خطبه 99 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام يجرى هذا المجرى.

القسم الأول
وَ ذَلِكَ يَوْمٌ يَجْمَعُ اللَّهُ فِيهِ الْأَوَّلِينَ وَ الْآخِرِينَ- لِنِقَاشِ الْحِسَابِ وَ جَزَاءِ الْأَعْمَالِ- خُضُوعاً قِيَاماً قَدْ أَلْجَمَهُمُ الْعَرَقُ- وَ رَجَفَتْ بِهِمُ الْأَرْضُ- فَأَحْسَنُهُمْ حَالًا مَنْ وَجَدَ لِقَدَمَيْهِ مَوْضِعاً- وَ لِنَفْسِهِ مُتَّسَعاً

اللغة
أقول: أشار باليوم إلى يوم القيامة. و نقاش الحساب: المناقشة و التدقيق فيه.

المعنى
و قد عرفت كيفيّة ذلك اليوم فيما سبق و نحوه قوله تعالى «يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ»«» الآية. و خضوعا كقوله تعالى «خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ»«» و قياما كقوله تعالى «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» و هما كناية عن كمال براءتهم من حولهم و قوّتهم إذن و تيقّنهم أن لا سلطان إلّا سلطانه. و ألجمهم العرق: بلغ منهم مكان اللجام، و هو كناية عن بلوغهم الغاية من الجهد. إذ كانت غاية التاعب أن يكثر عرقه.

و قوله: و رجفت بهم الأرض.
 كقوله تعالى «يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ»«» و «إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَ بُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا»«» قال بعضهم: المراد بالأرض الراجفة و المرتجّة أرض القلوب عن نزول خشية اللّه عليها و شدّة أهوال يوم القيامة، و قال آخرون: إنّ ذلك صرف الكلام عن ظاهره من غير ضرورة فلا يجوز. إذ كلّ ما أخبر الصادق عنه من جزئيّات أحوال القيامة امور ممكنة، و القدرة الإلهيّة وافية بها.

و قوله: فأحسنهم حالًا من وجد لقدميه موضعا و لنفسه متّسعا.
 قيل المراد من وجدت لقدما عقله موضعا من معرفة اللّه تعالى و عبادته، و من وجد لنفسه متّسعا في حظائر قدس اللّه وسعة رحمته. و ظاهر أنّ أولئك أحسن الخلق حالا يوم القيامة، و حمله على ظاهره موافقة لظاهر الشريعة ممكن.

القسم الثاني
و منها: فِتَنٌ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ- لَا تَقُومُ لَهَا قَائِمَةٌ وَ لَا تُرَدُّ لَهَا رَايَةٌ- تَأْتِيكُمْ مَزْمُومَةً مَرْحُولَةً- يَحْفِزُهَا قَائِدُهَا وَ يَجْهَدُهَا رَاكِبُهَا- أَهْلُهَا قَوْمٌ شَدِيدٌ كَلَبُهُمْ- قَلِيلٌ سَلَبُهُمْ- يُجَاهِدُهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَوْمٌ أَذِلَّةٌ عِنْدَ الْمُتَكَبِّرِينَ- فِي الْأَرْضِ مَجْهُولُونَ- وَ فِي السَّمَاءِ مَعْرُوفُونَ- فَوَيْلٌ لَكِ يَا بَصْرَةُ عِنْدَ ذَلِكِ- مِنْ جَيْشٍ مِنْ نِقَمِ اللَّهِ- لَا رَهَجَ لَهُ وَ لَا حَسَّ- وَ سَيُبْتَلَى أَهْلُكِ بِالْمَوْتِ الْأَحْمَرِ- وَ الْجُوعِ الْأَغْبَرِ

اللغة
أقول: يحفزها: يدفعها من خلف. و الكلب: الشرّ. و الأذّلة: جمع ذليل. و الرهج: الغبار. و الحسّ: الصوت الخفىّ.

و قد نبّه في هذا الفصل على ما سيقع بعده من الفتن، و يخصّ منها فتنة صاحب الزنج بالبصرة
و شبّه تلك الفتن بقطع الليل المظلم، و وجه الشبه ظاهر. و لا تقوم لها قائمة: أى لا يمكن مقابلتها بما يقاومها و يدفعها، و إنّما أنّث لكون القائمة في مقابلة الفتنة. و قيل: لا تثبت لها قائمة فرس، و استعار لفظ الزمام و الرحل و الحفز و القائد و الراكب و جهده لها ملاحظة لشبهها بالناقة، و كنّى بالزمام و الرحل عن تمام إعداد الفتنة و تعبيتها كما أنّ كمال الناقة للركوب أن تكون مزمومة مرحولة، و بقائدها عن أعوانها، و براكبها عن منشئها المتبوع فيها، و بحفزها و جهدها عن سرعتهم فيها، و أهلها إشارة إلى الزنج و ظاهر شدّة كلبهم و قلّة سلبهم. إذ يكونوا أصحاب حرب و عدّة و خيل كما يعرف ذلك من قصّتهم المشهورة كما سنذكر طرفاً منها فيما يستقبل من كلامه في فصل آخر، و قد وصف مقاتليهم في اللّه بكونهم أذلّة عند المتكبّرين، و كونهم مجهولين في الأرض: أى ليسوا من أبناء الدنيا المشهورين بنعيمها، و كونهم معروفين في السماء هو إشارة إلى كونهم من أهل العلم و الايمان‏ يعرفهم ربّهم بطاعتهم و تعرفهم ملائكته بعبادة ربّهم ثمّ أردف ذلك بأخبار البصرة مخاطبا لها و الخطاب لأهلها بما سيقع بها من فتنة الزنج، و ظاهر أنّه لم يكن لهم غبار و لا أصوات. إذ لم يكونوا أهل خيل و لا قعقعة لجم فإذن لا رهج لهم و لا حسّ، و ظاهر كونهم من نقم اللّه للعصاة و إن عمّت الفتنة. إذ قلّما تخصّ العقوبة النازلة بقوم بعضهم كما قال تعالى «وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً»«»

و قوله: و سيبتلى أهلك بالموت الأحمر و الجوع الأغبر.
 قيل: فالموت الأحمر إشارة إلى قتلهم بالسيف من قبل الزنج أو من قبل غيرهم، و وصفه بالحمرة كناية عن شدّته و ذلك لأنّ أشدّ الموت ما كان بسفك الدم. و أقول: قد فسّره عليه السّلام بهلاكهم من قبل الغرق كما نحكيه عنه و هو أيضا في غاية الشدّة لاستلزامه زهوق الروح، و كذلك وصف الأغبر لأنّ أشدّ الجوع ما أغبرّ معه الوجه و غبر السحنة الصافية لقلّة مادّة الغذاء أو ردائه فذلك سمّى أغبر، و قيل: لأنّه يلصق بالغبراء و هى الأرض، و قد أشار إلى هذه الفتنة في فصل من خطبته خطب بها عند فراغه من حرب البصرة و فتحها و هى خطبة طويلة حكينا منها فصولا تتعلّق بالملاحم.

من ذلك فصل يتضمن حال غرق البصرة. فعند فراغه عليه السّلام من ذلك الفصل قام إليه الأحنف بن قيس فقال له: يا أمير المؤمنين و متى يكون ذلك. قال: يا أبا بحر إنّك لن تدرك ذلك الزمان و إنّ بينك و بينه لقرونا و لكن ليبلغ الشاهد منكم الغائب عنكم لكى يبلغوا إخوانهم إذا هم رأوا البصرة قد تحوّلت أخصاصها دورا و آجامها قصورا فالهرب الهرب فإنّه لا بصيرة لكم يومئذ ثمّ التفت عن يمينه فقال: كم بينكم و بين الإبلّة. فقال له المنذر بن الجارود: فداك أبى و أمّى أربعة فراسخ. قال له صدّقت فو الّذى بعث محمّدا و أكرمه بالنبوّة و خصّه بالرسالة و عجّل بروحه إلى الجنّة لقد سمعت منه كما تسمعون منّى أن قال: يا علىّ هل علمت أن بين الّتى تسمّى البصرة و الّتى تسمّى الإبلّة أربعة فراسخ و قد يكون في الّتى تسمّى الإبلّة موضع أصحاب القشور يقتل في ذلك الموضع من امّتى سبعون ألفا شهيدهم يومئذ بمنزلة شهداء بدر فقال‏ له المنذر: يا أمير المؤمنين و من يقتلهم فداك أبى و امى قال: يقتلهم إخوان الجنّ و هم اجيل كأنّهم الشياطين سود ألوانهم منتنة أرواحهم شديد كلبهم قليل سلبهم طوبى لمن قتلهم و طوبى لمن قتلوه ينفر لجهادهم في ذلك الزمان قوم هم أذلّة عند المتكبّرين من أهل ذلك الزمان مجهولون في الأرض معروفون في السماء تبكى السماء عليهم و سكّانها و الأرض و سكّانها ثمّ هملت عيناه بالبكاء ثمّ قال: ويحك يا بصرة ويلك يا بصرة من جيش لا رهج له و لا حسّ قال له المنذر يا امير المؤمنين: و ما الّذي يصيبهم من قبل الغرق ممّا ذكرت، و ما الويح، و ما الويل فقال: هما بابان فالويح باب الزحمة، و الويل باب العذاب يا ابن الجارود نعم ثارات عظيمة منها عصبة يقتل بعضها بعضا، و منها فتنة تكون بها خراب منازل و خراب ديار و انتهاك أموال و قتل رجال و سبى نساء يذبّحن ذبحا يا ويل أمرهن حديث عجب منها أن يستحلّ بها الدجّال الأكبر الأعور الممسوح العين اليمنى و الأخرى كأنّها ممزوجة بالدم لكأنّها في الحمرة علقة تأتى الحدقة كهيئة حبّة العنب الطافية على الماء فيتبعه من أهلها عدّة، من قتل بالإبلّة من الشهداء أناجيلهم في صدورهم يقتل من يقتل و يهرب من يهرب ثمّ رجف ثمّ قذف ثمّ خسف ثمّ مسخ ثمّ الجوع الأغبر ثمّ الموت الأحمر و هو الغرق.

يا منذر إنّ للبصرة ثلاثة أسماء سوى البصرة في الزبر الأوّل لا يعلمها إلّا العلماء منها الخريبة، و منها تدمر، و منها المؤتفكة يا منذر و الّذي فلق الحبّة و برى‏ء النسمة لو أشاء لأخبرتكم بخراب العرصات عرصة عرصة و متى تخرب و متى تعمر بعد خرابها إلى يوم القيامة، و إنّ عندى من ذلك علما جمّا و إن تسألونى تجدونى به عالما لا أخطى‏ء منه علما و لا وافيا، و لقد استودعت علم القرون الأولى و ما كائن إلى يوم القيامة. قال: فقام إليه رجل فقال يا أمير المؤمنين: أخبرنى من أهل الجماعة و من أهل الفرقة و من أهل السنّة و من أهل البدعة فقال: ويحك إذا سألتنى فافهم عنّى و لا عليك أن لا تسأل أحدا بعدى: أمّا أهل الجماعة فأنا و من اتّبعنى و إن قلّوا و ذلك الحقّ عن أمر اللّه و أمر رسوله، و أمّا أهل الفرقة فالمخالفون لى و لمن اتّبعنى و إن كثروا، و أمّا أهل السنّة فالمتمسّكون بما سنّه اللّه و رسوله لا العاملون برأيهم و أهوائهم و إن كثروا،و قد مضى الفوج الأوّل و بقيت أفواج و على اللّه قصمها و استيصالها عن جديد الأرض. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى14

خطبه98 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام يشتمل على ذكر الملاحم.

الْأَوَّلِ قَبْلَ كُلِّ أَوَّلٍ وَ الْآخِرِ بَعْدَ كُلِّ آخِرٍ- وَ بِأَوَّلِيَّتِهِ وَجَبَ أَنْ لَا أَوَّلَ لَهُ- وَ بِآخِرِيَّتِهِ وَجَبَ أَنْ لَا آخِرَ لَهُ وَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ شَهَادَةً- يُوَافِقُ فِيهَا السِّرُّ الْإِعْلَانَ- وَ الْقَلْبُ اللِّسَانَ- أَيُّهَا النَّاسُ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي- وَ لَا يَسْتَهْوِيَنَّكُمْ عِصْيَانِي- وَ لَا تَتَرَامَوْا بِالْأَبْصَارِ عِنْدَ مَا تَسْمَعُونَهُ مِنِّي- فَوَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَ بَرَأَ النَّسَمَةَ- إِنَّ الَّذِي أُنَبِّئُكُمْ بِهِ عَنِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ ص- وَ اللَّهِ مَا كَذَبَ الْمُبَلِّغُ وَ لَا جَهِلَ السَّامِعُ- لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى ضِلِّيلٍ قَدْ نَعَقَ بِالشَّامِ- وَ فَحَصَ بِرَايَاتِهِ فِي ضَوَاحِي كُوفَانَ- فَإِذَا فَغَرَتْ فَاغِرَتُهُ- وَ اشْتَدَّتْ شَكِيمَتُهُ- وَ ثَقُلَتْ فِي الْأَرْضِ وَطْأَتُهُ- عَضَّتِ الْفِتْنَةُ أَبْنَاءَهَا بِأَنْيَابِهَا- وَ مَاجَتِ الْحَرْبُ بِأَمْوَاجِهَا- وَ بَدَا مِنَ الْأَيَّامِ كُلُوحُهَا- وَ مِنَ اللَّيَالِي كُدُوحُهَا- فَإِذَا أَيْنَعَ زَرْعُهُ وَ قَامَ عَلَى يَنْعِهِ- وَ هَدَرَتْ شَقَاشِقُهُ وَ بَرَقَتْ بَوَارِقُهُ- عُقِدَتْ رَايَاتُ الْفِتَنِ الْمُعْضِلَةِ- وَ أَقْبَلْنَ كَاللَّيْلِ الْمُظْلِمِ وَ الْبَحْرِ الْمُلْتَطِمِ- هَذَا وَ كَمْ يَخْرِقُ الْكُوفَةَ مِنْ قَاصِفٍ- وَ يَمُرُّ عَلَيْهَا مِنْ عَاصِفٍ- وَ عَنْ قَلِيلٍ تَلْتَفُّ الْقُرُونُ بِالْقُرُونِ- وَ يُحْصَدُ الْقَائِمُ- وَ يُحْطَمُ الْمَحْصُودُ يشتمل على ذكر الملاحم.

اللغة
أقول: [لا يجرمنّكم: أى لا يحملنّكم خ‏]. يجرمنّكم: يحقّ عليكم. و استهواه: أماله. و الضليل: الكثير الضلال. و نعق: صاح. و فحص الطائر الأرض برجله: بحثها. و الضواحى: النواحى البارزة. و كوفان: اسم للكوفة. فغرفوه: انفتح. و فلان شديد الشكيمة: إذا كان قوّى النفس أبيّا و الكلوح: تكثر في عبوس. و الكدح: فوق الخدش. و أينع الزرع: نضج. و الحطم: الدقّ.

المعنى
و مضمون هذا الفصل بعد توحيد اللّه تحذير السامعين عن عصيانه و عن التغامر بتكذيبه فيما بينهم فيما كان يخبرهم به من الامور المستقبلة. فقوله: الأوّل و الآخر قد مضى تفسيرهما.

و قوله: بأوليّته وجب أن لا أوّل له.
 لمّا أراد بأولّيته كونه مبدءا لكلّ شي‏ء، و بآخريّته كونه غاية ينتهى إليها كلّ شي‏ء في جميع أحواله كان بذلك الاعتبار يجب أن لا يكون له أوّل هو مبدئه و لا آخر يقف عنده و ينتهى، و وصف شهادته بأنّها الّتي يوافق السرّ الإعلان و القلب اللسان كناية عن خلوصها عن شائبة النفاق و الجحود باللّه ثم أبّه بالناس و حذّرهم من شقاقه و عصيانه و تكذيبه فيما يقول و هو تقريع لمن ضعفت عين بصيرته عن إدراك فضله و إمكان الإخبار بما سيكون من مثله ثمّ أسند ما يريد أن يخبر به من ذلك و ما أخبر به إلى النبىّ صلى اللّه عليه و آله و سلم ليكون ذلك شهادة لصدقه، و أكّد ذلك بتنزيهه صلى اللّه عليه و آله و سلم و تنزيه السامع يعنى نفسه من الكذب فيما بلّغ عن ربّه و فيما سمع هو عنه، و قد بيّنّا كيفيّة أخذه لهذه العلوم عنه في المقدّمات.

و قوله: لكأنّى أنظر إلى ضليل قد نعق بالشام.
 من جملة إخباراته بما سيكون، و الضليل: قيل: إنّه اشار به إلى السفيانّى الدجّال. و قيل: إنّه إشارة إلى معاوية فإنّ مبدء ملكه بالشام و دعوته بها و انتهت غاراته إلى نواحى الكوفة و إلى الأنبار في حياته عليه السّلام كما عرفت ذلك من قبل، و كنّى بفحصه براياته عن بلوغه إلى الكوفة و نواحيها كناية بالمستعار ملاحظة لشبهه بالقطاة المتّخذة مفحصا، و كذلك فغرت فاغرته كناية عن اقتحامه للناس كناية بالمستعار أيضا ملاحظة لشبهه بالأسد في اقتحام فريسته، و اشتداد شكيمته كناية عن قوّة رأسه و شدّة بأسه. و أصله أنّ الفرس الجموح قوّى الرأس محتاج إلى قوّة الشكيمة و شدّتها، و كذلك ثقل وطأته كناية عن شدّة بأسه في الأرض على الناس، و الأشبه أنّه إشارة إلى عبد الملك، و قد عرفت أحواله، و ثقل وطأته في الأرض‏ فيما سبق، و استعار لفظ العضّ للفتنة و وجه المشابهة ما يستلزمانه من الشدّة و الألم، و رشّح تلك الاستعارة بذكر الأنياب، و أبناء الفتنة أهلها، و كذلك استعار لفظ الموج للحرب، و كنّى به عن الاختلاط الواقع فيها من القتل و الأهوال. و للأيّام لفظ الكلوح، و كنّى به عن شدّة ما يلقى فيها من الشرّ كما يلقى من المعيس المكثر، و كذلك لفظ الكدوح استعارة لما يلقى فيها من المصائب الشبيهة بها، و لفظ الزرع استعارة لأعماله و لفظ الإيناع كناية عن بلوغه غاية أفعاله و لفظ الشقاشق و البروق استعارة لحركاته الهائلة و أقواله المخوفة تشبيها بالسحاب ذى الشقاشق و البروق.

و قوله: عقدت رايات الفتن المعضلة.
 أى: أنّ هذه الفتنة إذا قامت أثارت فتنا كثيرة بعدها يكون فيها الهرج و المرج، و شبّه تلك الفتن في إقبالها بالليل المظلم، و وجه المشابهة كونها لا يهتدى فيها لحقّ كما لا يهتدى في ظلمة الليل لما يراد، و بالبحر الملتطم في عظمها و خلطها للخلق بعضهم ببعض و انقلاب قوم على قوم بالمحقّ لهم و الهلاك كما يلتطم بعض أمواج البحر ببعض، ثمّ أشار إلى ما يلحق الكوفة بسبب تلك الفتنة بعدها من الوقائع و الفتن، و قد وقع فيها وفق أخباره وقائع جمّة و فتن كثيرة كفتنة الحجّاج و المختار بن أبى عبيدة و غيرهما، و استعار لفظى القاصف و العاصف من الريح لما يمرّ بها من ذلك و يجرى على أهلها من الشدائد.

و قوله: و عن قليل تلتفّ القرون بالقرون. إلى آخره.
 أى عن قليل يلحق قرن من الناس بقرون، و كنّى بالتفاف بعضهم ببعض عن اجتماعهم في بطن الأرض، و استعار لهم لفظ الحصد و الحطم لمشابهتهم الزرع يحصد قائمة و يحطم محصودة فكنّى بحصدهم عن موتهم أو قتلهم، و بحطم محصودهم عن فنائهم و تفرّق أوصالهم في التراب. و أعلم أنّه ليس في اللفظ دلالة واضحة على أنّ المراد بالضليل المذكور معاوية بل يحتمل أن يريد به شخصا آخر يظهر فيما بعد بالشام كما قيل: إنّه السفيانىّ الدجّال و إن كان الاحتمال الأوّل أغلب على الظنّ. و باللّه التوفيق.

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 3 ، صفحه‏ى 10

خطبه 97 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

الْحَمْدُ لِلَّهِ النَّاشِرِ فِي الْخَلْقِ فَضْلَهُ- وَ الْبَاسِطِ فِيهِمْ بِالْجُودِ يَدَهُ- نَحْمَدُهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ- وَ نَسْتَعِينُهُ عَلَى رِعَايَةِ حُقُوقِهِ- وَ نَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ- وَ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ- أَرْسَلَهُ بِأَمْرِهِ صَادِعاً وَ بِذِكْرِهِ نَاطِقاً- فَأَدَّى أَمِيناً وَ مَضَى رَشِيداً- وَ خَلَّفَ فِينَا رَايَةَ الْحَقِّ- مَنْ تَقَدَّمَهَا مَرَقَ- وَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا زَهَقَ- وَ مَنْ لَزِمَهَا لَحِقَ- دَلِيلُهَا مَكِيثُ الْكَلَامِ- بَطِي‏ءُ الْقِيَامِ سَرِيعٌ إِذَا قَامَ- فَإِذَا أَنْتُمْ أَلَنْتُمْ لَهُ رِقَابَكُمْ- وَ أَشَرْتُمْ إِلَيْهِ بِأَصَابِعِكُمْ- جَاءَهُ الْمَوْتُ فَذَهَبَ بِهِ- فَلَبِثْتُمْ بَعْدَهُ مَا شَاءَ اللَّهُ- حَتَّى يُطْلِعَ اللَّهُ لَكُمْ مَنْ يَجْمَعُكُمْ وَ يَضُمُّ نَشْرَكُمْ- فَلَا تَطْمَعُوا فِي غَيْرِ مُقْبِلٍ- وَ لَا تَيْأَسُوا مِنْ مُدْبِرٍ- فَإِنَّ الْمُدْبِرَ عَسَى أَنْ تَزِلَّ بِهِ إِحْدَى قَائِمَتَيْهِ- وَ تَثْبُتَ الْأُخْرَى فَتَرْجِعَا حَتَّى تَثْبُتَا جَمِيعاً- أَلَا إِنَّ مَثَلَ آلِ مُحَمَّدٍ ص كَمَثَلِ نُجُومِ السَّمَاءِ- إِذَا خَوَى نَجْمٌ طَلَعَ نَجْمٌ- فَكَأَنَّكُمْ قَدْ تَكَامَلَتْ مِنَ اللَّهِ فِيكُمُ الصَّنَائِعُ- وَ أَرَاكُمْ مَا كُنْتُمْ تَأْمُلُونَ

اللغة
أقول: مرق: خرج من الدين. و زهق: هلك. و المكيث: البطى‏ء المتأنّى. و خوى النجم: سقط للمغيب. و الصنيعة: النعمة.

المعنى
و هذا الفصل يشتمل على إعلامهم بما يكون بعده من أمر الأئمّة و تعليمهم ما ينبغي أن يفعل الناس معهم و يمنّيهم بظهور إمام من آل محمّد عقيب آخر، و وعدهم‏ بتكامل صنايع اللّه فيهم بما يأمّلونه من ظهور إمام منتظر.

فقوله: الحمد للّه. إلى قوله: حقوقه.
 شكر له تعالى باعتبار أمرين: أحدهما: نشره لفضله في خلقه. الثاني: بسطه فيهم بالجود يده، و يده نعمته مجازا لتقدّسه تعالى عن الجارحة، و هو من باب إطلاق اسم السبب على المسبّب، و ظاهر كون الجود مبدءا للنعمة، و النشر و البسط و إن كانا حقيقة في الأجسام إلّا أنّهما من الاستعارات الشائعة الّتى قاربت الحقيقة ثمّ أكّد ذلك الحمد بتعميمه باعتبار كلّ صادر عنه من رخاء و شدّة. إذ الشدائد اللاحقة من نعمه أيضا فإنّها إذا قوبلت بصبر جميل استلزمت ثوابا جزيلا كما قال تعالى «وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ» الآية، و ظاهر أنّ أسباب النعم نعم و لمّا حمده على ما لحق من نعمائه طلب منه المعونة على رعاية واجب حقوقه، و استعار لفظ الصادع للرسول و وجهها أنّه شقّ بأمر اللّه بيضة الشرك و قلوب المشركين فأخرج ما كان فيها من الكفر و الجهل و نطق بذكره تعالى فأودعها إيّاه فأدّى ما امر به أمينا عليه و قبضه اللّه إليه مرشدا له إلى حضرة قدسه و منازل الأبرار من ملائكته، و صادعا و ناطقا و أمينا و رشيدا أحوال، و أشار براية الحقّ الّتي خلّفها رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلم إلى كتاب اللّه و سنّته، و أشار بتقدّمها و التخلّف عنها إلى طرفى الإفراط و التفريط من فضيلة الاستقامة عليها: أى أن من كان تحتها لاحقا بها فهو على حاقّ الوسط من الفضائل، و من تقدّمها كان على طرف الإفراط و قد تعدّى في طلب الدين و أغلى فيه على جهل فمرق منه كما فعلت الخوارج، و من تخلّف عنها كان على طرف التفريط و التقصير فهلك في طريق الضلال و الحيرة، و لفظ الراية مستعار، و وجه المشابهة كون الكتاب و السنّة مقصدين لتابعهما يهتدى بهما في سبيل اللّه كما أنّ الراية كذلك، و أشار بدليلها إلى نفسه استعارة، و وجهها أنّ الإمام مظهر و مبيّن لأحكام الكتاب و السنّة و ما خفى منهما للسالكين إلى اللّه كما يرفع الراية حاملها لتابعيه ليقتدوا به ثمّ أشار إلى صفات ذلك الدليل، و كنّى بقوله: مكيث الكلام عن تروّيه و تثبّته في أقواله و ما يشير به و يحكم، و بقوله: بطى‏ء القيام عن تأنّيه في حركته في وجوه المصالح إلى حين استثباته‏ الرأى الأصلح و وجه المصلحة، و بقوله: سريع إذا قام. عن مبادرته إلى وجوه المصلحة و انتهاضه (انتهازه خ) الفرص ثمّ أخذ يذكّرهم بموته، و كنّى بقوله: ألنتم له رقابكم. من خضوعهم لطاعته و انقيادهم لأمره، و بقوله: و أشرتم إليه بالأصابع عن اشتهاره فيهم و تعيّنه و تعظيمهم له، و أشار إلى أنّه إذا تمّ الإسلام به توفّى، و نبّه بقوله: فلبثتم بعده ما شاء اللّه. إلى أنّهم يخلون عن إمام يجمعهم مدّة، و الاشارة إلى مدّة بنى اميّة، و بقوله: حتّى يطلع اللّه لكم. إلى قوله: نشركم. على أنّه لابدّ لهم بعد تلك المدّة من شخص يجمعهم، و طلوعه ظهوره و تعيّنه للرياسة بعد اختفاء. فقيل: هو الإمام المنتظر. و قيل: هو قائم بنى العبّاس بعد انقضاء دولة بنى أميّة.

و قوله: فلا تطمعوا في غير مقبل.
 أى من لم يقبل على طلب هذا الأمر ممّن هو أهله و متعيّن له و آثر تركه إلى الخلوة باللّه فلا تطمعوا فيه فإنّ له باللّه شغلا عن كلّ شي‏ء. و قيل: المراد بغير المقبل من انحرف عن الدين بارتكاب منكر فإنّه لا يجوز الطمع في أن يكون أميرا لكم، و روى فلا تطعنوا في عين مقبل: أى من أقبل عليكم من أهل البيت طالبا لهذا الأمر و هو أهل له فكونوا معه، و كنّى بالطعن في عينه عن دفعه عمّا يريد.

و قوله: و لا تيأسوا من مدبر. إلى قوله: تثبتا جميعا.
 أراد أنّ من أدبر عن طلب الخلافة ممّن هو أهل لها فلا ينبغي أن يحصل الإياس من عوده و إقباله على الطلب فلعلّه إنّما أدبر عن ذلك لاختلال بعض الشرائط الّتي يتعيّن عليه معها القيام، و كنّى عن اختلال بعض أحواله من قلّة ناصر و نحوه بزوال إحدى قائمتيه و بثبات الاخرى من وجود بعض الشرائط كثبات أهليّته للطلب أو بعض أنصاره معه، و بقوله: فترجعا حتّى تثبتا. عن تكامل شرائط قيامه و لا ينافي النهى عن اليأس هاهنا النهى عن الطمع في غير المقبل لجواز أن ينهى عن الطمع فيه حال إعراضه و إدباره عن الطلب لاختلال بعض شرائطه و النهى عن الإياس منه لجواز حصول شرائط القيام فيه و تكاملها.

و قوله: ألا إنّ مثل آل محمّد. إلى قوله: طلع نجم.
تعيين للأئمّة من آل محمّد. قالت الإماميّة: هم الاثنى عشر من أهل البيت.
و شبّههم بالنجوم و وجه التشبيه أمران: أحدهما: أنّهم يستضاء بأنوار هداهم في سبيل اللّه كما يستضي‏ء المسافر بالنجوم في سفره و يهتدى بها. الثاني: ما أشار إليه بقوله: كلما خوى نجم طلع نجم و هو كناية عن كونهم كلّما خلا منهم سيّد قام سيّد، و الإماميّة يستدلّون بهذا الكلام منه عليه السّلام على أنّه لا يخلو زمان من وجود قائم من أهل البيت يهتدى به في سبيل اللّه.

و قوله: فكأنّكم. إلى آخر.
 إشارة إلى منّة اللّه عليهم بظهور الإمام المنتظر و إصلاح أحوالهم بوجوده.
و وجدت له عليه السّلام في أثناء بعض خطبه في اقتصاص ما يكون بعده فصلا يجرى مجرى الشرح لهذا الوعد، و هو أن قال: يا قوم اعلموا علما يقينا أنّ الّذى يستقبل قائمنا من أمر جاهليّتكم ليس بدون ما استقبل الرسول من أمر جاهليّتكم و ذلك أنّ الامّة كلّها يومئذ جاهليّة إلّا من رحم اللّه فلا تعجلون فيجعل الخرق بكم، و اعلموا أنّ الرفق يمن و في الإناة بقاء و راحة و الإمام أعلم بما ينكر، و لعمرى لينزعنّ عنكم قضاة السوء و ليقبضنّ عنكم المراضين، و ليعزلنّ عنكم امراء الجور، و ليطهرنّ الأرض من كلّ غاش، و ليعملنّ فيكم بالعدل، و ليقومنّ فيكم بالقسطاس المستقيم، و ليتمنّأنّ أحيائكم لأمواتكم رجعة الكرّة عمّا قليل فيعيشوا إذن فإنّ ذلك كائن.
للّه أنتم بأحلامكم كفّوا ألسنتكم و كونوا من وراء معايشكم فإنّ الحرمان سيصل إليكم و إن صبرتم و احتسبتم و ائتلفتم أنّه طالب و تركم و مدرك لثاركم و آخذ بحقّكم، و أقسم باللّه قسما حقا أنّ اللّه مع الّذين اتّقوا و الّذين هم محسنون.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 3 ، صفحه‏ى 6

خطبه96 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

نَحْمَدُهُ عَلَى مَا كَانَ- وَ نَسْتَعِينُهُ مِنْ أَمْرِنَا عَلَى مَا يَكُونُ- وَ نَسْأَلُهُ الْمُعَافَاةَ فِي الْأَدْيَانِ- كَمَا نَسْأَلُهُ الْمُعَافَاةَ فِي الْأَبْدَانِ- عِبَادَ اللَّهِ أُوصِيكُمْ بِالرَّفْضِ- لِهَذِهِ الدُّنْيَا التَّارِكَةِ لَكُمْ- وَ إِنْ لَمْ تُحِبُّوا تَرْكَهَا- وَ الْمُبْلِيَةِ لِأَجْسَامِكُمْ وَ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ تَجْدِيدَهَا- فَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَ مَثَلُهَا كَسَفْرٍ- سَلَكُوا سَبِيلًا فَكَأَنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوهُ- وَ أَمُّوا عَلَماً فَكَأَنَّهُمْ قَدْ بَلَغُوهُ- وَ كَمْ عَسَى الْمُجْرِي إِلَى الْغَايَةِ- أَنْ يَجْرِيَ إِلَيْهَا حَتَّى يَبْلُغَهَا- وَ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ بَقَاءُ مَنْ لَهُ يَوْمٌ لَا يَعْدُوهُ- وَ طَالِبٌ حَثِيثٌ يَحْدُوهُ- فِي الدُّنْيَا حَتَّى يُفَارِقَهَا فَلَا تَنَافَسُوا فِي عِزِّ الدُّنْيَا وَ فَخْرِهَا- وَ لَا تَعْجَبُوا بِزِينَتِهَا وَ نَعِيمِهَا- وَ لَا تَجْزَعُوا مِنْ ضَرَّائِهَا وَ بُؤْسِهَا- فَإِنَّ عِزَّهَا وَ فَخْرَهَا إِلَى انْقِطَاعٍ- وَ زِينَتَهَا وَ نَعِيمَهَا إِلَى زَوَالٍ- وَ ضَرَّاءَهَا وَ بُؤْسَهَا إِلَى نَفَادٍ- وَ كُلُّ مُدَّةٍ فِيهَا إِلَى انْتِهَاءٍ- وَ كُلُّ حَيٍّ فِيهَا إِلَى فَنَاءٍ- أَ وَ لَيْسَ لَكُمْ فِي آثَارِ الْأَوَّلِينَ مُزْدَجَرٌ وَ فِي آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ تَبْصِرَةٌ وَ مُعْتَبَرٌ- إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ- أَ وَ لَمْ تَرَوْا إِلَى الْمَاضِينَ مِنْكُمْ لَا يَرْجِعُونَ- وَ إِلَى‏ الْخَلَفِ الْبَاقِينَ لَا يَبْقَوْنَ- أَ وَ لَسْتُمْ تَرَوْنَ أَهْلَ الدُّنْيَا- يُصْبِحُونَ وَ يُمْسُونَ عَلَى أَحْوَالٍ شَتَّى- فَمَيِّتٌ يُبْكَى وَ آخَرُ يُعَزَّى- وَ صَرِيعٌ مُبْتَلًى وَ عَائِدٌ يَعُودُ- وَ آخَرُ بِنَفْسِهِ يَجُودُ- وَ طَالِبٌ لِلدُّنْيَا وَ الْمَوْتُ يَطْلُبُهُ- وَ غَافِلٌ وَ لَيْسَ بِمَغْفُولٍ عَنْهُ- وَ عَلَى أَثَرِ الْمَاضِي مَا يَمْضِي الْبَاقِي- أَلَا فَاذْكُرُوا هَاذِمَ اللَّذَّاتِ- وَ مُنَغِّصَ الشَّهَوَاتِ- وَ قَاطِعَ الْأُمْنِيَاتِ- عِنْدَ الْمُسَاوَرَةِ لِلْأَعْمَالِ الْقَبِيحَةِ- وَ اسْتَعِينُوا اللَّهَ عَلَى أَدَاءِ وَاجِبِ حَقِّهِ- وَ مَا لَا يُحْصَى مِنْ أَعْدَادِ نِعَمِهِ وَ إِحْسَانِهِ

اللغة
أقول: الرفض: الترك. و السفر: المسافرون. و أمّوا: قصدوا. و يعدوه: يتعدّاه. و يحدوه: يسوقه. و المساورة: المواثبة.

المعنى

فقوله: نحمده. إلى قوله: في الأبدان.
 خصّص الحمد بما كان لأنّ الشكر على النعمة مترتّب على وقوعها. و الاستعانة على ما يكون لأنّ طلب العون على أمر هو بصدد أن يفعل. ثمّ سأل العافية في الأديان كما سألها في الأبدان لأنّ لها سقما هو في الحقيقة أشدّ، و قيل لأعرابيّ: ما تشتكى قال: ذنوبى. فقيل: ما تشتهى قال: الجنّة. فقيل: أ فلا ندعو لك طبيبا فقال: الطبيب أمرضني، و سمعت عصرة (عنترة خ) العابدة البصريّة رجلًا يقول: ما أشدّ العمى على من كان بصيرا فقالت: يا عبد اللّه غفلت عن مرض الذنوب و اهتممت بمرض الأجساد، و عمى القلب عن اللّه أشدّ. و المعافاة فيها بامداد العناية الإلهيّة ببقائها سليمة و بتداركها للمذنبين بجذبهم إلى التوبة.
ثمّ أردف ذلك بالرأى الصالح و الوصيّة الناصحة برفض الدنيا، و نفّر عنها بذكر معايب: أحدها: تركها لهم على كلّ حال و إن لم يحبّوا تركها، و من أكبرالمصالح ترك محبوب لا بدّ من مفارقته تركا باستدراج النفس و استغفالها كى لا يقدحها مفارقته دفعة مع تمكّن محبّته عن جوهرها فيبقى كمن نقل من معشوقه إلى موضع ظلمانىّ شديد الظلمة. الثاني: كونها مبلية لأجسامهم و إن أحبّوا تجديدها و إبلائها بالأمراض و الهرم، و من شأن الموذى أن يجتنب لا أن يحبّ إصلاحه. ثمّ أردف ذلك بتمثيلهم في الكون بها فمثّلهم بالسفر و مثّلها بسبيل هم سالكوه، و من سلك سبيلا فكأنّهم قطعوه فالمشبّه هم باعتبار سرعة سيرهم و قرب الآخرة منهم و قطع منازل الأعمار، و المشبّه به قاطع ذلك السبيل: أى من سلك سبيلا أشبه في سرعة سيره من قطعه ثمّ لمّا كان لا بدّ لكلّ طريق سلك من غاية يقصد فمن سلك سبيلا فكأنّهم بلغوا تلك الغاية: أى أشبهوا في قرب وصولها من بلغها و هو تخويف بالموت و ما بعده و تحقير لمدّة البقاء في الدنيا و المقام فيها، و أكّد ذلك بقوله: و ما عسى المجرى إلى الغاية أن يجرى إليها حتّى يبلغها: أى إجرائه إليها بسير سريع، و في بعض النسخ: و كم عسى، و التقدير و كم يرجو الّذي يجرى إلى غاية من إجرائه إليها حتّى يبلغها، و هو استفهام في معنى التحقير لما يرجوه من مدّة الجرى، و هي مدّة الحياة الدنيا، و مفعول المجرى محذوف و التقدير المجرى مركوبه. و لمّا لم يكن الغرض إلّا ذكر الإجراء لا جرم حذف المفعول. و قد يجي‏ء لازما، و كذلك قوله: و ما عسى أن يكون بقاء من له يوم لا يعدوه. إلى قوله: يفارقها: أى و ما يرجى و يؤمل أن يكون من ذلك البقاء، و كان هنا تامّة و هو في الموضعين استفهام على سبيل التحقير لما يرجى من البقاء في الدنيا و الانكار على المؤمّل الراجى له، و عنى بالطالب الحثيث الموت و أسند إليه الطلب مجازا و استعار له لفظ الحد و، و قد علمت وجه هذه الاستعارة، و كنّى بذلك الحد و عمّا يتوهّم من سوق أسباب الموت للبدن إليه.

و قوله: و لا تنافسوا. إلى قوله: إلى فناء.
 نهى عن اعتبار شي‏ء من أحوالها: خيرها و شرّها. فمن خيرها عزّها و فخرها و زينتها و نعيمها، و نهى عن المنافسة فيه و الاعجاب به، و أمّا شرّها فضرّائها و شدائدها، و نهى عن الجزع منها و علّل وجوب الانتهاء عمّا نهى عنه بانقطاعه و زواله.
و ما كان من شأنه الزوال و الانقطاع فمن الواجب أن لا يتنافس فيه و لا يعجب به و إن عدّ نافعا، و أن لا يجزع من وجوده و إن عدّ ضارّا.

و قوله: أ و ليس لكم في آثار الأوّلين. إلى قوله: لا يبقون.
 تذكرة لهم بآثار السابقين لهم و الماضين من آبائهم على سبيل استفهامهم عن حصول العبرة لهم بهم استفهام إنكار عليهم أن لا يستفيدوا من ذلك عبرة على تقدير أنّهم عقلاء كما يزعمون ذلك ثمّ تنبيه لهم على وجه الاعتبار و الاتّعاظ و هو عدم رجوع الماضى منهم و عدم بقاء الباقى فإنّ ذلك محلّ العبرة ثمّ تنبيه لهم على ما يرون من أحوال أهل الدنيا المختلفة لستدلّوا على عدم بقائها باختلاف أحوالها و على أنّها لا تصلح قرارا فأهلها بين ميّت يبكى، و آخر يعزّى، و آخر صريع مبتلى بالأمراض و الأسقام، و آخر يعوده مشغول الخاطر به، و آخر في المعاوقة و الاحتضار، و السالم من تلك الامور طالب للدنيا و الموت من ورائه طالب له غافل عمّا يراد به و ليس اللّه بغافل عنه ثمّ لا بدّ له أن يمضى على أثر من مضى و إن طال بقائه، و ما في ما يمضى مصدريّة، و إنّما قدّم الميّت في أقسام أهل الدنيا لأنّ ذكره أشدّ موعظة، و استعار لفظ الجود للمحتضر، و وجه المشابهة أنّه يسمح بنفسه و يسلّمها كما يسلّم الجواد ما يعطيه من مال ثمّ أمرهم بذكر الموت و وصفه بلوازمه المنفّرة عنه و هي كونه هادما للّذّات الدنيويّة، و منغّصا لشهواتها و قاطعا للامنيّات فيها، و عيّن لهم وقت ذكره و هو عند وثباتهم إلى الأعمال القبيحة ليكون ذكره زاجرا لهم عنها ثمّ بالرغبة إلى اللّه في طلب معونته بجواذب عنايته و جميل لطفه على أداء واجب حقوقه الّتي كلّفنا القيام بها بالمواظبة عليها و أداء واجب ما لا يحصى من نعمه بدوام شكرها و الاعتراف بها ملاحظين لجلال كبريائه باعتبار كلّ جزئىّ منها. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 3

خطبه 95 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام

وَ اللَّهِ لَا يَزَالُونَ- حَتَّى لَا يَدَعُوا لِلَّهِ مُحَرَّماً إِلَّا اسْتَحَلُّوهُ- وَ لَا عَقْداً إِلَّا حَلُّوهُ- وَ حَتَّى لَا يَبْقَى بَيْتُ مَدَرٍ وَ لَا وَبَرٍ- إِلَّا دَخَلَهُ ظُلْمُهُمْ- وَ نَبَا بِهِ سُوءُ رَعْيِهِمْ وَ حَتَّى يَقُومَ الْبَاكِيَانِ يَبْكِيَانِ- بَاكٍ يَبْكِي لِدِينِهِ- وَ بَاكٍ يَبْكِي لِدُنْيَاهُ- وَ حَتَّى تَكُونَ نُصْرَةُ أَحَدِكُمْ مِنْ أَحَدِهِمْ- كَنُصْرَةِ الْعَبْدِ مِنْ سَيِّدِهِ- إِذَا شَهِدَ أَطَاعَهُ- وَ إِذَا غَابَ اغْتَابَهُ- وَ حَتَّى يَكُونَ أَعْظَمَكُمْ فِيهَا عَنَاءً أَحْسَنُكُمْ بِاللَّهِ ظَنّاً- فَإِنْ أَتَاكُمُ اللَّهُ بِعَافِيَةٍ فَاقْبَلُوا- وَ إِنِ ابْتُلِيتُمْ فَاصْبِرُوا- فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ

اللغة
أقول: نبابه المنزل: إذا لم يوافقه. و العناء: التعب.

و الإشارة في هذا الفصل إلى بنى اميّة
فأقسم لا يزالون ظالمين فحذف الخبر للعلم به و ذكر لظلمهم غايات: إحداها: أنّهم لا يدعون محرّما إلّا استحلّوه، و أعظم كباير المحرّمات الظلم و قتل النفس و حالهم فيهما مشهور فما ظنّك بغيرهما، و معنى قوله: استحلّوه: استعملوه كاستعمال الحلال في عدم التحرّج و التأثّم به. الثانية: أن لا يدعوا عقدا إلّا حلّوه: أى من عقود الإسلام الّتى نظم بها أمر العالم من قوانين الشرع و ضوابطه، و حلّة كناية عن حزم تلك القواعد بمخالفتها. الثالثة: أنّه لا يبقى بيت مدر و لا وبر إلّا دخله ظلمهم، و هو كناية عن عموم عداوتهم و بغيهم على جميع الخلق من البدو و الحضر،

و قوله: و نبا به سوء رعيهم: أى أوجب‏ سوء رعيهم لأهله نبوّهم عنه. الرابعة: أن يقوم الباكيان باك يبكى لدينه، و باك يبكى لدنياه. الخامسة: و حتّى تكون نصرة أحدكم من أحدهم كنصرة العبد من سيّده، ذكر المشبّه و المشبّه به ثمّ أشار إلى وجه الشبه بقوله: إذا شهد أطاعه و إذا غاب اغتابه. العاشر: و حتّى يكون أعظمكم فيها عناء أحسنكم باللّه ظنّا، و إنّما كان كذلك لأنّ من حسن الظنّ باللّه كان أشدّ الناس بعدا منهم و توكّلا عليه فيكونون عليه أشد كلبا و له أقوى طلبا فكان منهم أكثر تعبا، ثمّ أردف ذلك بأمر من أتته العافية أن يقبلها، و يشكر اللّه عليها نعمة، و أراد العافية من الابتلاء بشرورهم لبعض الناس أو بقائم عدل مخلص من بلائهم، و يأمر من ابتلى بهم بالصبر على ما ابتلى به و وعده على ذلك بحسن العافية لازما للتقوى و الصبر كما قال تعالى فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه‏ى 410

خطبه94 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام

وَ لَئِنْ أَمْهَلَ الظَّالِمَ- فَلَنْ يَفُوتَ أَخْذُهُ- وَ هُوَ لَهُ بِالْمِرْصَادِ عَلَى مَجَازِ طَرِيقِهِ وَ بِمَوْضِعِ الشَّجَا مِنْ مَسَاغِ رِيقِهِ- أَمَا وَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ- لَيَظْهَرَنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ عَلَيْكُمْ- لَيْسَ لِأَنَّهُمْ أَوْلَى بِالْحَقِّ مِنْكُمْ- وَ لَكِنْ لِإِسْرَاعِهِمْ إِلَى بَاطِلِ صَاحِبِهِمْ وَ إِبْطَائِكُمْ عَنْ حَقِّي- وَ لَقَدْ أَصْبَحَتِ الْأُمَمُ تَخَافُ ظُلْمَ رُعَاتِهَا- وَ أَصْبَحْتُ أَخَافُ ظُلْمَ رَعِيَّتِي- اسْتَنْفَرْتُكُمْ لِلْجِهَادِ فَلَمْ تَنْفِرُوا- وَ أَسْمَعْتُكُمْ فَلَمْ‏ تَسْمَعُوا- وَ دَعَوْتُكُمْ سِرّاً وَ جَهْراً فَلَمْ تَسْتَجِيبُوا- وَ نَصَحْتُ لَكُمْ فَلَمْ تَقْبَلُوا- أَ شُهُودٌ كَغُيَّابٍ وَ عَبِيدٌ كَأَرْبَابٍ- أَتْلُو عَلَيْكُمْ الْحِكَمَ فَتَنْفِرُونَ مِنْهَا- وَ أَعِظُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ الْبَالِغَةِ- فَتَتَفَرَّقُونَ عَنْهَا- وَ أَحُثُّكُمْ عَلَى جِهَادِ أَهْلِ الْبَغْيِ- فَمَا آتِي عَلَى آخِرِ قَوْلِي- حَتَّى أَرَاكُمْ مُتَفَرِّقِينَ أَيَادِيَ سَبَا تَرْجِعُونَ إِلَى مَجَالِسِكُمْ- وَ تَتَخَادَعُونَ عَنْ مَوَاعِظِكُمْ- أُقَوِّمُكُمْ غُدْوَةً وَ تَرْجِعُونَ إِلَيَّ عَشِيَّةً- كَظَهْرِ الْحَنِيَّةِ عَجَزَ الْمُقَوِّمُ وَ أَعْضَلَ الْمُقَوَّمُ- أَيُّهَا الشَّاهِدَةُ أَبْدَانُهُمْ- الْغَائِبَةُ عُقُولُهُمْ- الْمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ- الْمُبْتَلَى بِهِمْ أُمَرَاؤُهُمْ- صَاحِبُكُمْ يُطِيعُ اللَّهَ وَ أَنْتُمْ تَعْصُونَهُ- وَ صَاحِبُ أَهْلِ الشَّامِ يَعْصِي اللَّهَ- وَ هُمْ يُطِيعُونَهُ- لَوَدِدْتُ وَ اللَّهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ صَارَفَنِي بِكُمْ- صَرْفَ الدِّينَارِ بِالدِّرْهَمِ- فَأَخَذَ مِنِّي عَشَرَةَ مِنْكُمْ- وَ أَعْطَانِي رَجُلًا مِنْهُمْ- يَا أَهْلَ الْكُوفَةِ- مُنِيتُ مِنْكُمْ بِثَلَاثٍ وَ اثْنَتَيْنِ- صُمٌّ ذَوُو أَسْمَاعٍ- وَ بُكْمٌ ذَوُو كَلَامٍ- وَ عُمْيٌ ذَوُو أَبْصَارٍ- لَا أَحْرَارُ صِدْقٍ عِنْدَ اللِّقَاءِ- وَ لَا إِخْوَانُ ثِقَةٍ عِنْدَ الْبَلَاءِ- يَا أَشْبَاهَ الْإِبِلِ غَابَ عَنْهَا رُعَاتُهَا- كُلَّمَا جُمِعَتْ مِنْ جَانِبٍ تَفَرَّقَتْ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ- وَ اللَّهِ لَكَأَنِّي بِكُمْ فِيمَا إِخَالُكُمْ- أَنْ لَوْ حَمِسَ الْوَغَى وَ حَمِيَ الضِّرَابُ- قَدِ انْفَرَجْتُمْ عَنِ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ- انْفِرَاجَ الْمَرْأَةِ عَنْ قُبُلِهَا- وَ إِنِّي لَعَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ مِنْهَاجٍ مِنْ نَبِيِّي- وَ إِنِّي لَعَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ- أَلْقُطُهُ لَقْطاً انْظُرُوا أَهْلَ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ- فَالْزَمُوا سَمْتَهُمْ- وَ اتَّبِعُوا أَثَرَهُمْ- فَلَنْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ هُدًى- وَ لَنْ يُعِيدُوكُمْ فِي رَدًى- فَإِنْ لَبَدُوا فَالْبُدُوا- وَ إِنْ نَهَضُوا فَانْهَضُوا- وَ لَا تَسْبِقُوهُمْ فَتَضِلُّوا- وَ لَا تَتَأَخَّرُوا عَنْهُمْ فَتَهْلِكُوا- لَقَدْ رَأَيْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ ص- فَمَا أَرَى أَحَداً يُشْبِهُهُمْ مِنْكُمْ- لَقَدْ كَانُوا يُصْبِحُونَ شُعْثاً غُبْراً- وَ قَدْ بَاتُوا سُجَّداً وَ قِيَاماً- يُرَاوِحُونَ بَيْنَ جِبَاهِهِمْ وَ خُدُودِهِمْ- وَ يَقِفُونَ عَلَى مِثْلِ الْجَمْرِ مِنْ ذِكْرِ مَعَادِهِمْ- كَأَنَّ بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ رُكَبَ الْمِعْزَى- مِنْ طُولِ سُجُودِهِمْ- إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ هَمَلَتْ أَعْيُنُهُمْ- حَتَّى تَبُلَّ جُيُوبَهُمْ- وَ مَادُوا كَمَا يَمِيدُ الشَّجَرُ يَوْمَ الرِّيحِ الْعَاصِفِ- خَوْفاً مِنَ الْعِقَابِ وَ رَجَاءً لِلثَّوَابِ

اللغة
أقول: المرصاد: الطريق يرصد بها، و الرصد الراقب. و الشجى: الغصص بلقمة و غيرها. و الحثّ: السوق الشديد. و أعضل: أشكل. و الحيّةخ: القوس‏ه. و منى: ابتلى. و تربت: أصابت التراب دون الخير. و أخال: أحسب. و الوغى: الحرب و أصله من الأصوات. و حمس: اشتدّ. و السمت: الطريقة. و لبد الطائر: لصق بالأرض.

المعنى
فقوله: و لئن أمهل اللّه الظالم. إلى قوله: ريقه. في معرض التهديد لأهل الشام بأخذ اللّه لهم و عدم قوّتهم. و أنّه لهم بالرصد على جميع حركاتهم و على مجاز طريقهم الّتى هم سالكوها ضلّالا و على موضع الشجى من مساغ ريقهم و هو الحق، و في ذكر الشجى و كون اللّه بالرصد تنبيه على أنّ‏ اللّه تعالى في مظنّة أن يرمى الظالم بعقوباته عند اطّلاعه على ظلمه كما قال تعالى أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى‏ تَخَوُّفٍ«» ثمّ أردف ذلك بالقسم البارّ ليظهرنّ أصحاب معاوية عليهم تنفيرا لهم إلى مقاومتهم، ثمّ نفى ما عساه يتوهّمه أنّه علّة غلبهم لهم كيلا يتخاذلون بسبب ذلك و هو قوله: ليس لأنّهم أولى بالحقّ منكم، و أردفه بتعيين السبب الحقّ في ذلك و هو قوله: لكن لإسراعهم إلى باطل صاحبهم: أى أمره الباطل و إبطائكم عن حقّى إذ كانت النصرة باجتماع الكلمة و طاعة الإمام لا باعتقاد حقيّة إمرته مع التخاذل عنه، ثمّ أردف ذلك بتوبيخهم و تنفيرهم عمّا هم عليه من مخالفة أمره بقوله: و لقد أصبحت الامم. إلى قوله: رعيّتى. لأن شأن الرعيّة الخوف من سلطانها فإذا كان حاله مع رعيّته بالعكس كانت اللائمة عليهم بعصيانه دون حجّة لهم عليه، و أمّا التنفير فيذكر أنّهم في محلّ ظلم نفسه و لقد أشفق عليه السّلام منهم في مواطن كثيرة كيوم التحكيم إذ قالوا له: إن لم ترض فعلنا بك كما فعلنا بعثمان.

و نحو ذلك، ثمّ أردف وجوه تقصيرهم ببيان ما فعل في حقّهم من الأيادى الجميلة و الهداية إلى وجوه المصالح من استنفارهم لجهاد عدوّهم و حفظ بلادهم و إسماعهم الدعوة إلى مصالحهم سرّا و جهرا و نصيحته لهم بالوجوه الصائبة من الرأى و هو كقوله تعالى حكاية عن نوح عليه السّلام قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَ نَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً وَ إِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا إلى قوله ثُمَّ«» ثمّ شبّههم بالغياب مع شهادتهم و بالأرباب مع كونهم عبيدا، و وجه الشبه أنّ الفايدة في شاهد الموعظة دون الغايب عنها هى سماعها و الانتفاع بها فإذا ليسوا كذلك فهم كالغياب عنها في عدم الانتفاع بها، و أمّا الثانية فلأنّهم رعيّة من شأنهم التعبّد لأوامر امرائهم ثم إنّهم لتعزّزهم و شموخهم كبرا و عدم طاعتهم كالأرباب الّذين من شأنهم أن يأمروا و لا يأتمروا ثمّ وبّخهم بنفارهم عمّا يتلو عليهم من الحكم و تفرّقهم عن مواعظه البالغة. و أهل البغى إشارة إلى أهل الشام. و أيادى سبا: مثل يضرب في شدّة التفرّق و ضربه لتفرّقهم عن مجالس الذكر و هما لفظان جعلا اسما واحدا كمعدى كرب، و سبا قبيلة من أولاد سبا ابن‏ يشحب بن يعرب بن قحطان، و أصل المثل أنّ هذه القبيلة كانت بمأرب فلمّا آن وقت انفتاح سدّ مأرب و رأت طريقة الكاهنة ذلك الأمر و عرفته ألقته إلى عمرو بن عامر الملقب بمزيقيا فباع أمواله بمأرب و ارتحل إلى مكّة فأصابت هولاء الحمى، و كانوا لا يعرفونها ففزعوا إلى الكاهنة فأخبرتهم بما سيقع، و قالت إنّه مفرّق بيننا فاستشارونها في أمرهم فقالت:

: من كان منكم ذاهمّ بعيد، و حمل شديد، و مراد حديد فليلحق بقصر عمّان المشيد، فكانت أزد عمّان، ثمّ قالت: و من كان منكم ذا جلد و قسر، و صبر على أزمات الدهر فعليه بالإدراك من بطن نمر.

فكانت خزاعة، ثمّ قالت: و من كان منكم يريد الراسيات في الوحل المطعمات في المحل فليلحق بيثرب ذات النخل فكانت الأوس و الخزرج، ثمّ قالت: و من كان منكم يريد الخمر و الخمير و الملك و التأمير و يلبس الديباج و الحرير فليلحق ببصرى و غوير، و هما من أرض الشام فكان الّذين يسكنونها آل جفنية من غسان، ثمّ قالت: و من كان منكم يريد الثياب الرقاق و الخيل العتاق و كنوز الأرزاق و الدم المهراق فليلحق بأرض العراق فكانت آل جذيمة الأبرش، و من كان بالحيرة و آل محرّق. فضربت العرب بتفرّقهم في البلاد هذا المثل و سار فيمن يتفرّق بعد اجتماع، ثمّ لمّا كانت المخادعة هى الاستغفال عن المصلحة قال: يتخادعون: أى أنّهم إذا رجعوا من مجلس وعظه أخذ كلّ منهم يستغفل صاحبه عن تذكّر الموعظة و يشغله بغير ذلك من الأحاديث و إن لم يكن عن قصد خداع بل تقع منهم صور المخادعة، و تقويمه لهم بالغدوة إصلاح أخلاقهم بالحكم و المواعظ و رجوعهم إليه عشيّة كظهر الحيّة: أى معوّجين كظهر القوس و هو تشبيه للمعقول من اعوجاجهم و انحرافهم عن جميل الأخلاق بالمحسوس. و قوله: عجز المقوّم. إشارة إلى نفسه و اعتراف بعجزه عن تقويمهم و أعضل المقوّم: أى أشكل أمرهم و أعيته إدواؤهم علاجا، ثمّ عاد إلى ندائهم و تنبيههم بذكر معايبهم لينفر عقولهم عنها فوصفهم بشهادة الأبدان مع غيبة العقول ثمّ باختلاف الأهواء ثمّ بكونهم ممّن ابتلى بهم أمراؤهم ثمّ نبّههم على رذيلتهم من مخالفة أمره مع كونه مطيعا للّه، و ما عليه خصومهم من فضيلة طاعة إمامهم مع كونه عاصيا للّه، و جعل ذلك مقايسة بينهم ليظهر الفرق فيدركهم الغيرة ثمّ أردفه بتحقيرهم و تفضيل عدوّهم عليهم في البأس و النجدة و استقامة الحال فأقسم أنّه ليودّ أن يصارفه معاوية بهم صرف الدينار بالدرهم و ذلك قوله: رجلا منهم. ثمّ أردف ذلك ببيان ما ابتلى به منهم، و أشار إلى خمس خصال، و إنّما قال بثلاث و اثنتين لتناسب الثلاث و كون الثنتين من نوع آخر فالثلاث: الصمم مع كونهم ذوى أسماع و البكم مع كونهم ذوى كلام و العمى مع كونهم ذوى أبصار، و جمعه لهذه الثلاث مع أضدادها هو سبب التعجّب منهم و التوبيخ لهم و أراد بها عدم انتفاعهم في مصالحهم الدينيّة و نظام امور دولتهم بآلة السمع و اللسان و العين فإنّ من لم يفده سمعه و بصره عبرة و من لم يكن كلامه فيما لا يعنيه كان كفاقد هذه الآلات في عدم الانتفاع بها بل كان فاقدها أحسن حالا منه لأنّ وجودها إذا لم يفد منفعة أكسب مضرّة قد أمنها عادمها، و أمّا الثنتان فكونهم لا أحرار صدق عند اللقاء: أى أنّهم عند اللقاء لا تصدق حريّتهم و لا تبقى نجدتهم من مخالطة الجبن و التخاذل و الفرار إذا الحرّ هو الخالص من شوب الرذائل و المطاعن، ثمّ كونهم غير أخوان ثقة عند البلاء: أى ليسوا ممّن يوثق باخوّتهم في الابتلاء بالنوازل، ثمّ عاد إلى الدعاء عليهم على وجه التضجّر منهم و تشبيههم بالنعم فقوله: تربت أيديكم دعاء بعدم إصابة الخير. و قوله: يا أشباه الإبل غاب عنها رعاتها كلما جمعت من جانب تفرّقت من جانب. ذكر للتشبيه و المشبّه به، و وجه الشبه أردفه بذكر رذيلة يظنّها منهم بإماراتها و هى تفرّقهم عنه على تقديره اشتباك الحرب، و شبّه انفراجهم عنه بانفراج المرأة عن قبلها ليرجعوا إلى الأنفة، و تسليم المرأة لقبلها و انفراجها عنه إمّا وقت الولادة أو وقت الطعان ثمّ عاد إلى ذكر فضيلته ليستثبت قلوبهم و يتألّفها و البيّنة الّتى هو عليها من ربّه آيات اللّه و براهينه الواضحة على وجوده و الثقة بما هو عليه من سلوك سبيله و هو كقوله تعالى قُلْ إِنِّي عَلى‏ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي و المنهاج من نبيّه طريقه و سنّته، و الطريق الواضح الّذى هو عليه سبيل اللّه و شريعة دينه، و التقاطه له لقطا تتّبعه و تميّزه على طريق الضلال بالسلوك له ثمّ أردف فضيلته بالأمر باعتبار أهل البيت و لزوم سمتهم و اقتفاء أثرهم، و أشاره إلى جهة وجوب اتّباعهم بكونهم يسلكون بهم سبيل الهدى لا يخرجون عنه و لا يردونهم إلى ردى الجاهليّة و الضلال القديم، و فيه ايماء إلى أنّ اتّباع غيرهم يرد إلى ذلك و قوله: فإن لبدوا: أى إن سكنوا و أحبّوا لزوم البيوت على طلب أمر الخلافة و القيام فيه فتابعوهم في ذلك فإنّ سكونهم قد يكون لمصلحة يغيب علمها عن غيرهم و إن نهضوا في ذلك فانهضوا معهم، ثمّ نهاهم عن أن يسبقوا فيضلّوا: أى إلى أمر لم يتقدّموكم فيه فإنّ متقدّم الدليل شأنه الضلال عن القصد و أن لا يتأخّروا عنهم فيهلكوا: أى لا يتأخّروا عن متابعتهم في أوامرهم و أفعالهم بالمخالفة لهم فيكونوا من الهالكين في تيه الجهل و عذاب الآخرة. و الإماميّة تخصّ ذلك بالاثنى عشر من أهل البيت عليهم السّلام. و قوله: و لقد رأيت أصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم. إلى آخره.

مدح لخواصّ الصحابة و ذكر مكانهم من خشية اللّه و دينه ترغيبا في مثل تلك الفضايل، و حرّك بقوله: فما أرى أحدا يشبههم. ما عساه يدرك السامعين من الغيرة على تلك الفضايل أن يختصّوا بها دونهم و ذكر من ممادحهم أوصافا: أحدها: الشعت و الاغبرار و هو إشارة إلى قشفهم و تركهم زينة الدنيا و لذّاتها. الثاني: بياتهم سجّدا و قياما، و أشار به إلى إحيائهم الليل بالصلاة و هو كقوله تعالى وَ الَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِياماً. الثالث: مراوحتهم بين جباههم و خدودهم، و قد كان أحدهم إذا تعبت جبهته من طول السجود راوح بينها و بين خدّيه. الرابع: وقوفهم على مثل الجمر من ذكر معادهم و أشار به قلقهم و وجدهم من ذكر المعاد و أهوال يوم القيامة كما يقلق الواقف على الجمر ممّا يجده من حرارته. الخامس: كأنّ بين أعينهم ركب المعزى من طول سجودهم، و وجه المشابهة أنّ محالّ سجودهم من جباههم كانت قد اسودّت و ماتت جلودها و قست كما أنّ ركب المعزى كذلك. السادس: أنّهم كانوا إذا ذكر اللّه هملت أعينهم حتّى تبلّ جيوبهم، و من روى جباههم فذلك في حال سجودهم ممكن. و مادوا كما تميد الشجر بالريح العاصف خوفا من عقاب ربّهم و رجاء لثوابه فتارة يكون ميدانهم و قلقهم عن خوف اللّه، و تارة يكون عن ارتياح و اشتياق إلى ما عنده من عظيم ثوابه و هو كقوله تعالى الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ

و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 2 ، صفحه‏ى 403

خطبه 93 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

القسم الأول
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْأَوَّلِ فَلَا شَيْ‏ءَ قَبْلَهُ- وَ الْآخِرِ فَلَا شَيْ‏ءَ بَعْدَهُ- وَ الظَّاهِرِ فَلَا شَيْ‏ءَ فَوْقَهُ- وَ الْبَاطِنِ فَلَا شَيْ‏ءَ دُونَهُ

المعنى

أقول: أثنى على اللّه سبحانه باعتبارات أربعة: الأوّليّة و الآخريّة و الظاهريّة و الباطنيّة، و أكّد كلّ واحد منها بكماله فكمال الأوّليّة بسلب قبليّة شي‏ء عنه، و كمال الآخريّة بسلب بعديّة كلّ شي‏ء له، و الظاهريّة بسلب فوقيّة شي‏ء له، و الباطنيّة بسلب شي‏ء دونه. و المراد بالظاهر هنا العالى فلذلك حسن تأكيده بسلب فوقيّة الغير له، و بالباطن الّذى بطن خفيّات الامور علما و هو بهذا الاعتبار أقرب الأشياء إليها فلذلك حسن تأكيده بسلب ما هو دونه: أى ما هو أقرب إليها منه و حصلت حينئذ المقابلة بين الدانى و العالى، و يحتمل أن يريد بالظاهر البيّن و يكون معنى قوله: فلا شي‏ء فوقه: أى لا شي‏ء يوازى وجوده و يحجبه عن معرفة خلقه به. و بالباطن الخفىّ و معنى فلا شي‏ء دونه: أى في الخفاء، و قد سبق بيان هذه الاعتبارات الأربعة غير مرّة. و باللّه التوفيق.


