نامه 78 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

78 و من كتاب له ع أجاب به أبا موسى الأشعري

 عن كتاب كتبه إليه-  من المكان الذي اتعدوا فيه للحكومة-  و ذكر هذا الكتاب سعيد بن يحيى الأموي في كتاب المغازي: فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ تَغَيَّرَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ حَظِّهِمْ-  فَمَالُوا مَعَ الدُّنْيَا وَ نَطَقُوا بِالْهَوَى-  وَ إِنِّي نَزَلْتُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ مَنْزِلًا مُعْجِباً-  اجْتَمَعَ بِهِ أَقْوَامٌ أَعْجَبَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ-  وَ أَنَا أُدَاوِي مِنْهُمْ قَرْحاً أَخَافُ أَنْ يَعُودَ عَلَقاً يَعُودُ-  وَ لَيْسَ رَجُلٌ فَاعْلَمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى جَمَاعَةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ص-  وَ أُلْفَتِهَا مِنِّي-  أَبْتَغِي بِذَلِكَ حُسْنَ الثَّوَابِ وَ كَرَمَ الْمَآبِ-  وَ سَأَفِي بِالَّذِي وَأَيْتُ عَلَى نَفْسِي-  وَ إِنْ تَغَيَّرْتَ عَنْ صَالِحِ مَا فَارَقْتَنِي عَلَيْهِ-  فَإِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ نَفْعَ مَا أُوتِيَ مِنَ الْعَقْلِ وَ التَّجْرِبَةِ-  وَ إِنِّي لَأَعْبَدُ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ بِبَاطِلٍ-  وَ أَنْ أُفْسِدَ أَمْراً قَدْ أَصْلَحَهُ اللَّهُ-  فَدَعْ عَنْكَ مَا لَا تَعْرِفُ-  فَإِنَّ شِرَارَ النَّاسِ طَائِرُونَ إِلَيْكَ بِأَقَاوِيلِ السُّوءِ-  وَ السَّلَامُ روي و نطقوا مع الهوى-  أي مائلين مع الهوى- . و روي و أنا أداري بالراء-  من المداراة و هي الملاينة و المساهلة- .

 

و روي نفع ما أولى باللام يقول أوليته معروفا- . و روي-  إن قال قائل بباطل و يفسد أمرا قد أصلحه الله- . و اعلم أن هذا الكتاب كتاب من شك في أبي موسى-  و استوحش منه-  و من قد نقل عنه إلى أبي موسى كلاما إما صدقا و إما كذبا-  و قد نقل عن أبي موسى إليه كلاما إما صدقا أيضا و إما كذبا-  قال ع-  إن الناس قد تغير كثير منهم عن حظهم من الآخرة-  فمالوا مع الدنيا-  و إني نزلت من هذا الأمر منزلا معجبا-  بكسر الجيم أي يعجب من رآه-  أي يجعله متعجبا منه- .

و هذا الكلام شكوى من أصحابه و نصاره من أهل العراق-  فإنهم كان اختلافهم عليه و اضطرابهم شديدا جدا-  و المنزل و النزول هاهنا مجاز و استعارة-  و المعنى أني حصلت في هذا الأمر-  الذي حصلت فيه على حال معجبة لمن تأملها-  لأني حصلت بين قوم كل واحد منهم مستبد برأي-  يخالف فيه رأي صاحبه-  فلا تنتظم لهم كلمة و لا يستوثق لهم أمر-  و إن حكمت عليهم برأي أراه أنا خالفوه و عصوه-  و من لا يطاع فلا رأي له-  و أنا معهم كالطبيب الذي يداوي قرحا-  أي جراحة قد قاربت الاندمال و لم تندمل بعد-  فهو يخاف أن يعود علقا أي دما- .

ثم قال له-  ليس أحد فاعلم-  أحرص على ألفة الأمة و ضم نشر المسلمين- . و أدخل قوله فاعلم بين اسم ليس و خبرها فصاحة-  و يجوز رفع أحرص بجعله صفة لاسم ليس-  و يكون الخبر محذوفا أي ليس في الوجود رجل- . و تقول قد وأيت وأيا أي وعدت وعدا-  قال له أما أنا فسوف أفي بما وعدت-  و ما استقر بيني و بينك-  و إن كنت أنت قد تغيرت عن صالح ما فارقتني عليه- .

