خطبه42شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام

و قد أشار عليه أصحابه بالاستعداد للحرب بعد إرساله جرير ابن عبد اللّه البجلى إلى معاوية إِنَّ اسْتِعْدَادِي لِحَرْبِ أَهْلِ الشَّامِ وَ جَرِيرٌ عِنْدَهُمْ- إِغْلَاقٌ لِلشَّامِ وَ صَرْفٌ لِأَهْلِهِ عَنْ خَيْرٍ إِنْ أَرَادُوهُ- وَ لَكِنْ قَدْ وَقَّتُّ لِجَرِيرٍ وَقْتاً لَا يُقِيمُ بَعْدَهُ- إِلَّا مَخْدُوعاً أَوْ عَاصِياً- وَ الرَّأْيُ عِنْدِي مَعَ الْأَنَاةِ فَأَرْوِدُوا- وَ لَا أَكْرَهُ لَكُمُ الْإِعْدَادَ- وَ لَقَدْ ضَرَبْتُ أَنْفَ هَذَا الْأَمْرِ وَ عَيْنَهُ- وَ قَلَّبْتُ ظَهْرَهُ وَ بَطْنَهُ- فَلَمْ أَرَ لِي إِلَّا الْقِتَالَ أَوِ الْكُفْرَ- إِنَّهُ قَدْ كَانَ عَلَى الْأُمَّةِ وَالٍ أَحْدَثَ أَحْدَاثاً- وَ أَوْجَدَ النَّاسَ مَقَالًا فَقَالُوا- ثُمَّ نَقَمُوا فَغَيَّرُوا

أقول: و قد كان في ظنّ كثير من الصحابة بعد ولاية علىّ عليه السّلام أنّ معاوية لا يطيع له بأمارات كثيرة، و لذلك أشار عليه أصحابه و بعد إرسال جرير إليه بالاستعداد لحربه، و روى أنّ جريرا لمّا أراد بعثه قال: و اللّه يا أمير المؤمنين ما أدّخرك من نصرتى شيئا، و ما أطمع لك في معاوية فقال عليه السّلام: قصدى حجّة أقمتها. ثمّ كتب معه: أمّا بعد فإنّ بيعتى بالمدينة لزمتك و أنت بالشام لأنّه بايعنى القوم الّذين بايعوا أبا بكر و عمر و عثمان على ما بايعوهم عليه فلم يكن للشاهد أن يختار و لا للغائب أن يردّ، و إنّما الشورى للمهاجرين و الأنصار إذا اجتمعوا على رجل فسمّوه إماما كان ذلك رضا فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو رغبة ردّوه إلى ما خرج منه فإن أبى قاتلوه على اتّباع غير سبيل المؤمنين و ولّاه اللّه ما تولّى و يصليه جهنّم و ساءت مصيرا، و إنّ طلحة و الزبير بايعانى ثمّ نقضا بيعتى فكان نقضهما كردّتهما فجاهدتهما على ذلك حتّى جاء الحقّ و ظهر أمر اللّه و هم كارهون. فادخل فيما دخل فيه المسلمون فإنّ أحبّ الامور إلىّ فيك العافية إلّا أن تتعرّض للبلاء فإن تعرّضت له قاتلتك و استعنت باللّه عليك. و قد أكثرت في قتلة عثمان فادخل فيما دخل فيه الناس ثمّ حاكموا القوم إلىّ أحملك و إيّاهم على كتاب اللّه فأمّا تلك الّتي تريدها فخدعة الصبّى عن اللبن، و لعمرى و إن نظرت بعقلك دون هواك لتجدنى أبرء قريش من دم عثمان، و اعلم أنّك من الطلقاء الّذين لا يتحلّى لهم الخلافة و لا يتعرّض فيهم الشورى، و قد أرسلت إليك جرير بن عبد- اللّه و هو من أهل الايمان و الهجرة فبايع و لا قوّة إلّا باللّه. و ربّما جاء شي‏ء من هذا الكتاب في كتبه عليه السّلام إلى معاوية. فأجابه معاوية أمّا بعد فلعمرى لو بايعك القوم‏ الّذين بايعوك و أنت برى‏ء من دم عثمان كنت كأبى بكر و عمر و عثمان و لكنّك أغريت بعثمان و خذلت عنه الأنصار فأطاعك الجاهل و قوى بك الضعيف، و قد أبى أهل الشام إلّا قتالك حتّى تدفع إليهم قتلة عثمان فإن فعلت كانت شورى بين المسلمين. و لعمرى ما حجّتك علىّ كحجّتك على طلحة و الزبير لأنّهما بايعاك و لم ابايعك، و ما حجّتك على أهل الشام كحجّتك على أهل البصرة لأنّهم أطاعوك و لم يطعك أهل الشام. فأمّا شرفك في الإسلام و قرابتك من النبىّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم و موضعك من قريش فلست أدفعه، و كتب في آخر الكتاب قصيدة كعب بن جميل.

