نامه 29 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

الجزء السادس عشر

تتمة باب الكتب و الرسائل

بسم الله الرحمن الرحيم- الحمد لله الواحد العدل

29 و من كتاب له ع إلى أهل البصرة

وَ قَدْ كَانَ مِنِ انْتِشَارِ حَبْلِكُمْ وَ شِقَاقِكُمْ- مَا لَمْ تَغْبَوْا عَنْهُ- فَعَفَوْتُ عَنْ مُجْرِمِكُمْ وَ رَفَعْتُ السَّيْفَ عَنْ مُدْبِرِكُمْ- وَ قَبِلْتُ مِنْ مُقْبِلِكُمْ- فَإِنْ خَطَتْ بِكُمُ الْأُمُورُ الْمُرْدِيَةُ- وَ سَفَهُ الآْرَاءِ الْجَائِرَةِ إِلَى مُنَابَذَتِي وَ خِلَافِي- فَهَأَنَذَا قَدْ قَرَّبْتُ جِيَادِي وَ رَحَلُتْ رِكَابِي- وَ لَئِنْ أَلْجَأْتُمُونِي إِلَى الْمَسِيرِ إِلَيْكُمْ- لَأُوقِعَنَّ بِكُمْ وَقْعَةً- لَا يَكُونُ يَوْمُ الْجَمَلِ إِلَيْهَا إِلَّا كَلَعْقَةِ لَاعِقٍ- مَعَ أَنِّي عَارِفٌ لِذِي الطَّاعَةِ مِنْكُمْ فَضْلَهُ- وَ لِذِي النَّصِيحَةِ حَقَّهُ- غَيْرُ مُتَجَاوِزٍ مُتَّهَماً إِلَى بَرِيٍّ وَ لَا نَاكِثاً إِلَى وَفِيٍّ ما لم تغبوا عنه أي لم تسهوا عنه و لم تغفلوا- يقال غبيت عن الشي‏ء أغبي غباوة إذا لم يفطن- و غبي الشي‏ء علي كذلك إذا لم تعرفه- و فلان غبي على فعيل أي قليل الفطنة- و قد تغابى أي تغافل- يقول لهم قد كان من خروجكم يوم الجمل عن الطاعة-و نشركم حبل الجماعة- و شقاقكم لي ما لستم أغبياء عنه- فغفرت و رفعت السيف و قبلت التوبة و الإنابة- . و المدبر هاهنا الهارب و المقبل الذي لم يفر- لكن جاءنا فاعتذر و تنصل- .

ثم قال فإن خطت بكم الأمور- خطا فلان خطوة يخطو و هو مقدار ما بين القدمين- فهذا لازم فإن عديته- قلت أخطيت بفلان و خطوت به و هاهنا قد عداه بالباء- . و المردية المهلكة و الجائرة العادلة عن الصواب- و المنابذة مفاعلة من نبذت إليه عهده- أي ألقيته و عدلت عن السلم إلى الحرب- أو من نبذت زيدا أي أطرحته و لم أحفل به- . قوله قربت جيادي- أي أمرت بتقريب خيلي إلى لأركب و أسير إليكم- . و رحلت ركابي الركاب الإبل- و رحلتها شددت على ظهورها الرحل- قال

رحلت سمية غدوة أجمالها
غضبى عليك فما تقول بدا لها

كلعقة لاعق مثل يضرب للشي‏ء الحقير التافه- و يروى بضم اللام و هي ما تأخذه الملعقة- . ثم عاد فقال مازجا الخشونة باللين- مع أني عارف فضل ذي الطاعة منكم- و حق ذي النصيحة- و لو عاقبت لما عاقبت البري‏ء بالسقيم- و لا أخذت الوفي بالناكث- . خطب زياد بالبصرة الخطبة الغراء المشهورة- و قال فيها و الله لآخذن البري‏ء بالسقيم- و البر باللئيم و الوالد بالولد و الجار بالجار- أو تستقيم إلي قناتكم- فقام أبو بلال مرداس‏ابن أدية يهمس- و هو حينئذ شيخ كبير- فقال أيها الأمير أنبأنا الله بخلاف ما قلت- و حكم بغير ما حكمت- قال سبحانه وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‏- فقال زياد يا أبا بلال إني لم أجهل ما علمت- و لكنا لا نخلص إلى الحق منكم- حتى نخوض إليه الباطل خوضا- . و في رواية الرياشي لآخذن الولي بالولي- و المقيم بالظاعن و المقبل بالمدبر و الصحيح بالسقيم- حتى يلقى الرجل منكم أخاه- فيقول انج سعد فقد هلك سعيد- أو تستقيم لي قناتكم

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 16

 

نامه 28 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

28 و من كتاب له ع إلى معاوية جوابا 

و هو من محاسن الكتب- : أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ أَتَانِي كِتَابُكَ- تَذْكُرُ فِيهِ اصْطِفَاءَ اللَّهِ مُحَمَّداً ص لِدِينِهِ- وَ تَأْيِيدَهُ إِيَّاهُ لِمَنْ أَيَّدَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ- فَلَقَدْ خَبَّأَ لَنَا الدَّهْرُ مِنْكَ عَجَباً- إِذْ طَفِقْتَ تُخْبِرُنَا بِبَلَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا- وَ نِعْمَتِهِ عَلَيْنَا فِي نَبِيِّنَا- فَكُنْتَ فِي ذَلِكَ كَنَاقِلِ التَّمْرِ إِلَى هَجَرَ- أَوْ دَاعِي مُسَدِّدِهِ إِلَى النِّضَالِ- وَ زَعَمْتَ أَنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ فِي الْإِسْلَامِ فُلَانٌ وَ فُلَانٌ- فَذَكَرْتَ أَمْراً إِنْ تَمَّ اعْتَزَلَكَ كُلُّهُ- وَ إِنْ نَقَصَ لَمْ يَلْحَقْكَ ثَلْمُهُ- وَ مَا أَنْتَ وَ الْفَاضِلَ وَ الْمَفْضُولَ وَ السَّائِسَ وَ الْمَسُوسَ- وَ مَا لِلطُّلَقَاءِ وَ أَبْنَاءِ الطُّلَقَاءِ- وَ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ- وَ تَرْتِيبَ دَرَجَاتِهِمْ وَ تَعْرِيفَ طَبَقَاتِهِمْ- هَيْهَاتَ لَقَدْ حَنَّ قِدْحٌ لَيْسَ مِنْهَا- وَ طَفِقَ يَحْكُمُ فِيهَا مَنْ عَلَيْهِ الْحُكْمُ لَهَا- أَ لَا تَرْبَعُ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ عَلَى ظَلْعِكَ- وَ تَعْرِفُ قُصُورَ ذَرْعِكَ- وَ تَتَأَخَّرُ حَيْثُ أَخَّرَكَ الْقَدَرُ- فَمَا عَلَيْكَ غَلَبَةُ الْمَغْلُوبِ وَ لَا ظَفَرُ الظَّافِرِ- فَإِنَّكَ لَذَهَّابٌ فِي التِّيهِ رَوَّاغٌ عَنِ الْقَصْدِ- أَ لَا تَرَى غَيْرَ مُخْبِرٍ لَكَ- وَ لَكِنْ بِنِعْمَةِ اللَّهِ أُحَدِّثُ- أَنَّ قَوْماً اسْتُشْهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَ الْأَنْصَارِ- وَ لِكُلٍّ فَضْلٌ- حَتَّى إِذَا اسْتُشْهِدَ شَهِيدُنَا قِيلَ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ- وَ خَصَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ص بِسَبْعِينَ تَكْبِيرَةً عِنْدَ صَلَاتِهِ عَلَيْهِ-أَ وَ لَا تَرَى أَنَّ قَوْماً قُطِّعَتْ أَيْدِيهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ- وَ لِكُلٍّ فَضْلٌ- حَتَّى إِذَا فُعِلَ بِوَاحِدِنَا مَا فُعِلَ بِوَاحِدِهِمْ- قِيلَ الطَّيَّارُ فِي الْجَنَّةِ وَ ذُو الْجَنَاحَيْنِ- وَ لَوْ لَا مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ تَزْكِيَةِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ- لَذَكَرَ ذَاكِرٌ فَضَائِلَ جَمَّةً تَعْرِفُهَا قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ- وَ لَا تَمُجُّهَا آذَانُ السَّامِعِينَ- فَدَعْ عَنْكَ مَنْ مَالَتْ بِهِ الرَّمِيَّةُ- فَإِنَّا صَنَائِعُ رَبِّنَا وَ النَّاسُ بَعْدُ صَنَائِعُ لَنَا- لَمْ يَمْنَعْنَا قَدِيمُ عِزِّنَا- وَ لَا عَادِيُّ طَوْلِنَا عَلَى قَوْمِكَ أَنْ خَلَطْنَاكُمْ بِأَنْفُسِنَا- فَنَكَحْنَا وَ أَنْكَحْنَا- فِعْلَ الْأَكْفَاءِ وَ لَسْتُمْ هُنَاكَ- وَ أَنَّى يَكُونُ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَ مِنَّا النَّبِيُّ وَ مِنْكُمُ الْمُكَذِّبُ- وَ مِنَّا أَسَدُ اللَّهِ وَ مِنْكُمْ أَسَدُ الْأَحْلَافِ- وَ مِنَّا سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَ مِنْكُمْ صِبْيَةُ النَّارِ- وَ مِنَّا خَيْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ وَ مِنْكُمْ حَمَّالَةُ الْحَطَبِ- فِي كَثِيرٍ مِمَّا لَنَا وَ عَلَيْكُمْ- فَإِسْلَامُنَا مَا قَدْ سُمِعَ وَ جَاهِلِيَّتُنَا لَا تُدْفَعُ- وَ كِتَابُ اللَّهِ يَجْمَعُ لَنَا مَا شَذَّ عَنَّا- وَ هُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى- وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى‏ بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ- وَ قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ- وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا- وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ- فَنَحْنُ مَرَّةً أَوْلَى بِالْقَرَابَةِ وَ تَارَةً أَوْلَى بِالطَّاعَةِ- وَ لَمَّا احْتَجَّ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى الْأَنْصَارِ- يَوْمَ السَّقِيفَةِ بِرَسُولِ اللَّهِ ص فَلَجُوا عَلَيْهِمْ- فَإِنْ يَكُنِ الْفَلَجُ بِهِ فَالْحَقُّ لَنَا دُونَكُمْ- وَ إِنْ يَكُنْ بِغَيْرِهِ فَالْأَنْصَارُ عَلَى دَعْوَاهُمْ- وَ زَعَمْتَ أَنِّي لِكُلِّ الْخُلَفَاءِ حَسَدْتُ وَ عَلَى كُلِّهِمْ بَغَيْتُ- فَإِنْ يَكُنْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَيْسَتِ الْجِنَايَةُ عَلَيْكَ- فَيَكُونَ الْعُذْرُ إِلَيْكَ-وَ تِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا-

وَ قُلْتَ إِنِّي كُنْتُ أُقَادُ- كَمَا يُقَادُ الْجَمَلُ الْمَخْشُوشُ حَتَّى أُبَايِعَ- وَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ أَرَدْتَ أَنْ تَذُمَّ فَمَدَحْتَ- وَ أَنْ تَفْضَحَ فَافْتَضَحْتَ- وَ مَا عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْ غَضَاضَةٍ فِي أَنْ يَكُونَ مَظْلُوماً- مَا لَمْ يَكُنْ شَاكّاً فِي دِينِهِ وَ لَا مُرْتَاباً بِيَقِينِهِ- وَ هَذِهِ حُجَّتِي إِلَى غَيْرِكَ قَصْدُهَا- وَ لَكِنِّي أَطْلَقْتُ لَكَ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا سَنَحَ مِنْ ذِكْرِهَا- ثُمَّ ذَكَرْتَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِي وَ أَمْرِ عُثْمَانَ- فَلَكَ أَنْ تُجَابَ عَنْ هَذِهِ لِرَحِمِكَ مِنْهُ- فَأَيُّنَا كَانَ أَعْدَى لَهُ وَ أَهْدَى إِلَى مَقَاتِلِهِ أَ مَنْ بَذَلَ لَهُ نُصْرَتَهُ فَاسْتَقْعَدَهُ وَ اسْتَكَفَّهُ- أَمَّنِ اسْتَنْصَرَهُ فَتَرَاخَى عَنْهُ وَ بَثَّ الْمَنُونَ إِلَيْهِ- حَتَّى أَتَى قَدَرُهُ عَلَيْهِ- كَلَّا وَ اللَّهِ لَقَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ- وَ الْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا- وَ لَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا- . وَ مَا كُنْتُ لِأَعْتَذِرَ مِنْ أَنِّي كُنْتُ أَنْقِمُ عَلَيْهِ أَحْدَاثاً- فَإِنْ كَانَ الذَّنْبُ إِلَيْهِ إِرْشَادِي وَ هِدَايَتِي لَهُ- فَرُبَّ مَلُومٍ لَا ذَنْبَ لَهُ- وَ قَدْ يَسْتَفِيدُ الظِّنَّةَ الْمُتَنَصِّحُ‏- وَ مَا أَرَدْتُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ- وَ مَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيْبُ- وَ ذَكَرْتَ أَنَّهُ لَيْسَ لِي وَ لِأَصْحَابِي عِنْدَكَ إِلَّا السَّيْفُ- فَلَقَدْ أَضْحَكْتَ بَعْدَ اسْتِعْبَارٍ- مَتَى أَلْفَيْتَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَنِ الْأَعْدَاءِ نَاكِلِينَ- وَ بِالسَّيْفِ مُخَوَّفِينَ-فَلَبِّثْ قَلِيلًا يَلْحَقِ الْهَيْجَا حَمَلْ‏- فَسَيَطْلُبُكَ مَنْ تَطْلُبُ- وَ يَقْرُبُ مِنْكَ مَا تَسْتَبْعِدُ- وَ أَنَا مُرْقِلٌ نَحْوَكَ فِي جَحْفَلٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَ الْأَنْصَارِ- وَ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ- شَدِيدٍ زِحَامُهُمْ سَاطِعٍ قَتَامُهُمْ- مُتَسَرْبِلِينَ سَرَابِيلَ الْمَوْتِ- أَحَبُّ اللِّقَاءِ إِلَيْهِمْ لِقَاءُ رَبِّهِمْ- وَ قَدْ صَحِبَتْهُمْ ذُرِّيَّةٌ بَدْرِيَّةٌ وَ سُيُوفٌ هَاشِمِيَّةٌ- قَدْ عَرَفْتَ مَوَاقِعَ نِصَالِهَا- فِي أَخِيكَ وَ خَالِكَ وَ جَدِّكَ وَ أَهْلِكَ- وَ مَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ

كتاب لمعاوية إلى علي 

سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد- فقلت أرى هذا الجواب منطبقا على كتاب معاوية- الذي بعثه مع أبي مسلم الخولاني إلى علي ع- فإن كان هذا هو الجواب- فالجواب الذي ذكره أرباب السيرة- و أورده نصر بن مزاحم في كتاب صفين إذن غير صحيح- و إن كان ذلك الجواب فهذا الجواب إذن غير صحيح و لا ثابت- فقال لي بل كلاهما ثابت مروي- و كلاهما كلام أمير المؤمنين ع و ألفاظه- ثم أمرني أن أكتب ما عليه علي ع فكتبته- قال رحمه الله- كان معاوية يتسقط عليا- و ينعى عليه ما عساه يذكره من حال أبي بكر و عمر- و أنهما غصباه حقه- و لا يزال يكيده بالكتاب يكتبه- و الرسالة يبعثها يطلب غرته- لينفث بما في صدره من حال أبي بكر و عمر- إما مكاتبة أو مراسلة- فيجعل ذلك حجة عليه عند أهل الشام- و يضيفه إلى ما قرره في أنفسهم من ذنوبه كما زعم- فقد كان غمصه عندهم بأنه قتل عثمان و مالأ على قتله- و أنه قتل طلحة و الزبير- و أسر عائشة و أراق دماء أهل البصرة- و بقيت خصلة واحدة- و هو أن يثبت عندهم أنه يتبرأ من أبي بكر و عمر- و ينسبهما إلى الظلم و مخالفة الرسول في أمر الخلافة- و أنهما وثبا عليها غلبة و غصباه إياها- فكانت هذه الطامة الكبرى- ليست مقتصرة على فساد أهل الشام عليه- بل و أهل العراق الذين هم جنده و بطانته و أنصاره- لأنهم كانوا يعتقدون إمامة الشيخين- إلا القليل الشاذ من خواص الشيعة- فلما كتب ذلك الكتاب مع أبي مسلم الخولاني- قصد أن يغضب عليا- و يحرجه و يحوجه إذا قرأ ذكر أبي بكر- و أنه أفضل المسلمين- إلى أن يخلط خطه في الجواب بكلمة تقتضي طعنا في أبي بكر- فكان الجواب مجمجما غير بين- ليس فيه تصريح بالتظليم لهما- و لا التصريح ببراءتهما- و تارة يترحم عليهما- و تارة يقول أخذا حقي و قد تركته لهما- فأشار عمرو بن العاص على معاوية-

أن يكتب كتابا ثانيا مناسبا للكتاب الأول- ليستفزا فيه عليا ع و يستخفاه- و يحمله الغضب منه- أن يكتب كلاما يتعلقان به- في تقبيح حاله و تهجين مذهبه- و قال له عمرو إن عليا ع رجل نزق تياه- و ما استطعمت منه الكلام بمثل تقريظ أبي بكر و عمر- فاكتب فكتب كتابا- أنفذه إليه مع أبي أمامة الباهلي و هو من الصحابة- بعد أن عزم على بعثته مع أبي الدرداء- و نسخة الكتاب- من عبد الله معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب- أما بعد- فإن الله تعالى جده اصطفى محمدا ع لرسالته- و اختصه بوحيه و تأدية شريعته- فأنقذ به من العماية و هدى به من الغواية- ثم قبضه إليه رشيدا حميدا- قد بلغ الشرع و محق الشرك و أخمد نار الإفك- فأحسن الله جزاءه و ضاعف عليه نعمه و آلاءه- ثم إن الله سبحانه اختص محمدا ع بأصحاب أيدوه- و آزروه و نصروه و كانوا كما قال الله سبحانه لهم- أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ- فكان أفضلهم مرتبة و أعلاهم عند الله و المسلمين منزلة- الخليفة الأول الذي جمع الكلمة- و لم الدعوة و قاتل أهل الردة- ثم الخليفة الثاني الذي فتح الفتوح- و مصر الأمصار و أذل رقاب المشركين- ثم الخليفة الثالث المظلوم الذي نشر الملة- و طبق الآفاق بالكلمة الحنيفية- . فلما استوثق الإسلام و ضرب بجرانه عدوت عليه- فبغيته الغوائل و نصبت له المكايد- و ضربت له بطن الأمر و ظهره- و دسست عليه و أغريت به- و قعدت حيث استنصرك عن نصره- و سألك أن تدركه قبل أن يمزق فما أدركته- و ما يوم المسلمين منك بواحد- .

لقد حسدت أبا بكر و التويت عليه- و رمت إفساد أمره و قعدت في بيتك- و استغويت عصابة من الناس حتى تأخروا عن بيعته- ثم كرهت خلافة عمر و حسدته- و استطلت مدته و سررت بقتله- و أظهرت الشماتة بمصابه- حتى إنك حاولت قتل ولده لأنه قتل قاتل أبيه- ثم لم تكن أشد منك حسدا لابن عمك عثمان- نشرت مقابحه و طويت محاسنه- و طعنت في فقهه ثم في دينه- ثم في سيرته ثم في عقله- و أغريت به السفهاء من أصحابك و شيعتك- حتى قتلوه بمحضر منك لا تدفع عنه بلسان و لا يد- و ما من هؤلاء إلا من بغيت عليه و تلكأت في بيعته- حتى حملت إليه قهرا- تساق بخزائم الاقتسار كما يساق الفحل المخشوش- ثم نهضت الآن تطلب الخلافة- و قتلة عثمان خلصاؤك و سجراؤك و المحدقون بك- و تلك من أماني النفوس و ضلالات الأهواء- .

فدع اللجاج و العبث جانبا- و ادفع إلينا قتلة عثمان- و أعد الأمر شورى بين المسلمين- ليتفقوا على من هو لله رضا- فلا بيعة لك في أعناقنا و لا طاعة لك علينا- و لا عتبى لك‏ عندنا- و ليس لك و لأصحابك عندي إلا السيف- و الذي لا إله إلا هو- لأطلبن قتلة عثمان أين كانوا و حيث كانوا- حتى أقتلهم أو تلتحق روحي بالله- .

فأما ما لا تزال تمن به من سابقتك و جهادك- فإني وجدت الله سبحانه يقول- يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا- قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ- أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ- و لو نظرت في حال نفسك- لوجدتها أشد الأنفس امتنانا على الله بعملها- و إذا كان الامتنان على السائل يبطل أجر الصدقة- فالامتنان على الله يبطل أجر الجهاد- و يجعله ك صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ- فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً- لا يَقْدِرُونَ عَلى‏ شَيْ‏ءٍ مِمَّا كَسَبُوا- وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ- .

قال النقيب أبو جعفر- فلما وصل هذا الكتاب إلى علي ع- مع أبي أمامة الباهلي- كلم أبا أمامة بنحو مما كلم به أبا مسلم الخولاني- و كتب معه هذا الجواب- . قال النقيب و في كتاب معاوية هذا- ذكر لفظ الجمل المخشوش أو الفحل المخشوش- لا في الكتاب الواصل مع أبي مسلم- و ليس في ذلك هذه اللفظة- و إنما فيه حسدت الخلفاء و بغيت عليهم- عرفنا ذلك من نظرك الشزر و قولك الهجر- و تنفسك الصعداء و إبطائك عن الخلفاء- . قال و إنما كثير من الناس لا يعرفون الكتابين- و المشهور عندهم كتاب أبي مسلم- فيجعلون هذه اللفظة فيه- و الصحيح أنها في كتاب أبي أمامة- أ لا تراها عادت‏ في جوابه- و لو كانت في كتاب أبي مسلم لعادت في جوابه- . انتهى كلام النقيب أبي جعفر و نحن الآن مبتدءون في شرح ألفاظ الجواب المذكور- .

قوله فلقد خبأ لنا الدهر منك عجبا- موضع التعجب إن معاوية يخبر عليا ع- باصطفاء الله تعالى محمدا و تشريفه له و تأييده له- و هذا ظريف- لأنه يجري كإخبار زيد عمرا عن حال عمرو- إذ كان النبي ص و علي ع- كالشي‏ء الواحد- و خبأ مهموز و المصدر الخب‏ء- و منه الخابية و هي الخب‏ء إلا أنهم تركوا همزها- و الخب‏ء أيضا و الخبي‏ء على فعيل ما خبئ- . و بلاء الله تعالى إنعامه و إحسانه- . و قوله ع كناقل التمر إلى هجر- مثل قديم- و هجر اسم مدينة لا ينصرف للتعريف و التأنيث- و قيل هو اسم مذكر مصروف- و أصل المثل كمستبضع تمر إلى هجر- و النسبة إليه هاجري على غير قياس- و هي بلدة كثيرة النخل يحمل منها التمر إلى غيرها- قال الشاعر في هذا المعنى-
أهدي له طرف الكلام كما يهدى لوالي البصرة التمر- .

قوله و داعي مسدده إلى النضال أي معلمه الرمي- و هذا إشارة إلى قول القائل الأول-أعلمه الرماية كل يوم فلما استد ساعده رماني‏- . هكذا الرواية الصحيحة بالسين المهملة- أي استقام ساعده على الرمي- و سددت فلانا علمته النضال- و سهم سديد مصيب- و رمح سديد أي قل أن تخطئ طعنته- و قد ظرف القاضي الأرجاني في قوله لسديد الدولة- محمد بن عبد الكريم الأنباري كاتب الإنشاء-

إلى الذي نصب المكارم للورى
غرضا يلوح من المدى المتباعد

نثل الأماثل من كنانته فما
وجدت يداه سوى سديد واحد

و من الأمثال في هذا المعنى سمن كلبك يأكلك- و منها أحشك و تروثني- . قوله ع- و زعمت أن أفضل الناس في الإسلام فلان و فلان- أي أبو بكر و عمر- . قوله ع فذكرت أمرا إن تم اعتزلك كله- و إن نقص لم يلحقك ثلمه من هذا المعنى قول الفرزدق لجرير- و قد كان جرير في مهاجاته إياه يفخر عليه بقيس عيلان- فقد كانت لجرير في قيس خئولة- يعيره بأيامهم على بني تميم- فلما قتل بنو تميم قتيبة بن مسلم الباهلي بخراسان- قال الفرزدق يفتخر

أتاني و أهلي بالمدينة وقعة
لآل تميم أقعدت كل قائم‏

كان رءوس الناس إذ سمعوا
بها مشدخة هاماتها بالأمائم‏

و ما بين من لم يؤت سمعا و طاعة
و بين تميم غير جز الحلاقم‏

ثم خرج إلى خطاب جرير بعد أبيات تركنا ذكرها- فقال

أ تغضب إن أذنا قتيبة جزتا
جهارا و لم تغضب لقتل ابن حازم‏

و ما منهما إلا نقلنا دماغه‏
إلى الشام فوق الشاحجات الرواسم‏

تذبذب في المخلاة تحت بطونها
محذفة الأذناب جلح المقادم‏

و ما أنت من قيس فتنبح دونها
و لا من تميم في الرءوس الأعاظم‏

تخوفنا أيام قيس و لم تدع
لعيلان أنفا مستقيم الخياشم‏

لقد شهدت قيس فما كان نصرها
قتيبة إلا عضها بالأباهم‏

فقوله

و ما أنت من قيس فتنبح دونها- هو معنى قول علي ع لمعاوية- فذكرت أمرا إن تم اعتزلك كله- و ابن حازم المذكور في الشعر هو عبد الله بن حازم- من بني سليم- و سليم من قيس عيلان و قتلته تميم أيضا- و كان والي خراسان- . قوله ع و ما أنت و الفاضل و المفضول- الرواية المشهورة بالرفع- و قد رواها قوم بالنصب- فمن رفع احتج بقوله و ما أنت و بيت أبيك و الفخر- . و بقوله فما القيسي بعدك و الفخارو من نصب فعلى تأويل مالك و الفاضل- و في ذلك معنى الفعل أي ما تصنع- لأن‏هذا الباب لا بد أن يتضمن الكلام فيه فعلا- أو معنى فعل- و أنشدوا

فما أنت و السير في متلف‏

– و الرفع عند النحويين أولى- . ثم قال و ما للطلقاء و أبناء الطلقاء و التمييز- النصب هاهنا لا غير لأجل اللام في الطلقاء- . ثم قال ع بين المهاجرين الأولين- و ترتيب درجاتهم و تعريف طبقاتهم- هذا الكلام ينقض ما يقول من يطعن في السلف- فإن أمير المؤمنين ع أنكر على معاوية- تعرضه بالمفاضلة بين أعلام المهاجرين- و لم يذكر معاوية إلا للمفاضلة بينه ع- و بين أبي بكر و عمر- فشهادة أمير المؤمنين ع بأنهما من المهاجرين الأولين- و من ذوي الدرجات و الطبقات- التي اشتبه الحال بينهما و بينه ع- في أي الرجال منهم أفضل- و أن قدر معاوية يصغر أن يدخل نفسه في مثل ذلك- شهادة قاطعة على علو شأنهما و عظم منزلتهما- . قوله ع هيهات- لقد حن قدح ليس منها- هذا مثل يضرب لمن يدخل نفسه بين قوم ليس له أن يدخل بينهم- و أصله القداح من عود واحد يجعل فيها قدح من غير ذلك الخشب- فيصوت بينها إذا أرادها المفيض- فذلك الصوت هو حنينه- .

قوله و طفق يحكم فيها من عليه الحكم لها- أي و طفق يحكم في هذه القصة أو في هذه القضية من يجب أن يكون الحكم لها عليه لا له فيها- و يجوز أن يكون الضمير يرجع إلى الطبقات- . ثم قال أ لا تربع أيها الإنسان على ظلعك- أي أ لا ترفق بنفسك و تكف- و لا تحمل عليها ما لا تطيقه- و الظلع مصدر ظلع البعير يظلع أي غمز في مشيه- . قوله و تعرف قصور ذرعك أصل الذرع بسط اليد- يقال ضقت به ذرعا أي ضاق ذرعي به- فنقلوا الاسم من الفاعلية فجعلوه منصوبا على التمييز- كقولهم طبت به نفسا- . قوله و تتأخر حيث أخرك القدر- مثل قولك ضع نفسك حيث وضعها الله- يقال ذلك لمن يرفع نفسه فوق استحقاقه- .

ثم قال فما عليك غلبة المغلوب- و لا عليك ظفر الظافر- يقول و ما الذي أدخلك بيني و بين أبي بكر و عمر- و أنت من بني أمية لست هاشميا و لا تيميا و لا عدويا- هذا فيما يرجع إلى أنسابنا- و لست مهاجرا و لا ذا قدم في الإسلام- فتزاحم المهاجرين و أرباب السوابق بأعمالك و اجتهادك- فإذن لا يضرك غلبة الغالب منا و لا يسرك ظفر الظافر- و يروى أن مروان بن الحكم كان ينشد يوم مرج راهط- و الرءوس تندر عن كواهلها بينه و بين الضحاك بن قيس الفهري- و ما ضرهم غير حين النفوس أي غلامي قريش غلب‏- .

قوله ع و إنك لذهاب في التيه- رواغ عن القصد- يحتمل قوله ع في التيه معنيين- أحدهما بمعنى الكبر- و الآخر التيه من قولك تاه فلان في البيداء- و منه قوله تعالى فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً- يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ- و هذا الثاني أحسن-يقول إنك شديد الإيغال في الضلال- و ذهاب فعال للتكثير- و يقال أرض متيهة مثل معيشة أي يتاه فيها- . قال ع رواغ عن القصد- أي تترك ما يلزمك فعله- و تعدل عما يجب عليك أن تجيب عنه إلى حديث الصحابة- و ما جرى بعد موت النبي ص- و نحن إلى الكلام في غير هذا أحوج إلى الكلام في البيعة- و حقن الدماء و الدخول تحت طاعة الإمام- .

ثم قال أ لا ترى غير مخبر لك- و لكن بنعمة الله أحدث- أي لست عندي أهلا لأن أخبرك بذلك أيضا فإنك تعلمه- و من يعلم الشي‏ء لا يجوز أن يخبر به- و لكن أذكر ذلك لأنه تحدث بنعمة الله علينا- و قد أمرنا بأن نحدث بنعمته سبحانه- . قوله ع إن قوما استشهدوا في سبيل الله- المراد هاهنا سيد الشهداء حمزة رضي الله عنه- و ينبغي أن يحمل قول النبي ص فيه إنه سيد الشهداء- على أنه سيد الشهداء في حياة النبي ص- لأن عليا ع مات شهيدا- و لا يجوز أن يقال حمزة سيده- بل هو سيد المسلمين كلهم- و لا خلاف بين أصحابنا رحمهم الله- أنه أفضل من حمزة و جعفر رضي الله عنهما- و قد تقدم ذكر التكبير- الذي كبره رسول الله ص على حمزة في قصة أحد- . قوله ع و لكل فضل- أي و لكل واحد من هؤلاء فضل لا يجحد- .

قوله أ و لا ترى أن قوما قطعت أيديهم- هذا إشارة إلى جعفر و قد تقدم ذلك في قصة مؤتة- . قوله و لو لا ما نهى الله عنه- هذا إشارة إلى نفسه ع- .

قوله و لا تمجها آذان السامعين أي لا تقذفها- يقال مج الرجل من فيه أي قذفه- قوله ع فدع عنك من مالت به الرمية- يقال للصيد يرمي هذه الرمية- و هي فعيلة بمعنى مفعولة- و الأصل في مثلها ألا تلحقها الهاء- نحو كف خضيب و عين كحيل- إلا أنهم أجروها مجرى الأسماء لا النعوت- كالقصيدة و القطيعة- . و المعنى دع ذكر من مال إلى الدنيا و مالت به- أي أمالته إليها- . فإن قلت فهل هذا إشارة إلى أبي بكر و عمر- قلت ينبغي أن ينزه أمير المؤمنين ع عن ذلك- و أن تصرف هذه الكلمة إلى عثمان- لأن معاوية ذكره في كتابه و قد أوردناه- و إذا أنصف الإنسان من نفسه- علم أنه ع لم يكن يذكرهما بما يذكر به عثمان- فإن الحال بينه و بين عثمان كانت مضطربة جدا- . قال ع فإن صنائع ربنا- و الناس بعد صنائع لنا- هذا كلام عظيم عال على الكلام- و معناه عال على المعاني- و صنيعة الملك من يصطنعه الملك و يرفع قدره- .

يقول ليس لأحد من البشر علينا نعمة- بل الله تعالى هو الذي أنعم علينا- فليس بيننا و بينه واسطة- و الناس بأسرهم صنائعنا- فنحن الواسطة بينهم و بين الله تعالى- و هذا مقام جليل ظاهره ما سمعت- و باطنه أنهم عبيد الله و أن الناس عبيدهم- . ثم قال لم يمنعنا قديم عزنا و عادي طولنا- الطول الفضل و عادي أي قديم بئر عادية- . قوله على قومك أن خلطناهم بأنفسنا- فنكحنا و أنكحنا فعل الأكفاء و لستم هناك- يقول تزوجنا فيكم و تزوجتم فينا كما يفعل الأكفاء- و لستم أكفاءنا- و ينبغي أن يحمل قوله قديم و عادي على مجازه- لا على حقيقته- لأن بني هاشم و بني أمية لم يفترقا في الشرف- إلا مذ نشأ هاشم بن عبد مناف و عرف بأفعاله و مكارمه- و نشأ حينئذ أخوه عبد شمس و عرف بمثل ذلك- و صار لهذا بنون و لهذا بنون- و ادعى كل من الفريقين‏ أنه أشرف بالفعال من الآخر- ثم لم تكن المدة بين نش‏ء هاشم و إظهار محمد ص الدعوة- إلا نحو تسعين سنة- و مثل هذه المدة القصيرة- لا يقال فيها قديم عزنا و عادي طولنا- فيجب أن يحمل اللفظ على مجازه- لأن الأفعال الجميلة كما تكون عادية بطول المدة- تكون بكثرة المناقب و المآثر و المفاخر- و إن كانت المدة قصيرة- و لفظة قديم ترد و لا يراد بها قدم الزمان- بل من قولهم لفلان قدم صدق و قديم أثر أي سابقة حسنة

مناكحات بني هاشم و بني عبد شمس 

و ينبغي أن نذكرها هاهنا مناكحات بني هاشم و بني عبد شمس- زوج رسول الله ص ابنتيه رقية و أم كلثوم- من عثمان بن عفان بن أبي العاص- و زوج ابنته زينب من أبي العاص بن الربيع- بن عبد العزى بن عبد شمس في الجاهلية- و تزوج أبو لهب بن عبد المطلب أم جميل بنت حرب بن أمية- في الجاهلية- و تزوج رسول الله ص أم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب- و تزوج عبد الله بن عمرو بن عثمان فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب ع- . و روى شيخنا أبو عثمان- عن إسحاق بن عيسى بن علي بن عبد الله بن العباس قال- قلت للمنصور أبي جعفر من أكفاؤنا- فقال أعداؤنا فقلت من هم فقال بنو أمية- . و قال إسحاق بن سليمان بن علي- قلت للعباس بن محمد- إذا اتسعنا من البنات و ضقنا من البنين- و خفنا بوار الأيامى فإلى من نخرجهن من قبائل قريش- فأنشدني

عبد شمس كان يتلو ها
شما و هما بعد لأم و لأب‏

فعرفت ما أراد و سكتت- . و روى أيوب بن جعفر بن سليمان- قال سألت الرشيد عن ذلك- فقال زوج النبي ص بني عبد شمس فأحمد صهرهم- و قال ما ذممنا من صهرنا- فإنا لا نذم صهر أبي العاص بن الربيع- . قال شيخنا أبو عثمان و لما ماتت الابنتان تحت عثمان- قال النبي ص لأصحابه- ما تنتظرون بعثمان- أ لا أبو أيم أ لا أخو أيم زوجته ابنتين- و لو أن عندي ثالثة لفعلت – قال و لذلك سمي ذا النورين ثم قال ع و أنى يكون ذلك- أي كيف يكون شرفكم كشرفنا- و منا النبي و منكم المكذب- يعني أبا سفيان بن حرب كان عدو رسول الله- و المكذب له و المجلب عليه- و هؤلاء ثلاثة بإزاء أبي سفيان رسول الله ص- و معاوية بإزاء علي ع و يزيد بإزاء الحسين ع- بينهم من العداوة ما لا تبرك عليه الإبل- .

قال و منا أسد الله يعني حمزة- و منكم أسد الأحلاف يعني عتبة بن ربيعة- و قد تقدم شرح ذلك في قصة بدر- . و قال الراوندي- المكذب من كان يكذب رسول الله ص- عنادا من قريش- و أسد الأحلاف أسد بن عبد العزى- قال لأن بني أسد بن عبد العزى كانوا أحد البطون- الذين اجتمعوا في حلف المطيبين- و هم بنو أسد بن عبد العزى و بنو عبد مناف- و بنو تميم بن مرة و بنو زهرة و بنو الحارث بن فهر- و هذا كلام طريف جدا- لأنه لم يلحظ أنه يجب أن يجعل بإزاء النبي ص مكذب-من بني عبد شمس- فقال المكذب من كذب النبي ص من قريش عنادا- و ليس كل من كذبه ع من قريش يعير معاوية به- ثم قال أسد الأحلاف أسد بن عبد العزى- و أي عار يلزم معاوية من ذلك- ثم إن بني عبد مناف كانوا في هذا الحلف- و علي و معاوية من بني عبد مناف- و لكن الراوندي يظلم نفسه بتعرضه لما لا يعلمه- .

قوله و منا سيدا شباب أهل الجنة- يعني حسنا و حسينا ع- و منكم صبية النار- هي الكلمة التي قالها النبي ص لعقبة بن أبي معيط- حين قتله صبرا يوم بدر- و قد قال كالمستعطف له ع- من للصبية يا محمد قال النار- . و عقبة بن أبي معيط من بني عبد شمس- و لم يعلم الراوندي ما المراد بهذه الكلمة- فقال صبية النار أولاد مروان بن الحكم- الذين صاروا من أهل النار عند البلوغ- و لما أخبر النبي ص عنهم بهذه الكلمة كانوا صبية- ثم ترعرعوا و اختاروا الكفر- و لا شبهة أن الراوندي قد كان يفسر من خاطره ما خطر له- .