القسم الثاني منها فى ذكر الرسول صلى الله عليه و آله و سلّم

مُسْتَقَرُّهُ خَيْرُ مُسْتَقَرٍّ- وَ مَنْبِتُهُ أَشْرَفُ مَنْبِتٍ- فِي مَعَادِنِ الْكَرَامَةِ- وَ مَمَاهِدِ السَّلَامَةِ- قَدْ صُرِفَتْ نَحْوَهُ أَفْئِدَةُ الْأَبْرَارِ- وَ ثُنِيَتْ إِلَيْهِ أَزِمَّةُ الْأَبْصَارِ- دَفَنَ اللَّهُ بِهِ الضَّغَائِنَ- وَ أَطْفَأَ بِهِ الثَّوَائِرَ أَلَّفَ بِهِ إِخْوَاناً- وَ فَرَّقَ بِهِ أَقْرَاناً- أَعَزَّ بِهِ الذِّلَّةَ- وَ أَذَلَّ بِهِ الْعِزَّةَ- كَلَامُهُ بَيَانٌ وَ صَمْتُهُ لِسَانٌ

اللغة

أقول: المماهد: جمع ممهد، و الميم زائدة. و ثنيت إليه: أى صرفت. و الضغاين: الأحقاد. و النوائر: جمع نائرة، و هى العداوة و المخاصمة: و الأقران: الأخوان المقترنون.

المعنى

و أشار بمستقرّه إلى مكّة و كونها خير مستقرّ لكونها امّ القرى و مقصد خلق اللّه و محلّ كعبته، و يحتمل أن يريد محلّه من جود اللّه و عنايته و ظاهر كونه خير مستقرّ، و استعار لفظ المنبت و المعدن، و قد مرّ بيان وجه استعارتهما، و مماهد السلامة محالّ التوطئة لها، و هى كناية من مكّة و المدينة و ما حولها فإنّها محلّ لعبادة اللّه و الخلوة به الّتى هى مهاد السلامة من عذابه، و إنّما كانت كذلك لكونها دار القشف خالية عن المشتهيات و القينات الدنيويّة، و يحتمل أن يريد بمماهد السلامة ما تقلّب فيه و نشأ عليه من مكارم الأخلاق الممهّدة للسلامة من سخط اللّه و في قوله: و قد صرفت نحوه أفئدة الأبرار. تنبيه على أنّ الصارف هو لطف اللّه و عنايته بهم بالفات قلوبهم إلى محبّته و الاستضاءة بأنوار هداه، و لمّا استعار لفظ الأزمّة للأبصار ملاحظة لشبهها بمقاود الإبل رشّح تلك الاستعارة بذكر الثنى و كنّى بذلك عن التفات الخلق إليه بأبصار بصايرهم و تلقىّ الرحمة الإلهيّة منه ثمّ استعار لفظ الدفن لإخفاء الأحقاد به بعد أن كانت ظاهرة مجاهرا بها. و لفظ الإطفاء لإزالة العدوات بين العرب بالتأليف بين قلوبهم كما قال تعالى في إظهار المنّة على عباده وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ‏ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً«» و الأقران المفرّق لهم هم المتألّفون على الشرك. و قوله: أعزّ به الذلّة. أى ذلّة الإسلام و أهله، و أذلّ به العزّة: أى عزّة الشرك و أهله، و بين كلّ قرينتين من هذه الستّ مقابلة و مطابقة فقابل بالتفريق التأليف و بالذلّة الإعزاز و بالعزّة الإذلال.

و قوله: و كلامه بيان. إى لما انغلق من أحكام كتاب اللّه كقوله تعالى لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ.

و قوله: و صمته لسان. استعار لفظ اللسان لسكوته، و وجه المشابهة أنّ سكوته صلى اللّه عليه و آله و سلّم مستلزم للبيان من وجهين: أحدهما: أنّه يسكت عمّا لا ينبغي من القول فيعلّم الناس السكوت عن الخوض فيما لا يعينهم الثاني: أنّ الصحابة كانوا إذا فعلوا فعلا على سابق عادتهم فسكت عنهم و لم ينكره عليهم علموا بذلك أنّه على حكم الاباحة. فكان سكوته عنهم في ذلك بيانا له و أشبه سكوته عنه باللسان المعرب عن الأحكام. و باللّه التوفيق.


شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 2 ، صفحه‏ى 401

 

خطبه 92 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

بَعَثَهُ وَ النَّاسُ ضُلَّالٌ فِي حَيْرَةٍ- وَ حَاطِبُونَ فِي فِتْنَةٍ- قَدِ اسْتَهْوَتْهُمُ الْأَهْوَاءُ- وَ اسْتَزَلَّتْهُمُ الْكِبْرِيَاءُ- وَ اسْتَخَفَّتْهُمُ الْجَاهِلِيَّةُ الْجَهْلَاءُ- حَيَارَى فِي زَلْزَالٍ مِنَ الْأَمْرِ- وَ بَلَاءٍ مِنَ الْجَهْلِ- فَبَالَغَ ص فِي النَّصِيحَةِ- وَ مَضَى عَلَى الطَّرِيقَةِ- وَ دَعَا إِلَى الْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ

أقول: الفصل لتقرير فضيلة الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم
و الواو في و الناس للحال: أى في حال ما هم ضالّون عن سبيل اللّه في حيرة من أمرهم ما ذا يتبعون. و خابطون في فتنة: أى كانت حركاتهم على غير نظام في ضلال البدع، و من روى حاطبون فهو استعارة، و وجهها كونهم يجمعون في ضلالهم و فتنتهم ما اتّفق من أقوال و أفعال كما يجمع الحاطب، و منه المثل: حاطب ليل. لمن جمع الغثّ و السمين، و الحقّ و الباطل في أقواله.

و قوله: قد استهوتهم الأهواء.
 أى جذبتهم الآراء الباطلة إلى مهاوى الهلاك أو إلى نفسها، و استزلّتهم الكبرياء: أى قادتهم إلى الزلل و الخطل عن طريق العدل و اقتفاء آثار الأنبياء في التواضع و نحوه، و استخفّتهم الجاهليّة الجهلاء فطارت بهم إلى ما لا ينبغي من الغارات و الفساد في الأرض فكانوا ذوى خفّة و طيش، و لفظ الجهلاء تأكيد للأوّل كما يقال: ليل أليل و وتدواتد.

و قوله: حيارى في زلزال من الأمر و بلاء من الجهل.
أى لا يهتدون لجهلهم إلى مصالحهم فهو منشأ اضطراب امورهم و بلائهم بالغارات و سبى بعضهم بعضا و قتلهم.

و قوله: فبالغ. إلى آخره.
مضيّة على الطريقة سلوكه لسبيل اللّه من غير انحراف، و دعوته إلى الحكمة و الموعظة هى دعوته إلى سبيل اللّه بهما إمتثالا لقوله تعالى ادْعُ إِلى‏ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ«» فالدعوة بالحكمة الدعوة بالبرهان، و بالموعظة الدعوة بالخطابة، و قد سبقت الإشارة إلى ذلك في المقدّمات. و اللّه ولىّ التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 2 ، صفحه‏ى 400

 

خطبه 91 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

القسم الأول
فَتَبَارَكَ اللَّهُ الَّذِي لَا يَبْلُغُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ- وَ لَا يَنَالُهُ حَدْسُ الْفِطَنِ- الْأَوَّلُ الَّذِي لَا غَايَةَ لَهُ فَيَنْتَهِي- وَ لَا آخِرَ لَهُ فَيَنْقَضِيَ

المعنى
أقول: تبارك: قيل: مشتقّ من البروك المستلزم للمقام في موضع واحد و الثبات فيه، و قيل: من البركة و هو الزيادة، و بالاعتبار الأوّل يكون إشارة إلى عظمته باعتبار دوام بقائه و استحقاقه قدم الوجود لذاته و بقاء وجوده لا عن استفتاح و لا إلى انقطاع، و بالاعتبار الثاني إشارة إلى فضله و إحسانه و لطفه و هدايته و وجوه الثناء عليه.

و قوله: الّذى لا يبلغه بعد الهمم و لا يناله حدس الفطن.
 كقوله فى صدر الخطبة الاولى لا يدركه بعد الهمم و لا يناله غوص الفطن إلّا أنّه أبدل الغوص هنا بالحدس: و الحدس في اللغة الظنّ، و في اصطلاح العلماء لمّا كان الفكر عبارة عن حركة الذهن منتقلا من المطالب إلى المبادي‏ء ثمّ منها إلى المطالب كان الحدس عبارة عن جودة هذه الحركة إلى اقتناص الحدّ الأوسط من غير طلب و تجشّم كلفة، و هو مقول بحسب التشكيك، و هو بجميع اعتباراته و بأعلى رتبته قاصر عن تناول ذات الحقّ تعالى كما سبق.

و قوله: الأوّل. إلى آخره.
و قد مرّ تفسير أوّليّته و آخريّته غير مرّة. و باللّه التوفيق.

القسم الثاني
فَاسْتَوْدَعَهُمْ فِي أَفْضَلِ مُسْتَوْدَعٍ- وَ أَقَرَّهُمْ فِي خَيْرِ مُسْتَقَرٍّ- تَنَاسَخَتْهُمْ كَرَائِمُ الْأَصْلَابِ إِلَى مُطَهَّرَاتِ الْأَرْحَامِ- كُلَّمَا مَضَى مِنْهُمْ سَلَفٌ- قَامَ مِنْهُمْ بِدِينِ اللَّهِ خَلَفٌ- حَتَّى أَفْضَتْ كَرَامَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى إِلَى مُحَمَّدٍ ص- فَأَخْرَجَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْمَعَادِنِ مَنْبِتاً- وَ أَعَزِّ الْأَرُومَاتِ مَغْرِساً- مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي صَدَعَ مِنْهَا أَنْبِيَاءَهُ- وَ انْتَجَبَ مِنْهَا أُمَنَاءَهُ عِتْرَتُهُ خَيْرُ الْعِتَرِ- وَ أُسْرَتُهُ خَيْرُ الْأُسَرِ وَ شَجَرَتُهُ خَيْرُ الشَّجَرِ- نَبَتَتْ فِي حَرَمٍ وَ بَسَقَتْ فِي كَرَمٍ- لَهَا فُرُوعٌ طِوَالٌ وَ ثَمَرٌ لَا يُنَالُ- فَهُوَ إِمَامُ مَنِ اتَّقَى وَ بَصِيرَةُ مَنِ اهْتَدَى- سِرَاجٌ لَمَعَ ضَوْؤُهُ وَ شِهَابٌ سَطَعَ نُورُهُ- وَ زَنْدٌ بَرَقَ لَمْعُهُ سِيرَتُهُ الْقَصْدُ- وَ سُنَّتُهُ الرُّشْدُ وَ كَلَامُهُ الْفَصْلُ وَ حُكْمُهُ الْعَدْلُ- أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ- وَ هَفْوَةٍ عَنِ الْعَمَلِ وَ غَبَاوَةٍ مِنَ الْأُمَمِ اعْمَلُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ عَلَى أَعْلَامٍ بَيِّنَةٍ- فَالطَّرِيقُ نَهْجٌ يَدْعُوا إِلى‏ دارِ السَّلامِ- وَ أَنْتُمْ فِي دَارِ مُسْتَعْتَبٍ عَلَى مَهَلٍ وَ فَرَاغٍ- وَ الصُّحُفُ مَنْشُورَةٌ- وَ الْأَقْلَامُ جَارِيَةٌ- وَ الْأَبْدَانُ صَحِيحَةٌ- وَ الْأَلْسُنُ مُطْلَقَةٌ- وَ التَّوْبَةُ مَسْمُوعَةٌ- وَ الْأَعْمَالُ مَقْبُولَةٌ

اللغة

أقول: النسخ: النقل. و أفضت: انتهت. و الارومة: الأصل. و الصدع: الشقّ. و عترة الرجل: نسله و رهطه الأدنون. و اسرته: قومه: و بسقت: طالت، و الزند: العود الأعلى يقدح به. و نهج: واضح.

المعنى

و قوله، و استودعهم. إلى قوله: خلف.
إشارة إلى الأنبياء عليهم السّلام القائمين بدين اللّه. و اعلم أنّ دين اللّه واحد بعثت جميع الأنبياء لتسليك الخلق إيّاه و له أصل و فروع فأصله الطريق إلى معرفته، و الاستكمال بها، و جماع مكارم الأخلاق، و نظام أمر الخلق في معاشهم و معادهم و هذه الامور هى المراه من الشرع و هو أصل لا يخالف فيه نبىّ نبيّا. فأمّا الاختلاف الواقعة في الشرائع فهى امور جزئيّة بحسب مصالح جزئيّة يتعلّق بوقت الرسول المعيّن و حال الخلق المرسل إليهم يوقع عليها ذلك الأصل، و تكون كالمشخّصات له و العوارض الّتى يختلف بها الطبيعة الواحدة النوعيّة. و أفضل مستودع استودعهم فيه حظائر قدسه و منازل ملائكته و هو خير مستقرّ أقرّهم فيه و محلّ كرامته فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ و تناسخ الأصلاب لهم إلى مطهّرات الأرحام نقلهم إليها نطفا، و كرائم الأصلاب: ما كرم منها و حقّ لأصلاب سمحت بمثلهم أن توصف بالكرم. و مطهّرات الأرحام: ما طهر منها و حقّ لما استعدّ منها الإنتاج مثل هذه الأمزجة و قبولها أن تكون طاهرة من كدر الفساد. و الشيعة يطهّرون اصول الأنبياء من طرف الآباء و الامّهات عن الشرك و نحوه قول الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم: نقلنا من الأصلاب الطاهرة إلى الأرحام الزكيّة. و يحتمل أن يريد بأفضل مستودع و خير مستقرّ في مبدئهم أصلاب الآباء و أرحام الامّهات و يكون قوله: تناسختهم تفسيرا له و بيانا.

و قوله: كلّما مضى منهم سلف قام بدين اللّه منهم خلف.
إشارة إلى ضرورة وجود الأنبياء عند الحاجة إليهم على التعاقب، و قد سبقت الإشارة إليه.

و قوله: حتّى أفضت كرامة اللّه إلى محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم. إلى قوله: امناءه.
 إشارة إلى غاية سلسلة الأنبياء عليهم السّلام، و كنّى بكرامة اللّه عن النبوّة و استعار لفظ المعدن و المنبت و المغرس لطينة النبوّة و هى مادّته القريبة الّتى استعدّت لقبول مثله، و وجه الاستعارة أنّ تلك المادّة منشأ لمثله كما أنّ الأرض معدن الجواهر و مغرس الشجر الطيّب، و ظاهر أنّ أصلا سمح بمثله أفضل المعادن و أعزّ الاصول، و قيل: أراد بذلك مكّة- شرّفها اللّه تعالى- و قيل: بيته و قبيلته ثمّ ميّزه بما هو أخصّ و أشرف فقال: من الشجرة الّتى صدع منها أنبياءه فاستعار لفظ الشجرة لصنف الأنبياء، و كما أنّ الشجرة أشرف من طينتها كذلك صنف الأنبياء أشرف من قوابل صورهم، و وجه الاستعارة هو ما كنّى بالانصداع عنه من تفرّع أشخاص الأنبياء عن صنفهم كما يتفرّع أغصان الشجرة منها. و أمناءه: أى على رسالته.

و قوله: عترته خير العتر و اسرته خير الاسر.
 بدء بالعترة لما عرفت أنّها أخصّ و أقرب من الاسرة، و مصداق أفضليّة عترته قوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم: سادة أهل المحشر سادة أهل الدنيا أنا و علىّ و حسن و حسين و حمزة و جعفر. و وجه أفضليّة اسرته قوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه اصطفى من العرب معدا، و اصطفى من معد بنى النضر بن كنانه، و اصطفى هاشما من بنى النضر، و اصطفانى من بنى هاشم. و قوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم: قال لى جبرئيل: يا محمّد قد طفت الأرض شرقا و غربا فلم أجد فيها أكرم منك و لا بيتا أكرم من بنى هاشم. و قوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم: الناس تبع لقريش برّهم لبرّهم و فاجرهم لفاجرهم.

و قوله: و شجرته خير الشجز.
 قيل: أراد بالشجر في الموضعين إبراهيم عليه السّلام، و قيل: أراد هاشما و ولده بقرينة قوله: نبتت في حرم و أراد مكّة، و رشّح تلك الاستعارة بوصف الإنبات و البسق، و كنّى بالكرم الّذى فيه عن زكاء أصله و ما استلزم من الفضل، و كنّى بالفروع عن أهله صلى اللّه عليه و آله و سلّم و ذريّته و ساير النجباء من بنى هاشم، و بوصفهم بالطول عن بلوغهم في الشرف و الفضل الغاية البعيدة، و هو ترشيح للاستعارة. و كذلك الثمر، و كنّى به عن العلوم و الأخلاق المتفرّعة عنه و عن أئمّة امّته، و بكونها لا تنال عن شرفها و غموض أسرارها: أى أنّها لشرفها و علوّها لا يمكن أن يطاول فيها، و أو لغموض أسرارها لا تصل الأذهان إليها.

و قوله: فهو إمام من اتّقى. إلى قوله: لمعه
استعار لفظ البصيرة و السراج و الشهاب و الزند له صلى اللّه عليه و آله و سلّم، و وجه الاستعارة كونه سبب هداية الخلق كما أنّ هذه الامور الثلاثة كذلك و رشّح استعارة السراج بلمعان الضوء و الشهاب بسطوع النور و الزند ببروق اللمع، و يحتمل أن يكون وجه استعارة الزند هو كونه مثيرا لأنوار العلم و الهداية.

و قوله: سيرته القصد.

 أى طريقته العدل و الاستواء على الصراط المستقيم و عدم الانحراف إلى أحد طرفى الإفراط و التفريط، و سنّته الرشد: أى سلوك طريق اللّه عن هدايته، و كلامه الفصل: أى الفاصل بين الحقّ و الباطل كقوله تعالى إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ و حكمه العدل الواسط بين رذيلتى الظلم و الانظلام.

و قوله: أرسله على حين فترة من الرسل و هفوة من العمل.
 أى زلّة عنه و غباوة من الامم: أى جهل منهم و عدم فطنة لما ينبغي، و قد سبق بيان الفترة.

و قوله: اعملوا رحمكم اللّه على أعلام بيّنة.
 استعار لفظ الأعلام لأئمّة الدين و ما بأيديهم من مصابيح الهدى، و كنّى بكونها بيّنة عن وجودها و ظهورها بين الخلق.

و قوله: و الطريق نهج يدعو إلى دار السلام.
 فالطريق: الشريعة. و نهجه: وضوحها في زمانه عليه السّلام و قرب العهد بالرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم و ظاهر كون الشريعة داعية إلى الجنّة. و إسناد الدعوة إلى الطريق مجاز إذ الداعى قيمّ الطريق و واضعها.

و قوله: و أنتم في دار مستعتب.
أى دار الدنيا الّتى يمكن أن يستعتبوا فيعتبوا: أى يطلبوا رضا اللّه بطاعته فرضى عنكم، و على مهل: أى إمهال و إنظار و فراغ من عوائق الموت و ما بعده.

و قوله: و الصحف منشورة. إلى آخره.
الواوات السبع للحال، و المراد صحائف الأعمال و أقلام الحفظة على الخلق أعمالهم.
و فايدة التذكير بهذه الامور التنبيه على وجوب العمل معها و تذكّر أضدادها ممّا لا يمكن معه العمل و لا ينفع الندم من الموت و طىّ الصحف و جفاف الأقلام و فساد الأبدان و خرس الألسنة و عدم سماع التوبة كما قال تعالى فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ«» و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 2 ، صفحه‏ى 394

 

خطبه 90 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

أَمَّا بَعْدَ أَيُّهَا النَّاسُ- فَأَنَا فَقَأْتُ عَيْنَ الْفِتْنَةِ- وَ لَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَيْرِي- بَعْدَ أَنْ مَاجَ غَيْهَبُهَا- وَ اشْتَدَّ كَلَبُهَا- فَاسْأَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي- فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ- لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْ‏ءٍ- فِيمَا بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ السَّاعَةِ- وَ لَا عَنْ فِئَةٍ تَهْدِي مِائَةً وَ تُضِلُّ مِائَةً- إِلَّا أَنْبَأْتُكُمْ بِنَاعِقِهَا- وَ قَائِدِهَا وَ سَائِقِهَا وَ مُنَاخِ رِكَابِهَا- وَ مَحَطِّ رِحَالِهَا- وَ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَهْلِهَا قَتْلًا- وَ مَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ مَوْتاً- وَ لَوْ قَدْ فَقَدْتُمُونِي- وَ نَزَلَتْ بِكُمْ كَرَائِهُ الْأُمُورِ- وَ حَوَازِبُ الْخُطُوبِ- لَأَطْرَقَ‏ كَثِيرٌ مِنَ السَّائِلِينَ- وَ فَشِلَ كَثِيرٌ مِنَ الْمَسْئُولِينَ- وَ ذَلِكَ إِذَا قَلَّصَتْ حَرْبُكُمْ- وَ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقٍ- وَ ضَاقَتِ الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ ضِيقاً- تَسْتَطِيلُونَ مَعَهُ أَيَّامَ الْبَلَاءِ عَلَيْكُمْ- حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ لِبَقِيَّةِ الْأَبْرَارِ مِنْكُمْ- إِنَّ الْفِتَنَ إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ- وَ إِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ- يُنْكَرْنَ مُقْبِلَاتٍ- وَ يُعْرَفْنَ مُدْبِرَاتٍ- يَحُمْنَ حَوْمَ الرِّيَاحِ يُصِبْنَ بَلَداً- وَ يُخْطِئْنَ بَلَداً- أَلَا وَ إِنَّ أَخْوَفَ الْفِتَنِ عِنْدِي عَلَيْكُمْ فِتْنَةُ بَنِي أُمَيَّةَ- فَإِنَّهَا فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ مُظْلِمَةٌ عَمَّتْ خُطَّتُهَا- وَ خَصَّتْ بَلِيَّتُهَا- وَ أَصَابَ الْبَلَاءُ مَنْ أَبْصَرَ فِيهَا- وَ أَخْطَأَ الْبَلَاءُ مَنْ عَمِيَ عَنْهَا- وَ ايْمُ اللَّهِ لَتَجِدُنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَكُمْ- أَرْبَابَ سُوءٍ بَعْدِي كَالنَّابِ الضَّرُوسِ- تَعْذِمُ بِفِيهَا وَ تَخْبِطُ بِيَدِهَا- وَ تَزْبِنُ بِرِجْلِهَا وَ تَمْنَعُ دَرَّهَا- لَا يَزَالُونَ بِكُمْ حَتَّى لَا يَتْرُكُوا مِنْكُمْ إِلَّا نَافِعاً لَهُمْ- أَوْ غَيْرَ ضَائِرٍ بِهِمْ- وَ لَا يَزَالُ بَلَاؤُهُمْ عَنْكُمْ- حَتَّى لَا يَكُونَ انْتِصَارُ أَحَدِكُمْ مِنْهُمْ- إِلَّا كَانْتِصَارِ الْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ- وَ الصَّاحِبِ مِنْ مُسْتَصْحِبِهِ- تَرِدُ عَلَيْكُمْ فِتْنَتُهُمْ شَوْهَاءَ مَخْشِيَّةً- وَ قِطَعاً جَاهِلِيَّةً- لَيْسَ فِيهَا مَنَارُ هُدًى وَ لَا عَلَمٌ يُرَى- نَحْنُ أَهْلَ الْبَيْتِ مِنْهَا بِمَنْجَاةٍ وَ لَسْنَا فِيهَا بِدُعَاةٍ- ثُمَّ يُفَرِّجُهَا اللَّهُ عَنْكُمْ كَتَفْرِيجِ الْأَدِيمِ- بِمَنْ يَسُومُهُمْ خَسْفاً وَ يَسُوقُهُمْ عُنْفاً- وَ يَسْقِيهِمْ بِكَأْسٍ مُصَبَّرَةٍ لَا يُعْطِيهِمْ إِلَّا السَّيْفَ- وَ لَا يُحْلِسُهُمْ إِلَّا الْخَوْفَ- فَعِنْدَ ذَلِكَ تَوَدُّ قُرَيْشٌ بِالدُّنْيَا- وَ مَا فِيهَا لَوْ يَرَوْنَنِي مَقَاماً وَاحِداً- وَ لَوْ قَدْرَ جَزْرِ جَزُورٍ- لِأَقْبَلَ مِنْهُمْ مَا أَطْلُبُ الْيَوْمَ بَعْضَهُ فَلَا يُعْطُونِيهِ

اللغة

أقول: فقات عينه: عيّرتها. و ماج: اضطرب. و الغيهب: الظلمة: و الكلب: الشرّ و الكلب: داء معروف. و الفئة: الطائفة. و ناعقها: الداعى لها. و المناخ بالضمّ: محلّ البروك و حوازب الخطوب: ما حزب منها: أى أصاب. و التقلّص: التقبّض. و شبّهت: اشتبهت و أوقعت الشبهة. و حام الطائر: دار. و الخطّة. الحال و الأمر. و الناب: الناقة المسنّة. و الضروس: الّتى تعصّ حالبها. و العذم: العضّ و هو الكدم أيضا: و الزبن: الدفع. و شوها: جمع شوهاء و هى قبيحة المنظر، و سامه خسفا. أولاه إلّا. و العنف: شدّة السوق. و تحلسهم: أى تلبسهم الحلس و هو الكساء تحت بردعة البعير. و الجزر: القطع و منه سميّت الجزور لما ينحر من الإبل.

المعنی

و مقصود هذا الفصل التنبيه على فضيلته و شرف وقته به، و على رذيلة بنى اميّة بذكر فتنتهم و ما يكون منهم ليشتدّ النفار عنهم و تقوى الرغبة إليه من وجهين: أحدهما: بإخباره عمّا سيكون، و الثاني: بذكر الشرور من غيره.

فقوله: فأنا فقأت عين الفتنة
 إشارة إلى فتنة أهل البصرة و غيرها، و استعار لها لفظ العين، و إنّما خصّ العين لأنّها أشرف عضو فى الوجه، و بها تصرّف الشخص و حركته، و رشّح الاستعارة بذكر الفقاء و كنّى به عن زوال فتنتهم بسيفه،

و قوله: و لم يكن ليجترئ عليها أحد غيرى
 أى إنّ الناس كانوا لا يتجاسرون على قتال أهل القبلة و يخافون من ذلك الحرج و الإثم و لا يعلمون كيفيّة قتالهم هل يتّبعون مدبرهم و هل يجهزون على جريحهم و هل تسبى ذراريهم و تقسم أموالهم إذا بغوا أم لا حتّى أقدم عليه السّلام على فتنتهم ففقأ عينها فسكنت بعد هياجها، و مبدء ذلك حرب عايشة، و قد صرّح عليه السّلام بذلك فى ألفاظ اخرى فقال: أمّا بعد فأنا فقأت عين الفتنة شرقيّها و غربيّها و منافقها و مارقها لم يكن ليجترئ عليها غيرى و لو لم أكن لما قوتل أصحاب الجمل و لا صفّين و لا أصحاب النهر، و يحتمل أن يكون المراد فقأت عين أهل الفتنة فحذف المضاف و أقام المضاف إليه مقامه و يكون فقاؤه لعيونهم كناية عن قتلهم، و روى أنّ من المتوقّفين عن الحرب الأحنف بن قيس و جماعة معه، و كنىّ بتموّج غيهبها عن انتشار ظلمات الشبهة عن تلك الفتن فى أذهان الناس فجهلوا أنّ خلاف طلحة و خروج عايشة كان حقّا أو باطلافكان ذلك سببا لاضطرابهم و قتالهم و قتلهم، و كذلك كنىّ باشتداد كلبها عن شدّة ما وقع منها من الشرور، و كلب أهلها و حرصهم على القتل و القتال كناية بالمستعار فى الموضعين.

و قوله: فاسئلونى. إلى قوله: و من يموت منهم موتا.
 تعرّض للأسؤلة عمّا سيكون و لم يكن ليجترئ على ذلك أحد غيره من بين ساير الصحابة و التابعين، و لو ادّعى غير ذلك لكذّبه العيان و فضّحه الامتحان، و روى أنّ قتادة دخل الكوفة فالتفّت عليه الناس فقال: سلونى عمّا شئتم. و كان أبو حنيفة حاضرا و هو إذن غلام حدث السنّ فقال: سلوه عن نملة سليمان أ كانت ذكرا أم انثى. فسئلوه فانقطع فقال: أبو حنيفة كانت انثى فقيل له: بم عرفت ذلك فقال: من كتاب اللّه، و هو قوله: قالَتْ نَمْلَةٌ و لو كان ذكرا لقال: قال نملة و ذلك أنّ النملة تقع على الذكر و الانثى كالحمامة و الشاة، و إنّما يميّز بينهما بعلامة التأنيث فانظر إلى هذا المعجب بنفسه كيف انقطع عن سؤال يمكن الفطن أن يجيب عنه بأدنى سعى فكيف به إذا سئل عن الامور المستقبلة الّتى لا يتنزّلها من عالم الغيب إلّا من أيّد بقوّة إلهيّة تكشف لنور بصيرته معها حجب الأسرار، و قد بيّنا فيما سبق وجه تمكّنه من الإخبار عمّا سيكون و كيفيّة ذلك، و أراد بالساعة القيامة، و استعار أوصاف الإبل و رعاتها و أصحابها من الناعق و القائد و السائق و المناخ و الركاب و الرحال للفئة المهديّة و الضالّة و من يهديهم و يضلّهم ملاحظة لشبههم بالإبل فى الاجتماع و الانقياد لقائد و داعى، و الضمير فى أهلها يعود إلى الفئة.

و قوله: و لو قد فقدتمونى. إلى قوله: المسئولين.
 كرائه الامور ما يكرهون منها و حوازب الخطوب ما يصيبهم من الامور العظيمة المهمّة و أطراق السائلين لحيرتهم فى عواقب تلك الخطوب و ما يكون منها و كيفيّة الخلاص و فشل كثير من المسئولين: أى جنبوا عن ردّ الجواب لجهلهم بعواقبها و ما يسئلون عنه منها.

و قوله: ذلك.
 إشارة فى أطراق السائلين و فشل المسئولين.

و قوله: إذا قلصت حربكم
و قوله: إذا قلصت حربكم تفسير لكرائه الامور النازلة بهم، و استعار لفظ التقليص و التشمير عن ساق الحرب و وجه الاستعارة تشبيهها بالمجدّ فى الأمر الساعى فيه، و كما أنّه إذا أراد أن يتوجّه قلّص ثيابه و شمّرها عن ساقه لئلّا تعوفه و تهيّأ و أجمع عليه كذلك الحرب فى كونها مجتمعة عن النزول بهم و اللحوق لهم، و الواو في قوله: و ضاقت للعطف على شمّرت، و موضع تستطيلون النصب على الحال.

و قوله: حتّى يفتح اللّه لبقيّة الأبرار منكم.
أى الّذين يسلمون بنى اميّة فى دينهم و أعمارهم و يفتح اللّه لهم بهلاكهم و زوال دولتهم.

و قوله: إنّ الفتن إذا أقبلت تشبّهت [شبّهت خ‏].
 أى يكون فى مبدأها متشبّهة بالحقّ في أذهان الخلق و إذا أدبرت نبّهت لأذهان الخلق على كونها فتنة بعد وقوع الهرج و المرج بين الناس و اضطراب امورهم بسببها و أكثر ما يكون ذلك عند إدبارها كالفساد فى الدول مثلا الّذي يعرف به عامّه الخلق كونها فتنة و ضلالا عن سبيل اللّه أكثر ما يكون فى آخرها فيكون مؤذنا بزوالها و علامة مبشّرة.
و قوله: ينكرن مقبلات و يعرفن مدبرات.

و قوله: ينكرن مقبلات و يعرفن مدبرات. تفسير له: أى لا يعرف في مبدء الحال كونها فنة و تشتبه بكونها حقّا و دعاء هدى فاذا استعقبت عرفت أنّها عن الحقّ بمعزل و إنّ دعاتها كانوا دعاة ضلالة.

و قوله: و يحمن حوم [حول خ‏] الرياح.
استعار لها لفظ الحوم ملاحظة لشبهها في دورانها الموحوم و وقوعها عن قضاء اللّه من دعاة الضلال في بلد دون بلد بالطائر و الريح، و لذلك شبّهها بحومها و كذلك لفظ الخطاء.

و قوله: ألا إنّ أخوف الفتن عندى إلى آخر.
شروع فى تعيين ما يريد أن يخبر به و هو بعض ما تعرّض للسؤال عنه، و إنّما كانت هذه الفتن أخوف الفتن لشدّتها على الإسلام و أهله و كثرة بلوى أهل الدين فيها بالقتل‏ و أنواع الأذى و يكفى فى عظم تلك الفتنة هتكهم حرمة رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم و قتل الحسين عليه السّلام و ذريّتة، و هتك حرمة الإسلام بهدم الكعبة و حرقها، و قتل ابن الزبير و سبّ علىّ عليه السّلام ثمانين سنة، و ما انتشر من البلاء و عمّ بتوليتهم للحجّاج دماء المسلمين إلى غير ذلك من منكراتهم المسطورة في التواريخ و أشار بكونها فتنة عمياء إلى ذلك، و استعار لفظ العمى لها لجريانها على غير قانون حقّ كالأعمى المتصرّف فى حركاته فى غير جادّة، أو لكونها لا يسلك فيها سبيل الحقّ كما لا يهتدى بالعين العمياء و كذلك لفظ المظلمة و قوله: عمّت خطّتها لكونها ولاية عامّة، و خصّت بليّتها: أى بأهل التقوى و شيعة علىّ عليه السّلام و من بقى من الصحابة و التابعين الّذينهم أعيان الإسلام، و قوله: أصاب البلاء من أبصر فيها و أخطأ من عمى عنها: أى من اهتدى لكونها فتنة كان فيها في بلاء من نفسه و منهم أمّا من نفسه فالحزن الطويل من مشاهدة المنكر، و أمّا منهم فلأنّ المتّقى العالم بكونهم أئمّة ضلال منحرف عنهم و غير داخل فى تصرّفهم الباطل، و كان من شأنهم تتبّع من هذا حاله بالأذى و القتل فكان البلاء به أخصّ، و أمّا من لم يهتد لكونها فتنة بل كان فى عمى الجهل عنها فهو منقاد لدعوتهم الباطلة منساق تحت رايات ضلالهم جار على وفق أوامرهم فكان سالما من بلائهم ثمّ أردف ذلك بالقسم البارّ ليجدنّهم الناس أرباب سوء لهم و شبّههم في أفعالهم المضرّة لهم بالناب الضروس لحالبها، و أشار إلى وجه الشبهه بأوصاف: فكدمها و عضّها و خبطها بيدها و زبها برجلها و منعها درّها إشارة إلى جميع حركاتها الموذية الرديئة و هى تشبه حركاتهم في الخلق بالأذى و القتل و منع الوفد و الاستحقاق من بيت المال ثمّ أردف ذلك بذكر غايتين لحركاتهم الشريّة و بلائهم للناس: إحداهما: أنّهم لا يتركون من الأذى و القتل إلّا أحد رجلين إمّا نافع لهم سالك مسلكهم أو من لا يضرّهم بإنكار منكر عليهم. و لا يخافون على دولتهم من ساير العوامّ و السوقة، الثانية أنّه لا يكون انتصارهم منهم إلّا مثل انتصار العبد من سيّده و الصاحب ممّن استصحبه: أى كما لا يمكن العبد أن ينتصر من سيّده و التابع المستصحب الّذى من شأنه الضعف و عدم الاستقلال بنفسه ممّن يستصحبه كذلك لا يمكن بقيّة هؤلاء أن ينتصروا من بنى اميّة أصلا، و يحتمل أن يريد هناك ما يشبه الانتصار من الغيبة و نحوها كما قال عليه السّلام في موضع‏ آخر: و يكون نصرة أحدكم كنصرة العبد من سيّده إذا شهد أطاعه، و إذا غاب اغتابه. ثمّ أردف ذلك بذكر فتنتهم و أنّها مشتملة على فتن فوق واحدة تأتى شآبيب و قطعا كقطع الليل المظلم، و من روى فتنهم بلفظ الجمع فأراد جزئيّات شرورهم في دولتهم، و استعار لفظ الشوهاء لقبحها عقلا و شرعا، و وجه المشابهة كونها منفورا عنها كما أنّ قبيحة المنظر كذلك، و كذلك استعار لفظ القطع لورودها عليهم دفعات كقطع الخيل المقبلة في الغارة و الحرب، و أشار بكونها جاهليّة إلى كونها على غير قانون عدلىّ كما أنّ حركات أهل الجاهليّة كانت كذلك، و لذلك قال: ليس فيها منار هدى و لا علم يرى: أى ليس فيها إمام عدل، و لا قانون حقّ يقتدى به.

و قوله: نحن أهل البيت منها بمنجاة و لسنا فيها بدعاة
أى إنّا ناجون من آثامها و الدخول فيها و الدعوة إلى مثلها، و ليس المراد أنّا سالمون من أذاهم غير داعين فيها إلى الحقّ بشهادة دعوة الحسين عليه السّلام إلى نفسه و قتله و أولاده و هتك ذريّته، و يحتمل أن يريد أنّا بمنجاة من آثامها و لسنا فيها بدعاة مطلقا و الحسين عليه السّلام لم يكن داعيا منبعثا من نفسه للدعوة، و إنّما كان مدعوّا إلى القيام من أهل الكوفة و مجيبا لهم.

و قوله: ثمّ يفرّجها [يفرج خ‏] اللّه كتفريج الأديم. إلى قوله: إلّا الخوف.
 إشارة إلى زوال دولتهم بظهور بنى العبّاس عليهم و قلعهم و استيصالهم و تتّبعهم لآثارهم و حصول الفرج منهم لبقيّة الأبرار من عباد اللّه المقصودين بإذاهم كما يفرج الجلد: أى يشقّ عمّا فيه، و لقد أولاهم بنوا العبّاس من الذلّ و الهوان، و أذا قوهم كأس العذاب طعوما مختلفة، و أروهم عيان الموت ألوانا شتّى كما هو مذكور في كتب التاريخ، و لفظ الكأس و التصبير و العطيّة مستعار، و كذلك لفظ التحليس. و وجه المشابهة جعلهم الخوف شعارا لهم كما أنّ حلس البعير كذلك.

و قوله: حتّى تودّ قريش إلى آخره.
إشارة إلى غاية هذه الفرقة المتقلّبة من قريش على هذا الأمر أى أنّ حالهم في التراذل و الضعف عن محاربتهم ينتهى إلى أن يحبّوا رؤيته مقاما واحدا مع أنّه أبغض الخلق‏ إليهم ليقبل منهم حينئذ ما يطلب اليوم بغضه من نصرتهم له و اتّباعهم لأمره و انقيادهم لهداه و يمنعونه إيّاه، و كنّى عن قصر ذلك المقام المتمنّى له بمقدار زمان جزر الجزور، و صدقه عليه السّلام في هذا الخبر ظاهر فإنّ أرباب السير نقلوا أنّ مروان بن محمّد آخر ملوك بنى اميّة قال يوم الزاب حين شاهد عبد اللّه بن محمّد بن علىّ بن عبد اللّه بن العبّاس: مارّا به في صفّ خراسان لوددت أنّ علىّ بن أبى طالب تحت هذه الرايات بدلا من هذا الفتى. و القصّة مشهورة. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 2 ، صفحه‏ى 388

خطبه89 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام لما أريد على البيعة بعد قتل عثمان

دَعُونِي وَ الْتَمِسُوا غَيْرِي- فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً- لَهُ وُجُوهٌ وَ أَلْوَانٌ- لَا تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ- وَ لَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْعُقُولُ- وَ إِنَّ الْآفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ- وَ الْمَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ- . وَ اعْلَمُوا أَنِّي إِنْ أَجَبْتُكُمْ- رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ- وَ لَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وَ عَتْبِ الْعَاتِبِ- وَ إِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا كَأَحَدِكُمْ- وَ لَعَلِّي أَسْمَعُكُمْ وَ أَطْوَعُكُمْ- لِمَنْ وَلَّيْتُمُوهُ أَمْرَكُمْ- وَ أَنَا لَكُمْ وَزِيراً- خَيْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِيراً

المعنى
أقول: حاصل هذا الفصل أنّه لا بدّ لكلّ مطلوب على أمر من تعزّز فيه و تمنّع.
و الحكمة في ذلك أنّ الطالب له يكون بذلك أرغب فيما يطلب فإنّ الطبع حريص على ما منع سريع النفرة عمّا سورع إلى إجابته فيه فأراد عليه السّلام التمنّع عليهم لتقوى رغبتهم إليه فإنّه لم يصل إليه هذا الأمر إلّا بعد اضطراب في الدين في قتل عثمان و الجرأة على الدم‏ فاحتاج في تقويم الخلق و ردّهم إلى قواعد الحقّ إلى أنّ يزدادوا فيه رغبة بهذا الكلام و مثله فقال: دعونى و التمسوا غيرى. ألا ترى أنّه نبّههم بعد هذه التمنّع على أنّ هاهنا امورا صعبة مختلفة يريد أن ينكرها عليهم و يقاوم ببعضهم فيها بعضا و يحملهم على الصلاح، و جعل استقباله لتلك الامور الصعبة علّة لاستقالته من هذا الأمر فقال:

قوله فإنّا مستقبلون أمرا له وجوه و ألوان لا تقوم له القلوب
أى لا تصبر و لا تثبت عليه العقول بل تنكره و تأباه لمخالفته الشريعة و مضادّته لنظام العالم، و ذلك الأمر هو ما كان يعلمه من اختلاف الناس عليه بضروب من التأويلات الفاسدة و الشبهات الباطلة كتهمة معاوية و أهل البصرة له بدم عثمان و كتأويل الخوارج عليه في الرضا بالتحكيم و نحو ذلك، و هو المكنىّ عنه بالوجوه و الألوان كناية بالمستعار.
و قوله: و إنّ الآفاق قد أغامت و المحجّة قد تنكّرت.

و قوله: و إنّ الآفاق قد أغامت و المحجّة قد تنكّرت. استعار لفظ الغيم لما غشى آفاق البلاد و أقطار القلوب المتغيّرة العازمة على الفساد من ظلمات الظلم و الجهل، و وجه المشابهة ما تستلزمه هذه الظلمات من توقّع نزول الشرور منها كما يتوقّع نزول المطر و الصواعق من الغيم، و أشار بالمحجّة إلى واضح طريق الشريعة، و تنكّرها جهل الناس بها و عدم سلوكهم لها.

و قوله: و اعلموا. إلى قوله: عتب العاتب.
 لمّا تمنّع عليهم و علم صدق رغبتهم فيه شرع فى تقرير ما يريد أن يفعله تقريرا إجماليّا عليهم مع تمنّع دوين الأوّل فأعلمهم أنّه على تقدير إجابتهم إلى هذا الأمر لا يركب بهم إلّا ما يعلم من أمر الشريعة و لا يصغى إلى قول قائل خالف أمر اللّه لمقتضى هواه، و لا عتب عاتب عليه فى أنّه يفضّله أو لم يرضه بما يخالف ما يعلم من الشريعة إذ القائل و العاتب فى ذلك مفتر على اللّه و عاتب عليه و لقد وفى عليه السّلام بما وعدهم به من ذلك كما سنذكره فى قصّة أخيه عقيل لمّا استماحه صاعا من برّ أو شعير فحمى له حديدة و قرّبها منه فأنّ عقيل فقال له: ثكلتك الثواكل أتإنّ من حديدة حماها إنسان للعبة و لا تأنّ من نار أجّجها جبّار لغضبه. و لفظ الركوب مستعار لاستوائه على ما يعلم.

و قوله: و إن تركتمونى إلى آخره.
أى كنت كأحدكم فى الطاعة لأميركم بل لعلّى أكون أطوعكم له: أى لقوّة علمه بوجوب طاعته الإمام، و إنّما قال لعلّى لأنّه على تقدير أن يولّوا أحدا يخالف أمر اللّه لا يكون أطوعهم له بل أعصاهم و احتمال توليتهم لمن هو كذلك قايم فاحتمال طاعته و عدم طاعته له قائم فحسن إيراد لعلّ، و الواو فى قوله: و أنا. للحال، و وزيرا و أميرا حالان، و العامل ما تعلّق بهما الجار و المجرور، و أراد الوزير اللغوىّ و هو المعين و الظهير الحامل لوزر من يظاهره و ثقله، و ظاهر أنّه عليه السّلام كان وزيرا للمسلمين و عضدا لهم، و الخيريّة هاهنا تعود إلى سهولة الحال عليهم فى أمر الدنيا فإنّه إذا كان أميرا لهم حملهم على ما تكره طباعهم من المصابرة فى الحروب و التسوية فى العطايا و منعهم ما يطلبون ممّا فيه للشريعة أدنى منع، و لا كذلك إذا كان وزيرا لهم فإنّ حظّ الوزير ليس إلّا الشور و الرأى الصالح و المعاضدة فى الحروب و قد يخالف فى رأيه حيث لا يتمكّن من إلزام العمل به و إنّما كان هذا لتمنّع دوين الأوّل لأنّ قوله: إن أجبتكم. فيه إطماع لهم بالاجابة.و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 2 ، صفحه‏ى 386

 

خطبه 88 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام تعرف بخطبة الأشباح،

و هى من جلائل خطبه، و كان سائل سئله أن يصف اللّه تعالى حتّى كأنّه يراه عيانا فغضب لذلك، و قال الخطبة. روى مسعدة بن صدقة عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما السّلام أنّه قال: خطب أمير المؤمنين عليه السّلام هذه الخطبة على منبر الكوفة، و ذلك أنّ رجلا أتاه فقال له: يا أمير المؤمنين صف لنا ربّنا لنزداد له حبّا و به معرفة فغضب‏ و نادى: الصلاة جامعة. فاجتمع الناس حتّى غصّ المسجد بأهله فصعد المنبر و هو مغضب متغيّر اللون فحمد اللّه و أثنى عليه و صلّى على النّبىّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم ثمّ خطبها. و أعلم أنّ في الخطبة فصولا:

الفصل الأوّل.
قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يَفِرُهُ الْمَنْعُ وَ الْجُمُودُ- وَ لَا يُكْدِيهِ الْإِعْطَاءُ وَ الْجُودُ- إِذْ كُلُّ مُعْطٍ مُنْتَقِصٌ سِوَاهُ وَ كُلُّ مَانِعٍ مَذْمُومٌ مَا خَلَاهُ- وَ هُوَ الْمَنَّانُ بِفَوَائِدِ النِّعَمِ وَ عَوَائِدِ الْمَزِيدِ وَ الْقِسَمِ- عِيَالُهُ الْخَلَائِقُ ضَمِنَ أَرْزَاقَهُمْ وَ قَدَّرَ أَقْوَاتَهُمْ- وَ نَهَجَ سَبِيلَ الرَّاغِبِينَ إِلَيْهِ وَ الطَّالِبِينَ مَا لَدَيْهِ- وَ لَيْسَ بِمَا سُئِلَ بِأَجْوَدَ مِنْهُ بِمَا لَمْ يُسْأَلْ- الْأَوَّلُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلٌ فَيَكُونَ شَيْ‏ءٌ قَبْلَهُ- وَ الْآخِرُ الَّذِي لَيْسَ لهُ بَعْدٌ فَيَكُونَ شَيْ‏ءٌ بَعْدَهُ- وَ الرَّادِعُ أَنَاسِيَّ الْأَبْصَارِ عَنْ أَنْ تَنَالَهُ أَوْ تُدْرِكَهُ- مَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ دَهْرٌ فَيَخْتَلِفَ مِنْهُ الْحَالُ- وَ لَا كَانَ فِي مَكَانٍ فَيَجُوزَ عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ وَ لَوْ وَهَبَ مَا تَنَفَّسَتْ عَنْهُ مَعَادِنُ الْجِبَالِ- وَ ضَحِكَتْ عَنْهُ أَصْدَافُ الْبِحَارِ مِنْ فِلِزِّ اللُّجَيْنِ وَ الْعِقْيَانِ- وَ نُثَارَةِ الدُّرِّ وَ حَصِيدِ الْمَرْجَانِ مَا أَثَّرَ ذَلِكَ فِي جُودِهِ- وَ لَا أَنْفَدَ سَعَةَ مَا عِنْدَهُ- وَ لَكَانَ عِنْدَهُ مِنْ ذَخَائِرِ الْأَنْعَامِ مَا لَا تُنْفِدُهُ مَطَالِبُ الْأَنَامِ- لِأَنَّهُ الْجَوَادُ الَّذِي لَا يَغِيضُهُ سُؤَالُ السَّائِلِينَ- وَ لَا يُبْخِلُهُ إِلْحَاحُ الْمُلِحِّينَ‏

اللغة
أقول: الأشباح: الأشخاص. و يفره: يزيد ماله وفورا و يتمّمه. و يكديه: ينقص خيره. و تنفّست عنه: انفرجت. و الفلزّ: ما ينقيه الكير ممّا يذاب من جواهر الأرض. و العقيان: الذهب الخالص. و المرجان: صغار اللؤلؤ. و ألحّ في سؤاله: إذا أدام عليه.

و قد شرع في وصف اللّه سبحانه باعتبارات له إلى آثاره:
الأوّل:
أنّه لا يتزيّد بما حرمه و منعه من فضله.
الثاني: و لا ينقصه عطاؤه و جوده.
ثمّ ردّ حكم الوهم عليه سبحانه بدخوله في عموم المنتقصين بالعطايا بقوله: إذ كلّ معط منتقص سواه، و كذلك قدّسه عن الدخول في زمرة المذمومين بمنعهم ما في أيديهم عن طالبه بقوله: و كلّ مانع مذموم ما خلاه فكانت هاتان القضيّتان مؤكّدتين للاوليين، و برهانهما أنّ التزيّد بالمنع و التنقّص بالإعطاء إنّما يطلق في حقّ من ينتفع و يتضرّر بالزيادة و النقصان و الانتفاع و التضرّر على اللّه محال فالتزيّد و التنقّص عليه محال، و لأنّهما يقضيان عليه بالحاجة و الإمكان، و لأنّ مقدوراته غير متناهية، و نبّه بقوله: إذ. على جهة الفرق بينه و بين خلقه، و إنّما انتقص المعطى من خلقه لحاجته إلى ما يعطيه و انتفاعه به، و إنّما استحقّ المانع منهم الذمّ دونه سبحانه لكون ما يصدر عنه من منع و إعطاء مضبوطا [منوطا خ‏] بنظام الحكمة و العدل دون غيره من المانعين فإنّ غالب منعهم يكون عن شحّ مطاع و هوى متّبع. و اعلم أنّ صدق الكلّيّة في المنتقصين بالعطاء ظاهر، و أمّا في المذمومين بالمنع فتحقيقها أنّ كلّ مانع للمال فهو إنّما يمنعه خوف الفقر و نحوه، و ظاهر أنّ الخائف من الفقر في الدنيا محبّ لها و هو بمعزل عن عباد اللّه المتوكّلين عليه الزاهدين في متاع الدنيا و قيناتها، و إذا كان العبد مأمورا بأن يكون من هؤلاء و في زمرتهم فبالحرىّ أن يكون مستحقّا للذمّ على ما يمنعه من ماله فيكون حجابا لوجهه عن النظر إلى وجه اللّه الكريم فصدق الكلّيّة إذن ظاهر. و في أدعية زين العابدين عليه السّلام: يا من لا يزيده كثرة العطاء إلّا كرما وجودا. و فيه سرّ لطيف فإنّه لمّا كان جوده سبحانه غير متوقّف إلّا على وجود الاستحقاق، و كانت كلّ نعمة صدرت عنه معدّة لمحلّها و مهيّئة له لقبول نعمة اخرى كانت كثرة عطائه مستلزمة لكثرة الاعداد المستلزمة لزيادة الجود.

الثالث: أنّه المنّان بفوائد النعم و المنّة تذكير المنعم للمنعم عليه بنعمته و التطاول عليه بها كقوله تعالى يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ«» في غير موضع من كتابه و هى صفة مدح للحقّ سبحانه و إن كانت صفة ذمّ لخلقه، و السبب الفارق كون كلّ منعم سواه فيحتمل أن يتوقّع لنعمته جزاء و يستفيد كما لا يعود إليه ممّا أفاده و أيسره توقّع الذكر و يقبح ممّن يقابل بنعمته و يتوقّع لها جزاء أن يمّن بها لما يستلزمه المنّ من التطاول و الكبر، و توقّع الجزاء و الحاجة إليه مع التطاول و الكبر ممّا لا يجتمعان في العرف. إذ التطاول و الكبر إنّما يليقان بالغنىّ عن ثمرة ما تطاول به و لأنّ التطاول ممّا يتأذّى به المنعم عليه فيبطل بذلك استعداد نفس المنعم لقبول رحمة اللّه و جزائه و لذلك ورد النهى عن المنّة في قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى‏«» فجعلهما سببا لبطلان الصدقة: أى عدم استحقاق ثوابها، و فوائد النعم: ما أفاد منها. و عوائد المزيد و القسم: معتادهما.


الرابع: كون الخلائق عياله
ضمن أرزاقهم و قدّر أقواتهم، و استعار لفظ العيال للخلق بالنسبة إلى ربّهم، و وجه المشابهة أنّ عيال الرجل هو من جمعهم كيفيّتهم و يصلح حالهم كذلك الخلق إنّما خلقهم و جمعهم تحت عنايته ليصلح أحوالهم في معاشهم و معادهم، و كذلك استعار لفظ الضمان لما وجب في الحكمة الإلهيّة من وجود ما لا بدّ منه في تدبير إصلاح حالهم من الأقوات و الأرزاق، و تقدير أقواتهم إعطاء كلّ ما كتب له في اللوح المحفوظ من زائد و ناقص.

الخامس: كونه نهج سبيل الراغبين إليه و الطالبين ما لديه
و ذكر أوّلا ما يصلح حالهم في الدنيا و هو ضمان الأرزاق و تقدير الأقوات ثمّ أردفه بما هو سبب صلاح حالهم في الآخرة من نهج السبيل و ايضاحه و أشار به إلى ايضاح الشريعة لطريق السالكين الراغبين في النظر إلى وجهه الكريم و الطالبين لما عنده من النعيم المقيم.

السادس: كونه ليس بما سئل بأجود منه بما لم يسئل
و يستلزم بيان هذا الوصف إشارة لطيفة و هو أنّ فيضان ما صدر عنه سبحانه له اعتباران: أحدهما: بالنظر إلى جوده‏ و هو من تلك الجهة غير مختلف في جميع الموجودات بل نسبتها إليه على سواء بذلك الاعتبار. فلا يقال: هو بكذا أجود منه بكذا. و إلّا لاستلزم ذلك أن يكون ببعض الأشياء أبخل أو إليها أحوج فيلزمه النقصان تعالى اللّه عن ذلك، و الثاني: بالنظر إلى الممكن نفسه و الاختلاف الواقع في القرب و البعد إلى جوده إنّما هو من تلك الجهة فكلّ ممكن كان أتمّ استعدادا و أقبل للوجود و أقلّ شرطا و معاندا كان أقرب إلى جوده. إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ السائل و إن حصل له ما سأل من اللّه تعالى دون ما لم يسئل فليس منعه ما لم يسئله لعزّته عند اللّه و ليس بينه و بين ما سئل بالنسبة إلى جود اللّه تعالى فرق و تفاوت بل إنّما خصّ بما سئل لوجوب وجوده له عند تمام قبوله له بسؤاله دون ما لم يسئله و لو سئل ما لم يسئله و استحقّ وجوده لما كان في الجود الإلهىّ بخل به و لا منع في حقّه و إن عظم خطره و جلّ قدره و لم يكن له أثر نقصان في خزائن ملكه و عموم جوده. و إلى هذا أشار علىّ بن موسى الرضا عليه السّلام و قد سئل عن الجواد فقال: لسؤالك وجهان إن أردت المخلوق فالّذى يؤدّى ما افترض اللّه عليه و البخيل الّذى يمنع ما افترض اللّه عليه و إن أردت الخالق فهو الجواد إن أعطى و إن منع لأنّه إن أعطى أعطى من له و إن منع منع من ليس له. فقوله: له. و ليس له، إشارتان إلى أنّ الجود الإلهىّ إنما يهب. و يتوقّف في هبته على وجود المستحقّ. و قد نزّهه عليه السّلام بهذا الوصف عن ضنّة الخلق إذ كان من شأنهم أن يكونوا بما سئلوا أجود منهم بما لم يسألوا لكونه أسهل عليهم و من شأن السائل أن لا يسألهم ما هو أعزّ عندهم و لذلك كانوا بما سئلوا أجود.

السابع:
الأوّل الّذى لم يكن له قبل فيكون شي‏ء قبله.

الثامن: و الآخر الّذى ليس له بعد فيكون شي‏ء بعده
و قد أشرنا إلى هذين الوصفين فيما سلف و نزيدهما بيانا فنقول: الأوليّة و الآخريّة اعتباران إضافيّان تحدثهما العقول لذاته المقدّسة و ذلك أنّك إذا لاحظت ترتيب الوجود في سلسلة الحاجة إليه سبحانه وجدته تعالى بالإضافة إليها أوّل إذ كان انتهائها في سلسلة الحاجة إلى غناه المطلق فهو أوّل بالعليّة و الذات و الشرف، و إذ ليس بذى مكان فالتقدّم بالمكان منفىّ عنه و الزمان متأخّر عنه. إذ هو من لواحق الحركة المتأخّرة عن الجسم المتأخّر عن علّته فلم يلحقه القبليّة الزمانيّة فضلا أن تسبق عليه فلم يكن شي‏ء قبله مطلقا لا من الزمانيّات و لا من غيرها و إذا اعتبرته بالنظر إلى ترتيب السلوك و لاحظت مراتب السالكين المسافرين في منازل عرفانه وجدته آخرا إذ هو آخر ما ترتقى إليه درجات العارفين و معرفته هى الدرجة القصوى و المنزل الآخر، و لأنّ كلّ موجود سواه فهو ممكن العدم فله من ذاته أن لا يستحقّ وجودا فضلا أن يستحقّ الآخريّة و البعديّة المطلقة، و هو تعالى الواجب لذاته فهو المستحقّ لبعديّة الوجود و آخريّته لذاته و بالقياس إلى كلّ موجود. فإذن هو الأوّل المطلق الّذى لا شي‏ء قبله و الآخر المطلق الّذى لا شي‏ء بعده.

التاسع: الرادع اناسىّ الأبصار عن أن تناله أو تدركه
و قد سبق أنّ القوّة الباصرة إنّما تتعلّق بذى وضع و جهة و البارى تعالى منزّه عنهما فيستحيل أن يدرك بحاسّة البصر و ردعه‏ لها قهرها بذلّ النقصان عن قبول إدراكه.

العاشر: كونه لم يختلف عليه دهر فيختلف عليه الحال.
لمّا كان الزمان مبدءا للتغيّرات و اختلاف الأحوال، و كان ذاته سبحانه منزّهة عن لحوق الزمان كانت مبرّءة عن تغيّر الأحوال الجارية على الزمانيّات و اختلافها.

الحادى عشر: و لا كان في مكان فيجوز عليه الانتقال.
لمّا كان من شأن ذى المكان جواز أن ينتقل من مكانه، و كان سبحانه منزّها عن المكان و إلّا لزمه النقصان اللازم للإمكان لا جرم لم يجز عليه الانتقال.

الثاني عشر: كونه لو وهب ما تنفّست عنه معادن الجبال
و ضحكت عنه أصداف البحار من فلزّ اللجين و العقيان. إلى قوله: مطالب الأنام. إنّما عدّد هذه الأشياء في معرض المدح له تعالى لكونها أعظم ما يقتدر عليه الإنسان و يقتنيه و أجلّ ما يتنافس فيه أبناء الدنيا تنبيها على كمال قدرته و عدم تناهى مقدوراته إذ سبق أنّه إنّما يتأثّر بهبة مثل ذلك جود المحتاجين الّذين يتعاقب عليهم الانتفاع و التضرّر، و استعار لفظ الضحك للأصداف، و وجه الشبه انفتاح الصدفتين و إسفارهما عن اللؤلؤ الشبيه في بدوّه بأسنان الإنسان حال ضحكه و عن لحمة تشبه اللسان في رقّة طرفه و لطافته. و من صادف الصدفة عند فتحها وجدها كالإنسان يضحك، و كذلك استعار لفظ الحصيد لصغار اللؤلؤ ملاحظة لشبهه بما يحصد من الحنطة و غيرها، و اعلم أنّ الصدف و إن كان حيوانا ذو حسّ و حركة إلّا أنّ له شبها بالنبات و لحوقا به من جهة أنّه ذو عرق في الأرض يغتذى به. و قد أجمل ما يخرج من معادن البرّ و البحر لتمييز السامعين بينهما، و قوله: لأنّه الجواد الّذى لا يغيضه سؤال السائلين و لا يبخله إلحاح الملحّين. إنّما كان هذا علّة لعدم تأثّر جوده بهبة ما يعظم قدره و نقصان خزائنه بإخراجه منها لأنّ الجواد الّذى شأنه ما ذكر إنّما كان كذلك لكونه ليس من شأنه أن يلحقه النفع و الضرر و النقص بل نعمه غير متناهية، و استعار لفظ الغيض لنعمه ملاحظة لشبهها بالماء الّذى له مادّة تامّة لا ينقص بالنزح، و من روى: بغضبه. فلأنّ الغضب من لواحق المزاج، و البارى تعالى منزّه عنه فيتنزّه عن لواحقه، و كذلك البخل رذيلة مكتسبة من البدن و المزاج تبعث إليها الحاجة و النقصان فمن لا يتزيّد و لا يتنقّص فلا يؤثّر في ملكه أن يهب الدنيا لمن سألها.


الفصل الثاني:

قوله: فَانْظُرْ أَيُّهَا السَّائِلُ- فَمَا دَلَّكَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ مِنْ صِفَتِهِ فَائْتَمَّ بِهِ- وَ اسْتَضِئْ بِنُورِ هِدَايَتِهِ وَ مَا كَلَّفَكَ الشَّيْطَانُ عِلْمَهُ- مِمَّا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ عَلَيْكَ فَرْضُهُ- وَ لَا فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ ص وَ أَئِمَّةِ الْهُدَى أَثَرُهُ- فَكِلْ عِلْمَهُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ- فَإِنَّ ذَلِكَ مُنْتَهَى حَقِّ اللَّهِ عَلَيْكَ- وَ اعْلَمْ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ هُمُ الَّذِينَ أَغْنَاهُمْ- عَنِ اقْتِحَامِ السُّدَدِ الْمَضْرُوبَةِ دُونَ الْغُيُوبِ- الْإِقْرَارُ بِجُمْلَةِ مَا جَهِلُوا تَفْسِيرَهُ مِنَ الْغَيْبِ الْمَحْجُوبِ- فَمَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى اعْتِرَافَهُمْ بِالْعَجْزِ- عَنْ تَنَاوُلِ مَا لَمْ يُحِيطُوا بِهِ عِلْماً- وَ سَمَّى تَرْكَهُمُ التَّعَمُّقَ- فِيمَا لَمْ يُكَلِّفْهُمُ الْبَحْثَ عَنْ كُنْهِهِ رُسُوخاً- فَاقْتَصِرْ عَلَى ذَلِكَ- وَ لَا تُقَدِّرْ عَظَمَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى قَدْرِ عَقْلِكَ- فَتَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ‏ هُوَ الْقَادِرُ الَّذِي إِذَا ارْتَمَتِ الْأَوْهَامُ- لِتُدْرِكَ مُنْقَطَعَ قُدْرَتِهِ- وَ حَاوَلَ الْفِكْرُ الْمُبَرَّأُ مِنْ خَطَرَاتِ الْوَسَاوِسِ- أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ فِي عَمِيقَاتِ غُيُوبِ مَلَكُوتِهِ- وَ تَوَلَّهَتِ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ لِتَجْرِيَ فِي كَيْفِيَّةِ صِفَاتِهِ- وَ غَمَضَتْ مَدَاخِلُ الْعُقُولِ فِي حَيْثُ لَا تَبْلُغُهُ الصِّفَاتُ- لِتَنَاوُلِ عِلْمِ ذَاتِهِ رَدَعَهَا- وَ هِيَ تَجُوبُ مَهَاوِيَ سُدَفِ الْغُيُوبِ مُتَخَلِّصَةً إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ- فَرَجَعَتْ إِذْ جُبِهَتْ مُعْتَرِفَةً- بِأَنَّهُ لَا يُنَالُ بِجَوْرِ الِاعْتِسَافِ كُنْهُ مَعْرِفَتِهِ- وَ لَا تَخْطُرُ بِبَالِ أُولِي الرَّوِيَّاتِ خَاطِرَةٌ مِنْ تَقْدِيرِ جَلَالِ عِزَّتِه الَّذِي ابْتَدَعَ الْخَلْقَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ امْتَثَلَهُ- وَ لَا مِقْدَارٍ احْتَذَى عَلَيْهِ مِنْ خَالِقٍ مَعْبُودٍ كَانَ قَبْلَهُ- وَ أَرَانَا مِنْ مَلَكُوتِ قُدْرَتِهِ- وَ عَجَائِبِ مَا نَطَقَتْ بِهِ آثَارُ حِكْمَتِهِ- وَ اعْتِرَافِ الْحَاجَةِ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى أَنْ يُقِيمَهَا بِمِسَاكِ قُوَّتِهِ- مَا دَلَّنَا بِاضْطِرَارِ قِيَامِ الْحُجَّةِ لَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ- فَظَهَرَتِ الْبَدَائِعُ- الَّتِي أَحْدَثَتْهَا آثَارُ صَنْعَتِهِ وَ أَعْلَامُ حِكْمَتِهِ- فَصَارَ كُلُّ مَا خَلَقَ حُجَّةً لَهُ وَ دَلِيلًا عَلَيْهِ- وَ إِنْ كَانَ خَلْقاً صَامِتاً فَحُجَّتُهُ بِالتَّدْبِيرِ نَاطِقَةٌ- وَ دَلَالَتُهُ عَلَى الْمُبْدِعِ قَائِمَةٌ فَأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ شَبَّهَكَ بِتَبَايُنِ أَعْضَاءِ خَلْقِكَ- وَ تَلَاحُمِ حِقَاقِ مَفَاصِلِهِمُ الْمُحْتَجِبَةِ لِتَدْبِيرِ حِكْمَتِكَ- لَمْ يَعْقِدْ غَيْبَ ضَمِيرِهِ عَلَى مَعْرِفَتِكَ- وَ لَمْ يُبَاشِرْ قَلْبَهُ الْيَقِينُ بِأَنَّهُ لَا نِدَّ لَكَ- وَ كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ ْ تَبَرُّؤَ التَّابِعِينَ مِنَ الْمَتْبُوعِينَ- إِذْ يَقُولُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ- إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ- كَذَبَ الْعَادِلُونَ بِكَ إِذْ شَبَّهُوكَ بِأَصْنَامِهِمْ- وَ نَحَلُوكَ حِلْيَةَ الْمَخْلُوقِينَ بِأَوْهَامِهِمْ- وَ جَزَّءُوكَ تَجْزِئَةَ الْمُجَسَّمَاتِ بِخَوَاطِرِهِمْ- وَ قَدَّرُوكَ عَلَى الْخِلْقَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْقُوَى بِقَرَائِحِ عُقُولِهِمْ- وَ أَشْهَدُ أَنَّ مَنْ سَاوَاكَ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ خَلْقِكَ فَقَدْ عَدَلَ بِكَ- وَ الْعَادِلُ بِكَ كَافِرٌ بِمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ مُحْكَمَاتُ آيَاتِكَ- وَ نَطَقَتْ عَنْهُ شَوَاهِدُ حُجَجِ بَيِّنَاتِكَ- وَ إِنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ الَّذِي لَمْ تَتَنَاهَ فِي الْعُقُولِ- فَتَكُونَ فِي مَهَبِّ فِكْرِهَا مُكَيَّفاً- وَ لَا فِي رَوِيَّاتِ خَوَاطِرِهَا فَتَكُونَ مَحْدُوداً مُصَرَّفاً

اللغة

أقول: الاقتحام: الدخول في الأمر بشدّة دفعة. و السدد: جمع سدّة و هى الأبواب و الحجب. و جاب البلاد: أى قطعها. و السدف: جمع سدفة و هى الظلمة: و الجبه: الردّ. و احتذى عليه: أى سلك مسلكه. و الحقاق: جمع حقّ و هو أطراف عظام المفاصل، و العادل: الجاعل للّه عديلا. و القريحة: قوّة الفكر.

