نهج البلاغه نامه ها نامه شماره 29 شرح میر حبیب الله خوئی(به قلم علامه حسن زاده آملی )

نامه 29 صبحی صالح

29- و من كتاب له ( عليه‏ السلام  ) إلى أهل البصرة

وَ قَدْ كَانَ مِنِ انْتِشَارِ حَبْلِكُمْ وَ شِقَاقِكُمْ مَا لَمْ تَغْبَوْا عَنْهُ فَعَفَوْتُ عَنْ مُجْرِمِكُمْ وَ رَفَعْتُ السَّيْفَ عَنْ مُدْبِرِكُمْ وَ قَبِلْتُ مِنْ مُقْبِلِكُمْ

فَإِنْ خَطَتْ بِكُمُ الْأُمُورُ الْمُرْدِيَةُ وَ سَفَهُ الْآرَاءِ الْجَائِرَةِ إِلَى مُنَابَذَتِي وَ خِلَافِي فَهَا أَنَا ذَا قَدْ قَرَّبْتُ جِيَادِي وَ رَحَلْتُ رِكَابِي

وَ لَئِنْ أَلْجَأْتُمُونِي إِلَى الْمَسِيرِ 

إِلَيْكُمْ لَأُوقِعَنَّ بِكُمْ وَقْعَةً لَا يَكُونُ يَوْمُ الْجَمَلِ إِلَيْهَا إِلَّا كَلَعْقَةِ لَاعِقٍ مَعَ أَنِّي عَارِفٌ لِذِي الطَّاعَةِ مِنْكُمْ فَضْلَهُ وَ لِذِي النَّصِيحَةِ حَقَّهُ غَيْرُ مُتَجَاوِزٍ مُتَّهَماً إِلَى بَرِيٍّ وَ لَا نَاكِثاً إِلَى وَفِيٍّ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج19  

و من كتاب له عليه السلام الى أهل البصرة و هو المختار التاسع و العشرون من باب المختار من كتبه و رسائله‏

و قد كان من انتشار حبلكم و شقاقكم ما لم تغبوا عنه، فعفوت عن مجرمكم، و رفعت السيف عن مدبركم، و قبلت من مقبلكم فإن خطت بكم الأمور المردية، و سفه الاراء [الأراء- معا] الجائرة إلى منابذتي و خلافي فها أنذا [أناذا- نسخة] قد قربت جيادي و رحلت ركابي. و لئن ألجأتموني إلى المسير إليكم لأوقعن بكم وقعة لا يكون يوم الجمل إليها إلا كلقعة لاعق، مع إني عارف لذي الطاعة منكم فضله و لذي النصيحة حقه، غير متجاوز متهما إلى بري‏ء، و لا ناكثا إلى وفي.

المصدر

رواه أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سعد بن هلال بن عاصم بن سعد بن مسعود الثقفي الكوفي المتوفى 283 ه- ق في كتاب الغارات.بعث أمير المؤمنين علي عليه السلام جارية بن قدامة إلى أهل البصرة على ما يأتي تفصيله في المعنى، و كتب معه هذا الكتاب إليهم، و هذا المختار بعض ذلك الكتاب و هذه صورته الكاملة:

من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من قرئ عليه كتابي هذا من ساكنى البصرة من المؤمنين و المسلمين: سلام عليكم أما بعد فإن الله حليم ذو أناة لا يعجل بالعقوبة قبل البينة، و لا يأخذ المذنب عند أول وهلة، و لكنه يقبل التوبة، و يستديم الأناة، و يرضى بالإنابة، ليكون أعظم للحجة، و أبلغ في المعذرة.

و قد كان من انتشار حبلكم و شقاقكم ما لم تغبوا عنه فعفوت عن مجرمكم، و رفعت السيف عن مدبركم، و قبلت من مقبلكم، و أخذت بيعتكم فإن تفوا ببيعتي، و تقبلوا نصيحتى، و تستقيموا على طاعتى، أعمل فيكم بالكتاب و السنة و قصد الحق و اقيم فيكم سبيل الهدى، فو الله ما أعلم أن واليا بعد محمد صلى الله عليه و آله أعلم بذلك مني و لا أعمل بقولي، أقول قولي هذا صادقا غير ذام لمن مضى، و لا متنقص لأعمالهم.

و إن خطت بكم الأهواء المردية، و سفه الاراء الجائرة إلى منابذتي تريدون خلافي فها أنا ذا قد قربت جيادي، و رحلت ركابي، و أيم الله لئن ألجأتموني إلى المسير إليكم لأوقعن بكم وقعة لا يكون يوم الجمل إليها إلا كلعقة لاعق، مع أني عارف لذي الطاعة منكم فضله، و لذي النصيحة حقه، غير متجاوز متهما إلى بري‏ء، و لا ناكثا إلى وفي.

و إني لظان أن لا تجعلوا إن شاء الله على أنفسكم سبيلا، و قد قدمت هذا الكتاب إليكم حجة عليكم و لن أكتب إليكم من بعده كتابا، إن أنتم استغششتم نصيحتي، و نابذتم رسولى حتى أكون أنا الشاخص نحوكم إن شاء الله تعالى و السلام.

اللغة

كنايه- استعارة (الحبل) كناية عن العهد و (الانتشار) كناية عن نقضه. قال الراغب في المفردات: الحبل معروف، قال عز و جل: في جيدها حبل من مسد و شبه به من حيث الهيئة حبل الوريد و حبل العاتق و الحبل المستطيل من الرمل و استعير للوصل و لكل ما يتوصل به إلى شي‏ء، قال عز و جل: و اعتصموا بحبل الله‏ جميعا فحبله هو الذي معه التوصل به إليه من القرآن و العقل و غير ذلك مما إذا اعتصمت به أداك إلى جواره، و يقال للعهد: حبل. انتهى.

(لم تغبوا عنه) ذهب الشراح و المترجمين إلى أن كلمة تغبوا مشتقة من غبى فهي في الأصل ناقصة اللام، قال الفاضل الشارح المعتزلي: ما لم تغبوا عنه أى لم تسهوا عنه و لم تغفلوا، يقال: غبت عن الشي‏ء أغبى غباوة إذا لم يفطن، و غبى الشي‏ء على كذلك إذا لم تعرفه، و فلان غبى على فعيل، أى قليل الفطنة، و قد تغابى، أى تغافل، يقول لهم: قد كان من خروجكم يوم الجمل عن الطاعة و نشركم حبل الجماعة و شقاقكم إلى ما لستم أغبياء عنه فعفوت و رفعت السيف و قبلت التوبة.انتهى كلامه، و هكذا قد حذا حذوه غيره من الشراح.

قلت: الكلمة مشتقة من الإغباب فهي في الأصل مضاعف، و هي مختار الشريف الرضي، كما في نسخة التي قوبلت و صححت على نسخته، و قد مر ذكرها غير مرة، و الكلمة المشكولة في تلك النسخة بضم التاء و كسر الغين المعجمة و تشديد الباء الموحدة، قال ابن الأثير في النهاية: و في حديث هشام كتب إليه الجنيد يغب عن هلاك المسلمين أى لم يخبره بكثرة من هلك منهم مأخوذ من الغب الورد فاستعاره لموضع التقصير في الإعلام بكنه الأمر، و قيل: هو من الغبة و هي البلغة من العيش. انتهى.

(خطت بكم) أى تجاوزت من الخطو، (المردية): المهلكة، (الجائرة) المائلة عن الحق (المنابذة) المخالفة و المظاهرة للعداوة (فها أنذا) أو فهأنذا، أصلهما فها أناذا.(جياد) جمع جواد، أى فرس سريع الجرى رائع، (الركاب): الابل، رحل البعير من باب منع أى شد على ظهره الرحل، و الرحل مركب للبعير أصغر من القتب، و في منتهى الأرب: رحل البعير رحلا پالان بر نهاد بر شتر.

كنايه (اللعقة) بفتح اللام فعلة للمرة من اللعق بمعنى اللحس، و في بعض النسخ‏ مشكولة بضمها كلقمه و هي اسم ما تأخذه في الملعقة أو الأصبع، و القليل مما يلعق و لكن الاولى مطابقة لمختار الرضي و هي كناية عن قلة اللبث، (و لا ناكثا) أى ناقضا لعهده.

الاعراب‏

(ما لم تغبوا عنه) كلمة ما اسم كان اخر عن الخبر المقدم لتوسع الظروف (فهأنذا) جواب إن الشرطية في قوله: فإن خطت (إلى منابذتي) متعلق بقوله:

خطت، اللام في (لئن ألجأتموني) تسمى اللام المؤذنة و الموطئة أيضا و هي اللام الداخلة على أداة الشرط و أكثر ما تدخل على إن، سميت المؤذنة للإيذان بأن الجواب بعدها مبني على قسم قبلها لا على الشرط سواء كان ذلك القسم مذكورا أو مقدرا، و سميت المؤطئة لأنها وطأت أى مهدت الجواب للقسم، و اللام في لأوقعن لام جواب القسم، و جملة: لا يكون يوم الجمل، إلخ، صفة للوقعة.(غير) منصوب حال بضمير إنى (متهما) على صيغة المفعول.

المعنى‏

قد علمت أن أمير المؤمنين عليا عليه السلام بعث جارية بن قدامة إلى أهل البصرة و كتب معه هذا الكتاب إليهم قال كاتب الواقدي محمد بن سعد في الطبقات الكبرى (ص 56 ج 7 من طبع مصر): جارية بن قدامة السعدي بن زهير بن الحصين بن رزاح ابن أسعد بن بجير بن ربيعة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم.

قال: أخبرنا عبد الله بن نمير قال: حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن الأحنف بن قيس عن ابن عم له يقال له جارية بن قدامة أنه سأل رسول الله صلى الله عليه و آله فقال: يا رسول الله قل لي قولا ينفعني و أقلل لي لعلي أعيه، فقال رسول الله صلى الله عليه و آله: لا تغضب، ثم أعاده عليه فقال: لا تغضب، حتى أعاد عليه مرارا كل ذلك يقول له: لا تغضب.

قال: و جارية بن قدامة فيمن شهد قتل عمر بن الخطاب، قال: و كنا آخر من دخل عليه فسألناه وصية و لم يسألها إياه أحد قبلنا.

و لجارية بن قدامة أخبار و مشاهد كان علي بن أبي طالب عليه السلام بعثه إلى البصرة و بها عبد الله بن عامر بن الحضرمى خليفة عبد الله بن عامر بن كريز فحاصره في دار سنيبل رجل من بني تميم و كان معاوية بعثه إلى البصرة يبايع له، انتهى كلام ابن سعد.

قلت: كتب أمير المؤمنين‏ عليه السلام إلى أهل البصرة هذا الكتاب مع جارية في الواقعة التي أشار إليها ابن سعد و سيأتي تفصيل ذلك.

كنايه قوله عليه السلام: (و قد كان من انتشار حبلكم‏- إلى قوله: و قبلت من مقبلكم) لما نقض أهل البصرة عهدهم الذي عاهدوه أمير المؤمنين عليا عليه السلام و نكثوا بيعتهم إياه في وقعة الجمل عبر عن فعلهم هذا بقوله‏ انتشار حبلكم‏ فالحبل كناية عن العهد و الانتشار عن النكث كقوله تعالى: و لا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا (النحل 93)، و قوله عليه السلام: ما لم تغبوا عنه‏ أى كنتم عالمين بما فعلتم من نقض عهدكم، ثم نبههم بما فعل بعد ظفره عليهم من الاكرام و الاحسان في إزاء ما أساءوا به بقوله: فعفوت عن مجرمكم‏ و قد مضى ذكر سيرته عليه السلام في أهل البصرة في شرحنا على المختار الثاني من باب الكتب (ص 93 ج 17) و سيرته عليه السلام في كل موطن لقيه عدو في شرحنا على المختار الرابع عشر من ذلك الباب (ص 133 ج 18).

قوله عليه السلام: (فإن خطت بكم الامور- إلخ) لما كان معاوية بعث بعد وقعة الجمل عبد الله بن عامر الحضرمى إلى البصرة ليبايعهم له و كان سفه آرائهم الجائرة و امورهم المهلكة يجر أهلها إلى مخالفة أمير المؤمنين عليه السلام و نقض عهده ثانيا أخبرهم موعدا بقوله‏ فإن خطت‏ اه، اى إن عدتم إلى الفتنة و نقض العهد بتلك الامور و الاراء من أهل الهوى و الضلال فها أناذا قد استعدت للقتال و الكرة حتى قربت جيادى و رحلت ركابى و لئن ألجأتموني إلى المسير إليكم لاوقعن بكم وقعة أى حربا لا يكون‏ وقعة الجمل‏ بالنسبة إليها في الحقارة و الخفة إلا كلحسة لا حس و كأن في كلامه عليه السلام‏ لئن ألجأتموني‏ إشارة إلى العفو عما مضى منهم أى إن كنتم‏ إلى الان اتبعتم تلك الاراء فإن تبتم وعدتم إلى الحق عفوت عنكم و إلا فلا بد لى إلا المسير إليكم فاوقعن بكم‏ كذا و كذا.

قوله عليه السلام: (مع إني عارف‏- إلخ) أردف كلامه في الإيعاد و التهديد بالتحبيب و التأليف فقال‏ مع إني عارف‏ بفضل‏ ذى الطاعة منكم‏ و حق‏ ذي النصيحة منكم لا آخذ متهما ببري‏ء، و لا ناكثا بوفي‏.

نعم إن من هو سلطان العالم الأرضى و خليفة الله فيه و رب إنسانى فائز بالخواص النبوية فهو يؤتي كل ذي حق حقه و لا يتصور فيه أن يتجاوز متهما إلى بري‏ء أو ناكثا إلى وفي‏ و انما التجاوز من داب أبناء الدنيا و عبيد الهوى، هذا هو زياد بن أبيه خطب بالبصرة الخطبة المشهورة التي تدعى البتراء ذكرها أبو عثمان الجاحظ في البيان و التبيين ج 2 ص 61، و ابن قتيبة في عيون الأخبار ج 2 ص 341، و أبو جعفر الطبري في حوادث سنة 45 من تاريخه، و أبو علي القالي في ذيل الأمالي ص 185 من طبع مصر، و أتى بها صاحب العقد الفريد أيضا.

قال الجاحظ: قال أبو الحسن المدائني و غيره ذكر ذلك عن مسلمة بن محارب و عن أبي بكر الهذلى قالا: قدم زياد البصرة واليا لمعاوية بن أبي سفيان و ضم إليه خراسان و سجستان فخطب خطبة بتراء لم يحمد الله فيها و لم يصل على النبي.

أما بعد فإن الجهالة الجهلاء و الضلالة العمياء و الغى الموفي بأهله على النار ما فيه سفهاؤكم و يشتمل عليه حلماؤكم- إلى أن قال: و إني لأقسم بالله لاخذن الولى بالولى (و في نسخة العقد: لاخذن الولى بالمولى)، و المقيم بالظاعن و المقبل بالمدبر، و المطيع بالعاصى، و الصحيح منكم في نفسه بالسقيم حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: انج سعد فقد هلك سعيد، او تستقيم لي قناتكم- إلى آخر الخطبة.

قال: فقام إليه أبو بلال مرداس بن ادية، و هو يهمس و يقول: أنبأنا الله بغير ما قلت، فقال: و إبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى و أن ليس‏ للإنسان إلا ما سعى‏ و أنت تزعم أنك تأخذ البرى‏ء بالسقيم، و المطيع بالعاصى و المقبل بالمدبر فسمعه زياد فقال: إنا لا نبلغ ما نريد فيك و في أصحابك حتى نخوض إليكم الباطل خوضا.

و قال الجاحظ في أول الجزء الثاني من البيان و التبيين: إن خطباء السلف الطيب، و أهل البيان من التابعين بإحسان ما زالوا يسمون الخطبة التي لم تبتدء بالتحميد و تستفتح بالتمجيد البتراء، و يسمون التي لم توشح بالقرآن و تزين بالصلاة على النبي صلى الله عليه و آله الشوهاء.

و أما ذكر تفصيل الواقعة فقد أفاد الفاضل الشارح المعتزلي في الجزء الرابع من شرحه على المختار السادس و الخمسين من باب الخطب من النهج أوله: و لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه و آله نقتل آبائنا و أبنائنا و إخواننا و أعمامنا ما يزيدنا ذلك إلا إيمانا و تسليما إلخ، بقوله: و هذا الكلام قاله أمير المؤمنين عليه السلام في قصة ابن الحضرمي حيث قدم البصرة من قبل معاوية و استنهض أمير المؤمنين أصحابه إلى البصرة فتقاعدوا، قال: قال أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال الثقفى في كتاب الغارات: حدثنا محمد بن يوسف قال: حدثنا الحسن بن علي الزعفرانى عن محمد بن عبد الله بن عثمان عن ابن أبي سيف عن يزيد بن حارثة الأزدي عن عمرو ابن محصن أن معاوية لما أصاب محمد بن أبي بكر بمصر و ظهر عليها دعا عبد الله بن عامر الحضرمى فقال له: سر إلى البصرة فإن جل أهلها يرون رأينا في عثمان و يعظمون قتله و قد قتلوا في الطلب بدمه فهم متوددون حنقون لما أصابهم ودوا لو يجدون من يدعوهم و يجمعهم و ينهض بهم في الطلب بدم عثمان و احذر ربيعة و انزل في مضر و تودد الأزد فإن الأزد كلها معك إلا قليلا منهم و إنهم إنشاء الله غير مخالفيك.

فقال عبد الله الحضرمى له: أناسهم في كنانتك و أنا من قد جربت و عدو أهل حربك و ظهيرك على قتلة عثمان فوجهنى إليهم متى شئت، فقال: اخرج غدا إنشاء الله، فودعه و خرج من عنده.

فلما كان الليل جلس معاوية و أصحابه يتحدثون فقال لهم معاوية: في أى منزل ينزل القمر الليلة؟ فقال: بسعد الذابح، فكره معاوية ذلك و أرسل إليه أن لا تبرح حتى يأتيك أمرى، فأقام و رأى معاوية أن يكتب إلى عمرو بن العاص و هو يومئذ بمصر عامله عليها يستطلع رأيه في ذلك، فكتب إليه و قد كان تسمى بامرة المؤمنين بعد يوم صفين و بعد تحكيم الحكمين:

من عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص سلام عليك أما بعد فإنى قد رأيت رأيا هممت بإمضائه و لم يخذلني عنه إلا استطلاع رأيك فإن يوافقني أحمد الله و أمضيه، و إن يخالفني فإنى أستخير الله و أستهديه إني نظرت في أمر أهل البصرة فوجدت معظم أهلها لنا وليا و لعلي و شيعته عدوا و قد اوقع علمه بهم الواقعة التي علمت فأحقاد تلك الدماء ثابتة في صدورهم لا تبرح و لا تريم، و قد علمت أن قتلنا ابن أبي بكر و وقعتنا بأهل مصر قد أطفأت نيران أصحاب على في الافاق و رفعت رءوس أشياعنا أين ما كانوا من البلاد، و قد بلغ من كان بالبصرة على مثل رأينا من ذلك ما بلغ الناس و ليس أحد ممن يرى رأينا أكثر عددا و لا أضر خلافا على علي من اولئك فقد رأيت أن ابعث إليهم عبد الله بن عامر الحضرمى فينزل من مضر و يتودد الأزد و يحذر ربيعة و يبتغى دم ابن عفان و يذكرهم وقعة على بهم التي أهلكت صالحى إخوانهم و آبائهم و أبنائهم فقد رجوت عند ذلك أن يفسد على علي و شيعته ذلك الفرج من الأرض و متى يؤتى من خلفهم و أمامهم يضل سعيهم و يبطل كيدهم فهذا رأيي فما رأيك؟ فلا تحبس رسولى إلا قدر مضى الساعة التي ينتظر فيها جواب كتابي هذا أرشدنا الله و إياك و السلام عليك و رحمة الله و بركاته.

فكتب عمرو بن العاص إلى معاوية أما بعد فقد بلغنى رسولك و كتابك فقرأته و فهمت رأيك الذي رأيته فعجبت له و قلت: إن الذي ألقاه في روعك و جعله في نفسك هو الثائر بابن عفان و الطالب بدمه و انه لم يك منك و لا منا منذ نهضنا في هذه الحرب و نادينا أهلها و لا رأى الناس رأيا أضر على عدوك و لا أسر لوليك من هذا الأمر الذي الهمته، فامض رأيك مسددا فقد وجهت الصليب الأريب الناصح غير الظنين و السلام.

فلما جاءه كتاب عمرو دعا ابن الحضرمي، و قد كان ظن حين تركه معاوية أياما لا يأمره بالشخوص أن معاوية قد رجع عن إشخاصه إلى غير ذلك الوجه فقال: يا ابن الحضرمي سر على بركة الله إلى أهل البصرة فانزل فى مضر و احذر ربيعة و تودد الأزد و انع ابن عفان و ذكرهم الوقعة التي أهلكتهم و من لمن سمع و أطاع دينا [دنيا] لا تفنى و أثرة لا تفقدها حتى يفقدنا أو نفقده.

فودعه ثم خرج من عنده و قد دفع إليه كتابا و أمره إذا قدم أن يقرأه على الناس، قال عمرو بن محصن: فكنت معه حين خرج فلما خرجنا سرنا ما شاء الله أن نسير فسنح لنا ظبى اعضب عن شمائلنا فنظرت إليه فو الله لرأيت الكراهية في وجهه ثم مضينا حتى نزلنا البصرة في بنى تميم فسمع بقدومنا أهل البصرة فجاءنا كل من يرى رأى عثمان فاجتمع إلينا رءوس أهلها.

فحمد الله ابن الحضرمى و أثنى عليه ثم قال: أما بعد ايها الناس فإن إمامكم إمام الهدى عثمان بن عفان قتله على بن أبي طالب ظلما فطلبتم بدمه و قاتلتم من قتله فجزاكم الله من أهل مصر خيرا و قد اصيب منكم الملاء الأخيار و قد جاءكم الله باخوان لكم لهم بأس يتقى و عدد لا يحصى فلقوا عدوكم الذي قتلوكم فبلغوا الغاية التي أرادوا صابرين و رجعوا و قد نالوا ما طلبوا فما لؤهم و ساعدوهم و تذكروا آثاركم لتشفوا صدوركم من عدوكم.

فقام إليه الضحاك بن عبد الله الهلالى فقال: قبح الله ما جئتنا به و ما دعوتنا إليه جئتنا و الله بمثل ما جاء به صاحباك طلحة و الزبير، اتيانا و قد بايعنا عليا و اجتمعنا له فكلمتنا واحدة و نحن على سبيل مستقيم فدعوانا إلى الفرقة و قاما فينا بزخرف القول حتى ضربنا بعضنا ببعض عدوانا و ظلما فاقتتلنا على ذلك، و ايم الله ما سلمنا من عظيم و بال ذلك و نحن الان مجمعون على بيعة هذا العبد الصالح الذي أقال العثرة و عفا عن الشي‏ء [المسي‏ء] و أخذ بيعة غائبنا و شاهدنا أ فتأمرنا الان أن نختلع‏ أسيافنا من أغمادها ثم يضرب بعضنا بعضا ليكون معاوية أميرا و تكون له وزيرا و نعدل بهذا الأمر عن علي عليه السلام و الله ليوم من الأيام على مع رسول الله صلى الله عليه و آله خير من بلاء معاوية و آل معاوية لو بقوا في الدنيا، ما الدنيا باقية.

فقام عبد الله بن حازم السلمى فقال للضحاك: اسكت فلست بأهل أن تتكلم في أمر العامة، ثم أقبل على ابن الحضرمى فقال: نحن يدك و أنصارك و القول ما قلت و قد فهمنا عنك فادعنا أنى شئت.

فقال الضحاك لابن حازم: يا ابن السوداء و الله لا يعز من نصرت، و لا يذل بخذلانك من خذلت، فتشاتما، قال صاحب كتاب الغارات: و الضحاك هذا هو الذى يقول:

يا ايها ذا لسائلى عن نسبى‏ بين ثقيف و هلال منصبى‏
امى اسماء و ضحاك أبي‏

قال: و هو القائل في بني العباس:

ما ولدت من ناقة لفحل‏ في جبل نعلمه و سهل‏
كستة من بطن ام الفضل‏ أكرم بها من كهلة و كهل‏
عم النبي المصطفى ذى الفضل‏ و خاتم الأنبياء بعد الرسل‏

قال: فقام عبد الرحمن بن عمير بن عثمان القرشي ثم التيمى فقال: عباد الله إنا لم ندعكم إلى الاختلاف و الفرقة لا نريد أن تقتلوا و لا تتنابزوا و لكنا إنما ندعوكم إلى أن تجمعوا كلمتكم و توازروا إخوانكم الذين هم على رأيكم، و أن تلموا شعثكم و تصلحوا ذات بينكم فمهلا مهلا و رحمكم الله استمعوا لهذا الكتاب و أطيعوا الذي يقرأ عليكم.

ففضوا كتاب معاوية و إذا فيه: من عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى من قرئ كتابي هذا عليه من المؤمنين و المسلمين من أهل البصرة: سلام عليكم أما بعد فإن سفك الدماء بغير حلها، و قتل النفوس التي حرم الله قتلها هلاك موبق و خسران‏ مبين، لا يقبل الله ممن سفكها صرفا و لا عدلا و قد رأيتم رحمكم الله آثار ابن عفان و سيرته و حبه للعافية و معدلته و سده للثغور و إعطاءه في الحقوق و إنصافه للمظلوم و حبه للضعيف حتى توثب عليه المتوثبون و تظاهر عليه الظالمون فقتلوه مسلما محرما ظمان صائما لم يسفك فيهم دما، و لم يقتل فيهم أحدا، و لا يطلبونه بضربة سيف و لا سوط، و انما ندعوكم أيها المسلمون إلى الطلب بدمه، و إلى قتال من قتله، فانا و إياكم على أمر هدى واضح، و سبيل مستقيم إنكم إن جامعتمونا طفئت النائرة و اجتمعت الكلمة و استقام أمر هذه الامة و أقر الظالمون المتوثبون الذي قتلوا إمامهم بغير حق فاخذوا بجرائرهم و ما قدمت أيديهم ان لكم أن أعمل فيكم بالكتاب و ان أعطيتم في السنة عطائين و لا أحتمل فضلا من فيئكم عنكم أبدا فسارعوا إلى ما تدعون رحمكم الله، و قد بعث إليكم رجلا من الصالحين كان من امناء خليفتكم المظلوم ابن عفان و عماله و أعوانه على الهدى و الحق جعلنا الله و إياكم ممن يجيب إلى الحق و يعرفه و ينكر الباطل و يجحده، و السلام عليكم و رحمة الله.

قال: و لما قرئ عليهم الكتاب قال معظمهم: سمعنا و أطعنا.

قال: و روى محمد بن عبد الله بن عثمان، عن علي بن أبي طالب، عن أبي زهير عن أبي منقر الشيباني قال: قال الأحنف لما قرئ عليهم كتاب معاوية: أما أنا فلا ناقة لي في هذا و لا جمل و أعتزل أمرهم ذلك، و قال عمرو بن مرحوم من عبد القيس: أيها الناس ألزموا طاعتكم و لا تنكثوا بيعتكم فيقع بكم واقعة و تصيبكم قارعة و لا يكن بعدها لكم بقية ألا إني قد نصحت لكم و لكن لا تحبون الناصحين.

قال إبراهيم بن هلال: و روى محمد بن عبد الله عن ابن أبي سيف، عن الأسود بن قيس، عن ثعلبة بن عباد: إن الذي كان سدد لمعاوية رأيه في تسريح ابن الحضرمي كتاب كتبه إليه عباس بن صخار العبدي، و هو ممن كان يرى رأى عثمان و يخالف قومه في حبهم عليا و نصرتهم إياه و كان الكتاب: أما بعد فقد بلغنا و قعتك بأهل مصر الذين بغوا على إمامهم و قتلوا خليفتهم طمعا و بغيا فقرت بذلك العيون و شفيت بذلك النفوس و بردت أفئدة أقوام كانوا لقتل عثمان كارهين و لعدوه مفارقين و لكم موالين و بك راضين، فان رأيت تبعث إلينا أميرا طيبا زكيا ذا عفاف و دين إلى الطلب بدم عثمان فعلت فإني لا إخال الناس إلا مجمعين عليك، و إن ابن عباس غائب عن المصر و السلام.

قال: فلما قرأ معاوية كتابه قال: لا عزمت رأيا سوى ما كتب به إلى هذا، و كتب إليه جوابه:أما بعد فقد قرأت كتابك فعرفت نصيحتك، و قبلت مشورتك، رحمك الله و سددك اثبت هداك الله على رأيك الرشيد فكأنك بالرجل الذي سألت قد أتاك و كأنك بالجيش قد أظل عليك فسررت و حببت و السلام.

قال إبراهيم: و حدثنا محمد بن عبد الله قال: حدثني علي بن أبي سيف عن أبي زهير قال: لما نزل ابن الحضرمي في بني تميم أرسل إلى الرءوس فأتوه فقال لهم: أجيبوني إلى الحق و انصروني على هذا الأمر قال: و إن الأمير بالبصرة يومئذ زياد بن عبيد قد استخلفه عبد الله بن عباس و قدم على علي عليه السلام إلى الكوفة يعزيه عن محمد بن أبي بكر قال: فقام إليه ابن صخار فقال: إي و الذي له أسعى و إياه أخشى لننصرنك بأسيافنا و أيدينا.

و قام المثنى بن مخزمة العبدى فقال: لا و الذي لا إله إلا هو لإن لم ترجع إلى مكانك الذي أقبلت منه لنجاهدنك بأسيافنا و أيدينا و نبالنا و أسنة رماحنا نحن ندع ابن عم رسول الله صلى الله عليه و آله و سيد المسلمين و ندخل في طاعة حزب من الأحزاب طاع؟ و الله لا يكون ذلك أبدا حتى تسير كتيبة و نفلق السيوف بالهام.

فأقبل ابن الحضرمى على صبرة بن شيمان الأزدي فقال: يا صبرة أنت رأس قومك و عظيم من عظماء العرب و أحد الطلبة بدم عثمان رأينا رأيك، و رأيك رأينا و بلاء القوم عندك في نفسك و عشيرتك ما قد ذقت و رأيت فانصرنى و كن من دونى.

فقال له: إن أنت أتيتنى فنزلت في دارى نصرتك و منعتك.

فقال: إن أمير المؤمنين معاوية أمرنى أن أترك في قومه من مصر، فقال: اتبع‏ ما أمرك به، و انصرف من عنده و أقبل الناس إلى ابن الحضرمى و كثر تبعه ففزع لذلك زياد و هاله و هو في دار الإمارة فبعث إلى الحصين بن المنذر و مالك بن مسمع فدعاهما فحمد الله و أثنى عليه ثم قال: أما بعد فإنكم أنصار أمير المؤمنين و شيعته وثقته و قد جاءكم هذا الرجل بما قد بلغكم فأجيرونى حتى يأتيني أمر أمير المؤمنين و رأيه.

فأما مالك بن مسمع فقال: هذا أمر فيه نظر أرجع إلى من ورائى و أنظر و أستشير و ألقاك.

و أما حصين بن المنذر فقال: نحن فاعلون و لن نخذلك و لن نسلمك، فلم ير زياد من القوم ما يطمئن إليه فبعث إلى صبرة بن شيمان الأزدي فقال: يا ابن شيمان أنت سيد قومك و أحد عظماء هذا المصر فإن يكن فيه أحد هو أعظم أهله فأنت ذاك، أفلا تجيرنى و تمنعنى و تمنع بيت مال المسلمين فإنما أنا أمين عليه؟

فقال: بلى إن تحملت حتى تنزل في دارى منعتك، فقال: إني فاعل فارتحل ليلا حتى نزل دار صبرة بن شيمان، و كتب إلى عبد الله بن عباس و لم يكن معاوية ادعى زيادا بعد، لأنه إنما ادعاه بعد وفاة علي عليه السلام:

للأمين عبد الله بن عباس من زياد بن عبيد سلام عليك أما بعد فإن عبد الله ابن عامر بن الحضرمى قبل من قبل معاوية حتى نزل في بني تميم، و نعى ابن عفان و دعا إلى الحرب فبايعه جل أهل البصرة فلما رأيت ذلك استجرت بالأزد بصبرة ابن شيمان و قومه لنفسي و لبيت مال المسلمين و رحلت من قصر الامارة فنزلت فيهم و ان الأزد معى، و شيعة أمير المؤمنين من فرسان القبائل يختلف إلى، و شيعة عثمان يختلف إلى ابن الحضرمى، و القصر خال منا و منهم فارفع ذلك إلى أمير المؤمنين ليرى فيه رأيه و أعجل إلى بالذي ترى أن تكون منه فيه و السلام عليك و رحمة الله و بركاته.

قال: فرفع ذلك ابن عباس إلى علي عليه السلام و شاع في الناس بالكوفة ما كان ذلك، و كانت بنو تميم و قيس و من يرى رأى عثمان قد أمروا ابن‏ الحضرمي أن يسير إلى قصر الأمارة حين خلاه زياد، فلما تهيأ لذلك و دعا أصحابه ركبت الأزد و بعثت إليه و إليهم إنا و الله لا ندعكم تأتون القصر فتنزلون فيه من لا يرضى و من نحن له كارهون حتى يأتي رجل لنا و لكم رضا فأبى أصحاب ابن الحضرمي إلا أن يسيروا إلى القصر، و أبت الأزد إلا أن يمنعوهم فركب الأحنف فقال لأصحاب ابن الحضرمي: إنكم و الله ما أنتم بأحق بقصر الأمارة من القوم و مالكم أن تؤمر عليهم من يكرهونه فانصرفوا عنهم ففعلوا، ثم جاء إلى الأزد فقال: إنه لم يكن ما تكرهون و لا يؤتي إلا ما تحبون فانصرفوا رحمكم الله ففعلوا.

قال إبراهيم: و حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي سيف عن الكلبي: أن ابن الحضرمي لما أتى البصرة و دخلها نزل في بني تميم في دار سبيل و دعا بني تميم و اخلاط مضر، فقال زياد لأبى الأسود الدؤلي: أما ترى ما صنعوا أهل البصرة إلى معاوية و ما في الأزد لي مطمع؟ فقال: إن كنت تركتهم لم ينصروك و إن أصبحت فيهم منعوك.

فخرج زياد من ليلته فأتى صبرة بن شيمان الحداني الأزدي فأجاره، و قال له حين أصبح: يا زياد انه ليس حسنا بنا أن تقيم فينا مختفيا أكثر من يومك هذا، فأعد له منبرا و سريرا في مسجد الحدان و جعل له شرطا و صلى بهم الجمعة في مسجد الحدان، و غلب ابن الحضرمي على ما يليه من البصرة و جباها و أجمعت الأزد على زياد فصعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه ثم قال:

يا معشر الأزد إنكم كنتم أعدائى فأصبحتم أوليائى، و أولى الناس بي و إني لو كنت في بني تميم و ابن الحضرمى فيكم لم أطمع فيه أبدا و أنتم دونه، فلا يطمع ابن الحضرمى فى و أنتم دونى، و ليس ابن آكلة الأكباد في بقية الأحزاب و أولياء الشيطان بأدنى إلى الغلبة من أمير المؤمنين في المهاجرين و الأنصار و قد أصبحت فيكم مضمونا و أمانة مرادة و قد رأينا وقعتكم يوم الجمل فاصبروا مع الحق صبركم مع الباطل فانكم لا تحمدون إلا على النجدة و لا تعذرون على الجبن.

فقام شيمان أبو صبرة و لم يكن شهد يوم الجمل و كان غائبا فقال: يا معشر الأزد ما أبقيت عواقب الجمل عليكم إلا سوء الذكر و قد كنتم أمس على علي فكونوا اليوم له، و اعلموا أن إسلامكم ذل، و خذلانكم إياه عار، و أنتم حى مضماركم الصبر، و عاقبتكم الوفاء، فإن سار القوم بصاحبهم فسيروا بصاحبكم و إن استمدوا معاوية فاستمدوا عليا، و إن وادعوكم فوادعوهم.

ثم قام صبرة ابنه فقال: يا معشر الأزد إنا قلنا يوم الجمل نمنع مصرنا و نطيع امنا، فنطلب دم خليفتنا المظلوم فجددنا في القتال و أقمنا بعد انهزام الناس حتى قتل منا من لا خير فينا بعده، زياد جاركم اليوم و الجار مضمون و لسنا نخاف من على ما نخاف من معاوية فهبوا لنا أنفسكم و امنعوا جاركم أو فابلغوه مأمنه.

فقالت الأزد: إنما نحن لكم تبع فأجيروه، فضحك زياد و قال: يا صبرة أ تخشون أن لا تقوموا لبني تميم؟ فقال صبرة: إن جاءونا بالأحنف جئناهم بأبي صبرة، و إن جاءوا بالحباب جئت أنا و إن كان فيهم شباب كثير، فقال زياد: إنما كنت مازحا.

فلما رأت بنو تميم أن الأزد قد قامت دون زياد بعثت إليهم أخرجوا صاحبكم و نحن نخرج صاحبنا فأى الأميرين غلب علي أو معاوية دخلنا في طاعته و لا نهلك عامتنا.

فبعث إليهم أبو صبرة إنما كان هذا يرجى عندنا قبل أن نجيره، و لعمري ما قتل زياد و إخراجه إلا سوءا و أنكم لتعلمون أنا لم نجره إلا كرما، فالهوا عن هذا.

قال: و روى أبو الكنود أن شبث بن ربعي قال لعلي عليه السلام: يا أمير المؤمنين ابعث إلى هذا الحى من تميم فادعهم إلى طاعتك و لزوم بيعتك و لا تسلط عليهم أزدعمان البعداء البغضاء فإن واحدا من قومك خير لك من عشرة من غيرهم.

فقال له مخنف بن سليم الأزدي: إن البعيد البغيض من عصى الله و خالف أمير المؤمنين و هم قومك، و إن الحبيب القريب من أطاع الله و نصر أمير المؤمنين و هم قومي و أحدهم خير لأمير المؤمنين من عشرة قومك.

فقال أمير المؤمنين عليه السلام: مه تناهوا أيها الناس و ليردعكم الإسلام و وقاره عن التباغى و التهاذى، و لتجمع كلمتكم، و ألزموا دين الله الذي لا يقبل من أحد غيره، و كلمة الإخلاص التي هي قوام الدين، و حجة الله على الكافرين، و اذكروا إذ كنتم قليلا مشركين متباغضين متفرقين فألف بينكم بالإسلام فكثرتم و اجتمعتم و تحاببتم فلا تفرقوا بعد إذ اجتمعتم، و لا تتباغضوا بعد إذ تحاببتم، و إذا رأيتم الناس و بينهم النائرة و قد تداعوا إلى العشائر و القبائل فاقصدوا لهامهم و وجوههم بالسيف حتى يفزعوا إلى الله و إلى كتابه و سنة نبيه فأما تلك الحمية من خطرات الشياطين فانتهوا عنها لا أبا لكم تفلحوا و تنجحوا.

ثم إنه عليه السلام دعى أعين بن صبيعة المجاشعى و قال: يا أعين ألم يبلغك أن قومك وثبوا على عاملي مع ابن الحضرمى بالبصرة يدعون إلى فراقى و شقاقى و يساعدون الضلال القاسطين علي.

فقال: لا تساء يا أمير المؤمنين و لا يكن ما تكره ابعثنى إليهم فأنا لك زعيم بطاعتهم و تفريق جماعتهم و نفى ابن الحضرمى من البصرة أو قتله.

قال: فاخرج الساعة، فخرج من عنده و مضى حتى قدم البصرة، هذه رواية ابن هلال صاحب كتاب الغارات.

و روى الواقدى أن عليا عليه السلام استنفر بني تميم أياما لينهض منهم إلى البصرة من يكفيه أمر ابن الحضرمى و يرد غادية بني تميم الذين أجاروه بها فلم يجبه أحد فخاطبهم و قال: أليس من العجب أن ينصرني الأزد و تخذلنى مضر؟ و أعجب من ذلك تقاعد تميم الكوفة بى و خلاف تميم البصرة على، و أن استنجد بطائفة منها بشخص إلى إخوانها فيدعوهم إلى الرشاد فإن أجابت و إلا فالمنابذة و الحرب فكأنى اخاطب صما بكما لا يفقهون حوارا، و لا يجيبون نداء، كل هذا جبنا عن البأس و حبا للحياة لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه و آله نقتل آباءنا و أبنائنا- الفصل إلى آخره.

قال: فقام إليه أعين بن صبيعة المجاشعي فقال: أنا إنشاء الله أكفيك يا أمير المؤمنين هذا الخطب و أتكفل لك بقتل ابن الحضرمى أو إخراجه عن البصرة فأمره بالتهيوء للشخوص، فشخص حتى قدم البصرة.

قال إبراهيم بن هلال: فلما قدمها دخل على زياد و هو بالأزد مقيم فرحب به و أجلسه إلى جانبه فأخبره بما قال له علي عليه السلام و ما رد عليه و ما الذي عليه رأيه فإنه يكلمه إذ جاءه كتاب من علي عليه السلام فيه:

من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى زياد بن عبيد: سلام عليك أما بعد فإني قد بعثت أعين بن صبيعة ليفرق قومه من ابن الحضرمي فارقب ما يكون منه فإن فعل و بلغ من ذلك ما يظن به و كان في ذلك تفريق تلك الأوباش فهو ما تحب و إن ترامت الامور بالقوم إلى الشقاق و العصيان فانبذ من أطاعك إلى من عصاك فجاهدهم فإن ظهرت فهو ما ظننت و إلا فطاولهم و ماطلهم فكان كتائب المسلمين قد أطلت عليك فقتل الله المفسدين الظالمين و نصر المؤمنين المحقين و السلام.

فلما قرأه زياد أقرأه أعين بن صبيعة فقال له: إني لأرجو أن يكفى هذا الأمر إن شاء الله.

ثم خرج من عنده فأتى رحله فجمع إليه رجالا من قومه فحمد الله و أثنى عليه ثم قال:يا قوم على ما ذا تقتلون أنفسكم و تهريقون دماءكم على الباطل مع السفهاء الأشرار، و إني و الله ما جئتكم حتى عبيت إليكم الجنود فإن تنيبوا إلى الحق يقبل منكم و يكف عنكم، و إن أبيتم فهو و الله استيصالكم و بواركم.

فقالوا: بل نسمع و نطيع، فقال: انهضوا الان على بركة الله عز و جل، فنهض بهم إلى جماعة ابن الحضرمي فخرجوا إليه مع ابن الحضرمي فصافوه و وافقهم عامة يومه يناشدهم الله و يقول: يا قوم لا تنكثوا بيعتكم و لا تخلفوا إمامكم، و لا تجعلوا على أنفسكم سبيلا، فقد رأيتم و جربتم كيف صنع الله بكم عند نكثكم بيعتكم و خلافكم، فكفوا عنه و لم يكن بينه و بينهم قتال، و هم في ذلك يشتمونه و ينالون منه، فانصرف عنهم و هو منهم منتصف.

فلما رأى إلى رحله تبعه عشرة نفر يظن الناس أنهم خوارج فضربوه بأسيافهم‏ و هو على فراشه و لا يظن أن الذي كان يكون فخرج يشتد عريانا فلحقوه في الطريق فقتلوه فأراد زياد أن يناهض ابن الحضرمي حين قتل أعين بجماعة من معه من الأزد و غيرهم من شيعة علي عليه السلام فأرسل بنو تميم من الأزد، و الله ما غرضنا لجاركم إذ أجرتموه و لا لمال هو له و لا لأحد ليس على رأينا فما تريدون إلى حربنا و إلى جارنا فكان الأزد عند ذلك كرهت قتالهم.

فكتب زياد إلى علي عليه السلام أما بعد يا أمير المؤمنين فإن أعين بن صبيعة قدم علينا من قبلك بجد و مناصحة و صدق و يقين فجمع إليه من أطاعه من عشيرته فحثهم على الطاعة و الجماعة، و حذرهم الخلاف و الفرقة ثم نهض بمن أقبل معه إلى من أدبر عنه فوافقهم عامة النهار فهال أهل الخلال تقدمه و تصدع عن ابن الحضرمي كثير ممن كان يريد نصرته فكان كذلك حتى أمسى فأتى في رحله فبنيه نفر من هذه الخارجة المارقة فاصيب رحمه الله فأردت أن اناهض القوم ابن الحضرمي عند ذلك فحدث أمر قد أمرت صاحب كتابى هذا أن يذكره لأمير المؤمنين و قد رأيت إن رأى أمير المؤمنين ما رأيت أن يبعث إليهم جارية بن قدامة فإنه نافذ البصيرة و مطاع في العشيرة شديد على عدو أمير المؤمنين فإن يقدم يفرق بينهم بإذن الله، و السلام على أمير المؤمنين و رحمة الله و بركاته.

فلما جاء الكتاب دعا جارية بن قدامة فقال له: يا ابن قدامة تمنع الأزد عاملى و تبيت مالى و تشاقنى مضر و تنابذني و بنا ابتدأها الله تعالى بالكرامة و عرفه الهدى و تداعوا إلى المعشر الذين حادوا الله و رسوله و أرادوا إطفاء نور الله سبحانه حتى علت كلمة الله و هلك الكافرون، فقال: يا أمير المؤمنين ابعثني إليهم و استعن بالله عليهم، قال: قد بعثتك إليهم و استعنت بالله عليهم.

قال إبراهيم: فحدثنا محمد بن عبد الله قال: حدثني ابن أبي السيف عن سليمان ابن أبي راشد عن كعب بن قعين قال: خرجت مع جارية من الكوفة إلى البصرة في خمسين رجلا من بنى تميم ما كان فيهم يماني غيري و كنت شديد التشيع فقلت لجارية: إن شئت كنت معك، و إن شئت ملت إلى قومي، فقال: بل معى فو الله لوددت‏ أن الطير و البهائم تنصرنى عليهم فضلا عن الإنس.

قال: و روى كعب بن قعين أن عليا عليه السلام كتب مع جارية كتابا و قال اقرأه على أصحابك، قال: فمضينا معه فلما دخلنا البصرة بدأ بزياد فرحب به و أجلسه إلى جانبه و ناجاه ساعة و سائله ثم خرج فكان أفضل ما أوصاه به أن قال: احذر على نفسك و اتق أن تلقى ما لقى صاحبك القادم قبلك.

و خرج جارية من عنده فقام في الأزد فقال: جزاكم الله من حى خيرا، ما أعظم عناءكم، و أحسن بلاءكم، و أطوعكم لأميركم! لقد عرفتم الحق إذ ضيعه من أنكره، و دعوتم إلى الهدى إذ تركه من لم يعرفه، ثم قرأ عليهم و على من كان معه من شيعة علي عليه السلام و غيرهم كتاب علي عليه السلام فإذا فيه:

من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من قرئ عليه كتابى هذا من ساكنى البصرة من المؤمنين و المسلمين- إلى قوله عليه السلام: حتى أكون أنا الشاخص نحوكم إن شاء الله تعالى و السلام، كما تقدم في المصدر.

قال: فلما قرئ الكتاب على الناس قام صبرة بن شيمان فقال: سمعنا و أطعنا و نحن لمن حارب أمير المؤمنين حرب، و لمن سالم سلم، إن كفيت يا جارية قومك بقومك فذاك، و إن أحببت أن ننصرك نصرناك.

و قام وجوه الناس فتكلموا بمثل ذلك و نحوه فلم يأذن لأحد منهم أن يسير معه و مضى نحو بني تميم فقام زياد في الأزد فقال:

يا معشر الأزد إن هؤلاء كانوا أمس سلما فأصبحوا اليوم حربا و إن كنتم حربا فأصبحتم سلما و إني و الله ما اخترتكم إلا على التجربة و لا أقمت فيكم إلا على الأمل فما رضيتم إذ أجرتمونى حتى نصبتم لي منبرا و سريرا و جعلتم لي شرطا و أعوانا و مناديا و جمعة فما فقدت بحضرتكم شيئا إلا هذا الدرهم لا اجبه اليوم فإن لا اجبه اليوم اجبه غدا إن شاء الله، و اعلموا أن حربكم اليوم معاوية أيسر عليكم في الدنيا و الدين من حربكم أمس عليا، و قد قدم عليكم جارية بن قدامة و إنما أرسله على ليصدع أمر قومه و الله ما هو بالأمير المطاع و لو أدرك أمله في قومه لرجع إلى‏ أمير المؤمنين و لكان لي تبعا، و أنتم الهامة العظمى و الجمرة الحامية فقدموه إلى قومه فإن اضطر إلى نصركم فسيروا إليه إن رأيتم ذلك.

فقام أبو صبرة بن شيمان فقال: يا زياد إني و الله لو شهدت قومى يوم الجمل رجوت أن لا يقاتلوا عليا و قد مضى الأمر بما فيه و هو يوم بيوم و أمر بأمر و الله إلى الجزاء بالإحسان أسرع منه إلى الجزاء بالسيئ و التوبة مع الحق و العفو مع الندم و لو كانت هذه فتنة لدعونا القوم إلى إبطال الدماء و استيناف الامور و لكنها جماعة دماؤها حرام و جروحها قصاص و نحن معك نحب ما أحببت.فعجب زياد من كلامه و قال: ما أظن في الناس مثل هذا.

ثم قام صبرة ابنه فقال: إنا و الله ما اصبنا بمصيبة في دين و لا دنيا كما اصبنا أمس يوم الجمل، و إنا لنرجو اليوم أن يمحص ذلك بطاعة الله و طاعة أمير المؤمنين و ما أنت يا زياد فو الله ما أدركت أملك فينا، و لا أدركنا ما أملنا فيك دون ردك إلى دارك و نحن رادوك إليها غدا إن شاء الله تعالى، فإذا فعلنا فلا يكن أحد أولى بك منا فإنك إلا تفعل لم تأت ما يشبهك، و إنا و الله نخاف حرب على في الاخرة ما لا نخاف من حرب معاوية في الدنيا فقدم هواك و أخر هوانا فنحن معك و طوعك.

ثم قام خنفر الجماني فقال: ايها الأمير إنك لو رضيت منا بما ترضى به من غيرنا لم نرض ذلك لأنفسنا سربنا إلى القوم إن شئت، و أيم الله ما لقينا يوما قط إلا اكتفينا بعفونا دون جهدنا إلا ما كان أمس.

قال إبراهيم: فأما جارية فإنه كلم قومه فلم يجيبوه و خرج إليهم منهم أوباش فناوشوه بعد أن شتموه و أسمعوه، فأرسل إلى زياد و الأزد يستصرخهم و يأمرهم أن يسيروا إليه فسارت الأزد بزياد و خرج إليهم ابن الحضرمى و على خيله عبد الله بن حازم السلمى فاقتتلوا ساعة و أقبل شريك بن الأعور الحارثى و كان من شيعة علي عليه السلام و صديقا لجارية بن قدامة فقال ألا اقاتل معك عدوك؟ فقال: بلى فما لبثوا بني تميم أن هزموهم و اضطروهم إلى دار سبيل السعدى فحصروا ابن الحضرمى‏ و حدود مأتي رجل من بني تميم و معهم عبد الله بن حازم السلمى فجاءت امه و هي سوداء حبشية اسمها عجلى فنادته فأشرف عليها فقالت يا بني أنزل إلى فأبى فكشفت رأسها و أبدت قناعها و سألته النزول فأبى، فقالت: و الله لتنزلن أو لأتعرين و أهوت بيدها إلى ساقها فلما رأى ذلك نزل فذهبت به و أحاط جارية و زياد بالدار، و قال جارية: على بالنار فقالت الأزد: لسنا من الحريق بالنار في شي‏ء و هم قومك و أنت أعلم.

فحرق جارية الدار عليهم فهلك ابن الحضرمى في سبعين رجلا أحدهم عبد الرحمن بن عمير بن عثمان القرشي ثم التميمى، و سمى جارية منذ ذلك اليوم محرقا، و سارت الأزد بزياد حتى أوطنوه قصر الإمارة و معه بيت المال، و قالت له: هل بقي علينا من جوارك شي‏ء؟ قال: لا، قالوا: فبرءنا منه؟ فقال: نعم فانصرفوا عنه.

و كتب زياد إلى أمير المؤمنين عليه السلام: أما بعد فإن جارية بن قدامة العبد الصالح قدم من عندك فناهض جمع ابن الحضرمى بمن قصره و أعانه من الأزد ففضه و اضطره إلى دار من دور البصرة في عدد كثير من أصحابه فلم يخرج حتى حكم الله تعالى بينهما فقتل ابن الحضرمى و أصحابه منهم من أحرق بالنار، و منهم من هدم عليه البيت من أعلاه، و منهم من قتل بالسيف، و سلم منهم نفر أنابوا و تابوا فصفح عنهم، و بعدا لمن عصى و غوى، و السلام على أمير المؤمنين و رحمة الله و بركاته.

فلما وصل كتاب زياد قرأه علي عليه السلام الناس و كان زياد قد أنفذه مع ظبيان ابن عمارة، فسر علي عليه السلام بذلك و سر أصحابه و أثنى على جارية و على زياد و على الأزد البصرة فقال: إنها أول القرى خرابا إما غرقا و إما حرقا حتى يبقى مسجدها كجؤجؤ سفينة، ثم قال لظبيان: أين منزلك منها؟ فقال: مكان كذا، فقال: عليك بضواحيها.

الترجمة

اين نامه ‏ايست كه أمير عليه السلام بأهل بصره نوشت:

از گسيختن رشته پيمان و دشمنى خود آگاهيد، كه من از گناهكارتان درگذشتم و از گريزنده شما شمشير برداشتم، و به پوزش روى آورنده را پذيرفتم، پس اگر كارهاى تباه ‏كننده، و بيخردى انديشه ‏هاى بيجا، شما را به جنگ و خلاف با من براه انداخت، اين منم كه اسبان تازى را هوار كارزارى خود را نزديك گردانيده‏ام و دم دست آورده ‏ام، و بر شتران سوارى خود پالان نهادم.

و اگر مرا بامدن ناچار كنيد با شما كارى و كارزارى كنم كه جنگ جمل در پيش آن چون ليسيدن ليسنده انگشت خود را پس از خوراك، بيش نباشد، با اين كه به پايه فرمانبردار، و به حق نيكخواه شما آشنايم، بدون اين كه از گناهكار درگذرم و بجاى آن بى‏ گناه را بگيرم، و يا از پيمان‏شكن بگذرم و به آن كه پيمان را بسر برده مؤاخذه كنم.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی

نهج البلاغه نامه ها نامه شماره 28/3 شرح میر حبیب الله خوئی(به قلم علامه حسن زاده آملی )[رسالة منفردة في لقاء الله تعالى‏]

نامه ۲۸ صبحی صالح

۲۸- و من کتاب له ( علیه ‏السلام  ) إلى معاویه جوابا قال الشریف و هو من محاسن الکتب

أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ أَتَانِی کِتَابُکَ تَذْکُرُ فِیهِ اصْطِفَاءَ اللَّهِ مُحَمَّداً ( صلى ‏الله‏ علیه ‏وآله  )لِدِینِهِ وَ تَأْیِیدَهُ إِیَّاهُ لِمَنْ أَیَّدَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ

فَلَقَدْ خَبَّأَ لَنَا الدَّهْرُ مِنْکَ عَجَباً إِذْ طَفِقْتَ تُخْبِرُنَا بِبَلَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا وَ نِعْمَتِهِ عَلَیْنَا فِی نَبِیِّنَا فَکُنْتَ فِی ذَلِکَ کَنَاقِلِ التَّمْرِ إِلَى هَجَرَ أَوْ دَاعِی مُسَدِّدِهِ إِلَى النِّضَالِ

وَ زَعَمْتَ أَنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ فِی الْإِسْلَامِ فُلَانٌ وَ فُلَانٌ فَذَکَرْتَ أَمْراً إِنْ تَمَّ اعْتَزَلَکَ‏ کُلُّهُ وَ إِنْ نَقَصَ لَمْ یَلْحَقْکَ ثَلْمُهُ وَ مَا أَنْتَ وَ الْفَاضِلَ وَ الْمَفْضُولَ وَ السَّائِسَ وَ الْمَسُوسَ

وَ مَا لِلطُّلَقَاءِ وَ أَبْنَاءِ الطُّلَقَاءِ وَ التَّمْیِیزَ بَیْنَ الْمُهَاجِرِینَ الْأَوَّلِینَ وَ تَرْتِیبَ دَرَجَاتِهِمْ وَ تَعْرِیفَ طَبَقَاتِهِمْ هَیْهَاتَ لَقَدْ حَنَّ قِدْحٌ لَیْسَ مِنْهَا وَ طَفِقَ یَحْکُمُ فِیهَا مَنْ عَلَیْهِ الْحُکْمُ لَهَا

أَ لَا تَرْبَعُ أَیُّهَا الْإِنْسَانُ عَلَى ظَلْعِکَ وَ تَعْرِفُ قُصُورَ ذَرْعِکَ وَ تَتَأَخَّرُ حَیْثُ أَخَّرَکَ الْقَدَرُ فَمَا عَلَیْکَ غَلَبَهُ الْمَغْلُوبِ وَ لَا ظَفَرُ الظَّافِرِ وَ إِنَّکَ لَذَهَّابٌ فِی التِّیهِ رَوَّاغٌ عَنِ الْقَصْدِ

أَ لَا تَرَى غَیْرَ مُخْبِرٍ لَکَ وَ لَکِنْ بِنِعْمَهِ اللَّهِ أُحَدِّثُ أَنَّ قَوْماً اسْتُشْهِدُوا فِی سَبِیلِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمُهَاجِرِینَ وَ الْأَنْصَارِ وَ لِکُلٍّ فَضْلٌ

حَتَّى إِذَا اسْتُشْهِدَ شَهِیدُنَا قِیلَ سَیِّدُ الشُّهَدَاءِ وَ خَصَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى‏الله‏علیه‏وآله  )بِسَبْعِینَ تَکْبِیرَهً عِنْدَ صَلَاتِهِ عَلَیْهِ

أَ وَ لَا تَرَى أَنَّ قَوْماً قُطِّعَتْ أَیْدِیهِمْ فِی سَبِیلِ اللَّهِ وَ لِکُلٍّ فَضْلٌ حَتَّى إِذَا فُعِلَ بِوَاحِدِنَا مَا فُعِلَ بِوَاحِدِهِمْ قِیلَ الطَّیَّارُ فِی الْجَنَّهِ وَ ذُو الْجَنَاحَیْنِ

وَ لَوْ لَا مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ تَزْکِیَهِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ لَذَکَرَ ذَاکِرٌ فَضَائِلَ جَمَّهً تَعْرِفُهَا قُلُوبُ الْمُؤْمِنِینَ وَ لَا تَمُجُّهَا آذَانُ السَّامِعِینَ فَدَعْ عَنْکَ مَنْ مَالَتْ بِهِ الرَّمِیَّهُ فَإِنَّا صَنَائِعُ رَبِّنَا وَ النَّاسُ بَعْدُ صَنَائِعُ لَنَا

لَمْ یَمْنَعْنَا قَدِیمُ عِزِّنَا وَ لَا عَادِیُّ طَوْلِنَا عَلَى قَوْمِکَ‏ أَنْ خَلَطْنَاکُمْ بِأَنْفُسِنَا فَنَکَحْنَا وَ أَنْکَحْنَا فِعْلَ الْأَکْفَاءِ وَ لَسْتُمْ هُنَاکَ وَ أَنَّى یَکُونُ ذَلِکَ

وَ مِنَّا النَّبِیُّ وَ مِنْکُمُ الْمُکَذِّبُ وَ مِنَّا أَسَدُ اللَّهِ وَ مِنْکُمْ أَسَدُ الْأَحْلَافِ وَ مِنَّا سَیِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّهِ وَ مِنْکُمْ صِبْیَهُ النَّارِ وَ مِنَّا خَیْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِینَ وَ مِنْکُمْ حَمَّالَهُ الْحَطَبِ فِی کَثِیرٍ مِمَّا لَنَا وَ عَلَیْکُمْ

فَإِسْلَامُنَا قَدْ سُمِعَ وَ جَاهِلِیَّتُنَا لَا تُدْفَعُ وَ کِتَابُ اللَّهِ یَجْمَعُ لَنَا مَا شَذَّ عَنَّا وَ هُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى‏ بِبَعْضٍ فِی کِتابِ اللَّهِ‏

وَ قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِیمَ لَلَّذِینَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِیُّ وَ الَّذِینَ آمَنُوا وَ اللَّهُ وَلِیُّ الْمُؤْمِنِینَ‏فَنَحْنُ مَرَّهً أَوْلَى بِالْقَرَابَهِ وَ تَارَهً أَوْلَى بِالطَّاعَهِ

وَ لَمَّا احْتَجَّ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى الْأَنْصَارِ یَوْمَ السَّقِیفَهِ بِرَسُولِ اللَّهِ ( صلى‏الله‏علیه‏وآله  )فَلَجُوا عَلَیْهِمْ فَإِنْ یَکُنِ الْفَلَجُ بِهِ فَالْحَقُّ لَنَا دُونَکُمْ وَ إِنْ یَکُنْ بِغَیْرِهِ فَالْأَنْصَارُ عَلَى دَعْوَاهُمْ

وَ زَعَمْتَ أَنِّی لِکُلِّ الْخُلَفَاءِ حَسَدْتُ وَ عَلَى کُلِّهِمْ بَغَیْتُ فَإِنْ یَکُنْ ذَلِکَ کَذَلِکَ فَلَیْسَتِ الْجِنَایَهُ عَلَیْکَ فَیَکُونَ الْعُذْرُ إِلَیْکَوَ تِلْکَ شَکَاهٌ ظَاهِرٌ عَنْکَ عَارُهَا

وَ قُلْتَ إِنِّی کُنْتُ أُقَادُ کَمَا یُقَادُ الْجَمَلُ الْمَخْشُوشُ حَتَّى أُبَایِعَ‏

  وَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ أَرَدْتَ أَنْ تَذُمَّ فَمَدَحْتَ وَ أَنْ تَفْضَحَ فَافْتَضَحْتَ

وَ مَا عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْ غَضَاضَهٍ فِی أَنْ یَکُونَ مَظْلُوماً مَا لَمْ یَکُنْ شَاکّاً فِی دِینِهِ وَ لَا مُرْتَاباً بِیَقِینِهِ وَ هَذِهِ حُجَّتِی إِلَى غَیْرِکَ قَصْدُهَا وَ لَکِنِّی أَطْلَقْتُ لَکَ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا سَنَحَ مِنْ ذِکْرِهَا

ثُمَّ ذَکَرْتَ مَا کَانَ مِنْ أَمْرِی وَ أَمْرِ عُثْمَانَ فَلَکَ أَنْ تُجَابَ عَنْ هَذِهِ لِرَحِمِکَ مِنْهُ فَأَیُّنَا کَانَ أَعْدَى لَهُ وَ أَهْدَى إِلَى مَقَاتِلِهِ أَ مَنْ بَذَلَ لَهُ نُصْرَتَهُ فَاسْتَقْعَدَهُ وَ اسْتَکَفَّهُ أَمْ مَنِ اسْتَنْصَرَهُ فَتَرَاخَى عَنْهُ وَ بَثَّ الْمَنُونَ إِلَیْهِ حَتَّى أَتَى قَدَرُهُ عَلَیْهِ

کَلَّا وَ اللَّهِ لَ قَدْ یَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِینَ مِنْکُمْ وَ الْقائِلِینَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَیْنا وَ لا یَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِیلًا.

وَ مَا کُنْتُ لِأَعْتَذِرَ مِنْ أَنِّی کُنْتُ أَنْقِمُ عَلَیْهِ أَحْدَاثاً فَإِنْ کَانَ الذَّنْبُ إِلَیْهِ إِرْشَادِی وَ هِدَایَتِی لَهُ فَرُبَّ مَلُومٍ لَا ذَنْبَ لَهُ وَ قَدْ یَسْتَفِیدُ الظِّنَّهَ الْمُتَنَصِّحُ‏

وَ مَا أَرَدْتُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَ ما تَوْفِیقِی إِلَّا بِاللَّهِ عَلَیْهِ تَوَکَّلْتُ وَ إِلَیْهِ أُنِیبُ‏

وَ ذَکَرْتَ أَنَّهُ لَیْسَ لِی وَ لِأَصْحَابِی عِنْدَکَ إِلَّا السَّیْفُ فَلَقَدْ أَضْحَکْتَ‏

بَعْدَ اسْتِعْبَارٍ مَتَى أَلْفَیْتَ بَنِی عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَنِ الْأَعْدَاءِ نَاکِلِینَ وَ بِالسَّیْفِ مُخَوَّفِینَ فَلَبِّثْ قَلِیلًا یَلْحَقِ الْهَیْجَا حَمَلْ‏

فَسَیَطْلُبُکَ مَنْ تَطْلُبُ وَ یَقْرُبُ مِنْکَ مَا تَسْتَبْعِدُ

وَ أَنَا مُرْقِلٌ نَحْوَکَ فِی جَحْفَلٍ مِنَ الْمُهَاجِرِینَ وَ الْأَنْصَارِ وَ التَّابِعِینَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ شَدِیدٍ زِحَامُهُمْ سَاطِعٍ قَتَامُهُمْ مُتَسَرْبِلِینَ سَرَابِیلَ الْمَوْتِ أَحَبُّ اللِّقَاءِ إِلَیْهِمْ لِقَاءُ رَبِّهِمْ

وَ قَدْ صَحِبَتْهُمْ ذُرِّیَّهٌ بَدْرِیَّهٌ وَ سُیُوفٌ هَاشِمِیَّهٌ قَدْ عَرَفْتَ مَوَاقِعَ نِصَالِهَا فِی أَخِیکَ وَ خَالِکَ وَ جَدِّکَ وَ أَهْلِکَ وَ ما هِیَ مِنَ الظَّالِمِینَ بِبَعِیدٍ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج۱۹  

خاتمة

نذكر فيها أمرين لمن أراد أن يتذكر، و يسعى إلى لقاء ربه و يتنعم به‏ أحدهما نقل عدة أذكار و أدعية عن خزنة علم الله عز و جل و عيب وحيه الذين أنعم الله عليهم بلقائه و كانوا يناجون بها ربهم الجليل لأنها جلاء القلوب عن رين علائقها الدنياوية، و إرشاد للطالب إلى لقاء ربه المتعال، و ثانيهما نبذة مما هي آداب مبتغي اللقاء و الفائزين به.

أما الأول فقد روى السيد الأجل جمال العارفين ابن طاوس قدس سره الشريف في أعمال شعبان من كتابه القيم الكريم المسمى بالإقبال (ص 685 من الطبع الرحلي) عن ابن خالويه- إلى أن قال: إنها مناجاة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام و الأئمة من ولده عليهم السلام كانوا يدعون بها في شهر شعبان:

اللهم صل على محمد و آل محمد و اسمع دعائى إذا دعوتك- إلى قوله عليه السلام:

إلهي هب لي كمال الإنقطاع إليك و أنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة و تصير أرواحنا معلقة بعز قدسك- إلى أن قال عليه السلام: إلهي إن أنا متنى الغفلة عن الاستداد للقائك فقد نبهتني المعرفة بكرم آلائك- إلى أن قال عليه السلام: و ألحقني بنور عزك الأبهج فأكون لك عارفا و عن سواك منحرفا و منك خائفا مراقبا يا ذا الجلال و الاكرام، و رواه العلامة المجلسي في البحار أيضا (ص 89 ج 19 من طبع الكمباني).

و قال السيد المذكور في أعمال شهر رجب من ذلك الكتاب (ص 646):و من الدعوات في كل يوم من رجب ما رويناه أيضا عن جدي أبى جعفر الطوسي رضي الله عنه فقال: أخبرني جماعة عن ابن عياش قال: مما خرج على يد الشيخ الكبير أبى جعفر محمد بن عثمان بن سعيد رضى الله عنه من الناحية المقدسة ما حدثني به خير بن عبد الله قال: كتبته من التوقيع الخارج إليه:بسم الرحمن الرحيم ادع في كل يوم من أيام رجب: اللهم إني أسئلك بمعاني جميع ما يدعوك به ولاة أمرك المأمونون على سرك المستبشرون [المستسرون- خ ل‏] بأمرك الواصفون لقدرتك المعلنون لعظمتك، و أسألك‏ بما نطق فيهم من مشيتك، فجعلتهم معادن لكلماتك و أركانا لتوحيدك و آياتك و مقاماتك التي لا تعطيل لها في كل مكان يعرفك بها من عرفك، لا فرق بينك و بينها إلا أنهم عبادك و خلقك، فتقها و رتقها بيدك بدؤها منك و عودها إليك. إلخ.

قلت: هذا التوقيع من أسرار الله المكنونة المخزونة، و الحقائق المودعة فيها تدرك و لا توصف ينالها من كان له قلب و لو تصدينا لشرحه على قدر باعنا القصيرة و بضاعتنا المزجاة لا نجر إلى تأليف كتاب على حدة، و الضمير المجرور في لها و بها و بينها راجعة إلى المقامات و كذلك الضمير المنصوب في إلا أنهم عبادك و ضميرهم لذوى العقول فالمقامات من ذوى العقول، و لا بأس بإتيان الضمير، تارة من غير ذوى العقول و تارة من ذوى العقول، و ذلك نحو قوله تبارك و تعالى:

و علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة أورد الضمير ثانيا من ذوى العقول إشارة إلى أن الأسماء ليست ألفاظا دالة على معانيها لأن معرفة الألفاظ تعد من العلوم الأدبية و هي لا توجب شرح الصدر و سعة الذات، بل المراد بها حقائق المخلوقات و مقامات دار الوجود على ما هي عليه.

قوله عليه السلام: لا فرق بينك و بينها إلا أنهم عبادك، قال القيصري في آخر الإشارة إلى بعض المراتب الكلية من الفصل الأول من مقدماته على شرح الفصوص (ص 11 من الطبع الناصري): و مرتبة الإنسان الكامل عبارة عن جمع جميع المراتب الإلهية و الكونية من العقول و النفوس الكلية و الجزئية، و مراتب الطبيعة إلى آخر تنزلات الوجود و يسمى بالمرتبة العمائية أيضا فهي مضاهية للمرتبة الإلهية، و لا فرق بينهما إلا بالربوبية و المربوبية لذلك صار خليفة الله- إلخ.

إنما نقلنا كلام القيصري في المقام لكى يعلم أن أصل ما تفوه به العرفاء الشامخون مقتبس من مشكاة بيت آل النبي صلى الله عليه و آله، نعم انهم و الله ينابيع الحكمة و المعرفة و العرفان و خزنة الحقائق كلها.

و في دعاء عرفة لمولانا الحسين بن علي صلوات الله عليهما، كما أتى به السيد المذكور في الإقبال أيضا (ص 348): إلهى ترددي في الاثار يوجب بعد المزار فاجمعني عليك بخدمة توصلني إليك كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟ أ يكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك؟ متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟ و متى بعدت حتى تكون الاثار، هي التي توصل إليك؟ عميت عين لا تراك عليها رقيبا، و خسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيبا.

إلهي أمرت بالرجوع إلى الاثار فارجعني إليك بكسوة الأنوار و هداية الاستبصار حتى أرجع إليك منها، كما دخلت إليك منها مصون السر عن النظر إليها، و مرفوع الهمة عن الاعتماد عليها إنك على كل شي‏ء قدير.

إلهي هذا ذلي ظاهر بين يديك، و هذا حالي لا يخفى عليك، منك أطلب الوصول إليك، و بك أستدل عليك، فاهدني بنورك إليك، و أقمني بصدق العبودية بين يديك.

إلهي علمني من علمك المخزون، و صني بسرك [بسترك- خ ل‏] المصون.

إلهي حققني بحقائق أهل القرب، و اسلك بي مسلك أهل الجذب.

و روى ثقة الإسلام الكليني في باب الدعاء في أدبار الصلوات من الكافي (ص 399 ج 2 من المعرب) بإسناده عن محمد بن الفرج قال: كتب إلي أبو جعفر ابن الرضا- يعني الإمام الجواد عليه السلام- بهذا الدعاء و علمنيه- إلى أن قال عليه السلام: و أسألك الرضا بالقضاء و بركة الموت بعد العيش و برد العيش بعد الموت و لذة المنظر إلى وجهك و شوقا إلى رؤيتك و لقائك من غير ضراء مضرة و لا فتنة مضلة. إلخ.

و في دعاء يوم الاثنين للإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام: و أسألك خشيتك في السر و العلانية و العدل في الرضا و الغضب و القصد في الغنى و الفقر و أن تحبب إلى لقاءك في غير ضراء مضرة و لا فتنة مضلة. إلخ. رواه الكفعمي رضوان الله عليه في البلد الأمين (ص 118) و في المصباح أيضا (ص 115).

و في الدعاء السابع و الأربعين من الصحيفة السجادية: و أخفني مقامك و شوقني لقاءك.

و في المناجاة الخمس عشرة لمولانا علي بن الحسين صلوات الله عليه- و قال العلامة المجلسي رحمة الله عليه في التاسع عشر من البحار (ص 105 من الطبع الكمباني): و قد وجدتها مروية عنه عليه السلام في بعض كتب الأصحاب رضوان الله عليهم. انتهى.

و عدها المحدث الخبير و العالم الجليل الشيخ حر العاملي صاحب الوسائل في الصحيفة الثانية من الأدعية السجادية عليه السلام و نسبها إليه من غير ترديد.

ففي مناجاة الخائفين: و ليتني علمت أمن أهل السعادة جعلتني و بقربك و جوارك خصصتني فتقر بذلك عيني و تطمئن له نفسي- إلى أن قال عليه السلام: إلهي لا تغلق على موحديك أبواب رحمتك و لا تحجب مشتاقيك عن النظر إلى جميل رؤيتك.

و في مناجاة الراغبين: إلهي إن كان قل زادي في المسير إليك فلقد حسن ظني بالتوكل عليك- إلى أن قال عليه السلام: و إن أنا متنى الغفلة عن الاستعداد للقائك فقد نبهتني المعرفة [المغفرة- خ ل‏] بكرمك و آلائك- إلى أن قال عليه السلام:أسألك بسبحات وجهك و بأنوار قدسك، و أبتهل إليك بعواطف رحمتك و لطائف برك أن تحقق ظني بما اؤمله من جزيل إكرامك و جميل إنعامك في القربى منك و الزلفى لديك و التمتع بالنظر إليك.

و في مناجاة المطيعين لله: اللهم احملنا في سفن نجاتك و متعنا بلذيذ مناجاتك و أوردنا حياض حبك، و أذقنا حلاوة ودك و قربك.

و في مناجاة المريدين: و لقاؤك قرة عيني، و وصلك منى نفسي، و إليك شوقي و في محبتك ولهي و إلى هواك صبابتي و رضاك بغيتي، و رؤيتك حاجتي و جوارك طلبي، و قربك غاية سؤلي، و في مناجاتك انسي و راحتي [روحي- خ ل‏].

و في مناجاة المحبين: إلهي من ذا الذي ذاق حلاوة محبتك، فرام منك بدلا؟! و من ذا الذي أنس بقربك فابتغى عنك حولا؟! إلهي فاجعلنا ممن اصطفيته لقربك و ولايتك، و أخلصته لودك و محبتك، و شوقته إلى لقاءك، و رضيته‏ بقضائك، و منحته بالنظر إلى وجهك- إلى أن قال: و اجتبيته لمشاهدتك.

و في مناجاة المتوسلين: و اجعلني من صفوتك الذين أحللتهم بحبوحة جنتك و بوأتهم دار كرامتك، و أقررت أعينهم بالنظر إليك يوم لقائك، و أورثتهم منازل الصدق في جوارك.

و في مناجاة المفتقرين: ولوعتى لا يطفيها إلا لقاؤك، و شوقى إليك لا يبله إلا النظر إلى وجهك.

و في مناجاة العارفين: فهم إلى أو كار الأفكار يأوون، و في رياض القرب و المكاشفة يرتعون- إلى أن قال: و قرت بالنظر إلى محبوبهم أعينهم، إلى أن قال: ما أطيب طعم حبك، و ما أعذب شرب قربك.

و في مناجاة الذاكرين: فلا تطمئن القلوب إلا بذكراك، و لا تسكن النفوس إلا عند رؤياك- إلى أن قال: و أستغفرك من كل لذة بغير ذكرك، و من كل راحة بغير انسك، و من كل سرور بغير قربك.

و في مناجاة الزاهدين: و اقرر أعيننا يوم لقائك برؤيتك.

فعليك بتلك المناجاة الخمس عشرة سيما مناجاة العارفين و مناجاة المحبين منها فانها جلاء للقلوب.

و في آخر الدعاء السابع و الأربعين من الصحيفة و كان من دعائه عليه السلام في يوم عرفة: و أ تحفنى بتحفة من تحفاتك، و اجعل تجارتي رابحة، و كرتي غير خاسرة، و أخفنى مقامك، و شوقنى لقاءك- إلخ.

و في باب في أنه عز و جل لا يعرف إلا به من توحيد الصدوق رضوان الله عليه باسناده عن زياد بن المنذر، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر، عن أبيه، عن جده عليهم السلام أنه قال: إن رجلا قام إلى أمير المؤمنين عليه السلام و قال: بماذا عرفت ربك؟

قال: بفسخ العزم، و نقض الهمم لما هممت فحيل بيني و بين همى و عزمت فخالف القضاء عزمي علمت أن المدبر غيرى، قال: فبما ذا شكرت نعماه؟ قال: نظرت إلى بلاء قد صرفه عنى و أبلى به غيري فعلمت أنه قد أنعم علي فشكرته، قال:فبما ذا أحببت لقاه؟ قال: لما رأيته قد اختار لي من دين ملائكته و رسله و أنبيائه علمت أن الذي أكرمنى بهذا ليس ينساني فأحببت لقاه.

روى الكليني في باب الاهتمام بامور المسلمين و النصيحة لهم و نفعهم باسناده عن سفيان بن عيينة قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: عليك بالنصح لله في خلقه فلن تلقاه بعمل أفضل منه.

و اعلم أن ما تقدم من التوقيع الشريف الصادر من الناحية المقدسة و فيه قوله عليه السلام: لا فرق بينك و بينها إلا أنهم عبادك و خلقك، و ما مر في ذيله من كلام القيصري: لا فرق بينهما إلا بالربوبية و المربوبية كأنما يفيدان وجها خامسا في وحدة الوجود أعلى و أشمخ و أدق و أشرف من الأربعة المتقدمة المبينة، و لعل كلام العارف الربانى الخواجه صائن الدين على تركه اصفهاني يشير إلى هذا الوجه المنيع حيث قال: فهو العابد باعتبار تعينه و تقيده بصورة العبد الذي هو شأن من شئونه الذاتية و هو المعبود باعتبار إطلاقه، اعلم أن الشهود الأتم الأكمل قضى أن كل ما يسمى مرآة و مجلي و مظهرا و عينا و نحو ذلك ليس سوى تعينات صور أحوال الحق على ما بينها من التفاوت في الحكم و الحق من حيث هو باطن هويته متجلي في عين كل فرد فرد من أحواله المتميزه التي تغيب و ظهرت له انتهى كلامه.

و الله تعالى أعلم بمراد أوليائه، اللهم ارزقنا فهم ما أودعت في كلماتك التامة، قال عز من قائل: يحذركم الله نفسه و الله رؤف بالعباد.

اى برتر از خيال و قياس و گمان و وهم‏   وز آنچه گفته‏اند و شنيديم و خوانده‏ايم‏
مجلس تمام گشت و باخر رسيد عمر   ما همچنان در أول وصف تو مانده‏ايم‏
     

و أما الأمر الثاني فنقول: لا يعرج الإنسان إلى ذي المعارج إلا بجناحى العلم و العمل قال عز من قائل: و أن ليس للإنسان إلا ما سعى و أن سعيه سوف يرى‏ (النجم: 40) و قال تعالى: يوم يتذكر الإنسان ما سعى‏ (النازعات: 35)، و من أراد الآخرة و سعى لها سعيها و هو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا (الاسراء: 20)و قال تعالى: فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربه أحدا (آخر الكهف).

ثم تأمل تأملا كاملا في قوله تعالى: ليس للإنسان إلا ما سعى‏، فإن ما هو خارج عن ذاتك ليس لك حقيقة بل له ارتباط ما إليك فاسع إلى ما هو لك بل هو أنت و أنت هو على الحقيقة لما ثبت بالبراهين العقلية المعاضدة بالأدلة النقلية من اتحاد العاقل بمعقوله، و نعم ما أفاده الشيخ أبو علي الرئيس رضوان الله عليه في النمط الثامن من كتاب الإشارات: كمال الجوهر العاقل أن يتمثل فيه جلية الحق الأول قدر ما يمكنه أن ينال منه ببهائه الذي يخصه ثم يتمثل فيه الوجود كله على ما هو عليه مجردا عن الشوب مبتدأ فيه بعد الحق الأول بالجواهر العقلية العالية ثم الروحانية السماوية ثم ما بعد ذلك تمثلا لا يمايز الذات.

فاعلم أن الخبر ليس كالمعاينة، و العلم بالشي‏ء غير النيل لوصوله و وجدانه و حصوله، و لا يبلغ مرتبة علم اليقين مرتبة عين اليقين فضلا عن مرتبة حق اليقين بل الأول دون الثاني بمراحل و الثاني دون الثالث بمنازل، قال الشيخ الرئيس قدس سره في أواخر النمط التاسع من كتاب الإشارات: من أحب أن يتعرفها- يعني أن يتعرف الدرجات التي يجدها السالك- فليتدرج إلى أن يصير من أهل المشاهدة دون المشافهة و من الواصلين إلى العين دون السامعين للأثر.

و قال الخواجه نصير الدين الطوسي رضوان الله عليه في الشرح بعد كلام في الدرجات: و اعلم أن العبارة عن هذه الدرجات غير ممكنة لأن العبارات موضوعة للمعاني التي يتصورها أهل اللغات ثم يحفظونها ثم يتذكرونها ثم يتفاهمونها تعليما و تعلما، أما التي لا يصل إليها إلا غائب عن ذاته فضلا عن قوى بدنه فليس يمكن أن يوضع لها ألفاظ فضلا عن أن يعبر عنها بعبارة، و كما أن المعقولات لا تدرك بالأوهام و الموهومات لا تدرك بالخيالات و المتخيلات لا تدرك بالحواس كذلك ما من شأنه أن يعاين بعين اليقين فلا يمكن أن تدرك بعلم اليقين فالواجب على من يريد ذلك أن يجتهد في الوصول إليه بالعيان دون أن يطلبه بالبرهان.

قلت: قد مضى في ذلك كلامنا آنفا و تقدم قول الإمام الصادق عليه السلام فيه.

و لا يتيسر الوصول إلى لقائه تعالى إلا بالعمل الصالح و الإخلاص في عبادته كما فى آية الكهف الكريمة و إنما يتأتى لمن تخلص عن العلائق النفسانية و الشواغل الدنياوية و إلا لم يحصل معها ذوق اللذائذ العقلية حتى يحصل الشوق إليها فمن لم يعشق العبادة فإنما لتمكن تلك العوائق فيه و نعم ما قال الشيخ في النمط الثامن من الإشارات: الان إذا كنت في البدن و في شواغله و علائقة فلم تشتق إلى كما لك المناسب أو لم تتألم بحصول ضده فاعلم أن ذلك منك لا منه.

و ما قال المعلم الثاني أبو نصر الفارابي رضوان الله عليه في الفصوص: إن لك منك غطاء فضلا عن لباسك من البدن فاجهد أن ترفع الحجاب فحينئذ تلحق فلا تسأل عما تباشره، فإن ألمت فويل لك، و إن سلمت فطوبي لك و نفسك و أنت في بدنك كأنك لست في بدنك و كأنك في صقع الملكوت فترى ما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر فاتخذ لك عند الحق عهدا إلى أن تأتيه فردا.

قلت: قوله: فلا تسأل عما تباشره، كلام عميق بعيد الغور يفسره قول الشيخ الرئيس في آخر النمط التاسع في مقامات العارفين: و العارف ربما ذهل فيما يصار به إليه فغفل عن كل شي‏ء فهو في حكم من لا يكلف، و كيف و التكليف لمن يعقل التكليف حال ما يعقله و لمن اجترح بخطيئته إن لم يعقل التكليف.

و قال الخواجه نصير الدين الطوسي في الشرح: و المراد أن العارف ربما ذهل في حال اتصاله بعالم القدس عن هذا العالم فغفل عن كل ما في هذا العالم و صدر عنه إخلال بالتكاليف الشرعية فهو لا يصير بذلك متأثما لأنه فى حكم من لا يكلف لأن التكليف لا يتعلق إلا بمن يعقل التكليف في وقت تعقله ذلك، أو بمن يتأثم بترك التكليف إن لم يكن يعقل التكليف كالنائمين و الغافلين و الصبيان الذين هم فى حكم المكلفين.

و إلى هذا المعنى أشار الخواجه عبد الله الأنصار بقوله: صاحب غلبه عشق‏ از خود آگاه نيست آنچه مست مى ‏كند او را گناه نيست، و الخواجه شمس الدين الحافظ بقوله:

رشته تسبيحم ار بگسست معذورم بدار   دستم اندر ساعد ساقى سيمين ساق بود
     

و بيانه أوضح من ذلك يطلب من شرح اللاهيجى على گلشن راز للشبستري (ص 198 من الطبع الأول)، و من شرح الأمير إسماعيل الشنب غازاني التبريزى على فصوص الفارابي (ص 71) رحمة الله عليهم.

و قوله: و أنت في بدنك كانك إلخ، و منه أخذ الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا كلامه في أول النمط التاسع في مقامات العارفين: فكأنهم و هم في جلابيب من أبدانهم قد نضوها و تجردوا عنها إلى عالم القدس إلخ، و كأن هذا الكلام مأخوذ من مشكاة الولاية العلوية حيث قال إمام الموحدين علي بن أبي طالب عليه السلام في صفة الزهاد: كانوا قوما من أهل الدنيا و ليسوا من أهلها فكانوا فيها كمن ليس منها إلخ (نهج البلاغة آخر المختار 228 من باب الخطب) و حيث قال عليه السلام لكميل بن زياد: صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى إلخ (المختار 147 من باب الحكم و المواعظ من النهج)، و إلى هذا المعنى أشار السعدى بقوله:

هرگز وجود حاضر و غائب شنيده‏اى‏   من در ميان جمع و دلم جاى ديگر است‏
     

و قوله: فترى ما لا عين رأت، مأخوذ من حديث عن النبي صلى الله عليه و آله أنه قال: قال الله تعالى: أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر.

و قوله: فاتخذ لك عند الحق فردا، كأنما إشارة إلى قوله تبارك و تعالى:لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا (مريم: 88)، و قوله: إلى أن تأتيه فردا إشارة إلى قوله تعالى: و كلهم آتيه يوم القيامة فردا (مريم: 96).

ثم اعلم أن معرفة النفس هي مرقاة إلى معرفة الرب، و من عرف نفسه فقد عرف ربه كما تقدمت الإشارة إليه إجمالا، و في الخبر المروي تارة عن أمير المؤمنين‏ علي عليه السلام كما في الصافي للفيض قدس سره، و اخرى عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام كما في المجلي لابن جمهور الأحسائى رضوان الله عليه: الصورة الإنسانية هي أكبر حجج الله على خلقه، و هي الكتاب الذي كتبه بيده، و هي الهيكل الذي بناه بحكمته، و هي مجموع صور العالمين، و هي المختصر من اللوح المحفوظ، و هي الشاهدة على كل غائب، و هي الحجة على كل جاحد، و هي الطريق المستقيم إلى كل خير، و هي الجسر (الصراط- خ ل) الممدود بين الجنة و النار.

و هذا الخبر الشريف باب بل أبواب إلى معارف حقة و أسرار مكنونة و لعمري جدير أن يقال فيه كل الصيد في جوف الفراء، شرحه يخرجنا إلى الإسهاب، و يجرنا إلى تأليف رسالة عليحدة أو كتاب، و حيث إن الصورة الإنسانية هي مجموع صور العالمين قالوا في حد الفلسفة: هي معرفة الإنسان نفسه، كما في رسالة الكندي في حدود الأشياء و رسومها (ص 173 من طبع مصر) و قد أتى الكندي فيها في حد الفلسفة بستة حدود من القدماء و هذا أحدها، و قال بعد نقله الحد المذكور: و هذا قول شريف النهاية بعيد الغور مثلا أقول: إن الأشياء إذا كانت أجساما و لا أجسام، و ما لا أجسام إما جواهر و إما أعراض، و كان الإنسان هو الجسم و النفس و الأعراض، و كانت النفس جوهرا لا جسما فإنه إذا عرف ذاته عرف الجسم بأعراضه و العرض الأول و الجوهر الذي هو لا جسم فإذن إذا علم ذلك جميعا فقد علم الكل، و لهذه العلة سمى الحكماء الإنسان العالم الأصغر.

و قال العارف المتنزه الميرزا جواد الملكي قدس سره في كتابه المسمى بلقاء الله: ان الإنسان له عوالم ثلاثة: عالم الحس و الشهادة، و عالم الخيال و المثال، و عالم العقل و الحقيقة، فمن جهة أن إنيته الخاصة إنما بدأت من عالم الطبيعة كما في الاية الكريمة المباركة و بدأ خلق الإنسان من طين‏ صار عالمه هذا له بالفعل و عرف نفسه و حقيقته بعالمه هذا، بل لو سمع من عارف أو عالم‏ عالميه الاخرين أنكره، بل لو أخبره أحد بصفات عالمه العقلى لكفره، و ذلك لأن عالمه الطبيعى له بالفعل و عالميه الاخرين بالقوة، و لم ينكشف له بالكشف التام إلا عالم الطبيعة، و آثار من عالم المثال، و شي‏ء قليل من عالمه العقلى.

و انسانيته انما بعالمه العقلي و إلا فهو مشترك مع سائر بني جنسه من الحيوان في عالميه الاخرين، و إن كان عالماه الاخران أيضا من جهة المرتبة أشرف من عالمى سائر الحيوانات.

و بهذه العوالم الثلاثة و ترتيبها وقع التلويح بل التصريح في دعاء سجدة ليلة النصف من شعبان عن النبي صلى الله عليه و آله حيث قال فيها: و سجد لك سوادي و خيالي و بياضي.

و بالجملة فعالمه الحسى عبارة عن بدنه الذي له مادة و صورة، و عالمه المثالى عبارة عن عالمه الذي حقائقه صور عارية عن المواد، و عالمه العقلي عبارة عن عالمه الذي هو حقيقته و نفسه بلا مادة و لا صورة.

و لكل من هذه العوالم لوازم و آثار خاصة لازمة لفعليتها، فمن انغمر في عالم الطبيعة و تحققت باثارها و تحركت بحكمها و ضعفت فيه آثار عالمه العقلي فقد أخلد إلى الأرض و صار موجودا بما هو حيوان بل أضل من الحيوان كما هو الصريح في قوله تعالى: إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا، و من ترقى إلى العالم العقلي و غلب آثاره على آثار عالميه الطبيعى و الخيالي و كان الحاكم في مملكة وجوده العقل يصير موجودا روحانيا حتى يتكامل في العقلانية و انكشف له حقيقته و نفسه و روحه فإذا ترتفع عنه الحجب الظلمانية بل النورانية أو غالبها بينه و بين معرفة الله جل جلاله و يتحقق في حقه قوله صلى الله عليه و آله: من عرف نفسه فقد عرف ربه.

و إذا تمهد لك هذه الإجماليات فراجع إلى تفصيل لوازم كل عالم من العوالم و اشتغل بتدبير السفر و توكل على الرب الرحيم و استعن منه و توسل بأوليائه في كل جزئي و كلي من شئونك:

و اعلم أن هذا العالم الحسى هو عالم الموت و الفناء و الفقد و الظلمة و الجهل و هو ذات مادة و صورة سائلتين زائلتين دائم التغير و الانقسام و لا شعور له و لا إشعار إلا بتبعية العالمين الاخرين و إنما ظهوره للحس بتوسط الأعراض من حيث وحدته الإتصالية أما من حيث كثرته المقدارية المتجزية عند فرض القسمة فكل واحد من الأجزاء معدوم عن الاخر و مفقود عنه فالكل غائب عن الكل و معدوم عنه و ذلك من جهة أن المادة مصحوبة بالعدم بل هو جوهر مظلم و أول ما ظهر من الظلام.

و لأنها في ذاتها بالقوة و بما لها في أصلها من عالم النور تقبل الصور النورية و تذهب ظلماتها بنور صورها فهذه النشأة اختلط نورها بظلامها و ضعف وجودها و ظهورها و لضعفها احتاجت إلى مهد المكان و ظئر الزمان و أهلها المخصوصون بها أشقياء الجن و الإنس و الحيوان و النبات و الجماد، و في الحديث القدسي: ما نظرت إلى الأجسام منذ خلقتها، و هم الذين علومهم مختصة بهذا العالم و يعلمون ظاهرا من الحيوة الدنيا و هم عن الاخرة غافلون، و لم يتجاوز علمهم عن المحسوسات و لم يعرفوا من العوالم العالية إلا الأسماء، و كلما سمعوا حكاية منها قدروا له لوازم عالمهم و أنكروا ما يقال لهم من لوازم غير عالمهم.

و بالجملة مرعيهم و مأنسهم و وطنهم هذا العالم المحسوس و ملاذهم و مقاصدهم كلها من مألوفات هذا العالم و هم الذين قلنا إنهم من الذين أخلدوا إلى الأرض و هم يعتقدون أن أنفسهم هو هذا البدن و أرواحهم هي الروح الحيواني، و أن الجماد كلها موجودات متأصلة متحققة و جواهر قائمة بذواتها مخلوقة في عالمها و حيزها، و أن موجودات العوالم الاخر على القول بها موجودات اعتبارية خيالية لا حقيقة لها و أن اللذة إنما هي في المأكل و المشرب و المنكح و جاه هذا العالم، و ذكرهم و فكرهم و خيالهم و آمالهم و علومهم كلها متعلقة بالمحسوسات و انسهم بها يحبونها و يستأنسون بها، و يشتاقون لما لم يصلوا إليه من زخارفها و حلوها و خضرتها بل يعشقونها و شغفهم حبها كالعاشق المستهتر.

فمن كان منهم مع ذلك مؤمنا بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الاخر و لكن بايمان مستقر غير زائل عند الموت لضعفه و قلة نوره و شدة ظلمة المعاصى و خلط مع ذلك عملا صالحا و آخر سيئا اولئك ممن يرجى له المغفرة و لو بعد حين.

و أما الطائفة الاولى فهم الأشقياء الكافرون ليس لهم في الاخرة إلا النار لأنهم من أهل السجين و يوم القيامة إذا ميزت الحقائق و التحقت الفروع بالاصول التحق ما في هذا العالم من النور إلى عوالمه و بقى ظلمتها و نارها و تبدلت صور كل واحد من الأفعال و الأخلاق بما يناسب عالم القيامة من الحيات و العقارب و عذب بها فاعلها و مختلقها، و من كان يريد الدنيا و زينتها نوف إليهم أعمالهم فيها و هم فيها لا يبخسون اولئك ليس لهم في الاخرة إلا النار.

و لو فرض لهم عمل خير يوف إليهم في حياتهم الدنيا أو ينقص بقدره من عذابهم في الاخرة و بالجملة أن الإنسان لما خلق ابتداء من هذه الأرض فإن بقي فيها بعد ما خلق فيه الروح و العقل و استأنس بها و ألف لذاتها كان ممن أخلد إلى الأرض فيوم القيامة ملتحق بالسجين.

و إن خلص منها بعد ذلك بمعنى أن تحقق باثار العقل و الروح و صار جسدا عقلانيا، و هيكلا نورانيا فيوم القيامة يرتقى إلى أعلى عليين، و بعبارة و ضحى خلق الله الإنسان في أول ما خلق من سلالة من طين، و بقي مدة في صورة السلالة و النطفة و العلقة و المضغة و العظم و اللحم، ثم أعطاه الحياة و بقي حيا إلى أن وهبه قوة الحركة و البطش، و بقي على ذلك حتى وهبه قوة التميز بين النافع و الضار فأراد النافع و كره الضار فإن اتبع إرادته لإرادة الله جل جلاله في جميع حركاته و سكناته و لم يبق له إرادة مخالفة لإرادته تعالى فهذا مقام الرضا و هذا الشخص دائما يكون في الجنة و لهم فيها ما يشاءون و لذلك كان اسم خازن الجنة الرضوان.

و في حديث المعراج ان الله قال: فمن عمل برضاى ألزمته (الزمه- خ ل) ثلاث خصال: أعرفه شكرا لا يخالطه جهل، و ذكرا لا يخالطه النسيان، و محبة لا يؤثر على محبتى محبة المخلوقين.

ثم إن عرف أن قدرته منتفية في قدرة الله و لم ير قدرة لغير الله لا لنفسه و لا لغيره فهو مقام التوكل- و من يتوكل على الله فهو حسبه.

ثم إن وفق مع ذلك أن ينفي علمه أيضا في علم الله لئلا يكون بنفسه شيئا فهذا مقام الوحدة (التوحيد- خ ل) اولئك الذين أنعم الله عليهم.

فإن اتبع إرادة نفسه و عمل في حركاته و سكناته بهواه، و الحق لا يتبع بهوى غيره، فيخالف هواه مع هوى الحق فيكون هوى الحق و لا يكون هواه و حيل بينهم و بين ما يشتهون، إلى أن يوصله الهوى إلى الهاوية و يقيده بالأغلال و السلاسل في جميع مراداته و هذا شأن المماليك بالنسبة إلى مراداتهم و لذلك سمى خازن جهنم مالكا.

و إن تخلف عن التوكل يقع في الخذلان، و إن تخلف عن جليل مرتبة التوحيد (الوحدة- خ ل) رد إلى سفلى الدركات و هي دركة اللعنة اولئك يلعنهم الله و يلعنهم اللاعنون،- إلى أن قال قدس سره:

و لا يذهب عليك أن ما ذكرنا من العوالم إنما هي داخل هذا العالم و ليس خارجا عنه بمعنى أن هذا العالم حالة و كيفية للموجودات في حد و مرتبة من الوجود و عالم المثال حالة و كيفية اخرى ألطف من هذه الكيفيات في باطن هذا العالم و ليس خارجا منه فمن كان له نور لعينه الحسية و اجتمع بنور الشمس أو القمر الحسيين يرى العالم الحسى بكيفيات حسية و صور حسية و من كان لعينيه المثالية نور مثالى و اجتمع نوره بنور الكواكب المثالية يرى مثال هذا العالم بكيفيات مثالية و صور مثالية فإن كيفيات العوالم و صورها مختلفة كل بحسبها و مناسبتها و هكذا.

و يكشف عن هذا الإختلاف الرؤيا و تعبيرها بما يرى واقعة مطابقا لصورتها المثالية يرى النائم اللبن و يفسره المعبر بالعلم و يقع في الواقع ما يرى على وفق التعبير.

و يكشف عن ذلك أيضا الأخبار الكثيرة الواردة في أحوال البرزخ و القيامة و تجسيم الأعمال بما يناسبها من الصور، فحصل من جميع ما قلنا أن الموجود

الحق الواقعى إنما هو الذات جل جلاله في عالمها و سائر العوالم انما هو شأن من شئون و تجلي من تجلياتها مثلا تجلى بالتجلي الأول فوجد منه العالم العقلي ثم تجلى ثانيا فظهر العالم النفسي، و هكذا إلى أن خلق هذا العالم الحسى ففي الخارج موجود حقيقى حق ثابت و شئونه فكل شأن من شئونه عبارة عن عالم من العوالم تام في مرتبته و لكل عالم آثار و صفات حتى ينتهى إلى أحسن العوالم و أكثفها و أضيقها و هو هذا العالم المحسوس و هذا العالم كيفية خاصة و صور و حدود شتى لازم لهذه المرتبة من الوجود، و وجوده و آثاره مخصوصة بعالمها و هكذا.

و عالم الرؤياء إنما هو من عالم المثال فكلما يرى فيها فهو من هذا العالم أرضها و سماؤها و جمادها و نباتها بل و صور المرايا أيضا منه و الصور الخيالية أيضا منه و هذا العالم عالم واسع بل عوالم كثيرة بل قيل إن في عالم المثال ثمانية عشر ألف عالم.

و حكي عن بعض العرفاء أن كلما ورد في الشرع مما ظاهره مجاز في عالمنا فقد وجدناه في بعض هذه العوالم حقيقة من غير تجوز- فكما أن كلما يراه النائم في الرؤيا إنما هو حال و كيف مثالى يظهر لنفسه في عالم المثال فكذلك ما يراه اليقظان في عالمنا هذا الحسى حال و كيف حسى يظهر لنفسه في عالم الحس- إلى أن قال رضوان الله عليه:

و الإدراك لا يمكن إلا بنيل المدرك لذات المدرك و ذلك إما بخروجه من ذاته إلى أن يصل إليه أو بادخاله إياه في ذاته و كلاهما محال إلا أن يتحد معه و يتصور بصورته فالذات العالمة ليست بذاتها بعينها هي الذات الجاهلة، فالعلم بالأجسام لا يتعلق بوجوداتها الخارجية لأن صورها بما هي هي ليست حاصلة بهذا النحو من الحصول الاتحادى إلا لموادها و ليست حاصلة لأنفسها و حصولها لموادها ليس بنحو العلمي إذ هي أمر عدمى ليست إلا جهة القوة في الوجودات فليس لها في أنفسها ذات يصح أن يدرك شيئا و يعلمه و إذا لم يكن الصور الخارجية للأجسام مما يصح أن يحصل لها شي‏ء الحصول المعتبر في العلم و لا هي حاصلة لما يصح له أن يعلمها فليست هي عالمة بشي‏ء أصلا و لا لشي‏ء أن يعلمها بعينها كما هي فهى إذا معلومة بالقوة بمعنى أن في قوتها أن ينتزع منها عالم صورا فيعلمها أى يتصور بمثل صورها لاستحالة انتقال المنطبعات فى المواد فالمعلوم بالذات من كل شي‏ء ليس إلا صورا إدراكية قائمة بالنفس متحدة معها لا مادة خارجية.فالمعلوم بالفعل ليس إلا لعالمه فكل عالم معلومه غير معلوم عالم آخر و هو في الحقيقة عالم و علم و معلوم، هذا.

و المقصود من التعرض بهذه التفصيلات التنبيه إلى الفكر في معرفة النفس و كيفية الترقي منها إلى معرفة الرب، و الإستدلال بما يستحكم به تصديق ذلك و أن يتفطن المبتدي لاصول تنفع في فكره، و إلا فليس كيفية التفكر إلا أن يشتغل المتفكر تارة لتجزية نفسه، و اخرى لتجزية العالم حتى يتحقق له أن ما يعلمه من العالم ليس إلا نفسه و عالمه لا العالم الخارجى، و أن هذه العوالم المعلومة له إنما هو مرتبة من نفسه و حتى يجد نفسه لنفسه ما هي؟! ثم ينقى عن قلبه كل صورة و خيال و يكون فكره في العدم حتى تنكشف له حقيقة نفسه أى يرتفع العالم من بين يديه و يظهر له حقيقة نفسه بلا صورة و لا مادة، و هذا هو أول معرفة النفس و لعل إلى ذلك اشير في تفسير قوله تعالى: أ فمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه‏ (الزمر: 24) حيث سئل عنه و قال عليه السلام: نور يقذفه الله في قلبه فيشرح صدره، قيل: هل لذلك من علامة؟ قال عليه السلام: علامته التجافي عن دار الغرور و الإنابة إلى دار الخلود و الاستعداد للموت قبل حلول الفوت.

و لعل العامة لا يعتقدون في معنى التجافي إلا الزهد في شهوات الدنيا، و لا يتصورون معنى للتجافي الحقيقي الذي هو ارتفاع الغرور الواقع في هذا العالم لأهله و عدم رؤية الأشياء كما هي الذي هو شأن العامة الذين لم يبلغوا بعد معرفة النفس بهذه المعرفة، انتهى ما أردنا من نقل كلامه نور الله تعالى رمسه. و قد أجاد فيما أفاد و كتابه في لقاء الله ممتع جدا لله دره مؤلفا.

و كلامه- ره- في النشات الثلاثة الإنسانية تشير إلى ما برهنه المتأله المولى صدرا في الرابع من الأسفار حيث قال قدس سره:حكمة عرشية: إن للنفس الإنسانية نشئات ثلاثة إدراكية: النشأة الاولى هي الصورة الحسية الطبيعية و مظهرها الحواس الخمس الظاهرة و يقال لها الدنيا لدنوها و قربها لتقدمها على الأخيرتين، و عالم الشهادة لكونها مشهودة بالحواس و شرورها و خيراتها معلومة لكل أحد لا يحتاج إلى البيان و في هذه النشأة لا يخلو موجود عن حركته و استحالته و وجود صورتها لا تنفك عن وجود مادتها.

و النشأة الثانية هي الأشباح و الصور الغائبة عن هذه الحواس و مظهرها الحواس الباطنة و يقال لها عالم الغيب و الاخرة لمقايستها إلى الاولى لأن الاخرة و الاولى من باب المضاف، و لهذا لا يعرف إحداهما إلا مع الاخرى كالمتضايفين كما قال تعالى: و لقد علمتم النشأة الأولى فلو لا تذكرون‏، و هي تنقسم إلى الجنة و هي دار السعداء، و الجحيم و هي دار الأشقياء، و مبادى السعادات و الشقاوات فيهما هي الملكات و الأخلاق الفاضلة و الرذيلة.

و النشأة الثالثة هي العقلية و هي دار المقربين و دار العقل و المعقول و مظهرها القوة العاقلة من الإنسان إذا صارت عقلا بالفعل، و هي لا تكون إلا خيرا محضا و نورا صرفا فالنشأة الاولى دار القوة و الاستعداد و المزرعة لبذور الأرواح و نبات النيات و الإعتقادات، و الاخريتان كل منهما دار التمام و الفعلية، و حصول الثمرات و حصاد المزروعات.

و قد أفاد قدس سره هذا المطلب الأرفع الأعلى في عدة مواضع من الأسفار فراجع إلى ص 17، و ص 21، و ص 97، و ص 131 من ج 9.

و إذا دريت أن الصورة الإنسانية هي مجموع صور عالمي الأمر و الخلق فادر أيضا أن الإنسان إذا كان مراقبا لقلبه و حارسا له عن ولوج الأجانب و الأغيار، و ناظرا إلى ربه و مستشعرا جانب الله عز و جل و منصرفا بفكره إلى قدس الجبروت مستديما لشروق نور الحق في سره يلوح له ملكوت‏ السموات و الأرض و يرتقى إلى أعلى عليين، و يصافحه الملائكة المقربين، قال عز من قائل: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا و لا تحزنوا و أبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا و في الآخرة و لكم فيها ما تشتهي أنفسكم و لكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم‏ (حم السجدة، فصلت 31- 33)، و قد تقدم في صدر الرسالة كلام العارف السهروردي: الفكر في صورة قدسية يتلطف بها طالب الأريحية.

و في باب تنقل أحوال القلب من كتاب الإيمان و الكفر من اصول الكافي (ص 309 ج 2 من المعرب) باسناده عن سلام بن المستنير عن أبي جعفر عليه السلام قال:أما إن أصحاب محمد صلى الله عليه و آله قالوا: يا رسول الله نخاف علينا النفاق قال: فقال: و لم تخافون ذلك؟ قالوا: إذا كنا عندك فذكرتنا و رغبتنا و جلنا و نسينا الدنيا و زهدنا حتى كأنا نعاين الاخرة و الجنة و النار و نحن عندك، فإذا خرجنا من عندك و دخلنا هذه البيوت و شممنا الأولاد و رأينا العيال و الأهل يكاد أن نحول عن التي كنا عليها عندك و حتى كأنا لم نكن على شي‏ء أ فتخاف علينا أن يكون ذلك نفاقا؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و آله: كلا إن هذه خطوات الشيطان فيرغبكم في الدنيا، و الله لو تدومون على الحالة التي وصفتم أنفسكم بها لصافحتكم الملائكة و مشيتم على الماء- الخبر.

و روى عن رسول الله صلى الله عليه و آله: لو لا إن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء، قال الكندي في رسالته في النفس: إن النفس بسيطة ذات شرف و كمال عظيمة الشأن، جوهرها من جوهر الباري عز و جل كقياس ضياء الشمس من الشمس.

و قد بين أن هذه النفس منفردة عن هذا الجسم مباينة له و أن جوهرها جوهر إلهي روحاني بما يرى من شرف طباعها و مضادتها لما يعرض للبدن من الشهوات و الغضب.

و ذلك أن القوة الغضبية قد تتحرك على الإنسان في بعض الأوقات‏ فتحمله على ارتكاب الأمر العظيم فتضادها هذه النفس و تمنع الغضب من أن يفعل فعله أو أن يرتكب الغيظ و ترته، و تضبطه كما يضبط الفارس الفرس إذا هم أن يجمح به أو يمده.

و هذا دليل بين على أن القوة التي يغضب بها الإنسان غير هذه النفس التي تمنع الغضب أن يجري إلى ما يهواه لأن المانع لا محالة غير الممنوع لأنه لا يكون شي‏ء واحد يضاد نفسه، فأما القوة الشهوانية فقد تتوق في بعض الأوقات إلى بعض الشهوات ففكر النفس العقلية في ذلك أنه أخطأ و أنه يؤدي إلى حال ردية فتمنعها عن ذلك و تضادها، و هذا أيضا دليل على أن كل واحدة منهما غير الاخرى.

و هذه النفس التي هي من نور البارى عز و جل إذا هي فارقت البدن علمت كل ما في العالم و لم يخف عنها خافية، و الدليل على ذلك قول أفلاطن حيث يقول: إن كثيرا من الفلاسفة الطاهرين القدماء لما يتجردوا من الدنيا و تهاونوا بالأشياء المحسوسة و تفردوا بالنظر و البحث عن حقائق الأشياء انكشف لهم الغيب، و علموا بما يخفيه الناس في نفوسهم و اطلعوا على سرائر الخلق.

فإذا كان هذا هكذا، و النفس بعد مرتبطة بهذا البدن في هذا العالم المظلم الذي لو لا نور الشمس لكان في غاية الظلمة فكيف إذا تجردت هذه النفس، و فارقت البدن، و صارت في عالم الحق الذي فيه نور الباري سبحانه؟!.

و لقد صدق أفلاطن في هذا القياس و أصاب به البرهان الصحيح، ثم إن أفلاطن أتبع هذا القول بأن قال: فأما من كان غرضه في هذا العالم التلذذ بالماكل و المشارب المستحيلة إلى الجيف، و كان أيضا غرضه في لذة الجماع فلا سبيل لنفسه العقلية إلى معرفة هذه الأشياء الشريفة و لا يمكنها الوصول إلى التشبه بالباري سبحانه.

ثم إن أفلاطن قاس القوة الشهوانية التي للإنسان بالخنزير، و القوة الغضبية بالكلب، و القوة العقلية التي ذكرنا بالملك، و قال: من غلبت عليه‏ الشهوانية و كانت هي غرضه و أكثر همته فقياسه قياس الخنزير، و من غلب عليه الغضبية فقياسه قياس الكلب، و من كان الأغلب عليه قوة النفس العقلية و كان أكثر أدبه الفكر و التمييز و معرفة حقائق الأشياء، و البحث عن غوامض العلم كان انسانا فاضلا قريب الشبه من الباري سبحانه لأن الأشياء التي نجدها للباري عز و جل هي الحكمة و القدرة و العدل و الخير و الجميل و الحق.

و قد يمكن للإنسان أن يدبر نفسه بهذه الحيلة حسب ما في طاقة الإنسان فيكون حكيما عدلا جوادا خيرا يؤثر الحق و الجميل، و يكون بذلك كله بنوع دخل دون النوع الذي للباري سبحانه من قوته و قدرته لأنها إنما اقتبست من قربها قدرة مشاكلة لقدرته، فإن النفس على رأى أفلاطن و جلة الفلاسفة باقية بعد الموت جوهرها كجوهر البارى عز و علا في قوتها إذا تجردت أن تعلم سائر الأشياء كما يعلم البارى بها أو دون ذلك برتبة يسيرة، لأنها اودعت من نور البارى جل و عز.

و إذا تجردت و فارقت هذا البدن و صارت في عالم العقل فوق الفلك صارت في نور البارى، و رأت البارى عز و جل و طابقت نوره و جلت في ملكوته فانكشف لها حينئذ علم كل شي‏ء، و صارت الأشياء كلها بارزة لها كمثل ماهي بارزة للبارى عز و جل، لأنا إذا كنا و نحن في هذا العالم الدنس قد نرى فيه أشياء كثيرة بضوء الشمس فكيف إذا تجردت نفوسنا، و صارت مطابقة لعالم الديمومية و صارت تنظر بنور البارى فهى لا محالة ترى بنور البارى كل ظاهر و خفى و تقف على كل سر و علانية.

و كان أفسقورس يقول: إن النفس إذا كانت و هي مرتبطة بالبدن تاركة للشهوات متطهرة من الأدناس، كثيرة البحث و النظر في معرفة حقائق الأشياء انصقلت صقالة ظاهرة و اتحد بها صورة من نور البارى يحدث فيها و يكامل نور البارى بسبب ذلك الصقال الذي اكتسبه من التطهر فحينئذ يظهر فيها صور الأشياء كلها و معرفتها كما يظهر صور خيالات سائر الأشياء المحسوسة في المرآة إذا كانت صقيلة، فهذا قياس النفس لأن المرآة إذا كانت صدئة لم يتبين صورة شي‏ء فيها بتة، فإذا زال منها الصدء ظهرت و تبينت فيها جميع الصور، كذلك النفس العقلية إذا كانت صدئة دنسة كانت على غاية الجهل و لم يظهر فيها صور المعلومات و إذا تطهرت و تهذبت و انصقلت، و صفاء النفس هو أن النفس تتطهر من الدنس و تكتسب العلم ظهر فيها حينئذ صورة معرفة جميع الأشياء، و على حسب جودة صقالتها تكون معرفتها بالأشياء، فالنفس كلما ازدادت صقالا ظهر لها و فيها معرفة الأشياء.

و هذه النفس لا تنام بتة لأنها في وقت النوم تترك استعمال الحواس و تبقى محصورة، ليست بمجردة على حدتها، و تعلم كل ما في العوالم و كل ظاهر و خفي و لو كانت هذه النفس تنام لما كان الإنسان إذا رأى في النوم شيئا يعلم أنه في النوم بل لا يفرق بينه و بين ما كان في اليقظة.

و إذا بلغت هذه النفس مبلغها في الطهارة رأت في النوم عجائب من الأحلام و خاطبتها الأنفس التي قد فارقت الأبدان و أفاض عليها البارى من نوره و رحمته فتلتذ حينئذ لذة دائمة فوق كل لذة تكون بالمطعم و المشرب و النكاح و السماع و النظر و الشم و اللمس، لأن هذه لذات حسية دنسة تعقب الأذي، و تلك لذة إلهية روحانية ملكوتية تعقب الشرف الأعظم، و الشقى المغرور الجاهل من رضى لنفسه بلذات الحس و كانت هي أكثر أغراضه و منتهى غايته.

و إنما نجي‏ء في هذا العالم في شبه المعبر و الجسر الذي يجوز عليه السيارة ليس لنا مقام يطول، و أما مقامنا و مستقرنا الذي نتوقع فهو العالم الأعلى الشريف الذي تنتقل إليه نفوسنا بعد الموت حيث تقرب من باريها، و نقرب من نوره و رحمته، و نراه رؤية عقلية لا حسية، و يفيض عليها من نوره و رحمته، فهذا قول افسقورس الحكيم. انتهى ما نقلنا عن الفيلسوف الكندي.

و قد صدر هذه النكات اللطيفة الشريفة عن قلوب نقية، و هي كلمات اقتبست من مشكاة الأنبياء غاية الأمر بوسائط، و الملهم المبتدع القديم حق عليم منه عظيم.

قوله: جوهرها من جوهر البارى، يعنى أنها من عالم الأمر الحكيم قال عز من قائل: قل الروح من أمر ربي‏ (الأسراء: 86) و نفخت فيه من روحي* (ص: 73).

و قوله كقياس ضياء الشمس من الشمس شريف جدا و قد قال الإمام كشاف الحقائق وارث علوم النبيين أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق عليه السلام: إن روح المؤمن لأشد اتصالا بروح الله من اتصال شعاع الشمس بها، رواه ثقة الإسلام الكليني قدس سره في باب أخوة المؤمنين بعضهم لبعض من كتاب الإيمان و الكفر من اصول الكافي (ص 33 ج 2 من المعرب).

قوله: إذا هي فارقت البدن علمت كل ما في العالم، قال تبارك و تعالى:

لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد (ق: 24)

قوله: إذا هي فارقت البدن علمت كل ما في العالم، قال تبارك و تعالى:لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد (ق: 24).

و قوله: ثم إن افلاطن قاس القوة الشهوانية التي للإنسان بالخنزير إلخ كلام شريف أيضا و من هنا يعلم أيضا حشر الناس على صور نياتهم و أن الجزاء في الاخرة بنفس العمل و قد وردت في ذلك روايات كثيرة من بيت الوحى و العصمة و الطهارة ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و آله: يحشر الناس على صور نياتهم، و في الاخر عن البراء بن عازب قال: كان معاذ بن جبل جالسا قريبا من رسول الله صلى الله عليه و آله في منزل أبي أيوب الأنصاري فقال معاذ: يا رسول الله ما رأيت قول الله تعالى: يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا، الايات؟ فقال: يا معاذ سألت عن أمر عظيم من الأمر، ثم أرسل عينيه ثم قال: يحشر عشرة أصناف من امتى أشتاتا قد ميزهم الله من المسلمين و بدل صورهم: فبعضهم على صورة القردة و بعضهم على صورة الخنازير، و بعضهم منكسون أرجلهم من فوق و وجوههم من تحت ثم يسحبون عليها، و بعضهم عمي يترددون، و بعضهم صم بكم لا يعقلون، و بعضهم يمضغون ألسنتهم فيسيل القيح من أفواههم لعابا يتقذرهم أهل الجمع، و بعضهم مقطعة أيديهم و أرجلهم، و بعضهم مصلبون على جذوع من نار، و بعضهم أشد نتنا من الجيف، و بعضهم يلبسون جبابا سابغة من قطران لازقة بجلودهم.

فأما الذين على صورة القردة فالقتات من الناس، و أما الذين على صورة الخنازير فأهل السحت، و أما المنكسون على رؤوسهم فاكلوا الربا، و العمي الجائرون في الحكم، و الصم البكم المعجبون بأعمالهم، و الذين يمضغون بألسنتهم فالعلماء و القضاة الذين خالف أعمالهم أقوالهم، و المقطعة أيديهم و أرجلهم الذين يؤذون الجيران، و المصلبون على جذوع من نار فالسعاة بالناس إلى السلطان و الذين هم أشد نتنا من الجيف فالذين يتمتعون بالشهوات و اللذات و يمنعون حق الله تعالى في أموالهم، و الذين يلبسون الجباب فأهل التجبر و الخيلاء.

و هذا الحديث قد رواه الفريقان في الجوامع و كتب التفسير و في الحديث عنه صلى الله عليه و آله: من خالف الإمام في أفعال الصلاة يحشر و رأسه رأس حمار، و قد روى الكليني في باب الكبر من كتاب الإيمان و الكفر من اصول الكافي (ص 235 ج 2 من المعرب) باسناده عن داود بن فرقد عن أخيه قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إن المتكبرين يجعلون في صور الذر يتوطأهم الناس حتى يفرغ الله من الحساب.

و في الحديث عنه صلى الله عليه و آله: كما تعيشون تموتون و كما تنامون تبعثون و روى عن النبي صلى الله عليه و آله انه قال: رأيت ليلة أسرى بى قوما تقرض شفاههم، و كلما قرضت وفت، فقال لي جبرئيل: هؤلاء خطباء امتك تقرض شفاههم لأنهم يقولون ما لا يفعلون، رواه علم الهدى سيد المرتضى في المجلس الأول من أماليه غرر الفوائد و درر القلائد (ص 6 من ج 1 من طبع مصر).

و قال أمير المؤمنين عليه السلام في صفة بعض علماء السوء: فالصورة صورة انسان و القلب قلب حيوان.

و في حديث الريان بن شبيب عن ثامن الأئمة علي بن موسى الرضا عليهما السلام:يا ابن شبيب إن سرك أن تكون معنا في الدرجات العلى من الجنان فاحزن لحزننا و افرح لفرحنا و عليك بولايتنا، فلو أن رجلا تولى حجرا لحشره الله تعالى معه يوم القيامة، رواه المجلسي رحمة الله عليه في عاشر البحار (ص 165 من طبع الكمبانى) عن عيون أخبار الرضا و أمالى الصدوق.

قلت: كنت ذات ليلة متفكرا في أمري من حشري معادي و ناظرا في صحيفة عملي، و يوم عرضي للحساب و نحوها إذ رأيت فيما رأيت في صقع نفسي شيئا لازبا بها جدا، محشورا عندها غير منفك عنها، و لما أمعنت النظر فيه عرفته، و كان نسخة مخطوطة من كتاب، قد كنت احبها شديدا فعندئذ حضر و خطر بالبال، قوله عليه السلام: فلو أن رجلا تولى حجرا لحشره الله تعالى معه يوم القيامة، فإن الكتاب جماد كالحجر و لا فرق بينهما من هذه الحيثية.

و من تلك البراهين النقلية المعاضدة للعقلية قال أساطين الحكمة: إن حشر الخلائق في الاخرة على أنحاء مختلفة حسب أعمالهم و أخلاقهم فلقوم على سبيل الوفد، يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا، و لقوم على سبيل التعذيب و يوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون، و لقوم نحشر المجرمين يومئذ زرقا و لقوم و نحشره يوم القيمة أعمي، و بالجملة كل أحد إلى غاية سعيه و عمله و إلى ما يحبه و يهواه حتى أنه لو أحب حجرا لحشر معه لقوله تعالى: إنكم و ما تعبدون من دون الله حصب جهنم‏، و قوله تعالى: احشروا الذين ظلموا و أزواجهم و ما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم‏.

و المراد بأزواجهم الملكات و صورها فان تكرر الأفاعيل يوجب الملكات و كل ملكة تغلب على نفس الإنسان تتصور في القيامة بصورة تناسبها، قل كل يعمل على شاكلته، و لا شك أن أفاعيل الأشقياء المدبرين إنما هي بحسب هممهم القاصرة النازلة في مراتب البرازخ الحيوانية و تصوراتهم مقصورة على أغراض بهيمية أو سبعية أو شيطانية تغلب على نفوسهم فلا جرم يحشرون على صور تلك الحيوانات، و إذا الوحوش حشرت، و في الحديث عنه صلى الله عليه و آله يحشر بعض الناس على صور يحسن عندها القردة و الخنازير، و فيه أيضا يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: ركبانا، و مشاة، و على وجوههم.

و السر في ذلك أن لكل خلق من الأخلاق المذمومة و الهيئات الردية المتمكنة في النفس صورة نوع من أنواع الحيوانات و بدن يختص بذلك كصور أبدان الأسود و نحوها لخلق التكبر و التهور مثلا، و أبدان الثعالب و أمثالها للخبث و الروغان، و أبدان القرود و نحوها للمحاكاة و السخرية، و الخنازير للحرص و الشهوة إلى غير ذلك.

و ربما كان لشخص واحد من الإنسان عدد كثير من الأخلاق الردية على مراتب متفاوتة فبحسب ذلك تختلف الصور الحيوانية في الاخرة قال الله عز و جل: شهد عليهم سمعهم و أبصارهم و جلودهم بما كانوا يعملون‏.

قال المولى صدرا قدس سره في مبحث الحشر من الأسفار: إن في داخل بدن كل إنسان و مكمن جوفه حيوانا صوريا بجميع أعضائه و أشكاله و قواه و حواسه هو موجود قائم بالفعل لا يموت بموت هذا البدن و هو المحشور يوم القيامة بصورته المناسبة لمعناه و هو الذي يثاب و يعاقب و ليست حياته كحياة هذا البدن المركب عرضية واردة عليه من الخارج و إنما حياته كحياة النفس ذاتيه و هو حيوان متوسط بين الحيوان العقلى و الحيوان الحسى يحشر في القيامة على صورة هيئات و ملكات كسبتها النفس بيدها العمالة، و بهذا يرجع و يؤول معنى التناسخ المنقول عن الحكماء الأقدمين كأفلاطن و من سبقه مثل سقراط و فيثاغورس و غيرهما من الأساطين، و كذا ما ورد في لسان النبوات، و عليه يحمل الايات المشيرة إلى التناسخ، و كذا قوله تعالى: و إذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون‏، و قوله تعالى: و يوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون‏، و قوله تعالى: يومئذ يتفرقون‏، كل ذلك إشارة إلى انقلاب النفوس في جوهرها و صيرورتها من أفواج الامم الصامتة و خروجها يوم النشور إذا بعثر ما في القبور و حصل ما في الصدور على صورة أنواع الحيوانات من السباع و الموذيات و البهائم و الوحوش و الشياطين.

و قال في المبدأ و المعاد: (ص 325) قال بعض العرفاء: كل من شاهد بنور البصيرة باطنه في الدنيا لرآه مشحونا بأصناف السباع و أنواع الهوام مثل الغضب‏

و الشهوة و الحقد و الحسد و الكبر و العجب و الرياء و غيرها و هي التي لا تزال تفترسه و تنهشه إن سهى عنه بلحظة إلا أن أكثر الناس لكونه محجوب العين عن مشاهدتها فإذا كشف الغطاء و وضع في قبره عاينها و قد تمثلت له بصورها و أشكالها الموافقة لمعانيها فيرى بعينه العقارب و الحيات قد أحدقت به و إنما هي صفاته الحاضرة الان قد انكشفت له صورها، فإن أردت يا أخي أن تقتلها و تقهرها و أنت قادر عليها قبل الموت فافعل و إلا فوطن نفسك على لدغها و نهشها بصميم قلبك فضلا عن ظاهر بشرتك و جسمك.

و قول الكندي كان أفسقورس يقول إن النفس إلخ، يقصد بأفسقورس فيثاغورس الفيلسوف المشهور من أعاظم الحكماء الأقدمين قد استفاد من مشكاة النبوة و له في نضد العالم و ترتيبه على خواص العدد و مراتبه رموز عجيبة و أغراض بعيدة و له في شأن المعاد مذاهب قارب فيها أبيذ قلس من أن عالما فوق عالم الطبيعة روحانيا نورانيا لا يدرك العقل حسنه و بهاءه، و أن الأنفس الزكية تحتاج إليه، و أن كل انسان أحسن تقويمه بالتبرؤ من العجب و التجبر و الرياء و الحسد و غيرها من الشهوات الجسدانية فقد صار أهلا أن يلحق بالعالم الروحانى و يطلع على ما شاع (يشاء خ ل) من جواهره من الحكمة الالهية، و أن الأشياء الملذة للنفس تأتيه حشدا إرسالا كالألحان الموسيقية الاتية إلى حاسة السمع فلا يحتاج إلى أن يتكلف لها طلبا، نقلناه من تاريخ الحكماء للقفطى.

و من كلماته السامية: أنك ستعارض لك في أفعالك و أقوالك و أفكارك و سيظهر لك من كل حركة فكرية أو قولية او عملية صورة روحانية أو جسمانية فإن كانت الحركة غضبية أو شهوية صارت مادة لشيطان يؤذيك في حياتك و يحجبك عن ملاقاة النور بعد وفاتك، و إن كانت الحركة عقلية صارت ملكا تلتذ بمنادمته في دنياك، و تهتدى به في اخراك إلى جوار الله و دار كرامته، نقلناه من مبحث نشر الصحائف و ابراز الكتب من الأسفار.

و ما أفاد هؤلاء الأعاظم في إنية النفس و تطوراتها لطيف جدا إلا أنى ما رأيت بعد قول الله تعالى و رسوله صلى الله عليه و آله كلاما في النفس و أطوارها ألطف و أجمع و أتقن من كلام إمام الموحدين و راية السالكين و قدوة المتألهين علي أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال لحبر من أحبار اليهود و علمائهم: من اعتدل طباعه صفى مزاجه، و من صفى مزاجه قوى أثر النفس فيه، و من قوى أثر النفس فيه سمى إلى ما يرتقيه، و من سمى إلى ما يرتقيه فقد تخلق بالأخلاق النفسانية، و من تخلق بالأخلاق النفسانية فقد صار موجودا بما هو انسان دون أن يكون موجودا بما هو حيوان، و دخل في الباب الملكى، و ليس له عن هذه الحالة مغير فقال اليهودي: الله أكبر يا ابن أبي طالب لقد نطقت بالفلسفة جميعها، نقله العلامة الشيخ بهاء الدين العاملي قدس سره في أواخر المجلد الخامس من الكشكول (ص 594 من طبع نجم الدولة).

و قال في المجلد الثاني منه (ص 246) عن كميل بن زياد قال: سألت مولانا أمير المؤمنين عليه السلام فقلت: يا أمير المؤمنين اريد أن تعرفنى نفسي، فقال: يا كميل و أى الأنفس تريد أن اعرفك؟ قلت: يا مولاى و هل هي إلا نفس واحدة؟!.

قال: يا كميل انما هي أربعة: النامية النباتية، و الحسية الحيوانية، و الناطقة القدسية، و الكلية الإلهية، و لكل واحدة من هذه خمس قوى و خاصيتان:

فالنامية النباتية لها خمس قوى: ماسكة، و جاذبة، و هاضمة، و دافعة و مربية، و لها خاصيتان: الزيادة و النقصان، و انبعاثها من الكبد.

و الحسية الحيوانية لها خمس قوى: سمع، و بصر، و شم، و ذوق، و لمس و لها خاصيتان: الرضا و الغضب، و انبعاثها من القلب.

و الناطقة القدسية لها خمس قوى: فكر، و ذكر، و علم، و حلم، و نباهة، و ليس لها انبعاث و هي أشبه الأشياء بالنفوس الملكية، و لها خاصيتان:

النزاهة و الحكمة.

و الكلية الالهية لها خمس قوى: بقاء في فناء، و نعيم في شقاء، و عز في ذل و فقر في غناء، و صبر في بلاء، و لها خاصيتان: الرضا و التسليم و هذه التي‏

مبدؤها من الله و إليه تعود، قال الله تعالى: و نفخت فيه من روحي*، و قال الله تعالى: يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية، و العقل وسط الكل.

و روى في كتاب الدرر و الغرر أن أمير المؤمنين عليه السلام سئل عن العالم العلوي فقال: صور عارية عن المواد، عالية من القوة و الاستعداد، تجلى لها فأشرقت و طالعها فتلألأت، و ألقى في هويتها مثاله فأظهر عنها أفعاله، و خلق الإنسان ذا نفس ناطقة إن زكيها بالعلم و العقل فقد شابهت جواهر أوائل عللها، و إذا اعتدل مزاجها و فارقت الأضداد فقد شارك بها السبع الشداد (نقلناه من الكلمة التاسعة عشر من قرة العيون في أعز الفنون للفيض قدس سره)، و قد رواه العالم الجليل ابن شهر آشوب في المناقب أيضا.

و لنذكر ما حصل لبعض الأعاظم من التخلص عن درن البدن، و التنزه عن رين الرذائل النفسانية فكوشف لهم ما وراء الطبيعة ترغيبا للمشتاقين إلى السير في عالم المجردات، و أنموذجا من عظم شأن النفس و شرفها للطالبين:(1) قال الفيلسوف يعقوب بن إسحاق الكندي في رسالته في النفس (ص 279 من رسائل الكندى): و قد وصف أرسطاطاليس أمر الملك اليونانى الذي تحرج بنفسه فمكث لا يعيش و لا يموت أياما كثيرة، كلما أفاق أعلم الناس بفنون من علم الغيب و حدثهم بما رأى من الأنفس و الصور و الملائكة، و أعطاهم في ذلك البراهين، و أخبر جماعة من أهل بيته بعمر واحد واحد منهم، فلما امتحن كل ما قال لم يتجاوز أحد منهم المقدار الذي حده له من العمر، و أخبر أن خسفا يكون في بلاد الأوس بعد سنة، و سيل يكون في موضع آخر بعد سنتين فكان الأمر كما قال.

قال: و ذكر أرسطاطاليس أن السبيل في ذلك أن نفسه إنما علمت ذلك العلم لأنها كادت أن تفارق البدن، و انفصلت عنه بعض الانفصال فرأت ذلك فكيف لو فارقت البدن على الحقيقة؟! لكانت قد رأت عجائب من أمر الملكوت الأعلى.

فقل للباكين ممن طبعه أن يبكى من الأشياء المخزونة ينبغي أن يبكى و يكثر البكاء على من يهمل نفسه، و ينهك من ارتكاب الشهوات الحقيرة الخسيسة الدنية المموهة التي تكسبه الشرة (الشره- خ ل) و تميل بطبعه إلى طبع البهائم و يدع أن يتشاغل بالنظر في هذا الأمر الشريف و التخلص إليه، و يطهر نفسه حسب طاقته، فإن الطهر الحق هو طهر النفس لا طهر البدن فإن العالم الحكيم المبرز المتعبد لباريه، إذا كان ملطخ البدن باكماة فهو عند جميع الجهال، فضلا عن العلماء أفضل و أشرف من الجاهل الملطخ البدن بالمسك و العنبر.

و من فضيلة المتعبد لله الذي قد هجر الدنيا و لذاتها الدنية أن الجهال كلهم إلا من سخر منهم بنفسه يعترف بفضله و يجله و يفرح أن يطلع منه على الخطاء.

