كما يقال للأسد-  و لكنه جعله ثعلبا أو ضبا- .

قال و اندب من معك-  أي و اندب رعيتك من أهل الكوفة-  إلى الخروج معي و اللحاق بي- . ثم قال و إن تحققت فانفذ-  أي أمرك مبني على الشك-  و كلامك في طاعتي كالمتناقض-  فإن حققت لزوم طاعتي لك فانفذ-  أي سر حتى تقدم علي-  و إن أقمت على الشك فاعتزل العمل فقد عزلتك- . قوله و ايم الله لتؤتين-  معناه إن أقمت على الشك و الاسترابة-  و تثبيط أهل الكوفة عن الخروج إلي و قولك لهم-  لا يحل لكم سل السيف لا مع علي و لا مع طلحة-  و الزموا بيوتكم و اكسروا سيوفكم ليأتينكم-  و أنتم في منازلكم بالكوفة أهل البصرة مع طلحة-  و نأتينكم نحن بأهل المدينة و الحجاز-  فيجتمع عليكم سيفان من أمامكم و من خلفكم-  فتكون ذلك الداهية الكبرى التي لا شواة لها- .

قوله و لا تترك حتى يخلط زبدك بخاثرك-  تقول للرجل إذا ضربته حتى أثخنته-  لقد ضربته حتى خلطت زبده بخاثره-  و كذلك حتى خلطت ذائبه بجامده-  و الخاثر اللبن الغيظ و الزبد خلاصة اللبن و صفوته-  فإذا أثخنت الإنسان ضربا كنت كأنك‏ خلطت ما رق-  و لطف من أخلاطه بما كثف و غلظ منها-  و هذا مثل و معناه لتفسدن حالك و لتخلطن-  و ليضربن ما هو الآن منتظم من أمرك- . قوله و حتى تعجل عن قعدتك-  القعدة بالكسر هيئة القعود كالجلسة و الركبة-  أي و ليعجلنك الأمر عن هيئة قعودك-  يصف شدة الأمر و صعوبته- .

قوله و تحذر من أمامك كحذرك من خلفك-  يعني يأتيك من خلفك-  إن أقمت على منع الناس عن الحرب معنا-  و معهم أهل البصرة و أهل المدينة-  فتكون كما قال الله تعالى-  إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ- . قوله و ما هي بالهوينى التي ترجو-  الهوينى تصغير الهونى التي هي أنثى أهون-  أي ليست هذه الداهية و الجائحة-  التي أذكرها لك بالشي‏ء الهين-  الذي ترجو اندفاعه و سهولته- . ثم قال بل هي الداهية الكبرى ستفعل لا محالة-  إن استمررت على ما أنت عليه-  و كنى عن قوله ستفعل لا محالة-  بقوله يركب جملها و ما بعده-  و ذلك لأنها إذا ركب جملها-  و ذلل صعبها و سهل وعرها فقد فعلت-  أي لا تقل هذا أمر عظيم صعب المرام-  أي قصد الجيوش من كلا الجانبين الكوفة-  فإنه إن دام الأمر على ما أشرت إلى أهل الكوفة-  من التخاذل و الجلوس في البيوت-  و قولك لهم كن عبد الله المقتول-  لنقعن بموجب ما ذكرته لك-  و ليرتكبن أهل الحجاز و أهل البصرة-  هذا الأمر المستصعب-  لأنا نحن نطلب أن نملك الكوفة-  و أهل البصرة كذلك-  فيجتمع عليها الفريقان- .

ثم عاد إلى أمره بالخروج إليه فقال له-  فاعقل عقلك و املك أمرك و خذ نصيبك‏ و حظك-  أي من الطاعة و اتباع الإمام الذي لزمتك بيعته-  فإن كرهت ذلك فتنح عن العمل فقد عزلتك-  و ابعد عنا لا في رحب أي لا في سعة-  و هذا ضد قولهم مرحبا- . ثم قال فجدير أن تكفى ما كلفته-  من حضور الحرب و أنت نائم-  أي لست معدودا عندنا و لا عند الناس من الرجال-  الذين تفتقر الحروب و التدبيرات إليهم-  فسيغني الله عنك و لا يقال أين فلان- . ثم أقسم إنه لحق أي إني في حرب هؤلاء لعلى حق-  و إن من أطاعني مع إمام محق ليس يبالي ما صنع الملحدون-  و هذا إشارة إلى  قول النبي ص اللهم أدر الحق معه حيثما دار

 شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 17  

نامه 62 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

62 و من كتاب له ع إلى أهل مصر مع مالك الأشتر رحمه الله-  لما ولاه إمارتها

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً ص-  نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ وَ مُهَيْمِناً عَلَى الْمُرْسَلِينَ-  فَلَمَّا مَضَى ص تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ-  فَوَاللَّهِ مَا كَانَ يُلْقَى فِي رُوعِي-  وَ لَا يَخْطُرُ بِبَالِي أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هَذَا الْأَمْرَ-  مِنْ بَعْدِهِ ص عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ-  وَ لَا أَنَّهُمْ مُنَحُّوهُ عَنِّي مِنْ بَعْدِهِ-  فَمَا رَاعَنِي إِلَّا انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلَانٍ يُبَايِعُونَهُ-  فَأَمْسَكْتُ بِيَدِي حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ-  قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الْإِسْلَامِ-  يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دَيْنِ مُحَمَّدٍ ص-  فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الْإِسْلَامَ وَ أَهْلَهُ-  أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً-  تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلَايَتِكُمُ-  الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلَائِلَ-  يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ-  وَ كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ-  فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الْأَحْدَاثِ حَتَّى زَاحَ الْبَاطِلُ وَ زَهَقَ-  وَ اطْمَأَنَّ الدِّينُ وَ تَنَهْنَهَ المهيمن الشاهد-  قال الله تعالى-  إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً-  أي تشهد بإيمان من آمن و كفر من كفر-  و قيل تشهد بصحة نبوة الأنبياء قبلك-و قوله على المرسلين يؤكد صحة هذا التفسير الثاني-  و أصل اللفظة من آمن غيره من الخوف-  لأن الشاهد يؤمن غيره من الخوف بشهادته-  ثم تصرفوا فيها فابدلوا إحدى همزتي مؤامن ياء-  فصار مؤيمن-  ثم قلبوا الهمزة هاء كأرقت و هرقت فصار مهيمن- . و الروع الخلد-  و في الحديث أن روح القدس نفث في روعي-  قال ما يخطر لي ببال أن العرب تعدل بالأمر-  بعد وفاة محمد ص عن بني هاشم ثم من بني هاشم عني-  لأنه كان المتيقن بحكم الحال الحاضرة-  و هذا الكلام يدل على بطلان دعوى الإمامية-  النص و خصوصا الجلي- .

قال فما راعني إلا انثيال الناس-  تقول للشي‏ء يفجؤك بغتة ما راعني إلا كذا-  و الروع بالفتح الفزع-  كأنه يقول ما أفزعني شي‏ء بعد ذلك السكون-  الذي كان عندي-  و تلك الثقة التي اطمأننت إليها-  إلا وقوع ما وقع من انثيال الناس-  أي انصبابهم من كل وجه كما ينثاب التراب-  على أبي بكر-  و هكذا لفظ الكتاب الذي كتبه للأشتر-  و إنما الناس يكتبونه الآن إلى فلان-  تذمما من ذكر الاسم كما يكتبون في أول الشقشقية-  أما و الله لقد تقمصها فلان-  و اللفظ أما و الله لقد تقمصها ابن أبي قحافة- . قوله فأمسكت يدي أي امتنعت عن بيعته-  حتى رأيت راجعة الناس يعني أهل الردة كمسيلمة-  و سجاح و طليحة بن خويلد و مانعي الزكاة-  و إن كان مانعو الزكاة قد اختلف في أنهم أهل ردة أم لا- . و محق الدين إبطاله- . و زهق خرج و زال-  تنهنه سكن و أصله الكف-  تقول نهنهت السبع فتنهنه- أي كف عن حركته و إقدامه-  فكان الدين كان متحركا مضطربا فسكن-  و كف عن ذلك الاضطراب- .

روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ الكبير-  أن رسول الله ص لما مات-  اجتمعت أسد و غطفان و طي‏ء-  على طليحة بن خويلد-  إلا ما كان من خواص أقوام في الطوائف الثلاث-  فاجتمعت أسد بسميراء و غطفان بجنوب طيبة-  و طي‏ء في حدود أرضهم-  و اجتمعت ثعلبة بن أسد و من يليهم من قيس-  بالأبرق من الربذة-  و تأشب إليهم ناس من بني كنانة-  و لم تحملهم البلاد فافترقوا فرقتين-  أقامت إحداهما بالأبرق و سارت الأخرى إلى ذي القصة-  و بعثوا وفودا إلى أبي بكر-  يسألونه أن يقارهم على إقامة الصلاة و منع الزكاة-  فعزم الله لأبي بكر على الحق-  فقال لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه-  و رجع الوفود إلى قومهم-  فأخبروهم بقلة من أهل المدينة-  فأطمعوهم فيها و علم أبو بكر و المسلمون بذلك-  و قال لهم أبو بكر أيها المسلمون إن الأرض كافرة-  و قد رأى وفدهم منكم قلة-  و إنكم لا تدرون أ ليلا تؤتون أم نهارا-  و أدناهم منكم على بريد-  و قد كان القوم يأملون أن نقبل منهم و نوادعهم-  و قد أبينا عليهم و نبذنا إليهم فأعدوا و استعدوا-  فخرج علي ع بنفسه-  و كان على نقب من أنقاب المدينة-  و خرج الزبير و طلحة و عبد الله بن مسعود و غيرهم-  فكانوا على الأنقاب الثلاثة-  فلم يلبثوا إلا قليلا-  حتى طرق القوم المدينة غارة مع الليل-  و خلفوا بعضهم بذي حسى ليكونوا ردءا لهم-  فوافوا الأنقاب و عليها المسلمون-  فأرسلوا إلى أبي بكر بالخبر-  فأرسل إليهم أن الزموا مكانكم ففعلوا- 

و خرج أبو بكر في جمع من أهل المدينة على النواضح فانتشر العدو بين أيديهم-  و اتبعهم المسلمون على النواضح حتى بلغوا ذا حسى-  فخرج عليهم الكمين بأنحاء قد نفخوها-  و جعلوا فيها الحبال-  ثم دهدهوها بأرجلهم في وجوه الإبل-  فتدهده كل نحي منها في طوله فنفرت إبل المسلمين-  و هم عليها و لا تنفر الإبل من شي‏ء نفارها من الأنحاء-  فعاجت بهم لا يملكونها حتى دخلت بهم المدينة-  و لم يصرع منهم أحد و لم يصب-  فبات المسلمون تلك الليلة يتهيئون-  ثم خرجوا على تعبئة-  فما طلع الفجر إلا و هم و القوم على صعيد واحد-  فلم يسمعوا للمسلمين حسا و لا همسا-  حتى وضعوا فيهم السيف فاقتتلوا أعجاز ليلتهم-  فما ذر قرن الشمس إلا و قد ولوا الأدبار-  و غلبوهم على عامة ظهرهم-  و رجعوا إلى المدينة ظافرين- . قلت هذا هو الحديث الذي أشار ع-  إلى أنه نهض فيه أيام أبي بكر-  و كأنه جواب عن قول قائل إنه عمل لأبي بكر-  و جاهد بين يدي أبي بكر فبين ع عذره في ذلك-  و قال إنه لم يكن كما ظنه القائل-  و لكنه من باب دفع الضرر عن النفس و الدين-  فإنه واجب سواء كان للناس إمام أو لم يكن

ذكر ما طعن به الشيعة في إمامة أبي بكر و الجواب عنها

و ينبغي حيث جرى ذكر أبي بكر في كلام أمير المؤمنين ع-  أن نذكر ما أورده قاضي القضاة في المغني-  من المطاعن التي طعن بها فيه-  و جواب قاضي القضاة عنها-  و اعتراض المرتضى في الشافي على قاضي القضاة-  و نذكر ما عندنا في ذلك-  ثم نذكر مطاعن أخرى لم يذكرها قاضي القضاة- .

الطعن الأول

 قال قاضي القضاة-  بعد أن ذكر ما طعن به فيه في أمر فدك-  و قد سبق القول فيه-  و مما طعن به عليه قولهم-  كيف يصلح للإمامة-  من يخبر عن نفسه أن له شيطانا يعتريه-  و من يحذر الناس نفسه-  و من يقول أقيلوني بعد دخوله في الإمامة-  مع أنه لا يحل للإمام أن يقول أقيلوني البيعة- . أجاب قاضي القضاة فقال إن شيخنا أبا علي قال-  لو كان ذلك نقصا فيه لكان قول الله في آدم و حواء-  فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ-  و قوله فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ-  و قوله وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ-  إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ-  يوجب النقص في الأنبياء-  و إذا لم يجب ذلك فكذلك ما وصف به أبو بكر نفسه-  و إنما أراد أنه عند الغضب يشفق من المعصية و يحذر منها-  و يخاف أن يكون الشيطان يعتريه في تلك الحال-  فيوسوس إليه-  و ذلك منه على طريقة الزجر لنفسه عن المعاصي-  و قد روي عن أمير المؤمنين ع-  أنه ترك مخاصمة الناس في حقوقه-  إشفاقا من المعصية-  و كان يولي ذلك عقيلا-  فلما أسن عقيل كان يوليها عبد الله بن جعفر-  فأما ما روي في إقالة البيعة فهو خبر ضعيف-  و إن صح فالمراد به التنبيه على أنه لا يبالي لأمر-  يرجع إليه أن يقيله الناس البيعة-  و إنما يضرون بذلك أنفسهم-  و كأنه نبه بذلك‏على أنه غير مكره لهم-  و أنه قد خلاهم و ما يريدون إلا أن يعرض ما يوجب خلافه-  و قد روي أن أمير المؤمنين ع-  أقال عبد الله بن عمر البيعة حين استقاله-  و المراد بذلك أنه تركه و ما يختار- .

اعترض المرتضى رضي الله عنه فقال-  أما قول أبي بكر وليتكم و لست بخيركم-  فإن استقمت فاتبعوني و إن اعوججت فقوموني-  فإن لي شيطانا يعتريني عند غضبي-  فإذا رأيتموني مغضبا فاجتنبوني-  لا أؤثر في أشعاركم و أبشاركم-  فإنه يدل على أنه لا يصلح للإمامة من وجهين-  أحدهما أن هذا صفة من ليس بمعصوم-  و لا يأمن الغلط على نفسه-  من يحتاج إلى تقويم رعيته له إذا وقع في المعصية-  و قد بينا أن الإمام لا بد أن يكون معصوما موفقا مسددا-  و الوجه الآخر أن هذه صفة من لا يملك نفسه-  و لا يضبط غضبه-  و من هو في نهاية الطيش و الحدة و الخرق و العجلة-  و لا خلاف أن الإمام-  يجب أن يكون منزها عن هذه الأوصاف-  غير حاصل عليها و ليس يشبه قول أبي بكر-  ما تلاه من الآيات كلها-  لأن أبا بكر خبر عن نفسه بطاعة الشيطان عند الغضب-  و أن عادته بذلك جارية-  و ليس هذا بمنزلة من يوسوس إليه الشيطان و لا يطيعه-  و يزين له القبيح فلا يأتيه-  و ليس وسوسة الشيطان بعيب على الموسوس له-  إذا لم يستزله ذلك عن الصواب-  بل هو زيادة في التكليف-  و وجه يتضاعف معه الثواب-  و قوله تعالى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ-  قيل معناه في تلاوته-  و قيل في فكرته على سبيل الخاطر-  و أي الأمرين كان-  فلا عار في ذلك على النبي ص و لا نقص- 

و إنما العار و النقص على من يطيع الشيطان-  و يتبع ما يدعو إليه-  و ليس لأحد أن يقول-  هذا إن سلم لكم في جميع الآيات لم يسلم في قوله تعالى-  فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ-  لأنه قد خبر عن تأثير غوايته و وسوسته-  بما كان منهما من الفعل-  و ذلك أن المعنى الصحيح في هذه الآية أن آدم و حواء-  كانا مندوبين إلى اجتناب الشجرة و ترك التناول منها-  و لم يكن ذلك عليهما واجبا لازما- لأن الأنبياء لا يخلون بالواجب-  فوسوس لهما الشيطان حتى تناولا من الشجرة-  فتركا مندوبا إليه و حرما بذلك أنفسهما الثواب-  و سماه إزلالا-  لأنه حط لهما عن درجة الثواب و فعل الأفضل-  و قوله تعالى في موضع آخر-  وَ عَصى‏ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى‏-  لا ينافي هذا المعنى-  لأن المعصية قد يسمى بها من أخل بالواجب و الندب معا-  قوله فغوى-  أي خاب من حيث لم يستحق الثواب على ما ندب إليه على أن صاحب الكتاب يقول- 

إن هذه المعصية من آدم كانت صغيرة-  لا يستحق بها عقابا و لا ذما-  فعلى مذهبه أيضا-  تكون المفارقة بينه و بين أبي بكر ظاهرة-  لأن أبا بكر خبر عن نفسه أن الشيطان يعتريه-  حتى يؤثر في الأشعار و الأبشار-  و يأتي ما يستحق به التقويم-  فأين هذا من ذنب صغير لا ذم و لا عقاب عليه-  و هو يجري من وجه من الوجوه مجرى المباح-  لأنه لا يؤثر في أحوال فاعله و حط رتبته-  و ليس يجوز أن يكون ذلك منه-  على سبيل الخشية و الإشفاق على ما ظن-  لأن مفهوم خطابه يقتضي خلاف ذلك-  أ لا ترى أنه قال إن لي شيطانا يعتريني-  و هذا قول من قد عرف عادته-  و لو كان على سبيل الإشفاق و الخوف لخرج عن هذا المخرج-  و لكان يقول-  فإني آمن من كذا و إني لمشفق منه-  فأما ترك أمير المؤمنين ع مخاصمة الناس في حقوقه-  فكأنه إنما كان تنزها و تكرما-  و أي نسبة بين ذلك و بين من صرح و شهد على نفسه-  بما لا يليق بالأئمة-  و أما خبر استقالة البيعة و تضعيف صاحب الكتاب له-  فهو أبدا يضعف ما لا يوافقه-  من غير حجة يعتمدها في تضعيفه-  و قوله إنه ما استقال على التحقيق- 

و إنما نبه على أنه لا يبالي بخروج الأمر عنه-  و أنه غير مكره لهم عليه-  فبعيد من الصواب-  لأن ظاهر قوله أقيلوني أمر بالإقالة-  و أقل أحواله أن يكون عرضا لها و بذلا-  و كلا الأمرين قبيح-  و لو أراد ما ظنه لكان له  في غير هذا القول مندوحة-  و لكان يقول إني ما أكرهتكم و لا حملتكم على مبايعتي-  و ما كنت أبالي ألا يكون هذا الأمر في و لا إلي-  و إن مفارقته لتسرني-  لو لا ما ألزمنيه الدخول فيه من التمسك به-  و متى عدلنا عن ظواهر الكلام بلا دليل-  جر ذلك علينا ما لا قبل لنا به-  و أما أمير المؤمنين ع-  فإنه لم يقل ابن عمر البيعة بعد دخولها فيها-  و إنما استعفاه من أن يلزمه البيعة ابتداء-  فأعفاه قلة فكر فيه-  و علما بأن إمامته لا تثبت بمبايعة من يبايعه عليها-  فأين هذا من استقالة بيعة قد تقدمت و استقرت- .

قلت أما قول أبي بكر وليتكم و لست بخيركم-  فقد صدق عند كثير من أصحابنا-  لأن خيرهم علي بن أبي طالب ع-  و من لا يقول بذلك يقول بما قاله الحسن البصري-  و الله إنه ليعلم أنه خيرهم و لكن المؤمن يهضم نفسه-  و لم يطعن المرتضى فيه بهذه اللفظة لنطيل القول فيها-  و أما قول المرتضى عنه أنه قال-  فإن لي شيطانا يعتريني عند غضبى-  فالمشهور في الرواية فإن لي شيطانا يعتريني-  قال المفسرون أراد بالشيطان الغضب-  و سماه شيطانا على طريق الاستعارة-  و كذا ذكره شيخنا أبو الحسين في الغرر-  قال معاوية لإنسان غضب في حضرته-  فتكلم بما لا يتكلم بمثله في حضرة الخلفاء-  اربع على ظلعك أيها الإنسان- 

فإنما الغضب شيطان و أنا لم نقل إلا خيرا- . و قد ذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري-  في كتاب التاريخ الكبير-  خطبتي أبي بكر عقيب بيعته بالسقيفة-  و نحن نذكرهما نقلا من كتابه-  أما الخطبة الأولى فهي-  أما بعد أيها الناس فإني وليتكم و لست بخيركم-  فإن أحسنت فأعينوني و إن أسأت فقوموني-  لأن الصدق أمانة و الكذب خيانة-  الضعيف منكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه-  و القوي منكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه-  لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل-  و لا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء-  أطيعوني ما أطعت الله و رسوله-  فإذا عصيت الله و رسوله فلا طاعة لي عليكم-  قوموا إلى صلاتكم رحمكم الله و أما الخطبة الثانية فهي أيها الناس إنما أنا مثلكم-  و إني لا أدري لعلكم ستكلفونني-  ما كان رسول الله ص يطيقه- 

إن الله اصطفى محمدا ص على العالمين-  و عصمه من الآفات-  و إنما أنا متبع و لست بمتبوع-  فإن استقمت فاتبعوني و إن زغت فقوموني-  و إن رسول الله ص-  قبض و ليس أحد من هذه الأمة-  يطلبه بمظلمة ضربة سوط فما دونها-  ألا و إن لي شيطانا يعتريني-  فإذا غضبت فاجتنبوني لا أؤثر في أشعاركم و أبشاركم-  ألا و إنكم تغدون و تروحون في أجل قد غيب عنكم علمه-  فإن استطعتم ألا يمضي هذا الأجل-  إلا و أنتم في عمل صالح فافعلوا-  و لن تستطيعوا ذلك إلا بالله-  فسابقوا في مهل آجالكم-  من قبل أن تسلمكم آجالكم إلى انقطاع الأعمال-  فإن قوما نسوا آجالهم و جعلوا أعمالهم لغيرهم-  فأنهاكم أن تكونوا أمثالهم-  الجد الجد الوحا الوحا-  فإن وراءكم طالبا حثيثا-  أجل مره سريع احذروا الموت-  و اعتبروا بالآباء و الأبناء و الإخوان-  و لا تغبطوا الأحياء إلا بما يغبط به الأموات- . إن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما يراد به وجهه-  فأريدوا وجه الله بأعمالكم- 

و اعلمواأن ما أخلصتم لله من أعمالكم-  فلطاعة أتيتموها-  و حظ ظفرتم به و ضرائب أديتموها-  و سلف قدمتموه من أيام فانية لأخرى باقية-  لحين فقركم و حاجتكم-  فاعتبروا عباد الله بمن مات منكم-  و تفكروا فيمن كان قبلكم-  أين كانوا أمس و أين هم اليوم أين الجبارون-  أين الذين كان لهم ذكر القتال و الغلبة-  في مواطن الحرب-  قد تضعضع بهم الدهر و صاروا رميما-  قد تركت عليهم القالات الخبيثات-  و إنما الخبيثات للخبيثين و الخبيثون للخبيثات-  و أين الملوك الذين أثاروا الأرض و عمروها-  قد بعدوا بسيئ ذكرهم-  و بقي ذكرهم و صاروا كلا شي‏ء-  ألا إن الله قد أبقى عليهم التبعات-  و قطع عنهم الشهوات و مضوا-  و الأعمال أعمالهم و الدنيا دنيا غيرهم-  و بقينا خلفا من بعدهم-  فإن نحن اعتبرنا بهم نجونا-  و إن اغتررنا كنا مثلهم-  أين الوضاء الحسنة وجوههم المعجبون بشبابهم-  صاروا ترابا و صار ما فرطوا فيه حسرة عليهم-  أين الذين بنوا المدائن و حصنوها بالحوائط-  و جعلوا فيها العجائب و تركوها لمن خلفهم-  فتلك مساكنهم خاوية و هم في ظلم القبور-  هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا-  أين من تعرفون من آبائكم و إخوانكم-  قد انتهت بهم آجالهم فوردوا على ما قدموا عليه-  و أقاموا للشقوة و للسعادة-  إلا إن الله لا شريك له-  ليس بينه و بين أحد من خلقه سبب-  يعطيه به خيرا و لا يصرف عنه به شرا-  إلا بطاعته و اتباع أمره- 

و اعلموا أنكم عباد مدينون-  و أن ما عنده لا يدرك إلا بتقواه و عبادته-  ألا و إنه لا خير بخير بعده النار-  و لا شر بشر بعد الجنة- .فهذه خطبتا أبي بكر يوم السقيفة و اليوم الذي يليه-  إنما قال إن لي شيطانا يعتريني-  و أراد بالشيطان الغضب-  و لم يرد أن له شيطانا من مردة الجن-  يعتريه إذا غضب-  فالزيادة فيما ذكره المرتضى في قوله-  إن لي شيطانا يعتريني عند غضبي-  تحريف لا محالة-  و لو كان له شيطان من الجن يعتاده و ينوبه-  لكان في عداد المصروعين من المجانين-  و ما ادعى أحد على أبي بكر هذا-  لا من أوليائه و لا من أعدائه-  و إنما ذكرنا خطبته على طولها-  و المراد منها كلمة واحدة-  لما فيها من الفصاحة و الموعظة-  على عادتنا في الاعتناء بإيداع هذا الكتاب-  ما كان ذاهبا هذا المذهب و سالكا هذا السبيل- . فأما قول المرتضى فهذه صفة من ليس بمعصوم-  فالأمر كذلك و العصمة عندنا ليست شرطا في الإمامة-  و لو لم يدل على عدم اشتراطها-  إلا أنه قال على المنبر بحضور الصحابة هذا القول-  و أقروه على الإمامة-  لكفى في عدم كون العصمة شرطا-  لأنه قد حصل الإجماع على عدم اشتراط ذلك-  إذ لو كان شرطا لأنكر منكر إمامته كما لو قال- 

إني لا أصبر عن شرب الخمر و عن الزنا- . فأما قوله هذه صفة طائش لا يملك نفسه-  فلعمري إن أبا بكر كان حديدا و قد ذكره عمر بذلك-  و ذكره غيره من الصحابة بالحدة و السرعة-  و لكن لا بحيث أن تبطل به أهليته للإمامة-  لأن الذي يبطل الإمامة من ذلك-  و ما يخرج الإنسان عن العقل-  و أما ما هو دون ذلك فلا-  و ليس قوله فاجتنبوني لا أؤثر في أشعاركم و أبشاركم-  محمول على ظاهره-  و إنما أراد به المبالغة في وصف القوة الغضبية عنده-  و إلا فما سمعنا و لا نقل ناقل-  من الشيعة و لا من غير الشيعة-  أن أبا بكر في أيام رسول الله ص-  و لا في الجاهلية و لا في أيام خلافته-  احتد على إنسان-  فقام إليه فضربه بيده و مزق شعره- .