المعنى

و صدر هذا الفصل تأديب الخلق
في وصفهم للّه سبحانه و تعليمهم كيفيّة السلوك في مدحه و الثناء عليه بما هو أهله و إن كان الخطاب للسائل إذ هو السبب في هذه الخطبة، و ذلك على طريقة قولهم: إيّاك أعنى و اسمعى يا جارة. فأرشده في ذلك إلى كتاب اللّه، و أمره أن يجعله إماما يقتدى به و يستضي‏ء بأنواره في سلوك سبيل اللّه و كيفيّة وصفه فإنّ أولى ما وصف به تعالى هو ما وصف به نفسه، و أمره بأن يكل علم ما لم يجده مفروضا عليه علمه في كتاب اللّه أوفى سنّة رسوله و آثار أئمّة الهدى القائمين مقامه في إيضاح الدين و حفظه إلى علم اللّه تعالى و هو المراد بالتفويض و ذلك أنّ أئمّة الهدى أعلم بوجوه نسبته تعالى إلى خلقه و بما يناسب تلك الاعتبارات من الألفاظ و يفيدها فيطلق عليه. و نفّر عن طلب ذلك و البحث عنه بإشارته إلى أنّه تكليف الشيطان و ظاهرأنّ طلب ما وراء حدود الشريعة الّتى نهيت عن تجاوزها إنّما هو بسبب وسوسة الشيطان و حرص الطبع على ما يمنع منه. ثمّ اعلم أنّ ذلك هو منتهى حقّ اللّه عليه و مطلوبه منه، و لمّا كان مطلوب الشارع حين وضع الشريعة و تقرير قواعدها هو جمع قلوب العالم على قانون واحد و اتّحادهم فيه بحيث لا يفترقوا في اعتقاد أمر ما لئلّا يكون ذلك الافتراق سببا لضعف الدين و عدم تعاونهم على تشييده كما سبق بيانه لا جرم وجب في الحكمة أن يحرم حينئذ عليهم الخوض فيما وراء ذلك لتثبت قواعد الدين في قلوبهم و ترسخ و لا يخرج بهم البحث عن ما ورائها إلى إطراحها و فساد اعتقاد كثير من الخلق لها و لغيرها ممّا وراها. إذ لم يكن فيهم من يستعدّ لقبول ما وراء تلك الظواهر إلّا الفرد النادر و إن كنّا نعلم أنّه كان صلى اللّه عليه و آله و سلّم إذا علم من أحد استعدادا لقبول شي‏ء من أسرار الشريعة و وثق به أن يحمله ألقاه إليه كعلىّ عليه السّلام دون أبي هريرة و أمثاله
ثمّ وصف بعد ذلك الراسخين في العلم الممدوحين في القرآن الكريم بقوله تعالى لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ الْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ«» الآية و قوله وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا«» و فسّر معنى الرسوخ فقال: هم الّذين أغناهم اللّه عن اقتحام السدد المضروبة دون الغيوب الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب. فمدح اللّه اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما، و سمّى تركهم التعمّق فيما لم يكلّفهم البحث عن كنهه رسوخا، و ممّا:
إشارة إلى السدد المضروبة و حجب الغيوب.
فلنشر إلى ما كشف عنه بعض العلماء الصوفيّة هاهنا و أشار إليه الخبر عن سيّد المرسلين صلى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ للّه تعالى سبعين حجابا من نور و ظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كلّ من أدرك بصره. و لمّا ثبت أن اللّه تعالى متجلّى لذاته بذاته فالحجاب لا بدّ و أن يكون بالنسبة إلى محجوب
فأقسام المحجوبين ثلاثة:
منهم من حجب بمجرّد ظلمة، و منهم من حجب بمجرّد نور، و منهم من حجب بنور مقرون بظلمة، و تحت كلّ قسم من هؤلاء أقسام كثيرة لا تحصى فيكفينا الإشارة إلى اصولها فنقول:

القسم الأوّل: المحجوبون بمجرّد الظلمة
و هؤلاء هم الملحدة الّذين لا يؤمنون باللّه و هم صنفان: فصنف منهم طلبوا للعالم سببا فأحالوه على الطبع و قد علمت أنّ الطبع صفة جسمانيّة مظلمة خالية عن المعرفة و الإدراك، و صنف منهم لم يتفرّغوا لذلك و لم يتنبّهو الطلب السبب بل اشتغلوا بأنفسهم و عاشوا عيش البهايم فكانوا محجوبين بكدورات نفوسهم و شهواتهم المظلمة و لا ظلمة أشدّ من الهوى و لذلك قال اللّه تعالى أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ«» و قال النبىّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم: الهوى أبغض إله عبد على وجه الأرض. و تحت هؤلاء فرق كثيرة لا حاجة إلى ذكرها.

القسم الثاني: المحجوبون بنور مقرون بظلمة
و هم ثلاثة أصناف:
فصنف منهم منشأ ظلمته الحسّ،
و صنف منهم منشأها الخيال، و صنف منهم منشأها مقايسات عقليّة فاسدة. فالأوّلون أيضا طوائف:
الاولى: عبدة الأوثان
فإنّهم علموا على سبيل الجملة أنّ لهم ربّا و أوجبوا إيثاره على أنفسهم و اعتقدوا أنّه أعزّ و أنفس من كلّ شي‏ء، و لكنّهم حجبوا بظلمة الحسّ عن أن يتجاوزوا العالم المحسوس في إثبات ربّهم فاتّخذوا من أنفس الجواهر كالفضّة و الذهب و الياقوت أشخاصا مصوّرة بأحسن صورة و جعلوها آلهة فهؤلاء محجوبون بنور العزّ و الجلال من صفات اللّه لكنّهم وضعوها في الأجسام المحسوسة فصارت حجبهم أنوارا مكدّرة بظلمة الحسّ إذ الحسّ ظلمة بالإضافة إلى عالم المعقولات.
الثانية: طائفة ترقّوا عن رتبة الأحجار فكانوا أدخل من عبدة الأوثان في ملاحظة الأنوار
كما يحكى عن قوم من أقاصى الترك ليس لهم ملّة و لكن يعتقدون أنّ لهم ربّا هو أجمل الأشياء فإذا رأو إنسانا في غاية الجمال أو فرسا أو شجرا عبدوه، و قالوا: هو ربّنا فهؤلاء محجوبون بنور الجمال مع ظلمة الحسّ أيضا.
الثالثة: طائفة ترقّوا عن هؤلاء و قالوا: ينبغي أن يكون الربّ نورانيّا في صورته ذا سلطان في نفسه مهيبا لا يطاق القرب منه، و لم يترقّوا عن درجة المحسوس فعبدوا النار إذ وجدوها بهذه الصفات فهؤلاء محجوبون بنور السلطنة و البهاء و كلّ ذلك‏ من‏ أنوار اللّه مع ظلمات حسّهم.
الرابعة: طائفة ترقّوا عن ذلك فرأوا أنّ النار تطفى و تقهر فلا تصلح للإلهيّة
فقالوا: بل ما يكون بهذه الصفات و لكن نكون نحن تحت تصرّفه و يكون مع ذلك موصوفا بالعلوّ.
و كان المشهور بينهم علم النجوم و إضافة التأثيرات إليها فعبدوا النجوم فمنهم عبدة المشترى و منهم عبدة الشعرى و غيرهم فهؤلاء محجوبون مع ظلمه الحسّ بنور الاستعلاء و الإشراف و هى من أنوار اللّه تعالى.
الخامسة: طائفة ترقّوا عن هؤلاء فقالوا: و إن وجب أن يكون الربّ بالصفات المذكورة إلّا أنّه ينبغي أن يكون أكبر الكواكب
فعبدوا الشمس فهؤلاء محجوبون مع ظلمة الحسّ بنور الكبرياء و العظمة مع بقيّة الأنوار.
السادسة: طائفة ترقّوا عن ذلك فقالوا: إنّ الشمس لا تتفرّد بالنور بل لغيرها أنوار
و الإله لا يجوز أن يكون له شريك في نورانيّته فعبدوا النور المطلق على كلّ نور، و زعموا أنّه إله العالم و الخيرات كلّها منسوبة إليه ثمّ رأوا في العالم شرورا فلم يستحسنوا إضافتها إلى ربّهم تنزيها له فجعلوا بينه و بين الظلمة منازعة و أحالوا العالم إلى النور و الظلمة و هؤلاء الثنويّة.

الصنف الثاني: المحجوبون ببعض الأنوار مقرونة بظلمة الخيال
و هم الّذين جاوزوا الحسّ و أثبتوا وراء المحسوس أمرا لكنّهم لم يهتدوا إلى مجاوزة الخيال فعبدوا موجودا قاعدا على العرش و أخسّهم رتبة المجسّمة ثمّ أصناف الكراميّة و أرفعهم درجة من نفى الجسميّة و جميع عوارضها إلّا الجهة فخصّصوه بجهة فوق، و هؤلاء لم يثبتوا موجودا غير محسوس و لا متخيّل حتّى ينزّهوه عن الجهة.

الصنف الثالث: المحجوبون بأنوار الإلهيّة مقرونة بمقايسات عقليّة فاسدة مظلمة
فعبدوا إلها سميعا بصيرا متكلّما عالما قادرا منزّها عن الجهات لكن فهموا هذه الصفات على حسب مناسبة صفاتهم، و ربّما صرّح بعضهم فقال: كلامه صوت مثل كلامنا.
و ربّما ترقّى بعضهم فقال: لا بل هو كحديث أنفسنا و لا صوت و لا حرف. و لذلك إذا حقّق القول عليهم رجعوا إلى التشبيه في المعنى و إن أنكروه لفظا إذ لم يدركوا كيفيّة إطلاق هذه الألفاظ في حقّ اللّه. فهؤلاء محجوبون بجمل من الأنوار مع ظلمات المقايسات العقليّة.

القسم الثالث: المحجوبون بمحض الأنوار،
و هم أصناف لا تحصى أيضا لكن نذكر منهم ثلاثة أصناف:
الأوّل: الّذين عرفوا معانى هذه الصفات و فرّقوا بين إطلاق أسمائها على اللّه تعالى و بين إطلاقها على البشر
فتحاشوا من تعريفه بهذه الصفات و عرّفوه بالإضافة إلى المخلوقات فقالوا: ربّنا ربّ السماوات و الأرض لن ندعو من دونه إلها و هو الربّ المنزّه عن هذا المفهوم الظاهر و هو محرّك السماوات و مدبّرها.
الصنف الثاني: الّذين عرفوا أنّ في السماوات ملائكة كثيرة
و أنّ محرّك كلّ سماء منها موجود آخر يسمّى ملكا، و أنّ هذه السماوات في ضمن فلك يتحرّك الجميع بحركته في اليوم و الليلة مرّة واحدة و الربّ تعالى هو المحرّك للفلك الأقصى منها المشتمل عليها.
الصنف الثالث: الّذين ترقّوا عن هؤلاء و قالوا: إنّ تحريك الأجسام الفلكيّة من الملائكة يكون خدمة لربّ العالمين و عبادة له
و يكون الربّ تعالى هو المحرّك للكلّ بطريق الأمر. فهؤلاء كلّهم محجوبون بأنوار محضة وقفت بهم عمّا وراءها. و وراء هؤلاء صنف رابع تجلّى لهم أنّ هذا المطاع موصوف بصفة الوحدة المطلقة و الكمال البالغ و كشفت عنهم حجب المقايسات و الاعتبارات إلى الغير و هم الواصلون. فمنهم من أحرق ذلك التجلّى في تلك الأنوار جميع ما أدركه بصره بالكلّيّة و بقى ملاحظا لرتبة الحقّ فيها فانمحقت فيه المبصرات دون المبصر، و منهم من تجاوز هؤلاء و هم خواصّ الخواصّ فأحرقتهم سبحات وجهه و غشيهم سلطان الجلال فانمحقوا و تلاشوا في أنفسهم فلم يبق لهم إليها التفات و ملاحظة لفنائهم عن أنفسهم و لم يبق إلّا الواحد الحقّ و هؤلاء هم الواصلون كما سبقت الإشارة إليه، و ينتهى الكلّ إلى حجاب الإمكان الّذى يهلك فيه كلّ موجود و لا يبقى إلّا وجه اللّه ذى الجلال و الإكرام.

إذا عرفت ذلك فنقول: السدد المضروبة و حجب الغيب الّتى أشار إليها هى درجات‏ الانتقالات في مفهومات صفات اللّه تعالى و مراتب عرفانه و معرفة ملائكته و مراتبهم و كمالاتهم و ساير حجب الأنوار الّتى حجب بها أهل القسم الثالث، و الراسخون الّذين أشار إليهم هم في ظاهر كلامه الواقفون في المرتبة الاولى و هم الّذين اقتصروا في صفات اللّه و ملائكته و عالم غيبه على ما وقفتهم الشريعة عليه على سبيل الجملة كما أوصل إلى أفهامهم الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم و عقلوا في وصفه تعالى بصفات الكمال و نعوت الجلال أنّه ليس على حدّ وصف البشر بها و رسخ في أذهانهم ما تصوّروه إجمالا لو فصّل لكان مطابقا. و من أعدّته العناية الإلهيّة لقبول التفصيل وصل إليه. و بقى هاهنا بحث لطيف و هو أنّه لمّا كان التكليف في نفس الأمر إنّما هو على قدر العقول و تفاوت مراتبها و لذلك قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم بعثت لأكلّم الناس على قدر عقولهم. كان كلّ عقل قوى على رفع حجاب من حجب الغيب و قصر عمّا ورائه و اعترف به و بالعجز عنه فذلك تكليفه و هو من الراسخين فعلى هذا الرسوخ ليس مرتبة واحدة هى تقليد ظواهر الشريعة و اعتقاد حقيّتها فقط بل تقليدها مرتبة اولى من مراتب الرسوخ و ما ورائها مراتب غير متناهية بحسب مراتب السلوك و قوّة السالكين على رفع حجب الأنوار الّتى أشرنا إليها و كلامه عليه السّلام لا ينافي ما قلناه بل يصدق إذا نزّل عليه فإنّ قوله: و سمّى ترك التعمّق فيما لم يكلّفهم البحث عن كنهه رسوخا صادق أيضا على من قطع جملة من منازل السلوك و عجز عمّا ورائها فوقف ذهنه عن التعمّق فيه و البحث إذ لا يكلّف بما لا يفي به قوّته.

و قوله: فاقتصر على ذلك: أى على ما نطق به الكتاب العزيز و دلّت عليه السنّة النبويّة و أرشدت إليه أئمّة الهدى.
و قوله: و لا تقدّر عظمة اللّه تعالى على قدر عقلك فتكون من الهالكين.
و قوله: و لا تقدّر عظمة اللّه تعالى على قدر عقلك فتكون من الهالكين. فالمقدّر لعظمة اللّه بقدر عقله هو المعتقد أنّ عقله قدّره و أحاط به علما و هو تصغير لعظمة اللّه بحسب عقله الضعيف و عظمة اللّه تعالى أعظم و أجلّ من أن يضبطها عقل بشرى، و إنّما ينشأ ذلك الحكم لمن حصل له هو الوهم الحاكم بمثليّة اللّه تعالى لمدركاته من الأجسام و الجسمانيّات، و ذلك في الحقيقة كفر لاعتقاد غير الصانع صانعا و ضلال عن طريق معرفة اللّه و هو مستلزم للهلاك في تيه الجهل.

و اعلم أنّ في إحالته عليه السّلام لطالب المعرفة على الكتاب و السنّة و بيان الأئمّة دلالة على أنّ مقصوده ليس أن يقتصر على ظاهر الشريعة فقط بل يتّبع أنوار القرآن و السنّة و آثار أئمّة الهدى، و قد ورد في القرآن الكريم و السنّة و كلام الأئمّة من الإشارات و التنبيهات على منازل السلوك و وجوب الانتقال في درجاتها ما لا يحصى كثرة و نبّهوا على كلّ مقام أهله و أخفوه من غير أهله إذ كانوا أطبّاء النفوس و كما أنّ الطبيب يرى أنّ بعض الأدوية لبعض المرضى ترياق و شفاء و ذلك الدواء لشخص آخر سمّ و هلاك كذلك كتاب اللّه و الموضحون لمقاصده من الأنبياء و الأولياء يرون أنّ بعض الأسرار الإلهيّة شفاء لبعض الصدور فيلقونها إليهم و ربّما كانت تلك الأسرار بأعيانها لغير أهلها سببا لضلالهم و كفرهم إذا القيت إليهم. فإذن مقصوده عليه السّلام قصر كلّ عقل على ما هو الأولى به و ما يحتمله، و الجمع العظيم المخاطبون هم أصحاب الظاهر الّذين يجب قصرهم عليه. و اللّه أعلم.

و قوله: هو القادر الّذى إذا ارتمت. إلى آخره.
إشارة إلى اعتبارات اخر جمليّة في وصفه تعالى نبّه على أن غاية استقصاء العقول و تعمّقها و غوص فطنها طالبة لتفصيل صفات كماله و نعوت جلاله أن تقف خاسئة و ترجع حسيرة معترفة بالعجز و القصور، فقوله: إذا ارتمت إلى قوله: ردعها شرطيّة متّصلة في قوّة شرطيّات متعدّدة المقدّمات و تاليها واحد. فالمقدّم الأوّل قوله: إذا ارتمت الأوهام لتدرك منقطع قدرته و ارتماؤها استرسالها مجدّة في المطالعة و التفتيش و منقطع قدرته منتهاها، و المقدم الثاني قوله: و حاول الفكر المبرّء من خطرات وساوس الشيطان و شوائب الأوهام أن يقع عليه ليكيّف ذاته و يستثبتها بكلّ ما ينبغي لها من الكمالات في عميقات غيوب ملكوته: أى في أسرار عالم الغيب العميقة. و المقدّم الثالث قوله: و تولّهت القلوب: أى اشتدّ شوقها إليه لتجرى في كيفيّة صفاته. و المقدّم الرابع قوله: و غمضت مداخل العقول: أى وقت مواقع دخولها بحيث لا تبلغه الصفات: أى انتهت العقول إلى حدّ أنّها لا تعتبر مع ملاحظة ذات الحقّ صفة له بل يحذف كلّ خاطر و كلّ اعتبار من صفة و غيرها من ملاحظة قدسه لينال علم ذاته بالكنه، و قوله: ردعها. هو تالى هذه‏ الشرطيّات، و ردعها هو ردّها خاسئة حسيرة، و سبب ذلك في كلّ من هذه المدركات هو خلقها قاصرة عن إدراك ما يطلبه من هذه المطالب العظيمة: فالأوهام لقصورها عن إدراك ما ليس بمحسوس و لا متعلّقا بالمحسوس، و ردع الفكر أن يقع عليه و تولّه القلوب أن تجرى في كيفيّة صفاته فتحدّها و تحصرها لخلقها قاصرة عن الإحاطة بما لا نهاية له إذ كانت صفات الكمال و نعوت الجلال كذلك، و ردع العقول أن يحيط بكنه ذاته لخلقها قاصرة عن إدراك كنه ما ليس بذى حدّ و تركيب. فكان مستند ذلك الردع هو قدرته فلذلك قدّم على الشرطيّة اعتبار كونه قادرا فقال: هو القادر الّذى من شأنه كذا.

و قوله: و هى تجوب مهاوى سدف الغيوب متخلّصة إليه سبحانه.
الجملة في موضع الحال و العامل ردعها، و استعار لفظ السدف لظلمات الجهل بكلّ معنى غيبىّ من صفات جلاله و طبقات حجبه: أى ردعها عن تلك المطالب حال ما هى قاطعة لمهاوى تلك الظلمات، و وجه الاستعارة ما يشتركان فيه من عدم الاهتداء فيها.
و متخلّصة حال أيضا و العامل إمّا تجوب أوردعها. و تخلّصها إليه توجّهها بكليّتها في طلب إدراكه.

و قوله: فرجعت إذ جبهت. إلى قوله: عزّته.
  معترفة حال و العامل رجعت، و جور الاعتساف شدّة جولانها في تلك المنازل و ظاهر أنّ جور الاعتساف غير نافع في تحصيل ما لا يمكن، و اولو الرويّات أصحاب الفكر: إى رجعت معترفة بأمرين: أحدهما: أنّه لا ينال كنه معرفته، و الثاني: أنّ الفكر لا يقدر جلال عزّته: أى لا يحيط بكماله خبرا. و ظاهر أن صدق هذه الأحكام للنفس موقوف على ارتماء أفكارها في طلب هذه المعارف و عجزها عنها.

و قوله: الّذى ابتدع الخلق على غير مثال. إلى قوله: قبله.

 إشارة إلى أنّ الصنائع البشريّة إنّما تحصل بعد أن يرتسم في الخيال صورة المصنوع بل و كلّ فعل لا يصدر إلّا عن تصوّر وضعه و كيفيّته أوّلا، و تلك التصوّرات تارة تحصل عن أمثلة للمصنوع بل و مقادير له خارجيّة يشاهدها الصانع و يحذو حذوها، و تارة تحصل بمحض الإلهام و الاختراع كما يفاض على أذهان كثير من‏ الأذكياء صورة شكل لم يسبق إلى تصوّره فيتصوّره و يبرز صورته إلى الخارج، و كيفيّة صنع اللّه للعالم و جزئيّاته منزّهة عن الوقوع على أحد هذين الوجهين: أمّا الأوّل فلأنّا بيّنا أنّه لا قبل له فلا قبل لمصنوعاته فلا مثال امتثله: أى عمل مثله، و لا مقدار احتذى حذوه. و أمّا الثاني و إن سمّى الفاعل على وفقه مخترعا لكن التحقيق يشهد بأنّه إنّما فعل على وفق ما حصل في ذهنه من الشكل و الهيئة و هما مستفادان من الصانع الأوّل جلّت عظمته فكان في الحقيقة فاعلا على غير مثال سابق محتذيا لمقدار غيره، و علم الأوّل سبحانه ليس على النحو المذكور من حصول صورة مساوية للمعلوم في ذاته كما تحقّقته من قبل فإذن فعله بمحض الإبداع و الاختراع على أبعد ما يكون عن حدّ و مثال.

و قوله: و أرانا من ملكوت قدرته. إلى قوله: معرفته.
 ملكوت قدرته ملكها و إنّما نسبه إلى القدرة لأنّ اعتبارها مبدء الوجود كلّه فهى مبدء المالكيّة، و آثار حكمته ما صدر عنها من الأفعال و الأحكام و انقياد كلّ ناقص إلى كماله، و استعار لفظ النطق للسان حال آثاره تعالى المفصحة عن كمال الحكمة المعجبة بتمام النظام و حسن الترتيب، و وجه المشابهة ما اشترك فيه النطق و حال مصنوعاته من ذلك الإفصاح و البيان، و اعتراف عطف على عجائب، و إلى أن متعلّق بالحاجة، و ما في قوله: و ما دلّنا هى المفعول الثاني لأرانا: أى و أرانا من اعتراف الخلق لحاجتهم إلى أن يقيمهم في الوجود بمساك قدرته الّتى تمسك السماوات و الأرض أن تزولا ما دلّنا باضطرار قيام الحجّة له على معرفته، و قوله: على معرفته متعلّق بدلّنا: أى ما دلّنا على معرفته فلزمت قيام الحجّة له بالضرورة.

و قوله: و ظهرت في البدائع. إلى قوله: قائمة.
استعار لفظ الأعلام لما يدلّ على حكمة الصانع في فعله من الإتقان و الإحكام.
و اعلم أنّ كلّ ما ظهرت فيه آثار حكمة اللّه فهو ناطق بربوبيّته و كمال الوهيّته فبعض ناطق. بلسان حاله و مقاله كالإنسان، و بعض بلسان حاله فقط إذ لا عقل له و لا لسان كالجماد و النبات، و الضمير المضاف إليه في قوله: فحجّته يحتمل عوده إلى اللّه، و يحتمل أن يعود إلى الخلق الصامت. و قد علمت أنّ السالكين في سماع هذا النطق من آثار اللّه و مشاهدته‏ في مصنوعاته على درجات و منازل متفاوتة كما أشرنا إليه غير مرّة.

و قوله: و أشهد أنّ من شبّهك. إلى قوله: بربّ العالمين.
 التفات إلى خطاب اللّه تعالى على طريق قوله مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ و المشبّه به في الحقيقة هو الخلق و إنّما جعل المشبّه به هو تباين أعضائهم و تلاحم حقاق مفاصلهم لأنّه في معرض ذمّ المشبّهة و التنبيه على وجوه أغلاطهم و تباين الأعضاء و تلاحمها من لوازم المشبّه به و هما مستلزمان للتركيب و اجتماع المفردات المستلزم لظهور الحاجة إلى المركّب و الجامع و يمتنع على محلّ يظهر حاجته أن يتشبّه به الصانع المطلق البرى‏ء عن الحاجة بوجه ما فقدّمهما لجريانهما مجرى الأوسط في لزوم التركيب للمشبّه به فيظهر تنزيه الإله عن التشبّه به و إن كان التقدير من شبّهك بخلقك في أعضائهم المتباينة المتلاحمة.
و الّذى يقال من وجه الحكمة في احتجاب المفاصل هو أنّها لو خلقت ظاهرة عريّة عن الأغشية ليبست رباطاتها و قست فيتعذّر تصرّف الحيوان بها كما هو الآن و أنّها كانت معرضة للآفات المفسده لها و غير ذلك من خفىّ تدبيره و لطيف حكمته و قد شهد عليه السّلام على المشبّه للّه بخلقه بأمرين: أحدهما: أنّه لم يعرفه، و الثاني: أنّه لم يتيقّن تنزيهه عن المثل. و القرآن و البرهان مصدّقان لشهادته في الموضعين: أمّا القرآن فما نبّه عليه بقوله: و كأنّه لم يسمع تبرّؤ التابعين المتبوعين إذ يقولون الآية، و وجه الاستدلال على المطلوب الأوّل أنّ المشبّهة و عبدة الأصنام ينكشف لهم في الآخرة أنّهم كانوا ضالّين فى تشبيه أصنامهم بربّ العالمين فيترتّب دليل هكذا: المشبّهه ضالّون من جهة تشبيههم اللّه بخلقه و كلّ من كان كذلك فليس بعارف باللّه و المقدّمة الاولى ثابتة بمنطوق الآية، و أمّا الثانية فلأنّه لو كان المشبّه له عارفا به مع تشبيهه له بخلقه لما كان في ضلال مبين من تلك الجهة لكنّه في ضلال مبين من تلك الجهة فإذن هو ليس بعارف له. و أمّا البرهان فلأنّ اللّه سبحانه لمّا تقدّس عن أن يشبه خلقا في شي‏ء كان المشبّه له بخلقة و المكيّف له بكيفيّة يحويها وهمه غير عارف به بل متصوّر لأمر آخر هو في الحقيقة غير الإله، و أمّا صدقه في القضيّة الثانية فلأنّ المشبّه للّه ضالّ من جهة ما هو مشبّه له و كلّ من كان كذلك فليس بمنزّه له عن الندّ و المثل، و صدق الاولى ظاهر من الآية، و أمّا الثانية فلأنّه لو كان منزّها له عن الندّ بكونه مشبّها له لما كان ضالّا من تلك الجهة لكنّه ضالّ منها فليس بمنزّه له عنه، و أمّا البرهان العقلىّ فلأنّ الندّ و المثل هو الشبيه و كلامنا في المشبّه و في الآية تنفير عن مذهب التشبيه بذكر تبرّؤ التابعين ممّن اتّبعوه و شبّهوا به خالقهم، و ندامتهم على تفريطهم في ذلك، و حسرتهم على الرجعى لتدارك الأعمال و الاعتقادات الصالحة، و اعترافهم بأنّهم كانوا بتشبيههم في ضلال مبين.

و قوله: كذب العادلون. إلى قوله: عقولهم.
 تكذيب للعادلين به و أشار إلى تفصيل جهات كونهم عادلين و إلى سبب ذلك و هو الوهم، و قد علمت أنّ منشأ التشبيه هو الوهم إذ كان حكمه لا يترفّع [يرتفع خ‏] عن المحسوسات و ما يتعلّق بها فإنّ حكمه في المجرّدات بحكم قدرها محسوسة ذات أحجام و ألحقها أحكام المحسوس و لذلك لم يترفّع المشبّهة للّه عن تشبيهه بالأصنام و أشخاص الأجسام كصورة الإنسان و أعضائه و كذلك غير عبدة الأوثان من ساير فرق المشبّهة حتّى كانت غاية تنزيه من نزّهه منهم أن توهّمه في جهة فوق و قد علمت أنّ الجهة و الكون من عوارض الأجسام المخلوقة فكانوا عن‏  آخرهم قد تحلّوه حلية المخلوقين و صفاتهم بأوهامهم الفاسدة. فمنهم من أثبت له أعضاء من يدو ساق و عين و وجه و ساير ما ورد في القرآن الكريم و السنّة النبويّة حملا على ظاهرها، و منهم من تجاسر على وصف هيئته فقال: إنّه مجوّف الأعلى عصمت الأسفل و إنّه قطط الشعر إلى غير ذلك من هذياناتهم و كفرهم تعالى اللّه عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا- و تجزيته بخواطرهم تجزية المجسّمات و هى إثباتهم الأعضاء المذكورة و ذلك عن تقديرهم له على الخلقة المختلفة القوى بقرائح عقولهم الجامدة متابعة لأوهامهم الفاسدة و تقليد من سلف من آبائهم فإنّ الأعضاء إنّما تتولّد و تكمل بواسطة قوى طبيعيّة و نباتيّة و حيوانيّة و غيرها و هى قوى مختلفة بحقائقها و متضادّة في أفعالها محتاجه إلى الجامع و المركّب مؤذنة بالإمكان الّذى تنزّه قدس الصانع أن يتطرّق إليه بوجه.

و قوله: و أشهد أنّ من ساواك بشى‏ء من خلقك. إلى قوله: بيّناتك.
 شهادة ثانية على من شبّهه و جعل له مثلا بالكفر و إشارة إلى برهانها بقياس من‏ الشكل الأوّل أسند بيان كبراه إلى كتاب اللّه و نصوص آياته المحكمة، و بيّناته: الأنبياء.
و شواهد حججهم: هى تلك الآيات: أى حججهم الشاهدة هى كقوله تعالى قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً«» و قوله قُلْ أَيُّ شَيْ‏ءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ»«» و الإشراك كفر و نحو ذلك. و أمّا المقدّمة الاولى فلأنّ الشبيه هو المثل و العديل و قد علمت أنّ البرهان العقلىّ ممّا يشهد بصدق هذه الشهادة فإنّ المشبّه للّه بخلقه مع براءته عن شبهيّة الغير إذا اعتقد أنّ ذلك الّذى يشير إليه بوهمه هو صانع العالم فقد اعتقد غير الصانع صانعا و ذلك عين الكفر و الضلال.

و قوله: و إنّك أنت اللّه الّذى لم تتناه في العقول. إلى قوله: مصرّفا.
 شهادة ثالثة هى خلاصة الشهادتين الاوليين بتنزيهه عن تناهيه في العقول البشريّة و أفكارها: أى إحاطتها بحقيقته و ما له من صفات الكمال و نعوت الجلال بحيث لا يكون وراء ما أدركته شي‏ء آخر و تنبيه في هذه الشهادة على ما يلزم ذلك التناهى من كونه ذا كيفيّة تكيّفها له القوى المتخيّلة لتستثبته بها العقول، و مهابّ الفكر جهاتها. فيلزم من ذلك كونه محدودا إذ كانت الحقائق إنّما تدرك بكنهها من حدودها.

و قوله: و مصرّفا
 أى محكوما في ذاته بالتجزية و التحليل و التركيب إذ كان من شأن المحدود ذلك، و لمّا كانت هذه اللوازم باطلة لبرائته عن الكيفيّة و الأجزاء و التركيب كان ملزومها و هو التناهى في العقول باطلا.


الفصل الثالث:

و منها- قَدَّرَ مَا خَلَقَ فَأَحْكَمَ تَقْدِيرَهُ وَ دَبَّرَهُ فَأَلْطَفَ تَدْبِيرَهُ- وَ وَجَّهَهُ لِوِجْهَتِهِ فَلَمْ يَتَعَدَّ حُدُودَ مَنْزِلَتِهِ- وَ لَمْ يَقْصُرْ دُونَ الِانْتِهَاءِ إِلَى غَايَتِهِ- وَ لَمْ يَسْتَصْعِبْ إِذْ أُمِرَ بِالْمُضِيِّ عَلَى إِرَادَتِهِ- فَكَيْفَ وَ إِنَّمَا صَدَرَتِ الْأُمُورُ عَنْ مَشِيئَتِهِ- الْمُنْشِئُ أَصْنَافَ الْأَشْيَاءِ بِلَا رَوِيَّةِ فِكْرٍ آلَ إِلَيْهَا- وَ لَا قَرِيحَةِ غَرِيزَةٍ أَضْمَرَ عَلَيْهَا- وَ لَا تَجْرِبَةٍ أَفَادَهَا مِنْ حَوَادِثِ الدُّهُورِ- وَ لَا شَرِيكٍ أَعَانَهُ عَلَى ابْتِدَاعِ عَجَائِبِ الْأُمُورِ- فَتَمَّ خَلْقُهُ بِأَمْرِهِ وَ أَذْعَنَ لِطَاعَتِهِ وَ أَجَابَ إِلَى دَعْوَتِهِ- لَمْ يَعْتَرِضْ دُونَهُ رَيْثُ الْمُبْطِئِ وَ لَا أَنَاةُ الْمُتَلَكِّئِ- فَأَقَامَ مِنَ الْأَشْيَاءِ أَوَدَهَا وَ نَهَجَ حُدُودَهَا- وَ لَاءَمَ بِقُدْرَتِهِ بَيْنَ مُتَضَادِّهَا- وَ وَصَلَ أَسْبَابَ قَرَائِنِهَا وَ فَرَّقَهَا أَجْنَاساً- مُخْتَلِفَاتٍ فِي الْحُدُودِ وَ الْأَقْدَارِ وَ الْغَرَائِزِ وَ الْهَيْئَاتِ- بَدَايَا خَلَائِقَ أَحْكَمَ صُنْعَهَا وَ فَطَرَهَا عَلَى مَا أَرَادَ وَ ابْتَدَعَهَا

اللغة

أقول: آل: رجع. و أذعن: خضع و ذلّ. و الريث: البطؤ و كذلك الأناة. و المتلكّى التباطؤ عن الأمر و التوقّف فيه. و الأود: الاعوجاج، و بدايا: جمع بدية و هى الخلقة العجيبة.

المعنى

فقوله: قدّر ما خلق فأحكم تقديره.
 إشارة إلى أنّ كلّ مصنوع قدرّة في الوجود فعلى وفق حكمته بحيث لو زاد على ذلك المقدار أو نقص منه لاختلّت مصلحة ذلك المقدّر و تغيّرت منفعته.

و قوله: و دبّره فألطف تدبيره
 إيجاده على وفق المصلحة و لطفه في ذلك تصرّفه في جميع الذوات و الصفات تصرّفات كلّيّة و جزئيّة من غير شعور غيره بذلك.

و قوله: و وجّهه لوجهته. إلى قوله: إلى غايته
 أى ألهم كلّا و يسّره لما خلق له و لما كتب له في اللوح فلم يتجاوز مرسوم تلك المنزلة المعلومة له: أى لم يعبرها و لم يقصر دونها و إلّا لزم التغيّر في علمه سبحانه و إنّه محال.

و قوله: و لم يستعصب إذ امر بالمضىّ على إرادته
 أى لمّا أمر المخلوق بالتوجّه إلى وجهه على وفق إرادة اللّه و ساقت الحكمة الإلهيّة كلّا إلى غايته لم يمكن تخلّفه‏ و استصعابه عن ذلك الأمر، و أمره له إشارة إلى توجيه أسبابه بحسب القضاء الإلهىّ عليه بذلك.

و قوله: و كيف و إنّما صدرت الامور عن مشيئته
 أى و كيف يستعصب. ثمّ أشار إلى علّة عدم استصعابه و سرعة طوعه و انقياده بذكر علّته و هو استناد جميع الآثار إلى مشيئته. إذ كلّ أثر فهو واجب عن مؤثّره و الكلّ منته في سلسلة الحاجة إلى إرادته واجب عنها و قد علم ذلك في العلم الإلهىّ.

و قوله: المنشى‏ء أصناف الأشياء. إلى قوله: عجائب الامور.
 قد سبق في الخطبة الاولى بيان أنّ الرويّة و الفكر و التجربة ممّا يلحق الإنسان و يخصّه و أنّ البارى سبحانه منزّه عن شي‏ء منها في كيفيّة إبداعه لخلقه، و أمّا الشريك فمنزّه عنه ببرهان الوحدانيّة كما سبقت الإشارة إليه أيضا. و قريحة الغريزة قوّة الفكر للعقل.

و قوله: فأتمّ [فتمّ خ‏] خلقه و أذعن لطاعته و أجاب إلى دعوته.
تمام مخلوقاته من جهة جوده بإفادتها ما ينبغي لها فإن عرض لشي‏ء منها فوت كمال فلعدم استعداده و قبوله لذلك و إذعانه ذلّته في رقّ الحاجة و الإمكان و تصريف القدرة و إجابته إلى دعوته كونه في الوجود عن قوله: لكِنْ.

و قوله: و لم يعترض دونه ريث المبطئ و لا أناة المتلكّى‏ء.
 تنزيه لفعله تعالى و أمره أن يعرض في طاعة الأشياء له شي‏ء من هذه الكيفيّات إذ كلّ شي‏ء في قهره و على غايه من السرعة إلى إجابة أمره و لما كان تعالى إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، و في قوله كن هبة ما ينبغي لذلك المأمور و ما يعدّه لإجابة أمره بالكون في الوجود و يجب عنه فكيف يمكن أن يعرض له في إجابة الأمر بطوء أو تلكّى‏ء بل يكون كلمح البصر كما قال تعالى وَ ما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ و يحتمل أن يكون ذلك تنزيها له تعالى أن يعرض له من جهة ما هو فاعل شي‏ء من هذه الكيفيّات فإنّ البطؤ و الأناة و التلكّى‏ء من عوارض الحركة الّتى هى من عوارض الجسم، و اعتراضها فيمن يفعل بالآلة و تشتدّ حركته و تضعف، و قد علمت تنزيه اللّه تعالى عن‏ جميع ذلك.

و قوله: فأقام من الأشياء أودها. إلى قوله: و الهيئات.
 إقامته لأودها رفعه لاعوجاج كلّ شي‏ء بإعداده لما ينبغي له و إفاضة كماله، و نهجه لجددها أو لحدودها على الروايتين هو ايضاحه لكلّ شي‏ء و جهته و غايته الّتى تيسّرها له، و ملائمته بين متضادّها كجمعه العناصر الأربعة على تضادّ كيفيّاتها في مزاج واحد و قد سبق بيانه، و وصله لأسباب قرائنها إشارة إلى أنّ الموجودات لا تنفكّ عن أشياء تقترن بها من هيئة أو شكل أو غريزة و نحوها و اقتران الشيئين لا محالة مستلزم لاقتران أسبابهما و اتّصالهما لاستحالة قيام الموجود بدون أسبابه، و ذلك الوصل مستند إلى كمال قدرته إذ هو مسبّب الأسباب. و قال بعض الشارحين: أراد بالقرائن النفوس. و على هذا يحتمل أن يكون معنى وصله لأسبابها هدايتها إلى عبادته و ما هو الأولى بها في معاشها و معادها و سوقها إلى ذلك إذ المفهوم من قول القائل: وصل الملك أسباب فلان. إذا علّقه عليه و وصله إلى برّه و إنعامه، و الأوّل أظهر.

و قوله. و فرّقها أجناسا مختلفات في الحدود و الأقدار و الغرائز و الهيئات.

لا يريد بالأجناس و الحدود ما اصطلح عليه قوم في عرفهم بل ما اختلف بالامور المذكورة كلّها أو بعضها فهو مختلف الجنس لغة، و حدّ الشي‏ء منتهاه و ما يحيط به، و الأقدار المقادير و الأشكال أيضا، و الغرائز القوى النفسانيّة و الأخلاق و الهيئات و الصفات. و إن حملنا الحدود على ما هو المتعارف كان حسنا فإنّ حكمة الخالق سبحانه اقتضت تميّز بعض الموجودات عن غيرها بحدودها و حقايقها و بعضها بأشكالها و هيئاتها و مقاديرها و غرائزها و أخلاقها كما يقتضيه نظام الوجود و أحكام الصنع و حكم الإرادة الإلهيّة.

و قوله: بدا يا خلايق أحكم صنعها و فطرها على ما أراد و ابتدعها.
أى هى بدايا: أى عجائب مخلوقات أحكم صنعها على وفق إرادته. و باللّه التوفيق.

الفصل الرابع منها فى صفة السماء:

وَ نَظَمَ بِلَا تَعْلِيقٍ رَهَوَاتِ فُرَجِهَا- وَ لَاحَمَ صُدُوعَ انْفِرَاجِهَا وَ وَشَّجَ بَيْنَهَا وَ بَيْنَ أَزْوَاجِهَا- وَ ذَلَّلَ لِلْهَابِطِينَ بِأَمْرِهِ- وَ الصَّاعِدِينَ بِأَعْمَالِ خَلْقِهِ حُزُونَةَ مِعْرَاجِهَا- وَ نَادَاهَا بَعْدَ إِذْ هِيَ دُخَانٌ فَالْتَحَمَتْ عُرَى أَشْرَاجِهَا- وَ فَتَقَ بَعْدَ الِارْتِتَاقِ صَوَامِتَ أَبْوَابِهَا- وَ أَقَامَ رَصَداً مِنَ الشُّهُبِ الثَّوَاقِبِ عَلَى نِقَابِهَا- وَ أَمْسَكَهَا مِنْ أَنْ تُمُورَ فِي خَرْقِ الْهَوَاءِ بِأَيْدِهِ- وَ أَمَرَهَا أَنْ تَقِفَ مُسْتَسْلِمَةً لِأَمْرِهِ- وَ جَعَلَ شَمْسَهَا آيَةً مُبْصِرَةً لِنَهَارِهَا- وَ قَمَرَهَا آيَةً مَمْحُوَّةً مِنْ لَيْلِهَا- وَ أَجْرَاهُمَا فِي مَنَاقِلِ مَجْرَاهُمَا- وَ قَدَّرَ سَيْرَهُمَا فِي مَدَارِجِ دَرَجِهِمَا- لِيُمَيِّزَ بَيْنَ اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ بِهِمَا- وَ لِيُعْلَمَ عَدَدُ السِّنِينَ وَ الْحِسَابُ بِمَقَادِيرِهِمَا- ثُمَّ عَلَّقَ فِي جَوِّهَا فَلَكَهَا وَ نَاطَ بِهَا زِينَتَهَا- مِنْ خَفِيَّاتِ دَرَارِيِّهَا وَ مَصَابِيحِ كَوَاكِبِهَا- وَ رَمَى مُسْتَرِقِي السَّمْعِ بِثَوَاقِبِ شُهُبِهَا- وَ أَجْرَاهَا عَلَى أَذْلَالِ تَسْخِيرِهَا مِنْ ثَبَاتِ ثَابِتِهَا- وَ مَسِيرِ سَائِرِهَا وَ هُبُوطِهَا وَ صُعُودِهَا وَ نُحُوسِهَا وَ سُعُودِهَا

اللغة

أقول: الرهوات: جمع رهوة و هى الفرجة المتّسعة. و أيده: قوّته، و بايدة: هالكة. و مار: تتحرّك. و ناط: علق و الصدوع: الشقوق. و وشّج بالتشديد: أي شبّك. و الحزونة: الصعوبة. و الأشراج: جمع شرج بالفتح و هى عرى العيبة الّتى تخاط بها و تنقل و يطلق أيضا على حروفها الّتى تخاط. و الارتتاق: الالتصاق و النقاب: جمع نقب بفتح النون و هو الطريق في الجبل. و الدرارى: الكواكب المضيئه.

و هذا الفصل يشتمل على كيفيّة خلق السماء

فقوله: و نظم بلا تعليق. إلى قوله: انفراجها
 انفراجها يقتضى بظاهره أنّ السماء كانت ذات فرج و صدوع، و هذا على رأى المتكلّمين ظاهر فإنّ الأجسام لمّا كانت عندهم مركّبة من الأجزاء الّتى لا تتجزّى‏ء كانت قبل تأليفها ذات فرج و صدوع، و أمّا على رأى غيرهم فقالوا: يحتمل أمرين: أحدهما: أنّه لمّا كانت السماوات مركّبة من أجزاء و كانت بين أجزاء كلّ مركّب مباينة لولا المركّب و المؤلّف استعار عليه السّلام لفظ الرهوات و الفرج لما يتصوّر من المباينة بين أجزاء السماء عند قطع النظر عن صانعها و مركّبها سبحانه، و نظامه لرهوات فرجها إفاضته لصورها على قوابلها حتّى تمّت مركّبا منتظما متلاحم الصدوع و الفرج، و الثاني: يحتمل أن يشير بالفرج إلى ما بين أطباق السماوات من التباين، و نظمه لرهواتها و ملاحمة صدوعها خلقها اكرا متماسّة لا خلاء بينها، و نبّه على كمال قدرة اللّه تعالى بقوله: بلا تعليق. فإنّ الأوهام حاكمة بأنّ السماء واقفة في خلاء كما يقف الحجر في الهواء و ذلك منشأ حيرتها و تعجّبها فحرّكها بذلك القول إلى التعجّب و الاستعظام.

و قوله: و وشّج بينها و بين أزواجها.
 أراد بأزواجها نفوسها الّتى هى الملائكة السماويّة بمعنى قرائنها و كلّ قرين زوج: أى ربط ما بينها و بين نفوسها بقبول كلّ جرم سماوىّ لنفسه الّتى لا يقبلها غيره.

و قوله: و ذلّل للهابطين بأمره. إلى قوله: انفراجها.
 قد سبقت الإشارة إلى أنّ الملائكة ليست أجساما كساير الحيوان فإذن ليس هبوطها و صعودها الهبوط و الصعود المحسوسين و إلّا لكان البارى- جلّ قدسه عن أوهام المتوهّمين- في جهة إليه يصعد و عنه ينزل فإذن هو استعارة لفظ النزول من الجهة المحسوسة إلى أسفل لنزول العقول من سماء الجود الإلهىّ إلى أراضى الموادّ القابلة للإفاضات العالية، و بذلك المعنى يكون هبوط الملائكة عبارة عن إيصالها إلى كلّ ما دونها كماله متوسّطة بينه و بين مبدعه و موجده و هم المرسلون من الملائكة بالوحى و غيره و كذلك الصاعدون بأعمال الخلق هم الملائكة أيضا، و أمّا معنى الصعود بها فيعود إلى كونها منقوشة في ذوات الصاعدين بها، و قد لاح فيما سبق أنّ علمه تعالى بمعلولاته البعيدة كالزمانيّات و المعدومات الّتى من شأنها أن توجد في وقت و تتعلّق بزمان يكون بارتسام صورها المعقولة في تلك الألواح، و هو أيضا مستعار كلفظ الهبوط للمعنى الّذى ذكرناه من أراضى النفوس إلى الألواح المحفوظة. فأمّا الانفراج الّذى ذلّل حزونته لهم و سهل عليهم سلوكه فيعود إلى عدم حجبها و منعها لنفوذ علوم الملائكة بأعمال الخلايق و ما يحرى في هذا العالم و كما أنّ الجسم المتصدّع لا يمنع نفوذ جسم آخر فيه من حيث هو متصدّع و الوصول إلى ما رواءه كذلك السماء لا تحجب علوم الملائكة أن تتعلّق بما في هذا العالم من الموجودات فجرت مجرى المنفرح من الأجسام فاطلق عليه لفظ الانفراج و تذليله لحزونة ذلك الانفراج لهم هو كونها غير مانعة بوجه ما لجريان علوم الملائكة المقرّبين في هذا العالم.

و قوله: و ناداها بعد إذ هى دخان فالتحمت عرى أشراجها و افتتق بعد الارتتاق صوامت أبوابها.
 فيه احتمالان: الأوّل: أنّك قد علمت ممّا سبق ما معنى كون السماء من دخان فأمّا نداؤه لها فإشارة إلى أمره لها بالإتيان و الكون في قوله تعالى فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ«» و أمّا التحامها فاعتبار تركيبها بانضمام جزئها الصورىّ إلى جزئها القابل كما يلتحم طرفا العيبة بتشريج عراها، و افتتاق صوامت أبوابها بعد ذلك الارتتاق هو جعلها أسبابا لنزول رحمته و مدبّرات تنزل بواسطة حركاتها على هذا العالم أنواع رحمة اللّه فكانت حركاتها تشبه الأبواب إذ هى أبواب رحمته و مفاتيح جوده. الثاني: أنّ العرب تقول لكلّ ما علاك: فهو سماؤك. فعلى هذا يحتمل أن يكون المراد بالسماء ما هو أعمّ من السماء المعهودة، و يكون قوله: و ناداها إشارة إلى سماء السحاب و كونها دخانا هو كونها بخارا قبل الانعقاد يشبه الدخان فاستعير له لفظه و التحام عرى أشراجها إشارة إلى التحام تلك الأجزاء البخاريّة و انعقادها سحابا و افتتاق صوامت أبوابها هو إنزال المطر منها كما. قال تعالى: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ«».

و قوله: و أقام رصدا من الشهب الثواقب على نقابها.
 له معنيان: أحدهما: أن يكون استعار لفظ النقاب لكونها بحيث لا يمنع تعلّق العلوم بما ورائها من الأجسام و المجرّدات، و قد سبق معنى الشهب و إقامتها رصدا. الثاني: أن‏ يكون استعار لفظ الرصد لهذه الشهب المحسوسة و رشّح بذكر النقاب إذ شأن الرصد و الحرسة حفظ الفرج و الأبواب، و يكون سرّ ذلك و وجه الحكمة فيه أنّ العرب كانت تعتقد أنّ الشياطين تصعد إلى السماء فتسترق الغيب من الملائكة ثمّ تلقيه إلى الكهنة و السحرة و نحوهم فلمّا آن دور الستر و النهى عن التكهّن و نحوه لما بيّنا فيه من فساد أذهان الخلق و صرف قلوبهم عن غرض الشريعة ألقى الوحى إليهم أنّ هذه الشهب الّتى تنقضّ إنّما جعلت رجوما للشياطين مسترقى السمع كلّ من استمع منهم رمى بشهاب منها و حجبت السماوات عنهم فلا يصلون إليها لينغرس في أذهان الخلق انقطاع مادّة الكهانة و نحوها فنسبوا اعتقادهم فيه فيكون ذلك كسرا لأوهامهم الّتى بيّنا أنّها شياطين النفوس و قمعا لها. و باللّه التوفيق.

و قوله: و أمسكها من أن تمور في خرق الهواء بأيده و أمرها أن تقف مستسلمة لأمره.
أى حفظها عن أن تحرّكها الريح المخترعة فيها مجيئا و ذهابا و حكمت الحكمة الإلهيّة عليها بالاستقرار انقيادا لقهره، و الأمر الأوّل إشارة إلى حكم القضاء، و الأمر الثاني إشارة إلى اعتبار القدرة.

و قوله: و جعل شمسها آية مبصرة لنهارها و قمرها آية ممحوّة من ليلها.

كقوله تعالى وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً«» و كونهما آيتين: أى لدلالتهما على كمال قدرته، و نقل عن أئمّة التفسير في إبصار آية النهار و محو آية الليل وجوه: أحدها: أنّ إبصار آية النهار هو بقاء الشمس بحالها و تمام ضيائها في كلّ حال، و محو آية الليل هو اختلاف أحوال القمر في إشراقه و محاقه بحيث لا يبقى ليلتين على حالة واحدة بل كلّ ليلة في منزل بزيادة أو نقصان. الثاني: ما نقل أن ابن الكوّاء سئل عليّا عليه السّلام عن اللطخة الّتى في وجه القمر فقال: ذلك محو آية الليل. الثالث: عن ابن كثير: أنّ الآيتين هما ظلمة الليل و ضياء النهار، و التقدير و جعلنا الليل و النهار ذوى آيتين فقوله: فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ: أى لم نجعل للقمر نورا من ذاته بل من ضوء الشمس، و إبصار آية النهار كون الشمس مضيئة بذاتها و من هنا لابتداء الغاية أو لبيان الجنس متعلّق بممحوّة أو بجعل، و قيل: أراد من آيات ليلها.

و قوله: فأجراهما في مناقل مجراهما و قدّر سيرهما في مدارج درجهما.
 الّتى قدّر سيرهما فينا هى بروجهما و منازلهما. و لنشر إلى مفهومات الدرج و البروج و المنازل و هو أنّ الناس قسموا دور الفلك الّذى يسير منه الكواكب باثنى عشر قسما و سمّوا كلّ قسم برجا و قسّموا كلّ برح قسما و سمّوا كلّ قسم درجة و سمّوا تلك البروج أسماء: الحمل الثور الجوزاء السرطان الأسد السنبلة الميزان العقرب القوس الجدى الدلو الحوت.
و الشمس تسير كلّ برج منها في شهر واحد، و القمر يسير كلّ برج منها في أزيد من يومين و نقص من ثلاثة أيّام، و أمّا منازل القمر فثمانية و عشرون و أسماؤها: الشرطين البطين الثريّا الدبران الهقعة الهنعة الذراع النثرة الطرفة الجبهة الزبرة الصرفة العوا. السماك الغفر الزبانا الاكليل القلب الشولة النعايم البلدة سعد الذابح سعد بلع سعد السعود سعد الأخبية الفرغ المقدّم الفرغ المؤخّر الرشاء.
و القمر يكون كلّ يوم في منزل منها وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ… ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.

و قوله: ليميّز بين الليل و النهار. إلى قوله: بمقاديرهما.
 أى بمقادير سيرهما، و قد سبق بيانه في الخطبة الاولى.

و قوله: ثم علّق في جوّها فلكها.
 لمّا أشار أوّلا إلى تركيبها أشار إلى إقرارها في أحيازها و هو المشار إليه بتعليق فلكها في جوّها.
فإن قلت: فقد قال أوّلا: بلا تعليق ثمّ قال هاهنا: و علّق. فما وجه الجمع.قلت: التعليق أمر إضافيّ يصدق سلبه و إثباته باعتبارين: فالمراد بالأوّل أنّها غير معلّقة بجسم آخر فوقها، و بالثانى أنّه علّقها في جوّها بقدرته. و لا منافاة، و أراد بالفلك اسم الجنس و هو أجسامها المستديرة الّتى يصدق عليها هذا الاسم.

و قوله: و ناط بها زينتها من خفيّات دراريها و مصابيح كواكبها.
 كقوله تعالى وَ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ«» و رمى مسترقى السمع بثواقب شهبها كقوله تعالى فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ و قد تقدّم بيانه، و إنّما أعاد ذكر الشهب لأنّه ذكر أوّلا أنّه أقامها رصدا و ذكر هنا أنّه جعلها رصدا له: أى لرقى مسترقى السمع بها.

و قوله: و أجراها على إذلال تسخيرها.
 كقوله تعالى وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ«» و الذلّة: ذلّة الإمكان و الحاجة إلى الإيجاد و التدبير. و أمّا الثابت و السائر منها فالساير: هى الكواكب السبعة: زحل و المشترى و المرّيخ و الشمس و الزهرة و عطارد و القمر.
و يسمّى الشمس و القمر بالنيّرين و الخمسة الباقية بالمتحيّرة لأنّ لكلّ واحد منها استقامة ثمّ وقوفا ثمّ رجوعا ثم وقوفا ثانيا ثمّ عودا إلى الاستقامة، و ليس للنيّرين غير الاستقامة. و باقى الكواكب الّتى على السماء غير هذه السبعة تسمّى بالثوابت و فلكها الثامن و كلّ واحد من السبعة يتحرّك حركة مخصوصة يخالف حركة الآخر. فأمّا صعودها و هبوطها: فصعودها طلبها لشرفها و شرف الشمس في الدرجة التاسعة عشر من الحمل، و شرف القمر في الدرجة الثالثة من الثور، و شرف زحل في الحادية و العشرين من الميزان، و شرف المشترى في الخامسة عشر من السرطان، و شرف المرّيخ في الثامنة و العشرين من الجدى، و شرف الزهرة في السابعة و العشرين من الحوت، و شرف عطارد في الخامسة و العشرين من السنبلة، و شرف الرأس في الثالثة من الجوزا، و شرف الذنب في الثالثة من القوس، و برج الشرف كلّه شرف إلّا أنّ تلك الدرجات قويّة فما دام الكواكب متوجّها إلى قوّة الشرف فهو في الازدياد و الصعود فإذا جاز صار في الانتقاص و الهبوط. و هبوط كلّ كوكب يقابل شرفه و صعوده، و أمّا نحوسها و سعودها فقالوا: زحل و المرّيخ نحسان أكبرهما زحل، و المشترى و الزهرة سعدان أكبرهما المشترى، و عطارد سعد مع السعود و نحس مع النحوس، و النيّران سعدان من التثليت و التسديس نحسان من المقابلة و التربيع و المقاربة، و الرأس سعد، و الذنب و الكبد نحسان، و معنى سعودها و نحوسها كون اتّصالاتها أسبابا لصلاح حال شي‏ء من الأشياء من أحوال هذا العالم. و باللّه التوفيق

الفصل الخامس و منها فى صفة الملائكة:

ثُمَّ خَلَقَ سُبْحَانَهُ لِإِسْكَانِ سَمَاوَاتِهِ- وَ عِمَارَةِ الصَّفِيحِ الْأَعْلَى مِنْ مَلَكُوتِهِ- خَلْقاً بَدِيعاً مِنْ مَلَائِكَتِهِ- وَ مَلَأَ بِهِمْ فُرُوجَ فِجَاجِهَا وَ حَشَا بِهِمْ فُتُوقَ أَجْوَائِهَا- وَ بَيْنَ فَجَوَاتِ تِلْكَ الْفُرُوجِ زَجَلُ الْمُسَبِّحِينَ- مِنْهُمْ فِي حَظَائِرِ الْقُدُسِ- وَ سُتُرَاتِ الْحُجُبِ وَ سُرَادِقَاتِ الْمَجْدِ- وَ وَرَاءَ ذَلِكَ الرَّجِيجِ الَّذِي تَسْتَكُّ مِنْهُ الْأَسْمَاعُ- سُبُحَاتُ نُورٍ تَرْدَعُ الْأَبْصَارَ عَنْ بُلُوغِهَا- فَتَقِفُ خَاسِئَةً عَلَى حُدُودِهَا- . وَ أَنْشَأَهُمْ عَلَى صُوَرٍ مُخْتَلِفَاتٍ وَ أَقْدَارٍ مُتَفَاوِتَاتٍ- أُولِي أَجْنِحَةٍ تُسَبِّحُ جَلَالَ عِزَّتِهِ- لَا يَنْتَحِلُونَ مَا ظَهَرَ فِي الْخَلْقِ مِنْ صُنْعِهِ- وَ لَا يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَخْلُقُونَ شَيْئاً مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ- بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ- جَعَلَهُمُ اللَّهُ فِيمَا هُنَالِكَ أَهْلَ الْأَمَانَةِ عَلَى وَحْيِهِ- وَ حَمَّلَهُمْ إِلَى الْمُرْسَلِينَ وَدَائِعَ أَمْرِهِ وَ نَهْيِهِ- وَ عَصَمَهُمْ مِنْ رَيْبِ الشُّبُهَاتِ- فَمَا مِنْهُمْ زَائِغٌ عَنْ سَبِيلِ مَرْضَاتِهِ- وَ أَمَدَّهُمْ بِفَوَائِدِ الْمَعُونَةِ- وَ أَشْعَرَ قُلُوبَهُمْ تَوَاضُعَ إِخْبَاتِ السَّكِينَةِ- وَ فَتَحَ لَهُمْ‏ أَبْوَاباً ذُلُلًا إِلَى تَمَاجِيدِهِ- وَ نَصَبَ لَهُمْ مَنَاراً وَاضِحَةً عَلَى أَعْلَامِ تَوْحِيدِهِ- لَمْ تُثْقِلْهُمْ مُؤْصِرَاتُ الْآثَامِ- وَ لَمْ تَرْتَحِلْهُمْ عُقَبُ اللَّيَالِي وَ الْأَيَّامِ- وَ لَمْ تَرْمِ الشُّكُوكُ بِنَوَازِعِهَا عَزِيمَةَ إِيمَانِهِمْ- وَ لَمْ تَعْتَرِكِ الظُّنُونُ عَلَى مَعَاقِدِ يَقِينِهِمْ- وَ لَا قَدَحَتْ قَادِحَةُ الْإِحَنِ فِيمَا بَيْنَهُمْ- وَ لَا سَلَبَتْهُمُ الْحَيْرَةُ مَا لَاقَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِضَمَائِرِهِمْ- وَ مَا سَكَنَ مِنْ عَظَمَتِهِ وَ هَيْبَةِ جَلَالَتِهِ فِي أَثْنَاءِ صُدُورِهِمْ- وَ لَمْ تَطْمَعْ فِيهِمُ الْوَسَاوِسُ فَتَقْتَرِعَ بِرَيْنِهَا عَلَى فِكْرِهِمْ- وَ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِي خَلْقِ الْغَمَامِ الدُّلَّحِ- وَ فِي عِظَمِ الْجِبَالِ الشُّمَّخِ وَ فِي قَتْرَةِ الظَّلَامِ الْأَيْهَمِ- وَ مِنْهُمْ مَنْ قَدْ خَرَقَتْ أَقْدَامُهُمْ تُخُومَ الْأَرْضِ السُّفْلَى- فَهِيَ كَرَايَاتٍ بِيضٍ قَدْ نَفَذَتْ فِي مَخَارِقِ الْهَوَاءِ- وَ تَحْتَهَا رِيحٌ هَفَّافَةٌ- تَحْبِسُهَا عَلَى حَيْثُ انْتَهَتْ مِنَ الْحُدُودِ الْمُتَنَاهِيَةِ- قَدِ اسْتَفْرَغَتْهُمْ أَشْغَالُ عِبَادَتِهِ- وَ وَصَلَتْ حَقَائِقُ الْإِيمَانِ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَعْرِفَتِهِ- وَ قَطَعَهُمُ الْإِيقَانُ بِهِ إِلَى الْوَلَهِ إِلَيْهِ- وَ لَمْ تُجَاوِزْ رَغَبَاتُهُمْ مَا عِنْدَهُ إِلَى مَا عِنْدَ غَيْرِهِ- قَدْ ذَاقُوا حَلَاوَةَ مَعْرِفَتِهِ- وَ شَرِبُوا بِالْكَأْسِ الرَّوِيَّةِ مِنْ مَحَبَّتِهِ- وَ تَمَكَّنَتْ مِنْ سُوَيْدَاءِ قُلُوبِهِمْ وَشِيجَةُ خِيفَتِهِ- فَحَنَوْا بِطُولِ الطَّاعَةِ اعْتِدَالَ ظُهُورِهِمْ- وَ لَمْ يُنْفِدْ طُولُ الرَّغْبَةِ إِلَيْهِ مَادَّةَ تَضَرُّعِهِمْ- وَ لَا أَطْلَقَ عَنْهُمْ عَظِيمُ الزُّلْفَةِ رِبَقَ خُشُوعِهِمْ- وَ لَمْ يَتَوَلَّهُمُ الْإِعْجَابُ فَيَسْتَكْثِرُوا مَا سَلَفَ مِنْهُمْ- وَ لَا تَرَكَتْ‏ لَهُمُ اسْتِكَانَةُ الْإِجْلَالِ- نَصِيباً فِي تَعْظِيمِ حَسَنَاتِهِمْ- وَ لَمْ تَجْرِ الْفَتَرَاتُ فِيهِمْ عَلَى طُولِ دُءُوبِهِمْ- وَ لَمْ تَغِضْ رَغَبَاتُهُمْ فَيُخَالِفُوا عَنْ رَجَاءِ رَبِّهِمْ- وَ لَمْ تَجِفَّ لِطُولِ الْمُنَاجَاةِ أَسَلَاتُ أَلْسِنَتِهِمْ- وَ لَا مَلَكَتْهُمُ الْأَشْغَالُ فَتَنْقَطِعَ بِهَمْسِ الْجُؤَارِ إِلَيْهِ أَصْوَاتُهُمْ- وَ لَمْ تَخْتَلِفْ فِي مَقَاوِمِ الطَّاعَةِ مَنَاكِبُهُمْ- وَ لَمْ يَثْنُوا إِلَى رَاحَةِ التَّقْصِيرِ فِي أَمْرِهِ رِقَابَهُمْ- . وَ لَا تَعْدُو عَلَى عَزِيمَةِ جِدِّهِمْ بَلَادَةُ الْغَفَلَاتِ- وَ لَا تَنْتَضِلُ فِي هِمَمِهِمْ خَدَائِعُ الشَّهَوَاتِ- قَدِ اتَّخَذُوا ذَا الْعَرْشِ ذَخِيرَةً لِيَوْمِ فَاقَتِهِمْ- وَ يَمَّمُوهُ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْخَلْقِ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ بِرَغْبَتِهِمْ- لَا يَقْطَعُونَ أَمَدَ غَايَةِ عِبَادَتِهِ- وَ لَا يَرْجِعُ بِهِمُ الِاسْتِهْتَارُ بِلُزُومِ طَاعَتِهِ- إِلَّا إِلَى مَوَادَّ مِنْ قُلُوبِهِمْ غَيْرِ مُنْقَطِعَةٍ مِنْ رَجَائِهِ وَ مَخَافَتِهِ- لَمْ تَنْقَطِعْ أَسْبَابُ الشَّفَقَةِ مِنْهُمْ فَيَنُوا فِي جِدِّهِمْ- وَ لَمْ تَأْسِرْهُمُ الْأَطْمَاعُ- فَيُؤْثِرُوا وَشِيكَ السَّعْيِ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ- لَمْ يَسْتَعْظِمُوا مَا مَضَى مِنْ أَعْمَالِهِمْ- وَ لَوِ اسْتَعْظَمُوا ذَلِكَ لَنَسَخَ الرَّجَاءُ مِنْهُمْ شَفَقَاتِ وَجَلِهِمْ- وَ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي رَبِّهِمْ بِاسْتِحْوَاذِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ- وَ لَمْ يُفَرِّقْهُمْ سُوءُ التَّقَاطُعِ وَ لَا تَوَلَّاهُمْ غِل‏ التَّحَاسُدِ- وَ لَا تَشَعَّبَتْهُمْ مَصَارِفُ الرِّيَبِ- وَ لَا اقْتَسَمَتْهُمْ أَخْيَافُ الْهِمَمِ- فَهُمْ أُسَرَاءُ إِيمَانٍ لَمْ يَفُكَّهُمْ مِنْ رِبْقَتِهِ زَيْغٌ وَ لَا عُدُولٌ- وَ لَا وَنًى وَ لَا فُتُورٌ- وَ لَيْسَ فِي أَطْبَاقِ السَّمَاءِ مَوْضِعُ إِهَابٍ‏ إِلَّا وَ عَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ- أَوْ سَاعٍ حَافِدٌ يَزْدَادُونَ عَلَى طُولِ الطَّاعَةِ بِرَبِّهِمْ عِلْماً- وَ تَزْدَادُ عِزَّةُ رَبِّهِمْ فِي قُلُوبِهِمْ عِظَماً

اللغة

أقول: الصفيح: السطح. و الفجاج: الطريق الواسع. و الجوّ: المكان المتّسع العالى. و الفجوة: الفرجة. و الزجل: الأصوات. و السرادق: الستر الّذى يمدّ فوق البيت. و الرجيج: الزلزلة و الاضطراب. و تستكّ الأسماع: تصمّ. و خاسئة: متحيّرة و الإخبات: التذلّل و الاستكانة. و ذللا: سهلة. و الموصرات: المثقلات. و العقب: جمع عقبة و هى المدّة من التعاقب: و النوازغ بالغين المعجمة: المفسدة. و بالمهملة القسىّ. و الإحن: جمع أحنة و هى الحقد. و لاق: التصق. و أثناء: جمع ثنى و هى تضاعيف الشي‏ء. و الرين: الغلبة و التغطية. و الدلّح: جمع دالحة و هى الثقال. و الشمّخ: العالية. و قترة الظلام: سواده و الأبهم: الّذي لا يهتدى فيه. و التخوم جمع تخم بفتح التاء و هى منتهى الأرض و حدودها. و الريح الهفّافة: الساكنة الطيّبة و الوشيجة: عروق الشجرة. و الربق: جمع ربقة و هى الحلقة من الحبل، و الدؤوب: الجدّ في العمل. و الأسلة: طرف اللسان. و الجؤار: رفع الصوت بالدعاء و نحوه. و الهمس: الخفىّ من الصوت. و الانتضال: الرمى بالسهم. و استهتر بالأمر: أعجبه و تظاهر به. و شيك السعى: مرتبته. و النسخ: الإزالة و الاستحواذ على الشي‏ء: الإحاطة و الغلبة عليه. و أخياف الهمم. مختلفاتها واحده أخيف و الحفد: السرعة.