قال قوله ع و منا خير نساء العالمين يعني فاطمة ع- نص رسول الله ص على ذلك لا خلاف فيه- . و منكم حمالة الحطب هي أم جميل بنت حرب بن أمية- امرأة أبي لهب الذي ورد نص القرآن فيها بما ورد- . قوله في كثير مما لنا و عليكم- أي أنا قادر على أن أذكر من هذا شيئا كثيرا- و لكني أكتفي بما ذكرت- . فإن قلت فبما ذا يتعلق في في قوله في كثير- قلت بمحذوف- تقديره هذا الكلام داخل في جملة كلام كثير- تتضمن ما لنا و عليكم- . قوله ع فإسلامنا ما قد سمع- و جاهليتنا لا تدفع- كلام قد تعلق به‏بعض من يتعصب للأموية- و قال لو كانت جاهلية بني هاشم في الشرف كإسلامهم- لعد من جاهليتهم حسب ما عد من فضيلتهم في الإسلام

فضل بني هاشم على بني عبد شمس 

و ينبغي أن نذكر في هذا الموضع فضل هاشم- على عبد شمس في الجاهلية- و قد يمتزج بذلك بعض ما يمتازون به في الإسلام أيضا- فإن استقصاءه في الإسلام كثير- لأنه لا يمكن جحد ذلك- و كيف و الإسلام كله عبارة عن محمد ص و هو هاشمي- و يدخل في ضمن ذلك ما يحتج به الأموية أيضا- فنقول إن شيخنا أبا عثمان قال- إن أشرف خصال قريش في الجاهلية اللواء و الندوة- و السقاية و الرفادة و زمزم و الحجابة- و هذه الخصال مقسومة في الجاهلية لبني هاشم- و عبد الدار و عبد العزى دون بني عبد شمس- . قال على أن معظم ذلك- صار شرفه في الإسلام إلى بني هاشم- لأن النبي ص لما ملك مكة صار مفتاح الكعبة بيده- فدفعه إلى عثمان بن طلحة- فالشرف راجع إلى من ملك المفتاح- لا إلى من دفع إليه- و كذلك دفع ص اللواء إلى مصعب بن عمير- فالذي دفع اللواء إليه و أخذه مصعب من يديه- أحق بشرفه و أولى بمجده- و شرفه راجع إلى رهطه من بني هاشم- . قال و كان محمد بن عيسى المخزومي أميرا على اليمن- فهجاه أبي بن مدلج- فقال

قل لابن عيسى المستغيث
من السهولة بالوعورة

الناطق العوراء في‏
جل الأمور بلا بصيرة

ولد المغيرة تسعة
كانوا صناديد العشيرة

و أبوك عاشرهم كما
نبتت مع النخل الشعيرة

إن النبوة و الخلافة
و السقاية و المشورة

في غيركم فاكفف
إليك يدا مجذمة قصيرة

قال فانبرى له شاعر- من ولد كريز بن حبيب بن عبد شمس- كان مع محمد بن عيسى باليمن- يهجو عنه ابن مدلج في كلمة له طويلة- قال فيها

لا لواء يعد يا ابن كريز لا
و لا رفد بيته ذي السناء

لا حجاب و ليس فيكم سوى الكبر
و بغض النبي و الشهداء

بين حاك و مخلج و طريد
و قتيل يلعنه أهل السماء

و لهم زمزم كذاك و جبريل‏
و مجد السقاية الغراء

قال شيخنا أبو عثمان فالشهداء علي و حمزة و جعفر- و الحاكي و المخلج هو الحكم بن أبي العاص- كان يحكي مشية رسول الله ص- فالتفت يوما فرآه فدعا عليه- فلم يزل مخلج المشية عقوبة من الله تعالى- و الطريد اثنان الحكم بن أبي العاص- و معاوية بن المغيرة بن أبي العاص- و هما جدا عبد الملك بن مروان من قبل أمه و أبيه- . و كان النبي ص طرد معاوية بن المغيرة هذا من المدينة- و أجله ثلاثا فحيره الله- و لم يزل يتردد في ضلاله- حتى بعث في أثره عليا ع و عمارا فقتلاه- فأما القتلى فكثير- نحو شيبة و عتبة ابني ربيعة- و الوليد بن عتبة و حنظلة بن أبي سفيان- و عقبة بن أبي معيط و العاص بن سعيد بن أمية- و معاوية بن المغيرة و غيرهم- قال أبو عثمان و كان اسم هاشم عمرا و هاشم لقب- و كان أيضا يقال له القمر- و في ذلك يقول مطرود الخزاعي-

إلى القمر الساري المنير دعوته
و مطعمهم في الأزل من قمع الجزر

قال ذلك في شي‏ء كان بينه و بين بعض قريش- فدعاه مطرود إلى المحاكمة إلى هاشم- و قال ابن الزبعرى

كانت قريش بيضة فتفلقت
فالمخ خالصة لعبد مناف‏

الرائشون و ليس يوجد رائش‏
و القائلون هلم للأضياف‏

عمرو العلي هشم الثريد لقومه
و رجال مكة مسنتون عجاف‏

فعم كما ترى أهل مكة بالأزل و العجف- و جعله الذي هشم لهم الخبز ثريدا- فغلب هذا اللقب على اسمه- حتى صار لا يعرف إلا به- و ليس لعبد شمس لقب كريم- و لا اشتق له من صالح أعماله اسم شريف- و لم يكن لعبد شمس ابن يأخذ بضبعه- و يرفع من قدره و يزيد في ذكره- و لهاشم عبد المطلب سيد الوادي غير مدافع- أجمل الناس جمالا- و أظهرهم جودا و أكملهم كمالا- و هو صاحب الفيل و الطير الأبابيل- و صاحب زمزم و ساقي الحجيج- و ولد عبد شمس أمية بن عبد شمس و أمية في نفسه ليس هناك- و إنما ذكر بأولاده و لا لقب له- و لعبد المطلب لقب شهير و اسم شريف شيبة الحمد- قال مطرود الخزاعي في مدحه

يا شيبة الحمد الذي تثني
له أيامه من خير ذخر الذاخر

المجد ما حجت قريش بيته‏
و دعا هذيل فوق غصن ناضر

و الله لا أنساكم و فعالكم
حتى أغيب في سفاه القابر

و قال حذافة بن غانم العدوي و هو يمدح أبا لهب- و يوصي ابنه خارجة بن حذافة- بالانتماء إلى بني هاشم

أ خارج إما أهلكن فلا تزل لهم
شاكرا حتى تغيب في القبر

بني شيبة الحمد الكريم فعاله
يضي‏ء ظلام الليل كالقمر البدر

لساقي الحجيج ثم للشيخ هاشم‏
و عبد مناف ذلك السيد الغمر

أبو عتبة الملقى إلي جواره
أغر هجان اللون من نفر غر

أبوكم قصي كان يدعى مجمعا
به جمع الله القبائل من فهر

فأبو عتبة هو أبو لهب- عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم- و ابناه عتبة و عتيبة و قال العبدي حين احتفل في الجاهلية فلم يترك-
لا ترى في الناس حيا مثلنا ما خلا أولاد عبد المطلب‏- . و إنما شرف عبد شمس بأبيه عبد مناف بن قصي- و بني ابنه أمية بن عبد شمس- و هاشم شرف بنفسه و بأبيه عبد مناف و بابنه عبد المطلب- و الأمر في هذا بين- و هو كما أوضحه الشاعر- في قوله إنما عبد مناف جوهر زين الجوهر عبد المطلب‏- .

قال أبو عثمان- و لسنا نقول إن عبد شمس لم يكن شريفا في نفسه- و لكن الشرف يتفاضل- و قد أعطى الله عبد المطلب في زمانه- و أجرى على يديه- و أظهر من كرامته ما لا يعرف مثله إلا لنبي مرسل- و إن في كلامه لأبرهة صاحب الفيل- و توعده إياه برب الكعبة- و تحقيق قوله من الله تعالى و نصره وعيده بحبس الفيل- و قتل أصحابه بالطير الأبابيل و حجارة السجيل- حتى تركوا كالعصف المأكول- لأعجب البرهانات و أسنى الكرامات- و إنما كان ذلك إرهاصا لنبوة النبي ص- و تأسيسا لما يريده الله به من الكرامة- و ليجعل ذلك البهاء متقدما له و مردودا عليه- و ليكون أشهر في الآفاق- و أجل في صدور الفراعنة و الجبابرة و الأكاسرة- و أجدر أن يقهر المعاند و يكشف غباوة الجاهل- و بعد فمن يناهض و يناضل رجالا ولدوا محمدا ص- و لو عزلناما أكرمه الله به من النبوة- حتى نقتصر على أخلاقه و مذاهبه و شيمه لما وفى به بشر- و لا عدله شي‏ء- و لو شئنا أن نذكر ما أعطى الله به عبد المطلب- من تفجر العيون و ينابيع الماء من تحت كلكل بعيره- و أخفافه بالأرض القسي- و بما أعطي من المساهمة و عند المقارعة من الأمور العجيبة- و الخصال البائنة لقلنا- و لكنا أحببنا ألا نحتج عليكم- إلا بالموجود في القرآن الحكيم- و المشهور في الشعر القديم- الظاهر على ألسنة الخاصة و العامة- و رواة الأخبار و حمال الآثار- .

قال- و مما هو مذكور في القرآن عدا حديث الفيل قوله تعالى- لِإِيلافِ قُرَيْشٍ- و قد اجتمعت الرواة- على أن أول من أخذ الإيلاف لقريش- هاشم بن عبد مناف- فلما مات قام أخوه المطلب مقامه- فلما مات قام عبد شمس مقامه- فلما مات قام نوفل مقامه و كان أصغرهم- و الإيلاف هو أن هاشما كان رجلا كثير السفر و التجارة- فكان يسافر في الشتاء إلى اليمن- و في الصيف إلى الشام- و شرك في تجارته رؤساء القبائل من العرب- و من ملوك اليمن و الشام- نحو العباهلة باليمن و اليكسوم من بلاد الحبشة- و نحو ملوك الروم بالشام- فجعل لهم معه ربحا فيما يربح- و ساق لهم إبلا مع إبله- فكفاهم مئونة الأسفار- على أن يكفوه مئونة الأعداء في طريقه و منصرفه- فكان في ذلك صلاح عام للفريقين- و كان المقيم رابحا و المسافر محفوظا- فأخصبت قريش بذلك و حملت معه أموالها- و أتاها الخير من البلاد السافلة و العالية- و حسنت حالها و طاب عيشها- قال و قد ذكر حديث الإيلاف الحارث بن الحنش السلمي- و هو خال هاشم و المطلب و عبد شمس- فقال

إن أخي هاشما ليس أخا واحد
الآخذ الإيلاف والقائم للقاعد

قال أبو عثمان- و قيل إن تفسير قوله تعالى وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ- هو خوف من كان هؤلاء الإخوة- يمرون به من القبائل و الأعداء و هم مغتربون- و معهم‏الأموال- و هذا ما فسرنا به الإيلاف آنفا- و قد فسره قوم بغير ذلك- قالوا إن هاشما جعل على رؤساء القبائل ضرائب- يؤدونها إليه ليحمي بها أهل مكة- فإن ذؤبان العرب و صعاليك الأحياء- و أصحاب الغارات و طلاب الطوائل- كانوا لا يؤمنون على الحرم- لا سيما و ناس من العرب كانوا لا يرون للحرم حرمة- و لا للشهر الحرام قدرا- مثل طيئ و خثعم و قضاعة و بعض بلحارث بن كعب- و كيفما كان الإيلاف- فإن هاشما كان القائم به دون غيره من إخوته- .

قال أبو عثمان ثم حلف الفضول و جلالته و عظمته- و هو أشرف حلف كان في العرب كلها- و أكرم عقد عقدته قريش في قديمها و حديثها قبل الإسلام- لم يكن لبني عبد شمس فيه نصيب- قال النبي ص و هو يذكر حلف الفضول لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا- لو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت – و يكفي في جلالته و شرفه- أن رسول الله ص شهده و هو غلام- و كان عتبة بن ربيعة يقول- لو أن رجلا خرج مما عليه قومه لداخلت في حلف الفضول- لما أرى من كماله و شرفه- و لما أعلم من قدره و فضيلته- .

قال و لفضل ذلك الحلف و فضيلة أهله سمي حلف الفضول- و سميت تلك القبائل الفضول- فكان هذا الحلف في بني هاشم و بني المطلب- و بني أسد بن عبد العزى- و بني زهرة و بني تميم بن مرة- تعاقدوا في دار ابن جدعان في شهر حرام قياما- يتماسحون بأكفهم صعدا ليكونن مع المظلوم- حتى يؤدوا إليه حقه ما بل بحر صوفة- و في التأسي في المعاش و التساهم بالمال- و كانت النباهة في هذا الحلف للزبير بن عبد المطلب- و لعبد الله بن جدعان- أما ابن جدعان فلأن الحلف عقد في داره- و أما الزبير فلأنه الذي نهض فيه- و دعا إليه و حث عليه- و هو الذي سماه حلف الفضول- و ذلك لأنه لما سمع الزبيدي المظلوم‏ثمن سلعته- قد أوفى على أبي قبيس قبل طلوع الشمس- رافعا عقيرته و قريش في أنديتها- قائلا

يا للرجال لمظلوم بضاعته
ببطن مكة نائي الحي و النفر

إن الحرام لمن تمت حرامته‏
و لا حرام لثوبي لابس الغدر

حمي و حلف ليعقدن حلفا بينه و بين بطون من قريش- يمنعون القوي من ظلم الضعيف- و القاطن من عنف الغريب- ثم قال
حلفت لنعقدن حلفا عليهم
و إن كنا جميعا أهل دار

نسميه الفضول إذا عقدنا
يعز به الغريب لدى الجوار

و يعلم من حوالي البيت
أنا أباة الضيم نهجر كل عار

فبنو هاشم هم الذين سموا ذلك الحلف حلف الفضول- و هم كانوا سببه- و القائمين به دون جميع القبائل العاقدة له و الشاهدة لأمره- فما ظنك بمن شهده و لم يقم بأمره- . قال أبو عثمان و كان الزبير بن عبد المطلب شجاعا أبيا- و جميلا بهيا و كان خطيبا شاعرا و سيدا جوادا- و هو الذي يقول

و لو لا الحمس لم يلبس
رجال ثياب أعزة حتى يموتوا

ثيابهم شمال أو عباء
بها دنس كما دنس الحميت‏

و لكنا خلقنا إذا خلقنا لنا
الحبرات و المسك الفتيت‏

و كأس لو تبين لهم كلاما
لقالت إنما لهم سبيت‏

تبين لنا القذى إن كان فيها
رضين الحلم يشربها هبيت‏

و يقطع نخوة المختال عنا
رقيق الحد ضربته صموت‏

بكف مجرب لا عيب فيه‏
إذا لقي الكريهة يستميت‏

قال و الزبير هو الذي يقول-

و أسحم من راح العراق مملا
محيط عليه الجيش جلد مرائره‏

صبحت به طلقا يراح إلى الندى‏
إذا ما انتشى لم يختصره معاقره‏

ضعيف بجنب الكأس قبض بنانه
كليل على جلد النديم أظافره‏

قال و بنو هاشم هم الذين ردوا على الزبيدي ثمن بضاعته- و كانت عند العاص بن وائل- و أخذوا للبارقي ثمن سلعته من أبي بن خلف الجمحي- و في ذلك يقول البارقي-

و يأبى لكم حلف الفضول ظلامتي
بني جمح و الحق يؤخذ بالغصب‏

و هم الذين انتزعوا من نبيه بن الحجاج- قتول الحسناء بنت التاجر الخثعمي- و كان كابره عليها حين رأى جمالها- و في ذلك يقول نبيه بن الحجاج

و خشيت الفضول حين أتوني
قد أراني و لا أخاف الفضولا

إني و الذي يحج له شمط
إياد و هللوا تهليلا

لبراء مني قتيلة يا للناس
هل يتبعون إلا القتولا

و فيها أيضا يقول

لو لا الفضول و أنه
لا أمن من عروائها

لدنوت من أبياتها
و لطفت حول خبائها

في كلمته التي
يقول فيها

حي النخيلة إذ نأت
منا على عدوائها

لا بالفراق تنيلنا
شيئا و لا بلقائها

حلت بمكة حلة
في مشيها و وطائها

في رجال كثير انتزعوا منهم الظلامات- و لم يكن يظلم بمكة إلا رجال أقوياء- و لهم العدد و العارضة منهم من ذكرنا قصته- . قال أبو عثمان و لهاشم أخرى لا يعد أحد مثلها- و لا يأتي بما يتعلق بها- و ذلك أن رؤساء قبائل قريش- خرجوا إلى حرب بني عامر متساندين- فكان حرب بن أمية على بني عبد شمس- و كان الزبير بن عبد المطلب على بني هاشم- و كان عبد الله بن جدعان على بني تيم- و كان هشام بن المغيرة على بني مخزوم- و كان على كل قبيلة رئيس منها- فهم متكافئون في التساند- و لم يحقق واحد منهم الرئاسة على الجميع- ثم آب هاشم بما لا تبلغه يد متناول- و لا يطمع فيه طامع- و ذلك أن النبي ص قال شهدت الفجار و أنا غلام- فكنت أنبل فيه على عمومتي – فنفى مقامه ع أن تكون قريش هي التي فجرت- فسميت تلك الحرب حرب الفجار- و ثبت أن الفجور إنما كان ممن حاربهم- و صاروا بيمنه و بركته- و لما يريد الله تعالى من إعزاز أمره و إعظامه الغالبين العالين- و لم يكن الله ليشهده فجرة و لا غدرة- فصار مشهده نصرا و موضعه فيهم حجة و دليلا- . قال أبو عثمان و شرف هاشم متصل- من حيث عددت كان الشرف معك كابرا عن كابر- و ليس بنو عبد شمس كذلك- فإن الحكم بن أبي العاص كان عاديا في الأعلام- و لم يكن له سناء في الجاهلية- .

و أما أمية فلم يكن في نفسه هناك- و إنما رفعه أبوه و كان مضعوفا- و كان صاحب عهار- يدل على ذلك قول نفيل بن عدي جد عمر بن الخطاب- حين تنافر إليه حرب بن أمية و عبد المطلب بن هاشم- فنفر عبد المطلب و تعجب من إقدام حرب عليه- و قال له أبوك معاهر و أبوه عف و ذاد الفيل عن بلد حرام‏- .

و ذلك أن أمية كان تعرض لامرأة من بني زهرة- فضربه رجل منهم بالسيف- فأراد بنو أمية و من تبعهم إخراج زهرة من مكة- فقام دونهم قيس بن عدي السهمي و كانوا أخواله- و كان منيع الجانب شديد العارضة- حمي الأنفس أبي النفس- فقام دونهم و صاح أصبح ليل فذهبت مثلا- و نادى الآن الظاعن مقيم- و في هذه القصة يقول وهب بن عبد مناف بن زهرة- جد رسول الله ص-

مهلا أمي فإن البغي مهلكة
لا يكسبنك يوم شره ذكر

تبدو كواكبه و الشمس طالعة
يصب في الكأس منه الصبر و المقر

قال أبو عثمان- و صنع أمية في الجاهلية شيئا لم يصنعه أحد من العرب- زوج ابنه أبا عمرو امرأته في حياته منه- فأولدها أبا معيط بن أبي عمرو بن أمية- و المقيتون في الإسلام هم الذين نكحوا نساء آبائهم بعد موتهم- فإما أن يتزوجها في حياة الأب- و يبني عليها و هو يراه- فإنه شي‏ء لم يكن قط- . قال أبو عثمان و قد أقر معاوية على نفسه و رهطه لبني هاشم- حين قيل له أيهما كان أسود في الجاهلية- أنتم أم بنو هاشم- فقال كانوا أسود منا واحدا- و كناأكثر منهم سيدا فأقر و ادعى- فهو في إقراره بالنقص مخصوم و في ادعائه الفضل خصيم- .

و قال جحش بن رئاب الأسدي- حين نزل مكة بعد موت عبد المطلب- و الله لأتزوجن ابنة أكرم أهل هذا الوادي- و لأحالفن أعزهم- فتزوج أميمة بنت عبد المطلب و حالف أبا سفيان بن حرب- و قد يمكن أن يكون أعزهم ليس بأكرمهم- و لا يمكن أن يكون أكرمهم ليس بأكرمهم- و قد أقر أبو جهل على نفسه و رهطه من بني مخزوم- حين قال تحاربنا نحن و هم- حتى إذا صرنا كهاتين قالوا منا نبي- فأقر بالتقصير ثم ادعى المساواة- أ لا تراه كيف أقر أنه لم يزل يطلب شأوهم- ثم ادعى أنه لحقهم- فهو مخصوم في إقراره خصيم في دعواه- و قد حكم لهاشم دغفل بن حنظلة النسابة- حين سأله معاوية عن بني هاشم- فقال هم أطعم للطعام و أضرب للهام- و هاتان خصلتان يجمعان أكثر الشرف- .

قال أبو عثمان- و العجب من منافرة حرب بن أمية عبد المطلب بن هاشم- و قد لطم حرب جارا لخلف بن أسعد- جد طلحة الطلحات- فجاء جاره فشكا ذلك إليه- فمشى خلف إلى حرب و هو جالس عند الحجر- فلطم وجهه عنوة من غير تحاكم و لا تراض- فما انتطح فيه عنزان- ثم قام أبو سفيان بن حرب مقام أبيه بعد موته- فحالفه أبو الأزيهر الدوسي- و كان عظيم الشأن في الأزد- و كانت بينه و بين بني الوليد بن المغيرة محاكمة- في مصاهرة كانت بين الوليد و بينه- فجاءه هشام بن الوليد و أبو الأزيهر قاعد- في مقعد أبي سفيان بذي المجاز فضرب عنقه- فلم يدرك به أبو سفيان عقلا و لا قودا في بني المغيرة- و قال حسان بن ثابت يذكر ذلك-

غدا أهل حصني ذي المجاز بسحرة
و جار ابن حرب لا يروح و لا يغدو

كساك هشام بن الوليد ثيابه‏
فأبل و أخلق مثلها جددا بعد

فهذه جملة صالحة مما ذكره شيخنا أبو عثمان- . و نحن نورد من كتاب أنساب قريش- للزبير بن بكار ما يتضمن شرحا- لما أجمله شيخنا أبو عثمان أو لبعضه- فإن كلام أبي عثمان لمحة و إشارة و ليس بالمشروح- . قال الزبير- حدثني عمر بن أبي بكر العدوي من بني عدي بن كعب- قال حدثني يزيد بن عبد الملك بن المغيرة بن نوفل عن أبيه- قال اصطلحت قريش على أن ولي هاشم- بعد موت أبيه عبد مناف السقاية و الرفادة- و ذلك أن عبد شمس كان يسافر- قل أن يقيم بمكة- و كان رجلا معيلا و كان له ولد كثير- و كان هاشم رجلا موسرا- فكان إذا حضر الحج قام في قريش- فقال يا معشر قريش- إنكم جيران الله و أهل بيته- و إنه يأتيكم في هذا الموسم زوار الله يعظمون حرمة بيته- فهم لذلك ضيف الله- و أحق ضيف بالكرامة ضيف الله- و قد خصكم الله بذلك و أكرمكم به- ثم حفظ منكم أفضل ما حفظ جار من جاره- فأكرموا ضيفه و زواره- فإنهم يأتون شعثا غبرا من كل بلد ضوامر كالقداح- و قد أرجفوا و تفلوا و قملوا و أرملوا- فأقروهم و أعينوهم- قال فكانت قريش تترافد على ذلك- حتى إن كل أهل بيت ليرسلون بالشي‏ء اليسير على قدر حالهم- و كان هاشم يخرج في كل سنة مالا كثيرا- و كان قوم من قريش يترافدون- و كانوا أهل يسار- فكان كل إنسان ربما أرسل بمائة مثقال ذهب هرقلية-و كان هاشم يأمر بحياض من أدم- تجعل في مواضع زمزم من قبل أن تحفر- يستقي فيها من البئار التي بمكة- فيشرب الحاج- و كان يطعمهم أول ما يطعم- قبل يوم التروية بيوم بمكة- و بمنى و بجمع و عرفة- و كان يثرد لهم الخبز و اللحم- و السمن و السويق و التمر- و يحمل لهم الماء فيسقون بمنى- و الماء يومئذ قليل- إلى أن يصدر الحاج من منى- ثم تنقطع الضيافة و تتفرق الناس إلى بلادهم- .

قال الزبير و إنما سمي هاشما لهشمه الثريد- و كان اسمه عمرا- ثم قالوا عمرو العلا لمعاليه- و كان أول من سن الرحلتين- رحلة إلى الحبشة و رحلة إلى الشام- ثم خرج في أربعين من قريش فبلغ غزة- فمرض بها فمات فدفنوه بها- و رجعوا بتركته إلى ولده- و يقال إن الذي رجع بتركته إلى ولده- أبو رهم عبد العزى بن أبي قيس العامري- من بني عامر بن لؤي- . قال الزبير و كان يقال لهاشم و المطلب البدران- و لعبد شمس و نوفل الأبهران- . قال الزبير و قد اختلف في أي ولد عبد مناف أسن- و الثبت عندنا أن أسنهم هاشم- و قال آدم بن عبد العزيز بن عمر- بن عمر بن عبد العزيز بن مروان-

يا أمين الله إني قائل
قول ذي دين و بر و حسب‏

عبد شمس لا تهنها إنما
عبد شمس عم عبد المطلب‏

عبد شمس كان يتلو ها
شما و هما بعد لأم و لأب‏

قال الزبير و حدثني محمد بن حسن- عن محمد بن طلحة عن عثمان بن عبد الرحمن- قال قال عبد الله بن عباس- و الله لقد علمت قريش أن أول من أخذ الإيلاف- و أجاز لها العيرات لهاشم- و الله ما شدت قريش رحالا و لا حبلا بسفر- و لا أناخت بعيرا لحضرإلا بهاشم- و الله إنه أول من سقى بمكة ماء عذبا- و جعل باب الكعبة ذهبا لعبد المطلب- . قال الزبير و كانت قريش تجارا- لا تعدو تجارتهم مكة- إنما تقدم عليهم الأعاجم بالسلع فيشترونها منهم- يتبايعون بها بينهم- و يبيعون من حولهم من العرب- حتى رحل هاشم بن عبد مناف إلى الشام فنزل بقيصر- فكان يذبح كل يوم شاة- و يصنع جفنة من ثريد و يدعو الناس فيأكلون- و كان هاشم من أحسن الناس خلقا و تماما- فذكر لقيصر- و قيل له هاهنا شاب من قريش يهشم الخبز- ثم يصب عليه المرق و يفرغ عليه اللحم و يدعو الناس- قال و إنما كانت الأعاجم و الروم تصنع المرق في الصحاف- ثم تأتدم عليه بالخبز فدعا به قيصر- فلما رآه و كلمه أعجب به- و جعل يرسل إليه فيدخل عليه- فلما رأى مكانه سأله أن يأذن لقريش في القدوم عليه بالمتاجر- و أن يكتب لهم كتب الأمان فيما بينهم و بينه ففعل- فبذلك ارتفع هاشم من قريش- قال الزبير- و كان هاشم يقوم أول نهار اليوم الأول من ذي الحجة- فيسند ظهره إلى الكعبة من تلقاء بابها- فيخطب قريشا فيقول- يا معشر قريش أنتم سادة العرب- أحسنها وجوها و أعظمها أحلاما- و أوسطها أنسابا و أقربها أرحاما- يا معشر قريش أنتم جيران بيت الله- أكرمكم بولايته- و خصكم بجواره دون بني إسماعيل- و حفظ منكم أحسن ما حفظ منكم جار من جاره- فأكرموا ضيفه و زوار بيته- فإنهم يأتونكم شعثا غبرا من كل بلد- فو رب هذه البنية- لو كان لي مال يحمل ذلك لكفيتموه- ألا و إني مخرج من طيب مالي و حلاله ما لم تقطع فيه رحم- و لم يؤخذ بظلم و لم يدخل فيه حرام فواضعه- فمن شاء منكم أن يفعل مثل ذلك فعل- و أسألكم بحرمة هذا البيت- ألا يخرج منكم رجل من ماله لكرامة زوار بيت الله و معونتهم- إلا طيبا لم يؤخذ ظلما- و لم تقطع فيه رحم و لم يغتصب- قال فكانت قريش تخرج من صفو أموالها- ما تحتمله أحوالها- و تأتي بها إلى هاشم فيضعه في دار الندوة لضيافة الحاج- .قال الزبير و مما رثى به مطرود الخزاعي هاشما قوله-

مات الندى بالشام لما أن ثوى
أودى بغزة هاشم لا يبعد

فجفانه رذم لمن ينتابه‏
و النصر أدنى باللسان و باليد

و من مراثيه له

يا عين جودي و أذري الدمع و احتفلي
و ابكي خبيئة نفسي في الملمات‏

و ابكي على كل فياض أخي حسب‏
ضخم الدسيعة وهاب الجزيلات‏

ماضي الصريمة عالي الهم ذي شرف
جلد النحيزة حمال العظيمات‏

صعب المقادة لا نكس و لا وكل‏
ماض على الهول متلاف الكريمات‏

محض توسط من كعب إذا نسبوا
بحبوحة المجد في الشم الرفيعات‏

فابكي على هاشم في وسط بلقعة
تسقي الرياح عليه وسط غزات‏

يا عين بكي أبا الشعث الشجيات
يبكينه حسرا مثل البنيات‏

يبكين عمرو العلا إذ حان مصرعه‏
سمح السجية بسام العشيات‏

يبكينه معولات في معاوزها
يا طول ذلك من حزن و عولات‏

محزمات على أوساطهن لما
جر الزمان من أحداث المصيبات‏

أبيت أرعى نجوم الليل من ألم
أبكي و تبكي معي شجوا بنياتي‏

– . قال الزبير- و حدثني إبراهيم بن المنذر عن الواقدي- عن عبد الرحمن بن الحارث عن عكرمة عن ابن عباس قال- أول من سن دية النفس مائة من الإبل عبد المطلب- فجرت في قريش و العرب سنته- و أقرها رسول الله ص- قال و أم عبد المطلب سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد- من بني النجار من الأنصار- و كان سبب‏تزوج هاشم- بها أنه قدم في تجارة له المدينة- فنزل على عمرو بن زيد- فجاءته سلمى بطعام فأعجبت هاشما- فخطبها إلى أبيها فأنكحه إياها- و شرط عليه أن تلد عند أهلها- فبنى عليها بالمدينة و أقام معها سنتين- ثم ارتحل بها إلى مكة فحملت و أثقلت- فخرج بها إلى المدينة فوضعها عند أهلها- و مضى إلى الشام فمات بغزة من وجهه ذلك- و ولدت عبد المطلب- فسمته شيبة الحمد- لشعرة بيضاء كانت في ذوائبه حين ولد- فمكث بالمدينة ست سنين أو ثمانيا- ثم إن رجلا من تهامة مر بالمدينة- فإذا غلمان ينتضلون- و غلام منهم يقول كلما أصاب- أنا ابن هاشم بن عبد مناف سيد البطحاء- فقال له الرجل من أنت يا غلام- قال أنا ابن هاشم بن عبد مناف-

قال ما اسمك قال شيبة الحمد- فانصرف الرجل حتى قدم مكة- فيجد المطلب بن عبد مناف جالسا في الحجر- فقال قم إلي يا أبا الحارث فقام إليه- فقال تعلم أني جئت الآن من يثرب- فوجدت بها غلمانا ينتضلون- … و قص عليه ما رأى من عبد المطلب- و قال إنه أضرب غلام رأيته قط- فقال له المطلب أغفلته و الله- أما إني لا أرجع إلى أهلي و مالي حتى آتيه- فخرج المطلب حتى أتى المدينة فأتاها عشاء- ثم خرج براحلته حتى أتى بني عدي بن النجار- فإذا الغلمان بين ظهراني المجلس- فلما نظر إلى ابن أخيه- قال للقوم هذا ابن هاشم قالوا نعم- و عرفه القوم فقالوا هذا ابن أخيك- فإن كنت تريد أخذه فالساعة لا نعلم أمه- فإنها إن علمت حلنا بينك و بينه فأناخ راحلته- ثم دعاه فقال يا ابن أخي أنا عمك- و قد أردت الذهاب بك إلى قومك فاركب- قال فو الله ما كذب أن جلس على عجز الراحلة- و جلس المطلب على الراحلة ثم بعثها فانطلقت- فلما علمت أمه قامت تدعو حزنها على ابنها- فأخبرت أنه عمه و أنه ذهب به إلى قومه- قال فانطلق به المطلب فدخل به مكة ضحوة- مردفه خلفه- و الناس في أسواقهم و مجالسهم- فقاموا يرحبون به و يقولون من هذا الغلام معك- فيقول عبد لي ابتعته بيثرب- ثم خرج به‏حتى جاء إلى الحزورة فابتاع له حلة- ثم أدخله على امرأته خديجة بنت سعد بن سهم- فرجلت شعره ثم ألبسه الحلة عشية- فجاء به فأجلسه في مجلس بني عبد مناف- و أخبرهم خبره- فكان الناس بعد ذلك- إذا رأوه يطوف في سكك مكة و هو أحسن الناس- يقولون هذا عبد المطلب- لقول المطلب هذا عبدي- فلج به الاسم و ترك به شيبة- . و روى الزبير رواية أخرى- أن سلمى أم عبد المطلب- حالت بين المطلب و بين ابنها شيبة- و كان بينها و بينه في أمره محاورة ثم غلبها عليه- و قال

عرفت شيبة و النجار قد حلفت
أبناؤها حوله بالنبل تنتضل‏

فأما الشعر الذي لحذافة العذري- و الذي ذكره شيخنا أبو عثمان- فقد ذكره الزبير بن بكار في كتاب النسب- و زاد فيه

كهولهم خير الكهول و نسلهم
كنسل الملوك لا يبور و لا يجري‏

ملوك و أبناء الملوك و سادة
تفلق عنهم بيضة الطائر الصقر

متى تلق منهم طامحا في عنانه
تجده على أجراء والده يجري‏

هم ملكوا البطحاء مجدا و سؤددا
و هم نكلوا عنها غواة بني بكر

و هم يغفرون الذنب ينقم مثله
و هم تركوا رأي السفاهة و الهجر

أ خارج إما أهلكن فلا تزل‏
لهم شاكرا حتى تغيب في القبر

قال الزبير- و حدثني عن سبب هذا الشعر محمد بن حسن- عن محمد بن طلحة عن أبيه- قال إن ركبا من جذام خرجوا صادرين عن الحج من مكة- ففقدوا رجلا منهم عالية بيوت مكة- فيلقون حذافة العذري فربطوه و انطلقوا به- فتلقاهم عبد المطلب مقبلا من الطائف- و معه ابنه أبو لهب يقود به- و عبد المطلب حينئذ قد ذهب بصره- فلما نظر إليه حذافة بن غانم هتف به- فقال عبد المطلب لابنه‏ ويلك من هذا- قال هذا حذافة بن غانم مربوطا مع ركب- قال فالحقهم فسلهم ما شأنهم و شأنه- فلحقهم أبو لهب فأخبروه الخبر- فرجع إلى أبيه فأخبره- فقال ويحك ما معك- قال لا و الله ما معي شي‏ء- قال فالحقهم لا أم لك فأعطهم بيدك- و أطلق الرجل فلحقهم أبو لهب- فقال قد عرفتم تجارتي و مالي- و أنا أحلف لكم لأعطينكم عشرين أوقية ذهبا- و عشرا من الإبل و فرسا و هذا ردائي رهن- فقبلوا ذلك منه و أطلقوا حذافة- فلما أقبل به و قربا من عبد المطلب- سمع عبد المطلب صوت أبي لهب- و لم يسمع صوت حذافة- فصاح به و أبي إنك لعاص ارجع لا أم لك- قال يا أبتا هذا الرجل معي- فناداه عبد المطلب يا حذافة أسمعني صوتك- قال ها أنا ذا بأبي أنت و أمي- يا ساقى الحجيج أردفني- فأردفه حتى دخل مكة- فقال حذافة هذا الشعر- . قال الزبير و حدثني عبد الله بن معاذ عن معمر- عن ابن شهاب قال- أول ما ذكر من عبد المطلب- أن قريشا خرجت فارة من الحرم- خوفا من أصحاب الفيل- و عبد المطلب يومئذ غلام شاب- فقال و الله لا أخرج من حرم الله أبغي العز في غيره- فجلس في البيت و أجلت قريش عنه- فقال عبد المطلب

لا هم إن المرء يمنع
رحله فامنع حلالك‏

لا يغلبن صليبهم‏
و محالهم أبدا محالك‏

فلم يزل ثابتا في الحرم- حتى أهلك الله الفيل و أصحابه- فرجعت قريش و قد عظم فيهم بصبره- و تعظيمه محارم الله عز و جل- فبينا هو على ذلك- و كان أكبر ولده و هو الحارث بن عبد المطلب قد بلغ الحلم- أري عبد المطلب في المنام- فقيل له احفر زمزم خبيئة الشيخ الأعظم- فاستيقظ فقال اللهم بين لي الشيخ- فأري في المنام مرة أخرى-احفر تكتم بين الفرث و الدم في مبحث الغراب- في قرية النمل مستقبلة الأنصاب الحمر- فقام عبد المطلب فمشى حتى جلس في المسجد الحرام- ينتظر ما سمي له من الآيات- فنحر بقرة في الحزورة- فأفلتت من جازرها بحشاشة نفسها- حتى غلب عليها الموت في المسجد في موضع زمزم- فاحتمل لحمها من مكانها- و أقبل غراب يهوي حتى وقع في الفرث- فبحث عن قرية النمل- فقام عبد المطلب يحفرها- فجاءته قريش فقالت له ما هذا الصنع- إنا لم نكن نراك بالجهل لم تحفر في مسجدنا- فقال عبد المطلب إني لحافر هذا البئر- و مجاهد من صدني عنها- فطفق يحفر هو و ابنه الحارث- و ليس له يومئذ ولد غيره- فيسفه عليهما الناس من قريش- فينازعونهما و يقاتلونهما- و تناهى عنه ناس من قريش- لما يعلمون من زعيق نسبه و صدقه- و اجتهاده في دينهم يومئذ- حتى إذا أتعبه الحفر و اشتد عليه الأذى- نذر إن وفى له عشرة من الولدان ينحر أحدهم- ثم حفر فأدرك سيوفا دفنت في زمزم حين دفنت- فلما رأت قريش أنه قد أدرك السيوف قالت- يا عبد المطلب أحذنا مما وجدت- فقال عبد المطلب بل هذه السيوف لبيت الله- ثم حفر حتى أنبط الماء فحفرها في القرار- ثم بحرها حتى لا تنزف- ثم بنى عليها حوضا- و طفق هو و ابنه ينزعان فيملآن ذلك الحوض- فيشرب منه الحاج- و يكسره قوم حسدة له من قريش بالليل- فيصلحه عبد المطلب حين يصبح- فلما أكثروا فساده دعا عبد المطلب ربه فأري- فقيل له قل اللهم إني لا أحلها لمغتسل- و هي لشارب حل و بل- ثم كفيتهم- فقام عبد المطلب حين اختلف قريش في المسجد- فنادى بالذي أري ثم انصرف- فلم يكن يفسد حوضه عليه أحد من قريش- إلا رمي في جسده بداء- حتى تركوا حوضه ذلك و سقايته- ثم تزوج عبد المطلب النساء- فولد له عشرة رهط فقال- اللهم إني‏كنت نذرت لك نحر أحدهم- و إني أقرع بينهم- فأصيب بذلك من شئت فأقرع بينهم- فطارت القرعة على عبد الله بن عبد المطلب- أبي رسول الله ص و كان أحب ولده إليه- فقال عبد المطلب اللهم هو أحب إليك أم مائة من الإبل- فنحرها عبد المطلب مكان عبد الله- و كان عبد الله أحسن رجل رئي في قريش قط- . و روى الزبير أيضا قال- حدثني إبراهيم بن المنذر- عن عبد العزيز بن عمران- عن عبد الله بن عثمان بن سليمان قال- سمعت أبي يقول لما حفرت زمزم- و أدرك منها عبد المطلب ما أدرك- وجدت قريش في أنفسها مما أعطي عبد المطلب- فلقيه خويلد بن أسد بن عبد العزى فقال- يا ابن سلمى لقد سقيت ماء رغدا- و نثلت عادية حسدا- فقال يا ابن أسد أما إنك تشرك في فضلها- و الله لا يساعدني أحد عليها ببر- و لا يقوم معي بارزا إلا بذلت له خير الصهر- فقال خويلد بن أسد-