أرى الشام تكره أهل العراق و أهل العراق لها كارهونا و قد ذكرنا بعضها قبل، و يروى أنّ الكتاب الّذي كتبه عليه السّلام مع جرير كانت صورته: إنّى قد عزلتك ففوّض الأمر إلى جرير و السلام. و قال لجرير: صن نفسك عن خداعه فإن سلّم إليك الأمر و توجّه إلىّ فاقم أنت بالشام، و إن تعلّل بشى‏ء فارجع.
فلمّا عرض جرير الكتاب على معاوية تعلّل بمشاورة أهل الشام و غير ذلك فرجع جرير.
فكتب معاوية في أثره على ظهر كتاب علىّ عليه السّلام: من ولّاك حتّى تعزلنى و السلام.

اللغة

و أقول: الاستعداد: التهيّؤ للأمر. و الخداع: الأخذ بالحيلة. و الأناة. الاسم من التأنّى و الرفق. و أرودوا: أمهلوا. و نقمت الأمر بفتح القاف: أنكرته.

المعنى

فقوله: إنّ استعدادى. إلى قوله: إن أرادوه.
المراد أنّ أهل الشام في زمان كون جرير عندهم هم في مقام التروّى و التفكّر في أىّ الأمرين يتّبعون. و إن لم يكن كلّهم فبعضهم كذلك فلو اعتدّ هو للحرب في تلك الحال لبلغهم ذلك فاحتاجوا إلى الاستعداد أيضا و التأهّب للقائه فكان ذلك الاستعداد سببا لغلق الشام بالكلّيّة، و صرفا لمن يكون في ذهنه تردّد في هذا الأمر أوفى قلبه اللحقوق به عمّا يريد و ذلك مناف للحزم.

و قوله: قد وقّت. إلى قوله: عاصيا.
 أى قد وقّت له وقتا يصل إلينا فيه لا يتخلّف عنه إلّا لأحد مانعين إمّا خداع فيهم له و مواعيد مخلّفة بالجواب ليهيّؤوا امورهم في تلك المدّة، و إمّا عصيان منه و مخالفة.

فإن قلت: حصر تخلّف جرير في هذين المانعين غير صحيح لجواز أن يتخلّف لمرض أو موت أو غرض آخر.
قلت: إنّه عليه السّلام لم يقصد الحصر اليقينىّ و إنّما أراد الحصر بحسب غلبة الظنّ الناشى‏ء من الأمارات و القرائن الحاليّة ثمّ كلامه عليه السّلام ليس في الأسباب الاضطراريّة الّتي من قبل اللّه تعالى فإنّ ذلك أمر مفروغ منه لا يحسن ذكره، و أمّا الموانع الاختياريّة فأمّا منهم و غالب الظنّ هو الخداع، و أمّا منه و غالب الظنّ أنّه العصيان إذ لا يتصوّر من مثل جرير و قد أرسل في مثل هذا الأمر المهمّ أن يعدل عنه إلى شغل اختيارىّ لنفسه أو لغيره إلّا أن يكون عاصيا.

و قوله: و الرأى مع الأناة.
 رأى حقّ أجمع الحكماء على صوابه فإنّ إصابة المطالب و الظفر بها في الغالب إنّما هو مع التثبّت و التأنّى في الطلب، و ذلك أنّ أناة الطالب هى مظنّة فكره في الاهتداء إلى تلخيص الوجه الأليق و الأقيس و الأشمل للمصلحة في تحصيل مطلوبه، و لذلك أكّد بعض الحكماء الأمر بالتأنّى بقوله: من لم يتثبّت في الامور لم يعد مصيبا و إن أصاب. فالغرض و إن كان هو الإصابة إلّا أنّها و إن حصلت من غير التأنّى كان مفرطا و ثمرة التفريط غالبا الندامة و عدم الإصابة، و الإصابة منه نادرة و النادر غير منتفع به و لا ملتفت إليه.