فإن قلت فهل يجوز أن يكون قوله-  و إن تغيرت من جملة قوله فيما بعد-  فإن الشقي-  كما تقول إن خالفتني فإن الشقي من يخالف الحق- . قلت نعم و الأول أحسن-  لأنه أدخل في مدح أمير المؤمنين ع-  كأنه يقول أنا أفي و إن كنت لا تفي-  و الإيجاب يحسنه السلب الواقع في مقابلته- و الضد يظهر حسنه الضد- .

ثم قال و إني لأعبد أي آنف-  من عبد بالكسر أي أنف-  و فسروا قوله فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ بذلك-  يقول إني لآنف من أن يقول غيري قولا باطلا-  فكيف لا آنف أنا من ذلك لنفسي-  ثم تختلف الروايات في اللفظة بعدها كما ذكرنا- . ثم قال فدع عنك ما لا تعرف-  أي لا تبن أمرك إلا على اليقين و العلم القطعي-  و لا تصغ إلى أقوال الوشاة و نقلة الحديث-  فإن الكذب يخالط أقوالهم كثيرا-  فلا تصدق ما عساه يبلغك عني شرار الناس-  فإنهم سراع إلى أقاويل السوء-  و لقد أحسن القائل فيهم- 

 أن يسمعوا الخير يخفوه و إن سمعوا
شرا أذاعوا و إن لم يسمعوا كذبوا

و نحو قول الآخر-

إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا
و إن ذكرت بخير عندهم دفنوا

  شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 18

نامه 76 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

76 و من وصية له ع لعبد الله بن العباس-  عند استخلافه إياه على البصرة

سَعِ النَّاسَ بِوَجْهِكَ وَ مَجْلِسِكَ وَ حُكْمِكَ-  وَ إِيَّاكَ وَ الْغَضَبَ فَإِنَّهُ طَيْرَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ-  وَ اعْلَمْ أَنَّ مَا قَرَّبَكَ مِنَ اللَّهِ يُبَاعِدُكَ مِنَ النَّارِ-  وَ مَا بَاعَدَكَ مِنَ اللَّهِ يُقَرِّبُكَ مِنَ النَّارِ روي و حلمك-  و القرب من الله هو القرب من ثوابه-  و لا شبهة أن ما قرب من الثواب باعد من العقاب-  و بالعكس لتنافيهما- . فأما وصيته له أن يسع الناس بوجهه و مجلسه و حكمه-  فقد تقدم شرح مثله-  و كذلك القول في الغضب- . و طيرة من الشيطان بفتح الطاء و سكون الياء-  أي خفة و طيش-  قال الكميت

  و حلمك عز إذا ما حلمت
و طيرتك الصاب و الحنظل‏

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 18

نامه 75 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

75 و من كتاب له ع إلى معاوية من المدينة-  في أول ما بويع له بالخلافة

ذكره الواقدي في كتاب الجمل: مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ-  إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ-  أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ عَلِمْتَ إِعْذَارِي فِيكُمْ-  وَ إِعْرَاضِي عَنْكُمْ-  حَتَّى كَانَ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ وَ لَا دَفْعَ لَهُ-  وَ الْحَدِيثُ طَوِيلٌ وَ الْكَلَامُ كَثِيرٌ-  وَ قَدْ أَدْبَرَ مَا أَدْبَرَ-  وَ أَقْبَلَ مَا أَقْبَلَ-  فَبَايِعْ مَنْ قِبَلَكَ-  وَ أَقْبِلْ إِلَيَّ فِي وَفْدٍ مِنْ أَصْحَابِكَ وَ السَّلَامُ كتابه إلى معاوية و مخاطبته لبني أمية جميعا-  قال و قد علمت إعذاري فيكم-  أي كوني ذا عذر لو لمتكم أو ذممتكم-  يعني في أيام عثمان- .

ثم قال و إعراضي عنكم-  أي مع كوني ذا عذر لو فعلت ذلك فلم أفعله-  بل أعرضت عن إساءتكم إلي و ضربت عنكم صفحا-  حتى كان ما لا بد منه-  يعني قتل عثمان و ما جرى من الرجبة بالمدينة- . ثم قاطعه الكلام مقاطعة و قال له-  و الحديث طويل و الكلام كثير-  و قد أدبر ذلك الزمان و أقبل زمان آخر-  فبايع و أقدم فلم يبايع و لا قدم-  و كيف يبايع‏و عينه طامحة إلى الملك و الرئاسة-  منذ أمره عمر على الشام و كان عالي الهمة-  تواقا إلى معالي الأمور-  و كيف يطيع عليا و المحرضون له على حربه عدد الحصى-  و لو لم يكن إلا الوليد بن عقبة لكفى-  و كيف يسمع قوله- 

