خطبه 119 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

119 و من كلام له ع

تَاللَّهِ لَقَدْ عُلِّمْتُ تَبْلِيغَ الرِّسَالَاتِ- وَ إِتْمَامَ الْعِدَاتِ وَ تَمَامَ الْكَلِمَاتِ- وَ عِنْدَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ أَبْوَابُ الْحُكْمِ وَ ضِيَاءُ الْأَمْرِ- أَلَا وَ إِنَّ شَرَائِعَ الدِّينِ وَاحِدَةٌ وَ سُبُلَهُ قَاصِدَةٌ- مَنْ أَخَذَ بِهَا لَحِقَ وَ غَنِمَ- وَ مَنْ وَقَفَ عَنْهَا ضَلَّ وَ نَدِمَ- اعْمَلُوا لِيَوْمٍ تُذْخَرُ لَهُ الذَّخَائِرُ- وَ تُبْلَى فِيهِ السَّرَائِرُ- وَ مَنْ لَا يَنْفَعُهُ حَاضِرُ لُبِّهِ- فَعَازِبُهُ عَنْهُ أَعْجَزُ وَ غَائِبُهُ أَعْوَزُ- وَ اتَّقُوا نَاراً حَرُّهَا شَدِيدٌ- وَ قَعْرُهَا بَعِيدٌ وَ حِلْيَتُهَا حَدِيدٌ- وَ شَرَابُهَا صَدِيدٌ- . أَلَا وَ إِنَّ اللِّسَانَ الصَّالِحَ- يَجْعَلُهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَرْءِ فِي النَّاسِ- خَيْرٌ لَهُ مِنَ الْمَالِ يُورِثُهُ مَنْ لَا يَحْمَدُهُ رواها قوم لقد علمت بالتخفيف و فتح العين- و الرواية الأولى أحسن- فتبليغ الرسالات تبليغ الشرائع- بعد وفاة الرسول ص إلى المكلفين- و فيه إشارة إلى قوله تعالى- يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ- وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ و إلى قول النبي ص في قصة براءة لا يؤدي عني إلا أنا و رجل مني- .
و إتمام العدات إنجازها- و فيه إشارة إلى قوله تعالى- مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ و إلى قول النبي ص في حقه ع قاضي ديني و منجز موعدي- . و تمام الكلمات تأويل القرآن- و فيه إشارة إلى قوله تعالى- وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلًا و إلى قول النبي في حقه ع اللهم اهد قلبه و ثبت لسانه- . و خلاصة هذا أنه أقسم بالله- أنه قد علم أو علم- على اختلاف الروايتين- أداء الشرائع إلى المكلفين- و الحكم بينهم بما أنزله الله- و علم مواعيد رسول الله التي وعد بها- فمنها ما هو وعد لواحد من الناس بأمر- نحو أن يقول له سأعطيك كذا- و منها ما هو وعد بأمر يحدث- كأخبار الملاحم و الأمور المتجددة- و علم تمام كلمات الله تعالى- أي تأويلها و بيانها الذي يتم به- لأن في كلامه تعالى المجمل- الذي لا يستغني عن متمم و مبين يوضحه- .

ثم كشف الغطاء و أوضح المراد- فقال و عندنا أهل البيت أبواب الحكم- يعني الشرعيات و الفتاوي- و ضياء الأمر يعني العقليات و العقائد- و هذا مقام عظيم لا يجسر أحد من المخلوقين- أن يدعيه سواه ع- و لو أقدم أحد على ادعائه غيره لكذب و كذبه الناس- . و أهل البيت منصوب على الاختصاص- . و سبله قاصدة أي قريبة سهلة- و يقال بيننا و بين الماء ليلة قاصدة و رافهة- أي هينة المسير لا تعب و لا بطء- . و تبلى فيه السرائر أي تختبر- .

ثم قال من لا ينفعه لبه الحاضر و عقله الموجود- فهو بعدم الانتفاع بما هو غير حاضر-و لا موجود من العقل عنده أولى و أحرى- أي من لم يكن له من نفسه و من ذاته وازع و زاجر عن القبيح- فبعيد أن ينزجر- و أن يرتدع بعقل غيره و موعظة غيره له- كما قيلو زاجر من النفس خير من عتاب العواذل‏- . ثم ذكر النار فحذر منها- . و قوله حليتها حديد يعني القيود و الأغلال- . ثم ذكر أن الذكر الطيب- يخلفه الإنسان بين الناس- خير له من مال يجمعه و يورثه من لا يحمده- وجاء في الأثر أن أمير المؤمنين جاءه مخبر فأخبره أن مالا له- قد انفجرت فيه عين خرارة- يبشره بذلك- فقال بشر الوارث بشر الوارث يكررها- ثم وقف ذلك المال على الفقراء- و كتب به كتابا في تلك الساعة

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن أبي ‏الحديد) ج 7 

خطبه 118 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

118 و من كلام له ع و قد جمع الناس- و حضهم على الجهاد- فسكتوا مليا

فقال ع- : مَا بَالُكُمْ أَ مُخْرَسُونَ أَنْتُمْ- فَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ- إِنْ سِرْتَ سِرْنَا مَعَكَ- فَقَالَ ع- مَا بَالُكُمْ لَا سُدِّدْتُمْ لِرُشْدٍ وَ لَا هُدِيتُمْ لِقَصْدٍ- أَ فِي مِثْلِ هَذَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَخْرُجَ- وَ إِنَّمَا يَخْرُجُ فِي مِثْلِ هَذَا رَجُلٌ- مِمَّنْ أَرْضَاهُ مِنْ شُجْعَانِكُمْ- وَ ذَوِي بَأْسِكُمْ- وَ لَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَدَعَ الْجُنْدَ وَ الْمِصْرَ- وَ بَيْتَ الْمَالِ وَ جِبَايَةَ الْأَرْضِ- وَ الْقَضَاءَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ- وَ النَّظَرَ فِي حُقُوقِ الْمُطَالِبِينَ- ثُمَّ أَخْرُجَ فِي كَتِيبَةٍ أَتْبَعُ أُخْرَى- أَتَقَلْقَلُ تَقَلْقُلَ الْقِدْحِ فِي الْجَفِيرِ الْفَارِغِ- وَ إِنَّمَا أَنَا قُطْبُ الرَّحَى- تَدُورُ عَلَيَّ وَ أَنَا بِمَكَانِي- فَإِذَا فَارَقْتُهُ اسْتَحَارَ مَدَارُهَا- وَ اضْطَرَبَ ثِفَالُهَا- هَذَا لَعَمْرُ اللَّهِ الرَّأْيُ السُّوءُ- وَ اللَّهِ لَوْ لَا رَجَائِي الشَّهَادَةَ عِنْدَ لِقَائِي الْعَدُوَّ- وَ لَوْ قَدْ حُمَّ لِي لِقَاؤُهُ- لَقَرَّبْتُ رِكَابِي- ثُمَّ شَخَصْتُ عَنْكُمْ فَلَا أَطْلُبُكُمْ- مَا اخْتَلَفَ جَنُوبٌ وَ شَمَالٌ- طَعَّانِينَ عَيَّابِينَ حَيَّادِينَ رَوَّاغِينَ- إِنَّهُ لَا غَنَاءَ فِي كَثْرَةِ عَدَدِكُمْ- مَعَ قِلَّةِ اجْتِمَاعِ قُلُوبِكُمْ- لَقَدْ حَمَلْتُكُمْ عَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ- الَّتِي لَا يَهْلِكُ عَلَيْهَا إِلَّا هَالِكٌ- مَنِ اسْتَقَامَ فَإِلَى الْجَنَّةِ وَ مَنْ زَلَّ فَإِلَى النَّارِ سكتوا مليا أي ساعة طويلة- و مضى ملي من النار كذلك-

قال الله تعالى وَ اهْجُرْنِي مَلِيًّا- و أقمت عند فلان ملاوة- و ملاوة و ملاوة من الدهر- بالحركات الثلاث أي حينا و برهة- و كذلك أقمت ملوة و ملوة و ملوة بالحركات الثلاث- . و قوله أ مخرسون أنتم- اسم المفعول من أخرسه الله- و خرس الرجل و الخرس المصدر- . و الكتيبة قطعة من الجيش- و التقلقل الحركة في اضطراب- و القدح السهم و الجفير الكنانة- و قيل وعاء للسهام أوسع من الكنانة- .

و استحار مدارها اضطرب- و المدار هاهنا مصدر- و الثقال بكسر الثاء جلد يبسط و توضع الرحى فوقه- فتطحن باليد ليسقط عليه الدقيق- . و حم أي قدر و الركاب الإبل- و شخصت عنكم خرجت- ثم وصفهم بعيب الناس و الطعن فيهم- و أنهم يحيدون عن الحق و عن الحرب- أي ينحرفون و يروغون كما يروغ الثعلب- . ثم قال إنه لا غناء عندكم- و إن اجتمعتم بالأبدان مع تفرقي القلوب- و الغناء بالفتح و المد النفع- . و انتصب طعانين على الحال- من الضمير المنصوب في أطلبكم- .

و هذا كلام قاله أمير المؤمنين ع- في بعض غارات أهل الشام على أطراف أعماله بالعراق- بعد انقضاء أمر صفين و النهروان- و قد ذكرنا سببه و وقعته فيما تقدم- . فإن قلت كيف قال الطريق الواضح- فذكره ثم قال لا يهلك فيها فأنثه- قلت لأن الطريق يذكر و يؤنث- تقول الطريق الأعظم و الطريق العظمى- فاستعمل اللغتين معا

شرح ‏نهج ‏البلاغه(ابن‏ أبی ‏الحدید) ج ۷ 

خطبه 117 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

117 و من كلام له ع

أَنْتُمُ الْأَنْصَارُ عَلَى الْحَقِّ- وَ الْإِخْوَانُ فِي الدِّينِ- وَ الْجُنَنُ يَوْمَ الْبَأْسِ- وَ الْبِطَانَةُ دُونَ النَّاسِ- بِكُمْ أَضْرِبُ الْمُدْبِرَ وَ أَرْجُو طَاعَةَ الْمُقْبِلِ- فَأَعِينُونِي بِمُنَاصَحَةٍ خَلِيَّةٍ مِنَ الْغِشِّ- سَلِيمَةٍ مِنَ الرَّيْبِ- فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَوْلَى النَّاسِ بِالنَّاسِ الجنن جمع جنة و هي ما يستر به- و بطانة الرجل خواصه- و خالصته الذين لا يطوي عنهم سره- . فإن قلت أما ضربه بهم المدبر فمعلوم- يعني الحرب فما معنى قوله ع- و أرجو طاعة المقبل- قلت لأن من ينضوي إليه من المخالفين- إذا رأى ما عليه شيعته و بطانته- من الأخلاق الحميدة و السيرة الحسنة- أطاعه بقلبه باطنا- بعد أن كان انضوى إليه ظاهرا- . و اعلم أن هذا الكلام قاله أمير المؤمنين ع للأنصار- بعد فراغه من حرب الجمل- و قد ذكره المدائني و الواقدي في كتابيهما

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ أبي ‏الحديد) ج 7 

خطبه 116 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

116 و من كلام له ع

فَلَا أَمْوَالَ بَذَلْتُمُوهَا لِلَّذِي رَزَقَهَا- وَ لَا أَنْفُسَ خَاطَرْتُمْ بِهَا لِلَّذِي خَلَقَهَا- تَكْرُمُونَ بِاللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ- وَ لَا تُكْرِمُونَ اللَّهَ فِي عِبَادِهِ- فَاعْتَبِرُوا بِنُزُولِكُمْ مَنَازِلَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ- وَ انْقِطَاعِكُمْ عَنْ أَوْصَلِ إِخْوَانِكُمْ انتصاب الأموال بفعل مقدر- دل عليه بذلتموها- و كذلك أنفس- يقول لم تبذلوا أموالكم في رضا من رزقكم إياها- و لم تخاطروا بأنفسكم في رضا الخالق لها- و الأولى بكم أن تبذلوا المال في رضا رازقه- و النفس في رضا خالقها- لأنه ليس أحد أحق منه بالمال و النفس- و بذلهما في رضاه- .

ثم قال من العجب- أنكم تطلبون من عباد الله- أن يكرموكم و يطيعوكم لأجل الله- و انتمائكم إلى طاعته- ثم إنكم لا تكرمون الله- و لا تطيعونه في نفع عباده- و الإحسان إليهم- . و محصول هذا القول- كيف تسيمون الناس أن يطيعوكم لأجل الله- ثم إنكم أنتم لا تطيعون الله- الذي تكلفون الناس أن يطيعوكم لأجله- ثم أمرهم باعتبارهم بنزولهم منازل من كان قبلهم- و هذا مأخوذ من قوله‏ تعالى- وَ سَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ- وَ تَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ- وَ ضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ- . و روي عن أصل إخوانكم- و ذلك بموت الأب- فإنه ينقطع أصل الأخ الواشج بينه و بين أخيه- و الرواية الأولى أظهر

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي‏ الحديد) ج 7 

خطبه 115 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

115 و من خطبة له ع

أَرْسَلَهُ دَاعِياً إِلَى الْحَقِّ- وَ شَاهِداً عَلَى الْخَلْقِ- فَبَلَّغَ رِسَالَاتِ رَبِّهِ- غَيْرَ وَانٍ وَ لَا مُقَصِّرٍ- وَ جَاهَدَ فِي اللَّهِ أَعْدَاءَهُ- غَيْرَ وَاهِنٍ وَ لَا مُعَذِّرٍ- إِمَامُ مَنِ اتَّقَى وَ بَصَرُ مَنِ اهْتَدَى قوله و شاهدا على الخلق- أي يشهد على القوم الذين بعث إليهم- و شهد لهم فيشهد على العاصي بالعصيان و الخلاف- و يشهد للمطيع بالإطاعة و الإسلام- و هذا من قوله سبحانه و تعالى- فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ- وَ جِئْنا بِكَ عَلى‏ هؤُلاءِ شَهِيداً- و من قوله تعالى وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ- . فإن قلت إذا كان الله تعالى عالما بكل شي‏ء- و مالكا لكل أحد- فأي حاجة إلى الشهادة- قلت ليس بمنكر أن يكون في ذلك- مصلحة للمكلفين في أديانهم- من حيث إنه قد تقرر في عقول الناس- أن من يقوم عليه شاهد بأمر منكر قد فعله- فإنه يخزى‏و يخجل و تنقطع حجته- فإذا طرق أسماعهم أن الأنبياء تشهد عليهم- و الملائكة الحافظين تكتب أعمالهم- كانوا عن مواقعة القبيح أبعد- .

و الواني الفاتر الكال- و الواهن الضعيف- . و المعذر الذي يعتذر عن تقصيره بغير عذر- قال تعالى وَ جاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ: مِنْهَا وَ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ مِمَّا طُوِيَ عَنْكُمْ غَيْبُهُ- إِذاً لَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ- تَبْكُونَ عَلَى أَعْمَالِكُمْ- وَ تَلْتَدِمُونَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ- وَ لَتَرَكْتُمْ أَمْوَالَكُمْ لَا حَارِسَ لَهَا- وَ لَا خَالِفَ عَلَيْهَا- وَ لَهَمَّتْ كُلَّ امْرِئٍ مِنْكُمْ نَفْسُهُ- لَا يَلْتَفِتُ إِلَى غَيْرِهَا- وَ لَكِنَّكُمْ نَسِيتُمْ مَا ذُكِّرْتُمْ- وَ أَمِنْتُمْ مَا حُذِّرْتُمْ- فَتَاهَ عَنْكُمْ رَأْيُكُمْ- وَ تَشَتَّتَ عَلَيْكُمْ أَمْرُكُمْ- وَ لَوَدِدْتُ أَنَّ اللَّهَ فَرَّقَ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ- وَ أَلْحَقَنِي بِمَنْ هُوَ أَحَقُّ بِي مِنْكُمْ- قَوْمٌ وَ اللَّهِ مَيَامِينُ الرَّأْيِ- مَرَاجِيحُ الْحِلْمِ- مَقَاوِيلُ بِالْحَقِّ- مَتَارِيكُ لِلْبَغْيِ- مَضَوْا قُدُماً عَلَى الطَّرِيقَةِ- وَ أَوْجَفُوا عَلَى الْمَحَجَّةِ- فَظَفِرُوا بِالْعُقْبَى الدَّائِمَةِ- وَ الْكَرَامَةِ الْبَارِدَةِ- أَمَا وَ اللَّهِ لَيُسَلَّطَنَّ عَلَيْكُمْ- غُلَامُ ثَقِيفٍ الذَّيَّالُ الْمَيَّالُ- يَأْكُلُ خَضِرَتَكُمْ- وَ يُذِيبُ شَحْمَتَكُمْ- إِيهٍ أَبَا وَذَحَةَ

قال الرضي رحمه الله تعالى- الوذحة الخنفساء- و هذا القول يومئ به إلى الحجاج- و له مع الوذحة حديث- ليس هذا موضع ذكره الصعيد التراب و يقال وجه الأرض- و الجمع صعد و صعدات كطريق و طرق و طرقات- و الالتدام ضرب النساء صدورهن في النياحة- و لا خالف عليها لا مستخلف- .

قوله و لهمت كل امرئ منكم نفسه- أي أذابته و أنحلته هممت الشحم أي أذبته- و يروى و لأهمت كل امرئ- و هو أصح من الرواية الأولى- أهمني الأمر أي أحزنني- . و تاه عن فلان رأيه أي عزب و ضل- . ثم ذكر أنه يود و يتمنى- أن يفرق الله بينه و بينهم- و يلحقه بالنبي ص- و بالصالحين من أصحابه- كحمزة و جعفر ع و أمثالهما- ممن كان أمير المؤمنين يثني عليه- و يحمد طريقته من الصحابة- فمضوا قدما- أي متقدمين غير معرجين و لا معردين- . و أوجفوا أسرعوا- و يقال غنيمة باردة و كرامة باردة- أي لم تؤخذ بحرب و لا عسف- و ذلك لأن المكتسب بالحرب جار في المعنى- لما يلاقي و يعاني في حصوله من المشقة- . و غلام ثقيف المشار إليه- هو الحجاج بن يوسف- و الذيال التائه- و أصله من ذال أي تبختر- و جر ذيله على الأرض و الميال الظالم- . و يأكل خضرتكم يستأصل أموالكم- و يذيب شحمتكم مثله- و كلتا اللفظتين استعارة- .

ثم قال له كالمخاطب لإنسان حاضر بين يديه- إيه أبا وذحة- إيه كلمه يستزاد بها من الفعل تقديره- زد و هات أيضا ما عندك- و ضدها إيها أي كف و أمسك- . قال الرضي رحمه الله- و الوذحة الخنفساء- و لم أسمع هذا من شيخ من أهل الأدب- و لا وجدته في كتاب من كتب اللغة- و لا أدري من أين نقل الرضي رحمه الله ذلك- ثم إن المفسرين بعد الرضي رحمه الله- قالوا في قصة هذه الخنفساء وجوها- منها أن الحجاج رأى خنفساء تدب إلى مصلاه- فطردها فعادت- ثم طردها فعادت- فأخذها بيده و حذف بها- فقرصته قرصا ورمت يده منها- ورما كان فيه حتفه- قالوا و ذلك لأن الله تعالى قتله بأهون مخلوقاته- كما قتل نمرود بن كنعان بالبقة التي دخلت في أنفه- فكان فيها هلاكه- .

و منها أن الحجاج كان إذا رأى خنفساء- تدب قريبة منه- يأمر غلمانه بإبعادها- و يقول هذه وذحة من وذح الشيطان- تشبيها لها بالبعرة- قالوا و كان مغرى بهذا القول- و الوذح ما يتعلق بأذناب الشاة من أبعارها فيجف- . و منها أن الحجاج قال و قد رأى خنفساوات مجتمعات- وا عجبا لمن يقول إن الله خلق هذه- قيل فمن خلقها أيها الأمير- قال الشيطان إن ربكم لأعظم شأنا- أن يخلق هذه الوذح- قالوا فجمعها على فعل كبدنة و بدن- فنقل قوله هذا إلى الفقهاء في عصره- فأكفروه- . و منها أن الحجاج كان مثفارا- و كان يمسك الخنفساء حية- ليشفى بحركتها في الموضع حكاكه- قالوا و لا يكون صاحب هذا الداء- إلا شائنا مبغضا لأهل البيت- قالوا و لسنا نقول كل مبغض فيه هذا الداء- و إنما قلنا كل من فيه هذا الداء فهو مبغض- .

قالوا و قد روى أبو عمر الزاهد- و لم يكن من رجال الشيعة- في أماليه و أحاديثه عن السياري‏ عن أبي خزيمة الكاتب- قال ما فتشنا أحدا فيه هذا الداء- إلا وجدناه ناصبيا- . قال أبو عمر و أخبرني العطافي عن رجاله- قالوا سئل جعفر بن محمد ع عن هذا الصنف من الناس- فقال رحم منكوسة يؤتى و لا يأتي- و ما كانت هذه الخصلة في ولي لله تعالى قط- و لا تكون أبدا- و إنما تكون في الكفار و الفساق و الناصب للطاهرين- . و كان أبو جهل عمرو بن هشام المخزومي من القوم- و كان أشد الناس عداوة لرسول الله ص- قالوا و لذلك قال له عتبة بن ربيعة يوم بدر- يا مصفر استه- .

فهذا مجموع ما ذكره المفسرون- و ما سمعته من أفواه الناس في هذا الموضع- و يغلب على ظني أنه أراد معنى آخر- و ذلك أن عادة العرب أن تكني الإنسان- إذا أرادت تعظيمه بما هو مظنة التعظيم- كقولهم أبو الهول و أبو المقدام و أبو المغوار- فإذا أرادت تحقيره و الغض منه- كنته بما يستحقر و يستهان به- كقولهم في كنية يزيد بن معاوية- أبو زنة يعنون القرد- و كقولهم في كنية سعيد بن حفص البخاري المحدث أبو الفأر- و كقولهم للطفيلي أبو لقمة- و كقولهم لعبد الملك أبو الذبان لبخره- و كقول ابن بسام لبعض الرؤساء-

فأنت لعمري أبو جعفر
و لكننا نحذف الفاء منه‏

و قال أيضا

لئيم درن الثوب
نظيف القعب و القدر

أبو النتن أبو الدفر
أبو البعر أبو الجعر

 فلما كان أمير المؤمنين ع يعلم- من حال الحجاج نجاسته بالمعاصي و الذنوب-التي لو شوهدت بالبصر- لكانت بمنزلة البعر الملتصق بشعر الشاء- كناه أبو وذحة- و يمكن أيضا أن يكنيه بذلك لدمامته في نفسه- و حقارة منظره و تشويه خلقته- فإنه كان قصيرا دميما نحيفا- أخفش العينين معوج الساقين- قصير الساعدين مجدور الوجه أصلع الرأس- فكناه بأحقر الأشياء و هو البعرة- . و قد روى قوم هذه اللفظة بصيغة أخرى- فقالوا إيه أبا ودجة- قالوا واحدة الأوداج- كناه بذلك لأنه كان قتالا يقطع الأوداج بالسيف- و رواه قوم أبا وحرة- و هي دويبة تشبه الحرباء قصيرة الظهر شبهه بها- . و هذا و ما قبله ضعيف- و ما ذكرناه نحن أقرب الصواب

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي‏ الحديد) ج 7 

خطبه 114 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)( الاستسقاء)

114 و من خطبة له ع في الاستسقاء

اللَّهُمَّ قَدِ انْصَاحَتْ جِبَالُنَا- وَ اغْبَرَّتْ أَرْضُنَا وَ هَامَتْ دَوَابُّنَا- وَ تَحَيَّرَتْ فِي مَرَابِضِهَا- وَ عَجَّتْ عَجِيجَ الثَّكَالَى عَلَى أَوْلَادِهَا- وَ مَلَّتِ التَّرَدُّدَ فِي مَرَاتِعِهَا- وَ الْحَنِينَ إِلَى مَوَارِدِهَا- اللَّهُمَّ فَارْحَمْ أَنِينَ الآْنَّةِ- وَ حَنِينَ الْحَانَّةِ- اللَّهُمَّ فَارْحَمْ حَيْرَتَهَا فِي مَذَاهِبِهَا- وَ أَنِينَهَا فِي مَوَالِجِهَا- اللَّهُمَّ خَرَجْنَا إِلَيْكَ- حِينَ اعْتَكَرَتْ عَلَيْنَا حَدَابِيرُ السِّنِينَ- وَ أَخْلَفَتْنَا مَخَايِلُ الْجُودِ- فَكُنْتَ الرَّجَاءَ لِلْمُبْتَئِسِ- وَ الْبَلَاغَ لِلْمُلْتَمِسِ نَدْعُوكَ حِينَ قَنَطَ الْأَنَامُ- وَ مُنِعَ الْغَمَامُ وَ هَلَكَ السَّوَامُ- أَلَّا تُؤَاخِذَنَا بِأَعْمَالِنَا- وَ لَا تَأْخُذَنَا بِذُنُوبِنَا- وَ انْشُرْ عَلَيْنَا رَحْمَتَكَ بِالسَّحَابِ الْمُنْبَعِقِ- وَ الرَّبِيعِ الْمُغْدِقِ- وَ النَّبَاتِ الْمُونِقِ سَحّاً وَابِلًا- تُحْيِي بِهِ مَا قَدْ مَاتَ- وَ تَرُدُّ بِهِ مَا قَدْ فَاتَ- اللَّهُمَّ سُقْيَا مِنْكَ مُحْيِيَةً مُرْوِيَةً- تَامَّةً عَامَّةً طَيِّبَةً مُبَارَكَةً- هَنِيئَةً مَريِئَةً مَرِيعَةً- زَاكِياً نَبْتُهَا ثَامِراً فَرْعُهَا نَاضِراً وَرَقُهَا- تُنْعِشُ بِهَا الضَّعِيفَ مِنْ عِبَادِكَ- وَ تُحْيِي بِهَا الْمَيِّتَ مِنْ بِلَادِكَ- اللَّهُمَّ سُقْيَا مِنْكَ تُعْشِبُ بِهَا نِجَادُنَا- وَ تَجْرِي بِهَا وِهَادُنَا- وَ يُخْصِبُ بِهَا جَنَابُنَا- وَ تُقْبِلُ بِهَا ثِمَارُنَا- وَ تَعِيشُ بِهَا مَوَاشِينَا- وَ تَنْدَى بِهَا أَقَاصِينَا- وَ تَسْتَعِينُ بِهَا ضَوَاحِينَا- مِنْ بَرَكَاتِكَ الْوَاسِعَةِ- وَ عَطَايَاكَ الْجَزِيلَةِ- عَلَى بَرِيَّتِكَ الْمُرْمِلَةِ وَ وَحْشِكَ الْمُهْمَلَةِ- وَ أَنْزِلْ عَلَيْنَا سَمَاءً مُخْضِلَةً مِدْرَاراً هَاطِلَةً- يُدَافِعُ الْوَدْقُ مِنْهَا الْوَدْقَ- وَ يَحْفِزُ الْقَطْرُ مِنْهَاالْقَطْرَ- غَيْرَ خُلَّبٍ بَرْقُهَا- وَ لَا جَهَامٍ عَارِضُهَا- وَ لَا قَزَعٍ رَبَابُهَا- وَ لَا شَفَّانٍ ذِهَابُهَا- حَتَّى يُخْصِبَ لِإِمْرَاعِهَا الْمُجْدِبُونَ- وَ يَحْيَا بِبَرَكَتِهَا الْمُسْنِتُونَ- فَإِنَّكَ تُنْزِلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا- وَ تَنْشُرُ رَحْمَتَكَ وَ أَنْتَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ قال الشريف الرضي رحمه الله تعالى- قوله ع- انصاحت جبالنا- أي تشققت من المحول- يقال انصاح الثوب إذا انشق- و يقال أيضا انصاح النبت- و صاح و صوح إذا جف و يبس كله بمعنى- .

و قوله و هامت دوابنا أي عطشت- و الهيام العطش- . و قوله حدابير السنين جمع حدبار- و هي الناقة التي أنضاها السير- فشبه بها السنة التي فشا فيها الجدب- قال ذو الرمة-

حدابير ما تنفك إلا مناخة
على الخسف أو نرمي بها بلدا قفرا

و قوله و لا قزع ربابها- القزع القطع الصغار المتفرقة من السحاب- . و قوله و لا شفان ذهابها- فإن تقديره و لا ذات شفان ذهابها- و الشفان الريح الباردة- و الذهاب الأمطار اللينة- فحذف ذات لعلم السامع به‏ يجوز أن يريد بقوله- و هامت دوابنا- معنى غير ما فسره الشريف الرضي رحمه الله به- و هو ندودها و ذهابها على وجوهها لشدة المحل- يقول هام على وجهه يهيم هيما و هيمانا- . و المرابض مبارك الغنم و هي لها كالمواطن للإبل- واحدها مربض بكسر الباء مثل مجلس- و عجت صرخت- و يحتمل الضمير في أولادها- أن يرجع إلى الثكالى- أي كعجيج الثكالى على أولادهن- و يحتمل أن يرجع إلى الدواب- أي و عجت على أولادها كعجيج الثكالى- و إنما وصفها بالتحير في مرابضها- لأنها لشدة المحل تتحير في مباركها- و لا تدري ما ذا تصنع- إن نهضت لترعى لم تجد رعيا- و إن أقامت كانت إلى انقطاع المادة أقرب- قوله و ملت التردد في مراتعها- و الحنين إلى مواردها- و ذلك لأنها أكثرت من التردد في الأماكن- التي كانت تعهد مراتعها فيها فلم تجد مرتعا- فملت الترداد إليها- و كذلك ملت الحنين إلى الغدران و الموارد- التي كانت تعتادها للشرب- فإنها حنت إليها لما فقدتها- حتى ضجرت و يئست فملت مما لا فائدة لها فيه- . و الآنة و الحانة الشاة و الناقة-

و يقال ما له حانة و لا آنة- و أصل الأنين صوت المريض- و شكواه من الوصب- يقال أن يئن أنينا و أنانا و تأنانا- . و الموالج المداخل- و إنما ابتدأ ع بذكر الأنعام- و ما أصابها من الجدب- اقتفاء بسنة رسول الله ص و لعادة العرب- أما سنة رسول الله ص فإنه قال لو لا البهائم الرتع- و الصبيان الرضع- و الشيوخ الركع- لصب‏عليكم العذاب صبا- و قد ذهب كثير من الفقهاء- إلى استحباب إخراج البهائم في صلاة الاستسقاء- و تقدير دعائه ع- اللهم إن كنت حرمتنا الغيث لسوء أعمالنا- فارحم هذه الحيوانات التي لا ذنب لها- و لا تؤاخذها بذنوبنا- و أما عادة العرب فإنهم كانوا إذا أصابهم المحل- استسقوا بالبهائم- و دعوا الله بها و استرحموه لها- و منهم من كان يجعل في أذناب البقر السلع و العشر- و يصعد بها في الجبال و التلاع العالية- و كانوا يسقون بذلك و قال الشاعر-

أ جاعل أنت بيقورا مسلعة
ذريعة لك بين الله و المطر

– فاعتكرت ردف بعضها بعضا- و أصل عكر عطف و العكرة الكرة- وفي الحديث قال له قوم يا رسول الله نحن الفرارون- فقال بل أنتم العكارون إن شاء الله- . و البيت الذي ذكره الرضي رحمه الله لذي الرمة- لا أعرفه إلا حراجيج- و هكذا رأيته بخط ابن الخشاب رحمه الله- و الحرجوج الناقة الضامرة في طول- . و فيه مسألة نحوية- و هي أنه كيف نقض النفي من ما تنفك- و هو غير جائز- كما لا يجوز ما زال زيد إلا قائما- و جوابها أن تنفك هاهنا تامة- أي ما تنفصل و مناخة منصوب على الحال- . قوله و أخلفتنا مخايل الجود- أي كلما شمنا برقا و اختلنا سحابا أخلفنا و لم يمطر- . و الجود المطر الغزير- و يروى مخايل الجود بالضم- .و المبتئس ذو البؤس- و البلاغ للملتمس أي الكفاية للطالب- . و تقول قنط فلان بالفتح- يقنط و يقنط بالكسر و الضم فهو قانط- و فيه لغة أخرى قنط بالكسر يقنط قنطا- مثل تعب يتعب تعبا و قناطة أيضا- فهو قنط- و قرئ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ- .

و إنما قال و منع الغمام فبنى الفعل للمفعول به- لأنه كره أن يضيف المنع إلى الله تعالى و هو منبع النعم- فاقتضى حسن الأدب أنه لم يسم الفاعل- و روي منع الغمام أي و منع الغمام القطر- فحذف المفعول و السوام المال الراعي- . فإن قلت ما الفرق بين تؤاخذنا و بين تأخذنا- . قلت المؤاخذة دون الأخذ- لأن الأخذ الاستئصال- و المؤاخذة عقوبة و إن قلت- . و السحاب المنبعق المتبعج بالمطر- و مثله المتبعق و مثله البعاق- و الربيع المغدق الكثير و النبات المونق المعجب- . و انتصب سحا على المصدر- و الوابل المطر الشديد- . ثم قال تحيي به ما قد مات- أي يكاد يتلف بها من الزرع- و ترد به ما قد فات- أي يستدرك به الناس ما فاتهم من الزرع و الحرث- . و السقيا مؤنثة و هي الاسم من سقى- و المريعة الخصيبة- . و ثامرا فرعها ذو ثمر- كما قالوا لابن و تامر ذو لبن و تمر- . و تنعش ترفع- و النجاد جمع نجد و هو ما ارتفع من الأرض- و الوهاد جمع وهد و هو المطمئن منها- و روي نجادنا بالنصب على أنه مفعول- .

قوله و تندى بها أقاصينا أي الأباعد منا- و يندى بها ينتفع نديت بكذا أي انتفعت- . و الضواحي النواحي القريبة من المدينة العظمى- و المرملة الفقيرة أرمل افتقر و نفد زاده- و وحشك المهملة التي لا راعي لها- و لا صاحب و لا مشفق- . و سماء مخضلة تخضل النبت أي تبله- و روي مخضلة أي ذات نبات و زروع مخضلة- يقال اخضل النبت اخضلالا أي ابتل- و إنما أنث السماء و هو المطر و هو مذكر- لأنه أراد الأمطار و الودق المطر- و يحفز يدفع بشدة- و إذا دفع القطر القطر- كان أعظم و أغزر له- . و برق خلب لا مطر معه- و سحاب جهام لا ماء فيه- و المجدبون أهل الجدب- و المسنتون الذين أصابتهم السنة- و هي المحل و القحط الشديد

صلاة الاستسقاء و آدابها

و اعلم أن صلاة الاستسقاء عند أكثر الفقهاء سنة- . و قال أبو حنيفة لا صلاة للاستسقاء- قال أصحابه يعني ليست سنة في جماعة- و إنما يجوز أن يصلي الناس وحدانا- قالوا و إنما الاستسقاء هو الدعاء و الاستغفار- . و قال باقي الفقهاء كالشافعي- و أبي يوسف و محمد و غيرهم بخلاف ذلك- قالوا وقد روي أن رسول الله ص- صلى بالناس جماعة في الاستسقاء- فصلى ركعتين- جهر بالقراءة فيهما- و حول رداءه و رفع يديه و استسقى- قالوا و السنة أن يكون في المصلى- و إذا أراد الإمام الخروج لذلك وعظ الناس- و أمرهم بالخروج من المظالم و التوبة من المعاصي- لأن ذلك يمنع القطر- .

قالوا وقد روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال إذا بخس المكيال حبس القطر- . و قال مجاهد في قوله تعالى- وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ قال دواب الأرض تلعنهم- يقولون منعنا القطر بخطاياهم- . قالوا- و يأمر الإمام الناس بصوم ثلاثة أيام قبل الخروج- ثم يخرج في اليوم الرابع- و هم صيام و يأمرهم بالصدقة- و يستسقي بالصالحين- من أهل بيت رسول الله ص كما فعل عمر- و يحضر معه أهل الصلاح و الخير- و يستسقي بالشيوخ و الصبيان- . و اختلفوا في إخراج البهائم- فمنهم من استحب ذلك و منهم من كرهه- و يكره إخراج أهل الذمة- فإن حضروا من عند أنفسهم لم يمنعوا- و الغسل و السواك في صلاة الاستسقاء عندهم مسنونان- و لا يستحب فيهما التطيب- لأن الحال لا يقتضيه- . و ينبغي أن يكون الخروج بتواضع و خشوع و إخبات- كما خرج رسول الله ص للاستسقاء- . قالوا و لا يؤذن لهذه الصلاة و لا يقام- و إنما ينادي لها الصلاة جامعة- و هي ركعتان كصلاة العيد- يكبر في الأولى سبع تكبيرات- و في الثانية خمس تكبيرات- . قالوا و يخطب بعد الصلاة خطبتين- و يكون دعاء الاستسقاء في الخطبة الأولى- .

قالوا فيقول اللهم اسقنا غيثا مغيثا- هنيئا مريئا مريعا- غدقا مجللا طبقا- سحا دائما اللهم اسقنا الغيث- و لا تجعلنا من القانطين- اللهم إن بالعباد و البلاد من اللأواء- و الضنك و الجهد ما لا نشكوه إلا إليك- اللهم أنبت لنا الزرع- و أدر لنا الضرع- و اسقنا من بركات السماء- اللهم اكشف عنا الجهد و الجوع و العري- و اكشف عنا ما لا يكشفه غيرك- اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا- فأرسل السماء علينا مدرارا- .

قالوا و يستحب أن يستقبل القبلة- في أثناء الخطبة الثانية- و يحول رداءه فيجعل ما على الأيمن على الأيسر- و ما على الأيسر على الأيمن تفاؤلا بتحول الحال- و كذا روي أن رسول الله ص فعل- و يستحب للناس أن يحولوا أرديتهم مثله- و يتركوها كما هي- و لا يعيدوها إلى حالها الأولى- إلا إذا رجعوا إلى منازلهم- . و يستحب أن يدعو في الخطبة الثانية سرا- فيجمع بين الجهر و السر- كما قال سبحانه و تعالى- إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً- و كقوله تعالى وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ- تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً وَ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ- قالوا و يستحب رفع اليد في هذا الدعاء- و أن يكثروا من الاستغفار لقوله تعالى- اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً- يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً- فإن صلوا و استسقوا فلم يسقوا- عادوا من الغد و صلوا و استسقوا- و إن سقوا قبل الصلاة صلوا شكرا و طلبا للزيادة- .

قالوا و يستحب أن يقفوا- تحت المطر حتى يصيبهم- و أن يحسروا له عن رءوسهم- وقد روي أن رسول الله ص- حسر عن رأسه حتى أصابه مطر الاستسقاء- . و يستحب إذا سال الوادي أن يغتسلوا فيه- و يتوضئوا منه- . و قد استحب قوم من الفقهاء- أن يخرج الناس للاستسقاء حفاة حاسرين- و الأكثرون على خلاف ذلك- . فأما مذهب الشيعة في هذه المسألة- فأن يستقبل الإمام القبلة بعد صلاة الركعتين- فيكبر الله مائة تكبيرة- و يرفع بها صوته و يكبر من حضر معه- ثم يلتفت عن يمينه فيسبح الله مائة تسبيحة- يرفع بها صوته- و يسبح معه من حضر- ثم يلتفت عن يساره- فيهلل الله‏ مائة مرة يرفع بها صوته- و يقول من حضر مثل ذلك- ثم يستقبل الناس بوجهه- فيحمد الله مائة مرة يرفع بها صوته- و يقول معه من حضر مثل ذلك- ثم يخطب بهذه الخطبة المروية عن أمير المؤمنين ع في الاستسقاء- فإن لم يتمكن منها اقتصر على الدعاء

أخبار و أحاديث في الاستسقاء

و جاء في الأخبار الصحيحة رؤيا رقيقة في الجاهلية- و هي رقيقة بنت أبي صيفي بن هاشم بن عبد مناف- قالت رقيقة- تتابعت على قريش سنون- أقحلت الضرع و أرقت العظم- فبينا أنا راقدة اللهم- أو مهومة و معي صنوي- إذا أنا بهاتف صيت يصرخ بصوت صحل- يا معشر قريش- إن هذا النبي المبعوث فيكم قد أظلتكم أيامه- و هذا إبان نجومه- فحيهلا بالخصب و الحيا- ألا فانظروا رجلا منكم عظاما جساما أبيض بضا- أوطف الأهداب‏سهل الخدين أشم العرنين- له سنة تهدى إليه- ألا فليخلص هو و ولده- و ليدلف إليه من كل بطن رجل- ألا فليشنوا عليهم من الماء- و ليمسوا من الطيب- و ليطوفوا بالبيت سبعا- و ليكن فيهم الطيب الطاهر لداته- فليستق الرجل و ليؤمن القوم- ألا فغثتم إذا ما شئتم- .

قالت فأصبحت علم الله مذعورة- قد قف جلدي و وله عقلي- فاقتصصت رؤياي على الناس- فذهبت في شعاب مكة- فو الحرمة و الحرم إن بقي أبطحي إلا و قال هذا شيبة الحمد- . فتتامت رجال قريش- و انقض إليه من كل بطن رجل- فشنوا عليهم ماء و مسوا طيبا- و استلموا و اطوفوا- ثم ارتقوا أبا قبيس- و طفق القوم يدفون حول عبد المطلب- ما إن يدرك سعيهم مهلة- حتى استقروا بذروة الجبل- و استكفوا جانبيه- . فقام فاعتضد ابن ابنه محمدا ص- فرفعه على عاتقه- و هو يومئذ غلام‏ قد أيفع أو كرب- ثم قال اللهم ساد الخلة- و كاشف الكربة- أنت عالم غير معلم- و مسئول غير مبخل- و هذه عبداؤك- و إماؤك بعذارات حرمك- يشكون إليك سنتهم التي أذهبت الخف و الظلف- فاسمعن اللهم- و أمطرن علينا غيثا مغدقا مريعا سحا طبقا دراكا- . قالت فو رب الكعبة ما راموا- حتى انفجرت السماء بمائها- و اكتظ الوادي بثجيجه- و انصرف الناس يقولون لعبد المطلب- هنيئا لك سيد البطحاء- و في رواية أبي عبيدة معمر بن المثنى- قال فسمعنا شيخان قريش- و جلتها عبد الله بن جدعان- و حرب بن أمية و هشام بن المغيرة- يقولون لعبد المطلب- هنيئا لك أبا البطحاء- و في ذلك قال شاعر من قريش- و قد روي هذا الشعر لرقيقة-

بشيبة الحمد أسقى الله بلدتنا
و قد فقدنا الحيا و اجلوذ المطر

فجاد بالماء و سمي له سبل‏
سحا فعاشت به الأنعام و الشجر

وفي الحديث من رواية أنس بن مالك أصاب أهل المدينة قحط- على عهد رسول الله ص- فقام إليه رجل و هو يخطب يوم جمعة- فقال يا رسول الله هلك الشاء هلك الزرع- ادع الله لنا أن يسقينا- فمد ع يده و دعا و استسقى-و إن السماء كمثل الزجاجة- فهاجت ريح ثم أنشأت سحابا- ثم اجتمع ثم أرسلت عزاليها- فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا- و دام القطر فقام إليه الرجل في اليوم الثالث- فقال يا رسول الله- تهدمت البيوت ادع الله أن يحبسه عنا- فتبسم رسول الله ص ثم رفع يده- و قال اللهم حوالينا و لا علينا- قال أنس فو الذي بعث محمدا بالحق- لقد نظرت إلى السحاب- و إنه لقد انجاب حول المدينة كالإكليلوفي حديث عائشة أنه ع استسقى حين بدا قرن الشمس- فقعد على المنبر و حمد الله و كبره-

ثم قال إنكم شكوتم جدب دياركم- و قد أمركم الله أن تدعوه- و وعدكم أن يستجيب لكم فادعوه- ثم رفع صوته فقال- اللهم إنك أنت الغني و نحن الفقراء- فأنزل علينا الغيث- و لا تجعلنا من القانطين- اللهم اجعل ما تنزله علينا قوة لنا- و بلاغا إلى حين برحمتك يا أرحم الراحمين- فأنشأ الله سحابا- فرعدت و برقت ثم أمطرت- فلم يأت ع منزله- حتى سالت السيول- فلما رأى سرعتهم إلى الكن- ضحك حتى بدت نواجذه- و قال أشهد أني عبد الله و رسوله- و أن الله على كل شي‏ء قديرومن دعائه ع في الاستسقاء- و قد رواه الفقهاء و غيرهم اللهم اسقنا و أغثنا اللهم اسقنا غيثا مغيثا- وحيا ربيعا وجدا طبقا- غدقا مغدقا مونقا عاما-هنيئا مريئا مريعا مربعا- مرتعا وابلا سابلا مسيلا- مجللا درا نافعا غير ضار- عاجلا غير رائث غيثا- اللهم تحيي به العباد- و تغيث به البلاد- و تجعله بلاغا للحاضر منا و الباد- اللهم أنزل علينا في أرضنا زينتها- و أنزل علينا في أرضنا سكنها- اللهم أنزل علينا ماء طهورا- فأحي به بلدة ميتا- و اسقه مما خلقت لنا أنعاما و أناسي كثيرا- .

و روى عبد الله بن مسعود- أن عمر بن الخطاب خرج يستسقي بالعباس- فقال اللهم إنا نتقرب إليك بعم نبيك- و قفية آبائه و كبر رجاله- فإنك قلت و قولك الحق- وَ أَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ الآية- فحفظتهما لصلاح أبيهما- فاحفظ اللهم نبيك في عمه- فقد دلونا به إليك مستشفعين و مستغفرين- ثم أقبل على الناس- فقال استغفروا ربكم إنه كان غفارا- . قال ابن مسعود- رأيت العباس يومئذ و قد طال عمر- و عيناه تنضحان و سبائبة تجول على صدره- و هو يقول اللهم أنت الراعي فلا تهمل الضالة- و لا تدع الكسير بدار مضيعة- فقد ضرع الصغير- و رق الكبير و ارتفعت الشكوى- و أنت تعلم السر و أخفى- اللهم أغثهم بغياثك- من قبل أن يقنطوا فيهلكوا- إنه لا ييأس من رحمة الله إلا القوم الكافرون- .

