نهج البلاغه نامه ها نامه شماره 9 شرح میر حبیب الله خوئی(به قلم علامه حسن زاده آملی )

نامه 9 صبحی صالح

9- و من كتاب له ( عليه‏ السلام  ) إلى معاوية

فَأَرَادَ قَوْمُنَا قَتْلَ نَبِيِّنَا وَ اجْتِيَاحَ أَصْلِنَا وَ هَمُّوا بِنَا الْهُمُومَ وَ فَعَلُوا بِنَا الْأَفَاعِيلَ وَ مَنَعُونَا الْعَذْبَ وَ أَحْلَسُونَا الْخَوْفَ وَ اضْطَرُّونَا إِلَى جَبَلٍ وَعْرٍ وَ أَوْقَدُوا لَنَا نَارَ الْحَرْبِ

فَعَزَمَ اللَّهُ لَنَا عَلَى الذَّبِّ عَنْ حَوْزَتِهِ وَ الرَّمْيِ مِنْ وَرَاءِ حُرْمَتِهِ

مُؤْمِنُنَا يَبْغِي بِذَلِكَ الْأَجْرَ وَ كَافِرُنَا يُحَامِي عَنِ الْأَصْلِ وَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قُرَيْشٍ خِلْوٌ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ بِحِلْفٍ يَمْنَعُهُ أَوْ عَشِيرَةٍ تَقُومُ دُونَهُ فَهُوَ مِنَ الْقَتْلِ بِمَكَانِ أَمْنٍ

وَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ( صلى‏الله‏عليه‏وآله  )إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ‏

وَ أَحْجَمَ النَّاسُ قَدَّمَ أَهْلَ بَيْتِهِ فَوَقَى بِهِمْ أَصْحَابَهُ حَرَّ السُّيُوفِ وَ الْأَسِنَّةِ

فَقُتِلَ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ يَوْمَ بَدْرٍ وَ قُتِلَ حَمْزَةُ يَوْمَ أُحُدٍ وَ قُتِلَ جَعْفَرٌ يَوْمَ مُؤْتَةَ وَ أَرَادَ مَنْ لَوْ شِئْتُ ذَكَرْتُ اسْمَهُ مِثْلَ الَّذِي أَرَادُوا مِنَ الشَّهَادَةِ وَ لَكِنَّ آجَالَهُمْ عُجِّلَتْ وَ مَنِيَّتَهُ أُجِّلَتْ

فَيَا عَجَباً لِلدَّهْرِ إِذْ صِرْتُ يُقْرَنُ بِي مَنْ لَمْ يَسْعَ بِقَدَمِي وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ كَسَابِقَتِي الَّتِي لَا يُدْلِي أَحَدٌ بِمِثْلِهَا إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَ مُدَّعٍ مَا لَا أَعْرِفُهُ وَ لَا أَظُنُّ اللَّهَ يَعْرِفُهُ وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ

وَ أَمَّا مَا سَأَلْتَ مِنْ دَفْعِ قَتَلَةِ عُثْمَانَ إِلَيْكَ فَإِنِّي نَظَرْتُ فِي هَذَا الْأَمْرِ فَلَمْ أَرَهُ يَسَعُنِي دَفْعُهُمْ إِلَيْكَ وَ لَا إِلَى غَيْرِكَ

وَ لَعَمْرِي لَئِنْ لَمْ تَنْزِعْ عَنْ غَيِّكَ وَ شِقَاقِكَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ عَنْ قَلِيلٍ يَطْلُبُونَكَ لَا يُكَلِّفُونَكَ طَلَبَهُمْ فِي بَرٍّ وَ لَا بَحْرٍ وَ لَا جَبَلٍ وَ لَا سَهْلٍ إِلَّا أَنَّهُ طَلَبٌ يَسُوءُكَ وِجْدَانُهُ وَ زَوْرٌ لَا يَسُرُّكَ لُقْيَانُهُ وَ السَّلَامُ لِأَهْلِهِ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج17  

و من كتاب له عليه السلام الى معاوية و هو الكتاب التاسع من باب المختار من كتبه عليه السلام و رسائله‏

فأراد قومنا قتل نبينا، و اجتياح أصلنا و هموا بنا الهموم، و فعلوا بنا الأفاعيل، و منعونا العذب، و أحلسونا الخوف، و اضطرونا إلى جبل وعر، و أوقدوا لنا نار الحرب، فعزم الله لنا على الذب عن حوزته، و الرمي من وراء حرمته، مؤمننا يبغي بذلك الأجر، و كافرنا يحامي عن الأصل، و من أسلم من قريش خلو مما نحن فيه بحلف يمنعه، أو عشيرة تقوم دونه، فهو من القتل بمكان أمن. و كان رسول الله صلى الله عليه و آله إذا احمر الباس، و أحجم الناس، قدم أهل بيته، فوقى بهم أصحابه حر السيوف و الأسنة، فقتل عبيدة ابن الحارث يوم بدر، و قتل حمزة يوم أحد، و قتل جعفر يوم موته، و أراد من لو شئت ذكرت اسمه مثل الذي أرادوا من الشهادة، و لكن آجالهم عجلت، و منيته أجلت (أخرت- خ ل). فيا عجبا للدهر إذ صرت يقرن بي من لم يسع بقدمي، و لم تكن له كسابقتي التي لا يدلي أحد بمثلها إلا أن يدعي مدع ما لا أعرفه و لا أظن الله يعرفه، و الحمد لله على كل حال. و أما ما سألت من دفع قتلة عثمان إليك، فإني نظرت في هذا الأمر فلم أره يسعني دفعهم إليك و لا إلى غيرك، و لعمري لئن لم تنزع عن غيك و شقاقك، لتعرفنهم عن قليل يطلبونك، لا يكلفونك طلبهم في بر و لا بحر، و لا جبل و لا سهل، إلا أنه طلب يسوءك وجدانه، و زور لا يسرك لقيانه، و السلام لأهله‏.

«سند الكتاب و نقله على صورته الكاملة و ذكر ما» «وقع من الخلط و الشتات فيه»

ما أتى به السيد رضوان الله عليه من كتابه عليه السلام هذا فملتقط من كتاب طويل هو من محاسن كتابه عليه السلام بلا كلام كما سيتلى عليك و الرضي- ره- أسقط كثيرا من هذا الكتاب و أتى بشر ذمة قليلة منه، و هذه عادته رضوان الله عليه، لأن غرضه التقاط الفصيح و البليغ من كلامه عليه السلام.

كتبه عليه السلام إلى معاوية جواب كتابه إليه، و دفع معاوية كتابه إلى أبي مسلم الخولاني فقدم به على علي أمير المؤمنين عليه السلام الكوفة و الكتابان مذكوران في كتاب صفين لنصر بن مزاحم المنقري التميمي الكوفي المتوفى في سني المائة الثانية من الهجرة (ص 47، الطبع الناصري 1301 ه) و نقل عنه المجلسي رحمه الله في المجلد الثامن من البحار (ص 547 الطبع الكمباني) و الرضي توفي سنة 406 من الهجرة.

و نحن نورد ما أتى به نصر في كتاب صفين: نصر: عن عمر بن سعد، عن أبي روق أن أبا مسلم الخولاني قام إلى معاوية في اناس من قراء أهل الشام فقالوا يا معاوية على ما تقاتل عليا و ليس لك مثل صحبته و لا قرابته و لا سابقته؟.

قال لهم: ما اقاتل عليا و أنا أدعي أن لي في الاسلام مثل صحبته و لا هجرته و لا قرابته و لا سابقته، و لكن خبروني عنكم ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما؟

قالوا: بلى. قال: فليدع إلينا قتلته فنقتلهم به و لا قتال بيننا و بينه. قالوا:فاكتب كتابا يأتيه بعضنا.

فكتب إلى علي هذا الكتاب مع أبي مسلم الخولاني، فقدم به على علي.

ثم قام أبو مسلم خطيبا، فحمد الله و أثنى عليه ثم قال: أما بعدك فانك قد قمت بأمر و توليته و الله ما احب أنه لغيرك إن أعطيت الحق من نفسك، إن عثمان قتل مسلما محرما مظلوما، فادفع إلينا قتلته و أنت أميرنا، فإن خالفك أحد من الناس كانت أيدينا لك ناصرة، و ألسنتنا لك شاهدة، و كنت ذا عذر و حجة.

فقال له علي: اغد علي غدا فخذ جواب كتابك.

فانصرف ثم رجع من الغد ليأخذ جواب كتابه، فوجد الناس قد بلغهم الذي جاء فيه، فلبست الشيعة أسلحتها، ثم غدوا فملئوا المسجد و أخذوا ينادون:كلنا قتل ابن عفان، و أذن لأبي مسلم فدخل على علي أمير المؤمنين فدفع إليه جواب كتاب معاوية.

فقال له أبو مسلم: قد رأيت قوما مالك معهم أمر، قال: و ما ذاك؟. قال:

بلغ القوم أنك تريد أن تدفع إلينا قتلة عثمان فضجوا و اجتمعوا و لبسوا السلاح و زعموا أنهم كلهم قتلة عثمان.

فقال علي عليه السلام و الله ما أردت أن أدفعهم إليك طرفة عين، لقد ضربت هذا الأمر أنفه و عينيه ما رأيته ينبغي لي أن أدفعهم إليك و لا إلى غيرك، فخرج بالكتاب و هو يقول: الان طاب الضراب.

«كتاب معاوية الى أمير المؤمنين على عليه السلام»

قال نصر بالسند المقدم: و كان كتاب معاوية إلى علي عليه السلام:

بسم الله الرحمن الرحيم من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإن الله اصطفى محمدا بعلمه و جعله الأمين على وحيه، و الرسول إلى خلقه، و اجتبى له من المسلمين أعوانا أيده الله بهم، فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام.

فكان أفضلهم في إسلامه و أنصحهم لله و لرسوله الخليفة من بعده و خليفة خليفته و الثالث الخليفة المظلوم عثمان فكلهم حسدت، و على كلهم بغيت، عرفنا ذلك في نظرك الشزر و في قولك الهجر و في تنفسك الصعداء، و في إبطائك عن الخلفاء، تقاد إلى كل منهم كما يقاد الفحل المخشوش حتى تبايع و أنت كاره.

ثم لم تكن لأحد منهم بأعظم حسدا منك لابن عمك عثمان و كان أحقهم أن لا تفعل ذلك به في قرابته و صهره، فقطعت رحمه، و قبحت محاسنه، و ألبت الناس عليه، و بطنت و ظهرت حتى ضربت إليه آباط الإبل، و قيدت إليه الخيل العراب‏ و حمل عليه السلاح في حرم رسول الله صلى الله عليه و آله، فقتل معك في المحلة و أنت تسمع في داره الهائعة لا تردع الظن و التهمة عن نفسك فيه بقول و لا فعل.

فاقسم صادقا أن لو قمت فيما كان من أمره مقاما واحدا تنهنه الناس عنه ما عدل بك من قبلنا من الناس أحد، و لمحى ذلك عندهم ما كانوا يعرفونك به من المجانبة لعثمان و البغي عليه.

و اخرى أنت بها عند أنصار عثمان ظنين إيواءك قتلة عثمان، فهم عضدك و أنصارك و يدك و بطانتك، و قد ذكر لي أنك تنصل من دمه، فان كنت صادقا فأمكنا من قتلته نقتلهم به و نحن أسرع إليك، و إلا فانه ليس لك و لا لأصحابك إلا السيف.

و الذي لا إله إلا هو لنطلبن قتلة عثمان في الجبال و الرمال و البر و البحر حتى يقتلهم الله أو لتلحقن أرواحنا بالله، و السلام.

«جواب أمير المؤمنين عليه السلام الى معاوية»

قال نصر: فكتب إليه علي عليه السلام:

بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان، أما بعد، فإن أخا خولان قدم علي بكتاب منك تذكر فيه محمدا صلى الله عليه و آله و ما أنعم الله عليه به من الهدى و الوحي، فالحمد لله الذي صدقه الوعد، و تمم له النصر و مكن له في البلاد، و أظهره على أهل العدى و الشنان من قومه الذين و ثبوا به (و ثبوا عليه- خ ل) و شنفوا له، و أظهروا له التكذيب، و بارزوه بالعداوة، و ظاهروا على إخراجه و على إخراج أصحابه، و ألبوا عليه العرب و جامعوهم على حربه، و جهدوا في أمره كل الجهد، و قلبوا له الامور حتى ظهر أمر الله و هم كارهون، و كان أشد الناس عليه إلبة اسرته و الأدنى فالأدنى من قومه إلا من عصمه الله منهم.

يا ابن هند فلقد خبأ لنا الدهر منك عجبا، و لقد قدمت فأفحشت، إذ طفقت تخبرنا عن بلاء الله تعالى في نبيه محمد صلى الله عليه و آله و فينا، فكنت في ذلك كجالب التمر إلى‏ هجر، أو كداعي مسدده إلى النضال، و ذكرت أن الله اجتبى له من المسلمين أعوانا أيده الله بهم فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام، فكان أفضلهم زعمت (كما زعمت- خ ل) في الإسلام و أنصحهم لله و رسوله الخليفة و خليفة الخليفة، و لعمري إن مكانهما من الإسلام لعظيم، و إن المصاب بهما لجرح في الاسلام شديد، رحمهما الله و جزاهما بأحسن الجزاء.[2] و ذكرت أن عثمان كان في الفضل ثالثا، فان يكن عثمان محسنا فسيجزيه الله بإحسانه، و إن يكن مسيئا فسيلقى ربا غفورا لا يتعاظمه ذنب أن يغفره.

و لعمر الله‏[3] إني لأرجو إذا أعطى الله الناس على قدر فضائلهم في الاسلام و نصيحتهم لله و لرسوله أن يكون نصيبنا في ذلك الأوفر.

إن محمدا صلى الله عليه و آله لما دعا إلى الايمان بالله و التوحيد كنا أهل البيت أول من آمن به و صدق بما جاء به، فلبثنا أحوالا مجرمة و ما يعبد الله في ربع ساكن من العرب غيرنا، فأراد قومنا قتل نبينا و اجتياح أصلنا، و هموا بنا الهموم، و فعلوا بنا الأفاعيل.

فمنعونا الميرة، و أمسكوا عنا العذب، و أحلسونا الخوف، و جعلوا علينا الأرصاد و العيون، و اضطرونا إلى جبل و عر، و أوقدوا لنا نار الحرب، و كتبوا علينا بينهم كتابا لا يواكلونا، و لا يشاربونا، و لا يناكحونا، و لا يبايعونا، و لا نأمن فيهم حتى ندفع النبي صلى الله عليه و آله فيقتلونه و يمثلوا به، فلم نكن نأمن فيهم إلا من موسم إلى موسم.

فعزم الله لنا على منعه و الذب عن حوزته، و الرمي من وراء حرمته،و القيام بأسيافنا دونه في ساعات الخوف و الليل و النهار، فمؤمننا يرجو بذلك الثواب و كافرنا يحامي به عن الأصل.

فأما من أسلم من قريش بعد فانهم مما نحن فيه أخلياء فمنهم حليف ممنوع أو ذو عشيرة تدافع عنه، فلا يبغيه أحد بمثل ما بغانا به قومنا من التلف، فهم من القتل بمكان نجوة و أمن، فكان ذلك ما شاء الله أن يكون.

ثم أمر الله رسوله بالهجرة، و أذن له بعد ذلك في قتال المشركين، فكان إذا احمر البأس و دعيت نزال، أقام أهل بيته فاستقدموا، فوقى أصحابه بهم حر الأسنة و السيوف.

فقتل عبيدة يوم بدر، و حمزة يوم احد، و جعفر و زيد يوم موتة، و أراد لله من لو شئت ذكرت اسمه مثل الذي أرادوا من الشهادة مع النبي صلى الله عليه و آله غير مرة إلا أن آجالهم عجلت، و منيته اخرت، و الله ولي الإحسان إليهم، و المنان عليهم بما قد أسلفوا من الصالحات.

فما سمعت بأحد و لا رأيت فيهم من هو أنصح لله في طاعة رسوله، و لا أطوع لرسوله في طاعة ربه، و لا أصبر على اللأواء و الضراء و حين البأس و مواطن المكروه مع النبي صلى الله عليه و آله من هؤلاء النفر الذين سميت لك، و في المهاجرين خير كثير نعرفه جزاهم الله بأحسن أعمالهم.

و ذكرت (فذكرت- خ ل) حسدي الخلفاء و إبطائي عنهم بغيي عليهم، فأما البغي فمعاذ الله أن يكون. و أما الإبطاء عنهم و الكراهة لأمرهم فلست أعتذر منه إلى الناس، لأن الله جل ذكره لما قبض نبيه صلى الله عليه و آله قالت قريش: منا أمير و قالت الأنصار: منا أمير، فقالت قريش: منا محمد رسول الله فنحن أحق بذلك الأمر، فعرفت ذلك الأنصار فسلمت لهم الولاية و السلطان فاذا استحقوها بمحمد صلى الله عليه و آله دون الأنصار فإن أولى الناس بمحمد صلى الله عليه و آله أحق بها منهم و إلا فإن الأنصار أعظم العرب فيها نصيبا فلا أدري أصحابي سلموا من أن يكونوا حقي أخذوا، أو الأنصار ظلموا عرفت أن حقي هو المأخوذ و قد تركته لهم تجاوز الله عنهم.

و أما ما ذكرت من أمر عثمان و قطيعتي رحمه و تأليبي عليه، فان عثمان عمل ما بلغك، فصنع الناس ما قد رأيت، و قد علمت أني كنت في عزلة عنه إلا أن تتجنى فتجن ما بدا لك.

و أما ما ذكرت من أمر قتلة عثمان فإني نظرت في هذا الأمر و ضربت أنفه و عينيه، فلم أرد فعهم إليك و لا إلى غيرك، و لعمري لئن لم تنزع عن غيك و شقاقك لتعرفنهم عن قليل يطلبونك و لا يكلفونك أن تطلبهم في بر و لا بحر و لا جبل و لا سهل و قد كان أبوك أتاني حين ولى الناس أبا بكر فقال: أنت أحق بعد محمد صلى الله عليه و آله بهذا الأمر و أنا زعيم لك بذلك على من خالف عليك، ابسط يدك ابايعك فلم أفعل.

و أنت تعلم أن أباك قد كان قال ذلك و أراده حتى كنت أنا الذي أبيت لقرب عهد الناس بالكفر، مخافة الفرقة بين أهل الإسلام، فأبوك كان أعرف بحقي منك فإن تعرف من حقي ما كان يعرف أبوك تصب رشدك، و إن لم تفعل، فسيغني (فسيغنيني ظ) الله عنك و السلام.

انتهى كتابه الشريف برمته على ما أتى به نصر في صفين و إذا قايست بينه و بين ما نقله الرضي رضوان الله عليه في النهج يظهر لك أنه- ره- أسقط كثيرا من فصول الكتاب و نقل في النهج طائفة منه.ثم يوجد بعض فقرات هذا الكتاب في الكتاب الثامن و العشرين من هذا الباب أوله قوله: و من كتاب له عليه السلام إلى معاوية جوابا و هو من محاسن الكتاب، أما بعد فقد أناني كتابك تذكر فيه اصطفاء- إلخ.

اللغة

(الاجتياح) اجوف واوي يقال: جاحه من باب قال و اجتاحه بمعنى أي أهلكه و استأصله. و الجوح: الاستيصال و الاهلاك.

(الهم) بالفتح: واحد الهموم أي القصد، أو ما تجيل لفعله و إيقاعه فكرك و الهم أيضا مصدر هممت بالشي‏ء من باب نصر إذا نويته و عزمت عليه و قصدته.

(الفعل) بالكسر اسم الحدث جمعه فعال مثل قدح و قداح و يجمع على الأفعال أيضا، و يجمع الأفعال على الأفاعيل. و قيل: الأفاعيل جمع أفعولة و هي‏ الفعل الذمي و يقال لمن أثر آثارا منكرة: فعل الأفاعيل.

(العذب) بفتح أوله و سكون ثانيه: قال الراغب: ماء عذب: طيب بارد قال تعالى: هذا عذب فرات سائغ شرابه‏- الفاطر 12». عذب الماء عذوبة من باب شرف: ساغ مشربه فهو عذوب و استعذبته رأيته عذبا و جمعه عذاب مثل سهم و سهام. و العذب أيضا: المستساغ من الطعام. و الطيب من العيش.

تشبيه (أحلسونا الخوف) قال المرزوقي في شرح الحماسة: الحلس واحد من أحلاس البيت. قال: قال الخليل: و هو ما يبسط تحت حر المتاع من مسح و جوالق و نحوهما.و في الصحاح عن الأصمعي: الحلس للبعير و هو كساء رقيق يكون تحت البرذعة، و أحلاس البيوت ما يبسط تحت حر الثياب. و في الحديث: كن حلس بيتك، أي لا تبرح، و قولهم: نحن أحلاس الخيل أي نقتنيها و نلزم ظهورها، و أحلست البعير أي ألبسته الحلس، و أحلست فلانا يمينا إذا أمررتها عليه. و أحلست السماء أي مطرت مطرا دقيقا دائما.

و في النهاية الأثيرية: و في حديث الفتن عد منها فتنة الأحلاس، الأحلاس جمع حلس و هو الكساء الذي يلي ظهر البعير تحت القتب، شبهها به للزومها و دوامها و منه حديث أبي موسى قالوا: يا رسول الله فما تأمرنا؟ قال: كونوا أحلاس بيوتكم أي ألزموها. و منه حديث أبي بكر: كن حلس بيتك حتى يأتيك يد خاطئة أو منية قاضية.

فتحصل مما قدمنا في الحلس أن المراد من قوله عليه السلام «أحلسونا الخوف» أنهم جعلوا الخوف لهم كالحلس أي جعلوه ملازما لهم من حيث إن الحلس ملازم ظهر البغير، و أحلاس البيوت ملازمة لها. أو أنهم ألبسوهم الخوف و هذا كالأول يفيد أنهم ألزموهم الخوف.(وعر) بفتح أوله و سكون ثانيه: المكان الصلب الغليظ ضد السهل، يقال و عر و طريق و عر و مطلب و عر و يقال بالفارسية: دشوار و سخت. قالت كنزة(الحماسة 241):

لهفي على القوم الذين تجمعوا بذي السيد لم يلقوا عليا و لا عمرا
فان يك ظني صادقا و هو صادقي‏ بشمله يحبسهم بها محبسا وعرا

و الوعر أيضا: المكان المخيف الوحش. و الجبل الوعر: الصعب المرتقى.

(الذب): الدفع و المنع. (حوزته) في الصحاح: الحوزة: الناحية و حوزة الملك بيضته. (الحرمة) كلقمة: ما لا يحل انتهاكه. (يبغي) أي يطلب.

و منه قوله صلى الله عليه و آله: ألا إن الله يحب بغاة العلم (ج 1 من الوافي ص 36) أي طلابه جمع باغ كهداة و هاد. (أحجم الناس) أي نكصوا و تأخروا هيبة و كفوا عن الحرب قال الجوهري: حجمته عن الشي‏ء أحجمه- بالضم- أي كففته عنه، يقال:حجمته عن الشي‏ء فأحجم أي كففته فكف، و هو من النوادر مثل كببته فأكب.

(لم يسع) من السعي. استعاره (لا يدلى) واوي من دل و، يقال: أدلى برحمه أي توسل بقرابته، و أدلى بحجته أي أحضرها و احتج بها. و أدلى إلى الحاكم بمال أي دفعه إليه ليجعله وسيلة إلى قضاء حاجته منه و في القرآن الكريم: و لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل و تدلوا بها إلى الحكام‏ (البقرة- 189) و الأصل في ذلك من دلوت الدلو و أدليتها ثم استعير للتوصل إلى الشي‏ء. و في الشفاعة يقال: دلوت بفلان أي استشفعت به و لا يقال حينئذ أدليت به.

قال عصام بن عبيد الله كما في الحماسة (الحماسة 402) و على ما في البيان و التبيين (ص 316 ج 2) قال همام الرفاشي:

فقد جعلت إذا ما حاجتي نزلت‏ بباب قصرك أدلوها بأقوام‏

قال المرزوقي في معناه: إذا اتفق ما لا بد لي منك و من معونتك من حاجة أو عارض سبب فاني معتمد على غيري في التنجز و الاستعساف، و معنى «أدلوها» من قولك دلوت الدلو إذا أخرجتها من البئر، أي أتسبب بغيري و أصون من التبذل عرضي.

(لعمري) العمر بالفتح: الحياة و الدين، قال في أقرب الموارد: و منه‏ لعمري في القسم أي لديني.

(لم تنزع عن غيك) النزع عن الشي‏ء: الكف عنه. (الغي): الضلال (الشقاق) الخلاف. التكليف: الأمر بما يشق عليك من الكلفة بمعنى المشقة.

(زور) بالفتح جاء مصدرا و غير مصدر و على الثاني يستوي فيه المفرد و المثنى و الجمع و المذكر و المؤنث. يقال: رجل زور و قوم زور و نساء زور. قال الجوهري الزور، الزائرون يقال: رجل زائر و قوم زور و زوار مثل سافر و سفر و سفار، و نسوة زور أيضا. زاره زورا من باب قال: أتاه بقصد الالتقاء به.

قال زياد بن حمل كما في كتاب الحماسة لأبي تمام الطائي (الحماسة 577) أو زياد بن منقذ كما قاله الجوهري في مادة قزم من الصحاح:

زارت رويقة شعثا بعد ما هجعوا لدى نواحل في أرساغها الخدم‏
و قمت للزور مرتاعا و أرقني‏ فقلت أهي سرت أم عادني حلم‏

و الأصل في ذلك زرت فلانا أى تلقيته بزوري أو قصدت زوره نحو و جهته و الزور أعلى الصدر.

(لقيان) بضم اللام و كسرها مصدر من لقيت فلانا من باب علم أي صادقته و رأيته.

الاعراب‏

الضميران في حوزته و حرمته يرجعان إلى النبي صلى الله عليه و آله كما يدل عليه سياق الكلام، و قوله عليه السلام بعد ذلك «و القيام بأسيافنا دونه في ساعات الخوف و الليل و النهار» على ما مر في ذكر سند الكتاب.

«و من أسلم» الواو للحال فالجملة حالية، أصحابه مفعول لفعل وقى و حر السيوف مفعول ثان له.

قوله عليه السلام «أراد من» من فاعل أراد، و مثل الذى مفعوله و الضمير في منيته راجع إلى من، و في أرادوا و آجالهم إلى عبيدة و من بعده، و كلمة من في‏ من الشهادة بيانية تبين المثل.و العمر بالفتح و الضم و إن كانا مصدرين بمعنى إلا أن المفتوح منهما يستعمل في القسم، فاذا أدخلت عليه اللام رفعته بالابتداء و اللام لتوكيد الابتداء و الخبر محذوف و التقدير لعمري قسمي أو ما أقسم به، فان لم تأت باللام نصبته نصب المصادر و فتحة الفاء في «لتعرفنهم» ليست علامة النصب، بل هي لمكان النون المشددة المؤكدة، لأن آخر الفعل المخاطب المذكر إذا كان مؤكدا بنوني التأكيد يفتح لئلا يلتبس بالجمع المذكر و المفرد المؤنث إذا كانا مؤكدين بهما.

و اختلف في هذه الفتحة فقال ابن السراج و المبرد و الفارسي: بناء للتركيب و قال سيبويه و السيرافي و الزجاج: عارضة للساكنين و هما آخر الفعل و النون الأولى، و محل يطلبونك النصب مفعولا ثانيا لتعرفنهم بمعنى لتعلمنهم.«طلبهم» منصوب، أي لا يكلفونك في طلبك إياهم في بر و لا بحر- إلخ.

«لقيانه» الضمير فيه راجع إلى الزور فان كان الزور مصدرا كما هو الظاهر من سياق الكلام حيث جعل قبال الطلب فالأمر ظاهر، و إن كان اسم جمع بمعنى الزائرين فإفراد الضمير باعتبار إفراد لفظ الزور، و هذا لا يخلو من تكلف.

المعنى‏

قد أشار عليه السلام في هذا الكتاب المستطاب إلى طائفة من فضائله و حماية أهل بيت النبي من المسلم و الكافر النبي صلى الله عليه و آله عن الأعداء، و إلى نبذة مما دار بين المسلمين و المشركين و غيرها مما سنتلوها عليك. و قد أجاب عليه السلام عن كل فصل من كتاب معاوية بفصل و ذلك لما يلي:

قوله عليه السلام: (بسم الله الرحمن الرحيم من علي أمير المؤمنين- إلى قوله إلا من عصمه الله منهم) قد أشار في هذا الفصل بعد حمد الله و ثنائه إلى ما فعل أهل العدى و الشنان من قومه صلى الله عليه و آله به حيث كذبوه و بارزوه بالعداوة و شنفوا له أي أبغضوه حتى ظاهروا على إخراجه من مكة و حرضوا العرب على حربه صلى الله عليه و آله، و لم يقصروا في شي‏ء كان يؤذيه من قول أو فعل إلا فعلوه، و كانت عداوتهم به صلى الله عليه و آله و اغرة في‏ صدورهم حتى أجمعوا في قتله، و لكن الله تعالى صدقه الوعد، و تمم له النصر و مكن له في البلاد، و أظهره عليهم، قال: عز من قائل‏ كتب الله لأغلبن أنا و رسلي إن الله قوي عزيز (المجادلة- 22).

ثم ذكر أن اسرته أي أهله كانوا أشد الناس به صلى الله عليه و آله إلبة و عداوة، و فيه تعريض بما فعل أبو سفيان و شيعته به صلى الله عليه و آله من أنحاء الايذاء و أنواع المعاداة، و كان أبو سفيان يحث الناس و يحرضهم على قتاله و قتله.

ثم استثنى عليه السلام من الاسرة من عصمهم الله، أي حفظهم و وقاهم من إيذائه صلى الله عليه و آله، بل وفقهم الله بنصره و عزم لهم على منعه و الذب عن حوزته و المراد من قوله عليه السلام: «إلا من عصمهم الله منهم» هو من عصمهم الله بالاسلام منهم و كانوا يومئذ قليلين، كما في السيرة الهشامية (ص 264 ج 1 طبع مصر 1375 ه) قال ابن اسحاق: فلما بادى رسول الله صلى الله عليه و آله قومه بالاسلام و صدع به كما أمره الله لم يبعد منه قومه، و لم يردوا عليه- فيما بلغني- حتى ذكر آلهتهم و عابها فلما فعل ذلك أعظموه و ناكروه و أجمعوا على خلافه و عداوته إلا من عصم الله تعالى منهم بالإسلام و هم قليل مستخفون.

أو أراد بمن عصمهم الله نفسه و أباه أبا طالب و العباس و حمزة ممن حدب على رسول الله صلى الله عليه و آله و قام دونه و وقاه عن أذى الناس و حماه و إن لم يكن بعضهم أسلم بعد كما سيتضح لك بعيد هذا.

قوله عليه السلام: (يا ابن هند فلقد- إلى قوله: أن يغفره) أجاب عليه السلام بهذا الفصل عما كتب إليه معاوية من: «أن الله تعالى اجتبى له صلى الله عليه و آله من المسلمين أعوانا أيده الله بهم فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في الإسلام».

غرضه أن هذا الأمر كان له عليه السلام أوضح و أبين، و أنه عليه السلام كان أعلم به من غيره، لأنه عليه السلام كان صاحب لواء رسول الله صلى الله عليه و آله في كل زحف و كان أول من آمن به، و أول من صلى معه، و ما رأى أحد من المسلمين مثل عنائه في الحروب و لم يشركه أحد في حماية الدين و الذب عن حوزته و في خذلان أهل الكفر و العدوان‏ و إرغام شيعة الشيطان.

