خطبه 88 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام تعرف بخطبة الأشباح،

و هى من جلائل خطبه، و كان سائل سئله أن يصف اللّه تعالى حتّى كأنّه يراه عيانا فغضب لذلك، و قال الخطبة. روى مسعدة بن صدقة عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما السّلام أنّه قال: خطب أمير المؤمنين عليه السّلام هذه الخطبة على منبر الكوفة، و ذلك أنّ رجلا أتاه فقال له: يا أمير المؤمنين صف لنا ربّنا لنزداد له حبّا و به معرفة فغضب‏ و نادى: الصلاة جامعة. فاجتمع الناس حتّى غصّ المسجد بأهله فصعد المنبر و هو مغضب متغيّر اللون فحمد اللّه و أثنى عليه و صلّى على النّبىّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم ثمّ خطبها. و أعلم أنّ في الخطبة فصولا:

الفصل الأوّل.
قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا يَفِرُهُ الْمَنْعُ وَ الْجُمُودُ- وَ لَا يُكْدِيهِ الْإِعْطَاءُ وَ الْجُودُ- إِذْ كُلُّ مُعْطٍ مُنْتَقِصٌ سِوَاهُ وَ كُلُّ مَانِعٍ مَذْمُومٌ مَا خَلَاهُ- وَ هُوَ الْمَنَّانُ بِفَوَائِدِ النِّعَمِ وَ عَوَائِدِ الْمَزِيدِ وَ الْقِسَمِ- عِيَالُهُ الْخَلَائِقُ ضَمِنَ أَرْزَاقَهُمْ وَ قَدَّرَ أَقْوَاتَهُمْ- وَ نَهَجَ سَبِيلَ الرَّاغِبِينَ إِلَيْهِ وَ الطَّالِبِينَ مَا لَدَيْهِ- وَ لَيْسَ بِمَا سُئِلَ بِأَجْوَدَ مِنْهُ بِمَا لَمْ يُسْأَلْ- الْأَوَّلُ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلٌ فَيَكُونَ شَيْ‏ءٌ قَبْلَهُ- وَ الْآخِرُ الَّذِي لَيْسَ لهُ بَعْدٌ فَيَكُونَ شَيْ‏ءٌ بَعْدَهُ- وَ الرَّادِعُ أَنَاسِيَّ الْأَبْصَارِ عَنْ أَنْ تَنَالَهُ أَوْ تُدْرِكَهُ- مَا اخْتَلَفَ عَلَيْهِ دَهْرٌ فَيَخْتَلِفَ مِنْهُ الْحَالُ- وَ لَا كَانَ فِي مَكَانٍ فَيَجُوزَ عَلَيْهِ الِانْتِقَالُ وَ لَوْ وَهَبَ مَا تَنَفَّسَتْ عَنْهُ مَعَادِنُ الْجِبَالِ- وَ ضَحِكَتْ عَنْهُ أَصْدَافُ الْبِحَارِ مِنْ فِلِزِّ اللُّجَيْنِ وَ الْعِقْيَانِ- وَ نُثَارَةِ الدُّرِّ وَ حَصِيدِ الْمَرْجَانِ مَا أَثَّرَ ذَلِكَ فِي جُودِهِ- وَ لَا أَنْفَدَ سَعَةَ مَا عِنْدَهُ- وَ لَكَانَ عِنْدَهُ مِنْ ذَخَائِرِ الْأَنْعَامِ مَا لَا تُنْفِدُهُ مَطَالِبُ الْأَنَامِ- لِأَنَّهُ الْجَوَادُ الَّذِي لَا يَغِيضُهُ سُؤَالُ السَّائِلِينَ- وَ لَا يُبْخِلُهُ إِلْحَاحُ الْمُلِحِّينَ‏

اللغة
أقول: الأشباح: الأشخاص. و يفره: يزيد ماله وفورا و يتمّمه. و يكديه: ينقص خيره. و تنفّست عنه: انفرجت. و الفلزّ: ما ينقيه الكير ممّا يذاب من جواهر الأرض. و العقيان: الذهب الخالص. و المرجان: صغار اللؤلؤ. و ألحّ في سؤاله: إذا أدام عليه.

و قد شرع في وصف اللّه سبحانه باعتبارات له إلى آثاره:
الأوّل:
أنّه لا يتزيّد بما حرمه و منعه من فضله.
الثاني: و لا ينقصه عطاؤه و جوده.
ثمّ ردّ حكم الوهم عليه سبحانه بدخوله في عموم المنتقصين بالعطايا بقوله: إذ كلّ معط منتقص سواه، و كذلك قدّسه عن الدخول في زمرة المذمومين بمنعهم ما في أيديهم عن طالبه بقوله: و كلّ مانع مذموم ما خلاه فكانت هاتان القضيّتان مؤكّدتين للاوليين، و برهانهما أنّ التزيّد بالمنع و التنقّص بالإعطاء إنّما يطلق في حقّ من ينتفع و يتضرّر بالزيادة و النقصان و الانتفاع و التضرّر على اللّه محال فالتزيّد و التنقّص عليه محال، و لأنّهما يقضيان عليه بالحاجة و الإمكان، و لأنّ مقدوراته غير متناهية، و نبّه بقوله: إذ. على جهة الفرق بينه و بين خلقه، و إنّما انتقص المعطى من خلقه لحاجته إلى ما يعطيه و انتفاعه به، و إنّما استحقّ المانع منهم الذمّ دونه سبحانه لكون ما يصدر عنه من منع و إعطاء مضبوطا [منوطا خ‏] بنظام الحكمة و العدل دون غيره من المانعين فإنّ غالب منعهم يكون عن شحّ مطاع و هوى متّبع. و اعلم أنّ صدق الكلّيّة في المنتقصين بالعطاء ظاهر، و أمّا في المذمومين بالمنع فتحقيقها أنّ كلّ مانع للمال فهو إنّما يمنعه خوف الفقر و نحوه، و ظاهر أنّ الخائف من الفقر في الدنيا محبّ لها و هو بمعزل عن عباد اللّه المتوكّلين عليه الزاهدين في متاع الدنيا و قيناتها، و إذا كان العبد مأمورا بأن يكون من هؤلاء و في زمرتهم فبالحرىّ أن يكون مستحقّا للذمّ على ما يمنعه من ماله فيكون حجابا لوجهه عن النظر إلى وجه اللّه الكريم فصدق الكلّيّة إذن ظاهر. و في أدعية زين العابدين عليه السّلام: يا من لا يزيده كثرة العطاء إلّا كرما وجودا. و فيه سرّ لطيف فإنّه لمّا كان جوده سبحانه غير متوقّف إلّا على وجود الاستحقاق، و كانت كلّ نعمة صدرت عنه معدّة لمحلّها و مهيّئة له لقبول نعمة اخرى كانت كثرة عطائه مستلزمة لكثرة الاعداد المستلزمة لزيادة الجود.

الثالث: أنّه المنّان بفوائد النعم و المنّة تذكير المنعم للمنعم عليه بنعمته و التطاول عليه بها كقوله تعالى يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ«» في غير موضع من كتابه و هى صفة مدح للحقّ سبحانه و إن كانت صفة ذمّ لخلقه، و السبب الفارق كون كلّ منعم سواه فيحتمل أن يتوقّع لنعمته جزاء و يستفيد كما لا يعود إليه ممّا أفاده و أيسره توقّع الذكر و يقبح ممّن يقابل بنعمته و يتوقّع لها جزاء أن يمّن بها لما يستلزمه المنّ من التطاول و الكبر، و توقّع الجزاء و الحاجة إليه مع التطاول و الكبر ممّا لا يجتمعان في العرف. إذ التطاول و الكبر إنّما يليقان بالغنىّ عن ثمرة ما تطاول به و لأنّ التطاول ممّا يتأذّى به المنعم عليه فيبطل بذلك استعداد نفس المنعم لقبول رحمة اللّه و جزائه و لذلك ورد النهى عن المنّة في قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى‏«» فجعلهما سببا لبطلان الصدقة: أى عدم استحقاق ثوابها، و فوائد النعم: ما أفاد منها. و عوائد المزيد و القسم: معتادهما.


الرابع: كون الخلائق عياله
ضمن أرزاقهم و قدّر أقواتهم، و استعار لفظ العيال للخلق بالنسبة إلى ربّهم، و وجه المشابهة أنّ عيال الرجل هو من جمعهم كيفيّتهم و يصلح حالهم كذلك الخلق إنّما خلقهم و جمعهم تحت عنايته ليصلح أحوالهم في معاشهم و معادهم، و كذلك استعار لفظ الضمان لما وجب في الحكمة الإلهيّة من وجود ما لا بدّ منه في تدبير إصلاح حالهم من الأقوات و الأرزاق، و تقدير أقواتهم إعطاء كلّ ما كتب له في اللوح المحفوظ من زائد و ناقص.

الخامس: كونه نهج سبيل الراغبين إليه و الطالبين ما لديه
و ذكر أوّلا ما يصلح حالهم في الدنيا و هو ضمان الأرزاق و تقدير الأقوات ثمّ أردفه بما هو سبب صلاح حالهم في الآخرة من نهج السبيل و ايضاحه و أشار به إلى ايضاح الشريعة لطريق السالكين الراغبين في النظر إلى وجهه الكريم و الطالبين لما عنده من النعيم المقيم.

السادس: كونه ليس بما سئل بأجود منه بما لم يسئل
و يستلزم بيان هذا الوصف إشارة لطيفة و هو أنّ فيضان ما صدر عنه سبحانه له اعتباران: أحدهما: بالنظر إلى جوده‏ و هو من تلك الجهة غير مختلف في جميع الموجودات بل نسبتها إليه على سواء بذلك الاعتبار. فلا يقال: هو بكذا أجود منه بكذا. و إلّا لاستلزم ذلك أن يكون ببعض الأشياء أبخل أو إليها أحوج فيلزمه النقصان تعالى اللّه عن ذلك، و الثاني: بالنظر إلى الممكن نفسه و الاختلاف الواقع في القرب و البعد إلى جوده إنّما هو من تلك الجهة فكلّ ممكن كان أتمّ استعدادا و أقبل للوجود و أقلّ شرطا و معاندا كان أقرب إلى جوده. إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ السائل و إن حصل له ما سأل من اللّه تعالى دون ما لم يسئل فليس منعه ما لم يسئله لعزّته عند اللّه و ليس بينه و بين ما سئل بالنسبة إلى جود اللّه تعالى فرق و تفاوت بل إنّما خصّ بما سئل لوجوب وجوده له عند تمام قبوله له بسؤاله دون ما لم يسئله و لو سئل ما لم يسئله و استحقّ وجوده لما كان في الجود الإلهىّ بخل به و لا منع في حقّه و إن عظم خطره و جلّ قدره و لم يكن له أثر نقصان في خزائن ملكه و عموم جوده. و إلى هذا أشار علىّ بن موسى الرضا عليه السّلام و قد سئل عن الجواد فقال: لسؤالك وجهان إن أردت المخلوق فالّذى يؤدّى ما افترض اللّه عليه و البخيل الّذى يمنع ما افترض اللّه عليه و إن أردت الخالق فهو الجواد إن أعطى و إن منع لأنّه إن أعطى أعطى من له و إن منع منع من ليس له. فقوله: له. و ليس له، إشارتان إلى أنّ الجود الإلهىّ إنما يهب. و يتوقّف في هبته على وجود المستحقّ. و قد نزّهه عليه السّلام بهذا الوصف عن ضنّة الخلق إذ كان من شأنهم أن يكونوا بما سئلوا أجود منهم بما لم يسألوا لكونه أسهل عليهم و من شأن السائل أن لا يسألهم ما هو أعزّ عندهم و لذلك كانوا بما سئلوا أجود.

السابع:
الأوّل الّذى لم يكن له قبل فيكون شي‏ء قبله.

الثامن: و الآخر الّذى ليس له بعد فيكون شي‏ء بعده
و قد أشرنا إلى هذين الوصفين فيما سلف و نزيدهما بيانا فنقول: الأوليّة و الآخريّة اعتباران إضافيّان تحدثهما العقول لذاته المقدّسة و ذلك أنّك إذا لاحظت ترتيب الوجود في سلسلة الحاجة إليه سبحانه وجدته تعالى بالإضافة إليها أوّل إذ كان انتهائها في سلسلة الحاجة إلى غناه المطلق فهو أوّل بالعليّة و الذات و الشرف، و إذ ليس بذى مكان فالتقدّم بالمكان منفىّ عنه و الزمان متأخّر عنه. إذ هو من لواحق الحركة المتأخّرة عن الجسم المتأخّر عن علّته فلم يلحقه القبليّة الزمانيّة فضلا أن تسبق عليه فلم يكن شي‏ء قبله مطلقا لا من الزمانيّات و لا من غيرها و إذا اعتبرته بالنظر إلى ترتيب السلوك و لاحظت مراتب السالكين المسافرين في منازل عرفانه وجدته آخرا إذ هو آخر ما ترتقى إليه درجات العارفين و معرفته هى الدرجة القصوى و المنزل الآخر، و لأنّ كلّ موجود سواه فهو ممكن العدم فله من ذاته أن لا يستحقّ وجودا فضلا أن يستحقّ الآخريّة و البعديّة المطلقة، و هو تعالى الواجب لذاته فهو المستحقّ لبعديّة الوجود و آخريّته لذاته و بالقياس إلى كلّ موجود. فإذن هو الأوّل المطلق الّذى لا شي‏ء قبله و الآخر المطلق الّذى لا شي‏ء بعده.

التاسع: الرادع اناسىّ الأبصار عن أن تناله أو تدركه
و قد سبق أنّ القوّة الباصرة إنّما تتعلّق بذى وضع و جهة و البارى تعالى منزّه عنهما فيستحيل أن يدرك بحاسّة البصر و ردعه‏ لها قهرها بذلّ النقصان عن قبول إدراكه.

العاشر: كونه لم يختلف عليه دهر فيختلف عليه الحال.
لمّا كان الزمان مبدءا للتغيّرات و اختلاف الأحوال، و كان ذاته سبحانه منزّهة عن لحوق الزمان كانت مبرّءة عن تغيّر الأحوال الجارية على الزمانيّات و اختلافها.

الحادى عشر: و لا كان في مكان فيجوز عليه الانتقال.
لمّا كان من شأن ذى المكان جواز أن ينتقل من مكانه، و كان سبحانه منزّها عن المكان و إلّا لزمه النقصان اللازم للإمكان لا جرم لم يجز عليه الانتقال.

الثاني عشر: كونه لو وهب ما تنفّست عنه معادن الجبال
و ضحكت عنه أصداف البحار من فلزّ اللجين و العقيان. إلى قوله: مطالب الأنام. إنّما عدّد هذه الأشياء في معرض المدح له تعالى لكونها أعظم ما يقتدر عليه الإنسان و يقتنيه و أجلّ ما يتنافس فيه أبناء الدنيا تنبيها على كمال قدرته و عدم تناهى مقدوراته إذ سبق أنّه إنّما يتأثّر بهبة مثل ذلك جود المحتاجين الّذين يتعاقب عليهم الانتفاع و التضرّر، و استعار لفظ الضحك للأصداف، و وجه الشبه انفتاح الصدفتين و إسفارهما عن اللؤلؤ الشبيه في بدوّه بأسنان الإنسان حال ضحكه و عن لحمة تشبه اللسان في رقّة طرفه و لطافته. و من صادف الصدفة عند فتحها وجدها كالإنسان يضحك، و كذلك استعار لفظ الحصيد لصغار اللؤلؤ ملاحظة لشبهه بما يحصد من الحنطة و غيرها، و اعلم أنّ الصدف و إن كان حيوانا ذو حسّ و حركة إلّا أنّ له شبها بالنبات و لحوقا به من جهة أنّه ذو عرق في الأرض يغتذى به. و قد أجمل ما يخرج من معادن البرّ و البحر لتمييز السامعين بينهما، و قوله: لأنّه الجواد الّذى لا يغيضه سؤال السائلين و لا يبخله إلحاح الملحّين. إنّما كان هذا علّة لعدم تأثّر جوده بهبة ما يعظم قدره و نقصان خزائنه بإخراجه منها لأنّ الجواد الّذى شأنه ما ذكر إنّما كان كذلك لكونه ليس من شأنه أن يلحقه النفع و الضرر و النقص بل نعمه غير متناهية، و استعار لفظ الغيض لنعمه ملاحظة لشبهها بالماء الّذى له مادّة تامّة لا ينقص بالنزح، و من روى: بغضبه. فلأنّ الغضب من لواحق المزاج، و البارى تعالى منزّه عنه فيتنزّه عن لواحقه، و كذلك البخل رذيلة مكتسبة من البدن و المزاج تبعث إليها الحاجة و النقصان فمن لا يتزيّد و لا يتنقّص فلا يؤثّر في ملكه أن يهب الدنيا لمن سألها.


الفصل الثاني:

قوله: فَانْظُرْ أَيُّهَا السَّائِلُ- فَمَا دَلَّكَ الْقُرْآنُ عَلَيْهِ مِنْ صِفَتِهِ فَائْتَمَّ بِهِ- وَ اسْتَضِئْ بِنُورِ هِدَايَتِهِ وَ مَا كَلَّفَكَ الشَّيْطَانُ عِلْمَهُ- مِمَّا لَيْسَ فِي الْكِتَابِ عَلَيْكَ فَرْضُهُ- وَ لَا فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ ص وَ أَئِمَّةِ الْهُدَى أَثَرُهُ- فَكِلْ عِلْمَهُ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ- فَإِنَّ ذَلِكَ مُنْتَهَى حَقِّ اللَّهِ عَلَيْكَ- وَ اعْلَمْ أَنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ هُمُ الَّذِينَ أَغْنَاهُمْ- عَنِ اقْتِحَامِ السُّدَدِ الْمَضْرُوبَةِ دُونَ الْغُيُوبِ- الْإِقْرَارُ بِجُمْلَةِ مَا جَهِلُوا تَفْسِيرَهُ مِنَ الْغَيْبِ الْمَحْجُوبِ- فَمَدَحَ اللَّهُ تَعَالَى اعْتِرَافَهُمْ بِالْعَجْزِ- عَنْ تَنَاوُلِ مَا لَمْ يُحِيطُوا بِهِ عِلْماً- وَ سَمَّى تَرْكَهُمُ التَّعَمُّقَ- فِيمَا لَمْ يُكَلِّفْهُمُ الْبَحْثَ عَنْ كُنْهِهِ رُسُوخاً- فَاقْتَصِرْ عَلَى ذَلِكَ- وَ لَا تُقَدِّرْ عَظَمَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى قَدْرِ عَقْلِكَ- فَتَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ‏ هُوَ الْقَادِرُ الَّذِي إِذَا ارْتَمَتِ الْأَوْهَامُ- لِتُدْرِكَ مُنْقَطَعَ قُدْرَتِهِ- وَ حَاوَلَ الْفِكْرُ الْمُبَرَّأُ مِنْ خَطَرَاتِ الْوَسَاوِسِ- أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ فِي عَمِيقَاتِ غُيُوبِ مَلَكُوتِهِ- وَ تَوَلَّهَتِ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ لِتَجْرِيَ فِي كَيْفِيَّةِ صِفَاتِهِ- وَ غَمَضَتْ مَدَاخِلُ الْعُقُولِ فِي حَيْثُ لَا تَبْلُغُهُ الصِّفَاتُ- لِتَنَاوُلِ عِلْمِ ذَاتِهِ رَدَعَهَا- وَ هِيَ تَجُوبُ مَهَاوِيَ سُدَفِ الْغُيُوبِ مُتَخَلِّصَةً إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ- فَرَجَعَتْ إِذْ جُبِهَتْ مُعْتَرِفَةً- بِأَنَّهُ لَا يُنَالُ بِجَوْرِ الِاعْتِسَافِ كُنْهُ مَعْرِفَتِهِ- وَ لَا تَخْطُرُ بِبَالِ أُولِي الرَّوِيَّاتِ خَاطِرَةٌ مِنْ تَقْدِيرِ جَلَالِ عِزَّتِه الَّذِي ابْتَدَعَ الْخَلْقَ عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ امْتَثَلَهُ- وَ لَا مِقْدَارٍ احْتَذَى عَلَيْهِ مِنْ خَالِقٍ مَعْبُودٍ كَانَ قَبْلَهُ- وَ أَرَانَا مِنْ مَلَكُوتِ قُدْرَتِهِ- وَ عَجَائِبِ مَا نَطَقَتْ بِهِ آثَارُ حِكْمَتِهِ- وَ اعْتِرَافِ الْحَاجَةِ مِنَ الْخَلْقِ إِلَى أَنْ يُقِيمَهَا بِمِسَاكِ قُوَّتِهِ- مَا دَلَّنَا بِاضْطِرَارِ قِيَامِ الْحُجَّةِ لَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ- فَظَهَرَتِ الْبَدَائِعُ- الَّتِي أَحْدَثَتْهَا آثَارُ صَنْعَتِهِ وَ أَعْلَامُ حِكْمَتِهِ- فَصَارَ كُلُّ مَا خَلَقَ حُجَّةً لَهُ وَ دَلِيلًا عَلَيْهِ- وَ إِنْ كَانَ خَلْقاً صَامِتاً فَحُجَّتُهُ بِالتَّدْبِيرِ نَاطِقَةٌ- وَ دَلَالَتُهُ عَلَى الْمُبْدِعِ قَائِمَةٌ فَأَشْهَدُ أَنَّ مَنْ شَبَّهَكَ بِتَبَايُنِ أَعْضَاءِ خَلْقِكَ- وَ تَلَاحُمِ حِقَاقِ مَفَاصِلِهِمُ الْمُحْتَجِبَةِ لِتَدْبِيرِ حِكْمَتِكَ- لَمْ يَعْقِدْ غَيْبَ ضَمِيرِهِ عَلَى مَعْرِفَتِكَ- وَ لَمْ يُبَاشِرْ قَلْبَهُ الْيَقِينُ بِأَنَّهُ لَا نِدَّ لَكَ- وَ كَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ ْ تَبَرُّؤَ التَّابِعِينَ مِنَ الْمَتْبُوعِينَ- إِذْ يَقُولُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ- إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ- كَذَبَ الْعَادِلُونَ بِكَ إِذْ شَبَّهُوكَ بِأَصْنَامِهِمْ- وَ نَحَلُوكَ حِلْيَةَ الْمَخْلُوقِينَ بِأَوْهَامِهِمْ- وَ جَزَّءُوكَ تَجْزِئَةَ الْمُجَسَّمَاتِ بِخَوَاطِرِهِمْ- وَ قَدَّرُوكَ عَلَى الْخِلْقَةِ الْمُخْتَلِفَةِ الْقُوَى بِقَرَائِحِ عُقُولِهِمْ- وَ أَشْهَدُ أَنَّ مَنْ سَاوَاكَ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ خَلْقِكَ فَقَدْ عَدَلَ بِكَ- وَ الْعَادِلُ بِكَ كَافِرٌ بِمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ مُحْكَمَاتُ آيَاتِكَ- وَ نَطَقَتْ عَنْهُ شَوَاهِدُ حُجَجِ بَيِّنَاتِكَ- وَ إِنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ الَّذِي لَمْ تَتَنَاهَ فِي الْعُقُولِ- فَتَكُونَ فِي مَهَبِّ فِكْرِهَا مُكَيَّفاً- وَ لَا فِي رَوِيَّاتِ خَوَاطِرِهَا فَتَكُونَ مَحْدُوداً مُصَرَّفاً

اللغة

أقول: الاقتحام: الدخول في الأمر بشدّة دفعة. و السدد: جمع سدّة و هى الأبواب و الحجب. و جاب البلاد: أى قطعها. و السدف: جمع سدفة و هى الظلمة: و الجبه: الردّ. و احتذى عليه: أى سلك مسلكه. و الحقاق: جمع حقّ و هو أطراف عظام المفاصل، و العادل: الجاعل للّه عديلا. و القريحة: قوّة الفكر.