فيا أيها الإنسان الجاهل ألا تعلم أن مقامك في هذا العالم إنما هو كلمحة ثم تصير إلى العالم الحقيقى، فتبقى فيه أبد الابدين؟ انتهى كلام الكندي تغمده الله بغفرانه.

(2) و روى الكليني أعلى الله مقامه في باب حقيقة الإيمان و اليقين من كتاب الايمان و الكفر من جامعه الكافي (ص 44 ج 2 من المعرب) باسناده عن إسحاق بن عمار قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إن رسول الله صلى الله عليه و آله صلى بالناس الصبح فنظر إلى شاب في المسجد و هو يخفق و يهوى برأسه، مصفرا لونه، قد نحف جسمه، و غارت عيناه في رأسه، فقال له رسول الله صلى الله عليه و آله كيف أصبحت يا فلان؟

قال: أصبحت يا رسول الله موقنا، فعجب رسول الله صلى الله عليه و آله من قوله و قال: إن لكل يقين حقيقة فما حقيقة يقينك؟ فقال: إن يقينى يا رسول الله هو الذي أحزننى و أسهر ليلي و أظمأ هو اجرى فعزفت نفسي عن الدنيا و ما فيها حتى كأنى أنظر إلى عرش ربى و قد نصب للحساب و حشر الخلائق لذلك و أنا فيهم، و كأنى أنظر إلى أهل الجنة يتنعمون في الجنة و يتعارفون و على الأرائك متكئون، و كأنى أنظر إلى أهل النار و هم فيها معذبون مصطرخون، و كأنى الان أسمع زفير النار يدور في مسامعى، فقال رسول الله صلى الله عليه و آله لأصحابه: هذا عبد نور الله قلبه بالإيمان ثم قال له: ألزم ما أنت عليه، فقال الشاب: ادع الله لي يا رسول الله أن ارزق الشهادة معك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه و آله فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبي صلى الله عليه و آله فاستشهد بعد تسعة نفر و كان هو العاشر.

و روى بعده باسناده عن عبد الله بن مسكان عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: استقبل رسول الله صلى الله عليه و آله حارثة بن مالك بن النعمان الأنصارى فقال له: كيف أنت يا حارثة بن مالك؟ فقال: يا رسول الله مؤمن حقا، فقال له رسول الله صلى الله عليه و آله:لكل شي‏ء حقيقة فما حقيقة قولك؟ فقال: يا رسول الله عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي و أظمأت هو اجري و كأنى أنظر إلى عرش ربى و قد وضع للحساب و كأنى أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون في الجنة، و كأنى أسمع عواء أهل النار في النار، فقال له رسول الله صلى الله عليه و آله: عبد نور الله قلبه، أبصرت فأثبت، فقال: يا رسول الله ادع الله لي أن يرزقني الشهادة معك فقال: اللهم ارزق حارثة الشهادة، فلم يلبث إلا أياما حتى بعث رسول الله صلى الله عليه و آله سرية فبعثه فيها فقاتل فقتل تسعة أو ثمانية ثم قتل.

و قال: و في رواية القاسم بن بريد عن أبي بصير قال: استشهد مع جعفر بن أبي طالب بعد تسعة نفر و كان هو العاشر.

قلت: إنما قال لرسول الله صلى الله عليه و آله: ادع لي أن ارزق الشهادة معك لما فيها من فضيلة سامية و كفى فيها ما قال عز من قائل: و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون‏، و أرى في طلبه الشهادة منه صلى الله عليه و آله أن حفظ الحال أصعب من تحصيله كالمال قال شاعر العجم:

مال را هر كسى بدست آرد رنجش اندر نگاهداشتن است‏

و تأمل في كلام رسول الله صلى الله عليه و آله حيث قال له: الزم ما أنت عليه، أو أبصرت فاثبت، أمره بلزوم ما وجده من الإيمان الكامل الذي نور الله به قلبه و ثباته على ذلك، فإن للكمالات الحاصلة آفات كثيرة و المراقبة في حفظها و عدم زوالها لازمة جدا لمن تنعم بها، قال الإمام أبو الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام‏ لهشام بن الحكم:يا هشام إن الله حكى عن قوم صالحين أنهم قالوا: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا و هب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب‏ حين علموا أن القلوب تزيغ و تعود إلى عماها و رداها (رواه الكليني- ره- في كتاب العقل و الجهل من اصول الكافي الحديث 12).

قال الشيخ العلامة البهائى قدس سره كما في سلافة العصر (ص 292):سانحة: قد تهب من عالم القدس نفحة من نفحات الانس على قلوب أصحاب العلائق الدينية، و العلائق الدنيوية، فتقطر بذلك مشام أرواحهم و تجري روح الحقيقة في رميم أشباحهم، فيدركون قيح الأنفاس الجسمانية، و يذعنون بخساسة الانتكاس في مهاوى القيود الهيولانية، فيميلون إلى سلوك مسالك الرشاد و ينتبهون من نوم الغفلة عن البداء و المعاد، لكن هذا التنبيه سريع الزوال، و وحى الإضمحلال، فيا ليته يبقي إلى حصول جذبة إلهية تميط عنهم أدناس عالم الزور و تطهرهم من أرجاس دار الغرور، ثم إنهم عند زوال تلك النفحة القدسية، و انقضاء هاتيك النسمة الإنسية يعودون إلى الانعكاس في تلك الأدناس، فيتأسفون على ذلك الحال الرفيع المنال، و ينادى لسان حالهم بهذا المقال، إن كانوا من أصحاب الكمال:

تيرى زدى و زخم دل آسوده شد از ان‏ هان اى طبيب خسته دلان مرهم دگر

و بالجملة كأن الشاب خاف من زيغ القلب و زوال النعمة فرأى أن خروجه من الدنيا مع ذلك النور الإلهي أفضل و أحب إليه من البقاء فيها مع خوف زواله فاستحب الأول على الثاني، و الله تعالى أعلم.

و قد روى ابن الأثير في اسد الغابة باسناده عن أنس هذه الواقعة و نسبها إلى حارثة أيضا (ص 355 ج 1)، و كذا الغزالى في إحياء العلوم، لكن نسبها العارف الرومى في المجلد الأول من المثنوي إلى زيد و الظاهر أنه زيد بن حارثة حيث قال:

گفت پيغمبر صباحى زيد را كيف أصبحت اى رفيق با صفا

إلى آخر الأبيات.

و نسبها أبو نعيم الأصفهاني في حلية الأولياء (ص 242 ج 1) إلى معاذ بن جبل و رواها باسناده عن أنس بن مالك أيضا، و نسبها الديلمي في الباب السابع و الثلاثين من كتابه إرشاد القلوب إلى سعد بن معاذ و ألفاظهما واحدة و الاختلاف يسير، و في رواية أبي نعيم أن معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه دخل على رسول الله صلى الله عليه و آله فقال: كيف أصبحت يا معاذ؟ قال: أصبحت مؤمنا بالله تعالى قال: إن لكل قول مصداقا و لكل حق حقيقة فما مصداق ما تقول؟ قال: يا نبي الله ما أصبحت صباحا قط إلا ظننت أنى لا أمسى، و ما أمسيت مساء قط إلا ظننت أنى لا أصبح، و لا خطوت خطوة إلا ظننت أنى لا أتبعها اخرى، و كأنى أنظر إلى كل امة جاثية تدعى إلى كتابها معها نبيها و اوثانها التي كانت تعبد من دون الله و كأنى أنظر إلى عقوبة أهل النار و ثواب أهل الجنة، قال: عرفت فالزم.

(3) قال العارف المتنزه المتأله السيد حيدر الاملي قدس سره في أول كتابه جامع الأسرار و منبع الأنوار: و الله ثم و الله لو صارت أطباق السماوات أوراقا، و أشجار الأرضين أقلاما، و البحور السبعة مع المحيط مدادا، و الجن و الإنس و الملك كتابا لا يمكنهم شرح عشر من عشير ما شدت من المعارف الإلهية و الحقائق الربانية، الموصوفة في الحديث القدسي «أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر»، المذكورة في القرآن: فلا تعلم نفس ما اخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون.

و لا يتيسر لهم بيان جزء من أجزاء ما عرفت من الأسرار الجبروتية و الغوامض الملكوتية المعبر عنها في القرآن بما لم يعلم لقوله تعالى: اقرأ و ربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم‏ المومى إليها أيضا بتعليم الرحمن، لقوله تعالى‏ الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان‏ المسماة بكلمات الله التي لا تبيد و لا تنفد لقوله تعالى‏ قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي و لو جئنا بمثله مددا و لقوله تعالى: و لو أن ما في الأرض من شجرة أقلام و البحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله إن الله عزيز حكيم‏.

(4) و في سلافة العصر في محاسن الشعراء بكل مصر (ص 479) تأليف العلامة السيد علي صدر الدين المدني صاحب رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين، و شرح الفوائد الصمدية في النحو، و الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة و غيرها تبلغ إلى ثمانية عشر مؤلفا في فنون متنوعة: الأمير محمد باقر بن محمد الشهير بالداماد الحسنى- إلى أن قال صاحب السلافة في ترجمته قدس سره:

و من غريب رسائله رسالته الخليعة و هي مما يدل على تأله سريرته، و تقدس سيرته، و صورتها:

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد كله لله رب العالمين، و صلاته على سيدنا محمد و آله الطاهرين، كنت ذات يوم من أيام شهرنا هذا و قد كان يوم الجمعة سادس عشر شهر رسول الله شعبان المكرم لعام ثلاث و عشرين و ألف من هجرته المقدسة في بعض خلواتى أذكر ربى في تضاعيف أذكارى و أورادى باسمه الغني فاكرر يا غنى يا مغنى مشددها بذلك عن كل شي‏ء إلا عن التوغل في حريم سره و الانمحاء في شعاع نوره و كأن خاطفة قدسية قد ابتدرت إلى، فاجتذبتني من الوكر الجثمانى ففككت حلق شبكة الحس، و حللت عقد حبالة الطبيعة و أخذت أطير بجناح الروح في وسط ملكوت الحقيقة، و كأنى قد خلعت بدنى و رفضت عدنى، و مقوت خلدى، و نضوت جسدى، و طويت اقليم الزمان، و صرت إلى عالم الدهر فإذا أنا بمصر الوجود بجماجم امم النظام الجملى من الابداعيات و التكوينيات و الإلهيات و الطبيعيات و القدسيات و الهيولانيات و الدهريات و الزمنيات و أقوام الكفر و الإيمان، و أرهاط الجاهلية و الإسلام من الدارجين و الدارجات و الغابرين و الغابرات، و السالفين و السالفات، و العاقبين و العاقبات، في الازال و الاباد، و بالجملة آحاد مجامع الإمكان و دارات عوالم الإمكان بقضها و قضيضها و صغيرها و كبيرها باثباتها و بابدائها حالياتها و آتياتها و إذا الجميع زفة زفة و زمرة زمرة يجذبهم قاطبة معاملون، وجوه ماهياتهم شطر بابه سبحانه شاخصون، بابصار نياتهم تلقاء جنابه جل سلطانه من حيث لا يعلمون، و هم جميعا بألسنة فقر ذواتهم الفاخرة، و ألسن فاقة هو يأتهم الهالكة في صحيح الضراعة و صراخ الابتهال ذاكروه و داعوه و مستصرخوه و منادوه بياغني يا مغني من حيث هم لا يشعرون فطفقت في تلك الضجة العقلية، و الصرخة الغيبية أخر مغشيا علي، و كدت من شدة الوله و الدهش أنسي جوهر ذات العاقلة و أغيب عن بصر نفسي المجردة و اهاجر ساهرة أرض الكون و أخرج من صقع قطر الوجود رأسا إذ قد ودعتني تلك الخلسة الخالسة حينا حيونا إليها، و خطفتني تلك الخطفة الخاطفة تائقا لهوفا عليها فرجعت إلى أرض التيار، و كورة البوار، و بقعة الزور، و قرية الغرور تارة اخرى.هذا منتهى الرسالة المذكورة.

(5) قال صدر المتألهين قدس سره في آخر الثاني من العاشر من رابع الأسفار: إني أعلم من المشتغلين بهذه الصناعة من كان رسوخه بحيث يعلم من أحوال الوجود امورا يقصر الأفهام الذكية عن إدراكها، و لم يوجد مثلها في زبر المتقدمين و المتأخرين من الحكماء، و العلماء، لله الحمد و له الشكر.

و لا يخفى على العارف بأساليب الكلمات أنه أراد بقوله هذا نفسه الشريفة و قال المتأله السبزوارى رضوان الله عليه: و الحق معه، و تحقيقاته الأنيقة أعدل شاهد على ما أفاده، شكر الله مساعيه.

(6) قال الشيخ الرئيس في آخر السابعة من ثامن طبيعيات الشفاء (ص 417 ج 1): حكي لي رجل بيابان دهستان يخدر نفسه و نفخه الحيات و الأفاعى التي بها و هي قتالة جدا و الحيات لا تنكأ فيه باللسع و لا تلسعه اختيارا ما لم يقسرها عليه، فإن لسعته حية ماتت، و حكي أن تنينا عظيما لسعته فماتت و عرض له حمى يوم، ثم إنى لما حصلت ببيابان دهستان طلبته فلم يعش و خلف ولدا أعظم خاصية في هذا الباب منه، فرأيت منه عجائب نسيت أكثرها و كان من جملتها أن الأفاعى تصد عن عزه و يحتد عن نفسه و يخدر في يده، انتهى.

و هذه الأحوال التي سمعتها نزر يسير مما رأينا في الكتب المعتبرة من العجائب الصادرة عن النفس الناطقة الإنسانية، على أن هؤلاء العظام ممن لم يبلغوا رتبة النبوة و الإمامة بل جلهم لو لا الكل اقتبسوا من مشكاة نبى أو وصى نبي فما ظنك بالفائز إلى الخلافة الالهية من الأنبياء و الأوصياء صلوات الله عليهم أجمعين.

فلنأت بعدة امور من مواعظ الله سبحانه و مواعظ رسوله و أهل بيته مما لا محيص عنها للسائر إلى الله تعالى فنقول:

1- القرآن الكريم صورة الإنسان الكامل الكتبية، أعنى أنه صورة الحقيقة المحمدية صلى الله عليه و آله إن هذا القرآن يهدى للتي هي أقوم، لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة، فبقدر ما قربت منه قربت من الإنسان الكامل، فانظر إلى حظك منه فإن حقائق آياته درجات ذاتك و مدارج عروجك، و من وصية إمام الثقلين أبي الحسنين علي عليه السلام لابنه محمد ابن الحنفية رضى الله عنه كما رواه صدوق الطائفة المحقة في الفقيه (الوافي ص 64 ج 14):

و عليك بتلاوة (بقراءة- خ) القرآن و العمل به و لزوم فرائضه و شرائعه و حلاله و حرامه و أمره و نهيه و التهجد به و تلاوته في ليلك و نهارك فإنه عهد من الله تعالى إلى خلقه فهو واجب على كل مسلم أن ينظر في كل يوم في عهده و لو خمسين آية، و اعلم أن درجات الجنة على عدد آيات القرآن فإذا كان يوم القيامة يقال لقارئ القرآن: اقرء و ارق، فلا يكون في الجنة بعد النبيين و الصديقين أرفع درجة منه.و انظر بنور العقل و العلم إلى ما أفاضه ولى الله الأعظم في كلامه هذا فإن محاسنه و لطائفه فوق أن يحوم حولها العبارة.

و قد روى علم الهدى الشريف المرتضى في الغرر و الدرر عن نافع عن أبي إسحاق الهجري عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود عن سيد البشر صلى الله عليه و آله انه قال: إن هذا القرآن مأدبة الله، فتعلموا مأدبته ما استطعتم، و إن أصفر البيوت‏ لجوف أصفر من كتاب الله تعالى (المجلس 26 منه، ص 354 ج 1 من طبع مصر) قلت: تعبير القرآن بمأدبة الله تدرك حلاوته و لا توصف قال الشريف علم الهدى:

المأدبة في كلام العرب هي الطعام يصنعه الرجل و يدعو الناس إليه فشبه النبي صلى الله عليه و آله ما يكتسبه الإنسان من خير القرآن و نفعه و عائدته عليه إذا قرأه و حفظ بما يناله المدعو من طعام الداعى و انتفاعه به، يقال: قد أدب الرجل يأدب فهو آدب إذا دعا الناس إلى طعامه، و يقال للمأدبة: المدعاة، و ذكر الأحمر أنه يقال فيها أيضا مأدبة بفتح الدال، و قد روى هذا الحديث بفتح الدال «مأدبة» و قال الأحمر: المراد بهذه اللفظة مع الفتح هو المراد بها مع الضم.

و قال غيره: المأدبة بفتح الدال مفعلة من الأدب، معناه أن الله تعالى أنزل القرآن أدبا للخلق و تقويما لهم و إنما دخلت الهاء في مأدبة و مأدبة و القرآن مذكر لمعنى المبالغة كما قالوا هذا شراب مطيبة للنفس. و كما قال عنترة: و الكفر مخبثة لنفس المنعم، انتهى ما أردنا من نقل كلامه قدس سره.

فيا إخوان الصفاء هلموا إلى مأدبة إلهية فيها ما تشتهى الأنفس و تلذ الأعين و إلى مأدبة ليس وراءها أدب و مؤدب و ما ذا بعد الحق إلا الضلال.

و في فلاح السائل للسيد الأجل ابن طاوس قدس سره: فقد روى أن مولانا الصادق عليه السلام كان يتلو القرآن في صلاة فغشى عليه فلما أفاق سئل ما الذي أوجب ما انتهت حالك إليه؟ فقال عليه السلام ما معناه: ما زلت اكرر آيات القرآن حتى بلغت إلى حال كأننى سمعتها مشافهة ممن أنزلها على المكاشفة و العيان، فلم تقم القوة البشرية بمكاشفة الجلالة الالهية.

و اعلم أن القرآن محيط لا نفاد له كيف لا و هو مجلى الفيض الإلهي و قد تقدم في الرسالة عن الامامين الأول و السادس عليهما السلام أن الله عز و جل تجلى لخلقه في كلامه و لكن لا يبصرون. قال الطريحى رحمة الله عليه في مادة جمع من مجمع البحرين: و في الحديث اعطيت جوامع الكلم، يريد به القرآن الكريم لأن الله جمع بألفاظه اليسيرة المعاني الكثيرة حتى روى عنه أنه قال: ما من حرف‏ من حروف القرآن إلا و له سبعون ألف معنى، انتهى.

و قلت: إذا كان شكل واحد هندسي يعرف عند أهله بالشكل القطاع يفيد «497664» أحكام هندسية كما برهن في محله فلا بعد أن يكون لكل حرف من القرآن سبعون ألف معنى. و يطلب الكلام في القطاع في رسالتنا المعمولة في معرفة الوقت و القبلة.

يا عباد الرحمن! هذه آيات آخر الفرقان من القرآن الفرقان لا تلكها بين فكيك بل تدبر فيها حق التدبر فان كل آية منها دستور برأسه من عمل به فاز و نجا.

و عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما و الذين يبيتون لربهم سجدا و قياما و الذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما إنها ساءت مستقرا و مقاما و الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا و لم يقتروا و كان بين ذلك قواما و الذين لا يدعون مع الله إلها آخر و لا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق و لا يزنون و من يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة و يخلد فيه مهانا إلا من تاب و آمن و عمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات و كان الله غفورا رحيما و من تاب و عمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا و الذين لا يشهدون الزور و إذا مروا باللغو مروا كراما و الذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما و عميانا و الذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا و ذرياتنا قرة أعين و اجعلنا للمتقين إماما أولئك يجزون الغرفة بما صبروا و يلقون فيها تحية و سلاما خالدين فيها حسنت مستقرا و مقاما قل ما يعبؤا بكم ربي لو لا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما.

2- روى الديلمي رضوان الله عليه في الموضعين من كتابه إرشاد القلوب أحدهما في أواخر الباب الثالث عشر، و ثانيهما في أواخر الباب العشرين عن النبي صلى الله عليه و آله قال: قال الله تعالى: من أحدث و لم يتوضأ فقد جفاني، و من أحدث و توضأ و لم يصل ركعتين فقد جفاني، و من صلى ركعتين و لم يدعني فقد جفاني و من أحدث و توضأ و صلى ركعتين و دعانى فلم أجبه فيما يسأل من أمر دينه و دنياه‏ فقد جفوته و لست برب جاف.

و اعلم يا حبيبى أن الوضوء نور و الدوام على الطهارة سبب لارتقائك إلى عالم القدس. و هذا الدستور العظيم النفع مجرب عند أهله جدا فعليك بالمواظبة عليها ثم عليك بعلو الهمة و كبر النفس فاذا صليت الركعتين فلا تسأله تبارك و تعالى إلا ما لا يبيد و لا ينفد و لا يفنى فلا تطلب منه إلا إياه و ليكن لسان حالك هكذا:

ما از تو نداريم بغير از تو تمنا حلوا بكسى ده كه محبت نچشيده است‏

فإن من ذاق حلاوة محبته تعالى يجد دونها تفها، على أن ما يطلب مما سواه كل واحد منها مظهر اسم من أسمائه فاذا وجد الأصل كانت فروعه حاضرة عنده، و قلت في أبيات:

چرا زاهد اندر هواى بهشت است‏ چرا بيخبر از بهشت آفرين است؟!

و قال العارف المتأله صدر الدين الدزفولى قدس سره:

خدايا زاهد از تو حور مى‏خواهد قصورش بين‏ بجنت مى‏گريزد از درت يا رب شعورش بين‏

فاذا صليت فقل ساجدا: اللهم ارزقنى حلاوة ذكرك و لقاءك، و الحضور عندك و نحوها.

3- قال عز من قائل: و كلوا و اشربوا و لا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين‏ (الأعراف: 32) و اعلم حبيبى أن فضول الطعام يميت القلب بلا كلام، و يفضى إلى جموح النفس و طغيانها، و الجوع من أجل خصال المؤمن و نعم ما قال يحيى بن معاذ: لو تشفعت بملائكة سبع سماوات، و بمائة ألف و أربعة و عشرين ألف نبى و بكل كتاب و حكمة و ولى على أن تصالحك النفس في ترك الدنيا و الدخول تحت الطاعة لم تجبك، و لو تشفعت إليها بالجوع لأجابتك و انقادت لك، نقل قوله هذا أبو طالب المكى في علم القلوب ص 215 من طبع مصر.

في الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام: إن البطن ليطغى من أكله، أقرب ما يكون العبد من ربه عز و جل إذا خف بطنه، و أبغض ما يكون العبد إلى الله عز و جل إذا امتلأ بطنه.

4- إياك و فضول الكلام فقد روى شيخ الطائفة الناجية في أماليه بإسناد عن عبد الله بن دينار عن أبي عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسو القلب إن أبعد الناس من الله القلب القاسي، و قد جعله الشيخ قدس سره الخبر الأول من كتابه الأمالي فلا بد في عمله هذا من عناية خاصة في ذلك، و قد رواه الكليني رضوان الله عليه في باب الصمت و حفظ اللسان من اصول الكافي (ص 94 ج 2 من المعرب) باسناده عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان المسيح عليه السلام يقول: لا تكثروا- إلى آخر الخبر.

5- و عليك بالمحاسبة، ففي باب محاسبة العمل من اصول الكافي (ص 328 ج 2 من المعرب) بإسناده عن أبي الحسن الماضي صلوات الله عليه- يعني الإمام الكاظم عليه السلام- قال: ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل حسنا استزاد الله، و إن عمل سيئا استغفر الله منه و تاب إليه.

و في الفصل الخامس من الباب الثاني من مكارم الأخلاق في وصية رسول الله صلى الله عليه و آله لأبي ذر الغفاري رحمة الله عليه: يا أبا ذر لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك شريكه، فيعلم من أين مطعمه و من أين مشربه و من أين ملبسه أمن حل ذلك أم من حرام.

6- و المراقبة لله تعالى، و هي العمدة في الباب، و هي مفتاح كل سعادة و مجلبة كل خير و هى خروج العبد عن حوله و قوته مراقبا لمواهب الحق و متعرضا لنفحات ألطافه و معرضا عما سواه، و مستغرقا في بحر هواه و مشتاقا إلى لقائه، و إليه قلبه يحن ولديه روحه يئن و به يستعين عليه و منه يستعين إليه حتى يفتح الله له باب رحمة لا ممسك لها و يغلق عليه باب عذاب لا مفتح له بنور ساطع من رحمة الله تعالى على النفس به يزول عنها في لحظة ما لا يزول بثلاثين سنة بالمجاهدات و الرياضات، يبدل الله سيئاتهم حسنات، للذين أحسنوا الحسنى و زيادة و الزيادة حسنات ألطاف الحق، و ذلك فضل الله يؤتيه ما يشاء.

گدائى گردد از يك جذبه شاهى‏ به يك لحظه دهد كوهى بكاهى‏

فعليك بالمراقبة، و عليك بالمراقبة، و عليك بالمراقبة، ففي الباب التاسع و الثلاثين من إرشاد القلوب للديلمي رضوان الله عليه: قال الله تعالى: و كان الله على كل شي‏ء رقيبا، و قال النبي صلى الله عليه و آله لبعض أصحابه: اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك، و هذا إشارة إلى المراقبة لأن المراقبة علم العبد باطلاع الرب عليه في كل حالاته و ملاحظة الإنسان لهذا الحال هو المراقبة، و أعظم مصالح العبد استحضاره مع عدد أنفاسه أن الله تعالى عليه رقيب و منه قريب، يعلم أفعاله و يرى حركاته و يسمع أقواله و يطلع على أسراره و أنه ينقلب في قبضته و ناصيته و قلبه بيده و أنه لا طاقة له على الستر عنه و لا على الخروج من سلطانه.

قال لقمان لابنه: يا بني إذا أردت أن تعصى الله فاطلب مكانا لا يراك فيه إشارة منه لأنك لا تجد مكانا لا يراك فيه فلا تعصه و قال تعالى: و هو معكم أين ما كنتم‏.

و كان بعض العلماء يرفع شابا على تلاميذه كلهم فلاموه في ذلك فأعطى كل واحد منهم طيرا و قال: اذبحه في مكان لا يراك فيه أحد فجاءوا كلهم بطيورهم و قد ذبحوها فجاء الشاب بطيره و هو غير مذبوح، فقال له: لم لم تذبحه؟ فقال:

لقولك لا تذبحه إلا في موضع لا يراك فيه أحد، و لا يكون مكان إلا يراني الواحد الأحد الفرد الصمد، فقال له: أحسنت ثم قال لهم: لهذا رفعته عليكم و ميزته منكم.

و من علامات المراقبة إيثار ما آثر الله و تعظيم ما أعظم الله و تصغير ما صغر الله فالرجاء يحثك على الطاعات و الخوف يبعد عن المعاصى، و المراقبة تؤدى إلى طريق الحياء و تحمل على ملازمة الحقائق و المحاسبة على الدقائق، و أفضل الطاعات مراقبة الحق سبحانه و تعالى على دوام الأوقات.

و من سعادة المرء أن يلزم نفسه المحاسبة و المراقبة و سياسية نفسه باطلاع الله و مشاهدته لها، و أنها لا تغيب عن نظره و لا تخرج عن علمه، انتهى كلامه قدس سره.

قلت: و من آداب المراقب أن يراقب أعمال الأوقات من الشهور و الأيام بل الساعات بل يواظب أن لا يهمل الانات و يكون على الدوام متعرضا لنفحات انسه‏

و نسائم قدسه كما قال صلى الله عليه و آله: إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها و لا تعرضوا عنها، و للعلم الاية المرزا جواد آقا الملكى التبريزى قدس سره الشريف كتاب في مراقبات أعمال السنة و هو من أحسن ما صنع في هذا الأمر فعليك بالكتاب.

و في خاتمة إرشاد القلوب فيما سأل رسول الله صلى الله عليه و آله ربه ليلة المعراج: يا أحمد هل تدرى أى عيش أهنى و أى حياة أبقى؟ قال: اللهم لا، قال: أما العيش الهنى فهو الذي لا يفتر صاحبه عن ذكري و لا ينسى نعمتي و لا يجهل حقي يطلب رضاى ليله و نهاره.

و أما الحياة الباقية فهي التي يعمل لنفسه حتى تهون عليه الدنيا، و تصغر في عينيه، و تعظم الاخرة عنده، و يؤثر هواى على هواه، و يبتغى مرضاتي، و يعظم حق عظمتي، و يذكر علمي به و يراقبني بالليل و النهار كل سيئة و معصية، و ينفى قلبه عن كل ما أكره، و يبغض الشيطان و وساوسه، و لا يجعل لإبليس على قلبه سلطانا و سبيلا، فإذا فعل ذلك أسكنت قلبه حبا حتى أجعل قلبه لي و فراغه و اشتغاله و همه و حديثه من النعمة التي أنعمت بها على أهل محبتي من خلقي، و أفتح عين قلبه و سمعه حتى يسمع بقلبه و ينظر بقلبه إلى جلالي و عظمتي و أضيق عليه الدنيا، و أبغض إليه ما فيها من اللذات، و أحذره من الدنيا و ما فيها كما يحذر الراعي غنمه من مراتع الهلكة، فإذا كان هكذا يفر من الناس فرارا و ينقل من دار الفناء إلى دار البقاء و من دار الشيطان إلى دار الرحمن، يا أحمد لازينه بالهيبة و العظمة فهذا هو العيش الهني و الحياة الباقية، و هذا مقام الراضين.

فمن عمل برضاى الزمه ثلاث خصال: أعرفه شكرا لا يخالطه الجهل، و ذكرا لا يخالطه النسيان، و محبة لا يؤثر على محبتي محبة المخلوقين، فإذا أحبني أحببته و أفتح عين قلبه إلى جلالي فلا أخفى عليه خاصة خلقي، فاناجيه في ظلم الليل و نور النهار حتى ينقطع حديثه من المخلوقين و مجالستهم معهم، و اسمعه كلامه و كلام ملائكتي، و اعرفه السر الذي سترته عن خلقي و البسه الحياء حتى‏ يستحيى منه الخلق كلهم، و يمشي على الأرض مغفورا له، و اجعل قلبه واعيا و بصيرا و لا يخفى عليه شي‏ء من جنة و لا نار، و اعرفه بما يمر على الناس في يوم القيامة من الهول و الشدة و ما احاسب به الأغنياء و الفقراء و الجهال و العلماء و انور في قبره، و انزل عليه منكرا و نكيرا حتى يسألاه و لا يرى غم الموت و ظلمة القبر و اللحد و هول المطلع حتى أنصب له ميزانه و انشر له ديوانه ثم أضع كتابه في يمينه فيقرأه منشورا ثم لا أجعل بينى و بينه ترجمانا، فهذه صفات المحبين، الحديث.

فتأمل يا مريد الطريق إلى الله تعالى في قوله عز و جل لحبيبه خاتم النبيين من الجوائز الكريمة التي أعدها للمراقبين و الراضين و المحبين و من تلك المواهب الجزيلة و العطايا النفيسة العزيزة اليتيمة الثمينة فتح عين القلب و قد ذكرها لعظم شرفها و علو رتبتها مرتين.

و نظير تلك المنح السنية ما وعد عباده في النوافل و الفرائض من القرب حيث قال تعالى: و ما يتقرب إلى عبدى بشي‏ء أحب مما افترضت عليه، و إنه ليتقرب إلى بالنوافل حتى احبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به و بصره الذي يبصر به، و لسانه الذي ينطق به، و يده الذي يبطش بها، إن دعاني أجبته، و إن سألني أعطيته.

نقله العلامة الشيخ البهائي في كتاب الأربعين، و هو الحديث الخامس و الثلاثون منه، بإسناده عن أبان بن تغلب عن الإمام جعفر بن محمد بن علي الباقر عليه السلام قال: لما أسرى بالنبي صلى الله عليه و آله قال: يا رب ما حال المؤمن عندك؟ قال: يا محمد- إلى قوله: و ما يتقرب إلى عبدى- إلخ و قال- قده-: و هذا الحديث صحيح السند و هو من الأحاديث المشهورة بين الخاصة و العامة و قد رووه في صحاحهم بأدنى تغيير، فراجع إليه.

و قد رواه ثقة الإسلام الكليني قدس سره في باب من أذى المسلمين و احتقرهم من أبواب الإيمان و الكفر (ص 263 ج 2 من المعرب) بطريقين، و روى فيه‏

حديثا ثالثا يقرب منهما معنى، هذا قرب النوافل الذي يدور في ألسنة القوم أى القرب الذي يحصل للعبد من النوافل، و أما قرب الفرائض فقال عز و جل ما يتقرب إلى عبدى بشي‏ء أحب إلى مما افترضته عليه و ما زال يتقرب إلى عبدى بالفرائض حتى إذا ما احبه و إذا أحببته كان سمعي الذي أسمع به، و بصري الذي أبصر به، و يدي الذي أبطش بها.

فانظر إلى تفاوة القربين ففي الأول كان الله سمع العبد و بصره و لسانه و يده، و في الثاني كان العبد سمع الله تعالى و بصره و يده، فالواجبات أكثر ثوابا و أعلى مرتبة من المندوبات بتلك النسبة بين القربين.

قال العلامة المحقق نصير الدين محمد الطوسي قدس الله سره: العارف إذا انقطع عن نفسه و اتصل بالحق رأى كل قدرة مستغرقة في قدرته المتعلقة بجميع المقدورات، و كل علم مستغرقا في علمه الذي لا يعزب عنه شي‏ء من الموجودات و كل إرادة مستغرقة في إرادته التي لا يتأبى عنها شي‏ء من الممكنات، بل كل وجود و كل كمال وجود فهو صادر عنه، فائض من لدنه فصار الحق حينئذ بصره الذي به يبصر، و سمعه الذي به يسمع، و قدرته التي بها يفعل، و علمه الذي به يعلم، و وجوده الذي به يوجد فصار العارف حينئذ متخلقا بأخلاق الله بالحقيقة.

نقلنا كلامه من الرابعة من الرابعة من قرة العيون للفيض رضوان الله عليه و في الثالثة من السابعة من ذلك الكتاب:قال بعض العارفين إذا تجلى الله سبحانه بذاته لأحد يرى كل الذوات و الصفات و الأفعال متلاشية في أشعة ذاته و صفاته و أفعاله يجد نفسه مع جميع المخلوقات كأنها مدبرة لها و هي أعضاؤها لا يلم بواحد منها شي‏ء إلا و يراه ملما به، و يرى ذاته الذات الواحدة و صفته صفتها و فعله فعلها لاستهلاكه بالكلية في عين التوحيد، و لما انجذب بصيرة الروح إلى مشاهدة جمال الذات استتر نور العقل الفارق بين الأشياء في غلبة نور الذات القديمة و ارتفع التميز بين القدم و الحدوث لزهوق الباطل عند مجي‏ء الحق، و يسمى هذه الحالة جمعا، و لصاحب‏ الجمع أن يضيف إلى نفسه كل أثر ظهر فى الوجود و كل صفة و فعل و اسم لانحصار الكل عنده في ذات واحدة فتارة يحكى عن هذا و تارة عن حال ذاك و لا نعنى بقولنا قال فلان بلسان الجمع إلا هذا.

عشق بگرفت مرا از من و بنشست بجاى‏ سياتم ستدند و حسناتم دادند

ثم قال الفيض بعد نقل كلام هذا العارف: و لعل هذا هو السر في صدور بعض الكلمات الغريبة من مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة البيان و غيرها كقوله عليه السلام:أنا آدم الأول، أنا نوح الأول، أنا آية الجبار، أنا حقيقة الأسرار، أنا مورق الأشجار، أنا مونع الثمار، أنا مجري الأنهار- إلى أن قال عليه السلام: أنا ذلك النور الذي اقتبس موسى منه الهدى، أنا صاحب الصور، أنا مخرج من في القبور أنا صاحب يوم النشور، أنا صاحب نوح و منجيه، أنا صاحب أيوب المبتلى و شافيه أنا أقمت السماوات بأمر ربى- إلى آخر ما قال من أمثال ذلك صلوات الله و سلامه عليه.

و قد أجاد في المقام العالم العارف الشهير داود بن محمود القيصري في الفصل الثامن من مقدماته على شرح فصوص الحكم في أن العالم هو صورة الحقيقة الإنسانية بقوله: إن الاسم الله مشتمل على جميع الأسماء و هو متجل فيها بحسب مراتبه فلهذا الاسم الإلهى بالنسبة إلى غيره من الأسماء اعتباران: اعتبار ظهور ذاته في كل واحد من الأسماء، و اعتبار اشتماله عليها كلها من حيث المرتبة الإلهية.

فبالأول يكون مظاهرها كلها مظهر هذا الاسم الأعظم لأن الظاهر و المظهر في الوجود شي‏ء واحد لا كثرة فيه و لا تعدد و في العقل يمتاز كل منهما عن الاخر كما يقول أهل النظر بأن الوجود عين المهية في الخارج و غيره في العقل فيكون اشتماله عليها اشتمال الحقيقة الواحدة على أفرادها المتنوعة.

و بالثاني يكون مشتملا عليها من حيث المرتبة الالهية اشتمال الكل المجموعي على الأجزاء التي هي عينه بالاعتبار الأول.

و إذا علمت هذا علمت أن حقائق العالم في العلم و العين كلها مظاهر للحقيقة الإنسانية التي هي مظهر للإسم الله فأرواحها أيضا كلها جزئيات الروح الأعظم الإنساني سواء كان روحا فلكيا أو عنصريا أو حيوانيا و صورها صور تلك الحقيقة و لوازمها لوازمها لذلك يسمى العالم المفصل بالإنسان الكبير عند أهل الله لظهور الحقيقة الانسانية و لوازمها فيه، و لهذا الاشتمال و ظهور الأسرار الإلهية كلها فيها دون غيرها استحقت الخلافة من بين الحقائق كلها و لله در القائل: سبحان من أظهر ناسوته- إلى آخر البيتين المذكورين آنفا.

فأول ظهورها في صورة العقل الأول الذي هو صورة إجمالية للمرتبة العمائية المشار إليها في الحديث الصحيح عند سؤال الأعرابي أين كان ربنا قبل أن يخلق الخلق؟ قال عليه السلام: كان في عماء ما فوقه هواء و لا تحته هواء، لذلك قال عليه السلام:أول ما خلق الله نوري، و أراد العقل كما أيده بقوله: أول ما خلق الله العقل ثم في صورة باقي العقول و النفوس الناطقة الفلكية و غيرها، و في صورة الطبيعة و الهيوا الكلية و الصورة الجسمية البسيطة و المركبة بأجمعها.

و يؤيد ما ذكرنا قول أمير المؤمنين ولي الله في الأرضين قطب الموحدين علي بن أبي طالب عليه السلام في خطبة كان يخطبها للناس: أنا نقطة باء بسم الله، أنا جنب الله الذي فرطتم فيه، و أنا القلم، و أنا اللوح المحفوظ، و أنا العرش، و أنا الكرسي، و أنا السماوات السبع و الأرضون، إلى أن صحافي أثناء الخطبة و ارتفع عنه حكم تجلي الوحدة و رجع إلى عالم البشرية، و تجلى له الحق بحكم الكثرة فشرع معتذرا فأقر بعبوديته و ضعفه و انقهاره تحت أحكام الأسماء الإلهية.

و لذلك قيل: الانسان الكامل لا بد أن يسرى في جميع الموجودات كسريان الحق فيها، و ذلك في السفر الثالث الذي من الحق إلى الخلق بالحق، و عند هذا السفر يتم كماله و به يحصل له حق اليقين.

و من ههنا يتبين أن الاخرية هي عين الأولية، و يظهر سر هو الأول و الاخر و الظاهر و الباطن و هو بكل شي‏ء عليم.

قال الشيخ رضى الله عنه في فتوحاته في بيان المقام القطبى: إن الكامل الذي أراد الله أن يكون قطب العالم و خليفة الله فيه إذا وصل إلى العناصر مثلا متنزلا في السفر الثالث ينبغي أن يشاهد جميع ما يريد أن يدخل في الوجود من الأفراد الإنسانية إلى يوم القيامة و بذلك الشهود أيضا لا يستحق المقام حتى يعلم مراتبهم أيضا فسبحان من دبر كل شي‏ء بحكمته، و أتقن كل ما صنع برحمته، انتهى كلام القيصري.

7- الأدب مع الله تعالى في كل حال، و قد كان بعض مشايخى و هو العالم المتنزه المتأله و الحكيم العارف الموحد البارع الاية السيد محمد حسن القاضى الطباطبائى التبريزى الشهير بالإلهى أعلى الله تعالى مقاماته و رفع درجاته و جزاه عنى خير جزاء المعلمين كثيرا ما يوصيني فيما يوصى بالمراقبة لله تعالى، و الأدب معه، و محاسبة النفس لا سيما بالأولى منها، و لا أنسى نفحات أنفاسه الشريفة و بركات فيوضاته المنيفة.

قال عيسى روح الله و كلمته عليه السلام: لا تقولوا العلم في السماء من يصعد فيأتي به، و لا في تخوم الأرض من ينزل فيأتي به، العلم مجهول في قلوبكم تأدبوا بين يدي الله باداب الروحانيين، و تخلقوا بأخلاق الصديقين، يظهر من قلوبكم حتى يعطيكم و يغمركم.

قال الإمام الجواد عليه السلام كما في الباب 49 من إرشاد القلوب للديلمي في الأدب مع الله تعالى: ما اجتمع رجلان إلا كان أفضلهما عند الله آدبهما فقيل: يا ابن رسول الله قد عرفنا فضله عند الناس فما فضله عند الله؟ فقال بقراءة القرآن كما انزل، و يروى حديثنا كما قلنا، و يدعو الله مغرما.

و في ذلك الباب: قد روى أن الله تعالى يقول فى بعض كتبه: عبدى أمن الجميل أن تناجينى و تلتفت يمينا و شمالا و يكلمك عبد مثلك تلتفت إليه و تدعنى؟

و ترى من أدبك إذا كنت تحدث أخالك لا تلتفت إلى غيره فتعطيه من الأدب ما لم تعطنى فبئس العبد عبد يكون كذلك.

و فيه أيضا: روى أن النبي صلى الله عليه و آله خرج إلى غنم له و راعيها عريان يفلى ثيابه فلما رآه مقبلا لبسها، فقال النبي صلى الله عليه و آله: امض فلا حاجة لنا في رعايتك، فقال إنا أهل بيت لا نستخدم من لا يتأدب مع الله و لا يستحيى منه في خلوته.

و الأدب مع الله بالاقتداء بادابه و آداب نبيه صلى الله عليه و آله و أهل بيته عليهم السلام و هو العمل بطاعته و الحمد لله على السراء و الضراء و الصبر على البلاء و لهذا قال أيوب رب إني مسنى الضر و أنت أرحم الراحمين، فقد تأدب هنا من وجهين أحدهما أنه لم يقل انك أمسستنى بالضر، و الاخر لم يقل ارحمني بل عرض تعريضا فقال: و أنت أرحم الراحمين و انما فعل ذلك حفظا لمرتبة الصبر.

و كذا قال إبراهيم عليه السلام: و إذا مرضت فهو يشفين، و لم يقل إذا مرضتنى حفظا للأدب.

و قال أيوب عليه السلام في موضع آخر: إني مسنى الشيطان بنصب و عذاب، أشار بذلك إلى الشيطان لأنه كان يغري الناس فيؤذونه و كل ذلك تأدب منهم مع الله تعالى في مخاطبتهم.

قلت: و تأدب آدم و زوجه عليهما السلام بقولهما: ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين، و ترك ابليس الأدب معه تعالى بقوله: فبما أغويتنى لأقعدن لهم صراطك المستقيم.

8- و العزلة، قال الإمام الصادق عليه السلام: صاحب العزلة متحصن بحصن الله تعالى و متحرس بحراسته، فيا طوبي لمن تفرد به سرا و علانية، و في العزلة صيانة الجوارح و فراغ القلب و سلامة العيش و كسر سلاح الشيطان و المجانبة من كل سوء و راحة، و ما من نبى و لا وصى إلا و اختار العزلة في زمانه إما في ابتدائه و إما في انتهائه- نقلناه من مصباح الشريعة.

و في كشكول العلامة البهائي (ص 155 من طبع نجم الدوله) عن سفيان الثوري قال: سمعت الصادق جعفر بن محمد يقول: عزت السلامة حتى لقد خفي مطلبها فإن تكن في شي‏ء فيوشك أن تكون في الخمول، فإن لم توجد في الخمول‏ فيوشك أن تكون في التخلي و ليس كالخمول، و إن لم تكن في التخلي فيوشك أن تكون في الصمت و ليس كالتخلي، و إن لم توجد في الصمت فيوشك أن يكون في كلام السلف الصالح، و السعيد من وجد في نفسه خلوة.

و تأمل في قوله تعالى: و اذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا (مريم 18)، و العزلة هي الخروج عن مخالطة الخلق بالانزواء و الإنقطاع و أصلها عزل الحواس بالخلوة عن التصرف في المحسوسات فإن كل آفة و فتنة و بلاء ابتلى الروح بها دخلت فيه بروازن الحواس فبالخلوة و عزل الحواس ينقطع مدد النفس عن الدنيا و الشيطان و إعانة الهوى و الشيطان.

9- و التهجد، قال الله تعالى: و من الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا و قل رب أدخلني مدخل صدق و أخرجني مخرج صدق و اجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا (الأسراء 81)، و قال تعالى: إن المتقين في جنات و عيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا من الليل ما يهجعون و بالأسحار هم يستغفرون‏ (الذاريات 18)، و قال تعالى: يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه و رتل القرآن ترتيلا إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا إن ناشئة الليل هي أشد وطئا و أقوم قيلا إن لك في النهار سبحا طويلا و اذكر اسم ربك و تبتل إليه تبتيلا، و قال تعالى: و اذكر اسم ربك بكرة و أصيلا و من الليل فاسجد له و سبحه ليلا طويلا إن هؤلاء يحبون العاجلة و يذرون وراءهم يوما ثقيلا (الانسان 28).

و روى الشيخ الصدوق قدس سره في باب معنى التوحيد و العدل من كتاب التوحيد (ص 84) عن سلمان الفارسي رحمه الله تعالى انه أتاه رجل فقال: يا أبا عبد الله إني لا أقوى على الصلاة بالليل، فقال: لا تعص الله بالنهار، و فيه أيضا: جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين إنى قد حرمت الصلاة بالليل، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: أنت رجل قد قيدتك ذنوبك.

و روى الكليني- قده- في باب الذنوب من كتاب الايمان و الكفر (ص 290 ج 2 من المعرب) بإسناده عن ابن بكير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الرجل يذنب الذنب فيحرم صلاة الليل و إن العمل السيئ أسرع في صاحبه من السكين في اللحم.

روى الشيخ الصدوق رضوان الله عليه في الأمالي بإسناده عن المفضل قال:سمعت مولاى الصادق عليه السلام يقول: كان فيما ناجى الله عز و جل به موسى بن عمران أن قال له: يا ابن عمران كذب من زعم أنه يحبنى فاذا جنه الليل نام عنى أليس كل محب يحب خلوة حبيبه؟ ها أنا ذايا ابن عمران مطلع على أحبائي إذا جنهم الليل حولت أبصارهم من قلوبهم، و مثلت عقوبتى بين أعينهم يخاطبوني عن المشاهدة و يكلموني عن الحضور، يا ابن عمران هب لي من قلبك الخشوع و من بدنك الخضوع، و من عينيك (عينك- خ ل) الدموع في ظلم الليل و ادعنى فإنك تجدني قريبا مجيبا.

10- و التفكر، قال تعالى: الذين يذكرون الله قياما و قعودا و على جنوبهم و يتفكرون في خلق السماوات و الأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار (آل عمران: 192)، و روى الكليني في الكافي (ج 2 ص 45 من المعرب) عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أفضل العبادة إدمان التفكر في الله و في قدرته، و روى عن معمر بن خلاد قال: سمعت الرضا عليه السلام يقول: ليس العبادة كثرة الصلاة و الصوم، إنما العبادة التفكر في أمر الله عز و جل، و روى عن ربعى قال قال أبو عبد الله عليه السلام: قال أمير المؤمنين صلوات الله عليه: إن التفكر يدعو إلى البر و العمل به.

و روى العلامة البهائى في الحديث الثاني من كتابه الأربعين باسناده عن أمير المؤمنين عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه و آله: من عرف الله و عظمه منع فاه من الكلام، و بطنه من الطعام، و عنى نفسه بالصيام و القيام، قالوا: بابائنا و امهاتنا يا رسول الله هؤلاء أولياء الله؟ قال: إن أولياء الله سكتوا فكان سكوتهم فكرا و تكلموا فكان كلامهم ذكرا، و نظروا فكان نظرهم عبرة، و نطقوا فكان نطقهم حكمة، و مشوا فكان مشيهم بين الناس بركة، لو لا الاجال التي قد كتبت عليهم لم‏تستقر أرواحهم في أجسادهم خوفا من العذاب و شوقا إلى الثواب، و رواه ثقة الإسلام الكليني في الكافي بأدنى تفاوت (الحديث 25 من باب المؤمن و علاماته و صفاته من كتاب الإيمان و الكفر: ص 186 ج 2).

11- و ذكر الله تعالى في كل حال قلبا و لسانا قال تعالى: و اذكر ربك في نفسك تضرعا و خيفة و دون الجهر من القول بالغدو و الآصال و لا تكن من الغافلين إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته و يسبحونه و له يسجدون‏ (آخر الأعراف).

و روى عن النبي صلى الله عليه و آله قال: ارتعوا في رياض الجنة، فقالوا: و ما رياض الجنة؟ فقال: الذكر غدوا و رواحا فاذكروا، و من كان يحب أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده فان الله تعالى ينزل العبد حيث أنزل الله العبد من نفسه، ألا إن خير أعمالكم و أزكاها عند مليككم و أرفعها عند ربكم في درجاتكم و خير ما طلعت عليه الشمس ذكر الله سبحانه و تعالى أخبر عن نفسه فقال: أنا جليس من ذكرني، و أي منزلة أرفع من منزلة جليس الله تعالى. (الباب الثالث عشر من إرشاد القلوب للديلمي).

و في كتاب الدعاء من الكافي: فيما ناجى الله تعالى به موسى عليه السلام قال:يا موسى لا تنسني على كل حال فإن نسياني يميت القلب (ص 361 ج 2).

و فيه أيضا قال الله عز و جل لعيسى عليه السلام: يا عيسى اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي و اذكرني في ملإك [ملئي- خ ل‏] اذكرك في ملإ خير من ملإ الادميين يا عيسى ألن لي قلبك و أكثر ذكرى في الخلوات، و اعلم أن سروري أن تبصبص إلي و كن في ذلك حيا و لا تكن ميتا. (ص 364 ج 2).

و في الباب الأول من توحيد الصدوق رحمة الله عليه: قال رسول الله صلى الله عليه و آله ما قلت و لا قال القائلون قبلي مثل لا إله إلا الله.

و فيه أيضا قال رسول الله صلى الله عليه و آله: خير العبادة قول لا إله إلا الله.

و فيه أيضا قال أبو عبد الله عليه السلام: قول لا إله إلا الله ثمن الجنة.

و فيه أيضا قال رسول الله صلى الله عليه و آله: يقول الله جل جلاله: لا إله إلا الله حصني فمن دخله أمن من عذابي.

و فيه أيضا عن زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه و آله، و كذا بإسناده عن محمد بن حمران، عن أبي عبد الله عليه السلام: من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة و إخلاصه أن يحجزه لا إله إلا الله عما حرم الله عز و جل.

و الذكر هو الخروج عن ذكر ما سوى الله بالنسيان عن غيره، و كلمة لا إله إلا الله ذكر معجون مركب من النفى و الإثبات فبالنفى تزول الموادة الفاسدة التي يتولد منها مرض القلب و قيود الروح، و باثبات إلا الله تحصل صحة القلب و سلامته عن الرذائل من الأخلاق.

12- و الرياضة في طريقى العلم و العمل على النهج الذي قرره الشريعة المحمدية صلى الله عليه و آله فحسب، فدونها لا يوجب إلا بعدا و ما ذا بعد الحق إلا الضلال لما قد دريت آنفا أن هذا القرآن يهدى للتي هي أقوم، و اعلم أن العلم و العمل بمنزلة جناحين للإنسان و لولاهما لما يقدر على الطيران إلى أوج الكمال و العروج إلى المعارج.

و النفس بالاعتبار الأول تسمى نظرية و بالاعتبار الثاني عملية توضيحه أن لها باعتبار تأثرها عما فوقها من المبادي باستفاضتها عنها ما تتكمل به من التعقلات قوة تسمى نظرية، و لها أربع مراتب، و أن لها باعتبار تأثيرها في البدن لتفيد جوهره كمالا تأثيرا اختياريا قوة اخرى تسمى عملية و لها أيضا أربع مراتب، على أن هذا الكمال الذي يحصل للبدن بسببها في الحقيقة تعود إليها لأن البدن آلة لها في تحصيل العلم و العمل.

أما مراتب القوة النظرية فلأن النفس في مبدء الفطرة خالية عن العلوم كلها لكنها مستعدة لها و إلا لامتنع اتصافها بها و حينئذ تسمى عقلا هيولانيا تشبيها لها بالهيولى الخالية في نفسها عن جميع الصور القابلة إياها، ثم إذا استعملت آلاتها أعنى الحواس الظاهرة و الباطنة حصل لها علوم أولية و استعدت لاكتساب النظريات‏ و حينئذ تسمى عقلا بالملكة لأنها حصلت لها بسبب تلك الأوليات ملكة الانتقال إلى النظريات، ثم رتبت العلوم الأولية و أدركت النظريات و حصلت لها ملكة الاستحضار بحيث تستحضرها متى شاءت من غير كسب جديد لأجل تكرار الاكتساب لكن لا تشاهدها بالفعل بل صارت مخزونة عندها فهو العقل بالفعل لحصول قدرة الاستحضار للنفس بالفعل و إذا استحضرت العلوم مشاهدة إياها تسمى عقلا مستفادا لأن النفس الانسانية في آخر المراتب تصير عقلا لكن لا فعالا للكمالات بل عقلا منفعلا بحسب قبول الكمالات من العقل الفعال.

و أما مراتب القوة العملية فاوليها تهذيب الظاهر باستعمال الشرائع النبوية و النواميس الالهية، و هذه المرتبة تسمى عندهم التجلية- بالجيم، و بعبارة واضحة التجلية أن تورد النفس قواها و أعضائها بالمراقبة الكاملة تحت انقياد الأحكام الشرعية و النواميس الالهية و إطاعتها فتطيع أوامر الشرع و تجتنب عن المناهي حتى يظهر آثار الطهارة الظاهرية في الظاهر أعنى البدن، و يحصل للنفس أيضا على التدريج ملكة التسليم و الانقياد للسلوك إلى طريق الحق تعالى و المتكفل لحصول هذه المرتبة هو علم الفقه على الطريقة الحقة الجعفرية ليس إلا.

و ثانيها تهذيب الباطن عن الملكات الردية و نفض آثار شواغله عن عالم الغيب و تسمى هذه المرتبة التخلية بالخاء، و بعبارة اخرى التخلية أن يعرض النفس عن المضار الاجتماعية و الانفرادية و مفاسدهما يحذر من عواقبهما الوخيمة دنيوية و اخروية كالحسد و الحرص و الكبر و العجب و غيرها من الأخلاق الرذيلة المبينة في الكتب الأخلاقية، و رفض تلك الرذائل عن النفس بمنزلة علاج البدن من الأمراض الجسمانية، و شرب المسهل و الدواء لقلعها فكما أن الجسم ما كان مريضا لم ينفعه غذاء طيب مقو و على الطبيب أن يداوى الجسم و يعالجه أولا ثم يقويه بالأغذية المقوية كذلك الأمراض الروحية أعنى تلك الرذائل الأخلاقية ما لم يقلع من النفس و لم يسلم النفس منها لم ينفعه الملكات الفاضلة.

و ثالثها ما يحصل بعد اتصالها بعالم الغيب و هو تحلى النفس بالصور القدسية و تسمى هذه المرتبة التحلية بالحاء المهملة، و بعبارة اخرى التحلية أن تتحلى النفس بعد حصول التخليه بحلى الأخلاق الحميدة و الملكات الفاضلة الجميلة مما هي في نظام الاجتماع و رشد الفرد و تكامله مؤثر جدا فالتحلية طهارة معنوية و ما لم يتحقق هذه الطهارة للانسان فهو ليس بطاهر حقيقة و إن كان ظاهره متصفا بالطهارة و اتصاف النفس بها بمنزلة تقوية المريض بالأغذية المقوية بعد خلاصه من الأمراض.

و رابعتها ما يتجلى له عقيب ملكة الإتصال و الانفصال عن نفسه بالكلية و هو ملاحظة جمال الله و جلاله و قصر النظر على كماله حتى يرى كل قدرة مضمحلة جنب قدرته الكاملة، و كل علم مستغرقا في علمه الشامل بل كل وجود فائضا من جنابه، و تسمى هذه المرتبة بالفناء في الحق، رزقنا الله و جميع المؤمنين تلك النعمة العظمى و بلغنا إلى تلك الغاية القصوى، و له أيضا ثلاث مراتب: محو و طمس و محق المحو، فناء أفعال العبد في فعل الحق، و الطمس، فناء صفاته في صفات الحق و المحق، فناء وجوده في ذات الحق، ففي الأول لا يرى في الوجود فعلا لشي‏ء إلا للحق، و في الثاني لا يرى لشي‏ء من الوجود صفة إلا للحق، و في الثالث لا يرى وجودا لشي‏ء إلا للحق، و الفناء قسمان: فناء استهلاك كفناء أنوار الكواكب في نور الشمس، و حينئذ يبقى عين الفاني و ذاته و يرتفع حكم إنيته، و فناء هلاك كفناء الأمواج عند سكون البحر، و حينئذ يزول الفاني و يرتفع عينه و لا يبقى أثره.

و نزيدك بيانا و نقول: غب ما حصلت المراتب الثلاثة التجلية و التخلية و التحلية للسالك تحصل له ببركة الطهارة و الصفاء، جاذبة المحبة و العشق إلى جناب الحق جل جلاله فتصير محبا لما هو كمال له حقيقة من الحضور دائما عنده تعالى و عبادته و الخلوة معه و الانس به، و ذكره قلبا و لسانا، فتوجب تلك الأحوال تشديد المحبة تدريجا و اشتعال نار المحبة يسيرا يسيرا حتى يذهل عن نفسه‏ و لا يرى إلا هو، و يبلغ بحق اليقين إلى أنه تعالى هو الأول و الاخر و الظاهر و الباطن، و إلى أنه هو الظاهر لا غير، و أن الظاهر هو لا غير، و إلى أن الباطن هو الظاهر، و أن الأول هو الاخر و الاخر هو الأول، و الكل تحت اسم الظاهر تدوينا و تكوينا لفظا و عينا، و هذه الحالة للعارف تسمى بالفناء في الله فالفناء ملاحظة جمال الله و جلاله و قصر النظر على كماله.

و للفناء ثلاث درجات: الاولى، الفناء في الأفعال فيرى العارف في هذه الدرجة المؤثرات و المبادي و الأسباب و العلل من المجردات و الماديات و من الطبيعيات و الإراديات باطلة بلا أثر، ألا كل شي‏ء ما خلا الله باطل، و لا يرى مؤثرا إلا الحق جل جلاله و لا يرى قدرة عاملة و لا إرادة نافذة في الكائنات إلا قدرته و إرادته، فيشهد ذاتا غير متناهية، و إرادة و قدرة غير متناهيتين حاكمة على الجميع، و عنت الوجوه للحى القيوم، فيرى بعين الشهود بلا شوب ريب حقيقة الكريمة: و ما رميت إذ رميت و لكن الله رمى، فيكون لسان حاله مترنما بمقال لا حول و لا قوة إلا بالله، بلا شائبة خيال و وهم بل بعين بصيرة و قلب مستيقظ نبيه، و في هذا المقام يحصل له اليأس عما سواه تعالى و الرجاء الواثق التام إليه تعالى، و يساوى عنده بل يتحد قدرة أعظم ملوك الأرض و قدرة أخس ذوى النفوس كالبق مثلا، و هذه الدرجة تسمى بالمحو و إليه أشار صاحب المثنوي بقوله:

اين سببها بر نظرها پرده‏ها است‏ كه نه هر ديدار صنعش را سزا است‏
ديده‏اى بايد سبب سوراخ كن‏ تا حجب را بر كند از بيخ و بن‏
تا مسبب بيند اندر لا مكان‏ هرزه بيند جهد و أسباب دكان‏

و الثانية، الفناء في الصفات، فيرى العارف في هذه الدرجة جميع أسمائه تعالى و صفاته من صفات اللطف كالرحمن و الرحيم و الرازق و المنعم، و صفات القهر كالقهار و المنتقم مستهلكة في غيب الذات الأحدية، و لا يرى إلا الذات‏ الأحدية و لا يرى تعينا، و حينئذ يرتفع اختلاف المظاهر كالجبرئيل و العزرائيل و موسى و فرعون من عين صاحب هذا المقام، و يتحد عنده و لا يتفاوت له اللطف و القهر و البسط و الغضب و العطاء و المنع و الجنة و النار و الصحة و المرض و الفقر و الغنى و العزة و الذلة، و إلى هذه المرحلة أشار العارف المصقع بقوله:

گر وعده دوزخ است و يا خلد غم مدار بيرون نمى‏برند تو را از ديار دوست‏

و هذه الدرجة تسمى بالطمس.

و اعلم أن صفاته تعالى إما ايجابية و إما سلبية و يقال لنعوته الإيجابية لكونها وجودية جماله تعالى، و لنعوته السلبية صفات الجلال لتجليله بأنه المترفع عن التركيب و الجوهرية و العرضية و الجسمية و يقال: انه ليس بمركب و ليس بعرض و ليس بجسم و ليس له ماهية و نحوها فلزم أن لا يكون مرئيا و مشاهدا بل و لا مدركا و لذا نسب الاحتجاب إلى صفة الجلال كما قيل:

جمالك في كل الحقائق سائر و ليس له إلا جلالك ساتر

و قال المتأله السبزوارى قدس سره:

پرده ندارد جمال غير صفات جلال‏ نيست بر اين رخ نقاب نيست بر اين مغز پوست‏

و الصفات الجمالية و الجلالية يقال بمعنى آخر أيضا قال القيصري في الفصل الثاني من مقدماته على شرح الفصوص: ان ذاته تعالى اقتضت بحسب مراتب الالوهية و الربوبية صفات متعددة متقابلة كاللطف و القهر و الرحمة و الغضب و الرضا و السخط و غيرها و تجمعها النعوت الجمالية و الجلالية إذ كل ما يتعلق باللطف فهو الجمال، و ما يتعلق بالقهر فهو الجلال.

و لكل جمال أيضا جلال كالهيمان الحاصل من الجمال الإلهى فإنه عبارة عن انقهار العقل منه و تحيره فيه، و لكل جلال جمال و هو اللطف المستور في القهر الإلهى كما قال الله تعالى: و لكم في القصاص حياة يا أولي الألباب‏، و قال أمير المؤمنين عليه السلام: سبحان من اتسعت رحمته لأوليائه في شدة نقمته، و اشتدت نقمته لأعدائه في سعة رحمته، و من هنا يعلم سر قوله عليه السلام: حفت الجنة بالمكاره‏ و حفت النار بالشهوات، انتهى كلام القيصري.

و الثالثة الفناء في الذات، و العارف في هذا المقام يرى جميع أنواع الكائنات المختلفة متحدة كما أن الجاهل يحسبها متكثرة، إذ تعين كل واحد منها كالملك و الفلك و الإنسان و الحيوان و الأشجار و المعادن أو همه إلى الكثرة فظن أنها متبددة متعددة و لكن العارف في ذلك المشهد العظيم يشاهد من عرش التجرد الأعلى إلى مركز التراب بصورة نجارستان انتقش بقلم التجلي على جدرانه و سقفه و على جميع ما في ذلك النجارستان عكوس علمه تعالى و قدرته و حياته و رحمته، و نقوش لطفه و قهره، و أشعة جماله و جلاله، و يشاهد جميع ما في دار الوجود من برها و بحرها و عاليها و دانيها و مجردها و ماديها متصلا بعضها ببعض و مرتبطا أحدها باخر و منضما هذا بذاك كهيكل انسان واحد مثلا، يخبر الجميع بنغمة موزونة واحدة عن عظمة العالم الربوبى، و في هذا المقام يتحقق بحقيقة التوحيد و كلمة لا إله إلا الله الطيبة، قائلا بلسان الحقيقة يا هو يا من ليس إلا هو، فإذن لا يبقى له و لا للممكنات الاخرى هوية، بل هوية الكل مضمحل و متلاش في تجلى حقيقة الحق سبحانه، لمن الملك اليوم لله الواحد القهار، و تسمى هذه الدرجة بالمحق.

و ما حررنا في مراتب القوة العملية نبذة من إفاضات مولانا المكرم و رشحة من فيوضات استاذنا العليم، الاية العظمى الميرزا أبي الحسن الرفيعي القزويني متع الله تعالى المسلمين بطول بقائه و أدام أيام افاداته- مع بعض إفاضات منا مزيدا للإيضاح، و الحمد لله باسط الرزق فالق الإصباح.

و اعلم أن الطهارة الحقيقية للنفس إنما هي حاصلة في الثالثة من الدرجات لأنها تطهير النفس عما عداه تعالى، قد أفلح من زكيها.

و أن لسان الغيب الخواجه شمس الدين الحافظ قدس سره أشار في بيته:

ساقى حديث سرو و گل و لاله مى‏رود اين بحث با ثلاثة غساله مى‏رود

إلى هذه الدرجات الثلاث فعبرها بالثلاثة الغسالة لتغسيلها النفس عن الأنجاس و الأدناس فبالفناء في الأفعال ينبت الورد في روضة سر القلب، و يستشم‏  العارف من رياض القدس ريح الورد، و بالفناء في الصفات ينبت الشقائق فيها إشارة إلى تكامل الورد، و بالثالث ينبت السرو فيها فيحيط أثر العمل شراشر وجود السالك فالجزاء مرتب على وفق العمل فكلما كان العمل أصعب و أشد كان جزاؤه أشرف و أسد، جزاء بما كانوا يعملون، نقل هذه اللطيفة المحقق النراقى قدس سره في الخزائن عن الشيخ محمد الدارابي (ص 413 طبع علمية اسلامية 1380 ه ق).

و أن العلامة البهائي قدس سره نقل في أواخر المجلد الأول من الكشكول (ص 143 من طبع نجم الدولة) عن النبي صلى الله عليه و آله قال: خير الدعاء دعائى و دعاء الأنبياء من قبلى و هو: «لا إله إلا الله وحده وحده وحده، لا شريك له، له الملك و له الحمد يحيى و يميت، و هو حى لا يموت، بيده الخير، و هو على كل شي‏ء قدير»، و روى ثقة الإسلام الكليني في كتاب الدعاء من الكافى (ص 375 ج 2 من المعرب) بإسناده عن علي بن النعمان، عمن ذكره، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال جبرئيل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه و آله: طوبى لمن قال من امتك: «لا إله إلا الله وحده وحده وحده»، و رواه الشيخ الجليل الصدوق في باب ثواب الموحدين و العارفين من كتاب التوحيد باسناده عن جابر بن يزيد الجعفي، عن أبي جعفر عليه السلام (ص 8) و تثليث قول وحده فيها باعتبار توحيد الذات و الصفات و الأفعال، أفاده العالم المتأله السعيد القاضى السعيد في شرح توحيد الصدوق.

فإذا زكيت نفسك فقد أفلحت و لاح فيك ما وعد الله تعالى عباده الصالحين و لم يكن حجابك إلا أنت، قال عز من قائل: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون‏ (المطففين: 16) قال الخواجة صائن الدين على التركة في آخر قواعد التوحيد: إن العلوم كلها موجودة فينا لكنها مختفية بالحجب المانعة عن الظهور، و لا يخفى عليك أن ظهورها تارة يكون بالحركات اللطيفة الفكرية الروحانية بعد تسليط القوة القدسية على قوتى الوهمية و المتخيلة و سائر القوى الجسمانية و تهذيب الأخلاق و تزيين النفس بالأخلاق الحسنة، و تارة اخرى بتسكين المتخيلة و المتوهمة و إلجامهما و منعهما عن الحركات المضطربة المشوشة بعد تسخير القوى الجسمانية بالتزكية و التصفية و كلا الطريقين حق عند أكثر المحققين من أهل النظر و أصحاب المجاهدة.

خذا بطن هرشى أو قفاها فإنه‏ كلا جانبى هرشى لهن طريق‏

و من اعتقد أنه لا اعتبار بالتزكية و التصفية في طريق التعلم و النظر ركب متن الهوى و الهوس حسب هذه العقيدة الفاسدة، و غلبت على نفسه الشهوة و الغضب و استولت عليه الرذائل الطبيعة المهلكة، و حرمت عليها الفضائل الملكية المحيية و اشتغل بقراءة كتب مقلدى الفلاسفة و زبر المتكلمين من أصحاب الجدل و المشاغبة و ضيع عمره في ضبط الاراء المتناقضة و حفظ الأحوال و الأقوال المتقابلة فأوقع نفسه في لجج الخيالات الفاسدة و الأوهام الباطلة عند تلاطم أمواج الشكوك و الشبهات المفرقة فاضمحل نور قلبه و عميت بصيرته بتراكم الكدورات المظلمة و العقائد الفاسدة و ازداد فيه الجهل و التردد و حصل له البهت و التحير و لا يدرى أين يذهب فلحق به من الحق الغضب و ظن أن الكمال ما حصل له و وصل إليه و ليس ورائه حالة مرغوبة كمالية و لا سعادة باقية فتيقن خبث هذه العقيدة و وجه ضررها من لطفه و استعذابه من مكره و غضبه.

13- و عليك بما نقص عليك من قصص ثلاث هي من أحاسن القصص دستورا أما الاولى فقد روى ثقة الإسلام الكليني في باب المؤمن و علاماته و صفاته من كتاب الإيمان و الكفر من الكافي (ص 186 ج 2 من المعرب): أن الحسن بن علي صلوات الله عليهما خطب الناس فقال: أيها الناس أنا اخبركم عن أخ لي كان من أعظم الناس في عيني، و كان رأس ما عظم به في عيني صغر الدنيا في عينه كان خارجا من سلطان بطنه، فلا يشتهى ما لا يجد، و لا يكثر إذا وجد، كان خارجا من سلطان فرجه فلا يستخف له عقله و لا رأيه، كان خارجا من سلطان الجهالة فلا يمد يده إلا على ثقة لمنفعة، كان لا يتشهى و لا يتسخط و لا يتبرم، كان أكثر دهره صماتا فإذا قال بذ القائلين، كان لا يدخل في مراء و لا يشارك في دعوى و لا يدلى بحجة حتى يرى قاضيا، و كان لا يغفل عن اخوانه و لا يخص نفسه بشي‏ء دونهم، كان ضعيفا مستضعفا فإذا جاء الجد كان ليثا عاديا، كان لا يلوم أحدا فيما يقع العذر في مثله حتى يرى اعتذارا، كان يفعل ما يقول و يفعل ما لا يقول، كان إذا بتزه أمران لا يدرى أيهما أفضل نظر إلى أقربهما إلى الهوى فخالفه، كان لا يشكو وجعا إلا عند من يرجو عنده البرء، و لا يستشير (يسترشد- خ) إلا من يرجو عنده النصيحة، كان لا يتبرم و لا يتسخط و لا يتشكى و لا يتشهى و لا ينتقم و لا يغفل عن العدو، فعليكم بمثل هذه الأخلاق الكريمة إن أطقتموها، فإن لم تطيقوها كلها فأخذ القليل خير من ترك الكثير، و لا حول و لا قوة إلا بالله، و هذا الحديث قد نسبه الشريف الرضى رضوان الله عليه إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام و أتى به في القسم الثالث من النهج أعنى في باب المختار من حكم أمير المؤمنين عليه السلام و هو المختار 289.

و رواه أبو محمد الحسن بن علي بن شعبة الحراني رحمة الله عليه عن أبي محمد الامام الحسن بن علي المجتبى عليهما السلام أيضا، كما في الكافي و فى هامش نسخة مخطوطة عتيقة من النهج توجد في مكتبتنا: قال السيد الإمام السعيد أبو الرضا رضى الله عنه: وجدت هذا الفصل في أدب ابن المقفع، و وجدت في كتاب آخر هذا الكلام منسوبا إلى الحسن بن علي صلوات الله عليهما، و نقل ذلك الحديث العلامه البهائى أيضا في أوائل المجلد الثالث من كشكوله (ص 249 طبع نجم الدولة) من النهج أيضا من غير تعرض فيه.

قلت: إذا دار الأمر بين الجامع الكافي و بين غيره من الجوامع الروائية فضلا عن غيرها فلا ريب أن المتعين هو الأول، على أن رواية ابن شعبة موافقة له و معاضدة، و بين النسخ تفاوت في الجملة و نحن نقلناها من نسخة مخطوطة مصححة من الكافي مزدانة بعلائم المقابلة و التصحيح من أولها إلى آخرها و بتعليقات أنيقة رشيقة، و بخط صدر الدين السيد علي خان المدني قدس سره الذي تقدم ذكره في هذه الرسالة غير مرة على ظهرها و هذه صورته: «الحمد لله سبحانه، على هذه النسخة الشريفة المعتمدة خط السيد نصير الملة و الدين و خط ابن أخيه و صهره السيد محمد معصوم و خط ابنه والدي الأمير نظام الدين أحمد، و قد قرأها على السيد العلامة نور الدين ابن علي بن أبي الحسن العلوي قدس الله سبحانه أسرارهم، كتب علي الصدر المدني عفى عنه».

و أما الثانية فقد نقلها العلامة الشيخ البهائي قدس سره في أول المجلد الثالث من كتابه القيم النفيس المسمى بالكشكول (ص 245 من طبع نجم الدولة) حيث قال: من خط س‏[1] عن عنوان البصري و كان شيخا قد أتى عليه أربع و تسعون سنة، قال: كنت أختلف إلى مالك بن أنس سنين فلما قدم جعفر بن محمد الصادق عليه السلام اختلفت إليه و أحببت أن آخذ عنه كما أخذت عن مالك، فقال يوما لي: إني رجل مطلوب و مع ذلك لي أوراد في كل ساعة من آناء الليل و النهار فلا تشغلني عن وردي و خذ عن مالك، و اختلف إليه كما كنت تختلف.

فاغتممت من ذلك، و خرجت من عنده، و قلت في نفسي: لو تفرس لي خيرا لما زجرني عن الاختلاف إليه و الأخذ عنه، فدخلت مسجد الرسول صلى الله عليه و آله و سلمت عليه ثم رجعت من الغد إلى الروضة، و صليت فيها ركعتين و قلت: أسألك يا الله يا الله، أن تعطف على قلب جعفر و ترزقني من علمه ما أهتدي به إلى صراطك المستقيم، و رجعت إلى داري مغتما و لم أختلف إلى مالك بن أنس لما اشرب في قلبي من حب جعفر عليه السلام فما خرجت من داري إلا إلى الصلاة المكتوبة حتى عيل صبري، فلما ضاق صدرى تنعلت و ترديت و قصدت جعفرا عليه السلام و كان بعد ما صليت العصر، فلما حضرت باب داره استأذنت عليه فخرج خادم له فقال: ما حاجتك؟ فقلت: السلام على الشريف، فقال: هو قائم في مصلاه، فجلست بحذاء بابه فما لبثت إلا يسيرا إذا خرج خادم فقال: ادخل على بركة الله.

فدخلت و سلمت عليه فرد على السلام، و قال: اجلس غفر الله لك فجلست فأطرق مليا، ثم رفع رأسه فقال: أبو من؟ قلت: أبو عبد الله، قال: ثبت الله‏

كنيتك و وفقك يا أبا عبد الله ما مسئلتك؟ فقلت في نفسي: لو لم يكن لي في زيارته و التسليم عليه غير هذا الدعاء لكان كثيرا.

ثم رفع رأسه فقال: ما مسئلتك؟ قلت: سألت الله أن يعطف على قلبك و يرزقني من علمك و أرجو أن الله تعالى أجابني في الشريف ما سألته.

فقال: يا أبا عبد الله ليس العلم بالتعلم و إنما هو نور يقع على قلب من يريد الله تبارك و تعالى أن يهديه، فإن أردت العلم فاطلب أولا في نفسك حقيقة العبودية و اطلب العلم باستعماله، و استفهم الله يفهمك.

قلت: يا شريف، قال: يا أبا عبد الله، قلت: يا أبا عبد الله ما حقيقة العبودية؟

قال: ثلاثة أشياء أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوله الله ملكا لأن العبيد لا يكون لهم ملك، يرون المال مال الله يضعونه حيث أمرهم الله به، و لا يدبر العبد لنفسه تدبيرا و جعل اشتغاله فيما أمره الله تعالى به و نهاه عنه، فإذا لم ير العبد لنفسه فيما خوله الله ملكا هان عليه الإنفاق فيما أمره الله تعالى أن ينفق فيه و إذا فوض العبد تدبير نفسه إلى مدبره هان عليه مصائب الدنيا، و إذا اشتغل العبد بما أمره الله تعالى و نهاه لا يتفرغ منهما إلى المراء و المباهاة مع الناس، و إذا أكرم الله العبد بهذه الثلاثة هان عليه الدنيا و إبليس و الخلق، و لا يطلب الدنيا تكاثرا أو تفاخرا و لا يطلب ما عند الناس عزا و علوا و لا يدع أيامه باطلا، فهذا أول درجة التقى، قال الله تعالى: تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض و لا فسادا و العاقبة للمتقين‏.

قلت: يا أبا عبد الله أوصني، فقال: اوصيك بتسعة أشياء فانها وصيتي لمريدي الطريق إلى الله تعالى، و الله أسأل أن يوفقك لاستعماله:

ثلاثة منها في رياضة النفس، و ثلاثة منها في الحلم، و ثلاثة منها في العلم فاحفظها، و إياك و التهاون بها، قال عنوان: ففرغت قلبي له.

قال: أما اللواتي في الرياضة: فاياك أن تأكل ما لا تشتهيه فانه يورث الحماقة و البله، و لا تأكل إلا عند الجوع، و إذا أكلت فكل حلالا، و سم الله‏ و ذكر حديث الرسول صلى الله عليه و آله: ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه فإن كان و لا بد فثلث لطعامه، و ثلث لشرابه، و ثلث لنفسه.

فأما اللواتي في الحلم: فمن قال لك إن قلت واحدة سمعت عشرا فقل له إن قلت عشرا لم تسمع واحدة، و من شتمك فقل إن كنت صادقا فيما تقول فأسئل الله أن يغفر لي، و إن كنت كاذبا فيما تقول فأسئل الله أن يغفر لك، و من وعدك بالخنى فعده بالنصيحة و الدعاء.

و أما اللواتي في العلم: فاسئل العلماء ما جهلت، و إياك أن تسئلهم تعنتا و تجربة، و إياك أن تعمل برأيك شيئا، و خذ بالاحتياط في جميع ما تجد إليه سبيلا، و اهرب من الفتيا هربك من الأسد، و لا تجعل رقبتك في الناس جسرا قم عني يا أبا عبد الله فقد نصحت لك و لا تفسد على وردى فإني امرؤ ضنين بنفسي و السلام على من اتبع الهدى، منقول كله من خط س. انتهى ما أتى به الشيخ- ره- في الكشكول.

قلت: تأمل يا باغى السداد و طالب الرشاد و سالك الطريق إلى رب العباد في هذه الصحيفة المكرمة التي كتبت بقلم الولاية و انتقشت بما كله نور و هداية.

و اخاطب نفسي الخاطئة فأقول لها: أيتها الهالكة ما غرك بربك الكريم تعمل عنده الأعمال الفاضحة، قومى و سافرى إلى من خلقك فسواك فعدلك في أى صورة ما شاء ركبك، ألا ترى أن ما سواه معتكف ببابه و مالك لا تطير إلى جنابه، صرفت العمر في قيل و قال، و ضيعته في الجواب و السئوال، قومى فاغتنمى الفرصة، و اخلصى من الغصة، إياك و التسويف فإنه مبير الوضيع و الشريف، عليك بالحضور عند ربك الغفور فإن الحضور يورث النور بل النور على النور و الله نور السموات و الأرض و جمالهما جل جلاله و عم نواله، أما قرأت الكتاب الحكيم القرآن العظيم يقول قائله عز اسمه و له الأسماء الحسنى: من جاهد فينا لنهدينهم سبلنا، ألا رأيت كلام إمامك كشاف الحقائق أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق: ليس العلم بالتعلم و إنما هو نور يقع على قلب من يريد الله تبارك و تعالى أن يهديه.

اگر بودى كمال اندر نويسائى و خوانائى‏ چرا آن قبله كل نانويسا بود و ناخوانا

إلى متى في فراش الغفلة و اتخذى لك الخلوة، و انتبهى من النوم، و توبى نصوحا في اليوم، و عليك بالسكوت و الصوم، و قومى عن العشيرة و القوم، و يا نفسي الاثمة الجانية و ازهدى في الدنيا الفانية فإن حبها جب كل عطية و رأس كل خطيئة، أعرضى عن دار الغرور، و توجهى إلى نور كل نور، لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا، و عسى أن تأتيه فردا.

اى شده مغرور بدار غرور قد خسر الغافل يوم النشور
اى كه فتادى ز ره عشق دور ألا إلى الله تصير الامور
از چه ندارى خبر از خويشتن‏ يار حضور و تو ندارى حضور
و ما إخالك بناج لما يداك قد حصلنا من شرور
و لا تخافن سوى نفسكا ترس تو بيجا است ز مرگ و ز گور
و الله قد أظهر آياته‏ بيخبر است گر چه دل و ديده كور
هر چه توانى بره عشق كوش‏ كامده از عشق همه در ظهور
دست ز أنبان شكم باز دار تا كه دلت نور دهد همچو هور
هل كان عبد البطن عبد الإلاه‏ ظلمتى از پرتو و نور است دور
آن بطلب كو بود أصل مراد إياك و الزهد لوجدان حور
باش همى در ره ديدار يار إن شئت عيشا دائما في السرور
اين سر بيهوش تو از خيرگى‏ لما يفيقن إلى نفخ صور
اين دل زنگار تو را راه نيست‏ في ساحة القدس من الله نور
نعم لئن تبت نصوحا عسى‏ أن يغفر الله الرحيم الغفور
في ظلمة الليل تناجى الإلاه‏ تكلم الله كموسى بطور
و ابك بكاء عاليا قانتا عند صلاة ليلك بالحضور
نيست گرت مرده دلى بهر چه‏ لست لربك بعبد شكور

 

مرد خدا را حسنا روى دل‏ سوى حضور است نه حور و قصور

فيامن خلقنى من العدم، يا من كرم بني آدم يا نور المستوحشين في الظلم يا شاهد كل نجوى، يا من إليه الكل يسعى، يا من هو بدنا اللازم، يا من جرى في الخلق حكمه الجازم، يا من إلى بابه ألوذ، يا من به من شر نفسى أعوذ، يا من تحير فيه ما سواه، يا من نطق به الألسن و الأفواه.

اى كه زبانها به تو گوياستي‏ ايكه دل و ديده بيناستي‏
اى كه صفات تو و ذاتت نكو است‏ اى كه ز هر عيب مبراستى‏
اى كه ز نور رخ زيباى تو روى همه خرم و زيباستي‏
اى كه سزاى دل شوريدگان‏ شورشى از عشق تو برپاستي‏
اى كه ز تو مرغ شباهنگ را ناله جانسوز سحرهاستى‏
دست حسن گير و رهائيش ده‏ اى كه ز راز دلش آگاستى‏

و أما الثالثة فهى مكاتبة جرت بين العالمين الشيخ أبي سعيد بن أبي الخير و الشيخ الرئيس أبي علي بن سينا و لما رأينا كثرة فوائدها أتينا بها مزيدا للفائدة و قد نقلها الشيخ البهائى في أواخر الكشكول (ص 623 من طبع نجم الدولة و ص 595 ج 2 من طبع قم)، و لكن صورتها على طبع قم مشوشة بل مشوهة جدا، و هي منقوله أيضا في نامه دانشوران في ترجمة الشيخ الرئيس أكمل مما في الكشكول و قد نقل القاضى نور الله الشهيد نبذة من كلام الشيخ الرئيس في مجالس المؤمنين و هذه صورتها:كتب الشيخ أبو سعيد بن أبي الخير إلى الشيخ الرئيس أبي علي بن سينا أيها العالم وفقك الله لما ينبغي، و رزقك من سعادة الأبد ما تبتغي، إني من الطريق المستقيم على يقين إلا أن أودية الظنون على الطريق المستجد (الجد- خ) متشعبة، و إني من كل طالب طريقه لعل الله يفتح لي من باب حقيقة حاله بوسيلة تحقيقه و صدقة تصديقه، و إنك بالعلم وفقت لموسوم، بمذاكرة أهل هذا الطريق مرسوم، فأسمعنى ما رزقت، و بين لي ما عليه وقفت، و إليه وفقت، و اعلم أن التذبذب بداية حال الترهب، و من ترهب ترأب، و هذا سهل جدا، و عسر إن عد عدا، و الله ولي التوفيق.

فأجابه الشيخ الرئيس: وصل خطاب فلان مبينا ما صنع الله تعالى لديه (إليه- خ) و سبوغ نعمه عليه، و الاستمساك بعروة الوثقى، و الاعتصام بحبله المتين و الضرب في سبيله، و التولية شطر التقرب إليه، و التوجه تلقاء وجهه، نافضا عن نفسه غبرة هذه الخربة، رافضا بهمته الاهتمام بهذه القذرة- أعز وارد و أسر واصل و أنفس طالع و أكرم طارق، فقرأته و فهمته و تدبرته و كررته و حققته في نفسي و قررته فبدأت بشكر الله واهب العقل و مفيض العدل، و حمدته على ما أولاه، و سألته أن يوفقه في اخراه و اولاه، و أن يثبت قدمه على ما توطاه، و لا يلقيه إلى ما تخطاه، و تزيده إلى هدايته هداية، و إلى درايته التي آتاه دراية، إنه الهادي المبشر و المدبر المقدر، عنه يتشعب كل أثر، و إليه يستند الحوادث و العبر (الغير- خ) و كذلك تقضى الملكوت، و يقضى الجبروت و هو من سر الله الأعظم يعلمه من يعلمه و يذهل عنه من لا يعصمه، طوبى لمن قاده القدر إلى زمرة السعداء، و حادبه عن رتبة الأشقياء، و أوزعه استرباح البقاء من رأس مال الغنى، و ما نزهة هذا العاقل في دار يتشابه فيها عقبي مدرك و مفوت، و يتساويان عند حلول وقت موقت، دار أليمها موجع، و لذيذها مشبع، و صحتها قسر الأضداد (قران الأضداد- خ) على وزن و اعداد، و سلامتها استمرار فاقة إلى استمراء مذاقة، و دوام حاجة إلى مج مجاجة.

نعم و الله ما المشغول بها إلا مثبط، و المتصرف فيها إلا مخبط، موزع البال بين ألم و يأس، و نقود و أجناس، أخيذ حركات شتى، و عسيف أوطار تترى و أين هو من المهاجرة إلى التوحيد، و اعتماد النظام بالتفريد، و الخلوص من التشعب إلى التراب، و عن التذبذب إلى التهذب، و عن ناد (باد- خ) يمارسه إلى‏ أبد يشارقه، هناك اللذة حقا، و الحسن صدقا، سلسال كلما سقيته على الرى كان أهنى و أشفى، و رزق كلما أطعمته على الشبع كان أغذى و أمرى‏ء، رى استبقاء لارى إباء، و شبع استشباع لا شبع استبشاع.

و نسأل الله تعالى أن يجلو عن أبصارنا الغشاوة، و عن قلوبنا القساوة، و أن يهدينا كما هداه، و يؤتينا مما آتاه، و أن يحجز بيننا و بين هذه الغارة الغاشة البسور في هيأة الباشة، المعاسرة في حلية المياسرة، المفاصلة في معرض المواصلة و أن يجعله إمامنا فيما آثر و أثر، و قائدنا إلى ما صار إليه و سار، إنه ولى ذلك.

فأما ما التمسه من تذكرة ترد منى و تبصرة تأتيه من قبلى و بيان يشفيه من كلامى فكبصير استرشد من مكفوف، و سميع استخبر عن موقور السمع غير خبير فهل لمثلى أن يخاطبه بموعظة حسنة، و مثل صالح، و صواب مرشد، و طريق أسنه له منفذ، و إلى غرضه الذي أمه منفذ؟.

و مع ذلك فليكن الله تعالى أول فكره و آخره، و باطن اعتباره و ظاهره و لتكن عين نفسه مكحولة بالنظر إليه، و قدمها موقوفة على المثول بين يديه مسافرا بعقله في الملكوت الأعلى، و ما فيه من آيات ربه الكبرى، فإذا انحط إلى قراره فلير الله في آثاره فإنه باطن ظاهر تجلى بكل شي‏ء لكل شي‏ء.

ففي كل شي‏ء له آية تدل على أنه واحد

فإذا صارت هذه الحال ملكة، و هذه الخصلة وتيرة، انطبع في فصه نقش الملكوت، و تجلى له آية قدس اللاهوت، فألف الأنس الأعلى، و ذاق اللذة القصوى، و أخذ عن نفسه إلى من هوبه أولى، و فاضت عليه السكينة، و حفت به الطمأنينة، و اطلع على الأدنى اطلاع راحم لأهله مستوهن بحبله (بخيله- خ):مستخف لثقله، مستحسن لفعله، مستطل لطرفه، و يذكر نفسه و هي بهجة فتعجب منهم تعجبهم منه، و قد ودعها و كان معها كمن ليس معها.

و ليعلم أن أفضل الحركات الصلاة، و أمثل السكنات الصيام، و أرفع (أنفع- خ) البر الصدقة (و أفضل البر العطا- خ) و أزكى السير الاحتمال، و أبطل السعى‏ الرياء (و أفضل السعى المراياة- على نسخة مجالس المؤمنين)، و لن تخلص النفس عن البدن ما التفتت إلى قيل و قال، و مناقشة و جدال، و انقلعت بحالة من الأحوال، و خير العمل ما صدر عن مقام نية (عن خالص نية- خ) و خير النية ما ينفرج عن جناب علم، و الحكمة ام الفضائل، و معرفة الله أول الأوائل، إليه يصعد الكلم الطيب، و العمل الصالح يرفعه، أقول قولي هذا و أستغفر الله و أستهديه و أتوب إليه و أستكفيه، و أسأله أن يقربنى إليه إنه سميع مجيب.

ثم يقبل على هذه النفس المزينة بكمالها الذاتي، و يحرسها عن التلطخ بما يشينها من الهيئات الانقيادية للنقوش المادية التي إذا بقيت في النفس المزينة كانت حالها عند الانفصال كحالها عند الاتصال، إذ جوهرها متثاوب و لا مخالطة و إنما يدنسها هيئة الانقياد لتلك الصواحب بل يفيدها هيئات الاستيلاء و الاستعلاء و الرياسة و لذلك يهجرا كذب قولك، و يخلى حتى تحدث للنفس هيئة صدوقة فيصدق الأحلام و الرؤيا و اللذات، فليستعملها على اصلاح الطبيعة و إلقاء الشخص و النوع و السياسة.

و أما المشروب فأن يهجر شربه ملهيا بل تشفيا تداويا، و يعاشر كل فرقة بعادته و رسمه، و يسمح بالمقدور من المال و يترك لمساعدة الناس كثيرا ما هو خلاف طبعه، ثم لا يقصر في الأوضاع الشرعية، و تعظيم السنن الإلهية و المواظبات على التعبدات البدنية، و يكون دوام عمره إذا خلا و خلص من المعاشرين، نظر بالروية و الفكرة في الملوك الأول و ملكها، و اكبس عن عثار الناس من حيث لا تقف على الناس، عاهد الله أن تسير بهذه السيرة و تدين بهذه الديانة، و الله ولي الذين آمنوا حسبنا الله نعم الوكيل.

هذا آخر المكاتبة، و قد نقل منها الشيخ في الكشكول- إلى قوله: إنه سميع مجيب، و نقلنا بعده من نامه دانشوران، و نقل القاضي نور الله الشهيد نور الله مرقده في المجالس بعد قوله: إنه سميع مجيب، هذا السطر أيضا: و الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على خير خلقه محمد و آله أجمعين.

14- كن عالي الهمة، على حد لا تعبد إلا إياه تعالى، و لا تكن في إعراضك عن متاع الدنيا و طيباتها معاملا و لا في عباداتك أجيرا، و كن كما نطق به الناطق بالصواب ميزان يوم الحساب، و فصل الخطاب أمير المؤمنين و سيد الوصيين علي عليه السلام: ما عبدتك خوفا من نارك و لا طمعا في جنتك بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك.

تو بندگى چو گدايان بشرط مزد مكن‏ كه خواجه خود صفت بنده‏پرورى داند

و في الباب التاسع عشر من مصباح الشريعة: قال النبي صلى الله عليه و آله: قال الله تعالى:من شغله ذكري عن مسئلتي أعطيته أفضل ما أعطى للسائلين.

و روى ثقة الإسلام الكليني في باب العبادة من كتاب الإيمان و الكفر من اصول الكافي (ص 68 ج 2 من المعرب) باسناده عن هارون بن خارجة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن العباد ثلاثة: قوم عبدوا الله عز و جل خوفا فتلك عبادة العبيد و قوم عبدوا الله تبارك و تعالى طلب الثواب فتلك عبادة الاجراء، و قوم عبدوا الله عز و جل حبا له فتلك عبادة الأحرار و هي أفضل العبادة.

و رواه ابن شعبة رحمة الله عليه في تحف العقول عن سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين عليه السلام أيضا، حيث قال عليه السلام: إن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار و إن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، و إن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار و هي أفضل العبادة، و هذا بعينه منقول في النهج عن أمير المؤمنين عليه السلام (المختار 237 من باب حكمه عليه السلام).

فكن من أهل الله لا من أهل الدنيا و لا من أهل الاخرة، و حقيقة الزهد أن يزهد في الدنيا و الاخرة، كما قال رسول الله صلى الله عليه و آله: الدنيا حرام على أهل الاخرة، و الاخرة حرام على أهل الدنيا، و هما حرامان على أهل الله.

و في ذلك الباب من الكافي بإسناده عن عمرو بن جميع، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله: أفضل الناس من عشق العبادة فعانقها و أحبها بقلبه‏ و باشرها بجسده و تفرغ لها، فهو لا يبالي على ما أصبح من الدنيا على عسر أم على يسر.

أقول: هذه الرواية قد نطقت بالعشق، و في عشق من سفينة البحار للمحدث القمي رحمة الله عليه: النبوي صلى الله عليه و آله أن الجنة لأعشق لسلمان من سلمان للجنة.

و في تاسع البحار (ص 580) عن الخرائج: روي عن أبي جعفر عليه السلام، عن أبيه قال: مر على عليه السلام بكربلا فقال لما مر به أصحابه و قد اغرورقت عيناه يبكى و يقول: هذا مناخ ركابهم، و هذا ملقى رحالهم، ههنا مراق دمائهم، طوبى لك من تربة عليها تراق دماء الأحبة، و قال الباقر عليه السلام خرج على يسير بالناس حتى إذا كان بكربلا على ميلين أو ميل تقدم بين أيديهم حتى طاف بمكان يقال له المقدفان فقال: قتل فيها مائتا نبي و مائتا سبط، كلهم شهداء و مناخ ركاب و مصارع عشاق شهداء لا يسبقهم من كان قبلهم و يلحقهم من بعدهم.

و كم نرى من المقدسين الخشك يطعنون في أهل الله باطلاقهم العشق و مشتقاته قائلين بأن أى خبر نطق به؟ و هذا خبرهم بل هذه أخبارهم، على أنه لو لم يأت به أثر في الجوامع الروائية لكانت حجتهم داحضة و كلمتهم سفلى.

و في الباب الرابع و الخمسين من إرشاد القلوب للديلمي و هو آخر أبواب الكتاب فيما سأل رسول الله صلى الله عليه و آله ربه ليلة المعراج: يا أحمد وجوه الزاهدين مصفرة من تعب الليل و صوم النهار، و ألسنتهم كلال من ذكر الله تعالى، قلوبهم في صدورهم مطعونة من كثرة صمتهم قد أعطوا المجهود من أنفسهم لا من خوف نار و لا من شوق جنة و لكن ينظرون في ملكوت السموات و الأرض فيعلمون أن الله سبحانه أهل للعبادة، يا أحمد هذه درجة الأنبياء و الصديقين من امتك و امة غيرك و أقوام من الشهداء- إلخ.

و في باب اتباع الهوى من كتاب الايمان و الكفر من اصول الكافي (ص 251 ج 2 من المعرب) عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله: يقول الله عز و جل: و عزتي و جلالي و عظمتى و كبريائى و نورى و علوى و ارتفاع مكاني لا يؤثر عبد هواه على هواى إلا شتت عليه أمره و لبست عليه دنياه و شغلت قلبه بها و لم اوته منها إلا ما قدرت له، و عزتى و جلالى و عظمتى و نوري و علوي و ارتفاع مكانى لا يؤثر عبد هواى على هواه إلا استحفظته ملائكتى و كفلت السموات و الأرضين رزقه و كنت له من وراء تجارة كل تاجر و أتته الدنيا و هي راغمة.

و إذا ذقت حلاوة ذكره تعالى و أنست به و رزقت جنة اللقاء لا تطلب منه تعالى إلا إياه و تنسى غيره، كما في الباب التاسع عشر من مصباح الشريعة قال الصادق عليه السلام: لقد دعوت الله مرة فاستجاب لي و نسيت الحاجة لأن استجابته بإقباله على عبده عند دعوته أعظم و أجل مما يريد منه العبد و لو كانت الجنة و نعيمها الأبدى، و ليس يعقل ذلك إلا العاملون المحبون العارفون صفوة الله و خواصه انتهى.

و كأنما الشيخ العارف السعدى رضوان الله عليه يشير إلى قوله عليه السلام، حيث زين مطلع گلستانه بو رد بيانه: يكى از صاحبدلان سر بجيب مراقبت فرو برده و در بحر مكاشفت مستغرق گشته، حالى كه از آن حالت باز آمد، يكى از دوستان گفت: در اين بوستان كه بودى ما را چه تحفه آوردى؟ گفت بخاطر داشتم كه چون بدرخت گل رسم دامنى پر كنم هديه أصحاب را، چون برسيدم بوى گلم چنان مست كرد كه دامن از دست برفت، و لقد أجاد، طيب الله رمسه و قدس سره.

فمن عبد الله تعالى طلب الثواب أو خوفا من العقاب فهو محروم عن اللذة الحقيقية، بل إنك إن فتشته لم تجده إلا عابد هواه إن عبده تعالى رغبة، أو محبا لنفسه لا لمولاه إن عبده رهبة، و قد أفاد الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا تغمده الله بغفرانه في مقامات العارفين بقوله:المستحل توسيط الحق مرحوم من وجه فإنه لم يطعم لذة البهجة به فيستطعمها إنما معارفته مع اللذات المخدجة فهو حنون إليها غافل عما ورائها، و ما مثله بالقياس إلى العارفين إلا مثل الصبيان بالقياس إلى المحنكين، فانهم لما غفلوا عن طيبات يحرص عليها البالغون، و اقتصرت بهم المباشرة على طيبات اللعب صاروا يتعجبون من أهل الجد إذا زوروا عنها عائفين لها عاكفين على غيرها، كذلك من غض النقص بصره عن مطالعة بهجة الحق أعلق كفيه بما يليه من اللذات لذات الزور، فتركها في دنياه عن كره، و ما تركها إلا ليستأجل أضعافها و إنما يعبد الله تعالى و يطيعه ليخوله في الاخرة شبعه منها فيبعث إلى مطعم شهى و مشرب هنى‏ء و منكح بهى، و إذا بعثر عنه فلا مطمح لبصره في اولاه و اخراه إلا إلى لذات قبقبه و ذبذبه، و المستبصر بهداية القدس في شجون الإيثار قد عرف اللذة الحق و ولى وجهه سمتها مسترحما على هذا المأخوذ عن رشده إلى ضده، و إن كان ما يتوخاه بكده مبذولا له بحسب وعده.

15- التوبة و هي لا تنفك عمن استبصر و إلا فليس بمستبصر، و لا أنسى عذوبة كلام سيدنا الاستاذ محمد حسن الإلهى المقدم ذكره قدس سره، و لطافة بيانه في التوبة حيث قال: التوبة الحقيقية أن تتوب من خيرك و شرك، و بعد تأمل قليل قلت له: أما التوبة من الشر فلا كلام فيها، و أما التوبة من الخير فما مراد جنابك منها؟

فقال رضوان الله عليه: ما نحسبها خيرا من صلاتنا و صيامنا و قراءتنا القرآن و دراستنا و غيرها لو تأملنا فيها لرأيناها مخدجة غير كاملة- و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا- فيجب على المستبصر أن يتوب من هذه الأعمال الناقصة، و أن يقصد الإتيان بها على النحو الكامل الذي يتقبل الله و انما يتقبل الله من المتقين، فما حسبناه خيرا ليس بخير حقيقة، فطوبى لمن وفق بالتوبة مما حسبه خيرا و عمل ما هو خير واقعا.

و التوبة تذهب بدرن القلب، و تزيل رينه فإذا يستبصر التائب بدائه و دوائه و يخرج من ذنوبه كيوم ولدته امه، قال الامام الباقر عليه السلام: التائب من الذنب كمن لا ذنب له، و إذا تخلصت النفس من الرذائل و تنزهت من أوساخ الذنوب فقد قبلت توبته، و أما البحث الكلامى عن التوبة فقد أشبعنا الكلام فيه في شرحنا على المختار 235 من خطب النهج من كتابنا تكملة منهاج البراعة (ص 171- إلى- 201 من ج 15).

و قال السيد بن طاوس قدس سره الشريف في أعمال شهر ذى القعدة من كتابه الإقبال: فصل: فيما نذكره مما يعمل في يوم الأحد من الشهر المذكور و ما فيه من الفضل المذخور وجدنا ذلك بخط الشيخ علي بن يحيى الخياط رحمه الله و غيره في كتب أصحابنا الامامية و قد روينا عنه كلما رواه و خطه عندنا بذلك في إجازة تاريخها شهر ربيع الأول سنة تسع و ستمائة فقال ما هذا لفظه:روى أحمد بن عبد الله، عن منصور بن عبد الحميد، عن أبي أمامة، عن أنس بن مالك قال: خرج رسول الله صلى الله عليه و آله يوم الأحد في شهر ذى القعدة فقال: يا أيها الناس من كان منكم يريد التوبة؟ قلنا: كلنا يريد التوبة يا رسول الله، فقال عليه السلام:اغتسلوا و توضأوا و صلوا أربع ركعات و اقراوا في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة قل هو الله أحد ثلاث مرات و المعوذتين مرة ثم استغفروا سبعين مرة ثم اختموا بلا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم قولوا: يا عزيز يا غفار اغفر لى ذنوبى و ذنوب جميع المؤمنين و المؤمنات فانه لا يغفر الذنوب إلا أنت.

ثم قال عليه السلام: ما من عبد من امتى فعل هذا إلا نودى من السماء يا عبد الله استأنف العمل فإنك مقبول التوبة مغفور الذنب.

و ينادى ملك من تحت العرش أيها العبد بورك عليك و على أهلك و ذريتك.

و ينادى مناد آخر أيها العبد ترضى خصماؤك يوم القيامة.

و ينادى ملك آخر أيها العبد تموت على الإيمان و لا أسلب منك الدين و يفسح في قبرك و ينور فيه.

و ينادى مناد آخر أيها العبد يرضى أبواك و إن كانا ساخطين و غفر لأبويك ذلك و لذريتك و أنت في سعة من الرزق في الدنيا و الاخرة.

و ينادى جبرئيل عليه السلام: أنا الذي آتيك مع ملك الموت عليه السلام أن يرفق بك و لا يخدشك أثر الموت انما تخرج الروح من جسدك سلا (سلاما- خ).

قلنا: يا رسول الله لو أن عبدا يقول في غير الشهر؟ فقال عليه السلام: مثل ما وصفت‏

و إنما علمنى جبرئيل عليه السلام هذه الكلمات أيام الله ربى (أيام اسرى بى- خ).

و نذيل الرسالة بقصيدة الفارسية تفوه بها هذا الراجي لقاء ربه الرحيم و قد فرغ منها في أوائل ذى الحجة 1388 ه ق، و سماها بالقصيدة اللقائية:

اى دل بدر كن از سرت كبر و ريا را خواهى اگر بينى جمال كبريا را
تا با خودى بيگانه‏اى از آشنايان‏ بيگانه شو از خود شناسى آشنا را
عنقاى أوج قاف قرب دلبر من‏ در زير پر بگرفته كل ما سوا را
در پايتخت كشور دل پادشاهى‏ منگر مگر سلطان يهدي من يشا را
مرآت أسماء و صفات حق بود دل‏ مشكن چنين آيينه ايزد نما را
اى همدم كر و بيان عالم قدس‏ از خود بدر كن لشكر ديو دغا را
تا از سواد و از خيال و از بياضت‏ فانى شوى بينى جهان جان فزا را
گر جذبه‏اى از جانب جانانه يابى‏ بازيچه خوانى جذب كاه و كهربا را
گاهى ز اشراق رخ مهر آفرينش‏ بر آسمان جان دهد رشك ضيا را
گاهى ز زلف مشكساى دلربايش‏ آشفته خود مى‏كند أحوال ما را
دل در ميان اصبعين او است دائم‏ از قبض و بسطش فهم كن اين مدعا را
الله قد خلقكم أطوارا أى قوم‏ كيف فلا ترجون لله وقارا
در آستان لطف آن محبوب يكتا دريوزه گر بينم همه شاه و گدا را
تسبيح گوى ذات پاك لا يزاليش‏ بنگر ز ذرات ثريا تا ثرى را
بنيوش از من باش دائم در حضورش‏ تا در حضور او چه‏ها يابى چه‏ها را
گر تار و پود بودم از هم بر شكافى‏ جز او نخواهى يافت اين دولت‏سرا را
در چشم حق بينم من او او من نباشد يكتاپرستم من نمى‏دانم دو تا را
عشق منش از گفته استاد نبود نوشيده‏ام با شير مادر اين غذا را
تنها نه من سرگشته‏ام ز ان رو كه بينم‏ نالان و سرگردان او أرض و سما را
تنها نه من در حيرتم از سر انسان‏ بل صار فيه القوم كلهم حيارى‏
فكرى بكن بنگر كه‏اى و در كجائى‏ هم از كجا بودى و مى‏خواهى كجا را

 

دردا كه ما را آگهى از خويش نبود ور نه بما كردى عطا كشف غطا را
دردت اگر باشد پى درمان دردت‏ از چه نجوئى از طبيب خود دوا را
يارت دهد اندر حريم خويش بارت‏ مر آزمونرا گوى از اخلاص يا را
بيدار باش و در ره زاد أبد كوش‏ بگسل ز خود دام هوسها و هوا را
بر آب زن اوراق نقش اين و آنرا بر دل نشان أحكام قرآن و دعا را
در خلوت شبهاى تارت مى‏توانى‏ آرى بكف سرچشمه آب بقا را
گوئى خليل‏آسا اگر وجهت وجهى‏ گردد بتو راز نهانى آشكارا
تسليم باش و سر بنه اندر رضايش‏ بر بند لب از گفتن چون و چرا را
از رحمت بى انتهاى خويش دارد وابسته دام بلا أهل ولا را
زاهد بود سوداگر و عابد أجيرى‏ محو است و طمس و محق أرباب وفا را
آيين مردان خدا تقوى است تقوى‏ مرزوق عند الله بين أهل تقى را
ره رو چنانكه مردم هشيار رفتند راهى مبين جز راه و رسم مصطفى را
گر مشكلى پيش آيدت ايسالك ره‏ ناد عليا آن شه مشكل گشا را
خواهى روى اندر مناى عاشقانش‏ بار سفر بر بند سوى كربلا را
گفتار نيكو بايد و كردار نيكو تا در جزاى اين و آن يابى لقا را
أبناء نوعت را ز خود خوشنود مى‏دار خواهى ز خود خوشنود أر دارى خدا را
بيچاره‏ايم اى چاره بيچاره‏گانت‏ جز تو كه يارد دست ما گيرد نگارا
عارم بود از اين كليمى أربعينم‏ از جود تو دارم من اميد عطا را
تسخير خود كن نجم را آنسان كه كردى‏ تسخير خود مهر و مه و استاره‏ها را

و قد فرغنا من تأليف هذه الرسالة اللقائية في بلدنا الامل وقت السحر من ليلة الاثنين السادسة عشر من ربيع المولود من شهور سنة تسع و ثمانين و ثلاثمائة بعد الألف من الهجرة على هاجرها الف تحية و سلام، رزقنا الله تعالى القرب منه و نعمة لقائه.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی

____________________________________________________________

[1] ( 1) هكذا فى ذلك الطبع بالسين المهملة فى الاول و الاخر، و فى طبع قم بالشين المعجمة و قال صديقنا الفاضل محمد صادق النصيرى زاده الله تعالى نصرا فى تعاليقه على الكشكول، كلمة شين المعجمة اشارة الى مجموعة الشهيد الثاني- ره-، منه.

نهج البلاغه نامه ها نامه شماره 28/2 شرح میر حبیب الله خوئی(به قلم علامه حسن زاده آملی )[رسالة منفردة في لقاء الله تعالى‏]

نامه ۲۸ صبحی صالح

۲۸- و من کتاب له ( علیه ‏السلام  ) إلى معاویه جوابا قال الشریف و هو من محاسن الکتب

أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ أَتَانِی کِتَابُکَ تَذْکُرُ فِیهِ اصْطِفَاءَ اللَّهِ مُحَمَّداً ( صلى ‏الله‏ علیه ‏وآله  )لِدِینِهِ وَ تَأْیِیدَهُ إِیَّاهُ لِمَنْ أَیَّدَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ

فَلَقَدْ خَبَّأَ لَنَا الدَّهْرُ مِنْکَ عَجَباً إِذْ طَفِقْتَ تُخْبِرُنَا بِبَلَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا وَ نِعْمَتِهِ عَلَیْنَا فِی نَبِیِّنَا فَکُنْتَ فِی ذَلِکَ کَنَاقِلِ التَّمْرِ إِلَى هَجَرَ أَوْ دَاعِی مُسَدِّدِهِ إِلَى النِّضَالِ

وَ زَعَمْتَ أَنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ فِی الْإِسْلَامِ فُلَانٌ وَ فُلَانٌ فَذَکَرْتَ أَمْراً إِنْ تَمَّ اعْتَزَلَکَ‏ کُلُّهُ وَ إِنْ نَقَصَ لَمْ یَلْحَقْکَ ثَلْمُهُ وَ مَا أَنْتَ وَ الْفَاضِلَ وَ الْمَفْضُولَ وَ السَّائِسَ وَ الْمَسُوسَ

وَ مَا لِلطُّلَقَاءِ وَ أَبْنَاءِ الطُّلَقَاءِ وَ التَّمْیِیزَ بَیْنَ الْمُهَاجِرِینَ الْأَوَّلِینَ وَ تَرْتِیبَ دَرَجَاتِهِمْ وَ تَعْرِیفَ طَبَقَاتِهِمْ هَیْهَاتَ لَقَدْ حَنَّ قِدْحٌ لَیْسَ مِنْهَا وَ طَفِقَ یَحْکُمُ فِیهَا مَنْ عَلَیْهِ الْحُکْمُ لَهَا

أَ لَا تَرْبَعُ أَیُّهَا الْإِنْسَانُ عَلَى ظَلْعِکَ وَ تَعْرِفُ قُصُورَ ذَرْعِکَ وَ تَتَأَخَّرُ حَیْثُ أَخَّرَکَ الْقَدَرُ فَمَا عَلَیْکَ غَلَبَهُ الْمَغْلُوبِ وَ لَا ظَفَرُ الظَّافِرِ وَ إِنَّکَ لَذَهَّابٌ فِی التِّیهِ رَوَّاغٌ عَنِ الْقَصْدِ

أَ لَا تَرَى غَیْرَ مُخْبِرٍ لَکَ وَ لَکِنْ بِنِعْمَهِ اللَّهِ أُحَدِّثُ أَنَّ قَوْماً اسْتُشْهِدُوا فِی سَبِیلِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمُهَاجِرِینَ وَ الْأَنْصَارِ وَ لِکُلٍّ فَضْلٌ

حَتَّى إِذَا اسْتُشْهِدَ شَهِیدُنَا قِیلَ سَیِّدُ الشُّهَدَاءِ وَ خَصَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى‏الله‏علیه‏وآله  )بِسَبْعِینَ تَکْبِیرَهً عِنْدَ صَلَاتِهِ عَلَیْهِ

أَ وَ لَا تَرَى أَنَّ قَوْماً قُطِّعَتْ أَیْدِیهِمْ فِی سَبِیلِ اللَّهِ وَ لِکُلٍّ فَضْلٌ حَتَّى إِذَا فُعِلَ بِوَاحِدِنَا مَا فُعِلَ بِوَاحِدِهِمْ قِیلَ الطَّیَّارُ فِی الْجَنَّهِ وَ ذُو الْجَنَاحَیْنِ

وَ لَوْ لَا مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ تَزْکِیَهِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ لَذَکَرَ ذَاکِرٌ فَضَائِلَ جَمَّهً تَعْرِفُهَا قُلُوبُ الْمُؤْمِنِینَ وَ لَا تَمُجُّهَا آذَانُ السَّامِعِینَ فَدَعْ عَنْکَ مَنْ مَالَتْ بِهِ الرَّمِیَّهُ فَإِنَّا صَنَائِعُ رَبِّنَا وَ النَّاسُ بَعْدُ صَنَائِعُ لَنَا

لَمْ یَمْنَعْنَا قَدِیمُ عِزِّنَا وَ لَا عَادِیُّ طَوْلِنَا عَلَى قَوْمِکَ‏ أَنْ خَلَطْنَاکُمْ بِأَنْفُسِنَا فَنَکَحْنَا وَ أَنْکَحْنَا فِعْلَ الْأَکْفَاءِ وَ لَسْتُمْ هُنَاکَ وَ أَنَّى یَکُونُ ذَلِکَ

وَ مِنَّا النَّبِیُّ وَ مِنْکُمُ الْمُکَذِّبُ وَ مِنَّا أَسَدُ اللَّهِ وَ مِنْکُمْ أَسَدُ الْأَحْلَافِ وَ مِنَّا سَیِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّهِ وَ مِنْکُمْ صِبْیَهُ النَّارِ وَ مِنَّا خَیْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِینَ وَ مِنْکُمْ حَمَّالَهُ الْحَطَبِ فِی کَثِیرٍ مِمَّا لَنَا وَ عَلَیْکُمْ

فَإِسْلَامُنَا قَدْ سُمِعَ وَ جَاهِلِیَّتُنَا لَا تُدْفَعُ وَ کِتَابُ اللَّهِ یَجْمَعُ لَنَا مَا شَذَّ عَنَّا وَ هُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى‏ بِبَعْضٍ فِی کِتابِ اللَّهِ‏

وَ قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِیمَ لَلَّذِینَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِیُّ وَ الَّذِینَ آمَنُوا وَ اللَّهُ وَلِیُّ الْمُؤْمِنِینَ‏فَنَحْنُ مَرَّهً أَوْلَى بِالْقَرَابَهِ وَ تَارَهً أَوْلَى بِالطَّاعَهِ

وَ لَمَّا احْتَجَّ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى الْأَنْصَارِ یَوْمَ السَّقِیفَهِ بِرَسُولِ اللَّهِ ( صلى‏الله‏علیه‏وآله  )فَلَجُوا عَلَیْهِمْ فَإِنْ یَکُنِ الْفَلَجُ بِهِ فَالْحَقُّ لَنَا دُونَکُمْ وَ إِنْ یَکُنْ بِغَیْرِهِ فَالْأَنْصَارُ عَلَى دَعْوَاهُمْ

وَ زَعَمْتَ أَنِّی لِکُلِّ الْخُلَفَاءِ حَسَدْتُ وَ عَلَى کُلِّهِمْ بَغَیْتُ فَإِنْ یَکُنْ ذَلِکَ کَذَلِکَ فَلَیْسَتِ الْجِنَایَهُ عَلَیْکَ فَیَکُونَ الْعُذْرُ إِلَیْکَوَ تِلْکَ شَکَاهٌ ظَاهِرٌ عَنْکَ عَارُهَا

وَ قُلْتَ إِنِّی کُنْتُ أُقَادُ کَمَا یُقَادُ الْجَمَلُ الْمَخْشُوشُ حَتَّى أُبَایِعَ‏

  وَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ أَرَدْتَ أَنْ تَذُمَّ فَمَدَحْتَ وَ أَنْ تَفْضَحَ فَافْتَضَحْتَ

وَ مَا عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْ غَضَاضَهٍ فِی أَنْ یَکُونَ مَظْلُوماً مَا لَمْ یَکُنْ شَاکّاً فِی دِینِهِ وَ لَا مُرْتَاباً بِیَقِینِهِ وَ هَذِهِ حُجَّتِی إِلَى غَیْرِکَ قَصْدُهَا وَ لَکِنِّی أَطْلَقْتُ لَکَ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا سَنَحَ مِنْ ذِکْرِهَا

ثُمَّ ذَکَرْتَ مَا کَانَ مِنْ أَمْرِی وَ أَمْرِ عُثْمَانَ فَلَکَ أَنْ تُجَابَ عَنْ هَذِهِ لِرَحِمِکَ مِنْهُ فَأَیُّنَا کَانَ أَعْدَى لَهُ وَ أَهْدَى إِلَى مَقَاتِلِهِ أَ مَنْ بَذَلَ لَهُ نُصْرَتَهُ فَاسْتَقْعَدَهُ وَ اسْتَکَفَّهُ أَمْ مَنِ اسْتَنْصَرَهُ فَتَرَاخَى عَنْهُ وَ بَثَّ الْمَنُونَ إِلَیْهِ حَتَّى أَتَى قَدَرُهُ عَلَیْهِ

کَلَّا وَ اللَّهِ لَ قَدْ یَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِینَ مِنْکُمْ وَ الْقائِلِینَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَیْنا وَ لا یَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِیلًا.

وَ مَا کُنْتُ لِأَعْتَذِرَ مِنْ أَنِّی کُنْتُ أَنْقِمُ عَلَیْهِ أَحْدَاثاً فَإِنْ کَانَ الذَّنْبُ إِلَیْهِ إِرْشَادِی وَ هِدَایَتِی لَهُ فَرُبَّ مَلُومٍ لَا ذَنْبَ لَهُ وَ قَدْ یَسْتَفِیدُ الظِّنَّهَ الْمُتَنَصِّحُ‏

وَ مَا أَرَدْتُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَ ما تَوْفِیقِی إِلَّا بِاللَّهِ عَلَیْهِ تَوَکَّلْتُ وَ إِلَیْهِ أُنِیبُ‏

وَ ذَکَرْتَ أَنَّهُ لَیْسَ لِی وَ لِأَصْحَابِی عِنْدَکَ إِلَّا السَّیْفُ فَلَقَدْ أَضْحَکْتَ‏

بَعْدَ اسْتِعْبَارٍ مَتَى أَلْفَیْتَ بَنِی عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَنِ الْأَعْدَاءِ نَاکِلِینَ وَ بِالسَّیْفِ مُخَوَّفِینَ فَلَبِّثْ قَلِیلًا یَلْحَقِ الْهَیْجَا حَمَلْ‏

فَسَیَطْلُبُکَ مَنْ تَطْلُبُ وَ یَقْرُبُ مِنْکَ مَا تَسْتَبْعِدُ

وَ أَنَا مُرْقِلٌ نَحْوَکَ فِی جَحْفَلٍ مِنَ الْمُهَاجِرِینَ وَ الْأَنْصَارِ وَ التَّابِعِینَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ شَدِیدٍ زِحَامُهُمْ سَاطِعٍ قَتَامُهُمْ مُتَسَرْبِلِینَ سَرَابِیلَ الْمَوْتِ أَحَبُّ اللِّقَاءِ إِلَیْهِمْ لِقَاءُ رَبِّهِمْ

وَ قَدْ صَحِبَتْهُمْ ذُرِّیَّهٌ بَدْرِیَّهٌ وَ سُیُوفٌ هَاشِمِیَّهٌ قَدْ عَرَفْتَ مَوَاقِعَ نِصَالِهَا فِی أَخِیکَ وَ خَالِکَ وَ جَدِّکَ وَ أَهْلِکَ وَ ما هِیَ مِنَ الظَّالِمِینَ بِبَعِیدٍ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج۱۹  

[رسالة منفردة في لقاء الله تعالى‏]

بسم الله الرحمن الرحيم حمدا لك يا من شرف أولياءه بلقائه، و كرم أحباءه بالعكوف على فنائه سبحانك يا من انتجب أسرار أهله لرؤية جماله، و احتجب عن أبصار خليقته بحجاب جلاله، صل اللهم على مظهرك الأتم، و جامع الكلم و الحكم، المنزل عليه ما يهدي للتي هي أقوم، و آله خير الورى و أعلام الهدى و من اتبع هديهم من اولى النهى.

و بعد فيقول العبد الراجى لقاء ربه الكريم نجم الدين حسن بن عبد الله الطبري المدعو بحسن زاده الاملي بلغه الله و جميع المؤمنين إلى آمالهم، و رزقهم نعمة لقائه: يا أهل الوداد و السداد! و طالبى الهداية و الرشاد، يا إخوان الصفاء و خلان الوفاء، إلى متى و حتى متى جاز لنا الحرمان عن حرم الحب، و الخذلان في غيابة الجب؟ و ما لنا ألا نسير إلى نواحى القدس؟ و لا نطير إلى رياض الانس؟

أو ترون أنا خلقنا عبثا، أو تركنا سدى؟ نأكل و نتمتع كالأنعام السائمة، غافلين عن لقاء الله عز و جل إلى أن يدركنا الأجل، و يلهينا الأمل؟ كلا و حاشاكم عن هذا الظن و إن بعض الظن إثم‏ و اذكر ربك في نفسك تضرعا و خيفة و دون الجهر من القول بالغدو و الآصال و لا تكن من الغافلين إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته و يسبحونه و له يسجدون‏.

خليلى نحن نيام في فراش الغفلة، و قد أدبرت العاجلة و أقبلت الاخرة إن هؤلاء يحبون العاجلة و يذرون ورائهم يوما ثقيلا، يوما عبوسا قمطريرا، يوما كان شره مستطيرا.

قد أتى يوم تبلى فيه السرائر، و ما زرع في الأول يحصد في الاخر، فانظروا بما أسلفتم في الأيام الخالية، و اقرءوا ألواح أنفسكم تخبركم عن غدكم و أمسكم و رمسكم.

و استمع ما ذا يقول برهان السالكين و إمام المتقين و قائد الغر المحجلين علي أمير المؤمنين: احذروا عباد الله الموت و نزوله، و خذوا له فإنه يدخل بأمر عظيم خير لا يكون معه شر أبدا، و شر لا يكون معه خير أبدا، فمن أقرب إلى الجنة من عاملها، و من أقرب إلى النار من عاملها.

ليس أحد من الناس تفارق روحه جسده حتى يعلم إلى أى المنزلتين يصير إلى الجنة أم إلى النار؟ أعدو هو لله أم ولى له؟ فإن كان وليا فتحت له أبواب الجنة و شرع له طريقها، و نظر إلى ما أعد الله عز و جل لأوليائه فيها فرغ من كل شغل، و وضع عنه كل ثقل، و إن كان عدوا فتحت له أبواب النار و سهل له طريقها و نظر إلى ما أعد الله لأهلها و استقبل كل مكروه.

و اعلموا عباد الله أن ما بعد اليوم أشد و أدهى: نار قعرها بعيد، و حرها شديد، و عذابها جديد، و مقامعها حديد، و شرابها صديد، لا يفتر عذابها، و لا يموت ساكنها، دار ليس لله سبحانه فيها رحمة، و لا يسمع فيها دعوة.

فطوبى لمن انتبه عن النوم و تشمر الذيل لتدارك اليوم، ثم طوبى لمن راقب سره عما سوى الله و ما طالب إلا القرب منه و لقاءه و رضاه، فإنا امرنا ألا نعبد إلا إياه و لا نطلب إلا إياه، فوحد الله سبحانه بصدق السريرة حتى ترى بعين البصيرة أن لا هو إلا هو و لا إله إلا هو، فأينما تولوا فثم وجه الله، و هو الأول و الاخر و الظاهر و الباطن، و هو معكم أينما كنتم.

خليلي إني لأستحيي من نفسي فضلا عن غيرى بأن أقول: هذه رسالة عملتها يداي في لقاء الله تعالى، كيف لا و أنى لهذا المطرود عن صف النعال، بل المردود عن الباب أن يأتي فيه بكتاب؟ و هل هذا إلا الخروج عن الزى؟ و لا يخرج‏ عنه إلا البذى.

قال أفلاطن الالهى: إن شاهق المعرفة أشمخ من أن يطير إليه كل طائر و سرادق البصيرة أحجب من أن يحوم حوله كل سائر، (الفصل الرابع من شرح رسالة زينون الكبير اليونانى تلميذ ارسطاطاليس، للمعلم الثاني أبي نصر الفارابى ص 8 من طبع حيدرآباد الدكن).

و قال الشيخ الرئيس أبو علي سينا في آخر النمط التاسع من الإشارات في مقامات العارفين: جل جناب الحق عن أن يكون شريعة لكل وارد أو يطلع عليه إلا واحد بعد واحد.

و قال أبو الفتح يحيى بن حبش بن أميرك الملقب شهاب الدين السهروردي الحكيم المقتول: الفكر في صورة قدسية يتلطف بها طالب الأريحية، و نواحى القدس دار لا يطأها القوم الجاهلون و حرام على الأجساد المظلمة أن تلج ملكوت السماوات فوحد الله و أنت بتعظيمه ملان، و اذكره و أنت من ملابس الأكوان عريان، و لو كان في الوجود شمسان لا نطمست الأركان و أبى النظام أن يكون غير ما كان (نقلنا كلامه من تاريخ ابن خلكان) و قال العارف السنائى:

بار توحيد هر كسى نكشد طعم توحيد هر خسي نچشد

و قال العارف الرومى:

ياد او اندر خور هر هوش نيست‏ حلقه او سخره هر گوش نيست‏

و بالجملة هذا المحروم بقصور باعه مقر، في إقراره مصر، و على نفسه بصير، و بأمره خبير، يفوه من شدة الخجل أخفى من الهمس، و يبوه من كثرة الوجل كعليل دان حلوله في الرمس و يقول:

جز تو ما را هواى ديگر نيست‏ جز لقاى تو هيچ در سر نيست‏
اين ره است و دگر دوم ره نيست‏ اين در است و دگر دوم در نيست‏
دلگشاتر ز محضر قدست‏ محضر هيچ نيك محضر نيست‏
جانفزاتر ز نفحه انست‏ نفحه مشك و عود و عنبر نيست‏

 

خوشتر از گفته تو گفتارى‏ بهتر از دفتر تو دفتر نيست‏
دفترى بيكرانه دريائى‏ كاندرو هر خسى شناور نيست‏
نرسد تا بسر گفتارت‏ دست جانى اگر مطهر نيست‏
بهر وصف صفات نيكويت‏ در همه دهر يك سخنور نيست‏
آنچه را گفته‏اند و مى‏گويند از هزاران يكى مقرر نيست‏
كرمك شب فروز بى پا را قدرت وصف مهر خاور نيست‏
هر چه و هر كه را كه مى‏بينم‏ در حريم تو جز كه مضطر نيست‏
نبود ذره‏اى كه در كارش‏ تحت فرمان تو مسخر نيست‏
آنچه از صنع تو پديد آمد خير محض است و خردلى شر نيست‏
در همه نقش بو العجب كه بود وين عجب نقطه‏اى مكرر نيست‏
يار و دلدار و شاهد و معشوق‏ هر چه گويند جز تو دلبر نيست‏
ره نيابد بسويت آنكه درو تير عشقت نشسته تا پر نيست‏
بسرى شور عشقت ار نبود بحقيقت دم است و آن سر نيست‏
دل كه از نور تو نديده فروغ‏ تيره جانى بود منور نيست‏
برضاى تو سالك صادق‏ هر چه پيش آيدش مكدر نيست‏
كانچه آمد مقدر است همان‏ و آنچه كو نامده مقدر نيست‏
سالك راه را ره آوردى‏ جز خموشى و فكر آخر نيست‏
عاشق تشنه وصالت را خبر از هر چه هست يكسر نيست‏
بهر راز و نياز درگاهت‏ تن او را نياز بستر نيست‏
با تو محشور هم در امروز است‏ انتظارش بروز محشر نيست‏
آتشى كو فتاده در جانش‏ عين نار الله است و أخگر نيست‏
عاشقى كار شير مردانست‏ سخره كودكان معبر نيست‏
اوفتادن در آتش سوزان‏ جز كه در عهده سمندر نيست‏
آنچه عاشق كند تماشايش‏ اى برادر به ديده سر نيست‏

 

لذة خلوت شبانه او در گل قند و شهد و شكر نيست‏
مزه باده حضورش در چشمه سلسبيل و كوثر نيست‏
آنچه اندر حضور مى‏يابد خامه در شرح او توانگر نيست‏
عوض گريه سحرگاهش‏ گر بگويد اميد باور نيست‏
لاجرم آن سعيد فرزانه‏ در پى تاج و تخت و افسر نيست‏
هست ايمان باللهش سدى‏ كه چنو صد سد سكندر نيست‏
بهتر از لا إله إلا الله‏ هيچ حصنى و برج و سنگر نيست‏
اندرين كشور بزرگ جهان‏ جز خداى بزرگ داور نيست‏
كشتى ممكنات عالم را جز كه نام خداى لنگر نيست‏
آنچه پنهان و آشكار بود جز كه مجلاى يار و مظهر نيست‏
نيست جز او زدار و من في الدار نى كه همسنگ او و همسر نيست‏
قائل و قيل و قولى و قالا جز كه اطوار قول مصدر نيست‏
زين مثل آنچه بايدش گفتن‏ گفتم و بيش ازين ميسر نيست‏
اى كه دورى ز گلشن عشاق‏ جانت از بوى خوش معطر نيست‏
اى كه غافل ز حال خويشتنى‏ گويمت چون تو كورى و كر نيست‏
گر بدى كرده‏اى ز خود ميدان‏ گنه مهر و ماه و أختر نيست‏
تو بهشت خودى و دوزخ خود جز كه نفس تو مار و أژدر نيست‏
مسلم همدم هوا و هوس‏ مشركست و باسم كافر نيست‏
آن شكم ‏پرور است حيوانى‏ گر چه نامش حمار و أستر نيست‏
اى كه خو كرده‏اى به نادانى‏ اين ره مردمان بافر نيست‏
آدمى را درين سراى سپنج‏ جز بدانش جمال و زيور نيست‏
علم آب حيات جان باشد بهر تحصيل سيم يا زر نيست‏
رو پى مصطفى شوى بوذر فيض حق وقف خاص بوذر نيست‏
تو در آ از حجاب نفسانى‏ تا كه بينى هر آنچه مبصر نيست‏

 

آخر اى دوستان بخود رحمى‏ كافرينش به لاف و تسخر نيست‏
حسن نجم آملي طبعش‏ چشمه حكمت است و ديگر نيست‏

ثم أقول: لا ريب أن الاقتحام في ذلك المشهد العظيم فوق شأن هذا المسكين الذي لم يذق حلاوة ذكر الله و لم يتنعم بنعمة المراقبة و الحضور و لم يخرج من سجن الدنيا الدنية و من ظلمة دار الغرور، إلى عالم النور و السرور، يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله، و لله در الشاعر قائلا:

خلق الله للحروب رجالا و رجالا لقصعة و تريد

و لكن كما قيل: ألق في الدلاء دلوك نشير إلى عدة آيات و روايات و أدعية و أذكار و مطالب رشيقة أنيقة من كبار تنبيها للغافلين و أنا منهم، و تذكرة للمستبصرين، فنقول: قد بحثنا عن رؤيته تعالى في شرحنا على المختار الثامن من كتب أمير المؤمنين عليه السلام من النهج (ص 242- إلى 323 ج 17) لكن ذلك البحث كان طورا، و هذا البحث طور آخر، و إن كان أحدهما يعاضد الاخر، و قد أشرنا هنا لك إلى هذا المطلب الأسنى أعنى البحث عن لقاء الله أيضا إجمالا فإن شئت قلت إن هذا البحث مكمل ذلك.

اعلم أن القرآن الكريم قد نطق في مواضع كثيرة بلقائه تعالى فنأتي بها لأنها شفاء و رحمة للمؤمنين:

1- فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربه أحدا (آخر الكهف).

2- قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها و هم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون‏ (الأنعام: 32).

3- ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن و تفصيلا لكل شي‏ء و هدى و رحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون‏ (الأنعام: 155).

4- إن الذين لا يرجون لقاءنا و رضوا بالحياة الدنيا و اطمأنوا بها و الذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون‏ (يونس: 8).

5- الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش و سخر الشمس و القمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون‏ (الرعد: 3).

6- من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله لآت و هو السميع العليم‏ (العنكبوت: 6).

7- أ و لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات و الأرض و ما بينهما إلا بالحق و أجل مسمى و إن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون‏ (الروم: 9).

8- الذي أحسن كل شي‏ء خلقه و بدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه و نفخ فيه من روحه و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة قليلا ما تشكرون و قالوا أ إذا ضللنا في الأرض أ إنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون‏ (الم السجدة: 8- 11).