أقول و ما قولي عليهم بسبة
إليك ابن سلمى أنت حافر زمزم‏

حفيرة إبراهيم يوم ابن هاجر
و ركضة جبريل على عهد آدم‏

فقال عبد المطلب- ما وجدت أحدا ورث العلم الأقدم غير خويلد بن أسد- . قال الزبير فأما ركضة جبريل- فإن سعيد بن المسيب قال- إن إبراهيم قدم بإسماعيل و أمه مكة فقال لهما- كلا من الشجر و اشربا من الشعاب و فارقهما- فلما ضاقت الأرض تقطعت المياه فعطشا- فقالت له أمه اصعد و انصب في هذا الوادي- فلا أرى موتك و لا ترى موتي ففعل- فأنزل الله تعالى ملكا من السماء على أم إسماعيل- فأمرها فصرحت به فاستجاب لها- و طار الملك فضرب بجناحيه مكان زمزم- فقال اشربا فكان سيحا يسيح- و لو تركاه ما زال كذلك أبدا- لكنها فرقت عليه من العطش- فقرت له في السقاء و حفرت في البطحاء- فلما نضب الماء طوياه- ثم‏هلك الناس و دفنته السيول- ثم أري عبد المطلب في المنام أن احفر زمزم- لا تثرب و لا تذم- تروي الحجيج الأعظم- ثم أري مرة أخرى أن احفر الرواء- أعطيتها على رغم الأعداء- ثم أري مرة أخرى أن احفر تكتم- بين الأنصاب الحمر في قرية النمل- فأصبح يحفر حيث أري- فطفقت قريش يستهزءون به- حتى إذا بدا عن الطي- وجد فيها غزالا من ذهب و حلية سيف- فضرب عليها بالسهام فخرج سهم البيت- فكان أول حلي حلى به الكعبة- . قال الزبير- و كان حرب بن أمية بن عبد شمس نديم عبد المطلب- و كان عبيد بن الأبرص تربه- و بلغ عبيد مائة و عشرين سنة- و بقي عبد المطلب بعده عشرين سنة- . قال و قال بعض أهل العلم- توفي عبد المطلب عن خمس و تسعين سنة- و يقال كان يعرف في عبد المطلب نور النبوة- و هيبة الملك- و فيه يقول الشاعر

إنني و اللات و البيت الذي
لز بالهبرز عبد المطلب‏

قال الزبير حدثني عمي مصعب بن عبد الله- قال بينا عبد المطلب يطوف بالبيت بعد ما أسن و ذهب بصره- إذ زحمه رجل فقال من هذا- فقيل رجل من بني بكر- . قال فما منعه أن ينكب عني- و قد رآني لا أستطيع لأن أنكب عنه- فلما رأى بنيه قد توالوا عشرة- قال لا بد لي من العصا- فإن اتخذتها طويلة شقت علي- و إن اتخذتها قصيرة قويت عليها- و لكن ينحدب لها ظهري و الحدبة ذل- فقال بنوه أو غير ذلك- يوافيك كل يوم منا رجل تتوكأ عليه- فتطوف في حوائجك- قال و لذلك قال الزبير- و مكارم عبد المطلب أكثر من أن يحاط بها- كان سيد قريش غير مدافع نفسا و أبا و بيتا- و جمالا و بهاء و كمالا و فعالا- قال أحد بني كنانة يمدحه-

إني و ما سترت قريش و الذي
تعزو لآل كلهن ظباء

و و حق من رفع الجبال منيفة
و الأرض مدا فوقهن سماء

مثن و مهد لابن سلمى مدحة
فيها أداء ذمامه و وفاء

قال الزبير- فأما أبو طالب بن عبد المطلب و اسمه عبد مناف- و هو كافل رسول الله ص- و حاميه من قريش و ناصره- و الرفيق به الشفيق عليه- و وصي عبد المطلب فيه- فكان سيد بني هاشم في زمانه- و لم يكن أحد من قريش يسود في الجاهلية بمال- إلا أبو طالب و عتبة بن ربيعة- . قال الزبير- أبو طالب أول من سن القسامة في الجاهلية- في دم عمرو بن علقمة- ثم أثبتتها السنة في الإسلام- و كانت السقاية في الجاهلية بيد أبي طالب- ثم سلمها إلى أخيه العباس بن عبد المطلب- . قال الزبير و كان أبو طالب شاعرا مجيدا- و كان نديمه في الجاهلية- مسافر بن عمرو بن أمية بن عبد شمس- و كان قد حبن فخرج ليتداوى بالحيرة فمات بهبالة- فقال أبو طالب يرثيه

فقال أبو طالب يرثيه
ليت شعري مسافر ابن أبي عمرو
و ليث يقولها المحزون‏

كيف كانت مذاقة الموت إذ مت‏
و ما ذا بعد الممات يكون‏

رحل الركب قافلين إلينا
و خليلي في مرمس مدفون‏

بورك الميت الغريب كما بورك‏
نضر الريحان و الزيتون‏

رزء ميت على هبالة قد حالت
فياف من دونه و حزون‏

مدرة يدفع الخصوم بأيد
و بوجه يزينه العرنين‏

كم خليل و صاحب و ابن عم
و حميم قفت عليه المنون‏

فتعزيت بالجلادة و الصبر
و إني بصاحبي لضنين‏

قال الزبير فلما هلك مسافر- نادم أبو طالب بعده عمرو بن عبد بن أبي قيس بن عبد ود- بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي- و لذلك قال عمرو لعلي ع يوم الخندق حين بارزه إن أباك كان لي صديقا- . قال الزبير و حدثني محمد بن حسن عن نصر بن مزاحم- عن معروف بن خربوذ قال- كان أبو طالب يحضر أيام الفجار- و يحضر معه النبي ص و هو غلام- فإذا جاء أبو طالب هزمت قيس- و إذا لم يجي‏ء هزمت كنانة- فقالوا لأبي طالب لا أبا لك لا تغب عنا ففعل- . قال الزبير فأما الزبير بن عبد المطلب- فكان من أشراف قريش و وجوهها- و هو الذي استثنته بنو قصي على بني سهم- حين هجا عبد الله بن الزبعرى بن قصي- فأرسلت بنو قصي عتبة بن ربيعة بن عبد شمس إلى بني سهم- فقال لهم إن قومكم قد كرهوا أن يعجلوا عليكم- فأرسلوني إليكم في هذا السفيه- الذي هجاهم في غير ذنب اجترموا إليه- فإن كان ما صنع عن رأيكم فبئس الرأي رأيكم- و إن كان عن غير رأيكم فادفعوه إليهم- فقال القوم نبرأ إلى الله أن يكون عن رأينا- قال فأسلموه إليهم- فقال بعض بني سهم إن شئتم فعلنا- على أن من هجانا منكم دفعتموه إلينا- فقال عتبة ما يمنعني أن أقول ما تقول- إلا أن الزبير بن عبد المطلب غائب بالطائف-و قد عرفت أنه سيفرغ لهذا الأمر- فيقول و لم أكن أجعل الزبير خطرا لابن الزبعرى- فقال قائل منهم أيها القوم ادفعوه إليهم- فلعمري أن لكم مثل الذي عليكم- فكثر في ذلك الكلام و اللغط- فلما رأى العاص بن وائل ذلك دعا برمة- فأوثق بها عبد الله بن الزبعرى- و دفعه إلى عتبة بن ربيعة- فأقبل به مربوطا حتى أتى به قومه- فأطلقه حمزة بن عبد المطلب و كساه- فأغرى ابن الزبعرى أناس من قريش بقومه بني سهم- و قالوا له اهجهم كما أسلموك- فقال

لعمري ما جاءت بنكر عشيرتي
و إن صالحت إخوانها لا ألومها

فود جناة الشر أن سيوفنا
بأيماننا مسلولة لا نشيمها

فيقطع ذو الصهر القريب و يتركوا
غماغم منها إذ أجد يريمها

فإن قصيا أهل مجد و ثروة
و أهل فعال لا يرام قديمها

هم منعوا يومي عكاظ نساءنا
كما منع الشول الهجان قرومها

و إن كان هيج قدموا فتقدموا
و هل يمنع المخزاة إلا حميمها

محاشيد للمقرى سراع إلى الندى
مرازبة غلب رزان حلومها

– . قال فقدم الزبير بن عبد المطلب من الطائف- فقال قصيدته التي يقول فيها

فلو لا الحمس لم يلبس رجال
ثياب أعزة حتى يموتوا

– . و قد ذكرنا قطعة منها فيما تقدم- . قال الزبير- و قال الزبير بن عبد المطلب أيضا في هذا المعنى-
قومي بنو عبد مناف إذا
أظلم من حولي بالجندل‏

لا أسد لن يسلموني و لا
تيم و لا زهرة للنيطل‏

و لا بنو الحارث إن مر بي
يوم من الأيام لا ينجلي‏

يا أيها الشاتم قومي و لا
حق له عندهم أقبل‏

إني لهم جار لئن أنت لم
تقصر عن الباطل أو تعدل‏

قال الزبير و من شعر الزبير بن عبد المطلب-

 

يا ليت شعري إذا ما حمتي وقعت
ما ذا تقول ابنتي في النوح تنعاني‏

تنعى أبا كان معروف الدفاع عن المولى‏
المضاف و فكاكا عن العاني‏

و نعم صاحب عان كان رافده
إذا تضجع عنه العاجز الواني‏

– . قال الزبير- و كان الزبير بن عبد المطلب ذا نظر و فكر- أتى فقيل له مات فلان- لرجل من قريش كان ظلوما- فقال بأي عقوبة مات- قالوا مات حتف أنفه- فقال لئن كان ما قلتموه حقا- إن للناس معادا يؤخذ فيه للمظلوم من الظالم- . قال و كان الزبير يكنى بأبي الطاهر- و كانت صفية بنت عبد المطلب- كنت ابنها الزبير بن العوام أبا الطاهر- دهرا بكنية أخيها- و كان للزبير بن عبد المطلب ابن يقال له الطاهر- كان من أظرف فتيان مكة مات غلاما- و به سمى رسول الله ص ابنه الطاهر- و باسم الزبير سمت أخته صفية ابنها الزبير- و قالت صفية ترثي أخاها الزبير بن عبد المطلب-

بكي زبير الخير إذ مات إن
كنت على ذي كرم باكيه‏

 

لو لفظته الأرض ما لمتها
أو أصبحت خاشعة عاريه‏

قد كان في نفسي أن أترك الموتى‏
و لا أتبعهم قافيه‏

فلم أطق صبرا على رزئه
وجدته أقرب إخوانيه‏

لو لم أقل من في قولا له‏
لقضت العبرة أضلاعيه‏

فهو الشآمي و اليماني إذا
ما خضروا ذو الشفرة الداميه‏

و قال ضرار بن الخطاب يبكيه-

بكي ضباع على أبيك
بكاء محزون أليم‏

قد كنت أنشده فلا
رث السلاح و لا سليم‏

كالكوكب الدري يعلو
ضوءه ضوء النجوم‏

زخرت به أعراقه‏
و نماه والده الكريم‏

بين الأغر و هاشم
فرعين قد فرعا القروم‏

فأما القتول الخثعمية- التي اغتصبها نبيه بن الحجاج السهمي من أبيها- فقد ذكر الزبير بن بكار قصتها في كتاب أنساب قريش- . قال الزبير إن رجلا من خثعم قدم مكة تاجرا- و معه ابنة يقال لها القتول- أوضأ نساء العالمين- فعلقها نبيه بن الحجاج السهمي- فلم يبرح حتى غلب أباها عليها- و نقلها إليه- فقيل لأبيها عليك بحلف الفضول- فأتاهم فشكا إليهم ذلك- فأتوا نبيه بن الحجاج- فقالوا له أخرج ابنة هذا الرجل- و هو يومئذ منتبذ بناحية مكة- و هي معه و إلا فإنا من قد عرفت- فقال يا قوم متعوني بها الليلة- فقالوا قبحك الله‏ ما أجهلك- لا و الله و لا شخب لقحة- فأخرجها إليهم فأعطوها أباها- فقال نبيه بن الحجاج في ذلك قصيدة أولها-

راح صحي و لم أحي القتولا
لم أودعهم وداعا جميلا

إذ أجد الفضول أن يمنعوها
قد أراني و لا أخاف الفضولا

راح صحي و لم أحي القتولا
لم أودعهم وداعا جميلا

إذ أجد الفضول أن يمنعوها
قد أراني و لا أخاف الفضولا

في أبيات طويلة و أما قصة البارقي فقد ذكرها الزبير أيضا- . قال قدم رجل من ثمالة من الأزد مكة- فباع سلعة من أبي بن خلف الجمحي فمطله بالثمن- و كان سيئ المخالطة- فأتى الثمالي أهل حلف الفضول فأخبرهم- فقالوا اذهب فأخبره أنك قد أتيتنا- فإن أعطاك حقك و إلا فارجع إلينا- فأتاه فأخبره بما قال أهل حلف الفضول- فأخرج إليه حقه فأعطاه- فقال الثمالي

أ يفجر بي ببطن مكة ظالما
أبي و لا قومي لدي و لا صحبي‏

و ناديت قومي بارقا لتجيبني‏
و كم دون قومي من فياف و من سهب‏

و يأبى لكم حلف الفضول ظلامتي
بني جمح و الحق يؤخذ بالغصب‏

و أما قصة حلف الفضول و شرفه- فقد ذكرها الزبير في كتابه أيضا- قال كان بنو سهم و بنو جمح أهل بغي و عدوان- فأكثروا من ذلك- فأجمع بنو هاشم و بنو المطلب- و بنو أسد و بنو زهرة و بنو تيم- على أن تحالفوا و تعاقدوا على رد الظلم بمكة- و ألا يظلم أحدإلا منعوه و أخذوا له بحقه- و كان حلفهم في دار عبد الله بن جدعان- قال رسول الله ص لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا- ما أحب أن لي به حمر النعم- و لو دعيت به اليوم لأجبت- لا يزيده الإسلام إلا شدة – .

قال الزبير- كان رجل من بني أسد قد قدم مكة معتمرا ببضاعة- فاشتراها منه العاص بن وائل السهمي- فآواها إلى بيته ثم تغيب- فابتغى الأسدي متاعه فلم يقدر عليه- فجاء إلى بني سهم يستعديهم عليه فأغلظوا له- فعرف أن لا سبيل له إلى ماله- و طوف في قبائل قريش يستنفر بهم- فتخاذلت القبائل عنه- فلما رأى ذلك أشرف على أبي قبيس- حين أخذت قريش مجالسها- و نادى بأعلى صوته

يا للرجال لمظلوم بضاعته
ببطن مكة نائي الأهل و النفر

و محرم أشعث لم يقض عمرته‏
يا آل فهر و بين الحجر و الحجر

هل منصف من بني سهم فمرتجع
ما غيبوا أم حلال مال معتمر

 فأعظمت ذلك قريش و تكلموا فيه

فقال المطيبون و الله إن قمنا في هذا ليغضبن الأحلاف- و قالت الأحلاف- و الله إن قمنا في هذا ليغضبن المطيبون- فقالت قبائل من قريش هلموا فلنحتلف حلفا جديدا- لننصرن المظلوم على الظالم ما بل بحر صوفة- فاجتمعت هاشم و المطلب و أسد و تيم و زهرة- في دار عبد الله بن جدعان و رسول الله ص يومئذ معهم- و هو شاب ابن خمس و عشرين سنة لم يوح إليه بعد- فتحالفوا ألا يظلم بمكة غريب و لا قريب- و لا حر و لا عبد- إلا كانوا معه حتى يأخذوا له بحقه- و يردوا إليه مظلمته من أنفسهم و من غيرهم- ثم عمدوا إلى ماء زمزم فجعلوه في جفنة- ثم بعثوا به إلى البيت فغسلوا به أركانه- ثم جمعوه و أتوهم به فشربوه- ثم انطلقوا إلى العاص بن وائل-فقالوا له أد إلى هذا حقه فأدى إليه حقه- فمكثوا كذلك دهرا- لا يظلم أحد بمكة إلا أخذوا له حقه- فكان عتبة بن ربيعة بن عبد شمس يقول- لو أن رجلا وحده خرج من قومه- لخرجت من عبد شمس- حتى أدخل في حلف الفضول- . قال الزبير و حدثني محمد بن حسن عن محمد بن طلحة- عن موسى بن محمد عن أبيه- أن الحلف كان على ألا يدعوا بمكة كلها- و لا في الأحابيش مظلوما- يدعوهم إلى نصرته إلا أنجدوه- حتى يردوا عليه ماله و مظلمته- أو يبلوا في ذلك عذرا- و على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر- و على التأسي في المعاش- . قال الزبير و يقال إنه إنما سمي حلف الفضول- لأن رجالا كانوا في وجوههم تحالفوا على رد المظالم- يقال لهم فضيل و فضال و فضل و مفضل- فسمي هذا الحلف حلف الفضول- لأنه أحيا تلك السنة التي كانت ماتت- .

قال الزبير- و قدم محمد بن جبير بن مطعم على عبد الملك بن مروان- و كان من علماء قريش- فقال له يا أبا سعيد أ لم نكن يعني بني عبد شمس- و أنتم في حلف الفضول- فقال أمير المؤمنين أعلم- قال لتخبرني بالحق- قال لا و الله يا أمير المؤمنين- لقد خرجنا نحن و أنتم منه- و ما كانت يدنا و يدكم إلا جميعا في الجاهلية و الإسلام- . قال الزبير و حدثني محمد بن حسن عن إبراهيم بن محمد- عن يزيد بن عبد الله بن الهادي الليثي- أن محمد بن الحارث أخبره- قال كان بين الحسين بن علي ع- و بين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان كلام- في مال كان بينهما بذي المروءة- و الوليد يومئذ أمير المدينة في أيام معاوية- فقال الحسين ع أ يستطيل الوليد علي بسلطانه-أقسم بالله لينصفني من حقي أو لآخذن سيفي- ثم أقوم في مسجد الله فأدعو بحلف الفضول- فبلغت كلمته عبد الله بن الزبير- فقال أحلف بالله لئن دعا به لآخذن سيفي- ثم لأقومن معه حتى ينتصف أو نموت جميعا- فبلغت المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري- فقال مثل ذلك- فبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي- فقال مثل ذلك- فبلغ ذلك الوليد بن عتبة- فأنصف الحسين ع من نفسه حتى رضي- . قال الزبير- و قد كان للحسين ع مع معاوية قصة مثل هذه- كان بينهما كلام في أرض للحسين ع- فقال له الحسين ع اختر مني ثلاث خصال- إما أن تشتري مني حقي و إما أن ترده علي- أو تجعل بيني و بينك ابن عمر أو ابن الزبير حكما- و إلا فالرابعة و هي الصيلم- قال معاوية و ما هي قال أهتف بحلف الفضول- ثم قام فخرج و هو مغضب- فمر بعبد الله بن الزبير فأخبره- فقال و الله لئن هتفت به و أنا مضطجع لأقعدن- أو قاعد لأقومن- أو قائم لأمشين أو ماش لأسعين- ثم لتنفدن روحي مع روحك أو لينصفنك- فبلغت معاوية فقال لا حاجة لنا بالصيلم- ثم أرسل إليه أن ابعث فانتقد مالك- فقد ابتعناه منك- .

قال الزبير و حدثني بهذه القصة علي بن صالح- عن جدي عبد الله بن مصعب عن أبيه- قال خرج الحسين ع من عند معاوية و هو مغضب- فلقي عبد الله بن الزبير فحدثه بما دار بينهما- و قال لأخيرنه في خصال- فقال له ابن الزبير ما قال ثم ذهب إلى معاوية- فقال لقد لقيني الحسين فخيرك في ثلاث خصال- و الرابعة الصيلم قال معاوية فلا حاجة لنا بالصيلم- أظنك لقيته مغضبا فهات الثلاث- قال أن تجعلني‏أو ابن عمر بينك و بينه- قال قد جعلتك بيني و بينه- أو جعلت ابن عمر أو جعلتكما جميعا- قال أو تقر له بحقه ثم تسأله إياه- قال قد أقررت له بحقه و أنا أسأله إياه- قال أو تشريه منه قال قد اشتريته منه- فما الصيلم قال يهتف بحلف الفضول و أنا أول من يجيبه- قال فلا حاجة لنا في ذلك- .

و بلغ الكلام عبد الله بن أبي بكر و المسور بن مخرمة- فقالا للحسين مثل ما قاله ابن الزبير- . فأما تفجر الماء- من تحت أخفاف بعير عبد المطلب في الأرض الجرز- فقد ذكره محمد بن إسحاق بن يسار في كتاب السيرة- قال لما أنبط عبد المطلب الماء في زمزم حسدته قريش- فقالت له يا عبد المطلب إنها بئر أبينا إسماعيل- و إن لنا فيها حقا فأشركنا معك- قال ما أنا بفاعل- إن هذا الأمر أمر خصصت به دونكم- و أعطيته من بينكم- قالوا له فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها- قال فاجعلوا بيني و بينكم حكما أحاكمكم إليه- قالوا كاهنة بني سعد بن هذيم قال نعم- و كانت بأشراف الشام- فركب عبد المطلب في نفر من بني عبد مناف- و خرج من كل قبيلة من قبائل قريش قوم- و الأرض إذ ذاك مفاوز- حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الحجاز و الشام- نفد ما كان مع عبد المطلب و بني أبيه من الماء- فعطشوا عطشا شديدا- فاستسقوا قومهم فأبوا أن يسقوهم- و قالوا نحن بمفازة و نخشى على أنفسنا مثل الذي أصابكم- فلما رأى عبد المطلب ما صنع القوم- و خاف على نفسه و أصحابه الهلاك- قال لأصحابه ما ترون- قالوا ما رأينا إلا تبع لرأيك فمرنا بما أحببت- قال فإني أرى أن يحفر كل رجل منا حفرة لنفسه- بما معه الآن من القوة- فكلما مات رجل دفنه أصحابه في حفرته- حتى يكون رجل واحد- فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب-

قالوا نعم ما أشرت- فقام كل رجل منهم فحفر حفيرة لنفسه- و قعدوا ينتظرون الموت- ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه- و الله إن إلقاءنا بأيدينا كذا للموت- لا نضرب في الأرض فنطلب الماء لعجز- قوموا فعسى الله أن يرزقنا ماء ببعض الأرض ارتحلوا- فارتحلوا و من معهم من قبائل قريش- ينظرون إليهم ما هم صانعون- فتقدم عبد المطلب إلى راحلته فركبها- فلما انبعثت به انفجر من تحت خفها عين- من ماء عذب- فكبر عبد المطلب و كبر أصحابه- ثم نزل فشرب و شرب أصحابه- و استقوا حتى ملئوا أسقيتهم- ثم دعا القبائل من قريش- فقال لهم هلموا إلى الماء فقد أسقانا الله- فاشربوا و استقوا فجاءوا فشربوا و استقوا- ثم قالوا قد و الله قضى الله لك علينا- و الله لا نخاصمك في زمزم أبدا- إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة- هو الذي سقاك زمزم- فارجع إلى سقايتك راشدا فرجع و رجعوا معه- لم يصلوا إلى الكاهنة و خلوا بينه و بين زمزم- .

و روى صاحب كتاب الواقدي- أن عبد الله بن جعفر فاخر يزيد بن معاوية- بين يدي معاوية- فقال له بأي آبائك تفاخرني- أ بحرب الذي أجرناه أم بأمية الذي ملكناه- أم بعبد شمس الذي كفلناه- فقال معاوية لحرب بن أمية يقال هذا- ما كنت أحسب- أن أحدا في عصر حرب يزعم أنه أشرف من حرب- فقال عبد الله- بلى أشرف منه- من كفأ عليه إناءه و جلله بردائه- فقال معاوية ليزيد رويدا يا بني- إن عبد الله يفخر عليك بك لأنك منه و هو منك- فاستحيا عبد الله- و قال يا أمير المؤمنين- يدان انتشطتا و أخوان اصطرعا- فلما قام عبد الله قال معاوية ليزيد- يا بني إياك و منازعة بني هاشم- فإنهم لا يجهلون ما علموا و لا يجد مبغضهم لهم سبا- قال أما قوله أ بحرب الذي أجرناه- فإن قريشا كانت إذا سافرت فصارت على العقبة- لم يتجاوزها أحد حتى تجوز قريش- فخرج حرب ليلة- فلما صار على العقبة- لقيه رجل من بني حاجب بن زرارة تميمي- فتنحنح حرب بن أمية و قال أنا حرب بن أمية- فتنحنح التميمي و قال أنا ابن حاجب بن زرارة- ثم بدر فجاز العقبة- فقال حرب لاها الله لا تدخل بعدها مكة و أنا حي- فمكث التميمي حينا لا يدخل- و كان متجره بمكة- فاستشار بها بمن يستجير من حرب- فأشير عليه بعبد المطلب أو بابنه الزبير بن عبد المطلب- فركب ناقته و صار إلى مكة ليلا- فدخلها و أناخ ناقته بباب الزبير بن عبد المطلب- فرغت الناقة فخرج إليه الزبير- فقال أ مستجير فتجار أم طالب قرى فتقرى- فقال

لاقيت حربا بالثنية مقبلا
و الليل أبلج نوره للساري‏

فعلا بصوت و اكتنى ليروعني‏
و دعا بدعوة معلن و شعار

فتركته خلفي و جزت أمامه
و كذاك كنت أكون في الأسفار

فمضى يهددني و يمنع مكة
إلا أحل بها بدار قرار

فتركته كالكلب ينبح وحده
و أتيت قرم مكارم و فخار

ليثا هزبرا يستجار بقربه‏
رحب المباءة مكرما للجار

و حلفت بالبيت العتيق و حجه
و بزمزم و الحجر و الأستار

إن الزبير لمانعي بمهند
صافي الحديدة صارم بتار

فقال الزبير اذهب إلى المنزل فقد أجرتك- فلما أصبح نادى الزبير أخاه الغيداق-فخرجا متقلدين سيفيهما و خرج التميمي معهما- فقالا له إنا إذا أجرنا رجلا لم نمش أمامه- فامش أمامنا ترمقك أبصارنا كي لا تختلس من خلفنا- فجعل التميمي يشق مكة حتى دخل المسجد- فلما بصر به حرب قال- و إنك لهاهنا و سبق إليه فلطمه- و صاح الزبير ثكلتك أمك أ تلطمه و قد أجرته- فثنى عليه حرب فلطمه ثانية- فانتضى الزبير سيفه فحمل على حرب بين يديه- و سعى الزبير خلفه فلم يرجع عنه- حتى هجم حرب على عبد المطلب داره- فقال ما شأنك قال الزبير- قال اجلس و كفأ عليه إناء كان هاشم يهشم فيه الثريد- و اجتمع الناس و انضم بنو عبد المطلب إلى الزبير- و وقفوا على باب أبيهم بأيديهم سيوفهم- فأزر عبد المطلب حربا بإزار كان له- و رداه برداء له طرفان- و أخرجه إليهم فعلموا أن أباهم قد أجاره- .

و أما معنى قوله أم بأمية الذي ملكناه- فإن عبد المطلب راهن أمية بن عبد شمس على فرسين- و جعل الخطر ممن سبقت فرسه مائة من الإبل- و عشرة أعبد و عشر إماء و استعباد سنة و جز الناصية- فسبق فرس عبد المطلب- فأخذ الخطر فقسمه في قريش- و أراد جز ناصيته- فقال أو أفتدي منك باستعباد عشر سنين ففعل- فكان أمية بعد في حشم عبد المطلب- و عضاريطه عشر سنين- .

و أما قوله أم بعبد شمس الذي كفلناه- فإن عبد شمس كان مملقا لا مال له- فكان أخوه هاشم يكفله و يمونه إلى أن مات هاشم- . و في كتاب الأغاني لأبي الفرج- إن معاوية قال لدغفل النسابة- أ رأيت عبد المطلب قال نعم- قال كيف رأيته- قال رأيته رجلا نبيلا جميلا وضيئا- كان على‏وجهه نور النبوة- قال أ فرأيت أمية بن عبد شمس قال نعم- قال كيف رأيته قال رأيته رجلا ضئيلا منحنيا أعمى- يقوده عبده ذكوان- فقال معاوية ذلك ابنه أبو عمرو- قال أنتم تقولون ذلك- فأما قريش فلم تكن تعرف إلا أنه عبده- . و نقلت من كتاب هاشم و عبد شمس- لابن أبي رؤبة الدباس- .

قال روى هشام بن الكلبي عن أبيه- أن نوفل بن عبد مناف ظلم عبد المطلب ابن هاشم- أركاحا له بمكة و هي الساحات- و كان بنو نوفل يدا مع عبد شمس- و عبد المطلب يدا مع هاشم- فاستنصر عبد المطلب قوما من قومه- فقصروا عن ذلك- فاستنجد أخواله من بني النجار بيثرب- فأقبل معه سبعون راكبا- فقالوا لنوفل لا و الله يا أبا عدي- ما رأينا بهذا الغائط ناشئا أحسن وجها- و لا أمد جسما و لا أعف نفسا- و لا أبعد من كل سوء من هذا الفتى- يعنون عبد المطلب- و قد عرفت قرابته منا و قد منعته ساحات له- و نحن نحب أن ترد عليه حقه فرده عليه- فقال عبد المطلب

تأبى مازن و بنو عدي
و ذبيان بن تيم اللات ضيمي‏

و زادت مالك حتى تناهت‏
و نكب بعد نوفل عن حريمي‏

قال و يقال إن ذلك كان سبب مخالفة خزاعة عبد المطلب- . قال و روى أبو اليقظان سحيم بن حفص- أن عبد المطلب جمع بنيه عند وفاته- و هم عشرة يومئذ- فأمرهم و نهاهم و أوصاهم و قال إياكم و البغي- فو الله ما خلق الله شيئاأعجل عقوبة من البغي- و ما رأيت أحدا بقي على البغي- إلا إخوتكم من بني عبد شمس- .

و روى الوليد بن هشام بن قحذم- قال قال عثمان يوما- وددت أني رأيت رجلا قد أدرك الملوك- يحدثني عما مضى- فذكر له رجل بحضرموت- فبعث إليه فحدثه حديثا طويلا تركنا ذكره- إلى أن قال أ رأيت عبد المطلب بن هاشم قال نعم- رأيت رجلا قعدا أبيض طويلا مقرون الحاجبين- بين عينيه غرة يقال إن فيها بركة- و إن فيه بركة- قال أ فرأيت أمية بن عبد شمس قال نعم- رأيت رجلا آدم دميما قصيرا أعمى- يقال إنه نكد و إن فيه نكدا- فقال عثمان يكفيك من شر سماعه- و أمر بإخراج الرجل- .

و روى هشام بن الكلبي- أن أمية بن عبد شمس لما كان غلاما كان يسرق الحاج- فسمي حارسا- . و روى ابن أبي رؤبة في هذا الكتاب- أن أول قتيل قتله بنو هاشم من بني عبد شمس- عفيف بن أبي العاص بن أمية- قتله حمزة بن عبد المطلب- و لم أقف على هذا الخبر إلا من كتاب ابن أبي رؤبة- . قال و مما يصدق قول من روى- أن أمية بن عبد شمس استعبده عبد المطلب- شعر أبي طالب بن عبد المطلب- حين تظاهرت عبد شمس و نوفل عليه و على رسول الله ص- و حصروهما في الشعب- فقال أبو طالب

توالى علينا موليانا كلاهما
إذا سئلا قالا إلى غيرنا الأمر

بلى لهما أمر و لكن تراجما
كما ارتجمت من رأس ذي القلع الصخر

أخص خصوصا عبد شمس و نوفلا
هما نبذانا مثل ما تنبذ الخمر

هما أغمضا للقوم في أخويهما
فقد أصبحت أيديهما و هما صفر

قديما أبوهم كان عبدا لجدنا
بني أمة شهلاء جاش بها البحر

لقد سفهوا أحلامهم في محمد
فكانوا كجعر بئس ما ضفطت جعر

ثم نرجع إلى حكاية شيخنا أبي عثمان- و قد نمزجه بكلام آخر لنا أو لغيرنا- ممن تعاطى الموازنة بين هذين البيتين- . قال أبو عثمان- فإن قالت أمية لنا الوليد بن يزيد بن عبد الملك- بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية- بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي- أربعة خلفاء في نسق- قلنا لهم و لبني هاشم هارون الواثق بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد- بن محمد المهدي بن عبد الله المنصور- بن محمد الكامل بن علي السجاد- كان يصلي كل يوم و ليلة ألف ركعة- فكان يقال له السجاد لعبادته و فضله- و كان أجمل قريش على وجه الأرض و أوسمها- ولد ليلة قتل علي بن أبي طالب ع- فسمي باسمه و كني بكنيته- فقال عبد الملك لا و الله لا أحتمل لك الاسم و لا الكنية- فغير أحدهما فغير الكنية فصيرها أبا محمد بن عبد الله و هو البحر- و هو حبر قريش- و هو المفقه في الدين المعلم التأويل- ابن العباس ذي الرأي- و حليم قريش بن شيبة الحمد- و هو عبد المطلب سيد الوادي بن عمرو- و هو هاشم هشم الثريد- و هو القمر سمي بذلك لجماله- و لأنهم كانوا يقتدون و يهتدون برأيه- ابن المغيرة و هو عبد مناف بن زيد- و هو قصي و هو مجمع- فهؤلاء ثلاثة عشر سيدا لم يحرم منهم واحد- و لا قصر عن الغاية- و ليس منهم واحد- إلا و هو ملقب بلقب اشتق له من فعله الكريم- و من خلقه الجميل- و ليس منهم إلا خليفة- أو موضع للخلافة أو سيد في قديم الدهر منيع- أو ناسك مقدم أو فقيه بارع- أو حليم ظاهر الركانة- و ليس هذا لأحد سواهم-

و منهم خمسة خلفاء في نسق- و هم أكثر مما عدته الأموية- و لم يكن مروان كالمنصور- لأن المنصور ملك البلاد و دوخ الأقطار- و ضبط الأطراف اثنتين و عشرين سنة- و كانت خلافة مروان على خلاف ذلك كله- و إنما بقي في الخلافة تسعة أشهر- حتى قتلته امرأته عاتكة بنت يزيد بن معاوية- حين قال لابنها خالد من بعلها الأول يا ابن الرطبة- و لئن كان مروان مستوجبا لاسم الخلافة- مع قلة الأيام و كثرة الاختلاف- و اضطراب البلدان فضلا عن الأطراف- فابن الزبير أولى بذلك منه- فقد كان ملك الأرض إلا بعض الأردن- و لكن سلطان عبد الملك و أولاده- لما اتصل بسلطان مروان اتصل عند القوم ما انقطع منه- و أخفى موضع الوهن عند من لا علم له- و سنو المهدي كانت سني سلامة- و ما زال عبد الملك في انتقاض و انتكاث- و لم يكن ملك يزيد كملك هارون- و لا ملك الوليد كملك المعتصم- . قلت رحم الله أبا عثمان- لو كان اليوم لعد من خلفاء بني هاشم تسعة في نسق- المستعصم بن المستنصر بن الطاهر بن المستضي‏ء- بن المستنجد بن المقتفي بن المستظهر بن المقتدر- و الطالبيون بمصر يعدون عشرة في نسق- الآمر بن المستعلي بن المستنصر بن الطاهر بن الحاكم- بن العزيز بن المعتز بن المنصور بن القائم بن المهدي- .