المعنى

و صدر هذا الفصل تأديب الخلق
في وصفهم للّه سبحانه و تعليمهم كيفيّة السلوك في مدحه و الثناء عليه بما هو أهله و إن كان الخطاب للسائل إذ هو السبب في هذه الخطبة، و ذلك على طريقة قولهم: إيّاك أعنى و اسمعى يا جارة. فأرشده في ذلك إلى كتاب اللّه، و أمره أن يجعله إماما يقتدى به و يستضي‏ء بأنواره في سلوك سبيل اللّه و كيفيّة وصفه فإنّ أولى ما وصف به تعالى هو ما وصف به نفسه، و أمره بأن يكل علم ما لم يجده مفروضا عليه علمه في كتاب اللّه أوفى سنّة رسوله و آثار أئمّة الهدى القائمين مقامه في إيضاح الدين و حفظه إلى علم اللّه تعالى و هو المراد بالتفويض و ذلك أنّ أئمّة الهدى أعلم بوجوه نسبته تعالى إلى خلقه و بما يناسب تلك الاعتبارات من الألفاظ و يفيدها فيطلق عليه. و نفّر عن طلب ذلك و البحث عنه بإشارته إلى أنّه تكليف الشيطان و ظاهرأنّ طلب ما وراء حدود الشريعة الّتى نهيت عن تجاوزها إنّما هو بسبب وسوسة الشيطان و حرص الطبع على ما يمنع منه. ثمّ اعلم أنّ ذلك هو منتهى حقّ اللّه عليه و مطلوبه منه، و لمّا كان مطلوب الشارع حين وضع الشريعة و تقرير قواعدها هو جمع قلوب العالم على قانون واحد و اتّحادهم فيه بحيث لا يفترقوا في اعتقاد أمر ما لئلّا يكون ذلك الافتراق سببا لضعف الدين و عدم تعاونهم على تشييده كما سبق بيانه لا جرم وجب في الحكمة أن يحرم حينئذ عليهم الخوض فيما وراء ذلك لتثبت قواعد الدين في قلوبهم و ترسخ و لا يخرج بهم البحث عن ما ورائها إلى إطراحها و فساد اعتقاد كثير من الخلق لها و لغيرها ممّا وراها. إذ لم يكن فيهم من يستعدّ لقبول ما وراء تلك الظواهر إلّا الفرد النادر و إن كنّا نعلم أنّه كان صلى اللّه عليه و آله و سلّم إذا علم من أحد استعدادا لقبول شي‏ء من أسرار الشريعة و وثق به أن يحمله ألقاه إليه كعلىّ عليه السّلام دون أبي هريرة و أمثاله
ثمّ وصف بعد ذلك الراسخين في العلم الممدوحين في القرآن الكريم بقوله تعالى لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ الْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ«» الآية و قوله وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا«» و فسّر معنى الرسوخ فقال: هم الّذين أغناهم اللّه عن اقتحام السدد المضروبة دون الغيوب الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب. فمدح اللّه اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما، و سمّى تركهم التعمّق فيما لم يكلّفهم البحث عن كنهه رسوخا، و ممّا:
إشارة إلى السدد المضروبة و حجب الغيوب.
فلنشر إلى ما كشف عنه بعض العلماء الصوفيّة هاهنا و أشار إليه الخبر عن سيّد المرسلين صلى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ للّه تعالى سبعين حجابا من نور و ظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كلّ من أدرك بصره. و لمّا ثبت أن اللّه تعالى متجلّى لذاته بذاته فالحجاب لا بدّ و أن يكون بالنسبة إلى محجوب
فأقسام المحجوبين ثلاثة:
منهم من حجب بمجرّد ظلمة، و منهم من حجب بمجرّد نور، و منهم من حجب بنور مقرون بظلمة، و تحت كلّ قسم من هؤلاء أقسام كثيرة لا تحصى فيكفينا الإشارة إلى اصولها فنقول:

القسم الأوّل: المحجوبون بمجرّد الظلمة
و هؤلاء هم الملحدة الّذين لا يؤمنون باللّه و هم صنفان: فصنف منهم طلبوا للعالم سببا فأحالوه على الطبع و قد علمت أنّ الطبع صفة جسمانيّة مظلمة خالية عن المعرفة و الإدراك، و صنف منهم لم يتفرّغوا لذلك و لم يتنبّهو الطلب السبب بل اشتغلوا بأنفسهم و عاشوا عيش البهايم فكانوا محجوبين بكدورات نفوسهم و شهواتهم المظلمة و لا ظلمة أشدّ من الهوى و لذلك قال اللّه تعالى أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ«» و قال النبىّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم: الهوى أبغض إله عبد على وجه الأرض. و تحت هؤلاء فرق كثيرة لا حاجة إلى ذكرها.

القسم الثاني: المحجوبون بنور مقرون بظلمة
و هم ثلاثة أصناف:
فصنف منهم منشأ ظلمته الحسّ،
و صنف منهم منشأها الخيال، و صنف منهم منشأها مقايسات عقليّة فاسدة. فالأوّلون أيضا طوائف:
الاولى: عبدة الأوثان
فإنّهم علموا على سبيل الجملة أنّ لهم ربّا و أوجبوا إيثاره على أنفسهم و اعتقدوا أنّه أعزّ و أنفس من كلّ شي‏ء، و لكنّهم حجبوا بظلمة الحسّ عن أن يتجاوزوا العالم المحسوس في إثبات ربّهم فاتّخذوا من أنفس الجواهر كالفضّة و الذهب و الياقوت أشخاصا مصوّرة بأحسن صورة و جعلوها آلهة فهؤلاء محجوبون بنور العزّ و الجلال من صفات اللّه لكنّهم وضعوها في الأجسام المحسوسة فصارت حجبهم أنوارا مكدّرة بظلمة الحسّ إذ الحسّ ظلمة بالإضافة إلى عالم المعقولات.
الثانية: طائفة ترقّوا عن رتبة الأحجار فكانوا أدخل من عبدة الأوثان في ملاحظة الأنوار
كما يحكى عن قوم من أقاصى الترك ليس لهم ملّة و لكن يعتقدون أنّ لهم ربّا هو أجمل الأشياء فإذا رأو إنسانا في غاية الجمال أو فرسا أو شجرا عبدوه، و قالوا: هو ربّنا فهؤلاء محجوبون بنور الجمال مع ظلمة الحسّ أيضا.
الثالثة: طائفة ترقّوا عن هؤلاء و قالوا: ينبغي أن يكون الربّ نورانيّا في صورته ذا سلطان في نفسه مهيبا لا يطاق القرب منه، و لم يترقّوا عن درجة المحسوس فعبدوا النار إذ وجدوها بهذه الصفات فهؤلاء محجوبون بنور السلطنة و البهاء و كلّ ذلك‏ من‏ أنوار اللّه مع ظلمات حسّهم.
الرابعة: طائفة ترقّوا عن ذلك فرأوا أنّ النار تطفى و تقهر فلا تصلح للإلهيّة
فقالوا: بل ما يكون بهذه الصفات و لكن نكون نحن تحت تصرّفه و يكون مع ذلك موصوفا بالعلوّ.
و كان المشهور بينهم علم النجوم و إضافة التأثيرات إليها فعبدوا النجوم فمنهم عبدة المشترى و منهم عبدة الشعرى و غيرهم فهؤلاء محجوبون مع ظلمه الحسّ بنور الاستعلاء و الإشراف و هى من أنوار اللّه تعالى.
الخامسة: طائفة ترقّوا عن هؤلاء فقالوا: و إن وجب أن يكون الربّ بالصفات المذكورة إلّا أنّه ينبغي أن يكون أكبر الكواكب
فعبدوا الشمس فهؤلاء محجوبون مع ظلمة الحسّ بنور الكبرياء و العظمة مع بقيّة الأنوار.
السادسة: طائفة ترقّوا عن ذلك فقالوا: إنّ الشمس لا تتفرّد بالنور بل لغيرها أنوار
و الإله لا يجوز أن يكون له شريك في نورانيّته فعبدوا النور المطلق على كلّ نور، و زعموا أنّه إله العالم و الخيرات كلّها منسوبة إليه ثمّ رأوا في العالم شرورا فلم يستحسنوا إضافتها إلى ربّهم تنزيها له فجعلوا بينه و بين الظلمة منازعة و أحالوا العالم إلى النور و الظلمة و هؤلاء الثنويّة.

الصنف الثاني: المحجوبون ببعض الأنوار مقرونة بظلمة الخيال
و هم الّذين جاوزوا الحسّ و أثبتوا وراء المحسوس أمرا لكنّهم لم يهتدوا إلى مجاوزة الخيال فعبدوا موجودا قاعدا على العرش و أخسّهم رتبة المجسّمة ثمّ أصناف الكراميّة و أرفعهم درجة من نفى الجسميّة و جميع عوارضها إلّا الجهة فخصّصوه بجهة فوق، و هؤلاء لم يثبتوا موجودا غير محسوس و لا متخيّل حتّى ينزّهوه عن الجهة.

الصنف الثالث: المحجوبون بأنوار الإلهيّة مقرونة بمقايسات عقليّة فاسدة مظلمة
فعبدوا إلها سميعا بصيرا متكلّما عالما قادرا منزّها عن الجهات لكن فهموا هذه الصفات على حسب مناسبة صفاتهم، و ربّما صرّح بعضهم فقال: كلامه صوت مثل كلامنا.
و ربّما ترقّى بعضهم فقال: لا بل هو كحديث أنفسنا و لا صوت و لا حرف. و لذلك إذا حقّق القول عليهم رجعوا إلى التشبيه في المعنى و إن أنكروه لفظا إذ لم يدركوا كيفيّة إطلاق هذه الألفاظ في حقّ اللّه. فهؤلاء محجوبون بجمل من الأنوار مع ظلمات المقايسات العقليّة.

القسم الثالث: المحجوبون بمحض الأنوار،
و هم أصناف لا تحصى أيضا لكن نذكر منهم ثلاثة أصناف:
الأوّل: الّذين عرفوا معانى هذه الصفات و فرّقوا بين إطلاق أسمائها على اللّه تعالى و بين إطلاقها على البشر
فتحاشوا من تعريفه بهذه الصفات و عرّفوه بالإضافة إلى المخلوقات فقالوا: ربّنا ربّ السماوات و الأرض لن ندعو من دونه إلها و هو الربّ المنزّه عن هذا المفهوم الظاهر و هو محرّك السماوات و مدبّرها.
الصنف الثاني: الّذين عرفوا أنّ في السماوات ملائكة كثيرة
و أنّ محرّك كلّ سماء منها موجود آخر يسمّى ملكا، و أنّ هذه السماوات في ضمن فلك يتحرّك الجميع بحركته في اليوم و الليلة مرّة واحدة و الربّ تعالى هو المحرّك للفلك الأقصى منها المشتمل عليها.
الصنف الثالث: الّذين ترقّوا عن هؤلاء و قالوا: إنّ تحريك الأجسام الفلكيّة من الملائكة يكون خدمة لربّ العالمين و عبادة له
و يكون الربّ تعالى هو المحرّك للكلّ بطريق الأمر. فهؤلاء كلّهم محجوبون بأنوار محضة وقفت بهم عمّا وراءها. و وراء هؤلاء صنف رابع تجلّى لهم أنّ هذا المطاع موصوف بصفة الوحدة المطلقة و الكمال البالغ و كشفت عنهم حجب المقايسات و الاعتبارات إلى الغير و هم الواصلون. فمنهم من أحرق ذلك التجلّى في تلك الأنوار جميع ما أدركه بصره بالكلّيّة و بقى ملاحظا لرتبة الحقّ فيها فانمحقت فيه المبصرات دون المبصر، و منهم من تجاوز هؤلاء و هم خواصّ الخواصّ فأحرقتهم سبحات وجهه و غشيهم سلطان الجلال فانمحقوا و تلاشوا في أنفسهم فلم يبق لهم إليها التفات و ملاحظة لفنائهم عن أنفسهم و لم يبق إلّا الواحد الحقّ و هؤلاء هم الواصلون كما سبقت الإشارة إليه، و ينتهى الكلّ إلى حجاب الإمكان الّذى يهلك فيه كلّ موجود و لا يبقى إلّا وجه اللّه ذى الجلال و الإكرام.

إذا عرفت ذلك فنقول: السدد المضروبة و حجب الغيب الّتى أشار إليها هى درجات‏ الانتقالات في مفهومات صفات اللّه تعالى و مراتب عرفانه و معرفة ملائكته و مراتبهم و كمالاتهم و ساير حجب الأنوار الّتى حجب بها أهل القسم الثالث، و الراسخون الّذين أشار إليهم هم في ظاهر كلامه الواقفون في المرتبة الاولى و هم الّذين اقتصروا في صفات اللّه و ملائكته و عالم غيبه على ما وقفتهم الشريعة عليه على سبيل الجملة كما أوصل إلى أفهامهم الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم و عقلوا في وصفه تعالى بصفات الكمال و نعوت الجلال أنّه ليس على حدّ وصف البشر بها و رسخ في أذهانهم ما تصوّروه إجمالا لو فصّل لكان مطابقا. و من أعدّته العناية الإلهيّة لقبول التفصيل وصل إليه. و بقى هاهنا بحث لطيف و هو أنّه لمّا كان التكليف في نفس الأمر إنّما هو على قدر العقول و تفاوت مراتبها و لذلك قال صلى اللّه عليه و آله و سلّم بعثت لأكلّم الناس على قدر عقولهم. كان كلّ عقل قوى على رفع حجاب من حجب الغيب و قصر عمّا ورائه و اعترف به و بالعجز عنه فذلك تكليفه و هو من الراسخين فعلى هذا الرسوخ ليس مرتبة واحدة هى تقليد ظواهر الشريعة و اعتقاد حقيّتها فقط بل تقليدها مرتبة اولى من مراتب الرسوخ و ما ورائها مراتب غير متناهية بحسب مراتب السلوك و قوّة السالكين على رفع حجب الأنوار الّتى أشرنا إليها و كلامه عليه السّلام لا ينافي ما قلناه بل يصدق إذا نزّل عليه فإنّ قوله: و سمّى ترك التعمّق فيما لم يكلّفهم البحث عن كنهه رسوخا صادق أيضا على من قطع جملة من منازل السلوك و عجز عمّا ورائها فوقف ذهنه عن التعمّق فيه و البحث إذ لا يكلّف بما لا يفي به قوّته.

و قوله: فاقتصر على ذلك: أى على ما نطق به الكتاب العزيز و دلّت عليه السنّة النبويّة و أرشدت إليه أئمّة الهدى.
و قوله: و لا تقدّر عظمة اللّه تعالى على قدر عقلك فتكون من الهالكين.
و قوله: و لا تقدّر عظمة اللّه تعالى على قدر عقلك فتكون من الهالكين. فالمقدّر لعظمة اللّه بقدر عقله هو المعتقد أنّ عقله قدّره و أحاط به علما و هو تصغير لعظمة اللّه بحسب عقله الضعيف و عظمة اللّه تعالى أعظم و أجلّ من أن يضبطها عقل بشرى، و إنّما ينشأ ذلك الحكم لمن حصل له هو الوهم الحاكم بمثليّة اللّه تعالى لمدركاته من الأجسام و الجسمانيّات، و ذلك في الحقيقة كفر لاعتقاد غير الصانع صانعا و ضلال عن طريق معرفة اللّه و هو مستلزم للهلاك في تيه الجهل.

و اعلم أنّ في إحالته عليه السّلام لطالب المعرفة على الكتاب و السنّة و بيان الأئمّة دلالة على أنّ مقصوده ليس أن يقتصر على ظاهر الشريعة فقط بل يتّبع أنوار القرآن و السنّة و آثار أئمّة الهدى، و قد ورد في القرآن الكريم و السنّة و كلام الأئمّة من الإشارات و التنبيهات على منازل السلوك و وجوب الانتقال في درجاتها ما لا يحصى كثرة و نبّهوا على كلّ مقام أهله و أخفوه من غير أهله إذ كانوا أطبّاء النفوس و كما أنّ الطبيب يرى أنّ بعض الأدوية لبعض المرضى ترياق و شفاء و ذلك الدواء لشخص آخر سمّ و هلاك كذلك كتاب اللّه و الموضحون لمقاصده من الأنبياء و الأولياء يرون أنّ بعض الأسرار الإلهيّة شفاء لبعض الصدور فيلقونها إليهم و ربّما كانت تلك الأسرار بأعيانها لغير أهلها سببا لضلالهم و كفرهم إذا القيت إليهم. فإذن مقصوده عليه السّلام قصر كلّ عقل على ما هو الأولى به و ما يحتمله، و الجمع العظيم المخاطبون هم أصحاب الظاهر الّذين يجب قصرهم عليه. و اللّه أعلم.

و قوله: هو القادر الّذى إذا ارتمت. إلى آخره.
إشارة إلى اعتبارات اخر جمليّة في وصفه تعالى نبّه على أن غاية استقصاء العقول و تعمّقها و غوص فطنها طالبة لتفصيل صفات كماله و نعوت جلاله أن تقف خاسئة و ترجع حسيرة معترفة بالعجز و القصور، فقوله: إذا ارتمت إلى قوله: ردعها شرطيّة متّصلة في قوّة شرطيّات متعدّدة المقدّمات و تاليها واحد. فالمقدّم الأوّل قوله: إذا ارتمت الأوهام لتدرك منقطع قدرته و ارتماؤها استرسالها مجدّة في المطالعة و التفتيش و منقطع قدرته منتهاها، و المقدم الثاني قوله: و حاول الفكر المبرّء من خطرات وساوس الشيطان و شوائب الأوهام أن يقع عليه ليكيّف ذاته و يستثبتها بكلّ ما ينبغي لها من الكمالات في عميقات غيوب ملكوته: أى في أسرار عالم الغيب العميقة. و المقدّم الثالث قوله: و تولّهت القلوب: أى اشتدّ شوقها إليه لتجرى في كيفيّة صفاته. و المقدّم الرابع قوله: و غمضت مداخل العقول: أى وقت مواقع دخولها بحيث لا تبلغه الصفات: أى انتهت العقول إلى حدّ أنّها لا تعتبر مع ملاحظة ذات الحقّ صفة له بل يحذف كلّ خاطر و كلّ اعتبار من صفة و غيرها من ملاحظة قدسه لينال علم ذاته بالكنه، و قوله: ردعها. هو تالى هذه‏ الشرطيّات، و ردعها هو ردّها خاسئة حسيرة، و سبب ذلك في كلّ من هذه المدركات هو خلقها قاصرة عن إدراك ما يطلبه من هذه المطالب العظيمة: فالأوهام لقصورها عن إدراك ما ليس بمحسوس و لا متعلّقا بالمحسوس، و ردع الفكر أن يقع عليه و تولّه القلوب أن تجرى في كيفيّة صفاته فتحدّها و تحصرها لخلقها قاصرة عن الإحاطة بما لا نهاية له إذ كانت صفات الكمال و نعوت الجلال كذلك، و ردع العقول أن يحيط بكنه ذاته لخلقها قاصرة عن إدراك كنه ما ليس بذى حدّ و تركيب. فكان مستند ذلك الردع هو قدرته فلذلك قدّم على الشرطيّة اعتبار كونه قادرا فقال: هو القادر الّذى من شأنه كذا.

و قوله: و هى تجوب مهاوى سدف الغيوب متخلّصة إليه سبحانه.
الجملة في موضع الحال و العامل ردعها، و استعار لفظ السدف لظلمات الجهل بكلّ معنى غيبىّ من صفات جلاله و طبقات حجبه: أى ردعها عن تلك المطالب حال ما هى قاطعة لمهاوى تلك الظلمات، و وجه الاستعارة ما يشتركان فيه من عدم الاهتداء فيها.
و متخلّصة حال أيضا و العامل إمّا تجوب أوردعها. و تخلّصها إليه توجّهها بكليّتها في طلب إدراكه.

و قوله: فرجعت إذ جبهت. إلى قوله: عزّته.
  معترفة حال و العامل رجعت، و جور الاعتساف شدّة جولانها في تلك المنازل و ظاهر أنّ جور الاعتساف غير نافع في تحصيل ما لا يمكن، و اولو الرويّات أصحاب الفكر: إى رجعت معترفة بأمرين: أحدهما: أنّه لا ينال كنه معرفته، و الثاني: أنّ الفكر لا يقدر جلال عزّته: أى لا يحيط بكماله خبرا. و ظاهر أن صدق هذه الأحكام للنفس موقوف على ارتماء أفكارها في طلب هذه المعارف و عجزها عنها.

و قوله: الّذى ابتدع الخلق على غير مثال. إلى قوله: قبله.