9- سنريهم آياتنا في الآفاق و في أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أ و لم يكف بربك أنه على كل شي‏ء شهيد ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شي‏ء محيط (آخر فصلت، حم السجدة).

10 و 11- إن الذين لا يرجون لقاءنا و رضوا بالحياة الدنيا و اطمأنوا بها و الذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم دعواهم فيها سبحانك اللهم و تحيتهم فيها سلام و آخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين و لو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير لقضي إليهم أجلهم فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم يعمهون‏ (يونس: 8- 12).

12- و إذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى‏

إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم‏ (يونس: 16).

13- و قال الذين لا يرجون لقاءنا لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم و عتوا عتوا كبيرا (الفرقان: 22).

14- قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا أولئك الذين كفروا بآيات ربهم و لقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا (الكهف: 106).

15- و الذين كفروا بآيات الله و لقائه أولئك يئسوا من رحمتي و أولئك لهم عذاب أليم‏ (العنكبوت: 24).

16- و استعينوا بالصبر و الصلاة و إنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم و أنهم إليه راجعون‏ (البقرة: 47).

17- قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله و الله مع الصابرين‏ (البقرة: 250).

18- و لقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين‏- إلى قوله: و يا قوم لا أسئلكم عليه مالا إن أجري إلا على الله و ما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقوا ربهم و لكني أراكم قوما تجهلون‏ (هود: 30).

19- يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا و سبحوه بكرة و أصيلا هو الذي يصلي عليكم و ملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور و كان بالمؤمنين رحيما تحيتهم يوم يلقونه سلام و أعد لهم أجرا كريما (الأحزاب: 45).

20- يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه‏ (الإنشقاق: 7).

21- رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شي‏ء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار (المؤمن، غافر: 18).

22- وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة (القيامة: 24).

23- و لا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه ما عليك‏

من حسابهم من شي‏ء و ما من حسابك عليهم من شي‏ء فتطردهم فتكون من الظالمين‏ (الأنعام: 53).

24- و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه و لا تعد عيناك عنهم‏- الاية (الكهف: 29).

25- و الذين صبروا ابتغاء وجه ربهم و أقاموا الصلاة- الاية (الرعد: 23).

26 و 27- فآت ذا القربى حقه و المسكين و ابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله‏- الاية، و ما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون‏ (39 و 40 الروم).

28- فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب و تولى و سيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى و ما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى و لسوف‏، (آخر سورة الليل).

و اعلم أن غير واحد من المفسرين ذهبوا في تفسير لقاء الله إلى لقاء العبد ثواب أعماله أو عقابها و نحوهما، و هذا الرأى كأنما نشأ من توهم القوم اللقاء بمعنى الرؤية بالأبصار و لا يدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار و هو اللطيف الخبير، فلما فهموا من اللقاء هذا المعنى احتاجوا إلى تقدير الثواب أو العقاب، أو حمل اللقاء على معنى آخر يناسب ما توهموه، و لكن ما مالوا إليه و هم و ليس اللقاء إلا الرؤية القلبية كما قال أمير المؤمنين علي عليه السلام في جواب حبر قال له: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك حين عبدته؟ فقال عليه السلام: ويلك ما كنت أعبد ربا لم أره، قال: و كيف رأيته؟ قال: ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار و لكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، و قال علم الهدى في الغرر و الدرر (ص 150 ج 1): أتى أعرابى أبا جعفر محمد بن علي عليه السلام فقال له: هل رأيت ربك حين عبدته، نحو الخبر المذكور إلى آخره.

و قد فسرنا هذا الحديث في شرحنا على المختار الثامن من باب الكتب من النهج و قد بينا هناك أن ما يتبادر إلى الأذهان من معنى الرؤية و نحوها هو الرؤية بالعين و ذلك للالف بالمحسوسات و الحشر معها، و أما السير إلى باطن هذه النشأة و السفر إليه و ادراك ما عبى في كلام الله المتعال و سفرائه و وجدانها من الدقائق و اللطائف فلا يتيسر إلا لواحد بعد واحد.

كما دريت أيضا أن الرؤية القلبية به تعالى هي الكشف الحضورى و شهوده تعالى للعبد على مقدار تقربه منه تعالى بقدم المعرفة و درج معارف العقل، فراجع إلى المجلد السابع عشر من ص 308، إلى 323.

قلوب العارفين لها عيون‏ ترى ما لا يراه الناظرونا

و قلت في قصيدتي التوحيدية:

آنچه عاشق كند تماشايش‏ اى برادر بديده سر نيست‏

و لا نعنى من اللقاء الرؤية بكنهه تعالى فإن معرفته بالاكتناه لا يتيسر لما سواه و ذلك لأن المعلول لا يرى علته إلا بمقدار سعة وجوده، و المعلول ظل علته و عكسها و الظل مرتبة ضعيفة من ذيه و لذا قالوا إن العلم بالعلة من العلم بالمعلوم علم بها من وجه يعنى أنه علم ناقص بالعلة بقدر ظرف المعلول سعة و ضيقا، لا يحيطون به علما و عنت الوجوه للحى القيوم.

و قد أفاد في ذلك فيلسوف العرب يعقوب بن إسحاق الكندى رحمة الله عليه بقوله: إذا كانت العلة الاولى متصلة بنا لفيضه علينا و كنا غير متصلين به إلا من جهته فقد يمكن فينا ملاحظته على قدر ما يمكن للمفاض عليه أن يلاحظ المفيض فيجب أن لا ينسب قدر إحاطته بنا إلى قدر ملاحظتنا له لأنها أغزر و أوفر و أشد استغراقا. و نعم ما أفاد، لله دره، و لا يخفى على اولى النهى أن هذا الكلام سام بعيد الغور.

و ما أجاد قول المحقق العارف أفضل الدين الكاشي في المقام:

گفتم همه ملك حسن سرمايه تست‏ خورشيد فلك چو ذره در سايه تست‏
گفتا غلطى ز ما نشان نتوان يافت‏ از ما تو هر آنچه ديده‏اى پايه تست‏

و تبصر مما قدمنا أنه ما من موجود إلا و هو علم الحق تعالى لأن علمه بما سواه حضوري إشراقي، لم يعزب عن علمه مثقال ذرة.

و أفاد العلامة الشيخ البهائى في شرح الحديث الثاني من كتابه الأربعين:

المراد بمعرفة الله تعالى الإطلاع على نعوته و صفاته الجلالية و الجمالية بقدر الطاقة البشرية، و أما الإطلاع على حقيقة الذات المقدسة فمما لا مطمع فيه للملائكة المقربين و الأنبياء المرسلين فضلا عن غيرهم، و كفى في ذلك قول سيد البشر صلى الله عليه و آله: ما عرفناك حق معرفتك، و في الحديث إن الله احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار و إن الملاء الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم.

فلا تلتفت إلى من يزعم أنه قد وصل إلى كنه الحقيقة المقدسة بل احث التراب في فيه فقد ضل و غوى و كذب و افترى فإن الأمر أرفع و أطهر من أن يتلوث بخواطر البشر، و كلما تصوره العالم الراسخ فهو عن حرم الكبرياء بفراسخ، و أقصى ما وصل إليه الفكر العميق فهو غاية مبلغه من التدقيق و ما أحسن ما قال:

آنچه پيش تو غير از آن ره نيست‏ غايت فهم تست الله نيست‏

بل الصفات التي تثبتها له سبحانه إنما هي على حسب أو هامنا و قدر أفهامنا فإنا نعتقد اتصافه سبحانه بأشرف طرفي النقيض بالنظر إلى عقولنا القاصرة و هو تعالى أرفع و أجل من جميع ما نصفه به.

و في كلام الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام إشارة إلى هذا المعنى حيث قال: كلما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم و لعل النمل الصغار تتوهم أن لله تعالى زبانيتين فإن ذلك كمالها، و تتوهم أن عدمهما نقصان لمن لا يتصف بهما و هكذا حال العقلاء فيما يصفون الله تعالى به.

انتهى كلامه صلوات الله عليه و سلامه.

قال بعض المحققين- يعني به المولى الجلال الدواني-: هذا كلام دقيق رشيق أنيق صدر من مصدر التحقيق و مورد التدقيق، و السر في ذلك أن التكليف‏

إنما يتوقف على معرفة الله بحسب الوسع و الطاقة، و إنما كلفوا أن يعرفوه بالصفات التي ألفوها و شاهدوها فيهم مع سلب النقائص الناشئة عن انتسابها إليهم.

و لما كان الإنسان واجبا بغيره عالما قادرا مريدا حيا متكلما سميعا بصيرا كلف بأن يعتقد تلك الصفات في حقه تعالى مع سلب النقائص الناشئة عن انتسابها إلى الإنسان بأن يعتقد أنه تعالى واجب لذاته لا بغيره، عالم بجميع المعلومات قادر على جميع الممكنات و هكذا في سائر الصفات، و لم يكلف باعتقاد صفة له تعالى لا يوجد فيه مثالها و مناسبها، و لو كلف به لما أمكنه تعقله بالحقيقة، و هذا أحد معانى قوله عليه السلام: من عرف نفسه فقد عرف ربه، انتهى كلامه.

و اعلم أن تلك المعرفة التي يمكن أن تصل إليها أفهام البشر لها مراتب متخالفة و درج متفاوتة، قال المحقق الطوسي طاب ثراه في بعض مصنفاته: إن مراتبها مثل مراتب معرفة النار مثلا فإن أدناها من سمع أن في الوجود شيئا يعدم كل شي‏ء يلاقيه، و يظهر أثره في كل شي‏ء يحاذيه، و أى شي‏ء اخذ منه لم ينقص منه شي‏ء و يسمى ذلك الموجود نارا، و نظير هذه المرتبة في معرفة الله تعالى معرفة المقلدين الذين صدقوا بالدين من غير وقوف على الحجة.

و أعلى منها مرتبة من وصل إليه دخان النار و علم أنه لا بد له من مؤثر فحكم بذات لها أثر هو الدخان، و نظير هذه المرتبة في معرفة الله تعالى معرفة أهل النظر و الإستدلال الذين حكموا بالبراهين القاطعة على وجود الصانع.

و أعلى منها مرتبة من أحس بحرارة النار بسبب مجاورتها و شاهد الموجودات بنورها و انتفع بذلك الأثر، و نظير هذه المرتبة في معرفة الله تعالى سبحانه معرفة المؤمنين الخلص الذين اطمأنت قلوبهم بالله و تيقنوا أن الله نور السموات و الأرض كما وصف به نفسه.

و أعلى منها مرتبة من احترق بالنار بكليته و تلاشى فيها بجملته، و نظير هذه المرتبة في معرفة الله تعالى معرفة أهل الشهود و الفناء في الله و هي الدرجة العليا و المرتبة القصوى رزقنا الله الوصول إليها و الوقوف عليها بمنه و كرمه، انتهى‏

كلامه أعلى الله مقامه، هذا آخر ما أردنا من نقل ما أتى به العلامة الشيخ البهائى طاب ثراه في المقام.

و معنى قوله- ره-: «فإنا نعتقد اتصافه سبحانه بأشرف طرفي النقيض بالنظر إلى عقولنا القاصرة» أن العقل ينظر إلى الحياة و عدمها و هما نقيضان فيرى أن الحياة أشرف من الموت فيعتقد باتصافه سبحانه بها فيقول: إنه حى، و ينظر إلى العلم و نقيضه الجهل فيعتقد باتصافه تعالى بالأشرف منهما فيقول: انه عالم و هكذا.

و معنى كلام الدوانى: «و لم يكلف باعتقاد صفة له تعالى لم يوجد فيه مثالها و مناسبها» يعلم من كلامنا الاتي في أسماء الله المستأثرة إنشاء الله تعالى.

و بالجملة أن ما يفهم الناس في مقام خطابهم الله تعالى و ندائهم إياه هو ما يجده أهل المعرفة و يسمون ذلك الوجدان بالكشف و الشهود.

قال العلامة الشيخ البهائى قدس سره في الكشكول (ص 416 من طبع نجم الدولة): العارف من أشهده الله تعالى صفاته و أسماءه و أفعاله فالمعرفة حال تحدث عن شهود، و العالم من اطلعه الله على ذلك لا عن شهود بل عن يقين.

و من ذاق هذه الحلاوة و التذ بتلك اللذة و تنعم بتلك النعمة فقد فاز فوزا عظيما، و هذا الوجدان الشهودى الحضوري الحاصل لأهله يدرك و لا يوصف و هو طور وراء طور العقل يتوصل إليه بالمجاهدات الكشفية دون المناظرات العقلية.

و لا يقدر أهله أن يقرره لغيره على النحو الذي أدركه، و لا يعدله لذة و لا ابتهاج، و انظر إلى قول ولى الله المتعال الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام رواه ثقة الإسلام الكليني في الكافي باسناده عن جميل بن دراج عنه عليه السلام قال:لو يعلم الناس ما في فضل معرفة الله تعالى ما مدوا أعينهم إلى ما متع به الأعداء من زهرة الحياة الدنيا و نعيمها و كانت دنياهم أقل عندهم مما يطئونه بأرجلهم، و لنعموا بمعرفة الله تعالى، و تلذذوا بها تلذذ من لم يزل في روضات الجنان مع أولياء الله، إن معرفة الله انس من كل وحشة، و صاحب من كل وحدة و نور من كل ظلمة، و قوة من كل ضعف، و شفاء من كل سقم، قال: قد كان قبلكم‏ قوم يقتلون و يحرقون و ينشرون بالمناشير، و تضيق عليم الأرض برحبها فما يردهم عما هم عليه شي‏ء مما هم فيه من غير ترة وتروا من فعل ذلك بهم و لا أذي مما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد، فسلوا ربكم درجاتهم و اصبروا على نوائب دهركم، (باب ثواب العالم و المتعلم من المجلد الأول من الوافي ص 42).

ثم إن التوغل في عالم الطبيعة الذي هو عالم الكثرة و الشتات صار حجابا للمتوغلين فيه و لو خلصوا منه و أقبلوا إلى ما هو الحق الأصيل و عرفوا معنى التوحيد و الفناء فيه و صاروا موحدين على النهج الذي قال عز من قائل: هو الأول و الآخر و الظاهر و الباطن‏ (الحديد: 4) بلا تنزيه محض و تشبيه باطل لارتفع الخلاف و النزاع بينهم، و لما شاجروا أهل المعرفة في ما يجدونه و يرونه قائلين: ما كنا نعبد ربا لم نره.كما أن من لم يقدر الجمع بين الجمع و التفرقة إذا سمع من الفائزين به ينكره كل الإنكار.

و إذا تفوه فان في التوحيد بقوله: ليس في الدار غيره ديار، أو ليس الدار و من في الدار إلا هو، أو أن الله كل الأشياء أو نحوها من العبارات تقول عليه من لم يدرك فهم كلامه بعض الأقاويل و لم يعلم أن سببه إنما هو تراكم عروق سبل الجهل المركب الناشئة من التقليدات الراسخة المانعة له عن ذلك الإدراك.

بل كثيرا ما نرى أصاغر لا يبالون بما يقولون إذا سمعوا من متأله أن الوجود واحد لا تعدد فيه و الوجود هو الله تعالى أسندوه إلى الكفر و الإلحاد و الزندقة و لم يعلموا أن نفي الوجود الحقيقى عن الأشياء ليس قولا بأن كل شي‏ء هو الله و ليس قولا بالإتحاد و قد نقل طود العلم و التقى العارف المتأله المولى ميرزا جواد آقا الملكى التبريزى أعلى الله تعالى درجاته في كتابه القيم المعمول في لقاء الله تعالى حكاية بقوله:

حكى أن حكيما كان في أصبهان و كان من دأبه أنه إذا حضر وقت غذائه يرسل خادمه يشترى له و لمن كان عنده كائنا من كان غذاء يأكل معه، و اتفق في يوم أن جاءه واحد من طلاب البلد لحاجة وقت الغذاء، فقال الحكيم لخادمه:اشتر لنا غذاء نتغذى و ذهب الخادم و اشترى لهما غذاء و أحضره، قال الحكيم للفاضل: بسم الله، تعال، نتغذى، قال الشيخ: أنا لا أتغذي، قال: تغذيت؟ قال: لا، قال:لم لا تتغذي و أنت ما تغذيت بعد؟! قال: احتاط أن آكل من غذائكم، قال: ما وجه احتياطك؟ قال: سمعت أنك تقول بوحدة الوجود و هو كفر و لا يجوز لى أن آكل من طعامك معك لأنه ينجس من ملاقاتك، قال: ما فرضت أنت معنى وحدة الوجود و حكمت بكفر قائله؟ قال: من جهة أن القائل به قائل بأن الله كل الأشياء و جميع الموجودات هو الله، قال: أخطأت تعال تغذ لأنى قائل بوحدة الوجود و لا أقول بأن جميع الأشياء هو الله لأن من جملة الأشياء جنابك و أنا لا أشك في كونك بدرجة الحمار أو أخس منها فأين القول بإلهيتك؟! فلا احتياط و لا إشكال تعالى تغذ انتهى.

و قلت: قدر أى حكيم ناسكا جاهلا في يده سبحة يذكر الحكماء واحدا بعد واحد و يلعنهم فقال له: لما ذا تلعنهم و ما أوجب لعنهم؟ قال: لأنهم قائلون بوحدة واجب الوجود، فتبسم الحكيم ضاحكا من قوله فقال له: أنا أيضا قائل بوحدة واجب الوجود فاشتد الناسك غضبا فقال: اللهم العنه.

و اعلم أن البحث عن وحدة الوجود تارة يتوهم أن الوجود شخص واحد منحصر بفرد هو الواجب بالذات و ليس لمفهوم الوجود مصداق آخر، و غيره من الموجودات كالسماء و الأرض و النبات و الحيوان و النفس و العقل خيالات ذلك الفرد أى ليس سوى ذلك الفرد شي‏ء و هذه الموجودات ليست أشياء اخرى غيره كماء البحر و أمواجه حيث إن تلك الأمواج المختلفة في الكبر و الصغر ليست إلا ماء البحر، إلا أن اختلاف الأمواج و كثرتها يوهم أنها موجودات بحيالها غير الماء فهذا التوهم مخالف لكثير من القواعد العقلية الحكمية الرصينة المباني، لأنه يوجب نفي علية الحق و معلولية الممكنات حقيقة و عدم افتقار الممكنات رأسا، بل يوجب نفيها أصلا، و بالجملة أن مفاسدها كثيرة عقلا و شرعا و لم يتفوه به أحد من الحكماء المتألهين و العرفاء الشامخين و نسبته إليهم‏ اختلاق كبير و إفك عظيم.على أن الاثار المختلفة المتنوعة المشهورة من أنواع الموجودات حسا و عيانا ترد هذا الوهم و تبطله و تنادى بأعلى صوتها أنها مولود من فطانة بتراء.

قال صدر المتألهين في مبحث العلة و المعلول من الأسفار (الفصل 27 من المرحلة الرابعة في اثبات التكثر في الحقائق الإمكانية ص 190 ج 1 من الرحلى و ص 318 ج 2 من الطبع الجديد):

إن أكثر الناظرين في كلام العرفاء الالهيين حيث لم يصلوا إلى مقامهم و لم يحيطوا بكنه مرامهم ظنوا أنه يلزم من كلامهم في إثبات التوحيد الخاصى في حقيقة الوجود و الموجود بما هو موجود وحدة شخصية أن هويات الممكنات امور اعتبارية محضة و حقائقها أوهام و خيالات لا تحصل لها إلا بحسب الإعتبار حتى أن هؤلاء الناظرين في كلامهم من غير تحصيل مرامهم صرحوا بعدمية الذوات الكريمة القدسية و الأشخاص الشريفة الملكوتية كالعقل الأول و سائر الملائكة المقربين و ذوات الأنبياء و الأولياء و الأجرام العظيمة المتعددة المختلفة بحركاتها المتعددة المختلفة جهة و قدرا و آثارها المتفننة و بالجملة النظام المشاهد في هذا العالم المحسوس و العوالم التي فوق هذا العالم مع تخالف أشخاص كل منها نوعا و تشخصا و هوية و عددا و التضاد الواقع بين كثير من الحقائق أيضا.

ثم إن لكل منها آثارا مخصوصة و أحكاما خاصة و لا نعنى بالحقيقة إلا ما يكون مبدأ أثر خارجى و لا نعنى بالكثرة إلا ما يوجب تعدد الأحكام و الاثار فكيف يكون الممكن لا شيئا في الخارج و لا موجودا فيه.

و ما يتراءى من ظواهر كلمات الصوفية أن الممكنات امور اعتبارية أو انتزاعية عقلية ليس معناه ما يفهم منه الجمهور ممن ليس له قدم راسخ في فقه المعارف و أراد أن يتفطن بأغراضهم و مقاصدهم بمجرد مطالعة كتبهم كمن أراد أن يصير من جملة الشعراء بمجرد تتبع قوانين العروض من غير سليقة يحكم باستقامة الأوزان او اختلالها عن نهج الوحدة الإعتدالية.

فانك إن كنت ممن له أهلية التفطن بالحقائق العرفانية لأجل مناسبة ذاتية و استحقاق فطري يمكنك أن تتنبه مما أسلفناه من أن كل ممكن من الممكنات يكون ذا جهتين: جهة يكون بها موجودا واجبا لغيره من حيث هو موجود و واجب لغيره و هو بهذا الإعتبار يشارك جميع الموجودات في الوجود المطلق من غير تفاوت، و جهة اخرى بها يتعين هويتها الوجودية و هو اعتبار كونه في أى درجة من درجات الوجود قوة و ضعفا كمالا و نقصا فإن ممكنية الممكن إنما ينبعث من نزوله عن مرتبة الكمال الواجبي و القوة الغير المتناهية و القهر الأتم و الجلال الأرفع و باعتبار كل درجة من درجات القصور عن الوجود المطلق الذي لا يشوبه قصور و لا جهة عدمية و لا حيثية امكانية يحصل للوجود خصائص عقلية و تعينات ذهنية هي المسمات بالمهيات و الأعيان الثابتة فكل ممكن زوج تركيبى عند التحليل من جهة مطلق الوجود و من جهة كونه في مرتبة معينة من القصور، إلى آخر ما أفاد قدس سره.

و قال الحكيم السبزوارى رضوان الله عليه في بيانه: المغالطة نشأت من خلط الماهية بالهوية و اشتباه الماهية من حيث هي بالحقيقة و لم يعلموا أن الوجود عندهم أصل فكيف يكون الهوية و الحقيقة عندهم اعتباريا، أم كيف يكون الجهة النورانية من كل شي‏ء التي هي وجه الله و ظهوره و قدرته و مشيته المبينة للفاعل لا للمفعول اعتباريا، تعالى ذيل جلاله عن علوق غبار الإعتبار، فمتى قال العرفاء الأخيار أولو الأيدى و الأبصار: إن الملك و الفلك و الإنسان و الحيوان و غيرها من المخلوقات اعتبارية، أرادوا شيئيات ماهياتها الغير المتأصلة عند أهل البرهان و عند أهل الذوق و الوجدان و أهل الإعتبار ذهب أوهامهم إلى ماهياتها الموجودة بما هي موجودة أو إلى وجوداتها حاشاهم عن ذلك بل هذا نظر عامي منزه ساحة عز الفضلاء عن ذلك.

نظير ذلك إذا قال: الإنسان مثلا وجوده و عدمه على السواء أو مسلوب ضرورتى الوجود و العدم أراد بشيئية ماهية الإنسان و نحوه أنها كذلك و ظن‏ العامي الجاهل أنه أراد الانسان الموجود في حال الوجود أو بشرط الوجود و لم يعلم أنه في حال الوجود و بشرطه محفوف بالضرورتين و ليست النسبتان متساويتين و لا جائزتين إذ سلب الشي‏ء عن نفسه محال و ثبوت الشي‏ء لنفسه واجب، بل لو قيل: بأصالة الماهية فالماهية المنتسبة إلى حضرة الوجود أصلية عند هذا القائل لا الماهية من حيث هي فإنها اعتبارية عند الجميع، و قول الشيخ الشبسترى: تعينها امور اعتباريست، ينادى بما ذكرناه.

و بما حققناه علمت أن ما توهمه بعض من أن الوجود مع كونه عين الواجب و غير قابل للتجزى و الانقسام قد انبسط على هياكل الموجودات و ظهر فيها فلا يخل منه شي‏ء من الأشياء بل هو حقيقتها و عينها و إنما امتازت و تعينت بتقيدات و تعينات و تشخصات اعتبارية، و يمثل ذلك بالبحر و ظهوره في صورة الأمواج المتكثرة مع أنه ليس هناك إلا حقيقة البحر فقط، ليس على ما ينبغي بل وهم، اللهم إلا أن يقال: إن مراده من قوله: و يمثل ذلك بالبحر و ظهوره في صورة الأمواج المتكثرة ليس محمولا على ظاهره بل المراد شدة افتقار ما سواه تعالى به فان الكل قائم به كالأمواج بالبحر مثلا، أو نحو هذا المعنى.

و تارة يعقل من الوحدة الدايرة في ألسنتهم الوحدة السنخية لا الوحدة الشخصية المذكورة بمعنى أن أعلى مرتبة الوجود كالأول تعالى متحد مع أدنى مرتبته و أضعف الموجودات كالجسم و الهيولى في سنخ أصل حقيقة الوجود و التفاوت و التمايز إنما في الشدة و الضعف و النقص و الكمال و عظم درجة الوجود و صغرها و تفاوت شئون الوجود من الحياة و العلم و القدرة و نحوها، و بالجملة أن ما به الامتياز عين ما به الإتفاق و أهل الحكمة يسمون هذا المعنى بالوحدة السنخية، و الاشتراك المعنوى في الوجود، و هذا رأى الفهلويين من الحكماء نظمه المتأله السبزواري قدس سره في غرر الفرائد بقوله:

الفهلويون الوجود عندهم‏ حقيقة ذات تشكك تعم‏
مراتبا غنى و فقرا تختلف‏ كالنور حيثما تقوي و ضعف‏

و هذا الرأى لا ينافي أمرا من الامور العقلية، و لا المباني الشرعية، بل ذهب أكثر المحققين إلى أن صدور المعلول من العلة إنما يصح على هذا المبنى، لأن الموجودات لو كانت حقائق متبائنة كما اسند إلى طائفة يستلزم مفاسد كثيرة منها عدم كون ما سوى الله تعالى آياته و علاماته لأن السنخية بين العلة و المعلول حكم عقلي لا يشوبه ريب، و ذلك لأن الشي‏ء لا يصدر عنه ما يضاده و لا يثمر ما يباينه و إلا يلزم أن لا يكون وجود العلة حدا تاما لوجود معلولها، و لا وجود المعلول حدا ناقصا لوجود علته، كما يلزم أن لا يكون حينئذ العلم بالعلة مستلزما للعلم بالمعلول، و الكل كما ترى.

و أما هؤلاء الطائفة فظاهر الكلام الحكيم المتأله السبزواري قدس سره الشريف في الغرر هم المشاءون كلهم حيث قال: و الوجود عند طائفة مشائية من الحكماء حقائق تباينت، و الدائر في ألسنة كثير ممن عاصرناهم كذلك أيضا، و لكن صريح كلام ابن تركه في كتاب التمهيد في شرح رسالة قواعد التوحيد: أن مذهب المشاءين في هذه المسألة التشكيك، حيث قال في شرح كلام المصنف تركة:«ثم إن الوجود الحاصل للماهيات المختلفة و الطبايع المتخالفة- إلخ»: أقول: هذا دليل على بطلان القول بالتشكيك الذي هو مبنى قواعد المشاءين في هذه المسألة و عمدة عقائدهم. انتهى ما أردنا من نقل كلامه (ص 48 طبع ايران 1351).و لا يخفى عليك أن كلام ابن تركه يبائن كلام السبزوارى، و لا يبعد أن يقال: إن مراده من طائفة مشائية بعضهم و الله سبحانه أعلم.

و ثالثة يعقل من الوحدة الوحدة الشخصية غير الوجه الأول الباطل بل بمعنى أن الوجود واحد كثير، أي إنه مع كونه واحدا بالشخص كثير و تلك الكثرة و التعدد و اختلاف الأنواع و الاثار لا تنافي وحدته لأن الوحدة من غاية سعتها و إحاطتها بما سواها تشمل على جميع الكثرات الواقعية، و الوجود حقيقة واحدة و لها وحدة لا تقابل الكثرة و هي الوحدة الذاتية، و كثرة ظهوراتها و صورها لا تقدح‏ في وحدة ذاتها.

و يعبرون عن هذا المعنى بالوحدة في عين الكثرة، و الكثرة في عين الوحدة، و يمثلونه بالنفس الناطقة الإنسانية لأن كل إنسان شخص واحد بالضرورة، قال عز من قائل: ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه‏ (الأحزاب: 4) و النفس الناطقة مع أنها واحدة بالشخص هي عين جميع قواها الظاهرة و الباطنة و تلك القوى مع كونها كثيرة هي عين النفس الناطقة الواحدة بالشخص.

فالنفس بالحقيقة هي العاقلة المتوهمة المتخيلة الحساسة المحركة المتحركة و غيرها و هي الأصل المحفوظ في القوى لا قوام لها إلا بها، قال المتأله السبزواري في بعض تعاليقه على كتابه غرر الفرائد: و الحق أن وجود النفس ذا مراتب و أنها الأصل المحفوظ فيها و أن كل فعل لأية قوة تنسب في الحقيقة فعلها بلا مجاز وجداني، و هذا ذوق أرباب العرفان، قال الشيخ العربي في فتوحاته:

النفس الناطقة هي العاقلة و المفكرة و المتخيلة و الحافظة و المصورة و المغذية و المنمية و الجاذبة و الدافعة و الهاضمة و الماسكة و السامعة و الباصرة و الطاعمة و المستنشقة و اللامسة و المدركة لهذه الامور، فاختلاف هذه القوى و اختلاف الأسماء ليست بشي‏ء زائد عليها، بل هي عين كل صورة هذا كلامه.

فأنوار المراتب المسماة بالقوى كلها فانية في نور النفس الناطقة، و التنزيه الذي يراعيه الحكماء إنما هو لئلا يقف الأذهان في مراتب جسمها و جسمانيتها كأذهان الطباعية و العوام و هو يرجع إلى تنزيه مرتبة منها هي أعلى مراتبها و هي المسماة بذاتها، و البواقي اشراقاتها المتفاضلة، انتهى كلامه- قده.

قال صدر المتألهين قدس سره في الأسفار: إن النفس الإنسانية ليس لها مقام معلوم في الهوية و لا لها درجة معينة في الوجود كسائر الموجودات الطبيعية و النفسية و العقلية التي كل له مقام معلوم، بل النفس الانسانية ذات مقامات و درجات متفاوتة، و لها نشئات سابقة و لاحقة، و لها في كل مقام عالم و صورة اخرى.

و بيان هذا القول المنيع الشريف يطلب من كتابه في المبدأ و المعاد حيث قال فيه (ص 282): الوحدة الشخصية في كل شي‏ء ليست على وتيرة واحدة و درجة واحدة فإن الوحدة الشخصية في الجواهر المجردة حكمها غير الوحدة الشخصية في الجواهر المادية، فإن في الجسم الواحد الشخصي يستحيل أن يجتمع أوصاف متضادة و أغراض متقابلة من السواد و البياض و السعادة و الشقاوة و اللذة و الألم و العلو و السفل و الدنيا و الاخرة و ذلك لضيق حوصلة ذاته و قصر ردائه الوجودي عن الجمع بين الامور المتخالفة بخلاف وجود الجوهر النطقي من الإنسان فإنها مع وحدتها الشخصية جامعة للتجسم و التجرد و حاصرة للسعادة و الشقاوة فانها قد يكون في وقت واحد في أعلى عليين و ذلك عند تصور أمر قدسي، و قد يكون في أسفل سافلين و ذلك عند تصور أمر شهوي، و قد يكون ملكا مقربا باعتبار و شيطانا مريدا باعتبار.

و ذلك لأن إدراك كل شي‏ء هو بأن ينال حقيقة ذلك الشي‏ء المدرك بما هو مدرك بل بالاتحاد معه كما رآه طائفة من العرفاء و أكثر المشاءين و المحققون و صرح به الشيخ أبو نصر فى مواضع من كتبه، و الشيخ اعترف به في كتابه المسمى بالمبدإ و المعاد و في موضع من الشفاء حيث قال في الفصل السادس من المقالة التاسعة من الإلهيات بهذه العبارة:ثم كذلك حتى يستوفى في النفس هيئة الوجود كله فينقلب عالما معقولا مقبولا موازيا للعالم الموجود كله مشاهدا لما هو الحسن المطلق و الخير المطلق و الجمال الحق و متحدة به و منتقشة بمثاله و هيئاته و منخرطة في سلكه و سائرة من جوهره.

و مما يؤيد ذلك أن المدرك بجمع الإدراكات و الفاعل بجميع الأفاعيل الواقعة من الإنسان هو نفسه الناطقة النازلة إلى مرتبة الحواس و الالات و الأعضاء و الصاعدة إلى مرتبة العقل المستفاد و العقل الفعال في آن واحد و ذلك لسعة وجودها و بسط جوهريتها و انتشار نورها في الأكناف و الأطراف بل يتطور ذاتها بالشئون‏ و الأطوار و تجليها على الأعضاء و الأرواح، و تحليها بحلية الأجسام و الأشباح مع كونها من سنخ الأنوار و معدن الأسرار.

و من هذا الأصل تبين و تحقق ما ادعيناه من كون شي‏ء واحد، تارة محتاجا في وجوده إلى عوارض مادية و لواحق جسمية و ذلك لضعف وجوده و نقص تجوهره، و تارة ينفرد بذاته و يتخلص بوجوده و ذلك لاستكمال ذاته و تقوى انيته و ما اشتهر بين متقدمى المشاءين أن شيئا واحدا لا يكون له إلا أحد نحوى الوجود الرابطي و الاستقلالي غير مبرهن عليه بل الحق خلافه، نعم لو اريد منه أن الوجود الواحد من جهة واحدة لا يكون ناعتيا و غير ناعتي لكان صحيحا. انتهى كلامه قدس سره.

و يعبرون عن الوحدة الجمعية التي في الحق سبحانه بالوحدة الحقة الحقيقية و التي في النفس بالوحدة الحقة الظلية، و من كان عين بصيرته مفتوحة يعرف من هذا سر قوله صلى الله عليه و آله: من عرف نفسه فقد عرف ربه، قال علم الهدى الشريف المرتضى رضوان الله عليه في المجلس التاسع عشر من أماليه غرر الفوائد و درر القلائد (274 ج 1):

روي أن بعض أزواج النبي صلى الله عليه و آله سألته متى يعرف الإنسان ربه؟ فقال: إذا عرف نفسه، و في ص 329 ج 2 منه روي عن النبي صلى الله عليه و آله أنه قال: أعلمكم بنفسه أعلمكم بربه، قال العارف الرومي:

سايه يزدان بود بنده خدا مرده اين عالم و زنده خدا
كيف مد الظل نقش أوليا است‏ كو دليل نور خورشيد خدا است‏

و تسمى هذه الكثرة بالكثرة النورية، و هي كلما كانت أوفر كانت في الوحدة أوغر، و قد اختار الخواجه لسان الغيب هذا المعنى في قوله:

زلف آشفته او موجب جمعيت ما است‏ چون چنين است پس آشفته‏ترش بايد كرد

و في قوله الاخر:

از خلاف آمد دوران بطلب كام كه من‏ كسب جمعيت از آن زلف پريشان كردم‏

و قد اختار صدر المتألهين المولى صدرا قدس سره الشريف هذا الوجه،و شنع على القسم الأول و أبطله في مبحث العلة و المعلول من الأسفار، كما دريت و هذا وجه وجيه شريف دقيق يوافقه البرهان و ذوق العرفان و الوجدان و لا ينافي أمرا.

و رابعة يعقل معنى الوحدة على وجه أدق و ألطف من الوجوه المتقدمة و أعلى و أرفع منها، و الإخلاص في العبادة كما ندب إليه العقل و النقل مقدمة لحصول هذا المقام المنيع الأسنى، و سلم للارتقاء إلى هذا المنظر الرفيع الأعلى، و من راقب الإخلاص و الحضور يستعد للوصول إلى هذه الرتبة العظمى و الجنة العليا و فيها ما تشتهى الأنفس و تلذ الأعين فيرى ما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر، و قد سلك إليه العرفاء الشامخون.

تقريره: أنه لا شبهة بوجود الكثرة و التعدد و اختلاف الأنواع و الأصناف و الأفراد، و الله جل جلاله في إيجاد الممكنات المختلفة و تكوينها، قد ظهر و تجلى بالحياة و القدرة، و العلم و الإرادة تجلى المتكلم الفصيح البليغ في كلامه، و ظهور عاكس كإنسان مثلا في مرائي متعددة مختلفة جنسا و لونا و شكلا وجهة و عظما و صغرا و غيرها من الصفا و الكدرة و لا ريب أن ما يرى من عكوسه المختلفة في أنحاء كثيرة في تلك المرائي ظهوره فيها لا وجوده فيها، و لا حلوله فيها، و لا اتحاده معها، و كذا الكلام في تجلى المتكلم في كلامه.

فإذا نظر شخص آخر في تلك المرائي و المظاهر يرى عكوس الأول المتعددة المختلفة فيها، كما يرى تلك المرائي أيضا، فمن وقع نظره على العكوس المتفاوتة بالمحال و المجالي من غير أن يجعلها عنوانات للعاكس فهو يزعمها أشياء مستقلة بذواتها، و قد غاب عن العاكس كما هو مذهب عامة الناس.

و من جعل نظره في العاكس فقط بحيث إن كله مشغول بكله، و من فرط العشق به لم يلتفت إلى غيره من الصور و المرائي، و لم يشاهد في تلك الكثرات و التعينات إلا إياه، أعني أصل الصور و صاحبها، فهذا وحدة الوجود في النظر و فناء في الصورة.

زهر رنگى كه خواهى جامه مى پوش‏ كه من آن قد رعنا مى‏شناسم‏

فالموحد الحقيقي إذا أسقط الإضافات و لم يشاهد أعيان الممكنات و الحقائق الوجودية الإمكانية و الجهات الكثيرة الخلقية، و لم ينظر إليها و لم ير فيها إلا تجليه تعالى و ظهور قدرته و صفاته الكمالية حيث لم تشغله تلك الخليقة عن الوجود الواجبي و لم تنسه عن لقاء الله عز و جل، و لم تذهله عن وجهه في كل شي‏ء فهو فان في الله مرزوق عنده و لا يرى إلا إياه و لا يرزق التوحيد بهذا المعنى إلا الأوحدي من أهل الله، الفائز بنعمة لقائه العظمى.

لقد ظهرت فلا تخفى على أحد إلا على أكمه لا يعرف القمرا

و الموحد في ذلك المشهد يرى ما سواه من الأرض و السماء و الغيب و الشهادة مرتبطا بعضها ببعض و لا يرى فصلا بينها كارتباط أجزاء بدن واحد بعضها ببعض، و بهذا المعنى قد جعل وحدة العالم دليلا على توحيده تبارك و تعالى، و إن كان كل شي‏ء بحياله يدل على وحدانيته تعالى كما قرر في محله.

و في كل شي‏ء له آية تدل على أنه واحد
هر گياهى كه از زمين رويد وحده لا شريك له گويد

و روى الصدوق في باب الرد على الثنوية و الزنادقة من التوحيد ص 254 باسناده عن هشام بن الحكم قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما الدليل على أن الله واحد؟ قال: اتصال التدبير و تمام الصنع، كما قال عز و جل: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا.

و إذا نال الموحد هذا المقام العظيم يجد سلطان الله تعالى على ما سواه و يرى أنه‏ ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها، و يقول: لمن الملك اليوم لله الواحد القهار و يصل إلى سر قول إمام الموحدين أمير المؤمنين علي عليه السلام:«مع كل شي‏ء لا بمقارنة و غير كل شي‏ء لا بمزايلة».

قال القصيري في شرح الفص الإدريسي من فصوص الحكم: انظر أيها السالك طريق الحق ما ذا ترى من الوحدة و الكثرة جمعا و فرادى؟ فإن كنت‏ ترى الوحدة فقط فأنت مع الحق وحده لارتفاع الإثنينية، و إن كنت ترى الكثرة فقط فأنت مع الخلق وحده، و إن كنت ترى الوحدة في الكثرة محتجبة، و الكثرة في الوحدة مستهلكة، فقد جمعت بين الكمالين و فزت بمقام الحسنيين. انتهى كلامه.

و بما قررنا علم سر قول كاشف الحقائق الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام: «و الله لقد تجلى الله عز و جل لخلقه في كلامه و لكن لا يبصرون» رواه عنه عليه السلام العارف الرباني مولانا عبد الرزاق القاساني في تأويلاته كما في آخر كشكول العلامة البهائي ص 625 من طبع نجم الدولة، و كذا الشيخ الأكبر محيى الدين في مقدمة تفسيره (ص 4 ج 1)، كذا رواه عنه عليه السلام أبو طالب محمد بن على الحارثي المكي في قوة القلوب (ص 100، ج 1 من طبع مصر 1381 ه) و قد روى قريبا منه ثقة الإسلام الكليني في روضة الكافي (271 من الطبع الرحلي) عن مولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام في خطبة خطب بها في ذى قار حيث قال عليه السلام:فتجلى لهم سبحانه في كتابه من غير أن يكونوا رأوه، و أتى بها الفيض المقدس في الوافي ص 22 م 14، و قد نقلناها في شرح المختار 229 من الخطب، فراجع إلى ص 19 من ج 15.

و بعد اللتيا و التي نقول: و لله المثل الأعلى، و التوحيد على الوجه الرابع أدق من التمثيل المذكور أعني مثل صور عاكس في المرايا، و نعم ما قاله الشيخ العارف محيى الدين العربي في الباب الثالث و الستين من كتاب الفتوحات المكية كما في الأسفار: إذا أدرك الإنسان صورته في المرآة يعلم قطعا أنه أدرك صورته بوجه و أنه ما أدرك صورته بوجه لما يراه في غاية الصغر لصغر جرم المرآة أو الكبر لعظمه و لا يقدر أن ينكر أنه رأى صورته و يعلم أنه ليس في المرآة صورته و لا هي بينه و بين المرآة فليس بصادق و لا كاذب في قوله رأى صورته و ما رأى صورته فما تلك الصورة المرئية، و أين محلها و ما شأنها فهي منتفية ثابتة موجودة معدومة معلومة مجهولة أظهر سبحانه هذه الحقيقة لعبده ضرب المثال ليعلم و يتحقق أنه إذا عجز و حار في درك حقيقة هذا و هو من العالم و لم يحصل علما بحقيقته فهو بخالقها إذن‏ أعجز و أجهل و أشد حيرة. انتهى.

قال الغزالي في الإحياء في بيان الوجه الأخير من التوحيد: هو أن لا يرى في الموجود إلا واحدا و هو مشاهدة الصديقين و يسميه الصوفية الفناء في التوحيد لأنه من حيث لا يرى إلا واحدا لا يرى نفسه أيضا بمعنى أنه فنى عن رؤية نفسه.

فإن قلت: كيف يتصور أن لا يشاهد إلا واحدا و هو يشاهد السماء و الأرض و سائر الأجسام المحسوسة و هي كثيرة؟

فاعلم أن هذا غاية علوم المكاشفات و أن الموجود الحقيقي واحد، و أن الكثرة فيه في حق من يفرق نظره، و الموحد لا يفرق نظر رؤية السماء و الأرض و سائر الموجودات بل يرى الكل في حكم الشي‏ء الواحد، و أسرار علوم المكاشفات لا يسطر في كتاب، نعم ذكر ما يكسر سورة استبعادك ممكن و هو أن الشي‏ء قد يكون كثيرا بنوع مشاهدة و اعتبار، و يكون بنوع آخر من المشاهدة و الاعتبار واحدا كما أن الإنسان كثير إذا نظر إلى روحه و جسده و سائر أعضائه و هو باعتبار آخر و مشاهدة اخرى واحد إذ نقول إنه إنسان واحد فهو بالإضافة إلى الإنسانية واحد، و كم من شخص يشاهد إنسانا و لا يخطر بباله كثرة أجزائه و أعضائه و تفصيل روحه و جسده، و الفرق بينهما و هو في حالة الاستغراق و الاستهتار مستغرق واحد ليس فيه تفرق و كأنه في عين الجمع و الملتفت إلى الكثرة في تفرقة.

و كذلك كل ما في الوجود له اعتبارات و مشاهدات كثيرة مختلفة و هو باعتبار واحد من الاعتبارات واحد و باعتبار آخر سواه كثير بعضه أشد كثرة من بعض.

و مثال الانسان و إن كان لا يطابق الغرض و لكن ينبه في الجملة على كشف الكثير و يستفيد معا من هذا الكلام بترك الإنكار و الجحود بمقام لم تبلغه و تؤمن به إيمان تصديق فيكون لك من حيث إنك مؤمن بهذا التوحيد نصيب منه، و إن لم يكن ما آمنت به صفتك كما أنك إذا آمنت بالنبوة كان لك نصيب منه، و إن لم يكن بينا و هذه المشاهدة التي لا يظهر فيها إلا الواحد الحق سبحانه تارة يدوم‏ و تارة يطرأ كالبرق الخاطف و هو أكثر و الدوام نادر عزيز جدا.

و قال في موضع آخر من الكتاب: و أما من قويت بصيرته و لم يضعف نيته فانه في حال اعتدال أمره لا يرى إلا الله و لا يعرف غيره، و يعلم أنه ليس في الوجود إلا الله تعالى و أفعاله أثر من آثار قدرته فهي تابعة له فلا وجود لها بالحقيقة و إنما الوجود للواحد الحق الذي به وجود الأفعال كلها، و من هذا حاله فلا ينظر في شي‏ء من الأفعال إلا و يرى فيه الفاعل و يذهل عن الفعل من حيث إنه سماء و أرض و حيوان و شجر بل ينظر فيه من حيث إنه صنع فلا يكون نظره مجاوزا له إلى غيره كمن نظر في شعر إنسان أو خطه أو تصنيفه، فرأى فيه الشاعر و المصنف و رأى آثاره من حيث إنه آثاره لا من حيث إنه حبر و عفص و زاج مرقوم على بياض، فلا يكون قد نظر إلى غير المصنف و كل العالم تصنيف الله فمن نظر إليها من حيث إنها فعل الله و أحبها من حيث إنها فعل الله لم يكن ناظرا إلا في الله، و لا عارفا إلا بالله، و لا محبا إلا الله، بل لا ينظر إلى نفسه من حيث نفسه بل من حيث إنه عبد الله فهذا الذي يقال إنه فنى في التوحيد، و إنه فنى في نفسه و إليه الإشارة بقول من قال: كنا بنا فغبنا عنا فبقينا بلا نحن، فهذه امور معلومة عند ذوى البصائر اشكلت لضعف الأفهام عن دركها، و قصور قدر العلماء بها عن إيضاحها و بيانها بعبارة مفهمة موصلة للغرض إلى الأفهام، أو باشتغالهم بأنفسهم و اعتقادهم أن بيان ذلك لغيرهم مما لا يغنيهم. انتهى كلامه.

قلت: قد رأيت ليلة الاثنين الثالثة و العشرين من ربيع الأول من شهور السنة السابعة و الثمانين و ثلاثمائة بعد الألف من الهجرة بعض مشايخى متع الله المسلمين بطول بقائه في منامي، قد ناولني رسالة في السير و السلوك إلى الله تبارك و تعالى، ثم قال لي: «التوحيد أن تنسى غير الله» و لما قصصت عليه الرؤيا، قال مد ظله العالي:

نشانى داده ‏اندت از خرابات‏ كه التوحيد إسقاط الإضافات‏

و البيت من گلشن راز للشبستري قدس سره.

و خامسة يعني بالوحدة ما يفوه به من يبوح قائلا من عرف سر القدر فقد ألحد.

فبما قدمنا علمت أن المراد من وحدة الوجود ليس ما توهمه أوهام من لم يصل إلى مغزا مرامهم و سر كلامهم، و أن لقاء الله تعالى الحاصل لأهله ليس كما يتصوره الجهال الذين لم يجمعوا بين الجمع و التفرقة، و قد جاء حديث عن معدن الحقائق الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق صلوات الله تعالى عليه: «إن الجمع بلا تفرقة زندقة، و التفرقة بدون الجمع تعطيل، و الجمع بينهما توحيد».

و قال المولى الحكيم العارف المتأله ميرزا محمد رضا القمشي قدس سره في تعاليقه على تمهيد القواعد لابن تركه في شرح قواعد التوحيد لتركه في بيان الحديث:ذهبت طائفة من المتصوفة إلى أن الوجود حقيقة واحدة لا تكثر فيها و لا تشأن لها و ما يرى من الممكنات المكثرة امور موهومة باطلة الذوات كثانى ما يراه الأحول، و هذا زندقة و جحود و نفى له تعالى لأن نفى الممكنات يستلزم نفى فاعليته تعالى، و لما كان فاعليته تعالى نفس ذاته فنفى فاعليته يستلزم نفى ذاته و إليه أشار عليه السلام بقوله: إن الجمع بلا تفرقة زندقة.

و ذهبت طائفة اخرى منهم إلى أن الممكنات موجودة مكثرة و لا جاعل و لا فاعل لها خارجا عنها، و الوجود المطلق متحد بها بل هو عينها و هذا إبطال لها و تعطيل لها في وجودها فإنه حينئذ لا معطى لوجودها لأن المفروض أن لا واجب خارجا عنها و الشي‏ء لا يعطى نفسها و لا يوصف الممكن بالوجوب الذاتي، و إليه أشار عليه السلام بقوله: و التفرقة بدون الجمع تعطيل، و يظهر من ذلك البيان أن كلا القولين يشتمل على التناقض لأن الجمع بلا تفرقة يستلزم نفى الجمع، و التفرقة بدون الجمع يستلزم نفى التفرقة. انتهى كلامه رفع مقامه.

و إن شئت تقرير ذلك المطلب الأسنى على اسلوب آخر أبين و أوضح مما تقدم، فاعلم أن ما يخبر عنه و يصدر عنه أثر هو الوجود لا غير و سواه ليس محض و عدم‏ صرف و باطل بالذات و ما ليس بشي‏ء ليس بشي‏ء حتى يكون ذا أثر، و إذا تأملت في الأشياء الممكنة تجدها أن ظهورها بالوجود، و لولاه لم يكن لها ظهور فضلا عن أن يكون لها أثر فاذا تحقق الوجود في موطن يتبعه أثر لائق بذلك الموطن.

و تجد أن لها اعتبارين: أحدهما وجودها و الاخر حدودها فتصير وجودات مقيدة محدودة، فبالقيد و الحد تسمى بأسماء لفظية، فيقال: هذه أرض، و تلك شمس و ذلك قمر و فلك و ملك و هكذا، و تلك الحدود يعبر عنها في الكتب الحكمية بل في الجوامع الروائية بالماهية، و لما لم يكن للأول تعالى حد لم تعلم له ماهية، و في دعاء اليماني لإمام الموحدين علي أمير المؤمنين عليه السلام رواه السيد الأجل ابن طاوس عليه رحمة الملك القدوس، مسندا في مهج الدعوات (ص 105):

بسم الله الرحمن الرحيم اللهم أنت الملك الحق الذي لا إله إلا أنت- إلى أن قال بعد سطور: لم تعن في قدرتك، و لم تشارك في إلهيتك، و لم تعلم لك مائية فتكون للأشياء المختلفة مجانسا، إلخ.

و في باب نفي الجسم و الصورة و التشبيه من ثاني البحار نقلا عن روضة الواعظين:روى عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال له رجل: اين المعبود؟ فقال عليه السلام: لا يقال له أين لأنه أين الأينية، و لا يقال له كيف لأنه كيف الكيفية، و لا يقال له ما هو لأنه خلق الماهية- الحديث.

و الماهية و المائية بمعنى واحد و هي مشتقة عن ما هو، كما هو صريح رواية أمير المؤمنين عليه السلام، و كما صرح به المحقق الخواجه نصير الدين الطوسي قدس سره في أول الفصل الثاني من المقصد الأول من التجريد، و المتأله السبزواري في أول الفريدة الخامسة من غرر الفرائد، و تعبير الماهية بالمائية في كتب القدماء بل في الروايات كثيرة جدا، و قد كان فيلسوف العرب الكندي يعبرها في رسائله بالمائية، كما ترى في رسائله الفلسفية المطبوعة في مصر، و قد روى الشيخ الجليل الصدوق في باب تفسير قل هو الله أحد من كتاب التوحيد بإسناده عن وهب بن وهب القرشي قال: سمعت الصادق عليه السلام يقول: قدم وفد من أهل فلسطين على‏ الباقر عليه السلام فسألوه عن مسائل فأجابهم، ثم سألوه عن الصمد، فقال: تفسيره فيه، الصمد خمسة أحرف: فالألف دليل على انيته، و هو قوله عز و جل‏ شهد الله أنه لا إله إلا هو و ذلك تنبيه و إشارة إلى الغائب عن درك الحواس، و اللام دليل على إلهيته بأنه هو الله- إلى أن قال: لأن تفسير الإله هو الذي أله الخلق عن درك مائيته و كيفيته بحس أو وهم- إلى أن قال: فمتى تفكر العبد في مائية الباري و كيفيته أله فيه و تحير- إلخ، و الإنية مشتقة من الإن، كما قال الإمام عليه السلام من حسن صنيعته: و هو قوله عز و جل: شهد الله أنه لا إله إلا هو و التعبير عن تحقق الشي‏ء و وجوده بالإنية و عن حدوده بالماهية أو المائية غير عزيز في ألسنة أهل الله.

و الماهيات بأسرها ظاهرة بالوجود فهي ليست نوري الذات بل بذاتها ليس محض و ظلمة و إنما أيسها و نورها بغيرها و هو الوجود، و لما لم يكن لله جل جلاله حد و نهاية فلا يتصور فيه ماهية تعالى عن أن يكون مجانسا لمخلوقاته و في الحديث: ربنا نورى الذات، حي الذات، قادر الذات، عالم الذات، من قال أنه قادر بقدرة، عالم بعلم، حي بحياة، فقد اتخذ مع الله آلهة اخرى و ليس على ولايتنا من شي‏ء.

و في التوحيد عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر عليه السلام قال: سمعته يقول:إن الله نور لا ظلمة فيه، و علم لا جهل فيه، و حياة لا موت فيه.

و فيه بإسناده عن هشام بن سالم قال: دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فقال لي:أتنعت الله؟ قلت: نعم، قال عليه السلام: هات، فقلت: هو السميع البصير، قال عليه السلام هذه صفة يشترك فيها المخلوقون، قلت: و كيف ننعته؟ فقال عليه السلام: هو نور لا ظلمة فيه، و حياة لا موت فيه، و علم لا جهل فيه، و حق لا باطل فيه، فخرجت من عنده و أنا أعلم الناس بالتوحيد.

و لما كان النور ظاهرا بذاته و مظهرا لغيره كما ترى الأنوار المحسوسة من نور القمر و الكواكب و ضياء الشمس و غيرها، و يطلق عليها النور من هذه الحيثية كما أن النور يطلق على العلم من حيث ظهوره للعالم، كذلك فقد جاء في الخبر عن سيد المرسلين صلى الله عليه و آله: العلم نور و ضياء يقذفه الله في قلوب أوليائه كما في جامع الأسرار للسيد المتأله حيدر الاملي قدس سره (ص 513) و في خبر آخر عنه صلى الله عليه و آله: ليس العلم بكثرة التعلم إنما هو نور يقذفه الله في قلب من يريد أن يهديه، كما في قرة العيون للفيض المقدس رضوان الله عليه (ص 220) و في الحديث الاتي عن عنوان البصري عن الإمام الصادق عليه السلام اطلق على شمس الوجود المضيئة لغيرها من ماهيات القوالب و الهياكل الإمكانية بل مخرجها من الليس إلى الايس اسم النور أيضا بل هو النور حقيقة و يستنير سائر الأنوار الحسية به لما دريت من أن ظهور كل شي‏ء به، فالوجود ظاهر بذاته و مظهر لغيره من أشباح الماهيات و هياكلها، كما يرشدك إليه قوله عز و جل: الله نور السماوات و الأرض‏- الاية.

و قد روى الشيخ الجليل الصدوق في أول باب تفسير قول الله عز و جل:الله نور السماوات و الأرض‏ إلى آخر الاية بإسناده عن العباس بن هلال قال: سألت الرضا عليه السلام عن قول الله عز و جل: الله نور السماوات و الأرض‏ فقال: هاد لأهل السماء و هاد لأهل الأرض، قال: و في رواية البرقي: هدى من في السماوات و هدى من في الأرض.

و ذلك لأن كل من هدى إلى حقيقة فإنما هدى بنور الوجود و لولاه لكانت الظلمات غالبة فالنور أي الوجود هو الهادي فليس إلا، صدق ولي الله الأعظم في قوله حيث فسر النور بالهادي.

فان قلت: قد جاءت في عدة آيات و كثير من أدعية و روايات أنه تعالى مضل أيضا كقوله تعالى: من يشأ الله يضلله و من يشأ يجعله على صراط مستقيم‏ (الأنعام: 40)، و قوله تعالى: فإن الله يضل من يشاء و يهدي من يشاء (فاطر: 8) و نحوهما فكيف التوفيق؟

قلت: الإضلال: إخراج الغير عن الطريق من دواع نفسانية و أغراض شخصية من إعمال حقد و حسد و نحوهما حتى يحصل التشفى للمضل بإضلاله الغير، و لا يخفى عليك أن إسناد الاضلال إليه تعالى قبيح عقلا لعدم تجويز العقل إسناده إليه فليس الإضلال بمعناه الحقيقي مسندا إليه تعالى من غير التوسل بوسط.

فنقول: لا كلام أنه تعالى مضل، من يشإ الله يضلله، و لكن تحت هذا سر و يتضح لك بإيراد مثال و هو أن نقول: لو كان لك أولاد و لم تأمرهم بعمل و دستور لا يصح أن يقال: إن فلانا أطاع أباه، و فلانا عصاه، و أما إذا جعلت لهم دستورا يأمرهم بالخير قبله بعض و أبى بعض آخر، فحينئذ يقال للأول: المطيع، و للثاني: العاصي، ثم لما كان ذلك الدستور حاويا لما فيه صلاحهم و رشادهم، فأنت هاد للبعض الأول، و حيث إن الثاني ظلم نفسه و أعرض عن الدستور، فحينئذ يقال له: هو ضال و أنت مضل له، بمعنى أنه لو لم يكن جعل هذا الدستور لم يتميز الهداية من الضلالة، و لم يصح قبل تعيين الطريق، أن يقال: فلان اهتدى و فلان ضل، فبالحقيقة أن الثاني إنما ضل عن دستورك و طريقك فأنت مضل له بهذا المعنى الدقيق اللطيف.

فإذا فهمت المثال فهمت جواب السؤال و ذلك لأنه لو لا إرسال الرسل و إنزال الكتب لما يتميز الخبيث عن الطيب و لم يصح أن يقال: فلان هدى إلى الصراط المستقيم فأفلح، و فلان ضل فعصى و غوى، و حيث إن الدستور هو القرآن و هو الصراط و المعيار و الميزان و إن الله تعالى أنزله هداية للعباد فمن استكبر و أبى فقد ضل و ظلم نفسه، و بهذا المعنى يقال: إن الله أضله أو هو مضل و نحوهما، ألا ترى أن الإضلال يضاف إلى الظالمين و الخاسرين و الكافرين و نحوها، نحو قوله تعالى: و يضل الله الظالمين‏ (إبراهيم: 27)، و قوله تعالى: و من يضلل فأولئك هم الخاسرون‏ (الأعراف: 178) و قوله: كذلك يضل الله الكافرين‏ و أمثالها، فتبصر و خذه و اغتنم.

قال القيصري في مقدمته على شرح الفصوص: و الوجود خير محض و كل ما هو خير فهو منه و به و قوامه بذاته لذاته، إذ لا يحتاج في تحققه إلى أمر خارج عن ذاته فهو القيوم الثابت بذاته و المثبت لغيره.

و ليس له ابتداء و إلا لكان محتاجا إلى علة موجودة لإمكانه حينئذ، و لا له انتهاء و إلا لكان معروضا للعدم فيوصف بضده أو الإنقلاب فهو أزلي و أبدي فهو الأول و الاخر و الظاهر و الباطن لرجوع كل ما ظهر في الشهادة أو بطن في الغيب إليه، و هو بكل شي‏ء عليم لإحاطته بالأشياء بذاته و حصول العلم لكل عالم إنما هو بواسطته فهو أولى بذلك بل هو الذي يلزمه جميع الكمالات و به تقوم كل من الصفات كالحياة و العلم و الإرادة و القدرة و السمع و البصر و غير ذلك فهو الحي العليم المريد القادر السميع البصير بذاته لا بواسطة شي‏ء آخر إذ به يلحق الأشياء كلها كمالاتها بل هو الذي يظهر بتجليه و تحوله في صورة مختلفة بصور تلك الكمالات فيصير تابعا للذوات لأنها أيضا وجودات خاصة مستهلكة في مرتبة أحديته ظاهرة في واحديته.

و هو حقيقة واحدة لا تكثر فيها و كثرة ظهوراتها و صورها لا يقدح في وحدة ذاتها و تعينها، و امتيازها بذاتها لا بتعين زائد عليها إذ ليس في الوجود ما يغايره ليشترك معه في شي‏ء و يتميز عنه بشي‏ء و ذلك لا ينافي ظهورها في مراتبها المتعينة بل هو أصل جميع التعينات الصفاتية و الأسمائية و المظاهر العلمية و العينية.

و لها وحدة لا يقابل الكثرة هي أصل الوحدة المقابلة لها و هي عين ذاتها الأحدية، و الوحدة الأسمائية المقابلة للكثرة التي هي ظل تلك الوحدة الأصلية الذاتية أيضا عينها من وجه.

و هو نور محض إذ به يدرك الأشياء كلها و لأنه ظاهر بذاته و مظهر لغيره و منور سماوات الغيوب و الأرواح و أرض الأجسام لأنها به توجد، و تتحقق و منبع جميع الأنوار الروحانية و الجسمانية، و حقيقته غير معلومة لما سواه، و ليست عبارة عن الكون و لا عن الحصول و التحقق و الثبوت، إن اريد بها المصدر

لأن كلا منها عرض حينئذ ضرورة، و إن اريد بها ما يراد بلفظ الوجود فلا نزاع كما أراد أهل الله بالكون وجود العالم، و حينئذ لا يكون شي‏ء منها جوهرا و لا عرضا و لا معلوما بحسب حقيقته، و إن كان معلوما بحسب انيته، و التعريف اللفظي لا بد أن يكون بالأشهر ليفيد العلم و الوجود أشهر من الكون و غيره ضرورة.

و الوجود العام المنبسط على الأعيان في العلم ظل من أظلاله لتقيده بعمومه و كذلك الوجود الذهني و الوجود الخارجي ظلان لذلك الظل لتضاعف التقييد و إليه الإشارة بقوله تعالى: أ لم تر إلى ربك كيف مد الظل و لو شاء لجعله ساكنا فهو الواجب الوجود الحق سبحانه و تعالى الثابت بذاته المثبت لغيره الموصوف بالأسماء الإلهية المنعوت بالنعوت الربانية المدعو بلسان الأنبياء و الأولياء الهادي خلقه إلى ذاته الداعي مظاهره بأنبيائه إلى عين جمعه و مرتبة الوهيته أخبر بلسانهم أنه بهويته مع كل شي‏ء، و بحقيقته مع كل حى، و نبه أيضا أنه عين الأشياء، بقوله: هو الأول و الآخر و الظاهر و الباطن و هو بكل شي‏ء عليم‏ فكونه عين الأشياء بظهوره في ملابس أسمائه و صفاته في عالمى العلم و العين و كونه غيرها باختفائه في ذاته و استعلائه بصفاته عما يوجب النقص و الشين و تنزهه عن الحصر و التعيين و تقدسه عن سمات الحدوث و التكوين.

و إيجاده للأشياء اختفاؤه فيها مع اظهاره إياها، و إعدامه لها في القيامة الكبرى ظهوره بوحدته و قهره إياها بازالة تعيناتها و سماتها و جعلها متلاشية، كما قال: لمن الملك اليوم لله الواحد القهار هو كل شي‏ء هالك إلا وجهه‏ و في الصغرى تحوله من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، أو من صورة إلى صورة في عالم واحد، فالمهيات صور كمالاته و مظاهر أسمائه و صفاته ظهرت أولا في العلم ثم في العين بحسب حبه إظهار آياته و رفع أعلامه و راياته فتكثر بحسب الصور و هو على وحدته الحقيقية و كمالاته السرمدية و هو يدرك حقائق الأشياء بما يدرك حقيقة ذاته لا بأمر آخر كالعقل الأول و غيره لأن تلك الحقائق أيضا عين ذاته حقيقة و إن كانت غيرها تعينا.

و لا يدركه غيره كما قال: لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار و لا يحيطون به علما و ما قدروا الله حق قدره* و يحذركم الله نفسه و الله رؤف بالعباد نبه عباده تعطفا منه و رحمة لئلا يضيعوا أعمارهم فيما لا يمكن حصوله.

و إذا علمت أن الوجود هو الحق علمت سر قوله: و هو معكم أين ما كنتم‏ و نحن أقرب إليه منكم و لكن لا تبصرون‏ و في أنفسكم أ فلا تبصرون‏ و هو الذي في السماء إله و في الأرض إله‏ و قوله: الله نور السماوات و الأرض‏ و الله‏ بكل شي‏ء محيط و كنت سمعه و بصره، و سر قوله عليه السلام: لو دليتم بحبل لهبط على الله و أمثال ذلك من الأسرار المنبهة للتوحيد بلسان الإشارة. انتهى ما أردنا من نقل كلام القيصري.

و لما كان حكم السنخية بين العلة و المعلول مما لا يتطرق إليه شك و شبهة فكل واحد مما سواه تعالى آية و علامة له و آية الشي‏ء تحاكى عنه من وجه و لا تباينه من جميع الوجوه و نسبتها إليه كظل إلى ذيه، و لو لا حكم السنخية لما يصح كون الموجودات الافاقية و الأنفسية أعني ما سواه آيات له و تأمل في ألفاظ الاية و أخواتها المذكورة في القرآن الكريم ترشدك إلى الصواب.

قال تعالى: إن في خلق السماوات و الأرض و اختلاف الليل و النهار و الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس و ما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها و بث فيها من كل دابة و تصريف الرياح و السحاب المسخر بين السماء و الأرض لآيات لقوم يعقلون‏ (البقرة: 165).

و قال تعالى: إن في خلق السماوات و الأرض و اختلاف الليل و النهار لآيات لأولي الألباب‏ إلى آخر الايات الخمس (آل عمران: 00) قال في المجمع: و قد اشتهرت الرواية عن النبي صلى الله عليه و آله أنه لما نزلت هذه الايات قال: ويل لمن لاكها بين فكيه و لم يتأمل ما فيها.

و قد روى ثقة الإسلام الكليني قدس سره في كتاب فضل القرآن من اصول الكافي (ص 446 ج 2 من المعرب) بإسناده عن حفص بن غياث، عن الزهري قال: سمعت علي بن الحسين عليهما السلام يقول: آيات القرآن خزائن فكلما فتحت خزانة ينبغي لك أن تنظر ما فيها.

و هذه اللفظة أعني الاية و أخواتها تنادى بأعلى صوتها أن الوجود أصل و أن ما سواه تعالى علامة و في‏ء له تعالى، و لو لا الوجود لما كان عن الأشياء عين و أثر، و لما كان الوجود نورا فما صدر عنه تعالى نور أيضا لحكم السنخية بين العلة و معلولها.

و في المجلد الأول من البحار نقلا عن كتاب علل الشرائع في سؤالات الشامي عن أمير المؤمنين عليه السلام عن أول ما خلق الله تبارك و تعالى؟ فقال عليه السلام:النور.

و في التاسع عشر من البحار ص 183 في دعاء عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه و آله: اللهم إني أسئلك يا من احتجب بشعاع نوره عن نواظر خلقه.

ففيه دلالة على أنه لا حجاب مضروب بينه و بين خلقه إلا شدة ظهوره و قصور بصائرنا فضلا عن أبصارنا عن اكتناه نوره كما تقدم آنفا بيانه.

جمالك فى كل الحقائق سائر و ليس له إلا جمالك ساتر
حجاب روى تو هم روى تست در همه حال‏ نهانى از همه عالم ز بس كه پيدائى‏

و هذا الدعاء معروف بدعاء احتجاب، نقله الشيخ العلامة البهائي قدس سره في الكشكول أيضا (ص 303 من طبع نجم الدولة) و رواه السيد الأجل ابن طاوس- ره- عن أمير المؤمنين عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه و آله في مهج الدعوات (ص 75).

و تأمل في حرز مولانا و إمامنا محمد بن علي الجواد عليهما السلام، رواه السيد الأجل ابن طاوس رفع الله تعالى درجاته في مهج الدعوات (ص 36) و في ذلك الحرز:و أسألك يا نور النهار و يا نور الليل و يا نور السماء و الأرض و نور النور و نورا يضي‏ء به كل نور- إلى أن قال عليه السلام، و ملأ كل شي‏ء نورك.

و في قوله عليه السلام: «ملأ» دقيقة و هي أن ذلك النور لم يترك مكانا لغيره حتى يوجد شي‏ء مؤلف منه و من غيره بل كل شي‏ء ليس إلا ذلك النور فقط

و حدودها أعدام ذهنية اعتبارية.

غيرتش غير در جهان نگذاشت‏ لا جرم عين جمله أشيا شد

و في دعاء إدريس عليه السلام نقله السيد الجليل المذكور قدس سره في المهج أيضا (ص 305): يا نور كل شي‏ء و هداه أنت الذي فلق الظلمات نوره.

و في دعاء إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليه (المهج ص 306): يا الله يا نور النور قد استضاء بنورك أهل سماواتك و أرضك.

و في دعاء لنبينا صلى الله عليه و آله: فيا نور النور و يا نور كل نور- إلخ، رواه السيد قدس سره في الاقبال (ص 126).

و في المهج أيضا (ص 88) و من ذلك دعاء آخر علمه جبرائيل عليه السلام النبي صلى الله عليه و آله أيضا: بسم الله الرحمن الرحيم يا نور السماوات و الأرض يا جمال السماوات و الأرض- إلخ.

و في دعاء السحر لإمامنا محمد بن علي الباقر عليه السلام: اللهم إني أسألك من نورك بأنوره و كل نورك نير اللهم إني أسئلك بنورك كله، و نحوها من الأذكار و الأدعية المأثورة عن حجج الله تعالى كثير جدا و إنما نقلنا طائفة منها ضياء و نورا للمستضيئين، و ليعلم أن المعارف كلها عند خزنة علم الله جل و علا.

از رهگذر خاك سر كوى شما بود هر نافه كه در دست نسيم سحر افتاد

و ذلك النور الذي ملأ كل شي‏ء هو وجهه تعالى‏ كل من عليها فان و يبقى وجه ربك ذو الجلال و الإكرام‏ كل شي‏ء هالك إلا وجهه‏ و لله المشرق و المغرب فأينما تولوا فثم وجه الله‏.

قال العارف المتأله السيد حيدر الاملي قدس سره في جامع الأسرار (ص 210):حكى أن جماعة من الرهبانيين و ردوا المدينة في عهد خلافة أبي بكر و دخلوا عليه و سألوه عن النبي و كتابه، فقال لهم أبو بكر: نعم جاء نبينا و معه كتاب، فقالوا له: و هل في كتابه وجه الله؟ قال: نعم، قالوا: و ما تفسيره؟ قال أبو بكر: هذا السؤال منهي عنه في ديننا، و ما فسره نبينا بشي‏ء، فضحك الرهبانيون كلهم و قالوا:و الله ما كان نبيكم إلا كذابا و ما كان كتابكم إلا زورا و بهتانا.

و خرجوا من عنده فعرف بذلك سلمان فدعاهم إلى أمير المؤمنين عليه السلام و قال لهم: إن هذا خليفته الحقيقي و ابن عمه فاسألوه، فسألوا عن السؤال بعينه أمير المؤمنين عليه السلام فقال لهم: ما نقول جوابكم بالقول بل بالفعل فأمر باحضار شي‏ء من الفحم و باشعاله فلما اشتعل و صار كله نارا، سأل عليه السلام الرهبان و قال:يا رهبان! ما وجه النار؟ فقال الرهبان هذا كله وجه النار، فقال عليه السلام: فهذا الوجود كله وجه الله، و قرأ فأينما تولوا فثم وجه الله‏ كل شي‏ء هالك إلا وجهه له الحكم و إليه ترجعون‏ فأسلم الرهبانيون كلهم بذلك على يده و صاروا موحدين عارفين.

و قال- رضوان الله عليه-: و حكى أيضا أن حيتان البحر اجتمعوا يوما عند كبيرهم و قالوا له: يا فلان نحن عزمنا على التوجه إلى البحر الذي نحن به موجودون و بدونه معدومون فلا بد من أن تعلمنا جهته و تعرفنا طريقه حتى نتوجه إليه و نصل إلى حضرته لأنا بقينا مدة متطاولة نسمع به و ما نعرفه و لا نعرف مكانه و لا جهته.

فقال لهم كبيرهم: يا أصحابي و إخواني ليس هذا الكلام يليق بكم و لا بأمثالكم لأن البحر أعظم من أن يصل إليه أحد و هذا ليس بشغلكم و لا هو من مقامكم، فاسكتوا عنه و لا تتكلموا بعد ذلك بمثل هذا الكلام بل يكفيكم أنكم تعتقدون أنكم موجودون بوجوده و معدومون بدونه.

فقالوا له: هذا الكلام ما ينفعنا و لا هذا المنع يدفعنا، لا بد لنا من التوجه إليه و لا بد لك من إرشادنا إلى معرفته و دلالتنا إلى وجوده.

فلما عرف الكبير صورة الحال و أن المنع لا يفيد شرع لهم في البيان و قال:يا اخواني البحر الذي أنتم تطلبونه و تريدون التوجه إليه هو معكم و أنتم معه، و هو محيط بكم و أنتم محاطون به، و المحيط لا ينفك عن المحاط به، و البحر عبارة عن الذي أنتم فيه فأينما توجهتم في الجهات فهو البحر و ليس غير البحر عندكم شي‏ء فالبحر معكم و أنتم مع البحر، و أنتم في البحر و البحر فيكم، و هو ليس بغائب عنكم، و لا أنتم بغائبين عنه، و هو أقرب إليكم من أنفسكم.

فحين سمعوا هذا الكلام منه قاموا كلهم إليه و قصدوه حتى يقتلوه، فقال لهم: لم تقتلوني و لأي ذنب أستحق هذا؟ فقالوا له: لأنك قلت البحر الذي نحن نطلبه هو الذي نحن فيه و الذي نحن فيه هو الماء فقط، و أين الماء من البحر فما أردت بهذا إلا إضلالنا عن طريقه وحيداننا عنه.

فقال كبيرهم: و الله ما كان كذلك و ما قلت إلا الحق و الواقع في نفس الأمر لأن البحر و الماء شي‏ء واحد في الحقيقة و ليس بينهما مغايرة أصلا، فالماء اسم للبحر بحسب الحقيقة و الوجود، و البحر اسم له بحسب الكمالات و الخصوصيات و الانبساط و الانتشار على المظاهر كلها.

فعرف ذلك بعضهم و صار عارفا بالبحر و سكت عنه، و أنكر البعض الاخر و كفر بذلك و رجع عنه مطرودا محجوبا.و الذي حكيت عن لسان الحيتان لو حكيته عن لسان الأمواج لكان أيضا صحيحا و كلاهما جائز، و إذا تحقق هذا فكذلك شأن الخلق في طلب الحق فإنهم إذا اجتمعوا عند نبي أو إمام أو عارف و سألوا عن الحق، فقال هذا النبي أو الإمام أو العارف: إن الحق الذي تسألون عنه و تطلبونه هو معكم و أنتم معه، و هو محيط بكم و أنتم محاطون به، و المحيط لا ينفك عن المحاط، و هو معكم أينما كنتم، و هو أقرب إليكم من حبل وريدكم‏ ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم و لا خمسة إلا هو سادسهم و لا أدنى من ذلك و لا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا «و هو الأول و الآخر و الظاهر و الباطن و هو بكل شي‏ء عليم‏ فأينما تولوا فثم وجه الله‏ كل شي‏ء هالك إلا وجهه له الحكم و إليه ترجعون‏ و هو ليس بغائب عنكم و لا أنتم بغائبين عنه، أينما توجهتم فثم ذاته و وجهه و وجوده و هو مع كل شي‏ء و هو عين كل شي‏ء، بل هو كل شي‏ء و كل شي‏ء به قائم و بدونه زائل، و ليس لغيره وجود أصلا، لا ذهنا و لا خارجا، و هو الأول بذاته، و الاخر بكمالاته، الظاهر بصفاته، و الباطن بوجوده، و إنه للكل مكان، في كل حين و أوان، و مع كل إنس و جان.

فلما سمع الخلق ذلك قاموا إليه كلهم و قصدوه ليقتلوه، فقال لهم لم تقتلوني و لأي ذنب أستحق هذا؟.

فقالوا له: لأنك قلت الحق معكم و أنتم معه، و ليس في الوجود إلا هو، و ليس لغيره وجود لا ذهنا و لا خارجا، و نحن نعرف بالحقيقة أن هناك موجودات غيره من العقل و النفس و الأفلاك و الأجرام و الملك و الجن و غير ذلك، فما أنت إلا كافر ملحد زنديق، و ما أردت بذلك إلا إغواءنا و إضلالنا عن الحق و طريقه.

فقال لهم: لا و الله ما قلت لكم غير الحق و لا غير الواقع، و ما أردت بذلك إضلالكم و إغواءكم، بل قلت ما قال هو بنفسه، و أخبركم إياه على لسان نبيه، و إلا فأي شي‏ء معنى قوله: سنريهم آياتنا في الآفاق‏- الاية، و معنى قوله:الله نور السماوات و الأرض‏- الاية، و معنى قوله: هو الأول و الآخر و الظاهر و الباطن‏ و لأي شي‏ء قال: ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم و آباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم و لكن أكثر الناس لا يعلمون‏؟، و لم قال: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء و الله ذو الفضل العظيم*؟ لأنه يعرف أن كل واحد ما يعرف ذلك و لا بقدر عليه، كما قال أيضا: إن في ذلك لآيات لأولي النهى* «و إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب‏ «و إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع و هو شهيد.

فعرف ذلك بعضهم و قبل منه و صار عارفا موحدا، و أنكر ذلك بعضهم، و رجع عنه محجوبا مطرودا ملعونا نعوذ بالله منه و من أمثاله، هذا آخر الأمثلة المضروبة في هذا الباب، و الله أعلم بالصواب و إليه المرجع و الماب‏ و لقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون‏ و تلك الأمثال نضربها للناس و ما يعقلها إلا العالمون‏، انتهى ما أردنا من نقل كلامه رحمة الله عليه في المقام.

و لما لم يكن للمهيات أصالة، و لم يكن لها أثر و ظهور إلا بنور الوجود، و لم‏ يكن الوجود إلا ذاته سبحانه و شئونه و دريت أنه ملأ كل شي‏ء و فتق ظلمات الماهيات نوره فأول ما يرى و يدرك و يعلم في دار الوجود هو الوجود ليس إلا فهو ظاهر بذاته لا يحتاج إلى معرف و دليل يدل عليه لأن ذلك الدليل إما وجود أو غيره و الوجود وجود، و الغير عدم و العدم لا شي‏ء محض و ما ليس بشي‏ء رأسا كيف يدل على ما هو شي‏ء و موجود، نعم إن غير الوجود من ماهيات أشباح الموجودات الممكنة بأسرها يعرف به، و قد سئل نبينا صلى الله عليه و آله بما ذا عرفت ربك؟ قال صلى الله عليه و آله: بالله عرفت الأشياء، و قال مولانا علي أمير المؤمنين عليه السلام: اعرفوا الله بالله.

و روى ثقة الإسلام الكليني بإسناده عن عبد الأعلى، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: اسم الله غيره و كل شي‏ء وقع عليه اسم شي‏ء فهو مخلوق ما خلا الله- إلى أن قال عليه السلام: من زعم أنه يعرف الله بحجاب أو بصورة أو بمثال فهو مشرك لأن حجابه و مثاله و صورته غيره و إنما هو واحد موحد فكيف يوحده من زعم أنه عرفه بغيره، و إنما عرف الله من عرفه بالله، فمن لم يعرفه به فليس يعرفه إنما يعرف غيره ليس بين الخالق و المخلوق شي‏ء- الحديث (حديث 4 من باب حدوث الأسماء من اصول الكافي ج 1 ص 88 من المعرب).

و في التوحيد (ص 494) عن منصور بن حازم قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام:إني ناظرت قوما فقلت لهم: إن الله أجل و أكرم من أن يعرف بخلقه بل العباد يعرفون بالله، فقال عليه السلام: رحمك الله.

و في دعاء عرفة لسيد الشهداء أبي عبد الله الحسين عليه السلام: كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك أ يكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك، كما تقدم آنفا، و لا يخفى لطف كلامه عليه السلام «في وجوده» فإن لهذا الكلام شأنا من الشأن.

و مما يرشدك أيضا إلى أن ما سواه تعالى شئونه و مجالى ذاته و مظاهر أسمائه و صفاته كلمة فاطر، و فطر و أخواتهما في القرآن الكريم نحو قوله عز من قائل:أ في الله شك فاطر السماوات و الأرض‏ (إبراهيم: 11) و قوله تعالى:

إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات و الأرض حنيفا (الأنعام: 80) و كذا في عدة آيات اخر، لأن أصل الفطر الشق، يقال: تفطر الشجر بالورق و الورد إذا أظهرهما، كما في غرائب القرآن للنيسابوري.

قال الراغب: أصل الفطر: الشق طولا، يقال: فطر فلان كذا فطرا و أفطر هو فطورا و انفطر انفطارا، و فطرت الشاة حلبتها باصبعين، و فطرت العجين إذا عجنته فخبزته من وقته، و منه الفطرة، و فطر الله الخلق و هو ايجاده الشي‏ء و إبداعه على هيئة مترشحة لفعل من الأفعال، فقوله: فطرت الله التي فطر الناس عليها فإشارة منه تعالى إلى ما فطر، أي أبدع و ركز في الناس من معرفته تعالى، و فطره الله هي ما ركز فيه من قوته على معرفة الإيمان و هو المشار إليه بقوله:

و لئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله‏ و قال: الحمد لله فاطر السماوات و الأرض‏ و قال: الذي فطرهن‏- و الذي فطرنا أي أبدعنا و أوجدنا، يصح أن يكون الإنفطار في قوله: السماء منفطر به‏ إشارة إلى قبول ما أبدعها و أفاضه علينا منه. انتهى.

و كلمة فطر و مشتقاتها تنبئك أن ما سواه تعالى تفطر منه و كل واحد منهم على حياله مشتق منه و منشق عنه و صورة و آية له، و من دعاء سيد الساجدين عليه السلام في الصلاة على آدم عليه السلام، كما فى ملحقات الصحيفة: اللهم صل على آدم و آدم بديع فطرتك- إلخ.

و لما اتصف كل واحد منهم بالوجود، اتصف على قدر قابليته و سعته و ضيقه بالأسماء و الصفات اللازمة للوجود أيضا، و في أي موطن ظهر منك الوجود ظهر معه أتباعه من الأسماء و الصفات اللائقة به إلا الأسماء المستأثرة كالوجوب الذاتي فانها صفايا الملك الواحد القهار، أسماء مخزونة عنده تعالى لا يمكن لغيره أن يتصف به و لا يسع غيره أن يطلبها منه و يتعب نفسه لإدراكها.

و في حرز مولانا محمد بن علي الجواد عليه السلام: و بأسمائك المقدسات المكرمات المخزونات في علم الغيب عندك، رواه السيد الأجل ابن طاوس قدس سره في‏ مهج الدعوات (ص 36).

و في أعمال ليلة عيد الفطر: أسألك بكل اسم في مخزون الغيب عندك، رواه السيد المذكور قدس سره في الإقبال (273).

و في دعاء مولانا و إمامنا موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام أتى به الشيخ الكفعمي نور الله مضجعه في البلد الأمين (ص 521): و بالاسم الذي حجبت عن خلقك فلم يخرج منك إلا إليك.

و في آخر دعاء مروي عن مولانا الحسين بن علي عليهما السلام الدعاء المعروف بدعاء الشاب المأخوذ بذنبه، رواه السيد الجليل ابن طاوس قدس سره في مهج الدعوات (ص 151): أسألك بكل اسم سميت به نفسك، أو أنزلته في شي‏ء من كتبك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك. إلخ.

و في الدعاء الخمسين من الصحيفة السجادية: فأسألك اللهم بالمخزون من أسمائك.

و في رياض السالكين في شرح صحيفة سيد الساجدين للعالم الرباني صدر الدين علي بن أحمد نظام الدين الحسيني المدعو بالسيد علي خان قدس سره (565): روى عن النبي صلى الله عليه و آله قال: إن لله تعالى أربعة آلاف اسم: ألف لا يعلمها إلا الله، و ألف لا يعلمها إلا الله و الملائكة، و ألف لا يعلمها إلا الله و الملائكة و النبيون، و أما الألف الرابع فالمؤمنون يعلمونه، فثلاثمائة في التوراة، و ثلاثمائة في الإنجيل، و ثلاثمائة في الزبور، و مائة في القرآن، تسعة و تسعون ظاهرة و واحد منها مكتوم من أحصاها دخل الجنة.

و روى ثقة الإسلام الكليني نور الله مضجعه في الحديث الأول من باب حدوث الأسماء من اصول الكافي (ص 87 ج 1 من المعرب) بإسناده عن إبراهيم ابن عمر، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الله تبارك و تعالى خلق اسما بالحروف غير متصوت و باللفظ غير منطق و بالشخص غير مجسد و بالتشبيه غير موصوف و باللون غير مصبوغ منفى عنه الأقطار، مبعد عنه الحدود، محجوب عنه حس كل متوهم‏ مستتر غير مستور، فجعله كلمة تامة على أربعة أجزاء معا ليس منها واحد قبل الاخر فأظهر منها ثلاثة أسماء لفاقة الخلق إليها و حجب منها واحدا و هو الاسم المكنون المخزون- الحديث.

و رواه رئيس المحدثين الشيخ الصدوق رضوان الله عليه أيضا في باب أسماء الله تعالى، و الفرق بين معانيها و بين معانى أسماء المخلوقين من كتاب التوحيد ص 183 من طبع ايران 1321 ه.

و روى الكليني في الحديث الأول من باب ما أعطى الأئمة عليهم السلام من اسم الله الأعظم من اصول الكافي (ص 179 ج 1 من المعرب) بإسناده عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن اسم الله الأعظم على ثلاثة و سبعين حرفا و إنما كان عند آصف منها حرف واحد فتكلم به فخسف بالأرض ما بينه و بين سرير بلقيس حتى تناول السرير بيده، ثم عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة العين، و نحن عندنا من الاسم الأعظم اثنان و سبعون حرفا، و حرف واحد عند الله تعالى استأثر به في علم الغيب عنده و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم.

و في الحديث الثاني منه: و إن اسم الله الأعظم ثلاثة و سبعون حرفا اعطى محمد صلى الله عليه و آله اثنين و سبعين حرفا و حجب عنه حرف واحد.

و في الثالث منه: و عندنا منه اثنان و سبعون حرفا و حرف عند الله مستأثر به في علم الغيب.

و في الحديث السادس عشر من باب الدعاء للكرب و الهم و الحزن و الخوف من كتاب الدعاء من الكافي (ص 408 ج 2 من المعرب) عن أبي عبد الله عليه السلام:اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت في علم الغيب عندك- الحديث.

و الأخبار و الأدعية في ذلك كثيرة جدا، و للحكيم المتأله المولى الصالح المازندراني السروي قدس سره في شرح الأبواب المذكورة من الكافي، و كذا لاستاذنا العلامة ميرزا أبي الحسن الشعراني متع الله علماء المسلمين بطول بقائه‏ معارف حقة إلهية في بيان تلك الأسرار الصادرة عن خزنة علم الله تعالى فعليك بطلبها في مظانها.

و بالجملة إن الوجود إذا ظهر أينما كان لا ينفك عنه توابعه النورية و صفاته العليا بحكم السنخية المستفاد من الفطر أيضا، و إنما التفاوت بحسب قرب الأشياء من مبدئها و بعدها عنها طولا فكلما كان أقرب كان سعة وجوده أكثر و آثاره الوجودية أشد و أوفر فتنتهى كلها إلى من واجب وجوده، و لا ينقطع جوده طرفة عين، و ليس ما سواه إلا فيضه القائم به و هو قيامه، فإذا جميع الصفات الكمالية ينتهى إليه أيضا و لا يتصور فوقه وجود و لا كمال، قال عز من قائل: أ و لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة و قال تعالى: إن من شي‏ء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم‏ و قال جل و علا: كل يوم هو في شأن‏ و قال جلت عظمته: يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله و الله هو الغني‏ و قال تبارك و تعالى: قل كل يعمل على شاكلته‏ و قال تعالى: إن الله يمسك السماوات و الأرض أن تزولا و قال تعالى: و الله‏ بكل شي‏ء محيط و قال تعالى‏ إن كل من في السماوات و الأرض إلا آتي الرحمن عبدا و قال تعالى: و عنت الوجوه للحي القيوم‏.

و مما يتفرع على هذه الدقيقة أنه ما من موجود إلا و له ملكوت ناطق بالحق بلسان يليق به، قال الله تعالى: و إن من شي‏ء إلا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم‏ (الاسراء: 45) و قال تعالى: و النجم و الشجر يسجدان‏ (الرحمن: 7).

و قال تبارك و تعالى: قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شي‏ء (فصلت، حم السجدة: 22).

و قال تعالى: فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين‏ (قصص 31).

و قال تعالى: و ورث سليمان داود و قال يا أيها الناس علمنا منطق الطير و أوتينا من كل شي‏ء (النمل: 17).

و قال تعالى: و حشر لسليمان جنوده من الجن و الإنس و الطير فهم يوزعون حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان و جنوده و هم لا يشعرون فتبسم ضاحكا من قولها- إلخ» (النمل: 19».

و قال تعالى: و تفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد- إلى قوله: فقال أحطت بما لم تحط به و جئتك من سبإ بنبإ يقين‏- إلى آخر الايات» (النمل: 22).

و قال تعالى في سورة يس: اليوم نختم على أفواههم و تكلمنا أيديهم و تشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون‏، و غيرها من الايات القرآنية.

و أما الأخبار في تكلم الحيوانات بل الجمادات لحجج الله تعالى و أوليائه فكثيرة جدا.

قال العلامة البهائى قدس سره في أوائل المجلد الثاني من الكشكول: العالم بأجزائه حي ناطق و إن من شي‏ء إلا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم، لكن نطق البعض يسمع و يفهم ككلام الاثنين المتفقين في اللغة إذا سمع كل منهما كلام الاخر و فهمه، و نطق البعض يسمع و لا يفهم كالاثنين المختلفى اللغة و منه سماعنا أصوات الحيوانات و سماع الحيوانات أصواتنا، و منه ما لا يسمع و لا يفهم كغير ذلك، و هذا بالنسبة الى المحجوبين، و أما غيرهم فيسمعون كلام كل شي‏ء.

و قال في آخر الكشكول (ص 625 من طبع نجم الدولة): روى العارف الرباني المولا عبد الرزاق القاساني في تأويلاته: أن الصادق جعفر بن محمد عليه السلام خر مغشيا عليه في الصلاة فسئل عن ذلك فقال: ما زلت اردد الاية حتى سمعتها من المتكلم بها، ثم قال: نقل الفاضل الميبدي في شرح الديوان عن الشيخ السهروردي أنه قال بعد نقل هذه الحكاية عن الصادق عليه السلام: أن لسان الإمام في ذلك الوقت كان كشجرة موسى عند قول: إني أنا الله‏ و هو مذكور في الإحياء في تلاوة القرآن. انتهى.

قال الشيخ العارف محيى الدين في أوائل الفص الهودي: و كل ما سوى الحق فهو دابة لأنه ذو روح و ما ثمة من يدب بنفسه و إنما يدب بغيره فهو يدب بحكم التبعية للذي هو على الصراط المستقيم فانه لا يكون صراطا إلا بالمشى عليه.

إذا دان لك الخلق فقد دان لك الحق‏ و إن دان لك الحق فقد لا يتبع الخلق‏
فحقق قولنا فيه فقولي كله حق‏ فما في الكون موجود تراه ماله نطق‏
و ما خلق تراه العين إلا عينه حق‏ و لكن مودع فيه لهذا صوره حق‏

و قال القيصري في بيان قوله: فما في الكون موجود تراه ماله نطق: أي ليس في الوجود موجود تراه و تشاهده إلا و له روح مجرد ناطق بلسان يليق به، و قال تعالى: و إن من شي‏ء إلا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم‏ و هذا اللسان ليس لسان الحال كما يزعم المحجوبون، قال الشيخ رضي الله عنه في آخر الباب الثاني عشر من الفتوحات: و قد ورد أن المؤذن يشهد له مدى صوته من رطب أو يابس، و الشرائع و النبوات من هذا القبيل مشحونة و نحن زدنا مع الإيمان بالأخبار الكشف فقد رأينا الأحجار رؤية عين بلسان نطق تسمعه آذاننا منها و تخاطبنا مخاطبة العارفين بجلال الله مما ليس يدركه كل إنسان، و إنما اختفى نطق بعض الموجودات لعدم الاعتدال الموجب لظهور ذلك الفعل فلا يسمعه كل أحد فبقى نطقه باطنا و المحجوب يزعم أنه لا نطق له و الكامل لكونه مرفوع الحجاب لشاهد روحانية كل شي‏ء، و يدرك نطق كل حى باطنا و ظاهرا و الحمد لله أولا و آخرا.

و أفاد العارف المولى عبد الرزاق القاساني في المقام بقوله: إذا كان الحق هو المتجلي في كل موجود فلا موجود إلا هو ناطق بالحق لأنه لا يتجلى في مظهر إلا في صورة اسم من أسمائه، و كل اسم موصوف بجميع الأسماء لأنه لا يتجزى لكن المظاهر متفاوتة في الاعتدال و التسوية، فإذا كانت التسوية في غاية الاعتدال تجلي بجميع الأسماء، و إذا لم يكن و لم يخرج عن هذا الاعتدال الإنساني ظهر النطق و بطن سائر الأسماء و الكمالات و إذا انحط عن طور الاعتدال الإنساني بقي النطق في الباطن في الجميع حتى الجماد، فإن التي لم يظهر عليه من الأسماء الإلهية و الصفات كانت باطنة فيه لعدم قابلية المحل لظهوره فلا موجود إلا و له نطق ظاهرا أو باطنا، فمن كوشف ببواطن الوجود سمع كلام الكل حتى الحجر و المدر. انتهى.

و قال القيصري في الفصل الرابع من مقدماته على شرح الفصوص: و لا تظن أن مبدأ النطق الذي هو النفس الناطقة ليس للحيوان لينضم معه فيصير الحيوان به إنسانا مع أنه غير صالح للفصلية لكونه موجودا مستقلا في الخارج بل هذا المبدأ مع كل شي‏ء حتى الجماد أيضا فإن لكل شي‏ء نصيبا من عالم الملكوت و الجبروت و قد جاء ما يؤيد ذلك من معدن الرسالة المشاهد للأشياء بحقائقها صلوات الله عليه مثل تكلم الحيوانات و الجمادات معه، و قال تعالى: و إن من شي‏ء إلا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم‏ و ظهور النطق لكل واحد بحسب العادة و السنة الإلهية موقوف على اعتدال المزاج الإنساني، و أما للكمل فلا لكونهم مطلعين على بواطن الأشياء مدركين لكلامها، و ما قال المتأخرون بأن المراد بالنطق هو إدراك الكليات لا التكلم مع كونه مخالفا لوضع اللغة لا يفيدهم لأنه موقوف على أن الناطقة المجردة للإنسان فقط، و لا دليل لهم على ذلك، و لا شعور لهم على أن الحيوانات، ليس لهم إدراك كلي و الجهل بالشي‏ء لا ينافي وجوده، و امعان النظر فيما يصدر منها من العجائب يوجب أن يكون لها إدراكات كلية، و أيضا لا يمكن إدراك الجزئي بدون كليه إذ الجزئي هو الكلي مع التشخص، و الله الهادي.

و قال الحكيم المتأله المولى صدرا قدس سره في شرح الحديث الثالث من باب النسبة من كتاب التوحيد من اصول الكافي: عن عاصم بن حميد قال: قال سئل علي بن الحسين عليهما السلام عن التوحيد، فقال: إن الله عز و جل علم أنه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون فأنزل الله تعالى‏ قل هو الله أحد و الايات من سورة الحديد- إلى قوله: و هو عليم بذات الصدور فمن رام وراء ذلك فقد هلك.

ثم اعلم أن كل واحدة من هذه الايات الستة المشار إليها في هذا الحديث متضمنة لباب عظيم من علم التوحيد و الإلهية محتوية على أمر حكيم من الأحكام الصمدية و الربوبية لو أمهل الزمان و ساعد الدهر الخوان لعارف رباني و حكيم إلهي أخذ علمه من مشكاة النبوة المحمدية على صادعها و آله أفضل الصلاة و التحية و اقتبس حكمته عن أحاديث أصحاب العصمة و الطهارة و التزكية سلام الله عليهم لكان من حقه و حقهما أن يكتب في تفسير كل منها ما يثخن به مجلدا كبيرا بل مجلدات كثيرة، و لكن سنذكر في كل آية منها ما هو كالشاهد لما ادعيناه و كالأنموذج لما شاهدناه فنقول: أما الاية الالى ففي الأخبار عن تسبيح كل ما في السماوات و ما في الأرض من الموجودات حتى الجماد و النبات و الأجساد و المواد و الأرض الموات و جثث الأموات لله تعالى، و معرفة هذا التسبيح الفطري و العرفان الكشفي الوجودي من غوامض العلوم و دقائق الأسرار التي عجزت عن إدراكها أذهان جمهور العلماء و أكثر الحكماء فضلا عن غيرهم و ليس عندهم في هذا الباب إلا مجرد التقليد، إيمانا بالغيب أو حمل التسبيح على ما فيها من الأدلة الدالة على وحدانية الله و تنزيهه (تنزهه- خ ل) عن صفات النقص من التجسم و التغير و التكثر.

و قال بعضهم: إن كلمة ما ههنا بمعنى من، و قيل: معناه كل ما يتأتى منه التسبيح، هذا تمام كلام الأعلام في هذا المقام، و لا يخفى عدم ملائمة كل من الوجهين الأخيرين، بل كل ما قيل من التأويل و التخصيص لكثير من الايات القرآنية و الأخبار النبوية الدالة على تسبيح المسمى بالجماد و النبات من الشجر و الحجر و الصخر و المدر فضلا عن المسمى بالحيوان و الطير و البشر.

منها قوله تعالى: أ لم تر أن الله يسجد له من في السماوات و من في الأرض و الشمس و القمر و النجوم و الجبال و الشجر و الدواب و كثير من الناس‏.

و منها قوله: أ و لم يروا إلى ما خلق الله من شي‏ء يتفيؤا ظلاله عن اليمين و الشمائل سجدا لله و هم داخرون‏ و كذا نظائرها من الايات الدالة على وقوع‏  التسبيح من جميع الموجودات حقيقة.

و حكاية تسبيح الحصى في كف النبي صلى الله عليه و آله و سماعه و إسماعه مشهور، و في ألسنة الرواة مذكور، و ما روى أيضا عن ابن مسعود أنه قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه و آله بمكة فخرجنا في بعض نواحيها فما استقبله حجر و لا مدر إلا و يقول:السلام عليك يا رسول الله، و أمثاله كثيرة في الروايات دالة على أن هذا التسبيح و السجود و التسليم واقع على وجه التحقيق.

حتى أن كثيرا من المنتسبين إلى الكشف و العرفان، زعموا أن النبات بل الجماد فضلا عن الحيوان له نفس ناطقة كالإنسان، و ذلك أمر باطل و البراهين ناهضة على خلافه من لزوم التعطيل و المنع عما فطر الله طبيعة الشي‏ء عليه و دوام القصر على أفراد النوع و الإبقاء له على القوة و الإمكان للشي‏ء من غير أن يخرج إلى الفعلية و الوجدان إلى غير ذلك من المفاسد الشنيعة المصادمة للبرهان و الحكمة.

بل هذا تسبيح فطري و سجود ذاتي و عبادة فطرية نشأت عن تجل إلهي و انبساط نور وجودي على كافة الخلائق على تفاوت درجاتها و تفاضل مقاماتها في نيل الوجود و درك الشهود و مع هذا التفاوت و التفاضل في القرب و البعد و الشرف و الخسة فأفراد العالم كله كأجزاء شخص واحد تنال من روح الحياة و روح المعرفة ما ناله الكل دفعة واحدة فأنطقها الله الذي أنطق كل شي‏ء فأحبته و خضعته و سجدت له بسجود الكل و سبحت له بتسبيحات هي تسبيح الكل‏ كل قد علم صلاته و تسبيحه‏.

و الذي يمنع عن هذه العبادة الفطرية الأفكار الوهمية و التصرفات النفسانية لأكثر الانس الموجبة للخروج عن الفطرة الأصلية و استحقاقية العذاب كما في قوله تعالى: و كثير حق عليه العذاب‏.

و بالجملة تحقيق هذا التسبيح الفطري و إثبات هذه العبادة الذاتية مما يختص به الكاملون في الكشف و العرفان الراسخون في العلم و الإيقان، و أما سماع‏  اللفظ أو إسماعه كما هو المروي عن النبي صلى الله عليه و آله و صحبه فكذلك من باب المعجزة الواقعة نفسه القدسية على إنشاء الأصوات و الأشكال على موازنة المعاني و الأحوال انتهى كلامه طيب الله رمسه في المقام.

و قلت: الظاهر من كلامه: حتى أن كثيرا من المنتسبين- إلخ- يوهم التناقض بينه و بين كلام القيصري المذكور آنفا حيث قال: «لأنه موقوف على أن الناطقة المجردة للإنسان فقط، و لا دليل لهم على ذلك» و لكن بعد التأمل الدقيق في كلامهما يظهر عدم التناقض بينهما و كلاهما يشيران إلى معنى واحد، و بيان عدم التنافي بينهما يعلم بما قدمنا من كلام المولى عبد الرزاق القاساني فإنك إذا أمعنت النظر فيه تدرى أن المولى صدرا و القيصري يسلكان ما سلكه القاساني و يفيدان ما أفاده و لا اختلاف و لا تفرقة بينهم، و قد أجاد العارف صاحب المثنوي بقوله نظما:

گر تو را از غيب چشمى باز شد با تو ذرات جهان همراز شد
نطق خاك و نطق آب و نطق گل‏ هست محسوس حواس أهل دل‏
هر جمادى با تو مى‏گويد سخن‏ كو ترا آن گوش و چشم أى بو الحسن‏
گر نبودى واقف از حق جان باد فرق كى كردى ميان قوم عاد
سنگ أحمد را سلامى مى‏كند كوه يحيى را پيامى مى‏كند
جمله ذرات در عالم نهان‏ با تو مى‏گويند روزان و شبان‏
ما سميعيم و بصير و با هشيم‏ با شما نامحرمان ما خامشيم‏
از جمادى سوى جان جان شويد غلغل أجزاى عالم بشنويد
فاش تسبيح جمادات آيدت‏ وسوسه تأويلها بزدايدت‏
چون ندارد جان تو قنديلها بهر بينش كرده‏اى تأويلها

فإذا دريت أن ما سواه آية له و مشتق منه و منفطر منه، و أنه إن من شي‏ء إلا أنه حاك عنه و مثال و صورة له و لله المثل الأعلى و أن الوجود لا ينفك عن آثاره النورية، علمت أن ما يخاطبنا الله جل جلاله بكتابه و كلامه و يدعونا إلى‏ ما فيه خيرنا و سعادتنا كلقائه مثلا، فلا بد من أن يكون فطرتنا مناسبة و متشابهة له و لو بوجه و إلا لم يصح الخطاب و نزيدك في ذلك بيانا.

و نقول: قال محيى الدين في الفص الادمى من الفصوص: و لما كان استناده- أى استناد الحادث- إلى من ظهر عنه لذاته اقتضى أن يكون على صورته فيما ينسب إليه من كل شي‏ء من اسم و صفة ما عدا الوجوب الذاتي فإن ذلك لا يصح للحادث، و إن كان واجب الوجود و لكن وجوده بغيره لا بنفسه.

و قال القيصري في شرحه: أى اقتضى هذا الاستناد أن يكون الحادث على صورة الواجب، أى يكون متصفا بصفاته، و جميع ما ينسب إليه من الكمالات ما عدا الوجوب الذاتي و إلا لزم انقلاب الممكن من حيث هو ممكن واجبا، و ذلك لأنه اتصف بالوجود و الأسماء و الصفات لازمة للوجود، فوجب أيضا اتصافه بلوازم الوجود و إلا لزم تخلف اللازم عن الملزوم، و لأن المعلول أثر العلة و الاثار بذاتها و صفاتها دلائل على صفات المؤثر و ذاته، و لا بد أن يكون في الدليل شي‏ء من المدلول لذلك صار الدليل العقلي أيضا مشتملا على النتيجة، فإن إحدى مقدمتيه مشتملة على موضوع النتيجة، و الاخرى على محمولها، و الأوسط جامع بينهما، و لأن العلة الغائية من إيجاد الحادث عرفان الموجد كما قال تعالى: و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون‏ و العبادة تستلزم معرفة المعبود و لو بوجه، مع أن ابن عباس رضي الله عنه فسرها هنا بالمعرفة و لا يعرف الشي‏ء إلا بما فيه من غيره لذلك قال عليه السلام حين سئل بم عرفت الله: عرفت الأشياء بالله، أى عرفته به أولا ثم عرفت به غيره و لما كان وجوده من غيره صار أيضا وجوبه بغيره، و غير الإنسان من الموجودات، و إن كان متصفا بالوجود لكن لا صلاحية له بظهور جميع الكمالات فيه. انتهى.

و قال العارف الجامي في شرحه على الفصوص: قوله: «فيما ينسب إليه من كل شي‏ء من اسم و صفة» من اسم و صفة بيان لشي‏ء، فحاصله أن يكون على صفته تعالى في كل اسم و صفة ينسب إليه تعالى يعنى كما أنه ينسب كل اسم و صفة إليه‏ تعالى كذلك ينسب إلى الحادث فإنه بأحدية جمعه الأسمائي متجل و سار فيه و لذا قيل كل موجود متصف بصفات السبع الكمالية لكن ظهورها فيه بحسب استعداده و قابليته.

و قال بعض المحشيين على شرح القيصري: قوله: «لأنه اتصف بالوجود» يظهر من هذا أن ذات الواجب بصرافة ذاته لا يكون في الممكن و إلا يلزم أن يكون الممكن متصفا بالوجوب الذاتى أيضا بعين هذا الدليل بأن يقال ان الممكن متصف بالوجود الذي يكون واجبا لذاته و الوجوب لازم للواجب فوجب اتصاف الممكن بذلك اللازم أيضا، انتهى، يعني أن الممكن غير متصف بالوجود الصرف الواجب الوجود حتى يلزم انقلاب الممكن واجبا.

و أفاد بعض اساتيذنا و هو العالم المحقق النحرير محمد حسين ابن المولى عبد العظيم التونى الشهير بالفاضل التونى تغمده الله بغفرانه في تعليقته على قول القيصري المنقول آنفا «و لا يعرف الشي‏ء إلا بما منه في غيره»:

لأنه لا يعرف الغائب إلا بالشاهد بمعنى أنه لا يمكن أن يعرف شي‏ء إلا أن يكون له مثال في ذات العالم فاذا قيل لك كيف يكون الواجب تعالى عالما بذاته فالجواب كما أنك تعلم ذاتك فتفهم علمه تعالى بذاته، و إذا قيل كيف يعلم الواجب تعالى غيره فيقال كما تعلم أنت غيرك، و إذا قيل كيف يعلم الواجب تعالى بعلم واحد بسيط سائر المعلومات فيقال كما تعلم جواب مسائل دفعة بدون تفصيل ثم تنتقل بالتفصيل، و إذا قيل كيف علمه مبدء لوجود الأشياء فيقال كما يكون توهمك للسقوط عن الجدار مبدء للسقوط و إذا قيل كيف يعلم الأشياء كلها فيقال كما يعلم المنجم الخسوف أو الكسوف من العلم بأسبابها، و الحاصل أنك لا تقدر أن تفهم شيئا من الله تعالى إلا بالمقايسة إلى شي‏ء من نفسك فإذا لم يكن لشي‏ء نظير في نفسك فلا يمكنك العلم به كالوجوب الذاتي و الوجود بلا مهية و لما لم يكن لهما نظير في نفسك لم يمكنك العلم بهما فلا تتعب نفسك في العلم بهما و لذا قال تعالى‏ و يحذركم الله نفسه و الله رؤف بالعباد انتهى كلامه رفع مقامه و له‏ قدس سره تعليقات أنيقة على شرح الفصوص القيصري من بدو الكتاب إلى ختمه و قد طبع طائفة منها على مقدمات القيصري على شرح الفصوص.

فبما قدمنا علمت معنى قول ثامن الأئمة علي بن موسى الرضا عليه آلاف التحية و الثناء: «قد علم أولو الألباب أن ما هنالك لا يعلم إلا بما ههنا» و هذا الكلام الوجيز بعيد الغور جدا، ككلام جده باب مدينة العلم أمير المؤمنين علي عليه السلام في الصورة الإنسانية: «و هي الشاهدة على كل غائب» كما في شرح الأسماء للمتأله السبزوارى ص 12 من الطبع الناصرى، كما علمت أن الإنسان متصف بحسب استعداده و قابليته بأوصاف وجودية تحاكى عن أصلها قال عز من قائل:و علم آدم الأسماء كلها و التفاوت بينها و بين الأصل كتفاوت مرحلتى الوجودين حيث ان وجود الإنسان كغيره فيض من وجوده تعالى و في‏ء له و قائم به و واجب به و فقير إليه و كذا صفاته المنطبعة في فطرته‏ فطرت الله التي فطر الناس عليها.

و من بحثنا هذا تنتقل إلى أن دين الإسلام هو دين الفطرة ما ذا؟ و قد أفاد في ذلك استادنا العلامة الطباطبائى البارع في الحكمة الحقة جزاه الله تعالى عنا أفضل جزاء المعلمين و أدام أيام إفاضاته في الجزء السابع من تفسيره القيم:الميزان، في قوله تعالى: إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات و الأرض حنيفا (الأنعام 79) بقوله:و في تخصيص فطر السموات و الأرض من بين صفاته تعالى الخاصة و كذا من بين الألفاظ الدالة على الخلقة كالبارى و الخالق و البديع إشارة إلى ما يؤثره إبراهيم عليه السلام من دين الفطرة و قد كرر وصف هذا الدين في القرآن الكريم بأنه دين إبراهيم الحنيف و دين الفطرة أى الدين الذي بنيت معارفه و شرائعه على خلقة الإنسان و نوع وجوده الذي لا يقبل التبدل و التغير فإن الدين هو الطريقة المسلوكة التي يقصد بها الوصول إلى السعادة الحقيقية و السعادة الحقيقية هي الغاية المطلوبة التي يطلبها الشي‏ء حسب تركب وجوده و تجهزه بوسائل الكمال طلبا خارجيا واقعيا، و حاشا أن يسعد الإنسان أو أى شي‏ء آخر من الخليقة بأمر و لم يتهيأ بحسب خلقته له أو هيئ لخلافه كأن يسعد بترك التغذى أو النكاح أو ترك المعاشرة و الاجتماع و قد جهز بخلافها، أو يسعد بالطيران كالطير أو بالحياة في قعر البحار كالسمك و لم يجهز بما يوافقه.

فالدين الحق هو الذي يوافق بنواميسه الفطرة و حاشا ساحة الربوبية أن يهدى الإنسان أو أى مخلوق آخر مكلف بالدين- إن كان- إلى غاية سعيدة مسعدة و لا يوافق الخلقة أو لم يجهز بما يسلك به إليها فإنما الدين عند الله الإسلام و هو الخضوع لله بحسب ما يهدى إليه و يدل عليه صنعه و إيجاده، انتهى ما أفاد مد ظله العالى في المقام.

فتبصر بما قدمناه أن أصل المعرفة فطرى للأشياء و قال الله تعالى: و لئن سألتهم من خلق السماوات و الأرض ليقولن الله* و إنما ضل عنهم المعرفة بالمعرفة و البصيرة بالرؤية، و أن المعرفة و الرؤية القلبية ترجعان إلى أمر واحد و إنهما تثمران الايمان على البصيرة، و لا نعنى من اللقاء إلا المعرفة و الرؤية بهذا المعنى ففي التوحيد عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال قلت له: أخبرنى عن الله عز و جل هل يراه المؤمنون يوم القيامة؟ قال عليه السلام: نعم و قد رأوه قبل يوم القيامة فقلت:

متى؟ قال عليه السلام: حين قال لهم: أ لست بربكم قالوا بلى، ثم سكت ساعة ثم قال و ان المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة، أ لست تراه في وقتك هذا؟ قال أبو بصير: فقلت له: جعلت فداك فاحدث بهذا عنك؟ فقال عليه السلام: لا فانك إذا حدثت به فأنكره منكر جاهل بمعنى ما نقوله ثم قدر أن ذلك تشبيه كفر و ليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين، تعالى عما يصفه المشبهون و الملحدون.

و في آخر باب نفي المكان و الزمان عنه تعالى من كتاب التوحيد أيضا ص 176 باسناده عن إسحاق السبيعي عن الحارث الأعور، عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه دخل السوق فإذا هو برجل (فاذا هو مر برجل- خ د) موليه ظهره يقول: لا و الذي احتجب بالسبع قال الله يا أمير المؤمنين، قال أخطأت ثكلتك امك ان الله عز و جل ليس بينه و بين خلقه حجاب لأنه معهم أينما كانوا، قال: ما كفارة

ما قلت يا أمير المؤمنين؟ قال: أن تعلم أن الله معك حيث كنت قال: أطعم المساكين؟ قال: لا إنما حلفت بغير ربك.

و من سلك هذا المسلك فقد حيى بحياة طيبة و يدخل في ملك لا يبلي و جنة الخلد التي وعد المتقون، ففي التوحيد عن الحارث بن المغيرة النضرى قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز و جل: كل شي‏ء هالك إلا وجهه‏ قال: كل شي‏ء هالك إلا من أخذ طريق الحق.

و اعلم أن الوجود مع وحدة حقيقتها و كثرة تشأنها، كل يوم هو شأن له مراتب طولية تختلف غنى و فقرا و سعة و ضيقا فتنتهى إلى ذات واجب الوجود الذي تلك الكثرات مجاليه و مظاهره و مراياه و الله تعالى من ورائهم محيط فله تعالى مرتبة متحققة مجردة عن المظاهر و المجالى غير متناهية في جميع الصفات النورية أشد و أقوى مما سواه وجودا، قال عز من قائل: أ و لم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة (فصلت 16)، و لا يحيطون به علما لأن الدانى لا يسعه الإحاطة بالعالى المحيط به، كما أن النفس مع كونها في وحدتها كل القوى و كلها مجاليها و مظاهرها ليست هي بمجموع تلك القوى الظاهرة و الباطنة تعلقت بالبدن فحسب بل لها مرتبة فوقها أعلى و أشمخ منها رتبة و آثارا و هي جهتها المجردة التي تلى ربها، و إن كانت تلك القوى مراتبها النازلة، و المرتبة النازلة منها كالواهمة مثلا لا تحيط بالمرتبة العالية كالعاقلة المحيطة بها.

قال صدر المتألهين قدس سره في شرحه للهداية: و الصنف الثالث و هم الراسخون في العلم من الحكماء قائلون بأن العالم ليس عبارة عن الممكن الصرف و لا عن الوجود الحقيقى الصرف بل من حيث هو موجود بالوجود الحقيقى له اعتبار و من حيث إنه ينقسم إلى العقول و النفوس و غيرها له اعتبار آخر فالعالم زوج تركيبي من الممكن و السنخ الباقي الذي هو بذاته موجود و وجود فليس العالم عبارة عن الذوات المتعددة كما حسبه المحجوبون بل ذاته واحد و هو الحق الذي هو الوجود الحقيقى و لا وجود للممكنات إلا بارتباطها به لا بأن يفيض‏ عليها وجودات مغايرة للوجود الحقيقى و برهان ذلك مذكور في كتابنا المسمى بالأسفار الأربعة.

و قال في مبحث العلة و المعلول من الأسفار: (ص 196 من الرحلى) تنبيه:

إن بعض الجهلة من المتصوفين المقلدين الذين لم يحصلوا طريق العلماء العرفاء و لم يبلغوا مقام العرفان توهموا لضعف عقولهم و وهن عقيدتهم و غلبة سلطان الوهم على نفوسهم أن لا تحقق بالفعل للذات الأحدية المنعوتة بألسنة العرفاء بمقام الأحدية و غيب الهوية و غيب الغيوب مجردة عن المظاهر و المجالى بل المتحقق هو عالم الصورة و قواها الروحانية و الحسية و الله هو الظاهر المجموع لا بدونه و هو حقيقة الإنسان الكبير و الكتاب المبين الذي هذا الإنسان الصغير أنموذج و نسخة مختصرة عنه، و ذلك القول كفر فضيح و زندقة صرفة لا يتفوه به من له أدنى مرتبة من العلم و نسبة هذا الأمر إلى أكابر الصوفية و رؤسائهم افتراء محض و افك عظيم يتحاشى عنها أسرارهم و ضمائرهم، و لا يبعد أن يكون سبب ظن الجهلة بهؤلاء الأكابر اطلاق الوجود تارة على ذات الحق و تارة على المطلق الشامل و تارة على المعنى العام العقلى فإنهم كثيرا ما يطلقون الوجود على المعنى الظلى الكونى فيحملونه على مراتب التعينات و الوجودات الخاصة فيجرى عليه أحكامها.

و بما تقدم من أن ما سواه تعالى مظاهر أسمائه و صفاته و مجالى إشراقات نور وجهه و مرايا ظل ذاته علمت معنى الإخلاص في التوحيد أعنى التوحيد الذاتى الذي ينطق به الموحدون و إمامهم علي أمير المؤمنين عليه السلام: أول الدين معرفته و كمال معرفته التصديق به، و كمال التصديق به توحيده، و كمال توحيده الإخلاص له، و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، و شهادة كل موصوف أنه غير الصفة فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه و من قرنه فقد ثناه و من ثناه فقد جزاه و من جزاه فقد جهله و من جهله فقد أشار إليه و من أشار إليه فقد حده و من حد فقد عده إلخ (الخطبة الاولى من نهج البلاغة).

و لا يخفى عليك أن كلامه عليه السلام يشير إلى التوحيد الذاتى و اخلاصه تمحيض حقيقة الأحدية عن شائبة الكثرة، قال العارف السيد حيدر الاملي في رسالة نقد النقود في معرفة الوجود (ص 636): و اذا تحقق هذا و ثبت أن الوجود المطلق موجود في الخارج و ليس لغيره وجود أصلا، و ثبت أن هذا الوجود المطلق هو الحق تعالى فاعلم أن مرادهم بالوجود من حيث هو الوجود، الوجود الصرف و الذات البحت الخالص بلا اعتبار شي‏ء معه أصلا أعنى تصوره من حيث هو هو لا بشرط الشي‏ء و لا بشرط اللا شي‏ء أى مجردا عن جميع النسب و الإضافات و القيود و الاعتبارات.

و معلوم أن كل شي‏ء له اعتباران: اعتبار الذات من حيث هي هي، و اعتبارها من حيث الصفات أى وصفها بصفة ما أية صفة كانت، فهذا هو اعتبار الذات فقط أعنى اعتبار الذات بقطع النظر عن جميع الاعتبارات و الإضافات المخصوصة بالحضرة الأحدية و أن مرادهم بالمطلق هو الذات المطلقة المنزهة عن جميع هذه الاعتبارات، و ليس اطلاق لفظ المطلق على الوجود الصرف إلا من هذه الحيثية لا من جهة المطلق الذي هو بازاء المقيد، و لا من جهة الكلى الذي هو بازاء الجزئي، و لا من جهة العام الذي هو بازاء الخاص لأنه- أى الوجود الصرف- من حيث هو غنى عن إطلاق شي‏ء عليه اسما كان أو صفة، سلبا كان أو ثبوتا، إطلاقا كان أو تقييدا، عاما كان أو خاصا، لأن كل واحد منها- اى من هذه الامور المتقابلة- يقتضى سلب الاخر، أو يقتضى التقيد و التعين فيه، و هو أعنى الوجود المطلق المحض منزه عن الكل حتى عن الإطلاق و عدم الإطلاق لأن الإطلاق تقييد يقيد الإطلاق، كما أن اللا إطلاق قيد بعدم الاطلاق و كذلك التعين و اللا تعين و غير ذلك من الصفات كالوجود و القدم و العلم و القدرة و أمثالها.

و عن هذا التنزيه النزيه و التقديس الشريف أخبر مولانا و إمامنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في قوله: أول الدين معرفته- إلخ و الغرض‏

أن كل ذلك إشارة إلى إطلاقه و تجرده و تنزهه و تقدسه عن الكثرة الوجودية و الإعتبارية، لأن قوله عليه السلام و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه إشارة إلى الوجود المطلق المحض و الذات البحت الخالص الذي لا يمكن وصفه بشي‏ء أصلا و لا يكون قابلا للإشارة أبدا كما أشار إليه عليه السلام في موضع آخر في قوله:الحقيقة كشف سبحات الجلال من غير إشارة.

قلت: قوله عليه السلام: الحقيقة كشف سبحات الجلال من غير إشارة، بعض حديث الحقيقة المخاطب به كميل بن زياد رضوان الله عليه سأله عليه السلام عن الحقيقة بقوله: ما الحقيقة؟ قال عليه السلام: مالك و الحقيقة؟! قال: أ و لست صاحب سرك؟

قال: بلى، و لكن يرشح عليك ما يطفح منى، قال: أو مثلك يخيب سائلا؟! قال: الحقيقة كشف سبحات الجلال من غير إشارة، قال: زدنى فيه بيانا، قال:

محو الموهوم مع صحو المعلوم، قال: زدني فيه بيانا، قال: هتك الستر لغلبة السر قال: زدني فيه بيانا، قال: جذب الأحدية بصفة التوحيد، قال: زدني فيه بيانا قال: نور يشرق من صبح الأزل فتلوح على هياكل آثاره، قال: زدني فيه بيانا قال: أطف السراج فقد طلع الصبح.

نقله العارف المذكور في جامع الأسرار ص 170 و شرحه في عدة مواضع من ذلك الكتاب، و العلامة الشيخ البهائى في الكشكول و القاضى نور الله الشهيد نور الله مرقده في مجالس المؤمنين و العارف الشيخ عبد الرزاق اللاهجى في شرح گلشن راز، و الخوانسارى في روضات الجنات، و المحدث القمي في سفينة البحار و غيرهم من أساطين الحكمة و العرفان في صحفهم القيمة، و شرحه العلامة قطب الدين الشيرازى في رسالة معمولة في ذلك فقط، و شرحه أيضا بعض أساتيذنا بالنظم الفارسي و لقد أحسن و أجاد، ألا و هو العارف الربانى محيى الدين مهدى الالهى القمشئى أدام الله أيام إفاضاته.

و قال العارف الاملي المذكور في جامع الأسرار في تعريف التوحيد: اعلم أن حقيقة التوحيد أعظم من أن يعبر عنها بعبارة أو يؤمى إلى تعريفها بإشارة

فالعبارة في طريق معرفتها حجاب، و الإشارة على وجه إشراقها نقاب، لأنها يعنى حقيقة التوحيد منزهة عن أن تصل إلى كنهها العقول و الأفهام، مقدسة عن أن تظفر بمعرفتها الأفكار و الأوهام، شعر:

تجول عقول الخلق حول حمائها و لم يدركوا من برقها غير لمعة

و إلى صعوبة إدراكها يعنى حقيقة التوحيد و شدة خفائها أشار مولانا و إمامنا أمير المؤمنين و يعسوب المسلمين سلطان الأولياء و الوصيين وارث علوم الأنبياء و المرسلين علي بن أبي طالب عليه السلام في قوله: ما وحده من كيفه، و لا حقيقته أصاب من مثله، و لا إياه عنى من شبهه، و لا قصده من أشار إليه و توهمه.

تجول عقول الخلق حول حمائها و لم يدركوا من برقها غير لمعة

و إلى صعوبة إدراكها يعنى حقيقة التوحيد و شدة خفائها أشار مولانا و إمامنا أمير المؤمنين و يعسوب المسلمين سلطان الأولياء و الوصيين وارث علوم الأنبياء و المرسلين علي بن أبي طالب عليه السلام في قوله: ما وحده من كيفه، و لا حقيقته أصاب من مثله، و لا إياه عنى من شبهه، و لا قصده من أشار إليه و توهمه.

و في قوله: هو الأحد لا بتأويل عدد، و الخالق لا بمعنى حركة و نصب و السميع لا بأداة، و البصير لا بتفريق آلة، و الشاهد لا بمماسة، و البائن لا بتراخى مسافة، و الظاهر لا برؤية، و الباطن لا بلطافة، بان من الأشياء بالقهر لها و القدرة عليها، و بانت الأشياء منه بالخضوع له و الرجوع إليه، من وصفه فقد حده، و من حده فقد عده، و من عده فقد أبطل أزله، و من قال كيف فقد استوصفه، و من قال أين فقد حيزه، عالم إذ لا معلوم، و رب إذ لا مربوب و قادر إذ لا مقدور.

و في قوله: أول الدين معرفته- إلخ.

و كذلك الشيخ العارف الشبلى البغدادي رحمة الله عليه في قوله: من أجاب عن التوحيد بعبارة فهو ملحد، و من أشار إليه باشارة فهو زنديق، و من أومى إليه فهو عابد وثن، و من نطق فيه فهو غافل، و من سكت عنه فهو جاهل، و من وهم أنه إليه واصل فليس له حاصل، و من ظن أنه منه قريب فهو عنه بعيد، و من به تواجد فهو له فاقد، و كل ما ميزتموه بأوهامكم و أدركتموه بعقولكم في أتم معانيكم فهو مصروف مردود إليكم، محدث مصنوع مثلكم.

و ليس مرادهم من هذه الإشارات الامتناع من حصوله، و لا اليأس من وصوله بل المراد منها إعلاء أعلام منزلته، و ارتفاع أركان درجته، و بيان أنه ليس‏

بقابل للإشارة و لا بمحل للعبارة، لأنه عبارة عن الوجود المطلق المحض و الذات الصرف البحت المسمى بالحق جل جلاله الذي لا يقبل الإشارة أصلا و رأسا و لا العبارة قولا و فعلا و ذلك لا يكون إلا عند فناء الطالب في المطلوب و الشاهد في المشهود و حين الاستغراق و الاستهلاك في المطلق المحيط و لا شك أنه لا يبقي مع ذلك لا الإشارة و لا المشير، و لا من الغير أثر في العقل و الضمير.

و إليه أشار الإمام عليه السلام بقوله أيضا: «الحقيقة كشف سبحات الجلال من غير إشارة» اظهارا بأنه لا ينكشف الحق حقيقة على أحد إلا عند ارتفاع الكثرة مطلقا اسما كان أو صفة و لهذا قال سبحات الجلال بدون الجمال لأن الجمال مخصوص بالأسماء و الصفات التي هي منشأ الكثرة لا الجلال، انتهى ما أردنا من نقل كلام العارف السيد حيدر الاملي قدس سره الشريف في التوحيد الذاتي.

و الشيخ العارف المحقق أبو إسماعيل خواجه عبد الله بن إسماعيل الأنصارى الهروي قد ذكر في آخر كتابه الموسوم بمنازل السائرين بابا مفردا في التوحيد و قسمه على ثلاثة أوجه، و قد بذل الجهد في ذلك جدا، و لكنه موجز يحتاج إلى البيان و قد شرح ذلك الكتاب المولى العارف المحقق كمال الدين عبد الرزاق الكاشاني يفضل ذلك الشرح على سائر الشروح كفضله على سائر الشراح، و ذلك الباب باب إلى ما كنا في صدده، و قد أشار الشارح المذكور إلى المتن بحرف الميم، و إلى الشرح بحرف الشين فنأتي بالباب على هديه و طريقته من غير تغيير وضعه و اسلوبه و هو مايلى:(م) باب التوحيد، قال الله تعالى: شهد الله أنه لا إله إلا هو.

(ش) إنما خص بعض الاية بالذكر لأن هذا محض التوحيد الجمعى و هو أن لا يكون معه شي‏ء فلو ذكر و الملائكة و اولو العلم لكان نزولا عن الجميع إلى الفرق فيكون معه غيره فلا يبقي التوحيد المحض فهو الشاهد بنفسه لنفسه فلم يشهد أن لا إله إلا هو غيره فمن تحقق هذا بالذوق فقد شهد التوحيد بالحقيقة.

(م) التوحيد تنزيه الله عز و جل عن الحدث و إنما نطق العلماء بما نطقوا به‏ و أشار المحققون بما أشاروا إليه في هذا الطريق لقصد تصحيح التوحيد و ما سواه من حال أو مقام فكله مصحوب العلل.

(ش) قوله: التوحيد تنزيه الله عز و جل عن الحدث. مجمل يتناول تنزيه العقلاء من الحكماء و المسلمين، و تنزيه العرفاء الموحدين لأن جميع العقلاء و أهل الفكر يدعون تنزيه الله تعالى مع كونهم مقيدين لأن العقل لا يقول إلا بالتقييد و يثبتون الحدث و ينفونه عن الحق تعالى و ينزهونه عنه، و أما العرفاء المحققون فلا يثبتون الحدث أصلا و رأسا فإن شهود التوحيد ينفيه عن أصله ثم يثبته بعد نفيه بالحق بمعنى تجلى الحق مع الايات بوجوهه في الصور فيكون الحدوث عندهم ظهوره في الصور المختلفة بالتجليات المتعاقبة الغير المتكررة.

و مراد الشيخ قدس الله روحه هذا التنزيه و لا يهتدى العقل إلى طريق التوحيد الذي لا يكون فيه مع الحق سواه و لا يرى الحق عين الكل و لا يرى الحق عين الكل بحيث لا يكون في الوجود شي‏ء غيره.

و إنما نطق العلماء بما نطقوا به و أشار المحققون إلى ما أشاروا إليه في هذا الطريق لقصد تصحيح التوحيد أى ما نطقوا و ما أشاروا إلا لقصد تصحيح هذا المقام السنى لأنه المقصد الأقصى و الموقف الأعلى و ما دون ذلك من الأحوال و المقامات فكله مصحوب العلل لا صحة لها لبقاء الرسوم فيها و لو في الحضرة الواحدية و التجليات الأسمائية هذا ما ذهب إليه خاطرى.

و وجه آخر مبنى على أن «ما» في إنما نطق موصولة حقها أن تكتب مفصولة على معنى أن كل ما نطق به العلماء و أشار إليه المحققون لقصد تصحيح التوحيد و ما سواه من الأحوال و المقامات فكله مصحوب العلل لا يخلو منها يعنى أن التوحيد بالعلم لا يخلص عن العلل و كذا إثبات الأحوال و المقامات بطريق العلم و إشارات المحققين لا يخلو من العلل فإنها مواجيد ذوقية لا تندرج تحت العبارات و لا يحيط به الإشارات و لا تفى ببيانها الكلمات و العلل هى الجهالات.

(م) و التوحيد على ثلاثة وجوه: الوجه الأول توحيد العامة الذي يصح‏

بالشواهد، و الوجه الثاني توحيد الخاصة و هو الذي يثبت بالحقائق، و الوجه الثالث توحيد قائم بالقدم و هو توحيد خاصة الخاصة.

(ش) الشواهد هي الأكوان و المصنوعات التي يستدل بها على المكون الصانع و بالجملة الدلائل التي يستدل بها العلماء بالنظر و الفكر و براهين العقل فتوحيد العامة إنما يصح بالإستدلال مثل قوله تعالى: لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا، و لكن ما فسدتا فليس فيهما آلهة غير الله و أمثال ذلك.

و أما توحيد الخاصة و هم المتوسطون فهو الذي يثبت بالحقائق المذكورة في القسم التاسع و هي المكاشفة و المشاهدة و المعاينة و الحياة و القبض و البسط و السكر و الصحو و الإتصال و الانفصال.

و أما توحيد خاصة الخاصة فهو التوحيد القائم بالقدم يعنى توحيد الحق لنفسه أزلا و أبدا كما قال: شهد الله أنه لا إله إلا هو، و قيامه بالقدم أزلية و امتناع قيامه بالحدث و إلا كان مثبتا للغير فلم يكن توحيدا و أهل هذا المقام هم المذكورون في الدرجة الثالثة من كل باب من أبواب أقسام النهايات.

(م) فأما التوحيد الأول فهو شهادة أن لا إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد الذي لم يلد و لم يولد و لم يكن له كفوا أحد، هذا هو التوحيد الظاهر الجلي الذي نفى الشرك الأعظم و عليه نصبت القبلة، و به وجبت الذمة، و به حقنت الدماء و الأموال، و انفصلت دار الإسلام عن دار الكفر، و صحت به الملة العامة و إن لم يقوموا بحق الاستدلال بعد أن سلموا من الشبهة و الحيرة و الريبة بصدق شهادة صححها قبول القلب.