   فو الله ما هند بأمك إن مضى النهار
و لم يثأر بعثمان ثائر

أ يقتل عبد القوم سيد أهله‏
و لم تقتلوه ليت أمك عاقر

و من عجب أن بت بالشام وادعا
قريرا و قد دارت عليه الدوائر

 و يطيع عليا و يبايع له-  و يقدم عليه و يسلم نفسه إليه-  و هو نازل بالشام في وسط قحطان و دونه منهم حرة لا ترام-  و هم أطوع له من نعله-  و الأمر قد أمكنه الشروع فيه-  و تالله لو سمع هذا التحريض-  أجبن الناس و أضعفهم نفسا و أنقصهم همة-  لحركه و شحذ من عزمه-  فكيف معاوية-  و قد أيقظ الوليد بشعره من لا ينام

 شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 18

نامه 74 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

74 و من حلف له ع كتبه بين ربيعة و اليمن

–  و نقل من خط هشام بن الكلبي: هَذَا مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْيَمَنِ-  حَاضِرُهَا وَ بَادِيهَا-  وَ رَبِيعَةُ حَاضِرُهَا وَ بَادِيهَا-  أَنَّهُمْ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ يَدْعُونَ إِلَيْهِ-  وَ يَأْمُرُونَ بِهِ وَ يُجِيبُونَ مَنْ دَعَا إِلَيْهِ وَ أَمَرَ بِهِ-  لَا يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا-  وَ لَا يَرْضَوْنَ بِهِ بَدَلًا-  وَ أَنَّهُمْ يَدٌ وَاحِدَةٌ عَلَى مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ وَ تَرَكَهُ-  وَ أَنَّهُمْ أَنْصَارٌ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ-  دَعْوَتُهُمْ وَاحِدَةٌ-  لَا يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ لِمَعْتَبَةِ عَاتِبٍ-  وَ لَا لِغَضَبِ غَاضِبٍ-  وَ لَا لِاسْتِذْلَالِ قَوْمٍ قَوْماً-  وَ لَا لِمَسَبَّةِ قَوْمٍ قَوْماً-  عَلَى ذَلِكَ شَاهِدُهُمْ وَ غَائِبُهُمْ-  وَ سَفِيهُهُمْ وَ عَالِمُهُمْ وَ حَلِيمُهُمْ وَ جَاهِلُهُمْ-  ثُمَّ إِنَّ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ عَهْدَ اللَّهِ وَ مِيثَاقَهُ-  إِنَّ عَهْدَ اللَّهِ كَانَ مَسْئُولًا-  وَ كَتَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الحلف العهد أي و من كتاب حلف فحذف المضاف-  و اليمن كل من ولده قحطان نحو حمير و عك-  و جذام و كندة و الأزد و غيرهم- . و ربيعة هو ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان-  و هم بكر و تغلب و عبد القيس- . و هشام هو هشام بن محمد بن السائب الكلبي-  نسابة ابن نسابة عالم بأيام العرب و أخبارها-  و أبوه أعلم منه و هو يروى عن أبيه- .

 

و الحاضر ساكنو الحضر-  و البادي ساكنو البادية-  و اللفظ لفظ المفرد و المعنى الجمع- . قوله إنهم على كتاب الله-  حرف الجر يتعلق بمحذوف أي مجتمعون- . قوله لا يشترون به ثمنا قليلا-  أي لا يتعوضون عنه بالثمن فسمى التعوض اشتراء-  و الأصل هو أن يشترى الشي‏ء بالثمن لا الثمن بالشي‏ء-  لكنه من باب اتساع العرب-  و هو من ألفاظ القرآن العزيز- .

و إنهم يد واحدة أي لا خلف بينهم- . قوله لمعتبة عاتب-  أي لا يؤثر في هذا العهد و الحلف-  و لا ينقضه أن يعتب أحد منهم على بعضهم-  لأنه استجداه فلم يجده-  أو طلب منه أمرا فلم يقم به-  و لا لأن أحدا منهم غضب من أمر صدر من صاحبه-  و لا لأن عزيزا منهم استذل ذليلا منهم-  و لا لأن إنسانا منهم سب أو هجا بعضهم-  فإن أمثال هذه الأمور يتعذر ارتفاعها بين الناس-  و لو كانت تنقض الحلف لما كان حلف أصلا- .