و العجب من معاوية يخبره عليه السلام بذلك و لم يكن له سعي في الدين و لذا قال له الأمير عليه السلام تهكما به: يا ابن هند فلقد خبأ لنا الدهر منك عجبا.

قوله عليه السلام: «كجالب‏ التمر إلى هجر» مثل يضرب به لمن يجي‏ء بالعلم إلى من هو أعلم منه، و يأتي بشي‏ء إلى من كان أصل ذلك الشي‏ء عنده، كما يقال بالفارسية: لقمان را حكمت آموخت، قطره بدريا فرستاد، زيره بكرمان برد خرما بعربستان فرستاد، و لا ريب أن هذا العمل خطاء و عامله مخطئ.

قال الميداني في فصل الكاف المفتوحة من الباب الثاني و العشرين من مجمع الأمثال في بيان مثل «كمستبضع‏ التمر إلى هجر»: قال أبو عبيدة: هذا من الأمثال المبتذلة و من قديمها و ذلك أن هجر معدن التمر و المستبضع إليه مخطئ، و يقال أيضا: كمستبضع التمر إلى خيبر. قال النابغة الجعدي:

و إن امرأ أهدى إليك قصيدة كمستبضع تمرا إلى أهل خيبرا

و هجر محركة اسم بلد معروف باليمن. و قال آخر:

أهدى كمستبضع تمرا إلى هجر أو حامل و شي‏ء أبراد إلى يمن‏

و قوله عليه السلام: «أو كداعي مسدده إلى النضال» مثل كالأول، أي كمن يدعو من يعلمه الرمي إلى المناضلة أي المراماة.

و الغرض أن إخبار معاوية أمير المؤمنين عليا عليه السلام بأن الله اجتبى للرسول أعوانا من المسلمين أيده الله بهم، كمن جلب‏ التمر إلى هجر أو كمن‏ دعى مسدده إلى النضال‏، لأنه عليه السلام كان لرسول الله صلى الله عليه و آله ظهيرا في كل شدة و عناء من ابتداء دعوته صلى الله عليه و آله إلى الاسلام إلى لقائه الملك العلام.

و لذا قال عليه السلام: يا ابن هند فلقد خبأ لنا الدهر منك عجبا، و لقد قدمت فأفحشت‏ إذ طفقت تخبرنا عن بلاء الله تعال‏ى في نبيه محمد صلى الله عليه و آله و فينا، فكنت في ذلك كجالب التمر إلى هجر- إلخ، و لا يخفى لطف كلامه عليه السلام.

قوله عليه السلام: «و لعمر الله إنى لأرجو- إلى قوله: نصيبنا في ذلك الأوفر»

معنى لعمر الله، أحلف ببقاء الله و دوامه، و الغرض من هذا الفصل جواب عما قال معاوية «من أن الله اجتبى للرسول صلى الله عليه و آله أعوانا- إلى قوله: على قدر فضائلهم في الاسلام».

و لما كان أمير المؤمنين عليه السلام عونا لرسول الله صلى الله عليه و آله في الشدائد، و لم يبلغ إلى رتبة حمايته عن الدين و لا إلى قدر فضيلته في الاسلام وزنة نصيحته لله و لرسوله أحد، و لا اخال إنسانا ينكرها، قال عليه السلام: إني لأرجو إذا أعطى الله الناس على قدر فضائلهم في الاسلام و نصيحتهم لله و رسوله أن يكون نصيبنا في ذلك الأوفر.

قال المسعودي في مروج الذهب (ص 49 ج 2 طبع مصر 1246 ه):و الأشياء التي استحق بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله الفضل هي السبق إلى الإيمان، و الهجرة، و النصرة لرسول الله صلى الله عليه و آله، و القربى منه، و القناعة، و بذل النفس له و العلم بالكتاب و التنزيل، و الجهاد في سبيل الله، و الورع، و الزهد، و القضاء و الحكم، و العفة، و العلم، و كل ذلك لعلي عليه السلام منه النصيب الأوفر و الحظ الأكبر مضافا إلى ما ينفرد به من قول رسول الله صلى الله عليه و آله حين آخى بين أصحابه:

أنت أخي، و هو صلى الله عليه و آله لا ضد له و لا ند، و قوله صلى الله عليه و آله: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، و قوله صلى الله عليه و آله: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه و عاد من عاداه، ثم دعاه صلى الله عليه و آله و قد قدم إليه أنس الطائر: اللهم ادخل إلي أحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر فدخل عليه علي عليه السلام إلى آخر الحديث، فهذا و غيره من فضائله.

قوله عليه السلام: «إن محمدا صلى الله عليه و آله لما دعى الى الإيمان بالله و التوحيد كنا أهل البيت أول من آمن به و صدق بما جاء به» توافرت الأخبار من الفريقين أن عليا أمير المؤمنين عليه السلام كان أول ذكر أسلم مع رسول الله صلى الله عليه و آله و أول من كان صلى معه صلى الله عليه و آله. هذا لو سلمنا أنه عليه السلام لم يكن أول من أسلم معه فقد قال أبو جعفر الطبري في التاريخ (ص 56 ج 2): حدثنا أبو كريب قال: حدثنا وكيع عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي حمزة مولى الأنصار، عن زيد بن أرقم قال:

أول من أسلم مع رسول الله صلى الله عليه و آله علي بن أبي طالب عليه السلام. و بهذا الاسناد عن زيد بن أرقم يقول: أول رجل صلى مع رسول الله صلى الله عليه و آله علي عليه السلام.

و في السيرة الهشامية (ص 245 ج 1): قال ابن اسحاق: ثم كان أول ذكر من الناس آمن برسول الله صلى الله عليه و آله و صلى معه و صدق بما جاءه من الله تعالى: علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم رضوان الله و سلامه عليه، و هو يومئذ ابن عشر سنين.

و في السيرة الحلبية (ص 303 ج 1): في المرفوع عن سلمان أن النبي صلى الله عليه و آله قال: أول هذه الامة ورودا علي الحوض أولها اسلاما علي بن أبي طالب عليه السلام.

و قال أبو جعفر الطبري في التاريخ: حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا إبراهيم ابن المختار عن شعبة، عن أبي بلج، عن عمرو بن ميمون، عن ابن عباس قال: أول من صلى علي.

و قال أيضا: حدثنا زكريا بن يحيى الضرير قال: حدثنا عبد الحميد بن بحر قال: أخبرنا شريك عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر قال: بعث النبي صلى الله عليه و آله يوم الاثنين و صلى علي يوم الثلاثاء.

و قال اليعقوبي في التاريخ: (ص 17 ج 2): كان أول من أسلم خديجة بنت خويلد من النساء، و علي بن أبي طالب من الرجال.

و قال أبو جعفر الطبري (ص 56 ج 2): حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي قال: حدثنا عبيد الله بن موسى قال: أخبرنا العلاء عن المنهال بن عمرو، عن عباد بن عبد الله قال: سمعت عليا عليه السلام يقول: أنا عبد الله، و أخو رسوله، و أنا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي إلا كاذب مفتر، صليت مع رسول الله صلى الله عليه و آله قبل الناس بسبع سنين.

و قال: حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال: حدثنا سعيد بن خثيم عن أسد بن عبدة البجلي، عن يحيى بن عفيف، عن عفيف قال: جئت في الجاهلية إلى مكة فنزلت على العباس بن عبد المطلب قال: فلما طلعت الشمس و حلقت في السماء و أنا أنظر إلى الكعبة أقبل شاب فرمى ببصره إلى السماء، ثم استقبل الكعبة فقام مستقبلها فلم يلبث حتى جاء غلام فقام عن يمينه، قال: فلم يلبث حتى جاءت امرأة فقامت‏ خلفهما، فركع الشاب فركع الغلام و المرأة، فرفع الشاب فرفع الغلام و المرأة فخر الشاب ساجدا فسجدا معه. فقلت: يا عباس أمر عظيم فقال: أمر عظيم، أ تدري من هذا؟ فقلت: لا. قال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، ابن أخي، أ تدري من هذا معه؟ قلت: لا. قال: هذا علي بن أبي طالب بن عبد المطلب، ابن أخي. أ تدري من هذه المرأة التي خلفهما؟ قلت: لا. قال: هذه خديجة بنت خويلد زوجة ابن أخي و هذا حدثني إن ربك رب السماء أمرهم بهذا الذي تراهم عليه و أيم الله ما أعلم على ظهر الأرض كلها أحدا على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة.

أقول: و قد رواه ابن الأثير في اسد الغابة في ترجمة عفيف هذا و هو عفيف الكندي.

بيان: قوله: استقبل الكعبة، و اعلم أن الكعبة زادها الله شرفا لم تكن عندئذ قبلة، و أن النبي صلى الله عليه و آله صلى إلى بيت المقدس بعد النبوة ثلاث عشرة سنة بمكة و تسعة عشر شهرا بالمدينة، ثم صرفه الله تعالى عن البيت المقدس إلى الكعبة.و في السيرة الهشامية (ص 606 ج 1 طبع مصر 1375 ه). قال ابن اسحاق:و يقال: صرفت القبلة في شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من مقدم رسول الله صلى الله عليه و آله المدينة.

و في إزاحة العلة في معرفة القبلة لأبي الفضل شاذان بن جبرئيل القمي: قال معاوية بن عمار: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: متى صرف رسول الله صلى الله عليه و آله إلى الكعبة؟ قال:بعد رجوعه من بدر و كان يصلي بالمدينة إلى بيت المقدس سبعة عشر شهرا ثم أعيد إلى الكعبة.و في القانون المسعودي للعلامة أبي الريحان البيروني (ص 256 ج 1 طبع حيدر آباد الدكن): صرف القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة لصلاة العصر كان في اليوم السادس عشر من شعبان.

و قول عفيف بأنه صلى الله عليه و آله قام للصلاة مستقبل الكعبة يوافق ما روي أن رسول الله صلى الله عليه و آله طول مقامه بمكة كان يجعل الكعبة بينه و بين بيت المقدس إذا أمكن كما رواه الشيخ الجليل في الاحتجاج باسناده إلى أبي محمد العسكري عليه السلام.و في السيرة النبوية لابن هشام: كان رسول الله صلى الله عليه و آله بمكة و قبلته إلي الشام فكان إذا صلى بين الركن اليماني و الحجر الأسود، و جعل الكعبة بينه و بين الشام (ص 298 ج 1 طبع مصر 1375 ه).

و لنا رسالة مفردة في الوقت و القبلة أتينا فيها بجميع ما يجب أن يعلم فيهما من طرق معرفة خط الزوال تنتهي إلى ثلاثين طريقا، و طرق تحصيل سمت القبلة و بيان أخبارهما و غيرها ببراهين هندسية و أدلة فقهية ما إخال بغاة العلم يستغنون عنها أو يبغون لها بدلا.

و قال أبو جعفر الطبري: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة عن ابن اسحاق قال: كان أول ذكر آمن برسول الله صلى الله عليه و آله علي بن أبي طالب و هو يومئذ ابن عشر سنين و كان مما أنعم الله به على علي بن أبي طالب عليه السلام أنه كان في حجر رسول الله صلى الله عليه و آله قبل الإسلام.

و قد تظافرت الأخبار بأنه عليه السلام قد ربي في حجر رسول الله صلى الله عليه و آله قبل الاسلام ففي السيرتين و تاريخ الطبري و غير واحد من الكتب المدونة في ذلك من الفريقين و قد أتى أبو جعفر الطبري بما أتى به ابن هشام في السيرة من غير تغيير.

قال الطبري: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة قال: حدثني محمد بن إسحاق قال. فحدثني عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد بن جبر أبي الحجاج قال: كان من نعمة الله على علي بن أبي طالب و ما صنع الله له و أراده به من الخير أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة و كان أبو طالب ذا عيال كثير فقال رسول الله صلى الله عليه و آله للعباس عمه و كان من أيسر بني هاشم: يا عباس إن أخاك أبا طالب كثير العيال و قد اصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة فانطلق بنا فلنحفف عنه من عياله آخذ من بنيه رجلا و تأخذ من بنيه رجلا فنكفهما عنه.

قال العباس: نعم فانطلقا حتى أتيا أبا طالب فقالا: إنا نريد أن نخفف‏ عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه.

فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما لي عقيلا فاصنعا ما شئتما، فأخذ رسول الله صلى الله عليه و آله عليا فضمه إليه، و أخذ العباس جعفرا فضمه إليه، فلم يزل علي بن أبي طالب مع رسول الله صلى الله عليه و آله حتى بعثه الله نبيا فاتبعه علي فامن به و صدقه، و لم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم و استغنى عنه.

و قال: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة قال: فحدثني محمد بن إسحاق قال: و ذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه و آله كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة و خرج معه علي بن أبي طالب مستخفيا من عمه أبي طالب و جميع أعمامه و سائر قومه، فيصليان الصلوات فيها، فاذا أمسيا رجعا، فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا. ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوما و هما يصليان، فقال لرسول الله صلى الله عليه و آله:

يا ابن أخي ما هذا الدين الذي أراك تدين به؟ قال: أي عم هذا دين الله و دين ملائكته و دين رسله و دين أبينا إبراهيم، أو كما قال صلى الله عليه و آله بعثني الله به رسولا إلى العباد و أنت يا عم أحق من بذلت له النصيحة و دعوته إلى الهدى و أحق من أجابني إليه و أعانني عليه، أو كما قال، فقال أبو طالب: يا ابن أخي إنى لا أستطيع أن افارق ديني و دين آبائي و ما كانوا عليه، و لكن و الله لا يخلص إليك بشي‏ء تكرهه ما حييت انتهى ما رواه أبو جعفر عن ابن اسحاق و في السيرة الهشامية أتى بمثل ما أتى به الطبري إلا أن فيه «ما بقيت» مكان «ما حييت» يعني أن أبا طالب قال له صلى الله عليه و آله و لكن لا يوصل إليك مكروه ما دام لي الحياة و البقاء، أي أدفع عنك شر الناس و أذاهم، و سنشير إلى إسلام أبي طالب إنشاء الله تعالى.

و في السيرة و تاريخ الطبري: ذكروا أن أبا طالب قال لعلي عليه السلام: أي بني ما هذا الدين الذي أنت عليه؟ فقال: يا أبت، آمنت بالله و برسول الله صلى الله عليه و آله و صدقته بما جاء به، و صليت معه لله و اتبعته، قالا: فزعموا أنه قال له: أما إنه لم يدعك إلا إلى خير فالزمه.

في الإرشاد للمفيد قدس سره: فأما مناقب أمير المؤمنين علي عليه السلام الغنية لشهرتها و تواتر النقل بها و إجماع العلماء عليها عن إيراد أسانيد الأخبار فهي كثيرة يطول بشرحها الكتاب، و في رسمنا منها طرفا كفاية عن ايراد جميعها في الغرض الذي وضعنا له هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

فمن ذلك أن النبي صلى الله عليه و آله جمع خاصة أهله و عشيرته في ابتداء الدعوة إلى الإسلام، فعرض عليهم الايمان، و استنصرهم على أهل الكفر و العدوان، و ضمن لهم على ذلك الحظوة في الدنيا و الشرف و ثواب الجنان، فلم يجبه أحد منهم إلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فنحله بذلك تحقيق الاخوة و الوزارة، و الوصية و الوراثة و الخلافة، و أوجب له به الجنة.

و ذلك في حديث الدار الذي أجمع على صحته نقاد (نقلة- خ ل) الاثار حين جمع رسول الله صلى الله عليه و آله بني عبد المطلب في دار أبي طالب و هم أربعون رجلا يومئذ يزيدون رجلا أو ينقصون رجلا فيما ذكره الرواة، و أمر أن يصنع لهم طعاما فخذ شاة مع مد من بر و يعد لهم صاع من اللبن، و قد كان الرجل منهم معروفا بأكل الجذعة في مقام واحد و بشرب الفرق من الشراب في ذلك المقعد.

فأراد عليه و آله السلام باعداد قليل الطعام و الشراب لجماعتهم إظهار الاية لهم في شبعهم و ريهم مما كان لا يشبع واحدا منهم و لا يرويه، ثم أمر بتقديمه لهم فأكلت الجماعة كلها من ذلك اليسير حتى تملوا منه و لم يبن ما أكلوه منه و شربوه فيه فبهرهم بذلك و بين لهم آية نبوته و علامة صدقه ببرهان الله تعالى فيه.

ثم قال لهم بعد أن شبعوا من الطعام و رووا من الشراب: يا بني عبد المطلب إن الله بعثني إلى الخلق كافة و بعثني إليكم خاصة فقال «و أنذر عشيرتك الأقربين» و أنا أدعوكم إلى كلمتين خفيفتين على اللسان ثقيلتين في الميزان، تملكون بهما العرب و العجم، و تنقاد لكم بهما الأمم، و تدخلون بهما الجنة، و تنجون بهما من النار: شهادة أن لا إله إلا الله و أني رسول الله.

فمن يجيبني إلى هذا الأمر و يوازرني عليه و على القيام به يكن أخي و وصيي‏ و وزيري و وارثي و خليفتي من بعدي. فلم يجبه أحد منهم.

فقال أمير المؤمنين: فقمت بين يديه من بينهم و أنا إذ ذاك أصغرهم سنا، و أحمشهم ساقا، و أرمصهم عينا، فقلت: أنا يا رسول الله اوازرك على هذا الأمر.

فقال صلى الله عليه و آله: اجلس. ثم أعاد القول على القوم ثانية فأصمتوا، فقمت أنا و قلت مثل مقالتي الاولى، فقال: اجلس ثم أعاد القول على القوم ثالثة فلم ينطق أحد منهم بحرف فقمت و قلت: أنا اوازرك يا رسول الله على هذا الأمر، فقال: اجلس فأنت أخي و وصيي و وزيرى و وارثي و خليفتي من بعدي.

فنهض القوم و هم يقولون لأبي طالب: يا أبا طالب ليهنئك اليوم ان دخلت في دين ابن أخيك، فقد جعل ابنك أميرا عليك.

ثم قال- ره-: و هذه منقبة جليلة اختص بها أمير المؤمنين عليه السلام و لم يشركه فيها أحد من المهاجرين الأولين و لا الأنصار و لا أحد من أهل الاسلام، و ليس لغيره عدل لها من الفضل، و لا مقارب على حال، و فى الخبر بها ما يفيد أن به عليه السلام تمكن النبي صلى الله عليه و آله من تبليغ الرسالة، و إظهار الدعوة، و الصدع بالإسلام، و لولاه لم تثبت الملة، و لا استقرت الشريعة، و لاظهرت الدعوة.

فهو عليه السلام ناصر الإسلام، و وزير الداعي إليه من قبل الله عز و جل، و بضمانه لنبي الهدى عليه و آله السلام النصرة تم له في النبوة ما أراد و في ذلك من الفضل ما لا يوازنه الجبال فضلا، و لا تعادله الفضائل كلها محلا و قدرا. انتهى كلامه- ره- في الإرشاد.

تنبيه‏ :

ما نقله المفيد رحمه الله في الإرشاد أتى به أبو جعفر الطبري في التاريخ فراجع إلى- ص 62 ج 2- منه، فتبصر أن خليفة رسول الله صلى الله عليه و آله كان من بدء الأمر متعينا و صرح رسول الله صلى الله عليه و آله بأن عليا عليه السلام هو أخوه و وصيه و وزيره و وارثه و خليفته من بعده فمن قال بغيره فقد سلك غير سبيل الله و رسوله.

و قال ابن الأثير في اسد الغابة: و هو يعني أمير المؤمنين عليا عليه السلام أول الناس‏ إسلاما في قول كثير من العلماء على ما نذكره- إلى أن قال: حدثنا محمد بن عيسى حدثنا محمد بن بشار و ابن مثنى قالا: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي حمزة رجل من الأنصار، عن زيد بن أرقم قال: اول من أسلم علي.

و روى باسناده عن ابي بلخ عن ابن عباس قال: اول من أسلم علي.

و باسناده عن انس بن مالك قال: بعث النبي صلى الله عليه و آله يوم الإثنين و أسلم علي يوم الثلاثاء.

و باسناده عن حبة العرني قال: سمعت عليا يقول: أنا أول من صلى مع النبي صلى الله عليه و آله.

و باسناده عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله: لقد صلت الملائكة علي و على علي سبع سنين و ذاك أنه لم يصل معي رجل غيره.

و الروايات من الفريقين في أنه عليه السلام كان أول من أسلم و أول من صلى معه صلى الله عليه و آله أكثر من أن يحصى.

فان قلت: قد توجد روايات في أن أبا بكر كان أول من أسلم فكيف التوفيق؟

قلت: من تتبع الجوامع علم أن المسلم عند الفحول من المحققين هو ما قدمنا و من ذهب إلى خلافه فحجته داحضة بلا مرية و ريب، و لم يرض أحد ممن جانب المراء و التعصب بتقدم إسلام أبي بكر، و كفاك في ذلك قول جل من كبار أهل السنة برد من وهم ذلك.

قال الحلبي الشافعي في كتابه انسان العيون في سيرة الأمين و المأمون المعروف بالسيرة الحلبية (ص 311- ج 1) بعد ما ذهب إلى أنه عليه السلام كان أول من أسلم: و قول بعض الحفاظ أن أبا بكر أول الناس إسلاما هو المشهور عند الجمهور من أهل السنة لا ينافي ما تقدم من أن عليا أول الناس إسلاما بعد خديجة، ثم مولاه زيد بن حارثة، لأن المراد أول رجل بالغ ليس من الموالي أبو بكر، و من الصبيان علي و من النساء خديجة، و من الموالي زيد بن حارثه، إلى آخر ما قال.

ثم إن إسلامه عليه السلام و هو ابن عشر سنين أو ابن خمس عشر سنة، أو ابن ثمان سنين و إن كان الأخير فما دونه يخالف المشهور و يضاد المعروف و روايته شاذة مطرودة إنما كان لسعة قلبه و كمال عقله و شرح صدره، و ليس ذلك ممن اجتبيه الله تعالى بمستنكر، كيف و قد نطق القرآن الحكيم بنظائره:

قال في يحيى عليه السلام: يا يحيى خذ الكتاب بقوة و آتيناه الحكم صبيا (مريم- 13) و في عيسى عليه السلام: فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب و جعلني نبيا و جعلني مباركا أين ما كنت و أوصاني بالصلاة و الزكاة ما دمت حيا الايات (مريم 30- 34).

فكم ضل و نصب العداوة كالناصبة الذاهبة إلى أن ايمانه عليه السلام في تلك الحالة إنما كان على وجه التقليد و التلقين و ما كان بهذه المنزلة لم يستحق صاحبه المدحة و لم يجب له به الثواب و كان هو حينئذ ابن سبع سنين فلم يكن كامل العقل و لا مكلفا فراجع إلى البحار (ص 327 ج 9 من الطبع الكمباني).

على أن ظاهر قوله تعالى: و أنذر عشيرتك الأقربين‏ يدل على أنه عليه السلام كان في موضع التكليف و كان ممن دعاه رسول الله صلى الله عليه و آله إلى الاسلام، و قد تقرر في الفقه إمكان من بلغ عشرا عاقلا من الذكور أن يبدو منه بعض آثار التكليف من إنبات الشعر و حصول الاحتلام و علامة البلوغ ليست بمنحصرة في العدد.

ثم لو لم يكن دالا على أنه عليه السلام كان في موضع التكليف ليدل على كمال فضله و حصول معرفته بالله و برسوله و على أنه عليه السلام كان من آيات الله الخارقة للعادة و على اختصاصه و تأهيله لما رسخه الله له من الامامة و الحجة على الخلق فجرى في خرق العادة مجرى عيسى و يحيى عليهما السلام كما قدمنا، فلو لا أنه عليه السلام كان كاملا و هو من أبناء عشر فما دونها لما كلفه رسول الله صلى الله عليه و آله من الإقرار بنبوته، و لا دعاه إلى الاعتراف بحقه، و لا افتتح به الدعوة قبل جميع الرجال.

قال المسعودي في مروج الذهب (ص 400 ج 1 طبع مصر 1346 ه): و قد تنوزع في علي بن أبي طالب عليه السلام، فذهب كثير من الناس إلى أنه لم يشرك بالله شيئا فيستأنف الاسلام، بل كان تابعا للنبي صلى الله عليه و آله في جميع فعاله، مقتديا به، و بلغ و هو على ذلك. و أن الله عصمه و سدده و وفقه لتبعيته لنبيه عليه السلام، لأنهما كانا غير مضطرين، و لا مجبورين على فعل الطاعات، بل مختارين قادرين فاختارا طاعة الرب و موافقة أمره و اجتناب منهياته.

و منهم من رأى أنه أول من آمن، و أن الرسول دعاه و هو موضع التكليف بظاهر قوله عز و جل: و أنذر عشيرتك الأقربين‏ و كان بدؤه بعلي عليه السلام إذ كان أقرب الناس إليه و تبعهم له.

و منهم من رأى غير ما وصفنا، و هذا موضع قد تنازع الناس فيه من الشيعة و قد احتج كل فريق لقوله. و منهم من قال بالنص في الامامة و الاختيار. و أرض (كذا) كل فريق و كيفية إسلامه و مقدار سنيه قد أتينا على الكلام في ذلك على الشرح و الإيضاح في كتابنا المترجم بكتاب الصفوة في الإمامة، و في كتاب الاستنصار، و في كتاب الزاهي، و غيره من كتبنا في هذا المعنى. انتهى كلامه- ره-.

أقول: أما قوله- ره-: فذهب كثير من الناس إلى أنه عليه السلام لم يشرك بالله شيئا- إلخ، فكلام في غاية الحسن و الجودة و المتانة لما برهنا في شرح المختار 237 من باب الخطب أن النبي و وصيه يجب أن يكونا معصومين مطلقا فعلا و قولا و ذاتا من جميع ما يأبى و ينفر عنه الطبع السليم و العقل الناصع، و من جميع الذنوب و أنحاء الظلم و الشرك فان الشرك لظلم عظيم، و من جميع ما يعتبر في التبليغ كالعصمة عن الخطاء في تلقي الوحي و الرسالة إن كان نبيا، و العصمة عن الخطاء في التبليغ سواء كان نبيا أو وصيا.

و أما قوله: و منهم من رأى أنه‏ أول من آمن‏- إلخ، فقد دريت أنه هو الحق.قوله: و أن الرسول دعاه و هو موضع التكليف، فقد دريت تفصيل الكلام فيه و أما قوله: و كان بدؤه بعلي- إلخ، فنعم ما تمسك فيه بقوله: إذ كان‏ أقرب الناس‏ إليه.

و أما قوله: و منهم من قال بالنص- إلخ، فقد علمت من مباحثنا السالفة يجب أن يكون الإمام منصوبا و منصوصا من الله تعالى و رسوله.

و أما قوله: و غيره من كتبنا في هذا المعنى فمن ذلك الغير رسالة اثبات الوصية لعلي بن أبي طالب عليه السلام و قد عدها النجاشي و غيره من مصنفي الكتب الرجالية من كتبه و قد طبعت هذه الرسالة في عاصمة طهران سنة 1318 ه و قد شك فيها بأنها هل هي تلك الرسالة من المسعودي أو هي غيرها لغيره.

و قد عده العامة من علمائهم و على ظهر كتابه مروج الذهب المطبوع في مصر عدوه من الشافعية، و لكنه و هم، و هو- ره- من كبار علماء الإمامية و من فقهائهم، و قد نقل أقواله الفقيه صاحب الجواهر قدس سره في غير موضع. كان رحمه الله معاصرا للصدوق و هو منسوب إلى مسعود الصحابي والد عبد الله بن مسعود كما في المقالة الثالثة من الفن الثالث من الفهرست لابن النديم فراجع إلى الكتب الرجالية للامامية كفهرست النجاشي و خلاصة العلامة و جامع الرواة للأردبيلي و رجال المامقاني و في الفائدة الثانية من خاتمة المستدرك للمحدث النوري ص 310 و غيرها.

قوله عليه السلام: «فلبثنا أحوالا مجرمة و ما يعبد الله في ربع ساكن من العرب غيرنا» الحول: السنة يجمع على الأحوال، و المجرم التام الكامل أي سنين تامة و الربع: الدار و المحلة و قيل: الربع المنزل في الربيع خاصة. و قد مضى الخبر عن أبي جعفر الطبري آنفا في أن أمير المؤمنين عليه السلام صلى مع رسول الله صلى الله عليه و آله قبل الناس بسبع سنين.

قوله عليه السلام: «فأراد قومنا قتل نبينا- إلى قوله‏ و أوقدوا لنا نار الحرب» ما لقى رسول الله صلى الله عليه و آله من قومه من الأذى أكثر من أن يحصى و أشهر من أن يذكر حتى قال صلى الله عليه و آله: ما اوذي نبي مثل ما اوذيت، كيف لا و قد رموه بالسحر و الجنون و هو خاتم النبيين و أفضل الرسل و العقل الكل.

ففي السيرة النبوية لابن هشام: قال ابن اسحاق: ثم إن قريشا اشتد أمرهم‏ للشقاء الذي أصابهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه و آله و من أسلم معه منهم، فأغروا برسول الله صلى الله عليه و آله سفهاءهم، فكذبوه و آذوه و رموه بالشعر و السحر و الكهانة و الجنون، و رسول الله صلى الله عليه و آله مظهر لأمر الله لا يستخفى به، مباد لهم بما يكرهون من عيب دينهم و اعتزال أوثانهم و فراقه إياهم على كفرهم (ص 289 ج 1).

ثم قال في عدوان المشركين و قسوة قريش على من أسلم: قال ابن إسحاق:ثم إنهم عدوا على من أسلم و اتبع رسول الله صلى الله عليه و آله من أصحابه، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم و يعذبونهم بالضرب و الجوع و العطش، و برمضاء مكة إذا اشتد الحر من استضعفوا منهم يفتنونهم عن دينهم، فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذي يصيبه، و منهم من يصلب لهم و يعصمه الله منهم، ثم ذكر تعذيب قريش بلالا و عمار بن ياسر و أباه ياسرا و أمه سمية و غيرهم (ص 317 ج 1).

و قال ابن اسحاق كما في السيرة لابن هشام: حدثني حكيم بن جبير عن سعيد ابن جبير قال: قلت لعبد الله بن عباس: أ كان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم و الله، إن كانوا ليضربون أحدهم و يجيعونه و يعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي نزل به حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة حتى يقولوا له: اللات و العزى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم حتى أن الجعل ليمر بهم فيقولون له: أ هذا الجعل إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم اقتداء منهم مما يبلغون من جهده. (ص 320 ج 1).

و بالجملة أن إيذاء القوم بالمسلمين بلغ إلى غاية، أمر رسول الله صلى الله عليه و آله المسلمين أن يهاجروا إلى أرض الحبشة، فخرجوا مخافة الفتنة و فرارا إلى الله بدينهم و أقام المسلمون بأرض الحبشة حتى ولد لهم الأولاد و جميع أولاد جعفر بن أبي طالب و لدوا بأرض الحبشة و لم يزالوا بها في أمن و سلامة. و المروي عن أحمد في مسنده عن ابن عباس قال: إن الملأ من قريش اجتمعوا في الحجر فتعاهدوا باللات و العزى و مناة الثالثة الاخرى، و قد رأينا محمدا قمنا إليه قيام رجل واحد فلا يفارقه حتى يقتله.