(ش) هذا ظاهر غنى عن الشرح و هو أصل التوحيد التقليدي الذي صحت به الملة للعامة بصدق شهادة صححها في الشرع قبول قلوبهم لها تقليدا و إن لم يقدروا على الاستدلال بعد أن لم تعتورهم الشبهة و الحيرة و الشك و سلمت قلوبهم من ذلك.

(م) هذا توحيد العامة الذي يصح بالشواهد، و الشواهد هي‏ الرسالة و الصنائع.

(ش) أى الأخبار التي وردت بها الرسالة و المصنوعات المتقنة المحكمة الدالة بحسن صنعتها و إتقانها على وجود الصانع و علمه و حكمته و قدرته.

(م) يجب بالسمع و يوجد بتبصير الحق و ينمو على مشاهدة الشواهد.

(ش) أى يجب قبول هذا التوحيد بالأدلة السمعية و هي أخبار الكتاب و السنة التي يسمعها من النبي صلى الله عليه و آله كقوله: فاعلم أنه لا إله إلا الله. و قوله:و إلهكم إله واحد، و شهد الله، و سورة الإخلاص و أمثالها، و لا توجد حقيقته و حلاوته و إدراك معناه إلا بتبصير الحق إياه بنوره المقذوف في قلب المؤمن و يزيد و ينمو بالمواظبة على مشاهدة الشواهد بنظر الإعتبار و التفكر فيها و مطالعة حكمة صانعها في أحوالها.

(م) و أما التوحيد الثاني الذي يثبت بالحقائق فهو توحيد الخاصة و هو إسقاط الأسباب الظاهرة و الصعود عن منازعات العقول و عن التعلق بالشواهد و هو أن لا تشهد في التوحيد دليلا، و لا في التوكل سببا، و لا للنجاة وسيلة.

(ش) إسقاط الأسباب الظاهرة هو أن لا يعلق المسببات بالأسباب المعروفة بين الناس و لا يرى لها تأثيرا و لا لغير الحق فعلا، و يشهد بالحقيقة أن لا مؤثر إلا الله، و الصعود عن منازعات العقول هو الترقي إلى مقام الكشف و التخلص عن منازعات العقول أحكام الشرع لعماها عن حكمها، و احتجابها بقياساتها، و عن منازعات بعض العقول بعضا، و مجادلاتها في الأحكام لثبوت الأوهام إياها، و معارضاتها في المناظرات باتهامها في الأحكام (بإتمامها في الأحكام- خ ل) و تصفية الباطن عن المخالفات و المجادلات مجاوزا طور العقل إلى نور الكشف و عن التعلق بالشواهد أى الصعود عن طور الاستدلال و التمسك بالأدلة استغناء عنها بنور التجلي و العيان.

قوله: «و هو» إشارة إلى الصعود عن التعلق بالشواهد أى و ذلك الصعود أن لا تشهد في التوحيد دليلا فيكون التوحيد عندك أجلى من كل دليل فإن نور

الحق إنما لا يدرك لشدته و قوة نوريته كما قيل، شعر:

خفى لإفراط الظهور تعرضت‏ لإدراكه أبصار قوم أخافش‏

«و لا في التوكل سببا» أى و أن لا تشهد في التوكل سببا لقوة يقينك في أن لا مؤثر إلا الله و رؤيتك الأفعال كلها منه فيتلاشى الأسباب في المسبب في شهودك لشهودك التأثير منه دون السبب «و لا للنجاة وسيلة» أى و أن لا تشهد للنجاة من العذاب و العقوبة و الطرد وسيلة من الأعمال الصالحة و الحسنات.

(م) فتكون مشاهدا سبق الحق بحكمه و علمه و وضعه الأشياء مواضعها و تعليقه إياها بأحايينها، و إخفائه إياها في رسومها و تحقق معرفة العلل و تسلك سبيل إسقاط الحدث هذا توحيد الخاصة الذي يصح بعلم الفناء و يصفو في علم الجمع و يجذب إلى توحيد أرباب الجمع.

(ش) أى فتكون أنت مشاهدا أن الحق سبق بحكمه على الأشياء بما هي عليه في الأزل فلا تكون إلا كما حكم به، و كذا سبق بعلمه و تقديره الأشياء على ما هي عليه، و حكمه تعالى على الأشياء تابع لعلمه فتكون الأشياء على مقتضى سابق علمه و قضائه، «و وضعه الأشياء مواضعها» أى و تكون مشاهدا لوضع الحق تعالى كل شي‏ء في موضعه بتقديره و حكمته في الأزل، و كذا تشاهد «تعليقه إياها بأحايينها» فلا تقع إلا في الوقت الذي قدر وقوعها فيه، «و اخفائه إياها في رسومها» أى و تكون مشاهدا سبق الحق بإخفائه الأشياء في رسومها عن أعين المحجوبين فإنهم لا يرون أنها بفعل الحق و حكمه و تقديره في القضاء السابق جارية على مجراها فينسبونها إلى أسبابها و مقتضيات رسومها الخلقية و طبائعها و أوقاتها، فيجعلون لكل تغير حال من أحوالها سببا، و يحتجبون بها عن التصرف الالهى و التقدير الأزلى، و ذلك هو إخفاؤها في الرسوم.

قوله «و تحقق» عطف على «فتكون» أى فتكون مشاهدا و تحقق معرفة العلل و هي الوسائط و إسناد أحوالها إلى ما سوى الله تعالى من الأسباب و الرسوم الخلقية من الطبايع و اختيار الخلق و إرادتهم و قدرتهم و إلى حركات الأفلاك‏ و أوضاع الكواكب و أمثالها، و كل ذلك علل يحتجب أهل العادات عن الله تعالى و توحيده.

و أما العرفاء الموحدون فهم يعرفون هذه العلل و يسقطون الحدث و يسلكون سبيل علم القدم بإسقاط الحدث فلا يرون إلا سابقة حكم الأزل فيكونون مع الحق في جريان الأحول و يشهدون تصريفاته للأشياء بفعله على مقتضى حكمه و تقديره و حكمته الأزلية و قدرته و إرادته الأولية فيشاهدون الحق و أسماءه و صفاته لا غير.

هذا توحيد الخاصة أى المتوسطين الذي يصح بعلم الفناء لا بنفس الفناء الاتي بعده فإن علم الفناء يحصل بالفناء في حضرة الصفات و الأسماء أى الحضرة الواحدية قبل الفناء في الذات الأحدية التي هي عين الجمع و يصفو بعلم الجمع لا بعين الجمع و اضمحلال الرسوم بل قبله عند فناء علمه في علم الحق و يجذب إلى توحيد أرباب الجمع الذي يأتي في قوله.

(م) و أما التوحيد الثالث فهو توحيد اختصه الله لنفسه و استحقه بقدره و ألاح منه لائحا إلى أسرار طائفة من صفوته، و أخرسهم من نعته و أعجزهم عن بثه.

(ش) اختصه الله لنفسه أى استأثره الله به ليس لغيره منه نصيب و لا فيه قدم لأنه إنما يتحقق بفناء الحق كلهم و بقاء الحق وحده فلا يمكن لغيره عنه عبارة و لا إليه إشارة و لا شي‏ء من أحكام الخلق و أوصافهم يصل إليه لحصوله بفنائهم و استحقه بقدره أى لا يستحقه بمقدار كنهه و حقيقته إلا هو و لا يبلغه غيره و ما قدروا الله حق قدره، و ألاح منه لائحا إلى أسرار طائفة من صفوته حال البقاء بعد الفناء في عين الجمع لأنهم حال الفناء قد استغرقوا فيه فانين عن أسرارهم غائبين عنها، و في حال البقاء ردوا إلى الخلق باقين به فعرفوا أن الحضرة الأحدية لا نعت لها و كل ما ينعت به فهو من الحضرة الواحدية فأخرسهم الله عن نعته لا بمعنى أنهم يعرفون نعته فمنعهم عن التكلم به بل لأنهم عرفوا أن حضرة النعوت تحت مقام الجمع فهو كقوله: شعر: على لا حب لا يهتدى بمناره، و كذا معنى قوله:«و أعجزهم عن بثه» أى عن إظهار ذلك اللائح و الإخبار به لأنه لا يقبل الإخبار عنه كما لا يقبل النعت.

(م) و الذي يشار به إليه على ألسن المشيرين أنه إسقاط الحدث و إثبات القدم، على أن هذا الرمز في ذلك التوحيد علة لا يصح ذلك التوحيد إلا باسقاطه.

(ش) «و الذي يشار به إليه» مبتداء، خبره «أنه إسقاط الحدث» أى و أحسن ما يشار به إلى هذا التوحيد و ألطفه هو هذا الكلام المرموز، مع أن هذا الرمز في ذلك التوحيد علة لا يصح ذلك التوحيد إلا باسقاطه فان الحدث لم يزل ساقطا، و إن القدم لم يزل ثابتا، فما معنى إسقاط ذلك و إثبات هذا و من المسقط و المثبت و ما ثم إلا وجه الحق تعالى؟ فهذه علة و هؤلاء ظنوا أنهم قد حصلوا تعريفه و ليسوا في حاصل.

(م) هذا قطب الإشارة إليه على ألسن علماء هذا الطريق و إن زخرفوا له نعوتا و فصلوه فصولا فإن ذلك التوحيد يزيده العبارة خفاء، و الصفة نفورا و البسط صعوبة.

(ش) «هذا» أى قولهم إسقاط الحدث و إثبات القدم قطب مدار الإشارة إلى هذا الطريق و أعظم الإشارات و أحكمها و هو مع ذلك معلول يجب إسقاطه في تصحيح هذا التوحيد و الباقي من المتن ظاهر.

(م) و إلى هذا التوحيد شخص أهل الرياضة و أرباب الأحوال و المعارف و له قصد أهل التعظيم و إياه عنى المتكلمون في عين الجمع، و عليه تصطلم الإشارات ثم لم ينطق عنه لسان و لم يشر إليه عبارة فإن التوحيد وراء ما يشير إليه مكون، أو يتعاطاه حين، أو يقله سبب.

(ش) «و إلى هذا التوحيد شخص» أى ذهب «أهل الرياضة» السالكون «و عليه تصطلم الإشارات» أى تنقطع و تستأصل «فإن التوحيد وراء ما يشير إليه مكون» أى مخلوق، لأنه لا يصح إلا بفناء الرسوم كلها و صفاء الأحدية عن‏ الكثيرة العددية فلا مجال للإشارة فيه، «أو يتعاطاه حين» أى وراء ما يتداوله زمان لأنه في عين القدم فوق طور الزمان و الحدث، «أو يقله سبب» أى وراء ما يحمله سبب لأنه قائم بمسبب الأسباب وحده فكيف يحمله سبب؟ و كلامه ظاهر لا يحتاج إلى الشرح.

(م) و قد أجبت في سالف الزمان سائلا سألنى عن توحيد الصوفية بهذه القوافي الثلاث:

ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد
توحيد من ينطق عن نعته‏ عارية أبطلها الواحد
توحيده إياه توحيده‏ و نعت من ينعته لاحد

(ش) يعنى ما وحد الحق تعالى حق توحيده الذاتي أحد إذ كل من وحده أثبت فعله و رسمه بتوحيده فقد جحده باثبات الغير إذ لا توحيد إلا بفناء الرسوم و الاثار كلها «توحيد من ينطق من نعته عارية» إذ لا نعت في الحضرة الأحدية و لا نطق و لا رسم لشي‏ء و النطق و النعت يقتضيان الرسم و كل ما يشم منه رائحة الوجود فهو للحق عارية عند الغير فيجب عليه ردها إلى مالكها حتى يصح التوحيد و يبقى الحق واحدا واحدا فلذلك أبطل الواحد الحقيقي تلك العارية التي هي ذلك التوحيد مع بقاء رسم الغير فإنه باطل في نفسه في الحضرة الأحدية «توحيده إياه توحيده» أى توحيد الحق ذاته بذاته هو توحيده الحقيقي «و نعت من ينعته لاحد» أى وصف الذي يصفه هو أنه مشرك جائز عن طريق الحق مائل عنه لأنه أثبت النعت و لا نعت ثمة و أثبت رسمه باثبات النعت و لا رسم لشي‏ء في الحضرة الأحدية و لا أثر و إلا لم تكن أحدية، انتهى.

فإن قلت: إن ما استفيد مما تقدم في معنى التوحيد أنه تعالى أحد لا بتأويل عدد، كما صرح به الأمير عليه السلام في كلامه المذكور آنفا و قد قال سيد الساجدين و زين العابدين علي بن الحسين عليهما السلام في الدعاء الثامن و العشرين من الصحيفة السجادية و هو كان من دعائه عليه السلام متفزعا إلى الله عز و جل: «لك يا إلهى وحدانية العدد، و ملكة القدرة الصمد، و فضيلة الحول و القوة، و درجة العلو و الرفعة، و من سواك مرحوم في عمره، مغلوب على أمره، مقهور على شأنه، مختلف الحالات، متنقل في الصفات، فتعاليت عن الأشباه و الأضداد و تكبرت عن الأمثال و الأنداد، فسبحانك لا إله إلا أنت».

فكيف التوفيق بين قوله عليه السلام: لك يا إلهى وحدانية العدد، و بين ما مر من أن الله تعالى منزه عن الوحدة العددية؟.

قلت: قد أفاد العالم المحقق صدر الدين المعروف بالسيد علي خان رضوان الله عليه في شرحه ما أتلوه عليك أولا ثم أذكر ما عندى، قال رحمه الله تعالى:

تقديم المسند لإفادة قصر المسند إليه عليه، أى لك وحدانية العدد لا تتخطاك إلى غيرك، و وحدانية الشي‏ء كونه واحدا لأن ياء النسب إن الحقت آخر الاسم و بعدها هاء التأنيت أفادت معنى المصدر كالالوهية و الربوبية و الألف و النون مزيدتان للمبالغة.

و العدد قيل: هو كثرة الاحاد و هي صورة تنطبع في نفس العاد من تكرار الاحاد، و على هذا فالواحد ليس عددا، و قيل: هو ما يقع جوابا لكم فيكون الواحد عددا.

و قد اختلف أقوال الأصحاب في معنى قوله عليه السلام: لك يا إلهى وحدانية العدد، لمنافاتها ظاهرا وجوب تنزيهه تعالى عن الوحدة العددية نقلا و عقلا.

أما النقل فمستفيض من أخبارهم عليهم السلام و منه قول أمير المؤمنين عليه السلام في خطبة له: الواحد بلا تأويل عدد، و قوله في خطبة اخرى: واحد لا بعدد و دائم لا بأمد.

و منه ما رواه رئيس المحدثين في كتاب التوحيد أن أعرابيا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال يا أمير المؤمنين أتقول ان الله واحد؟ فحمل الناس عليه و قالوا: يا أعرابى أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسيم القلب؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام: دعوه فإن الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم‏

ثم قال: يا أعرابي إن القول بأن الله تعالى واحد على أربعة أقسام فوجهان منها لا يجوزان على الله عز و جل، و وجهان يثبتان فيه:

فأما اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل واحد يقصد به باب الأعداد فهذا ما لا يجوز لأن ما لا ثانى له لا يدخل في باب الأعداد، أما ترى أنه كفر من قال ثالث ثلاثة؟.

و قول القائل هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس فهذا ما لا يجوز عليه لأنه تشبيه و جل ربنا عن ذلك و تعالى.

و أما الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل هو واحد ليس له في الأشياء شبه كذلك ربنا، و قول القائل: إنه عز و جل أحدي المعنى يعنى به أنه لا ينقسم في وجود و لا عقل و لا وهم كذلك ربنا عز و جل.

و أما العقل فلأن الوحدة العددية إنما تتقوم بتكررها الكثرة العددية و يصح بحسبها أن يقال إن المتصف بها أحد أعداد الوجود أو أحد آحاد الموجودات و عز جنابه سبحانه أن يكون كذلك، بل الوحدة العددية و الكثرة العددية التي هي في مقابلتها جميعا من صنع وحدته المحضة الحقيقية التي هي نفس ذاته القيومة و هي وحدة حقة صرفة وجوبية قائمة بالذات لا مقابل لها و من لوازمها نفي الكثرة كما أشار إليه أمير المؤمنين صلوات الله و سلامه عليه في الحديث المذكور آنفا أنه أحدى المعنى لا ينقسم في وجود و لا عقل و لا وهم.

إذا عرفت ذلك ظهر لك أن قوله عليه السلام: لك يا إلهى وحدانية العدد، ليس مرادا به الوحدة العددية بل لا بد له من معنى آخر يصح تخصيصه به تعالى و قصره عليه كما يقتضيه تقديم المسند على المسند إليه.

فقال بعضهم: المراد به نفي الوحدة العددية عنه تعالى لا إثباتها له، و هو غير ظاهر.

و قيل: معناه ان لك من جنس العدد صفة لوحدة و هو كونك واحدا لا شريك لك و لا ثانى لك في الربوبية.

و قيل: معناه إذا عددت الموجودات كنت أنت المتفرد بالوحدانية من بينها.

و قيل: اريد به أن لك وحدانية العدد بالخلق و الإيجاد لها فإن الوحدة العددية من صنعه و فيض وجوده وجوده و لا يخفى أنه بمعزل عن المقام.

و قال بعضهم: أراد بوحدانية العدد جهة وحدة الكثرات و أحدية جمعها لا إثبات الوحدة العددية له تعالى.

و قيل: معناه أنه لا كثرة فيك أى لا جزء لك و لا صفة لك يزيدان على ذلك و هو أنسب المعاني المذكورة بالمقام، و توضيح المراد أن قوله عليه السلام لك يا إلهى وحدانية العدد يفسره قوله عليه السلام: و من سواك مختلف الحالات متنقل في الصفات فإنه عليه السلام قابل كل فقرة من الفقرات الأربع المتضمنة للصفات التي قصرها عليه سبحانه بفقرة متضمنة لخلافها فمن سواه على الطريق اللف و النشر الذي يسميه أرباب البديع معكوس الترتيب و هو أن يذكر متعدد تفصيلا ثم تذكر أشياء على عدد ذلك كل واحد يرجع إلى واحد من المتقدم من غير تعيين ثقة بأن السامع يرد كل واحد إلى ما يليق به و يكون الأول من النشر للاخر من اللف و الثاني لما قبله و هكذا على الترتيب كعبارة الدعاء فإن قوله عليه السلام: مختلف الحالات متنقل في الصفات راجع إلى قوله: لك يا إلهي وحدانية العدد، و قوله: مقهور على شأنه راجع إلى قوله: و ملكة القدرة الصمد، و قوله: مغلوب على أمره راجع إلى قوله: و فضيلة الحول و القوة، قوله: مرحوم في عمره راجع إلى قوله: درجة العلو و الرفعة.

إذا علمت ذلك ظهر لك أن المراد بوحدانية العدد له تعالى معنى يخالف معنى اختلاف الحالات و التنقل في الصفات لغيره سبحانه فيكون المقصود إثبات وحدانية ما تعدد من صفاته و تكثر من جهاته و أن عددها و كثرتها في الاعتبارات و المفهومات لا يقتضى اختلافا في الجهات و الحيثيات و لا تركيبا من الأجزاء بل جميع نعوته و صفاته المتعددة موجودة بوجود ذاته، و حيثية ذاته بعينها حيثية علمه و قدرته و سائر صفاته الإيجابية فلا تعدد و لا تكثر فيها أصلا بل هي وحدانية العدد موجودة بوجود واحد بسيط من كل وجه إذ كل منها عين ذاته فلو تعددت لزم كون الذات الواحدة ذواتا تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

و هذا معنى قولهم واجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات فجميع صفاته الإيجابية عين ذاته من غير لزوم تكثر.

فإن قلت: كيف تكون صفاته عين ذاته و مفهوم الصفة غير مفهوم الذات؟

و أيضا فإن مفهوم كل صفة غير مفهوم صفة اخرى فكيف تتحد بالذات؟.

قلت: قد تكون المفهومات المتعددة موجودة بوجود واحد فالصفات بحسب المفهوم و إن كانت غير الذات و بعضها يغاير بعضها إلا أنها بحسب الوجود ليست أمرا وراء الذات أعنى أن ذاته الأحدية تعالى شأنه هي بعينها صفاته الذاتية بمعنى أن ذاته بذاته وجود و علم و قدرة و حياة و سمع و بصر، و هي أيضا موجود عالم قادر حى سميع بصير يترتب عليها آثار جميع الكمالات و يكون هو من حيث ذاته مبدء لها من غير افتقار إلى معان اخر قائمة به تسمى صفاتا تكون مصدرا للاثار لمنافاته الوحدة و الغناء الذاتيين و الإختصاص بالقدم فذاته صفاته و صفاته ذاته لا زائدة عليها كصفات غيره من المخلوقين فإن العلم مثلا في غيره سبحانه صفة زائدة على ذاته مغايرة للسمع فيه و فيه نفسه تعالى و هو بعينه سمعه و قس على ذلك سائر الصفات الثبوتية.

فتبين أن المراد بقصر وحدانية العدد عليه تعالى هذا المعنى المخالف لصفات من سواه و حالاته فانها كيفيات نفسانية انفعالية و حالات متغايرة و معان مختلفة له إذ كان يسمع بغير ما يبصر، و يبصر بغير ما يسمع إلى غير ذلك من صفاته المتعددة المتكثرة التي توجب اختلاف الحالات و التنقل في الصفات و بالجملة فمعنى قصر وحدانية العدد عليه سبحانه نفى التعدد و التكثر و الاختلاف عن الذات و الصفات على الاطلاق، و هذا المعنى مقصور عليه تعالى لا يتجاوزه إلى غيره، و الله أعلم بمقاصد أوليائه، و في المقام كلام طويل طويناه على عزه. انتهى كلامه رفع مقامه.

أقول: أولا إن حديث الأعرابي يوم الجمل قد نقله العلامة الشيخ بهاء الدين قدس سره أيضا في أوائل المجلد الثالث من الكشكول (ص 258 من طبع نجم الدولة) من كتاب أعلام الدين تأليف أبي محمد الحسن بن أبي الحسن الديلمي، عن مقداد بن شريح البرهاني، عن أبيه قال: قام رجل يوم الجمل إلى علي عليه السلام- إلخ، و ثانيا الحكم في اصول العقائد و المعيار فيها هو العقل فحسب فما حكم به العقل الناصع فهو المتبع فاذا ورد أمر من أهل بيت الوحى و خزنة أسرار الله فإن كان مما يدركه العقل، و إلا فإن عجز عن إدراكه فإما كان العجز من حيث إنه كلام عال سام لا تبلغه العقول بلا تلطيف سر و تدقيق فكر و نور علم فلا بد من الورود فيها من أبوابها، أو من حيث إن ظاهره ينافي حكم صريح العقل فلا بد من التأمل فيه حق التأمل لأن الكلام حينئذ ليس محمولا على ظاهره قطعا و ذلك للعلم القطعي بأن ما صدر عن أولياء الله تعالى لا سيما عن حججه و وسائط فيضه ليس ما ينافي حكم العقل واقعا بل منطقهم عقل ليس إلا، فما يحرى على الفاحص مغزا كلامهم، و المستفيد من مأدبة مرامهم أن يسأل الله تعالى فهم ما أفاضوه، و نيل ما أفادوه، فقد روى ثقة الإسلام الكليني في باب فيما جاء أن حديثهم صعب مستصعب من كتاب الحجة من اصول الكافي بإسناده عن جابر قال: قال أبو جعفر عليه السلام قال:

قال رسول الله صلى الله عليه و آله: إن حديث آل محمد صعب مستصعب لا يؤمن به إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان، فما ورد عليكم من حديث آل محمد صلى الله عليه و آله فلانت له قلوبكم و عرفتموه فاقبلوه، و ما اشمأزت منه قلوبكم و أنكرتموه فردوه إلى الله و إلى الرسول و إلى العالم من آل محمد صلى الله عليه و آله و إنما الهالك أن يحدث أحدكم بشي‏ء منه لا يحتمله فيقول: و الله ما كان هذا، و الله ما كان هذا و الإنكار هو الكفر (330 ج 1 من الكافي المشكول) و قريب منه ما قد أتى به السيد الرضي عن أمير المؤمنين علي عليه السلام في الخطبة 187 من النهج أولها: فمن الإيمان ما يكون ثابتا مستقرا في القلوب.

فنقول: العقل حاكم على أنه تعالى ليس بواحد عددي أى شخصي لأن‏ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد و الوحدة العددية معروضها هويات آحاد عالم الإمكان، على أنه قد تحقق في محله أن العدد لا يعرض المفارق العقلي لا بالذات و لا بالعرض و هو عارض للنفوس بواسطة البدن، بل الله تعالى واحد بالوحدة الحقة التي هي حق الوحدة إذ لا مهية له سوى الوجود البحت البسيط و الوجود هو الوحدة القائمة بذاتها و الوحدة هي الوجود.

فاعلم أن الوحدة هي ما يقال به لشي‏ء ما واحد، و العدد هو الكمية المتألفة من الوحدات، كما في صدر المقالة السابعة من اصول أقليدس، فالوحدة ليست بعدد لأن العدد ما فيه انفصال لأنه كم و الكم يقبل الانقسام و الوحدة لا تقبله، و من جعلها عددا أراد بالعدد ما يدخل تحت العد، كما قال العلامة الخواجه الطوسي في الصدر المذكور: «و قد يقال لكل ما يقع في مراتب العد عدد فيقع اسم العدد على الواحد أيضا بهذا الاعتبار» فالنزاع لفظي، و قد يحد العدد بأنه نصف مجموع حاشيته كالأربعة مثلا حاشيتاها ثلاثة و خمسة و هى نصف مجموعها، فيخرج الواحد منه أيضا.

و الوحدة مبدء العدد المتقوم بها فالحق كما صرح به العلامة الشيخ البهائى في خلاصة الحساب أن الواحد ليس بعدد و إن تألفت منه الأعدد كما أن الجوهر الفرد عند مثبتيه ليس بجسم و إن تألفت منه الأجسام، مثلا أن العشرة متقومة بالواحد عشر مرات و ليست متقومة بخمسة و خمسة و لا بسته و أربعة و لا بسبعة و ثلاثة و لا بثمانية و اثنين لأن تركبها من الخمستين ليس بأولى من تركبها من الستة و الأربعة و غيرها من أنواع الأعداد التي تحتها و لهذا قال الفيلسوف المقدم ارسطاطاليس- كما في الخامس من ثالثة إلهيات الشفاء-: لا تحسبن أن ستة ثلاثة و ثلاثة بل هو ستة مرة واحدة.

و قال الشيخ في الفصل المذكور: و حد كل واحد من الأعداد إن أردت التحقيق هو أن يقال إنه عدد من اجتماع واحد و واحد و واحد و تذكر الاحاد كلها و ذلك لأنه لا يخلو إما أن يحدد العدد من غير أن يشار إلى تركيبه مما ركب منه بل بخاصية من خواصه فذلك يكون رسم ذلك العدد لا حده من‏ جوهره، و إما أن يشار إلى تركيبه مما ركب منه، فإن اشير إلى تركيبه من عددين دون الاخر مثلا أن يجعل العشرة من تركيب خمسة و خمسة لم يكن ذلك أولى من تركيب ستة مع أربعة و ليس تعلق هويتها بأحدهما أولى من الاخر و هو بما هو عشرة مهية واحدة و محال أن تكون مهية واحدة و ما يدل على مهية من حيث هي واحدة حدود مختلفة فاذا كان كذلك فحده ليس بهذا و لا بذاك بل بما قلنا و يكون إذا كان ذلك كذلك فقد كان له التراكيب من خمسة و خمسة و من ستة و أربعة و من ثلاثة و سبعة لازما لذلك و تابعا فيكون هذه رسوما له.

فنقول: كما أن الوحدة مبدء العدد و ليست منه و تتألف منه الأعداد بكثرتها و لم تجد في مراتبها المختلفة بعد الفحص و التفتيش غير الوحدة و قد علمت أن مفاهيم الأعداد تتحقق بتكرر المفهوم الوحدة لا غير كذلك الوحدة الحقة التي هي حق الوحدة مبدء للحقائق و بتكرر تجلياته تتحقق الحقائق بلا تكثر في المتجلى، و كأن ما في زبور آل محمد صلى الله عليه و آله من أن له تعالى وحدانية العدد يشير إلى هذا السر المكنون و قد سلك أهل السر هذا المسلك الأقوم و الطريق الأوسط.

فقال السيد المحقق الداماد قدس الله روحه معناه: أن الوحدة العددية ظل لوحدة الحقة الصرفة القيومية، و قال مولانا محسن الفيض قدس سره:وحدانية العدد أى جهة وحدة الكثرات و أحدية جمعها لأن العددية منتفية عنه سبحانه تعالى البتة و إنما الثابت له معنى الوحدة ليس إلا الوحدة الحقيقية كما ثبت في محله عقلا و نقلا.

و قال صدر المتألهين قدس سره في الشواهد الربوبية: و من اللطائف أن العدد مع غاية تباينه عن الوحدة و كون كل مرتبة منه حقيقة برأسها موصوفة بخواص و لوازم لا توجدان في غيرها إذا فتشت في حاله و حال مراتبه المختلفة لم تجد فيها غير الوحدة.

و قال الحكيم المتأله السبزوارى رضوان الله عليه في الحاشية: فكل عدد من‏ الأعداد التي من النسب الأربع فيه التباين مع الاخر ليس أجزاؤه إلا الواحد فالاثنان واحد و واحد، و الثلاثة واحد و واحد و واحد و هكذا فالواحد رسم بتكراره الأعداد المتباينة و لو في غاية التباين، و تكرار الشي‏ء ليس إلا ظهوره ثانيا و ثالثا بالغا ما بلغ، و ظهورات الشي‏ء ليست مكثرة له فاذا ظهر زيد في البيت مرة بعد اولى و كرة غب اخرى لم يتعدد تعددا شخصيا أو نوعيا، و هذا الواحد لا بشرط صار باللحاظات الكثيرة أعدادا متباينة لها أحكام و آثار متخالفة مما هي مشروحة في علم الحساب و علم الأعداد و غيرهما فمفهوم الواحد في مفاهيم الأعداد كحقيقة الوجود بالنسبة إلى أنحاء الوجودات و لعل هذا معنى قول سيد الساجدين علي بن الحسين عليهما السلام: يا الهى لك وحدانية العدد، أى لك وحدانية آيتها الوحدانية التي هي راسمة الأعداد و علة قوامها و عادها و مفنيها، انتهى.

و قد نقلنا بيان هؤلاء العظام من تعليقة الحكيم المتأله البارع الاخوند الهيدجى على الفريدة الثالثة من المقصد الأول من غرر الفرائد للمتأله السبزواري قدس سرهما.

و أنت تعلم أن كلامهم مبنى على ذلك السر المشار إليه و قد بسط القول فيه غير واحد من أجلة المتالهين منهم محيى الدين في الفص الإدريسي من كتاب فصوص الحكم، و منهم المولى صدرا في الفصل الرابع من المرحلة الخامسة من السفر الأول من الأسفار الأربعة، و منهم المولى محسن الفيض في عين اليقين.

و نأتي بكلام الأولين تتميما للفائدة و تكميلا لها قال أوسطهم: فصل في بعض الأحكام الوحدة و الكثرة، ان الوحدة ليست بعدد و إن تألف منها لأن العدد كم يقبل الانقسام و الوحدة لا يقبله و من جعل الوحدة من العدد أراد بالعدد ما يدخل في تحت العد فلا نزاع معه لأنه راجع إلى اللفظ بل هي مبدء للعدد لأن العدد لا يمكن تقومه إلا بالواحدة لا بما دون ذلك العدد من الأعداد فإن العشرة لو تقويت بغير الوحدات لزم الترجيح من غير مرجح فإن تقومها بخمسة و خمسة ليس أولى من تقومها بستة و أربعة، و لا من تقومها بسبعة و ثلاثة و التقوم بالجميع غير ممكن و إلا لزم تكرر أجزاء المهية المستلزم لاستغناء الشي‏ء عما هو ذاتي له لأن كلا منها كان في تقومها فيستغنى به عما عداه، و إن أخذ تقويمها باعتبار القدر المشترك بين جميعها لا باعتبار الخصوصيات كان اعترافا بما هو المقصود إذ القدر المشترك بينها هو الوحدات.

و من الشواهد أنه يمكن تصور كل عدد بكنهه مع الغفلة عما دونه من الأعداد فلا يكون شي‏ء منها داخلا في حقيقته فالمقوم لكل مرتبة من العدد ليس إلا الوحدة المتكررة فإذا انضم إلى الوحدة مثلها حصلت الاثنينية و هي نوع من العدد و إذا انضم إليها مثلاها حصلت الثلاثة و هكذا يحصل أنواع لا تتناهي بتزايد واحد واحد لا إلى نهاية إذا التزايد لا ينتهى إلى حد لا يزاد عليه فلا ينتهى الأنواع إلى نوع لا يكون فوقه نوع آخر.

و أما كون مراتب العدد متخالفة الحقائق كما هو عند الجمهور فلاختلافها باللوازم و الأوصاف من الصمم و المنطقية و التشارك و التباين و العادية و المعدودية و التجذير و المالية و التكعب و أشباهها، و اختلاف اللوازم يدل على اختلاف الملزومات.

و هذا مما يؤيد ما ذهبنا إليه في باب الوجود من أن الاختلاف بين حقائقها إنما نشأ من نفس وقوع كل حقيقة في مرتبة من المراتب فكما أن مجرد كون العدد واقعا في مرتبة بعد الاثنينية هو نفس حقيقة الثلاثة إذ يلزمها خواص لا توجد في غيره من المراتب قبلها أو بعدها فكذلك مجرد كون الوجود واقعا في مرتبة من مراتب الأكوان يلزمه معان لا توجد في غير الوجود الواقع في تلك المرتبة فالوحدة لا بشرط في مثالنا بازاء الوجود المطلق، و الوحدة المحضة المتقدمة على جميع المراتب العددية بازاء الوجود الواجبي الذي هو مبدأ كل وجود بلا واسطة و مع واسطة أيضا، و المحمولات الخاصة المنتزعة من نفس كل مرتبة من العدد بازاء المهيات المتحدة مع كل مرتبة من الوجود، و كما أن الاختلاف بين الأعداد بنفس ما به الاتفاق فكذلك التفاوت بين الوجودات بنفس هوياتها المتوافقة في سنخ الموجودية.

و على ما قررنا يمكن القول بالتخالف النوعي بين الأعداد نظرا إلى التخالف الواقع بين المعاني المنتزعة عن نفس ذواتها بذواتها و هي التي بازاء المهيات المتخالفة المنتزعة عن نفس الوجودات.

و يمكن القول بعدم تخالفها النوعي نظرا إلى أن التفاوت بين ذواتها ليس إلا بمجرد القلة و الكثرة في الوحدات و مجرد التفاوت بحسب قلة الأجزاء و كثرتها في شي‏ء لا يوجب الاختلاف النوعي في أفراد ذلك الشي‏ء، و أما كون اختلاف اللوازم دليلا على اختلاف الملزومات فالحق دلالته على القدر المشترك بين التخالف النوعي و التخالف بحسب القوة و الضعف و الكمال و النقص. انتهى كلامه رفع مقامه.

و أما ما أفاده في المقام أولهم في الفص الإدريسي، فلما كان كشف دقائقة على طالبيه مبتنيا على زيادة إيضاح فالحري بنا أن نأتي به مع شرح كاشف معضلات كتابه فصوص الحكم داود بن محمود القيصري مشيرا إلى المتن بحرف الميم و إلى الشرح بالشين، كما يلي:(م) فاختلطت الامور و ظهرت الأعداد بالواحد في المراتب المعلومة.

(ش) أى فاختلطت الامور و اشتبهت بالتكثر الواقع فيها على المحجوب الغير المنفتح عين بصيرته و إن كانت ظاهرة راجعة إلى الواحد الحقيقي عند من رفعت الأستار عن عينه و انكشف الحق إليه بعينه، و الاختلاط بالتجليات المختلفة صار سببا لوجود الكثرة كما ظهرت الأعداد بظهور الواحد في المراتب المعلومة، و لما كان ظهور الواحد في المراتب المتعددة مثالا تاما لظهور الحق في مظاهره جعل هذا الكلام توطئة و شرع في تقرير العدد و ظهور الواحد فيه ليستدل المحجوب به على الكثرة الواقعة في الوجود المطلق مع عدم خروجه عن كونه واحدا حقيقيا و قال:(م) فأوجد الواحد العدد و فصل العدد الواحد.

(ش) أى أوجد الواحد بتكرره العدد إذ لو لم يتكرر الواحد لم يكن حصول العدد، و فصل العدد مراتب الواحد مثل الاثنين و الثلاثة و الأربعة و غير ذلك إلى ما لا يتناهى لأن كل مرتبة من مراتب الاحاد و العشرات و المات و الالوف ليس غير الواحد المتجلي بها لأن الاثنين مثلا ليس إلا واحدا و واحدا اجتمعا بالهيئة الوحدانية فحصل منها الاثنان فمادته هو الواحد المتكرر و صورته أيضا واحدة فليس فيه شي‏ء سوى الواحد المتكرر فهو مرتبة من مراتبه و كذلك البواقي، فايجاد الواحد بتكراره العدد مثال لإيجاد الحق الخلق بظهوره في الصورة الكونية، و تفصيل العدد مراتب الواحد مثال لإظهار الأعيان أحكام الأسماء الإلهية و الصفات الربانية و الارتباط بين الواحد و العدد مثال للارتباط بين الحق و الخلق و كون الواحد نصف الاثنين و ثلث الثلاثة و ربع الأربعة و غير ذلك مثال للنسب اللازمة التي هي الصفات للحق.

(م) و ما ظهر حكم العدد إلا بالمعدود فالمعدود منه عدم و منه وجود، فقد يعدم الشي‏ء من حيث الحس و هو موجود من حيث العقل.

(ش) أى العدد لكونه كما منفصلا و عرضا غير قائم بنفسه لا بد أن يقع في معدود ما سواء كان ذلك المعدود موجودا في الحس أو معدوما فيه موجودا في العقل و ظهور العدد بالمعدود مثال لظهور الأعيان الثابتة في العلم بالموجودات و هي بعضها حسية و بعضها غيبية كما أن بعض المعدود في الحس و بعضه في العقل.

(م) فلا بد من عدد و معدود و لا بد من واحد ينشئ ذلك فينشأ بسببه.

(ش) أى إذا كان لا يظهر حكم العدد إلا بالمعدود، و لا يتبين مراتب الواحد إلا بالعدد فلا بد من عدد و معدود، و لما كان العدد ينشأ بتكرار الواحد فلا بد من واحد ينشئ ذلك العدد فينشأ، أى يظهر الواحد في مراتبه و مقاماته المختلفة بسبب ظهور العدد فالسبب هنا السبب القابلى، و لا بد من واحد ينشئ العدد فينشأ العدد بسبب ذلك الواحد فالسبب السبب الفاعلى و الأول أنسب.

(م) فإن كان كل مرتبة من العدد حقيقة واحدة كالتسعة مثلا و العشرة إلى أدنى و أكثر إلى غير نهاية ما هي مجموع و لا ينفك عنها اسم جمع الاحاد

فإن الإثنين حقيقة واحدة و الثلاثة حقيقة واحدة بالغا ما بلغت هذه المراتب.

(ش) و في بعض النسخ فإن لكل مرتبة من العدد حقيقة و الظاهر أنه تصرف ممن لا يعرف معناه و مقصوده رضي الله عنه أن كان كل مرتبة حقيقة واحدة أى إن عبرنا في كل مرتبة ما به يمتاز العدد المعين فيها من غيرها و هو ما به الاثنان اثنان و الثلاثة ثلاثة مثلا فما هي مجموع الاحاد فقط بل ينضم إليها أمر آخر يميزها عن غيرها و لا ينفك عنها اسم جمع الاحاد لأنه كالجنس لها فلا بد منها فإن الاثنين حقيقة واحدة ممتازة من الثلاثة و هي أيضا كذلك حقيقة واحدة متميزة عن الاخرى إلى ما لا نهاية له، فقوله: ما هي مجموع جواب الشرط و الجملة الإسمية إذا وقعت جواب الشرط يجوز حذف الفاء منه عند الكوفيين كقول الشاعر: من يفعل الحسنات الله يجزيها، و إن لم تعتبر الامور المتميزة بعضها عن بعضها و تأخذ القدر المشترك بين الكل الذي هو جمع الاحاد و تعتبره لا يبقى الامتياز بين كل منها كما نعتبر الجنس الذي بين النوعين كالإنسان و الفرس فيحكم عليهما بأنهما حيوان فكذلك يحكم في الإثنين و الثلاثة و الأربعة بأنها مجموع من الاحاد مع قطع النظر عما به يمتاز بعضه عن البعض الاخر و هو المراد بقوله:(م) و إن كانت واحدة فما عين واحدة منهن عين ما بقي.

(ش) و هذا الشق يدل على ما ذهبنا إليه من أن الأصح فإن كان كل مرتبة من العدد حقيقة أى و إن كانت المراتب كلها واحدة في كونها جمع الاحاد أو مجموعها فليس عين مرتبة واحدة من تلك المراتب عين ما بقي منها لأن كل مرتبة منها حقيقة برأسها موصوفة بخواص لا توجد في غيرها، و يجوز أن يكون ما بمعنى الذي أى و إن كانت المراتب كلها واحدة بحسب رجوعها إلى حقيقة واحدة هي جمع الاحاد فالذي عين واحدة من مراتب الاثنين و الثلاثة و غير ذلك عين ما بقي في كونه عبارة عن جمع الاحاد و هذا أنسب بقوله:(م) فالجمع يأخذها فيقول بها منها و يحكم بها عليها.

(ش) أي إذا كان لا ينفك عنها اسم جمع الاحاد فجمع الاحاد الذي هو كالجنس لتلك المراتب يأخذها و يجمعها و يتناولها و يصدق عليها صدق الجنس على أنواعه فنقول بتلك المراتب من تلك الحقيقة الجامعة إياها و يحكم بها عليها أى الجامع بين المراتب يحكم عليها بما يعطيه من الأحكام كما يحكم الحق على الأعيان بما يعطيه من الأحوال.(م) و قد ظهر في هذا القول عشرون مرتبة فقد دخلها التركيب.

(ش) أى حصل في هذا القول و هو أن كان كل مرتبة حقيقة عشرون مرتبة أولها مرتبة الواحد المنشئ للعدد، ثم مرتبة الاثنين إلى التسعة فصار تسعة ثم مرتبة العشرة و العشرين إلى تسعين و هي تسعة اخرى فصار ثمانية عشر، ثم مرتبة المائة و الألف و على الباقي يدخل التركيب و ضمير دخلها يرجع إلى المراتب العشرين.

(م) فما تنفك ثبت عين ما هو منفى عندك لذاته.(ش) أى لا تزال ثبت في كل مرتبة من المراتب عين ما تنفيه في مرتبة اخرى كما ذكر من أن الواحد ليس من العدد باتفاق جمهور أهل الحساب مع أنه عين العدد إذ هو الذي بتكرره توجد الأعداد فيلزمه في كل مرتبة من مراتب العدد لوازم و خصوصيات متعددة و كذلك نقول لكل مرتبة أنها جمع الاحاد و نثبت أنها ليست غير مجموع الاحاد مع أنه منفى عندك بأنها ليست مجموع الاحاد فقط.

(م) و من عرف ما قررناه في الأعداد و أن نفيها عين ثبتها علم أن الحق المنزه هو الخلق المشبه و إن كان قد تميز الخلق من الخالق فالأمر الخالق المخلوق و الأمر المخلوق الخالق.

(ش) أي و من عرف أن العدد هو عبارة عن ظهور الواحد في مراتب متعددة و ليس من العدد بل هو مقومه و مظهره و العدد أيضا في الحقيقة ليس غيره، و أن نفي العددية من الواحد عين إثباتها له لأن الأعداد ليست إلا عين مجموع الاحاد مادة و صورة علم أن الحق المنزه عن نقائص الإمكان بل عن كمالات الأكوان هو بعينه الخلق المشبه، و إن كان قد تميز الخلق بإمكانه من الخالق فالأمر الخالق أي الشي‏ء الذي هو الخالق هو المخلوق بعينه، لكن في مرتبة اخرى غير المرتبة الخالقية، و الأمر المخلوق هو الخالق بعينه لكن باعتبار ظهور الحق فيه.

و اعلم أن الاثنين مثلا ليس عبارة إلا عن ظهور الواحد مرتين مع الجمع بينهما، و الظاهر فرادى و مجموعا فيه ليس إلا الواحد فما به الاثنان اثنان و تغاير الواحد ليس إلا أمر متوهم لا حقيقة له كذلك شأن الحق مع الخلق فإنه هو الذي يظهر بصور البسائط ثم بصور المركبات فيظن المحجوب أنها مغايرة بحقائقها و ما يعلم أنها امور متوهمة و لا موجود إلا هو.

(م) كل ذلك من عين واحدة لا بل هو العين الواحدة و هو العيون الكثيرة.

(ش) أى كل ذلك الوجود الخلقي صادر من الذات الواحدة الإلهية ثم أضرب عنه لأنه مشعر بالمغايرة فقال: بل ذلك الوجود الخلقي هو عين تلك العين الواحدة الظاهرة في مراتب متعددة و ذلك العين الواحدة التي هي الوجود المطلق هي العيون الكثيرة باعتبار المظاهر المتكثرة، كما قال:

(م) سبحان من أظهرنا سوته‏ سر سنا لاهوته الثاقب‏
ثم بدا في خلقه ظاهرا في صورة الاكل و الشارب‏

فانظر ما ذا ترى.

(ش) أى انظر أيها السالك طريق الحق ما ذا ترى من الوحدة و الكثرة جمعا و فرادى؟ فإن كنت ترى الوحدة فقط فأنت مع الحق وحده لارتفاع الإثنينية، و إن كنت ترى الكثرة فقط فأنت مع الخلق وحده، و إن كنت ترى الوحدة في الكثرة محتجبة و الكثرة في الوحدة مستهلكة فقد جمعت بين الكمالين و فزت بمقام الحسنيين، هذا آخر ما أفاد هذا الفحل العارف المتأله في المقام.

فبما قدمنا ظهر لك سر كلام ولى الله الأعظم زين العابدين و سيد الساجدين علي بن الحسين عليهما السلام: لك يا إلهي وحدانية العدد، و كلام هؤلاء الأكابر سيما الأخير منهم تفصيل ذلك الكلام الموجز المفاض من صقع الملكوت و قد عرفه جده قدوة المتألهين و إمام العارفين و برهان السالكين علي أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: «إنا لامراء الكلام، و فينا تنشبت عروقه و علينا تهدلت غصونه» (المختار 231 من خطب النهج)، و بقوله: «هم عيش العلم و موت الجهل إلخ» (المختار 237 من خطب النهج) فراجع إلى شرحنا عليهما في المجلدين الأول و الثاني من تكملة منهاج البراعة.

و حيث انجر البحث إلى التوحيد و ساقنا لقاء الله إليه فلنشر إلى نبذة مما أودع في سورة التوحيد أعنى سورة الإخلاص كي يستقر التوحيد على ما شاهده أهله في قلوب مستعديه، و يتضح معنى اللقاء المبحوث عنه أتم إيضاح لمبتغيه على أن هذه السورة نسبته تبارك و تعالى و وصفه، و الحبيب يشتاق ذكر حبيبه و يلتذ بوصفه كما يحب الخلوة معه، و الانس به، و آثاره من رسوله و كتابه و أوليائه.

ففي آخر الباب الحادى و العشرين من إرشاد القلوب للديلمي قدس سره في الذكر و المحافظة عليه: قال الصادق عليه السلام إن النبي صلى الله عليه و آله صلى على سعد بن معاذ و قال: لقد وافى من الملائكة للصلاة عليه تسعون ألف ملك و فيهم جبرئيل يصلون عليه فقلت: يا جبرئيل بما استحق صلاتكم؟ قال: يقرأ قل هو الله أحد قائما و قاعدا و راكبا و ماشيا و ذاهبا و جائيا.

و قد انعقد الشيخ أبو جعفر الصدوق رضوان الله عليه بابا في كتاب التوحيد في تفسير سورة قل هو الله أحد و أتى من أئمة الدين بأحاديث قيمة فليراجع الطالب إليه و إلى شرح المقتبس من مشكاة الولاية القاضي السعيد القمي أعلى الله درجاته على ذلك الكتاب، و لكنا إنما نكتفي بنقل بعضها، و بما أفاده العارف المتأله الميرزا محمد رضا القمشئى قدس سره في تعليقته على شرح الفصوص للقيصرى، و الحكيم البارع المولى صدرا قدس سره في شرح اصول الكافي في تفسير سورة الإخلاص لأن نقل جميع تلك الأحاديث ينجر إلى الإطالة لكونها صعبا مستصعبا جدا لا بد من تفسيرها و كشف معضلاتها.

فأما ما قال القمشئى رضوان الله عليه في تعليقته على الفصل الأول من مقدمات القيصري على شرح الفصوص في الإشارة إلى نبذ مما في سورة التوحيد فهو مايلى:اعلم أن الوجود لما كان حيث ذاته حيث التحقق و الإنية فهو متحقق بنفس ذاته و لما كان واجبا بذاته و الواجب بالذات مهيته إنيته فليس فيه سوى حيث الوجود حيث، و لما لم يكن فيه سوى حيث الوجود حيث فلم يكن معه شي‏ء فكان الله و لم يكن معه شي‏ء و الان كما كان و هذا هو الذي يوهم أنه وجود بشرط لا و الأمر كذلك إلا أن كونه بشرط لا من لوازم ذاته و لا دخل في وجوب ذاته.

فإن قلت: فما معنى سريان تلك الحقيقة في الواجب و الممكن؟

أقول: معنى السريان الظهور فقد يكون ظاهرا بنفس ذاته لذاته و هذا سريانه في الواجب و قد يكون ظاهرا في ملابس الأسماء و الأعيان الثابتة في العلم، و قد يكون ظاهرا في ملابس أعيان الموجودات في الأعيان و الأذهان، و هذا السريان في الممكن و الكل شئونه الذاتية، فالوجود المأخوذ لا بشرط عين الوجود بشرط بحسب الهوية و الإختلاف في الاعتبار و إليه اشير في قوله تعالى: قل هو الله أحد فإن لفظة هو ضمير يشير إلى أنه لا اسم له، و لفظة الله اسم للذات بحسب الظهور الذاتي، و لفظة أحد قرينة دالة على أن اسم الله هناك للذات فإنه مشترك بينها و بين الذات الجامعة لجميع الصفات و في الظهور الذاتي لا نعت له و لا صفة بل الصفات منفية كما قال عليه السلام: و كمال التوحيد نفي الصفات عنه تعالى، أى الغيب المجهول هو الذات الظاهرة بالأحدية، و لما كان لفظة أحد قد يطلق لمعنى سلبى كما في هذا الموضع فإنه يسلب عنه جمع الأشياء بل الأسماء و الصفات أيضا فيوهم أنه خال عن الأشياء فاقد لها بل عن النعوت و الكمالات و هو تعالى بوحدته كل الأشياء و جميع النعوت و الكمالات فاستدرك بقوله تعالى: الله الصمد فان الصمد هو الواحد الجامع، ثم استدل عليه بأنه لم يلد و لم يولد أى لم يخرج عنه شي‏ء و لم يخرج عن شي‏ء ليكون ناقصا بخروج الشي‏ء عنه أو بخروجه عن شي‏ء فأحديته بسلب تعينات الأشياء عنه، و صمديته تثبت باندماج حقائقها فيه. انتهى كلامه.

قلت: ما أفاده قدس سره شريف متين جدا و تجد في تلك المعاني الدقيقة الفائضة من عرش التحقيق إشارات أنيقة من أئمة الدين صلوات الله عليهم أجمعين و من تأمل في الجوامع الروائية الإمامية رأى بالعيان أن أصل العرفان تنشبت عروقه فيهم، و تهدلت غصونه عليهم إلا أن الجهلة من المتصوفة و أشباه العرفاء و لا عرفاء إنما ردوا الناس عن الدين القهقرى، و ما سمعت من كلام هذا العارف الجليل في «هو» مأخوذ من خزنة العلم و عيب أسرار الله، فقد روى أبو جعفر الصدوق رضوان الله عليه في باب تفسير قل هو الله‏ من كتابه التوحيد بإسناده عن أبي البختري وهب بن وهب القرشي، عن أبي عبد الله الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي الباقر عليهم السلام في قول الله تبارك و تعالى: قل هو الله أحد:

قال: «قل» أي أظهر ما أوحينا إليك و نبأناك به بتأليف الحروف التي قرأتها لك ليهتدى بها من ألقى السمع و هو شهيد، و «هو» اسم مكنى مشار إلى غائب فالهاء تنبيه على معنى ثابت، و الواو إشارة إلى الغائب عن الحواس، كما أن قولك: هذا إشارة إلى الشاهد عند الحواس، و ذلك أن الكفار نبهوا عن آلهتهم بحرف إشارة الشاهد المدرك، فقالوا: هذه آلهتنا المحسوسة المدركة بالأبصار فأشر أنت يا محمد إلهك الذي تدعو إليه حتى نراه و ندركه و لا نأله فيه، فأنزل الله تبارك و تعالى: قل هو الله أحد فالهاء تثبيت للثابت، و الواو إشارة إلى الغائب عن درك الأبصار و لمس الحواس، و أنه تعالى عن ذلك، بل هو مدرك الأبصار و مبدع الحواس، حدثني أبي، عن أبيه، عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: رأيت الخضر عليه السلام في المنام قبل بدر بليلة، فقلت له: علمني شيئا أنصر به على الأعداء، فقال: قل: يا هو يا من لا هو إلا هو، فلما أصبحت قصصتها على رسول الله صلى الله عليه و آله، فقال لي: يا علي علمت الاسم الأعظم، فكان على لساني يوم بدر و أن أمير المؤمنين عليه السلام قرأ قل هو الله أحد فلما فرغ قال: يا هو يا من لا هو إلا هو اغفر لي و انصرني على القوم الكافرين، و كان علي عليه السلام يقول ذلك يوم صفين و هو يطارد، فقال له عمار بن ياسر: يا أمير المؤمنين ما هذه الكنايات؟

قال: اسم الله الأعظم و عماد التوحيد لله لا إله إلا هو، ثم قرأ: شهد الله أنه لا إله إلا هو و آخر الحشر- ثم نزل فصلى أربع ركعات قبل الزوال.

بيان: قوله: و لا نأله فيه أى لا نتحير فيه من أله كفرح أى تحير، و قوله: حدثني أبي عن أبيه من تتمة الحديث و القائل هو الإمام محمد بن علي الباقر يقول حدثني أبي زين العابدين علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي، عن أبيه أمير المؤمنين علي عليهم السلام، و قوله: قبل بدر بليلة، يعني قبل غزوة بدر بليلة.

و أما ما أفاده الحكيم المتأله مولى صدرا في تفسير السورة، فقال قدس سره في شرح الحديث الثالث من باب النسبة من كتاب التوحيد من اصول الكافي المذكور من قبل عن سيد الساجدين عليه السلام في سورة التوحيد و الايات من الحديد: أما سورة التوحيد، فلا يخفى لمن تدبر و تعمق فيها اشتمالها على غوامض علوم التوحيد و لطائف أسرار التقديس، فقد علمت نبذا من أسرارها العميقة مع أن المذكور يسير من كثير ما علمناه، نزر حقير في جنب ما ستر فيها من العلوم الأحدية و الأسرار الصمدية.

و اعلم أن كثرة الأسامي و الألقاب يدل على مزيد الفضيلة و الشرف، كما لا يخفى فأحدها سورة التفريد، و الثاني سورة التجريد، و ثالثها سورة التوحيد، و رابعها سورة الاخلاص، لأنه لم يذكر في هذه السورة الصفات السلبية التي هي صفات الجلال، و لأن من اعتقدها كان مخلصا في دين الله، و لأن غاية التنزيه و التفريد و التوحيد يستلزم غاية الدنو و القرب المستلزم للمحبة و الاخلاص في الدنيا.

و خامسها سورة النجاة لأنها تنجيك من التشبيه و الكفر في الدنيا، و عن‏ النار في الاخرة، و سادسها سورة الولاية لأن من قرأها عارفا بأسرارها صار من أولياء الله، و سابعها سورة النسبة لما روى أنه ورد جوابا لسؤال من قال: انسب لنا ربك، ثامنها سورة المعرفة، و روى جابر رضى الله عنه: أن رجلا صلى فقرأ:قل هو الله أحد فقال النبي صلى الله عليه و آله: إن هذا عبد عرف ربه فسميت سورة المعرفة لذلك.

و تاسعها سورة الجمال لأن الجلال غير منفك عن الجمال كما أشرنا إليه، و لما روى أنه قال صلى الله عليه و آله: إن الله جميل يحب الجمال، سألوه عن ذلك فقال: أحد صمد لم يلد و لم يولد، و عاشرها سورة المقشقشة، يقال: قشقش يقشقش المريض برأ، فمن عرفها تبرأ من الشرك و النفاق لأن النفاق مرض كما في قلوبهم مرض، الحادى عشر المعوذة، روى أنه صلى الله عليه و آله دخل على عثمان بن مظعون يعوذه بها و باللتين بعدها، ثم قال: تعوذ بهن فما تعوذت بخير منها، و الثاني عشر سورة الصمد، و الثالث عشر سورة الأساس لما روى أنه قال: اسست السماوات السبع و الأرضون السبع على قل هو الله أحد، و مما يدل عليه أن القول بالثلاثة سبب لخراب السماوات و الأرض بدليل قوله تعالى: تكاد السماوات يتفطرن منه و تنشق الأرض و تخر الجبال هدا فوجب أن يكون التوحيد سببا لعمارة العالم و نظامه.

و الرابع عشر سورة المانعة لما روى أنها تمنع فتاني القبر و نفخات النيران و الخامس عشر سورة المحضرة لأن الملائكة تحضر لاستماعها إذا قرأت و السادس عشر سورة المنفرة لأن الشيطان ينفر عند قراءتها، السابع عشر البراءة لانها تبرى‏ء من الشرك، و لما روى أنه صلى الله عليه و آله رأى رجلا يقرأها فقال: أما هذا فقد برى‏ء من الشرك، الثامن عشر سورة المذكرة لأنها يذكر العبد خالص التوحيد التاسع عشر سورة النور لأن الله نور السموات و الأرض و السورة في بيان معرفته و معرفته النور، و نوره المعرفة، و لما روى أنه صلى الله عليه و آله قال: إن لكل شي‏ء نورا و نور القرآن قل هو الله أحد، و نظيره أن نور الإنسان في أصغر أعضائه و هو الحدقة فصارت السورة للقرآن كالحدقة للإنسان.

العشرون سورة الأمان قال صلى الله عليه و آله: إذا قال العبد لا إله إلا الله دخل في حصنى و من دخل في حصنى أمن من عذابي، فهذه عشرون اسما من أسامى هذه السورة و لها فضائل كثيرة و معانى و نكات غير محصورة، و ما روى في فضل قراءتها و ثواب الصلاة المشتملة على عدد منها فلا يعد و لا يحصى.

فمن فضائلها أنها ثلث القرآن و ذكروا لذلك وجوها أجودها أن المقصود الأشرف من جميع الشرائع و العبادات معرفة ذات الله، و معرفة صفات الله و معرفة أفعاله و هذه السورة مشتملة على معرفة الذات فكانت معادلة لثلث القرآن.

و من فضائلها أيضا أن الدلائل و البراهين قائمة على أن أعظم درجات العبد و أجل سعاداته أن يكون قلبه مستنيرا بنور جلال الله و كبريائه و هو إنما يحصل بعرفان هذه السورة فكانت هذه السورة أفضل السور و أعظمها.

فإن قيل: صفات الله تعالى مذكور في سائر السور؟، قلنا: لكن لهذه السورة خصوصية و هي أنها مع و جازتها مشتملة على عظائم أسرار التوحيد فتبقى محفوظة في القلب معقولة للعقل فيكون ذكر جلال الله حاضرا بهذا السبب فلا جرم امتازت عن سائر السور.

و أما المعاني و النكات فمنها ما سبق، و منها وجوه اخرى كثيرة لو ذهبنا إلى تفسير هذه السورة مستقصى لخرجنا عما نحن بصدده من شرح الأحاديث و لكن نذكر أنموذجا ينبه على الكثير لمن هو أهله فنقول:قوله: هو الله أحد ثلاثة ألفاظ كل واحد منها إشارة إلى مقام من مقامات السالكين إليه تعالى: المقام الأول للمقربين و هم أعلى السائرين إلى الله تعالى فهؤلاء رأوا أن موجودية المهيات بالوجود و أن أصل حقيقة الوجود بذاته موجود و بنفسه واجب الوجود متعين الذات لا بتعين زائد فعلموا أن كل ذى مهية معلول محتاج و أنه تعالى نفس حقيقة الوجود و الوجوب و التعين فلهذا سمعوا كلمة هو علموا أنه الحق تعالى لأن غيره غير موجود بذاته و ما هو غير موجود بذاته فلا إشارة إليه بالذات.

و المقام الثاني مقام أصحاب اليمين و هؤلاء شاهدوا الحق موجودا و الخلق أيضا موجودا فحصلت كثرة في الموجودات فلا جرم لم يكن هو كافيا في الإشارة إلى الحق بل لا بد هناك من مميز يميز الحق عن الخلق فهؤلاء احتاجوا إلى أن يقرن لفظة الله بلفظة هو فقيل لأجله هو الله لأن الله هو الموجود الذي يفتقر إليه ما عداه و هو مستغن عن كل ما عداه فيكون أحدى الذات لا محالة إذ لو كان مركبا كان ممكنا محتاجا إلى غيره فلفظة الجلالة دال على الأحدية من غير اقتران إلى لفظ أحد به.

المقام الثالث مقام أصحاب الشمال و هو أدون المقامات و أخسها و هم الذين يجوزون كثرة في واجب الوجود أيضا كما في أصل الوجود فقورن لفظ أحد بكلمة الله ردا عليهم و ابطالا لمقالهم فقيل: قل هو الله أحد.

و ههنا بحث آخر أدق و أشرف و هو أنا نقول كل ماله مهية غير انيته فلا يكون هو هو لذاته و كلما يكون مهيته عين هويته و حقيقته نفس تعينه فلا اسم و لا حد له و لا يمكن شرحه إلا بلوازمه التي يكون بعضها إضافية و بعضها سلبية و الأكمل في التعريف ما يجمع ذينك النوعين جميعا و هو كون تلك الهوية إلها فإن الالهية يقتضى أن ينسب إليه غيره و لا ينسب هو إلى غيره، و المعنى الأول إضافي، و الثاني سلبى فلا جرم ذكر الله عقيب قوله هو.

ثم اعلم أن الذي لا سبب له و إن لم يكن تعريفه بالحد إلا أن البسيط الذي لا سبب له و هو مبدء الأشياء كلها على سلسلة الترتيب النازل من عنده طولا و عرضا فمن البين أن ما هو أقرب المجعولات إليه بل اللازم الأقرب المنبعث عن حاق الملزوم إذا وقع التعريف كان أشد تعريفا من غيره، و أقرب اللوازم له تعالى كونه واجب الوجود غنيا عما سواه و كونه مبدءا و مفتقرا إليه الجميع و مجموع هذا الأمرين هو معنى الالهية فلأجل ذلك وقع قوله الله عقيب هو شرحا و تعريفا له.

و لما ثبت مطلوب الهلية البسيطة بقوله هو الدال على أنه الهو المطلق الذي لا يتوقف هويته على غيره، و لأجل ذلك هو البرهان على وجود ذاته و ثبت مطلوب الهلية البسيطة بقوله فحصلت بمجموع الكلمتين معرفة الإنية المهية اريد أن يذكر عقيبهما ما هو كالصفات الجلالية و الجمالية فقوله تعالى: أحد مبالغة في الوحدة، و الوحدة التامة ما لا ينقسم و لا يتكثر بوجه من الوجوه أصلا لا بحسب العقل كالانقسام بالجنس و الفصل، و لا بحسب العين كالانقسام من المادة و الصورة و لا في الحس و لا في الوهم كالانقسام بالأعضاء و الأجزاء و كان الأكمل في الوحدة ما لا كثرة فيه تعالى أصلا فكان الله تعالى غاية في الوحدة، فقوله تعالى أحد دل على أنه واحد من جميع الوجوه و إنما قلنا أنه واحد كذلك لأنه لو لم يكن كذلك لم يكن إلها لأن كل ما هو مركب فهو مفتقر إلى أجزائه و أجزاؤه غيره فيكون مفتقرا إلى غيره فلم يكن واجب الوجود و لا مبدء الكل ثم إن هذه الصفة و هي الأحدية التامة الخالصة عن شوب الكثرة كما توجب التنزه عن الجنس و الفصل و المادة و الصورة، و عن الجسمية و المقدارية و الأبعاض و الأعضاء و الألوان و سائر الكيفيات الحسية الانفعالية و كلما يوجب قوة أو استعدادا أو إمكانا لك يقتضى كل صفة كمالية من العلم التام و القدرة الكاملة و الحياة السرمدية و الإرادة التامة و الخير المحض و الجود المطلق فإن من أمعن النظر و تأمل تأملا كافيا يظهر له أن الأحدية التامة منبع الصفات الكمالية كلها، و لو لا مخافة الإطناب لبينت استلزامها لواحدة واحدة منها لكن اللبيب يدرك صحة ما ادعيناه.

و قوله تعالى‏ الله الصمد قد مر أن الصمدية لها تفسيران أحدهما ما لا جوف له، و الثاني السيد فمعناه على الأول سلبي و هو إشارة إلى نفي المهية فإن كل ماله مهية كان له جوف و باطن و كان من جهة اعتبار مهية قابلا للعدم و كل ما لا جهة و لا اعتبار له إلا الوجود المحض فهو غير قابل للعدم فواجب الوجود من‏ كل جهة هو الصمد الحق، و على التفسير الثاني يكون معنى إضافيا و هو كونه سيد الكل أى مبدأ الجميع فيكون من الصفات الإضافية.

و ههنا وجه آخر و هو أن الصمد في اللغة هو المصمت الذي لا جوف له و إذا استحال هذا في حقه تعالى فوجب حمله على الفرد المطلق أعنى الواحد المنزه عن المثل و النظير إما ابتداءا، أو بعد نقله إلى معنى الأحدية المستلزمة للواحدية كما مر فيكون الصمد إشارة إلى نفي الشريك كما الأحد إلى نفي الانقسام.

فانظر كيف عرف أولا هويته و إنيته، ثم عرف أنه تعالى خالق لهذا العالم، ثم عرف أن الامور التي لأجلها افتقر هذا العالم إلى الخالق كالتركيب و الإمكان و المهية و العموم و الاشتراك و الاحتياج لا بد أن يكون منفيا عنه تعالى لئلا يلزم الدور أو التسلسل.

ثم لما كان من عادة المحققين أن يذكروا أولا ما هو الأصل و القاعدة ثم يخرجون عليه المسائل فذكر أولا كونه موجودا إلها ثم توصل به إلى كونه صمدا ثم رتب عليه أحكاما ثلاثة أحدها أنه‏ لم يلد لاستيجاب التوليد للتركيب لأنه عبارة عن انفصال بعض ناقص من أبعاضه ثم يترقي فيصير مساويا له في الذات و الحقيقة و من البين أن نقصان البعض يستلزم تركيب الكل، و ثانيها قوله: و لم يولد لاستلزامه للحدوث و النقصان و الافتقار إلى العلل من جهات شتى كالإعداد و الإحداث و الإبقاء و التربية و التكميل، و ثالثها قوله: و لم يكن له كفوا أحد و بيانه أنا لو فرضنا مكافيا له في رتبة الوجود فذلك المكافي لو كان ممكن الوجود كان محتاجا إليه متأخرا عنه في الوجود فكيف يكون مكافيا له؟ و إن كان واجب الوجود و قد علمت أن تعدده ينافي الأحدية و أنه يستلزم التركيب فهذا أنموذج من دقائق أسرار التوحيد تحويها هذه السورة، انتهى كلامه قدس سره الشريف.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی

نهج البلاغه نامه ها نامه شماره 28/1 شرح میر حبیب الله خوئی(به قلم علامه حسن زاده آملی )

نامه 28 صبحی صالح

28- و من كتاب له ( عليه ‏السلام  ) إلى معاوية جوابا قال الشريف و هو من محاسن الكتب

أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ أَتَانِي كِتَابُكَ تَذْكُرُ فِيهِ اصْطِفَاءَ اللَّهِ مُحَمَّداً ( صلى ‏الله‏ عليه ‏وآله  )لِدِينِهِ وَ تَأْيِيدَهُ إِيَّاهُ لِمَنْ أَيَّدَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ

فَلَقَدْ خَبَّأَ لَنَا الدَّهْرُ مِنْكَ عَجَباً إِذْ طَفِقْتَ تُخْبِرُنَا بِبَلَاءِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا وَ نِعْمَتِهِ عَلَيْنَا فِي نَبِيِّنَا فَكُنْتَ فِي ذَلِكَ كَنَاقِلِ التَّمْرِ إِلَى هَجَرَ أَوْ دَاعِي مُسَدِّدِهِ إِلَى النِّضَالِ

وَ زَعَمْتَ أَنَّ أَفْضَلَ النَّاسِ فِي الْإِسْلَامِ فُلَانٌ وَ فُلَانٌ فَذَكَرْتَ أَمْراً إِنْ تَمَّ اعْتَزَلَكَ‏ كُلُّهُ وَ إِنْ نَقَصَ لَمْ يَلْحَقْكَ ثَلْمُهُ وَ مَا أَنْتَ وَ الْفَاضِلَ وَ الْمَفْضُولَ وَ السَّائِسَ وَ الْمَسُوسَ

وَ مَا لِلطُّلَقَاءِ وَ أَبْنَاءِ الطُّلَقَاءِ وَ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ وَ تَرْتِيبَ دَرَجَاتِهِمْ وَ تَعْرِيفَ طَبَقَاتِهِمْ هَيْهَاتَ لَقَدْ حَنَّ قِدْحٌ لَيْسَ مِنْهَا وَ طَفِقَ يَحْكُمُ فِيهَا مَنْ عَلَيْهِ الْحُكْمُ لَهَا

أَ لَا تَرْبَعُ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ عَلَى ظَلْعِكَ وَ تَعْرِفُ قُصُورَ ذَرْعِكَ وَ تَتَأَخَّرُ حَيْثُ أَخَّرَكَ الْقَدَرُ فَمَا عَلَيْكَ غَلَبَةُ الْمَغْلُوبِ وَ لَا ظَفَرُ الظَّافِرِ وَ إِنَّكَ لَذَهَّابٌ فِي التِّيهِ رَوَّاغٌ عَنِ الْقَصْدِ

أَ لَا تَرَى غَيْرَ مُخْبِرٍ لَكَ وَ لَكِنْ بِنِعْمَةِ اللَّهِ أُحَدِّثُ أَنَّ قَوْماً اسْتُشْهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَ الْأَنْصَارِ وَ لِكُلٍّ فَضْلٌ

حَتَّى إِذَا اسْتُشْهِدَ شَهِيدُنَا قِيلَ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ وَ خَصَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى‏الله‏عليه‏وآله  )بِسَبْعِينَ تَكْبِيرَةً عِنْدَ صَلَاتِهِ عَلَيْهِ

أَ وَ لَا تَرَى أَنَّ قَوْماً قُطِّعَتْ أَيْدِيهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لِكُلٍّ فَضْلٌ حَتَّى إِذَا فُعِلَ بِوَاحِدِنَا مَا فُعِلَ بِوَاحِدِهِمْ قِيلَ الطَّيَّارُ فِي الْجَنَّةِ وَ ذُو الْجَنَاحَيْنِ

وَ لَوْ لَا مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ تَزْكِيَةِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ لَذَكَرَ ذَاكِرٌ فَضَائِلَ جَمَّةً تَعْرِفُهَا قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ وَ لَا تَمُجُّهَا آذَانُ السَّامِعِينَ فَدَعْ عَنْكَ مَنْ مَالَتْ بِهِ الرَّمِيَّةُ فَإِنَّا صَنَائِعُ رَبِّنَا وَ النَّاسُ بَعْدُ صَنَائِعُ لَنَا

لَمْ يَمْنَعْنَا قَدِيمُ عِزِّنَا وَ لَا عَادِيُّ طَوْلِنَا عَلَى قَوْمِكَ‏ أَنْ خَلَطْنَاكُمْ بِأَنْفُسِنَا فَنَكَحْنَا وَ أَنْكَحْنَا فِعْلَ الْأَكْفَاءِ وَ لَسْتُمْ هُنَاكَ وَ أَنَّى يَكُونُ ذَلِكَ

وَ مِنَّا النَّبِيُّ وَ مِنْكُمُ الْمُكَذِّبُ وَ مِنَّا أَسَدُ اللَّهِ وَ مِنْكُمْ أَسَدُ الْأَحْلَافِ وَ مِنَّا سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَ مِنْكُمْ صِبْيَةُ النَّارِ وَ مِنَّا خَيْرُ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ وَ مِنْكُمْ حَمَّالَةُ الْحَطَبِ فِي كَثِيرٍ مِمَّا لَنَا وَ عَلَيْكُمْ

فَإِسْلَامُنَا قَدْ سُمِعَ وَ جَاهِلِيَّتُنَا لَا تُدْفَعُ وَ كِتَابُ اللَّهِ يَجْمَعُ لَنَا مَا شَذَّ عَنَّا وَ هُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى‏ بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ‏

وَ قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ‏فَنَحْنُ مَرَّةً أَوْلَى بِالْقَرَابَةِ وَ تَارَةً أَوْلَى بِالطَّاعَةِ

وَ لَمَّا احْتَجَّ الْمُهَاجِرُونَ عَلَى الْأَنْصَارِ يَوْمَ السَّقِيفَةِ بِرَسُولِ اللَّهِ ( صلى‏الله‏عليه‏وآله  )فَلَجُوا عَلَيْهِمْ فَإِنْ يَكُنِ الْفَلَجُ بِهِ فَالْحَقُّ لَنَا دُونَكُمْ وَ إِنْ يَكُنْ بِغَيْرِهِ فَالْأَنْصَارُ عَلَى دَعْوَاهُمْ

وَ زَعَمْتَ أَنِّي لِكُلِّ الْخُلَفَاءِ حَسَدْتُ وَ عَلَى كُلِّهِمْ بَغَيْتُ فَإِنْ يَكُنْ ذَلِكَ كَذَلِكَ فَلَيْسَتِ الْجِنَايَةُ عَلَيْكَ فَيَكُونَ الْعُذْرُ إِلَيْكَوَ تِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا

وَ قُلْتَ إِنِّي كُنْتُ أُقَادُ كَمَا يُقَادُ الْجَمَلُ الْمَخْشُوشُ حَتَّى أُبَايِعَ‏

  وَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَقَدْ أَرَدْتَ أَنْ تَذُمَّ فَمَدَحْتَ وَ أَنْ تَفْضَحَ فَافْتَضَحْتَ

وَ مَا عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْ غَضَاضَةٍ فِي أَنْ يَكُونَ مَظْلُوماً مَا لَمْ يَكُنْ شَاكّاً فِي دِينِهِ وَ لَا مُرْتَاباً بِيَقِينِهِ وَ هَذِهِ حُجَّتِي إِلَى غَيْرِكَ قَصْدُهَا وَ لَكِنِّي أَطْلَقْتُ لَكَ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا سَنَحَ مِنْ ذِكْرِهَا

ثُمَّ ذَكَرْتَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِي وَ أَمْرِ عُثْمَانَ فَلَكَ أَنْ تُجَابَ عَنْ هَذِهِ لِرَحِمِكَ مِنْهُ فَأَيُّنَا كَانَ أَعْدَى لَهُ وَ أَهْدَى إِلَى مَقَاتِلِهِ أَ مَنْ بَذَلَ لَهُ نُصْرَتَهُ فَاسْتَقْعَدَهُ وَ اسْتَكَفَّهُ أَمْ مَنِ اسْتَنْصَرَهُ فَتَرَاخَى عَنْهُ وَ بَثَّ الْمَنُونَ إِلَيْهِ حَتَّى أَتَى قَدَرُهُ عَلَيْهِ

كَلَّا وَ اللَّهِ لَ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَ الْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَ لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا.

وَ مَا كُنْتُ لِأَعْتَذِرَ مِنْ أَنِّي كُنْتُ أَنْقِمُ عَلَيْهِ أَحْدَاثاً فَإِنْ كَانَ الذَّنْبُ إِلَيْهِ إِرْشَادِي وَ هِدَايَتِي لَهُ فَرُبَّ مَلُومٍ لَا ذَنْبَ لَهُ وَ قَدْ يَسْتَفِيدُ الظِّنَّةَ الْمُتَنَصِّحُ‏

وَ مَا أَرَدْتُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَ ما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ‏

وَ ذَكَرْتَ أَنَّهُ لَيْسَ لِي وَ لِأَصْحَابِي عِنْدَكَ إِلَّا السَّيْفُ فَلَقَدْ أَضْحَكْتَ‏

بَعْدَ اسْتِعْبَارٍ مَتَى أَلْفَيْتَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَنِ الْأَعْدَاءِ نَاكِلِينَ وَ بِالسَّيْفِ مُخَوَّفِينَ فَلَبِّثْ قَلِيلًا يَلْحَقِ الْهَيْجَا حَمَلْ‏

فَسَيَطْلُبُكَ مَنْ تَطْلُبُ وَ يَقْرُبُ مِنْكَ مَا تَسْتَبْعِدُ

وَ أَنَا مُرْقِلٌ نَحْوَكَ فِي جَحْفَلٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَ الْأَنْصَارِ وَ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ شَدِيدٍ زِحَامُهُمْ سَاطِعٍ قَتَامُهُمْ مُتَسَرْبِلِينَ سَرَابِيلَ الْمَوْتِ أَحَبُّ اللِّقَاءِ إِلَيْهِمْ لِقَاءُ رَبِّهِمْ

وَ قَدْ صَحِبَتْهُمْ ذُرِّيَّةٌ بَدْرِيَّةٌ وَ سُيُوفٌ هَاشِمِيَّةٌ قَدْ عَرَفْتَ مَوَاقِعَ نِصَالِهَا فِي أَخِيكَ وَ خَالِكَ وَ جَدِّكَ وَ أَهْلِكَ وَ ما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج19  

و من كتاب له عليه السلام الى معاوية و هو من محاسن الكتب- و هو المختار الثامن و العشرون من باب الكتب‏

أما بعد فقد أتاني كتابك تذكر فيه اصطفاء الله تعالى محمدا صلى الله عليه و سلم لدينه، و تأييده إياه بمن أيده من أصحابه فلقد خبأ لنا الدهر منك عجبا إذ طفقت تخبرنا ببلاء الله عندنا، و نعمته علينا في نبينا فكنت في ذلك كناقل التمر إلى هجر [هجر- معا]، أو داعى مسدده إلى النضال.

و زعمت أن أفضل الناس في الإسلام فلان و فلان فذكرت أمرا إن تم اعتزلك كله، و إن نقص لم يلحقك ثلمه، و ما أنت و الفاضل و المفضول و السائس و المسوس [و الفاضل و المفضول و السائس و المسوس- معا]، و ما للطلقاء و أبناء الطلقاء و التمييز [و التمييز- معا] بين المهاجرين الأولين و ترتيب [ترتيب- معا] درجاتهم، و تعريف [تعريف- معا] طبقاتهم؟ هيهات لقد حن قدح ليس منها و طفق يحكم فيها من عليه الحكم لها.

أ لا تربع أيها الإنسان على ظلعك و تعرف قصور ذرعك، تتأخر حيث أخرك القدر؟ فما عليك غلبة المغلوب، و لا لك ظفر الظافر، و إنك [فإنك- خ‏] لذهاب في التيه، رواغ من القصد، أ لا ترى- غير مخبر لك- لكن بنعمة الله أحدث، أن قوما من المهاجرين استشهدوا في سبيل الله- و لكل فضل- حتى إذا استشهد [شهيد [نا]] قيل: سيد الشهداء و خصه رسول الله صلى الله عليه و آله بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه؟ أ و لا ترى أن قوما قطعت أيديهم في سبيل الله- و لكل فضل- حتى إذا فعل بواحد منا كما فعل بواحدهم، قيل: الطيار في الجنة و ذو الجناحين؟

و لولا ما نهى الله عنه من تزكية المرء نفسه لذكر ذاكر فضائل جمة تعرفها قلوب المؤمنين، و لا تمجها آذان السامعين، فدع عنك من مالت به الرمية فإنا صنائع ربنا و الناس بعد صنائع لنا، لم يمنعنا قديم عزنا و عادي طولنا على قومك أن خلطناكم بأنفسنا فنكحنا و أنكحنا فعل الأكفاء و لستم هناك، و أنى يكون ذلك كذلك و منا النبي و منكم المكذب، و منا أسد الله و منكم‏ أسد الأحلاف، و منا سيدا شباب أهل الجنة و منكم صبية النار، و منا خير نساء العالمين و منكم حمالة الحطب، في كثير مما لنا و عليكم، فإسلامنا ما قد سمعتم [سمع‏]، و جاهليتنا لا تدفع، و كتاب الله يجمع لنا ما شذ عنا و هو قوله سبحانه: و أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله*، و قوله تعالى: إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه و هذا النبي و الذين آمنوا و الله ولي المؤمنين‏، فنحن مرة أولى بالقرابة و تارة أولى بالطاعة. و لما احتج المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة برسول الله صلى الله عليه و آله فلجوا عليهم فإن يكن الفلج به فالحق لنا دونكم، و إن يكن بغيره فالأنصار على دعويهم. و زعمت أني لكل الخلفاء حسدت، و على كلهم بغيت، فإن يكن ذلك كذلك فليس الجناية عليك فيكون العذر إليك و تلك شكاة ظاهر عنك عارها.

و قلت: إني كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى أبايع و لعمر الله لقد أردت أن تذم فمدحت، و أن تفضح فافتضحت، و ما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكا في دينه‏ و لا مرتابا بيقينه، و هذه حجتي إلى غيرك قصدها و لكني أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها. ثم ذكرت ما كان من أمري و أمر عثمان فلك أن تجاب عن هذه لرحمك منه فأينا كان أعدى له و أهدى إلى مقاتله؟ أ من بذل له نصرته فاستقعده و استكفه، أم من استنصر فتراخى عنه، و بث المنون إليه حتى أتى قدره عليه؟ كلا و الله لقد علم الله المعوقين منكم و القائلين لإخوانهم هلم إلينا و لا تأتون البأس إلا قليلا. و ما كنت لأعتذر من أني كنت أنقم عليه أحداثا فإن كان الذنب إليه إرشادي و هدايتي له فرب ملوم لا ذنب له، و قد يستفيد الظنة المتنصح. و ما أردت إلا الإصلاح ما استطعت و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت. و ذكرت أنه ليس لي و لا لأصحابي عندك إلا السيف فلقد أضحكت بعد استعبار، متى ألفيت بنو عبد المطلب عن الأعداء ناكلين، و بالسيوف مخوفين؟ فلبث قليلا يلحق الهيجاء حمل، فسيطلبك من تطلب، و يقرب منك ما تستبعد، و أنا مرقل نحوك في جحفل من المهاجرين و الأنصار و التابعين بإحسان، شديد زحامهم،ساطع قتامهم، متسربلين سرابيل الموت، أحب اللقاء إليهم لقاء ربهم، قد صحبتهم ذرية بدرية، و سيوف هاشمية، قد عرفت مواقع نصالها في أخيك و خالك و جدك و أهلك و ما هي من الظالمين ببعيد.

اللغة

قد مضى بيان طائفة من لغات هذا الكتاب في شرح المختار التاسع من هذا الباب، أوله قوله عليه السلام: فأراد قومنا قتل نبيه و اجتياح أصله و هموا بنا الهموم- إلخ. (ص 324 ج 17).

(خبأ) أى أخفى، يقال: خبأ الشي‏ء، من باب منع مهموزا، و خبأ مشددا أى ستره و أخفاه و في كثير من النسخ المطبوعة كانت الكلمة مشكولة بتشديد الباء و نسخة الرضي بتخفيفها كما اخترناها. (ببلاء الله) أي بانعامه و إحسانه، أو اختباره و امتحانه و لكن المناسب مع ما عندنا هو الانعام و الاحسان.

(هجر) محركة اسم بلد مذكر مصروف و غير مصروف و النسبة إليه هاجري على خلاف القياس و من ذلك قولهم نبأ هاجري، و هو في نسخة الرضي مشكول مصروفا و غير مصروف معا، (مسدده) أي معلمه، (النضال) المراماة.

(ثلمه) الثلم: الكسر و العيب، و في عدة من النسخ المطبوعة و غيرها: لم ينقصك ثلمه، و لكن نسخة الرضي رضوان الله عليه كانت: لم يلحقك ثلمه كما اخترناه. (الطلقاء) جمع الطليق و هو من اطلق بعد الأسرة. (لقد حن قدح ليس منها) مثل، قال الميداني في فصل الحاء المهملة المفتوحة من مجمع الأمثال: حن قدح ليس منها، القدح أحد قداح الميسر و إذا كان أحد القداح من غير جوهرة اخواته ثم أجاله المفيض خرج له صوت يخالف أصواتها يعرف به أنه ليس من جملة القداح، يضرب للرجل يفتخر بقبيلة ليس منها أو يتمدح بما لا يوجد فيه، و تمثل به عمر حين قال الوليد بن عقبة بن أبى معيط: اقتل من بين قريش فقال عمر: حن قدح ليس منها، و الهاء في منها راجعة إلى القداح. انتهى. قوله: أجاله المفيض يقال: أفاض أهل الميسر بالقداح أي ضربوا بها.

(ألا تربع) ربع كمنع: وقف و انتظر و تحبس و منه قولهم: اربع عليك أو على نفسك أو على ظلعك قاله في القاموس.(و الظلع) بسكون اللام: العيب، و بفتحها: العرج و الغمز، و هو مصدر ظلع البعير كمنع أى غمز في مشيه، و من أمثالهم: ظالع يعود كسيرا، يعود من العيادة، يضرب للضعيف ينصر من هو أضعف منه كما في مجمع الأمثال للميداني.

(الذرع): الطاقة و الوسع و بسط اليد و ذرع الإنسان طاقته التي يبلغها، و في آخر الدعاء السابع من الصحيفة السجادية: فقد ضقت لما نزل بى يا رب ذرعا، و في شرحها الموسوم برياض السالكين للعالم المتضلع السيد عليخان قدس سره في ضيق الذرع المناسب لقصورها نكات أدبية فراجع.

(التيه): الضلال و التحير في المفاوز قال الله تعالى: فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض‏، (الرواغ): كثير الميل، يقال: راغ الرجل و الثعلب روغا و روغانا إذا مال و حاد عن الشي‏ء، و يقال: فلان يروغ روغان الثعلب و من الأمثال فلان أروغ من الثعلب.

(القصد): الاعتدال و الطريق المستقيم، (غير مخبر) خبره الشي‏ء و بالشي‏ء من باب التفعيل أعلمه إياه و أنبأه كأخبره و أخبر به، (استشهد) أى قتل في سبيل الله، و كذا اشهد، على صيغتى المجهول.

(تمجها) يقال مج الماء من فيها إذا ألقاه، (الطول) بالفتح فالسكون:الفضل، (عادى) أى قديم، قال الجوهرى في الصحاح: عاد قبيلة و هم قوم هود عليه السلام و شي‏ء عادى أى قديم كأنه منسوب إلى عاد.

و قال الشيخ محمد عبده: العادى الاعتيادى المعروف، أقول: الصواب ما قدمنا و هذا الوجه خطر ببالنا أيضا إلا أن مقابلته بالقديم منعنا عن ذلك، و في رواية صبح الأعشى: و مديد طولنا.

(الرمية) المراد منها ههنا الصيد الذي يرمي و هو كالمثل يضرب لمن يميل به عن الحق أغراضه الباطلة و أصله أن الرجل يقصد قصدا فيتعرض له الصيد فيتبعه فيميل به عن قصده الأصلى.

(فلجوا عليهم) أى ظفروا عليهم، و الفلج: الظفر، و الفعل من بابى نصر و ضرب، قال محمد بن بشير:

كم من فتى قصرت في الرزق خطوته‏ ألفيته بسهام الرزق قد فلجا

و البيت من الحماسة، (الحماسة 436 من شرح المرزوقى)، و في الحديث السادس من باب في شأن إنا أنزلناه في ليلة القدر و تفسير من اصول الكافي عن أبي جعفر عليه السلام قال: يا معشر الشيعة خاصموا بسورة إنا أنزلناه تفلجوا فو الله إنها لحجة الله تبارك و تعالى على الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه و آله و انها لسيدة دينكم و انها لغاية علمنا الحديث.

(صنائع) جمع صنيعة، قال الزمخشرى في أساس البلاغة: فلان صنيعتك و مصطنعك، و اصطنعتك لنفسى، قال الحطيئة:

فإن يصطنعني الله لا أصطنعكم‏ و لا اوتكم مالى على العثرات‏

و قال في القاموس: هو صنيعى و صنيعتى أى اصطنعته و ربيته و خرجته.

و الصنيعة أيضا هي ما يسدى من معروف أو يد إلى إنسان، قال ابن مولى ليزيد بن حاتم:

و إذا صنعت صنيعة أتممتها بيدين ليس نداهما بمكدر

و البيت من الحماسة، قال المرزوقي في الشرح: يقول: و إذا اتخذت عند إنسان يدا و أزللت إليه نعمة فانك لا تخدجها و لا تترك تربيتها لكنك تكملها و تقوم بعمارتها مصونة من المن و التكدير صافية من الشوائب و التعذير.

(شباب) جمع الشاب.(شكاة) الشكاة في الأصل: المرض، و توضع موضع العيب و الذم كما في هذا البيت فمعناها العيب و النقيصة.(ظاهر عنك) أى زائل عنك و ينبو، و لا يعلق بك، قال ابن الأثير في النهاية:

و في حديث عائشة كان يصلى العصر و لم يظهر فيى‏ء الشمس بعد من حجرتها أى لم يرتفع و لم يخرج إلى ظهرها، و منه حديث ابن الزبير لما قيل له يا ابن النطاقين تمثل بقول أبي ذؤيب: و تلك شكاة ظاهر عنك عارها، يقال ظهر عنى هذا العيب إذا ارتفع عنك و لم ينلك عنه شي‏ء أراد أن نطاقها لا يفض منه فيعير به و لكنه يرفع منه و يزيده نبلا، انتهى.

أقول في بيانه: كانت ام عبد الله بن الزبير ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر و أراد ابن الزبير أن تعييره إياه بلقب امه ليس عارا يستحيى منه إنما هو من مفاخره لأنه لقب لقبها به رسول الله صلى الله عليه و آله و هو في الغار مع أبي بكر على ما قيل فراجع إلى السيرة النبوية لابن هشام (ص 486 ج 1 من طبع مصر 1375 ه) و في الحماسة: قال سبرة بن عمرو الفقعسى و عيره ضمرة بن النهشلى كثرة إبله:

أعيرتنا ألبانها و لحومها و ذلك عار يا ابن ريطة ظاهر

قال المرزوقى في الشرح: و ذلك عار ظاهر أى زائل، قال أبو ذؤيب:

و عيرها الواشون أنى احبها و تلك شكاة ظاهر عنك عارها

و من هذا قولك: ظهر فوق السطح، و قولك: جعلته منى بظهر، و قوله تعالى: اتخذتموه وراءكم ظهريا، انتهى قول المرزوقي.

و أقول: صار هذا المصراع من البيت أعنى قول أبي ذؤيب و تلك شكاة إلخ مثلا يضرب لمن ينكر فعلا ليس له ربط به و لا تعلق له، و البيت من قصيدة غراء تنتهى إلى ثمانية و ثلاثين بيتا يرثى بها نشيبة بن محرث أحد بني مومل ابن حطيط الهذلى منقولة كاملة في ديوان الهذليين (ص 21 من طبع مصر 1385 ه) مطلعها:

هل الدهر إلا ليلة و نهارها و إلا طلوع الشمس ثم غيارها
أبى القلب إلا ام عمرو و أصبحت‏ تحرق ناري بالشكاة و نارها

و عيرها الواشون- البيت.

و أبو ذؤيب هذا هو خويلد بن خالد بن محرز الهذلى شاعر مجيد مخضرم أدرك الجاهلية و الإسلام، قدم المدينة عند وفاة النبي صلى الله عليه و آله فأسلم و حسن إسلامه روى عنه أنه قال: قدمت المدينة و لأهلها ضجيح بالبكاء كضجيج الحجيج أهلوا بالإحرام، فقلت: مه؟ فقالوا: توفى رسول الله صلى الله عليه و آله، كما في معجم الادباء لياقوت (ص 83 ج 11 من طبع مصر).

(الجمل المخشوش) الذي جعل في أنفه الخشاش و هو عويد يجعل في أنف البعير و نحوه يشد به الزمام ليكون أسرع لانقياده، مشتق من خش في الشي‏ء إذا دخل فيه لأنه يدخل في أنف البعير.(الغضاضة): الذلة و المنقصة، (المعوقين) أى المانعين عن القيام بنصرة الإسلام (فرب ملوم لا ذنب له) مثل، قال الميدانى في فصل الراء المضمومة من مجمع الأمثال: هذا من قول اكثم بن صيفي، يقول: قد ظهر للناس منه أمر أنكروه عليه و هم لا يعرفون حجته فهو يلام عليه و ذكروا أن رجلا في مجلس الأحنف بن قيس قال: لا شي‏ء أبغض إلى من التمر و الزبد فقال الأحنف: رب ملوم لا ذنب له- انتهى كلام الميداني.

(الظنة) بالكسر: التهمة (المتنصح) أى المتكلف بنصح من لا يقبل النصيحة و المبالغ فيه له.و قد يستفيد الظنة المتنصح، مصراع بيت صدره: و كم سقت من آثاركم من نصيحة، (استعبار) استعبر: جرت عبرته أى بكى.(لبث قليلا يلحق الهيجا حمل) هذا المثل قريب من قولهم: لبث رويدا يلحق الداريون، و حمل بالتحريك هو ابن بدر رجل من قشير و فيه يقول قيس ابن زهير العبسى:

و لكن الفتى حمل بن بدر بغى و البغى مرتعه وخيم‏

و هذا البيت للعبسى من أبيات الحماسة (الحماسة 147 من شرح المرزوقى) و من أبيات الأمالي للقالى ص 261 ج 1، و في السيرة النبوية لابن هشام ص 287 ج 1.و قول حمل يضرب به مثلا للتهديد بالحرب.

و روى الميدانى في مجمع الأمثال في فصل الضاد المفتوحة هكذا: ضح رويدا يدرك الهيجا حمل، و قال: ضح رويدا هذا أمر من التضحية أى لا تعجل في ذبحها ثم استعير في النهى عن العجلة في الأمر، و يقال: ضح رويدا لم ترع أى لم تفزع و يقال ضح رويدا يدرك الهيجا حمل، يعنى حمل بن بدر، قال زيد الخيل:

فلو أن نصرا أصلحت ذات بينها لضحت رويدا عن مطالبها عمرو
و لكن نصرا ارتعت و تخاذلت‏ و كانت قديما من خلايقها الغفر

أى المغفرة، نصر و عمروا بناقعين و هما حيان من بني أسد، انتهى قول الميداني.و في الباب الثالث و العشرين فى ما جاء من الأمثال من أوله لام من جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكرى: لبث رويدا يلحق الهيجا حمل، أى انتظر حتى يتلاقى الشبان، و الهيجا يقصر و يمد، و حمل اسم رجل، انتهى كلام أبي هلال.

و كما اختلف في ضبط هذا المثل على ما قدمنا كذا اختلف في حمل فذهب غير واحد إلى أنه ابن بدر كما دريت و في الإصابة و اسد الغابة أنه حمل ابن سعدانة قال في الأول: حمل بن سعدانة بن حارثة الكلبي وفد على النبي صلى الله عليه و آله و عقد له لواء و هو القائل: لبث قليلا يدرك الهيجا حمل، و شهد مع خالد مشاهده كلها و قد تمثل بقوله سعد بن معاذ يوم الخندق حيث قال:

لبث قيلا يدرك الهيجا حمل‏ ما أحسن الموت إذا حان الأجل‏

و في اسد الغابة: البث قليلا- إلخ و قال: شهد صفين مع معاوية، و الله تعالى أعلم.ثم إن الهيجاء في نسختنا التي قوبلت على نسخة الرضى ممدودة، و يجب أن تقرأ في البيت مقصورة ليستقيم الوزن.

(مرقل) أى مسرع، و الارقال ضرب من السير السريع، (جحفل) أى جيش عظيم، (قتامهم) أى غبارهم، (ساطع) اى منتشر، (نصالها) قال في القاموس:

النصل و النصلان حديدة السهم و الرمح و السيف ما لم يكن له مقبض جمعه أنصل و نصول و نصال، و نصل السهم فيه: ثبت، و في بعض النسخ نضالها بالمعجمة يقال ناضل عنه إذا دفع و لكن الصحيح ههنا بالمهملة و في صدر الكتاب بالمعجمة كما في نسخة الرضى رضوان الله عليه، قال أبو العيال الهذلى في أبيات لما حصر هو و أصحابه ببلاد الروم في زمن معاوية كتبها إلى معاوية فقرأه معاوية على الناس كما في ديوان الهذليين (ص 255 من طبع مصر):

فترى النبال تعير في أقطارنا شمسا كأن نصالهن السنبل‏
و ترى الرماح كأنما هي بيننا أشطان بئر يوغلون و نوغل‏

الاعراب‏

(و ما أنت و الفاضل و المفضول و السائس و المسوس) الفاضل و أترابه التالية على نسخة الرضى مشكولة بالنصب، كما أن في الجملة التي بعدها أعنى و ما للطلقاء و أبناء الطلقاء و التمييز إلخ التمييز و ترتيب و تعريف منصوبة أيضا و قد قرئت الجملة الاولى بالنصب و الرفع معا كما في نسخة مخطوطة مشكولة مقروة عندنا، و احتمل بعضهم الرفع في الجملة الثانية أيضا.

أفاد الفاضل الشارح المعتزلي بقوله: و ما أنت و الفاضل و المفضول الرواية المشهورة بالرفع و قد رواها قوم بالنصب فمن رفع احتج بقوله: و ما أنت و بيت أبيك و الفخر، و بقوله: فما القيسى بعدك و الفحار، و من نصب فعلى تأويل مالك و الفاضل و في ذلك معنى الفعل أى ما تصنع لأن هذا الباب لا بد أن يتضمن الكلام فيه فعلا أو معنى فعل و أنشدوا: فما أنت و السير في متلف، و الرفع عند النحويين‏ أولى، و ما للطلقاء و أبناء الطلقاء و التمييز النصب ههنا لا غير لأجل اللام في الطلقاء.

(حن قدح ليس منها) الضمير المجرور راجع إلى القداح كما مر، (فيها من عليه الحكم لها) الهاء في الطرفين راجعة إلى الطبقات أو الجماعة أو القضية أو نحوها غير مخبر منصوب على الحالية لضمير أحدث، و مخبر على نسخة الرضى كان بتشديد الباء من التخبير و في غير واحد من نسخ اخرى بكسر الباء المخففة من لإخبار و كلاهما بمعنى واحد كما مر في شرح اللغات، (أن قوما) مفعول ترى (الرمية) فعيلة بمعنى مفعولة و أنثت لأنها جعلت اسما لا نعتا و المراد بها الدنيا أى دع من مال إلى الدنيا و مالت به أى أمالته إليها، (فعل الاكفاء) منصوب على المصدر، (و لستم هناك) الواو للحال و العامل فيه خلطناكم، (على قومك) متعلق بقوله طولنا أى فضلنا عليهم، و جملة أن خلطناكم فاعل لقوله لم يمنعنا، و كلمتا قديم و عادى منصوبتان على المفعولية، و في نسخة الرضى- ره- و هي الصواب مرفوعتان على الفاعلية و جملة خلطناكم على هذا الوجه منصوبة على المفعولية، أفاد الفاضل الشارح المعتزلي بقوله: فان قلت: فبما ذا يتعلق في قوله في كثير؟ قلت: بمحذوف تقديره هذا الكلام داخل في جملة كلام كثير يتضمن مالنا و عليكم. (الفلج به) الضمير المجرور يرجع إلى الرسول (قصدها) الضمير يرجع إلى الحجة و إلى غيرك خبر قدم على القصد أى هذه حجتى قصدها إلى غيرك.

(يلحق الهيجا حمل) قرئ الفعل و حمل على وجهين: على تأنيث الفعل و نصب حمل فالهيجاء فاعل، و على تذكير الفعل و رفع حمل فالهيجاء مفعول (متسربلين) منصوب على الحال.

المصدر

قد مر في ذكر ماخذ الكتاب التاسع (ص 326 ج 17) نقل كتابه عليه السلام إلى معاوية جوابا عن كتابه إليه و قد نقلنا هما من كتاب صفين لنصر بن مزاحم و قد نقله ابن عبد ربه في العقد الفريد أيضا (ص 334 ج 4 من طبع مصر) و أما كتابه‏ هذا فقد نقله أعثم الكوفي في الفتوح (ص 157 من ترجمة الهروي طبع بمبئي) و أبو العباس أحمد بن علي القلقشندى في صبح الأعشى (ص 229 ج 1 من طبع مصر) و شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويرى في نهاية الأرب (ص 233 ج 7) و يطلب من باب كتبه عليه السلام إلى معاوية و احتجاجاته عليه من ثامن البحار (ص 534 ج 8 من الطبع الكمبانى)، و كتابه هذا يوهم أنه قريب من التاسع و أنهما واحد و الاختلاف في النسخ أو الروايات حتى أن الشارح البحرانى مال ههنا أن هذا الكتاب ملتقط من كتاب ذكر السيد منه فصلا سابقا و هو قوله: فأراد قومنا اهلاك نبينا و قد ذكرنا كتاب معاوية الذي هذا الكتاب جواب له و ذكرنا الكتاب له بأسره هناك و إن كان فيه اختلاف ألفاظ يسيرة بين الروايات- انتهى قوله.

أقول: قد وجدنا الكتابين في ماخذ عديدة و نرى بينهما اختلافا يمنعنا من اعتقادهما واحدا، على أن دأب الشريف الرضى رضوان الله عليه كان إذا نقل كلامه برواية اخرى أن ينبه بتقديمه على صورة اخرى: قال في المختار 227 من باب الخطب أوله: بسطتم يدي فكففتها و من كلام له عليه السلام في وصف بيعته بالخلافة و قد تقدم مثله بألفاظ مختلفة.

و قال في المختار 23 من باب الكتب أوله: وصيتى لكم أن لا تشركوا بالله شيئا: أقول: و قد مضى بعض هذا الكلام فيما تقدم من الخطب إلا أن فيه زيادة أوجبت تكريره.

و قال في المختار 66 من هذا الباب أوله: أما بعد فان المرء ليفرح بالشي‏ء الذي لم يكن ليفوته: و قد تقدم ذكره بخلاف هذه الرواية.

و نحوها في عدة مواضع اخرى فلو كان الكتابان واحدا لكان يتعرض عليه كما تعرض فيها، و بعد الغمض عن ذلك نقول: إن الروايات قائلة بأن معاوية كتب إلى علي عليه السلام كتابا أنفذه إليه مع أبي أمامة الباهلى فكتب إليه علي عليه السلام هذا الكتاب، و كتب إليه كتابا أنفذه إليه مع أبي مسلم الخولانى فكتب عليه السلام في جوابه ذلك الكتاب المقدم في المختار التاسع و كان صدره: فإن أخا خولان قدم علي بكتاب- إلخ.

و قد أقبل على الفاضل الشارح المعتزلي هذا السئوال أيضا و أورده على النقيب أبي جعفر فأجابه بما لا يخلو ذكره من فائدة قال: سألت النقيب أبا جعفر يحيى بن زيد فقلت: أرى هذا الجواب منطبقا على كتاب معاوية الذي بعثه مع أبي مسلم الخولانى إلى علي عليه السلام فإن كان هذا هو الجواب فالجواب الذي ذكره أرباب السيرة و أورده نصر بن مزاحم في كتاب صفين إذا غير صحيح، و إن كان ذلك الجواب فهذا الجواب إذن غير صحيح و لا ثابت؟.

قال: فقال لي: بل كلاهما ثابت مروى و كلاهما كلام أمير المؤمنين عليه السلام و ألفاظه، ثم أمرنى أن أكتب ما يمليه على فكتبته قال: كان معاوية يتسقط عليا و ينعى عليه ما عساه يذكره من حال أبي بكر و عمر و أنهما غصباه حقه و لا يزال يكيده بالكتاب يكتبه و الرسالة يبعثها يطلب غرته لينفث بما في صدره من حال أبي بكر و عمر إما مكاتبة أو مراسلة فيجعل ذلك حجة عليه عند أهل الشام و يضيفه إلى ما قرره في أنفسهم من ذنوبه زعم فقد كان غمصه عندهم بأنه قتل عثمان أو مالأ على قتله، و أنه قتل طلحة و الزبير، و أسر عائشة، و أراق دماء أهل البصرة و بقيت خصلة واحدة و هو أن يثبت عندهم أنه يتبرأ من أبي بكر و عمر و ينسبهما إلى الظلم و مخالفة الرسول في أمر الخلافة و أنهما وثبا عليه غلبة و غصباه إياها فكانت هذه الطامة الكبرى ليست مقصرة على فساد أهل الشام عليه بل و أهل العراق الذين هم جنده و بطانته و أنصاره لأنهم كانوا يعتقدون إمامة الشيخين إلا القليل الشاذ من خواص الشيعة.

فلما كتب ذلك الكتب مع أبي مسلم الخولانى قصد أن يغضب عليا و يحرجه و يحوجه إذا قرأ ذكر أبا بكر و أنه أفضل المسلمين إلى أن يرهن خطه في الجواب بكلمة تقتضى طعنا في أبي بكر فكان الجواب مجمحا غير بين فيه تصريح بالتظليم لهما و لا التصريح ببراءتهما و تارة يترحم عليهما و تارة يقول أخذ حقى و قد تركته لهما فأشار عمرو بن العاص على معاوية أن يكتب كتابا ثانيا مناسبا للكتاب الأول ليستفزا فيه عليا عليه السلام و يستخفاه و يحمله الغضب منه أن يكتب كلاما يتعلقان به‏ في تقبيح حاله و تهجين مذهبه، و قال له عمرو: إن عليا رجل نزق تياه و ما استطمعت منه الكلام بمثل تقريظ أبي بكر و عمر فاكتب فكتب كتابا أنفذه إليه مع أبي امامة الباهلى و هو من الصحابة بعد أن عزم على بعثه مع أبي الدرداء و نسخة الكتاب: من عبد الله معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب أما بعد فان الله تعالى- جده- إلى آخر ما ننقله بعيد هذا في ذكر المعنى.

ثم قال: قال النقيب أبو جعفر: فلما وصل هذا الكتاب إلى علي عليه السلام مع أبي امامة الباهلى كلم أبا امامة بنحو مما كلم به أبا مسلم الخولانى و كتب معه هذا الجواب.

قال: قال النقيب: و في كتاب معاوية هذا ذكر لفظ الجمل المخشوش أو الفحل المخشوش لا في الكتاب الواصل مع أبي مسلم و ليس في ذلك هذه اللفظة و إنما فيه حسدت الخلفاء و بغيت عليهم عرفنا ذلك من نظرك الشزر و قولك الهجر و تنفسك الصعداء و إبطاؤك عن الخلفاء.

قال: قال: و إنما كثير من الناس لا يعرفون الكتابين و المشهور عندهم كتاب أبي مسلم فيجعلون هذه اللفظة فيه و الصحيح أنها في كتاب أبي امامة ألا تراها عادت في جوابه و لو كانت في كتاب أبي مسلم لعادت في جوابه- انتهى كلام النقيب أبي جعفر من شرح الفاضل الشارح المعتزلي.

أقول: و هذا تحقيق خبرى دقيق و بحث روانى عميق فإن المجاميع في الفنون العديدة و الجوامع الروائية يفيد أنهما كتابان كما دريت، و قد مال إليه الفاضل المورخ الفنان محمد تقى سپهر في ناسخ التواريخ (ص 164 ج 2 من الطبع الناصرى) فانه بعد ما نقل كتاب معاوية مع أبي مسلم الخولانى و كتاب أمير المؤمنين عليه السلام في جوابه على ما مر نقلهما في ذكر ماخذ الكتاب التاسع قال ما هذا هو لفظه بالفارسية و كأنه ترجمة ما أفاده النقيب.

معاوية مكتوب را قرائت كرد و عمرو عاص را نيز بنمود، عمرو نگريست كه علي عليه السلام در جواب معاوية آنجا كه أبو بكر را بر تمامت مسلمانان تفضيل‏ نهاده كلمه كه تصريح بر تقبيح أبو بكر و تشنيع أعمال او باشد رقم نكرده إلا آنكه نگاشته است حق مرا مأخوذ داشته ‏اند و من تفويض كردم، با معاوية گفت بر قانون كتاب أول علي مكتوب كن و همچنان فصلى در فضل أبو بكر و عمر و عثمان رقم كن، چون على ايشان را غاصب حق خويش داند و در نزد خدا و رسول عاصى و بزهكار مى‏خواند بعيد نباشد كه در فضيحت عقيدت ايشان و ظلم و طغيان ايشان چيزى رقم كند آن گاه ما مكتوب او را بر فساد مذهب او حجت كنيم و بر مردم شام و صناديد قبايل عرضه داريم و تمامت عرب را بر او بر شورانيم و بر گردن آرزو سوار شويم، معاويه را كلمات او پسنده افتاد و همى‏خواست تا بصحبت أبو دردا چيزى نگارد هم از اين انديشه باز نشست و اين مكتوب را بدست أبو امامه باهلى كه در شمار أصحاب رسول خدا است انفاذ داشت: من عبد الله معاوية بن أبي سفيان- إلى آخر كتابه الاتى عن قريب- إلى أن قال: بالجملة أبو امامه باهلى اين نامه بگرفت و راه در نوشت و در كوفه حاضر حضرت أمير المؤمنين عليه السلام شده تسليم داد أمير المؤمنين بعد از قرائت آن مكتوب بدينگونه پاسخ نگاشت: أما بعد فقد بلغنى كتابك تذكر فيه اصطفاء الله تعالى- إلخ.

و بالجملة أن الظن المتاخم بالعلم من التتبع و الفحص حاصل بأن كل واحد منهما كتاب على حياله فلنرجع إلى تفسير الكتاب.

المعنى‏

لما كان الأمير عليه السلام في هذا الكتاب‏ يرد الأباطيل التي نسجتها عنكبوت أوهام‏ معاوية و أهواء شيطانه عمرو العاصى فلا بد لنا من نقل كتاب معاوية ليتضح الجواب، كتب معاوية إليه بعد كتابه الذي أنفذه إليه مع الخولانى على ما مر آنفا: من عبد الله معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب: أما بعد فإن الله تعالى جده اصطفى محمدا عليه الصلاة و السلام لرسالته، و اختصه بوحيه و تأدية شريعته‏ فأنقذ به من العماية، و هدى به من الغواية، ثم قبضه إليه رشيدا حميدا قد بلغ الشرع، و محق الشرك، و أخمد نار الإفك، فأحسن الله جزاءه، و ضاعف عليه نعمه و آلاءه.

ثم إن الله سبحانه اختص محمدا عليه الصلاة و السلام بأصحاب أيدوه و نصروه و كانوا كما قال الله سبحانه لهم: «أشداء على الكفار رحماء بينهم‏» فكان أفضلهم مرتبة، و أعلاهم عند الله و المسلمين منزلة الخليفة الأول الذي جمع الكلمة و لم الدعوة و قاتل أهل الردة، ثم الخليفة الثاني الذي فتح الفتوح، و مصر الأمصار و أذل رقاب المشركين، ثم الخليفة الثالث المظلوم الذي نشر الملة و طبق الافاق بالكلمة الحنيفية.

فلما استوثق الإسلام و ضرب بجرانه عدوت عليه، فبغيته الغوائل و نصبت له المكائد و ضربت له بطن الأمر و ظهره و دسست عليه و أغريت به و قعدت حيث استنصرك عن نصره، و سألك أن تدركه قبل أن يمزق فما أدركته، و ما يوم المسلمين منك بواحد: لقد حسدت أبا بكر و التويت عليه و رمت إفساد أمره و قعدت في بيتك، و استغويت عصابة من الناس حتى تأخروا عن بيعته، ثم كرهت خلافة عمر و حسدته، و استطلت مدته و سررت بقتله، و أظهرت الشماتة بمصابه حتى أنك حاولت قتل ولده لأنه قتل قاتل أبيه.

ثم لم تكن أشد منك حسدا لابن عمك عثمان نشرت مقابحه، و طويت محاسنه، و طعنت في فقهه، ثم في دينه ثم في سيرته، ثم في عقله و أغريت به السفهاء من أصحابك و شيعتك حتى قتلوه بمحضر منك، لا تدفع عنه بلسان و لا يد، و ما من هؤلاء إلا من بغيت عليه، و تلكأت في بيعته حتى حملت عليه قهرا تساق بحزائم الاقتسار كما يساق الفحل المخشوش، ثم نهضت الان تطلب الخلافة و قتلة عثمان خلصاؤك و سجراؤك و المحدقون بك، و تلك من أمانى النفوس و ضلالات الهواء.

فدع اللجاج و العبث جانبا، و ادفع إلينا قتلة عثمان، و أعد الأمر شورى‏ بين المسلمين ليتفقوا على من هو لله رضا، فلا بيعة لك في أعناقنا، و لا طاعة لك علينا و لا عتبي لك عندنا، و ليس لك و لأصحابك عندى إلا السيف و الذي لا إله إلا هو لأطلبن قتلة عثمان أين كانوا و حيث كانوا حتى أقتلهم أو تلحق روحى بالله.

فأما ما لا تزل تمن به من سابقتك و جهادك فإنى وجدت الله سبحانه يقول:«يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين‏» و لو نظرت في حال نفسك لوجدتها أشد الأنفس امتنانا على الله بعملها و إذا كان الامتنان على السائل يبطل أجر الصدقة فالامتنان على الله يبطل أجر الجهاد و يجعله «كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شي‏ء مما كسبوا و الله لا يهدي القوم الكافرين‏» انتهى كتاب معاوية.

تشبيه و معنى كلامه: فلما استوثق الإسلام و ضرب بجرانه، أن الإسلام لما استقام و قر في قراره تشبيها بالبعير إذا برك و استراح مدجرانه على الأرض، و جران البعير هو مقدم عنقه من مذبحه إلى منحره.

و قوله: حتى أنك حاولت قتل ولده لأنه قتل قاتل أبيه، يشير إلى عبيد الله ابن عمر و قتله أبا لؤلؤة فيروز قاتل عمر و قد تقدم كلامنا في شرح المختار 236 من باب الخطب (ص 244 ج 15) و في شرح المختار الأول من باب الكتب (ص 238 ج 16).

قوله: تلكأت في بيعته، تلكأ عن الأمر اى أبطأ و توقف، فالصواب أن يقال تلكأت عن بيعته فكلمة في بمعنى عن إن لم يتطرق فيها تحريف، قوله سجراؤك هو بالسين المهملة جمع سجير ككريم أى الخليل الصفى.

فكتب أمير المؤمنين علي عليه السلام في جوابه: أما بعد فقد أتانى كتابك تذكر اصطفاء الله محمدا صلى الله عليه و آله‏- إلخ فحان لنا الان شرح كتابه عليه السلام:

قوله عليه السلام: (أما بعد فقد أتانى‏- إلى قوله: إلى النضال) هذا الكتاب يشتمل على فصول تجيب عن فصول من الأباطيل المموهة التي توغل فيها معاوية و هذا القسم من الكتاب جواب عن قوله: فان الله تعالى جده- إلى قوله: فكان‏ أفضلهم مرتبة.

و بيان الجواب على الإجمال أن أمير المؤمنين عليا عليه السلام كان بما أخبره معاوية أعلم من غيره لأنه لم يكن أحد كمثله في حماية الدين و الذب عن حوزته عن ابتداء دعوة رسول الله صلى الله عليه و آله إلى زمان ارتحاله من الدنيا و إخبار معاوية عليا عليه السلام بذلك كسفيه استبضع تمرا إلى هجر، أو كغبى دعى من علمه الرماية إلى المراماة، و أما بيانه على التفصيل فقد مر في شرح المختار التاسع من باب الكتب (ص 336- 348 ج 17) و في شرح المختار السابع عشر منه فراجع.

قوله: عليه السلام: (و زعمت أن أفضل الناس فلان‏- إلى قوله: فالأنصار على دعويهم‏) هذا الفصل جواب عن قول معاوية: فكان أفضلهم مرتبة- إلى قوله: و طبق الافاق بالكلمة الحنيفية، كان معاوية ذكر في كتابه الأفضل فالأفضل من الأصحاب على زعمه، و فضلهم على أمير المؤمنين عليه السلام تعريضا على حقده حيث قال:و أعلاهم الأول و الثاني و الثالث فأجابه بأن ما ذكرت فيهم إما أن يتم و يصح أولا فإن تم اعتزلك كله لأنه كان من تلك الفضائل في معزل، و على الثاني لم يلحقك عيبه و نقصه لأنه لم يكن منهم فعلى كلا الوجهين كان معاوية خائضا في ما لا يعنيه.

ثم بين عليه السلام عدم لياقة معاوية لتمييز الفاضل و المفضول‏ منهم و ترتيب درجاتهم و تعريف طبقاتهم بقوله: و ما أنت و الفاضل و المفضول‏- إلخ، و من‏ الطلقاء أبو سفيان و من أبنائهم معاوية كما مضى بيان ذلك تفصيلا من شرح المختار السابع عشر من باب الكتب عند حديث أهل مكة و أن أهل مكة هم الطلقاء (ص 281 ج 18).

و كأن قوله: عليه السلام‏ بين المهاجرين الأولين‏ يشير إلى قوله تعالى: و السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم و رضوا عنه و أعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم‏ (التوبة: 100) و كان معاوية و أبوه في زمان الهجرة مشركين و لما رفع الله الكلمة العليا و كان الناس يدخلون في دين الله أفواجا استسلما و ما أسلما كما قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: فو الذي فلق الحبة و برأ النسمة ما أسلموا و لكن‏ استسلموا و أسروا الكفر فلما وجدوا أعوانا عليه أظهروه‏ (المختار 16 من باب الكتب ص 224 ج 18) و راجع أيضا إلى (ص 370 ج 15 و الى ص 53 ج 18).

و قال الطبرسي- ره- في التفسير: في هذه الاية دلالة على فضل السابقين و مزيتهم على غيرهم لما لحقهم من أنواع المشقة في نصرة الدين فمنها مفارقة العشائر و الأقربين، و منها مباينة المألوف من الدين، و منها نصرة الإسلام و قلة العدد و كثرة العدو، و منها السبق إلى الإيمان و الدعاء إليه- إلى أن قال: و روى الحاكم أبو القاسم الحسكانى باسناده مرفوعا إلى عبد الرحمن بن عوف في قوله سبحانه: و السابقون الأولون‏ قال: هم عشرة من قريش أولهم إسلاما علي بن أبي طالب.

و بالجملة أن معاوية و أترابه شأنهم و قدرهم دون أن يدخلوا في التمييز بين هؤلاء و نحوه و ليسوا بأهل لذلك و نعم ما قيل:

خلق الله للحروب رجالا و رجالا لقصعة و ثريد

ثم أتى أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك بمثلين كما أتى في الأمر المقدم بالمثلين فقال عليه السلام: (هيهات لقد حن قدح ليس منها) و قد علمت في تفسير اللغة أنه يضرب للرجل يفتخر بقبيلة ليس منها أو يتمدح بما لا يوجد فيه، و قريب منه ما يقال في الفارسية: من آنم كه رستم جوانمرد بود، و الثاني قوله عليه السلام: (و طفق يحكم فيها من عليه الحكم لها) أى‏ طفق يحكم في‏ هذه الجماعة أو القضية أو نحوهما من عليه الحكم لها، يعني ليس له أن يحكم فيها و قدره دون ذلك بل يجب عليه قبول الحكم الصادر من أهله فيها.

ثم نبهه على ضعفه و قصور ذرعه عن البلوغ إلى تلك المراتب السامية و أنى للأعراج العروج إلى قلل شامخة، فقال: استفهام تحقيرى و تقريعى‏ (ألا تربع‏- إلخ)، استفهام على سبيل الاسترحام أو الاستحقار و التقريع، و قد عرفت أن الظلع هو العرج و الغمز، و هل للظالع أن يحمل حملا ثقيلا؟ أى‏ ألا ترفق بنفسك‏ أيها الظالع حتى لا تحمل عليها ما لا تطيقه؟ و ألا تعرف قصور ذرعك‏ و عدم قدرتك و استطاعتك عن البلوغ إلى درجة السابقين؟ و ألا تتأخر حيث أخرك قدر الله و تضع نفسك حيث وضعها الله؟.

ثم قال عليه السلام: (فما عليك غلبة المغلوب و لا لك ظفر الظافر) أتى بفاء التفريع على هذه الجملة، أي إذا كنت بمعزل عنهم و أجنبيا عن هؤلاء المهاجرين الأولين‏ و السابقين في الإسلام، فما عليك غلبة المغلوب‏ أي لا تضرك، و لا لك ظفر الظافر أي لا ينفعك فدخل معاوية فيما لا يعنيه.

ثم قال عليه السلام: (و انك لذهاب في التية رواغ من القصد) و ذلك لأن من خرج عن زيه و دخل فيما لا يعنيه، و تكلم فوق قدره يعد كلامه فضولا، و صدق عليه مثل: لقد حن قدح ليس منها، فقد ذهب في الضلال و مال عن الاعتدال و ما ذا بعد الحق إلا الضلال.

على أن معاوية أنكر الحق و عدل عن الصراط المستقيم حيث خرج مبارزا لمن له الحق و لمن هو على الصراط المستقيم بل لمن هو الحق و الصراط المستقيم ألا و هو إمام المتقين و قائد الغر المحجلين و خليفة رب العالمين و من هو من خاتم النبيين بمنزلة موسى من هارون علي أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلين فمن عدل عن ذلك القسطاس المستقيم و الميزان القسط، فهو ذهاب في التيه رواغ عن القصد.

نقل سبط ابن الجوزي في التذكرة عن أبي حامد الغزالي حيث قال في كتاب سر العالمين و كشف ما في الدارين بعد نقل طائفة من كلامه في غصب الغاصبين خلافة أمير المؤمنين عليه السلام: ثم العجب من منازعة معاوية لعلي عليه السلام الخلافة و قد قطع الرسول صلى الله عليه و سلم طمع من طمع فيها بقوله: إذا ولى خليفتان فاقتلوا الأخير منهما، و العجب من حق واحد كيف ينقسم بين اثنين و الخلافة ليس بجسم و لا عرض فيتجزى، قال: و قال أبو حازم: أول خلافة [حكومة- خ ل‏] تجرى بين العباد في المعاد بين علي عليه السلام و معاوية فيحكم الله تعالى لعلي على معاوية و الباقون تحت المشية، و قال صلى الله عليه و سلم لعمار: تقتلك الفئة الباغية، و لا ينبغي للإمام أن يكون باغيا، و لأن الامامة تضيق عن شخصين، كما أن الربوبية لا يليق بالهين اثنين- إلى أن قال: ثم استفاض لعن علي عليه السلام‏ على المنابر ألف شهر و كان ذلك بأمر معاوية أ تراهم أمرهم بذلك كتاب أو سنة أو إجماع؟ هذا صورة كلام الغزالي. (ص 37 من التذكرة الرحلي المطبوع على الحجر و المقابلة الرابعة من سر العالمين ص 22 من طبع النجف).

ثم أخذ أمير المؤمنين عليه السلام بتذكير معاوية و تنبيهه على أفضليته و أفضلية من هو من بيته و نسبه من بني هاشم حيث قال: (ألا ترى غير مخبر لك- لكن بنعمة الله احدث- أن قوما إلخ). يعني بقوله غير مخبر لك أنك لست بأهل أن يخاطبك مثلي كما يستفاد من سياق الكلام، و يحتمل بعيدا أن يفسر بأن معاوية لما كان واقفا على ذلك قال الأمير عليه السلام: غير مخبر لك، و قوله عليه السلام: لكن بنعمة الله احدث‏ يشير إلى قوله تعالى في سورة الضحى: و أما بنعمة ربك فحدث‏.

ثم قال عليه السلام: (قيل: سيد الشهداء) يعني‏ بسيد الشهداء عمه حمزة بن عبد المطلب رضوان الله عليه‏ استشهد في احد و القائل هو رسول الله صلى الله عليه و آله حيث قال:إنه‏ سيد الشهداء و خصه بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه‏ و مضى الكلام في شهادة حمزة و صلاة الرسول صلى الله عليه و آله و حزنه عليه في المختار التاسع من باب الكتب (ج 17) فراجع.

ثم قال عليه السلام: (إن قوما قطعت أيديهم في سبيل الله) يعني به أخاه جعفر بن أبي طالب رضوان الله عليه استشهد في غزوة موتة، و قد تقدم الكلام في شهادته و فضله في شرح المختار التاسع المقدم ذكره أيضا فلا فائدة في الإعادة.

ثم أخذ عليه السلام بنقل فضائله و لكن أعرض عنه لما نهى الله عنه من تزكية المرء نفسه فقال: (و لو لا ما نهى الله‏. إلخ)- و أراد من قوله: (لذكر ذاكر) نفسه الشريفة، ثم وصف الفضائل بأنها بلغت في الشهرة و الوضوح مبلغا تعرفها قلوب المؤمنين و لا تمجها آذان السامعين‏ فلا ينكرها إلا عميان القلب و فاقد السمع و سياق الكلام يفيد أنها لوضوحها لا يمكن لأحد إنكارها و إن كان غير مؤمن يثقل عليه سماعها حيث قال عليه السلام: (و لا تمجها آذان السامعين) بعد قوله: تعرفها قلوب المؤمنين‏.

ثم قال عليه السلام: (فدع عنك من مالت به الرمية) و في نهاية الأرب: الدنية مكان‏ الرمية و هي الأمر الخسيس، قيل: انه مثل و أصله أن رجلا قصد مكانا و قد عرض عليه في أثناء طريقه صيد فجعل يتبعه ليصطاده فشغله عما قصده. انتهى كلامه بترجمة منا، و لكنا لم نظفر به، و الحق ما قاله آخر من أنه كالمثل.

و أما معناه: فقال الكيدري- كما نقل عنه في البحار: (ص 536 ج 8) أراد عليه السلام أنه- يعني معاوية- مطعون في نسبه و حسبه و أنه أزاله عن مقام التفاخر و التنافر مطاعن شهرت فيه. انتهى. ثم قال المجلسي- ره-: و كأنه حمل على الرماية على السهام المرمية. انتهى.

و ذكر المولى صالح القزويني- ره- في شرحه على النهج بالفارسية في معناه ثلاثة أوجه: أولها أنه عليه السلام أراد بمن نفسه الشريفة أي دعنى يا معاوية و شأني أسكت عنك، و لم يك قصدي أن افاخرك بمفاخري و لكن تعرض لي صيد في أثناء الطريق فرميته بسهم.

و ثالثها أنه عليه السلام أراد بمن معاوية أي دع ما يشغلك عن الحق و اترك ما لا يعنيك و دونك و شأنك و لا تكن كالذي‏ مالت به الرمية، و احتمله العالم الشارح البحريني قدس سره أيضا حيث قال: و يحتمل أن تكون الإشارة إليه بعينه على طريقة قولهم: إياك أعني و اسمعي يا جارة.

قلت: ما ذهب إليه الكيدري- ره- بعيد عن سياق العبارة و كذا الوجهان المذكوران سيما الأول منهما، و معنى العبارة المستفاد من سياقها أن أمير المؤمنين عليه السلام يأمره عن عدم الالتفات إلى أقوال أبناء الدنيا كعمرو بن العاص و أضرابه أى دع قوما أمالتهم الدنيا الدنية عن سوى الصراط، و بعد نفسك عنهم.

ثم قال عليه السلام: (فإنا صنائع ربنا و الخلق بعد صنائع لنا) إنما أتى بالفاء لأن كلامه هذا في مساق العلة لقوله عليه السلام: فدع عنك من مالت به الرمية، أي يجب عليك ترك هؤلاء القوم الذين ضلوا عن الطريق الحق، و عليك باتباع سبيلنا لأنا صنائع ربنا فمن أعرض عنا فقد حاد عن الصراط المستقيم.

ثم إن كلامه هذا فوق كلام البشر، و فوق ما يحوم حوله العبارة عليه مسحة من العلم الإلهي و لعمري أنه يجري مجرى التنزيلات السماوية، لما اشتمل عليه من أمر الخلافة الحقة، و شأن الحجج الإلهية، و أراه كأنه موج برز من محيط عظيم، أو نور سطع من عالم الأمر الحكيم، لا يتفوه به إلا من اصطنعه الله تعالى لنفسه، و لا يقدر على الإتيان به إلا قائل إنا لامراء الكلام و فينا تنشبت عروقه و علينا تهدلت غصونه، و لا يليق هذا الإدعاء إلا لنبي أو وصي نبي، و لا يصدر نحو هذه الكلمة العليا إلا من قلب هو عيبة أسرار الله جل شأنه، و بالجملة:

آن كس كه ز كوى آشنائيست‏ داند كه متاع ما كجائيست‏

و قد علمت في تفسير اللغات أن فلانا صنيعي و صنيعتى أى اصطنعته و ربيته و خرجته و فلان صنيعتك و مصطنعك، قال عز من قائل: فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى و اصطنعتك لنفسي‏ (طه 42) أى اصطفيتك و أخلصتك و استخلصتك لنفسى كما قال عز من قائل: و اذكر في الكتاب موسى إنه كان مخلصا (مريم 52) و قال تعالى: قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي و بكلامي‏ (الاعراف 145)، قال جار الله الزمخشرى في الكشاف: هذا تمثيل لما خوله من منزلة التقريب و التكريم و التكليم، مثل حاله بحال من يراه بعض الملوك لجوامع خصال فيه و خصائص أهلا لئلا يكون أحد أقرب منزلة منه إليه و لا يأتمن على مكنون سره سواه. انتهى.

و قال النيسابورى في التفسير: اصطنعت فلانا لنفسى إذا اصطفيته و خرجته و معناه أحسنت إليه حتى أنه يضاف إليه، و نقل نحوه عن القفال أيضا، ففيه غاية التشريف و التكريم.

و إذا تأملت حق التأمل بما أهدينا إليك في الصنيعة تجدها تجري مجري الاصطفاء و الاجتباء و الإخلاص و الاستخلاص فتدبر في قوله تعالى: و اذكر عبادنا إبراهيم و إسحاق و يعقوب أولي الأيدي و الأبصار إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار و إنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار (ص: 48).

و قوله تعالى: و الذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا (فاطر: 32).

و قوله تعالى: الله يصطفي من الملائكة رسلا و من الناس إن الله سميع بصير (الحج: 76).

و قوله تعالى: و تلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه‏- إلى قوله: و إسماعيل و اليسع و يونس و لوطا و كلا فضلنا على العالمين و من آبائهم و ذرياتهم و إخوانهم و اجتبيناهم و هديناهم إلى صراط مستقيم‏.

و في قوله تعالى: أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم و ممن حملنا مع نوح و من ذرية إبراهيم و إسرائيل و ممن هدينا و اجتبينا إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا و بكيا (مريم: 59).

و في قوله تعالى: كذلك لنصرف عنه السوء و الفحشاء إنه من عبادنا المخلصين‏ (يوسف: 25)، و قوله تعالى: و قال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي‏ (يوسف: 55).

ثم لا يخفى عليك لطف كلامه عليه السلام: فانا صنائع ربنا و الناس بعد صنائع لنا من حيث إتيانه الضمير على هيئة الجمع دون المفرد يعنى أن جميع حجج الله اصطنعهم الله تعالى لنفسه و اصطفيهم بين سائر عباده فهو عليه السلام ينادى بأعلى صوته بأن خليفة الله لا بد من أن يكون منصوبا من عنده تبارك و تعالى، كما أفاد بكلامه هذا أعنى: فإنا صنائع ربنا أنهم معصومون أيضا و ذلك لأن الله لا يصطنع لنفسه من لا يكون معصوما و قد مر بحثنا عن ذلك مشبعا في الإمام و صفاته في شرح المختار 237 من باب الخطب (ص 33- إلى- 176 من ج 16).

و قد مضى كلام ثامن الأئمة عليهم السلام في ذلك أيضا من أن العبد إذا اختاره الله عز و جل لامور عباده شرح صدره لذلك و أودع قلبه ينابيع الحكمة و ألهمه العلم إلهاما فلم يعى بعده بجواب و يحير فيه عن الصواب و هو معصوم مؤيد موفق مسدد قد أمن الخطايا و الزلل و العثار و خصه الله بذلك ليكون حجة على عباده و شاهده‏ على خلقه و ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء و الله ذو الفضل العظيم.

و أفاد عليه السلام بكلامه: و الناس صنائع لنا، أنهم عليهم السلام وسائط فيض الله تعالى بين الله المتعال و بين عباده، و بقوله: إنا صنائع ربنا أنه لا واسطة بينهم و بين الله تعالى. ثم إن في سياق العبارة إيماء إلى أن من بلغ هذه المرتبة و المنزلة إكراما من الله تعالى حتى اصطفيه الله و اتخذه صنيعته و جعل‏ الناس صنائع‏ له فكيف يجعل غيره عدله فضلا عن أن يجعل أفضل منه و إن كان للغير قرب صورى و ظاهرى من‏ رسول الله صلى الله عليه و آله‏ و أنى هذه المنزلة الاعتبارية و من هو ممن اجتبيه الله تعالى و اصطنعه لنفسه.