و قوله: فأرودوا و لا أكره لكم الإعداد.
 لمّا نبّههم على فضيلة الأناة أمرهم بها و إن لم يأمرهم مطلقا بل نبّههم بقوله: و لا أكره لكم الإعداد على امور ثلاثة: أحدها: أنّه ينبغي لهم أن يكونوا على يقظة من هذا الأمر حتّى يكونوا حال إشارته إليهم قريبين من الاستعداد. الثاني: أن لا يتوهّم أحد منهم فيه مداخلة ضعف عن مفارقة أهل الشام فيداخلهم بسبب ذلك فشل و ضعف عزيمة. الثالث: ذكر شارح ابن أبى الحديد هو أنّه عليه السّلام و إن كان كره الاستعدادالظاهر إلّا أنّ قوله: و لا أكره لكم الإعداد. تنبيه لهم على الاستعداد الباطن و التهيّؤ في السرّ و ربما كان فرار الشارح بهذا الوجه ممّا يتوهّم تناقضا و هو كونه قد أشار بترك الاستعداد، ثمّ قال لأصحابه: و لا أكره لكم الإعداد، و قد علمت أنّ تركه للاستعداد في ذلك الوقت و اختياره تركه لا ينافي تنبيههم على عدم كراهيّته له ليكونوا منه على يقظة كما أو مأنا إليه.

و قوله: و لقد ضربت. إلى قوله: أو الكفر.
 أقول: استعار لفظ العين و الأنف و الظهر و البطن الّتي حقايق في الحيوان لحاله مع معاوية في أمر الخلافة و خلاف أهل الشام له استعارة على سبيل الكناية.

فكنّى بالعين و الأنف عن المهمّ من هذا الأمر و خالصه فإنّ العين و الأنف أعزّ ما في الوجه، و كنّى بالضرب بهما عن قصده للمهمّ منه على سبيل الاستعارة أيضا، و كنّى بلفظ الظهر و البطن لظاهر هذا الأمر و باطنه و وجوه الرأى فيه، و لفظ التقليب لتصفّح تلك الوجوه و عرضها على العقل واحدا واحدا.

قوله: فلم أر لى إلّا القتال أو الكفر.
 تعيين لما اختاره بعد التقليب و التصفّح لوجوه المصلحة في أمر مخالفيه و هو قتالهم، و نبّه على وجه اختياره له بقوله: أو الكفر: أى أنّ أحد الأمرين لازم إمّا القتال أو الكفر، و ذلك أنّه إن لم يختر القتال لزم تركه و تركه مستلزم للكفر لكن التزام الكفر منه محال فتعيّن اختياره للقتال، و مراده بالكفر الكفر الحقيقىّ فإنّه صرّح بمثله فيما قبل حيث يقول: و قد قلّبت هذا الأمر بطنه و ظهره حتّى منعنى القوم فما وجدتنى يسعني إلّا قتالهم أو الجحود بما جاء به محمّد صلى اللّه عليه و آله و سلّم. فإن قلت: ما وجه الحصر في القتال و الجحود مع أنّ ترك القتال بدون الجحد ممكن.

قلت: بيانه من وجهين.
أحدهما: قال الشارحون: إنّ الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم كان قد أمره بقتال من خالفه، لقوله: امرت أن اقاتل الناكثين و القاسطين و المارقين. فلو ترك قتالهم مع ما عليه أمر الإسلام من الخطر لكان قد خالف أمر الرسول و ظاهر أنّ مخالفة مثله عليه السّلام لأوامر الرسول لا يتصوّر إلا عن عدم اعتقاد صحّتها و ذلك جحد به و كفر. الثاني: يحتمل أن يكون قد تجوّز بلفظ الجحود في التهاون بهذا الأمر تعظيما له في نفوس السامعين و هو من المجازات الشائعة.