قال: فأقبلت فاطمة عليهما السلام حتى دخلت عليه صلى الله عليه و آله فأخبرته بقولهم و قالت له لو قد رأوك لقتلوك و ليس منهم رجل إلا و قد عرف نصيبه من دمك، فقال: يا بني اريني وضوءا فتوضا ثم دخل عليهم المسجد فلما رأوه غضوا أبصارهم ثم قالوا:هو ذا، ثم لم يقم إليه منهم أحد فأقبل صلى الله عليه و آله حتى قام على رؤوسهم فأخذ قبضة من تراب فحصيهم بها و قال: شاهت الوجوه، فما أصاب رجل منهم شي‏ء إلا قتل يوم بدر كافرا.

قال أبو جعفر الطبري: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق‏[4] قال: لما رأى رسول الله صلى الله عليه و آله ما يصيب أصحابه من البلاء و ما هو فيه من العافية بمكانه من الله و عمه أبي طالب و أنه لا يقدر أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة فان بها ملكا لا يظلم أحد عنده و هي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه.

فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة و فرارا إلى الله عز و جل بدينهم، فكانت أول هجرة كانت في الاسلام إلى أن قال:و لما استقر بالذين هاجروا إلى أرض الحبشة القرار بأرض النجاشي و اطمأنوا تامرت قريش فيما بينها في الكيد بمن ضوى إليها من المسلمين، فوجهوا عمرو بن العاص و عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي إلى النجاشي لتسليم من قبله و بأرضه من المسلمين إليهم، فشخص عمرو و عبد الله إليه في ذلك فنفذا لما أرسلهما إليه قومهما فلم يصلا إلى ما أمل قومهما من النجاشي، فرجعا مقبوحين و أسلم عمر بن الخطاب.

فلما أسلم و كان رجلا جلدا جليدا منيعا، و كان قد أسلم قبل ذلك حمزة بن عبد المطلب و وجد أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله في أنفسهم قوة و جعل الإسلام يفشو في القبائل، و حمى النجاشي من ضوى إلى بلده منهم.

اجتمعت قريش فائتمرت بينها أن يكتبوا بينهم كتابا يتعاقدون فيه على أن لا ينكحوا إلى بني هاشم و بني المطلب و لا ينكحوهم، و لا يبيعوهم شيئا و لا يبتاعوا منهم.

فكتبوا بذلك صحيفة و تعاهدوا و تواثقوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا بذلك الأمر على أنفسهم.

فلما فعلت ذلك قريش انحازت بنو هاشم و بنو المطلب إلى أبي طالب، فدخلوا معه في شعبه و اجتمعوا إليه في شعبه، و خرج من بني هاشم أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب إلى قريش و ظاهرهم عليه فأقاموا على ذلك من أمرهم سنتين أو ثلاثا حتى جهدوا لا يصل إلى أحد منهم شي‏ء إلا سرا مستخفيا به ممن أراد صلتهم من قريش.

و في السيرة النبوية لابن هشام عن ابن إسحاق: و كان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة، و يقال: النضر بن الحارث، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه و آله فشل بعض أصابعه.

قال اليعقوبي في التاريخ (ص 22 ج 2): و همت قريش بقتل رسول الله صلى الله عليه و آله و أجمع ملاها على ذلك و بلغ أبا طالب فقال:

و الله لن يصلوا إليك بجمعهم‏ حتى أوسد في التراب دفينا
و دعوتني و زعمت أنك ناصح‏ و لقد صدقت و كنت ثم أمينا
و عرضت دينا قد علمت بأنه‏ من خير أديان البرية دينا

فلما علمت قريش أنهم لا يقدرون على قتل رسول الله صلى الله عليه و آله، و أن أبا طالب لا يسلمه و سمعت بهذا من قول أبي طالب، كتبت الصحيفة القاطعة الظالمة أن لا يبايعوا أحدا من بني هاشم و لا يناكحوهم و لا يعاملونهم حتى يدفعوا إليهم محمدا صلى الله عليه و آله فيقتلوه و تعاقدوا على ذلك و تعاهدوا و ختموا على الصحيفة بثمانين خاتما، و كان الذي كتبها منصور بن عكرمة فشلت يده.

ثم حصرت قريش رسول الله صلى الله عليه و آله و أهل بيته من بني هاشم و بني المطلب بن عبد مناف في الشعب الذي يقال له: شعب بني هاشم بعد ست سنين من مبعثه. فأقام و معه جميع بني هاشم و بني المطلب في الشعب ثلاث سنين حتى أنفق رسول الله صلى الله عليه و آله ماله، و أنفق أبو طالب ماله، و أنفقت خديجة بنت خويلد مالها، و صاروا إلى حد الضر و الفاقة.

ثم نزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه و آله فقال، إن الله بعث الأرضة على صحيفة قريش فأكلت كل ما فيها من قطيعة و لا ظلم «كذا» إلا المواضع التي فيها ذكر الله فخبر رسول الله صلى الله عليه و آله أبا طالب بذلك، ثم خرج أبو طالب و معه رسول الله و أهل بيته حتى صار إلى الكعبة فجلس بفنائها.

و أقبلت قريش من كل أوب فقالوا: قد آن لك يا أبا طالب أن تذكر العهد و أن تشتاق إلى قومك و تدع اللجاج في ابن أخيك.

فقال لهم: يا قوم احضروا صحيفتكم فلعلنا أن نجد فرجا و سببا لصلة الأرحام و ترك القطيعة، و أحضروها و هي بخواتيمهم، فقال: هذه صحيفتكم على العهد لم تنكروها؟ قالوا: نعم. قال: فهل أحدثتم فيها حدثا؟ قالوا: اللهم لا. قال: فان محمدا أعلمني عن ربه أنه بعث الأرضة فأكلت كلما فيها إلا ذكر الله أ فرأيتم إن كان صادقا ما ذا تصنعون؟ قالوا: نكف و نمسك. قال: فان كان كاذبا دفعته إليكم تقتلونه، قالوا: قد أنصفت و أجملت. و فضت الصحيفة فاذا الأرضة قد أكلت كل ما فيها إلا مواضع بسم الله عز و جل. فقالوا: ما هذا إلا سحر و ما كنا قط أجد في تكذيبه منا ساعتنا هذه، و أسلم يومئذ خلق من الناس عظيم، و خرج بنو هاشم من الشعب و بنو المطلب فلم يرجعوا إليه. انتهى كلام اليعقوبي.

و قريب مما أتى به اليعقوبي ذكره ابن هشام في السيرة ص 377 ج 1 فعلم بما نقلنا أن قريشا حصرت رسول الله صلى الله عليه و آله و أهل بيته و فعلت تلك الأفاعيل بحماته و أنصاره ليدفع إليهم رسول الله صلى الله عليه و آله فيقتلونه كما قال أمير المؤمنين عليه السلام في الكتاب: حتى ندفع النبي صلى الله عليه و آله و يمثلوا به.

و الظاهر من سياق الكلام و ما نقله المورخون في ما جرى على المسلمين أن الجبل الوعر في كلامه عليه السلام هو شعب أبي طالب.

و المراد من الموسم في قوله عليه السلام: فلم نكن نأمن فيهم إلا من موسم إلى‏ موسم، هو موسم الحج و هو من أشهر الحرم و كان أهل الجاهلية أيضا يحرمون فيه الظلم و القتال لحرمته.

قوله عليه السلام: «فمؤمننا يبغي بذلك الأجر» أي من آمن برسول الله صلى الله عليه و آله من بني هاشم و بني المطلب كأبي طالب و حمزة بن عبد المطلب رضوان الله عليهما يطلب بما لقى من قريش من الأذي و بالذب‏ و الدفع سيما زمن الحصر في الشعب الأجر من الله تعالى قال عز من قائل: من عمل صالحا من ذكر أو أنثى و هو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة و لنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون‏ (النحل- 100) و كان أبو طالب رضوان الله عليه سيد المحصورين في الشعب و رئيسهم و هو الكافل و المحامي و قد عينه رسول الله صلى الله عليه و آله بقوله: أنا و كافل اليتيم كهاتين في الجنة.

و قد روى الصدوق قدس سره في المجلس الثالث و الستين من الأمالي (ص 244 الطبع الناصري) عن محمد بن موسى بن المتوكل، عن محمد بن يحيى العطار، عن سهل بن زياد الادمي، عن سنان، عن عمرو بن ثابت، عن حبيب بن أبي ثابت رفعه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه و آله على عمه أبي طالب و هو مسجى فقال: يا عم كفلت يتيما، و ربيت صغيرا، و نصرت كبيرا، فجزاك الله عني خيرا ثم أمر عليا عليه السلام بغسله.

«اسلام أبى طالب رضوان الله عليه»

قد أجمعت أصحابنا الإمامية رضوان الله عليهم أن أبا طالب مات مسلما و قد تظافرت الروايات عن أئمتنا عليهم السلام بذلك. و إن عدم اظهاره الإسلام لم يكن من عناد، بل إنما كان من حسن تدبيره في دفع كياد القوم عنه صلى الله عليه و آله و لمصلحة الذب عن‏ رسول الله صلى الله عليه و آله و التمكن من حمايته، و لا يخفي أنه كان بذلك أقدر على إعانة النبي صلى الله عليه و آله لأنه كان زعيما نبيها حازما سياسا، فقد قال الشيخ الجليل أبو الفتح الكراجكي في كنز الفوائد (ص 84 طبع ايران 1322 ه): و روي انه قيل لأكثم بن صيفي و كان حكيم العرب: إنك لأعلم أهل زمانك و أحكمهم و أعقلهم و أحلمهم. فقال: و كيف لا أكون كذلك و قد جالست أبا طالب بن‏ عبد المطلب دهره، و هاشما دهره، و عبد مناف دهره، و قصيا دهره، و كل هؤلاء سادات أبناء سادات فتخلقت بأخلاقهم، و تعلمت من حلمهم، و اقتنيت سوددهم و اتبعت آثارهم.

فقد روي الكليني قدس سره في الكافي باسناده عن علي بن إبراهيم، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن مثل أبي طالب مثل أصحاب الكهف أسروا الإيمان و أظهروا الشرك، فاتاهم الله أجرهم مرتين (الحديث 28 من أبواب تاريخ مولد النبي صلى الله عليه و آله و وفاته من اصول الكافي و ص 368 ج 1 من مرآة العقول للمجلسي- ره-، و ص 159 ج 2 من الوافي).

و روى هذا الخبر الشيخ الصدوق- ره- في الأمالي باسناده عن الطالقاني عن أحمد الهمداني، عن المنذر بن محمد، عن جعفر بن سليمان، عن عبد الله بن الفضل الهاشمي، عن الصادق جعفر بن محمد عليهما السلام كما في البحار ص 15 ج 9 الطبع الكمباني.

قال العلامة المجلسي في مرآة العقول في بيان الحديث: المثل بالتحريك الحال العجيبة، و قيل الايمان: التطوع القلبي بجميع ما جاء به الرسول فإن الأول لا يجتمع مع الجحد بخلاف الثاني كما قال تعالى: جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم‏ (النمل- 14). و أظهروا الشرك أي عند من تجب التقية عنده لا عند جميع الناس. مرتين مرة للإيمان و مرة للتقية عند وجوبها، فإنها من أفضل الطاعات لا سيما تقية أبي طالب عليه السلام لأنها صارت سببا لشدة اقتداره على إعانة الرسول صلى الله عليه و آله. و الخبر يدل على أن أصحاب الكهف كانوا مؤمنين و لم يحدث إيمانهم عند خروجهم، و هو المشهور أيضا بين المفسرين و غيرهم. انتهى كلامه.

أقول: الظاهر أن قوله عليه السلام: فاتاهم الله أجرهم مرتين، يشير إلى قوله تعالى: أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا (القصص آية 56) و إن كلمة مرتين لا يراد بها حقيقة التثنية، بل المراد بها كثرة الأجر، نظير قولهم: لبيك سعديك، أي كلما دعوتني فأنا ذو إجابة بعد إجابة و ذو ثبات بمكاني بعد ثبات‏ و قوله تعالى: ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا و هو حسير (الملك آية 5).

و يؤيد ما ذهب إليه من أن إخفاء أبي طالب إيمانه كان من تقية كلام اليعقوبي في تاريخه المعروف من أن معاوية لما وجه بسر بن أرطاة إلى المدينة و أمره أن يقتل من لم يكن ليدخل في طاعته، انطلق جابر بن عبد الله الأنصاري إلى ام سلمة زوج النبي صلى الله عليه و آله فقال: إني قد خشيت أن اقتل و هذه بيعة ضلال قالت: إذا فبايع فإن التقية حملت أصحاب الكهف على أن كانوا يلبسون الصلب و يحضرون الأعياد مع قومهم (ص 173 ج 2 طبع النجف).

و لكن إخفاء أبي طالب الإيمان و إن كان لمصلحة الذب عن رسول الله صلى الله عليه و آله و كان به أقدر على إعانته لكن عده تقية ليس بمرضي فان التقية كما عرفها الشهيد- ره- في القواعد: مجاملة الناس بما يعرفون و ترك ما ينكرون حذرا من غوائلهم، و موردها الطاعة و المعصية غالبا فمجاملة الظالم فيما يعتقده ظلما و الفاسق المتظاهر بفسقه اتقاء شرهما من باب المداهنة الجائزة لا تكاد تسمى تقية و كيف كان عمله تقية و قد ذب عن رسول الله صلى الله عليه و آله و أبي إلا أن يحاميه جهارا و أخبر قريشا بأنه غير مسلم رسول الله صلى الله عليه و آله إليهم و لا تاركه لشي‏ء أبدا حتى يهلك دونه، كما صرح به المورخون و أجمعوا عليه و منهم ابن هشام في السيرة «ص 272 ج 1» فتأمل.

و في الكافي باسناده عن الحسين بن محمد و محمد بن يحيى، عن أحمد بن إسحاق عن بكر بن محمد الأزدي، عن إسحاق بن جعفر، عن أبيه عليه السلام قال: قيل له:إنهم يزعمون أن أبا طالب كان كافرا، فقال عليه السلام: كذبوا كيف كان كافرا و هو يقول:

ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا نبيا كموسى خط في أول الكتب‏

ثم قال: الكليني: و في حديث آخر كيف يكون أبو طالب كافرا و هو يقول:

لقد علموا أن ابننا لا مكذب‏ لدينا و لا يعبأ بقول‏[5] الأباطل‏
و أبيض يستسقى الغمام بوجهه‏ ثمال اليتامى عصمة للأرامل‏

أقول: و الخبر مروي في الوافي (ص 159 ج 2) و في مرآة العقول (ص 367 ج 1) و في البحار عن الأمالى للصدوق و عن السيد فخار بن معد الموسوي عن شاذان بن جبرئيل باسناده إلى ابن الوليد «ص 15 ج 9 الطبع الكمباني».

و المراد أن أشعار أبي طالب دالة على إسلامه و اقراره بنبوة رسول الله صلى الله عليه و آله و لا فرق في ذلك بين الكلام المنظوم و المنثور.

و البيت الأول من أبيات قالها أبو طالب رضوان الله عليه في قريش حين تظاهروا على رسول الله صلى الله عليه و آله و اجتمعوا و ائتمروا بينهم أن يكتبوا صحيفة يتعاقدون فيها على بني هاشم و بني المطلب على أن لا ينكحوا إليهم و لا ينكحوهم، و لا يبيعوهم شيئا و لا يبتاعوا منهم، كما مر خبر الصحيفة آنفا.

و قد نقل الأبيات ابن هشام في السيرة النبوية (ص 352 ج 1 طبع مصر 1375 ه) و هي:

ألا أبلغا عني على ذات بيننا لؤيا و خصا من لؤي بني كعب‏
ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا نبيا كموسى خط في أول الكتب‏
و أن عليه في العباد محبة و لا خير ممن خصه الله بالحب‏
و أن الذى ألصقتم من كتابكم‏ لكم كائن نحسا كراغية السقب‏
أفيقوا أفيقوا قبل أن يحفر الثرى‏ و يصبح من لم يجن ذنبا كذي الذنب‏
و لا تتبعوا أمر الوشاة و تقطعوا أو اصرنا بعد المودة و القرب‏
و تستجلبوا حربا عوانا و ربما أمر على من ذاقه جلب الحرب‏
فلسنا و رب البيت نسلم أحمدا لعزاء من عض الزمان و لا كرب‏
و لما تبن منا و منكم سوالف‏ و أيد أترت بالقساسية الشهب‏
بمعترك ضيق ترى كسر القنا به و النسور الطخم يعكفن كالشرب‏
كأن مجال الخيل في حجراته‏ و معمة الأبطال معركة الحرب‏
أ ليس أبونا هاشم شد أزره‏ و أوصى بنيه بالطعان و بالضرب‏
و لسنا نمل الحرب حتى تملنا و لا تشتكي ما قد ينوب من النكب‏
و لكننا أهل الحفائظ و النهى‏ إذا طار أرواح الكماة من الرعب‏

ثم قال ابن إسحاق: فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا حتى جهدوا لا يصل إليهم شي‏ء إلا سرا مستخفيا به من أراد صلتهم من قريش.

و البيتان الاخران من أبيات قصيدته اللامية التي بلغت شهرة كالشمس في رابعة النهار، و القصيدة طويلة تنتهي إلى أكثر من تسعين بيتا أتى بها ابن هشام في السيرة «ص 282- الى- 270 ج 1» بعض أبيات تلك القصيدة ما يلي:قال ابن هشام: فلما خشي أبو طالب دهماء العرب أن يركبوه مع قومه قال قصيدته التي تعوذفيها بحرم مكة و بمكانه منها و تودد فيها أشراف قومه و هو على ذلك يخبرهم و غيرهم في ذلك من شعره أنه غير مسلم رسول الله صلى الله عليه و آله و لا تاركه لشي‏ء أبدا حتى يهلك دونه فقال:

و لما رأيت القوم لاود فيهم‏ و قد قطعوا كل العرا و الوسائل‏
و قد صار حونا بالعداوة و الأذى‏ و قد طاوعوا أمر العدو المزايل‏
و قد حالفوا قوما علينا أظنة يعضون غيضا خلفنا بالأنامل‏
صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة و أبيض عضب من تراث المقاول‏
و أحضرت عند البيت رهطي و إخوتي‏ و أمسكت من أثوابه بالوصائل‏

إلى أن قال:

كذبتم و بيت الله نترك مكة و نطعن أمركم في بلابل‏
كذبتم و بيت الله نبزى محمدا و لما نطاعن دونه و نناضل‏
و نسلمه حتى نصرع حوله‏ و نذهل عن أبنائنا و الحلائل‏

إلى أن قال:

و ما ترك قوم، لا أبالك، سيدا يحوط الذمار غير ذرب مواكل‏
و أبيض يستسقى الغمام بوجهه‏ ثمال اليتامى عصمة للأرامل‏
يلوذ به الهلاك من آل هاشم‏ فهم عنده في رحمة و فواضل‏

إلى أن قال:

لعمري لقد كلفت وجدا بأحمد و إخوته دأب المحب المواصل‏
فلا زال في الدنيا جمالا لأهلها و زينا لمن والاه رب المشاكل‏
فمن مثله في الناس أي مؤمل‏ إذا قاسه الحكام عند التفاضل‏
حليم رشيد عادل غير طائش‏ يوالي إلها ليس عنه بغافل‏
فو الله لو لا أن أجي‏ء بسنة تجر على أشياخنا في المحافل‏
لكنا اتبعناه على كل حالة من الدهر جدا غير قول التهازل‏
لقد علموا أن ابننا لا مكذب‏ لدينا و لا يعنى بقول الأباطل‏
فأصبح فينا أحمد في أرومة تقصر عنه سورة المتطاول‏
حدبت بنفسي دونه و حميته‏ و دافعت عنه بالذرا و الكلاكل‏
فأيده رب العباد بنصره‏ و أظهر دينا حقه غير باطل‏

و من أبيات تدل على أن أبا طالب مات مسلما ما نقله ابن هشام في السيرة أيضا (ص 269 ج 1) قال: فلما رأى أبو طالب من قومه ما سره في جهدهم معه و حدبهم عليه جعل يمدحهم و يذكر قديمهم و يذكر فضل رسول الله صلى الله عليه و آله فيهم و مكانه منهم ليشد لهم رأيهم و ليحدبوا معه على أمره فقال:

اذا اجتمعت يوما قريش لمفخر فعبد مناف سرها و صميمها
و إن حصلت أشراف عبد منافها ففي هاشم أشرافها و قديمها
و إن فخرت يوما فان محمدا هو المصطفى من سرها و كريمها
تداعت قريش غثها و سمينها علينا فلم تظفر و طاشت حلومها
و كنا قديما لا نقر ظلامة إذا ما ثنوا صعر الخدود نقيمها
و نحمي حماها كل يوم كريهة و نضرب عن أحجارها من يرومها
بنا انتعش العود الذواء و إنما بأكنافنا تندى و تنمى أرومها

قال الطبرسي قدس سره في مجمع البيان في تفسير القرآن: قوله تعالى:

و هم ينهون عنه و ينأون عنه و إن يهلكون إلا أنفسهم و ما يشعرون‏ (الأنعام آية 26) قيل: عنى به أبا طالب بن عبد المطلب، و معناه يمنعون الناس عن أذي النبي صلى الله عليه و آله و لا يتبعونه عن عطا و مقاتل. و هذا لا يصح، لأن هذه الاية معطوفة على ما تقدمها «و منهم من يستمع إليك و جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه و في آذانهم و قرا و إن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين، و هم ينهون عنه- إلخ» و ما تأخر عنها معطوف عليها «و لو ترى إذ وقفوا على النار- إلخ». و كلها في ذم الكفار المعاندين للنبي صلى الله عليه و آله هذا.

و قد ثبت إجماع أهل البيت عليهم السلام على إيمان أبي طالب و إجماعهم حجة لأنهم أحد الثقلين الذين أمر النبي صلى الله عليه و آله بالتمسك بهما بقوله: إن تمسكتم بهما لن تضلوا.

و يدل على ذلك أيضا ما رواه ابن عمر أن أبا بكر جاء بأبيه أبي قحافة يوم الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه و آله فأسلم فقال صلى الله عليه و آله: ألا تركت الشيخ فأتيته و كان أعمى؟

فقال أبو بكر: أردت أن يأجره الله تعالى، و الذي بعثك بالحق لأنا كنت باسلام أبي طالب أشد فرحا مني باسلام أبي التمس بذلك قرة عينك. فقال صلى الله عليه و آله: صدقت.

و روى الطبري باسناده أن رؤساء قريش لما رأوا ذب أبي طالب عن النبي صلى الله عليه و آله اجتمعوا عليه و قالوا: جئناك بفتى قريش جمالا وجودا و شهامة عمارة بن الوليد ندفعه إليك و تدفع إلينا ابن أخيك الذي فرق جماعتنا و سفه أحلامنا فنقتله. فقال أبو طالب: ما أنصفتموني تعطوني ابنكم فأغذوه و أعطيكم ابني فتقتلونه بل فليأت كل امرى‏ء منكم بولده فأقتله و قال:

منعنا الرسول رسول المليك‏ ببيض تلالا كلمع البروق‏
أذود و أحمي رسول المليك‏ حماية حام عليه شفيق‏

و أقواله و أشعاره المنبئة عن إسلامه كثيرة مشهورة لا تحصى فمن ذلك قوله:

أ لم تعلموا أنا وجدنا محمدا

– البيت‏

أ ليس أبو هاشم‏

، البيت و قوله من قصيدة:

و قالوا لأحمد أنت امرؤ خلوف اللسان ضعيف السبب‏
ألا إن أحمد قد جاءهم‏ بحق و لم يأتهم بالكذب‏

و قوله في حديث الصحيفة و هو من معجزات النبي صلى الله عليه و آله:

و قد كان في أمر الصحيفة عبرة متى ما يخبر غائب القوم يعجب‏
محى الله منها كفرهم و عقوقهم‏ و ما نقموا من ناطق الحق معرب‏
و أمسى ابن عبد الله فينا مصدقا على سخط من قومنا غير معتب‏

و قوله في قصيدة يحض أخاه حمزة على اتباع النبي صلى الله عليه و آله و الصبر في طاعته.

فصبرا أبا يعلى على دين أحمد و كن مظهرا للدين وفقت صابرا
فقد سرني إذ قلت إنك مؤمن‏ فكن لرسول الله في الله ناصرا

و قوله من قصيدة:

اقيم على نصر النبي محمد اقاتل عنه بالقنا و القنابل‏

و قوله يحض النجاشي على نصر النبي صلى الله عليه و آله:

تعلم مليك الحبش أن محمدا وزير لموسى و المسيح بن مريم‏
أتى بهدى مثل الذي أتيابه‏ و كل بأمر الله يهدي و يعصم‏
و إنكم تتلونه في كتابكم‏ بصدق حديث لا حديث المرجم‏
فلا تجعلو الله ندا و أسلموا و إن طريق الحق ليس بمظلم‏

و قوله في قصيدة في وصيته و قد حضرته الوفاة:

اوصي بنصر النبي الخير مشهده‏ عليا ابني و شيخ القوم عباسا
و حمزة الأسد الحامي حقيقته‏ و جعفرا أن يذودوا دونه الناسا
كونوا فدى لكم أمي و ما ولدت‏ في نصر أحمد دون الناس أتراسا

في أمثال هذه الأبيات مما هو موجود في قصائده المشهورة و وصاياه و خطبه يطول بها الكتاب.

على أن أبا طالب لم ينأ عن النبي صلى الله عليه و آله قط بل كان يقرب منه و يخالطه و يقوم بنصرته فكيف يكون المعني بقوله: و ينأون عنه.

و قال- ره- في تفسير قوله تعالى: إنك لا تهدي من أحببت و لكن الله يهدي من يشاء و هو أعلم بالمهتدين‏ (القصص آية 56) قيل: نزلت قوله «إنك لا تهدي من أحببت» في أبي طالب فان النبي صلى الله عليه و آله كان يحب إسلامه فنزلت هذه الاية، و كان يكره إسلام وحشي قاتل حمزة فنزل فيه‏ يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله‏ الاية (الزمر- 54) فلم يسلم أبو طالب و أسلم وحشي و رووا ذلك عن ابن عباس و غيره.

و في هذا نظر كما ترى، فإن النبي صلى الله عليه و آله لا يجوز أن يخالف الله سبحانه في إرادته كما لا يجوز أن يخالفه في أوامره و نواهيه، و إذا كان الله تعالى على ما زعم القوم لم يرد إيمان أبي طالب و أراد كفره، و أراد النبي إيمانه فقد حصل غاية الخلاف بين إرادتي الرسول و المرسل، فكأنه سبحانه يقول على مقتضى اعتقادهم إنك يا محمد تريد إيمانه و لا اريد إيمانه، و لا أخلق فيه الايمان مع تكلفه بنصرتك و بذل مجهودة في إعانتك و الذب عنك و محبته لك و نعمته عليك، و تكره أنت إيمان وحشي لقتله عمك حمزة و أنا اريد إيمانه و أخلق في قلبه الايمان و في هذا ما فيه.

و قد ذكرنا في سورة الأنعام أن أهل البيت عليهم السلام قد أجمعوا على أن أبا طالب مات مسلما، و تظاهرت الروايات بذلك عنهم، و أوردنا هناك طرفا من أشعاره الدالة على تصديقه للنبي صلى الله عليه و آله و توحيده، فإن استيفاء ذلك جميعه لا تتسع له الطوامير، و ما روي من ذلك في كتب المغازي و غيرها أكثر من أن يحصى. يكاشف فيها من كاشف النبي صلى الله عليه و آله و يناضل عنه و يصحح نبوته.

و قال بعض الثقات: إن قصائده في هذا المعنى التي تنفث في عقد السحر و تعير وجه شعراء الدهر يبلغ قدر مجلد و أكثر من هذا. و لا شك في أنه لم يختر تمام مجاهرة الأعداء استصلاحا لهم و حسن تدبيره في دفع كيادهم لئلا يلجئوا الرسول‏ إلى ما ألجئوه إليه بعد موته. انتهى كلامه- ره- و من تلك الأشعار قوله في أبيات كثيرة:

أنت النبي محمد قرم أعز مسود
لمسودين أكارم‏ طابوا و طاب المولد
ما زلت تنطق بالصواب‏ و أنت طفل أمرد

و من تلك الأبيات قوله يخاطب رسول الله صلى الله عليه و آله و يسكن جاشه و يحضه على إظهار الدعوة و يغريه بها:

لا يمنعنك من حق تقوم به‏ أيد تصول و لا سلق بأصوات‏
فإن كفك كفي إن مليت بهم‏ و دون نفسك نفسي في الملمات‏

و اعلم أن هذه الأشعار إن لم تكن آحادها متواترة فمجموعها يدل على تواتر معنوي أعني أنها تدل على أن أبا طالب مات مسلما. و نظيره غير عزيز، مثلا أن الأخبار الدالة على شجاعة أمير المؤمنين عليه السلام و إن لم تكن آحادها متواترة لفظا، فمجموعها يدل على أمر واحد مشترك يفيد العلم الضروري بشجاعته عليه السلام، و كذلك الكلام في سخاء حاتم و نظائرهما.

ثم نقول: من جانب المراء و الاعتساف، و نظر نظرة في تلك القصائد بعين العدل و الإنصاف. رأى أنها ما صدرت إلا من قلب مؤمن بما قال، فان الكلام الصادر عمن ليس مؤمنا به لا يتجلى بتلك التجليات الساطعة، و لا يسبك بتلك الأساليب الباهرة، بل يلوح منه التكلف و التعسف.

و في الكافي: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي نصر، عن إبراهيم بن محمد الأشعري، عن عبيد بن زرارة، عن أبي عبد الله عليه السلام. قال: لما توفي أبو طالب نزل جبرئيل على رسول الله صلى الله عليه و آله فقال: يا محمدا خرج من مكة فليس لك فيها ناصر، و ثارت قريش بالنبي صلى الله عليه و آله فخرج هاربا حتى جاء إلى جبل بمكة يقال له الحجون فصار إليه.

(الحديث 31 من أبواب تاريخ مولد النبي صلى الله عليه و آله من اصول الكافي، ص 369، ج 1 من مرآة العقول، و في الوافي في باب ما جاء في عبد المطلب و أبي طالب ص 160 ج 2).

و روى قريبا من هذه الرواية المجلسي- ره- في البحار نقلا عن إكمال الدين باسناده عن ابن الوليد، عن الصفار، عن أيوب بن نوح، عن العباس بن عامر، عن علي بن أبي سارة، عن محمد بن مروان، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن أبا طالب أظهر الشرك و أسر الايمان. فلما حضرته الوفاة أوحى الله عز و جل إلى رسول الله صلى الله عليه و آله اخرج منها فليس لك بها ناصر فهاجر إلى المدينة. (ص 17 ج 9 الطبع الكمباني) و في الشرح المعتزلي: روي أن علي بن الحسين عليه السلام سئل عن هذا، فقال:و اعجبا إن الله تعالى نهى رسوله أن يقر مسلمة على نكاح كافر، و قد كانت فاطمة بنت أسد من السابقات إلى الإسلام، و لم تزل تحت أبي طالب حتى مات.