و اعلم أنه قد ورد في الحديث عن النبي ص كل حلف كان في الجاهلية فلا يزيده الإسلام إلا شدة-  و لا حلف في الإسلام-  لكن فعل أمير المؤمنين ع أولى بالاتباع من خبر الواحد-  و قد تحالفت العرب في الإسلام مرارا-  و من أراد الوقوف على ذلك-  فليطلبه من كتب التواريخ

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 18

نامه 73 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

73 و من كتاب له ع إلى معاوية

أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي عَلَى التَّرَدُّدِ فِي جَوَابِكَ-  وَ الِاسْتِمَاعِ إِلَى كِتَابِكَ-  لَمُوَهِّنٌ رَأْيِي وَ مُخَطِّئٌ فِرَاسَتِي-  وَ إِنَّكَ إِذْ تُحَاوِلُنِي الْأُمُورَ-  وَ تُرَاجِعُنِي السُّطُورَ-  كَالْمُسْتَثْقِلِ النَّائِمِ تَكْذِبُهُ أَحْلَامُهُ-  وَ الْمُتَحَيِّرِ الْقَائِمِ يَبْهَظُهُ مَقَامُهُ-  لَا يَدْرِي أَ لَهُ مَا يَأْتِي أَمْ عَلَيْهِ-  وَ لَسْتَ بِهِ غَيْرَ أَنَّهُ بِكَ شَبِيهٌ-  وَ أُقْسِمُ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَوْ لَا بَعْضُ الِاسْتِبْقَاءِ-  لَوَصَلَتْ مِنِّي إِلَيْكَ قَوَارِعُ تَقْرَعُ الْعَظْمَ-  وَ تَنْهَسُ اللَّحْمَ-  وَ اعْلَمْ أَنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ ثَبَّطَكَ-  عَنْ أَنْ تُرَاجِعَ أَحْسَنَ أُمُورِكَ-  وَ تَأْذَنَ لِمَقَالِ نَصِيحِكَ وَ السَّلَامُ لِأَهْلِهِ روي نوازع جمع نازعة أي جاذبة قالعة-  و روي تهلس اللحم و تلهس بتقديم اللام-  و تهلس بكسر اللام-  تذيبه حتى يصير كبدن به الهلاس و هو السل-  و أما تلهس فهو بمعنى تلحس أبدلت الحاء هاء-  و هو عن لحست كذا بلساني بالكسر-  ألحسه أي تأتي على اللحم حتى تلحسه لحسا-  لأن الشي‏ء إنما يلحس إذا ذهب و بقي أثره-  و أما ينهس و هي الرواية المشهورة فمعناه يعترق- .

 

و تأذن بفتح الذال أي تسمع- . قوله ع إني لموهن رأيي بالتشديد-  أي إني لائم نفسي-  و مستضعف رأيي في أن جعلتك نظيرا-  أكتب و تجيبني و تكتب و أجيبك-  و إنما كان ينبغي أن يكون جواب مثلك السكوت لهوانك- . فإن قلت فما معنى قوله على التردد- . قلت ليس معناه التوقف-  بل معناه الترداد و التكرار-  أي أنا لائم نفسي-  على أني أكرر تارة بعد تارة أجوبتك عما تكتبه ثم قال-  و إنك في مناظرتي و مقاومتي بالأمور التي تحاولها-  و الكتب التي تكتبها كالنائم يرى أحلاما كاذبة-  أو كمن قام مقاما بين يدي سلطان-  أو بين قوم عقلاء ليعتذر عن أمر-  أو ليخطب بأمر في نفسه-  قد بهظه مقامه ذلك-  أي أثقله فهو لا يدري هل ينطق بكلام هو له أم عليه-  فيتحير و يتبلد و يدركه العمى و الحصر- .