و اعلم أنّ هذا الفصل يشتمل على وصف الملائكة
الّذين هم أشرف الموجودات الممكنة بكمال العبوديّة للّه إذ كان في معرض تمجيده و وصف عظمته، و قد سبق ذكر أنواع الملائكة و إسكانهم أطباق السماوات، و بيّنا مقاصده بقدر الإمكان. و لنشر هاهنا إلى ما يختصّ بهذا الموضع من المباحث:
الأوّل: ثمّ خلق سبحانه إلى قوله: من الملائكة
يحتمل أن يشير بالصفيح الأعلى إلى الفلك التاسع و هو العرش لكونه أعظم الأجرام و أعلاها و سكّانه الملائكة المدبّرون له، و يحتمل أن يريد به محلّ عبادة الملائكة من حضرت جلال ربّ العالمين و عالم الملكوت‏ و مقعدهم الصدق من معرفته فإنّ خلقهم إنّما كان لعمارة ذلك المحلّ و هو البيت المعمور بجلال اللّه و عبادتهم له، و لمّا كانوا من أشرف الموجودات كانوا هم الخلق البديع التامّ المعجب.

الثاني: ملأ بهم فروج فجاجها و حشا بهم فتوق أجوائها
استعار لفظ الفروج و الفجاج و الفتوق لما يتصوّر بين أجزاء الفلك من التباين لولا الملائكة الّذين هم أرواح الأفلاك و بهم قام وجودها و بقاء جواهرها محفوظة بهم. و وجه المشابهة ظاهر، و رشّح تلك الاستعارة بذكر المل‏ء و الحشو، و أمّا فجاجها و فروجها فإشارة إلى ما يعقل بين أجزائها و أجوائها المنتظمة على التباين لولا الناظم لها بوجود الملائكة فيكون حشو تلك الفرج بالملائكة كناية عن نظامها بوجودها و جعلها مدبّرة لها.

الثالث: و بين فجوات تلك الفروج. إلى قوله: المجد.
استعار لفظ الزجل لكمال عبادتهم كما أنّ كمال الرجل في رفع صوته بالتضرّع و التسبيح و التهليل و كذلك لفظ الحظائر لمنازل الملائكة من عالم الغيب و مقامات عبادتهم، و ظاهر كونها حظاير القدس لطهارتها و براءتها عن نجاسات الجهل و النفس الأمّارة بالسوء، و كذلك استعار لفظ سترات الحجب و السرادقات لما نبّهنا عليه من حجب النور الّتى حجبت بها عن الأذهان أو لتجرّدهم عن الموادّ و الأوضاع المحسوسة، و وجه المشابهة كونهم محتجبين بذلك عن رؤية الأبصار و الأوهام. و ظاهر كون تلك الحجب سرادقات المجد لكمال ذواتهم و شرفهم بها على من دون تلك الحجب.

الرابع: و وراء ذلك الرجيج الّذى تستكّ. إلى قوله: حدودها.
استعار لفظ الرجيج لعبادات الملائكة كما استعار لفظ الزجل و رشّح استعارة الرجيج بقوله: تستكّ منه الأسماع و كنّى به من كمال عبادتهم، و يحتمل أن يشير بذلك الزجل و الرجيج إلى ما يسمعه الأنبياء من أصوات الملائكة كما علمت كيفيّته في سماع الوحي و بيّناه في المقدّمة و أشار بسبحات النور الّتى وراء ذلك الرجيج إلى جلال وجه اللّه و عظمته و تنزيهه أن يصل إليه أبصار البصائر، و نبّه بكون ذلك وراء رجيجهم إلى أنّ معارفهم لا تتعلّق به كما هو، بل وراء علومهم و عباداتهم أطوار اخرى من جلاله تقصر معارفهم عنها و تردع أبصار البصائر عن إدراكها فترجع حسيرة متحيّرة واقفة عند حدودها و غاياتها من الإدراك.

الخامس: أنشأهم على صور مختلفات. إلى قوله: عزّته.
اختلاف صورهم كناية عن اختلافهم بالحقايق و تفاوت أقدارهم تفاوت مراتبهم في الكمال و القرب منه و لفظ الأجنحة مستعار لقواهم الّتى بها حصلوا على المعارف الإلهيّة و تفاوتها بالزيادة و النقصان كما قال تعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ جاعِلِ«» كناية عن تفاوت إدراكهم لجلال اللّه و علومهم بما ينبغي له و لذلك جعل الأجنحة هى الّتى تسبّح جلال عزّته فإنّ علمهم بجلاله منزّه عمّا لا ينبغي لكرم وجهه و لا يناسب جلال عزّته.

السادس: لا ينتحلون إلى قوله: يعملون
أى لا ينسون بعض مصنوعاته إلى قدرهم و إن كانوا وسايط فيها و لا يدّعون أنّهم يقدرون على شي‏ء منها إلّا بإقداره لهم، بل غايتهم أنّهم وسائط في إفاضة الجود على مستحقّه و ما لم يجعلهم وسائط فيه بل انفرد بذاته في إبداعه فلا يدّعون القدرة عليه أصلا و ذلك لكمال معارفهم بأقدارهم و نسبتهم إلى بارئهم و قد أكرمهم اللّه تعالى بالتقديس عن النفوس الأمّارة بالسوء الّتى هى مبدء مخالفة أمره و الخروج عن طاعته.

السابع: جعلهم فيما هنا لك. إلى قوله: و نهيه
أى في مقاماتهم من حضرة قدسه.
و قد سبقت الإشارة إلى كلّ ذلك في الخطبة الاولى.

الثامن: و عصمهم. إلى قوله: مرضاته
منشأ الشكوك و الشبهات و الزيغ عن سبيل اللّه هو معارضة النفس الأمّارة للعقل و جذبها له إلى طرق الباطل و الملائكة مبرّؤون عنها فكانوا معصومين ممنوعين ممّا تقود إليه و تأمر به من الزيغ و الانحراف عن قصد اللّه.
و إمدادهم بفوايد المعونة زيادتهم في كمالاتهم على غيرهم و دوام ذلك بدوام وجوده.

التاسع: و أشعر قلوبهم تواضع إخبات السكينة
استعار لفظ التواضع و الاستكانة لحالهم من الاعتراف بذلّ الحاجة و الإمكان إلى جوده و الانقهار تحت عظمته: أى جعل ذلك الاعتراف شعارا لازما لذواتهم، أو من الشعور و هو الإدراك.

العاشر: و فتح لهم أبوابا ذللا إلى تماجيده
الأبواب الذلل وجوه معارفهم الإلهيّة الّتى بها يمجّدونه حقّ تمجيده و هى أبوابهم و وسائلهم إلى تنزيهه و تعظيمه و ظاهر كونها سهلة إذ حصولها لهم ليس اكتسابا عن طرق توعّرت بتراكم الشكوك و الشبهات و منازعات الأوهام و الخيالات كما عليه علومنا.

الحادى عشر: و نصب لهم منارا واضحة على أعلام توحيده
قيل: استعار المنار الواضحة للوسائط من الملائكة المقرّبين بينهم و بين الحقّ سبحانه إذ أخباره عن الملائكة السماويّة، و لفظ الأعلام لصور المعقولات في ذواتهم المستلزمة لتوحيده و تنزيهه عن الكثرة، و وجه المشابهة أنّ المنار و الأعلام كما يكون وسائط في حصول العلم بالمطلوب كذلك الملائكة المقرّبون و المعارف الحاصلة بواسطتهم يكون وسائط في الوصول إلى المطلوب الأوّل محرّك الكلّ عزّ سلطانه.

الثاني عشر: لم تثقلهم موصرات الآثام.
لمّا لم يكن النفوس الأمّارة بالسوء موجودة لهم استلزم عدمها نفى آثارها عنهم من الآثام و الشرور.

الثالث عشر: و لم ترتحلهم عقب الليالى و الأيّام
أى لم يستلزم تعاقب الزمان رحيلهم عن الوجود و ذاك لتجرّدهم و براءة المجرّدات عن لحوق الزمان و التغيّرات الحادثة بسببه.

الرابع عشر: و لم ترم الشكوك بنوازغها عزيمة إيمانهم و لم تعترك الظنون على معاقد يقينهم.
عزيمة إيمانهم ما لزم ذواتهم من التصديق بمبدعهم و ما ينبغي له، و معاقد يقينهم اعتقاداتهم اليقينيّة و اعتراك الشكوك و الظنون منشأه الأوهام و الخيالات و علوم الملائكة المجرّدين مبرّأة عنها، و لفظ الرمى مستعار لانبعاث النفوس الأمّارة بالسوء و إلقائها الخواطر الفاسدة إلى النفس المطمئنّة، و من روى النوازع بالعين المهملة فهو ترشيح للاستعارة و كذلك استعار لفظ الاعتراك لاختلاط الظنون و الأوهام على القلوب و جولانها في النفوس، و وجه المشابهة ظاهرة.

الخامس عشر: و لا قدحت قادحة الإحن فيما بينهم
أى لم تثر بينهم الأحقاد شيئا من الشرور كما تثير النار قادحا لبراءتهم عن قوى الغضب و الشهوة.

السادس عشر: و لا سلبتهم الحيرة ما لاق من معرفته بضمائرهم إلى قوله: صدورهم.
لمّا كانت الحيرة تردّد العقل في أىّ الأمرين أولى بالطلب و الاختيار و كان منشأ ذلك هو معارضات الوهم و الخيال للعقل فحيث لا وهم و لا خيال فلا حيرة تخالط معارفهم و تزيل هيبة عظمته من صدورهم، و الهيبة كناية عن استشعار عظمته، و لفظ الصدور مستعار لذواتهم.

السابع عشر: و لم تطمع فيهم الوساوس فتقترع برينها على فكرهم.
و قد مرّ تفسير الوسوسة، و فاعل الطمع هاهنا إمّا مضمر على تقدير حذف المضاف و إقامة المضاف إليه مقامه: أى أهل الوساوس و هم الشياطين، أو يكون الفاعل هو الوساوس و إسناد الطمع إليه مجازا كقوله تعالى وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها«» و رينها غلبة الشكوك اللازمة عنها على وجوه عقولهم و أبصار ذواتهم الّتى بها ينظرون إلى وجه ربّهم.
و انتفاؤها عنهم لانتفاء أسبابها و هى النفوس الأمّارة.

الثامن عشر: منهم من هو في خلق الغمام إلى قوله: الأبهم  هذا التقسيم يعود إلى جنس الملائكة فأمّا الأوصاف السابقة فكانت خاصّة بسكّان السماوات منهم و قد وردت في الشريعة أنّ في الغمام ملائكة تسبّح اللّه و تقدّسه و كذلك في الجبال و الأماكن المظلمة و هم من الملائكة الأرضيّة، و قد علمت ما قيل فيها في الخطبة الاولى.

التاسع عشر: و منهم من خرقت أقدامهم تخوم الأرض السفلى إلى قوله: المتناهية.
يشبه أن يكون هذا القسم من الملائكة السماويّة أيضا و استعار لفظ الأقدام لعلومهم المحيطة بأقطار الأرض السفلى و نهاياتها، و وجه المشابهة كون العلوم قاطعة للمعلوم و سارية فيه واصلة إلى نهايته كما أنّ الأقدام تقطع الطريق و تصل إلى الغاية منها و شبّهها بالرايات البيض النافذة في مخارق الهواء من وجهين: أحدهما: في البياض فإنّ البياض لمّا استلزم الصفاء عن الكدر و السواد كذلك علومهم صافية من كدورات الباطل و ظلمات الشبه. الثاني: في نفوذها في أجزاء المعلوم كما تنفذ الرايات في الهواء، و أشار بالريح‏ الّتى تحبس الأقدام على حيث انتهت من الحدود إلى حكمة اللّه الّتى أعطت كلاما يستحقّه و قصرت كلّ موجود على حدّه، و بهفوفها إلى لطف تصرّفها و جريانها في المصنوعات.

العشرون: قد استفرغتهم أشغال عبادته إلى قوله: و شيجه خيفته
أى لم يجعل لهم فراغا لغيرها، و قد علمت أنّ تحريك الملائكة السماويّة لأجرام الأفلاك الجارية لها مجرى الأبدان بحركة إراديّة و شوقيّة للتشبّه بالملائكة المتوسّطة بينها و بين الحقّ سبحانه في كمال عبادتهم له و تلك الحركات الدائمة الواجبة مستفرغة لهم عن الاشتغال بغيرها كما قال يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ و حقايق الايمان تصديقهم الحقّ بوجوده عن شاهد وجودهم و ظاهر كونه سببا لإرادة معرفته التامّة و الدوام عليها و إبراز ما في قوّتهم من الكمال بها إلى الفعل فإنّ التصديق بوجود الشي‏ء الواجب تحصيله أقوى الأسباب الباعثة على طلبه. فصار الإيمان و التصديق الحقّ اليقين بوجوده وسيلة جامعة بينه و بين معرفته و الاستكمال بها و قاطعا لهم إلى الوله إليه و العشق له و ثبات الرغبات على ما عنده دون غيره، و لمّا استعار لفظ الذوق لتعقّلاتهم و لفظ الشرب بما تمكّن في ذواتهم في عشقه و كمال محبّته رشّح الاستعارة الاولى بذكر الحلاوة و كنّى بها عن كمال ما يجدونه من اللذّة بمعرفته كما يلتذّ ذايق الحلاواة بها، و الثانية بذكر الكأس الرويّة إذ من كمال الشرب أن يكون بكأس رويّة: أى من شأنها أن تروى، و كنّى بها عن كمال معرفتهم بالنسبة إلى غيرهم و كذلك رشّح استعارة لفظ القلوب بذكر سويدائها إذ كان من كمال تمكّن العوارض القلبيّة كالمحبّة و الخوف أن يبلغ إلى سويدائه، و أشار بوشيجة خيفته إلى العلاقة المتمكّنة من ذواتهم لخيفته و هى كمال علمهم بعظمته، و لفظ الخيفة مستعار كما سبق لانقهارهم في ذلّ الإمكان عند اعتبار عزّه و قهره.

الحادى و العشرون: فحنوا بطول الطاعة اعتدال ظهورهم
تجوّز بانحناء الظهور في كمال خضوعهم في عبادتهم و هو إطلاق لاسم المسبّب على السبب.

الثاني و العشرون: و لم ينفذ طول الرغبة إليه مادّة تضرّعهم
لمّا كان من شأن أحد إذا رغب في أمر إلى بعض الملوك و فزع فيه إليه بالتضرّع و الخدمة أن ينقطع تضرّعه‏ بانقطاع مادّته. و مادّته إمّا دواعى نفسه إلى الطلب و ميولها و انقطاعها باستيلاء الملال على نفسه و ضعفها عن تحمّل المشقّة، أو مطلوبه و تصوّره لإمكان تناوله و انقطاعه إمّا بإياسه منه أو بإعطائه إيّاه و كانت مادّة تضرّعهم و عبادتهم له تعالى على التقديرين بريئة عن القواطع أمّا من ذواتهم فلأنّ الكلال و الملال من عوارض المركّبات العنصريّة و أمّا مطلوبهم فلأنّه كمال معرفة اللّه بعد تصورّهم لعظمة ذلك المطلوب. و علمت أنّ درجات الوصول إليه غير متناهية لا جرم سلب عنهم في معرض مدحهم انقطاع مادّة تضرّعهم ليستلزم ذلك سبب انقطاع تضرّعهم و عبادتهم له.

الثالث و العشرون: و لا أطلق عنهم عظيم الزلفة ربق خشوعهم
لمّا كان من قرب من السلطان مثلا من شأنه أن يقوى نفسه و يخفّف هيبته منه و كان ذلك لتناهى ملك ملوك الدنيا و كونه مكتسبا لها و تصوّر المتقرّب إليهم مثليّة لهم و إمكان وصوله إلى ما وصلوا إليه. و كان سلطان اللّه لا يتناهى عظمة و عزّة و عرفانا لم يتصوّر من العارف المتقرّب إليه أن يخفّف هيبته أو ينقص خشوعه و عبادته بل كلّما ازدادت معرفته به ازدادت عظمته في نفسه إذ كان يقدّر في سلوكه عظمة اللّه بقدر عرفانه به فكلّما غيّر منزلا من منازل المعرفة علم عظمة خالقه فكمل عقد يقينه بذلك و علم نقصان ذاته فكمل خشوعه و صدن خضوعه، و استعار لفظ الربق لما حصلوا فيه من الخشوع.

الرابع و العشرون: و لم يتولّهم الإعجاب إلى قوله: حسناتهم
أى لم يستول عليهم، و الإعجاب: هو استعظام الإنسان نفسه عمّا يتصوّر أنّه فضيلة له، و منشأ ذلك الحكم هو النفس الأمّارة فيتوهّم الإنسان أنّ تلك الفضيلة حصلت له عن استحقاق وجب له بسعيه و كدّه مع قطع النظر عن واهب النعم و مفيضها، و الملائكة السماويّة مبرّؤون عن الأوهام و أحكامها غرقى في الوله إليه و دوام مطالعة آلائه و الاستكانه تحت جلال عزّته فلا يستكثرون ما سلف منهم من عبادة و لا يستعظمون ما صدر عنهم من خير.

الخامس و العشرون و لم تجر الفترات فيهم على طول دؤوبهم
قد ثبت أنّ الملائكة السماويّة دائمة التحريك لأجرامها حركة لا يتخلّلها سكون و لا يكلّها و يفترها إعياء و تعب، و لبيان ذلك بالبرهان اصول ممهّدة في مواضعها، و أمّا بالقرآن فلقوله تعالى يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ«» و قد سبق.

السادس و العشرون: و لم تغض رغباتهم فيخالفوا عن رجاء ربّهم
المخالفة عن الشي‏ء العدول عنه، و قد سبق أنّ رغبات الملائكة السماويّة و أشواقها إلى كمالاتها دائمة ثابتة فكانت لذلك دائمة الرجاء لها من واهبها، و لفظ الغيض مستعار كما سبق.

السابع و العشرون: و لم تجفّ لطول المناجاة أسلات ألسنتهم
طول مناجاتهم يعود إلى توجيه وجوههم دائما إليه، و استعار لفظ الألسنة و رشّح بذكر الأسلات ملاحظة للتشبيه بأحدنا في مناجاته، و كنّى بعدم جفاف ألسنتهم عن عدم فتورهم و عدم لحقوق الكلال و الإعياء لهم و ظاهر أنّه لا ألسنة لحمانيّة لهم فلا جفاف.

الثامن و العشرون: و لا ملكتهم إلى قوله: أصواتهم
أى لم تضعفهم العبادة فتنقطع أصواتهم فتضعف فتخفى بالتضرّع إليه. و هو تنزية لهم عن الأحوال البشريّة و العوارض البدنيّة من الضعف و الإعياء و كلال الأعضاء عند كثرة الأشغال و قوّتها. و قد مرّ أنّ الملائكه السماويّة لا يجوز عليها شي‏ء من تلك العوارض، و استعار لفظ الأصوات كما استعار لفظ الألسنة.

التاسع و العشرون: و لم يختلف في مقاوم الطاعة مناكبهم إلى قوله: رقابهم.
استعار لفظ المقاوم من ريش الطائر و هى عشر في كلّ جناح لما سبق وجوبه من طاعة اللّه و كان أهمّ عباداته كمعرفته في التوجّه إليه، و لفظ المناكب و هى أربع ريشات بعد المقاوم في كلّ جناح لذواتهم، و وجه المشابهة أنّ المناكب تالية للمقادم و على نظامها و ترتيبها لا يخالف صفّها و نسقها كذلك الملائكة لا تختلف ذواتهم و أجرامهم في نسق ما أهمّ من عبادة ربّهم و معرفته بل صافّون لا يخالف بعضهم بعضا في استقامة طريقهم إليه و لا يخرجون عن نظام ترتيبه لهم في التوجّه إليه كما أشار إليه في الخطبة الاولى: و صافّون لا يتزايلون، و كذلك استعار لفظ الرقاب و لفظ الثنى: أى لم يلتفتوا إلى الراحة من تعب العبادة فيقصروا في أوامره. و المقصود نفى الأحوال البشريّة عنهم من التعب و الراحة لكونهما عن توابع هذه الأبدان.

الثلاثون: و لا تعدو إلى قوله: الشهوات
قد عرفت معنى الغفلة فيما سبق. و البلادة هى طرف التفريط من فضيلة الذكاء و كلاهما من عوارض هذا البدن و بواسطته. و كذلك الشهوات و الملائكة السماويّة بريئة عنها فلم يجز أن يطرأ على قصودهم لما توجّهوا له غفلة و لا بلادة حتّى يكون ذلك سببا لإعراضهم عن التوجّه فيه و لم يجز أن ترمى الشهوات هممهم بسهام خدايعها، و لفظ الانتضال مستعار لنوادر جواذب الشهوة على النفس الناطقة مع كونها مؤدّية لها و مردية في قرار الجحيم.

الحادى و الثلاثون: قد اتّخذوا إلى قوله: برغبتهم.
أشار بيوم فاقتهم إلى حال حاجتهم في الاستكمال إلى جوده و إن كان ذلك دائما فهو ذخرهم الّذى إليه يرجعون و و كذلك الإشارة بقوله: عند انقطاع الخلق إلى المخلوقين. إلى حال الحاجة أيضا فإنّه إنّما يكون ذخيرة لهم لرجوعهم إليه فيما يحتاجون و إنّما يتحقّق قصدهم له برغبتهم حال الحاجة إليه.

الثاني و الثلاثون: لا يقطعون إلى قوله: و مخافته.
لمّا كانت غاية عبادته هو الوصول إلى كمال معرفته و كانت درجات المعارف الإلهيّة غير متناهية لم يكن قطعهم لتلك الغاية ممكنا، و لمّا كانوا غرقى في محبّته عالمين بكمال عظمته و أنّ ما يرجونه من تمام جوده أشرف المطالب و أربح المكاسب، و ما يخشى من انقطاع جوده و نزول حرمانه أعظم المهالك و المعاطب لا جرم دام رجاؤهم له و خضوعهم في رقّ الحاجة إليه و الفزع من حرمانه و كان ذلك الرجاء و الخوف هو مادّة استهتارهم بلزوم طاعته الّتى يرجعون إليها من قلوبهم فلم ينقطع استهتارهم بلزومها.

الثالث و الثلاثون: لم تنقطع أسباب الشفقّة عنهم فيتوانى جدّهم.
الشفقّة: الاسم من الإشفاق: أى لم ينقطع أسباب خوفهم له و أسبابه حاجتهم إلى القيام في الوجود إلى الاستكمال بجوده فإنّ الحاجة الضروريّة إلى الغير في مطلوب يستلزم الخوف منه في عدم قضائه و يوجب الإقبال على الاستعداد بجوده بلزوم طاعته. و حاجتهم إليه دائمة فجدّهم في عبادته دائم فالتوانى فيه مفقود.

الرابع و الثلاثون: و لم يأسرهم إلى قوله: اجتهادهم
سلب لبعض أوصاف البشر عنهم فإنّ كثيرا من العابدين قد يصرفهم عن الاجتهاد في طاعة اللّه سبب ما يظهر لهم من كمالات الدنيا و زينتها فيؤثرون ما قرب من السعى في تحصيله على ما يستبعدونه من تحصيل السعادة الاخرويّة الباقية، و قد عرفت أنّ ذلك من جواذب الشهوات و الغفلة عمّا وراء هذه الدار و الملائكة مبرّؤون عن الشهوات و ما يلزمها من أسر الأطماع الكاذبة لهم، و لفظ الأسر استعارة لقود الأطماع إلى ما يطمع فيه.

الخامس و الثلاثون: و لم يستعظموا ما مضى من أعمالهم إلى قوله: رجلهم
معنى هذه الشرطيّة أنّهم لو استعظموا ذلك لكان رجاؤهم لثواب عبادتهم عظيما فكان لقوّته ماحيا لإشفاقهم و خوفهم منه و هذا كما أنّ الإنسان إذا عمل لبعض الملوك عملا يستعظمه فإنّه يرى في نفسه استحقاق أتمّ جزاء له و يجد التطاول به و الدالّة عليه فيهوّن ذلك ما يجده من خوفه، و كلّما ازداد استعظامه لخدمته ازداد اعتقاده في قربه من الملك قوّة و بمقدار ذلك ينقص خوفه و يقلّ هيبته لكنّ الملائكة خائفون أبدا كما قال تعالى يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ… وَ الْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ فينتج أنّهم لا يستعظمون سالف عبادتهم.

السادس و الثلاثون: و لم يختلفوا في ربّهم باستحواذ الشيطان عليهم
أى في إثباته و استحقاقه كمال العبادة و ذلك لعدم سلطان عليهم و هو سلب لبعض أحوال البشر و كذلك قوله: و لم يفرّقهم إلى قوله: أخياف الهمم. تنزيه لهم عن امور من عوارض البشريّة: أحدها: سوء التقاطع و هو كتقاطع المتعادين و تباينهم الناشى عن الغضب و الشهوة. الثاني: غلّ الحسد، و قد علمت أنّ الحسد رذيلة نفسانيّة تنبعث عن البخل و الشره و منبعهما النفس الأمّارة. الثالث: تشعّب مصارف الريب لهم و الريب الشكوك و الشبه و مصارفها هى الامور الباطلة الّتى تنصرف أذهانهم إليها عن الشبه أو تلك الشبهة و الشكوك أنفسها و تشعّبها لهم اقتسامها يحيث يذهب كلّ واحد من شبهة إلى باطل، و قد علمت أنّ منشأ الشكوك و الشبهات هو الوهم و الخيال، و لمّا كانوا مبرّئين عن النفوس الأمّارة وجب تنزيههم عن هذه الامور الثلاثة، الرابع: لمّا كان معبودهم واحدا و هو غاية مطلوبهم‏ كانت هممهم ز فيه واحدة فلم يلتفتوا إلى شي‏ء آخر و لم يفترقوا فيها.

السابع و الثلاثون: فهم اسراء الايمان. إلى قوله: و لا فتور
استعار لفظ الأسر و رشّح بذكر الربقة و نزّههم عن أن يجذبهم عن الايمان أحد الامور الأربعة، و قد سبق وجه تنزيههم عنها.

الثامن و الثلاثون: و ليس في أطباق السماوات إلى قوله: عظما
المراد أنّ السماوات مملوّة بالملائكة فبين ساجد لوجه ربّه و بين ساعى مجدّ في أمره. و اعلم أنّ في السماء ملائكة مباشرة لتحريكها و ملائكة على رتبة من اولئك هم الآمرون لهم بالتحريك فيشبه أن يكون الإشارة بالساجدين منهم إلى الأمرين، و السجود كناية عن كمال عبادتهم كناية بالمستعار و يكون الإشارة بالساعين المسرعين إلى المتولّين للتحريك فأمّا زيادتهم بطول الطاعة علما بربّهم فلمّا ثبت أن حركاتهم إنّما هو شوقيّة للتشبّه بملائكة أعلى رتبة منهم في كمالهم بالمعارف الإلهيّة و ظهور ما في ذواتهم بالقوّة إلى الفعل. و زيادة عزّة ربّهم عندهم عظما بحسب زيادتهم معرفتهم له تابعة لها كما نبّهنا عليه قبل. و باللّه التوفيق.

 


الفصل السادس و منها فى صفة الأرض و دحوها على الماء.

كَبَسَ الْأَرْضَ عَلَى مَوْرِ أَمْوَاجٍ مُسْتَفْحِلَةٍ- وَ لُجَجِ بِحَارٍ زَاخِرَةٍ تَلْتَطِمُ أَوَاذِيُّ أَمْوَاجِهَا- وَ تَصْطَفِقُ مُتَقَاذِفَاتُ أَثْبَاجِهَا- وَ تَرْغُو زَبَداً كَالْفُحُولِ عِنْدَ هِيَاجِهَا- فَخَضَعَ جِمَاحُ الْمَاءِ الْمُتَلَاطِمِ لِثِقَلِ حَمْلِهَا- وَ سَكَنَ هَيْجُ ارْتِمَائِهِ إِذْ وَطِئَتْهُ بِكَلْكَلِهَا- وَ ذَلَّ مُسْتَخْذِياً إِذْ تَمَعَّكَتْ عَلَيْهِ بِكَوَاهِلِهَا- فَأَصْبَحَ بَعْدَ اصْطِخَابِ أَمْوَاجِهِ سَاجِياً مَقْهُوراً- وَ فِي حَكَمَةِ الذُّلِّ مُنْقَاداً أَسِيراً- وَ سَكَنَتِ الْأَرْضُ مَدْحُوَّةً فِي لُجَّةِ تَيَّارِهِ- وَ رَدَّتْ مِنْ نَخْوَةِ بَأْوِهِ وَ اعْتِلَائِهِ‏ وَ شُمُوخِ أَنْفِهِ وَ سُمُوِّ غُلَوَائِهِ- وَ كَعَمَتْهُ عَلَى كِظَّةِ جَرْيَتِهِ فَهَمَدَ بَعْدَ نَزَقَاتِهِ- وَ لَبَدَ بَعْدَ زَيَفَانِ وَثَبَاتِهِ- فَلَمَّا سَكَنَ هَيْجُ الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ أَكْنَافِهَا- وَ حَمْلِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ الشُّمَّخِ الْبُذَّخِ عَلَى أَكْتَافِهَا- فَجَّرَ يَنَابِيعَ الْعُيُونِ مِنْ عَرَانِينِ أُنُوفِهَا- وَ فَرَّقَهَا فِي‏ سُهُوبِ بِيدِهَا وَ أَخَادِيدِهَا- وَ عَدَّلَ حَرَكَاتِهَا بِالرَّاسِيَاتِ مِنْ جَلَامِيدِهَا- وَ ذَوَاتِ الشَّنَاخِيبِ الشُّمِّ مِنْ صَيَاخِيدِهَا- فَسَكَنَتْ مِنَ الْمَيَدَانِ لِرُسُوبِ الْجِبَالِ فِي قِطَعِ أَدِيمِهَا- وَ تَغَلْغُلِهَا مُتَسَرِّبَةً فِي جَوْبَاتِ خَيَاشِيمِهَا- وَ رُكُوبِهَا أَعْنَاقَ سُهُولِ الْأَرَضِينَ وَ جَرَاثِيمِهَا- وَ فَسَحَ بَيْنَ الْجَوِّ وَ بَيْنَهَا وَ أَعَدَّ الْهَوَاءَ مُتَنَسَّماً لِسَاكِنِهَا- وَ أَخْرَجَ إِلَيْهَا أَهْلَهَا عَلَى تَمَامِ مَرَافِقِهَا- ثُمَّ لَمْ يَدَعْ جُرُزَ الْأَرْضِ- الَّتِي تَقْصُرُ مِيَاهُ الْعُيُونِ عَنْ رَوَابِيهَا- وَ لَا تَجِدُ جَدَاوِلُ الْأَنْهَارِ ذَرِيعَةً إِلَى بُلُوغِهَا- حَتَّى أَنْشَأَ لَهَا نَاشِئَةَ سَحَابٍ تُحْيِي مَوَاتَهَا- وَ تَسْتَخْرِجُ نَبَاتَهَا- أَلَّفَ غَمَامَهَا بَعْدَ افْتِرَاقِ لُمَعِهِ وَ تَبَايُنِ قَزَعِهِ- حَتَّى إِذَا تَمَخَّضَتْ لُجَّةُ الْمُزْنِ فِيهِ وَ الْتَمَعَ بَرْقُهُ فِي كُفَفِهِ- وَ لَمْ يَنَمْ وَمِيضُهُ فِي كَنَهْوَرِ رَبَابِهِ وَ مُتَرَاكِمِ سَحَابِهِ- أَرْسَلَهُ سَحّاً مُتَدَارِكاً قَدْ أَسَفَّ هَيْدَبُهُ- تَمْرِيهِ الْجَنُوبُ دِرَرَ أَهَاضِيبِهِ وَ دُفَعَ شَآبِيبِهِ- . فَلَمَّا أَلْقَتِ السَّحَابُ بَرْكَ بِوَانَيْهَا- وَ بَعَاعَ مَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ مِنَ الْعِبْ‏ءِ الْمَحْمُولِ عَلَيْهَا- أَخْرَجَ بِهِ مِنْ هَوَامِدِ الْأَرْضِ النَّبَاتَ- وَ مِنْ زُعْرِ الْجِبَالِ الْأَعْشَابَ فَهِيَ تَبْهَجُ بِزِينَةِ رِيَاضِهَا- وَ تَزْدَهِي بِمَا أُلْبِسَتْهُ مِنْ رَيْطِ أَزَاهِيرِهَا- وَ حِلْيَةِ مَا سُمِطَتْ بِهِ مِنْ نَاضِرِ أَنْوَارِهَا- وَ جَعَلَ ذَلِكَ بَلَاغاً لِلْأَنَامِ وَ رِزْقاً لِلْأَنْعَامِ- وَ خَرَقَ الْفِجَاجَ فِي آفَاقِهَا- وَ أَقَامَ الْمَنَارَ لِلسَّالِكِينَ عَلَى جَوَادِّ طُرُقِهَا فَلَمَّا مَهَدَ أَرْضَهُ وَ أَنْفَذَ أَمْرَهُ- اخْتَارَ آدَمَ ع خِيرَةً مِنْ خَلْقِهِ- وَ جَعَلَهُ أَوَّلَ جِبِلَّتِهِ وَ أَسْكَنَهُ جَنَّتَهُ- وَ أَرْغَدَ فِيهَا أُكُلَهُ- وَ أَوْعَزَ إِلَيْهِ فِيمَا نَهَاهُ عَنْهُ- وَ أَعْلَمَهُ أَنَّ فِي الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ التَّعَرُّضَ لِمَعْصِيَتِهِ- وَ الْمُخَاطَرَةَ بِمَنْزِلَتِهِ- فَأَقْدَمَ عَلَى مَا نَهَاهُ عَنْهُ مُوَافَاةً لِسَابِقِ عِلْمِهِ- فَأَهْبَطَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ- لِيَعْمُرَ أَرْضَهُ بِنَسْلِهِ- وَ لِيُقِيمَ الْحُجَّةَ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ- وَ لَمْ يُخْلِهِمْ بَعْدَ أَنْ قَبَضَهُ- مِمَّا يُؤَكِّدُ عَلَيْهِمْ حُجَّةَ رُبُوبِيَّتِهِ- وَ يَصِلُ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَعْرِفَتِهِ- بَلْ تَعَاهَدَهُمْ بِالْحُجَجِ- عَلَى أَلْسُنِ الْخِيَرَةِ مِنْ أَنْبِيَائِهِ- وَ مُتَحَمِّلِي وَدَائِعِ رِسَالَاتِهِ- قَرْناً فَقَرْناً- حَتَّى تَمَّتْ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ص حُجَّتُهُ- وَ بَلَغَ الْمَقْطَعَ عُذْرُهُ وَ نُذُرُهُ وَ قَدَّرَ الْأَرْزَاقَ فَكَثَّرَهَا وَ قَلَّلَهَا- وَ قَسَّمَهَا عَلَى الضِّيقِ وَ السَّعَةِ- فَعَدَلَ فِيهَا لِيَبْتَلِيَ- مَنْ أَرَادَ بِمَيْسُورِهَا وَ مَعْسُورِهَا- وَ لِيَخْتَبِرَ بِذَلِكَ الشُّكْرَ وَ الصَّبْرَ مِنْ غَنِيِّهَا وَ فَقِيرِهَا- ثُمَّ قَرَنَ بِسَعَتِهَا عَقَابِيلَ فَاقَتِهَا- وَ بِسَلَامَتِهَا طَوَارِقَ آفَاتِهَا- وَ بِفُرَجِ أَفْرَاحِهَا غُصَصَ أَتْرَاحِهَا- وَ خَلَقَ الْآجَالَ فَأَطَالَهَا وَ قَصَّرَهَا وَ قَدَّمَهَا وَ أَخَّرَهَا- وَ وَصَلَ بِالْمَوْتِ أَسْبَابَهَا- وَ جَعَلَهُ خَالِجاً لِأَشْطَانِهَا- وَ قَاطِعاً لِمَرَائِرِ أَقْرَانِهَا عَالِمُ السِّرِّ مِنْ ضَمَائِرِ الْمُضْمِرِينَ- وَ نَجْوَى الْمُتَخَافِتِينَ وَ خَوَاطِرِ رَجْمِ الظُّنُونِ- وَ عُقَدِ عَزِيمَاتِ الْيَقِينِ- وَ مَسَارِقِ إِيمَاضِ الْجُفُونِ- وَ مَا ضَمِنَتْهُ أَكْنَانُ الْقُلُوبِ- وَ غَيَابَاتُ الْغُيُوبِ- وَ مَا أَصْغَتْ لِاسْتِرَاقِهِ مَصَائِخُ الْأَسْمَاعِ- وَ مَصَايِفُ الذَّرِّ وَ مَشَاتِي الْهَوَامِّ- وَ رَجْعِ الْحَنِينِ مِنَ الْمُولَهَاتِ وَ هَمْسِ الْأَقْدَامِ- وَ مُنْفَسَحِ الثَّمَرَةِ مِنْ وَلَائِجِ غُلُفِ الْأَكْمَامِ- وَ مُنْقَمَعِ الْوُحُوشِ مِنْ غِيرَانِ الْجِبَالِ وَ أَوْدِيَتِهَا- وَ مُخْتَبَإِ الْبَعُوضِ بَيْنَ سُوقِ الْأَشْجَارِ وَ أَلْحِيَتِهَا- وَ مَغْرِزِ الْأَوْرَاقِ مِنَ الْأَفْنَانِ- وَ مَحَطِّ الْأَمْشَاجِ مِنْ مَسَارِبِ الْأَصْلَابِ- وَ نَاشِئَةِ الْغُيُومِ وَ مُتَلَاحِمِهَا- وَ دُرُورِ قَطْرِ السَّحَابِ فِي مُتَرَاكِمِهَا- وَ مَا تَسْفِي الْأَعَاصِيرُ بِذُيُولِهَا وَ تَعْفُو الْأَمْطَارُ بِسُيُولِهَا- وَ عَوْمِ بَنَاتِ الْأَرْضِ فِي كُثْبَانِ الرِّمَالِ- وَ مُسْتَقَرِّ ذَوَاتِ الْأَجْنِحَةِ بِذُرَا شَنَاخِيبِ الْجِبَالِ- وَ تَغْرِيدِ ذَوَاتِ الْمَنْطِقِ فِي دَيَاجِيرِ الْأَوْكَارِ- وَ مَا أَوْعَبَتْهُ الْأَصْدَافُ- وَ حَضَنَتْ عَلَيْهِ أَمْوَاجُ الْبِحَارِ- وَ مَا غَشِيَتْهُ سُدْفَةُ لَيْلٍ أَوْ ذَرَّ عَلَيْهِ شَارِقُ نَهَارٍ- وَ مَا اعْتَقَبَتْ عَلَيْهِ أَطْبَاقُ الدَّيَاجِيرِ- وَ سُبُحَاتُ النُّورِ وَ أَثَرِ كُلِّ خَطْوَةٍ- وَ حِسِّ كُلِّ حَرَكَةٍ وَ رَجْعِ كُلِّ كَلِمَةٍ- وَ تَحْرِيكِ كُلِّ شَفَةٍ وَ مُسْتَقَرِّ كُلِّ نَسَمَةٍ- وَ مِثْقَالِ‏ كُلِّ ذَرَّةٍ وَ هَمَاهِمِ كُلِّ نَفْسٍ هَامَّةٍ- وَ مَا عَلَيْهَا مِنْ ثَمَرِ شَجَرَةٍ أَوْ سَاقِطِ وَرَقَةٍ- أَوْ قَرَارَةِ نُطْفَةٍ أَوْ نُقَاعَةِ دَمٍ وَ مُضْغَةٍ- أَوْ نَاشِئَةِ خَلْقٍ وَ سُلَالَةٍ- لَمْ يَلْحَقْهُ فِي ذَلِكَ كُلْفَةٌ- وَ لَا اعْتَرَضَتْهُ فِي حِفْظِ مَا ابْتَدَعَ مِنْ خَلْقِهِ عَارِضَةٌ- وَ لَا اعْتَوَرَتْهُ فِي تَنْفِيذِ الْأُمُورِ وَ تَدَابِيرِ الْمَخْلُوقِينَ مَلَالَةٌ وَ لَا فَتْرَةٌ- بَلْ نَفَذَهُمْ عِلْمُهُ وَ أَحْصَاهُمْ عَدَدُهُ- وَ وَسِعَهُمْ عَدْلُهُ وَ غَمَرَهُمْ فَضْلُهُ- مَعَ تَقْصِيرِهِمْ عَنْ كُنْهِ مَا هُوَ أَهْلُهُ اللَّهُمَّ أَنْتَ أَهْلُ الْوَصْفِ الْجَمِيلِ- وَ التَّعْدَادِ الْكَثِيرِ- إِنْ تُؤَمَّلْ فَخَيْرُ مَأْمُولٍ وَ إِنْ تُرْجَ فَخَيْرُ مَرْجُوٍّ- اللَّهُمَّ وَ قَدْ بَسَطْتَ لِي فِيمَا لَا أَمْدَحُ بِهِ غَيْرَكَ- وَ لَا أُثْنِي بِهِ عَلَى أَحَدٍ سِوَاكَ- وَ لَا أُوَجِّهُهُ إِلَى مَعَادِنِ الْخَيْبَةِ وَ مَوَاضِعِ الرِّيبَةِ- وَ عَدَلْتَ بِلِسَانِي عَنْ مَدَائِحِ الْآدَمِيِّينَ- وَ الثَّنَاءِ عَلَى الْمَرْبُوبِينَ الْمَخْلُوقِينَ- اللَّهُمَّ وَ لِكُلِّ مُثْنٍ عَلَى مَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ مَثُوبَةٌ مِنْ جَزَاءٍ- أَوْ عَارِفَةٌ مِنْ عَطَاءٍ- وَ قَدْ رَجَوْتُكَ دَلِيلًا عَلَى ذَخَائِرِ الرَّحْمَةِ- وَ كُنُوزِ الْمَغْفِرَةِ- اللَّهُمَّ وَ هَذَا مَقَامُ مَنْ أَفْرَدَكَ بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ لَكَ- وَ لَمْ يَرَ مُسْتَحِقّاً لِهَذِهِ الْمَحَامِدِ وَ الْمَمَادِحِ غَيْرَكَ- وَ بِي فَاقَةٌ إِلَيْكَ لَا يَجْبُرُ مَسْكَنَتَهَا إِلَّا فَضْلُكَ- وَ لَا يَنْعَشُ مِنْ خَلَّتِهَا إِلَّا مَنُّكَ وَ جُودُكَ- فَهَبْ لَنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ رِضَاكَ- وَ أَغْنِنَا عَنْ مَدِّ الْأَيْدِي إِلَى سِوَاكَ- إِنَّكَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ

اللغة  

أقول: كبسها: أغاصها في الماء بقوّة. و المور: التردّد في الحركة. و مستفحلة: صائلة: و التلاطم: الترادّ. و الأواذىّ: جمع آذىّ و هو ما عظم من موج البحر. و الاصطفاق: الترادّ أيضا. و الأثباج: جمع ثبج و هو معظمها و عواليها. و هيج الفرس: إذا غلب صاحبه و لم يملكه. و الارتماء: التقاذف و الترادّ. و الكلكل: الصدر. و المستخذى: الخاضع. و التمعّك: التمرّغ. و اصطخاب أمواجه: غلبتها و أصواتها. و الساجى: الساكن.
و الحكمة: ما أحاط من اللجام بحنك الدابّة و الدحو: البسط. و التّيار: الموج. و النخوة: الكبر و الترفّع. و البأو: الفخر. و شمخ بأنفه: تكبّر. و الغلواء: تجاوز الحدّ. و كعمته: سددت فاه. و الكظّة: شدّة البطنة. و همد: سكن و خمد. و النزق: الخفّة و الطيش. و لبد: لصق بالأرض ساكنا. و الزيفان: التبختر. و البذّخ: العالية. و العرنين: أعلى الأنف عند ملتقى الحاجبين. و السهوب: جمع سهب و هو الفلاة الواسعة. و البيد: جمع بيداء و هى الفلاة أيضا. و الاخدود: الشقّ في الأرض. و الجلاميد: الصخور.
و الشناخيب: رؤس الجبال و الشمّ: العالية. و الصيخود: الصخرة الصلبة. و أديمها: سطحها. و تغلغله: دخوله في أعماقها. و التسرّب: الدخول في السرب. و الجوبة: الفرجة في الأرض. و جراثيم الأرض: أعاليها و ما اجتمع منها. و أرض جرز: لا نبات بها لانقطاع الماء عنها. و الروابى: عوالى الأرض. و القزع: قطع السحاب الرقيقة الواحدة قزعة.
و الكفّة بالضمّ: ما استطال من السحاب و ما استدار. و بالكسر: الوميض و اللمعان. و الكنهور: العظيم من السحاب. و الرباب: الغمام الأبيض. و السحّ: الصبّ. و أسفّ: دنا من الأرض لثقله. و هيدبه: ما تهدّب منه إلى الأرض أى تدلى. و تمريه: تستخرج ما فيه من الماء و الدرر جمع درّة بالكسر و هى كثرة اللبن و سيلانه. و الأهاضيب: جمع هضاب و هو جمع هضب و هو جلبات القطر بعد القطر. و الشآبيب: جمع شؤبوب و هو الرشقة القويّة من المطر. و البرك: الصدر. و البوانى: ما يلي الصدر من الأضلاع. و بعاع السحاب ثقلة بالمطر. و العب‏ء: الثقل. و جبلة زعراء: لا نبت بها. و تزد هى: تتكبّر. و الريط: جمع ريطة و هى الأزاهير المنيرة. و سمطت: زينت بالسمط و هو العقد، و من روى شمطت بالشين لمعجمة أراد خلطت. و الجبلّة: الخلقة. و أوعز إليه بكذا: تقدّم إليه به. و العقابيل:بقايا المرض. و الترح: الحزن. و الفاقة: الفقر. و الخلج: الجذب و الانتزاع. و الأشطان: جمع شطن و هى الحبال. و المرائر: أيضا الحبال اللطيفة الفتل. و التخافت: المسارّة. و الرجم بالظنّ: القول عنه. و الغيابة: ظلمة قعر البئر. و مصائخ الأسماع: خروقها. و الإصاخة: التسمّع. و الولائج: المداخل. و الأكمام: جمع كمّ بالكسر و هو غلاف الطلع. و المنقمع: محلّ الانقماع و هو الارتداع. و لحاء الشجرة: قشرها. و الأفنان: الأغصان. و الأمشاج: النطفة المختلطة بالدم، و تعفو: تمحو. و شناخيب الجبال: رؤوسها. و ذراها: أعاليها. و التغريد: ترديد صوت الطائر. و الدياجير: جمع ديجور و هو الظلام و السدفة: الظلمة. و ذرّ الشارق: طلع. و رجع الكلمة: جوابها. و النقاعة: نقرة يجتمع فيها الدم. و اعتورته: أحاطت به. و العارفة: المعروف. و الخلّة. الفقر.
و أنعشه: أنهضه من عثرته.


و اعلم أنّ هذا الفصل يشتمل على فصول:
الفصل الأوّل: في تمجيد اللّه تعالى باعتبار خلقه للأرض في الماء و جملة من أحوالها و هو. إلى قوله: جواد طرقها، و فيه أبحاث:
البحث الأوّل: في الاستعارات و التشبيهات و أبحاث لفظيّة.
الأوّل:
استعارة لفظ الكبس لخلقه لها غائصا معظمها في الماء كما يغوص بعض الزقّ المنفوخ و نحوه بالاعتماد عليه.
الثاني:
استعارة لفظ الاستفحال للموج، و وجه المشابهة ما اشترك فيه الموج و الفحل من الاضطراب و الهيجان و الصولة.
الثالث:
تشبيهه بالفحول أيضا و وجه الشبه ما يظهر على رؤس الموج عند اضطرابه و غليانه من رغوة الزبد كما يظهر من فم الفحل عند هياجه.
الرابع:
استعار لفظ الجماح لحركة الماء على غير نسق و اضطراب لا يملك معه تصريفه كما يجمح الفرس.
الخامس:
استعار أوصاف الناقة من الكلكل و الكاهل للأرض و رشّح تلك الاستعارة بالوطى و التمعّك. و إنّما خصّ الصدر و الكاهل لقوّتهما و كنّى بالمجموع عن إلحاقها بالناقة.

السادس:
استعار للماء لفظ الاستخذاء و القهر و لفظ الحكمة و الانقياد و الأسر و كنّى بها عن إلحاقه بحيوان صايل قهر كالفرس و أضاف الحكمة إلى الذلّ إضافة للسبب إلى المسبّب.
السابع:
استعار لفظ النخوة، و البأو، و شموخ الأنف، و الغلواء، و النزق، و الزيفان، و الوثبات للماء في هيجانه و اضطرابه ملاحظة لشبهه بالإنسان المتجبّر التيّاه في حركاته المؤذنة بتكبّرة و زهوه.
الثامن:
استعار لفظ الأكتاف للأرض، و وجه المشابهة كون الأرض محلّا لحمل ما يثقل من الجبال كما أنّ كتف الإنسان و غيره محلّ لحمل الأثقال.
التاسع:
استعار لفظ العرنين و الأنف لأعالى رؤس الجبال كناية عن إلحاقها بالإنسان.
العاشر:
كنّى بالتغلغل و التسرّب عمّا يتوهّم من نفوذ الجبال في الأرض و غوصها فيها، و استعار لفظ الخياشيم لتلك الأسراب الموهومة. و لمّا جعل للجبال انوفا جعل تلك الأسراب المتوهّم قيام الجبال فيها خياشيم.
الحادى عشر:
استعار لفظ الركوب للجبال و الأعناق للأرض كناية عن إلحاقهما بالقاهر و المقهور.
الثاني عشر:
استعار لفظ الوجدان و الذريعة للجداول كناية عن إلحاقها بالإنسان عديم الوسيلة إلى مطلوبه.
الثالث عشر:
الضميران في تغلغلها و ركوبها و الضمير في خياشيمها يعود إلى الأرض و باقى الضمائر ظاهر.
الرابع عشر:
تجوّز في إسناد لفظ الإحياء و الاستخراج إلى السحاب إذ المخرج هو اللّه تعالى.
الخامس عشر:
كنّى بعدم النوم عن عدم إخفاء و ميض البرق في السحاب كناية بالمستعار.
السادس عشر:
استعار لفظ الهدب لقطرات المطر المتّصلة يتلو بعضها بعضا ملاحظة لشبهها بالخيوط المتدلّية [المستدلية خ‏].

السابع عشر:
استعار لفظ الدرر و الأهاضيب و هى الجلباب للغمام كناية عن إلحاقها بالناقة.
الثامن عشر:
أسند المرى إلى الجنوب مجازا أو لأنّ لها سببيّة ما في نزول الغيث و إنّما خصّ الجنوب لأنّها في أكثر البلاد حارّة رطبة أمّا الحرارة فلأنّها تأتى من الجهة المتسخّنة بمقاربة الشمس، و أمّا الرطوبة فلأنّ البخار أكثرها جنوبيّة و الشمس تفعل فيها بقوّة و يتبخّر عنها أبخرة تخالط الرياح و إذا كان كذلك كان الجنوب أولى بالذكر من وجهين: أحدهما: أنّها أكثر استصحابا للأبخرة فلذلك كان السحاب أكثر انعقادا معها و مصاحبة لها الثاني: أنّها لحرارتها تفتح المسامّ، و لرطوبتها ترخى فكان درور المطر عنها أكثر.
التاسع عشر:
استعار لفظ البرك و البوانى للسحاب و أسند إليه الإلقاء كناية عن إلحاقه بالجمل الّذى أثقله الحمل فرمى بصدره إلى الأرض.
العشرون:
نسب الابتهاج و الازدهاء و اللبس إلى الأرض ذات الأزاهير مجازا ملاحظة لشبهها بالمرأة المتبجّحة بما عليها من فاخر الملبوس و جميل الثياب.

البحث الثاني: أن مقتضى الكلام أنّ اللّه خلق الماء قبل الأرض ثمّ دحاها فيه و سكن بها مستفحل أمواجه
و هذا ممّا شهد به البرهان العقلىّ فإنّ الماء لمّا كان حاويا لأكثر الأرض كان سطحه الباطن المماسّ لسطحه الظاهر مكانا لها و ظاهر أنّ للمكان تقدّما باعتبار ما على المتمكّن فيه و إن كان اللفظ يعطى تقدّم خلق الماء على خلق الأرض تقدّما زمانيّا كما هو المقبول عند السامعين.

البحث الثالث: أنّه اشير إلى كونها مدحوّة في القرآن الكريم أيضا
وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها مع أنّ الأرض كرة كما ثبت بيانه في علم الهيئة. فلا بدّ من التأويل و قد نبّهنا إليه في قوله: اللهم داحى المدحوّات، و قد ورد في الخبر: أنّ الأرض دحيت من تحت الكعبة. قال بعض العارفين: الإشارة بالكعبة إلى كعبة وجود واجب الوجود الّتى هى مقصد وجوه المخلصين الّتى جعلت هذه الكعبة في عالم الشهادة مثالا لها و دحوها من تحتها عبارة عن وجودها عن ذلك المبدأ.

البحث الرابع: الإشارة إلى خلق الجبال فيها و كونها سببا لسكونها
و للناس في تكوين ما تكوّن من الجبال فيها وجوه: أحدها: أنّه قد يكون عن بخار زالت مياهها. الثاني: قد يكون عن زلزلة فصلت قطعة على ناحية فارتفعت. الثالث: قد تكون عن رياح جمعت بهبوبها ترابا فتراكم و علا. الرابع: قد تكون لعمارات تراكمت فتخرّبت. فأمّا كونها أسبابا لسكون الأرض فقد سبقت الإشارة إليه في الخطبة الاولى، و اعلم أنّ البرهان مطابق على الشهادة بسكونها كما اشير إليه في مظانّه.

البحث الخامس: في تفجير ينابيع العيون في الجبال و غيرها
و قد أشار العلماء إلى أسبابه فقالوا: إنّ الأدخنة و الأبخرة ما يحتبس منها تحت الأرض و فيه ثقب و فرج فيها هواء تبرّد الأبخرة و الهواء فيصير ماء فما له قوّة و مدد يتفجّر عيونا و يجرى على الولاء لعدم مدخل الهواء بين الخارج و ما يتّصل به و يتبعه، و ما لا مدد له من العيون يركد، و ما له مدد إلّا أنّ أجزاءه مبدّدة و الأرض واهية لا تحتاج إلى مقاومة يتحصّل منه القنوات، و ماء البئر أيضا من قبيل ماله مدد لكنّه لم يجد سبيلا إلى أحد الجوانب لعدم رخاوة أرضه فخالف القنوات. و إنّما خصّ الجبال بتفجّر العيون منها لأنّ العيون أكثر ما يتفجّر من الجبال و الأماكن المرتفعة و ذلك لشدّة احتقان الأبخرة تحتها بالنسبة إلى ساير الأماكن الهابطة الرخوة فإنّ الأرض إذا كانت رخوة نفضت البخار عنها فلا يكاد يجتمع منه قدر ما يعتدّ به و لأنّ هذا التخصيص أدّل على حكمة الصانع و عنايته بالخلق. و هو في معرض تمجيده و تعديد آلائه.

البحث السادس: أنّه أعدّ الهواء لساكنها
و اعلم أنّه سبحانه كما جعل الهواء عنصرا لأبدان الحيوان و أرواحه البدنيّة كذلك جعله مددا يصل إلى الأرواح و يكون علّة لصلاحها و بقاءها بالتعديل و ذلك التعديل يكون بفعلين: أحدهما: التزويح، و الثاني: التفتية. أمّا التزويح فهو تعديل مزاج الروح الحارّ إذا أفرط بالاحتقان في الأكثر فإنّ الهواء الّذى يحيط بنا أبرد بكثير من ذلك المزاج فإذا وصل إليه باستنشاق الرية و من مسامّ منافس النبض و صدمه و خالطه منعه عن الاستحالة إلى الناريّة الاحتقانيّة المؤديّة إلى سوء مزاج يزول به عن الاستعداد لقبول التأثير النفسانىّ الّذى‏ هو سبب الحياة، و أمّا التنقية فهى باستصحابه عند ردّ النّفس لما سلّمته إليه القوّة المميّزة من البخار الدخانىّ الّذى نسبته إلى الروح نسبة الخلط الفضلىّ إلى البدن فكما أنّ التعديل هو بورود الهواء على الروح عند الاستنشاق فالتنقية بصدوره عنه عند ردّ النفس و ذلك أنّ الهواء المستنشق إنّما يحتاج إليه في تعديله أوّل وروده لكونه باردا بالفعل فإذا استحال إلى كيفيّة الروح بالتسخّن لطول مكثه بطلت فايدته فاستغنى عنه و احتيج إلى هواء جديد يدخل و يقوم مقامه فدعت الضرورة إلى إخراجه لإخلاء المكان لمعاقبه و ليندفع معه فضول جوهر الروح. فهذا معنى قوله عليه السّلام: و أعدّ الهواء متنسّما لساكنها. و اعتبار إعداده لمنفعة الحيوان أعمّ ممّا ذكرنا فإنّه أيضا معدّ لساير الأمزجة المعدنيّة و النباتيّة و الحيوانيّة الّتى يحتاج الإنسان في بقائه إليها و كونه عنصرا لها و معتبرا في بقائها. و عند ملاحظة هذه المنافع عن الهواء يظهر أثر نعمة اللّه به.

البحث السابع: في إخراجه تعالى أهل الأرض إليها بعد تمام مرافقها
كما قال تعالى وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها وَ أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مَوْزُونٍ وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَ مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ«» و الإشارة بأهلها المخرجين إليها إلى الحيوان مطلقا. و أعلم أنّ أوّل ارتفاقهم بها أن جعلها قرارا لهم صالحا للسكنى عليها كما قال تعالى الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً و لكونها فراشا شرايط: أحدها: أن تكون ساكنة ليصحّ الاستقرار عليها و التصرّف فيها بحسب الاختيار و موافقة المصلحة دون كونها متحرّكة. الثاني: أن تكون خارجة من الماء و ذلك أنّ الإنسان و غيره من الحيوان البريّة لا يمكنه أن يعيش في الماء فاقتضت عناية الحقّ سبحانه بالحيوان أن أبرز بعضها من الماء ليعيش فيه و يتصرّف عليه. الثالث: أن لا يكون في غاية الصلابة كالحجر و إلّا لكان النوم و المشى عليها مولما، و أيضا لم يكن لينبت فيها أنواع النبات و الأشجار، و أيضا لكانت تسخن في الصيف‏ كثيرا و تبرد كثيرا في الشتاء فما كانت تصلح لسكنى الحيوان، و أيضا كان يتعذّر حفرها و تركيب بعضها ببعض. الرابع: أن لا يكون في غاية الرخاوة كالماء و غيره من المايعات الّتى يغوص فيه الإنسان. الخامس: أنّه سبحانه لم يخلقها في غاية الشفّافيّة و اللطافة فإنّها إن كانت مع ذلك جسما سيّالا كالهواء لم يتمكّن من الاستقرار عليه و إن كان جسما ثابتا صيقلا برّاقا احترق الحيوان و ما عليها بسبب انعكاس أشعّة الشمس عليها كما يحترق القطن إذا قرب من المرايا المحاذية للشمس و البلّور لكنّه خلقها غبراء ليستقرّ النور على وجهها فيحصل فيها نوع من السخونة، و خلقها كثيفة لئلّا تنعكس الأشعّة منها على ما فيها فتحرقه فصارت معتدلة في الحرّ و البرد تصلح أن تكون فراشا و مسكنا للحيوان.

المنفعة الثانية: خلق الجبال فيها و تفجيرها بالماء كما سبقت الإشارة إليه.
المنفعة الثالثة: ما يتولّد فيها من المعادن و النبات و الحيوان و فى أنواع كلّ من هذه الموجودات و اختلاف أصنافه و ألوانه و روايحه و طعومه ولينه و صلابته و ملاسته و خشونته ما لا يحصى من المنافع الّتى يحتاج إليها الإنسان في بقائه و صلاح حاله.
المنفعة الرابعة: كونها أصلا لبدن الإنسان، و ذلك أنّ الماء لرقّته و رطوبته لا يحفظ الشكل و التصوير فإذا خلط بالتراب حصل له قوام و استمساك و حصل قبول الأشكال و التخطيط كما قال تعالى إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي. المنفعة الخامسة: قبولها للحياة بعد الموت كما قال تعالى وَ آيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها.

البحث الثامن: في تمجيده تعالى باعتبار إنشائه للسحاب و البرق
و النظر في وجه الحكمة فيه و في أصله و في حياة الأرض به: أمّا وجه الحكمة في إنشائه فكونه مادّة لما ينبت في الأرض الجرز ممّا هو قوام بدن الحيوان و غذاء له كما أشار إليه عليه السّلام بقوله: ثمّ لم يدع جرز الأرض الّتى تقصر مياه العيون و الأنهار عنها و لا تجد جداول الأرض ذريعة إلى بلوغها إلى قوله: و جعل ذلك بلاغا للأنام و رزقا للأنعام. و نحوه قوله‏ تعالى أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَ أَنْفُسُهُمْ أَ فَلا يُبْصِرُونَ«»

البحث التاسع: في تمجيده باعتبار تخريقه للفجاج في آفاقها
أى الطرق الواسعة في نواحيها كما قال تعالى وَ جَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ«» ثمّ باعتبار إقامته المنار للسالكين فيها. و الإشارة بالمنار إمّا إلى لنجوم كما قال تعالى وَ عَلاماتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ أو إلى الجبال.
الفصل الثاني: في تمجيده تعالى باعتبار خلقه لآدم
و اختياره له و إتمام نعمته عليه، و مقابلته بالعصيان و مقابلة عصيانه بقبول توبته و إهباطه إلى الأرض و إكرام ذريّته بعده ببعثه الأنبياء منهم و إليهم و قسمته بينهم معيشتهم و آجالهم بالقلّة و الكثرة و ابتلائه لهم بذلك، و هو من قوله: فلمّا مهّد أرضه و أنفذ أمره. إلى قوله: و قاطعا لمرائر أقرانها، و اعلم أنّ الكلام في قصّة آدم عليه السّلام قد سبق في الخطبة الاولى مستوفى فلا نعيده غير أنّ في هذا الكلام فوائد:
الفائدة الاولى: معنى قوله: مهّد أرضه
أى جعلها مهادا كقوله تعالى أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً أو جعلها مهدا كقوله تعالى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً و على التقدير الأوّل أراد أنّه لمّا خلقها بحيث يسهل على العباد أن يتصرّفوا فيها بالقعود و القيام و الزراعة و ساير جهات المنفعة و أنفذ أمره في خلق آدم خلقه بعد ذلك، و على التقدير الثاني يكون لفظ المهد استعارة لها ملاحظة لتشبيهها بمهد الصبىّ في كونه محلّ الراحة و النوم.
الفائدة الثانية: قوله: و أنفذ أمره
أى في إيجاد مخلوقاته و تمامها فحكم على العالم بالتمام باختيار نوع الإنسان الّذى هو تمام دائرة الوجود فقال له كن فكان.
الفائدة الثالثة: قوله: خيرة من خلقه
نصب على الحال و يحتمل النصب على المصدر و الشاهد على كونه خيرة اللّه من خلقه قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى‏ آدَمَ و قوله وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى‏ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا«» و بيان هذا التكريم من وجهين: أحدهما: قال أبو يزيد البسطامىّ: إنّ أنواع كرامات اللّه تعالى في حقّ البشر غير متناهية كما قال تعالى وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها هذا على سبيل الإجمال أمّا التفصيل فمن وجوه: الأوّل: أنّه سبحانه يمطر كلّ ساعة على المتوكّلين مطر الكفاية كما قال تعالى وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ. الثاني: أنّه يمطر كلّ ساعة على المطيعين مطر المودّة كما قال تعالى سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا«». الثالث: أنّ يمطر على المجتهدين مطر الهداية كما قال تعالى وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا«». الرابع: أنّه يمطر على الشاكرين مطر الزيادة كما قال لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ. الخامس: أنّه يمطر على المتذكّرين مطر البصيرة كما قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ«» الثاني: أنّ التكريم لآدم عليه السّلام و ذريّته إمّا بأحوال داخلة في الإنسان أو خارجة عنه و الداخلة فيها إمّا بدنيّة أو غيرها: أمّا البدنيّة الّتى اكرم بها فامور: الأوّل: الصورة الحسنة كما قال تعالى: وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ. الثاني: حسن القامة و التعديل كما قال تعالى لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ و ذلك أنّ الشي‏ء كلّما كان أكثر علوّا و ارتفاعا كان أشرف في نوعه فإنّ أحسن الأشجار أعلاها امتدادا. الثالث: أنّه أكرمه بتمكينه من القيام و القعود و الاستلقاء و الانبطاح و الاضطجاع و ذلك أنّه تعالى ركّب الخلق على أصناف أربعة: أحدها: ما يشبه القائمين كالأشجار، و ثانيها: ما يشبه الراكعين كالبهائم، و ثالثها: ما يشبه الساجدين كالحشرات الّتى تدبّ على وجوهها و بطونها، و منها ما يشبه القاعدين كالجبال ثمّ إنّه سبحانه خلق الإنسان‏ قادرا على جميع هذه الهيئات، و مكنّه من ذكره على جميع هذه الأحوال كما قال تعالى الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى‏ جُنُوبِهِمْ«» و أمّا الأحوال الّتى اكرم بها غير بدنيّة فامور: أحدها: الروح الّتى هى محلّ العلم بأشرف الموجودات و مبدئها و هو اللّه تعالى كما قال وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ و شرّفه بإضافة روحه إليه، و بهذا التشريف تميّز عن ساير الموجودات في هذا العالم.