قال فنشأت طريرة من سحاب- و قال الناس ترون ترون- ثم تلاءمت و استتمت و مشت فيها ريح- ثم هدت و درت- فو الله ما برحوا حتى اعتلقوا الأحذية- و قلصوا المآزر- و طفق الناس يلوذون بالعباس- يمسحون أركانه و يقولون- هنيئا لك ساقي الحرمين

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ أبي‏ الحديد) ج 7

خطبه 112 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

112 و من خطبة له ع

وَ أُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا مَنْزِلُ قُلْعَةٍ- وَ لَيْسَتْ بِدَارِ نُجْعَةٍ- قَدْ تَزَيَّنَتْ بِغُرُورِهَا- وَ غَرَّتْ بِزِينَتِهَا- دَارٌ هَانَتْ عَلَى رَبِّهَا فَخَلَطَ حَلَالَهَا بِحَرَامِهَا- وَ خَيْرَهَا بِشَرِّهَا وَ حَيَاتَهَا بِمَوْتِهَا وَ حُلْوَهَا بِمُرِّهَا- لَمْ يُصْفِهَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَوْلِيَائِهِ- وَ لَمْ يَضِنَّ بِهَا عَنْ أَعْدَائِهِ- خَيْرُهَا زَهِيدٌ وَ شَرُّهَا عَتِيدٌ- وَ جَمْعُهَا يَنْفَدُ وَ مُلْكُهَا يُسْلَبُ وَ عَامِرُهَا يَخْرَبُ- فَمَا خَيْرُ دَارٍ تُنْقَضُ نَقْضَ الْبِنَاءِ- وَ عُمُرٍ يَفْنَى فِيهَا فَنَاءَ الزَّادِ- وَ مُدَّةٍ تَنْقَطِعُ انْقِطَاعَ السَّيْرِ- اجْعَلُوا مَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنْ طَلِبَتِكُمْ وَ اسْأَلُوهُ مِنْ أَدَاءِ حَقِّهِ كَمَا سَأَلَكُمْ- وَ أَسْمِعُوا دَعْوَةَ الْمَوْتِ- آذَانَكُمْ قَبْلَ أَنْ يُدْعَى بِكُمْ- إِنَّ الزَّاهِدِينَ فِي الدُّنْيَا تَبْكِي قُلُوبُهُمْ وَ إِنْ ضَحِكُوا- وَ يَشْتَدُّ حُزْنُهُمْ وَ إِنْ فَرِحُوا- وَ يَكْثُرُ مَقْتُهُمْ أَنْفُسَهُمْ وَ إِنِ اغْتَبَطُوا بِمَا رُزِقُوا- قَدْ غَابَ عَنْ قُلُوبِكُمْ ذِكْرُ الآْجَالِ- وَ حَضَرَتْكُمْ كَوَاذِبُ الآْمَالِ- فَصَارَتِ الدُّنْيَا أَمْلَكَ بِكُمْ مِنَ الآْخِرَةِ- وَ الْعَاجِلَةُ أَذْهَبَ بِكُمْ مِنَ الآْجِلَةِ- وَ إِنَّمَا أَنْتُمْ إِخْوَانٌ عَلَى دِينِ اللَّهِ- مَا فَرَّقَ بَيْنَكُمْ إِلَّا خُبْثُ السَّرَائِرِ- وَ سُوءُ الضَّمَائِرِ- فَلَا تَوَازَرُونَ وَ لَا تَنَاصَحُونَ- وَ لَا تَبَاذَلُونَ وَ لَا تَوَادُّونَ- مَا بَالُكُمْ تَفْرَحُونَ بِالْيَسِيرِ مِنَ الدُّنْيَا تُدْرِكُونَهُ- وَ لَا يَحْزُنُكُمُ الْكَثِيرُ مِنَ الآْخِرَةِ تُحْرَمُونَهُ- وَ يُقْلِقُكُمُ الْيَسِيرُ مِنَ الدُّنْيَا يَفُوتُكُمْ- حَتَّى يَتَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي‏ وُجُوهِكُمْ- وَ قِلَّةِ صَبْرِكُمْ عَمَّا زُوِيَ مِنْهَا عَنْكُمْ- كَأَنَّهَا دَارُ مُقَامِكُمْ وَ كَأَنَّ مَتَاعَهَا بَاقٍ عَلَيْكُمْ- وَ مَا يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ أَنْ يَسْتَقْبِلَ أَخَاهُ بِمَا يَخَافُ مِنْ عَيْبِهِ- إِلَّا مَخَافَةُ أَنْ يَسْتَقْبِلَهُ بِمِثْلِهِ- قَدْ تَصَافَيْتُمْ عَلَى رَفْضِ الآْجِلِ وَ حُبِّ الْعَاجِلِ- وَ صَارَ دِينُ أَحَدِكُمْ لُعْقَةً عَلَى لِسَانِهِ- صَنِيعَ مَنْ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ وَ أَحْرَزَ رِضَا سَيِّدِهِ قوله ع- فإنها منزل قلعة بضم القاف و سكون اللام- أي ليست بمستوطنة و يقال هذا مجلس قلعة- إذا كان صاحبه يحتاج إلى أن يقوم مرة بعد مرة- و يقال هم على قلعة أي على رحلة- و من هذا الباب قولهم فلان قلعة- إذا كان ينقلع عن سرجه- و لا يثبت في البطش و الصراع- و القلعة أيضا المال العارية- وفي الحديث بئس المال القلعة- .

و النجعة طلب الكلأ في موضعه- و فلان ينتجع الكلأ- و منه انتجعت فلانا إذا أتيته تطلب معروفه- . ثم وصف هوان الدنيا على الله تعالى- فقال من هوانها أنه خلط حلالها بحرامها… الكلام- مراده تفضيل الدار الآتية على هذه الحاضرة- فإن تلك صفو كلها و خير كلها- و هذه مشوبة- و الكدر و الشر فيها أغلب من الصفو و الخير- و من كلام بعض الصالحين- من هوان الدنيا على الله أنه لا يعصى إلا فيها- و لا ينال ما عنده إلا بتركها- و يروى و لم يضن بها على أعدائه- و الرواية المشهورة عن أعدائه- و كلاهما مستعمل- .

و الزهيد القليل و العتيد الحاضر- و السير سير المسافر- . ثم أمرهم- بأن يجعلوا الفرائض الواجبة عليهم من جملة مطلوباتهم- و أن يسألوا الله من الإعانة و التوفيق- على القيام بحقوقه الواجبة كما سألهم- أي كما ألزمهم و افترض عليهم- فسمى ذلك سؤالا لأجل المقابلة بين اللفظين- كما قال سبحانه- وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها و كماقال النبي ص فإن الله لا يمل حتى تملوا- و كما قال الشاعر-

ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا

ثم أمرهم أن يسمعوا أنفسهم- دعوة الموت قبل أن يحضر الموت فيحل بهم- و مثل قوله تبكي قلوبهم و إن ضحكوا قول الشاعر- و إن لم يكن هذا المقصد بعينه قصد-

كم فاقة مستورة بمروءة
و ضرورة قد غطيت بتجمل‏

و من ابتسام تحته قلب شج‏
قد خامرته لوعة ما تنجلي‏

و المقت البغض و اغتبطوا فرحوا- . و قوله أملك بكم مثل أولى بكم- و قوله و العاجلة أذهب بكم من الآجلة- أي ذهبت العاجلة بكم- و استولت عليكم أكثر مما ذهبت بكم الآخرة- و استولت عليكم- . ثم ذكر أن الناس كلهم مخلوقون على فطرة واحدة- و هي دين الله و توحيده- و إنما اختلفوا و تفرقوا باعتبار أمر خارجي عن ذلك- و هو خبث سرائرهم و سوء ضمائرهم- فصاروا إلى حال لا يتوازرون أي لا يتعاونون- و الأصل الهمز آزرته- ثم تقلب الهمزة واوا و أصل قوله فلا توازرون فلا تتوازرون- فحذفت إحدى التاءين- كقوله تعالى ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ- أي لا تتناصرون- و التبادل أن يجود بعضهم على بعض بماله و يبذله له- .و مثل قوله ع ما بالكم تفرحون بكذا- و لا تحزنون لكذا- و يقلقكم اليسير من الدنيا يفوتكم- من هذا قول الرضي رحمه الله-

نقص الجديدين من عمري يزيد على
ما ينقصان على الأيام من مالي‏

دهر تؤثر في جسمي نوائبه‏
فما اهتمامي أن أودي بسربالي‏

و الضمير في يخاف راجع إلى الأخ لا إلى المستقبل له- أي ما يخافه الأخ من مواجهته بعينه- . قوله و صار دين أحدكم لعقة على لسانه- أخذه الفرزدق فقال للحسين بن علي ع- و قد لقيه قادما إلى العراق- و سأله عن الناس- أما قلوبهم فمعك و أما سيوفهم فعليك- و الدين لعقة على ألسنتهم- فإذا امتحصوا قل الديانون- و اللفظة مجاز و أصل اللعقة شي‏ء قليل- يؤخذ بالملعقة من الإناء- يصف دينهم بالنزارة و القلة كتلك اللعقة- و لم يقنع بأن جعله لعقة- حتى جعله على ألسنتهم فقط- أي ليس في قلوبهم

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ أبي‏ الحديد) ج 7 

خطبه 113 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

113 و من خطبة له ع

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْوَاصِلِ الْحَمْدَ بِالنِّعَمِ- وَ النِّعَمَ بِالشُّكْرِ نَحْمَدُهُ عَلَى آلَائِهِ- كَمَا نَحْمَدُهُ عَلَى بَلَائِهِ- وَ نَسْتَعِينُهُ عَلَى هَذِهِ النُّفُوسِ الْبِطَاءِ- عَمَّا أُمِرَتْ بِهِ- السِّرَاعِ إِلَى مَا نُهِيَتْ عَنْهُ- وَ نَسْتَغْفِرُهُ مِمَّا أَحَاطَ بِهِ عِلْمُهُ- وَ أَحْصَاهُ كِتَابُهُ عِلْمٌ غَيْرُ قَاصِرٍ- وَ كِتَابٌ غَيْرُ مُغَادِرٍ- وَ نُؤْمِنُ بِهِ إِيمَانَ مَنْ عَايَنَ الْغُيُوبَ- وَ وَقَفَ عَلَى الْمَوْعُودِ- إِيمَاناً نَفَى إِخْلَاصُهُ الشِّرْكَ وَ يَقِينُهُ الشَّكَّ- وَ نَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ- وَ أَنَّ مُحَمَّداً ص عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ- شَهَادَتَيْنِ تُصْعِدَانِ الْقَوْلَ وَ تَرْفَعَانِ الْعَمَلَ- لَا يَخِفُّ مِيزَانٌ تُوضَعَانِ فِيهِ- وَ لَا يَثْقُلُ مِيزَانٌ تُرْفَعَانِ مِنْهُ أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ- الَّتِي هِيَ الزَّادُ وَ بِهَا الْمَعَاذُ- زَادٌ مُبْلِغٌ وَ مَعَاذٌ مُنْجِحٌ- دَعَا إِلَيْهَا أَسْمَعُ دَاعٍ- وَ وَعَاهَا خَيْرُ وَاعٍ- فَأَسْمَعَ دَاعِيهَا وَ فَازَ وَاعِيهَا- عِبَادَ اللَّهِ إِنَّ تَقْوَى اللَّهِ حَمَتْ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ مَحَارِمَهُ- وَ أَلْزَمَتْ قُلُوبَهُمْ مَخَافَتَهُ- حَتَّى أَسْهَرَتْ لَيَالِيَهُمْ وَ أَظْمَأَتْ هَوَاجِرَهُمْ- فَأَخَذُوا الرَّاحَةَ بِالنَّصَبِ وَ الرِّيَّ بِالظَّمَإِ- وَ اسْتَقْرَبُوا الْأَجَلَ فَبَادَرُوا الْعَمَلَ- وَ كَذَّبُوا الْأَمَلَ فَلَاحَظُوا الْأَجَلَ- ثُمَّ إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ فَنَاءٍ وَ عَنَاءٍ وَ غِيَرٍ وَ عِبَرٍ- فَمِنَ الْفَنَاءِ أَنَّ الدَّهْرَ مُوتِرٌ قَوْسَهُ- لَا تُخْطِئُ سِهَامُهُ- وَ لَا تُؤْسَى جِرَاحُهُ يَرْمِي الْحَيَّ بِالْمَوْتِ- وَ الصَّحِيحَ بِالسَّقَمِ- وَ النَّاجِيَ بِالْعَطَبِ- آكِلٌ لَا يَشْبَعُ وَ شَارِبٌ لَا يَنْقَعُ- وَ مِنَ الْعَنَاءِ أَنَّ الْمَرْءَ يَجْمَعُ‏مَا لَا يَأْكُلُ- وَ يَبْنِي مَا لَا يَسْكُنُ- ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى- لَا مَالًا حَمَلَ وَ لَا بِنَاءً نَقَلَ- وَ مِنْ غِيَرِهَا أَنَّكَ تَرَى الْمَرْحُومَ مَغْبُوطاً- وَ الْمَغْبُوطَ مَرْحُوماً- لَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا نَعِيماً زَلَّ وَ بُؤْساً نَزَلَ- وَ مِنْ عِبَرِهَا أَنَّ الْمَرْءَ يُشْرِفُ عَلَى أَمَلِهِ- فَيَقْتَطِعُهُ حُضُورُ أَجَلِهِ- فَلَا أَمَلٌ يُدْرَكُ- وَ لَا مُؤَمَّلٌ يُتْرَكُ- فَسُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَعَزَّ سُرُورَهَا- وَ أَظْمَأَ رِيَّهَا وَ أَضْحَى فَيْئَهَا- لَا جَاءٍ يُرَدُّ وَ لَا مَاضٍ يَرْتَدُّ- فَسُبْحَانَ اللَّهِ- مَا أَقْرَبَ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ لِلَحَاقِهِ بِهِ- وَ أَبْعَدَ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ لِانْقِطَاعِهِ عَنْهُ- إِنَّهُ لَيْسَ شَيْ‏ءٌ بِشَرٍّ مِنَ الشَّرِّ إِلَّا عِقَابُهُ- وَ لَيْسَ شَيْ‏ءٌ بِخَيْرٍ مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا ثَوَابُهُ- وَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ مِنَ الدُّنْيَا سَمَاعُهُ أَعْظَمُ مِنْ عِيَانِهِ- وَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ مِنَ الآْخِرَةِ عِيَانُهُ أَعْظَمُ مِنْ سَمَاعِهِ- فَلْيَكْفِكُمْ مِنَ الْعِيَانِ السَّمَاعُ- وَ مِنَ الْغَيْبِ الْخَبَرُ- وَ اعْلَمُوا أَنَّ مَا نَقَصَ مِنَ الدُّنْيَا- وَ زَادَ فِي الآْخِرَةِ- خَيْرٌ مِمَّا نَقَصَ مِنَ الآْخِرَةِ- وَ زَادَ فِي الدُّنْيَا- فَكَمْ مِنْ مَنْقُوصٍ رَابِحٍ وَ مَزِيدٍ خَاسِرٍ- إِنَّ الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ أَوْسَعُ مِنَ الَّذِي نُهِيتُمْ عَنْهُ- وَ مَا أُحِلَّ لَكُمْ أَكْثَرُ مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ- فَذَرُوا مَا قَلَّ لِمَا كَثُرَ وَ مَا ضَاقَ لِمَا اتَّسَعَ- قَدْ تَكَفَّلَ لَكُمْ بِالرِّزْقِ- وَ أُمِرْتُمْ بِالْعَمَلِ- فَلَا يَكُونَنَّ الْمَضْمُونُ لَكُمْ طَلَبُهُ- أَوْلَى بِكُمْ مِنَ الْمَفْرُوضِ عَلَيْكُمْ عَمَلُهُ- مَعَ أَنَّهُ وَ اللَّهِ لَقَدِ اعْتَرَضَ الشَّكُّ- وَ دَخَلَ الْيَقِينُ- حَتَّى كَأَنَّ الَّذِي ضُمِنَ لَكُمْ قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ- وَ كَأَنَّ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْكُمْ قَدْ وَضِعَ عَنْكُمْ- فَبَادِرُوا الْعَمَلَ وَ خَافُوا بَغْتَةَ الْأَجَلِ- فَإِنَّهُ لَا يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ الْعُمُرِ- مَا يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ الرِّزْقِ- مَا فَاتَ الْيَوْمَ مِنَ الرِّزْقِ رُجِيَ غَداً زِيَادَتُهُ- وَ مَا فَاتَ أَمْسِ مِنَ الْعُمُرِ- لَمْ يُرْجَ الْيَوْمَ‏ رَجْعَتُهُ- الرَّجَاءُ مَعَ الْجَائِي وَ الْيَأْسُ مَعَ الْمَاضِي- فَاتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ- وَ لَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ لقائل أن يقول أما كونه واصل الحمد له- من عباده بالنعم منه عليهم فمعلوم- فكيف قال إنه يصل النعم المذكورة بالشكر- و الشكر من أفعال العباد- و ليس من أفعاله ليكون واصلا للنعم به- و جواب هذا القائل- هو أنه لما وفق العباد للشكر- بعد أن جعل وجوبه في عقولهم مقررا و بعد أن أقدرهم عليه- صار كأنه الفاعل له- فأضافه إلى نفسه توسعا- كما يقال أقام الأمير الحد و قتل الوالي اللص- فأما حمده سبحانه على البلاء كحمده على الآلاء- فقد تقدم القول فيه- و من الكلام المشهور سبحان من لا يحمد على المكروه سواه- و السر فيه أنه تعالى إنما يفعل المكروه بنا لمصالحنا- فإذا حمدناه عليه فإنما حمدناه على نعمه أنعم بها- و إن كانت في الظاهر بلية و ألما- .

فإن قلت فقد كان الأحسن في البيان أن يقول- نحمده على بلائه كما نحمده على آلائه- قلت إنما عكس لأنه جاء باللفظين- في معرض ذكر النعم و الشكر عليها- فاستهجن أن يلقبها بلفظة الحمد على البلاء للمنافرة- التي تكون بينهما- فقال نحمده على هذه الآلاء التي أشرنا إليها- التي هي آلاء في الحقيقة- و هذا ترتيب صحيح منتظم- .

ثم سأل الله أن يعينه على النفس البطيئة عن المأمور به- السريعة إلى المنهي عنه- و من دعاء بعض الصالحين- اللهم إني أشكو إليك عدوا بين جنبي- قد غلب علي- . و فسر قوم من أهل الطريقة و الحقيقة قوله تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا-الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ- وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً- قالوا أراد مجاهدة النفوس- ومن كلام رسول الله ص أبت الأنفس إلا حب المال و الشرف- و إن حبهما لأذهب بدين أحدكم- من ذئبين ضاريين باتا في زريبة غنم إلى الصباح- فما ذا يبقيان منها- .

ثم شرع في استغفار الله سبحانه من كل ذنب- و عبر عن ذلك بقوله مما أحاط به علمه- و أحصاه كتابه- لأنه تعالى عالم بكل شي‏ء- و محيط بكل شي‏ء- و قد أوضح ذلك بقوله- علم غير قاصر- و كتاب غير مغادر- أي غير مبق شيئا لا يحصيه- قال تعالى ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ- صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها- .

ثم قال و نؤمن به إيمان من عاين و شاهد- لأن إيمان العيان أخلص- و أوثق من إيمان الخبر- فإنه ليس الخبر كالعيان- و هذا إشارة إلى إيمان العارفين- الذين هو ع سيدهم و رئيسهم- و لذلكقال لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا- . و قوله تصعدان القول إشارة إلى قوله تعالى- إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ- وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ- و روي تسعدان القول بالسين- أي هما شهادتان بالقلب يعاضدان الشهادة باللسان- و يسعدانها- .

ثم ذكر أنهما شهادتان لا يخف ميزان هما فيه- و لا يثقل ميزان رفعا عنه- . أما أنه لا يثقل ميزان رفعا عنه فهذا لا كلام فيه- و إنما الشأن في القضية الأولى- لأن ظاهر هذا القول يشعر بمذهب المرجئة الخلص- و هم أصحاب مقاتل بن سليمان- القائلون إنه لا يضر مع الشهادتين معصية أصلا- و إنه لا يدخل النار- من في قلبه ذرة من الإيمان-و لهم على ذلك احتجاج- قد ذكرناه في كتبنا الكلامية- فنقول في تأويل ذلك- إنه لم يحكم بهذا على مجرد الشهادتين- و إنما حكم بهذا على شهادتين مقيدتين- قد وصفهما بأنهما يصعدان القول- و يرفعان العمل- و تانك الشهادتان المقيدتان بذلك القيد- إنما هو الشهادتان- اللتان يقارنهما فعل الواجب و تجنب القبيح- لأنه إن لم يقارنهما ذلك لم يرفعا العمل- و إذا كان حكمه ع بعد خفة ميزان هما فيه- إنما هو على شهادتين مقيدتين لا مطلقتين- فقد بطل قول من يجعل هذا الكلام حجة للمرجئة- . ثم أخذ في الوصاة بالتقوى- و قال إنما الزاد في الدنيا الذي يزود منه- لسفر الآخرة و بها المعاذ مصدر من عذت بكذا- أي لجأت إليه و اعتصمت به- .

ثم وصفهما أعني الزاد و المعاذ- فقال زاد مبلغ- أي يبلغك المقصد و الغاية التي تسافر إليها- و معاذ منجح أي يصادف عنده النجاح- . دعا إليها أسمع داع يعني البارئ سبحانه- لأنه أشد الأحياء أسماعا لما يدعوهم إليه- و بناء أفعل هاهنا من الرباعي- كما جاء ما أعطاه للمال و ما أولاه للمعروف- و أنت أكرم لي من زيد أي أشد إكراما- و هذا المكان أقفر من غيره أي أشد إقفارا- و في المثل أفلس من ابن المذلق- و روي دعا إليها أحسن داع أي أحسن داع دعا- و لا بد من تقرير هذا المميز- لأنه تعالى لا توصف ذاته بالحسن- و إنما يوصف بالحسن أفعاله- . و وعاها خير واع أي من وعاها عنه تعالى و عقلها- و أجاب تلك الدعوة فهو خير واع- . و قيل عنى بقوله- أسمع داع رسول الله ص- و عنى بقوله خير واع نفسه- لأنه أنزل فيه وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ- و الأول أظهر- .

ثم قال فأسمع داعيها- أي لم يبق أحدا من المكلفين- إلا و قد أسمعه تلك الدعوة و فازوا عليها- أفلح من فهمها و أجاب إليها- لا بد من تقدير هذا- و إلا فأي فوز يحصل لمن فهم و لم يجب- و التقوى خشية الله سبحانه- و مراقبته في السر و العلن- و الخشية أصل الطاعات- و إليها وقعت الإشارة بقوله تعالى- إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ- و قوله سبحانه وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً- وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ- . قوله حتى أسهرت لياليهم- و أظمأت هواجرهم- من قول العرب نهاره صائم و ليله قائم- نقلوا الفعل إلى الظرف- و هو من باب الاتساع الذي يجرون فيه الظروف مجرى المفعول به- فيقولون الذي سرته يوم الجمعة أي سرت فيه- و قالو يوم شهدناه سليما و عامرا- أي شهدنا فيه سليما- و قد اتسعوا فأضافوا إلى الظروف فقالوا-

يا سارق الليلة أهل الدار

و قال تعالى بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ- فأخرجوهما بالإضافة عن الظرفية- . قوله ع فأخذوا الراحة النصب- يروى فاستبدلوا الراحة- و النصب التعب و استقربوا الأجل رأوه قريبا- . فإن قلت لما ذا كرر لفظة الأجل- و في تكرارها مخالفة لفن البيان- قلت إنه استعملها في الموضعين بمعنيين مختلفين- فقوله استقربوا الأجل يعني المدة- و قوله فلاحظوا الأجل يعني الموت نفسه- .و يروى موتر و موتر بالتشديد- و لا تؤسى جراحه لا تطب و لا تصلح- أسوت الجرح أي أصلحته- و لا ينقع لا يروى- شرب حتى نقع أي شف عليله- و ماء ناقع و هو كالناجع- و ما رأيت شربه انقع منها- . و إلى قوله ع- يجمع ما لا يأكل- و يبني ما لا يسكن- نظر الشاعر فقال-

أموالنا لذوي الميراث نجمعها
و دورنا لخراب الدهر نبنيها

و قال آخر

أ لم تر حوشبا أمسى يبني
بناء نفعه لبني بقيلة

يؤمل أن يعمر عمر نوح‏
و أمر الله يطرق كل ليلة

 قوله و من غيرها أنك ترى المرحوم مغبوطا- و المغبوط مرحوما- أي يصير الفقير غنيا و الغني فقيرا- و قد فسره قوم فقالوا- أراد أنك ترى- من هو في باطن الأمر مرحوم مغبوطا- و ترى من هو في باطن الأمر مغبوط مرحوما- أي تحسب ذاك و تتخيله و هذا التأويل غير صحيح- لأن قوله بعده ليس ذلك إلا نعيما زل و بؤسا نزل- و يكذبه و يصدق التفسير الأول- . و أضحى فيئها من أضحى الرجل إذا برز للشمس- ثم قال لا جاء يرد و لا ماض يرتد- أي يسترد و يسترجع- أخذه أبو العتاهية فقال-

فلا أنا راجع ما قد مضى لي
و لا أنا دافع ما سوف يأتي‏

 و إلى قوله ما أقرب الحي من الميت للحاقه به- و ما أبعد الميت من الحي لانقطاعه عنه- نظر الشاعر فقال-

يا بعيدا عني و ليس بعيدا
من لحاقي به سميع قريب‏

صرت بين الورى غريبا- كما أنك تحت الثرى وحيد غريب- فإن قلت- ما وجه تقسيمه ع الأمور التي عددها- إلى الفناء و العناء و الغير و العبر- قلت لقد أصاب الثغرة و طبق المفصل- أ لا تراه ذكر في الفناء رمي الدهر الإنسان- عن قوس الردى- و في العناء جمع ما لا يأكل- و بناء ما لا يسكن- و في الغير الفقر بعد الغنى و الغنى بعد الفقر- و في العبر اقتطاع الأجل الأمل- فقد ناط بكل لفظة ما يناسبها- . و قد نظر بعض الشعراء إلى قوله ع- ليس شي‏ء بشر من الشر إلا عقابه- و ليس شي‏ء بخير من الخير إلا ثوابه- فقال

خير البضائع للإنسان مكرمة
تنمي و تزكو إذا بارت بضائعه‏

فالخير خير و خير منه فاعله‏
و الشر شر و شر منه صانعه‏

إلا أن أمير المؤمنين ع استثنى العقاب و الثواب- و الشاعر جعل مكانهما فاعل الخير و الشر- . ثم ذكر أن كل شي‏ء من أمور الدنيا المرغبة و المرهبة- سماعه أعظم من عيانه- و الآخرة بالعكس و هذا حق- أما القضية الأولى فظاهرة- و قد قال القائل-

اهتز عند تمني وصلها طربا
و رب أمنية أحلى من الظفر

 و لهذا يحرص الواحد منا على الأمر- فإذا بلغه برد و فتر- و لم يجده كما كان يظن في اللذة- و يوصف لنا البلد البعيد عنا- بالخصب و الأمن و العدل- و سماح أهله و حسن نسائه و ظرف رجاله- فإذا سافرنا إليه لم نجده كما وصف- بل ربما وجدنا القليل من ذلك- و يوصف لنا الإنسان الفاضل بالعلم- بفنون من الآداب و الحكم- و يبالغ الواصفون في ذلك- فإذا اختبرناه وجدناه دون ما وصف- و كذلك قد يخاف الإنسان حبسا أو ضربا أو نحوهما- فإذا وقع فيهما هان ما كان يتخوفه- و وجد الأمر دون ذلك- و كذلك القتل و الموت- فإن ما يستعظمه الناس منهما- دون أمرهما في الحقيقة- و قد قال أبو الطيب و هو حكيم الشعراء-

كل ما لم يكن من الصعب في الأنفس
سهل فيها إذا هو كانا

 و يقال في المثل لج الخوف تأمن- و أما أحوال الآخرة فلا ريب أن الأمر فيها بالضد من ذلك- لأن الذي يتصوره الناس من الجنة- أنها أشجار و أنهار و مأكول و مشروب و جماع- و أمرها في الحقيقة أعظم من هذا و أشرف- لأن ملاذها الروحانية المقارنة لهذه الملاذ المضادة لها- أعظم من هذه الملاذ بطبقات عظيمة- و كذلك أكثر الناس يتوهمون- أن عذاب النار يكون أياما و ينقضي- كما يذهب إليه المرجئة- أو أنه لا عذاب بالنار لمسلم أصلا- كما هو قول الخلص من المرجئة- و أن أهل النار يألفون عذابها- فلا يستضرون به إذا تطاول الأمد عليهم- و أمر العذاب أصعب مما يظنون- خصوصا على مذهبنا في الوعيد- و لو لم يكن إلا آلام النفوس- باستشعارها سخط الله تعالى عليها- فإن ذلك أعظم من ملاقاة جرم النار لبدن الحي- .

و في هذا الموضع أبحاث شريفة دقيقة- ليس هذا الكتاب موضوعا لها- . ثم أمرهم بأن يكتفوا- من عيان الآخرة و غيبها بالسماع و الخبر لأنه لا سبيل- و نحن في هذه الدار إلى أكثر من ذلك- . و إلى قوله ما نقص من الدنيا و زاد في الآخرة- خير مما نقص من الآخرة- و زاد في الدنيا- نظر أبو الطيب فقال- إلا أنه أخرجه في مخرج آخر-

بلاد ما اشتهيت رأيت فيها
فليس يفوتها إلا كرام‏

فهلا كان نقص الأهل فيها
و كان لأهلها منها التمام‏

 ثم قال فكم من منقوص في دنياه و هو رابح في آخرته- و كم من مزيد في دنياه و هو خاسر في آخرته ثم قال إن الذي أمرتم به أوسع من الذي نهيتم عنه- و ما أحل لكم أكثر مما حرم عليكم- الجملة الأولى هي الجملة الثانية بعينها- و إنما أتى بالثانية تأكيدا للأولى و إيضاحا لها- و لأن فن الخطابة و الكتابة هكذا هو- و ينتظم كلتا الجملتين معنى واحد- و هو أن فيما أحل الله غنى عما حرم- بل الحلال أوسع- أ لا ترى أن المباح من المآكل و المشارب- أكثر عددا و أجناسا من المحرمات- فإن المحرم ليس إلا الكلب و الخنزير- و أشياء قليلة غيرهما- و المحرم من المشروب الخمر و نحوها من المسكر- و ما عدا ذلك حلال أكله و شربه- و كذلك القول في النكاح و التسري- فإنهما طريقان مهيعان إلى قضاء الوطر- و السفاح طريق واحد- و الطريقان أكثر من الطريق الواحد- .

فإن قلت فكيف قال إن الذي أمرتم به- فسمى المباح مأمورا به- قلت سمى كثير من الأصوليين المباح مأمورا به- و ذلك لاشتراكه مع المأمور به- في أنه لا حرج في فعله فأطلق عليه اسمه- و أيضا فإنه لما كان كثير من الأمور التي عددناها مندوبا- أطلق عليه لفظ الأمر- لأن المندوب مأمور به- و ذلك كالنكاح و التسري و أكل اللحوم- التي هي سبب قوة البدن- و شرب ما يصلح المزاج من الأشربة- التي لا حرج في استعمالها- و قال بعض العقلاء لبنيه يا بني- إنه ليس كل شي‏ء من اللذة ناله أهل الخسارة بخسارتهم- إلا ناله أهل المروءة و الصيانة بمروءتهم و صيانتهم- فاستتروا بستر الله و دخل إنسان على علي بن موسى الرضا ع- و عليه ثياب مرتفعة القيمة- فقال يا ابن رسول الله- أ تلبس مثل هذا- فقال له مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ- الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ‏

ثم أمر بالعمل و العبادة- و نهى عن الحرص على طلب الرزق- فقال إنكم أمرتم بالأول و ضمن لكم الثاني- فلا تجعلوا المضمون حصوله لكم- هو المخصوص بالحرص و الاجتهاد- بل ينبغي أن يكون الحرص و الاجتهاد فيما أمرتم بعمله- و هو العبادة- و قد يتوهم قوم أنه ارتفع طلبه بالمضنون- كقولك المضروب أخوه- و هذا غلط لأنه لم يضمن طلبه- و إنما ضمن حصوله و لكنه ارتفع- لأنه مبتدأ و خبره أولى- و هذا المبتدأ و الخبر في موضع نصب- لأنه خبر يكونن- أو ارتفع لأنه بدل من المضنون- و هذا أحسن و أولى من الوجه الأول- و هو بدل الاشتمال- . ثم ذكر أن رجعة العمر غير مرجوة- و رجعة الرزق مرجوة- أوضح ذلك بأن الإنسان قد يذهب منه اليوم درهم- فيستعيضه أي يكتسب عوضه في الغد دينارا- و أما أمس نفسه- فمستحيل أن يعود و لا مثله- لأن الغد و بعد الغد محسوب من عمره- و ليس عوضا من الأمس الذاهب-

و هذا الكلام يقتضي أن العمر مقدور- و أن المكاسب و الأرزاق إنما هي بالاجتهاد- و ليست محصورة مقدرة- و هذا يناقض في الظاهر ما تقدم من قوله- إن الرزق مضمون فلا تحرصوا عليه- فاحتاج الكلام إلى تأويل- و هو أن العمر هو الظرف الذي يوقع المكلف فيه- الأعمال الموجبة له السعادة العظمى- المخلصة له من الشقاوة العظمى- و ليس له ظرف يوقعها فيه إلا هو خاصة- فكل جزء منه إذا فات- من غير عمل لما بعد الموت- فقد فات على الإنسان بفواته- ما لا سبيل له إلى استدراكه بعينه و لا اغترام مثله- لأن المثل الذي له إنما هو زمان آخر- و ليس ذلك في مقدور الإنسان- و الزمان المستقبل الذي يعيش فيه الإنسان- لم يكتسبه هو لينسب إليه فيقال- إنه حصله عوضا مما انقضى و ذهب من عمره- و إنما هو فعل غيره- و مع ذلك فهو معد و مهيأ- لأفعال من العبادة توقع فيه- كما كان الجزء الماضي معدا لأفعال‏ توقع فيه- فليس أحدهما عوضا عن الآخر و لا قائما مقامه- و أما المنافع الدنيوية كالمآكل و المشارب و الأموال- فإن الإنسان إذا فاته شي‏ء منها- قدر على ارتجاعه بعينه- إن كانت عينه باقية- و ما لا تبقى عينه يقدر على اكتساب مثله- و الرزق و إن كان مضمونا من الله- إلا أن للحركة فيه نصيبا- إما أن يكون شرطا- أو أن يكون هو بذاته من أثر قدرة الإنسان- كحركته و اعتماده و سائر أفعاله- و يكون الأمر بالتوكل و النهي عن الاجتهاد- في طلب الرزق على هذا القول- إنما هو نهي عن الحرص- و الجشع و التهالك في الطلب- فإن ذلك قبيح يدل على دناءة الهمة و سقوطها- .

ثم هذه الأغراض الدنيوية- إذا حصلت أمثالها بعد ذهابها قامت مقام الذاهب- لأن الأمر الذي يراد الذاهب له- يمكن حصوله بهذا المكتسب- و ليس كذلك الزمان الذاهب من العمر- لأن العبادات و الأعمال التي كان أمس متعينا لها- لا يمكن حصولها اليوم على حد حصولها أمس- فافترق البابان- باب الأعمال و باب الأرزاق- . و قوله الرجاء مع الجائي- و اليأس مع الماضي- كلام يجري مجرى المثل- و هو تأكيد للمعنى الأول- و جعل الجائي مرجوا- لأنه لا يعلم غيبه قال الشاعر-

ما مضى فات و المقدر غيب
و لك الساعة التي أنت فيها

– و قوله حق تقاته أي حق تقيته أي خوفه- اتقى يتقي تقية و تقاة- و وزنها فعلة و أصلها الياء- و مثلها اتخم تخمة و اتهم تهمة

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ أبي‏ الحديد) ج 7 

خطبه 111 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(يذكر فيها ملك الموت و توفيه الأنفس)

111 و من خطبة له ع- يذكر فيها ملك الموت و توفيه الأنفس

هَلْ يُحَسُّ بِهِ إِذَا دَخَلَ مَنْزِلًا- أَمْ هَلْ تَرَاهُ إِذَا تَوَفَّى أَحَداً- بَلْ كَيْفَ يَتَوَفَّى الْجَنِينَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ- أَ يَلِجُ عَلَيْهِ مِنْ بَعْضِ جَوَارِحِهَا- أَمْ الرُّوحُ أَجَابَتْهُ بِإِذْنِ رَبِّهَا- أَمْ هُوَ سَاكِنٌ مَعَهُ فِي أَحْشَائِهَا- كَيْفَ يَصِفُ إِلَهَهُ- مَنْ يَعْجَزُ عَنْ صِفَةِ مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ أما مذهب جمهور أصحابنا- و هم النافون للنفس الناطقة- فعندهم أن الروح جسم لطيف بخاري- يتكون من ألطف أجزاء الأغذية- ينفذ في العروق الضوارب- و الحياة عرض قائم بالروح و حال فيها- فللدماغ روح دماغية و حياة حالة فيها- و كذلك للقلب و كذلك للكبد- و عندهم أن لملك الموت أعوانا- تقبض الأرواح بحكم النيابة عنه- لو لا ذلك لتعذر عليه- و هو جسم أن يقبض روحين- في وقت واحد في المشرق و المغرب- لأن الجسم الواحد لا يكون في مكانين في وقت واحد- قال أصحابنا و لا يبعد أن يكون الحفظة الكاتبون هم القابضين- للأرواح عند انقضاء الأجل- قالوا و كيفية القبض ولوج الملك من الفم إلى القلب- لأنه جسم لطيف هوائي- لا يتعذر عليه النفوذ في المخارق الضيقة- فيخالط الروح‏ التي هي كالشبيهة به- لأنها جسم لطيف بخاري-

ثم يخرج من حيث دخل و هي معه- و إنما يكون ذلك في الوقت- الذي يأذن الله تعالى له فيه- و هو حضور الأجل- فألزموا على ذلك أن يغوص الملك في الماء مع الغريق- ليقبض روحه تحت الماء- فالتزموا ذلك و قالوا ليس بمستحيل- أن يتخلل الملك الماء في مسام الماء- فإن فيه مسام و منافذ- و في كل جسم على قاعدتهم في إثبات الماء في الأجسام- . قالوا و لو فرضنا أنه لا مسام فيه- لم يبعد أن يلجه الملك فيوسع لنفسه مكانا- كما يلجه الحجر و السمك و غيرهما- و كالريح الشديدة التي تقرع ظاهر البحر- فتقعره و تحفره و قوة الملك أشد من قوة الريح- . ثم نعود إلى الشرح فنقول الملك أصله مألك بالهمز- و وزنه مفعل و الميم زائدة- لأنه من الألوكة و الألوك و هي الرسالة- ثم قلبت الكلمة و قدمت اللام- فقيل ملأك قال الشاعر-

فلست لإنسي و لكن لملأك
تنزل من جو السماء يصوب‏

ثم تركت همزته لكثرة الاستعمال- فقيل ملك فلما جمع ردت الهمزة إليه- فقالوا ملائكة و ملائك- قال أمية بن أبي الصلت-

و كأن برقع و الملائك حولها
سدر تواكله القوائم أجرد

 و التوفي الإماتة و قبض الأرواح- قال الله تعالى- اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها- . و التقسيم الذي قسمه في وفاة الجنين حاصر- لأنه مع فرضنا إياه جسما- يقبض الأرواح التي في الأجسام- إما أن يكون مع الجنين في جوف أمه- فيقبض روحه عند حضور أجله‏أو خارجا عنها- و القسم الثاني ينقسم قسمين- أحدهما أن يلج جوف أمه لقبض روحه فيقبضها- و الثاني أن يقبضها من غير حاجة إلى الولوج إلى جوفها- و ذلك بأن تطيعه الروح و تكون مسخرة- إذا أراد قبضها امتدت إليه فقبضها-

و هذه القسمة لا يمكن الزيادة عليها- و لو قسمها واضع المنطق لما زاد- . ثم خرج إلى أمر آخر- أعظم و أشرف مما ابتدأ به- فقال كيف يصف إلهه- من يعجز عن وصف مخلوق مثله- و إلى هذا الغرض كان يترامى- و إياه كان يقصد- و إنما مهد حديث الملك و الجنين- توطئة لهذا المعنى الشريف و السر الدقيق فصل في التخلص و سياق كلام للشعراء في هو هذا الفن يسميه أرباب علم البيان التخلص- و أكثر ما يقع في الشعر- كقول أبي نواس-

تقول التي من بيتها خف مركبي
عزيز علينا أن نراك تسير

أ ما دون مصر للغني متطلب‏
بلى إن أسباب الغنى لكثير

فقلت لها و استعجلتها بوادر
جرت فجرى في جريهن عبير

ذريني أكثر حاسديك برحلة
إلى بلد فيه الخصيب أمير

و من ذلك قول أبي تمام-

يقول في قومس صحبي و قد أخذت
منا السرى و خطا المهرية القود

أ مطلع الشمس تبغي أن تؤم بنا
فقلت كلا و لكن مطلع الجود

و منه قول البحتري-

هل الشباب ملم بي فراجعة
أيامه لي في أعقاب أيامي‏

لو أنه نائل غمر يجاد به‏
إذن تطلبته عند ابن بسطام‏

 و منه قول المتنبي و هو يتغزل بأعرابية- و يصف بخلها و جبنها و قلة مطعمها- و هذه كلها من الصفات الممدوحة في النساء خاصة-

في مقلتي رشأ تديرهما
بدوية فتنت بها الحلل‏

تشكو المطاعم طول هجرتها
و صدودها و من الذي تصل‏

ما أسأرت في القعب من لبن
تركته و هو المسك و العسل‏

قالت إلا تصحو فقلت لها
أعلمتني أن الهوى ثمل‏

لو أن فناخسر صبحكم
و برزت وحدك عاقه الغزل‏

و تفرقت عنكم كتائبه‏
إن الملاح خوادع قتل‏

ما كنت فاعلة و ضيفكم
ملك الملوك و شأنك البخل‏

أ تمنعين قرى فتفتضحي‏
أم تبذلين له الذي يسل‏

بل لا يحل بحيث حل به
بخل و لا جور و لا وجل‏

و هذا من لطيف التخلص و رشيقه- و التخلص مذهب الشعراء- و المتأخرون يستعملونه كثيرا- و يتفاخرون فيه و يتناضلون- فأما التخلص في الكلام المنثور- فلا يكاد يظهر لمتصفح- الرسالة أو الخطبة إلا بعد تأمل شديد- و قد وردت منه مواضع في القرآن العزيز- فمن‏
أبينها و أظهرها- أنه تعالى ذكر في سورة الأعراف الأمم الخالية- و الأنبياء الماضين من لدن آدم ع- إلى أن انتهى إلى قصة موسى- فقال في آخرها بعد أن شرحها و أوضحها- وَ اخْتارَ مُوسى‏ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا- فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ- قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ- وَ إِيَّايَ أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا- إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ- تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَ تَهْدِي مَنْ تَشاءُ- أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا- وَ أَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ- وَ اكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ- إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ- قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ- وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ- فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ- وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ- وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ- الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ- الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ- يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ- وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ- وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ- وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ- وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ- فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ- وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ- وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ- أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ- . و هذا من التخلصات اللطيفة المستحسنة

فصل في الاستطراد و إيراد شواهد للشعراء فيه

و اعلم أن من أنواع علم البيان نوعا يسمى الاستطراد- و قد يسمى الالتفات- و هو من جنس التخلص و شبيه به- إلا أن الاستطراد هو أن تخرج- بعد أن تمهد ما تريد أن تمهده- إلى الأمر الذي تروم ذكره فتذكره- و كأنك غير قاصد لذكره بالذات- بل قد حصل و وقع ذكره بالعرض عن غير قصد- ثم تدعه و تتركه- و تعود إلى الأمر الذي كنت في تمهيده- كالمقبل عليه و كالملغى عما استطردت بذكره- فمن ذلك قول البحتري و هو يصف فرسا-

و أغر في الزمن البهيم محجل
قد رحت منه على أغر محجل‏

كالهيكل المبني إلا أنه‏
في الحسن جاء كصورة في هيكل‏

وافي الضلوع يشد عقد حزامه
يوم اللقاء على معم مخول‏

أخواله للرستمين بفارس‏
و جدوده للتبعين بموكل‏

يهوى كما هوت العقاب و قد رأت
صيدا و ينتصب انتصاب الأجدل‏

متوجس برقيقتين كأنما
تريان من ورق عليه مكلل‏

ما إن يعاف قذى و لو أوردته
يوما خلائق حمدويه الأحول‏

ذنب كما سحب الرشاء يذب عن‏
عرف و عرف كالقناع المسبل‏

جذلان ينفض عذرة في غرة
يقق تسيل حجولها في جندل‏

كالرائح النشوان أكثر مشيه‏
عرضا على السنن البعيد الأطول‏

ذهب الأعالي حيث تذهب مقلة
فيه بناظرها حديد الأسفل‏

هزج الصهيل كأن في نغماته‏
نبرات معبد في الثقيل الأول‏

ملك القلوب فإن بدا أعطينه
نظر المحب إلى الحبيب المقبل‏

– أ لا تراه كيف استطرد- بذكر حمدويه الأحول الكاتب- و كأنه لم يقصد ذلك- و لا أراده و إنما جرته القافية- ثم ترك ذكره و عاد إلى وصف الفرس- و لو أقسم إنسان أنه ما بنى القصيدة- منذ افتتحها إلا على ذكره- و لذلك أتى بها على روي اللام- لكان صادقا فهذا هو الاستطراد- . و من الفرق بينه و بين التخلص أنك في التخلص- متى شرعت في ذكر الممدوح‏أو المهجو- تركت ما كنت فيه من قبل بالكلية- و أقبلت على ما تخلصت إليه- من المديح و الهجاء بيتا بعد بيت- حتى تنقضي القصيدة- و في الاستطراد تمر على ذكر الأمر- الذي استطردت به مرورا كالبرق الخاطف- ثم تتركه و تنساه و تعود إلى ما كنت فيه- كأنك لم تقصد قصد ذاك و إنما عرض عروضا- و إذا فهمت الفرق فاعلم أن الآيات التي تلوناها- إذا حققت و أمعنت النظر من باب الاستطراد- لا من باب التخلص-