 إشارة إلى أنّ الصنائع البشريّة إنّما تحصل بعد أن يرتسم في الخيال صورة المصنوع بل و كلّ فعل لا يصدر إلّا عن تصوّر وضعه و كيفيّته أوّلا، و تلك التصوّرات تارة تحصل عن أمثلة للمصنوع بل و مقادير له خارجيّة يشاهدها الصانع و يحذو حذوها، و تارة تحصل بمحض الإلهام و الاختراع كما يفاض على أذهان كثير من‏ الأذكياء صورة شكل لم يسبق إلى تصوّره فيتصوّره و يبرز صورته إلى الخارج، و كيفيّة صنع اللّه للعالم و جزئيّاته منزّهة عن الوقوع على أحد هذين الوجهين: أمّا الأوّل فلأنّا بيّنا أنّه لا قبل له فلا قبل لمصنوعاته فلا مثال امتثله: أى عمل مثله، و لا مقدار احتذى حذوه. و أمّا الثاني و إن سمّى الفاعل على وفقه مخترعا لكن التحقيق يشهد بأنّه إنّما فعل على وفق ما حصل في ذهنه من الشكل و الهيئة و هما مستفادان من الصانع الأوّل جلّت عظمته فكان في الحقيقة فاعلا على غير مثال سابق محتذيا لمقدار غيره، و علم الأوّل سبحانه ليس على النحو المذكور من حصول صورة مساوية للمعلوم في ذاته كما تحقّقته من قبل فإذن فعله بمحض الإبداع و الاختراع على أبعد ما يكون عن حدّ و مثال.

و قوله: و أرانا من ملكوت قدرته. إلى قوله: معرفته.
 ملكوت قدرته ملكها و إنّما نسبه إلى القدرة لأنّ اعتبارها مبدء الوجود كلّه فهى مبدء المالكيّة، و آثار حكمته ما صدر عنها من الأفعال و الأحكام و انقياد كلّ ناقص إلى كماله، و استعار لفظ النطق للسان حال آثاره تعالى المفصحة عن كمال الحكمة المعجبة بتمام النظام و حسن الترتيب، و وجه المشابهة ما اشترك فيه النطق و حال مصنوعاته من ذلك الإفصاح و البيان، و اعتراف عطف على عجائب، و إلى أن متعلّق بالحاجة، و ما في قوله: و ما دلّنا هى المفعول الثاني لأرانا: أى و أرانا من اعتراف الخلق لحاجتهم إلى أن يقيمهم في الوجود بمساك قدرته الّتى تمسك السماوات و الأرض أن تزولا ما دلّنا باضطرار قيام الحجّة له على معرفته، و قوله: على معرفته متعلّق بدلّنا: أى ما دلّنا على معرفته فلزمت قيام الحجّة له بالضرورة.

و قوله: و ظهرت في البدائع. إلى قوله: قائمة.
استعار لفظ الأعلام لما يدلّ على حكمة الصانع في فعله من الإتقان و الإحكام.
و اعلم أنّ كلّ ما ظهرت فيه آثار حكمة اللّه فهو ناطق بربوبيّته و كمال الوهيّته فبعض ناطق. بلسان حاله و مقاله كالإنسان، و بعض بلسان حاله فقط إذ لا عقل له و لا لسان كالجماد و النبات، و الضمير المضاف إليه في قوله: فحجّته يحتمل عوده إلى اللّه، و يحتمل أن يعود إلى الخلق الصامت. و قد علمت أنّ السالكين في سماع هذا النطق من آثار اللّه و مشاهدته‏ في مصنوعاته على درجات و منازل متفاوتة كما أشرنا إليه غير مرّة.

و قوله: و أشهد أنّ من شبّهك. إلى قوله: بربّ العالمين.
 التفات إلى خطاب اللّه تعالى على طريق قوله مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ و المشبّه به في الحقيقة هو الخلق و إنّما جعل المشبّه به هو تباين أعضائهم و تلاحم حقاق مفاصلهم لأنّه في معرض ذمّ المشبّهة و التنبيه على وجوه أغلاطهم و تباين الأعضاء و تلاحمها من لوازم المشبّه به و هما مستلزمان للتركيب و اجتماع المفردات المستلزم لظهور الحاجة إلى المركّب و الجامع و يمتنع على محلّ يظهر حاجته أن يتشبّه به الصانع المطلق البرى‏ء عن الحاجة بوجه ما فقدّمهما لجريانهما مجرى الأوسط في لزوم التركيب للمشبّه به فيظهر تنزيه الإله عن التشبّه به و إن كان التقدير من شبّهك بخلقك في أعضائهم المتباينة المتلاحمة.
و الّذى يقال من وجه الحكمة في احتجاب المفاصل هو أنّها لو خلقت ظاهرة عريّة عن الأغشية ليبست رباطاتها و قست فيتعذّر تصرّف الحيوان بها كما هو الآن و أنّها كانت معرضة للآفات المفسده لها و غير ذلك من خفىّ تدبيره و لطيف حكمته و قد شهد عليه السّلام على المشبّه للّه بخلقه بأمرين: أحدهما: أنّه لم يعرفه، و الثاني: أنّه لم يتيقّن تنزيهه عن المثل. و القرآن و البرهان مصدّقان لشهادته في الموضعين: أمّا القرآن فما نبّه عليه بقوله: و كأنّه لم يسمع تبرّؤ التابعين المتبوعين إذ يقولون الآية، و وجه الاستدلال على المطلوب الأوّل أنّ المشبّهة و عبدة الأصنام ينكشف لهم في الآخرة أنّهم كانوا ضالّين فى تشبيه أصنامهم بربّ العالمين فيترتّب دليل هكذا: المشبّهه ضالّون من جهة تشبيههم اللّه بخلقه و كلّ من كان كذلك فليس بعارف باللّه و المقدّمة الاولى ثابتة بمنطوق الآية، و أمّا الثانية فلأنّه لو كان المشبّه له عارفا به مع تشبيهه له بخلقه لما كان في ضلال مبين من تلك الجهة لكنّه في ضلال مبين من تلك الجهة فإذن هو ليس بعارف له. و أمّا البرهان فلأنّ اللّه سبحانه لمّا تقدّس عن أن يشبه خلقا في شي‏ء كان المشبّه له بخلقة و المكيّف له بكيفيّة يحويها وهمه غير عارف به بل متصوّر لأمر آخر هو في الحقيقة غير الإله، و أمّا صدقه في القضيّة الثانية فلأنّ المشبّه للّه ضالّ من جهة ما هو مشبّه له و كلّ من كان كذلك فليس بمنزّه له عن الندّ و المثل، و صدق الاولى ظاهر من الآية، و أمّا الثانية فلأنّه لو كان منزّها له عن الندّ بكونه مشبّها له لما كان ضالّا من تلك الجهة لكنّه ضالّ منها فليس بمنزّه له عنه، و أمّا البرهان العقلىّ فلأنّ الندّ و المثل هو الشبيه و كلامنا في المشبّه و في الآية تنفير عن مذهب التشبيه بذكر تبرّؤ التابعين ممّن اتّبعوه و شبّهوا به خالقهم، و ندامتهم على تفريطهم في ذلك، و حسرتهم على الرجعى لتدارك الأعمال و الاعتقادات الصالحة، و اعترافهم بأنّهم كانوا بتشبيههم في ضلال مبين.

و قوله: كذب العادلون. إلى قوله: عقولهم.
 تكذيب للعادلين به و أشار إلى تفصيل جهات كونهم عادلين و إلى سبب ذلك و هو الوهم، و قد علمت أنّ منشأ التشبيه هو الوهم إذ كان حكمه لا يترفّع [يرتفع خ‏] عن المحسوسات و ما يتعلّق بها فإنّ حكمه في المجرّدات بحكم قدرها محسوسة ذات أحجام و ألحقها أحكام المحسوس و لذلك لم يترفّع المشبّهة للّه عن تشبيهه بالأصنام و أشخاص الأجسام كصورة الإنسان و أعضائه و كذلك غير عبدة الأوثان من ساير فرق المشبّهة حتّى كانت غاية تنزيه من نزّهه منهم أن توهّمه في جهة فوق و قد علمت أنّ الجهة و الكون من عوارض الأجسام المخلوقة فكانوا عن‏  آخرهم قد تحلّوه حلية المخلوقين و صفاتهم بأوهامهم الفاسدة. فمنهم من أثبت له أعضاء من يدو ساق و عين و وجه و ساير ما ورد في القرآن الكريم و السنّة النبويّة حملا على ظاهرها، و منهم من تجاسر على وصف هيئته فقال: إنّه مجوّف الأعلى عصمت الأسفل و إنّه قطط الشعر إلى غير ذلك من هذياناتهم و كفرهم تعالى اللّه عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا- و تجزيته بخواطرهم تجزية المجسّمات و هى إثباتهم الأعضاء المذكورة و ذلك عن تقديرهم له على الخلقة المختلفة القوى بقرائح عقولهم الجامدة متابعة لأوهامهم الفاسدة و تقليد من سلف من آبائهم فإنّ الأعضاء إنّما تتولّد و تكمل بواسطة قوى طبيعيّة و نباتيّة و حيوانيّة و غيرها و هى قوى مختلفة بحقائقها و متضادّة في أفعالها محتاجه إلى الجامع و المركّب مؤذنة بالإمكان الّذى تنزّه قدس الصانع أن يتطرّق إليه بوجه.

و قوله: و أشهد أنّ من ساواك بشى‏ء من خلقك. إلى قوله: بيّناتك.
 شهادة ثانية على من شبّهه و جعل له مثلا بالكفر و إشارة إلى برهانها بقياس من‏ الشكل الأوّل أسند بيان كبراه إلى كتاب اللّه و نصوص آياته المحكمة، و بيّناته: الأنبياء.
و شواهد حججهم: هى تلك الآيات: أى حججهم الشاهدة هى كقوله تعالى قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً«» و قوله قُلْ أَيُّ شَيْ‏ءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ»«» و الإشراك كفر و نحو ذلك. و أمّا المقدّمة الاولى فلأنّ الشبيه هو المثل و العديل و قد علمت أنّ البرهان العقلىّ ممّا يشهد بصدق هذه الشهادة فإنّ المشبّه للّه بخلقه مع براءته عن شبهيّة الغير إذا اعتقد أنّ ذلك الّذى يشير إليه بوهمه هو صانع العالم فقد اعتقد غير الصانع صانعا و ذلك عين الكفر و الضلال.

و قوله: و إنّك أنت اللّه الّذى لم تتناه في العقول. إلى قوله: مصرّفا.
 شهادة ثالثة هى خلاصة الشهادتين الاوليين بتنزيهه عن تناهيه في العقول البشريّة و أفكارها: أى إحاطتها بحقيقته و ما له من صفات الكمال و نعوت الجلال بحيث لا يكون وراء ما أدركته شي‏ء آخر و تنبيه في هذه الشهادة على ما يلزم ذلك التناهى من كونه ذا كيفيّة تكيّفها له القوى المتخيّلة لتستثبته بها العقول، و مهابّ الفكر جهاتها. فيلزم من ذلك كونه محدودا إذ كانت الحقائق إنّما تدرك بكنهها من حدودها.

و قوله: و مصرّفا
 أى محكوما في ذاته بالتجزية و التحليل و التركيب إذ كان من شأن المحدود ذلك، و لمّا كانت هذه اللوازم باطلة لبرائته عن الكيفيّة و الأجزاء و التركيب كان ملزومها و هو التناهى في العقول باطلا.


الفصل الثالث:

و منها- قَدَّرَ مَا خَلَقَ فَأَحْكَمَ تَقْدِيرَهُ وَ دَبَّرَهُ فَأَلْطَفَ تَدْبِيرَهُ- وَ وَجَّهَهُ لِوِجْهَتِهِ فَلَمْ يَتَعَدَّ حُدُودَ مَنْزِلَتِهِ- وَ لَمْ يَقْصُرْ دُونَ الِانْتِهَاءِ إِلَى غَايَتِهِ- وَ لَمْ يَسْتَصْعِبْ إِذْ أُمِرَ بِالْمُضِيِّ عَلَى إِرَادَتِهِ- فَكَيْفَ وَ إِنَّمَا صَدَرَتِ الْأُمُورُ عَنْ مَشِيئَتِهِ- الْمُنْشِئُ أَصْنَافَ الْأَشْيَاءِ بِلَا رَوِيَّةِ فِكْرٍ آلَ إِلَيْهَا- وَ لَا قَرِيحَةِ غَرِيزَةٍ أَضْمَرَ عَلَيْهَا- وَ لَا تَجْرِبَةٍ أَفَادَهَا مِنْ حَوَادِثِ الدُّهُورِ- وَ لَا شَرِيكٍ أَعَانَهُ عَلَى ابْتِدَاعِ عَجَائِبِ الْأُمُورِ- فَتَمَّ خَلْقُهُ بِأَمْرِهِ وَ أَذْعَنَ لِطَاعَتِهِ وَ أَجَابَ إِلَى دَعْوَتِهِ- لَمْ يَعْتَرِضْ دُونَهُ رَيْثُ الْمُبْطِئِ وَ لَا أَنَاةُ الْمُتَلَكِّئِ- فَأَقَامَ مِنَ الْأَشْيَاءِ أَوَدَهَا وَ نَهَجَ حُدُودَهَا- وَ لَاءَمَ بِقُدْرَتِهِ بَيْنَ مُتَضَادِّهَا- وَ وَصَلَ أَسْبَابَ قَرَائِنِهَا وَ فَرَّقَهَا أَجْنَاساً- مُخْتَلِفَاتٍ فِي الْحُدُودِ وَ الْأَقْدَارِ وَ الْغَرَائِزِ وَ الْهَيْئَاتِ- بَدَايَا خَلَائِقَ أَحْكَمَ صُنْعَهَا وَ فَطَرَهَا عَلَى مَا أَرَادَ وَ ابْتَدَعَهَا

اللغة

أقول: آل: رجع. و أذعن: خضع و ذلّ. و الريث: البطؤ و كذلك الأناة. و المتلكّى التباطؤ عن الأمر و التوقّف فيه. و الأود: الاعوجاج، و بدايا: جمع بدية و هى الخلقة العجيبة.

المعنى

فقوله: قدّر ما خلق فأحكم تقديره.
 إشارة إلى أنّ كلّ مصنوع قدرّة في الوجود فعلى وفق حكمته بحيث لو زاد على ذلك المقدار أو نقص منه لاختلّت مصلحة ذلك المقدّر و تغيّرت منفعته.

و قوله: و دبّره فألطف تدبيره
 إيجاده على وفق المصلحة و لطفه في ذلك تصرّفه في جميع الذوات و الصفات تصرّفات كلّيّة و جزئيّة من غير شعور غيره بذلك.

و قوله: و وجّهه لوجهته. إلى قوله: إلى غايته
 أى ألهم كلّا و يسّره لما خلق له و لما كتب له في اللوح فلم يتجاوز مرسوم تلك المنزلة المعلومة له: أى لم يعبرها و لم يقصر دونها و إلّا لزم التغيّر في علمه سبحانه و إنّه محال.

و قوله: و لم يستعصب إذ امر بالمضىّ على إرادته
 أى لمّا أمر المخلوق بالتوجّه إلى وجهه على وفق إرادة اللّه و ساقت الحكمة الإلهيّة كلّا إلى غايته لم يمكن تخلّفه‏ و استصعابه عن ذلك الأمر، و أمره له إشارة إلى توجيه أسبابه بحسب القضاء الإلهىّ عليه بذلك.

و قوله: و كيف و إنّما صدرت الامور عن مشيئته
 أى و كيف يستعصب. ثمّ أشار إلى علّة عدم استصعابه و سرعة طوعه و انقياده بذكر علّته و هو استناد جميع الآثار إلى مشيئته. إذ كلّ أثر فهو واجب عن مؤثّره و الكلّ منته في سلسلة الحاجة إلى إرادته واجب عنها و قد علم ذلك في العلم الإلهىّ.

و قوله: المنشى‏ء أصناف الأشياء. إلى قوله: عجائب الامور.
 قد سبق في الخطبة الاولى بيان أنّ الرويّة و الفكر و التجربة ممّا يلحق الإنسان و يخصّه و أنّ البارى سبحانه منزّه عن شي‏ء منها في كيفيّة إبداعه لخلقه، و أمّا الشريك فمنزّه عنه ببرهان الوحدانيّة كما سبقت الإشارة إليه أيضا. و قريحة الغريزة قوّة الفكر للعقل.

و قوله: فأتمّ [فتمّ خ‏] خلقه و أذعن لطاعته و أجاب إلى دعوته.
تمام مخلوقاته من جهة جوده بإفادتها ما ينبغي لها فإن عرض لشي‏ء منها فوت كمال فلعدم استعداده و قبوله لذلك و إذعانه ذلّته في رقّ الحاجة و الإمكان و تصريف القدرة و إجابته إلى دعوته كونه في الوجود عن قوله: لكِنْ.

و قوله: و لم يعترض دونه ريث المبطئ و لا أناة المتلكّى‏ء.
 تنزيه لفعله تعالى و أمره أن يعرض في طاعة الأشياء له شي‏ء من هذه الكيفيّات إذ كلّ شي‏ء في قهره و على غايه من السرعة إلى إجابة أمره و لما كان تعالى إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، و في قوله كن هبة ما ينبغي لذلك المأمور و ما يعدّه لإجابة أمره بالكون في الوجود و يجب عنه فكيف يمكن أن يعرض له في إجابة الأمر بطوء أو تلكّى‏ء بل يكون كلمح البصر كما قال تعالى وَ ما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ و يحتمل أن يكون ذلك تنزيها له تعالى أن يعرض له من جهة ما هو فاعل شي‏ء من هذه الكيفيّات فإنّ البطؤ و الأناة و التلكّى‏ء من عوارض الحركة الّتى هى من عوارض الجسم، و اعتراضها فيمن يفعل بالآلة و تشتدّ حركته و تضعف، و قد علمت تنزيه اللّه تعالى عن‏ جميع ذلك.

و قوله: فأقام من الأشياء أودها. إلى قوله: و الهيئات.
 إقامته لأودها رفعه لاعوجاج كلّ شي‏ء بإعداده لما ينبغي له و إفاضة كماله، و نهجه لجددها أو لحدودها على الروايتين هو ايضاحه لكلّ شي‏ء و جهته و غايته الّتى تيسّرها له، و ملائمته بين متضادّها كجمعه العناصر الأربعة على تضادّ كيفيّاتها في مزاج واحد و قد سبق بيانه، و وصله لأسباب قرائنها إشارة إلى أنّ الموجودات لا تنفكّ عن أشياء تقترن بها من هيئة أو شكل أو غريزة و نحوها و اقتران الشيئين لا محالة مستلزم لاقتران أسبابهما و اتّصالهما لاستحالة قيام الموجود بدون أسبابه، و ذلك الوصل مستند إلى كمال قدرته إذ هو مسبّب الأسباب. و قال بعض الشارحين: أراد بالقرائن النفوس. و على هذا يحتمل أن يكون معنى وصله لأسبابها هدايتها إلى عبادته و ما هو الأولى بها في معاشها و معادها و سوقها إلى ذلك إذ المفهوم من قول القائل: وصل الملك أسباب فلان. إذا علّقه عليه و وصله إلى برّه و إنعامه، و الأوّل أظهر.

و قوله. و فرّقها أجناسا مختلفات في الحدود و الأقدار و الغرائز و الهيئات.

لا يريد بالأجناس و الحدود ما اصطلح عليه قوم في عرفهم بل ما اختلف بالامور المذكورة كلّها أو بعضها فهو مختلف الجنس لغة، و حدّ الشي‏ء منتهاه و ما يحيط به، و الأقدار المقادير و الأشكال أيضا، و الغرائز القوى النفسانيّة و الأخلاق و الهيئات و الصفات. و إن حملنا الحدود على ما هو المتعارف كان حسنا فإنّ حكمة الخالق سبحانه اقتضت تميّز بعض الموجودات عن غيرها بحدودها و حقايقها و بعضها بأشكالها و هيئاتها و مقاديرها و غرائزها و أخلاقها كما يقتضيه نظام الوجود و أحكام الصنع و حكم الإرادة الإلهيّة.

و قوله: بدا يا خلايق أحكم صنعها و فطرها على ما أراد و ابتدعها.
أى هى بدايا: أى عجائب مخلوقات أحكم صنعها على وفق إرادته. و باللّه التوفيق.

الفصل الرابع منها فى صفة السماء:

وَ نَظَمَ بِلَا تَعْلِيقٍ رَهَوَاتِ فُرَجِهَا- وَ لَاحَمَ صُدُوعَ انْفِرَاجِهَا وَ وَشَّجَ بَيْنَهَا وَ بَيْنَ أَزْوَاجِهَا- وَ ذَلَّلَ لِلْهَابِطِينَ بِأَمْرِهِ- وَ الصَّاعِدِينَ بِأَعْمَالِ خَلْقِهِ حُزُونَةَ مِعْرَاجِهَا- وَ نَادَاهَا بَعْدَ إِذْ هِيَ دُخَانٌ فَالْتَحَمَتْ عُرَى أَشْرَاجِهَا- وَ فَتَقَ بَعْدَ الِارْتِتَاقِ صَوَامِتَ أَبْوَابِهَا- وَ أَقَامَ رَصَداً مِنَ الشُّهُبِ الثَّوَاقِبِ عَلَى نِقَابِهَا- وَ أَمْسَكَهَا مِنْ أَنْ تُمُورَ فِي خَرْقِ الْهَوَاءِ بِأَيْدِهِ- وَ أَمَرَهَا أَنْ تَقِفَ مُسْتَسْلِمَةً لِأَمْرِهِ- وَ جَعَلَ شَمْسَهَا آيَةً مُبْصِرَةً لِنَهَارِهَا- وَ قَمَرَهَا آيَةً مَمْحُوَّةً مِنْ لَيْلِهَا- وَ أَجْرَاهُمَا فِي مَنَاقِلِ مَجْرَاهُمَا- وَ قَدَّرَ سَيْرَهُمَا فِي مَدَارِجِ دَرَجِهِمَا- لِيُمَيِّزَ بَيْنَ اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ بِهِمَا- وَ لِيُعْلَمَ عَدَدُ السِّنِينَ وَ الْحِسَابُ بِمَقَادِيرِهِمَا- ثُمَّ عَلَّقَ فِي جَوِّهَا فَلَكَهَا وَ نَاطَ بِهَا زِينَتَهَا- مِنْ خَفِيَّاتِ دَرَارِيِّهَا وَ مَصَابِيحِ كَوَاكِبِهَا- وَ رَمَى مُسْتَرِقِي السَّمْعِ بِثَوَاقِبِ شُهُبِهَا- وَ أَجْرَاهَا عَلَى أَذْلَالِ تَسْخِيرِهَا مِنْ ثَبَاتِ ثَابِتِهَا- وَ مَسِيرِ سَائِرِهَا وَ هُبُوطِهَا وَ صُعُودِهَا وَ نُحُوسِهَا وَ سُعُودِهَا

اللغة

أقول: الرهوات: جمع رهوة و هى الفرجة المتّسعة. و أيده: قوّته، و بايدة: هالكة. و مار: تتحرّك. و ناط: علق و الصدوع: الشقوق. و وشّج بالتشديد: أي شبّك. و الحزونة: الصعوبة. و الأشراج: جمع شرج بالفتح و هى عرى العيبة الّتى تخاط بها و تنقل و يطلق أيضا على حروفها الّتى تخاط. و الارتتاق: الالتصاق و النقاب: جمع نقب بفتح النون و هو الطريق في الجبل. و الدرارى: الكواكب المضيئه.