الثاني: العقل و شرفه من وجوه: الأوّل: روى أنّ اللّه تعالى أوحى إلى داود عليه السّلام إذا رأيت عاقلا فكن له خادما. الثاني: قول الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم: أوّل ما خلق اللّه العقل فقال له: أقبل فأقبل ثمّ قال له: أدبر فأدبر فقال: و عزّتى و جلالى ما خلقت خلقا أكرم علىّ منك، بك آخذوا بك اعطى و بك اثيب و بك اعاقب. و اعلم أنّ للعقل بداية و نهاية و كلاهما يسمّيان عقلا: أمّا الأوّل: فهو القوّة المهيّئة للعلوم الكلّيّة الضروريّة كما للطفل و هو المشار إليه بقول النبىّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم، و الثاني: العقل المستفاد و هو المشار اليه بقوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم لعلىّ عليه السّلام: إذا تقرّب الناس إلى خالقهم بأبواب البرّ فتقرّب أنت إليه بعقلك تسبقهم بالدرجات و الزلفى عند الناس في الدنيا و عند اللّه في الآخرة. الثالث: العلم و الحكمة الّتى هى ثمرة العقل كما قال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ«» و قال يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَ ما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ«» و سمّاه حياة و نورا فقال أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ«» و أمّا التكرمة الخارجة عنه فامور: أحدها: أنّه خلق ما سواه منفعة له فقال: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً و قال: وَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً«» ففرش الأرض و جعل السماء سقفا محفوظا و جعل ما أخرج من الأرض رزقا له و ما أرسله من السحاب من ماء مادّة لذلك كما قال تعالى وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ«» و أكرمه بخلق الشمس و القمر و النجوم كما قال وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ و قوله وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ و قال: وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ«» و أكرمه بخلق الأنعام فجعل منها غذاءه و ملبوسه و راحته و جماله و زينته فقال وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْ‏ءٌ وَ مَنافِعُ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ وَ لَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ إلى قوله وَ الْخَيْلَ وَ الْبِغالَ وَ الْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَ زِينَةً وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ«». الثاني: روى عن أمير المؤمنين عليه السّلام في تفسير قوله تعالى وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ أنّه قال: بالدعوة إلى الجنّة كما قال وَ اللَّهُ يَدْعُوا إِلى‏ دارِ السَّلامِ.

لثالث: أنّه أكرمهم بتخيّر قلوبهم لمعرفته و ألسنتهم لشهادته و أبدانهم لخدمته فشرّفهم بتكليفه و بعثة الأنبياء إليهم من أنفسهم كما قال تعالى لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ«» ثمّ جعل آدم و الأنبياء من ذريّته أكرم عباده لديه فحباهم بالنبوّة و الرسالة كما قال تعالى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى‏ آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ«» ثمّ فضّل اولى العزم منهم فقال: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ثمّ فضّل بعضهم على بعض و هو الخليل و الكليم و الروح و الحبيب فقال تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ«» ثمّ فضّل محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم على الكلّ فقال وَ كانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً«» و جعله غاية طينتهم و خاتمة كمالهم فقال وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ«».

الفائدة الرابعة: قوله: و جعله أوّل جبلّته
إشارة إلى أنّ آدم أوّل شخص تكوّن في الوجود من نوع الإنسان، و قوله: و المخاطرة بمنزلته: أى عند اللّه و كونه مستحقّا للقرب منه، و قوله: موافاة لسابق علمه إشارة إلى أنّ وقوعه في الوجود بقدر عن ضابط القلم‏ و القضاء الإلهىّ السابق.

الفائدة الخامسة: قوله: فأهبطه بعد التوبة
من قال: إنّ المراد بآدم هو نوع النفوس البشريّة و قد ثبت أنّه حادث أو أنّه هو الشخص الأوّل منها قال: إنّ التوبة قبل الإهباط هى التوبة بالقوّة المعلومة للّه من عصاة أولاد آدم التائبين إليه قبل إهباط نفوسهم من درجات عرفانه، و إلفات وجوههم إلى عمارة الأرض، و الاشتغال بالحرث و النسل، و الأنبياء عليهم السّلام يرجعون عن المباحات إلى ما هو الأولى و الأهمّ من عبادة اللّه و مطالعة أنوار كبريائه و يعدّون ما رجعوا عنه ذنوبا، و رجوعهم عنه توبة كما قال النبىّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّه ليغان على قلبى فأستغفر اللّه في اليوم سبعين مرّة، و ليس ذلك المستغفر منه إلّا اشتغال ذهنه بتدبير امور الأرض و عمارتها و اشتغاله بذلك عن الخلوة باللّه و استشراق أنوار قدسه.

الفائدة السادسة: قوله: و ليقيم الحجّة به على عباده
الّذين بعث آدم حجّة عليهم أمّا أولاده الموجودون في زمانه و المنقول أنّه مات عن أربعين ولد، أو من بلغته سنّته منهم بعد وفاته و المنقول أنّ اللّه تعالى أنزل من الأحكام تحريم الميتة و الدم و لحم الخنزير و حروف المعجم في أحدى و عشرين ورقة و هو أوّل كتاب كان في الدنيا أجرى اللّه عليه الألسنه كلّها.

الفائدة السابعة: قوله: و لم يخلهم بعد أن قبضه ممّا يؤكّد عليهم حجّة ربوبيّته
أى أنّ حجّة ربوبيّته قائمة عليهم في كيفيّة تخليقه لهم، و خلق ما يستدلّون عليه به من صنعه كما قال تعالى سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ«» الآية و غيره من الآيات. و إنّما يكون بعثة الأنبياء مؤكّدة لتلك الحجج مذكّرة للغافلين عنها بها و منبّهة على وجودها و موصلة بينهم و بين معرفته بما جاءت به من الكتب المنزلة و السنن الشرعيّة، و قوله: بلغ المقطع عذره و نذره: أى إعذاره إلى الخلق و إنذاره لهم بلغ الغاية. و مقطع كلّ شي‏ء غايته.

الفائدة الثامنة: تقدير اللّه أرزاقهم تقسيمه لها
و إعطاء كلّ مخلوق ما كتب له في اللوح المحفوظ منها من قليل و كثير و ضيّق و واسع و متيسّر و متعسّر و معاقبة الأضداد عليهم من تنغيض سعة الغنى بلواحق الفقر و الفاقة كما قال: و بينما الإنسان في ملكه أصبح محتاجا إلى الفلس. و كذلك إلحاقه السلامة في النعم بطوارق الآفات من غرق أو حرق أو غصب ظالم و غلب غاشم و كذلك وسعة الأرزاق و فرج أفراحها و تكديرها بغصص أحزانها و أتراحها ثمّ خلقة الآجال متفاوتة بالطول و القصر و التقدّم و التأخّر.

الفائدة التاسعة: تقديره للموت متّصلا بأسبابها
و لمّا كان الأجل عبارة عن وقت ضرورة الموت و كانت أسباب حلول تلك الآفات هى بعض الأمراض أو القتل مثلا لا جرم صدق أنّ الموت الّذى هو عبارة عن مفارقة الأرواح لأجسادها متّصلا بتلك الأسباب، و استعار لفظ الخلج و هو الجذب للموت، و رشّح بذكر الأشطان، و وجه المشابهة ما يستلزمه الموت من قرب الأجل كما يستلزمه الجاذب من قرب المجذوب إليه فقدّر الموت جاذبا للأجل بالحبال كما يجذب بها الإنسان ما يريد، و أمّا كونه قاطعا لمرائر أقرانها فاستعار أيضا لفظ المرائر لأسباب العلاقة بين اقتران الآجال و هم المتقاربون في الزمان الواحد الّذى يتّصل بهم الأجل و تلك الأسباب كالصداقة و الاخوّة و ساير أسباب العلاقة بين الناس، و ظاهر كون الموت قاطعا لتلك المرائر.

الفائدة العاشرة: أنّه عليه السّلام جعل قسمة اللّه تعالى للأرزاق و تقديرها بالكثرة و القلّة و الضيق و السعة صورة ابتلاء من اللّه  للشكر من الأغنياء و الصبر من الفقراء و قد أشرنا في قوله: ألا إنّ الدنيا دار لا يسلم منها إلّا فيها. إلى أنّ المراد بالإبتلاء من اللّه معاملته تعالى لعباده معاملة المبتلين المختبرين لأنّه سبحانه عالم الخفيّات و السرائر فلا يتصوّر في حقّه الاختبار حقيقة، إلّا أنا نزيده هاهنا بيانا فنقول: إنّ العبد إذا تمكّن في خاطره أنّ ما يفعله اللّه من إفاضة نعمه عليه أو حرمانه لها ابتلاء لشكره أو صبره فشكر أو صبر حصل من شكره أو صبره على ابتلائه ملكات فاضلة في نفسه يستعدّ بها لمزيد الكمال و تمام النعمة كما قال تعالى لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ و قال وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ«» و أمّا التحقيق في أمثال هذه القسمة من ضيق‏ رزق أوسعة أو طول أجل أو قصره أو معاقبته شدّة لرخاء و حزنا لفرح فهو أنّ لكلّ واحد من هذه الامور أسباب قد تخفى على من تعرّض له و لا بدّ من انتهائها إلى قضاء اللّه فما عدّ منها خيرا فهو داخل في الإرادة الكلّيّة للخير المطلق بالذات و ما عدّ منها شرّا فداخل في القصاء الإلهىّ بالعرض كما علم ذلك في مظانّه، و باللّه التوفيق.

الفصل الثالث: في تمجيده سبحانه باعتبار كونه عالما بالأشياء
و عدّ من جزئيّاتها جملة هى من قوله: عالم السرّ من ضماير المضمرين إلى قوله: أو ناشئة خلق و سلالة. و لنشر إلى ما عساه يشكل من ألفاظه: الأوّل: خواطر رجم الظنون. لمّا كان الخاطر الظنىّ للإنسان يتعلّق بمظنون لا محالة بعد أن لم يكن أشبه تعلّقه به الرجم و هو الرمى بالحجر و نحوه فاستعير لفظه له و إنّما خصّ الظنّ بذلك دون العلم لما أنّ كثيرا ما يظنّ ما لا يجوز ظنّا غير مطابق كما يظنّ ببعض الناس ما يقبح منه و يصل إليه بسببه أذى و إن لم يكن صدقا فكان أشبه الأشياء برميه بالحجر المستلزم لأذاه. الثاني: عقد عزيمات اليقين ما انعقد في النفس من العزم عن يقين. الثالث: و مسارق إيماض الجفون: لمّا أشبه شعاع البصر البرق في وميضه و اختفائه عند فتح الجفون و طبقها استعار لفظ الوميض لبروزه و لفظ المسارق لمخارجه. الرابع: استعار لفظ الأكنان للقلوب بالنسبة إلى ما أخفته من الأسرار، و لفظ الغيابات للغيوب، و وجه المشابهة كون القلوب حافظة كالبيوت، و كون الظلمات مانعة من إدراك المبصرات كما تمنع الغيوب إدراك ما فيها. الخامس: مصائف الذرّ و مشاتى الهوامّ: بيوتها و إشرابها الصيفيّة و الشتويّة من بطن الأرض الواقية لها حرّ الصيف و برد الشتاء. و رجع الحنين من المولهة: ترديد صوت الثكلى في بكائها و حنينها إلى من فقدته. السادس: و لائج غلف الأكمام. إنّما حسنت الإضافة هنا لأنّ كلّ كمّ غلاف و لا ينعكس فجاز تخصيص العامّ بالإضافة إلى بعض جزئيّاته. السابع: محطّ الأمشاج: محلّ نزول النطف من الأصلاب، و مساربها، و هى الأوعية الّتى يتسرّب فيها المنى و الأخلاط الّتى تتولّد عنها. الثامن: و ما تسقى الأعاصير بذيولها: أى ما تثيره و تذروه من التراب، و استعار لفظ الذيول لما اخذ الأرض منها. التاسع: استعار لفظ العوم لدخول عروق النبات في نواحى الأرض لملاحظة شبهها بالماء، و روى: بنات الأرض بتقديم الباء. و هى الهوامّ الّتى تنشأ في الرمل و تغوص فيه و تسير كالحلكة، و هى دويبة كالعظاءة دون الشبر صفراء ملساء تستعملها العرب للسمنة و كنوع من الحيّات و غيرها. العاشر: و تغريد ذوات المنطق استعار لفظ المنطق للطير، و وجه المشابهة أنّ مدلول تغريدها معلوم للّه فأشبه النطق المفيد من الإنسان. الحادى عشر: ما أوعبته الأصداف كاللؤلؤ و المرجان و ما حضنت عليه أمواج البحار من لؤلؤ و حيوان و غيرهما، و لفظ الحضن مستعار للأمواج ملاحظة لشبهها بالحواضن في انطباقها على البيض و الفراخ. الثاني عشر: سبحات النور ما تنزّه منه عن كدر الظلمة، و لفظ النور مستعار لمعارف جلال اللّه، و الضمير في قوله: عليها. يرجع إلى الأرض، و قرارة النطفة: مستقرّها من الأرحام، و لفظ النقاعة استعارة لمحلّ دم الحيض، و المضغة الولد في بعض أطوار خلقته كما عرّفناه قبل، و ناشئة الخلق: ما نشأ من مخلوقاته. الثالث عشر: لم يلحقه في ذلك كلفة. إلى قوله: و لا فترة. الكلفة: كون الفعل مستلزما لفاعله نوع مشقّة و تلك المشقّة إمّا لضعف قوّة الفاعل أو ضعف آلته أو قصور علمه عن تصوّر ما يفعل، و البارى تعالى منزّه عن هذه الامور لاستلزمها الحاجة، و كذلك العارضة من عوارض موانع العلوم و نفوذها يستلزم وجود المقام و المثل و قد تنزّه قدس الحقّ عنهما و أمّا الملالة فالمفهوم انصراف النفس عن الفعل بسبب تحلّل الأرواح الدماغيّة و ضعفها عن العمل أو لعارض آخر لها، و قد علمت أنّها من لواحق الأجسام و كذلك الفترة. و البارى منزّه عنهما. الرابع عشر: قوله: بل نفذ فيهم علمه. إلى قوله: و غمرهم فصله. أثبت كلّ واحدة من‏ هذه القراين الأربع مقابلة للأربع الّتى نفاها: فنفاذ علمه فيهم مقابل لما نفاه من لحوق الكلفة في علمه بهم، و إحصاؤهم بعده مقابل للأعراض العارضة في حفظ خلقه، و وسع عدله لهم مقابل لنفى اعتوار الملالة في تنفيذ اموره و تدبير مخلوقاته إذ كان معنى عدله فيهم وضعه لكلّ موجود في مرتبته و هبته له ما يستحقّه من زيادة و نقصان مضبوطا بنظام الحكمة و اعتراض الملالة سبب لاختلاف نظام الفعل، و قوله: و غمرهم فضله مقابل لنفى الفترة فإنّ فتور الفاعل عن الفعل مانع له عن تتمّة فعله و تمام وجوده، و قوله: مع تقصيرهم عن كنه ما هو أهله تنبيه على حقارة عبادتهم في جنب عظمته و استحقاقه لما هو أهله ليدوم شكرهم و ثنائهم و لا يستكبروا شيئا من طاعتهم، و باللّه التوفيق.


الفصل الرابع: في تمجيده خطابا له و دعاء و طلبا لجزاء ما سبق من ثنائه
و تعديد أوصافه الجميلة و هو رضاه عنه و إغناؤه من غيره.
و فيه إشارات:
الاولى: قوله: أنت أهل الوصف الجميل و التعداد الكثير
إشارة إلى أنّه تعالى بحسب استحقاقه الوصف بأشرف طرفي النقيض كان أهل الوصف الجميل و باعتبار تعدّد ثنائه و حمده بالنظر إلى كلّ جزئىّ من جزئيّات نعمه هو أهل التعداد الكثير.

الثانية: و قد بسطت لى فيما لا أمدح به غيرك و لا أثنى به على أحد سواك
إشارة إلى إذنه له في شكره و الثناء عليه بالأوصاف الجميلة الّتى لا يستحقّها حقيقة إلّا هو و لا ينبغي أن تطلق إلّا له. و معنى هذه الإذن إمّا إلهام حسن شكر المنعم و مدحه و إذ لا منعم في الحقيقة إلّا هو فلا يستحقّ التمجيد المطلق إلّا هو. و مخاطبته له بايجاب الشكر كقوله تعالى وَ اشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ و بالتسبيح في قوله تعالى وَ مِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى‏ و قوله: وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا و استعار لفظ المعادن للخلق، و وجه المشابهة أنّ معدن الشي‏ء كما أنّه مظنّة المطلوب منها كذلك الخلق أرباب النعم الفانية مظانّ خيبة طالبها من أيديهم و حرمانها، و كذلك مواضع الريبة أى الشكّ في منعهم و عطائهم لها و لذلك فسّره بقوله: و عدلت بلسانى من مدايح الآدميّين و الثناء على المربوبين المخلوقين.

الثالثة: قوله: دليلا  نصب على الحال أو المفعول، و المراد برجائه دليلا على ذخاير الرحمة رجاؤه أن يسوقه بهدايته إلى وجوه الاستعدادات إلى رحمته و يستر عليه بتهيّئه للالتفات إليه عن كلّ خاطر سواه فإنّ كلّ خاطر سوى الحقّ سبحانه ذنب في حقّ مثله عليه السّلام، و لفظ الذخيرة و الكنوز مستعاران لجوده.

الرابعة: قوله: هذا مقام من أفردك بالتوحيد
إشارة إلى مقامه بين يديه بهذا الذكر و التوحيد في خطبته، و هو توطئة لذكر مطلوبه و استنزال رحمة اللّه ثمّ قال: و لى فاقة إليك فذكر وجه استحقاقه لجوده أوّلا و قصر سدّ تلك الفاقة على فضله إذ لم تكن فاقة فى أمر دنيوىّ يمكن المخلوقين الإتيان به ثمّ أردفه بذكر مطلوبه و هو رضا اللّه و إغناؤه عمّن سواه و ظاهر أنّ حصولها مستلزم لما رجاه اللّه دليلا عليه من ذخاير رحمته و كنوز مغفرته. و باللّه العصمة و التوفيق.


شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 2 ، صفحه‏ى 323

خطبه 87 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةٍ وَ الْخَالِقِ مِنْ غَيْرِ رَوِيَّةٍ- الَّذِي لَمْ يَزَلْ قَائِماً دَائِماً إِذْ لَا سَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ- وَ لَا حُجُبٌ ذَاتُ إِرْتَاجٍ وَ لَا لَيْلٌ دَاجٍ وَ لَا بَحْرٌ سَاجٍ- وَ لَا جَبَلٌ ذُو فِجَاجٍ وَ لَا فَجٌّ ذُو اعْوِجَاجٍ- وَ لَا أَرْضٌ ذَاتُ مِهَادٍ وَ لَا خَلْقٌ ذُو اعْتِمَادٍ- ذَلِكَ مُبْتَدِعُ الْخَلْقِ وَ وَارِثُهُ وَ إِلَهُ الْخَلْقِ وَ رَازِقُهُ- وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ دَائِبَانِ فِي مَرْضَاتِهِ- يُبْلِيَانِ كُلَّ جَدِيدٍ وَ يُقَرِّبَانِ كُلَّ بَعِيدٍ قَسَمَ أَرْزَاقَهُمْ وَ أَحْصَى آثَارَهُمْ وَ أَعْمَالَهُمْ- وَ عَدَدَ أَنْفُسِهِمْ وَ خَائِنَةَ أَعْيُنِهِمْ- وَ مَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ مِنَ الضَّمِيرِ- وَ مُسْتَقَرَّهُمْ وَ مُسْتَوْدَعَهُمْ مِنَ‏ الْأَرْحَامِ وَ الظُّهُورِ- إِلَى أَنْ تَتَنَاهَى بِهِمُ الْغَايَاتُ هُوَ الَّذِي اشْتَدَّتْ نِقْمَتُهُ عَلَى أَعْدَائِهِ فِي سَعَةِ رَحْمَتِهِ- وَ اتَّسَعَتْ رَحْمَتُهُ لِأَوْلِيَائِهِ فِي شِدَّةِ نِقْمَتِهِ- قَاهِرُ مَنْ عَازَّهُ وَ مُدَمِّرُ مَنْ شَاقَّهُ وَ مُذِلُّ مَنْ نَاوَاهُ- وَ غَالِبُ مَنْ عَادَاهُ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ وَ مَنْ سَأَلَهُ أَعْطَاهُ- وَ مَنْ أَقْرَضَهُ قَضَاهُ وَ مَنْ شَكَرَهُ جَزَاهُ- عِبَادَ اللَّهِ زِنُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُوزَنُوا- وَ حَاسِبُوهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تُحَاسَبُوا- وَ تَنَفَّسُوا قَبْلَ ضِيقِ الْخِنَاقِ وَ انْقَادُوا قَبْلَ عُنْفِ السِّيَاقِ- وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ لَمْ يُعَنْ عَلَى نَفْسِهِ- حَتَّى يَكُونَ لَهُ مِنْهَا وَاعِظٌ وَ زَاجِرٌ- لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ غَيْرِهَا لَا زَاجِرٌ وَ لَا وَاعِظٌ

اللغة
أقول: الأرتاج: الأغلاق. و الساجى: الساكن. و الفجاج: الاتّساع. و الفجّ: الواسع. و دائبان: مجدّان في سيرهما. و عازّه: غالبه. و المناواة: المعاداة.

المعنى
و قد صدر هذا الفصل باعتبارات إضافيّة للحقّ سبحانه في معرض تمجيده:
فالأوّل: كونه تعالى معروفا من غير رؤية
و قد سبق معنى معرفته تعالى و مراتبها و بيان كونه منزّها عن الرؤية بحاسّة البصر.
الثاني: كونه تعالى خالقا من غير رويّة
و قد سبق أيضا بيانه في قوله في الخطبة الاولى: بلا رويّة أجالها.
الثالث: كونه لم يزل دائما
و ذلك لكون وجوب وجوده مستلزما لاستحالة عدمه أزلا و أبدا.
الرابع: كونه قائما.
يجوز أن يريد به معنى الدائم الباقى، و يجوز أن يريد به القائم بامور العالم، و للمفسّرين فيه على هذا الوجه أقوال: الأوّل: عن ابن عبّاس- رضى اللّه عنه- كونه عالما بالخلق أينما كانوا و ضابطا لأحوالهم.

الثاني: قيامه توكيله الحفظة عليهم و هو المشار إليه بقوله تعالى أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى‏ كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ.

الثالث: القائم على الشي‏ء هو الحافظ له و المدبّر لأمره.

الرابع: هو المجازى بالأعمال.

الخامس: هوالقاهرلعباده المقتدر عليهم

و قوله: إذ لا سماء. إلى قوله: ذو اعتماد إشارة إلى جهة اعتبار أزليّة قيامه بذاته و سبقه لكلّ ممكن و دوامه تقريرا لقول الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم: كان اللّه و لا شي‏ء. فأمّا الحجب ذات الأرتاج فيحتمل أن يريد بها السماوات على ظاهر الشريعة و أنّه تعالى في السماء فأشبهت الحجب له فأطاق له لفظها عليها، و كونها ذات أرتاج كناية عن عدم التمكّن من فتحها و الدخول فيها كناية بالمستعار، و قال بعض الفضلاء: أراد بها الهيئات البدنيّة و محبّة الدنيا و الظلمات الحاصلة للنفس الحاجبة لها عن مشاهدة أنوار جلال اللّه حتّى كأنّها أقفال عليها كما قال تعالى أَمْ عَلى‏ قُلُوبٍ أَقْفالُها و قوله: و لا خلق ذو اعتماد: أى ذو قوّة و بطش.

السادس: كونه مبتدع الخلق
أي مخترعه على غير مثال سبق.

السابع: كونه وارثه:
أى كما أنّه مبدأه فهو مآله و مرجعه، و ذلك إشارة إلى كونه دائما قائما لم يزل و لا يزال.

الثامن: كونه إله الخلق
و هو اعتبار يلحقه بالقياس إلى ايجاده لهم و استعباده إيّاهم.

التاسع: كونه رازقهم
و هو اعتبار له بالقياس إلى إفاضة ساير نعمه عليهم.
أحدها: كون الشمس و القمر دائبين في مرضاته: أي على وفق إرادته للخير المطلق و النظام الكلّى، و ذكرهما في معرض تمجيده لكونهما من أعظم آيات ملكه، و قوله: يبليان كلّ جديد. نسب الإبلاء إليهما لكون حركاتهما من الأسباب لحدوث الحوادث في هذا العالم و تغيّراته، و كذلك قوله: و يقرّبان كلّ بعيد، و فيه جذب إلى ذكر المعاد و العمل له فكونهما يبليان كلّ جديد منبّه على عدم الثقة و الاعتماد على ما يروق و يعجب من حسن الأبدان وجدتها، و كذلك ما يحدث و يتجدّد من قينات الدنيا و لذّاتها لوجوب دخولها فيما يبلى و كونهما يقرّبان البعيد تنبيه مع ذلك على الحذر ممّا يستبعده أهل الغفلة من الموت و الفناء في صحّة أبدانهم و سلامتهم في حياتهم الدنيا.

العاشر: كونه تعالى قسم أرزاقهم
كقوله نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا«» أي وهب لكلّ من الخلق ما كتب له في اللوح المحفوظ.

الحادي عشر: كونه أحصى آثارهم.
إلى قوله: من الأرحام و الظهور: أى أحصى كلّ ذلك منهم بقلم القضاء الإلهى في الألواح المحفوظة و إليه الإشارة بقوله تعالى وَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ و قوله وَ ما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ«» و قوله يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَ ما تُخْفِي الصُّدُورُ«» و قوله وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَ مُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ«» و قوله: إلى أن تتناهى بهم الغايات: أى يعلم كلّ أحوالهم من حين ابتدائهم إلى أن يقف كلّ عند غايته المكتوبة له من خير أو شرّ.

الثاني عشر: هو الّذي اشتدّت نقمته على أعدائه في سعة رحمته و اتّسعت رحمته لأوليائه في شدّة نقمته
و أشار بذلك إلى كمال ذاته بالنسبة إلى ملوك الدنيا مثلا فإنّ أحدهم في حالة غضبه على عدوّه لا يتّسع لرحمته و لا رحمة غيره، و كذلك في حال رحمته لأوليائه لا يجتمع معها غضبه عليهم، و لمّا ثبت أنّه تعالى هو الغنيّ المطلق المنزّه عن صفات المخلوقين و أنّه المعطى لكلّ قابل ما يستحقّه من غير توقّف في وجوده على أمر من ذاته و كان أعداء اللّه مستعدّون ببعدهم عنه لقبول سخطه و شدّة نقمته في الآخرة لا جرم أولاهم ذلك و إن كانوا في الدنيا في سعة رحمته و شمول نعمته، و كذلك أولياؤه لمّا استعدّوا لقبول رحمته و شمول نعمته أفاضها عليهم فهم في حضرة قدسه على غاية من البهجة و السعادة و ضروب الكرامة و إن كانوا بأجسادهم في ضروب من العذاب و شقاوة الفقر و الضنك في الدنيا، و ذلك لا يملكه إلّا حليم لا يشغله غضب عن رحمته، عدل حكيم لا تمنعه رحمته عن إنزال عقوبته سبحانه ليس إلّا هو.

الثالث عشر: قاهر من عازّه.
إنّه تعالى قاهر باعتبار أنّه قاصم ظهور الجبابرة من أعدائه فيقهرهم بالموت و الإذلال كفرعون إذ قال: فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى‏ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَ. و هو الّذي يلحق هذا الاعتبار مطلقا إذ كلّ موجود فهو مسخّر تحت قدرته و قهره عاجز في قبضته.

الرابع عشر: و مدمّر من شاقّه.
الخامس عشر: و مذّل من ناوأه.
السادس عشر: و غالب من عاداه.
فمشاقّة اللّه اتّباع غير سبيله من بعده ما يتبيّن للمنحرف الهدى، و مناوأته الإعراض عن أوامره و اتّباع الشهوات و إذلاله تعالى حينئذ هو إفاضته لصورة الحاجة إلى غيره.
السابع عشر: كافى من توكّل عليه.
الثامن عشر: و معطى من سأله.
التاسع عشر: و قاضى من أقرضه.

العشرون:
و مجازي من شكره. و هذه الاعتبارات تعود إلى حرف واحد و هو أنّ العبد إذا استعدّ بحسن التوكّل و السؤال و الصدقة و الشكر لنعم اللّه وجب في جود اللّه و حكمته إفاضة كفايته فيما توكّل عليه فيه فكفايته من الكمالات إفاضة تمامها عليه، و من رفع النقصانات دفعها عنه ثمّ إعطاؤه ما سأل إذا استعدّ لقبوله ثمّ أداؤه عن قرضه أضعافه ثمّ جزاؤه على شكر زيادة إنعامه، و أطلق لفظ القرض لما يعطى الفقير مجازا كما قال تعالى مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً«» أى بريئا من جهات الرياء و السمعة خالصا لوجه اللّه فيضاعفه له أضعافا كثيرة، و وجه المناسبة كون الفقراء أهل اللّه و عياله فكان المعطى هو اللّه تعالى.

و قوله: عباد اللّه. إلى آخره.
شروع في الشصور و الموعظة فقوله: زنوا أنفسكم من قبل أن توزنوا. زنة النفوس في الدنيا اعتبار أعمالها و ضبطها بميزان العدل: أى مراعاة استقامتها على حاقّ الوسط من طرفى‏ الإفراط و التفريط اللذين هما ككفّتى الميزان مهما رجحت إحداهما فالنقصان لازم و الخسران قايم، و أمّا الميزان الاخروى فأمّا على رأى المتكلّمين و ظاهر الشريعة فظاهر و أمّا على رأى محقّقى السالكين من الصوفيّة فما أشار إليه الإمام الغزّاليّ- رضى اللّه عنه- كاف في بيانه قال: إنّ تعلّق النفس بالجسد كالحجاب لها عن حقايق الامور و بالموت ينكشف الغطاء كما قال تعالى فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ«» و ممّا ينكشف له تأثير أعماله فيما يقرّبه إلى اللّه تعالى و يبعّده عنه، و مقادير تلك الآثار و أنّ بعضها أشدّ تأثيرا من بعض، و في قدرة اللّه تعالى أن يجرى شيئا يعرف الخلق به في لحظة واحدة مقادير الأعمال بالإضافة إلى تأثيراتها في التقريب و الإبعاد فحدّ الميزان ما به يتميّز الزيادة و النقصان و إن اختلف مثاله في العالم المحسوس فمنه الميزان المعروف و منه القبّان و الاصطرلاب لحركات الفلك، و المسطرة لمقادير الخطوط، و العروض لمقادير حركات الأصوات فهذه كلّها أمثلة للميزان الحقيقىّ، و هو ما يعرف به الزيادة و النقصان و هو موجود فيها بأسرها، و صورته تكون للحسّ عند التشكيك و للخيال بالتمثيل.

و قوله: و حاسبوه قبل أن تحاسبوا.
 محاسبة النفس ضبط الإنسان على نفسه أعمالها الخيريّة و الشريّة ليزكّيها بما ينبغي لها و يعاقبها على فعل ما لا ينبغي، و هى باب عظيم من أبواب المرابطة في سبيل اللّه فإنّ للعارفين في سلوك سبيل اللّه و مرابطتهم مع أنفسهم مقامات خمسة:
الاولى: المشارطة ثمّ المراقبة ثمّ المحاسبة ثمّ المعاتبة ثمّ المجاهدة و المعاقبة.
و ضربوا لذلك مثالا فقالوا: ينبغي أن يكون حال الإنسان مع نفسه كحاله مع شريكه إذا سلّم إليه ما لا ليتّجر به فالعقل هو التاجر في طريق الآخرة، و مطلبه و ربحه تزكية النفس إذ بذلك فلاحها كما قال تعالى قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها«» و إنّما علاجها بالأعمال الصالحة فالعقل يستعين بالنفس في هذه التجارة إذا يستسخرها فيما يزكّيها كما يستعين التاجر بشريكه، و كما أنّ الشريك يصير خصما منازعا يجاذبه في الربح فيحتاج أن يشارطه أوّلا، و يراقبه ثانيا، و يحاسبه ثالثا، و يعاتبه أو يعاقبه‏ رابعا فكذلك العقل يحتاج إلى مشارطة النفس أوّلا فيوظّف عليها الوظايف، و يأمرها بسلوك طريق الحقّ، و يرشدها إليها، و يحرّم عليها سلوك غيرها كما يشترط التاجر على شريكه.

الثانية: أن لا يغفل عن مراقبتها لحظة فلحظة
عند خوضها في الأعمال و يلاحظها بالعين الكالئة و إلى مقام المراقبة الإشارة بقوله تعالى وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ وَ الَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ«» و قوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم: اعبد اللّه كأنّك تراه، و قد سبق بيان حقيقة المراقبة، و لا بدّ منها فإنّ الإنسان لو غفل عن نفسه و أهملها لم ير منها إلّا الخيانة و تضييع رأس المال كالعبد الخائن إذا انفرد بمال سيّده.

الثالثة: ثمّ بعد الفراغ من العمل ينبغي أن يحاسبها و يطالبها بالوفاء بما شرط
فإنّ هذه تجارة ربحها الفردوس الأعلى فتدقيق الحساب في هذا أهمّ من التدقيق في أرباح الدنيا لحقارتها بالنسبة إلى نعيم الآخرة فلا ينبغي أن يهمل من مناقشتها في ذرّة من حركاتها و سكناتها و خطراتها و لحظاتها فإنّ كلّ نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة لا عوض لها يمكن أن يشترى بما كنزه من كنوز الآخرة لا يتناهى. قالوا: و ينبغي للإنسان أن يخلو عقيب فريضة كلّ صبح مع نفسه بالوصيّة و يقول: أى نفس ليس لى بضاعة إلّا العمر و مهما فنى فقد فنى رأس مالى، و وقع اليأس من التجارة و طلب الربح، و هذا يوم جديد قد أمهلنى اللّه فيه و هو صاحب البضاعة و ربّها و لو توفّانى لقلت: ربّ ارجعون لعلّى أعمل صالحا فيما تركت: فاحسبى إنّك رددت فإيّاك و تضييع هذا اليوم و الغفلة فيه. و اعلمى أنّ اليوم و الليلة أربع و عشرون ساعة، و قد ورد في الخبر أنّه يفتح للعبد في كلّ يوم و ليلة أربع و عشرون خزانة مصفوفة فيفتح لها فيها خزانة فيراها مملوّة نورا من حسناته الّتى عملها في تلك الساعة فينال من الفرح و الاستبشار بمشاهدة تلك الأنوار ما لو قسّم على أهل النار لأغناهم عن الإحساس بآلامها، و يفتح له خزانة اخرى فيراها سوداء مظلمة يفوح نتنها و يغشاهم ظلامها و هى الساعة الّتى عصا اللّه تعالى فيها فينا له من الهول و الفزع ما لو قسمّ على أهل الجنّة لتغصّ عليهم نعيمها، و يفتح له خزانة اخرى فارغة ليس فيها ما يسرّه و ما يسوءه و هى الساعة الّتى نام فيها أو غفل في شي‏ء من مباحات الدنيا فيتحسّر على خلوّها و يناله من الغبن الفاحش ما ينال من قدر على ربح كثير ثمّ ضيّعه، و إليه الإشارة بقوله تعالى يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ«» و قال بعضهم: هب أنّ المسيئ قد عفى عنه أليس فاته ثواب المحسنين. و هو إشارة إلى الغبن و الحسرة يومئذ، ثمّ يستأنف وصيّته لأعضائه السبعة: و هى العين و الاذن و اللسان و البطن و الفرج و اليد و الرجل، و يسلّمها إليها فإنّها رعايا خادمة لها في التجارة و بها يتمّ أعمال هذه التجارة، و أنّ لجهنّم سبعة أبواب لكلّ باب منهم جزء مقسوم، و إنّما يتعيّن تلك الأبواب لمن عصى اللّه تعالى بهذه الأعضاء، و يوصى كلّ عضو بما ينبغي له و ينهاه عمّا لا ينبغي له، و يرجعه في تفصي تلك الأوامر و النواهى إلى مراسم الشريعة ثمّ يشترط عليها إن خالفت ذلك عاقبها بالمنع من شهواتها، و هذه الوصيّة قد تكون بعد العمل و قد تكون قبله للتحذير كما قال تعالى وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ«».

الرابعة: المجاهدة و المعاقبة،
و هو بعد المحاسبة إذا رأى نفسه قد تاقت معصية فينبغى أن يعاقبها بالصبر عن أمثالها و يضيّق عليها في مواردها و ما يقود إليها من الامور المباحة و إن رآها توانت و كسلت عن شي‏ء من الفضايل و ورد من الأوراد فينبغى أن يؤدّ بها بتثقيل الأوراد عليها و يلزمها فنونا من الطاعات جبرا لما فات. روى: أنّ ابن عمر أخّر صلاة المغرب حتّى طلع كوكبان فأعتق رقبتين.

الخامسة: توبيخ النفس و معاتبتها،
و قد علمت أنّ لك نفسا أمّارة بالسوء ميّالة إلى الشرّ، و قد امرت بتقويمها و قودها [عودها ج‏] بسلاسل القهر إلى عبادة ربّها و خالقها و بمنعها عن شهواتها و لذّاتها المألوفة فإن أهملتها شردت و جمحت و لم تظفر بها بعد ذلك، و إن لازمتها بالتوبيخ و المعاتبة و اللائمة كانت نفسك هى النفس اللوّامة، و سبيل المعاتبة أن تذكّر النفس عيوبها و ما هى عليه من الجهل و الحمق و ما بين يديها من مغافصة الموت و ما تؤول إليه من الجنّة و النار و ما عليه اتّفاق كلمة أولياء اللّه الّذين هم بتسليمها سادات‏ الخلق و رؤساء العالم من وجوب سلوك سبيل اللّه و مفارقة معاصيه، و تذكيرها بآيات اللّه و أحوال الصالحين من عباده. فهذه محاسبات النفس و مرابطاتها، و أمّا حسابها الاخروىّ فقد سبقت الاشارة إليه.

و قوله و تنفّسوا من قبل ضيق الخناق.
 استعار لفظ النفس لتحصيل الراحة و البهجة في الجنّة بالأعمال الصالحة في الدنيا المستلزمة لها كما يستلزم النفس راحة القلب من الكرب، و استعار لفظ الخناق من الحبل المخصوص للموت، و وجه المشابهة ما يستلزمه ضيق الخناق و الموت من عدم التمكّن و التصرّف و العمل: أى انتهزوا الفرصة للعمل قبل تعذّره بزوال وقته و ضيقه.

و قوله: و انقادوا قبل عنف السياق.
أى انقادوا لأوامر اللّه إلى طاعته قبل السوق العنيف و هو سوق ملك الموت بالجذبة المكربة كما سبق.

و قوله: و اعلموا أنّه من لم يعن على نفسه. إلى آخره.
أى من لم يعنه اللّه على نفسه. و إعانته له هو إعداد العناية الإلهيّة لنفسه الناطقة أن تقبل السوانح الخيريّة، و تأييدها بها على النفس الأمّارة بالسوء لتقوى بتلك السوانح على قهرها و على الانزجار عن متابعتها و الانجذاب إلى ما تدعوها إليه من الشهوات فإنّه متى لم يكن لها ذلك الاستعداد و القبول لم ينفعها وعظ غيرها و لم يقبله إذ لا قبول بدون استعداد للمقبول. و في ذلك تنبيه على وجوب الاستعانة باللّه في أحوال النفس و دفع الشيطان عنها. و باللّه التوفيق.


شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه‏ى 315

 

خطبه86 شرح ابن میثم یحرانی

و من خطبة له عليه السّلام
أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ- وَ طُولِ هَجْعَةٍ مِنَ الْأُمَمِ وَ اعْتِزَامٍ مِنَ الْفِتَنِ- وَ انْتِشَارٍ مِنَ الْأُمُورِ وَ تَلَظٍّ مِنَ الْحُرُوبِ- وَ الدُّنْيَا كَاسِفَةُ النُّورِ ظَاهِرَةُ الْغُرُورِ- عَلَى حِينِ اصْفِرَارٍ مِنْ وَرَقِهَا- وَ إِيَاسٍ مِنْ ثَمَرِهَا وَ اغْوِرَارٍ مِنْ مَائِهَا- قَدْ دَرَسَتْ مَنَارُ الْهُدَى وَ ظَهَرَتْ أَعْلَامُ الرَّدَى- فَهِيَ مُتَجَهِّمَةٌ لِأَهْلِهَا عَابِسَةٌ فِي وَجْهِ طَالِبِهَا ثَمَرُهَا الْفِتْنَةُ- وَ طَعَامُهَا الْجِيفَةُ وَ شِعَارُهَا الْخَوْفُ وَ دِثَارُهَا السَّيْفُ- . فَاعْتَبِرُوا عِبَادَ اللَّهِ- وَ اذْكُرُوا تِيكَ الَّتِي آبَاؤُكُمْ وَ إِخْوَانُكُمْ بِهَا مُرْتَهَنُونَ- وَ عَلَيْهَا مُحَاسَبُونَ- وَ لَعَمْرِي مَا تَقَادَمَتْ بِكُمْ وَ لَا بِهِمُ الْعُهُودُ- وَ لَا خَلَتْ فِيمَا بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمُ الْأَحْقَابُ وَ الْقُرُونُ- وَ مَا أَنْتُمُ الْيَوْمَ مِنْ يَوْمَ كُنْتُمْ فِي أَصْلَابِهِمْ بِبَعِيدٍ- . وَ اللَّهِ مَا أَسْمَعَكُمُ الرَّسُولُ شَيْئاً-إِلَّا وَ هَا أَنَا ذَا مُسْمِعُكُمُوهُ- وَ مَا أَسْمَاعُكُمُ الْيَوْمَ بِدُونِ أَسْمَاعِكُمْ بِالْأَمْسِ- وَ لَا شُقَّتْ لَهُمُ الْأَبْصَارُ- وَ لَا جُعِلَتْ لَهُمُ الْأَفْئِدَةُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ- إِلَّا وَ قَدْ أُعْطِيتُمْ مِثْلَهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ- وَ وَ اللَّهِ مَا بُصِّرْتُمْ بَعْدَهُمْ شَيْئاً جَهِلُوهُ- وَ لَا أُصْفِيتُمْ بِهِ وَ حُرِمُوهُ- وَ لَقَدْ نَزَلَتْ بِكُمُ الْبَلِيَّةُ جَائِلًا خِطَامُهَا رِخْواً بِطَانُهَا- فَلَا يَغُرَّنَّكُمْ مَا أَصْبَحَ فِيهِ أَهْلُ الْغُرُورِ- فَإِنَّمَا هُوَ ظِلٌّ مَمْدُودٌ إِلَى أَجَلٍ مَعْدُودٍ

اللغة

أقول: الفترة: ما بين زمانى الرسالة. و الهجعة: النومة. و الاعتزام: العزم، و روى: اعترام الفتن بالراء المهملة: أى كثرتها، و روى: اعتراض من اعترض الفرس الطريق إذا مشى عرضا من غير قصد. و تلظّت الحرب: تلهبّت. و التجهّم: العبوس. و الأحقاب: جمع حقب بضمّ الحاء و القاف و هو الدهر. و البطان: حزام البعير للقتب.

المعنى

و صورة هذا الفصل تذكيرهم بنعمة اللّه تعالى الّتى نفت ما كانوا فيه من بؤس و هى بعثة الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم و ما استلزمته من الخيرات ليعتبروا فيشكروا و يخلصوا التوجّه إلى اللّه تعالى فأشار أوّلا إلى النعمة المذكورة ثمّ أردفها بالأحوال المذمومة الّتى تبدلّت بتلك النعمة الجسيمة، و عدّ منها امورا: أحدها: الفترة من الرسل و ظاهر أنّ خلوّ الزمان عن رسول فيه يستلزم وجود الشرور و وقوع الهرج و المرج، و تلك أحوال مذمومة يلحق ذلك الزمان بها من الذمّ بمقدار ما يلحق زمان وجود الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم من المدح. الثاني: طول الهجعة من الأمم، و كنّى بالهجعة عن الغفلة في أمر المعاد و ساير المصالح الّتى ينبغي. الثالث: الاعتزام من الفتن أمّا على الرواية الاولى فنسبة العزم إلى الفتن مجاز كنّى به عن وقوعها بين الخلق المشبه لقصدها إيّاهم، و على الرواية الثانية: أى على‏ كثرة من الفتن، و على الرواية الثالثة فالمعنى أنّ الفتن لمّا كانت غير واقعة على قانون شرعىّ و لا نظام مصلحىّ و لذلك سميّت فتنة لا جرم أشبهت المعترض في الطريق من الحيوان الماشى على غير استقامة، و لذلك استعير لها لفظ الاعتراض. الرابع: و على انتشار من الامور: أى تفرّق امور الخلق و أحوالهم و جريان أفعالهم على غير قانون عدلىّ.

الخامس: التلظّى من الحروب. و قد سبق تشبيه الحرب بالنار فلذلك أسند إليها التلظّى على سبيل الاستعارة، و كنّى بها عن هيجانها و وجودها بينهم زمان الفترة. السادس: و الدنيا كاسفة، و الواو للحال: أى كاسف نورها، و نور الدنيا كناية عن وجود الأنبياء و ما يأتون به من الشرائع و ما ينتج عنهم من الأولياء و العلماء كناية بالمستعار، و وجه المشابهة ما يستلزم النور و وجود الأنبياء و الشرائع من الاهتداء بهما، و رشّح تلك الاستعارة بذكر الكسوف، و عبّر به عن عدم ذلك النور منها ملاحظة لشبهها بالشمس.
السابع: ظاهرة الغرور: أى كلّ قد اغترّ بها و انهمك في مشتهياتها و خدعته بخوادعها. الثامن: كونه أرسل على حين اصفرارهن ورقها و إياس من ثمرها و اغورار من ماءها. استعار لفظ الثمرة و الورق لمتاعها و زينتها، و لفظ الاصفرار لتغيّر تلك الزينة عن العرب في ذلك الوقت و عدم طلاوة عيشهم إذن و خشونة مطاعمهم كما يذهب حسن الشجرة باصفرار ورقها فلا يتلذّذ بالنظر إليها و عنى بالإياس من ثمرها انقطاع آمال العرب إذن من الملك و الدولة و ما يستلزمه من الحصول على طيّبات الدنيا، و كذلك استعار لفظ الماء لموادّ متاع الدنيا و طرق لذّاتها و لفظ الاغورار لعدم تلك الموادّ من ضعف التجارات و المكاسب و عدم التمليك للأمصار و كلّ ذلك لعدم النظام العدلىّ بينهم و كلّها استعارات بالكناية و وجه الاستعارة الاولى أنّ الورق كما أنّه زينة للشجرة و به كما له كذلك لذّات الدنيا و حياة الدنيا و زينتها، و وجه الثانية أنّ الثمر كما أنّه مقصود الشجرة غالبا و غايتها كذلك متاع الدنيا و الانتفاع به هو مقصودها المطلوب منها لأكثر الخلق، و وجه الثالثة أنّ الماء كما أنّه مادّة الشجر و به حياتها و قيامها في الوجود كذلك مولود تلك اللذّات هى المكاسب و التجارات و الصناعات، و قد كانت العرب خالية من ذلك، و وجوه باقى الاستعارات ظاهرة.

التاسع: دروس أعلام الهدى. وكنّى بأعلام الهدى عن أئمّة الدين، و كتبه الّتى بها يهتدى لسلوك سبيل اللّه و بدروسها عن موت اولئك و عدمهم كناية بالمستعار كما سبق. العاشر: ظهور أعلام الردى. و هم أئمّة الضلال الداعين إلى النار. الحادى عشر: كون الدنيا متجهّمة لأهلها عابسة في وجوه طلّابها، و كنّى بذلك عن عدم صفائها فإنّ طيب العيس في الدنيا إنّما يكون مع وجود نظام العدل و التصفية بين أهلها و عدم التظالم و ذلك في زمان الفترة مفقود بين العرب، و هو كناية بالمستعار، و وجه المشابهة ما يلزمه المستعار عنه و له من عدم تحصيل المطلوب معهما.

 الثاني عشر: كون ثمرها الفتنة: أى غاية سعيهم فيها على خبط في ظلمات جهلهم إنّما هو الفتنة: أى الضلال عن سبيل اللّه و التيه في ظلمات الباطل. و غاية كلّ شي‏ء هو مقصوده فتشبه الثمرة الّتى هى مقصود الشجرة فلذلك استعير لها لفظها.

الثالث عشر: و طعامها الجيفة. يحتمل أن يكون لفظ الجيفة هنا مستعارا لطعام الدنيا و لذّاتها، و وجه المشابهة أنّه لمّا كانت الجيفة عبارة عمّا أنتن و تغيّرت رائحته من جثّة حيوان و نحوها فخبث مأكله و نفر الطبع عنه كذلك طعام الدنيا و لذّاتها في زمان الفترة أكثر ما يكون من النهب و الغارة و السرقة و نحوهما ممّا يخبث تناوله شرعا و ينفر العقل منه و تأباه كرائم الأخلاق فأشبه ما يحصل من متاعها إذن الجيفة في خبثها و سوء مطعمها و إن كان أحد الخبيثين عقليّا و الآخر حسّيا فاستعير لفظها له، و يحتمل أن يكنّى بالجيفة عمّا كانوا يأكلون في الجاهليّة من الحيوان غير مذكّى و هو ما حرّمه القرآن الكريم من ذلك في قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ:«» أى المضروبة بالخشب حتّى تموت و يبقى الدم فيها فيكون أطيب كما زعم المجوس، و المترديّة: أى الّتى تردّت من علوّ فماتت. فإنّ كلّ ذلك إذا مات فكثيرا ما يتعفّن و يؤكل فيصدق أن طعامهم كان الجيفة.

الرابع عشر: كون شعارها الخوف. الخامس عشر: كون دثارها السيف. استعار لفظ الشعار للخوف و الدثار للسيف، و وجه الاستعارة الاولى أنّ الخوف و إن كان من العوارض القلبيّة إلّا أنّه كثيرا ما يستتبع اضطراب البدن و انفعاله بالرعدة فيكون شاملا له شمول ما يتّخذه الإنسان شعارا، و وجه الثانية أنّ الدثار و السيف يشتركان في مباشرة المدّثر و المضروب من فوقهما.

و قوله: فاعتبروا عباد اللّه شروع في المقصود. فقوله: و اذكروا تلك. إشارة إلى وجه العبرة من قبايح الأعمال: أى تلك الأعمال الّتى كانت عليها آباؤكم و إخوانكم زمان الفترة و زمان دعوة الرسول لكم، و قوله: فهم بها مرتهنون: أى محبوسون في سلاسل الهيئات البدنيّة و أغلال ما اكتسبوا منها، و محاسبون عليها. و قوله: و لعمرى. إلى قوله: ببعيد. إلحاق بهم بآبائهم في تشبيه زمانهم بزمانهم و تقارب ما بين الزمانين و تشبيه أحوالهم بحالهم في امور:

أحدها: أنّ اولئك كانوا آبائكم و ليس زمان الابن و حاله ببعيد من حال أبيه فيما يأتي و يذر.

الثاني: أنّ الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم لم يسمعهم شيئا إلّا و أسمعتكم إيّاه فلا فرق بينكم و بينهم من هذه الجهة. الثالث: أنّه لا تفاوت بين إسماعكم و إسماعهم.

الرابع: أنّ ساير الآلات البدنيّة الّتى كانت لاولئك فاكتسبوا بها كما لا و لم تكتسبوا حاصلة لكم أيضا. الخامس: أنّكم لم تعلموا شيئا كان آباؤكم جهلوه حتّى يكون ذلك سببا للفرق بينكم و بينهم.

السادس: و لا اصفيتم من الدنيا بشى‏ء لم يكن لآبائكم مثله، و غرضه من إلحاقهم بآبائهم في هذه الأحوال أمران: أحدهما: التنفير عن حال من سبق من العاصين بمخالفة أو امر اللّه تعالى. الثاني: الجذب و الترغيب في حال من سبق ممّن أطاع اللّه و الرسول فإنّه إذا حصلت المشابهة بينهم و بين السابقين و المتشابهان يتّحدان في اللوازم كان من تشبّه بسابق في عصيانه لزمه ما لزمه من أليم العقاب، و من تشبّه به في طاعته و انقياده للّه لزمه ما لزمه من الوصول إلى جزيل الثواب.

و قوله: و لقد نزلت بكم البليّة. يشبه أن يكون إنذارا بابتلاء الخلق بدولة بنى اميّة و ملوكها، و قوله: جائلا خطامها. كناية بالمستعار عن خطرها و صعوبة حال من يركن إليها فإنّها لمّا كانت دولة خارجة عن نظام الشريعة جارية على وفق الأوهام كان الراكن إليهم على خطر في دينه و نفسه كما أنّ من ركن إلى الناقة الّتى جال خطامها، أى لم يثبت في وجهها و ارتخى حزامها فركبها كان على خطر أن تصرعه فيهلك، ثمّ أردف ذلك بالنهى عن الاغترار بما أصبح فيه أهل الغفلة من متاع الدنيا و طيّباتها و نفّر عنه باستعارة لفظ الظلّ له، و وجه المشابهة ما يشتركان فيه من كونه ممدودا ينتهى عند أجل و يزول به. و باللّه التوفيق.


شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه‏ى 310

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

خطبه 85 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَقْصِمْ جَبَّارِي دَهْرٍ قَطُّ إِلَّا بَعْدَ تَمْهِيلٍ وَ رَخَاءٍ- وَ لَمْ يَجْبُرْ عَظْمَ أَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ إِلَّا بَعْدَ أَزْلٍ وَ بَلَاءٍ- وَ فِي دُونِ مَا اسْتَقْبَلْتُمْ مِنْ عَتْبٍ- وَ مَا اسْتَدْبَرْتُمْ مِنْ خَطْبٍ مُعْتَبَرٌ- وَ مَا كُلُّ ذِي قَلْبٍ بِلَبِيبٍ وَ لَا كُلُّ ذِي سَمْعٍ بِسَمِيعٍ- وَ لَا كُلُّ نَاظِرٍ بِبَصِيرٍ- فَيَا عَجَباً وَ مَا لِيَ لَا أَعْجَبُ مِنْ خَطَإِ هَذِهِ الْفِرَقِ- عَلَى اخْتِلَافِ حُجَجِهَا فِي دِينِهَا- لَا يَقْتَصُّونَ أَثَرَ نَبِيٍّ وَ لَا يَقْتَدُونَ بِعَمَلِ وَصِيٍّ- وَ لَا يُؤْمِنُونَ بِغَيْبٍ وَ لَا يَعِفُّونَ عَنْ عَيْبٍ- يَعْمَلُونَ فِي الشُّبُهَاتِ وَ يَسِيرُونَ فِي الشَّهَوَاتِ- الْمَعْرُوفُ فِيهِمْ مَا عَرَفُوا وَ الْمُنْكَرُ عِنْدَهُمْ مَا أَنْكَرُوا- مَفْزَعُهُمْ فِي الْمُعْضِلَاتِ إِلَى أَنْفُسِهِمْ- وَ تَعْوِيلُهُمْ فِي الْمُهِمَّاتِ عَلَى آرَائِهِمْ- كَأَنَّ كُلَّ امْرِئٍ مِنْهُمْ إِمَامُ نَفْسِهِ- قَدْ أَخَذَ مِنْهَا فِيمَا يَرَى بِعُرًى ثِقَاتٍ وَ أَسْبَابٍ مُحْكَمَاتٍ

اللغة

أقول: القصم بالقاف: الكسر. و الأزل بفتح الهمزة: الضيق و الشدّة. و اقتصّ أثره: تبعه.

المعنى

و مقصود هذا الفصل توبيخ الامّة على اختلاف آرائهم في الدين و استبداد كلّ منهم بمذهب بحسب رأيه في المسايل الفقهيّة و نحوها مع وجوده عليه السّلام بينهم، و إعراضهم عن مراجعته مع علمهم بقيامه بذلك.
فقوله: أمّا بعد. إلى قوله: ببصير.
 صدر الخطبة و كأنّه عليه السّلام فهم ممّن خرجت هذه الخطبة بسببه أنّهم إنّما يستبدّون بآرائهم من دون مراجعة عن كبر منهم على التعلّم و الاستفادة و محبّة الراحة من تحمّل كلفة التحرّى في الدين و التحرّز من الغلط فيه و مشقّة الطلب فلذلك خوّفهم من حال الجبابرة و أن تصيبهم بترك قواعد الدين إلى آرائهم المتفرّقة فيستعدّوا للهلاك بقوله: إنّه لم يقصم جبّارى دهر إلّا بعد إمهالهم و رخائهم فإنّهم إذا امهلوا و انغمسوا فيما هم فيه من الرخاء و الترف أعرضوا عن الآخرة و نسوا ذكر اللّه تعالى فاستعدّوا بتركهم لقوِانين الدين الّتى بها نظام العالم للهلاك و نحوه قوله تعالى وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً«» و كذلك قوله: و لم يجبر عظم أحد من الامم إلّا بعد أزل و بلاء. كنّى بجبران العظم عن قوّتهم بعد الضعف كناية بالمستعار، و صدق هذه القضيّة ظاهر فإنّ أحدا من الامم المتّبعين لأنبيائهم أو لملوكهم في إظهار دين أو طلب ملك لن يصلوا إلى مطلوبهم إلّا بعد قوّتهم و تضاعفهم و تظاهر بعضهم ببعض و معاناة بلاء أثر بلاء بحيث يستعدّون بذلك للفزع إلى اللّه تعالى فيهيّى‏ء قلوبهم لقبول الالفة و يعدّها باجتماع عزائمها لقبول صورة النصر، و فيه تنبيه على وجوب الاتّحاد في الدين و عدم تشتّت الآراء فيه فإنّ ذلك يدعو إلى التحزّب و التفرّق و يدخل عليهم الوهن و الضعف و كلّ ذلك ضدّ مطلوب الشارع كما سبق، و يحتمل أن يكنّى بقوله: لم يقصم جبّارى دهر. عن جبّارى وقته كمعاوية و أصحابه، و بقوله: لم يجبر عظم أحد من الامم إلّا بعد أزل و بلاء. عن أصحابه فنبّههم بالكلمة الاولى على أنّ اولئك الجبّارين و إن طالت مدّتهم و قويت شوكتهم فإنّما ذلك إملاء من اللّه لهم ليستعدّوا به للهلاك، و بالكلمة الثانية على أنّكم و إن ضعفتم و ابتليتم فذاك عادة اللّه فيمن يريد أن ينصره ثمّ عقّب ذلك بتوبيخهم على الاختلاف و تشعّب الآراء و المذاهب في الدين لما أنّ ذلك يؤدّى إلى طول محنتهم و ضعفهم عن مقاومة عدوّهم.

و قوله: و في دون ما استقبلتم من عتب
أى من عتابى لكم و استدبرتم من خطب:
أى من الأهوال الّتى كنتم ترونها من المشركين في مبدء الإسلام حيث كنتم قليلين و امرتم أن يثبت الواحد منكم لعشرة منهم ثمّ أيّدكم اللّه بنصره بالتأليف بين قلوبكم و جبر عظمكم بمن أسلم و دخل في دينكم و ذلك أىّ معتبر و فيه أىّ اعتبار فإنّكم لو لم تتّحدوا في الدين و تقاسوا مرارة ذلك النصير و اختلفت آراؤكم في ذلك الوقت كاختلافها الآن، و كنتم إذن على غاية من الكثرة لم تغن عنكم كثرتكم شيئا فكأنّه قال: فيجب من ذلك الاعتبار أن لا تفترقوا في الرأى و أن تتّحدوا في الدين و تراجعوا أعلمكم باصوله و فروعه.

و قوله: فما كلّ ذى قلب بلبيب. إلى قوله: ببصير.
 أراد بذى القلب الإنسان، و ظاهر أنّ الإنسان قد يخلو عن اللبّ و أراد باللبّ العقل و الذكاء و استعماله فيما ينبغي على الوجه الّذى ينبغي، و بالجملة فاللبيب من ينتفع بعقله فيما خلق لأجله و كذلك السميع و البصير هما اللذان يستعملان سمعهما و بصرهما في استفادة العبرة و إصلاح أمر المعاد و نحوه قوله تعالى أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها«» و قوله أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ«» و فائدة هذه الكلمات تحريك النفوس إلى الاعتبار كيلا يعدّ التارك له غير لبيب و لا سميع و لا بصير.

و قوله: يا عجبا. إلى آخره.
أردف تعجّبه بما يصلح جواب سؤال مقدّر عمّا يتعجّب منه فكأنّه فهم من تقدير ذلك السؤال تعجّب السائل من تعجّبه المستلزم لتبرّمه و تضجّره حتّى كأنّ السائل قال: و ممّ تتعجّب و علام هذا التبرّم و الأسف فقال: ما لى لا أعجب من خطأ هذه الفرق. ثمّ شرع في تفصيل الخطايا و المذامّ الّتى كان اجتماعها فيهم سببا لتعجّبه منهم فأشار إلى تركهم لما ينبغي و قدّم على الكلّ ذكر اختلاف حججهم في دينهم و ذلك هو الأصل الّذى نشأت عنه أكثر هذه الرذائل فأمّا تركهم لما ينبغي ففى صور: أحدها: تركهم لاقتصاص أثر نبيّهم فإنّهم لو اقتصّوا أثره لما اختلفوا إذ لا اختلاف فيما جاء به كما سبق بيانه لكنّهم اختلفوا فلم يقتصّوا أثر نبيّهم.
الثانية: تركهم الاقتداء بعمل الوصىّ و هو إشارة إلى نفسه و هذه أقطع لإعذارهم فإنّ الاختلاف في الدين قد يعرض عن ضرورة و هى عدم إصابة الكلّ للحقّ مع عدم الشارع الّذى يرجع إليه في التوقيف على أسرار الشريعة فأمّا إذا كان الموقف موجودا بينهم كمثله عليه السّلام امتنع أن يقعوا في تلك الضرورة فيعتذروا بها في الاختلاف. الثالثة: تركهم الإيمان بالغيب: أى التصديق به و الطمأنينة في اعتقاده.

و للمفسّرين في تفسير الغيب أقوال: أحدها: عن ابن عبّاس: هو ما جاء به من عند اللّه. الثاني: عن عطاء: هو اللّه سبحانه. الثالث: عن الحسن: هو الدار الآخرة و الثواب و العقاب و الحساب.
الرابع: قيل: يؤمنون بظهر الغيب كقوله تعالى يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ فالمعنى قوله عليه السّلام: أى لا يحفظون شرايط الإيمان في عقيب بعضهم على بعض. الخامس: عن ابن عيسى: الغيب ما غاب عن الحواسّ ممّا يعلم بالدليل. السادس: عن الأخفش يؤمنون بما غاب عن أفهامهم من متشابهات القرآن. الرابعة: تركهم العفّة عن عيب و هو إشارة إلى الغيبة و ظاهر أنّها فجور و عبور إلى طرف الإفراط من فضيلة العفّة. و أمّا فعلهم لما لا ينبغي فامور:

أحدها: أنّهم يعملون في الشبهات: أى لا يتوقّفون فيما أشبه عليهم أمره و لا يبحثون عن وجه الحقّ فيه بل يعملون فيه بما قادهم إليه الهوى.

الثاني: كونهم يسيرون في الشهوات لمّا لحظ مشابهة ميل قلوبهم إلى شهواتها الدنيويّة و انهماكها فيها قاطعة مراحل الأوقات بالتلذّذ لسلوك السائر في الطريق و نحوها استعار لذلك السلوك لفظ السير.

الثالث: كون المعروف فيهم ما عرفوا و المنكر ما أنكروا: أى أنّ المعروف و المنكر تابعان لإرادتهم و ميولهم الطبيعيّة فما أنكرته طباعهم كان هو المنكر بينهم و إن كان معروفا في الشريعة و ما اقتضته طباعهم و مالت إليه كان هو المعروف بينهم و إن كان منكرا في الدين، و الواجب أن يكون إرادتهم و ميولهم تابعة لرواسم الشريعة في اتّباع ما كان فيها معروفا و إنكار ما كان فيها منكرا.

الرابع: كون مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم و تعويلهم في المبهمات إلى آرائهم و هو كناية عن كون أحكامهم في كلّ ما يرد عليهم من مشكلات الدين و يستبهم من أحكامه تابعة لأهوائهم لا يجرونها على قانون شرعىّ يعرف حتّى أشيهت نفوسهم الأمّارة بالسوء الّتى هى منبع الأهواء المخالفة للشريعة الأئمّة الّتى يرجع إليهم في استفادة الأحكام فكلّ منهم يأخذ عن نفسه: أى يتمسّك فيما يراه و يحكم به بآراء كأنّها عنده عرى وثيقة: أى لا يضلّ من تمسّك بها و أسباب محكمات: أى نصوص جليّة و ظواهر واضحة لا اشتباه فيها، و قد عرفت معنى الحكم، و لفظ العرى مستعار، و قد سبق وجه الاستعارة.
و باللّه العصمة و التوفيق.


شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه‏ى 306

خطبه84 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام
و فيها فصول.