فأما ما حكاه قاضي القضاة عن الشيخ أبي علي-  من تشبيه هذه اللفظة بما ورد في القرآن-  فهو على تقدير أن يكون أبو بكر عنى الشيطان حقيقة-  و ما اعترض به المرتضى ثانية عليه غير لازم-  لأن الله تعالى قال فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ-  و تعقب ذلك قبولهما وسوسته و أكلهما من الشجرة-  فكيف يقول المرتضى-  ليس قول أبي بكر بمنزلة من وسوس له الشيطان فلم يطعه-  و كذلك قوله تعالى في قصة موسى لما قتل القبطي-  هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ-  و كذلك قوله فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها-  و قوله أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ-  و ما ذهب إليه المرتضى من التأويلات-  مبني على مذهبه في العصمة الكلية-  و هو مذهب يحتاج في نصرته إلى تكلف شديد-  و تعسف عظيم في تأويل الآيات-  على أنه إذا سلم أن الشيطان-  ألقى في تلاوة الرسول ص ما ليس من القرآن-  حتى ظنه السامعون كلاما من كلام الرسول-  فقد نقض دلالة التنفير المقتضية عنده في العصمة-  لأنه لا تنفير عنده أبلغ من تمكين الله الشيطان-  أن يخلط كلامه بكلامه و رسوله يؤديه إلى المكلفين-  حتى يعتقد السامعون كلهم أن الكلامين كلام واحد- .

و أما قوله إن آدم كان مندوبا-  إلى ألا يأكل من الشجرة لا محرم عليه أكلها-  و لفظة عصى إنما المراد بها خالف المندوب-  و لفظه غوى إنما المراد خاب-  من حيث لم يستحق الثواب على اعتماد ما ندب إليه-  فقول يدفعه ظاهر الآية لأن الصيغة صيغة النهي-  و هي قوله وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ-  و النهي عند المرتضى يقتضي التحريم لا محالة-  و ليس الأمر الذي قد يراد به الندب-  و قد يراد به الوجوب- . و أما قول شيخنا أبي علي-  إن كلام أبي بكر خرج مخرج الإشفاق و الحذر-  من المعصية عند الغضب فجيد- . و اعتراض المرتضى عليه-  بأنه ليس ظاهر اللفظ ذاك غير لازم-  لأن هذه عادة العرب-  يعبرون عن الأمر بما هو منه بسبب و سبيل-  كقولهم لا تدن من الأسد فيأكلك-  فليس أنهم قطعوا على الأكل عند الدنو-  و إنما المراد الحذر و الخوف-  و التوقع للأكل عند الدنو- .

 

و أما الكلام في قوله أقيلوني-  فلو صح الخبر لم يكن فيه مطعن عليه-  لأنه إنما أراد في اليوم الثاني اختبار حالهم في البيعة-  التي وقعت في اليوم الأول ليعلم وليه من عدوه منهم-  و قد روى جميع أصحاب السير أن أمير المؤمنين خطب في اليوم الثاني من بيعته-  فقال أيها الناس إنكم بايعتموني على السمع و الطاعة-  و أنا أعرض اليوم عليكم ما دعوتموني إليه أمس-  فإن أجبتم قعدت لكم و إلا فلا أجد على أحد-  و ليس بجيد قول المرتضى-  إنه لو كان يريد العرض و البذل-  لكان قد قال كذا و كذا-  فإن هذه مضايقة منه شديدة للألفاظ-  و لو شرعنا في مثل هذا لفسد أكثر ما يتكلم به الناس-  على أنا لو سلمنا أنه استقالهم البيعة حقيقة-  فلم قال المرتضى إن ذلك لا يجوز-  أ ليس يجوز للقاضي أن يستقيل من القضاء-  بعد توليته إياه و دخوله فيه-  فكذلك يجوز للإمام أن يستقيل من الإمامة-  إذا أنس من نفسه ضعفا عنها-  أو أنس من رعيته نبوة عنه-  أو أحس بفساد ينشأ في الأرض-  من جهة ولايته على الناس-  و من يذهب إلى أن الإمامة تكون بالاختيار-  كيف يمنع من جواز استقالة الإمام-  و طلبه إلى الأمة أن يختاروا غيره-  لعذر يعلمه من حال نفسه-  و إنما يمنع من ذلك المرتضى و أصحابه-  القائلون بأن الإمامة بالنص-  و إن الإمام محرم عليه ألا يقوم بالإمامة-  لأنه مأمور بالقيام بها لتعينه خاصة-  دون كل أحد من المكلفين-  و أصحاب الاختيار يقولون-  إذا لم يكن زيد إماما كان عمرو إماما عوضه-  لأنهم لا يعتبرون الشروط-  التي يعتبرها الإمامية من العصمة-  و أنه أفضل أهل عصره و أكثرهم ثوابا-  و أعلمهم و أشجعهم و غير ذلك من الشروط-  التي تقتضي تفرده و توحده بالأمر-  على أنه إذا جاز عندهم-  أن يترك الإمام الإمامة في الظاهر كما فعله الحسن-  و كما فعله غيره من الأئمة بعد الحسين ع للتقية-  جاز للإمام‏ على مذهب أصحاب الاختيار-  أن يترك الإمامة ظاهرا و باطنا-  لعذر يعلمه من حال نفسه أو حال رعيته

الطعن الثاني

قال قاضي القضاة بعد أن ذكر قول عمر كانت بيعة أبي بكر فلتة-  و قد تقدم منا القول في ذلك في أول هذا الكتاب-  و مما طعنوا به على أبي بكر أنه قال عند موته-  ليتني كنت سألت رسول الله ص عن ثلاثة-  فذكر في أحدها ليتني كنت سألته-  هل للأنصار في هذا الأمر حق-  قالوا و ذلك يدل على شكه في صحة بيعته-  و ربما قالوا قد روي أنه قال في مرضه-  ليتني كنت تركت بيت فاطمة لم أكشفه-  و ليتني في ظلة بني ساعدة كنت-  ضربت على يد أحد الرجلين-  فكان هو الأمير و كنت الوزير-  قالوا و ذلك يدل-  على ما روي من إقدامه على بيت فاطمة ع-  عند اجتماع علي ع و الزبير و غيرهما فيه-  و يدل على أنه كان يرى الفضل لغيره لا لنفسه- .

قال قاضي القضاة و الجواب أن قوله-  ليتني لا يدل على الشك فيما تمناه-  و قول إبراهيم ع-  رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى‏-  قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى‏ وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي-  أقوى من ذلك في الشبهة-  ثم حمل تمنيه على أنه أراد سماع شي‏ء مفصل-  أو أراد ليتني سألته عند الموت-  لقرب العهد لأن ما قرب عهده لا ينسى-  و يكون أردع للأنصار على ما حاولوه-  ثم قال على أنه ليس في ظاهره أنه تمنى أن‏ يسأل-  هل لهم حق في الإمامة أم لا-  لأن الإمامة قد يتعلق بها حقوق سواها-  ثم دفع الرواية المتعلقة ببيت فاطمة ع-  و قال فأما تمنيه أن يبايع غيره فلو ثبت لم يكن ذما-  لأن من اشتد التكليف عليه فهو يتمنى خلافه- .

اعترض المرتضى رحمه الله هذا الكلام فقال-  ليس يجوز أن يقول أبو بكر-  ليتني كنت سألت عن كذا-  إلا مع الشك و الشبهة-  لأن مع العلم و اليقين لا يجوز مثل هذا القول-  هكذا يقتضي الظاهر-  فأما قول إبراهيم ع-  فإنما ساغ أن يعدل عن ظاهره-  لأن الشك لا يجوز على الأنبياء و يجوز على غيرهم-  على أنه ع قد نفى عن نفسه الشك بقوله-  بَلى‏ وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي-  و قد قيل إن نمرود قال له-  إذا كنت تزعم أن لك ربا يحيي الموتى-  فاسأله أن يحيي لنا ميتا إن كان على ذلك قادرا-  فإن لم تفعل ذلك قتلتك-  فأراد بقوله وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي-  أي لآمن توعد عدوك لي بالقتل-  و قد يجوز أن يكون طلب ذلك لقومه-  و قد سألوه أن يرغب إلى الله تعالى فيه فقال-  ليطمئن قلبي إلى إجابتك لي-  و إلى إزاحة علة قومي-  و لم يرد ليطمئن قلبي إلى أنك تقدر على أن تحيي الموتى-  لأن قلبه قد كان بذلك مطمئنا-  و أي شي‏ء يريد أبو بكر من التفضيل أكثر من قوله-  إن هذا الأمر لا يصلح إلا لهذا الحي من قريش-  و أي فرق بين ما يقال عند الموت و بين ما يقال قبله-  إذا كان محفوظا معلوما-  لم ترفع كلمة و لم تنسخ- . و بعد فظاهر الكلام لا يقتضي هذا التخصيص-  و نحن مع الإطلاق و الظاهر-  و أي حق يجوز أن يكون للأنصار في الإمامة-  غير أن يتولاها رجل منهم حتى يجوز أن يكون الحق-  الذي تمنى أن يسأل عنه غير الإمامة-  و هل هذا إلا تعسف و تكلف-و أي شبهة تبقى بعد قول أبي بكر-  ليتني كنت سألته هل للأنصار في هذا الأمر حق-  فكنا لا ننازعه أهله-  و معلوم أن التنازع لم يقع بينهم-  إلا في الإمامة نفسها لا في حق آخر من حقوقها- .

فأما قوله إنا قد بينا أنه لم يكن منه في بيت فاطمة-  ما يوجب أن يتمنى أنه لم يفعله-  فقد بينا فساد ما ظنه فيما تقدم- . فأما قوله-  إن من اشتد التكليف عليه قد يتمنى خلافه-  فليس بصحيح-  لأن ولاية أبي بكر إذا كانت هي التي اقتضاها الدين-  و النظر للمسلمين في تلك الحال و ما عداها كان مفسدة-  و مؤديا إلى الفتنة-  فالتمني لخلافها لا يكون إلا قبيحا- . قلت أما قول قاضي القضاة-  إن هذا التمني لا يقتضي الشك-  في أن الإمامة لا تكون إلا في قريش-  كما أن قول إبراهيم وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي-  لا يقتضي الشك في أنه تعالى قادر على ذلك فجيد- .

فأما قول المرتضى-  إنما ساغ أن يعدل عن الظاهر في حق إبراهيم-  لأنه نبي معصوم لا يجوز عليه الشك-  فيقال له و كذلك ينبغي أن يعدل عن ظاهر كلام أبي بكر-  لأنه رجل مسلم عاقل-  فحسن الظن به-  يقتضي صيانة أفعاله و أقواله عن التناقض-  قوله إن إبراهيم قد نفى عن نفسه الشك بقوله-  بَلى‏ وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي-  قلنا إن أبا بكر قد نفى عن نفسه الشك-  بدفع الأنصار عن الإمامة و إثباتها في قريش خاصة-  فإن كانت لفظة بلى دافعة لشك إبراهيم-  الذي يقتضيه قوله وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي-  ففعل أبي بكر و قوله يوم السقيفة- يدفع الشك الذي يقتضيه قوله ليتني سألته-  و لا فرق في دفع الشك-  بين أن يتقدم الدافع أو يتأخر أو يقارن- . ثم يقال للمرتضى أ لست في هذا الكتاب-  و هو الشافي بينت أن قصة السقيفة لم يجر فيها ذكر نص-  عن رسول الله ص بأن الأئمة من قريش-  و أنه لم يكن هناك إلا احتجاج أبي بكر و عمر-  بأن قريشا أهل النبي ص و عشيرته-  و أن العرب لا تطيع غير قريش-  و ذكرت عن الزهري و غيره أن القول الصادر عن أبي بكر-  إن هذا الأمر لا يصلح إلا لهذا الحي من قريش-  ليس نصا مرويا عن رسول الله ص-  و إنما هو قول قاله أبو بكر من تلقاء نفسه-  و رويت في ذلك الروايات-  و نقلت من الكتب من تاريخ الطبري و غيره-  صورة الكلام و الجدال الدائر بينه و بين الأنصار-  فإذا كان هذا قولك فلم تنكر على أبي بكر قوله-  ليتني كنت سألت رسول الله ص-  هل للأنصار في هذا الأمر حق-  لأنه لم يسمع النص و لا رواه و لا روي له-  و إنما دفع الأنصار بنوع من الجدل-  فلا جرم بقي في نفسه شي‏ء من ذلك- 

و قال عند موته ليتني كنت سألت رسول الله ص-  و ليس ذلك مما يقتضي شكه في بيعته كما زعم الطاعن-  لأنه إنما يشك في بيعته-  لو كان قال قائل أو ذهب ذاهب-  إلى أن الإمامة ليست إلا في الأنصار-  و لم يقل أحد ذلك-  بل النزاع كان في هل الإمامة مقصورة على قريش خاصة-  أم هي فوضى بين الناس كلهم-  و إذا كانت الحال هذه-  لم يكن شاكا في إمامته و بيعته بقوله-  ليتني سألت رسول الله ص-  هل للأنصار في هذا حق-  لأن بيعته على كلا التقديرين تكون صحيحة- .

 

فأما قول قاضي القضاة-  لعله أراد حقا للأنصار غير الإمامة نفسها-  فليس بجيد و الذي اعترضه به المرتضى جيد-  فإن الكلام لا يدل إلا على الإمامة نفسها-  و لفظة المنازعة تؤكد ذلك- . و أما حديث الهجوم على بيت فاطمة ع-  فقد تقدم الكلام فيه-  و الظاهر عندي صحة ما يرويه المرتضى و الشيعة-  و لكن لا كل ما يزعمونه بل كان بعض ذلك-  و حق لأبي بكر أن يندم و يتأسف على ذلك-  و هذا يدل على قوة دينه و خوفه من الله تعالى-  فهو بأن يكون منقبة له أولى من كونه طعنا عليه- .

فأما قول قاضي القضاة-  إن من اشتد التكليف عليه فقد يتمنى خلافه-  و اعتراض المرتضى عليه-  فكلام قاضي القضاة أصح و أصوب-  لأن أبا بكر و إن كانت ولايته مصلحة-  و ولاية غير مفسدة-  فإنه ما يتمنى أن يكون الإمام غيره-  مع استلزام ذلك للمفسدة-  بل تمنى أن يلي الأمر غيره و تكون المصلحة بحالها-  أ لا ترى أن خصال الكفارة في اليمين-  كل واحدة منها مصلحة-  و ما عداها لا يقوم مقامها في المصلحة-  و أحدها يقوم مقام الأخرى في المصلحة-  فأبو بكر تمنى أن يلي الأمر عمر أو أبو عبيدة-  بشرط أن تكون المصلحة الدينية-  التي تحصل من بيعته-  حاصلة من بيعة كل واحد من الآخرين

الطعن الثالث

قالوا إنه ولي عمر الخلافة-  و لم يوله رسول الله ص شيئامن أعماله البتة-  إلا ما ولاه يوم خيبر فرجع منهزما-  و ولاه الصدقة فلما شكاه العباس عزله- . أجاب قاضي القضاة بأن تركه ع أن يوليه-  لا يدل على أنه لا يصلح لذلك-  و توليته إياه لا يدل على صلاحيته للإمامة-  فإنه ص قد ولى خالد بن الوليد و عمرو بن العاص-  و لم يدل ذلك على صلاحيتهما للإمامة-  و كذلك تركه أن يولي لا يدل على أنه غير صالح-  بل المعتبر بالصفات التي تصلح للإمامة-  فإذا كملت صلح لذلك ولي من قبل أو لم يول-  و قد ثبت أن النبي ص-  ترك أن يولي أمير المؤمنين ع أمورا كثيرة-  و لم يجب إلا من يصلح لها-  و ثبت أن أمير المؤمنين ع لم يول الحسين ع ابنه-  و لم يمنع ذلك من أن يصلح للإمامة-  و حكي عن أبي علي-  أن ذلك إنما كان يصح أن يتعلق به-  لو ظفروا بتقصير من عمر فيما تولاه-  فأما و أحواله معروفة في قيامه بالأمر-  حين يعجز غيره فكيف يصح ما قالوه-  و بعد فهلا دل ما روي من قوله-  و إن تولوا عمر تجدوه قويا في أمر الله-  قويا في بدنه على جواز ذلك-  و إن ترك النبي ص توليته-  لأن هذا القول أقوى من الفعل- .

اعترض المرتضى رحمه الله فقال-  قد علمنا بالعادة أن من ترشح لكبار الأمور-  لا بد من أن يدرج إليها بصغارها-  لأن من يريد بعض الملوك تأهيله للأمر من بعده-  لا بد من أن ينبه عليه بكل قول و فعل-  يدل على ترشيحه لهذه المنزلة-  و يستكفيه من أمور ولاياته ما يعلم عنده-  أو يغلب على ظنه صلاحه لما يريده له-  و إن من يرى الملك مع حضوره و امتداد الزمان و تطاوله-  لا يستكفيه شيئا من الولايات-  و متى ولاه عزله-  و إنما يولي غيره و يستكفي سواه-  لا بد أن يغلب في الظن أنه ليس بأهل للولاية-  و إن جوزنا أنه لم يوله لأسباب كثيرة-  سوى أنه لا يصلح للولاية-  إلا أن مع هذا التجويز-  لا بد أن يغلب على الظن بما ذكرناه-  فأما خالد و عمرو فإنما لم يصلحا للإمامة-  لفقد شروط الإمامة فيهما-  و إن كانا يصلحان لما ولياه من الإمارة-  فترك الولاية مع امتداد الزمان و تطاول الأيام-  و جميع الشروط التي ذكرناها-  تقتضي غلبه الظن لفقد الصلاح-  و الولاية لشي‏ء لا تدل على الصلاح لغيره-  إذا كانت الشرائط في القيام بذلك الغير معلوما فقدها-  و قد نجد الملك يولي بعض أموره-  من لا يصلح للملك بعده لظهور فقد الشرائط فيه-  و لا يجوز أن يكون بحضرته من يرشحه للملك بعده-  ثم لا يوليه على تطاول الزمان شيئا من الولايات-  فبان الفرق بين الولاية و تركها فيما ذكرناه- . فأما أمير المؤمنين ع-  و إن يتول جميع أمور النبي ص في حياته-  فقد تولى أكثرها و أعظمها و خلفه في المدينة-  و كان الأمير على الجيش المبعوث إلى خيبر-  و جرى الفتح على يديه بعد انهزام من انهزم منها-  و كان المؤدي عنه سورة براءة-  بعد عزل من عزل عنها و ارتجاعها منه-  إلى غير ذلك من عظيم الولايات و المقامات-  بما يطول شرحه-  و لو لم يكن إلا أنه لم يول عليه واليا قط لكفى- .

فأما اعتراضه بأن أمير المؤمنين ع-  لم يول الحسين فبعيد عن الصواب-  لأن أيام أمير المؤمنين ع لم تطل-  فيتمكن فيها من مراداته-  و كانت على قصرها منقسمة بين قتال الأعداء-  لأنه ع لما بويع لم يلبث أن خرج عليه أهل البصرة-  فاحتاج إلى قتالهم-  ثم انكفأ من قتالهم إلى قتال أهل الشام-  و تعقب ذلك قتال أهل النهروان-  و لم تستقر به الدار و لا امتد به الزمان-  و هذا بخلاف أيام النبي ص-  التي تطاولت و امتدت-  على أنه قد نص عليه بالإمامة بعد أخيه الحسن-  و إنما تطلب الولايات لغلبة الظن بالصلاح للإمامة- . فإن كان هناك وجه يقتضي العلم بالصلاح لها-  كان أولى من طريق الظن-  على أنه‏ لا خلاف بين المسلمين-  أن الحسين ع كان يصلح للإمامة-  و إن لم يوله أبوه الولايات-  و في مثل ذلك خلاف من حال عمر فافترق الأمران-  فأما قوله إنه لم يعثر على عمر بتقصير في الولاية-  فمن سلم بذلك-  أ و ليس يعلم أن مخالفته تعد تقصيرا كثيرا-  و لو لم يكن إلا ما اتفق عليه من خطئه في الأحكام-  و رجوعه من قول إلى غيره-  و استفتائه الناس في الصغير و الكبير-  و قوله كل الناس أفقه من عمر لكان فيه كفاية-  و ليس كل النهوض بالإمامة-  يرجع إلى حسن التدبير و السياسة الدنياوية-  و رم الأعمال و الاستظهار في جباية الأموال-  و تمصير الأمصار و وضع الأعشار-  بل حظ الإمامة من العلم بالأحكام-  و الفتيا بالحلال و الحرام-  و الناسخ و المنسوخ و المحكم و المتشابه أقوى-  فمن قصر في هذا لم ينفعه أن يكون كاملا في ذلك- .

فأما قوله فهلا دل ما روي من  قوله ع فإن وليتم عمر-  وجدتموه قويا في أمر الله قويا في بدنه-  فهذا لو ثبت لدل و قد تقدم القول عليه-  و أقوى ما يبطله عدول أبي بكر عن ذكره-  و الاحتجاج به لما أراد النص على عمر-  فعوتب على ذلك و قيل له-  ما تقول لربك إذ وليت علينا فظا غليظا-  فلو كان صحيحا لكان يحتج به و يقول-  وليت عليكم من شهد النبي ص-  بأنه قوي في أمر الله قوي في بدنه-  و قد قيل في الطعن على صحة هذا الخبر-  إن ظاهره يقتضي تفضيل عمر على أبي بكر-  و الإجماع بخلاف ذلك لأن القوة في الجسم فضل-  قال الله تعالى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ-  وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ-  و بعد فكيف يعارض ما اعتمدناه-  من عدوله ع عن ولايته-  و هو أمر معلوم-  بهذا الخبر المردود المدفوع- . قلت أما ما ادعاه من عادة الملوك فالأمر بخلافه-  فإنا قد وقفنا على سير الأكاسرة و ملوك الروم و غيرهم-  فما سمعنا أن أحدا منهم رشح ولده‏ للملك بعده-  باستعماله على طرف من الأطراف و لا جيش من الجيوش-  و إنما كانوا يثقفونهم بالآداب و الفروسية-  في مقار ملكهم لا غير-  و الحال في ملوك الإسلام كذلك-  فقد سمعنا بالدولة الأموية-  و رأينا الدولة العباسية-  فلم نعرف الدولة التي ادعاها المرتضى- 

و إنما قد يقع في الأقل النادر شي‏ء مما أشار إليه-  و الأغلب الأكثر خلاف ذلك-  على أن أصحابنا لا يقولون إن عمر كان مرشحا للخلافة-  بعد رسول الله ص ليقال لهم-  فلو كان قد رشحه للخلافة بعده-  لاستكفاه كثيرا من أموره-  و إنما عمر مرشح عندهم-  في أيام أبي بكر للخلافة بعد أبي بكر-  و قد كان أبو بكر استعمله على القضاء مدة خلافته-  بل كان هو الخليفة في المعنى-  لأنه فوض إليه أكثر التدبير-  فعلى هذا يكون قد سلمنا-  أن ترك استعمال النبي ص لعمر-  يدل على أنه غير مرشح في نظره للخلافة بعده-  و كذلك نقول و لا يلزم من ذلك-  ألا يكون خليفة بعد أبي بكر على أنا لا نسلم أنه ما استعمله-  فقد ذكر الواقدي و ابن إسحاق-  أنه بعثه في سرية في سنة سبع من الهجرة-  إلى الوادي المعروف ببرمة بضم الباء و فتح الراء-  و بها جمع من هوازن-  فخرج و معه دليل من بني هلال-  و كانوا يسيرون الليل و يكمنون النهار-  و أتى الخبر هوازن فهربوا-  و جاء عمر محالهم فلم يلق منهم أحدا-  فانصرف إلى المدينة- .

ثم يعارض المرتضى بما ذكره قاضي القضاة-  من ترك تولية علي ابنه الحسين ع-  و قوله في العذر عن ذلك-  إن عليا ع كان ممنوا-  بحرب البغاة و الخوارج لا يدفع المعارضة-  لأن تلك الأيام التي هي أيام حروبه مع هؤلاء-  هي الأيام التي كان ينبغي أن يولي الحسين ع-  بعض الأمور فيها-  كاستعماله على جيش ينفذه سرية إلى بعض الجهات-  و استعماله على الكوفة بعد خروجه منها إلى حرب صفين-  أو استعماله على القضاء-و ليس اشتغاله بالحرب بمانع له عن ولاية ولده-  و قد كان مشتغلا بالحرب-  و هو يولي بني عمه العباس الولايات و البلاد الجليلة فأما قوله-  على أنه قد نص عليه بالإمامة بعد أخيه الحسن-  فهذا يغني عن توليته شيئا من الأعمال-  فلقائل أن يمنع ما ذكره من حديث النص-  فإنه أمر تنفرد به الشيعة-  و أكثر أرباب السير و التواريخ لا يذكرون-  أن أمير المؤمنين ع نص على أحد-  ثم إن ساغ له ذلك ساغ لقاضي القضاة أن يقول-  إن  قول النبي ص اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر و عمر-  يغني عن تولية عمر شيئا من الولايات-  لأن هذا القول آكد من الولاية في ترشحه للخلافة- .

فأما قوله على أنه لا خلاف بين المسلمين-  في صلاحية الحسين للخلافة-  و إن لم يوله أبوه الولايات-  و في عمر خلاف ظاهر بين المسلمين-  فلقائل أن يقول له-  إجماع المسلمين على صلاحية الحسين للخلافة-  لا يدفع المعارضة بل يؤكدها-  لأنه إذا كان المسلمون-  قد أجمعوا على صلاحيته للخلافة-  و لم يكن ترك تولية أبيه إياه الولايات-  قادحا في صلاحيته لها بعده-  جاز أيضا أن يكون ترك تولية رسول الله ص-  عمر الولايات في حياته-  غير قادح في صلاحيته للخلافة بعده- . ثم ما ذكره من تقصير عمر في الخلافة-  بطريق اختلاف أحكامه و رجوعه إلى فتاوى العلماء-  فقد ذكرنا ذلك فيما تقدم-  لما تكلمنا في مطاعن الشيعة على عمر و أجبنا عنه- .