و هذا الفصل يشتمل على كيفيّة خلق السماء

فقوله: و نظم بلا تعليق. إلى قوله: انفراجها
 انفراجها يقتضى بظاهره أنّ السماء كانت ذات فرج و صدوع، و هذا على رأى المتكلّمين ظاهر فإنّ الأجسام لمّا كانت عندهم مركّبة من الأجزاء الّتى لا تتجزّى‏ء كانت قبل تأليفها ذات فرج و صدوع، و أمّا على رأى غيرهم فقالوا: يحتمل أمرين: أحدهما: أنّه لمّا كانت السماوات مركّبة من أجزاء و كانت بين أجزاء كلّ مركّب مباينة لولا المركّب و المؤلّف استعار عليه السّلام لفظ الرهوات و الفرج لما يتصوّر من المباينة بين أجزاء السماء عند قطع النظر عن صانعها و مركّبها سبحانه، و نظامه لرهوات فرجها إفاضته لصورها على قوابلها حتّى تمّت مركّبا منتظما متلاحم الصدوع و الفرج، و الثاني: يحتمل أن يشير بالفرج إلى ما بين أطباق السماوات من التباين، و نظمه لرهواتها و ملاحمة صدوعها خلقها اكرا متماسّة لا خلاء بينها، و نبّه على كمال قدرة اللّه تعالى بقوله: بلا تعليق. فإنّ الأوهام حاكمة بأنّ السماء واقفة في خلاء كما يقف الحجر في الهواء و ذلك منشأ حيرتها و تعجّبها فحرّكها بذلك القول إلى التعجّب و الاستعظام.

و قوله: و وشّج بينها و بين أزواجها.
 أراد بأزواجها نفوسها الّتى هى الملائكة السماويّة بمعنى قرائنها و كلّ قرين زوج: أى ربط ما بينها و بين نفوسها بقبول كلّ جرم سماوىّ لنفسه الّتى لا يقبلها غيره.

و قوله: و ذلّل للهابطين بأمره. إلى قوله: انفراجها.
 قد سبقت الإشارة إلى أنّ الملائكة ليست أجساما كساير الحيوان فإذن ليس هبوطها و صعودها الهبوط و الصعود المحسوسين و إلّا لكان البارى- جلّ قدسه عن أوهام المتوهّمين- في جهة إليه يصعد و عنه ينزل فإذن هو استعارة لفظ النزول من الجهة المحسوسة إلى أسفل لنزول العقول من سماء الجود الإلهىّ إلى أراضى الموادّ القابلة للإفاضات العالية، و بذلك المعنى يكون هبوط الملائكة عبارة عن إيصالها إلى كلّ ما دونها كماله متوسّطة بينه و بين مبدعه و موجده و هم المرسلون من الملائكة بالوحى و غيره و كذلك الصاعدون بأعمال الخلق هم الملائكة أيضا، و أمّا معنى الصعود بها فيعود إلى كونها منقوشة في ذوات الصاعدين بها، و قد لاح فيما سبق أنّ علمه تعالى بمعلولاته البعيدة كالزمانيّات و المعدومات الّتى من شأنها أن توجد في وقت و تتعلّق بزمان يكون بارتسام صورها المعقولة في تلك الألواح، و هو أيضا مستعار كلفظ الهبوط للمعنى الّذى ذكرناه من أراضى النفوس إلى الألواح المحفوظة. فأمّا الانفراج الّذى ذلّل حزونته لهم و سهل عليهم سلوكه فيعود إلى عدم حجبها و منعها لنفوذ علوم الملائكة بأعمال الخلايق و ما يحرى في هذا العالم و كما أنّ الجسم المتصدّع لا يمنع نفوذ جسم آخر فيه من حيث هو متصدّع و الوصول إلى ما رواءه كذلك السماء لا تحجب علوم الملائكة أن تتعلّق بما في هذا العالم من الموجودات فجرت مجرى المنفرح من الأجسام فاطلق عليه لفظ الانفراج و تذليله لحزونة ذلك الانفراج لهم هو كونها غير مانعة بوجه ما لجريان علوم الملائكة المقرّبين في هذا العالم.

و قوله: و ناداها بعد إذ هى دخان فالتحمت عرى أشراجها و افتتق بعد الارتتاق صوامت أبوابها.
 فيه احتمالان: الأوّل: أنّك قد علمت ممّا سبق ما معنى كون السماء من دخان فأمّا نداؤه لها فإشارة إلى أمره لها بالإتيان و الكون في قوله تعالى فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ«» و أمّا التحامها فاعتبار تركيبها بانضمام جزئها الصورىّ إلى جزئها القابل كما يلتحم طرفا العيبة بتشريج عراها، و افتتاق صوامت أبوابها بعد ذلك الارتتاق هو جعلها أسبابا لنزول رحمته و مدبّرات تنزل بواسطة حركاتها على هذا العالم أنواع رحمة اللّه فكانت حركاتها تشبه الأبواب إذ هى أبواب رحمته و مفاتيح جوده. الثاني: أنّ العرب تقول لكلّ ما علاك: فهو سماؤك. فعلى هذا يحتمل أن يكون المراد بالسماء ما هو أعمّ من السماء المعهودة، و يكون قوله: و ناداها إشارة إلى سماء السحاب و كونها دخانا هو كونها بخارا قبل الانعقاد يشبه الدخان فاستعير له لفظه و التحام عرى أشراجها إشارة إلى التحام تلك الأجزاء البخاريّة و انعقادها سحابا و افتتاق صوامت أبوابها هو إنزال المطر منها كما. قال تعالى: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ«».

و قوله: و أقام رصدا من الشهب الثواقب على نقابها.
 له معنيان: أحدهما: أن يكون استعار لفظ النقاب لكونها بحيث لا يمنع تعلّق العلوم بما ورائها من الأجسام و المجرّدات، و قد سبق معنى الشهب و إقامتها رصدا. الثاني: أن‏ يكون استعار لفظ الرصد لهذه الشهب المحسوسة و رشّح بذكر النقاب إذ شأن الرصد و الحرسة حفظ الفرج و الأبواب، و يكون سرّ ذلك و وجه الحكمة فيه أنّ العرب كانت تعتقد أنّ الشياطين تصعد إلى السماء فتسترق الغيب من الملائكة ثمّ تلقيه إلى الكهنة و السحرة و نحوهم فلمّا آن دور الستر و النهى عن التكهّن و نحوه لما بيّنا فيه من فساد أذهان الخلق و صرف قلوبهم عن غرض الشريعة ألقى الوحى إليهم أنّ هذه الشهب الّتى تنقضّ إنّما جعلت رجوما للشياطين مسترقى السمع كلّ من استمع منهم رمى بشهاب منها و حجبت السماوات عنهم فلا يصلون إليها لينغرس في أذهان الخلق انقطاع مادّة الكهانة و نحوها فنسبوا اعتقادهم فيه فيكون ذلك كسرا لأوهامهم الّتى بيّنا أنّها شياطين النفوس و قمعا لها. و باللّه التوفيق.

و قوله: و أمسكها من أن تمور في خرق الهواء بأيده و أمرها أن تقف مستسلمة لأمره.
أى حفظها عن أن تحرّكها الريح المخترعة فيها مجيئا و ذهابا و حكمت الحكمة الإلهيّة عليها بالاستقرار انقيادا لقهره، و الأمر الأوّل إشارة إلى حكم القضاء، و الأمر الثاني إشارة إلى اعتبار القدرة.

و قوله: و جعل شمسها آية مبصرة لنهارها و قمرها آية ممحوّة من ليلها.

كقوله تعالى وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً«» و كونهما آيتين: أى لدلالتهما على كمال قدرته، و نقل عن أئمّة التفسير في إبصار آية النهار و محو آية الليل وجوه: أحدها: أنّ إبصار آية النهار هو بقاء الشمس بحالها و تمام ضيائها في كلّ حال، و محو آية الليل هو اختلاف أحوال القمر في إشراقه و محاقه بحيث لا يبقى ليلتين على حالة واحدة بل كلّ ليلة في منزل بزيادة أو نقصان. الثاني: ما نقل أن ابن الكوّاء سئل عليّا عليه السّلام عن اللطخة الّتى في وجه القمر فقال: ذلك محو آية الليل. الثالث: عن ابن كثير: أنّ الآيتين هما ظلمة الليل و ضياء النهار، و التقدير و جعلنا الليل و النهار ذوى آيتين فقوله: فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ: أى لم نجعل للقمر نورا من ذاته بل من ضوء الشمس، و إبصار آية النهار كون الشمس مضيئة بذاتها و من هنا لابتداء الغاية أو لبيان الجنس متعلّق بممحوّة أو بجعل، و قيل: أراد من آيات ليلها.

و قوله: فأجراهما في مناقل مجراهما و قدّر سيرهما في مدارج درجهما.
 الّتى قدّر سيرهما فينا هى بروجهما و منازلهما. و لنشر إلى مفهومات الدرج و البروج و المنازل و هو أنّ الناس قسموا دور الفلك الّذى يسير منه الكواكب باثنى عشر قسما و سمّوا كلّ قسم برجا و قسّموا كلّ برح قسما و سمّوا كلّ قسم درجة و سمّوا تلك البروج أسماء: الحمل الثور الجوزاء السرطان الأسد السنبلة الميزان العقرب القوس الجدى الدلو الحوت.
و الشمس تسير كلّ برج منها في شهر واحد، و القمر يسير كلّ برج منها في أزيد من يومين و نقص من ثلاثة أيّام، و أمّا منازل القمر فثمانية و عشرون و أسماؤها: الشرطين البطين الثريّا الدبران الهقعة الهنعة الذراع النثرة الطرفة الجبهة الزبرة الصرفة العوا. السماك الغفر الزبانا الاكليل القلب الشولة النعايم البلدة سعد الذابح سعد بلع سعد السعود سعد الأخبية الفرغ المقدّم الفرغ المؤخّر الرشاء.
و القمر يكون كلّ يوم في منزل منها وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ… ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.

و قوله: ليميّز بين الليل و النهار. إلى قوله: بمقاديرهما.
 أى بمقادير سيرهما، و قد سبق بيانه في الخطبة الاولى.

و قوله: ثم علّق في جوّها فلكها.
 لمّا أشار أوّلا إلى تركيبها أشار إلى إقرارها في أحيازها و هو المشار إليه بتعليق فلكها في جوّها.
فإن قلت: فقد قال أوّلا: بلا تعليق ثمّ قال هاهنا: و علّق. فما وجه الجمع.قلت: التعليق أمر إضافيّ يصدق سلبه و إثباته باعتبارين: فالمراد بالأوّل أنّها غير معلّقة بجسم آخر فوقها، و بالثانى أنّه علّقها في جوّها بقدرته. و لا منافاة، و أراد بالفلك اسم الجنس و هو أجسامها المستديرة الّتى يصدق عليها هذا الاسم.

و قوله: و ناط بها زينتها من خفيّات دراريها و مصابيح كواكبها.
 كقوله تعالى وَ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ«» و رمى مسترقى السمع بثواقب شهبها كقوله تعالى فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ و قد تقدّم بيانه، و إنّما أعاد ذكر الشهب لأنّه ذكر أوّلا أنّه أقامها رصدا و ذكر هنا أنّه جعلها رصدا له: أى لرقى مسترقى السمع بها.

و قوله: و أجراها على إذلال تسخيرها.
 كقوله تعالى وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ«» و الذلّة: ذلّة الإمكان و الحاجة إلى الإيجاد و التدبير. و أمّا الثابت و السائر منها فالساير: هى الكواكب السبعة: زحل و المشترى و المرّيخ و الشمس و الزهرة و عطارد و القمر.
و يسمّى الشمس و القمر بالنيّرين و الخمسة الباقية بالمتحيّرة لأنّ لكلّ واحد منها استقامة ثمّ وقوفا ثمّ رجوعا ثم وقوفا ثانيا ثمّ عودا إلى الاستقامة، و ليس للنيّرين غير الاستقامة. و باقى الكواكب الّتى على السماء غير هذه السبعة تسمّى بالثوابت و فلكها الثامن و كلّ واحد من السبعة يتحرّك حركة مخصوصة يخالف حركة الآخر. فأمّا صعودها و هبوطها: فصعودها طلبها لشرفها و شرف الشمس في الدرجة التاسعة عشر من الحمل، و شرف القمر في الدرجة الثالثة من الثور، و شرف زحل في الحادية و العشرين من الميزان، و شرف المشترى في الخامسة عشر من السرطان، و شرف المرّيخ في الثامنة و العشرين من الجدى، و شرف الزهرة في السابعة و العشرين من الحوت، و شرف عطارد في الخامسة و العشرين من السنبلة، و شرف الرأس في الثالثة من الجوزا، و شرف الذنب في الثالثة من القوس، و برج الشرف كلّه شرف إلّا أنّ تلك الدرجات قويّة فما دام الكواكب متوجّها إلى قوّة الشرف فهو في الازدياد و الصعود فإذا جاز صار في الانتقاص و الهبوط. و هبوط كلّ كوكب يقابل شرفه و صعوده، و أمّا نحوسها و سعودها فقالوا: زحل و المرّيخ نحسان أكبرهما زحل، و المشترى و الزهرة سعدان أكبرهما المشترى، و عطارد سعد مع السعود و نحس مع النحوس، و النيّران سعدان من التثليت و التسديس نحسان من المقابلة و التربيع و المقاربة، و الرأس سعد، و الذنب و الكبد نحسان، و معنى سعودها و نحوسها كون اتّصالاتها أسبابا لصلاح حال شي‏ء من الأشياء من أحوال هذا العالم. و باللّه التوفيق

الفصل الخامس و منها فى صفة الملائكة:

ثُمَّ خَلَقَ سُبْحَانَهُ لِإِسْكَانِ سَمَاوَاتِهِ- وَ عِمَارَةِ الصَّفِيحِ الْأَعْلَى مِنْ مَلَكُوتِهِ- خَلْقاً بَدِيعاً مِنْ مَلَائِكَتِهِ- وَ مَلَأَ بِهِمْ فُرُوجَ فِجَاجِهَا وَ حَشَا بِهِمْ فُتُوقَ أَجْوَائِهَا- وَ بَيْنَ فَجَوَاتِ تِلْكَ الْفُرُوجِ زَجَلُ الْمُسَبِّحِينَ- مِنْهُمْ فِي حَظَائِرِ الْقُدُسِ- وَ سُتُرَاتِ الْحُجُبِ وَ سُرَادِقَاتِ الْمَجْدِ- وَ وَرَاءَ ذَلِكَ الرَّجِيجِ الَّذِي تَسْتَكُّ مِنْهُ الْأَسْمَاعُ- سُبُحَاتُ نُورٍ تَرْدَعُ الْأَبْصَارَ عَنْ بُلُوغِهَا- فَتَقِفُ خَاسِئَةً عَلَى حُدُودِهَا- . وَ أَنْشَأَهُمْ عَلَى صُوَرٍ مُخْتَلِفَاتٍ وَ أَقْدَارٍ مُتَفَاوِتَاتٍ- أُولِي أَجْنِحَةٍ تُسَبِّحُ جَلَالَ عِزَّتِهِ- لَا يَنْتَحِلُونَ مَا ظَهَرَ فِي الْخَلْقِ مِنْ صُنْعِهِ- وَ لَا يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ يَخْلُقُونَ شَيْئاً مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ- بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ- جَعَلَهُمُ اللَّهُ فِيمَا هُنَالِكَ أَهْلَ الْأَمَانَةِ عَلَى وَحْيِهِ- وَ حَمَّلَهُمْ إِلَى الْمُرْسَلِينَ وَدَائِعَ أَمْرِهِ وَ نَهْيِهِ- وَ عَصَمَهُمْ مِنْ رَيْبِ الشُّبُهَاتِ- فَمَا مِنْهُمْ زَائِغٌ عَنْ سَبِيلِ مَرْضَاتِهِ- وَ أَمَدَّهُمْ بِفَوَائِدِ الْمَعُونَةِ- وَ أَشْعَرَ قُلُوبَهُمْ تَوَاضُعَ إِخْبَاتِ السَّكِينَةِ- وَ فَتَحَ لَهُمْ‏ أَبْوَاباً ذُلُلًا إِلَى تَمَاجِيدِهِ- وَ نَصَبَ لَهُمْ مَنَاراً وَاضِحَةً عَلَى أَعْلَامِ تَوْحِيدِهِ- لَمْ تُثْقِلْهُمْ مُؤْصِرَاتُ الْآثَامِ- وَ لَمْ تَرْتَحِلْهُمْ عُقَبُ اللَّيَالِي وَ الْأَيَّامِ- وَ لَمْ تَرْمِ الشُّكُوكُ بِنَوَازِعِهَا عَزِيمَةَ إِيمَانِهِمْ- وَ لَمْ تَعْتَرِكِ الظُّنُونُ عَلَى مَعَاقِدِ يَقِينِهِمْ- وَ لَا قَدَحَتْ قَادِحَةُ الْإِحَنِ فِيمَا بَيْنَهُمْ- وَ لَا سَلَبَتْهُمُ الْحَيْرَةُ مَا لَاقَ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِضَمَائِرِهِمْ- وَ مَا سَكَنَ مِنْ عَظَمَتِهِ وَ هَيْبَةِ جَلَالَتِهِ فِي أَثْنَاءِ صُدُورِهِمْ- وَ لَمْ تَطْمَعْ فِيهِمُ الْوَسَاوِسُ فَتَقْتَرِعَ بِرَيْنِهَا عَلَى فِكْرِهِمْ- وَ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِي خَلْقِ الْغَمَامِ الدُّلَّحِ- وَ فِي عِظَمِ الْجِبَالِ الشُّمَّخِ وَ فِي قَتْرَةِ الظَّلَامِ الْأَيْهَمِ- وَ مِنْهُمْ مَنْ قَدْ خَرَقَتْ أَقْدَامُهُمْ تُخُومَ الْأَرْضِ السُّفْلَى- فَهِيَ كَرَايَاتٍ بِيضٍ قَدْ نَفَذَتْ فِي مَخَارِقِ الْهَوَاءِ- وَ تَحْتَهَا رِيحٌ هَفَّافَةٌ- تَحْبِسُهَا عَلَى حَيْثُ انْتَهَتْ مِنَ الْحُدُودِ الْمُتَنَاهِيَةِ- قَدِ اسْتَفْرَغَتْهُمْ أَشْغَالُ عِبَادَتِهِ- وَ وَصَلَتْ حَقَائِقُ الْإِيمَانِ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَعْرِفَتِهِ- وَ قَطَعَهُمُ الْإِيقَانُ بِهِ إِلَى الْوَلَهِ إِلَيْهِ- وَ لَمْ تُجَاوِزْ رَغَبَاتُهُمْ مَا عِنْدَهُ إِلَى مَا عِنْدَ غَيْرِهِ- قَدْ ذَاقُوا حَلَاوَةَ مَعْرِفَتِهِ- وَ شَرِبُوا بِالْكَأْسِ الرَّوِيَّةِ مِنْ مَحَبَّتِهِ- وَ تَمَكَّنَتْ مِنْ سُوَيْدَاءِ قُلُوبِهِمْ وَشِيجَةُ خِيفَتِهِ- فَحَنَوْا بِطُولِ الطَّاعَةِ اعْتِدَالَ ظُهُورِهِمْ- وَ لَمْ يُنْفِدْ طُولُ الرَّغْبَةِ إِلَيْهِ مَادَّةَ تَضَرُّعِهِمْ- وَ لَا أَطْلَقَ عَنْهُمْ عَظِيمُ الزُّلْفَةِ رِبَقَ خُشُوعِهِمْ- وَ لَمْ يَتَوَلَّهُمُ الْإِعْجَابُ فَيَسْتَكْثِرُوا مَا سَلَفَ مِنْهُمْ- وَ لَا تَرَكَتْ‏ لَهُمُ اسْتِكَانَةُ الْإِجْلَالِ- نَصِيباً فِي تَعْظِيمِ حَسَنَاتِهِمْ- وَ لَمْ تَجْرِ الْفَتَرَاتُ فِيهِمْ عَلَى طُولِ دُءُوبِهِمْ- وَ لَمْ تَغِضْ رَغَبَاتُهُمْ فَيُخَالِفُوا عَنْ رَجَاءِ رَبِّهِمْ- وَ لَمْ تَجِفَّ لِطُولِ الْمُنَاجَاةِ أَسَلَاتُ أَلْسِنَتِهِمْ- وَ لَا مَلَكَتْهُمُ الْأَشْغَالُ فَتَنْقَطِعَ بِهَمْسِ الْجُؤَارِ إِلَيْهِ أَصْوَاتُهُمْ- وَ لَمْ تَخْتَلِفْ فِي مَقَاوِمِ الطَّاعَةِ مَنَاكِبُهُمْ- وَ لَمْ يَثْنُوا إِلَى رَاحَةِ التَّقْصِيرِ فِي أَمْرِهِ رِقَابَهُمْ- . وَ لَا تَعْدُو عَلَى عَزِيمَةِ جِدِّهِمْ بَلَادَةُ الْغَفَلَاتِ- وَ لَا تَنْتَضِلُ فِي هِمَمِهِمْ خَدَائِعُ الشَّهَوَاتِ- قَدِ اتَّخَذُوا ذَا الْعَرْشِ ذَخِيرَةً لِيَوْمِ فَاقَتِهِمْ- وَ يَمَّمُوهُ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْخَلْقِ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ بِرَغْبَتِهِمْ- لَا يَقْطَعُونَ أَمَدَ غَايَةِ عِبَادَتِهِ- وَ لَا يَرْجِعُ بِهِمُ الِاسْتِهْتَارُ بِلُزُومِ طَاعَتِهِ- إِلَّا إِلَى مَوَادَّ مِنْ قُلُوبِهِمْ غَيْرِ مُنْقَطِعَةٍ مِنْ رَجَائِهِ وَ مَخَافَتِهِ- لَمْ تَنْقَطِعْ أَسْبَابُ الشَّفَقَةِ مِنْهُمْ فَيَنُوا فِي جِدِّهِمْ- وَ لَمْ تَأْسِرْهُمُ الْأَطْمَاعُ- فَيُؤْثِرُوا وَشِيكَ السَّعْيِ عَلَى اجْتِهَادِهِمْ- لَمْ يَسْتَعْظِمُوا مَا مَضَى مِنْ أَعْمَالِهِمْ- وَ لَوِ اسْتَعْظَمُوا ذَلِكَ لَنَسَخَ الرَّجَاءُ مِنْهُمْ شَفَقَاتِ وَجَلِهِمْ- وَ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي رَبِّهِمْ بِاسْتِحْوَاذِ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ- وَ لَمْ يُفَرِّقْهُمْ سُوءُ التَّقَاطُعِ وَ لَا تَوَلَّاهُمْ غِل‏ التَّحَاسُدِ- وَ لَا تَشَعَّبَتْهُمْ مَصَارِفُ الرِّيَبِ- وَ لَا اقْتَسَمَتْهُمْ أَخْيَافُ الْهِمَمِ- فَهُمْ أُسَرَاءُ إِيمَانٍ لَمْ يَفُكَّهُمْ مِنْ رِبْقَتِهِ زَيْغٌ وَ لَا عُدُولٌ- وَ لَا وَنًى وَ لَا فُتُورٌ- وَ لَيْسَ فِي أَطْبَاقِ السَّمَاءِ مَوْضِعُ إِهَابٍ‏ إِلَّا وَ عَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ- أَوْ سَاعٍ حَافِدٌ يَزْدَادُونَ عَلَى طُولِ الطَّاعَةِ بِرَبِّهِمْ عِلْماً- وَ تَزْدَادُ عِزَّةُ رَبِّهِمْ فِي قُلُوبِهِمْ عِظَماً