و ذلك لأنه تعالى قال بعد قوله- وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ- أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ- قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً- الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ- لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ- فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ- الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ كَلِماتِهِ وَ اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ- وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى‏ أُمَّةٌ- يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ- وَ قَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً- وَ أَوْحَيْنا إِلى‏ مُوسى‏- إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ- فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً- قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ- وَ ظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ- وَ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى‏- كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ- وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ- فعاد إلى ما كان فيه أولا- ثم مر في هذه القصة- و في أحوال موسى و بني إسرائيل- حتى قارب الفراغ من السورة- . و من لطيف التخلص الذي يكاد يكون استطرادا- لو لا أنه أفسده بالخروج إلى المدح- قول أبي تمام في قصيدته- التي يمدح بها محمد بن الهيثم التي أولها-

أسقى طلولهم أجش هزيم
و غدت عليهم نضرة و نعيم‏

ظلمتك ظالمة البري‏ء ظلوم‏
و الظلم من ذي قدرة مذموم‏

زعمت هواك عفا الغداة كما عفت
منها طلول باللوى و رسوم‏

لا و الذي هو عالم إن النوى
صبر و إن أبا الحسين كريم‏

ما حلت عما تعهدين و لا غدت‏
نفسي على إلف سواك تحوم‏

فلو أتم متغزلا لكان مستطردا لا محالة- و لكنه نقض الاستطراد- و غمس يده في المدح فقال بعد هذا البيت-

لمحمد بن الهيثم بن شبانة
مجد إلى جنب السماك مقيم‏

ملك إذا نسب الندى من ملتقى‏
طرفيه فهو أخ له و حميم‏

 و مضى على ذلك إلى آخرها- . و من الاستطراد أن يحتال الشاعر- لذكر ما يروم ذكره- بوصف أمر ليس من غرضه- و يدمج الغرض الأصلي في ضمن ذلك و في غضونه- و أحسن ما يكون ذلك إذا صرح- بأنه قد استطرد و نص في شعره على ذلك- كما قال أبو إسحاق الصابي في أبيات- كتبها إلى أبي القاسم عبد العزيز بن يوسف- كاتب عضد الدولة- كتبها إليه إلى شيراز و أبو إسحاق في بغداد- و كانت أخبار فتوح عضد الدولة بفارس و كرمان- و ما والاها متواصلة مترادفة إلى العراق- و كتب عبد العزيز واصلة بها- إلى عز الدولة بختيار و الصابي يجيب عنها-

يا راكب الجسرة العيرانة الأجد
يطوي المهامة من سهل إلى جلد

أبلغ أبا القاسم نفسي الفداء له‏
مقالة من أخ للحق معتمد

في كل يوم لكم فتح يشاد به
بين الأنام بذكر السيد العضد

و ما لنا مثله لكننا أبدا
نجيبكم بجواب الحاسد الكمد

فأنت أكتب مني في الفتوح و ما
تجري مجيبا إلى شاوي و لا أمدي‏

و ما ذممت ابتدائي في مكاتبة
و لا جوابكم في القرب و البعد

لكنني رمت أن أثني على ملك‏
مستطرد بمديح فيه مطرد

و لقد ظرف و ملح أبو إسحاق في هذه الأبيات- و متى خلا أو عرى عن الظرف و الملاحة- و لقد كان ظرفا و لباقة كله- . و ليس من الاستطراد ما زعم ابن الأثير الموصلي- في كتابه المسمى بالمثل السائر أنه استطراد- و هو قول بعض شعراء الموصل- يمدح قرواش بن المقلد- و قد أمره أن يعبث بهجاء وزيره سليمان بن فهد- و حاجبه أبي جابر و مغنية المعروف بالبرقعيدي- في ليلة من ليالي الشتاء- و أراد بذلك الدعابة و الولع بهم- و هم في مجلس في شراب و أنس- فقال و أحسن فيما قال-

و ليل كوجه البرقعيدي ظلمة
و برد أغانيه و طول قرونه‏

سريت و نومي فيه نوم مشرد
كعقل سليمان بن فهد و دينه‏

على أولق فيه التفات كأنه
أبو جابر في خطبة و جنونه‏

إلى أن بدا ضوء الصباح كأنه‏
سنا وجه قرواش و ضوء جبينه‏

 و ذلك لأن الشاعر قصد إلى هجاء كل واحد منهم- و وضع الأبيات لذلك- و أمره قرواش رئيسهم و أميرهم بذلك- فهجاهم و مدحه و لم يستطرد- و هذه الأبيات تشبيهات كلها مقصود بها الهجاء- لم يأت بالعرض في الشعر كما يأتي الاستطراد- . و هذا غلط من مصنف الكتاب

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ أبي‏ الحديد) ج 7 

خطبه 110 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

110 و من خطبة له ع

أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُحَذِّرُكُمُ الدُّنْيَا- فَإِنَّهَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ- حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ وَ تَحَبَّبَتْ بِالْعَاجِلَةِ- وَ رَاقَتْ بِالْقَلِيلِ وَ تَحَلَّتْ بِالآْمَالِ- وَ تَزَيَّنَتْ بِالْغُرُورِ لَا تَدُومُ حَبْرَتُهَا- وَ لَا تُؤْمَنُ فَجْعَتُهَا- غَرَّارَةٌ ضَرَّارَةٌ حَائِلَةٌ زَائِلَةٌ- نَافِدَةٌ بَائِدَةٌ أَكَّالَةٌ غَوَّالَةٌ- لَا تَعْدُو- إِذَا تَنَاهَتْ إِلَى أُمْنِيَّةِ أَهْلِ الرَّغْبَةِ فِيهَا وَ الرِّضَاءِ بِهَا- أَنْ تَكُونَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى- كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ- فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ- فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ- وَ كانَ اللَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مُقْتَدِراً- لَمْ يَكُنِ امْرُؤٌ مِنْهَا فِي حَبْرَةٍ- إِلَّا أَعْقَبَتْهُ بَعْدَهَا عَبْرَةً- وَ لَمْ يَلْقَ مِنْ سَرَّائِهَا بَطْناً- إِلَّا مَنَحَتْهُ مِنْ ضَرَّائِهَا ظَهْراً- وَ لَمْ تَطُلَّهُ فِيهَا دِيمَةُ رَخَاءٍ- إِلَّا هَتَنَتْ عَلَيْهِ مُزْنَةُ بَلَاءٍ- وَ حَرِيٌّ إِذَا أَصْبَحَتْ لَهُ مُنْتَصِرَةً- أَنْ تُمْسِيَ لَهُ مُتَنَكِّرَةً- وَ إِنْ جَانِبٌ مِنْهَا اعْذَوْذَبَ وَ احْلَوْلَى- أَمَرَّ مِنْهَا جَانِبٌ فَأَوْبَى- لَا يَنَالُ امْرُؤٌ مِنْ غَضَارَتِهَا رَغَباً- إِلَّا أَرْهَقَتْهُ مِنْ نَوَائِبِهَا تَعَباً- وَ لَا يُمْسِي مِنْهَا فِي جَنَاحِ أَمْنٍ- إِلَّا أَصْبَحَ عَلَى قَوَادِمِ خَوْفٍ- غَرَّارَةٌ غُرُورٌ مَا فِيهَا فَانِيَةٌ- فَانٍ مَنْ عَلَيْهَا- لَا خَيْرَ فِي شَيْ‏ءٍ مِنْ أَزْوَادِهَا إِلَّا التَّقْوَى-مَنْ أَقَلَّ مِنْهَا اسْتَكْثَرَ مِمَّا يُؤْمِنُهُ- وَ مَنِ اسْتَكْثَرَ مِنْهَا اسْتَكْثَرَ مِمَّا يُوبِقُهُ- وَ زَالَ عَمَّا قَلِيلٍ عَنْهُ- كَمْ مِنْ وَاثِقٍ بِهَا قَدْ فَجَعَتْهُ- وَ ذِي طُمَأْنِينَةٍ قَدْ صَرَعَتْهُ- وَ ذِي أُبَّهَةٍ قَدْ جَعَلَتْهُ حَقِيراً- وَ ذِي نَخْوَةٍ قَدْ رَدَّتْهُ ذَلِيلًا- سُلْطَانُهَا دُوَلٌ وَ عَيْشُهَا رَنَقٌ- وَ عَذْبُهَا أُجَاجٌ وَ حُلْوُهَا صَبِرٌ- وَ غِذَاؤُهَا سِمَامٌ وَ أَسْبَابُهَا رِمَامٌ- حَيُّهَا بِعَرَضِ مَوْتٍ- وَ صَحِيحُهَا بِعَرَضِ سُقْمٍ- مُلْكُهَا مَسْلُوبٌ- وَ عَزِيزُهَا مَغْلُوبٌ- وَ مَوْفُورُهَا مَنْكُوبٌ- وَ جَارُهَا مَحْرُوبٌ- أَ لَسْتُمْ فِي مَسَاكِنِ- مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَطْوَلَ أَعْمَاراً- وَ أَبْقَى آثَاراً وَ أَبْعَدَ آمَالًا- وَ أَعَدَّ عَدِيداً وَ أَكْثَفَ جُنُوداً- تَعَبَّدُوا لِلدُّنْيَا أَيَّ تَعَبُّدٍ- وَ آثَرُوهَا أَيَّ إِيْثَارٍ- ثُمَّ ظَعَنُوا عَنْهَا بِغَيْرِ زَادٍ مُبَلِّغٍ- وَ لَا ظَهْرٍ قَاطِعٍ- فَهَلْ بَلَغَكُمْ أَنَّ الدُّنْيَا سَخَتْ لَهُمْ نَفْساً بِفِدْيَةٍ- أَوْ أَعَانَتْهُمْ بِمَعُونَةٍ- أَوْ أَحْسَنَتْ لَهُمْ صُحْبَةً- بَلْ أَرْهَقَتْهُمْ بِالْفَوَادِحِ- وَ أَوْهَقَتْهُمْ بِالْقَوَارِعِ- وَ ضَعْضَعَتْهُمْ بِالنَّوَائِبِ- وَ عَفَّرَتْهُمْ لِلْمَنَاخِرِ وَ وَطِئَتْهُمْ بِالْمَنَاسِمِ- وَ أَعَانَتْ عَلَيْهِمْ رَيْبَ الْمَنُونِ- فَقَدْ رَأَيْتُمْ تَنَكُّرَهَا لِمَنْ دَانَ لَهَا- وَ آثَرَهَا وَ أَخْلَدَ إِلَيْهَا- حِينَ ظَعَنُوا عَنْهَا لِفِرَاقِ الْأَبَدِ- وَ هَلْ زَوَّدَتْهُمْ إِلَّا السَّغَبَ- أَوْ أَحَلَّتْهُمْ إِلَّا الضَّنْكَ- أَوْ نَوَّرَتْ لَهُمْ إِلَّا الظُّلْمَةَ- أَوْ أَعْقَبَتْهُمْ إِلَّا النَّدَامَةَ- أَ فَهَذِهِ تُؤْثِرُونَ أَمْ إِلَيْهَا تَطْمَئِنُّونَ- أَمْ عَلَيْهَا تَحْرِصُونَ- فَبِئْسَتِ الدَّارُ لِمَنْ لَمْ يَتَّهِمْهَا- وَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا عَلَى وَجَلٍ مِنْهَا- فَاعْلَمُوا وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ- بِأَنَّكُمْ تَارِكُوهَا وَ ظَاعِنُونَ عَنْهَا- وَ اتَّعِظُوا فِيهَا بِالَّذِينَ قَالُوا- مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً- حُمِلُوا إِلَى قُبُورِهِمْ- فَلَا يُدْعَوْنَ رُكْبَاناً- وَ أُنْزِلُوا الْأَجْدَاثَ فَلَا يُدْعَوْنَ ضِيفَاناً- وَ جُعِلَ لَهُمْ مِنَ الصَّفِيحِ أَجْنَانٌ- وَ مِنَ التُّرَابِ أَكْفَانٌ وَ مِنَ الرُّفَاتِ جِيرَانٌ- فَهُمْ جِيرَةٌ لَا يُجِيبُونَ دَاعِياً- وَ لَا يَمْنَعُونَ ضَيْماً وَ لَا يُبَالُونَ مَنْدَبَةً- إِنْ جِيدُوا لَمْ يَفْرَحُوا- وَ إِنْ قُحِطُوا لَمْ يَقْنَطُوا- جَمِيعٌ وَ هُمْ آحَادٌ وَ جِيرَةٌ وَ هُمْ أَبْعَادٌ- مُتَدَانُونَ لَا يَتَزَاوَرُونَ- وَ قَرِيبُونَ لَا يَتَقَارَبُونَ- حُلَمَاءُ قَدْ ذَهَبَتْ أَضْغَانُهُمْ- وَ جُهَلَاءُ قَدْ مَاتَتْ أَحْقَادُهُمْ- لَا يُخْشَى فَجْعُهُمْ- وَ لَا يُرْجَى دَفْعُهُمْ- اسْتَبْدَلُوا بِظَهْرِ الْأَرْضِ بَطْناً- وَ بِالسَّعَةِ ضِيقاً وَ بِالْأَهْلِ غُرْبَةً- وَ بِالنُّورِ ظُلْمَةً فَجَاءُوهَا كَمَا فَارَقُوهَا- حُفَاةً عُرَاةً قَدْ ظَعَنُوا عَنْهَا بِأَعْمَالِهِمْ- إِلَى الْحَيَاةِ الدَّائِمَةِ وَ الدَّارِ الْبَاقِيَةِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى- كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ- نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ خضرة أي ناضرة- و هذه اللفظة من الألفاظ النبوية-

قال النبي ص إن الدنيا حلوة خضرة- و إن الله مستخلفكم فيها- فناظر كيف تعملون- . و حفت بالشهوات كان الشهوات- مستديرة حولها- كما يحف الهودج بالثياب- و حفوا حوله يحفون حفا أطافوا به- قال الله تعالى وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ- . قوله و تحببت بالعاجلة- أي تحببت إلى الناس بكونها لذة عاجلة- و النفوس مغرمة مولعة بحب العاجل- فحذف الجار و المجرور القائم مقام المفعول- . قوله و راقت بالقليل- أي أعجبت أهلها- و إنما أعجبتهم بأمر قليل ليس بدائم- .

قوله و تحلت بالآمال من الحلية- أي تزينت عند أهلها بما يؤملون منها- . قوله و تزينت بالغرور- أي تزينت عند الناس بغرور لا حقيقة له- . و الحبرة السرور و حائلة متغيرة- و نافدة فانية و بائدة منقضية- و أكالة قتالة و غوالة مهلكة- و الغول ما غال أي أهلك- و منه المثل الغضب غول الحلم- . ثم قال- إنها إذا تناهت إلى أمنية ذوي الرغبات فيها- لا تتجاوز أن تكون كما وصفها الله تعالى به و هو قوله- وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا- كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ- فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ- فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ- وَ كانَ اللَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مُقْتَدِراً- . فاختلط أي فالتف بنبات الأرض- و تكاثف به أي بسبب ذلك الماء و بنزوله عليه- و يجوز أن يكون تقديره فاختلط بنبات الأرض- لأنه لما غذاه و أنماه فقد صار مختلطا به- و لما كان كل واحد من المختلطين مشاركا- لصاحبه في مسمى الاختلاط جاز- فاختلط به نبات الأرض- كما يجوز فاختلط هو بنبات الأرض- . و الهشيم ما تهشم و تحطم الواحدة هشيمة- و تذروه الرياح تطيره- و كان الله على ما يشاء من الإنشاء و الإفناء مقتدرا- .

قوله من يلق من سرائها بطنا- إنما خص السراء بالبطن و الضراء بالظهر- لأن الملاقي لك بالبطن ملاق بالوجه- فهو مقبل عليك- و المعطيك ظهره مدبر عنك- . و قيل لأن الترس بطنه إليك- و ظهره إلى عدوك و قيل لأن المشي في بطون الأودية- أسهل من السير على الظراب و الآكام- . و طله السحاب يطله إذا أمطره مطرا قليلا- يقول إذا أعطت قليلا من الخير- أعقبت ذلك بكثير من الشر- لأن التهتان الكثير المطر- هتن يهتن بالكسر هتنا و هتونا و تهتانا- .

قوله و حري أي جدير و خليق- يقال بالحري أن يكون هذا الأمر كذا- و هذا الأمر محراة لذلك أي مقمنة مثل محجاة- و ما أحراه مثل ما أحجاه و أحر به مثل أحج به- و تقول هو حري أن يفعل ذلك بالفتح- أي جدير و قمين لا يثنى و لا يجمع قال الشاعر-

و هن حري ألا يثبنك نقرة
و أنت حري بالنار حين تثيب‏

– فإذا قلت هو حر بكسر الراء- و حري بتشديدها على فعيل ثنيت و جمعت- فقلت هما حريان و حريان- و حرون مثل عمون و أحراء أيضا- و في المشدد حريون و أحرياء و هي حرية و حرية- و هن حريات و حريات و حرايا- . فإن قلت- فهلا قال و حرية إذا أصبحت- لأنه يخبر عن الدنيا- قلت أراد شأنها فذكر- أي و شأنها خليق أن يفعل كذا- . و اعذوذب صار عذبا- و احلولى صار حلوا- و من هاهنا أخذ الشاعر قوله-

ألا إنما الدنيا غضارة أيكة
إذا اخضر منها جانب جف جانب‏

فلا تكتحل عيناك منها بعبرة
على ذاهب منها فإنك ذاهب‏

و ارتفع جانب المذكور بعد إن- لأنه فاعل فعل مقدر يفسره الظاهر- أي و إن اعذوذب جانب منها- لأن إن تقتضي الفعل و تطلبه- فهي كإذا في قوله تعالى- إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ- . و أمر الشي‏ء أي صار مرا- و أوبى صار وبيا- و لين الهمز لأجل السجع- . و الرغب- مصدر رغبت في الأمر رغبة و رغبا أي أردته- . يقول لا ينال الإنسان منها إرادته- إلا أرهقته تعبا- يقال أرهقه إثما أي حمله و كلفه- .

فإن قلت- لم خص الأمن بالجناح و الخوف بالقودام- قلت لأن القوادم مقاديم الريش- و الراكب عليها بعرض خطر عظيم و سقوط قريب- و الجناح يستر و يقي البرد و الأذى- قال أبو نواس-

تغطيت من دهري بظل جناحه
فصرت أرى دهري و ليس يراني‏

فلو تسأل الأيام ما اسمي لما درت‏
و أين مكاني ما عرفن مكاني‏

– و الهاء في جناحه ترجع إلى الممدوح بهذا الشعر- . و توبقه تهلكه و الأبهة الكبر- و الرنق بفتح النون مصدر رنق الماء- أي تكدر و بالكسر الكدر- و قد روي هاهنا بالفتح و الكسر- فالكسر ظاهر- و الفتح على تقدير حذف المضاف أي ذو رنق- . و ماء أجاج قد جمع المرارة و الملوحة- أج الماء يؤج أجاجا- و الصبر بكسر الباء هذا النبات المر نفسه- ثم سمي كل مر صبرا- و السمام جمع سم لهذا القاتل- يقال سم و سم بالفتح و الضم و الجمع سمام و سموم- . و رمام بالية و أسبابها حبالها- و موفورها و ذو الوفر و الثروة منها- و المحروب المسلوب أي لا تحمى جارا و لا تمنعه- .

ثم أخذ قوله تعالى- وَ سَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ- وَ تَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ- وَ ضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ- فقال أ لستم في مساكن من كان قبلكم أطول أعمارا- نصب أطول بأنه خبر كان- و قد دلنا الكتاب الصادق- على أنهم كانوا أطول‏ أعمارا بقوله- فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً- و ثبت بالعيان أنهم أبقى آثارا- فإن من آثارهم الأهرام- و الإيوان و منارة الإسكندرية و غير ذلك- و أما بعد الآمال فمرتب على طول الأعمار- فكلما كانت أطول كانت الآمال أبعد- و إن عنى به علو الهمم- فلا ريب أنهم كانوا- أعلى همما من أهل هذا الزمان- و قد كان فيهم من ملك معمورة الأرض كلها- و كذلك القول في أعد عديدا- و أكثف جنودا- و العديد العدو الكثير- و أعد منهم أي أكثر- .

قوله و لا ظهر قاطع- أي قاطع لمسافة الطريق- . و الفوادح المثقلات فدحه الدين أثقله- و يروى بالقوادح بالقاف- و هي آفة تظهر في الشجر- و صدوع تظهر في الأسنان- . و أوهقتهم جعلتهم في الوهق- بفتح الهاء و هو حبل كالطول- و يجوز التسكين مثل نهر و نهر- . و القوارع المحن و الدواهي- و سميت القيامة قارعة- في الكتاب العزيز من هذا المعنى- و ضعضعتهم أذلتهم قال أبو ذؤيب-أنى لريب الدهر لا أتضعضع‏- و ضعضعت البناء أهدمته- . و عفرتهم للمناخر- ألصقت أنوفهم بالعفر و هو التراب- و المناسم جمع منسم بكسر السين و هو خف البعير- .و دان لها أطاعها و دان لها أيضا ذل- و أخلد إليها مال قال تعالى- وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ- . و السغب الجوع- يقول إنما زودتهم الجوع- و هذا مثل كما قال-و مدحته فأجازني الحرمانا- و معنى قوله أو نورت لهم إلا الظلمة أي بالظلمة- و هذا كقوله هل زودتهم إلا السغب- و هو من باب إقامة الضد مقام الضد- أي لم تسمح لهم بالنور بل بالظلمة- و الضنك الضيق- .

ثم قال فبئست الدار- و حذف الضمير العائد إليها و تقديره هي- كما قال تعالى نِعْمَ الْعَبْدُ و تقديره هو- . و من لم يتهمها من لم يسؤ ظنا بها و الصفيح الحجارة- و الأجنان القبور الواحد جنن و المجنون المقبور- و منه قول الأعرابية لله درك من مجنون في جنن- و الأكنان جمع كن و هو الستر- قال تعالى وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً- . و الرفات العظام البالية- و المندبة الندب على الميت- لا يبالون بذلك لا يكترثون به- و جيدوا مطروا- و قحطوا انقطع المطر عنهم فأصابهم القحط- و هو الجدب و إلى معنى قوله ع- فهم جيرة لا يجيبون داعيا- و لا يمنعون ضيما- جميع و هم آحاد و جيرة و هم أبعاد- متدانون لا يتزاورون- و قريبون لا يتقاربون- نظر البحتري فقال-

بنا أنت من مجفوة لم تؤنب
و مهجورة في هجرها لم تعتب‏

و نازحة و الدار منها قريبة
و ما قرب ثاو في التراب مغيب‏

و قد قال الشعراء و الخطباء في هذا المعنى كثيرا- فمن ذلك قول الرضي أبي الحسن رحمه الله- في مرثية لأبي إسحاق الصابي-

أعزز علي بأن نزلت بمنزل
متشابه الأمجاد بالأوغاد

في عصبة جنبوا إلى آجالهم‏
و الدهر يعجلهم عن الإرواد

ضربوا بمدرجة الفناء قبابهم
من غير أطناب و لا أوتاد

ركب أناخوا لا يرجى منهم‏
قصد لإتهام و لا إنجاد
كرهوا النزول فأنزلتهم وقعة
للدهر نازلة بكل مقاد

فتهافتوا عن رحل كل مذلل‏
و تطاوحوا عن سرج كل جواد

بادون في صور الجميع و إنهم
متفردون تفرد الآحاد

 فقوله بادون في صور الجمع… البيت- هو قوله ع جمع و هم آحاد بعينه- و قال الرضي رحمه الله تعالى أيضا-

متوسدين على الخدود كأنما
كرعوا على ظمإ من الصهباء

صور ضننت على العيون بحسنها
أمسيت أوقرها من البوغاء

و نواظر كحل التراب جفونها
قد كنت أحرسها من الأقذاء

قربت ضرائحهم على زوارها
و نأوا عن الطلاب أي تناء

قوله قربت ضرائحهم… البيت- هو معنى قوله ع و جيرة و هم أبعاد بعينه- . و من هذا المعنى قول بعض الأعراب-

لكل أناس مقبر في ديارهم
فهم ينقصون و القبور تزيد

فكائن ترى من دار حي قد أخرجت‏
و قبر بأكناف التراب جديد

هم جيرة الأحياء أما مزارهم
فدان و أما الملتقى فبعيد

 و من كلام ابن نباتة- وحيدا على كثرة الجيران بعيدا على قرب المكان- . و منه قوله أسير وحشة الانفراد- فقير إلى اليسير من الزاد- جار من لا يجير و ضيف من لا يمير- حملوا و لا يرون ركبانا- و انزلوا و لا يدعون ضيفانا- و اجتمعوا و لا يسمون جيرانا- و احتشدوا و لا يعدون أعوانا- و هذا كلام أمير المؤمنين ع بعينه المذكور في هذه الخطبة- و قد أخذه مصالتة- . و منه قوله طحنتهم طحن الحصيد- و غيبتهم تحت الصعيد- فبطون الأرض لهم أوطان- و هم في خرابها قطان عمروا فأخربوا- و اقتربوا فاغتربوا و اصطحبوا و ما اصطحبوا- . و منه قوله غيبا كأشهاد- عصبا كآحاد- همودا في ظلم الإلحاد إلى يوم التناد- .

و اعلم أن هذه الخطبة ذكرها- شيخنا أبو عثمان الجاحظ في كتاب البيان و التبيين- و رواها لقطري بن الفجاءة- و الناس يروونها لأمير المؤمنين ع- و قد رأيتها في كتاب المونق لأبي عبيد الله المرزباني- مروية لأمير المؤمنين ع- و هي بكلام أمير المؤمنين أشبه- و ليس يبعد عندي- أن يكون قطري قد خطب بها- بعد أن أخذها عن بعض أصحاب أمير المؤمنين ع- فإن الخوارج كانوا أصحابه و أنصاره- و قد لقي قطري أكثرهم

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 7 

خطبه 109 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

109 و من خطبة له ع

إِنَّ أَفْضَلَ مَا تَوَسَّلَ بِهِ الْمُتَوَسِّلُونَ- إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى- الْإِيمَانُ بِهِ وَ بِرَسُولِهِ وَ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ- فَإِنَّهُ ذِرْوَةُ الْإِسْلَامِ- وَ كَلِمَةُ الْإِخْلَاصِ فَإِنَّهَا الْفِطْرَةُ- وَ إِقَامُ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا الْمِلَّةُ- وَ إِيتَاءُ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا فَرِيضَةٌ وَاجِبَةٌ- وَ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ جُنَّةٌ مِنَ الْعِقَابِ- وَ حَجُّ الْبَيْتِ وَ اعْتِمَارُهُ- فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَ يَرْحَضَانِ الذَّنْبَ- وَ صِلَةُ الرَّحِمِ- فَإِنَّهَا مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ وَ مَنْسَأَةٌ فِي الْأَجَلِ- وَ صَدَقَةُ السِّرِّ فَإِنَّهَا تُكَفِّرُ الْخَطِيئَةَ- وَ صَدَقَةُ الْعَلَانِيَةِ فَإِنَّهَا تَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ- وَ صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ فَإِنَّهَا تَقِي مَصَارِعَ الْهَوَانِ- أَفِيضُوا فِي ذِكْرِ اللَّهِ فَإِنَّهُ أَحْسَنُ الذِّكْرِ- وَ ارْغَبُوا فِيمَا وَعَدَ الْمُتَّقِينَ فَإِنَّ وَعْدَهُ أَصْدَقُ الْوَعْدِ- وَ اقْتَدُوا بِهَدْيِ نَبِيِّكُمْ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ الْهَدْيِ- وَ اسْتَنُّوا بِسُنَّتِهِ فَإِنَّهَا أَهْدَى السُّنَنِ- وَ تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ- وَ تَفَقَّهُوا فِيهِ فَإِنَّهُ رَبِيعُ الْقُلُوبِ- وَ اسْتَشْفُوا بِنُورِهِ فَإِنَّهُ شِفَاءُ الصُّدُورِ- وَ أَحْسِنُوا تِلَاوَتَهُ فَإِنَّهُ أَنْفَعُ الْقَصَصِ- وَ إِنَّ الْعَالِمَ الْعَامِلَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ- كَالْجَاهِلِ الْحَائِرِ الَّذِي لَا يَسْتَفِيقُ مِنْ جَهْلِهِ- بَلِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ وَ الْحَسْرَةُ لَهُ أَلْزَمُ- وَ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ أَلْوَمُ ذكر ع ثمانية أشياء كل منها واجب- .

أولها الإيمان بالله و برسوله- و يعني بالإيمان هاهنا مجرد التصديق بالقلب- مع قطع النظر عما عدا ذلك من التلفظ بالشهادة- و من الأعمال الواجبة و ترك القبائح- و قد ذهب إلى أن ماهية الإيمان هو مجرد التصديق القلبي- جماعة من المتكلمين- و هو و إن لم يكن مذهب أصحابنا- فإن لهم أن يقولوا- إن أمير المؤمنين ع جاء بهذا اللفظ على أصل الوضع اللغوي- لأن الإيمان في أصل اللغة هو التصديق- قال سبحانه و تعالى- وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا- وَ لَوْ كُنَّا صادِقِينَ- أي لست بمصدق لنا- لا إن كنا صادقين و لا إن كنا كاذبين- و مجيئه ع به على أصل الوضع اللغوي- لا يبطل مذهبنا في مسمى الإيمان- لأنا نذهب إلى أن الشرع- استجد لهذه اللفظة مسمى ثانيا- كما نذهب إليه في الصلاة و الزكاة و غيرهما- فلا منافاة إذا بين مذهبنا- و بين ما أطلقه ع- .

و ثانيها الجهاد في سبيل الله- و إنما قدمه على التلفظ بكلمتي الشهادة- لأنه من باب دفع الضرر عن النفس- و دفع الضرر عن النفس مقدم- على سائر الأعمال المتعلقة بالجوارح- و التلفظ بكلمتي الشهادة من أعمال الجوارح- و إنما أخره عن الإيمان- لأن الإيمان من أفعال القلوب- فهو خارج عما يتقدم عليه- و دفع الضرر من الأفعال المختصة بالجوارح- و أيضا فإن الإيمان أصل الجهاد- لأنه ما لم يعلم الإنسان- على ما ذا يجاهد لا يجاهد- و إنما جعله ذروة الإسلام أي أعلاه- لأنه ما لم تتحصن دار الإسلام بالجهاد- لا يتمكن المسلمون من القيام بوظائف الإسلام- فكان إذا من الإسلام بمنزلة الرأس من البدن- .

و ثالثها كلمة الإخلاص- يعني شهادة أن لا إله إلا الله- و شهادة أن محمدا رسول الله- قال فإنها الفطرة- يعني هي التي فطر الناس عليها- و الأصل الكلمة الأولى- لأنها التوحيد و عليها فطر البشر كلهم- و الكلمة الثانية تبع لها فأجريت مجراها- و إنما أخرت‏ هذه الخصلة عن الجهاد- لأن الجهاد كان هو السبب- في إظهار الناس لها و نطقهم بها- فصار كالأصل بالنسبة إليها- .

و رابعها إقام الصلاة أي إدامتها- و الأصل أقام إقواما- فحذفوا عين الفعل- و تارة يعوضون عن العين المفتوحة هاء- فيقولون إقامة قال فإنها الملة- و هذا مثل قول النبي ص الصلاة عماد الدين- فمن تركها فقد هدم الدين- .

و خامسها إيتاء الزكاة- و إنما أخرها عن الصلاة- لأن الصلاة آكد افتراضا منها- و إنما قال في الزكاة فإنها فريضة واجبة- لأن الفريضة لفظ يطلق على الجزء المعين المقدر في السائمة- باعتبار غير الاعتبار الذي يطلق به- على صلاة الظهر لفظ الفريضة- و الاعتبار الأول من القطع- و الثاني من الوجوب- و قال فإنها فريضة واجبة- مثل أن يقول- فإنها شي‏ء مقتطع من المال موصوف بالوجوب- .

و سادسها صوم شهر رمضان- و هو أضعف وجوبا من الزكاة- و جعله جنة من العقاب أي سترة- .

و سابعها الحج و العمرة- و هما دون فريضة الصوم- و قال إنهما ينفيان الفقر- و يرحضان الذنب أي يغسلانه- رحضت الثوب و ثوب رحيض- و هذا الكلام يدل على وجوب العمرة- و قد ذهب إليه كثير من الفقهاء العلماء- .

و ثامنها صلة الرحم و هي واجبة- و قطيعة الرحم محرمة- قال فإنها مثراة في المال أي تثريه و تكثره- . و منسأة في الأجل أي تنسؤه و تؤخره- و يقال نسأ الله في أجلك- و يجوز أنسأه بالهمزة- . فإن قلت فما الحجة على تقديم وجوب الصلاة- ثم الزكاة ثم الصوم ثم الحج‏
قلت أما الصلاة فلأن تاركها يقتل- و إن لم يجحد وجوبها- و غيرها ليس كذلك- و إنما قدمت الزكاة على الصوم- لأن الله تعالى قرنها بالصلاة- في كثير من الكتاب العزيز- و لم يذكر صوم شهر رمضان إلا في موضع واحد- و كثرة تأكيد الشي‏ء و ذكره دليل على أنه أهم- و إنما قدم الصوم على الحج- لأنه يتكرر وجوبه- و الحج لا يجب في العمر إلا مرة واحدة- فدل على أنه أهم عند الشارع من الحج- .

ثم قال ع و صدقة السر- فخرج من الواجبات إلى النوافل- قال فإنها تكفر الخطيئة- و التكفير هو إسقاط عقاب مستحق- بثواب أزيد منه أو توبة- و أصله في اللغة الستر و التغطية- و منه الكافر لأنه يغطي الحق- و سمي البحر كافرا لتغطيته ما تحته- و سمي الفلاح كافرا- لأنه يغطي الحب في الأرض المحروثة- .

ثم قال و صدقة العلانية- فإنها تدفع ميتة السوء- كالغرق و الهدم و غيرها- . قال و صنائع المعروف- فإنها تقي مصارع الهوان- كأسر الروم للمسلم- أو كأخذ الظلمة لغير المستحق للأخذ- . ثم شرع في وصايا أخر عددها- و الهدي السيرة- وفي الحديث و اهدوا هدي عمار- يقال هدى فلان هدي فلان أي سار سيرته- . و سمي القرآن حديثا اتباعا لقول الله تعالى- نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً- و استدل أصحابنا بالآية على أنه محدث- لأنه لا فرق بين حديث و محدث في اللغة- فإن قالوا إنما أراد أحسن الكلام- قلنا لعمري إنه كذلك- و لكنه لا يطلق على الكلام القديم لفظة حديث- لأنه إنما سمي الكلام و المحاورة و المخاطبة حديثا- لأنه أمر يتجدد حالا فحالا- و القديم ليس كذلك- .

ثم قال تفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب- من هذا أخذ ابن عباس قوله- إذا قرأت ألم حم وقعت في روضات دمثات- . ثم قال فإنه شفاء الصدور- و هذا من الألفاظ القرآنية- . ثم سماه قصصا- اتباعا لما ورد في القرآن من قوله- نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ- . ثم ذكر أن العالم الذي لا يعمل بعلمه- كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله- .

ثم قال بل الحجة عليه أعظم- لأنه يعلم الحق و لا يعمل به- فالحجة عليه أعظم من الحجة على الجاهل- و إن كانا جميعا محجوجين- أما أحدهما فبعلمه- و أما الآخر فبتمكنه من أن يعلم- . ثم قال و الحسرة له ألزم- لأنه عند الموت يتأسف- ألا يكون عمل بما علم- و الجاهل لا يأسف ذلك الأسف- . ثم قال و هو عند الله ألوم- أي أحق أن يلام- لأن المتمكن عالم بالقوة- و هذا عالم بالفعل- فاستحقاقه اللوم و العقاب أشد

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ أبي‏ الحديد) ج 7 

خطبه 108 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

108 و من خطبة له ع

كُلُّ شَيْ‏ءٍ خَاشِعٌ لَهُ- وَ كُلُّ شَيْ‏ءٍ قَائِمٌ بِهِ- غِنَى كُلِّ فَقِيرٍ- وَ عِزُّ كُلِّ ذَلِيلٍ- وَ قُوَّةُ كُلِّ ضَعِيفٍ- وَ مَفْزَعُ كُلِّ مَلْهُوفٍ- مَنْ تَكَلَّمَ سَمِعَ نُطْقَهُ- وَ مَنْ سَكَتَ عَلِمَ سِرَّهُ- وَ مَنْ عَاشَ فَعَلَيْهِ رِزْقُهُ- وَ مَنْ مَاتَ فَإِلَيْهِ مُنْقَلَبُهُ- لَمْ تَرَكَ الْعُيُونُ فَتُخْبِرَ عَنْكَ- بَلْ كُنْتَ قَبْلَ الْوَاصِفِينَ مِنْ خَلْقِكَ- لَمْ تَخْلُقِ الْخَلْقَ لِوَحْشَةٍ- وَ لَا اسْتَعْمَلْتَهُمْ لِمَنْفَعَةٍ- وَ لَا يَسْبِقُكَ مَنْ طَلَبْتَ- وَ لَا يُفْلِتُكَ مَنْ أَخَذْتَ- وَ لَا يَنْقُصُ سُلْطَانَكَ مَنْ عَصَاكَ- وَ لَا يَزِيدُ فِي مُلْكِكَ مَنْ أَطَاعَكَ- وَ لَا يَرُدُّ أَمْرَكَ مَنْ سَخِطَ قَضَاءَكَ- وَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْكَ مَنْ تَوَلَّى عَنْ أَمْرِكَ- كُلُّ سِرٍّ عِنْدَكَ عَلَانِيَةٌ- وَ كُلُّ غَيْبٍ عِنْدَكَ شَهَادَةٌ- أَنْتَ الْأَبَدُ فَلَا أَمَدَ لَكَ- وَ أَنْتَ الْمُنْتَهَى فَلَا مَحِيصَ عَنْكَ- وَ أَنْتَ الْمَوْعِدُ فَلَا مُنْجِيَ مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ- بِيَدِكَ نَاصِيَةُ كُلِّ دَابَّةٍ- وَ إِلَيْكَ مَصِيرُ كُلِّ نَسَمَةٍ- سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ شَأْنَكَ- سُبْحَانَكَ مَا أَعْظَمَ مَا نَرَى مِنْ خَلْقِكَ- وَ مَا أَصْغَرَ عَظِيمَةٍ فِي جَنْبِ قُدْرَتِكَ- وَ مَا أَهْوَلَ مَا نَرَى مِنْ مَلَكُوتِكَ- وَ مَا أَحْقَرَ ذَلِكَ فِيمَا غَابَ عَنَّا مِنْ سُلْطَانِكَ- وَ مَا أَسْبَغَ نِعَمَكَ فِي الدُّنْيَا- وَ مَا أَصْغَرَهَا فِي نِعَمِ الآْخِرَةِ قال كل شي‏ء خاضع لعظمة الله سبحانه- و كل شي‏ء قائم به- و هذه هي صفته الخاصة- أعني كونه غنيا عن كل شي‏ء- و لا شي‏ء من الأشياء يغني عنه أصلا- . ثم قال غنى كل فقير- و عز كل ذليل- و قوة كل ضعيف- و مفزع كل ملهوف- .

جاء في الأثر من اعتز بغير الله ذل- و من تكثر بغير الله قل- و كان يقال ليس فقيرا من استغنى بالله- و قال الحسن وا عجبا للوط نبي الله- قال لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى‏ رُكْنٍ شَدِيدٍ- أ تراه أراد ركنا أشد و أقوى من الله- . و استدل العلماء على ثبوت الصانع سبحانه- بما دل عليه فحوى قوله ع- و مفزع كل ملهوف- و ذلك أن النفوس ببدائها تفزع- عند الشدائد و الخطوب الطارقة- إلى الالتجاء إلى خالقها و بارئها- أ لا ترى راكبي السفينة عند تلاطم الأمواج- كيف يجأرون إليه سبحانه اضطرارا لا اختيارا- فدل ذلك على أن العلم به مركوز في النفس- قال سبحانه وَ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ- ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ- . ثم قال ع من تكلم سمع نطقه- و من سكت علم سره- يعني أنه يعلم ما ظهر و ما بطن- . ثم قال و من عاش فعليه رزقه- و من مات فإليه منقلبه- أي هو مدبر الدنيا و الآخرة و الحاكم فيهما- . ثم انتقل عن الغيبة إلى الخطاب- فقال لم ترك العيون‏

فصل في الكلام على الالتفات

و اعلم أن باب الانتقال من الغيبة إلى الخطاب- و من الخطاب إلى الغيبة باب كبير من أبواب علم البيان- و أكثر ما يقع ذلك إذا اشتدت عناية المتكلم- بذلك المعنى المنتقل إليه كقوله سبحانه- الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ- الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ- مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ- فأخبر عن غائب- ثم انتقل إلى خطاب الحاضر فقال- إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ- قالوا لأن منزلة الحمد دون منزلة العبادة- فإنك تحمد نظيرك و لا تعبده- فجعل الحمد للغائب- و جعل العبادة لحاضر يخاطب بالكاف- لأن كاف الخطاب أشد تصريحا به سبحانه- من الأخبار بلفظ الغيبة- قالوا و لما انتهى إلى آخر السورة- قال صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ- فأسند النعمة إلى مخاطب حاضر- و قال في الغضب غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ- فأسنده إلى فاعل غير مسمى و لا معين- و هو أحسن من أن يكون قال- لم تغضب عليهم و في النعمة الذين أنعم عليهم- . و من هذا الباب قوله تعالى- وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً- فأخبر بقالوا عن غائبين ثم قال- لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا- فأتى بلفظ الخطاب استعظاما للأمر- كالمنكر على قوم حاضرين عنده- . و من الانتقال عن الخطاب إلى الغيبة قوله تعالى- هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ- حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ- وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ- وَ فَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ… الآية- .

و فائدة ذلك أنه صرف الكلام من خطاب الحاضرين- إلى أخبار قوم آخرين بحالهم- كأنه يعدد على أولئك ذنوبهم- و يشرح لهؤلاء بغيهم و عنادهم الحق- و يقبح عندهم ما فعلوه- و يقول أ لا تعجبون من حالهم كيف دعونا- فلما رحمناهم و استجبنا دعاءهم- عادوا إلى بغيهم- و هذه الفائدة لو كانت الآية كلها- على صيغة خطاب الحاضر مفقودة- .

قال ع ما رأتك العيون فتخبر عنك- كما يخبر الإنسان عما شاهده- بل أنت أزلي قديم موجود قبل الواصفين لك- . فإن قلت فأي منافاة بين هذين الأمرين- أ ليس من الممكن أن يكون سبحانه قبل الواصفين له- و مع ذلك يدرك بالأبصار إذا خلق خلقه- ثم يصفونه رأي عين- قلت بل هاهنا منافاة ظاهرة- و ذلك لأنه إذا كان قديما- لم يكن جسما و لا عرضا- و ما ليس بجسم و لا عرض تستحيل رؤيته- فيستحيل أن يخبر عنه على سبيل المشاهدة- . ثم ذكر ع- أنه لم يخلق الخلق لاستيحاشه و تفرده- و لا استعملهم بالعبادة لنفعه- و قد تقدم شرح هذا- . ثم قال لا تطلب أحدا فيسبقك- أي يفوتك و لا يفلتك من أخذته- . فإن قلت أي فائدة في قوله و لا يفلتك من أخذته- لأن عدم الإفلات هو الأخذ- فكأنه قال لا يفلتك من لم يفلتك- قلت المراد أن من أخذت لا يستطيع أن يفلت- كما يستطيع المأخوذون مع ملوك الدنيا- أن يفلتوا بحيلة من الحيل- . فإن قلت- أفلت فعل لازم فما باله عداه- . قلت تقدير الكلام لا يفلت منك- فحذف حرف الجر- كما قالوا استجبتك أي استجبت لك قال-فلم يستجبه عند ذاك مجيب‏- . و قالوا استغفرت الله الذنوب- أي من الذنوب و قال الشاعر-

أستغفر الله ذنبا لست محصيه
رب العباد إليه الوجه و العمل‏

قوله ع- و لا يرد أمرك من سخط قضاءك- و لا يستغني عنك من تولى عن أمرك- تحته سر عظيم- و هو قول أصحابنا في جواب قول المجبرة- لو وقع منا ما لا يريده لاقتضى ذلك نقصه- إنه لا نقص في ذلك- لأنه لا يريد الطاعات منا إرادة قهر و إلجاء- و لو أرادها إرادة قهر- لوقعت و غلبت إرادته إرادتنا- و لكنه تعالى أراد منا أن نفعل نحن الطاعة اختيارا- فلا يدل عدم وقوعها منا على نقصه و ضعفه- كما لا يدل بالاتفاق بيننا و بينكم عدم وقوع ما أمر به- على ضعفه و نقصه- .