قال أبو عثمان و تفخر عليهم بنو هاشم- بأن سني ملكهم أكثر و مدته أطول- فإنه قد بلغت مدة ملكهم إلى اليوم أربعا و تسعين سنة- و يفخرون أيضا عليهم بأنهم ملكوا بالميراث- و بحق العصبة و العمومة- و إن ملكهم في مغرس نبوة- و إن أسبابهم غير أسباب بني مروان- بل ليس لبني مروان فيها سبب و لا بينهم و بينها نسب- إلا أن يقولوا إنا من قريش فيساووا في هذا الاسم قريش الظواهر- لأن رواية الراوي الأئمة من قريش- واقعة على كل قرشي- و أسباب الخلافة معروفة- و ما يدعيه كل جيل معلوم- و إلى كل ذلك قد ذهب الناس- فمنهم من ادعاه لعلي ع- لاجتماع القرابة و السابقة و الوصية- فإن كان الأمر كذلك- فليس لآل أبي سفيان و آل مروان فيها دعوى- و إن كانت‏ إنما تنال بالوراثة- و تستحق بالعمومة و تستوجب بحق العصبة- فليس لهم أيضا فيها دعوى- و إن كانت لا تنال إلا بالسوابق و الأعمال و الجهاد- فليس لهم في ذلك قدم مذكور و لا يوم مشهور- بل كانوا إذ لم تكن لهم سابقة- و لم يكن فيهم ما يستحقون به الخلافة- و لم يكن فيهم ما يمنعهم منها أشد المنع- لكان أهون و لكان الأمر عليهم أيسر- قد عرفنا كيف كان أبو سفيان في عداوة النبي ص- و في محاربته له- و إجلابه عليه و غزوة إياه- و عرفنا إسلامه حيث أسلم و إخلاصه كيف أخلص- و معنى كلمته يوم الفتح- حين رأى الجنود و كلامه يوم حنين- و قوله يوم صعد بلال على الكعبة فأذن- على أنه إنما أسلم على يدي العباس رحمه الله- و العباس هو الذي منع الناس من قتله- و جاء به رديفا إلى رسول الله ص- و سأله فيه أن يشرفه و أن يكرمه و ينوه به- و تلك يد بيضاء و نعمة غراء و مقام مشهود- و يوم حنين غير مجحود- فكان جزاء بني هاشم من بنيه أن حاربوا عليا- و سموا الحسن و قتلوا الحسين- و حملوا النساء على الأقتاب حواسر- و كشفوا عن عورة علي بن الحسين حين أشكل عليهم بلوغه- كما يصنع بذراري المشركين إذا دخلت دورهم عنوة- و بعث معاوية بسر بن أرطاة إلى اليمن- فقتل ابني عبيد الله بن العباس- و هما غلامان لم يبلغا الحلم- و قتل عبيد الله بن زياد يوم الطف- تسعة من صلب علي ع- و سبعة من صلب عقيل و لذلك قال ناعيهم-

عين جودي بعبرة و عويل
و اندبي إن ندبت آل الرسول‏

تسعة كلهم لصلب علي‏
قد أصيبوا و سبعة لعقيل‏

ثم إن أمية تزعم أن عقيلا أعان معاوية على علي ع- فإن كانوا كاذبين فما أولاهم بالكذب- و إن كانوا صادقين فما جازوا عقيلا بما صنع- و ضرب عنق مسلم‏بن عقيل صبرا و غدرا بعد الأمان- و قتلوا معه هانئ بن عروة لأنه آواه و نصره- و لذلك قال الشاعر

فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري
إلى هانئ في السوق و ابن عقيل‏

تري بطلا قد هشم السيف وجهه‏
و آخر يهوي من طمار قتيل‏

و أكلت هند كبد حمزة فمنهم آكلة الأكباد- و منهم كهف النفاق- و منهم من نقر بين ثنيتي الحسين ع بالقضيب- و منهم القاتل يوم الحرة عون بن عبد الله بن جعفر- و يوم الطف أبا بكر بن عبد الله بن جعفر- و قتل يوم الحرة أيضا من بني هاشم الفضل بن عباس- بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب- و العباس بن عتبة بن أبي لهب بن عبد المطلب- و عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة- بن الحارث بن عبد المطلب- . قلت إن أبا عثمان قايس بين مدتي ملكهما- و هو حينئذ في أيام الواثق- ففضل هؤلاء عليهم- لأن ملكهم أطول من ملكهم بعشر سنين- فكيف به لو كان اليوم حيا- و قد امتد ملكهم خمسمائة و ست عشرة سنة- و هذا أكثر من ملك البيت الثالث- من ملوك الفرس بنحو ثلاثين سنة- و أيضا فإن كان الفخر بطول مدة الملك- فبنو هاشم قد كان لهم أيضا ملك بمصر- نحو مائتين و سبعين سنة- مع ما ملكوه بالمغرب قبل أن ينتقلوا إلى مصرقال أبو عثمان و قالت هاشم لأمية- قد علم الناس ما صنعتم بنا من القتل و التشريد- لا لذنب أتيناه إليكم- ضربتم علي بن عبد الله بن عباس بالسياط مرتين- على أن تزوج بنت عمه الجعفرية- التي كانت عند عبد الملك- و على أن نحلتموه قتل سليط- و سممتم أبا هاشم عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب ع- و نبشتم زيدا و صلبتموه- و ألقيتم رأسه في عرصة الدار توطأ بالأقدام- و ينقر دماغه الدجاج- حتى قال القائل

اطرد الديك عن ذؤابة زيد
طالما كان لا تطأه الدجاج‏

و قال شاعركم أيضا

صلبنا لكم زيدا على جذع نخلة
و لم نر مهديا على الجذع يصلب‏

و قستم بعثمان عليا سفاهة
و عثمان خير من علي و أطيب‏

– فروي أن بعض الصالحين من أهل البيت ع قال- اللهم إن كان كاذبا فسلط عليه كلبا من كلابك- فخرج يوما بسفر له فعرض له الأسد فافترسه- و قتلتم الإمام جعفرا الصادق ع- و قتلتم يحيى بن زيد- و سميتم قاتله ثائر مروان و ناصر الدين- هذا إلى ما صنع سليمان بن حبيب بن المهلب عن أمركم- و قولكم بعبد الله أبي جعفر المنصور قبل الخلافة- و ما صنع مروان بإبراهيم الإمام- أدخل رأسه في جراب نورة حتى مات- فإن أنشدتم

أفاض المدامع قتلى كدى
و قتلى بكثوة لم ترمس‏

و بالزابيين نفوس ثوت‏
و أخرى بنهر أبي فطرس‏

أنشدنا نحن

و اذكروا مصرع الحسين و زيدا
و قتيلا بجانب المهراس‏

و القتيل الذي بنجران أمسى
ثاويا بين غربة و تناس‏

– و قد علمتم حال مروان أبيكم و ضعفه- و أنه كان رجلا لا فقه له- و لا يعرف بالزهد و لا الصلاح- و لا برواية الآثار و لا بصحبة و لا ببعد همة- و إنما ولي رستاقا من رساتيق درابجرد لابن عامر- ثم ولي البحرين لمعاوية- و قد كان جمع أصحابه و من تابعه ليبايع ابن الزبير- حتى رده عبيد الله بن زياد- و قال يوم مرج راهط- و الرءوس تندر عن كواهلها في طاعته-

و ما ضرهم غير حين النفوس
و أي غلامي قريش غلب‏

– هذا قول من لا يستحق أن يلي ربعا من الأرباع- و لا خمسا من الأخماس- و هو أحد من قتلته النساء لكلمة كان حتفه فيها- . و أما أبوه الحكم بن العاص فهو طريد رسول الله ص- و لعينه و المتخلج في مشيته- الحاكي لرسول الله ص و المستمع عليه ساعة خلوته- ثم صار طريدا لأبي بكر و عمر- امتنعا عن إعادته إلى المدينة و لم يقبلا شفاعة عثمان- فلما ولي أدخله فكان أعظم الناس شؤما عليه- و من أكبر الحجج في قتله و خلعه من الخلافة- فعبد الملك أبو هؤلاء الملوك- الذين تفتخر الأموية بهم أعرق الناس في الكفر- لأن أحد أبويه الحكم هذا- و الآخر من قبل أمه معاوية بن المغيرة بن أبي العاص- كان النبي ص طرده من المدينة و أجله ثلاثا- فحيره الله تعالى حين خرج- و بقي مترددا متلددا حولها لا يهتدي لسبيله- حتى أرسل في أثره عليا ع و عمارا فقتلاه- فأنتم أعرق الناس في الكفر- و نحن أعرق الناس في الإيمان- و لا يكون أمير المؤمنين إلا أولاهم بالإيمان و أقدمهم فيه- . قال أبو عثمان- و تفخر هاشم بأن أحدا لم يجد تسعين عاما لا طواعين فيها- إلا منذ ملكوا قالوا لو لم يكن من بركة دعوتنا- إلا أن تعذيب الأمراء بعمال الخراج-بالتعليق و الزهق و التجريد و التسهير و المسالد- و النورة و الجورتين و العذراء- و الجامعة و التشطيب قد ارتفع- لكان ذلك خيرا كثيرا- و في الطاعون يقول العماني الراجز يذكر دولتنا-

قد رفع الله رماح الجن
و أذهب التعذيب و التجني‏

– و العرب تسمي الطواعين رماح الجن- و في ذلك يقول الشاعر

لعمرك ما خشيت على أبي
رماح بني مقيدة الحمار

و لكني خشيت على أبي‏
رماح الجن أو إياك حار

يقول بعض بني أسد للحارث الغساني الملك- . قال أبو عثمان- و تفخر هاشم عليهم بأنهم لم يهدموا الكعبة- و لم يحولوا القبلة و لم يجعلوا الرسول دون الخليفة- و لم يختموا في أعناق الصحابة- و لم يغيروا أوقات الصلاة- و لم ينقشوا أكف المسلمين- و لم يأكلوا الطعام و يشربوا على منبر رسول الله ص- و لم ينهبوا الحرم- و لم يطئوا المسلمات دار في الإسلام بالسباء- . قلت نقلت من كتاب افتراق هاشم و عبد شمس- لأبي الحسين محمد بن علي بن نصر- المعروف بابن أبي رؤبة الدباس- قال كان بنو أمية في ملكهم يؤذنون- و يقيمون في العيد و يخطبون بعد الصلاة- و كانوا في سائر صلاتهم لا يجهرون بالتكبير- في الركوع و السجود- و كان لهشام بن عبد الملك خصي- إذا سجد هشام و هو يصلي في المقصورة- قال لا إله إلا الله- فيسمع الناس فيسجدون- و كانوا يقعدون في إحدى خطبتي العيد و الجمعة- و يقومون في الأخرى-

قال و رأى كعب مروان بن الحكم يخطب قاعدا- فقال انظروا إلى هذا يخطب قاعدا- و الله تعالى يقول لرسوله وَ تَرَكُوكَ قائِماً- . قال و أول من قعد في الخطب معاوية- و أول من أذن و أقام في صلاة العيد بشر بن مروان- و كان عمال بني أمية يأخذون الجزية- ممن أسلم من أهل الذمة- و يقولون هؤلاء فروا من الجزية- و يأخذون الصدقة من الخيل- و ربما دخلوا دار الرجل قد نفق فرسه أو باعه- فإذا أبصروا الآخية قالوا قد كان هاهنا فرس- فهات صدقتها- و كانوا يؤخرون صلاة الجمعة تشاغلا عنها بالخطبة- و يطيلون فيها إلى أن تتجاوز وقت العصر- و تكاد الشمس تصفر- فعل ذلك الوليد بن عبد الملك و يزيد أخوه و الحجاج عاملهم- و وكل بهم الحجاج المسالخ معه و السيوف على رءوسهم- فلا يستطيعون أن يصلوا الجمعة في وقتها- .

و قال الحسن البصري وا عجبا من أخيفش أعيمش- جاءنا ففتننا عن ديننا و صعد على منبرنا- فيخطب و الناس يلتفتون إلى الشمس- فيقول ما بالكم تلتفتون إلى الشمس- إنا و الله ما نصلي للشمس- إنما نصلي لرب الشمس- أ فلا تقولون يا عدو الله- إن لله حقا بالليل لا يقبله بالنهار- و حقا بالنهار لا يقبله بالليل- ثم يقول الحسن و كيف يقولون ذلك- و على رأس كل واحد منهم علج قائم بالسيف- قال و كانوا يسبون ذراري الخوارج من العرب و غيرهم- لما قتل قريب و زحاف الخارجيان سبى زياد ذراريهما- فأعطى شقيق بن ثور السدوسي إحدى بناتهما- و أعطى عباد بن حصين الأخرى- و سبيت بنت لعبيدة بن هلال اليشكري- و بنت لقطري بن الفجاءة المازني-

فصارت هذه إلى العباس بن الوليد بن عبد الملك- و اسمها أم سلمة-فوطئها بملك اليمين على رأيهم- فولدت له المؤمل و محمدا- و إبراهيم و أحمد و حصينا- بني عباس بن الوليد بن عبد الملك- و سبي واصل بن عمرو القنا و استرق- و سبي سعيد الصغير الحروري و استرق- و أم يزيد بن عمر بن هبيرة- و كانت من سبي عمان الذين سباهم مجاعة- و كانت بنو أمية تبيع الرجل في الدين يلزمه- و ترى أنه يصير بذلك رقيقا- . كان معن أبو عمير بن معن الكاتب حرا مولى لبني العنبر- فبيع في دين عليه- فاشتراه أبو سعيد بن زياد بن عمرو العتكي- و باع الحجاج علي بن بشير بن الماحوز- لكونه قتل رسول المهلب على رجل من الأزد- . فأما الكعبة فإن الحجاج في أيام عبد الملك هدمها- و كان الوليد بن يزيد يصلي- إذا صلى أوقات إفاقته من السكر إلى غير القبلة فقيل له- فقرأ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ- .

و خطب الحجاج بالكوفة- فذكر الذين يزورون قبر رسول الله ص بالمدينة- فقال تبا لهم إنما يطوفون بأعواد و رمة بالية- هلا طافوا بقصر أمير المؤمنين عبد الملك- أ لا يعلمون أن خليفة المرء خير من رسوله- . قال و كانت بنو أمية تختم في أعناق المسلمين- كما توسم الخيل علامة لاستعبادهم- . و بايع مسلم بن عقبة أهل المدينة كافة- و فيها بقايا الصحابة و أولادها و صلحاء التابعين- على أن كلا منهم عبد قن لأمير المؤمنين يزيد بن معاوية- إلا علي بن الحسين ع- فإنه بايعه على أنه أخوه و ابن عمه- . قال و نقشوا أكف المسلمين علامة لاسترقاقهم- كما يصنع بالعلوج من الروم و الحبشة- و كانت خطباء بني أمية تأكل و تشرب على المنبر- يوم الجمعة- لإطالتهم‏في الخطبة- و كان المسلمون تحت منبر الخطبة يأكلون و يشربون قال أبو عثمان- و يفخر بنو العباس على بني مروان و هاشم على عبد شمس- بأن الملك كان في أيديهم فانتزعوه منهم- و غلبوهم بالبطش الشديد و بالحيلة اللطيفة- ثم لم ينزعوه إلا من يد أشجعهم شجاعة- و أشدهم تدبيرا و أبعدهم غورا- و من نشأ في الحروب و ربي في الثغور- و من لا يعرف إلا الفتوح و سياسة الجنود- ثم أعطى الوفاء من أصحابه و الصبر من قواده- فلم يغدر منهم غادر و لا قصر منهم مقصر- كما قد بلغك عن حنظلة بن نباتة- و عامر بن ضبارة و يزيد بن عمر بن هبيرة- و لا أحد من سائر قواده- حتى من أحبابه و كتابه كعبد الحميد الكاتب ثم لم يلقه- و لا لقي تلك الحروب في عامة تلك الأيام- إلا رجال ولد العباس بأنفسهم- و لا قام بأكثر الدولة إلا مشايخهم كعبد الله بن علي- و صالح بن علي و داود بن علي و عبد الصمد بن علي- و قد لقيهم المنصور نفسه- .

قال و تفخر هاشم أيضا عليهم- بقول النبي ص و هو الصادق المصدق نقلت من الأصلاب الزاكية إلى الأرحام الطاهرة- و ما افترقت فرقتان إلا كنت في خيرهما و قال أيضا بعثت من خيرة قريش – . و معلوم أن بني عبد مناف افترقوا- فكانت هاشم و المطلب يدا و عبد شمس و نوفل يدا- قال و إن كان الفخر بكثرة العدد- فإنه من أعظم مفاخر العرب- فولد علي بن عبد الله بن العباس اليوم- مثل جميع بني عبد شمس- و كذلك ولد الحسين بن علي ع هذا مع قرب ميلادهما- و قد قال النبي ص شوهاء ولود خير من حسناء عقيم و قال أنا مكاثر بكم الأمموقد روى الشعبي عن جابر بن عبد الله أن النبي ص قدم من سفر-فأراد الرجال أن يطرقوا النساء ليلا- فقال أمهلوا حتى تمتشط الشعثة- و تستحد المغيبة- فإذا قدمتم فالكيس الكيس- قالوا ذهب إلى طلب الولد- و كانت العرب تفخر بكثرة الولد- و تمدح الفحل القبيس و تذم العاقر و العقيم- .و قال عامر بن الطفيل يعني نفسه

لبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا
جبانا فما عذري لدى كل محضر

و قال علقمة بن علاثة يفخر على عامر- آمنت و كفر و وفيت و غدر و ولدت و عقر- . و قال الزبرقان

فاسأل بني سعد و غيرهم
يوم الفخار فعندهم خبري‏

أي امرئ أنا حين يحضرني‏
رفد العطاء و طالب النصر

و إذا هلكت تركت وسطهم
ولدي الكرام و نابه الذكر

 و قال طرفة بن العبد

فلو شاء ربي كنت قيس بن خالد
و لو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد

فأصبحت ذا مال كثير و عادني‏
بنون كرام سادة لمسود

و مدح النابغة الذبياني ناسا فقال-

لم يحرموا طيب النساء و أمهم
طفحت عليك بناتق مذكار

و قال نهشل بن حري

على بني يشد الله عظمهم
و النبع ينبت قضبانا فيكتهل‏

 و مكث الفرزدق زمانا لا يولد له- فعيرته امرأته فقال-

قالت أراه واحدا لا أخا له
يؤمله في الوارثين الأباعد

لعلك يوما أن تريني كأنما
بني حوالي الليوث الحوارد

فإن تميما قبل أن يلد الحصى
أقام زمانا و هو في الناس واحد

و قال الآخر و قد مات إخوته- و ملأ حوضه ليسقي- فجاء رجل صاحب عشيرة و عترة فأخذ بضبعه فنحاه- ثم قال لراعيه اسق إبلك

لو كان حوض حمار ما شربت به
إلا بإذن حمار آخر الأبد

لكنه حوض من أودى بإخوته‏
ريب المنون فأمسى بيضة البلد

لو كان يشكي إلى الأموات ما لقي
الحياء بعدهم من قلة العدد

ثم اشتكيت لأشكاني و أنجدني‏
قبر بسنجار أو قبر على فحد

 و قال الأعشى و هو يذكر الكثرة-

و لست بالأكثر منهم حصى
و إنما العزة للكاثر

 

قال و قد ولد رجال من العرب- كل منهم يلد لصلبه أكثر من مائة- فصاروا بذلك مفخرا- منهم عبد الله بن عمير الليثي- و أنس بن مالك الأنصاري- و خليفة بن بر السعدي- أتى على عامتهم الموت الجارف- و مات جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس- عن ثلاثة و أربعين ذكرا- و خمس و ثلاثين امرأة كلهم لصلبه- فما ظنك بمن مات من ولده في حياته- و ليس طبقة من طبقات الأسنان الموت إليها أسرع- و فيها أعم‏و أفشى من سن الطفولية- و أمر جعفر بن سليمان قد عاينه عالم من الناس- و عامتهم أحياء- و ليس خبر جعفر كخبر غيره من الناس- .

قال الهيثم بن عدي- أفضى الملك إلى ولد العباس- و جميع ولد العباس يومئذ من الذكور ثلاثة و أربعون رجلا- و مات جعفر بن سليمان وحده عن مثل ذلك العدد- من الرجال- و ممن قرب ميلاده و كثر نسله- حتى صار كبعض القبائل و العمائر أبو بكر- صاحب رسول الله ص- و المهلب بن أبي صفرة و مسلم بن عمرو الباهلي- و زياد بن عبيد أمير العراق و مالك بن مسمع- و ولد جعفر بن سليمان اليوم أكثر عددا- من أهل هذه القبائل- و أربعة من قريش ترك كل واحد منهم عشرة بنين- مذكورين معروفين- و هم عبد المطلب بن هاشم و المطلب بن عبد مناف- و أمية بن عبد شمس- و المغيرة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم- و ليس على ظهر الأرض هاشمي إلا من ولد عبد المطلب- و لا يشك أحد أن عدد الهاشميين شبيه بعدد الجميع- فهذا ما في الكثرة و القلة- . قلت رحم الله أبا عثمان- لو كان حيا اليوم لرأى ولد الحسن و الحسين ع- أكثر من جميع العرب الذين كانوا في الجاهلية- على عصر النبي ص المسلمين منهم و الكافرين- لأنهم لو أحصوا لما نقص ديوانهم عن مائتي ألف إنسان- .

قال أبو عثمان- و إن كان الفخر بنبل الرأي و صواب القول- فمن مثل عباس بن عبد المطلب و عبد الله بن العباس- و إن كان في الحكم و السؤدد- و أصالة الرأي و الغناء العظيم فمن مثل عبد المطلب- و إن كان إلى الفقه و العلم بالتأويل و معرفة التأويل- و إلى القياس السديد و إلى الألسنة الحداد و الخطب الطوال- فمن مثل علي بن أبي طالب ع و عبد الله بن عباس- .

قالوا خطبنا عبد الله بن عباس خطبة بمكة- أيام حصار عثمان- لو شهدها الترك و الديلم لأسلموا- . و في عبد الله بن العباس يقول حسان بن ثابت-

إذا قال لم يترك مقالا لقائل
بملتقطات لا ترى بينها فضلا

شفى و كفى ما في النفوس فلم يدع‏
لذي إربة في القول جدا و لا هزلا

 و هو البحر و هو الحبر- و كان عمر يقول له في حداثته عند إجالة الرأي- غص يا غواص- و كان يقدمه على جلة السلف- . قلت أبى أبو عثمان إلا إعراضا عن علي ع- هلا قال فيه كما قال في عبد الله- فلعمري لو أراد لوجد مجالا- و لألفى قولا وسيعا- و هل تعلم الناس الخطب و العهود و الفصاحة- إلا من كلام علي ع- و هل أخذ عبد الله رحمه الله الفقه و تفسير القرآن إلا عنه- فرحم الله أبا عثمان- لقد غلبت البصرة و طينتها على إصابة رأيه- .

قال أبو عثمان و إن كان الفخر في البسالة و النجدة- و قتل الأقران و جزر الفرسان- فمن كحمزة بن عبد المطلب و علي بن أبي طالب- و كان الأحنف إذا ذكر حمزة قال أكيس- و كان لا يرضى أن يقول شجاع- لأن العرب كانت تجعل ذلك أربع طبقات- فتقول شجاع فإذا كان فوق ذلك قالت بطل- فإذا كان فوق ذلك قالت بهمة- فإذا كان فوق ذلك قالت أكيس- و قال العجاج أكيس عن حوبائه سخي‏- و هل أكثر ما يعد الناس من جرحاهما و صرعاهما- إلا سادتكم و أعلامكم- قتل حمزة و علي ع عتبة و الوليد- و قتلا شيبة أيضا شركا عبيدة بن الحارث فيه- و قتل علي ع حنظلة بن أبي سفيان- فأما آباء ملوككم من بني مروان- فإنهم كما قال‏عبد الله بن الزبير لما أتاه خبر المصعب- إنا و الله ما نموت حبجا كما يموت آل أبي العاص- و الله ما قتل منهم قتيل في جاهلية و لا إسلام- و ما نموت إلا قتلا- قعصا بالرماح و موتا تحت ظلال السيوف- .

قال أبو عثمان- كأنه لم يعد قتل معاوية بن المغيرة بن أبي العاص قتلا- إذ كان إنما قتل في غير معركة- و كذلك قتل عثمان بن عفان إذ كان إنما قتل محاصرا- و لا قتل مروان بن الحكم لأنه قتل خنقا خنقته النساء- قال و إنما فخر عبد الله بن الزبير بما في بني أسد بن عبد العزى من القتلى- لأن من شأن العرب أن يفخروا بذلك- كيف كانوا قاتلين أو مقتولين- أ لا ترى أنك لا تصيب كثرة القتلى- إلا في القوم المعروفين بالبأس و النجدة- و بكثرة اللقاء و المحاربة- كآل أبي طالب و آل الزبير و آل المهلب- .

قال و في آل الزبير خاصة سبعة مقتولون في نسق- و لم يوجد ذلك في غيرهم- قتل عمارة و حمزة ابنا عبد الله بن الزبير- يوم قديد في المعركة- قتلهما الإباضية- و قتل عبد الله بن الزبير في محاربة الحجاج- و قتل مصعب بن الزبير بدير الجاثليق- في المعركة أكرم قتل- و بإزائه عبد الملك بن مروان- و قتل الزبير بوادي السباع منصرفه عن وقعة الجمل- و قتل العوام بن خويلد في حرب الفجار- و قتل خويلد بن أسد بن عبد العزى في حرب خزاعة- فهؤلاء سبعة في نسق- . قال و في بني أسد بن عبد العزى- قتلى كثيرون غير هؤلاء- قتل المنذر بن الزبير بمكة قتله أهل الشام في حرب الحجاج- و هو على بغل ورد كان نفر به فأصعد به في الجبل-و إياه يعني يزيد بن مفرغ الحميري- و هو يهجو صاحبكم عبيد الله بن زياد- و يعيره بفراره يوم البصرة-

لابن الزبير غداة تدمر منذرا
أولى بكل حفيظة و دفاع‏

و قتل عمرو بن الزبير قتله أخوه عبد الله بن الزبير- و كان في جوار أخيه عبيدة بن الزبير فلم يغن عنه- فقال الشاعر يحرض عبيدة على قتل أخيه عبد الله بن الزبير- و يعيره بإخفاره جوار عمرو أخيهما-

 أ عبيد لو كان المجير لولولت
بعد الهدو برنة أسماء

أ عبيد إنك قد أجرت و جاركم‏
تحت الصفيح تنوبه الأصداء

اضرب بسيفك ضربة مذكورة
فيها أداء أمانه و وفاء

و قتل بجير بن العوام أخو الزبير بن العوام- قتله سعد بن صفح الدوسي جد أبي هريرة من قبل أمه- قتله بناحية اليمامة- و قتل معه أصرم و بعلك أخويه ابني العوام بن خويلد- و قد قتل منهم في محاربة النبي ص قوم مشهورون- منهم زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى- كان شريفا قتل يوم بدر- و أبوه الأسود كان المثل يضرب بعزته بمكة- و فيه قال رسول الله ص و هو يذكر عاقر الناقة- كان عزيزا منيعا كأبي زمعة- و يكنى زمعة بن الأسود أبا حكيمة- و قتل الحارث بن الأسود بن المطلب يوم بدر أيضا- و قتل عبد الله بن حميد بن زهير بن الحارث- بن الأسود بن المطلب بن أسد يوم بدر أيضا- و قتل نوفل بن خويلد يوم بدر أيضا- قتله علي بن أبي طالب ع- و قتل يوم الحرة يزيد بن عبد الله بن زمعة بن الأسود- ضرب عنقه مسرف بن عقبة صبرا- قال له بايع لأمير المؤمنين يزيد بن معاوية- على أنك عبد قن له- قال بل أبايعه على أني أخوه و ابن عمه فضرب عنقه- و قتل إسماعيل بن هبار بن الأسود ليلا- و كان ادعى حيلة فخرج مصرخا لمن استصرخه فقتل- فاتهم به مصعب بن عبد الله بن عبد الرحمن- فأحلفه معاوية خمسين يمينا و خلى سبيله- فقال الشاعر

و لا أجيب بليل داعيا أبدا
أخشى الغرور كما غر ابن هبار

باتوا يجرونه في الحش منعقرا
بئس الهدية لابن العم و الجار

 و قتل عبد الرحمن بن العوام بن خويلد- في خلافة عمر بن الخطاب في بعض المغازي- و قتل ابنه عبد الرحمن يوم الدار مع عثمان- فعبد الله بن عبد الرحمن بن العوام بن خويلد قتيل- ابن قتيل ابن قتيل ابن قتيل أربعة- و من قتلاهم عيسى بن مصعب بن الزبير- قتل بين يدي أبيه بمسكن في حرب عبد الملك- و كان مصعب يكنى أبا عيسى و أبا عبد الله- و فيه يقول الشاعر

لتبك أبا عيسى و عيسى كلاهما
موالي قريش كهلها و صميمها

و منهم مصعب بن عكاشة بن مصعب بن الزبير- قتل يوم قديد في حرب الخوارج- و قد ذكره الشاعر- فقال

قمن فاندبن رجالا قتلوا
بقديد و لنقصان العدد

ثم لا تعدلن فيها مصعبا
حين يبكى من قتيل بأحد

إنه قد كان فيها باسلا
صارما يقدم إقدام الأسد

و منهم خالد بن عثمان بن خالد بن الزبير- خرج مع محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن- فقتله أبو جعفر و صلبه- و منهم عتيق بن عامر بن عبد الله بن الزبير- قتل بقديد أيضا- و سمي عتيقا باسم جده أبي بكر الصديق- .

قلت هذا أيضا من تحامل أبي عثمان- هلا ذكر قتلى الطف- و هم عشرون سيدا من بيت واحد- قتلوا في ساعة واحدة- و هذا ما لم يقع مثله في الدنيا لا في العرب و لا في العجم- . و لما قتل حذيفة بن بدر يوم الهباءة- و قتل معه ثلاثة أو أربعة من أهل بيته- ضربت العرب بذلك الأمثال و استعظموه- فجاء يوم الطف جرى الوادي فطم على القري- . و هلا عدد القتلى من آل أبي طالب- فإنهم إذا عدوا إلى أيام أبي عثمان كانوا عددا كثيرا- أضعاف ما ذكره من قتلى الأسديين- قال أبو عثمان- و إن كان الفخر و الفضل في الجود و السماح- فمن مثل عبد الله بن جعفر بن أبي طالب- و من مثل عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب- .

و قد اعترضت الأموية هذا الموضع- فقالت إنما كان عبد الله بن جعفر يهب- ما كان معاوية و يزيد يهبان له- فمن فضل جودنا جاد- . قالوا- و معاوية أول رجل في الأرض وهب ألف ألف درهم- و ابنه أول من ضاعف ذلك- فإنه كان يجيز الحسن و الحسين ابني علي ع في كل عام- لكل واحد منهما بألف ألف درهم- و كذلك كان يجيز عبد الله بن العباس و عبد الله بن جعفر- فلما مات و قام يزيد وفد عليه عبد الله بن جعفر- فقال له إن أمير المؤمنين معاوية- كان يصل رحمي في كل سنة بألف ألف درهم- قال فلك ألفا ألف درهم- فقال بأبي أنت و أمي- أما إني ما قلتها لابن أنثى قبلك- قال فلك أربعة آلاف ألف درهم- .

و هذا الاعتراض ساقط- لأن ذلك إن صح لم يعد جودا و لا جائزة و لا صلة رحم- هؤلاءقوم كان يخافهم على ملكه- و يعرف حقهم فيه و موقعهم من قلوب الأمة- فكان يدبر في ذلك تدبيرا و يريع أمورا- و يصانع عن دولته و ملكه- و نحن لم نعد قط ما أعطى خلفاء بني هاشم قوادهم- و كتابهم و بني عمهم جودا- فقد وهب المأمون للحسن بن سهل غلة عشرة آلاف ألف- فما عد ذلك منه مكرمة- و كذلك كل ما يكون داخلا في باب التجارة- و استمالة القلوب و تدبير الدولة- و إنما يكون الجود ما يدفعه الملوك في الوفود- و الخطباء و الشعراء و الأشراف- و الأدباء و السمار و نحوهم- و لو لا ذلك لكان الخليفة إذا وفى الجند أعطياتهم- احتسب ذلك في جوده- فالعمالات شي‏ء و الإعطاء على دفع المكروه شي‏ء- و التفضل و الجود شي‏ء- ثم إن الذين أعطاهم معاوية و يزيد هو بعض حقهم- و الذي فضل عليهما أكثر مما خرج منهما- .

و إن أريد الموازنة بين ملوك بني العباس- و ملوك بني أمية في العطاء- افتضح بنو أمية و ناصروهم فضيحة ظاهرة- فإن نساء خلفاء بني عباس أكثر معروفا- من رجال بني أمية- و لو ذكرت معروف أم جعفر وحدها- لأتى ذلك على جميع صنائع بني مروان و ذلك معروف- و لو ذكر معروف الخيزران و سلسبيل- لملئت الطوامير الكثيرة به- و ما نظن خالصة مولاتهم إلا فوق أجواد أجوادهم- و إن شئت أن تذكر مواليهم و كتابهم- فاذكر عيسى بن ماهان و ابنه عليا- و خالد بن برمك و ابنه يحيى- و ابنه جعفرا و الفضل- و كاتبهم منصور بن زياد و محمد بن منصور و فتى العسكر- فإنك تجد لكل واحد من هؤلاء- ما يحيط بجميع صنائع بني عبد شمس- .

فأما ملوك الأموية- فليس منهم إلا من كان يبخل على الطعام- و كان جعفر بن سليمان كثيرا ما يذكر ذلك- و كان معاوية يبغض الرجل النهم على مائدته- و كان‏المنصور إذا ذكرهم يقول- كان عبد الملك جبارا لا يبالي ما صنع- و كان الوليد مجنونا- و كان سليمان همه بطنه و فرجه- و كان عمر أعور بين عميان- و كان هشام رجل القوم- و كان لا يذكر ابن عاتكة- و لقد كان هشام مع ما استثناه به يقول هو الأحول السراق- ما زال يدخل إعطاء الجند شهرا في شهر و شهرا في شهر- حتى أخذ لنفسه مقدار رزق سنة- و أنشده أبو النجم العجلي أرجوزته التي أولها-

ألحد لله الوهوب المجزل‏

فما زال يصفق بيديه استحسانا لها- حتى صار إلى ذكر الشمس- فقال

و الشمس في الأفق كعين الأحول‏

فأمر بوج‏ء عنقه و إخراجه- و هذا ضعف شديد و جهل عظيم- . و قال خاله إبراهيم بن هشام المخزومي- ما رأيت من هشام خطأ قط إلا مرتين- حدا به الحادي مرة فقال

إن عليك أيها البختي
أكرم من تمشي به المطي‏

فقال صدقت- و قال مرة و الله لأشكون سليمان يوم القيامة- إلى أمير المؤمنين عبد الملك- و هذا ضعف شديد و جهل مفرط- . و قال أبو عثمان و كان هشام يقول- و الله إني لأستحيي أن أعطي رجلا أكثر من أربعة آلاف درهم- ثم أعطى عبد الله بن الحسن أربعة آلاف دينار- فاعتدها في جوده و توسعه- و إنما اشترى بها ملكه- و حصن بها عن نفسه و ما في يديه- قال له أخوه مسلمة أ تطمع أن تلي الخلافة و أنت بخيل جبان- فقال و لكني حليم عفيف- فاعترف بالجبن و البخل- و هل تقوم الخلافة مع واحد منهما- و إن قامت فلا تقوم إلا مع الخطر العظيم و التغرير الشديد- و لو سلمت من الفساد لم تسلم من العيب- .

و لقد قدم المنصور عليهم عمر بن عبد العزيز- بقوله أعور بين عميان- و زعمتم أنه كان ناسكا ورعا تقيا- فكيف و قد جلد خبيب بن عبد الله بن الزبير مائة جلدة- و صب على رأسه جرة من ماء بارد في يوم شات- حتى كز فمات فما أقر بدمه- و لا خرج إلى وليه من حقه- و لا أعطى عقلا و لا قودا- و لا كان خبيب ممن أتت عليه حدود الله و أحكامه و قصاصه- فيقال كان مطيعا بإقامتها- و أنه أزهق الحد نفسه- و احتسبوا الضرب كان أدبا و تعزيرا- فما عذره في الماء البارد في الشتاء على أثر جلد شديد- و لقد بلغه أن سليمان بن عبد الملك يوصي- فجاء حتى جلس على طريق من يجلس عنده أو يدخل إليه- فقال رجاء بن حيوة في بعض من يدخل و من يخرج- نشدتك الله أن تذكرني لهذا الأمر- أو تشير بي في هذا الشأن- فو الله ما لي عليه من طاقة- فقال له رجاء قاتلك الله ما أحرصك عليها- .

و لما جاء الوليد بن عبد الملك بنعي الحجاج- قال له الوليد مات الحجاج يا أبا حفص- فقال و هل كان الحجاج إلا رجلا منا أهل البيت- و قال في خلافته- لو لا بيعة في أعناق الناس ليزيد بن عاتكة- لجعلت هذا الأمر شورى بين صاحب الأعوص- إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد الأشدق- و بين أحمس قريش القاسم بن محمد بن أبي بكر- و بين سالم بن عبد الله بن عمر- فما كان عليه من الضرر و الحرج- و ما كان عليه من الوكف و النقص- أن لو قال بين علي بن العباس و علي بن الحسين بن علي- و على أنه لم يرد التيمي و لا العدوي- و إنما دبر الأمر للأموي- و لم يكن عنده أحد من هاشم يصلح للشورى- ثم دبر الأمر ليبايع لأخيه أبي بكر بن عبد العزيز من بعده- حتى عوجل بالسم- .

و قدم عليه عبد الله بن حسن بن حسن- فلما رأى كماله و بيانه و عرف نسبه و مركبه‏ و موضعه- و كيف ذلك من قلوب المسلمين و في صدور المؤمنين- لم يدعه يبيت بالشام ليلة واحدة- و قال له الحق بأهلك- فإنك لم تغنهم شيئا هو أنفس منك- و لا أرد عليهم من حياتك- أخاف عليك طواعين الشام- و ستلحقك الحوائج على ما تشتهي و تحب- .

و إنما كره أن يروه و يسمعوا كلامه- فلعله يبذر في قلوبهم بذرا- و يغرس في صدورهم غرسا- و كان أعظم خلق قولا بالجبر حتى يتجاوز الجهمية- و يربي على كل ذي غاية صاحب شنعة- و كان يصنع ذلك الكتب- مع جهله بالكلام و قلة اختلافه إلى أهل النظر- و قال له شوذب الخارجي لم لا تلعن رهطك- و تذكر أباك إن كانوا عندك ظلمة فجرة- فقال عمر متى عهدك بلعن فرعون قال ما لي به عهد- قال أ فيسعك أن تمسك عن لعن فرعون- و لا يسعني أن أمسك عن لعن آبائي- فرأى أنه قد خصمه و قطع حجته- و كذلك يظنه كل من قصر عن مقدار العالم- و جاوز مقدار الجاهل- و أي شبه لفرعون بآل مروان و آل أبي سفيان- هؤلاء قوم لهم حزب و شيعة- و ناس كثير يدينون تفضيلهم- و قد اعتورتهم الشبه في أمرهم- و فرعون على خلاف ذلك- و ضده لا شيعة له و لا حزب و لا نسل و لا موالي و لا صنائع- و لا في أمره شبهة- ثم إن عمر ظنين في أمر أهله- فيحتاج إلى غسل ذلك عنه بالبراءة منهم- و شوذب ليس بظنين في أمر فرعون- و ليس الإمساك عن لعن فرعون و البراءة منه- مما يعرفه الخوارج- فكيف استويا عنده- .

و شكا إليه رجل من رهطه دينا فادحا و عيالا كثيرا- فاعتل عليه فقال له فهلا اعتللت على عبد الله بن الحسن- قال و متى شاورتك في أمري- قال أو مشيراتراني- قال أو هل أعطيته إلا بعض حقه- قال و لم قصرت عن كله فأمر بإخراجه- و ما زال إلى أن مات محروما منه- . و كان عمال أهله على البلاد عماله و أصحابه- و الذي حسن أمره و شبه على الأغنياء حاله- أنه قام بعقب قوم- قد بدلوا عامة شرائع الدين و سنن النبي ص- و كان الناس قبله من الظلم و الجور و التهاون بالإسلام- في أمر صغر في جنبه عاينوا منه- و ألفوه عليه- فجعلوه بما نقص من تلك الأمور الفظيعة في عداد الأئمة الراشدين- و حسبك من ذلك أنهم كانوا يلعنون عليا ع على منابرهم- فلما نهى عمر عن ذلك عد محسنا- و يشهد لذلك قول كثير فيه-

و ليت فلم تشتم عليا و لم تخف
بريا و لم تتبع مقالة مجرم‏

 و هذا الشعر يدل على أن شتم علي ع قد كان لهم عادة- حتى مدح من كف عنه- و لما ولي خالد بن عبد الله القسري مكة- و كان إذا خطب بها لعن عليا و الحسن و الحسين ع- قال عبيد الله بن كثير السهمي-

لعن الله من يسب عليا
و حسينا من سوقة و إمام‏

أ يسب المطهرون جدودا
و الكرام الآباء و الأعمام‏

يأمن الطير و الحمام و لا يأمن
آل الرسول عند المقام‏

طبت بيتا و طاب أهلك أهلا
أهل بيت النبي و الإسلام‏

رحمة الله و السلام عليهم
كلما قام قائم بسلام‏

و قام عبد الله بن الوليد بن عثمان بن عفان- و كان ممن يناله بزعمهم إلى هشام بن عبد الملك- و هو يخطب على المنبر بعرفة- فقال يا أمير المؤمنين- هذا يوم كانت‏الخلفاء تستحب فيه لعن أبي تراب- فقال هشام ليس لهذا جئنا- أ لا ترى أن ذلك يدل على أنه قد كان لعنه فيهم فاشيا ظاهرا- و كان عبد الله بن الوليد هذا يلعن عليا ع- و يقول قتل جدي جميعا الزبير و عثمان- . و قال المغيرة و هو عامل معاوية يومئذ لصعصعة بن صوحان- قم فالعن عليا- فقام فقال إن أميركم هذا أمرني أن ألعن عليا- فالعنوه لعنه الله و هو يضمر المغيرة- .