اللغة

أقول: الصفيح: السطح. و الفجاج: الطريق الواسع. و الجوّ: المكان المتّسع العالى. و الفجوة: الفرجة. و الزجل: الأصوات. و السرادق: الستر الّذى يمدّ فوق البيت. و الرجيج: الزلزلة و الاضطراب. و تستكّ الأسماع: تصمّ. و خاسئة: متحيّرة و الإخبات: التذلّل و الاستكانة. و ذللا: سهلة. و الموصرات: المثقلات. و العقب: جمع عقبة و هى المدّة من التعاقب: و النوازغ بالغين المعجمة: المفسدة. و بالمهملة القسىّ. و الإحن: جمع أحنة و هى الحقد. و لاق: التصق. و أثناء: جمع ثنى و هى تضاعيف الشي‏ء. و الرين: الغلبة و التغطية. و الدلّح: جمع دالحة و هى الثقال. و الشمّخ: العالية. و قترة الظلام: سواده و الأبهم: الّذي لا يهتدى فيه. و التخوم جمع تخم بفتح التاء و هى منتهى الأرض و حدودها. و الريح الهفّافة: الساكنة الطيّبة و الوشيجة: عروق الشجرة. و الربق: جمع ربقة و هى الحلقة من الحبل، و الدؤوب: الجدّ في العمل. و الأسلة: طرف اللسان. و الجؤار: رفع الصوت بالدعاء و نحوه. و الهمس: الخفىّ من الصوت. و الانتضال: الرمى بالسهم. و استهتر بالأمر: أعجبه و تظاهر به. و شيك السعى: مرتبته. و النسخ: الإزالة و الاستحواذ على الشي‏ء: الإحاطة و الغلبة عليه. و أخياف الهمم. مختلفاتها واحده أخيف و الحفد: السرعة.

و اعلم أنّ هذا الفصل يشتمل على وصف الملائكة
الّذين هم أشرف الموجودات الممكنة بكمال العبوديّة للّه إذ كان في معرض تمجيده و وصف عظمته، و قد سبق ذكر أنواع الملائكة و إسكانهم أطباق السماوات، و بيّنا مقاصده بقدر الإمكان. و لنشر هاهنا إلى ما يختصّ بهذا الموضع من المباحث:
الأوّل: ثمّ خلق سبحانه إلى قوله: من الملائكة
يحتمل أن يشير بالصفيح الأعلى إلى الفلك التاسع و هو العرش لكونه أعظم الأجرام و أعلاها و سكّانه الملائكة المدبّرون له، و يحتمل أن يريد به محلّ عبادة الملائكة من حضرت جلال ربّ العالمين و عالم الملكوت‏ و مقعدهم الصدق من معرفته فإنّ خلقهم إنّما كان لعمارة ذلك المحلّ و هو البيت المعمور بجلال اللّه و عبادتهم له، و لمّا كانوا من أشرف الموجودات كانوا هم الخلق البديع التامّ المعجب.

الثاني: ملأ بهم فروج فجاجها و حشا بهم فتوق أجوائها
استعار لفظ الفروج و الفجاج و الفتوق لما يتصوّر بين أجزاء الفلك من التباين لولا الملائكة الّذين هم أرواح الأفلاك و بهم قام وجودها و بقاء جواهرها محفوظة بهم. و وجه المشابهة ظاهر، و رشّح تلك الاستعارة بذكر المل‏ء و الحشو، و أمّا فجاجها و فروجها فإشارة إلى ما يعقل بين أجزائها و أجوائها المنتظمة على التباين لولا الناظم لها بوجود الملائكة فيكون حشو تلك الفرج بالملائكة كناية عن نظامها بوجودها و جعلها مدبّرة لها.

الثالث: و بين فجوات تلك الفروج. إلى قوله: المجد.
استعار لفظ الزجل لكمال عبادتهم كما أنّ كمال الرجل في رفع صوته بالتضرّع و التسبيح و التهليل و كذلك لفظ الحظائر لمنازل الملائكة من عالم الغيب و مقامات عبادتهم، و ظاهر كونها حظاير القدس لطهارتها و براءتها عن نجاسات الجهل و النفس الأمّارة بالسوء، و كذلك استعار لفظ سترات الحجب و السرادقات لما نبّهنا عليه من حجب النور الّتى حجبت بها عن الأذهان أو لتجرّدهم عن الموادّ و الأوضاع المحسوسة، و وجه المشابهة كونهم محتجبين بذلك عن رؤية الأبصار و الأوهام. و ظاهر كون تلك الحجب سرادقات المجد لكمال ذواتهم و شرفهم بها على من دون تلك الحجب.

الرابع: و وراء ذلك الرجيج الّذى تستكّ. إلى قوله: حدودها.
استعار لفظ الرجيج لعبادات الملائكة كما استعار لفظ الزجل و رشّح استعارة الرجيج بقوله: تستكّ منه الأسماع و كنّى به من كمال عبادتهم، و يحتمل أن يشير بذلك الزجل و الرجيج إلى ما يسمعه الأنبياء من أصوات الملائكة كما علمت كيفيّته في سماع الوحي و بيّناه في المقدّمة و أشار بسبحات النور الّتى وراء ذلك الرجيج إلى جلال وجه اللّه و عظمته و تنزيهه أن يصل إليه أبصار البصائر، و نبّه بكون ذلك وراء رجيجهم إلى أنّ معارفهم لا تتعلّق به كما هو، بل وراء علومهم و عباداتهم أطوار اخرى من جلاله تقصر معارفهم عنها و تردع أبصار البصائر عن إدراكها فترجع حسيرة متحيّرة واقفة عند حدودها و غاياتها من الإدراك.

الخامس: أنشأهم على صور مختلفات. إلى قوله: عزّته.
اختلاف صورهم كناية عن اختلافهم بالحقايق و تفاوت أقدارهم تفاوت مراتبهم في الكمال و القرب منه و لفظ الأجنحة مستعار لقواهم الّتى بها حصلوا على المعارف الإلهيّة و تفاوتها بالزيادة و النقصان كما قال تعالى الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ جاعِلِ«» كناية عن تفاوت إدراكهم لجلال اللّه و علومهم بما ينبغي له و لذلك جعل الأجنحة هى الّتى تسبّح جلال عزّته فإنّ علمهم بجلاله منزّه عمّا لا ينبغي لكرم وجهه و لا يناسب جلال عزّته.

السادس: لا ينتحلون إلى قوله: يعملون
أى لا ينسون بعض مصنوعاته إلى قدرهم و إن كانوا وسايط فيها و لا يدّعون أنّهم يقدرون على شي‏ء منها إلّا بإقداره لهم، بل غايتهم أنّهم وسائط في إفاضة الجود على مستحقّه و ما لم يجعلهم وسائط فيه بل انفرد بذاته في إبداعه فلا يدّعون القدرة عليه أصلا و ذلك لكمال معارفهم بأقدارهم و نسبتهم إلى بارئهم و قد أكرمهم اللّه تعالى بالتقديس عن النفوس الأمّارة بالسوء الّتى هى مبدء مخالفة أمره و الخروج عن طاعته.

السابع: جعلهم فيما هنا لك. إلى قوله: و نهيه
أى في مقاماتهم من حضرة قدسه.
و قد سبقت الإشارة إلى كلّ ذلك في الخطبة الاولى.

الثامن: و عصمهم. إلى قوله: مرضاته
منشأ الشكوك و الشبهات و الزيغ عن سبيل اللّه هو معارضة النفس الأمّارة للعقل و جذبها له إلى طرق الباطل و الملائكة مبرّؤون عنها فكانوا معصومين ممنوعين ممّا تقود إليه و تأمر به من الزيغ و الانحراف عن قصد اللّه.
و إمدادهم بفوايد المعونة زيادتهم في كمالاتهم على غيرهم و دوام ذلك بدوام وجوده.

التاسع: و أشعر قلوبهم تواضع إخبات السكينة
استعار لفظ التواضع و الاستكانة لحالهم من الاعتراف بذلّ الحاجة و الإمكان إلى جوده و الانقهار تحت عظمته: أى جعل ذلك الاعتراف شعارا لازما لذواتهم، أو من الشعور و هو الإدراك.

العاشر: و فتح لهم أبوابا ذللا إلى تماجيده
الأبواب الذلل وجوه معارفهم الإلهيّة الّتى بها يمجّدونه حقّ تمجيده و هى أبوابهم و وسائلهم إلى تنزيهه و تعظيمه و ظاهر كونها سهلة إذ حصولها لهم ليس اكتسابا عن طرق توعّرت بتراكم الشكوك و الشبهات و منازعات الأوهام و الخيالات كما عليه علومنا.

الحادى عشر: و نصب لهم منارا واضحة على أعلام توحيده
قيل: استعار المنار الواضحة للوسائط من الملائكة المقرّبين بينهم و بين الحقّ سبحانه إذ أخباره عن الملائكة السماويّة، و لفظ الأعلام لصور المعقولات في ذواتهم المستلزمة لتوحيده و تنزيهه عن الكثرة، و وجه المشابهة أنّ المنار و الأعلام كما يكون وسائط في حصول العلم بالمطلوب كذلك الملائكة المقرّبون و المعارف الحاصلة بواسطتهم يكون وسائط في الوصول إلى المطلوب الأوّل محرّك الكلّ عزّ سلطانه.

الثاني عشر: لم تثقلهم موصرات الآثام.
لمّا لم يكن النفوس الأمّارة بالسوء موجودة لهم استلزم عدمها نفى آثارها عنهم من الآثام و الشرور.

الثالث عشر: و لم ترتحلهم عقب الليالى و الأيّام
أى لم يستلزم تعاقب الزمان رحيلهم عن الوجود و ذاك لتجرّدهم و براءة المجرّدات عن لحوق الزمان و التغيّرات الحادثة بسببه.

الرابع عشر: و لم ترم الشكوك بنوازغها عزيمة إيمانهم و لم تعترك الظنون على معاقد يقينهم.
عزيمة إيمانهم ما لزم ذواتهم من التصديق بمبدعهم و ما ينبغي له، و معاقد يقينهم اعتقاداتهم اليقينيّة و اعتراك الشكوك و الظنون منشأه الأوهام و الخيالات و علوم الملائكة المجرّدين مبرّأة عنها، و لفظ الرمى مستعار لانبعاث النفوس الأمّارة بالسوء و إلقائها الخواطر الفاسدة إلى النفس المطمئنّة، و من روى النوازع بالعين المهملة فهو ترشيح للاستعارة و كذلك استعار لفظ الاعتراك لاختلاط الظنون و الأوهام على القلوب و جولانها في النفوس، و وجه المشابهة ظاهرة.

الخامس عشر: و لا قدحت قادحة الإحن فيما بينهم
أى لم تثر بينهم الأحقاد شيئا من الشرور كما تثير النار قادحا لبراءتهم عن قوى الغضب و الشهوة.

السادس عشر: و لا سلبتهم الحيرة ما لاق من معرفته بضمائرهم إلى قوله: صدورهم.
لمّا كانت الحيرة تردّد العقل في أىّ الأمرين أولى بالطلب و الاختيار و كان منشأ ذلك هو معارضات الوهم و الخيال للعقل فحيث لا وهم و لا خيال فلا حيرة تخالط معارفهم و تزيل هيبة عظمته من صدورهم، و الهيبة كناية عن استشعار عظمته، و لفظ الصدور مستعار لذواتهم.

السابع عشر: و لم تطمع فيهم الوساوس فتقترع برينها على فكرهم.
و قد مرّ تفسير الوسوسة، و فاعل الطمع هاهنا إمّا مضمر على تقدير حذف المضاف و إقامة المضاف إليه مقامه: أى أهل الوساوس و هم الشياطين، أو يكون الفاعل هو الوساوس و إسناد الطمع إليه مجازا كقوله تعالى وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها«» و رينها غلبة الشكوك اللازمة عنها على وجوه عقولهم و أبصار ذواتهم الّتى بها ينظرون إلى وجه ربّهم.
و انتفاؤها عنهم لانتفاء أسبابها و هى النفوس الأمّارة.

الثامن عشر: منهم من هو في خلق الغمام إلى قوله: الأبهم  هذا التقسيم يعود إلى جنس الملائكة فأمّا الأوصاف السابقة فكانت خاصّة بسكّان السماوات منهم و قد وردت في الشريعة أنّ في الغمام ملائكة تسبّح اللّه و تقدّسه و كذلك في الجبال و الأماكن المظلمة و هم من الملائكة الأرضيّة، و قد علمت ما قيل فيها في الخطبة الاولى.

التاسع عشر: و منهم من خرقت أقدامهم تخوم الأرض السفلى إلى قوله: المتناهية.
يشبه أن يكون هذا القسم من الملائكة السماويّة أيضا و استعار لفظ الأقدام لعلومهم المحيطة بأقطار الأرض السفلى و نهاياتها، و وجه المشابهة كون العلوم قاطعة للمعلوم و سارية فيه واصلة إلى نهايته كما أنّ الأقدام تقطع الطريق و تصل إلى الغاية منها و شبّهها بالرايات البيض النافذة في مخارق الهواء من وجهين: أحدهما: في البياض فإنّ البياض لمّا استلزم الصفاء عن الكدر و السواد كذلك علومهم صافية من كدورات الباطل و ظلمات الشبه. الثاني: في نفوذها في أجزاء المعلوم كما تنفذ الرايات في الهواء، و أشار بالريح‏ الّتى تحبس الأقدام على حيث انتهت من الحدود إلى حكمة اللّه الّتى أعطت كلاما يستحقّه و قصرت كلّ موجود على حدّه، و بهفوفها إلى لطف تصرّفها و جريانها في المصنوعات.

العشرون: قد استفرغتهم أشغال عبادته إلى قوله: و شيجه خيفته
أى لم يجعل لهم فراغا لغيرها، و قد علمت أنّ تحريك الملائكة السماويّة لأجرام الأفلاك الجارية لها مجرى الأبدان بحركة إراديّة و شوقيّة للتشبّه بالملائكة المتوسّطة بينها و بين الحقّ سبحانه في كمال عبادتهم له و تلك الحركات الدائمة الواجبة مستفرغة لهم عن الاشتغال بغيرها كما قال يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ و حقايق الايمان تصديقهم الحقّ بوجوده عن شاهد وجودهم و ظاهر كونه سببا لإرادة معرفته التامّة و الدوام عليها و إبراز ما في قوّتهم من الكمال بها إلى الفعل فإنّ التصديق بوجود الشي‏ء الواجب تحصيله أقوى الأسباب الباعثة على طلبه. فصار الإيمان و التصديق الحقّ اليقين بوجوده وسيلة جامعة بينه و بين معرفته و الاستكمال بها و قاطعا لهم إلى الوله إليه و العشق له و ثبات الرغبات على ما عنده دون غيره، و لمّا استعار لفظ الذوق لتعقّلاتهم و لفظ الشرب بما تمكّن في ذواتهم في عشقه و كمال محبّته رشّح الاستعارة الاولى بذكر الحلاوة و كنّى بها عن كمال ما يجدونه من اللذّة بمعرفته كما يلتذّ ذايق الحلاواة بها، و الثانية بذكر الكأس الرويّة إذ من كمال الشرب أن يكون بكأس رويّة: أى من شأنها أن تروى، و كنّى بها عن كمال معرفتهم بالنسبة إلى غيرهم و كذلك رشّح استعارة لفظ القلوب بذكر سويدائها إذ كان من كمال تمكّن العوارض القلبيّة كالمحبّة و الخوف أن يبلغ إلى سويدائه، و أشار بوشيجة خيفته إلى العلاقة المتمكّنة من ذواتهم لخيفته و هى كمال علمهم بعظمته، و لفظ الخيفة مستعار كما سبق لانقهارهم في ذلّ الإمكان عند اعتبار عزّه و قهره.

الحادى و العشرون: فحنوا بطول الطاعة اعتدال ظهورهم
تجوّز بانحناء الظهور في كمال خضوعهم في عبادتهم و هو إطلاق لاسم المسبّب على السبب.

الثاني و العشرون: و لم ينفذ طول الرغبة إليه مادّة تضرّعهم
لمّا كان من شأن أحد إذا رغب في أمر إلى بعض الملوك و فزع فيه إليه بالتضرّع و الخدمة أن ينقطع تضرّعه‏ بانقطاع مادّته. و مادّته إمّا دواعى نفسه إلى الطلب و ميولها و انقطاعها باستيلاء الملال على نفسه و ضعفها عن تحمّل المشقّة، أو مطلوبه و تصوّره لإمكان تناوله و انقطاعه إمّا بإياسه منه أو بإعطائه إيّاه و كانت مادّة تضرّعهم و عبادتهم له تعالى على التقديرين بريئة عن القواطع أمّا من ذواتهم فلأنّ الكلال و الملال من عوارض المركّبات العنصريّة و أمّا مطلوبهم فلأنّه كمال معرفة اللّه بعد تصورّهم لعظمة ذلك المطلوب. و علمت أنّ درجات الوصول إليه غير متناهية لا جرم سلب عنهم في معرض مدحهم انقطاع مادّة تضرّعهم ليستلزم ذلك سبب انقطاع تضرّعهم و عبادتهم له.

الثالث و العشرون: و لا أطلق عنهم عظيم الزلفة ربق خشوعهم
لمّا كان من قرب من السلطان مثلا من شأنه أن يقوى نفسه و يخفّف هيبته منه و كان ذلك لتناهى ملك ملوك الدنيا و كونه مكتسبا لها و تصوّر المتقرّب إليهم مثليّة لهم و إمكان وصوله إلى ما وصلوا إليه. و كان سلطان اللّه لا يتناهى عظمة و عزّة و عرفانا لم يتصوّر من العارف المتقرّب إليه أن يخفّف هيبته أو ينقص خشوعه و عبادته بل كلّما ازدادت معرفته به ازدادت عظمته في نفسه إذ كان يقدّر في سلوكه عظمة اللّه بقدر عرفانه به فكلّما غيّر منزلا من منازل المعرفة علم عظمة خالقه فكمل عقد يقينه بذلك و علم نقصان ذاته فكمل خشوعه و صدن خضوعه، و استعار لفظ الربق لما حصلوا فيه من الخشوع.

الرابع و العشرون: و لم يتولّهم الإعجاب إلى قوله: حسناتهم
أى لم يستول عليهم، و الإعجاب: هو استعظام الإنسان نفسه عمّا يتصوّر أنّه فضيلة له، و منشأ ذلك الحكم هو النفس الأمّارة فيتوهّم الإنسان أنّ تلك الفضيلة حصلت له عن استحقاق وجب له بسعيه و كدّه مع قطع النظر عن واهب النعم و مفيضها، و الملائكة السماويّة مبرّؤون عن الأوهام و أحكامها غرقى في الوله إليه و دوام مطالعة آلائه و الاستكانه تحت جلال عزّته فلا يستكثرون ما سلف منهم من عبادة و لا يستعظمون ما صدر عنهم من خير.

الخامس و العشرون و لم تجر الفترات فيهم على طول دؤوبهم
قد ثبت أنّ الملائكة السماويّة دائمة التحريك لأجرامها حركة لا يتخلّلها سكون و لا يكلّها و يفترها إعياء و تعب، و لبيان ذلك بالبرهان اصول ممهّدة في مواضعها، و أمّا بالقرآن فلقوله تعالى يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ«» و قد سبق.

السادس و العشرون: و لم تغض رغباتهم فيخالفوا عن رجاء ربّهم
المخالفة عن الشي‏ء العدول عنه، و قد سبق أنّ رغبات الملائكة السماويّة و أشواقها إلى كمالاتها دائمة ثابتة فكانت لذلك دائمة الرجاء لها من واهبها، و لفظ الغيض مستعار كما سبق.