ثم قال ع كل سر عندك علانية- أي لا يختلف الحال عليه في الإحاطة بالجهر و السر- لأنه عالم لذاته و نسبة ذاته إلى كل الأمور واحدة- . ثم قال أنت الأبد فلا أمد لك- هذا كلام علوي شريف- لا يفهمه إلا الراسخون في العلم و فيه سمة منقول النبي ص لا تسبوا الدهر فإن الدهر هو الله- و في مناجاة الحكماء لمحة منه أيضا- و هو قولهم أنت الأزل السرمد- و أنت الأبد الذي لا ينفد- بل قولهم أنت الأبد الذي لا ينفد هو قوله أنت الأبد فلا أمد لك بعينه- و نحن نشرحه هاهنا على موضوع هذا الكتاب- فإنه كتاب أدب لا كتاب نظر- فنقول إن له في العربية محملين- أحدهما أن المراد به أنت ذو الأبد- كما قالوا رجل خال أي ذو خال و الخال الخيلاء- و رجل داء أي به داء و رجل‏مال أي ذو مال- و المحمل الثاني- أنه لما كان الأزل و الأبد لا ينفكان- عن وجوده سبحانه جعله ع- كأنه أحدهما بعينه- كقولهم أنت الطلاق- لما أراد المبالغة في البينونة- جعلها كأنها الطلاق نفسه- و مثله قول الشاعر-
فإن المندى رحلة فركوب‏

و قال أبو الفتح في الدمشقيات- استدل أبو علي على صرف منى للموضع المخصوص- بأنه مصدر منى يمني- قال فقلت له أ تستدل بهذا على أنه مذكر- لأن المصدر إلى التذكير فقال نعم- فقلت فما تنكر ألا يكون فيه دلالة عليه- لأنه لا ينكر أن يكون مذكر سمي به البقعة المؤنثة- فلا ينصرف كامرأة سميتها بحجر و جبل و شبع و معي- فقال إنما ذهبت إلى ذلك- لأنه جعل كأنه المصدر بعينه- لكثرة ما يعاني فيه ذلك فقلت الآن نعم- . و من هذا الباب قوله-فإنما هي إقبال و إدبار- . و قولهو هن من الإخلاف قبلك و المطل‏- . و قوله فلا منجى منك إلا إليك- قد أخذه الفرزدق فقال لمعاوية-

إليك فررت منك و من زياد
و لم أحسب دمي لكما حلالا

ثم استعظم و استهول خلقه الذي يراه- و ملكوته الذي يشاهده- و استصغر و استحقرذلك- بالإضافة إلى قدرته تعالى- و إلى ما غاب عنا من سلطانه- ثم تعجب من سبوغ نعمه تعالى في الدنيا- و استصغر ذلك بالنسبة إلى نعم الآخرة- و هذا حق لأنه لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي: مِنْهَا مِنْ مَلَائِكَةٍ أَسْكَنْتَهُمْ سَمَاوَاتِكَ- وَ رَفَعْتَهُمْ عَنْ أَرْضِكَ- هُمْ أَعْلَمُ خَلْقِكَ بِكَ- وَ أَخْوَفُهُمْ لَكَ وَ أَقْرَبُهُمْ مِنْكَ- لَمْ يَسْكُنُوا الْأَصْلَابَ- وَ لَمْ يُضَمَّنُوا الْأَرْحَامَ- وَ لَمْ يُخْلَقُوا مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ- وَ لَمْ يَتَشَعَّبْهُمْ رَيْبُ الْمَنُونِ- وَ إِنَّهُمْ عَلَى مَكَانِهِمْ مِنْكَ- وَ مَنْزِلَتِهِمْ عِنْدَكَ وَ اسْتِجْمَاعِ أَهْوَائِهِمْ فِيكَ- وَ كَثْرَةِ طَاعَتِهِمْ لَكَ وَ قِلَّةِ غَفْلَتِهِمْ عَنْ أَمْرِكَ- لَوْ عَايَنُوا كُنْهَ مَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ مِنْكَ- لَحَقَّرُوا أَعْمَالَهُمْ وَ لَزَرَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ- وَ لَعَرَفُوا أَنَّهُمْ لَمْ يَعْبُدُوكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ- وَ لَمْ يُطِيعُوكَ حَقَّ طَاعَتِكَ- سُبْحَانَكَ خَالِقاً وَ مَعْبُوداً- بِحُسْنِ بَلَائِكَ عِنْدَ خَلْقِكَ خَلَقْتَ دَاراً- وَ جَعَلْتَ فِيهَا مَأْدُبَةً- مَشْرَباً وَ مَطْعَماً وَ أَزْوَاجاً- وَ خَدَماً وَ قُصُوراً- وَ أَنْهَاراً وَ زُرُوعاً وَ ثِمَاراً- ثُمَّ أَرْسَلْتَ دَاعِياً يَدْعُو إِلَيْهَا- فَلَا الدَّاعِيَ أَجَابُوا- وَ لَا فِيمَا رَغَّبْتَ رَغِبُوا- وَ لَا إِلَى مَا شَوَّقْتَ إِلَيْهِ اشْتَاقُوا- أَقْبَلُوا عَلَى جِيفَةٍ قَدِ افْتَضَحُوا بِأَكْلِهَا- وَ اصْطَلَحُوا عَلَى حُبِّهَا- وَ مَنْ عَشِقَ شَيْئاً أَعْشَى بَصَرَهُ- وَ أَمْرَضَ قَلْبَهُ- فَهُوَ يَنْظُرُ بِعَيْنٍ غَيْرِ صَحِيحَةٍ- وَ يَسْمَعُ بِأُذُنٍ غَيْرِ سَمِيعَةٍ- قَدْ خَرَقَتِ الشَّهَوَاتُ عَقْلَهُ- وَ أَمَاتَتِ الدُّنْيَا قَلْبَهُ- وَ وَلِهَتْ عَلَيْهَا نَفْسُهُ- فَهُوَ عَبْدٌ لَهَا- وَ لِمَنْ فِي يَدَيْهِ شَيْ‏ءٌ مِنْهَا- حَيْثُمَا زَالَتْ زَالَ إِلَيْهَا- وَ حَيْثُمَا أَقْبَلَتْ أَقْبَلَ عَلَيْهَا- لَا يَنْزَجِرُ مِنَ اللَّهِ بِزَاجِرٍ- وَ لَا يَتَّعِظُ مِنْهُ بِوَاعِظٍ- وَ هُوَ يَرَى الْمَأْخُوذِينَ‏ عَلَى الْغِرَّةِ- حَيْثُ لَا إِقَالَةَ لَهُمْ وَ لَا رَجْعَةَ- كَيْفَ نَزَلَ بِهِمْ مَا كَانُوا يَجْهَلُونَ- وَ جَاءَهُمْ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا مَا كَانُوا يَأْمَنُونَ- وَ قَدِمُوا مِنَ الآْخِرَةِ عَلَى مَا كَانُوا يُوعَدُونَ- فَغَيْرُ مَوْصُوفٍ مَا نَزَلَ بِهِمْ- اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ- وَ حَسْرَةُ الْفَوْتِ فَفَتَرَتْ لَهَا أَطْرَافُهُمْ- وَ تَغَيَّرَتْ لَهَا أَلْوَانُهُمْ- ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ فِيهِمْ وُلُوجاً- فَحِيلَ بَيْنَ أَحَدِهِمْ وَ بَيْنَ مَنْطِقِهِ- وَ إِنَّهُ لَبَيْنَ أَهْلِهِ يَنْظُرُ بِبَصَرِهِ- وَ يَسْمَعُ بِأُذُنِهِ عَلَى صِحَّةٍ مِنْ عَقْلِهِ- وَ بَقَاءٍ مِنْ لُبِّهِ- يُفَكِّرُ فِيمَ أَفْنَى عُمْرَهُ- وَ فِيمَ أَذْهَبَ دَهْرَهُ- وَ يَتَذَكَّرُ أَمْوَالًا جَمَعَهَا أَغْمَضَ فِي مَطَالِبِهَا- وَ أَخَذَهَا مِنْ مُصَرَّحَاتِهَا وَ مُشْتَبِهَاتِهَا- قَدْ لَزِمَتْهُ تَبِعَاتُ جَمْعِهَا- وَ أَشْرَفَ عَلَى فِرَاقِهَا- تَبْقَى لِمَنْ وَرَاءَهُ يُنَعَّمُونَ فِيهَا- وَ يَتَمَتَّعُونَ بِهَا- فَيَكُونُ الْمَهْنَأُ لِغَيْرِهِ وَ الْعِبْ‏ءُ عَلَى ظَهْرِهِ- وَ الْمَرْءُ قَدْ غَلِقَتْ رُهُونُهُ بِهَا- فَهُوَ يَعَضُّ يَدَهُ نَدَامَةً- عَلَى مَا أَصْحَرَ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ أَمْرِهِ- وَ يَزْهَدُ فِيمَا كَانَ يَرْغَبُ فِيهِ أَيَّامَ عُمْرِهِ- وَ يَتَمَنَّى أَنَّ الَّذِي كَانَ يَغْبِطُهُ بِهَا- وَ يَحْسُدُهُ عَلَيْهَا قَدْ حَازَهَا دُونَهُ- فَلَمْ يَزَلِ الْمَوْتُ يُبَالِغُ فِي جَسَدِهِ- حَتَّى خَالَطَ سَمْعَهُ- فَصَارَ بَيْنَ أَهْلِهِ لَا يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ- وَ لَا يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ- يُرَدِّدُ طَرْفَهُ بِالنَّظَرِ فِي وُجُوهِهِمْ- يَرَى حَرَكَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ- وَ لَا يَسْمَعُ رَجْعَ كَلَامِهِمْ- ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ الْتِيَاطاً بِهِ- فَقَبَضَ بَصَرَهُ كَمَا قَبَضَ سَمْعَهُ- وَ خَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ جَسَدِهِ- فَصَارَ جِيفَةً بَيْنَ أَهْلِهِ- قَدْ أُوحِشُوا مِنْ جَانِبِهِ- وَ تَبَاعَدُوا مِنْ قُرْبِهِ- لَا يُسْعِدُ بَاكِياً وَ لَا يُجِيبُ دَاعِياً- ثُمَّ حَمَلُوهُ إِلَى مَخَطٍّ فِي الْأَرْضِ- فَأَسْلَمُوهُ فِيهِ إِلَى عَمَلِهِ- وَ انْقَطَعُوا عَنْ زَوْرَتِهِ- حَتَّى إِذَا بَلَغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ- وَ الْأَمْرُ مَقَادِيرَهُ- وَ أُلْحِقَ آخِرُ الْخَلْقِ بِأَوَّلِهِ- وَ جَاءَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا يُرِيدُهُ- مِنْ تَجْدِيدِ خَلْقِهِ- أَمَادَ السَّمَاءَ وَ فَطَرَهَا- وَ أَرَجَّ الْأَرْضَ وَ أَرْجَفَهَا- وَ قَلَعَ جِبَالَهَا وَ نَسَفَهَا- وَ دَكَّ بَعْضُهَا بَعْضاً مِنْ هَيْبَةِ جَلَالَتِهِ- وَ مَخُوفِ سَطْوَتِهِ- وَ أَخْرَجَ مَنْ فِيهَا فَجَدَّدَهُمْ بَعْدَ إِخْلَاقِهِمْ- وَ جَمَعَهُمْ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ- ثُمَّ مَيَّزَهُمْ لِمَا يُرِيدُهُ مِنْ‏مَسْأَلَتِهِمْ- عَنْ خَفَايَا الْأَعْمَالِ وَ خَبَايَا الْأَفْعَالِ- وَ جَعَلَهُمْ فَرِيقَيْنِ- أَنْعَمَ عَلَى هَؤُلَاءِ وَ انْتَقَمَ مِنْ هَؤُلَاءِ- فَأَمَّا أَهْلُ الطَّاعَةِ فَأَثَابَهُمْ بِجِوَارِهِ- وَ خَلَّدَهُمْ فِي دَارِهِ- حَيْثُ لَا يَظْعَنُ النُّزَّالُ- وَ لَا تَتَغَيَّرُ بِهِمُ الْحَالُ- وَ لَا تَنُوبُهُمُ الْأَفْزَاعُ- وَ لَا تَنَالُهُمُ الْأَسْقَامُ وَ لَا تَعْرِضُ لَهُمُ الْأَخْطَارُ- وَ لَا تُشْخِصُهُمُ الْأَسْفَارُ- وَ أَمَّا أَهْلُ الْمَعْصِيَةِ- فَأَنْزَلَهُمْ شَرَّ دَارٍ وَ غَلَّ الْأَيْدِيَ إِلَى الْأَعْنَاقِ- وَ قَرَنَ النَّوَاصِيَ بِالْأَقْدَامِ- وَ أَلْبَسَهُمْ سَرَابِيلَ الْقَطِرَانِ- وَ مُقَطَّعَاتِ النِّيرَانِ- فِي عَذَابٍ قَدِ اشْتَدَّ حَرُّهُ- وَ بَابٍ قَدْ أُطْبِقَ عَلَى أَهْلِهِ- فِي نَارٍ لَهَا كَلَبٌ وَ لَجَبٌ- وَ لَهَبٌ سَاطِعٌ وَ قَصِيفٌ هَائِلٌ- لَا يَظْعَنُ مُقِيمُهَا- وَ لَا يُفَادَى أَسِيرُهَا- وَ لَا تُفْصَمُ كُبُولُهَا- لَا مُدَّةَ لِلدَّارِ فَتَفْنَى- وَ لَا أَجَلَ لِلْقَوْمِ فَيُقْضَى هذا موضع المثل في كل شجرة نار- و استمجد المرخ و العفار- الخطب الوعظية الحسان كثيرة- و لكن هذا حديثيأكل الأحاديث-

محاسن أصناف المغنين جمة
و ما قصبات السبق إلا لمعبد

 من أراد أن يتعلم الفصاحة و البلاغة- و يعرف فضل الكلام بعضه على بعض- فليتأمل هذه الخطبة- فإن نسبتها إلى كل فصيح من الكلام- عدا كلام الله و رسوله- نسبة الكواكب المنيرة الفلكية- إلى الحجارة المظلمة الأرضية- ثم لينظر الناظر إلى ما عليها من البهاء- و الجلالة و الرواء و الديباجة- و ما تحدثه من الروعة و الرهبة و المخافة و الخشية- حتى لو تليت على زنديق ملحد مصمم- على اعتقاد نفي البعث و النشور- لهدت قواه و أرعبت قلبه- و أضعفت على نفسه و زلزلت اعتقاده- فجزى الله قائلها عن الإسلام- أفضل‏ ما جزى به وليا من أوليائه- فما أبلغ نصرته له- تارة بيده و سيفه- و تارة بلسانه و نطقه- و تارة بقلبه و فكره- إن قيل جهاد و حرب فهو سيد المجاهدين و المحاربين- و إن قيل وعظ و تذكير فهو أبلغ الواعظين و المذكرين- و إن قيل فقه و تفسير فهو رئيس الفقهاء و المفسرين- و إن قيل عدل و توحيد فهو إمام أهل العدل و الموحدين-

ليس على الله بمستنكر
أن يجمع العالم في واحد

 ثم نعود إلى الشرح- فنقول قوله ع أسكنتهم سماواتك- لا يقتضي أن جميع الملائكة في السماوات- فإنه قد ثبت أن الكرام الكاتبين في الأرض- و إنما لم يقتض ذلك- لأن قوله من ملائكة ليس من صيغ العموم- فإنه نكرة في سياق الإثبات- و قد قيل أيضا- إن ملائكة الأرض تعرج إلى السماء و مسكنها بها- و يتناوبون على أهل الأرض- . قوله هم أعلم خلقك بك- ليس يعني به أنهم يعلمون- من ماهيته تعالى ما لا يعلمه البشر- أما على قول المتكلمين- فلأن ذاته تعالى معلومة للبشر- و العلم لا يقبل الأشد و الأضعف- و أما على قول الحكماء- فلأن ذاته تعالى غير معلومة للبشر و لا للملائكة- و يستحيل أن تكون معلومة لأحد منهم- فلم يبق وجه يحمل عليه قوله ع- هم أعلم خلقك بك- إلا أنهم يعلمون- من تفاصيل مخلوقاته و تدبيراته ما لا يعلمه غيرهم- كما يقال وزير الملك أعلم بالملك من الرعية- ليس المراد أنه أعلم بذاته و ماهيته- بل بأفعاله و تدبيره و مراده و غرضه- .

قوله و أخوفهم لك- لأن قوتي الشهوة و الغضب مرفوعتان عنهم- و هما منبع‏ الشر- و بهما يقع الطمع و الإقدام على المعاصي- و أيضا فإن منهم من يشاهد الجنة و النار عيانا- فيكون أخوف لأنه ليس الخبر كالعيان- . قوله و أقربهم منك- لا يريد القرب المكاني- لأنه تعالى منزه عن المكان و الجهة- بل المراد كثرة الثواب و زيادة التعظيم و التبجيل- و هذا يدل على صحة مذهب أصحابنا- في أن الملائكة أفضل من الأنبياء- . ثم نبه على مزية لهم- تقتضي أفضلية جنسهم على جنس البشر- بمعنى الأشرفية لا بمعنى زيادة الثواب- و هو قوله لم يسكنوا الأصلاب- و لم يضمنوا الأرحام- و لم يخلقوا من ماء مهين- و لم يتشعبهم ريب المنون- و هذه خصائص أربع- فالأولى أنهم لم يسكنوا الأصلاب- و البشر سكنوا الأصلاب- و لا شبهة أن ما ارتفع- عن مخالطة الصورة اللحمية و الدموية- أشرف مما خالطها و مازجها- .

و الثانية أنهم لم يضمنوا الأرحام- و لا شبهة أن من لم يخرج- من ذلك الموضع المستقذر أشرف ممن خرج منه- و كان أحمد بن سهل بن هاشم- بن الوليد بن كامكاو بن يزدجرد بن شهريار- يفخر على أبناء الملوك- بأنه لم يخرج من بضع امرأة- لأن أمه ماتت و هي حامل به- فشق بطنها عنه و أخرج- قال أبو الريحان البيروني- في كتاب الآثار الباقية عن القرون الخالية عن هذا الرجل- أنه كان يتيه على الناس و إذا شتم أحدا قال ابن البضع- قال أبو الريحان و أول من اتفق له ذلك الملك المعروف بأغسطس ملك الروم و هو أول من سمي فيهم قيصر- لأن تفسير قيصر بلغتهم شق عنه و أيامه تاريخ- كما أن أيام الإسكندر تاريخ لعظمه و جلالته عندهم- . و الثالثة أنهم لم يخلقوا من ماء مهين- و قد نص القرآن العزيز على أنه مهين- و كفى ذلك في تحقيره و ضعته- فهم لا محالة أشرف ممن خلق منه- لا سيما و قد ذهب كثير من العلماء إلى نجاسته- .

و الرابعة أنهم لا يتشعبهم المنية- و لا ريب أن من لا تتطرق إليه الأسقام و الأمراض- و لا يموت- أشرف ممن هو في كل ساعة و لحظة بعرض سقام- و بصدد موت و حمام- . و اعلم أن مسألة تفضيل الملائكة على الأنبياء- لها صورتان- إحداهما أن أفضل بمعنى كونهم أكثر ثوابا- و الأخرى كونهم أفضل بمعنى أشرف- كما تقول إن الفلك أفضل من الأرض- أي إن الجوهر الذي منه جسمية الفلك- أشرف من الجوهر الذي منه جسمية الأرض- . و هذه المزايا الأربع دالة- على تفضيل الملائكة بهذا الاعتبار الثاني- . قوله ع يتشعبهم ريب المنون- أي يتقسمهم و الشعب التفريق- و منه قيل للمنية شعوب- لأنها تفرق الجماعات- و ريب المنون حوادث الدهر- و أصل الريب ما راب الإنسان أي جاءه بما يكره- و المنون الدهر نفسه و المنون أيضا المنية- لأنها تمن المدة أي تقطعها و المن القطع- و منه قوله تعالى لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ- . و قال لبيدغبس كواسب لا يمن طعامهاثم ذكر أنهم كثرة عبادتهم و إخلاصهم- لو عاينوا كنه ما خفي عليهم من البارئ تعالى- لحقروا أعمالهم- و زروا على أنفسهم أي عابوها- تقول زريت على فلان أي عبته- و أزريت بفلان أي قصرت به- .

فإن قلت- ما هذا الكنه الذي خفي عن الملائكة- حتى قال لو عاينوه لحقروا عبادتهم- و لعلموا أنهم قد قصروا فيها- قلت إن علوم الملائكة بالبارئ تعالى- نظرية كعلوم البشر- و العلوم النظرية دون العلوم الضرورية في الجلاء و الوضوح- فأمير المؤمنين ع يقول- لو كانت علومهم بك و بصفاتك إثباتية- و السلبية و الإضافية ضرورية- عوض علومهم هذه المتحققة الآن- التي هي نظرية- و لا نكشف لهم ما ليس الآن- على حد ذلك الكشف و الوضوح- و لا شبهة أن العبادة و الخدمة على قدر المعرفة بالمعبود- فكلما كان العابد به أعرف- كانت عبادته له أعظم- و لا شبهة أن العظيم عند الأعظم حقير- . فإن قلت فما معنى قوله- و استجماع أهوائهم فيك- و هل للملائكة هوى- و هل تستعمل الأهواء إلا في الباطل- قلت الهوى الحب و ميل النفس- و قد يكون في باطل و حق- و إنما يحمل على أحدهما بالقرينة- و الأهواء تستعمل فيهما- و معنى استجماع أهوائهم فيه- أن دواعيهم إلى طاعته و خدمته لا تنازعها الصوارف- و كانت مجتمعة مائلة إلى شق واحد- . فإن قلت الباء في قوله- بحسن بلائك بما ذا تتعلق- قلت الباء هاهنا للتعليل بمعنى اللام- كقوله تعالى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ- أي لأنهم- فتكون متعلقة بما في سبحانك من معنى الفعل- أي أسبحك لحسن بلائك- و يجوز أن تتعلق بمعبود أي يعبد لذلك- . ثم قال خلقت دارا يعني الجنة- و المأدبة و المأدبة بفتح الدال و ضمها- الطعام الذي يدعى الإنسان إليه- أدب زيد القوم يأدبهم بالكسر- أي دعاهم إلى طعامه- و الآدب الداعي إلى طعامه قال طرفة-

نحن في المشتاة ندعو الجفلى
لا ترى الآدب فينا ينتقر

و في هذا الكلام دلالة على أن الجنة الآن مخلوقة- و هو مذهب أكثر أصحابنا- . و معنى قوله و زروعا أي و غروسا من الشجر- يقال زرعت الشجر كما يقال زرعت البر و الشعير- و يجوز أن يقال الزروع جمع زرع و هو الإنبات- يقال زرعه الله أي أنبته و منه قوله تعالى- أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ- أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ- و لو قال قائل- إن في الجنة زروعا من البر و القطنية لم يبعد- . قوله ثم أرسلت داعيا يعني الأنبياء- و أقبلوا على جيفة يعني الدنيا- و من كلام الحسن رضي الله عنه- إنما يتهارشون على جيفة- . و إلى قوله و من عشق شيئا أعشى بصره- نظر الشاعر فقال-

و عين الرضا عن كل عيب كليلة
كما أن عين السخط تبدي المساويا

 و قيل لحكيم ما بال الناس لا يرون عيب أنفسهم- كما يرون عيب غيرهم- قال إن الإنسان عاشق لنفسه- و العاشق لا يرى عيوب المعشوق- . قد خرقت الشهوات عقله- أي أفسدته كما تخرق الثوب فيفسد- . و إلى قوله- فهو عبد لها و لمن في يديه شي‏ء منها- نظر ابن دريد فقال-

عبيد ذي المال و إن لم يطمعوا
من ماله في نغبة تشفي الصدى‏

و هم لمن أملق أعداء و إن‏
شاركهم فيما أفاد و حوى‏

و إلى قوله حيثما زالت زال إليها- و حيثما أقبلت أقبل عليها- نظر الشاعر فقال-

ما الناس إلا مع الدنيا و صاحبها
فكيفما انقلبت يوما به انقلبوا

يعظمون أخا الدنيا فإن وثبت‏
يوما عليه بما لا يشتهي وثبوا

و الغرة الاغترار و الغفلة و الغار الغافل- و قد اغتررت بالرجل و اغتره زيد أي أتاه على غرة منه- و يجوز أن يعني بقوله- المأخوذين على الغرة الحداثة و الشبيبة- يقول كان ذلك في غرارتي و غرتي- أي في حداثتي و صباي- . قوله سكرة الموت و حسرة الفوت- أي الحسرة على ما فاتهم من الدنيا و لذتها- و الحسرة على ما فاتهم- من التوبة و الندم و استدراك فارط المعاصي- . و الولوج الدخول ولج يلج- . قوله و بقاء من لبه- أي لبه باق لم يعدم- و يروى و نقاء بالنون و النقاء النظافة أي لبه غير مغمور- . أغمض في مطالبها- أي تساهل في دينه في اكتسابه إياها- أي كان يفنى نفسه بتأويلات ضعيفة- في استحلال تلك المطالب و المكاسب- فذاك هو الإغماض قال تعالى- وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ- و يمكن أن يحمل على وجه آخر- و هو أنه قد كان يحتال بحيل غامضة دقيقة- في تلك المطالب حتى حصلها و اكتسبها- . قوله ع- و أخذها من مصرحاتها و مشتبهاتها- أي من وجوه مباحة و ذوات شبهة- و هذا يؤكد المحمل الأول في أغمض- . و التبعات الآثام- الواحدة تبعة و مثلها التباعة قال-

لم يحذروا من ربهم
سوء العواقب و التباعة

و المهنأ المصدر- من هنئ الطعام و هنؤ بالكسر و الضم- مثل فقه و فقه- فإن كسرت قلت يهنأ- و إن ضممت قلت يهنؤ- و المصدر هناءة و مهنأ أي صار هنيئا- و هنأني الطعام يهنؤني و يهنئني- و لا نظير له في المهموز- هنأ و هناء و هنئت الطعام أي تهنأت به- و منه قوله تعالى فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً- . و العب‏ء الحمل و الجمع أعباء- . و غلق الرهن أي استحقه المرتهن- و ذلك إذا لم يفتكك في الوقت المشروط- قال زهير

و فارقتك برهن لا فكاك له
يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا

فإن قلت فما معنى قوله ع- قد غلقت رهونه بها في هذا الموضع- قلت لما كان قد شارف الرحيل- و أشفى على الفراق- و صارت تلك الأموال التي جمعها مستحقة لغيره- و لم يبق له فيها تصرف- أشبهت الرهن الذي غلق على صاحبه- فخرج عن كونه مستحقا له- و صار مستحقا لغيره و هو المرتهن- . و أصحر انكشف- و أصله الخروج إلى الصحراء و البروز من المكمن- . رجع كلامهم ما يتراجعونه بينهم من الكلام- ازداد الموت التياطا به أي التصاقا- قد أوحشوا أي جعلوا مستوحشين- و المستوحش المهموم الفزع- و يروى أوحشوا من جانبه- أي خلوا منه و أقفروا- تقول قد أوحش المنزل من أهله أي أقفر- . و خلا إلى مخط في الأرض أي إلى خط- سماه مخطا أو خطا لدقته يعني اللحد-و يروى إلى محط بالحاء المهملة و هو المنزل- و حط القوم أي نزلوا- .

و ألحق آخر الخلق بأوله- أي تساوى الكل في شمول الموت و الفناء لهم- فالتحق الآخر بالأول- . أماد السماء حركها- و يروى أمار و الموران الحركة- و فطرها شقها و أرج الأرض زلزلها- تقول رجت الأرض و أرجها الله- و يجوز رجها و قد روي رج الأرض بغير همزة و هو الأصح- و عليه ورد القرآن- إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا- . أرجفها جعلها راجفة أي مرتعدة متزلزلة- رجفت الأرض ترجف و الرجفان الاضطراب الشديد- و سمي البحر رجافا لاضطرابه قال الشاعر-

حتى تغيب الشمس في الرجاف‏

و نسفها قلعها من أصولها- و دك بعضها بعضا صدمه و دقه- حتى يكسره و يسويه بالأرض و منه قوله سبحانه- وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ- فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً- . ميزهم أي فصل بينهم- فجعلهم فريقين سعداء و أشقياء- و منه قوله تعالى وَ امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ- أي انفصلوا من أهل الطاعة- . يظعن يرحل تنوبهم الأفزاع تعاودهم- و تعرض لهم الأخطار جمع خطر- و هو ما يشرف به على الهلكة- .

و تشخصهم الأسفار تخرجهم من منزل إلى منزل- شخص الرجل و أشخصه غيره- و غل الأيدي جعلها في الأغلال- جمع غل بالضم و هو القيد- و القطران الهناء قطرت البعير أي طليته بالقطران قال-كما قطر المهنوءة الرجل الطالي‏- و بعير مقطور و هذا من الألفاظ القرآنية- قال تعالى سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ- وَ تَغْشى‏ وُجُوهَهُمُ النَّارُ- و المعنى أن النار إلى القطران سريعة جدا- . و مقطعات النيران أي ثياب من النيران- قد قطعت و فصلت لهم- و قيل المقطعات قصار الثياب- و الكلب الشدة- و الجلب و اللجب الصوت- و القصيف الصوت الشديد- . لا يقصم كبولها لا يكسر قيودها الواحد كبل- .

ثم ذكر أن عذابهم سرمدي- و أنه لا نهاية له نعوذ بالله من عذاب ساعة واحدة- فكيف من العذاب الأبديموازنة بين كلام الإمام علي و خطب ابن نباتةو نحن نذكر في هذا الموضع فصولا- من خطب الخطيب الفاضل عبد الرحيم بن نباتة رحمه الله- و هو الفائز بقصبات السبق من الخطباء- و للناس غرام عظيم بخطبه و كلامه- ليتأمل الناظر كلام أمير المؤمنين ع في خطبه و مواعظه- و كلام هذا الخطيب المتأخر-الذي قد وقع الإجماع على خطابته و حسنها- و أن مواعظه هي الغاية التي ليس بعدها غاية- فمن ذلك قوله- أيها الناس تجهزوا- فقد ضرب فيكم بوق الرحيل- و ابرزوا فقد قربت لكم نوق التحويل- و دعوا التمسك بخدع الأباطيل- و الركون إلى التسويف و التعليل- فقد سمعتم ما كرر الله عليكم من قصص أبناء القرى- و ما وعظكم به من مصارع من سلف من الورى- مما لا يعترض لذوي البصائر فيه شك و لا مرا- و أنتم معرضون عنه إعراضكم عما يختلق و يفترى- حتى كان ما تعلمون منه أضغاث أحلام الكرى- و أيدي المنايا قد فصمت من أعماركم أوثق العرى- و هجمت بكم على هول مطلع كريه القرى- فالقهقرى رحمكم الله عن حبائل العطب القهقرى- و اقطعوا مفاوز الهلكات بمواصلة السرى- و قفوا على أحداث المنزلين من شناخيب الذرى- المنجلين بوازع أم حبوكرى- المشغولين بما عليهم من الموت جرى- و اكشفوا عن الوجوه المنعمة أطباق الثرى- تجدوا ما بقي منها عبرة لمن يرى- فرحم الله امرأ رحم نفسه فبكاها- و جعل منها إليها مشتكاها- قبل أن تعلق به خطاطيف المنون- و تصدق فيه أراجيف الظنون- و تشرق عليه بمائها مقل العيون- و يلحق بمن دثر من القرون- قبل أن يبدوا على المناكب محمولا- و يغدو إلى محل المصائب منقولا- و يكون عن الواجب مسئولا- و بالقدوم على الطالب الغالب مشغولا- هناك يرفع الحجاب و يوضع الكتاب- و تقطع الأسباب و تذهب الأحساب- و يمنع الإعتاب- و يجمع من حق عليه العقاب- و من وجب له الثواب- فيضرب بينهم بسور له باب- باطنه فيه الرحمة و ظاهره من قبله العذاب- . فلينظر المنصف هذا الكلام- و ما عليه من أثر التوليد- أولا بالنسبة إلى ذلك الكلام العربي المحض- ثم لينظر فيما عليه من الكسل و الرخاوة- و الفتور و البلادة- حتى كأن ذلك‏ الكلام لعامر بن الطفيل- مستلئما شكته راكبا جواده- و هذا الكلام للدلال المديني المخنث- آخذا زمارته متأبطا دفه- . و المح ما في بوق الرحيل- من السفسفة و اللفظ العامي الغث- و اعلم أنهم كلهم عابوا على أبي الطيب قوله-

فإن كان بعض الناس سيفا لدولة
ففي الناس بوقات لها و طبول‏

 و قالوا لا تدخل لفظة بوق في كلام يفلح أبدا- . و المح ما على قوله- القهقرى القهقرى متكررة من الهجنة- و أهجن منها أم حبوكرى- و أين هذا اللفظ الحوشي- الذي تفوح منه روائح الشيح و القيصوم- و كأنه من أعرابي قح قد قدم من نجد- لا يفهم محاورة أهل الحضر- و لا أهل الحضر يفهمون حواره- من هذه الخطبة اللينة الألفاظ التي تكاد- أن تتثنى من لينها و تتساقط من ضعفها- ثم المح هذه الفقر و السجعات- التي أولها القرى ثم المر- ثم يفترى ثم الكرى- إلى قوله عبرة لمن يرى- هل ترى تحت هذا الكلام معنى لطيفا- أو مقصدا رشيقا- أو هل تجد اللفظ نفسه لفظا جزلا فصيحا- أو عذبا معسولا- و إنما هي ألفاظ قد ضم بعضها إلى بعض- و الطائل تحتها قليل جدا- و تأمل لفظة مرا فإنها ممدودة في اللغة- فإن كان قصرها فقد ركب ضرورة مستهجنة- و إن أراد جمع مرية فقد خرج‏عن الصناعة- لأنه يكون قد عطف الجمع المفرد- فيصير مثل قول القائل- ما أخذت منه دينارا و لا دراهم- في أنه ليس بالمستحسن في فن البيان- .

و من ذلك قوله- أيها الناس حصحص الحق- فما من الحق مناص و أشخص الخلق- فما لأحد من الخلق خلاص- و أنتم على ما يباعدكم من الله حراص- و لكم على موارد الهلكة اغتصاص- و فيكم عن مقاصد البركة انتكاص- كأن ليس أمامكم جزاء و لا قصاص- و لجوارح الموت في وحش نفوسكم اقتناص- ليس بها عليها تأب و لا اعتياص- .

فليتأمل أهل المعرفة بعلم الفصاحة و البيان- هذا الكلام بعين الإنصاف- يعلموا أن سطرا واحدا من كلام نهج البلاغة- يساوى ألف سطر منه- بل يزيد و يربي على ذلك- فإن هذا الكلام ملزق عليه آثار كلفة و هجنة ظاهرة- يعرفها العامي فضلا عن العالم- . و من هذه الخطبة- فاهجروا رحمكم الله وثير المراقد- و ادخروا طيب المكتسب- تخلصوا من انتقاد الناقد- و اغتنموا فسحة المهل قبل انسداد المقاصد- و اقتحموا سبل الآخرة- على قلة المرافق و المساعد- . فهل يجد متصفح الكلام لهذا الفصل عذوبة- أو معنى يمدح الكلام لأجله- و هل هو إلا ألفاظ مضموم بعضها إلى بعض- ليس لها حاصل- كما قيل في شعر ذي الرمة-بعر ظباء و نقط عروس‏- و من ذلك قوله- فيا له من واقع في كرب الحشارج- مصارع لسكرات الموت معالج- حتى درج على تلك المدارج- و قدم بصحيفته على ذي المعارج- .و غير خاف ما في هذا الكلام من التكلف- .

و من ذلك قوله- فكأنكم بمنادي الرحيل قد نادى في أهل الإقامة- فاقتحموا بالصغار محجة القيامة- يتلو الأوائل منهم الأواخر- و يتبع الأكابر منهم الأصاغر- و يلتحق الغوامر من ديارهم بالغوامر- حتى تبتلع جميعهم الحفر و المقابر- . فإن هذا الكلام ركيك جدا- لو قاله خطيب من خطباء قرى السواد- لم يستحسن منه بل ترك و استرذل- . و لعل عائبا يعيب علينا- فيقول شرعتم في المقايسة و الموازنة- بين كلام أمير المؤمنين ع و بين كلام ابن نباتة- و هل هذا إلا بمنزلة قول من يقول- السيف أمضى من العصا- و في هذه غضاضة على السيف- فنقول إنه قد اشتملت كتب المتكلمين- على المقايسة بين كلام الله تعالى و بين كلام البشر- ليبينوا فضل القرآن و زيادة فصاحته- على فصاحة كلام العرب- نحو مقايستهم بين قوله تعالى وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ- و بين قول القائل القتل أنفى للقتل- و نحو مقايستهم بين قوله تعالى- خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ- وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ- و بين قول الشاعر-

فإن عرضوا بالشر فاصفح تكرما
و إن كتموا عنك الحديث فلا تسل‏

و نحو إيرادهم كلام مسيلمة- و أحمد بن سليمان المعري- و عبد الله بن المقفع فصلا فصلا- و الموازنة و المقايسة بين ذلك و بين القرآن المجيد- و إيضاح أنه لا يبلغ ذلك إلى درجة القرآن العزيز- و لا يقاربها- فليس بمستنكر منا- أن نذكر كلام ابن نباتة- في معرض إيرادنا كلام أمير المؤمنين ع- لتظهر فضيلة كلامه ع- بالنسبة إلى هذا الخطيب الفاضل- الذي قد اتفق الناس على أنه أوحد عصره في فنه- .

و اعلم أنا لا ننكر فضل ابن نباتة و حسن أكثر خطبه- و لكن قوما من أهل العصبية و العناد- يزعمون أن كلامه يساوى كلام أمير المؤمنين ع- و يماثله و قد ناظر بعضهم في ذلك- فأحببت أن أبين للناس في هذا الكتاب- أنه لا نسبة لكلامه إلى كلام أمير المؤمنين ع- و أنه بمنزلة شعر الأبله و ابن المعلم- بالإضافة إلى زهير و النابغة- .

و اعلم أن معرفة الفصيح و الأفصح- و الرشيق و الأرشق و الحلو و الأحلى- و العالي و الأعلى من الكلام أمر لا يدرك إلا بالذوق- و لا يمكن إقامة الدلالة المنطقية عليه- و هو بمنزلة جاريتين- إحداهما بيضاء مشربة حمرة دقيقة الشفتين- نقية الثغر كحلاء العينين- أسيلة الخد دقيقة الأنف معتدلة القامة- و الأخرى دونها في هذه الصفات و المحاسن- لكنها أحلى في العيون و القلوب منها- و أليق و أصلح- و لا يدرى لأي سبب كان ذلك- و لكنه بالذوق و المشاهدة يعرف- و لا يمكن تعليله و هكذا الكلام- نعم يبقى الفرق بين الموضعين- أن حسن الوجوه و ملاحتها- و تفضيل بعضها على بعض يدركه- كل من له عين صحيحة- و أما الكلام فلا يعرفه إلا أهل الذوق- و ليس كل من اشتغل بالنحو و اللغة أو بالفقه- كان من أهل الذوق- و ممن يصلح لانتقاد الكلام-

و إنما أهل الذوق هم الذين اشتغلوا بعلم البيان- و راضوا أنفسهم بالرسائل- و الخطب و الكتابة و الشعر- و صارت لهم‏ بذلك دربة و ملكة تامة- فإلى أولئك ينبغي أن ترجع في معرفة الكلام- و فضل بعضه على بعض- إن كنت عادما لذلك من نفسكمِنْهَا فِي ذِكْرِ النَّبِيِّ ص- قَدْ حَقَّرَ الدُّنْيَا وَ صَغَّرَهَا- وَ أَهْوَنَ بِهَا وَ هَوَّنَهَا- وَ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ زَوَاهَا عَنْهُ اخْتِيَاراً- وَ بَسَطَهَا لِغَيْرِهِ احْتِقَاراً- فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ- وَ أَمَاتَ ذِكْرَهَا مِنْ نَفْسِهِ- وَ أَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ- لِكَيْلَا يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً- أَوْ يَرْجُوَ فِيهَا مَقَاماً- بَلَّغَ عَنْ رَبِّهِ مُعْذِراً- وَ نَصَحَ لِأُمَّتِهِ مُنْذِراً- وَ دَعَا إِلَى الْجَنَّةِ مُبَشِّراً- وَ خَوَّفَ مِنَ النَّارِ مُحَذِّراً فعل مشدد للتكثير- قتلت أكثر من قتلت- فيقتضي قوله ع- قد حقر الدنيا زيادة تحقير النبي ص لها- و ذلك أبلغ في الثناء عليه و تقريظه- . قوله و صغرها أي و صغرها عند غيره- ليكون قوله و أهون بها و هونها مطابقا له- أي أهون هو بها و هونها عند غيره- . و زواها قبضها-قال ع زويت لي الأرض- فرأيت مشارقها و مغاربها- . و قوله اختيارا- أي قبض الدنيا عنه باختيار و رضا من النبي ص بذلك- و علم بما فيه من رفعة قدره و منزلته في الآخرة- .

و الرياش و الريش بمعنى و هو اللباس الفاخر- كالحرم و الحرام و اللبس و اللباس- و قرئ و رياشا و لباس التقوى ذلك خير- و يقال الريش و الرياش المال و الخصب و المعاش- و ارتاش فلان حسنت حاله- و معذرا أي مبالغا أعذر فلان في الأمر أي بالغ فيه: نَحْنُ شَجَرَةُ النُّبُوَّةِ- وَ مَحَطُّ الرِّسَالَةِ- وَ مُخْتَلَفُ الْمَلَائِكَةِ- وَ مَعَادِنُ الْعِلْمِ وَ يَنَابِيعُ الْحُكْمِ- نَاصِرُنَا وَ مُحِبُّنَا يَنْتَظِرُ الرَّحْمَةَ- وَ عَدُوُّنَا وَ مُبْغِضُنَا يَنْتَظِرُ السَّطْوَةَ هذا الكلام غير ملتصق بالأول كل الالتصاق- و هو من النمط الذي ذكرناه مرارا- لأن الرضي رحمه الله يقتضب فصولا من خطبة طويلة- فيوردها إيرادا واحدا- و بعضها منقطع عن البعض- . قوله ع نحن شجرة النبوة- كأنه جعل النبوة كثمرة أخرجتها شجرة بني هاشم- و محط الرسالة منزلها- و مختلف الملائكة موضع اختلافها في صعودها و نزولها- و إلى هذا المعنى نظر بعض الطالبيين- فقال يفتخر على بني عم له ليسوا بفاطميين-

هل كان يقتعد البراق أبوكم
أم كان جبريل عليه ينزل‏

أم هل يقول له الإله مشافها
بالوحي قم يا أيها المزمل‏

و قال آخر يمدح قوما فاطميين-

و يطرقه الوحي وهنا و أنتم
ضجيعان بين يدي جبرئيلا

 يعني حسنا ع و حسينا ع- . و اعلم أنه إن أراد بقوله نحن مختلف الملائكة- جماعة من جملتها رسول الله ص- فلا ريب في صحة القضية و صدقها- و إن أراد بها نفسه و ابنيه فهي أيضا صحيحة- و لكن مدلوله مستنبط-فقد جاء في الأخبار الصحيحة أنه قال يا جبريل إنه مني و أنا منه- فقال جبريل و أنا منكما وروى أبو أيوب الأنصاري مرفوعا لقد صلت الملائكة علي و على علي سبع سنين- لم تصل على ثالث لنا
– و ذلك قبل أن يظهر أمر الإسلام- و يتسامع الناس به- .

وفي خطبة الحسن بن علي ع لما قبض أبوه لقد فارقكم في هذه الليلة رجل- لم يسبقه الأولون و لا يدركه الآخرون- كان يبعثه رسول الله ص للحرب- و جبريل عن يمينه و ميكائيل عن يسارهوجاء في الحديث أنه سمع يوم أحد صوت من الهواء من جهة السماء- يقول لا سيف إلا ذو الفقار- و لا فتى إلا علي- و أن رسول الله ص قال هذا صوت جبريل- .

فأما قوله- و معادن العلم و ينابيع الحكم- يعني الحكمة أو الحكم الشرعي- فإنه و إن عنى بها نفسه و ذريته- فإن الأمر فيها ظاهر جدا-قال رسول الله ص أنا مدينة العلم و علي بابها- فمن أراد المدينة فليأت البابوقال أقضاكم علي- و القضاء أمر يستلزم علوما كثيرة- . وجاء في الخبر أنه بعثه إلى اليمن قاضيا- فقال يا رسول الله- إنهم كهول و ذوو أسنان‏و أنا فتى- و ربما لم أصب فيما أحكم به بينهم- فقال له اذهب فإن الله سيثبت قلبك و يهدي لسانك- .

و جاء في تفسير قوله تعالى- وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ- سألت الله أن يجعلها أذنك ففعل- و جاء في تفسير قوله تعالى- أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ- عَلى‏ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ- أنها أنزلت في علي ع و ما خص به من العلم- و جاء في تفسير قوله تعالى- أَ فَمَنْ كانَ عَلى‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ- وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ- أن الشاهد علي ع- . وروى المحدثون أنه قال لفاطمة- زوجتك أقدمهم سلما- و أعظمهم حلما و أعلمهم علماوروى المحدثون أيضا عنه ع أنه قال من أراد أن ينظر إلى نوح في عزمه- و موسى في علمه- و عيسى في ورعه- فلينظر إلى علي بن أبي طالب- . و بالجملة فحاله في العلم حال رفيعة جدا- لم يلحقه أحد فيها و لا قاربه- و حق له أن يصف نفسه- بأنه معادن العلم و ينابيع الحكم- فلا أحد أحق بها منه بعد رسول الله ص- . فإن قلت كيف قال- عدونا و مبغضنا ينتظر السطوة- و نحن نشاهد أعداءه و مبغضيه لا ينتظرونها- قلت لما كانت منتظرة لهم- و معلوما بيقين حلولها بهم- صاروا كالمنتظرين لها- و أيضا فإنهم ينتظرون الموت لا محالة- الذي كل إنسان ينتظره- و لما كان الموت مقدمة العقاب و طريقا إليه- جعل انتظاره انتظار ما يكون بعده

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن‏ أبي‏ الحديد) ج 7 

خطبه 107 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)(هي من خطب الملاحم)

107 و من خطبة له ع- و هي من خطب الملاحم

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمُتَجَلِّي لِخَلْقِهِ بِخَلْقِهِ- وَ الظَّاهِرِ لِقُلُوبِهِمْ بِحُجَّتِهِ- خَلَقَ الْخَلْقَ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ- إِذْ كَانَتِ الرَّوِيَّاتُ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِذَوِي الضَّمَائِرِ- وَ لَيْسَ بِذِي ضَمِيرٍ فِي نَفْسِهِ- خَرَقَ عِلْمُهُ بَاطِنَ غَيْبِ السُّتُرَاتِ- وَ أَحَاطَ بِغُمُوضِ عَقَائِدِ السَّرِيرَاتِ الملاحم جمع ملحمة- و هي الوقعة العظيمة في الحرب- و لما كانت دلائل إثبات الصانع ظاهرة ظهور الشمس- وصفه ع بكونه ظهر و تجلى لخلقه- و دلهم عليه بخلقه إياهم و إيجاده لهم- . ثم أكد ذلك بقوله و الظاهر لقلوبهم بحجته- و لم يقل لعيونهم لأنه غير مرئي- و لكنه ظاهر للقلوب- بما أودعها من الحجج الدالة عليه- .