أقول: و ذلك أن أبا طالب رضوان الله عليه توفي في آخر السنة العاشرة من المبعث بعد الخروج من الشعب بشهرين.و روي أن رجلا من رجال الشيعة و هو أبان بن محمود كتب إلى علي بن موسى الرضا عليه السلام: جعلت فداك إني قد شككت في اسلام أبي طالب، فكتب إليه‏ و من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى و يتبع غير سبيل المؤمنين‏ الاية (النساء- 116) و بعدها، إن لم تقر بايمان أبي طالب كان مصيرك إلى النار.

و جملة الأمر أن الأخبار من أئمتنا عليهم السلام متظافرة بأنه مامات إلا مسلما كأشعاره الدالة على ذلك، و إنما بقي في المقام أخبار مروية من القوم، بأنه مات كافرا و أتى بطائفة منها المفسرون منهم في تفسير قوله تعالى: ما كان للنبي و الذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين و لو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم و ما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه‏ الاية (التوبة- 116).

و في تفسير قوله تعالى: و هم ينهون عنه و ينأون عنه‏ الاية (الأنعام- 26).

و في تفسير قوله تعالى: إنك لا تهدي من أحببت‏ الاية (القصص- 56).

و تلك الأخبار المروية عنهم تناقض بعضها بعضا و بعضها لا يناسب ذكره في‏ نزول الايات أصلا و لا حاجة إلى نقلها و ردها و لا طائل تحت إطالة الكلام بعد وضوح الحق، فلو أن بيتا من أبي طالب رضوان الله عليه أو رواية تدل بظاهر هما على كفره فالجواب عنهما ما ذكرنا من أن اظهاره الشرك انما كان لمصلحة الذب عن رسول الله و من حسن تدبيره في دفع كياد القوم عنه صلى الله عليه و آله.

على أن مقابلهما إجماع أهل البيت عليهم السلام على إسلامه و قد علمت أن إجماعهم حجة، و أشعاره الدالة صريحة على إسلامه و ما ذا أوجب علينا أن نعرض عن أشعاره المصرحة المنصوصة على إسلامه و نتمسك بما هي تنبي‏ء بظاهرها على كفره، و ليست بدالة عليه و صريحة فيه، بل نعلم أنه أبطن الإسلام فيها ليتمكن من نصرة النبي صلى الله عليه و آله و القيام دونه جمعا بين الطائفتين من أشعاره على ما هدانا لهذا أهل بيت العصمة. أو أن نعرض عن كلام أهل البيت و هم أدرى بما في البيت و نأخذ بالمروي عن زيد و عمرو المناقض بعضه بعضا.

سبب اسلام حمزة رضوان الله عليه»

كان سبب إسلامه ما نقل ابن هشام في السيرة النبوية ج 1 ص 291 و ابن الأثير في اسد الغابة عن ابن إسحاق من أن أبا جهل اعترض رسول الله صلى الله عليه و آله عند الصفا فاذاه و شتمه و نال منه بعض ما يكره من العيب لدينه و التضعيف لأمره، فلم يكلمه رسول الله صلى الله عليه و آله و مولاة لعبد الله بن جدعان التميمي في مسكن لها فوق الصفا تسمع ذلك، ثم انصرف عنه فعمد إلى ناد لقريش عند الكعبة فجلس معهم.

لم يلبث حمزة بن عبد المطلب رضوان الله عليه أن أقبل متوشحا قوسه راجعا من قنص له، و كان صاحب قنص يرميه و يخرج له، و كان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، و كان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش إلا وقف و سلم و تحدث معهم، و كان أعز فتى في قريش و أشد شكيمة، و كان يومئذ مشركا على دين قومه، فلما مر بالمولاة و قد قام رسول الله صلى الله عليه و آله فرجع إلى بيته، قالت له: يا أبا عمارة- و قد كان حمزة يكنى بابنيه: يعلى و عمارة فكنى بأبي يعلى تارة و بأبي عمارة اخرى- لو رأيت ما لقى ابن أخيك محمد آنفا من أبي‏ الحكم بن هشام- و أبو الحكم هو أبو الجهل- وجده ههنا جالسا فاذاه و سبه و بلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه و لم يكلمه محمد.

احتمل حمزة الغضب لما أراد الله به من كرامته، فخرج يسعى و لم يقف على أحد كما كان يصنع يريد الطواف بالبيت، معدا لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع به، فلما دخل المسجد نظر إليه جالسا في القوم، فأقبل نحوه حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجه شجة منكرة، ثم قال: أ تشتمه و أنا على دينه أقول ما يقول، فرد ذلك علي إن استطعت؟

قامت رجال من قريش من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل فقالوا:ما نراك يا حمزة، إلا قد صبأت، فقال حمزة: و ما يمنعني و قد استبان لي منه ذلك أنا أشهد أنه رسول الله و أن الذي يقول الحق، فو الله لا أنزع فامنعوني إن كنتم صادقين.

قال أبو جهل: دعوا أبا عمارة فإني و الله لقد سببت ابن أخيه سبا قبيحا.

تم حمزة رضوان الله عليه على إسلامه. فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه و آله قد عز و امتنع، و أن حمزة سيمنعه فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه.

قول: و كان قبوله الاسلام قبل حصار الشعب.وله عليه السلام: «و كافر نايحامي عن الأصل» يعنى أن رجالا من بني هاشم و بني المطلب و إن كانوا كافرين و على دين قومهم لكنهم كانوا يذبون عن رسول الله صلى الله عليه و آله و يحامون عنه و يدفعون كياد القوم عنه و يحولون بينه و بين ما أرادوا من البطش به لا من حيث الحماية عن الاسلام، بل من حيث المراعاة لأصلهم و المحافظة على نسبهم و قبيلتهم.

كان بعض هؤلاء المحامين في حصار الشعب و لم يسلم بعد: العباس، و عقيل ابن أبي طالب، و طالب بن أبي طالب، و نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، و ابنه الحارث بن نوفل، و أخوه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، و كان أبو لهب ابن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه و آله و كذلك ابنه يبغضانه، و كانا شديدين عليه‏ و نزل في أبي لهب و امرأته ام جميل عمة معاوية حمالة الحطب قوله تعالى‏ تبت يدا أبي لهب‏ السورة.

إنما أجرينا بني هاشم و بني المطلب مجرى واحدا لأنهم كانوا يدا واحدة لم يفترقوا في جاهلية و لا إسلام، و كان من المسلمين المحصورين في الشعب هاشم ابن عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف.

وله عليه السلام: «فأما من أسلم‏- إلى قوله: ما شاء الله أن يكون» يعني أن‏ من أسلم من قريش‏ كانوا آمنين‏ مما نحن‏ أهل البيت‏ فيه‏ من القتل و البلاء و الأذى و ذلك لأن بعضهم كانوا على‏ حلف‏ و عهد من الكفار، فمن أجل ذلك كانوا آمنين، و بعضهم الاخر لم يكن لهم العهد و لكنهم كانوا ذوي‏ عشيرة تقوم دونهم‏ و تمنعهم من الأعداء.

فالمراد أن البلية إنما كانت متوجهة إليه عليه السلام و إلى ساير بني هاشم و بني المطلب لم يكونوا على عهد و لم يكن لهم من يقوم دونهم، و بذلك يعلم فضيلتهم في حماية رسول الله و ذبه عن كيد الأعداء.

قوله عليه السلام: «ثم أمر الله رسوله بالهجرة» و قد تقدمت آنفا طائفة من الأخبار في أن أبا طالب رضوان الله عليه مات في آخر السنة العاشرة من المبعث بعد الخروج من الشعب بشهرين أنه لما توفي نزل جبرئيل على رسول الله صلى الله عليه و آله فقال:يا محمد اخرج من مكة فليس لك فيها ناصر. و قد مضى كلامنا في هجرته صلى الله عليه و آله في شرح المختار 234 من باب الخطب و هو قوله عليه السلام: فجعلت اتبع مأخذ رسول الله‏- إلخ (ص 126 ج 15) فراجع.

قوله عليه السلام: «و أذن له بعد ذلك في قتال المشركين» قال الطبرسي في المجمع: إن قوله تعالى‏ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا و إن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق‏ الاية (الحج- 42 و 43) هي أول آية نزلت في القتال، و كان المشركون يؤذون المسلمين و لا يزال يجي‏ء مشجوج و مضروب إلى رسول الله صلى الله عليه و آله و يشكون ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه و آله فيقول لهم‏ صلوات الله عليه و آله: اصبروا فإني لم اومر بالقتال حتى هاجر، فأنزل الله عليه هذه الاية، انتهى كلامه.

أقول: و قد مضى كلامنا في نزول الأمر لرسول الله صلى الله عليه و آله في القتال في شرح المختار 234 من باب الخطب أيضا (ص 131 ج 15) فراجع.كنايه- تشبيه قوله عليه السلام: «فكان إذا احمر البأس‏- إلى قوله: حر الأسنة و السيوف» بين‏ البأس‏ و الناس‏ جناس لا حق نحو قوله تعالى: ويل لكل همزة لمزة و البأس‏:الحرب، قال حسان بن ثابت في قصيدة يعدد فيها أصحاب اللواء يوم أحد:

ولي البأس منكم إذ أبيتم‏ اسرة من بني قصي صميم‏

احمرار البأس‏ كناية عن شدة الحرب و ذلك كأنما شبهت الحرب بمحارب تلطخ بالدم السائل من مقاديم بدنه بكثرة ما ورد عليه من طعن‏ السيوف و الأسنة كما أن احمرار القنا كناية عن شدة الحرب كأنه احمر من الدم السائل عليه لكثرة الطعن، قال سوار بن المضرب في حماسة 233:

يدعون سوارا إذا احمر القنا و لكل يوم كريهة سوار

أو أن الحرب شبهت بانسان غضبان احمر وجهه و يقال: موت أحمر و ميتة حمراء و سنة حمراء و سنون حمراوات يراد بها الشدة، قالت عاتكة بنت زيد في حماسة 393:

إذا أشرعت فيه الأسنة خاضها إلى الموت حتى يترك الموت أحمرا

أي حتى يخوض الموت بها فيتركه أحمر أي شديدا. و يقال: الحسن أحمر، أي طلب الجمال تتجشم فيه المشاق و الشدائد، قال بشار بن برد (ص 225 ج 1 من البيان و التبيين للجاحظ طبع مصر 1380 ه):

و خذي ملابس زينة و مصبغات فهي أفخر
و إذا دخلت تقنعي‏ بالحمر إن الحسن أحمر

قال الجوهري في الصحاح: و موت أحمر يوصف بالشدة و منه الحديث كنا إذا أحمر البأس.و أن الحرب شبهت بالنار و اتصفت بصفاتها أعني حمرة النار كقوله عليه السلام آنفا: و أوقدوا لنا نار الحرب‏.

في النهاية الأثيرية: و في الحديث لو تعلمون ما في هذه الأمة من الموت الأحمر يعني القتل لما فيه من حمرة الدم أو لشدته، يقال: موت أحمر أي شديد، و منه حديث علي كنا إذا احمر البأس‏ اتقينا برسول الله صلى الله عليه و آله‏ أي إذا اشتدت الحرب استقبلنا العدو به و جعلناه لنا وقاية، و قيل أراد إذا اضطرمت نار الحرب و تسعرت كما يقال في الشر بين القوم: اضطرمت نارهم تشبيها بحمرة النار، و كثيرا ما يطلقون الحمرة على الشدة، و منه حديث طهفة أصابتنا سنة حمراء أي شديدة الجدب، لأن آفاق السماء تحمر في سني الجدب و القحط و منه حديث حليمة أنها خرجت في سنة حمراء قد برت المال انتهى كلامه.

المعنى أن الحرب إذا اشتدت و نكص‏ الناس‏ عنها قدم رسول الله صلى الله عليه و آله أهل بيته‏ إلى القتال‏ فوقى صلى الله عليه و آله بأهل بيته أصحابه من حر الأسنة و السيوف‏.نايه [حر الأسنة و السيوف‏] و حر السيوف و الأسنة كأنه كناية عن حدة جزهما و شدة وقوعهما، أو كناية عن شدة القتال من حيث إنهما إذا حركتا غير مرة و قطعت الأبدان و الرءوس بهما و وقعتا على المبارز كثيرا حرتا و حميتا، لأن من شأن الحديد بل مطلق الجسم ذلك، أو كناية عن تعبهما، ففي النهاية الأثيرية: و في حديث علي عليه السلام أنه قال لفاطمة: لو أتيت النبي فسألته خادما تقيك حرما أنت فيه من العمل، و في رواية حار ما أنت فيه يعني التعب و المشقة من خدمة البيت لأن الحرارة مقرونة بهما كما أن البرد مقرون بالراحة و السكون، و الحار: الشاق المتعب. انتهى.

اعلم أن المتفق عند الكل أن أمير المؤمنين عليه السلام كان في جميع الشدائد المتوجهة إلى رسول الله صلى الله عليه و آله و المسلمين أسبق و أقدم في الوقاية و الحماية، و كان يجاهد مع رسول الله صلى الله عليه و آله فيقيه بنفسه و قد أقرأ عداؤه بشجاعته و سبقه على أقرانه، و ما ولى قط عن أحد مع طول ملاقاته الحروب و كثرة من لاقاه‏ من صناديد الأعداء.

كان كما قال ابنه الحسن المجتبى كما في تاريخ اليعقوبي (ص 190 ج 2 طبع النجف) و مروج الذهب للمسعودي (ص 42 ج 2) و الخرائج و الجرائح للراوندي (ص 146 طبع ايران 1301 ه) و الإرشاد للمفيد (ص 170 طهران 1377 ه) في صبيحة الليلة التي قبض فيها أمير المؤمنين عليه السلام بعد أن حمد الله و أثنى عليه و صلى على رسول الله صلى الله عليه و آله في خطبة خطب بها الناس:لقد قبض في هذه الليلة رجل ما سبقه الأولون إلا بفضل النبوة، و لا يدركه الاخرون، و أن رسول الله صلى الله عليه و آله كان يبعثه المبعث فيكتنفه جبريل عن يمينه و ميكائيل عن يساره فلا يرجع حتى يفتح الله عليه- إلخ.

وله عليه السلام: «فقتل عبيدة بن الحارث يوم بدر» قال ياقوت الحموي في كتابه المترجم بمراصد الإطلاع في معرفة الأمكنة و البقاع: بدر بالفتح ثم السكون ماء مشهور بين مكة و المدينة أسفل وادي الصفراء بينه و بين الجار و هو ساحل البحر ليلة به كانت الوقعة المشهورة بين النبي صلى الله عليه و آله و أهل مكة.

قال الجوهري في الصحاح: بدر موضع يذكر و يؤنث و هو اسم ماء، و قال الشعبي: بدر بئر كانت لرجل يدعى بدرا و منه يوم بدر.

قول: بدر أقرب إلى المدينة من مكة. و الظاهر أن القول بأنها ماء مشهور و الاخر بأنها اسم بئر يشيران إلى معنى فارد و إنما الاختلاف في التعبير.

كانت وقعة بدر يوم الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان من سنة اثنتين من الهجرة و هي المذكورة في القرآن الكريم حيث يقول جل اسمه في الأنفال:«كما أخرجك ربك من بيتك بالحق»- إلخ، و المراد بالبيت في الاية المدينة يعني خروجه صلى الله عليه و آله منها إلى بدر.

كان سببها- كما في تاريخ اليعقوبي- أن أبا سفيان بن حرب قدم من الشام بعير لقريش تحمل تجارات و أموالا، فخرج رسول الله صلى الله عليه و آله يعارضه، و جاء الصريخ إلى قريش بمكة يخبرهم الخبر، و كان الرسول بذلك ضمضم بن عمرو الغفاري، فخرجوا نافرين مستعدين و خالف أبو سفيان الطريق فنجى بالبعير، و أقبلت قريش مستعدة لقتال رسول الله صلى الله عليه و آله و عدتهم ألف رجل و قيل تسعمائة و خمسون.

«مقتل‏ عبيدة بن الحارث‏ رضوان الله عليه»

عبيدة بضم العين و فتح الباء هو عبيدة بن الحارث‏ بن عبد المطلب بن عبد مناف، يكنى أبا الحارث و أبا معاوية. و كان أسن من رسول الله صلى الله عليه و آله بعشر سنين، و كان إسلامه قبل دخول رسول الله صلى الله عليه و آله دار الأرقم بن أبي الأرقم في مكة، و كان لعبيدة قدر و منزلة كبيرة عند رسول الله صلى الله عليه و آله، و كان عمره حين قتل ثلاثا و ستين سنة، قتله شيبة بن ربيعة.

ففي الإرشاد: روى علي بن هاشم عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع، عن أبيه عن جده أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه و آله قال:لما أصبح الناس يوم بدر اصطفت قريش أمامها عتبة بن ربيعة و أخوه شيبة و ابنه الوليد، فنادى عتبة رسول الله صلى الله عليه و آله فقال: يا محمد اخرج إلينا أكفاءنا من قريش، فبدر إليهم ثلاثة من شبان الأنصار، فقال لهم عتبة: من أنتم؟ فانتسبوا له فقال لهم: لا حاجة بنا إلى مبارزتكم إنما طلبنا بني عمنا.

فقال رسول الله صلى الله عليه و آله للأنصار: ارجعوا إلى مواقفكم ثم قال: قم يا علي قم يا حمزة قم يا عبيدة، قاتلوا على حقكم الذي بعث الله به نبيكم إذ جاءوا بباطلهم ليطفؤا نور الله.

فقاموا فصفوا للقوم و كان عليهم البيض فلم يعرفوا فقال لهم عتبة: تكلموا فان كنتم أكفاءنا قاتلناكم، فقال‏ حمزة: أنا حمزة بن عبد المطلب أسد الله و أسد رسوله صلى الله عليه و آله، فقال عتبة: كفو كريم. و قال أمير المؤمنين عليه السلام: أنا علي بن أبي طالب ابن عبد المطلب، و قال‏ عبيدة: أنا عبيدة بن الحارث‏ بن عبد المطلب.

فقال عتبة لابنه الوليد: قم يا وليد فبرز إليه أمير المؤمنين عليه السلام و كان إذ ذاك أصغري الجماعة سنا فاختلفا ضربتين أخطأت ضربة الوليد أمير المؤمنين عليه السلام‏ و اتقى بيده اليسرى ضربة أمير المؤمنين عليه السلام فأبانتها- فروي أنه عليه السلام يذكر بدرا و قتله الوليد فقال في حديثه: كأني أنظر إلى و ميض خاتمه في شماله ثم ضربته ضربة اخرى فصرعته و سلبته فرأيت به ردعا من خلوق فعلمت أنه قريب عهد بعرس.

ثم بارز عتبة حمزة رضي الله عنه فقتله‏ حمزة، و مشى‏ عبيدة و كان أسن القوم إلى شيبة فاختلفا ضربتين فأصاب ذباب سيف شيبة عضلة ساق‏ عبيدة فقطعها، و استنقذه أمير المؤمنين و حمزة، و قتلا شيبة، و حمل‏ عبيدة من مكانه فمات بالصفراء.

و في اسد الغابة: قيل: إن‏ عبيدة كان أسن المسلمين يوم بدر فقطعت رجله فوضع رسول الله صلى الله عليه و آله رأسه على ركبته فقال: يا رسول الله لو رآني أبو طالب لعلم أني أحق بقوله منه حيث يقول:

و نسلمه حتى نصرع حوله‏ و نذهل عن أبنائنا و الحلائل‏

عاد مع رسول الله صلى الله عليه و آله من بدر فتوفي بالصفراء ..

بيان: البيض جمع بيضة يقال بالفارسية: كلاه خود. أصغري كلمة جمع اسقط نونه بالإضافة. ردعا من خلوق أي أثر منه و الخلوق ضرب من الطيب.و الصفراء اسم موضع قريب من بدر.

قوله عليه السلام: «و حمزة يوم احد» أي قتل‏ حمزة في غزوة احد و احد اسم جبل في قرب المدينة.

و كان‏ يوم احد يوم بلاء و مصيبة و تمحيص اختبر الله المؤمنين و محن به المنافقين ممن كان يظهر الايمان بلسانه و هو مستخف بالكفر في قلبه، و يوما أكرم الله فيه من أراد كرامته بالشهادة من أهل ولايته حتى خلص العدو إلى رسول الله صلى الله عليه و آله فدث بالحجارة حتى وقع لشقه فاصيبت رباعيته، و كلمت شفته و شج في وجهه، فجعل الدم يسيل على وجهه، و جعل يمسح الدم و هو يقول:يف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم و هو يدعوهم إلى ربهم، فأنزل الله عز و جل في ذلك‏ ليس لك من الأمر شي‏ء الاية (آل عمران- 123) كما نقله ابن هشام في السيرةعن ابن اسحاق و قتل في ذلك اليوم من المسلمين أحد و ثمانين رجلا، و من المشركين ثمانية و عشرون.

في السيرة لابن هشام أن‏ حمزة بن عبد المطلب قاتل‏ يوم احد حتى قتل أرطاة بن عبد شرحبيل و كان أحد النفر الذين يحملون اللواء، ثم مر به سباع بن عبد العزى فقال له‏ حمزة: هلم إلي يا ابن مقطعة البظور.

قال ابن هشام: قال وحشي: كنت غلاما لجبير بن مطعم و كان عمه طعيمة ابن عدي قد اصيب يوم بدر، فلما سارت قريش إلى‏ احد قال لي جبير: إن قتلت‏ حمزة عم محمد بعمي فأنت عتيق.

قال: وحشي: فخرجت مع الناس و كنت رجلا حبشيا أقذف بالحربة قذف الحبشة قلما أخطى‏ء بها شيئا، فلما التقى الناس خرجت أنظر حمزة و أتبصره حتى رأيته في عرض الناس مثل الجمل الأورق يهد الناس بسيفه هدا، ما يقوم له شي‏ء فو الله إني لأتهيأ له اريده و استتر منه بشجرة أو حجر ليدنو مني إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى، فلما رآه‏ حمزة قال له: هلم إلي يا ابن مقطعة البظور قال: فضربه ضربة كأن ما أخطأ رأسه.

قال: و هززت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه فوقعت في ثنته حتى خرجت من بين رجليه، و ذهب لينوء نحوي فغلب و تركته و إياها حتى مات ثم أتيته فأخذت حربتي ثم رجعت إلى العسكر فقعدت فيه و لم يكن لي بغيره حاجة و إنما قتلته لاعتق. فلما قدمت مكة اعتقت.

م أقمت حتى إذا افتتح رسول الله صلى الله عليه و آله مكة هربت إلى الطائف، فمكثت بها، فلما خرج وفد الطائف إلى رسول الله صلى الله عليه و آله ليسلموا تعيت علي المذاهب، فقلت: ألحق بالشام، أو اليمن، أو ببعض البلاد.

والله إني لفي ذلك من همي إذ قال لي رجل: و يحك إنه و الله ما يقتل أحدا من الناس دخل في دينه و تشهد شهادته، فلما قال لي ذلك خرجت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه و آله المدينة، فلم يرعه إلا بي قائما على رأسه أتشهد بشهادة الحق‏

لما رآني قال: أوحشي؟ قلت: نعم يا رسول الله. قال: اقعد فحدثني كيف قتلت حمزة، فحدثته فلما فرغت من حديثي قال: ويحك غيب وجهك فلا أرينك قال:

كنت أتنكب رسول الله صلى الله عليه و آله حيث كان لئلا يراني حتى قبضه الله صلى الله عليه و آله.

هند و تمثيلها بحمزة»

ال ابن اسحاق: و وقعت هند بنت عتبة كما حدثني صالح بن كيسان و النسوة اللاتي معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله يجد عن الاذان و الانف حتى اتخذت هند من آذان الرجال و آنفهم خدما و قلائد، و أعطت خدمها و قلائدها و قرطتها وحشيا غلام جبير بن مطعم، و بقرت عن كبد حمزة فلاكتها فلم تستطع أن تسيغها، فلفظتها ثم علت على صخرة مشرفة فصرخت بأعلى صوتها فقالت:

نحن جزيناكم بيوم بدر و الحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان عن عتبة لي من صبر و لا أخي و عمه و بكري‏
شفيت نفسي و قضيت نذري‏ شفيت وحشي غليل صدري‏
فشكر وحشي علي عمري‏ حتى ترم أعظمي في قبري‏

فأجابتها هند بنت أثاثة بن عباد بن المطلب فقالت:

خزيت في بدر و بعد بدر يا بنت وقاع عظيم الكفر
صبحك الله غداة الفجر ملها شميين الطوال الزهر
بكل قطاع حسام يفري‏ حمزة ليثي و علي صقري‏
إذ رام شيب و أبوك غدري‏ فخضبا منه ضواحي النحر
و نذرك السوء فشر نذر

و قال محمد بن إسحاق كما في السيرة لابن هشام: و من الشعر الذي ارتجزت به هند بنت عتبة أيضا يوم احد:

شفيت من حمزة نفسي باحد حتى بقرت بطنه عن الكبد
أذهب عني ذاك ما كنت أجد من لذعة الحزن الشديد المعتمد
و الحرب تعلوكم بشؤبوب برد تقدم إقداما عليكم كالأسد

يان: قولها: ملها شميين، مخفف من الهاشميين و حذفت من لكثرة استعمالها و لا يجوز ذلك إلا فيها وحدها.

حزن الرسول (ص) على حمزة و توعده بالمشركين بالمثلة»

قال ابن إسحاق- كما في السيرة لابن هشام-: خرج رسول الله صلى الله عليه و آله فيما بلغني يلتمس حمزة بن عبد المطلب فوجده ببطن الوادي قد بقر بطنه عن كبده و مثل به فجدع أنفه و اذناه.

قال: فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير: أن رسول الله صلى الله عليه و آله قال حين رأى ما رأى: لو لا أن تحزن صفية و يكون سنة من بعدي لتركته حتى يكون في بطون السباع و حواصل الطير، و لئن أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن لامثلن بثلاثين رجلا منهم. فلما رأى المسلمون حزن رسول الله صلى الله عليه و آله و غيظه على من فعل بعمه ما فعل قالوا: و الله لئن أظفرنا الله بهم يوما من الدهر لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب.

قال ابن هشام: و لما وقف رسول الله صلى الله عليه و آله على حمزة قال: لن اصاب بمثلك أبدا، ما وقفت موقفا قط أغيظ إلي من هذا، ثم قال صلى الله عليه و آله. جاءني جبرئيل فأخبرني أن حمزة ابن عبد المطلب مكتوب في أهل السماوات السبع حمزة بن عبد المطلب أسد الله و أسد رسوله.

«ما نزل فى النهى عن المثلة و البحث عنها و رد بعض» «الروايات المختلفة المنتسبة اليه (ص)»

قال ابن اسحاق- على ما في السيرة لابن هشام-: و حدثني بريدة بن سفيان ابن فروة الأسلمي عن محمد بن كعب القرظي، و حدثني من لا أتهم عن ابن عباس أن الله عز و جل أنزل في ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه و آله و قول أصحابه: و إن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به و لئن صبرتم لهو خير للصابرين و اصبر و ما صبرك إلا بالله و لا تحزن عليهم و لا تك في ضيق مما يمكرون‏ (النحل الاية- 128) فعفا رسول الله صلى الله عليه و آله و صبر و نهى عن المثلة.

قال ابن اسحاق: و حدثني حميد الطويل عن الحسن عن سمرة بن جندب قال:ما قام رسول الله صلى الله عليه و آله في مقام قط ففارقه حتى يأمرنا بالصدقة و ينهانا عن المثلة أقول: كل ما نقلنا عن محمد بن اسحاق منقول عن الواقدي و غيره أيضا و قد ذكرنا في ذلك بعض الأقوال في شرح المختار 236 من الخطب (ص 246 ج 15).

و سيأتي في وصيته عليه السلام للحسن و الحسين عليهما السلام لما ضربه ابن ملجم، قوله عليه السلام: و لا يمثل بالرجل فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله يقول: إياكم و المثلة و لو بالكلب العقور.

و قال الشارح المعتزلي في شرحه: فأما المثلة فمنهي عنها أمر رسول الله صلى الله عليه و آله أن يمثل بهبار بن الأسود لأنه روع زينب حتى اجهضت، ثم نهى عن ذلك و قال: لا مثلة المثلة حرام.

و اعلم أن القول المروي بأن رسول الله صلى الله عليه و آله قال: لئن أظهرني على قريش في موطن من المواطن لامثلن بثلاثين رجلا منهم كما في السيرة، أو امثلن سبعين رجلا كما في تفسير الصافي للفيض- ره- ينافي مقام النبوة و عصمة النبي صلى الله عليه و آله.

و الصواب أن ذلك القول كان من المسلمين دون النبي صلى الله عليه و آله كما في كتاب مجمع البيان لأمين الاسلام الطبرسي- ره- حيث قال: قال المسلمون: لئن أمكننا الله منهم لنمثلن بالأحياء فضلا عن الأموات، فنزلت «و إن عاقبتم فعاقبوا» الاية.

و ظاهر الاية حيث خاطب بلفظ الجمع دون المفرد يؤيده بل يدل عليه و أما قول ابن اسحاق المذكور آنفا: و حدثني من لا أتهم عن ابن عباس: ان الله عز و جل أنزل في ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه و آله و قول أصحابه: «و ان عاقبتم» الاية، ففيه ما دريت من أن النبي أجل و أعلا من أن يختار ما لم يكن مأذونا فيه و لم ينزل فيه حكم سماوي بعد.

قال ابن الأثير في النهاية: فيه- يعني في الحديث- أنه نهى عن المثلة يقال: مثلت بالحيوان أمثل به مثلا إذا قطعت أطرافه و شوهت به، و مثلت بالقتيل‏ إذا جذعت أنفه و اذنه أو مذاكيره أو شيئا من أطرافه، و الاسم المثلة فأما مثل بالتشديد فهو للمبالغة و منه الحديث نهى أن يمثل بالدواب أي تنصب فترمى أو تقطع أطرافه و هي حية، زاد في رواية: و أن يؤكل الممثول بها.

قيل: جعل بعض الأعضاء تمثيلا باعتبار كونه مشتقا من المثل فان الممثل يصير بسبب ما فعل الجاني به من الأمر الفظيع مشهورا كالمثل.

ثم إن النهي عن المثلة إنما يصح فيما لم يكن عن قصاص، و أما المثلة قصاصا فلا بأس فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه و آله مثل بالعرنيين فقطع أيديهم و أرجلهم و سمل أعينهم لأنهم قطعوا أيدي الرعاء و أرجلهم و سملوا أعينهم، و إن قيل إن ذلك كان قبل تحريم المثلة.

و قد قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر و العبد بالعبد و الأنثى بالأنثى‏- الى قوله تعالى: و لكم في القصاص حياة يا أولي الألباب‏ (البقرة 177).

و قوله تعالى: الشهر الحرام بالشهر الحرام و الحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم و اتقوا الله و اعلموا أن الله مع المتقين‏ (البقرة 192) و قوله تعالى: و كتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس و العين بالعين و الأنف بالأنف و الأذن بالأذن و السن بالسن و الجروح قصاص‏ الاية (المائدة 50) و قد أفتى الفقهاء في قصاص الطرف بذلك و فرعوا عليه أن الاذن الصحيحة تقطع بالصماء، و الأنف الشام بالأخشم، و ذكر الشاب بذكر الشيخ، و ذكر المختون بالأغلف، و الفحل بمسلول الخصيتين و كذا يقلع عين الأعور بعين ذي العينين المماثلة لها، و إن عمى بذلك الأعور، و الأعور هو ذو العين الواحدة خلقة، أو بافة أو قصاص أو جناية، أي لو كان الجاني بعين واحدة و المجني عليه باثنتين قلعت عين الجاني و ان استلزم عماه، فان الحق أعماه.