السابع و العشرون: و لم تجفّ لطول المناجاة أسلات ألسنتهم
طول مناجاتهم يعود إلى توجيه وجوههم دائما إليه، و استعار لفظ الألسنة و رشّح بذكر الأسلات ملاحظة للتشبيه بأحدنا في مناجاته، و كنّى بعدم جفاف ألسنتهم عن عدم فتورهم و عدم لحقوق الكلال و الإعياء لهم و ظاهر أنّه لا ألسنة لحمانيّة لهم فلا جفاف.

الثامن و العشرون: و لا ملكتهم إلى قوله: أصواتهم
أى لم تضعفهم العبادة فتنقطع أصواتهم فتضعف فتخفى بالتضرّع إليه. و هو تنزية لهم عن الأحوال البشريّة و العوارض البدنيّة من الضعف و الإعياء و كلال الأعضاء عند كثرة الأشغال و قوّتها. و قد مرّ أنّ الملائكه السماويّة لا يجوز عليها شي‏ء من تلك العوارض، و استعار لفظ الأصوات كما استعار لفظ الألسنة.

التاسع و العشرون: و لم يختلف في مقاوم الطاعة مناكبهم إلى قوله: رقابهم.
استعار لفظ المقاوم من ريش الطائر و هى عشر في كلّ جناح لما سبق وجوبه من طاعة اللّه و كان أهمّ عباداته كمعرفته في التوجّه إليه، و لفظ المناكب و هى أربع ريشات بعد المقاوم في كلّ جناح لذواتهم، و وجه المشابهة أنّ المناكب تالية للمقادم و على نظامها و ترتيبها لا يخالف صفّها و نسقها كذلك الملائكة لا تختلف ذواتهم و أجرامهم في نسق ما أهمّ من عبادة ربّهم و معرفته بل صافّون لا يخالف بعضهم بعضا في استقامة طريقهم إليه و لا يخرجون عن نظام ترتيبه لهم في التوجّه إليه كما أشار إليه في الخطبة الاولى: و صافّون لا يتزايلون، و كذلك استعار لفظ الرقاب و لفظ الثنى: أى لم يلتفتوا إلى الراحة من تعب العبادة فيقصروا في أوامره. و المقصود نفى الأحوال البشريّة عنهم من التعب و الراحة لكونهما عن توابع هذه الأبدان.

الثلاثون: و لا تعدو إلى قوله: الشهوات
قد عرفت معنى الغفلة فيما سبق. و البلادة هى طرف التفريط من فضيلة الذكاء و كلاهما من عوارض هذا البدن و بواسطته. و كذلك الشهوات و الملائكة السماويّة بريئة عنها فلم يجز أن يطرأ على قصودهم لما توجّهوا له غفلة و لا بلادة حتّى يكون ذلك سببا لإعراضهم عن التوجّه فيه و لم يجز أن ترمى الشهوات هممهم بسهام خدايعها، و لفظ الانتضال مستعار لنوادر جواذب الشهوة على النفس الناطقة مع كونها مؤدّية لها و مردية في قرار الجحيم.

الحادى و الثلاثون: قد اتّخذوا إلى قوله: برغبتهم.
أشار بيوم فاقتهم إلى حال حاجتهم في الاستكمال إلى جوده و إن كان ذلك دائما فهو ذخرهم الّذى إليه يرجعون و و كذلك الإشارة بقوله: عند انقطاع الخلق إلى المخلوقين. إلى حال الحاجة أيضا فإنّه إنّما يكون ذخيرة لهم لرجوعهم إليه فيما يحتاجون و إنّما يتحقّق قصدهم له برغبتهم حال الحاجة إليه.

الثاني و الثلاثون: لا يقطعون إلى قوله: و مخافته.
لمّا كانت غاية عبادته هو الوصول إلى كمال معرفته و كانت درجات المعارف الإلهيّة غير متناهية لم يكن قطعهم لتلك الغاية ممكنا، و لمّا كانوا غرقى في محبّته عالمين بكمال عظمته و أنّ ما يرجونه من تمام جوده أشرف المطالب و أربح المكاسب، و ما يخشى من انقطاع جوده و نزول حرمانه أعظم المهالك و المعاطب لا جرم دام رجاؤهم له و خضوعهم في رقّ الحاجة إليه و الفزع من حرمانه و كان ذلك الرجاء و الخوف هو مادّة استهتارهم بلزوم طاعته الّتى يرجعون إليها من قلوبهم فلم ينقطع استهتارهم بلزومها.

الثالث و الثلاثون: لم تنقطع أسباب الشفقّة عنهم فيتوانى جدّهم.
الشفقّة: الاسم من الإشفاق: أى لم ينقطع أسباب خوفهم له و أسبابه حاجتهم إلى القيام في الوجود إلى الاستكمال بجوده فإنّ الحاجة الضروريّة إلى الغير في مطلوب يستلزم الخوف منه في عدم قضائه و يوجب الإقبال على الاستعداد بجوده بلزوم طاعته. و حاجتهم إليه دائمة فجدّهم في عبادته دائم فالتوانى فيه مفقود.

الرابع و الثلاثون: و لم يأسرهم إلى قوله: اجتهادهم
سلب لبعض أوصاف البشر عنهم فإنّ كثيرا من العابدين قد يصرفهم عن الاجتهاد في طاعة اللّه سبب ما يظهر لهم من كمالات الدنيا و زينتها فيؤثرون ما قرب من السعى في تحصيله على ما يستبعدونه من تحصيل السعادة الاخرويّة الباقية، و قد عرفت أنّ ذلك من جواذب الشهوات و الغفلة عمّا وراء هذه الدار و الملائكة مبرّؤون عن الشهوات و ما يلزمها من أسر الأطماع الكاذبة لهم، و لفظ الأسر استعارة لقود الأطماع إلى ما يطمع فيه.

الخامس و الثلاثون: و لم يستعظموا ما مضى من أعمالهم إلى قوله: رجلهم
معنى هذه الشرطيّة أنّهم لو استعظموا ذلك لكان رجاؤهم لثواب عبادتهم عظيما فكان لقوّته ماحيا لإشفاقهم و خوفهم منه و هذا كما أنّ الإنسان إذا عمل لبعض الملوك عملا يستعظمه فإنّه يرى في نفسه استحقاق أتمّ جزاء له و يجد التطاول به و الدالّة عليه فيهوّن ذلك ما يجده من خوفه، و كلّما ازداد استعظامه لخدمته ازداد اعتقاده في قربه من الملك قوّة و بمقدار ذلك ينقص خوفه و يقلّ هيبته لكنّ الملائكة خائفون أبدا كما قال تعالى يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ… وَ الْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ فينتج أنّهم لا يستعظمون سالف عبادتهم.

السادس و الثلاثون: و لم يختلفوا في ربّهم باستحواذ الشيطان عليهم
أى في إثباته و استحقاقه كمال العبادة و ذلك لعدم سلطان عليهم و هو سلب لبعض أحوال البشر و كذلك قوله: و لم يفرّقهم إلى قوله: أخياف الهمم. تنزيه لهم عن امور من عوارض البشريّة: أحدها: سوء التقاطع و هو كتقاطع المتعادين و تباينهم الناشى عن الغضب و الشهوة. الثاني: غلّ الحسد، و قد علمت أنّ الحسد رذيلة نفسانيّة تنبعث عن البخل و الشره و منبعهما النفس الأمّارة. الثالث: تشعّب مصارف الريب لهم و الريب الشكوك و الشبه و مصارفها هى الامور الباطلة الّتى تنصرف أذهانهم إليها عن الشبه أو تلك الشبهة و الشكوك أنفسها و تشعّبها لهم اقتسامها يحيث يذهب كلّ واحد من شبهة إلى باطل، و قد علمت أنّ منشأ الشكوك و الشبهات هو الوهم و الخيال، و لمّا كانوا مبرّئين عن النفوس الأمّارة وجب تنزيههم عن هذه الامور الثلاثة، الرابع: لمّا كان معبودهم واحدا و هو غاية مطلوبهم‏ كانت هممهم ز فيه واحدة فلم يلتفتوا إلى شي‏ء آخر و لم يفترقوا فيها.

السابع و الثلاثون: فهم اسراء الايمان. إلى قوله: و لا فتور
استعار لفظ الأسر و رشّح بذكر الربقة و نزّههم عن أن يجذبهم عن الايمان أحد الامور الأربعة، و قد سبق وجه تنزيههم عنها.

الثامن و الثلاثون: و ليس في أطباق السماوات إلى قوله: عظما
المراد أنّ السماوات مملوّة بالملائكة فبين ساجد لوجه ربّه و بين ساعى مجدّ في أمره. و اعلم أنّ في السماء ملائكة مباشرة لتحريكها و ملائكة على رتبة من اولئك هم الآمرون لهم بالتحريك فيشبه أن يكون الإشارة بالساجدين منهم إلى الأمرين، و السجود كناية عن كمال عبادتهم كناية بالمستعار و يكون الإشارة بالساعين المسرعين إلى المتولّين للتحريك فأمّا زيادتهم بطول الطاعة علما بربّهم فلمّا ثبت أن حركاتهم إنّما هو شوقيّة للتشبّه بملائكة أعلى رتبة منهم في كمالهم بالمعارف الإلهيّة و ظهور ما في ذواتهم بالقوّة إلى الفعل. و زيادة عزّة ربّهم عندهم عظما بحسب زيادتهم معرفتهم له تابعة لها كما نبّهنا عليه قبل. و باللّه التوفيق.

 


الفصل السادس و منها فى صفة الأرض و دحوها على الماء.

كَبَسَ الْأَرْضَ عَلَى مَوْرِ أَمْوَاجٍ مُسْتَفْحِلَةٍ- وَ لُجَجِ بِحَارٍ زَاخِرَةٍ تَلْتَطِمُ أَوَاذِيُّ أَمْوَاجِهَا- وَ تَصْطَفِقُ مُتَقَاذِفَاتُ أَثْبَاجِهَا- وَ تَرْغُو زَبَداً كَالْفُحُولِ عِنْدَ هِيَاجِهَا- فَخَضَعَ جِمَاحُ الْمَاءِ الْمُتَلَاطِمِ لِثِقَلِ حَمْلِهَا- وَ سَكَنَ هَيْجُ ارْتِمَائِهِ إِذْ وَطِئَتْهُ بِكَلْكَلِهَا- وَ ذَلَّ مُسْتَخْذِياً إِذْ تَمَعَّكَتْ عَلَيْهِ بِكَوَاهِلِهَا- فَأَصْبَحَ بَعْدَ اصْطِخَابِ أَمْوَاجِهِ سَاجِياً مَقْهُوراً- وَ فِي حَكَمَةِ الذُّلِّ مُنْقَاداً أَسِيراً- وَ سَكَنَتِ الْأَرْضُ مَدْحُوَّةً فِي لُجَّةِ تَيَّارِهِ- وَ رَدَّتْ مِنْ نَخْوَةِ بَأْوِهِ وَ اعْتِلَائِهِ‏ وَ شُمُوخِ أَنْفِهِ وَ سُمُوِّ غُلَوَائِهِ- وَ كَعَمَتْهُ عَلَى كِظَّةِ جَرْيَتِهِ فَهَمَدَ بَعْدَ نَزَقَاتِهِ- وَ لَبَدَ بَعْدَ زَيَفَانِ وَثَبَاتِهِ- فَلَمَّا سَكَنَ هَيْجُ الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ أَكْنَافِهَا- وَ حَمْلِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ الشُّمَّخِ الْبُذَّخِ عَلَى أَكْتَافِهَا- فَجَّرَ يَنَابِيعَ الْعُيُونِ مِنْ عَرَانِينِ أُنُوفِهَا- وَ فَرَّقَهَا فِي‏ سُهُوبِ بِيدِهَا وَ أَخَادِيدِهَا- وَ عَدَّلَ حَرَكَاتِهَا بِالرَّاسِيَاتِ مِنْ جَلَامِيدِهَا- وَ ذَوَاتِ الشَّنَاخِيبِ الشُّمِّ مِنْ صَيَاخِيدِهَا- فَسَكَنَتْ مِنَ الْمَيَدَانِ لِرُسُوبِ الْجِبَالِ فِي قِطَعِ أَدِيمِهَا- وَ تَغَلْغُلِهَا مُتَسَرِّبَةً فِي جَوْبَاتِ خَيَاشِيمِهَا- وَ رُكُوبِهَا أَعْنَاقَ سُهُولِ الْأَرَضِينَ وَ جَرَاثِيمِهَا- وَ فَسَحَ بَيْنَ الْجَوِّ وَ بَيْنَهَا وَ أَعَدَّ الْهَوَاءَ مُتَنَسَّماً لِسَاكِنِهَا- وَ أَخْرَجَ إِلَيْهَا أَهْلَهَا عَلَى تَمَامِ مَرَافِقِهَا- ثُمَّ لَمْ يَدَعْ جُرُزَ الْأَرْضِ- الَّتِي تَقْصُرُ مِيَاهُ الْعُيُونِ عَنْ رَوَابِيهَا- وَ لَا تَجِدُ جَدَاوِلُ الْأَنْهَارِ ذَرِيعَةً إِلَى بُلُوغِهَا- حَتَّى أَنْشَأَ لَهَا نَاشِئَةَ سَحَابٍ تُحْيِي مَوَاتَهَا- وَ تَسْتَخْرِجُ نَبَاتَهَا- أَلَّفَ غَمَامَهَا بَعْدَ افْتِرَاقِ لُمَعِهِ وَ تَبَايُنِ قَزَعِهِ- حَتَّى إِذَا تَمَخَّضَتْ لُجَّةُ الْمُزْنِ فِيهِ وَ الْتَمَعَ بَرْقُهُ فِي كُفَفِهِ- وَ لَمْ يَنَمْ وَمِيضُهُ فِي كَنَهْوَرِ رَبَابِهِ وَ مُتَرَاكِمِ سَحَابِهِ- أَرْسَلَهُ سَحّاً مُتَدَارِكاً قَدْ أَسَفَّ هَيْدَبُهُ- تَمْرِيهِ الْجَنُوبُ دِرَرَ أَهَاضِيبِهِ وَ دُفَعَ شَآبِيبِهِ- . فَلَمَّا أَلْقَتِ السَّحَابُ بَرْكَ بِوَانَيْهَا- وَ بَعَاعَ مَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ مِنَ الْعِبْ‏ءِ الْمَحْمُولِ عَلَيْهَا- أَخْرَجَ بِهِ مِنْ هَوَامِدِ الْأَرْضِ النَّبَاتَ- وَ مِنْ زُعْرِ الْجِبَالِ الْأَعْشَابَ فَهِيَ تَبْهَجُ بِزِينَةِ رِيَاضِهَا- وَ تَزْدَهِي بِمَا أُلْبِسَتْهُ مِنْ رَيْطِ أَزَاهِيرِهَا- وَ حِلْيَةِ مَا سُمِطَتْ بِهِ مِنْ نَاضِرِ أَنْوَارِهَا- وَ جَعَلَ ذَلِكَ بَلَاغاً لِلْأَنَامِ وَ رِزْقاً لِلْأَنْعَامِ- وَ خَرَقَ الْفِجَاجَ فِي آفَاقِهَا- وَ أَقَامَ الْمَنَارَ لِلسَّالِكِينَ عَلَى جَوَادِّ طُرُقِهَا فَلَمَّا مَهَدَ أَرْضَهُ وَ أَنْفَذَ أَمْرَهُ- اخْتَارَ آدَمَ ع خِيرَةً مِنْ خَلْقِهِ- وَ جَعَلَهُ أَوَّلَ جِبِلَّتِهِ وَ أَسْكَنَهُ جَنَّتَهُ- وَ أَرْغَدَ فِيهَا أُكُلَهُ- وَ أَوْعَزَ إِلَيْهِ فِيمَا نَهَاهُ عَنْهُ- وَ أَعْلَمَهُ أَنَّ فِي الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ التَّعَرُّضَ لِمَعْصِيَتِهِ- وَ الْمُخَاطَرَةَ بِمَنْزِلَتِهِ- فَأَقْدَمَ عَلَى مَا نَهَاهُ عَنْهُ مُوَافَاةً لِسَابِقِ عِلْمِهِ- فَأَهْبَطَهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ- لِيَعْمُرَ أَرْضَهُ بِنَسْلِهِ- وَ لِيُقِيمَ الْحُجَّةَ بِهِ عَلَى عِبَادِهِ- وَ لَمْ يُخْلِهِمْ بَعْدَ أَنْ قَبَضَهُ- مِمَّا يُؤَكِّدُ عَلَيْهِمْ حُجَّةَ رُبُوبِيَّتِهِ- وَ يَصِلُ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَعْرِفَتِهِ- بَلْ تَعَاهَدَهُمْ بِالْحُجَجِ- عَلَى أَلْسُنِ الْخِيَرَةِ مِنْ أَنْبِيَائِهِ- وَ مُتَحَمِّلِي وَدَائِعِ رِسَالَاتِهِ- قَرْناً فَقَرْناً- حَتَّى تَمَّتْ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ص حُجَّتُهُ- وَ بَلَغَ الْمَقْطَعَ عُذْرُهُ وَ نُذُرُهُ وَ قَدَّرَ الْأَرْزَاقَ فَكَثَّرَهَا وَ قَلَّلَهَا- وَ قَسَّمَهَا عَلَى الضِّيقِ وَ السَّعَةِ- فَعَدَلَ فِيهَا لِيَبْتَلِيَ- مَنْ أَرَادَ بِمَيْسُورِهَا وَ مَعْسُورِهَا- وَ لِيَخْتَبِرَ بِذَلِكَ الشُّكْرَ وَ الصَّبْرَ مِنْ غَنِيِّهَا وَ فَقِيرِهَا- ثُمَّ قَرَنَ بِسَعَتِهَا عَقَابِيلَ فَاقَتِهَا- وَ بِسَلَامَتِهَا طَوَارِقَ آفَاتِهَا- وَ بِفُرَجِ أَفْرَاحِهَا غُصَصَ أَتْرَاحِهَا- وَ خَلَقَ الْآجَالَ فَأَطَالَهَا وَ قَصَّرَهَا وَ قَدَّمَهَا وَ أَخَّرَهَا- وَ وَصَلَ بِالْمَوْتِ أَسْبَابَهَا- وَ جَعَلَهُ خَالِجاً لِأَشْطَانِهَا- وَ قَاطِعاً لِمَرَائِرِ أَقْرَانِهَا عَالِمُ السِّرِّ مِنْ ضَمَائِرِ الْمُضْمِرِينَ- وَ نَجْوَى الْمُتَخَافِتِينَ وَ خَوَاطِرِ رَجْمِ الظُّنُونِ- وَ عُقَدِ عَزِيمَاتِ الْيَقِينِ- وَ مَسَارِقِ إِيمَاضِ الْجُفُونِ- وَ مَا ضَمِنَتْهُ أَكْنَانُ الْقُلُوبِ- وَ غَيَابَاتُ الْغُيُوبِ- وَ مَا أَصْغَتْ لِاسْتِرَاقِهِ مَصَائِخُ الْأَسْمَاعِ- وَ مَصَايِفُ الذَّرِّ وَ مَشَاتِي الْهَوَامِّ- وَ رَجْعِ الْحَنِينِ مِنَ الْمُولَهَاتِ وَ هَمْسِ الْأَقْدَامِ- وَ مُنْفَسَحِ الثَّمَرَةِ مِنْ وَلَائِجِ غُلُفِ الْأَكْمَامِ- وَ مُنْقَمَعِ الْوُحُوشِ مِنْ غِيرَانِ الْجِبَالِ وَ أَوْدِيَتِهَا- وَ مُخْتَبَإِ الْبَعُوضِ بَيْنَ سُوقِ الْأَشْجَارِ وَ أَلْحِيَتِهَا- وَ مَغْرِزِ الْأَوْرَاقِ مِنَ الْأَفْنَانِ- وَ مَحَطِّ الْأَمْشَاجِ مِنْ مَسَارِبِ الْأَصْلَابِ- وَ نَاشِئَةِ الْغُيُومِ وَ مُتَلَاحِمِهَا- وَ دُرُورِ قَطْرِ السَّحَابِ فِي مُتَرَاكِمِهَا- وَ مَا تَسْفِي الْأَعَاصِيرُ بِذُيُولِهَا وَ تَعْفُو الْأَمْطَارُ بِسُيُولِهَا- وَ عَوْمِ بَنَاتِ الْأَرْضِ فِي كُثْبَانِ الرِّمَالِ- وَ مُسْتَقَرِّ ذَوَاتِ الْأَجْنِحَةِ بِذُرَا شَنَاخِيبِ الْجِبَالِ- وَ تَغْرِيدِ ذَوَاتِ الْمَنْطِقِ فِي دَيَاجِيرِ الْأَوْكَارِ- وَ مَا أَوْعَبَتْهُ الْأَصْدَافُ- وَ حَضَنَتْ عَلَيْهِ أَمْوَاجُ الْبِحَارِ- وَ مَا غَشِيَتْهُ سُدْفَةُ لَيْلٍ أَوْ ذَرَّ عَلَيْهِ شَارِقُ نَهَارٍ- وَ مَا اعْتَقَبَتْ عَلَيْهِ أَطْبَاقُ الدَّيَاجِيرِ- وَ سُبُحَاتُ النُّورِ وَ أَثَرِ كُلِّ خَطْوَةٍ- وَ حِسِّ كُلِّ حَرَكَةٍ وَ رَجْعِ كُلِّ كَلِمَةٍ- وَ تَحْرِيكِ كُلِّ شَفَةٍ وَ مُسْتَقَرِّ كُلِّ نَسَمَةٍ- وَ مِثْقَالِ‏ كُلِّ ذَرَّةٍ وَ هَمَاهِمِ كُلِّ نَفْسٍ هَامَّةٍ- وَ مَا عَلَيْهَا مِنْ ثَمَرِ شَجَرَةٍ أَوْ سَاقِطِ وَرَقَةٍ- أَوْ قَرَارَةِ نُطْفَةٍ أَوْ نُقَاعَةِ دَمٍ وَ مُضْغَةٍ- أَوْ نَاشِئَةِ خَلْقٍ وَ سُلَالَةٍ- لَمْ يَلْحَقْهُ فِي ذَلِكَ كُلْفَةٌ- وَ لَا اعْتَرَضَتْهُ فِي حِفْظِ مَا ابْتَدَعَ مِنْ خَلْقِهِ عَارِضَةٌ- وَ لَا اعْتَوَرَتْهُ فِي تَنْفِيذِ الْأُمُورِ وَ تَدَابِيرِ الْمَخْلُوقِينَ مَلَالَةٌ وَ لَا فَتْرَةٌ- بَلْ نَفَذَهُمْ عِلْمُهُ وَ أَحْصَاهُمْ عَدَدُهُ- وَ وَسِعَهُمْ عَدْلُهُ وَ غَمَرَهُمْ فَضْلُهُ- مَعَ تَقْصِيرِهِمْ عَنْ كُنْهِ مَا هُوَ أَهْلُهُ اللَّهُمَّ أَنْتَ أَهْلُ الْوَصْفِ الْجَمِيلِ- وَ التَّعْدَادِ الْكَثِيرِ- إِنْ تُؤَمَّلْ فَخَيْرُ مَأْمُولٍ وَ إِنْ تُرْجَ فَخَيْرُ مَرْجُوٍّ- اللَّهُمَّ وَ قَدْ بَسَطْتَ لِي فِيمَا لَا أَمْدَحُ بِهِ غَيْرَكَ- وَ لَا أُثْنِي بِهِ عَلَى أَحَدٍ سِوَاكَ- وَ لَا أُوَجِّهُهُ إِلَى مَعَادِنِ الْخَيْبَةِ وَ مَوَاضِعِ الرِّيبَةِ- وَ عَدَلْتَ بِلِسَانِي عَنْ مَدَائِحِ الْآدَمِيِّينَ- وَ الثَّنَاءِ عَلَى الْمَرْبُوبِينَ الْمَخْلُوقِينَ- اللَّهُمَّ وَ لِكُلِّ مُثْنٍ عَلَى مَنْ أَثْنَى عَلَيْهِ مَثُوبَةٌ مِنْ جَزَاءٍ- أَوْ عَارِفَةٌ مِنْ عَطَاءٍ- وَ قَدْ رَجَوْتُكَ دَلِيلًا عَلَى ذَخَائِرِ الرَّحْمَةِ- وَ كُنُوزِ الْمَغْفِرَةِ- اللَّهُمَّ وَ هَذَا مَقَامُ مَنْ أَفْرَدَكَ بِالتَّوْحِيدِ الَّذِي هُوَ لَكَ- وَ لَمْ يَرَ مُسْتَحِقّاً لِهَذِهِ الْمَحَامِدِ وَ الْمَمَادِحِ غَيْرَكَ- وَ بِي فَاقَةٌ إِلَيْكَ لَا يَجْبُرُ مَسْكَنَتَهَا إِلَّا فَضْلُكَ- وَ لَا يَنْعَشُ مِنْ خَلَّتِهَا إِلَّا مَنُّكَ وَ جُودُكَ- فَهَبْ لَنَا فِي هَذَا الْمَقَامِ رِضَاكَ- وَ أَغْنِنَا عَنْ مَدِّ الْأَيْدِي إِلَى سِوَاكَ- إِنَّكَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ

اللغة  

أقول: كبسها: أغاصها في الماء بقوّة. و المور: التردّد في الحركة. و مستفحلة: صائلة: و التلاطم: الترادّ. و الأواذىّ: جمع آذىّ و هو ما عظم من موج البحر. و الاصطفاق: الترادّ أيضا. و الأثباج: جمع ثبج و هو معظمها و عواليها. و هيج الفرس: إذا غلب صاحبه و لم يملكه. و الارتماء: التقاذف و الترادّ. و الكلكل: الصدر. و المستخذى: الخاضع. و التمعّك: التمرّغ. و اصطخاب أمواجه: غلبتها و أصواتها. و الساجى: الساكن.
و الحكمة: ما أحاط من اللجام بحنك الدابّة و الدحو: البسط. و التّيار: الموج. و النخوة: الكبر و الترفّع. و البأو: الفخر. و شمخ بأنفه: تكبّر. و الغلواء: تجاوز الحدّ. و كعمته: سددت فاه. و الكظّة: شدّة البطنة. و همد: سكن و خمد. و النزق: الخفّة و الطيش. و لبد: لصق بالأرض ساكنا. و الزيفان: التبختر. و البذّخ: العالية. و العرنين: أعلى الأنف عند ملتقى الحاجبين. و السهوب: جمع سهب و هو الفلاة الواسعة. و البيد: جمع بيداء و هى الفلاة أيضا. و الاخدود: الشقّ في الأرض. و الجلاميد: الصخور.
و الشناخيب: رؤس الجبال و الشمّ: العالية. و الصيخود: الصخرة الصلبة. و أديمها: سطحها. و تغلغله: دخوله في أعماقها. و التسرّب: الدخول في السرب. و الجوبة: الفرجة في الأرض. و جراثيم الأرض: أعاليها و ما اجتمع منها. و أرض جرز: لا نبات بها لانقطاع الماء عنها. و الروابى: عوالى الأرض. و القزع: قطع السحاب الرقيقة الواحدة قزعة.
و الكفّة بالضمّ: ما استطال من السحاب و ما استدار. و بالكسر: الوميض و اللمعان. و الكنهور: العظيم من السحاب. و الرباب: الغمام الأبيض. و السحّ: الصبّ. و أسفّ: دنا من الأرض لثقله. و هيدبه: ما تهدّب منه إلى الأرض أى تدلى. و تمريه: تستخرج ما فيه من الماء و الدرر جمع درّة بالكسر و هى كثرة اللبن و سيلانه. و الأهاضيب: جمع هضاب و هو جمع هضب و هو جلبات القطر بعد القطر. و الشآبيب: جمع شؤبوب و هو الرشقة القويّة من المطر. و البرك: الصدر. و البوانى: ما يلي الصدر من الأضلاع. و بعاع السحاب ثقلة بالمطر. و العب‏ء: الثقل. و جبلة زعراء: لا نبت بها. و تزد هى: تتكبّر. و الريط: جمع ريطة و هى الأزاهير المنيرة. و سمطت: زينت بالسمط و هو العقد، و من روى شمطت بالشين لمعجمة أراد خلطت. و الجبلّة: الخلقة. و أوعز إليه بكذا: تقدّم إليه به. و العقابيل:بقايا المرض. و الترح: الحزن. و الفاقة: الفقر. و الخلج: الجذب و الانتزاع. و الأشطان: جمع شطن و هى الحبال. و المرائر: أيضا الحبال اللطيفة الفتل. و التخافت: المسارّة. و الرجم بالظنّ: القول عنه. و الغيابة: ظلمة قعر البئر. و مصائخ الأسماع: خروقها. و الإصاخة: التسمّع. و الولائج: المداخل. و الأكمام: جمع كمّ بالكسر و هو غلاف الطلع. و المنقمع: محلّ الانقماع و هو الارتداع. و لحاء الشجرة: قشرها. و الأفنان: الأغصان. و الأمشاج: النطفة المختلطة بالدم، و تعفو: تمحو. و شناخيب الجبال: رؤوسها. و ذراها: أعاليها. و التغريد: ترديد صوت الطائر. و الدياجير: جمع ديجور و هو الظلام و السدفة: الظلمة. و ذرّ الشارق: طلع. و رجع الكلمة: جوابها. و النقاعة: نقرة يجتمع فيها الدم. و اعتورته: أحاطت به. و العارفة: المعروف. و الخلّة. الفقر.
و أنعشه: أنهضه من عثرته.


و اعلم أنّ هذا الفصل يشتمل على فصول:
الفصل الأوّل: في تمجيد اللّه تعالى باعتبار خلقه للأرض في الماء و جملة من أحوالها و هو. إلى قوله: جواد طرقها، و فيه أبحاث:
البحث الأوّل: في الاستعارات و التشبيهات و أبحاث لفظيّة.
الأوّل:
استعارة لفظ الكبس لخلقه لها غائصا معظمها في الماء كما يغوص بعض الزقّ المنفوخ و نحوه بالاعتماد عليه.
الثاني:
استعارة لفظ الاستفحال للموج، و وجه المشابهة ما اشترك فيه الموج و الفحل من الاضطراب و الهيجان و الصولة.
الثالث:
تشبيهه بالفحول أيضا و وجه الشبه ما يظهر على رؤس الموج عند اضطرابه و غليانه من رغوة الزبد كما يظهر من فم الفحل عند هياجه.
الرابع:
استعار لفظ الجماح لحركة الماء على غير نسق و اضطراب لا يملك معه تصريفه كما يجمح الفرس.
الخامس:
استعار أوصاف الناقة من الكلكل و الكاهل للأرض و رشّح تلك الاستعارة بالوطى و التمعّك. و إنّما خصّ الصدر و الكاهل لقوّتهما و كنّى بالمجموع عن إلحاقها بالناقة.

السادس:
استعار للماء لفظ الاستخذاء و القهر و لفظ الحكمة و الانقياد و الأسر و كنّى بها عن إلحاقه بحيوان صايل قهر كالفرس و أضاف الحكمة إلى الذلّ إضافة للسبب إلى المسبّب.
السابع:
استعار لفظ النخوة، و البأو، و شموخ الأنف، و الغلواء، و النزق، و الزيفان، و الوثبات للماء في هيجانه و اضطرابه ملاحظة لشبهه بالإنسان المتجبّر التيّاه في حركاته المؤذنة بتكبّرة و زهوه.
الثامن:
استعار لفظ الأكتاف للأرض، و وجه المشابهة كون الأرض محلّا لحمل ما يثقل من الجبال كما أنّ كتف الإنسان و غيره محلّ لحمل الأثقال.
التاسع:
استعار لفظ العرنين و الأنف لأعالى رؤس الجبال كناية عن إلحاقها بالإنسان.
العاشر:
كنّى بالتغلغل و التسرّب عمّا يتوهّم من نفوذ الجبال في الأرض و غوصها فيها، و استعار لفظ الخياشيم لتلك الأسراب الموهومة. و لمّا جعل للجبال انوفا جعل تلك الأسراب المتوهّم قيام الجبال فيها خياشيم.
الحادى عشر:
استعار لفظ الركوب للجبال و الأعناق للأرض كناية عن إلحاقهما بالقاهر و المقهور.
الثاني عشر:
استعار لفظ الوجدان و الذريعة للجداول كناية عن إلحاقها بالإنسان عديم الوسيلة إلى مطلوبه.
الثالث عشر:
الضميران في تغلغلها و ركوبها و الضمير في خياشيمها يعود إلى الأرض و باقى الضمائر ظاهر.
الرابع عشر:
تجوّز في إسناد لفظ الإحياء و الاستخراج إلى السحاب إذ المخرج هو اللّه تعالى.
الخامس عشر:
كنّى بعدم النوم عن عدم إخفاء و ميض البرق في السحاب كناية بالمستعار.
السادس عشر:
استعار لفظ الهدب لقطرات المطر المتّصلة يتلو بعضها بعضا ملاحظة لشبهها بالخيوط المتدلّية [المستدلية خ‏].

السابع عشر:
استعار لفظ الدرر و الأهاضيب و هى الجلباب للغمام كناية عن إلحاقها بالناقة.
الثامن عشر:
أسند المرى إلى الجنوب مجازا أو لأنّ لها سببيّة ما في نزول الغيث و إنّما خصّ الجنوب لأنّها في أكثر البلاد حارّة رطبة أمّا الحرارة فلأنّها تأتى من الجهة المتسخّنة بمقاربة الشمس، و أمّا الرطوبة فلأنّ البخار أكثرها جنوبيّة و الشمس تفعل فيها بقوّة و يتبخّر عنها أبخرة تخالط الرياح و إذا كان كذلك كان الجنوب أولى بالذكر من وجهين: أحدهما: أنّها أكثر استصحابا للأبخرة فلذلك كان السحاب أكثر انعقادا معها و مصاحبة لها الثاني: أنّها لحرارتها تفتح المسامّ، و لرطوبتها ترخى فكان درور المطر عنها أكثر.
التاسع عشر:
استعار لفظ البرك و البوانى للسحاب و أسند إليه الإلقاء كناية عن إلحاقه بالجمل الّذى أثقله الحمل فرمى بصدره إلى الأرض.
العشرون:
نسب الابتهاج و الازدهاء و اللبس إلى الأرض ذات الأزاهير مجازا ملاحظة لشبهها بالمرأة المتبجّحة بما عليها من فاخر الملبوس و جميل الثياب.

البحث الثاني: أن مقتضى الكلام أنّ اللّه خلق الماء قبل الأرض ثمّ دحاها فيه و سكن بها مستفحل أمواجه
و هذا ممّا شهد به البرهان العقلىّ فإنّ الماء لمّا كان حاويا لأكثر الأرض كان سطحه الباطن المماسّ لسطحه الظاهر مكانا لها و ظاهر أنّ للمكان تقدّما باعتبار ما على المتمكّن فيه و إن كان اللفظ يعطى تقدّم خلق الماء على خلق الأرض تقدّما زمانيّا كما هو المقبول عند السامعين.

البحث الثالث: أنّه اشير إلى كونها مدحوّة في القرآن الكريم أيضا
وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها مع أنّ الأرض كرة كما ثبت بيانه في علم الهيئة. فلا بدّ من التأويل و قد نبّهنا إليه في قوله: اللهم داحى المدحوّات، و قد ورد في الخبر: أنّ الأرض دحيت من تحت الكعبة. قال بعض العارفين: الإشارة بالكعبة إلى كعبة وجود واجب الوجود الّتى هى مقصد وجوه المخلصين الّتى جعلت هذه الكعبة في عالم الشهادة مثالا لها و دحوها من تحتها عبارة عن وجودها عن ذلك المبدأ.

البحث الرابع: الإشارة إلى خلق الجبال فيها و كونها سببا لسكونها
و للناس في تكوين ما تكوّن من الجبال فيها وجوه: أحدها: أنّه قد يكون عن بخار زالت مياهها. الثاني: قد يكون عن زلزلة فصلت قطعة على ناحية فارتفعت. الثالث: قد تكون عن رياح جمعت بهبوبها ترابا فتراكم و علا. الرابع: قد تكون لعمارات تراكمت فتخرّبت. فأمّا كونها أسبابا لسكون الأرض فقد سبقت الإشارة إليه في الخطبة الاولى، و اعلم أنّ البرهان مطابق على الشهادة بسكونها كما اشير إليه في مظانّه.

البحث الخامس: في تفجير ينابيع العيون في الجبال و غيرها
و قد أشار العلماء إلى أسبابه فقالوا: إنّ الأدخنة و الأبخرة ما يحتبس منها تحت الأرض و فيه ثقب و فرج فيها هواء تبرّد الأبخرة و الهواء فيصير ماء فما له قوّة و مدد يتفجّر عيونا و يجرى على الولاء لعدم مدخل الهواء بين الخارج و ما يتّصل به و يتبعه، و ما لا مدد له من العيون يركد، و ما له مدد إلّا أنّ أجزاءه مبدّدة و الأرض واهية لا تحتاج إلى مقاومة يتحصّل منه القنوات، و ماء البئر أيضا من قبيل ماله مدد لكنّه لم يجد سبيلا إلى أحد الجوانب لعدم رخاوة أرضه فخالف القنوات. و إنّما خصّ الجبال بتفجّر العيون منها لأنّ العيون أكثر ما يتفجّر من الجبال و الأماكن المرتفعة و ذلك لشدّة احتقان الأبخرة تحتها بالنسبة إلى ساير الأماكن الهابطة الرخوة فإنّ الأرض إذا كانت رخوة نفضت البخار عنها فلا يكاد يجتمع منه قدر ما يعتدّ به و لأنّ هذا التخصيص أدّل على حكمة الصانع و عنايته بالخلق. و هو في معرض تمجيده و تعديد آلائه.

البحث السادس: أنّه أعدّ الهواء لساكنها
و اعلم أنّه سبحانه كما جعل الهواء عنصرا لأبدان الحيوان و أرواحه البدنيّة كذلك جعله مددا يصل إلى الأرواح و يكون علّة لصلاحها و بقاءها بالتعديل و ذلك التعديل يكون بفعلين: أحدهما: التزويح، و الثاني: التفتية. أمّا التزويح فهو تعديل مزاج الروح الحارّ إذا أفرط بالاحتقان في الأكثر فإنّ الهواء الّذى يحيط بنا أبرد بكثير من ذلك المزاج فإذا وصل إليه باستنشاق الرية و من مسامّ منافس النبض و صدمه و خالطه منعه عن الاستحالة إلى الناريّة الاحتقانيّة المؤديّة إلى سوء مزاج يزول به عن الاستعداد لقبول التأثير النفسانىّ الّذى‏ هو سبب الحياة، و أمّا التنقية فهى باستصحابه عند ردّ النّفس لما سلّمته إليه القوّة المميّزة من البخار الدخانىّ الّذى نسبته إلى الروح نسبة الخلط الفضلىّ إلى البدن فكما أنّ التعديل هو بورود الهواء على الروح عند الاستنشاق فالتنقية بصدوره عنه عند ردّ النفس و ذلك أنّ الهواء المستنشق إنّما يحتاج إليه في تعديله أوّل وروده لكونه باردا بالفعل فإذا استحال إلى كيفيّة الروح بالتسخّن لطول مكثه بطلت فايدته فاستغنى عنه و احتيج إلى هواء جديد يدخل و يقوم مقامه فدعت الضرورة إلى إخراجه لإخلاء المكان لمعاقبه و ليندفع معه فضول جوهر الروح. فهذا معنى قوله عليه السّلام: و أعدّ الهواء متنسّما لساكنها. و اعتبار إعداده لمنفعة الحيوان أعمّ ممّا ذكرنا فإنّه أيضا معدّ لساير الأمزجة المعدنيّة و النباتيّة و الحيوانيّة الّتى يحتاج الإنسان في بقائه إليها و كونه عنصرا لها و معتبرا في بقائها. و عند ملاحظة هذه المنافع عن الهواء يظهر أثر نعمة اللّه به.

البحث السابع: في إخراجه تعالى أهل الأرض إليها بعد تمام مرافقها
كما قال تعالى وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها وَ أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ مَوْزُونٍ وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَ مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ«» و الإشارة بأهلها المخرجين إليها إلى الحيوان مطلقا. و أعلم أنّ أوّل ارتفاقهم بها أن جعلها قرارا لهم صالحا للسكنى عليها كما قال تعالى الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً و لكونها فراشا شرايط: أحدها: أن تكون ساكنة ليصحّ الاستقرار عليها و التصرّف فيها بحسب الاختيار و موافقة المصلحة دون كونها متحرّكة. الثاني: أن تكون خارجة من الماء و ذلك أنّ الإنسان و غيره من الحيوان البريّة لا يمكنه أن يعيش في الماء فاقتضت عناية الحقّ سبحانه بالحيوان أن أبرز بعضها من الماء ليعيش فيه و يتصرّف عليه. الثالث: أن لا يكون في غاية الصلابة كالحجر و إلّا لكان النوم و المشى عليها مولما، و أيضا لم يكن لينبت فيها أنواع النبات و الأشجار، و أيضا لكانت تسخن في الصيف‏ كثيرا و تبرد كثيرا في الشتاء فما كانت تصلح لسكنى الحيوان، و أيضا كان يتعذّر حفرها و تركيب بعضها ببعض. الرابع: أن لا يكون في غاية الرخاوة كالماء و غيره من المايعات الّتى يغوص فيه الإنسان. الخامس: أنّه سبحانه لم يخلقها في غاية الشفّافيّة و اللطافة فإنّها إن كانت مع ذلك جسما سيّالا كالهواء لم يتمكّن من الاستقرار عليه و إن كان جسما ثابتا صيقلا برّاقا احترق الحيوان و ما عليها بسبب انعكاس أشعّة الشمس عليها كما يحترق القطن إذا قرب من المرايا المحاذية للشمس و البلّور لكنّه خلقها غبراء ليستقرّ النور على وجهها فيحصل فيها نوع من السخونة، و خلقها كثيفة لئلّا تنعكس الأشعّة منها على ما فيها فتحرقه فصارت معتدلة في الحرّ و البرد تصلح أن تكون فراشا و مسكنا للحيوان.

المنفعة الثانية: خلق الجبال فيها و تفجيرها بالماء كما سبقت الإشارة إليه.
المنفعة الثالثة: ما يتولّد فيها من المعادن و النبات و الحيوان و فى أنواع كلّ من هذه الموجودات و اختلاف أصنافه و ألوانه و روايحه و طعومه ولينه و صلابته و ملاسته و خشونته ما لا يحصى من المنافع الّتى يحتاج إليها الإنسان في بقائه و صلاح حاله.
المنفعة الرابعة: كونها أصلا لبدن الإنسان، و ذلك أنّ الماء لرقّته و رطوبته لا يحفظ الشكل و التصوير فإذا خلط بالتراب حصل له قوام و استمساك و حصل قبول الأشكال و التخطيط كما قال تعالى إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي. المنفعة الخامسة: قبولها للحياة بعد الموت كما قال تعالى وَ آيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها.