ثم نفى عنه الروية و الفكر و التمثيل بين خاطرين- ليعمل على أحدهما- لأن ذلك إنما يكون لأرباب الضمائر و القلوب- أولي النوازع المختلفة و البواعث المتضادة- . ثم وصفه بأن علمه محيط بالظاهر- و الباطن و الماضي و المستقبل- فقال إن علمه خرق باطن الغيوب المستورة- و أحاط بالغامض من عقائد السرائر:

مِنْهَا فِي ذِكْرِ النَّبِيِّ ص- اخْتَارَهُ مِنْ شَجَرَةِ الْأَنْبِيَاءِ- وَ مِشْكَاةِ الضِّيَاءِ وَ ذُؤَابَةِ الْعَلْيَاءِ- وَ سُرَّةِ الْبَطْحَاءِ وَ مَصَابِيحِ الظُّلْمَةِ- وَ يَنَابِيعِ الْحِكْمَةِ شجرة الأنبياء أولاد إبراهيم ع- لأن أكثر الأنبياء منهم- و المشكاة كوة غير نافذة يجعل فيها المصباح- و الذؤابة طائفة من شعر الرأس- و سرة البطحاء وسطها- و بنو كعب بن لؤي يفخرون على بني عامر بن لؤي- بأنهم سكنوا البطاح- و سكنت عامر بالجبال المحيطة بمكة- و سكن معها بنو فهر بن مالك- رهط أبي عبيدة بن الجراح و غيره قال الشاعر-

فحللت منها بالبطاح
و حل غيرك بالظواهر

و قال طريح بن إسماعيل-

أنت ابن مسلنطح البطاح و لم
تطرق عليك الحني و الولج‏

و قال بعض الطالبيين-

و أنا ابن معتلج البطاح إذا غدا
غيري و راح على متون ظواهر

يفتر عني ركنها و حطيمها
كالجفن يفتح عن سواد الناظر

كجبالها شرفي و مثل سهولها
خلقي و مثل ظبائهن مجاوري‏

وَ مِنْهَا طَبِيبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ قَدْ أَحْكَمَ مَرَاهِمَهُ- وَ أَحْمَى مَوَاسِمَهُ يَضَعُ ذَلِكَ حَيْثُ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ- مِنْ قُلُوبٍ عُمْيٍ وَ آذَانٍ صُمٍّ- وَ أَلْسِنَةٍ بُكْمٍ- مُتَتَبِّعٌ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ الْغَفْلَةِ- وَ مَوَاطِنَ الْحَيْرَةِ إنما قال دوار بطبه- لأن الطبيب الدوار أكثر تجربة- أو يكون عنى به أنه يدور على من يعالجه- لأن الصالحين يدورون على مرضى القلوب فيعالجونهم- و يقال إن المسيح رئي خارجا من بيت مومسة- فقيل له يا سيدنا أ مثلك يكون هاهنا- فقال إنما يأتي الطبيب المرضي- . و المراهم الأدوية المركبة للجراحات و القروح- و المواسم حدائد يوسم بها الخيل و غيرها- . ثم ذكر أنه إنما يعالج بذلك من يحتاج إليه- و هم أولو القلوب العمي- و الآذان الصم- و الألسنة البكم أي الخرس- و هذا تقسيم صحيح حاصر- لأن الضلال و مخالفةالحق يكون بثلاثة أمور- إما بجهل القلب أو بعدم سماع المواعظ و الحجج- أو بالإمساك عن شهادة التوحيد و تلاوة الذكر- فهذه أصول الضلال و أما أفعال المعاصي ففروع عليها

فصل في التقسيم و ما ورد فيه من الكلام

و صحة التقسيم باب من أبواب علم البيان و منه قوله سبحانه ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ- الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا- فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ- وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ- . و هذه قسمة صحيحة- لأن المكلفين إما كافر أو مؤمن- أو ذو المنزلة بين المنزلتين- هكذا قسم أصحابنا الآية على مذهبهم في الوعيد- . و غيرهم يقول العباد إما عاص ظالم لنفسه- أو مطيع مبادر إلى الخير- أو مقتصد بينهما- . و من التقسيم أيضا قوله- وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً- فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ- وَ أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ- وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ و مثل ذلك- . و قوله تعالى هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً- لأن الناس عند رؤية البرق بين خائف و طامع- . و وقف سائل على مجلس الحسن البصري- فقال رحم الله عبدا أعطى من سعة- أو واسى من كفاف أو آثر من قلة- فقال الحسن لم تترك لأحد عذرا- .و من التقسيمات الفاسدة في الشعر قول البحتري-

ذاك وادي الأراك فاحبس قليلا
مقصرا في ملامة أو مطيلا

قف مشوقا أو مسعدا أو حزينا
أو معينا أو عاذرا أو عذولا

فالتقسيم في البيت الأول صحيح- و في الثاني غير صحيح- لأن المشوق يكون حزينا- و المسعد يكون معينا- فكذلك يكون عاذرا- و يكون مشوقا و يكون حزينا- . و قد وقع المتنبي في مثل ذلك فقال-

فافخر فإن الناس فيك ثلاثة
مستعظم أو حاسد أو جاهل‏

فإن المستعظم يكون حاسدا- و الحاسد يكون مستعظما- . و من الأبيات التي ليس تقسيمها بصحيح- ما ورد في شعر الحماسة

و أنت امرؤ إما ائتمنتك خاليا
فخنت و إما قلت قولا بلا علم‏

فأنت من الأمر الذي قد أتيته‏
بمنزلة بين الخيانة و الإثم‏

و ذلك لأن الخيانة أخص من الإثم- و الإثم شامل لها لأنه أعم منها- فقد دخل أحد القسمين في الآخر- و يمكن أن يعتذر له- فيقال عنى بالإثم الكذب نفسه- و كذلك هو المعني أيضا بقوله قولا بلا علم- كأنه قال له إما أن أكون أفشيت سري إليك فخنتني- أو لم أفش فكذبت علي- فأنت فيما أتيت بين أن تكون خائنا أو كاذبا- . و مما جاء من ذلك في النثر قول بعضهم- من جريح مضرج بدمائه- أو هارب لا يلتفت إلى ورائه- و ذلك أن الجريح قد يكون هاربا- و الهارب قد يكون جريحا- . و قد أجاد البحتري لما قسم هذا المعنى و قال-

غادرتهم أيدي المنية صبحا
للقنا بين ركع و سجود

فهم فرقتان بين قتيل‏
قبضت نفسه بحد الحديد

أو أسير غدا له السجن لحدا
فهو حي في حالة الملحود

فرقة للسيوف ينفذ فيها الحكم‏
قسرا و فرقة للقيود

و من ذلك قول بعض الأعراب- النعم ثلاث نعمة في حال كونها- و نعمة ترجى مستقبلة- و نعمة تأتي غير محتسبة- فأبقى الله عليك ما أنت فيه- و حقق ظنك فيما ترتجيه- و تفضل عليك بما لم تحتسبه- و ذلك أنه أغفل النعمة الماضية- و أيضا فإن النعمة التي تأتي غير محتسبة- داخلة في قسم النعمة المستقبلة- . و قد صحح القسمة أبو تمام فقال-

جمعت لنا فرق الأماني منكم
بأبر من روح الحياة و أوصل‏

كالمزن من ماضي الرباب و مقبل‏
متنظر و مخيم متهلل‏

فصنيعة في يومها و صنيعة
قد أحولت و صنيعة لم تحول‏

فإن قلت- فإن ما عنيت به فساد التقسيم على البحتري و المتنبي- يلزمك مثله فيما شرحته- لأن الأعمى القلب قد يكون أبكم اللسان أصم السمع- . قلت إن الشاعرين ذكرا التقسيم بأو- و أمير المؤمنين ع قسم بالواو و الواو للجمع- فغير منكر أن تجتمع الأقسام الوحد- أو أن تعطي معنى الانفراد فقط فافترق الموضعان:

لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِأَضْوَاءِ الْحِكْمَةِ- وَ لَمْ يَقْدَحُوا بِزِنَادِ الْعُلُومِ الثَّاقِبَةِ- فَهُمْ فِي ذَلِكَ كَالْأَنْعَامِ السَّائِمَةِ- وَ الصُّخُورِ الْقَاسِيَةِ- قَدِ انْجَابَتِ السَّرَائِرُ لِأَهْلِ الْبَصَائِرِ- وَ وَضَحَتْ مَحَجَّةُ الْحَقِّ لِخَابِطِهَا- وَ أَسْفَرَتِ السَّاعَةُ عَنْ وَجْهِهَا- وَ ظَهَرَتِ الْعَلَامَةُ لِمُتَوَسِّمِهَا- مَا لِي أَرَاكُمْ أَشْبَاحاً بِلَا أَرْوَاحٍ- وَ أَرْوَاحاً بِلَا أَشْبَاحٍ- وَ نُسَّاكاً بِلَا صَلَاحٍ- وَ تُجَّاراً بِلَا أَرْبَاحٍ- وَ أَيْقَاظاً نُوَّماً- وَ شُهُوداً غُيَّباً- وَ نَاظِرَةً عَمْيَاءَ- وَ سَامِعَةً صَمَّاءَ- وَ نَاطِقَةً بَكْمَاءَ انجابت انكشفت و المحجة الطريق- و الخابط السائر على غير سبيل واضحة- و أسفرت الساعة أضاءت و أشرقت- و عن متعلقة بمحذوف- و تقديره كاشفة عن وجهها- .

و المتوسم المتفرس أشباها بلا أرواح- أي أشخاصا لا أرواح لها و لا عقول- و أرواحا بلا أشباح- يمكن أن يريد به الخفة و الطيش- تشبيها بروح بلا جسد- و يمكن أن يعني به نقصهم- لأن الروح غير ذات الجسد ناقصة- عن الاعتمال و التحريك اللذين كانا من فعلها- حيث كانت تدير الجسد- . و نساكا بلا صلاح نسبهم إلى النفاق و تجارا بلا أرباح- نسبهم إلى الرياء و إيقاع الأعمال على غير وجهها- . ثم وصفهم بالأمور المتضادة ظاهرا- و هي مجتمعة في الحقيقة- فقال أيقاظا نوما لأنهم أولو يقظة- و هم غفول عن الحق كالنيام- و كذلك باقيها قال تعالى- فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ- وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ: رَايَةُ ضَلَالٍ قَدْ قَامَتْ عَلَى قُطْبِهَا- وَ تَفَرَّقَتْ بِشُعَبِهَا- تَكِيلُكُمْ بِصَاعِهَا- وَ تَخْبِطُكُمْ بِبَاعِهَا- قَائِدُهَا خَارِجٌ مِنَ الْمِلَّةِ- قَائِمٌ عَلَى الضَّلَّةِ- فَلَا يَبْقَى يَوْمَئِذٍ مِنْكُمْ إِلَّا ثُفَالَةٌ كَثُفَالَةِ الْقِدْرِ- أَوْ نُفَاضَةٌ كَنُفَاضَةِ الْعِكْمِ- تَعْرُكُكُمْ عَرْكَ الْأَدِيمِ- وَ تَدُوسُكُمْ دَوْسَ الْحَصِيدِ- وَ تَسْتَخْلِصُ الْمُؤْمِنَ مِنْ بَيْنِكُمُ- اسْتِخْلَاصَ الطَّيْرِ الْحَبَّةَ الْبَطِينَةَ- مِنْ بَيْنِ هَزِيلِ الْحَبِّ هذا كلام منقطع عما قبله- لأن الشريف الرضي رحمه الله- كان يلتقط الفصول التي في الطبقة العليا- من الفصاحة من كلام أمير المؤمنين ع فيذكرها- و يتخطى ما قبلها و ما بعدها-

و هو ع يذكر هاهنا- ما يحدث في آخر الزمان من الفتن- كظهور السفياني و غيره- . و القطب في قوله ع قامت على قطبها- الرئيس الذي عليه يدور أمر الجيش- و الشعب القبيلة العظيمة- و ليس التفرق للراية نفسها- بل لنصارها و أصحابها فحذف المضاف- و معنى تفرقهم- أنهم يدعون إلى تلك الدعوة المخصوصة في بلاد متفرقة- أي تفرق ذلك الجمع العظيم في الأقطار- داعين إلى أمر واحد- و يروى بشعبها جمع شعبة-و تقدير تكيلكم بصاعها تكيل لكم فحذف اللام- كما في قوله تعالى وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ- أي كالوا لهم أو وزنوا لهم- و المعنى تحملكم على دينها و دعوتها- و تعاملكم بما يعامل به من استجاب لها- و يجوز أن يريد بقوله تكيلكم بصاعها- يقهركم أربابها على الدخول في أمرهم- و يتلاعبون بكم- و يرفعونكم و يضعونكم- كما يفعل كيال البر به إذا كاله بصاعه- .

و تخبطكم بباعها تظلمكم و تعسفكم- قائدها ليس على ملة الإسلام- بل مقيم على الضلالة- يقال ضلة لك- و إنه ليلومني ضلة- إذا لم يوفق للرشاد في عذله- . و الثفالة ما ثفل في القدر من الطبيخ- و النفاضة ما سقط من الشي‏ء المنفوض- . و العكم العدل- و العكم أيضا نمط تجعل فيه المرأة ذخيرتها- . و عركت الشي‏ء دلكته بقوة- و الحصيد الزرع المحصود- . و معنى استخلاص الفتنة المؤمن أنها تخصه بنكايتها و أذاها- كما قيل المؤمن ملقى و الكافر موقى و في الخبر المرفوع آفات الدنيا أسرع إلى المؤمن- من النار في يبيس العرفج
أَيْنَ تَذْهَبُ بِكُمُ الْمَذَاهِبُ- وَ تَتِيهُ بِكُمُ الْغَيَاهِبُ- وَ تَخْدَعُكُمُ الْكَوَاذِبُ- وَ مِنْ أَيْنَ تُؤْتَوْنَ- وَ أَنَّى تُؤْفَكُونَ- فَلِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ- وَ لِكُلِّ غَيْبَةٍ إِيَابٌ- فَاسْتَمِعُوا مِنْ رَبَّانِيِّكُمْ- وَ أَحْضِرُوهُ قُلُوبَكُمْ- وَ اسْتَيْقِظُوا إِنْ هَتَفَ بِكُمْ-وَ لْيَصْدُقْ رَائِدٌ أَهْلَهُ- وَ لْيَجْمَعْ شَمْلَهُ- وَ لْيُحْضِرْ ذِهْنَهُ- فَلَقَدْ فَلَقَ لَكُمُ الْأَمْرَ فَلْقَ الْخَرَزَةِ- وَ قَرَفَهُ قَرْفَ الصَّمْغَةِ الغياهب الظلمات الواحد غيهب- و تتيه بكم تجعلكم تائهين- عدي الفعل اللازم بحرف الجر- كما تقول في ذهب ذهبت به- و التائه المتحير- . و الكواذب هاهنا الأماني- فحذف الموصوف و أبقى الصفة- كقوله

إلا بكفي كان من أرمى البشر

أي بكفي غلام هذه صفته- . و قوله و لكل أجل كتاب- أظنه منقطعا أيضا عن الأول- مثل الفصل الذي تقدم- و قد كان قبله ما ينطبق عليه- و يلتئم معه لا محالة- و يمكن على بعد أن يكون متصلا بما هو مذكور هاهنا- . و قوله و لكل غيبة إياب- قد قاله عبيد بن الأبرص- و استثنى من العموم الموت فقال-

و كل ذي غيبة يئوب
و غائب الموت لا يئوب‏

و هو رأي زنادقة العرب- فأما أمير المؤمنين- و هو ثاني صاحب الشريعة التي جاءت بعود الموتى- فإنه لا يستثني و يحمق عبيدا في استثنائه- . و الرباني الذي أمرهم بالاستماع منه- إنما يعني به نفسه ع- و يقال رجل‏ رباني أي متأله عارف بالرب سبحانه- و في وصف الحسن لأمير المؤمنين ع- كان و الله رباني هذه الأمة و ذا فضلها- و ذا قرابتها و ذا سابقتها- . ثم قال و أحضروه قلوبكم- أي اجعلوا قلوبكم حاضرة عنده- أي لا تقنعوا لأنفسكم- بحضور الأجساد و غيبة القلوب- فإنكم لا تنتفعون بذلك- و هتف بكم صاح- و الرائد الذي يتقدم المنتجعين- لينظر لهم الماء و الكلأ- و في المثل الرائد لا يكذب أهله- .

و قوله و ليجمع شمله- أي و ليجمع عزائمه و أفكاره لينظر- فقد فلق هذا الرباني لكم الأمر- أي شق ما كان مبهما- و فتح ما كان مغلقا- كما تفلق الخرزة فيعرف باطنها- . و قرفه أي قشره- كما تقشر الصمغة عن عود الشجرة و تقلع: فَعِنْدَ ذَلِكَ أَخَذَ الْبَاطِلُ مَآخِذَهُ- وَ رَكِبَ الْجَهْلُ مَرَاكِبَهُ- وَ عَظُمَتِ الطَّاغِيَةُ وَ قَلَّتِ الدَّاعِيَةُ- وَ صَالَ الدَّهْرُ صِيَالَ السَّبُعِ الْعَقُورِ- وَ هَدَرَ فَنِيقُ الْبَاطِلِ بَعْدَ كُظُومٍ- وَ تَوَاخَى النَّاسُ عَلَى الْفُجُورِ- وَ تَهَاجَرُوا عَلَى الدِّينِ- وَ تَحَابُّوا عَلَى الْكَذِبِ- وَ تَبَاغَضُوا عَلَى الصِّدْقِ- فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَانَ الْوَلَدُ غَيْظاً- وَ الْمَطَرُ قَيْظاً وَ تَفِيضُ اللِّئَامُ فَيْضاً- وَ تَغِيضُ الْكِرَامُ غَيْضاً- وَ كَانَ أَهْلُ ذَلِكَ الزَّمَانِ ذِئَاباً- وَ سَلَاطِينُهُ سِبَاعاً وَ أَوْسَاطُهُ أَكَالًا- وَ فُقَرَاؤُهُ أَمْوَاتاً وَ غَارَ الصِّدْقُ- وَ فَاضَ الْكَذِبُ- وَ اسْتُعْمِلَتِ الْمَوَدَّةُ بِاللِّسَانِ- وَ تَشَاجَرَ النَّاسُ بِالْقُلُوبِ- وَ صَارَ الْفُسُوقُ نَسَباً- وَ الْعَفَافُ عَجَباً- وَ لُبِسَ الْإِسْلَامُ لُبْسَ الْفَرْوِ مَقْلُوباًتقول أخذ الباطل مأخذه- كما تقول عمل عمله أي قوي سلطانه و قهر- و مثله ركب الجهل مراكبه- .

و عظمت الطاغية أي الطغيان- فاعلة بمعنى المصدر كقوله تعالى- لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ أي تكذيب- و يجوز أن تكون الطاغية هاهنا صفة فاعل محذوف- أي عظمت الفئة الطاغية- و قلت الداعية مثله أي الفرقة الداعية- . و صال حمل و وثب صولا و صولة- يقال رب قول أشد من صول و الصيال- و المصاولة هي المواثبة صايله صيالا و صيالة- و الفحلان يتصاولان أي يتواثبان- . و الفنيق فحل الإبل- و هدر ردد صوته في حنجرته- و إبل هوادر- و كذلك هدر بالتشديد تهديرا- و في المثل هو كالمهدر في العنة- يضرب للرجل يصيح و يجلب- و ليس وراء ذلك شي‏ء كالبعير الذي يحبس في العنة- و هي الحظيرة و يمنع من الضراب و هو يهدر- و قال الوليد بن عقبة لمعاوية-

قطعت الدهر كالسدم المعنى
تهدر في دمشق و لا تريم‏

و الكظوم الإمساك و السكوت- كظم البعير يكظم كظوما- إذا أمسك الجرة و هو كاظم- و إبل كظوم لا تجتر و قوم كظم ساكتون- . و تواخى الناس صاروا إخوة و الأصل تآخى الناس- فأبدلت الهمزة واوا- كآزرته أي أعنته و وازرته- . يقول اصطلحوا على الفجور- و تهاجروا على الدين أي تعادوا و تقاطعوا- . فإن قلت فإن من شعار الصالحين- أن يهجروا في الدين و يعادوا فيه-قلت لم يذهب أمير المؤمنين حيث ظننت- و إنما أراد أن صاحب الدين مهجور عندهم- لأن صاحب الدين مهجور- و صاحب الفجور جار عندهم مجرى الأخ في الحنو عليه- و الحب له لأنه صاحب فجور- .

ثم قال كان الولد غيظا- أي لكثرة عقوق الأبناء للآباء- و صار المطر قيظا- يقال إنه من علامات الساعة و أشراطها- . و أوساطه أكالا أي طعاما- يقال ما ذقت أكالا- و في هذا الموضع إشكال- لأنه لم ينقل هذا الحرف إلا في الجحد خاصة- كقولهم ما بها صافر- فالأجود الرواية الأخرى- و هي آكالا بمد الهمزة على أفعال جمع أكل- و هو ما أكل كقفل و أقفال-

و قد روي أكالا بضم الهمزة على فعال- و قالوا إنه جمع أكل للمأكول- كعرق و عراق و ظئر و ظؤار إلا أنه شاذ عن القياس- و وزن واحدهما مخالف لوزن واحد- أكال لو كان جمعا يقول- صار أوساط الناس طعمة للولاة و أصحاب السلاطين- و كالفريسة للأسد- . و غار الماء سفل لنقصه و فاض سال- . و تشاجر الناس تنازعوا و هي المشاجرة- و شجر بين القوم إذا اختلف الأمر بينهم- و اشتجروا مثل تشاجروا- . و صار الفسوق نسبا يصير الفاسق صديق الفاسق- حتى يكون ذلك كالنسب بينهم- و حتى يعجب الناس من العفاف لقلته و عدمه- .و لبس الإسلام لبس الفرو- و للعرب عادة بذلك- و هي أن تجعل الخمل إلى الجسد و تظهر الجلد- و المراد انعكاس الأحكام الإسلامية في ذلك الزمان

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 7 

خطبه 106 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

106 و من كلام له ع في بعض أيام صفين

وَ قَدْ رَأَيْتُ جَوْلَتَكُمْ- وَ انْحِيَازَكُمْ عَنْ صُفُوفِكُمْ- تَحُوزُكُمُ الْجُفَاةُ الطَّغَامُ- وَ أَعْرَابُ أَهْلِ الشَّامِ- وَ أَنْتُمْ لَهَامِيمُ الْعَرَبِ- وَ يَآفِيخُ الشَّرَفِ- وَ الْأَنْفُ الْمُقَدَّمُ- وَ السَّنَامُ الْأَعْظَمُ- وَ لَقَدْ شَفَى وَحَاوِحَ صَدْرِي- أَنْ رَأَيْتُكُمْ بِأَخَرَةٍ- تَحُوزُونَهُمْ كَمَا حَازُوكُمْ- وَ تُزِيلُونَهُمْ عَنْ مَوَاقِفِهِمْ كَمَا أَزَالُوكُمْ- حَسّاً بِالنِّصَالِ وَ شَجْراً بِالرِّمَاحِ- تَرْكَبُ أُوْلَاهُمْ- أُخْرَاهُمْ كَالْإِبِلِ الْهِيمِ الْمَطْرُودَةِ- تُرْمَى عَنْ حِيَاضِهَا- وَ تُذَادُ عَنْ مَوَارِدِهَا جولتكم هزيمتكم فأجمل في اللفظ- و كنى عن اللفظ المنفر عادلا عنه إلى لفظ لا تنفير فيه- كما قال تعالى- كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ- قالوا هو كناية عن إتيان الغائط و إجمال في اللفظ- . و كذلك قوله و انحيازكم عن صفوفكم- كناية عن الهرب أيضا- و هو من قوله تعالى إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى‏ فِئَةٍ- .

و هذا باب من أبواب البيان لطيف- و هو حسن التوصل بإيراد كلام غير مزعج- عوضا عن لفظ يتضمن جبها و تقريعا- . و تحوزكم تعدل بكم عن مراكزكم- و الجفاة جمع جاف و هو الفدم الغليظ- و الطغام الأوغاد و اللهاميم جمع لهموم- و هو الجواد من الناس و الخيل- قال الشاعر

لا تحسبن بياضا في منقصة
إن اللهاميم في أقرابها بلق‏

و اليآفيخ جمع يافوخ و هو معظم الشي‏ء- تقول قد ذهب يافوخ الليل أي أكثره- و يجوز أن يريد به اليافوخ- و هو أعلى الرأس و جمعه يآفيخ أيضا- و أفخت الرجل ضربت يافوخه- و هذا أليق لأنه ذكر بعده الأنف و السنام- فحمل اليافوخ على العضو إذا أشبه- . و الوحاوح الحرق و الحزازات- و لقيته بأخرة على فعلة أي أخيرا- . و الحس القتل قال الله تعالى- إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ- . و شجرت زيدا بالرمح طعنته- و التأنيث في أولاهم و أخراهم للكتائب- . و الهيم العطاش و تذاد تصد و تمنع- و قد روي الطغاة عوض الطغام- . و روي حشأ بالهمز- من حشأت الرجل أي أصبت حشاه- . و روي بالنضال بالضاد المعجمة- و هو المناضلة و المراماة- . و قد ذكرنا نحن هذا الكلام فيما اقتصصناه- من أخبار صفين فيما تقدم من هذا الكتاب

شرح ‏نهج‏ البلاغة(ابن‏ أبي ‏الحديد) ج 7 

خطبه 105 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

105 و من خطبة له ع

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي شَرَعَ الْإِسْلَامَ- فَسَهَّلَ شَرَائِعَهُ لِمَنْ وَرَدَهُ- وَ أَعَزَّ أَرْكَانَهُ عَلَى مَنْ غَالَبَهُ- فَجَعَلَهُ أَمْناً لِمَنْ عَلِقَهُ- وَ سِلْماً لِمَنْ دَخَلَهُ- وَ بُرْهَاناً لِمَنْ تَكَلَّمَ بِهِ- وَ شَاهِداً لِمَنْ خَاصَمَ عَنْهُ- وَ نُوراً لِمَنِ اسْتَضَاءَ بِهِ وَ فَهْماً لِمَنْ عَقَلَ- وَ لُبّاً لِمَنْ تَدَبَّرَ- وَ آيَةً لِمَنْ تَوَسَّمَ- وَ تَبْصِرَةً لِمَنْ عَزَمَ- وَ عِبْرَةً لِمَنِ اتَّعَظَ وَ نَجَاةً لِمَنْ صَدَّقَ وَ ثِقَةً لِمَنْ تَوَكَّلَ- وَ رَاحَةً لِمَنْ فَوَّضَ وَ جُنَّةً لِمَنْ صَبَرَ- فَهُوَ أَبْلَجُ الْمَنَاهِجِ وَ أَوْضَحُ الْوَلَائِجِ- مُشْرِفُ الْمَنَارِ مُشْرِقُ الْجَوَادِّ- مُضِي‏ءُ الْمَصَابِيحِ كَرِيمُ الْمِضْمَارِ- رَفِيعُ الْغَايَةِ جَامِعُ الْحَلْبَةِ- مُتَنَافِسُ السُّبْقَةِ شَرِيفُ الْفُرْسَانِ- التَّصْدِيقُ مِنْهَاجُهُ- وَ الصَّالِحَاتُ مَنَارُهُ- وَ الْمَوْتُ غَايَتُهُ وَ الدُّنْيَا مِضْمَارُهُ- وَ الْقِيَامَةُ حَلْبَتُهُ وَ الْجَنَّةُ سُبْقَتُهُ هذا باب من الخطابة شريف- و ذلك لأنه ناط بكل واحدة من اللفظات لفظة- تناسبها و تلائمها لو نيطت بغيرها لما انطبقت عليها- و لا استقرت في قرارها- أ لا تراه قال أمنا لمن علقه- فالأمن مرتب على الاعتلاق- و كذلك في سائر الفقر كالسلم المرتب على الدخول- و البرهان المرتب على الكلام- و الشاهد المرتب على الخصام- و النور المرتب‏ على الاستضاءة إلى آخرها- أ لا ترى أنه لو قال و برهانا لمن دخله- و نورا لمن خاصم عنه و شاهدا لمن استضاء به- لكان قد قرن باللفظة ما لا يناسبها- فكان قد خرج عن قانون الخطابة و دخل في عيب ظاهر- و توسم تفرس و الولائج جمع وليجة- و هو المدخل إلى الوادي و غيره- . و الجنة الترس و أبلج المناهج معروف الطريق- .

و الحلبة الخيل المجموعة للمسابقة- . و المضمار موضع تضمير الخيل- و زمان تضميرها و الغاية الراية المنصوبة- و هو هاهنا خرقة تجعل على قصبة- و تنصب في آخر المدى الذي تنتهي إليه المسابقة- كأنه ع جعل الإسلام- كخيل السباق التي مضمارها كريم- و غايتها رفيعة عالية و حلبتها جامعة حاوية- و سبقتها متنافس فيها و فرسانها أشراف- . ثم وصفه بصفات أخرى- فقال التصديق طريقه و الصالحات أعلامه و الموت غايته- أي إن الدنيا سجن المؤمن- و بالموت يخلص من ذلك السجن- و يحظى بالسعادة الأبدية- . قال و الدنيا مضماره- كأن الإنسان يجري إلى غاية هي الموت- و إنما جعلها مضمار الإسلام- لأن المسلم يقطع دنياه لا لدنياه بل لآخرته- فالدنيا له كالمضمار للفرس إلى الغاية المعينة- . قال و القيامة حلبته أي ذات حلبته فحذف المضاف- كقوله تعالى هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ أي ذوو درجات- . ثم قال و الجنة سبقته- أي جزاء سبقته فحذف أيضا

: مِنْهَا فِي ذِكْرِ النَّبِيِّ ص- حَتَّى أَوْرَى قَبَساً لقَابِسٍ- وَ أَنَارَ عَلَماً لِحَابِسٍ- فَهُوَ أَمِينُكَ الْمَأْمُونُ- وَ شَهِيدُكَ يَوْمَ الدِّينِ- وَ بَعِيثُكَ نِعْمَةً وَ رَسُولُكَ بِالْحَقِّ رَحْمَةً- اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَهُ مَقْسَماً مِنْ عَدْلِكَ- وَ اجْزِهِ مُضَعَّفَاتِ الْخَيْرِ مِنْ فَضْلِكَ- اللَّهُمَّ وَ أَعْلِ عَلَى بِنَاءِ الْبَانِينَ بِنَاءَهُ- وَ أَكْرِمْ لَدَيْكَ نُزُلَهُ- وَ شَرِّفْ عِنْدَكَ مَنْزِلَهُ- وَ آتِهِ الْوَسِيلَةَ وَ أَعْطِهِ السَّنَاءَ وَ الْفَضِيلَةَ- وَ احْشُرْنَا فِي زُمْرَتِهِ- غَيْرَ خَزَايَا وَ لَا نَادِمِينَ- وَ لَا نَاكِبِينَ وَ لَا نَاكِثينَ- وَ لَا ضَالِّينَ وَ لَا مُضِلِّينَ وَ لَا مَفْتُونِينَ قال الرضي رحمه الله تعالى- و قد مضى هذا الكلام فيما تقدم- إلا أننا كررناه هاهنا- لما في الروايتين من الاختلاف قبسا منصوب بالمفعولية- أي أورى رسول الله ص قبسا- و القبس شعلة من النار- و القابس طالب الاستصباح منها- و الكلام مجاز و المراد الهداية في الدين- .و علما منصوب أيضا بالمفعولية- أي و أنا رسول الله ص علما- . لحابس أي نصب لمن قد حبس ناقته- ضلالا فهو يخبط لا يدري كيف يهتدي إلى المنهج- علما يهتدي به- .

فإن قلت- فهل يجوز أن ينصب قبسا و علما- على أن يكون كل واحد منهما حالا- أي حتى أورى رسول الله في حال كونه قبسا- و أنار في حال كونه علما- قلت لم أسمع أورى الزند- و إنما المسموع ورى و ورى- و لم يجئ أورى إلا متعديا أورى زيد زنده- فإن حمل هاهنا على المتعدي- احتيج إلى حذف المفعول و يصير تقديره- حتى أورى رسول الله الزند حال كونه قبسا- فيكون فيه نوع تكلف و استهجان- . و البعيث المبعوث و مقسما نصيبا- و إن جعلته مصدرا جاز- . و النزول طعام الضيف- و الوسيلة ما يتقرب به- و قد فسر قولهم في دعاء الأذان- اللهم آته الوسيلة- بأنها درجة رفيعة في الجنة- و السناء بالمد الشرف و زمرته جماعته- . و خزايا جمع خزيان و هو الخجل المستحيي- مثل سكران و سكارى- و حيران و حيارى و غيران و غيارى- .

و ناكبين أي عادلين عن الطريق- و ناكثين أي ناقضين للعهد- . قلت سألت النقيب أبا جعفر رحمه الله- و كان منصفا بعيدا عن الهوى- و العصبية عن هذا الموضع فقلت له- قد وقفت على كلام الصحابة و خطبهم- فلم أر فيها من يعظم رسول الله ص تعظيم هذا الرجل- و لا يدعو كدعائه- فإنا قد وقفنا من نهج البلاغة- و من غيره على فصول كثيرة مناسبة لهذا الفصل- تدل على إجلال عظيم- و تبجيل شديد منه لرسول الله ص- فقال و من أين لغيره من الصحابة كلام مدون- يتعلم منه كيفية ذكرهم للنبي ص- و هل وجد لهم إلا كلمات مبتدرة- لا طائل تحتها- ثم قال إن عليا ع كان قوي الإيمان برسول الله ص- و التصديق له ثابت اليقين- قاطعا بالأمر متحققا له- و كان‏ مع ذلك يحب رسول الله ص- لنسبته منه و تربيته له- و اختصاصه به من دون أصحابه- و بعد فشرفه له لأنهما نفس واحدة في جسمين- الأب واحد و الدار واحدة و الأخلاق متناسبة- فإذا عظمه فقد عظم نفسه- و إذا دعا إليه فقد دعا إلى نفسه- و لقد كان يود أن تطبق دعوة الإسلام مشارق الأرض و مغاربها- لأن جمال ذلك لاحق به و عائد عليه- فكيف لا يعظمه و يبجله و يجتهد في إعلاء كلمته- .

فقلت له- قد كنت اليوم أنا و جعفر بن مكي الشاعر- نتجاذب هذا الحديث- فقال جعفر- لم ينصر رسول الله ص أحد- نصرة أبي طالب و بنيه له- أما أبو طالب فكفله و رباه- ثم حماه من قريش عند إظهار الدعوة- بعد إصفاقهم و إطباقهم على قتله- و أما ابنه جعفر- فهاجر بجماعة من المسلمين إلى أرض الحبشة- فنشر دعوته بها- و أما علي فإنه أقام عماد الملة بالمدينة- ثم لم يمن أحد من القتل و الهوان- و التشريد بما مني به بنو أبي طالب- أما جعفر فقتل يوم مؤتة- و أما علي فقتل بالكوفة- بعد أن شرب نقيع الحنظل و تمنى الموت- و لو تأخر قتل ابن ملجم- لمات أسفا و كمدا- ثم قتل ابناه بالسم و السيف و قتل بنوه الباقون مع أخيهم بالطف- و حملت نساؤهم على الأقتاب سبايا إلى الشام- و لقيت ذريتهم و أخلافهم بعد ذلك- من القتل و الصلب و التشريد في البلاد- و الهوان و الحبس و الضرب ما لا يحيط الوصف بكنهه- فأي خير أصاب هذا البيت من نصرته- و محبته و تعظيمه بالقول و الفعل- فقال رحمه الله و أصاب فيما قال- فهلا قلت يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا- قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ- بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ- إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ- .

ثم قال و هلا قلت له- فقد نصرته الأنصار و بذلت مهجها دونه- و قتلت بين يديه في‏ مواطن كثيرة- و خصوصا يوم أحد ثم اهتضموا بعده- و استؤثر عليهم- و لقوا من المشاق و الشدائد ما يطول شرحه- و لو لم يكن إلا يوم الحرة- فإنه اليوم الذي لم يكن في العرب مثله- و لا أصيب قوم قط- بمثل ما أصيب به الأنصار ذلك اليوم- ثم قال إن الله تعالى زوى الدنيا- عن صالحي عباده و أهل الإخلاص له- لأنه لم يرها ثمنا لعبادتهم- و لا كفؤا لإخلاصهم- و أرجأ جزاءهم إلى دار أخرى غير هذه الدار- في مثلها يتنافس المتنافسون: مِنْهَا فِي خِطَابِ أَصْحَابِهِ- وَ قَدْ بَلَغْتُمْ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَكُمْ- مَنْزِلَةً تُكْرَمُ بِهَا إِمَاؤُكُمْ- وَ تُوصَلُ بِهَا جِيرَانُكُمْ- وَ يُعَظِّمُكُمْ مَنْ لَا فَضْلَ لَكُمْ عَلَيْهِ- وَ لَا يَدَ لَكُمْ عِنْدَهُ- وَ يَهَابُكُمْ مَنْ لَا يَخَافُ لَكُمْ سَطْوَةً- وَ لَا لَكُمْ عَلَيْهِ إِمْرَةٌ- وَ قَدْ تَرَوْنَ عُهُودَ اللَّهِ مَنْقُوضَةً فَلَا تَغْضَبُونَ- وَ أَنْتُمْ لِنَقْضِ ذِمَمِ آبَائِكُمْ تَأْنَفُونَ- وَ كَانَتْ أُمُورُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ تَرِدُ- وَ عَنْكُمْ تَصْدُرُ وَ إِلَيْكُمْ تَرْجِعُ- فَمَكَّنْتُمُ الظَّلَمَةَ مِنْ مَنْزِلَتِكُمْ- وَ أَلْقَيْتُمْ إِلَيْهِمْ أَزِمَّتَكُمْ- وَ أَسْلَمْتُمْ أُمُورَ اللَّهِ فِي أَيْدِيهِمْ- يَعْمَلُونَ بِالشُّبُهَاتِ- وَ يَسِيرُونَ فِي الشَّهَوَاتِ- وَ ايْمُ اللَّهِ لَوْ فَرَّقُوكُمْ تَحْتَ كُلِّ كَوْكَبٍ- لَجَمَعَكُمُ اللَّهُ لِشَرِّ يَوْمٍ لَهُمْ هذاخطاب لأصحابه- الذين أسلموا مدنهم و نواحيهم إلى جيوش معاوية- التي كان‏ يغير بها- على أطراف أعمال علي ع كالأنبار و غيرها- مما تقدم ذكرنا له- قال لهم إن الله أكرمكم بالإسلام- بعد أن كنتم مجوسا أو عباد أصنام- و بلغتم من كرامته إياكم بالإسلام منزلة عظيمة- أكرم بها إماؤكم و عبيدكم- و من كان مظنة المهنة و المذلة- .

و وصل بها جيرانكم- أي من التجأ إليكم من معاهد أو ذمي- فإن الله تعالى حفظ لهم ذمام المجاورة لكم- حتى عصم دماءهم و أموالهم- و صرتم إلى حال يعظمكم بها من لا فضل لكم عليه- و لا نعمة لكم عنده كالروم و الحبشة- فإنهم عظموا مسلمي العرب- لتقمصهم لباس الإسلام و الدين- و لزومهم ناموسه- و إظهارهم شعاره- . و يهابكم من لا يخاف لكم سطوة- و لا لكم عليه إمرة- كالملوك الذين في أقاصي البلاد- نحو الهند و الصين و أمثالها- و ذلك لأنهم هابوا دولة الإسلام- و إن لم يخافوا سطوة سيفها- لأنه شاع و ذاع أنهم قوم صالحون- إذا دعوا الله استجاب لهم- و أنهم يقهرون الأمم بالنصر السماوي و بالملائكة- لا بسيوفهم و لا بأيديهم- قيل إن العرب لما عبرت دجلة- إلى القصر الأبيض الشرقي بالمدائن- عبرتها في أيام مدها- و هي كالبحر الزاخر على خيولها و بأيديها رماحها- و لا دروع عليها و لا بيض- فهربت الفرس بعد رمي شديد منها للعرب بالسهام- و هم يقدمون و يحملون- و لا تهولهم السهام- فقال فلاح نبطي بيده مسحاته- و هو يفتح الماء إلى زرعه- لأسوار من الأساورة معروف بالبأس و جودة الرماية- ويلكم أ مثلكم في سلاحكم- يهرب من هؤلاء القوم الحاسرين- و لذعه باللوم و التعنيف- فقال له أقم مسحاتك فأقامها فرماها- فخرق الحديد حتى عبر النصل إلى جانبها الآخر- ثم قال انظر الآن- ثم رمى بعض العرب المارين عليه عشرين سهما- لم يصبه و لا فرسه منها بسهم واحد- و إنه لقريب منه غير بعيد- و لقد كان بعض السهام يسقط بين يدي الأسوار- فقال له بالفارسية- أ علمت أن القوم مصنوع لهم قال نعم- .

ثم قال ع- ما لكم لا تغضبون- و أنتم ترون عهود الله منقوضة و إن من العجب أن يغضب الإنسان- و يأنف من نقض عهد أبيه- و لا يغضب و لا يأنف لنقض عهود إلهه و خالقه- . ثم قال لهم- كانت الأحكام الشرعية إليكم- ترد مني و من تعليمي إياكم و تثقيفي لكم- ثم تصدر عنكم إلى من تعلمونه إياها- من أتباعكم و تلامذتكم- ثم يرجع إليكم- بأن يتعلمها بنوكم و إخوتكم- من هؤلاء الأتباع و التلامذة- ففررتم من الزحف- لما أغارت جيوش الشام عليكم- و أسلمتم منازلكم و بيوتكم و بلادكم إلى أعدائكم- و مكنتم الظلمة من منزلتكم- حتى حكموا في دين الله بأهوائهم- و عملوا بالشبهة لا بالحجة- و اتسعوا في شهواتهم و مآرب أنفسهم- . ثم أقسم بالله- إن أهل الشام لو فرقوكم تحت كل كوكب- ليجمعنكم الله ليوم و هو شر يوم لهم- و كنى بذلك عن ظهور المسودة- و انتقامها من أهل الشام و بني أمية- و كانت المسودة المنتقمة منهم عراقية و خراسانية

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 7 

خطبه 104 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

104 و من خطبة له ع

حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّداً ص- شَهِيداً وَ بَشِيراً وَ نَذِيراً- خَيْرَ الْبَرِيَّةِ طِفْلًا- وَ أَنْجَبَهَا كَهْلًا- وَ أَطْهَرَ الْمُطَهَّرِينَ شِيمَةً- وَ أَجْوَدَ الْمُسْتَمْطَرِينَ دِيمَةً- فَمَا احْلَوْلَتْ لَكُمُ الدُّنْيَا فِي لَذَّتِهَا- وَ لَا تَمَكَّنْتُمْ مِنْ رَضَاعِ أَخْلَافِهَا- إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ صَادَفْتُمُوهَا جَائِلًا خِطَامُهَا- قَلِقاً وَضِينُهَا- قَدْ صَارَ حَرَامُهَا عِنْدَ أَقْوَامٍ- بِمَنْزِلَةِ السِّدْرِ الْمَخْضُودِ- وَ حَلَالُهَا بَعِيداً غَيْرَ مَوْجُودٍ- وَ صَادَفْتُمُوهَا وَ اللَّهِ ظِلًّا مَمْدُوداً- إِلَى أَجْلٍ مَعْدُودٍ- فَالْأَرْضُ لَكُمْ شَاغِرَةٌ- وَ أَيْدِيكُمْ فِيهَا مَبْسُوطَةٌ- وَ أَيْدِي الْقَادَةِ عَنْكُمْ مَكْفُوفَةٌ- وَ سُيُوفُكُمْ عَلَيْهِمْ مُسَلَّطَةٌ- وَ سُيُوفُهُمْ عَنْكُمْ مَقْبُوضَةٌ- أَلَا وَ إِنَّ لِكُلِّ دَمٍ ثَائِراً- وَ لِكُلِّ حَقٍّ طَالِباً- وَ إِنَّ الثَّائِرَ فِي دِمَائِنَا كَالْحَاكِمِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ- وَ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا يُعْجِزُهُ مَنْ طَلَبَ- وَ لَا يَفُوتُهُ مَنْ هَرَبَ- فَأُقْسِمُ بِاللَّهِ يَا بَنِي أُمَيَّةَ عَمَّا قَلِيلٍ- لَتَعْرِفُنَّهَا فِي أَيْدِي غَيْرِكُمْ- وَ فِي دَارِ عَدُوِّكُمْ معنى كون النبي ص شهيدا- أنه يشهد على الأمة- بما فعلته من طاعة و عصيان- أنجبها أكرمها- و رجل نجيب أي كريم- بين النجابة و النجبة مثل الهمزة- .