مجاز ثم قال عليه السلام: (لم يمنعنا قديم عزنا- إلخ) معناه على نصب كلمتى قديم و عادى حتى تكونا مفعولين و جملة أن خلطناكم‏ مرفوعة على الفاعلية أن المخالطة بيننا و بينكم بالنكاح أى تزوجنا فيكم و تزوجكم فينا كفعل الأكفاء لا يمنعنا قديم عزنا و لا عادى طولنا عليكم و الحال أنكم‏ لستم‏ في مرتبة المماثلة لنا و كيف يكونون‏ الأكفاء لنا و الحال‏ منا النبي و منكم المكذب‏ إلخ.

و أما معناه على رفع الكلمتين كما في نسخة الرضي رضوان الله عليه و هو الصواب فأن يقال: إن‏ قديم عزنا و فضلنا عليكم‏ لم يمنعنا أن خلطناكم بأنفسنا فنكحنا و أنكحنا فعل الأكفاء و الحال أنكم‏ لستم‏ في مرتبة الأكفاء لنا، كما أن بيوت العز و الشرف يتأنفون عن مخالطة من دونهم كذلك.

أفاد الفاضل الشارح المعتزلي بقوله: و ينبغي أن يحمل قوله عليه السلام‏ قديم و عادى‏ على مجازه لا على حقيقته لأن بني هاشم و بني امية لم يفترقا في الشرف إلا مذ نشأ هاشم بن عبد مناف و عرف بأفعاله و مكارمه و نشأ حينئذ أخوه عبد شمس و عرف بمثل ذلك و صار لهذا بنون و لهذا بنون و ادعى كل من الفريقين أنه أشرف بالفعال من الاخر ثم لم يكن المدة بين نشاء هاشم و اظهار محمد صلى الله عليه و آله الدعوة إلا نحو تسعين سنة و مثل هذه المدة القصيرة لا يقال فيها قديم عزنا و عادى طولنا فيجب أن يحمل اللفظ على مجازه لأن الأفعال الجميلة كما تكون عادية تكون‏ بكثرة المناقب و الماثر و المفاخر و إن كانت المدة قصيرة، و لفظة قديم ترد و لا يراد بها قدم الزمان بل من قولهم لفلان قدم صدق و قديم أثر أى سابقة حسنة.

أقول: و يؤيده رواية صبح الأعشى: لم يمنعنا قديم عزنا و مديد طولنا، فان لفظة مديد قرينة على أن القديم ليس بمعناه المطابقي، و يمكن أن يقال: إن للقديم توسعا في المحاوراة كما يقال من قديم الدهر و من زمان قديم و ان لم يمض من الزمان إلا نحو تسعين سنة فلا يكون تجوز على هذا الوجه.

و قال العلامة المجلسى- ره- في البحار (ص 536 ج 8): و قد ظهر لك مما سبق أن بني امية لم يكن لهم نسب صحيح ليشاركوا في الحسب آباءه عليه السلام، مع أن قديم عزهم لم ينحصر في النسب بل أنوارهم عليهم السلام أول المخلوقات و من بدأ خلق أنوارهم إلى خلق أجسادهم و ظهور آثارهم كانوا معروفين بالعز و الشرف و الكمالات في الأرضين و السماوات يخبر بفضلهم كل سلف خلفا و رفع الله ذكرهم في كل امة عزا و شرفا، انتهى كلامه- ره-.

و أقول: قد ذكرنا نبذة من خلال بني هاشم و أنموذجة من شيم بني امية في شرح المختار السابع عشر من باب الكتب (من ص 257- إلى- ص 270 ج 18)، فراجع. ثم أخذ عليه السلام في بيان عدم كون بني امية في مرتبة المماثلة لبني هاشم و نفي كونهم أهلا للمخالطة بقوله: (و أنى يكون ذلك كذلك و منا النبي و منكم المكذب) و المكذب‏ هو أبو سفيان صخر بن حرب كان عدو رسول الله‏ و المكذب‏ له و ما أسلم آخر الأمر بل استسلم كما مضى الكلام في استسلام القوم في شرح كلام أمير المؤمنين عليه السلام: و الذي فلق الحبة و برأ النسمة ما أسلموا و لكن استسلموا و أسروا الكفر فلما وجدوا أعوانا عليه أظهروه‏. (المختار 16 من باب الكتب ص 190 ج 18).

و كان أبو سفيان أصل الشجرة الملعونة و ما من فتنة ظهرت من قريش على‏ رسول الله صلى الله عليه و آله‏ و المسلمين إلا كان له قدم راسخ و سعي بالغ فيها ثم استسلم عام الفتح‏ إما رغبة و إما رهبة كما قال أمير المؤمنين علي عليه السلام في المختار السابع عشر من هذا الباب (ص 228 ج 18): و لما أدخل الله العرب في دينه أفواجا و أسلمت له هذه الامة طوعا و كرها كنتم ممن دخل في الدين إما رغبة و إما رهبة و راجع في ذلك إلى ص 224 من ج 18 أيضا، و مات أبو سفيان في سنة 31 ه منافقا أعمى القلب و العينين، و تقدم طائفة من رذائل شيمه في تفسير المختار السابع عشر من باب الكتب (ص 265 ج 18 فراجع).

قال الواقدى في المغازى (ص 90 طبع مصر): و لما رجعت قريش إلى مكة- يعنى من غزوة بدر منهزمين- قام فيهم أبو سفيان بن حرب فقال: يا معشر قريش لا تبكوا على قتلاكم و لا تنوح عليهم نائحة و لا يبكيهم شاعر و أظهروا الجلد و العزاء فإنكم إذا نحتم عليهم و بكيتموهم بالشعر أذهب ذلك غيظكم، فأكلكم ذلك عن عداوة محمد و أصحابه، مع أنه إن بلغ محمدا و أصحابه شمتوا بكم فيكون أعظم المصيبتين شماتتهم، و لعلكم تدركون ثاركم فالدهن و النساء على حرام حتى أغزو محمدا، فمكثت قريش شهرا لا يبكيهم شاعر و لا تنوح عليهم نائحة.

و قال غير واحد من شراح النهج: المكذب‏ هو أبو جهل، كان أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه و آله، قتل يوم بدر كافرا و قال رسول الله صلى الله عليه و آله في حقه لما قتل:إن هذا أعتى على الله من فرعون إن فرعون لما أيقن بالهلاك وحد الله و إن هذا لما أيقن بالهلاك دعا باللات و العزى.

و قال الشارح البحرانى قدس سره: المكذب‏ هو أبو جهل بن هشام و إليه الاشارة بقوله: و ذرني و المكذبين‏ الاية (المزمل: 11) قيل نزلت في المطيبين ببدر و كانوا عشرة و هم: أبو جهل و عتبة و شيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس و نبيه و منبه ابنا الحجاج و أبو البخترى بن هشام و النضر بن الحارث و الحارث بن عامر و أبي بن خلف و زمعة بن الأسود فذكر عليه السلام النبي صلى الله عليه و آله بفضيلته و هي النبوة و ذكر أبا جهل برذيلته و هي تكذيبه، انتهى كلامه- ره-.

قلت: و سيأتي البيان في المطيبين و حلفهم و حلف الفضول بعيد هذا.

قال ابن هشام في السيرة النبوية (ص 362 ج 1) في أبي جهل و ما أنزل الله تعالى فيه: و أبو جهل بن هشام لما ذكر الله عز و جل شجرة الزقوم تخويفا بها لهم قال: يا معشر قريش، هل تدرون ما شجرة الزقوم التي يخوفكم بها محمد؟

قالوا: لا، قال: عجوة يثرب بالزبد، و الله لئن استمكنا منها لنتزقمنها تزقما فأنزل الله تعالى فيه: إن شجرة الزقوم طعام الأثيم كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم‏، أى ليس كما يقول انتهى.

أقول: المراد من التقابل بين‏ منا و منكم‏ في كلام أمير المؤمنين عليه السلام هو التقابل بين بني هاشم و بني امية كما لا يخفى، و أبو جهل لعنه الله تعالى و إن كان أعدا عدو رسول الله صلى الله عليه و آله‏ و ألد خصامه و المكذبين له لكنه هو أبو جهل عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي من بني مخزوم بن مرة من قريش فهو ليس من بني امية فلا يصح أن يفسر قول أمير المؤمنين عليه السلام‏ و منكم المكذب‏ بأبي جهل لعنه الله تعالى و أى عار يلزم معاوية من هذا التفسير؟.

ثم قال عليه السلام: (و منا أسد الله و منكم أسد الأحلاف) عنى‏ بأسد الله‏ حمزة بن عبد المطلب بن هاشم عم النبي صلى الله عليه و آله سماه رسول الله بذلك لشجاعته و ذبه عن دين الله.

و في الاصابة لابن حجر: أسلم حمزة عليه السلام في السنة الثانية من البعثة و لازم نصر رسول الله صلى الله عليه و آله و هاجر معه، شهد بدرا و أبلى في ذلك و قتل شيبة بن ربيعة و شارك في قتل عتبة بن ربيعة أو بالعكس، و قتل طعيمة بن عدى و عقد له رسول الله صلى الله عليه و آله لواء و أرسله فى سرية فكان ذلك أول لواء عقد في الإسلام في قول المدائنى و استشهد باحد و كان ذلك في النصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة فعاش دون ستين، و يقال إنه قتل باحد قبل أن يقتل أكثر من ثلاثين نفسا، و لقبه‏ رسول الله صلى الله عليه و آله أسد الله‏ و سماه‏ سيد الشهداء- انتهى ما أردنا نقله منها.

و في اسد الغابة: لما أسلم حمزة عرفت قريش أن‏ رسول الله صلى الله عليه و آله‏ قد عز و امتنع و أن حمزة سيمنعه فكفوا عن بعض ما كانوا يتناولون منه ثم هاجر إلى‏

المدينة و شهد بدرا و أبلى فيها بلاء عظيما مشهورا- إلى أن قال: و كان حمزة يعلم في الحرب بريشة نعامة، و قاتل يوم بدر بين يدي رسول الله صلى الله عليه و آله بسيفين و قال بعض اسارى الكفار: من الرجل المعلم بريشة نعامة؟ قالوا: حمزة، قال: ذاك فعل بنا الأفاعيل، و شهد احدا فقتل بها يوم السبت النصف من شوال و كان قتل من المشركين قبل أن يقتل أحدا و ثلاثين نفسا منهم سباع الخزاعى قال له حمزة: هلم إلى يا ابن مقطعة البظور و كانت امه ختانة فقتله.

قال: قال ابن إسحاق: كان حمزة يقاتل يومئذ بسيفين فقال قائل أى أسد هو حمزة فبينما هو كذلك إذ عثر عثرة وقع منها على ظهره فانكشف الدرع عن بطنه فزرقه وحشى الحبشى مولى جبير بن مطعم بحربة فقتله و مثل به المشركون إلى أن قال:

و روى جابر قال: لما رأى رسول الله صلى الله عليه و آله حمزة قتيلا بكى فلما رأى ما مثل به شهق و قال: لو لا أن تجد صفية لتركته حتى يحشر من بطون الطير و السباع، وصفية هي ام الزبير و هي اخته، انتهى ما أردنا من نقل كلامه.

و أما اسد الأحلاف، فقال بعض الشراح: هو أبو سفيان و قيل لأبي سفيان أسد الأحلاف لأنه حالف الأحزاب على قتال رسول الله صلى الله عليه و آله حول المدينة و زلزل المؤمنون بمكانهم زلزالا شديدا إلى أن فرق الله تعالى جمعهم كما حكاه في قوله: فأرسلنا عليهم ريحا و جنودا لم تروها.

و تبعه الفاضل الشيخ محمد عبده قال: أسد الله حمزة، و أسد الأحلاف أبو سفيان لأنه حزب الأحزاب و حالفهم على قتال النبي في غزوة الخندق، انتهى كلامه.

قلت: هذا تفسير وجيه ملائم غير أن اسلوب الكلام يوجب أن يكون أسد الأحلاف ههنا غيره لما دريت أن أبا سفيان كان المكذب فأسد الأحلاف غيره.

و قال العالم الشارح البحراني: هو أسد بن عبد العزي و الأحلاف هم عبد مناف و زهره و أسد و تيم و الحارث بن فهر و سموا الأحلاف لأن بني قصى أرادوا أن ينتزعوا بعض ما كان بأيدى بني عبد الدار من اللواء و الندوة و الحجابة و الرفادة

و هي كل شي‏ء كان فرضه قصى على قريش لطعام الحاج في كل سنة و لم يكن لهم إلا السقاتة فتحالفوا على حربهم و أعدوا للقتال ثم رجعوا عن ذلك ناكصين و أقروا ما كان بأيديهم، انتهى كلامه.

قلت: أسد بن عبد العزى هو جد خديجة زوجة رسول الله صلى الله عليه و آله لأنها خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصى بن كلاب بن مرة بن كعب ابن لؤى بن غالب بن فهر، كما في السيرة النبوية لابن هشام (ص 189 ج 1 من طبع مصر 1375 ه).

و الرفادة على التفصيل مذكورة في السيرة النبوية لابن هشام أيضا (ص 130 ج 1) و قد نقلنا نبذة من الكلام في السقاية و الرفادة في شرح المختار السابع عشر من باب الكتب (ص 264 ج 18).

ثم ذكر ابن هشام بعد الكلام في الرفادة حلف المطيبين ثم حلف الفضول قال: قال ابن إسحاق ثم إن قصى بن كلاب هلك فأقام أمره في قومه و في غيرهم بنوه من بعده فاختطوا مكة رباعا، بعد الذي كان قطع لقومه بها، فكانوا يقطعونها في قومهم و في غيرهم من حلفائهم و يبيعونها فأقامت على ذلك قريش معهم ليس اختلاف و لا تنازع.

ثم إن بنى عبد مناف ابن قصى: عبد شمس و هاشما و المطلب و نوفلا أجمعوا على أن يأخذوا ما بأيدى بني عبد الدار بن قصى مما كان قصى جعل إلى عبد الدار من الحجابة و اللواء و السقاية و الرفادة و رأوا أنهم أولى بذلك منهم لشرفهم عليهم، و فضلهم في قومهم فتفرقت عند ذلك قريش، فكانت طائفة مع بني عبد مناف على رأيهم يرون أنهم أحق به من بني عبد الدار لمكانهم في قومهم، و كانت طائفة مع بني عبد الدار يرون أن لا ينزع منهم ما كان قصى جعل إليهم.

فكان صاحب أمر بنى عبد مناف عبد شمس بن عبد مناف و ذلك أنه كان أسن بنى عبد مناف و كان صاحب أمر بنى عبد الدار عامر بن هاشم بن عبد مناف ابن عبد الدار، فكان بنو أسد بن عبد العزي بن قصى، و بنو زهرة بن كلاب‏ و بنو تيم بن مرة بن كعب، و بنو الحارث بن فهر بن النضر، مع بنى عبد مناف.

و كان بنو مخزوم بن يقظة بن مرة، و بنو سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب و بنو جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب، و بنو عدى بن كعب مع بني عبد الدار و خرجت عامر بن لؤى و محارب بن فهر فلم يكونوا مع واحد من القريقين.

فعقد كل قوم على أمرهم حلفا مؤكدا، على أن لا يتخاذلوا و لا يسلم بعضهم بعضا ما بل بحرصوفة- يريد إلى الأبد، و صوف البحر: شي‏ء على شكل الصوف الحيواني، واحدته: صوفة، يقال: لا آتيك ما بل بحرصوفة، أو ما بل البحرصوفة يريد لا آتيك أبدا-.

فأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبا فيزعمون أن بعض نساء بني عبد مناف أخرجتها لهم فوضعوها لأحلافهم في المسجد عند الكعبة، ثم غمس القوم أيديهم فيها فتعاقدوا و تعاهدوا هم و حلفاؤهم، ثم مسحوا الكعبة بأيديهم توكيدا على أنفسهم فسمو المطيبين.

و تعاقد بنو عبد الدار و تعاهدوا هم و حلفاؤهم عند الكعبة حلفا مؤكدا على أن لا يتخاذلوا، و لا يسلم بعضهم بعضا فسموا الأحلاف.

ثم سوند بين القبائل و لز بعضها ببعض فعبيت بنو عبد مناف لبني سهم، و عبيت بنو أسد لبني عبد الدار، و عبيت زهرة لبني جمح، و عبيت بنو تميم لبني مخزوم و عبيت بنو الحارث بن فهر لبني عدي بن كعب. ثم قالوا: لتفن كل قبيلة من اسند إليها.

فبينا الناس على ذلك قد أجمعوا للحرب إذ تداعوا إلى الصلح على أن يعطوا بني عبد مناف السقاية و الرفادة، و أن تكون الحجابة و اللواء و الندوة لبني عبد الدار كما كانت، ففعلوا و رضى كل واحد من الفريقين بذلك و تحاجز الناس عن الحرب، و ثبت كل قوم مع من حالفوا، فلم يزالوا على ذلك حتى جاء الله تعالى بالإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه و آله: ما كان من حلف في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا شدة.

حلف الفضول و سبب تسميته كذلك‏

قال ابن هشام: و أما حلف الفضول: فحدثني زياد بن عبد الله البكائي، عن محمد بن إسحاق قال: تداعت قبائل من قريش إلى حلف فاجتمعوا له في دار عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤى، لشرفه و سنه فكان حلفهم عنده، بنو هاشم، و بنوا المطلب، و أسد بن عبد العزى، و زهرة بن كلاب، و تيم بن مرة فتعاقدوا و تعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها و غيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، و كانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمة فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول.

قال: قال ابن إسحاق: و حدثني محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ التيمي أنه سمع طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه و آله: لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما احب أن لي به حمر النعم و لو ادعى به في الإسلام لأجبت.

قال: قال ابن إسحاق: و حدثني يزيد بن عبد الله بن اسامة بن الهادي الليثي: أن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي حدثه: أنه كان بين الحسين ابن علي بن أبي طالب عليهم السلام، و بين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، و الوليد يومئذ أمير على المدينة أمره عليها عمه معاوية بن سفيان منازعة في مال كان بينهما بذي المروة، فكان الوليد تحامل على الحسين عليه السلام في حقه لسلطانه، فقال له الحسين:

احلف بالله لتنصفني من حقي أو لاخذن سيفي، ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه و آله ثم لأدعون بحلف الفضول.

قال: فقال عبد الله بن الزبير و هو عند الوليد حين قال الحسين عليه السلام ما قال:

و أنا أحلف بالله لئن دعا به لاخذن سيفي ثم لأقومن معه حتى ينصف من حقه أو نموت جميعا، قال: فبلغت المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري فقال مثل ذلك و بلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي فقال مثل ذلك فلما بلغ ذلك‏

الوليد بن عتبة أنصف الحسين عليه السلام من حقه حتى رضى.

قال: قال ابن إسحاق: و حدثني يزيد بن عبد الله بن اسامة بن الهادي الليثي عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، قال: قدم محمد بن جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف- و كان محمد بن جبير أعلم قريش- على عبد الملك ابن مروان بن الحكم حين قتل ابن الزبير و اجتمع الناس على عبد الملك، فلما دخل عليه قال له: يا أبا سعيد أ لم نكن نحن و أنتم، يعنى بني عبد شمس ابن عبد مناف، و بني نوفل بن عبد مناف، في حلف الفضول؟ قال: أنت أعلم، قال عبد الملك: لتخبرنى يا أبا سعيد بالحق من ذلك فقال: لا و الله، لقد خرجنا نحن و أنتم منه! قال: صدقت، تم خبر حلف الفضول.

و المنقول عن الروض الأنف في سبب تسمية هذا الحلف بهذا الاسم أن جرهما في الزمن الأول، قد سبقت قريشا إلى مثل هذا الحلف فتحالف منهم ثلاثة هم و من تبعهم أحدهم: الفضل بن فضالة، و الثاني: الفضل بن وداعة، و الثالث: فضيل بن الحارث و قيل: بل هم: الفضيل بن شراعة، و الفضل بن وداعة، و الفضل بن قضاعة، فلما أشبه حلف قريش هذا حلف هولاء الجرهميين سمى حلف الفضول.

و قيل: بل سمى كذلك لأنهم تحالفوا أن ترد الفضول على أهلها، و ألا يغزو ظالم مظلوما.

و كان حلف الفضول هذا قبل البعث بعشرين سنة، و كان أكرم حلف و أشرفه و أول من تكلم به و دعا إليه الزبير بن عبد المطلب، و كان سببه أن رجلا من زبيد قدم مكة ببضاعة، فاشتراها منه العاصى بن وائل، و كان ذا قدر بمكة و شرف فحبس عنه حقه، فاستعدى عليه الزبيدى الأحلاف: عبد الدار، و مخزوما، و جمح و سهما، و عدى بن كعب، فأبوا أن يعينوه على العاصى، و زبروه، فلما رأى الزبيدى الشر، أوفى على أبى قبيس عند طلوع الشمس، و قريش في أنديتهم حول الكعبة فصاح بأعلى صوته:

يا آل فهر لمظلوم بضاعته‏ ببطن مكة نائى الدار و النفر
و محرم أشعث لم يقض عمرته‏ يا للرجال و بين الحجر و الحجر
إن الحرام لمن تمت كرامته‏ و لا حرام لثوب الفاجر الغدر

فقام في ذلك الزبير بن عبد المطلب، و قال: ما لهذا مترك، فاجتمعت هاشم و زهرة، و تيم بن مرة، في دار ابن جدعان، فصنع لهم طعاما و تعاقدوا، و كان حلف الفضول، و كان بعدها أن أنصفوا الزبيدى من العاصى، انتهى ما عن الروض الأنف.

و الغرض من نقل حلف المطيبين و حلف الفضول من السيرة أن يعلم أن تفسير أسد الأحلاف بأسد بن عبد العزي ليس بصواب و كأن الشارح البحراني تبع في هذا التفسير قطب الدين الراوندي رضوان الله عليه، و قد نقل كلامه ابن أبي الحديد في شرحه على النهج ثم خطاه و الحق مع ابن أبي الحديد في المقام، قال:

قال الراوندي: المكذب من كان يكذب رسول الله صلى الله عليه و آله عنادا من قريش و أسد الأحلاف أسد بن عبد العزى قال: لأن بني أسد بن عبد العزى كانوا أحد البطون الذين اجتمعوا في حلف المطيبين و هم بنو أسد بن عبد العزي، و بنو عبد مناف، و بنو تميم بن مرة، و بنو زهرة، و بنو الحارث بن فهر.

ثم قال ابن أبي الحديد: هذا كلام طريف جدا لأنه لم يلحظ أنه يجب أن يجعل بازاء النبي صلى الله عليه و آله مكذب من بنى عبد شمس فقال: المكذب من كذب النبي صلى الله عليه و آله من قريش عنادا و ليس كل من كذبه صلى الله عليه و آله من قريش أن يعير معاوية به، ثم قال: أسد الأحلاف أسد بن عبد العزي و أى عار يلزم معاوية من ذلك؟ ثم إن بنى عبد مناف كانوا في هذا الحلف و على و معاوية من بني عبد مناف و لكن الراوندي يظلم نفسه بتعرضه لما لا يعلمه، انتهى كلام ابن أبي الحديد.

و الصواب أن أسد الأحلاف هو عتبة بن ربيعة، قال الواقدي في الجزء الثالث من غزوة بدر من كتابه في مغازى رسول الله صلى الله عليه و آله (ص 49 من طبع مصر ه 1367):

و المشركون ينظرون على صفوفهم و هم يرون أنهم ظاهرون، فدنا الناس بعضهم من بعض فخرج عتبة و شيبة و الوليد حتى فصلوا من الصف ثم دعوا إلى المبارزة، خرج إليهم فتيان ثلاثة من الأنصار و هم بنو عفراء معاذ و معوذ و عوف بنو الحارث، و يقال ثالثهم عبد الله بن رواحة، و الثبت عندنا أنهم بنو عفراء فاستحيى رسول الله صلى الله عليه و آله من ذلك، و كره أن يكون أول قتال لقى المسلمون فيه المشركين في الأنصار و أحب أن تكون الشوكة لبني عمه و قومه، فأمرهم فرجعوا إلى مصافهم و قال لهم خيرا.

ثم نادى منادي المشركين: يا محمد أخرج لنا الأكفاء من قومنا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و آله: يا بني هاشم قوموا فقاتلوا بحقكم الذي بعث الله به نبيكم إذ جاءوا بباطلهم ليطفئوا نور الله.

فقام حمزة بن عبد المطلب، و علي بن أبي طالب، و عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف فمشوا إليهم.

فقال عتبة: تكلموا نعرفكم- و كان عليهم البيض فأنكروهم- فإن كنتم أكفاء قاتلناكم.

فقال حمزة بن عبد المطلب: أسد الله و أسد رسوله. قال عتبة: كفؤ كريم.

ثم قال عتبة: و أنا أسد الحلفاء، و من هذان معك؟ قال: علي بن أبي طالب، و عبيدة بن الحارث، قال: كفؤان كريمان.

ثم قال الواقدي: قال ابن أبي الزناد، عن أبيه قال: لم أسمع لعتبة كلمة قط أوهن من قوله:- أنا أسد الحلفاء- يعني حلفاء الأجمة.

ثم قال عتبة لابنه: قم يا وليد، فقام الوليد، و قام إليه على عليه السلام و كان أصغر النفر فقتله على عليه السلام، ثم قام عتبة، و قام إليه حمزة فاختلفا ضربتين فقتله حمزة رضي الله عنه، ثم قام شيبة و قام إليه عبيدة بن الحارث و هو يومئذ أسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله فضرب شيبة رجل عبيدة بذباب السيف فأصاب عضلة ساقه فقطعها، و كر حمزة و على على شيبة فقتلاه، و احتملا عبيدة فحازاه إلى الصف و مخ ساقه‏

يسيل فقال عبيدة: يا رسول الله أ لست شهيدا؟ قال: بلى، قال: أما و الله لو كان أبو طالب حيا لعلم أنا أحق بما قال منه حين يقول:

كذبتم و بيت الله نخلى محمدا و لما نطاعن دونه و نناضل‏
و نسلمه حتى نصرع حوله‏ و نذهل عن أبنائنا و الحلائل‏

إلى آخر ما ذكره الواقدي في المغازي.

و عتبة هذا هو جد معاوية من قبل امه فان هندا ام معاوية هي بنت عتبة ابن ربيعة بن عبد شمس، ففي المقابلة في كلام أمير المؤمنين عليه السلام: منا أسد الله و منكم أسد الأحلاف بحمزة من بني هاشم و عتبة من بني امية جد معاوية مما لا ينبغي أن يرتاب فيه و هذا هو التفسير الصحيح بلا مدافع.

و الحلفاء في قول عتبة هل هو مفرد أو جمع، فذهب أبو الزناد إلى أنه مفرد فهي بفتح الحاء و سكون اللام ففى أقرب الموارد: الحلفاء نبت أطرافه محددة كأنها أطراف سعف النخل و الخوص ينبت في مغايض الماء و النزوز الواحدة حلفة مثل قصبة و قصباء، و طرفة و طرفاء، و قيل: واحدته حلفاء، قال سيبويه: الحلفاء واحد و جميع و كذلك طرفاء و بهمى و شكاعى واحدة و جميع، و من ذلك أنا الذي في الحلفاء، أراد أنا الأسد لأن مأوى الأسد الاجام و منابت الحلفاء. انتهى.

و في منتهى الأرب، حلفاء كحمراء و حلف محركة: گياه دوخ، و هذا هو المراد من قوله: يعنى حلفاء الأجمة. و أما على الجمع فهي جمع الحليف أي المحالف قال أبو ذؤيب:

فسوف تقول إن هي لم تجدنى‏ أخان العهد أم أثم الحليف‏

قال ابن أبي الحديد بعد نقل ما نقلناه عن الواقدي: قلت: قد روى هذه الكلمة على صيغة اخرى: و أنا أسد الحلفاء، و روى أنا أسد الأحلاف.

ثم قال: قالوا في تفسيرهما: أراد أنا سيد أهل الحلف المطيبين، و كان الذين حضروه بني عبد مناف و بني أسد بن عبد العزى و بني تيم و بني زهرة و بني الحارث‏

ابن فهر خمس قبائل.

قال: و رد قوم هذا التأويل فقالوا: إن المطيبين لم يكن يقال لهم الحلفاء و لا الأحلاف و إنما ذلك لقب خصومهم و أعدائهم الذين وقع التحالف لأجلهم و هم بنو عبد الدار و بنو مخزوم و بنو سهم و بنو جمح و بنو عدى بن كعب خمس قبائل.

قال: و قال قوم في تفسيرهما: إنما عنى حلف الفضول و كان بعد حلف المطيبين بزمان و شهد حلف الفضول رسول الله صلى الله عليه و آله و هو صغير في دار ابن جدعان- ثم نقل قصة حلف الفضول فقال: و هذا التفسير أيضا غير صحيح لأن بني عبد الشمس لم يكونوا في حلف الفضول فقد بان أن ما ذكره الواقدى أصح و أثبت انتهى كلامه.

و قد نقلنا كلام ابن أبي الحديد من الجزء الرابع عشر من شرحه على الكتاب التاسع من النهج أوله: و من كتاب له عليه السلام إلى معاوية: فأراد قومنا قتل نبينا و اجتياح أصلنا- إلخ (ص 178 ج 2 من الطبع على الحجر).

قلت: ما قال ابن الحديد من أنه روى هذه الكلمة على صيغة اخرى فالاولى منهما أعنى و أنا أسد الحلفاء على صيغة الجمع و مفرده حليف، و الثانية منهما أعنى أنا أسد الأحلاف مطابق لما في نهج البلاغة و لا بعد أن يقال: إذا دار الأمر بين ما اختاره الرضي و بين ما في النسخ الاخرى فما اختاره الرضى فهو الأقوى لأنه رضوان الله عليه متضلع في البلاغة و خريت هذه الصناعة فينبغي أن يختار صيغة أسد الأحلاف كما اختارها.

و يبقي الكلام حينئذ في تفسير أسد الأحلاف أعنى بيان المراد منه في المقام فان تفسيره بالوجهين السابقين أعنى بحلف المطيبين و حلف الفضول كما نقلهما ابن أبي الحديد عن القوم ليس على ما ينبغي، و أرى أن الصواب في تفسيره المناسب للمقام هو ما أفاده الفاضل أحمد زكى صفوت في جمهرة رسائل العرب (ص 450 ج 1) حيث قال بعد نقل كلام ابن أبي الحديد المذكور آنفا:غير أن ابن أبي الحديد مع ما ذكره من تفنيد هذين التفسيرين، لم يبين‏  المراد بالأحلاف أو الحلفاء في رواية من روى «أنا أسد الأحلاف» و «أنا أسد الحلفاء جمعا» و أقول: إننا إذا بحثنا عمن قتلوا من مشركى قريش يوم بدر وجدناهم: من بني عبد شمس بن عبد مناف، و من بنى نوفل بن عبد مناف، و من بني أسد بن عبد العزى ابن قصى، و من بنى عبد الدار بن قصى، و من بني تيم بن مرة بن كعب بن لؤى و من بنى مخزوم بن يقظة بن مرة، و من بني جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب ابن لؤى، و من بني سهم بن عمرو بن هصيص، و من بنى عامر بن لؤى، (راجع كتب السيرة) أى ان هذه البطون من قريش كانت قد تازرت و اتفقت كلمتها على حرب محمد صلى الله عليه و آله و إن شئت فقل إنهم قد تحالفوا على قتاله- و إن لم ينقل إلينا التاريخ أنهم قد عقدوا بينهم على ذلك حلفا بمعناه الأخص- ثم و لوا أمرهم عتبة ابن ربيعة فكان قائدهم و صاحب حربهم، فهو إذ يقول: «أنا أسد الأحلاف» يبغي أن يقول أنه أسد هذه البطون القرشية المتناصرة على قتال المسلمين انتهى كلامه.

قلت: و يؤيده ما نقله الواقدي في المغازى (ص 45) بعد نقل واقعة: أن حكيم بن حزام أتى عتبة بن ربيعة فقال: يا أبا الوليد أنت كبير قريش و سيدها و المطاع فيها فهل لك أن لا تزال منها بخير آخر الدهر مع ما فعلت يوم عكاظ و عتبة يومئذ رئيس الناس- إلى أن قال: ثم جلس عتبة على جمله فسار في المشركين من قريش يقول: يا قوم أطيعونى،- إلخ.

و روى البخارى في صحيحه بعدة طرق عن أبي مجلز، عن قيس بن عباد عن أبي ذر رضوان الله عليه قال: نزلت «هذان خصمان اختصموا في ربهم» في ستة من قريش برزوا يوم بدر: علي عليه السلام و حمزة و عبيدة بن الحارث، و شيبة و عتبة ابنى ربيعة و الوليد بن عتبة، فراجع إلى (ص 95) من الجزء الخامس منه.

ثم قال عليه السلام: (و منا سيدا شباب أهل الجنة و منكم صبية أهل النار) سيدا شباب أهل الجنة هما الحسن و الحسين عليهما السلام كما نص جدهما رسول الله صلى الله عليه و آله بذلك و قد أغنانا شهرته و استفاضته بين الفريقين إن لم نقل ببلوغه إلى حد التواتر عن نقل‏ الروايات الواردة في ذلك و إن أبيت إلا نقلها فنقول: كفى كلام أبيهما أمير المؤمنين علي عليه السلام في ذلك حجة أولا.

و ثانيا قد روى أحمد في المسند قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا سفيان عن يزيد بن أبي زياد، عن أبي نعيم، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله: الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة، و قد أخرجه الترمذي أيضا، و قال: هذا حديث حسن صحيح. (نقله سبط ابن الجوزى في التذكرة، ص 133 من الطبع الرحلي).

و في مطالب السؤل في مناقب آل الرسول لابن طلحة الشافعي: و منها ما رواه الترمذي بسنده عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله: الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة. (ص 65 من الطبع الرحلي).

و فيه أيضا (ص 71) و منه حديث حذيفة بن اليمان- رض- أخرجه الترمذي في صحيحه يرويه عنه بسنده، و قد تقدم طرف منه في فضائل فاطمة عليها السلام أن حذيفة قال لامه: دعيني آت رسول الله صلى الله عليه و آله فاصلى معه و أسئله أن يستغفر لي ذلك، فأتيته فصليت معه المغرب، ثم قام فصلى حتى صلى العشاء، ثم انفتل فأتبعته فسمع صوتي فقال: من هذا حذيفة؟ قلت: نعم، قال: ما حاجتك غفر الله لك و لامك؟ إن هذا ملك لم ينزل إلى الأرض قط قبل هذه الليلة استأذن ربه أن يسلم على و يبشرني أن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، و أن الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة.

إلى أن قال: و منه ما نقله الامام محمد بن إسماعيل البخاري و الترمذي رضى الله عنهما بسندهما كل منهما في صحيحه عن ابن عمر و سئله رجل عن دم البعوض، فقال: ممن أنت؟ فقال: من أهل العراق، فقال: انظروا إلى هذا يسألني عن دم البعوض و قد قتلوا ابنى النبي صلى الله عليه و آله و سمعت النبي صلى الله عليه و آله يقول: هما ريحانتاي من الدنيا.

و روي أنه سئله عن المحرم يقتل الذباب، فقال: يا أهل العراق تسألونا عن قتل الذباب و قد قتلتم ابن رسول الله صلى الله عليه و آله، و ذكر الحديث و في آخره: و هما سيدا شباب أهل الجنة.

و في الصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمي: أخرج الترمذي و الحاكم عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله: الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة (ص 82 من طبع مصر).

قال ابن الأثير في اسد الغابة (ص 11 ج 2) في معرفة الإمام المجتبى الحسن بن علي عليهما السلام: أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي بن أحمد الأنماطي أخبرنا أبو طاهر محمد بن عبد الرحمن المخلص، أخبرنا عبد الله بن محمد البغوي، أخبرنا داود بن رشيد، أخبرنا مروان، أخبرنا الحكم بن عبد الرحمن بن أبي نعيم البجلي عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله: الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة- الخبر.

و قال أبو جعفر الطبري في التاريخ (ص 328 ج 7 من طبع ليدن): قال أبو مخنف: حدثني عبد الله بن عاصم قال: حدثني الضحاك المشرقي، لما دنا منه- يعني من أبي عبد الله أحد سيدي شباب أهل الجنة الحسين بن علي عليه السلام في واقعة الطف- القوم دعا براحلته فركبها ثم نادى بأعلى صوته بصوت عال دعاء يسمع جل الناس:

أيها الناس اسمعوا قولى و لا تعجلوني حتى أعظكم بما لحق لكم علي و حتى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم فإن قبلتم عذري و صدقتم قولي و أعطيتموني النصف كنتم بذلك أسعد، و لم يكن لكم على سبيل، و إن لم تقبلوا منى العذر و لم تعطوا النصف من أنفسكم «فأجمعوا أمركم و شركاء كم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلى و لا تنظرون إن ولي الله الذي نزل الكتاب و هو يتولى الصالحين».

قال: فلما سمع أخواته كلامه هذا صحن و بكين و بكى بناته فارتفعت أصواتهن فأرسل إليهن أخاه العباس بن علي و عليا ابنه، و قال لهما: اسكتاهن‏ فلعمري ليكثرن بكاؤهن.

قال: فلما ذهبا ليسكتاهن قال: لا يبعد ابن عباس، قال: فظننا انه إنما قالها حين سمع بكاؤهن لأنه قد كان نهاه أن يخرج بهن، فلما سكتن حمد الله و أثنى عليه و ذكر الله بما هو أهله و صلى على محمد صلى الله عليه و آله و على ملائكته و أنبيائه و ذكر من ذلك ما الله أعلم و ما لا يحصى ذكره، قال: فو الله ما سمعت متكلما قط قبله و لا بعده أبلغ في منطق منه، ثم قال: أما بعد فانسبوني فانظروا من أنا ثم ارجعوا إلى أنفسكم و عاتبوها فانظروا هل يحل لكم قتلى و انتهاك حرمتي؟ أ لست ابن بنت نبيكم صلى الله عليه و آله و ابن وصيه و ابن عمه و أول المؤمنين بالله و المصدق لرسوله بما جاء به من عند ربه؟

أو ليس حمزة سيد الشهداء عم أبي؟ أو ليس جعفر الشهيد الطيار ذو الجناحين عمي؟ أو لم يبلغكم قول مستفيض فيكم أن رسول الله صلى الله عليه و آله قال لي و لأخي: هذان سيدا شباب أهل الجنة فان صدقتموني بما أقول و هو الحق، و الله ما تعمدت كذبا مذ علمت أن الله يمقت عليه و يضر به من اختلقه، فإن كذبتموني فإن فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، أو أبا سعيد الخدري، أو سهل بن سعد الساعدي، أو زيد بن أرقم، أو أنس بن مالك يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله صلى الله عليه و آله لي و لأخي، أ فما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي- الخبر.

قلت: قوله عليه السلام: ابن وصيه ينادى بأعلى صوته بأن أباه أمير المؤمنين عليا عليه السلام يعرف بالوصي، و قد مضى كلامنا و نقل الأشعار من سنام الصحابة و المسلمين في شرح المختار 236 من باب الخطب (ص 19 ج 17) فراجع.

قوله عليه السلام: و أول المؤمنين به و المصدق لرسوله بما جاء به من عند ربه- و قد مضى كلامنا أنه عليه السلام كان أول الناس إسلاما في شرح المختار التاسع من باب الكتب (ص 345 ج 17).

ثم إنه صلى الله عليه و آله قال: إنهما سيدا شباب أهل الجنة لأن أهل الجنة كلهم شبان‏ و ذلك لأنها من عالم الأمر و لا يتطرق إليها أحكام عالم الخلق من الهرم و الوهن و نحوهما ألا ترى أن الله تعالى قال: و من نعمره ننكسه في الخلق أ فلا يعقلون‏ (يس:69)، و كأن التعبير بالشباب من حيث أن‏ الدار الآخرة لهي الحيوان‏، و أنها أقوى وجودا من الدار الاولى و آثار الوجود فيها أشد و أكثر، نظير ما رواه ثقة الإسلام الكليني قدس سره في الكافي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال لرجل ما الفتى عندكم؟ فقال له: الشاب، فقال: لا، الفتى المؤمن إن أصحاب الكهف كانوا شيوخا فسماهم الله عز و جل فتية بايمانهم (الوافي ص 39 ج 3).

و قد روى عن النبي صلى الله عليه و آله: أهل الجنة جرد مرد كحل لا يفنى شبابهم و لا تبلى ثيابهم، أتى به السيوطي في الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير.

و جاء في الأثر أن عجوزا من الأنصار قالت: يا رسول الله ادع الله بالمغفرة فقال لها: أما علمت أن الجنة لا تدخلها العجائز فصرخت فتبسم رسول الله صلى الله عليه و آله و قال لها: أما قرأت قول الله تعالى: إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا.

و يناسب المقام نقل احتجاج مروى في كتاب الاحتجاج للطبرسي- ره- رواه في باب احتجاج أبي جعفر محمد بن على الثاني عليهما السلام قال: و روى أن المأمون بعد ما زوج ابنته ام الفضل أبا جعفر عليه السلام كان في مجلس و عنده أبو جعفر عليه السلام و يحيى بن أكثم و جماعة كثيرة فقال له يحيى بن أكثم: ما تقول يا ابن رسول الله في الخبر الذي روى أنه نزل جبرئيل عليه السلام على رسول الله صلى الله عليه و آله و قال: يا محمد إن الله عز و جل يقرئك السلام و يقول لك: سل أبا بكر هل هو عنى راض فإنى عنه راض.

فقال أبو جعفر عليه السلام: لست بمنكر فضل أبي بكر و لكن يجب على صاحب هذا الخبر أن يأخذ مثال الخبر الذي قاله رسول الله صلى الله عليه و آله في حجة الوداع: قد كثرت على الكذابة و ستكثر فمن كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار فاذا أتاكم الحديث فاعرضوه على كتاب الله عز و جل و سنتى فما وافق كتاب الله‏ و سنتى فخذوا به و ما خالف كتاب الله و سنتى فلا تأخذوا به، و ليس يوافق هذا الخبر كتاب الله تعالى قال الله تعالى: و لقد خلقنا الإنسان و نعلم ما توسوس به نفسه و نحن أقرب إليه من حبل الوريد فالله عز و جل خفى عليه رضا أبي بكر من سخطه حتى سأل عن مكنون سره هذا مستحيل في العقول.

ثم قال يحيى بن أكثم: و قد روى أن مثل أبي بكر و عمر في الأرض كمثل جبرئيل و ميكائيل في السماء.

فقال عليه السلام: و هذا أيضا يجب أن ينظر فيه لأن جبرئيل و ميكائيل ملكان لله مقربان لم يعصيا الله قط و لم يفارقا طاعته لحظة واحدة، و هما قد أشركا بالله عز و جل و إن أسلما بعد الشرك فكان أكثر أيامهما الشرك بالله فمحال أن يشبها بهما.

قال يحيى: و قد روى أيضا أنهما سيدا كهول أهل الجنة فما تقول فيه؟.

فقال عليه السلام: و هذا الخبر محال أيضا لأن أهل الجنة كلهم يكونون شابا و لا يكون فيهم كهل، و هذا الخبر وضعه بنو امية لمضادة الخبر الذي قال رسول الله صلى الله عليه و آله في الحسن و الحسين: بأنهما سيدا شباب أهل الجنة.

فقال يحيى بن أكثم: و روى أن عمر بن الخطاب سراج أهل الجنة.

فقال عليه السلام: و هذا أيضا محال لأن في الجنة ملائكة الله المقربين و آدم و محمد و جميع الأنبياء و المرسلين لا تضي‏ء بأنوارهم حتى تضي‏ء بنور عمر.

فقال يحيى: و قد روى أن السكينة تنطق على لسان عمر.

فقال عليه السلام: لست بمنكر فضل عمر و لكن أبا بكر أفضل من عمر، فقال على رأس المنبر: إن لي شيطانا يعتريني فاذا ملت فسدونى.

فقال يحيى: قد روى أن النبي صلى الله عليه و آله قال: لو لم ابعث لبعث عمر.

فقال عليه السلام: كتاب الله أصدق من هذا الحديث يقول الله في كتابه: و إذ أخذنا من النبيين ميثاقهم و منك و من نوح‏ قد أخذ الله ميثاق النبيين فكيف يمكن أن يبدل ميثاقه و كل الأنبياء عليهم السلام لم يشركوا طرفة عين فكيف يبعث بالنبوة من أشرك و كان أكثر أيامه مع الشرك بالله، و قال رسول الله صلى الله عليه و آله: نبئت و آدم‏ بين الروح و الجسد.

فقال يحيى بن أكثم: و قد روى أيضا أن النبي صلى الله عليه و آله قال: ما احتبس عنى الوحى قط إلا ظننته قد نزل على آل الخطاب.

فقال عليه السلام: و هذا محال أيضا لأنه لا يجوز أن يشك النبي في نبوته قال الله تعالى: الله يصطفي من الملائكة رسلا و من الناس‏ فكيف يمكن أن ينتقل النبوة ممن اصطفاه الله تعالى إلى من أشرك به.

قال يحيى: روى أن النبي صلى الله عليه و آله قال: لو نزل العذاب لما نجا منه إلا عمر فقال عليه السلام: و هذا محال أيضا لأن الله تعالى يقول: و ما كان الله ليعذبهم و أنت فيهم و ما كان الله معذبهم و هم يستغفرون‏ فأخبر سبحانه أنه لا يعذب أحدا ما دام فيهم رسول الله صلى الله عليه و آله، و ما داموا يستغفرون الله، انتهى.

قلت: و قد وضع بنو امية في عمرو بن العاص ما تضحك به الثكلى فإن محمد ابن سعد روى في الطبقات الكبرى عن عبد الله بن عمرو أنه حدثه أن أباه أوصاه قال: يا بنى إذا مت فاغسلنى غسلة بالماء ثم جففنى في ثوب، ثم اغسلنى الثانية بماء قراح ثم جففنى في ثوب، ثم اغسلنى الثالثة بماء فيه شي‏ء من كافور ثم جففنى في ثوب، ثم إذا ألبستنى الثياب فأزر على فانى مخاصم، ثم إذا أنت حملتنى على السرير فامش بي مشيا بين المشيتين و كن خلف جنازة فإن مقدمها للملائكة خلفها لبني آدم، فاذا أنت وضعتنى في القبر فسن على التراب سنا، (ص 260 ج 4 من طبع بيروت).

و هذا الخبر كما تراه كذب محض وضعه بنو امية و أتباعهم من أشباه الرجال اقتراف الدنيا و زخارفها و أنى لعمرو بن العاص العاصى المتوغل في قاذورات الشهوات النفسانية أن ينال تلك المنزلة العظمى و الرتبة العليا، و هل هذا إلا اختلاق.

و كيف له أن يتفوه بذلك و قد نقل غير واحد من نقلة الأخبار و حملة الاثار أن عمرو بن العاص لما حضرته الوفاة قال لابنه لود أبوك أنه كان في غزاة ذات السلاسل إنى قد دخلت في امور لا أدرى ما حجتى عند الله فيها، ثم نظر إلى‏ ماله فرأى كثرته فقال: يا ليته كان بعرا يا ليتنى مت قبل هذا اليوم بثلاثين سنة أصلحت لمعاوية دنياه و أفسدت دينى آثرت دنياى و تركت آخرتى، عمى على رشدى حتى حضرنى أجلى، كأنى بمعاوية قد حوى مالى و أساء فيكم خلافتى فراجع إلى تاريخ اليعقوبى، و حيوة الحيوان للدميرى.

و أنى لعمرو أن يدعى نزول الملائكة عليه و حملهم سريره و قد قال فيه وصى خاتم النبيين عليه السلام:إنه ليقول فيكذب، يعد فيخلف، و يسأل فيحلف، و يسأل فيبخل، و يخون العهد، و يقطع الإل، فراجع إلى المختار 82 من باب الخطب من النهج.

نعم إن تلك الفضيلة لمن كانت الملائكة أعوانه في الامور ألا و هو على أمير المؤمنين عليه السلام فقد قال عليه السلام: و لقد وليت غسله صلى الله عليه و آله و الملائكة أعوانى فراجع إلى المختار 195 من باب الخطب من النهج أيضا.

و لما مات عليه السلام قام ابنه ريحانة رسول الله صلى الله عليه و آله و أحد سيدى شباب أهل الجنة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام خطيبا فحمد الله و أثنى عليه و صلى على النبي صلى الله عليه و آله: ثم قال: ألا إنه قد مضى في هذه الليلة رجل لم يدركه الأولون و لن يري مثله الاخرون من كان يقاتل و جبريل عن يمينه و ميكائيل عن شماله فراجع إلى الكافي للكليني قدس سره و تاريخ اليعقوبي (ص 190 ج 2).

و قد جاء في الأثر أن أمير المؤمنين عليا عليه السلام أوصى بذلك ابنه أبا محمد الحسن المجتبى عليه السلام حيث قال: فاذا أنا مت يا أبا محمد فغسلنى و كفنى و حنطنى ببقية حنوط جدك رسول الله صلى الله عليه و آله فإنه من كافور الجنة جاء به جبرئيل عليه السلام إليه ثم ضعنى على سريرى و لا يتقدم أحد منكم مقدم السرير و احملوا مؤخره و اتبعوا مقدمه فأى موضع وضع المقدم فضعوا المؤخر فحيث قام سريري فهو موضع قبرى- إلخ، فراجع إلى باب كيفية شهادته عليه السلام و وصيته و غسله و الصلاة عليه و دفنه من المجلد التاسع من البحار (ص 674 من طبع الكمبانى).

فانظر إلى تصرف بنى امية في الأخبار كيف سرقوها من محلها و أسندوها إلى غير أهلها، و كم لما نقلناها من نظير و لو لا خوف الإطناب لأتينا بطائفة منها في الكتاب.

ثم إن بني امية ما تصرفوا في الأخبار فقط بل تجاوزوا إلى القرآن و حرفوا كلام الله عن مواضعه. قال الشارح الفاضل المعتزلي في الجزء الرابع من شرحه على النهج (ص 23 من الطبع الرحلي): قال أبو جعفر: و قد روي أن معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم حتى يروى أن هذه الاية انزلت في علي عليه السلام: و من الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا و يشهد الله على ما في قلبه و هو ألد الخصام و إذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها و يهلك الحرث و النسل و الله لا يحب الفساد و أن الاية الثانية نزل في ابن ملجم و هي قوله تعالى: و من الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله‏ فلم يقبل فبذل له مائتي ألف درهم فلم يقبل فبذل له أربع مائة ألف فقبل و روى ذلك. انتهى ما أردنا من نقل كلامه.

و صبية أهل النار:

هم صبية عقبة بن أبي معيط، لما قد روى الواقدي في غزوة بدر من كتابه في مغازي رسول الله صلى الله عليه و آله (ص 84 من طبع مصر) من أن رسول الله صلى الله عليه و آله أقبل بالأسرى حتى إذا كان بعرق الظبية أمر عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح أن يضرب عنق عقبة بن أبي معيط و كان أسره عبد الله بن سلمة العجلاني فجعل عقبة يقول: يا ويلي علام أقتل يا معشر قريش من بين من ههنا؟

فقال رسول الله صلى الله عليه و آله: لعداوتك لله و رسوله.

قال: يا محمد منك أفضل فاجعلني كرجل من قومي إن قتلتهم قتلتني و إن مننت عليهم مننت علي، و إن أخذت منهم الفداء كنت كأحدهم يا محمد من للصبية؟

قال رسول الله صلى الله عليه و آله: النار قدمه يا عاصم فاضرب عنقه، فقدمه عاصم فضرب عنقه، فقال رسول الله صلى الله عليه و آله: بئس الرجل كنت و الله ما علمت كافرا بالله و برسوله و بكتابه مؤذيا لنبيه [منك‏] فأحمد الله الذي هو قتلك و أقر عيني منك.

ثم قال عليه السلام: (و منا خير نساء العالمين و منكم حمالة الحطب) يعني‏ بخير نساء العالمين‏ فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و آله المعصومة التي أذهب الله عنها الرجس و طهرها تطهيرا، فقد روى أبو الحسين مسلم بن الحجاج في جامعه المعروف بصحيح مسلم (الباب التاسع من كتاب الفضائل في فضائل أهل بيت النبي صلى الله عليه و آله ص 1883 ج 4 من طبع مصر) بإسناده عن أبي بكر بن أبي شيبة و محمد بن عبد الله بن نمير، عن محمد بن بشير، عن زكريا، عن مصعب بن شيبة، عن صفية بنت شيبة قالت: قالت عائشة:

خرج النبي صلى الله عليه و آله غداة و عليه مرط مرحل من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا.

و في الباب الخامس و الخمسين من ينابيع المودة للفاضل الشيخ سليمان النقشبندي الحنفي (ص 148 من الطبع الناصري): و في جمع الفوائد، عائشة:

كن أزواج النبي صلى الله عليه و آله عنده لا يغادر منهن واحدة فأقبلت فاطمة تمشي ما تخطي مشيتها من مشية النبي صلى الله عليه و آله شيئا فلما رآها رحب بها، و قال: مرحبا يا بنتي ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم سارها فبكت بكاء شديدا، فلما رأى جزعها سار الثانية فضحكت فلما قام سألتها ما قال لك أبوك؟ قالت: ما كنت لأفشى على رسول الله صلى الله عليه و آله سره فلما توفى، قلت: عزمت عليك بما لى عليك من الحق حدثني ما قال لك أبوك صلى الله عليه و آله؟ قالت: أما الان فنعم. أما حين سارني في المرة الاولى فأخبرني أن جبرائيل كان يعارضني القرآن في كل سنة مرة و عارضه الان مرتين و إنى لا أرى الأجل إلا قد اقترب فاتقي الله و [اصبر [ي‏]] فإنه نعم السلف أنا لك، فبكيت بكائي الذي رأيت، فلما رأى جزعي سارني في الثانية فقال:

يا فاطمة أما ترضين أن تكون سيدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الامة فضحكت ضحك الذي رأيت. و في رواية: ثم سارني أني أول أهله يتبعه فضحكت و في اخرى قال: أما ترضين أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة و أنك أول أهلي لحوقا بي فضحكت، للشيخين و الترمذي.

و قال: و في صحيح البخاري: قال النبي صلى الله عليه و آله: فاطمة سيدة نساء أهل الجنة.

و قال أيضا: و في جمع الفوائد: أنس رفعه حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران، و خديجة بنت خويلد، و فاطمة بنت محمد، و آسية امرأة فرعون- للترمذي. انتهى.

قلت: رواية البخاري مذكورة في باب مناقب فاطمة عليها السلام (ص 36 من الجزء الخامس من صحيح البخاري المشكول).

و في الدر المنثور في التفسير بالمأثور في قوله تعالى: إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك و طهرك و اصطفاك على نساء العالمين‏ (آل عمران: 43):

أخرج الحاكم و صححه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله: أفضل نساء العالمين خديجة، و فاطمة، و مريم، و آسية امرأة فرعون.

و أخرج ابن مردويه عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله إن الله اصطفى على نساء العالمين أربعة: آسية بنت مزاحم، و مريم بنت عمران، و خديجة بنت خويلد و فاطمة بنت محمد صلى الله عليه و آله.

و أخرج أحمد و الترمذي و صححه و ابن المنذر و ابن حبان و الحاكم عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه و آله قال: حسبك من نساء العالمين، مريم بنت عمران و خديجة بنت خويلد، و فاطمة بنت محمد صلى الله عليه و آله، و آسية امرأة فرعون، و أخرجه ابن أبي شيبة عن الحسن مرسلا.

و أخرج ابن أبي شيبة و ابن جرير عن فاطمة عليها السلام: قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه و آله: أنت سيدة نساء أهل الجنة لا مريم البتول.

و أخرج ابن عساكر من طريق مقاتل عن الضحاك، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه و آله قال: أربع نسوة سادات عالمهن: مريم بنت عمران، و آسية بنت مزاحم، و خديجة بنت خويلد، و فاطمة بنت محمد صلى الله عليه و آله، و أفضلهن عالما فاطمة. انتهى ما أردنا من نقل ما في الدر المنثور.

أقول: و نزل في آسية امرأة فرعون و في مريم قوله تعالى: و ضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأت فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة و نجني من فرعون و عمله و نجني من القوم الظالمين و مريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا و صدقت بكلمات ربها و كتبه و كانت من القانتين‏.

ثم لما كانت فاطمة عليها السلام بضعة من أبيها خاتم النبيين سيد ولد آدم كما رواها الفريقان في جوامعهم الروائية فهي عليها السلام سيدة نساء العالمين مطلقا فقوله تعالى في مريم عليها السلام‏ و اصطفاك على نساء العالمين‏ محمول على أنها مصطفاة عليهن لا مطلقا بل على بعض الوجوه، فليتأمل في قول الإمام أبي جعفر عليه السلام في معنى الاية: اصطفاك لذرية الأنبياء و طهرك من السفاح و اصطفيك لولادة عيسى من غير فحل.

و في قوله تعالى: إن الله اصطفى آدم و نوحا و آل إبراهيم و آل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض و الله سميع عليم‏ (آل عمران: 34).

. و في قوله تعالى: و لقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين و لقد اخترناهم على علم على العالمين‏ (الدخان: 33).

و في قوله تعالى: و لقد آتينا بني إسرائيل الكتاب و الحكم و النبوة و رزقناهم من الطيبات و فضلناهم على العالمين‏ (الجاثية: 17).

و في قوله تعالى: إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا و الآخرة و من المقربين‏ (آل عمران: 46).

و في قوله تعالى: و التي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا و جعلناها و ابنها آية للعالمين‏ (الأنبياء: 92).

و في قوله تعالى: و مريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا و صدقت بكلمات ربها و كتبه و كانت من القانتين‏ (آخر التحريم).

فإما أن يكون المراد من العالمين في قوله تعالى: و اصطفاك على نساء العالمين‏ نساء عالمي زمانها كما مال إليه غير واحد من المفسرين، و أمكن أن يؤيد هذا المعنى بايتي الدخان و الجاثية، و لكن الإعراض عن اطلاق سياق الاية لا يخلو من دغدغة.

و إما أن المراد من اصطفائها على نساء العالمين اصطفائها عليهن من حيث إنها آية عجيبة إلهية كما بينه أبو جعفر عليه السلام في الخبر المذكور بقوله: و اصطفيك لولادة عيسى من غير فحل، و يستفاد هذا المعنى من آيتي الأنبياء و التحريم و يؤيد بهما فلا تختص من هذه الجهة بنساء عالمى زمانها، و هذا الوجه الأخير كأنه الصواب أو هو متعين.

قال الشارح الفاضل المعتزلي في شرح قوله عليه السلام: و منا خير نساء العالمين‏:يعني فاطمة عليها السلام نص رسول الله صلى الله عليه و آله على ذلك لا خلاف فيه. انتهى.

حمالة الحطب‏

 هي العوراء ام جميل امرأة عبد العزى المكنى بأبي لهب بنت حرب اخت أبي سفيان عمة معاوية التي ورد فيها و في زوجها قوله تعالى: تبت يدا أبي لهب و تب ما أغنى عنه ماله و ما كسب سيصلى نارا ذات لهب و امرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد.

و في تفسير الدر المنثور و أخرج ابن جرير عن ابن زيد أن امرأة أبي لهب كانت تلقى في طريق النبي صلى الله عليه و آله الشوك فنزلت‏ تبت يدا أبي لهب و تب‏ … و امرأته حمالة الحطب‏.

و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن ابن زيد و امرأته حمالة الحطب‏ قال:كانت تأتي بأغصان الشوك تطرحها بالليل في طريق رسول الله صلى الله عليه و آله.

و أخرج ابن أبي الدنيا في ذم الغيبة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن مجاهد و امرأته حمالة الحطب‏ قال: كانت تمشى بالنميمة في جيدها حبل من مسد من نار.

و أخرج ابن أبي جرير و ابن أبي حاتم عن قتادة و امرأته حمالة الحطب قال‏:كانت تنقل الأحاديث من بعض الناس إلى بعض «في جيدها حبل» قال: عنقها.

و أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن «حمالة الحطب» قال: كانت تحمل النميمة فتأتي بها بطون قريش.

و أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن الأنباري في المصاحف عن عروة بن الزبير «في جيدها حبل من مسد» قال: سلسلة من حديد من نار ذرعها سبعون ذراعا.

و في التفسير الصافي نقلا من قرب الأسناد عن الكاظم عليه السلام في حديث آيات النبي صلى الله عليه و آله قال: و من ذلك أن ام جميل امرأة أبي لهب أتته حين نزلت سورة تبت و مع النبي أبو بكر بن أبي قحافة فقال: يا رسول الله هذا ام جميل محفظة أم مغضبة تريدك و معها حجر تريد أن ترميك به فقال صلى الله عليه و آله: إنها لا ترانى، فقالت لأبي بكر: أين صاحبك؟ قال: حيث شاء الله، قالت: لقد جئته و لو أراه لرميته فإنه هجانى و اللات و العزى إنى لشاعرة، فقال أبو بكر: يا رسول الله لم ترك؟

قال: لا، ضرب الله بينى و بينها حجابا.

و قال معاوية يوما و عنده عمرو بن العاص و قد أقبل عقيل: لأضحكنك من عقيل فلما سلم قال معاوية: مرحبا برجل عمه أبو لهب، فقال عقيل: و أهلا برجل عمته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد، قال معاوية: يا أبا يزيد ما ظنك بعمك أبي لهب؟ قال: إذا دخلت النار فخذ على يسارك تجده مفترشا عمتك حمالة الحطب أ فناكح في النار خير أم منكوح؟ قال: كلا شر و الله، نقله الشارح المعتزلي في الجزء الرابع من شرحه على النهج (27 من الطبع الرحلى).

و نقل الشيخ الأجل المفيد قدس سره في الإرشاد (ص 173 طبع طهران 1377 ه): بعد السبب في قبول الإمام الحسن المجتبى عليه السلام الهدنة و الصلح من معاوية ما هذا لفظه: فتوثق عليه السلام لنفسه من معاوية بتوكيد الحجة عليه و الإعذار فيما بينه و بينه عند الله تعالى و عند كافة المسلمين و اشترط عليه ترك سب أمير المؤمنين عليه السلام و العدول عن القنوت عليه في الصلاة، و أن يؤمن شيعته رضى الله عنهم و لا يتعرض لأحد منهم بسوء و يوصل إلى كل ذي حق منهم حقه.

فأجابه معاوية إلى ذلك كله و عاهده عليه و حلف له بالوفاء به فلما استتمت الهدنة على ذلك سار معاوية حتى نزل بالنخيلة و كان ذلك يوم الجمعة فصلى بالناس ضحى النهار فخطبهم و قال في خطبته: و الله ما قاتلتكم لتصلوا و لا لتصوموا و لا لتحجوا و لا لتزكوا انكم لتفعلون ذلك و لكنى قاتلتكم لأتامر عليكم و قد أعطانى الله ذلك و أنتم له كارهون، ألا و إنى كنت منيت الحسن عليه السلام أشياء و أعطيته أشياء و جميعها تحت قدمي لا أفي بشي‏ء منها له.

ثم سار حتى دخل الكوفة فأقام بها أياما فلما استتمت البيعة له من أهلها صعد المنبر فخطب الناس و ذكر أمير المؤمنين عليه السلام و نال منه و نال من الحسن عليه السلام ما نال و كان الحسن و الحسين عليهما السلام حاضرين فقام الحسين عليه السلام ليرد عليه فأخذ بيده الحسن عليه السلام و أجلسه، ثم قام فقال: أيها الذاكر عليا أنا الحسن و أبي علي و أنت معاوية و أبوك صخر و امي فاطمة و امك هند و جدي رسول الله صلى الله عليه و آله و جدك حرب و جدتى خديجة و جدتك فتيلة، فلعن الله أخملنا ذكرا و ألأمنا حسبا و شرنا قدما و أقدمنا كفرا و نفاقا، فقالت طوائف من أهل المسجد: آمين آمين، انتهى قوله قدس سره.

و روى قريبا منه المحدث القمي رضوان الله عليه في مادة حسن من سفينة البحار عن الشعبى، و قال الفاضل الشارح المعتزلي: إن هذا الحديث نقله الفضل بن الحسن المصرى عن يحيى بن معين قال و قال الفضل: قال يحيى: آمين، و قال الفضل: أنا أقول آمين، و قال علي بن الحسين الاصفهانى آمين، و قال الشارح المذكور أنا أقول آمين، و كذلك كاتب هذه الأحرف الحسن بن عبد الله الطبري الاملى يقول آمين آمين و يرحم الله تعالى عبدا قال آمين.

تم قال عليه السلام: (في كثير مما لنا و عليكم) أى ما ذكرناه من فضائلنا و رذائلكم قليل‏ في كثير مما لنا من الفضائل‏ و عليكم‏ من الرذائل و قد تقدم الكلام في رؤية النبي صلى الله عليه و آله بني امية في المنام على صور قرود تصعد منبره و ترد الناس عن الإسلام القهقرى، فراجع إلى شرح المختار العاشر من هذا الباب (ص 47 ج 18).

و قد سئل علي أمير المؤمنين عليه السلام عن بني هاشم و بني امية فقال عليه السلام:نحن أمجد و أنجد و أجود، و هم أغدر و أمكر و أنكر (المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء ص 224 ج 4).

ثم قال عليه السلام: (فاسلامنا ما قد سمعتم، و جاهليتنا لا تدفع) يريد أن فضائل بني هاشم لا تختص بهم في الإسلام فقط بل لهم تلك الفضائل في زمن الجاهلية أيضا لا مدافع لهم في ذلك، أى أنهم كانوا من بيت شرف و مجد حيث كان الناس في الجاهلية الجهلاء، و قد مضى نقل طائفة منها في شرح المختار التاسع من باب الكتب (ج 17) و في شرح المختار السابع عشر من ذلك الباب أيضا (ج 18) فراجع.

و ينبغي أن نذكر في هذا الموضع احتجاجات أتى بها نقلة الاثار في أسفارهم:قال الشيخ إبراهيم بن محمد البيهقى في كتاب المحاسن و المساوى: قيل و أتى الحسن بن علي عليهما السلام معاوية بن أبي سفيان و قد سبقه ابن عباس فأمر معاوية فأنزل فبينا معاوية مع عمرو بن العاص و مروان بن الحكم و زياد بن أبي سفيان يتحاورون في قديمهم و حديثهم و مجدهم فقال معاوية: أكثرتم الفخر فلو حضركم الحسن بن علي و عبد الله بن العباس لقصرا من أعنتكما ما طال، فقال زياد: و كيف ذلك يا أمير المؤمنين ما يقومان لمروان بن الحكم في غرب منطقه و لا لنا في بواذخنا؟ فابعث إليهما في غد حتى نسمع كلامهما.

فقال معاوية لعمرو: ما تقول؟ قال هذا، فابعث إليهما في غد بعث إليهما معاوية ابنه يزيد، فأتياه و دخلا عليه و بدأ معاوية فقال: إني اجلكما و أرفع قدر كما عن المسامرة بالليل و لا سيما أنت يا أبا محمد فانك ابن رسول الله صلى الله عليه و آله و سيد شباب أهل الجنة فشكرا له، فلما استويا في مجلسهما و علم عمرو أن الحدة ستقع به قال: و الله لا بد أن أقول فإن قهرت فسبيل ذلك و إن قهرت أكون قد ابتدأت.

فقال: يا حسن إنا تفاوضنا فقلنا: إن رجال بني امية أصبر عند اللقاء و أمضى في الوغى، و أوفى عهدا، و أكرم خيما، و أمنع لما وراء ظهورهم من بني عبد المطلب.

ثم تكلم مروان فقال: و كيف لا تكون كذلك و قد قارعناكم فغلبناكم و حاربناكم فملكناكم، فإن شئنا عفونا و إن شئنا بطشنا.

ثم تكلم زياد فقال: ما ينبغي لهم أن ينكروا الفضل لأهله و يجحدوا الخير فى مظانه، نحن أهل الحملة في الحروب و لنا الفضل على سائر الناس قديما و حديثا.

فتكلم الحسن عليه السلام فقال: ليس من العجز أن يصمت الرجل عند ايراد الحجة، و لكن من الإفك أن ينطق الرجل بالخنا و يصور الباطل بصورة الحق يا عمرو افتخارا بالكذب و جرأة على الإفك! ما زلت أعرف مثالبك الخبيثة أبديها مرة و أمسك عنها اخرى فتأبي إلا انهما كا في الضلالة، أتذكر مصابيح الدجى و أعلام الهدى و فرسان الطراد و حتوف الأقران و أبناء الطعان و ربيع الضيفان و معدن النبوة و مهبط العلم و زعمتم أنكم أحمى لما وراء ظهوركم و قد تبين ذلك يوم بدر حين نكصت الأبطال و تساورت الأقران و اقتحمت الليوث و اعتركت المنية و قامت رحاؤها على قطبها و فرت عن نابها و طار شرار الحرب فقتلنا رجالكم و من النبي صلى الله عليه و آله على ذراريكم فكنتم لعمري في هذا اليوم غير مانعين لما وراء ظهوركم من بني عبد المطلب! ثم قال: و أما أنت يا مروان فما أنت و الإكثار في قريش و أنت طليق و أبوك طريد يتقلب من خزاية إلى سوءة و لقد جي‏ء بك إلى أمير المؤمنين فلما رأيت الضرغام قد دميت براثنه و اشتبكت أنيابه كنت كما قال:

ليث إذا سمع الليوث زئيره‏ بصبصن ثم قذفن بالأبعار

و يروى رمين بالأبعار.

فلما من عليك بالعفو و أرخى خناقك بعد ما ضاق عليك و غصصت بريقك لا تقعد معنا مقعد أهل الشكر و لكن تساوينا و تجارينا و نحن ممن لا يدركنا عار و لا يلحقنا خزاية!.

ثم التفت إلى زياد فقال: و ما أنت يا زياد و قريشا لا أعرف لك فيها أديما صحيحا و لا فرعا نابتا و لا قديما ثابتا و لا منبتا كريما بل كانت امك بغيا تداولها رجال‏ قريش و فجار العرب فلما ولدت لم تعرف لك العرب والدا فادعاك هذا- يعني معاوية- بعد ممات أبيه، مالك افتخار تكفيك سمية و يكفينا رسول الله صلى الله عليه و آله، و أبي علي بن أبي طالب سيد المؤمنين الذي لم يرتد على عقبيه، و عمي حمزة سيد الشهداء و جعفر الطيار و أنا و أخى سيدا شباب أهل الجنة! ثم التفت إلى ابن عباس فقال: يا ابن العم إنما هي بغاث الطير انقض عليها أجدل، فأراد ابن عباس أن يتكلم فأقسم عليه معاوية أن يكف فكف ثم خرجا.

فقال معاوية: أجاد عمرو الكلام لو لا أن حجته دحضت و تكلم مروان لو لا أنه نكص.

ثم التفت إلى زياد و قال: ما دعاك إلى محاورته؟ ما كنت إلا كالحجل في كف البازى، فقال أفاخر رجلا رسول الله صلى الله عليه و آله جده و هو سيد من مضى و من بقي و امه فاطمة الزهراء السواء، فقال عمرو: لقد أبقي عليك و لكنه طحن مروان طحن الرحى بثفالها يأبى إلا الإغراء بيننا و بينهم، لا جرم و الله لا شهدت مجلسا يكونان فيه إلا كنت معهما على من فاخرهما.

فخلا ابن عباس بالحسن فقبل بين عينيه و قال: افديك يا ابن عم، و الله ما زال بحرك يزخر و أنت تصول حتى شفيتني من أولاد البغايا.

ثم ان الحسن عليه السلام غاب أياما ثم رجع حتى دخل على معاوية و عنده عبد الله بن الزبير، فقال معاوية: يا أبا محمد اني أظنك تعبا نصبا فأت المنزل فأرح نفسك فيه، فقام الحسن عليه السلام فلما خرج قال معاوية لعبد الله بن الزبير: لو افتخرت على الحسن فانك ابن حواري رسول الله صلى الله عليه و آله و ابن عمته، و لأبيك في الإسلام نصيب وافر، فقال ابن الزبير: أناله! فرجع و هو يطلب ليلته الحجج فلما أصبح دخل على معاوية و جاء الحسن عليه السلام فحياه معاوية و سأله عن مبيته، فقال: خير مبيت و أكرم مستفاض، فلما استوى في مجلسه قال ابن الزبير:لولا أنك خوار في الحرب غير مقدام ما سلمت لمعاوية الأمر و كنت لا تحتاج إلى اختراق السهوب و قطع المفاوز تطلب معروفه و تقوم ببابه، و كنت‏ حريا أن لا تفعل ذلك و أنت ابن علي في بأسه و نجدته، فما أدرى ما الذي حملك على ذلك أضعف رأى أم وهن نحيزة، فما أظن لك مخرجا من هاتين الخلتين، أما و الله لو استجمع لي ما استجمع لك لعلمت أنى ابن الزبير و أني لا أنكص عن الأبطال و كيف لا أكون كذلك و جدتي صفية بنت عبد المطلب، و أبي الزبير حواري رسول الله صلى الله عليه و آله و أشد الناس بأسا و أكرمهم حسبا في الجاهلية و أطوعهم لرسول الله صلى الله عليه و آله.

فالتفت إليه الحسن عليه السلام و قال: أما و الله لو لا أن بني امية تنسبني إلى العجز عن المقال لكففت عنك تهاونا، و لكن سابين ذلك لك لتعلم أني لست بالعى و لا كليل اللسان، إياى تعير و علي تفتخر و لم يكن لجدك بيت في الجاهلية و لا مكرمة فزوجته جدتي صفية بنت عبد المطلب، فبذخ على جميع العرب بها و شرف بمكانها، فكيف تفاخر من هو من القلادة و اسطتها و من الأشراف سادتها نحن أكرم أهل الأرض زندا، لنا الشرف الثاقب و الكرم الغالب.

ثم تزعم أني سلمت الأمر لمعاوية فكيف يكون ذلك ويحك كذلك و أنا ابن أشجع العرب، و قد ولدتني فاطمة سيدة نساء العالمين و خير الإماء؟ لم أفعل ذلك ويحك جبنا و لا ضعفا و لكنه بايعني مثلك و هو يطلبني ببره و يداجيني المودة و لم أثق بنصرته لأنكم أهل بيت غدر، و كيف لا يكون كما أقول، و قد بايع أبوك أمير المؤمنين ثم نكث بيعته و نكص على عقبيه و اختدع حشية من حشايا رسول الله صلى الله عليه و آله ليضل بها الناس، فلما دلف نحو الأعنة و رأى بربق الأسنة قتل مضيعة لا ناصر له و اتي بك أسيرا قد وطئتك الكماة بأظلافها و الخيل بسنابكها و اعتلاك الأشتر فغصصت بريقك و أقعيت على عقبيك كالكلب إذا احتوشته الليوث، فنحن ويحك نور البلاد و أملاكها و بنا تفخر الامة و إلينا تلقى مقاليد الأزمة، أنصول و أنت تختدع النساء ثم تفتخر على بنى الأنبياء؟ لم تزل الأقاويل منا مقبولة و عليك و على أبيك مردودة، دخل الناس في دين جدي طائعين و كارهين، ثم بايعوا أمير المؤمنين عليه السلام فسار إلى أبيك و طلحة حين نكثا البيعة و خدعا عرس‏ رسول الله صلى الله عليه و آله فقتل أبوك و طلحة و اتى بك أسيرا، فبصبصت بذنبك و ناشدته الرحم أن لا يقتلك فعفا عنك، فأنت عتاقة أبي و أنا سيدك و سيد أبيك، فذق و بال أمرك.

فقال ابن الزبير: اعذر يا أبا محمد فانما حملني على محاورتك هذا و أحب الإغراء بيننا فهلا إذا جهلت أمسكت عني فإنكم أهل بيت سجيتكم الحلم و العفو.

فقال الحسن عليه السلام: يا معاوية انظر هل أكيع عن محاورة أحد؟ ويحك أ تدرى من أى شجرة أنا و إلى من أنتمى؟ انته قبل أن أسمك بميسم تتحدث به الركبان في الافاق و البلدان.

فقال ابن الزبير: هو لذلك أهل، فقال معاوية: أما انه قد شفى بلا بل صدرى منك و رمي مقتلك فصرت كالحجل في كف البازى يتلاعب بك كيف أراد فلا أراك تفتخر على أحد بعدها.

و ذكروا أن الحسن بن علي عليه السلام دخل على معاوية فقال متمثلا:

فيم الكلام و قد سبقت مبرزا سبق الجواد من المدى و المقيس‏

فقال معاوية: إياى تعنى؟ أما و الله لانبئنك بما يعرفه قلبك و لا ينكره جلساؤك: أنا ابن بطحاء مكة، انا ابن أجودها جودا و أكرمها جدودا و أوفاها عهودا، أنا ابن من ساد قريشا ناشئا و كهلا.

فقال الحسن عليه السلام: أجل إياك أعنى أفعلى تفتخر يا معاوية؟ أنا ابن ماء السماء و عروق الثرى و ابن من ساد أهل الدنيا بالحسب الثابت و الشرف الفائق و القديم السابق، أنا ابن من رضاه رضى الرحمن و سخطه سخط الرحمن، فهل لك أب كأبي و قديم كقديمى؟ فان قلت: لا تغلب، و إن قلت: نعم تكذب.

فقال معاوية: أقول لا تصديقا لقولك، فقال الحسن:

الحق أبلج ما تخون سبيله‏ و الصدق يعرفه ذوو الألباب‏

و قال معاوية ذات يوم و عنده أشراف الناس من قريش و غيرهم: أخبروني بخير الناس أبا و اما و عما و عمة و خالا و خالة و جدا و جدة، فقام مالك بن‏ العجلان فأومأ إلى الحسن فقال: هاهوذا أبوه علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم و امه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و آله، و عمه جعفر الطيار في الجنان، و عمته ام هانى‏ء بنت أبي طالب، و خاله القاسم ابن رسول الله صلى الله عليه و آله، و خالته بنت رسول الله زينب و جده رسول الله صلى الله عليه و آله، و جدته خديجة بنت خويلد.

فسكت القوم و نهض الحسن، فأقبل عمرو بن العاص على مالك فقال: أحب بني هاشم حملك على أن تكلمت بالباطل؟ فقال ابن العجلان: ما قلت إلا حقا و ما أحد من الناس يطلب مرضاة مخلوق بمعصية الخالق إلا لم يعط أمنيته في دنياه و ختم له بالشقاء في آخرته، بنو هاشم أنضرهم عودا و أوراهم زندا، كذلك يا معاوية؟ قال: اللهم نعم.

قيل: و استاذن الحسن بن علي عليه السلام على معاوية و عنده عبد الله بن جعفر و عمرو ابن العاص، فأذن له، فلما أقبل قال عمرو: قد جاءكم الأفه العيى الذي كان بين لحيية عبلة، فقال عبد الله بن جعفر: مه فو الله لقد رمت صخرة ململمة تنحط عنها السيول و تقصر دونها الوعول و لا تبلغها السهام، فإياك و الحسن إياك، فانك لا تزال راتعا في لحم رجل من قريش و لقد رميت فما برح سهمك و قدحت فما أورى زندك.

فسمع الحسن الكلام فلما أخذ الناس مجالسهم قال: يا معاوية لا يزال عندك عبد راتعا في لحوم الناس، أما و الله لو شئت ليكونن بيننا ما تتفاقم فيه الامور و تحرج منه الصدور ثم أنشأ يقول:

أتأمر يا معاوى عبد سهم‏ بشتمي و الملا منا شهود
إذا أخذت مجالسها قريش‏ فقد علمت قريش ما تريد
قصدت إلى تشتمنى سفاها لضغن ما يزول و ما يبيد
فما لك من أب كأبي تسامي‏ به من قد تسامي أو تكيد
و لا جد كجدي يا ابن هند رسول الله إن ذكر الجدود
و لا ام كامي من قريش‏ إذا ما يحصل الحسب التليد

 

فما مثلي تهكم يا ابن هند و لا مثلي تجاريه العبيد
فمهلا لا تهج منا امورا يشيب لها معاوية الوليد

و ذكروا أن عمرو بن العاص قال لمعاوية ذات يوم:

ابعث إلى الحسن بن علي فمره أن يخطب على المنبر فلعله يحصر فيكون ذلك مما نعيره به، فبعث إليه معاوية فأصعده المنبر و قد جمع له الناس فحمد الله و أثنى عليه ثم قال:

يا أيها الناس من عرفنى فأنا الذي يعرف و من لم يعرفني فانا الحسن بن علي بن أبي طالب ابن عم النبي صلى الله عليه و آله، أنا ابن البشير النذير السراج المنير أنا ابن من بعث رحمة للعالمين و سخطا للكافرين، أنا ابن من بعث إلى الجن و الإنس، أنا المستجاب الدعوة، أنا ابن الشفيع المطاع، أنا ابن أول من ينفض رأسه من التراب، أنا ابن أول من يقرع باب الجنة، أنا ابن من قاتلت معه الملائكة و نصر بالرعب من مسيرة شهر، فافتن في هذا الكلام و لم يزل حتى أظلمت الدنيا على معاوية فقال: يا حسن قد كنت ترجو أن تكون خليفة و لست هناك.

فقال الحسن: انما الخليفة من سار بسيرة رسول الله صلى الله عليه و آله و عمل بطاعة الله و ليس الخليفة من دان بالجور و عطل السنن و اتخذ الدنيا أبا و اما، و لكن ذاك ملك أصاب ملكا يمتع به قليلا و كان قد انقطع عنه و استعجل لذته و بقيت عليه تبعته فكان كما قال الله عز و جل: و إن أدري لعله فتنة لكم و متاع إلى حين ثم انصرف.

فقال معاوية لعمرو: و الله ما أردت إلا هتكى، ما كان أهل الشام يرون أن أحدا مثلى حتى سمعوا من الحسن ما سمعوا.

قيل: و قدم الحسن بن علي رضوان الله عليه على معاوية فلما دخل عليه وجد عنده عمرو بن العاص و مروان بن الحكم و المغيرة بن شعبة و صناديد قومه و وجوه اليمن و أهل الشام: فلما نظر إليه معاوية أقعده على سريره و أقبل عليه بوجهه يريه السرور بمقدمه، فلما نظر مروان إلى ذلك حسده و كان معاوية قال‏ لهم: لا تحاوروا هذين الرجلين فلقد قلداكم العار و فضحاكم عند أهل الشام- يعني الحسين بن على عليهما السلام، و عبد الله بن العباس.

فقال مروان: يا حسن لو لا حلم أمير المؤمنين و ما قد بني له آباؤه الكرام من المجد و العلاء ما أقعدك هذا المقعد و لقتلك و أنت له مستوجب بقودك الجماهير فلما أحسست بنا و علمت أن لا طاقة لك بفرسان أهل الشام و صناديد بني امية أذعنت بالطاعة و احتجرت بالبيعة و بعثت تطلب الأمان، أما و الله لو لا ذلك لاريق دمك، و علمت أنا نعطى السيوف حقها عند الوغى، فاحمد الله إذا بتلاك بمعاوية فعفا عنك بحلمه ثم صنع بك ما ترى.

فنظر إليه الحسن فقال: ويحك يا مروان لقد تقلدت مقاليد العارفي الحروب عند مشاهدتها و المخاذلة عند مخالطتها، نحن- هبلتك الهوابل- لنا الحجج البوالغ و لنا إن شكرتم عليكم النعم السوابغ، ندعوكم إلى النجاة و تدعوننا إلى النار فشتان ما بين المنزلتين، تفخر ببنى امية و تزعم أنهم صبر في الحروب أسد عند اللقاء- ثكلتك امك- اولئك البهاليل السادة و الحماة الذادة و الكرام القادة بنو عبد المطلب، أما و الله لقد رأيتهم و جميع من في هذا البيت ما هالتهم الأهوال و لم يحيدوا عن الأبطال كالليوث الضارية الباسلة الحنقة، فعندها وليت هاربا و اخذت أسيرا فقلدت قومك العار لأنك في الحروب خوار، أيراق دمي زعمت؟ أفلا أرقت دم من وثب على عثمان في الدار فذبحه كما يذبح الجمل و أنت تثغو ثغاء النعجة و تنادى بالويل و الثبور كالأمة اللكعاء، ألا دفعت عنه بيد أو ناضلت عنه بسهم؟ لقد ارتعدت فرائصك و غشى بصرك فاستغثت بي كما يستغيث العبد بربه، فانجيتك من القتل و منعتك منه ثم تحث معاوية على قتلى و لو رام ذلك معك لذبح كما ذبح ابن عفان، أنت معه أقصر يدا و أضيق باعا أجبن قلبا من أن تجسر على ذلك، ثم تزعم أنى ابتليت بحلم معاوية أما و الله لهو أعرف بشأنه و أشكر لما وليناه هذا الأمر فمتى بدا له فلا يغضين جفنه على القذي معك، فو الله لأثخنن أهل الشام بجيش يضيق عنها فضاؤها، و يستأصل‏ فرسانها ثم لا ينفعك عند ذلك الهرب و الروغان و لا يرد عنك الطلب تدريجك الكلام فنحن ممن لا يجهل آباؤنا القدماء الأكابر و فروعنا السادة الأخيار، انطق إن كنت صادقا.

فقال عمرو: ينطق بالخنى و تنطق بالصدق ثم أنشأ يقول:

قد يضرط العير و المكواة تأخذه‏ لا يضرط العير و المكواة في النار

ذق و بال أمرك يا مروان، و أقبل عليه معاوية فقال: قد نهيتك عن هذا الرجل و أنت تأبي إلا انهماكا فيما لا يعنيك، اربع على نفسك فليس أبوك كأبيه و لا أنت مثله، أنت ابن الطريد الشريد و هو ابن رسول الله صلى الله عليه و آله الكريم و لكن رب باحث عن حتفه و حافر عن مديته، فقال مروان: ارم من دون بيضتك و قم بحجة عشيرتك، ثم قال لعمرو: طعنك أبوه فوقيت نفسك بخصييك فلذلك تحذره و قام مغضبا فقال معاوية: لا تجار البحور فتغمرك، و لا الجبال فتبهرك و استرح من الاعتذار.

قيل: و لقى عمرو بن العاص الحسن بن علي عليه السلام في الطواف فقال: يا حسن أزعمت أن الدين لا يقوم إلا بك و بأبيك؟ فقد رأيت الله جل و عز أقامه بمعاوية فجعله راسيا بعد ميله و بينا بعد خفائه، أفرضى الله قتل عثمان أم من الحق أن تدور بالبيت كما يدور الجمل بالطحين؟ عليك ثياب كغرقي‏ء البيض و أنت قاتل عثمان، و الله إنه لألم للشعث و أسهل للوعث أن يوردك معاوية حياض أبيك.

فقال الحسن عليه السلام: إن لأهل النار علامات يعرفون بها و هي الإلحاد لأولياء الله و الموالاة لأعداء الله، و الله إنك لتعلم أن عليا عليه السلام لم يترتب في الأمر و لم يشك في الله طرفة عين، و أيم الله لتنتهين يا ابن ام عمرو أو لأقرعن جبينك بكلام تبقى سمته عليك ما حييت، فإياك و الإبراز علي فإني من قد عرفت لست بضعيف الغمزة، و لا بهش المشاشة، و لا بمري‏ء المأكلة، و إني من قريش كأوسط القلادة، يعرف حسبي و لا ادعى لغير أبى، و قد تحاكمت فيك رجال قريش فغلب عليك ألأمهم نسبا و أظهرهم لعنة، فإياك عني فانك رجس، و إنما نحن بيت الطهارة، أذهب الله عنا الرجس و طهرنا تطهيرا.

قيل: و اجتمع الحسن بن علي عليه السلام و عمرو بن العاص، فقال الحسن عليه السلام:قد علمت قريش بأسرها أني منها في عز أرومتها لم اطبع على ضعف و لم اعكس على خسف، اعرف بشبهي و ادعى لأبي.

فقال عمرو: قد علمت قريش أنك من أقلها عقلا و أكثرها جهلا، و ان فيك خصالا لو لم يكن فيك إلا واحدة منهن لشملك خزيها كما شمل البياض الحالك، لعمر الله لتنتهين عما أراك تصنع أو لأكبسن لك حافة كجلد العائط أرميك من خللها بأحر من وقع الأثافي أعرك منها أديمك عرك السلعة، فانك طالما ركبت صعب المنحدر و نزلت في اعراض الوعر التماسا للفرقة و إرصادا للفتنة و لن يزيدك الله فيها إلا فظاعة.

فقال الحسن عليه السلام: أما و الله لو كنت تسمو بحسبك و تعمل برأيك ما سلكت فج قصد و لا حللت رابية مجد، و أيم الله لو أطاعني معاوية لجعلك بمنزلة العدو الكاشح فانه طالما طويت على هذا كشحك و أخفيته في صدرك و طمح بك الرجاء إلى الغاية القصوى التي لا يورق بها غصنك و لا يخضر لها مرعاك، أما و الله ليوشكن يا ابن العاص أن تقع بين لحيى ضرغام من قريش قوي متمنع فروس ذي لبد يضغطك ضغط الرحى للحب لا ينجيك منه الروغان إذا التقت حلقتا البطان.

انتهى ما أتى به البيهقي في المحاسن و المساوي في المقام.

و فى محاسن البرقي: قال عمرو بن العاص للحسين عليه السلام: ما بال أولادنا أكثر من أولادكم؟ فقال عليه السلام:

بغاث الطير أكثرها فراخا و ام الصقر مقلاة نزور

فقال: ما بال الشيب إلى شواربنا أسرع منه إلى شواربكم؟ فقال عليه السلام:إن نساءكم نساء بخرة فاذا دنا أحدكم من امرأته نهكته في وجهه فشاب منه شاربه فقال: ما بال لحاكم أوفر من لحائنا؟ فقال عليه السلام: و البلد الطيب يخرج نباته باذن ربه و الذي خبث لا يخرج إلا نكدا، فقال معاوية: بحقي عليك إلا سكت‏ فانه ابن علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال عليه السلام:

إن عادت العقرب عدنا له‏ و كانت النعل لها حاضرة
قد علم العقرب و استيقنت‏ أن لا لها دنيا و لا آخرة

و روى ابن شهرآشوب و غيره عن أبان الأحمر أن شريك بن الأعور دخل على معاوية، فقال له معاوية: و الله إنك لشريك و ليس لله لشريك و أنك لابن الأعور و البصير خير من الأعور، و أنك لدميم، و الجيد خير من الدميم فكيف سدت قومك؟

فقال له شريك: إنك لمعاوية و ما معاوية إلا كلبة عوت و استعوت الكلاب، و انك لابن صخر و السهل خير من الصخر، و انك لابن حرب و السلم خير من الحرب و انك لابن امية و ما امية إلا أمة صغرت فاستصغرت فكيف صرت أمير المؤمنين؟

فغضب معاوية و خرج شريك و هو يقول:

أ يشتمني معاوية بن صخر و سيفي صارم و معى لساني‏
فلا تبسط علينا يا ابن هند لسانك إن بلغت ذرى الأماني‏
و إن تك للشقاء لنا أميرا فإنا لا نقر على الهوان‏
و إن تك في امية من ذراها فانا في ذرى عبد المدان‏

و روى أن معاوية أرسل إليه هدية منها حلواء، يريد بذلك استمالته و صرفه عن حب علي بن أبي طالب عليه السلام، فدخلت ابنة صغيرة له خماسي أو سداسي عليه فأخذت لقمة من تلك الحلواء و جعلتها في فمها، فقال لها أبو الأسود يا بنتي ألقيه فإنه سم هذه حلواء أرسلها إلينا معاوية ليخدعنا عن أمير المؤمنين عليه السلام و يردنا عن محبة أهل البيت، فقالت الصبية: قبحه الله يخدعنا عن السيد المطهر بالشهد المزعفر تبا لمرسله و آكله فعالجت نفسها حتى قاءت ما أكلتها ثم قالت:

أبا لشهد المزعفر يا ابن هند نبيع عليك أحسابا و دينا
معاذ الله كيف يكون هذا و مولانا أمير المؤمنينا

و يشبه هذا ما روي أنه دخل أبو أمامة الباهلي على معاوية فقربه و أدناه ثم دعى بالطعام فجعل يطعم أبا أمامة بيده، ثم أوسع رأسه و لحيته طيبا بيده و أمر له‏ ببدرة من دنانير فدفعها إليه، ثم قال: يا أبا أمامة بالله أنا خير أم علي بن أبي طالب؟

فقال أبو أمامة: نعم و لا كذب و لو بغير الله سألتني لصدقت علي و الله خير منك و أكرم و أقدم إسلاما و أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه و آله قرابة و أشد في المشركين نكاية و أعظم عند الامة عناء، أ تدري من علي يا معاوية؟ ابن عم رسول الله صلى الله عليه و آله، و زوج ابنته سيدة نساء العالمين، و أبو الحسن و الحسين سيدي شباب أهل الجنة، و ابن أخي حمزة سيد الشهداء، و أخو جعفر ذى الجناحين، فأين تقع أنت من هذا يا معاوية؟ أظننت أني سأختيرك على علي عليه السلام بألطافك و طعامك و عطائك فأدخل إليك مؤمنا، و أخرج منك كافرا بئسما سولت لك نفسك يا معاوية ثم نهض و خرج من عنده فأتبعه بالمال، فقال: لا و الله لا أقبل منك دينارا واحدا.

قال تقي الدين أبو بكر بن علي الحموى في ثمرات الأوراق في المحاضرات: قلت: و أما الأجوبة الهاشمية و بلاغتها فهى في المحل الأرفع، فمن ذلك أنه اجتمع عند معاوية عمرو بن العاص و الوليد بن عقبة و عتبة بن أبي سفيان و المغيرة بن شعبة فقالوا: يا أمير المؤمنين ابعث لنا إلى الحسن بن علي فقال لهم: فيم؟ فقالوا: كى نوبخه و تعرفه أن أباه قتل عثمان فقال لهم: إنكم لا تنتصفون منه و لا تقولون شيئا إلا كذبكم الناس، و لا يقول لكم شيئا ببلاغته إلا صدقه الناس فقالوا: أرسل إليه فإنا سنكفيك أمره فأرسل إليه معاوية فلما حضر قال: يا حسن إني لم ارسل إليك و لكن هؤلاء أرسلوا إليك فاسمع مقالتهم و أجب و لا تحرمني.

فقال الحسن عليه السلام فليتكلموا و نسمع، فقام عمرو بن العاص فحمد الله و أثنى عليه قال: هل تعلم يا حسن أن أباك أول من أثار الفتنة و طلب الملك فكيف رأيت صنع الله به؟.

ثم قام الوليد بن عقبة بن أبي معيط فحمد الله و أثنى عليه ثم قال: يا بني هاشم كنتم أصهار عثمان بن عفان فنعم الصهر كان يفضلكم و يقربكم ثم بغيتم عليه فقتلتموه و لقد أردنا يا حسن قتل أبيك فأنقذنا الله منه و لو قتلناه بعثمان ما كان علينا من الله ذنب.

ثم قام عتبة فقال: تعلم يا حسن أن أباك بغي على عثمان فقتله حسدا على الملك و الدنيا فسلبها، و لقد أردنا قتل أبيك حتى قتله الله تعالى.

ثم قام المغيرة بن شعبة فكان كلامه كله سبا لعلي و تعظيما لعثمان.

فقام الحسن عليه السلام فحمد الله تعالى و أثنى عليه و قال: بك أبدأ يا معاوية لم يشتمني هؤلاء، و لكن أنت تشتمني بغضا و عداوة و خلافا لجدي صلى الله عليه و آله، ثم التفت إلى الناس و قال: انشدكم الله أ تعلمون أن الرجل الذي شتمه هؤلاء كان أول من آمن بالله و صلى القبلتين، و أنت يا معاوية يومئذ كافر تشرك بالله، و كان معه لواء النبي صلى الله عليه و آله يوم بدر، و مع معاوية و أبيه لواء المشركين.

ثم قال: أنشدكم الله و الإسلام، أ تعلمون أن معاوية كان يكتب الرسائل لجدي صلى الله عليه و آله فأرسل إليه يوما فرجع الرسول و قال: هو يأكل، فرد الرسول إليه ثلاث مرات كل ذلك و هو يقول: هو يأكل، فقال النبي صلى الله عليه و آله: لا أشبع الله بطنه، أما تعرف ذلك في بطنك أما تعرف ذلك في بطنك يا معاوية؟

ثم قال: و أنشدكم الله، أ تعلمون أن معاوية كان يقود بأبيه على جمل و أخوه هذا يسوقه، فقال رسول الله صلى الله عليه و آله: لعن الله الجمل و قائده و راكبه و سائقه هذا كله لك يا معاوية.

و أما أنت يا عمرو فتنازع فيك خمسة من قريش فغلب عليك شبه ألأمهم حسبا و شرهم منصبا ثم قمت وسط قريش فقلت: أتى شانئ محمد فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه و آله: إن شانئك هو الأبتر، ثم هجوت محمدا صلى الله عليه و آله بثلاثين بيتا من الشعر فقال النبي صلى الله عليه و آله: اللهم إني لا أحسن الشعر و لكن العن عمرو بن العاص بكل بيت لعنة ثم انطلقت إلى النجاشي بما عملت و عملت فأكذبك الله و ردك خائبا فأنت عدو بني هاشم في الجاهلية و الإسلام فلم نلمك على بغضك.

و أما أنت يا ابن أبي معيط، فكيف ألومك على سبك لعلي و قد جلد ظهرك في الخمر ثمانين سوطا، و قتل أباك صبرا بأمر جدي، و قتله جدي بأمر ربي، و لما قدمه للقتل قال: من للصبية يا محمد، فقال: لهم النار فلم يكن لكم عن النبي صلى الله عليه و آله‏ إلا النار، و لم يكن لكم عند علي غير السيف و السوط.

و أما أنت يا عتبة فكيف تعد أحدا بالقتل لم لا قتلت الذي وجدته في فراشك مضاجعا لزوجتك ثم أمسكتها بعد أن بغت.

و أما أنت يا أعور ثقيف ففي أى ثلاث تسب عليا؟ أفي بعده من رسول الله صلى الله عليه و آله؟ أم في حكم جائر؟ أم في رغبة في الدنيا؟ فإن قلت شيئا من ذلك فقد كذبت أكذبك الناس، و إن زعمت أن عليا قتل عثمان فقد كذبت و أكذبك الناس، و أما وعيدك فانما مثلك كمثل بعوضة وقفت على نخلة، فقالت لها: استمسكي فاني اريد أن أطير، فقالت لها النخلة: ما عملت بوقوفك فكيف يشق على طيرانك و أنت فما شعرنا بعداوتك فكيف يشق علينا سبك، ثم نفض ثيابه و قام، فقال لهم معاوية: ألم أقل لكم إنكم لا تنتصفون منه، فو الله لقد أظلم علي البيت حتى قام فليس فيكم بعد اليوم خير. انتهى.

قال سبط ابن الجوزى في التذكرة: قال أهل السير: و لما سلم الحسن الأمر إلى معاوية أقام يتجهز إلى المدينة فاجتمع إلى معاوية رهط من شيعته منهم عمرو ابن العاص و الوليد بن عقبة و هو أخو عثمان بن عفان لامه و كان علي عليه السلام قد جلده في الخمر، و عتبة و قالوا: نريد أن تحضر الحسن علي سبيل الزيارة لنخجله قبل مسيره إلى المدينة فنهاهم معاوية و قال: إنه ألسن بني هاشم فألحوا عليه فارسل [إلى‏] الحسن فاستزاره فلما حضر شرعوا فتناولوا عليا عليه السلام و الحسن ساكت فلما فرغوا حمد الحسن الله و أثنى عليه و صلى على رسوله محمد صلى الله عليه و آله قال:

إن الذي أشرتم إليه قد صلى إلى القبلتين و بايع البيعتين و أنتم بالجميع مشركون و بما أنزل الله على نبيه كافرون، و أنه حرم على نفسه الشهوات و امتنع على اللذات حتى أنزل الله فيه «يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم» و أنت يا معاوية ممن قال رسول الله صلى الله عليه و آله في حقه: اللهم لا تشبعه أو لا أشبع الله بطنك، أخرجه مسلم عن ابن عباس.

و بات أمير المؤمنين يحرس رسول الله صلى الله عليه و آله من المشركين، و فداه بنفسه‏ ليلة الهجرة حتى أنزل الله فيه «و من الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله» و وصفه بالإيمان فقال «إنما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا» و المراد به أمير المؤمنين و قال له رسول الله صلى الله عليه و آله: أنت منى بمنزلة هارون من موسى و أنت أخى في الدنيا و الاخرة، و أنت يا معاوية نظر النبي صلى الله عليه و آله إليك يوم الأحزاب فرأى أباك على جمل يحرض الناس على قتاله و أخوك يقود الجمل و أنت تسوقه فقال: لعن الله الراكب و القائد و السائق، و ما قابله أبوك في موطن إلا و لعنه و كنت معه، ولاك عمر الشام فخنته، ثم ولاك عثمان فتربصت عليه و أنت الذي كنت تنهى أباك عن الإسلام حتى قلت مخاطبا له:

يا صخر لا تسلمن طوعا فتفضحنا بعد الذين ببدر أصبحوا مزقا
لا تركنن إلى أمر تقلدنا و الراقصات بنعمان به الحرقا

و كنت يوم بدر و احد و الخندق و المشاهد كلها تقاتل رسول الله صلى الله عليه و آله و قد علمت الفراش الذي ولدت عليه.

ثم التفت إلى عمرو بن العاص و قال: أما أنت يا ابن النابغة فادعاك خمسة من قريش غلب عليك ألأمهم و هو العاص و ولدت على فراش مشترك و فيك نزل‏ إن شانئك هو الأبتر و كنت عدو الله و عدو رسوله و عدو المسلمين و كنت أضر عليهم من كل مشرك و أنت القائل:

و لا أنثنى عن بني هاشم‏ بما اسطعت في الغيب و المحضر
و عن عائب اللات لا أنثنى‏ و لو لا رضى اللات لم تمطر

و أما أنت يا وليد فلا ألومك على بغض أمير المؤمنين فإنه قتل أباك صبرا و جلدك في الخمر لما صليت بالمسلمين الفجر سكرانا و قلت أزيدكم و فيك يقول الحطيئة:

شهد الحطيئة حين يلقى ربه‏ أن الوليد أحق بالعذر
نادى و قد تمت صلاتهم‏ أ أزيدكم سكرا و ما يدرى‏
ليزيدهم اخرى و لو قبلوا لأتت صلاتهم على العشر

 

فأتوا أبا وهب و لو قبلوا لقرنت بين الشفع و الوتر
حبسوا عنانك اذجريت و لو تركوا عنانك لم تزل تجرى‏

و سماك الله في كتابه فاسقا، و سمى أمير المؤمنين مؤمنا في قوله: أ فمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون‏ و فيك يقول حسان بن ثابت و في أمير المؤمنين:

أنزل الله ذو الجلال علينا في علي و في الوليد قرانا
ليس من كان مؤمنا عمرك الله‏ كمن كان فاسقا خوانا
سوف يدعى الوليد بعد قليل‏ و علي إلى الجزاء عيانا
فعلى يجزى هناك جنانا و وليد يجزى هناك هوانا

و أما أنت يا عتبة فلا ألومك في أمير المؤمنين فإنه قتل أباك يوم بدر و اشترك في دم ابن عمك شيبة، و هلا أنكرت على من غلب على فراشك و وجدته نائما مع عرسك حتى قال فيك نصر بن حجاج:

نبئت عتبة هيأته عرسه‏ لصداقة الهذلى من الحيان‏
ألقاه معها في الفراش فلم يكن‏ فحلا و أمسك خشية النسوان‏
لا تعتبن يا عتب نفسك حبها إن النساء حبائل الشيطان‏

ثم نفض الحسن ثوبه و قام فقال معاوية:

أمرتكم أمرا فلم تسمعوا له‏ و قلت لكم لا تبعثن إلى الحسن‏
فجاء و رب الراقصات عشية بركبانها يهوين من سرة اليمن‏
أخاف عليكم منه طول لسانه‏ و بعد مداه حين اجراره الرسن‏
فلما أبيتم كنت فيكم كبعضكم‏ و كان خطابى فيه غبنا من الغبن‏
فحسبكم ما قال مما علمتم‏ و حسبى بما ألقاه في القبر و الكفن‏

ثم قال سبط ابن الجوزى: تفسير غريب هذه الواقعة: قال الأصمعي و هشام ابن محمد الكلبي في كتابه المسمى بالمثالب: و قد وقفت عليه معنى قول الحسن لمعاوية: قد علمت الفراش الذي ولدت عليه أن معاوية كان يقال إنه من أربعة من قريش: عمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي، و مسافر بن أبي عمرو و أبي سفيان‏ و العباس بن عبد المطلب و هؤلاء كانوا ندماء أبي سفيان و كان كل منهم يتهم بهند.

فأما عمارة بن الوليد كان من أجمل رجالات قريش و هو الذي وشى به عمرو بن العاص إلى النجاشي فدعى الساحر فنفث في احليله فهام مع الوحش و كانت امرأة النجاشي قد عشقته.

و أما مسافر بن أبي عمرو فقال الكلبي: عامة الناس على أن معاوية منه لأنه كان أشد الناس حبا لهند فلما حملت هند بمعاوية خاف مسافر أن يظهر أنه منه فهرب إلى ملك الحيرة و هو هند بن عمرو فأقام عنده، ثم إن أبا سفيان قدم الحيرة فلقيه مسافر و هو مريض من عشقه لهند و قد سقى بطنه فسأله عن أهل مكة فأخبره و قيل: إن أبا سفيان تزوج هندا بعد انفصال مسافر عن مكة فقال أبو سفيان اني تزوجت هندا بعدك فازداد مرضه و جعل يذوب فوصف الكى فاحضروا المكاوى و الحجام فبينا الحجام يكويه إذ حبق الحجام فقال مسافر: قد يحبق (قد يضرط- خ ل) العير و المكواة في النار فسارت مثلا ثم مات مسافر من عشقه لهند.

و ذكر هشام بن محمد الكلبي أيضا في كتاب المثالب و قال: كانت هند من المغيلمات و كانت تميل إلى السودان من الرجال فكانت إذا ولدت ولدا أسود قتلته قال: و جرى بين يزيد بن معاوية و بين إسحاق بن طابة بن عبيد كلام بين يدي معاوية و هو خليفة فقال يزيد لاسحاق إن خيرا لك أن يدخل بنو حرب كلهم الجنة أشار يزيد إلى ان ام إسحاق كانت تتهم ببعض بني حرب فقال له إسحاق ان خيرا لك ان يدخل بنو العباس كلهم الجنة فلم يفهم يزيد قوله و فهم معاوية فلما قام إسحاق قال معاوية ليزيد: كيف تشاتم الرجال قبل أن تعلم ما يقال فيك قال: قصدت شين إسحاق قال: و هو كذلك أيضا قال: و كيف؟ قال: أما علمت أن بعض قريش في الجاهلية يزعمون أنى للعباس فسقط في يدي يزيد.

و قال الشعبي: و قد أشار رسول الله صلى الله عليه و آله إلى هند يوم فتح مكة بشي‏ء من هذا فانها لما جاءت تبايعه و كان قد أهدر دمها فقالت: على ما ابايعك؟ فقال:على أن لا تزنين، فقالت: و هل تزنى الحرة؟ فعرفها رسول الله صلى الله عليه و آله فنظر إلى‏ عمر فتبسم.

و أما قول الحسن عليه السلام لعمرو بن العاص: ولدت على فراش مشترك فذكر الكلبى أيضا في المثالب قال: كانت النابغة ام عمرو بن العاص من البغايا أصحاب الرايات بمكة فوقع عليها العاص بن الوائل في عدة من قريش منهم أبو لهب و امية بن خلف و هشام بن المغيرة و أبو سفيان بن حرب في طهر واحد.

قال ابن الكلبي: و كان الزناة الذين اشتهروا بمكة جماعة منهم هؤلاء المذكورون، و امية بن عبد الشمس، و عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص أخو مروان بن الحكم، و عتبة بن أبي سفيان أخو معاوية، و عقبة بن أبي معيط فلما حملت النابغة بعمرو تكلموا فيه فلما وضعته اختصم فيه الخمسة الذين ذكرناهم كل واحد يزعم أنه ولده و ألب عليه العاص بن وائل و أبو سفيان بن حرب كل واحد يقول: و الله إنه مني فحكما النابغة فاختارت العاص فقالت: هو منه، فقيل لها ما حملك على هذا و أبو سفيان أشرف من العاص؟ فقالت: هو كما قلتم إلا انه رجل شحيح، و العاص جواد ينفق على بناتي، و أبو سفيان لا ينفق عليهن و كان لها بنات.

و أما قول الحسن عليه السلام للوليد بن عقبة: و جلدك علي في الخمر، فذكر أرباب السير قاطبة: أن عثمان بن عفان ولى الوليد بن عقبة الكوفة سنة ست و عشرين و كان الوليد مدمنا على شرب الخمر و كان يجلس على الشراب و عنده ندماؤه و مغنوه طول الليل إلى الفجر فإذا أذنه المؤذن بصلاة الفجر خرج سكرانا فصلى بهم فخرج يوما في غلالة لا يدرى أين هو فتقدم إلى المحراب فصلى بهم الفجر أربعا و قال: أزيدكم؟ فقال له عبد الله بن مسعود: ما زلنا معك في زيادة منذ اليوم، و لما سجد قال في سجوده: اشرب و اسقني، فناداه عتاب بن غيلان الثقفي: سقاك الله المهل و من بعثك أميرا علينا، ثم حصبه و حصبه أهل المسجد، فدخل الوليد القصر و هو يترنح فنام في سريره، فهجم عليه جماعة منهم أبو جندب بن زهير الأسدي و ابن عوف الأزدي و غيرهما و هو سكران لا يعي فأيقظوه فلم يتنبه، ثم قاء عليهم‏ الخمر فنزعوا خاتمه من يده و خرجوا من فورهم إلى المدينة، فدخلوا على عثمان فشهدوا على الوليد أنه شرب الخمر، فقال: و ما يدريكم أنه شرب خمرا؟ قالوا:

شرب الخمر الذي كنا نشر به في الجاهلية فزبرهما و نال منهما فخرجا من عنده فدخلا على علي عليه السلام و أخبراه بالقصة، فدخل على عثمان فقال له: دفعت الشهود و أبطلت الحدود، قال له: فما ترى؟ فقال: تبعث إلى الفاسق فتحضره فان قامت عليه البينة حددته فأرسل إلى الوليد فأحضره فشهدوا عليه و لم يكن له حجة فرمى عثمان السوط إلى علي عليه السلام و قال له: حده، فقال علي لولده الحسن: قم فحده، فامتنع الحسن عليه السلام و قال: يتولى حارها من تولى قارها و القر البرد و معناه يتولاه و الى الأمر، فقال لعبد الله بن جعفر: قم فاجلده فامتنع فلما رآهم لا يفعلون توقيا لعثمان أخذ السوط و دني من الوليد فسبه الوليد فقال له عقيل بن أبي طالب: يا فاسق ما تعلم من أنت أ لست علجا من أهل صفورية قرية بين عكا و اللجون من أعمال الاردن كان أبوك يهوديا منها فجعل الوليد يحيد عن علي فأخذه فضرب به الأرض فقال له عثمان: ليس لك ذلك فقال: بلى و شر من ذلك إذ فسق ثم يمتنع أن يؤخذ منه حق الله تعالى ثم جلده أربعين.

و قد أخرج أحمد في المسند معنى هذا فقال: حدثنا يزيد بن هارون، ثنا سعيد بن أبي عرونة، عن عبد الله بن الداناج، عن حصين بن المنذر بن الحرث بن و علة قال: لما قال علي عليه السلام للحسن: قم فاجلده، قال: و فيم أنت و ذاك فقال علي عليه السلام: بل عجزت و وهنت قم يا عبد الله بن جعفر فاجلده، فقام فجلده و علي عليه السلام يعد حتى بلغ أربعين، قال: أمسك، ثم قال: جلد رسول الله صلى الله عليه و آله في الخمر أربعين، و ضرب أبو بكر أربعين، و ضربها عمر صدرا من خلافته، ثم أتم ثمانين و كل سنة.

فان قيل: فقد روى أحمد في المسند أيضا عن علي عليه السلام انه قال: ما من رجل أقمت عليه حدا فمات فأجد في نفسي منه إلا صاحب الخمر فانه لو مات لوديته لأن رسول الله صلى الله عليه و آله يسنه و أخرجاه في الصحيحين فكيف تقول: و كل سنة؟

قلنا: لا خلاف أن النبي صلى الله عليه و آله ضرب في الخمر فالضرب في الجملة سنة و العدد ثبت باجماع الصحابة.

قال السبط: و قيل: هذه القصة إنما جرت للحسن عليه السلام مع معاوية و الوليد و من سميناهم بالشام لأن الحسن كان يعد علي معاوية كل حين و معه الحسين، قلت:

و قد دعى رسول الله صلى الله عليه و آله على الوليد بن عقبة لما رد أمانه، فقال أحمد في المسند حدثنا عبيد الله بن عمر، ثنا عبد الله بن داود، ثنا نعيم بن حكيم، عن ابن أبي مريم عن علي عليه السلام قال: جاءت امرأة الوليد بن عقبة تشكوه إلى رسول الله صلى الله عليه و آله و قالت:

يا رسول الله إن الوليد يضربني فقال: اذهبي إليه و قولي له: قد أجارني رسول الله صلى الله عليه و آله فلم تلبث إلا يسيرا، حتى جاءت فقالت: ما زادني إلا ضربا، فأخذ رسول الله صلى الله عليه و آله هدبة من ثوبه فدفعها إليها و قال لها: قولي هذا أماني من رسول الله صلى الله عليه و آله فلم تلبث إلا يسيرا حتى جاءت فقالت: يا رسول الله ما زادني إلا ضربا، فرفع رسول الله صلى الله عليه و آله يديه و قال: اللهم عليك بالوليد، و في رواية عليك بالفاسق.

و اختلفوا في معنى تسميته بالفاسق على قولين: أحدهما أن الوليد قال يوما لعلى عليه السلام: أ لست أبسط منك لسانا و أحد سنانا، فنزلت: أ فمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون‏ ذكره ابن عباس.

و الثاني أن النبي صلى الله عليه و آله بعثه سنة ثمان من الهجرة إلى بني المصطلق يصدقهم و كانوا قد أسلموا و بنوا المساجد، فلما بلغهم قدوم الوليد خرجوا يتلقونه بالهدايا و السلاح فرحا به، فلما رآهم ولى راجعا إلى المدينة، فقال: يا رسول الله قد منعوا الزكاة و قاموا إلى بالسلاح فابعث إليهم البعوث، فقدم الحارث بن عباد على رسول الله صلى الله عليه و آله فقال له: يا حارث أردت قتل رسولى و منعت الزكاة؟! فقال: و الذي بعثك بالحق ما وصل إلينا و إنما رجع من الطريق، و لقد كذب فأنزل الله: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا- الاية.

و ذكر هشام بن محمد الكلبي عن محمد بن إسحاق قال: بعث مروان بن الحكم و كان واليا على المدينة رسولا إلى الحسن عليه السلام فقال له: يقول لك مروان: أبوك الذي فرق الجماعة و قتل أمير المؤمنين عثمان و أباد العلماء و الزهاد- يعني الخوارج‏ و أنت تفخر بغيرك، فاذا قيل لك من أبوك تقول: خالى الفرس.

فجاء الرسول إلى الحسن فقال له: يا أبا محمد إني أتيتك برسالة ممن يخاف سطوته و يحذر سيفه فإن كرهت لم أبلغك إياها و وقيتك بنفسي، فقال الحسن:

لا بل تؤديها و نستعين عليه بالله فأداها فقال له: تقول لمروان: إن كنت صادقا فالله يجزيك بصدقك، و إن كنت كاذبا فالله أشد نقمة، فخرج الرسول من عنده فلقيه الحسين فقال: من أين أقبلت؟ فقال: من عند أخيك الحسن، فقال: و ما كنت تصنع؟ قال: أتيت برسالة من عند مروان، فقال: و ما هي؟ فامتنع الرسول من أدائها، فقال: لتخبرني أو لأقتلنك فسمع الحسن فخرج و قال لأخيه: خل عن الرجل، فقال: لا و الله حتى أسمعها فأعادها الرسول عليه فقال له: قل له: يقول لك الحسين بن علي و فاطمة: يا ابن الزرقاء الداعية إلى نفسها بسوق ذى المجاز، صاحبة الراية بسوق عكاظ، و يا ابن طريد رسول الله صلى الله عليه و آله و لعينه، اعرف من أنت و من امك و من أبوك.

فجاء الرسول إلى مروان فأعاد عليه ما قالا. فقال له: ارجع إلى الحسن و قل له: أشهد انك ابن رسول الله و قل للحسين: أشهد أنك ابن علي بن أبي طالب فقال للرسول قل له كلاهما لى و رغما.

قال قال الأصمعي: أما قول الحسين: يا ابن الداعية إلى نفسها فذكر ابن إسحاق أن ام مروان اسمها امية و كانت من البغايا في الجاهلية و كان لها راية مثل راية البيطار تعرف بها و كانت تسمي ام حتبل الزرقاء و كان مروان لا يعرف له أب و إنما نسب إلى الحكم كما نسب عمرو إلى العاص.

و أما قوله: يا ابن طريد رسول الله يشير إلى الحكم بن أبي العاص بن امية ابن عبد شمس، أسلم الحكم يوم الفتح و سكن المدينة و كان ينقل أخبار رسول الله صلى الله عليه و آله إلى الكفار من الأعراب و غيرهم و يتجسس عليه، قال الشعبي:

و ما أسلم إلا لهذا و لم يحسن إسلامه و رآه رسول الله صلى الله عليه و آله يوما و هو يمشي و يتخلج في مشيته يحاكي رسول الله فقال له: كن كذلك فما زال يمشى كأنه يقع على وجهه و نفاه رسول الله صلى الله عليه و آله إلى الطائف و لعنه فلما توفي رسول الله صلى الله عليه و آله كلم عثمان أبا بكر

أن يرده لأنه كان عم عثمان فقال أبو بكر: هيهات شي‏ء فعله رسول الله صلى الله عليه و آله و الله لا اخالفه أبدا فلما مات أبو بكر و ولى عمر كلمه فيه فقال: يا عثمان أما تستحى من رسول الله صلى الله عليه و آله و من أبي بكر ترد عدو الله و عدو رسوله إلى المدينة؟ و الله لا كان هذا أبدا فلما مات عمرو ولى عثمان رده في اليوم الذي ولى فيه و قربه و أدناه و دفع له مالا عظيما و رفع منزلته فقام المسلمون على عثمان و أنكروا عليه و هو أول ما أنكروا عليه و قالوا: رددت عدو الله و رسوله و خالفت الله و رسوله فقال:إن رسول الله وعدني برده فامتنع جماعة من الصحابة عن الصلاة خلف عثمان لذلك.

ثم توفي الحكم في خلافته فصلى عليه و مشي خلفه فشق ذلك على المسلمين و قالوا: ما كفاك ما فعلت حتى تصلى على منافق ملعون لعنه رسول الله صلى الله عليه و آله و نفاه فخلعوه و قتلوه و اعطى ابنه مروان خمس غنائم افريقية خمسمائة ألف دينار، و لما بلغ عايشة أرسلت إلى عثمان أما كفاك أنك رددت المنافق حتى تعطيه أموال المسلمين و تصلى عليه و تشيعه بهذا السبب؟ قالت: اقتلوا نعثلا قتله الله فقد كفر، و لما بلغ مروان انكارها جاء إليها يعاتبها فقالت: اخرج يا ابن الزرقاء انى أشهد على رسول الله صلى الله عليه و آله أنه لعن أباك و أنت في صلبه.

قال الشعبي: إن مروان ولد سنة اثنتين من الهجرة و أبوه إنما أسلم يوم الفتح و نفاه رسول الله صلى الله عليه و آله بعد ذلك، قلت: و قد ذكر ابن سعد في الطبقات معنى الحكاية التي حكيناها عن ابن إسحاق و رسالة مروان إلى الحسن. انتهى ما أردنا من نقل كلام سبط ابن الجوزي في التذكرة.

و أقول: سيأتي توضيح كلام الإمام المجتبى عليه السلام في عمرو بن العاص العاصي:فادعاك خمسة من قريش في تفسير كتاب أمير المؤمنين عليه السلام إلى عمرو بن العاص.

و أما قول الكلبي و الأصمعي أن معاوية كان من أربعة من قريش فقد روى الزمخشرى في كتاب ربيع الأبرار أيضا أن معاوية كان يعزى إلى أربعة:إلى عمرو بن مسافر، و إلى عمارة بن الوليد، و إلى العباس بن عبد المطلب‏ و إلى الصباح مغن أسود كان لعمارة، قال قالوا: كان أبو سفيان و سيما قصيرا، و كان الصباح عسيفا لأبي سفيان شابا و سيما فدعته هند إلى نفسها، و قالوا: إن عتبة بن أبي سفيان من الصباح أيضا و انها كرهت أن تضعه في منزلها فخرجت إلى أجياد فوضعته هناك و في ذلك قال حسان بن ثابت:

لمن الصبى بجانب البطحاء في الأرض ملقى غير ذى مهد
بخلت به بيضاء آنسة من عبد شمس صلتة الخد

و أقول: هذان البيتان من أبيات توجد في آخر ديوان حسان على ما في نسخة مخطوطة من ديوانه في مكتبتنا، و الأبيات معنونة بهذا العنوان: و قال حسان لهند بنت عتبة بن أبي ربيعة، و بعد البيتين:

تسعى الصباح معولة يا هند انك صلبة الحرد
فإذا تشادعت بمقطرة تذكى لها بالودة الهند
غلبت على شبه الغلام و قد بان السواد لحالك جعد
أشرت لكاع و كان عادتها دق المشاش بناجذ جلد

فحرى لمعاوية أن يباهي و يفتخر قائلا: اولئك آبائى فجئنى بمثلهم.

و أما قوله: إذ حبق الحجام فقال مسافر: قد يحبق (يضرط- خ ل) العير و المكواة في النار فقال الميدانى في مجمع الأمثال: و يقال: إن أول من قاله مسافر ابن أبي عمرو بن امية و ذلك أنه كان يهوى بنت عتبة و كانت تهواه فقالت: إن أهلى لا يزوجوننى منك انك معسر، فلو قد وفدت إلى بعض الملوك لعلك تصيب مالا فتتزوجنى، فرحل إلى الحيرة وافدا إلى النعمان فبيناهم مقيم عنده إذ قدم عليه قادم من مكة فسأله عن خبر أهل مكة بعده فأخبره بأشياء و كان منها أن أبا سفيان تزوج هندا فطعن مسافر من الغم فأمر النعمان أن يكوى فأتاه الطبيب بمكاويه فجعلها في النار ثم وضع مكواة منها عليه و علج من علوج النعمان واقف فلما رآه يكوى ضرط فقال مسافر: قد يضرط العير و يقال: إن الطبيب ضرط.

و أما ما نقل السبط من قول أمير المؤمنين علي عليه السلام لولده الحسن عليه السلام: قم فحده فامتنع الحسن، و ما روى أحمد في المسند من أن عليا عليه السلام لما قال للحسن عليه السلام قم فاجلده قال الحسن عليه السلام و فيم أنت و ذاك، ففيهما كلام لأن امتناع الإمام المجتبى عليه السلام عما أمره به أبوه أمير المؤمنين عليه السلام فدونه خرط القتاد.

و أما ما نقله من حد شارب الخمر و من أن أمير المؤمنين عليه السلام جلد الوليد أربعين فالبحث عنه يوجب الإسهاب فانه يؤدى إلى شعب كثيرة من مسائل فقهية و غيرها و لذلك نكتفي على نقل ما أتى به صاحب الجواهر في شرح كتاب الحدود من كتاب الشرائع قال- ره-:

حد المسكر ثمانون جلدة بلا خلاف أجده فيه بل الاجماع بقسميه عليه بل المحكى منهما مستفيض أو متواتر كالنصوص، لكن في حسن الحلبى سئل الصادق عليه السلام أرأيت النبي صلى الله عليه و آله كيف يضرب بالخمر؟ قال: كان يضرب بالنعال و يزيد إذا أتى بالشارب ثم لم يزل الناس يزيدون حتى وقف ذلك على ثمانين أشار بذلك علي عليه السلام على عمر.

و نحوه خبر أبي بصير عنه عن أمير المؤمنين عليه السلام معللا بأنه إذا شرب سكر و إذا سكر هذى و إذا هذى افترى فاذا فعل ذلك فاجلدوه حدى المفترى ثمانين.

بل في المسالك روى العامة و الخاصة أن النبي صلى الله عليه و آله كان يضرب الشارب بالأيدي و النعال و لم يقدره بعدد فلما كان في زمن عمر استشار أمير المؤمنين عليه السلام في حده فأشار عليه أن يضربه ثمانين معللا له بأنه إذا شرب سكر و إذا سكر هذى و إذا هذى افترى فجلده عمر ثمانين و عمل بمضمونه أكثر العامة.

و ذهب بعضهم إلى أربعين مطلقا لما روى أن صحابة قد رووا ما فعل في زمانه صلى الله عليه و آله بأربعين و كان التقدير المزبور عن أمير المؤمنين عليه السلام من التفويض الجائز لهم.

و من الغريب ما في كتاب الإستغاثة في بدع الثلاثة من أن حد الشارب‏ الثمانين من بدع الثاني، و أن الرسول صلى الله عليه و آله جعل حده أربعين بالنعال العرين و جرائد النخل باجماع أهل الرواية، و ان الثاني قال: إذا سكر افترى و انه افترى حد حد المفترى، و في كشف اللثام و لعله أراد إلزامهم باعترافهم كما في الطرائف من قوله و من طريف ما شهدوا به أيضا على خليفتهم عمر من تغييره لشريعة نبيهم صلى الله عليه و آله و قلة معرفته بمقام الأنبياء و خلفائهم ما ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين من مسند أنس بن مالك في الحديث الحادى و التسعين من المتفق عليه ان النبي ضرب في الخمر بالجرائد و النعال و جلد أبو بكر أربعين فلما كان عمر استشار الناس فقال عبد الرحمن أخف الحدود ثمانون فأمر به عمر.

و ذكر الحميدي أيضا في كتاب الجمع بين الصحيحين في مسند السائب بن يزيد في الحديث الرابع من أفراد البخاري قال: كنا نؤتى بالشارب على عهد رسول الله صلى الله عليه و آله و إمرة أبي بكر و شطر من خلافة عمر فنتقدم إليه بأيدينا و نعالنا و ارديتنا حتى كان آخر امرة عمر فجلد أربعين حتى إذا عتوا و فسقوا جلد ثمانين.

ثم إن ظاهر النص و الفتوى اعتبار الثمانين مترتبة لكن في خبر زرارة سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: إن الوليد بن عقبة حين شهد عليه بشرب الخمر قال عثمان لعلي عليه السلام: اقض بينه و بين هؤلاء الذين زعموا أنه شرب الخمر، قال: فأمر علي عليه السلام فجلد بسوط له شعبتان أربعين جلدة فصارت ثمانين.

و في خبره الاخر سمعته أيضا يقول: اقيم عبيد بن عمر و قد شرب الخمر فأمر عمر أن يضرب فلم يتقدم عليه أحد يضربه حتى قام علي عليه السلام بنسعة مثنية لها طرفان فضربه أربعين، و يمكن حملهما على جواز ذلك لمصلحة و الله العالم، و كيف كان فالمشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة كادت تكون اجماعا أنه لا فرق في الثمانين رجلا كان الشارب أو امرأة حرا كان أو عبدا بل عن صريح الغنية و ظاهر غيرها الإجماع عليه، انتهى ما أردنا من نقل كلامه طيب الله رمسه.

ثم قال عليه السلام: (و كتاب الله يجمع لنا- إلى قوله: أولى بالطاعة) احتج عليه السلام بايتين من القرآن الكريم على أولويته من غيره في أمر الخلافة و استنتج من‏ الاولى أولويته بالخلافة بقرابته إلى رسول الله صلى الله عليه و آله، و من الثانية أولويته بالخلافة بطاعة الرسول و لا يخفى على اولى الألباب حسن استنباطه عليه السلام هذا المعنى من القرآن الكريم.

كما لا يخفى عليهم أنه عليه السلام كان من أخص‏ اولى الأرحام‏ بالرسول صلى الله عليه و آله، و كان أقرب الخلق إلى اتباعه و ناهيك في المقام قوله عليه السلام: و لقد قبض رسول الله صلى الله عليه و آله و ان رأسه لعلى صدري و لقد سالت نفسه في كفى فأمر رتها على وجهى و لقد وليت غسله صلى الله عليه و آله و الملائكة أعوانى فضجت الدار و الأفنية ملأ يهبط و ملأ يعرج و ما فارقت سمعى هنيمة منهم يصلون حتى و اريناه في ضريحه فمن ذا أحق به منى حيا و ميتا؟، كما مضى في المختار 195 من باب الخطب، و قد مضت طائفة من كلامنا في الإمام و صفاته في شرح المختار 237 من باب الخطب فراجع (ص 35- 176 ج 16).

ثم إنه عليه السلام أتى بعد آية اولى الأرحام‏ بالاية الثانية لأن الأمر الأهم هو الإتباع و لولاه لا ينفع القرابة ألا ترى قوله عز و جل خطابا لنوح عليه السلام في أمر ولده: «انه ليس من أهلك انه عمل غير صالح».

ثم قال عليه السلام: (و لما احتج المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة- إلى قوله:على دعويهم) ثم احتج عليه السلام على معاوية بما ظفر المهاجرون يوم السقيفة على الأنصار و ذلك أنه قالت الأنصار يوم السقيفة للمهاجرين: منا أمير و من قريش أمير و قال‏ المهاجرون‏: نحن شجرة الرسول و عشيرته و رووا عنه صلى الله عليه و آله الأئمة من قريش فغلبوا بذلك على الأنصار (ص 1838 من تاريخ الطبرى) فاحتج أمير المؤمنين علي عليه السلام على معاوية بأن ظفرهم على الأنصار إن كان لقربهم منه صلى الله عليه و آله فالحق لنا، أى فالحق لأهل بيته، و من كان من أخص‏ اولى الأرحام بالرسول‏ و أقربهم إليه أولى بذلك الحق، و إن كان بغيره فالأنصار على دعويهم‏ أى لم يتم حجة المهاجرين عليهم فلم يتحقق إجماع الصحابة على خلافة من جعل خليفة المسلمين‏ منذ قبض رسول الله صلى الله عليه و آله‏ و سيأتي عن قريب في شرح هذا الكتاب نحو احتجاجه هذا لما أتي به إلى أبي بكر للبيعة المنقول من كتاب الامامة و السياسة للدينورى.

و بالجملة أن أمير المؤمنين عليه السلام احتج على معاوية بالكتاب العزيز أولا بأنه‏ مرة أولى‏ بالخلافة بقرابة الرسول صلى الله عليه و آله‏ و تارة أولى‏ بها بالطاعة، ثم احتج عليه بما غلب‏ المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة بأن ظفر المهاجرين عليهم إن كان لقربهم من الرسول صلى الله عليه و آله فهو عليه السلام أولى بالخلافة من غيره لقربه من الرسول بمادريت، و إن كان لغير القرابة فلم يتم أمر الخلافة في الخلفاء الثلاث فما كتب معاوية في كتابه المنقول آنفا ليس بصحيح لأنه قال في ذلك الكتاب: فكان أفضلهم مرتبة و أعلاهم عند الله و المسلمين منزلة الخليفة الأول الذي جمع الكلمة- ثم الخليفة الثاني الذي فتح الفتوح- ثم الخليفة الثالث المظلوم الذي نشر الملة- إلخ- فاذا كان‏ الأنصار على دعويهم‏ لم يتحقق إجماع على خلافة هؤلاء.

على أن معاوية كان أجنبيا من النبي صلى الله عليه و آله و الأنصار كليهما بلا كلام فلا يجوز له دعوى الخلافة فليس لمثله حق فيها.

و قد مضى نحو كلامه عليه السلام هذا في المختار التاسع (ص 330 ج 17) حيث قال عليه السلام: لأن الله جل ذكره لما قبض نبيه صلى الله عليه و آله‏ قالت قريش: منا أمير و قالت الأنصار: منا أمير فقالت قريش: منا محمد رسول الله صلى الله عليه و آله‏ فنحن أحق‏ بذلك الأمر فعرفت ذلك الأنصار فسلمت لهم الولاية السلطان فاذا استحقوها بمحمد صلى الله عليه و آله دون الأنصار فان أولى الناس بمحمد صلى الله عليه و آله أحق بها منهم و إلا فان الأنصار أعظم العرب فيها نصيبا فلا أدرى أصحابي سلموا من أن يكونوا حقي أخذوا أو الأنصار ظلموا عرفت أن حقي هو المأخوذ- إلخ.

قلت: و من كلامه هذا يستفاد حمل قوله: و إن يكن بغيره فالأنصار على دعويهم‏، على أن دعويهم منا أمير و منكم أمير بحالها، فانهم أعظم العرب فيها نصيبا فهم منعوا عن حقهم ظلما، و هذا وجه آخر فهم من كلامه هذا بقرينة كلامه ذلك، و إن كان يستلزم هذا الوجه المعنى الأول أيضا.