قال و إن كنت لست بذلك الرجل فإنك شبيه به-  أما تشبيهه بالنائم ثم ذي الأحلام-  فإن معاوية لو رأى في المنام في حياة رسول الله ص أنه خليفة-  يخاطب بإمرة المؤمنين و يحارب عليا على الخلافة-  و يقوم في المسلمين مقام رسول الله ص-  لما طلب لذلك المنام تأويلا و لا تعبيرا-  و لعده من وساوس الخيال و أضغاث الأحلام-  و كيف و أنى له أن يخطر هذا بباله-  و هو أبعد الخلق منه-  و هذا كما يخطر للنفاط أن يكون ملكا-  و لا تنظرن إلى نسبه في المناقب-  بل انظر إلى أن‏الإمامة هي نبوة مختصره-  و أن الطليق المعدود من المؤلفة قلوبهم-  المكذب بقلبه و أن أقر بلسانه-  الناقص المنزلة عند المسلمين-  القاعد في أخريات الصف- 

إذا دخل إلى مجلس فيه أهل السوابق من المهاجرين-  كيف يخطر ببال أحد أنها تصير فيه-  و يملكها و يسمه الناس وسمها-  و يكون للمؤمنين أميرا-  و يصير هو الحاكم في رقاب أولئك العظماء-  من أهل الدين و الفضل-  و هذا أعجب من العجب-  أن يجاهد النبي ص قوما بسيفه و لسانه ثلاثا و عشرين سنة-  و يلعنهم و يبعدهم عنه-  و ينزل القرآن بذمهم و لعنهم و البراءة منهم-  فلما تمهدت له الدولة-  و غلب الدين على الدنيا-  و صارت شريعة دينية محكمة-  مات فشيد دينه الصالحون من أصحابه-  و أوسعوا رقعة ملته-  و عظم قدرها في النفوس-  فتسلمها منهم أولئك الأعداء-  الذين جاهدهم النبي ص فملكوها و حكموا فيها-  و قتلوا الصلحاء و الأبرار-  و أقارب نبيهم الذين يظهرون طاعته-  و آلت تلك الحركة الأولى و ذلك الاجتهاد السابق-  إلى أن كان ثمرته لهم-  فليته كان يبعث فيرى معاوية الطليق و ابنه-  و مروان و ابنه خلفاء في مقامه يحكمون على المسلمين-  فوضح أن معاوية فيما يراجعه و يكاتبه به-  كصاحب الأحلام- .

و أما تشبيهه إياه بالقائم مقاما قد بهظه-  فلأن الحجج و الشبه و المعاذير-  التي يذكرها معاوية في كتبه أوهن من نسج العنكبوت-  فهو حال ما يكتب كالقائم ذلك المقام-  يخبط خبط العشواء-  و يكتب ما يعلم هو و العقلاء من الناس أنه سفه و باطل- . فإن قلت فما معنى قوله ع-  لو لا بعض الاستبقاء-  و هل كانت الحال تقتضي أن يستبقي-  و ما تلك القوارع التي أشار إليها- .

 

قلت قد قيل-  إن النبي ص فوض إليه أمر نسائه بعد موته-  و جعل إليه أن يقطع عصمة أيتهن شاء إذا رأى ذلك-  و له من الصحابة جماعة يشهدون له بذلك-  فقد كان قادرا على أن يقطع عصمة أم حبيبة-  و يبيح نكاحها الرجال عقوبة لها و لمعاوية أخيها-  فإنها كانت تبغض عليا كما يبغضه أخوها-  و لو فعل ذلك لانتهس لحمه-  و هذا قول الإمامية-  و قد رووا عن رجالهم أنه ع تهدد عائشة بضرب من ذلك-  و أما نحن فلا نصدق هذا الخبر-  و نفسر كلامه على معنى آخر-  و هو أنه قد كان معه من الصحابة قوم كثيرون-  سمعوا من رسول الله ص يلعن معاوية بعد إسلامه-  و يقول إنه منافق كافر و إنه من أهل النار-  و الأخبار في ذلك مشهورة-  فلو شاء أن يحمل إلى أهل الشام-  خطوطهم و شهاداتهم بذلك-  و يسمعهم قولهم ملافظة و مشافهة لفعل-  و لكنه رأى العدول عن ذلك-  مصلحة لأمر يعلمه هو ع-  و لو فعل ذلك لانتهس لحمه و إنما أبقى عليه- . و قلت لأبي زيد البصري لم أبقى عليه-  فقال و الله ما أبقى عليه مراعاة له و لا رفقا به-  و لكنه خاف أن يفعل كفعله-  فيقول لعمرو بن العاص و حبيب بن مسلمة-  و بسر بن أبي أرطاة و أبي الأعور و أمثالهم-  ارووا أنتم عن النبي ص-  أن عليا ع منافق من أهل النار-  ثم يحمل ذلك إلى أهل العراق-  فلهذا السبب أبقى عليه