و يقال هو نجبة القوم أي النجيب منهم- و أنجب الرجل أي ولد ولدا نجيبا- و امرأة منجبة و منجاب تلد النجباء- و نسوة مناجيب- . و الشيمة الخلق- و الديمة مطر يدوم- و المستمطرون المستجدون و المستماحون- و احلولت حلت- و قد عداه حميد بن ثور في قوله-

فلما أتى عامان بعد انفصاله
عن الضرع و احلولى دماثا يرودها

 و لم يجئ افعوعل متعديا إلا هذا الحرف- و حرف آخر و هو اعروريت الفرس- و هو الرضاع بفتح الراء- رضع الصبي أمه بكسر الضاد يرضعها رضاعا- مثل سمع يسمع سماعا- و أهل نجد يقولون رضع بالفتح يرضع بالكسر- مثل ضرب يضرب ضربا- و قال الأصمعي أخبرني عيسى بن عمر- أنه سمع العرب تنشد هذا البيت-

و ذموا لنا الدنيا و هم يرضعونها
أفاويق حتى ما يدر لها ثعل‏

 بكسر الضاد و الأخلاف للناقة بمنزلة الأطباء للكلبة- واحدها خلف بالكسر و هو حلمة الضرع- و الخطام زمام الناقة- خطمت البعير زممته- و ناقة مخطومة و نوق مخطمة- . و الوضين للهودج بمنزلة البطان للقتب- و التصدير للرحل و الحزام للسرج- و هو سيور تنسج مضاعفة بعضها على بعض- يشد بها الهودج منه إلى بطن البعير- و الجمع وضن- . و المخضود الذي خضد شوكة أي قطع- . و شاغرة خالية شغر المكان أي خلا- و بلدة شاغرة إذا لم تمتنع من غارة أحد- و الثائر طالب الثأر- لا يبقى على شي‏ء حتى يدرك ثأره- .

يقول ع مخاطبا لمن في عصره من بقايا الصحابة- و لغيرهم من التابعين- الذين لم يدركوا عصر رسول الله ص- إن الله بعث محمدا- و هو أكرم الناس شيمة- و أنداهم يدا و خيرهم طفلا- و أنجبهم كهلا- فصانه الله تعالى في أيام حياته- عن أن يفتح عليه الدنيا- و أكرمه عن ذلك فلم تفتح عليكم البلاد- و لا درت عليكم الأموال- و لا أقبلت الدنيا نحوكم- و ما دالت الدولة لكم إلا بعده- فتمكنتم من أكلها و التمتع بها- كما يتمكن الحالب من احتلاب الناقة فيحلبها- و حلت لذاتها لكم- و استطبتم العيشة- و وجدتموها حلوة خضرة- .

ثم ذكر أنهم صادفوها يعني الدنيا- و قد صعبت على من يليها ولاية حق- كما تستصعب الناقة على راكبها- إذا كانت جائلة الخطام- ليس زمامها بممكن راكبها من نفسه- قلقة الوضين- لا يثبت هودجها تحت الراكب- حرامها سهل التناول على من يريده- كالسدر الذي خضد عنه شوكه- فصار ناعما أملس- و حلالها غير موجود لغلبة الحرام عليه- و كونه صار مغمورا مستهلكا بالنسبة إليه- و هذا إشارة إلى ما كان يقوله دائما- من استبداد الخلفاء قبله دونه بالأمر- و أنه كان الأولى و الأحق- .

فإن قلت إذا كانت الدنيا قلقة الوضين- جائلة الخطام فهي صعبة الركوب- و هذا ضد قوله حرامها بمنزلة السدر المخضود- لأنه من الأمثال المضروبة للسهولة- قلت فحوى كلامه أن الدنيا جمحت به ع- فألقته عن ظهرها بعد أن كان راكبا لها- أو كالراكب لها لاستحقاقه ركوبها- و أنها صارت بعده كالناقة التي خلعت زمامها- أو أجالته فلا يتمكن راكبها من قبضه- و استرخى وضينها لشدة ما كان صدر عنها- من النفار و التقحم- حتى أذرت راكبها- فصارت على حال لا يركبها- إلا من هو موصوف بركوب غير طبيعي- لأنه ركب ما لا ينبغي أن يركب- فالذين ولوا أمرها ولوه‏ على غير الوجه- كما أن راكب هذه الناقة- يركبها على غير الوجه- و لهذا لم يقل- فصار حرامها بمنزلة السدر المخضود- بل قال عند أقوام فخصص- . و هذا الكلام كله محمول عند أصحابنا على التألم- من كون المتقدمين تركوا الأفضل- كما قدمناه في أول الكتاب- . ثم ذكر ع أن الدنيا فانية- و أنها ظل ممدود إلى أجل معدود- ثم ذكر أن الأرض بهؤلاء السكان- فيها صورة خالية من معنى- كما قال الشاعر

ما أكثر الناس لا بل ما أقلهم
الله يعلم أني لم أقل فندا

إني لأفتح عيني ثم أغمضها
على كثير و لكن لا أرى أحدا

ثم أعاد الشكوى و التألم- فقال أيديكم في الدنيا مبسوطة- و أيدي مستحقي الرئاسة- و مستوجبي الأمر مكفوفة- و سيوفكم مسلطة علي أهل البيت- الذين هم القادة و الرؤساء- و سيوفهم مقبوضة عنكم- و كأنه كان يرمز إلى ما سيقع- من قتل الحسين ع و أهله- و كأنه يشاهد ذلك عيانا- و يخطب عليه- و يتكلم على الخاطر الذي سنح له- و الأمر الذي كان أخبر به- ثم قال إن لكل دم ثائرا يطلب القود- و الثائر بدمائنا ليس إلا الله وحده- الذي لا يعجزه مطلوب- و لا يفوته هارب- .

و معنى قوله ع كالحاكم في حق نفسه- أنه تعالى لا يقصر في طلب دمائنا- كالحاكم الذي يحكم لنفسه- فيكون هو القاضي و هو الخصم- فإنه إذا كان كذلك- يكون مبالغا جدا في استيفاء حقوقه- . ثم أقسم و خاطب بني أمية- و صرح بذكرهم- أنهم ليعرفن الدنيا- عن قليل في أيدي غيرهم و في دورهم- و أن الملك سينتزعه منهم أعداؤهم- و وقع الأمر بموجب إخباره ع‏ فإن الأمر بقي في أيدي بني أمية- قريبا من تسعين سنة- ثم عاد إلى البيت الهاشمي- و انتقم الله تعالى منهم- على أيدي أشد الناس عداوة لهم 

هزيمة مروان بن محمد في موقعة الزاب- ثم مقتله بعد ذلك

سار عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس- في جمع عظيم للقاء مروان بن محمد بن مروان- و هو آخر خلفاء الأمويين- فالتقيا بالزاب من أرض الموصل- و مروان في جموع عظيمة و أعداد كثيرة- فهزم مروان- و استولى عبد الله بن علي على عسكره- و قتل من أصحابه خلقا عظيما- و فر مروان هاربا- حتى أتى الشام و عبد الله يتبعه- فصار إلى مصر- فاتبعه عبد الله بجنوده- فقتله ببوصير الأشمونين من صعيد مصر- و قتل خواصه و بطانته كلها- و قد كان عبد الله قتل من بني أمية- على نهر أبي فطرس من بلاد فلسطين- قريبا من ثمانين رجلا- قتلهم مثلة- و احتذى أخوه داود بن علي بالحجاز فعله- فقتل منهم قريبا من هذه العدة بأنواع المثل- .

و كان مع مروان حين قتل ابناه عبد الله و عبيد الله- و كانا وليي عهده- فهربا في خواصهما إلى أسوان من صعيد مصر- ثم صارا إلى بلاد النوبة- و نالهم جهد شديد و ضر عظيم- فهلك عبد الله بن مروان في جماعة- ممن كان معه قتلا و عطشا و ضرا- و شاهد من بقي منهم أنواع الشدائد و ضروب المكاره- و وقع عبيد الله في عدة- ممن نجا معه في أرض البجه- و قطعوا البحر إلى ساحل جدة- و تنقل فيمن نجا معه- من أهله و مواليه في البلاد مستترين راضين- أن يعيشوا سوقة بعد أن كانوا ملوكا- فظفر بعبد الله أيام السفاح- فحبس‏ فلم يزل في السجن بقية أيام السفاح- و أيام المنصور و أيام المهدي- و أيام الهادي و بعض أيام الرشيد- و أخرجه الرشيد و هو شيخ ضرير- فسأله عن خبره- فقال يا أمير المؤمنين- حبست غلاما بصيرا- و أخرجت شيخا ضريرا- فقيل إنه هلك في أيام الرشيد- و قيل عاش إلى أن أدرك خلافة الأمين- .

شهد يوم الزاب مع مروان- في إحدى الروايتين- إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك المخلوع- الذي خطب له بالخلافة بعد أخيه- يزيد بن الوليد بن عبد الملك- فقتل فيمن قتل- و في الرواية الثانية- أن إبراهيم قتله مروان الحمار قبل ذلك- . لما انهزم مروان يوم الزاب مضى نحو الموصل- فمنعه أهلها من الدخول- فأتى حران و كانت داره و مقامه- و كان أهل حران حين أزيل- لعن أمير المؤمنين عن المنابر- في أيام الجمع امتنعوا من إزالته- و قالوا لا صلاة إلا بلعن أبي تراب- فاتبعه عبد الله بن علي بجنوده- فلما شارفه خرج مروان- عن حران هاربا بين يديه و عبر الفرات- و نزل عبد الله بن علي على حران- فهدم قصر مروان بها- و كان قد أنفق على بنائه عشرة آلاف ألف درهم- و احتوى على خزائن مروان و أمواله- فسار مروان بأهله و عترته من بني أمية و خواصه- حتى نزل بنهر أبي فطرس- و سار عبد الله بن علي حتى نزل دمشق- فحاصرها و عليها من قبل مروان- الوليد بن معاوية بن عبد الملك بن مروان- في خمسين ألف مقاتل- فألقى الله تعالى بينهم العصبية في فضل نزار على اليمن- و فضل اليمن على نزار- فقتل الوليد- و قيل بل قتل في حرب عبد الله بن علي- و ملك عبد الله دمشق- فأتى يزيد بن معاوية بن عبد الملك بن مروان- و عبد الجبار بن يزيد بن عبد الملك بن مروان- فحملهما مأسورين إلى أبي العباس السفاح- فقتلهما و صلبهما بالحيرة- و قتل عبد الله بن علي بدمشق خلقا كثيرا- من أصحاب مروان و موالي بني أمية و أتباعهم- و نزل عبد الله على نهر أبي فطرس- فقتل من بني أمية هناك بضعا و ثمانين رجلا- و ذلك في ذي القعدة من سنة ثنتين و ثلاثين و مائة شعر عبد الله بن عمرو العبلي في رثاء قومهو في قتلى نهر أبي فطرس و قتلى الزاب- يقول أبو عدي عبد الله بن عمرو العبلي- و كان أموي الرأي-

تقول أمامة لما رأت
نشوزي عن المضجع الأملس‏

و قلة نومي على مضجعي‏
لدى هجعة الأعين النعس‏

أبي ما عراك فقلت الهموم
عرين أباك فلا تبلسي‏

عرين أباك فحبسنه‏
من الذل في شر ما محبس‏

لفقد الأحبة إذ نالها
سهام من الحدث المبئس‏

رمتها المنون بلا نكل‏
و لا طائشات و لا نكس‏

بأسهمها المتلفات النفوس
متى ما تصب مهجة تخلس‏

فصر عنهم بنواحي البلاد
فملقى بأرض و لم يرمس‏

نقى أصيب و أثوابه
من العيب و العار لم تدنس‏

و آخر قد رس في حفرة
و آخر طار فلم يحسس‏

أفاض المدامع قتلى كدى
و قتلى بكثوة لم ترمس‏

و قتلى بوج و باللابتين‏
من يثرب خير ما أنفس‏

و بالزابيين نفوس ثوت
و قتلى بنهر أبي فطرس‏

أولئك قومي أناخت بهم‏
نوائب من زمن متعس‏

إذا ركبوا زينوا الموكبين
و إن جلسوا زينة المجلس‏

و إن عن ذكرهم لم ينم‏
أبوك و أوحش في المأنس‏

فذاك الذي غالني فاعلمي
و لا تسألي بامرئ متعس‏

هم أضرعوني لريب الزمان‏
و هم ألصقوا الخد بالمعطس‏

أنفة بن مسلمة بن عبد الملك

و روى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني- قال نظر عبد الله بن علي في الحرب- إلى فتى عليه أبهة الشرف- و هو يحارب مستقتلا- فناداه يا فتى لك الأمان و لو كنت مروان بن محمد- قال إلا أكنه فلست بدونه- فقال و لك الأمان و لو كنت من كنت فأطرق- ثم أنشد

لذل الحياة و كره الممات
و كلا أراه طعاما وبيلا

و إن لم يكن غير إحداهما
فسيرا إلى الموت سيرا جميلا

ثم قاتل حتى قتل- فإذا هو ابن مسلمة بن عبد الملكمما قيل من الشعر في التحريض على قتل بني أمية و روى أبو الفرج أيضا- عن محمد بن خلف وكيع- قال دخل سديف مولى آل أبي لهب- على أبي العباس بالحيرة- و أبو العباس جالس على سريره- و بنو هاشم دونه على الكراسي- و بنو أمية حوله على وسائد قد ثنيت لهم- و كانوا في أيام دولتهم يجلسونهم- و الخليفة منهم على الأسرة- و يجلس بنو هاشم على الكراسي- فدخل الحاجب فقال يا أمير المؤمنين- بالباب رجل حجازي أسود- راكب على نجيب متلثم- يستأذن و لا يخبر باسمه- و يحلف لا يحسر اللثام عن وجهه- حتى يرى أمير المؤمنين- فقال هذا سديف مولانا أدخله فدخل- فلما نظر إلى أبي العباس- و بنو أمية حوله حسر اللثام عن وجهه- ثم أنشد

أصبح الملك ثابت الأساس
بالبهاليل من بني العباس‏

بالصدور المقدمين قديما
و البحور القماقم الرؤاس‏

يا إمام المطهرين من الذم
و يا رأس منتهى كل رأس‏

أنت مهدي هاشم و فتاها
كم أناس رجوك بعد أناس‏

لا تقيلن عبد شمس عثارا
و اقطعن كل رقلة و غراس‏

أنزلوها بحيث أنزلها الله
بدار الهوان و الإنعاس‏

خوفها أظهر التودد منها
و بها منكم كحز المواسي‏

أقصهم أيها الخليفة و احسم
عنك بالسيف شأفة الأرجاس‏

و اذكرن مصرع الحسين و زيد
و قتيلا بجانب المهراس‏

و القتيل الذي بحران أمسى
ثاويا بين غربة و تناس‏
فلقد ساءني و ساء سوائي‏
قربهم من نمارق و كراسي‏

نعم كلب الهراش مولاك شبل
لو نجا من حبائل الإفلاس‏

 قال فتغير لون أبي العباس- و أخذه زمع و رعدة- فالتفت بعض ولد سليمان بن عبد الملك- إلى آخر فيهم كان إلى جانبه- فقال قتلنا و الله العبد- فأقبل أبو العباس عليهم- فقال يا بني الزواني- لا أرى قتلاكم من أهلي قد سلفوا- و أنتم أحياء تتلذذون في الدنيا- خذوهم فأخذتهم الخراسانية بالكافر كوبات فأهمدوا- إلا ما كان من عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز- فإنه استجار بداود بن علي- و قال إن أبي لم يكن كآبائهم-

و قد علمت صنيعته إليكم- فأجاره و استوهبه من السفاح- و قال له قد علمت صنيع أبيه إلينا- فوهبه له و قال لا يريني وجهه- و ليكن بحيث نأمنه- و كتب إلى عماله في الآفاق بقتل بني أمية- . فأما أبو العباس المبرد- فإنه روى في الكامل هذا الشعر على غير هذا الوجه- و لم ينسبه إلى سديف- بل إلى شبل مولى بني هاشم- . قال أبو العباس- دخل شبل بن عبد الله مولى بني هاشم على عبد الله بن علي- و قد أجلس ثمانين من بني أمية على سمط الطعام- فأنشده

أصبح الملك ثابت الأساس
بالبهاليل من بني العباس‏

طلبوا وتر هاشم و شفوها
بعد ميل من الزمان و يأس‏

لا تقيلن عبد شمس عثارا
و اقطعن كل رقلة و أواسي‏

ذلها أظهر التودد منها
و بها منكم كحز المواسي‏

و لقد غاظني و غاظ سوائي
قربها من نمارق و كراسي‏

أنزلوها بحيث أنزلها الله‏
بدار الهوان و الإنعاس‏

و اذكرا مصرع الحسين و زيد
و قتلا بجانب المهراس‏

و القتيل الذي بحران أضحى‏
ثاويا بين غربة و تناس‏

نعم شبل الهراش مولاك شبل
لو نجا من حبائل الإفلاس‏

فأمر بهم عبد الله فشدخوا بالعمد- و بسطت البسط عليهم- و جلس عليها و دعا بالطعام- و إنه ليسمع أنين بعضهم حتى ماتوا جميعا- و قال لشبل- لو لا أنك خلطت شعرك بالمسألة لأغنمتك أموالهم- و لعقدت لك على جميع موالي بني هاشم- . قال أبو العباس الرقلة النخلة الطويلة- و الأواسي جمع آسية و هي أصل البناء كالأساس- و قتيل المهراس حمزة ع- و المهراس ماء بأحد- و قتيل حران إبراهيم الإمام- . قال أبو العباس- فأما سديف فإنه لم يقم هذا المقام- و إنما قام مقاما آخر- دخل على أبي العباس السفاح- و عنده سليمان بن هشام بن عبد الملك- و قد أعطاه يده فقبلها و أدناه- فأقبل على السفاح- و قال له

لا يغرنك ما ترى من رجال
إن تحت الضلوع داء دويا

فضع السيف و ارفع السوط حتى‏
لا ترى فوق ظهرها أمويا

فقال سليمان ما لي و لك أيها الشيخ- قتلتني قتلك الله- فقام أبو العباس- فدخل و إذا المنديل قد ألقي في عنق سليمان- ثم جر فقتل- . فأما سليمان بن يزيد بن عبد الملك بن مروان- فقتل بالبلقاء- و حمل رأسه إلى عبد الله بن علي

أخبار متفرقة في انتقال الملك من بني أمية إلى بني العباس

و ذكر صاحب مروج الذهب- أنه أرسل عبد الله أخاه صالح بن علي- و معه عامر بن إسماعيل- أحد الشيعة الخراسانية إلى مصر- فلحقوا مروان ببوصير- فقتلوه و قتلوا كل من كان معه من أهله و بطانته- و هجموا على الكنيسة التي فيها بناته و نساؤه- فوجدوا خادما- بيده سيف مشهور يسابقهم على الدخول- فأخذوه و سألوه عن أمره- فقال إن‏ أمير المؤمنين أمرني- إن هو قتل أن أقتل بناته و نساءه كلهن- قبل أن تصلوا إليهن- فأرادوا قتله- فقال لا تقتلوني- فإنكم إن قتلتموني- فقدتم ميراث رسول الله ص فقالوا و ما هو- فأخرجهم من القرية إلى كثبان من الرمل- فقال اكشفوا هاهنا- فإذا البردة و القضيب و قعب مخضب- قد دفنها مروان ضنا بها- أن تصير إلى بني هاشم- فوجه به عامر بن إسماعيل إلى صالح بن علي- فوجه به صالح إلى أخيه عبد الله- فوجه به عبد الله إلى أبي العباس- و تداوله خلفاء بني العباس من بعد- .

و أدخل بنات مروان و حرمه و نساؤه- على صالح بن علي- فتكلمت ابنة مروان الكبرى- فقالت يا عم أمير المؤمنين- حفظ الله لك من أمرك ما تحب حفظه- و أسعدك في أحوالك كلها- و عمك بخواص نعمه- و شملك بالعافية في الدنيا و الآخرة- نحن بناتك و بنات أخيك و ابن عمك- فليسعنا من عدلكم ما وسعنا من جوركم- قال إذا لا نستبقي منكم أحدا- لأنكم قد قتلتم إبراهيم الإمام- و زيد بن علي و يحيى بن زيد- و مسلم بن عقيل- و قتلتم خير أهل الأرض- حسينا و إخوته و بنيه و أهل بيته- و سقتم نساءه سبايا- كما يساق ذراري الروم- على الأقتاب إلى الشام- فقال يا عم أمير المؤمنين فليسعنا عفوكم إذا- قال أما هذا فنعم- و إن أحببت زوجتك من ابني الفضل بن صالح- قالت يا عم أمير المؤمنين- و أي ساعة عرس ترى- بل تلحقنا بحران- فحملهن إلى حران- .

كان عبد الرحمن بن حبيب بن مسلمة الفهري- عامل إفريقية لمروان- فلما حدثت الحادثة هرب عبد الله و العاص- ابنا الوليد بن يزيد بن عبد الملك إليه- فاعتصما به فخاف‏ على نفسه منهما- و رأى ميل الناس إليهما فقتلهما- و كان عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك- يريد أن يقصده و يلتجئ إليه- فلما علم ما جرى لابني الوليد بن يزيد- خاف منه فقطع المجاز بين إفريقية و الأندلس- و ركب البحر حتى حصل بالأندلس- فالأمراء الذين ولوها كانوا من ولده- .

ثم زال أمرهم و دولتهم على أيدي بني هاشم أيضا- و هم بنو حمود الحسنيون- من ولد إدريس بن الحسن ع- . لما قتل عامر بن إسماعيل مروان ببوصير- و احتوى على عسكره- دخل إلى الكنيسة التي كان فيها- فقعد على فراشه- و أكل من طعامه- فقالت له ابنة مروان الكبرى- و تعرف بأم مروان- يا عامر إن دهرا أنزل مروان عن فرشه- حتى أقعدك عليها- تأكل من طعامه ليلة قتله- محتويا على أمره- حاكما في ملكه و حرمه و أهله- لقادر أن يغير ذلك- فأنهي هذا الكلام إلى أبي العباس السفاح- فاستهجن ما فعله عامر بن إسماعيل- و كتب إليه- أ ما كان لك في أدب الله ما يزجرك- أن تقعد في مثل تلك الساعة على مهاد مروان- و تأكل من طعامه- أما و الله لو لا أن أمير المؤمنين- أنزل ما فعلته على غير اعتقاد منك- لذلك و لا نهم على طعام- لمسك من غضبه و أليم أدبه- ما يكون لك زاجرا و لغيرك واعظا- فإذا أتاك كتاب أمير المؤمنين- فتقرب إلى الله بصدقة تطفئ بها غضبه- و صلاة تظهر فيها الخشوع و الاستكانة له- و صم ثلاثة أيام- و تب إلى الله من جميع ما يسخطه و يغضبه- و مر جميع أصحابك أن يصوموا مثل صيامك- . و لما أتي أبو العباس برأس مروان- سجد فأطال- ثم رفع رأسه- و قال الحمد لله الذي‏ لم يبق ثأرنا قبلك و قبل رهطك- الحمد لله الذي أظفرنا بك- و أظهرنا عليك- ما أبالي متى طرقني الموت- و قد قتلت بالحسين ع ألفا من بني أمية- و أحرقت شلو هشام بابن عمي زيد بن علي- كما أحرقوا شلوه- و تمثل

لو يشربون دمي لم يرو شاربهم
و لا دماؤهم جمعا ترويني‏

 ثم حول وجهه إلى القبلة- فسجد ثانية ثم جلس فتمثل-

أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفت
قواطع في أيماننا تقطر الدما

إذا خالطت هام الرجال تركتها
كبيض نعام في الثرى قد تحطما

 ثم قال أما مروان فقتلناه بأخي إبراهيم- و قتلنا سائر بني أمية بحسين- و من قتل معه و بعده من بني عمنا أبي طالب- . و روى المسعودي في كتاب مروج الذهب- عن الهيثم بن عدي- قال حدثني عمرو بن هانئ الطائي- قال خرجت مع عبد الله بن علي- لنبش قبور بني أمية في أيام أبي العباس السفاح- فانتهينا إلى قبر هشام بن عبد الملك- فاستخرجناه صحيحا- ما فقدنا منه إلا عرنين أنفه- فضربه عبد الله بن علي ثمانين سوطا ثم أحرقه- و استخرجنا سليمان بن عبد الملك من أرض دابق- فلم نجد منه شيئا إلا صلبه- و رأسه و أضلاعه فأحرقناه- و فعلنا مثل ذلك بغيرهما من بني أمية- و كانت قبورهم بقنسرين- ثم انتهينا إلى دمشق- فاستخرجنا الوليد بن عبد الملك- فما وجدنا في قبره قليلا و لا كثيرا- و احتفرنا عن عبد الملك فما وجدنا إلا شئون رأسه- ثم احتفرنا عن يزيد بن معاوية- فلم نجد منه إلا عظما واحدا- و وجدنا من موضع نحره إلى قدمه خطا واحدا أسود- كأنما خط بالرماد في طول لحده- و تتبعنا قبورهم في جميع البلدان- أحرقنا ما وجدنا فيها منهم- .

قلت قرأت هذا الخبر- على النقيب أبي جعفر يحيى بن أبي زيد العلوي بن عبد الله- في سنة خمس و ستمائة- و قلت له أما إحراق هشام بإحراق زيد فمفهوم- فما معنى جلده ثمانين سوطا- فقال رحمه الله تعالى- أظن عبد الله بن علي ذهب في ذلك إلى حد القذف- لأنه يقال إنه قال لزيد يا ابن الزانية- لما سب أخاه محمدا الباقر ع- فسبه زيد- و قال له سماه رسول الله ص الباقر- و تسميه أنت البقرة- لشد ما اختلفتما و لتخالفنه في الآخرة- كما خالفته في الدنيا فيرد الجنة و ترد النار- .

و هذا استنباط لطيف- . قال مروان لكاتبه عبد الحميد بن يحيى- حين أيقن بزوال ملكه- قد احتجت إلى أن تصير مع عدوي و تظهر الغدر بي- فإن إعجابهم ببلاغتك- و حاجتهم إلى كتابتك- تدعوهم إلى اصطناعك و تقريبك- فإن استطعت أن تسعى لتنفعني في حياتي- و إلا فلن تعجز عن حفظ حرمي بعد وفاتي- فقال عبد الحميد- إن الذي أشرت به هو أنفع الأمرين لي- و أقبحهما بي- و ما عندي إلا الصبر معك- حتى يفتح الله لك أو أقتل بين يديك- ثم أنشد

أسر وفاء ثم أظهر غدرة
فمن لي بعذر يوسع الناس ظاهره‏

فثبت على حاله- و لم يصر إلى بني هاشم حتى قتل مروان- ثم قتل هو بعده صبرا- .و قال إسماعيل بن عبد الله القسري- دعاني مروان- و قد انتهت به الهزيمة إلى حران- فقال يا أبا هاشم و ما كان يكنيني قبلها- قد ترى ما جاء من الأمر- و أنت الموثوق به و لا عطر بعد عروس ما الرأي عندك- فقلت يا أمير المؤمنين علام أجمعت- قال ارتحل بموالي و من تبعني حتى آتي الدرب- و أميل إلى بعض مدن الروم- فأنزلها و أكاتب ملك الروم و أستوثق منه- فقد فعل ذلك جماعة من ملوك الأعاجم- و ليس هذا عارا على الملوك- فلا يزال يأتيني من الأصحاب الخائف- و الهارب و الطامع فيكثر من معي- و لا أزال على ذلك حتى يكشف الله أمري-

و ينصرني على عدوي- فلما رأيت ما أجمع عليه من ذلك- و كان الرأي- و رأيت آثاره في قومه من نزار و عصبيته- على قومي من قحطان غششته- فقلت أعيذك بالله يا أمير المؤمنين من هذا الرأي- أن تحكم أهل الشرك في بناتك و حرمك- و هم الروم لا وفاء لهم- و لا يدرى ما تأتي به الأيام- و إن حدث عليك حدث من أرض النصرانية- و لا يحدثن الله عليك إلا خيرا ضاع من بعدك- و لكن اقطع الفرات- و استنفر الشام جندا جندا- فإنك في كنف و عدة- و لك في كل جند صنائع و أصحاب- إلى أن تأتي مصر- فهي أكثر أرض الله مالا و خيلا و رجالا- و الشام أمامك و إفريقية خلفك-

فإن رأيت ما تحب انصرفت إلى الشام- و إن كانت الأخرى مضيت إلى إفريقية- فقال صدقت و أستخير الله- فقطع الفرات و الله ما قطعه معه من قيس إلا رجلان- ابن حديد السلمي و كان أخاه من الرضاعة- و الكوثر بن الأسود الغنوي- و غدر به سائر النزارية مع تعصبه لهم- فلما اجتاز ببلاد قنسرين و خناصرة- أوقعوا بساقته و وثب به أهل حمص- و صار إلى دمشق- فوثب به الحارث بن عبد الرحمن الحرشي ثم العقيلي- ثم أتى الأردن- فوثب به هاشم بن عمرو التميمي- ثم مر بفلسطين- فوثب به أهلها- و علم مروان أن إسماعيل بن عبد الله- قد غشه في الرأي- و لم يمحضه النصيحة- و أنه فرط في مشورته إياه-إذ شاور رجلا من قحطان موتورا شانئا له- و إن الرأي كان أول الذي هم به- من قطع الدرب و النزول- ببعض مدن الروم و مكاتبته ملكها- و لله أمر هو بالغه- .

لما نزل مروان بالزاب- جرد من رجاله- ممن اختاره من أهل الشام و الجزيرة و غيرها- مائة ألف فارس- على مائة ألف قارح- ثم نظر إليهم- و قال إنها لعدة و لا تنفع العدة- إذا انقضت المدة- . لما أشرف عبد الله بن علي يوم الزاب في المسودة و في أوائلهم البنود السود- تحملها الرجال على الجمال البخت- و قد جعل لها بدلا من القنا خشب الصفصاف و الغرب- قال مروان لمن قرب منه- أ ما ترون رماحهم كأنها النخل غلظا- أ ما ترون أعلامهم فوق هذه الإبل- كأنها قطع الغمام السود- فبينما هو ينظرها و يعجب- إذ طارت قطعة عظيمة من الغربان السود- فنزلت على أول عسكر عبد الله بن علي- و اتصل سوادها بسواد تلك الرايات و البنود- و مروان ينظر فازداد تعجبه- و قال أ ما ترون إلى السواد- قد اتصل بالسواد- حتى صار الكل كالسحب السود المتكاثفة- ثم أقبل على رجل إلى جنبه-

فقال أ لا تعرفني من صاحب جيشهم- فقال عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب- قال ويحك أ من ولد العباس هو قال نعم- قال و الله لوددت أن علي بن أبي طالب ع مكانه- في هذا الصف- قال يا أمير المؤمنين أ تقول هذا لعلي مع شجاعته التي ملأ الدنيا ذكرها- قال ويحك- إن عليا مع شجاعته صاحب دين- و إن الدين غير الملك- و إنا نروي عن قديمنا أنه لا شي‏ء لعلي- و لا لولده في هذا- ثم قال من هو من ولد العباس-فإني لا أثبت شخصه- قال هو الرجل الذي كان يخاصم بين يديك- عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر- فقال أذكرني صورته و حليته- قال هو الرجل الأقنى الحديد العضل- المعروق الوجه الخفيف اللحية- الفصيح اللسان- الذي قلت لما سمعت كلامه يومئذ- يرزق الله البيان من يشاء- فقال و إنه لهو قال نعم- فقال إنا لله و إنا إليه راجعون- أ تعلم لم صيرت الأمر بعدي لولدي عبد الله- و ابني محمد أكبر سنا منه- قال لا قال إن آباءنا أخبرونا- أن الأمر صائر بعدي إلى رجل- اسمه عبد الله فوليته دونه- .

ثم بعث مروان- بعد أن حدث صاحبه بهذا الحديث- إلى عبد الله بن علي سرا- فقال يا ابن عم إن هذا الأمر صائر إليك- فاتق الله و احفظني في حرمي- فبعث إليه عبد الله- أن الحق لنا في دمك- و أن الحق علينا في حرمك- . قلت إن مروان ظن- أن الخلافة تكون لعبد الله بن علي- لأن اسمه عبد الله- و لم يعلم أنها تكون لآخر اسمه عبد الله- و هو أبو العباس السفاح- . كان العلاء بن رافع سبط ذي الكلاع الحميري- مؤنسا لسليمان بن هشام بن عبد الملك- لا يكاد يفارقه- و كان أمر المسودة بخراسان- قد ظهر و دنوا من العراق- و اشتد إرجاف الناس- و نطق العدو بما أحب في بني أمية و أوليائهم- . قال العلاء فإني لمع سليمان- و هو يشرب تجاه رصافة أبيه- و ذلك في آخر أيام يزيد الناقص- و عنده الحكم الوادي- و هو يغنيه بشعر العرجي-

إن الحبيب تروحت أجماله
أصلا فدمعك دائم إسباله‏

فاقن الحياء فقد بكيت بعولة
لو كان ينفع باكيا إعواله‏

يا حبذا تلك الحمول و حبذا
شخص هناك و حبذا أمثاله‏

فأجاد ما شاء- و شرب سليمان بن هشام بالرطل- و شربنا معه حتى توسدنا أيدينا- فلم أنتبه إلا بتحريك سليمان إياي- فقمت مسرعا- و قلت ما شأن الأمير- فقال على رسلك- رأيت كأني في مسجد دمشق- و كأن رجلا على يده حجر- و على رأسه تاج أرى بصيص ما فيه من الجوهر- و هو رافع صوته بهذا الشعر-

أ بني أمية قد دنا تشتيتكم
و ذهاب ملككم و ليس براجع‏

و ينال صفوته عدو ظالم‏
كأسا لكم بسمام موت ناقع‏

فقلت أعيذ الأمير بالله وساوس الشيطان الرجيم- هذا من أضغاث الأحلام- و مما يقتضيه و يجلبه الفكر- و سماع الأراجيف- فقال الأمر كما قلت لك- ثم وجم ساعة- و قال يا حميري- بعيد ما يأتي به الزمان قريب- قال العلاء- فو الله ما اجتمعنا على شراب بعد ذلك اليوم- . سئل بعض شيوخ بني أمية عقيب زوال الملك عنهم- ما كان سبب زوال ملككم- فقال جار عمالنا على رعيتنا- فتمنوا الراحة منا- و تحومل على أهل خراجنا فجلوا عنا- و خربت ضياعنا فخلت بيوت أموالنا- و وثقنا بوزرائنا- فآثروا مرافقهم على منافعنا- و أمضوا أمورا دوننا أخفوا علمها عنا- و تأخر عطاء جندنا- فزالت طاعتهم لنا و استدعاهم عدونا- فظافروه على حربنا- و طلبنا أعداءنا فعجزنا عنهم لقلة أنصارنا- و كان استتار الأخبار عنا- من أوكد أسباب زوال ملكنا- .

كان سعيد بن عمر بن جعدة بن هبيرة المخزومي- أحد وزراء مروان و سماره- فلما ظهرأمر أبي العباس السفاح- انحاز إلى بني هاشم- و مت إليهم بأم هانئ بنت أبي طالب- و كانت تحت هبيرة بن أبي وهب- فأتت منه بجعدة- فصار من خواص السفاح و بطانته- فجلس السفاح يوما- و أمر بإحضار رأس مروان و هو بالحيرة يومئذ- ثم قال للحاضرين أيكم يعرف هذا- فقال سعيد أنا أعرفه- هذا رأس أبي عبد الملك مروان بن محمد بن مروان- خليفتنا بالأمس رحمه الله تعالى- قال سعيد- فحدقت إلي الشيعة و رمتني بأبصارها- فقال لي أبو العباس- في أي سنة كان مولده- قلت سنة ست و سبعين- فقام و قد تغير لونه غضبا علي- و تفرق الناس من المجلس و تحدثوا به- فقلت زلة و الله لا تستقال و لا ينساها القوم أبدا- فأتيت منزلي- فلم أزل باقي يومي أعهد و أوصي- فلما كان الليل اغتسلت و تهيأت للصلاة- و كان أبو العباس إذا هم بأمر بعث فيه ليلا- فلم أزل ساهرا حتى أصبحت و ركبت بغلتي- و أفكرت فيمن أقصد في أمري- فلم أجد أحدا أولى من سليمان بن مجالد مولى بني زهرة- و كانت له من أبي العباس منزلة عظيمة- و كان من شيعة القوم فأتيته- فقلت له أ ذكرني أمير المؤمنين البارحة- قال نعم جرى ذكرك- فقال هو ابن أختنا وفي لصاحبه- و نحن لو أوليناه خيرا لكان لنا أشكر- فشكرت لسليمان بن مجالد ما أخبرني به- و جزيته خيرا و انصرفت- فلم أزل من أبي العباس على ما كنت عليه- لا أرى منه إلا خيرا- .

و إنما ذلك المجلس إلى عبد الله بن علي- و إلى أبي جعفر المنصور- فأما عبد الله بن علي فكتب إلى أبي العباس يغريه بي- و يعاتبه على الإمساك عني- و يقول له إنه ليس مثل هذا مما يحتمل- و كتب إليه أبو جعفر يعذر لي- و ضرب الدهر ضربه- فأتى ذات يوم عند أبي العباس فنهض و نهضت- فقال لي على رسلك يا ابن هبيرة- فجلست فرفع الستر- و دخل و ثبت في مجلسه قليلا- ثم خرج في ثوبي وشي و رداء و جبة- فما رأيت و الله أحسن منه و لا مما عليه قط- فقال لي يا ابن هبيرة- إني ذاكر لك أمرا- فلا يخرجن من رأسك إلى أحد من الناس- قلت نعم- قال قد علمت ما جعلنا من هذا الأمر- و ولاية العهد لمن قتل مروان- و إنما قتله عمي عبد الله- بجيشه و أصحابه و نفسه و تدبيره- و أنا شديد الفكر في أمر أخي أبي جعفر- في فضله و علمه و سنه و إيثاره لهذا الأمر- كيف أخرجه عنه- فقلت أصلح الله أمير المؤمنين- إني أحدثك حديثا تعتبر به- و تستغني بسماعه عن مشاورتي-

قال هاته- فقلت كنا مع مسلمة بن عبد الملك عام الخليج بالقسطنطينية- إذ ورد علينا كتاب عمر بن عبد العزيز- ينعى سليمان و مصير الأمر إليه فدخلت إليه- فرمى الكتاب إلي فقرأته و استرجعت- و اندفع يبكي و أطال- فقلت أصلح الله الأمير و أطال بقاءه- إن البكاء على الأمر الفائت عجز- و الموت منهل لا بد من ورده- فقال ويحك إني لست أبكي على أخي- لكني أبكي لخروج الأمر- عن ولد أبي إلى ولد عمي- فقال أبو العباس حسبك فقد فهمت عنك- ثم قال إذا شئت فانهض- فلما نهضت لم أمض بعيدا- حتى قال لي يا ابن هبيرة فالتفت إليه- فقال أما إنك قد كافأت أحدهما- و أخذت بثأرك من الآخر- قال سعيد فو الله ما أدري من أي الأمرين أعجب- من فطنته أم من ذكره- . لما ساير عبد الله بن علي- في آخر أيام بني أمية- عبد الله بن حسن بن حسن- و معهما داود بن علي- فقال داود لعبد الله بن الحسن- لم لا تأمر ابنيك بالظهور- فقال عبد الله بن حسن- لم يأن لهما بعد- فالتفت إليه عبد الله بن علي- فقال أظنك ترى أن ابنيك قاتلا مروان- فقال عبد الله بن حسن- إنه ذلك قال هيهات ثم تمثل-

سيكفيك الجعالة مستميت
خفيف الحاذ من فتيان جرم‏

أنا و الله أقتل مروان- و أسلبه ملكه- لا أنت و لا ولداك- . و قد روى أبو الفرج الأصفهاني- في كتاب الأغاني رواية أخرى- في سبب قتل السفاح- لمن كان أمنه من بني أمية- قال حدث الزبير بن بكار عن عمه- أن السفاح أنشد يوما قصيدة مدح بها- و عنده قوم من بني أمية- كان آمنهم على أنفسهم- فأقبل على بعضهم- فقال أين هذا مما مدحتم به- فقال هيهات- لا يقول و الله أحد فيكم مثل قول ابن قيس الرقيات فينا-

ما نقموا من بني أمية إلا
أنهم يحلمون إن غضبوا

و أنهم معدن الملوك فما
تصلح إلا عليهم العرب‏

 فقال له يا ماص كذا من أمه- و إن الخلافة لفي نفسك بعد- خذوهم فأخذوا و قتلوا- . و روى أبو الفرج أيضا- أن أبا العباس دعا بالغداء حين قتلوا- و أمر ببساط فبسط عليهم- و جلس فوقه يأكل و هم يضطربون تحته- فلما فرغ قال- ما أعلم أني أكلت أكلة قط كانت أطيب- و لا أهنأ في نفسي من هذه- فلما فرغ من الأكل- قال جروهم بأرجلهم- و ألقوهم في الطريق- ليلعنهم الناس أمواتا- كما لعنوهم أحياء- .