الفصل الأوّل: في صفات المتّقين
و هو قوله: عِبَادَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ أَحَبِّ عِبَادِ اللَّهِ إِلَيْهِ عَبْداً- أَعَانَهُ اللَّهُ عَلَى نَفْسِهِ فَاسْتَشْعَرَ الْحُزْنَ- وَ تَجَلْبَبَ الْخَوْفَ فَزَهَرَ مِصْبَاحُ الْهُدَى فِي قَلْبِهِ- وَ أَعَدَّ الْقِرَى لِيَوْمِهِ‏ النَّازِلِ بِهِ- فَقَرَّبَ عَلَى نَفْسِهِ الْبَعِيدَ وَ هَوَّنَ الشَّدِيدَ- نَظَرَ فَأَبْصَرَ وَ ذَكَرَ فَاسْتَكْثَرَ- وَ ارْتَوَى مِنْ عَذْبٍ فُرَاتٍ سُهِّلَتْ لَهُ مَوَارِدُهُ- فَشَرِبَ نَهَلًا وَ سَلَكَ سَبِيلًا جَدَداً- قَدْ خَلَعَ سَرَابِيلَ الشَّهَوَاتِ وَ تَخَلَّى مِنَ الْهُمُومِ- إِلَّا هَمّاً وَاحِداً انْفَرَدَ بِهِ فَخَرَجَ مِنْ صِفَةِ الْعَمَى- وَ مُشَارَكَةِ أَهْلِ الْهَوَى وَ صَارَ مِنْ مَفَاتِيحِ أَبْوَابِ الْهُدَى- وَ مَغَالِيقِ أَبْوَابِ الرَّدَى- قَدْ أَبْصَرَ طَرِيقَهُ وَ سَلَكَ سَبِيلَهُ وَ عَرَفَ مَنَارَهُ- وَ قَطَعَ غِمَارَهُ وَ اسْتَمْسَكَ مِنَ الْعُرَى بِأَوْثَقِهَا- وَ مِنَ الْحِبَالِ بِأَمْتَنِهَا فَهُوَ مِنَ الْيَقِينِ عَلَى مِثْلِ ضَوْءِ الشَّمْسِ- قَدْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ فِي أَرْفَعِ الْأُمُورِ- مِنْ إِصْدَارِ كُلِّ وَارِدٍ عَلَيْهِ وَ تَصْيِيرِ كُلِّ فَرْعٍ إِلَى أَصْلِهِ- مِصْبَاحُ ظُلُمَاتٍ كَشَّافُ عَشَوَاتٍ مِفْتَاحُ مُبْهَمَاتٍ- دَفَّاعُ مُعْضِلَاتٍ دَلِيلُ فَلَوَاتٍ يَقُولُ فَيُفْهِمُ وَ يَسْكُتُ فَيَسْلَمُ- قَدْ أَخْلَصَ لِلَّهِ فَاسْتَخْلَصَهُ- فَهُوَ مِنْ مَعَادِنِ دِينِهِ وَ أَوْتَادِ أَرْضِهِ- قَدْ أَلْزَمَ نَفْسَهُ الْعَدْلَ فَكَانَ أَوَّلَ عَدْلِهِ نَفْيُ الْهَوَى عَنْ نَفْسِهِ- يَصِفُ الْحَقَّ وَ يَعْمَلُ بِهِ لَا يَدَعُ لِلْخَيْرِ غَايَةً إِلَّا أَمَّهَا- وَ لَا مَظِنَّةً إِلَّا قَصَدَهَا قَدْ أَمْكَنَ الْكِتَابَ مِنْ زِمَامِهِ- فَهُوَ قَائِدُهُ وَ إِمَامُهُ يَحُلُّ حَيْثُ حَلَّ ثَقَلُهُ- وَ يَنْزِلُ حَيْثُ كَانَ مَنْزِلُهُ

اللغة

أقول: القرى: الضيافة: و الفرات: صادق العذوبة.

و النهل: الشرب في أوّل الورد.

و الجدد: الأرض المستوية.

و السرابيل: القمصان.

و المنار: الأعلام.

و الغمار:جمع غمرة و هى الزحمة من كثرة الناس و الماء و نحوه.

و العشوات: جمع عشوة و هى ركوب الأمر على جهل به.

و الغشوة بالغين المعجمة: هى الغطاء.

و المبهمة: الأمر الملتبس.

و المعضلات: الشدائد.

و ذكر من صفاتهم الّتى هى سبب محبّة اللّه لهم أربعين وصفا و قد علمت أنّ محبّة اللّه تعالى تعود إلى إفاضة الكمالات النفسانيّة على نفس العبد بحسب قربه بالاستعداد لها إلى جوده فمن كان استعداده أتمّ كان استحقاقه أوفى فكانت محبّة اللّه له أكمل.

فالأوّل من تلك الأوصاف: كونه أعانه اللّه على نفسه    أى أفاضه قوّة على استعداد يقوّى به عقله على قهر نفسه الأمّارة بالسوء.

الثاني: أن يستشعر الحزن    أى يتّخذه شعارا له. و أراد الحزن على ما فرّط في جنب اللّه و اكتسب من الإثم فإنّه من جملة ما أعدّته المعونة الإلهيّة لاستشعاره ليستعدّ به لكمال أعلى.

الثالث: أن يتجلبب الخوف
و هو اتّخاذه جلبابا. استعار لفظ الجلباب و هو الملحفة للخوف من اللّه و الخشية من عقابه، و وجه المشابهة ما يشتركان فيه من كون كلّ منهما متلبّسابه، و هو أيضا معونة من اللّه للعبد على تحصيل السعادة.

الرابع: زهرة مصباح الهدى في قلبه
و هو إشارة إلى شروق نور المعارف الإلهيّة على مرآة سرّه، و هو ثمرة الاستعداد بالحزن و الخوف و لذلك عطفه بالفاء، و استعار لفظ المصباح لنور المعرفة لما يشتركان فيه من كون كلّ منهما سببا للهدى و هو استعارة لفظ المحسوس للمعقول.

الخامس: كونه أعدّ القرى ليومه النازل به
استعار لفظ القرى للأعمال الصالحة و أراد باليوم النازل به يوم القيامة و استلزمت الاستعارة تشبيهه لذلك اليوم بالضيف أو بيوم القرى للضيف المتوقّع نزوله، و وجه المشابهة أنّ القرى كما يبيّض به وجه القارى عند ضيفه و يخلص به من ذمّه و يكسبه المحمدة و الثناء منه كذلك الأعمال الصالحة في ذلك اليوم تكون سببا لخلاص العبد من أهواله و تكسبه رضاء الحقّ سبحانه و الثواب الجزيل منه.

السادس: و قرّب على نفسه البعيد.
يحتمل وجهين: احدهما: أن يشير بالبعيد إلى رحمة اللّه فإنّها بعيدة من غير مستحقّها و المستحقّ لقبولها قريبة ممّن حسن عمله و كمل قبوله فالعبد إذا راض بالأعمال الصالحة نفسه و أعدّها قرى يومه كانت رحمة اللّه على غاية من القرب منه كما قال تعالى إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، الثاني: يحتمل أن يريد بالبعيد أمله الطويل في الدنيا و بتقريبه له على نفسه تقصيره له بذكر الموت دون بلوغه كما سبق.

السابع: كونه قد هوّن الشديد.
و يحتمل أيضا معنيين: أحدهما: أن يريد بالشديد أمر الآخرة و عذاب الجحيم و تهوينه لها بالأعمال الصالحة و استشراف أنوار الحقّ و ظاهر كونها مهوّنة لشديد عذاب اللّه، الثاني: أن يريد بالشدائد شدائد الدنيا من الفقر و الاهتمام بالمصائب الّتي تنزل به من الظلم و فقد الأحبّة و الأقرباء و نحو ذلك و تهوينه لذلك تسهيله على خاطره و استحقاره في جنب ما يتصوّره من الفرحة بلقاء اللّه و ما أعدّ له من الثواب الجزيل في الآخرة كما قال تعالى وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْخَوْفِ ووَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ«»

الثامن: كونه نظر:
أى تفكّر في ملكوت السماوات و الأرض و ما خلق اللّه من شي‏ء فأبصر: أي فشاهد الحقّ سبحانه في عجائب مصنوعاته بعين بصيرته.

التاسع: و ذكر فاستكثر
أي ذكر ربّه و معاده فاستكثر من ذكره حتّى صار الذكر ملكة له و يجلّى المذكور في أطوار ذكره لمرآة سرّه. و الاستكثار من الذكر باب عظيم من أبواب الجنّة.

العاشر: كونه ارتوى من عذب فرات.
شبّه العلوم و الكمالات النفسانيّة الّتي تفاض على العارف بالماء الزلال فاستعار له لفظ العذوبة، و رشّح تلك الاستعارة بذكر الارتواء، و قد سبق وجه هذه الاستعارة مرارا.
(يا) كونه سهلت له موارده.
الفايزون لقصب السبق في طرائق اللّه لا ينفكّون عن تأييد إلهىّ بخاصيّة مزاجيّة لهم بها سرعة الاستعداد لقبول الكمالات الموصلة إليه.

إذا عرفت ذلك فنقول: موارد تلك الكمالات من العلوم و الأخلاق هي معادنها و مواطنها المنتزعة منها و هي النفوس الكاملة الّتي يهتدى بها و تؤخذ عنها أنوار اللّه كالأنبياء، و تصدق تلك الموارد أيضا على بدايع صنع اللّه الّذي يردّها ذهن العبد و تكسب بها الملكات الفاضلة و سهولة تلك الموارد لهم هو سرعة قبولهم لأخذ الكمالات عنها بسهولة بأذهان صافية هيّأتها العناية الإلهيّة لقبولها و يسرّ بها لذلك.
(يب) فشرب نهلا:
اي أخذ تلك الكمالات سابقا إليها كثيرا من أبناء نوعه و متقدّما فيها لسهولة موردها عليه، و هي ألفاظ مستعارة لأخذه لها و سبقه إليها ملاحظة لشبهه بشرب السوابق من الأبل إلى الماء.
(يج) كونه قد سلك سبيلا جددا:
أي سبيل اللّه الواضح المستقيم العدل بين طرفى التفريط و الإفراط.
(يد) كونه قد خلع سرابيل الشهوات.
أكثر الأوصاف السابقة أشار فيها إلى تحصيل العلم و الاستعداد له، و أشار بهذا الوصف إلى طرف الزهد، و استعار لفظ السرابيل للشهوات، و وجه المشابهة تلبّس صاحبها بها كما يتلبّس بالقميص، و رشّح بلفظ الخلع، و كنّى به عن طرحه لاتّباع الشهوة و التفاته عنها فيما يخرج به عن حدّ العدل.
(يه) و تخلّى من الهموم إلّا همّا واحدا
أى من هموم الدنيا و علائق أحوالها و طرح كلّ مقصود عن قصده إلّا همّا واحدا انفرد به، و هو الوصول إلى مراحل عزّة اللّه و توجيه سرّه إلى مطالعة أنوار كبريائه و استشراقها و هو تمام الزهد الحقيقىّ و ظاهر كونه منفردا عن غيره من أبناء نوعه.
(يو) فخرج عن صفة العمى:
أى عمى الجهل بما حصل عليه من فضيلة العلم و الحكمة و عن مشاركة أهل الهوى في إفراطهم و فجورهم إذ هو على حاقّ الوسط من فضيلة العفّة.
(يز) فصار من مفاتيح أبواب الهدى.
فأبواب الهدى هو طرقه و سبله المعدّة لقبول من واهبه و قد وقف عليها العارفون و دخلوا منها إلى حضرة جلال اللّه فوقفوا على مراحلها و منازلها و مخاوفها فصاروا مفاتيح لما انغلق منها على أذهان الناقصين، و مصابيح فيها لنفوس‏ الجاهلين، و لفظ المفتاح مستعار للعارف، و وجه المشابهة ظاهر.
(يح) و مغاليق أبواب الردى.
فأبواب الردى هى أطراف التفريط و الإفراط و المسالك الّتي يخرج فيها عن حدود اللّه المردى سلوكها في قرار الجحيم. و العارف لمّا سدّ أبواب المنكرات الّتي يسلكها الجاهلون و لزم طريق العدل لا جرم أشبه المغلاق الّذي يكون سببا لسدّ الطريق أن يسلك فاستعير لفظه له، و في القرينتين مطابقة فالمغاليق بإزاء المفاتيح و الردى بإزاء الهدى.
(يط) قد أبصر
أى بنور بصيرته طريقه: أى المأمور بسلوكها و المجذوب بالعناية الإلهيّة إليها و هى صراط اللّه المستقيم.
(ك) و سلك سبيله
أى لمّا أبصر السبيل سلكها إذ كان السلوك هو المقصود الأوّل.
(كا) و قد عرف مناره.
لمّا كان السالك إلى اللّه قد لا يستقيم به طريق الحقّ إتّفاقا و ذلك كسلوك من لم تستكمل قوّته النظريّة بالعلوم و قد يكون سلوكه بعد استكماله بها. فالسالك كذلك قد عرف بالبرهان مناره: أى أعلامه المقصودة في طريقه الّتي هي سبب هدايته و هى القوانين الكلّيّة العمليّة، و يحتمل أن يريد بالمنار ما يقصده بسلوكه و هو حضرة جلال اللّه و ملائكته‏  المقرّبون.
(كب) قد قطع غماره
و أشار بالغمار إلى ما كان مغمورا فيه من مشاقّ الدنيا و همومها و التألّم بسبب فقدها و مجاذبة أهلها لها فإنّ العارف بمعزل عن ذلك و التألّم بسببه.
(كج) و استمسك من العرى بأوثقها و من الحبال بأمتنها.
أراد بأوثق العرى و أمتن الحبال سبيل اللّه و أوامره استعارة و وجه المشابهة أنّ العروة كما تكون سببا لنجاة من تمسّك بها و كذلك الحبل، و كان أجودها ما ثبت و تمتن و لم ينفصم كذلك طريق اللّه المؤدّى إليه يكون لزومه و التمسّك بأوامره سببا للنجاة من أهوال الآخرة و هى عروة لا انفصام لها و أوامرها حبال لا انقطاع لها، و إليها الإشارة بقوله تعالى فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى‏ لَا انْفِصامَ لَها«».
(كد) فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس
أى فكان بتمسّكه بأوامر اللّه و نواهيه‏ و مجاهدته في سبيله قد استشرق أتمّ أنوار اليقين فصار شاهدا بعين بصيرته عالم الملكوت رائيا بها الجنّة و النار عين اليقين كما يرى بصره الظاهر نور الشمس في الوضوح و الجلاء
(كه) قد نصب نفسه للّه سبحانه في أرفع الامور من إصدار كلّ وارد عليه و تصيير كلّ فرع إلى أصله
أى لمّا كمل في ذاته نصب نفسه لأرفع الامور من هداية الخلق و إفادتهم لقوانين طريق اللّه فصار كالمصباح يقتبس منه أنوار العلم فهو لكونه متلبّسا بها [مليّا بها خ‏] قايم بإصدار الأجوبة عن كلّ ما ورد عليه من الأسئلة الّتى استبهم أمرها على الأذهان، واف بردّ كلّ فرع من فروع العلم إلى أصله المنشعب عنه.
(كو) كونه مصباح ظلمات:
أى يهتدى به التائهون في ظلمات الجهل إلى الحقّ.
و لفظ المصباح مستعار له كما سبق.
(كز) كونه كشّاف عشوات:
أى موضح لما اشكل أمره و ركّب فيه الجهل من الأحكام الملتبسة مميّز وجه الحقّ منها، و من روى بالغين المعجمة فالمراد كشّاف أغطية الجهالات عن إبصار البصائر.
(كح) و كذلك كونه مفتاح مبهمات:
أى فاتح لما انغلق على أذهان الخلق و استبهم وجه الحقّ فيه من الأحكام.
(كط) كونه دفّاع معضلات:
أى يدفع كلّ حيرة في معضلة من معضلات الشرع صعب على الطالبين تميّز وجه الحقّ فيه و يجيبهم ببيانه عن التردّى في مهاوى الجهل.
(ل) و كذلك كونه دليل فلوات.
و استعار لفظ الفلوات لموارد السلوك و هى الامور المعقولة، و وجه المشابهة أنّ الفلوات كما لا يهتدى لسالكها إلّا الأدلّاء الّذين اعتادوا سلوكها و ضبطوا مراحلها و منازلها حتّى كان من لا قايد له منهم لا بدّ و أن يتيه فيها و يكون جهله بطرقها سببا لهلاكه كذلك الامور المتصوّرة المعقولة لا يهتدى لطريق الحقّ فيها إلّا من أخذت العناية الإلهيّة بضبعيه فألقت بزمام عقله إلى استاد مرشد يهديه سبيل الحقّ منها و من لم يكن كذلك حتّى حاد عن طريق الحقّ فيها خبط في ظلمات الجهل خبط عشواء، و سلكت به شياطينه أبواب جهنّم، و العارفون هم أدلّاء هذا الطريق و الواقفون على أخطارها و منازل السلامة فيها بعيون بصايرهم.

(لا) كونه يقول فيفهم
و ذلك لمشاهدته عين الحقّ من غير شبهة تعتريه فيما يقول و لا اختلاف عبارة عن جهل بالمقول.
(لب) كونه يسكت فيسلم
أى من خطر القول. و لمّا كانت فايدة القول الإفهام و الإفادة، و فايدة السكوت السلامة من آفات اللسان و كان كلامه في معرض المدح لا جرم ذكرهما مع فائدتهما. و المقصود أنّ العارف يستعمل كلّا من القول و السكوت في موضعه عند الحاجة إليه فقط.
(لج) كونه قد أخلص للّه فاستخلصه
و قد عرفت أنّ الإخلاص للّه هو النظر إليه مع حذف كلّ خاطر سواه عن درجة الاعتبار، و استخلاص الحقّ للعبد هو اختصاصه من بين أبناء نوعه بالرضى عنه و إفاضة أنواع الكمال عليه و إدنائه إلى حضرة قدسه و انفراده بمناجاته. و ظاهر أنّ إخلاصه سبب استخلاصه كما قال تعالى وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى‏ إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَ كانَ رَسُولًا نَبِيًّا وَ نادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَ قَرَّبْناهُ نَجِيًّا«».
(لد) فهو من معادن دينه.
استعار لفظ المعدن له، و وجه المشابهة اشتراكهما في كون كلّ منهما أصلا تنتزع منه الجواهر: من المعادن أنواع الجوهر المحسوسة، و من نفس العارف جواهر العلوم و الأخلاق و سائر ما اشتمل عليه دين اللّه
(له) كونه من أوتاد أرضه
استعار له لفظ الوتد، و وجه المشابهة كون كلّ منهما سببا لحفظ ما يحفظ به فبالوتد يحفظ الموتود، و بالعارف يحفظ نظام الأرض و استقامة امور هذا العالم، و قد سبق مثله في الخطبة الاولى: و وتّد بالصخور ميدان أرضه.
(لو) كونه لزم نفسه العدل
فكان أول عدله نفى الهوى عن نفسه. لمّا كان العدل ملكة تنشأ من الملكات الثلاث: و هى الحكمة و العفّة و الشجاعة، و كان العارفون قد راضوا أنفسهم بالعبادة و غيرها حتّى حصلوا على هذه الملكات الخلقيّة لا جرم كان بسعيه في حصولها قد ألزم نفسه العدل، و لمّا كان العدل في القوّة الشهويّة و هو أن يصير عفيفا لا خامد الشهوة و لا فاجرا أصعب من العدل على ساير القوى لكثرة موارد الشهوة و ميلها بالإنسان إلى طرف الإفراط و لذلك كان أكثر المناهى الواردة في الشريعة هى موارد الشهوة لا جرم كان مقتضى المدح أن يبدء بذكر نفى الهوى عن نفسه، و لأنّ السالك أوّل ما يبدء في تكميل القوّة العلميّة بإصلاح القوّة الشهويّة فيقف عند حدود اللّه و لا يتجاوزها في مأكول أو منكوح أو كسب و نحوه.
(لز) كونه يصف الحقّ و يعمل به
أي يتبع قول الحقّ بعمله فإنّ الخلف في القول عند الخلق قبيح و مع اللّه أقبح و لذلك عاتب اللّه المؤمنين يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ«» و كانوا قالوا: لنفعلنّ في سبيل اللّه ما فيه رضاه. فلمّا كان يوم احد لم يثبتوا. و أكّد عتابه بشدّة مقته لخلفهم و عدم مطابقة أقوالهم لأفعالهم.
(لح) كونه لا يدع للخير غاية إلّا أمّها
لمّا فرغ من جزئيّات أوصاف العارف شرع فيها إجمالا فذكر أنّه طالب لكلّ غاية خيريّة: أى لا يقنع ببعض الحقّ و يقف عنده بل يتناهى فيه و يستقصى غاياته.
(لط) و كذلك هو قاصد لكلّ مظنّة له
و مظنّته كلّ محلّ أمكنه أن ينتزعه منه و يستفيده كالأولياء و مجالس الذكر و غيرها.
(م) كونه قد أمكن الكتاب من زمامه فهو قائده. إلى آخره
فتمكينه الكتاب كناية عن انقياده لما اشتمل عليه من الأوامر و النواهى، و استعار لفظ الزمام لعقله و وجه المشابهة ما يشتركان فيه كون كلّ منهما آلة للانقياد، و هى استعارة لفظ المحسوس للمعقول، و كذلك استعار لفظ القائد للكتاب لكونه جاذبا بزمام عقله إلى جهة واحدة مانعا عن الانحراف عنها و كذلك لفظ الإمام لكونه مقتديا به، و قوله: يحلّ حيث حلّ ثقله و ينزل. استعار وصفى الحلول و النزول الّذين هما من صفات المسافر، و كنّى بحلوله حيث حلّ عن لزوم أثره و العمل بمقتضاه و متابعته له في طريق سفره إلى اللّه بحيث لا ينفكّ عنه وجودا و عدما، و باللّه التوفيق.

الفصل الثاني:

قوله: وَ آخَرُ قَدْ تَسَمَّى عَالِماً وَ لَيْسَ بِهِ- فَاقْتَبَسَ جَهَائِلَ مِنْ جُهَّالٍ وَ أَضَالِيلَ مِنْ ضُلَّالٍ- وَ نَصَبَ لِلنَّاسِ أَشْرَاكاً مِنْ حَبَائِلِ غُرُورٍ وَ قَوْلِ زُورٍ- قَدْ حَمَلَ الْكِتَابَ عَلَى آرَائِهِ- وَ عَطَفَ الْحَقَّ عَلَى أَهْوَائِهِ- يُؤْمِنُ النَّاسَ مِنَ الْعَظَائِمِ وَ يُهَوِّنُ كَبِيرَ الْجَرَائِمِ- يَقُولُ أَقِفُ عِنْدَ الشُّبُهَاتِ وَ فِيهَا وَقَعَ- وَ يَقُولُ أَعْتَزِلُ الْبِدَعَ وَ بَيْنَهَا اضْطَجَعَ- فَالصُّورَةُ صُورَةُ إِنْسَانٍ وَ الْقَلْبُ قَلْبُ حَيَوَانٍ- لَا يَعْرِفُ بَابَ الْهُدَى فَيَتَّبِعَهُ- وَ لَا بَابَ الْعَمَى فَيَصُدَّ عَنْهُ وَ ذَلِكَ مَيِّتُ الْأَحْيَاءِ
أقول: و هذا الفصل من صفات بعض الفسّاق في مقابلة الموصوف السابق  و خصّص من تسمّى عالما و ليس بعالم بالذكر في معرض الذمّ لأنّه أشدّ فتنة و أقوى فسادا للدين لتعدّى فتنته من نفسه إلى غيره. و ذكر له أوصافا:

الأوّل: كونه قد تسمّى عالما و ليس بعالم.
طلبا للرياسة و تحصيل الدنيا و هذا الصنف من الناس كثير و العلماء فيهم مغمورون.
الثاني: كونه قد اقتبس جهائل من جهّال
و أضاليل من ضلّال. و الجهايل: جمع جهالة، و أراد الجهل المركّب، و هو الاعتقاد الغير المطابق لما في نفس الأمر، و هذا الوصف أحد أسباب الأوّل. و نسبة الاقتباس إلى الجهل نسبة مجازيّة لما أنّ الجهل يشبه العلم في كونه مستفادا على وجه التعلّم و التعليم، و الأضاليل من لوازم الجهالات و هو الانحراف عن سواء السبيل، و إنّما قال من جهّال و ضلّال ليكون إثبات الجهل و الضلال له آكد فإنّ تلقّفهما عن الجهّال الضلّال و اعتقادهما أثبت و أرسخ في النفس من ساير الجهالات.
الثالث: كونه نصب للناس أشراكا من حبال غرور و قول زور.
استعار لفظ الأشراك و الحبال لما يغرّ علماء السوء به الناس من الأقوال الباطلة و الأفعال المزخرفة، و وجه المشابهة ما يشترك فيه الشرك من الحبال و غيره و ساير ما يجذب به الخلق من‏ أقوالهم و أفعالهم في كونها محصّلة للغرض فالشرك للصيد و غرور هؤلاء لقلوب الخلق، و رشّح تلك الاستعارة بذكر النصب.
الرابع: قد حمل الكتاب على آرائه
للجاهل في تفسير كتاب اللّه تعالى مذاهب عجيبة و يكفيك منها ما تعتقده المجسّمة من ظواهره المشعرة بتجسيم الصانع جلّت قدرته و تفسيرهم للكتاب على ما اعتقدوه من باطلهم.
الخامس: و عطف الحقّ على أهوائه
من فسّر ألفاظ القرآن على حسب عقيدته الفاسدة و رأيه الباطل فقد عطف الحقّ على هواه: أى جعل كلّ هوى له حقّا يتّبع بتأويل ما وَ لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ.
السادس: كونه يؤمّن من العظائم و يهوّن كبير الجرائم
أى يسهّل على الناس أمر الآخرة في موضع يحتاجون فيه إلى ذكر و عيد اللّه و تذكير هم بأليم عقابه كما يخطى الجاهلون و يعرضون عن أوامر اللّه تعالى و نواهيه فإذا حضروا مجالس جهّال الواعظين و الزهّاد توسّلوا إلى استجلاب قلوبهم و تشييد مناصبهم باجتماعهم عليهم بأن ذكروا لهم مواعيد اللّه كقوله إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً و نحوه فيهوّن عليهم بذلك عظيم الوعيد و أهوال الآخرة و تصغّر عندهم جرائمهم الّتى ارتكبوها في جنب ما تصوّروه من الوعد الكريم و يساعدهم ميل طباعهم إلى المشتهيات الخارجة عن حدود اللّه فيعاودوا ما اقترفوه و لا كذلك العالم إذ من شأنه أن يستعمل كلّا من آيات الوعد و الوعيد في موضعها ليبقى السامعون بين خوف و رجاء فلا ينهمكوا في اللذّات الفانية اتّكالا على الوعد و لا يقنطوا من رحمة اللّه نظرا إلى الوعيد.
السابع: يقول: أقف عند الشبهات
أى إذا انتهيت إلى أمر فيه شبهة لا أقدم عليه و فيها وقع و ذلك لجهله بمواقع الشبهة و غيرها.
الثامن: يقول أعتزل البدع:
أى ما يبتدع من الامور المخالفة لقوانين الشريعة و بينها اضطجع كنّى باضطجاعه بين البدع عن تورّطه فيها كناية بالمستعار، و ذلك أيضا لجهله باصول الشريعة و كيفيّة تفريعها.
التاسع: فالصورة صورة الإنسان و القلب قلب حيوان
أراد بالحيوان غير الإنسان‏ كما هو مختصّ في العرف. و أطلق قلبه أنّه قلب حيوان كالحمار و نحوه لما بينهما من المناسبة و هو عدم صلاحيّتهما لقبول المعارف و العلوم مع ميلهما إلى الشهوات.
العاشر: كونه لا يعرف باب الهدى فيتّبعه و لا باب الردى فيصدّ عنه
أى لا يعرف بجهله قانون الهداية إلى طرق الحقّ فيسلكه و لا وجه دخوله في الباطل فيعرض عنه، و ذلك أنّ الجاهل الجهل‏ عرض عنه، و ذلك أنّ الجاهل الجهل المركّب لمّا حاد عن سبيل اللّه و جزم بما اعتقده من الباطل امتنع مع ذلك الجزم أن يعرف باب الهدى و مبدء الدخول إليه فامتنع منه اتّباعه و لمّا اعتقد أنّ ما جزم به من الباطل هو الحقّ امتنع أن يعرف مبدء دخوله في الجهل و هو باب العمى فامتنع منه أن يصدّ عنه ثمّ حكم عليه السّلام عن تلك الأوصاف أنّه ميّت الأحياء أمّا كونه ميّتا فلأنّ الحياة الحقيقيّة الّتى تطلب لكلّ عاقل و الّتى وردت الشرائع و الكتب الالهيّة بالأمر بتحصيلها هى حياة النفس باستكمال الفضائل الّتى هى سبب السعادة الباقية، و قد علمت أنّ الجهل المركّب هو الموت المضادّ لتلك الحياة فالجاهل بالحقيقة ميّت. و أمّا أنّه ميّت الأحياء فلأنّه في صورة الحىّ

الفصل الثالث:
القسم الأول
قوله: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ وَ أَنَّى تُؤْفَكُونَ- وَ الْأَعْلَامُ قَائِمَةٌ وَ الْآيَاتُ وَاضِحَةٌ وَ الْمَنَارُ مَنْصُوبَةٌ- فَأَيْنَ يُتَاهُ بِكُمْ وَ كَيْفَ تَعْمَهُونَ وَ بَيْنَكُمْ عِتْرَةُ نَبِيِّكُمْ- وَ هُمْ أَزِمَّةُ الْحَقِّ وَ أَعْلَامُ الدِّينِ وَ أَلْسِنَةُ الصِّدْقِ- فَأَنْزِلُوهُمْ بِأَحْسَنِ مَنَازِلِ الْقُرْآنِ- وَ رِدُوهُمْ وُرُودَ الْهِيمِ الْعِطَاشِ- أَيُّهَا النَّاسُ خُذُوهَا عَنْ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ ص- إِنَّهُ يَمُوتُ مَنْ مَاتَ مِنَّا وَ لَيْسَ بِمَيِّتٍ- وَ يَبْلَى مَنْ بَلِيَ مِنَّا وَ لَيْسَ بِبَالٍ- فَلَا تَقُولُوا بِمَا لَا تَعْرِفُونَ- فَإِنَّ أَكْثَرَ الْحَقِّ فِيمَا تُنْكِرُونَ- وَ اعْذِرُوا مَنْ لَا حُجَّةَ لَكُمْ عَلَيْهِ وَ هُوَ أَنَا- أَ لَمْ أَعْمَلْ فِيكُمْ بِالثَّقَلِ الْأَكْبَرِ- وَ أَتْرُكْ فِيكُمُ الثَّقَلَ الْأَصْغَرَ- قَدْ رَكَزْتُ فِيكُمْ رَايَةَ الْإِيمَانِ- وَ وَقَفْتُكُمْ عَلَى حُدُودِ الْحَلَالِ وَ الْحَرَامِ- وَ أَلْبَسْتُكُمُ الْعَافِيَةَ مِنْ عَدْلِي- وَ فَرَشْتُكُمُ الْمَعْرُوفَ مِنْ قَوْلِي وَ فِعْلِي- وَ أَرَيْتُكُمْ كَرَائِمَ الْأَخْلَاقِ مِنْ نَفْسِي- فَلَا تَسْتَعْمِلُوا الرَّأْيَ فِيمَا لَا يُدْرِكُ قَعْرَهُ الْبَصَرُ- وَ لَا تَتَغَلْغَلُ إِلَيْهِ الْفِكَرُ

اللغة

أقول: تؤفكون: تصرفون.

و التيه: الضلال.

و العمة: الحيرة و التردّد.

و عترة الرجل: أقاربه من ولده و ولد ولده و أدانى بنى عمّه.

و الهيم: الإبل العطاش.


المعنى

و أعلم أنّه لمّا قدّم المتّقين بصفاتهم و الفاسقين بصفاتهم كان في ذكرهما تنبيه على وصفى طريقى الحقّ و الباطل و لوازمهما فلذلك أعقبهما بالتنبيه على كونهم في صلال و تيه و عمى عن الحقّ ثمّ بالتخويف و التبكيت و التذكير بكتاب اللّه و عترة رسوله ليلزموا سمتهم و يسلكوا بهم طريق أهل التقوى و يفيئوا عن ضلالهم إلى اقتباس أنوار الحقّ من أهله.
فقوله: فأين تذهبون. إلى قوله: منصوبة.
 سؤال عمّا يذهبون إليه و عن وقت صرفهم عن ذلك الغىّ سؤالا على سبيل الإنكار لما هم عليه من الطريق الجائرة، و الواو في قوله: و الأعلام. للحال. و أشارة بالأعلام إلى أئمّة الدين، و وضوحها ظهورها بينهم. و كذلك المنار، و نصبها قيام الأئمّة بينهم و وجودهم فيهم، ثمّ أردف ما أنكره من ذهابهم و تعجّب منه بتفسيره فقال: فأين يتاه بكم و كيف تعمهون، و نبّه به إلى أنّ الذهاب الّذى سئلهم عنه هو تيه في الضلال و حيرة الجهل و التردّد في الغىّ، و تبيّن منه أنّ قوله: و أنّى تؤفكون: أى متى تصرفون عن تيهكم و ذهابكم في الضلالة. 301 و قوله: و بينكم عترة نبيّكم. الواو للحال أيضا فالعامل تعمهون، أويتاه بكم، و كذلك الواو في قوله: و هم أزمّة الحقّ: و المعنى كيف يجوز أن تتيهوا في ظلمات الجهل مع أنّ فيكم عترة نبيّكم، و أراد بعترته أهل بيته عليهم السّلام و إليه الإشارة بقول الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم: و خلّفت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا كتاب اللّه و عترتى أهل بيتى لن يفترقا حتّى يردا علىّ الحوض. و استعار لهم لفظ الأزمّة، و وجه المشابهة كونهم قادة للخلق إلى طريق الحقّ كما يقود الزمام الناقة إلى الطريق، و كذلك استعار لهم لفظ الألسنة، و وجه المشابهة كونهم تراجمة الوحى الصادق كما أنّ اللسان ترجمان النفس، و يحتمل أن يريد بكونهم ألسنة الصدق أنّهم لا يقولون إلّا صدقا.

و قوله: فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن.
 فاعلم أنّ للقرآن منازل: الاولى القلب. و هو فيه بمنزلتين: إحداهما منزلة الإكرام و التعظيم، و الثانية منزلة التصوّر فقط من دون تعظيم. الثالثة: منزلته في الوجود اللسانىّ بالتلاوة. الرابعة: منزلته في الدفاتر و الكتب، و أحسن منازله هى الاولي. فالمراد إذن الوصيّة بإكرامهم و محبّتهم و تعظيمهم كما يكرم القرآن بالمحبّة و التعظيم.

و قوله: وردوهم ورود الهيم العطاش.
 إرشاد لهم إلى اقتباس العلوم و الأخلاق منهم إذ كانوا معادنها. و لمّا كانت العلماء و الأئمّة تشبه بالينابيع، و العلم يشبه بالماء العذب، و عادمه بالعطشان حسن منه أن يأمرهم بورودهم و أن يشبه الورود المطلوب منهم بورود الإبل العطاش.

و قوله: أيّها الناس. إلى قوله: ببال
لمّا كان عليه السّلام في معرض ذكر الفائدة فكأنّها قد تقدّم ذكرها فلذلك أحسن إبراز الضمير في قوله: خذوها. و إن لم يسبق لها ذكر، و إشارة النبىّ بهذه الكلمة تقرير لقوله تعالى وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ‏
فَرِحِينَ«» و لما اتّفقت عليه كلمة العلماء، و نطقت به البراهين العقليّة أنّ أولياء اللّه لا يموتون و لا يبلون و إن بليت أجسادهم.
قال بعض الخائضين فيما لا يعنيه قوله: و يبلى من بلى منّا نصّ جلىّ على أنّ أجساد الأولياء ت لى و ذلك يخالف ما يعتقده الناس من أنّ أجسادهم باقية إلى يوم القيامة بحالها.
قلت الاعتقاد المذكور لبعض الناس إنّما نشأ من قول الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم في قتلى بدر زمّلوهم بكلومهم و دمائهم فإنّهم يحشرون يوم القيامة و أوداجهم تشخب دما و قوله تعالى وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ الآية و ليس و لا واحد منهما بدالّ على أنّ الأجساد لا تموت و لا تبلى أمّا الخبر فليس مقتضاه أنّها تبقى صحيحة تشخب دما إلى يوم القيامة بل ذلك ممّا يشهد ببطلانه الحسّ بل يحمل على أنّها كما تعاد يوم القيامة تعاد مجروحة تشخب جراحها دما كهيئتها يوم موتها، و أمّا الآية فالّذى أجمع عليه علماء المفسّرين أنّ الحياة المذكورة فيها هى حياة النفوس و هو ظاهر في سبب نزولها عن ابن عباس- رضوان اللّه عليه- قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم: لمّا اصيب إخوانكم باحد جعل اللّه أرواحهم في أجواف طيور خضر ترد أنهار الجنّة و تأكل من ثمارها و تأوى إلى قناديل من ذهب معلّقة في ظلّ العرش فلمّا وجدوا طيب مأكلهم و مشربهم و مقيلهم قالوا: من يبلغ إخواننا عنّا أنّا في الجنّة نرزق لئلّا يزهد في الجهاد و لا ينكلوا عند الحرب فقال اللّه عزّ و جلّ أنا أبلغهم عنكم فنزلت وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا الآية فإذن لا منافاة بين كلامه عليه السّلام و ما ورد في القرآن و الخبر و مقصوده بهذه الكلمة تقرير فضيلتهم و أنّهم أولياء باقون عند ربّهم في ظلّ كرامته.

و قوله: فلا تقولوا بما لا تعرفون.
 تنبيه على الرجوع إلى العترة العارفين بما ينبغي أن يقال و قوله: فإنّ أكثر الحقّ فيما تنكرون تأكيد للأمر بالتثبّت في الأقوال و النهى عن التسرّع إليها، و الجاهل قد ينكر الحقّ إذا خالف طبعه أو نبا عنه فهمه أو سبق اعتقاد ضدّه إليه بشبهة أو تقليد فنبّه على أنّ أكثر الحقّ فيما ينكرونه لئلّا يتسرّعوا إلى القول من غير علم،و لذلك ذكر هذه القضيّة مرتّبة بفاء التعليل.

و قوله: و أعذروا من لا حجّة لكم عليه و هو أنا.
 طلب عليه السّلام العذر منهم فيما يلحقهم من عذاب اللّه بسبب تقصيرهم فإنّ الضرر اللاحق لهم قد انذروا به و توعّدوا فلو قصّرهو عليه السّلام في تذكيرهم بتلك الوعيدات أو الإنذارات مع كون ذلك مأخوذا عليه من اللّه تعالى فكانت حجّتهم عليه قائمة و لمّا كان له عذر لكنّه بلّغ و حذّر و قد أعذر من أنذر و إنّما ذكّرهم بسلب الحجّة عنهم في ذلك ليتذكّروا خطأهم و لعلّهم يرجعون.

و قوله: أ لم أعمل فيكم إلى قوله: من نفسى.
 تفصيل لما جاءهم به من الجواذب إلى اللّه فأعذر إليهم بها و أتى بلفظ الاستفهام على سبيل التقريع و التبكيت و الثقل الأكبر كتاب اللّه، و أشار بكونه أكبر إلى أنّه الأصل المتّبع المقتدى به، و الثقل الأصغر الأئمّة من ولده عليهم السّلام، و كنّى براية الإيمان عن سنّة المتّبعة و طريقة الواضحة في العمل بكتاب اللّه و سنّة رسوله كناية بالمستعار، و وجه المشابهة كونه طريقة يهتدى بها إلى سلوك سبيل اللّه كما يهتدى بالأعلام و الرايات أمام الجيش و غيره، و لفظ الركز ترشيح للاستعارة كنّى به عن إيضاحها لهم و توقيفه على حدود الحلال و الحرام تعريفهم إيّاها و أراد بالعافية السلامة عن الأذى الحاصل من أيدي الظالمين، و استعار لفظ اللباس لها، و وجه الاستعارة أنّ العافية تشمل المعافى كالقميص، و كذلك استعار لفظ الفرش للمعروف لكونه إذا وطيت قواعده يستراح به كالفراش.

و قوله: و أريتكم كرايم الأخلاق من نفسى
و قوله: و أريتكم كرايم الأخلاق من نفسى: أى أوضحتها لكم و شاهدتموها منّى متكرّرة.

و قوله: فلا تستعملوا الرأى إلى آخره.
نهى لهم عن الاشتغال بالخوض في صفات اللّه و البحث عن ذاته على غير قانون و استاد مرشد بل بحسب الرأي و التخمين فإنّ تلك الدقايق لمّا كانت لا ساحل لها و لا غاية يقف الفكر عندها و إن تغلغل في أعماقها و كانت مع ذلك في غاية العسر و الدقة و كثرة الاشتباه‏ كان تداولهم للاشتغال بها مؤدّيا إلى الخبط و افتراق المذاهب و تشتّت الكلمة و الاشتغال بذلك عن الانتظام في سلك الدين و الاتّحاد فيه كما عليه من ينتسب إلى العلم بعده و كلّ ذلك منه مطلوب الشارع فإنّ الالفة و الاتّحاد في الدين من أعظم مطلوباته و يحتمل أن يريد مطلق دقايق العلم و تفريع الفقه على غير قانون من إمام هدى بل الرأى عن أدنى وهم.


القسم الثاني
منها: حَتَّى يَظُنَّ الظَّانُّ أَنَّ الدُّنْيَا مَعْقُولَةٌ عَلَى بَنِي أُمَيَّةَ- تَمْنَحُهُمْ دَرَّهَا وَ تُورِدُهُمْ صَفْوَهَا- وَ لَا يُرْفَعُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَوْطُهَا وَ لَا سَيْفُهَا وَ كَذَبَ الظَّانُّ لِذَلِكَ- بَلْ هِيَ مَجَّةٌ مِنْ لَذِيذِ الْعَيْشِ يَتَطَعَّمُونَهَا بُرْهَةً- ثُمَّ يَلْفِظُونَهَا جُمْلَةً

اللغة

أقول: معقولة: محبوسة. و المجّة: الفعلة من مجّ الشراب إذا قذفه من فيه. و البرهة: المدّة من الزمان فيها طول. و لفظ كذا: ألقاه من فيه.

المعنى

و هذا الكلام من فصل يذكر فيه حال بنى اميّة و طول مدّتهم و بلاء الخلق بهم فقوله: يظنّ الظانّ. إلى قوله: سيفها. غاية من غايات طول عناء الناس معهم و استعار للدنيا أوصافا: أحدها: كونها معقولة، و وجه الاستعارة ملاحظة شبهها بالناقة في كونها محبوسة في أيديهم كما تحبس الناقة بالعقال. الثاني: كونها ذات درّ نمنحهم إيّاه، و وجه الاستعارة أيضا تشبيهها بالناقة في كون ما فيها من فوائدها و خيرها مهيّئة لهم و مصبوبة عليهم كما تبذل الناقة درّها حالبها. الثالث: كونها توردهم صفوها، و نسبة الايراد إليها مجاز، و تجوّز بالسوط و السيف فيما فيه الامّة معهم من العذاب و القتل و نحوه استعمالا للفظ السبب في المسبّب و قوله: و كذب الظانّ لذلك. إلى آخره ردّ لما عساه يظنّ من ذلك بتحقير ما حصلوا عليه من الأمر و لذّتهم به و تحقير مدّته، و استعار لذلك لفظ المجّة، و كنّى بكونها مطعومة لهم عن تلذّذهم ها مدة إمرتهم، و بكونها ملفوظة عن زوال الآخرة عنهم، و أكّد ذلك الزوال بقوله: جملة: أى بكلّيّتها و هي كناية بالمستعار تشبيها لها باللقمة الّتى لا يمكن إساغتها، و باللّه التوفيق.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی ج 2 ، صفحه‏ى 305

 

خطبه 83 ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

و فيها فصول:

الأوّل:

قوله: قَدْ عَلِمَ السَّرَائِرَ وَ خَبَرَ الضَّمَائِرَ- لَهُ الْإِحَاطَةُ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ وَ الْغَلَبَةُ لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ- وَ الْقُوَّةُ عَلَى كُلِّ شَيْ‏ءٍ
و هذا الفصل يشتمل على بعض أوصاف الحقّ سبحانه:
الأوّل: كونه عالما بالسرائر و هو كقوله تعالى يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ.

الثاني: كونه خبيرا بالضماير. و هو قريب من المرادف للعالم بالسراير فإنّ الخبير هو الّذى لا يعزب عنه الأخبار الباطنة و لا تضطرب نفس و لا تسكن إلّا و يكون عنده خبرها و ذلك بعينه هو العالم مضافا إلى السرائر و الخفايا الباطنة و إن كان مطلق العلم أعمّ.

الثالث: كونه محيطا بكلّ شي‏ء. و هو إشارة إلى علمه بكلّيّات الأشياء و جزئيّاتها، و عليه اتّفاق جمهور المتكلّمين و الحكماء: أمّا المتكلّمون فظاهر، و أمّا المحقّقون من الحكماء فملخّص كلامهم إجمالا في كيفيّة علمه تعالى أنّه يعلم ذاته بذاته و يتّحد هناك المدرك و المدرك و الإدراك و لا يتعدّد إلّا بحسب الاعتبارات العقليّة الّتى تحدثها العقول البشريّة. و أمّا معلولاته القريبة منه فيكون بأعيان ذواتها و يتّحد هناك المدرك و الإدراك و لا يتعدّدان إلّا باعتبار عقلىّ و يغايرهما المدرك، و أمّا معلولاته البعيدة كالماديّات و المعدومات الّتى من شأنها إمكان أن توجد في وقت أو يتعلّق بموجود فيكون بارتسام صورها المعقولة من المعلولات القريبة الّتى هى المدركات لها أوّلا و بالذات و كذلك إلى أن ينتهى إلى إدراك المحسوسات بارتسامها في آلات مدركاتها. قالوا: و ذلك لأنّ الموجود في الحاضر حاضر و المدرك للحاضر مدرك لما يحضر معه فإذن لا يعزب عن علمه مثقال ذرّة في السماوات و لا في الأرض و لا أصغر من ذلك و لا أكبر لكون ذوات معلولاته القريبة مرتسمة بجميع الصور و هى الّتى يعبّر عنها تارة بالكتاب المبين و تارة باللوح المحفوظ و تسمّى عندهم عقولا فعّالة.

الرابع: كونه تعالى غالبا لكلّ شي‏ء.

الخامس: كونه قويّا على كلّ شي‏ء، و هما إشارتان إلى وصف قدرته تعالى بالتمام على كلّ مقدور فإنّ القوّة عليها و الغلبة لها من تمام القدرة و يفهم من الغالب زيادة على القوىّ و يعود إلى معنى القاهر. و قد سبق بيانه، و أمّا بيان صدق هاتين لقضيّتين فببيان أنّه تعالى مبدء كلّ موجود و أنّ كلّ ممكن مفتقر في سلسلة الحاجة إليه، و قد فرغ من ذلك في الكتب الكلاميّة.

الفصل الثاني
قوله: فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُ مِنْكُمْ فِي أَيَّامِ مَهَلِهِ قَبْلَ إِرْهَاقِ أَجَلِهِ- وَ فِي فَرَاغِهِ قَبْلَ أَوَانِ شُغُلِهِ- وَ فِي مُتَنَفَّسِهِ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ بِكَظَمِهِ- وَ لْيُمَهِّدْ لِنَفْسِهِ وَ قَدَمِهِ وَ لْيَتَزَوَّدْ مِنْ دَارِ ظَعْنِهِ لِدَارِ إِقَامَتِهِ- فَاللَّهَ اللَّهَ أَيُّهَا النَّاسُ فِيمَا اسْتَحْفَظَكُمْ مِنْ كِتَابِهِ- وَ اسْتَوْدَعَكُمْ مِنْ حُقُوقِهِ- فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثاً وَ لَمْ يَتْرُكْكُمْ سُدًى- وَ لَمْ يَدَعْكُمْ فِي جَهَالَةٍ وَ لَا عَمًى قَدْ سَمَّى آثَارَكُمْ- وَ عَلِمَ أَعْمَالَكُمْ وَ كَتَبَ آجَالَكُمْ- وَ أَنْزَلَ عَلَيْكُمُ الْكِتَابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ- وَ عَمَّرَ فِيكُمْ نَبِيَّهُ أَزْمَاناً حَتَّى أَكْمَلَ لَهُ وَ لَكُمْ- فِيمَا أَنْزَلَ مِنْ كِتَابِهِ دِينَهُ الَّذِي رَضِيَ لِنَفْسِهِ- وَ أَنْهَى إِلَيْكُمْ عَلَى لِسَانِهِ مَحَابَّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَ مَكَارِهَهُ- وَ نَوَاهِيَهُ وَ أَوَامِرَهُ وَ أَلْقَى إِلَيْكُمُ الْمَعْذِرَةَ- وَ اتَّخَذَ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةَ وَ قَدَّمَ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ- وَ أَنْذَرَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ فَاسْتَدْرِكُوا بَقِيَّةَ أَيَّامِكُمْ وَ اصْبِرُوا لَهَا أَنْفُسَكُمْ- فَإِنَّهَا قَلِيلٌ فِي كَثِيرِ الْأَيَّامِ الَّتِي تَكُونُ مِنْكُمْ فِيهَا الْغَفْلَةُ- وَ التَّشَاغُلُ عَنِ الْمَوْعِظَةِ وَ لَا تُرَخِّصُوا لِأَنْفُسِكُمْ- فَتَذْهَبَ بِكُمُ الرُّخَصُ مَذَاهِبَ الظَّلَمَةِ- وَ لَا تُدَاهِنُوا فَيَهْجُمَ بِكُمُ الْإِدْهَانُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ- عِبَادَ اللَّهِ إِنَّ أَنْصَحَ النَّاسِ لِنَفْسِهِ أَطْوَعُهُمْ لِرَبِّهِ- وَ إِنَّ أَغَشَّهُمْ لِنَفْسِهِ أَعْصَاهُمْ لِرَبِّهِ- وَ الْمَغْبُونُ مَنْ غَبَنَ نَفْسَهُ وَ الْمَغْبُوطُ مَنْ سَلِمَ لَهُ دِينُهُ- وَ السَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ- وَ الشَّقِيُّ مَنِ انْخَدَعَ لِهَوَاهُ وَ اعْلَمُوا أَنَّ يَسِيرَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ- وَ مُجَالَسَةَ أَهْلِ الْهَوَى مَنْسَاةٌ لِلْإِيمَانِ وَ مَحْضَرَةٌ لِلشَّيْطَانِ- جَانِبُوا الْكَذِبَ فَإِنَّهُ مُجَانِبٌ لِلْإِيمَانِ- الصَّادِقُ عَلَى شَرَفِ مَنْجَاةٍ وَ كَرَامَةٍ- وَ الْكَاذِبُ عَلَى شَرَفِ مَهْوَاةٍ وَ مَهَانَةٍ- وَ لَا تَحَاسَدُوا- فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْإِيمَانَ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ- وَ لَا تَبَاغَضُوا فَإِنَّهَا الْحَالِقَةُ- وَ اعْلَمُوا أَنَّ الْأَمَلَ يُسْهِي الْعَقْلَ- وَ يُنْسِي الذِّكْرَ فَأَكْذِبُوا الْأَمَلَ- فَإِنَّهُ غُرُورٌ وَ صَاحِبُهُ مَغْرُورٌ

المعنى

أقول: الفصل إلى آخره شروع في الموعظة و المشورة، و لمّا قدّم الإشعار بأنّ اللّه تعالى عالم بما في الصدور غالب على كلّ مقدور أمرهم بعده بالعمل و أراد الأعمال الصالحة المطلوبة بالتكاليف الشرعيّة و أن يجعلوها مهادا لثبات أقدامهم على الصراط المستقيم المأمور بسلوكه ثمّ تلطّف بالجذب إلى العمل بتذكيرهم بأنّهم في أيّام مهلة و فراغ و متنفّس خناق يمكنهم فيه العمل و أنّ الّذى يعملونه من الصالحات هو زاد لهم في سفرهم إلى اللّه و إلى دار إقامتهم و أنّ وراء هذه المهلة إدراك أجل بعده شغل بأهوال الآخرة و أخذ بالكظم، و كنّى به عن عدم التمكّن من العمل إذ لم تكن الآخرة دار عمل ثمّ أبّه بالناس و حذّرهم ربّهم أن يخالفوا فيما أمرهم بحفظه و هو كتابه، و عنى بحفظه تدبّر ما فيه و المحافظة على العمل بأوامره و نواهيه و هى حقوقه الّتى استودعهم إيّاها ثمّ علّل ذلك بتنبيههم على أنّ اللّه تعالى لم يخلقهم عبثا خاليا عن وجه الحكمة بل خلقهم ليستكملوا الفضايل النفسانيّة بواسطة الآلات البدنيّة و لم يجعلهم في وجودهم مهملين بل ضبط آثارهم و أعمالهم و كتب آجالهم في كتابه المبين و ألواحه المحفوظة إلى يوم الدين و نظم وجودهم برسول كريم عمّره فيهم و كتاب أوضح لهم فيه السبيل الّتى لسلوكها خلقهم و أكمل لهم و لنبيّه دينهم الّذى ارتضى لهم و ما أهّلهم له من الكمالات المسعدة في الآخرة كما قال تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ«» هو بلّغهم على لسانه ما أحبّ لهم من الخيرات الباقية و كرّهه لهم عن الشرور المشقية في الآخرة كما اشتملت عليه أوامره و نواهيه و أبان لهم فيه الأعذار و أوضح فيه الحجج و شحنه بالوعيد و النذر بين يدي عذاب شديد، و استعار لفظ اليدين للعذاب و كنّى ببين يديه عن‏ الوقت المتقدّم على عذاب الآخرة المشارف له، و وجه المشابهة أنّ الإنذار بالمخوف يكون من ذى سطوة و بأس شديد فكأنّه نزّل العذاب الشديد بمنزلة المعذّب فاستعار له يدين و جعل الإنذار و التخويف منه متقدّما له بين يديه و ذلك من الجواذب اللطيفة، ثمّ عاد إلى أمرهم باستدراك بقيّة أوقاتهم في الدنيا و أن يصبّروا لها أنفسهم: أى يلزموا أنفسهم فيها الصبر على الأعمال الصالحة، و في لفظ الاستدراك إشعار بتقديم تفريط منهم في جنب اللّه و لذلك قال: فإنّها قليل في كثير الأيّام الّتى تكون منكم فيها الغفلة و التشاغل عن الموعظة. و إنّما قال: لها. لأنّ كلّ وقت يستحقّ أن يوقع فيه ما ينبغي من الأفعال فصدق عليها أنّ ذلك الفعل لها.

قوله: و لا ترخّصوا لأنفسكم. إلى قوله: المعصية [المصيبة خ‏].
 أقول: ليس المقصود بالرخصة هنا الرخصة الشرعيّة بل ما يتساهل الإنسان فيه مع نفسه من تنويع المآكل و المشارب و المناكح و الخروج فيها إلى ما لا ينبغي في نفس الأمر و يتأوّل له تأويلا و حيلة يخيّل أنّها جايزة في الشريعة و يروّج بها اتّباعه لهواه، و نحوه الاجتماع في السماع لغير أهله، و حضور مجالس الفسّاق، و معاشرة الظالمين. و الضابط الكلّى في هذا الباب هو توسّع الإنسان في الامور المباحة و استيفاؤه حدّه فإنّه من فعل ذلك شارف المكروه ثمّ ربما لحظ أنّه لا عقاب في فعله فقادته شهوته إلى فعله فاستوفى حدّه فشارف المحظور، و ذلك أنّ العقل إذا أطاع النفس الأمّارة بالسوء فيما تأمر به مرّة و مرّة لم يبق له نفار عمّا تقوده إليه لوقوع الانس به. و ظاهر أنّ ارتكاب بعض مأموراتها يجرّ إلى ارتكاب بعض فيؤدّى ذلك إلى تجاوز الحدود الشرعيّة و عبورها إلى الوقوع في حبائل الشيطان و التهوّر في المحظورات الّتى هى مهاوى الهلاك، و لذلك ما ورد في الخبر: من رتع حول الحمى أو شك أن يقع فيه و قد شبّه العارفون القلب بالحصن و الشيطان بعدّ و يريد أن يدخله و لم يمكن دفع ذلك العدوّ و التحفّظ منه إلّا بضبط أبواب ذلك الحصن الّتى منها الدخول إليه و حراستها و هى أبواب كثيرة كساير المحرّمات و مساهلة النفس في التوسّع في المباحات و الدخول في الامور المشتبهة من أعظم تلك الأبواب و دخول الشيطان منه أسهل و هو عليه أقدر و لذلك قال عليه السّلام: فتذهب بكم الرخص فيها مذاهب‏ الظلمة، و لا تداهنوا فيهجم بكم الإدهان على المعصية [المصيبة خ‏]. و مذاهب الظلمة مسالكها و طرقها العادلة من العدول، و روى: أنّ إبليس ظهر ليحيى بن ذكريّا عليه السّلام فرأى عليه معاليق كلّ شي‏ء فقال له: يا إبليس ما هذه المعاليق قال: هذه هى الشهوات الّتى اصيب بهنّ قلوب بنى آدم فقال: هل بى فيها شي‏ء قال: نعم ربّما شبعت فشغلناك عن الصلاة و عن الذكر قال: هل غير ذلك قال: لا قال: للّه علىّ أن لا أملأ بطنى من طعام أبدا فقال إبليس: للّه علىّ أن لا أنصح مسلما أبدا. و لا تداهنوا: أى لا تسالموا الظلمة و تساهلوا معهم في السكوت عما ترونه من منكراتهم فيهجم بكم الإدهان على المعصية: أى إذا آنستم بمشاهدة المعاصى و ألفتم تكرارها كنتم بذلك عصاة و ربّما ساقكم ذلك إلى فعل المنكر و مشاركتهم فيه.

و قوله: عباد اللّه. إلى آخره إخبارات في معنى الأوامر و النواهى
و قوله: عباد اللّه. إلى آخره إخبارات في معنى الأوامر و النواهى و أوامر و نواهى صريحة مشتملة على جواذب إلى طاعة اللّه و لزوم دينه.
فالأوّل: قوله: إنّ أنصح الناس لنفسه أطوعهم لربّه
و بيانه أنّه لمّا كان غرض الناصح إنّما هو جلب الخير و المنفعة إلى المنصوح، و كان أجّل خير و منفعة هو السعادة الباقية الأبديّة و مشاهدة الحضرة الربوبيّة، و كانت تلك السعادة إنّما تنال بطاعة اللّه تعالى فكلّ من كانت طاعته للّه أتمّ فكان هوأنصح الناس لنفسه بمبالغته في طاعته.

الثاني: قوله: و إنّ أغشّهم لنفسه أعصاهم لربّه
و هو ظاهر ممّا قرّرناه فإنّه لمّا كانت غاية الغشّ إنّما هو جلب الشرّ و المضرّة إلى المغشوش، و كان أعظم شرّ و ضرر يلحق العبد هو الشقاوة الأبديّة في قرار الجحيم، و كانت تلك إنّما يحصل الإنسان عليها بمعصية اللّه تعالى فكلّ من كانت معصيته أتمّ كانت شقاوته أتمّ فكانت هو أغشّ الناس لنفسه بمبالغته في معصيته. و حاصل القضيّة الاولى الأمر بالطاعة أتمّ ما يمكن و الثانية النهى عن المعصية أتمّ ما يمكن. و رغّب في الطاعات بذكر نصيحة النفس لما أنّ النصيحة محبوبة و نفّر عن المعصية بذكر غشها.

الثالث: قوله: و المغبون من غبن نفسه
و المراد من غبنها بالمعصية المستلزمة لدخول النار فكأنّ الإنسان بمتابعة شيطانه خادع لنفسه، و قد بخسها ما تستحقّه من ثواب اللّه، و لمّا كانت السعادة الاخرويّة أعظم ما يتنافس فيه لا جرم كان أعظم مغبون من لم يفز بها فلذلك حصر المغبون فيه على طريق المبالغة و هو خبر في معنى النهى عن المعصية، و نفّر عنها بذكر غبن النفس.

الرابع: قوله: و المغبوط من سلم له دينه
و الغبطة أن يتمنّى الإنسان مثل ما لغيره من حال أو مال مع قطع النظر عن تمنّى زوال تلك الحال عمّن هى له، و بهذا القيد يتميّز عن الحسد، و القضيّة ظاهرة ممّا قبلها فإنّه لمّا كان من سلم دينه فائزا بالسعادة الكبرى الباقية مع كونها أجلّ ما يغبط به و يتنافس فيه لا جرم كان هو أعظم مغبوط و لذلك حصر المغبوط فيه مبالغة، و رغّب في المحافظة على الدين بكون من سلم له مغبوطا.

الخامس: قوله: و السعيد من وعظ بغيره
و قد صارت هذه القضيّة في معنى المثل: أى السعيد في الآخرة من اعتبر حال غيره فشاهد بعين بصيرته مصير الظالمين فخاف عاقبتهم فعدل عن طريقهم و تذكّر حال المتّقين فمال إلى جادّتهم و سلك مسالكهم و رغّب في الاتّعاظ بالغير بذكر استلزامه للسعادة.

السادس: و كذلك الشقىّ في الآخرة
من انخدع لهواه و غروره و نفّر عن اتّباع الهوى بذكر الخداع و الغرور.

السابع: التنبيه على أنّ يسير الرياء شرك
و قد سبق منّا بيان أنّ الرياء في العبادة و إن قلّ التفات مع اللّه إلى غيره و إدخال له بالقصد بالعمل و الطاعة و ذلك في الحقيقة شرك خفىّ اتّفقت عليه أرباب القلوب.

الثامن: قوله: و مجالسة أهل الهوى منساة للايمان و محضرة للشيطان
أراد بأهل الهوى الفسّاق المنقادين لدواعى الشيطان إلى الشهوات الخارجة عن حدود اللّه، و نفّر عن مجالستهم بأنّها محلّ للأمرين: أحدهما: نسيان الإيمان و هو ظاهر فإنّ أهل الهوى أبدا مشغولون بذكر ما هم فيه من لعب و لهو خائضون في أصناف الباطل و. أنواعه فمجالستهم عن رغبة مظنّة الغفلة عن ذكر اللّه و الانجذاب إلى ما هم عليه عن الأعمال الصالحة و تلك أركان الإيمان و قواعده، و قد علمت أنّ كثرة الغفلات عن الشي‏ء تؤول إلى نسيانه و انمحائه عن لوح الخيال و الذكر، و ربّما يتجوّز في مطلق الغفلة عن أوقات العبادة والذكر بالنسيان تسمية للشي‏ء باسم ما يؤول إليه. الثاني: كونها محلّا لحضور الشيطان، و قد علمت معنى الشيطان و أنّ كلّ محلّ عصى اللّه فيه فهو محضر للشيطان و موطن له.

التاسع: الأمر بمجانبة الكذب
و نفّر عنه بقوله: فإنّه مجانب للإيمان، و هو حديث نبويّ، و معنى المجانبة كون كلّ منهما في جانب فإن كانت الأعمال الصالحة داخلة في مسمّى الايمان فالصدق من جملتها و مضادّ الصدق مضادّ للايمان و أحد الضدين مجانب للآخر فالكذب مجانب للايمان، و إن لم يكن كذلك قلنا: إنّ الكذب أعظم الرذائل الموبقة، و الايمان أعظم الفضايل المنقذة، و بين الفضايل و الرذائل منافاة ذاتيّة فالكذب مناف للايمان و مجانب له، و يحتمل أن يكون معنى مجانبته له كونه غير لايق أن يجامعه في محلّ واحد و غير مناسب له. و بالجملة كونه ليس منه في شي‏ء، و قد بيّنا ما يشتمل عليه الكذب من المضارّ المهلكة، ثمّ أردف ذلك بالترغيب في الصدق بكون الصادق على شرف منجاة: أى مشارف لنجاة و كرامة أو لمحلّهما و هو الجنّة إذ الصدق باب من أبوابها ثمّ بالتنفير عن الكذب بكون الكاذب على شرف مهواة و مهانة: أى هوى و هوان أو محلّهما و هو حضيض الجحيم الّذى هو محلّ الهوان إذ الكذب باب من أبوابها، و من انتهى إلى الباب فقد شارف الدخول، و عن الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم: إيّاكم و الكذب فإنّه يهدى إلى الفجور، و إنّ الفجور يهدى إلى النار، و إنّ الرجل ليكذب حتّى يكتب عند اللّه كذّابا، و عليكم بالصدق فإنّ الصدق يهدى إلى البرّ و إنّ البرّ يهدى إلى الجنّة و إنّ الرجل ليتحرّى الصدق حتّى يكتب عند اللّه مصداقا، و قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: الكذب رأس النفاق. و هو ظاهر فإنّ مدار النفاق على المصانعة بالقول الغير المطابق لما في نفس الأمر و هو حقيقة الكذب.

العاشر: النهى عن الحسد
و قد اتّفق أرباب القلوب على أنّه من أعظم أبواب الشيطان الّتى يدخل بها على القلب و هو أحد العوارض الرديئة للنفس و يتولّد من اجتماع البخل و الشريّة في النفس، و أعنى بالشرير من تلتذّ طباعها بمضارّ تقع بالناس و يكره ما يوافقهم و إن كانوا ممّن لا يرونه و لم يسيئوا إليه، و قد علمت أنّ من هذه صفته مستحقّ للمقت من اللّه عزّ و جلّ و ذلك أنّه مضادّ لإرادته‏ إذ هو تعالى المتفضّل على المزيد للخيرالمطلق للكلّ. و قد رسّم الحسد بأنّه اغتمام الإنسان بخير يناله غيره من حيث لا مضرّة منه عليه، و قد يوجد الحسد ممّن له نفع ما من المحسود، و يسمّى الحسد البالغ. و أمّا تعليله وجوب تركه بأنّه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب: فاعلم أنّ العلماء قد اتّفقوا على أنّ الحسد مضرّ بالنفس و الجسد: أمّا بالنفس فلأنّه يذهلها و يغرق فكرها بالاهتمام بأمر المحسود حتّى لا يفرغ للتصرّف فيما يعود نفعه عليها بل و ينسى ما حصلت عليه من الملكات الخيريّة الّتى هى الحسنات المنقوشة في جوهرها و يضمحلّ على طول تعوّد الحسد و اشتغال الفكر فيه و طول الحزن و الهمّ لأنّ نعم اللّه على عباده أكثر من أن تحصى فإذا كان الحسد بها دام فانقطع وقت الحاسد به عن تحصيل الحسنات، و أمّا بالجسد فلأنّه يعرض له عند حدوث هذه الأعراض للنفس طول السهر و سوء الاغتذاء و يعقّب ذلك رداءة اللون و سوء السجيّة و فساد المزاج.
إذا عرفت ذلك فنقول: إنّه قد استعار هاهنا لفظ الأكل لكون الحسد ماحيا لما في النفس من الخواطر الخيريّة الّتى هى الحسنات و مانعا من صيرورتها ملكات و ذلك بسبب استغراقها في حال المحسود و اشتغالها به، و شبّه ذلك بأكل النار الحطب. و وجه الشبه ما يشترك فيه الحسد و النار من إفناء الحسنات و الحطب و استهلاكهما.