و أما عبد الملك- فحسبك من جهله تبديله شرائع الدين و الإسلام- و هو يريد أن يلي أمور أصحابها بذلك الدين بعينه- و حسبك من جهله- أنه رأى من أبلغ التدبير في منع بنى هاشم الخلافة- أن يلعن علي بن أبي طالب ع على منابره- و يرمي بالفجور في مجالسه- و هذا قرة عين عدوه و عير وليه- و حسبك من جهله قيامه على منبر الخلافة- قائلا إني و الله ما أنا بالخليفة المستضعف- و لا بالخليفة المداهن- و لا بالخليفة المأفون- و هؤلاء سلفه و أئمته- و بشفعتهم قام ذلك المقام- و بتقدمهم و تأسيسهم نال تلك الرئاسة- و لو لا العادة المتقدمة و الأجناد المجندة- و الصنائع القائمة- لكان أبعد خلق الله من ذلك المقام- و أقربهم إلى المهلكة إن رام ذلك الشرف- و عنى بالمستضعف عثمان- و بالمداهن معاوية و بالمأفون يزيد بن معاوية- و هذا الكلام نقض لسلطانه- و عداوة لأهله و إفساد لقلوب شيعته- و لو لم يكن من عجز رأيه إلا أنه لم يقدر على إظهار قوته- إلا بأن يظهر عجز أئمته لكفاك ذلك منه- فهذا ما ذكرته هاشم لأنفسها

مفاخر بني أمية

قالت أمية- لنا من نوادر الرجال في العقل و الدهاء و الأدب و المكر- ما ليس لأحد-و لنا من الأجواد و أصحاب الصنائع ما ليس لأحد- زعم الناس أن الدهاة أربعة- معاوية بن أبي سفيان و زياد- و عمرو بن العاص و المغيرة بن شعبة- فمنا رجلان و من سائر الناس رجلان- و لنا في الأجواد سعيد بن العاص و عبد الله بن عامر- لم يوجد لهما نظير إلى الساعة- و أما نوادر الرجال في الرأي و التدبير- فأبو سفيان بن حرب- و عبد الملك بن مروان و مسلمة بن عبد الملك- و على أنهم يعدون في الحلماء و الرؤساء- فأهل الحجاز يضربون المثل في الحلم بمعاوية- كما يضرب أهل العراق المثل فيه بالأحنف- .

فأما الفتوح و التدبير في الحرب فلمعاوية غير مدافع- و كان خطيبا مصقعا و مجربا مظفرا- و كان يجيد قول الشعر إذا آثر أن يقوله- و كان عبد الملك خطيبا حازما مجربا مظفرا- و كان مسلمة شجاعا مدبرا و سائسا مقدما- و كثير الفتوح كثير الأدب- و كان يزيد بن معاوية خطيبا شاعرا- و كان الوليد بن يزيد خطيبا شاعرا- و كان مروان بن الحكم و عبد الرحمن بن الحكم شاعرين- و كان بشر بن مروان شاعرا ناسبا و أديبا عالما- و كان خالد بن يزيد بن معاوية خطيبا شاعرا- جيد الرأي أديبا كثير الأدب حكيما- و كان أول من أعطى التراجمة و الفلاسفة- و قرب أهل الحكمة و رؤساء أهل كل صناعة- و ترجم كتب النجوم و الطب و الكيمياء- و الحروب و الآداب و الآلات و الصناعات- .

قالوا و إن ذكرت البأس و الشجاعة- فالعباس بن الوليد بن عبد الملك- و مروان بن محمد- و أبوه محمد بن مروان بن الحكم- و هو صاحب مصعب- و هؤلاء قوم لهم آثار بالروم لا تجهل- و آثار بإرمينية لا تنكر- و لهم يوم العقر شهده مسلمة و العباس بن الوليد- . قالوا و لنا الفتوح العظام- و لنا فارس و خراسان و إرمينية- و سجستان و إفريقية و جميع فتوح عثمان- فأما فتوح بني مروان فأكثر و أعم و أشهر- من أن‏تحتاج إلى عدد أو إلى شاهد- و الذين بلغوا في ذلك الزمان- أقصى ما يمكن صاحب خف و حافر أن يبلغه- حتى لم يحتجز منهم إلا ببحر أو خليج بحر- أو غياض أو عقاب أو حصون- و صياصي ثلاثة رجال قتيبة بن مسلم بخراسان- و موسى بن نصير بإفريقية- و القاسم بن محمد بن القاسم الثقفي بالسند و الهند- و هؤلاء كلهم عمالنا و صنائعنا- و يقال إن البصرة كانت صنائع ثلاثة رجال- عبد الله بن عامر و زياد و الحجاج- فرجلان من أنفسنا و الثالث صنيعنا- . قالوا و لنا في الأجواد و أهل الأقدار- بنو عبد الله بن خالد بن أسيد بن أمية- و أخوه خالد و في خالد يقول الشاعر-

إلى خالد حتى أنخنا بخالد
فنعم الفتى يرجى و نعم المؤمل‏

و لنا سعيد بن خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد- و هو عقيد الندى- كان يسبت ستة أشهر و يفيق ستة أشهر- و يرى كحيلا من غير اكتحال- و دهينا من غير تدهين- و له يقول موسى شهوات-

أبا خالد أعني سعيد بن خالد
أخا العرف لا أعني ابن بنت سعيد

و لكنني أعني ابن عائشة الذي‏
أبو أبويه خالد بن أسيد

عقيد الندى ما عاش يرضى به الندى
فإن مات لم يرض الندى بعقيد

 قالوا و إنما تمكن فينا الشعر و جاد- ليس من قبل أن الذين مدحونا- ما كانوا غير من مدح الناس- و لكن لما وجدوا فينا مما يتسع لأجله القول- و يصدق فيه القائل- قد مدح عبد الله بن قيس الرقيات من الناس- آل الزبير عبد الله و مصعبا و غيرهما- فكان يقول كما يقول غيره- فلما صار إلينا قال-

ما نقموا من بني أمية إلا
أنهم يحلمون أن غضبوا

و أنهم معدن الملوك فما
تصلح إلا عليهم العرب‏

و قال نصيب

من النفر الشم الذين إذا انتجوا
أقرت لنجواهم لؤي بن غالب‏

يحيون بسامين طورا و تارة
يحيون عباسين شوس الحواجب‏

و قال الأخطل

شمس العداوة حتى يستقاد لهم
و أعظم الناس أحلاما إذا قدروا

 قالوا و فينا يقول شاعركم- و المتشيع لكم الكميت بن زيد-

فالآن صرت إلى أمية
و الأمور لها مصائر

و في معاوية يقول أبو الجهم العدوي-

نقلبه لنخبر حالتيه
فنخبر منهما كرما و لينا

نميل على جوانبه كأنا
إذا ملنا نميل على أبينا

و فيه يقول

  تريع إليه هوادي الكلام
إذا ضل خطبته المهذر

قالوا- و إذا نظرتم في امتداح الشعراء عبد العزيز بن مروان- عرفتم صدق ما نقوله- . قالوا و في إرسال النبي ص إلى أهل مكة عثمان- و استعماله عليها عتاب بن أسيد- و هو ابن اثنتين و عشرين سنة- دليل على موضع المنعة أن تهاب العرب و تعز قريش- وقال النبي ص قبل الفتح فتيان أضن بهما على النار- عتاب بن أسيد و جبير بن مطعم- فولى عتابا و ترك جبير بن مطعم- .

و قال الشعبي لو ولد لي مائة ابن لسميتهم كلهم عبد الرحمن- للذي رأيت في قريش من أصحاب هذا الاسم- ثم عد عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد- و عبد الرحمن بن الحارث بن هشام- و عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص- فأما عبد الرحمن بن عتاب- فإنه صاحب الخيل يوم الجمل- و هو صاحب الكف و الخاتم- و هو الذي مر به علي و هو قتيل- فقال لهفي عليك يعسوب قريش- هذا اللباب المحض من بني عبد مناف- فقال له قائل لشد ما أتيته اليوم يا أمير المؤمنين- قال إنه قام عني و عنه نسوة لم يقمن عنك- . قالوا و لنا من الخطباء معاوية بن أبي سفيان- أخطب الناس قائما و قاعدا و على منبر- و في خطبة نكاح- و قال عمر بن الخطاب- ما يتصعدني شي‏ء من الكلام كما يتصعدني خطبة النكاح- و قد يكون خطيبا من ليس عنده في حديثه- و وصفه للشي‏ء احتجاجه في الأمر لسان بارع- و كان معاوية يجري مع ذلك كله- .

قالوا و من خطبائنا يزيد بن معاوية- كان أعرابي اللسان بدوي اللهجة- قال معاوية و خطب عنده خطيب- فأجاد لأرمينه بالخطيب الأشدق يريد يزيد بن معاوية- . و من خطبائنا سعيد بن العاص- لم يوجد كتحبيره تحبير و لا كارتجاله ارتجال- . و منا عمرو بن سعيد الأشدق- لقب بذلك لأنه حيث دخل على معاوية و هو غلام- بعد وفاة أبيه فسمع كلامه- فقال إن ابن سعيد هذا الأشدق- . و قال له معاوية إلى من أوصى بك أبوك- قال إن أبي أوصى إلي و لم يوص بي- قال فبم أوصى إليك- قال ألا يفقد إخوانه منه إلا وجهه- .

قالوا و منا سعيد بن عمرو بن سعيد- خطيب ابن خطيب ابن خطيب- تكلم الناس عند عبد الملك قياما و تكلم قاعدا- قال عبد الملك فتكلم و أنا و الله أحب عثرته و إسكاته- فأحسن حتى استنطقته و استزدته- و كان عبد الملك خطيبا خطب‏الناس مرة- فقال ما أنصفتمونا معشر رعيتنا- طلبتم منا أن نسير فيكم- و في أنفسنا سيرة أبي بكر و عمر في أنفسهما و رعيتهما- و لم تسيروا فينا و لا في أنفسكم- سيرة رعية أبي بكر و عمر فيهما و في أنفسهما- و لكل من النصفة نصيب- قالوا فكانت خطبته نافعة- . قالوا و لنا زياد و عبيد الله بن زياد- و كانا غنيين في صحة المعاني و جودة اللفظ- و لهما كلام كثير محفوظ قالوا و من خطبائنا سليمان بن عبد الملك- و الوليد بن يزيد بن عبد الملك- .

و من خطبائنا و نساكنا يزيد بن الوليد الناقص- قال عيسى بن حاضر- قلت لعمرو بن عبيد ما قولك في عمر بن عبد العزيز- فكلح ثم صرف وجهه عني- قلت فما قولك في يزيد الناقص- فقال أو الكامل قال بالعدل و عمل بالعدل- و بذل نفسه و قتل ابن عمه في طاعة ربه- و كان نكالا لأهله- و نقص من أعطياتهم ما زادته الجبابرة- و أظهر البراءة من آبائه- و جعل في عهده شرطا و لم يجعله جزما- لا و الله لكأنه ينطق عن لسان أبي سعيد يريد الحسن البصري- قال و كان الحسن من أنطق الناس- .

قالوا و قد قرئ في الكتب القديمة- يا مبذر الكنوز يا ساجدا بالأسحار- كانت ولايتك رحمة بهم و حجة عليهم- قالوا هو يزيد بن الوليد- . و من خطبائنا ثم من ولد سعيد بن العاص عمرو بن خولة- كان ناسبا فصيحا خطيبا- . و قال ابن عائشة الأكبر- ما شهد خطيبا قط إلا و لجلج هيبة له- و معرفة بانتقاده- . و من خطبائنا عبد الله بن عامر- و عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر- و كانا من أكرم الناس و أبين الناس- كان مسلمة بن عبد الملك يقول- إني لأنحي كور عمامتي على أذني لأسمع كلام عبد الأعلى- .

و كانوا يقولون- أشبه قريش نعمة و جهارة و اقتدارا و بيانا بعمرو بن سعيد- عبد الأعلى بن عبد الله- . قالوا و من خطبائنا و رجالنا الوليد بن عبد الملك- و هو الذي كان يقال له فحل بني مروان- كان يركب معه ستون رجلا لصلبه- . و من ذوي آدابنا و علمائنا و أصحاب الأخبار- و رواية الأشعار و الأنساب بشر بن مروان- أمير العراق- . قالوا و نحن أكثر نساكا منكم- منا معاوية بن يزيد بن معاوية- و هو الذي قيل له في مرضه الذي مات فيه- لو أقمت للناس ولي عهد- قال و من جعل لي هذا العهد في أعناق الناس- و الله لو لا خوفي الفتنة لما أقمت عليها طرفة عين- و الله لا أذهب بمرارتها و تذهبون بحلاوتها- فقالت له أمه لوددت أنك حيضة- قال أنا و الله وددت ذلك- .

قالوا و منا سليمان بن عبد الملك الذي هدم الديماس- و رد المسيرين و أخرج المسجونين و ترك القريب- و اختار عمر بن عبد العزيز- و كان سليمان جوادا خطيبا جميلا- صاحب سلامة و دعة و حب للعافية و قرب من الناس- حتى سمي المهدي و قيلت الأشعار في ذلك- . قالوا و لنا عمر بن عبد العزيز شبه عمر بن الخطاب- قد ولده عمر و باسمه سمي- و هو أشج قريش المذكور في الآثار المنقولة في الكتب- العدل في أشد الزمان- و ظلف نفسه بعد اعتياد النعم- حتى صار مثلا و مفخرا- و قيل للحسن أ ما رويتأن رسول الله ص قال لا يزداد الزمان إلا شدة و الناس إلا شحا- و لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق- قال بلى- قيل فما بال عمر بن عبد العزيز و عدله‏و سيرته- فقال لا بد للناس من متنفس- و كان مذكورا مع الخطباء و مع النساك و مع الفقهاء قالوا و لنا ابنه عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز- كان ناسكا زكيا طاهرا- و كان من أتقى الناس و أحسنهم معونة لأبيه- و كان كثيرا ما يعظ أباه و ينهاه- . قالوا و لنا من لا نظير له في جميع أموره- و هو صاحب الأعوص إسماعيل بن أمية- بن عمرو بن سعيد بن العاص- و هو الذي قال فيه عمر بن عبد العزيز- لو كان إلي من الأمر شي‏ء- لجعلتها شورى بين القاسم بن محمد- و سالم بن عبد الله و صاحب الأعوص- . قالوا و من نساكنا أبو حراب من بني أمية الصغرى- أ داود بن علي- و من نساكنا يزيد بن محمد بن مروان- كان لا يهدب ثوبا و لا يصبغه- و لا يتخلق بخلوق- و لا اختار طعاما على طعام ما أطعم أكله- و كان يكره التكلف و ينهى عنه- .

قالوا و من نساكنا أبو بكر بن عبد العزيز بن مروان- أراد عمر أخوه أن يجعله ولي عهده- لما رأى من فضله و زهده فسما فيهما جميعا- . و من نساكنا عبد الرحمن بن أبان بن عثمان بن عفان- كان يصلي كل يوم ألف ركعة- و كان كثير الصدقة- و كان إذا تصدق بصدقة قال اللهم إن هذا لوجهك- فخفف عني الموت- فانطلق حاجا ثم تصبح بالنوم- فذهبوا ينبهونه للرحيل فوجدوه ميتا- فأقاموا عليه المأتم بالمدينة- و جاء أشعب فدخل إلى المأتم- و على رأسه كبة من طين- فالتدم مع النساء و كان إليه محسنا- . و من نساكنا عبد الرحمن بن يزيد- بن معاوية بن أبي سفيان- .

قالوا فنحن نعد من الصلاح و الفضل ما سمعتموه- و ما لم نذكره أكثر- و أنتم تقولون أمية هي الشجرة الملعونة في القرآن- و زعمتم أن الشجرة الخبيثة لا تثمر الطيب- كما أن الطيب لا يثمر الخبيث- فإن كان الأمر كما تقولون فعثمان بن عفان ثمرة خبيثة- . و ينبغي أن يكون النبي ص دفع ابنتيه إلى خبيث- و كذلك يزيد بن أبي سفيان- صاحب مقدمة أبي بكر الصديق على جيوش الشام- و ينبغي لأبي العاص بن الربيع- زوج زينب بنت رسول الله ص أن يكون كذلك- و ينبغي لمحمد بن عبد الله المدبج أن يكون كذلك- و إن ولدته فاطمة ع لأنه من بني أمية- و كذلك عبد الله بن عثمان بن عفان سبط رسول الله ص- الذي مات بعد أن شدن و نقر الديك عينه فمات- لأنه من بني أمية- و كذلك ينبغي أن يكون عتاب بن أسيد- بن أبي العيص بن أمية- و إن كان النبي ص ولاه مكة أم القرى- و قبلة الإسلام- معقوله ع فتيان أضن بهما عن النار- عتاب ابن أسيد و جبير بن مطعم- و كذلك ينبغي أن يكون عمر بن عبد العزيز- شبيه عمر بن الخطاب كذلك- و كذلك معاوية بن يزيد بن معاوية- و كذلك يزيد الناقص- و ينبغي ألا يكون النبي ص عد عثمان في العشرة- الذين بشرهم بالجنة- و ينبغي أن يكون خالد بن سعيد بن العاص شهيد- يوم مرج الصفر و الحبيس في سبيل الله- و والي النبي ص على اليمن- و والي أبي بكر على جميع أجناد الشام- و رابع أربعة في الإسلام- و المهاجر إلى أرض الحبشة كذلك- و كذلك أبان بن سعيد بن العاص المهاجر إلى المدينة- و القديم في الإسلام و الحبيس على الجهاد- و يجب أن يكون ملعونا خبيثا- و كذلك أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة- و هو بدري من المهاجرين الأولين- و كذلك أمامة بنت أبي العاص بن الربيع- و أمها زينب بنت‏رسول الله ص- و كذلك أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط- و كان النبي ص يخرجها من المغازي- و يضرب لها بسهم و يصافحها- و كذلك فاطمة بنت أبي معيط- و هي من مهاجرة الحبشة- .

قالوا و مما نفخر به و ليس لبني هاشم مثله- إن منا رجلا ولي أربعين سنة منها عشرون سنة خليفة- و هو معاوية بن أبي سفيان- و لنا أربعة إخوة خلفاء الوليد و سليمان- و هشام بنو عبد الملك- و ليس لكم و يزيد إلا ثلاثة إخوة- محمد و عبد الله و أبي إسحاق أولاد هارون- . قالوا و منا رجل ولد سبعة من الخلفاء- و هو عبد الله بن يزيد بن عبد الملك بن مروان- أبوه يزيد بن عاتكة خليفة- و جده عبد الملك خليفة و أبو جده مروان الحكم خليفة- و جده من قبل عاتكة ابنة يزيد بن معاوية- أبوها يزيد بن معاوية و هو خليفة- و معاوية بن أبي سفيان و هو خليفة فهؤلاء خمسة- و أم عبد الله هذا عاتكة بنت عبد الله بن عثمان بن عفان- و حفصة بنت عبد الله بن عمر بن الخطاب- فهذان خليفتان- فهذه سبعة من الخلفاء ولدوا هذا الرجل- .

قالوا و منا امرأة أبوها خليفة و جدها خليفة- و ابنها خليفة و أخوها خليفة و بعلها خليفة- فهؤلاء خمسة- و هي عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان- أبوها يزيد بن معاوية خليفة- و جدها معاوية بن أبي سفيان خليفة- و ابنها يزيد بن عبد الملك بن مروان خليفة- و أخوها معاوية بن يزيد خليفة- و بعلها عبد الملك بن مروان خليفة- . قالوا و من ولد المدبج محمد بن عبد الله الأصغر امرأة- ولدها النبي ص و أبو بكر و عمر و عثمان- و علي و طلحة و الزبير- و هي عائشة بنت محمد بن عبد الله بن عمر بن عثمان بن عفان- و أمها خديجة بنت عثمان بن عروة بن الزبير- و أم عروة أسماء ذات النطاقين بنت أبي بكر الصديق- و أم محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان- و هوالمدبج فاطمة بنت الحسين بن علي ع- و أم الحسين بن علي ع فاطمة بنت رسول الله ص- و أم فاطمة بنت الحسين بن علي ع أم إسحاق بنت طلحة بن عبد الله- و أم عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان- ابنة عبد الله بن عمر بن الخطاب- . قالوا و لنا في الجمال و الحسن ما ليس لكم- منا المدبج و الديباج قيل ذلك لجماله- . و منا المطرف و منا الأرجوان- فالمطرف و هو عبد الله بن عمرو بن عثمان- سمي المطرف لجماله- و فيه يقول الفرزدق

  نما الفاروق أنك و ابن أروى
أبوك فأنت منصدع النهار

 و المدبج هو الديباج- كان أطول الناس قياما في الصلاة- و هلك في سجن المنصور- . قالوا و منا ابن الخلائف الأربعة- دعي بذلك و شهر به- و هو المؤمل بن العباس بن الوليد بن عبد الملك- كان هو و أخوه الحارث ابني العباس بن الوليد- من الفجاءة بنت قطري بن الفجاءة إمام الخوارج- و كانت سبيت فوقعت إليه- فلما قام عمر بن عبد العزيز أتت وجوه بني مازن- و فيهم حاجب بن ذبيان المازني الشاعر- فقال حاجب

أتيناك زوارا و وفدا إلى التي
أضاءت فلا يخفى على الناس نورها

أبوها عميد الحي جمعا و أمها
من الحنظليات الكرام حجورها

فإن تك صارت حين صارت فإنها
إلى نسب زاك كرام نفيرها

فبعث عمر بن عبد العزيز إلى العباس بن الوليد- إما أن تردها إلى أهلها و إما أن تزوجها- فقال قائل ذات يوم للمؤمل يا ابن الخلائف الأربعة- قال ويلك من الرابع‏قال قطري- فأما الثلاثة فالوليد و عبد الملك و مروان- و أما قطري فبويع بالخلافة- و فيه يقول الشاعر

و أبو نعامة سيد الكفار

قالوا و من أين صار محمد بن علي بن عبد الله بن العباس- أحق بالدعوة و الخلافة من سائر إخوته- و من أين كان له أن يضعها في بيته دون إخوته- و كيف صار بنو الأخ أحق بها من الأعمام- . و قالوا إن يكن هذا الأمر إنما يستحق بالميراث- فالأقرب إلى العباس أحق- و إن كان بالسن و التجربة فالعمومة بذلك أولى- . قالوا فقد ذكرنا جملا من حال رجالنا في الإسلام- و أما الجاهلية فلنا الأعياص و العنابس- . و لنا ذو العصابة أبو أحيحة سعيد بن العاص- كان إذا اعتم لم يعتم بمكة أحد- و لنا حرب بن أمية رئيس يوم الفجار- و لنا أبو سفيان بن حرب رئيس أحد و الخندق- و سيد قريش كلها في زمانه- . و قال أبو الجهم بن حذيفة العدوي لعمر- حين رأى العباس و أبا سفيان على فراشه دون الناس- ما نرانا نستريح من بني عبد مناف على حال- قال عمر بئس أخو العشيرة أنت- هذا عم رسول الله ص و هذا سيد قريش- .

قالوا و لنا عتبة بن ربيعة ساد مملقا- و لا يكون السيد إلا مترفا- لو لا ما رأوا عنده من البراعة و النبل و الكمال- و هو الذي لما تحاكمت بجيلة و كلب في منافرة جرير و الفرافصة- و تراهنوا بسوق عكاظ- و صنعوا الرهن على يده دون جميع من شهد على ذلك المشهد- و
قال رسول الله ص و نظر إلى قريش مقبلة يوم بدر- إن يكن منهم عند أحد خير- فعند صاحب الجمل الأحمر- و ما ظنك بشيخ طلبوا له من جميع العسكر- عند المبارزة بيضة- فلم يقدروا على بيضة يدخل رأسه فيها- و قد قال الشاعر

و إنا أناس يملأ البيض هامنا

– قالوا و أمية الأكبر صنفان الأعياص و العنابس-قال الشاعر

من الأعياص أو من آل حرب
أغر كغرة الفرس الجواد

سموا بذلك في حرب الفجار- حين حفروا لأرجلهم الحفائر و ثبتوا فيها- و قالوا نموت جميعا أو نظفر- و إنما سموا بالعنابس لأنها أسماء الأسود- و إنما سموا الأعياص لأنها أسماء الأصول- فالعنابس حرب و سفيان و أبو سفيان و عمرو- و الأعياص العيص و أبو العيص- و العاص و أبو العاص و أبو عمرو- و لم يعقب من العنابس إلا حرب- و ما عقب الأعياص إلا العيص- و لذلك كان معاوية يشكو القلة- . قالوا و ليس لبني هاشم و المطلب مثل هذه القسمة- و لا مثل هذا اللقب المشهور- و هذا ما قالته أمية عن نفسها

ذكر الجواب عما فخرت به بنو أمية

و نحن نذكر ما أجاب به أبو عثمان عن كلامهم- و نضيف إليه من قبلنا أمورا لم يذكرها- فنقول قالت هاشم أما ذكرتم من الدهاء و المكر- فإن ذلك من أسماء فجار العقلاء- و ليس من أسماء أهل الصواب في الرأي من العقلاء و الأبرار- و قد بلغ أبو بكر و عمر من التدبير و صواب الرأي- و الخبرة بالأمور العامة- و ليس من أوصافهما و لا من أسمائهما أن يقال- كانا داهيين و لا كانا مكيرين- و ما عامل معاوية و عمرو بن العاص عليا ع قط بمعاملة- إلا و كان علي ع أعلم بها منهما- و لكن الرجل الذي يحارب- و لا يستعمل إلا ما يجل له أقل مذاهب- في وجوه الحيل و التدبير- من الرجل الذي يستعمل ما يحل و ما لا يحل- و كذلك من حدث و أخبر- أ لا ترى أن الكذاب ليس لكذبه غاية- و لا لما يولد و يصنع نهاية- و الصدوق إنما يحدث عن شي‏ء معروف- و معنى محدود- و يدل على ما قلنا أنكم عددتم أربعة في الدهاء- و ليس واحد منهم عند المسلمين في طريق المتقين- و لو كان الدهاء مرتبة و المكر منزلة- لكان تقدم هؤلاء الجميع السابقين الأولين- عيبا شديدا في السابقين الأولين- و لو أن إنسانا أراد أن يمدح أبا بكر و عمر و عثمان و عليا- ثم قال الدهاة أربعة و عدهم- لكان قد قال قولا مرغوبا عنه- لأن الدهاء و المكر ليس من صفات الصالحين- و إن علموا من غامض الأمور ما يجهله جميع العقلاء- أ لا ترى أنه قد يحسن أن يقال- كان رسول الله ص أكرم الناس و أحلم الناس- و أجود الناس و أشجع الناس- و لا يجوز أن يقال كان أمكر الناس و أدهى الناس- و إن علمنا أن علمه قد أحاط بكل مكر و خديعة- و بكل أدب و مكيدة- .

و أما ما ذكرتم من جود سعيد بن العاص و عبد الله بن عامر- فأين أنتم من عبد الله بن جعفر- و عبيد الله بن العباس و الحسن بن علي- و أين أنتم من جود خلفاء بني‏العباس- كمحمد المهدي و هارون و محمد بن زبيدة- و عبد الله المأمون و جعفر المقتدر- بل لعل جود بعض صنائع هؤلاء- كبني برمك و بني الفرات- أعظم من جود الرجلين اللذين ذكرتموهما- بل من جميع ما جاء به خلفاء بني أمية- . و أما ما ذكرتم من حلم معاوية- فلو شئنا أن نجعل جميع ساداتنا حلماء- لكانوا محتملين لذلك- و لكن الوجه في هذا ألا يشتق للرجل اسم- إلا من أشرف أعماله و أكرم أخلاقه- و إلا أن يتبين بذلك عند أصحابه- حتى يصير بذلك اسما يسمى و يصير معروفا به- كما عرف الأحنف بالحلم- و كما عرف حاتم بالجود- و كذلك هرم قالوا هرم الجواد- و لو قلتم كان أبو العاص بن أمية أحلم الناس- لقلنا و لعله يكون قد كان حليما- و لكن ليس كل حلم يكون صاحبه به مذكورا- و من إشكاله بائنا و إنكم لتظلمون خصومكم في تسميتكم معاوية بالحلم- فكيف من دونه- لأن العرب تقول أحلم الحلمين ألا يتعرض ثم يحلم- و لم يكن في الأرض رجل أكثر تعرضا من معاوية- و التعرض هو السفه- فإن ادعيتم أن الأخبار التي جاءت في تعرضه كلها باطلة- فإن لقائل أن يقول- و كل خبر رويتموه في حلمه باطل- و لقد شهر الأحنف بالحلم- و لكنه تكلم بكلام كثير يجرح في الحلم و يثلم في العرض- و لا يستطيع أحد أن يحكي عن العباس بن عبد المطلب- و لا عن الحسن بن علي بن أبي طالب لفظا فاحشا- و لا كلمة ساقطة- و لا حرفا واحدا مما يحكى عن الأحنف و معاوية- .

و كان المأمون أحلم الناس- و كان عبد الله السفاح أحلم الناس- و بعد فمن يستطيع أن يصف هاشما أو عبد المطلب بالحلم- دون غيره من الأخلاق و الأفعال حتى يسميه بذلك- و يخص به دون كل شي‏ء فيه من الفضل- و كيف و أخلاقهم متساوية و كلها في الغاية- و لو أن رجلا كان أظهر الناس زهدا- و أصدقهم للعدو لقاء و أصدق الناس لسانا-و أجود الناس كفا و أفصحهم منطقا- و كان بكل ذلك مشهورا لمنع بعض ذلك من بعض- و لما كان له اسم السيد المقدم و الكامل المعظم- و لم يكن الجواد أغلب على اسمه- و لا البيان و لا النجدة- .

و أما ما ذكرتم من الخطابة و الفصاحة- و السؤدد و العلم بالأدب و النسب- فقد علم الناس أن بني هاشم في الجملة أرق ألسنة من بني أمية- كان أبو طالب و الزبير شاعرين- و كان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب شاعرا- و لم يكن من أولاد أمية بن عبد شمس لصلبه شاعر- و لم يكن في أولاد أمية إلا أن تعدوا في الإسلام العرجي- من ولد عثمان بن عفان و عبد الرحمن بن الحكم- فنعد نحن الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب- و عبد الله بن معاوية بن جعفر- و لنا من المتأخرين محمد بن الحسين بن موسى المعروف بالرضي- و أخوه أبو القاسم و لنا الحماني- و علي بن محمد صاحب الزنج- و كان إبراهيم بن الحسن صاحب باخمرى- أديبا شاعرا فاضلا- و لنا محمد بن علي بن صالح الذي خرج في أيام المتوكل- .

قال أبو الفرج الأصفهاني- كان من فتيان آل أبي طالب- و فتاكهم و شجعانهم و ظرافهم و شعرائهم- و إن عددتم الخطابة و البيان و الفصاحة- لم تعدوا كعلي بن أبي طالب ع و لا كعبد الله بن العباس- و لنا من الخطباء زيد بن علي بن الحسين- و عبد الله بن معاوية بن عبد الله- بن معاوية بن عبد الله بن جعفر- و جعفر بن الحسين بن الحسن- و داود بن علي بن عبد الله بن العباس- و داود و سليمان ابنا جعفر بن سليمان- .

قالوا كان جعفر بن الحسين بن الحسن- ينازع زيد بن علي بن الحسين في الوصية-و كان الناس يجتمعون ليستمعوا محاورتهما- و كان سليمان بن جعفر بن سليمان بن علي والي مكة- فكان أهل مكة يقولون لم يرد علينا أمير- إلا و سليمان أبين منه قاعدا و أخطب منه قائما- و كان داود إذا خطب اسحنفر فلم يرده شي‏ء- . قالوا و لنا عبد الملك بن صالح بن علي كان خطيبا بليغا- و سأله الرشيد و سليمان بن أبي جعفر و عيسى بن جعفر حاضران- فقال له كيف رأيت أرض كذا- قال مسافي ريح و منابت شيح- قال فأرض كذا قال هضبات حمر و ربوات عفر- حتى أتى على جميع ما سأله عنه- فقال عيسى لسليمان- و الله ما ينبغي لنا أن نرضى لأنفسنا بالدون من الكلام- .

قالوا و أما ما ذكرتم من نساك الملوك- فلنا علي بن أبي طالب ع- و بزهده و بدينه يضرب المثل- و لنا محمد بن الواثق من خلفاء بني العباس- و هو الملقب بالمهتدي- كان يقول إني لآنف لبني العباس- ألا يكون منهم مثل عمر بن عبد العزيز- فكان مثله و فوقه- و لنا القادر أبو العباس بن إسحاق بن المقتدر- و لنا القائم عبد الله بن القادر- كانا على قدم عظيمة من الزهد و الدين و النسك- و إن عددتم النساك من غير الملوك- فأين أنتم عن علي بن الحسين زين العابدين- و أين أنتم عن علي بن عبد الله بن العباس- و أين أنتم عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ع- الذي كان يقال له علي الخير و علي الأغر و علي العابد- و ما أقسم على الله بشي‏ء إلا و أبر قسمه- و أين أنتم عن موسى بن جعفر بن محمد- و أين أنتم عن علي بن محمد الرضا- لابس الصوف طول عمره- مع سعة أمواله و كثرة ضياعه و غلاته- .

و أما ما ذكرتم من الفتوح- فلنا الفتوح المعتصمية التي سارت بها الركبان- و ضربت بها الأمثال و لنا فتوح الرشيد- و لنا الآثار الشريفة في قتل بابك الخرمي- بعد أن دامت فتنته في دار الإسلام نحو ثلاثين سنة- و إن شئت أن تعد فتوح الطالبيين بإفريقية و مصر- و ما ملكوه من مدن الروم و الفرنج و الجلالقة- في سني ملكهم- عددت الكثير الجم الذي يخرج عن الحصر- و يحتاج إلى تاريخ مفرد يشتمل على جلود كثيرة- .

فأما الفقه و العلم و التفسير و التأويل- فإن ذكرتموه لم يكن لكم فيه أحد- و كان لنا فيه مثل علي بن أبي طالب ع- و عبد الله بن العباس- و زيد بن علي و محمد بن علي ابني علي بن الحسين بن علي- و جعفر بن محمد الذي ملأ الدنيا علمه و فقهه- و يقال إن أبا حنيفة من تلامذته- و كذلك سفيان الثوري- و حسبك بهما في هذا الباب- و لذلك نسب سفيان إلى أنه زيدي المذهب- و كذلك أبو حنيفة- . و من مثل علي بن الحسين زين العابدين- و قال الشافعي في الرسالة في إثبات خبر الواحد- وجدت علي بن الحسين و هو أفقه أهل المدينة- يعول على أخبار الآحاد- . و من مثل محمد بن الحنفية و ابنه أبي هاشم- الذي قرر علوم التوحيد و العدل- و قالت المعتزلة- غلبنا الناس كلهم بأبي هاشم الأول و أبي هاشم الثاني- . و إن ذكرتم النجدة و البسالة و الشجاعة- فمن مثل علي بن أبي طالب ع- و قد وقع اتفاق أوليائه و أعدائه على أنه أشجع البشر- . و من مثل حمزة بن عبد المطلب أسد الله و أسد رسوله- و من مثل الحسين بن علي ع- قالوا يوم الطف ما رأينا مكثورا- قد أفرد من إخوته و أهله و أنصاره أشجع منه- كان كالليث المحرب يحطم الفرسان حطما- و ما ظنك برجل أبت نفسه الدنية و أن يعطي‏ بيده- فقاتل حتى قتل هو و بنوه و إخوته و بنو عمه- بعد بذل الأمان لهم- و التوثقة بالأيمان المغلظة- و هو الذي سن للعرب الإباء- و اقتدى بعده أبناء الزبير و بنو المهلب و غيرهم- .

و من لكم مثل محمد و إبراهيم بن عبد الله- و من لكم كزيد بن علي- و قد علمتم كلمته التي قالها حيث خرج من عند هشام- ما أحب الحياة إلا من ذل- فلما بلغت هشاما قال خارج و رب الكعبة- فخرج بالسيف و نهى عن المنكر- و دعا إلى إقامة شعائر الله حتى قتل صابرا محتسبا- . و قد بلغتكم شجاعة أبي إسحاق المعتصم- و وقوفه في مشاهد الحرب بنفسه- حتى فتح الفتوح الجليلة- و بلغتكم شجاعة عبد الله بن علي- و هو الذي أزال ملك بني مروان و شهد الحروب بنفسه- و كذلك صالح بن علي- و هو الذي اتبع مروان بن محمد إلى مصر حتى قتله- . قالوا و إن كان الفضل و الفخر في تواضع الشريف- و إنصاف السيد و سجاحة الخلق- و لين الجانب للعشيرة و الموالي- فليس لأحد من ذلك ما لبني العباس- و لقد سألنا طارق بن المبارك- و هو مولى لبني أمية و صنيعة من صنائعهم- فقلنا أي القبيلتين أشد نخوة و أعظم كبرياء و جبرية- أ بنو مروان أم بنو العباس- فقال و الله لبنو مروان في غير دولتهم- أعظم كبرياء من بني العباس في دولتهم- و قد كان أدرك الدولتين- و لذلك قال شاعرهم

إذا نابه من عبد شمس رأيته
يتيه فرشحه لكل عظيم‏

و إن تاه تياه سواهم فإنما
يتيه لنوك أو يتيه للوم‏

و من كلامهم من لم يكن من بني أمية تياها فهو دعي قالوا و إن كان الكبر مفخرا يمدح به الرجال- و يعد من خصال الشرف و الفضل- فمولانا عمارة بن حمزة أعظم كبرا- من كل أموي كان و يكون في الدنيا- و أخباره في كبره و تيهه مشهورة متعالمة- . قالوا و إن كان الشرف و الفخر في الجمال و في الكمال- و في البسطة في الجسم و تمام القوام- فمن كان كالعباس بن عبد المطلب- .

قالوا رأينا العباس يطوف بالبيت- و كأنه فسطاط أبيض- . و من مثل علي بن عبد الله بن العباس و ولده- و كان كل واحد منهم إذا قام إلى جنب أبيه- كان رأسه عند شحمة أذنه- و كانوا من أطول الناس- و إنك لتجد ميراث ذلك اليوم في أولادهم- . ثم الذي رواه أصحاب الأخبار و حمال الآثار- في عبد المطلب من التمام و القوام و الجمال و البهاء- و ما كان من لقب هاشم بالقمر لجماله- و لأنهم يستضيئون برأيه- و كما رواه الناس أن عبد المطلب ولد عشرة- كان الرجل منهم يأكل في المجلس الجذعة- و يشرب الفرق و ترد آنفهم قبل شفاههم- و إن عامر بن مالك لما رآهم يطوفون بالبيت- كأنهم جمال جون- قال بهؤلاء تمنع مكة و تشرف مكة- . و قد سمعتم ما ذكره الناس من جمال السفاح و حسنه- و كذلك المهدي و ابنه هارون الرشيد- و ابنه محمد بن زبيدة و كذلك هارون الواثق- و محمد المنتصر و الزبير المعتز- .

قالوا ما رئي في العرب و لا في العجم أحسن صورة منه- و كان المكتفي علي بن المعتضد بارع الجمال- و لذلك قال الشاعر يضرب المثل به-

و الله لا كلمته و لو أنه
كالشمس أو كالبدر أو كالمكتفي‏

 فجعله ثالث القمرين- و كان الحسن بن علي ع أصبح الناس وجها- كان يشبه برسول الله ص- و كذلك عبد الله بن الحسن المحض- . قالوا و لنا ثلاثة في عصر بنو عم- كلهم يسمى عليا- و كلهم كان يصلح للخلافة بالفقه و النسك و المركب- و الرأي و التجربة و الحال الرفيعة بين الناس- علي بن الحسين بن علي- و علي بن عبد الله بن العباس و علي بن عبد الله بن جعفر- كل هؤلاء كان تاما كاملا بارعا جامعا- و كانت لبابة بنت عبد الله بن العباس- عند علي بن عبد الله بن جعفر- قالت ما رأيته ضاحكا قط و لا قاطبا- و لا قال شيئا احتاج إلى أن يعتذر منه- و لا ضرب عبدا قط و لا ملكه أكثر من سنة- .