البحث الثامن: في تمجيده تعالى باعتبار إنشائه للسحاب و البرق
و النظر في وجه الحكمة فيه و في أصله و في حياة الأرض به: أمّا وجه الحكمة في إنشائه فكونه مادّة لما ينبت في الأرض الجرز ممّا هو قوام بدن الحيوان و غذاء له كما أشار إليه عليه السّلام بقوله: ثمّ لم يدع جرز الأرض الّتى تقصر مياه العيون و الأنهار عنها و لا تجد جداول الأرض ذريعة إلى بلوغها إلى قوله: و جعل ذلك بلاغا للأنام و رزقا للأنعام. و نحوه قوله‏ تعالى أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَ أَنْفُسُهُمْ أَ فَلا يُبْصِرُونَ«»

البحث التاسع: في تمجيده باعتبار تخريقه للفجاج في آفاقها
أى الطرق الواسعة في نواحيها كما قال تعالى وَ جَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ«» ثمّ باعتبار إقامته المنار للسالكين فيها. و الإشارة بالمنار إمّا إلى لنجوم كما قال تعالى وَ عَلاماتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ أو إلى الجبال.
الفصل الثاني: في تمجيده تعالى باعتبار خلقه لآدم
و اختياره له و إتمام نعمته عليه، و مقابلته بالعصيان و مقابلة عصيانه بقبول توبته و إهباطه إلى الأرض و إكرام ذريّته بعده ببعثه الأنبياء منهم و إليهم و قسمته بينهم معيشتهم و آجالهم بالقلّة و الكثرة و ابتلائه لهم بذلك، و هو من قوله: فلمّا مهّد أرضه و أنفذ أمره. إلى قوله: و قاطعا لمرائر أقرانها، و اعلم أنّ الكلام في قصّة آدم عليه السّلام قد سبق في الخطبة الاولى مستوفى فلا نعيده غير أنّ في هذا الكلام فوائد:
الفائدة الاولى: معنى قوله: مهّد أرضه
أى جعلها مهادا كقوله تعالى أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً أو جعلها مهدا كقوله تعالى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً و على التقدير الأوّل أراد أنّه لمّا خلقها بحيث يسهل على العباد أن يتصرّفوا فيها بالقعود و القيام و الزراعة و ساير جهات المنفعة و أنفذ أمره في خلق آدم خلقه بعد ذلك، و على التقدير الثاني يكون لفظ المهد استعارة لها ملاحظة لتشبيهها بمهد الصبىّ في كونه محلّ الراحة و النوم.
الفائدة الثانية: قوله: و أنفذ أمره
أى في إيجاد مخلوقاته و تمامها فحكم على العالم بالتمام باختيار نوع الإنسان الّذى هو تمام دائرة الوجود فقال له كن فكان.
الفائدة الثالثة: قوله: خيرة من خلقه
نصب على الحال و يحتمل النصب على المصدر و الشاهد على كونه خيرة اللّه من خلقه قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى‏ آدَمَ و قوله وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى‏ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا«» و بيان هذا التكريم من وجهين: أحدهما: قال أبو يزيد البسطامىّ: إنّ أنواع كرامات اللّه تعالى في حقّ البشر غير متناهية كما قال تعالى وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها هذا على سبيل الإجمال أمّا التفصيل فمن وجوه: الأوّل: أنّه سبحانه يمطر كلّ ساعة على المتوكّلين مطر الكفاية كما قال تعالى وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ. الثاني: أنّه يمطر كلّ ساعة على المطيعين مطر المودّة كما قال تعالى سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا«». الثالث: أنّ يمطر على المجتهدين مطر الهداية كما قال تعالى وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا«». الرابع: أنّه يمطر على الشاكرين مطر الزيادة كما قال لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ. الخامس: أنّه يمطر على المتذكّرين مطر البصيرة كما قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ«» الثاني: أنّ التكريم لآدم عليه السّلام و ذريّته إمّا بأحوال داخلة في الإنسان أو خارجة عنه و الداخلة فيها إمّا بدنيّة أو غيرها: أمّا البدنيّة الّتى اكرم بها فامور: الأوّل: الصورة الحسنة كما قال تعالى: وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ. الثاني: حسن القامة و التعديل كما قال تعالى لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ و ذلك أنّ الشي‏ء كلّما كان أكثر علوّا و ارتفاعا كان أشرف في نوعه فإنّ أحسن الأشجار أعلاها امتدادا. الثالث: أنّه أكرمه بتمكينه من القيام و القعود و الاستلقاء و الانبطاح و الاضطجاع و ذلك أنّه تعالى ركّب الخلق على أصناف أربعة: أحدها: ما يشبه القائمين كالأشجار، و ثانيها: ما يشبه الراكعين كالبهائم، و ثالثها: ما يشبه الساجدين كالحشرات الّتى تدبّ على وجوهها و بطونها، و منها ما يشبه القاعدين كالجبال ثمّ إنّه سبحانه خلق الإنسان‏ قادرا على جميع هذه الهيئات، و مكنّه من ذكره على جميع هذه الأحوال كما قال تعالى الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى‏ جُنُوبِهِمْ«» و أمّا الأحوال الّتى اكرم بها غير بدنيّة فامور: أحدها: الروح الّتى هى محلّ العلم بأشرف الموجودات و مبدئها و هو اللّه تعالى كما قال وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ و شرّفه بإضافة روحه إليه، و بهذا التشريف تميّز عن ساير الموجودات في هذا العالم.

الثاني: العقل و شرفه من وجوه: الأوّل: روى أنّ اللّه تعالى أوحى إلى داود عليه السّلام إذا رأيت عاقلا فكن له خادما. الثاني: قول الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم: أوّل ما خلق اللّه العقل فقال له: أقبل فأقبل ثمّ قال له: أدبر فأدبر فقال: و عزّتى و جلالى ما خلقت خلقا أكرم علىّ منك، بك آخذوا بك اعطى و بك اثيب و بك اعاقب. و اعلم أنّ للعقل بداية و نهاية و كلاهما يسمّيان عقلا: أمّا الأوّل: فهو القوّة المهيّئة للعلوم الكلّيّة الضروريّة كما للطفل و هو المشار إليه بقول النبىّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم، و الثاني: العقل المستفاد و هو المشار اليه بقوله صلى اللّه عليه و آله و سلّم لعلىّ عليه السّلام: إذا تقرّب الناس إلى خالقهم بأبواب البرّ فتقرّب أنت إليه بعقلك تسبقهم بالدرجات و الزلفى عند الناس في الدنيا و عند اللّه في الآخرة. الثالث: العلم و الحكمة الّتى هى ثمرة العقل كما قال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ«» و قال يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَ ما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ«» و سمّاه حياة و نورا فقال أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ«» و أمّا التكرمة الخارجة عنه فامور: أحدها: أنّه خلق ما سواه منفعة له فقال: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً و قال: وَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً«» ففرش الأرض و جعل السماء سقفا محفوظا و جعل ما أخرج من الأرض رزقا له و ما أرسله من السحاب من ماء مادّة لذلك كما قال تعالى وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ«» و أكرمه بخلق الشمس و القمر و النجوم كما قال وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ و قوله وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ و قال: وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ«» و أكرمه بخلق الأنعام فجعل منها غذاءه و ملبوسه و راحته و جماله و زينته فقال وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْ‏ءٌ وَ مَنافِعُ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ وَ لَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ إلى قوله وَ الْخَيْلَ وَ الْبِغالَ وَ الْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَ زِينَةً وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ«». الثاني: روى عن أمير المؤمنين عليه السّلام في تفسير قوله تعالى وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ أنّه قال: بالدعوة إلى الجنّة كما قال وَ اللَّهُ يَدْعُوا إِلى‏ دارِ السَّلامِ.

لثالث: أنّه أكرمهم بتخيّر قلوبهم لمعرفته و ألسنتهم لشهادته و أبدانهم لخدمته فشرّفهم بتكليفه و بعثة الأنبياء إليهم من أنفسهم كما قال تعالى لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ«» ثمّ جعل آدم و الأنبياء من ذريّته أكرم عباده لديه فحباهم بالنبوّة و الرسالة كما قال تعالى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى‏ آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ«» ثمّ فضّل اولى العزم منهم فقال: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ثمّ فضّل بعضهم على بعض و هو الخليل و الكليم و الروح و الحبيب فقال تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى‏ بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ«» ثمّ فضّل محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم على الكلّ فقال وَ كانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً«» و جعله غاية طينتهم و خاتمة كمالهم فقال وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ«».

الفائدة الرابعة: قوله: و جعله أوّل جبلّته
إشارة إلى أنّ آدم أوّل شخص تكوّن في الوجود من نوع الإنسان، و قوله: و المخاطرة بمنزلته: أى عند اللّه و كونه مستحقّا للقرب منه، و قوله: موافاة لسابق علمه إشارة إلى أنّ وقوعه في الوجود بقدر عن ضابط القلم‏ و القضاء الإلهىّ السابق.

الفائدة الخامسة: قوله: فأهبطه بعد التوبة
من قال: إنّ المراد بآدم هو نوع النفوس البشريّة و قد ثبت أنّه حادث أو أنّه هو الشخص الأوّل منها قال: إنّ التوبة قبل الإهباط هى التوبة بالقوّة المعلومة للّه من عصاة أولاد آدم التائبين إليه قبل إهباط نفوسهم من درجات عرفانه، و إلفات وجوههم إلى عمارة الأرض، و الاشتغال بالحرث و النسل، و الأنبياء عليهم السّلام يرجعون عن المباحات إلى ما هو الأولى و الأهمّ من عبادة اللّه و مطالعة أنوار كبريائه و يعدّون ما رجعوا عنه ذنوبا، و رجوعهم عنه توبة كما قال النبىّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّه ليغان على قلبى فأستغفر اللّه في اليوم سبعين مرّة، و ليس ذلك المستغفر منه إلّا اشتغال ذهنه بتدبير امور الأرض و عمارتها و اشتغاله بذلك عن الخلوة باللّه و استشراق أنوار قدسه.

الفائدة السادسة: قوله: و ليقيم الحجّة به على عباده
الّذين بعث آدم حجّة عليهم أمّا أولاده الموجودون في زمانه و المنقول أنّه مات عن أربعين ولد، أو من بلغته سنّته منهم بعد وفاته و المنقول أنّ اللّه تعالى أنزل من الأحكام تحريم الميتة و الدم و لحم الخنزير و حروف المعجم في أحدى و عشرين ورقة و هو أوّل كتاب كان في الدنيا أجرى اللّه عليه الألسنه كلّها.

الفائدة السابعة: قوله: و لم يخلهم بعد أن قبضه ممّا يؤكّد عليهم حجّة ربوبيّته
أى أنّ حجّة ربوبيّته قائمة عليهم في كيفيّة تخليقه لهم، و خلق ما يستدلّون عليه به من صنعه كما قال تعالى سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ«» الآية و غيره من الآيات. و إنّما يكون بعثة الأنبياء مؤكّدة لتلك الحجج مذكّرة للغافلين عنها بها و منبّهة على وجودها و موصلة بينهم و بين معرفته بما جاءت به من الكتب المنزلة و السنن الشرعيّة، و قوله: بلغ المقطع عذره و نذره: أى إعذاره إلى الخلق و إنذاره لهم بلغ الغاية. و مقطع كلّ شي‏ء غايته.

الفائدة الثامنة: تقدير اللّه أرزاقهم تقسيمه لها
و إعطاء كلّ مخلوق ما كتب له في اللوح المحفوظ منها من قليل و كثير و ضيّق و واسع و متيسّر و متعسّر و معاقبة الأضداد عليهم من تنغيض سعة الغنى بلواحق الفقر و الفاقة كما قال: و بينما الإنسان في ملكه أصبح محتاجا إلى الفلس. و كذلك إلحاقه السلامة في النعم بطوارق الآفات من غرق أو حرق أو غصب ظالم و غلب غاشم و كذلك وسعة الأرزاق و فرج أفراحها و تكديرها بغصص أحزانها و أتراحها ثمّ خلقة الآجال متفاوتة بالطول و القصر و التقدّم و التأخّر.

الفائدة التاسعة: تقديره للموت متّصلا بأسبابها
و لمّا كان الأجل عبارة عن وقت ضرورة الموت و كانت أسباب حلول تلك الآفات هى بعض الأمراض أو القتل مثلا لا جرم صدق أنّ الموت الّذى هو عبارة عن مفارقة الأرواح لأجسادها متّصلا بتلك الأسباب، و استعار لفظ الخلج و هو الجذب للموت، و رشّح بذكر الأشطان، و وجه المشابهة ما يستلزمه الموت من قرب الأجل كما يستلزمه الجاذب من قرب المجذوب إليه فقدّر الموت جاذبا للأجل بالحبال كما يجذب بها الإنسان ما يريد، و أمّا كونه قاطعا لمرائر أقرانها فاستعار أيضا لفظ المرائر لأسباب العلاقة بين اقتران الآجال و هم المتقاربون في الزمان الواحد الّذى يتّصل بهم الأجل و تلك الأسباب كالصداقة و الاخوّة و ساير أسباب العلاقة بين الناس، و ظاهر كون الموت قاطعا لتلك المرائر.

الفائدة العاشرة: أنّه عليه السّلام جعل قسمة اللّه تعالى للأرزاق و تقديرها بالكثرة و القلّة و الضيق و السعة صورة ابتلاء من اللّه  للشكر من الأغنياء و الصبر من الفقراء و قد أشرنا في قوله: ألا إنّ الدنيا دار لا يسلم منها إلّا فيها. إلى أنّ المراد بالإبتلاء من اللّه معاملته تعالى لعباده معاملة المبتلين المختبرين لأنّه سبحانه عالم الخفيّات و السرائر فلا يتصوّر في حقّه الاختبار حقيقة، إلّا أنا نزيده هاهنا بيانا فنقول: إنّ العبد إذا تمكّن في خاطره أنّ ما يفعله اللّه من إفاضة نعمه عليه أو حرمانه لها ابتلاء لشكره أو صبره فشكر أو صبر حصل من شكره أو صبره على ابتلائه ملكات فاضلة في نفسه يستعدّ بها لمزيد الكمال و تمام النعمة كما قال تعالى لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ و قال وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ«» و أمّا التحقيق في أمثال هذه القسمة من ضيق‏ رزق أوسعة أو طول أجل أو قصره أو معاقبته شدّة لرخاء و حزنا لفرح فهو أنّ لكلّ واحد من هذه الامور أسباب قد تخفى على من تعرّض له و لا بدّ من انتهائها إلى قضاء اللّه فما عدّ منها خيرا فهو داخل في الإرادة الكلّيّة للخير المطلق بالذات و ما عدّ منها شرّا فداخل في القصاء الإلهىّ بالعرض كما علم ذلك في مظانّه، و باللّه التوفيق.

الفصل الثالث: في تمجيده سبحانه باعتبار كونه عالما بالأشياء
و عدّ من جزئيّاتها جملة هى من قوله: عالم السرّ من ضماير المضمرين إلى قوله: أو ناشئة خلق و سلالة. و لنشر إلى ما عساه يشكل من ألفاظه: الأوّل: خواطر رجم الظنون. لمّا كان الخاطر الظنىّ للإنسان يتعلّق بمظنون لا محالة بعد أن لم يكن أشبه تعلّقه به الرجم و هو الرمى بالحجر و نحوه فاستعير لفظه له و إنّما خصّ الظنّ بذلك دون العلم لما أنّ كثيرا ما يظنّ ما لا يجوز ظنّا غير مطابق كما يظنّ ببعض الناس ما يقبح منه و يصل إليه بسببه أذى و إن لم يكن صدقا فكان أشبه الأشياء برميه بالحجر المستلزم لأذاه. الثاني: عقد عزيمات اليقين ما انعقد في النفس من العزم عن يقين. الثالث: و مسارق إيماض الجفون: لمّا أشبه شعاع البصر البرق في وميضه و اختفائه عند فتح الجفون و طبقها استعار لفظ الوميض لبروزه و لفظ المسارق لمخارجه. الرابع: استعار لفظ الأكنان للقلوب بالنسبة إلى ما أخفته من الأسرار، و لفظ الغيابات للغيوب، و وجه المشابهة كون القلوب حافظة كالبيوت، و كون الظلمات مانعة من إدراك المبصرات كما تمنع الغيوب إدراك ما فيها. الخامس: مصائف الذرّ و مشاتى الهوامّ: بيوتها و إشرابها الصيفيّة و الشتويّة من بطن الأرض الواقية لها حرّ الصيف و برد الشتاء. و رجع الحنين من المولهة: ترديد صوت الثكلى في بكائها و حنينها إلى من فقدته. السادس: و لائج غلف الأكمام. إنّما حسنت الإضافة هنا لأنّ كلّ كمّ غلاف و لا ينعكس فجاز تخصيص العامّ بالإضافة إلى بعض جزئيّاته. السابع: محطّ الأمشاج: محلّ نزول النطف من الأصلاب، و مساربها، و هى الأوعية الّتى يتسرّب فيها المنى و الأخلاط الّتى تتولّد عنها. الثامن: و ما تسقى الأعاصير بذيولها: أى ما تثيره و تذروه من التراب، و استعار لفظ الذيول لما اخذ الأرض منها. التاسع: استعار لفظ العوم لدخول عروق النبات في نواحى الأرض لملاحظة شبهها بالماء، و روى: بنات الأرض بتقديم الباء. و هى الهوامّ الّتى تنشأ في الرمل و تغوص فيه و تسير كالحلكة، و هى دويبة كالعظاءة دون الشبر صفراء ملساء تستعملها العرب للسمنة و كنوع من الحيّات و غيرها. العاشر: و تغريد ذوات المنطق استعار لفظ المنطق للطير، و وجه المشابهة أنّ مدلول تغريدها معلوم للّه فأشبه النطق المفيد من الإنسان. الحادى عشر: ما أوعبته الأصداف كاللؤلؤ و المرجان و ما حضنت عليه أمواج البحار من لؤلؤ و حيوان و غيرهما، و لفظ الحضن مستعار للأمواج ملاحظة لشبهها بالحواضن في انطباقها على البيض و الفراخ. الثاني عشر: سبحات النور ما تنزّه منه عن كدر الظلمة، و لفظ النور مستعار لمعارف جلال اللّه، و الضمير في قوله: عليها. يرجع إلى الأرض، و قرارة النطفة: مستقرّها من الأرحام، و لفظ النقاعة استعارة لمحلّ دم الحيض، و المضغة الولد في بعض أطوار خلقته كما عرّفناه قبل، و ناشئة الخلق: ما نشأ من مخلوقاته. الثالث عشر: لم يلحقه في ذلك كلفة. إلى قوله: و لا فترة. الكلفة: كون الفعل مستلزما لفاعله نوع مشقّة و تلك المشقّة إمّا لضعف قوّة الفاعل أو ضعف آلته أو قصور علمه عن تصوّر ما يفعل، و البارى تعالى منزّه عن هذه الامور لاستلزمها الحاجة، و كذلك العارضة من عوارض موانع العلوم و نفوذها يستلزم وجود المقام و المثل و قد تنزّه قدس الحقّ عنهما و أمّا الملالة فالمفهوم انصراف النفس عن الفعل بسبب تحلّل الأرواح الدماغيّة و ضعفها عن العمل أو لعارض آخر لها، و قد علمت أنّها من لواحق الأجسام و كذلك الفترة. و البارى منزّه عنهما. الرابع عشر: قوله: بل نفذ فيهم علمه. إلى قوله: و غمرهم فصله. أثبت كلّ واحدة من‏ هذه القراين الأربع مقابلة للأربع الّتى نفاها: فنفاذ علمه فيهم مقابل لما نفاه من لحوق الكلفة في علمه بهم، و إحصاؤهم بعده مقابل للأعراض العارضة في حفظ خلقه، و وسع عدله لهم مقابل لنفى اعتوار الملالة في تنفيذ اموره و تدبير مخلوقاته إذ كان معنى عدله فيهم وضعه لكلّ موجود في مرتبته و هبته له ما يستحقّه من زيادة و نقصان مضبوطا بنظام الحكمة و اعتراض الملالة سبب لاختلاف نظام الفعل، و قوله: و غمرهم فضله مقابل لنفى الفترة فإنّ فتور الفاعل عن الفعل مانع له عن تتمّة فعله و تمام وجوده، و قوله: مع تقصيرهم عن كنه ما هو أهله تنبيه على حقارة عبادتهم في جنب عظمته و استحقاقه لما هو أهله ليدوم شكرهم و ثنائهم و لا يستكبروا شيئا من طاعتهم، و باللّه التوفيق.


الفصل الرابع: في تمجيده خطابا له و دعاء و طلبا لجزاء ما سبق من ثنائه
و تعديد أوصافه الجميلة و هو رضاه عنه و إغناؤه من غيره.
و فيه إشارات:
الاولى: قوله: أنت أهل الوصف الجميل و التعداد الكثير
إشارة إلى أنّه تعالى بحسب استحقاقه الوصف بأشرف طرفي النقيض كان أهل الوصف الجميل و باعتبار تعدّد ثنائه و حمده بالنظر إلى كلّ جزئىّ من جزئيّات نعمه هو أهل التعداد الكثير.

الثانية: و قد بسطت لى فيما لا أمدح به غيرك و لا أثنى به على أحد سواك
إشارة إلى إذنه له في شكره و الثناء عليه بالأوصاف الجميلة الّتى لا يستحقّها حقيقة إلّا هو و لا ينبغي أن تطلق إلّا له. و معنى هذه الإذن إمّا إلهام حسن شكر المنعم و مدحه و إذ لا منعم في الحقيقة إلّا هو فلا يستحقّ التمجيد المطلق إلّا هو. و مخاطبته له بايجاب الشكر كقوله تعالى وَ اشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ و بالتسبيح في قوله تعالى وَ مِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى‏ و قوله: وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا و استعار لفظ المعادن للخلق، و وجه المشابهة أنّ معدن الشي‏ء كما أنّه مظنّة المطلوب منها كذلك الخلق أرباب النعم الفانية مظانّ خيبة طالبها من أيديهم و حرمانها، و كذلك مواضع الريبة أى الشكّ في منعهم و عطائهم لها و لذلك فسّره بقوله: و عدلت بلسانى من مدايح الآدميّين و الثناء على المربوبين المخلوقين.

الثالثة: قوله: دليلا  نصب على الحال أو المفعول، و المراد برجائه دليلا على ذخاير الرحمة رجاؤه أن يسوقه بهدايته إلى وجوه الاستعدادات إلى رحمته و يستر عليه بتهيّئه للالتفات إليه عن كلّ خاطر سواه فإنّ كلّ خاطر سوى الحقّ سبحانه ذنب في حقّ مثله عليه السّلام، و لفظ الذخيرة و الكنوز مستعاران لجوده.

الرابعة: قوله: هذا مقام من أفردك بالتوحيد
إشارة إلى مقامه بين يديه بهذا الذكر و التوحيد في خطبته، و هو توطئة لذكر مطلوبه و استنزال رحمة اللّه ثمّ قال: و لى فاقة إليك فذكر وجه استحقاقه لجوده أوّلا و قصر سدّ تلك الفاقة على فضله إذ لم تكن فاقة فى أمر دنيوىّ يمكن المخلوقين الإتيان به ثمّ أردفه بذكر مطلوبه و هو رضا اللّه و إغناؤه عمّن سواه و ظاهر أنّ حصولها مستلزم لما رجاه اللّه دليلا عليه من ذخاير رحمته و كنوز مغفرته. و باللّه العصمة و التوفيق.


شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 2 ، صفحه‏ى 323

دیدگاه‌ها

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.