و أما قوله لا يغني حسن التدبير و السياسة و رم الأمور-  مر القصور في الفقه-  فأصحابنا يذهبون-  إلى أنه إذا تساوى اثنان في خصال الإمامة-  إلا أنه كان أحدهما أعلم و الآخرأسوس-  فإن الأسوس أولى بالإمامة-  لأن حاجة الإمامة إلى السياسة و حسن التدبير-  آكد من حاجتها إلى العلم و الفقه- . و أما الخبر المروي في عمر-  و هو قوله و إن تولوها عمر-  فيجوز ألا يكون أبو بكر سمعه من رسول الله ص-  و يكون الراوي له غيره-  و يجوز أن يكون سمعه و شذ عنه-  أن يحتج به على طلحة لما أنكر استخلاف عمر-  و يجوز ألا يكون شذ عنه و ترك الاحتجاج به-  استغناء عنه لعلمه أن طلحة لا يعتد بقوله-  عند الناس إذا عارض قوله-  و لعله كنى عن هذا النص بقوله-  إذا سألني ربي قلت له-  استخلفت عليهم خير أهلك-  على أنا متى فتحنا باب هلا احتج فلان بكذا-  جر علينا ما لا قبل لنا به-  و قيل هلا احتج علي ع على-  طلحة و عائشة و الزبير-  بقول رسول الله ص من كنت مولاه فهذا علي مولاه-  و هلا احتج عليهم بقوله أنت مني بمنزله هارون من موسى-  و لا يمكن الشيعة أن يعتذروا هاهنا بالتقية-  لأن السيوف كانت قد سلت من الفريقين-  و لم يكن مقام تقية- .

و أما قوله هذا الخبر لو صح-  لاقتضى أن يكون عمر أفضل من أبي بكر-  و هو خلاف إجماع المسلمين-  فلقائل أن يقول لم قلت إن المسلمين أجمعوا-  على أن أبا بكر أفضل من عمر-  مع أن كتب الكلام و التصانيف المصنفة في المقالات-  مشحونة بذكر الفرقة العمرية-  و هم القائلون إن عمر أفضل من أبي بكر-  و هي طائفة عظيمة من المسلمين-  يقال إن عبد الله بن مسعود منهم-  و قد رأيت أن جماعة من الفقهاء يذهبون إلى هذا-  و يناظرون عليه-  على أنه لا يدل الخبر على ما ذكره المرتضى-  لأنه و إن كان عمر أفضل منه باعتبار قوة البدن-  فلا يدل على أنه أفضل منه مطلقا-  فمن الجائز أن يكون بإزاء هذه الخصلة-  خصال كثيرة في أبي بكر من خصال الخير-  يفضل بها على عمر-أ لا ترى أنا نقول أبو دجانة أفضل من أبي بكر-  بجهاده بالسيف في مقام الحرب-  و لا يلزم من ذلك أن يكون أفضل منه مطلقا-  لأن في أبي بكر من خصال الفضل-  ما إذا قيس بهذه الخصلة-  أربى عليها أضعافا مضاعفة

الطعن الرابع

قالوا إن أبا بكر كان في جيش أسامة-  و إن رسول الله ص-  كرر حين موته الأمر بتنفيذ جيش أسامة-  فتأخره يقتضي مخالفة الرسول ص-  فإن قلتم إنه لم يكن في الجيش-  قيل لكم لا شك أن عمر بن الخطاب كان في الجيش-  و أنه حبسه و منعه من النفوذ مع القوم-  و هذا كالأول في أنه معصية-  و ربما قالوا إنه ص-  جعل هؤلاء القوم في جيش أسامة-  ليبعدوا بعد وفاته عن المدينة-  فلا يقع منهم توثب على الإمامة-  و لذلك لم يجعل أمير المؤمنين ع في ذلك الجيش-  و جعل فيه أبا بكر و عمر و عثمان و غيرهم-  و ذلك من أوكد الدلالة-  على أنه لم يرد أن يختاروا للإمامة- .

أجاب قاضي القضاة-  بأن أنكر أولا أن يكون أبو بكر في جيش أسامة-  و أحال على كتب المغازي-  ثم سلم ذلك و قال إن الأمر لا يقتضي الفور-  فلا يلزم من تأخر أبي بكر عن النفوذ أن يكون عاصيا-  ثم قال إن خطابه ص بتنفيذ الجيش-  يجب أن يكون متوجها إلى القائم بعده-  لأنه من خطاب الأئمة-  و هذا يقتضي ألا يدخل المخاطب بالتنفيذ في الجملة-  ثم قال-  و هذا يدل على أنه لم يكن هناك إمام منصوص عليه-  لأنه لو كان لأقبل بالخطاب عليه-  و خصه بالأمر بالتنفيذ دون الجميع-ثم ذكر أن أمر رسول الله ص-  لا بد أن يكون مشروطا بالمصلحة-  و بأن لا يعرض ما هو أهم منه-  لأنه لا يجوز أن يأمرهم بالنفوذ-  و إن أعقب ضررا في الدين-  ثم قوى ذلك بأنه لم ينكر على أسامة تأخره- 

و قوله لم أكن لأسأل عنك الركب-  ثم قال لو كان الإمام منصوصا عليه-  لجاز أن يسترد جيش أسامة أو بعضه لنصرته-  و كذلك إذا كان بالاختيار-  ثم حكى عن الشيخ أبي علي استدلاله-  على أن أبا بكر لم يكن في جيش أسامة-  بأنه ولاه الصلاة في مرضه-  مع تكريره أمر الجيش بالنفوذ و الخروج- . ثم ذكر أن الرسول ص-  إنما يأمر بما يتعلق بمصالح الدنيا-  من الحروب و نحوها عن اجتهاده-  و ليس بواجب أن يكون ذلك عن وحي-  كما يجب في الأحكام الشرعية-  و أن اجتهاده يجوز أن يخالف بعد وفاته-  و إن لم يجز في حياته-  لأن اجتهاده في الحياة أولى من اجتهاد غيره-  ثم ذكر أن العلة في احتباس عمر عن الجيش-  حاجة أبي بكر إليه و قيامه بما لا يقوم به غيره-  و أن ذلك أحوط للدين من نفوذه- . ثم ذكر أن أمير المؤمنين ع حارب معاوية-  بأمر الله تعالى و أمر رسوله-  و مع هذا فقد ترك محاربته في بعض الأوقات-  و لم يجب بذلك ألا يكون متمثلا للأمر-  و ذكر توليته ع أبا موسى-  و تولية الرسول ص خالد بن الوليد-  مع ما جرى منهما و أن ذلك يقتضي الشرط- .

ثم ذكر أن من يصلح للإمامة ممن ضمه جيش أسامة-  يجب تأخيره ليختار للإمامة أحدهم-  فإن ذلك أهم من نفوذهم-  فإذا جاز لهذه العلة التأخير قبل العقد-  جاز التأخير بعده للمعاضدة و غيرها-  و طعن في قول من جعل أن إخراجهم في الجيش-  على جهة الإبعاد لهم عن المدينة بأن قال-  إن بعدهم عن المدينة-  لا يمنع من أن يختاروا للإمامة-و لأنه ع لم يكن قاطعا على موته لا محالة-  لأنه لم يردنفذوا جيش أسامة في حياتي-  ثم ذكر أن ولاية أسامة عليهما-  لا تقتضي فضله و أنهما دونه-  و ذكر ولاية عمرو بن العاص عليهما-  و إن لم يكونا دونه في الفضل-  و أن أحدا لم يفضل أسامة عليهما ثم ذكر أن السبب في كون عمر من جملة جيش أسامة-  أن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي-  قال عند ولاية أسامة-  تولى علينا شاب حدث و نحن مشيخة قريش-  فقال عمر يا رسول الله مرني حتى أضرب عنقه-  فقد طعن في تأميرك إياه-  ثم قال أنا أخرج في جيش أسامة-  تواضعا و تعظيما لأمره ع- .

اعترض المرتضى هذه الأجوبة فقال-  أما كون أبي بكر في جملة جيش أسامة فظاهر-  قد ذكره أصحاب السير و التواريخ-  و قد روى البلاذري في تاريخه-  و هو معروف بالثقة و الضبط-  و بري‏ء من ممالاة الشيعة و مقاربتها-  أن أبا بكر و عمر معا كانا في جيش أسامة-  و الإنكار لما يجري هذا المجرى لا يغني شيئا-  و قد كان يجب على من أحال بذلك-  على كتب المغازي في الجملة-  أن يومئ إلى الكتاب المتضمن لذلك بعينه ليرجع إليه-  فأما خطابه ع بالتنفيذ للجيش-  فالمقصود به الفور دون التراخي-  إما من حيث مقتضى الأمر على مذهب من يرى ذلك لغة-  و إما شرعا من حيث وجدنا جميع الأمة-  من لدن الصحابة إلى هذا الوقت-  يحملون أوامره على الفور-  و يطلبون في تراخيها الأدلة-  ثم لو لم يثبت كل ذلك لكان قول أسامة-  لم أكن لأسأل عنك الركب-  أوضح دليل على أنه عقل من الأمر الفور-  لأن سؤال الركب عنه ع بعد وفاته لا معنى له- .

 و أما قول صاحب الكتاب-  إنه لم ينكر على أسامة تأخره فليس بشي‏ء-  و أي إنكار أبلغ من تكراره الأمر-  و ترداده القول في حال يشغل عن المهم-  و يقطع الفكر إلا فيها-  و قد كرر الأمر على المأمور تارة بتكرار الأمر-  و أخرى بغيره-  و إذا سلمنا أن أمره ع-  كان متوجها إلى القائم بعده بالأمر لتنفيذ الجيش بعد الوفاة-  لم يلزم ما ذكره من خروج المخاطب بالتنفيذ عن الجملة-  و كيف يصح ذلك و هو من جملة الجيش-  و الأمر متضمن تنفيذ الجيش-  فلا بد من نفوذ كل من كان في جملته-  لأن تأخر بعضهم-  يسلب النافذين اسم الجيش على الإطلاق-  أ و ليس من مذهب صاحب الكتاب-  أن الأمر بالشي‏ء أمر بما لا يتم إلا معه-  و قد اعتمد على هذا في مواضع كثيرة-  فإن كان خروج الجيش و نفوذه لا يتم إلا بخروج أبي بكر-  فالأمر بخروج الجيش أمر لأبي بكر بالنفوذ و الخروج-  و كذلك لو أقبل عليه على سبيل التخصيص-  و قال نفذوا جيش أسامة-  و كان هو من جملة الجيش-  فلا بد أن يكون ذلك أمرا له بالخروج-  و استدلاله على أنه لم يكن هناك إمام منصوص عليه-  بعموم الأمر بالتنفيذ ليس بصحيح-  لأنا قد بينا أن الخطاب إنما توجه إلى الحاضرين-  و لم يتوجه إلى الإمام بعده-  على أن هذا لازم له-  لأن الإمام بعده لا يكون إلا واحدا-  فلم عمم الخطاب و لم يفرد به الواحد فيقول-  لينفذ القائم من بعدي بالأمر جيش أسامة-  فإن الحال لا يختلف في كون الإمام بعده واحدا-  بين أن يكون منصوصا عليه أو مختارا- .

و أما ما ادعاه أن الشرط في أمره ع لهم بالنفوذ-  فباطل لأن إطلاق الأمر يمنع من إثبات الشرط-  و إنما يثبت من الشروط ما يقتضي الدليل إثباته-  من التمكن و القدرة-  لأن ذلك شرط ثابت في كل أمر ورد من حكيم-  و المصلحة بخلاف ذلك لأن الحكيم لا يأمر بشرط المصلحة-  بل إطلاق الأمر منه يقتضي ثبوت المصلحة-  و انتفاء المفسدة-  و ليس كذلك التمكن و ما يجري مجراه-  و لهذا لا يشترط أحد في أوامر الله تعالى و رسوله ص-  بالشرائع المصلحة و انتفاء المفسدة-  و شرطوا في ذلك التمكن و رفع التعذر-  و لو كان الإمام منصوصا عليه بعينه و اسمه-  لما جاز أن يسترد جيش أسامة بخلاف ما ظنه-  و لا يعزل من ولاه ع و لا يولي من عزله للعلة التي ذكرناها- . فأما استدلال أبي علي على أن أبا بكر-  لم يكن في الجيش بحديث الصلاة-  فأول ما فيه أنه اعتراف بأن الأمر بتنفيذ الجيش-  كان في الحياة دون بعد الوفاة-  و هذا ناقض لما بنى صاحب الكتاب عليه أمره ع- .

ثم إنا قد بينا أنه ع لم يوله الصلاة-  و ذكرنا ما في ذلك-  ثم ما المانع من أن يوليه تلك الصلاة إن كان ولاه إياها-  ثم يأمره بالنفوذ من بعد مع الجيش-  فإن الأمر بالصلاة في تلك الحال-  لا يقتضي أمره بها على التأبيد- . و أما ادعاؤه أن النبي ص يأمر بالحروب-  و ما يتصل بها عن اجتهاد دون الوحي-  فمعاذ الله أن يكون صحيحا-  لأن حروبه ع لم تكن مما يختص بمصالح أمور الدنيا-  بل للدين فيها أقوى تعلق لما يعود على الإسلام و أهله-  بفتوحه من العز و القوة و علو الكلمة-  و ليس يجري ذلك مجرى أكله و شربه و نومه-  لأن ذلك لا تعلق له بالدين-  فيجوز أن يكون عن رأيه-  و لو جاز أن تكون مغازيه و بعوثه-  مع التعلق القوي لها بالدين عن اجتهاد-  لجاز ذلك في الأحكام- .

ثم لو كان ذلك عن اجتهاد-  لما ساغت مخالفته فيه بعد وفاته-  كما لا تسوغ في حياته-  فكل علة تمنع من أحد الأمرين هي مانعة من الآخر-  فأما الاعتذار له عن حبس عمر عن الجيش-  بما ذكره فباطل لأنا قد قلنا-  إن ما يأمر به ع لا يسوغ مخالفته مع الإمكان-  و لا مراعاة لما عساه يعرض فيه من رأي غيره-  و أي حاجة إلى عمر بعد تمام العقد-  و استقراره و رضا الأمة به-  على طريق المخالف و إجماعها عليه-  و لم يكن‏ هناك فتنة و لا تنازع-  و لا اختلاف يحتاج فيه إلى مشاورته و تدبيره-  و كل هذا تعلل باطل- . فأما محاربة أمير المؤمنين ع معاوية-  فإنما كان مأمورا بها مع التمكن و وجود الأنصار-  و قد فعل ع من ذلك ما وجب عليه لما تمكن منه-  فأما مع التعذر و فقد الأنصار فما كان مأمورا بها-  و ليس كذلك القول في جيش أسامة-  لأن تأخر من تأخر عنه كان مع القدرة و التمكن-  فأما تولية أبي موسى فلا ندري كيف يشبه ما نحن فيه-  لأنه إنما ولاه بأن يرجع إلى كتاب الله تعالى-  فيحكم فيه و في خصمه بما يقتضيه-  و أبو موسى فعل خلاف ما جعل إليه-  فلم يكن ممتثلا لأمر من ولاه-  و كذلك خالد بن الوليد-  إنما خالف ما أمره به الرسول ص فتبرأ من فعله-  و كل هذا لا يشبه أمره ع-  بتنفيذ جيش أسامة أمرا مطلقا-  و تأكيده ذلك و تكراره له-  فأما جيش أسامة فإنه لم يضم من يصلح للإمامة-  فيجوز تأخرهم ليختار أحدهم على ما ظنه صاحب الكتاب-  على أن ذلك لو صح أيضا لم يكن عذرا في التأخر-  لأن من خرج في الجيش-  يمكن أن يختار و إن كان بعيدا-  و لا يمنع بعده من صحة الاختيار-  و قد صرح صاحب الكتاب بذلك-  ثم لو صح هذا العذر لكان عذرا في التأخر قبل العقد-  فأما بعد إبرامه فلا عذر فيه-  و المعاضدة التي ادعاها قد بينا ما فيها- .

فأما ادعاء صاحب الكتاب-  رادا على من جعل إخراج القوم في الجيش ليتم أمر النص-  أن من أبعدهم لا يمنع أن يختاروا للإمامة-  فيدل على أنه لم يتبين معنى هذا الطعن على حقيقته-  لأن الطاعن به لا يقول إنه أبعدهم-  لئلا يختاروا للإمامة-  و إنما يقول-  إنه أبعدهم حتى ينتصب بعده في الأرض من نص عليه-  و لا يكون هناك من ينازعه و يخالفه‏

 و أما قوله لم يكن قاطعا علي موته فلا يضر تسليمه-  أ ليس كان مشفقا و خائفا-  و على الخائف أن يتحرز ممن يخاف منه-  فأما قوله فإنه لم يرد-  نفذوا الجيش في حياتي فقد بينا ما فيه-  فأما ولاية أسامة على من ولي عليه-  فلا بد من اقتضائها لفضله على الجماعة-  فيما كان واليا فيه-  و قد دللنا فيما تقدم من الكتاب-  على أن ولاية المفضول على الفاضل-  فيما كان أفضل منه فيه قبيحة-  فكذلك القول في ولاية عمرو بن العاص عليها فيما تقدم-  و القول في الأمرين واحد- .

و قوله إن أحدا لم يدع فضل أسامة على أبي بكر و عمر-  فليس الأمر علي ما ظنه-  لأن من ذهب إلى فساد إمامة المفضول-  لا بد من أن يفضل أسامة عليهما فيما كان واليا فيه-  فأما ادعاؤه ما ذكره من السبب-  في دخول عمر في الجيش فما نعرفه-  و لا وقفنا عليه إلا من كتابه ثم لو صح لم يغن شيئا-  لأن عمر لو كان أفضل من أسامة-  لمنعه الرسول ص من الدخول في إمارته-  و المسير تحت لوائه-  و التواضع لا يقتضي فعل القبيح- . قلت إن الكلام في هذا الفصل قد تشعب شعبا كثيرة-  و المرتضى رحمه الله لا يورد كلام قاضي القضاة بنصه-  و إنما يختصره و يورده مبتورا-  و يومئ إلى المعاني إيماء لطيفا و غرضه الإيجاز-  و لو أورد كلام قاضي القضاة بنصه لكان أليق-  و كان أبعد عن الظنة و أدفع لقول قائل من خصومه-  إنه يحرف كلام قاضي القضاة و يذكر على غير وجه-  أ لا ترى أن من نصب نفسه لاختصار كلام-  فقد ضمن على نفسه أنه قد فهم معاني ذلك الكلام-  حتى يصح منه اختصاره-  و من الجائز أن يظن أنه قد فهم بعض المواضع-  و لم يكن قد فهمه على الحقيقة-  فيختصر ما في نفسه لا ما في تصنيف ذلك الشخص-  و أما من يورد كلام الناس بنصه-  فقد استراح من هذه التبعة-  و عرض عقل غيره و عقل نفسه على الناظرين و السامعين- . ثم نقول إن هذا الفصل ينقسم أقساما-  منها قول قاضي القضاة-  لا نسلم أن أبا بكر كان في جيش أسامة- .

و أما قول المرتضى-  إنه قد ذكره أرباب السير و التواريخ-  و قوله إن البلاذري ذكره في تاريخه-  و قوله هلا عين قاضي القضاة الكتاب-  الذي ذكر أنه يتضمن عدم كون أبي بكر في ذلك الجيش-  فإن الأمر عندي في هذا الموضع مشتبه-  و التواريخ مختلفة في هذه القضية-  فمنهم من يقول إن أبا بكر كان في جملة الجيش-  و منهم من يقول إنه لم يكن-  و ما أشار إليه قاضي القضاة بقوله في كتب المغازي-  لا ينتهي إلى أمر صحيح-  و لم يكن ممن يستحل القول بالباطل في دينه و لا في رئاسته-  ذكر الواقدي في كتاب المغازي-  أن أبا بكر لم يكن في جيش أسامة-  و إنما كان عمر و أبو عبيدة و سعد بن أبي وقاص-  و سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل-  و قتادة بن النعمان و سلمة بن أسلم-  و رجال كثير من المهاجرين و الأنصار-  قال و كان المنكر لإمارة أسامة عياش بن أبي ربيعة-  و غير الواقدي يقول عبد الله بن عياش-  و قد قيل عبد الله بن أبي ربيعة أخو عياش- .

و قال الواقدي-  و جاء عمر بن الخطاب فودع رسول الله ص ليسير مع أسامة-  و قال و جاء أبو بكر فقال يا رسول الله-  أصبحت مفيقا بحمد الله-  و اليوم يوم ابنة خارجة-  فأذن لي فأذن له-  فذهب إلى منزله بالسنح و سار أسامة في العسكر-  و هذا تصريح بأن أبا بكر لم يكن في جيش أسامة- .

 

و ذكر موسى بن عقبة في كتاب المغازي-  أن أبا بكر لم يكن في جيش أسامة-  و كثير من المحدثين يقولون بل كان في جيشه- . فأما أبو جعفر محمد بن جرير الطبري-  فلم يذكر أنه كان في جيش أسامة إلا عمر-  و قال أبو جعفر-  حدثني السدي بإسناد ذكره أن رسول الله ص-  ضرب قبل وفاته بعثا على أهل المدينة و من حولهم-  و فيهم عمر بن الخطاب-  و أمر عليهم أسامة بن زيد-  فلم يجاوز آخرهم الخندق حتى قبض رسول الله ص-  فوقف أسامة بالناس ثم قال لعمر-  ارجع إلى خليفة رسول الله ص-  فاستأذنه يأذن لي أرجع بالناس-  فإن معي وجوه الصحابة-  و لا آمن على خليفة رسول الله ص-  و ثقل رسول الله ص و أثقال المسلمين-  أن يتخطفهم المشركون حول المدينة-  و قالت الأنصار لعمر سرا-  فإن أبى إلا أن يمضي فأبلغه عنا-  و اطلب إليه أن يولي أمرنا رجلا أقدم سنا من أسامة-  فخرج عمر بأمر أسامة-  فأتى أبا بكر فأخبره بما قال أسامة-  فقال أبو بكر لو تخطفتني الكلاب و الذئاب-  لم أرد قضاء قضى به رسول الله ص- 

قال فإن الأنصار أمروني أن أبلغك أنهم يطلبون إليك-  أن تولي أمرهم رجلا أقدم سنا من أسامة-  فوثب أبو بكر و كان جالسا فأخذ بلحية عمر-  و قال ثكلتك أمك يا ابن الخطاب-  أ يستعمله رسول الله ص و تأمرني أن أنزعه-  فخرج عمر إلى الناس فقالوا له ما صنعت-  فقال امضوا ثكلتكم أمهاتكم-  ما لقيت في سبيلكم اليوم من خليفة رسول الله ص-  ثم خرج أبو بكر حتى أتاهم فأشخصهم و شيعهم-  و هو ماش و أسامة راكب-  و عبد الرحمن بن عوف يقود دابة أبي بكر-  فقال له أسامة بن زيد يا خليفة رسول الله-  لتركبن أو لأنزلن-  فقال و الله لا تنزل و لا أركب-  و ما علي أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة-فإن للغازي بكل خطوة يخطوها-  سبعمائة حسنة تكتب له-  و سبعمائة درجة ترفع له-  و سبعمائة خطيئة تمحى عنه-  حتى إذا انتهى قال لأسامة-  إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل فأذن له-  ثم قال أيها الناس قفوا حتى أوصيكم بعشر فاحفظوها عني-  لا تخونوا و لا تغدروا و لا تغلوا و لا تمثلوا-  و لا تقتلوا طفلا صغيرا و لا شيخا كبيرا و لا امرأة-  و لا تعقروا نخلا و لا تحرقوه و لا تقطعوا شجرة مثمرة-  و لا تذبحوا شاة و لا بعيرا و لا بقرة إلا لمأكلة-  و سوف تمرون بأقوام-  قد فرغوا أنفسهم للعبادة في الصوامع-  فدعوهم فيما فرغوا أنفسهم له-  و سوف تقدمون على أقوام-  يأتونكم بصحاف فيها ألوان الطعام-  فلا تأكلوا من شي‏ء حتى تذكروا اسم الله عليه-  و سوف تلقون أقواما قد حصوا أوساط رءوسهم-  و تركوا حولها مثل العصائب-  فاخفقوهم بالسيوف خفقا-  أفناهم الله بالطعن و الطاعون-  سيروا على اسم الله- .

و أما قول الشيخ أبي علي-  فإنه يدل على أنه لم يكن في جيش أسامة-  أمره إياه بالصلاة-  و قول المرتضى هذا اعتراف بأن الأمر بتنفيذ الجيش-  كان في الحال دون ما بعد الوفاة-  و هذا ينقض ما بنى عليه قاضي القضاة أمره-  فلقائل أن يقول إنه لا ينقض ما بناه-  لأن قاضي القضاة ما قال-  إن الأمر بتنفيذ الجيش ما كان إلا بعد الوفاة-  بل قال إنه أمر و الأمر على التراخي-  فلو نفذ الجيش في الحال لجاز-  و لو تأخر إلى بعد الوفاة لجاز- .

فأما إنكار المرتضى-  أن تكون صلاة أبي بكر بالناس كانت عن أمر رسول الله ص-  فقد ذكرنا ما عندنا في هذا فيما تقدم- . و أما قوله-  يجوز أن يكون أمر بصلاة واحدة أو صلاتين-  ثم أمره بالنفوذ بعدذلك فهذا لعمري جائز-  و قد يمكن أن يقال-  إنه لما خرج متحاملا من شدة المرض-  فتأخر أبو بكر عن مقامه-  و صلى رسول الله ص بالناس-  أمره بالنفوذ مع الجيش-  و أسكت رسول الله ص في أثناء ذلك اليوم-  و استمر أبو بكر على الصلاة بالناس إلى أن توفي ع-  فقد جاء في الحديث أنه أسكت-  و أن أسامة دخل عليه فلم يستطع كلامه-  لكنه كان يرفع يديه و يضعهما عليه كالداعي له-  و يمكن أن يكون زمان هذه السكتة-  قد امتد يوما أو يومين-  و هذا الموضع من المواضع المشتبهة عندي و منها قول قاضي القضاة إن الأمر على التراخي-  فلا يلزم من تأخر أبي بكر عن النفوذ أن يكون عاصيا- . فأما قول المرتضى-  الأمر على الفور إما لغة عند من قال به-  أو شرعا لإجماع الكل-  على أن الأوامر الشرعية على الفور-  إلا ما خرج بالدليل-  فالظاهر في هذا الموضع صحة ما قاله المرتضى-  لأن قرائن الأحوال-  عند من يقرأ السير و يعرف التواريخ-  تدل على أن الرسول ص-  كان يحثهم على الخروج و المسير و هذا هو الفور- .