قالوا و بعد هؤلاء ثلاثة بنو عم- و هم بنو هؤلاء الثلاثة و كلهم يسمى محمدا- كما أن كل واحد من أولئك يسمى عليا- و كلهم يصلح للخلافة- بكرم النسب و شرف الخصال- محمد بن علي بن الحسين بن علي- و محمد بن علي بن عبد الله بن العباس- و محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر- . قالوا كان محمد بن علي بن الحسين لا يسمع المبتلى الاستعاذة- و كان ينهى الجارية و الغلام أن يقولا للمسكين يا سائل- و هو سيد فقهاء الحجاز- و منه و من ابنه جعفر تعلم الناس الفقه- و هو الملقب بالباقر باقر العلم- لقبه به رسول الله ص و لم يخلق بعد و بشر به- و وعد جابر بن عبد الله برؤيته- و قال ستراه طفلا- فإذا رأيته فأبلغه عني السلام- فعاش جابر حتى رآه و قال له ما وصى به- .

و توعد خالد بن عبد الله القسري- هشام بن عبد الملك في رسالة له إليه- و قال و الله إني لأعرف رجلا حجازي الأصل- شامي الدار عراقي الهوى- يريد محمد بن علي بن عبد الله بن العباس- . قالوا و أما ما ذكرتم من أمر عاتكة بنت يزيد بن معاوية- فإنا نذكر فاطمة بنت رسول الله ص- و هي سيدة نساء العالمين- و أمها خديجة سيدة نساء العالمين- و بعلها علي بن أبي طالب سيد المسلمين كافة- و ابن عمها جعفر ذو الجناحين و ذو الهجرتين- و ابناها الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة- و جدهما أبو طالب بن عبد المطلب أشد الناس عارضة و شكيمة- و أجودهم رأيا و أشهمهم نفسا- و أمنعهم لما وراء ظهره- منع النبي ص من جميع قريش ثم بني هاشم و بني المطلب- ثم منع بني إخوانه من بني أخواته- من بني مخزوم الذين أسلموا- و هو أحد الذين سادوا مع الإقلال- و هو مع هذا شاعر خطيب- و من يطيق أن يفاخر بني أبي طالب- و أمهم فاطمة بنت أسد بن هاشم- و هي أول هاشمية ولدت لهاشمي- و هي التي ربي رسول الله في حجرها- و كان يدعوها أمي و نزل في قبرها- و كان يوجب حقها كما يوجب حق الأم- من يستطيع أن يسامي رجالا ولدهم هاشم مرتين- من قبل أبيهم و من قبل أمهم- قالوا و من العجائب أنها ولدت أربعة- كل منهم أسن من الآخر بعشر سنين- طالب و عقيل و جعفر و علي- . و من الذي يعد من قريش أو من غيرهم- ما يعده الطالبيون عشرة في نسق- كل واحد منهم عالم زاهد ناسك شجاع جواد طاهر زاك- فمنهم خلفاء- و منهم مرشحون ابن ابن ابن ابن هكذا إلى عشرة- و هم الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر- بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ع- و هذا لم يتفق لبيت من بيوت العرب- و لا من بيوت العجم- .

قالوا فإن فخرتم بأن منكم اثنتين من أمهات المؤمنين- أم حبيبة بنت أبي سفيان و زينب بنت جحش- و فزينب امرأة من بني أسد بن خزيمة- ادعيتموه بالحلف لا بالولادة- و فينا رجل ولدته أمان من أمهات المؤمنين- محمد بن عبد الله بن الحسن المحض- ولدته خديجة أم المؤمنين و أم سلمة أم المؤمنين- و ولدته مع ذلك فاطمة بنت الحسين بن علي- و فاطمة سيدة نساء العالمين ابنة رسول الله ص- و فاطمة بنت أسد بن هاشم- و كان يقال خير النساء الفواطم و العواتك- و هن أمهاته- .

قالوا و نحن إذا ذكرنا إنسانا- فقبل أن نعد من ولده نأتي به شريفا في نفسه- مذكورا بما فيه دون ما في غيره- قلتم لنا عاتكة بنت يزيد- و عاتكة في نفسها كامرأة من عرض قريش- ليس فيها في نفسها خاصة أمر تستوجب به المفاخرة- و نحن نقول منا فاطمة و فاطمة سيدة نساء العالمين- و كذلك أمها خديجة الكبرى- و إنما تذكران مع مريم بنت عمران و آسية بنت مزاحم- اللتين ذكرهما النبي ص و ذكر إحداهما القرآن- و هن المذكورات من جميع نساء العالم من العرب و العجم- . و قلتم لنا عبد الله بن يزيد بن عبد الملك- بن مروان ولده سبعة من الخلفاء- و عبد الله هذا في نفسه ليس هناك- و نحن نقول منا محمد بن علي بن عبد الله بن العباس- بن عبد المطلب بن هاشم كلهم سيد- و أمه العالية بنت عبيد الله بن العباس- و إخوته داود و صالح و سليمان و عبد الله رجال- كلهم أغر محجل- ثم ولدت الرؤساء إبراهيم الإمام- و أخويه أبا العباس و أبا جعفر- و من جاء بعدهما من خلفاء بني العباس- .

و قلتم منا عبد الله بن يزيد- و قلنا منا الحسين بن علي سيد شباب أهل الجنة-و أولى الناس بكل مكرمة و أطهرهم طهارة- مع النجدة و البصيرة و الفقه و الصبر و الحلم و الأنف- و أخوه الحسن سيد شباب أهل الجنة- و أرفع الناس درجة- و أشبههم برسول الله خلقا و خلقا و أبوهما علي بن أبي طالب قال شيخنا أبو عثمان- و هو الذي ترك وصفه أبلغ في وصفه- إذ كان هذا الكتاب يعجز عنه- و يحتاج إلى كتاب يفرد له- و عمهما ذو الجناحين و أمهما فاطمة و جدتهما خديجة- و أخوالهما القاسم و عبد الله و إبراهيم- و خالاتهما زينب و رقية و أم كلثوم- و جدتاهما آمنة بنت وهب والدة رسول الله ص- و فاطمة بنت أسد بن هاشم- و جدهما رسول الله ص المخرس لكل فاخر- و الغالب لكل منافر قل ما شئت- و اذكر أي باب شئت من الفضل- فإنك تجدهم قد حووه- .

و قالت أمية- نحن لا ننكر فخر بني هاشم و فضلهم في الإسلام- و لكن لا فرق بيننا في الجاهلية- إذ كان الناس في ذلك الدهر لا يقولون هاشم و عبد شمس- و لا هاشم و أمية- بل يقولون كانوا لا يزيدون في الجميع على عبد مناف- حتى كان أيام تميزهم في أمر علي و عثمان في الشورى- ثم ما كان في أيام تحزبهم و حربهم مع علي و معاوية- . و من تأمل الأخبار و الآثار- علم أنه ما كان يذكر فرق بين البيتين- و إنما يقال بنو عبد مناف- أ لا ترى أن أبا قحافة سمع رجة شديدة- و أصواتا مرتفعة- و هو يومئذ شيخ كبير مكفوف- فقال ما هذا قالوا قبض رسول الله ص- قال فما صنعت قريش قالوا ولوا الأمر ابنك- قال و رضيت بذلك بنو عبد مناف قالوا نعم- قال و رضي بذلك بنو المغيرة قالوا نعم- قال فلا مانع لما أعطى الله و لا معطي‏ لما منع- و لم يقل أ رضي بذلك بنو عبد شمس- و إنما جمعهم على عبد مناف لأنه كذلك كان يقال- .

و هكذا قال أبو سفيان بن حرب لعلي ع- و قد سخط إمارة أبي بكر- أ رضيتم يا بني عبد مناف أن تلي عليكم تيم- و لم يقل أ رضيتم يا بني هاشم- و كذلك قال خالد بن سعيد بن العاص حين قدم من اليمن- و قد استخلف أبو بكر- أ رضيتم معشر بني عبد مناف أن تلي عليكم تيم- قالوا و كيف يفرقون بين هاشم و عبد شمس- و هما أخوان لأب و أم- و يدل على أن أمرهما كان واحدا- و أن اسمهم كان جامعا-قول النبي ص و صنيعه حين قال منا خير فارس في العرب عكاشة بن محصنو كان أسديا- و كان حليفا لبني عبد شمس- و كل من شهد بدرا من بني كبير بن داود- كانوا حلفاء بني عبد شمس- فقال ضرار بن الأزور الأسدي ذاك منا يا رسول الله- فقال ع بل هو منا بالحلف- فجعل حليف بني عبد شمس حليف بني هاشم- و هذا بين لا يحتاج صاحب هذه الصفة- إلى أكثر منه- . قالوا و لهذا نكح هذا البيت في هذا البيت- فكيف صرنا نتزوج بنات النبي- و بنات بني هاشم على وجه الدهر- إلا و نحن أكفاء و أمرنا واحد- و قد سمعتم إسحاق بن عيسى يقول لمحمد بن الحارث- أحد بني عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد- لو لا حي أكرمهم الله بالرسالة- لزعمت أنك أشرف الناس- أ فلا ترى أنه لم يقدم علينا رهطه إلا بالرسالة- .

قالت هاشم- قلتم لو لا أنا كنا أكفاءكم لما أنكحتمونا نساءكم- فقد نجد القوم يستوون في حسب الأب- و يفترقون في حسب الأنفس- و ربما استووا في حسب أبي‏القبيلة- كاستواء قريش في النضر بن كنانة- و يختلفون كاختلاف كعب بن لؤي و عامر بن لؤي- و كاختلاف ابن قصي و عبد مناف و عبد الدار و عبد العزى- و القوم قد يساوي بعضهم بعضا في وجوه- و يفارقونهم في وجوه- و يستجيزون بذلك القدر مناكحتهم- و إن كانت معاني الشرف لم تتكامل فيهم- كما تكاملت فيمن زوجهم- و قد يزوج السيد ابن أخيه- و هو حارض ابن حارض على وجه صلة الرحم- فيكون ذلك جائزا عندهم- و لوجوه في هذا الباب كثيرة- فليس لكم أن تزعموا أنكم أكفاؤنا من كل وجه- و إن كنا قد زوجناكم- و ساويناكم في بعض الآباء و الأجداد- و بعد فأنتم في الجاهلية و الإسلام- قد أخرجتم بناتكم إلى سائر قريش و إلى سائر العرب- أ فتزعمون أنهم أكفاؤكم عينا بعين- و أما قولكم إن الحيين كان يقال لهما عبد مناف- فقد كان يقال لهما أيضا مع غيرهما من قريش- و بنيها بنو النضر- و قال الله تعالى وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ- فلم يدع النبي ص أحدا من بني عبد شمس- و كانت عشيرته الأقربون بني هاشم و بني المطلب- و عشيرته فوق ذاك عبد مناف و فوق ذلك قصي- و من ذلك أن النبي ص لما أتي بعبد الله بن عامر- بن كريز بن حبيب بن عبد شمس- و أم عامر بن كريز- أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم- قال ع هذا أشبه بنا منه بكم- ثم تفل في فيه فازدرده- فقال أرجو أن تكون مشفيا فكان كما قال- ففي قوله هو أشبه بنا منه بكم خصلتان- إحداهما أن عبد شمس و هاشما لو كانا شيئا واحدا- كما أن عبد المطلب شي‏ء واحد- لما قال هو بنا أشبه به منكم- و الأخرى أن في هذا القول- تفضيلا لبني هاشم على بني عبد شمس- أ لا ترون أنه خرج خطيبا جوادا نبيلا و سيدا مشفيا- له مصانع و آثار كريمة- لأنه قال و هو بنا أشبه به منكم- و أتي عبد المطلب‏ بعامر بن كريز- و هو ابن ابنته أم حكيم البيضاء فتأمله- و قال و عظام هاشم ما ولدنا ولدا أحرض منه- فكان كما قال عبد الله يحمق- و لم يقل و عظام عبد مناف- لأن شرف جده عبد مناف له فيه شركاء- و شرف هاشم أبيه خالص له- . فأما ما ذكرتم من قول أبي سفيان و خالد بن سعيد- أ رضيتم معشر بني عبد مناف أن تلي عليكم تيم- فإن هذه الكلمة كلمة تحريض و تهييج- فكان الأبلغ فيما يريد من اجتماع قلوب الفريقين أن يدعوهم لأب- و أن يجمعهم على واحد و إن كانا مفترقين- و هذا المذهب سديد و هذا التدبير صحيح- . قال معاوية بن صعصعة للأشهب بن رميلة و هو نهشلي- و للفرزدق بن غالب و هو مجاشعي- و لمسكن بن أنيف و هو عبدلي- أ رضيتم معشر بني دارم أن يسب آباءكم- و يشتم أعراضكم كلب بني كليب- و إنما نسبهم إلى دارم الأب الأكبر- المشتمل على آباء قبائلهم- ليستووا في الحمية و يتفقوا على الأنف- و هذا في مثل هذا الموضع تدبير صحيح- . قالوا و يدل على ما قلنا ما قاله الشعراء في هذا الباب- قبل مقتل عثمان و قبل صفين- قال حسان بن ثابت لأبي سفيان الحارث بن عبد المطلب-

و أنت منوط نيط في آل هاشم
كما نيط خلف الراكب القدح الفرد

لم يقل نيط في آل عبد مناف- . و قال

ما أنت من هاشم في بيت مكرمة
و لا بني جمح الخضر الجلاعيد

و لم يقل ما أنت من آل عبد مناف- و كيف يقول هذا- و قد علم الناس أن عبد مناف ولد أربعة- هاشما و المطلب و عبد شمس و نوفلا- و أن هاشما و المطلب كانا يدا واحدة- و أن عبد شمس و نوفلا كانا يدا واحدة- و كان مما بطأ ببني نوفل عن الإسلام- إبطاء إخوتهم من بني عبد شمس- و كان مما حث بني المطلب على الإسلام- فضل محبتهم لبني هاشم- لأن أمر النبي ص كان بينا- و إنما كانوا يمتنعون منه من طريق الحسد و البغضة- فمن لم يكن فيه هذه العلة لم يكن له دون الإسلام مانع- و لذلك لم يصحب النبي ص من بني نوفل أحد- فضلا أن يشهدوا معه المشاهد الكريمة- و إنما صحبه حلفاؤهم كيعلى بن منبه- و عتبة بن غزوان و غيرهما- و بنو الحارث بن المطلب كلهم بدري- عبيد و طفيل و حصين- و من بني المطلب مسطح بن أثاثة بدري- . و كيف يكون الأمر كما قلتم- و أبو طالب يقول لمطعم بن عدي بن نوفل في أمر النبي ص- لما تمالأت قريش عليه-

جزى الله عنا عبد شمس و نوفلا
جزاء مسي‏ء عاجلا غير آجل‏

أ مطعم إما سامني القوم خطة
فأنى متى أوكل فلست بأكل‏

أ مطعم لم أخذلك في يوم شدة
و لا مشهد عند الأمور الجلائل‏

 و لقد قسم النبي ص قسمة- فجعلها في بني هاشم و بني المطلب- فأتاه عثمان بن عفان بن أبي العاص- بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف- و جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف- فقالا له يا رسول الله- إن قرابتنا منك و قرابة بني المطلب واحدة- فكيف أعطيتهم دوننا- فقال النبي ص إنا لم نزل و بني المطلب كهاتين- و شبك بين أصابعه- فكيف تقولون كنا شيئا واحدا- و كان الاسم الذي يجمعنا واحداثم نرجع إلى افتخار بني هاشم- قالوا و إن كان الفخر بالأيد و القوة- و اهتصار الأقران و مباطشة الرجال- فمن أين لكم كمحمد بن الحنفية- و قد سمعتم أخباره و أنه قبض على درع فاضلة- فجذبها فقطع ذيلها ما استدار منه كله- و سمعتم أيضا حديث الأيد القوي- الذي أرسله ملك الروم إلى معاوية يفخر به على العرب- و أن محمدا قعد له ليقيمه فلم يستطع- فكأنما يحرك جبلا- و أن الرومي قعد ليقيمه محمد فرفعه إلى فوق رأسه- ثم جلد به الأرض هذا مع الشجاعة المشهورة- و الفقه في الدين و الحلم و الصبر و الفصاحة- و العلم بالملاحم و الأخبار عن الغيوب- حتى ادعي له أنه المهدي- و قد سمعتم أحاديث أبي إسحاق المعتصم- و أن أحمد بن أبي دواد عض ساعده بأسنانه- أشد العض- فلم يؤثر فيه- و أنه قال ما أظن الأسنة و لا السهام تؤثر في جسده- و سمعتم ما قيل في عبد الكريم المطيع- و أنه جذب ذنب ثور فاستله من بين وركيه- . و إن كان الفخر بالبشر و طلاقة الأوجه و سجاحة الأخلاق- فمن مثل علي بن أبي طالب ع- و قد بلغ من سجاحة خلقه و طلاقة وجهه- أن عيب بالدعابة- و من الذي يسوي بين عبد شمس و بين هاشم في ذلك- كان الوليد جبارا و كان هشام شرس الأخلاق- و كان مروان بن محمد لا يزال قاطبا عابسا- و كذلك كان يزيد بن الوليد الناقص- و كان المهدي المنصور أسرى خلق الله و ألطفهم خلقا- و كذلك محمد الأمين و أخوه المأمون- و كان السفاح يضرب به المثل في السرو و سجاحة الخلق- .

قالوا و نحن نعد من رهطنا رجالا لا تعدون أمثالهم أبدا- فمنا الأمراء بالديلم الناصر الكبير- و هو الحسن الأطروش بن علي بن الحسن بن عمر- بن علي بن عمر الأشرف‏بن زين العابدين- و هو الذي أسلمت الديلم على يده- و الناصر الأصغر و هو أحمد بن يحيى بن الحسن- بن القاسم بن إبراهيم بن طباطبا- و أخوه محمد بن يحيى و هو الملقب بالمرتضى- و أبوه يحيى بن الحسن و هو الملقب بالهادي- و من ولد الناصر الكبير الثائر- و هو جعفر بن محمد بن الحسن الناصر الكبير- و هم الأمراء بطبرستان- و جيلان و جرجان و مازندران- و سائر ممالك الديلم- ملكوا تلك الأصقاع مائة و ثلاثين سنة- و ضربوا الدنانير و الدراهم بأسمائهم- و خطب لهم على المنابر و حاربوا الملوك السامانية- و كسروا جيوشهم و قتلوا أمراءهم- فهؤلاء واحدهم أعظم كثيرا من ملوك بني أمية- و أطول مدة و أعدل و أنصف و أكثر نسكا- و أشد حضا على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر- و ممن يجري مجراهم الداعي الأكبر و الداعي الأصغر- ملكا الديلم قادا الجيوش و اصطنعا الصنائع- .

قالوا و لنا ملوك مصر و إفريقية- ملكوا مائتين و سبعين سنة- فتحوا الفتوح- و استردوا ما تغلب عليه الروم من مملكة الإسلام- و اصطنعوا الصنائع الجليلة- . و لهم الكتاب و الشعراء و الأمراء و القواد- فأولهم المهدي عبيد الله بن ميمون بن محمد بن إسماعيل- بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب- و آخرهم العاضد و هو عبد الله بن الأمير أبي القاسم- بن الحافظ أبي الميمون بن المستعلي بن المستنصر- بن الطاهر بن الحاكم بن عبد العزيز بن المعز- بن المنصور بن القائم بن المهدي- فإن افتخرت الأموية بملوكها في الأندلس- من ولد هشام بن عبد الملك و اتصال ملكهم- و جعلوهم بإزاء ملوكنا بمصر و إفريقية- قلنا لهم إلا أنا نحن أزلنا ملككم بالأندلس- كما أزلنا ملككم بالشام و المشرق كله- لأنه لما ملك قرطبةالظافر من بني أمية- و هو سليمان بن الحكم بن سليمان بن عبد الرحمن- الملقب بالناصر- خرج عليه علي بن حميد بن ميمون بن أحمد بن علي- بن عبد الله بن عمر بن إدريس بن عبد الله بن الحسن- بن الحسن بن علي بن أبي طالب ع- فقتله و أزال ملكه- .

و ملك قرطبة دار ملك بني أمية و يلقب بالناصر- ثم قام بعده أخوه القاسم بن حمود و يلقب بالمعتلي- فنحن قتلناكم و أزلنا ملككم في المشرق و المغرب- و نحن لكم على الرصد حيث كنتم- اتبعناكم فقتلناكم و شردناكم كل مشرد- و الفخر للغالب على المغلوب بهذا قضت الأمم قاطبة- قالوا و لنا من أفراد الرجال من ليس لكم مثله- منا يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس- كان شجاعا جريئا- و هو الذي ولي الموصل لأخيه السفاح- فاستعرض أهلها حتى ساخت الأقدام في الدم- . و منا يعقوب بن إبراهيم بن عيسى بن أبي جعفر المنصور- كان شاعرا فصيحا و هو المعروف بأبي الأسباط- و منا محمد و جعفر ابنا سليمان بن علي- كانا أعظم من ملوك بني أمية- و أجل قدرا و أكثر أموالا و مكانا عند الناس- و أهدى محمد بن سليمان من البصرة إلى الخيزران مائة وصيفة- في يد كل واحدة منهن جام من ذهب- وزنه ألف مثقال مملوء مسكا- و كان لجعفر بن سليمان ألفا عبد من السودان خاصة- فكم يكون ليت شعري غيرهم من البيض و من الإماء- و ما رئي جعفر بن سليمان راكبا قط إلا ظن أنه الخليفة- . و من رجالنا محمد بن السفاح- كان جوادا أيدا شديد البطش- قالوا ما رئي أخوان‏أشد قوة من محمد و ريطة أخته- ولدي أبي العباس السفاح- كان محمد يأخذ الحديد فيلويه فتأخذه هي فترده- .

و من رجالنا محمد بن إبراهيم طباطبا صاحب أبي السرايا- كان ناسكا عابدا فقيها- عظيم القدر عند أهل بيته و عند الزيدية- . و من رجالنا عيسى بن موسى بن محمد- بن علي بن عبد الله بن العباس- و هو الذي شيد ملك المنصور و حارب ابني عبد الله بن حسن- و أقام عمود الخلافة بعد اضطرابه- و كان فصيحا أديبا شاعرا- . و من رجالنا عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام- حج بالناس و ولي الشام و كان فصيحا خطيبا- . و من رجالنا عبد الله بن موسى الهادي- كان أكرم الناس و جوادا ممدوحا أديبا شاعرا- و أخوه عيسى بن موسى الهادي- كان أكرم الناس و أجود الناس- كان يلبس الثياب- و قد حدد ظفره فيخرقها بظفره لئلا تعاد إليه- و عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن موسى الهادي- و كان أديبا ظريفا- . و من رجالنا عبد الله بن المعتز بالله- كان أوحد الدنيا في الشعر و الأدب- و الأمثال الحكمية و السؤدد و الرئاسة- كان كما قيل فيه لما قتل-

لله درك من ميت بمضيعة
ناهيك في العلم و الأشعار و الخطب‏

ما فيه لو و لا لو لا فتنقصه‏
و إنما أدركته حرفة الأدب‏

و من رجالنا النقيب أبو أحمد الحسين بن موسى- شيخ بني هاشم الطالبيين و العباسيين في عصره- و من أطاعه الخلفاء و الملوك في أقطار الأرض و رجعوا إلى قوله- و ابناه علي و محمد و هما المرتضى و الرضي- و هما فريدا العصر في الأدب و الشعر و الفقه و الكلام- و كان الرضي شجاعا أديبا شديد الأنف‏ و من رجالنا القاسم بن عبد الرحيم بن عيسى بن موسى الهادي- كان شاعرا ظريفا- . و من رجالنا القاسم بن إبراهيم طباطبا- صاحب المصنفات و الورع و الدعاء إلى الله- و إلى التوحيد و العدل و منابذة الظالمين- و من أولاده أمراء اليمن- . و من رجالنا محمد الفأفاء بن إبراهيم الإمام- كان سيدا مقدما- ولي الموسم و حج بالناس- و كان الرشيد يسايره و هو مقنع بطيلسانه- . و من رجالنا محمد بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين- صاحب أبي السرايا- ساد حدثا و كان شاعرا أديبا فقيها- يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر- و لما أسر و حمل إلى المأمون أكرمه و أفضل عليه- و رعى له فضله و نسبه- .

و من رجالنا موسى بن عيسى بن محمد- بن علي بن عبد الله بن العباس- كنيته أبو عيسى و هو أجل ولد عيسى و أنبلهم- ولي الكوفة و سوادها زمانا طويلا للمهدي ثم الهادي- و ولي المدينة و إفريقية و مصر للرشيد- قال له ابن السماك لما رأى تواضعه- إن تواضعك في شرفك لأحب إلي من شرفك- فقال موسى إن قومنا يعني بني هاشم يقولون- إن التواضع أحد مصائد الشرف- . و من رجالنا موسى بن محمد أخو السفاح و المنصور- كان نبيلا عندهم هو و إبراهيم الإمام لأم واحدة- رأى في منامه قبل أن يصير من أمرهم ما صار- أنه دخل بستانا فلم يأخذ إلا عنقودا واحدا- عليه من الحب المتراص ما ربك به عليم- فلم يولد له إلا عيسى- ثم ولد لعيسى من ظهره أحد و ثلاثون ذكرا- و عشرون أنثى- .

و من رجالنا عبد الله بن الحسن- بن الحسن بن علي بن أبي طالب ع- و هو عبد الله المحض و أبوه الحسن بن الحسن- و أمه فاطمة بنت الحسين- و كان إذا قيل من‏أجمل الناس قالوا عبد الله بن الحسن- فإذا قيل من أكرم الناس قالوا عبد الله بن الحسن- فإذا قالوا من أشرف الناس قالوا عبد الله بن الحسن- . و من رجالنا أخوه الحسن بن الحسن- و عمه زيد بن الحسن و بنوه محمد و إبراهيم و موسى و يحيى- أما محمد و إبراهيم فأمرهما مشهور- و فضلهما غير مجحود في الفقه و الأدب- و النسك و الشجاعة و السؤدد- و أما يحيى صاحب الديلم فكان حسن المذهب و الهدي- مقدما في أهل بيته- بعيدا مما يعاب على مثله- و قد روى الحديث و أكثر الرواية عن جعفر بن محمد- و روى عن أكابر المحدثين- و أوصى جعفر بن محمد إليه لما حضرته الوفاة- و إلى ولده موسى بن جعفر- و أما موسى بن عبد الله بن الحسن- فكان شابا نجيبا صبورا شجاعا سخيا شاعرا- . و من رجالنا الحسن المثلث- و هو الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ع- كان متألها فاضلا ورعا- يذهب في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر- مذهب أهله- و إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ع- كان مقدما في أهله- يقال إنه أشبه أهل زمانه برسول الله ص- .

و من رجالنا عيسى بن زيد و يحيى بن زيد أخوه- و كانا أفضل أهل زمانهما شجاعة و زهدا و فقها و نسكا- . و من رجالنا يحيى بن عمر بن يحيى- بن الحسين بن زيد صاحب الدعوة- كان فقيها فاضلا شجاعا فصيحا شاعرا- و يقال إن الناس ما أحبوا طالبيا قط- دعا إلى نفسه حبهم يحيى- و لا رثي أحد منهم بمثل ما رثي به- .

قال أبو الفرج الأصفهاني- كان يحيى فارسا شجاعا شديد البدن مجتمع القلب- بعيدا عن زهو الشباب و ما يعاب به مثله- كان له عمود حديد ثقيل يصحبه في منزله- فإذا سخط على عبد أو أمة من حشمه لواه في عنقه- فلا يقدر أحد أن يحله عنه حتى يحله هو- . و من رجالنا محمد بن القاسم بن علي بن عمر- بن الحسين بن علي بن أبي طالب ع صاحب الطالقان- لقب بالصوفي لأنه لم يكن يلبس إلا الصوف الأبيض- و كان عالما فقيها دينا زاهدا- حسن المذهب يقول بالعدل و التوحيد- . و من رجالنا محمد بن علي بن صالح بن عبد الله بن موسى- بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب ع- كان من فتيان آل أبي طالب- و فتاكهم و شجعانهم و ظرفائهم و شعرائهم- و له شعر لطيف محفوظ- .

و منهم أحمد بن عيسى بن زيد- كان فاضلا عالما مقدما في عشيرته معروفا بالفضل- و قد روى الحديث و روي عنه- . و من رجالنا موسى بن جعفر بن محمد و هو العبد الصالح- جمع من الفقه و الدين و النسك و الحلم و الصبر- و ابنه علي بن موسى المرشح للخلافة- و المخطوب له بالعهد- كان أعلم الناس و أسخى الناس- و أكرم الناس أخلاقا- . قالوا و أما ما ذكرتم من أمر الشجرة الملعونة- فإن المفسرين كلهم قالوا ذلك- و رووا فيه أخبارا كثيرة عن النبي ص- و لستم قادرين على جحد ذلك- و قد عرفتم تأخركم عن الإسلام- و شدة عداوتكم للرسول الداعي إليه- و محاربتكم في بدر و أحد و الخندق- و صدكم الهدي عن البيت- و ليس ذلك مما يوجب أن يعمكم اللعن- حتى لا يغادر واحدا- فإن زعم ذلك زاعم فقد تعدى- و أما اختصاص محمد بن علي بالوصية و الخلافة دون إخوته- فقد علمتم أن وراثة السيادة و المرتبة- ليس من جنس وراثة الأموال- أ لا ترى أن المرأة و الصبي و المجنون يرثون الأموال- و لا يرثون المراتب و سواء في الأموال- كان الابن حارضا بائرا أو بارعا جامعا- .

و قيل وراثة المقام سبيل وراثة اللواء- دفع رسول الله ص لواء بني عبد الدار إلى مصعب بن عمير- و دفع عمر بن الخطاب لواء بني تميم إلى وكيع بن بشر- ثم دفعه إلى الأحنف- حين لم يوجد في بني زرارة من يستحق وراثة اللواء- فإن كان الأمر بالسن- فإنما كان بين محمد بن علي و أبيه علي بن عبد الله- أربع عشرة سنة- كان علي يخضب بالسواد و محمد يخضب بالحمرة- فكان القادم يقدم عليهما و الزائر يأتيهما- فيظن أكثرهم أن محمدا هو علي- و أن عليا هو محمد- حتى ربما قيل لعلي كيف أصبح الشيخ من علته- و متى رجع الشيخ إلى منزله- و أخرى أن أمه كانت العالية بنت عبد الله بن العباس- فقد ولده العباس مرتين- و ولده جواد بني العباس- كما والده خيرهم و حبرهم- و لم يكن لأحد من إخوته مثل ذلك- و كان بعض ولد محمد أسن من عامة ولد علي- و ولد محمد المهدي بن عبد الله المنصور- و العباس بن محمد بن علي في عام واحد- و كذلك محمد بن سليمان بن علي- و لم يكن لأحد من ولد علي بن عبد الله بن العباس- و إن كانوا فضلاء نجباء كرماء نبلاء- مثل عقله و لا كجماله- كان إذا دخل المدينة و مكة- جلس الناس على أبواب دورهم- و النساء على سطوحهن للنظر إليه- و التعجب من كماله و بهائه- و قد قاتل إخوته أعداءه في دفع الملك إلى ولده- غير مكرهين و لا مجبرين- على أن محمدا إنما أخذ الأمر عن أساس مؤسس- و قاعدة مقررة و وصية انتقلت إليه- من أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية- و أخذها أبو هاشم عن أبيه محمد- و أخذها محمد عن علي بن أبي طالب أبيه- .

قالوا لما سمت بنو أمية أبا هاشم مرض- فخرج من الشام وقيذا يؤم المدينة- فمر بالحميمة و قد أشفى- فاستدعى محمد بن علي بن عبد الله بن العباس- فدفع الوصية إليه- و عرفه ما يصنع و أخبره بما سيكون من الأمر- و قال له إني لم أدفعها إليك من تلقاء نفسي- و لكن أبي أخبرني عن أبيه علي بن أبي طالب ع بذلك- و أمرني به و أعلمني بلقائي إياك في هذا المكان- ثم مات فتولى محمد بن علي تجهيزه و دفنه- و بث الدعاة حينئذ في طلب الأمر- و هو الذي قال لرجال الدعوة- و القائمين بأمر الدولة- حين اختارهم للتوجه و انتخبهم للدعاء- و حين قال بعضهم ندعو بالكوفة-

و قال بعضهم بالبصرة و قال بعضهم بالجزيرة- و قال بعضهم بالشام و قال بعضهم بمكة- و قال بعضهم بالمدينة- و احتج كل إنسان لرأيه و اعتل لقوله- فقال محمد أما الكوفة و سوادها فشيعة علي و ولده- و أما البصرة فعثمانية تدين بالكف- و قبيل عبد الله المقتول يدينون بجميع الفرق- و لا يعينون أحدا- و أما الجزيرة فحرورية مارقة و الخارجية فيهم فاشية- و أعراب كأعلاج- و مسلمون في أخلاق النصارى- و أما الشام فلا يعرفون إلا آل أبي سفيان- و طاعة بني مروان عداوة راسخة و جهلا متراكما- و أما مكة و المدينة فقد غلب عليهما أبو بكر و عمر- و ليس يتحرك معنا في أمرنا هذا منهم أحد- و لا يقوم بنصرنا إلا شيعتنا أهل البيت- و لكن عليكم بخراسان- فإن هناك العدد الكثير و الجلد الظاهر- و صدورا سليمة و قلوبا مجتمعة- لم تتقسمها الأهواء و لم تتوزعها النحل- و لم تشغلها ديانة و لا هدم فيها فساد- و ليس لهم اليوم همم العرب- و لا فيهم تجارب كتجارب الأتباع مع السادات- و لا تحالف كتحالف القبائل- و لا عصبية كعصبية العشائر- و ما زالوا ينالون و يمتهون و يظلمون فيكظمون- و ينتظرون الفرج و يؤملوندولة- و هم جند لهم أبدان و أجسام و مناكب و كواهل- و هامات و لحي و شوارب و أصوات هائلة- و لغات فخمة تخرج من أجواف منكرة- . و بعد فكأني أتفاءل جانب المشرق- فإن مطلع الشمس سراج الدنيا- و مصباح هذا الخلق- فجاء الأمر كما دبر و كما قدر- فإن كان الرأي الذي رأى صوابا فقد وافق الرشاد- و طبق المفصل- و إن كان ذلك عن رواية متقدمة- فلم يتلق تلك الرواية إلا عن نبوة- .

قالوا و أما قولكم إن منا رجلا مكث- أربعين سنة أميرا و خليفة- فإن الإمارة لا تعد فخرا مع الخلافة- و لا تضم إليها- و نحن نقول إن منا رجلا مكث سبعا و أربعين سنة خليفة- و هو أحمد الناصر بن الحسن المستضي‏ء- و منا رجل مكث خمسا و أربعين سنة خليفة- و هو عبد الله القائم- و مكث أبوه أحمد القادر ثلاثا و أربعين سنة خليفة- فملكهما أكثر من ملك بني أمية كلهم- و هم أربع عشرة خليفة- . و يقول الطالبيون منا رجل مكث ستين سنة خليفة- و هو معد بن الطاهر صاحب مصر- و هذه مدة لم يبلغها خليفة- و لا ملك من ملوك العرب في قديم الدهر و لا في حديثه- .

و قلتم لنا عاتكة بنت يزيد يكتنفها خمسة من الخلفاء- و نحن نقول لنا زبيدة بنت جعفر- يكتنفها ثمانية من الخلفاء- جدها المنصور خليفة و عم أبيها السفاح خليفة- و عمها المهدي خليفة و ابن عمها الهادي خليفة- و بعلها الرشيد خليفة و ابنها الأمين خليفة- و ابنا بعلها المأمون و المعتصم خليفتان- . قالوا و أما ما ذكرتموه من الأعياص و العنابس- فلسنا نصدقكم فيما زعمتموه أصلا بهذه التسمية- و إنما سموا الأعياص لمكان العيص و أبي العيص- و العاص و أبي العاص و هذه أسماؤهم- الأعلام ليست مشتقة من أفعال لهم كريمة و لا خسيسة- و أما العنابس فإنما سموا بذلك- لأن حرب بن أمية كان اسمه عنبسة- و أما حرب فلقبه ذكر ذلك النسابون- و لما كان حرب أمثلهم سموا جماعتهم باسمه- فقيل العنابس كما يقال المهالبة و المناذرة- و لهذا المعنى سمي أبو سفيان بن حرب بن عنبسة- و سمي سعيد بن العاص بن عنبسة

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 15

 

نامه 27 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

27 و من عهد له ع إلى محمد بن أبي بكر رضي الله عنه- حين قلده مصر 

فَاخْفِضْ لَهُمْ جَنَاحَكَ وَ أَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ- وَ ابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ وَ آسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ وَ النَّظْرَةِ- حَتَّى لَا يَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ لَهُمْ- وَ لَا يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ- فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُسَائِلُكُمْ مَعْشَرَ عِبَادِهِ- عَنِ الصَّغِيرَةِ مِنْ أَعْمَالِكُمْ وَ الْكَبِيرَةِ وَ الظَّاهِرَةِ وَ الْمَسْتُورَةِ- فَإِنْ يُعَذِّبْ فَأَنْتُمْ أَظْلَمُ وَ إِنْ يَعْفُ فَهُوَ أَكْرَمُ- وَ اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ- أَنَّ الْمُتَّقِينَ ذَهَبُوا بِعَاجِلِ الدُّنْيَا وَ آجِلِ الآْخِرَةِ- فَشَارَكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ- وَ لَمْ يُشَارِكْهُمْ أَهْلُ الدُّنْيَا فِي آخِرَتِهِمْ- سَكَنُوا الدُّنْيَا بِأَفْضَلِ مَا سُكِنَتْ وَ أَكَلُوهَا بِأَفْضَلِ مَا أُكِلَتْ- فَحَظُوا مِنَ الدُّنْيَا بِمَا حَظِيَ بِهِ الْمُتْرَفُونَ- وَ أَخَذُوا مِنْهَا مَا أَخَذَهُ الْجَبَابِرَةُ الْمُتَكَبِّرُونَ- ثُمَّ انْقَلَبُوا عَنْهَا بِالزَّادِ الْمُبَلِّغِ وَ الْمَتْجَرِ الرَّابِحِ- أَصَابُوا لَذَّةَ زُهْدِ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ- وَ تَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ جِيرَانُ اللَّهِ غَداً فِي آخِرَتِهِمْ- لَا تُرَدُّ لَهُمْ دَعْوَةٌ وَ لَا يَنْقُفُ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ لَذَّةٍ- فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللَّهِ الْمَوْتَ وَ قُرْبَهُ- وَ أَعِدُّوا لَهُ عُدَّتَهُ- فَإِنَّهُ يَأْتِي بِأَمْرٍ عَظِيمٍ وَ خَطْبٍ جَلِيلٍ- بِخَيْرٍ لَا يَكُونُ مَعَهُ شَرٌّ أَبَداً- أَوْ شَرٍّ لَا يَكُونُ مَعَهُ خَيْرٌ أَبَداً- فَمَنْ أَقْرَبُ إِلَى الْجَنَّةِ مِنْ عَامِلِهَا- وَ مَنْ أَقْرَبُ إِلَى النَّارِ مِنْ عَامِلِهَا- وَ أَنْتُمْ طُرَدَاءُ الْمَوْتِ- إِنْ أَقَمْتُمْ لَهُ أَخَذَكُمْ وَ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنْهُ أَدْرَكَكُمْ- وَ هُوَ أَلْزَمُ لَكُمْ مِنْ ظِلِّكُمْ- الْمَوْتُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيكُمْ وَ الدُّنْيَا تُطْوَى مِنْ خَلْفِكُمْ-فَاحْذَرُوا نَاراً قَعْرُهَا بَعِيدٌ وَ حَرُّهَا شَدِيدٌ وَ عَذَابُهَا جَدِيدٌ- دَارٌ لَيْسَ فِيهَا رَحْمَةٌ- وَ لَا تَسْمَعُ فِيهَا دَعْوَةٌ وَ لَا تُفَرَّجُ فِيهَا كُرْبَةٌ- وَ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ يَشْتَدَّ خَوْفُكُمْ مِنَ اللَّهِ- وَ أَنْ يَحْسُنَ ظَنُّكُمْ بِهِ فَاجْمَعُوا بَيْنَهُمَا- فَإِنَّ الْعَبْدَ إِنَّمَا يَكُونُ حُسْنُ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ- عَلَى قَدْرِ خَوْفِهِ مِنْ رَبِّهِ- وَ إِنَّ أَحْسَنَ النَّاسِ ظَنّاً بِاللَّهِ أَشَدُّهُمْ خَوْفاً لِلَّهِ- وَ اعْلَمْ يَا مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ- أَنِّي قَدْ وَلَّيْتُكَ أَعْظَمَ أَجْنَادِي فِي نَفْسِي أَهْلَ مِصْرَ- فَأَنْتَ مَحْقُوقٌ أَنْ تُخَالِفَ عَلَى نَفْسِكَ- وَ أَنْ تُنَافِحَ عَنْ دِينِكَ- وَ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَكَ إِلَّا سَاعَةٌ مِنَ الدَّهْرِ- وَ لَا تُسْخِطِ اللَّهَ بِرِضَا أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ- فَإِنَّ فِي اللَّهِ خَلَفاً مِنْ غَيْرِهِ- وَ لَيْسَ مِنَ اللَّهِ خَلَفٌ فِي غَيْرِهِ- صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا الْمُؤَقَّتِ لَهَا- وَ لَا تُعَجِّلْ وَقْتَهَا لِفَرَاغٍ- وَ لَا تُؤَخِّرْهَا عَنْ وَقْتِهَا لِاشْتِغَالٍ- وَ اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ شَيْ‏ءٍ مِنْ عَمَلِكَ تَبَعٌ لِصَلَاتِكَ آس بينهم اجعلهم أسوة- لا تفضل بعضهم على بعض في اللحظة و النظرة- و نبه بذلك على وجوب أن يجعلهم أسوة في جميع ما عدا ذلك- من العطاء و الإنعام و التقريب- كقوله تعالى فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ- . 