كما نطق بذلك خبر عن أبان سأله عليه السلام عن أعور فقأ عين صحيح فقال عليه السلام:

تفقأ عينه، قال: قلت: يبقى أعمى فقال: الحق أعماه. و غيرها مما حرر في كتاب القصاص.

و ذهب غير واحد منهم إلى أن الجاني إذا جمع بين التمثيل و القتل بضربات يقتص الولي منه في الطرف ثم يقتص في النفس.

ففي الكافي و التهذيب و الفقيه عن محمد بن قيس عن أحدهما عليهما السلام في رجل فقأ عيني رجل و قطع أنفه و اذنيه ثم قتله، فقال عليه السلام: إن كان فرق بين ذلك اقتص منه ثم يقتل، و إن كان ضربة ضربة واحدة ضربت عنقه و لم يقتص منه.

و في التهذيب عن حفص بن البختري قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن رجل ضرب على رأسه فذهب سمعه و بصره و اعتقل لسانه ثم مات فقال عليه السلام: إن كان ضربه ضربة بعد ضربة اقتص منه ثم قتل، و إن كان أصابه هذا من ضربة واحدة قتل و لم يقتص منه.

و المراد بالطرف في القصاص مادون النفس و إن لم يتعلق بالأطراف المشهورة من اليد و الرجل و الاذن و الأنف و غيرها كالجرح على البطن و الظهر و غيرهما.

و كما أن النهي عن المثلة لا يشمل المثلة قصاصا، كذلك لا يشملها اذا كانت عن حد مثل قطع الأصابع الأربع ما عدا الابهام من اليد اليمنى للسارق إذا كانت سرقته أول مرة و قطع رجله اليسرى من مفصل القدم و ترك العقب يعتمد عليه حالة المشي و الصلاة لو سرق ثانيا، قال عز من قائل: و السارق و السارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله‏ (المائدة 43).

و نظير ما قلنا أيضا ما ورد من النهى عن تعذيب البهائم و قتلها عبثا و مع ذلك إن جعفر بن أبي طالب في غزوة موتة إذا الحمه القتال اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها، فكان جعفر أول رجل من المسلمين عقر في الإسلام و لم يعب ذلك عليه أحد لأنه خاف أن يأخذها العدو فيقاتل عليها المسلمين‏.

«صلاة الرسول (ص) على حمزة رضوان الله عليه»

في الكافي و الفقيه كما في الوافي (ص 52 ج 13) باسناد عن أبان بن تغلب قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الذي يقتل في سبيل الله أ يغسل و يكفن و يحنط؟

قال: يدفن كما هو في ثيابه بدمه إلا أن يكون به رمق ثم مات فانه يغسل و يكفن قال: يدفن كما هو في ثيابه بدمه إلا أن يكون به رمق ثم مات فانه يغسل و يكفن و يحنط و يصلى عليه، إن رسول الله صلى الله عليه و آله صلى على حمزة و كفنه و حنطه لأنه كان جرد.

و في الكافي باسناده عن ابن سنان عن أبان بن تغلب قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: الذي يقتل في سبيل الله يدفن في ثيابه و لا يغسل إلا أن يدركه المسلمون و به رمق ثم يموت بعد، فانه يغسل و يكفن و يحنط، إن رسول الله صلى الله عليه و آله كفن حمزة في ثيابه و لم يغسله و لكنه صلى عليه.

و في الكافي باسناده عن إسماعيل بن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له: كيف رأيت الشهيد يدفن بدمائه؟ قال. نعم في ثيابه بدمائه و لا يحنط و لا يغسل و يدفن كما هو، ثم قال: دفن رسول الله صلى الله عليه و آله عمه حمزة في ثيابه بدمائه التي اصيب فيها، و رداه النبي برداء فقصر عن رجليه فدعا له بإذخر فطرحه عليه و صلى عليه سبعين صلاة، و كبر عليه سبعين تكبيرة.

و في الكافي باسناده عن مثنى بن الوليد، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال:صلى رسول الله صلى الله عليه و آله على حمزة سبعين صلاة.

فيه باسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: كبر رسول الله صلى الله عليه و آله على حمزة سبعين تكبيرة.

في السيرة النبوية لابن هشام قال: قال ابن إسحاق: و حدثني من لا أتهم عن مقسم مولى عبد الله بن الحارث عن ابن عباس قال: أمر رسول الله صلى الله عليه و آله بحمزة فسجي ببردة ثم صلى عليه فكبر سبع تكبيرات ثم أتي بالقتلى، فيوضعون إلى حمزة فصلى عليهم و عليه معهم حتى صلى عليه ثنتين و سبعين صلاة.

قول: الرواية الاولى ناطقة بأن حمزة كان جرد و كفنه رسول الله صلى الله عليه و آله‏ و الثالثة ناطقة بأنه صلى الله عليه و آله دفنه في ثيابه بدمائه التي اصيب فيها و ظاهرها أن كفنه كان ثيابه و الثانية تومئ إلى أن رسول الله صلى الله عليه و آله كفنه بثوب آخر حالكونه في ثيابه التي اصيب فيها فينافي بعضها بعضا و التوفيق بينها أن حمزة رضوان الله عليه جر دعن بعض ثيابه أي جرده المشركون عنه بعد قتله عن بعضها لا عن كلها حتى ترك عريانا، و ما بقي عليه من الثياب لم يكن كافيا لكفنه، فكفنه رسول الله صلى الله عليه و آله بثوب آخر و لم يجرده عن ما بقي عليه من الثياب لم يكن كافيا لكفنه، فكفنه رسول الله صلى الله عليه و آله بثوب آخر و لم يجرده عن ما بقي عليه من الثياب كما تومئ إليه الثانية فصح أن رسول الله صلى الله عليه و آله كفنه بثوب آخر كما صح أن حمزة دفن في ثيابه التي اصيب فيها أي دفن في بعض ثيابه و جرد عن بعضها.

ثم إن بين روايات الكافي الناطقة بأن رسول الله صلى الله عليه و آله صلى عليه سبعين صلاة و كبر عليه سبعين تكبيرة و بين ما في السيرة من أن رسول الله صلى عليه تنتين و سبعين صلاه تنافيا ظاهرا.

فنقول، إن روايات الكافي موافقة لما بلغنا من أئمتنا عليهم السلام من أن التكبير على الميت المؤمن خمس تكبيرات و إنما انتهى عددها إلى سبعين تكبيرة لأن رسول الله صلى الله عليه و آله كبر عليه خمس تكبيرات ثم كلما صلى لسائر إلى سبعين تكبيرة لأن رسول الله صلى الله عليه و آله كبر عليه خمس تكبيرات ثم كلما صل لسائر القتلى أشرك حمزة في صلاتهم كما في صحيفة الرضا عليه السلام على ما نقله الفيض في الوافي (ص 67 ج 13) باسناده إلى أمير المؤمنين عليه السلام قال: رأيت النبي صلى الله عليه و آله كبر على عمه حمزة خمس تكبيرات و كبر على الشهداء بعده خمس تكبيرات فلحق حمزة بسبعين تكبيرة و وضع يده اليمنى على اليسرى، انتهى.

فصلى رسول الله صلى الله عليه و آله على حمزة أربع عشرة مرة لأنه يحصل من ضرب خمسة في أربعة عشر سبعون.

نظير ذلك صلاة أمير المؤمنين عليه السلام على سهل بن حنيف فانه عليه السلام كبر عليه خمسا و عشرين تكبيرة، ففي التهذيب باسناده إلى عمرو بن شمر قال: قلت لجعفر ابن محمد عليهما السلام: جعلت فداك إنا نتحدث بالعراق أن عليا عليه السلام صلى على سهل بن حنيف فكبر عليه ستا ثم التفت إلى من كان خلفه فقال: إنه كان بدريا قال:

فقال جعفر عليه السلام: إنه لم يكن كذا و لكنه صلى عليه خمسا ثم رفعه و مشى به ساعة ثم وضعه فكبر عليه خمسا، ففعل ذلك خمس مرات حتى كبر عليه خمسا و عشرين تكبيرة.

و في الفقيه قال أبو جعفر عليه السلام: كبر خمسا خمسا كلما أدركه الناس قالوا: يا أمير المؤمنين لم ندرك الصلاة على سهل فيضعه فيكبر عليه خمسا حتى انتهى إلى قبره خمس مرات.

و أما قول ابن إسحاق من أنه صلى الله عليه و آله صلى عليه ثنتين و سبعين صلاة فلا يوافق المذهب الحق لأنه يلزم أن يكبر عليه رسول الله صلى الله عليه و آله أربع تكبيرات و كذا كبر على الشهداء بعده أربع تكبيرات فلحق حمزة بثنتين و سبعين تكبيرة أي صلى عليه ثماني عشرة مرة و هو كما ترى مخالف لاجماعنا و الصحاح المستفيضة و غيرها المتواترة و لو معنى من أئمتنا عليهم السلام، على أن صلاة جنازة المؤمن خمس تكبيرات فما وردت بالأربع إما متأوله بالحمل على الصلاة على المنافقين ففي الكافي و التهذيب باسنادهما عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه و آله يكبر على قوم خمسا و على قوم آخرين أربعا فإذا كبر على رجل أربعا اتهم بالنفاق.

و في الكافي باسناده عن محمد بن مهاجر عن امه ام سلمة قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: كان رسول الله صلى الله عليه و آله إذا صلى على ميت كبر فتشهد، ثم كبر فصلى على الأنبياء و دعا، ثم كبر و دعا للمؤمنين، ثم كبر و انصرف، فلما نهاه الله عز و جل عن الصلاة على المنافقين كبر فتشهد، ثم كبر فصلى على النبيين صلى الله عليهم. ثم كبر و دعا للمؤمنين، ثم كبر الرابعة و انصرف و لم يدع للميت.

و في التهذيب عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: سألته عن الصلاة على الميت فقال: أما المؤمن فخمس تكبيرات، و أما المنافق فأربع و لا سلام فيها، انتهى.

و لا يخفى عليك أن أهل البيت أدرى بما فيه.و إما محمولة على التقية لأنها مذهب جميع العامة كما صرح به شيخ الطائفة قدس سره.

على أن صدر قول ابن إسحاق لا يوافق ذيله لأنه قال أولا إنه صلى الله عليه و آله صلى عليه فكبر سبع تكبيرات و لا ينتهي تكرار السبع مرة بعد اخرى إلى ثنتين و سبعين. اللهم إلا أن يقال إنه صلى عليه في الدفعة الاولى سبع تكبيرات و صلى ثلاث عشرة صلاة اخرى خمس تكبيرات، فلحق حمزة بثنتين و سبعين تكبيرة.

نحو ما روى الكشي باسناده عن الحسن بن زيد أنه قال: كبر علي بن أبي طالب عليه السلام على سهل بن حنيف سبع تكبيرات و كان بدريا، و قال: لو كبرت عليه سبعين لكان أهلا.

و إنما كبرا عليهما سبعا تشريفا لهما و إنما وقع في واقعة خاصة لا يجوز التجاوز عنها فتأمل جيدا.فان قلت: قد جاءت روايات على عدم جواز الصلاة على الميت مرتين فصاعدا ففي التهذيب باسناده عن محمد بن أحمد، عن أبي جعفر، عن أبيه، عن وهب بن وهب، عن جعفر، عن أبيه عليهما السلام أن رسول الله صلى الله عليه و آله صلى على جنازة فلما فرغ جاءه ناس فقالوا: يا رسول الله لم ندرك الصلاة عليها فقال: لا يصلى على جنازة مرتين و لكن ادعوا لها.

و فيه باسناده عن ابن كلوب، عن إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه و آله صلى على جنازة فلما فرغ جاء قوم فقالوا فاتتنا الصلاة عليها فقال: إن الجنازة لا يصلى عليه مرتين ادعوا له و قولوا له خيرا.

ثم إن إطلاق الخبرين أو عمومهما يقتضي عدم الفرق في المنع بين ما لو صليت ثانيا جماعة أو فرادى فكيف التوفيق بين تلك الأخبار؟

قلت: يمكن أن يقال: التعدد يختص بمن له مزيد كرامة، أو يقال إن صلاة رسول الله صلى الله عليه و آله على حمزة و علي عليه السلام على سهل إنما كانت مختصة بهما فالاحتياط أن يترك التعدد في الصلاة على الجنازة.

و لم يذهب أحد منا إلى القول بحرمة الصلاة على الجنازة الواحدة مرتين فصاعدا، بل ذهب بعضهم إلى القول باستحباب التكرار على الإطلاق لها، و أفتى غير واحد بالجواز لمن لم يدرك الصلاة عليها، و لكن المشهور على كراهة الصلاة عليها مرتين فصاعدا، بل من محكي الغنية الاجماع عليها، للخبرين المنقولين في التهذيب، و لضعف سندهما حملا على الكراهة.

و في التهذيب باسناده عن الفطحية عن أبي عبد الله عليه السلام قال: الميت يصلى عليه ما لم يوار بالتراب و إن كان قد صلي عليه.

و فيه عن يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن الجنازة لم أدركها حتى بلغت القبر اصلي عليها؟ قال: إن أدركتها قبل أن يدفن فان شئت فصل عليها.

و فيه عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام- في رواية- إن رسول الله صلى الله عليه و آله خرج إلى جنازة امرأة من بني النجار فصلى عليها فوجد الحفرة لم يمكنوا فوضعوا الجنازة فلم يجي‏ء قوم إلا قال لهم: صلوا عليها. فتأمل جيدا.

و إن قلت: فما معنى الصلاة في قول أبي جعفر المروي آنفا من الكافي عن زرارة أن رسول الله صلى الله عليه و آله صلى على حمزة سبعين صلاة و مثله ما في السيرة حتى صلى عليه ثنتين و سبعين صلاة؟.

قلت: الصلاة هذه بمعنى الدعاء أي دعا له سبعين مرة بعد كل تكبيرة، و يبينه قوله الاخر المروي آنفا أيضا من الكافي عن إسماعيل بن جابر أنه صلى الله عليه و آله صلى عليه سبعين صلاة و كبر عليه سبعين تكبيرة.

و يعبر عن الدعاء للميت فيما بين التكبيرات بالصلاة ففي التهذيب باسناده عن محمد بن يزيد، عن أبي بصير قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السلام جالسا فدخل رجل فسأله عن التكبير على الجنائز فقال له: خمس تكبيرات، ثم دخل آخر فسأله عن الصلاة على الجنائز فقال له: أربع صلوات، فقال الأول: جعلت فداك سألتك فقلت خمسا و سألك هذا فقلت أربعا؟ فقال: إنك سألتني عن التكبير و سألني هذا عن الصلاة ثم قال: إنها خمس تكبيرات بينهن أربع صلوات، ثم بسط كفه فقال: إنهن خمس تكبيرات بينهن أربع صلوات.

«حث الرسول (ص) على طلب العلم حتى في دفن القتلى»

قال ابن هشام في السيرة (ص 89 ج 2) قال ابن اسحاق: حدثني محمد بن مسلم الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير العذري حليف بني زهرة أن رسول الله صلى الله عليه و آله لما أشرف على القتلى يوم احد قال: أنا شهيد على هؤلاء أنه ما من جريح يجرح في الله إلا و الله يبعثه يوم القيامة يدمي جرحه اللون لون دم و الريح ريح مسك انظروا أكثر هؤلاء جمعا للقرآن فاجعلوه أمام أصحابه في القبر، و كانوا يدفنون الاثنين و الثلاثة في القبر الواحد.

قوله عليه السلام: «و جعفر و زيد يوم موتة» أي قتلا في غزوة موتة و جعفر هو ابن أبي طالب بن عبد المطلب و كان ثالث الإخوة من ولد أبي طالب أكبرهم طالب، و بعده عقيل، و بعده‏ جعفر، و بعده علي أمير المؤمنين عليه السلام و كل واحد منهم أكبر من الاخر بعشر سنين و امهم جميعا فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف.

و كان‏ لجعفر رضوان الله عليه فضل كثير، فقال ابن هشام في السيرة النبوية (ص 359 ج 2): و ذكر سفيان بن عيينة عن الأجلح، عن الشعبي: أن‏ جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قدم على رسول الله صلى الله عليه و آله يوم فتح خيبر فقبل رسول الله بين عينيه و التزمه و قال: ما أدري بأيهما أنا أسر: بفتح خيبر، أم بقدوم‏ جعفر.

و كفى في فضله ما قاله أمير المؤمنين عليه السلام في حقه في زمرة من مدحهم في هذا الكتاب الذي نقلناه عن نصر من أن الله ولي الاحسان إليهم و المنان عليهم بما قد أسلفوا من الصالحات، فما سمعت بأحد و لا رأيت فيهم من هو أنصح لله في طاعة رسوله و لا أطوع لرسوله في طاعة ربه و لا أصبر على اللأواء و الضراء و حين البأس و مواطن المكروه مع النبي صلى الله عليه و آله من هؤلاء النفر- إلخ.

و قال اليعقوبي في التاريخ (ص 97 ج 2 طبع النجف): كان المشبهون برسول الله صلى الله عليه و آله‏ جعفر بن أبي طالب، قال رسول الله صلى الله عليه و آله: أشبهت خلقي‏ و خلقي. إلخ.

و قال ابن عبد البر في كتاب الاستيعاب: كان سن‏ جعفر يوم‏ قتل‏ إحدى و أربعين سنة و قال ابن هشام في السيرة (ص 378 ج 2): و هو ابن ثلاث و ثلاثين سنة.

و مؤتة بالهمز و حكي أيضا غير الهمز قرية من أرض البلقاء من الشام، و قيل: غزوة مؤتة تسمى أيضا غزوة جيش الامراء لكثرة جيش المسلمين فيها و ما لاقوه من الحرب الشديد مع الكفار.

و زيد هذا هو زيد بن حارثة و كان‏ جعفر و زيد و عبد الله بن رواحة امراء الجيش لرسول الله صلى الله عليه و آله و كان لعبد الله قصائد و أراجيز في غزوة مؤتة و تشجيع الناس على قتال الخصم و سنتلو بعضها عليك.

قال ابن واضح الأخباري في كتابه المعروف بتاريخ اليعقوبي (ص 49 ج 2):

و وجه- يعنى رسول الله صلى الله عليه و آله‏ جعفر بن أبي طالب، و زيد بن حارثة، و عبد الله بن رواحة في جيش إلى الشام لقتال الروم سنة ثمان و روى بعضهم أنه صلى الله عليه و آله قال:أمير الجيش زيد بن حارثة، فان قتل زيد بن حارثة فجعفر بن أبي طالب، فان‏ قتل جعفر بن أبي طالب فعبد الله بن رواحة، فان قتل عبد الله بن رواحة فليرتض‏[1] المسلمون من أحبوا، و قيل: بل كان‏ جعفر المقدم، ثم زيد بن حارثة، ثم عبد الله بن رواحة.

صار إلى موضع يقال له‏ مؤتة من الشام من البلقاء من أرض دمشق فأخذ زيد الراية فقاتل حتى قتل. ثم أخذها جعفر فقطعت يده اليمنى فقاتل باليسرى فقطعت يده اليسرى ثم ضرب وسطه. ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقتل.

رفع لرسول الله صلى الله عليه و آله كل خفض، و خفض له كل رفع حتى رأى مصارعهم و قال:رأيت سرير جعفر المقدم فقلت يا جبريل إني كنت قدمت زيدا فقال: إن الله قدم جعفرا لقرابتك، و نعاهم رسول الله صلى الله عليه و آله فقال: أنبت الله‏ لجعفر جناحين من‏ زبرجد يطير بهما في الجنة حيث يشاء، و اشتد جزعه، و قال: على‏ جعفر فلتبك البواكي. و تأمر خالد بن الوليد على الجيش.

قالت أسماء بنت عميس الخثعمية و كانت امرأة جعفر و أم ولده جميعا: دخل علي رسول الله و يدي في عجين فقال: يا أسماء أين ولدك؟ فأتيته بعبد الله و محمد و عون فأجلسهم جميعا في حجره و ضمهم إليه و مسح على رؤوسهم و دمعت عيناه، فقلت: بأبي و أمي أنت يا رسول الله لم تفعل بولدي كما تفعل بالأيتام لعله بلغك عن‏ جعفر شي‏ء؟ فغلبته العبرة و قال: رحم الله جعفرا، فصحت و اويلاه و اسيداه، فقال: لا تدعي بويل و لا حرب و كل ما قلت فأنت صادقة، فصحت و اجعفراه و سمعت صوتي فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه و آله فجاءت و هي تصيح و ابن عماه، فخرج رسول الله صلى الله عليه و آله يجر رداءه ما يملك عبرته و هو يقول: على‏ جعفر فلتبك البواكي، ثم قال يا فاطمة اصنعي لعيال‏ جعفر طعاما فانهم في شغل فصنعت لهم طعاما ثلاثة أيام فصارت سنة في بني هاشم.

قال ابن اسحاق كما في السيرة لابن هشام: بعث رسول الله صلى الله عليه و آله بعثة إلى‏ مؤتة في جمادى الاولى سنة ثمان- إلى أن قال: فتجهز الناس ثم تهيؤا للخروج و هم ثلاثة آلاف، فلما حضر خروجهم ودع الناس امراء رسول الله صلى الله عليه و آله و سلموا عليهم- يعنى بالأمراء جعفرا و زيدا و عبد الله-.

فلما ودع عبد الله بن رواحة من ودع من امراء رسول الله صلى الله عليه و آله بكى، فقالوا:ما يبكيك يا ابن رواحة؟

فقال: أما و الله ما بي حب الدنيا و لا صبابة بكم، و لكني سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله يقرأ آية من كتاب الله عز و جل يذكر فيها النار و إن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا (مريم- آية 74) فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود.

فقال المسلمون: صحبكم الله و دفع عنكم و ردكم إلينا صالحين فقال: عبد الله ابن رواحة:

لكنني أسأل الرحمن مغفرة و ضربة ذات فرغ تقذف الزبدا
أو طعنة بيدي حران مجهزة بحربة تنفذ الأحشاء و الكبدا
حتى يقال إذا مروا على جدثي‏ أرشده الله من غاز و قد رشدا

قال ابن اسحاق: ثم إن القوم تهيؤا للخروج فأتى عبد الله بن رواحة رسول الله صلى الله عليه و آله فودعه ثم قال:

فثبت الله ما آتاك من حسن‏ تثبيت موسى و نصرا كالذي نصروا[2] إني تفرست فيك الخير نافلة
الله يعلم أني ثابت البصر[3] أنت الرسول فمن يحرم نوافله‏ و الوجه منه فقد أزرى به القدر

و هذه الأبيات في قصيدة له ثم خرج القوم و خرج رسول الله صلى الله عليه و آله حتى إذا ودعهم و انصرف عنهم قال عبد الله بن رواحة:

خلف السلام على امرى‏ء ودعته‏ في النخل خير مشيع و خليل‏

«تخوف الناس من لقاء هرقل و تشجيع ابن رواحة الناس على القتال»

ثم مضوا حتى نزلوا معان من أرض الشام فبلغ الناس أن هر قل قد نزل ماب من أرض البلقاء في مائة ألف من الروم و انضم اليهم من لخم و جذام و القين و بهراء و بلى مائة ألف منهم عليهم رجل من بلى ثم أحد إراشة يقال له مالك بن زافلة فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين يفكرون في أمرهم، و قالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه و آله فنخبره بعدد عدونا فإما أن يمدنا بالرجال و إما أن يأمرنا بأمره فنمضي له.

شجع الناس عبد الله بن رواحة و قال: يا قوم و الله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون الشهادة و ما نقاتل الناس بعدد و لا قوة و لا كثرة ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فانما هي إحدى الحسنيين إما ظهور، و إما شهادة.

قال الناس: قدو الله صدق ابن رواحة، فمضى الناس حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء لقيتهم جموع هرقل من الروم و العرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف ثم دنا العدو و انحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة، فالتقى الناس عندها فتعبأ لهم المسلمون فجعلوا على ميمنتهم رجلا من بني عذرة يقال له قطبة بن قتادة، و على ميسرتهم رجلا من الأنصار يقال له عباية (عبادة- خ ل) بن مالك.

م التقى الناس و اقتتلوا فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلى الله عليه و آله حتى شاط في رماح القوم.

م أخذها جعفر فقاتل بها حتى إذا ألحمه القتال اقتحم عن فرس له شقراء فعقرها، ثم قاتل حتى قتل، فكان‏ جعفر أول رجل من المسلمين عقر في الإسلام.

قول: و قد مضى كلامنا في البحث عن المثلة آنفا من أن جعفرا رضوان الله عليه لما ذا عقرها.

ال ابن اسحاق: و حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد قال: حدثني أبي الذي أرضعني و كان أحد بني مرة بن عوف و كان في تلك الغزوة غزوة مؤتة قال: و الله لكأني أنظر إلى‏ جعفر حين اقتحم عن فرس له شقراء ثم عقرها ثم قاتل حتى قتل و هو يقول:

يا حبذا الجنة و اقترابها طيبة و باردا شرابها
و الروم روم قد دنى عذابها كافرة بعيدة أنسابها
علي إذ لاقيتها ضرابها

ال ابن هشام: و حدثني من أثق به من أهل العلم: أن‏ جعفر بن أبي طالب أخذ اللواء بيمينه فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل رضي الله عنه و هو ابن ثلاث و ثلاثين سنة، فأثابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما حيث شاء.

لما قتل جعفر أخذ عبد الله بن رواحة الراية ثم تقدم بها و هو على فرسه فجعل يستنزل نفسه و يتردد بعض التردد ثم قال:

أقسمت يا نفس لتنزلنه‏ لتنزلن أو لتكر هنه‏
إن أجلب الناس و شد و الرنه‏ مالي أراك تكرهين الجنة
قد طال ما قد كنت مطمئنة هل أنت إلا نطفة في شنه‏

و قال أيضا:

يا نفس إلا تقتلي تموتي‏ هذا حمام الموت قد صليت‏
و ما تمنيت فقد اعطيت‏ إن تفعلي فعلهما هديت‏

ريد بقوله فعلهما صاحبيه جعفرا و زيدا.

ثم نزل فلما نزل أتاه ابن عم له بعرق من لحم فقال: شد بهذا صلبك فانك قد لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده ثم انتهس منه نهسة ثم سمع الحطمة في ناحية الناس فقال: و أنت في الدنيا، ثم ألقاه من يده ثم أخذ سيفه فتقدم فقاتل حتى قتل.و العرق بالفتح ثم السكون: العظم الذي عليه بعض اللحم.

ثم أخذ الراية ثابت بن أقران أخو بني العجلان فقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم. قالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، فلما أخذ الراية دافع القوم و حاشى بهم، ثم انحاز و انحيز عنه حتى انصرف بالناس.

«تنبؤ الرسول (ص) بما حدث للمسلمين مع الروم»

قال ابن هشام في السيرة: قال ابن إسحاق: و لما اصيب القوم قال رسول الله صلى الله عليه و آله فيما بلغني: أخذ الراية زيد بن حارثة فقاتل بها حتى قتل شهيدا. ثم أخذها جعفر فقاتل بها حتى قتل شهيدا، قال: ثم صمت رسول الله صلى الله عليه و آله حتى تغيرت وجوه الأنصار و ظنوا أنه قد كان في عبد الله بن رواحة بعض ما يكرهون، ثم قال: ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقاتل بها حتى قتل شهيدا، ثم قال: لقد رفعوا إلي في الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازورارا عن سريري صاحبيه، فقلت: عم هذا؟ فقيل لي: مضيا و تردد عبد الله بعض الترددثم مضى.

ثم نقل ابن إسحاق رواية أسماء بنت عميس التي نقلناها عن تاريخ اليعقوبي و الروايتان تختلفان في بعض الألفاظ- إلى أن قال: فقال صلى الله عليه و آله: لا تغفلوا آل جعفر من أن تصنعوا لهم طعاما فانهم قد شغلوا بأمر صاحبهم.

ثم نقل رجوع الجيش إلى المدينة و تلقى الرسول لهم و غضب المسلمين عليهم فقال: حدثنى محمد بن جعفر بن الزبير عن عروة بن الزبير قال: لما دنوا من حول المدينة تلقاهم رسول الله صلى الله عليه و آله و المسلمون، قال: و لقيهم الصبيان يشتدون و رسول الله صلى الله عليه و آله مقبل مع القوم على دابة، فقال: خذوا الصبيان فاحملوهم و اعطوني ابن جعفر فاتي بعبد الله فأخذه فحمله بين يديه قال: و جعل الناس يحثون على الجيش التراب و يقولون يا فرار فررتم في سبيل الله قال: فيقول رسول الله صلى الله عليه و آله ليسوا بالفرار و لكنهم الكرار إن شاء الله تعالى.

قال ابن إسحاق: و حدثني عبد الله بن أبي بكر عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن بعض آل الحارث بن هاشم و هم أخواله، عن ام سلمة زوج النبي صلى الله عليه و آله قال:قالت ام سلمة لامرأة سلمة بن هشام بن العاص بن المغيرة: مالي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه و آله و مع المسلمين؟ قالت: و الله ما يستطيع أن يخرج كلما خرج صاح به الناس يا فرار فررتم في سبيل الله حتى قعد في بيته فما يخرج.

و سمى ابن هشام في السيرة من استشهد يوم‏ مؤتة من المسلمين اثنى عشر رجلا منهم‏ جعفر بن أبي طالب، و زيد بن حارثة من بني هاشم، و عبد الله بن رواحة، و عباد بن قيس من الأنصار، ثم من بني الحارث بن الخزرج.

قوله عليه السلام: «و أراد لله من لو شئت ذكرت اسمه مثل الذي أرادوا من الشهادة مع النبي غير مرة و لكن آجالهم عجلت، و منيته اجلت» أراد عليه السلام: بقوله: «من لو شئت ذكرت اسمه» نفسه، و قوله: غير مرة متعلق بقوله‏ أراد، و بين‏ عجلت و اجلت‏ جناس مضارع نحو بيني و بين كنى ليل دامس و طريق طامس.

و المراد أنه عليه السلام أخبر عن نفسه بأني أردت لله تعالى الشهادة في سبيله مع‏ النبي صلى الله عليه و آله غير مرة أي في غزوات عديدة مثل هؤلاء النفر الذين رزقوها لكن آجالهم عجلت‏، أي جاء أجلهم و قضوا نحبهم، و منيتي‏ اجلت‏، أي اخرت فان الاجال بيد الله تعالى قال عز من قائل‏ ما تسبق من أمة أجلها و ما يستأخرون‏ (الحجر- 7).

و روى الشيخ الجليل أبو الفتح الكراجكي في كنز الفوائد (ص 137 طبع ايران 1322 ه) باسناده عن خالد بن يزيد، عن أبي جعفر محمد بن علي، عن أبيه، عن الحسين بن علي، عن أبيه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله يوم الأحزاب: اللهم إنك أخذت مني‏ عبيدة بن الحارث يوم بدر، و حمزة بن عبد المطلب‏ يوم احد و هذا أخي علي بن أبي طالب، رب لا تذرني فردا و أنت خير الوارثين.