و أما قول المرتضى و قول أسامة-  لم أكن لأسأل عنك الركب-  فهو أوضح دليل على أنه عقل من الأمر الفور-  لأن سؤال الركب عنه بعد الوفاة لا معنى له-  فلقائل أن يقول إن ذلك لا يدل على الفور-  بل يدل على أنه مأمور في الجملة بالنفوذ و المسير-  فإن التعجيل و التأخير مفوضان إلى رأيه-  فلما قال له النبي ص لم تأخرت عن المسير-  قال لم أكن لأسير و أسأل عنك الركب-  إني انتظرت عافيتك فإني إذا سرت و أنت على هذه الحال-  لم يكن لي قلب للجهاد بل أكون قلقا شديد الجزع-  أسأل‏ عنك الركبان-  و هذا الكلام لا يدل-  على أنه عقل من الأمر الفور لا محالة-  بل هو على أن يدل على التراخي أظهر-  و قول النبي ص لم تأخرت عن المسير-  لا يدل على الفور-  لأنه قد يقال مثل ذلك-  لمن يؤمر بالشي‏ء على جهة التراخي-  إذا لم يكن سؤال إنكار- .

و قول المرتضى-  لأن سؤال الركب عنه بعد الوفاة لا معنى له-  قول من قد توهم على قاضي القضاة أنه يقول-  إن النبي ص ما أمرهم بالنفوذ-  إلا بعد وفاته-  و لم يقل قاضي القضاة ذلك-  و إنما ادعى أن الأمر على التراخي لا غير-  و كيف يظن بقاضي القضاة-  أنه حمل كلام أسامة على سؤال الركب بعد الموت-  و هل كان أسامة يعلم الغيب فيقول ذاك-  و هل سأل أحد عن حال أحد من المرضى بعد موته- . فأما قول المرتضى عقيب هذا الكلام-  لا معنى لقول قاضي القضاة-  إنه لم ينكر على أسامة تأخره-  فإن الإنكار قد وقع بتكرار الأمر حالا بعد حال-  فلقائل أن يقول-  إن قاضي القضاة لم يجعل عدم الإنكار على أسامة-  حجة على كون الأمر على التراخي-  و إنما جعل ذلك دليلا-  على أن الأمر كان مشروطا بالمصلحة-  و من تأمل كلام قاضي القضاة-  الذي حكاه عنه المرتضى تحقق ذلك-  فلا يجوز للمرتضى أن ينتزعه-  من الوضع الذي أورده فيه-  فيجعله في موضع آخر- .

و منها قول قاضي القضاة-  الأمر بتنفيذ الجيش-  يجب أن يكون متوجها إلى الخليفة بعده-  و المخاطب لا يدخل تحت الخطاب-  و اعتراض المرتضى عليه-  بأن لفظة الجيش يدخل تحتها أبو بكر-  فلا بد من وجوب النفوذ عليه-  لأن عدم نفوذه يسلب الجماعة اسم الجيش-  فليس بجيد-  لأن لفظة الجيش لفظة موضوعة لجماعة من الناس-  قد أعدت للحرب-  فإذا خرج منها واحد أو اثنان-  لم يزل مسمى الجيش عن الباقين-  و المرتضى‏ اعتقد أن ذلك مثل الماهيات المركبة-  نحو العشرة إذا عدم منها واحد زال مسمى العشرة-  و ليس الأمر كذلك-  يبين ذلك أنه لو قال بعض الملوك لمائة إنسان-  أنتم جيشي-  ثم قال لواحد منهم-  إذا مت فأعط كل واحد من جيشي درهما من خزانتي-  فقد جعلتك أميرا عليهم-  لم يكن له أن يأخذ لنفسه درهما-  و يقول أنا من جملة الجماعة-  الذين أطلق عليهم لفظة الجيش- .

و منها قول قاضي القضاة-  هذه القضية تدل على أنه لم يكن هناك-  إمام منصوص عليه-  و أما قول المرتضى-  فقد بينا أن الخطاب إنما توجه إلى الحاضرين-  لا إلى القائم بالأمر بعده-  فلم نجد في كلامه في هذا الفصل بطوله ما بين فيه ذلك-  و لا أعلم على ما ذا أحال-  و لو كان قد بين على ما زعم-  أن الخطاب متوجه إلى الحاضرين-  لكان الإشكال قائما-  لأنه يقال له-  إذا كان الإمام المنصوص عليه حاضرا عنده-  فلم وجه الخطاب إلى الحاضرين-  أ لا ترى أنه لا يجوز أن يقول الملك للرعية-  اقضوا بين هذين الشخصين و القاضي حاضر عنده-  إلا إذا كان قد عزله عن القضاء-  في تلك الواقعة عن الرعية- .

فأما قول المرتضى هذا ينقلب عليكم فليس ينقلب-  و إنما ينقلب لو كان يريد تنفيذ الجيش بعد موته فقط-  و لا يريده و هو حي-  فكان يجي‏ء ما قاله المرتضى-  لينفذ القائم بالأمر بعدي جيش أسامة-  فأما إذا كان يريد نفوذ الجيش-  من حين ما أمر بنفوذه فقد سقط القلب-  لأن الخليفة حينئذ لم يكن قد تعين-  لأن الاختيار ما وقع بعد-  و على مذهب المرتضى-  الإمام متعين حاضر عنده نصب عينه-  فافترق الوصفان- . و منها قول قاضي القضاة-  إن مخالفة أمره ص في النفوذ مع الجيش-  أو في إنفاذ الجيش لا يكون معصية-  و بين ذلك من وجوه-أحدها أن أمره ع بذلك-  لا بد أن يكون مشروطا بالمصلحة-  و ألا يعرض ما هو أهم من نفوذ الجيش-  لأنه لا يجوز أن يأمرهم بالنفوذ-  و إن أعقب ضررا في الدين- 

فأما قول المرتضى-  الأمر المطلق يدل على ثبوت المصلحة-  و لا يجوز أن يجعل الأمر المطلق-  فقول جيد إذا اعترض به-  على الوجه الذي أورده قاضي القضاة-  فأما إذا أورده أصحابنا على وجه آخر-  فإنه يندفع كلام المرتضى-  و ذلك أنه يجوز تخصيص عمومات النصوص-  بالقياس الجلي عند كثير من أصحابنا-  على ما هو مذكور في أصول الفقه-  فلم لا يجوز لأبي بكر أن يخص عموم قوله-  انفذوا بعث أسامة-  لمصلحة غلبت على ظنه في عدم نفوذه نفسه-  و لمفسدة غلبت على نفسه في نفوذه نفسه مع البعث- . و ثانيها أنه ع كان يبعث السرايا-  عن اجتهاد لا عن وحي يحرم مخالفته-  فأما قول المرتضى إن للدين تعلقا قويا بأمثال ذلك-  و إنها ليست من الأمور الدنياوية المحضة-  نحو أكله و شربه و نومه-  فإنه يعود على الإسلام بفتوحه عز و قوة و علو كلمة-  فيقال له و إذا أكل اللحم و قوي مزاجه بذلك-  و نام نوما طبيعيا يزول عنه به المرض و الإعياء-  اقتضى ذلك أيضا عز الإسلام و قوته-  فقل إن ذلك أيضا عن وحي- .

ثم إن الذي يقتضيه فتوحه و غزواته و حروبه-  من العز و علو الكلمة-  لا ينافي كون تلك الغزوات و الحروب باجتهاده-  لأنه لا منافاة بين اجتهاده و بين عز الدين-  و علو كلمته بحروبه-  و إن الذي ينافي اجتهاده بالرأي-  هو مثل فرائض الصلوات و مقادير الزكوات-  و مناسك الحج و نحو ذلك من الأحكام-  التي تشعر بأنها متلقاة من محض الوحي-  و ليس للرأي و الاجتهاد فيها مدخل-  و قد خرج بهذا الكلام الجواب عن قوله-لو جاز أن تكون السرايا و الحروب عن اجتهاده-  لجاز أن تكون الأحكام كلها عن اجتهاده-  و أيضا فإن الصحابة كانوا يراجعونه في الحروب و آراءه-  التي يدبرها بها و يرجع ع إليهم-  في كثير منها بعد أن قد رأى غيره-  و أما الأحكام فلم يكن يراجع فيها أصلا-  فكيف يحمل أحد البابين على الآخر- .

فأما قوله لو كانت عن اجتهاد-  لوجب أن يحرم مخالفته فيها و هو حي-  لا فرق بين الحالين-  فلقائل أن يقول القياس يقتضي ما ذكرت-  إلا أنه وقع الإجماع-  على أنه لو كان في الأحكام أو في الحروب و الجهاد-  ما هو باجتهاده لما جازت مخالفته-  و العدول عن مذهبه و هو حي-  لم يختلف أحد من المسلمين في ذلك-  و أجازوا مخالفته بعد وفاته-  بتقدير أن يكون ما صار إليه عن اجتهاد-  و الإجماع حجة- . فأما قول قاضي القضاة-  لأن اجتهاده و هو حي أولى من اجتهاد غيره-  فليس يكاد يظهر-  لأن اجتهاده و هو ميت أولى أيضا من اجتهاد غيره-  و يغلب على ظني-  أنهم فرقوا بين حالتي الحياة و الموت-  فإن في مخالفته و هو حي نوعا من أذى له-  و أذاه محرم لقوله تعالى وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ-  و الأذى بعد الموت لا يكون-  فافترق الحالان- .

و ثالثها أنه لو كان الإمام منصوصا عليه-  لجاز أن يسترد جيش أسامة أو بعضه لنصرته-  فكذلك إذا كان بالاختيار-  و هذا قد منع منه المرتضى-  و قال إنه لا يجوز للمنصوص عليه ذلك-  و لا أن يولي من عزله رسول الله ص-  و لا أن يعزل من ولاه رسول الله ص‏ و رابعها-  أنه ع ترك حرب معاوية في بعض الحالات-  و لم يوجب ذلك أن يكون عاصيا-  فكذلك أبو بكر في ترك النفوذ في جيش أسامة- . فأما قول المرتضى-  إن عليا ع كان مأمورا بحرب معاوية-  مع التمكن و وجود الأنصار-  فإذا عدما لم يكن مأمورا بحربه-  فلقائل أن يقول و أبو بكر كان مأمورا-  بالنفوذ في جيش أسامة مع التمكن و وجود الأنصار-  و قد عدم التمكن لما استخلف-  فإنه قد تحمل أعباء الإمامة-  و تعذر عليه الخروج عن المدينة التي هي دار الإمامة-  فلم يكن مأمورا و الحال هذه بالنفوذ في جيش أسامة- .

فإن قلت-  الإشكال عليكم إنما هو من قبل الاستخلاف-  كيف جاز لأبي بكر أن يتأخر عن المسير-  و كيف جاز له أن يرجع إلى المدينة و هو مأمور بالمسير-  و هلا نفذ لوجهه و لم يرجع-  و إن بلغه موت رسول الله ص- . قلت لعل أسامة أذن له فهو مأمور بطاعته-  و لأنه رأى أسامة و قد عاد باللواء فعاد هو-  لأنه لم يكن يمكنه أن يسير إلى الروم وحده-  و أيضا فإن أصحابنا قالوا-  إن ولاية أسامة بطلت بموت النبي ص-  و عاد الأمر إلى رأي من ينصب للأمر-  قالوا لأن تصرف أسامة إنما كان من جهة النبي ص-  ثم زال تصرف النبي ص بموته-  فوجب أن يزول تصرف أسامة-  لأن تصرفه تبع لتصرف الرسول ص-  قالوا و ذلك كالوكيل تبطل وكالته بموت الموكل- 

قالوا و يفارق الوصي-  لأن ولايته لا تثبت إلا بعد موت الموصي-  فهو كعهد الإمام إلى غيره-  لا يثبت إلا بعد موت الإمام-  ثم فرع أصحابنا على هذا الأصل مسألة-  و هي الحاكم هل ينعزل بموت الإمام أم لا-  قال قوم من أصحابنا لا ينعزل-  و بنوه على أن التولي من غير جهة الإمام يجوز-  فجعلوا الحاكم نائبا عن المسلمين أجمعين-  لا عن الإمام- و إن وقف تصرفه على اختياره-  و صار ذلك عندهم بمنزلة أن يختار المسلمون واحدا-  يحكم بينهم ثم يموت من رضي بذلك-  فإن تصرفه يبقى على ما كان عليه-  و قال قوم من أصحابنا ينعزل-  و إن هذا النوع من التصرف لا يستفاد إلا من جهة الإمام-  و لا يقوم به غيره-  و إذا ثبت أن أسامة قد بطلت ولايته-  لم تبق تبعة على أبي بكر-  في الرجوع من بعض الطريق إلى المدينة- .

و خامسها-  أن أمير المؤمنين ولى أبا موسى الحكم-  و ولى رسول الله ص-  خالد بن الوليد السرية إلى الغميصاء-  و هذا الكلام إنما ذكره قاضي القضاة تتمة لقوله-  إن أمره ع بنفوذ بعث أسامة كان مشروطا بالمصلحة-  قال كما أن توليته ع أبا موسى-  كانت مشروطة باتباع القرآن-  و كما أن تولية رسول الله ص خالد بن الوليد-  كانت مشروطة بأن يعمل بما أوصاه به-  فخالفا و لم يعملا الحق-  فإذا كانت هذه الأوامر مشروطة-  فكذلك أمره جيش أسامة بالنفوذ-  كان مشروطا بالمصلحة-  و ألا يعرض ما يقتضي رجوع الجيش أو بعضه إلى المدينة-  و قد سبق القول في كون الأمر مشروطا- . و سادسها-  أن أبا بكر كان محتاجا إلى مقام عمر عنده-  ليعاضده و يقوم في تمهيد أمر الإمامة ما لا يقوم به غيره-  فكان ذلك أصلح في باب الدين من مسيره مع الجيش-  فجاز أن يحبسه عنده لذلك-  و هذا الوجه مختص بمن قال إن أبا بكر لم يكن في الجيش-  و إيضاح عذره في حبس عمر عن النفوذ مع الجيش- .

 

فأما قول المرتضى فإن ذلك غير جائز-  لأن مخالفة النص حرام-  فقد قلنا إن هذا مبني على مسألة تخصيص العمومات-  الواردة في القرآن بالقياس- .و أما قوله-  أي حاجة كانت لأبي بكر إلى عمر بعد وقوع البيعة-  و لم يكن هناك تنازع و لا اختلاف فعجيب-  و هل كان لو لا مقام عمر و حضوره في تلك المقامات-  يتم لأبي بكر أمر أو ينتظم له حال-  و لو لا عمر-  لما بايع علي و لا الزبير و لا أكثر الأنصار-  و الأمر في هذا أظهر من كل ظاهر- . و سابعها أن من يصلح للإمامة ممن ضمه جيش أسامة-  يجب تأخرهم ليختار للإمامة أحدهم-  فإن ذلك أهم من نفوذهم-  فإذا جاز لهذه العلة التأخر قبل العقد-  جاز التأخر بعده للمعاضدة و غيرها- .

فأما قول المرتضى-  إن ذلك الجيش لم يضم من يصلح للإمامة-  فبناء على مذهبه-  في أن كل من ليس بمعصوم لا يصلح للإمامة-  فأما قوله و لو صح ذلك لم يكن عذرا في التأخر-  لأن من خرج في الجيش يمكن أن يختار و لو كان بعيدا-  و لا يمكن بعده من صحة الاختيار-  فلقائل أن يقول-  دار الهجرة هي التي فيها أهل الحل و العقد-  و أقارب رسول الله ص و القراء و أصحاب السقيفة-  فلا يجوز العدول عن الاجتماع و المشاورة فيها-  إلى الاختيار على البعد-  و على جناح السفر-  من غير مشاركة من ذكرنا من أعيان المسلمين- . فأما قوله و لو صح هذا العقد-  لكان عذرا في التأخر قبل العقد-  فأما بعد إبرامه فلا عذر فيه-  فلقائل أن يقول-  إذا أجزت التأخر قبل العقد لنوع من المصلحة-  فأجز التأخر بعد العقد لنوع آخر من المصلحة-  و هو المعاضدة و المساعدة- .

 

هذه الوجوه السبعة كلها لبيان قوله-  تأخر أبي بكر أو عمر عن النفوذ في جيش أسامة-  و إن كان مأمورا بالنفوذ- .ثم نعود إلى تمام أقسام الفصل-  و منها قول قاضي القضاة لا معنى لقول من قال-  إن رسول الله ص قصد إبعادهم عن المدينة-  لأن بعدهم عنها-  لا يمنعهم من أن يختاروا واحدا منهم للإمامة-  و لأنه ع لم يكن قاطعا على موته لا محالة-  لأنه لم يرد نفذوا جيش أسامة في حياته- . و قد اعترض المرتضى هذا فقال-  إنه لم يتبين معنى الطعن-  لأن الطاعن لا يقول-  إنهم أبعدوا عن المدينة كي لا يختاروا واحدا للإمامة-  بل يقول إنما أبعدوا لينتصب بعد موته ص في المدينة-  الشخص الذي نص عليه-  و لا يكون حاضرا بالمدينة من يخالفه و ينازعه-  و ليس يضرنا ألا يكون ص قاطعا على موته-  لأنه و إن لم يكن قاطعا-  فهو لا محالة يشفق و يخاف من الموت-  و على الخائف أن يتحرز مما يخاف منه-  و كلام المرتضى في هذا الموضع-  أظهر من كلام قاضي القضاة- . و منها قول قاضي القضاة-  إن ولاية أسامة عليهما لا تقتضي كونهما دونه في الفضل-  كما أن عمرو بن العاص لما ولي عليهما-  لم يقتض كونه أفضل منهما-  و قد اعترض المرتضى-  هذا بأنه يقبح تقديم المفضول على الفاضل-  فيما هو أفضل منه-  و إن تقديم عمرو بن العاص عليهما في الإمرة-  يقتضي أن يكون أفضل منهما-  فيما يرجع إلى الإمرة و السياسة-  و لا يقتضي أفضليته عليهما في غير ذلك-  و كذلك القول في أسامة- .

و لقائل أن يقول-  إن الملوك قد يؤمرون الأمراء على الجيوش لوجهين-  أحدهما أن يقصد الملك بتأمير ذلك الشخص-  أن يسوس الجيش و يدبره بفضل رأيه و شيخوخته-  و قديم تجربته-  و ما عرف من يمن نقيبته في الحرب و قود العساكر-  و الثاني أن يؤمر على الجيش-  غلاما حدثا من غلمانه أو من ولده أو من أهله-  و يأمر الأكابر من الجيش أن يثقفوه و يعلموه-  و يأمره أن يتدبر بتدبيرهم و يرجع إلى رأيهم-  و يكون قصد الملك من ذلك-  تخريج ذلك الغلام و تمرينه على الإمارة-  و أن يثبت له في نفوس الناس منزلة-  و أن يرشحه لجلائل الأمور و معاظم الشئون-  ففي الوجه الأول يقبح تقديم المفضول على الفاضل-  و في الوجه الثاني لا يقبح-  فلم لا يجوز أن يكون تأمير أسامة عليهما-  من قبيل الوجه الثاني و الحال يشهد لذلك-  لأن أسامة كان غلاما لم يبلغ ثماني عشرة سنة-  حين قبض النبي ص-  فمن أين حصل له من تجربة الحرب و ممارسة الوقائع-  و قود الجيش ما يكون به أعرف بالإمرة من أبي بكر-  و عمر و أبي عبيدة و سعد بن أبي وقاص و غيرهم- .

و منها قول قاضي القضاة-  إن السبب في كون عمر في الجيش-  أنه أنكر على عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة-  تسخطه إمرة أسامة-  و قال أنا أخرج في جيش أسامة-  فخرج من تلقاء نفسه تعظيما لأمر رسول الله ص-  و قد اعترضه المرتضى فقال-  هذا شي‏ء لم نسمعه من راو و لا قرأناه في كتاب-  و صدق المرتضى فيما قال-  فإن هذا حديث غريب لا يعرف- . و أما قول عمر دعني أضرب عنقه فقد نافق-  فمنقول مشهور لا محالة-  و إنما الغريب الذي لم يعرف-  كون عمر خرج من تلقاء نفسه في الجيش-  مراغمة لعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة-  حيث أنكر ما أنكر-  و لعل قاضي القضاة سمعه من راو أو نقله من كتاب-  إلا أنا نحن ما وقفنا على ذلك

 

الطعن الخامس

قالوا-  إنه ص لم يول أبا بكر الأعمال و ولى غيره-  و لما ولاه الحج بالناس و قراءة سورة براءة على الناس-  عزله عن ذلك كله-  و جعل الأمر إلى أمير المؤمنين ع-  و قال لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني-  حتى يرجع أبو بكر إلى النبي ص- . أجاب قاضي القضاة فقال-  لو سلمنا أنه لم يوله لما دل ذلك على نقص-  و لا على أنه لم يصلح للإمارة و الإمامة-  بل لو قيل إنه لم يوله لحاجته إليه بحضرته-  و إن ذلك رفعة له لكان أقرب-  لا سيما و قد روي عنه ما يدل على أنهما وزيراه-  و أنه كان ص محتاجا إليهما و إلى رأيهما-  فلذلك لم يولهما-  و لو كان للعمل على تركه فضل-  لكان عمرو بن العاص و خالد بن الوليد و غيرهما-  أفضل من أكابر الصحابة-  لأنه ع ولاهما و قدمهما-  و قد قدمنا أن توليته هي بحسب الصلاح-  و قد يولى المفضول على الفاضل تارة و الفاضل أخرى-  و ربما ولى الواحد لاستغنائه عنه بحضرته-  و ربما ولاه لاتصال بينه و بين من يولى عليه إلى غير ذلك-  ثم ادعى أنه ولى أبا بكر على الموسم و الحج-  قد ثبتت بلا خلاف بين أهل الأخبار و لم يصح أنه عزله-  و لا يدل رجوع أبي بكر إلى النبي ص-  مستفهما عن القصة على العزل-  ثم جعل إنكار من أنكر حج أبي بكر في تلك السنة بالناس-  كإنكار عباد و طبقته-  أخذ أمير المؤمنين ع سورة براءة من أبي بكر-  و حكي عن أبي علي أن المعنى كان في أخذ السورة من أبي بكر-  أن من عادة العرب أن سيدا من سادات قبائلهم-  إذا عقد عقد القوم فإن ذلك العقد لا ينحل-  إلا أن يحله هو أو بعض سادات قومه-  فلما كان هذا عادتهم-  و أراد النبي ص أن ينبذ إليهم عقدهم-  و ينقض ما كان بينه و بينهم-  علم أنه لا ينحل ذلك إلا به-  أو بسيد من سادات رهطه-  فعدل عن أبي بكر إلى أمير المؤمنين المقرب في النسب-  ثم ادعى أنه ص ولى أبا بكر في مرضه الصلاة-  و ذلك أشرف الولايات و قال في ذلك-  يأبى الله و رسوله و المسلمون إلا أبا بكر- . ثم اعترض نفسه بصلاته ع خلف عبد الرحمن بن عوف-  و أجاب بأنه ص إنما صلى خلفه-  لا أنه ولاه الصلاة و قدمه فيها-  قال و إنما قدم عبد الرحمن عند غيبة النبي ص-  فصلى بغير أمره-  و قد ضاق الوقت فجاء النبي ص فصلى خلفه- .

اعترض المرتضى فقال-  قد بينا أن تركه ص الولاية لبعض أصحابه-  مع حضوره و إمكان ولايته و العدول عنه إلى غيره-  مع تطاول الزمان و امتداده-  لا بد من أن تقتضي غلبة الظن بأنه لا يصلح للولاية-  فأما ادعاؤه أنه لم يوله لافتقاره إليه بحضرته-  و حاجته إلى تدبيره و رأيه-  فقد بينا أنه ع ما كان يفتقر إلى رأي أحد-  لكماله و رجحانه على كل أحد-  و إنما كان يشاور أصحابه على سبيل التعليم لهم و التأديب-  أو لغير ذلك مما قد ذكر-  و بعد فكيف استمرت هذه الحاجة و اتصلت منه إليهما-  حتى لم يستغن في زمان من الأزمان عن حضورهما فيوليهما-  و هل هذا إلا قدح في رأي رسول الله ص-  و نسبته إلى أنه كان ممن يحتاج-  إلى أن يلقن و يوقف على كل شي‏ء-  و قد نزهه الله تعالى عن ذلك-  فأما ادعاؤه أن الرواية قد وردت بأنهما وزيراه-  فقد كان يجب أن يصحح ذلك قبل أن يعتمده و يحتج به-  فإنا ندفعه عنه أشد دفع-  فأما ولاية عمرو بن العاص و خالد بن الوليد-  فقد تكلمنا عليها من قبل-  و بينا أن ولايتهما تدل على صلاحهما لما ولياه-  و لا تدل على صلاحهما للإمامة-  لأن شرائط الإمامة لم تتكامل فيهما-  و بينا أيضا لأن ولاية المفضول على الفاضل لا تجوز-  فأما تعظيمه‏ و إكباره قول من يذهب إلى أن أبا بكر-  عزل عن أداء السورة و الموسم جميعا-  و جمعه بين ذلك في البعد و بين إنكار عباد-  أن يكون أمير المؤمنين ع ارتجع سورة براءة من أبي بكر-  فأول ما فيه أنا لا ننكر أن يكون أكثر الأخبار واردة-  بأن أبا بكر حج بالناس في تلك السنة-  إلا أنه قد روى قوم من أصحابنا خلاف ذلك-  و أن أمير المؤمنين ع كان أمير الموسم في تلك السنة-  و أن عزل الرجل كان عن الأمرين معا-  و استكبار ذلك-  و فيه خلاف لا معنى له-  فأما ما حكاه عن عباد فإنا لا نعرفه-  و ما نظن أحدا يذهب إلى مثله-  و ليس يمكنه بإزاء ذلك جحد مذهب أصحابنا-  الذي حكيناه-  و ليس عباد لو صحت الرواية عنه بإزاء من ذكرناه-  فهو ملي‏ء بالجهالات و دفع الضرورات-  و بعد فلو سلمنا أن ولاية الموسم لم تفسخ-  لكان الكلام باقيا-  لأنه إذا كان ما ولي مع تطاول الزمان إلا هذه الولاية-  ثم سلب شطرها و الأفخم الأعظم منها-  فليس ذلك إلا تنبيها على ما ذكرناه- .