قوله حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم- الضمير في لهم راجع إلى الرعية لا إلى العظماء- و قد كان سبق ذكرهم في أول الخطبة- أي إذا سلكت هذا المسلك لم يطمع العظماء- في أن تحيف على الرعية و تظلمهم و تدفع أموالهم إليهم- فإن ولاة الجورهكذا يفعلون- يأخذون مال هذا فيعطونه هذا- و يجوز أن يرجع الضمير إلى العظماء- أي حتى لا يطمع العظماء في جورك- في القسم الذي إنما تفعله لهم و لأجلهم- فإن ولاة الجور يطمع العظماء فيهم- أن يحيفوا في القسمة في الفي‏ء- و يخالفوا ما حده الله تعالى فيها- حفظا لقلوبهم و استمالة لهم- و هذا التفسير أليق بالخطابة- لأن الضمير في عليهم في الفقرة الثالثة- عائد إلى الضعفاء- فيجب أن يكون الضمير في لهم في الفقرة الثانية- عائدا إلى العظماء- .

قوله فإن يعذب فأنتم أظلم- أفعل هاهنا بمعنى الصفة لا بمعنى التفضيل- و إنما يراد فأنتم الظالمون- كقوله تعالى وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ- و كقولهم الله أكبر- . ثم ذكر حال الزهاد- فقال أخذوا من الدنيا بنصيب قوي و جعلت لهم الآخرة- و يروى- أن الفضيل بن عياض كان هو و رفيق له في بعض الصحاري- فأكلا كسرة يابسة- و اغترفا بأيديهما ماء من بعض الغدران- و قام الفضيل فحط رجليه في الماء- فوجد برده فالتذ به و بالحال التي هو فيها- فقال لرفيقه لو علم الملوك و أبناء الملوك ما نحن فيه- من العيش و اللذة لحسدونا- .

و روي و المتجر المربح- فالرابح فاعل من ربح ربحا- يقال بيع رابح أي يربح فيه- و المربح اسم فاعل قد عدي ماضيه بالهمزة- كقولك قام و أقمته- . قوله جيران الله غدا في آخرتهم- ظاهر اللفظ غير مراد- لأن البارئ تعالى ليس في مكان و جهة ليكونوا جيرانه- و لكن لما كان الجار يكرم جاره سماهم جيران الله- لإكرامه إياهم- و أيضا فإن الجنة إذا كانت في السماء- و العرش هو السماء العليا- كان في الكلام محذوف مقدر- أي جيران عرش الله غدا- .

قوله فإنه يأتي بأمر عظيم و خطب جليل- بخير لا يكون معه شر أبدا و شر لا يكون معه خير أبدا- نص صريح في مذهب أصحابنا في الوعيد- و أن من دخل النار من جميع المكلفين فليس بخارج- لأنه لو خرج منها لكان الموت قد جاءه بشر معه خير- و قد نفى نفيا عاما- أن يكون مع الشر المعقب للموت خير البتة- . قوله من عاملها أي من العامل لها- . قوله طرداء الموت جمع طريد- أي يطردكم عن أوطانكم و يخرجكم منها- لا بد من ذلك- إن أقمتم أخذكم و إن هربتم أدرككم- .

و قال الراوندي طرداء هاهنا جمع طريدة- و هي ما طردت من الصيد أو الوسيقة- و ليس بصحيح- لأن فعيلة بالتأنيث لا تجمع على فعلاء- و قال النحويون إن قوله تعالى وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ- جاء على خليف لا على خليفة- و أنشدوا لأوس بن حجر بيتا استعملها جميعا فيه- و هو إن من القوم موجودا خليفته و ما خليف أبي ليلى بموجود- .

قوله ألزم لكم من ظلكم- لأن الظل لا تصح مفارقته لذي الظل ما دام في الشمس- و هذا من الأمثال المشهورة- . قوله معقود بنواصيكم أي ملازم لكم- كالشي‏ء المعقود بناصية الإنسان أين ذهب ذهب منه- . و قال الراوندي أي الموت غالب عليكم- قال تعالى فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَ الْأَقْدامِ- فإن الإنسان إذا أخذ بناصيته لا يمكنه الخلاص- و ليس بصحيح لأنه لم يقل أخذ بنواصيكم- . قوله و الدنيا تطوى من خلفكم- من كلام بعض الحكماء- الموت و الناس كسطورفي صحيفة- يقرؤها قارئ و يطوي ما يقرأ- فكلما ظهر سطر خفي سطر- . ثم أمره ع- بأن يجمع بين حسن الظن بالله و بين الخوف منه- و هذا مقام جليل لا يصل إليه إلا كل ضامر مهزول- و قد تقدم كلامنا فيه- و قال علي بن الحسين ع لو أنزل الله عز و جل كتابا أنه معذب رجلا واحدا- لرجوت أن أكونه- و أنه راحم رجلا واحدا لرجوت أن أكونه- أو أنه معذبي لا محالة ما ازددت إلا اجتهادا- لئلا أرجع إلى نفسي بلائمة – . ثم قال وليتك أعظم أجنادي- يقال للأقاليم و الأطراف أجناد- تقول ولي جند الشام و ولي جند الأردن- و ولي جند مصر- . قوله فأنت محقوق- كقولك حقيق و جدير و خليق- قال الشاعر 

و إني لمحقوق بألا يطولني
نداه إذا طاولته بالقصائد

 و تنافح تجالد نافحت بالسيف أي خاصمت به- . قوله و لو لم يكن إلا ساعة من النهار- المراد تأكيد الوصاة عليه أن يخالف على نفسه- و ألا يتبع هواها و أن يخاصم عن دينه- و أن ذلك لازم له و واجب عليه- و يلزم أن يفعله دائما- فإن لم يستطع فليفعله و لو ساعة من النهار- و ينبغي أن يكون هذا التقييد مصروفا إلى المنافحة عن الدين- لأن الخصام في الدين قد يمنعه عنه مانع- فأما أمره إياه أن يخالف على نفسه- فلا يجوز صرف التقييد إليه- لأنه يشعر بأنه مفسوح له أن يتبع هوى نفسه في بعض الحالات- و ذلك غير جائز- بخلاف المخاصمة و النضال عن المعتقد- .

قال و لا تسخط الله برضا أحد من خلقه- فإن في الله خلفا من غيره- و ليس من الله خلف في غيره- أخذه الحسن البصري- فقال لعمر بن هبيرة أمير العراق إن الله مانعك من يزيد- و لم يمنعك يزيد من الله يعني يزيد بن عبد الملك- . ثم أمره بأن يصلي الصلاة لوقتها أي في وقتها- و نهاه أن يحمله الفراغ من الشغل على أن يعجلها قبل وقتها- فإنها تكون غير مقبولة- أو أن يحمله الشغل على تأخيرها عن وقتها فيأثم- . و من كلام هشام بن عقبة أخي ذي الرمة- و كان من عقلاء الرجال- قال المبرد في الكامل- حدثني العباس بن الفرج الرياشي بإسناده- قال هشام لرجل أراد سفرا- اعلم أن لكل رفقة كلبا يشركهم في فضل الزاد- و يهر دونهم- فإن قدرت ألا تكون كلب الرفقة فافعل- و إياك و تأخير الصلاة عن وقتها- فإنك مصليها لا محالة- فصلها و هي تقبل منك- .

قوله و اعلم أن كل شي‏ء من عملك تبع لصلاتك- فيه شبه من قول رسول الله ص الصلاة عماد الإيمان- و من تركها فقد هدم الإيمان 
و قال ص أول ما يحاسب به العبد صلاته- فإن سهل عليه كان ما بعده أسهل- و إن اشتد عليه كان ما بعده أشد- . و مثل قوله و لا تسخط الله برضا أحد من خلقه- ما رواه المبرد في الكامل عن عائشة قالت- من أرضى الله بإسخاط الناس كفاه الله ما بينه و بين الناس- و من أرضى الناس بإسخاط الله وكله الله إلى الناس- . و مثل هذا ما رواه المبرد أيضا قال- لما ولي الحسن بن زيد بن الحسن المدينة- قال لابن هرمة إني لست كمن باع لك دينه- رجاء مدحك أو خوف ذمك- فقد رزقني‏ الله عز و جل بولادة نبيه ص الممادح- و جنبني المقابح- و إن من حقه علي ألا أغضي على تقصير في حق الله- و أنا أقسم بالله- لئن أتيت بك سكران لأضربنك حدا للخمر و حدا للسكر- و لأزيدن لموضع حرمتك بي- فليكن تركك لها لله عز و جل تعن عليه- و لا تدعها للناس فتوكل إليهم- فقال ابن هرمة 

نهاني ابن الرسول عن المدام
و أدبني بآداب الكرام‏

و قال لي اصطبر عنها و دعها
لخوف الله لا خوف الأنام‏

و كيف تصبري عنها و حبي
لها حب تمكن في عظامي‏

أرى طيب الحلال علي خبثا
و طيب النفس في خبث الحرام‏

 وَ مِنْ هَذَا الْعَهْدِ- فَإِنَّهُ لَا سَوَاءَ إِمَامُ الْهُدَى وَ إِمَامُ الرَّدَى- وَ وَلِيُّ النَّبِيِّ وَ عَدُوُّ النَّبِيِّ- وَ لَقَدْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ص- إِنِّي لَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مُؤْمِناً وَ لَا مُشْرِكاً- أَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَمْنَعُهُ اللَّهُ بِإِيمَانِهِ- وَ أَمَّا الْمُشْرِكُ فَيَقْمَعُهُ اللَّهُ بِشِرْكِهِ- وَ لَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ كُلَّ مُنَافِقِ الْجَنَانِ- عَالِمِ اللِّسَانِ- يَقُولُ مَا تَعْرِفُونَ وَ يَفْعَلُ مَا تُنْكِرُونَ الإشارة بإمام الهدى إليه نفسه- و بإمام الردى إلى معاوية- و سماه إماما كما سمى الله تعالى أهل الضلال أئمة- فقال وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ- ثم وصفه بصفة أخرى و هو أنه عدو النبي ص- ليس يعني بذلك أنه كان عدوا أيام حرب النبي ص لقريش- بل يريد أنه الآن عدو النبي ص- لقوله ص له ع و عدوك عدوي و عدوي عدو الله- و أول الخبر وليك وليي و وليي ولي الله – و تمامه مشهور- و لأن دلائل النفاق كانت ظاهرة عليه- من فلتات لسانه و من أفعاله- و قد قال أصحابنا في هذا المعنى أشياء كثيرة- فلتطلب من كتبهم- خصوصامن كتب شيخنا أبي عبد الله- و من كتب الشيخين أبي جعفر الإسكافي- و أبي القاسم البلخي- و قد ذكرنا بعض ذلك فيما تقدم- .

ثم قال ع إن رسول الله ص قال- إني لا أخاف على أمتي مؤمنا و لا مشركا- أي و لا مشركا يظهر الشرك- قال لأن المؤمن يمنعه الله بإيمانه أن يضل الناس- و المشرك مظهر الشرك يقمعه الله بإظهار شركه و يخذله- و يصرف قلوب الناس عن اتباعه- لأنهم ينفرون منه لإظهاره كلمة الكفر- فلا تطمئن قلوبهم إليه- و لا تسكن نفوسهم إلى مقالته- و لكني أخاف على أمتي المنافق- الذي يسر الكفر و الضلال- و يظهر الإيمان و الأفعال الصالحة- و يكون مع ذلك ذا لسن و فصاحة- يقول بلسانه ما تعرفون صوابه- و يفعل سرا ما تنكرونه لو اطلعتم عليه- و ذاك أن من هذه صفته تسكن نفوس الناس إليه- لأن الإنسان إنما يحكم بالظاهر فيقلده الناس- فيضلهم و يوقعهم في المفاسد كتاب المعتضد بالله و من الكتب المستحسنة الكتاب الذي كتبه المعتضد بالله- أبو العباس أحمد بن الموفق- أبي أحمد طلحة بن المتوكل على الله- في سنة أربع و ثمانين و مائتين- و وزيره حينئذ عبيد الله بن سليمان- و أنا أذكره مختصرا- من تاريخ أبي جعفر محمد بن جرير الطبري- .

قال أبو جعفر و في هذه السنة عزم المعتضد- على لعن معاوية بن أبي سفيان على المنابر- و أمر بإنشاء كتاب يقرأ على الناس- فخوفه عبيد الله بن سليمان اضطراب العامة-و أنه لا يأمن أن تكون فتنة فلم يلتفت إليه- فكان أول شي‏ء بدأ به المعتضد من ذلك- التقدم إلى العامة بلزوم أعمالهم- و ترك الاجتماع و العصبية- و الشهادات عند السلطان إلا أن يسألوا- و منع القصاص عن القعود على الطرقات- و أنشأ هذا الكتاب- و عملت به نسخ قرئت بالجانبين من مدينة السلام- في الأرباع و المحال و الأسواق يوم الأربعاء- لست بقين من جمادى الأولى من هذه السنة- ثم منع يوم الجمعة لأربع بقين منه- و منع القصاص من القعود في الجانبين- و منع أهل الحلق من القعود في المسجدين- و نودي في المسجد الجامع بنهي الناس عن الاجتماع و غيره- و بمنع القصاص و أهل الحلق من القعود- و نودي إن الذمة قد برئت ممن اجتمع من الناس- في مناظرة أو جدال- و تقدم إلى الشراب الذين يسقون الماء في الجامعين- ألا يترحموا على معاوية و لا يذكروه بخير- و كانت عادتهم جارية بالترحم عليه- و تحدث الناس- أن الكتاب الذي قد أمر المعتضد بإنشائه بلعن معاوية- يقرأ بعد صلاة الجمعة على المنبر- فلما صلى الناس بادروا إلى المقصورة- ليسمعوا قراءة الكتاب- فلم يقرأ و قيل إن عبيد الله بن سليمان صرفه عن قراءته- و أنه أحضر يوسف بن يعقوب القاضي- و أمره أن يعمل الحيلة في إبطال ما عزم المعتضد عليه- فمضى يوسف فكلم المعتضد في ذلك-

و قال له إني أخاف أن تضطرب العامة- و يكون منها عند سماعها هذا الكتاب حركة فقال إن تحركت العامة أو نطقت- وضعت السيف فيها- فقال يا أمير المؤمنين- فما تصنع بالطالبيين الذين يخرجون في كل ناحية- و يميل إليهم خلق كثير لقربتهم من رسول الله ص- و ما في هذا الكتاب من إطرائهم أو كما قال- و إذا سمع الناس هذا كانوا إليهم أميل- و كانوا هم أبسطألسنة و أثبت حجة منهم اليوم- فأمسك المعتضد فلم يرد إليه جوابا- و لم يأمر بعد ذلك في الكتاب بشي‏ء- و كان من جملة الكتاب- بعد أن قدم حمد الله و الثناء عليه- و الصلاة على رسول الله ص- أما بعد- فقد انتهى إلى أمير المؤمنين ما عليه جماعة العامة- من شبهة قد دخلتهم في أديانهم- و فساد قد لحقهم في معتقدهم- و عصبية قد غلبت عليها أهواؤهم- و نطقت بها ألسنتهم على غير معرفة و لا روية- قد قلدوا فيها قادة الضلالة بلا بينة و لا بصيرة- و خالفوا السنن المتبعة إلى الأهواء المبتدعة-

قال الله تعالى- وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ- إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ- خروجا عن الجماعة و مسارعة إلى الفتنة- و إيثارا للفرقة و تشتيتا للكلمة- و إظهارا لموالاة من قطع الله عنه الموالاة- و بتر منه العصمة و أخرجه من الملة- و أوجب عليه اللعنة و تعظيما لمن صغر الله حقه- و أوهن أمره و أضعف ركنه- من بني أمية الشجرة الملعونة- و مخالفة لمن استنقذهم الله به من الهلكة- و أسبغ عليهم به النعمة من أهل بيت البركة و الرحمة- وَ اللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ- وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ- . فأعظم أمير المؤمنين ما انتهى إليه من ذلك- و رأى ترك إنكاره حرجا عليه في الدين- و فسادا لمن قلده الله أمره من المسلمين- و إهمالا لما أوجبه الله عليه من تقويم المخالفين- و تبصير الجاهلين و إقامة الحجة على الشاكين- و بسط اليد على المعاندين- و أمير المؤمنين يخبركم معاشر المسلمين- أن الله جل ثناؤه لما ابتعث محمدا ص بدينه- و أمره أن يصدع بأمره- بدأ بأهله و عشيرته فدعاهم إلى ربه- و أنذرهم و بشرهم-و نصح لهم و أرشدهم فكان من استجاب له- و صدق قوله- و اتبع أمره نفير يسير من بني أبيه- من بين مؤمن بما أتى به من ربه- و ناصر لكلمته و إن لم يتبع دينه إعزازا له و إشفاقا عليه- فمؤمنهم مجاهد ببصيرته- و كافرهم مجاهد بنصرته و حميته- يدفعون من نابذه و يقهرون من عازه و عانده- و يتوثقون له ممن كانفه و عاضده- و يبايعون من سمح بنصرته- و يتجسسون أخبار أعدائه- و يكيدون له بظهر الغيب كما يكيدون له برأي العين- حتى بلغ المدى و حان وقت الاهتداء- فدخلوا في دين الله و طاعته و تصديق رسوله- و الإيمان به بأثبت بصيرة- و أحسن هدى و رغبة- فجعلهم الله أهل بيت الرحمة و أهل بيت الذين- أذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا- معدن الحكمة و ورثة النبوة- و موضع الخلافة- أوجب الله لهم الفضيلة و ألزم العباد لهم الطاعة- .

و كان ممن عانده و كذبه و حاربه من عشيرته- العدد الكثير و السواد الأعظم- يتلقونه بالضرر و التثريب- و يقصدونه بالأذى و التخويف و ينابذونه بالعداوة- و ينصبون له المحاربة و يصدون من قصده- و ينالون بالتعذيب من اتبعه- و كان أشدهم في ذلك عداوة و أعظمهم له مخالفة- أولهم في كل حرب و مناصبة- و رأسهم في كل إجلاب و فتنة- لا يرفع على الإسلام راية- إلا كان صاحبها و قائدها و رئيسها أبا سفيان بن حرب- صاحب أحد و الخندق و غيرهما- و أشياعه من بني أمية الملعونين في كتاب الله- ثم الملعونين على لسان رسول الله ص في مواطن عدة- لسابق علم الله فيهم- و ماضي حكمه في أمرهم و كفرهم و نفاقهم- فلم يزل لعنه الله يحارب مجاهدا- و يدافع مكايدا و يجلب منابذا- حتى قهره السيف و علا أمر الله و هم كارهون- فتعوذ بالإسلام غير منطو عليه- و أسر الكفر غير مقلع عنه- فقبله و قبل ولده على علم منه بحاله و حالهم- ثم أنزل الله‏ تعالى كتابا فيما أنزله على رسوله- يذكر فيه شأنهم- و هو قوله تعالى وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ- و لا خلاف بين أحد- في أنه تعالى و تبارك أراد بها بني أمية- . و مما ورد من ذلك في السنة و رواه ثقات الأمة- قول رسول الله ص فيه و قد رآه مقبلا على حمار و معاوية يقوده و يزيد يسوقه- لعن الله الراكب و القائد و السائق – . و منه ما روته الرواة عنه من قوله يوم بيعة عثمان- تلقفوها يا بني عبد شمس تلقف الكرة- فو الله ما من جنة و لا نار- و هذا كفر صراح يلحقه اللعنة من الله- كما لحقت الذين كفروا من بني إسرائيل- على لسان داود و عيسى ابن مريم- ذلك بما عصوا و كانوا يعتدون- .

و منه ما يروى من وقوفه على ثنية أحد من بعد ذهاب بصره- و قوله لقائده هاهنا رمينا محمدا و قتلنا أصحابه- . و منها الكلمة التي قالها للعباس قبل الفتح- و قد عرضت عليه الجنود- لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما- فقال له العباس ويحك إنه ليس بملك إنها النبوة- . و منها قوله يوم الفتح- و قد رأى بلالا على ظهر الكعبة يؤذن- و يقول أشهد أن محمدا رسول الله- لقد أسعد الله عتبة بن ربيعة إذ لم يشهد هذا المشهد- . و منه الرؤيا التي رآها رسول الله ص فوجم لها- قالوا فما رئي بعدها ضاحكا- رأى نفرا من بني أمية ينزون على منبره نزوة القردة- . و منها طرد رسول الله ص الحكم بن أبي العاص- لمحاكاته إياه في‏ مشيته- و ألحقه الله بدعوة رسول الله ص آفة باقية- حين التفت إليه فرآه يتخلج يحكيه- فقال كن كما أنت فبقي على ذلك سائر عمره- .

هذا إلى ما كان من مروان ابنه- في افتتاحه أول فتنة كانت في الإسلام- و احتقابه كل حرام سفك فيها أو أريق بعدها- . و منها ما أنزل الله تعالى على نبيه ص- لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ- قالوا ملك بني أمية- . و منها أن رسول الله ص دعا معاوية ليكتب بين يديه- فدافع بأمره و اعتل بطعامه- فقال ص لا أشبع الله بطنه – فبقي لا يشبع- و هو يقول و الله ما أترك الطعام شبعا و لكن إعياء- .

و منها أن رسول الله ص قال يطلع من هذا الفج رجل من أمتي يحشر على غير ملتي – فطلع معاوية- . و منها أن رسول الله ص قال إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه – . و منها الحديث المشهور المرفوع أنه ص قال إن معاوية في تابوت من نار- في أسفل درك من جهنم ينادي يا حنان يا منان- فيقال له آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ- وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ‏- . و منها افتراؤه بالمحاربة لأفضل المسلمين في الإسلام مكانا- و أقدمهم إليه سبقا- و أحسنهم فيه أثرا و ذكرا علي بن أبي طالب- ينازعه حقه بباطله و يجاهد أنصاره بضلاله أعوانه- و يحاول ما لم يزل هو و أبوه يحاولانه- من إطفاء نور الله و جحود دينه-وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ- وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ- و يستهوي أهل الجهالة- و يموه لأهل الغباوة بمكره- و بغيه اللذين قدم رسول الله ص الخبر عنهما- فقال لعمار بن ياسر تقتلك الفئة الباغية – تدعوهم إلى الجنة و يدعونك إلى النار- مؤثرا للعاجلة كافرا بالآجلة- خارجا من ربقة الإسلام- مستحلا للدم الحرام حتى سفك في فتنته- و على سبيل غوايته و ضلالته- ما لا يحصى عدده من أخيار المسلمين- الذابين عن دين الله و الناصرين لحقه- مجاهدا في عداوة الله- مجتهدا في أن يعصى الله فلا يطاع- و تبطل أحكامه فلا تقام- و يخالف دينه فلا بد- و أن تعلو كلمة الضلال و ترتفع دعوة الباطل- و كلمة الله هي العليا و دينه المنصور- و حكمه النافذ و أمره الغالب- و كيد من عاداه و حاده المغلوب الداحض- حتى احتمل أوزار تلك الحروب و ما تبعها- و تطوق تلك الدماء و ما سفك بعدها- و سن سنن الفساد التي عليه إثمها و إثم من عمل بها- و أباح المحارم لمن ارتكبها و منع الحقوق أهلها- و غرته الآمال و استدرجه الإمهال- و كان مما أوجب الله عليه به اللعنة-

قتله من قتل صبرا من خيار الصحابة و التابعين- و أهل الفضل و الدين- مثل عمرو بن الحمق الخزاعي و حجر بن عدي الكندي- فيمن قتل من أمثالهم- على أن تكون له العزة و الملك و الغلبة- ثم ادعاؤه زياد بن سمية أخا- و نسبته إياه إلى أبيه- و الله تعالى يقول ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ و رسول الله ص يقول ملعون من ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه و قال الولد للفراش و للعاهر الحجر – فخالف حكم الله تعالى و رسوله جهارا- و جعل الولد لغير الفراش و الحجر لغير العاهر- فأحل بهذه الدعوة من محارم الله و رسوله- في أم حبيبة أم المؤمنين- و في غيرها من النساء من شعور و وجوه قدحرمها الله- و أثبت بها من قربى قد أبعدها الله- ما لم يدخل الدين خلل مثله- و لم ينل الإسلام تبديل يشبهه- . و من ذلك إيثاره لخلافة الله على عباده ابنه يزيد- السكير الخمير صاحب الديكة و الفهود و القردة- و أخذ البيعة له على خيار المسلمين بالقهر و السطوة- و التوعد و الإخافة و التهديد و الرهبة- و هو يعلم سفهه و يطلع على رهقه و خبثه- و يعاين سكراته و فعلاته و فجوره و كفره- فلما تمكن قاتله الله فيما تمكن منه- طلب بثارات المشركين و طوائلهم عند المسلمين- فأوقع بأهل المدينة في وقعة الحرة- الوقعة التي لم يكن في الإسلام أشنع منها و لا أفحش- فشفى عند نفسه غليله- و ظن أنه قد انتقم من أولياء الله و بلغ الثأر لأعداء الله- فقال مجاهرا بكفره و مظهرا لشركه-ليت أشياخي ببدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل‏- .

قول من لا يرجع إلى الله و لا إلى دينه- و لا إلى رسوله و لا إلى كتابه- و لا يؤمن بالله و بما جاء من عنده- . ثم أغلظ ما انتهك- و أعظم ما اجترم سفكه دم الحسين بن علي ع- مع موقعه من رسول الله ص- و مكانه و منزلته من الدين و الفضل- و الشهادة له و لأخيه بسيادة شباب أهل الجنة- اجتراء على الله و كفرا بدينه- و عداوة لرسوله و مجاهرة لعترته و استهانة لحرمته- كأنما يقتل منه و من أهل بيته- قوما من كفره الترك‏ و الديلم- و لا يخاف من الله نقمة و لا يراقب منه سطوة- فبتر الله عمره أخبث أصله و فرعه و سلبه ما تحت يده- و أعد له من عذابه و عقوبته ما استحقه من الله بمعصيته- . هذا إلى ما كان من بني مروان من تبديل كتاب الله- و تعطيل أحكام الله و اتخاذ مال الله بينهم دولا- و هدم بيت الله و استحلالهم حرمه- و نصبهم المجانيق عليه و رميهم بالنيران إياه- لا يألون له إحراقا و إخرابا- و لما حرم الله منه استباحة و انتهاكا- و لمن لجأ إليه قتلا و تنكيلا- و لمن أمنه الله به إخفاقة و تشريدا- حتى إذا حقت عليهم كلمة العذاب- و استحقوا من الله الانتقام- و ملئوا الأرض بالجور و العدوان- و عموا عباد بلاد الله بالظلم و الاقتسار- و حلت عليهم السخطة- و نزلت بهم من الله السطوة- أتاح الله لهم من عترة نبيه و أهل وراثته- و من استخلصه منهم لخلافته- مثل ما أتاح من أسلافهم المؤمنين- و آبائهم المجاهدين لأوائلهم الكافرين- فسفك الله به دماءهم و دماء آبائهم مرتدين- كما سفك بآبائهم مشركين- و قطع الله دابر الذين ظلموا- و الحمد لله رب العالمين- . 

أيها الناس إن الله إنما أمر ليطاع- و مثل ليتمثل و حكم ليفعل- قال الله سبحانه و تعالى إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ- وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً- و قال أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ- . فالعنوا أيها الناس من لعنه الله و رسوله- و فارقوا من لا تنالون القربة من الله إلا بمفارقته- اللهم العن أبا سفيان بن حرب بن أمية- و معاوية بن أبي سفيان و يزيد بن معاوية- و مروان بن الحكم و ولده و ولد ولده- اللهم العن أئمة الكفر و قادة الضلال- و أعداء الدين و مجاهدي الرسول- و معطلي الأحكام و مبدلي الكتاب- و منتهكي الدم الحرام- اللهم إنا نبرأ إليك من موالاة أعدائك- و من الإغماض لأهل معصيتك-كما قلت لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ- يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ- . أيها الناس اعرفوا الحق تعرفوا أهله- و تأملوا سبل الضلالة تعرفوا سابلها- فقفوا عند ما وقفكم الله عليه- و انفذوا كما أمركم الله به- و أمير المؤمنين يستعصم بالله لكم- و يسأله توفيقكم و يرغب إليه في هدايتكم- و الله حسبه و عليه توكله- و لا قوة إلا بالله العلي العظيم- .

قلت هكذا ذكر الطبري الكتاب- و عندي أنه الخطبة- لأن كل ما يخطب به فهو خطبة و ليس بكتاب- و الكتاب ما يكتب إلى عامل أو أمير و نحوهما- و قد يقرأ الكتاب على المنبر فيكون كالخطبة- و لكن ليس بخطبة و لكنه كتاب قرئ على الناس- . و لعل هذا الكلام كان قد أنشئ ليكون كتابا- و يكتب به إلى الآفاق- و يؤمروا بقراءته على الناس- و ذلك بعد قراءته على أهل بغداد- و الذي يؤكد كونه كتابا و ينصر ما قاله الطبري- إن في آخره كتب عبيد الله بن سليمان في سنة أربع و ثمانين و مائتين- و هذا لا يكون في الخطب بل في الكتب- و لكن الطبري لم يذكر أنه أمر بأن يكتب إلى الآفاق- و لا قال وقع العزم على ذلك- و لم يذكر إلا وقوع العزم على أن يقرأ في الجوامع ببغداد

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 15

نامه 26 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

26 و من عهد له ع إلى بعض عماله- و قد بعثه على الصدقة 

آمُرُهُ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي سَرَائِرِ أَمْرِهِ وَ خَفِيَّاتِ عَمَلِهِ- حَيْثُ لَا شَاهِدَ غَيْرُهُ وَ لَا وَكِيلَ دُونَهُ- وَ آمُرُهُ أَلَّا يَعْمَلَ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ فِيمَا ظَهَرَ- فَيُخَالِفَ إِلَى غَيْرِهِ فِيمَا أَسَرَّ- وَ مَنْ لَمْ يَخْتَلِفْ سِرُّهُ وَ عَلَانِيَتُهُ وَ فِعْلُهُ وَ مَقَالَتُهُ- فَقَدْ أَدَّى الْأَمَانَةَ وَ أَخْلَصَ الْعِبَادَةَ- وَ آمُرُهُ أَلَّا يَجْبَهَهُمْ وَ لَا يَعْضَهَهُمْ- وَ لَا يَرْغَبَ عَنْهُمْ تَفَضُّلًا بِالْإِمَارَةِ عَلَيْهِمْ- فَإِنَّهُمُ الْإِخْوَانُ فِي الدِّينِ- وَ الْأَعْوَانُ عَلَى اسْتِخْرَاجِ الْحُقُوقِ- وَ إِنَّ لَكَ فِي هَذِهِ الصَّدَقَةِ نَصِيباً مَفْرُوضاً وَ حَقّاً مَعْلُوماً- وَ شُرَكَاءَ أَهْلَ مَسْكَنَةٍ وَ ضُعَفَاءَ ذَوِي فَاقَةٍ- وَ إِنَّا مُوَفُّوكَ حَقَّكَ فَوَفِّهِمْ حُقُوقَهُمْ- وَ إِلَّا تَفْعَلْ فَإِنَّكَ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ خُصُوماً يَوْمَ الْقِيَامَةِ- وَ بُؤْسَى لِمَنْ خَصْمُهُ عِنْدَ اللَّهِ الْفُقَرَاءُ وَ الْمَسَاكِينُ- وَ السَّائِلُونَ وَ الْمَدْفُوعُونَ وَ الْغَارِمُونَ وَ ابْنُ السَّبِيلِ- وَ مَنِ اسْتَهَانَ بِالْأَمَانَةِ وَ رَتَعَ فِي الْخِيَانَةِ- وَ لَمْ يُنَزِّهْ نَفْسَهُ وَ دِينَهُ عَنْهَا- فَقَدْ أَحَلَّ بِنَفْسِهِ الذُّلَّ وَ الْخِزْيَ فِي الدُّنْيَا- وَ هُوَ فِي الآْخِرَةِ أَذَلُّ وَ أَخْزَى- وَ إِنَّ أَعْظَمَ الْخِيَانَةِ خِيَانَةُ الْأُمَّةِ- وَ أَفْظَعَ الْغِشِّ غِشُّ الْأَئِمَّةِ وَ السَّلَامُ‏

حيث لا شهيد و لا وكيل دونه يعني يوم القيامة- . قوله ألا يعمل بشي‏ء من طاعة الله فيما ظهر- أي لا ينافق- فيعمل الطاعة في الظاهر و المعصية في الباطن- . ثم ذكر أن الذين يتجنبون النفاق و الرياء هم المخلصون- . و ألا يجبههم لا يواجههم بما يكرهونه- و أصل الجبه لقاء الجبهة أو ضربها- فلما كان المواجه غيره بالكلام القبيح- كالضارب جبهته به سمي بذلك جبها- . قوله و لا يعضههم أي لا يرميهم بالبهتان و الكذب- و هي العضيهة- و عضهت فلانا عضها- و قد عضهت يا فلان أي جئت بالبهتان- قوله و لا يرغب عنهم تفضلا- يقول لا يحقرهم ادعاء لفضله عليهم- و تمييزه عنهم بالولاية و الإمرة- يقال فلان يرغب عن القوم- أي يأنف من الانتماء إليهم أو من المخالطة لهم- . 

و كان عمر بن عبد العزيز يدخل إليه سالم مولى بني مخزوم- و عمر في صدر بيته فيتنحى عن الصدر- و كان سالم رجلا صالحا- و كان عمر أراد شراءه و عتقه فأعتقه مواليه- فكان يسميه أخي في الله فقيل له أ تتنحى لسالم- فقال إذا دخل عليك من لا ترى لك عليه فضلا- فلا تأخذ عليه شرف المجلس- و هم السراج ليلة بأن يخمد- فوثب إليه رجاء بن حيوة ليصلحه- فأقسم عليه عمر بن عبد العزيز فجلس- ثم قام عمر فأصلحه- فقال له رجاء أ تقوم أنت يا أمير المؤمنين قال نعم- قمت و أنا عمر بن عبد العزيز- و رجعت و أنا عمر بن عبد العزيز قال رسول الله ص لا ترفعوني فوق قدري- فتقولوا في ما قالت النصارى في ابن مريم- فإن الله عز و جل اتخذني عبدا- قبل أن يتخذني رسولا – .

ثم قال إن أرباب الأموال- الذين تجب الصدقة عليهم في أموالهم إخوانك في الدين- و أعوانك على استخراج الحقوق- لأن الحق إنما يمكن العامل استيفاؤه- بمعاونة رب المال و اعترافه به و دفعه إليه- فإذا كانوا بهذه الصفة- لم يجز لك عضههم و جبههم و ادعاء الفضل عليهم- . ثم ذكر أن لهذا العامل نصيبا مفروضا من الصدقة- و ذلك بنص الكتاب العزيز- فكما نوفيك نحن حقك- يجب عليك أن توفي شركاءك حقوقهم- و هم الفقراء و المساكين و الغارمون- و سائر الأصناف المذكورة في القرآن- و هذا يدل على أنه ع قد فوضه- في صرف الصدقات إلى الأصناف المعلومة- و لم يأمره بأن يحمل ما اجتمع إليه- ليوزعه هو ع على مستحقيه كما في الوصية الأولى- و يجوز للإمام أن يتولى ذلك بنفسه- و أن يكله إلى من يثق به من عماله- . و انتصب أهل مسكنة لأنه صفة شركاء- و في التحقيق أن شركاء صفة أيضا موصوفها محذوف- فيكون صفة بعد صفة- . و قال الراوندي انتصب أهل مسكنه- لأنه بدل من شركاء- و هذا غلط لأنه لا يعطي معناه ليكون بدلا منه- . و قال أيضا بؤسى أي عذابا و شدة- فظنه منونا و ليس كذلك- بل هو بؤسى على وزن فعلى- كفضلى و نعمى و هي لفظة مؤنثة- يقال بؤسى لفلان- قال الشاعر 

أرى الحلم بؤسى للفتى في حياته
و لا عيش إلا ما حباك به الجهل‏

و السائلون هاهنا هم الرقاب المذكورون في الآية- و هم المكاتبون يتعذر عليهم أداء مال الكتابة- فيسألون الناس ليتخلصوا من ربقة الرق- و قيل هم الأسارى يطلبون فكاك أنفسهم- و قيل بل المراد بالرقاب في الآية الرقيق- يسأل أن يبتاعه الأغنياء فيعتقوه- و المدفوعون هاهنا هم الذين عناهم الله تعالى في الآية- بقوله وَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ و هم فقراء الغزاة- سماهم مدفوعين لفقرهم- و المدفوع و المدفع الفقير- لأن كل أحد يكرهه و يدفعه عن نفسه- و قيل هم الحجيج المنقطع بهم- سماهم مدفوعين لأنهم دفعوا عن إتمام حجهم- أو دفعوا عن العود إلى أهلهم- .