قال فلقد رأينا الكلاب تجرهم بأرجلهم- و عليهم سراويلات الوشي حتى أنتنوا- ثم حفرت لهم بئر فألقوا فيها- . قال أبو الفرج و روى عمر بن شبة- قال حدثني محمد بن معن الغفاري- عن معبد الأنباري عن أبيه- قال لما أقبل داود بن علي من مكة- أقبل معه بنو حسن جميعا- و فيهم عبد الله بن حسن بن حسن- و أخوه حسن بن الحسن- و معهم محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان- و هو أخو عبد الله بن الحسن لأمه- فعمل داود مجلسا ببعض الطريق- جلس فيه هو و الهاشميون كلهم- و جلس الأمويون تحتهم- فجاء ابن هرمة فأنشده قصيدة يقول فيها-

فلا عفا الله عن مروان مظلمة
و لا أمية بئس المجلس النادي‏

كانوا كعاد فأمسى الله أهلكهم‏
بمثل ما أهلك الغاوين من عاد

فلن يكذبني من هاشم أحد
فيما أقول و لو أكثرت تعدادي‏

قال فنبذ داود نحو عبد الرحمن- بن عنبسة بن سعيد بن العاص- ضحكة كالكشرة- فلما قاموا قال عبد الله بن الحسن- لأخيه الحسن بن الحسن- أ ما رأيت ضحك داود إلى ابن عنبسة- الحمد لله الذي صرفها عن أخي- يعني العثماني- قال فما هو إلا أن قدم المدينة- حتى قتل ابن عنبسة- . قال أبو الفرج و حدثني محمد بن معن- قال حدثني محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان- قال استحلف أخي عبد الله بن الحسن داود بن علي- و قد حج معه سنة اثنتين و ثلاثين و مائة- بطلاق امرأته مليكة بنت داود بن الحسن- ألا يقتل أخويه محمدا و القاسم- ابني عبد الله بن عمرو بن عثمان- قال فكنت أختلف إليه آمنا- و هو يقتل بني أمية- و كان يكره أن يراني أهل خراسان- و لا يستطيع إلي سبيلا ليمينه- فاستدناني يوما فدنوت منه- فقال ما أكثر الغفلة- و أقل الحزمة- فأخبرت بها أخي عبد الله بن الحسن- فقال يا ابن أم- تغيب عن الرجل و أقل عنه- فتغيب حتى مات- . قلت إلا أن ذلك الدين الذي لم يقضه داود- قضاه أبو جعفر المنصور- . و روى أبو الفرج في الكتاب المذكور- أن سديفا أنشد أبا العباس- و عنده رجال من بني أمية فقال-

يا ابن عم النبي أنت ضياء
استبنا بك اليقين الجليا

 فلما بلغ قوله-

جرد السيف و ارفع العفو حتى
لا ترى فوق ظهرها أمويا

قطن البغض في القديم و أضحى‏
ثابتا في قلوبهم مطويا

و هي طويلة فقال أبو العباس- يا سديف خلق الإنسان من عجل- ثم أنشد أبو العباس متمثلا-

أحيا الضغائن آباء لنا سلفوا
فلن تبيد و للآباء أبناء

ثم أمر بمن عنده فقتلوا- . و روى أبو الفرج أيضا- عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي- عن أبيه عن عمومته- أنهم حضروا سليمان بن علي بالبصرة- و قد حضر جماعة من بني أمية عنده- عليهم الثياب الموشاة المرتفعة- قال أحد الرواة المذكورين- فكأني أنظر إلى أحدهم- و قد أسود شيب في عارضيه من الغالية- فأمر بهم فقتلوا و جروا بأرجلهم- فألقوا على الطريق- و إن عليهم لسراويلات الوشي- و الكلاب تجرهم بأرجلهم- . و روى أبو الفرج أيضا عن طارق بن المبارك- عن أبيه قال- جاءني رسول عمرو بن معاوية- بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان- قال يقول لك عمرو- قد جاءت هذه الدولة- و أنا حديث السن كثير العيال منتشر الأموال- فما أكون في قبيلة إلا شهر أمري و عرفت- و قد عزمت على أن أخرج من الاستتار- و أفدي حرمي بنفسي- و أنا صائر إلى باب الأمير سليمان بن علي- فصر إلي- فوافيته فإذا عليه طيلسان أبيض مطبق- و سراويل وشي مسدول- فقلت يا سبحان الله ما تصنع الحداثة بأهلها- أ بهذا اللباس تلقى هؤلاء القوم-

لما تريد لقاءهم فيه- فقال لا و الله- و لكن ليس عندي ثوب إلا أشهر مما ترى- فأعطيته طيلساني و أخذت طيلسانه- و لويت سراويله إلى ركبتيه- فدخل إلي سليمان- ثم خرج مسرورا- فقلت له حدثني ما جرى بينك و بين الأمير- قال دخلت عليه و لم يرني قط- فقلت أصلح الله الأمير- لفظتني البلاد إليك و دلني فضلك‏عليك- إما قتلتني غانما- و إما أمنتني سالما- فقال و من أنت حتى أعرفك فانتسبت له-

فقال مرحبا بك اقعد فتكلم سالما آمنا- ثم أقبل علي فقال حاجتك يا ابن أخي- فقلت إن الحرم اللواتي أنت أقرب الناس إليهن معنا- و أولى الناس بهن بعدنا- قد خفن لخوفنا و من خاف خيف عليه- فو الله ما أجابني إلا بدموعه على خديه- ثم قال يا ابن أخي يحقن الله دمك- و يحفظك في حرمك- و يوفر عليك مالك- فو الله لو أمكنني ذلك في جميع قومك لفعلت- فكن متواريا كظاهر و آمنا كخائف- و لتأتني رقاعك- قال فو الله لقد كنت أكتب إليه- كما يكتب الرجل إلى أبيه و عمه- قال فلما فرغ من الحديث- رددت عليه طيلسانه- فقال مهلا فإن ثيابنا إذا فارقتنا لم ترجع إلينا- . و روى أبو الفرج الأصفهاني- قال أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري- عن عمر بن شبة قال- قال سديف لأبي العباس يحضه على بني أمية- و يذكر من قتل مروان و بنو أمية من أهله-

كيف بالعفو عنهم و قديما
قتلوكم و هتكوا الحرمات‏

أين زيد و أين يحيى بن زيد
يا لها من مصيبة وترات‏

و الإمام الذي أصيب بحران
إمام الهدى و رأس الثقات‏

قتلوا آل أحمد لا عفا الذنب‏
لمروان غافر السيئات‏

 قال أبو الفرج- و أخبرني علي بن سليمان الأخفش- قال أنشدني محمد بن يزيد المبرد- لرجل من شيعة بني العباس يحضهم على بني أمية-

إياكم أن تلينوا لاعتذارهم
فليس ذلك إلا الخوف و الطمع‏

لو أنهم أمنوا أبدوا عداوتهم‏
لكنهم قمعوا بالذل فانقمعوا

أ ليس في ألف شهر قد مضت لهم
سقيتم جرعا من بعدها جرع‏

حتى إذا ما انقضت أيام مدتهم‏
متوا إليكم بالأرحام التي قطعوا

هيهات لا بد أن يسقوا بكأسهم
ريا و أن يحصدوا الزرع الذي زرعوا

إنا و إخواننا الأنصار شيعتكم‏
إذا تفرقت الأهواء و الشيع‏

 قال أبو الفرج- و روى ابن المعتز في قصة سديف مثل ما ذكرناه من قبل- إلا أنه قال فيها- فلما أنشده ذلك- التفت إليه أبو الغمر سليمان بن هشام- فقال يا ماص بظر أمه- أ تجبهنا بمثل هذا و نحن سروات الناس- فغضب أبو العباس- و كان سليمان بن هشام صديقه قديما و حديثا- يقضي حوائجه في أيامهم و يبره- فلم يلتفت إلى ذلك و صاح بالخراسانية- خذوهم فقتلوهم جميعا إلا سليمان بن هشام- فأقبل عليه أبو العباس- فقال يا أبا الغمر ما أرى لك في الحياة بعد هؤلاء خيرا- قال لا و الله قال فاقتلوه- و كان إلى جنبه فقتل و صلبوا في بستانه- حتى تأذى جلساؤه بريحهم- فكلموه في ذلك- فقال و الله إن ريحهم عندي لألذ و أطيب- من ريح المسك و العنبر- غيظا عليهم و حنقا- . قال أبو الفرج- و كان أبو سعيد مولى فائد من مواليهم- يعد في موالي عثمان بن عفان- و اسم أبي سعيد إبراهيم- و هو من شعرائهم الذين رثوهم- و بكوا على دولتهم و أيامهم- فمن شعره بعد زوال أمرهم-

بكيت و ما ذا يرد البكاء
و قل البكاء لقتلى كداء

أصيبوا معا فتولوا معا
كذلك كانوا معا في رخاء

بكت لهم الأرض من بعدهم
و ناحت عليهم نجوم السماء

و كانوا ضياء فلما انقضى‏
الزمان بقومي تولى الضياء

و من شعره فيهم-

أثر الدهر في رجالي فقلوا
بعد جمع فراح عظمي مهيضا

ما تذكرتهم فتملك عيني‏
فيض دمع و حق لي أن تفيضا

و من شعره فيهم-

أولئك قومي بعد عز و ثروة-
تداعوا فإلا تذرف العين أكمد

كأنهم لأناس للموت غيرهم‏
و إن كان فيهم منصفا غير معتد

و قال أبو الفرج ركب المأمون بدمشق يتصيد- حتى بلغ جبل الثلج- فوقف في بعض الطريق على بركة عظيمة- في جوانبها أربع سروات- لم ير أحسن منها فنزل هناك- و جعل ينظر إلى آثار بني أمية- و يعجب منها و يذكرهم- ثم دعا بطبق عليه طعام فأكل- و أمر علوية فغنى-

أولئك قومي بعد عز و منعة
تفانوا فإلا تذرف العين أكمد

 و كان علوية من موالي بني أمية- فغضب المأمون- و قال يا ابن الفاعلة- أ لم يكن لك وقت- تبكي فيه على قومك إلا هذا الوقت- قال كيف لا أبكي عليهم- و مولاكم زرياب- كان في أيام دولتهم يركب معهم في مائة غلام- و أنا مولاهم معكم أموت جوعا- فقام المأمون‏ فركب و انصرف الناس- و غضب على علوية عشرين يوما- و كلم فيه فرضي عنه- و وصله بعشرين ألف درهم- . لما ضرب عبد الله بن علي أعناق بني أمية- قال له قائل من أصحابه- هذا و الله جهد البلاء- فقال عبد الله كلا- ما هذا و شرطة حجام إلا سواء- إنما جهد البلاء فقر مدقع بعد غنى موسع- . خطب سليمان بن علي لما قتل بني أمية بالبصرة-

فقال وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ- أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ- قضاء فصل و قول مبرم- فالحمد لله الذي صدق عبده- و أنجز وعده و بعدا للقوم الظالمين- الذين اتخذوا الكعبة غرضا- و الدين هزوا و الفي‏ء إرثا و القرآن عضين- لقد حاق بهم ما كانوا به يستهزئون- و كأين ترى لهم من بئر معطلة و قصر مشيد- ذلك بما قدمت أيديهم- و ما ربك بظلام للعبيد- أمهلهم حتى اضطهدوا العترة- و نبذوا السنة- و استفتحوا و خاب كل جبار عنيد- ثم أخذهم فهل تحس منهم من أحد- أو تسمع لهم ركزا- . ضرب الوليد بن عبد الملك- علي بن عبد الله بن العباس بالسياط- و شهره بين الناس يدار به على بعير- و وجهه مما يلي ذنب البعير- و صائح يصيح أمامه- هذا علي بن عبد الله الكذاب- فقال له قائل و هو على تلك الحال- ما الذي نسبوك إليه من الكذب يا أبا محمد- قال بلغهم قولي إن هذا الأمر سيكون في ولدي- و الله ليكونن فيهم-حتى يملكه عبيدهم الصغار العيون- العراض الوجوه- الذين كان وجوههم المجان المطرقة- . و روي أن علي بن عبد الله دخل على هشام- و معه ابنا ابنه الخليفتان أبو العباس و أبو جعفر- فكلمه فيما أراد- ثم ولى فقال هشام- إن هذا الشيخ قد خرف و أهتر- يقول إن هذا الأمر سينتقل إلى ولده- فسمع علي بن عبد الله كلامه- فالتفت إليه- و قال إي و الله ليكونن ذلك- و ليملكن هذان- .

و قد روى أبو العباس المبرد- في كتاب الكامل هذا الحديث- فقال دخل علي بن عبد الله بن العباس- على سليمان بن عبد الملك- فيما رواه محمد بن شجاع البلخي- و معه ابنا ابنه الخليفتان بعد- أبو العباس و أبو جعفر- فأوسع له على سريره و بره و سأله عن حاجته- فقال ثلاثون ألف درهم علي دين- فأمر بقضائها- قال و استوص بابني هذين خيرا ففعل- فشكره علي بن عبد الله- و قال وصلتك رحم- فلما ولى قال سليمان لأصحابه- إن هذا الشيخ قد اختل و أسن و خلط- و صار يقول إن هذا الأمر سينتقل إلى ولده- فسمع ذلك علي بن عبد الله- فالتفت إليه- و قال إي و الله ليكونن ذلك و ليملكن هذان- .

قال أبو العباس المبرد- و في هذه الرواية غلط- لأن الخليفة في ذلك الوقت لم يكن سليمان- و إنما ينبغي أن يكون دخل على هشام- لأن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس- كان يحاول التزويج في بني الحارث بن كعب- و لم يكن سليمان بن عبد الملك يأذن له- فلما قام عمر بن عبد العزيز جاء- فقال إني أردت أن أتزوج ابنة خالي- من بني الحارث‏ بن كعب- فتأذن لي فقال عمر بن عبد العزيز- تزوج يرحمك الله من أحببت- فتزوجها فأولدها أبا العباس السفاح- و عمر بن عبد العزيز بعد سليمان- و أبو العباس ينبغي ألا يكون تهيأ لمثله- أن يدخل على خليفة حتى يترعرع- و لا يتم مثل هذا إلا في أيام هشام بن عبد الملك- .

قال أبو العباس المبرد و قد جاءت الرواية- أن أمير المؤمنين عليا ع لما ولد- لعبد الله بن العباس مولود- فقده وقت صلاة الظهر- فقال ما بال ابن العباس لم يحضر- قالوا ولد له ولد ذكر يا أمير المؤمنين- قال فامضوا بنا إليه فأتاه- فقال له شكرت الواهب- و بورك لك في الموهوب- ما سميته فقال يا أمير المؤمنين- أ و يجوز لي أن أسميه حتى تسميه- فقال أخرجه إلي فأخرجه- فأخذه فحنكه و دعا له ثم رده إليه- و قال خذ إليك أبا الأملاك- قد سميته عليا و كنيته أبا الحسن- قال فلما قدم معاوية خليفة- قال لعبد الله بن العباس- لا أجمع لك بين الاسم و الكنية- قد كنيته أبا محمد فجرت عليه- .

قلت- سألت النقيب أبا جعفر يحيى- بن محمد بن أبي زيد رحمه الله تعالى- فقلت له من أي طريق عرف بنو أمية- أن الأمر سينتقل عنهم- و أنه سيليه بنو هاشم- و أول من يلي منهم يكون اسمه عبد الله- و لم منعوهم عن مناكحة بني الحارث بن كعب- لعلمهم أن أول من يلي الأمر من بني هاشم- تكون أمه حارثية- و بأي طريق عرف بنو هاشم- أن الأمر سيصير إليهم- و يملكه عبيد أولادهم- حتى عرفوا صاحب الأمر بعينه- كما قد جاء في هذا الخبر-

فقال أصل هذا كله محمد بن الحنفية- ثم ابنه عبد الله المكنى أبا هاشم- . قلت له- أ فكان محمد بن الحنفية مخصوصا من أمير المؤمنين ع- بعلم يستأثر به على أخويه حسن و حسين ع- قال لا و لكنهما كتما و أذاع- ثم قال قد صحت الرواية عندنا عن أسلافنا- و عن غيرهم من أرباب الحديث- أن عليا ع لما قبض- أتى محمد ابنه أخويه حسنا و حسينا ع- فقال لهما أعطياني ميراثي من أبي- فقالا له قد علمت- أن أباك لم يترك صفراء و لا بيضاء- فقال قد علمت ذلك- و ليس ميراث المال أطلب- إنما أطلب ميراث العلم- .

قال أبو جعفر رحمه الله تعالى فروى أبان بن عثمان عمن يروي له ذلك عن جعفر بن محمد ع قال فدفعا إليه صحيفة لو أطلعاه على أكثر منها لهلك- فيها ذكر دولة بني العباس- . قال أبو جعفر- و قد روى أبو الحسن علي بن محمد النوفلي- قال حدثني عيسى بن علي بن عبد الله بن العباس- قال لما أردنا الهرب من مروان بن محمد- لما قبض على إبراهيم الإمام- جعلنا نسخة الصحيفة- التي دفعها أبو هاشم بن محمد بن الحنفية- إلى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس- و هي التي كان آباؤنا يسمونها صحيفة الدولة- في صندوق من نحاس صغير- ثم دفناه تحت زيتونات بالشراة- لم يكن بالشراة من الزيتون غيرهن- فلما أفضى السلطان إلينا و ملكنا الأمر- أرسلنا إلى ذلك الموضع فبحث و حفر- فلم يوجد فيه شي‏ء- فأمرنا بحفر جريب من الأرض في ذلك الموضع- حتى بلغ الحفر الماء و لم نجد شيئا- . قال أبو جعفر- و قد كان محمد بن الحنفية صرح بالأمر- لعبد الله بن العباس و عرفه تفصيله- و لم يكن أمير المؤمنين ع قد فصل- لعبد الله بن العباس الأمر- و إنما أخبره به‏ مجملا- كقوله في هذا الخبر- خذ إليك أبا الأملاك- و نحو ذلك مما كان يعرض له به- و لكن الذي كشف القناع- و أبرز المستور عليه هو محمد بن الحنفية- .

و كذلك أيضا ما وصل إلى بني أمية من علم هذا الأمر- فإنه وصل من جهة محمد بن الحنفية- و أطلعهم على السر الذي علمه- و لكن لم يكشف لهم كشفه لبني العباس- فإن كشفه الأمر لبني العباس كان أكمل- . قال أبو جعفر فأما أبو هاشم- فإنه قد كان أفضى بالأمر- إلى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس- و أطلعه عليه و أوضحه له- فلما حضرته الوفاة عقيب انصرافه- من عند الوليد بن عبد الملك مر بالشراة- و هو مريض و محمد بن علي بها- فدفع إليه كتبه و جعله وصيه- و أمر الشيعة بالاختلاف إليه- . قال أبو جعفر- و حضر وفاة أبي هاشم ثلاثة نفر من بني هاشم- محمد بن علي هذا- و معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب- و عبد الله بن الحارث بن نوفل- بن الحارث بن عبد المطلب- فلما مات خرج محمد بن معاوية- بن عبد الله بن جعفر من عنده- و كل واحد منهما يدعي وصايته- فأما عبد الله بن الحارث فلم يقل شيئا- . قال أبو جعفر رحمه الله تعالى- و صدق محمد بن علي- أنه إليه أوصى أبو هاشم- و إليه دفع كتاب الدولة- و كذب معاوية بن عبد الله بن جعفر- لكنه قرأ الكتاب- فوجد لهم فيه ذكرا يسيرا- فادعى الوصية بذلك- فمات و خرج ابنه عبد الله بن معاوية- يدعي وصاية أبيه- و يدعي لأبيه وصاية أبي هاشم- و يظهر الإنكار على بني أمية- و كان له في ذلك شيعة يقولون بإمامته سرا حتى قتل- . دخلت إحدى نساء بني أمية على سليمان بن علي- و هو يقتل بني أمية بالبصرة-فقالت أيها الأمير- إن العدل ليمل من الإكثار منه و الإسراف فيه- فكيف لا تمل أنت من الجور و قطيعة الرحم- فأطرق ثم قال لها-

سننتم علينا القتل لا تنكرونه
فذوقوا كما ذقنا على سالف الدهر

ثم قال يا أمة الله

و أول راض سنة من يسيرها

 أ لم تحاربوا عليا و تدفعوا حقه- أ لم تسموا حسنا و تنقضوا شرطه- أ لم تقتلوا حسينا و تسيروا رأسه- أ لم تقتلوا زيدا و تصلبوا جسده- أ لم تقتلوا يحيى و تمثلوا به- أ لم تلعنوا عليا على منابركم- أ لم تضربوا أبانا علي بن عبد الله بسياطكم- أ لم تخنقوا الإمام بجراب النورة في حبسكم- ثم قال أ لك حاجة- قالت قبض عمالك أموالي- فأمر برد أموالها عليها- . لما سار مروان إلى الزاب- حفر خندقا- فسار إليه أبو عون عبد الله بن يزيد الأزدي- و كان قحطبة بن شبيب قد وجهه- و أمد أبو سلمة الخلال بأمداد كثيرة- فكان بإزاء مروان- ثم إن أبا العباس السفاح قال لأهله- و هو بالكوفة حينئذ- من يسير إلى مروان من أهل بيتي- و له ولاية العهد إن قتله- فقال عبد الله عمه أنا- قال سر على بركة الله- فسار فقدم على أبي عون- فتحول له أبو عون عن سرادقه- و خلاه له بما فيه- ثم سأل عبد الله عن مخاضة في الزاب- فدل عليها- فأمر قائدا من قواده فعبرها في خمسة آلاف- فانتهى إلى عسكر مروان فقاتلهم- حتى أمسوا و تحاجزوا- و رجع القائد بأصحابه- فعبر المخاضة إلى عسكر عبد الله بن علي- و أصبح مروان فعقد جسرا- و عبر بالجيش كله إلى‏ عبد الله بن علي- فكان ابنه عبد الله بن مروان في مقدمته- و على الميمنة الوليد بن معاوية بن عبد الملك بن مروان- و على الميسرة عبد العزيز بن عمر- بن عبد العزيز بن مروان- و عبأ عبد الله بن علي جيشه- و تراءى الجمعان-

فقال مروان لعبد العزيز بن عمر- انظر فإن زالت الشمس اليوم و لم يقاتلونا- كنا نحن الذين ندفعها إلى عيسى ابن مريم- و إن قاتلونا قبل الزوال- فإنا لله و إنا إليه راجعون- ثم أرسل إلى عبد الله بن علي- يسأله الكف عن القتال نهار ذلك اليوم- فقال عبد الله كذب ابن زربي- إنما يريد المدافعة إلى الزوال- لا و الله لا تزول الشمس- حتى أوطئه الخيل إن شاء الله- ثم حرك أصحابه للقتال- فنادى مروان في أهل الشام- لا تبدءوهم بالحرب- فلم يسمع الوليد بن معاوية منه- و حمل على ميسرة عبد الله بن علي- فغضب مروان و شتمه- فلم يسمع له و اضطرمت الحرب- فأمر عبد الله الرماة أن ينزلوا- و نادى الأرض الأرض- فنزل الناس و رمت الرماة- و أشرعت الرماح و جثوا على الركب- فاشتد القتال فقال مروان لقضاعة انزلوا- قالوا حتى تنزل كندة-

فقال لكندة انزلوا- فقالوا حتى تنزل السكاسك- فقال لبني سليم انزلوا- فقالوا حتى تنزل عامر- فقال لتميم احملوا- فقالوا حتى تحمل بنو أسد- فقال لهوازن احملوا- قالوا حتى تحمل غطفان- فقال لصاحب شرطته احمل ويلك- قال ما كنت لأجعل نفسي غرضا- قال أما و الله لأسوأنك- قال وددت أن أمير المؤمنين يقدر على ذلك- فانهزم عسكر مروان- و انهزم مروان معهم و قطع الجسر- فكان من هلك غرقا- أكثر ممن هلك تحت السيف- و احتوى عبد الله بن علي على عسكر مروان بما فيه- و كتب إلى أبي العباس يخبره الواقعة- .

كان مروان سديد الرأي ميمون النقيبة حازما- فلما ظهرت المسودة- و لقيهم كان‏ ما يدبر أمرا إلا كان فيه خلل- و لقد وقف يوم الزاب- و أمر بالأموال فأخرجت- و قال للناس اصبروا و قاتلوا- و هذه الأموال لكم- فجعل ناس يصيبون من ذلك المال- و يشتغلون به عن الحرب- فقال لابنه عبد الله- سر في أصحابك- فامنع من يتعرض لأخذ المال- فمال عبد الله برايته و معه أصحابه- فتنادي الناس الهزيمة الهزيمة- فانهزموا و ركب أصحاب عبد الله بن علي أكتافهم- . لما قتل مروان ببوصير- قال الحسن بن قحطبة- أخرجوا إلى إحدى بنات مروان- فأخرجوها إليه و هي ترعد- قال لا بأس عليك- قالت و أي بأس أعظم من إخراجك إياي حاسرة- و لم أر رجلا قبلك قط فأجلسها- و وضع رأس مروان في حجرها- فصرخت و اضطربت فقيل له- ما أردت بهذا- قال فعلت بهم فعلهم بزيد بن علي لما قتلوه- جعلوا رأسه في حجر زينب بنت علي بن الحسين ع- .

دخلت زوجة مروان بن محمد- و هي عجوز كبيرة- على الخيزران في خلافة المهدي- و عندها زينب بنت سليمان بن علي- فقالت لها زينب- الحمد لله الذي أزال نعمتك و صيرك عبرة- أ تذكرين يا عدوة الله- حين أتاك نساؤنا يسألنك- أن تكلمي صاحبك في أمر إبراهيم بن محمد- فلقيتهن ذلك اللقاء- و أخرجتهن ذلك الإخراج فضحكت- و قالت أي بنت عمي- و أي شي‏ء أعجبك من حسن صنيع الله بي عقيب ذلك- حتى أردت أن تتأسى بي فيه ثم ولت خارجة- . بويع أبو العباس السفاح بالخلافة يوم الجمعة- لثلاث عشرة ليلة خلون من شهر ربيع‏ الأول- سنة اثنتين و ثلاثين و مائة- فصعد المنبر بالكوفة فخطب- فقال الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه- و كرمه و شرفه و عظمه- و اختاره لنا و أيده بنا- و جعلنا أهله و كهفه- و حصنه و القوام به- و الذابين عنه و الناصرين له- و خصنا برحم رسول الله ص- و أنبتنا من شجرته- و اشتقنا من نبعته- و أنزل بذلك كتابا يتلى-

فقال سبحانه- قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً- إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى‏- فلما قبض رسول الله ص- قام بالأمر أصحابه وَ أَمْرُهُمْ شُورى‏ بَيْنَهُمْ- فعدلوا و خرجوا خماصا- ثم وثب بنو حرب و بنو مروان فابتزوها و تداولوها- و استأثروا بها و ظلموا أهلها- فأملى الله لهم حينا- فلما آسفوه انتقم منهم بأيدينا- و رد علينا حقنا- فأنا السفاح المبيح و الثائر المبير- .

و كان موعوكا فاشتدت عليه الوعكة- فجلس على المنبر و لم يستطع الكلام- فقام عمه داود بن علي و كان بين يديه- فقال يا أهل العراق- إنا و الله ما خرجنا لنحفر نهرا- و لا لنكنز لجينا و لا عقيانا- و إنما أخرجتنا الأنفة من ابتزاز الظالمين حقنا- و لقد كانت أموركم تتصل بنا- فترمضنا و نحن على فرشنا- لكم ذمة الله و ذمة رسوله و ذمة العباس- أن نحكم فيكم بما أنزل الله- و نعمل فيكم بكتاب الله- و نسير فيكم بسنة رسول الله ص- و اعلموا أن هذا الأمر ليس بخارج عنا- حتى نسلمه إلى عيسى ابن مريم- .

يا أهل الكوفة- إنه لم يخطب على منبركم- هذا خليفة حق إلا علي بن أبي طالب- و أمير المؤمنين هذا- فأحمد الله الذي رد إليكم أموركم- ثم نزل- . و قد روي حديث خطبة داود بن علي برواية أخرى- و هي الأشهر- قالوا لما صعد أبو العباس منبر الكوفة- حصر فلم يتكلم- فقام داود بن علي- و كان تحت منبره حتى قام بين يديه تحته بمرقاة- فاستقبل الناس و قال- أيها الناس- إن أمير المؤمنين يكره أن يتقدم قوله فعله- و لأثر الفعال أجدى عليكم من تشقيق المقال- و حسبكم كتاب الله تمثلا فيكم- و ابن عم رسول الله ص خليفة عليكم- أقسم بالله قسما برا- ما قام هذا المقام أحد- بعد رسول الله ص أحق به- من علي بن أبي طالب و أمير المؤمنين هذا- فليهمس هامسكم و لينطق ناطقكم ثم نزل- . و من خطب داود التي خطب بها بعد قتل مروان- شكرا شكرا- أ ظن عدو الله أن لن يظفر به- أرخي له في زمامه- حتى عثر في فضل خطامه- فالآن عاد الحق إلى نصابه- و طلعت الشمس من مطلعها- و أخذ القوس باريها- و صار الأمر إلى النزعة- و رجع الحق إلى مستقره- أهل بيت نبيكم أهل الرأفة و الرحمة- .

و خطب عيسى بن علي بن عبد الله بن العباس- لما قتل مروان- فقال الحمد لله الذي لا يفوته من طلب- و لا يعجزه من هرب- خدعت و الله الأشقر نفسه- إذ ظن أن الله ممهله- و يأبى الله إلا أن يتم نوره- و لو كره الكافرون- فحتى متى و إلى متى-أما و الله لقد كرهتهم العيدان- التي افترعوها- و أمسكت السماء درها- و الأرض ريعها- و قحل الضرع و جفز الفنيق- و أسمل جلباب الدين- و أبطلت الحدود و أهدرت الدماء- و كان ربك بالمرصاد- فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها- و لا يخاف عقباها- و ملكنا الله أمركم- عباد الله لينظر كيف تعملون- فالشكر الشكر- فإنه من دواعي المزيد- أعاذنا الله و إياكم من مضلات الأهواء- و بغتات الفتن فإنما نحن به و له- . لما أمعن داود بن علي- في قتل بني أمية بالحجاز- قال له عبد الله بن الحسن ع يا ابن عمي- إذا أفرطت في قتل أكفائك- فمن تباهي بسلطانك- و ما يكفيك منهم أن يروك غاديا و رائحا- فيما يسرك و يسوءهم- كان داود بن علي يمثل ببني أمية- يسمل العيون و يبقر البطون- و يجدع الأنوف و يصطلم الآذان- كان عبد الله بن علي بنهر أبي فطرس- يصلبهم منكسين- و يسقيهم النورة و الصبر- و الرماد و الخل- و يقطع الأيدي و الأرجل- و كان سليمان بن علي بالبصرة يضرب الأعناق- .

خطب السفاح في الجمعة الثانية بالكوفة فقال-يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود- و الله لا أعدكم شيئا و لا أتوعدكم- إلا وفيت بالوعد و الوعيد- و لأعملن اللين حتى لا تنفع إلا الشدة- و لأغمدن السيف إلا في إقامة حد- أو بلوغ حق- و لأعطينكم حتى أرى العطية ضياعا- إن أهل بيت اللعنة و الشجرة الملعونة في القرآن- كانوا لكم أعداء لا يرجعون معكم- من حالة إلا إلى ما هو أشد منها- و لا يلي عليكم منهم وال- إلا تمنيتم من كان قبله- و إن كان لا خير في جميعهم- منعوكم الصلاة في أوقاتها- و طالبوكم بأدائها في غير وقتها- و أخذوا المدبر بالمقبل- و الجار بالجار- و سلطوا شراركم على خياركم- فقد محق الله جورهم- و أزهق باطلهم بأهل بيت نبيكم- فما نؤخر لكم عطاء- و لا نضيع لأحد منكم حقا- و لا نجهزكم في بعث- و لا نخاطر بكم في قتال- و لا نبذلكم دون أنفسنا- و الله على ما نقول وكيل بالوفاء و الاجتهاد- و عليكم بالسمع و الطاعة- .

ثم نزل- . كان يقال- لو ذهبت دولة بني أمية- على يد غير مروان بن محمد- لقيل لو كان لها مروان لما ذهبت- . كان يقال- إن دولة بني أمية آخرها خليفة أمه أمة- فلذلك كانوا لا يعهدون إلى بني الإماء منهم- و لو عهدوا إلى ابن أمة- لكان مسلمة بن عبد الملك أولاهم بها- و كان انقراض أمرهم على يد مروان و أمه أمة- كانت لمصعب بن الزبير- وهبها من إبراهيم بن الأشتر- فأصابها محمد بن مروان يوم قتل ابن الأشتر- فأخذها من ثقله- فقيل إنها كانت حاملا بمروان- فولدته على فراش محمد بن مروان- و لذلك كان أهل خراسان ينادونه في الحرب يا ابن الأشتر- . قيل أيضا- إنها كانت حاملا به من مصعب بن الزبير- و إنه لم تطل مدتها عند إبراهيم بن الأشتر- حتى قتل فوضعت حملها- على فراش محمد بن مروان- و لذلك كانت المسودة تصيح به في الحرب- يا ابن مصعب- ثم يقولون يا ابن الأشتر- فيقول ما أبالي أي الفحلين غلب علي- لما بويع أبو العباس- جاءه ابن عياش المنتوف- فقبل يده و بايعه- و قال الحمد لله الذي أبدلنا بحمار الجزيرة- و ابن أمة النخع- ابن عم رسول الله ص- و ابن عبد المطلب- . لما صعد السفاح منبر الكوفة يوم بيعته- و خطب الناس- قام إليه السيد الحميري فأنشده-

دونكموها يا بني هاشم
فجددوا من آيها الطامسا

دونكموها لا علا كعب من‏
أمسى عليكم ملكها نافسا

دونكموها فالبسوا تاجها
لا تعدموا منكم له لابسا

خلافة الله و سلطانه‏
و عنصر كان لكم دارسا

قد ساسها من قبلكم ساسة
لم يتركوا رطبا و لا يابسا

لو خير المنبر فرسانه‏
ما اختار إلا منكم فارسا

و الملك لو شوور في سائس
لما ارتضى غيركم سائسا

لم يبق عبد الله بالشام من‏
آل أبي العاص امرأ عاطسا

فلست من أن تملكوها إلى
هبوط عيسى منكم آيسا

قال داود بن علي- لإسماعيل بن عمرو بن سعيد بن العاص- بعد قتله من قتل من بني‏ أمية- هل علمت ما فعلت بأصحابك- قال نعم كانوا يدا فقطعتها- و عضدا ففتت فيها- و مرة فنقضتها و جناحا فحصصتها- قال إني لخليق أن ألحقك فيهم- قال إني إذا لسعيد- . لما استوثق الأمر لأبي العباس السفاح- وفد إليه عشرة من أمراء الشام- فحلفوا له بالله و بطلاق نسائهم- و بأيمان البيعة بأنهم لا يعلمون- إلى أن قتل مروان- أن لرسول الله ص أهلا و لا قرابة إلا بني أمية- . و روى أبو الحسن المدائني- قال حدثني رجل- قال كنت بالشام- فجعلت لا أسمع أحدا يسمي أحدا أو يناديه- يا علي أو يا حسن أو يا حسين- و إنما أسمع معاوية و الوليد و يزيد- حتى مررت برجل فاستسقيته ماء- فجعل ينادي يا علي يا حسن يا حسين-

فقلت يا هذا- إن أهل الشام لا يسمون بهذه الأسماء- قال صدقت- إنهم يسمون أبناءهم بأسماء الخلفاء- فإذا لعن أحدهم ولده أو شتمه- فقد لعن اسم بعد الخلفاء- و أنا سميت أولادي بأسماء أعداء الله- فإذا شتمت أحدهم أو لعنته- فإنما ألعن أعداء الله- . كانت أم إبراهيم بن موسى- بن عيسى بن موسى بن محمد- بن علي بن عبد الله بن العباس- أموية من ولد عثمان بن عفان- .

قال إبراهيم- فدخلت على جدي عيسى بن موسى مع أبي موسى- فقال لي جدي أ تحب بني أمية- فقال له موسى أبي نعم إنهم أخواله- فقال و الله لو رأيت جدك-علي بن عبد الله بن العباس- يضرب بالسياط ما أحببتهم- و لو رأيت إبراهيم بن محمد- يكره على إدخال رأسه في جراب النورة- لما أحببتهم- و سأحدثك حديثا إن شاء الله أن ينفعك به نفعك- لما وجه سليمان بن عبد الملك- ابنه أيوب بن سليمان إلى الطائف- وجه معه جماعة- فكنت أنا و محمد بن علي بن عبد الله جدي معهم- و أنا حينئذ حديث السن- و كان مع أيوب مؤدب له يؤدبه- فدخلنا عليه يوما أنا و جدي- و ذلك المؤدب يضربه- فلما رآنا الغلام أقبل على مؤدبه- فضربه فنظر بعضنا إلى بعض- و قلنا ما له قاتله الله- حين رآنا كره أن نشمت به- ثم التفت أيوب إلينا- فقال أ لا أخبركم يا بني هاشم بأعقلكم و أعقلنا- أعقلنا من نشأ منا يبغضكم- و أعقلكم من نشأ منكم يبغضنا- و علامة ذلك أنكم لم تسموا بمروان- و لا الوليد و لا عبد الملك- و لم نسم نحن بعلي و لا بحسن و لا بحسين- .

لما انتهى عامر بن إسماعيل- و كان صالح بن علي قد أنفذه لطلب مروان- إلى بوصير مصر- هرب مروان بين يديه- في نفر يسير من أهله و أصحابه- و لم يكن قد تخلف معه كثير عدد- فانتهوا في غبش الصبح- إلى قنطرة هناك على نهر عميق- ليس للخيل عبور إلا على تلك القنطرة- و عامر بن إسماعيل من ورائهم- فصادف مروان على تلك القنطرة بغالا- قد استقبلته تعبر القنطرة- و عليها زقاق عسل- فحبسته عن العبور- حتى أدركه عامر بن إسماعيل و رهقه- فلوى مروان دابته إليهم- و حارب فقتل- فلما بلغ صالح بن علي ذلك- قال إن لله جنودا من عسل- . لما نقف رأس مروان و نفض مخه- قطع لسانه و ألقى مع لحم عنقه- فجاء كلب فأخذ اللسان فقال قائل-إن من عبر الدنيا- أن رأينا لسان مروان في فم كلب- .

خطب أبو مسلم بالمدينة- في السنة التي حج فيها في خلافة السفاح- فقال الحمد لله الذي حمد نفسه- و اختار الإسلام دينا لعباده- ثم أوحى إلى محمد رسول الله ص من ذلك ما أوحى- و اختاره من خلقه نفسه من أنفسهم- و بيته من بيوتهم- ثم أنزل عليه في كتابه الناطق الذي حفظه بعلمه- و أشهد ملائكته على حقه- قوله إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ- وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً- ثم جعل الحق بعد محمد ع في أهل بيته فصبر من صبر منهم بعد وفاة رسول الله ص على اللأواء و الشدة- و أغضى على الاستبداد و الأثرة- ثم إن قوما من أهل بيت الرسول ص- جاهدوا على ملة نبيه و سنته- بعد عصر من الزمان- من عمل بطاعة الشيطان و عداوة الرحمن- بين ظهراني قوم آثروا العاجل على الآجل- و الفاني على الباقي- إن رتق جور فتقوه- أو فتق حق رتقوه- أهل خمور و ماخور و طنابير و مزامير- إن ذكروا لم يذكروا- أو قدموا إلى الحق أدبروا- و جعلوا الصدقات في الشبهات- و المغانم في المحارم- و الفي‏ء في الغي- هكذا كان زمانهم- و به كان يعمل سلطانهم-

و زعموا أن غير آل محمد أولى بالأمر منهم- فلم و بم أيها الناس- أ لكم الفضل بالصحابة دون ذوي القرابة- الشركاء في النسب- و الورثة في السلب- مع ضربهم على الدين جاهلكم- و إطعامهم في الجدب جائعكم- و الله ما اخترتم- من حيث اختار الله لنفسه ساعة قط و ما زلتم بعد نبيه تختارون تيميا مرة- و عدويا مرة و أمويا مرة- و أسديا مرة و سفيانيا مرة و مروانيا مرة-حتى جاءكم من لا تعرفون اسمه و لا بيته- يضربكم بسيفه- فأعطيتموها عنوة و أنتم صاغرون- ألا إن آل محمد أئمة الهدى- و منار سبيل التقى- القادة الذادة السادة- بنو عم رسول الله- و منزل جبريل بالتنزيل- كم قصم الله بهم من جبار طاغ- و فاسق باغ شيد الله بهم الهدى- و جلا بهم العمى لم يسمع بمثل العباس- و كيف لا تخضع له الأمم لواجب حق الحرمة- أبو رسول الله بعد أبيه- و إحدى يديه و جلده بين عينيه- أمينه يوم العقبة و ناصره بمكة- و رسوله إلى أهلها- و حاميه يوم حنين- عند ملتقى الفئتين- لا يخالف له رسما و لا يعصي له حكما- الشافع يوم نيق العقاب- إلى رسول الله في الأحزاب- ها إن في هذا أيها الناس لعبرة لأولي الأبصار- .

قلت الأسدي عبد الله بن الزبير- و من لا يعرفون اسمه و لا بيته- يعني نفسه لأنه لم يكن معلوم النسب- و قد اختلف فيه هل هو مولى أم عربي- . و يوم العقبة يوم مبايعة الأنصار السبعين لرسول الله ص بمكة- و يوم نيق العقاب يوم فتح مكة- شفع العباس ذلك اليوم في أبي سفيان- و في أهل مكة فعفا النبي ص عنهم- . اجتمع عند المنصور أيام خلافته جماعة من ولد أبيه- منهم عيسى بن موسى و العباس بن محمد و غيرهما- فتذاكروا خلفاء بني أمية- و السبب الذي به سلبوا عزهم- فقال المنصور- كان عبد الملك جبارا لا يبالي ما صنع- و كان الوليد لحانا مجنونا- و كان سليمان همته بطنه و فرجه- و كان عمر أعور بين عميان- و كان هشام رجل القوم- و لم يزل بنو أمية ضابطين- لما مهد لهم من السلطان- يحوطونه و يصونونه و يحفظونه- و يحرسون ما وهب الله لهم منه- مع تسنمهم معالي الأمور و رفضهم أدانيها- حتى أفضى أمرهم إلى أحداث مترفين من أبنائهم- فغمطوا النعمة- و لم يشكروا العافية و أساءوا الرعاية- فابتدأت النقمة منهم-باستدراج الله إياهم آمنين مكره- مطرحين صيانة الخلافة- مستخفين بحق الرئاسة- ضعيفين عن رسوم السياسة- فسلبهم الله العزة و ألبسهم الذلة- و أزال عنهم النعمة- .

سأل المنصور ليلة عن عبد الله بن مروان بن محمد- فقال له الربيع إنه في سجن أمير المؤمنين حيا- فقال المنصور- قد كان بلغني كلام خاطبه به ملك النوبة- لما قدم دياره- و أنا أحب أن أسمعه من فيه- فليؤمر بإحضاره فأحضر- فلما دخل خاطب المنصور بالخلافة- فأمره المنصور بالجلوس- فجلس و للقيد في رجليه خشخشة- قال أحب أن تسمعني كلاما- قاله لك ملك النوبة- حيث غشيت بلاده- قال نعم قدمت إلى بلد النوبة- فأقمت أياما فاتصل خبرنا بالملك- فأرسل إلينا فرشا و بسطا و طعاما كثيرا- و أفرد لنا منازل واسعة- ثم جاءني و معه خمسون من أصحابه- بأيديهم الحراب- فقمت إليه فاستقبلته- و تنحيت له عن صدر المجلس- فلم يجلس فيه و قعد على الأرض- فقلت له ما منعك من القعود على الفرش-

قال إني ملك- و حق الملك أن يتواضع لله و لعظمته- إذا رأى نعمه متجددة عنده- و لما رأيت تجدد نعمة الله عندي بقصدكم بلادي- و استجارتكم بي بعد عزكم و ملككم- قابلت هذه النعمة بما ترى من الخضوع و التواضع- ثم سكت و سكت- فلبثنا ما شاء الله لا يتكلم و لا أتكلم- و أصحابه قيام بالحراب على رأسه- ثم قال لي لما ذا شربتم الخمر- و هي محرمة عليكم في كتابكم- فقلت اجترأ على ذلك عبيدنا بجهلهم- قال فلم وطئتم الزروع بدوابكم- و الفساد محرم عليكم في كتابكم و دينكم- قلت فعل ذلك أتباعنا و عمالنا جهلا منهم- قال فلم لبستم الحرير و الديباج و الذهب- و هو محرم عليكم في كتابكم و دينكم- قلت استعنا في أعمالنا بقوم- من‏أبناء العجم كتاب دخلوا في ديننا- فلبسوا ذلك اتباعا لسنة سلفهم على كره منا- فأطرق مليا إلى الأرض يقلب يده- و ينكت الأرض- ثم قال عبيدنا و أتباعنا و عمالنا و كتابنا- ما الأمر كما ذكرت- و لكنكم قوم استحللتم ما حرم الله عليكم- و ركبتم ما عنه نهيتم- و ظلمتم فيما ملكتم- فسلبكم الله العز و ألبسكم الذل- و إن له سبحانه فيكم لنقمة لم تبلغ غايتها بعد- و أنا خائف أن يحل بكم العذاب- و أنتم بأرضي فينالني معكم- و الضيافة ثلاث فاطلبوا ما احتجتم إليه- و ارتحلوا عن أرضي- .

فأخذنا منه ما تزودنا به و ارتحلنا عن بلده- فعجب المنصور لذلك و أمر بإعادته إلى الحبس- . و قد جاءنا في بعض الروايات- أن السفاح لما أراد- أن يقتل القوم الذين انضموا إليه- من بني أمية جلس يوما على سرير بهاشمية الكوفة- و جاء بنو أمية و غيرهم من بني هاشم- و القواد و الكتاب- فأجلسهم في دار تتصل بداره- و بينه و بينهم ستر مسدول- ثم أخرج إليهم أبا الجهم بن عطية- و بيده كتاب ملصق- فنادى بحيث يسمعون- أين رسول الحسين بن علي بن أبي طالب ع- فلم يتكلم أحد- فدخل ثم خرج ثانية- فنادى أين رسول زيد بن علي بن الحسين- فلم يجبه أحد- فدخل ثم خرج ثالثة- فنادى أين رسول يحيى بن زيد بن علي- فلم يرد أحد عليه- فدخل ثم خرج رابعة- فنادى أين رسول إبراهيم بن محمد الإمام- و القوم ينظر بعضهم إلى بعض- و قد أيقنوا بالشر ثم دخل و خرج- فقال لهم إن أمير المؤمنين يقول لكم- هؤلاء أهلي و لحمي- فما ذا صنعتم بهم- ردوهم إلي أو فأقيدوني من أنفسكم- فلم ينطقوا بحرف- و خرجت الخراسانية بالأعمدة فشدخوهم عن آخرهم- .

قلت و هذا المعنى مأخوذ من قول الفضل بن عبد الرحمن- بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب- لما قتل زيد بن علي ع- في سنة اثنتين و عشرين و مائة- في خلافة هشام بن عبد الملك- و ذلك أن هشاما كتب إلى عامله بالبصرة- و هو القاسم بن محمد الثقفي- أن يشخص كل من بالعراق من بني هاشم- إلى المدينة خوفا من خروجهم- و كتب إلى عامل المدينة أن يحبس قوما منهم- و أن يعرضهم في كل أسبوع مرة- و يقيم لهم الكفلاء- على ألا يخرجوا منها- فقال الفضل بن عبد الرحمن من قصيدة له طويلة-

كلما حدثوا بأرض نقيقا
ضمنونا السجون أو سيرونا

أشخصونا إلى المدينة أسرى‏
لا كفاهم ربي الذي يحذرونا

خلفوا أحمد المطهر فينا
بالذي لا يحب و استضعفونا

قتلونا بغير ذنب إليهم‏
قاتل الله أمة قتلونا

ما رعوا حقنا و لا حفظوا فينا
وصاة الإله بالأقربينا

جعلونا أدنى عدو إليهم‏
فهم في دمائنا يسبحونا

أنكروا حقنا و جاروا علينا
و على غير إحنة أبغضونا

غير أن النبي منا و أنا
لم نزل في صلاتهم راغبينا

إن دعونا إلى الهدى لم يجيبونا
و كانوا عن الهدى ناكبينا

أو أمرنا بالعرف لم يسمعوا منا
و ردوا نصيحة الناصحينا

و لقدما ما رد نصح ذوي الرأي
فلم يتبعهم الجاهلونا

فعسى الله أن يديل أناسا
من أناس فيصبحوا ظاهرينا

فتقر العيون من قوم سوء
قد أخافوا و قتلوا المؤمنينا

ليت شعري هل توجفن بي الخيل
عليها الكمأة مستلئمينا

من بني هاشم و من كل حي‏
ينصرون الإسلام مستنصرينا

في أناس آباؤهم نصروا الدين
و كانوا لربهم ناصرينا

تحكم المرهفات في الهام منهم‏
بأكف المعاشر الثائرينا

أين قتلى منا بغيتم عليهم
ثم قتلتموهم ظالمينا

ارجعوا هاشما و ردوا أبا اليقظان‏
و ابن البديل في آخرينا

و ارجعوا ذا الشهادتين و قتلى
أنتم في قتالهم فاجرونا

ثم ردوا حجرا و أصحاب حجر
يوم أنتم في قتلهم معتدونا

ثم ردوا أبا عمير و ردوا
لي رشيدا و ميثما و الذينا

قتلوا بالطفوف يوم حسين‏
من بني هاشم و ردوا حسينا

أين عمرو و أين بشر و قتلى
معهم بالعراء ما يدفنونا

ارجعوا عامرا و ردوا زهيرا
ثم عثمان فارجعوا عازمينا

و ارجعوا الحر و ابن قين و قوما
قتلوا حين جاوزوا صفينا

و ارجعوا هانئا و ردوا إلينا
مسلما و الرواع في آخرينا

ثم ردوا زيدا إلينا و ردوا
كل من قد قتلتم أجمعينا

لن تردوهم إلينا و لسنا
منكم غير ذلكم قابلينا

أَلَا إِنَّ أَبْصَرَ الْأَبْصَارِ مَا نَفَذَ فِي الْخَيْرِ طَرْفُهُ- أَلَا إِنَّ أَسْمَعَ الْأَسْمَاعِ مَا وَعَى التَّذْكِيرَ وَ قَبِلَهُ- أَيُّهَا النَّاسُ- اسْتَصْبِحُوا مِنْ شُعْلَةِ مِصْبَاحٍ وَاعِظٍ مُتَّعِظٍ- وَ امْتَاحُوا مِنْ صَفِيِّ عَيْنٍ قَدْ رُوِّقَتْ مِنَ الْكَدَرِ- عِبَادَ اللَّهِ لَا تَرْكَنُوا إِلَى جَهَالَتِكُمْ- وَ لَا تَنْقَادُوا إِلَى أَهْوَائِكُمْ فَإِنَّ النَّازِلَ بِهَذَا الْمَنْزِلِ نَازِلٌ بِشَفَا جُرُفٍ هَارٍ- يَنْقُلُ الرَّدَى عَلَى ظَهْرِهِ مِنْ مَوْضِعٍ إِلَى مَوْضِعٍ- لِرَأْيٍ يُحْدِثُهُ بَعْدَ رَأْيٍ- يُرِيدُ أَنْ يُلْصِقَ مَا لَا يَلْتَصِقُ- وَ يُقَرِّبَ مَا لَا يَتَقَارَبُ- فَاللَّهَ اللَّهَ أَنْ تَشْكُوا إِلَى مَنْ لَا يُشْكِي شَجْوَكُمْ- وَ لَا يَنْقُضُ بِرَأْيِهِ مَا قَدْ أَبْرَمَ لَكُمْ- إِنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْإِمَامِ إِلَّا مَا حُمِّلَ مِنْ أَمْرِ رَبِّهِ- الْإِبْلَاغُ فِي الْمَوْعِظَةِ- وَ الِاجْتِهَادُ فِي النَّصِيحَةِ- وَ الْإِحْيَاءُ لِلسُّنَّةِ- وَ إِقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى مُسْتَحِقِّيهَا- وَ إِصْدَارُ السُّهْمَانِ عَلَى أَهْلِهَا- فَبَادِرُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِ تَصْوِيحِ نَبْتِهِ- وَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُشْغَلُوا بِأَنْفُسِكُمْ- عَنْ مُسْتَثَارِ الْعِلْمِ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ- وَ انْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تَنَاهَوْا عَنْهُ- فَإِنَّمَا أُمِرْتُمْ بِالنَّهْيِ بَعْدَ التَّنَاهِي هار الجرف يهور هورا و هئورا فهو هائر- و قالوا هار خفضوه في موضع الرفع كقاض- و أرادوا هائر و هو مقلوب من الثلاثي إلى الرباعي- كما قلبوا شائك السلاح إلى شاكي السلاح- و هورته فتهور و انهار أي انهدم- .و أشكيت زيدا أزلت شكايته- و الشجو الهم و الحزن- . و صوح النبت أي جف أعلاه- قال

و لكن البلاد إذا اقشعرت
و صوح نبتها رعي الهشيم‏

 يقول ع- أشد العيون إدراكا ما نفذ طرفها في الخير- و أشد الأسماع إدراكا ما حفظ الموعظة و قبلها- . ثم أمر الناس أن يستصبحوا- أي يسرجوا مصابيحهم من شعلة سراج- متعظ في نفسه واعظ لغيره- و روي بالإضافة من شعلة مصباح واعظ- بإضافة مصباح إلى واعظ- و إنما جعله متعظا واعظا- لأن من لم يتعظ في نفسه فبعيد أن يتعظ به غيره- و ذلك لأن القبول لا يحصل منه- و الأنفس تكون نافرة عنه- و يكون داخلا في حيز قوله تعالى- أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ- وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ- و في قول الشاعر-

لا تنه عن خلق و تأتي مثله‏

و عني بهذا المصباح نفسه ع- . ثم أمرهم أن يمتاحوا من عين صافية- قد انتفى عنها الكدر- كما يروق الشراب بالراووق- فيزول عنه كدرة- و الامتياح نزول البئر و مل‏ء الدلاء منها- و يكني بهذا أيضا عن نفسه ع- .ثم نهاهم عن الانقياد لأهوائهم و الميل إلى جهالتهم- و قال إن من يكون كذلك- فإنه على جانب جرف متهدم- و لفظة هار من الألفاظ القرآنية- . ثم قال و من يكون كذلك- فهو أيضا ينقل الهلاك على ظهره من موضع إلى موضع- ليحدث رأيا فاسدا بعد رأي فاسد- أي هو ساع في ضلال- يروم أن يحتج لما لا سبيل إلى إثباته- و ينصر مذهبا لا انتصار له- .