فأما ما حكاه عن أبي علي-  من أن عادة العرب ألا يحل ما عقده الرئيس منهم-  إلا هو أو المتقدم من رهطه-  فمعاذ الله أن يجري النبي ص-  سنته و أحكامه على عادات الجاهلية-  و قد بين ع لما رجع إليه أبو بكر-  يسأله عن أخذ السورة منه الحال-  فقال إنه أوحي إلي ألا يؤدي عني-  إلا أنا أو رجل مني-  و لم يذكر ما ادعاه أبو علي-  على أن هذه العادة قد كان يعرفها النبي ص-  قبل بعثه أبا بكر بسورة براءة-  فما باله لم يعتمدها في الابتداء-  و يبعث من يجوز أن يحل عقده من قومه- . فأما ادعاؤه ولاية أبي بكر الصلاة-  فقد ذكرنا فيما تقدم أنه لم يوله إياها-  فأما فصله بين صلاته خلف عبد الرحمن-  و بين صلاة أبي بكر بالناس فليس بشي‏ء-  لأنا إذا كنا قد دللنا على أن الرسول ص-  ما قدم أبا بكر إلى الصلاة-  فقداستوى الأمران-  و بعد فأي فرق بين أن يصلي خلفه و بين أن يوليه و يقدمه-  و نحن نعلم أن صلاته خلفه إقرار لولايته و رضا بها-  فقد عاد الأمر إلى أن عبد الرحمن-  كأنه قد صلى بأمره و إذنه-  على أن قصة عبد الرحمن أوكد-  لأنه قد اعترف بأن الرسول صلى خلفه-  و لم يصل خلف أبي بكر-  و إن ذهب كثير من الناس إلى أنه قدمه و أمر بالصلاة-  قبل خروجه إلى المسجد و تحامله- . ثم سأل المرتضى رحمه الله نفسه فقال-  إن قيل ليس يخلو النبي ص-  من أن يكون سلم في الابتداء سورة براءة إلى أبي بكر-  بأمر الله أو باجتهاده و رأيه-  فإن كان بأمر الله تعالى-  فكيف يجوز أن يرتجع منه السورة قبل وقت الأداء-  و عندكم أنه لا يجوز نسخ الشي‏ء قبل تقضي وقت فعله-  و إن كان باجتهاده ص-  فعندكم أنه لا يجوز أن يجتهد فيما يجري هذا المجرى- . و أجاب فقال-  إنه ما سلم السورة إلى أبي بكر إلا بإذنه تعالى-  إلا أنه لم يأمره بأدائها-  و لا كلفه قراءتها على أهل الموسم-  لأن أحدا لم يمكنه أن ينقل ع في ذلك-  لفظ الأمر و التكليف-  فكأنه سلم سورة براءة إليه لتقرأ على أهل الموسم-  و لم يصرح بذكر القارئ المبلغ لها في الحال-  و لو نقل عنه تصريح لجاز أن يكون مشروطا بشرط لم يظهر- .

فإن قيل فأي فائدة في دفع السورة إلى أبي بكر-  و هو لا يريد أن يؤديها ثم ارتجاعها منه-  و هلا دفعت في الابتداء إلى أمير المؤمنين ع- . قيل الفائدة في ذلك-  ظهور فضل أمير المؤمنين ع و مرتبته-  و أن الرجل الذي نزعت السورة عنه لا يصلح لما يصلح له-  و هذا غرض قوي في وقوع الأمر على ما وقع عليه‏ قلت قد ذكرنا فيما تقدم-  القول في تولية الملك بعض أصحابه-  و ترك تولية بعضهم-  و كيفية الحال في ذلك-  على أنه قد روى أصحاب المغازي-  أنه أمر أبا بكر في شعبان من سنة سبع على سرية-  بعثها إلى نجد فلقوا جمعا من هوازن فبيتوهم-  فروى إياس بن سلمة عن أبيه قال-  كنت في ذلك البعث فقتلت بيدي سبعة منهم-  و كان شعارنا أمت أمت-  و قتل من أصحاب النبي ص قوم-  و جرح أبو بكر و ارتث و عاد إلى المدينة-  على أن أمراء السرايا الذين كان يبعثهم ص-  كانوا قوما مشهورين بالشجاعة و لقاء الحروب-  كمحمد بن مسلمة و أبي دجانة و زيد بن حارثة و نحوهم-  و لم يكن أبو بكر مشهورا بالشجاعة و لقاء الحروب-  و لم يكن جبانا و لا خوارا-  و إنما كان رجلا مجتمع القلب عاقلا ذا رأي و حسن تدبير-  و كان رسول الله ص يترك بعثه في السرايا-  لأن غيره أنفع منه فيها-  و لا يدل ذلك على أنه لا يصلح للإمامة-  و أن الإمامة-  لا تحتاج أن يكون صاحبها من المشهورين بالشجاعة-  و إنما يحتاج إلى ثبات القلب-  و إلا يكون هلعا طائر الجنان-  و كيف يقول المرتضى إنه ص لم يكن محتاجا إلى رأي أحد-  و قد نقل الناس كلهم رجوعه من رأي إلى رأي عند المشورة-  نحو ما جرى يوم بدر-  من تغير المنزل لما أشار عليه الحباب بن المنذر-  و نحو ما جرى يوم الخندق-  من فسخ رأيه في دفع ثلث تمر المدينة-  إلى عيينة بن حصن ليرجع بالأحزاب عنهم-  لأجل ما رآه سعد بن معاذ و سعد بن عبادة من الحرب-  و العدول عن الصلح-  و نحو ما جرى في تلقيح النخل بالمدينة و غير ذلك-  فأما ولاية أبي بكر الموسم فأكثر الأخبار على ذلك-  و لم يرو عزله عن الموسم إلا قوم من الشيعة- .

 

و أما ما أنكره المرتضى من حال عباد بن سليمان-  و دفعه أن يكون علي أخذ براءة من أبي بكر-  و استغرابه ذلك عجب-  فإن قول عباد قد ذهب إليه كثير من الناس-  و رووا أن رسول الله ص-  لم يدفع براءة إلى أبي بكر-  و أنه بعد أن نفذ أبو بكر بالحجيج-  أتبعه عليا و معه تسع آيات من براءة-  و قد أمره أن يقرأها على الناس-  و يؤذنهم بنقض العهد و قطع الدنية-  فانصرف أبو بكر إلى رسول الله ص-  فأعاده على الحجيج-  و قال له أنت الأمير و علي المبلغ-  فإنه لا يبلغ عني إلا أنا أو رجل مني-  و لم ينكر عباد أمر براءة بالكلية- 

و إنما أنكر أن يكون النبي ص دفعها إلى أبي بكر-  ثم انتزعها منه-  و طائفة عظيمة من المحدثين يروون ما ذكرناه-  و إن كان الأكثر الأظهر أنه دفعها إليه-  ثم أتبعه بعلي ع فانتزعها منه-  و المقصود أن المرتضى قد تعجب مما لا يتعجب من مثله-  فظن أن عبادا أنكر حديث براءة بالكلية-  و قد وقفت أنا على ما ذكره عباد في هذه القضية-  في كتابه المعروف بكتاب الأبواب-  و هو الكتاب الذي نقضه شيخنا أبو هاشم-  فأما عذر شيخنا أبي علي-  و قوله إن عادة العرب ذلك و اعتراض المرتضى عليه-  فالذي قاله المرتضى أصح و أظهر-  و ما نسب إلى عادة العرب غير معروف- 

و إنما هو تأويل تأول به متعصبو أبي بكر-  لانتزاع براءة منه-  و ليس بشي‏ء-  و لست أقول ما قاله المرتضى-  من أن غرض رسول الله ص-  إظهار أن أبا بكر لا يصلح للأداء عنه-  بل أقول فعل ذلك لمصلحة رآها-  و لعل السبب في ذلك أن عليا ع من بني عبد مناف-  و هم جمرة قريش بمكة-  و علي أيضا شجاع لا يقام له-  و قد حصل في صدور قريش منه-  الهيبة الشديدة و المخافة العظيمة-  فإذا حصل مثل هذا الشجاع البطل و حوله من بني عمه-  و هم أهل العزة و القوة و الحمية-كان أدعى إلى نجاته من قريش-  و سلامة نفسه و بلوغ الغرض من نبذ العهد على يده-  أ لا ترى أن رسول الله ص في عمرة الحديبية-  بعث عثمان بن عفان إلى مكة-  يطلب منهم الإذن له في الدخول-  و إنما بعثه لأنه من بني عبد مناف-  و لم يكن بنو عبد مناف و خصوصا بني عبد شمس-  ليمكنوا من قتله-  و لذلك حمله بنو سعيد بن العاص على بعير يوم دخل مكة-  و أحدقوا به مستلئمين بالسلاح-  و قالوا له أقبل و أدبر و لا تخف أحدا-  بنو سعيد أعزة الحرم-  و أما القول في تولية رسول الله ص أبا بكر الصلاة-  فقد تقدم-  و ما رامه قاضي القضاة-  من الفرق بين صلاة أبي بكر بالناس-  و صلاة عبد الرحمن بهم-  مع كون رسول الله ص صلى خلفه ضعيف-  و كلام المرتضى أقوى منه-  فأما السؤال الذي سأله المرتضى من نفسه فقوي-  و الجواب الصحيح أن بعث براءة مع أبي بكر-  كان باجتهاد من الرسول ص-  و لم يكن عن وحي و لا من جملة الشرائع-  التي تتلقى عن جبرائيل ع-  فلم يقبح نسخ ذلك قبل تقضي وقت فعله-  و جواب المرتضى ليس بقوي-  لأنه من البعيد أن يسلم سورة براءة إلى أبي بكر-  و لا يقال له ما ذا تصنع بها-  بل يقال خذ هذه معك لا غير-  و القول بأن الكلام مشروط بشرط لم يظهر خلاف الظاهر-  و فتح هذا الباب يفسد كثيرا من القواعد.

الطعن السادس

أن أبا بكر لم يكن يعرف الفقه و أحكام الشريعة-  فقد قال في الكلالة أقول‏ فيها برأيي-  فإن يكن صوابا فمن الله و إن يكن خطأ فمني-  و لم يعرف ميراث الجد-  و من حاله هذه لا يصلح للإمامة- . أجاب قاضي القضاة-  بأن الإمام لا يجب أن يعلم جميع الأحكام-  و أن القدر الذي يحتاج إليه-  هو القدر الذي يحتاج إليه الحاكم-  و أن القول بالرأي هو الواجب فيما لا نص فيه-  و قد قال أمير المؤمنين ع بالرأي في مسائل كثيرة- .

اعترض المرتضى فقال-  قد دللنا على أن الإمام-  لا بد أن يكون عالما بجميع الشرعيات-  و فرقنا بينه و بين الحاكم-  و دللنا على فساد الرأي و الاجتهاد-  و أما أمير المؤمنين ع فلم يقل قط بالرأي-  و ما يروى من خبر بيع أمهات الأولاد غير صحيح-  و لو صح لجاز أن يكون أراد بالرأي-  الرجوع إلى النصوص و الأدلة-  و لا شبهة عندنا أن قوله كان واحدا في الحالين-  و إن ظهر في أحدهما خلاف مذهبه للتقية- . قلت هذا الطعن مبني على أمرين-  أحدهما هل من شرط الإمامة-  أن يعلم الإمام كل الأحكام الشرعية أم لا-  و هذا مذكور في كتبنا الكلامية-  و الثاني هو القول في الاجتهاد و الرأي حق أم لا-  و هذا مذكور في كتبنا الأصولية.

الطعن السابع

قصة خالد بن الوليد و قتله مالك بن نويرة-  و مضاجعته امرأته من ليلته-  و أن أبا بكرترك إقامة الحد عليه-  و زعم أنه سيف من سيوف الله سله الله على أعدائه-  مع أن الله تعالى قد أوجب القود و حد الزناء عموما-  و أن عمر نبهه و قال له-  اقتله فإنه قتل مسلما- . أجاب قاضي القضاة فقال إن شيخنا أبا علي قال-  إن الردة ظهرت من مالك بن نويرة-  لأنه جاء في الأخبار أنه رد صدقات قومه عليهم-  لما بلغه موت رسول الله ص-  كما فعله سائر أهل الردة فاستحق القتل-  فإن قال قائل فقد كان يصلي-  قيل له و كذلك سائر أهل الردة- 

و إنما كفروا بالامتناع من الزكاة-  و اعتقادهم إسقاط وجوبها دون غيره-  فإن قيل فلم أنكر عمر-  قيل كان الأمر إلى أبي بكر فلا وجه لإنكار عمر-  و قد يجوز أن يعلم أبو بكر من الحال ما يخفى على عمر-  فإن قيل فما معنى ما روي عن أبي بكر-  من أن خالدا تأول فأخطأ-  قيل أراد عجلته عليه بالقتل-  و قد كان الواجب عنده على خالد أن يتوقف للشبهة-  و استدل أبو علي على ردته-  بأن أخاه متمم بن نويرة لما أنشد عمر مرثيته أخاه-  قال له وددت أني أقول الشعر-  فأرثي أخي زيدا بمثل ما رثيت به أخاك-  فقال متمم-  لو قتل أخي على مثل ما قتل عليه أخوك ما رثيته-  فقال عمر ما عزاني أحد بمثل تعزيتك-  فدل هذا على أن مالكا لم يقتل على الإسلام-  كما قتل زيد- . و أجاب عن تزويج خالد بامرأته-  بأنه إذا قتل على الردة في دار الكفر-  جاز تزويج امرأته عند كثير من أهل العلم-  و إن كان لا يجوز أن يطأها إلا بعد الاستبراء- .

و حكي عن أبي علي-  أنه إنما قتله لأنه ذكر رسول الله ص فقال-  صاحبك و أوهم بذلك أنه ليس بصاحب له-  و كان عنده أن ذلك رده و علم عند المشاهدةالمقصد-  و هو أمير القوم-  فجاز أن يقتله و إن كان الأولى ألا يستعجل-  و أن يكشف الأمر في ردته حتى يتضح-  فلهذا لم يقتله أبو بكر به-  فأما وطؤه لامرأته فلم يثبت فلا يصح أن يجعل طعنا فيه اعترض المرتضى فقال-  أما منع خالد في قتل مالك بن نويرة-  و استباحة امرأته و أمواله لنسبته إياه إلى ردة-  لم تظهر منه-  بل كان الظاهر خلافها من الإسلام فعظيم-  و يجري مجراه في العظم تغافل من تغافل عن أمره-  و لم يقم فيه حكم الله تعالى-  و أقره على الخطإ الذي شهد هو به على نفسه-  و يجري مجراهما من أمكنه أن يعلم الحال فأهملها-  و لم يتصفح ما روي من الأخبار في هذا الباب-  و تعصب لأسلافه و مذهبه-  و كيف يجوز عند خصومنا على مالك و أصحابه جحد الزكاة-  مع المقام على الصلاة-  و هما جميعا في قرن-  لأن العلم الضروري-  بأنهما من دينه ع و شريعته على حد واحد-  و هل نسبة مالك إلى الردة مع ما ذكرناه-  إلا قدح في الأصول و نقض لما تضمنته-  من أن الزكاة معلومة ضرورة من دينه ع-  و أعجب من كل عجيب قوله-  و كذلك سائر أهل الردة-  يعني أنهم كانوا يصلون و يجحدون الزكاة-  لأنا قد بينا أن ذلك مستحيل غير ممكن-  و كيف يصح ذلك- 

و قد روى جميع أهل النقل-  أن أبا بكر لما وصى الجيش-  الذين أنفذهم بأن يؤذنوا و يقيموا-  فإن أذن القوم كأذانهم و إقامتهم كفوا عنهم-  و إن لم يفعلوا أغاروا عليهم-  فجعل أمارة الإسلام و البراءة من الردة-  الأذان و الإقامة-  و كيف يطلق في سائر أهل الردة-  ما أطلقه من أنهم كانوا يصلون-  و قد علمنا أن أصحاب مسيلمة و طليحة و غيرهما-  ممن كان ادعى النبوة و خلع الشريعة-  ما كانوا يرون الصلاة و لا شيئا مما جاءت به شريعتنا-  و قصة مالك معروفة عند من تأمل كتب السير و النقل-  لأنه كان على صدقات قومه بني‏يربوع واليا-  من قبل رسول الله ص-  و لما بلغته وفاة رسول الله ص أمسك عن أخذ الصدقة من قومه-  و قال لهم تربصوا بها حتى يقوم قائم بعد النبي ص-  و ننظر ما يكون من أمره-  و قد صرح بذلك في شعره حيث يقول- 

  و قال رجال سدد اليوم مالك
و قال رجال مالك لم يسدد

فقلت دعوني لا أبا لأبيكم‏
فلم أخط رأيا في المقام و لا الندي‏

و قلت خذوا أموالكم غير خائف
و لا ناظر فيما يجي‏ء به غدي‏

فدونكموها إنما هي مالكم‏
مصورة أخلاقها لم تجدد

سأجعل نفسي دون ما تحذرونه
و أرهنكم يوما بما قلته يدي‏

فإن قام بالأمر المجدد قائم‏
أطعنا و قلنا الدين دين محمد

 فصرح كما ترى أنه استبقى الصدقة في أيدي قومه-  رفقا بهم و تقربا إليهم-  إلى أن يقوم بالأمر من يدفع ذلك إليه-  و قد روى جماعة من أهل السير-  و ذكره الطبري في تاريخه-  أن مالكا نهى قومه-  عن الاجتماع على منع الصدقات و فرقهم-  و قال يا بني يربوع-  إنا كنا قد عصينا أمراءنا إذ دعونا إلى هذا الدين-  و بطأنا الناس عنه فلم نفلح و لم ننجح-  و أني قد نظرت في هذا الأمر-  فوجدت الأمر يتأتى لهؤلاء القوم بغير سياسة-  و إذا أمر لا يسوسه الناس-  فإياكم و معاداة قوم يصنع لهم-  فتفرقوا على ذلك إلى أموالهم-  و رجع مالك إلى منزله-  فلما قدم خالد البطاح بث السرايا و أمرهم بداعية الإسلام-  و أن يأتوه بكل من لم يجب-  و أمرهم إن امتنع أن يقاتلوه-  فجاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر من بني يربوع-  و اختلف السرية في أمرهم-  و في السرية أبو قتادة الحارث بن ربعي-  فكان ممن شهد أنهم أذنوا و أقاموا و صلوا-  فلما اختلفوا فيهم‏أمر بهم خالد فحبسوا-  و كانت ليلة باردة لا يقوم لها شي‏ء-  فأمر خالد مناديا ينادي-  أدفئوا أسراءكم-  فظنوا أنهم أمروا بقتلهم-  لأن هذه اللفظة تستعمل في لغة كنانة للقتل-  فقتل ضرار بن الأزور مالكا-  و تزوج خالد زوجته أم تميم بنت المنهال- .

و في خبر آخر أن السرية التي بعث بها خالد-  لما غشيت القوم تحت الليل راعوهم-  فأخذ القوم السلاح-  قال فقلنا إنا المسلمون فقالوا و نحن المسلمون-  قلنا فما بال السلاح معكم قلنا فضعوا السلاح-  فلما وضعوا السلاح ربطوا أسارى-  فأتوا بهم خالدا-  فحدث أبو قتادة خالد بن الوليد-  أن القوم نادوا بالإسلام و أن لهم أمانا-  فلم يلتفت خالد إلى قولهم و أمر بقتلهم و قسم سبيهم-  و حلف أبو قتادة ألا يسير تحت لواء خالد في جيش أبدا-  و ركب فرسه شاذا إلى أبي بكر فأخبره الخبر-  و قال له إني نهيت خالدا عن قتله فلم يقبل قولي-  و أخذ بشهادة الأعراب الذين غرضهم الغنائم-  و أن عمر لما سمع ذلك تكلم فيه عند أبي بكر فأكثر-  و قال إن القصاص قد وجب عليه-  و لما أقبل خالد بن الوليد قافلا دخل المسجد-  و عليه قباء له عليه صدأ الحديد-  معتجرا بعمامة له قد غرز في عمامته أسهما-  فلما دخل المسجد قام إليه عمر-  فنزع الأسهم عن رأسه فحطمها-  ثم قال له يا عدو نفسه أ عدوت على امرئ مسلم فقتلته-  ثم نزوت على امرأته-  و الله لنرجمنك بأحجارك-  و خالد لا يكلمه-  و لا يظن إلا أن رأي أبي بكر مثل رأيه-  حتى دخل إلى أبي بكر و اعتذر إليه بعذره و تجاوز عنه-  فخرج خالد و عمر جالس في المسجد-  فقال هلم إلى يا ابن أم شملة-  فعرف عمر أن أبا بكر قد رضي عنه فلم يكلمه-  و دخل بيته- .

و قد روي أيضا أن عمر لما ولي-  جمع من عشيرة مالك بن نويرة من وجد منهم-و استرجع ما وجد عند المسلمين من أموالهم-  و أولادهم و نسائهم-  فرد ذلك عليهم جميعا مع نصيبه كان منهم-  و قيل إنه ارتجع بعض نسائهم من نواحي دمشق-  و بعضهن حوامل فردهن على أزواجهن-  فالأمر ظاهر في خطإ خالد و خطإ من تجاوز عنه-  و قول صاحب الكتاب-  إنه يجوز أن يخفى عن عمر ما يظهر لأبي بكر ليس بشي‏ء-  لأن الأمر في قصة خالد لم يكن مشتبها-  بل كان مشاهدا معلوما لكل من حضره-  و ما تأول به في القتل لا يعذر لأجله-  و ما رأينا أبا بكر حكم فيه بحكم المتأول و لا غيره-  و لا تلافى خطأه و زلله-  و كونه سيفا من سيوف الله-  على ما ادعاه لا يسقط عنه الأحكام-  و يبرئه من الآثام-  و أما قول متمم-  لو قتل أخي على ما قتل عليه أخوك لما رثيته-  لا يدل على أنه كان مرتدا-  فكيف يظن عاقل أن متمما يعترف بردة أخيه-  و هو يطالب أبا بكر بدمه و الاقتصاص من قاتليه و رد سبيه-  و أنه أراد في الجملة التقرب إلى عمر بتقريظ أخيه-  ثم لو كان ظاهر هذا القول كباطنه-  لكان إنما يقصد تفضيل قتلة زيد على قتلة مالك-  و الحال في ذلك أظهر-  لأن زيدا قتل في بعث المسلمين ذابا عن وجوههم-  و مالك قتل على شبهة و بين الأمرين فرق- .

و أما قوله في النبي ص صاحبك-  فقد قال أهل العلم إنه أراد القرشية-  لأن خالدا قرشي-  و بعد فليس في ظاهر إضافته إليه-  دلالة على نفيه له عن نفسه-  و لو كان علم من مقصده-  الاستخفاف و الإهانة على ما ادعاه صاحب الكتاب-  لوجب أن يعتذر خالد بذلك-  عند أبي بكر و عمر-  و يعتذر به أبو بكر لما طالبه عمر بقتله-  فإن عمر-  ما كان يمنع من قتل قادح في نبوة النبي ص-  و إن كان الأمر على ذلك فأي معنى لقول أبي بكر-  تأول فأخطأ-  و إنما تأول فأصاب إن كان الأمر على ما ذكرقلت أما تعجب المرتضى-  من كون قوم منعوا الزكاة و أقاموا على الصلاة-  و دعواه أن هذا غير ممكن و لا صحيح-  فالعجب منه كيف ينكر وقوع ذلك-  و كيف ينكر إمكانه-  أما الإمكان فلأنه لا ملازمة بين العبادتين-  إلا من كونهما مقترنتين في بعض المواضع في القرآن-  و ذلك لا يوجب تلازمهما في الوجود-  أو من قوله إن الناس يعلمون-  كون الزكاة واجبة في دين الإسلام ضرورة-  كما تعلمون كون الصلاة في دين الإسلام ضرورة-  و هذا لا يمنع اعتقادهم سقوط وجوب الزكاة-  لشبهة دخلت عليهم-  فإنهم قالوا إن الله تعالى قال لرسوله-  خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها-  وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ-  قالوا فوصف الصدقة المفروضة-  بأنها صدقة من شأنها أن يطهر رسول الله ص الناس-  و يزكيهم بأخذها منهم-  ثم عقب ذلك بأن فرض عليه مع أخذ الزكاة منهم-  أن يصلي عليهم صلاة تكون سكنا لهم-  قالوا و هذه الصفات لا تتحقق في غيره-  لأن غيره لا يطهر الناس و يزكيهم بأخذ الصدقة-  و لا إذا صلى على الناس كانت صلاته سكنا لهم-  فلم يجب علينا دفع الزكاة إلى غيره-  و هذه الشبهة لا تنافي كون الزكاة-  معلوما وجوبها ضرورة من دين محمد ص-  لأنهم ما جحدوا وجوبها-  و لكنهم قالوا إنه وجوب مشروط-  و ليس يعلم بالضرورة انتفاء كونها مشروطة-  و إنما يعلم ذلك بنظر و تأويل-  فقد بان أن ما ادعاه من الضرورة-  ليس بدال على أنه لا يمكن أحد-  اعتقاد نفي وجوب الزكاة بعد موت الرسول-  و لو عرضت مثل هذه الشبهة في صلاة-  لصح لذاهب أن يذهب إلى أنها قد سقطت عن الناس-  فأما الوقوع فهو المعلوم ضرورة بالتواتر-  كالعلم بأن أبا بكر ولي الخلافة بعد الرسول ص-  ضرورة بطريق التواتر-  و من أراد الوقوف على ذلك فلينظر في كتب التواريخ- فإنها تشتمل من ذلك على ما يشفي و يكفي-  و قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري-  في التاريخ الكبير بإسناد ذكره-  أن أبا بكر أقام بالمدينة بعد وفاة رسول الله ص-  و توجيهه أسامة في جيشه-  إلى حيث قتل أبوه زيد بن حارثة لم يحدث شيئا-  و جاءته وفود العرب مرتدين-  يقرون بالصلاة و يمنعون الصدقة-  فلم يقيل منهم و ردهم-  و أقام حتى قدم أسامة بعد أربعين يوما من شخوصه-  و يقال بعد سبعين يوما- . و روى أبو جعفر قال امتنعت العرب قاطبة-  من أداء الزكاة بعد رسول الله ص إلا قريشا و ثقيفا- . و روى أبو جعفر عن السري عن شعيب عن سيف-  عن هشام بن عروة عن أبيه قال-  ارتدت العرب و منعت الزكاة إلا قريشا و ثقيفا-  فأما هوازن فقدمت رجلا و أخرت أخرى-  أمسكوا الصدقة- .