قوله عليه السلام: «فيا عجبا للدهر إذ صرت يقرن بي من لم يسع بقدمي و لم تكن له كسابقتي التي لا يدلى أحد بمثلها» لما ذكر طائفة مما يدل على سابقته في الإسلام و تقدمه و أفضليته على من سواه أردفه بالتعجب من‏ الدهر حيث أنزله ثم أنزله حتى قرنه بمن لم يكن له سعي في الدفاع عن الدين، و حماية بيضة الاسلام بقدم مثل قدمه عليه السلام، و لم يكن له سابقة كسابقته التي ليس لأحد أن يتوسل‏ بمثلها، و يحتج به.

و قد قدمنا في صدر شرح هذا الكتاب أن الأشياء التي استحق بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله الفضل هي السبق إلى الإيمان، و الهجرة، و النصرة لرسول الله صلى الله عليه و آله و القربى منه، و القناعة، و بذل النفس له، و العلم بالكتاب و التنزيل، و الجهاد في سبيل الله، و الورع، و الزهد، و القضاء، و الحكم، و العفة، و العلم، و كل ذلك كان لعلي عليه السلام منه النصيب الأوفر، و الحظ الأكبر، فأين لابن آكلة الأكباد أن يوازنه و يوازيه و يقرن‏ به؟!.

ثم إذا كان له عليه السلام في جميع ما يستحق أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله فضلا النصيب الأوفر و السبق على من سواه بحيث‏ لا يدلى أحد بمثلها فأنى لغيره عليه السلام أن يتقدمه في الخلافة؟ فهل هذا إلا ازورارا عن الحق؟!.

فبما ذكرنا دريت أنه عليه السلام أشار بقوله: من لم يسع بقدمي‏- إلخ، إلى معاوية ظاهرا، و إلى من تقدم عليه من الخلفاء تلويحا و قد قال عليه السلام في الشقشقية: فيالله و للشورى متى اعترض الريب في مع الأول منهم حتى صرت اقرن إلى هذه النظائر؟ و في الكافي باسناده عن السراد عن عبد الله بن سنان قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: ثلاثة هم شرار الخلق ابتلى بهم خيار الخلق: أبو سفيان بن حرب أحدهم قاتل رسول الله صلى الله عليه و آله و عاداه، و معاوية قاتل عليا و عاداه، و يزيد بن معاوية لعنه الله قاتل الحسين بن علي عليهما السلام و عاداه حتى قتله. (الوافي ص 58 ج 2).

«كلام معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبى سفيان فى جده و أبيه»

و يعجبني أن نذكر في المقام ما وصف معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان في خلافته جده و أباه، فانه كان أدرى بما فيهما. نقل كلامه اليعقوبي في التاريخ (ص 226 ج 2 طبع النجف) و العلامة الشيخ بهاء الدين العاملي في الكشكول و نحن ننقل عن اليعقوبي.

قال: ثم ملك معاوية بن يزيد بن معاوية و امه ام هاشم بنت أبي هاشم ابن عتبة بن ربيعة أربعين يوما و قيل بل أربعة أشهر، و كان له مذهب جميل فخطب الناس فقال:

أما بعد حمد الله و الثناء عليه أيها الناس إنا بلينا بكم و بليتم بنا، فما نجهل كراهتكم لنا و طعنكم علينا، ألا و إن جدي معاوية بن أبي سفيان نازع الأمرين كان أولى به منه في القرابة برسول الله صلى الله عليه و آله و أحق في الإسلام، سابق المسلمين، و أول المؤمنين، و ابن عم رسول رب العالمين، و أبا بقية خاتم المرسلين، فركب منكم ما تعلمون، و ركبتم منه ما لا تنكرون حتى أتته منيته، و صار رهنا بعمله.

ثم قلد أبي و كان غير خليق للخير، فركب هواه، و استحسن خطأه، و عظم رجاؤه فأخلفه الأمل و قصر عنه الأجل، فقلت منعته، و انقطعت مدته، و صار في حفرته رهنا بذنبه، و أسيرا بجرمه، ثم بكى و قال: إن أعظم الامور علينا علمنا بسوء مصرعه، و قبح منقلبه، و قد قتل عترة الرسول صلى الله عليه و آله، و أباح الحرمة، و حرق الكعبة و ما أنا المتقلد اموركم، و لا المتحمل تبعاتكم، فشأنكم أمركم، فو الله لئن كانت الدنيا مغنما لقد نلنا منها حظا. و إن تكن شرا فحسب آل سفيان ما أصابوا منها.

قوله عليه السلام: «إلا أن يدعي مدع ما لا أعرفه و لا أظن الله يعرفه» يعني‏ أن‏ من‏ يدعي‏ خلاف ما ذكرته فهو كاذب مختلق، و دعواه باطلة زاهقة.

و لما كان عليه السلام أفضل الصحابة في جميع الصفات الكمالية فما لا يعرفها فهي داحضة، فأشار بقوله: إلا أن يدعي مدع ما لا أعرفه‏، إلى أن ما ادعاه مما لا يعزفه باطل.

و ضمير يعرفه يرجع إلى ما كضمير أعرفه‏، و المراد أن ما ادعاه‏ مدع‏ خلاف ما ذكرته غير موجودة و ما ليس بموجود لا تتعلق المعرفة بوجوده و الظن بمعنى العلم و الغرض العلم بالسلب أي الله يعلم أن ما ادعاه‏ مدع مما لا أعرفه‏ ليس بموجود.

قوله عليه السلام: «و الحمد لله على كل حال» تأسى عليه السلام في كلامه هذا برسول الله صلى الله عليه و آله، و هذا القول يؤمي إلى اغتمامه عليه السلام، و ذلك أن ثقة الاسلام الكليني رضوان الله عليه روى في الكافي باسناده عن محمد، عن ابن عيسى، عن القاسم، عن جده، عن مثنى الحناط عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه و آله إذا ورد عليه أمر يسره قال: الحمد لله على هذه النعمة، و إذا ورد عليه أمر يغتم به قال: الحمد لله على كل حال‏.

و روى هذه الرواية الفيض قدس سره في باب الشكر من أبواب جنود الايمان من الوافي (ص 68 ج 3) عن الكافي أيضا.

قوله عليه السلام: «و ذكرت حسدي الخلفاء و إبطائي عنهم، و بغيي عليهم، فأما البغي فمعاذ الله أن يكون» كلامه هذا إلى قوله: إن حقي هو المأخوذ و قد تركته لهم تجاوز الله عنهم، جواب عن قول معاوية في كتابه: فكلهم حسدت و على كلهم بغيت- إلى قوله: و في إبطائك عن الخلفاء.

و قد مضى كلامنا في البحث عن الإمامة في المختار 237 أن الامام أجل شأنا من أن يكون باغيا، فان البغي من الذنوب العظيمة و جميع الذنوب أربعة

أوجه لا خامس لها: الحرص، و الحسد، و الغضب، و الشهوة، فهذه منفية عنه، فراجع إلى (ص 44 من ج 15).

و أما اجتماع الناس في سقيفة بني ساعدة و اختلاف المهاجرين و الأنصار في البيعة و لم يغسل رسول الله صلى الله عليه و آله بعد حتى غصبوا أمير المؤمنين عليا عليه السلام حقه فقد ذكره الشارح الخوئي قدس سره في المباحث السالفة، و نحن أشرنا إلى شر ذمة منه في المجلد السادس عشر (ص 382).

و اليعقوبي في التاريخ في خبر السقيفة (ص 102 ج 2) بعد ما نقل كلام عبد الرحمن بن عوف في فضل الأنصار قال: و قام المنذر بن الأرقم فقال: ما ندفع فضل من ذكرت و إن فيهم لرجلا لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد- يعني علي بن أبي طالب عليه السلام. إلى أن قال:

و جاء البراء بن عازب فضرب الباب على بني هاشم و قال: يا معشر بني هاشم بويع أبو بكر، فقال بعضهم: ما كان المسلمون يحدثون حدثا نغيب عنه و نحن أولى بمحمد صلى الله عليه و آله، فقال العباس: فعلوها و رب الكعبة. و كان المهاجرون و الأنصار لا يشكون في علي عليه السلام فلما خرجوا من الدار قام الفضل بن العباس، و كان لسان قريش فقال: يا معشر قريش إنه ما حقت لكم الخلافة بالتموية و نحن أهلها دونكم، و صاحبنا أولى بها منكم، و قام عتبة بن أبي لهب فقال:- ما كنت أحسب أن الأمر منصرف- إلى آخر الأبياب التي نقلنا في (ج 16 ص 383) عن خزيمة بن ثابت الأنصاري.

ثم قال اليعقوبي: و تخلف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين و الأنصار و ما لو مع علي بن أبي طالب منهم: العباس بن عبد المطلب، و الفضل بن العباس و الزبير بن العوام بن العاص، و خالد بن سعيد، و المقداد بن عمرو، و سلمان الفارسي، و أبو ذر الغفاري، و عمار بن ياسر، و البراء بن عازب، و ابي ابن كعب.

قال: و كان خالد بن سعيد غائبا فأتى عليا فقال: هلم أبايعك فو الله ما في الناس أحد أولى بمقام محمد منك.

قال: فأرسل أبو بكر إلى عمر بن الخطاب و أبي عبيدة بن الجراح و المغيرة ابن شعبة فقال: ما الرأي؟ قالوا: الرأي أن تلقى العباس بن عبد المطلب، فتجعل له في هذا الأمر نصيبا يكون له و لعقبه من بعده، فتقطعون به ناحية علي بن أبي طالب حجة لكم على علي إذا مال معكم، فانطلق أبو بكر و عمر و أبو عبيدة بن الجراح و المغيرة حتى دخلوا على العباس ليلا.

فحمد أبو بكر الله و أثنى عليه ثم قال:إن الله بعث محمدا نبيا، و للمؤمنين وليا، فمن عليهم بكونه بين أظهرهم حتى اختار له ما عنده، فخلى على الناس امورا ليختاروا أنفسهم في مصلحتهم مشفقين فاختاروني عليهم واليا، و لامورهم راعيا، فوليت ذلك و ما أخاف بعون الله و تسديده و هنا و لا حيرة و لا جبنا، و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه انيب. و ما أنفك يبلغني عن طاعن يقول الخلاف على عامة المسلمين يتخذكم لجأ فتكون حصنه المنيع و خطبه البديع، فإما دخلتم مع الناس فيما اجتمعوا عليه، و إما صرفتموهم عما مالوا إليه، و لقد جئناك و نحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيبا يكون لك و يكون لمن بعدك من عقبك، إذ كنت عم رسول الله صلى الله عليه و آله، و إن كان الناس قد رأوا مكانك و مكان صاحبك فعدلوا بالأمر عنكم على رسلكم بني هاشم فان رسول الله منا و منكم.

فقال عمر بن الخطاب: إي و الله، و اخرى إنا لم نأتكم لحاجة إليكم و لكن كرها أن يكون الطعن في ما اجتمع عليه المسلمون منكم، فيتفاقم الخطب بكم و بهم فانظروا لأنفسكم.

«احتجاج العباس عم رسول الله (ص) على أبى بكر و عمر فى أمر البيعة»

قال اليعقوبي: فحمد العباس الله و أثنى عليه و قال:

إن الله بعث محمدا صلى الله عليه و آله كما وصفت نبيا، و للمؤمنين وليا، فمن على امته به حتى قبض الله إليه و اختار له ما عنده، فخلى على المسلمين امورهم ليختاروا لأنفسهم مصيبين الحق، لا مائلين بزيغ الهوى، فان كنت برسول الله فحقا أخذت‏ و إن كنت بالمؤمنين فنحن منهم، فما تقدمنا في أمرك فرطا، و لا حللنا وسطا، و لا برحنا سخطا، و إن كان هذا الأمر إنما وجب لك بالمؤمنين، فما وجب إذ كنا كارهين، ما أبعد قولك من أنهم طعنوا عليك من قولك إنهم اختاروك و ما لو إليك و ما أبعد تسميتك خليفة رسول الله صلى الله عليه و آله من قولك خلى على الناس امورهم ليختاروا فاختاروك، فأما ما قلت إنك تجعله لي فإن كان حقا للمؤمنين فليس لك أن تحكم فيه، و إن كان لنا فلم نرض ببعضه دون بعض، و على رسلك فإن رسول الله صلى الله عليه و آله من شجرة نحن أغصانها و أنتم جيرانها، فخرجوا من عنده.

و في الجمل للمفيد قدس سره (ص 45 طبع النجف) و قد عرفت الخاصة و العامة ما أظهره أمير المؤمنين عليه السلام من كراهته من تقدم عليه و تظلمه منهم، فقال في مقام بعد مقام: اللهم إني أستعيذك «أستعديك. ظ» على قريش فانهم ظلموني حقي و منعوني إرثي و تمالوا علي. و قال عليه السلام: لم أزل مظلوما منذ قبض رسول الله صلى الله عليه و آله، و قال: و قد عهد إلي رسول الله صلى الله عليه و آله أن الامة ستغدر بي من بعده، و قال:

يا عمر لقد ظلمت الحجر و المدر. و قال: اللهم اجز قريشا عني الجوازي فقد قطعت رحمي و دفعتني عن حقي و أغرت بي سفهاء الناس و خاطرت بدمي.

قوله عليه السلام: «و أما ما ذكرت من أمر عثمان و قطيعتي رحمه و تأليبي عليه- إلى قوله: إلا أن تتجنى فتجن ما بدا لك» هذا الفصل جواب عن قول معاوية في كتابه إليه عليه السلام مخاطبا له بقوله: ثم لم تكن لأحد منهم بأعظم حسدا منك لابن عمك عثمان- إلى قوله: و قد ذكر لي أنك تنصل من دمه.

و قد ذكرنا في شرح المختار الأول من كتبه و رسائله عليه السلام الأحداث التي أحدثها عثمان مما نقمها الناس منه و طعنوا عليه و صارت أسباب قتله (ص 203 ج- 16)، و نصح أمير المؤمنين عليه السلام عثمان في ص (311 ج 16 من) الواقدي و غيره، و كذا قوله عليه السلام «ما زلت أذب عن عثمان حتى أني لأستحي» المنقول من الطبري و غيره في شرح المختار 238 من كلامه في باب الخطب (ص 183 ج 16) و قوله عليه السلام: و الله لقد دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثما.

و قد أشرنا في (ص 351 ج 16) إلى أن عثمان قتل نفسه بأحداثه التي أحدثها و أن أمير المؤمنين عليه السلام قال: الله قتله، و أنه عليه السلام كان في عزلة عن قتله، و أنه عليه السلام نصحه و نصره غير مرة و ما أراد عثمان منه نصحا و إلا لتاب من قوادحه حقيقة و لما خدع الناس مرة بعد مرة، و أن أهل البصرة اتهموا عليا عليه السلام بدم عثمان اتباعا لتسويلات شيطانية، و أن اسناد دم عثمان إليه تهمة و بهتان ليس إلا و غيرها مما أشرنا إليها فراجع.

و قال ابن الأثير في مادة عفو من النهاية: قالت ام سلمة لعثمان: لا تعف سبيلا كان رسول الله صلى الله عليه و آله لحبها، أي لا تطمسها.

ثم قد بينا تفسير قوله عليه السلام: «إلا أن تتجنى فتجن ما بدا لك» في شرح الكتاب السادس، فراجع.

هنا انتهى المجلد السابع عشر من هذه الطبعة النفيسة فى اليوم الرابع و العشرين من شهر جمادى الثانية سنة- 1385- بتصحيح و ترتيب من العبد:– السيد ابراهيم الميانجى- عفى عنه و عن والديه، و ذلك في المطبعة المباركة الاسلامية بطهران.

يليه ان شاء الله المجلد الثامن عشر فى شرح بقية الكتاب و الحمد لله‏.

الجزء الثامن عشر

[تتمة باب المختار من كتب مولانا أمير المؤمنين و رسائله إلى أعدائه و أمراء بلاده‏]

بسم الله الرحمن الرحيم حمدا لك يا من ألهمتنا حقائق الإيمان، و هديتنا إلى جنابك بنور العلم و العرفان، و دعوتنا إلى مأدبتك القرآن الفرقان، و جعلتنا أهلا للإطلاع على درر مكنونة عند خزنة علمك، و أذنت لنا في الفحص عن أسرار مستترة عند عيبة وحيك و غيبك.

اللهم صل على نبيك الخاتم، المنزل عليه كتاب يهدي للتي هي أقوم؛ و على آله الكرام البررة، و أصحاب العصمة و المعرفة. و على جميع من اجتبيت من رسلك و أرسلتهم إلى عبادك. و على الذين احتذوا حذوهم، و اقتفوا آثارهم، و اقتدوا بهديهم.

و بعد: فيقول العبد المحتاج إلى مولاه الغني نجم الدين الحسن بن عبد الله الطبري الاملي رحمهما الله تعالى و عفى عنهما: إن ما لفظه لسان ميزان القسط و باب مدينة العلم بحر لا تنفد لالى معانيه الغالية، و ما أودعه في لطائف ألفاظه كنوز لا يزيدها الإنفاق إلا كثرة و سعة، فقد تيسر لنا بالكد و الجهد التامين استخراج قبضة من تلك اللئالي و الكنوز فهذه بضاعتنا المزجاة نهديها إلى بغاة علم الدين في شرح كلمات علي أمير المؤمنين عليه السلام، و نطلب من الله التوفيق لاتمام الشرح على النهج السديد، و نرجوه لكل خير و نستزيد.

و هذا هو المجلد الرابع من تكملة منهاج البراعة في شرحنا على نهج البلاغة فينتهى المنهاج به إلى ثامن عشر، فنقول مستعينا بواهب المعاني و الصور:

تتمة المختار التاسع من كتبه عليه السلام و رسائله‏

[تتمة المعنى‏]

قوله عليه السلام: «و أما ما سألت من دفع قتلة عثمان إليك‏- إلى قوله: و لا إلى غيرك» هذا الفصل جواب عن قوله معاوية له عليه السلام: فان كنت صادقا فأمكنا من قتلته نقتلهم به.

و قد دريت من مباحثنا السالفة أن معاوية لم يجد شيئا يستغوي به الناس و يستميل به أهواءهم إلا أن قال لهم: قتل إمامكم مظلوما فهلموا نطلب بدمه فاستجاب له جفاة طعام، عبيد قزام، جمعوا من كل أوب، و تلقطوا من كل شوب.

و أن عمار بن ياسر قال في بعض أيام صفين- كما رواه أبو جعفر الطبري في التاريخ و نقلناه في ص 286 ج 15-: أيها الناس اقصدوا بنا نحو هؤلاء الذين يبغون دم ابن عفان، و يزعمون أنه قتل مظلوما، و الله ما طلبتم بدمه و لكن القوم ذاقوا الدنيا فاستحبوها و استمرءوها، و علموا أن الحق إذا لزمهم حال بينهم و بين ما يتمرغون فيه من دنياهم، و لم يكن للقوم سابقة في الاسلام يستحقون.

طاعة الناس و الولاية عليهم، فخذعوا أتباعهم أن قالوا: إمامنا قتل مظلوما، ليكونوا بذلك جبابرة ملوكا، و تلك مكيدة بلغوا بها ما ترون، و لو لا هي ما تبعهم من الناس رجلان؛ إلخ.

و أن معاوية لم يكن ولي دم عثمان حتى يطلبه، بل كان ولده أولياء دمه و أشار أمير المؤمنين عليه السلام إليه تلويحا: فلم أره يسعني دفعهم إليك و لا إلى غيرك‏.

و أن معاوية لم يكن له ولاية شرعية على المسلمين، ثم لم يرافع إليه أحد في دم ابن عفان شيئا، و ما ترافع إليه الخصمان فيه فأنى له أن يطلب قتلة عثمان؟

و أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يكن شريكا في دمه، بل كان في عزلة عن قتله و لم يحضر قتل عثمان يوم قتل.

و نص أبو جعفر الطبري في التاريخ أنه لما حصر عثمان كان علي عليه السلام بخيبر فلو رأى معاوية أنه عليه السلام كان من قاتليه فهو خطأ، و علمت أن إسناد قتله إليه اختلاق بل في مروج الذهب للمسعودي أنه لما بلغ عليا عليه السلام أنهم يريدون قتله بعث بابنيه الحسن و الحسين و مواليه بالسلاح إلى بابه لنصرته حتى أن القوم لما اشتبكوا جرح الحسن و شج قنبر.

و كذا قال المسعودي: لما حصر الناس عثمان في داره منعوه الماء فأشرف على الناس و قال: ألا أحد يسقينا؟ فبلغ عليا عليه السلام طلبه للماء فبعث إليه بثلاث قرب ماء- إلخ، فراجع إلى (ص 330 ج 16).

و لو رآه ولي المسلمين، و حاكم الشرع المبين طلب عنده حقا من غيره فقد كان واجبا عليه أن يرافع الدعوى إليه عليه السلام مع الشروط المعتبرة في الترافع و ما فعل معاوية ذلك.

على أنما قتله خلق كثير حتى شهد قتله ثمانمائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و اله يرون أن عثمان كان يستحق القتلى بأحداثه ففي كتاب صفين لنصر بن مزاحم المنقري (ص 176 الطبع الناصري) مذكور أنما جرى بين عمار بن ياسر رضوان الله عليه و عمرو بن العاصي كلام طويل في بعض أيام صفين- إلى أن قال عمرو لعمار: فعلى م تقاتلنا؟ أو لسنا نعبد إلها واحدا، و نصلي قبلتكم، و ندعو دعوتكم، و نقرأ كتابكم، و نؤمن برسولكم؟

قال عمار: الحمد لله الذي أخرجها من فيك إنها لي و لأصحابي القبلة و الدين و عبادة الرحمن و النبي صلى الله عليه و اله و الكتاب من دونك و دون أصحابك؛ الحمد لله الذي قررك لنا بذلك دونك و دون أصحابك، و جعلك ضالا مضلا لا تعلم هاد أنت أم ضال، و جعلك أعمى و ساء خبرك على ما قاتلتك عليه أنت و أصحابك، أمرني رسول الله صلى الله عليه و اله أن اقاتل الناكثين و قد فعلت، و أمرني أن اقاتل القاسطين فأينم هم و أما المارقين فما أدري ادركهم أم لا؟[1] أيها الأبتر أ لست تعلم أن رسول الله صلى الله عليه و اله‏

قال لعلي عليه السلام: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم و ال من والاه و عاد من عاداه و أنا مولى الله و رسوله و علي بعده و ليس لك مولى.

قال عمرو: لم تشتمني يا أبا اليقظان و لست أشتمك؟

قال عمار: و بم تشتمني أ تستطيع أن تقول إني عصيت الله و رسوله يوما قط؟.

قال له عمرو: إن فيك لمسبات سوى ذلك.

فقال عمار: إن الكريم من أكرمه الله: كنت وضيعا فرفعني الله، و مملوكا فأعتقني الله، و ضعيفا فقواني الله، و فقيرا فأغناني الله.

و قال له عمرو: فما ترى في قتل عثمان؟ قال: فتح لكم باب كل سوء قال عمرو: فعلي قتله، قال عمار: بل الله رب على قتله و علي معه، قال عمرو:

كنت فيمن قتله من هنا عند ابن عقبة، قال: كنت مع من قتله و أنا اليوم اقاتل معهم، قال عمرو: فلم قتلتموه؟ قال عمار: أراد أن يغير ديننا فقتلناه، فقال عمرو:

ألا تسمعون قد اعترف بقتل عثمان؟ قال عمار: و قد قالها فرعون قبلك لقومه:

ألا تسمعون.

و بالجملة إذا كان قتلة عثمان هذا الجمع العظيم و كان فيهم كبار الصحابة من الأنصار و المهاجرين و مثل عمار بن ياسر على جلالة شأنه و علو مقامه و ثباته في الدين اعترف بالمشاركة في قتله فكيف يسع أمير المؤمنين عليه السلام دفعهم إلى معاوية أو إلى غيره أولا، و مع فرض تمكنه من ذلك كيف يسوغه الشرع قتل جمع عظيم من الأنصار و المهاجرين و كبار التابعين برجل أحدث أحداثا نقمها الناس منه و طعنوا عليه و قتلوه بها ثانيا.

و لعل قوله عليه السلام: «و أما ما ذكرت من أمر عثمان فإني نظرت في هذا الأمر و ضربت أنفه و عينيه فلم أر دفعهم إليك و لا إلى غيرك» يشير إلى الوجه الأخير خاصة.

و روى أن أبا هريرة و أبا الدرداء أتيا معاوية فقالا له: على م تقاتل علياو هو أحق بالأمر منك لفضله و سابقته؟

فقال: لست اقاتله لأني أفضل منه و لكن ليدفع إلي قتلة عثمان، فخرجا من عنده و أتيا عليا عليه السلام فقالا له: إن معاوية يزعم أن قتلة عثمان عندك و في عسرك فادفعهم إليه فإن قاتلك بعدها علمنا أنه ظالم لك.

فقال علي عليه السلام: إني لم أحضر قتل عثمان يوم قتل و لكن هل تعرفان من قتله؟.

فقالا: بلغنا أن محمد بن أبي بكر و عمارا و الأشتر و عدي بن حاتم و عمرو بن الحمق و فلانا ممن دخل عليه.

فقال علي عليه السلام: فامضيا إليهم فخذوهم، فأقبلا إلى هؤلاء النفر و قالا لهم:

أنتم من قتل عثمان و قد أمر أمير المؤمنين بأخذكم قال: فوقعت الصيحة في العسكر بهذا الخبر فوثب من عسكر علي أكثر من عشرة آلاف رجل في أيديهم السيوف و هم يقولون: كلنا قتله، فبهت أبو هريرة و أبو الدرداء ثم رجعا إلى معاوية و هما يقولان: لا يتم هذا الأمر أبدا فأخبراه بالخبر.

و قد مر قريب من هذه الرواية عن كتاب صفين لنصر بن مزاحم في صدر هذا الشرح قول علي عليه السلام لأبي مسلم الخولاني: اغد علي غدا فخذ جواب كتابك- إلى قول نصر: فلبست الشيعة أسلحتها ثم غدوا فملأوا المسجد و أخذوا ينادون:كلنا قتل ابن عفان.

و في رواية اخرى: لما سئل علي عليه السلام تسليمهم قال و هو على المنبر: ليقم قتلة عثمان، فقام أكثر من عشرة آلاف رجل من المهاجرين و الأنصار و غيرهم.

فكيف يمكن تسليم أكثر من عشرة آلاف رجل جلهم من حماة الدين و قواعده إلى من يطلب بدم رجل واحد قتلوه بأحداثه التي نقموها منه؟.

قوله عليه السلام: «و لعمري لئن لم تنزع عن غيك‏- إلى قوله: و زور لا يسرك لقيانه» هذا الفصل جواب عن قول معاوية حيث قال في كتابه مخاطبا له عليه السلام:

«و الذي لا إله إلا هو لنطلبن قتلة عثمان في الجبال و الرمال و البر و البحر حتى‏ يقتلهم الله أو لتلحقن أرواحنا بالله».

و لما كان معاوية شمخ بأنفه و تجاوز عن حده و جعل الله تعالى عرضة في يمينه و هدد الأمير و شيعته بقوله الشنيع أجابة الأمير عليه السلام و أخبره عن عاقبته السؤى بقوله ذلك: أي‏ لعمري‏ قسمي‏ لئن لم‏ تنته و لم تكف عن ضلالك و خلافك لتعلمن أن هؤلاء المسلمين الذين يجاهدون في سبيل الله‏ يطلبونك‏ بعد زمان‏ قليل‏، و لا يشقون عليك أن تطلبهم في البر و البحر و الجبال و الرمال، يعني لا حاجة إلى أن تكلف نفسك في طلبهم، بل أنهم يطلبونك، فلا يخفى لطف كلامه و عذوبته في تهديده عليه السلام معاوية قبال كلامه في تهديده أمير المؤمنين عليه السلام.

ثم هدده بعاقبة هذا الطلب بقوله: أن هذا الطلب يسوءك وجدانه، و زور لا يسرك لقيانه‏، و الظاهر أن قوله عليه السلام: عن قليل يطلبونك‏، إشارة إلى ما سيوقع في وقعة صفين، و سيأتي نحو قوله هذا كلامه عليه السلام في آخر الكتاب الثامن و العشرين الذي كتبه إلى معاوية أيضا جوابا: فسيطلبك من تطلب، و يقرب منك ما تستبعد- إلخ.

قوله عليه السلام: «و قد كان أبوك أتاني حين ولى الناس أبا بكر، إلخ» قال اليعقوبي في التاريخ (ص 105 ج 2 طبع النجف) و كان فيمن تخلف عن بيعة أبي بكر أبو سفيان بن حرب و قال: أرضيتم يا بني عبد مناف أن يلي هذا الأمر عليكم غيركم و قال لعلي بن أبي طالب: امدد يدك ابايعك و على معه قصى فقال:

بني هاشم لا تطمعوا الناس فيكم‏ و لا سيما تيم بن مرة أو عدي‏
فما الأمر إلا فيكم و إليكم‏ و ليس لها إلا أبو حسن علي‏
ابا حسن فاشدد بها كف حازم‏ فاتك بالأمر الذي يرتجى ملى‏
و إن امرأ يرمى قصيا وراءه‏ عزيزا الحمى و الناس من غالب قصي‏

و قال المفيد في الجمل (ص 42 طبع النجف): في الفصل المترجم بقوله:

انكار جماعة بيعة أبي بكر، بعد عد عدة من المنكرين بيعته: و قال أبو سفيان بن حرب بن صخر بأعلى صوته: يا بني هاشم أرضيتم أن يلي عليكم بنو تيم بن مرة حاكما على العرب و متى طمعت أن تتقدم بني هاشم في الأمر، انهضوا لدفع هؤلاء

القوم عما تمالوا إليه ظلما لكم، أما و الله لأن شئتم لأملأنها عليكم خيلا و رجالا ثم قال: بني هاشم، الأبيات.

و قال في الإرشاد (ص 90 طبع طهران 1377): و قد كان جاء أبو سفيان (يعنى بعد ما بدر الطلقاء بالعقد للرجل) إلى باب رسول الله صلى الله عليه و اله و علي و العباس متوفران على النظر في أمره فنادى: بني هاشم لا تطمعوا، الأبيات؛ ثم نادى بأعلى صوته: يا بني هاشم يا بني عبد مناف أرضيتم أن يلي عليكم أبو فصيل الرذل ابن الرذل أما و الله لو شئتم لأملأنها عليهم خيلا و رجلا.

فناداه أمير المؤمنين عليه السلام: ارجع يا أبا سفيان فوالله ما تريد بما تقول و ما زلت تكيد الإسلام و أهله و نحن مشاغيل برسول الله صلى الله عليه و اله و على كل امرى‏ء ما اكتسب و هو ولي ما احتقب. فانصرف أبو سفيان إلى المسجد فوجد بني امية مجتمعين فحرضهم على الأمر و لم ينهضوا له. و كانت فتنة عمت، و بلية شملت، و أسباب سوء اتفقت، تمكن بها الشيطان، و تعاون فيها أهل الإفك و العدوان، فتخاذل في انكارها أهل الايمان و كان ذلك تأويل قول الله عز و جل، و اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة.

خاتمة يذكر فيها مسئلة فقهية

و هي أنه قد تقدم في شرح هذا الكتاب (ص 383 ج 17) أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و اله في يوم احد كانوا يدفنون الاثنين و الثلاثة من القتلى في قبر واحد. و كذلك قد تظافرت الاثار في أن ابن سعد لعنة الله عليه لما رحل من كربلاء خرج قوم من بني أسد كانوا نزولا بالغاضرية إلى سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين و أصحابه روحي لهم الفداء فصلوا عليهم و دفنوا الحسين عليه السلام حيث قبره الان و دفنوا ابنه علي بن الحسين عند رجله و حفروا للشهداء من أهل بيته و أصحابه الذين صرعوا حوله مما يلي رجلي الحسين عليه السلام و جمعوهم فدفنوهم جميعا معا و دفنوا العباس بن علي عليهما السلام في موضعه الذي قتل فيه على طريق الغاضرية حيث قبره الان.