فإن قلت لم حملت كلام أمير المؤمنين ع على ما فسرته به- قلت- لأنه ع إنما أراد أن يذكر الأصناف المذكورة في الآية- فترك ذكر المؤلفة قلوبهم- لأن سهمهم سقط بعد موت رسول الله ص- فقد كان يدفع إليهم حين الإسلام ضعيف- و قد أعزه الله سبحانه- فاستغنى عن تأليف قلوب المشركين- و بقيت سبعة أصناف و هم الفقراء و المساكين- و العاملون عليها و الرقاب- و الغارمون و في سبيل الله و ابن السبيل- . فأما العاملون عليها فقد ذكرهم ع في قوله- و إن لك في هذه الصدقة نصيبا مفروضا- فبقيت ستة أصناف- أتى ع بألفاظ القرآن في أربعة أصناف منها- و هي الفقراء و المساكين و الغارم و ابن السبيل- و أبدل لفظتين و هما الرقاب و في سبيل الله بلفظتين- و هما السائلون و المدفوعون- . فإن قلت ما يقوله الفقهاء في الصدقات- هل تصرف إلى الأصناف كلها- أم يجوز صرفها إلى واحد منها- .

قلت أما أبو حنيفة فإنه يقول- الآية قصر لجنس الصدقات على الأصناف المعدودة- فهي مختصة بها لا تتجاوزها إلى غيرها- كأنه تعالى قال إنما هي لهم لا لغيرهم- كقولك إنما الخلافة لقريش- فيجوز أن تصرف الصدقة إلى الأصناف كلها- و يجوز أن تصرف إلى بعضها- و هو مذهب ابن عباس و حذيفة- و جماعة من الصحابة و التابعين- و أما الشافعي- فلا يرى صرفها إلا إلى الأصناف المعدودة كلها- و به قال الزهري و عكرمة- . فإن قلت فمن الغارم و ابن السبيل- . قلت الغارمون الذين ركبتهم الديون- و لا يملكون بعدها ما يبلغ النصاب- و قيل هم الذين يحملون الحمالات فدينوا فيها و غرموا- و ابن السبيل المسافر المنقطع عن ماله- فهو و إن كان غنيا حيث ماله موجود- فقير حيث هو بعيد- .

و قد سبق تفسير الفقير و المسكين فيما تقدم- . قوله فقد أحل بنفسه الذل و الخزي- أي جعل نفسه محلا لهما- و يروى فقد أخل بنفسه بالخاء المعجمة- و لم يذكر الذل و الخزي أي جعل نفسه مخلا- و معناه جعل نفسه فقيرا- يقال خل الرجل إذا افتقر- و أخل به غيره و بغيره أي جعل غيره فقيرا- و روي أحل بنفسه بالحاء المهملة- و لم يذكر الذل و الخزي- و معنى أحل بنفسه أباح دمه- و الرواية الأولى أصح- لأنه قال بعدها و هو في الآخرة أذل و أخزى- . و خيانة الأمة مصدر مضاف إلى المفعول به- لأن الساعي إذا خان فقد خان الأمة كلها- و كذلك غش الأئمة مصدر مضاف إلى المفعول أيضا- لأن الساعي إذا غش في الصدقة فقد غش الإمام

 

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 15

نامه 25 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

25 و من وصية له ع كان يكتبها لمن يستعمله على الصدقات 

و إنما ذكرنا هنا جملا منها- ليعلم بها أنه ع كان يقيم عماد الحق- و يشرع أمثلة العدل في صغير الأمور و كبيرها- و دقيقها و جليلها- : انْطَلِقْ عَلَى تَقْوَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ- وَ لَا تُرَوِّعَنَّ مُسْلِماً وَ لَا تَجْتَازَنَّ عَلَيْهِ كَارِهاً- وَ لَا تَأْخُذَنَّ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِي مَالِهِ- فَإِذَا قَدِمْتَ عَلَى الْحَيِّ فَانْزِلْ بِمَائِهِمْ- مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخَالِطَ أَبْيَاتَهُمْ- ثُمَّ امْضِ إِلَيْهِمْ بِالسَّكِينَةِ وَ الْوَقَارِ- حَتَّى تَقُومَ بَيْنَهُمْ فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ- وَ لَا تُخْدِجْ بِالتَّحِيَّةِ لَهُمْ ثُمَّ تَقُولَ عِبَادَ اللَّهِ- أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ وَلِيُّ اللَّهِ وَ خَلِيفَتُهُ- لآِخُذَ مِنْكُمْ حَقَّ اللَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ- فَهَلْ لِلَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ مِنْ حَقٍّ فَتُؤَدُّوهُ إِلَى وَلِيِّهِ- فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ لَا فَلَا تُرَاجِعْهُ- وَ إِنْ أَنْعَمَ لَكَ مُنْعِمٌ فَانْطَلِقْ مَعَهُ- مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخِيفَهُ أَوْ تُوعِدَهُ- أَوْ تَعْسِفَهُ أَوْ تُرْهِقَهُ فَخُذْ مَا أَعْطَاكَ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ- فَإِنْ كَانَ لَهُ مَاشِيَةٌ أَوْ إِبِلٌ فَلَا تَدْخُلْهَا إِلَّا بِإِذْنِهِ- فَإِنَّ أَكْثَرَهَا لَهُ- فَإِذَا أَتَيْتَهَا فَلَا تَدْخُلْ عَلَيْهَا دُخُولَ مُتَسَلِّطٍ عَلَيْهِ- وَ لَا عَنِيفٍ بِهِ- وَ لَا تُنَفِّرَنَّ بَهِيمَةً وَ لَا تُفْزِعَنَّهَا- وَ لَا تَسُوءَنَّ صَاحِبَهَا فِيهَا- وَ اصْدَعِ الْمَالَ صَدْعَيْنِ ثُمَّ خَيِّرْهُ- فَإِذَا اخْتَارَ فَلَا تَعْرِضَنَّ لِمَا اخْتَارَهُ- ثُمَّ اصْدَعِ الْبَاقِيَ صَدْعَيْنِ ثُمَّ خَيِّرْهُ- فَإِذَا اخْتَارَ فَلَا تَعْرِضَنَّ لِمَا اخْتَارَهُ- فَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَبْقَى مَا فِيهِ- وَفَاءٌ لِحَقِّ اللَّهِ فِي مَالِهِ- فَاقْبِضْ حَقَّ اللَّهِ مِنْهُ-فَإِنِ اسْتَقَالَكَ فَأَقِلْهُ- ثُمَّ اصْنَعْ مِثْلَ الَّذِي صَنَعْتَ أَوَّلًا- حَتَّى تَأْخُذَ حَقَّ اللَّهِ فِي مَالِهِ- وَ لَا تَأْخُذَنَّ عَوْداً وَ لَا هَرِمَةً وَ لَا مَكْسُورَةً وَ لَا مَهْلُوسَةً وَ لَا ذَاتَ عَوَارٍ- وَ لَا تَأْمَنَنَّ عَلَيْهَا إِلَّا مَنْ تَثِقُ بِدِينِهِ- رَافِقاً بِمَالِ الْمُسْلِمِينَ- حَتَّى يُوَصِّلَهُ إِلَى وَلِيِّهِمْ فَيَقْسِمَهُ بَيْنَهُمْ- وَ لَا تُوَكِّلْ بِهَا إِلَّا نَاصِحاً شَفِيقاً وَ أَمِيناً حَفِيظاً- غَيْرَ مُعْنِفٍ وَ لَا مُجْحِفٍ وَ لَا مُلْغِبٍ وَ لَا مُتْعِبٍ- ثُمَّ احْدُرْ إِلَيْنَا مَا اجْتَمَعَ عِنْدَكَ- نُصَيِّرْهُ حَيْثُ أَمَرَ اللَّهُ- فَإِذَا أَخَذَهَا أَمِينُكَ- فَأَوْعِزْ إِلَيْهِ أَلَّا يَحُولَ بَيْنَ نَاقَةٍ وَ بَيْنَ فَصِيلِهَا- وَ لَا يَمْصُرَ لَبَنَهَا فَيَضُرَّ [فَيُضِرَّ] ذَلِكَ بِوَلَدِهَا- وَ لَا يَجْهَدَنَّهَا رُكُوباً- وَ لْيَعْدِلْ بَيْنَ صَوَاحِبَاتِهَا فِي ذَلِكَ وَ بَيْنَهَا- وَ لْيُرَفِّهْ عَلَى اللَّاغِبِ- وَ لْيَسْتَأْنِ بِالنَّقِبِ وَ الظَّالِعِ- وَ لْيُورِدْهَا مَا تَمُرُّ بِهِ مِنَ الْغُدُرِ- وَ لَا يَعْدِلْ بِهَا عَنْ نَبْتِ الْأَرْضِ إِلَى جَوَادِّ الطُّرُقِ- وَ لْيُرَوِّحْهَا فِي السَّاعَاتِ- وَ لْيُمْهِلْهَا عِنْدَ النِّطَافِ وَ الْأَعْشَابِ- حَتَّى تَأْتِيَنَا بِإِذْنِ اللَّهِ بُدَّناً مُنْقِيَاتٍ- غَيْرَ مُتْعَبَاتٍ وَ لَا مَجْهُودَاتٍ- لِنَقْسِمَهَا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَ سُنَّةِ نَبِيِّهِ ص- فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ لِأَجْرِكَ- وَ أَقْرَبُ لِرُشْدِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ و قد كرر ع قوله- لنقسمها على كتاب الله و سنة نبيه ص-

في ثلاثة مواضع من هذا الفصل-

الأول قوله حتى يوصله إلى وليهم ليقسمه بينهم- . 

الثاني قوله ع نصيره حيث أمر الله به- .

الثالث قوله لنقسمها على كتاب الله- و البلاغة لا تقتضي ذلك- و لكني أظنه أحب أن يحتاط- و أن يدفع الظنة عن نفسه- فإن الزمان كان في عهده قد فسد- و ساءت ظنون الناس- لا سيما مع ما رآه من عثمان و استئثاره بمال الفي‏ء- . و نعود إلى الشرح- قوله ع على تقوى الله- على ليست متعلقة بانطلق- بل بمحذوف تقديره مواظبا- . قوله و لا تروعن أي لا تفزعن- و الروع الفزع رعته أروعه- و لا تروعن بتشديد الواو و ضم حرف المضارعة- من روعت للتكثير- .

قوله ع و لا تجتازن عليه كارها- أي لا تمرن ببيوت أحد من المسلمين يكره مرورك- و روي و لا تختارن عليه- أي لا تقسم ماله و تختر أحد القسمين- و الهاء في عليه ترجع إلى مسلما- و تفسير هذا سيأتي في وصيته له أن يصدع المال ثم يصدعه- فهذا هو النهي عن أن يختار على المسلم- و الرواية الأولى هي المشهورة- . قوله ع فانزل بمائهم- و ذلك لأن الغريب يحمد منه الانقباض- و يستهجن في القادم أن يخالط بيوت الحي الذي قدم عليه- فقد يكون من النساء من لا تليق رؤيته- و لا يحسن سماع صوته- و من الأطفال من يستهجن- أن يرى الغريب انبساطه على أبويه و أهله- و قد يكره القوم أن يطلع الغريب على مأكلهم و مشربهم- و ملبسهم و بواطن أحوالهم- و قد يكونون فقراء فيكرهون أن يعرف فقرهم فيحتقرهم- أو أغنياء أرباب ثروة كثيرة- فيكرهون أن يعلم الغريب ثروتهم فيحسدهم- ثم أمره أن يمضي إليهم غير متسرع- و لا عجل و لا طائش نزق- حتى يقوم بينهم فيسلم عليهمو يحييهم تحية كاملة- غير مخدجة أي غير ناقصة- أخدجت الناقة إذا جاءت بولدها ناقص الخلق- و إن كانت أيامه تامة- و خدجت ألقت الولد قبل تمام أيامه- و روي و لا تحدج بالتحية و الباء زائدة- .

ثم أمره أن يسألهم هل في أموالهم حق لله تعالى- يعني الزكاة- فإن قالوا لا فلينصرف عنهم- لأن القول قول رب المال- فلعله قد أخرج الزكاة قبل وصول المصدق إليه- . قوله و أنعم لك أي قال نعم- . و لا تعسفه أي لا تطلب منه الصدقة عسفا- و أصله الأخذ على غير الطريق- . و لا ترهقه لا تكلفه العسر و المشقة- . ثم أمره أن يقبض ما يدفع إليه من الذهب و الفضة- و هذا يدل على أن المصدق كان يأخذ العين و الورق- كما يأخذ الماشية- و أن النصاب في العين و الورق- تدفع زكاته إلى الإمام و نوابه- و في هذه المسألة اختلاف بين الفقهاء- .

قوله فإن أكثرها له- كلام لا مزيد عليه في الفصاحة و الرئاسة و الدين- و ذلك لأن الصدقة المستحقة جزء يسير من النصاب- و الشريك إذا كان له الأكثر- حرم عليه أن يدخل و يتصرف إلا بإذن شريكه- فكيف إذا كان له الأقل- . قوله فلا تدخلها دخول متسلط عليه- قد علم ع أن الظلم من طبع الولاة- و خصوصا من يتولى قبض الماشية من أربابها- على وجه الصدقة- فإنهم يدخلونها دخول متسلط حاكم قاهر- و لا يبقى لرب المال فيها تصرف- فنهى ع عن مثل ذلك- .

قوله و لا تنفرن بهيمة و لا تفزعنها- و ذلك أنهم على عادة السوء يهجهجون بالقطيع حتى تنفر الإبل- و كذلك بالشاء إظهارا للقوة و القهر- و ليتمكن أعوانهم من اختيار الجيد و رفض الردي‏ء- . قوله و لا تسوءن صاحبها فيها- أي لا تغموه و لا تحزنوه- يقال سؤته في كذا سوائية و مسائية- .

قوله و اصدع المال صدعين و خيره- أي شقه نصفين ثم خيره- فإذا اختار أحد النصفين فلا تعرضن لما اختار- ثم اصدع النصف الذي ما ارتضاه لنفسه صدعين و خيره- ثم لا تزال تفعل هكذا- حتى تبقي من المال بمقدار الحق الذي عليه فأقبضه منه- فإن استقالك فأقله ثم اخلط المال- ثم عد لمثل ما صنعت حتى يرضى- و ينبغي أن يكون المعيبات الخمس- و هي المهلوسة و المكسورة و أخواتهما- يخرجها المصدق من أصل المال قبل قسمته ثم يقسم- و إلا فربما وقعت في سهم المصدق- إذا كان يعتمد ما أمره به من صدع المال مرة بعد مرة- .

و العود المسن من الإبل- و الهرمة المسنة أيضا- و المكسورة التي أحد قوائمها مكسورة العظم- أو ظهرها مكسور- و المهلوسة المريضة قد هلسها المرض و أفنى لحمها- و الهلاس السل- و العوار بفتح العين العيب و قد جاء بالضم- . و المعنف ذو العنف بالضم و هو ضد الرفق- و المجحف الذي يسوق المال سوقا عنيفا- فيجحف به أي يهلكه أو يذهب كثيرا من لحمه و نقية- . و الملغب المتعب و اللغوب الإعياء- . و حدرت السفينة و غيرها بغير ألف أحدرها بالضم- .

قوله بين ناقة و بين فصيلها- الأفصح حذف بين الثانية- لأن الاسمين ظاهران- و إنما تكرر إذا جاءت بعد المضمر- كقولك المال بيني و بين زيد و بين عمرو- و ذلك لأن المجرور لا يعطف عليه إلا بإعادة حرف الجر- و الاسم المضاف- و قد جاء المال بين زيد و عمرو- و أنشدوا 
بين السحاب و بين الريح ملحمة قعاقع و ظبي في الجو تخترط- . و أيضا

بين الندي و بين برقة ضاحك
غيث الضريك و فارس مقدام‏

و من شعر الحماسة 

و إن الذي بيني و بين بني أبي
و بين بني عمي لمختلف جدا

و ليس قول من يقول- إنه عطف بين الثالثة على الضمير المجرور بأولى- من قول من يقول بل عطف بين الثالثة على بين الثانية- لأن المعنى يتم بكل واحد منها- . قوله ع و لا تمصر لبنها- المصر حلب ما في الضرع جميعه- نهاه من أن يحلب اللبن كله فيبقى الفصيل جائعا- ثم نهاه أن يجهدها ركوبا- أي يتعبها و يحملها مشقة- ثم أمره أن يعدل بين الركاب في ذلك- لا يخص بالركوب واحدة بعينها- ليكون ذلك أروح لهن ليرفه على اللاغب- أي ليتركه و ليعفه عن الركوب ليستريح- و الرفاهية الدعة و الراحة- . و النقب ذو النقب- و هو رقة خف البعير حتى تكاد الأرض تجرحه- أمره أن يستأني بالبعير ذي النقب- من الأناة و هي المهلة- .

و الظالع الذي ظلع أي غمز في مشيه- . و الغدر جمع غدير الماء- و جواد الطريق حيث لا ينبت المرعى- . و النطاف جمع نطفة و هي الماء الصافي القليل- . و البدن بالتشديد السمان واحدها بادن- . و منقيات ذوات نقي و هو المخ في العظم- و الشحم في العين من السمن- و أنقت الإبل و غيرها سمنت و صار فيها نقي- و ناقة منقية و هذه الناقة لا تنقي

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 15

 

نامه 24 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

24 و من وصية له ع بما يعمل في أمواله- كتبها بعد منصرفه من صفين 

هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ- فِي مَالِهِ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ- لِيُولِجَهُ بِهِ الْجَنَّةَ وَ يُعْطِيَهُ بِهِ الْأَمَنَةَ قد عاتبت العثمانية- و قالت إن أبا بكر مات و لم يخلف دينارا و لا درهما- و إن عليا ع مات و خلف عقارا كثيرا- يعنون نخلا- قيل لهم قد علم كل أحد- أن عليا ع استخرج عيونا بكد يده- بالمدينة و ينبع و سويعة- و أحيا بها مواتا كثيرا- ثم أخرجها عن ملكه و تصدق بها على المسلمين- و لم يمت و شي‏ء منها في ملكه- أ لا ترى إلى ما تتضمنه كتب السير و الأخبار- من منازعة زيد بن علي و عبد الله بن الحسن في صدقات علي ع- و لم يورث علي ع بنيه قليلا من المال و لا كثيرا- إلا عبيده و إماءه و سبعمائة درهم من عطائه- تركها ليشتري بها خادما لأهله- قيمتها ثمانية و عشرون دينارا- على حسب المائة أربعة دنانير- و هكذا كانت المعاملة بالدراهم إذ ذاك- و إنما لم يترك أبو بكر قليلا و لا كثيرا لأنه ما عاش- و لو عاش لترك- أ لا ترى أن عمر أصدق أم كلثوم أربعين ألف درهم- و دفعها إليها- و ذلك لأن هؤلاء طالت أعمارهم- فمنهم من درت عليه أخلاف التجارة- و منهم من كان يستعمر الأرض و يزرعها- و منهم من استفضل من رزقه من الفي‏ء- .

و فضلهم أمير المؤمنين ع بأنه كان يعمل بيده- و يحرث الأرض و يستقي الماء و يغرس النخل- كل ذلك يباشره بنفسه الشريفة- و لم يستبق منه لوقته و لا لعقبه قليلا و لا كثيرا- و إنما كان صدقة- و قد مات رسول الله ص- و له ضياع كثيرة جليلة جدا بخيبر و فدك و بني النضير- و كان له وادي نخلة و ضياع أخرى كثيرة بالطائف- فصارت بعد موته صدقة بالخبر الذي رواه أبو بكر- فإن كان علي ع معيبا بضياعه و نخله- فكذلك رسول الله ص و هذا كفر و إلحاد- و إن كان رسول الله ص إنما ترك ذلك صدقة- فرسول الله ص ما روى عنه الخبر في ذلك إلا واحد من المسلمين- و علي ع كان في حياته- قد أثبت عند جميع المسلمين بالمدينة أنها صدقة- فالتهمة إليه في هذا الباب أبعد-

و روي و يعطيني به الأمنة و هي الأمن: مِنْهَا فَإِنَّهُ يَقُومُ بِذَلِكَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ- يَأْكُلُ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ- وَ يُنْفِقُ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ- فَإِنْ حَدَثَ بِحَسَنٍ حَدَثٌ وَ حُسَيْنٌ حَيٌّ- قَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ وَ أَصْدَرَهُ مَصْدَرَهُ- وَ إِنَّ لِابْنَيْ فَاطِمَةَ مِنْ صَدَقَةِ عَلِيٍّ مِثْلَ الَّذِي لِبَنِي عَلِيٍّ- وَ إِنِّي إِنَّمَا جَعَلْتُ الْقِيَامَ بِذَلِكَ- إِلَى ابْنَيْ فَاطِمَةَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ- وَ قُرْبَةً إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ص- وَ تَكْرِيماً لِحُرْمَتِهِ وَ تَشْرِيفاً لِوُصْلَتِهِ- وَ يَشْتَرِطُ عَلَى الَّذِي يَجْعَلُهُ إِلَيْهِ- أَنْ يَتْرُكَ الْمَالَ عَلَى أُصُولِهِ- وَ يُنْفِقَ مِنْ ثَمَرِهِ حَيْثُ أُمِرَ بِهِ وَ هُدِيَ لَهُ- وَ أَلَّا يَبِيعَ مِنْ أَوْلَادِ نَخِيلِ هَذِهِ الْقُرَى وَدِيَّةً- حَتَّى تُشْكِلَ أَرْضُهَا غِرَاساً-وَ مَنْ كَانَ مِنْ إِمَائِي اللَّاتِي أَطُوفُ عَلَيْهِنَّ- لَهَا وَلَدٌ أَوْ هِيَ حَامِلٌ- فَتُمْسَكُ عَلَى وَلَدِهَا وَ هِيَ مِنْ حَظِّهِ- فَإِنْ مَاتَ وَلَدُهَا وَ هِيَ حَيَّةٌ فَهِيَ عَتِيقَةٌ- قَدْ أَفْرَجَ عَنْهَا الرِّقُّ وَ حَرَّرَهَا الْعِتْقُ

قال السيد الرضي رحمه الله تعالى- قوله ع في هذه الوصية- و ألا يبيع من نخلها ودية الودية الفسيلة و جمعها ودي. قوله ع حتى تشكل أرضها غراسا- هو من أفصح الكلام- و المراد به أن الأرض يكثر فيها غراس النخل- حتى يراها الناظر على غير تلك الصفة التي عرفها بها- فيشكل عليه أمرها و يحسبها غيرها جعل للحسن ابنه ع ولاية صدقات أمواله- و أذن له أن يأكل منه بالمعروف أي لا يسرف- و إنما يتناول منه مقدار الحاجة- و ما جرت بمثله عادة من يتولى الصدقات- كما قال الله تعالى وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها- . 

ثم قال فإن مات الحسن و الحسين بعده حي- فالولاية للحسين- و الهاء في مصدره ترجع إلى الأمر- أي يصرفه في مصارفه التي كان الحسن يصرفه فيها- ثم ذكر أن لهذين الولدين حصة من صدقاته- أسوة بسائر البنين- و إنما قال ذلك لأنه قد يتوهم متوهم-أنهما لكونهما قد فوض إليهما النظر في هذه الصدقات- قد منعا أن يسهما فيها بشي‏ء- و إن الصدقات إنما يتناولها غيرهما من بني علي ع- ممن لا ولاية له مع وجودهما- ثم بين لما ذا خصهما بالولاية- فقال إنما فعلت ذلك لشرفهما برسول الله ص- فتقربت إلى رسول الله ص- بأن جعلت لسبطيه هذه الرئاسة- و في هذا رمز و إزراء- بمن صرف الأمر عن أهل بيت رسول الله ص- مع وجود من يصلح للأمر- أي كان الأليق بالمسلمين و الأولى- أن يجعلوا الرئاسة بعده لأهله- قربة إلى رسول الله ص- و تكريما لحرمته و طاعة له- و أنفة لقدره ص أن تكون ورثته سوقة- يليهم الأجانب و من ليس من شجرته و أصله- أ لا ترى أن هيبة الرسالة و النبوة في صدور الناس أعظم- إذا كان السلطان و الحاكم في الخلق من بيت النبوة- و ليس يوجد مثل هذه الهيبة و الجلال- في نفوس الناس للنبوة- إذا كان السلطان الأعظم بعيد النسب- من صاحب الدعوة ع- .

ثم اشترط على من يلي هذه الأموال أن يتركها على أصولها- و ينفق من ثمرتها- أي لا يقطع النخل و الثمر و يبيعه خشبا و عيدانا- فيفضي الأمر إلى خراب الضياع و عطلة العقار- . قوله و ألا يبيع من أولاد نخيل هذه القرى- أي من الفسلان الصغار سماها أولادا- و في بعض النسخ ليست أولاد مذكورة- و الودية الفسيلة- .

تشكل أرضها تمتلي بالغراس- حتى لا يبقى فيه طريقة واضحة- . قوله أطوف عليهن- كناية لطيفة عن غشيان النساء أي من السراري- و كان ع يذهب إلى حل بيع أمهات الأولاد- فقال من كان من إمائي لها ولد مني- أو هي حامل مني و قسمتم تركتي- فلتكن أم ذلك الولد مبيعة على ذلك الولد- و يحاسب بالثمن من حصته من التركة- فإذا بيعت عليه عتقت عليه- لأن الولد إذا اشترى الوالد عتق الوالد عنه- و هذا معنى قوله فتمسك على ولدها- أي تقوم عليه بقيمة الوقت الحاضر- و هي من حظه أي من نصيبه و قسطه من التركة- . قال فإن مات ولدها و هي حية بعد أن تقوم عليه- فلا يجوز بيعها- لأنها خرجت عن الرق بانتقالها إلى ولدها- فلا يجوز بيعها- . فإن قلت فلما ذا قال فإن مات ولدها و هي حية- و هلا قال فإذا قومت عليه عتقت- .

قلت لأن موضع الاشتباه هو موت الولد و هي حية- لأنه قد يظن ظان- أنه إنما حرم بيعها لمكان وجود ولدها- فأراد ع أن يبين أنها قد صارت حرة مطلقا- سواء كان ولدها حيا أو ميتا

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 15

 

نامه 23 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)(قاله قبل موته على سبيل الوصية- لما ضربه ابن ملجم لعنه الله )

23 و من كلام له ع قاله قبل موته على سبيل الوصية- لما ضربه ابن ملجم لعنه الله 

وَصِيَّتِي لَكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئاً- وَ مُحَمَّدٌ ص فَلَا تُضَيِّعُوا سُنَّتَهُ- أَقِيمُوا هَذَيْنِ الْعَمُودَيْنِ- وَ أَوْقِدُوا هَذَيْنِ الْمِصْبَاحَيْنِ وَ خَلَاكُمْ ذَمٌّ- أَنَا بِالْأَمْسِ صَاحِبُكُمْ- وَ الْيَوْمَ عِبْرَةٌ لَكُمْ وَ غَداً مُفَارِقُكُمْ- إِنْ أَبْقَ فَأَنَا وَلِيُّ دَمِي- وَ إِنْ أَفْنَ فَالْفَنَاءُ مِيعَادِي- وَ إِنْ أَعْفُ فَالْعَفْوُ لِي قُرْبَةٌ وَ هُوَ لَكُمْ حَسَنَةٌ- فَاعْفُوا أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ- وَ اللَّهِ مَا فَجَأَنِي مِنَ الْمَوْتِ وَارِدٌ كَرِهْتُهُ- وَ لَا طَالِعٌ أَنْكَرْتُهُ- وَ مَا كُنْتُ إِلَّا كَقَارِبٍ وَرَدَ وَ طَالِبٍ وَجَدَ- وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ

قال الرضي رحمه الله تعالى- أقول و قد مضى بعض هذا الكلام- فيما تقدم من الخطب- إلا أن فيه هاهنا زيادة أوجبت تكريره فإن قلت لقائل أن يقول- إذا أوصاهم بالتوحيد و اتباع سنة النبي ص-فلم يبق شي‏ء بعد ذلك يقول فيه- أقيموا هذين العمودين و خلاكم ذم- لأن سنة النبي ص فعل كل واجب- و تجنب كل قبيح فخلاهم ذم فما ذا يقال- .

و الجواب أن كثيرا من الصحابة كلفوا أنفسهم- أمورا من النوافل شاقة جدا- فمنهم من كان يقوم الليل كله- و منهم من كان يصوم الدهر كله- و منهم المرابط في الثغور- و منهم المجاهد مع سقوط الجهاد عنه لقيام غيره به- و منهم تارك النكاح و منهم تارك المطاعم و الملابس- و كانوا يتفاخرون بذلك و يتنافسون فيه- فأراد ع أن يبين لأهله و شيعته وقت الوصية- أن المهم الأعظم هو التوحيد- و القيام بما يعلم من دين محمد ص أنه واجب- و لا عليكم بالإخلال بما عدا ذلك- فليت من المائة واحدا نهض بذلك- و المراد ترغيبهم بتخفيف وظائف التكاليف عنهم- فإن الله تعالى يقول- يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ و قال ص بعثت بالحنيفية السهلة السمحة – .

قوله و خلاكم ذم لفظة تقال على سبيل المثل- أي قد أعذرتم و سقط عنكم الذم- . ثم قسم أيامه الثلاثة أقساما- فقال أنا بالأمس صاحبكم أي كنت أرجى و أخاف- و أنا اليوم عبرة لكم أي عظة تعتبرون بها- و أنا غدا مفارقكم أكون في دار أخرى غير داركم- . ثم ذكر أنه إن بقي و لم يمت من هذه الضربة فهو ولي دمه- إن شاء عفا و إن شاء اقتص- و إن لم يبق فالفناء الموعد الذي لا بد منه- . ثم عاد فقال و إن أعف- و التقسيم ليس على قاعدة تقسيم المتكلمين- و المعنى منه مفهوم- و هو إما أن أسلم من هذه الضربة أو لا أسلم- فإن سلمت منها فأنا ولي دمي- إن شئت عفوت فلم أقتص و إن شئت اقتصصت- و لا يعني بالقصاص هاهنا القتل بل ضربة بضربة- فإن سرت إلى النفس كانت السراية مهدرة كقطع اليد- .

ثم أومأ إلى أنه إن سلم عفا- بقوله إن العفو لي إن عفوت قربة- . ثم عدنا إلى القسم الثاني من القسمين الأولين- و هو أنه ع لا يسلم من هذه- فولاية الدم إلى الورثة- إن شاءوا اقتصوا و إن شاءوا عفوا- . ثم أومأ إلى أن العفو منهم أحسن- بقوله و هو لكم حسنة- بل أمرهم أمرا صريحا بالعفو- فقال فاعفوا أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ- و هذا لفظ الكتاب العزيز- و ينبغي أن يكون أمره بالعفو في هذا الكلام محمولا على الندب- . ثم أقسم ع أنه ما فجأة من الموت أمر أنكره و لا كرهه- فجأني الشي‏ء أتاني بغتة- . ثم قال ما كنت إلا كقارب ورد- و القارب الذي يسير إلى الماء- و قد بقي بينه و بينه ليلة واحدة- و الاسم القرب فهم قاربون- و لا يقال مقربون و هو حرف شاذ

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 15

نامه 22 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

22 و من كتاب له ع إلى عبد الله بن العباس رحمه الله تعالى 

و كان ابن عباس يقول- ما انتفعت بكلام بعد كلام رسول الله ص كانتفاعي بهذا الكلام- : أَمَّا بَعْدُ- فَإِنَّ الْمَرْءَ قَدْ يَسُرُّهُ دَرْكُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَفُوتَهُ- وَ يَسُوؤُهُ فَوْتُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيُدْرِكَهُ- فَلْيَكُنْ سُرُورُكَ بِمَا نِلْتَ مِنْ آخِرَتِكَ- وَ لْيَكُنْ أَسَفُكَ عَلَى مَا فَاتَكَ مِنْهَا- وَ مَا نِلْتَ مِنْ دُنْيَاكَ فَلَا تُكْثِرْ بِهِ فَرَحاً- وَ مَا فَاتَكَ مِنْهَا فَلَا تَأْسَ عَلَيْهِ جَزَعاً- وَ لْيَكُنْ هَمُّكَ فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ

يقول إن كل شي‏ء يصيب الإنسان في الدنيا من نفع و ضر- فبقضاء من الله و قدره تعالى- لكن الناس لا ينظرون حق النظر في ذلك- فيسر الواحد منهم بما يصيبه من النفع- و يساء بفوت ما يفوته منه- غير عالم بأن ذلك النفع الذي أصابه- كان لا بد أن يصيبه- و أن ما فاته منه كان لا بد أن يفوته- و لو عرف ذلك حق المعرفة لم يفرح و لم يحزن- .

و لقائل أن يقول هب أن الأمور كلها بقضاء و قدر- فلم لا ينبغي للإنسان أن يفرح بالنفع و إن وقع بالقدر- و يساء بفوته أو بالضرر و إن وقعا بقدر- أ ليس العريان يساءبقدوم الشتاء- و إن كان لا بد من قدومه- و المحموم غبا يساء بتجدد نوبة الحمى- و إن كان لا بد من تجددها- فليس سبب الاختيار في الأفعال- مما يوجب أن لا يسر الإنسان و لا يساء بشي‏ء منها- .

و الجواب ينبغي أن يحمل هذا الكلام- على أن الإنسان ينبغي أن لا يعتقد في الرزق- أنه أتاه بسعيه و حركته فيفرح معجبا بنفسه- معتقدا أن ذلك الرزق ثمرة حركته و اجتهاده- و كذلك ينبغي ألا يساء بفوات ما يفوته من المنافع- لائما نفسه في ذلك- ناسبا لها إلى التقصير و فساد الحيلة و الاجتهاد- لأن الرزق هو من الله تعالى- لا أثر للحركة فيه و إن وقع عندها- و على هذا التأويل ينبغي أن يحمل قوله تعالى- ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ- وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ- مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ- لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى‏ ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ- وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ- . من النظم الجيد الروحاني في صفة الدنيا و التحذير منها- و الوصاة بترك الاغترار بها و العمل لما بعدها- ما أورده أبو حيان في كتاب الإشارات الإلهية- و لم يسم قائله- 

 

دار الفجائع و الهموم
و دار البث و الأحزان و البلوى‏

مر المذاقة غب ما احتلبت‏
منها يداك وبية المرعى‏

بينا الفتى منها بمنزلة
إذ صار تحت ترابها ملقى‏

تقفو مساويها محاسنها
لا شي‏ء بين النعي و البشرى‏

و لقل يوم ذر شارقه
إلا سمعت بهالك ينعى‏

لا تعتبن على الزمان لما
يأتي به فلقلما يرضى‏

للمرء رزق لا يفوت
و لو جهد الخلائق دون أن يفنى‏

يا عامر الدنيا المعد لها
ما ذا عملت لدارك الأخرى‏

و ممهد الفرش الوطيئة
لا تغفل فراش الرقدة الكبرى‏

لو قد دعيت لقد أجبت لما
تدعى له فانظر متى تدعى‏

أ تراك تحصي كم رأيت
من الأحياء ثم رأيتهم موتى‏

من أصبحت دنياه همته‏
فمتى ينال الغاية القصوى‏

سبحان من لا شي‏ء يعدله
كم من بصير قلبه أعمى‏

و الموت لا يخفى على أحد
ممن أرى و كأنه يخفى‏

و الليل يذهب و النهار
بأحبابي و ليس عليهما عدوى‏

 

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 15

نامه 21 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

21 و من كتاب له ع إلى زياد أيضا

فَدَعِ الْإِسْرَافَ مُقْتَصِداً- وَ اذْكُرْ فِي الْيَوْمِ غَداً- وَ أَمْسِكْ مِنَ الْمَالِ بِقَدْرِ ضَرُورَتِكَ- وَ قَدِّمِ الْفَضْلَ لِيَوْمِ حَاجَتِكَ- أَ تَرْجُو أَنْ يُعْطِيَكَ اللَّهُ أَجْرَ الْمُتَوَاضِعِينَ- وَ أَنْتَ عِنْدَهُ مِنَ الْمُتَكَبِّرِينَ- وَ تَطْمَعُ وَ أَنْتَ مُتَمَرِّغٌ فِي النَّعِيمِ أَنْ تَمْنَعَهُ الضَّعِيفَ وَ الْأَرْمَلَةَ- وَ أَنْ يُوجِبَ لَكَ ثَوَابَ الْمُتَصَدِّقِينَ- وَ إِنَّمَا الْمَرْءُ مَجْزِيٌّ بِمَا أَسْلَفَ وَ قَادِمٌ عَلَى مَا قَدَّمَ وَ السَّلَامُ

المتمرغ في النعيم المتقلب فيه- و نهاه عن الإسراف و هو التبذير في الإنفاق- و أمره أن يمسك من المال ما تدعو إليه الضرورة- و أن يقدم فضول أمواله- و ما ليس له إليه حاجة ضرورية في الصدقة- فيدخره ليوم حاجته و هو يوم البعث و النشور- . قلت قبح الله زيادا- فإنه كافأ إنعام علي ع و إحسانه إليه و اصطناعه له- بما لا حاجة إلى شرحه من أعماله القبيحة بشيعته و محبيه- و الإسراف في لعنه- و تهجين أفعاله- و المبالغة في ذلك بما قد كان معاوية يرضى باليسير منه- و لم يكن يفعل ذلك لطلب رضا معاوية كلا- بل يفعله بطبعه و يعاديه بباطنه و ظاهره- و أبى الله إلا أن يرجع إلى أمه و يصحح نسبه- و كل إناء ينضح بما فيه- ثم جاء ابنه بعد فختم تلك الأعمال السيئة بما ختم- و إلى الله ترجع الأمور

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 15

 

نامه 20 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

20 و من كتاب له ع إلى زياد بن أبيه- و هو خليفة عامله عبد الله بن عباس على البصرة- و عبد الله عامل أمير المؤمنين ع يومئذ عليها- و على كور الأهواز و فارس و كرمان و غيرها

وَ إِنِّي أُقْسِمُ بِاللَّهِ قَسَماً صَادِقاً- لَئِنْ بَلَغَنِي أَنَّكَ خُنْتَ مِنْ فَيْ‏ءِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئاً صَغِيراً أَوْ كَبِيراً- لَأَشُدَّنَّ عَلَيْكَ شَدَّةً تَدَعُكَ قَلِيلَ الْوَفْرِ- ثَقِيلَ الظَّهْرِ ضَئِيلَ الْأَمْرِ وَ السَّلَامُ سيأتي ذكر نسب زياد و كيفية استلحاق معاوية له- فيما بعد إن شاء الله تعالى- . قوله ع لأشدن عليك شدة- مثل قوله لأحملن عليك حملة- و المراد تهديده بالأخذ و استصفاء المال- . ثم وصف تلك الشدة- فقال إنها تتركك قليل الوفر- أي أفقرك بأخذ ما احتجت من بيت مال المسلمين- . و ثقيل الظهر أي مسكين لا تقدر على مئونة عيالك- . و ضئيل الأمر أي حقير- لأنك إنما كنت نبيها بين الناس بالغنى و الثروة- فإذا افتقرت صغرت عندهم و اقتحمتك أعينهم

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 15