و قوله: إنّه قد كان. إلى آخره.
تنبيه على وجه عذره عمّا نسبه إليه معاوية و جعله سببا لعصيانه له و هو الطلب بدم عثمان و تهمته له بذلك، و أراد بالوالى عثمان. و الأحداث الّتي أحدثها هو ما نسب إليه من الأمور الّتي أنكروها عليه كما سنذكرها. و أوجد الناس مقالا: أى جعل لهم بتلك الأحداث طريقا إلى القول عليه فقالوا، ثمّ أنكروا ما فعل فعيّروه و أزالوه. فأمّا الأحداث المنقولة عنه فالمشهور منها بين أهل السير عشرة: الاولى: توليته امور المسلمين من ليس أهلا من الفسّاق مراعاة للقرابة دون حرمة الإسلام كالوليد بن عقبة حتّى ظهر منه شرب الخمر، و سعيد بن العاص حتّى ظهرت عنه الامور الّتي أخرجه أهل الكوفة منها بسببها، و عبد اللّه بن أبي سرح مع قوّة ظلمه و تظلّم المصريّين منه و هو الّذي اتّهمه المسلمون بمكاتبته بقتل محمّد بن أبي بكر، و نقل أنّهم ظفروا بالكتاب و لأجله عظم التظلّم و كثر الجمع و اشتدّ الحصار عليه. الثانية: ردّه للحكم بن أبي العاص إلى المدينة بعد طرد رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم، و بعد امتناع أبي بكر و عمر من ردّه. فخالف في ذلك سنّة الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم و سيرة الشيخين، و عمل بدعواه مجرّدة من البيّنة. الثالثة: أنّه كان يؤثر أهله بالأموال العظيمة من بيت المال من غير استحقاق و ذلك في صور: منها أنّه دفع إلى أربعة نفر من قريش زوّجهم ببناته أربع مائة ألف دينار، و منها أنّه أعطى مروان مائة ألف دينار، و روى خمس إفريقيّة و ذلك مخالف لسنّة الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم و من بعده من الخلفاء. الرابعة: أنّه حمى الحمى عن المسلمين بعد تسوية الرسول بينهم في الماء و الكلاء. الخامسة: أنّه أعطى من بيت مال الصدقة المقاتلة و غيرها و ذلك ممّا لا يجوز في الدين. السادسة: أنّه ضرب عبد اللّه بن مسعود- رضي اللّه عنه- و هو من أكبر الصحابة، و علمائها حتّى كسر بعض أضلاعه و ذلك ظلم ظاهر. السابعة: أنّه جمع الناس على قراءة زيد بن ثابت خاصّة و أحرق المصاحف و أبطل ما لا شكّ أنّه من القرآن المنزل و ذلك مخالفة للّه و للرسول و لمن بعده. الثامنة: أنّه أقدم على عمّار بن ياسر- رحمه اللّه- بالضرب مع أنّه من أشرف الصحابة، و مع علمه بما قال الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم: عمّار جلدة ما بين عينىّ تقتله الفئة الباغية لا أنالها اللّه شفاعتى. حتّى أصابه الفتق، و لذلك صار عمّار مظاهرا لبعض المتظلّمين منه على قتله، و روى أنّه كان يقول: قتلناه كافرا. التاسعة: إقدامه على أبي ذر مع ثناء الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّم و صحبته له، و قوله فيه: ما أقلّت الغبراء و لا أظلّت الخضراء على ذى لهجة أصدق من أبي ذر. حتّى نفاه إلى الربذة العاشرة: تعطيله الحدّ الواجب على عبيد اللّه بن عمر بن الخطاب فإنّه قتل الهرمزان مسلما بمجرّد تهمته أنّه أمر أبا لؤلؤة بقتل أبيه ثمّ لم يقده به و قد كان علىّ عليه السّلام يطلبه بذلك. فهذه هى المطاعن المشهورة فيه. و قد أجاب الناصرون لعثمان عن هذه الأحداث بأجوبة مستحسنة و هى مذكورة في المطوّلات من مظانّها و إنّما ذكرنا هذه الأحداث و أوردناها مختصرة لتعلّق المتن بذكرها.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ ميثم)، ج 2 ، صفحه‏ى 110

دیدگاه‌ها

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.