قال المسعودي في مروج الذهب: بايع الناس أبا بكر في سقيفة بني ساعدة ابن كعب بن الخزرج الأنصاري في يوم الاثنين الذي توفى فيه رسول الله صلى الله عليه و آله و لما بويع أبو بكر في يوم السقيفة و جددت البيعة له يوم الثلاثاء، خرج علي عليه السلام فقال: أفسدت علينا امورنا و لم تستشر و لم ترع لنا حقا، فقال أبو بكر: بلى، و لكن خشيت الفتنة، و كان للمهاجرين و الأنصار يوم السقيفة خطب طويل و محادثة في الإمامة، و خرج سعد بن عبادة و لم يبايع، و لم يبايع أبا بكر أحد من بني هاشم حتى ماتت فاطمة عليها السلام.

قال: و لما احتضر أبو بكر قال: ما أنا إلا على ثلاث فعلتها وددت أني تركتها، و ثلاث تركتها وددت أني فعلتها، و ثلاث وددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه و آله فأما الثلاث التي فعلتها و وددت أني تركتها فوددت أني لم أكن فتشت بيت فاطمة و ذكر في ذلك كلاما كثيرا، و وددت أني أكن حرقت الفجاءة و أطلقته نجيحا أو قتلته صريحا، و وددت أني يوم سقيفة بني ساعدة قد رميت الأمر في عنق أحد الرجلين فكان أميرا و كنت وزيرا، إلخ.

قلت: قد ذكر نحو كلام المسعودي في مروج الذهب ابن عبد البر في كتاب الاستيعاب حيث قال في ترجمة أبي بكر: أنه بويع له بالخلاقة اليوم الذي قبض فيه رسول الله صلى الله عليه و آله في سقيفة بني ساعدة، ثم بويع البيعة العامة يوم الثلثاء من غد ذلك اليوم و تخلف عن بيعته سعد بن عبادة، و طائفة من الخزرج، و فرقة من قريش. انتهى.

و نقل نحوهما غير واحد من حملة الأخبار غيرهما و فيه دليل بين على اختلاف القوم في بيعته و عدم توافقهم في خلافته.

و قال اليعقوبي في تاريخه: اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة يوم توفى رسول الله صلى الله عليه و آله و هو بعد لم يغسل- إلى أن قال: و قام المنذر بن الأرقم فقال:إن فيهم رجلا لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد- قال: يعني علي بن أبي طالب- و جاء البراء بن عازب فضرب الباب على بني هاشم و قال: يا معشر بني هاشم بويع أبو بكر، فقال بعضهم: ما كان المسلمون يحدثون حدثا نغيب عنه و نحن أولى‏ بمحمد صلى الله عليه و آله، فقال العباس: فعلوها و رب الكعبة.

قال: و كان المهاجرون و الأنصار لا يشكون في علي عليه السلام فلما خرجوا من الدار، قام الفضل بن العباس و كان لسان قريش فقال: يا معشر قريش إنه ما حقت لكم الخلافة بالتمويه و نحن أهلها دونكم و صاحبنا أولى بها منكم، و قام عتبة ابن أبي لهب فقال:

ما كنت أحسب أن الأمر منصرف‏ عن هاشم ثم منها عن أبي الحسن‏
عن أول الناس إيمانا و سابقة و أعلم الناس بالقرآن و السنن‏
و آخر الناس عهدا بالنبي و من‏ جبريل عون له بالغسل و الكفن‏
من فيه ما فيهم لا يمترون به‏ و ليس في القوم ما فيه من الحسن‏

فبعث إليه علي عليه السلام فنهاه، و تخلف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين و الأنصار و مالوا مع علي بن أبي طالب منهم العباس بن عبد المطلب، و الفضل بن العباس، و الزبير بن العوام بن العاص، و خالد بن سعيد، و المقداد بن عمرو، و سلمان الفارسي، و أبو ذر الغفاري، و عمار بن ياسر، و البراء بن عازب، و ابي ابن كعب. انتهى كلامه.

قلت: و من هنا سميت الطائفة الحقة الاثنا عشرية بالرافضة كما قال شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي قدس سره: من أن سبعة عشر رجلا من الصحابة و مع علي أمير المؤمنين عليه السلام ثمانية عشر أبوا عن بيعة أبي بكر، فقال غيرهم ممن بايعوا أبا بكر في هؤلاء: رفضونا أى تركونا و لم يوافقونا في البيعة.

و كان فيمن تخلف عن بيعة أبي بكر أبو سفيان بن حرب، و قال: أرضيتم يا بني عبد مناف أن يلي هذا الأمر عليكم غيركم، و قال لعلي عليه السلام: امدد يدك ابايعك، و مضى كلام أمير المؤمنين عليه السلام لمعاوية: و قد كان أبوك أتانى حين ولى الناس أبا بكر فقال: أنت أحق بعد محمد صلى الله عليه و آله بهذا الأمر و أنا زعيم لك بذلك على من خالف عليك ابسط يدك ابايعك فلم أفعل، فراجع إلى شرح المختار التاسع (ص 331 ج 17 و ص 7 ج 18).

قوله عليه السلام: (و زعمت أنى لكل الخلفاء حسدت و على كلهم بغيت‏- إلى قوله: ظاهر عنك عارها) هذا الفصل جواب عن قول معاوية: لقد حسدت أبا بكر و التويت عليه، إلى قوله: ثم كرهت خلافة عمر و حسدته، إلى قوله: لم تكن أشد منك حسدا لابن عمك عثمان إلى قوله: و ما من هؤلاء إلا من بغيت عليه و قال عليه السلام فإن يكن ذلك كذلك أى لا نسلم أولا على‏ أنى حسدت‏ هؤلاء و أنت كاذب في دعواك هذه.

أقول: قد مر تحقيق ذلك في المختار 237 من باب الخطب في البحث عن الامامة من أن جميع الذنوب أربعة أوجه لا خامس لها: الحرص و الحسد و الغضب و الشهوة فهذه منفية عن الامام (فراجع إلى ص 44 ج 16).

و ثانيا على فرض التسليم و المماشاة معكم في تلك الدعوى بأن تكون صادقا فيها فليس الجناية عليك حتى أعتذر إليك و ذلك لما مر غير مرة من أن معاوية لم يكن ولى دم عثمان كي يطلب دمه بل كلامه في ذلك من الفضول و خوض فيما لا يعنيه، على أن أمير المؤمنين عليا عليه السلام كان يذب عنه حتى قال عليه السلام:

ما زلت أذب عن عثمان حتى أنى لأستحى، و قد دريت أن عثمان قتل نفسه بأحداثه التي أحدثها مما نقمها الناس منه و طعنوا بها عليه فراجع إلى شرحنا على المختار التاسع من باب الكتب (ص 395 ج 17)، و قد تمثل عليه السلام تأكيدا لكلامه ليس الجناية عليك فيكون العذر إليك بقول أبي ذؤيب الهذلى و قد تقدم بيانه في شرح اللغات على التفصيل.

ثم قد مضى نحو كلامه هذا في المختار التاسع من باب الكتب حيث قال عليه السلام: و ذكرت حسدي الخلفاء و إبطائى عنهم و بغيي عليهم فأما البغي فمعاذ الله أن يكون، و أما الإبطاء عنهم و الكراهة لأمرهم فلست أعتذر منه إلى الناس- إلخ (ص 330 ج 17).

قوله عليه السلام: (و قلت: إني كنت اقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى ابايع‏- إلى قوله: بقدر ما سنح من ذكرها) هذا الفصل جواب عن قول معاوية: و تلكأت‏ في بيعته حتى حملت عليه قهرا تساق بحزائم الاقتسار كما يساق الفحل‏ المخشوش‏.

و كان كلام معاوية في كتابه المنقول في شرح المختار التاسع (ص 327 ج 17) إلى أمير المؤمنين عليه السلام: فكان أفضلهم في إسلامه و أنصحهم لله و لرسوله الخليفة من بعده و خليفة خليفته، و الثالث الخليفة المظلوم عثمان فكلهم حسدت و على كلهم بغيت، عرفنا ذلك في نظرك الشزر و في قولك الهجر و في تنفسك الصعداء و إبطائك عن الخلفاء تقاد إلى كل منهم كما يقاد الفحل‏ المخشوش حتى‏ تبايع و أنت كاره.

و إنما قال عليه السلام: لقد أردت أن تذم فمدحت و أن تفضح فافتضحت‏، لأن قول معاوية: و تلكأت في بيعته حتى حملت عليه قهرا تساق بحزائم الاقتسار، كما يساق الفحل المخشوش، و كذا قوله: و في إبطائك عن الخلفاء تقاد إلى كل منهم كما يقاد الفحل المخشوش حتى تبايع و أنت كاره، اعتراف صريح بأن أمير المؤمنين عليا عليه السلام بايعهم على إجبارهم إياه، فلم يكن إجماع الامة على خلافة الثلاث فلم يتم خلافتهم فاعترف معاوية بظلمهم عليا عليه السلام و أنه عليه السلام كان مظلوما، و كان معاوية جعل خلافتهم عرضة لأغراضه الفاسدة سيما الثالث منهم كما لا يخفى فأراد معاوية أن يذم أمير المؤمنين عليه السلام فمدحه، و أن يفضحه فافتضح هو نفسه بكلامه قال الله تبارك و تعالى: و لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله‏ (فاطر 44).

ثم إن نحو هذا الإحتجاج وقع بين الأمير عليه السلام و بين أبي بكر و قد أتى به الطبرسي في كتاب الاحتجاج قال: احتجاج أمير المؤمنين عليه السلام على أبي بكر لما كان يعتذر إليه من بيعة الناس له و يظهر الانبساط له، عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عليهم السلام قال:

لما كان من أمر أبي بكر و بيعة الناس له و فعلهم بعلي لم يزل أبو بكر يظهر له الانبساط و يري منه الانقباض فكبر ذلك على أبي بكر و أحب لقاءه و استخرج ما عنده و المعذرة إليه مما اجتمع الناس عليه و تقليدهم إياه أمر الامة و قلة رغبته في ذلك و زهده فيه، أتاه في وقت غفلة و طلب منه الخلوة فقال: يا أبا

الحسن و الله ما كان هذا الأمر عن مواطاة منى و لا رغبة فيما وقعت عليه و لا حرص عليه و لا ثقة بنفسي فيما تحتاج إليه الامة و لا قوة لي بمال و كثرة العشيرة و لا استيشار به دون غيري فما لك تضمر علي ما لم أستحقه منك، و تظهر لي الكراهة لما صرت فيه و تنظر إلى بعين الشناءة لي؟.

قال: فقال أمير المؤمنين عليه السلام: فما حملك عليه إذ لم ترغب فيه و لا حرصت عليه و ثقت بنفسك في القيام به؟.

قال: فقال أبو بكر: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه و آله إن الله لا يجمع امتى على ضلال و لما رأيت إجماعهم اتبعت قول النبي صلى الله عليه و آله و أحلت أن يكون إجماعهم على خلاف الهدى من الضلال فأعطيتهم قود الإجابة و لو علمت أن أحدا يتخلف لامتنعت.

فقال علي عليه السلام: أما ما ذكرت من قول النبي صلى الله عليه و آله: إن الله لا يجمع امتي على ضلال أ فكنت من الامة أم لم أكن؟ قال: بلى، قال: و كذلك العصابة الممتنعة عنك من سلمان و عمار و أبي ذر و المقداد و ابن عبادة و من معه من الأنصار؟ قال: كل من الامة، قال علي عليه السلام: فكيف تحتج بحديث النبي صلى الله عليه و آله و أمثال هؤلاء قد تخلفوا و ليس للامة فيهم طعن و لا في صحبة الرسول و لصحبته منهم تقصير- إلى آخر الاحتجاج.

قال القاضي قدس سره في إحقاق الحق: إن إجماع الامة بأجمعهم على امامة أبي بكر لم يتحقق في قت واحد و هذا واضح جدا مع قطع النظر عن عدم حضور أهل البيت عليهم السلام و سعد بن عبادة سيد الأنصار و أولاده و أصحابه و لهذا طوى صاحب المواقف دعوى ثبوت خلافة أبي بكر بالإجماع و اكتفى في إثباته بالبيعة- إلى أن قال:فإن بني هاشم لم يبايعوا أولا ثم قهروا فبايعوا بعد ستة أشهر و امتنع علي عليه السلام و لزم بيته و لم يخرج إليهم في جمعة و لا جماعة إلا [إلى‏] أن وقع ما نقله أهل‏ الأحاديث و الأخبار و اشتهر كالشمس في رابعة النهار حتى أن معاوية بعث إلى علي عليه السلام في كتاب كتبه إليه يقول فيه: انك كنت تقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى تبايع، يعيره و يؤنبه بأنه لم يبايع طوعا و لم يرض ببيعة أبي بكر حتى استكره عليها خاضعا ذليلا كالجمل إذا لم يعبر على قنطرة و شبهها فانه يكره و يخش بالرماح و غيرها ليعبر كرها.

فكتب إليه بالجواب عنه ما ذكر في نهج البلاغة المتواتر نقله عنه عليه السلام و هذا لفظه: و قلت: انى كنت اقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى ابايع، و لعمر الله لقد أردت أن تذم فمدحت و أن تفضح فافتضحت و ما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكا في دينه أو مرتابا في يقينه و هذه حجتى إلى غيرك‏.

انتهى ما أردنا من نقل كلامه في المقام.

ثم قال أمير المؤمنين عليه السلام: (و ما على المسلم من غضاضة) أى ذلة و منقصة (في أن يكون مظلوما) أى مغصوبا حقه و هو الخلافة و الغاصب ظالم‏ (ما لم يكن) المسلم المظلوم‏ (شاكا في دينه و لا مرتابا بيقينه) فهو عليه السلام يشير إلى أنه كان على يقين و بصيرة في دينه و لا يضره و لا يضله عدول الناس عن العدل و ميلهم إلى الجور و سيأتي كلامه عليه السلام في المختار 62 من هذا الباب: انى و الله لو لقيتهم واحدا و هم طلاع الأرض كلها ما باليت و لا استوحشت و إنى من ضلالهم الذي هم فيه و الهدى الذي أنا عليه لعلى بصيرة من نفسى و يقين من ربى و إنى إلى لقاء الله و لحسن ثوابه لمنتظر راج‏- إلخ.

كما مضى نحو كلامه هذا في المختار العاشر من باب الخطب: ألا و إن الشيطان قد جمع حزبه و استجلب خيله و رجله و إن معى لبصيرتى ما لبست على بصيرتى نفسى و لا لبس علي‏- إلخ، و كذا في زالمختار 135 من باب الخطب: و إن معى لبصيرتى ما لبست و لا لبس علي‏- إلخ.

و في الحديث الثاني عشر من كتاب العقل و الجهل من اصول الكافي للكليني قدس سره روى بإسناد عن هشام بن الحكم قال: قال لي أبو الحسن موسى بن‏ جعفر عليه السلام: يا هشام إن الله تبارك و تعالى بشر أهل العقل و الفهم في كتابه- إلى أن قال عليه السلام: يا هشام ثم ذم الله الكثرة فقال: و إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله‏ و قال: و لئن سألتهم من خلق السماوات و الأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون‏ و قال: و لئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون‏.

يا هشام ثم مدح القلة فقال: و قليل من عبادي الشكور و قال: و قليل ما هم‏ و قال: و قال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أ تقتلون رجلا أن يقول ربي الله‏ و قال: و من آمن و ما آمن معه إلا قليل‏ و قال: و لكن أكثرهم لا يعلمون* و قال: و أكثرهم لا يعقلون‏ و قال: «و أكثرهم لا يشعرون» الحديث.

ثم قال أمير المؤمنين عليه السلام‏ (و هذه حجتى إلى غيرك قصدها و لكنى أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها) يعنى عليه السلام أن بيعته عليه السلام الخلفاء على إجبارهم إياه و إكراههم إياه حجة عليهم لما دريت من احتجاجه عليه السلام على أبي بكر المنقول آنفا من كتاب الاحتجاج، و من احقاق الحق، و لما لم يكن معاوية في أمر الخلافة في شي‏ء كما دريت آنفا من عدم كونه في مظنة الاستحقاق بل كان غير لائق له رأسا و كان أجنبيا من النبي و الأنصار كليهما و لم يكن له حظ و شأن فيه أصلا قال عليه السلام: و هذه حجتى إلى غيرك‏- إلخ.

و بما قدمنا و حققنا في معنى قوله عليه السلام: و قلت إني كنت اقاد كما يقاد الجمل المخشوش‏- إلخ، تعلم أن ما ذهب إليه الشارح البحرانى ليس كما ينبغي تركنا نقل كلامه مخافة التطويل و من شاء فليراجع إلى شرحه.

و لنذكر نبذة من كلام ابن قتيبة الدينوري في إكراه القوم عليا أمير المؤمنين عليه السلام للبيعة و إبايته البيعة فقال في كتاب الإمامة و السياسة المعروف بتاريخ الخلفاء (ص 11 من طبع مصر):

ثم إن عليا كرم الله وجهه اتي به إلى أبي بكر و هو يقول: أنا عبد الله، و أخو رسوله، فقيل له: بايع أبا بكر فقال: أنا أحق بهذا الأمر منكم لا ابايعكم و أنتم‏

أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار، و احتججتم عليهم بالقرابة من النبي صلى الله عليه و آله، و تأخذونه منا أهل البيت غصبا؟ ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم لما كان محمد منكم فأعطوكم المقادة، و سلموا إليكم الإمارة و أنا احتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار، نحن أولى برسول الله صلى الله عليه و آله حيا و ميتا، فأنصفونا إن كنتم تؤمنون و إلا فبوءوا بالظلم و أنتم تعلمون.

فقال له عمر: إنك لست متروكا حتى تبايع، فقال له علي: احلب حلبا لك شطره و اشدد له اليوم أمره يردده عليك غدا، ثم قال: و الله يا عمر لا أقبل قولك و لا ابايعه، فقال له أبو بكر: فإن لم تبايع فلا أكرهك، فقال أبو عبيدة ابن الجراح لعلي كرم الله وجهه: يا ابن عم إنك حديث السن و هؤلاء مشيخة قومك، ليس لك مثل تجربتهم و معرفتهم بالامور و لا أرى أبا بكر إلا أقوى على هذا الأمر منك و أشد احتمالا و اضطلاعا به، فسلم لأبي بكر هذا الأمر، فانك إن تعش و يطل بك بقاء فأنت لهذا الأمر خليق و به حقيق في فضلك و دينك و علمك و فهمك و سابقتك و نسبك و صهرك.

فقال علي كرم الله وجهه: الله الله يا معشر المهاجرين، لا تخرجوا سلطان محمد في العرب عن داره و قعر بيعته إلى دوركم و قعور بيوتكم، و لا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس و حقه فو الله يا معشر المهاجرين لنحن أحق الناس به لأنا أهل البيت و نحن أحق بهذا الأمر منكم ما كان فينا القارئ لكتاب الله الفقيه في دين الله العالم بسنن رسول الله، المضطلع بأمر الرعية، المدافع عنهم الامور السيئة القاسم بينهم بالسوية و الله إنه لفينا، فلا تتبعوا الهوى فتضلوا عن سبيل الله فتزدادوا من الحق بعدا.

فقال بشير بن سعد الأنصاري: لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك يا علي قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلف عليك اثنان.

قال: و خرج علي كرم الله وجهه يحمل فاطمه بنت رسول الله صلى الله عليه و آله على دابة ليلا في مجالس الأنصار تسألهم النصرة فكانوا يقولون: يا بنت رسول الله قد مضت بيعتنا لهذا الرجل و لو أن زوجك و ابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به، فيقول علي كرم الله وجهه: أ فكنت أدع رسول الله صلى الله عليه و آله في بيته لم أدفنه و أخرج انازع الناس سلطانه؟ فقالت فاطمة: ما صنع أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له و لقد صنعوا ما الله حسيبهم و طالبهم.

قال: و إن أبا بكر تفقد قوما تخلفوا عن بيعته عند علي، فبعث إليهم عمر فجاء فناداهم و هم في دار علي فأبوا أن يخرجوا فدعا بالحطب و قال: و الذي نفس عمر بيده: لتخرجن أو لأحرقنها على من فيها، فقيل له: يا أبا حفص إن فيها فاطمة، فقال: و إن. فخرجوا فبايعوا إلا عليا فانه زعم أنه قال: حلفت أن لا أخرج و لا أضع ثوبى على عاتقى حتى أجمع القرآن فوقفت فاطمة على بابها فقالت: لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضر منكم تركتم رسول الله صلى الله عليه و آله جنازة بين أيدينا و قطعتم أمركم بينكم، لم تستأمرونا و لم تردوا لنا حقا.

فأتى عمر أبا بكر فقال له: ألا تأخذ هذا المتخلف عنك بالبيعة؟ فقال أبو بكر لقنفذ و هو مولى له: اذهب فادع لي عليا، فذهب إلى علي فقال له: ما حاجتك؟

فقال: يدعوك خليفة رسول الله، فقال علي: لسريع ما كذبتم على رسول الله فرجع فأبلغ الرسالة فبكى أبو بكر طويلا فقال عمر الثانية: لا تمهل هذا المتخلف عنك بالبيعة، فقال أبو بكر لقنفذ: عد إليه فقل له: أمير المؤمنين يدعوك لتبايع، فجاءه قنفذ فأدى ما امر به فرفع علي صوته فقال: سبحان الله! لقد ادعى ما ليس له فرجع قنفذ فأبلغ الرسالة فبكى أبو بكر طويلا ثم قام عمر فمشى معه جماعة حتى أتوا باب فاطمة فدقوا الباب فلما سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها: يا أبت يا رسول الله ما ذا لقينا بعدك من ابن الخطاب و ابن أبي قحافة.

فلما سمع القوم صوتها و بكاءها انصرفوا باكين و كادت قلوبهم تنصدع و أكبادهم تنفطر و بقي عمر و معه قوم فأخرجوا عليا فمضوا به إلى أبي بكر فقالوا له: بايع، فقال: إن أنا لم أفعل فمه؟ قالوا: إذا و لله الذي لا إله إلا هو تضرب عنقك، قال: إذا تقتلون عبد الله و أخا رسوله، قال عمر: أما عبد الله فنعم و أما أخو رسوله فلا، و أبو بكر ساكت لا يتكلم، فقال له عمر: ألا تأمرك فيه بأمرك، فقال: لا أكرهه على شي‏ء ما كانت فاطمة إلى جنبه، فلحق علي بقبر رسول الله صلى الله عليه و آله يصيح و يبكي و ينادي يا ابن ام إن القوم استضعفونى و كادوا يقتلونني.

قال فقال عمر لأبي بكر: انطلق بنا إلى فاطمة فانا قد أغضبناها فانطلقا جميعا فاستأذنا على فاطمة فلم تأذن لهما فأتيا عليا فكلماه فأدخلهما عليها فلما قعدا عندها حولت وجهها إلى الحائط فسلما عليها فلم ترد عليهما السلام فتكلم أبو بكر فقال: يا حبيبة رسول الله و الله إن قرابة رسول الله أحب إلى من قرابتى، و إنك لأحب إلى من عائشة ابنتى، و لوددت يوم مات أبوك أنى مت و لا أبقي بعده أ فترانى أعرفك و أعرف فضلك و شرفك و أمنعك حقك و ميراثك من رسول الله إلا أنى سمعت أباك رسول الله صلى الله عليه و آله يقول: لا نورث ما تركنا فهو صدقة فقالت: أرأيتكما إن حدثتكما حديثا عن رسول الله صلى الله عليه و آله تعرفانه و تفعلان به؟ قالا: نعم، فقالت:

نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله يقول: رضا فاطمة من رضاى، و سخط فاطمة من سخطي، فمن أحب فاطمة ابنتى فقد أحبنى، و من أرضى فاطمة فقد أرضانى، و من أسخط فاطمة فقد أسخطني؟ قالا: نعم سمعناه من رسول الله صلى الله عليه و آله، قالت: فإني اشهد الله و ملائكته أنكما أسخطتماني و ما أرضيتماني، و لئن لقيت النبي لأشكونكما إليه،- إلى أن قال ابن قتيبة: فلم يبايع علي كرم الله وجهه حتى ماتت فاطمة رضي الله عنها و لم تمكث بعد أبيها إلا خمسا و سبعين ليلة إلخ.

قلت: إن كلام الأمير عليه السلام يا ابن ام إن القوم استضعفونى و كادوا يقتلونني، اقتباس من قول الله عز و جل فيما جرى بين موسى كليم الله عليه السلام و أخيه هارون و بين قومه الظالمين حيث قال عز من قائل: و اتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار أ لم يروا أنه لا يكلمهم و لا يهديهم سبيلا اتخذوه و كانوا ظالمين و لما سقط في أيديهم و رأوا أنهم قد ضلوا قالوا لئن لم يرحمنا ربنا و يغفر لنا لنكونن من الخاسرين و لما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أ عجلتم أمر ربكم و ألقى الألواح و أخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني و كادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء و لا تجعلني مع القوم الظالمين قال رب اغفر لي و لأخي و أدخلنا في رحمتك و أنت أرحم الراحمين إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم و ذلة في الحياة الدنيا و كذلك نجزي المفترين‏ (الأعراف: 149- 153).

و انما تذكر عليه السلام في التجائه بقبر النبي صلى الله عليه و آله بهذه الاية لأنه عليه السلام كان من النبي بمنزلة هارون من موسى كما رواها الفريقان في جوامعهم الروائية و حديث المنزلة من الأحاديث المتواترة و قد نقل المحدث الخبير الرباني السيد هاشم البحراني طيب الله رمسه و أعلى مقامه في الباب العشرين من كتابه القيم الموسوم بغاية المرام و حجة الخصام في تعيين الإمام من طريق الخاص و العام مائة حديث من طريق العامة في قول النبي صلى الله عليه و آله لعلي عليه السلام: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدى، و في الباب الحادي و العشرين منه سبعين حديثا من طريق الخاصة في ذلك.

فاذا كان لأمير المؤمنين علي عليه السلام تلك المنزلة السامية ففي استشهاده بالاية يظهر مطالب لاولى الدراية فتأمل فيما تلوناه عليك من الايات القرآنية.

ثم إن كلام أبي بكر لفاطمة عليها سلام الله المتعال: انى سمعت أباك رسول الله صلى الله عليه و آله يقول: لا نورث إلخ، فيظهر ما فيه بالتأمل في ما أفاده العلامة الحلى قدس سره في كتابه الموسوم بكشف الحق حيث قال:

و من المطاعن التي رواها السنة في أبي بكر أنه منع فاطمة ارثها فقالت له:

يا ابن أبي قحافة أترث أباك و لا أرث أبي، و احتج عليها برواية تفرد بها هو عن جميع المسلمين مع قلة رواياته و قلة علمه و كونه الغريم لأن الصدقة يحل عليه فقال لها: إن النبي صلى الله عليه و آله قال: نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة، و القرآن مخالف لذلك فإن صريحه يقتضى دخول النبى صلى الله عليه و آله فيه بقوله تعالى: يوصيكم الله‏ في أولادكم‏ و قد نص على أن الأنبياء يورثون فقال الله تعالى‏ و ورث سليمان داود و قال عن زكريا و إني خفت الموالي من ورائي و كانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا يرثني و يرث من آل يعقوب‏.

و ناقض فعله أيضا بهذه الرواية لأن أمير المؤمنين و العباس اختلفا في بغلة رسول الله صلى الله عليه و آله و سيفه و عمامته و حكم بها ميراثا لأمير المؤمنين عليه السلام و لو كانت صدقة على علي عليه السلام كان يجب على أبي بكر انتزاعها منه، و لكان أهل البيت الذين حكى الله تعالى عنهم بأنه طهرهم تطهيرا مرتكبين ما لا يجوز، نعوذ بالله من هذه المقالات الردية و الإعتقادات الفاسدة.

و أخذ فدك من فاطمة و قد وهبها أباها رسول الله صلى الله عليه و آله فلم يصدقها مع أن الله تعالى طهرها و زكاها و استعان بها النبي صلى الله عليه و آله في الدعاء على الكفار على ما حكى الله تعالى و أمره بذلك فقال له: فقل تعالوا ندع أبناءنا و أبناءكم و نساءنا و نساءكم و أنفسنا و أنفسكم‏ فكيف يأمره الله تعالى بالاستعانة و هو سيد المرسلين بابنته و هي كاذبة في دعواها غاصبة لمال غيرها نعوذ بالله من ذلك.

فجاءت بأمير المؤمنين عليه السلام و شهد لها فلم يقبل شهادته قال: إنه يجر إلى نفسه و هذا من قلة معرفته بالأحكام، و مع أن الله تعالى قد نص في آية المباهلة أنه نفس رسول الله صلى الله عليه و آله فكيف يليق بمن هو بهذه المنزلة و استعان به رسول الله صلى الله عليه و آله بأمر الله تعالى في الدعاء يوم المباهلة أن يشهد بالباطل و يكذب و يغصب المسلمين أموالهم نعوذ بالله من هذه المقالة.

و شهد لها الحسنان عليهما السلام فرد شهادتهما و قال: هذان ابناك لا أقبل شهادتهما لأنهما يجر ان نفعا بشهادتهما، و هذا من قلة معرفته بالأحكام مع أن الله تعالى قد أمر النبي صلى الله عليه و آله بالاستعانة بدعائهما يوم المباهلة فقال: أبناءنا و أبناءكم‏ و حكم رسول الله صلى الله عليه و آله بأنهما سيدا شباب أهل الجنة فكيف يجامع هذا شهادتهما بالزور و الكذب و غصب المسلمين حقهم نعوذ بالله من ذلك.

ثم جاءت بام أيمن فقال: امرأة لا يقبل قولها: مع أن النبي صلى الله عليه و آله قال: ام‏ أيمن امرأة من أهل الجنة فعند ذلك غضبت عليه و على صاحبه و حلفت أن لا تكلمه و لا صاحبه حتى تلقا أباها و تشكو له فلما حضرتها الوفاة أوصت أن تدفن ليلا و لا يدع أحدا منهم يصلى عليها و قد رووا جميعا أن النبي صلى الله عليه و آله قال: يا فاطمة إن الله يغضب لغضبك و يرضى لرضاك، انتهى كلامه قدس سره في المقام.

قوله عليه السلام: (ثم ذكرت ما كان من أمرى و أمر عثمان‏- إلى قوله عليه السلام:و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت) هذا الفصل جواب عن قول معاوية: ثم لم تكن أشد منك حسدا لابن عمك عثمان- إلى قوله: و تلك من أماني النقوس و ضلالات الهواء.

و اعلم أن احتجاجه هذا على معاوية في أمر عثمان يتضح لك بعد استحضارك ما قدمنا من الطبري و غيره من قوله عليه السلام: ما زلت أذب عن عثمان حتى أنى لأستحي، و قوله عليه السلام: و الله لقد دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثما، و ما قدمنا من نصح أمير المؤمنين علي عليه السلام عثمان و طلبه قعوده في البيت، فراجع إلى ص 183 و ص 203 و ص 311 و ص 325 من ج 16. و ص 395 من ج 17، و ص 3 من ج 18.

قوله عليه السلام: (حتى أتى قدره عليه) أى‏ حتى أتى‏ قتله المقدر له.

و قوله عليه السلام: (كلا و الله لقد علم الله المعوقين منكم‏- إلخ) إشارة إلى قوله عز و جل في أوائل سورة الأحزاب: قد يعلم الله المعوقين منكم و القائلين لإخوانهم هلم إلينا و لا يأتون البأس إلا قليلا أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم و كان ذلك على الله يسيرا.

و هي من الايات التي نزلت في الأحزاب الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه و آله في غزوة الخندق و كان من الأحزاب قريش و كان فائدهم أبو سفيان بن حرب كما نص به حملة الأخبار منهم أبو جعفر الطبري في التاريخ (ص 1465 ج 3 من‏ طبع ليدن) و ابن هشام في السيرة النبوية (ص 215 ج 2)، و كاتب الواقدي محمد ابن سعد في الطبقات الكبرى (ص 66 ج 2 من طبع مصر) حيث قال: فكان جميع القوم الذين وافوا الخندق ممن ذكر من القبائل عشرة آلاف و هم الأحزاب و كانوا ثلاثة عساكر و عناج الأمر إلى أبي سفيان بن حرب- إلى آخر ما قال.

و المعوقون هم الذين يعوقون أى يمنعون غيرهم عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه و آله و غزوة الأحزاب أى غزوة الخندق مذكورة في كتب التفاسير في سورة الأحزاب، و في كتب المغازي و السير فراجع إلى مغازي رسول الله صلى الله عليه و آله للواقدي (ص 290 من طبع مصر) و إلى السيرة النبوية لابن هشام (ص 214 ج 2 من طبع مصر) و إلى تاريخ الطبري، و الطبقات الكبرى لابن سعد، حتى يتبين لك ما فعلت الشجرة الملعونة بنو امية بالإسلام و المسلمين.

قوله عليه السلام: (و ذكرت أنه ليس لي و لا لأصحابى إلا السيف‏- إلخ) هذا الفصل جواب عن قول معاوية: و ليس لك و لأصحابك عندي إلا السيف- إلخ.

و قد مضى نحوه في الكتاب التاسع، فأجابه بقوله‏ (فلقد أضحكت بعد استعبار) و ذلك أن تهديد معاوية لما كان في غير محله لأن مثل تخويفه أمير المؤمنين عليه السلام بالسيف كصبي يخوف بطلا محاميا قال عليه السلام: لقد أضحكت‏، أى‏ أضحكت‏ غيرك من المؤمنين بتخويفك، و لما كان تصرفه في امور الدين مما يبكي المؤمنين قال عليه السلام: بعد استعبار، أى‏ بعد استعبارك‏ أهل الدين بما يرون منك في دين الله.

اقتباس و قوله عليه السلام: (من المهاجرين و الأنصار و التابعين باحسان) اقتباس من قول الله عز و جل: و السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم و رضوا عنه و أعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم‏ (التوبة: 100).

و ذرية بدرية أي الذين هم من ذراري أهل بدر، و أخو معاوية، هو حنظلة ابن أبي سفيان و خاله وليد بن عتبة و جده عتبة بن ربيعة و أهله أتباعه، و مضى نحو كلامه هذا في الكتاب العاشر: فأنا أبو حسن قاتل جدك و خالك و أخيك شدخا يوم بدر و ذلك السيف معي و بذلك القلب ألقى عدوي، و سيأتي نحوه في الكتاب الرابع و الستين: و عندي السيف الذي أعضضته بجدك و خالك و أخيك في مقام واحد.

قوله عليه السلام: (و ما هي من الظالمين ببعيد) أراد بالظالمين‏ معاوية و أتباعه، و هو بعض آية من قوله تعالى في قصة قوم لوط: فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها و أمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك و ما هي من الظالمين ببعيد (هود: 84) و هو عليه السلام ذكر في هذا الكتاب عدة آيات لا يخفى مناسبة كل واحدة منها لموردها.

و معنى سائر الجمل واضح إلا أنه عليه السلام أخبر عن نفسه و عن الجحفل‏ من المهاجرين و الأنصار و التابعين‏ بأن‏ أحب اللقاء إليهم لقاء ربهم‏ و إنما يليق في المقام أن نبحث عن لقاء الله تعالى، و لنا بفضله سبحانه رسالة منفردة في لقاء الله أرى الاتيان بها ههنا و درجها في هذا الشرح أولى من أن تطبع و تنشر على حدة فاطلبها بعد الترجمة.

الترجمة

اين يكى از نامه‏ هاى بسيار خوب أمير عليه السلام است كه بمعاويه نوشت:

أما بعد: نامه ‏ات بمن رسيده در آن گفتى: خداى تعالى پيمبر را براى دينش برگزيد و ياورانش را يارى كرد، روزگار أمر شگفتى از تو بر ما پوشيده داشت كه آزمون خدا را و نعمت وجود پيمبر را بما گزارش مى‏ دهى، در اين كار برنده خرما به هجرى، يا آنكه استاد تيراندازيش را به كارزار بخواند مانى.

پنداشتى كه برترين مردم در اسلام فلانى و فلانى است، اگر راست است بتو چه، و اگر نه عيب آن دامن‏گيرت نشود، تو را با فراتر و فروتر، و با تدبير و بى ‏تدبير چه كار، آزادشدگان و فرزندانشان را چه رسد به تميز ميان مهاجرين أول، و ترتيب درجات و تعريف طبقاتشان، تيرى رها شد كه از جنس تيرهاى ديگر نبود، حرف بيجائى از دهن نا أهل در آمد، و در آن امور كسى دارد زبان‏ درازى مي كند كه دستور او فرمان بردن است.

آيا بر لنگى خود ايست نمى‏ كنى، و آرام نمى ‏گيرى، و كوتاه دستيت را نمى ‏دانى كه در حد خود باشى و تجاوز نكنى، شكست و پيروزى اين و آن بتو چه تو در گمراهى بسر مى ‏برى و از راستى بدرى.

نمى ‏خواهم كه بتو خبر دهم و با تو سخن بگويم ولى نعمت خداى تعالى را بازگو مى ‏كنم كه مى ‏گويم: مگر نمى ‏بينى كه چون از مهاجرين كسى شهيد مى ‏شد- و البته براى هر يك فضلى است- يكى سيد الشهداء بود كه پيغمبر صلى الله عليه و آله بر جنازه‏اش هفتاد تكبير بگفت؟ و ديگرى كه دستهايش بريده شد او را طيار گفتند كه با دو بال در بهشت پرواز مى ‏كرد، و اگر خداى تعالى از خودستائى باز نمى ‏داشت هر آينه فضائل كسى را مى‏ شنيدى كه دلهاى با إيمان بدانها آشنايند و شنونده ‏اى انكار آنها نتواند كرد.

دست بردار از كسانى كه گول دنيا خورده‏ اند و از راه راست بدر رفتند ما برگزيدگان خداى خوديم و مردم برگزيدگان ما، آميزش در زندگى با شما ما را از عزت ديرين باز نداشته و شما را بزرگ نكرده، چه پيمبر از ما است، و أبو سفيان مكذب از شما، حمزه أسد الله از ما است، و أسد الأحلاف- كسانى كه هم پيمان شدند براى كشتن پيمبر در جنگ بدر- از شما، حسن و حسين بزرگان جوانان أهل بهشت از ما، و عقبة بن أبي معيط پدر فرزندان دوزخى از شما، بهترين زنان روزگار فاطمه از ما است، و حمالة الحطب زن أبو لهب از شما، و ديگر خوبيها و نكوئى‏ها كه ما را است، و بديها و زشتيها كه شما را.

از اسلام ما كه شنيديد و آگاهيد، در زمان جاهليت هم روزگار ما را نيالود، و مهتر و بهتر همه بوديم، و كتاب خدا اين پايه را بما داده كه با پيمبرش به كريمه اولو الأرحام وابسته، و به آيت إن أولى الناس نزديكيم، پس ما بحكم آيه نخستين بقرابت به پيمبر سزاواريم، و بايه دوم بطاعت.

چون مهاجرين در روز سقيفه به رسول الله صلى الله عليه و آله بر أنصار احتجاج كردند بر آن پيروز شدند، پس اگر به پيمبر پيروز شدند حق با ما است نه با شما، و اگر نه كه‏ أنصار بر دعواى خود باقيند.

پنداشتى كه من بر خلفا حسد بردم، و بر آنان ستم كردم، اگر اين طور است به تو چه، دخل و ربطى به تو ندارد كه از آنان بيگانه‏اى.

و گفتى: مرا چون شتر مهار كرده براى بيعت بردند، خواستى از اين گفتارت مرا نكوهش كنى ستودى، و خواستى رسوايم كنى رسوا شدى، خوارى براى مسلمانى كه مظلوم گردد ولى در دينش و در يقينش دو دل نباشد نيست.

اين سخنانم حجت بر ديگرانست، روى سخنم با تو نيست، پاره از آنها پيش آمد و گفتم.

سپس در كار من و عثمان حرف بميان آوردى تو بايد از جانب او در اين باره پاسخ گوئى، پس بنگر كه كدام يك از من و تو به كشتن او اقدام و راهنمائى كرديم آيا آن كسى كه دستش را مى ‏گرفت و ياريش مى ‏كرد، و از بدعتها و بديهايش بازش مى ‏داشت؟ يا آنكه عثمان چون وى را بياريش خواست سر باز زد، و ديگران را بر او بشورانيد؟ نه بخدا كه خداى متعال از خوددارى كنندگان شما و كسانى كه به برادرانشان گفتند بيائيد بسوى ما و به كارزار نرفتند مگر اندكى، دانا است.

عذرخواهى نمي كنم از اين كه عثمان را از بدعتهايش باز مى ‏داشتم و كارهاى ناروايش را تقبيح مى‏كردم، حال اگر هدايت و إرشاد گناه است و موجب سرزنش مى‏ شود چه بسا سرزنش شده بيگناه است، و آنكه نخواهد نپذيرد از گفتار ناصح گمان بد مى ‏برد، و من تا آنجا كه در قدرتم بود جز اصلاح نخواستم و توفيق از خدا خواهم و بس، و توكلم با او است.

ديگر اين كه از شمشير بيم داده ‏اى، از اين سخنت گريان را بخنده آوردى كى فرزندان عبد المطلب از دشمن روى‏گردان بودند و از شمشير ترسان، اندكى درنگ كن تا حمل شير نر بكارزار در آيد، كه آن گاه كسى بگيردت كه تو او را مى ‏خواستى، و بتو نزديك مى‏ شود مرگى كه از آن دورى مى ‏جستى.

و من با لشكرى بزرگ از مهاجر و أنصار و تابعين باحسان شتابان بسوى تو رهسپاريم، لشكر سخت أنبوهى كه گرد سوارانش فضا را فرا گرفت و خود لباس مرگ در بر كرده‏ اند بهترين ديدارشان ديدار خدايشان است، با آنان فرزندان و دودمان سربازان سلحشور و جنگاور روز بدرند، در دست آن پهلوانان شمشير بني هاشم است همان شمشيرهائى كه در جنگ بدر بر سر برادر و دائى و جد و دودمانت فرود آمد، كه آماده ‏اند بر سر ستمكاران ديگر فرود آيند.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی

نهج البلاغه نامه ها نامه شماره 27 شرح میر حبیب الله خوئی(به قلم علامه حسن زاده آملی )

نامه 27 صبحی صالح

27- و من عهد له ( عليه ‏السلام  ) إلى محمد بن أبي بكر رضي الله عنه حين قلده مصر

فَاخْفِضْ لَهُمْ جَنَاحَكَ وَ أَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ وَ ابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ وَ آسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ وَ النَّظْرَةِ حَتَّى لَا يَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ لَهُمْ وَ لَا يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ

فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُسَائِلُكُمْ مَعْشَرَ عِبَادِهِ عَنِ الصَّغِيرَةِ مِنْ أَعْمَالِكُمْ وَ الْكَبِيرَةِ وَ الظَّاهِرَةِ وَ الْمَسْتُورَةِ فَإِنْ يُعَذِّبْ فَأَنْتُمْ أَظْلَمُ وَ إِنْ يَعْفُ فَهُوَ أَكْرَمُ

وَ اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّ الْمُتَّقِينَ ذَهَبُوا بِعَاجِلِ الدُّنْيَا وَ آجِلِ الْآخِرَةِ فَشَارَكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ وَ لَمْ يُشَارِكُوا أَهْلَ الدُّنْيَا فِي آخِرَتِهِمْ

سَكَنُوا الدُّنْيَا بِأَفْضَلِ مَا سُكِنَتْ وَ أَكَلُوهَا بِأَفْضَلِ مَا أُكِلَتْ فَحَظُوا مِنَ الدُّنْيَا بِمَا حَظِيَ بِهِ الْمُتْرَفُونَ وَ أَخَذُوا مِنْهَا مَا أَخَذَهُ الْجَبَابِرَةُ الْمُتَكَبِّرُونَ

ثُمَّ انْقَلَبُوا عَنْهَا بِالزَّادِ الْمُبَلِّغِ وَ الْمَتْجَرِ الرَّابِحِ أَصَابُوا لَذَّةَ زُهْدِ الدُّنْيَا فِي دُنْيَاهُمْ وَ تَيَقَّنُوا أَنَّهُمْ جِيرَانُ اللَّهِ غَداً فِي آخِرَتِهِمْ لَا تُرَدُّ لَهُمْ دَعْوَةٌ وَ لَا يَنْقُصُ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ لَذَّةٍ

فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللَّهِ الْمَوْتَ وَ قُرْبَهُ وَ أَعِدُّوا لَهُ عُدَّتَهُ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِأَمْرٍ عَظِيمٍ وَ خَطْبٍ جَلِيلٍ بِخَيْرٍ لَا يَكُونُ مَعَهُ شَرٌّ أَبَداً أَوْ شَرٍّ لَا يَكُونُ مَعَهُ خَيْرٌ أَبَداً فَمَنْ أَقْرَبُ إِلَى الْجَنَّةِ مِنْ عَامِلِهَا

وَ مَنْ أَقْرَبُ إِلَى النَّارِ مِنْ عَامِلِهَا وَ أَنْتُمْ طُرَدَاءُ الْمَوْتِ إِنْ أَقَمْتُمْ لَهُ أَخَذَكُمْ وَ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنْهُ أَدْرَكَكُمْ وَ هُوَ أَلْزَمُ لَكُمْ مِنْ ظِلِّكُمْ الْمَوْتُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيكُمْ وَ الدُّنْيَا تُطْوَى مِنْ خَلْفِكُمْ

فَاحْذَرُوا نَاراً قَعْرُهَا بَعِيدٌ وَ حَرُّهَا شَدِيدٌ وَ عَذَابُهَا جَدِيدٌ دَارٌ لَيْسَ فِيهَا رَحْمَةٌ وَ لَا تُسْمَعُ فِيهَا دَعْوَةٌ وَ لَا تُفَرَّجُ فِيهَا كُرْبَةٌ

وَ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ يَشْتَدَّ خَوْفُكُمْ مِنَ اللَّهِ وَ أَنْ يَحْسُنَ ظَنُّكُمْ بِهِ فَاجْمَعُوا بَيْنَهُمَا فَإِنَّ الْعَبْدَ إِنَّمَا يَكُونُ حُسْنُ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ عَلَى قَدْرِ خَوْفِهِ مِنْ رَبِّهِ وَ إِنَّ أَحْسَنَ النَّاسِ ظَنّاً بِاللَّهِ أَشَدُّهُمْ خَوْفاً لِلَّهِ

وَ اعْلَمْ يَا مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَنِّي قَدْ وَلَّيْتُكَ أَعْظَمَ أَجْنَادِي فِي نَفْسِي أَهْلَ مِصْرَ فَأَنْتَ مَحْقُوقٌ أَنْ تُخَالِفَ عَلَى نَفْسِكَ وَ أَنْ تُنَافِحَ عَنْ دِينِكَ وَ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَكَ إِلَّا سَاعَةٌ مِنَ الدَّهْرِ

وَ لَا تُسْخِطِ اللَّهَ بِرِضَا أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ فَإِنَّ فِي اللَّهِ خَلَفاً مِنْ غَيْرِهِ وَ لَيْسَ مِنَ اللَّهِ خَلَفٌ فِي غَيْرِهِ

صَلِّ الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا الْمُؤَقَّتِ لَهَا وَ لَا تُعَجِّلْ وَقْتَهَا لِفَرَاغٍ وَ لَا تُؤَخِّرْهَا عَنْ وَقْتِهَا لِاشْتِغَالٍ وَ اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ شَيْ‏ءٍ مِنْ عَمَلِكَ تَبَعٌ لِصَلَاتِكَ‏

وَ مِنْهُ‏فَإِنَّهُ لَا سَوَاءَ إِمَامُ الْهُدَى وَ إِمَامُ الرَّدَى وَ وَلِيُّ النَّبِيِّ وَ عَدُوُّ النَّبِيِّ

وَ لَقَدْ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ( صلى‏الله‏عليه‏وآله  )إِنِّي لَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مُؤْمِناً وَ لَا مُشْرِكاً أَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَمْنَعُهُ اللَّهُ بِإِيمَانِهِ وَ أَمَّا الْمُشْرِكُ فَيَقْمَعُهُ اللَّهُ بِشِرْكِهِ

وَ لَكِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ كُلَّ مُنَافِقِ الْجَنَانِ عَالِمِ اللِّسَانِ يَقُولُ مَا تَعْرِفُونَ وَ يَفْعَلُ مَا تُنْكِرُونَ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج19  

و من عهد له عليه الصلاة و السلام الى محمد بن أبى بكر حين قلده مصر- و هو المختار السابع و العشرون من كتبه عليه السلام و وصاياه و عهوده و رسائله‏

فاخفض لهم جناحك، و ألن لهم جانبك، و ابسط لهم وجهك و آس بينهم في اللحظة و النظرة حتى لا يطمع العظماء في حيفك، و لا ييأس الضعفاء من عدلك عليهم. و إن الله تعالى يسائلكم معشر عباده عن الصغيرة من أعمالكم و الكبيرة، و الظاهرة و المستورة فإن يعذب فأنتم أظلم، فإن يعف فهو أكرم. و اعلموا عباد الله أن المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا و آجل الاخرة فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم و لم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم. سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت، و أكلوها بأفضل ما أكلت، فحظوا من الدنيا بما حظى به المترفون، و أخذوا منها ما أخذه الجبابرة المتكبرون ثم انقلبوا عنها بالزاد المبلغ و المتجر المربح، أصابوا لذة زهد الدنيا في دنياهم، و تيقنوا أنهم جيران الله غدا في آخرتهم. لا ترد لهم دعوة، و لا ينقص لهم نصيب من لذة، فاحذروا عباد الله الموت و قربه، و أعدوا له عدته فإنه يأتي بأمر عظيم و خطب جليل بخير لا يكون معه شر أبدا، أو شر لا يكون معه خير أبدا فمن أقرب إلى الجنة من عاملها؟ و من أقرب إلى النار من عاملها؟

و أنتم طرداء الموت إن أقمتم له أخذكم و إن فررتم منه أدرككم و هو ألزم لكم من ظلكم، الموت معقود بنواصيكم و الدنيا تطوى من خلفكم، فاحذروا نارا قعرها بعيد و حرها شديد و عذابها جديد. دار ليس فيها رحمة، و لا تسمع فيها دعوة، و لا تفرج فيها كربة، و إن استطعتم أن يشتد خوفكم من الله و أن يحسن ظنكم به فاجمعوا بينهما فإن العبد إنما يكون حسن ظنه بربه على قدر خوفه من ربه، و إن أحسن الناس ظنا بالله أشدهم خوفا لله. و اعلم يا محمد بن أبي بكر، قد وليتك أعظم أجنادي في نفسي أهل مصر فأنت محقوق أن تخالف على نفسك و أن تنافح عن دينك و لو لم تكن لك إلا ساعة من دهرك فلا تسخط الله برضا أحد من خلقه، فإن في الله خلفا من غيره و ليس من الله خلف في غيره.

صل الصلاة لوقتها الموقت لها، و لا تعجل وقتها لفراغ، و لا تؤخرها عن وقتها لاشتغال، و اعلم أن كل شي‏ء من عملك تبع لصلاتك. من هذا العهد:

فإنه لا سواء إمام الهدى و إمام الردى، و ولي النبي و عدو النبي و لقد قال لي رسول الله صلى الله عليه و اله: إنى لا أخاف على امتي مؤمنا و لا مشركا، أما المؤمن فيمنعه الله بإيمانه، و أما المشرك فيقمعه الله بشركه، و لكني أخاف عليكم كل منافق الجنان عالم اللسان يقول ما تعرفون و يفعل ما تنكرون.

ذكر ماخذ العهد و مصادره‏

قد روي هذا العهد في كتب الفريقين بأسانيد عديدة و طرق كثيرة على صور متقاربة أو متفاوتة:

منهم أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سعد[1] بن هلال بن عاصم بن سعد بن مسعود الثقفي الكوفي صاحب مصنفات كثيرة، المتوفى سنة ثلاث و ثمانين و مائتين‏ في كتاب الغارات.

و منهم أبو جعفر محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة عشر و ثلاثمائة في كتابه في تاريخ الرسل و الملوك (ص 3246 ج 6 من طبع ليدن).

و منهم الشيخ الجليل أبو محمد الحسن بن علي بن شعبة الحراني المتوفى 332 ه ق في تحف العقول (ص 40 من الطبع على الحجر. و ص 171 من الطبع الجديد).

و منهم الشيخ الأجل أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان بن عبد السلام البغدادي الملقب بالمفيد المتوفى سنة 413 ه ق، في أول المجلس الحادي و الثلاثين من أماليه (ص 151 من طبع النجف).

و منهم شيخ الطائفة الامامية أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي المتوفى 460 ه ق في آخر الجزء الأول من أماليه (ص 16 من طبع طهران، و ص 24 ج 1 من طبع النجف).

و منهم أبو جعفر محمد بن أبي القاسم محمد بن علي الطبري الاملي المعروف بعماد الدين الطبري من علماء الامامية في القرن السادس في كتابه بشارة المصطفى لشيعة المرتضى (ص 52 ج 1 من طبع النجف) و في كتابه في الزهد و التقوى.

و أتى بما في الغارات الفاضل الشارح المعتزلي في أوائل الجزء السادس من شرحه على المختار 66 من خطب النهج (ص 295 ج 1 من الطبع على الحجر).

و العلامة المجلسي في المجلد الثامن من البحار (ص 643 من الطبع الكمباني).

و نقل بعض صور هذا العهد المنقول من الطبري و أبي إسحاق الثقفي الفاضل أحمد زكي صفوت في جمهرة رسائل العرب (ص 532 إلى 542 ج 1 من طبع مصر).

و نقل طائفة من كتاب الغارات في كيفية شهادت محمد بن أبي بكر و نبذة من مطالب اخرى الفاضل المقدم الميرزه حبيب الله الخوئى في شرح المختار المذكور آنفا إلا أنه جعله المختار 67 و لم يأت من صور هذا العهد إلا واحدا منها فراجع إلى (ص 112 من ج 6 من الطبع الجديد).

و قال بعد نقله: أقول: و لأمير المؤمنين عليه السلام كتاب آخر مبسوط إلى محمد و أهل مصر و رواه إبراهيم- يعنى أبا إسحاق إبراهيم صاحب كتاب الغارات- نرويه إن شاء الله في باب الكتب إن ساعدنا التوفيق و المجال انتهى.

أقول: و لكنه رضوان الله عليه قد قضى نحبه و قد بلغ شرحه إلى أواخر خطب النهج، كما تقدم كلامنا في ذلك في أول تكملة المنهاج، و نحن نرويه ههنا إن شاء الله تعالى بصوره جميعا نيابة عن الخوئى رحمه الله و نسئل الله تعالى أن يجعل سعيه مشكورا، و يوفقنا بإتمام شرح الكتاب إنه المفيض الوهاب.

صورة العهد على رواية أبى اسحاق فى كتاب الغارات‏

أما صورة العهد على رواية أبي إسحاق إبراهيم في كتاب الغارات قال:و كان عهد علي إلى محمد بن أبي بكر رحمه الله الذي قرئ بمصر: هذا ما عهد عبد الله علي أمير المؤمنين إلى محمد بن أبي بكر حين ولاه مصر: أمره بتقوى الله في السر و العلانية و خوف الله تعالى في المغيب و المشهد.

و أمره باللين على المسلم، و الغلظ على الفاجر، و بالعدل على أهل الذمة و بالانصاف للمظلوم، و بالشدة على الظالم، و بالعفو عن الناس، و بالاحسان ما استطاع، و الله يجزى المحسنين.

و أمره أن يدعو من قبله إلى الطاعة و الجماعة، فان لهم في ذلك من العاقبة و عظم المثوبة ما لا يقدر قدره و لا يعرف كنهه.

و أمره أن يجبى خراج الأرض على ما كانت تجبى عليه من قبل لا ينتقص و لا يبتدع ثم يقسمه بين أهله كما كانوا يقسمونه عليه من قبل، و إن تكن لهم حاجة يواسي بينهم في مجلسه و وجهه ليكون القريب و البعيد عنده على سواء.

و أمره أن يحكم بين الناس بالحق، و أن يقوم بالقسطاس، و لا يتبع الهوى و لا يخاف في الله لومة لائم فان الله مع من اتقاه و آثر طاعته على من سواه.

و كتب عبد الله بن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه و آله لغرة شهر رمضان سنة ست و ثلاثين.

قال أبو إسحاق إبراهيم: ثم قام محمد بن أبي بكر خطيبا فحمد الله و أثنى عليه و قال: أما بعد فالحمد لله الذي هدانا و إياكم لما اختلف فيه من الحق، و بصرنا و إياكم كثيرا مما عمي عنه الجاهلون. ألا و إن أمير المؤمنين و لاني اموركم و عهد إلي بما سمعتم و أوصاني بكثير منه مشافهة و لن آلوكم جهدا ما استطعت و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه انيب، فان يكن ما ترون من آثاري و أعمالي طاعة لله و تقوى فاحمدوا الله على ما كان من ذلك فانه هو الهادي إليه، و إن رأيتم من ذلك عملا بغير الحق فارفعوه إلي و عاتبوني عليه فاني بذلك أسعد و أنتم بذلك جديرون، وفقنا الله و إياكم لصالح العمل.

صورة ما كتب أمير المؤمنين على عليه السلام الى أهل مصر لما بعث محمد بن أبى بكر اليهم يخاطبهم به و محمدا أيضا فيه على رواية أبى اسحاق فى كتاب الغارات أيضا و قال أبو إسحاق إبراهيم في كتاب الغارات أيضا: و حدثنى يحيى بن صالح عن مالك، عن خالد الأسدي، عن الحسن بن إبراهيم، عن عبد الله بن الحسن بن الحسن عليه السلام قال: كتب علي عليه السلام إلى أهل مصر لما بعث محمد بن أبي بكر إليهم كتابا يخاطبهم به و يخاطب محمدا أيضا فيه: أما بعد فإنى اوصيكم بتقوى الله في سر أمركم و علانيته، و على أى حال كنتم عليها. و ليعلم المرء منكم أن الدنيا دار بلاء و فناء، و الاخرة دار جزاء و بقاء، فمن استطاع أن يؤثر ما بقي على ما يفنى فليفعل فإن الاخرة تبقى و الدنيا تفنى، رزقنا الله و إياكم بصرا لما بصرنا و فهما لما فهمنا حتى لا نقصر عما أمرنا، و لا نتعدى إلى ما نهانا.

و اعلم يا محمد أنك و إن كنت محتاجا إلى نصيبك من الدنيا إلا أنك إلى نصيبك من الاخرة أحوج، فإن عرض لك أمران أحدهما للاخرة و الاخر للدنيا فابدأ بأمر الاخرة. و لتعظم رغبتك في الخير، و لتحسن فيه نيتك فإن الله عز و جل يعطي العبد على قدر نيته، و إذا أحب الخير و أهله و لم يعمله كان إن شاء الله كمن‏ عمله، فإن رسول الله صلى الله عليه و آله قال حين رجع من تبوك: إن بالمدينة لأقواما ما سرتم من مسير و لا هبطتم من واد إلا كانوا معكم ما حبسهم إلا المرض يقول: كانت لهم نية.

ثم اعلم يا محمد إنى وليتك أعظم أجنادي أهل مصر، و وليتك ما وليتك من أمر الناس فأنت محقوق أن تخاف فيه على نفسك و تحذر فيه على دينك و لو كان ساعة من نهار، فإن استطعت أن لا تسخط ربك لرضى أحد من خلقه فافعل فإن في الله خلفا من غيره و ليس في شي‏ء غيره خلف منه، فاشتد على الظالم، و لن لأهل الخير و قربهم إليك و اجعلهم بطانتك و إخوانك و السلام.

كتاب أمير المؤمنين على (ع) الى محمد بن أبى بكر و أهل مصر على صورة اخرى منقولة من كتاب الغارات أيضا

قال أبو إسحاق إبراهيم: حدثني يحيى بن صالح عن مالك بن خالد، عن الحسن بن إبراهيم، عن عبد الله بن الحسن بن الحسن عليه السلام قال: كتب علي عليه السلام إلى محمد و أهل مصر: أما بعد: فاني أوصيكم بتقوى الله و العمل بما أنتم عنه مسؤلون فأنتم به رهن و إليه صائرون، فان الله عز و جل يقول: كل نفس بما كسبت رهينة، و قال: و يحذركم الله نفسه و إلى الله المصير، و قال: فو ربك لنسئلنهم أجمعين عما كانوا يعملون، فاعلموا عباد الله أن الله سائلكم عن الصغير من أعمالكم و الكبير فان يعذب فنحن الظالمون و إن يغفر و يرحم فهو أرحم الراحمين.

و اعلموا أن أقرب ما يكون العبد إلى الرحمة و المغفرة حين ما يعمل بطاعة الله و منا صحته في التوبة، فعليكم بتقوى الله عز و جل فإنها تجمع من الخير ما لا يجمع غيرها، و يدرك بها من الخير ما لا يدرك بغيرها: خير الدنيا و خير الاخرة، يقول سبحانه: و قيل للذين اتقوا ما ذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة و لدار الآخرة خير و لنعم دار المتقين‏.

و اعلموا عباد الله أن المؤمنين المتقين قد ذهبوا بعاجل الخير و آجله شركوا أهل الدنيا في دنياهم و لم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم يقول الله عز و جل: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق قل هي‏ للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة. سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت و أكلوها بأفضل ما أكلت، شاركوا أهل الدنيا في دنياهم، يأكلون من أفضل ما يأكلون، و يشربون من أفضل ما يشربون، و يلبسون من أفضل ما يلبسون و يسكنون من أفضل ما يسكنون، أصابوا لذة أهل الدنيا مع أهل الدنيا مع أنهم غدا من جيران الله عز و جل يتمنون عليه، لا يرد لهم دعوة و لا ينقص لهم لذة، أما في هذا ما يشتاق إليه من كان له عقل.

و اعلموا عباد الله أنكم إن اتقيتم ربكم، و حفظتم نبيكم في أهل بيته فقد عبدتموه بأفضل ما عبد، و ذكرتموه بأفضل ما ذكر، و شكرتموه بأفضل ما شكر و أخذتم بأفضل الصبر، و جاهدتم بأفضل الجهاد، و إن كان غيركم أطول صلاة منكم، و أكثر صياما إذا كنتم أتقى لله و أنصح لأولياء الله من آل محمد صلى الله عليه و آله و أخشع.

و احذروا عباد الله الموت و نزوله، و خذوا له فإنه يدخله بأمر عظيم: خير لا يكون معه شر أبدا، و شر لا يكون معه خير أبدا، ليس أحد من الناس تفارق روحه جسده حتى يعلم إلى أى المنزلتين يصير: إلى الجنة أم إلى النار؟ أعدو هو لله أم ولى له فان كان وليا فتحت له أبواب الجنة، و شرع له طريقها، و نظر إلى ما أعد الله عز و جل لأوليائه فيها، فرغ من كل شغل، و وضع عنه كل ثقل و إن كان عدوا فتحت له أبواب النار و سهل له طريقها و نظر إلى ما أعد الله لأهلها، و استقبل كل مكروه، و فارق كل سرور، قال تعالى: الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين‏.

و اعلموا عباد الله أن الموت ليس فيه فوت فاحذروه و أعدوا له عدته فانكم طرداء للموت إن أقمتم أخذكم، و إن هربتم أدرككم، و هو ألزم لكم من ظلكم، معقود بنواصيكم، و الدنيا تطوى من خلفكم، فأكثروا ذكر الموت عند ما تنازعكم إليه أنفسكم من الشهوات فانه كفى بالموت واعظا قال رسول الله صلى الله عليه و آله: أكثروا ذكر الموت فانه هادم اللذات.

و اعلموا عباد الله أن ما بعد الموت أشد من الموت لمن لم يغفر الله له و يرحمه، و احذروا القبر و ضمته، و ضيقه و ظلمته فانه الذي يتكلم كل يوم:أنا بيت التراب، و أنا بيت الغربة، و أنا بيت الدود، و القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، إن المسلم إذا مات قالت الأرض: مرحبا و أهلا قد كنت ممن احب أن تمشي على ظهري، فاذا وليتك فستعلم كيف صنعي بك فيتسع له مد بصره، و إذا دفن الكافر قالت له الأرض: لا مرحبا و لا أهلا قد كنت ممن ابغض أن تمشى على ظهري، فإذا وليتك فستعلم كيف صنعي بك، فتنضم عليه حتى تلتقى أضلاعه.

و اعلموا أن المعيشة الضنك التي قال سبحانه: فإن له معيشة ضنكا، هي عذاب القبر فانه يسلط على الكافر في قبره حيات عظام تنهش لحمه حتى يبعث لو أن تنينا منها نفخ في الأرض ما أنبتت الزرع أبدا.

و اعلموا عباد الله أن أجسادكم الرقيقة الناعمة التي يكفيها اليسير من العقاب ضعيفة عن هذا، فإن استطعتم أن ترحموا أنفسكم و أجسادكم مما لا طاقة لكم به و لا صبر عليه فتعملوا بما أحب الله سبحانه، و تتركوا ما كره فافعلوا، و لا حول و لا قوة إلا بالله.

و اعلموا عباد الله أن ما بعد القبر أشد من القبر يوم يشيب فيه الصغير، و يسكر فيه الكبير و تذهل كل مرضعة عما أرضعت، و احذروا يوما عبوسا قمطريرا كان شره مستطيرا، أما إن شر ذلك اليوم و فزعه استطار حتى فزعت منه الملائكة الذين ليست لهم ذنوب و السبع الشداد و الجبال الأوتاد و الأرضون المهاد و انشقت السماء فهى يومئذ واهية و تغيرت فكانت وردة كالدهان، و كانت الجبال سرابا بعد ما كانت صما صلابا، يقول الله سبحانه: و نفخ في الصور فصعق من في السماوات و من في الأرض إلا من شاء الله‏، فكيف بمن يعصيه بالسمع و البصر و اللسان و اليد و الفرج و البطن إن لم يغفر الله و يرحم؟

و اعلموا عباد الله أن ما بعد ذلك اليوم أشد و أدهى، نار قعرها بعيد،و حرها شديد، و عذابها جديد، و مقامعها حديد، و شرابها صديد، لا يفتر عذابها، و لا يموت ساكنها، دار ليست لله سبحانه فيها رحمة، و لا تسمع فيها دعوة و مع هذا رحمة الله التي وسعت كل شي‏ء لا تعجز عن العباد، و جنة عرضها كعرض السماوات و الأرض، خير لا يكون بعده شر أبدا، و شهوة لا تنفد أبدا، و لذة لا تفنى أبدا، و مجمع لا يتفرق أبدا، قوم قد جاوروا الرحمن، و قام بين أيديهم الغلمان، بصحاف من ذهب فيها الفاكهة و الريحان، و أن أهل الجنة يزورون الجبار سبحانه في كل جمعة فيكون أقربهم منه على منابر من نور، و الذين يلونهم على منابر من ياقوت، و الذين يلونهم على منابر من مسك فبيناهم كذلك ينظرون الله جل جلاله و ينظر الله في وجوههم إذ أقبلت سحابة تغشاهم فتمطر عليهم من النعمة و اللذة و السرور و البهجة ما لا يعلمه إلا الله سبحانه، و مع هذا ما هو أفضل منه رضوان الله الأكبر، أما إنا لو لم نخوف إلا ببعض ما خوفنا به لكنا محقوقين أن يشتد خوفنا مما لا طاقة لنا به، و لا صبر لقوتنا عليه، و أن يشتد شوقنا إلى ما لا غنى لنا عنه، و ما لا بد لنا منه، فإن استطعتم عباد الله أن يشتد خوفكم من ربكم فافعلوا فإن العبد إنما تكون طاعته على قدر خوفه، و إن أحسن الناس لله طاعة أشدهم له خوفا.

و انظر يا محمد صلاتك كيف تصليها فانما أنت إمام ينبغي لك أن تتمها، و أن تخففها و أن تصليها لوقتها فانه ليس من إمام يصلي بقوم فيكون في صلاته و صلاتهم نقص إلا كان إثم ذلك عليه و لا ينقص من صلاتهم شيئا.

و اعلم أن كل شي‏ء من عملك يتبع صلاتك فمن ضيع الصلاة فهو لغيرها أشد تضييعا، و وضوءك من تمام الصلاة فأت به على وجهه فالوضوء نصف الإيمان أسأل الله الذي يرى و لا يرى و هو بالمنظر الأعلى أن يجعلنا و إياك من المتقين الذين لا خوف عليهم و لا هم يحزنون.

فإن استطعتم يا أهل مصر أن تصدق أقوالكم أفعالكم و أن يتوافق سركم‏ و علانيتكم، و لا تخالف ألسنتكم قلوبكم فافعلوا عصمنا الله و إياكم بالهدى، و سلك بنا و بكم المحجة الوسطى.

و إياكم و دعوة الكذاب ابن هند، و تأملوا، و اعلموا أنه لا سوى إمام الهدى و إمام الردى، و وصي النبي و عدو النبي، جعلنا الله و إياكم ممن يحب و يرضى، و لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله يقول: إني لا أخاف على امتي مؤمنا و لا مشركا: أما المؤمن فيمنعه الله بايمانه، و أما المشرك فيحرمنه الله بشركه و لكني أخاف عليهم كل منافق اللسان يقول ما يعرفون و يفعل ما ينكرون.

و اعلم يا محمد أن أفضل الفقه الورع في دين الله و العمل بطاعته فعليك بتقوى الله في سر أمرك و علانيتك، و اوصيك بسبع هن جوامع الإسلام: اخش الله و لا تخش الناس في الله، و خير القول ما صدقه العمل، و لا تقض في أمر واحد بقضائين مختلفين فيتناقض أمرك و تزيغ عن الحق، و أحب لعامة رعيتك ما تحبه لنفسك و اكره لهم ما تكره لنفسك، و اصلح أحوال رعيتك، و خض الغمرات إلى الحق و لا تخف لومة لائم، و انصح لمن استشارك، و اجعل نفسك اسوة لقريب المسلمين و بعيدهم. جعل الله خلتنا و ديننا خلة المتقين و ود المخلصين، و جمع بيننا و بينكم في دار الرضوان إخوانا على سرر متقابلين إن شاء الله.

قال أبو إسحاق إبراهيم: فحدثنى عبد الله بن محمد بن عثمان عن علي بن محمد ابن أبي سيف عن أصحابه أن عليا عليه السلام لما كتب إلى محمد بن أبي بكر هذا الكتاب كان ينظر فيه و يتأدب به فلما ظهر عليه عمرو بن العاص و قتله أخذ كتبه أجمع فبعث بها إلى معاوية فكان معاوية ينظر في هذا الكتاب و يتعجب منه، فقال الوليد ابن عقبة و هو عند معاوية و قد رأى إعجابه به: مر بهذه الأحاديث أن تحرق، فقال معاوية: مه! فإنه لا رأى لك، فقال الوليد أ فمن الرأى أن يعلم الناس أن أحاديث أبي تراب عندك تتعلم منها؟ قال معاوية: ويحك أ تأمرني أن أحرق علما مثل هذا و الله ما سمعت بعلم هو أجمع منه و لا أحكم، فقال الوليد إن كنت تعجب من علمه و قضائه فعلام تقاتله؟ فقال: لو لا إن أبا تراب قتل عثمان ثم أفتانا لأخذنا عنه. ثم سكت هنيئة ثم نظر إلى جلسائه فقال: إنا لا نقول إن هذه من كتب علي بن أبي طالب و لكن نقول: هذه من كتب أبي بكر الصديق كانت عند ابنه محمد فنحن ننظر فيها و نأخذ منها. قال: فلم تزل تلك الكتب في خزائن بني امية حتى ولى عمر بن عبد العزيز، فهو الذي أظهر أنها من أحاديث علي بن أبي طالب.

و قال ابراهيم: فلما بلغ عليا عليه السلام أن ذلك الكتاب صار إلى معاوية اشتد عليه حزنا.

و قال: حدثنى بكر بن بكار عن قيس بن الربيع، عن ميسرة بن حبيب، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن مسلمة قال: صلى بنا علي عليه السلام فلما انصرف قال:

لقد عثرت عثرة لا أعتذر سوف أكيس بعدها و أستمر
و أجمع الأمر الشتيت المنتشر

فقلنا: ما بالك يا أمير المؤمنين؟ فقال: إنى استعملت محمد بن أبي بكر على مصر فكتب إلى أنه لا علم لي بالسنة فكتبت إليه كتابا فيه أدب و سنة فقتل و اخذ الكتاب.

قلت: قد نقلت هذا العهد الشريف المحكم المتين الذي هو نسيج وحده في المعارف الحقة لا سيما في المعاد من كتاب الغارات المنقول في شرح الفاضل المعتزلي و لكن من نسخة مخطوطة مصححة مشكوكة عتيقة قد أنعمنا الله تعالى بها و هي من كتب مكتبتنا، و بين ما نقلناه منها و بين ما طبع من نسخ شرح الفاضل المذكور تفاوة في عدة مواضع يتغير المعنى بها و لعلنا نأتي بها أو ببعض ما يهتم و يعتنى به في شرح العهد إنشاء الله تعالى.

صورة العهد على ما فى تاريخ الطبرى‏

و أما صورة العهد على ما ضبطه أبو جعفر الطبري في التاريخ فإنه قريب مما نقلناه من كتاب الغارات أولا و ليس في نقله كثير فائدة قال: قال هشام عن أبي مخنف قال: حدثنى الحارث بن كعب الوالبي عن أبيه قال: كنت مع محمد بن أبي‏ بكر حين قدم مصر فلما قدم قرأ عليهم عهده: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد عبد الله علي أمير المؤمنين إلى محمد بن أبي بكر حين ولاه مصر أمره بتقوى الله- إلخ.

و لم ينقل أبو جعفر الطبري وصيته عليه السلام المبسوطة لأهل مصر و محمد و إنما اكتفى بنقل العهد الذي كتبه إلى محمد فقط.

صورة العهد على ما فى تحف ابن شعبة

و أما أبو محمد الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحرانى- ره- فانه أتى بالعهد الذي كتبه إلى محمد، و ما كتبه إلى أهل مصر و محمد جميعا، و لما كان الأول قريبا أيضا مما في كتاب الغارات و تاريخ الطبري أعرضنا عن نقله أيضا لقلة الجدوى في ذلك، و أما ما كتبه عليه السلام إلى أهل مصر و محمد فهذه صورته:ثم كتب إلى أهل مصر بعد مسيره ما اختصرناه: من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى محمد بن أبي بكر و أهل مصر: سلام عليكم.

أما بعد فقد وصل إلى كتابك و فهمت ما سألت عنه، و أعجبنى اهتمامك بما لا بد لك منه و ما لا يصلح المسلمين غيره، و ظننت أن الذي أخرج ذلك منك نية صالحة و رأى غير مدخول.

أما بعد فعليك بتقوى الله في مقامك و مقعدك و سرك و علانيتك، و إذا أنت قضيت بين الناس فاخفض لهم جناحك، و لين لهم جانبك، و ابسط لهم وجهك و آس بينهم في اللحظ و النظر حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم و لا ييأس الضعفاء من عدلك عليهم، و أن تسأل المدعي البينة و على المدعى عليه اليمين، و من صالح أخاه على صلح فأجز صلحه إلا أن يكون صلحا يحرم حلالا أو يحلل حراما.

و آثر الفقهاء و أهل الصدق و الوفاء و الحياء و الورع على أهل الفجور و الكذب و الغدر، و ليكن الصالحون الأبرار إخوانك، و الفاجرون الغادرون أعداءك فان أحب اخوانى إلى أكثرهم لله ذكرا و أشدهم منه خوفا و أنا أرجو أن تكون منهم إن شاء الله.

و إنى اوصيكم بتقوى الله فيما أنتم عنه مسئولون و عما أنتم إليه صائرون فإن الله قال في كتابه: كل نفس بما كسبت رهينة. و قال: و يحذركم الله نفسه و إلى الله المصير. و قال: فو ربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون، فعليكم بتقوى الله فانها تجمع من الخير ما لا يجمع غيرها و يدرك بها من الخير ما لا يدرك بغيرها من خير الدنيا و خير الاخرة قال الله تعالى: و قيل للذين اتقوا ما ذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة و لدار الآخرة خير و لنعم دار المتقين‏.

اعلموا عباد الله أن المتقين ذهبوا بعاجل الخير و آجله، شاركوا أهل الدنيا في دنياهم و لم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم، قال الله عز و جل: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق‏، الاية. سكنوا الدنيا بأحسن ما سكنت و أكلوها بأحسن ما أكلت.

و اعلموا عباد الله أنكم إذا لقيتم الله و حفظتم نبيكم في أهله فقد عبدتموه بأفضل عبادته، و ذكرتموه بأفضل ما ذكر، و شكرتموه بأفضل ما شكر، و قد أخذتم بأفضل الصبر و الشكر، و اجتهدتم بأفضل الاجتهاد و إن كان غيركم أطول منكم صلاة و أكثر منكم صياما و صدقة إذ كنتم أنتم أوفى لله و أنصح لأولياء الله و من هو ولى الأمر من آل رسول الله صلى الله عليه و آله.

و احذروا عباد الله الموت و قربه و كربه و سكراته، و أعدوا له عدته فإنه يأتي بأمر عظيم: بخير لا يكون معه شر و بشر لا يكون معه خير أبدا، فمن أقرب إلى الجنة من عاملها و أقرب إلى النار من أهلها فأكثروا ذكر الموت عند ما تنازعكم إليه أنفسكم فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله يقول: أكثروا ذكرها دم اللذات، و اعلموا أن ما بعد الموت لمن لم يغفر الله له و يرحمه أشد من الموت.

و اعلم يا محمد إننى وليتك أعظم أجنادى في نفسى أهل مصر و أنت محقوق أن تخاف على نفسك و أن تحذر فيه على دينك و ان لم تكن إلا ساعة من النهار، فان استطعت أن لا تسخط ربك برضى أحد من خلقه فافعل فإن في الله خلفا من غيره‏ و لا في شي‏ء خلف من الله، اشدد على الظالم و خذ على يديه، و لن لأهل الخير و قربهم منك و اجعلهم بطانتك و إخوانك.

ثم انظر صلاتك كيف هي فإنك إمام و ليس من إمام يصلى بقوم فيكون في صلاتهم تقصير إلا كان عليه أو زارهم و لا ينتقص من صلاتهم شي‏ء و لا يتممها إلا كان له مثل اجورهم و لا ينتقص من اجورهم شي‏ء. و انظر الوضوء فإنه تمام الصلاة و لا صلاة لمن لا وضوء له. و اعلم أن كل شي‏ء من عملك تابع لصلاتك، و اعلم أنه من ضيع الصلاة فإنه لغير الصلاة من شرائع الإسلام أضيع.

و إن استطعم يا أهل مصر أن يصدق قولكم فعلكم و سركم علانيتكم، و لا تخالف ألسنتكم أفعالكم فافعلوا، و قال رسول الله صلى الله عليه و آله: إني لا أخاف على امتى مؤمنا و لا مشركا أما المؤمن فيمنعه الله بإيمانه، و أما المشرك فيخزيه الله و يقمعه بشركه، و لكني أخاف عليكم كل منافق حلو اللسان يقول ما تعرفون، و يفعل ما تنكرون ليس به خفاء، و قد قال النبي صلى الله عليه و آله: من سرته حسناته و ساءته سيئاته فذلك المؤمن حقا، و كان يقول صلى الله عليه و آله: خصلتان لا يجتمعان في منافق: حسن سمت و فقه في سنة.

و اعلم يا محمد بن أبي بكر أن أفضل الفقه الورع في دين الله، و العمل بطاعة الله أعاننا الله و إياك على شكره و ذكره و أداء حقه و العمل بطاعته إنه سميع قريب.

و اعلم أن الدنيا دار بلاء و فناء و الاخرة دار بقاء و جزاء فإن استطعت أن تؤثر[2] ما يبقى على ما يفنى فافعل رزقنا الله بصر ما بصرنا و فهم ما فهمنا حتى لا نقصر عما أمرنا و لا نتعدى إلى ما نهينا عنه فانه لا بد لك من نصيبك من الدنيا، و أنت إلى نصيبك من الاخرة أحوج، فان عرض لك أمران: أحدهما للاخرة و الاخر للدنيا، فابدأ بأمر الاخرة، و إن استطعت أن تعظم رغبتك في‏ الخير و تحسن فيه نيتك فافعل فإن الله يعطى العبد على قدر نيته إذا أحب الخير و أهله، و إن لم يفعله كان إن شاء الله كمن فعله.

ثم إني اوصيك بتقوى الله، ثم بسبع خصال هن جوامع الاسلام: تخشى الله و لا تخشى الناس في الله فان خير القول ما صدقه الفعل، و لا تقض في أمر واحد بقضائين فيختلف عليك أمرك و تزل عن الحق، و أحب لعامة رعيتك ما تحب لنفسك و أهل بيتك، و ألزم الحجة عند الله و اصلح رعيتك، و خض الغمرات إلى الحق و لا تخف في الله لومة لائم، و أقم وجهك و انصح للمرء المسلم إذا استشارك، و اجعل نفسك اسوة لقريب المسلمين و بعيدهم، و أمر بالمعروف و انه عن المنكر و اصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الامور و السلام عليك و رحمة الله و بركاته.

صورة العهد على ما فى نسختى الشيخين المفيد و الطوسى قدس سرهما

أما صورة العهد على ما في أمالي الشيخ المفيد، و ما في أمالي الشيخ الطوسى رفع الله درجتهما فان إحداهما قريبة من الاخرى بل الطوسي- ره- رواه من الشيخ المفيد بسند ينتهى إلى أبي إسحاق الهمداني و بهذا السند رواه المفيد أيضا في أماليه من غير اختلاف، إلا أنا نجعل ما في أمالي الطوسي أصلا و ذلك لأنا ننقله من نسخة مخطوطة مصححة عتيقة محفوظة في مكتبتنا استنسخت من أصل كتب في سنة 618 و قوبلت عليه و قد نقل في آخرها عبارة خاتمة الأصل هكذا: تم كتاب الأمالي و هو ثمانية عشر جزءا آخر نهار الجمعة ثاني شوال سنة ثمان عشر و ستمائة و الحمد لله رب العالمين و صلى الله على محمد و آله الطاهرين و سلم تسليما، كتبه علي بن أبي محمد بن أحمد بن منصور بن أحمد بن إدريس العجلي الحلي حامدا لله تعالى و مصليا على رسوله محمد و آله الطاهرين.

فدونك صورة العهد على رواية الطوسي من ذلك الأصل قال: حدثنا الشيخ المفيد أبو علي الحسن بن محمد بن الحسن الطوسي رحمه الله تعالى بمشهد مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، قال: حدثنا الشيخ السعيد الوالد أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي رحمه الله في شهر ربيع الأول من سنة خمس و خمسين و أربعمائة، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان رحمه الله‏[3] قال: أخبرني أبو الحسن على بن محمد بن حبيش الكاتب، قال: أخبرني الحسن بن علي الزعفراني، قال: أخبرني أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الثقفي، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن عثمان، قال: حدثنا علي بن محمد بن أبي سعيد عن فضيل بن الجعد عن أبي إسحاق الهمداني (و فى أمالي المفيد: المجلس الحادي و الثلاثون مجلس يوم الاثنين السادس عشر من شهر رمضان سنة تسع و أربعمائة مما سمعته أنا و أبو الفوارس حدثنا الشيخ الجليل المفيد أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان أيد الله تمكينه قال:أخبرني أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيش الكاتب- و هكذا بالاسناد المقدم حتى ينتهى إلى أبى إسحاق الهمداني)

قال:لما ولى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب محمد بن أبي بكر مصر و أعمالها، كتب له كتابا و أمره أن يقرأه على أهل مصر و ليعمل بما وصاه به فكان الكتاب:

بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى أهل مصر و محمد بن أبي بكر: سلام عليكم فاني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فاني اوصيكم بتقوى الله فيما أنتم عنه مسئولون و إليه تصيرون فان الله تعالى يقول: كل نفس بما كسبت رهينة، و يقول: و يحذركم الله نفسه و إلى الله المصير و إليه المصير»، و يقول: فو ربك لنسئلنهم أجمعين عما كانوا يعملون‏.

و اعلموا عباد الله أن الله عز و جل سائلكم عن الصغير من أعمالكم و الكبير فان يعذب فنحن أظلم، و إن يعف فهو أرحم الراحمين (و قد سقط في أمالي المفيد المطبوع في النجف شطر من الحديث).

يا عباد الله إن أقرب ما يكون العبد إلى المغفرة و الرحمة حين يعمل لله بطاعته و بنصحه في التوبة. عليكم بتقوى الله فانها تجمع الخير و لا خير غيرها و يدرك بها من الخير ما لا يدرك بغيرها من خير الدنيا و الاخرة قال الله عز و جل: و قيل للذين اتقوا ما ذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة و لدار الآخرة خير و لنعم دار المتقين‏.

اعلموا يا عباد الله أن المؤمن يعمل لثلاث من الثواب [لثلاث‏] أما الخير فان الله يثيبه بعمله في دنياه، قال الله سبحانه لإبراهيم: و آتيناه أجره في الدنيا و إنه في الآخرة لمن الصالحين‏، فمن عمل لله تعالى أعطاه أجره في الدنيا و الاخرة و كفاه المهم فيهما، و قد قال الله تعالى: يا عباد الذين آمنوا اتقوا ربكم للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة و أرض الله واسعة إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب‏، فما أعطاهم الله في الدنيا لم يحاسبهم به في الاخرة»، قال الله تعالى:

للذين أحسنوا الحسنى و زيادة، و الحسنى هي الجنة، و الزيادة هي الدنيا، و إن الله تعالى يكفر بكل حسنة سيئة»، قال الله عز و جل: إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين‏، حتى إذا كان يوم القيامة حسبت لهم حسناتهم ثم أعطاهم بكل واحدة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز و جل: جزاء من ربك عطاء حسابا، و قال: اولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا و هم في الغرفات آمنون، فارغبوا [فارعنوا- كما في النسخة المصححة من الأمالي‏] في هذا رحمكم الله و اعملوا له و تحاضوا عليه.

و اعلموا يا عباد الله أن المتقين حازوا عاجل الخير و آجله، شاركوا أهل الدنيا في دنياهم و لهم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم أباحهم فى الدنيا ما كفاهم به و أغناهم، قال الله عز اسمه: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون‏، سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت، و أكلوها بأفضل ما أكلت، شاركوا أهل الدنيا في دنياهم فأكلوا معهم من طيبات ما يأكلون، و شربوا من طيبات ما يشربون، و لبسوا من أفضل ما يلبسون، و سكنوا من أفضل ما يسكنون، و تزوجوا من أفضل ما يتزوجون، و ركبوا من أفضل ما يركبون، أصابوا لذة الدنيا مع أهل الدنيا و هم غدا جيران الله يتمنون عليه فيعطيهم ما يتمنون، لا يرد لهم دعوة، و لا ينقص لهم نصيب من اللذة، فإلى هذا يا عباد الله يشتاق إليه من كان له عقل و يعمل له تقوى الله [في المطبوعة بتقوى الله‏] و لا حول و لا قوة إلا بالله.

يا عباد الله إن اتقيتم و حفظتم نبيكم في أهل بيته فقد عبدتموه بأفضل ما عبد و ذكرتموه بأفضل ما ذكر، و شكرتموه بأفضل ما شكر، و أخذتم بأفضل الصبر و الشكر، و اجتهدتم أفضل الاجتهاد، و إن كان غيركم أطول منكم صلاة و أكثر منكم صياما فأنتم أتقى لله منه و أنصح لاولى الأمر.

احذروا يا عباد الله الموت و سكرته فأعدوا له عدته فإنه يفجاكم بأمر عظيم: بخير لا يكون معه شر أبدا، أو بشر لا يكون معه خير أبدا، فمن أقرب إلى الجنة من عاملها، و من أقرب إلى النار من عاملها؟ انه ليس أحد من الناس تفارق روحه جسده حتى يعلم إلى أي المنزلتين يصير إلى الجنة أم النار؟

أعدو هو لله أو ولي؟ فإن كان وليا لله فتحت له أبواب الجنة، و شرعت له طرقها و رأى ما أعد الله له فيها ففرغ من كل شغل، و وضع عنه كل ثقل، و إن كان عدوا لله فتحت له أبواب النار، و شرع له طرقها، و نظر إلى ما أعد الله له فيها فاستقبل كل مكروه، و ترك كل سرور، كل هذا يكون عند الموت و عنده يكون بيقين، قال الله تعالى: الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون‏، و يقول: الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين‏.

عباد الله إن الموت ليس منه فوت، فاحذروا قبل وقوعه، و أعدوا له عدة [عدته- خ ل‏] فإنكم طرداء الموت إن أقمتم له أخذكم، و إن فررتم منه أدرككم، و هو ألزم لكم من ظلكم، الموت معقود بنواصيكم، و الدنيا تطوى خلفكم، فأكثروا ذكر الموت عند ما تنازعكم إليه أنفسكم من الشهوات، و كفى‏ بالموت واعظا، و كان رسول الله صلى الله عليه و آله كثيرا ما يوصى أصحابه بذكر الموت فيقول:أكثروا ذكر الموت فانه هادم اللذات حائل بينكم و بين الشهوات.

يا عباد الله ما بعد الموت لمن لا يغفر له أشد من الموت، القبر فاحذروا ضيقه و ضنكه و ظلمته و غربته، إن القبر يقول كل يوم: أنا بيت الغربة، أنا بيت التراب أنا بيت الوحشة، أنا بيت الدود و الهوام. و القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار، إن العبد المؤمن إذا دفن قالت له الأرض: مرحبا و أهلا قد كنت من أحب أن تمشي على ظهري فاذا وليتك فستعلم كيف صنيعي بك فيتسع له مد البصر، و إن الكافر إذا دفن قالت له الأرض: لا مرحبا بك و لا أهلا لقد كنت من أبغض من يمشي على ظهري فاذا وليتك فستعلم كيف صنيعي بك فتضمه حتى تلتقى أضلاعه، و أن المعيشة الضنك التي حذر الله منها عدوه عذاب القبر انه يسلط على الكافر في قبره تسعة و تسعين تنينا فينهشن لحمه و يكسرن عظمه و يترددن عليه كذلك إلى يوم البعث، لو أن تنينا منها نفخ في الأرض لم تنبت زرعا [زرعا أبدا- خ ل‏].

يا عباد الله إن أنفسكم الضعيفة، و أجسادكم الناعمة الرقيقة التي يكفيها اليسير تضعف عن هذا، فإن استطعتم أن تجزعوا لأجسادكم و أنفسكم مما لا طاقة لكم و لا صبر لكم عليه فاعملوا بما أحب الله و اتركوا ما كره الله.

يا عباد الله إن بعد البعث ما هو أشد من القبر يوم يشيب فيه الصغير و يسكر فيه الكبير و يسقط فيه الجنين و تذهل كل مرضعة عما أرضعت، يوم عبوس قمطرير يوم كان شره مستطيرا، إن فزع ذلك اليوم ليرهب الملائكة الذين لا ذنب لهم و ترعد منه السبع الشداد، و الجبال الأوتاد، و الأرض المهاد، و تنشق السماء فهى يومئذ واهية و تتغير فكأنها وردة كالدهان، و تكون الجبال سرابا مهيلا بعد ما كانت صما صلابا، و ينفخ في الصور فيفزع من في السموات و من في الأرض إلا من شاء الله، فكيف من عصى بالسمع و البصر و اللسان و اليد و الرجل و الفرج و البطن إن لم يغفر الله له و يرحمه من ذلك اليوم، لأنه يصير إلى غيره: إلى نار قعرها بعيد و حرها شديد و شرابها صديد و عذابها جديد، و مقامعها حديد لا يفتر عذابها و لا يموت ساكنها، دار ليس فيها رحمة و لا يسمع لأهلها دعوة.

و اعلموا يا عباد الله أن مع هذا رحمة الله التي لا تعجز العباد: جنة عرضها كعرض السماء و الأرض اعدت للمتقين لا يكون معها شر أبدا، لذاتها لا تمل و مجتمعها لا يتفرق، سكانها قد جاوروا الرحمن، و قام بين أيديهم الغلمان بصحاف من الذهب فيها الفاكهة و الريحان.

ثم اعلم يا محمد بن أبي بكر أنى قد وليتك أعظم أجنادي في نفسى أهل مصر فاذا وليتك ما وليتك من أمر الدنيا فأنت حقيق أن تخاف فيه على نفسك، و أن تحذر فيه على دينك، فإن استطعت ألا تسخط ربك برضى أحد من خلقه فافعل فإن في الله عز و جل خلفا من غيره و ليس في شي‏ء سواه خلف منه. اشتد على الظالم و خذ عليه، و لن لأهل الخير و قربهم و اجعلهم بطائنك و أقرانك.

و انظر إلى صلاتك كيف هي فانك إمام لقومك أن تتمها و لا تخففها فليس من إمام يصلى لقوم يكون في صلاتهم نقصان إلا كان عليه لا ينقص من صلاتهم شي‏ء و تممها و تحفظ فيها يكن لك مثل اجورهم و لا ينقص ذلك من أجرهم شيئا.

و انظر إلى الوضوء فإنه من تمام الصلاة: تمضمض ثلاث مرات، و استنشق ثلاثا، و اغسل وجهك ثم يدك اليمنى ثم اليسرى ثم امسح رأسك و رجليك فإنى رأيت رسول الله صلى الله عليه و آله يصنع ذلك، و اعلم أن الوضوء نصف الإيمان.

ثم ارتقب وقت الصلاة فصلها لوقتها و لا تعجل بها قبله لفراغ و لا تؤخرها عنه لشغل فإن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه و آله عن أوقات الصلاة فقال رسول الله صلى الله عليه و آله:أتانى جبرئيل عليه السلام فأرانى وقت الصلاة حين زالت الشمس فكانت على حاجبه الأيمن، ثم أرانى وقت العصر فكان ظل كل شي‏ء مثله، ثم صلى المغرب حين غربت الشمس، ثم صلى العشاء الاخرة حين غاب الشفق، ثم صلى الصبح فأغلس بها و النجوم مشتبكة فصل لهذه الأوقات، و الزم السنة المعروفة و الطريق الواضح.

ثم انظر ركوعك و سجودك فإن رسول الله صلى الله عليه و آله كان أتم الناس صلاة و أخفهم عملا فيها.

و اعلم أن كل شي‏ء من عملك تبع لصلاتك فمن ضيع الصلاة فانه لغيرها أضيع.

أسأل الله الذي يرى و لا يرى و هو بالمنظر الأعلى أن يجعلنا (في امالى المفيد: على أن يعيننا) و إياك على شكره و ذكره و حسن عبادته و أداء حقه و على كل شي‏ء اختار لنا في دنيانا و ديننا و آخرتنا.

و أنتم يا أهل مصر فليصدق قولكم فعلكم و سركم علانيتكم و لا يخالف ألسنتكم قلوبكم. و اعلموا أنه لا يستوى إمام الهدى و إمام الردى، و وصى النبي عليه السلام و عدوه، إنى لا أخاف عليكم مؤمنا و لا مشركا أما المؤمن فيمنعه الله بإيمانه، و أما المشرك فيحجزه الله عنكم بشركه و لكنى أخاف عليكم المنافق يقول ما تعرفون و يعمل بما تنكرون.

يا محمد بن أبي بكر اعلم أن أفضل الفقه الورع في دين الله، و العمل بطاعته، و أنى اوصيك بتقوى الله في سر أمرك و علانيتك و على أى حال كنت عليه، الدنيا دار بلاء و دار فناء، و الاخرة دار الجزاء و دار البقاء، فاعمل لما يبقى و اعدل عما يفنى، لا تنس نصيبك من الدنيا.

اوصيك بسبع هن جوامع الإسلام: تخشى الله عز و جل و لا تخش الناس في الله و خير القول ما صدقه العمل، و لا تقض في أمر واحد بقضائين مختلفين فيختلف أمرك و تزيغ عن الحق، و أحب لعامة رعيتك ما تحب لنفسك و أهل بيتك و اكره لهم ما تكره لنفسك و أهل بيتك فإن ذلك أوجب للحجة و أصلح للرعية و خض الغمرات إلى الحق و لا تخف في الله لومة لائم، و انصح المرأ إذا استشارك، و اجعل نفسك (لنفسك خ ل) اسوة لقريب المسلمين و بعيدهم. جعل الله مودتنا في الدين، و حلنا و إياكم حلة المتقين‏[4] و ابقى لكم طاعتكم حتى يجعلنا و إياكم‏

بها اخوانا على سرر متقابلين.

أحسنوا أهل مصر موازرة محمد أميركم، و اثبتوا على طاعتكم تردوا حوض نبيكم صلى الله عليه و آله. أعاننا الله و إياكم على ما يرضيه. و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.

قلت: صورة العهد على رواية الشيخين تصدق ما نقلناه آنفا عن كتاب الغارات أكثر تصديق من أن محمد بن أبي بكر كتب إلى أمير المؤمنين عليه السلام أنه لا علم لي بالسنة فكتب عليه السلام إليه كتابا فيه أدب و سنة، و إلا لم يكن في رواية أبي إسحاق إبراهيم في كتاب الغارات كلام في السنة إلا قوله عليه السلام في جباية الخراج و الصلاة و الوضوء مجملا.

و كذلك يصدقه ما رواه ابن شعبة في التحف حيث قال الأمير عليه السلام:أما بعد فقد وصل إلى كتابك و فهمت ما سألت عنه و أعجبنى بما لا بد لك منه- إلخ.

صورة العهد على رواية أبى جعفر محمد بن أبى القاسم الطبرى فى كتابه بشارة المصطفى لشيعة المرتضى‏

و أما صورة العهد على رواية عماد الدين الطبري في كتابه بشارة المصطفى لشيعة المرتضى فهى أيضا توافق صورته على رواية الشيخين قدس أسرارهم قال: أخبرنا الشيخ الإمام أبو محمد الحسن بن الحسين بن بابويه قرأته عليه بالرى سنة عشرة و خمسمائة قال: حدثنا السعيد أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي قال: حدثنا الشيخ المفيد أبو عبد الله محمد بن محمد- إلى آخر السند المذكور آنفا من أمالى الطوسى- و نقل العهد إلي قوله عليه السلام: فأنتم أتقى لله عز و جل منه و أنصح لاولى الأمر، ثم قال: قال محمد بن أبي القاسم: الحديث طويل لكنى أخذته إلى هاهنا لأن غرضى كان في هذه الألفاظ الأخيرة فإنها بشارة حسنة لمن خاف و اتقى و تولى أهل المصطفى و الخبر بكماله أوردته في كتاب الزهد و التقوى. انتهى كلامه- ره-.

اللغة

(فاخفض) أى ألن لهم جانبك. و الجناح هاهنا هو الجنب أى كن لين الجانب لرعيتك و لا تغلظ عليهم قال الله تعالى: و اخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين‏. (رهن) بضم الراء و الهاء جمع رهن (و ابسط لهم وجهك) أى كن طلق الوجه لهم. (آس) أمر من المواساة يقال آساه بماله مواساة أى أناله منه و جعله فيهم اسوة. و لا يقال واساه بل هو لغة ردية كما في القاموس. و يقال آسيت بين القوم إذا أصلحت و آسيت بينهم اى جعلت بعضهم اسوة بعض، و المراد من المواساة ههنا المساواة أى سو بينهم و تقديره اجعل بعضهم اسوة بعض. (المترفون) المنعمون الترفة بالضم: النعمة، و أترفته النعمة أطغته (الحيف): الجور. (فحظوا) الحظوة بالضم و الكسر و الحظة كعدة: المكانة و الحظ من الرزق و الفعل من باب علم. قال محمد بن بشير (الحماسة 436 من شرح المرزوقي):

أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته‏ و مد من القرع للأبواب أن يلجا

أى أن يظفر بطلبته.(المشهد): المحضر، خلاف المغيب. (أن يجبى) اى أن يجمع من الجباية. القسطاس بالضم و الكسر الميزان، أو أقوم الموازين، أو هو ميزان العدل أي ميزان كان كالقسطاس أو رومي معرب.(آثر) أى اختار. (يتمنون عليه) التمنى تشهى حصول الأمر المرغوب فيه.(شرع له) أى فتح له.(مثوى) أى مقام و منزل. (طرداء) جمع طريد أى مطرود، و الطريدة ما طردت من صيد أو غيره، و طردته نفيته عنى.

(هادم اللذات) الهدم بالدال المهملة نقض البناء، و قد ضبطه بعضهم بالذال المعجمة من الهذم بمعنى القطع. و في أساس البلاغة للزمخشري: هذمه أسرع قطعه.و سيف مخذم و مهذم و هذام.(ضمته) الضم قبض الشي‏ء إلى الشي‏ء و قد ضمه فانضم إليه و معنى ضمة القبر بالفارسية فشارش قبر.(فاذا وليتك) أى ملكتك، من ولى الشي‏ء بكسر العين في الماضي و المضارع ولاية و ولاية بكسر الواو و فتحها إذا قام به و ملك أمره.(أجناد) جمع الجند بمعنى العسكر. (محقوق) أى حقيق و جدير.

(تنافح) نافحت عنه أى خاصمت عنه، و جاهدت و ذبت و دافعت، و يقال:نافحه إذا كافحه و دافعه.(تنهش) نهشه كمنعه نهسه و لسعه و عضه و بالفارسية: گزيد او را.(قمطريرا) أى شديدا. (مقامعها) جمع المقمعة أي العمود. (الصديد) ما يخرج من جوف أهل النار من القيح و الدم.(صحاف) جمع صحفة من أعظم القصاع، و يقال بالفارسية: كاسه بزرگ.(و الذين يلونهم) أي يكونون بعدهم. (المحجة): الطريقة. (اسوة) بحركات الهمزة و سكون السين أي قدوة يقتدى القريب و البعيد بها.(يقمعه) أي يقهره و يذلله. (خض الغمرات) أمر من الخوض أي ادخل الشدائد. (خلتنا) الخلة الصفة، و أما على نسخة أمالي الطوسي: و حلنا و إياكم حلة المتقين فظاهر.

الاعراب‏

(عن الصغيرة) متعلق بقوله يسائلكم، (معشر عباده) منادى مضاف وقع في البين. (حين ما يعمل بطاعة الله) ما مصدرية و منا صحته معطوف على المصدر. كلمة ما في قوله: (بأفضل ما سكنت) و في أخواته مصدرية أى استعملوها على الوجه الذي ينبغي. و الباء في قوله‏ (بالزاد المبلغ) بمعنى مع (من آل محمد) بيان لأولياء الله. (ما كنا نعمل من سوء) كلمة ما: نافية أو استفهامية. (رحمة الله التي وسعت كل شي‏ء لا تعجز عن العباد) قيل: رحمة الله مبتداء و التي خبرها و لا تعجز خبر بعد خبر، و لكن الظاهر من تنسيق الكلام أن التي صفة لها و لا تعجز خبر لها (و لا ينقص من صلاتهم شيئا) نقص لازم و متعد. (تصدق أقوالكم أفعالكم) أقوالكم مفعول به مقدم على الفاعل أعني أفعالكم.

المعنى‏

هذا العهد الشريف يحتوي في أمر المعاد ما لا يحتويها غيره من خطبه و وصاياه و عهوده كما يظهر ذلك لك بالتأمل في سائر كلامه عليه السلام، حتى أن العهد الذي كتبه إلى مالك رضوان الله عليه و هو أطول عهوده، و أن الكتاب الذي كتبه إلى ابنه الحسن المجتبى عليه السلام و هو أطول كتبه و وصاياه و من جلائلها لا يشتملان على معارف و حقائق في المعاد، توجد في هذا العهد القويم، و إن كان نبذة من كتابه إلى الحسن عليه السلام في ذلك و لكنها لا يقاس إلى ما في هذا العهد من دقائق و رقائق في المعاد، و أما العهد الذي كتبه إلى المالك فهو و إن كان من محاسن كتبه عليه السلام و لكنه برنامج الوظائف الاجتماعية و المدنية.

و بالجملة كتابه‏ عليه السلام‏ هذا إلى محمد بن أبي بكر يفتح أبوابا إلى معرفة ذلك المطلب الأسنى و المقصود الأسنى أعنى المعاد و أحوال الناس فيه، و شرحه على التفصيل ينجر إلى إطناب، و لذا نعرض عنه و نكتفي بشرحه الإجمالي و نشير إلى طائفة من معاني أقواله عليه السلام و الأخبار الاخرى في المقام على ما يقتضيه الحال و تفصيله يطلب من كتابنا المسمى بالقيامة فنقول مستعينا بمن له الاخرة و الاولى:كنايه قوله عليه السلام: (فاخفض لهم جناحك‏- إلخ) أمره أن لا يغلظ على الرعية و أن يكون لين الجانب‏ لهم‏، و خفض الجناح كناية عن التواضع و اللين و الانقياد و التسليم، كما ترى من دأب الطير إذا تواضع أحدها الاخر يخفض جناحه عنده.

و روى الكليني قدس سره في الكافي باسناده عن أبي عبد الله عليه السلام، عن رسول الله صلى الله عليه و آله قال: من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا إلى الجنة و أن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى به- الخبر، و في سورة الاسرى من القرآن الكريم: و اخفض لهما جناح الذل من الرحمة و قل رب ارحمهما كما ربياني‏ صغيرا، و قال عز من قائل خطابا لرسوله صلى الله عليه و آله: و اخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين‏.

و روى الشيخ الجليل حسن بن زين الدين الشهيد الثاني في أوائل كتاب معالم الدين في الاصول مسندا عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: تعلموا العلم فان تعلمه حسنة- إلى أن قال عليه السلام: و ترغب الملائكة في خلتهم يمسحونهم بأجنحتهم في صلاتهم لأن العلم حياة القلب و نور الأبصار من الهدى- الخبر.

و لا يخفى عليك أن الجناح في قوله عليه السلام: فاخفض لهم جناحك‏، لا يحمل على معناه المطابقى الحقيقي، و كذا في الايتين المذكورتين و كأن المراد من أجنحة الملائكة أيضا كناية عن تواضعهم لبغاة العلم في الخبر الأول، و بمعنى لطيف أدق و أشمخ من هذا فى الخبر الثاني حيث قال عليه السلام: يمسحونهم بأجنحتهم في صلاتهم و معلوم أن مسح الجناح المؤلف من العظم و اللحم و الريش و غيرها بالمصلى لا يزيد في كماله و تقر به إلى الله فالمسح بالأجنحة في الخبر محمول على ارتباط سر المصلى العالم إلى عالم القدس، و لما كانت المعاني تنزلت من مقامها من غير خلوها عن مرتبتها كاسية بلباس ألفاظ هذه النشأة، فلا بد للبصير أن تجعل الألفاظ روازن إلى رؤية معانيها الأولية، قال ثقة المحدثين الشيخ الصدوق رضوان الله عليه في رسالته في الاعتقادات: اعتقادنا في اللوح و القلم أنهما ملكان، و قال المعلم الثاني أبو نصر الفارابي قدس سره في الفصوص: فليتدبر فى قوله تعالى في أول سورة الفاطر: الحمد لله فاطر السماوات و الأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى و ثلاث و رباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شي‏ء قدير.

و أفاد المتأله السبزواري قدس سره في بيان الاية المباركة في شرحه على الفصل الرابع و الثمانين من الدعاء المعروف بالجوشن الكبير بقوله: و لا نبالي بأن يكون لرقائقهم المثالية و أشباحهم الصورية أجنحة و لهم طيران و سير كما أن لكل حقيقة من حقائقهم المعنوية حقيقة الجناح من جناح القوة العلامة و جناح‏  القوة العمالة و حقيقة الطيران و السير من الدرك و الفعل كما سمى بعضهم القوى المدركة من النفس الناطقة بالطيارة و المحركة بالسيارة، و قال في هامش الكتاب في بيان قوله: بأن يكون لرقائقهم المثالية- إلخ- لأن لكل معنى صورة و لكل حقيقة رقيقة كما أن لسني الرخا صورة هي البقرات السمان و لسني القحط صورة هي البقرات العجاف و قس عليه و التعبير كالتأويل.

قوله عليه السلام: (و آس بينهم‏- إلخ) ثم أمره بالمساواة معهم‏ حتى في اللحظة و النظرة لئلا يطمع العظماء في حيفه‏ مع الرعية و لا ييأس الضعفاء من عدله عليهم‏ و قد مضى كلامنا في العدل و المساواة في شرح الكتاب الثالث أعني كتابه عليه السلام لشريح القاضي لما اشترى دارا بثمانين دينارا.ثم علل أمره بالمساواة و العدل‏ حتى في اللحظة و النظرة بقوله: (فإن الله يسائلكم‏- إلخ) كى لا يظن أن عدم التسوية في اللحظة و النظرة مما لا يعتنى به و لا يحاسب عليه‏ (فإن يعذبهم‏ الله فهم‏ أظلم و إن يعفو فهو أكرم) و الأفعل ههنا ليس أفعل التفضيل بل هو أفعل الوصف نظير قوله تعالى: أن الله ليس بظلام للعبيد أى ليس بظالم، و ذلك لأن صدور الظلم كثيره و قليله منه تعالى قبيح عقلا، فمن ارتكب المعاصي فهو ظالم لنفسه و إن تاب عنها إليه تعالى و زكى نفسه من درنها فقد أفلح و عفا الله عنه و هذا كرم ناله من الله تعالى، فإن الله أمر بالخير و نهى عن الشر.

قوله عليه السلام: (و اعلموا عباد الله‏- إلخ) وصف‏ المتقين‏ ترغيبا لعباد الله‏ إلى التقوى، و إنما قال: (إنهم‏ سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت و أكلوها بأفضل ما اكلت) لأن مكسبهم كان على وجه حلال و طريق صواب فملبسهم و مأكلهم و مشربهم كلها قد تهيأت على ذلك الوجه و لم يكن لهم فيها وزر و لا وبال و المترفون و الجبابرة المتكبرون‏، لم يأخذوا من‏ دنياهم‏ إلا على قدر ما يحتاج الانسان أن يعيش و تركوا ما زاد منها على حسرة هي أشد من نار جهنم ألما:

اين بدر مى‏رود از باغ بصد حسرت و داغ‏ و آن چه دارد كه بحسرت بگذارد آنرا

على أنه قد لزمهم أوزارها من مظالم العباد و غيرها، قال تعالى: و لا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة- الاية (آل عمران 181) و في الخبر عن الباقر عليه السلام: الذي يمنع الزكاة يحول الله تعالى ماله يوم القيامة شجاعا من نار له ريمتان فتطوقه ثم يقال له الزمه كما لزمك في الدنيا و هو قوله الله تعالى: سيطوقون ما بخلوا به‏ الاية (مادة نور من سفينة البحار) ثم تأمل أيها البصير في قوله عليه السلام يحول الله تعالى ماله يوم القيامة شجاعا من نار، ثم في قوله عليه السلام يقال له: الزمه كما لزمك في الدنيا فإن هذا الخبر يفتح لك بابا من المعرفة في أحوال الناس يوم القيامة.

و بالجملة إن المتقين شاركوهم في دنياهم و انقلبوا عنها مع ما كسبوا و قدموا لأنفسهم من‏ الزاد المبلغ و المتجر المربح و لم يشاركهم أهل الدنيا في‏ تلك النعمة العظمى و العطية الكبرى.

قال عز من قائل: و ما تفعلوا من خير يعلمه الله و تزودوا فإن خير الزاد التقوى‏ (البقرة 198). و قال أمير المؤمنين عليه السلام في الخطبة 180 أولها روى عن نوف البكالى إلخ: و ازمع الترحال عباد الله الأخيار و باعوا قليلا من الدنيا لا يبقى بكثير من الاخرة لا يفنى‏.

ثم ينبغي لك النظر حقه في قوله عليه السلام‏ (و تيقنوا أنهم جيران الله غدا في آخرتهم لا ترد لهم دعوة و لا ينقص لهم نصيب من لذة) حيث أخبر عليه السلام عن‏ المتقين‏ بأن صفة اليقين الكريمة بلغتهم إلى تلك الدرجة الرفيعة في آخرتهم و من بلغ إلى تلك الرتبة المنيعة لا ترد له دعوة و ليست‏ لذة ينقص لهم نصيبها و ذلك لأن الموقنين داوموا الحضور عنده تعالى في هذه النشأة الدنياوية و ليس الشهود الحقيقي إلا واحدا و البيت واحد و رب البيت واحد بل ليس في الدار غيره ديار بل أينما تولوا فثم وجه الله بل هو الأول و الاخر و الظاهر و الباطن و الدنيا مزرعة الاخرة و نعم ما قال كعبة العاشقين سيد الشهداء أبو عبد الله الحسين روحى‏ له الفداء في دعاء العرفة، نعم.

بأبه اقتدى عدى في الكرم‏ و من يشابه أبه فما ظلم‏

حيث قال عليه السلام: و أنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبائك حتى لم يحبوا سواك و لم يلجئوا إلى غيرك أنت المونس لهم حيث أوحشتهم العوالم، و أنت الذي هديتهم حيث استبانت لهم المعالم، ما ذا وجد من فقدك، و ما الذي فقد من وجدك.

قوله عليه السلام: (فاحذروا عباد الله الموت و قربه‏- إلخ) المراد من الحذر عن‏ الموت‏ الحذر عن الأهوال التي يراها غير المؤمن عند الموت‏ فكأنه عليه السلام أمرهم أن يجعلوا الموت‏ نصب أعينهم فإن من جعله نصب عينه زهده في الدنيا و رغبه في الاخرة و حثه إلى إعداد عدته، و من كلام سيد الساجدين عليه السلام في الدعاء الأربعين من الصحيفة: و انصب الموت بين أيدينا نصبا و لا تجعل ذكرنا له غبا.ثم علل الأمر بالحذر بقوله‏ (فانه) أى‏ الموت (يأتي بأمر عظيم و خطب جليل).

روى الكليني في الكافي باسناده عن عبد الله بن سنان عمن سمع أبا جعفر عليه السلام يقول لما حضرت الحسن عليه السلام الوفاة بكى فقيل له: يا ابن رسول الله تبكى و مكانك من رسول الله صلى الله عليه و آله الذي أنت به و قد قال فيك ما قال و قد حججت عشرين حجة ماشيا و قد قاسمت مالك ثلاث مرات حتى النعل بالنعل؟ فقال عليه السلام: إنما أبكى لخصلتين: لهول المطلع، و فراق الأحبة (الوافي في باب ما جاء في الحسن بن على عليهما السلام ص 174 ج 2).

قوله عليه السلام: (بخير لا يكون معه شر أبدا أو شر لا يكون معه خير أبدا) معنى الجملة الاولى ظاهر و انما الكلام في معنى الثانية لأن أخبار البرزخ دالة على أن أقواما معذبون في البرزخ و ينقطع منهم العذاب بعد البرزخ فقد روى الكليني قدس سره في الكافي باسناده عن عبد الرحمن بن عباد عن عمر بن يزيد قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إنى سمعت و أنت تقول: كل شيعتنا في الجنة على ما كان منهم قال: صدقتك كلهم و الله في الجنة قال: قلت: جعلت فداك إن الذنوب كثيرة كبار فقال: أما في القيامة فكلكم في الجنة بشفاعة النبي المطاع أو وصى النبي و لكنى‏ و الله أتخوف عليكم في البرزخ قلت: و ما البرزخ؟ قال: القبر منذحين موته إلى يوم القيامة (الوافي ص 94 ج 13).

و الظاهر أنه عليه السلام أراد بكلامه هذا عاقبة امور الناس في الاخرة لأن ما يستفاد من ضم الايات القرآنية و تصديق بعضها بعضا و تفسير بعضها بعضا أن مال الناس في الاخرة إلى أمرين أعنى أنهم ينقسمون آخر الأمر إلى فريقين فريق في الجنة و فريق في النار. قال عز من قائل: يوم تبيض وجوه و تسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أ كفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون و أما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمت الله هم فيها خالدون‏ (آل عمران 108).

و قال تعالى: يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه فمنهم شقي و سعيد فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير و شهيق خالدين فيها ما دامت السماوات و الأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد و أما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات و الأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ (هود 106- 109). و قال تعالى: و كذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى و من حولها و تنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة و فريق في السعير (الشورى 8). و الله تعالى أعلم بكلام أوليائه.

قوله عليه السلام: (فمن أقرب إلى الجنة من عاملها، و من أقرب إلى النار من عاملها) تحت هذا الكلام أيضا سر لمن كان له قلب لأنه عليه السلام قال: فمن أقرب إلى الجنة من عامل‏ الجنة و كذا من أقرب إلى النار من عامل‏ النار فمن عمل الحسنات فهو عامل الجنة، و من ارتكب السيئات فهو عامل النار و لم يقل عليه السلام‏ فمن أقرب إلى الجنة ممن عمل ما يجره إلى الجنة، أو من أقرب إلى النار ممن عمل ما يدخله النار و نحوهما من العبارات. فمن عمل الحسنات فهو عامل جنته، و من عمل السيئات فهو عامل ناره فتبصر.

و قال تعالى: كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم و ما هم بخارجين من النار (البقرة 168).

و قال تعالى: يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء تود لو أن بينها و بينه أمدا بعيدا (آل عمران: 30) و قال تعالى: و لا تجزون إلا ما كنتم تعملون‏ (يس: 54) لم يقل بما كنتم أو مما كنتم و نحوهما فتدبر.

قوله عليه السلام: (فاحذروا نارا قعرها بعيد و حرها شديد و عذابها جديد) أما كونها بعيد القعر فلأنها من دار الاخرة و قال عز من قائل: و ما هذه الحياة الدنيا إلا لهو و لعب و إن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون‏ (العنكبوت 65) فنارها حية بحياتها الذاتية لها فاذا أضفت كلامه هذا إلى قوله عليه السلام: و من أقرب إلى النار إلى‏ عاملها ينتج أنها ليست من عالم الخلق بل هو من عالم الأمر و كل ما في عالم الأمر غير متصفة بصفات الخلق الناقصة المحدودة جدا المستحيلة المتبدلة آنا فانا فظهر معنى كونها بعيد القعر لمن وقف على ما اشرنا إليها موجزة.

و قال بعض الأعاظم: و من أعجب ما روينا عن رسول الله صلى الله عليه و آله أنه كان قاعدا مع أصحابه في المسجد فسمعوا هدة عظيمة فارتاعوا فقال صلى الله عليه و آله: أ تعرفون ما هذه الهدة؟ قالوا: الله و رسوله أعلم. قال: حجر ألقى من أعلى جهنم منذ سبعين سنة الان وصل إلى قعرها، فكان وصوله إلى قعرها و سقوطه فيها هذه الهدة، فما فرغ من كلامه عليه السلام إلا و الصراخ في دار منافق من المنافقين قد مات و كان عمره سبعين سنة فقال رسول الله صلى الله عليه و آله: الله أكبر فعلم علماء الصحابة أن هذا الحجر هو ذلك المنافق، و أنه منذ خلقه الله يهوى في جهنم و بلغ عمره سبعين سنة فلما مات حصل في قعرها، قال الله تعالى: إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار، فكان سمعتهم تلك الهدة التي أسمعهم الله ليعتبروا فانظر ما أعجب كلام النبوة و ما ألطف تعريفه و ما أغرب كلامه، انتهى كلامه.

و أما كونها شديد الحر فلأن النار ما دامت في كسوة المادة الدنيا وية لم يظهر سلطان أثرها و تعوقها المادة عن ذلك و كأنها مغمورة تحت رماد فاذا خلصت منها و خرجت عن غلافها تؤثر أثرها التام.و أما أن عذابها جديد فكأن أمير المؤمنين روحي له الفداء يشير بقوله هذا إلى قوله تعالى: إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما (النساء 57) و البحث في المقام ينجر إلى الاطناب و يطلب في كتابنا القيامة.

قوله عليه السلام: (دار ليس فيها رحمة و لا تسمع فيها دعوة و لا تفرج فيها كربة) قال عز من قائل: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه و لا خلة و لا شفاعة و الكافرون هم الظالمون‏ (255، البقرة) فتدبر أيها العاقل في قول الله تعالى و قول خليفته و انظر إلى ما أنت فيه و ليس المحشور إلا أنت و لا يمكن سلبك و انتزاعك منك و لا يمكنك الفرار من نفسك فما عملته فهو جزاؤك قال الله المتعال: إنما تجزون ما كنتم تعملون‏*.

قوله عليه السلام: (إمام الهدى) يعنى به نفسه‏ (و إمام الردى) هو معاوية، و كذلك‏ (ولى النبي) هو علي عليه السلام‏ (و عدو النبي) هو عدو الله معاوية، و أما قوله‏ (فإنه لا سواء) فذلك لأن بعد الحق ليس إلا الضلال كما قال عز من قائل: و ما ذا بعد الحق إلا الضلال، و لا يخفى عليك أنه لا يستوى النور و الظلمة و لا العلم و الجهل و لا الظل و لا الحرور و لا الحى و الميت، و لا الحق و الباطل، و لا علي و معاوية.قوله عليه السلام‏ (كل منافق الجنان) يعنى به‏ عدوا النبي و إمام الردى‏ فهو شر من المشرك الذي يقمعه الله بشركه.

الترجمة

اين فرمانى است كه أمير عليه السلام به محمد بن أبي بكر در وقتى كه از قبل وى والى مصر بود نوشت: با مردم فروتن و نرم و گشاده ‏روى باش، و در لحاظ و نظر با همه يكسان تا بزرگان در تو طمع ستم نكنند، و ناتوانان ازدادت نااميد نشوند چه خداى بزرگ از كار بزرگ و كوچك و پوشيده و آشكار شما مى ‏پرسد پس اگر شكنجه دهد بستم ما است و اگر ببخشد بكرم او است.

اى بندگان خدا بدانيد كه پرهيزكاران هم دنيا دارند و هم آخرت را چه انباز أهل دنيا در دنيايشان بودند و اهل دنيا با آنان در آخرتشان انباز نيستند.

در دنيا به بهترين وجه زيست كردند و بهترين غذا خوردند و بهره كه خوش‏گذرانان داشتند نيز داشتند، و آنچه كه گردنكشان خودبين از دنيا گرفتند نيز گرفتند، سپس از آن كوچ كردند با توشه رسا و بازرگانى سودمند. مزه ترك دنيا را چشيدند، و بمقام يقين همجوارى خدا در آخرت رسيدند. خواسته‏ شان رد نمى ‏شود و بهره لذتشان كم نمى‏ گردد، پس اى بندگان خدا از مرگ و زود فرا رسيدنش بترسيد و زاد و توشه راه گرد آوريد زيرا مرگ امر بزرگى در پيش دارد كه آن تا ابد يا خير بدون شر است، يا شر بدون خير چه كسى به بهشت به سازنده آن نزديكتر است؟ و چه كسى باتش بفراهم كننده آن؟. بدانيد كه شما رانده مرگيد اگر بايستيد بگيرد و اگر بگريزيد برسد از سايه شما بشما وابسته ‏تر است. مرگ به پيشانى‏تان گره زده است و دنيا طومار عمرتان را در مى ‏نوردد پس بترسيد از آتشى كه ته آن دور است و سوزندگيش سخت و شكنجه‏هاى آن پى در پى. سرايى كه در آن رحمت نيست، و گوش بگفتار كسى داده نمى ‏شود و اندوهى گشوده نمى ‏شود اگر مى ‏توانيد هم سخت از خدا بترسيد و هم نيك بدو خوش گمان باشيد كه خوش گمانى بنده بخدايش باندازه ترسش از او است، آن كس خوش گمان‏تر است كه ترس او بيشتر است.

بدان اى محمد بن أبي بكر كه ترا بر بزرگترين سپاهيانم در نظرم يعنى مردم مصر ولايت دادم لذا برايت سزاوار اين است كه از خود روگردان باشى و دينت را نگهبان اگر چه ساعتى بيش از عمرت نمانده باشد پس خدا را بخرسند داشتن آفريده ‏اش بخشم ميار چه عوض از خدا توان يافت و از غير او نى.

نماز را به وقتش بخوان نه درگاه فراغ پيش از وقت، و نه در صورت اشتغال پس از آن، و بدان هر كارت پيرو نماز تست.

و برخى از اين عهد اين است:زيرا پيشواى راهنما (علي عليه السلام)، و پيشرو نابودى و گمراهى (معاويه ) و دوست پيمبر و دشمن وى يكسان نيستند. پيمبر به من گفت كه نه از امت مؤمنم بيمناكم و نه از مشرك، زيرا خدا مؤمن را بايمانش نگه دارد و مشرك را بشركش خوار كند، ولى ترسم بر شما از منافق است كه بگفتارش آشنائيد و بكردارش بيگانه.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی

______________________________________________________________

[1] ( 1) في الفهرست للشيخ قدس سره: سعيد بن هلال على ما فى طبع النجف، و الظاهر أنه تصحيف و الصواب ما اخترناه و هو سمى سعد بن مسعود الثقفى أخى أبى عبيد بن مسعود عم المختار ولاه أمير المؤمنين على عليه السلام على المدائن كما فى الفهرست و غيره من كتب الرجال. و فى الاستيعاب لابن عبد البر: سعد بن مسعود الثقفى عم المختار بن أبى عبيد له صحبة.

و في كتاب الرجال الكبير للاسترآبادى: سعيد في الموضعين و لكن دريت انه تصحيف. و ضبط تاريخ وفاة أبى اسحاق العلامة الحلى فى الخلاصة. منه.

[2] ( 1) كانت العبارة« أن تزين» مكان« أن تؤثر» و بدلنا الاول بالثانى قياسا بما نقلنا آنفا من كتاب الغارات و كانت العبارة فيه« تؤثر» و لا تفيد تزين من الزينة معنى صحيحا الا بتكلف لا ينبغي فى حول كلام صدر من مشرع الفصاحة و البلاغة. منه.

[3] ( 1) هو الشيخ الاجل المفيد- ره-، و أما الشيخ المفيد أبو على الحسن فهو ابن الشيخ الطوسى- ره- و المفيد المطلق المعروف هو الاول. منه.

[4] ( 1) فى النسخة المطبوعة من أمالى الطوسى: و خلتنا و اياكم خلة المتقين، و فى أمالى المفيد: و جعلنا و اياكم حلية المتقين، لكن الصواب ما فى المتن المنقول من تلك النسخة المخطوطة، و ما فى النسخ المطبوعة مصحفة. منه.

نهج البلاغه نامه ها نامه شماره 26 شرح میر حبیب الله خوئی(به قلم علامه حسن زاده آملی )

نامه 26 صبحی صالح

26- و من عهد له ( عليه ‏السلام  ) إلى بعض عماله و قد بعثه على الصدقة

أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي سَرَائِرِ أَمْرِهِ وَ خَفِيَّاتِ عَمَلِهِ حَيْثُ لَا شَهِيدَ غَيْرُهُ وَ لَا وَكِيلَ دُونَهُ

وَ أَمَرَهُ أَلَّا يَعْمَلَ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ فِيمَا ظَهَرَ فَيُخَالِفَ إِلَى غَيْرِهِ فِيمَا أَسَرَّ وَ مَنْ لَمْ يَخْتَلِفْ سِرُّهُ وَ عَلَانِيَتُهُ وَ فِعْلُهُ وَ مَقَالَتُهُ فَقَدْ أَدَّى الْأَمَانَةَ وَ أَخْلَصَ الْعِبَادَةَ

وَ أَمَرَهُ أَلَّا يَجْبَهَهُمْ وَ لَا يَعْضَهَهُمْ وَ لَا يَرْغَبَ عَنْهُمْ تَفَضُّلًا بِالْإِمَارَةِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُمُ الْإِخْوَانُ فِي الدِّينِ وَ الْأَعْوَانُ عَلَى اسْتِخْرَاجِ الْحُقُوقِ

وَ إِنَّ لَكَ فِي هَذِهِ الصَّدَقَةِ نَصِيباً مَفْرُوضاً وَ حَقّاً مَعْلُوماً وَ شُرَكَاءَ أَهْلَ مَسْكَنَةٍ وَ ضُعَفَاءَ ذَوِي فَاقَةٍ وَ إِنَّا مُوَفُّوكَ حَقَّكَ فَوَفِّهِمْ حُقُوقَهُمْ وَ إِلَّا تَفْعَلْ فَإِنَّكَ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ خُصُوماً يَوْمَ الْقِيَامَةِ  وَ بُؤْسَى لِمَنْ خَصْمُهُ عِنْدَ اللَّهِ الْفُقَرَاءُ وَ الْمَسَاكِينُ وَ السَّائِلُونَ وَ الْمَدْفُوعُونَ وَ الْغَارِمُونَ وَ ابْنُ السَّبِيلِ

وَ مَنِ اسْتَهَانَ بِالْأَمَانَةِ وَ رَتَعَ فِي الْخِيَانَةِ وَ لَمْ يُنَزِّهْ نَفْسَهُ وَ دِينَهُ عَنْهَا فَقَدْ أَحَلَّ بِنَفْسِهِ الذُّلَّ وَ الْخِزْيَ فِي الدُّنْيَا وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ أَذَلُّ وَ أَخْزَى

وَ إِنَّ أَعْظَمَ الْخِيَانَةِ خِيَانَةُ الْأُمَّةِ وَ أَفْظَعَ الْغِشِّ غِشُّ الْأَئِمَّةِ وَ السَّلَامُ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج 19  

و من عهد له عليه الصلاة و السلام الى بعض عماله و قد بعثه على الصدقة- و هو المختار السادس و العشرون من باب كتبه عليه السلام و رسائله‏

أمره بتقوى الله في سرائر اموره و خفيات أعماله حيث لا شهيد غيره، و لا وكيل دونه. و أمره أن لا يعمل بشيى‏ء من طاعة الله فيما ظهر فيخالف إلى غيره فيما أسر، و من لم يختلف سره و علانيته و فعله و مقالته فقد أدى الأمانة، و أخلص العبادة. و أمره ألا يجبههم و لا يعضههم و لا يرغب عنهم تفضلا بالإمارة عليهم فإنهم الإخوان في الدين، و الأعوان على استخراج الحقوق. و إن لك في هذه الصدقة نصيبا مفروضا، و حقا معلوما، و شركاء أهل مسكنة، و ضعفاء ذوي فاقة، و إنا موفوك حقك فوفهم حقوقهم، و إلا فإنك من أكثر الناس خصوما يوم القيامة و بؤسا لمن خصمه عند الله الفقراء و المساكين و السائلون و المدفوعون و الغارم و ابن السبيل، و من استهان بالأمانة و رتع في الخيانة و لم‏ ينزه نفسه و دينه عنها فقد أخل بنفسه في الدنيا و هو في الاخرة أذل و أخزى، و إن أعظم الخيانة خيانة الأمنة، و أفظع الغش غش الأئمة.

المصدر

رواه القاضي نعمان المصري رحمه الله تعالى المتوفى 363 ه ق- مسندا في دعائم الاسلام كما في الباب 12 من كتاب الزكاة من مستدرك الوسائل للمحدث المتضلع الحاج الميرزا حسين النوري الطبرسي- ره- (ص 516 ج 1)، و في باب أدب المصدق من كتاب الزكاة من البحار للعلامة المجلسي- ره- (ص 22 ج 20 من الطبع الكمبانى) و نقله من النهج في المجلد الثامن من البحار (ص 642) و المنقول عن الدعائم أن أمير المؤمنين عليا عليه السلام أوصي مخنف بن سليم الأزدي و قد بعثه علي الصدقة بوصية طويلة أمره فيها بتقوى الله ربه في سرائر اموره و خفيات أعماله و أن يتلقاهم (يلقاهم- نسخة) ببسط الوجه و لين الجانب، و أمره أن يلزم التواضع و يجتنب التكبر فان الله يرفع المتواضعين و يضع المتكبرين.

ثم قال له (و قال له. خ) يا مخنف بن سليم إن لك في هذه الصدقة حقا و نصيبا مفروضا (نصيبا و حقا مفروضا. خ) و لك فيها شركاء فقراء و مساكين و غارمون و مجاهدون و أبناء سبيل و مملوكون و متألفون و إنا موفوك حقك فوفهم حقوقهم و إلا فانك من أكثر الناس يوم القيامة خصما و بؤسا لامرى‏ء خصمه مثل هؤلاء. انتهى.

أقول: لم نجد الوصية بطولها فيما عندنا من الجوامع الروائية و غيرها مع كثرة الفحص و الجد في الطلب، و لم يحضرنا دعائم الاسلام و لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.

اللغة

(لا يجبههم) أي لا يزجرهم أصله من الجبه بمعنى مقابلة الانسان بما يكرهه. قال ابن الأثير في النهاية: الجبه هو الاستقبال بالمكروه و أصله من اصابة الجبهة يقال: جبهته إذا أصبت جبهته. انتهى قوله. و قال الشارح المعتزلي: و أن لا يجبههم: لا يواجههم بما يكرهونه و أصل الجبه لقاء الجبهة أو ضربها فلما كان المواجه غيره بالكلام القبيح كالضارب جبهته سمى بذلك جبها. انتهى. و في القاموس: جبهه كمنعه ضرب جبهته و رده أو لقيه بما يكره. انتهى. و في منتهى الأرب جبهه (من باب فتح): زد بر پيشانى او و رد كرد آن را، و بمكروه پيش آمد او را و نابايست آورد بر وى. انتهى. و قال امية بن أبي الصلت في ابن له عقه:[1]

غذوتك مولودا و علتك يافعا تعل بما ادني إليك و تنهل‏
إذا ليلة نابتك بالشكو لم أبت‏ لشكوك إلا ساهرا أتململ‏
كأني أنا المطروق دونك بالذي‏ طرقت به دوني و عيني تهمل‏
فلما بلغت السن و الغاية التي‏ إليها مدى ما كنت فيك اؤمل‏
جعلت جزائي منك جبها و غلظة كأنك أنت المنعم المتفضل‏
فليتك إذ لم ترع حق ابوتي‏ فعلت كما الجار المجاور يفعل‏
تراه معدا للخلاف كأنه‏ برد على أهل الصواب موكل‏

(و لا يعضههم) اى لا يرميهم بالبهتان و الكذب و في القاموس عضه كمن عضها و يحرك و عضيهة و عضهة بالكسر كذب و سحر و نم و جاء بالإفك و البهتان كأعضه و فلانا بهته و قال فيه ما لم يكن انتهى. و قال المتوكل الليثي (الحماسة 442 من شرح المرزوقي).