و روى أبو جعفر قال-  لما منعت العرب الزكاة-  كان أبو بكر ينتظر قدوم أسامة بالجيش-  فلم يحارب أحدا قبل قدومه إلا عبسا و ذبيان-  فإنه قاتلهم قبل رجوع أسامة- . و روى أبو جعفر قال-  قدمت وفود من قبائل العرب المدينة-  فنزلوا على وجوه الناس بها-  و يحملونهم إلى أبي بكر أن يقيموا الصلاة-  و ألا يؤتوا الزكاة فعزم الله لأبي بكر على الحق-  و قال لو منعوني عقال بعير لجاهدتهم عليه- . و روى أبو جعفر شعرا للخطيل بن أوس-  أخي الحطيئة في معنى منع الزكاة-  و أن‏أبا بكر رد سؤال العرب و لم يجبهم من جملته- 

  أطعنا رسول الله إذا كان بيننا
فيا لعباد الله ما لأبي بكر

أ يورثها بكر إذا مات بعده‏
و تلك لعمر الله قاصمة الظهر

فهلا رددتم وفدنا بإجابة
و هلا حسبتم منه راعية البكر

فإن الذي سألوكم فمنعتم‏
لكالتمر أو أحلى لحلف بني فهر

و روى أبو جعفر قال-  لما قدمت العرب المدينة على أبي بكر-  فكلموه في إسقاط الزكاة-  نزلوا على وجوه الناس بالمدينة-  فلم يبق أحد إلا و أنزل عليه ناسا منهم-  إلا العباس بن عبد المطلب-  ثم اجتمع إلى أبي بكر المسلمون-  فخوفوه بأس العرب و اجتماعها-  قال ضرار بن الأزور-  فما رأيت أحدا ليس رسول الله أملأ بحرب شعواء-  من أبي بكر فجعلنا نخوفه و نروعه-  و كأنما إنما نخبره بما له لا ما عليه-  و اجتمعت كلمة المسلمين على إجابة العرب إلى ما طلبت-  و أبى أبو بكر أن يفعل إلا ما كان يفعله رسول الله ص-  و أن يأخذ إلا ما كان يأخذ-  ثم أجلهم يوما و ليلة ثم أمرهم بالانصراف-  و طاروا إلى عشائرهم- .

و روى أبو جعفر قال-  كان رسول الله ص-  بعث عمرو بن العاص إلى عمان قبل موته-  فمات و هو بعمان فأقبل قافلا إلى المدينة-  فوجد العرب قد منعت الزكاة-  فنزل في بني عامر على قرة بن هبيرة-  و قرة يقدم رجلا و يؤخر أخرى-  و على ذلك بنو عامر كلهم إلا الخواص-  ثم قدم المدينة فأطافت به قريش-  فأخبرهم أن العساكر معسكرة حولهم-  فتفرق المسلمون و تحلقوا حلقا-  و أقبل عمر بن الخطاب-  فمر بحلقةو هم يتحدثون فيما سمعوا من عمرو-  و في تلك الحلقة علي و عثمان و طلحة و الزبير-  و عبد الرحمن بن عوف و سعد-  فلما دنا عمر منهم سكتوا-  فقال في أي شي‏ء أنتم فلم يخبروه-  فقال ما أعلمني بالذي خلوتم عليه-  فغضب طلحة و قال الله يا ابن الخطاب إنك لتعلم الغيب-  فقال لا يعلم الغيب إلا الله و لكن أظن قلتم-  ما أخوفنا على قريش من العرب و أخلقهم-  ألا يقروا بهذا الأمر-  قالوا صدقت-  فقال فلا تخافوا هذه المنزلة-  أنا و الله منكم على العرب أخوف مني عليكم من العرب- .

قال أبو جعفر و حدثني السري قال-  حدثنا شعيب عن سيف عن هشام بن عروة عن أبيه قال-  نزل عمرو بن العاص بمنصرفه من عمان-  بعد وفاة رسول الله ص-  بقرة بن هبيرة بن سلمة بن يسير-  و حوله عساكر من أفنائهم فذبح له-  و أكرم منزلته فلما أراد الرحلة خلا به و قال-  يا هذا إن العرب لا تطيب لكم أنفسا بالإتاوة-  فإن أنتم أعفيتموها من أخذ أموالها فستسمع و تطيع-  و إن أبيتم فإنها تجتمع عليكم-  فقال عمرو أ توعدنا بالعرب و تخوفنا بها-  موعدنا حفش أمك أما و الله لأوطئنه عليك الخيل-  و قدم على أبي بكر و المسلمين فأخبرهم- .

و روى أبو جعفر قال-  كان رسول الله ص-  قد فرق عماله في بني تميم على قبض الصدقات-  فجعل الزبرقان بن بدر على عوف و الرباب-  و قيس بن عاصم على مقاعس و البطون-  و صفوان بن صفوان و سبرة بن عمرو على بني عمرو-  و مالك بن نويرة على بني حنظلة-  فلما توفي رسول الله ص ضرب صفوان إلى أبي بكر-  حين وقع إليه الخبر بموت النبي ص بصدقات بني عمرو-  و بما ولي منها و ما ولي سبرة-  و أقام سبرة في قومه لحدث إن ناب-  و أطرق قيس بن عاصم ينظر ما الزبرقان صانع-  فكان له عدوا و قال و هو ينتظره و ينتظر ما يصنع-  و يلي عليه ما أدري ما أصنع-  إن أنابايعت أبا بكر و أتيته بصدقات قومي-  خلفني فيهم فساءني عندهم-  و إن رددتها عليهم فليأتين أبا بكر فيسوءني عنده-  ثم عزم قيس على قسمتها في مقاعس و البطون-  ففعل و عزم الزبرقان على الوفاء-  فاتبع صفوان بصدقات عوف و الرباب-  حتى قدم بها المدينة و قال شعرا يعرض فيه بقيس بن عاصم-  و من جملته- 

وفيت بأذواد الرسول و قد أبت
سعاة فلم يردد بعيرا أميرها

فلما أرسل أبو بكر إلى قيس العلاء بن الحضرمي-  أخرج الصدقة فأتاه بها و قدم معه إلى المدينة- . و في تاريخ أبي جعفر الطبري من هذا الكثير الواسع-  و كذلك في تاريخ غيره من التواريخ-  و هذا أمر معلوم باضطرار لا يجوز لأحد أن يخالف فيه فأما قوله كيف يصح ذلك و قد قال لهم أبو بكر-  إذا أذنوا و أقاموا كإقامتكم فكفوا عنهم-  فجعل أمارة الإسلام و البراءة من الردة-  الأذان و الإقامة-  فإنه قد أسقط بعض الخبر-  قال أبو جعفر الطبري في كتابه-  كانت وصيته لهم إذا نزلتم فأذنوا و أقيموا-  فإن أذن القوم و أقاموا فكفوا عنهم-  فإن لم يفعلوا فلا شي‏ء إلا الغارة-  ثم اقتلوهم كل قتلة-  الحرق فما سواه-  و إن أجابوا داعية الإسلام فاسألوهم-  فإن أقروا بالزكاة فاقبلوا منهم-  و إن أبوا فلا شي‏ء إلا الغارة و لا كلمة- .

فأما قوله-  و كيف يطلق قاضي القضاة في سائر أهل الردة-  ما أطلقه من أنهم كانوا يصلون-  و من جملتهم أصحاب مسيلمة و طلحة-  فإنما أراد قاضي القضاة بأهل الردة هاهنا-  مانعي الزكاة لا غير-  و لم يرد من جحد الإسلام بالكلية- . فأما قصة مالك بن نويرة و خالد بن الوليد-  فإنها مشتبهة عندي و لا غرو فقد اشتهت على الصحابة-  و ذلك أن من حضرها من العرب اختلفوا في حال القوم-  هل كان‏ عليهم شعار الإسلام أو لا-  و اختلف أبو بكر و عمر في خالد مع شدة اتفاقهما-  فأما الشعر الذي رواه المرتضى لمالك بن نويرة-  فهو معروف إلا البيت الأخير فإنه غير معروف-  و عليه عمدة المرتضى في هذا المقام-  و ما ذكره بعد من قصة القوم صحيح كله-  مطابق لما في التواريخ إلا مويضعات يسيرة- .

منها قوله-  إن مالكا نهى قومه عن الاجتماع على منع الصدقات-  فإن ذلك غير منقول-  و إنما المنقول أنه نهى قومه عن الاجتماع في موضع واحد-  و أمرهم أن يتفرقوا في مياههم-  ذكر ذلك الطبري و لم يذكر نهيه إياهم-  عن الاجتماع على منع الصدقة-  و قال الطبري إن مالكا تردد في أمره-  هل يحمل الصدقات أم لا-  فجاءه خالد و هو متحير سبح- . و منها أن الطبري ذكر أن ضرار بن الأزور-  قتل مالكا عن غير أمر خالد-  و أن خالدا لما سمع الواعية خرج و قد فرغوا منهم-  فقال إذا أراد الله أمرا أصابه-  قال الطبري و غضب أبو قتادة لذلك-  و قال لخالد هذا عملك-  و فارقه و أتى أبا بكر فأخبره فغضب عليه أبو بكر-  حتى كلمه فيه عمر فلم يرض إلا أن يرجع إلى خالد-  فرجع إليه حتى قدم معه المدينة- .

و منها أن الطبري روى أن خالدا-  لما تزوج أم تميم بنت المنهال امرأة مالك-  لم يدخل بها و تركها حتى تقضي طهرها-  و لم يذكر المرتضى ذلك- . و منها أن الطبري روى-  أن متمما لما قدم المدينة طلب إلى أبي بكر في سبيهم-  فكتب له برد السبي-  و المرتضى ذكر أنه لم يرد إلا في خلافة عمر- . فأما قول المرتضى إن قول متمم-  لو قتل أخي على مثل ما قتل عليه أخوك لما رثيته-لا يدل على ردته فصحيح-  و لا ريب أنه قصد تقريظ زيد بن الخطاب-  و أن يرضي عمر أخاه بذلك-  و نعما قال المرتضى إن بين القتلتين فرقا ظاهرا-  و إليه أشار متمم لا محالة- . فأما قول مالك صاحبك يعني النبي ص-  فقد روى هذه اللفظة الطبري في التاريخ قال-  كان خالد يعتذر عن قتله فيقول-  إنه قال له و هو يراجعه-  ما إخال صاحبكم إلا قال كذا و كذا-  فقال له خالد أ و ما تعده لك صاحبا-  و هذه لعمري كلمة جافية و إن كان لها مخرج في التأويل-  إلا أنه مستكره-  و قرائن الأحوال يعرفها من شاهدها و سمعها-  فإذا كان خالد قد كان يعتذر بذلك-  فقد اندفع قول المرتضى هلا اعتذر بذلك-  و لست أنزه خالدا عن الخطإ-  و أعلم أنه كان جبارا فاتكا-  لا يراقب الدين فيما يحمله عليه الغضب و هوى نفسه-  و لقد وقع منه في حياة رسول الله ص-  مع بني خذيمة بالغميصاء-  أعظم مما وقع منه في حق مالك بن نويرة-  و عفا عنه رسول الله ص-  بعد أن غضب عليه مدة و أعرض عنه-  و ذلك العفو هو الذي أطمعه-  حتى فعل ببني يربوع ما فعل بالبطاح.

الطعن الثامن

قولهم إن مما يؤثر في حاله و حال عمر-  دفنهما مع رسول الله ص في بيته-  و قد منع الله تعالى الكل من ذلك-  في حال حياته فكيف بعد الممات-  بقوله تعالى-  لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ- . أجاب قاضي القضاة بأن الموضع كان ملكا لعائشة-  و هي حجرتها التي كانت‏معروفة بها-  و الحجر كلها كانت أملاكا لأزواج النبي ص-  و قد نطق القرآن بذلك في قوله-  وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ-  و ذكر أن عمر استأذن عائشة-  في أن يدفن في ذلك الموضع-  و حتى قال إن لم تأذن لي فادفنوني في البقيع-  و على هذا الوجه يحمل-  ما روي عن الحسن ع أنه لما مات-  أوصى أن يدفن إلى جنب رسول الله ص-  و إن لم يترك ففي البقيع-  فلما كان من مروان و سعيد بن العاص ما كان دفن بالبقيع-  و إنما أوصى بذلك بإذن عائشة-  و يجوز أن يكون علم من عائشة-  أنها جعلت الموضع في حكم الوقف-  فاستباحوا ذلك لهذا الوجه-  قال و في دفنه ع في ذلك الموضع ما يدل على فضل أبي بكر-  لأنه ع لما مات اختلفوا في موضع دفنه-  و كثر القول حتى روى أبو بكر عنه ص أنه قال-  ما يدل على أن الأنبياء إذا ماتوا دفنوا حيث ماتوا-  فزال الخلاف في ذلك- .

اعترض المرتضى فقال-  لا يخلو موضع قبر النبي ص من أن يكون باقيا على ملكه ع-  أو يكون انتقل في حياته إلى عائشة على ما ادعاه-  فإن كان الأول لم يخل أن يكون ميراثا بعده أو صدقة-  فإن كان ميراثا فما كان يحل لأبي بكر و لا لعمر من بعده-  أن يأمرا بدفنهما فيه إلا بعد إرضاء الورثة-  الذين هم على مذهبنا فاطمة و جماعة الأزواج-  و على مذهبهم هؤلاء و العباس-  و لم نجد واحدا منهما خاطب أحدا من هؤلاء الورثة-  على ابتياع هذا المكان و لا استنزله عنه بثمن و لا غيره-  و إن كان صدقة-  فقد كان يجب أن يرضى عنه جماعة المسلمين و يبتاعه منهم-  هذا إن جاز الابتياع لما يجري هذا المجرى-  و إن كان انتقل في حياته-  فقد كان يجب أن يظهر سبب انتقاله و الحجة فيه-  فإن فاطمة ع-  لم يقنع منها في انتقال فدك إلى ملكها بقولها-  و لا بشهادة من‏شهد لها-  فأما تعلقه بإضافة البيوت إليهن في قوله-  وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ فمن ضعيف الشبهة-  لأنا قد بينا فيما مضى من هذا الكتاب-  أن هذه الإضافة لا تقتضي الملك و إنما تقتضي السكنى-  و العادة في استعمال هذه اللفظة فيما ذكرناه ظاهرة-  قال تعالى لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ-  و لم يرد الله تعالى إلا حيث يسكن و ينزلن-  دون حيث يملكن و ما أشبهه-  و أظرف من كل شي‏ء تقدم قوله-  إن الحسن ع استأذن عائشة في أن يدفن في البيت-  حتى منعه مروان و سعيد بن العاص-  لأن هذه مكابرة منه ظاهرة-  فإن المانع للحسن ع من ذلك لم يكن إلا عائشة-  و لعل من ذكره من مروان و سعيد و غيرهما-  أعانها و اتبع في ذلك أمرهما- 

و روي أنها خرجت في ذلك اليوم على بغل-  حتى قال ابن عباس يوما على بغل و يوما على جمل-  فكيف تأذن عائشة في ذلك و هي مالكة الموضع على قولهم-  و يمنع منه مروان و غيره-  ممن لا ملك له في الموضع و لا شركة و لا يد-  و هذا من قبيح ما يرتكب-  و أي فضل لأبي بكر في روايته عن النبي ص حديث الدفن-  و عملهم بقوله إن صح فمن مذهب صاحب الكتاب و أصحابه-  العمل بخبر الواحد العدل في أحكام الدين العظيمة-  فكيف لا يعمل بقول أبي بكر في الدفن-  و هم يعملون بقول من هو دونه فيما هو أعظم من ذلك قلت أما أبو بكر فإنه لا يلحقه بدفنه مع الرسول ص ذم-  لأنه ما دفن نفسه و إنما دفنه الناس و هو ميت-  فإن كان ذلك خطأ فالإثم و الذم لاحقان بمن فعل به ذلك-  و لم يثبت عنه بأنه أوصى أن يدفن مع رسول الله ص- 

و إنما قد يمكن أن يتوجه هذا الطعن إلى عمر-  لأنه سأل عائشة أن يدفن في الحجرة-  مع رسول الله ص و أبي بكر-  و القول عندي مشتبه في أمر حجر الأزواج- هل كانت على ملك رسول الله ص إلى أن توفي-  أم ملكها نساؤه-  و الذي تنطق به التواريخ أنه لما خرج من قباء-  و دخل المدينة و سكن منزل أبي أيوب-  اختط المسجد و اختط حجر نسائه و بناته-  و هذا يدل على أنه كان المالك للمواضع-  و أما خروجها عن ملكه إلى الأزواج و البنات-  فمما لم أقف عليه-  و يجوز أن تكون الصحابة قد فهمت-  من قرائن الأحوال و مما شاهدوه منه ع-  أنه قد أقر كل بيت منها في يد زوجة من الزوجات-  على سبيل الهبة و العطية-  و إن لم ينقل عنه في ذلك صيغة لفظ معين-  و القول في بيت فاطمة ع كذلك-  لأن فاطمة ع لم تكن تملك مالا-  و علي ع بعلها كان فقيرا في حياة رسول الله ص-  حتى أنه كان يستقي الماء ليهود بيده-  يسقي بساتينهم لقوت يدفعونه إليه-  فمن أين كان له ما يبتاع به حجرة يسكن فيها هو و زوجته-  و القول في كثير من الزوجات كذلك-  أنهن كن فقيرات مدقعات-  نحو صفية بنت حيي بن أخطب و جويرية بنت الحارث-  و ميمونة و غيرهن-  فلا وجه يمكن أن يتملك منه هؤلاء النسوة و البنت الحجر-  إلا أن يكون رسول الله ص وهبها لهن-  هذا إن ثبت أنها خرجت عن ملكيته ع-  و إلا فهي باقية على ملكيته باستصحاب الحال-  و القول في حجرة زينب بنت رسول الله ص كذلك-  لأنه أقدمها من مكة-  مفارقة لبعلها أبي العاص بن الربيع-  فأسكنها بالمدينة في حجرة منفردة خالية عن بعل-  فلا بد أن تكون تلك الحجرة بمقتضى ما يتغلب على الظن-  ملكا له ع-  فيستدام الحكم بملكه لها-  إلى أن نجد دليلا ينقلنا عن ذلك-  و أما رقية و أم كلثوم زوجتا عثمان-  فإن كان مثريا ذا مال-  فيجوز أن يكون ابتاع حجرة-  سكنت فيها الأولى منهما ثم الثانية بعدها- .

 

فأما احتجاج قاضي القضاة بقوله-  وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ-  فاعتراض المرتضى عليه قوي-  لأن هذه الإضافة إنما تقتضي التخصيص فقط لا التمليك-  كما قال-  لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ-  و يجوز أن يكون أبو بكر لما روى قوله-  نحن لا نورث-  ترك الحجر في أيدي الزوجات و البنت-  على سبيل الإقطاع لهن لا التمليك أي أباحهن السكنى-  لا التصرف في رقاب الأرض و الأبنية و الآلات-  لما رأى في ذلك من المصلحة-  و لأنه كان من المتهجن القبيح إخراجهن من البيوت-  و ليس كذلك فدك-  فإنها قرية كبيرة ذات نخل كثير خارجة عن المدينة-  و لم تكن فاطمة متصرفة فيها من قبل نفسها و لا بوكيلها-  و لا رأتها قط فلا تشبه حالها حال الحجر-  و أيضا لإباحة هذه الحجر و نزارة أثمانهن-  فإنها كانت مبنية من طين قصيرة الجدران-  فلعل أبا بكر و الصحابة استحقروها-  فأقروا النساء فيها-  و عوضوا المسلمين عنها بالشي‏ء اليسير-  مما يقتضي الحساب أن يكون من سهم الأزواج و البنت-  عند قسمة الفي‏ء- .

و أما القول في الحسن و ما جرى من عائشة و بني أمية-  فقد تقدم-  و كذلك القول في الخبر المروي في دفن الرسول ع-  فكان أبو المظفر هبة الله بن الموسوي صدر المخزن المعمور-  كان في أيام الناصر لدين الله-  إذا حادثته حديث وفاة رسول الله ص و رواية أبي بكر-  ما رواه من قوله ع الأنبياء يدفنون حيث يموتون-  يحلف أن أبا بكر افتعل هذا الحديث في الحال و الوقت-  ليدفن النبي ص في حجرة ابنته-  ثم يدفن هو معه عند موته-  علما منه أنه لم يبق من عمره إلا مثل ظم‏ء الحمار-  و أنه إذا دفن النبي ص في حجرة ابنته-  فإن ابنته تدفنه لا محالة في حجرتها عند بعلها-  و إن دفن النبي ص في موضع‏آخر-  فربما لا يتهيأ له أن يدفن عنده-  فرأى أن هذا الفوز بهذا الشرف العظيم-  و هذا المكان الجليل-  مما لا يقتضي حسن التدبير فوته-  و إن انتهاز الفرصة فيه واجب-  فروى لهم الخبر فلا يمكنهم بعد روايته ألا يعملوا به-  لا سيما و قد صار هو الخليفة-  و إليه السلطان و النفع و الضرر-  و أدرك ما كان في نفسه-  ثم نسج عمر على منواله-  فرغب إلى عائشة في مثل ذلك-  و قد كان يكرمها-  و يقدمها على سائر الزوجات في العطاء و غيره-  فأجابته إلى ذلك-  و كان مطاعا في حياته و بعد مماته-  و كان يقول وا عجبا للحسن-  و طمعه في أن يدفن في حجرة عائشة-  و الله لو كان أبوه الخليفة يومئذ لما تهيأ له ذلك-  و لا تم لبغض عائشة لهم و حسد الناس إياهم-  و تمالؤ بني أمية و غيرهم من قريش عليهم-  و لهذا قالوا يدفن عثمان في حش كوكب-  و يدفن الحسن في حجرة رسول الله ص-  فكيف و الخليفة معاوية و الأمراء بالمدينة بنو أمية-  و عائشة صاحبة الموضع-  و الناصر لبني هاشم قليل و الشانئ كثير- . و أنا أستغفر الله مما كان أبو المظفر يحلف عليه-  و أعلم و أظن ظنا شبيها بالعلم-  أن أبا بكر ما روى إلا ما سمع-  و أنه كان أتقى لله من ذلك.

الطعن التاسع

قولهم إنه نص على عمر بالخلافة-  فخالف رسول الله ص على زعمه-  لأنه كان يزعم هو و من قال بقوله-  أن رسول الله ص لم يستخلف- .و الجواب أن كونه لم يستخلف-  لا يدل على تحريم الاستخلاف-  كما أنه من لم يركب الفيل لا يدل على تحريم ركوب الفيل-  فإن قالوا ركوب الفيل فيه منفعة و لا مضرة فيه-  و لم يرد نص بتحريمه فوجب أن يحسن-  قيل لهم و الاستخلاف مصلحة و لا مضرة فيه-  و قد أجمع المسلمون أنه طريق إلى الإمامة-  فوجب كونه طريقا إليها-  و قد روي عن عمر أنه قال إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني يعني أبا بكر-  و إن أترك فقد ترك من هو خير مني يعني رسول الله ص-  فأما الاجتماع المشار إليه-  فهو أن الصحابة أجمعوا-  على أن عمر إمام بنص أبي بكر عليه-  و أنفذوا أحكامه و انقادوا إليه-  لأجل نص أبي بكر لا لشي‏ء سواه-  فلو لم يكن ذلك طريقا إلى الإمامة لما أطبقوا عليه-  و قد اختلف الشيخان أبو علي و أبو هاشم-  في أن نص الإمام على إمام بعده-  هل يكفي في انعقاد إمامته-  فقال أبو علي لا يكفي-  بل لا بد من أن يرضى به أربعة-  حتى يجري عهده إليه مجرى عقد الواحد برضا أربعة-  فإذا قارنه رضا أربعة صار بذلك إماما-  و يقول في بيعة عمر-  أن أبا بكر أحضر جماعة من الصحابة لما نص عليه-  و رجع إلى رضاهم بذلك-  و قال أبو هاشم بل يكفي نصه ع-  و لا يراعى في ذلك رضا غيره به-  و لو ثبت أن أبا بكر فعله-  لكان على طريق التبع للنص-  لا أنه يؤثر في إمامته مع العهد-  و لعل أبا بكر إن كان فعل ذلك فقد استطاب به نفوسهم-  و لهذا لم يؤثر فيه كراهية طلحة حين قال-  وليت علينا فظا غليظا-  و يبين ذلك أنه لم ينقل استئناف العقد من الصحابة-  لعمر بعد موت أبي بكر-  و لا اجتماع جماعة لعقد البيعة له و الرضا به-  فدل على أنهم اكتفوا بعهد أبي بكر إليه

 

الطعن العاشر

–  قولهم إنه سمى نفسه بخليفة رسول الله ص-  لاستخلافه إياه بعد موته-  مع اعترافه أنه لم يستخلفه- . و الجواب أن الصحابة سمته خليفة رسول الله ص-  لاستخلافه إياه على الصلاة عند موته-  و الاستخلاف على الصلاة عند الموت له مزية-  على الاستخلاف على الصلاة حال الحياة-  لأن حال الموت هي الحال التي تكون فيها العهود-  و الوصايا و ما يهتم به الإنسان من أمور الدنيا و الدين-  لأنها حال المفارقة-  و أيضا فإن رسول الله ص-  ما استخلف أحدا على الصلاة بالمدينة و هو حاضر-  و إنما كان يستخلف على الصلاة قوما-  أيام غيبته عن المدينة-  فلم يحصل الاستخلاف المطلق على الصلاة بالناس كلهم-  و هو ص حاضر بين الناس حي إلا لأبي بكر-  و هذه مزية ظاهرة على سائر الاستخلافات في أمر الصلاة-  فلذلك سموه خليفة رسول الله ص-  و بعد فإذا ثبت أن الإجماع على كون الاختيار-  طريقا إلى الإمامة و حجة-  و ثبت أن قوما من أفاضل الصحابة اختاروه للخلافة-  فقد ثبت أنه خليفة رسول الله ص-  لأنه لا فرق بين أن ينص الرسول ص-  على شخص معين-  و بين أن يشير إلى قوم فيقول-  من اختار هؤلاء القوم فهو الإمام-  في أن كل واحد منهما يصح أن يطلق عليه خليفة رسول الله ص.