ففيهما دلالة على جواز دفن ميتين أو أكثر في قبر واحد، أما الأول فلأنه‏ كان في حضرة رسول الله صلى الله عليه و اله بل كان باذنه حيث قال صلى الله عليه و اله: انظروا أكثر هؤلاء جمعا للقرآن فاجعلوه أمام أصحابه في القبر. و قال في الخبر الاخر: المروي عنه صلى الله عليه و اله كما في مدارك الأحكام في شرح شرايع الاسلام: انه قال للأنصار يوم احد:احفروا و أوسعوا و عمقوا و اجعلوا الاثنين و الثلاثة في القبر الواحد.

و أما الثاني فلأن بني أسد كانوا مسلمين بل لعلهم كانوا مؤمنين فلو لا علمهم بجواز ذلك من الشرع لما فعلوه في المقام، على أنه لم ينكر عليهم أحد.

و الجواز لا خلاف فيه و إنما الكلام في أن جواز ذلك فيما يقتضيه الضرورة كما هي ظاهر المقامين سيما الثاني، أو أن العمل جائز مطلقا، ثم لو لا الضرورة أ كان مكروها أو محرما. و هل يفصل في المقام بين ما كان الميتان رجلين أو امرأتين و بين ما كانا رجلا و امرأة، و على الثاني بين ما كانا أجنبيين و غير أجنبيين و على التقادير كلها هل يجوز دفن أكثر من واحد في قبر ابتداء أو مطلقا.

فالمنقول عن الشيخ قدس سره في المبسوط: الأولى أن يفرد لكل واحد منهم قبر لما روي عنهم عليهم السلام أنه لا يدفن في قبر واحد اثنان. و قال فيه: فان دعت الضرورة إلى ذلك جاز أن يجمع اثنان و ثلاثة في قبر واحد كما فعل النبي صلى الله عليه و اله يوم احد. قال: فإذا اجتمع هؤلاء جعل الرجل مما يلي القبلة و الصبيان بعدهم ثم الخناثي ثم النساء، انتهى.

و في التهذيب: محمد بن الحسن الصفار قال: كتبت إلى أبي محمد عليه السلام أ يجوز أن يجعل (نجعل- معا) الميتين على جنازة واحدة و يصلى عليهما؟ فوقع عليه السلام: لا يحمل الرجل مع المرأة على سرير واحد.

و رواه في الوسائل هكذا: قال: كتبت إلى أبي محمد عليه السلام أ يجوز أن يجعل الميتين على جنازة واحدة في موضع الحاجة و قلة الناس و إن كان الميتان رجلا و امرأة يحملان على سرير واحد و يصلى عليهما؟ فوقع عليه السلام: لا يحمل الرجل مع المرأة على سرير واحد.

فيستفاد من الخبر أمران: أحدهما جواز حمل الميتين الرجلين على جنازة

و ثانيهما عدم جوازه إذا كان أحدهما رجلا و الاخر امرأة حتى حال الضرورة.

فيحكم على ذلك في دفنهما أيضا على طريق الأولوية أعني الجواز في الصورة الاولى و عدمه في الثانية.

و قد ذهب بعض العلماء إلى حرمة دفن رجل أجنبي و امرأة أجنبية في قبر واحد و لعله افتى به من ظاهر هذا الخبر و إن كان الخبر أعم شمولا فانه نهى عن حمل الرجل و المرأة الميتين في سرير مطلقا.

كما أن الشيخ قدس سره حكم بجعل الرجل مما يلي القبلة- إلخ في الدفن من الروايات الواردة في الصلاة على الجنائز المتعددة المختلفة الجنس.

و الأصل يقتضى عدم جواز دفن الميتين في قبر حال الإختيار كما هو المنقول عن ابن سعيد في الجامع و المرسل المذكور في المبسوط ظاهر في عدم الجواز.

اللهم إلا أن يقال إن ادعاء الضرورة في واقعة احد غير ثابت فاذنه صلى الله عليه و اله دليل على الجواز مطلقا من غير كراهة. لكن العلماء قد ذهبوا إلى القول بالكراهة في حال عدم الضرورة و بعدمها في الضرورة فمع الضرورة تزول الكراهة قطعا.

هذا إذا دفنا ابتداء و أما إذا استلزم دفن ميت في قبر ميت آخر بعد دفنه نبشه فحرام لتحريم النبش أولا، و لأن الأول قد ملكه بالحيازة لكن قد يناقش على الأول بأن الكلام في إباحة الدفن نفسه لا النبش و أحدهما غير الاخر، و على الثاني بعدم ثبوت حق الأول و في المسألة كلام بعد يطلب في الكتب الفقهية و الذي حري أن يقال في المقام: إن دفن الميتين في قبر واحد ابتداء مكروه إذا لم يقتض الضرورة و معها تزول الكراهة. و أما دفن ميت في قبر آخر قبل أن يصير رميما فحرام. و إذا كان الميتان رجلا و امرأة اجنبيين فلا يترك الاحتياط في أن يفرد لكل واحد منهما قبر.

الترجمة

اين كتاب نهم از باب كتب و رسائل أمير عليه السلام است كه بمعاويه نوشت.

روزى أبو مسلم خولانى با گروهى از قاريان شام كه از پيروان معاويه بودند بدو گفتند: تو كه چون علي صحبت و قرابت با پيغمبر و سابقت در اسلام و هجرت ندارى، از چه روى با وى سر كارزار دارى؟.

معاويه گفت: من ادعا نمي كنم كه در اين صفات از وي برتر يا با وى برابرم و لكن نه اين است كه عثمان بستم كشته شد؟ گفتند: آرى چنين است، گفت:

علي كشندگان عثمان را تسليم ما كند تا كار به كار زار نكشد، گفتند: در اين باره بدو نامه ‏اى نويس، معاويه نامه‏ اى بأمير عليه السلام نوشت و خولانى را براى رساندن نامه بسويش گسيل داشت.

خولانى نامه را بأمير عليه السلام رسانيد و بدو گفت: اكنون زمام توليت امور مسلمانان در دست تو است، و بخدا سوگند اگر از خود داد حق بدهى دوست ندارم كه أمر خلافت به دست ديگرى جز تو باشد؛ همانا كه عثمان مسلمان بود و خونش بستم ريخته شد تو أمير مائي كشندگانش را بما ده، چه اگر كسى بمخالفت با تو برخيزد دستهاى ما بياريت آماده، و زبانهاى ما در حقت گواه، و مر تو را نيز در نزد خدا و مردم عذر و حجت خواهد بود.

امام علي عليه السلام فرمود: فردا بيا و پاسخ نامه را بستان، چون فردا بيامد ديد كه مردم از نامه معاويه آگاه شده همگى با سلاح در مسجد گرد آمده ندا در مى ‏دهند:ما همه كشندگان عثمانيم.

خولانى بنزد أمير عليه السلام آمد، أمير بدو گفت: سوگند بخدا من نخواستم كه بيك چشم بهم زدنى آنانرا بدست تو دهم چه اين أمر را نيك نگريستم و آنرا زير و رو كردم، سزاوار نديدم كه ايشان را بدست تو يا جز تو دهم.

پس خولانى نامه بستاند و بسوى معاويه بازگشت و داستان را بدو باز نمود.

اينك‏

ترجمه نامه معاويه‏

بسم الله الرحمن الرحيم، از معاويه پور بو سفيان به علي بن أبي طالب: درود بر تو، با تو خدا را ستايش مي كنم و نعمتهاى او را سپاس مى‏ گذارم، آنكه جز او خدائى نيست؛ أما بعد همانا كه خداوند بدانش خود محمد صلى الله عليه و اله را برگزيد، و او را أمين بروحيش و رسول به خلقش گردانيد و از مسلمانان يارانى برايش برگزيد كه بدستيارى آنان نيرويش داد و تأييدش فرمود، و رتبه آنان در نزد خدا و رسول باندازه فضلشان در اسمان بود، پس در ميانشان بعد از پيمبر كسى كه در اسلام برتر و در راه خدا و رسول مخلص‏تر است جانشين پيمبر و جانشين جانشين او است، سپس جانشين سوم عثمان كه بستم كشته شد.

و تو أى علي بر همه‏ شان حسد بردى، و بهمه آنان ستم كردى، ما اين معنى را از چپ چپ نگريستن، و بخشم و تند و تيز نگاه كردن، و از گفتار زشت، و از آه كشيدن و دم بر آوردن دراز، و از درنگ و كندى نمودنت در يارى جانشينان پيمبر پى برديم.

تو آنى كه چون شتر نر مهار كرده (چوب در بينى كشيده)[2] بسوى‏ هر يك از خلفاى رسول براى بيعتت برده‏ اند سرباز زدى و از آن كاره بودى و بويژه بعثمان بيشتر از ديگران حسد ورزيده‏اى با اين كه از جهت رحامت و خويشاوندى و دامادى او به پيمبر از همه سزاوارتر بود كه با وى چنان كارى نكنى پس قطع رحم كردى، و خوبيهاى او را زشت گردانيدى، و مردم را بر او شورانيدى، و زير و رو كرده‏اى تا از هر سوى مردم بدو رو آوردند، و بر عليه او در حرم رسول خدا حمل سلاح كردند، تا او را كشتند، و تو حاضر بودى و ناله و فرياد او را مى‏ شنيدى و حرفى نزدى و كارى نكردى تا گمان بد در باره تو نبردند و تهمت بتو نزنند و بدانند كه به قتل او راضى نبودى.

براستى سوگند ياد ميكنم كه اگر به يك سو مى ‏شدى و مردم را از كشتن عثمان باز مى ‏داشتى يك تن ما از تو بر نمى‏ گشت، علاوه اين كه اين عمل تو آنچه را كه در باره تو راجع به عثمان مى ‏پنداشتند جبران مي كرد و گمان بدشان را در باره تو محو مي كرد.

و ديگر اين كه در نظر أنصار عثمان، متهمى كه كشندگانش را جا و پناه دادى كه اكنون تو را بازوان و يارانند و همدستان و دوستان خاص. و با اين همه شنيدم كه خويشتن را از خون عثمان تبرئه مى ‏نمائى، اگر راست مي گوئى ما را بر آنان دست ده تا ايشان را بقصاص خون عثمان بكشيم، آن گاه بسويت شتابيم، و گرنه تو و يارانت را طعمه شمشير گردانيم.

سوگند به آن كه جز او خدائى نيست اگر قاتلان عثمان در كوهها و ريگستانها و دشت و دريا پراكنده شوند، هر آينه بر آنان دست يابيم تا اين كه خدا آنانرا بكشد؛ يا اين كه آنان جانهاى ما را بخدا بپيوندند.

ترجمه نامه امير المؤمنين على عليه السلام در پاسخ نامه معاويه‏

بسم الله الرحمن الرحيم، از بنده خدا علي أمير مؤمنان به معاويه پور بو سفيان:

أما بعد همانا كه بو مسلم خولانى نامه ‏اى از شما آورده كه در او رسول خدا، و نعمت هدايت و وحى را كه خدا باو انعام فرموده ذكر كرده ‏اى، پس حمد خدائى را كه به وعده ‏اش در باره پيمبرش وفا كرد، و نصرتش را بر او تمام گردانيد، و مر او را در شهرها تميكن داد، و بر قوم او- كه دشمنى و كينه‏ توزى با او داشتند، و بر او حمله‏ ها كردند، و بغض او را در دل انباشتند، و به دروغ نسبتش دادند، و به قتال با او قيام كردند، و بر اخراج او و أصحابش از مكه هم پشت شدند، و عرب را بر او تحريك كردند، و آنانرا بر جنگ او گرد آوردند، و تمام كوشش در كار او نمودند، و كارها را بر او دگرگون كردند- پيروز گردانيد، تا دين خدا- با اين كه آنان از آن بيزارى داشتند- آشكار شد و غالب گرديد، و شديدترين مردم بر او قوم او بويژه خويشان نزديك او بودند؛ مگر كسانى كه خداوند آنانرا حفظ كرد.

اى فرزند هند! روزگار أمر شگفتي از شما بر ما پوشيده داشت؛ پيش آمدى و بد نمودى و ناروا كردى كه ما را از آزمايش خدا به پيمبرش محمد صلى الله عليه و اله و به ما، خبر مى‏ دهى چه در اين كار چون آن كسى كه خرما به هجر برد، يا آنكه بگستاخي استادش را كه از او تيراندازى بياموخت به تيراندازى بخواند.

در آن كتاب گفتى: «خداوند از مسلمانان يارانى براى پيمبرش برگزيد كه بدستيارى آنان نيرويش داد و تأييدش فرمود و رتبه آنان در نزد خدا و رسول باندازه فضلشان در اسلام بود پس در ميانشان بعد از پيمبر كسى كه در اسلام برتر و در راه خدا و رسول مخلص‏تر است جانشين پيمبر و جانشين جانشين او است» بجانم (يا به دينم) سوگند كه آن دو را در اسلام پايه ‏اى بزرگ است، و از تير مرگى كه بدانها رسيده زخمى سخت در پيكر اسلام پديد آمده؛ خداوند رحمتشان كناد و نيكوترين پاداش دهاد.[3]

و در آن نامه آورده ‏اى كه عثمان در فضل و رتبه سومين آنها بود؛ اگر عثمان نيكوكار بود خداوند او را به نيكو كاريش پاداش مى ‏دهد و اگر بدكار بود ديدار مى ‏كند پروردگار آمرزنده ‏اى را كه گران و بزرگ نيايد او را گناهى كه بيامرزدش.

بخداى لا يزال قسم كه همانا اميدوارم و آرزو دارم كه چون خداوند مردم را به پايه فضائل آنان در اسلام، و نصيحتشان در راه خدا و رسول پاداش عطا كند بهره ما در آن از ديگران زيادتر باشد؛ چه محمد صلى الله عليه و اله چون مبعوث برسالت شد و به ايمان بخدا و توحيد دعوت كرد ما أهل بيت او نخستين كسى بوديم كه به او ايمان آورديم، و به آن چه آورده تصديق كرديم.

و چند سال تمام بود كه در سرزمين عرب هيچ خانواده‏اى جز ما خدا را پرستش نمى‏كردند. و قوم ما خواستند كه پيغمبر ما را بكشند، و بيخ و بن ما را براندازند، در باره ما چيزها انديشيدند، و كارهايى بما روا داشتند، و آب و نان را بروى ما بستند، و توشه را از ما بريدند، و زندگى خوش را از ما بازداشتند، و ما را همنشين و همدم ترس و بيم نمودند، و جاسوسان و ديده‏بانها بر ما گماشتند، و بكوهى سخت (شعب أبو طالب) ما را مضطر گردانيدند، و براى ما آتش جنگ برافروختند، و با هم پيمان بستند و همدست شدند و نوشته بميان آوردند كه كار را چنان بر ما تنگ گيرند حتى با ما نخورند و ننوشند و ازدواج نكنند، و از ايشان در تمام مدت سال جز در موسم حج ايمن نبوديم تا اين كه پيغمبر را بدست آنها دهيم كه او را بكشند و مثله‏اش كنند.

پس خداوند متعال ما را عزيمت آن داد كه دست ستم آنانرا از سر رسول‏ بريديم، و شرشان را از ناحيه حضرتش بازداشتيم، و آنان را از حريم حرمتش دور كرديم، و در ساعات خوف، شب و روز با شمشيرها در حضور او ايستادگى نموديم.

مؤمن ما باين حفظ و حراست پيمبر طلب پاداش ميكرد، و اميدوار ثواب بود؛ و كافر ما حمايت از اصل و نسب و دودمان خود ميكرد. (مراد اين است از بني هاشم و بني مطلب آنكه ايمان برسول آورد مثل أبو طالب پدر أمير المؤمنين علي عليه السلام و حمزة بن عبد المطلب رضوان الله عليهما در حمايت پيغمبر اميدوار ثواب از خدا بودند و در راه خدا دين و پيغمبر را حفظ مى ‏كردند؛ بخصوص أبو طالب رضوان الله عليه كه خدمت بسيار بزرگ به اسلام كرده و رنج و خدمت او از همه بيشتر بود و دين خود را از كفار نهان مى ‏داشت تا بهتر بتواند خدمت باسلام كند و پيغمبر او را كافل اليتيم خوانده كه فرمود: أنا و كافل اليتيم كهاتين في الجنة؛ و آنكه از بني هاشم ايمان نياورده و كافر بود چون عباس عموى پيغمبر و عقيل و طالب فرزندان أبي طالب و حارث و پدرش نوفل و عمويش أبو سفيان فرزندان حارث بن عبد المطلب كه در شعب أبو طالب با پيغمبر و مؤمنين محصور بودند و حمايت از رسول مى‏كردند نه بحساب دين و رسالت بلكه براى حفظ دودمان و اصل نسب و پس از خلاصى از شعب يكى پس از ديگرى اسلام آوردند. و از بني هاشم أبو لهب و پسرش همدست با كفار بودند و آنان را كمك مى ‏كردند).

و از قريش كسانى كه اسلام آورده بودند از خوفى كه ما داشتيم و رنجى كه در آن بوديم ايمن بودند، يا بسبب هم قسمى كه با مشركان داشتند كه آنان را از شر مشركان باز مى‏ داشت، يا بسبب عشيره‏اى كه پيش رويشان از آنها دفاع مى‏ كردند تا كسى بر آنان دست نيابد كه از قتل در أمان بودند، تا روزگارى بدين منوال بگذشت.

سپس خداوند پيغمبرش را أمر بهجرت فرمود، و بعد از آنش بقتال مشركين اذن داد. و هنگامى كه جنگ سخت مى‏شد و مردم از ترس عنان باز پس مى‏كشيدند و رو مى‏گردانيدند و دو طرف كارزار آماده جنگ مى شدند، رسول خدا أهل بيت‏ خود را بر پا مي كرد و آنان را پيش مى‏داشت كه بايشان اصحاب خود را از گرمى و سوزش نيزه‏ها و شمشيرها حفظ مي كرد، كه عبيدة بن حارث پسر عم آن حضرت در جنگ بدر كشته شد، و حمزة در روز احد، و جعفر طيار و زيد بن حارثة در جنگ موته.

و كسى كه اگر بخواهم اسمش را ببرم (مراد از اين كس خود أمير المؤمنين عليه السلام است و آن جناب خبر از خودش مى‏دهد) چندين بار در جنگها با پيغمبر صلى الله عليه و اله شهادتى را كه آن شهداء خواستند نيز خواسته و آرزوى آن را داشته است جز اين كه روزگارشان بسر آمد كه بدرجه رفيعه شهادت رسيدند ولى عمر وى بسر نيامده كه مرگش بتأخير افتاد. خداوند بايشان در ازاى آن كارهاى شايسته كه پيش فرستاده‏اند نيكو احسان كننده و نعمت دهنده است.

و كسى از حاميان پيمبر را مخلص‏تر بخدا در طاعت رسولش، و مطيع‏تر برسول در طاعت پروردگارش، و شكيباتر در محنتها و سختيها و هنگام ترس و مواطن مكروه با پيغمبر، از اين چند تن كه نام برده‏ام نديدم و در مهاجرين خير بسيار مى‏شناسيم خداوند ايشان را نيكوترين پاداش دهاد.

و در آن نامه گفتى كه «من بر خلفا حسد برده‏ام، و از بيعت بانان كندى و خوددارى نمودم، و بر ايشان ستم كردم» أما ستم معاذ الله كه چنين باشد و من بأحدى ستم كرده باشم.

و أما در خوددارى از بيعت و طاعت و در كراهت بامرشان؛ هيچ عذرى پيش كسى نياورم و پوزش نطلبم، زيرا خداوند چون قبض روح پيمبر كرد قريش گفتند أمير بايد از ما باشد و أنصار گفتند از ما؛ پس قريش گفتند: محمد رسول الله صلى الله عليه و اله از ما بود در نتيجه ما سزاواريم بأمر خلافت و أمارت، و انصار تسليم شدند و أمارت را بقريش تفويض كردند. پس سبب بر كنار شدن انصار از أمارت و استحقاق قريش آنرا اين بود كه محمد صلى الله عليه و اله از قريش بود. و بهمين بيان آنكه در ميان قريش به پيغمبر أولى و أقرب است بخلافت نيز بايد أحق و أولى باشد (مرادش از اين گفتار خود آن بزرگوار است). و گرنه انصار در ميان عرب از آن بهره بزرگ داشتند.

نمى‏دانم أصحابم بگرفتن حقم تن در دادند، يا انصار بمن ظلم كردند؟ همين قدر دانم كه حق من گرفته شد؛ واگذاشتم آنرا بر ايشان خدا از ايشان در گذرد.

أما آنچه در باره عثمان گفتى كه «قطع رحم كردم، و مردم را بر او شورانيدم» تو خود ديده‏اى كه عثمان در دين چه‏ها نمود، و با مردم چه‏ها كرد كه سرانجام كارهاى او سبب قتلش شده، و تو خود دانى كه من در قتل او شريك نبودم و از آن كناره گرفتم و عزلت اختيار كردم؛ مگر اين كه بخواهى افترا بمن زنى و بدروغ نسبت به جنايتم دهى پس هر چه خواهى بكن، و هر چه دلت خواست بگو.

اى عجب از روزگار كه با من قرين شد كسى (يعنى معاويه و خلفاى گذشته) كه در راه دين بپايه من قدم برنداشت و سابقه‏اش در اسلام چون سابقه من نبود؛ سابقه‏اى كه كسى نتواند بمثل آن توسل جويد و دعوى چنان سابقت نمايد مگر كسى ادعا كند آنچه را كه من نشناسمش، و گمان نكنم كه خداى آن را بشناسد (كنايه از اين كه جز آن چه گفته‏ام وجود ندارد و صرف ادعا است اگر كسى ادعا كند دروغ گفته است) و حمد خداى را بر هر حال.

و أما آنچه در باره قاتلان عثمان گفتى و از من طلب كردى كه ايشان را تسليم تو كنم؛ من در اين امر نظر نمودم و نيك آن را زير و رو كردم نديدم كه تسليمشان بتو و بغير تو برايم گنجايش داشته و مقدور باشد.

بجانم- يا بدينم- سوگند اگر از گمرهيت باز نايستى و از دعوى خلافت دست بر ندارى خواهى ديد كه كشندگان عثمان خودشان بطلب تو آيند و زحمتت نمى‏دهند كه در صحرا و دريا و كوه و دشت ايشان را طلب كنى؛ جز اين كه طلب كردنشان تو را طلبى است كه از آن خوشت نيايد و ديدارشان ديدارى است كه خوشنودت ننمايد (كنايه از اين كه چنان كار را بر تو سخت كنند كه دمار از روزگارت در آورند و زندگى در كام تو تلخ گردد).

اى معاويه هنگامى كه مردم ابو بكر را والى قرار دادند پدرت بو سفيان نزد من آمد و بمن گفت: «تو بعد از محمد بخلافت و امارت سزاوارى؛ برخيز و حق خود بستان و اگر كسى با تو مخالفت كند من كفالت و حمايتت نمايم، اكنون دست دراز كن تا با تو بيعت كنم» ولى من نپذيرفتم.

و تو دانى كه اين سخن را پدرت بمن گفت و از من خواست؛ ولى من بودم كه قبول نكردم از بيم اين كه مبادا تفرقه ميان مسلمانان چون قريب العهد بكفر بودند رخ دهد. پس پدرت بحق من از تو آشناتر بود و تو اگر چون پدرت حق مرا شناسى راه راست را يافته‏اى و گرنه خداوند ما را كفايت كند و از تو بى‏نياز گرداند. درود بر آنكه سزاوار آنست.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی

_________________________________________________________

[1] ( 1) لم يدركهم لانه رضوان الله عليه قتل في صفين قتله الفئة الباغية معاوية و أتباعه و قدمنا ترجمة عمار فراجع الى ج 16 من ص 273 الى 299. منه

[2] ( 1) عبارت معاويه اين است:« تقاد الى كل منهم كما يقاد الفحل المخشوش حتى تبايع» و مخشوش يعنى شتر سركش كه در بينى او خشاش كرده باشند و خشاش بالكسر چوبكى است كه در بينى حيوان سركش گذارند و زمامش را بدان بندند تا رام و منقاد شود و بهتر اطاعت كند. و اين عمل را در ولايت ما با گاو كارى سركش ميكنند تا رام شود و در شخم كردن سركشى نكند؛ و گاهى بجاى چوب و ريسمان باريك در بينى آن در مى‏كشند و از دو طرف بشاخش مى ‏بندند و گويند گاو را مهار كرده است.

و ابن أثير در نهايه گويد: و في حديث الحديبية أنه أهدى في عمرتها جملا كان لابى جهل فى أنفه خشاش من ذهب. الخشاش: عويد يجعل في أنف البعير يشد به الزمام ليكون أسرع لانقياده، و منه حديث جابر فانقادت معه الشجرة كالبعير المخشوش هو الذى جعل فى انفه الخشاش و الخشاش مشتق من خش في الشي‏ء اذا دخل فيه لانه يدخل في أنف البعير.

[3] ( 1) ترجمه عبارت مطابق نسخه بحار چنين است: و در آن كتاب گفتى: خداوند از مسلمانان يارانى …. جانشين پيمبر صديق، و جانشين جانشين او فاروق است.

بجانم سوگند آنچه در نامه‏ات در باره بو بكر و عمر آوردى اگر تمام باشد آن همه صفات از تو دور است( يعنى به آنها متصف نيستى و لياقت مقام خلافت و در دست گرفتن زمام امور ملت را ندارى) و اگر ناتمام است بتو ثلمه و رخنه‏اى رو نخواهد كرد.

تو را به صديق چه رسد؟ صديق آن كس است كه حق ما را تصديق كند، و تو را چه رسد به فاروق؟ فاروق آن كسى است كه ميان ما و دشمنان ما فرق گذارد

نهج البلاغه نامه ها نامه شماره 8 شرح میر حبیب الله خوئی(به قلم علامه حسن زاده آملی )

نامه 8 صبحی صالح

8- و من كتاب له ( عليه‏ السلام  ) إلى جرير بن عبد الله البجلي لما أرسله إلى معاوية

أَمَّا بَعْدُ فَإِذَا أَتَاكَ كِتَابِي فَاحْمِلْ مُعَاوِيَةَ عَلَى الْفَصْلِ وَ خُذْهُ بِالْأَمْرِ الْجَزْمِ

ثُمَّ خَيِّرْهُ بَيْنَ حَرْبٍ مُجْلِيَةٍ أَوْ سِلْمٍ مُخْزِيَةٍ فَإِنِ اخْتَارَ الْحَرْبَ فَانْبِذْ إِلَيْهِ وَ إِنِ اخْتَارَ السِّلْمَ فَخُذْ بَيْعَتَهُ وَ السَّلَامُ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج17  

و من كتاب له عليه السلام الى جرير بن عبد الله البجلى لما أرسله الى معاوية، و هو الكتاب الثامن من باب المختار من كتبه عليه السلام و رسائله‏

أما بعد فإذا أتاك كتابي فاحمل معاوية على الفصل، و خذه بالأمر الجزم، ثم خيره بين حرب مجلية، أو سلم مخزية [أو سلم محظية- خ ل‏] فإن اختار الحرب فانبذ إليه، و إن اختار السلم فخذ بيعته، و السلام‏.

اللغة

(فاحمل معاوية على الفصل) يقال: حمله على الأمر إذا أغراه به. و الفصل القطع أي إبانة أحد الشيئين من الاخر حتى تكون بينهما فرجة يقال: فصلت الشي‏ء فانفصل أي قطعته و انقطع. و القضاء بين الحق و الباطل من حيث إنه يفصل بين الحق و الباطل، و منه قوله تعالى‏ إنه لقول فصل‏ (الطارق- 14) أي فاصل قاطع، و حديث و فد عبد القيس: فمرنا بأمر فصل، أي لا رجعة فيه و لا مرد كما في النهاية الأثيرية.

و قوله تعالى‏ هذا يوم الفصل‏ (المرسلات- 38) أي اليوم يبين الحق من الباطل و يفصل بين الناس بالحكم، فالمراد: فاحمل معاوية على الحكم القطعي من الطاعة أو العصيان و يقرب منه معنى قوله: (و خذه بالأمر الجزم) يقال: جزم الأمر أي قطع به قطعا لا عودة فيه. تقول: أمرته أمرا جزما و هذا حكم جزم و حلف يمينا جزما، فالمراد: خذه بالأمر المقطوع به إما الحرب أو السلم.

(مجلية) من الإجلاء و هو الإخراج من الوطن قهرا. يقال: أجلى فلان القوم عن بلدهم و ديارهم إذا أخرجهم عنها قهرا.(مخزية) أي مهينة مذلة فاضحة من الخزي بالكسر فالسكون بمعنى الهوان و الذل يقال: أخزاه إخزاء إذا أوقعه في الخزي، و أخزى الله فلانا أي فضحه.و في نسخة نصر في كتاب صفين الاتي ذكرها: محظية. من الحظوة بضم الحاء و كسرها، و الحظة كالعدة: المكانة و الحظ من الرزق يقال: أحظاه أي جعله ذا حظوة، و أحظاه به أي تفضل عليه به، و روي أيضا: مجزية، بالجيم أي كافية.(فانبذ إليه) نبذت الشي‏ء من يدي من باب ضرب إذا طرحته و رميت به.

قال أبو كبير الهذلي (الحماسة 12):

و إذا نبذت له الحصاة رأيته‏ فزعا لوقعتها طمور الأخيل‏

و النبذ أيضا إلقاء الخبر إلى من لا يعلمه. و قال الفيومي في المصباح: نبذت العهد لهم نقضته: و قوله تعالى: فانبذ إليهم على سواء (الأنفال- 61) معناه إذا هادنت قوما فعلمت منهم النقض للعهد فلا توقع بهم سابقا إلى النقض حتى تعلمهم أنك نقضت العهد، فيكون في علم النقض مستويين ثم أوقع بهم.

الاعراب‏

الفاء الاولى جواب أما، و الثانية جواب إذا، و الثالثة للتفصيل، و الأخيرتان جوابا الشرط كالاوليين. مجلية صفة للخرب و الحرب تؤنث و قد تذكر، قال الله تعالى: حتى تضع الحرب أوزارها (سورة محمد- 6). قال الجوهري في الصحاح قال المبرد: الحرب قد تذكر و أنشد:

و هو إذا الحرب هفا عقابه‏ مرجم حرب تلتقى حرابه‏

قال الخليل: تصغيرها حريب بلاهاء رواية عن العرب، قال المازني: لأنه في الأصل مصدر و قال الفيومي في المصباح: إنما سقطت الهاء كيلا يلتبس بمصغر الحربة التي هي كالرمح.

مخزية صفة للسلم قال الجوهري في المصباح: السلم: الصلح، يفتح و يكسر و يذكر و يؤنث قال الله تعالى: و إن جنحوا للسلم فاجنح لها (الأنفال- 64) و في أقرب الموارد: و يؤنث حملا على نقيضه الحرب و قال بعض أهل الأدب:تأنيث الحرب باعتبار المحاربة و السلم للمسالمة.

ضمير إليه يرجع إلى معاوية. و السلام مبتداء و خبره محذوف، أي و السلام لأهله ككتابه الاتي بعد هذا. أو و السلام على من اتبع الهدى و نحوهما.