احذر وصال اللئيم إن له‏ عضها إذا حبل وصله انقطعا

و قال المرزوقي في شرحه: احذر مواصلة اللئيم و مؤاخاته لأنه إذا انقطع حبل وصله و انصرم ما يجمعك و إياه من وده يتكذب عليك و يخلق من الإفك فيك ما لم تكتسبه لا بيدك و لا لسانك، و العضه ذكر القبيح كذبا و زورا و يقال:عضهته إذا رميته بالزور. و أعضه الرجل أتى بالعضيهة و هي الإفك، و من كلامهم يا للعضيهة و يا للأفيكة.

(بؤسا) قال الجوهرى في الصحاح نقلا عن أبي زيد في كتاب الهمزة: بئس الرجل يبأس بؤسا و بئيسا اشتدت حاجته فهو بائس. أنشد أبو عمرو:

بيضاء من أهل المدينة لم تذق‏ بئسا و لم تتبع حمولة مجحد

و هو اسم وضع موضع المصدر. و قال الشارح المعتزلي: قال الراوندى بؤسا أى عذابا و شدة ثم خطأه بقوله: فظنه منونا و ليس كذلك بل هو بؤسى على وزن فعلى كفضلى و نعمى و هي لفظة مؤنثة يقال: بؤسى بفلان، قال الشاعر:

أرى الحلم بؤسى للفتى في حياته‏ و لا عيش إلا ما حباك به الجهل‏

انتهى قوله. و أقول: نسخة الرضي تطابق ما اختاره الراوندى و اللغة أيضا توافقه و انتصابه على المصدر كما يقال سحقا لك و بعدا لك، فما صححه الراوندى ليس بخطاء. نعم ما فسره الراوندي بقوله: أى عذابا و شدة، مخدوش لأن العذاب و الشدة ليس من معانى البؤس بل هما من معانى البأس.

(الفقراء و المساكين) قال عز من قائل: إنما الصدقات للفقراء و المساكين‏ الاية «التوبة 60» قد ذهب جماعة إلى انهما مترادفان، و لكن الحق كما هو الظاهر من كلام الحق تعالى أنهما متغايران و ذهب إليه أكثر العلماء و لكنهم اختلفوا في معناهما على أقوال كثيرة بعد ما اتفقوا على استحقاقهما من الزكاة و الأصح أن المسكين أسوأ حالا من الفقير و أنه المحتاج الذي يسأل و الفقير المحتاج الذي لا يسأل، لما رواه الكليني قدس سره في الصحيح عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام أنه سأله عن الفقير و المسكين فقال: الفقير الذي لا يسأل و المسكين الذي هو أجهد منه الذي يسأل.

و عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: قول الله عز و جل: إنما الصدقات للفقراء و المساكين‏، قال: الفقير الذي لا يسأل الناس و المسكين أجهد منه و البائس أجهدهم.

أقول: يعطى معنى المسكين الذي قاله الامام عليه السلام من أنه الذي أجهد منه قوله تعالى: أو مسكينا ذا متربة و ذكر أهل اللغة و التفسير: المتربة الحاجة الشديدة. و من أنه الذي يسأل قوله تعالى: فانطلقوا و هم يتخافتون أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين‏- القلم- 26»، و قوله تعالى: و إذا حضر القسمة أولوا القربى و اليتامى و المساكين فارزقوهم منه و قولوا لهم قولا معروفا- النساء- 10» و قوله تعالى: و لا يأتل أولوا الفضل منكم و السعة أن يؤتوا أولي القربى و المساكين و المهاجرين في سبيل الله‏ الاية- النور- 23».

و يعطى معنى الفقير من أنه الذي لا يسأل قوله تعالى: للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسئلون الناس إلحافا- البقرة- 277» و قوله تعالى:إن تبدوا الصدقات فنعما هي و إن تخفوها و تؤتوها الفقراء فهو خير لكم‏- البقرة- 275»، و قوله تعالى: للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم و أموالهم يبتغون فضلا من الله و رضوانا- الاية- الحشر- 9».

ثم إن المسكين بحسب النسبة أعم من الفقير لأن الفقير مقابل الغنى أي الذي ليس له مال و المسكين من كانت به المسكنة أيضا. و بعد في المقام بحث طويل الذيل أعرضنا عنه لخروجه من موضوع الكتاب و خوفا من الاسهاب و الاطناب، فراجع إلى تفاسير القرآن الكريم و في زكاة الكتب الفقهية، و قد أشبع الكلام السيد صاحب المدارك عند قول المحقق- ره- في زكاة الشرائع: أصناف المستحقين للزكاة سبعة: الفقراء و المساكين إلخ. (ص 277 من الطبع الرحلي على الحجر).

(المدفوعون) جمع المدفوع من دفعه إذا نحاه و أبعده و رده. قيل: المراد منه هنا الفقير لأن كل أحد يكرهه و يدفعه عن نفسه و سيأتي بقية الكلام فيه في المعنى.

و قال المجلسي- ره- في البحار (ص 643 ج 8 من الطبع الكمباني) و في بعض النسخ: المدقعون بالقاف، قال في القاموس: المدقع كمحسن الملصق‏

بالدقعاء و هو التراب. انتهى.

و أقول: منه قول رسول الله صلى الله عليه و آله للنساء: إنكن إذا جعتن دقعتن و إذا شبعتن خجلتن، و لكن الصواب ما اخترناه و هو الذي موافق لنسخة الرضي- ره-.

(الغارم) الذي علاه الدين لا يجد القضاء. (رتع) كمنع اى أكل و شرب ما شاء في خصب و سعة. (فقد أخل بنفسه في الدنيا و هو في الاخرة أذل و أخزى) هذا هو المطابق للنسخة التي قوبلت بنسخة الشريف الرضي- ره- و هو أخل بالخاء المعجمة من غير ذكر الخزي كما في بعض النسخ، و من غير ذكر الذل و الخزى كما في نسخ اخرى. و في أكثر النسخ المطبوعة فقد أحل بنفسه في الدنيا الذل و الخزي بالحاء المهملة في أحل، و في بعضها الاخر فقد أذل نفسه في الدنيا الخزي.

و في نسخة اخرى مخطوطة، فقد أحل بنفسه في الدنيا الخزي. و جعل بعضهم الخزى بضم الخاء و فتح الزاي جمع الخزية بفتح الخاء أى البلية و لكن الصواب ما اخترناه موافقا للرضي- ره-.

قال في القاموس: أخل بالشي‏ء أجحف و بالمكان و غيره غاب عنه و تركه و الوالى بالثغور قلل الجند بها و بالرجل لم يف له و الخلة الحاجة و الفقر و الخصاصة، و في المثل: الخلة تدعو إلى السلة أى إلى السرقة. خل و اخل بالضم احتاج و رجل مخل و مختل و خليل و أخل معدم فقير و اختل إليه احتاج و ما أخلك الله إليه ما أحوجك و الأخل الأفقر. و ما يناسب المقام هو المعنى الأول أعنى الإجحاف. (الأمنة) قال الجوهرى في الصحاح: الأمنة الأمن و منه أمنة نعاسا و الأمنة أيضا الذين يثق بكل أحد و في منتهى الأرب: أمنة محركة بي بيمي و راستى ضد خيانت و بمعنى امنة كهمزه است ثم قال: امنة كهمزة آنكه بر هر كس ايمن باشد و اعتماد كند و آنكه بروى هر كس اعتماد كند در هر كارى انتهى.

و هذا المعنى الأخير هو المراد إن قلنا أن المصدر مضاف إلى الفاعل، و إن قلنا أنه مضاف إلى المفعول به فمعناها هو الذي يثق بكل أحد كما سيأتي.

و في عدة نسخ من المخطوطة و المطبوعة الامة مكان الأمنة إلا نسخة الرضي رضوان الله عليه و هي التي اخترناها.

الاعراب‏

كلمة أمره في المواضع الثلاثة من العهد مشكولة في نسخة عندنا قوبلت بنسخة الرضي بفتح الهمزة و الميم و الراء، و في غيرها من النسخ التي عندنا آمره بمد الهمزة و ضم الميم و الراء، فعلى الأول فعل ماض مغايب و على الثاني متكلم من المضارع، و الصواب هو الأول و ذلك لأن اسلوب كلامه عليه السلام في هذا العهد على وزان عهده الذي كتبه إلى محمد بن أبي بكر حين ولاه مصر و هو: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد عبد الله على أمير المؤمنين إلى محمد بن أبي بكر حين ولاه مصر أمره بتقوى الله و الطاعة في السر و العلانية- إلى أن قال عليه السلام: و أمره أن يدعو من قبله إلى الطاعة و الجماعة- إلى أن قال عليه السلام: و أمره أن يجبى خراج الأرض- إلى أن قال عليه السلام: و أمره أن يحكم بين الناس بالحق- إلى آخر العهد. أتي به في جمهرة رسائل العرب (ص 532 ج 1) ناقلا عن تاريخ الطبرى (ص 231 ج 5) و شرح ابن أبي الحديد (ص 25 ج 2) فضمير أمر يرجع إلى الاسم الظاهر و هو عبد الله علي أمير المؤمنين عليه السلام و كذا الكلام في هذا العهد لأنه كما دريت طويل و لم يذكره الرضي كاملا، و كانت الكلمة على نسخة الرضى على هيئة الماضي فالمختار هو المتعين.

(فيخالف) الفعل منصوب لأنه وقع بعد الفاء التي وقعت جوابا للنفى أعنى لا يعمل و قد قرر في النحو أن المضارع ينصب بأن مضمرة وجوبا بعد الفاء التي وقعت جوابا لنفى أو طلب، قال ابن مالك في باب اعراب الفعل من الألفية:

و بعد فا جواب نفى أو طلب‏ محضين أن و سترها حتم نصب‏

(تفضلا) انتصب على المفعول له. و الظاهر أن قوله بالامارة متعلق بلا يرغب و إن امكن تعلقه بالأفعال الثلاثة جميعا. (فانهم الأخوان) تعليل لما أمره ثالثا. قال الشارح الفاضل المعتزلي: انتصب أهل مسكنة لأنه صفة شركاء و في التحقيق أن شركاء صفة أيضا موصوفها محذوف فيكون صفة بعد صفة و قال: قال‏ الراوندي: انتصب أهل مسكنة لأنه بدل من شركاء. ثم خطأه بقوله: و هذا غلط لأنه لا يعطي معناه ليكون بدلا منه. انتهى.و أقول: إن ذوي فاقة بدل لقوله ضعفاء و لا ضير في كون أهل مسكنة بدلا لقوله شركاء فان أهل مسكنة في المقام هو المقصود بالذات قال ابن مالك:

التابع المقصود بالحكم بلا واسطة هو المسمى بدلا

و كونه مقصودا بالذات لا يستلزم أن يكون المتبوع ساقطا رأسا أو يجعل في حكم الساقط كما يشاهد في بعض كتب النحو إلا في بدل الغلط و ذلك لأن في ذكر المتبوع أعنى المبدل منه فائدة لا محالة لم تحصل لو لم يذكر صونا لكلام الفصحاء عن اللغو و لا سيما كلامه تعالى و كلام نبيه صلى الله عليه و آله فادعاء كونه غير مقصود بالنسبة مع كونه منسوبا إليه في الظاهر و اشتماله على فائدة يصح أن ينسب إليه لأجلها دعوى خلاف الظاهر، كما أفاده العالم الأديب الرضي رحمه الله تعالى في شرحه على الكافية. و تلك الفائدة هي تقوية الحكم و تقريره لأنه بمنزلة إسناد الحكم إلى المحكوم عليه مرتين كما أفاده الفاضل العالم السيد عليخان رحمه الله تعالى في شرحه على الصمدية.

ثم إن قول الفاضل الشارح: لأنه لا يعطى معناه ليكون بدلا منه، لا يجرى في بدل الغلط، على أن بعض النحاة ذهب إلى أن اثنين في قوله تعالى: و لا تتخذوا إلهين اثنين‏ بدل كل معللا بقوله: لعدم اشتراط بدل الكل أن يكون متحدا مع المبدل في المفهوم بل في المصداق فمن حكم أنه بدل بعض متمسكا بأن مفهومه بعض من مفهوم إلهين فقد أخطأ، أتى به الفاضل الميرزه أبو طالب في تعليقته على باب النعت من شرح السيوطي على الألفية. (فقد أخل) جواب لقوله: و من استهان. (و أفظع) منصوب بأن معطوف على أعظم.

(خيانة الأمنة) مصدر مضاف إلى الفاعل، أو مصدر مضاف إلى المفعول به و إن كان الأول أولى، و أما إذا كانت الامة مكان الأمنة فالثانى ليس إلا.

المعنى‏

قد أوصى أمير المؤمنين عليه السلام مخنف بن سليم الأزدي بهذه الوصية لما بعثه على الصدقة. قال الاسترابادي في كتاب رجاله الكبير: مخنف بن سليم الأزدي عربي كوفي و في [د] مخنف بن سليم [الأزدي [ى‏]- جخ‏] من خواصه عربى. و في [ق‏] في أصحابه من اليمن مخنف بن سليم الأزدي و كذا في [صه‏] نقلا عنه و في الجامع مخنف بن سليم الأزدي بن الحارث بن عوف بن ثعلبة بن الدول بن سعد بن مناة ابن غامد الغامدى ولاه علي بن أبي طالب عليه السلام اصفهان روى عنه ابنه أبو رملة و اسمه عامر عداده في أهل البصرة و قيل في أهل الكعبة. مخنف بكسر الميم و سكون الخاء المعجمة و فتح النون و بالفاء. سليم بضم السين و فتح اللام. و الدول بضم الدال و باللام. و غامد بالغين المعجمة و رملة بفتح الراء و باللام. انتهى كلام الأسترابادي.

و أقول: ما حصل لنا من الجوامع و المجاميع أن أمير المؤمنين عليه السلام أوصى مخنف بن سليم بهذه الوصية لما بعثه على الصدقة، و كتب إليه كتابا لما كان عامله على اصبهان و همدان و ذلك أن الأمير عليه السلام لما أجمع أن يسير إلى الشام لقتال معاوية كتب إلى عماله يستفزهم فكتب إلى مخنف:

سلام عليك فاني أحمد اليك الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإن جهاد من صدف عن الحق رغبة عنه، و هب في نعاس العمي و الضلال اختيارا به، فريضة على العارفين، إن الله يرضي عمن أرضاه و يسخط على من عصاه. و إنا قد هممنا بالسير إلى هؤلاء القوم الذين عملوا في عباد الله بغير ما أنزل الله، و استأثروا بالفي‏ء و عطلوا الحدود، و أماتوا الحق، و أظهروا في الأرض الفساد، و اتخذوا الفاسقين وليجة من دون المؤمنين، فاذا ولي الله أعظم أحداثهم أبغضوه و أقصوه و حرموه و إذا ظالم ساعدهم على ظلمهم أحبوه و أدنوه و بروه، فقد أصروا على ظلمهم و أجمعوا على الخلاف و قديما صدوا عن الحق و تعاونوا على الاثم و كانوا ظالمين فاذا أتيت بكتابى هذا فاستخلف على عملك أوثق أصحابك في نفسك و أقبل إلينا لعلك تلقى معنا هذا العدو المحل فتأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر، و تجامع المحق، و تباين المبطل فإنه لا غنى بنا و لا بك عن أجر الجهاد و حسبنا الله و نعم الوكيل.و كتبه عبيد الله بن أبي رافع في سنة سبع و ثلاثين.

فاستخلف مخنف على اصبهان الحارث بن أبي الحارث بن الربيع، و استعمل على همدان سعيد بن وهب و كلاهما من قومه، و أقبل حتى شهد مع على عليه السلام صفين.نقله في جمهرة رسائل العرب (ص 458 ج 1) عن شرح ابن أبي الحديد (ص 282 ج 1).

قوله عليه السلام: (أمره بتقوى الله‏ إلخ) أمره‏ عليه السلام في هذا الوصية بأوامر بعضها يبين وظيفته مع الخالق تعالى و بعضها يبين وظيفته مع الخلق، و ذكر للأول أمرين أحدهما قوله عليه السلام: أمره بتقوى الله‏ إلخ، و قد تقدم منا أنه عليه السلام كان يوصى في أكثر كتبه و عهوده و وصاياه أولا بتقوى الله‏ و كان هذا من دأبه عليه السلام امتثالا لأمر الله سبحانه و اقتداء بكلامه حيث قال: و لقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم و إياكم أن اتقوا الله‏ (النساء 132) فراجع إلى شرح المختار الثاني عشر من باب الكتب (ص 84 ج 18) و إلى شرح المختار الخامس و العشرين.

و قد أفاد بعض الأماجد أن جميع خيرات الدنيا و الاخرة جمعت في كلمة واحدة هي التقوى. انظر إلى القرآن ما علق عليها من خير و ثواب و أضاف إليها من سعادة و كرامة دنيوية و اخروية:

الأول الثناء عليها قال الله سبحانه: و إن تصبروا و تتقوا فإن ذلك من عزم الأمور.

الثاني الحفظ و الحراسة من الأعداء و الماكرين قال الله تعالى: و إن تصبروا و تتقوا لا يضركم كيدهم شيئا.

الثالث التأييد و النصر قال الله تعالى: إن الله مع الذين اتقوا.

الرابع النجاة من النار قال الله سبحانه: ثم ننجي الذين اتقوا.

الخامس الخلود في الجنة قال الله تعالى: أعدت للمتقين‏.

السادس النجاة من الشدائد و الرزق الحلال قال الله تعالى: و من يتق الله يجعل له مخرجا و يرزقه من حيث لا يحتسب‏.

السابع إصلاح العمل قال عز شأنه: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و قولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم‏.

الثامن غفران الذنب قال الله جل جلاله: و يغفر لكم ذنوبكم*.

التاسع محبة الله تعالى عز اسمه: إن الله يحب المتقين‏.

العاشر قبول الأعمال قال الله عم نواله: إنما يتقبل الله من المتقين‏.

الحادى عشر الاكرام و الإعزاز قال الله تبارك و تعالى: إن أكرمكم عند الله أتقاكم‏.

الثاني عشر البشارة عند الموت قال الله عظم شأنه: الذين آمنوا و كانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا و في الآخرة.

و لأجل اجتماع تلك الخصال قال الله سبحانه: و لقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم و إياكم أن اتقوا الله‏.

و أفاد نحوه مع زيادات من روايات و إشارات الشيخ العالم الرباني جمال الدين أحمد بن فهد الحلي قدس سره في أواخر كتاب عدة الداعى و نجاح الساعى (ص 226) فراجع.

و المروي في مجمع البيان في تفسير القرآن عن النبي صلى الله عليه و آله أنه قال: جماع التقوى في قوله تعالى: إن الله يأمر بالعدل و الإحسان و إيتاء ذي القربى و ينهى عن الفحشاء و المنكر و البغي يعظكم لعلكم تذكرون‏ (النحل 91). قال:

و قيل: المتقي الذي اتقى ما حرم عليه و فعل ما أوجب عليه. و قيل: هو الذي يتقى بصالح أعماله عذاب الله. و سأل عمر بن الخطاب كعب الأخبار عن التقوى فقال: هل أخذت طريقا ذا شوك؟ فقال: نعم، قال: فما عملت فيه؟ قال: حذرت و تشمرت فقال كعب: ذلك التقوى. و نظمه بعض الناس فقال:

خل الذنوب صغيرها و كبيرها فهو التقى‏
و اصنع كماش فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى‏
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى‏

و روي عن النبي صلى الله عليه و آله أنه قال: انما سمي المتقون لتركهم مالا بأس به حذرا للوقوع فيما به بأس. و قال عمر بن عبد العزيز: التقى ملجم كالمحرم في الحرم.

و قال بعضهم: التقوى أن لا يراك الله حيث نهاك و لا يفقدك حيث أمرك. انتهى ما في المجمع في المقام، و قد أتي به في أول سورة البقرة.

و أقول: ما نقله من سؤال عمر عن التقوى أتى به السيوطى في الدر المنثور أيضا لكنه قال: أخرج ابن أبي الدنيا في كتاب التقوى عن أبي هريرة أن رجلا قال له: ما التقوى؟ قال: هل أخذت طريقا ذا شوك؟ قال: نعم قال: فكيف صنعت؟ قال إذا رأيت الشوك عدلت عنه أو جاوزته أو قصرت عنه قال: ذاك التقوى انتهى. فليتأمل.

ثم إن قول الشاعر: لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى، كأنه يشير إلى قول رسول الله صلى الله عليه و آله حيث نزل بأرض قرعاء فقال لأصحابه: ايتونا بحطب فقالوا:

يا رسول الله نحن بأرض قرعاء ما بها من حطب قال: فليأت كل انسان بما قدر عليه فجاءوا به حتى رموا بين يديه بعضه على بعض فقال رسول الله صلى الله عليه و آله: هكذا تجتمع الذنوب ثم قال: إياكم و المحقرات من الذنوب فان لكل شي‏ء طالبا ألا و إن طالبها يكتب ما قدموا و آثارهم و كل شي‏ء أحصيناه في امام مبين. رواه الكليني قدس سره في الكافي. و أتى به الفيض في باب استصغار الذنب و الاصرار عليه من الوافي (ص 168 ج 3).

و في أول سورة البقرة من تفسير الدر المنثور روايات و حكايات مفيدة في التقوى و لكن رأسها ما وصفه إمام المتقين علي أمير المؤمنين عليه السلام لهمام بن شريح بن يزيد بن مرة رضوان الله عليه و هو المختار 191 من باب الخطب من النهج أوله:روى أن صاحبا لأمير المؤمنين عليه السلام يقال له همام كان رجلا عابدا- إلخ. و قد

رواه ثقة الاسلام الكليني في باب المؤمن و علاماته و صفاته من اصول الكافي ص 979 ج 2 من الكافي المشكول. و رواه الصدوق- ره- في المجالس أيضا. و الشيخ الكراجكي- ره- في كنز الفوائد. و هو مروي أيضا في كتاب سليم بن قيس الكوفي ص 190 من طبع النجف. و راجع أيضا إلى باب صفات الشيعة و أصنافهم من المجلد الخامس عشر من البحار (ص 154 من الطبع الكمبانى). و إلى باب صفات المؤمن و علاماته من الوافي (ص 33 ج 3). و مرآة العقول (ص 201 ج 2) من المطبوع على الحجر.

ثم أوصى عليه السلام أن يكون تقواه‏ في سرائر أمره‏ و خفيات‏ عمله و ذلك لأن الانسان يأبى عن إتيان الفواحش في مرئى الناس صونا عن أن يتطرق إليه ما لا يرضى مما يضره و يمنعه من الوصول إلى ما يهويه و يشتهيه. ثم علل ذلك تنبيها له بقوله: (حيث لا شهيد غيره و لا وكيل دونه) فمن عرف أنه تعالى‏ شهيد و وكيل‏ لا غير و أنه بده اللازم و معه اينما كان فهو لا يفعل إلا ما أجازه تعالى و أمره به فهذا العرفان و الشهود أشد بمراحل من الحضور مع الناس بل أين هذا من ذلك فلا يرتكب المعاصى إلا الغافل الذي لا يدري أنه من هو و بين يدي من هو و مع من هو، فهو من الذين قال عز من قائل: استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله. و بما قدمناه دريت أن ما ذهب إليه الشارح المعتزلي و فسر كلامه عليه السلام‏ حيث لا شهيد و لا وكيل‏ بقوله يعنى يوم القيمة و هم، لأنه تعالى‏ شهيد و وكيل‏ في الدنيا و الاخرة. و تفسير الكلام هو ما بيناه لا غير و ما فسره الشارح المذكور يشابه كلام الظاهريين من المتكلمين.

و روى ثقة الإسلام الكليني- ره- في الجامع الكافي عن إسحاق بن عمار قال قال أبو عبد الله عليه السلام: يا إسحاق خف الله كأنك تراه و إن كنت لا تراه فانه يراك، و ان كنت ترى أنه لا يراك فقد كفرت و إن كنت تعلم أنه يراك ثم برزت له بالمعصية فقد جعلته من أهون الناظرين عليك. و ما أجاد قول العارف عبد الرحمن الجامي في سبحة الأبرار حيث قال:

در مقامي كه كنى قصد گناه‏ گر كند كودكى از دور نگاه‏
شرم دارى ز گنه در گذرى‏ پرده عصمت خود را ندرى‏
شرم بادت ز خداوند جهان‏ كه بود واقف أسرار جهان‏
بر تو باشد نظرش بيگه و گاه‏ تو كنى در نظرش قصد گناه‏

و قد مضى بحثنا عن رؤيته تعالى في المختار الثامن من كتبه عليه السلام و رسائله (ص 242 ج 17) فراجع. و سيأتي نقل رسالتنا منفردة في لقائه تعالى فارتقب.

قوله: عليه السلام‏ (و أمره أن لا يعمل‏- إلخ) هذا ثانى الأمرين الذين ذكرهما بيانا لوظيفة العبد مع خالقه تعالى و حاصله أن العبد يجب له الاجتناب من الرياء و السمعة و النفاق، ثم عرف الأمين و المخلص ترغيبا للعباد إليهما بقوله: (و من لم يختلف سره‏- إلخ.) و قد روى ثقة الإسلام الكليني قدس سره في الجامع الكافي باسناده عن مسع بن عبد الملك عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله: ما زاد خشوع الجسد على القلب فهو عندنا نفاق. رواه في آخر باب صفة النفاق و المنافق من كتاب الايمان و الكفر من اصول الكافي (ص 289 ج 2 من الكافي المشكول).

و الظاهر أن المراد بالأمانة في المقام هو أمانة العامل على الصدقات بأن يقال:لما كان عليه السلام‏ بعث‏ مخنف بن سليم‏ على الصدقة و اتخذه أمينا على حفظها في غيابه و بعض الناس يخالف سرهم علانيتهم قال ذلك تحريضا للأمين إلى أداء الأمانة و إخلاص‏ العبادة. و لكلامه هذا أثر تام لمن يبعث على عمل و حفظ مال و نحوهما حيث لا يعلم ما يعمل إلا الله الشهيد الحفيظ.

قوله عليه السلام: (و أمره أن لا يجبههم‏- إلخ) أخذ عليه السلام في بيان وظيفة العامل مع الخلق أمره أن لا يواجههم بما يكرهونه و لا يقول فيهم ما لم يكن فيهم بأن يقول مثلا: ما تعلق به الزكاة من أموالكم كان أكثر من ذلك و انما كتمتموها منى أو ما تدعون من أنكم أديتم الزكاة لا أتقبل منكم و إنما تقولون به فرارا من الزكاة و نحوها، و أن لا يعرض‏ عنهم تفضلا بالإمارة عليهم‏ أى لا يوجب إمارته عليهم هذه الامور كما هو دأب من غرته الإمارة. ثم علل عليه السلام ما أمره به بقوله:

(فإنهم الاخوان في الدين و الأعوان على استخراج الحقوق) فالاعراض عنهم و مقابلتهم بما يكرهون و الإفك فيهم يوجب تفرقهم و تنفر طباعهم، و تعطيل‏ الحقوق‏ و تفرقة الاخوان‏ مستلزمة لتخريب البلدان، و تضييع‏ الحقوق‏ يؤدى إلى مفاسد كثيرة، و قد أكد عليه السلام في مواضع كثيرة بتأدية حقوق الإخوان و مراعاة أحوالهم، و بين منزلتهم ببيانات شافية وافية، و كلامه عليه السلام في ذلك في النهج مشحون.

قوله عليه السلام: (و إن لك في هذه الصدقة- إلخ) و ذلك لأن مخنف كان عامله‏ على الصدقة و قد قال عز من قائل في سورة التوبة: إنما الصدقات للفقراء و المساكين و العاملين عليها و المؤلفة قلوبهم و في الرقاب و الغارمين و في سبيل الله و ابن السبيل فريضة من الله و الله عليم حكيم‏.

ثم قال له: إن لك و لغيرك في هذه الصدقات نصيبا مفروضا فوف حقوقهم كما أنا موفوك حقك فكما تحب أخذ حقك كاملا محفوظا فاحفظ حقوقهم و لا تخنهم و أدها إليهم، و وصف الشركاء بأهل مسكنة و الضعفاء بذوى فاقة تحريضا للعامل على الشفقة عليهم و حفظ أموالهم و تأدية حقوقهم و عدم خيانته إياهم.

ثم حذره عن سوء الخاتمه و نكال الاخرة بقوله: (و إلا فانك‏- إلخ) أى و إن لم توف حقوقهم‏ فإنك من أكثر الناس خصوما يوم القيامة. اى يكون خصومك‏ أكثر الناس‏ و هم مستحقوا الزكاة من الفقراء و المساكين و غيرهم من أصناف المستحقين.

ثم شدد التحذير بقوله‏ (و بؤسا لمن خصمه‏- إلخ) و الخصم هم أصناف المستحقين للزكاة كما هو الظاهر من كلامه عليه السلام و هم في القرآن الكريم ثمانية إلا أن المحقق- ره- مال في الشرائع و جماعة إلى أنهم سبعة أصناف ظنا منهم أن الفقراء و المساكين صنف واحد و أن هذين اللفظين أعنى الفقراء و المساكين مترادفان و قد دريت في بيان اللغة أنه و هم و الحق أنهما متغايران كما اختاره أكثر العلماء.

و ذكر أمير المؤمنين عليه السلام أربعة أصناف منهم بلفظ القرآن و هم: الفقراء و المساكين و الغارمون و ابن السبيل‏ و أشار إلى العاملين بقوله: و إن لك في هذه الصدقة نصيبا مفروضا، فهؤلاء خمسة أصناف و بقيت ثلاثة أصناف منهم و هم المؤلفة قلوبهم و الرقاب و في سبيل الله، و بقي من كلامه عليه السلام أيضا السائلون و المدفوعون‏.

فقال الشارح البحرينى: أنه عليه السلام قد ذكر ههنا في معرض ايجاب الشفقة و الرحمة له خمسة: و هم‏ الفقراء و المساكين‏ و يدخل فيه‏ السائلون‏، ثم‏ المدفوعون‏ و يشبه أن يريد بهم العاملين عليها و سماهم مدفوعين باعتبار أنم يدفعون لجباية الصدقات أو لأنهم إذا أتوا إلى من لا زكاة عليه فسألوه هل عليه زكاة أم لا دفعهم عن نفسه و ذكرهم هنا بهذا الوصف لكونه وصف ذل و انقهار و كونه عليه السلام في معرض الأمر بالشفقة عليهم. قال بعض الشارحين: أراد بهم الفقراء السائلين لكونهم يدفعون عند السؤال، ثم‏ الغارم و ابن السبيل‏ و انما ذكر هؤلاء الخمسة أو الأربعة لكونهم أضعف حالا من الباقين. انتهى كلامه.

و لكنك علمت بما قدمنا أن الأمير عليه السلام أشار إلى العاملين عليها بقوله‏ و إن لك في هذه الصدقة نصيبا مفروضا فلا حاجة إلى التكلف الذي ارتكبه.

و قال الشارح المعتزلي: إنه عليه السلام إنما أراد أن يذكر الأصناف المذكورة في الاية فترك ذكر المؤلفة قلوبهم لأن سهمهم سقط بعد موت رسول الله صلى الله عليه و آله فقد كان يدفع إليهم حين الإسلام ضعيف‏[2] و قد أعزه الله سبحانه فاستغنى عن تأليف قلوب المشركين و بقيت سبعة أصناف و هم الفقراء و المساكين و العاملون عليها و الرقاب و الغارمون و في سبيل الله و ابن السبيل، فأما العاملون عليها فقد ذكره عليه السلام في قوله: و إن لك في هذه الصدقة نصيبا مفروضا، فبقيت ستة أصناف أتى عليه السلام بألفاظ القرآن في أربعه أصناف منها و هى: الفقراء و المساكين و الغارم و ابن السبيل‏ و أبدل لفظتين و هما الرقاب و في سبيل الله بلفظتين و هما السائلون و المدفوعون‏.

و قال: و السائلون‏ ههنا الرقاب المذكورون في الاية و هم المكاتبون يتعذر عليهم أداء مال الكتابة فيسئلون الناس ليتخلصوا من ربقة الرق و قيل: هم الاسارى يطلبون فكاك أنفسهم. و المدفوعون‏ ههناهم الذين عناهم الله تعالى في الاية بقوله: و في سبيل الله، و هم فقراء الغزاة سماهم مدفوعين لفقرهم و المدفوع و المدفع الفقير لأن كل أحد يكرهه و يدفعه عن نفسه، و قيل: هم الحجيج المنقطع بهم سماهم مدفوعين لأنهم دفعوا عن إتمام حجهم أو دفعوا عن العود إلى أهلهم.انتهى كلامه.

و أقول: إن في اختصاص سهم المؤلفة قلوبهم بزمان النبي صلى الله عليه و آله كلاما أولا، و كذا في اختصاص المؤلفة قلوبهم بالمشركين ثانيا، و كذا في اختصاص الرقاب بالمكاتبين ثالثا، و كذا في اختصاص سبيل الله بفقراء الغزاة رابعا، و في كل واحد منها بحث فقهى يطول بالورود فيها الكتاب و ينجر إلى الاسهاب و انما الغرض الاشارة إليها حتى يراجع إلى محالها من شاء. ثم إن اسلوب كلامه عليه السلام على نسخة النهج يحكى بأنه ليس في مقام بيان أصناف مستحقي الزكاة حتى يوجه كلامه بتلك الوجوه، بل أتى بأربعة أصناف منهم هم أسوء حالا من غيرهم ترغيبا للعامل الى مراعاة أحوالهم و الشفقة عليهم.

و السائلون و المدفوعون الفقراء و المساكين‏ إلا أن السائل و المدفوع أسوء حالا من‏ الفقراء و المسكين و المدفوع هو المطرود الذي يدفعه الناس و يطردونه و هو أسوء حالا من السائل و يؤيده ما نقلنا من البحار آنفا من أن هذه الكلمة في بعض النسخ كانت المدقعين مكان المدفوعين و المدقع الملصق بالتراب. فكأنه عليه السلام قال: بؤسا لمن خصمه عند الله‏ هؤلاء الذين بلغوا إلى هذا المبلغ من الفقر و الضعف و العجز.

نعم على نسخة الدعائم كما تقدم في المصدر قد أتى بجميع أصناف المستحقين حيث قال: و إن لك في هذه الصدقة حقا- إلى قوله: و لك فيها شركاء فقراء و مساكين و غارمون و مجاهدون و أبناء سبيل و مملوكون و متألفون- إلخ فعلى نسخة الدعائم معنى العبارة بين لا يقبل التأويل و التوجيه. و بعد اللتيا و التي فان‏ أبيت إلا حمل كلامه في النهج على أصناف المستحقين أيضا فلا بد من شمول السائلين و المدفوعين على الأصناف الثلاثة الباقية أعنى المؤلفة قلوبهم و الرقاب و في سبيل الله بأحد الوجوه المتقدمة أو نحوها، و لا وجه لإخراج المؤلفة قلوبهم.

ثم إنه عليه السلام قال في الوصية المتقدمة لعامله: (ثم احذر إلينا ما اجتمع عندك نصيره حيث أمر الله به) و قال لعامله في هذه الوصية: (و انا موفوك حقك فوفهم حقوقهم) و ظاهر كلامه ههنا يشعر بأنه عليه السلام أمر عامله هذا أعنى مخنف أن ينقل الصدقات إلى مستحقى بلدها اصفهان أو همدان و نواحيهما، و قد مر بعض المسائل الفقهية المربوطة في الوصية المتقدمة منها جواز نقل مال الزكاة من بلد إلى بلد آخر فراجع.

قوله عليه السلام: (و من استهان بالأمانة- إلخ) لا يخفى لطف كلامه عليه السلام: تشبيه‏ (و رتع في الخيانة) فكانه عليه السلام شبه الخائن بدابة ترعى في مرعى لا تتدبر في مأكلها و مشربها و سوء خاتمتها.

قوله عليه السلام: (فقد أخل بنفسه) أى أجحف بنفسها فالخائن لا يخون إلا نفسه و كل نفس بما كسبت رهينة و إذا كشف الغطاء عن هذه النفس الدنية في يوم تبلى السرائر فهى أذل و أخزى لأنها ليست في الاخرة إلا ما كانت في الاولى و لا نتعبك بالبحث عن الجزاء في المعاد و إن شئت فراجع إلى كتابنا المسمى بالقيامة و نكتفي ههنا بنقل حديث شريف من الكلمة العلياء خاتم الأنبياء محمد المصطفى صلى الله عليه و آله يهدى إلى الرشد لمن كان له قلب، رواه حملة الأحاديث في جوامعهم الروائية و نحن نأتي به من كتاب الأمالي للعالم الجليل قدوة المحدثين الشيخ الصدوق أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي قدس سره و هو الحديث الرابع من المجلس الأول منه رواه باسناده عن العلاء بن محمد بن الفضل عن أبيه عن جده قال قال قيس بن عاصم: وفدت مع جماعة من بنى تميم إلى النبى صلى الله عليه و آله فدخلت و عنده الصلصال بن الدلهمس فقلت: يا نبي الله عظنا موعظة ننتفع بها فانا قوم نعبر في البرية، فقال رسول الله صلى الله عليه و آله: يا قيس إن مع العز ذلا، و إن مع الحياة موتا و إن‏ مع الدنيا آخرة و إن لكل شي‏ء حسيبا و على كل شي‏ء رقيبا و إن لكل حسنة ثوابا و لكل سيئة عقابا، و لكل أجل كتابا و إنه لا بد لك يا قيس من قرين يدفن معك و هو حى و تدفن معه و أنت ميت فان كان كريما أكرمك و إن كان لئيما أسلمك ثم لا يحشر إلا معك و لا تبعث إلا منه و لا تسئل إلا عنه فلا تجعله إلا صالحا فانه إن صلح انست به و إن فسد لا تستوحش إلا منه و هو فعلك. فقال: يا نبى الله احب أن يكون هذا الكلام في أبيات من الشعر نفخر به على من يلينا من العرب و ندخره فأمر النبي صلى الله عليه و آله من يأتيه بحسان قال: فأقبلت افكر فيما أشبه هذه العظة من الشعر فاستتب لي القول قبل مجي‏ء الحسان فقلت: يا رسول الله قد حضرتنى أبيات أحسبها توافق ما تريد فقلت:

تخير خليطا من فعالك انما قرين الفتى في القبر ما كان يفعل‏
و لا بد بعد الموت من أن تعده‏ ليوم ينادى المرء فيه فيقبل‏
فان كنت مشغولا بشي‏ء فلا تكن‏ بغير الذي يرضى به الله تشغل‏
فلن يصحب الانسان من بعد موته‏ و من قبله إلا الذي كان يعمل‏
ألا إنما الانسان ضيف لأهله‏ يقيم قليلا بينهم ثم يرحل‏

و هذا الحديث و إن كان كله نورا و كل واحدة من جملها تفتح بابا من الحقيقة و تشير إلى سر لأهله و مع ذلك فينبغي لك التأمل جدا في قوله صلى الله عليه و آله:و إن مع الدنيا آخرة و لم يقل: و إن بعد الدنيا آخرة حتى يجعل الاخرة في طول الدنيا الزمانى فافهم، و في قوله: من قرين يدفن معك و هو حى، و قوله: لا يحشر إلا معك، و قوله: لا تستوحش إلا منه، لا سيما في قوله: و هو فعلك أى ذلك القرين الحى المحشور معك هو فعلك. و نعم ما قيل:

نهفته معنى نازك بسى است در خط يار تو فهم آن نكنى اى أديب من دانم‏

و في آخر الباب الخامس من إرشاد القلوب للديلمى- ره-: قال قيس بن عاصم وفدت على رسول الله صلى الله عليه و آله في جماعة من تميم فقال لي: اغتسل بماء و سدر فاغتسلت ثم رجعت إليه فقلت: يا رسول الله عظنا موعظة ننتفع بها فقال: يا قيس إن‏ مع العز ذلا- إلخ، انتهى. و قال ابن الأثير في اسد الغابة: إنه أسلم فأمره النبي صلى الله عليه و آله أن يغتسل بماء و سدر.

و من الحديث يعلم أن قيس بن عاصم كان رجلا فهيما عاقلا لائقا بأن يخاطب بهذه الجمل و يلقى إليه تلك الصحيفة المكرمة و الموعظة الحسنة بل الحكمة العالية المتعالية، و كان وفوده إلى النبي صلى الله عليه و آله سنة تسع من الهجرة و هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه و آله: هذا سيد أهل الوبر. و كان سيدا شريفا جوادا عاقلا مشهورا بالحلم، و هو الذي رثاه عبدة الطبيب بقوله:

عليك سلام الله قيس بن عاصم‏ و رحمته ما شاء أن يترحما
تحية من أوليته منك نعمة إذا زار عن شحط بلادك سلما
فما كان قيس هلكه هلك واحد و لكنه بنيان قوم تهدما

و كان قيس بن عاصم قد حرم على نفسه الخمر في الجاهلية و كان سبب ذلك أنه غمز عنكة ابنته و هو سكران و سب أبويها، و رأى القمر فتكلم، و أعطى الخمار كثيرا من ماله، فلما أفاق اخبر بذلك فحرمها على نفسه و قال فيها أشعارا منها قوله:

رأيت الخمر صالحة و فيها خصال تفسد الرجل الحليما
فلا و الله أشربها صحيحا و لا أشفى بها أبدا سقيما
و لا أعطى بها ثمنا حياتى‏ و لا أدعو لها أبدا نديما
فان الخمر تفضح شاربيها و تجنيهم بها الأمر العظيما

و أراد بالرجل الحليم نفسه فإنه كان بالحلم مشهورا، قيل للأحنف بن قيس ممن تعلمت الحلم؟ قال: من قيس بن عاصم المنقرى رأيته يوما قاعدا بفناء داره محتبيا بحمائل سيفه يحدث قومه إذ اتي برجل مكتوف، و آخر مقتول فقيل له: هذا ابن أخيك قتل ابنك، قال: فو الله ما حل حبوته و لا قطع كلامه، فلما أتمه التفت إلى ابن أخيه، فقال: يا ابن أخى بئس ما فعلت أثمت بربك و قطعت رحمك و قتلت ابن عمك و رميت نفسك بسهمك ثم قال لابن له آخر: قم‏ يا بنى فوار أخاك و حل كتاف ابن عمك و سق إلى امك مائة ناقة دية ابنها فانها غريبة.

و لما حضرته الوفاة دعا بنيه فقال: يا بني احفظوا عني فلا أحد أنصح لكم منى إذا مت فسودوا كباركم و لا تسودوا صغاركم فيسفه الناس كباركم و تهونون عليهم، و عليكم بإصلاح المال فإنه منبهة للكريم و يستغنى به عن اللئيم، و إياكم و مسألة الناس فإنها آخر كسب الرجل و أوصى عند موته فقال: إذا أنا مت فلا تنوحوا على فإن رسول الله صلى الله عليه و آله لم ينح عليه.

و كان قيس هذا أول من وأد و جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و آله فقال: إنى و أدت ثمانى بنات لي في الجاهلية فقال: اعتق عن كل واحدة منهن رقبة قال: إنى صاحب إبل قال صلى الله عليه و آله: إن شئت عن كل واحدة منهن بدنة. كما في الإصابة.

و في اسد الغابة: روي عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه و آله: إنى و أدت اثنتي عشرة بنتا أو ثلاث عشرة بنتا فقال له النبي صلى الله عليه و آله: اعتق عن كل واحدة منهن نسمة. و في المقام ينبغي أن يبحث عن الدية و لكن الكلام يجر الكلام.

و يليق أن ينظر في شأن قيس هذا حيث كان أول الأمر ممن يأد بناته قال عز من قائل: و إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا و هو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أ يمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون‏ (النحل 60) ثم هدي بالقرآن الكريم إلى الدين القويم، نعم إن هذا القرآن يهدى للتي هي أقوم، و كان ممن حرم على نفسه الخمر في الجاهلية و من أمره هذا و من حلمه و كلامه يعلم فخامة قدره و قدر ذكائه و فطنته.

و قد كان غير واحد من اولى الدراية حرموا على أنفسهم الخمر في الجاهلية منهم عثمان بن مظعون و قال: لا أشرب شرابا يذهب عقلى، و يضحك بى من هو أدنى منى، و يحملني أن أنكح كريمتى.

و منهم العباس بن مرداس فانه قيل له: ألا تأخذ من الشراب فإنه يزيد في قوتك و جرأتك، قال: لا اصبح سيد قومى و أمسى سفيهها لا و الله لا يدخل جوفي شي‏ء يحول بينى و بين عقلى أبدا. و قد أتى بعدة منهم ابن الأثير في ترجمة العباس هذا من اسد الغابة.

قوله عليه السلام: (و ان أعظم الخيانة- إلخ) و ذلك لأن‏ الخيانة في نفسها قبيحة و إن كان في حق من لا يثق بك، فهى في حق من اعتمد عليك و وثق بك و استأمنك أقبح و أفحش و أعظم‏ عقوبة و نكالا في الاولى و الاخرة، و كذلك الكلام في‏ الغش‏.

و كذلك على نسخة الامة مكان الأمنة و لكن في الأمنة لطفا ليس في الامة كما هو مختارنا الموافق لنسخة الرضى رضوان الله عليه. و معنى العبارة على هذا الوجه يصح إن كان المصدر مضافا إلى المفعول و قد اختاره الفاضل الشارح المعتزلي حيث قال: و خيانة الامة مصدر مضاف إلى المفعول به لأن الساعي اذا خان فقد خان الامة كلها، و كذلك‏ غش الأئمة مصدر مضاف إلى المفعول أيضا لأن الساعى إذا غش في الصدقة فقد غش الامام انتهى.

و أقول: قد تقدم أن العبارة إذا كانت الامة فالجملة الاولى لا تحتمل إلا إضافة المصدر إلى المفعول به، و تجعل الثانية على وزانها أيضا حتى يصير الكلام على نسق واحد. و لكن حق التدبر في الكلام و سياق العهد و اسلوبه تنادي بأن الصواب هو الأمنة و أن الاضافة في الجملتين إلى الفاعل أولى إن لم تكن متعينة.

و انظريا باغى الرشاد و طالب السداد في هذا العهد الشريف حيث صدره عليه السلام بتقوى الله في بواطن الامور و الأعمال مشيرا إلى أن الله هو الشهيد الوكيل فينبغي لعبد الله أن يكون عند الله مطلقا و لا يكون من الغافلين أولا، ثم أمر بترك الرياء و النفاق المؤدى إلى الاخلاص ثانيا، ثم أمر بالشفقة على الرعية و نهى عن التكبر و التطاول عليهم بسبب الإمارة عليهم ثالثا، ثم أوصى في حفظ حقوقهم و تأديتها إليهم إن أحب ألا يكون‏ خصمه عند الله يوم القيامة هؤلاء المساكين رابعا، ثم حذر من استهان بالأمانة بعذاب الاخرة، و خيانته لنفسه خامسا، و كما صدر عهده بتقوى الله تعالى كذا عقبه بالزهد في الدنيا و تزكية النفس عن الأدران النفسانية و الأوساخ الدنيوية حيث قال: و لم ينزه نفسه و دينه عنها إلخ. سادسا، و ختمه بذم‏ خيانة الأمنة و غش الأئمة سابعا. نعم هكذا و الله كلام من اجتباه الله تعالى ليستنقذ عباده من الضلالة و الجهالة. و الحمد لله ولي التوفيق و بيده أزمة التحقيق.ثم إن لمستحقى الزكاة من الأصناف الثمانية شروطا مذكورة مشروحة في الكتب الفقهية فلا نتعبك بعنوانها و البحث عنها.

الترجمة

از جمله عهد آن حضرت عليه السلام است كه آنرا به يكى از عمالش هنگامى كه او را براى جمع زكاة فرستاده مرقوم فرمود: امر كرد او را كه در امور پنهان و اعمال پوشيده‏ اش با تقوى باشد چه گواهى جز خدا و وكيلى سواى او نيست.

و امر كرد او را كه در آشكار طاعتى بجا نياورد كه در پنهان خلاف آنرا مرتكب شود، و هر كه پنهان و آشكارش و كردار و گفتارش دو گونه و خلاف هم نيست امانت را ادا كرد و عبادت را به اخلاص گذرانده.

و امر كرد او را كه دست رد به پيشانى مردم نزند و نابايست و ناخوش بر آنها پيش نياورد، و بدانها بهتان نزند و بر آنها دروغ نبندد. و از جهت إمارت و حكومت بر آنان از ايشان روى برنگرداند چه آنان برادران دينى و ياوران بر گرفتن حقوق هستند.

و همانا كه براى تو در اين زكاة بهره واجب و حقى معلوم است، و مر تو را انبازان درويش، و ناتوان تهيدست در اين مال است، و ما حق تو را بتمام مى ‏دهيم پس تو هم حق ايشان را بتمام و كمال بپرداز، و گرنه خصم تو در روز رستاخيز مردم بسيار خواهند بود. و بدا بكسى كه خصم او نزد خدا فقرا و مساكين و سائلان و رانده‏ شدگان و وامداران و رهگذريان باشند، و آنكه امانت را خوار دارد و در خيانت چرا كند و خودش را و دينش را از آن پاك نسازد بخودش در دنيا ستم كرد و در آخرت هم خويشتن را زبون و رسوا ساخت. و همانا كه بزرگترين خيانت خيانت كسى است كه ديگران بر وى اعتماد دارند، و زشت‏ترين غش كردن غش كردن پيشوايان است.[3][4]

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی

_____________________________________________

[1] ( 1) الابيات من الحماسة فراجع الى شرح الحماسة للمرزوقى. الحماسة 254. منه.

[2] ( 1) كذا فى الطبع على الحجر و كأن الصواب: حين كان الاسلام ضعيفا منه ..

[3] ( 1) اين وجه ترجمه باعتبار اضافه مصدر به فاعل است و اگر مصدر را مضاف به مفعول به بدانيم: ترجمه آن چنين مى‏شود كه: همانا بزرگترين خيانت خيانت به كسانى است كه بشخص وى وثوق و اعتماد دارند، و زشت‏ترين غش كردن غش كردن به پيشوايان است.

[4] هاشمى خويى، ميرزا حبيب الله، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى) – تهران، چاپ: چهارم، 1400 ق.

نهج البلاغه نامه ها نامه شماره 25 شرح میر حبیب الله خوئی(به قلم علامه حسن زاده آملی )وصیت

نامه 25 صبحی صالح

25- و من وصية له ( عليه ‏السلام  ) كان يكتبها لمن يستعمله على الصدقات‏

قال الشريف و إنما ذكرنا هنا جملا ليعلم بها أنه ( عليه ‏السلام  ) كان يقيم عماد الحق، و يشرع أمثلة العدل، في صغير الأمور و كبيرها و دقيقها و جليلها.

انْطَلِقْ عَلَى تَقْوَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَ لَا تُرَوِّعَنَّ مُسْلِماً وَ لَا تَجْتَازَنَّ عَلَيْهِ كَارِهاً وَ لَا تَأْخُذَنَّ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِي مَالِهِ

فَإِذَا قَدِمْتَ عَلَى الْحَيِّ فَانْزِلْ بِمَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخَالِطَ أَبْيَاتَهُمْ ثُمَّ امْضِ إِلَيْهِمْ بِالسَّكِينَةِ وَ الْوَقَارِ حَتَّى تَقُومَ بَيْنَهُمْ فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِمْ وَ لَا تُخْدِجْ بِالتَّحِيَّةِ لَهُمْ

ثُمَّ تَقُولَ عِبَادَ اللَّهِ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ وَلِيُّ اللَّهِ وَ خَلِيفَتُهُ لِآخُذَ مِنْكُمْ حَقَّ اللَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ فَهَلْ لِلَّهِ فِي أَمْوَالِكُمْ مِنْ حَقٍّ فَتُؤَدُّوهُ إِلَى وَلِيِّهِ

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ لَا فَلَا تُرَاجِعْهُ وَ إِنْ أَنْعَمَ لَكَ مُنْعِمٌ فَانْطَلِقْ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُخِيفَهُ أَوْ تُوعِدَهُ أَوْ تَعْسِفَهُ أَوْ تُرْهِقَهُ فَخُذْ مَا أَعْطَاكَ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ

فَإِنْ كَانَ لَهُ مَاشِيَةٌ أَوْ إِبِلٌ فَلَا تَدْخُلْهَا إِلَّا بِإِذْنِهِ فَإِنَّ أَكْثَرَهَا لَهُ فَإِذَا أَتَيْتَهَا فَلَا تَدْخُلْ عَلَيْهَا دُخُولَ مُتَسَلِّطٍ عَلَيْهِ وَ لَا عَنِيفٍ بِهِ وَ لَا تُنَفِّرَنَّ بَهِيمَةً وَ لَا تُفْزِعَنَّهَا وَ لَا تَسُوأَنَّ صَاحِبَهَا فِيهَا

وَ اصْدَعِ الْمَالَ صَدْعَيْنِ ثُمَّ خَيِّرْهُ فَإِذَا اخْتَارَ فَلَا تَعْرِضَنَّ لِمَا اخْتَارَهُ ثُمَّ اصْدَعِ الْبَاقِيَ صَدْعَيْنِ ثُمَّ خَيِّرْهُ فَإِذَا اخْتَارَ فَلَا تَعْرِضَنَّ لِمَا اخْتَارَهُ فَلَا تَزَالُ كَذَلِكَ حَتَّى يَبْقَى مَا فِيهِ وَفَاءٌ لِحَقِّ اللَّهِ فِي مَالِهِ فَاقْبِضْ حَقَّ اللَّهِ مِنْهُ

فَإِنِ اسْتَقَالَكَ فَأَقِلْهُ ثُمَّ اخْلِطْهُمَا ثُمَّ اصْنَعْ مِثْلَ الَّذِي صَنَعْتَ أَوَّلًا حَتَّى تَأْخُذَ حَقَّ اللَّهِ فِي مَالِهِ

وَ لَا تَأْخُذَنَّ عَوْداً وَ لَا هَرِمَةً وَ لَا مَكْسُورَةً وَ لَا مَهْلُوسَةً وَ لَا ذَاتَ عَوَارٍ وَ لَا تَأْمَنَنَّ عَلَيْهَا إِلَّا مَنْ تَثِقُ بِدِينِهِ رَافِقاً بِمَالِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يُوَصِّلَهُ إِلَى وَلِيِّهِمْ فَيَقْسِمَهُ بَيْنَهُمْ

وَ لَا تُوَكِّلْ بِهَا إِلَّا نَاصِحاً شَفِيقاً وَ أَمِيناً حَفِيظاً غَيْرَ مُعْنِفٍ وَ لَا مُجْحِفٍ وَ لَا مُلْغِبٍ وَ لَا مُتْعِبٍ

ثُمَّ احْدُرْ إِلَيْنَا مَا اجْتَمَعَ عِنْدَكَ نُصَيِّرْهُ حَيْثُ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَإِذَا أَخَذَهَا أَمِينُكَ فَأَوْعِزْ إِلَيْهِ أَلَّا يَحُولَ بَيْنَ نَاقَةٍ وَ بَيْنَ فَصِيلِهَا وَ لَا يَمْصُرَ لَبَنَهَا فَيَضُرَّ (فَيُضِرَّ) ذَلِكَ بِوَلَدِهَا وَ لَا يَجْهَدَنَّهَا رُكُوباً وَ لْيَعْدِلْ بَيْنَ صَوَاحِبَاتِهَا فِي ذَلِكَ وَ بَيْنَهَا

وَ لْيُرَفِّهْ عَلَى اللَّاغِبِ وَ لْيَسْتَأْنِ بِالنَّقِبِ وَ الظَّالِعِ وَ لْيُورِدْهَا مَا تَمُرُّ بِهِ مِنَ الْغُدُرِ وَ لَا يَعْدِلْ بِهَا عَنْ نَبْتِ الْأَرْضِ إِلَى جَوَادِّ الطُّرُقِ وَ لْيُرَوِّحْهَا فِي‏ السَّاعَاتِ وَ لْيُمْهِلْهَا عِنْدَ النِّطَافِ وَ الْأَعْشَابِ

حَتَّى تَأْتِيَنَا بِإِذْنِ اللَّهِ بُدَّناً مُنْقِيَاتٍ غَيْرَ مُتْعَبَاتٍ وَ لَا مَجْهُودَاتٍ لِنَقْسِمَهَا عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَ سُنَّةِ نَبِيِّهِ ( صلى‏الله‏عليه‏وآله  )فَإِنَّ ذَلِكَ أَعْظَمُ لِأَجْرِكَ وَ أَقْرَبُ لِرُشْدِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج 19-18  

و من وصية له عليه السلام كان يكتبها لمن يستعمله على الصدقات‏

و انما ذكرنا هنا جملا منها ليعلم بها أنه عليه السلام كان يقيم عماد الحق، و يشرع أمثلة العدل في صغير الامور و كبيرها، و دقيقها و جليلها:

انطلق على تقوى الله وحده لا شريك له، و لا تروعن مسلما، و لا تختارن عليه كارها، و لا تأخذن منه أكثر من حق الله في ماله، فإذا قدمت على الحي فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم، ثم امض إليهم بالسكينة و الوقار حتى تقوم بينهم فتسلم عليهم. و لا تخدج بالتحية لهم ثم تقول: عباد الله أرسلني إليكم ولي الله و خليفته لاخذ منكم حق الله في أموالكم، فهل لله في أموالكم من حق فتؤدوه إلى وليه؟ فإن قال قائل: لا. فلا تراجعه، و إن أنعم‏ لك منعم فانطلق معه من غير أن تخيفه أو توعده أو تعسفه أو ترهقه؛ فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضة؛ فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلا بإذنه فإن أكثرها له فإذا أتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلط عليه و لا عنيف به. و لا تنفرن بهيمة و لا تفزعنها (و لا تفزعنها- معا) و لا تسوءن صاحبها فيها. و اصدع المال صدعين ثم خيره، فإذا اختار فلا تعرضن لما اختاره. ثم اصدع الباقي صدعين ثم خيره، فإذا اختار فلا تعرضن لما اختار، فلا تزال بذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحق الله في ماله؛ فاقبض حق الله منه فإن استقالك فأقله، ثم اخلطها (اخلطهما- نسخة) ثم اصنع مثل الذي صنعت أولا حتى تأخذ حق الله في ماله.

و لا تأخذن عودا، و لا هرمة، و لا مكسورة، و لا مهلوسة ذات عوار، و لا تأمنن عليها إلا من تثق به، رافقا بمال المسلمين حتى توصله (بالتاء و الياء- معا) إلى وليهم فتقسمه (بالياء نسخة) بينهم، و لا توكل بها إلا ناصحا شفيقا و أمينا حفيظا غير معنف و لا مجحف و لا ملغب و لا متعب. ثم احدر إلينا ما اجتمع عندك نصيره حيث أمر الله به فإذا،أخذها أمينك فأوعز إليه ألا يحول بين ناقة و بين فصيلها، و لا يمصر لبنها فيضر ذلك بولدها، و لا يجهدنها ركوبا، و ليعدل بين صواحباتها في ذلك و بينها، و ليرفه على اللاغب، و ليستأن بالنقب و الظالع، و ليوردها ما تمر به من الغدر، و لا يعدل بها عن نبت الأرض إلى جواد الطرق، و ليروحها في الساعات، و ليمهلها عند النطاف و الأعشاب، حتى يأتينا بإذن الله بدنا منقيات، غير متعبات و لا مجهودات، لنقسمها على كتاب الله، و سنة نبيه صلى الله عليه و اله فإن ذلك أعظم لأجرك و أقرب لرشدك إن شاء الله.

اللغة

(و لا تروعن) من الروع بالفتح بمعنى الفزع، و الكلمة مشكولة في أكثر النسخ بضم التاء و فتح الراء و كسر الواو المشددة من الترويع، و في نسخة الرضي بفتح التاء و ضم الراء من الروع كما اخترناها في المتن، و معناها على الوجهين واحد ففي الصحاح: رعت فلانا و روعته فارتاع أي أفزعته ففزع.

(و لا تختارن) بالخاء المعجمة و الراء المهملة من الاختيار على نسخة الرضي رضوان الله عليه، و في نسخ (تجتازن) بالجيم و الزاى المعجمة من الاجتياز بمعنى السلوك من قولك جزت الموضع أجوزه جوازا أي سلكته و سرت فيه.

(الحي) واحد أحياء العرب أصله من ح ى و.

(تخدج) بالخاء المعجمة و الجيم، قال ابن الأثير في النهاية: خدجت الناقة إذا ألقت ولدها قبل أوانه و إن كان تام الخلق و أخدجته إذا ولدته ناقص الخلق‏

و إن كان لتمام الحمل؛ و منه حديث سعد «انه أتى النبي صلى الله عليه و اله بمخدج سقيم» أي ناقص الخلق، و منه حديث علي عليه السلام: «تسلم عليهم و لا تخدج التحية لهم» أي لا تنقصها، انتهى، و قال الجوهري في الصحاح: و في الحديث كل صلاة لا يقرأ فيها بام الكتاب فهي خداج أي نقصان، و أخدجت الناقة إذا جاءت بولدها ناقص الخلق و إن كانت أيامه تامة فهي مخدج و الولد مخدج، و منه حديث علي عليه السلام في ذي الثديه مخدج اليد أي ناقص اليد. انتهى.

(تخيفه) من الإخافة بمعنى التخويف و أصلها الخوف، يقال: وجع مخيف أي يخيف من رءاه.

(توعده) من الإيعاد يستعمل في الشر، قال الجوهري في الصحاح: الوعد يستعمل في الخير و الشر، قال الفراء يقال: وعدته خيرا، و وعدته شرا، قال الشاعر:

ألا عللاني كل حي معلل‏ و لا تعداني الشر و الخير مقبل‏

فإذا أسقطوا الخير و الشر قالوا في الخير: الوعد و العدة و في الشر: الإيعاد و الوعيد، قال الشاعر:

و إني و إن أوعدته أو وعدته‏ لمخلف إيعادي و منجز موعدي‏

(تعسفه) من العسف بمعنى الأخذ على غير الطريق، كما في الصحاح، و قال ابن الأثير في النهاية: العسف: الجور، و في الحديث: لا تبلغ شفاعتي إماما عسوفا أي جائرا ظالما، و العسف في الأصل أن يأخذ المسافر على غير طريق و لا جادة و لا علم، و قيل: هو ركوب الأمر من غير روية فنقل إلى الظلم و الجور، انتهى.

(ترهقه) من الإرهاق، يقال: أرهقه طغيانا أي أغشاه إياه، و يقال:

أرهقني فلان إثما حتى رهقته أي حملني إثما حتى حملته، قال أبو زيد: أرهقه عسرا أي كلفه أياه، يقال: لا ترهقني لا أرهقك الله أي لا تعسرني لا أعسرك الله، قاله في الصحاح.

(الماشية) جمعها المواشي و هي اسم يقع على الإبل و البقر و الغنم و أكثر ما يستعمل في الغنم، قاله في النهاية.

(عنيف به) العنف بالضم فالسكون- ضد الرفق تقول: منه عنف عليه بالضم و عنف به أيضا، و العنيف الذي ليس له رفق بركوب الخيل و الجمع عنف، قاله في الصحاح.

و في النهاية: في الحديث إن الله يعطي على الرفق ما لا يعطى على العنف هو بالضم: الشدة و المشقة و كل ما في الرفق من الخير ففي العنف من الشر مثله.

(تنفرن) نفرت الدابة من كذا نفورا و نفارا من بابى نصر و ضرب: جزعت و تباعدت فهي نافر و نفور و نفره جعله نافرا.

(لا تفز عنها) أصلها من الفزع بمعنى الذعر، و رويت في نسخة الرضي على وجهين بضم التاء و كسر الزاء من الإفزاع و بضم التاء و فتح الفاء و كسر الزاء المشددة من التفزيع، و الإفزاع بمعنى الإخافة و الاغاثة من الأضداد و كذلك التفزيع، يقال: فزعه أي أخافه، و فزع عنه أي- كشف عنه الخوف، و منه قوله تعالى: حتى إذا فزع عن قلوبهم‏ أي كشف عنها الفزع، قاله في الصحاح.

(و اصدع) الصدع: الشق، (استقالك) الاستقالة طلب الإقالة أصلها من ق ى ل، يقال: أقاله يقيله إقالة و تقايلا إذا فسخا البيع و عاد المبيع إلى مالكه و الثمن إلى المشتري إذا كان قد ندم أحدهما أو كلاهما.

(عودا) بفتح العين المهملة و سكون الواو، قال في الصحاح: العود: المسن من الإبل و هو الذي جاوز في السن البازل و المخلف، و جمعه عودة، و قد عود البعير، و في المثل: إن جرجر العود فزده و قرا، و الناقة عودة، و يقال: راحم بعود أودع أي استعن على حربك بأهل السن و المعرفة فإن رأى الشيخ خير من مشهد الغلام، انتهى.

(هرمة) مؤنثة هرم من الهرم بالتسكين بمعنى كبر السن.

(مهلوسة) الهلاس بالضم السل و قد هلسه المرض يهلسه هلسا أي أضعفه‏

و رجل مهلوس العقل أي مسلوبه، و يقال: السلاس في العقل و الهلاس في البدن.

(عوار) قال في النهاية في حديث الزكاة: «لا يؤخذ في الصدقة هرمة و لا ذات عوار» العوار بالفتح: العيب و قد يضم.

(ملغب) فاعل من الإلغاب بمعنى الإتعاب و الإعياء.

(أو عز إليه) و عز إليه في كذا أن يفعل أو يترك يعز و عزا- من باب ضرب- تقدم و أشار، و أوعز إليه إيعازا بمعنى و عز إليه.

(الفصيل) ولد الناقة إذا فصل عن امه و الجمع فصلان و فصال.

(و لا يمصر لبنها) قال في الصحاح: المصر: حلب بأطراف الأصابع، قال ابن السكيت: المصر حلب كل ما في الضرع، و التمصر حلب بقايا اللبن في الضرع.

و قال ابن الأثير في النهاية: و في حديث علي عليه السلام «و لا يمصر لبنها فيضر ذلك بولدها» و المصر الحلب بثلاث أصابع يريد لا يكثر من أخذ لبنها.

(لا يجهدنها) من الجهد بالفتح أي المشقة يقال: جهد دابته و أجهدها إذا حمل عليها في السير فوق طاقتها.

(اللاغب) فاعل من اللغوب بمعنى التعب و الاعياء.

(و يستأن) من الأناة أصلها الوني يقال: أستأنيت بكم أي انتظرت و تربصت.

(النقب) يقال: نقب البعير بالكسر إذا رقت أخفافه، و قال ابن الأثير في النهاية: النقب: رقة الأخفاف و منه حديث علي عليه السلام «و يستأن بالنقب و الضالع» أي يرفق بهما و يجوز أن يكون من الجرب.

أقول: يعني أن يكون النقب مشتقا من النقبة بالضم و هي أول ما يبدو من الجرب‏

و قال في مادة ظلع منها: الظلع بالسكون العرج و قد ظلع يظلع ظلعا فهو ظالع، و منه حديث الأضاحي: و لا العرجاء البين ظلعها، و في حديث علي عليه السلام: و ليستأن بذات النقب و الظالع أي بذات الجرب و العرجاء، انتهى، و سيأتي البحث عن ذلك في المعنى.

(الغدر) بضمتين جمع الغدير، و في الصحاح الغدير: القطعة من الماء يغادرها السيل و هو فعيل في معنى مفاعل من غادره، أو مفعل من أغدره، و يقال:

هو فعيل بمعنى فاعل لأنه يغدر بأهله أن ينقطع عند شدة الحاجة إليه، قال الكميت:

و من غدره نبز الأولون‏ إذ لقبوه الغدير الغدير

و الجمع غدران و غدر.

(جواد) بتشديد الدال جمع الجادة بتشديدها أيضا بمعنى معظم الطريق.

(النطاف) جمع النطفة بمعنى الماء الصافي قل أو كثر، و أما النطفة بمعنى ماء الرجل فجمعها نطف.

(الأعشاب) جمع العشب بالضم فالسكون و هو الكلاء الرطب.

(بدنا) البدن كطلب جمع بادن كطالب، يقال: بدن بدنا و بدنا و بدونا من باب نصر إذا عظم بدنه بكثرة لحمه فهو بادن للمذكر و المؤنث، و قد يقال في المؤنث بادنة، و البدن: السمن، و البدنة بالفتحات ناقة أو بقرة تنحر بمكة سميت بذلك لأنهم كانوا يسمنونها.

الاعراب‏

(على تقوى الله) متعلق بمقدر أي اذهب معتمدا على تقوى الله، مثلا، (وحده) حال لله أي موحدا، (امض إليهم) في بعض النسخ: امض عليهم (بالتحية) قرئت‏

بالوجهين بالباء و عدمها (صدعين) مفعول مطلق عددي (بذلك) في أكثر النسخ:

كذلك، و ما في المتن مطابق لنسخة الرضي، (و لا يمصر) منصوب بأن لأنه معطوف على قوله لا يحول أي أو عز إليه أن لا يمصر لبنها و في سائر النسخ مجزومة و هي و هم (ركوبا) بضم الراء و فتحها تميز (منقيات) و أخواتها صفات للبدن لأنها تذكر و تؤنث.

هذا آخر المجلد الثامن عشر من هذه الطبعة النفيسة، و قد تم تصحيحه و تهذيبه بيد العبد- السيد ابراهيم الميانجى- عفى عنه و عن والديه في الرابع من ذى القعدة- 1386- و يليه انشاء الله الجزء التاسع عشر و أوله فى معنى المختار الخامس و العشرين.

و الحمد لله رب العالمين.

الجزء التاسع عشر

[تتمة باب المختار من كتب مولانا أمير المؤمنين ع و رسائله إلى أعدائه و أمرائه‏]

[تتمة المختار الخامس و العشرون من كتبه و رسائله‏]

[خطبة المؤلف‏]

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لولى النعم، و منزل الكلم على قلوب من كرم من بنى آدم، و له الحمد على ما أولانا من مواهبه السنية الوافرة، و رزقنا من أيادى الاولى و الاخرة، و الصلاة و السلام على مهبط كلماته و مقسم هباته، واقف مواقف الشهود محمد المصطفى و آله امناء المعبود، و مظاهر أسمائه الحسنى، و صفاته العليا، و أعلام الهدى، و على من تمسك بذيل ولايتهم و اقتفى بهديهم و هدايتهم.

و بعد فيقول العبد الراجى لقاء ربه الكريم نجم الدين الحسن بن عبد الله الطبري الاملي المدعو بحسن زاده آملي رزقه الله و جميع المؤمنين الفناء في التوحيد، و هداهم إلى أمره الرشيد السديد، و تغمدهم بغفرانه و رضوانه: هذا هو السفر الخامس من تكملة منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، قد من الله علينا بما أجرى على القلم في شرح طائفة من كلمات وليه الأعظم باب مدينة العلم وصى خير البشر، فينتهى به المنهاج إلى التاسع عشر، رب أنعمت فزد و آتنا من لدنك رحمة و هيى‏ء لنا من أمرنا رشدا.

اللهم إن كانت بضاعتنا هذه وجيهة عندك، و لها ثمن و قدر و قيمة من جزيل ثوابك و سني عطائك فاجعلها ذخرا لأساتيذي العظام الذين عطفت علينا قلوبهم و رزقتنا من مأدبة علومهم. اللهم اجعل الغابرين عندك في أعلى عليين، و متع الإسلام و المسلمين ببقاء الباقين آمين رب العالمين.

ثم قد تأخر تأليف هذا المجلد و طبعه و نشره لما أقبل في أثناء التأليف من تقبلنا اصول الكافي لجعله معربا مشكولا و كان أمرا صعبا مشكلا، فانه قد انجر الخلاص‏ منه إلى قرب سنتين و نصف مع أنا قد بذلنا جهدنا فيه و أسهرنا أعيننا ليالى و أتعبنا أنفسنا متواليا، و ذلك الأمر و إن عوق التكملة عن النشر لكن اصول الكافي بمن الله سبحانه و فضله قد برز اليوم على أحسن وجه يستقبل إليه العالم البصير و يشكره و يستنكف عنه الجاهل الضرير و يكفره، على أن الامور مرهونة بأوقاتها، فلنعد إلى ما كنا فيه فنقول مستعينا من الله تعالى:

المصدر

روى هذه الوصية ثقة الإسلام الكليني رضوان الله عليه في باب أدب المصدق من كتاب الزكاة من الجامع الكافي عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى عن حريز، عن بريد بن معاوية عن أبي عبد الله عليه السلام.

و رواها شيخ الطائفة الطوسى قدس سره في باب من الزيادات في الزكاة من التهذيب عن الكليني بذلك الإسناد، و الكتابان من أصح الجوامع الروائية عند الامامية، و من الكتب الأربعة المعتبرة عندهم عليها مدار استنباطهم و إليها مراجع اجتهادهم.

ثم إن قول السيد- ره-: «و إنما ذكرنا هنا جملا منها» صريح في أنه اختار منها فصولا و حذف منها فصولا، فالوصية طويلة و لكنا لم نجدها بطولها مع طول الفحص و كثرة البحث في ما حضرنا من الجوامع الروائية و ما أتى بها الكليني و الشيخ قريب مما في النهج.

و العلامة المجلسى- ره- بعد نقلها من النهج في ثامن البحار (ص 640 من الطبع الكمباني، في باب كتب أمير المؤمنين عليه السلام و وصاياه إلى عماله و امراء أجناده) و في المجلد العشرين منه (في باب أدب المصدق من كتاب الزكاة ص 24). قال: أقول: أخرجته من الكافي في كتاب أحواله عليه السلام بتغيير ما رواه في كتاب الغارات عن يحيى بن صالح عن الوليد بن عمرو عن عبد الرحمن بن سليمان عن جعفر بن محمد قال: بعث علي عليه السلام مصدقا من الكوفة إلى باديتها، إلى آخر ما قال و نقل طائفة من الرواية.

و نقل الرواية من كتاب الغارات المحدث النورى- ره- في باب ما يستحب للمصدق و العامل استعماله من الاداب من كتاب الزكاة من مستدرك الوسائل.

و الروايات يخالف بعضها بعضا فدونكها على نسختى الكافي و التهذيب و نجعل ما في التهذيب بين الهلالين.

قال الكليني بالإسناد المقدم ذكره عن بريد بن معاوية قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: بعث أمير المؤمنين صلوات الله عليه مصدقا من الكوفة إلى باديتها فقال له: يا عبد الله (يا أبا عبد الله) انطلق و عليك بتقوى الله وحده لا شريك له و لا تؤثرن دنياك على آخرتك و كن حافظا لما ائتمنك عليه راعيا لحق الله فيك حتى تأتى نادى بني فلان فاذا قدمت فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم، ثم امض إليهم بسكينة و وقار حتى تقوم بينهم فتسلم عليهم، ثم قل لهم: يا عباد الله أرسلنى إليكم ولى الله لاخذ منكم حق الله في أموالكم فهل لله في أموالكم من حق فتؤدون إلى وليه (فهل لله في أموالكم حق فتؤدوه إلى وليه) فان قال لك قائل:

لا فلا تراجعه و إن أنعم لك منهم منعم فانطلق معه من غير أن تخيفه أو تعده إلا خيرا فاذا أتيت ماله فلا تدخله إلا باذنه فإن أكثره له فقل له: يا عبد الله أ تأذن لي في دخول مالك؟ فان اذن لك (اذن له) فلا تدخل (فلا تدخله) دخول متسلط عليه فيه و لا عنف به فاصدع المال صدعين ثم خيره أى الصدعين شاء فأيهما اختار فلا تعرض له، ثم اصدع الباقي صدعين ثم خيره فأيهما اختار فلا تعرض له و لا تزل كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحق الله تبارك و تعالى من ماله فاذا بقي ذلك فاقبض حق الله منه، و إن استقالك فأقله ثم اخلطها و اصنع مثل الذي صنعت أولا حتى تأخذ حق الله في ماله فاذا قبضته فلا توكل به إلا ناصحا شفيقا أمينا حفيظا غير معنف بشي‏ء منها ثم احدر كل ما اجتمع (ثم احدر ما اجتمع) عندك من كل ناد إلينا نصيره حيث أمر الله عز و جل فاذا انحدر بها رسولك فأوعز إليه أن لا يحول بين ناقة و فصيلها و لا يفرق بينهما و لا يمصرن (و في نسخة من التهذيب: و لا يمص لبنها) فيضر ذلك بفصيلها، و لا يجهد

بها ركوبا، و ليعدل بينهن في ذلك، و ليوردهن كل ماء يمر به، و لا يعدل (و لا يبدل) بهن عن نبت الأرض إلى جواد الطريق (الطرق) في الساعة التي تريح و تغبق، و ليرفق بهن جهده حتى يأتينا باذن الله سحاحا سمانا غير متعبات و لا مجهدات فيقسمهن باذن الله على كتاب الله و سنة نبيه صلى الله عليه و آله على أولياء الله فإن ذلك أعظم لأجرك و أقرب لرشدك ينظر الله إليها و إليك و إلى جهدك و نصيحتك لمن بعثك و بعثت في حاجة فإن رسول الله صلى الله عليه و آله قال: ما ينظر الله إلى ولي له يجهد نفسه بالطاعة و النصيحة له و لإمامه (و النصيحة لإمامه) إلا كان معنا في الرفيق الأعلى، قال: ثم بكى أبو عبد الله عليه السلام ثم قال: يا بريد لا و الله (يا بريد و الله) ما بقيت لله حرمة إلا انتهكت و لا عمل بكتاب الله، و لا سنة نبيه في هذا العالم، و لا اقيم في هذا الخلق حد منذ قبض الله أمير المؤمنين صلوات الله و سلامه عليه، و لا عمل بشي‏ء من الحق إلى يوم الناس هذا. ثم قال: أما و الله لا تذهب الأيام و الليالى حتى يحيى الله الموتى و يميت الأحياء و يرد الله الحق إلى أهله و يقيم دينه الذي ارتضاه لنفسه و نبيه فابشروا ثم ابشروا فو الله ما الحق إلا في أيديكم.

و الرواية على نسخة كتاب الغارات على ما في المستدرك تنتهى إلى الرفيق الأعلى و لم ينقل بعده، و هى توافق النسختين المذكورتين تقريبا.

و روى شطرا منها الشيخ قدس سره في المسألة 26 من زكاة الخلاف هكذا:

أنزل ماءهم من غير أن تخالط أبياتهم ثم قل: هل لله في أموالكم من حق؟ فان أجابك مجيب فامض معه و إن لم يجبك فلا تراجعه. انتهى. و احتمال النقل من حيث المعنى بعيد، ثم حرفت كلمتا مائهم و أبياتهم في النسخ المطبوعة من الخلاف بمالهم و أموالهم.

المعنى‏

قد أوصى عليه السلام‏ من يستعمله على‏ جباية الصدقات‏ بامور يراعى بعضها في حق نفسه، و بعضها في الرعية، و بعضها في الأنعام. و يستفاد منها أحكام عديدة فقهية و آداب كثيرة أخلاقية اجتماعية، و قوانين عدلية حقة إلهية لا يأتيها الباطل من‏ بين يديها و لا من خلفها.

و هذا هو السلطان العادل الذي كان ظل الله تعالى في أرضه، و لله در الرضى قائلا: ليعلم بها أنه عليه السلام كان يقيم عماد الحق و يشرع أمثلة العدل في صغير الامور و كبيرها و دقيقها و جليلها، و لا ريب أن السياسة إذا كانت بيده أو بيد من يقوم مقامه و يجلس مجلسه و يجرى أوامره ممن حاز هذه الرتبة العظمى و الدرجة العليا كان الزمان نورانيا، و إذا خلى الزمان عن تدبير مدبر إلهى كانت الظلمات غالبة.

قوله عليه السلام: (انطلق على تقوى الله وحده لا شريك له) كان من دأبه عليه السلام في أكثر وصاياه أن يصدرها بالأمر بتقوى الله و قد مضى الكلام في ذلك في شرح المختار الثاني عشر فراجع.

قوله عليه السلام: (و لا تروعن مسلما) لما جعله عليه السلام واليا على جباية الصدقات‏ و الولاية إمارة توجب البغي و الطغيان على الناس إلا واليا عصمه الله تعالى عن اتباع الهوى نهاه عن أن يفزع مسلما. و قد ذاق المسلمون فزعا شديدا مرة بعد مرة في أمارة الثالث حتى ضاق عليهم العيش فأجمعوا على قتله و قتلوه.

قوله عليه السلام: (و لا تختارن عليه كارها إلخ) اى‏ لا تختارن على‏ المسلم أمرا يكرهه بل ارفق به و خيره فيه و كأن هذا الكلام توطئة لما سيأتي في وصيته له: و اصدع المال صدعين ثم خيره‏ إلخ، و إن كان مفهومه أعم منه يشمل النهى عن الاختيار عليه كل ما يكرهه.

هذا على نسخة الرضي، و أما على نسخ اخرى أعنى تجتازن بالجيم و الزاى المعجمة فمعناه لا تسلك و لا تسر على أرض المسلم أو ماله أو بيته و نحوها يكره مرورك بها، فكلمة كارها على الأول منصوب على المفعولية، و على الثاني منصوب على الحال من الضمير المجرور و المراد من حق الله الزكاة.

و هذا هو الملك العادل الالهي ينهى عامله عن أن يمر ببيوت أحد من المسلمين يكره مروره بها و إن كان ذلك المسلم من رعاة الأغنام و من أهل البادية من طبقة أنزل العوام و ما هذا إلا أدب الله و أدب رسوله، و اين هذا و من ملك ينتحل إلى الإسلام و يأمر عماله أن يجتازوا على أحبار الامة و حملة القرآن ليلا و ينهبوا بيوتهم اغتيالا، و ينفوهم من أوطانهم و يميلوا عليهم ميلا، و القرآن الفرقان ينادى بأعلى صوته: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا و تسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم و إن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم و الله بما تعملون عليم‏ (النور 28، 29).

و في تفسير الدر المنثور: أخرج ابن شيبة و الحكيم الترمذي و ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن مردويه عن أبي أيوب قال: قلت: يا رسول الله أرأيت قول الله: حتى تستأنسوا و تسلموا على أهلها، هذا التسليم قد عرفناه فما الاستئناس؟ قال: يتكلم الرجل بتسبيحة و تكبيرة و تحميدة و يتنحنح فيؤذن أهل البيت.

و في تفسير مجمع البيان: روى أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه و آله أستأذن على امى؟

فقال: نعم، قال: إنها ليس لها خادم غيرى أ فأستأذن عليها كلما دخلت؟

قال:أ تحب أن تراها عريانة؟ قال الرجل: لا، قال: فاستأذن عليها.

قوله عليه السلام: (فاذا قدمت على الحى فأنزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم‏ إلخ). و في رواية أخرى عنه عليه السلام كما في المجلد العشرين من البحار «ص 23 من الطبع الكمباني» أنه قال: يؤخذ صدقات أهل البادية على مياههم و لا يساقون. يعنى لا يساقون من مواضعهم التي هم فيها إلى غيرها. و هذا أدب آخر غير ما في النهج و أما ما في النهج فمعناه أنه عليه السلام أمره أن لا يخالط بيوتهم ابتداء بل ينزل بمياهم أولا ثم يمض إليهم بالسكينة و الوقار.

أمره بالنزول بمائهم لأن من عادة عرب البادية بل من عادة غير العرب من أهل البادية أيضا أن تكون مياههم بارزة عن بيوتهم، و لا ريب أن الإنسان يكره أن يخالط غيره بيته على حين غفلة من أهله و ذلك لتنفر الطباع الإنسانية عن أن يطلع الغير على أسراره و بواطن أحواله.

على أن النزول كذلك يوجب خوف النسوان و فزع الأطفال و لذا أردفه أن يقدم عليهم بعد النزول بمائهم بالسكينة و الوقار و يسلم عليهم تحية كاملة قال تعالى: فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة.

و قال صلى الله عليه و آله: السلام اسم من أسماء الله فافشوه بينكم الخبر.و بالجملة أن تلك الامور توجب تأليف قلوبهم، و عدم نفارهم من أداء حق الله في مالهم، و فوائد كثيرة اخرى لا تخفى على اولى النهى.

قوله عليه السلام: (ثم تقول: عباد الله‏ إلخ) أمره أن يرفق بالرعية في أخذ حق الله في أموالهم‏ بأن يقول: أرسلنى إليكم ولي الله و خليفته لاخذ منكم حق الله في أموالكم‏، و في الكلام ملاطفة لطيفة توجب استيناسهم و ذلك لأن‏ ولي الله و خليفته‏ لا يظلم أحدا و لا يعدل عن الحق مثقال ذرة، و لا يسلط ظالما على أحد من آحاد الرعية.ثم أمره أن يسألهم هل تعلقت بأموالهم زكاة فيؤدوه إلى ولي الله أم لا؟

فان قال قائل‏ من رب المال: لا، فلا يراجعه بل ينصرف عنه لأن القول قول رب المال ما لم يعلم كذبه و الأصل يعاضده، و لأنها عبادة يقبل قوله فيها فلا يفتقر أداؤها إلى اليمين كغيرها من العبادات، و لأنه أمين، و لأن له ولاية الاخراج فيكون قوله مقبولا كالوكيل، و نحوه رواية غياث بن إبراهيم: كان علي عليه السلام إذا بعث مصدقه قال: إذا أتيت على رب المال فقل له تصدق رحمك الله مما أعطاك الله فان ولي عنك‏ فلا تراجعه‏ انتهى فلو قال رب المال: لم يحل على مالى الحول أو قد أخرجت ما وجب على أو تلف ما ينقص تلفه النصاب أو لا حق على أو أن المال عندى وديعة أو نحو ذلك قبل منه و لم يكن عليه بينة و لا يمين كما أنه عليه السلام أمر عامله بقبول قول رب المال و لم يأمر باستظهار و لا باليمين و إليه ذهب فقهاؤنا الإمامية فراجع إلى زكاة الشرائع و القواعد و شروحهما و إلى خلاف الشيخ و منتهى العلامة، و إن أنعم لك منعم‏ أى إن قال: نعم في مالى زكاة فانطلق معه من غير أن تخيفه‏ إلخ و في المقام روايات أنيقة في باب أدب المصدق من‏ البحار (ص 22 ج 20) قوله عليه السلام: (فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضة) يمكن أن يستفاد من هذا الكلام جواز إخراج الزكاة من قيمة الأنعام ذهبا و ورقا كما يستفاد منه جواز إخراج قيمة الغلات كذلك بل أي شي‏ء كانت القيمة لأن ذكر قيمة خاصة لا يخصها بها كما لا يخفى، و المقصود من الزكاة دفع حاجة الفقير و كما يحصل بدفع العين فكذا يحصل بدفع القيمة حتى أن العلامة قال في المنتهى: إذا كان البعير بقيمة الشاة فأخرجه أجزأ عندنا و عند الشافعى أما نحن فللمساواة في القيمة إلخ و قال في البحث السابع من المقصد الثاني من زكاة المنتهى: يجوز إخراج القيمة في الزكاة سواء كان ما وجبت الزكاة فيه ذهبا أو فضة أو أحد الحيوانات و هو اختيار الشيخ رحمه الله و أكثر علمائنا انتهى. و قال في القواعد: يجوز إخراج القيمة في الأصناف التسعة و العين أفضل.

و قد قسم المفيد رحمه الله كما في المختلف للعلامة قدس سره الأموال إلى الأنعام و غيرها و منع من إخراج القيمة في الأول إلا أن تعدم الأصناف المخصوصة كما في المعتبر للمحقق قدس سره، و سوغه في الثانى فإنه الظاهر من كلام ابن الجنيد فانه قال: و لا بأس بأن يخرج عن الواجب من الصدقة و الحق في أرض العنوة ذهبا و ورقا بقيمة الواجب يوم أخذه. و يردهما قوله عليه السلام هذا، و اطلاق روايات اخرى مذكورة في محلها.

بل يستفاد من اطلاقها جواز إخراج القيمة في الزكوات كلها و في الفطرة أى شي‏ء كانت القيمة. و قال الشافعي و أصحابه: إخراج القيمة في الزكاة لا يجوز و إنما يخرج المنصوص عليه و لفقهاء العامة في المقام وجوه اخرى من الاختلاف فراجع إلى المسألة 58 من زكاة خلاف الشيخ.

ثم إن قوله عليه السلام‏ فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضة، يفيد جواز الإخراج من القيمة فهل يعتبر قيمة وقت تعلق الزكاة بالمال، أو قيمة يوم أخذها، أو يقيد ذلك بما إذا لم يقوم المالك الزكاة على نفسه، و لوقومها على نفسه و ضمن القيمة فالواجب هو ما ضمنه زاد السوق قبل الإخراج أو انخفض و البحث مشبعا موكول إلى الفقه.

و لقائل أن يقول: إن قوله عليه السلام: فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلا باذنه‏- إلخ، ظاهر في أنه جعل زكاة الأنعام مقابل غيرها من الزكوات فجوز إخراج القيمة في الأولى دون الثانية و لم يشعر كلامه في الثانية إلى جواز إخراج القيمة أصلا بل يظهر منه خلافه كما ذهب إليه المفيد- ره- و غيره.

و لكن يجاب عنه بأن إطلاق قوله عليه السلام‏ فهل لله في أموالكم من حق‏، يشمل القسمين كليهما و كذلك إطلاق قوله: فخذ ما أعطاك من ذهب و فضة، و قوله: فإن كان له ماشية أو إبل‏- إلخ- يفسر أحد القسمين أعنى زكاة الأنعام كما هو الظاهر من كلمة الفاء على هذا التقدير أى إن‏ أعطاك‏ زكاة الأنعام من جنسها من المواشي و الإبل‏ فحكمها كذلك و يجب أن تكون سيرتك فيها كذلك فليتأمل جيدا.

ثم إن‏ الماشية و الإبل‏ تعم أنواعهما من معز و ضأن و بقر و جاموس و عراب و بخاتى و لا تشمل‏ الماشية البغال و الحمير و الرقيق و الخيل فلا يجب فيها الزكاة بل و لا يستحب في الثلاثة الاول و انما يستحب في إناث الخيل السائمة فقط عن كل عتيق ديناران و عن كل برذون دينار واحد. و كذا لا تشمل بقر الوحش لأنها تنصرف باطلاقها إلى الأهلية، و خالف فيه بعض العامة فراجع إلى المسألة 62 من زكاة الخلاف، و إلى زكاة المنتهى.

قوله عليه السلام: (فإن أكثرها له‏ إلخ) علل إذنه بأن‏ أكثر الماشية و الإبل له‏. و أفاد الفاضل الشارح المعتزلي بأن قوله: فأن أكثرها له‏، كلام لا مزيد عليه في الفصاحة و الرياسة و الدين و ذلك لأن الصدقة المستحقة جزء يسير من النصاب و الشريك إذا كان له الأكثر حرم عليه أن يدخل و يتصرف إلا باذن شريكه فكيف إذا كان له الأقل، انتهى.

أقول: كلام الأمير عليه السلام هذا ظاهر في أن الزكاة تجب في عين المال لا الذمة، كما أن قوله عليه السلام: و اصدع المال صدعين ثم خيره‏- إلخ- ظاهر أيضا في أن الخيار إلى رب‏ المال‏ لا إلى الساعى أعنى أن رب‏ المال‏ مخير في أن‏ يعين ذلك في أى جزء شاء كما ذهب إليهما شيخ الطائفة قدس سره في زكاة الخلاف (مسئلة 28) و نص بالأول العلامة في القواعد و المحقق في الشرائع و المعتبر بقولهما: الزكاة تجب في العين لا في الذمة و الروايات الاخرى صريحة أيضا بأن الفريضة تتعلق بالأعيان لا بالذمة و الأصل براءة الذمة. و هو المشهور من الإمامية بل لم ينقل الخلاف فيه صريحا عن أحد منهم بل ادعى غير واحد منهم الاجماع عليه.

ثم المراد بوجوبها في العين تعلقها بها أعنى أن العين هى مورد هذا الحق لا الذمة، لا وجوب إخراج الزكاة منها لما علمت آنفا من جواز إخراج القيمة في الزكوات كلها. و في المقام بحث فقهى أتى به صاحب الجواهر- ره- في زكاة الجواهر، و الفقيه الهمدانى- ره- في كتاب الزكاة من مصباح الفقيه. أعرضنا عنه خوفا للإطناب و لخروجه عن موضوع الكتاب فليرجع الطالب إليهما.

قوله عليه السلام: (و اصدع المال صدعين‏ إلخ) ثم علم الساعى كيفية استخراج الزكاة من‏ المال‏ و أمره أن يفرقها فرقتين و يخير رب‏ المال‏ في اختيار إحدى الفرقتين و أن لا يتعرض لما اختار و هكذا إلى أن يبقى منها مقدار حق الله‏ فيها. ثم أمره بتسهيل الأمر له و عدم تشديده عليه بقوله‏ (فان استقالك فأقله) ثم أمره أن يستأنف العمل رأسا بعد الاقالة بأن يخلط المال‏ ثم يصدعه‏ صدعين‏ و يخيره في اختيار أى شقين شاء، ثم يقسم الشق الباقي قسمين و هكذا إلى أن ينتهى أحد الصدعين‏ إلى مقدار الواجب من‏ حق الله‏ فيقبض.

قال الشيخ- ره- في المسألة 21 من زكاة الخلاف: يفرق المال فرفتين و يخير رب المال و يفرق الاخر كذلك و يخير رب المال إلى أن يبقى مقدار ما فيه كمال ما يجب عليه فيؤخذ منه، و قال عمر بن الخطاب: يفرق المال ثلاث فرق يختار رب المال واحدة منها و يختار الساعى الفريضة من الاخرى، و قال الشافعى: لا يفرق المال ذكر ذلك في القديم، دليلنا اجماع الفرقة و الخبر المروي عن أمير المؤمنين عليه الصلاة و السلام فيما قاله لعامله عند توليته إياه و وصاه به و هو معروف. انتهى.

ثم إن إطلاق كلامه عليه السلام في خيار رب‏ المال‏ في إخراج الفريضة من أى‏ صدعين‏ شاء يقتضى عدم الفرق في جواز الاخراج من أحد الصدعين بين ما إذا تساوت قيمتهما أو اختلفت و بهذا التعميم جزم غير واحد من الإمامية منهم العلامة في جملة من كتبه كما حكي و المحقق في المعتبر و الشرائع حيث قال فيه:و المالك بالخيار في إخراج الفريضة من أى الصنفين شاء.

و قال صاحب المدارك:و هو متجه لصدق الامتثال بإخراج مسمى الفريضة و انتفاء ما يدل على اعتبار ملاحظة القيمة مطلقا كما اعترف به الأصحاب في النوع المتحد. انتهى.

ثم يستفاد من كلامه عليه السلام: و اصدع المال صدعين‏، إلخ فرع فقهى آخر كما ذكره العلامة في المنتهى (ص 481) في زكاة الإبل و استشهد بهذا الكلام حيث قال: لو اجتمع في مال ما يمكن إخراج الفريضتين كا المأتين يعنى المأتين من الإبل يتخير المالك ذهب إليه علماؤنا إن شاء أخرج الحقاق الأربع، و إن شاء أخرج خمس بنات لبون- ثم نقل أقوال العامة فيه إلى أن قال: لنا ما رواه الجمهور في قول النبي عليه السلام في كتاب الصدقات: فإذا كانت مأتين ففيها أربع حقاق أو خمس بنات لبون أى الصنفين وجدت أخذت. و قوله عليه السلام لمعاذ: إياك و كرائم أموالهم. و من طريق الخاصة ما رواه الشيخ في الحسن عن بريد بن معاوية قال سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: بعث أمير المؤمنين عليه السلام مصدقا من الكوفة إلى باديتها- فنقل الرواية بكمالها ثم قال بعده: و لأن الامتثال يحصل مع إخراج المالك أى النصفين شاء فيخرج به عن العهدة، و لأنها زكاة ثبت فيها الخيار فكان ذلك للمالك- إلخ.

قوله عليه السلام: (و لا تأخذن عودا إلخ) ثم نهى عليه السلام الساعى عن أن يأخذ في الفريضة تلك المعيبات الخمس. قد علمت في بيان اللغة أن العود المسن من الإبل و هو الذي جاوز في السن البازل و المخلف. و الهرم هو كبر السن. و في منتهى الأرب: يقال: جمل بازل و ناقة بازل- و اين در سال نهم باشد- و ليس بعده سن يسمي‏ و يقال بعد ذلك بازل عام و بازل عامين. مخلف كمحسن: شتر كه از نه سالگى در گذشته باشد. عود: كلانسال از شتر و كوسپند، هرم ككتف: نيك پير خرف.

قال العلامة قدس سره في زكاة المنتهى (ص 485 ج 1): مسئلة و لا يؤخذ المريضة من الصحاح و لا الهرمة من غيرها و لا الهرمة الكبيرة و لا ذات العوار من السليم و ذات العوار هي المعيبة و لا نعلم فيه خلافا قال الله تعالى: و لا تيمموا الخبيث منه تنفقون‏. و روى الجمهور عن النبي صلى الله عليه و آله أنه قال: و لا يؤخذ في الصدقة هرمة و لا ذات عوار و لا تيس إلا أن يشاء المصدق. و من طريق الخاصة ما رواه الشيخ في الصحيح عن محمد بن قيس عن أبي عبد الله عليه السلام قال: و لا يؤخذ هرمة و لا ذات عوار إلا أن يشاء المصدق، و لأن في ذلك ضررا للفقراء. انتهى.

أقول: قوله- ره-: و لا الهرمة من غيرها و لا الهرمة الكبيرة يشير إلى قوله عليه السلام: و لا تأخذن عودا و لا هرمة. و المشهور في المصدق بكسر الدال و ذكره الخطائي بفتحها، قال: و كان أبو عبيد يرويه إلا أن يشاء المصدق بفتح الدال يريد صاحب الماشية، أفاده ابن الأثير في النهاية، و الطريحى في المجمع و النراقي قدس سره في المستند ثم قال: و احتمله- يعنى فتح الدال- في الذخيرة.

أقول: لكن الصواب هو الأول كما عليه المشهور فإن المراد من قول النبي صلى الله عليه و آله و صحيحي أبي بصير و محمد بن قيس إلا أن يشاء المصدق أن تلك المعيبات لا يؤخذ في الفريضة إلا أن يقبلها المصدق لأن العاملين على الزكاة من الأصناف الثمانية من مستحقي الزكاة قال الله تعالى: إنما الصدقات للفقراء و المساكين و العاملين عليها و المؤلفة قلوبهم و في الرقاب و الغارمين و في سبيل الله و ابن السبيل فريضة من الله و الله عليم حكيم‏ (التوبة: 61) فهو يكون مستحقا للزكاة فيعطيها بدل الصحيح من الماشية و الإبل و ليس في ذلك ضرر للفقراء فالروايات قائلة بجواز أخذ تلك المعيبات مع مشية المصدق بمعنى قبوله إياها له، و كيف يصح حمل الرواية على معنى إلا أن يشاء صاحب الماشية مع أن قوله في ذلك لا يسمع و الأصحاب صرحوا من غير ذكر خلاف بل ادعوا الاجماع‏ عليه أنه لا يكفي في الفريضة المريضة من الصحاح و الهرمة من الفتيات و ذات العوار من السليمة مضافا إلى قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم و مما أخرجنا لكم من الأرض و لا تيمموا الخبيث منه تنفقون و لستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه و اعلموا أن الله غني حميد (البقرة: 272).

على أن إطلاق المصدق بالكسر على الساعى الذي يأخذ الفريضة مما أجمعت عليه أئمة اللغة و عامة الرواة. و قال ابن الأثير في النهاية: و خالف أبا عبيد عامة الرواة فقالوا: بكسر الدال و هو عامل الزكاة الذي يستو فيها من أربابها يقال: صدقهم يصدقهم فهو مصدق.

و في الكافي في باب آداب المصدق باسناده عن محمد بن خالد أنه سأل أبا عبد الله عليه السلام عن الصدقة، فقال: إن ذلك لا يقبل منك، فقال: إنى أحمل ذلك في مالي فقال له أبو عبد الله عليه السلام: مر مصدقك أن لا يحشر من ماء إلى ماء. الحديث.

و في ذلك الباب منه أيضا باسناده عن حريز، عن محمد، عن أبي عبد الله عليه السلام انه سئل أ يجمع الناس للمصدق أم يأتيهم على مناهلهم؟ قال: لا بل يأتيهم على مناهلهم فيصدقهم.

و فيه أيضا باسناده عن غياث بن ابراهيم، عن جعفر، عن أبيه، عليهما السلام قال: كان علي عليه السلام إذا بعث مصدقه قال: إذا أتيت على رب المال فقل له: تصدق رحمك الله مما أعطاك الله، فان ولي عنك فلا تراجعه.

و قال الجوهرى في الصحاح: المصدق الذى يصدقك فى حديثك و الذى يأخذ صدقات الغنم، و المتصدق الذى يعطى الصدقة. و فى أساس البلاغة للزمخشرى: أخذ المصدق الفريضة، قال:

ود المصدق من بنى عبر أن القبائل كلها غنم‏

و فى منتهى الأرب: تصديق: راستگو داشتن كسيرا و صدقات گرفتن مصدق كمحدث صدقات گيرنده نعتست از آن.

فبما قدمنا علم أيضا أن ضبط المصدق في الرواية كما ذهب إليه أبو موسى على‏ ما فى النهاية الأثيرية على تشديد الصاد و الدال معا و كسر الدال بمعنى صاحب المال و أصله المتصدق فادغمت التاء في الصاد، ليس بصواب أيضا.

قال قطب الدين الراوندي رحمه الله تعالى- على ما نقله عنه الشارح البحريني- ره-: الظاهر من كلامه عليه السلام أنه كان يأمر باخراج كل واحد من هذه الأصناف المعيبة من المال قبل أن يصدع بصدعين. انتهى.

و قال الشارح المعتزلي: و ينبغي أن يكون المعيبات الخمس و هى المهلوسة و المكسورة و أخواتهما يخرجها المصدق من أصل المال قبل قسمته و الا فربما وقعت في سهم المصدق إذا كان يعتمد ما أمره به من صدع المال مرة بعد مرة. انتهى.

أقول: إذا كان أخذ تلك المعيبات في الفريضة منهيا عنه فهي خارجة عن الفريضة رأسا سواء اخرجت قبل صدع المال أو بعده نعم إخراجها قبل الصدع تسهيل للأمر و إلا فليس هو أحد الأحكام أو الاداب المعتبرة في الزكاة كما لم يتعرض عليها أحد من الفقهاء في الكتب الفقهية.

ثم إن للامام أن يستأجر الساعى بأجرة معلومة مدة معلومة و أن يجعل له جعالة على عمله إذا أوفى العمل دفع إليه العوض فلم يكن له فى هذا الوجه أخذ شي‏ء من الصدقات، و أما في غير هذا الوجه فربما لم تقع الفريضة فى سهمه بل تقع فى سهم الفقراء فلو يخلو في كلام الشارح المعتزلي و إلا فربما وقعت في سهم المصدق من دغدغة لأن كلامه ينبى‏ء أن النهى عن أخذ المعيبات الخمس في الفريضة يكون من حيث وقوعها في سهم المصدق و قد علمت تحقيق القول فيه.

ثم إنه هل يجوز للهاشمي أن يكون عاملا؟ منع أصحابنا الامامية من ذلك لأن ما يأخذه زكاة و هي محرمة عليهم و لما سأل الفضل بن العباس و المطلب ابن ربيعة النبي صلى الله عليه و آله أن يوليهما العمالة قال لهما: الصدقة أوساخ الناس و انها لا تحل لمحمد و آل محمد، كما في المنتهى، و في صحيحة العيس بن القاسم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن اناسا من بني هاشم أتوا رسول الله صلى الله عليه و آله فسألوه أن يستعملهم‏ على صدقات المواشي و قالوا: يكون لنا هذا السهم الذي جعله الله عز و جل للعاملين عليها فنحن أولى به، فقال رسول الله صلى الله عليه و آله: يا بني عبد المطلب إن الصدقة لا تحل لي و لا لكم و لكن قد وعدت الشفاعة. و قال الشيخ قدس سره: هذا مع تمكنهم من الخمس أما مع قصورهم فيجوز لهم.

أقول: مرادهم من عدم جواز كون الهاشمى عاملا إذا لم يكن الزكاة من الهاشميين لأن زكاة غير الهاشميين محرمة على بني هاشم لا مطلق الزكاة، كما في زكاة الفطرة.

قال العلامة في المنتهى: قد وقع الخلاف بين الفقهاء في وجه استحقاق العاملين على الزكاة، فعندنا أنه يستحق نصيبا من الزكاة، و به قال الشافعي و قال أبو حنيفة: يعطى عوضا و أجرة لا زكاة.

لنا: قوله تعالى: إنما الصدقات للفقراء و المساكين و العاملين عليها و العطف بالواو يقتضى التسوية في المعنى و الاعراب و ما رواه الجمهور عن النبي صلى الله عليه و آله أن الله تعالى لم يرض في قسمتها نبي مرسل و لا ملك مقرب حتى قسمها بنفسه فجزاها ثمانية أجزاء، و من طريق الخاصة ما رواه زرارة و محمد بن مسلم في الحسن عن أبي عبد الله عليه السلام قالا: قلنا له: أرأيت قوله تعالى: إنما الصدقات للفقراء الاية أ كل هولاء يعطي؟ فقال: إن الإمام يعطي هؤلاء جميعا، و عن سماعة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الزكاة لمن يصلح أن يأخذها؟ قال: هي تحل للذين وصف الله تعالى في كتابه: للفقراء و المساكين إلى آخرها. و لأنه لو استحقها على سبيل الاجرة لافتقر إلى تقدير العمل أو المدة و تعيين الاجرة و ذلك منفي إجماعا لأن النبي صلى الله عليه و آله و الأئمة عليهم السلام بعده لم يعينوا شيئا من ذلك.و لأنه لو كان اجرة لما منع منها الهاشمى.

احتج أبو حنيفة بأنه لا يعطي إلا مع العمل و لو فرقها المالك أو الإمام لم يكن له نصيب، و لأنه يأخذها مع الغنى و الصدقة لا تحل لغنى. و الجواب كونهم لا يأخذون إلا مع العمل لا ينافي استحقاقهم منها و نحن ندفعها إليهم على‏ وجه استحقاقهم لها بشرط العمل لأنها عوض عن عملهم لعدم اعتبار التقدير و إعطاؤه لا ينافي غناه لأنه يأخذها باعتبار عمله لا باعتبار فقره كما يعطى ابن السبيل مع غنائه في بلده و يدخل في العاملين الكاتب و القسام و الحاسب و الحافظ و العريف أما الإمام و القاضى و نائب الامام فلا. انتهى.

ثم إن النهي عن أخذ المعيبات منصرف عما إذا كان النصاب كله كذلك فلو كان كله كذلك لم يكلف شراء الصحيح، على أن قوله تعالى «منه» في الاية يدل على أن الخبيث بعض المال، و كذا الظاهر من قوله تعالى‏ و لا تيمموا فان القصد إلى الخبيث ظاهر في وجود غيره أيضا، كما أن المرجع في صدق الأصناف المعيبة إلى العرف فان صدق المعيب على مثل العرج القليل أو مقطوع الاذن أو القرن و نحوها بحيث يشملها النهى في الاية و في قوله عليه السلام و في الأخبار الاخرى مشكل بل خلافه ظاهر أو متعين.

قوله عليه السلام: (و لا تأمنن عليها إلا من تثق به‏، إلخ) ثم أكده بقوله: و لا توكل بها إلا ناصحا شفيقا و أمينا حفيظا إلخ. نهى عليه السلام عامله عن أن يولى على‏ مال المسلمين‏ من ليس محلا للأمانة، و الأمانة أحد الشروط المعتبرة في العاملين و قد اشترطوا في العامل البلوغ و العقل و الاسلام و العدالة و الفقه و اعتبر بعضهم الحرية أيضا و قد علمت آنفا أنه لا يجوز للهاشمي أن يكون عاملا، و يقتصر في الفقه فيمن يتولاه على ما يحتاج إليه.

قال في المدارك: لا ريب في اعتبار استجماع العامل لهذه الصفات الأربع التكليف و الايمان و العدالة و الفقه لأن العمالة تتضمن الاستيمان على مال الغير و لا أمانة لغير العدل، و لقول أمير المؤمنين عليه السلام في الخبر المتقدم: فاذا قبضته‏ فلا توكل به إلا ناصحا شفيقا و أمينا حفيظا. و إنما يعتبر الفقه فيمن يتولى ما يفتقر إليه و المراد منه معرفته بما يحتاج إليه من قدر الواجب و صفته و مصرفه و يختلف ذلك باختلاف حال العامل بالنسبة إلى ما يتولاه من الأعمال. قال: و يظهر من المحقق في المعتبر الميل إلى عدم اعتبار الفقه في العامل و الاكتفاء فيه بسؤال العلماء و استحسنه في‏ البيان و لا بأس به.

قال: و شرط كونه غير هاشمي إنما يعتبر في العامل الذي يأخذ النصيب لا في مطلق العمالة فلو كان العامل من ذوى القربى و تبرع بالعمل أو دفع إليه الإمام شيئا من بيت المال جاز، لأن المقتضى للمنع الأخذ من الزكاة و هو منتف هنا.

و كذا لو تولى عمالة قبيلة أو مع قصور الخمس، و يدل على اعتبار هذا الشرط ما رواه الشيخ في الصحيح عن العيص بن القاسم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن اناسا من بني هاشم أتوا رسول الله صلى الله عليه و آله فسألوا أن يستعملهم على صدقات المواشى الخبر.

قال: و حكى الشيخ في المبسوط عن قوم جواز كون العامل هاشميا لأنه يأخذ على وجه الاجرة، فكان كسائر الإجارات و هو ضعيف جدا قاله في المختلف و الظاهر أن القوم الذين نقل الشيخ عنهم من الجمهور إذ لا أعرف قولا لعلمائنا في ذلك.

قال: و اختلف الأصحاب في اعتبار شرط الحرية فذهب الشيخ إلى اعتباره و استدل له في المعتبر بأن العامل يستحق نصيبا من الزكاة و العبد لا يملك و مولاه لم يعمل ثم أجاب عنه بأن عمل العبد كعمل المولى، و قوى العلامة في المختلف عدم اعتبار هذا الشرط لحصول الغرض بعمله و لأن العمالة نوع اجارة و العبد صالح لذلك مع اذن سيده، و يظهر من المحقق في المعتبر الميل إليه و لا بأس به، أما المكاتب فلا ريب في جواز عمالته لأنه صالح للملك و التكسب انتهى كلامه- ره-.

قال العلامة- ره- في المنتهى في وجه اشتراط الاسلام بأن الكافر ليس أهلا للأمانة قال الله تعالى‏ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم‏ و رفع أبو موسى الأشعرى إلى عمر حسابا فاستحسنه فقال من كتب هذا؟ فقال: كاتبى، قال: فأين هو؟ قال: على باب المسجد، فقال: أجنب هو؟ قال: لا و لكنه نصرانى فقال: لا تأتمنوهم و قد خونهم الله و لا تقربوهم و قد بعدهم الله. و لأن ذلك ولاية على المسلمين و قد قال الله تعالى: و لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا.

قوله عليه السلام‏ (حتى توصله إلى وليهم فيقسمه بينهم) إن بنى الفعل الأول على‏ الخطاب فهو راجع إلى العامل، و على الغيبة إلى من في قوله: إلا من تثق به‏ و أما الثاني فالصواب فيه أن يقرأ على الغيبة لكى يرجع إلى‏ الولى‏ و أراد بالولي‏ نفسه. قال الله تبارك و تعالى: إنما وليكم الله و رسوله و الذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة و هم راكعون‏ «المائدة» و الاية من الأدلة الواضحة على أن أمير المؤمنين عليه السلام هو ولى المسلمين بعد الله تبارك و رسوله صلى الله عليه و آله فالاية دالة على إمامته عليه السلام بعد النبي صلى الله عليه و آله بلا فصل فراجع إلى كتب التفسير.

و أفاد الفاضل الشارح المعتزلي في المقام حيث قال: قد كرر عليه السلام قوله: لنقسمها على كتاب الله و سنة نبيه صلى الله عليه و آله في ثلاثة مواضع من هذا الفصل الأول قوله: حتى يوصله إلى وليهم ليقسمه بينهم‏، الثاني قوله: نصيره حيث أمر الله به‏، الثالث قوله: ليقسمها على كتاب الله‏، و البلاغة لا تقتضى ذلك و لكني أظنه أحب أن يحتاط و أن يدفع الظنة عن نفسه فان الزمان كان في عهده قد فسد و ساءت ظنون الناس لا سيما مع ما رواه من عثمان و استيثاره بمال الفي‏ء.

قوله عليه السلام‏ (ثم احدر إلينا إلخ) ثم أمر عليه السلام المصدق بأن يسوق إليه سريعا ما اجتمع عنده من حق الله يقال: حدر يحدر كينصر و يضرب إذا أسرع، إنما أمره كذلك لأن في تأخيره خوف التلف، أو لشدة احتياج المستحقين إليه.

و في المقام يبحث عن فروع فقهية:

أحدها أن الظاهر من كلامه عليه السلام: احدر إلينا جواز نقل مال الزكاة إلى بلد آخر.

و ثانيها حمل الزكاة وجوبا إلى الولى عليه السلام أو إلى من قام مقامه.

و ثالثها عدم جواز التصرف في الزكاة للساعى، و في الفروع اختلاف بين الفقهاء و نكتفي بنقل طائفة من أقوالهم دون أدلتهم تفصيلا.

أما الفرع الأول‏

ففى المختلف قال الشيخ في الخلاف: لا يجوز نقل مال الزكاة من بلد إلى بلد مع وجود مستحقه فان نقله كان ضامنا له إن هلك، و إن لم يجد له مستحقا جاز له نقله و لا ضمان عليه أصلا. و في المبسوط: و إذا وجب عليه زكاة فعليه أن يفرقها في فقراء أهل بلده فان نقلها إلى بلد آخر مع وجود المستحق‏

في بلده و وصل إليهم أجزأه و إن هلك ضمن و إن لم يجد مستحقا في بلده جاز حملها إلى بلد آخر و لا ضمان على حال و لا فرق بين أن ينقلها إلى قريب أو بعيد فإنه لا يجوز نقلها عن البلد مع وجود المستحق إلا بشرط الضمان و مع عدم المستحق يجوز بالإطلاق.

و في النهاية: متى لم يجد من تجب عليه الزكاة مستحقا عزلها من ماله و انتظر بها مستحقها فان لم يكن في بلده جاز أن يبعث بها إلى آخر فإن اصيب في الطريق أجزأه، و إن كان قد وجد في بلده مستحقا فلم يعطه و آثر من يكون في بلد آخر كان ضامنا لها إن هلكت وجب عليه إعادتها.

و قال المفيد: إذا جاء الوقت فعدم المستحق عزلها من ماله إلى أن يجد من يستحقها من أهل الفقر و الايمان و إن قدر على إخراجها إلى بلد يوجد فيه مستحق أخرجها و لم ينتظر بها وجود مستحقها ببلده إلا أن يغلب على ظنه فوت وجوده و يكون أولى بها ممن يحمل إليه من أهل الزكاة فان هلكت في الطريق المحمول فيها إلى مستحقها أجزأت عن صاحب المال و لا يجزيه ذلك إذا حملها و هلكت و قد كان واجدا لمستحقها في بلده و إنما أخرجها منه إلى غيره لاختيار أهل الاستحقاق و وضعها في بعض من يؤثره منهم دون من حضره.

و قال صاحب الوسيلة فيها: إذا وجد المستحق في بلده كره له نقلها إلى آخر فان نقل ضمن، و إن لم يوجد لم يضمن.

و قال أبو الصلاح: و أهل المصر أولى من قطان غيره، فان لم يكن في المصر من يتكامل فيه صفات مستحقها اخرجت إلى من يستحقها، و إذا اريد حملها إلى مصر آخر مع فقد من يستحقها في المصر فلا ضمان على مخرجها في هلاكها و إن كان السبيل مخوفا لم يجز حملها إلا بإذن الفقير، فان نقلت من غير إذنه فهى مضمونة حتى تصل إليه، و إن كان في مصره من يستحقها فحملها إلى غيره فهى مضمونة حتى تصل إلى من حملت إليه إلا أن يكون حملها إليه باذنه فيسقط الضمان.

و أما الثاني‏

ففي المختلف أيضا قال المفيد رحمه الله تعالى: فرض على الامة حمل الزكاة إلى النبي صلى الله عليه و آله و الامام خليفته و قائم مقامه فاذا غاب الخليفة كان الفرض حملها إلى من ينصبه خليفة من خاصته فاذا عدم السفراء بينه و بين رعيته وجب حملها إلى الفقهاء المأمونين من أهل ولايته. و قال أبو الصلاح: يجب على كل من تعين عليه فرض زكاة أو فطرة أو خمس أو أنفال أن يخرج ما وجب عليه من ذلك إلى سلطان الإسلام المنصوب من قبله تعالى إو إلى من ينصبه لقبض ذلك من شيعته ليضعه مواضعه، فان تعذر الأمران فإلى الفقيه المأمون فإن تعذر و أثر المكلف تولى ذلك بنفسه فمستحق الزكاة و الفطرة الفقير المؤمنين، و هذا الكلام منهما يشعر بوجوب حمل الزكاة إلى الإمام أو نائبه أو الفقيه على ما رتبناه.

و قال ابن البراج: و إذا كان الإمام ظاهرا وجب حمل الزكاة إليه ليفرقها في مستحقها، فان كان غائبا فإنه يجوز لمن وجبت عليه أن يفرقها في خمسة أصناف و هو يدل على الوجوب أيضا.

و قال الشيخ رحمه الله تعالى: الأموال ضربان: ظاهرة و باطنة، فالباطنة الدنانير و الدراهم و أموال التجارات، فالمالك بالخيار بين أن يدفعها إلى الإمام أو من ينوب عنه و بين أن يفرقها بنفسه على مستحقها بلا خلاف في ذلك. و أما زكاة الأموال الظاهرة مثل المواشى و الغلات فالأفضل حملها إلى الإمام إذا لم يطلبها، و إن تولى ففرقها بنفسه فقد أجزأ عنه.

و قال السيد المرتضى: الأفضل و الأولى إخراج الزكاة لا سيما في الأموال الظاهرة كالمواشى و الحرث و الغرس إلى الإمام و إلى خلفائه النائبين عنه [و إن تولى ظ] من وجبت عليه بنفسه من دون الإمام جاز.

ثم قال العلامة رحمه الله تعالى: و الحق الاستحباب إلا مع الطلب فيجب كما اختاره الشيخ و هو قول ابن إدريس، إلى أن قال: لو طلبها الإمام فلم يدفعها إليه و فرقها بنفسه قال الشيخ لا يجزيه و هو الذي يقتضيه قول كل من أوجب الدفع إليه مع غير الطلب، و قيل: يجزيه.

لنا أنها عبادة لم يأت بها على وجهها المطلوب شرعا فيبقى في عهدة التكليف أما أنها عبادة فظاهر، و أما أنه فعلها على غير الوجه المطلوب فللاجماع على وجوب الدفع إلى الإمام مع الطلب فاذا فرقها بنفسه لم يأت به على وجهه.

احتج الاخرون بأنه دفع مالا إلى مستحقه فيخرج عن العهدة، و الجواب إنما يخرج عن العهدة لو دفعه إليه على الوجه المطلوب منه.

و أما الفروع الثالث‏

ففي المنتهى: إذا قبض الساعى الصدقة و حملها إلى الإمام أو فرقها إن كان قد أذن له في التفريق فليس له أن ينتفع منها شيئا إلا مع الحاجة و العذر كما إذا مرضت الشاة فيخاف عليها التلف قبل اتصالها إلى المستحق أو كان التفريق مخوفا أو احتاج في نقله إلى مؤنة يستوعبه فأما لغير عذر فلا يجوز لقوله عليه السلام لمعاذ بن جبل: أعملهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم، و لما بعث أمير المؤمنين عليه السلام المصدق قال له: ثم احدر ما اجتمع عندك من كل ناد إلينا نصيره حيث أمر الله عز و جل، و لما عدل عن البيع الذي هو الأرفق إلى الأشق دل على أن الواجب ذلك، أما مع العذر فلا بأس لأجل الضرورة، و قد روى الشيخ رحمه الله تعالى عن محمد بن خالد عن أبي عبد الله عليه السلام بيع الصدقة، و هو محمول على ما قلناه، إذا ثبت هذا فإن باع لا للضرورة لم يصح البيع فان كانت العين باقية استرجعت و ان نقصت ضمن الأرش، و إن كانت تالفة ضمن المشترى المثل فان تعذر أو لم يكن مثله ضمن القيمة.

قوله عليه السلام: (فاذا أخذها أمينك‏ إلخ) فيه زيادة تأكيد لقوله الماضى آنفا:

و لا تأمنن عليها إلا من تثق‏ بدينه، حيث ذكره بالوصف مشعرا بذلك من كونه‏ أمينا ثم أمره أن يوعز إلى أمينه و يوصى إليه بحال‏ الماشية و الإبل‏ بأن يراعى فيها عدة امور:

أحدها أن لا يحول بين ناقة و فصيلها طمعا في اللبن.

و ثانيها أن لا يحلب كل ما في ضرعها فيضر ذلك بولدها فيبقى جائعا.

و ثالثها أن لا يتعبنها ركوبا.

و رابعها أن‏ يعدل بين صواحباتها و بينها في الركوب أى لا يخص بالركوب واحدة بل تارة يركب عليها و اخرى على غيرها. هذا إذا جعلنا ذلك مشيرا إلى الركوب كما هو الظاهر المنساق من العبارة، و يمكن أن يكون مشيرا إلى كل واحد من الركوب و حلب الضرع أى كما يجب عليه العدل بينها في الركوب يجب عليه العدل في الحلب أيضا بأن لا يخص واحدة منها في ذلك بل تارة يحلب هذه و اخرى اخرى.

و خامسها أن‏ يرفه على اللاغب‏ أي أن يريح المعيى و يدعه و يعفه عن الركوب ليستريح.

و سادسها أن يستأنى‏ بالنقب‏، و هو الذي رقت أخفافه فيشق عليه المشى لأن الأرض تجرحه حينئذ، و كذلك أن يستأنى و يرفق‏ بالظالع‏ و هو الذي يظلع أى يغمز في مشيه.

و سابعها أن‏ يوردها ما تمر به من الغدر أى لا يمنعها من الماء.

و ثامنها أن‏ لا يعدل بها عن نبت الأرض إلى جواد الطريق‏ أى لا يمنعها من الكلاء.

و كانت نسختا الكافي و التهذيب في هذا القسم هكذا: و لا يعدل- او و لا يبدل- بهن عن نبت الأرض إلى جواد الطريق في الساعة التي تريح و تغبق.

و صاحب المدارك- ره- نقل الخبر بطوله من الكافي في زكاة المدارك (ص 281 من الطبع على الحجر) و قال بعد نقل الخبر: و نقلنا هذا الحديث بطوله لما فيه من الفوائد، ثم قال: قال ابن إدريس- ره- في سرائره بعد ان أورد هذا الخبر: قوله عليه السلام: و لا تعدل بهن عن نبت الأرض إلى جواد الطرق في الساعة التي تريح فيها و تعنق قال محمد بن إدريس: سمعت من يقول: تريح و تغبق بالغين المعجمة و الباء يعتقد أنه من الغبوق و هو الشرب بالعشى، و هذا تصحيف فاحش و خطاء قبيح و انما هو بالعين غير المعجمة و النون المفتوحة و هو ضرب من سير الابل شديد قال الراجز:

يا ناق سيرى عنقا فسيحا إلى سليمان فتستريحا

لأن معنى الكلام أنه‏ لا يعدل‏ بهن‏ عن نبت الأرض إلى جواد الطرق في الساعات‏ التي لها فيها راحة و لا في الساعات‏ التي عليها فيها مشقة و لأجل هذا قال تريح من الراحة و لو كان من الرواح لقال تروح و ما كان يقول تريح و لأن الرواح عند العشاء يكون قريبا منه و الغبوق و هو شرب العشى على ما ذكرناه و لم يبق له معنى و انما المعنى ما قلناه و انما أوردت هذه اللفظة في كتابى لأنى سمعت جماعة من أصحابنا الفقهاء يصحفونها. انتهى كلامه- ره-. انتهى ما أتى به السيد- ره- في المدارك.

و قال الفيض قدس سره في الوافي (ص 22 ج 6) في بيان الحديث: و الغبوق بالغين المعجمة و الباء الموحدة شرب آخر النهار، و ضبطه صاحب كتاب السرائر تعنق بالعين المهملة و النون من العنق و هو شدة سير الابل و جعل جعله تغبق تصحيفا فاحشا و خطاء قبيحا معللا بان يريح من الراحة ليس من الرواح.ثم قال الفيض- ره- قال استاذنا رحمه الله: كون ذلك تصحيفا غير معلوم بل يحتمل الأمرين. انتهى كلام الفيض. و مراده من استاذه هو استاذه في العلوم النقلية السيد ماجد بن هاشم الصادقى البحراني طاب ثراه كما نص عليه في ص 14 ج 6 من زكاة الوافي.

و تاسعها أن‏ يروحها في ساعات‏ الرواح.

و عاشرها أن يمهلها عند وصولها إلى النطاف و الأعشاب، و النطاف المياه القليلة الصافية جمع النطفة، و الأعشاب جمع العشب و هو الكلاء الرطب.

ثم إن كلامه عليه السلام: (و لا يمصر لبنها فيضر ذلك بولدها و لا يجهدنها ركوبا) يفيد أن للساعى أن ينتفع من الصدقة على مقدار الحاجة كما تقدم الكلام آنفا في الفرع الثالث.

و ينبغي التأمل جدا في ما أمره عليه السلام و نهاه في حق البهائم سيما فيما أوصى من رعاية العدل في الركوب و الحلب فيها ليعلم أن الله يحب العدل في حقها أيضا، و أنه سبحانه بين كل ما يتعلق بأفعال المكلفين و لم يترك شيئا إلا و له فيه‏ حكم. و هذا هو خليفته أوصى في أخس خليفته ما أوصى، فما ظنك بأشرفها و أكرمها.

فلنذكر في المقام عدة روايات منقولة من أئمة الدين عليهم السلام في حق الدابة على صاحبها و آداب ركوبها و حملها، ففي الكافي و الفقيه (الوافي ص 66 ج 8) عن أبي عبد الله عليه السلام قال لقمان لابنه: يا بنى إذا سافرت مع قوم فأكثر استشارتهم في أمرك و امورهم- إلى أن قال: و لا تنامن على دابتك فان ذلك سريع في دبرها و ليس ذلك من فعل الحكماء إلا أن تكون في محمل يمكنك التمدد لاسترخاء المفاصل، و إذا قربت من المنزل فانزل عن دابتك و ابدأ بعلفها قبل نفسك فانها نفسك إلخ. قال الفيض قدس سره: الدبر محركة قرحة الدابة، و انما جعل الدابة نفسه لأن هلاكها يستلزم هلاكها.

و في الخصال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله: للدابة على صاحبها خصال ست:يبدأ بعلفها إذا نزل، و يعرض عليها الماء إذا مر به، و لا يضرب وجهها فانها تسبح بحمد ربها، و لا يقف على ظهرها إلا في سبيل الله عز و جل، و لا يحملها فوق طاقتها، و لا يكلفها من المشى إلا ما تطيق.

و في البحار- باب حق الدابة على صاحبها و آدابها و حملها ص 701 ج 14 من طبع الكمبانى- من المحاسن عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله:لا تضربوا وجوه الدواب و كل شي‏ء فيه الروح فانه يسبح بحمد الله.

و فيه من مجالس الصدوق عن الصادق عليه السلام قال: للدابة على صاحبها سبعة حقوق: لا يحملها فوق طاقتها، و لا يتخذ ظهرها مجلسا يتحدث عليها، و يبدأ بعلفها إذا نزل، و لا يسمها في وجهها فانها تسبح، و يعرض عليها الماء إذا مر به، و لا يضربها على النفار، و يضربها على العثار لأنها ترى ما لا ترون.

و فيه من المحاسن و الفقيه عن ابن فضال عن حماد اللحام قال: مر قطار لأبي عبد الله عليه السلام فرأى زاملة قد مالت فقال: يا غلام اعدل على هذا الجمل فان الله يحب العدل.

و فيه من نوادر الراوندي عن علي عليه السلام قال: للدابة على صاحبها ست خصال: يبدأ بعلفها إذا نزل، و يعرض عليها الماء إذا مر به، و لا يضربها إلا على حق و لا يحملها إلا ما تطيق، و لا يكلفها من السير إلا طاقتها، و لا يقف عليها فواقا.

و قال رسول الله صلى الله عليه و آله: لا تتخذوا ظهور الدواب كراسى فرب دابة مركوبة خير من راكبها و أطوع لله تعالى و أكثر ذكرا.

و فيه من الفقيه قال رسول الله صلى الله عليه و آله: إن الله تبارك و تعالى يحب الرفق و يعين عليه فاذا ركبتم الدواب العجاف فانزلوها منازلها فان كانت الأرض مجدبة فانجوا عليها، و ان كانت مخصبة فانزلوها منازلها. فقال صلى الله عليه و آله: من سافر منكم بدابة فليبدأ حين ينزل بعلفها و سقيها.

و في الكافي باسناده عن عمرو بن جميع عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله: لا تتوركوا على الدواب و لا تتخذوا ظهورها مجالس.

و في البحار عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه و آله قال: من قال إذا ركب دابة:«بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شي‏ء في الأرض و لا في السماء سبحانه ليس سمى له سبحان الذي سخر لنا هذا و ما كنا له مقرنين و إنا إلى ربنا لمنقلبون و الحمد لله رب العالمين و صلى الله على محمد و آله عليهم السلام» إلا قالت الدابة: بارك الله عليك من مؤمن خففت على ظهري و أطعت ربك و أحسنت إلى نفسك بارك الله لك و أنجح حاجتك.

و قد مضى كلام الأمير عليه السلام حين يركب في شرح المختار الخامس عشر من باب الكتب «ص 169 ج 18» فراجع. و في المقام روايات عديدة أتى بها المجلسي- ره- في البحار فراجع «ص 701 ج 14- إلى ص 708 من طبع الكمبانى».

قوله عليه السلام: (حتى يأتينا باذن الله‏ إلخ) ثم ذكر عليه السلام غاية ما أمر العامل أن يوصى إلى أمينه بما مر في أمر الدواب، أى له أن يراعى فيها بتلك الامور حتى يأتينا إلخ. فقوله: حتى يأتينا متعلق بقوله: فأوعز إليه‏، و المنقيات اسم فاعل من انقت الابل اذا سمنت يقال: انقت الابل أى سمنت و صارت ذات نقي بكسر النون‏ فسكون القاف أى ذات مخ. ثم اتبعه عليه السلام تشديدا في حفظ مال المستحقين و تأكيدا لما أوصى مرارا من قسمته على ما أوجب الله تعالى بقوله: (لنقسمها على كتاب الله و سنة نبيه صلى الله عليه و آله) ثم وعده بما يترتب على عمله هذا من الأجر العظيم و القرب من الرشد و الهداية و الصواب، و قال عليه السلام: (إن ذلك أعظم أجرا) لأن فيه كثرة مشقة لا تخفى و لأن ذلك أحفظ لمال المستحقين فثواب حافظه و أجره أقرب رشدا لأن فيه اتباع ولي الأمر على نهج رضاه فيه أكثر، و لأن اختيار عمل فيه كثرة مشقة يدل غالبا على خلوص العامل و صدق نيته في إطاعة الامر.

و كفى في عظم الأجر ما وعد عليه السلام على ما في روايتى الكافي و التهذيب المقدمتين في ذكر المصدر حيث قال عليه السلام: فان ذلك أعظم لأجرك و أقرب لرشدك‏ ينظر الله إليها و إليك و إلى جهدك و نصيحتك لمن بعثك و بعثت في حاجة فان رسول الله صلى الله عليه و آله قال: ما ينظر الله إلى ولى له يجهد نفسه بالطاعة و النصيحة له و لإمامه إلا كان معنا في الرفيق الأعلى. قال الفيض قدس سره في الوافي «ص 22 ج 6» في بيان الرفيق الأعلى: أى في الرفقة العالية و هم الأنبياء و المرسلون و الملائكة المقربون.

فرع فقهى‏

روى المسلم في آخر كتاب الزكاة من صحيحه باسناده عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان رسول الله صلى الله عليه و آله إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: «اللهم صل عليهم» فأتاه أبي أبو أوفى بصدقته فقال: «اللهم صل على آل أبي أوفى». انتهى.

أقول: قوله صلى الله عليه و آله: اللهم صل عليهم يشير إلى قوله تعالى: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم و تزكيهم بها و صل عليهم إن صلاتك سكن لهم و الله سميع عليم‏- توبة: 104». ثم إن الأمير عليه السلام لم يأمر العامل بالدعاء بعد أخذ الصدقة لصاحبها و لو كان واجبا لذكره اللهم إلا أن يقال: إن الرضى أسقطه على دأبه في النهج بل صرح في المقام بانه ذكر هنا جملا منها كما دريت، و نسخة الكافي كالتهذيب كانت قريبة منه، و مع فرض ذكره في الوصية القول بوجوبه مشكل بل الحق في المقام أن الدعاء مستحب و ليس الدعاء موقتا.