 

الطعن الحادي عشر

قولهم إنه حرق الفجاءة السلمي بالنار-  و قد نهى النبي ص أن يحرق أحد بالنار- . و الجواب أن الفجاءة جاء إلى أبي بكر-  كما ذكر أصحاب التواريخ-  فطلب منه سلاحا يتقوى به على الجهاد في أهل الردة-  فأعطاه فلما خرج قطع الطريق-  و نهب أموال المسلمين و أهل الردة جميعا-  و قتل كل من وجد-  كما فعلت الخوارج حيث خرجت-  فلما ظفر به أبو بكر رأى حرقه بالنار-  إرهابا لأمثاله من أهل الفساد-  و يجوز للإمام أن يخص النص العام بالقياس الجلي عندنا.

الطعن الثاني عشر

قولهم إنه تكلم في الصلاة قبل التسليم-  فقال لا يفعلن خالد ما أمرته-  قالوا و لذلك جاز عند أبي حنيفة-  أن يخرج الإنسان من الصلاة بالكلام و غيره-  من مفسدات الصلاة من دون تسليم-  و بهذا احتج أبو حنيفة- . و الجواب أن هذا من الأخبار التي تتفرد بها الإمامية-  و لم تثبت-  و أما أبو حنيفة فلم يذهب إلى ما ذهب إليه-  لأجل هذا الحديث-  و إنما احتج بأن التسليم خطاب آدمي-  و ليس هو من الصلاة و أذكارها-  و لا من أركانها بل هو ضدها-  و لذلك يبطلها قبل التمام-  و لذلك لا يسلم المسبوق تبعا لسلام الإمام-  بل يقوم من غير تسليم-  فدل على أنه ضد للصلاة-  و جميع الأضداد بالنسبة إلى رفع الضد-  على وتيرة واحدة-  و لذلك استوى الكل في‏ الإبطال قبل التمام-  فيستوي الكل في الانتهاء بعد التمام-  و ما يذكره القوم من سبب كلام أبي بكر في الصلاة أمر بعيد-  و لو كان أبو بكر يريد ذلك-  لأمر خالد أن يفعل ذلك الفعل بالشخص المعروف-  و هو نائم ليلا في بيته-  و لا يعلم أحد من الفاعل.

الطعن الثالث عشر

قولهم إنه كتب إلى خالد بن الوليد و هو على الشام-  يأمره أن يقتل سعد بن عبادة-  فكمن له هو و آخر معه ليلا-  فلما مر بهما رمياه فقتلاه-  و هتف صاحب خالد في ظلام الليل-  بعد أن ألقيا سعدا في بئر هناك فيها ماء ببيتين- 

نحن قتلنا سيد الخزرج
سعد بن عباده‏

و رميناه بسهمين‏
فلم تخط فؤاده‏

 يوهم أن ذلك شعر الجن و أن الجن قتلت سعدا-  فلما أصبح الناس فقدوا سعدا-  و قد سمع قوم منهم ذلك الهاتف فطلبوه-  فوجدوه بعد ثلاثة أيام في تلك البئر و قد اخضر-  فقالوا هذا مسيس الجن-  و قال شيطان الطاق لسائل سأله-  ما منع عليا أن يخاصم أبا بكر في الخلافة-  فقال يا ابن أخي خاف أن تقتله الجن- . و الجواب-  أما أنا فلا أعتقد أن الجن قتلت سعدا-  و لا أن هذا شعر الجن و لا أرتاب أن البشر قتلوه-  و أن هذا الشعر شعر البشر-  و لكن لم يثبت عندي أن أبا بكر أمر خالدا-  و لا أستبعد أن يكون فعله من تلقاء نفسه-  ليرضى بذلك أبا بكر و حاشاه-  فيكون الإثم على‏خالد و أبو بكر بري‏ء من إثمه-  و ما ذلك من أفعال خالد ببعيد.

الطعن الرابع عشر

قولهم إنه لما استخلف قطع لنفسه على بيت المال أجرة-  كل يوم ثلاثة دراهم-  قالوا و ذلك لا يجوز-  لأن مصارف أموال بيت المسلمين-  لم يذكر فيها أجرة للإمام- . و الجواب أنه تعالى جعل في جملة مصرف أموال الصدقات-  العاملين عليها و أبو بكر من العاملين-  و اعلم أن الإمامية لو أنصفت لرأت أن هذا الطعن-  بأن يكون من مناقب أبي بكر-  أولى من أن يكون من مساويه و مثالبه-  و لكن العصبية لا حيلة فيها.

الطعن الخامس عشر

قولهم إنه لما استخلف صرخ مناديه في المدينة-  من كان عنده شي‏ء من كلام الله فليأتنا به-  فإنا عازمون على جمع القرآن-  و لا يأتنا بشي‏ء منه إلا و معه شاهدا عدل-  قالوا و هذا خطأ-  لأن القرآن قد بان بفصاحته عن فصاحة البشر-  فأي حاجة إلى شاهدي عدل- . و الجواب أن المرتضى و من تابعه من الشيعة-  لا يصح لهم هذا الطعن-  لأن القرآن عندهم ليس معجزا بفصاحته-  على أن من جعل معجزته للفصاحة لم يقل-  إن كل آية من القرآن هي معجزة في الفصاحة-  و أبو بكر إنما طلب كل آية من القرآن-  لا السورة بتمامها و كمالها-  التي يتحقق الإعجاز من طريق الفصاحة فيها-  و أيضا فإنه لو أحضر إنسان آية أو آيتين-  و لم يكن معه شاهد فربما تختلف العرب-  هل هذه في الفصاحة بالغةمبلغ الإعجاز الكلي-  أم هي ثابتة من كلام العرب بثبوته-  غير بالغة إلى حد الإعجاز-  فكان يلتبس الأمر و يقع النزاع-  فاستظهر أبو بكر بطلب الشهود تأكيدا-  لأنه إذا انضمت الشهادة إلى الفصاحة الظاهرة-  ثبت أن ذلك الكلام من القرآن

وَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ-  إِنِّي وَ اللَّهِ لَوْ لَقِيتُهُمْ وَاحِداً وَ هُمْ طِلَاعُ الْأَرْضِ كُلِّهَا-  مَا بَالَيْتُ وَ لَا اسْتَوْحَشْتُ-  وَ إِنِّي مِنْ ضَلَالِهِمُ الَّذِي هُمْ فِيهِ-  وَ الْهُدَى الَّذِي أَنَا عَلَيْهِ-  لَعَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ نَفْسِي وَ يَقِينٍ مِنْ رَبِّي-  وَ إِنِّي إِلَى لِقَاءِ اللَّهِ لَمُشْتَاقٌ-  وَ لِحُسْنِ ثَوَابِهِ لَمُنْتَظِرٌ رَاجٍ-  وَ لَكِنَّنِي آسَى أَنْ يَلِيَ هَذِهِ الْأُمَّةَ سُفَهَاؤُهَا وَ فُجَّارُهَا-  فَيَتَّخِذُوا مَالَ اللَّهِ دُوَلًا وَ عِبَادَهُ خَوَلًا-  وَ الصَّالِحِينَ حَرْباً وَ الْفَاسِقِينَ حِزْباً-  فَإِنَّ مِنْهُمُ الَّذِي شَرِبَ فِيكُمُ الْحَرَامَ-  وَ جُلِدَ حَدّاً فِي الْإِسْلَامِ-  وَ إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى رُضِخَتْ لَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ الرَّضَائِخُ-  فَلَوْ لَا ذَلِكَ مَا أَكْثَرْتُ تَأْلِيبَكُمْ وَ تَأْنِيبَكُمْ-  وَ جَمْعَكُمْ وَ تَحْرِيضَكُمْ-  وَ لَتَرَكْتُكُمْ إِذْ أَبَيْتُمْ وَ وَنَيْتُمْ-  أَ لَا تَرَوْنَ إِلَى أَطْرَافِكُمْ قَدِ انْتَقَصَتْ-  وَ إِلَى أَمْصَارِكُمْ قَدِ افْتُتِحَتْ-  وَ إِلَى مَمَالِكِكُمْ تُزْوَى وَ إِلَى بِلَادِكُمْ تُغْزَى-  انْفِرُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ إِلَى قِتَالِ عَدُوِّكُمْ-  وَ لَا تَثَّاقَلُوا إِلَى الْأَرْضِ فَتُقِرُّوا بِالْخَسْفِ-  وَ تَبَوَّءُوا بِالذُّلِّ وَ يَكُونَ نَصِيبُكُمُ الْأَخَسَّ-  وَ إِنَّ أَخَا الْحَرْبِ الْأَرِقُ وَ مَنْ نَامَ لَمْ يُنَمْ عَنْهُ وَ السَّلَامُ‏ طلاع الأرض ملؤها-  و منه قول عمر لو أن لي طلاع الأرض ذهبا-  لافتديت به من هول المطلع- . و آسى أحزن- . و أكثرت تأليبكم تحريضكم و إغراءكم به-  و التأنيب أشد اللوم- . و ونيتم ضعفتم و فترتم-  و ممالككم تزوى أي تقبض- . و لا تثاقلوا بالتشديد أصله تتثاقلوا-  و تقروا بالخسف تعترفوا بالضيم و تصبروا له-  و تبوءوا بالذل ترجعوا به و الأرق الذي لا ينام-  و مثل قوله ع-  من نام لم ينم عنه قول الشاعر- 

   لله درك ما أردت بثائر
حران ليس عن الترات براقد

أسهرته ثم اضطجعت و لم ينم‏
حنقا عليك و كيف نوم الحاقد

فأما الذي رضخت له على الإسلام الرضائخ فمعاوية-  و الرضيخة شي‏ء قليل يعطاه الإنسان-  يصانع به عن شي‏ء يطلب منه كالأجر-  و ذلك لأنه من المؤلفة قلوبهم الذين رغبوا في الإسلام-  و الطاعة بجمال وشاء دفعت إليهم-  و هم قوم معروفون كمعاوية و أخيه يزيد-  و أبيهما أبي سفيان و حكيم بن حزام و سهيل بن عمرو-  و الحارث بن هشام بن المغيرة و حويطب بن عبد العزى-  و الأخنس بن شريق و صفوان بن أمية-  و عمير بن وهب الجمحي و عيينة بن حصن-  و الأقرع بن حابس و عباس بن مرداس و غيرهم-  و كان إسلام هؤلاء للطمع و الأغراض الدنياوية-  و لم يكن عن أصل و لا عن يقين و علم- .

 

و قال الراوندي-  عنى بقوله رضخت لهم الرضائخ-  عمرو بن العاص-  و ليس بصحيح لأن عمرا لم يسلم بعد الفتح-  و أصحاب الرضائخ كلهم أسلموا بعد الفتح-  صونعوا على الإسلام بغنائم حنين-  و لعمري إن إسلام عمرو كان مدخولا أيضا-  إلا أنه لم يكن عن رضيخة و إنما كان لمعنى آخر-  فأما الذي شرب الحرام و جلد في حد الإسلام-  فقد قال الراوندي هو المغيرة بن شعبة-  و أخطأ فيما قال-  لأن المغيرة إنما اتهم بالزنى و لم يحد-  و لم يجر للمغيرة ذكر في شرب الخمر-  و قد تقدم خبر المغيرة مستوفى-  و أيضا فإن المغيرة لم يشهد صفين مع معاوية و لا مع علي ع-  و ما للراوندي و لهذا-  إنما يعرف هذا الفن أربابه-  و الذي عناه علي ع الوليد بن عقبة بن أبي معيط-  و كان أشد الناس عليه-  و أبلغهم تحريضا لمعاوية و أهل الشام على حربه

أخبار الوليد بن عقبة

و نحن نذكر خبر الوليد و شربه الخمر-  منقولا من كتاب الأغاني-  لأبي الفرج علي بن الحسين الأصفهاني-  قال أبو الفرج-  كان سبب إمارة الوليد بن عقبة الكوفة لعثمان-  ما حدثني به أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال-  حدثنا عمر بن شبة قال-  حدثني عبد العزيز بن محمد بن حكيم-  عن خالد بن سعيد بن عمرو بن سعيد عن أبيه قال-  لم يكن يجلس مع عثمان على سريره-  إلا العباس بن عبد المطلب و أبو سفيان بن حرب-  و الحكم بن أبي العاص و الوليد بن عقبة-  و لم يكن سريره يسع إلا عثمان و واحدا منهم-  فأقبل الوليد يوما فجلس-  فجاء الحكم بن أبي العاص فأومأ عثمان إلى الوليد-  فرحل له عن مجلسه-  فلما قام الحكم قال الوليد-  و الله يا أمير المؤمنين لقد تلجلج في صدري بيتان-  قلتهما حين رأيتك آثرت ابن عمك على ابن أمك-  و كان الحكم عم عثمان و الوليد أخاه‏ لأمه-  فقال عثمان إن الحكم شيخ قريش فما البيتان-  فقال

   رأيت لعم المرء زلفى قرابة
دوين أخيه حادثا لم يكن قدما

فأملت عمرا أن يشب و خالدا
لكي يدعواني يوم نائبة عما

يعني عمرا و خالدا ابني عثمان-  قال فرق له عثمان و قال-  قد وليتك الكوفة فأخرجه إليها- . قال أبو الفرج و أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال-  حدثني عمر بن شبة قال-  حدثني بعض أصحابنا عن ابن دأب قال-  لما ولى عثمان الوليد بن عقبة الكوفة-  قدمها و عليها سعد بن أبي وقاص-  فأخبر بقدومه و لم يعلم أنه قد أمر فقال و ما صنع-  قالوا وقف في السوق فهو يحدث الناس هناك-  و لسنا ننكر شيئا من أمره-  فلم يلبث أن جاءه نصف النهار-  فاستأذن على سعد فأذن له-  فسلم عليه بالإمرة و جلس معه-  فقال له سعد-  ما أقدمك يا أبا وهب قال أحببت زيارتك-  قال و على ذاك أ جئت بريدا-  قال أنا أرزن من ذلك-  و لكن القوم احتاجوا إلى عملهم فسرحوني إليه-  و قد استعملني أمير المؤمنين على الكوفة-  فسكت سعد طويلا ثم قال-  لا و الله ما أدري أصلحت بعدنا أم فسدنا بعدك-  ثم قال- 

كليني و جريني ضباع و أبشري
بلحم امرئ لم يشهد اليوم ناصره‏

فقال الوليد أما و الله لأنا أقول للشعر منك-  و أروى له و لو شئت لأجبتك و لكني أدع ذاك لما تعلم-  نعم و الله لقد أمرت بمحاسبتك و النظر في أمر عمالك-  ثم بعث إلى عمال سعد فحبسهم و ضيق عليهم-  فكتبوا إلى سعد يستغيثون به-  فكلمه فيهم فقال له أ و للمعروف عندك موضع-  قال نعم فخلى سبيلهم- .

 

قال أحمد و حدثني عمر عن أبي بكر الباهلي-  عن هشيم عن العوام بن حوشب قال-  لما قدم الوليد على سعد قال له سعد-  و الله ما أدري كست بعدنا أم حمقنا بعدك-  فقال لا تجزعن يا أبا إسحاق-  فإنه الملك يتغداه قوم و يتعشاه آخرون-  فقال سعد أراكم و الله ستجعلونه ملكا- . قال أبو الفرج و حدثنا أحمد قال حدثني عمر قال-  حدثني هارون بن معروف عن ضمرة بن ربيعة-  عن ابن شوذب قال-  صلى الوليد بأهل الكوفة الغداة أربع ركعات-  ثم التفت إليهم فقال أزيدكم-  فقال عبد الله بن مسعود ما زلنا معك في زيادة منذ اليوم- . قال أبو الفرج-  و حدثني أحمد قال حدثنا عمر قال-  حدثنا محمد بن حميد قال-  حدثنا جرير عن الأجلح عن الشعبي قال-  قال الحطيئة يذكر الوليد- 

 شهد الحطيئة يوم يلقى ربه
إن الوليد أحق بالغدر

نادى و قد تمت صلاتهم‏
أ أزيدكم سكرا و لم يدر

فأبوا أبا وهب و لو أذنوا
لقرنت بين الشفع و الوتر

كفوا عنانك إذ جريت و لو
تركوا عنانك لم تزل تجري‏

و قال الحطيئة أيضا-

تكلم في الصلاة و زاد فيها
علانية و أعلن بالنفاق‏

و مج الخمر في سنن المصلي‏
و نادى و الجميع إلى افتراق‏

أزيدكم على أن تحمدوني
فما لكم و ما لي من خلاق‏

قال أبو الفرج و أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال-  حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني أبي قال-  قال أبو عبيدة و هشام بن الكلبي و الأصمعي-  كان الوليد زانيا يشرب الخمر-  فشرب بالكوفة و قام ليصلي بهم الصبح في المسجد الجامع-  فصلى بهم أربع ركعات ثم التفت إليهم فقال أزيدكم-  و تقيأ في المحراب بعد أن قرأ بهم رافعا صوته في الصلاة- 

        علق القلب الربابا
بعد ما شابت و شابا

فشخص أهل الكوفة إلى عثمان فأخبروه بخبره-  و شهدوا عليه بشرب الخمر-  فأتي به فأمر رجلا من المسلمين أن يضربه الحد-  فلما دنا منه قال نشدتك الله و قرابتي من أمير المؤمنين فتركه-  فخاف علي بن أبي طالب ع أن يعطل الحد-  فقام إليه فحده بيده-  فقال الوليد نشدتك الله و القرابة-  فقال أمير المؤمنين ع اسكت أبا وهب-  فإنما هلك بنو إسرائيل لتعطيلهم الحدود-  فلما ضربه و فرغ منه قال-  لتدعوني قريش بعدها جلادا-  قال إسحاق و حدثني مصعب بن الزبير قال-  قال الوليد بعد ما شهدوا عليه فجلد-  اللهم إنهم قد شهدوا علي بزور فلا ترضهم عن أمير-  و لا ترض عنهم أميرا-  قال و قد عكس الحطيئة أبياته فجعلها مدحا للوليد- 

شهد الحطيئة حين يلقى ربه
أن الوليد أحق بالعذر

كفوا عنانك إذ جريت و لو
تركوا عنانك لم تزل تجري‏

و رأوا شمائل ماجد أنف‏
يعطى على الميسور و العسر

فنزعت مكذوبا عليك و لم
تنزع على طمع و لا ذعر

 قال أبو الفرج و نسخت من كتاب هارون بن الرباب بخطه-  عن عمر بن شبة قال-  شهد رجل عند أبي العجاج و كان على قضاء البصرة-  على رجل من المعيطيين بشهادة-  و كان الشاهد سكران فقال المشهود عليه-  و هو المعيطي أعزك الله أيها القاضي-  إنه لا يحسن من السكر أن يقرأ شيئا من القرآن-  فقال الشاهد بلى أحسن قال فاقرأ فقال- 

علق القلب الربابا
بعد ما شابت و شابا

 يمجن بذلك-  و يحكي ما قاله الوليد في الصلاة-  و كان أبو العجاج أحمق فظن أن هذا الكلام من القرآن-  فجعل يقول صدق الله و رسوله-  ويلكم كم تعلمون و لا تعملون- . قال أبو الفرج و أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال-  حدثنا عمر بن شبة عن المدائني عن مبارك بن سلام-  عن فطر بن خليفة عن أبي الضحى قال-  كان ناس من أهل الكوفة يتطلبون عثرة الوليد بن عقبة-  منهم أبو زينب الأزدي و أبو مورع-  فجاءا يوما و لم يحضر الوليد الصلاة-  فسألا عنه فتلطفا حتى علما أنه يشرب-  فاقتحما الدار فوجداه يقي‏ء-  فاحتملاه و هو سكران حتى وضعاه على سريره-  و أخذا خاتمه من يده فأفاق فافتقد خاتمه-  فسأل عنه أهله فقالوا لا ندري-  و قد رأينا رجلين دخلا عليك-فاحتملاك فوضعاك على سريرك-  فقال صفوهما لي-  فقالوا أحدهما آدم طوال حسن الوجه-  و الآخر عريض مربوع عليه خميصة-  فقال هذا أبو زينب و هذا أبو مورع- .

قال و لقي أبو زينب و صاحبه عبد الله بن حبيش الأسدي-  و علقمة بن يزيد البكري و غيرهما-  فأخبروهم فقالوا أشخصوا إلى أمير المؤمنين فأعلموه-  و قال بعضهم إنه لا يقبل قولكم في أخيه-  فشخصوا إليه فقالوا إنا جئناك في أمر-  و نحن مخرجوه إليك من أعناقنا-  و قد قيل إنك لا تقبله-  قال و ما هو قالوا رأينا الوليد-  و هو سكران من خمر شربها-  و هذا خاتمه أخذناه من يده و هو لا يعقل- فأرسل عثمان إلى علي ع فأخبره-  فقال أرى أن تشخصه-  فإذا شهدوا عليه بمحضر منه حددته-  فكتب عثمان إلى الوليد فقدم عليه-  فشهد عليه أبو زينب و أبو مورع-  و جندب الأزدي و سعد بن مالك الأشعري-  فقال عثمان لعلي ع-  قم يا أبا الحسن فاجلده-  فقال علي ع للحسن ابنه قم فاضربه-  فقال الحسن ما لك و لهذا يكفيك غيرك-  فقال علي لعبد الله بن جعفر قم فاضربه-  فضربه بمخصرة فيها سير له رأسان-  فلما بلغ أربعين قال حسبك- .

قال أبو الفرج و حدثني أحمد قال حدثنا عمر قال-  حدثني المدائني عن الوقاصي عن الزهري قال-  خرج رهط من أهل الكوفة إلى عثمان في أمر الوليد-  فقال أ كلما غضب رجل على أميره رماه بالباطل-  لئن أصبحت لكم لأنكلن بكم-  فاستجاروا بعائشة-  و أصبح عثمان فسمع من حجرتها صوتا و كلاما-  فيه بعض الغلظة-  فقال أ ما يجد فساق العراق و مراقها ملجأ-  إلا بيت عائشة-  فسمعت فرفعت نعل رسول الله ص و قالت-  تركت سنة صاحب هذا النعل-  و تسامع الناس فجاءوا حتى ملئوا المسجد-  فمن قائل قد أحسنت و من قائل ما للنساء و لهذا-  حتى تخاصمواو تضاربوا بالنعال-  و دخل رهط من أصحاب رسول الله ص على عثمان-  فقالوا له اتق الله و لا تعطل الحدود-  و اعزل أخاك عنهم ففعل قال أبو الفرج حدثنا أحمد قال حدثني عمر-  عن المدائني عن أبي محمد الناجي-  عن مطر الوراق قال-  قدم رجل من أهل الكوفة إلى المدينة-  فقال لعثمان إني صليت صلاة الغداة خلف الوليد-  فالتفت في الصلاة إلى الناس فقال أ أزيدكم-  فإني أجد اليوم نشاطا-  و شممنا منه رائحة الخمر-  فضرب عثمان الرجل-  فقال الناس عطلت الحدود و ضربت الشهود- . قال أبو الفرج و حدثنا أحمد قال حدثنا عمر قال-  حدثنا أبو بكر الباهلي عن بعض من حدثه قال-  لما شهد على الوليد عند عثمان بشرب الخمر-  كتب إليه يأمره بالشخوص-  فخرج و خرج معه قوم يعذرونه-  منهم عدي بن حاتم الطائي-  فنزل الوليد يوما يسوق بهم فارتجز و قال- 

لا تحسبنا قد نسينا الأحقاف
و النشوات من معتق صاف‏
و عزف قينات علينا عزاف‏

فقال عدي فأين تذهب بنا إذن فأقم- . قال أبو الفرج و قد روى أحمد عن عمر عن رجاله-  عن الشعبي عن جندب الأزدي قال-  كنت فيمن شهد على الوليد عند عثمان-  فلما استتممنا عليه الشهادة حبسه عثمان-  ثم ذكر باقي الخبر و ضرب علي ع إياه-  و قول الحسن ابنه ما لك و لهذا-  و زاد فيه و قال علي ع لست إذن مسلما-  أو قال من المسلمين- .

 

 قال أبو الفرج و أخبرني أحمد عن عمر عن رجاله أن الشهادة لما تمت قال عثمان لعلي ع-  دونك ابن عمك فأقم عليه الحد-  فأمر علي ع ابنه الحسن ع فلم يفعل فقال يكفيك غيرك-  فقال علي ع بل ضعفت و وهنت و عجزت-  قم يا عبد الله بن جعفر فاجلده فقام فجلده-  و علي ع يعد حتى بلغ أربعين-  فقال له علي ع أمسك حسبك-  جلد رسول الله ص أربعين-  و جلد أبو بكر أربعين و كملها عمر ثمانين-  و كل سنة- .