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 18

نامه 72 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

72 و من كتاب له ع إلى عبد الله بن العباس رضي الله عنه

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكَ لَسْتُ بِسَابِقٍ أَجَلَكَ-  وَ لَا مَرْزُوقٍ مَا لَيْسَ لَكَ-  وَ اعْلَمْ بِأَنَّ الدَّهْرَ يَوْمَانِ-  يَوْمٌ لَكَ وَ يَوْمٌ عَلَيْكَ-  وَ أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ دُوَلٍ-  فَمَا كَانَ مِنْهَا لَكَ أَتَاكَ عَلَى ضَعْفِكَ-  وَ مَا كَانَ مِنْهَا عَلَيْكَ لَمْ تَدْفَعْهُ بِقُوَّتِكَ قد تقدم شرح مثل هذا الكلام-  و هذا معنى مطروق-  قد قال الناس فيه فأكثروا-  قال الشاعر

قد يرزق العاجز الضعيف و ما
شد بكور رحلا و لا قتبا

و يحرم المرء ذو الجلادة و الرأي‏
و من لا يزال مغتربا

و من جيد ما قيل في هذا المعنى- قول أبي يعقوب الخريمي-

هل الدهر إلا صرفه و نوائبه
و سراء عيش زائل و مصائبه‏

يقول الفتى ثمرت مالي و إنما
لوارثه ما ثمر المال كاسبه‏

يحاسب فيه نفسه في حياته
و يتركه نهبا لمن لا يحاسبه‏

فكله و أطعمه و خالسه وارثا
شحيحا و دهرا تعتريك نوائبه‏

أرى المال و الإنسان للدهر نهبة
فلا البخل مبقية و لا الجود خاربه‏

لكل امرئ رزق و للرزق جالب‏
و ليس يفوت المرء ما خط كاتبه‏

يخيب الفتى من حيث يرزق غيره
و يعطى الفتى من حيث يحرم صاحبه‏

يساق إلى ذا رزقه و هو وادع‏
و يحرم هذا الرزق و هو يغالبه‏

و إنك لا تدري أ رزقك في الذي
تطالبه أم في الذي لا تطالبه‏

تناس ذنوب الأقربين فإنه‏
لكل حميم راكب هو راكبه‏

له هفوات في الرخاء يشوبها
بنصرة يوم لا توارى كواكبه‏

تراه غدوا ما أمنت و تتقي‏
بجبهته يوم الوغى من يحاربه‏

لكل امرئ إخوان بؤس و نعمة
و أعظمهم في النائبات أقاربه‏

 

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 18

نامه 71 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

71 و من كتاب له ع إلى المنذر بن الجارود العبدي

و قد كان استعمله على بعض النواحي-  فخان الأمانة في بعض ما ولاه من أعماله: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ صَلَاحَ أَبِيكَ غَرَّنِي مِنْكَ-  وَ ظَنَنْتُ أَنَّكَ تَتَّبِعُ هَدْيَهُ-  وَ تَسْلُكُ سَبِيلَهُ-  فَإِذَا أَنْتَ فِيمَا رُقِّيَ إِلَيَّ عَنْكَ لَا تَدَعُ لِهَوَاكَ انْقِيَاداً-  وَ لَا تُبْقِي لآِخِرَتِكَ عَتَاداً-  تَعْمُرُ دُنْيَاكَ بِخَرَابِ آخِرَتِكَ-  وَ تَصِلُ عَشِيرَتَكَ بِقَطِيعَةِ دِينِكَ-  وَ لَئِنْ كَانَ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ حَقّاً-  لَجَمَلُ أَهْلِكَ وَ شِسْعُ نَعْلِكَ خَيْرٌ مِنْكَ-  وَ مَنْ كَانَ بِصِفَتِكَ فَلَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يُسَدَّ بِهِ ثَغْرٌ-  أَوْ يُنْفَذَ بِهِ أَمْرٌ أَوْ يُعْلَى لَهُ قَدْرٌ-  أَوْ يُشْرَكَ فِي أَمَانَةٍ أَوْ يُؤْمَنَ عَلَى جِبَايَةٍ-  فَأَقْبِلْ إِلَيَّ حِينَ يَصِلُ إِلَيْكَ كِتَابِي هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ: قال الرضي رضي الله عنه: المنذر بن الجارود-  هذا هو الذي قال فيه أمير المؤمنين ع-  إنه لنظار في عطفيه مختال في برديه-  تفال في شراكيه‏

 

 ذكر المنذر و أبيه الجارود

هو المنذر بن الجارود-  و اسم الجارود بشر بن خنيس بن المعلى-  و هو الحارث بن زيد بن حارثة بن معاوية بن ثعلبة-  بن جذيمة بن عوف بن أنمار بن عمرو بن وديعة-  بن لكيز بن أفصى بن عبد القيس بن أفصى-  بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة-  بن نزار بن معد بن عدنان-  بيتهم بيت الشرف في عبد القيس-  و إنما سمي الجارود لبيت قاله بعض الشعراء فيه في آخره- .