الحادى عشر: النهى عن التباغض
و تعليله ذلك بأنّها الحالقة، و اعلم أنّه لمّا كان أمر العالم لا ينتظم إلّا بالتعاون و التضافر، و كان التعاون إنّما يتمّ بالالفة و كان أقوى أسباب الالفة هو المودّة و المؤاخاة بين الخلق كانت المودّة من المطالب المهمّة للشارع، و لذلك آخا رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم، بين أصحابه لتخلص محبّتهم و تصفو الفتهم و يصدق بينهم التعاون و التضافر و الاتّحاد في الدين، و قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: المرء كبير بأخيه و لا خير فى صحبة من لا يرى لك من الحقّ مثل ما ترى له. فلذلك كان التباغض بينهم منهيّا عنه مكروها في الشريعة لما يستلزمه من التقاطع بينهم و عدم تعاونهم و تضافرهم، و بسبب ذلك تتخطّف كلّا منهم أيدى حاسديه و تتحكّم فيه أهواء أعاديه فلم تسلم له نعمة و لا تصفو له مدّة بل يكون بذلك بواره و اضمحلال النوع و هلاكه، و لذلك قال عليه السّلام: فإنّها الحالقة. و أصل هذا اللفظ مستعار ممّا يحلق الشعر كالموسى و نحوها للدواهى وأسباب الشرّ ثمّ صار مثلا و قد وقع هاهنا موقعه من الاستعارة، و وجه المشابهة أنّ الموسى مثلا كما أنّها سبب لحلق الشعر و استيصاله كذلك التباغض سبب لاستيصال الخلق بعضهم بعضا.

الثاني عشر: التنبيه على مضارّ الأمل للدنيا
تنفيرا عنه و الأمر بتكذيبه المستلزم للنهى عنه. فأمّا مضارّه: فأحدها: أنّه يوجب سهو العقل: أى عمّا هو الأولى بالإنسان في معاشه و معاده و هو ظاهر فإنّ الآمل أبدا مشغول الفكر بما يأمله و يرجوه و في كيفيّة تحصيله و كيفيّة العمل به بعد حصوله و شغله بذلك يستلزم إعراضه عن غيره إذ ما جعل اللّه لرجل من قلبين في جوفه. الثانية: أنّه ينسى الذكر: أى ذكر اللّه تعالى بعد الموت من أحوال الآخرة، و ذلك باستغراقه فيما يأمله من أحوال الدنيا كما مرّ. الثالثة: أنّه غرور و صاحبه مغرور، و روى بفتح الغين من غرور و ضمّها، و وجه الفتح أنّ الأمل ليس هو نفس الغفلة عن الذكر و غيره بل مستلزم لها فلذلك صدقت نسبة الغرور إليه، و وجه الضمّ أنّه مجاز من باب إطلاق اسم اللازم على ملزومه، و أمّا تكذيبه فبذكر الموت و دوام إخطاره بالبال و ملاحظة المرجع و المعاد، و إنّما سمىّ ردّ الأمل تكذيبا له لأنّ النفس حال توقّعها للمأمول تكون حاكمة حكما و هميّا ببلوغه و نيله فإذا رجعت إلى صرف العقل و ملاحظة الموت و جواز الانقطاع به عن بلوغ مارجته كان تجويزها ذلك مكذّبا لما جزم به الوهم من الأحكام و رادّا له. و باللّه التوفيق.

 شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ،ج 2 صفحه‏ى 280

خطبه 82 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

القسم الأول

وَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ- الْأَوَّلُ لَا شَيْ‏ءَ قَبْلَهُ وَ الْآخِرُلَا غَايَةَ لَهُ- لَا تَقَعُ الْأَوْهَامُ لَهُ عَلَى صِفَةٍ- وَ لَا تُعْقَدُ الْقُلُوبُ مِنْهُ عَلَى كَيْفِيَّةٍ- وَ لَا تَنَالُهُ التَّجْزِئَةُ وَ التَّبْعِيضُ- وَ لَا تُحِيطُ بِهِ الْأَبْصَارُ وَ الْقُلُوبُ

أقول: هذا الفصل يشتمل على إثبات ثماني صفات من صفات الجلال:
الاولى الوحدانيّة مؤكّدة بنفى الشركاء و ذلك قوله: لا شريك له. و قد أشرنا إلى معقد البرهان العقلىّ على الوحدانيّة، و لمّا لم تكن هذه المسألة ممّا يتوقّف إثبات النبوّة عليها جاز الاستدلال فيها بالسمع كقوله تعالى لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا«» و قوله وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ.
الثانية: إثبات كونه أوّلا غير مسبوق بالغير.
الثالثة: إثبات كونه آخرا غير منته وجوده إلى غاية يقف عندها.
و قد سبق البحث عنهما مستقصى و نفى قبليّة شي‏ء له و الغاية عنه تأكيدان.
الرابعة: من السلوب أنّه لا تلحقه الأوهام فيقع منه على صفة.
و قد علمت فيما سبق أنّ الأوهام لا يصدق حكمها إلّا فيما كان محسوسا أو متعلّقا بمحسوس فأمّا الامور المجرّدة من علايق المادّة و الوضع فالوهم ينكر وجودها أصلا فضلا أن يصدّق في إثبات صفة لها و إنّما الحاكم بإثبات صفة له العقل الصرف، و قد علمت أنّ ما يثبته منها ليست حقيقة خارجيّة بل امورا اعتباريّة محدثها عقولنا عند مقايسته إلى الغير، و لا يفهم من هذا أنّه أثبت له صفة بل معناه أنّ الأوهام لا يصدق حكمها في وصفه تعالى.
الخامسة: كونه تعالى لا يعقل له كيفيّة يكون عليها
و بيان ذلك ببيان معنى الكيفيّة فنقول: إنّها عبارة عن هيئة قارّة في المحلّ لا يوجب اعتبار وجودها قسمة و لا نسبة، و لمّا بيّنا أنّه تعالى ليس له صفة تزيد على ذاته و هى محلّ لها استحال أن يعقد القلوب منه على كيفيّة.
السادسة: كونه تعالى لا تناله التجزية و التبعيض
و هو إشارة إلى نفى الكميّة عنه إذ كانت التجزية و التبعيض من لواحقها و قد علمت أنّ الكمّ من لواحق الجسم‏ و البارى تعالى ليس بجسم و ليس بكمّ فليس بقابل للتبعيض و التجزية و لأنّ كلّ قابل لهما منفعل من غيره و المنفعل عن الغير ممكن على ما مرّ.
السابعة: كونه تعالى لا تحيط به الأبصار
و هو كقوله تعالى لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ و هذه المسألة ممّا اختلف فيها علماء الإسلام و قد سبق فيها الكلام. و خلاصته: أنّ المدرك بحاسّة البصر بالذّات إنّما هو الألوان و الأضواء و بالعرض المتلوّن و المضي‏ء و لمّا كان اللون و الضوء من خواصّ الجسم و كان تعالى منزّها عن الجسميّة و لواحقها وجب كونه منزّها عن الإدراك بحاسّة البصر.
الثامنة: كونه تعالى لا يحيط به القلوب
و المراد أنّ العقول البشريّة قاصرة عن الإحاطة بكنه ذاته المقدّسة و قد سبق تقرير ذلك. و باللّه التوفيق.

القسم الثاني

و منها فَاتَّعِظُوا عِبَادَ اللَّهِ بِالْعِبَرِ النَّوَافِعِ- وَ اعْتَبِرُوا بِالْآيِ السَّوَاطِعِ- وَ ازْدَجِرُوا بِالنُّذُرِ الْبَوَالِغِ- وَ انْتَفِعُوا بِالذِّكْرِ وَ الْمَوَاعِظِ- فَكَأَنْ قَدْ عَلِقَتْكُمْ مَخَالِبُ الْمَنِيَّةِ- وَ انْقَطَعَتْ مِنْكُمْ عَلَائِقُ الْأُمْنِيَّةِ- وَ دَهِمَتْكُمْ مُفْظِعَاتُ الْأُمُورِ وَ السِّيَاقَةُ إِلَى الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ- فَ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَ شَهِيدٌ- سَائِقٌ يَسُوقُهَا إِلَى مَحْشَرِهَا وَ شَاهِدٌ يَشْهَدُ عَلَيْهَا بِعَمَلِهَا

اللغة

أقول: الآى: جمع آية.

و الساطع: المرتفع.

و النذر: جمع نذير.

و مفظعات الامور: شدايدها.

و الورد: المورد.

و في هذا الفصل فوائد:
الاولى: الأمر بالأتّعاظ بالعبر النوافع
و اسم العبرة حقيقة في الاعتبار، و قد يطلق مجازا فيما يعتبر به، و يحتمل أن يراد هاهنا إطلاقا لاسم الحال على المحلّ و للاتّعاظ سبب و حقيقة و ثمرة أمّا سببه فالنظر في آثار الماضين و تدبّر قصصهم و تصريف قضاء اللّه و قدرته لأحوالهم و هو الاعتبار، و أمّا حقيقته فالخوف الحاصل في نفس المعتبر من اعتباره و تأثّره عن أن يلحقه ما لحقهم إذ هو مثلهم و أولى بما لحقهم، و أمّا ثمرته‏ فالانزجار عن مناهى اللّه و إجابة داعيه و الانقياد لسلوك سبيله.

الثانية: الأمر بالاعتبار بالآى السواطع
و هو إرداف للأمر بالاتّعاظ بالأمر بسببه و أراد بالآى آيات آثار اللّه و عجايب مصنوعاته أو آيات القرآن المعذرة و المنذرة، و استعار لها لفظ السطوع، و وجه المشابهة ظهور إشراق أنوار الحقّ منها على مرايا قلوب عباد اللّه كإشراق نور الصبح و سطوعه و هو استعارة لفظ المحسوس للمعقول و اعتباره بها انتقال ذهنه فيها في مقام النظر والاستدلال كما سلف بيانه.

الثالثة: الأمر بالازدجار بالنذر البوالغ
و هو أمر بفايدة الاتّعاظ و النذر هى زواجر اللّه و وعيداته البالغة حدّ الكمال في التخويف و الزجر عند اعتبارها.

الرابعة: الأمر بالانتفاع بالذكر و المواعظ
و هو أمر بتحصيل ثمرة الذكر و الموعظة عنهما، و ختم هذه الأمر بذكر الانتفاع ترغيبا و جذبا للنفوس إلى الذكر و قبول المواعظ.

الخامسة: التخويف و التذكير بالموت و ما يتبعه
ليبادروا إلى امتثال أوامره السابقة فقوله. فكأن قد علقتكم مخالب المنيّة. استعار لفظ المخالب للمنيّة استعارة بالكناية و رشّح بذكر العلوق ملاحظا في ذلك تشبيه المنيّة بالسبع الّذى يهجم و يتوقّع إفراسه و كأن مخفّفة من كأنّ و اسمها ضمير الشأن، و يحتمل أن يكون أن الناصبة للفعل دخلت عليها كاف التشبيه.

المعنى

و قوله: و انقطعت عنكم علايق الامنيّة.
 إشارة إلى ما ينقطع عن الميّت بانقطاع أمله من مال و جاه و ساير ما كان يتعلّق به آماله من علايق الدنيا و متاعها.
و قوله: و دهمتكم مفظعات الامور.
 إشارة إلى ما يهجم على الميّت من سكرات الموت و ما يتبعها من عذاب القبر و أهوال الآخرة.
و قوله: و السياقة إلى الورد المورود.
فالسياقة هى السوقة المتعبة الّتى سلف ذكرها، و الورد المورود هو المحشر.

و قوله: و كلّ نفس معها سائق و شهيد.
اقتباس للآية وَ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَ شَهِيدٌ فالسائق الّذى يسوقها إلى المحشر هو حكم القضاء الإلهى و أسباب الموت القريبة الحاكمة على النفس برجوعها إلى معادها فإن كانت من أهل الشقاوة فيا لها من سوقة متعبة و جزية مزعجة وَ سِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى‏ جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ الآيات، و إن كانت من أهل السعادة ساقها سايق رؤوف سوقا لطيفا وَ نُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ و أمّا الشاهد عليها [بعملها] فقد سبقت الإشارة إليه. و باللّه التوفيق.


القسم الثالث و منها فى صفة الجنة:
دَرَجَاتٌ مُتَفَاضِلَاتٌ وَ مَنَازِلُ مُتَفَاوِتَاتٌ- لَا يَنْقَطِعُ نَعِيمُهَا وَ لَا يَظْعَنُ مُقِيمُهَا- وَ لَا يَهْرَمُ خَالِدُهَا وَ لَا يَبْأَسُ سَاكِنُهَا

المعنى

أقول: اعلم أنّ ألذّ ثمار الجنّة هى المعارف الإلهيّة بالنظر إلى وجه اللّه ذى الجلال و الإكرام. و السعداء في الوصول إلى نيل هذه الثمرة على مراتب متفاوتة و درجات متفاضلة. فالاولى: مرتبة من اوتى الكمال في حدس القوّة النظريّة حتّى استغنى عن معلّم بشرىّ رأسا و اوتى مع ذلك ثبات قوّته المتفكّرة و استقامة وهمه منقادا تحت قلم العقل فلا يلتفت إلى العالم المحسوس بما فيه حتّى يشاهد العالم المعقول بما فيه من الأحوال و يستثبتها في اليقظة فيصير العالم و ما يجرى فيه متمثّلا في نفسه فيكون لقوّته النفسانيّة أن يؤثّر في عالم الطبيعة حتّى ينتهى إلى درجة النفوس السماويّة، و تلك هى النفوس القدسيّة اولات المعارج و هم وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ، و هم أفضل النوع البشرىّ و أحقّه بأعلى درجات السعادة في الجنّة.

المرتبة الثانية مرتبة من له الأمر ان الأوّلان دون الثالث أعنى التأثير في عالم الطبيعة، و هذه مرتبة أصحاب اليمين و تحتها مراتب.
فأحدها: مرتبة من له استعداد طبيعىّ لاستكمال قوّته النظريّة دون العمليّة الثانية: من اكتسب ذلك الاستكمال في قوّته النظريّة اكتسابا تكليفيّا دون تهيّؤ طبيعىّ و لا حصّة له في أمر القوّة العمليّة. الثالثة: مرتبة من ليس له تهيّؤ طبيعىّ و لا اكتساب تكليفى في قوّته النظريّة و له ذلك التهيّؤ في القوّة العمليّة. الرابعة: مرتبة من له تكلّف في إصلاح الأخلاق و اكتساب الملكات الفاضلة دون تهيّؤ طبيعىّ لذلك. إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ للمقرّبين البالغين في الملكات الشريفة لذّات عظيمة في الجنّة قد فازوا بنعيم الأبد و السرور الدائم في حضرة جلال ربّ العالمين فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ غير مخرجين عن لذّاتهم لهم فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ و هم فيها خالدون كما قال عليه السّلام: لا يظعن مقيمها. جرد عن عوارض الأبدان و شوائب الموادّ مرد عن مزاحمة القوى المتغالبة المتجاذبة المؤّدية إلى الهرم و الموت مكحّلين بالأنوار الساطعة ينظرون إلى ربّهم بوجوههم المفارقة، وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ و لهم لذّات دون الوصول إلى مرتبة السابقين، و قد يخالط لذّات هؤلاء شوب من لذّات المقرّبين كما اشير إليه في التنزيل الإلهىّ في وصف شراب الأبرار «و مزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقرّبون و لكلّ من المراتب كمال يخصّه و درجات من السعادة في الجنّة تخصّه كما قال «لهم درجات عند اللّه» و قال «يرفع اللّه الّذين آمنوا منكم و الّذين اوتوا العلم درجات» و قال «لهم غرف مبنيّة من فوقها غرف تجرى من تحتها الأنهار». و إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى المتن فنقول: أمّا قوله: لا ينقطع نعيمها فلقوله تعالى وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ و قوله إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ و لأنّ الكمال الّذى حصل للإنسان فاستحقّ به سعادة في الجنّة ملكات ثابتة في جوهره لا تزول‏ و لا تتغيرّ و مهما دام الاستحقاق القابل لجود اللّه و نعمته وجب دوام ذلك الجود و فيض تلك النعمة إذ هو الجواد المطلق الّذى لا بخل من جهته و لا منع.

و أمّا قوله: و لا يظعن مقيمها فلقوله تعالى لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ… خالِدِينَ فِيها أَبَداً و قوله إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا و لأنّ النعيم الأبدىّ مطلوب بالذات غير ممنوع منه فلا يكون مهروبا عنه بالذات.

و أمّا قوله: و لا يهرم خالدها و لا ييأس ساكنها: أى لا يصيبه بؤس فلأنّ الهرم مستلزم للتعب و النصب و كذلك البؤس عن الضعف، و هذه اللوازم منفيّة عن أهل الجنّة لقوله تعالى وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ و بانتفاء هذه اللوازم ينتفي عنهم ملزومها و هو الهرم. و باللّه التوفيق.

شرح ‏نهج البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه‏ى 274

خطبه 81 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام فى ذكر عمرو بن العاص

عَجَباً لِابْنِ النَّابِغَةِ يَزْعُمُ لِأَهْلِ الشَّامِ أَنَّ فِيَّ دُعَابَةً- وَ أَنِّي امْرُؤٌ تِلْعَابَةٌ  أُعَافِسُ وَ أُمَارِسُ- لَقَدْ قَالَ بَاطِلًا وَ نَطَقَ آثِماً- أَمَا وَ شَرُّ الْقَوْلِ الْكَذِبُ إِنَّهُ لَيَقُولُ فَيَكْذِبُ وَ يَعِدُ فَيُخْلِفُ- وَ يَسْأَلُ فَيُلْحِفُ وَ يُسْأَلُ فَيَبْخَلُ وَ يَخُونُ الْعَهْدَ وَ يَقْطَعُ الْإِلَّ- فَإِذَا كَانَ عِنْدَ الْحَرْبِ فَأَيُّ زَاجِرٍ وَ آمِرٍ هُوَ- مَا لَمْ تَأْخُذِ السُّيُوفُ مَآخِذَهَا- فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَانَ أَكْبَرُ مَكِيدَتِهِ أَنْ يَمْنَحَ الْقَرْمَ سَبَّتَهُ- أَمَا وَ اللَّهِ إِنِّي لَيَمْنَعُنِي مِنَ اللَّعِبِ ذِكْرُ الْمَوْتِ- وَ إِنَّهُ لَيَمْنَعُهُ مِنْ قَوْلِ الْحَقِّ نِسْيَانُ الْآخِرَةِ- إِنَّهُ لَمْ يُبَايِعْ مُعَاوِيَةَ حَتَّى شَرَطَ أَنْ يُؤْتِيَهُ أَتِيَّةً- وَ يَرْضَخَ لَهُ عَلَى تَرْكِ الدِّينِ رَضِيخَةً

اللغة

نبغ الشي‏ء: ظهر و سميّت امّ عمرو النابغة لشهرتها بالفجور و تظاهرها به.

و الدعابة: المزاح.

و التلعابة: كثيرا للعب و التاء للمبالغة.

و المعافسة: المداعبة.

و الممارسة: المعالجة بالمصارعة و القرص و نحوه.

و الإلّ: القرابة.

و سبّته: سوءته.

و الأتيّة: العطيّة و الوزن واحد و كذلك الرضيخة.

و اعلم أنّ في هذا الفصل ثلاثة فصول:

الأوّل ذكر دعوى عمرو في حقّه عليه السّلام
من كونه لعّابا مزّاحا يكثر المعالجة بالمصارعة و ذكر هذه الدعوى مصدّرة بالتعجّب من صدورها في حقّه مختومة بالكذب لمدّعيها و الردّ لمقاله و ذلك قوله: عجبا إلى قوله: و نطق آثما و باطلا وصف للمصدر، و آثما حال و إنّما كنّى عنه بامّه لأنّ من عادة العرب النسبة إلى الامّ إذا كانت مشهورة بشرف أو خسّة و نحوها.
و اعلم أنّه عليه السّلام قد كان يصدر عنه المزاح بالقدر المعتدل الّذى لا يخرج به إلى حدّ رذيلة الإفراط فيه فمن ذلك ما روى أنّه كان جالسا يوما على رباوة من الأرض و كان أبو هريرة جالسا معه و أخذ منه لفتة و حذفه بنواة فالتفت إليه أبو هريرة فتبسّم عليه السّلام‏ 

فقال أبو هريره: هذا الّذى أخّرك عن الناس، و قد علمت أنّ ذلك من توابع حسن الخلق و لين الجانب فهو إذن فضيلة و ليس برذيلة و المدّعى لعمرو إنّما هو عبوره في ذلك إلى حدّ الإفراط الّذى يصدق عليه أنّه لعب و هزل، و روى أنّه كان يقول لأهل الشام: إنّا إنّما أخّرنا عليّا لأنّ فيه هزلا لا جدّ معه و نحوه ما كان يقوله أبوه العاص لرسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم إنّه لساحر و من أشبه أباه فما ظلم و تكذيبه عليه السّلام لعمرو إنّما هو فيما ادّعاه من الخروج إلى اللعب و أمّا أصل المزاح فلم ينكره و كيف و قد كان يصدر عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم كما صروي أنّه قال يوما لعجوز: إنّ العجايز لا يدخلن الجنّة فبكت فتبسّم و قال إنّ اللّه يجعلهنّ شوابّ ثمّ يدخلهنّ الجنّة و أهل الجنّة شباب جرد مرد و إنّ الحسن و الحسين عليهما السّلام سيّدى شباب أهل الجنّة. و كان يقول: أمزح و لا أقول إلّا حقّا.

 

الثاني: قوله: أمّا و شرّ القول إلى قوله سبّته
و يشتمل على ذكر ما اجتمع في هذا المدّعى من الرذائل الّتي توجب فسقه و سقوط دعواه لقوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا«» الآية و ذكر من تلك الرذائل خمسا.
الاولى: الكذب و ظاهر كونه شرّ القول و أنّه مفسدة مطلقة في الدين و الدنيا أمّا الدين فللمنقول و المعقول أمّا المنقول فقول الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم الكذب رأس النفاق، و أمّا المعقول فلأنّ الوجدان شاهد بأنّ الكذب ممّا يسوّد لوح النفس و يمنعه أن ينتقش بصور الحقّ و الصدق و يفسد المنامات و الإلهامات، و أمّا الدنيا فلأنّه سبب عظيم لخراب البلاد و قتل النفوس و سفك الدماء و أنواع الظلم و لذلك اتّفق أهل العالم من أرباب الملل و غيرهم على تحريمه و ادّعى المعتزلة قبحه بالضرورة و هو رذيلة مقابلة للصدق داخلة تحت رذيلة الفجور.

الثانية: الخلف في الوعد.

الثالثة: الغدر في العهد و خيانته و هما رذيلتان مقابلتان للوفاء داخلتان تحت رذيلة الفجور أيضا و الغدر يستلزم رذيلة الخبث و هر طرف الإفراط من فضيلة الذكاء و هما يستلزمان الكذب أيضا.

الرابعة: قطع الرحم و هى رذيلة الإفراط من فضيلة صلة الرحم و حقيقتها عدم مشاركة ذوى اللحمة في الخيرات الدنيويّة و هى رذيله تحت الظلم مستلزمة للبخل.

الخامسة: رذيلة الجبن و هى طرف التفريط من فضيلة الشجاعة و نبّه عليها بقوله: فإذا كان عند الحرب فأيّ زاجر و آمر هو إلى قوله: سبّته، و فيه تنبيه على دناءة همّته و مهانة نفسه إذ كان علىّ الهمّة شهم النفس لا يفرّ من قراع الأقران إلى التخلّص من الموت بأقبح فعل يكون من كشف سوءته و بقاء ذلك سبّة في عقبه على مرور الدهور. و الدناء و المهانة رذيلتان تحت الجبن.

و قوله: فأيّ زاجر و آمر. هو استفهام على سبيل التعجّب و المبالغة في أمره و نهيه و ذكره في معرض الذمّ هنا و إن كان من الممادح لغرض أن يردفه برذيلته ليكون ذلك خارجا مخرج الاستهزاء فيكون أبلغ وقعا في النفوس و أشدّ عارا عليه إذ كان الأمر و النهى في الحرب إنّما يحسن ممّن يشتهر بالشجاعة و الإقدام لا ممّن يأمر و ينهى فإذا اشتدّ القتال فرّ فرار الحمار من السبع و اجتهد في البقاء و لو بأقبح مذمّة فإنّ عدم الأمر و النهى و الخمول بمثل هذا أليق و أولى من وجودها و كأنّ أبا الطيّب حكى صورة حاله إذ قال.

و إذا ما خلا الجبان بأرض طلب الطعن وحده و النزالا و أمّا صورة هذه الرذيلة منه فروى أنّ عليّا عليه السّلام حمل عليه في بعض أيّام صفّين فلمّا تصوّر أنّه قاتله ألقى نفسه عن فرسه و كشف سوءته مواجها له عليه السّلام فلمّا رأى ذلك منه غضّ بصره عنه و انصرف عمرو مكشوف العورة و نجا بذلك فصار مثلا لمن يدفع عن نفسه مكروها بارتكاب المذلّة و العار، و فيه يقول أبو فراس.

و لا خير في دفع الأذى بمذلّة كما ردّها يوما بسوءته عمروو روى مثل ذلك لبسر بن أرطاة معه فإنّه عليه السّلام حمل على بسر فسقط بسر على قفاه و رفع رجليه فانكشفت عورته فصرف عليه السّلام وجهه عنه فلمّا قام سقطت البيضة عن رأسه فصاح أصحابه يا أمير المؤمنين إنّه بسر بن أرطاه فقال: ذروه- لعنه اللّه- فلقد كان معاويه.
أولى بذلك منه. فضحك معاويه و قال: لا عليك يا بسر ارفع طرفك و لا تستحى فلك بعمرواسوة، و قد أراك اللّه منه و أراه منك. فصاح فتى من أهل الكوفة: ويلكم يا أهل الشام أما تستحيون لقد علّمكم عمرو كشف الأستار ثمّ أنشد:
أ في كلّ يوم فارس ذو كريهة له عورة وسط العجاجة بادية يكفّ لها عنه علىّ سنانه و يضحك منها في الخلاء معاوية
بدت أمس من عمرو فقنّع رأسه‏                              و عورة بسر مثلها حذو حاذبة
فقولا لعمرو و ابن أرطاة ابصرا نشدتكما لا تلقيا الليث تالية
و لا تحمدا إلّا الحيا و خصا كما                            هما كانتا و اللّه للنفس واقية
و لو لا هما لم تنجوا من سنانه تلك بما فيها عن العود ناهية و كان بسر ممّن يضحك من عمرو فصار ضحكه له

الثالث: بيان وجه فساد مدّعى عمرو في حقّه
و هو مستند المنع و ذكر وجهين:

أحدهما: يرجع إليه و هو أنّه عليه السّلام دائم الذكر للموت و التفكّر في أحوال المعاد و الوجدان شاهد بأنّ المستكثر من إخطار الموت عليه يكون أبدا قصير الأمل و جلا من اللّه مترصّدا لهجوم الموت عليه مشغولا بذلك عن الالتفات إلى حظّ الشهوات من اللعب و نحوه فكيف يتصوّر اللعب ممّن هذه حاله.

الثاني: يرجع إلى حال عمرو و هو أنّه ممّن نسى الآخرة، و ظاهر أنّ نسيانها مستلزم للكذب و ساير وجوه خداع أبناء الدنيا من المكر و الحيلة و ما لا ينبغي من مناهى اللّه، و من كانت هذه حاله كيف يوثق بقوله، ثمّ نبّه بقوله: و لم يبايع معاوية. إلى آخره على بعض لوازم نسيان الآخرة، و هو أخذه لبيعته و قتاله مع الإمام الحقّ الّذي يخرج به عن ربقة الدين عوضا و ثمنا. و تلك العطيّة هى مصر كما سبقت الإشارة اليه. و باللّه العصمة و التوفيق.


شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 2 ، صفحه‏ ى 274

 

خطبه 80 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام و هى من الخطب العجيبة و تسمّى الغرّاء.
اعلم أنّ في هذه الخطبة فصولا:

الفصل الأوّل قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَلَا بِحَوْلِهِ…
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي عَلَا بِحَوْلِهِ وَ دَنَا بِطَوْلِهِ- مَانِحِ كُلِّ غَنِيمَةٍ وَ فَضْلٍ وَ كَاشِفِ كُلِّ عَظِيمَةٍ وَ أَزْلٍ- أَحْمَدُهُ عَلَى عَوَاطِفِ كَرَمِهِ وَ سَوَابِغِ نِعَمِهِ- وَ أُومِنُ بِهِ أَوَّلًا بَادِياً وَ أَسْتَهْدِيهِ قَرِيباً هَادِياً- وَ أَسْتَعِينُهُ قَاهِراً قَادِراً وَ أَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ كَافِياً نَاصِراً- وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً ص عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ- أَرْسَلَهُ لِإِنْفَاذِ أَمْرِهِ وَ إِنْهَاءِ عُذْرِهِ وَ تَقْدِيمِ نُذُرِهِ


اللغة

الحول: القوّة.

الطول: الفضل.

و المنحة: العطيّة.

و الأزل: الشدّة.

و النذر: النذارة.

المعنى

و قد أثنى على اللّه تعالى في هذا الفصل باعتبارات أربعة من نعوت جلاله:

الأوّل: كونه عليّا، و إذ ليس المراد به العلوّ المكانىّ لتقدّسه تعالى عن الجسميّة كما سبق فالمراد العلوّ المعقول له باعتبار كونه مبدء كلّ موجود و مرجعه فهو العلىّ المطلق الّذي لا أعلى منه في وجود و كمال رتبة و شرف كما سبق بيانه، و لمّا عرفت أنّ معنى الدنوّ إلى كلّ موجود صدر عن قدرته و قوّته لا جرم جعل للحوقه له مبدءا هو حوله.

الثاني: كونه دانيا بطوله. و لمّا عرفت أنّ معنى الدنوّ و القرب في حقّه تعالى ليس مكانيّا أيضا كان اعتبارا تحدثه عقولنا له من قرب إفاضة نعمه على قوابلها و قربه من أبصار البصائر في صورة نعمة نعمة منها و لذلك جعل طوله مبدءا لدنوّه.

الثالث: كونه مانح كلّ غنيمة و فضل. الرابع: كونه كاشف كلّ عظيمة و أزل. هما إشارة إلى كلّ نعمة صدرت عنه على قابلها فمبدءها جوده و رحمته سواء كانت وجوديّة كالصحّة و المال و العقل و غيرها أو عدميّة كدفع البأساء و الضرّاء، و إليه الإشارة بقوله وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ«» الآية، و قوله أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَ يَكْشِفُ السُّوءَ وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ«».
و قوله: أحمده. إلى قوله: نعمه.
و قوله: أحمده. إلى قوله: نعمه. تنبيه للسامعين على مبدء استحقاقه لاعتبار الحمد، و هو كرمه. قال بعض الفضلاء: الكريم هو الّذي إذا قدر عفا، و إذا وعد وفا، و إذا أعطى زاد على منتهى الرجاء و لم يبال كم أعطى و لا لمن أعطى، و إن رفع إلى غيره حاجة لا يرضى، و إذا جفى عاتب و ما استقصى، و لا يضيع من لاذبه و التجا و يغنيه عن الوسائل و الشفعاء. فمن اجتمعت له هذه الاعتبارات حقيقة من غير تكلّف فهو الكريم المطلق. و ليس ذلك إلّا اللّه تعالى. قلت: و الأجمع الأمنع في رسم هذا الاعتبار يعود إلى فيضان الخير عنه من غير بخل و منع و تعويق على كلّ من يقدر أن يقبله بقدر ما يقبله. و عواطف كرمه هى نعمه و آثاره الخيريّة الّتى تعود على عباده مرّة بعد اخرى، و سوابغ نعمه السابغة الّتى لا قصور فيها عن قبول قابلها.

و قوله: و أومن به أوّلا باديا.
و قوله: و أومن به أوّلا باديا. نصب أوّلا باديا على الحال، و أشار بهذين الوصفين إلى الجهة الّتى هى مبدء الإيمان إذ كان منه باعتبار كونه أوّلا هو مبدءا لجميع الموجودات، و كونه باديا هو كونه ظاهرا في العقل في جميع آثاره. فباعتبار ظهوره مع كونه مبدءا لكلّ موجود و أوّلا له يجب الايمان به و التصديق بإلهيّته.


و قوله: و أستهديه قريبا هاديا.
و قوله: و أستهديه قريبا هاديا. فاستهداؤه طلب الهداية منه، و قربه هو دنوّه بجوده من قابل فضله، و هدايته هبته الشعور لكلّ ذى إدراك بما هو أليق به ليطلبه دون ما ليس أليق به. و ظاهر أنّه باعتبار هذين الوصفين مبدء لطلب الهداية منه.

و قوله: و أستعينه قاهرا قادرا.
و قوله: و أستعينه قاهرا قادرا. استعانته طلب المئونة منه على ما ينبغي من طاعته و سلوك سبيله، و القاهر هو الّذي لا يجرى في ملكه بخلاف حكمه نفس، بل كل موجود مسخّر تحت حكمه و قدرته و حقير في قبضته، و القادر هو الّذي إذا شاء فعل و إذا لم يشأ لم يفعل و إن لم يلزم أنّه لا يشأ فلا يفعل كما سبق بيانه. و ظاهر أنّه باعتبار هذين الوصفين مبدء للاستعانة.

و قوله: و أتوكّل عليه كافيا ناصرا.
و قوله: و أتوكّل عليه كافيا ناصرا. التوكّل كما علمت يعود إلى اعتماد الإنسان فيما يرجو أو يخاف على غيره، و الكافي اعتبار كونه معطيا لكلّ قابل من خلقه ما يكفى استحقاقه من منفعة و دفع مضرّة، و الناصر هو اعتبار إعطائه النصر لعباده على أعدائهم بإفاضة هدايته و قوّته. و ظاهر أنّه تعالى باعتبار هذين الوصفين مبدء لتوكّل عباده عليه و إلقاء مقاليد امورهم إليه.

و قوله: و أشهد. إلى آخره.
تقرير للرسالة و تعيين لأغراضها و ذكر منها ثلاثة:

أحدها: إنفاذ أمره. و الضمائر الثلاثة للّه. و إنفاذ أمره إجراؤه لأحكامه على قلوب الخلق ليقرّوا بالعبودّية له.

الثاني: إنهاء عذره في أقواله و أفعاله. و قد سبق بيان وجه استعارة العذر. الثالث: تقديم نذره و هو التخويفات الواردة على ألسنة الرسل عليهم السّلام إلى الخلق قبل لقائه الجاذبة لهم إلى لزوم طاعته. و ظاهر كون الثلاثة أعراضا للبعثة.

الفصل الثاني: قوله: أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ

أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي ضَرَبَ الْأَمْثَالَ- وَ وَقَّتَ لَكُمُ الْآجَالَ وَ أَلْبَسَكُمُ الرِّيَاشَ وَ أَرْفَغَ لَكُمُ الْمَعَاشَ- وَ أَحَاطَ بِكُمُ الْإِحْصَاءَ وَ أَرْصَدَ لَكُمُ الْجَزَاءَ- وَ آثَرَكُمْ بِالنِّعَمِ السَّوَابِغِ وَ الرِّفَدِ الرَّوَافِغِ- وَ أَنْذَرَكُمْ بِالْحُجَجِ الْبَوَالِغِ فَأَحْصَاكُمْ عَدَداً- وَ وَظَّفَ لَكُمْ مُدَداً فِي قَرَارِ خِبْرَةٍ وَ دَارِ عِبْرَةٍ- أَنْتُمْ مُخْتَبَرُونَ فِيهَا وَ مُحَاسَبُونَ عَلَيْهَا

المعنى

الرياش: اللباس الفاخر.

و قيل: الغنى بالمال.

و أرصد: أعدّ.

و الرفد: جمع رفده و هى العطيّة.

و الروافع: الواسعة الطيّبة

و هذا الفصل مشتمل على الوصيّة بتقوى اللّه و خشيته و الانجذاب إليه باعتبار امور:

الأول: ضرب الأمثال
و الأمثال الّتى ضربها اللّه لعباده في القرآن كثيرة منها: قوله تعالى كَمَثَلِ الَّذِي، اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ إلى قوله يَرْجِعُونَ«» و الإشارة بهذا المثل إلى من كان قد طلب إظهار المعجزات من الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم فلمّا ظهرت لهم لم يقبلوها و رجعو إلى ظلمة جهلهم فهم صمّ عن سماع دواعى اللّه بآذان قلوبهم، بكم عن مناجات اللّه بأسرارهم، عمى عن مشاهدة أنوار اللّه بإبصار بصائرهم فهم لا يرجعون عن تماديهم في غيّهم و كفرهم. و منها: قوله أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ إلى قوله قامُوا و هو مثل شبّه فيه القرآن بالمطر نزل من السماء، و شبّه ما فى القرآن من الوعد و الوعيد بما في المطر من الرعد و البرق، و شبّه تباعد المنافقين عن الإصغاء إلى‏ القرآن و تغافلهم عن سماع الوعظ بمن يجعل أصابعه في آذانه خوف الصواعق، و قوله: يَكادُ الْبَرْقُ. إلى آخره. إشارة إلى من كان يرقّ قلبه بسماع الوعظ البالغ إذا قرعه و يميل إلى التوبة و يتجلّى عن قلبه بعض الظلمة فإذا رجعوا إلى قرنائهم أشاروا عليهم بالعود إلى دنياهم و بذلوا لهم الجهد في النصيحة و خوّفوهم بالعجز فتضعف قصودهم، و تظلم عليهم شبهات الباطل فتغطّى ما كان ظهر لهم من نور الحقّ. و كذلك باقى أمثال اللّه في كتابه الكريم.

الثاني: قوله: و وقّت لكم الآجال:
أى كتبها بقلم القضاء الإلهىّ في اللوح المحفوظ كلّ إلى إجل مسمّى ثمّ يرجع إليه فيحاسبه بإعلانه و إسراره. فبالحرّى أن يقتّته و يعمل للقائه.

الثالث: كونه قد ألبسهم الرياش.
و هو إظهار للمنّة عليهم كما قال يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً وَ لِباسُ التَّقْوى‏«» الآية. ليذكّروا أنواع نعمه فيستحيوا من مجاهرته بالمعصية.

الرابع: كونه قد أرفع لهم المعاش
أى أطاب معايشهم في الدنيا كما قال تعالى وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ، و هو كالثالث.

الخامس: إحاطته بهم إحصاء
كقوله تعالى لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَ عَدَّهُمْ عَدًّا أى أحاط بهم علمه. و إحصاء منصوب على المصدر من غير لفظ فعله، أو على التمييز. و ظاهر أنّ علم العصاة بأنّه لا يشذّ أحد منهم عن إحاطة علمه جاذب لهم إلى تقواه.

السادس: كونه قد أرصد لهم الجزاء.
كقوله مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ«».

السابع: ايثارهم بالنعم السوابغ
و الرفد الروافع. كقوله تعالى وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً«».

الثامن: إنذارهم بالحجج البوالغ
و هى رسله و مواعظه و ساير ما جذب به عباده إلى‏ سلوك سبيله، و هو حجّة على عصاة أمره أن يقولوا يوم القيامة إنّا كنّا عن هذا غافلين.

التاسع: إحصاؤه لعددهم
كقوله تعالى وَ أَحْصى‏ كُلَّ شَيْ‏ءٍ عَدَداً.

العاشر: توظيفه لهم المدد،
و هو كتوقيته لهم الآجال، و إنّما كرّر وصف الإحصاء و العدّ و هذين الوصفين أيضا لأنّ الوهم كثيرا ما ينكر إحاطته تعالى بالجزئيّات مع عدم تناهيها فيكون ذلك مشبّها على النفس توقيت الآجال لكلّ شخص شخص و يقدح في أمر المعاد العقوبات اللازمة لكلّ آحاد الخلق بحسب كلّ ذرّة من الأعمال الطالحة فكرّرهما طردا للوهم و كسرا لحكمه، و لأنّ ذكر توقيت الآجال من أشدّ الجواذب عن الدنيا إلى اللّه. و قوله: في قرار خبرة و دار عبرة: أى محلّ اختبار اللّه خلقه و محلّ عبرتهم: أى انتقال أذهانهم فيما تجرى فيها من آيات العبرة و آثار القدرة.
و الاستدلال بها على وحدانيّة مبدعها كما سبقت الإشارة إلى معنى الاختبار و الاعتبار و كذلك قوله: فأنتم فيها مختبرون و عليها محاسبون قد سبقت الإشارة إليه في قوله: ألا و إنّ الدنيا دار لا يسلم منها إلّا فيها. و في هذين القرينتين مع السجع المتوازى نوع من التجنيس بين خبرة و عبرة. و الاختلاف بالحرف الأوّل.


الفصل الثالث قوله: فَإِنَّ الدُّنْيَا رَنِقٌ مَشْرَبُهَا رَدِغٌ مَشْرَعُهَا…

فَإِنَّ الدُّنْيَا رَنِقٌ مَشْرَبُهَا رَدِغٌ مَشْرَعُهَا- يُونِقُ مَنْظَرُهَا وَ يُوبِقُ مَخْبَرُهَا- غُرُورٌ حَائِلٌ وَ ضَوْءٌ آفِلٌ وَ ظِلٌّ زَائِلٌ وَ سِنَادٌ مَائِلٌ- حَتَّى إِذَا أَنِسَ نَافِرُهَا وَ اطْمَأَنَّ نَاكِرُهَا- قَمَصَتْ بِأَرْجُلِهَا وَ قَنَصَتْ بِأَحْبُلِهَا- وَ أَقْصَدَتْ بِأَسْهُمِهَا وَ أَعْلَقَتِ الْمَرْءَ أَوْهَاقَ الْمَنِيَّةِ- قَائِدَةً لَهُ إِلَى ضَنْكِ الْمَضْجَعِ وَ وَحْشَةِ الْمَرْجِعِ- وَ مُعَايَنَةِ الْمَحَلِّ وَ ثَوَابِ الْعَمَلِ- . وَ كَذَلِكَ الْخَلَفُ بِعَقْبِ السَّلَفِ- لَا تُقْلِعُ‏ الْمَنِيَّةُ اخْتِرَاماً- وَ لَا يَرْعَوِي الْبَاقُونَ اجْتِرَاماً يَحْتَذُونَ مِثَالًا- وَ يَمْضُونَ أَرْسَالًا إِلَى غَايَةِ الِانْتِهَاءِ وَ صَيُّورِ الْفَنَاءِ

اللغة

الرنق: الكدر.

و الردغ: الوحل و التراب المختلط بالماء.

و يونق: يعجب.

و يوبق: يهلك.

و غرور: خدعة مستغفلة للأذهان.

و الحائل: المنتقلة المحتولة.

و قمصت الدابّة: رفعت يديها و طرحتهما و عجنت برجليها.

و قنصت: صادت. و أقصدت: أصابت القصد.

و الأوهاق: جمع وهق بالفتح و هو الحبل.

و الضنك: الضيق.

و أقلع عن الشي‏ء: امتنع منه.

و الاخترام: الموت دون المدّة الطبيعيّة.

و ارعوى: كفّ و رجع و حذاحذ و فلان: فعل فعله.

و أرسال: جمع رسل بالفتح و هو القطيع من الغنم يتبع القطيع.

و صيّور الأمر: ما يرجع إليه منه.

المعنى

و مدار هذا الفصل على التنفير عن الدنيا بذكر معايبها و ما يؤول إليه، و ذكر لها أوصافا:

الأوّل: كونها رنق مشربها.
و هو كناية عن كدر لذّاتها بشوائب المصائب من الهموم و الأحزان و الأعراض و الأمراض.

الثاني: كونها ردغ مشرعها.
و مشرعها محلّ الشروع في تناولها و الورود في استعمالها، و كونه ردغا وصف للطريق المحسوس استعير له. و وجه المشابهة كون طريق الإنسان في استعمال الدنيا و التصرّف فيها ذات مزالق و مزالّ أقدام تهوى به إلى جهنّم لا يثبت فيها إلّا قدم عقل قد هجّر في ضبط قواه و قهر سطوة شياطينه كما أنّ الطريق ذات الوحل كذلك. و هو من لطائف إشاراته عليه السّلام.

الثالث: كونها يونق منظرها، و يوبق مخبرها.
و هو إشارة إلى إعجابها لذوى الغفلة بزينتها الحاضرة مع هلاكهم باختبارها و ذوقهم لحلاوتها و غرض الالتذاذ بها.

الرابع: كونها غرورا حائلا.
يروى بفتح الغين و ضمّها. و معنى الأوّل ذات غرور: أى تغرّ الخلق بزخارفها فيتوهّمون بقاءها ثمّ تنتقل عنهم و تحوّل، و من روى بالضمّ جعلها نفسها غرورا: و الغرور يطلق على ما يغترّ به حقيقة عرفيّة.

لخامس: كونها ضوء آفلا
استعار لفظ الضوء لما يظهر منها من الحسن في عيون الغافلين يقال على فلان ضوء: أى له منظر حسن، أو لما ظهر لهم من وجوه مسالكها فاهتدوا به إلى تحصيلها و مداخلها و مخارجها. و على التقديرين فهو ضوء آفل لا يدوم.
و لفظ الافول أيضا مستعار.

السادس: و ظلّ زائل.
استعار لفظ الظلّ لما يأوى إليه الإنسان من نعيمها فيستظلّ به من حرارة بؤسها. و ظاهر كونه زائلا.

السابع: كونه سنادا مايلا.
استعارة أيضا للفظ اسناد فيما يعتمد الغافلون عليه من قيناتها و خيراتها الّتى لا أصل لها و لا ثبات بل هى كشجرة خبيثة اجتثّت من فوق الارض مالها من قرار، و ذكر الميل ترشيح للاستعارة.

الثامن: كونها تغرّ الناس بضوئها
و ظلّها و بهجة منظرها إلى غايه أن يستأنس بها من كان بعقله نافرا عنها و يطمئنّ إليها من كان بمقتضى فطرته منكرا لها حتّى إذا كان ذلك منه طوعا لها فعلت به أفعال العدوّ الخدوع، و نسب إليها من الأفعال امورا: أحدها: قمصها بالأرجل. و استعار لفظ القمص لامتناعها على الإنسان حين حضور أجله كأنّها تدفعه برجليها مولّية عنه كما تفعل الدابّة، و رشّح بذكر الأجل. و إنّما جمع لاعتبار اليدين مع الرجلين، و ذكره بلفظ الرجلين لأنّ القمص إليها أنسب. الثاني: قنصها له بأحبلها. و هو كناية عن تمكّن حبائل محبّتها. و الهيئات الرديئة المكتسبة منها في عنق نفسه كناية بالمستعار. الثالث: كونها أقصدت له بأسهمها. و استعار لفظ الأسهم للأمراض و أسباب الموت، و إقصادها كناية عن إصابتها بالمستعار لأوصاف الرامى تنزيلا للدنيا منزلته. الرابع: كونها أعلقته حبال المنيّة. و حبالها استعارة لما تجذب به إلى الموت من ساير أسبابه أيضا، و كذلك لفظ القائد استعارة كنّى بها عن انسياق المريض في حبال مرضه الحاصل فيها إلى الامور المذكور من ضنك المضطجع و هو القبر و وحشة المرجع، و هو إشارة إلى ما تجده النفوس الجاهلة عند رجوعها من وحشة فراق ما كان محبوبا لها في الدنيا و ما كانت الفتنة من مال و أهل و ولد. و هى استعارات لأوصاف الصايد تنزيلا للدنيا منزلته. و معاينة المحلّ: أى مشاهدة الآخرة الّتى هى محلّ الجزاء. و ثواب العمل: أى جزاءه من خير أو شرّ.

و قوله: و كذلك الخلف. إلى آخره.
أى على الأحوال المذكورة للدنيا مضى الخلق يتبع خلفهم من سلف منهم لا المنيّة تقصر عن اخترام نفوسهم و لا الباقون منهم يرجعون عمّا هم عليه من ارتكاب الجرائم فيها و الغرور بها بل يقتدون بأمثالهم الماضين في ذلك و يمضون عليه اتّباعا إلى غاية مسيرهم بمطايا الأبدان و مصير أمرهم و هو الفناء و العرض على الملك الديّان. و قد راعى أيضا مع السجع التجنيس في قوله: يونق و يوبق، و نافرها و ناكرها، و قمصت و قنصت، و الاختلاف بحرف الوسط. و باللّه التوفيق.

الفصل الرابع: في الإشارة إلى ما يلحق الناس بعد الموت من أحوال القيامة تذكيرا لهم.

قوله: حَتَّى إِذَا تَصَرَّمَتِ الْأُمُورُ- وَ تَقَضَّتِ الدُّهُورُ وَ أَزِفَ النُّشُورُ- أَخْرَجَهُمْ مِنْ ضَرَائِحِ الْقُبُورِ وَ أَوْكَارِ الطُّيُورِ- وَ أَوْجِرَةِ السِّبَاعِ وَ مَطَارِحِ الْمَهَالِكِ سِرَاعاً إِلَى أَمْرِهِ- مُهْطِعِينَ إِلَى مَعَادِهِ رَعِيلًا صُمُوتاً قِيَاماً صُفُوفاً- يَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ وَ يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي- عَلَيْهِمْ لَبُوسُ الِاسْتِكَانَةِ وَ ضَرَعُ الِاسْتِسْلَامِ وَ الذِّلَّةِ- قَدْ ضَلَّتِ الْحِيَلُ وَ انْقَطَعَ الْأَمَلُ وَ هَوَتِ الْأَفْئِدَةُ كَاظِمَةً- وَ خَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ مُهَيْنِمَةً- وَ أَلْجَمَ الْعَرَقُ وَ عَظُمَ الشَّفَقُ وَ أُرْعِدَتِ الْأَسْمَاعُ- لِزَبْرَةِ الدَّاعِي إِلَى فَصْلِ الْخِطَابِ وَ مُقَايَضَةِ الْجَزَاءِ- وَ نَكَالِ الْعِقَابِ وَ نَوَالِ الثَّوَابِ

اللغة

تصرّمت: تقضّت.

و أزف: دنا.

و الضرائح: جمع ضريح. و هو الشقّ في‏ وسط القبر.

و أوكار الطيور: أعشاشها.

و أوجرة: جمع و جار و هو بيت السبع.

مهطعين: مقبلين.

و رعيلا: مجتمعين.

اللبوس: ما يلبس.

و الضرع: الخضوع و الانكسار.

و كاظمة: ساكنة.

و الهينمة: صوت خفىّ.

و ألجم العرق: بلغ الفم فصار كاللجام.

و الشفق: الإشفاق و هو الخوف.

و الزبرة: الانتهار.

و المقايضة: المعاوضة.

و النكال: تنويع العقوبة.

المعنى

و اعلم أنّه قد تطابقت ألسنة الأنبياء و الرسل عليهم السّلام على القول بالمعاد الجسمانىّ، و نطق به الكتاب العزيز كقوله تعالى يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى‏ نُصُبٍ يُوفِضُونَ خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ«» الاية و نحوه، و اتّفق المسلمون على القول به، و أمّا الحكماء فالمشهور من مذهبهم منع المعاد الجسمانىّ بناء على أنّ المعدوم لايعاد بعينه لامتناع عود أسبابه بأعيانها من الوقت و الدورة الفلكيّة المعينّة و غيرهما. و ربّما قال بعض حكماء الإسلام بجواز عود المثل و ربّما قلّد بعضهم ظاهر الشريعة في أمر المعاد الجسمانىّ و إثبات السعادة و الشقاوة البدنيّة مع الروحانيّة، و قال الرئيس أبو علىّ بن سينا في كتاب الشفاء ما هذه حكاية ألفاظه: «يجب أن يعلم أنّ المعاد منه ما هو المقبول من الشرع و لا سبيل إلى إثباته إلّا من طريق الشريعة و تصديق خبر النبوّة و هو الّذي للبدن عند البعث و خيرات البدن و شروره معلومة لا تحتاج أن تعلم. و قد بسطت الشريعة الحقة الّتى أتانا بها سيّدنا و مولانا محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم حال السعادة و الشقاوة اللتين بحسب البدن، و منه ما هو مدرك بالعقل و القياس البرهانىّ، و قد صدّقه النبوّة و هو السعادة و الشقاوة البالغتان الثابتتان بالمقاييس اللتان للأنفس و إن كانت الأوهام منّا يقصر عن تصوّرها الآن لما توضح من العلل، و الحكماء الالهيّون رغبتهم في إصابة هذه السعادة أعظم من رغبتهم في إصابة السعادة البدنيّة بل كأنّهم لا يلتفتون إلى تلك و إن اعطوها و لا يستعظمونها في جنبة هذه السعادة الّتى هى مقاربة الحقّ الأوّل» و اعلم أنّ الّذي ذكره عليه السّلام هنا صريح في إثبات المعاد الجسمانىّ و لواحقه.

فقوله: أخرجهم من ضرايح القبور و أوكار الطيور و أوجرة السباع و مطارح المهالك.
إشارة إلى جمعه لأجزاء أبدان الناس بعد تشذّ بها و تفرّقها فيخرج من كان قبرمن ضريح قبره و من كان اكيل طير أو سبع أو مقتولا في مطرح الهلاك من معركة الحرب أو غيرها أخرجه من ذلك المكان و جمع أجزاءه و ألّف بينها.
فإن قلت: إذا أكل إنسان إنسانا و اغتذى به فصارت أجزاء بدنه أجزاء بدن آكله فكيف يمكن إعادتهما لأنّ تلك الأجزاء في أيّ بدن منهما اعيدت لزم نقصان الآخر و بطلانه.
قلت: مذهب محقّقى المتكلّمين أنّ في كلّ بدن واحد أجزاء أصليّة باقية من أوّل العمر إلى آخره لا تتغيّر و لا تتبدّل، و أجزاء فضيلة فإذا اعيدا يوم القيامة فما كان أصليّا من الأجزاء لبدن المأكول فهو فضلىّ لبدن الآكل فيردّ إليه من غير أن ينقص من الأجزاء الأصليّة للآكل شي‏ء و لا عبرة بالفاضلة. و باقى الفصل غنىّ عن البيان، و قال بعض الفضلاء: إنّه ربّما احتملت هذه الألفاظ أن يسلّط عليها من التأويل ما يناسب مذهب القائلين بالمعاد الروحانىّ.

فقوله: حتّى إذا تصرّمت الامور.
أى أحوال كلّ واحد من الخلق في الدنيا.
و قوله: و تقضّت الدهور.
. أى انقضت مدّة كلّ شخص منهم.
و قوله: و أزف النشور.
أى دنا انتشار كلّ واحد في عالم الآخرة من قبور الأبدان.
و قوله: أخرجهم من ضرائح القبور.
استعار لفظة القبور للأبدان و ضرايحها تشريح للاستعارة. و وجه المشابهة أنّ النفس تكون منغمسة في ظلمة البدن و كدر الحواسّ متوحّشة عن عالمها كما أنّ المقبور متوهّم لظلمة القبر و وحشة، منقطع عن الأهل و المال. و ضمير المخرج يعود إلى اللّه في صدر الخطبة.
و قوله: و أوكار الطيور.
فاعلم أنّ العارفين و أهل الحكمة كثيرا ما يستعيرون لفظ الطير و أوصافه للنفس‏ الناطقة و للملائكة كما أشار إليه سيّد المرسلين صلى اللّه عليه و آله و سلّم في قوله: حتّى إذا حمل الميّت على نعشه رفرفت روحه فوق النعش، و يقول: يا أهلى و يا ولدي لا تلعبنّ بكم الدنيا كما لعبت بى. و الرفرقة إنّما يكون لذي الجناح من الطير، و كما جاء في التنزيل الإلهىّ في وصف الملائكة الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ جاعِلِ و كما أشار إليه أبو على في قصيدة أوّلها ألقى:
هبطت إليك من المكان الأرفع و رقاء ذات تعزّز و تمنّع‏ و أشار بالورقاء إلى النفس الناطقة، و كما أشار اليه في رسالته المسمّاة برسالة الطير بقوله: برزت طائفة تقنص فنصبوا الحبال و رتّبوا الشرك و هيّأوا الطعم، و تواروا في الحشيش و أنا فى سربة طير. و نحوه. و وجه المشابهة في هذه الاستعارة ما تشترك فيه النفس و الطير من سرعة التصرّف و الانتقال فالنفس بانتقال عقلىّ، و الطير بانتقال حسّى و إذا استعير لفظ الطير للنفس فبالحرىّ أن يستعار لفظ الوكر للبدن لما بينهما من المشاركة و هو كونهما مسكنا لا تسهل مفارقته.

و قوله و أوجرة السباع.
استعارة للأبدان أيضا. و السباع إشارة إلى النفوس المطيعة لقواها الغضبيّة الّتي شأنها محبّة الغلبة و الانتقام كما أنّ السبع كذلك.
و قوله: و مطارح المهالك.
إشارة إلى الأبدان أيضا فإنّها مطارح مهالك الغافلين الّذين اتّبعو الشهوات أعنى أبدانهم.
و قوله: سراعا إلى أمره.
نصب على الحال بقوله: أخرجهم، و كذلك ما بعده من المنصوبات. و أمره هو حكم قضائه الأزلىّ عليهم بالرجوع إليه و عودهم إلى مبدئهم و سرعتهم إليه إشارة إلى قرب وصولهم و هو في آن انقطاع علاقة النفس مع البدن و هو على غاية من السرعة.
و قوله: مهطعين إلى معاده.
إشارة إلى إقبال النفوس بوجوهها على محلّ عودها و ما أعدّ لها فيه من خير و شرّ.

و قوله: رعيلا.
إشارة إلى اجتماعهم في حكم اللّه و قبضته و محلّ الاستحقاق لثوابه و عقابه.
و قوله: صموتا
و قوله: صموتا إذ لا ألسنة لهم إذن ينطقون بها، و يحتمل أن يكون الصمت كناية عن خضوعهم و انقيادهم في ذلّ الحاجة و هيبة الجلال.
و قوله: قياما صفوفا.
فقيامهم استعارة لاستشعار النفوس هيبة اللّه لعظمته، و قيامها بتصوّر كماله على مساق العبوديّة و ذلّ الإمكان، و صفوفا استعاره لانتظامهم إذن في سلك علمه تعالى إذ الكلّ بالنسبة إلى علمه على سواء كما يستوي الصفّ المحسوس، و يحتمل أن يكون الصفّ استعارة لترتّبهم في القرب إلى اللّه تعالى متنازلين متصاعدين.
و قوله: ينفذهم البصر.
إشارة إلى علمه تعالى بهم.
و قوله: و يسمعهم الداعى.
فالداعى هو حكم القضاء عليهم بالعود، و إسماعهم: عموم ذلك الحكم لهم بحيث لا يمكن أن يخرج عنه منهم أحد.
و قوله: عليهم لبوس الاستكانة و ضرع الاستسلام و الذلّة.
إشارة إلى حالهم الّتى يخرجون من الأجداث عليها من ذلّ الإمكان و رقّ الحاجة و الخوف في قبضة اللّه و هو كقوله تعالى يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى‏ شَيْ‏ءٍ نُكُرٍ خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ«».
و قوله: قد ضلّت الحيل.
أى حيل الدنيا. فلا حيلة لهم في الخلاص ممّا هم فيه كما كانوا يخلصون بحيل الدنيا من بعض شرورها، و انقطع الأمل: أى أملهم فيها لامتناع عودهم إليها و انقطاع طمعهم في ذلك.

و قوله: و هوت الافئدة كاظمة.
أى سقطت النفوس في حضيض الذلّ و الفاقة إلى رضا اللّه و عفوه، و لفظ الكظم مستعار كما سبق.
و قوله: و خشعت الأصوات
هو كقول اللّه وَ خَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً و هو إشارة إلى سؤالهم بلسان حالهم عفو اللّه و رحمته على وجه الذلّة و الضعف و رقّ العبوديّة في ملاحظة جلال اللّه.
و قوله: و ألجم العرق و عظم الشفق.
استعار لفظ العرق و كنّى به عن غاية ما تجده النفس من كرب ألم الفراق و هيبة اللّه و عدم الانس بعد الموت إذ غاية الخائف التاعب أن يعرق و يشفق من نزول العقاب به.و نسبة الإلجام إلى العرق نسبة مجازيّة.
و قوله: و ارعدت الأسماع لزبرة الداعى.
إشارة إلى ما تجده النفس عند تيقّنها المفارقة. و استعار لفظ الزبرة لقهر حكم القضاء للأنفس على مرادها قهرا لا يتمكّن معه من الجواب بالامتناع، و فصل الخطاب هو إمضاء أحكام اللّه على نفوس عباده. عند الرجوع إليه بتوفية مالها، و استيفاء ما عليها. و مقايضة الجزاء: معاوضتها بما أتت به إمّا من الملكات الرديئة فبنكال العقاب‏ ، و إمّا من الملكات الفاضلة فبنوال الثواب، و هبة كلّ بقدر استعداده و قبوله. و اعلم أنّ العدول إلى المجازات و الاستعارات عن حقايق الألفاظ، و إلى التأويل عن الظواهر إنّما يجوز خصوصا في كلام اللّه و كلام رسوله و أولياءه إذا عضده دليل عقلىّ يمنع من إجراء الكلام على ظاهره. و لمّا اعترف القوم بجواز المعاد الجسمانىّ تقليدا للشريعة و لم يقم دليل عقلىّ يمنع منه لم يمكننا الجزم إذن بصحّة هذه التأويلات و أمثالها. و باللّه التوفيق و العصمة.


الفصل الخامس: في تنبيه الخلق على أوصاف حالهم المنافية لما هم عليه من التجبّر و الإعراض عمّا خلقوا لأجله لعلّهم يتذكّرون

بقوله: عِبَادٌ مَخْلُوقُونَ اقْتِدَاراً وَ مَرْبُوبُونَ اقْتِسَاراً- وَ مَقْبُوضُونَ احْتِضَاراً وَ مُضَمَّنُونَ أَجْدَاثاً وَ كَائِنُونَ رُفَاتاً- وَ مَبْعُوثُونَ أَفْرَاداً وَ مَدِينُونَ جَزَاءً وَ مُمَيَّزُونَ حِسَاباً- قَدْ أُمْهِلُوا فِي طَلَبِ الْمَخْرَجِ وَ هُدُوا سَبِيلَ الْمَنْهَجِ- وَ عُمِّرُوا مَهَلَ الْمُسْتَعْتِبِ وَ كُشِفَتْ عَنْهُمْ سُدَفُ الرِّيَبِ- وَ خُلُّوا لِمِضْمَارِ الْجِيَادِ وَ رَوِيَّةِ الِارْتِيَادِ- وَ أَنَاةِ الْمُقْتَبِسِ الْمُرْتَادِ فِي مُدَّةِ الْأَجَلِ وَ مُضْطَرَبِ الْمَهَلِ

اللغة

القسر: القهر و الجبر.

و الأجداث: القبور واحدة جدث.

و الرفات: القنات من العظم و نحوه.

و مدينون: مجزيّون.

و المستعتب: المسترضى.

و السدف: جمع سدفة و هى ظلمة الليل.

و الريب: الشبه و الشكوك.

و الارتياد: الطلب.

و ذكر من تلك الأوصاف ثلاثة عشر وصفا:
الأوّل
: كونهم مخلوقون اقتدارا
أى خلقهم ليس لذواتهم بل بقدرة قادر مستقلّة عن مشاركة الغير و ذلك مناف لعصيانهم له.
الثاني: كونهم مربوبون اقتسارا:
أى ليس ملك مالكهم لهم عن اختيار منهم حتّى يكون لهم الخيرة في معصيته و طاعته.
الثالث: كونهم مقبوضون احتضارا:
أى مستحضرون بالموت مقبوضون به إلى حضرة جلال اللّه.
الرابع:
كونهم من شأنهم أن يضمّنوا الأجداث.
الخامس:
من شأنهم أن يصيرو ارفاتا.
السادس:
من شأنهم أن يبعثوا أفرادا كما قال تعالى وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ
فَرْداً«» إى مجرّدا عن استصحاب غيره معه من أهل و مال.
السابع: أنّهم مدينون أجزاء
و من شأنهم ذلك. و الجزاء مصدر نصب بغير فعله.
الثامن: أنّ من شأنهم أن يميّزوا حسابا:
أى يحصون عددا كقوله تعالى لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَ عَدَّهُمْ عَدًّا«» و حسابا أيضا مصدر نصب عن غير فعله.
التاسع: كونهم قد امهلوا في طلب المخرج:
أى إنّما امهلوا في الدنيا لطلب خلاصهم و خروجهم من ظلمات الجهل و ورطات المعاصى إلى نور الحقّ و متّسع الجود.
العاشر: كونهم قد هدوا سبيل المنهج:
أى الهموا بأصل فطرتهم، و دلّوا بالأعلام الواضحة من الأنبياء و الشرائع على الطريق إلى حضرة قدس اللّه و الجنّة.
الحاد عشر: كونهم قد عمّروا مهل المستعتب.
لمّا كان من يطلب استعتابه و يقصد رجوعه عن غيّه يمهل و يدارى طويلا كانت مهلة اللّه سبحانه لخلقه مدّة أعمارهم ليرجعوا إلى طاعته و يعملوا صالحا تشبه ذلك فنزّلت منزلته. و مهل نصب على المصدر لأنّ التعمير إمهال.
الثاني عشر: كونهم قد كشفت عنهم سدف الريب:
أى أزال عن أبصار بصائرهم ظلم الشكوك و الشبهات و الجهالات بما وهبه لهم من العقول و أيّدهم من بعثة الرسل.
الثالث عشر: كونهم قد خلّوا لمضمار الجياد
أى تركوا في الدنيا ليضمروا أنفسهم بأزواد التقوى، و لمّا استعار لفظ المضمار رشّح بذكر الجياد. إذ شرف المضمار أن تحلّ به جياد الخيل. و فيه تنبيه لهم على أن يكونوا من جياد مضمارهم. و قد سبق وجه الاستعارة، و معنى التضمير في قوله: ألا و إنّ اليوم المضمار و غدا السباق. و كذلك خلّوا لرويّة الارتياد: أى ليتفكّروا في طلب ما يتخلّصون به إلى اللّه تعالى من ساير طاعاته، و كذلك ليتأنّوا أناة المقتبس للأنوار الإلهيّة الطالب للاستنارة بها في مدّة آجالهم و محلّ اضطرابهم في مهلتهم و تحصيلهم لما ينبغي لهم من الكمالات. و من ملك من عبيده هذه الحالات و أفاض عليهم ضروب هذه الإنعامات فكيف يليق بأحدهم أن‏ يجاهره بالعصيان أو يتجاسر أن يقابله بالكفران إنّ الإنسان لكفور مبين.