قال أبو الفرج و حدثني أحمد عن عمر-  عن عبد الله بن محمد بن حكيم عن خالد بن سعيد قال-  و أخبرني بذلك أيضا إبراهيم بن محمد بن أيوب-  عن عبد الله بن مسلم قالوا جميعا-  لما ضرب عثمان الوليد الحد قال-  إنك لتضربني اليوم بشهادة قوم ليقتلنك عاما قابلا- . قال أبو الفرج-  و حدثني أحمد بن عبد العزيز الجوهري-  عن عمر بن شبة عن عبد الله بن محمد بن حكيم-  عن خالد بن سعيد-  و أخبرني أيضا إبراهيم عن عبد الله قالوا جميعا-  كان أبو زبيد الطائي نديما للوليد بن عقبة-  أيام ولايته الكوفة-  فلما شهدوا عليه بالسكر من الخمر خرج عن الكوفة معزولا-  فقال أبو زبيد يتذكر أيامه و ندامته- 

 من يرى العير أن تمشي على ظهر
المرورى حداتهن عجال‏

ناعجات و البيت بيت أبي وهب‏
خلاء تحن فيه الشمال‏

يعرف الجاهل المضلل أن الدهر
فيه النكراء و الزلزال‏

ليت شعري كذا كم العهد أم كانوا
أناسا كمن يزول فزالوا

بعد ما تعلمين يا أم عمرو
كان فيهم عز لنا و جمال‏

و وجوه تودنا مشرقات‏
و نوال إذا أريد النوال‏

أصبح البيت قد تبدل بالحي
وجوها كأنها الأقيال‏

كل شي‏ء يحتال فيه الرجال‏
غير أن ليس للمنايا احتيال‏

و لعمر الإله لو كان للسيف
مضاء و للسان مقال‏

ما تناسيتك الصفاء و لا
الود و لا حال دونك الإشغال‏

و لحرمت لحمك المتعضي
ضلة ضل حلمهم ما اغتالوا

قولهم شربك الحرام و قد كان‏
شراب سوى الحرام حلال‏

و أبي ظاهر العداوة و الشنآن
إلا مقال ما لا يقال‏

من رجال تقارضوا منكرات‏
لينالوا الذي أرادوا فنالوا

غير ما طالبين ذحلا و لكن
مال دهر على أناس فمالوا

من يخنك الصفاء أو يتبدل‏
أو يزل مثل ما يزول الظلال‏

فاعلمن أنني أخوك أخو
الود حياتي حتى تزول الجبال‏

ليس بخلي عليك يوما بمال‏
أبدا ما أقل نعلا قبال‏

و لك النصر باللسان و بالكف
إذا كان لليدين مصال‏

قال أبو الفرج و حدثني أحمد قال حدثني عمر قال-  لما قدم الوليد بن عقبة الكوفة قدم عليه أبو زبيد-  فأنزله دار عقيل بن أبي طالب على باب المسجد-  و هي التي‏ تعرف بدار القبطي-  فكان مما احتج به عليه أهل الكوفة-  أن أبا زبيد كان يخرج إليه من داره-  و هو نصراني يخترق المسجد فيجعله طريقا- . قال أبو الفرج-  و أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال-  حدثني عمي عبيد الله عن ابن حبيب عن ابن الأعرابي-  أن أبا زبيد وفد على الوليد-  حين استعمله عثمان على الكوفة-  فأنزله الوليد دار عقيل بن أبي طالب عند باب المسجد-  و استوهبها منه فوهبها له-  فكان ذلك أول الطعن عليه من أهل الكوفة-  لأن أبا زبيد كان يخرج من داره حتى يشق المسجد إلى الوليد-  فيسمر عنده و يشرب معه-  و يخرج فيشق المسجد و هو سكران-  فذاك نبههم عليه-  قال و قد كان عثمان ولى الوليد صدقات بني تغلب-  فبلغه عنه شعر فيه خلاعه فعزله-  قال فلما ولاه الكوفة اختص أبا زبيد الطائي و قربه-  و مدحه أبو زبيد بشعر كثير-  و قد كان الوليد استعمل-  الربيع بن مري بن أوس بن حارثة بن لام الطائي-  على الحمى فيما بين الجزيرة و ظهر الحيرة-  فأجدبت الجزيرة-  و كان أبو زبيد في بني تغلب نازلا-  فخرج بإبلهم ليرعيهم-  فأبى عليهم الربيع بن مري و منعهم-  و قال لأبي زبيد إن شئت أرعيك وحدك فعلت-  فأتى أبو زبيد إلى الوليد فشكاه-  فأعطاه ما بين القصور الحمر من الشام-  إلى القصور الحمر من الحيرة و جعلها له حمى-  و أخذها من الربيع بن مري فقال أبو زبيد يمدح الوليد-  و الشعر يدل على أن الحمى كان بيد مري بن أوس-  لا بيد الربيع ابنه-  و هكذا هو في رواية عمر بن شبة- 

لعمر أبيك يا ابن أبي مري
لغيرك من أباح لنا الديارا

أباح لنا أبارق ذات قور
و نرعى القف منها و القفارا

بحمد الله ثم فتى قريش
أبي وهب غدت بدنا غزارا

أباح لنا و لا نحمي عليكم‏
إذا ما كنتم سنة جزارا

قال يقول إذا أجدبتم فإنا لا نحميها عليكم- و إذا كنتم أسأتم و حميتموها علينا- .

فتى طالت يداه إلى المعالي
و طحطحت المجذمة القصارا

قال و من شعر أبي زبيد- فيه يذكر نصره له على مري بن أوس بن حارثة-

يا ليت شعري بأنباء أنبؤها
قد كان يعنى بها صدري و تقديري‏

عن امرئ ما يزده الله من شرف‏
أفرح به و مري غير مسرور

إن الوليد له عندي و حق له
ود الخليل و نصح غير مذخور

لقد دعاني و أدناني أظهرني‏
على الأعادي بنصر غير تغرير

و شذب القوم عني غير مكترث
حتى تناهوا على رغم و تصغير

نفسي فداء أبي وهب و قل له‏
يا أم عمرو فحلي اليوم أو سيري‏

و قال أبو زبيد يمدح الوليد و يتألم لفراقه- حين عزل عن الكوفة-

لعمري لئن أمسى الوليد ببلدة
سواي لقد أمسيت للدهر معورا

خلا أن رزق الله غاد و رائح‏
و إني له راج و إن سار أشهرا

و كان هو الحصن الذي ليس مسلمي
إذا أنا بالنكراء هيجت معشرا

إذا صادفوا دوني الوليد فإنما
يرون بوادي ذي حماس مزعفرا

و هي طويلة يصف فيها الأسد قال أبو الفرج و حدثنا أحمد بن عبد العزيز-  قال حدثنا عمر عن رجاله عن الوليد قال-  لما فتح رسول الله ص مكة-  جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم-  فيدعو لهم بالبركة و يمسح يده على رءوسهم-  فجي‏ء بي إليه و أنا مخلق فلم يمسني-  و ما منعه إلا أن أمي خلقتني بخلوق-  فلم يمسني من أجل الخلوق- .

 قال أبو الفرج و حدثني إسحاق بن بنان الأنماطي عن حنيش بن ميسر عن عبد الله بن موسى عن أبي ليلى عن الحكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال الوليد بن عقبة لعلي بن أبي طالب ع-  أنا أحد منك سنانا و أبسط منك لسانا و أملأ للكتيبة-  فقال علي ع اسكت يا فاسق فنزل القرآن فيهما-  أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ‏- .

قال أبو الفرج و حدثني أحمد بن عبد العزيز-  عن عمر بن شبة عن محمد بن حاتم عن يونس بن عمر-  عن شيبان عن يونس عن قتادة في قوله تعالى-  يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا-  قال هو الوليد بن عقبة بعثه النبي ص مصدقا إلى بني المصطلق-  فلما رأوه أقبلوا نحوه فهابهم-  فرجع إلى النبي ص فقال له-  إنهم ارتدوا عن الإسلام-  فبعث النبي ص خالد بن الوليد فعلم عملهم-  و أمره أن يتثبت و قال له انطلق و لا تعجل-  فانطلق حتى أتاهم ليلا و أنفذ عيونه نحوهم-  فلما جاءوه أخبروه أنهم متمسكون بالإسلام-  و سمع أذانهم و صلاتهم-  فلما أصبح أتاهم فرأى ما يعجبه-  فرجع إلى الرسول ص فأخبره فنزلت هذه الآية- .

 

قلت-  قد لمح ابن عبد البر صاحب كتاب الإستيعاب-  في هذا الموضع نكتة حسنة-  فقال في حديث الخلوق-  هذا حديث مضطرب منكر لا يصح-  و ليس يمكن أن يكون من بعثه النبي ص مصدقا-  صبيا يوم الفتح-  قال و يدل أيضا على فساده-  أن الزبير بن بكار و غيره من أهل العلم بالسير و الأخبار-  ذكروا أن الوليد و أخاه عمارة ابني عقبة بن أبي معيط-  خرجا من مكة ليردا أختهما أم كلثوم عن الهجرة-  و كانت هجرتها في الهدنة-  التي بين النبي ص و بين أهل مكة-  و من كان غلاما مخلقا بالخلوق يوم الفتح-  ليس يجي‏ء منه مثل هذا-  قال و لا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن-  أن قوله عز و جل إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا-  أنزلت في الوليد لما بعثه رسول الله ص مصدقا-  فكذب على بني المصطلق و قال-  إنهم ارتدوا و امتنعوا من أداء الصدقة-  قال أبو عمر و فيه و في علي ع نزل-  أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ-  في قصتهما المشهورة-  قال و من كان صبيا يوم الفتح لا يجي‏ء منه مثل هذا-  فوجب أن ينظر في حديث الخلوق-  فإنه رواية جعفر بن برقان عن ثابت-  عن الحجاج عن أبي موسى الهمداني-  و أبو موسى مجهول لا يصح حديثه- .

ثم نعود إلى كتاب أبي الفرج الأصبهاني-  قال أبو الفرج و أخبرني أحمد بن عبد العزيز عن عمر بن شبة عن عبد الله بن موسى عن نعيم بن حكيم عن أبي مريم عن علي ع أن امرأة الوليد بن عقبة جاءت إلى النبي ص-  تشتكي إليه الوليد و قالت إنه يضربها-  فقال لها ارجعي إليه و قولي له-  إن رسول الله قد أجارني فانطلقت-  فمكثت ساعة ثم رجعت فقالت-  إنه‏ ما أقلع عني-  فقطع رسول الله ص هدبة من ثوبه-  و قال اذهبي بها إليه و قولي له إن رسول الله قد أجارني-  فانطلقت فمكثت ساعة ثم رجعت فقالت-  ما زادني إلا ضربا-  فرفع رسول الله ص يده ثم قال-  اللهم عليك بالوليد مرتين أو ثلاثا- .

قال أبو الفرج-  و اختص الوليد لما كان واليا بالكوفة ساحرا-  كاد يفتن الناس-  كان يريه كتيبتين تقتتلان-  فتحمل إحداهما على الأخرى فتهزمها-  ثم يقول له أ يسرك-  أن أريك المنهزمة تغلب الغالبة فتهزمها-  فيقول نعم-  فجاء جندب الأزدي مشتملا على سيفه-  فقال أفرجوا لي فأفرجوا فضربه حتى قتله-  فحبسه الوليد قليلا ثم تركه- . قال أبو الفرج و روى أحمد عن عمر عن رجاله-  أن جندبا لما قتل الساحر حبسه الوليد-  فقال له دينار بن دينار فيم حبست هذا-  و قد قتل من أعلن بالسحر في دين محمد ص-  ثم مضى إليه فأخرجه من الحبس-  فأرسل الوليد إلى دينار بن دينار فقتله- . قال أبو الفرج حدثني عمي الحسن بن محمد قال-  حدثني الخراز عن المدائني عن علي بن مجاهد-  عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان-  عن الزهري و غيره-  أن رسول الله ص-  لما انصرف عن غزاة بني المصطلق-  نزل رجل من المسلمين فساق بالقوم و رجز-  ثم آخر فساق بهم و رجز-  ثم بدا لرسول الله ص أن يواسي أصحابه-  فنزل فساق بهم و رجز و جعل يقول فيما يقول- 

جندب و ما جندب
و الأقطع زيد الخير

فدنا منه أصحابه فقالوا يا رسول الله- ما ينفعنا سيرنا مخافة أن تنهشك دابة- أو تصيبك نكبة- فركب و دنوا منه و قالوا- قلت قولا لا ندري ما هو قال و ما ذاك- قالوا كنت تقول-

جندب و ما جندب
و الأقطع زيد الخير

 فقال رجلان يكونان في هذه الأمة- يضرب أحدهما ضربة يفرق بين الحق و الباطل- و تقطع يد الآخر في سبيل الله- ثم يتبع الله آخر جسده بأوله- و كان زيد هو زيد بن صوحان- و قطعت يده في سبيل الله يوم جلولاء- و قتل يوم الجمل مع علي بن أبي طالب ع- و أما جندب هذا فدخل على الوليد بن عقبة- و عنده ساحر يقال له أبو شيبان- يأخذ أعين الناس فيخرج مصارين بطنهم ثم يردها- فجاء من خلفه فضربه فقتله و قال-

العن وليدا و أبا شيبان
و ابن حبيش راكب الشيطان‏
رسول فرعون إلى هامان‏

 قال أبو الفرج و قد روي أن هذا الساحر-  كان يدخل عند الوليد في جوف بقرة حية-  ثم يخرج منها-  فرآه جندب فذهب إلى بيته فاشتمل على سيف-  فلما دخل الساحر في البقرة قال جندب-  أ فتأتون السحر و أنتم تبصرون-  ثم ضرب وسط البقرة فقطعها و قطع الساحر معها-  فذعر الناس فسجنه الوليد و كتب بأمره إلى عثمان- . قال أبو الفرج فروى أحمد بن عبد العزيز-  عن حجاج بن نصير عن قرة عن‏محمد بن سيرين قال-  انطلق بجندب بن كعب الأزدي-  قاتل الساحر بالكوفة إلى السجن-  و على السجن رجل نصراني من قبل الوليد-  و كان يرى جندب بن كعب يقوم بالليل و يصبح صائما-  فوكل بالسجن رجلا-  ثم خرج فسأل الناس عن أفضل أهل الكوفة-  فقالوا الأشعث بن قيس فاستضافه-  فجعل يراه ينام الليل ثم يصبح فيدعو بغدائه-  فخرج من عنده و سأل أي أهل الكوفة أفضل-  قالوا جرير بن عبد الله فذهب إليه-  فوجده ينام الليل ثم يصبح فيدعو بغدائه-  فاستقبل القبلة و قال ربي رب جندب و ديني دين جندب-  ثم أسلم- . قال أبو الفرج-  فلما نزع عثمان الوليد عن الكوفة-  أمر عليها سعيد بن العاص-  فلما قدمها قال اغسلوا هذا المنبر-  فإن الوليد كان رجلا نجسا فلم يصعده حتى غسل-  قال أبو الفرج و كان الوليد أسن من سعيد بن العاص-  و أسخى نفسا و ألين جانبا و أرضى عندهم-  فقال بعض شعرائهم- 

   و جاءنا من بعده سعيد
ينقص في الصاع و لا يزيد

و قال آخر منهم-

فررت من الوليد إلى سعيد
كأهل الحجر إذ فزعوا فباروا

يلينا من قريش كل عام‏
أمير محدث أو مستشار

لنا نار تحرقنا فنخشى
و ليس لهم و لا يخشون نار

قال أبو الفرج و حدثنا أحمد قال-  حدثنا عمر عن المدائني قال-  قدم الوليد بن‏ عقبة الكوفة في أيام معاوية-  زائرا للمغيرة بن شعبة-  فأتاه أشراف الكوفة فسلموا عليه-  و قالوا و الله ما رأينا بعدك مثلك-  فقال أ خيرا أم شرا قالوا بل خيرا-  قال و لكني ما رأيت بعدكم شرا منكم-  فأعادوا الثناء عليه-  فقال بعض ما تأتون به-  فو الله إن بغضكم لتلف و إن حبكم لصلف قال أبو الفرج و روى عمر بن شبة-  أن قبيصة بن جابر كان ممن كثر على الوليد-  فقال معاوية يوما و الوليد و قبيصة عنده-  يا قبيصة ما كان شأنك و شأن الوليد-  قال خير يا أمير المؤمنين-  إنه في أول الأمر وصل الرحم و أحسن الكلام-  فلا تسأل عن شكر و حسن ثناء-  ثم غضب على الناس و غضبوا عليه و كنا معهم-  فإما ظالمون فنستغفر الله و إما مظلومون فيغفر الله له-  فخذ في غير هذا يا أمير المؤمنين-  فإن الحديث ينسي القديم-  قال معاوية ما أعلمه إلا قد أحسن السيرة-  و بسط الخير و قبض الشر-  قال فأنت يا أمير المؤمنين اليوم أقدر على ذلك فافعله-  فقال اسكت لا سكت فسكت و سكت القوم-  فقال معاوية بعد يسير ما لك لا تتكلم يا قبيصة-  قال نهيتني عما كنت أحب فسكت عما لا أحب- . قال أبو الفرج-  و مات الوليد بن عقبة فويق الرقة-  و مات أبو زبيد هناك-  فدفنا جميعا في موضع واحد-  فقال في ذلك أشجع السلمي و قد مر بقبريهما- 

 مررت على عظام أبي زبيد
و قد لاحت ببلقعة صلود

فكان له الوليد نديم صدق‏
فنادم قبره قبر الوليد

و ما أدري بمن تبدو المنايا
بحمزة أم بأشجع أم يزيد

قيل هم إخوته و قيل ندماؤه- . قال أبو الفرج و حدثني أحمد بن عبد العزيز-  عن محمد بن زكريا الغلابي‏ عن عبد الله بن الضحاك-  عن هشام بن محمد عن أبيه قال-  وفد الوليد بن عقبة و كان جوادا إلى معاوية-  فقيل له هذا الوليد بن عقبة بالباب-  فقال و الله ليرجعن مغيظا غير معطى-  فإنه الآن قد أتانا يقول-  علي دين و علي كذا-  ائذن له فأذن له فسأله و تحدث معه-  ثم قال له معاوية-  أما و الله إن كنا لنحب إتيان مالك بالوادي-  و لقد كان يعجب أمير المؤمنين-  فإن رأيت أن تهبه ليزيد فافعل-  قال هو ليزيد-  ثم خرج و جعل يختلف إلى معاوية-  فقال له يوما انظر يا أمير المؤمنين في شأني-  فإن علي مئونة و قد أرهقني دين-  فقال له أ لا تستحيي لنفسك و حسبك-  تأخذ ما تأخذه فتبذره-  ثم لا تنفك تشكو دينا-  فقال الوليد أفعل ثم انطلق من مكانه-  فسار إلى الجزيرة و قال يخاطب معاوية- 

  فإذا سئلت تقول لا
و إذا سألت تقول هات‏

تأبى فعال الخير لا
تروي و أنت على الفرات‏

أ فلا تميل إلى نعم
أو ترك لا حتى الممات‏

و بلغ معاوية شخوصه إلى الجزيرة فخافه- و كتب إليه أقبل فكتب-

أعف و أستعفي كما قد أمرتني
فأعط سواي ما بدا لك و ابخل‏

سأحدو ركابي عنك إن عزيمتي‏
إذا نابني أمر كسلة منصل‏

و إني امرؤ للنأي مني تطرب
و ليس شبا قفل علي بمقفل‏

ثم رحل إلى الحجاز فبعث إليه معاوية بجائزة- . و أما أبو عمر بن عبد البر-  فإنه ذكر في الإستيعاب في باب الوليد قال-  إن له أخبارا فيها شناعة تقطع على سوء حاله-  و قبح أفعاله غفر الله لنا و له-  فلقد كان من رجال قريش‏ظرفا و حلما-  و شجاعة و جودا و أدبا-  و كان من الشعراء المطبوعين-  قال و كان الأصمعي و أبو عبيدة و ابن الكلبي و غيرهم-  يقولون إنه كان فاسقا شريب خمر و كان شاعرا كريما-  قال و أخباره في شربه الخمر-  و منادمته أبا زبيد الطائي كثيرة مشهورة-  و يسمج بنا ذكرها و لكنا نذكر منها طرفا-  ثم ذكر ما ذكره أبو الفرج في الأغاني-  و قال إن خبر الصلاة و هو سكران-  و قوله أ أزيدكم-  خبر مشهور روته الثقات من نقلة الحديث- . قال أبو عمر بن عبد البر-  و قد ذكر الطبري في رواية-  أنه تغضب عليه قوم من أهل الكوفة حسدا و بغيا-  و شهدوا عليه بشرب الخمر-  و قال إن عثمان قال له يا أخي اصبر-  فإن الله يأجرك و يبوء القوم بإثمك- . قال أبو عمر-  هذا الحديث لا يصح عند أهل الأخبار و نقلة الحديث-  و لا له عند أهل العلم أصل-  و الصحيح ثبوت الشهادة عليه عند عثمان-  و جلده الحد و أن عليا هو الذي جلده-  قال و لم يجلده بيده-  و إنما أمر بجلده فنسب الجلد إليه- . قال أبو عمر-  و لم يرو الوليد من السنة ما يحتاج فيها إليه-  و لكن حارثة بن مضرب روى عنه أنه قال-  ما كانت نبوة إلا كان بعدها ملك

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 17

نامه 61 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

61 و من كتاب له ع إلى كميل بن زياد النخعي

و هو عامله على هيت ينكر عليه تركه دفع من يجتاز به-  من جيش العدو طالبا للغارة- : أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ تَضْيِيعَ الْمَرْءِ مَا وُلِّيَ وَ تَكَلُّفَهُ مَا كُفِيَ-  لَعَجْزٌ حَاضِرٌ وَ رَأْيٌ مُتَبَّرٌ-  وَ إِنَّ تَعَاطِيَكَ الْغَارَةَ عَلَى أَهْلِ قِرْقِيسِيَا-  وَ تَعْطِيلَكَ مَسَالِحَكَ الَّتِي وَلَّيْنَاكَ-  لَيْسَ لَهَا مَنْ يَمْنَعُهَا وَ لَا يَرُدُّ الْجَيْشَ عَنْهَا-  لَرَأْيٌ شَعَاعٌ-  فَقَدْ صِرْتَ جِسْراً لِمَنْ أَرَادَ الْغَارَةَ-  مِنْ أَعْدَائِكَ عَلَى أَوْلِيَائِكَ-  غَيْرَ شَدِيدِ الْمَنْكِبِ وَ لَا مَهِيبِ الْجَانِبِ-  وَ لَا سَادٍّ ثُغْرَةً وَ لَا كَاسِرٍ لِعَدُوٍّ شَوْكَةً-  وَ لَا مُغْنٍ عَنْ أَهْلِ مِصْرِهِ وَ لَا مُجْزٍ عَنْ أَمِيرِهِ

كميل بن زياد و نسبه

هو كميل بن زياد بن سهيل بن هيثم بن سعد بن مالك-  بن الحارث بن صهبان بن سعد بن مالك بن النخع بن عمرو-  بن وعلة بن خالد بن مالك بن أدد-  كان من أصحاب علي ع و شيعته و خاصته-  و قتله الحجاج على المذهب فيمن قتل من الشيعة-  و كان كميل بن زياد عامل علي ع على هيت-  و كان ضعيفا يمر عليه سرايا معاوية-  تنهب أطراف العراق و لا يردها-  و يحاول أن يجبر ما عنده من الضعف-  بأن يغيرعلى أطراف أعمال معاوية مثل قرقيسيا-  و ما يجري مجراها من القرى التي على الفرات-  فأنكر ع ذلك من فعله و قال-  إن من العجز الحاضر أن يهمل الوالي ما وليه-  و يتكلف ما ليس من تكليفهو المتبر الهالك قال تعالى-  إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ- . و المسالح جمع مسلحة-  و هي المواضع التي يقام فيها طائفة من الجند لحمايتها- . و رأي شعاع بالفتح أي متفرق- .

ثم قال له قد صرت جسرا-  أي يعبر عليك العدو كما يعبر الناس على الجسور-  و كما أن الجسر لا يمنع من يعبر به و يمر عليه فكذاك أنت- . و الثغرة الثلمة-  و مجز كاف و مغن-  و الأصل مجزئ بالهمز فخفف

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 17

نامه 60 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

60 و من كتاب له ع إلى العمال-  الذين يطأ عملهم الجيوش

مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَنْ مَرَّ بِهِ الْجَيْشُ-  مِنْ جُبَاةِ الْخَرَاجِ وَ عُمَّالِ الْبِلَادِ-  أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي قَدْ سَيَّرْتُ جُنُوداً-  هِيَ مَارَّةٌ بِكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ-  وَ قَدْ أَوْصَيْتُهُمْ بِمَا يَجِبُ لِلَّهِ عَلَيْهِمْ-  مِنْ كَفِّ الْأَذَى وَ صَرْفِ الشَّذَا-  وَ أَنَا أَبْرَأُ إِلَيْكُمْ وَ إِلَى ذِمَّتِكُمْ مِنْ مَعَرَّةِ الْجَيْشِ-  إِلَّا مِنْ جَوْعَةِ الْمُضْطَرِّ لَا يَجِدُ عَنْهَا مَذْهَباً إِلَى شِبَعِهِ-  فَنَكِّلُوا مَنْ تَنَاوَلَ مِنْهُمْ ظُلْماً عَنْ ظُلْمِهِمْ-  وَ كُفُّوا أَيْدِيَ سُفَهَائِكُمْ عَنْ مُضَادَّتِهِمْ-  وَ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِيمَا اسْتَثْنَيْنَاهُ مِنْهُمْ-  وَ أَنَا بَيْنَ أَظْهُرِ الْجَيْشِ-  فَارْفَعُوا إِلَيَّ مَظَالِمَكُمْ-  وَ مَا عَرَاكُمْ مِمَّا يَغْلِبُكُمْ مِنْ أَمْرِهِمْ-  وَ لَا تُطِيقُونَ دَفَعَهُ إِلَّا بِاللَّهِ وَ بِي-  أُغَيِّرُهُ بِمَعُونَةِ اللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ روي عن مضارتهم بالراء المشددة-  و جباة الخراج الذين يجمعونه-  جبيت الماء في الحوض أي جمعته-  و الشذا و الضر الشر تقول لقد أشذيت و آذيت-  و إلى ذمتكم أي إلى اليهود و النصارى الذين بينكم-  قال ع من آذى ذميا فكأنما آذاني-

و قال إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا-  و أموالهم كأموالنا-  و يسمى هؤلاء ذمة أي أهل ذمة بحذف المضاف-  و المعرة المضرة-  قال الجيش ممنوع من أذى من يمر به من المسلمين و أهل الذمة-  إلا من سد جوعة المضطر منهم خاصة-  لأن المضطر تباح له الميتة فضلا عن غيرها- . ثم قال فنكلوا من تناول-  و روي بمن تناول بالباء أي عاقبوه-  و عن في قوله عن ظلمهم يتعلق بنكلوا-  لأنها في معنى اردعوا لأن النكال يوجب الردع- . ثم أمرهم أن يكفوا أيدي أحداثهم و سفهائهم-  عن منازعة الجيش و مصادمته-  و التعرض لمنعه عما استثناه-  و هو سد الجوعة عند الاضطرار-  فإن ذلك لا يجوز في الشرع-  و أيضا فإنه يفضي إلى فتنة و هرج- . ثم قال و أنا بين أظهر الجيش أي أنا قريب منكم-  و سائر على أثر الجيش-  فارفعوا إلي مظالمكم و ما عراكم منهم-  على وجه الغلبة و القهر-  فإني مغير ذلك و منتصف لكم منهم

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 17