كما جرد الجارود بكر بن وائل‏

و وفد الجارود على النبي ص في سنة تسع-  و قيل في سنة عشر- . و ذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب-  أنه كان نصرانيا فأسلم و حسن إسلامه-  و كان قد وفد مع المنذر بن ساوى في جماعة من عبد القيس-  و قال

 شهدت بأن الله حق و سامحت
بنات فؤادي بالشهادة و النهض‏

فأبلغ رسول الله مني رسالة
بأني حنيف حيث كنت من الأرض‏

قال و قد اختلف في نسبه اختلافا كثيرا-  فقيل بشر بن المعلى بن خنيس-  و قيل بشر بن خنيس بن المعلى-  و قيل بشر بن عمرو بن العلاء-  و قيل بشر بن عمرو بن المعلى-  و كنيته أبو عتاب و يكنى أيضا أبا المنذر- . و سكن الجارود البصرة و قتل بأرض فارس-  و قيل بل قتل بنهاوند مع النعمان بن مقرن-  و قيل إن عثمان بن العاص بعث الجارود في بعث نحو ساحل فارس-  فقتل‏بموضع يعرف بعقبة الجارود-  و كان قبل ذلك يعرف بعقبة الطين-  فلما قتل الجارود فيه عرفه الناس بعقبة الجارود-  و ذلك في سنة إحدى و عشرين- . و قد روي عن النبي ص أحاديث و روي عنه-  و أمه دريمكة بنت رويم الشيبانية- .

و قال أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب التاج-  إن رسول الله ص أكرم الجارود و عبد القيس حين وفدا إليه-  و قال للأنصار قوموا إلى إخوانكم-  و أشبه الناس بكم-  قال لأنهم أصحاب نخل-  كما أن الأوس و الخزرج أصحاب نخل-  و مسكنهم البحرين و اليمامة-  قال أبو عبيدة و قال عمر بن الخطاب لو لا أني سمعت رسول الله ص يقول إن هذا الأمر لا يكون إلا في قريش

لما عدلت بالخلافة عن الجارود بن بشر بن المعلى-  و لا تخالجني في ذلك الأمور- . قال أبو عبيدة-  و لعبد القيس ست خصال فاقت بها على العرب-  منها أسود العرب بيتا-  و أشرفهم رهطا الجارود هو و ولده- . و منها أشجع العرب حكيم بن جبلة-  قطعت رجله يوم الجمل-  فأخذها بيده و زحف على قاتله فضربه بها حتى قتله-  و هو يقول

  يا نفس لا تراعي
إن قطعت كراعي‏
إن معي ذراعي‏

 فلا يعرف في العرب أحد صنع صنيعه- . و منها أعبد العرب هرم بن حيان-  صاحب أويس القرني- . و منها أجود العرب عبد الله بن سواد بن همام-  غزا السند في أربعة آلاف-  ففتحها و أطعم الجيش كله ذاهبا و قافلا-  فبلغه أن رجلا من الجيش مرض فاشتهى خبيصا-فأمر باتخاذ الخبيص لأربعة آلاف إنسان-  فأطعمهم حتى فضل و تقدم إليهم-  ألا يوقد أحد منهم نارا لطعام في عسكره مع ناره- . و منها أخطب العرب مصقلة بن رقبة-  به يضرب المثل فيقال أخطب من مصقلة- . و منها أهدى العرب في الجاهلية-  و أبعدهم مغارا و أثرا في الأرض في عدوه-  و هو دعيميص الرمل كان يعرف بالنجوم هداية-  و كان أهدى من القطا-  يدفن بيض النعام في الرمل مملوءا ماء-  ثم يعود إليه فيستخرجه- .