قال العلامة- ره- في المنتهى «ص 515»، مسئلة و إذا أخذ الساعي أو الامام الصدقة دعا لصاحبها قال الله تعالى: خذ من أموالهم صدقة تطهرهم و تزكيهم بها و صل عليهم‏ و تردد الشيخ في الوجوب فقال في الخلاف به‏[1] و هو مذهب داود بن علي بن خلف الاصبهاني لظاهر الاية و قال في المبسوط بالاستحباب و هو مذهب أكثر الجمهور و هو أولى لأن النبي صلى الله عليه و آله لما بعث معاذا إلى اليمن قال له: أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم، و لم يأمره بالدعاء و لو كان واجبا لذكره، و لأنه براءة للذمة، و لأن الفقراء لو أخذوا الصدقة بأنفسهم لم يجب عليهم الدعاء فتاتيهم أولى (كذا في المنتهى و في العبارة تصحيف) «الظاهر: فنائبهم م» و لأن هذا أداء عبادة فلا يجب الدعاء لها كالصلاة، و الاية محمولة على الاستحباب و لا شي‏ء موقت في هذا الدعاء و أي دعاء ذكره كان حسنا.

و في المستند للنراقي- قده-: يستحب للعامل و الفقيه و الفقير الدعاء للمالك بعد أخذ الزكاة، أما من حيث استحباب الدعاء مطلقا فظاهر، و أما من جهة خصوص المورد فلفتوى جمع من الأصحاب، و لا يجب قطعا للأصل و عدم الدليل سوى الاية المخصوص بالنبي صلى الله عليه و آله خطابا و تعليلا بقوله سبحانه: إن صلاتك سكن لهم‏ مضافا إلى عدم معلومية شمول مرجع الضمير لجميع المؤمنين و عدم صراحة الاية في كون الصلاة المأمور بها لأجل أداء الزكاة و بعد مضيها بل عدم ظهورها فيه أيضا.

كلام في الرجعة

و اعلم أن ظاهر قوله عليه السلام في ذيل هذه الوصية على نسختى الكافي و التهذيب حيث قال عليه السلام:- أما و الله لا تذهب الأيام و الليالى حتى يحيى الله الموتى و يميت الأحياء و يرد الله الحق إلى أهله و يقيم دينه الذى ارتضاه لنفسه و نبيه فابشروا ثم ابشروا فو الله ما الحق إلا في أيديكم- يدل على الرجعة.

و قال الفيض- ره- في الوافي «ص 22 ج 6»: قوله يحيى الله الموتى و يميت الأحياء، إما محمول على الحقيقة بناء على الرجعة، و إما تجوز، شبه الشيعة لقلتهم و خفائهم و عدم تمكنهم من اظهار دينهم بالموتى انتهى كلامه- ره- أقول: حمل العبارة على التجوز بعيد من صوب الصواب جدا و تكلفه واضح و لو جاز حمل العبارة على هذا النحو من التجوز لا يبقى لظاهر الألفاظ معنى، و لا للرجعة محل لامكان حمل كل خبر قائل بالرجعة على نحو هذا المعنى المتكلف فيه.

ثم إن لعلمائنا الامامية رسائل عديدة منفردة في إثبات الرجعة و ربما أتوا بالبحث عنها في أثناء كتبهم الكلامية تمسكوا في إثباتها بعدة آيات و بروايات كثيرة.

و قال المحدث الخبير الشيخ الحر العاملي طيب الله رمسه في أول كتابه في الرجعة المسمى بالإيقاظ من الهجعة بالبرهان على الرجعة، و هو أطول كتاب عمل في الرجعة مما حضرنا من المؤلفات فيها ما هذا لفظه: و قد نقل جماعة من علمائنا إجماع الإمامية على اعتقاد صحتها و اطباق الشيعة الاثنى عشرية على نقل أحاديثها و روايتها و تأولوا معارضها على شذوذ و ندور بالحمل على التقية إذ لا قائل بها من غير الشيعة الإمامية، و ذلك دليل واضح على صحتها، و برهان ظاهر على ثبوتها و نقل روايتها.

و قال في آخر كتابه هذا: فهذا ما خطر بالبال و اقتضاه الحال من الكلام في إثبات الرجعة و دفع شبهاتها على ضعفها و عدم صراحتها في ابطال الرجعة و قوة أحاديث الرجعة و أدلتها كما رأيت فانها وصلت إلي حد التواتر بل تجاوزت بمراتب فأوجبت القطع و اليقين بل كل حديث منها موجب لذلك لكثرة القرائن القطعية من موافقة القرآن و الأدلة و السنة النبوية و تعاضدها و كثرتها و صراحتها و اشتمالها على ضروب من التأكيدات و موافقتها لاجماع الامامية و إطباق جميع الرواة و المحدثين على نقلها و وجودها في جميع الكتب المعتمدة و المصنفات المشهورة المذكورة سابقا و غيرها، و عدم وجود معارض صريح لها أصلا و عدم‏  احتمالها للتقية، و استحالة اتفاق رواتها على الكذب، و لعدم قول أحد من العامة المخالفين للامامية بها، و لعدالة أكثر رواتها و جلالتهم، و لصحة طرق كثيرة من أحاديثها، و لكون أكثر رواتها من أصحاب الإجماع الذين اجتمعت الامامية على تصحيح ما يصح عنهم و تصديقهم و أقروا لهم بالعلم و الفقه، و للعلم القطعي بأن كثيرا من هذه الأحاديث كانت مروية في الاصول المجمع على صحتها التي عرضت على الأئمة عليهم السلام فصححوها و أمروا بالعمل بها، و لكثرة تصانيف علماء الإمامية في إثبات الرجعة، و لم يبلغنا أن أحدا منهم صرح بردها و إنكارها فضلا عن تأليف شي‏ء في ذلك.

و إني مع قلة تتبعي لو أردت الان لأضفت إلى أحاديث هذه الرسالة ما يزيد عليها في العدد فتتضاعف الأحاديث لأني لم أنقل من رسائل المتأخرين شيئا مع أنه حضرني منها ثلاث رسائل و فيما ذكرنا بل في بعضه كفاية إن شاء الله تعالى فقد ذكرنا في هذه الرسالة من الأحاديث و الايات و الأدلة ما يزيد على ستة مائة و عشرين، و لا أظن شيئا من مسائل الاصول و الفروع يوجد فيه من النصوص أكثر من هذه المسألة. انتهى كلامه- ره-.

و قال الاحسائى في شرح الزيارة الجامعة «ص 268 من الطبع على الحجر 1276 ه» في شرح قول الامام عليه السلام «مصدق برجعتكم» بعد نقل طائفة من الكلام في الرجعة: مع ما ورد في الرجعة من النصوص الكثيرة منها ما تقدم ذكره عن السيد نعمة الله الجزائرى أنه قال: وقفت على ستمائة و عشرين حديثا في هذا الباب. و الشيخ عبد الله بن نور الله البحرانى الذي تقدم ذكره و بعض كلامه و قلنا يأتي تمامه قال: و كيف يشك مؤمن بحقيقة الأئمة الأطهار عليهم السلام فيما تواتر عنهم في قريب من مأتي حديث صريح رواها نيف و أربعون من الثقات العظام و العلماء الأعلام في أزيد من خمسين من مؤلفاتهم كثقة الإسلام الكليني، و الصدوق محمد بن بابويه، و الشيخ أبي جعفر الطوسي، و المرتضى و النجاشي و الكياشي و العياشي و علي بن إبراهيم و سليم الهلالى و الشيخ المفيد و الكراجكى و النعمانى و الصفار و سعد بن عبد الله و ابن قولويه و علي بن عبد الحميد و السيد علي بن الطاوس و ولده صاحب كتاب زوائد الفرائد، و محمد بن علي بن إبراهيم و فرات بن إبراهيم مؤلف كتاب التنزيل و التحريف و أبي الفضل الطبرسي و أبي طالب الطبرسي و إبراهيم بن محمد الثقفي و محمد بن العباس بن مروان و البرقي و ابن شهرآشوب و الحسن بن سليمان و القطب الراوندي و العلامة الحلى و السيد بهاء الدين و علي بن عبد الكريم و أحمد بن داود بن سعيد و الحسن بن علي بن أبي حمزة و الفضل بن شاذان و الشيخ الشهيد محمد بن مكى و الحسين بن حمدان و الحسن بن محمد بن الجمهور العمي مؤلف كتاب الواحدة و الحسن بن محبوب و جعفر بن محمد بن مالك الكوفي و طهر بن عبد الله و شاذان بن جبرئيل صاحب كتاب الفضائل و مؤلف كتاب العتيق و مؤلف كتاب الخطب و غيرهم من مؤلفي الكتب عندنا و لم نعرف مؤلفه على التعيين و لذا لم ننسب الأخبار إليهم و إن كان موجودا فيها- إلى أن قال البحرانى المذكور:

و لنذكر لمزيد التشييد و التأكيد أسماء بعض من تعرض لتأسيس هذا المدعى و صنف فيه أو احتج على المنكرين أو خاصم المخالفين سوى ما ظهر مما قد منافي ضمن الأخبار و الله الموفق فمنهم أحمد بن داود بن سعيد الجرجانى قال الشيخ في الفهرست: له كتاب المتعة و الرجعة، و منهم الحسن بن علي بن أبي حمزة البطائى و عد النجاشي من جملة كتبه كتاب الرجعة. و منهم الفضل بن الشاذان النيسابوري ذكر الشيخ في الفهرست و النجاشي أن له كتابا في إثبات الرجعة. و منهم الصدوق محمد بن علي بن بابويه فانه عد النجاشي من كتبه كتاب الرجعة. و منهم محمد بن مسعود العياشي ذكر النجاشي و الشيخ في الفهرست كتابه في الرجعة. و منهم الحسن بن سليمان على ما روينا عنه الأخبار. و أما سائر الأصحاب فانهم ذكروها فيما صنفوا في الغيبة و لم يفردوا لها رسالة و أكثر أصحاب الكتب من أصحابنا أفردوا كتابا في الغيبة و قد عرفت سابقا من روى ذلك من عظماء الأصحاب و أكابر المحدثين الذين ليس في جلالتهم شك و لا ارتياب. و قال العلامة- ره- في خلاصة الرجال في ترجمة ميسر بن عبد العزيز: و قال العقيقي‏ أثنى عليه آل محمد صلى الله عليه و آله و هو ممن يجاهد في الرجعة انتهى.

و قال علم المهدى سيد المرتضى: إن الذي تذهب الشيعة الامامية إليه أن الله تعالى يعيد عند ظهور إمام الزمان المهدي عليه السلام قوما ممن كان قد تقدم موته من شيعته ليفوزوا بثواب نصرته و معونته و مشاهدة دولته، و يعيد أيضا قوما من أعدائه لينتقم منهم فيلتذوا بما يشاهدون من ظهور الحق و علو كلمة أهله.

و الدلالة على صحة هذا المذهب أن الذي ذهبوا إليه مما لا شبهة على عاقل في أنه مقدور لله تعالى غير مستحيل في نفسه فانا نرى كثيرا من مخالفينا ينكرون الرجعة إنكار من يراها مستحيلة غير مقدورة، و إذا ثبت جواز الرجعة و دخولها تحت المقدور فالطريق إلى إثباتها إجماع الإمامية على وقوعها فانهم لا يختلفون في ذلك و إجماعهم قد بينا في مواضع من كتبنا أنه حجة لدخول قول الإمام عليه السلام فيه إلى آخر ما قال، و قد نقل كلامه تماما المجلسي- ره- في الثالث عشر من البحار الكمباني «ص 235».

و قال المجلسي- ره- «ص 231 ج 13 من البحار الكمبانى»: اعلم يا أخي أني لا أظنك ترتاب بعد ما مهدت و أوضحت لك في القول بالرجعة التي أجمعت الشيعة عليها في جميع الأعصار و اشتهرت بينهم كالشمس في رابعة النهار حتى نظموها في أشعارهم و احتجوا بها على المخالفين في جميع أمصارهم و شنع المخالفون عليهم في ذلك و أثبتوه في كتبهم و أسفارهم، منهم الرازي و النيسابوري و غيرهما، و قد مر كلام ابن أبي الحديد حيث أوضح مذهب الإمامية في ذلك و لو لا مخافة التطويل من غير طائل لأوردت كثيرا من كلماتهم في ذلك. و كيف يشك مؤمن بحقيقة الأئمة الأطهار عليهم السلام فيما تواتر عنهم في قريب من مأتي حديث صريح- إلى آخر ما تقدم من الشيخ البحراني المذكور آنفا ..

الترجمة

از جمله وصيت آن حضرت عليه السلام است كه آنرا براى كسى كه او را بر گرفتن زكاة عامل مى ‏گردانيد مى‏ نوشت، و ما در اينجا پاره از آنرا آورده‏ ايم تا بان دانسته شود كه آن حضرت ستون حق را بپا مى ‏داشت و در كارهاى كوچك و بزرگ و پنهان و آشكار أحكام عدل را ظاهر مي كرد:

برو بر تقوى خداى يكتاى بى ‏همتا، مسلمانى را مترسان، و آنچه را كه ناخوش دارد بر او مگزين، و بيش از حقى كه خدا در مال او دارد از او مگير، و چون بقبيله ‏اى رسيدى بكنار آبشان فرود آى بدون اين كه بخانهايشان در آيى، و بعد از آن برو بسويشان بارامى تن و جان تا در ميانشان بايستى پس بر آنان سلام كن و تحيت و درود را برايشان كم و ناقص مگردان، بعد از آن ميگوئى اى بندگان خدا ولى خدا و خليفه او مرا بسوى شما فرستاده تا حق خدا را در اموال شما از شما بستانم آيا در اموال شما براى خدا حقيست كه آنرا بولى او بدهيد؟ اگر كسى گفت:

نه باز مگرد بر او و دوباره سخن را بر او اعاده مكن، و اگر كسى گفت: آرى هست با او برو بدون اين كه او را بيم دهى و بترسانى، يا بر او سخت گيرى يا دشوارى را بر او تكليف كنى، آنچه كه از طلا و نقره بتو داده بگير، اگر او را گاو و گوسفند و شتر است بدون اذنش داخل در آنها مشو زيرا بيشتر آنها مال او است و هر گاه با اذن او بر سر آنها رفتى چون كسى كه بر آنها تسلط دارد و درشت كردار است مرو، و حيوانى را مرمان و مترسان و صاحبش را در حق آن مرنجان.

و مال را بدو بخش كن و صاحبش را مخير كن تا هر كدام بخش را كه خواهد اختيار كند و چون اختيار كرد متعرض آنچه را كه اختيار كرده است مشو، دوباره آن باقى را بدو قسم كن باز او را مخير كن تا هر كدام قسم را كه خواهد اختيار كند و چون اختيار كرده متعرض آنچه را كه اختيار كرده است مشو و همچنين پيوسته اين كار را مي كنى تا آن قدر بماند كه وفا كند بحق خدا در مال او، پس حق خدا را از او مى ‏گيرى پس اگر خواهش فسخ كرده بپذير و دوباره آنها را درهم آميز،سپس آن چنان كن كه در اول كردى تا حق خدا را در مال او بگيرى.و نگير شتر پير را و نه كهن سال را و نه شكسته را و نه سل دار يا بمرض از پاى در افتاده را و نه عيبناك را.

و أمين مگردان بر آن مالها مگر كسى را كه بدين او وثوق دارى كه بمال مسلمانان رفق و مدارا كند و مهربان باشد تا مال را به ولى مسلمانان برساند كه در ميانشان قسمت كند، و وكيل مگردان بر آن مواشى و ابل مگر كسى را كه نيكوخواه و مهربان و امين و نگهبان باشد، درشتى به آنها نكند و زيان نرساند، نرنجاند و خسته نكند، پس آنچه كه از أموال زكاة در نزد تو گرد آمده زود آنها را بسوى ما بفرست تا در هر جا كه خدا بدان امر فرموده است بگردانيم و صرف كنيم.

پس چون آنها را امين تو براى آوردن گرفت بأو سفارش كن كه بطمع شير ميان شتر و بچه شيرخوارش جدائى نيندازد، و همه شير آنرا ندوشد كه به بچه‏اش ضرر برسد، و آنرا بسوار شدن خسته نگرداند، و بين او و ديگر شتران در سوار شدن و دوشيدن بعدل رفتار كند (يعنى گاهى بر او سوار شود و گاهى بر ديگران و گاهى از او بدوشد و گاهى از ديگران نه شير يكى را تمام بدوشد و در همه راه بر يكى سوار شود) و بايد آسان گرداند و رفاهت دهد خسته را و او را آسايش دهد، و بر حيوانى كه پايش سوده شد و از رفتار وامانده و بتنگ آمده آهستگى كند و درنگ و تأنى نمايد، و بايد آنها را به غديرها و حوضهاى آب كه مى ‏گذرند فرود آورد و وارد سازد و آنها را از زمين گياه دار به راههايى كه از گياه خالى است نگرداند، و بايد آنها را در هر چند ساعتى در چراگاهها راحت دهد تا بفراغت اكل و شرب نمايند، و بايد آنها را در نزد آبها و گياهها مهلت دهد تا باذن خدا فربه و پر مغز نه رنج ديده و خسته در نزد ما آورد كه آنها را على كتاب الله و سنت پيمبر خدا قسمت كنيم كه باين طور گفتيم عمل شود إنشاء الله براى پاداش تو بزرگتر و برشد و رستگاريت نزديكتر است.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی

______________________________________________________________

[1] ( 1) ثم مال عنه و قال فى كتاب قسمة الصدقات من الخلاف أيضا بالاستحباب كما فى المبسوط. منه.

نهج البلاغه نامه ها نامه شماره 24 شرح میر حبیب الله خوئی(به قلم علامه حسن زاده آملی )وصیت

نامه 24 صبحی صالح

24- و من وصية له ( عليه ‏السلام  ) بما يعمل في أمواله كتبها بعد منصرفه من صفين‏

هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَالِهِ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ لِيُولِجَهُ بِهِ الْجَنَّةَ وَ يُعْطِيَهُ بِهِ الْأَمَنَةَ

مِنْهَافَإِنَّهُ يَقُومُ بِذَلِكَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ يَأْكُلُ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ وَ يُنْفِقُ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ حَدَثَ بِحَسَنٍ حَدَثٌ وَ حُسَيْنٌ حَيٌّ قَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ وَ أَصْدَرَهُ مَصْدَرَهُ

وَ إِنَّ لِابْنَيْ فَاطِمَةَ مِنْ صَدَقَةِ عَلِيٍّ مِثْلَ الَّذِي لِبَنِي عَلِيٍّ وَ إِنِّي إِنَّمَا جَعَلْتُ الْقِيَامَ بِذَلِكَ إِلَى ابْنَيْ فَاطِمَةَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَ قُرْبَةً إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ( صلى ‏الله‏ عليه‏ وآله  )وَ تَكْرِيماً لِحُرْمَتِهِ وَ تَشْرِيفاً لِوُصْلَتِهِ

وَ يَشْتَرِطُ عَلَى الَّذِي يَجْعَلُهُ إِلَيْهِ أَنْ يَتْرُكَ الْمَالَ عَلَى أُصُولِهِ وَ يُنْفِقَ مِنْ ثَمَرِهِ حَيْثُ أُمِرَ بِهِ وَ هُدِيَ لَهُ وَ أَلَّا يَبِيعَ مِنْ أَوْلَادِ نَخِيلِ هَذِهِ الْقُرَى وَدِيَّةً حَتَّى تُشْكِلَ أَرْضُهَا غِرَاساً

وَ مَنْ كَانَ مِنْ إِمَائِي اللَّاتِي أَطُوفُ عَلَيْهِنَّ لَهَا وَلَدٌ أَوْ هِيَ حَامِلٌ فَتُمْسَكُ عَلَى وَلَدِهَا وَ هِيَ مِنْ حَظِّهِ فَإِنْ مَاتَ وَلَدُهَا وَ هِيَ حَيَّةٌ فَهِيَ عَتِيقَةٌ قَدْ أَفْرَجَ عَنْهَا الرِّقُّ وَ حَرَّرَهَا الْعِتْقُ

قال الشريف قوله ( عليه‏ السلام  ) في هذه الوصية و ألا يبيع من نخلها ودية الودية الفسيلة و جمعها ودي.

و قوله ( عليه‏ السلام  ) حتى تشكل أرضها غراسا هو من أفصح الكلام و المراد به أن الأرض يكثر فيها غراس النخل حتى يراها الناظر على غير تلك الصفة التي عرفها بها فيشكل عليه أمرها و يحسبها غيرها

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج 18  

و من وصية له عليه الصلاة و السلام بما يعمل فى أمواله، كتبها بعد منصرفه من صفين.و كلامه هذا هو المختار الرابع و العشرون من باب كتبه عليه السلام و رسائله:

هذا ما أمر به عبد الله علي بن أبي طالب في ماله ابتغاء وجه الله ليولجه به الجنة، و يعطيه به الأمنة. منها: و إنه يقوم بذلك الحسن بن علي يأكل منه بالمعروف و ينفق منه في المعروف، فإن حدث بحسن حدث و حسين حي قام بالأمر بعده و أصدره مصدره.

و إن لابني فاطمة من صدقة علي مثل الذي لبني علي.و إني إنما جعلت القيام بذلك إلى ابني فاطمة ابتغاء وجه الله و قربة إلى رسول الله، و تكريما لحرمته، و تشريفا لوصلته. و يشترط على الذي يجعله إليه أن يترك المال على أصوله و ينفق من ثمره حيث أمر به، و هدى له؛ و أن لا يبيع من أولاد نخيل‏ هذه القرى ودية حتى تشكل أرضها غراسا. و من كان من إمائى اللاتي أطوف عليهن لها ولد أو هى حامل فتمسك على ولدها و هى من حظه فإن مات ولدها و هى حية فهى عتيقة قد أفرج عنها الرق، و حررها العتق.

قال الرضي رضوان الله عليه: قوله عليه السلام في هذه الوصية: «و ألا يبيع من نخلها ودية» فإن الودية الفسيلة و جمعها ودى.

و قوله عليه السلام: «حتى تشكل أرضها غراسا» هو من أفصح الكلام و المراد به أن الأرض يكثر فيها غراس النخل حتى يراها الناظر على غير تلك الصفة التي عرفها به فيشكل عليه أمرها و يحسبها غيرها. انتهى.

المصدر و نقل الوصية على صورتها الكاملة

رواها ثقة الاسلام الكليني قدس سره في كتاب الوصايا من الجامع الكافي (ص 247 من الطبع الحجري، باب 35 من كتاب الوصايا) عن أبي علي الأشعري عن محمد بن عبد الجبار و محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن صفوان بن يحيى، عن عبد الرحمن بن الحجاج.

و شيخ الطائفة الطوسي قدس سره في كتاب الوقوف من التهذيب (ص 319 من الطبع على الحجر) عن الحسين بن سعيد، عن صفوان، عن عبد الرحمن بن الحجاج و بينهما اختلاف في الجملة و دونك الوصية على نسخة الكافي قال عبد الرحمن ابن الحجاج: بعث إلي أبو الحسن عليه السلام بوصية أمير المؤمنين عليه السلام و هي:

بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به في ماله عبد الله علي ابتغاء وجه الله ليدخلني‏[1] به الجنة و يصرفني به عن النار، و يصرف النار عني‏ يوم تبيض وجوه و تسود وجوه‏.

انه ما كان لي من مال بينبع يعرف لي فيها و ما حولها صدقة، و رقيقها غير أن رباحا، و أبا نيزر، و جبيرا عتقاء ليس لأحد عليهم سبيل فهم موالي يعملون في المال خمس حجج و فيه نفقتهم و رزقهم و أرزاق أهاليهم. و مع ذلك ما كان لي بوادي القرى كله من مال لبني فاطمة و رقيقها صدقة، و ما كان لي بديمة و أهلها صدقة غير أن زريقا له مثل ما كتبت لأصحابه، و ما كان لي بادنية و أهلها صدقة، و الفقيرين كما قد علمتم صدقة في سبيل الله.

و ان الذي كتبت من أموالى هذه صدقة واجبة بتلة حيا أنا أو ميتا ينفق في كل نفقة يبتغي بها وجه الله في سبيل الله، و وجهه و ذوي الرحم من بني هاشم و بني المطلب و القريب و البعيد فانه يقوم على ذلك الحسن بن علي يأكل منه بالمعروف و ينفقه حيث يراه الله عز و جل في حل محلل لا حرج عليه فيه فإن أراد أن يبيع نصيبا من المال فيقضي به الدين فليفعل إن شاء و لا حرج عليه فيه، و إن شاء جعله سرى الملك.

و ان ولد علي و مواليهم و أموالهم إلى الحسن بن علي بن و إن كانت دار الحسن ابن علي غير دار الصدقة فبدا له أن يبيعها فليبع إن شاء لا حرج عليه فيه، و إن باع فإنه يقسم ثمنها ثلاثة أثلاث: فيجعل ثلثها في سبيل الله، و يجعل ثلثا في بني هاشم و بني المطلب، و يجعل الثلث في آل أبي طالب، و انه يضعه فيهم حيث يراه الله، و إن حدث بحسن حدث و حسين حى فإنه إلى حسين بن علي.

و ان حسينا يفعل فيه مثل الذي أمرت به حسنا له مثل الذي كتبت للحسن و عليه مثل الذي على الحسن.

و ان لبني ابني فاطمة من صدقة علي مثل الذي لبني علي و إني إنما جعلت الذي جعلت لبني فاطمة ابتغاء و الله عز و جل و تكريم حرمة رسول الله صلى الله عليه و اله و تعظيمها و تشريفها و رضاها، و إن حدث بحسن و حسين حدث فإن الاخر منهما ينظر في بني علي فان وجد فيهم من يرضى بهداه و إسلامه و أمانته فإنه يجعله إليه إن شاء، و إن لم يرفيهم بعض الذي يريده فإنه يجعله إلى رجل من آل أبي طالب يرضى به، فإن وجد آل أبي طالب قد ذهب كبراؤهم و ذوو رأيهم فإنه يجعله إلى رجل يرضاه من بني هاشم.

و انه يشترط على الذي يجعله إليه أن يترك المال على اصوله و ينفق ثمره حيث أمرته به من سبيل الله و وجهه و ذوي الرحم من بني هاشم و بني المطلب و القريب و البعيد، لا يباع منه شي‏ء و لا يوهب و لا يورث.

و ان مال محمد بن علي على ناحية و هو إلى بني فاطمة.

و ان رقيقي الذين في صحيفة صغيرة التي كتبت لي عتقاء.

هذا ما قضى به علي بن أبي طالب في أمواله هذه الغد من يوم قدم مسكن ابتغاء وجه الله و الدار الاخرة و الله المستعان على كل حال و لا يجل لامرى‏ء مسلم يؤمن بالله و اليوم الاخر أن يقول في شي‏ء قضيته من مالي و لا يخالف فيه أمري من قريب و لا بعيد.

أما بعد فإن و لائدي اللاتي أطوف عليهن السبعة عشر منهن أمهات أولاد معهن أولادهن، و منهن حبالى، و منهن من لا ولد له فقضائي فيهن إن حدث بي حدث انه من كان منهن ليس لها ولد و ليست بحبلى فهى عتيق لوجه الله عز و جل ليس لأحد عليهن سبيل، و من كان منهن لها ولد أو حبلى فتمسك على ولدها و هي من حظه (حصته- خ ل) فإن مات ولدها و هي حية فهي عتيق ليس لأحد عليها سبيل، هذا ما قضى به علي في ماله الغد من يوم قدم مسكن شهد أبو سمر بن أبرهة و صعصعة بن صوحان و يزيد بن قيس و هياج بن أبي هياج و كتب علي بن أبي طالب بيده لعشر خلون من جمادى الاولى سنة سبع (تسع- خ ل) و ثلاثين.

اللغة

(ليولجه) أي ليدخله، و منه الولجة بالتحريك موضع أو كهف تستر فيه المارة من مطر و غيره.

(الابتغاء): الطلب، قال الجوهري في الصحاح: ابتغيت الشي‏ء و تبغيته إذا طلبته و بغيته (حدث) بالتحريك: الحادث.

(أصدره مصدره) يصح المصدر بفتح الميم و ضمه معا، و الفتح أصح و اختاره الرضي رضوان الله عليه، كما في النسخة التي قوبلت على نسخته، ففي الصحاح: أصدرته فصدر أى رجعته فرجع، و الموضع مصدر و منه مصادر الأفعال.

(الوصلة) بالضم: الصلة و القرابة.

كنايه [و أن لا يبيع من أولاد نخيل هذه القرى و دية حتى تشكل أرضها غراسا] و فيه (الودي) على فعيل صغار الفسيل، الواحدة و دية، و الفسيلة و الفسيل على فعيلة و فعيل صغار النخل و الجمع الفسلان، انتهى، و في العبارة كناية حسنة عن النخيلات التي تنبت من النوى تحت أشجار النخل، أو تنبت من اصولها، و كأن حملها على ما تنبت من اصولها أولى و أنسب.

(تشكل) قال ابن الأثير في النهاية: و في وصية علي عليه السلام: «و أن لا يبيع من أولاد نخل هذه القرى ودية حتى تشكل أرضها غراسا» أي حتى يكثر غراس النخل فيها فيراها الناظر على غير الصفة التي عرفها به فيشكل عليه أمرها. انتهى.

و قال الكسائي: أشكل النخل طاب رطبه و أشكل العنب أينع بعضه.

(الغراس) بالكسر: فصيل النخل، و يقال للنخلة أول ما ينبت غريسة، و يقال: للجلدة الرقيقة التي تخرج مع الولد إذا خرج من بطن امه غرس بالكسر.

(قد أفرج عنها الرق) كلمة أفرج مشكولة في أكثر النسخ المطبوعة و شروحها بضم الهمزة و كسر الراء و لكنها في نسخة الرضي بفتحههما و لذا اخترناه في المتن و هذا هو الصحيح ففي الصحاح للجوهري: أفرج الناس عن طريقه أي انكشفوا.

الاعراب‏

(ابتغاء) منصوب في كلا الموضعين لأنه مفعول له للفعلين: أمر و جعلت و كل واحد من قربة و تكريما و تشريفا منصوب معطوف على الابتغاء الثاني مفعول له.

(ليولجه) منصوب بأن الناصبة المقدرة، و يعطيه منصوب معطوف على يولج، و ضمير الفعلين يرجع إليه عليه السلام، و في بعض النسخ من المخطوطة و غيرها ليولجني و يعطيني ففيه التفات من ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلم و ما في المتن مطابق لنسخة الرضي و مختاره، و ضمير به في كلا الموضعين الأخيرين يصح أن يرجع إلى ما كالأول أو إلى الابتغاء.

(يأكل منه بالمعروف) حال للحسن عليه السلام فان الجملة الفعلية إذا كانت مبدوءة بمضارع مثبت بدون قد فلا بد من ضمير رابط وحده أو معها فمع الواو، و الاولى كما نحن فيه، و الثانية كقوله تعالى: لم تؤذونني و قد تعلمون أني رسول الله‏.

(و ينفق) معطوف على يأكل.

(و حسين حي) جملة اسمية حالية و الرابط هو الواو، (قام) جواب إن، (أصدر) عطف على قام، و الضميران في أصدره و مصدره يرجعان إلى الأمر، (مثل) منصوب اسم لان (لابني) ظرف مستقر خبر لها.

الظاهر أن ضمير (يشترط) يرجع إلى الأمير عليه السلام غاية الأمر أن في الكلام التفاتا من التكلم إلى الغيبة، أو عطف على أمر به فلا يلزم التفات و يؤيده ما في النسخة الاتي نقلها من الاتيان بالفعل الماضي: و انه شرط، و جاز أن يرجع إلى الامام الحسن عليه السلام بقرينة يقوم و يأكل أو إلى الامام الحسين عليه السلام فانه أقرب المراجع أو أنه راجع إلى من يتفوض الامور إليه خلفا بعد سلف، و لكن الصواب هو الأول كما يدل عليه اسلوب الكلام و صورة الوصية.

جملة (أن يترك) مفعول يشترط، و ينفق عطف على يترك، و أن لا يبيع عطف على أن يترك.

(تشكل) منصوب بأن الناصبة المقدرة وجوبا، (أرضها) مرفوعة على الفاعلية لتشكل، (غراسا) منصوب على التميز، من موصول اسمي يستوي فيه المذكر و المؤنث من جارة بيانية لمن، (لها ولد) حال للإماء و كذلك جملة هي حامل، و لم يقل حاملة لكونها صفة خاصة للانثى، فتمسك خبر الموصول الاسمي و قد دريت في المباحث السالفة أن الفاء يدخل في خبر الموصول الاسمي في عدة مواضع و هذا منها و هي من حظه حالية لضمير تمسك، و هي حية أيضا حال لها، فهي عتيقة جواب إن، و ادخل الفاء لكون الجملة اسمية، (قد أفرج) صفة للعتيقة لكونها نكرة و كذلك التالية.

المعنى‏

هذه الوصية قد رويت في الجوامع الروائية بصور مختلفة في الجملة و لعلنا نأتي بها و نبينها مع ذكر مصادرها و أسانيدها في شرح وصيته الاتية للإمامين الحسن و الحسين عليهما السلام لما ضربه ابن ملجم، كما وعدناه في شرح المختار المقدم و ما أتى بها الرضي رضوان الله عليه ملتقط منها كما هو دأبه و عنايته في كلام الأمير عليه السلام.

و اعلم أن جميع وصاياه عليه السلام لأولاده و بما يعمل في أمواله على ما استقصيناه إنما هي كانت بعد منصرفه من صفين، و ذلك لما كان يعلم من دنو شهادته، و لعلك تقول إن كان علم الإمام في زعمك على هذا المنوال فلم قال عليه السلام: «فإن حدث بحسن حدث و حسين حي» و لم يجزم بما هو آت و جار في مستقبل الزمان؟ قلت:

إنه عليه السلام تكلم بما هو متعارف الناس في محاوراتهم و قد مضى بحثنا عن طور علم الإمام في المجلد الخامس عشر في شرح قوله عليه السلام: «فجعلت أتبع مأخذ رسول الله صلى الله عليه و اله فأطأ ذكره حتى انتهيت إلى العرج» على أنه يأتي البحث عن‏ ذلك في شرح الوصية الاتية زيادة إيضاح في ذلك إن شاء الله تعالى.

قوله عليه السلام: (يأكل منه بالمعروف‏- إلخ) لعل كلامه هذا لدفع ما عسى يتوهم من أن هذه الصدقة حرام على الحسن بن علي عليهما السلام كالزكاة فقال عليه السلام:انه يأكل منها بالمعروف و ينفق منها بالمعروف فإنها مال أبيه وقف عليه قوله عليه السلام:«فان حدث بحسن حدث» أي إن أدركه الموت بقرينة قوله: و حسين حي‏.

قوله: (و إن لابني فاطمة من صدقة- اه) يعني أنهم فيها شرع واحد، لا تختص ببعض دون بعض و لا مزية لابني فاطمة في منافعها على غيرهما؛ نعم إنما جعلت القيام بذلك أي من يتولي أمرها و يتصدي عليها إليهما بتلك الوجوه الأربعة من‏ ابتغاء وجه الله‏- إلخ، أو المراد منه دفع التوهم المتقدم.

قال الشارح المعتزلي: ثم بين لما ذا خصهما بالولاية؟ فقال: إنما فعلت ذلك بشرفهما برسول الله صلى الله عليه و اله فتقربت إلى رسول الله بأن جعلت لسبطيه هذه الرياسة و في هذا رمز و إزراء بمن صرف الأمر عن أهل بيت رسول الله صلى الله عليه و اله مع وجود من يصلح للأمر أي كان الأليق بالمسلمين و الأولى أن يجعلوا الرياسة بعده لأهله قرابة إلى رسول الله صلى الله عليه و اله، و تكريما لحرمته و طاعة له و أنفة لقدره صلى الله عليه و اله أن تكون ورثته سوقة يليهم الأجانب و من ليس من شجرته و أصله، ألا ترى أن هيبة الرسالة و النبوة في صدور الناس أعظم إذا كان السلطان و الحاكم في الخلق من بيت النبوة، و ليس يوجد مثل هذه الهيبة و الجلال في نفوس الناس للنبوة إذا كان السلطان الأعظم بعيد النسب من صاحب الدعوة عليه السلام، انتهى، و نعم ما قال.

و كان لأمير المؤمنين عليه السلام فيهما شأن خاص و قصد تام و مزيد اهتمام و زيادة عناية يخصهما بها دون سائر بنيه تشريفا لوصلة رسول الله صلى الله عليه و اله و تنبيها و اعلاما بمقامهما الشامخ و منزلتهما السامية حتى أنه عليه السلام كان يضن بهما على الحرب و القتال لئلا ينقطع نسل رسول الله صلى الله عليه و اله من هذه الامة فإن نسله من الحسن و الحسين و تسعة من أولاد الحسين بعد أبيهم أبي الأئمة علي عليه السلام هم حجج الله تعالى واحدا بعد واحد على عباده و لم تخل الأرض من حجة لله على عباده قط و لا يخرج‏ الحجة من بيت النبوة قط، و قد روى نصر بن مزاحم في أواخر صفين عن عبد الرحمن بن جندب قال: لما أقبل علي عليه السلام من صفين أقبلنا معه فأخذ طريقا غير طريقنا الذي أقبلنا فيه، ثم أخذ بنا طريق البر على شاطى‏ء الفرات حتى انتهينا إلى هيت و أخذنا على صندودا فبات بها ثم غدا و أقبلنا معه حتى جزنا النخيلة و رأينا بيوت الكوفة- إلى أن قال: ثم مضى غير بعيد فلقيه عبد الله بن وديعة الأنصاري فدنى منه و سأله فقال: ما سمعت الناس يقولون في أمرنا هذا؟

قال:منهم المعجب به، و منهم الكاره له؛ و الناس كما قال الله تعالى: و لا يزالون مختلفين‏ فقال له: فما يقول ذوو الرأى؟ قال: يقولون: إن عليا كان له جمع عظيم ففرقه، و حصن حصين فهدمه و حتى متى يبنى مثل ما قد هدم، و حتى متى يجمع مثل ما قد فرق؟ فلو أنه كان مضى بمن أطاعه إذ عصاه من عصاه فقاتل حتى يظهره الله أو يهلك إذا كان ذلك هو الحزم.

فقال علي عليه السلام: أنا هدمت أم هم هدموا؟ أم أنا فرقت أم هم فرقوا؟

و أما قولهم: لو أنه مضى بمن أطاعه إذ عصاه من عصاه فقاتل حتى يظفر أو يهلك إذا كان هو الحزم، فو الله ما غفلت عن ذلك الرأى و إن كنت سخي النفس بالدنيا طيب النفس بالموت و لقد هممت بالإقدام فنظرت إلى هذين قد استقدماني فعلمت أن هذين إن هلكا انقطع نسل محمد صلى الله عليه و اله من هذه الامة فكرهت ذلك و أشفقت على هذين أن يهلكا و لو علمت أن هؤلاء مكاني لم يستقد ما- يعني بذلك ابنيه الحسن و الحسين- و أيم الله لئن لقيتهم بعد يومى لقيتهم و ليس هما معى في عسكر و لا دار.

قوله عليه السلام: (و يشترط- إلخ) شرط عليه السلام على من يفوض الأمر إليه و يتولي امور أموال الصدقة شرطين: الأول أن لا يبيعها و لا يوهبها و لا يتصرف فيها تصرفات اخرى تخرجها عن أصلها بل يتركها على أصلها و ينفق ثمرها حيث أمره الله من سبيل الله و وجوهه و ذوي الرحم من بني هاشم و بني المطلب و القريب و البعيد فان الوقف تحبيس الأصل و تسبيل الثمرة.

و الثاني أن لا يبيع من صغار النخيل ما لم يكثر غراسها و ذلك لأن الحاجة ربما تسوق إليها بحدوث آفة في النخيل فتغرس الفسيلة مكانها، أو لأن قلع الفسلان ما لم تكثر النخيل و لم تكامل بعد يضرها بخلاف ما إذا بلغت إلى حد تشكل أرضها غراسا، سيما إذا قلنا أن المراد من أولاد النخيل و فصيلها و غراسها نخيلات تنبت من أصولها كما هو الظاهر من العبارة، لا ما تنبت من النوى، أو لأن النخيل قبل أن‏ تشكل أرضها غراسا مظنة للفساد من حيث قلتها و عدم التفافها، و إذا كثرت و كثفت و التفت لا تسلط عليها آفات من البرد و الحر و الجدب و نحوها و لا تضرها عندئذ قلع الفسلان.

كنايه قوله عليه السلام: (و من كان من إمائي‏- إلخ) الطواف عليهن كناية عن غشيانهن أي نكاحهن يعني أن الأمة التي لها ولد مني كسائر الإماء من التركة فمن كان من إمائي اللاتي‏ لها ولد مني، أو هي حامل مني فهي تتعلق بولدها لا يجوز لسائر الورثة التصرف فيها مطلقا كما تدل عليه قوله عليه السلام‏ فتمسك على ولدها، فإذا صارت من ميراث‏ ولدها من تركتي تقوم و تباع على الولد فتتحرر قهرا لأن الولد لا يملك العمودين و متى ملكهما عتقا و لا يحتاج في ذلك إلى عتق الولد كما تحكم به الروايات الواردة عنهم عليهم السلام في الباب نقلها و البحث عنها يجرنا إلى الأطناب و الخروج عن موضوع الكتاب و كلامه هذا صريح في أن ام الولد لا تتحرر بمجرد موت مولاها المستولد بل تنعتق من نصيب ولدها من تركة أبيه، و هذا من مذهبنا الإمامية، و للعامة فيها اختلاف.

قوله عليه السلام: (فإن مات ولدها- إلخ) و اعلم أن ام الولد قبل موت مولاها المستولد مملوكة له لا تخرج بمجرد صيرورتها ام الولد عن الرقية و يجوز له التصرف فيها بما شاء من وطيها و استخدامها و عتقها في كفارة و غيرها سوى التصرف الذي يخرجها عن ملكه بغير العتق فلا يجوز له بيعها و لا هبتها و لا نحوهما من الناقلات، ثم إن مات ولدها قبل موت مولاها رجعت طلقا فتعود إلى حكمها الأول الذي كان لغير ام ولد فيجوز لمولاها التصرف فيها مطلقا، و إن مات ولدها بعد موت مولاها و لو كانت حياته برهة قليلة من الزمان كما أنها كانت حاملا به و وضعته حيا و مات بعد ساعة فحكمها حكم ام الولد التي قد دريت آنفا أنها تجعل من حظه من تركة أبيه و تعتق عليه لا أنها ترجع بموته حينئذ طلقا كالصورة المتقدمة حتى تعود مملوكة إلى الورثة نعم إن ولدته ميتا بعد موت مولاها سقطا كان أو غير سقط فلا يصدق به أنها أم ولد و أن‏ ولدها مات‏.

فنقول: إنه عليه السلام أراد بقوله‏ فإن مات ولدها و هي حية فهى عتيقة- إلخ دفع ما عسى يتوهم بأن ام الولد إذا مات ولدها بعد موت مولاها سيما إذا كانت حاملا به و وضعته بعد موت مولاها ثم مات ترجع طلقا كما إذا مات في حياته فقال عليه السلام: ليس حكمها في هذه الحالة كالصورة المتقدمة بل إنها عتيقة قد أفرج عنها الرق و حررها العتق‏ و ذكر الفعلين على هيئة الماضي إشارة لطيفة إلى أنها كانت‏ عتيقة منذ موت مولاها فتأمل‏[2]، و في ما أشرنا إليها أحكام اخرى خاصة و مباحث فقهية تطلب في الكتب الفقهية.

ثم إن في أصل الوصية مواقع للبحث عن مسائل فقهية و غيرها أعرضنا عنه خوفا للإطالة و لعلنا نأتي بطائفة منها في شروح الوصايا الاتية و نكتفي الان ببيان بعض اللغات و العبارات:

(ينبع): قال في القاموس: ينبع كينصر حصن له عيون و نخيل و زرع بطريق حاج مصر، و قال ياقوت في معجم البلدان: ينبع بالفتح ثم السكون و الباء الموحدة مضمومة و عين مهملة بلفظ ينبع الماء قال عرام بن الأصبغ السلمي هي عن يمين رضوى لمن كان منحدرا من المدينة إلى البحر على‏ ليلة من رضوي من المدينة على سبع مراحل و هي لبني حسن بن علي و كان يسكنها الأنصار و جهينه و ليث و فيها عيون عذاب غزيرة و واديها يليل و بها منبر و هي قرية غناء و واديها يصب في غيقة، و قال غيره: ينبع حصن به نخيل و ماء و زرع و بها وقوف لعلي بن أبي طالب عليه السلام يتولاها ولده، و قال ابن دريد: ينبع بين مكة و المدينة، و قال غيره: ينبع من أرض تهامة غزاها النبي صلى الله عليه و اله فلم يلق كيدا و هي قريبة من طريق الحاج الشامي أخذ اسمه من الفعل المضارع لكثرة ينابيعها، و قال الشريف بن سلمة بن عياش الينبعي: عددت بها مائة و سبعين عينا، و عن جعفر ابن محمد عليهما السلام قال: أقطع النبي صلى الله عليه و اله عليا عليه السلام أربع أرضين الفقيران و بيرقيس و الشجرة و أقطع عمر ينبع و أضاف إليها غيرها انتهى ما في المعجم.

(حجج) أي سنوات جمع الحجة أي السنة، (بديمة) و في التهذيب: بدعة و هي بالعين المهملة عين قريب المدينة، (غير أن زريقا له مثل ما كتبت لأصحابه) و في التهذيب: غير أن رقيقها لهم مثل ما كتبت لأصحابهم، و في أول كتاب الوقوف من التهذيب بإسناده عن ربعي بن عبد الله، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: تصدق أمير المؤمنين عليه السلام بدار له بالمدينة في بني زريق فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما تصدق به علي بن أبي طالب و هو حي سوي تصدق بداره التي في بني زريق صدقة لاتباع و لا توهب حتى يرثها الله الذي يرث السماوات و الأرض، و أسكن هذه الصدقة خالاته ما عشن و عاش عقبهن فإذا انقرضوا فهى لذوي الحاجة من المسلمين، انتهى، و بني زريق بالتصغير بطن من الأنصار (بادنيه) و في التهذيب:بأذينة.

(و الفقيرين كما قد علمتم) و في التهذيب: و القصيرة كما قد علمتم، و قال المجلسي رحمه الله في كتاب الوصايا من مرآة العقول (ص 135 ج 4 من الطبع الحجري) قوله عليه السلام: العفرتين، و في بعض النسخ الفقيرتين، و في بعضها الفقرتين قال في تاريخ المدينة: موضعان بالمدينة يقال لهما الفقران، عن جعفر الصادق عليه السلام‏أقطع النبي صلى الله عليه و اله عليا عليه السلام أربع أرضين الفقرين و بئر قيس و الشجرة، و قال:الفقير اسم حديقة بالعالية قرب بني قريظة من صدقة علي بن أبي طالب عليه السلام، قال ابن شبه في كتاب علي عليه السلام: الفقير لي كما قد علمتم صدقة في سبيل الله؛ و أهل المدينة ينطقون مفردا مصغرا. انتهى ما في المرآة.

(واجبة بتلة) بتقديم الباء، قال في القاموس: صدقة بتلة منقطعة عن صاحبها (سرى الملك) السري، النفيس و الشريف، و في نسخة التهذيب: شراء الملك (ولد علي) جمع الولد كاسد و أسد.

قوله عليه السلام: (فليبع إن شاء لا حرج عليه) قال في مرآة العقول: ظاهره جواز اشتراط بيع الوقف متى شاء الموقوف عليه و هو خلاف ما هو المقطوع به في كلام الأصحاب إلا أن يحمل على أنه عليه السلام إنما وهبها لهما و كتب الوقف لنوع من المصلحة قال: قال في الدروس: لو شرط بيعه متى شاء أو هبته أو نقله بوجه من وجوه التملك بطل.

قوله عليه السلام‏ (و إن حدث بحسن و حسين‏ حدث- إلى قوله: يرضى به) و في التهذيب: و ان حدث بحسن و حسين حدث فإن الاخر منهما ينظر في بني علي فإن وجد فيهم من يرضى بهديه (بهداه- خ ل) و إسلامه و أمانته فإنه يجعله إليه إن شاء و إن لم يرفيهم بعض الذي يريد فانه في بني ابني فاطمة فإن وجد فيهم من يرضى بهديه و إسلامه و أمانته فانه يجعله إليه إن شاء، و إن لم ير فيهم بعض الذي يريد فإنه يجعله إلى رجل من آل أبي طالب يرضى به.

قوله عليه السلام: (و ان مال محمد بن علي على ناحية) قال بعض شراح الحديث:يمكن أن يقرأ ان مشددة و يكون المراد ان مال محمد ابن الحنفية ليس داخلا فيما سبق من أن ولد علي و أموالهم إلى الحسن، و لعله عليه السلام علم أنه لم يتابع الحسن كباقي أولاده، أو أنه لا يحتاج إلى معاونة الحسن لرشده و كمال عقله، و يمكن أن يقرأ إن المخففة و يكون المراد أن الأمر إلى الحسن و الحسين عليهما السلام في جميع ما سبق و إن مال محمد ابن الحنفية إلى جانب و لم يرض بذلك. و قوله: و هو إلى ابني‏ فاطمة أي النظر في الامور المذكورة إليهما و هو تأكيد لما سبق و الله اعلم، انتهى كلامه.

قوله عليه السلام: (كتبت لي عتقاء) و في التهذيب: كتبت عتقاء، بدون كلمة لي (مسكن) بكسر الكاف موضع من أرض الكوفة، كما في الصحاح، و قوله عليه السلام:(هذا ما قضى به علي في ماله الغد من يوم قدم مسكن) يعني أن ذلك كان في غد من يوم ورودنا و قدومنا الموضع الذي يقال له مسكن، أرخ الكتابة و ذكر الشهور و سائر الخصوصيات لأنها توجب زيادة الوثوق بها.

قوله عليه السلام: (أبو سمر) في نسخة الكافي كان بالسين المهملة، و في التهذيب بالمعجمة، و قال في مرآة العقول: قال ابن حجر في التقريب في حرف الشين المعجمة: أبو شمر بكسر أوله و سكون الميم الضبعي المصري.

و ليعلم أن في العتق فضلا كثيرا و ثوابا جزيلا، و الشارع تعالى جعل لعتق العبيد و الإماء أسبابا عديدة لكى يخرج عباد الله عن الرقية و يكونوا أحرارا، منها: التدبير، و منها المكاتبة بقسميها، و منها العتق في كفارة، و منها التحرير و هذه الأقسام تعمهم، و منها ما يخص الإماء و هو صيروتهن امهات أولاد.

و قد قال الله تعالى: فلا اقتحم العقبة و ما أدراك ما العقبة فك رقبة- الاية، و قد روي شيخ الطائفة في أول كتاب العتق من التهذيب بإسناده عن حفص بن البختري عن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليهما السلام انه قال في الرجل: يعتق المملوك قال: يعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار، و قال: يستحب للرجل أن يتقرب عشية عرفة و يوم عرفة بالعتق و صدقة.

و بإسناده عن زرارة، عن أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه و اله:من أعتق مسلما أعتق الله العزيز الجبار بكل عضو منه عضوا من النار.

و بإسناده عن إبراهيم بن أبي البلاد، عن أبيه رفعه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و اله:من أعتق مؤمنا أعتق الله العزيز الجبار بكل عضو له (منه- خ ل) عضوا من النار

فإن كانت انثى أعتق الله العزيز الجبار بكل عضوين منها عضوا من النار لأن المرأة نصف الرجل، و غيرها من النصوص المروية في الجوامع الروائية من الفريقين.

الترجمة

از جمله وصيت أمير المؤمنين- عليه الصلاة و السلام- است به آن چه كه در أموال او عمل شود، و اين وصيت را بعد از برگشتن از جنگ صفين فرموده است:

اين است آنچه كه بنده خدا علي بن أبي طالب در مال خود براى طلب وجه الله فرموده و حكم كرده است تا خداوند وى را بدين كار ببهشت برد، و أمن و آسايش بخشد.

از جمله آن وصيت اين كه: حسن بن علي بايد متصدى آن باشد و بمضمون وقف عمل نمايد، از آن بوجه پسنديده و مطابق دستور شرع بخورد و ببخشد، پس اگر براى حسن پديده مرگ پيش آمد و حسين زنده است بايد حسين مانند او بانجام كار آن قيام كند و توليت را در عهده بگيرد، و همانا كه براى اين دو فرزند فاطمه (حسن و حسين) از مال وقف علي مثل آن چيزيست كه براى ديگران فرزندان علي است- يعني بايد همه از آن بهره ببرند نه اين كه چون صدقه و زكاة بر حسن و حسين حرام باشد و يا آن دو را بر ديگرى مزيتي از اين حيث باشد- و همانا كه توليت و تصدى وقف را بدو فرزند فاطمه از جهت طلب وجه الله، و تقرب برسول خدا، و گرامى داشتن حرمت او، و بزرگ داشت و تشريف به وصلت او قرار داده ‏ام، و آنكه توليت را عهده ‏دار است بايد كه أصل مال را بهيچ وجه منتقل نسازد و آنرا بهمانطور باقي بگذارد و در آمد و ثمره آنرا مطابق دستور مصرف كند، و بايد كه أولاد نخل را (نهالهاى ريزى كه از ريشه درختهاى بزرگ يا از هسته خرما مى‏ رويد) نفروشد تا اين كه درختها بزرگ و انبوه شوند بحدى كه كثرت أشجار سبب اشتباه و عدم معرفت‏ بحال سابق آن زمين شود.

و كنيزكاني كه به آنها مباشرت كردم آنكه از من فرزنددار يا باردار است بايد از مال فرزندش كه از تركه من ارث مى‏ برد محسوب شود و آزاد گردد، و اگر فرزندش مرد و خود زنده است آزاد است.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی

____________________________________________________________

[1] ( 1) ليولجني كما في التهذيب.

[2] ( 1) وجه التأمل أن هذه الاشارة تفيد اذا كانت هى ذات ولد عند موت مولاها و أما اذا كانت حاملا عندئذ فلا و ان لم تكن رقا محضا. نعم ان حمل الفعلين على تأكيد الحكم و تشديده فالاشارة تشملهما. منه.

نهج البلاغه نامه ها نامه شماره 23 شرح میر حبیب الله خوئی(به قلم علامه حسن زاده آملی )وصيت

نامه23 صبحی صالح

23- و من كلام له ( عليه‏ السلام  ) قاله قبل موته على سبيل الوصية لما ضربه ابن ملجم لعنه الله‏

وَصِيَّتِي لَكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئاً وَ مُحَمَّدٌ ( صلى ‏الله ‏عليه ‏وآله  )فَلَا تُضَيِّعُوا سُنَّتَهُ أَقِيمُوا هَذَيْنِ الْعَمُودَيْنِ وَ أَوْقِدُوا هَذَيْنِ الْمِصْبَاحَيْنِ وَ خَلَاكُمْ ذَمٌّ

أَنَا بِالْأَمْسِ صَاحِبُكُمْ وَ الْيَوْمَ عِبْرَةٌ لَكُمْ وَ غَداً مُفَارِقُكُمْ إِنْ أَبْقَ فَأَنَا وَلِيُّ دَمِي وَ إِنْ أَفْنَ فَالْفَنَاءُ مِيعَادِي وَ إِنْ أَعْفُ فَالْعَفْوُ لِي قُرْبَةٌ وَ هُوَ لَكُمْ حَسَنَةٌ فَاعْفُوا أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ‏

وَ اللَّهِ مَا فَجَأَنِي مِنَ الْمَوْتِ وَارِدٌ كَرِهْتُهُ وَ لَا طَالِعٌ أَنْكَرْتُهُ وَ مَا كُنْتُ إِلَّا كَقَارِبٍ وَرَدَ وَ طَالِبٍ وَجَدَ وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ

قال السيد الشريف رضي الله عنه أقول و قد مضى بعض هذا الكلام فيما تقدم من الخطب إلا أن فيه هاهنا زيادة أوجبت تكريره

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج 18  

و من كلام له عليه الصلاة و السلام قبيل موته لما ضربه ابن ملجم لعنه الله على سبيل الوصية و هو المختار الثالث و العشرون من باب كتب أمير المؤمنين عليه السلام و رسائله:

وصيتي لكم أن لا تشركوا بالله شيئا، و محمد صلى الله عليه و اله فلا تضيعوا سنته. أقيموا هذين العمودين. و خلاكم ذم- أنا بالأمس صاحبكم، و اليوم عبرة لكم، و غدا مفارقكم، إن أبق فأنا ولي دمي، و إن أفن فالفناء ميعادي، و إن أعف فالعفو لي قربة و هو لكم حسبة فاعفوا أ لا تحبون أن يغفر الله لكم‏. و الله ما فجأني من الموت وارد كرهته، و لا طالع أنكرته؛ و ما كنت إلا كقارب ورد، و طالب وجد، و ما عند الله خير للأبرار.

قال الرضي رضوان الله عليه: أقول: و قد مضى بعض هذا الكلام فيما تقدم من الخطب إلا أن فيه ههنا زيادة أوجبت تكريره، انتهى.

أقول: و العبارة في بعض نسخ النهج في المقام هكذا: «أقيموا هذين العمودين و أوقدوا هذين المصباحين» كما أنها في نسخة الكافي كذلك، و في بعض نسخ النهج: «و هو لكم حسنة» كما أنها مطابق لنسخ الكافي أيضا، و لكن ما في المتن في كلا الموضعين مطابق لنسخة الرضي.

المصدر

كلامه هذا قد روي في الجوامع الروائية و غيرها على صور مختلفة و وجوه كثيرة و قد مضى بعضه فيما تقدم من الخطبة 147 أولها: أيها الناس كل امرى‏ء لاق ما يفر منه في فراره، و الأجل مساق النفس، و الهرب منه موافاته- إلخ، و هي في شرح الخوئي رحمه الله أعني منهاج البراعة جعلت الخطبة 149 فراجع إلى ص 111 من المجلد التاسع منه، و هذه الخطبة مروية في الجامع الكافي لثقة الإسلام الكليني قدس سره، و نقلها الفيض رضوان الله عليه في باب الإشارة و النص على الحسن بن علي عليهما السلام (ص 80 ج 2)، و تجدها في مرآة العقول في ص 222 من المجلد الأول منه، و قد أتى بها الشارح الخوئي في شرح الخطبة المتقدمة من النهج ص 127 ج 9 من المنهاج فلا حاجة إلى تكريرها.

و قال المسعودي في مروج الذهب (ص 48 ج 2): و قد ذكر جماعة من أهل النقل عن أبي عبد الله جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي بن الحسين بن علي عليهم السلام أن عليا عليه السلام قال في صبيحة الليلة التي ضربه فيها عبد الرحمن بن ملجم بعد حمد الله و الثناء عليه و الصلاة على رسوله الله صلى الله عليه و اله: كل امرى‏ء ملاقيه ما يفر منه و الأجل تساق النفس إليه، و الهرب منه موافاته، و كم اطردت الأيام أتحينها[1]

عن مكنون هذا الأمر فأبى الله عز و جل إلا إخفاءه هيهات علم مكنون، أما وصيتي فلا تشركوا به شيئا، و محمد لا تضيعوا سنته، أقيموا هذين العمودين، حمل كل امري‏ء منكم مجهوده، و خفف عن الحملة[2] رب رحيم و دين قويم و إمام عليم؛ كنا في أعصار ودى رياح تحت ظل غمامة اضمحل راكدها فحطها من الأرض‏[3] حيا و بقى من بعدي خيرها و استكنه بعد حركة كاظمة بعد نطق لبعضكم هدوئي و خفوت أطرافي إنه أوعظ لكم من نطق البليغ، و دعتكم وداع امرى‏ء مرصد لتلاق و غدا ترون و يكشف عن ساق عليكم السلام إلى يوم المرام كنت بالأمس صاحبكم، و اليوم عظة لكم، غدا أفارقكم إن افق فأنا ولي دمى، و إن أمت فالقيامة ميعادي و العفو أقرب للتقوى‏ أ لا تحبون أن يغفر الله لكم و الله غفور رحيم‏، انتهى ما في المروج.

و سنأتي بطائقة من وصاياه عليه السلام مع بيان مصادرها و ماخذها، و بيان ما فيها من غريب الحديث إن شاء الله تعالى في شرح المختار السابع و السبعين المعنون بقول الرضي: و من وصيته عليه السلام للحسن و الحسين عليهما السلام لما ضربه ابن ملجم لعنه الله:

أوصيكما بتقوى الله و أن لا تبغيا الدنيا و إن بغتكما- إلخ، و لم نظفر بعد في جامع روائي على رواية شاملة على قوله عليه السلام: و الله ما فجأني من الموت- إلخ، و إن كان الرضي في نقله ثقة ثبتا و كفى بالنهج سندا أن مثل الرضي أسنده إلى أمير المؤمنين عليه السلام و لا إخال أن من كان عارفا بمقامه الشامخ و جلالة قدره علما و عملا أن يتفوه بنسبة الوضع و الاختلاق إليه.

و لا يخفى أن الماخذ التي كانت للرضي لم يصل إلينا إلا نبذة منها، و بعد نقول إنا لم نظفر عليه و عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود و لعل الله يحدث‏ بعد ذلك أمرا و يوفقنا بالظفر عليه فنذكره في شرح وصيته الاتية لابنيه عليهم السلام.

على أن ابن الأثير في لغة قرب من النهاية قال: القارب: الذي يطلب الماء و منه حديث علي عليه السلام: و ما كنت إلا كقارب ورد، و طالب وجد.

المعنى‏

قوله عليه السلام: (و هو لكم حسبة) و من كلامه عليه السلام كما أتى به أبو عثمان الجاحظ في البيان و التبيين (ص 74 ج 4 طبع مصر) و سنذكره إن شاء الله تعالى بتمامه في شرح المختار 191 في باب المختار من حكمه عليه السلام: إنما المرء في الدنيا غرض تنتضل فيه المنايا، و هو قوله عليه السلام: فاستقبل المصيبة بالحسبة تستخلف بها نعمى، و الحسبة بكسر الحاء إذا كانت عند المكروهات هي البدار إلى طلب الأجر و تحصيله بالتسليم و الصبر، اسم من الاحتساب، قال الجوهري في الصحاح:احتسب بكذا أجرا عند الله و الاسم الحسبة بالكسر و هي الأجر و الجمع الحسب، انتهى.

و قال ابن الأثير في النهاية: و فيه (يعني في الحديث) من صام رمضان إيمانا و احتسابا أي طلبا لوجه الله و ثوابه، و الاحتساب من الحسب كالاعتداد من العد؛ و إنما قيل لمن ينوى بعمله وجه الله أحتسبه لأن له حينئذ أن يعتد عمله فجعل في حال مباشرة الفعل كأنه معتد به، و الحسبة اسم من الاحتساب كالعدة من الاعتداد، و الاحتساب في الأعمال الصالحات و عند المكروهات هو البدار إلى طلب الأجر و تحصيله بالتسليم و الصبر أو باستماع أنواع البر و القيام بها على الوجه المرسوم فيها طلبا للثواب المرجو منها، و منه حديث عمر: أيها الناس احتسبوا أعمالكم فإن من احتسب عمله كتب له أجر عمله و أجر حسبته، و منه الحديث من مات له ولد فاحتسبه أي احتسب الأجر بصيره على مصيبته يقال: احتسب فلان ابنأله إذا مات كبيرا و افترطه إذا مات صغيرا و معناه اعتد مصيبته في جملة بلايا الله التي يثاب على الصبر عليها.

و لا يخفى على البصير بأساليب الكلام، و العارف بمواقع اللغة أن لكلمة الحسبة بالباء في المقام شأنا ليس للحسنة بالنون، و التشابه بين الكلمتين أوجب تصحيف الاولى بالثانية، و لم يتعرض أحد من شراح النهج و الكافي لهذه الدقيقة و إنما كانت نسخهم حسنة بالنون.

قوله عليه السلام: (إن أبق فأنا ولي دمى) كانت العبارة على نسخة المسعودي في مروج الذهب: «إن أفق فأنا ولي دمى» و كلمة أفق مشتقة من الإفاقة أصله من ف و ق، قال ابن الأثير في النهاية: أفاق إذا رجع إلى ما كان قد شغل عنه و عاد إلى نفسه و منه إفاقة المريض و المجنون و المغشى عليه و النائم.

قوله عليه السلام: (و إن أفن فالفناء ميعادي) و ذلك لأن كل نفس ذائقة الموت، و كل من عليها فان و لا يبقى إلا وجه ربك ذو الجلال و الإكرام، و أن الموت ضروري أمره و الوجه فيه هو كما أفاده المحقق الطوسي قدس سره قال: إن السبب الموجب للموت في جميع الحيوانات هو أن البدل الذي تورده الغاذية و إن كان كافيا في قيامه بدلا عما يتحلل فاضلا عن الكفاية بحسب الكمية لكنه غير كاف بحسب الكيفية، و بيان ذلك أن الرطوبة الغريزية الأصلية إنما تخمرت و نضجت في أوعية الغذاء أولا، ثم في أوعية المنى ثانيا، ثم في الأرحام ثالثا؛ و الذي تورده الغاذية لم يتخمر و لم ينضج إلا في الأول دون الأخيرين فلم يكمل امتزاجها، و لم يصل إلى مرتبة المبدل عنها فلم يقم مقامها كما يجب بل صارت قوتها أنقص من قوة الاولى و كان كمن يفقد زيت سراج فأورد بدله ماء فما دامت الكيفية الاولى الأصلية غالبة في الممتزج على الثانية المكتسبة كانت الحرارة الغريزية آخذة في زيادة الاشتغال موردة على الممتزج أكثر مما يتحلل فينمو الممتزج، ثم إذا صارت مكسورة السورة بظهور الكيفية الثانية وقفت الحرارة الغريزية و ما قدرت على أن يورد أكثر مما يتحلل و إذا غلبت الثانية انحط الممتزج و هرم و ضعفت الحرارة إلى أن يبقى له أثر صالح الكيفية الاولى فيقع الموت ضرورة، و ظهر من ذلك أن الرطوبة الغريزية الأصلية من أول تكونها

آخذة في النقصان بحسب الكيفية، و ذلك هو السبب الموجب لفساد الممتزج لا غير فحصل المرام و ذلك ما أردنا بيانه. انتهى.

و قيل بالفارسية:

جان قصد رحيل كرد و گفتم كه مرو گفتا چه كنم خانه فرو مى‏آيد

و قال الشيخ العارف السعدي:

چار طبع مخالف سركش‏ چند روزى بوند با هم خوش‏
چون يكى زين چهار شد غالب‏ جان شيرين بر آيد از قالب‏

قوله عليه السلام: (و الله ما فجئني من الموت‏- إلخ) و ذلك لأن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون، و إنما يكره الموت من تعلق بالدنيا و نسى حظه الأوفر في العقبى و أما أولياء الله فهم في الدنيا كمن ليس منها كما قاله عليه السلام في بعض الخطب الماضية؛ و لو لا الأجل الذي كتب الله عليهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقا إلى الثواب و خوفا عن العقاب‏ كما ألقاه عليه السلام على همام، و قد أخذ من مأدبته الشيخ الرئيس في قوله في النمط التاسع من الاشارات في مقامات العارفين فكأنهم و هم في جلابيب من أبدانهم قد نضوها و تجردوا عنها إلى عالم القدس.

و قال الشيخ العارف السعدي:

از هر چه مى‏رود سخن دوست خوشتر است‏ پيغام آشنا سخن روح پرور است‏
هرگز وجود حاضر و غائب شنيده‏اى‏ من در ميان جمع و دلم جاى ديگر است‏
ابناى روزگار بصحرا روند و باغ‏ صحرا و باغ زنده دلان كوى دلبر است‏

اقتباس ثم عقب عليه السلام كلامه بقوله: و ما عند الله خير للأبرار و كأنه بيان العلة في عدم خوفه من الموت و هذا اقتباس من قول الله عز و جل‏ لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله و ما عند الله خير للأبرار (آل عمران- 199) فقد أشار عليه السلام إلى أنه من‏ الأبرار و أن الاية شاملة عليه، و قد وصف الله الأبرار في عدة مواضع من القرآن الكريم:

ربنا فاغفر لنا ذنوبنا و كفر عنا سيئاتنا و توفنا مع الأبرار (آل عمران- 193) إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا (هل أتى- 6)، إن‏ الأبرار لفي نعيم الانفطار (- 14)، كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين و ما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون إن الأبرار لفي نعيم على الأرائك ينظرون تعرف في وجوههم نضرة النعيم يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك و في ذلك فليتنافس المتنافسون و مزاجه من تسنيم عينا يشرب بها (المطففين).

فمن كان من‏ الأبرار بل قدوتهم و إمامهم و كانت له بعد ارتحاله من سجن الدنيا تلك المقامات المنيعة الخالدة و الدرجات الرفيعة الدائمة فكيف لا يكون مع الموت كقارب ورد و طالب وجد، و حق له أن يقول:

مرگ اگر مرد است گو نزد من آى‏ تا در آغوشش بگيرم تنگ تنگ‏
من از او ملكى ستانم جاودان‏ او زمن دلقى بگيرد رنگ رنگ‏

و نعم ما نظمه العارف الرومي في المثنوي:

چون بلال از ضعف شد همچون هلال‏ رنگ مرگ افتاد بر روى بلال‏
جفت او ديدش بگفتا وا حرب‏ پس بلالش گفت نى نى وا طرب‏
تا كنون اندر حرب بودم ز زيست‏ تو چه دانى مرگ چه عيشست و چيست‏
اين همى گفت و رخش در عين گفت‏ نرگس و گلبرگ و لاله مى‏شكفت‏
تاب رو و چشم پر أنوار او مى گواهى داد بر گفتار او
گفت جفتش الفراق اى خوش خصال‏ گفت نى نى الوصالست الوصال‏
گفت جفت امشب غريبى مى ‏روى‏ از تبار و خويش غائب مى ‏شوى‏
گفت نى نى بلكه امشب جان من‏ مى ‏رسد خوش از غريبى در وطن‏
گفت اى جان و دلم وا حسرتا گفت نى نى جان من يا دولتا
گفت آن رويت كجا بينيم ما گفت اندر حلقه خاص خدا
گفت ويران گشت اين خانه دريغ‏ گفت اندر مه نگر منگر بميغ‏
كرد ويران تا كند معمورتر قوم أنبه بود و خانه مختصر
انبيا را تنگ آمد اين جهان‏ چون شهان رفتند اندر لا مكان‏

 

مردگان را اين جهان بنمود فر ظاهرش زفت و بمعنى تنگتر
روح از ظلم طبيعت باز رست‏ مرد زندانى ز فكر حبس جست‏

و قد مضى بيان باقي كلامه هذا في شرح الخطبة المقدم ذكرها من الشارح الخوئي رحمه الله، و سيأتي في شرح المختار 77 من هذا الباب مباحث متعلقة بالمقام إن شاء الله تعالى.

الترجمة

از سخنان أمير المؤمنين عليه السلام كه پيشترك از بدرود زندگانى، زمانى كه از ضربت پسر ملجم در بستر بيمارى افتاده بود بر سبيل وصيت فرموده است:

وصيتم بشما اين است كه چيز را همتاى خدا ندانيد (شرك بخدا نياوريد) و سنت پيمبر را تباه نكنيد، و اين دو ستون دين را كه توحيد و حفظ سنت پيمبر است بر پا بداريد، از شما نكوهش دور باد- من ديروز يار شما بودم و امروز مايه پند براى شما و فردا از شما جدا مي شوم، اگر از بيمارى نجات يافتم و در اين جهان باقى ماندم من خود ولي خونم مى باشم و اگر نماندم مرگ ميعاد من است، اگر قاتلم را عفو كنم پس عفو براى من موجب قربت است و براى شما موجب پيشگيرى بطلب أجر و تحصيل آن بتسليم و صبر است‏[4] پس عفو كنيد آيا دوست نداريد كه خدا شما را بيامرزد؟ بخدا قسم از پيش آمد مرگ واردى كه آنرا ناخوش داشته باشم بمن روى نياورد، و چيزي كه آنرا بد داشته باشم بر من ظاهر نشد، و نيستم من مگر چون جوياى آب كه باب برسد، و چون طالبى كه مطلوبش را يافته است و آنچه كه نزد خدا است بهتر است براى نيكوكاران.

سيد رضي گويد: كه پاره از اين گفتار در باب خطب گذشت، جز اين كه در اينجا كلامى بيشتر بود كه در پيش نياورديم از اين روى تكرار آن واجب شد.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی

__________________________________________________________

[1] ( 1) كذا في مروج الذهب، و في الكافى و الخطبة 147 من النهج الماضية: كم اطردت الايام أبحثها عن مكنون هذا الامر. منه.

[2] ( 1) كذا في مروج الذهب، و في الكافى و الخطبة المتقدمة، و خفف عن الجهلة. منه

[3] ( 2) كذا في المروج و فى الكافى و الخطبة المذكورة: فانا كنا في أفياء أغصان و ذرى رياح و تحت ظل غمامة اضمحل في الجو متلفقها، و عفى في الارض مخطها، و بين ما فى نسخة المسعودى و ما في النهج و الكافى يوجد اختلاف كثير، منه.

[4] ( 1) شراح و مترجمين نهج البلاغة همه عبارت نهج را چنين نقل كرده‏ اند: و هو لكم حسنة، و اين گونه ترجمه كرده ‏اند كه: آن براى شما نيكوكارى و مثوبت است ولى نسخه رضى همان است كه در متن اختيار كرديم كه حسبة بود و ترجمه ما مطابق نسخه رضى است و همين با مقام مناسب است.

نهج البلاغه نامه ها نامه شماره 22 شرح میر حبیب الله خوئی(به قلم علامه حسن زاده آملی )

نامه 22 صبحی صالح

22- و من كتاب له ( عليه ‏السلام  ) إلى عبد الله بن العباس رحمه الله تعالى و كان عبد اللّه يقول «ما انتفعت بكلام بعد كلام رسول الله ( صلى‏ الله‏ عليه ‏وآله  )، كانتفاعي بهذا الكلام‏

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْمَرْءَ قَدْ يَسُرُّهُ دَرْكُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيَفُوتَهُ وَ يَسُوؤُهُ فَوْتُ مَا لَمْ يَكُنْ لِيُدْرِكَهُ فَلْيَكُنْ سُرُورُكَ بِمَا نِلْتَ مِنْ آخِرَتِكَ وَ لْيَكُنْ أَسَفُكَ عَلَى مَا فَاتَكَ مِنْهَا

وَ مَا نِلْتَ مِنْ دُنْيَاكَ فَلَا تُكْثِرْ بِهِ فَرَحاً وَ مَا فَاتَكَ مِنْهَا فَلَا تَأْسَ عَلَيْهِ جَزَعاً وَ لْيَكُنْ هَمُّكَ فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج 18  

و من كتاب له عليه السلام الى ابن عباس‏ و كان يقول عبد الله:ما انتفعت بكلام بعد كلام رسول الله صلى الله عليه و اله كانتفاعى بهذا الكلام.و هذا هو المختار الثاني و العشرون من باب كتب أمير المؤمنين عليه السلام و رسائله:

أما بعد فإن المرأ، يسره درك ما لم يكن ليفوته، و يسوءه فوت ما لم يكن ليدركه؛ فليكن سرورك بما نلت من آخرتك، و ليكن أسفك على ما فاتك منها. و ما نلت من دنياك فلا تكثر به فرحا، و ما فاتك منها فلا تأس عليه جزعا، و ليكن همك فيما بعد الموت.

المصدر

رواه مسندا أبو الفضل نصر بن مزاحم المنقري المتوفي 212 ه في كتاب صفين (ص 58 من الطبع الناصري) قال: و في حديث عمر بن سعد قال: و كتب علي عليه السلام‏ إلى عماله فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن عباس أما بعد فإن الإنسان قد يسره ما لم يكن ليفوته و يسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه و إن جهد؛ فليكن سرورك فيما قدمت من حكم أو منطق أو سيرة، و ليكن أسفك على ما فرطت لله فيه من ذلك، و دع ما فاتك من الدنيا فلا تكثر به حزنا، و ما أصابك فيها فلا تبغ به سرورا؛ و ليكن همك فيما بعد الموت، و السلام.

و نقله اليعقوبي المتوفي حدود 300 من الهجرة في تاريخه (ص 181 ج 2) و قال:كتب أبو الأسود الدئلي- و كان خليفة عبد الله بن عباس بالبصرة- إلى عامله علي عليه السلام يعلمه أن عبد الله أخذ من بيت المال عشرة آلاف درهم فكتب إليه يأمره بردها فامتنع فكتب يقسم له بالله لتردنها فلما ردها عبد الله بن عباس أو رد أكثرها كتب إليه علي عليه السلام: أما بعد فإن المرأ يسره درك ما لم يكن ليفوته، و يسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه فما أتاك من الدنيا فلا تكثر به فرحا، و ما فاتك منها فلا تكثر عليه جزعا و اجعل همك لما بعد الموت، و السلام.

قال اليعقوبي: فكان ابن عباس يقول: ما اتعظت بكلام قط اتعاظي بكلام أمير المؤمنين عليه السلام. انتهى.

و رواه ثقة الإسلام الكليني المتوفى 329 ه في الروضة من الكافي (ص 219 الطبع الحجري 1301 ه) و هو حديث 327 منها، قال: عدة من أصحابنا، عن سهل ابن زياد، عن علي بن أسباط رفعه قال: كتب أمير المؤمنين عليه السلام إلى ابن عباس أما بعد فقد يسر المرأ ما لم يكن ليفوته، و يحزنه ما لم يكن ليصيبه أبدا و إن جهد؛ فليكن سرورك بما قدمت من عمل صالح أو حكم أو قول، و ليكن أسفك فيما فرطت فيه من ذلك ودع ما فاتك من الدنيا فلا تكثر عليه حزنا و ما أصابك منها فلا تنعم به سرورا و ليكن همك فيما بعد الموت، و السلام.

و أتى الفيض برواية الكليني في الوافي (ص 63 ج 14) في باب مواعظ أمير المؤمنين عليه السلام، و المجلسي في مرآة العقول (ص 354 ج 4 من المطبوع على الحجر).

و رواه علي بن شعبة المتوفى 332 ه في تحف العقول (ص 46 الطبع الحجري 1297 ه و ص 197 من الطبع المترجم بالفارسى في طهران 1384 ه) و ما رواه قريب من النهج و يخالفه قوله: فليكن سرورك بما نلته من آخرتك و ليكن أسفك على ما فات منها، و ما نلته من الدنيا و لا تكثرن به فرحا، و ما فاتك منها و لا تأسفن عليه حزنا، و ليكن همك فيما بعد الموت، انتهى.

و رواه أبو علي إسماعيل بن القاسم القالي البغدادي المتوفى 356 ه في الأمالي (ص 94 ج 2 طبع مصر) المعنون بقوله: كتاب علي بن أبي طالب إلى ابن عباس رضي الله عنهما بموعظة من أحسن المواعظ، و حدثنا أبو بكر بن دريد رحمه الله قال حدثنا العكلي عن أبيه قال: بلغني عن ابن عباس أنه قال: كتب إلي علي بن أبي طالب رضي الله عنه بموعظة ما سررت بموعظة سروري بها! أما بعد، فإن المرء يسره درك ما لم يكن ليفوته، و يسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه، فما نالك من دنياك فلا تكثر به فرحا، و ما فاتك منها فلا تتبعه أسفا، فليكن سرورك بما قدمت، و أسفك على ما خلفت، و همك فيما بعد الموت.

و نقله القاضي أبو بكر الباقلاني المتوفى 403 ه في كتاب اعجاز القرآن (هامش الاتقان للسيوطي ج 1 ص 195 طبع مصر 1318 ه) قال: كتب علي إلى عبد الله بن عباس و هو بالبصرة: أما بعد فإن المرء يسر بدرك ما لم يكن ليحرمه و يسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه فليكن سرورك بما قدمت من أجر أو منطق، و ليكن أسفك فيما فرطت فيه من ذلك و انظر ما فاتك من الدنيا فلا تكثر عليه جزعا، و ما نلته فلا تنعم به فرحا و ليكن همك لما بعد الموت.

و نقله العلامة الشيخ بهاء الدين العاملي في المجلد الثالث من الكشكول (ص 284 طبع نجم الدولة، و ص 562 من طبع قم) قال: قال ابن عباس ما اتعظت بعد رسول الله صلى الله عليه و اله بمثل كتاب كتبه إلي علي بن أبي طالب عليه السلام: أما بعد فإن الإنسان يسره درك ما لم يكن ليفوته، و يسؤوه فوت ما لم يكن ليدركه فلا تكن بما نلت من دنياك فرحا، و لا بما فاتك منها ترحأ؛ و لا تكن ممن يرجو الاخرة بغير عمل، و يرجو التوبة بطول الأمل، فكان و قد، و السلام.

و رواه سبط ابن الجوزي في التذكرة (ص 89 من الطبع الرحلي الناصري 1285 ه) قال: «فصل» في ذكر قصة جرت له عليه السلام مع عبد الله بن عباس رضي الله عنه: أخبرنا أبو الحسن بن النجار المقري قال: حدثنا محمد بن أبي منصور قال:

حدثنا أحمد بن علي بن سوار قال: حدثنا أحمد بن عبد الواحد بن محمد الحريري قال: حدثنا أحمد بن محمد الجندي قال: حدثنا أبو حامد محمد بن هارون الخضرمي قال: حدثنا إبراهيم بن سعد الجوهري قال: حدثنا المأمون عبد الله بن هارون عن أبيه هارون، عن أبيه محمد المهدي، عن أبيه أبي جعفر المنصور، عن أبيه محمد بن علي، عن أبيه علي بن عبد الله، عن أبيه عبد الله بن عباس قال: ما انتفعت بكلام أحد بعد رسول الله صلى الله عليه و اله كانتفاعي بكلام كتب به أمير المؤمنين كتب إلي:سلام عليك أما بعد فإن المرء يسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه و يسره درك ما لم يكن ليفوته فليكن سرورك بما نلت من أمر آخرتك و ليكن أسفك على ما فاتك منها و ما فاتك من الدنيا فلا تأسفن عليه و ليكن همك فيما بعد الموت، و السلام.

قال السبط: و قد روى السدي هذا عن أشياخه و قال عقيبه: كان الشيطان قد نزع بين ابن عباس و بين علي عليه السلام مدة ثم عاد إلى موالاته- إلخ. انتهى.

و قد نقله الرضي رضوان الله عليه في أواخر هذا الباب برواية اخرى و هو المختار السادس و الستون منه، قال: و من كتاب كتبه عليه السلام إلى عبد الله بن العباس رحمه الله و قد مضى هذا الكتاب فيما تقدم بخلاف هذه الرواية: أما بعد فإن العبد يفرح بالشي‏ء الذي لم يكن ليفوته، و يحزن على الشي‏ء الذي لم يكن ليصيبه، فلا يكن أفضل ما نلت في نفسك من دنياك بلوغ لذة أو شفاء غيظ و لكن إطفاء باطل أو إحياء حق، و ليكن سرورك بما قدمت، و أسفك على ما خلفت و همك فيما بعد الموت.

و قد نقل المجلسي رحمه الله روايتي النهج في المجلد الثامن من البحار (ص 633 و 634 من الطبع الكمباني)، و سيأتي ذكر القصة التي أشار إليها اليعقوبي و سبط ابن الجوزي في شرح المختارين 40 و 41 من هذا الباب، الأول منهما معنون بقول الرضي و من كتاب له عليه السلام إلى بعض عماله: أما بعد فقد بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت ربك- إلخ، و الثاني و من كتاب له عليه السلام إلى بعض عماله:أما بعد فإني كنت أشركتك- إلخ، و إنما نقلت النسخ التي وجدتها بحذافيرها لما رأيت من الاختلاف فيها، و من أن ذكر مواقع الاختلاف كان أطول من نقلها.

اللغة

(درك) بالتحريك و يسكن أيضا: اللحاق و الوصول إلى الشي‏ء بعد طلبه، قال الزمخشري في الأساس: و «اللهم أعني على درك الحاجة» أي على إدراكها و قال ابن الأثير في النهاية: في الحديث «أعوذ بك من درك الشقاء» الدرك:اللحاق و الوصول إلى الشي‏ء و أدركته إدراكا و دركا، و منه الحديث: لو قال إن شاء الله لم يحنث و كان دركا له في حاجته.

و قال الفيومي في المصباح: الدرك بفتحتين و سكون الراء لغة من أدركت الشي‏ء و أدركته إذا طلبته فلحقته.

(نلت) من النيل يقال: نال من عدوه ينال و ينيل من بابي ضرب و علم نيلا و نالا و نالة بلغ منه مقصوده و منه قيل: نال من امرأته ما أراد و نال من مطلوبه المراد و يتعدي بالهمزة إلى اثنين فيقال: أنلته مطلوبه فناله و المطلوب منيل، و الرجل نائل.

(فلا تأس عليه) أي لا تحزن، يقال: أسي عليه أسى من باب علم أي حزن فهو آس و أسيان و هي آسية و أسيانة، و أسى لفلان أي حزن له.

(ترحا) على رواية الشيخ في الكشكول، بفتحتين: ضد الفرح.

الاعراب‏

الضمير في لم يكن في الموضعين يرجع إلى ما و كذا ضمير الفعلين يفوت و يدرك، و الضمير المنصوب فيهما يرجع إلى المرء بقرينة قوله ما فاتك، و أمكن أن يرجع ضمير الأفعال إلى المرء، و الضميران المنصوبان إلى ما.

المعنى‏

قد شرحه العالم الجليل المولى محمد صالح المازندراني في شرحه على روضة الكافي بقوله: يعني أن‏ المرأ يكون من هذه الحالة و هي أنه تسره إصابة ما ينفعه، و يحزنه فواته، و ما ينفع على قسمين: أحدهما ما ينفع في الاخرة، و ثانيهما ما ينفع في الدنيا؛ و العاقل اللبيب ينبغي أن يسر بإصابة الأول، و يحزن بفواته و إليه أشار بقوله: فليكن سرورك بما قدمت من عمل صالح أو حكم بالعدل أو قول بالحق‏ و ليكن أسفك‏ و حزنك فيما فرطت فيه من ذلك فان هذا السرور أبدي و هذا الحزن مع كونه ندامة و عبادة موجب للزيادة و التدارك، و أن لا يحزن بفوات الثاني و لا يسر باصابته و إليه أشار بقوله: ودع‏ ما فاتك من‏ الدنيا فلا تكثر عليه حزنا و ما أصابك منها فلا تنعم به سرورا كما يسر و ينعم أهل الدنيا يقال: نعم العود كفرح إذا اخضر و نضر، ثم أمر بما هو كالسبب بجميع ذلك بقوله: و ليكن همك فيما بعد الموت‏ و السلام لأن التذكير بهادم اللذات و التخويف بذكره تنفير عن محبة الدنيا و الحزن بفواتها و ترغيب في محبة الاخرة و العمل لها و الحزن بفواتها. انتهى.

و أقول: هذا الكتاب مقتبس من قول الله عز و جل: ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله‏ (التغابن- 12)، و قوله تعالى: ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم و لا تفرحوا بما آتاكم و الله لا يحب كل مختال فخور (الحديد- 24)، نعم‏ كل ما أفاده رسول الله و أهل بيته إنما هو مقتبس من القرآن الكريم و ما روى عنهم عليهم السلام فإنما هو بيان بطون الايات و حقائقها المستورة عن غيرهم، و أصل الجميع القرآن و لا بد من أن يرجع المروي عنهم إليه، إن الله تعالى يقول: و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شي‏ء (النحل- 92) و في الكافي بإسناده عن المعلى بن خنيس قال: قال أبو عبد الله عليه السلام ما من أمر يختلف فيه اثنان إلا و له أصل في كتاب الله و لكن لا تبلغه عقول الرجال، (الوافي ص 61 ج 1).

و فيه بإسناده عن أبي الجارود قال: قال أبو جعفر عليه السلام إذا حدثتكم بشي‏ء فاسألوني من كتاب الله، ثم قال في بعض حديثه إن رسول الله صلى الله عليه و اله نهى عن القيل و القال و فساد المال و كثرة السؤال فقيل له: يا ابن رسول الله أين هذا من كتاب الله؟ قال: إن الله تعالى يقول: لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس‏ و قال: و لا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما، و قال: لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم‏ (الوافي ص 61 ج 1).

و حاصل الفصل أن أمير المؤمنين عليه السلام أشار فيه إلى حقيقة و فرع عليها أمرين، و الحقيقة: أن ما يناله الإنسان أو يفوته فانما كان بقضاء الله المحتوم المقطوع أن يناله أو يحرمه فلا يصح الفرح و الجزع بما كان حصوله و فواته كذلك، و قد قال عليه السلام كما يأتي في الحكمة 439: الزهد كله بين كلمتين من القرآن قال الله سبحانه: لكيلا تأسوا على ما فاتكم و لا تفرحوا بما آتاكم‏ و من لم يأس على الماضي و لم يفرح بالاتي فقد أخذ الزهد بطرفيه‏.

و نحوه ما رواه ثقة الإسلام الكليني في الكافي بإسناده، عن زرارة، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام على المنبر: لا يجد أحدكم (أحد- خ ل) طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، و ما أخطأه لم يكن ليصيبه، (الوافي ص 54 ج 3).

و بإسناده عن صفوان الجمال، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: لا يجد عبد طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن‏ ليخطئه و أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه و أن الضار النافع هو الله تعالى (الوافي ص 54 ج 3).

و روى بإسناده عن الثمالي، عن سعيد بن قيس الهمداني قال: نظرت يوما في الحرب إلى رجل عليه ثوبان فحركت فرسي فإذا هو أمير المؤمنين عليه السلام فقلت: يا أمير المؤمنين في مثل هذا الموضع؟ فقال: نعم يا سعيد بن قيس إنه ليس من عبد إلا و له من الله تعالى واقية معه ملكان يحفظانه من أن يسقط من رأس جبل أو يقع في بئر فإذا نزل القضاء خليا بينه و بين كل شي‏ء (الوافي ص 54 ج 3).

و روى نصر بن مزاحم المنقري في كتاب صفين (ص 128 من الطبع الناصري) عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي إسحاق قال: خرج علي يوم صفين و في يده عنزة فمر على سعيد بن قيس فقال له سعيد: أما تخشى يا أمير المؤمنين أن يغتالك أحد و أنت قرب عدوك؟ فقال له علي عليه السلام: إنه ليس من أحد إلا عليه من الله حفظة يحفظونه من أن يتردى في قليب أو يخر عليه حائط أو تصيبه آفة فإذا جاء القدر خلوا بينه و بينه.

و قال ابن قتيبة الدينوري في الإمامة و السياسة (ص 162 ج 1) في مقتل أمير المؤمنين عليه السلام جاء رجل من مراد إلى علي عليه السلام فقال له يا أمير المؤمنين احترس فإن هنا قوما يريدون قتلك، فقال: إن لكل إنسان ملكين يحفظانه فإذا جاء القدر خلياه.

و هذه الأخبار في الحفظة مأخوذة من قول الله عز و جل: له معقبات من بين يديه و من خلفه يحفظونه من أمر الله‏ (الرعد- 13) و قوله تعالى: إن عليكم لحافظين كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون‏ (الانفطار 11- 13)، و قوله عز من قائل: و هو القاهر فوق عباده و يرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا و هم لا يفرطون‏ (الأنعام- 62).

و المروي أيضا عن الباقر عليه السلام في قوله: له معقبات من بين يديه و من خلفه يحفظونه من أمر الله: من أمر الله يقول بأمر الله من أن يقع في ركي، أو يقع عليه‏ حائط أو يصيبه شي‏ء حتى إذا جاء القدر خلوا بينه و بينه إلى المقادير و هما ملكان يحفظانه بالليل و ملكان بالنهار يتعاقبانه.

و المؤمن العارف بسر القدر لا يفرح بما ناله و لا يحزن على ما فاته لعلمه بأن قضاء الله و قدره في نظام العالم أوجبا وقوع الأول و فوت الثاني فلم يكن الأول ليفوته و لا الثاني ليدركه و قد قال صلى الله عليه و اله: جف القلم بما هو كائن إلى يوم الدين فالحزن على فوات شي‏ء محتوم عليه أن يفوته، و الفرح بحصول شي‏ء مقطوع الحصول لما ذا؟ و للعارف قلب مطمئن لا يرى إلا الله و لا يرجو إلا إياه و لا يخاف إلا منه، و لا يحسد و لا يعادي أحدا و لا يحزن و لا يبطر، و قد ورد في الخبر كما في تفسير النيسابوري في سورة الحديد: من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب، و نعم ما في تفسير المجمع من أن في قوله تعالى: لكيلا تأسوا على ما فاتكم و لا تفرحوا بما آتاكم‏ إشارة إلى أربعة أشياء: الأول حسن الخلق لأن من استوى عنده وجود الدنيا و عدمها لا يحسد و لا يعادي و لا يشاح فإن هذه من أسباب سوء الخلق و هي من نتائج حب الدنيا، و ثانيها استحقار الدنيا و أهلها إذا لم يفرح بوجودها و لم يحزن لعدمها، و ثالثها تعظيم الاخرة لما ينال فيها من الثواب الدائم الخالص من الشوائب، و رابعها الافتخار بالله دون أسباب الدنيا.

قال: و يروى أن علي بن الحسين عليهما السلام جاءه رجل فقال له: ما الزهد؟ قال: الزهد عشرة أجزاء: فأعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع، و أعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين، و أعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضا؛ و أن الزهد كله في آية من كتاب الله: لكيلا تأسوا على ما فاتكم و لا تفرحوا بما آتاكم‏ قال: و قيل لبزرجمهر: مالك أيها الحكيم لا تأسف على ما فاتك و لا تفرح بما هو آت؟ فقال: إن الفائت لا يتلافى بالعبرة، و الاتي لا يستدام بالحبرة.

و عن عبد الله بن مسعود قال: لئن الحسن جمرة أحرقت ما أحرقت و أبقت ما أبقت أحب‏ إلي من أن أقول لشي‏ء كان ليته لم يكن، أو لشي‏ء لم يكن ليته كان. انتهى.

و نعم ما قيل:

لا تطل الحزن على فائت‏ فقلما يجدي عليك الحزن‏
سيان محزون على ما مضى‏ و مظهر حزنا لما لم يكن‏

و المروي عن الإمام الصادق عليه السلام: يا ابن آدم ما لك تأسو على مفقود لا يرده إليك الفوت، و مالك تفرح بموجود لا يتركه في يدك الموت.

و التفريع الأول أن ما ينبغي أن يسر المرء به هو ما ناله من الحقائق التي تفيده في ما بعد موته و ينبغي له أن يأسف على فوتها، و الثاني أن ما ناله من الدنيا و ما فاته منها هو ما لا قدر له أن يفرح به أو يجزع عليه، ثم أكد الأول بقوله‏ و ليكن همك فيما بعد الموت‏.

قال الفاضل الشارح المعتزلي في المقام: و لقائل أن يقول: هب أن الامور كلها بقضاء و قدر فلم لا ينبغي للإنسان أن يفرح بالنفع و إن وقع بالقدر، و يساء بفوته أو بالضرر و إن وقعا بقدر؟ أليس العريان يساء بقدوم الشتاء و إن كان لا بد من قدومه، و المحموم غبا يساء بتجدد نوبة الحمي و إن كان لا بد من تجددها؟

فليس سبب الإختيار في الأفعال مما يوجب أن يسر الإنسان و لا يساء بشي‏ء منها.

قال: و الجواب ينبغي أن يحمل هذا الكلام على أن الإنسان ينبغي أن لا يعتقد في الرزق أنه أتاه بسعيه و حركته فيفرح معجبا بنفسه معتقدا أن ذلك الرزق ثمرة حركته و اجتهاده، و كذلك ينبغي أن لا يساء بفوات ما يفوته من المنافع لائما نفسه في ذلك ناسبا لها إلى التقصير و فساد الحيلة و الاجتهاد لأن الرزق هو من الله تعالى لا أثر للحركة فيه و إن وقع عندها و على هذا التأويل ينبغي أن يحمل قوله تعالى: ما أصاب من مصيبة- إلخ، انتهى كلامه.

و أقول: الظاهر أن المراد من الأسى و الفرح المنهيين ما بلغ حد الجزع و البطر و الاختيال المنسية عن ذكر الله بقرينة قوله تعالى في ذيل الاية: و الله لا يحب كل مختال فخور. لا ما لا يملك رده و لا يستطاع دفعه من الأسى و الفرح‏ لا يخلو منهما بشر على الغريزة و الفطرة تكوينا، نظير ما رواه الكليني في الكافي و الصدوق في الفقيه: لما مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه و اله هملت عين رسول الله بالدموع ثم قال النبي صلى الله عليه و اله: تدمع العين و يحزن القلب (يحزن القلب و تدمع العين- كما في الفقيه) و لا نقول ما يسخط الرب (ص 88 ج 13 من الوافي).

ثم إن الأسى و الفرح في كلامه عليه السلام و في قوله عز و جل يعمان حصول الرزق و فوته و غيره مما لم يكن برزق فلا وجه لاختصاصهما بالرزق فقط، اللهم إلا أن يقال: إن الشارح المذكور أراد من الرزق أعم مما تربى به الحيوان من الأغذية و الأشربة كما هو مذهب الاعتزال و الشارح منهم فإن الرزق عند المعتزلة هو كلما صح انتفاع الحيوان به بالتغذي أو غيره كما أشار إليه العلامة الشيخ البهائي في شرح الحديث الثالث عشر من كتابه الأربعين.

و ليعلم أن ما مضى من القول بأن قضاء الله و قدره أوجبا ما أوجبا و أن ما أصاب المرأ لم يكن ليخطئه، و ما أخطأه لم يكن ليصيبه و نظائرها لا تنافي ما ورد في القرآن و الأخبار من الحث على الدعاء و الطلب إلى الله تعالى و إلا لما أمرنا الله تعالى و رسوله و أهل البيت بالسؤال و الدعاء و قد قال عز من قائل: ما يعبؤا بكم ربي لو لا دعاؤكم‏ (آخر الفرقان)، و قال: و قال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين‏ (المؤمن، الغافر- 60) و قال تعالى: ادعوا ربكم تضرعا و خفية إنه لا يحب المعتدين و لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها و ادعوه خوفا و طمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين‏ (الأعراف- 55 و 56)، و قال تعالى: و إذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي و ليؤمنوا بي لعلهم يرشدون‏ (البقرة- 184).

و قال رسول الله صلى الله عليه و اله: ألا أدلكم على سلاح ينجيكم من أعدائكم و يدر أرزاقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تدعون ربكم بالليل و النهار فإن سلاح المؤمن الدعاء.

و قال أمير المؤمنين عليه السلام: الدعاء ترس المؤمن و متى تكثر قرع الباب يفتح لك.

و قال الصادق عليه السلام: الدعاء أنفذ من السنان الحديد.

و قال الكاظم عليه السلام: إن الدعاء يرد ما قدر و ما لم يقدر، قلت (أي قال الراوي) ما قدر فقد عرفته فما لم يقدر؟ قال عليه السلام حتى لا يكون.

و قال عليه السلام: عليكم بالدعاء فإن الدعاء و الطلب إلى الله. تعالى يرد البلاء و قد قدر و قضى فلم يبق إلا إمضاؤه فإذا دعى الله و سئل صرفه صرفه.

و روى زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: ألا أدلكم على شي‏ء لم يستثن فيه رسول الله صلى الله عليه و اله؟ قلت: بلى، قال: الدعاء يرد القضاء و قد أبرم إبراما و ضم أصابعه.

و عن سيد العابدين عليه السلام: إن الدعاء و البلاء ليتوافقان إلى يوم القيامة إن الدعاء ليرد البلاء و قد أبرم إبراما.

و عنه عليه السلام: الدعاء يدفع البلاء النازل و ما لم ينزل.

و قد أتى بهذه الروايات الفقيه الحبر المحقق أحمد بن فهد الحلي قدس سره في أول كتاب عدة الداعي و نجاح الساعي و الروايات في ذلك كثيرة جدا و الكتب المؤلفة فيه غير عزيزة، نعم إن القضاء ينقسم إلى قضاء ثابت محتوم لا يتغير و قضاء متغير و ما نحن فيه من الثاني فإياك أن تظن أن الدعاء ينافي القول بالقضاء فإنه‏ يمحوا الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب‏ (الرعد- 41)، و في ضمن هذه الاية روايات دقيقة و مطالب أنيقة لعلنا نبحث عنها في شروحنا الاتية في فصل نعقد في ذلك إن شاء الله تعالى. و قد قدمنا نبذة من البحث عن استجابة الدعاء في شرحنا على المختار 236 من باب الخطب (ص 359- 362 ج 15) فراجع.

الترجمة

اين نامه ‏ايست كه أمير عليه السلام به عبد الله عباس نوشت و او مى ‏گفت كه من بعد از گفتار رسول خدا به هيچ گفتارى چون اين كلام أمير بهره نبردم:

أما بعد براستى مرد را رسيدن چيزى باو كه نمى ‏بايستى از او فوت شود شاد مي كند، و فوت چيزى كه نمى‏ بايستى آن را بدست آورد اندوهگين مى‏ سازد، پس بايد شادى تو به آن چه باشد كه براى آخرتت اندوختى، و اندوه تو بفوت چنان چيزي، و آنچه كه از دنيا عايدت شده بسيار بان شادمانى مكن، و آنچه كه از آن از تو فوت شد بى ‏تابى مكن، و بايد همت براى بعد از مرگت مصروف باشد.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی

نهج البلاغه نامه ها نامه شماره 21 شرح میر حبیب الله خوئی(به قلم علامه حسن زاده آملی )

نامه 21 صبحی صالح

21- و من كتاب له ( عليه ‏السلام  ) إلى زياد أيضا

فَدَعِ الْإِسْرَافَ مُقْتَصِداً وَ اذْكُرْ فِي الْيَوْمِ غَداً وَ أَمْسِكْ مِنَ الْمَالِ بِقَدْرِ ضَرُورَتِكَ وَ قَدِّمِ الْفَضْلَ لِيَوْمِ حَاجَتِكَ

أَ تَرْجُو أَنْ يُعْطِيَكَ اللَّهُ أَجْرَ الْمُتَوَاضِعِينَ وَ أَنْتَ عِنْدَهُ مِنَ الْمُتَكَبِّرِينَ وَ تَطْمَعُ وَ أَنْتَ مُتَمَرِّغٌ فِي النَّعِيمِ تَمْنَعُهُ الضَّعِيفَ وَ الْأَرْمَلَةَ أَنْ يُوجِبَ لَكَ ثَوَابَ الْمُتَصَدِّقِينَ

وَ إِنَّمَا الْمَرْءُ مَجْزِيٌّ بِمَا أَسْلَفَ وَ قَادِمٌ عَلَى مَا قَدَّمَ وَ السَّلَامُ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج 18  

و من كتاب له عليه السلام اليه أيضا و هو المختار الحادى و العشرون من باب الكتب و الرسائل‏

فدع الاسراف مقتصدا، و اذكر في اليوم غدا، و أمسك من المال بقدر ضرورتك، و قدم الفضل ليوم حاجتك. أ ترجو أن يعطيك الله أجر المتواضعين و أنت عنده من المتكبرين؟ و تطمع و أنت متمرغ في النعيم تمنعه الضعيف و الأرملة أن يوجب لك ثواب المتصدقين؟ و إنما المرأ مجزي بما أسلف، و قادم على ما قدم. و السلام.

المصدر

هذا الكتاب بعض ما كتبه الأمير عليه السلام إلى زياد بن أبيه و نقله كاملا الفاضل الشارح المعتزلي في شرح المختار 44 من باب الكتب و الرسائل من الجزء السادس عشر من شرحه و هو المختار المعنون بقول الرضي: و من كتاب له عليه السلام إلى زياد بن أبيه و قد بلغه أن معاوية كتب إليه يريد خديعته باستلحاقه.

قال: كان علي عليه السلام أخرج إليه- يعني إلى زياد- سعدا مولاه يحثه على حمل مال البصرة إلى الكوفة، و كان بين سعد و زياد ملاحاة و منازعة؛ و عاد سعد و شكاه إلى علي عليه السلام و عابه فكتب علي عليه السلام إليه:

أما بعد فان سعدا ذكر أنك شتمته ظلما، و هددته و جبهته تجبرا و تكبرا، فما دعاك إلى التكبر؟ و قد قال رسول الله صلى الله عليه و اله: «الكبر رداء الله فمن نازع الله رداءه قصمه»، و قد أخبرني أنك تكثر من الألوان المختلفة في الطعام في اليوم الواحد و تدهن كل يوم، فما عليك لو صمت لله أياما، و تصدقت ببعض ما عندك محتسبا، و أكلت طعامك مرارا قفارا؟ فإن ذلك شعار الصالحين؛ أ فتطمع و أنت متمرغ في النعيم تستأثر به على الجار، و المسكين، و الضعيف، و الفقير، و الأرملة و اليتيم أن يحسب لك أجر المتصدقين؟ و أخبرني أنك تتكلم بكلام الأبرار و تعمل عمل الخاطئين فإن كنت تفعل ذلك فنفسك ظلمت، و عملك أحبطت فتب إلى ربك يصلح لك عملك؛ و اقتصد في أمرك و قدم إلى ربك‏[1] الفضل ليوم حاجتك و ادهن غبا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه و اله يقول: «ادهنوا غبا و لا تدهنوا رقما».

فكتب إليه زياد: أما بعد يا أمير المؤمنين فإن سعدا قدم علي فأساء القول و العمل فانتهرته و زجرته و كان أهلا لأكثر من ذلك، و أما ما ذكرت من الإسراف و اتخاذ الألوان من الطعام و النعم، فإن كان صادقا فأثابه الله ثواب الصالحين، و إن كان كاذبا فوقاه الله أشد عقوبة الكاذبين، و أما قوله: إني أصف العدل و اخالفه إلى غيره، فإني إذن من الأخسرين؛ فخذ يا أمير المؤمنين بمقال قلته‏[2] في مقام قمته: «الدعوى بلا بينة كالسهم بلا نصل» فإن أتاك بشاهدي عدل، و إلا تبين لك كذبه و ظلمه.

أقول: قد تعرض الفاضل الشارح بأن ما في النهج بعض هذا الكتاب، و لا يخفى عليك أنه لا يتضمن ما في النهج على صورته و ألفاظه، و أن بين النسختين تفاوتا ظاهرا و نحن لم نظفر به في الماخذ التي حضرتنا، و الظاهر أنهما كتاب واحد، بل ما في النهج بعض ذلك الكتاب إلا أنهما رويا على روايتين كما أن الرضي نقل في غير موضع في النهج كلاما له عليه السلام على روايتين.

اللغة

(الاسراف) السرف: ضد القصد، و قال الراغب: السرف تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان و إن كان ذلك في الانفاق أشهر، قال تعالى: و الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا و لم يقتروا …- و لا تأكلوها إسرافا و بدارا، و يقال: تارة اعتبارا بالقدر، و تارة بالكيفية؛ و لهذا قال سفيان: ما أنفقت في غير طاعة الله فهو سرف و إن كان قليلا، قال الله تعالى: و لا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين* …- و أن المسرفين هم أصحاب النار أي المتجاوزين الحد في امورهم، و سمى قوم لوط مسرفين من حيث إنهم تعدوا في وضع البذر في الحرث المخصوص له المعني بقوله تعالى: نساؤكم حرث لكم‏، و قوله في القصاص‏ فلا يسرف في القتل‏ فسرفه أن يقتل غير قاتله إما بالعدول عنه إلى من هو أشرف منه أو بتجاوز قتل القاتل إلى غيره حسبما كانت الجاهلية تفعله.

قال السيد نعمة الله الجزائري في فروق اللغات: الإسراف و التبذير: قيل التبذير إنفاق المال فيما لا ينبغي، و الإسراف صرفه زيادة على ما ينبغي، و بعبارة اخرى الإسراف تجاوز الحد في صرف المال و التبذير اتلافه في غير موضعه فهو أعظم من الإسراف و لذا قال تعالى: إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين‏ قيل: و ليس الإسراف متعلقا بالمال فقط بل بكل شي‏ء وضع في غير موضعه اللائق به، ألا ترى أن الله وصف قوم لوط بالإسراف لوضعهم البذر في غير المحرث فقال: إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون‏ و وصف فرعون بالإسراف بقوله: إنه كان عاليا من المسرفين‏ أقول: و يفهم من بعض الأخبار أن الإسراف على ضربين: حرام و مكروه فالأول مثل إتلاف مال و نحوه فيما هو فوق المتعارف، و الثاني إتلاف شي‏ء ذي نفع بلا غرض و منه إهراق ما بقى من شرب ماء الفرات و نحوها خارج الماء و قد روي ذلك عن علي عليه السلام. انتهى قوله.

فتحصل أن الإسراف تجاوز الحد في كل ما يفعلها الإنسان من أفعاله سواء كان متعلقه مالا أو غير مال، و التبذير إتلافه و تضييعه في غير موضعه و إذا لم يكن على سبيل الإتلاف و الإفساد بأن يكون صرفه على الإصلاح لا يسمى تبذيرا.

(مقتصدا) القصد و الاقتصاد واسطة الامور، قال سالم بن وابصة (الحماسة 244):

عليك بالقصد فيما أنت فاعله‏ إن التخلق يأتي دونه الخلق‏

قال المرزوقي في الشرح: القصد: واسطة الامور، فما تعداه سرف و ما انحط عنه قصور، و لذلك قيل لمن ليس بجسيم و لا ضئيل، و ليس بقصير و لا طويل:

هو قصد و مقتصد، و قال في شرح الحماسة 9: القصد ما لا سرف فيه، و لذلك قيل: اقتصد في كذا، و طريق قاصد إذا كان على حد الإستواء، و من كلامهم: ضل عن قصد الطريق، كما قيل: ضل عن سواء السبيل قال الراجز الحصين بكير الربعي:

إني إذا حار الجبان الهدره‏ ركبت من قصد الطريق منجره‏

قال ابن الأثير في النهاية: في الحديث ما عال مقتصد و لا يعيل أي ما افتقر من لا يسرف في الإنفاق و لا يقتر، انتهى و قال الأمير عليه السلام لهمام في الخطبة 191 من النهج في وصف المتقين: منطقهم الصواب، و ملبسهم الإقتصاد.

مجاز (متمرغ) في الصحاح: مرغته في التراب تمريغا فتمرغ أي معكته و تمعك، قال ابن الأثير في النهاية: التمرغ: التقلب في التراب، و منه حديث عمار: «أجنبنا في سفر و ليس عندنا ماء فتمرغنا في التراب» ظن أن الجنب يحتاج أن يوصل التراب إلى جميع جسده كالماء.

قال الزمخشري في الأساس: مرغ دابته فتمرغ و هذا مراغ الدواب و مراغتها و متمرغها، و مرغته تمريغا إذا أشبعت رأسه و جسده دهنا، و تمرغ بالدهن و من المجاز فلان يتمرغ في النعيم؛ يتقلب فيه.

(الأرملة) قال الجوهري في الصحاح: الأرمل: الرجل الذي لا امرأة و الأرملة: المرأة التي لا زوج لها، و قد أرملت المرأة إذا مات عنها زوجها قال الشاعر- و هو جرير-:

هذي الأرامل قد قضيت حاجتها فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر

قال ابن السكيت: الأرامل: المساكين من نساء و رجال، قال و يقال لهم و إن لم يكن فيهم نساء، و يقال: قد جاءت أرملة من نساء و رجال محتاجين، قال و يقال للرجال المحتاجين الضعفاء: أرملة و إن لم يكن فيهم نساء، انتهى ما في الصحاح.

و قال المرزوقي في شرح الحماسة (577) عند قول زياد بن حمل:

ترى الأرامل و الهلاك تتبعه‏ يستن منه عليهم وابل رذم‏

الأرامل: جمع الأرمل و الأرملة لأنه يقع على الذكر و الانثى و هم الذين قد انقطع زادهم و ضاقت الأحوال بهم.

و قال عند قول كعب بن زهير (الحماسة 348):

ألا لهف الأرامل و اليتامى‏ و لهف الباكيات على ابى‏

الأرامل: جمع أرمل، و هذه الصفة يشترك فيها المؤنث و المذكر، و اشتقاقه من أرمل القوم إذا نفدت نفقاتهم، و حقيقته صاروا من الفقر في الرمل، كما يقال أترب الرجل، و الشهادة في اشتراك الرجل و المرأة في هذه الصفة قول جرير: هذي الأرامل- البيت.

و قال الزمخشري في الأساس: أرمل: افتقر و فنى زاده و هو من الرمل كادقع من الدقعاء، و منه الأرملة و الأرامل، قال: و في كتاب العين: و لا يقال شيخ أرمل إلا أن يشاء شاعر في تمليح كلامه كقول جرير: هذي الأرامل- البيت. و أرملت المرأة و رملت من زوجها و لا يكون إلا مع الحاجة.

ثم في نسخ خطية عندنا قد ضبط قوله عليه السلام هكذا: (أ ترجو أن يؤتيك الله) و: (مجزي بما سلف) و لكن ما اخترناه في المتن مطابق لنسخة الرضي رضوان الله عليه.

الاعراب‏

(مقتصدا) حال لضمير دع، (غدا) مفعول لقوله اذكر، قوله أن يعطيك مأول منصوب مفعول لقوله ترجو، (و أنت) الواو حالية و الجملة حال لضمير ترجو، (و تطمع) عطف على قوله ترجو، و الجملة استفهامية على سبيل الانكار كالمعطوف عليها (و أنت) الواو حالية و الجملة حال لضمير تطمع، قوله (أن يوجب) مأول منصوب مفعول لقوله تطمع اخر عن الحال بعكس الاولى، و ضمير الفعل يرجع إلى الله.

المعنى‏

لما أخبر سعد أمير المؤمنين عليا عليه السلام بأن‏ زياد بن أبيه‏ يكثر من الألوان المختلفة في الطعام‏ في اليوم‏ الواحد و تدهن كل يوم- إلى آخر ما رواه اليعقوبي كما مر آنفا- أمره أن يترك رذيلة الإسراف‏، و يتصف بفضيلة الاقتصاد الذي هو واسطة الامور.

و أقول: إن لكل شي‏ء حدا هو بمنزلة قاعدته فإذا كان على قاعدته فله ثبات و قرار، و إذا جاوز عن حده إما إلى الإفراط و إما إلى التفريط فلا بد له من أن يسقط منكوسا و منكوبا و قد قال الأمير عليه السلام: اليمين و الشمال مضلة و الوسطى هي الجادة.

و كما أن الله الحكيم خلق كل واحد من قاطبة الأشياء على قدر لائق به لو عدل عنه لا ختل نظام العالم كذلك جعل لكل ما يتعلق بأفعال بني آدم و امور صالح الانسانية حدا لو خرج الاجتماع الانساني عنه لاختل نظامه و هو من الهالكين و ذلك الحد المتعلق بهذا النوع هو ما يحتويه الذكر الحكيم و قد قال عز من قائل:

إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم‏، و ذلك الحد هو الوسط و القسط و العدل و الحق كما قال تعالى: و كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا (البقرة- 139) و قال: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات‏

و أنزلنا معهم الكتاب و الميزان ليقوم الناس بالقسط، و قال رسول الله صلى الله عليه و اله: بالعدل قامت السماوات و الأرض، و قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: بالحق قامت السماوات و الأرض.

و من تفحص في ما أتى به خاتم الأنبياء درى أن الله تعالى كتب على الناس الإقتصاد في مطلق الامور حتى في العبادات ففي القرآن الكريم: لا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك و لا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا (الأسرا- 32).

و قد روى الصدوق قدس سره في الفقيه (ص 12 ج 13 من الوافي):بإسناده عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام قال: قال علي عليه السلام: الحيف في الوصية من الكبائر.

و روي عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام: أن رجلا من الأنصار توفي و له صبية صغار و له ستة من الرقيق فأعتقهم عند موته و ليس له مال غيرهم فأتى النبي صلى الله عليه و اله فاخبر فقال: ما صنعتم بصاحبكم؟ قالوا دفناه، قال: لو علمت ما دفناه مع أهل الإسلام ترك ولده يتكففون الناس؟

و في باب الاقتصاد في العبادة من الوافي (ص 69 ج 3) نقلا عن الكافي باسناده عن أبي الجارود، عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه و اله إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، و لا تكرهوا عبادة الله إلى عباد الله فتكونوا كالراكب المنبت الذي لا سفرا قطع و لا ظهرا أبقى.

ثم إنه عليه السلام أتى بالحال أعني‏ مقتصدا إشارة إلى أن زيادا كما يجب عليه الإعراض عن‏ الإسراف‏ الذي هو إفراط كذلك يجب عليه أيضا الإمساك الذي هو تفريط، بل يجب عليه بعد ترك‏ الاسراف‏ الإقتصاد الذي هو وسط الإفراط و التفريط.

كنايه قوله عليه السلام: (و اذكر في اليوم غدا) نبهه بأن لا تلهيه الامال و لا تشغله المشاغل في الدنيا عن التأهب و التزود لغده و كنى‏ بالغد عن بعد حياته في هذه الدار من البرزخ و يوم البعث، كما أراد باليوم هذه الدنيا.

قوله عليه السلام: (و امسك‏- إلى قوله: ليوم حاجتك) روى اليعقوبي في تاريخه (ص 202 ج 2): أن رجلا قال للحسن بن علي عليهما السلام: إني أخاف الموت؛ قال. ذاك أنك أخرت مالك و لو قدمته لسرك أن تلحق به.

استفهام انكارى قوله عليه السلام: (أ ترجو- إلخ) استفهام على سبيل الإنكار أي كيف ترجو أن يعطيك الله ذلك‏ الأجر و الحال‏ أنت عنده‏ كذلك، و كيف‏ تطمع‏ أن يوجب الله لك ذلك الثواب و الحال‏ أنت‏ تتقلب و تتمعك‏ في النعيم تمنعه الضعيف و الأرملة، و هذا تحريض له على التواضع و شركة الضعيف و الأرملة في عيشه و تنعمه.

قوله عليه السلام: (و إنما المرء- إلخ) بين الانسان و عمله خيرا كان أو شرا ارتباط خاص لا يرجع إلا إليه و لا يجزى إلا به و لا يقدم إلا إليه و نعم ما قيل بالفارسية:

نيك و بد هر چه كنى بهر تو خوانى سازند جز تو بر خوان بد و نيك تو مهمانى نيست‏

قال الشارح المعتزلي في المقام: قلت قبح الله زيادا كافأ إنعام علي عليه السلام و إحسانه إليه و اصطناعه له بما لا حاجة إلى شرحه من أعماله القبيحة بشيعته و محبيه و الإسراف‏ في لعنه، و تهجين أفعاله، و المبالغة في ذلك بما قد كان معاوية يرضى باليسير منه و لم يكن يفعل ذلك لطلب رضا معاوية كلا بل يفعله بطبعه و يعاديه بباطنه و ظاهره و أبى الله إلا أن يرجع إلى امه و يصحح نسبه و كل إناء ينضح بما فيه، ثم جاء ابنه بعده فختم تلك الأعمال السيئة بما ختم و إلى الله ترجع الامور. انتهى.

و سيأتي كلامنا أيضا في قاتلى حجج الله و معانديهم في شرح المختار 44 من هذا الباب إن شاء الله تعالى.

الترجمة

اين نيز نامه ‏ايست كه أمير عليه السلام به زياد بن أبيه نوشت:

پس ترك إسراف گوى و ميانه رو باش، و در امروز ياد فردا كن و از مال بقدر ضرورت زندگى نگه دار و زيادى را براى روز نيازت پيش فرست آيا،اميد دارى كه خدا بتو پاداش فروتنان دهد با اين كه نزد او از خود بينانى، و آيا آزمندى كه برايت ثواب صدقه دهندگان واجب گرداند با اين كه در نعمت غلطيده ‏اى و آنرا از ناتوان و بيچارگان و بيوه ‏زنان باز مى ‏دارى، و همانا كه مرد به آن چه كرده است پاداش يابد، و بسوى آنچه پيش فرستاده است روى آورد. و السلام.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی

___________________________________________________________

[1] ( 1) فى الطبع الرحلى: و قدم ربك.

[2] ( 2) فى الطبع المذكور: بمقالة قلته.

نهج البلاغه نامه ها نامه شماره 20 شرح میر حبیب الله خوئی(به قلم علامه حسن زاده آملی )

نامه 20 صبحی صالح

20- و من كتاب له ( عليه‏ السلام  ) إلى زياد ابن أبيه و هو خليفة عامله عبد الله بن عباس على البصرة و عبد الله عامل أمير المؤمنين يومئذ عليها و على كور الأهواز و فارس و كرمان و غيرها

وَ إِنِّي أُقْسِمُ بِاللَّهِ قَسَماً صَادِقاً لَئِنْ بَلَغَنِي أَنَّكَ خُنْتَ مِنْ فَيْ‏ءِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئاً صَغِيراً أَوْ كَبِيراً لَأَشُدَّنَّ عَلَيْكَ شَدَّةً تَدَعُكَ قَلِيلَ الْوَفْرِ ثَقِيلَ الظَّهْرِ ضَئِيلَ الْأَمْرِ وَ السَّلَامُ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج 18

و من كتاب (كلام- خ ل) له عليه السلام الى زياد بن ابيه‏ و هو خليفة عامله عبد الله بن العباس على البصرة (و عبد الله عامل أمير المؤمنين عليه السلام يومئذ عليها و على كور الاهواز و فارس و كرمان- نسخة).

و هو المختار العشرون من باب الكتب و الرسائل:

و إني أقسم بالله قسما صادقا لئن بلغني أنك خنت من فيى‏ء المسلمين شيئا صغيرا أو كبيرا لأشدن عليك شدة تدعك قليل الوفر، ثقيل الظهر، ضئيل الأمر، و السلام.

المصدر

أتى بالكتاب ابن واضح الأخباري الكاتب المعروف باليعقوبي في تاريخه (ص 180 ج 2 طبع النجف 1358 ه ق)، قال: كتب- يعني أمير المؤمنين عليه السلام- إلى زياد و كان عامله على فارس: أما بعد فإن رسولي أخبرني بعجب، زعم أنك قلت له فيما بينك و بينه إن الأكراد هاجت بك فكسرت عليك كثيرا من الخراج و قلت له: لا تعلم بذلك أمير المؤمنين؛ يا زياد و اقسم بالله إنك لكاذب و لئن لم تبعث بخراجك لأشدن عليك شدة تدعك قليل الوفر، ثقيل الظهر؛ إلا أن تكون لما كسرت من الخراج محتملا، انتهى.

و الظاهر أنهما كتاب واحد روى على نسختين، و إن أمكن أن يكون كل واحد منهما كتابا على حياله.

اللغة

(خنت) مشتق من الخيانة بمعنى نقيض الأمانة، يقال: خانه في كذا يخونه خونا و خيانة و خانة و مخانة من باب نصر: إذا اوتمن فلم ينصح، قال الراغب في المفردات: الخيانة و النفاق واحد إلا أن الخيانة تقال اعتبارا بالعهد و الأمانة، و النفاق يقال اعتبارا بالدين ثم يتداخلان، فالخيانة مخالفة الحق بنقض العهد في السر، و نقيض الخيانة: الأمانة، يقال: خنت فلانا و خنت أمانة فلان و على ذلك قوله: «لا تخونوا الله و الرسول و تخونوا أماناتكم».

(فيى‏ء) و قد تقدم معناه و الفرق بينه و بين الغنيمة و الأنفال على التفصيل في شرح المختار 230 من باب الخطب (ج 15 ص 23).

(لأشدن عليك) شد على العدو شدا و شدة و شدودا من بابى نصر و ضرب أي حمل عليه؛ يقال: شدوا عليهم شدة صادقة. (تدعك) أي تتركك.

(الوفر) بالفتح فالسكون: المال الكثير الواسع، و الغنى، و اليسار؛ قال مالك بن الحارث الاشتر النخعي رضوان الله عليه (الحماسة 25):

بقيت وفري و انحرفت عن العلا و لقيت أضيافي بوجه عبوس‏

و قال آخر (البيان و التبيين ص 359 ج 2):

رأيت الناس لما قل مالي‏ و أكثرت الغرامة ودعوني‏
فلما أن غنيت و ثاب وفري‏ إذاهم- لا أبا لك- راجعوني‏

(الظهر) خلاف البطن، و هو من الحيوان اعلاه و من الإنسان من لدن مؤخر الكاهل إلى أدنى العجز، و من الأرض ظاهرها يجمع على أظهر و ظهور و ظهران.

(ضئيل) في النهاية لابن الأثير: في حديث إسرافيل‏[1] و إنه ليتضاءل من خشية الله، و في رواية لعظمة الله أي يتصاغر تواضعا له، و يقال: تضاءل الشي‏ء إذا  تقبض و انضم بعضه إلى بعض فهو ضئيل أي نحيف دقيق حقير، و قال الطريحي في مجمع البحرين: و مثله حديث وصفه تعالى: هو إله يتضاءل له المتكبرون‏[2]، وضؤل الشي‏ء بالهمز و زان قرب فهو ضئيل كقريب: صغير الجسم قليل اللحم، انتهى.

قال جواس الكلبي (الحماسة 632):

و كنت إذا أشرفت في رأس رامة تضاءلت إن الخائف المتضاءل‏

يقول: إنك حينئذ متى أشرفت في رأس هذه الهضبة تخاشعت و تذللت لاستشعارك الخوف الشديد و استظهارك بالإتقاء من أعدائك البليغ؛ و الخائف هذا دأبه و عادته قاله المزروقي في الشرح.

الاعراب‏

(لإن) اللام للإيذان و تسمى اللام المؤذنة و الموطئة أيضا و هي تؤذن من أول الأمر بأن الجواب بعدها مبني على قسم قبلها لا على الشرط سواء كان ذلك القسم مذكورا كما نحن فيه أو مقدرا كقوله تعالى: و إن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم‏ (المائدة- 78) فقوله تعالى «ليمسن» جواب قسم محذوف و سد مسد جواب الشرط الذي هو «و إن لم ينتهوا».

و كقوله تعالى: أ لم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم و لا نطيع فيكم أحدا أبدا و إن قوتلتم لننصرنكم و الله يشهد إنهم لكاذبون لئن أخرجوا لا يخرجون معهم و لئن قوتلوا لا ينصرونهم و لئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون‏ (الحشر- 14) فاللام في لئن الأربعة للقسم و في ليولن جواب القسم و استغنى به عن جواب الشرط في المواضع الخمسة.

(لأشدن) اللام لام جواب القسم نحو قوله تعالى في سورة يوسف:تالله لقد آثرك الله علينا، و في سورة الأنبياء: و تالله لأكيدن أصنامكم‏ و كلامه عليه السلام كان وزان قوله تعالى: لئن لم تنتهوا لنرجمنكم و ليمسنكم منا عذاب أليم‏ (يس- 19) و هذا الجواب للقسم سد مسد جواب الشرط الذي هو: لئن بلغني فاستغنى به عن جواب الشرط.

و حرف إن في لإن من أداة الشرط، و جملة بلغني فعل الشرط، أنك خنت- إلخ- مأول بالمصدر فاعل بلغني، شيئا مفعول به لقوله خنت، صغيرا و كبيرا صفتان له، جملة (تدعك) صفة للمصدر و يرجع ضمير الفعل إليه و كل واحد من قليل الوفر و أخويه حال للضمير المنصوب في تدعك، خبر السلام محذوف أي و السلام على من اتبع الهدى، أو السلام لأهله ككتبه اللاتية.

المعنى‏

زياد بن أبيه‏ هو زياد بن أبي سفيان صخر بن حرب بن امية، و يقال‏ زياد بن أبيه‏ و زياد بن امه و زياد بن سمية، و امه سمية هي جارية الحارث بن كلدة و كان يطؤها بملك اليمين كما في الاستيعاب لابن عبد البر، و اسد الغابة لابن الأثير، و الاصابة لابن حجر.

كان يكنى أبا المغيرة، ليست له صحبة و لا رواية و كان رجلا عاقلا في دنياه، داهية خطيبا له قدر و جلالة عند أهل الدنيا، كما في الاستيعاب و روى بإسناده عن أبي صالح عن ابن عباس قال: بعث عمر بن الخطاب زيادا في اصلاح فساد وقع باليمن فرجع من وجهه، و خطب خطبة لم يسمع الناس مثلها فقال عمرو بن العاصي: أما و الله لو كان هذا الغلام قرشيا لساق العرب بعصاه؛ فقال أبو سفيان: و الله إني لأعرف الذي وضعه في رحم امه، فقال له علي بن أبي طالب: و من هو يا أبا سفيان؟ قال:أنا إلخ-.

و قال: قال الشاعر:

زياد لست أدري من أبوه‏ و لكن الحمار أبو زياد

و قال ابن النديم في أول الفن الأول من المقالة الثالثة من الفهرست (ص 131 طبع مصر): قال محمد بن إسحاق: قرأت بخط أبي الحسن ابن الكوفي أول من ألف في المثالب كتابا زياد بن أبيه فإنه لما ظفر عليه و على نسبه عمل ذلك و دفعه إلى ولده و قال: استظهروا به على العرب فإنهم يكفون عنكم انتهى كلامه.

و قد روي أن أول من دعاه ابن أبيه عائشة حين سئلت لمن يدعى و سيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في ذلك في شرح المختار 44 من باب الكتب المعنون بقول الرضي‏ و من كتاب له عليه السلام إلى زياد بن أبيه‏ و قد بلغه أن معاوية كتب إليه يريد خديعته باستلحاقه. ثم إن ما جعلناه بين الهلالين في عنوان الكتاب ليس بمذكور في نسخة الرضي و كانه هامشة الحقت بالمتن.

و قال أبو جعفر الطبري في التاريخ: أمر علي عليه السلام ابن عباس على البصرة و ولى زيادا الخراج و بيت المال، و أمر ابن عباس‏ أن يسمع منه- إلى آخر ما تقدم في شرح المختار الثاني من باب الكتب و الرسائل (ص 96 ج 17).

و قال ابن قتيبة في الإمامة و السياسة (ص 85 ج 1): ذكروا أن عليا لما صار من البصرة بعد فراغه من أصحاب الجمل استعمل عليها عبد الله بن عباس- و قال له: اوصيك بتقوى الله- إلى أن قال: فلم يلبث علي عليه السلام حين فدم الكوفة و أراد المسير إلى الشام أن أنضم إليه ابن عباس، و استعمل على البصرة زياد بن أبي سفيان.

و حاصل الفصل أن الامير عليه السلام لما اطلع على أن زيادا خان بيت المال و فيى‏ء المسلمين‏ كما في تاريخ اليعقوبي هدده و رعبه بأنه إن لم يبعث إليه ما خان ليحملن عليه حملة صادقة تدعه قليل المال بطرده عن المناصب، أو بأخذه ماله من يده تقاصا، و تدعه‏ ثقيل الظهر بأعمال شاقة و امور مزمنة مفضحة لا يقدر بها على‏ القيام و الارتقاء إلى معالي الامور و كأن من هذا القبيل قول سعد بن أبي وقاص في جواب معاوية:

فان الشر أصغره كثير و إن الظهر تثقله الدماء

أو يفقره على حد يصعب عليه مؤنة عياله فإن كون ثقل الظهر كناية عن نحو هذا المعنى غير عزيز في محاوراتهم، و منه حديث أمير المؤمنين عليه السلام: من أراد البقاء و لا بقاء فليباكر بالغداء، و ليجود الحذاء، و ليخفف الرداء، و ليقل من مجامعة النساء؛ قيل: و ما خفة الرداء؟ قال: قلة الدين، و لكن إرادة هذا الوجه من كلامه هذا لا يخلو من بعد فتأمل.

أو تدعه‏ ثقيل الظهر بأوزاره و آثامه أي على أنه لا مال له ينتفع به، كانت عليه تبعاته و ذنوبه فهو في الدنيا و الاخرة من الخاسرين.

و تدعه‏ ضئيل الأمر أي حقيرا خامل الذكر، دني المرتبة، لا منزلة و لا قدر له عند الناس؛ لأنه إنما كان له شأن و نباهة بتوليه معالي الامور من قبل الأمير عليه السلام فإذا عزله عن منصبه مع كونه قليل المال و معروفا بالخيانة فلا قدر له عندهم، بل لا يساوى فردا خامل الذكر لاشتهاره بالخيانة و عزله عن منصبه بخيانته.

الترجمة

اين نامه ‏ايست كه أمير المؤمنين علي عليه السلام به زياد بن أبيه نوشت در حالى كه از طرف عبد الله بن عباس عامل أمير المؤمنين عليه السلام بر بصره حكومت داشت:

و من سوگند راست بخدا ياد مي كنم كه اگر بمن خبر رسد تو از غنيمت مسلمانان چيزى خرد يا بزرگ خيانت كرده ‏اى چنان بر تو سخت بگيرم كه كم مال و گران پشت و ناچيز بماني، و السلام.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی

__________________________________________________________

[1] ( 1) قال الطريحى في المجمع: فى حديث جبرائيل- إلخ، منه.

[2] ( 1) في خطبة العيدين لامير المؤمنين على عليه السلام كما رواه الصدوق في الفقيه و أتى به الفيض في الوافى( ص 196 ج 5): و هو اله لها و قاهر يذل له المتعززون و يتضاءل له المتكبرون- إلخ، منه.