الفصل السادس: في التنبيه على فضل موعظته و تذكيره و مدحها بالبلاغة و التعريض بعدم القلوب الحاملة لها، ثمّ الحثّ على التقوى


بقوله.
فَيَا لَهَا أَمْثَالًا صَائِبَةً وَ مَوَاعِظَ شَافِيَةً- لَوْ صَادَفَتْ قُلُوباً زَاكِيَةً وَ أَسْمَاعاً وَاعِيَةً- وَ آرَاءً عَازِمَةً وَ أَلْبَاباً حَازِمَةً- فَاتَّقُوا اللَّهَ تَقِيَّةَ مَنْ سَمِعَ فَخَشَعَ وَ اقْتَرَفَ فَاعْتَرَفَ- وَ وَجِلَ فَعَمِلَ وَ حَاذَرَ فَبَادَرَ وَ أَيْقَنَ فَأَحْسَنَ وَ عُبِّرَ فَاعْتَبَرَ- وَ حُذِّرَ فَحَذِرَ وَ زُجِرَ فَازْدَجَرَ وَ أَجَابَ فَأَنَابَ وَ رَاجَعَ فَتَابَ- وَ اقْتَدَى فَاحْتَذَى وَ أُرِيَ فَرَأَى فَأَسْرَعَ طَالِباً وَ نَجَا هَارِباً- فَأَفَادَ ذَخِيرَةً وَ أَطَابَ سَرِيرَةً وَ عَمَّرَ مَعَاداً- وَ اسْتَظْهَرَ زَاداً لِيَوْمِ رَحِيلِهِ وَ وَجْهِ سَبِيلِهِ وَ حَالِ حَاجَتِهِ- وَ مَوْطِنِ فَاقَتِهِ وَ قَدَّمَ أَمَامَهُ لِدَارِ مُقَامِهِ- فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ جِهَةَ مَا خَلَقَكُمْ لَهُ- وَ احْذَرُوا مِنْهُ كُنْهَ مَا حَذَّرَكُمْ مِنْ نَفْسِهِ- وَ اسْتَحِقُّوا مِنْهُ مَا أَعَدَّ لَكُمْ بِالتَّنَجُّزِ لِصِدْقِ مِيعَادِهِ- وَ الْحَذَرِ مِنْ هَوْلِ مَعَادِهِ

المعنى

فقوله: فيا لها أمثالا صايبه و مواعظ شافية
أمثالا و مواعظ نصب على التمييز. و صواب الأمثلة: مطابقتها للممّثل به. و شفاء الموعظة: تأثيرها في القلوب إزالة مرض الجهل و الرذائل الخلقية و رجوع المتعّظ بها منيبا إلى ربّه.
و قوله: لو صادفت قلوبا زاكية و أسماعا واعية و آراء عازمة و ألبابا حازمة
فزكاء القلوب: استعدادها لقبول الهداية و قربها من ذلك. و وعى الأسماع: فهم القلوب عنها، و إنّما وصفها بالوعى لأنّها أيضا قابلة لقشور المعاني مؤديّة لها إلى قوّة الحسّ ثمّ الخيال، و عزم الآراء: توجيه الهمّة إلى ما ينبغي و الثبات على ذلك. و حزامة الألباب: جودة رأى العقول فيما يختاره. و ظاهر أن هذه الثلاثة هى أسباب نفع الموعظة.

و قوله: فاتّقوا اللّه. إلى قوله: مقامه
أمر بتقوى اللّه تقيّة كتقوى من استجمع جميع هذه الأوصاف.
أحدهما: تقيّة من سمع فخشع: أى تقيّة من استعدّ قلبه لسماع الموعظة فخشع عنها للّه.

الثاني: تقيّة من اقترف فاعترف: أى اكتسب الذنوب فاعترف بها و أناب إلى اللّه.

الثالث: تقيّة من وجل: أى خاف ربّه. فأقلقه خوفه فعمل: أى فالتجأ إلى الأعمال الصالحة لينجوا بها.

الرابع: تقيّة من حاذر: أى عقاب ربّه. فبادر إلى إطاعته.

الخامس: تقيّة من أيقن: أى بالموت و لقاء ربّه. فأحسن: أى فأحسن عمله و أخلص له.

السادس: تقيّة من عبّر: أى رمى بالعبر و ذكّر بها. فاعتبر: أى فجعلها سلّما يعبر فيها ذهنه إلى العلم بما ينبغي له.

السابع: و حذرّ: أى من سخط اللّه و عقابه. فازدجر: أى فرجع عن معصيته.

الثامن: تقيّة من أجاب: أى أجاب داعى اللّه. فأناب: أى رجع إليه بسرّه و امتثل أمره.

التاسع: تقيّة من راجع فكره و عقله فتاب: أى فاستعان به على شياطينه و قهر نفسه الأمّارة بالسوء. فتاب من متابعتها.

العاشر: تقيّة من اقتدى: أى بأنبياء اللّه و أوليائه و هديهم الّذى أتوابه: فاحتذى: أى حذاحذوهم فى جميع أحوالهم فطلب قصدهم و فعل فعلهم.

الحادى عشر: تقيّة من ارى: أى ارى الخلق فأظهرت بعين بصيرته طريق اللّه و سبيله. فرأى: أى فعرفها و أسرع طالبا لما يسلك له و ينتهى إليه و نجا فيها هاربا من ظلمات جهله و ثمراته فأفاد ذخيرة: أى فاستفاد سلوكه لها و طاعته لربّه في ذلك ذخيرة لمعاده، و أطاب بسلوكها سريرته عن نجاسات الدنيا و عمّر بما يكتسبه في سلوكها من الكمالات المستعدّة معاده.

و استظهر به زادا ليوم رحيله من دنياه و استعدّ به لوجه سبيله الّتى هو سالكها و مسافر فيها و لحال حاجته و لموطن فاقته. فإنّ كلّ مرتبة من الكمالات حصلت للإنسان فهى تعدّه لرتبة أعلى منها لو لم يحصّلها لظهرت له حاجته في الآخرة إلى أقل منها حيث لا يجد إليها سبيلا. و كذلك قوله: قدّم: أى ما استظهر به زادا أمامه: أى تلقاء وجهه الّتى هو مستقبلها و منته إليها لدار مقامه: أى الآخرة.

و قوله: فاتّقو اللّه عباد اللّه جهة ما خلقكم له.
أى باعتبار ما خلقكم له. و لمّا كان ما خلقهم له إنّما هو عرفانه و الوصول إليه كان المعنى: اجعلوا تقواكم اللّه نظرا إلى تلك الجهة و الاعتبار لا للرياء و السمعة. و جهة منصوب على الظرف، و يحتمل أن يكون مفعولا به لفعل مقدّر: أى و اقصدوا بتقويكم جهه ما خلقكم.

و قوله: و احذروا منه كنه ما حذّركم من نفسه.
أى اسلكوا في حذركم منه حقيقة تحذيره لكم من نفسه بما توعّد به. و ذلك الحذر إنّما يحصل بالبحث عن حقيقة المحذور منه. و السالكون إلى اللّه في تصوّر ذلك على مراتب متفاوتة.

و قوله: و استحقّوا منه ما أعدّ لكم بالتنجّز لصدق ميعاده.

استحقاق ما وعد به اللّه تعالى من جزيل الثواب إنّما يحصل بالاستعداد له فهو أمر بالاستعداد له و الاستعداد يحتاج إلى أسباب فذكرها عليه السّلام في أمرين: أحدهما: التنجّز لصدق ميعاده. و التنجّز طلب إنجاز الوعد و قضائه و ذلك إنّما هو بالإقبال على طاعته كما قال تعالى وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ«» الآية، و نحوها. و الثاني: الحذر من أهوال معاده‏ز. و ذلك باجتناب مناهيه و الارتداع بزواجره و نواهيه منها.


الفصل السابع قوله: جعل لكم أسماعا…

قوله: جعل لكم أسماعا. اعلم أنّ في هذا الفصل فصلين:

الفصل الأوّل:

في تذكير عباد اللّه بضروب نعمته عليهم، و التنبيه على الغاية منها،ثمّ التذكّر بحال الماضين من الخلق و التنبيه على الاعتبار بهم. و هو في معرض الامتنان و ذلك قوله عليه السّلام: جَعَلَ لَكُمْ أَسْمَاعاً لِتَعِيَ مَا عَنَاهَا- وَ أَبْصَاراً لِتَجْلُوَ عَنْ عَشَاهَا وَ أَشْلَاءً جَامِعَةً لِأَعْضَائِهَا- مُلَائِمَةً لِأَحْنَائِهَا فِي تَرْكِيبِ صُوَرِهَا وَ مُدَدِ عُمُرِهَا- بِأَبْدَانٍ قَائِمَةٍ بِأَرْفَاقِهَا وَ قُلُوبٍ رَائِدَةٍ لِأَرْزَاقِهَا- فِي مُجَلِّلَاتِ نِعَمِهِ وَ مُوجِبَاتِ مِنَنِهِ وَ حَوَاجِزِ عَافِيَتِهِ- وَ قَدَّرَ لَكُمْ أَعْمَاراً سَتَرَهَا عَنْكُمْ- وَ خَلَّفَ لَكُمْ عِبَراً مِنْ آثَارِ الْمَاضِينَ قَبْلَكُمْ- مِنْ مُسْتَمْتَعِ خَلَاقِهِمْ وَ مُسْتَفْسَحِ خَنَاقِهِمْ- أَرْهَقَتْهُمُ الْمَنَايَا دُونَ الْآمَالِ وَ شَذَّبَهُمْ عَنْهَا تَخَرُّمُ الْآجَالِ- لَمْ يَمْهَدُوا فِي سَلَامَةِ الْأَبْدَانِ- وَ لَمْ يَعْتَبِرُوا فِي أُنُفِ الْأَوَانِ فَهَلْ يَنْتَظِرُ أَهْلُ بَضَاضَةِ الشَّبَابِ إِلَّا حَوَانِيَ الْهَرَمِ- وَ أَهْلُ غَضَارَةِ الصِّحَّةِ إِلَّا نَوَازِلَ السَّقَمِ- وَ أَهْلُ مُدَّةِ الْبَقَاءِ إِلَّا آوِنَةَ الْفَنَاءِ مَعَ قُرْبِ الزِّيَالِ- وَ أُزُوفِ الِانْتِقَالِ وَ عَلَزِ الْقَلَقِ وَ أَلَمِ الْمَضَضِ وَ غُصَصِ الْجَرَضِ- وَ تَلَفُّتِ الِاسْتِغَاثَةِ بِنُصْرَةِ الْحَفَدَةِ وَ الْأَقْرِبَاءِ- وَ الْأَعِزَّةِ وَ الْقُرَنَاءِ فَهَلْ دَفَعَتِ الْأَقَارِبُ- أَوْ نَفَعَتِ النَّوَاحِبُ وَ قَدْ غُودِرَ فِي مَحَلَّةِ الْأَمْوَاتِ رَهِيناً- وَ فِي ضِيقِ الْمَضْجَعِ وَحِيداً قَدْ هَتَكَتِ الْهَوَامُّ جِلْدَتَهُ-وَ أَبْلَتِ النَّوَاهِكُ جِدَّتَهُ وَ عَفَتِ الْعَوَاصِفُ آثَارَهُ- وَ مَحَا الْحَدَثَانُ مَعَالِمَهُ وَ صَارَتِ الْأَجْسَادُ شَحِبَةً بَعْدَ بَضَّتِهَا- وَ الْعِظَامُ نَخِرَةً بَعْدَ قُوَّتِهَا- وَ الْأَرْوَاحُ مُرْتَهَنَةً بِثِقَلِ أَعْبَائِهَا- مُوقِنَةً بِغَيْبِ أَنْبَائِهَا لَا تُسْتَزَادُ مِنْ صَالِحِ عَمَلِهَا- وَ لَا تُسْتَعْتَبُ مِنْ سَيِّئِ زَلَلِهَا أَ وَ لَسْتُمْ أَبْنَاءَ الْقَوْمِ وَ الْآبَاءَ وَ إِخْوَانَهُمْ وَ الْأَقْرِبَاءَ- تَحْتَذُونَ أَمْثِلَتَهُمْ وَ تَرْكَبُونَ قِدَّتَهُمْ وَ تَطَئُونَ جَادَّتَهُمْ- فَالْقُلُوبُ قَاسِيَةٌ عَنْ حَظِّهَا لَاهِيَةٌ عَنْ رُشْدِهَا- سَالِكَةٌ فِي غَيْرِ مِضْمَارِهَا كَأَنَّ الْمَعْنِيَّ سِوَاهَا- وَ كَأَنَّ الرُّشْدَ فِي إِحْرَازِ دُنْيَاهَا

اللغة

عناها: أهمّها:

و العشى: ظلمة تعرض للعين بالليل.

و الأشلاء: جمع شلو و هو العضو و هو أيضا القطعة من اللحم، و كنّى به عن الجسد.

و الحنو: الجانب.

و الأرفاق: المنافع، و يروى بأرماقها.

و الرمق: بقيّة الروح: و الخلاق: النصيب.

الخناق: بالكسر حبل يخنق به.

و الإرهاق: الإعجال.

و التشذّب: التفرّق.

و مهد الأمر. مخفّفا و مشدّدا: أى هيّأه.

و انف الأوان: أوّله.

و البضاضة: امتلاء البدن و قوّته.

و الهرم: الكبر.

و غضارة العيش: طيبه.

و آونة: جمع أوان كأزمنة جمع زمان و الزيال: المزايلة.

و أزف: قرب.

و العلزة: كالرعدة يأخذ المريض.

و الجرض: أن يتبلع ريقه على همّ و حزن.

و الحفدة: الأعوان.

و غودر: ترك.

و أنهكه: أخلقه و أبلاه.

و المعالم: الآثار.

و الشحب: البعير الهالك الناحل.

و النخرة: البالية.

و الأعباء: الأثقال.

و القدّة بكسر القاف و الدال المهملة: الطريقة، و روى بضمّ القاف و الذال المعجمة، و الأوّل أصحّ.
و لنرجع إلى معنى.

فقوله: جعل لكم. إلى قوله: بأرفاتها.

تذكير بنعمة اللّه تعالى بخلق الأبدان، و ما تشتمل عليه من المنافع. ففائدة الأسماع أن تعى ما خلقت لأجله، و فايدة الأبصار أن يدرك بها الإنسان عجايب مصنوعات اللّه تعالى فيحصل له منها عبرة. و لفظ العشا يحتمل أن يكون مستعارا لظلمة الجهل العارض لإبصار القلوب حتّى يكون التقدير لتجلو عشا قلوبها، و حينئذ فإدراك البصر المحصّل عبرة يحصل للقلب به جلاء لذلك العشا فصحّ إذن إسناد الجلاء إلى الأبصار، و يحتمل أن يكون مستعارا لعدم إدراكها ما تحصل منه العبرة إذ كانت فايدتها ذلك فإذا لم يحصل منها ذلك الإدراك كانت كمبصر أصابه العشا، و وجه المشابهة عدم الفائدة. و نسبة الجلاء إليها بوجود الإدراك المفيد عبرة عنها و هو استعارة أيضا. و عن ليست بزايدة لأنّ الجلاء يستدعى مجلوّا و مجلوّا عنه فذكر عليه السّلام المجلوّ و أقامه مقام المجلوّ عنه فكأنّه قال: لتجلو عن قواها عشاها. و أمّا فايدة البدن و أعضائه فقد أشرنا إليه قبل مفصّلا، و قوله: قائمة بأرفاقها: أى أنّ كلّ بدن قائم في الوجود بحسب ما عنى له من ضروب المنافع.

و قوله: و قلوب رائدة. إلى قوله: سترها عنكم.
إظهار لمنّة اللّه تعالى على عباده بخلقه لهم و هدايته لنفوسهم لارتياد أرزاقهم الّتى بها قوام حياتها الدنيا و تمكّنها من إصلاح معادها ثمّ باعتبار كونهم في مجلّلات نعمه و سوابغها. فمنها: ستره عليهم قبائح أعمالهم أن تظهر، و هو اجس خواطرهم بعضهم لبعض بحيث لو اطّلع كلّ على ماله في ضمير صاحبه من الغلّ و الحسد و تمنّى زوال نعمته لأفنى بعضهم بعضا و خرب نظام وجودهم. و موجبات مننه: نعمه الّتي يستوجب أن يمنّ بها. و من روى بفتح الجيم فالمراد بالمنن إذن النعم و موجبات ما سقط منها و افيض على العباد. و حواجز عافيته: ما منع منها عوامل الأمراض و المضارّ المندفعة بها، و إنّما ذكر ستر كميّة الأعمار في معرض المنّة لأنّه من النعم العظيمة على العبد إذ كان اطّلاع الإنسان على كميّة عمره ممّا يوجب اشتغال خاطره بخوفه من الموت من عمارة الأرض و يبطل بسببه نظام هذا العالم.

و قوله: و خلّف لكم عبرا.
وجه من منن اللّه تعالى على عباده فإنّ إبقائه أحوال الماضين و ما خلّفوه عبرة لللاحقين سبب عظيم لجذبهم عن دار الغرور و مهاوى الهلاك إلى سعادة الأبد. و مستمتع خلاقهم: ما استمتعوا به ممّا كان نصيبا لكلّ منهم في مدّة بقائه من متاع الدنيا. و مستفسح خناقهم: محلّ الفسحة لأعناقهم من ضيق حبائل الموت و أغلال الجحيم، و ذلك المستفسح هو مدّة حياتهم أيضا ثمّ أردف ذلك بوصف حال الماضين في غرورهم، و ذكر إعجال الموت لهم عن بلوغ آمالهم و تشذيبه لهم باخترامهم عنها و نبّه به علي وجوب تقصير الأمل و الاستعداد للموت و كذلك نبّهم بقوله: لم يمهدوا. إلى قوله: الاوان. على تقصير الماضين في إصلاح معادهم حيث أمكنهم ذلك في سلامة أبدانهم و أوّل زمانهم ليحصل لهم بذلك التذكّر نفرة عن حال السابقين و انزعاج عن الغرور إلى الاستعداد بالتقوى و الأعمال الصالحة، ثمّ استفهمهم عمّا ينتظر الشباب بشبابهم غير حوانى الهرم، و أهل الصحّة بصحّتهم غير الأسقام و المعمّرون بطول أعمارهم غير الفناء استفهاما على سبيل الإنكار لما ينتظرونه غير هذه الامور و تقريعا على ذلك الانتظار و تنفيرا عنه بذكر غاياته الّتي حصره فيها.
و أعلم أنّ ذلك ليس انتظارا حقيقيّا لكن لمّا كان المنتظر لأمر و المترقّب له تاركا في أحواله لما يعنيه من الاشتغال إلى غاية أن يصل إليه ما ينتظره، و كانت غاية الشباب أن يحنى ظهورهم الهرم. و غاية الصحيح أن يسقم، و غاية المعمّر أن يفنى أشبه تركهم للعمل و عبادة اللّه إلى غاياتهم المذكورة لانتظار لها. فاستعير له لفظ الانتظار. ثمّ كنّى عن شدّة حال المفارق في سكرات الموت بأوصاف تعرض له حينئذ كالرعدة و الغلق و الغمّ و الخوف و الغصص بالريق و التلفّت للاستغاثة بالأعوان و الأقرباء و الأعزّة. ثمّ نبّه بقوله: فهل دفعت الأقارب أو نفعت النواحب: أى البواكى. على أنّ ما يقع عند نزول الموت من تلك الأحوال لا ينفع في دفعه قريب و لا حبيب على طريق الاستفهام و الإنكار.

و قوله: قد غودر.
الجملة في محل النصب على الحال و العامل نفعت: أى لم ينفعه البكاء حال ما غودر في محلّ الأموات بالأوصاف الكريهة تنفيرا عن أحواله و جذبا إلى الخلاص من أهوالها بالعمل للّه و الإخلاص له. و رهينا: إى مقيما أو مرتهنا بذنوبه و موثوقا بها. مو نصبه على الحال، و كذلك وحيدا، و موضع قوله: قد هتكت، و باقى الأفعال المعطوفة عليه. و الهوام: الديدان المتولّدة من جيفة أو غيرها.

و قوله: و الأرواح مرتهنة بثقل أعبائها.
إشارة إلى اشتغال النفوس و انحطاطها إلى الجنبة السافلة بثقل ما حملته من الأوزار و اكتسبته من الهيئات الرديئة. و ما يتحقّق غيبة من الأنباء هناك هو الأخبار عن الأحوال اللاحقة بها بعد الموت من خير و شرّ فإنّها يتيقّن غيبتها عن أهل الدنيا، أو أنباء ما خلّفته من اللواحق الدنيويّة فإنّها يتيّقن بعد الموت غيبتها و انقطاعها عنها. و الاوّل أولى.
و قوله: لا تستزاد من صالح عملها و لا تستعتب من سىّ‏ء زللها.

و قوله: لا تستزاد من صالح عملها و لا تستعتب من سىّ‏ء زللها. أى لا يطلب منها زيادة من العمل الصالح و لا يقال من سىّ‏ء زللها و يرضى عنها كقوله تعالى وَ إِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ«» و ذلك لعدم آلة العمل و امتناع الرجوع إليه و عدم تمكّنها من نزع ما صار في عنقها من أطواق الهيئات البدنيّة كما قال تعالى حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَ مِنْ«».

و قوله: أو لستم آباء القوم و الأبناء و إخوانهم و الأقرباء.
أى أو ليس فيكم من هو أب لأحد اولئك أو ابن له أو أخوه أو قريبه، و هو تنبيه للسامعين على وجه العبرة فإنّه لمّا شرح حال الماضين في الموت و ما بعده نبّههم على أنّهم أمثالهم في كلّ تلك الأحوال ليرجعوا إلى تقوى اللّه الّذى هو سبب النجاة من تلك الأهوال.
و قوله: تحتذون أمثلتهم.
أى تقتدون بهم في أفعالهم و تسلكون مسالكهم في غرورهم و نحوه كما قال تعالى حكاية وَ كَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ«».
و قوله: فالقلوب قاسية عن حظّها.
أى لا استعداد لها تقبل به حظّها الّذى ينبغي لها طلبه لاهية عن رشدها غافلة عن طلب هدايتها سالكة في غير مضمارها. المضمار هاهنا: هو الشريعة و أوامر اللّه، و سلوكها لغيره: ارتكابها لمناهى اللّه، و رياضتها: هى الأعمال الصالحة الّتى هى طريق الجحيم.
و قوله: كأنّ المعنىّ سواها و كأنّ الرشد في إحراز دنياها.
مبالغة في ذكر إعراض القلوب و غفلتها عن المواعظ و إنّهما كها في تحصيل الدنيا إلى غاية أن اشبهت من لم يكن معيّنا بالخطاب بها، أو أنّ الرشد الّذى جذبت إليه إنّما هو تحصيل الدنيا و جمعها الّذى جذبت عنه و حذّرت منه.


الفصل الثاني:

في التذكير بأمر الصراط و التحذير من أهواله، و الحثّ على التقوى
و ذلك قوله: وَ اعْلَمُوا أَنَّ مَجَازَكُمْ عَلَى الصِّرَاطِ وَ مَزَالِقِ دَحْضِهِ- وَ أَهَاوِيلِ زَلَلِهِ وَ تَارَاتِ أَهْوَالِهِ- فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ- تَقِيَّةَ ذِي لُبٍّ شَغَلَ التَّفَكُّرُ قَلْبَهُ- وَ أَنْصَبَ الْخَوْفُ بَدَنَهُ وَ أَسْهَرَ التَّهَجُّدُ غِرَارَ نَوْمِهِ- وَ أَظْمَأَ الرَّجَاءُ هَوَاجِرَ يَوْمِهِ وَ ظَلَفَ الزُّهْدُ شَهَوَاتِهِ- وَ أَوْجَفَ الذِّكْرُ بِلِسَانِهِ وَ قَدَّمَ الْخَوْفَ لِأَمَانِهِ- وَ تَنَكَّبَ الْمَخَالِجَ عَنْ وَضَحِ السَّبِيلِ- وَ سَلَكَ أَقْصَدَ الْمَسَالِكِ إِلَى النَّهْجِ الْمَطْلُوبِ- وَ لَمْ تَفْتِلْهُ فَاتِلَاتُ الْغُرُورِ- وَ لَمْ تَعْمَ عَلَيْهِ مُشْتَبِهَاتُ الْأُمُورِ- ظَافِراً بِفَرْحَةِ الْبُشْرَى وَ رَاحَةِ النُّعْمَى- فِي أَنْعَمِ نَوْمِهِ وَ آمَنِ يَوْمِهِ- وَ قَدْ عَبَرَ مَعْبَرَ الْعَاجِلَةِ حَمِيداً وَ قَدَّمَ زَادَ الْآجِلَةِ سَعِيداً- وَ بَادَرَ مِنْ وَجَلٍ وَ أَكْمَشَ فِي مَهَلٍ وَ رَغِبَ فِي طَلَبٍ- وَ ذَهَبَ عَنْ هَرَبٍ وَ رَاقَبَ فِي يَوْمِهِ غَدَهُ- وَ نَظَرَ قُدُماً أَمَامَهُ- فَكَفَى بِالْجَنَّةِ ثَوَاباً وَ نَوَالًا وَ كَفَى بِالنَّارِ عِقَاباً وَ وَبَالًا- وَ كَفَى بِاللَّهِ مُنْتَقِماً وَ نَصِيراً- وَ كَفَى بِالْكِتَابِ حَجِيجاً وَ خَصِيماً أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي أَعْذَرَ بِمَا أَنْذَرَوَ احْتَجَّ بِمَا نَهَجَ- وَ حَذَّرَكُمْ عَدُوّاً نَفَذَ فِي الصُّدُورِ خَفِيّاً- وَ نَفَثَ فِي الْآذَانِ نَجِيّاً فَأَضَلَّ وَ أَرْدَى وَ وَعَدَ فَمَنَّى- وَ زَيَّنَ سَيِّئَاتِ الْجَرَائِمِ وَ هَوَّنَ مُوبِقَاتِ الْعَظَائِمِ- حَتَّى إِذَا اسْتَدْرَجَ قَرِينَتَهُ وَ اسْتَغْلَقَ رَهِينَتَهُ- أَنْكَرَ مَا زَيَّنَ وَ اسْتَعْظَمَ مَا هَوَّنَ وَ حَذَّرَ مَا أَمَّنَ

اللغة

أقول: المزلق: الموضع الّذى لا تثبت عليه قدم.

و الدحض: الزلق.

و التهجدّ: العبادة بالليل.

و الغرار: النوم القليل،

و أرجف: أسرع‏ه.

و المخالج: الامور المشغلة الجاذبة،

و أكمش: أمضى عزمه و مضى قدما لم يعرج.

المعنى

و اعلم أنّ الصراط الموعود به في القرآن الكريم حقّ يجب الإيمان به و إن اختلف الناس في حقيقته، و ظاهر الشريعة و الّذى عليه جمهور المسلمين و من أثبت المعاد الجسمانىّ يقتضى أنّه جسم في غاية الدقّة و الحدّة ممدود على جهنّم و هو طريق إلى الجنّة يجوزه من أخلص للّه. و من عصاه سلك عن جنبتيه أحد أبواب جهنّم، و أمّا الحكماء فقالوا بحقيّته. و ما يقال في حقّه: إنّه كالشعر في الدقّة فهو ظلم بل نسبة الشعرة إليه كنسبتها إلى الخطّ الهندسى الفاصل بين الظلّ و الشمس الّذى ليس من أحدهما فهو كذلك الخط الّذى لا عرض له أصلا، و حقيقته هو الوسط الحقيقىّ بين الأخلاق المتضادّة كالسخاوة بين التبذير و البخل، و الشجاعة بين التهوّر و الجبن، و الاقتصاد بين الإسراف و التقتير، و التواضع بين التكبّر و المهانة، و العفّة بين الشهوة و الخمود، و العدالة بين الظلم و الانظلام. فالأوساط بين هذه الأطراف المتضادّة هى الأخلاق المحمودة، و لكلّ واحد منها طرفا تفريط و إفراط هما مذمومان، و كلّ واحد منها هو غاية البعد بين طرفيه و ليس من طرف الزيادة و لا من طرف النقصان. قالوا: و تحقيق ذلك أنّ كمال الإنسان في التشبّه. بالملائكة و هم منفكّون عن هذه الأوصاف المتضادّة و ليس في إمكان الإنسان الانفكاك عنها بالكلّية فغايته التباعد عنها إلى الوسط تباعدا يشبه‏ الانفكاك عنها. فالسخّى كأنّه لا بخيل و لا مبذّر. فالصراط المستقيم هو الوسط الحقّ الّذى لا ميل له إلى أحد الجانبين و لا عرض له و هو أدقّ من الشعر. و لذلك قال تعالى وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ«» و روى عن الصادق عليه السّلام و قد سئل عن قوله تعالى اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ قال: يقول: أرشدنا للزوم الطريق المؤدّى إلى محبّتك و المبلّغ دينك و المانع من أن نتّبع أهوائنا فنعطب أو نأخذ بآرائنا فنهلك. و عن الحسن العسكرى عليه السّلام: الصراط صراطان: صراط في الدنيا، و صراط في الآخرة. فأمّا الصراط المستقيم في الدنيا فهو ما قصر عن الغلوّ و ارتفع عن التقصير و استقام فلم يعدل إلى شي‏ء من الباطل، و الصراط الآخر هو طريق المؤمنين إلى الجنّة لا يعدلون عن الجنّة إلى النار و لا إلى غير النار سوى الجنّة. و الناس في ذلك متفاوتون فمن استقام على هذا الصراط و تعوّد سلوكه مرّ على صراط الآخرة مستويا و دخل الجنّة آمنا. إذا عرفت ذلك فنقول: مزالق الصراط كناية عن المواضع الّتى هى مظانّ انحراف الإنسان عن الوسط بين الأطراف المذمومة، و تلك المواضع هى مظانّ الشهوات و الميول الطبيعيّة، و أهاويل زلله هى ما يستلزمه العبور إلى أحد طرفى الإفراط و التفريط من العذاب العظيم في الآخرة. و تارات أهواله تكرار ذلك تارة بعد اخرى.

و قوله: فاتّقو اللّه
عود إلى الأمر بتقوى اللّه تقيّة من استجمع أوصاف الايمان: أحدها: تقيّة من شغل التفكّر قلبه: أى في أمر معاده عن محبّة الدنيا و باطلها. الثاني: و أنصب الخوف بدنه: أى أتعبه و أنحله خوف اللّه تعالى و ما أعدّ للعصاة من الأهوال. الثالث: و أسهرت العبادة غرار نومه: أى لم تترك له نوما. الرابع: و اظمأ الرجاء هو اجر يومه: أى اظمأه رجاء ما أعدّ اللّه لأوليائه الأبرار عوضا من طيّبات هذه الدار. و ظمأه في جواهر يومه كناية عن كثرة صيامه في أشدّ أوقاته‏ حرارة، و إنّما جعل الهواجر مفعولا إقامة للظرف مقام المظروف، و هو من وجوه المجاز. الخامس: و ظلف الزهد شهواته. استعار لفظ الإطفاء للزهد و هو من أوصاف الماء و نسبته إلى النار نسبة الزهد إلى الشهوات فلاحظ الشبه بين الشهوات و النار في تأثيرهما المؤذى، و بين الزهد و الماء لما يستلزمانه من كون الإعراض عن الدنيا يستتبع قهر الشهوات و دفع مضارّها كما يفعله الماء بالنار. السادس: و أسرع [أرجف خ‏] الذكر إلى لسانه: أى لتعوّده إيّاه و إدمانه فيه. السابع: و قدّم الخوف لأمانه [لإبّانه خ‏]: أى خوف ربه. فعمل مخلصا له ليأمن عذابه. الثامن: و تنكّب المخالج: أى عدل عن الامور المشغلة إلى واضح سبيل اللّه. التاسع: و سلك أقصد المسالك: أى أولاها بالقصد إلى النهج الواضح و الطريق المطلوب للّه من خلقه، و هو سبيله المستقيم فإنّ للناس في سلوك سبيل اللّه مذاهب كثيرة و لكن أحبّها إليه أولاها بالقصد إلى طريقه‏ الموصل إليه. العاشر: و لم تفتله فاتلات الغرور: أى لم تهلكه غفلاته في لذّات الدنيا عن ربّه إذ لم يغفل عن طاعته. الحادى عشر: و لم تعم عليه مشتبهات الامور: أى لم تظلم في وجهه شبهة على حقّ فيسدّ عليه وجه تخليصه. الثاني عشر: ظافرا بفرحة البشرى: أى بشرى الملائكة يومئذ: بشريكم اليوم جنّات تجرى من تحتها الأنهار. الثالث عشر: و راحة النعمى، و الراحة في مشاقّ الدنيا و متاعبها بنعمى الآخرة.
و نعيم اللّه في الآخرة الجنّة. الرابع عشر: في أنعم نومه: أى في أطيب راحته، و أطلق لفظ النوم على الراحة في الجنّة مجازا إطلاقا لاسم الملزوم على لازمه. الخامس عشر: و آمن يومه: أى آمن أوقاته، و أطلق لفظ اليوم على مطلق الوقت مجازا إطلاقا لاسم الجزء على الكلّ. السادس عشر: قد عبر معبر العاجلة: أى الدنيا. حميدا: أى محمود الطريقة. 258 السابع عشر: و قدم ذات الآجلة سعيدا: أى عمله للآخرة فحصل على السعادة الأبديّة، و حميدا و سعيدا حالان. الثامن عشر: و بادر من وجل: أى إلى الأعمال الصالحة من وجل خوف اللّه. التاسع عشر: و أسرع في مهل. أى إلى طاعة ربّه أيّام مهلته، و هى حياته الدنيا. العشرون: و رغب في طلب: أى كان طلبه للّه عن رغبته له. الحادى و العشرون: و ذهب عن هرب: أى كان ذهابه عمّا يبعّد عن اللّه عن هرب من خوف اللّه. و في كلّ قرينتين من هذه العشرة السجع المتوازى. الثاني و العشرون: و راقب في يومه غده: أى توقّع في أيّام حياته هجوم آخرته. الثالث و العشرون: و نظر قدما أمامه: أى لم يلتفت في نظره عن قصد اللّه إلى غيره. ثمّ نبّه بقوله: فكفى بالجنّة ثوابا و نوالا. على وجوب السعى لها دون غيرها، ثمّ تكون النار و بالا و عقابا على وجوب الهرب منها دون غيرها، و كفى باللّه منتقما و نصيرا على وجوب الاقتصار على خشيته و الاستعانة به، و بقوله: و كفى بالكتاب حجيجا: أى محتجّا و خصيما على وجوب الانفعال عنه و ملاحظة شهادته في الآخرة على من لم يتّبعه. و نسب الاحتجاج و الخصام إلى الكتاب مجازا، و المنصوبات بكفى على التمييز.

و قوله: اوصيكم بتقوى اللّه.
عود إلى الحثّ على تقوى اللّه باعتبار امور ثلاثة: أحدها: إعذاره إلى الخلق بما أنذرهم به من العقوبات. الثاني: احتجاجه عليهم بما أوضحه بالدلائل و البيّنات. الثالث: تحذيره لهم إبليس و عداوته، و قد سبق معناه في الخطبة الاولى. و ذكر له أوصافا هى كونه نفذ في الصدور خفيّا. و الإشارة به إلى النفس الأمّارة بالسوء، و تجوّز بلفظ الصدور في القلوب إطلاقا لاسم المكان على المتمكّن، و كونه نفث في الآذان نجيّا. و هو إشارة إلى ما تلقيه شياطين الإنس بعضهم إلى بعض من زخرف القول و غروره. و قد سبق ذلك في الخطبة الاولى، و كونه أضلّ: أى جذب عن طريق الحقّ و أردى: أى فأرادهم في قرار الجحيم، و وعد و منّى: أى ببلوغ الآمال الكاذبة، و زيّن سيّئات الجرائم: أى‏ قبايح المعاصى، و هوّن موبقات العظائم: أى ما يهلك من عظيم الذنوب. و تهوينه لها بمثل تمنّيه التوبة و مساعدة العقل له بقوله إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ و بمثل الاقتداء بالغير الّذي هو أولى بالعفّة مثلا أو أكثر قدرا في الدنيا، و ساير أوصاف الوساوس كما عرفت حقيقتها.

و قوله: حتّى إذا استدرج قرينته و استغلق رهينته
و قوله: حتّى إذا استدرج قرينته و استغلق رهينته فقرينته هى النفس الناطقة باعتبار موافقته و هى رهينته باعتبار إحاطة الذنوب بها من قبله كما يستغلق الرهن بما عليه من المال و لفظ الرهينة مستعار. و استدراجه لها تزيينه حالا بعد حال و تعويدها بطاعته.

و قوله: أنكر ما زيّن. إلى آخره.
إشارة إلى غايته من وسوسته و عود من النفس الأمّارة بالسوء إلى موافقتها لحكم العقل في قبح ما كانت أمرت به، و استعظام خطره و مساعدتها على التحذير منه بالامتناع من تحسينه بعد أن كانت تحثّ عليه و تزيّنه و تؤمن منه. و ذلك إمّا عند التوبة و قهر العقل لها أو عند معاينة المكروهات الجزئيّة من العقوبات و الآلام إمّا في الدنيا أو بعد المفارقة و الحصول في عذاب الجحيم بسبب الانهماك فيما كانت زيّنته من الباطل، و ذلك أنّ النفس إذا فارقت البدن حملت معها القوّة المتوهّمة فتدرك ما يلحقها من جزئيّات العقوبات كعذاب القبر و ما يتنوّع منه كما سبقت الإشارة إليه، و قد يتصوّر ذلك من شياطين الإنس في تزيينهم الجرائم، و أمّا من الشيطان الظاهر فظاهر.


الفصل الثامن و منها في صفة خلق الإنسان،
و في هذا الفصل فصلان.

الفصل الأوّل
قوله: أَمْ هَذَا الَّذِي أَنْشَأَهُ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْحَامِ وَ شُغُفِ الْأَسْتَارِ- نُطْفَةً دِهَاقاً وَ عَلَقَةً مِحَاقاً- وَ جَنِيناً وَ رَاضِعاً وَ وَلِيداً وَ يَافِعاً- ثُمَّ مَنَحَهُ قَلْباً حَافِظاً وَ لِسَاناً لَافِظاً وَ بَصَراً لَاحِظاً- لِيَفْهَمَ مُعْتَبِراً وَ يُقَصِّرَ مُزْدَجِراً- حَتَّى إِذَا قَامَ اعْتِدَالُهُ وَ اسْتَوَى‏ مِثَالُهُ- نَفَرَ مُسْتَكْبِراً وَ خَبَطَ سَادِراً مَاتِحاً فِي غَرْبِ هَوَاهُ- كَادِحاً سَعْياً لِدُنْيَاهُ فِي لَذَّاتِ طَرَبِهِ وَ بَدَوَاتِ أَرَبِهِ- ثُمَّ لَا يَحْتَسِبُ رَزِيَّةً وَ لَا يَخْشَعُ تَقِيَّةً- فَمَاتَ فِي فِتْنَتِهِ غَرِيراً وَ عَاشَ فِي هَفْوَتِهِ يَسِيراً- لَمْ يُفِدْ عِوَضاً وَ لَمْ يَقْضِ مُفْتَرَضاً- دَهِمَتْهُ فَجَعَاتُ الْمَنِيَّةِ فِي غُبَّرِ جِمَاحِهِ وَ سَنَنِ مِرَاحِهِ- فَظَلَّ سَادِراً وَ بَاتَ سَاهِراً فِي غَمَرَاتِ الْآلَامِ- وَ طَوَارِقِ الْأَوْجَاعِ وَ الْأَسْقَامِ بَيْنَ أَخٍ شَقِيقٍ وَ وَالِدٍ شَفِيقٍ- وَ دَاعِيَةٍ بِالْوَيْلِ جَزَعاً وَ لَادِمَةٍ لِلصَّدْرِ قَلَقاً- وَ الْمَرْءُ فِي سَكْرَةٍ مُلْهِثَةٍ وَ غَمْرَةٍ كَارِثَةٍ- وَ أَنَّةٍ مُوجِعَةٍ وَ جَذْبَةٍ مُكْرِبَةٍ وَ سَوْقَةٍ مُتْعِبَةٍ- ثُمَّ أُدْرِجَ فِي أَكْفَانِهِ مُبْلِساً وَ جُذِبَ مُنْقَاداً سَلِساً- ثُمَّ أُلْقِيَ عَلَى الْأَعْوَادِ رَجِيعَ وَصَبٍ وَ نِضْوَ سَقَمٍ- تَحْمِلُهُ حَفَدَةُ الْوِلْدَانِ وَ حَشَدَةُ الْإِخْوَانِ إِلَى دَارِ غُرْبَتِهِ- وَ مُنْقَطَعِ زَوْرَتِهِ وَ مُفْرَدِ وَحْشَتِهِ- حَتَّى إِذَا انْصَرَفَ الْمُشَيِّعُ وَ رَجَعَ الْمُتَفَجِّعُ- أُقْعِدَ فِي حُفْرَتِهِ نَجِيّاً لِبَهْتَةِ السُّؤَالِ وَ عَثْرَةِ الِامْتِحَانِ- وَ أَعْظَمُ مَا هُنَالِكَ بَلِيَّةً نُزُولُ الْحَمِيمِ- وَ تَصْلِيَةُ الْجَحِيمِ وَ فَوْرَاتُ السَّعِيرِ- وَ سَوْرَاتُ الزَّفِيرِ لَا فَتْرَةٌ مُرِيحَةٌ- وَ لَا دَعَةٌ مُزِيحَةٌ وَ لَا قُوَّةٌ حَاجِزَةٌ وَ لَا مَوْتَةٌ نَاجِزَةٌ وَ لَا سِنَةٌ مُسَلِّيَةٌ- بَيْنَ أَطْوَارِ الْمَوْتَاتِ وَ عَذَابِ السَّاعَاتِ- إِنَّا بِاللَّهِ عَائِذُونَ‏

أقول: اعلم أنّ مدار هذا الفصل على وصف حال الإنسان من مبدء عمره بالنقصان و بيان نعم اللّه بترديده في أطوار الخلقة، و تبكيته بمقابلة نعمه بالكفر و الغفلة في متابعة الشيطان، و تذكيره بما يكون غايته من حياة الدنيا و هو الموت و ما يتبعه من أحوال الميّت بين أهله و أقاربه، و حالهم معه و ما يكون بعد الموت من العذاب في القبر و السؤال و الحساب و سائر ما ينّفر طبعه منه، و يوجب له الالتفات إلى إصلاح معاده و تذكير مبدئه لعلّه يتذكّر أو يخشى.

اللغة

و الشغف بالغين المعجمة: جمع شغاف بالفتح و هو غلاف القلب.

و الدفاق: المفرغة.

و المحاق: الناقصة.

و اليافع: الغلام المرتفع.

و السادر: اللاهى الّذي لا يهتمّ بشي‏ء و الماتح: الجاذب للدلو من البئر.

و البدوات: الخطرات الّتى تبدو: أى تظهر للخاطر.

و دهمه بالكسر: أى غشيه.

و غبر شي‏ء: بقيّته و جماحه: سعيه في ركوب هواه.

و السادر ثانيا: المتحيّر.

و اللدم: ضرب الصدر. و كارثة: موجبة لشدّة الغمّ.

و الإبلاس: اليأس.

و الرجيع: من الإبل المردّد في الأسفار.

و النضو: الّذي قد هزلته. و حفدة الولدان: أعوانهم.

و الحشدة بفتح الحاء و الشين: المجتمون.

و التفجّع: التوجّع.

و في تفصيل هذا الفصل نكت:

الاولى:
أم للاستفهام. و هو استفهام في معرض التقريع للإنسان و أمره باعتبار حال نفسه، و دلالة خلقته على جزئيّات نعم اللّه عليه مع كفرانه لها. و كان أم معادلة لهمزة الاستفهام قبلها، و التقدير أليس فيما أظهره اللّه لكم من عجائب مصنوعاته عبرة أم هذا الإنسان و تقلّبه في أطوار خلقته و حالاته إلى يوم نشوره كقوله تعالى وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ و في بعض النسخ: أو هذا. و المعنى واحد.
اعلم أنّ في ملاحظة خلقة الإنسان و ما جمع فيها من لطائف الأسرار عبرة تامّة حتّى كان عالما مختصرا كما أو مأنا إليه قبل، و سيأتى.
الثانية:
قيل أوّل أحوال تكوّن الإنسان زبديّة المنىّ و انتفاخ يظهر فيه فينمو به، و أوّل ما يتكوّن فيه وعاء الروح بفعل الملك المصوّر ثمّ تحدث ريح من قبل الطبيعة فتثقب ثقبا أمام فوهات العروق بحيث إذا تخلّقت محسوسة صارت عروقا ثمّ يبسط النطفة في أقطارها و تحدث في الغشاء ثقبا موازية لثقب العروق الّتى في الرحم ينفتح عند الحيض، و يحصل لجميعها مجارى في الغشاء المذكور يؤدّى إلى مجرى واحد نافذ إلى عمق النطفة مؤدّيا إلى باطنه الدم في عرقين أو عرق و النفس في عرقين فإذا تخلّقت هذه المجارى امتصّت النطفة حينئذ الغذاء من فوهات تلك العروق، و نفذ في الصفاق دم يستحيل عن قريب إلى جوهر المنىّ و حدث لها خطوط لها مبادئ دمويّة، و نقطة اولى هى القلب ثمّ لا تزال الدمويّة تزداد في النطفة حتّى تصير علقة و تكون مثل الرغوة في الأكثر لستة أيّام، و ابتداء الخطوط الحمر و النقطة بعد ثلاثة أيّام اخرى ثمّ بعد ستّة أيّام و هو الخامس عشر من حين العلوق تنفذ الدمويّة في الجميع فتصير علقة، و بعد ذلك باثنى عشر يوما تصير لحما و تتميّز قطعة لحم المضغة و تميّز الأعضاء الرئيسة، و تمتدّ رطوبة النخاع ثمّ بعد تسعة أيّام ينفصل الرأس عن المنكبين و الأطراف عن الضلوع و البطن تميّزا يحسّ به في بعضهم و يخفى في بعض حتّى يحسّ به بعد أربعة أيّام اخرى تمام الأربعين فيصير جنينا، و قد يتمّ ذلك في ثلاثين يوما و قد يتمّ في خمس و أربعين يوما، و قيل: العدل في ذلك خمسة و ثلاثون يوما فيتحرّك في سبعين يوما، و يولد في مائتين و عشرة أيّام و ذلك سبعة أشهر، و إذا كان الأكثر لخمسة و أربعين يوما فتحرّك في تسعين يوما، و يولد في مائتين و سبعين يوما، و ذلك تسعة أشهر. فهذه إشارة إلى تنقّله في ظلمات الرحم بتدبير الملك المقتدر و واسطة الملك المصوّر، و لو كشف الغطاء لرأينا هذه التخطيط و التصوير يظهر عليه شيئا فشيئا مع أنّا لا نرى المصوّر و لا آلته. فسبحان المقتدر على ما يشاء.

الثالثة:
إنّما وصف العلقة بالمحاق لأنّها لم تفض عليها بعد صورة شخص الإنسان فهى بعد منمحقة.
الرابعة:
الولد ما دام يرضع فهو رضيع، و بعده وليد، فإذا ارتفع قيل: يافع. فإذا طرّشا ربه فهو غلام، فإذا أدرك فهو رجل، و للرجوليّة ثلاثة حدود: الشباب و هو إلى تمام النموّ، و بعده الكهولة، و بعدها الشيخوخة.
الخامسة:
ذكر الحفظ للقلب و اللفظ للسان و اللحظ للبصر بيان لفوايدها، ثمّ ذكرغاية تلك الفوايد و مقصودها، و هو أن يفهم الإنسان معتبرا أى يستنبط من شواهد آلاء اللّه دلايل وحدانيّته و ساير نعوت جلاله و يعبر فيها إلى استكمال الفضايل النفسانيّة و يقصر مزدجرا: أى يكفّ عمّا لا ينبغي من موبقات الأيّام و عن الخوض فيما لا يعنيه مزدجرا عنها.
السادسة:
قوله حتّى إذا قام اعتداله و استوى مثاله نفر مستكبرا إلى آخر الأوصاف. ربّما يعترض فيقال: إنّ كثيرا من الناس لا يكون بهذه الصفة و حينئذ لا تصدق عليهم هذه الأحكام. فجوابه: أنّ إشارته عليه السّلام إلى الإنسان المطلق الّذي هو في قوّة البعض لا الإنسان العامّ، و ذلك أنّ الأوصاف المذكورة إذا صدقت على المطلق فقد صدقت على بعض الناس، و ذلك البعض هم العصاة المرادون بهذه الأوصاف، و التوبيخ بها لهم، و فيه تنبيه للباقين على وجوب دوام شكر اللّه و البقاء على امتثال أوامره و نواهيه.
السابعة:
ماتحا في غرب هواه. لمّا استعار لفظ الغرب لهواه الّذى يملأ به صحايف أعماله من المآثم كما يملأ ذو الغرب غربه من الماء رشّح تلك الاستعارة بذكر المتح.
الثامنة:
المنصوبات العشرون: نطفة و علقة و جنينا و راضعا و وليدا و يافعا و معتبرا و مزدجرا و مستكبرا و سادرا و ماتحا و كادحا و غريرا و مبلسا و منقادا و سلسا و رجيع و صب و نضو سقم و نجيّا. كلّها أحوال، و العامل في كلّ حال ما يليه من الأفعال. و سعيا إمّا مفعول به و العامل كادحا أو مصدر استغنى عن ذكر فعله، و يسيرا صفة ظرف محذوف اقيمت مقامه: أى زمانا يسيرا، و روى أسيرا فعلى هذا يكون حالا، و جزعا و قلقا و تقيّه مفعول به، و استعار أسيرا للعاصى على الرواية الثانية، و وجه المشابهة أن صاحب الزلّة يقوده هواه إلى هوانه كما يقاد الأسير إلى ما يكره.
التاسعة:
لم يفد عوضا: أى لم يستفد في الدنيا عوضا ممّا يفوته منها في الآخرة، و العوض الّذى ضيّعه هو الكمالات الّتي خلق ليستفيدها و فرضت عليه من الطاعات و لم يقضها من العلوم و الأخلاق.
العاشرة:
الواو فى المر ء للحال و العامل لادمة. و الأنّة الموجعة أى لقلوب الواجدين عليه و الجذبة المكربة: أى جذب الملائكة للروح كما قال تعالى وَ لَوْ تَرى‏ إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَ الْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ«» الآية، و روى عن رسول اللّه‏ صلى اللّه عليه و آله و سلّم قال: إنّ المؤمن إذا احتضر أتته الملائكة بحريرة فيها مسك و ضبائر الريحان فينسلّ روحه كما تسلّ الشعرة من العجين و يقال: أيّتها النفس المطمئنّة ارجعى إلى ربّك راضية مرضيّة إلى روح اللّه و كرامته فإذا خرجت روحه وضعت على ذلك المسك و الريحان و طويت عليه الحريرة و بعث بها إلى علّيين، و إنّ الكافر إذا احتضر أمر اللّه الملائكة بمسح فيه جمرة فنزع روحه انتزاعا شديدا و يقال: ايّتها النفس الخبيثة ارجعى ساخطة مسخوطا عليك إلى هوان اللّه و عذابه فإذا خرجت روحه وضعت على تلك الجمرة و كان لها نشيش، و يطوى عليها ذلك المسح، و يذهب بها إلى سجّين. و اعلم أنّ تلك الجذبة تعود إلى ما يجده الميّت حال النزع و هو عبارة عن ألم ينزل بنفس الروح يستغرق جميع أجزائه المنتشرة في أعماق البدن و ليس هو كسائر ما يجده الروح المختصّ ببعض الأعضاء كعضو شاكته شوكة و نحوه لاختصاص ذلك بموضع واحد فألم النزع يهجم على نفس الروح و يستغرق جميع أجزائه و هو المجذوب من كلّ عرق و عصب و جزء من الأجزاء و من أصل كلّ شعرة و بشرة. و لا تسئلنّ عن بدن يجذب منه كلّ عرق من عروقه، و قد يمثّل ذلك بشجرة شوك كانت داخل البدن ثمّ جذبت منه فهى الجذبة المكربة، و لمّا كان موت كلّ عضو من البدن عقيب الأمراض الّتي ربّما طالت تدريجا فتلك هى السوقة المتعبة.
الحادى عشر:
قوله: رجيع و صب و نضو سقم. استعار له وصفى الجمل فالرجيع باعتبار كونه قد ردّد في أطوار المرض و تواتر عليه كما يردّد الجمل في السفر مرّة بعد اخرى، و لفظ النضو باعتبار نحو له من الأسقام كما ينحل الأسفار الجمل.
الثانية عشر:
قوله: اقعد في حفرته نجيّا لبهتة السؤال. إلى آخره. أقول: القول بعذاب القبر و سؤال منكر و نكير حقّ روى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال لعمر: يابن الخطّاب كيف بك إذا أنت متّ فانطلق بك قومك فقاسوا لك ثلاثة أذرع في ذراع و شبر ثمّ رجعوا إليك فغسّلوك و كفنّوك ثمّ احتملوك حتّى يضعوك فيه ثمّ يهيلوا عليك التراب فيدفنوك فإذا انصرفوا عنك أتاك فتّانا القبر منكرا و نكيرا أصواتهما كالرعد القاصف و أبصارهما كالبرق الخاطف يجرّان أشعارهما و يحيثان‏ القبر بانيا بهما فيبلبلانك و يزلزلانك فيقولان لك: من ربّك و من نبيّك و ما دينك كيف بك عند ذاك يا عمر. فقال عمر: فيكون معى عقلى الآن قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم: نعم قال: فإذن أكفيهما. و في وصفهما عنه صلى اللّه عليه و آله و سلّم أنّهما ملكان أسودان أرزقان أحدهما منكر و الآخر نكير. و اعلم أنّ الإيمان بما جاء من ذلك على ثلاث مراتب: أحدها: و هو الأظهر الأسلم أن يصدّق بأنّها موجودة و أنّ هناك ملكين على الصورة المحكيّة، و حيّات و عقارب تلدغ الميّت، و إن كنّا لا نشاهدها إذ لا تصلح هذه العين لمشاهدة الامور الملكوتيّة، و كلّ ما يتعلّق بالآخرة فهو من عالم الملكوت كما كانت الصحابة يؤمنون بنزول جبرئيل، و كان النبىّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم يشاهده و إن لم يكونوا يشاهدونه، و كما أنّ جبرئيل لا يشبه الناس فكذلك منكر و نكير و فعلهما و الحيّات و العقارب في القبر ليس من جنس حيّات عالمنا. فتدرك بمعنى آخر. المقام الثاني: أن يتذكّر ما قد يراه النايم من صورة شخص هايل يضربه أو يقتله أو حيّة تلدغه و قد يتألّم بذلك حتّى تراه في نومه يصيح و يعرق جبينه و ينزعج من مكانه كلّ ذلك يدرك من نفسه و يشاهده و يتأذّي به كما يتأذّى اليقظان و أنت ترى ظاهره ساكنا و لا ترى حوله شخصا و لا حيّة، و الحيّة موجودة في حقّه متخيّلة له و لا فرق بين أن يتخيّل عدوّا أوحيّة أو يشاهده. المقام الثالث: أن تعلم أنّ منكرا و نكيرا و ساير أحوال القبر غايته الايلام و المولم في حقّه ليس هو الشخص المشاهد و لا الحيّة بل ما حصل فيه من العذاب فالنفس العاصية إذا فارقت البدن حملت القوّة المتخيّلة معها و لم يتجرّد عن البدن منزّهة عن الهيئات البدنيّة و الأخلاق الرديئة المهلكة من الكبر و الرياء و الحسد و الحقد و الحرص و غيرها، و هى عند الموت عالمة بمفارقة البدن متوهّمة لنفسها الإنسان الّذى مات و على صورته كما كان في الرؤيا يتخيّل و يتوهّم بدنها مقبورة و يتخيّل الآلام الواصلة إليها عن كلّ خلق ردي‏ء على سبيل العقوبة الحسّيّة لها كما قرّرته الشريعة الصادقة، و انغرس في الأذهان عنها على صورة شخص منكر هائل الصورة يعنفه في السؤال و يبهته بسوء منظره و هول أصواته و يمتحنه فيتلجلج لسانه فيضربه و يعذّبه، و على مثال تنيّن يلدغه، و إن كانت النفس سعيدة تخيّلت اللذّات الحاصلة لها من كلّ خلق حسن و عمل صالح قدّمته في صورة ملائمة فوق ما كانت يعتقده ممّا كان وصف لها من صور أشخاص بهيّة يدخل عليهم و يتلقّاهم بالبشارة كمبشّر و بشير و ساير الملائكة الّذين يدخلون عليهم من كلّ باب سلام عليكم و من فسحة القبر و الروح و الريحان و ساير ما وعد فيه. فهذا عذاب القبر و ثوابه و إليه الإشارة ب قول الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم: القبر روضة من رياض الجنّة أو حفرة من حفر النار. فإن قلت: لم جعل أوّل داخل على الإنسان في قبره سواء كان سعيدا أو شقيّا ملكين و لم يكن ثلاثة أو واحد مثلا.
قلت: قال بعض العلماء: إنّه لمّا كانت السعادة و الشقاوة الحاصلتين للنفس إنّما يحصل من جهة قوّتين نظريّة و عمليّة بهما جعل ما يكتسب عن كلّ واحدة منهما ملكا.
فإن كان المكتسب جهلا مركّبا و رذائل أخلاق فمنكر و نكير و إن كان علما و مكارم فمبشّر و بشير. و اللّه أعلم بأسرار شريعته.
و اعلم أنّك متى تصوّرت معنى ثواب القبر و عذابه في المقامات تصوّرت معنى ثواب الجنّة و عذاب النار.
الثالث عشر:
قوله لا فترة مزيحة و لا قوّة حاجزة. يجرى مجرى آيات الوعيد الناطقة بالتخليد، و هى مخصوصة بالكفّار الّذين لا مسكة لنفوسهم بعالم الملكوت و نحوه قوله تعالى إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ«» و أمّا أنّه ليس لهم قوّة حاجزة فلأنّ القوّة الحاجزة بينهم و بين العذاب مفقودة في حقّهم و هى المسكة باللّه تعالى و محبّة الالتفات إلى عالم الغيب و الملأ الأعلى، و أمّا عدم الموتة الناجزة فلأنّ الإنسان غير قابل للفناء مرّة اخرى كما علم ذلك في موضعه و أمّا سلب السنة عنهم إشارة إلى شدّة آلامهم و ما يلقونه من أليم العذاب لما أنّ الألم الشديد يستلزم عدم النوم فلا سلوة إذن بين حالات سكرات العذاب، و إطلاق لفظ الموتات مجازفي شدّة العذاب إطلاقا فذى الغاية على ما يصلح غاية له و قد لاحظ في أكثر هذا الفصل السجع المتوازى و باللّه التوفيق.

الفصل الثاني
قوله: عِبَادَ اللَّهِ أَيْنَ الَّذِينَ عُمِّرُوا فَنَعِمُوا وَ عُلِّمُوا فَفَهِمُوا- وَ أُنْظِرُوا فَلَهَوْا وَ سُلِّمُوا فَنَسُوا- أُمْهِلُوا طَوِيلًا وَ مُنِحُوا جَمِيلًا- وَ حُذِّرُوا أَلِيماً وَ وُعِدُوا جَسِيماً- احْذَرُوا الذُّنُوبَ الْمُوَرِّطَةَ وَ الْعُيُوبَ الْمُسْخِطَةَ- أُولِي الْأَبْصَارِ وَ الْأَسْمَاعِ وَ الْعَافِيَةِ وَ الْمَتَاعِ- هَلْ مِنْ مَنَاصٍ أَوْ خَلَاصٍ- أَوْ مَعَاذٍ أَوْ مَلَاذٍ أَوْ فِرَارٍ أَوْ مَحَارٍ أَمْ لَا- فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أَمْ أَيْنَ تُصْرَفُونَ أَمْ بِمَا ذَا تَغْتَرُّونَ- وَ إِنَّمَا حَظُّ أَحَدِكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ذَاتِ الطُّوْلِ وَ الْعَرْضِ- قِيدُ قَدِّهِ مُتَعَفِّراً عَلَى خَدِّهِ- الْآنَ عِبَادَ اللَّهِ وَ الْخِنَاقُ مُهْمَلٌ وَ الرُّوحُ مُرْسَلٌ- فِي فَيْنَةِ الْإِرْشَادِ وَ رَاحَةِ الْأَجْسَادِ وَ بَاحَةِ الِاحْتِشَادِ- وَ مَهَلِ الْبَقِيَّةِ وَ أُنُفِ الْمَشِيَّةِ وَ إِنْظَارِ التَّوْبَةِ- وَ انْفِسَاحِ الْحَوْبَةِ قَبْلَ الضَّنْكِ وَ الْمَضِيقِ- وَ الرَّوْعِ وَ الزُّهُوقِ وَ قَبْلَ قُدُومِ الْغَائِبِ الْمُنْتَظَرِ- وَ إِخْذَةِ الْعَزِيزِ الْمُقْتَدِرِ

اللغة
أقول: و رّطته في الأمر: خلّصته فيه.

و المناص: الملجأ.

و المحار: المرجع.

و أفك: صرف.

و قيد: قدّه مقدار قامته.

و المعفر: المترب.

و العفر: التراب.

و الفينة:الجبن.

و أنف الشي‏ء: أوّله.

و الحوبة: الحاجة و المسكنة.

و الضنك: الضيق.

و في هذا الفصل فوائد:
الاولى
: التنبيه و التقريع على كفران جملة من نعم اللّه، فمنها أن عمّرهم فنعموا، و علّمهم ففهموا، و أنظرهم و سلّمهم من الآفات و أمهلهم طويلا، و منحهم الجميل، و حذّرهم أليم العذاب، و وعدهم وعدا حسنا. و من كفرانهم لتلك النعمة أن اشتغلوا بلذّات الدنيا عن أوامره و لهوا عن الالتفات إليه و نسوا ما ذكّرهم به و دعاهم إليه.
الثانية: التحذير من الذنوب المورّطة في موارد الهلكة و أنواع العذاب ثمّ من العيوب المسخطة للّه و هى اكتساب رذائل الأخلاق.
الثالثة:
تنبيه اولى الأبصار و الأسماع و العافية و المتاع في الدنيا على أنّه لا مناص: أى من أمر اللّه، و لا خلاص: أى من عذابه لمن حصل فيه، و كذلك لا معاذ و لا ملاذ منه لمن استعدّ له. و لا فرار: أى من حكمه، و لا مرجع: أى بعد الموت. و إنّما خصّ اولى الأبصار و الأسماع و العافية لكونهم أهل التكاليف التامّة، و العقول داخلة في إشارته إمّا بالإبصار و الإسماع مجازا أو في العافية، و إنّما خصّ اولى المتاع لأنّ أهل الاستمتاع بالدنيا هم المجذوبون عنها من جهة اشتغالهم بمتاعها عن سلوك سبيل اللّه، و هل استفهام عن الامور المذكورة على سبيل الإنكار لها ثمّ استفهمهم عن وقت صرفهم، و عن مكان ذلك على سبيل التقريع لهم، ثمّ عمّا يعتذرون به بعد لقاء اللّه في ترك أو امره على سبيل الإنكار للأعذار أيضا. و أم معادلة لهل الاستفهاميّة.
الرابعة: التذكير بأمر القبر و تعفير الخدّ فيه ممّا هو منفور عنه طبعا و فيه تنبيه على وجوب الانتهاء عن الاستكثار من قينات الدنيا و جناتها لوجوب مفارقتها و أنّه لا نصيب للمجدّ في تحصيلها منها إلّا مقدار قامته و هو كناية عن قبره.
الخامسة: التنبيه على وقت العمل و الأحوال:
الّتي يمكنهم فيها. و كنّى ب الآن عن زمان الحياة الدنيا، و ب الخناق عمّا تؤخذ به أعناق النفوس إلى بارئها و هو الموت كناية بالمستعار، و وجه المشابهة كون كلّ واحد منهما مكروها يقاد به إلى مكروه و رشّح الاستعارة بذكر الإهمال، و كنّى به عن مدّة الإمهال في الحياة الدنيا و كذلك‏ أراد بإرسال الروح إهمالها، و يكون ذلك الإرسال في فينة الارتياد: أى في زمان ارتياد النفوس و طلبها لما تستعدّ به من الكمال للقاء اللّه، و روى الإرشاد: أى إرشاد النفوس إلى سبيل اللّه و جهة السعادة الأبديّة و كذلك مهل البقيّة: أى بقيّة الأعمار.
السادسة قوله: و انف المشيّة:
أى أوّل الإرادات للنفوس، و ذلك أنّه ينبغي أن يكون أوّل زمان الإنسان و أوائل ميول قلبه إلى طاعة اللّه و الانقياد لأوامره ليكون ما يرد على لوح نفسه من الكمالات المسعدة في الآخرة واردا على لوح صاف عن كدر الباطل و أنّه متى عكس ذلك فجعل أوائل ميوله و إرادته لمعاصى اللّه تسوّد وجه نفسه بملكات السوء فلم يكد يقبل بعد ذلك الاستضاءة بنور الحقّ فكان من الأخسرين أعمالا.
السابعة: إنظار التوبة
إمهال اللّه العصاة لأجلها و لمّا كان غرض العناية الإلهيّة سوق كلّ ناقص إلى كماله حسن أن يعبّر عن بقاء العاصى بأنّه إنظار للتوبة.
الثامنة: و انفساح الحوبة
اتّساع زمان العمل للحاجة في الآخرة. و الإضافة يكفى فيها أدنى ملابسة و ذلك أنّ كلّ حاجة فرضها الإنسان في الدنيا فقد لا يكون في محلّ الضرورة، و الضيق الكلّى منها و إن كانت في محلّ الضرورة لكنّها في مظنّة أن يرجى زوالها بخلاف الحاجة و الضرورة في الآخرة إلى صالح الأعمال فإنّها لا يمكن زوالها بعد المفارقة و لا متّسع للعمل إلّا في الدنيا و كان أهلها منها في أشدّ ضرورة و أضيق حال و أقبح صورة، و أشار بالضنك و الضيق إلى انحصار الإنسان في أغلال الهيئات البدنيّة و سجن جهنّم، و بالروع و الزهوق إلى الفزع الأكبر من أهوال الموت و ما بعده.
التاسعة: الغائب المنتظر
كناية عن الموت، و قدومه: هجومه، و لمّا استعار له لفظ الغائب مراعاة لشبهه بمسافر ينتظر رشّح تلك الاستعارة بلفظ القدوم.
العاشر: أخذة العزيز المقتدر
جذب الأرواح بحكم قدرة اللّه العزيز الّذى لا يلحقه إذلال قاهر، المقتدر الّذى لا امتناع له لقدرة قادر. و باللّه التوفيق.

                     شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی )، ج 2    ، صفحه‏ى 231