فأما المنذر بن الجارود فكان شريفا-  و ابنه الحكم بن المنذر يتلوه في الشرف-  و المنذر غير معدود في الصحابة-  و لا رأى رسول الله ص و لا ولد له في أيامه-  و كان تائها معجبا بنفسه-  و في الحكم ابنه يقول الراجز- 

    يا حكم بن المنذر بن الجارود
أنت الجواد ابن الجواد المحمود
سرادق المجد عليك ممدود

  و كان يقال-  أطوع الناس في قومه الجارود بن بشر بن المعلى-  لما قبض رسول الله ص فارتدت العرب-  خطب قومه فقال أيها الناس-  إن كان محمد قد مات فإن الله حتى لا يموت-  فاستمسكوا بدينكم-  و من ذهب له في هذه الفتنة-  دينار أو درهم أو بقرة أو شاة فعلي مثلاه-  فما خالفه من عبد القيس أحد- .

قوله ع إن صلاح أبيك غرني منك-  قد ذكرنا حال الجارود و صحبته و صلاحه-  و كثيرا ما يغتر الإنسان بحال الآباء-  فيظن أن الأبناء على منهاجهم-  فلا يكون و الأمر كذلك-  يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ- . قوله فيما رقي بالتشديد أي فيما رفع إلي-  و أصله أن يكون الإنسان في موضع عال‏ فيرقى إليه شي‏ء-  و كان العلو هاهنا-  هو علو المرتبة بين الإمام و الأمير-  و نحوه قولهم تعال باعتبار علو رتبة الآمر على المأمور-  و اللام في لهواك متعلقة بمحذوف دل عليه انقيادا-  و لا يتعلق بنفس انقياد-  لأن المتعلق من حروف الجر بالمصدر-  لا يجوز أن يتقدم على المصدر- . و العتاد العدة- .

قوله و تصل عشيرتك-  كان فيما رقي إليه عنه أنه يقتطع المال-  و يفيضه على رهطه و قومه-  و يخرج بعضه في لذاته و مآربه- . قوله لجمل أهلك-  العرب تضرب بالجمل المثل في الهوان قال- 

 لقد عظم البعير بغير لب
و لم يستغن بالعظم البعير

يصرفه الصبي بكل وجه‏
و يحبسه على الخسف الجرير

و تضربه الوليدة بالهراوى
فلا غير لديه و لا نكير

فأما شسع النعل فضرب المثل بها في الاستهانة مشهور-  لابتذالها و وطئها الأقدام في التراب- . ثم ذكر أنه من كان بصفته فليس بأهل لكذا و لا كذا-  إلى أن قال أو يشرك في أمانة-  و قد جعل الله تعالى البلاد و الرعايا أمانة في ذمة الإمام-  فإذا استعمل العمال على البلاد و الرعايا-  فقد شركهم في تلك الأمانة- . قال أو يؤمن على جباية-  أي على استجباء الخراج و جمعه-  و هذه الرواية التي سمعناها-  و من الناس من يرويها على خيانة-  و هكذا رواها الراوندي-  و لم يرو الرواية الصحيحة التي ذكرناها نحن-  و قال يكون على متعلقة بمحذوف-  أو بيؤمن نفسها و هو بعيد و متكلف- .

ثم أمره أن يقبل إليه-  و هذه كناية عن العزل- . فأما الكلمات التي ذكرها الرضي عنه ع في أمر المنذر-  فهي دالة على أنه نسبه إلى التيه و العجب-  فقال نظار في عطفيه أي جانبيه-  ينظر تارة هكذا و تارة هكذا-  ينظر لنفسه و يستحسن هيئته و لبسته-  و ينظر هل عنده نقص في ذلك أو عيب فيستدركه بإزالته-  كما يفعل أرباب الزهو و من يدعي لنفسه الحسن و الملاحة- .

قال مختال في برديه-  يمشي الخيلاء عجبا-  قال محمد بن واسع لابن له-  و قد رآه يختال في برد له ادن-  فدنا فقال من أين جاءتك هذه الخيلاء ويلك-  أما أمك فأمة ابتعتها بمائتي درهم-  و أما أبوك فلا أكثر الله في الناس أمثاله- . قوله تفال في شراكيه-  الشراك السير الذي يكون في النعل على ظهر القدم- . و التفل بالسكون مصدر تفل أي بصق-  و التفل محركا البصاق نفسه-  و إنما يفعله المعجب و التائه في شراكيه-  ليذهب عنهما الغبار و الوسخ-  يتفل فيهما و يمسحهما ليعودا كالجديدين

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 18