ثم نهاهم و حذرهم أن يشكوا- إلى من لا يزيل شكايتهم- و من لا رأي له في الدين و لا بصيرة- لينقض ما قد أبرمه الشيطان- في صدورهم لإغوائهم- و يروى إلى من لا يشكي شجوكم- و من ينقض برأيه ما قد أبرم لكم- و هذه الرواية أليق- أي لا تشكوا إلى من لا يدفع عنكم ما تشكون منه- و إنما ينقض برأيه الفاسد- ما قد أبرمه الحق و الشرع لكم- . ثم ذكر أنه ليس على الإمام إلا ما قد أوضحه- من الأمور الخمسة- . ثم أمرهم بمبادرة أخذ العلم من أهله- يعني نفسه ع قبل أن يموت- فيذهب العلم- و تصويح النبت كناية عن ذلك- . ثم قال- و قبل أن تشغلوا بالفتن و ما يحدث عليكم- من خطوب الدنيا عن استثارة العلم- من معدنه و استنباطه من قرارته- . ثم أمرهم بالنهي عن المنكر- و أن يتناهوا عنه قبل أن ينهوا عنه- و قال إنما النهي بعد التناهي- .

و في هذا الموضع إشكال- و ذلك أن لقائل أن يقول- النهي عن المنكر واجب على العدل و الفاسق- فكيف قال إنما أمرتم بالنهي بعد التناهي- و قد روي أن الحسن البصري- قال للشعبي هلا نهيت عن كذا- فقال يا أبا سعيد إني أكره أن أقول ما لا أفعل- قال الحسن غفر الله لك و أينا يقول ما يفعل- ود الشيطان لو ظفر منكم بهذه- فلم يأمر أحد بمعروف و لم ينه عن منكر- . و الجواب أنه ع لم يرد- أن وجود النهي عن المنكر مشروط- بانتهاء ذلك الناهي عن المنكر- و إنما أراد أني لم آمركم بالنهي عن المنكر- إلا بعد أن أمرتكم بالانتهاء عن المنكر- فالترتيب إنما هو في أمره ع لهم- بالحالتين المذكورتين لا في نهيهم و تناهيهم- . فإن قلت- فلما ذا قدم أمرهم بالانتهاء على أمرهم بالنهي- قلت لأن إصلاح المرء نفسه أهم- من الاعتناء بإصلاحه لغيره

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ أبي‏ الحديد) ج 7 

خطبه 103 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

103 و من خطبة له ع- :

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّداً ص- وَ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ يَقْرَأُ كِتَاباً- وَ لَا يَدَّعِي نُبُوَّةً وَ لَا وَحْياً- فَقَاتَلَ بِمَنْ أَطَاعَهُ مَنْ عَصَاهُ- يَسُوقُهُمْ إِلَى مَنْجَاتِهِمْ- وَ يُبَادِرُ بِهِمُ السَّاعَةَ أَنْ تَنْزِلَ بِهِمْ- يَحْسِرُ الْحَسِيرُ وَ يَقِفُ الْكَسِيرُ- فَيُقِيمُ عَلَيْهِ حَتَّى يُلْحِقَهُ غَايَتَهُ- إِلَّا هَالِكاً لَا خَيْرَ فِيهِ- حَتَّى أَرَاهُمْ مَنْجَاتَهُمْ- وَ بَوَّأَهُمْ مَحَلَّتَهُمْ- فَاسْتَدَارَتْ رَحَاهُمْ- وَ اسْتَقَامَتْ قَنَاتُهُمْ- وَ ايْمُ اللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ مِنْ سَاقَتِهَا- حَتَّى تَوَلَّتْ بِحَذَا فِيرِهَا- وَ اسْتَوْسَقَتْ فِي قِيَادِهَا- مَا ضَعُفْتُ وَ لَا جَبُنْتُ- وَ لَا خُنْتُ وَ لَا وَهَنْتُ- وَ ايْمُ اللَّهِ لَأَبْقُرَنَّ الْبَاطِلَ- حَتَّى أُخْرِجَ الْحَقَّ مِنْ خَاصِرَتِهِ قال الرضي رحمه الله تعالى- و قد تقدم مختار هذه الخطبة- إلا أنني وجدتها في هذه الرواية- على خلاف ما سبق من زيادة و نقصان- فأوجبت الحال إثباتها ثانية لقائل أن يقول- أ لم يكن في العرب نبي قبل محمد- و هو خالد بن سنان العبسي- و أيضا فقد كان فيها هود و صالح و شعيب- .

و نجيب هذا القائل- بأن مراده ع أنه لم يكن في زمان محمد ص- و ما قاربه من ادعى النبوة- فأما هود و صالح و شعيب- فكانوا في دهر قديم جدا- و أما خالد بن سنان فلم يقرأ كتابا- و لا يدعي شريعة- و إنما كانت نبوة مشابهة لنبوة جماعة- من أنبياء بني إسرائيل- الذين لم يكن لهم كتب و لا شرائع- و إنما ينهون عن الشرك و يأمرون بالتوحيد- . و منجاتهم نجاتهم- نجوت من كذا نجاء ممدود و نجا مقصور- و منجاة على مفعله و منه قولهم الصدق منجاة- . قوله ع و يبادر بهم الساعة- كأنه كان يخاف أن تسبقه القيامة- فهو يبادرها بهدايتهم و إرشادهم قبل أن تقوم- و هم على ضلالهم- .

و الحسير المعيا حسر البعير بالفتح- يحسر بالكسر حسورا- و استحسر مثله و حسرته أنا- يتعدى و لا يتعدى- حسرا فهو حسير- و يجوز أحسرته بالهمزة- و الجمع حسرى مثل قتيل و قتلى- و منه حسر البصر أي كل يحسر- قال تعالى يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ- و هذا الكلام من باب الاستعارة و المجاز- يقول ع كان النبي ص لحرصه على الإسلام- و إشفاقه على المسلمين و رأفته بهم- يلاحظ حال من تزلزل اعتقاده- أو عرضت له شبهة أو حدث عنده ريب- و لا يزال يوضح له و يرشده- حتى يزيل ما خامر سره من وساوس الشيطان- و يلحقه بالمخلصين من المؤمنين- و لم يكن ليقصر في مراعاة أحد- من المكلفين في هذا المعنى إلا من كان يعلم- أنه لا خير فيه أصلا- لعناده و إصراره على الباطل- و مكابرته للحق- . و معنى قوله حتى يلحقه غايته- حتى يوصله إلى الغاية التي هي الغرض بالتكليف- يعني اعتقاد الحق و سكون النفس إلى الإسلام- و هو أيضا معنى قوله- و بوأهم محلتهم- .

و معنى قوله- فاستدارت رحاهم انتظم أمرهم- لأن الرحى إنما تدور- إذا تكاملت أدواتها و آلاتها كلها- و هو أيضا معنى قوله- و استقامت قناتهم- و كل هذا من باب الاستعارة- . ثم أقسم أنه ع كان من ساقتها- الساقة جمع سائق- كقادة جمع قائد و حاكة جمع حائك- و هذا الضمير المؤنث يرجع إلى غير مذكور لفظا- و المراد الجاهلية- كأنه جعلها مثل كتيبة مصادمة لكتيبة الإسلام- و جعل نفسه من الحاملين عليها بسيفه- حتى فرت و أدبرت- و أتبعها يسوقها سوقا- و هي مولية بين يديه- .

حتى أدبرت بحذافيرها- أي كلها عن آخرها- . ثم أتى بضمير آخر إلى غير مذكور لفظا- و هو قوله و استوسقت في قيادها- يعني الملة الإسلامية أو الدعوة- أو ما يجري هذا المجرى- و استوسقت اجتمعت- يقول لما ولت تلك الدعوة الجاهلية- استوسقت هذه في قيادها- كما تستوسق الإبل المقودة إلى أعطانها- و يجوز أن يعود هذا الضمير الثاني- إلى المذكور الأول و هو الجاهلية- أي ولت بحذافيرها و اجتمعت كلها تحت ذل المقادة- . ثم أقسم أنه ما ضعف يومئذ- و لا وهن و لا جبن و لا خان- و ليبقرن الباطل الآن- حتى يخرج الحق من خاصرته- كأنه جعل الباطل كالشي‏ء المشتمل على الحق غالبا عليه- و محيطا به- فإذا بقر ظهر الحق الكامن فيه- و قد تقدم منا شرح ذلك

شرح ‏نهج‏ البلاغة(ابن‏ أبي ‏الحديد) ج 7 

خطبه 102 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

102 و من خطبة له ع

انْظُرُوا إِلَى الدُّنْيَا نَظَرَ الزَّاهِدِينَ فِيهَا- الصَّادِفِينَ عَنْهَا- فَإِنَّهَا وَ اللَّهِ عَمَّا قَلِيلٍ تُزِيلُ الثَّاوِيَ السَّاكِنَ- وَ تَفْجَعُ الْمُتْرَفَ الآْمِنَ- لَا يَرْجِعُ مَا تَوَلَّى مِنْهَا فَأَدْبَرَ- وَ لَا يُدْرَى مَا هُوَ آتٍ مِنْهَا فَيُنْتَظَرُ- سُرُورُهَا مَشُوبٌ بِالْحُزْنِ- وَ جَلَدُ الرِّجَالِ فِيهَا إِلَى الضَّعْفِ وَ الْوَهْنِ- فَلَا يَغُرَّنَّكُمْ كَثْرَةُ مَا يُعْجِبُكُمْ فِيهَا- لِقِلَّةِ مَا يَصْحَبُكُمْ مِنْهَا- رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً تَفَكَّرَ فَاعْتَبَرَ- وَ اعْتَبَرَ فَأَبْصَرَ- فَكَأَنَّ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنَ الدُّنْيَا عَنْ قَلِيلٍ لَمْ يَكُنْ- وَ كَأَنَّ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنَ الآْخِرَةِ- عَمَّا قَلِيلٍ لَمْ يَزَلْ- وَ كُلُّ مَعْدُودٍ مُنْقَضٍ- وَ كُلُّ مُتَوَقَّعٍ آتٍ- وَ كُلُّ آتٍ قَرِيبٌ دَانٍ الصادفين عنها أي المعرضين- و امرأة صدوف التي تعرض وجهها عليك- ثم تصدف عنك- . و عما قليل عن قليل و ما زائدة- . و الثاوي المقيم ثوى يثوي ثواء و ثويا- مثل مضى يمضي مضاء و مضيا- و يجوز ثويت بالبصرة و ثويت البصرة- و جاء أثويت بالمكان- لغة في ثويت قال الأعشى-

أثوى و قصر ليله ليزودا
فمضت و أخلف من قتيلة موعدا

 و المترف الذي قد أترفته النعمة أي أطغته- يقول ع- لا يعود على الناس ما أدبر- و تولى عنهم من أحوالهم الماضية- كالشباب و القوة- و لا يعلم حال المستقبل من صحة أو مرض- أو حياة أو موت لينتظر- و ينظر إلى هذا المعنى قول الشاعر-

و أضيع العمر لا الماضي انتفعت به
و لا حصلت على علم من الباقي‏

 و مشوب مخلوط شبته أشوبه فهو مشوب- و جاء مشيب في قول الشاعر-و ماء قدور في القصاع مشيب‏ فبناه على شيب لم يسم فاعله- و في المثل هو يشوب و يروب- يضرب لمن يخلط في القول أو العمل- . و الجلد الصلابة و القوة- و الوهن الضعف نفسه و إنما عطف للتأكيد- كقوله تعالى لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً- و قوله لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ- . ثم نهى عن الاغترار بكثرة العجب من الدنيا- و علل حسن هذا النهي- و قبح الاغترار بما نشاهده عيانا- من قلة ما يصحب مفارقيها منها- و قال الشاعر

فما تزود مما كان يجمعه
إلا حنوطا غداة البين في خرق‏

و غير نفحة أعواد شببن له‏
و قل ذلك من زاد لمنطلق‏

 ثم جعل التفكر علة الاعتبار- و جعل الاعتبار علة الأبصار- و هذا حق لأن الفكر يوجب الاتعاظ- و الاتعاظ يوجب الكشف- و المشاهدة بالبصيرة التي نورها الاتعاظ- .ثم ذكر أن ما هو كائن و موجود- من الدنيا سيصير عن قليل- أي بعد زمان قصير معدوما- و الزمان القصير هاهنا انقضاء الأجل و حضور الموت- .

ثم قال إن الذي هو كائن- و موجود من الآخرة سيصير عن قليل- أي بعد زمان قصير أيضا- كأنه لم يزل- و الزمان القصير هاهنا هو حضور القيامة- و هي و إن كانت تأتي بعد زمان طويل- إلا أن الميت لا يحس بطوله- و لا فرق بين ألف ألف سنة عنده إذا عاد حيا- و بين يوم واحد- لأن الشعور بالبطء في الزمان مشروط بالعلم بالحركة- و يدل على ذلك حال النائم- ثم قال كل معدود منقض- و هذا تنبيه بطريق الاستدلال النظري- على أن الدنيا زائلة و منصرفة- و قد استدل المتكلمون بهذا- على أن حركات الفلك يستحيل ألا يكون لها أول- فقالوا لأنها داخلة تحت العدد- و كل معدود يستحيل أن يكون غير متناه- و الكلام في هذا مذكور في كتبنا العقلية- .

ثم ذكر أن كل ما يتوقع لا بد أن يأتي
و كل ما سيأتي فهو قريب و كأنه قد أتى‏

– و هذا مثل قول قس بن ساعدة الإيادي- ما لي أرى الناس يذهبون ثم لا يرجعون- أ رضوا بالمقام فأقاموا- أم تركوا هناك فناموا أقسم قس قسما- إن في السماء لخبرا و إن في الأرض لعبرا- سقف مرفوع و مهاد موضوع- و نجوم تمور و بحار لا تغور- اسمعوا أيها الناس و عوا- من عاش مات و من مات فات- و كل ما هو آت آت: وَ مِنْهَا الْعَالِمُ مَنْ عَرَفَ قَدْرَهُ- وَ كَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلًا أَلَّا يَعْرِفَ قَدْرَهُ- وَ إِنَّ مِنْ أَبْغَضِ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لَعَبْداً- وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ- جَائِراً عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ- سَائِراً بِغَيْرِدَلِيلٍ- إِنْ دُعِيَ إِلَى حَرْثِ الدُّنْيَا عَمِلَ- وَ إِنْ دُعِيَ إِلَى حَرْثِ الآْخِرَةِ كَسِلَ- كَأَنَّ مَا عَمِلَ لَهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ- وَ كَأَنَّ مَا وَنَى فِيهِ سَاقِطٌ عَنْهُ قوله ع العالم من عرف قدره- من الأمثال المشهورة عنه ع- و قد قال الناس بعده في ذلك فأكثروا- نحو قولهم إذا جهلت قدر نفسك- فأنت لقدر غيرك أجهل- و نحو قولهم من لم يعرف قدر نفسه- فالناس أعذر منه إذا لم يعرفوه- و نحو قول الشاعر أبي الطيب-

و من جهلت نفسه قدره
رأى غيره منه ما لا يرى‏

ثم عبر عن هذا المعنى بعبارة أخرى- فصارت مثلا أيضا- و هي قوله كفى بالمرء جهلا ألا يعرف قدره- و من الكلامالمروي عن أبي عبد الله الصادق ع مرفوعا ما هلك امرؤ عرف قدرهرواه أبو العباس المبرد عنه في الكاملقال ثم قال أبو عبد الله ع و ما إخال رجلا يرفع نفسه فوق قدرها- إلا من خلل في عقله- .

وروى صاحب الكامل أيضا عن أبي جعفر الباقر ع قال لما حضرت الوفاة علي بن الحسين ع أبي ضمني إلى صدره- ثم قال يا بني أوصيك بما أوصاني به أبي يوم قتل- و بما ذكر لي أن أباه عليا ع أوصاه به- يا بني عليك ببذل نفسك- فإنه لا يسر أباك بذل نفسه حمر النعم
و كان يقال من عرف قدره استراح- .وفي الحديث المرفوع ما رفع امرؤ نفسه في الدنيا درجة- إلا حطه الله تعالى في الآخرة درجات- . و كان يقال من رضي عن نفسه كثر الساخطون عليه- ثم ذكر ع- أن من أبغض البشر إلى الله عبدا- وكله الله إلى نفسه- أي لم يمده بمعونته و ألطافه- لعلمه أنه لا ينجع ذلك فيه- و أنه لا ينجذب إلى الخير و الطاعة- و لا يؤثر شي‏ء ما في تحريك دواعيه إليها- فيكله الله حينئذ إلى نفسه- . و الجائر العادل عن السمت- و لما كان هذا الشقي خابطا- فيما يعتقده و يذهب إليه مستندا إلى الجهل و فساد النظر- جعله كالسائر بغير دليل- .

و الحرث هاهنا كل ما يفعل ليثمر فائدة- فحرث الدنيا كالتجارة و الزراعة- و حرث الآخرة فعل الطاعات و اجتناب المقبحات و المعاصي- و سمي حرثا على جهة المجاز- تشبيها بحرث الأرض و هو من الألفاظ القرآنية- . و كسل الرجل بكسر السين يكسل- أي يتثاقل عن الأمور فهو كسلان- و قوم كسالى و كسالى بالفتح و الضم- .

قال ع- حتى كان ما عمله من أمور الدنيا- هو الواجب عليه لحرصه و جده فيه- و كان ما ونى عنه- أي فتر فيه من أمور الآخرة ساقط عنه- و غير واجب عليه لإهماله و تقصيره فيه: وَ مِنْهَا وَ ذَلِكَ زَمَانٌ لَا يَنْجُو فِيهِ إِلَّا كُلُّ مُؤْمِنٍ نُوَمَةٍ- إِنْ شَهِدَ لَمْ يُعْرَفْ وَ إِنْ غَابَ‏لَمْ يُفْتَقَدْ- أُولَئِكَ مَصَابِيحُ الْهُدَى وَ أَعْلَامُ السُّرَى- لَيْسُوا بِالْمَسَايِيحِ وَ لَا الْمَذَايِيعِ الْبُذُرِ- أُولَئِكَ يَفْتَحُ اللَّهُ لَهُمْ أَبْوَابَ رَحْمَتِهِ- وَ يَكْشِفُ عَنْهُمْ ضَرَّاءَ نِقْمَتِهِ- أَيُّهَا النَّاسُ سَيَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ- يُكْفَأُ فِيهِ الْإِسْلَامُ كَمَا يُكْفَأُ الْإِنَاءُ بِمَا فِيهِ- أَيُّهَا النَّاسُ- إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَاذَكُمْ مِنْ أَنْ يَجُورَ عَلَيْكُمْ- وَ لَمْ يُعِذْكُمْ مِنْ أَنْ يَبْتَلِيَكُمْ- وَ قَدْ قَالَ جَلَّ مِنْ قَائِلٍ- إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَ إِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ قال الرضي رحمه الله تعالى- أما قوله ع- كل مؤمن نومة- فإنما أراد به الخامل الذكر القليل الشر- و المساييح جمع مسياح- و هو الذي يسيح بين الناس بالفساد و النمائم- و المذاييع جمع مذياع- و هو الذي إذا سمع لغيره بفاحشة أذاعها- و نوه بها- و البذر جمع بذور- و هو الذي يكثر سفهه و يلغو منطقه شهد حضر- و كفأت الإناء أي قلبته و كببته- و قال ابن الأعرابي يجوز أكفأته أيضا- و البذر جمع بذور مثل صبور و صبر- و هو الذي يذيع الأسرار- و ليس كما قال الرضي رحمه الله تعالى- فقد يكون الإنسان بذورا- و إن لم يكثر سفهه و لم يلغ منطقه- بأن يكون علنة مذياعا من غير سفه و لا لغو- و الضراء الشدة و مثلها البأساء- و هما اسمان مؤنثان من غير تذكير- و أجاز الفراء أن يجمع على آضر و أبؤس- كما يجمع النعماء على أنعم- .
و اعلم أنه قد جاء في التواضع و هضم النفس شي‏ء كثير- و من ذلكالحديث المرفوع من تواضع لله رفعه الله و من تكبر على الله وضعه
ويقال إن الله تعالى قال لموسى- إنما كلمتك- لأن في أخلاقك خلقا- أحبه الله و هو التواضع- . و رأى محمد بن واسع ابنه يمشي الخيلاء- فناداه فقال ويلك أ تمشي هذه المشية- و أبوك أبوك و أمك أمك- أما أمك فأمة ابتعتها بمائتي درهم- و أما أبوك فلا كثر الله في الناس مثله- . و مثلقوله ع كل مؤمن نومة- إن شهد لم يعرف و إن غاب لم يفتقد- قول رسول الله ص رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له- لو أقسم على الله لأبر قسمه- .

و قال عمر لابنه عبد الله- التمس الرفعة بالتواضع و الشرف بالدين- و العفو من الله بالعفو عن الناس- و إياك و الخيلاء فتضع من نفسك- و لا تحقرن أحدا فإنك لا تدري- لعل من تزدريه عيناك أقرب إلى الله وسيلة منك- . و قال الأحنف- عجبت لمن جرى في مجرى البول مرتين- من فرجين كيف يتكبر- و قد جاء في كلام رسول الله ص- ما يناسب كلام أمير المؤمنين ع هذا-إن الله يحب الأخفياء الأتقياء الأبرياء- الذين إذا غابوا لم يفتقدوا- و إذا حضروا لم يعرفوا- قلوبهم مصابيح الهدى- يخرجون من كل غبراء مظلمة- .

و أما إفشاء السر و أذاعته- فقد ورد فيه أيضا ما يكثر- و لو لم يرد فيه إلا قوله سبحانه- وَ لا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ- هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ لكفى- .وفي الحديث المرفوع من أكل بأخيه أكلة- أطعمه الله مثلها من نار جهنم- قيل في تفسيره- هو أن يسعى بأخيه و يجر نفعا بسعايته- . الجنيد ستر ما عاينت أحسن من إشاعة ما ظننت- . عبد الرحمن بن عوف- من سمع بفاحشة فأفشاها فهو كالذي أتاها- . قال رجل لعمرو بن عبيد- إن عليا الأسواري لم يزل- منذ اليوم يذكرك بسوء-

و يقول الضال فقال عمرو يا هذا- ما رعيت حق مجالسة الرجل- حين نقلت إلينا حديثه- و لا وفيتني حقي حين أبلغتني عن أخي ما أكرهه- اعلم أن الموت يعمنا و البعث يحشرنا- و القيامة تجمعنا و الله يحكم بيننا- . و كان يقال من نم إليك نم عليك- . و قالوا في السعاة يكفيك أن الصدق محمود إلا منهم- و إن أصدقهم أخبثهم- . وشي واش برجل إلى الإسكندر- فقال له أ تحب أن أقبل منك ما قلت فيه- على أن أقبل منه ما قال فيك قال لا- قال فكف عن الشر يكف عنك- .

قال رجل لفيلسوف عابك فلان بكذا- قال لقيتني لقحتك بما لم يلقني به لحيائه- . عاب مصعب بن الزبير الأحنف عن شي‏ء بلغه عنه- فأنكره فقال أخبرني بذلك الثقة- فقال كلا أيها الأمير إن الثقة لا ينم- . عرض بعض عمال الفضل بن سهل عليه رقعة- ساع في طي كتاب كتبه إليه- فوقع الفضل- قبول السعاية شر من السعاية- لأن السعاية دلالة و القبول إجازة- و ليس من دل على قبيح كمن أجازه و عمل به- فاطرد هذا الساعي عن عملك- و أقصه عن بابك- فإنه لو لم يكن في سعايته كاذبا- لكان في صدقه لئيما- إذ لم يرع الحرمة- و لم يستر العورة و السلام- .صالح بن عبد القدوس-

من يخبرك بشتم عن أخ
فهو الشاتم لا من شتمك‏

ذاك شي‏ء لم يواجهك به‏
إنما اللوم على من أعلمك

كيف لم ينصرك إن كان أخا
ذا حفاظ عند من قد ظلمك‏

طريح بن إسماعيل الثقفي-

إن يعلموا الخير يخفوه و إن علموا
شرا أذاعوا و إن لم يعلموا كذبوا

و معنى قوله ع- و إن غاب لم يفتقد أي لا يقال ما صنع فلان و لا أين هو- أي هو خامل لا يعرف- . و قوله أولئك يفتح الله بهم أبواب الرحمة- و يكشف بهم ضراء النقمة- و روي أولئك يفتح الله بهم أبواب رحمته- و يكشف بهم ضراء نقمته- أي ببركاتهم يكون الخير و يندفع الشر- .

ثم ذكر ع أنه سيأتي على الناس زمان- تنقلب فيه الأمور الدينية إلى أضدادها و نقائضها- و قد شهدنا ذلك عيانا- . ثم أخبر ع أن الله لا يجور على العباد- لأنه تعالى عادل و لا يظلم- و لكنه يبتلي عباده أي يختبرهم- ثم تلا قوله تعالى- إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ- وَ إِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ- و المراد أنه تعالى- إذا فسد الناس لا يلجئهم إلى الصلاح- لكن يتركهم و اختيارهم امتحانا لهم- فمن أحسن أثيب- و من أساء عوقب

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ أبي ‏الحديد) ج 7 

خطبه 101 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)

101 و من خطبة له ع تجري هذا المجرى- :

وَ ذَلِكَ يَوْمٌ يَجْمَعُ اللَّهُ فِيهِ الْأَوَّلِينَ وَ الآْخِرِينَ- لِنِقَاشِ الْحِسَابِ وَ جَزَاءِ الْأَعْمَالِ- خُضُوعاً قِيَاماً قَدْ أَلْجَمَهُمُ الْعَرَقُ- وَ رَجَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ- فَأَحْسَنُهُمُ حَالًا مَنْ وَجَدَ لِقَدَمَيْهِ مَوْضِعاً- وَ لِنَفْسِهِ مُتَّسَعاً هذا شرح حال يوم القيامة- و النقاش مصدر ناقش أي استقصى في الحساب-
و في الحديث من نوقش الحساب عذب- . و ألجمهم العرق سال منهم- حتى بلغ إلى موضع اللجام من الدابة و هو الفم- . و رجفت بهم تحركت و اضطربت- رجف يرجف بالضم و الرجفة الزلزلة- و الرجاف من أسماء البحر- سمي بذلك لاضطرابه- .

ثم وصف الزحام الشديد الذي يكون هناك- فقال أحسن الناس حالا هناك- من وجد لقدميه موضعا- و من وجد مكانا يسعه: وَ مِنْهَا فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ- لَا تَقُومُ لَهَا قَائِمَةٌ وَ لَا تُرَدُّ لَهَا رَايَةٌ- تَأْتِيكُمْ مَزْمُومَةً مَرْحُولَةً- يَحْفِزُهَا قَائِدُهَا وَ يَجْهَدُهَا رَاكِبُهَا- أَهْلُهَا قَوْمٌ شَدِيدٌ كَلَبُهُمْ- قَلِيلٌ‏ سَلَبُهُمْ- يُجَاهِدُهُمْ فِي اللَّهِ قَوْمٌ أَذِلَّةٌ عِنْدَ الْمُتَكَبِّرِينَ- فِي الْأَرْضِ مَجْهُولُونَ- وَ فِي السَّمَاءِ مَعْرُوفُونَ- فَوَيْلٌ لَكِ يَا بَصْرَةُ عِنْدَ ذَلِكِ- مِنْ جَيْشٍ مِنْ نِقَمِ اللَّهِ- لَا رَهَجَ لَهُ وَ لَا حِسَّ- وَ سَيُبْتَلَى أَهْلُكِ بِالْمَوْتِ الْأَحْمَرِ- وَ الْجُوعِ الْأَغْبَرِ قطع الليل جمع قطع و هو الظلمة- قال تعالى فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ- .

قوله لا تقوم لها قائمة- أي لا تنهض بحربها فئة ناهضة- أو لا تقوم لتلك الفتن قائمة من قوائم الخيل- يعني لا سبيل إلى قتال أهلها- و لا يقوم لها قلعة قائمة أو بنية قائمة بل تنهدم- . قوله و لا يرد لها راية أي لا تنهزم و لا تفر- لأنها إذا فرت فقد ردت على أعقابها- . قوله مزمومة مرحولة- أي تامة الأدوات كاملة الآلات- كالناقة التي عليها رحلها و زمامها قد استعدت لأن تركب- . يحفزها يدفعها- و يجهدها يحمل عليها في السير فوق طاقتها- جهدت دابتي بالفتح و يجوز أجهدت- و المراد أن أرباب تلك الفتن يجتهدون- و يجدون في إضرام نارها رجلا و فرسانا- فالرجل كنى عنهم بالقائد- و الفرسان كنى عنهم بالراكب- . و الكلب الشدة من البرد و غيره- و مثله الكلبة و قد كلب الشتاء- و كلب القحط و كلب العدو و الكلب أيضا الشر- دفعت عنك كلب فلان أي شره و أذاه- .و قوله قليل سلبهم- أي همهم القتل لا السلب- كما قال أبو تمام-

إن الأسود أسود الغاب همتها
يوم الكريهة في المسلوب لا السلب‏

 ثم ذكر ع- أن هؤلاء أرباب الفتن يجاهدهم قوم أذلة- كما قال الله تعالى- أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ- و ذلك من صفات المؤمنين- . ثم قال هم مجهولون عند أهل الأرض- لخمولهم قبل هذا الجهاد- و لكنهم معروفون عند أهل السماء- و هذا إنذار بملحمة تجري في آخر الزمان- و قد أخبر النبي ص بنحو ذلك- و قد فسر هذا الفصل قوم- و قالوا إنه أشار به إلى الملائكة- لأنهم مجهولون في الأرض معروفون في السماء- و اعتذروا عن لفظة قوم- فقالوا يجوز أن يقال في الملائكة قوم- كما قيل في الجن قوم- قال سبحانه- فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى‏ قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ- إلا أن لفظ أذلة عند المتكبرين يبعد هذا التفسير- .

ثم أخبر بهلاك البصرة بجيش من نقم الله- لا رهج له و لا حس الرهج الغبار- و كنى بهذا الجيش عن جدب و طاعون- يصيب أهلها حتى يبيدهم- و الموت الأحمر كناية عن الوباء و الجوع- . الأغبر كناية عن المحل- و سمي الموت الأحمر لشدته- و منهالحديث كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله- و وصف الجوع بأنه أغبر- لأن الجائع يرى الآفاق كأن عليها غبرة و ظلاما- و فسر قوم هذا الكلام بوقعة صاحب الزنج- و هو بعيد لأن جيشه كان ذا حس و رهج- و لأنه أنذر البصرة بهذا الجيش- عند حدوث تلك الفتن- أ لا تراه قال فويل لك يا بصرة عند ذلك- و لم يكن قبل خروج صاحب الزنج فتن شديدة- على الصفات التي ذكرها أمير المؤمنين ع

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي‏ الحديد) ج 7

خطبه 100 شرح ابن ابی الحدید (متن عربی)( هي من الخطب التي تشتمل على ذكر الملاحم)

100 و من خطبة له ع- و هي من الخطب التي تشتمل على ذكر الملاحم

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْأَوَّلِ قَبْلَ كُلِّ أَوَّلٍ وَ الآْخِرِ بَعْدَ كُلِّ آخِرٍ- وَ بِأَوَّلِيَّتِهِ وَجَبَ أَنْ لَا أَوَّلَ لَهُ- وَ بِآخِرِيَّتِهِ وَجَبَ أَنْ لَا آخِرَ لَهُ يقول البارئ تعالى موجود قبل كل شي‏ء- يشير العقل إليه و يفرضه أول الموجودات- و كذلك هو موجود بعد كل شي‏ء- يشير العقل إليه- و يفرضه آخر ما يبقى من جميع الموجودات- فإن البارئ سبحانه بالاعتبار الأول- يكون أولا قبل كل ما يفرض أولا- و بالاعتبار الثاني يكون آخرا- بعد كل ما يفرض آخرا- .

فأما قوله بأوليته وجب أن لا أول له- إلى آخر الكلام فيمكن أن يفسر على وجهين- أحدهما أنه تعالى لما فرضناه أولا مطلقا- تبع هذا الفرض أن يكون قديما أزليا- و هو المعني بقوله وجب أن لا أول- و إنما تبعه ذلك- لأنه لو لم يكن أزليا لكان محدثا- فكان له محدث و المحدث متقدم على المحدث- لكنا فرضناه أولا مطلقا- أي لا يتقدم عليه شي‏ء فيلزم المحال و الخلف- و هكذا القول في آخريته- لأنا إذا فرضناه آخرا مطلقا- تبع هذا الفرض أن يكون مستحيل العدم- و هو المعني بقوله وجب أن لا آخر له-و إنما تبعه ذلك- لأنه لو لم يستحل عدمه لصح عدمه- لكن كل صحيح و ممكن فليفرض وقوعه- لأنه لا يلزم من فرض وقوعه محال- مع فرضنا إياه صحيحا و ممكنا- لكن فرض تحقق عدمه محال- لأنه لو عدم لما عدم بعد استمرار الوجودية إلا بضد- لكن الضد المعدم يبقى- بعد تحقق عدم الضد المعدوم- لاستحالة أن يعدمه- و يعدم معه في وقت واحد- لأنه لو كان وقت عدم الطارئ- هو وقت عدم الضد المطروء عليه- لامتنع عدم الضد المطروء عليه- لأن حال عدمه الذي هو الأثر المتجدد- تكون العلة الموجبة للأثر معدومة- و المعدوم يستحيل أن يكون مؤثرا البتة- فثبت أن الضد الطارئ- لا بد أن يبقى بعد عدم المطروء عليه و لو وقتا واحدا- لكن بقاءه بعده و لو وقتا واحدا- يناقض فرضنا كون المطروء عليه آخرا مطلقا- لأن الضد الطارئ قد بقي بعده- فيلزم من الخلف و المحال ما لزم في المسألة الأولى- .

و التفسير الثاني- ألا تكون الضمائر الأربعة راجعة- إلى البارئ سبحانه- بل يكون منها ضميران راجعين إلى غيره- و يكون تقدير الكلام بأولية الأول- الذي فرضنا كون البارئ سابقا عليه- علمنا أن البارئ لا أول له- و بآخرية الآخر الذي فرضنا أن البارئ متأخر عنه- علمنا أن البارئ لا آخر له- و إنما علمنا ذلك- لأنه لو كان سبحانه أولا لأول الموجودات- و له مع ذلك أول لزم التسلسل- و إثبات محدثين و محدثين إلى غير نهاية- و هذا محال- . و لو كان سبحانه آخرا لآخر الموجودات- و له مع ذلك آخر لزم التسلسل- و إثبات أضداد تعدم و يعدمها غيرها إلى غير نهاية- و هذا أيضا محال: وَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ شَهَادَةً- يُوَافِقُ فِيهَا السِّرُّ الْإِعْلَانَ- وَ الْقَلْبُ اللِّسَانَ-أَيُّهَا النَّاسُ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي- وَ لَا يَسْتَهْوِيَنَّكُمْ عِصْيَانِي- وَ لَا تَتَرَامَوْا بِالْأَبْصَارِ عِنْدَ مَا تَسْمَعُونَهُ مِنِّي- فَوَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَ بَرَأَ النَّسَمَةَ- إِنَّ الَّذِي أُنَبِّئُكُمْ بِهِ عَنِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ ص- وَ اللَّهِ مَا كَذَبَ الْمُبَلِّغُ وَ لَا جَهِلَ السَّامِعُ- لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى ضِلِّيلٍ قَدْ نَعَقَ بِالشَّامِ- وَ فَحَصَ بِرَايَاتِهِ فِي ضَوَاحِي كُوفَانَ- فَإِذَا فَغَرَتْ فَاغِرَتُهُ- وَ اشْتَدَّتْ شَكِيمَتُهُ- وَ ثَقُلَتْ فِي الْأَرْضِ وَطْأَتُهُ- عَضَّتِ الْفِتْنَةُ أَبْنَاءَهَا بِأَنْيَابِهَا- وَ مَاجَتِ الْحَرْبُ بِأَمْوَاجِهَا- وَ بَدَا مِنَ الْأَيَّامِ كُلُوحُهَا- وَ مِنَ اللَّيَالِي كُدُوحُهَا- فَإِذَا أَيْنَعَ زَرْعُهُ وَ قَامَ عَلَى يَنْعِهِ- وَ هَدَرَتْ شَقَاشِقُهُ وَ بَرَقَتْ بَوَارِقُهُ- عُقِدَتْ رَايَاتُ الْفِتَنِ الْمُعْضِلَةِ- وَ أَقْبَلْنَ كَاللَّيْلِ الْمُظْلِمِ وَ الْبَحْرِ الْمُلْتَطِمِ- هَذَا وَ كَمْ يَخْرِقُ الْكُوفَةَ مِنْ قَاصِفٍ- وَ يَمُرُّ عَلَيْهَا مِنْ عَاصِفٍ- وَ عَنْ قَلِيلٍ تَلْتَفُّ الْقُرُونُ بِالْقُرُونِ- وَ يُحْصَدُ الْقَائِمُ- وَ يُحْطَمُ الْمَحْصُودُ في الكلام محذوف- و تقديره لا يجرمنكم شقاقي على أن تكذبوني- و المفعول فضلة و حذفه كثير- نحو قوله تعالى- اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ- فحذف العائد إلى الموصول- و منها قوله سبحانه- لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ- أي من رحمه- و لا بد من تقدير العائد إلى الموصول- و قد قرئ قوله وَ ما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ و ما عملت أيديهم بحذف المفعول- .

لا يجرمنكم لا يحملنكم- و قيل لا يكسبنكم- و هو من الألفاظ القرآنية- .و لا يستهوينكم أي لا يستهيمنكم يجعلكم هائمين- . و لا تتراموا بالأبصار أي لا يلحظ بعضكم بعضا- فعل المنكر المكذب- . ثم أقسم بالذي فلق الحبة و برأ النسمة- فلق الحبة من البر- أي شقها و أخرج منها الورق الأخضر- قال تعالى إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى‏- . و برأ النسمة أي خلق الإنسان- و هذا القسم لا يزال أمير المؤمنين يقسم به- و هو من مبتكراته و مبتدعاته- . و المبلغ و السامع هو نفسه ع- يقولما كذبت على الرسول تعمدا- و لا جهلت ما قاله فأنقل عنه غلطا- . و الضليل الكثير الضلال- كالشريب و الفسيق و نحوهما- .

و هذا كناية عن عبد الملك بن مروان- لأن هذه الصفات و الأمارات فيه أتم منها في غيره- لأنه قام بالشام حين دعا إلى نفسه- و هو معنى نعيقه- و فحصت راياته بالكوفة- تارة حين شخص بنفسه إلى العراق و قتل مصعبا- و تارة لما استخلف الأمراء على الكوفة- كبشر بن مروان أخيه و غيره- حتى انتهى الأمر إلى الحجاج- و هو زمان اشتداد شكيمة عبد الملك و ثقل وطأته- و حينئذ صعب الأمر جدا- و تفاقمت الفتن مع الخوارج و عبد الرحمن بن الأشعث- فلما كمل أمر عبد الملك- و هو معنى أينع زرعه هلك- و عقدت رايات الفتن المعضلة من بعده- كحروب أولاده مع بني المهلب- و كحروبهم مع زيد بن علي ع- و كالفتن الكائنة بالكوفة أيام يوسف بن عمر- و خالد القسري و عمر بن هبيرة و غيرهم- و ما جرى فيها من الظلم و استئصال الأموال- و ذهاب النفوس- .

و قد قيل إنه كنى عن معاوية- و ما حدث في أيامه من الفتن- و ما حدث بعده من فتنة يزيد و عبيد الله بن زياد- و واقعة الحسين ع- و الأول أرجح- لأن معاوية في أيام أمير المؤمنين ع- كان قد نعق بالشام و دعاهم إلى نفسه- و الكلام يدل على إنسان ينعق فيما بعد- أ لا تراه يقول لكأني أنظر إلى ضليل- قد نعق بالشام- ثم نعود إلى تفسير الألفاظ و الغريب- . النعيق صوت الراعي بغنمه و فحص براياته- من قولهم ما له مفحص قطاة أي مجثمها- كأنهم جعلوا ضواحي الكوفة مفحصا و مجثما لراياتهم- .

و كوفان اسم الكوفة- و الكوفة في الأصل اسم الرملة الحمراء- و بها سميت الكوفة- و ضواحيها نواحيها القريبة منها البارزة عنها- يريد رستاقها- . و فغرت فاغرته فتح فاه- و هذا من باب الاستعارة أي إذا فتك فتح فاه و قتل- كما يفتح الأسد فاه عند الافتراس و التأنيف للفتنة- . و الشكيمة في الأصل- حديدة معترضة في اللجام في فم الدابة- ثم قالوا فلان شديد الشكيمة- إذا كان شديد المراس شديد النفس عسر الانقياد- .

و ثقلت وطأته عظم جوره و ظلمه- و كلوح الأيام عبوسها- و الكدوح الآثار من الجراحات- . و القروح الواحد الكدح أي الخدش- . و المراد من قوله من الأيام- ثم قال و من الليالي- أن هذه الفتنة مستمرة الزمان كله- لأن الزمان ليس إلا النهار و الليل- . و أينع الزرع أدرك و نضج- و هو الينع و الينع بالفتح و الضم- مثل النضج و النضج-و يجوز ينع الزرع بغير همز ينع ينوعا- و لم تسقط الياء في المضارع لأنها تقوت بأختها- و زرع ينيع و يانع مثل نضيج و ناضج- و قد روي أيضا هذا الموضع بحذف الهمز- .

و قوله ع و قام على ينعه- الأحسن أن يكون ينع هاهنا جمع يانع- كصاحب و صحب- ذكر ذلك ابن كيسان و يجوز أن يكون أراد المصدر- أي و قام على صفة و حالة هي نضجه و إدراكه- . و هدرت شقاشقه- قد مر تفسيره في الشقشقية- و برقت بوارقه سيوفه و رماحه- و المعضلة العسرة العلاج داء معضل- . و يخرق الكوفة يقطعها- و القاصف الريح القوية- تكسر كل ما تمر عليه و تقصفه- .

ثم وعد ع بظهور دولة أخرى- فقال و عن قليل تلتف القرون بالقرون- و هذا كناية عن الدولة العباسية- التي ظهرت على دولة بني أمية- و القرون الأجيال من الناس واحدها قرن بالفتح- .و يحصد القائم و يحطم المحصود- كناية عن قتل الأمراء من بني أمية في الحرب- ثم قتل المأسورين منهم صبرا- فحصد القائم قتل المحاربة- و حطم الحصيد القتل صبرا- و هكذا وقعت الحال مع عبد الله بن علي- و أبي العباس السفاح

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 7