«سند الكتاب»

رواه نصر بن مزاحم المنقري في كتاب صفين (ص 32 من الطبع الناصري) عن محمد بن عبيد الله و صالح بن صدقة مسندا، و على نسخة نصر كان مكان قوله عليه السلام‏ (أو سلم مخزية) أو سلم محظية، و مكان قوله‏ (فانبذ إليه) فانبذ له.

و نقل الكتاب ابن قتيبة الدينوري المتوفى سنة 276 ه في الإمامة و السياسة على صورة اخرى، قال: و ذكروا أن عليا كتب إلى جرير: أما بعد فإن معاوية إنما أراد بما طلب ألا يكون لي في عنقه بيعة و أن يختار من أمره ما أحب، و قد كان المغيرة بن شعبة أشار علي و أنا بالمدينة أن أستعمله على الشام فأبيت ذلك عليه و لم يكن الله ليراني أتخذ المضلين عضدا، فإن بايعك الرجل و إلا فأقبل (ص 95 ج 1 طبع مصر 1377 ه).

أقول: قد ذكرنا هذا الكتاب في شرح الكتاب السابع منقولا عن كتاب صفين لنصر بن مزاحم. و بين النسختين اختلاف في الجملة. ثم يمكن أن يكون أنه عليه السلام أرسل إلى جرير في تلك الواقعة كتابين أو أنهما كانا كتابا واحدا فتشتت كما ذكرنا نبذا من نظائره فلا حاجة إلى جعلهما كتابا واحدا. و نقل هذا الكتاب‏ المجلسي رحمه الله في البحار عن كتاب صفين لنصر أيضا (ص 470 ج 8 من الطبع الكمباني).

المعنى‏

قال أبو العباس المبرد في الكامل (ص 190 ج 1 من طبع مصر، أول الباب 27): وجه علي بن أبي طالب عليه السلام‏ إلى معاوية يأخذه بالبيعة له فقال له: إن حولي من ترى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله من المهاجرين و الأنصار، و لكني اخترتك لقول رسول الله صلى الله عليه و آله فيك: خير ذي يمن: ائت‏ معاوية فخذه بالبيعة.

فقال‏ جرير: و الله يا أمير المؤمنين ما أدخرك من نصرتي شيئا و ما أطمع لك في معاوية. فقال علي عليه السلام: إنما قصدي حجة اقيمها عليه.

و قال اليعقوبي في التاريخ (ص 160 ج 2 طبع النجف 1358 ه): خرج علي عليه السلام من البصرة متوجها إلى الكوفة و قدم الكوفة في رجب سنة ست و ثلاثين و كان‏ جرير بن عبد الله‏ على همذان فعزله، فقال لعلي عليه السلام: وجهني إلى‏ معاوية فان جل من معه قومي فلعلي أجمعهم على طاعتك. فقال له الأشتر: يا أمير المؤمنين لا تبعثه فان هواه هواهم. فقال: دعه يتوجه فإن نصح كان ممن أدى أمانته، و إن داهن كان عليه وزر من اوتمن و لم يؤد الأمانة و وثق به فخالف الثقة و يا ويحهم مع من يميلون و يدعونني فوالله ما أردتهم إلا على إقامة حق، و لا يريدهم غيري إلا على باطل.

قال المبرد: فلما أتى‏ جرير معاوية دافعه‏ معاوية فقال له‏ جرير: إن المنافق لا يصلي حتى لا يجد من الصلاة بدا، و لا أحسبك تبايع حتى لا تجد من البيعة بدا، فقال له‏ معاوية: إنها ليست بخدعة الصبي عن اللبن، إنه أمر له ما بعده فابلعني ريقي.

فناظر عمرا- يعني عمرو بن العاصي- فطالت المناظرة بينهما، و ألح عليه‏ جرير فقال له‏ معاوية: ألقاك بالفصل في أول مجلس إن شاء الله تعالى. ثم نقل كتاب‏ معاوية إلى أمير المؤمنين عليه السلام و جوابه عليه السلام عن كتابه كما ذكرناهما في‏ شرح الكتاب السابع.

و قد نقلنا عن نصر في شرح الكتاب السابق أن‏ جريرا أبطأ عند معاوية حتى انهمه الناس، و قال علي عليه السلام: وقت لرسولي وقتا لا يقيم بعده إلا مخدوعا أو عاصيا و أبطأ على علي عليه السلام حتى أيس منه.

قال نصر: و في حديث محمد بن عبيد الله و صالح بن صدقة قالا: و كتب علي عليه السلام إلى‏ جرير بعد ذلك: أما بعد فإذا أتاك كتابي‏- إلخ.

و بالجملة لما أتى‏ جرير معاوية يأخذه بالبيعة لأمير المؤمنين عليه السلام سوف‏ معاوية و ما طل في البيعة و لما رأى أمير المؤمنين عليه السلام ذلك كتب إليه ذلك الكتاب قوله عليه السلام: (فإذا أتاك كتابي فاحمل معاوية على الفصل و خذه بالأمر الجزم) يعني لا تترك‏ معاوية يسوف في البيعة و يماطلك بها و تدعك حيران لا تدري كيف يعامل بك، بل احمله على الحكم القطعي و الأمر المقطوع به إما أن يدخل في الطاعة فيبايع، و إما أن يأذن بالحرب.

مجاز قوله عليه السلام: (ثم خيره بين حرب مجلية أو سلم محظية) لا يخفى حسن صنيعته عليه السلام حيث أمر جريرا أن يوقع‏ معاوية بين الخوف و الرجاء و التخويف و الاستعطاف أي إن عصى و تمرد عن البيعة فلا بد له من أن يحاربنا و الحرب تجليه عن التي اتخذها وطنا و هي الشام.

و هذا تهديد و تفزيع له بأنه إن اختار الحرب يجليه جنود الحق أي أنصار أمير المؤمنين علي عليه السلام و أعوانه عن بلده قهرا، فإسناد الإجلاء إلى‏ الحرب‏ مجاز و إن أسلم فاختار السلم‏ و الصلح فاعزاز و إفضال باطاعته، فنسبة الإحظاء إلى‏ السلم‏ مجاز أيضا فتفسير كلامه عليه السلام على هذا الوجه بين لا غبار عليه و لا يخلو من لطف.

و أما على نسخة المخزية، بالزاء فقيل: السلم المخزية الصلح الدال على العجز و الخطل في الرأي الموجب للخزي.

و الظاهر أن مراده من هذا التفسير هو ما ذكره الفاضل الشارح المعتزلي حيث قال: و إنما جعل‏ السلم مخزية لأن‏ معاوية امتنع أولا من البيعة، فاذا

دخل في‏ السلم‏ فإنما يدخل فيها بالبيعة، و إذا بايع بعد الامتناع فقد دخل تحت الهضيم و رضى بالضيم، و ذلك هو الخزي.

أقول: و على هذه النسخة عرض أمير المؤمنين عليه السلام له في قوله هذا بأنه سواء كان بايع أم لم يبايع مهان ذليل مقهور، لأنه إن بايع‏ فالسلم‏ تخزيه، و إن أبى و استكبر و أذن‏ بالحرب‏ فالحرب تجليه، و أما على رواية الجيم فواضح.

قوله عليه السلام: (فان اختار الحرب‏- إلخ) هذا تفصيل لقوله: ثم خيره‏. أي إذا خيرته بين‏ الحرب و السلم فإن اختار الحرب‏ فارمها إليه. و إن اختار السلم فخذ بيعته. و السلام‏ لأهله.

أو أن قوله عليه السلام: فانبذ إليه‏، إشارة إلى قوله تعالى: و إما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين‏ (الأنفال- 61) و ذلك أن المراد من الخيانة في الاية نقض العهد بدليل سياق الايات المتقدمة عليها و نظمها في ذلك، و إجماع المفسرين عليه.

و الايات المتقدمة قوله تعالى: إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة و هم لا يتقون فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون و إما تخافن‏ الاية و النبذ إلقاء الخبر إلى من لا يعلمه. و بمعنى نقض العهد أيضا كما مر.

فمعنى الاية: و إن خفت من قوم معاهدين أي قوم بينك و بينهم عهد لأن نقض العهد يدل على تقدم العهد، نقض العهد لم يظهر منهم بعد، و ذلك لأن قوله تعالى: و إن خفت، يدل على عدم ظهوره بل يخاف ذلك منهم بامارات تلوح فيه‏ فانبذ إليهم على سواء، أي ألق إليهم العهد الذي بينك و بينهم، يعني أعلمهم جهارا و أخبرهم إخبارا مكشوفا بأنك قد نقضت ما شرطت لهم على سواء، أي على سواء في العلم بمعنى أن يكون الفريقان متساويين في العلم بنقض العهد، أو معناه على طريق قصد مستوفي العداوة و هذا يرجع إلى الأول أيضا.

و بالجملة أمره الله تعالى أن لا يبدأ القوم بالقتال و هم على توهم بقاء العهد بل يعلمهم إعلاما مكشوفا بنقض العهد أولا ثم يوقع بهم، فان المناجزة قبل الاعلام به خيانة، إن الله لا يحب الخائنين.

فالمراد من قوله عليه السلام: فان اختار الحرب فانبذ إليه‏، أن‏ معاوية إن اختار الحرب‏ فاطرح إليه عهد الأمان و أعلنه أنت بالحرب أيضا مجاهرا و أخبره إخبارا مكشوفا من غير مداهنة حتى يتم الحجة عليه بإعلام نقض العهد و لا يتوهم متوهم أن مناجزتنا إياه كانت خيانة و خدعة.

إن قلت: لم يكن بينه عليه السلام و بين‏ معاوية عقد عهد حتى يستفاد هذا المعنى من قوله عليه السلام، فكيف التوفيق؟.

قلت: قد احتج أمير المؤمنين عليه السلام في الكتاب السادس عليه بأن أهل الشورى من المهاجرين و الأنصار لما اجتمعوا على خلافته و إمامته كان ذلك الإجماع لله تعالى رضى و حجة على الغائب و الشاهد كما في الخلفاء الذين سبقوه عليه السلام بالزمان حتى لو خرج‏ من إجماعهم‏ خارج بطعن أو بدعة كانوا يردونه على‏ ما خرج منه فإن أبى قاتلوه‏.

و قد بينا في شرح ذلك الكتاب أن هذا الاحتجاج إنما كان على سبيل المماشاة و الإلزام، و في اصطلاح أهل الميزان على طريق القياس الجدلي، فلزم‏ معاوية و أتباعه على قبول خلافة أمير المؤمنين عليه السلام و إمامته و التسليم و الانقياد لأمره على ما عاهده عليه أهل الحل و العقد من امة محمد صلى الله عليه و آله كما لزمهم قبول خلافة من سبق منه و التسليم لهم، فوقع بين أمير المؤمنين عليه السلام و بين‏ معاوية عهد.

جرير بن عبد الله البجلى‏ من هو؟

قال ابن الأثير في اسد الغابة: جرير بن عبد الله بن جابر البجلي أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه و آله بأربعين يوما، و كان حسن الصورة. و قال النبي صلى الله عليه و آله لما دخل عليه جرير فأكرمه: إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه. و كان له في الحروب بالعراق القادسية و غيرها أثر عظيم. و مات في قرقيسيا، و قيل: مات بالسراة، و روى عنه بنوه: عبيد الله، و المنذر، و ابراهيم، و روى عنه قيس بن أبي حازم، و الشعبي، و همام‏ ابن الحارث، و أبو وائل، و أبو زرعة بن عمرو بن جرير و غيرهم. و أرسله رسول الله صلى الله عليه و آله إلى ذي الخلصة و هي بيت فيه صنم لخثعم ليهدمه، فخرج في مائة و خمسين راكبا من قومه فأحرقها.

ثم روى ابن الأثير باسناده عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله قال:خرج علينا رسول الله صلى الله عليه و آله ليلة البدر فقال: إنكم ترون ربكم يوم القيامة كما ترون هذا لا تضامون في رؤيته.

قال: و توفى جرير سنة إحدى و خمسين، و قيل: سنة أربع و خمسين. انتهى ما أردنا من نقل كلام ابن الأثير في ترجمة جرير ملخصا.

قال نصر في صفين (ص 17 من الطبع الناصري): عن عمر بن سعد، عن نمير بن وعلة، عن عامر الشعبي أن عليا عليه السلام حين قدم من البصرة نزع جريرا عن همدان، فجاء حتى نزل الكوفة فأراد علي عليه السلام أن يبعث إلى معاوية رسولا فقال له جرير: ابعثني إلى معاوية فانه لم يزل لي مستنصحا و ودا نأتيه فأدعوه على أن يسلم لك هذا الأمر و يجامعك على الحق على أن يكون أميرا من امرائك و عاملا من عمالك ما عمل بطاعة الله و اتبع ما في كتاب الله، و أدعو أهل الشام إلى طاعتك و ولايتك، و جلهم قومي و أهل بلادي و قد رجوت أن لا يعصوني.

قال: فقال له الأشتر: لا تبعثه و دعه و لا تصدقه فوالله إني لأظن هواه هواهم و نيته نيتهم.

فقال له علي عليه السلام: حتى ننظر ما يرجع به إلينا.

نصر: صالح بن صدقة باسناده قال (ص 34): لما رجع جرير إلى علي عليه السلام كثر قول الناس في التهمة لجرير في أمر معاوية، فاجتمع جرير و الأشتر عند علي عليه السلام فقال الأشتر: أما و الله يا أمير المؤمنين لو كنت أرسلتني إلى معاوية لكنت خيرا لك من هذا الذي أرخا من خناقه و أقام حتى لم يدع بابا يرجو روحه إلا فتحه، أو يخاف غمه إلا سده.

فقال جرير: و الله لو أتيتهم لقتلوك، و خوفه بعمرو و ذي الكلاع و حوشب‏ ذي ظليم و قد زعموا أنك من قتلة عثمان.

فقال الأشتر: لو أتيته و الله يا جرير لم يعيني جوابها و لم تثقل علي محملها و لحملت معاوية على خطة أعجله فيها عن الفكر. قال: فأتهم إذا. قال: الان و قد أفسدتهم و وقع بينهم الشر.

نصر عمر بن سعد، عن نمير بن و علة، عن عامر الشعبي قال: اجتمع جرير و الأشتر عند علي عليه السلام فقال الأشتر: أليس قد نهيتك يا أمير المؤمنين أن تبعث جريرا و أخبرتك بعداوته و غشه، و أقبل الأشتر يشتمه و يقول: يا أخا بجيلة إن عثمان اشترى منك دينك بهمدان، و الله ما أنت بأهل أن تمشي فوق الأرض حيا، إنما أتيتهم لتتخذ عندهم يدك بمسيرك إليهم ثم رجعت إلينا من عندهم تهددنا بهم، و أنت و الله منهم، و لا أرى سعيك إلا لهم، و لئن أطاعني فيك أمير المؤمنين ليحبسنك و أشباهك في محبس لا تخرجوا منه حتى تستبين هذه الامور، و يهلك الله الظالمين.

قال جرير: وددت و الله أنك كنت مكاني بعثت إذا و الله لم ترجع. قال:و لما سمع جرير ذلك لحق بقرقيسا و لحق به اناس من قيس فسر من قومه و لم يشهد صفين من قيس غير تسعة عشر، و لكن أحمس شهدها منهم سبع مأئة رجل، و خرج علي إلى دار جرير فشعث منها، و حرق مجلسه و خرج أبو زرعة بن عمرو ابن جرير فقال: أصلحك الله إن فيها أرضا لغير جرير، فخرج علي منها إلى دار ثوير بن عامر فحرقها و هدم منها و كان ثوير رجلا شريفا و كان قد لحق بجرير.

قال: و قال الأشتر فيما كان من تخويف جرير إياه بعمرو و حوشب ذي ظليم و ذي الكلاع:

لعمرك يا جرير لقول عمرو و صاحبه معاوية الشامي‏
و ذي كلع و حوشب ذي ظليم‏ أخف علي من زف النعام‏
إذا اجتمعوا علي فخل عنهم‏ و عن باز مخالبه دوام‏
فلست بخائف ما خوفوني‏ و كيف أخاف أحلام النيام‏
و همهم الذى حاموا عليه‏ من الدنيا و همي ما أمامي‏
فان أسلم أعمهم بحرب‏ يشيب لهو لها رأس الغلام‏
و إن اهلك فقد قدمت أمرا أفوز بفلجه يوم الخصام‏
و قد زادوا إلى و أوعدوني‏ و من ذا مات من خوف الكلام‏

و المنقول عن ابن قتيبة في المعارف أن جريرا قدم على رسول الله صلى الله عليه و آله سنة عشر من الهجرة في شهر رمضان فبايعه و أسلم، و كان طوالا ينقل في ذروة البعير من طوله، و كانت نعله ذراعا، و كان يخضب لحيته بالزعفران من الليل و يغسلها إذا أصبح، فتخرج مثل لون التبر، و اعتزل عليا عليه السلام و معاوية و أقام بالجزيرة و نواحيها حتى توفي بالشراة سنة أربع و خمسين في ولاية الضحاك بن قيس على الكوفة.

و في شرح المعتزلي عند شرح قوله عليه السلام: أما أنه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم مند حق البطن- إلخ: أن أشعث بن قيس الكندي و جرير بن عبد الله البجلي يبغضانه و هدم علي عليه السلام دار جرير بن عبد الله، قال إسماعيل بن جرير: هدم علي عليه السلام دارنا مرتين.

و روى الحارث بن حضيرة أن رسول الله صلى الله عليه و آله دفع إلى جرير بن عبد الله نعلين من نعاله و قال: احتفظ بهما فإن ذهابهما ذهاب دينك، فلما كان يوم الجمل ذهبت إحداهما، فلما أرسله علي عليه السلام إلى معاوية ذهبت الاخرى. ثم فارق عليا عليه السلام و اعتزل الحرب‏.

بحث حكمى عقلى فى ابطال رؤيته تعالى بالابصار فى الدنيا و الاخرة و يتبعه بحث روائى فى ذلك‏

ما روى ابن الأثير عن جرير من حديث الرؤية أوجب علينا البحث عن معنى الرؤية و تحقيقها في المقام، فإن ظاهر الرواية يزل الأقدام عن صوب الصواب.

قال ابن الأثير فى مادة «ضمم» من النهاية: في حديث الرؤية: لا تضامون في رؤيته، يروى بالتشديد و التخفيف، فالتشديد معناه لا ينضم بعضكم إلى بعض تزدحمون وقت النظر إليه، و يجوز ضم التاء و فتحها على تفاعلون و تتفاعلون‏ و معنى التخفيف لا ينالكم ضيم في رؤيته فيراه بعضكم دون بعض، و الضيم: الظلم.

قال الشهرستاني في الملل و النحل عند ترجمة الطائفة الحائطية (ص 28 طبع ايران 1288 ه): و من ذلك أصحاب أحمد بن حائط، و كذلك الحدثية أصحاب فضل الحدثي كانا من أصحاب النظام، و طالعا كتب الفلاسفة أيضا، و ضما إلى مذهب النظام ثلاث بدع- إلى أن قال: البدعة الثالثة حملهما كلما ورد في الخبر من رؤية الباري تعالى مثل قوله صلى الله عليه و آله «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته» على رؤية العقل الأول الذي هو أول مبدع، و هو العقل الفعال الذي منه تفيض الصور على الموجودات، و إياه عنى النبي صلى الله عليه و آله:

أول ما خلق الله العقل فقال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، فقال و عزتى و جلالي ما خلقت خلقا أحسن منك، بك اعز و بك اذل، و بك أعطي، و بك أمنع، فهو الذي يظهر يوم القيامة و ترتفع الحجب بينه و بين الصور التي فاضت منه، فيرونه كمثل القمر ليلة البدر، فأما واهب العقل فلا يرى ألبتة و لا يشبه إلا مبدع. انتهى ما أردنا من نقل كلامه.

و اعلم أنما تشعبت الاراء في رؤيته تعالى على أقوال و كادت أن تنتهي إلى أكثر من عشرة أقوال، فذهبت الحكما و الإمامية و المعتزلة إلى استحالة رؤيته تعالى بالأبصار في الدنيا و الاخرة، لتجرده تعالى، و هذا هو المذهب المختار الحق ذهب إليه جل الحكماء المتألهين، و العلماء الشامخين، و بذلك شهدا العقل و حكم به جميع الأنبياء و المرسلين، و نطق القرآن الكريم، و تواترت الأخبار عن أئمتنا الهدى صلوات الله عليهم أجمعين، و سنذكر طائفة من تلك الأخبار و شرحها بعون الله تعالى.

و إنما قيدنا الرؤية بالأبصار لأن الرؤية إذا كانت بمعنى الشهود العقلي و الحضور العلمي و الانكشاف التام بالبصيرة القلبية لا بالبصر الحسي و الخيالي فلا كلام في صحتها و وقوعها للكملين من الموحدين كما سيتضح لك في البحث الاتي عن الأخبار إنشاء الله تعالي.

و ذهبت المجسمة و الكرامية إلى جواز رؤيته بالبصر مع المواجهة فقالت الكرامية و الحنابلة: يرى في جهة فوق.

قال الشهرستاني في الملل و النحل عند ترجمة الفرقة المشبهة (ص 48 طبع ايران 1288 ه): و أما مشبه الحشوية فحكى الأشعري عن محمد بن عيسى أنه حكى عن مضر و كهمش و أحمد الهجيمي أنهم أجازوا على ربهم الملامسة و المصافحة و أن المخلصين من المسلمين يعانقونه في الدنيا و الاخرة إذا بلغوا في الرياضة و الاجتهاد إلى حد الإخلاص و الاتحاد المحض.و حكى الكعبي عن بعضهم أنه كان يجوز الرؤية في الدنيا و أن يزوروه و يزورهم.

و حكى عن داور الجواري أنه قال: اعفوني عن الفرج و اللحية و اسألوني عما وراء ذلك و قال: إن معبوده جسم و لحم و دم و له جوارح و أعضاء من يد و رجل و رأس و لسان و عينين و اذنين، و مع ذلك جسم لا كالأجسام، و لحم لا كاللحوم، و دم لا كالدماء، و كذلك سائر الصفات، و هو لا يشبه شيئا من المخلوقات و لا يشبهه شي‏ء.و يحكى عنه أنه قال: هو أجوف من أعلاه إلى صدره، مصمت ما سوى ذلك و أن له وفرة سوداء، و له شعر قطط.

و أما ما ورد في التنزيل من الإستواء و اليدين و الوجه و الجنب و المجي‏ء و الاتيان و الفوقية و غير ذلك فأجروها على ظاهرها أعني ما يفهم عند الإطلاق على الأجسام. و كذلك ما ورد في الأخبار من الصورة في قوله عليه السلام: خلق الله آدم على صورة الرحمن. و قوله: حتى يضع الجبار قدمه في النار. و قوله: وضع يده أو كفه على كتفي فوجدت (حتى وجدت- خ ل) برد أنا مله بين ثديي (على كتفى- خ ل) إلى غير ذلك أجروها على ما يتعارف في صفات الأجسام.

ثم قال: و زادوا في الأخبار أكاذيب و ضعوها و نسبوها إلى النبي صلى الله عليه و آله و أكثرها مقتبسة من اليهود، فإن التشبيه فيهم طباع حتى قالوا: اشتكت عيناه‏ فعادته الملائكة و بكى على طوفان نوح عليه السلام حتى رمدت عيناه. و أن العرش ليأط من تحته كأطيط الرحل الحديد، و أنه ليفضل من كل جانب أربع أصابع.

و روت المشبهة عنه صلى الله عليه و آله أنه قال: لقيني ربي فصافحني و كافحني و وضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله في صدري. انتهى ما أردنا من نقل كلامه.

و الأشاعرة مع أنهم اعتقدوا تجرده تعالى قالوا بصحة رؤيته، و خالفوا بذلك جميع العقلاء، و لذا قالوا: إنه تعالى يرى لا كما قال هؤلاء القائلون بجسميته بل يرى و ليس فوقا، و لا تحتا، و لا يمينا، و لا شمالا، و لا أماما، و لا وراء، و لا يرى كله و لا بعضه، و لا هو في مقابلة الرائي، و لا منحرفا عنه، و لا يصح الإشارة إليه إذا رأي و مع ذلك يرى و يبصر.

قال بعض الأشاعرة: فقال: ليس مرادنا بالرؤية الانطباع أو خروج الشعاع بل الحالة التي تحصل من رؤية الشي‏ء بعد حصول العلم به، و تحذلق بعضهم فقال:

معنى الرؤية هو أن ينكشف لعباده المؤمنين في الاخرة انكشاف البدر المرئي.

نقلهما الفاضل المقداد في شرحه الموسوم بالنافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر للعلامة الحلي قدس روحهما.

و ذهب ضرار بن عمرو إلى أن الله تعالى يرى يوم القيامة بحاسة سادسة لا بهذا البصر.

و قال قوم: يجوز أن يحول الله تعالى قوة القلب إلى العين فيعلم الله تعالى بها، فيكون ذلك الإدراك علما باعتبار أنه بقوة القلب، و رؤية باعتبار أنه قد وقع بالمعنى الحال في الغير.

ثم القائلون برؤيته يوم القيامة اختلفوا في أنه هل يحوز أن يراه الكافر؟

فقال أكثرهم: إن الكفار لا يرونه، لأن رؤيته كرامة و الكافر لا كرامة له.

و قالت السالمية و بعض الحشوية: إن الكفار أيضا يرونه يوم القيامة.

و ذهب قوم إلى أنهم لا يزالون يرون الله تعالى و أن الناس كلهم كافرهم‏ و مؤمنهم يرونه و لكن لا يعرفونه. و تحذلق بعضهم فقال: لا يجوز أن يرى بعين خلقت للفناء، و إنما يرى في الاخرة بعين خلقت للبقاء.

هذه نبذة من الأقوال و الاراء في رؤيته تعالى و قد تمسك كل فرقة بظاهر بعض الايات و الأخبار، و لم يقدروا على الخروج من حكم الوهم إلى قضاء العقل و التمييز بينهما كما أشار إليه المحقق خواجه نصير الدين الطوسي في كتابه قواعد العقائد حيث قال: و عند أهل السنة إن الله تعالى يصح أن يرى مع امتناع كونه في جهة من الجهات، و احتجوا لها بالقياس على الموجودات المرئية و بنصوص القرآن و الحديث، انتهى ما أردنا من نقل كلامه.

ثم إنا لو تعرضنا لهدم بنيان ما تمسك بها كل فرقة على البسط و التفصيل لطال بنا الخطب و لخرجنا عن موضوع الكتاب، و لكن نذكر طائفة من الاصول الكلية العقلية الهادمة لما أسسوا و بنوا عليها تلك الاراء الردية ثم نعقبها بذكر ما روي عن أئمتنا المعصومين عليهم السلام لأن مقالاتهم موازين القسط في كل باب، و فيصل الخطاب في كل حكم لاولي الألباب.

و اعلم أن المعتمد في اصول الايمان هو العقل فقط و النقل إن وافقه و إلا فإن كان له محمل صحيح من وجوه الاستعارات و الكنايات و غيرهما المتداولة في لسان العرب أو غيرهم المؤيدة بالشواهد و القرائن التي لها وجه وجيه و أدركناها فنحمله عليه، و إلا إما تتوقف في تفسيره و تقريره كما لو كانت آية من آي القرآن المخالفة بظاهرها لحكم العقل الصريح و لم نصل إلى فهم مراده، و لكنا نعلم أن ظاهرها ليس بمراد كما نعلم أن لها معنى صحيحا لو رزقنا ادراكه وجدناه معاضدا لحكم العقل، و إما نعرض عنه كالخبر الواحد المخالف للعقل و القرآن.

و هدانا إلى ذلك رسول الله صلى الله عليه و آله و أئمتنا عليهم السلام فقد روى الشيخ أبو الفتوح الرازي في تفسيره حديثا عن النبي صلى الله عليه و آله: إذا أتاكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله و حجة عقولكم، فان وافقهما فاقبلوه، و إلا فاضربوا به عرض الجدار.

و في باب الأخذ بالسنة و شواهد الكتاب من الكافي رويت عدة روايات في‏ذلك عن أهل بيت العصمة و الطهارة حذروا الناس عن أخذ ما خالف كتاب الله، منها:

علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله عليه السلام قال:قال رسول الله عليه السلام: إن على كل حق حقيقة و على كل صواب نورا، فما وافق كتاب الله فخذوه، و ما خالف كتاب الله فدعوه.

محمد بن يحيى، عن عبد الله بن محمد، عن علي بن الحكم، عن أبان بن عثمان عن عبد الله بن أبي يعفور قال: و حدثني حسين بن أبي العلاء أنه حضر ابن أبي يعفور في هذا المجلس قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن اختلاف الحديث يرويه من تثق به، و منهم من لا تثق به، قال: إذا ورد عليكم حديث فوجدتم له شاهدا من كتاب الله أو من قول رسول الله صلى الله عليه و آله، و إلا فالذي جاءكم به أولى به.

عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن أيوب بن الحر قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: كل شي‏ء مردود إلى الكتاب و السنة، و كل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف.

محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضال، عن علي بن عقبة عن أيوب بن راشد، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف.

محمد بن اسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير، عن هشام بن الحكم و غيره عن أبي عبد الله عليه السلام قال: خطب النبي صلى الله عليه و آله بمنى فقال: أيها الناس ما جاءكم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته، و ما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله.

و في باب اختلاف الحديث و الحكم من الكافي باسناده عن أبان بن أبي عياش عن سليم بن قيس الهلالي، قال: قلت لأمير المؤمنين عليه السلام: إني سمعت من سلمان و المقداد و أبي ذر شيئا من تفسير القرآن و أحاديث عن نبي الله غير ما في أيدي الناس، ثم سمعت منك تصديق ما سمعت منهم، و رأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن و من الأحاديث عن نبي الله أنتم تخالفونهم فيها و تزعمون أن ذلك كله باطل، أفترى الناس يكذبون على رسول الله صلى الله عليه و آله متعمدين و يفسرون‏ القرآن بارائهم؟

قال: فأقبل عليه السلام علي فقال: قد سألت فافهم الجواب إن في أيدي الناس حقا و باطلا، و صدقا و كذبا، و ناسخا و منسوخا، و عاما و خاصا، و محكما و متشابها، و حفظا و وهما، و قد كذب على رسول الله صلى الله عليه و آله على عهده حتى قام خطيبا فقال: أيها الناس قد كثرت علي الكذابة فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار، ثم كذب عليه من بعده و إنما أتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس:

رجل منافق يظهر الايمان متصنع بالإسلام لا يتأثم و لا يتحرج أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه و آله متعمدا فلو علم الناس أنه منافق كذاب لم يقبلوا منه و لم يصدقوه، و لكنهم قالوا: هذا قد صحب رسول الله صلى الله عليه و آله و رآه و سمع منه فيأخذون عنه و هم لا يعرفون حاله، و قد أخبر الله عن المنافقين بما أخبره و وصفهم بما وصفهم فقال تعالى: و إذا رأيتهم تعجبك أجسامهم و إن يقولوا تسمع لقولهم‏ ثم بقوا بعده فتقربوا إلى أئمة الضلال و الدعاة إلى النار بالزور و الكذب و البهتان فولوهم الأعمال، و حملوهم على رقاب الناس، و أكلوا بهم الدنيا، و إنما الناس مع الملوك و الدنيا إلا من عصم الله، فهذا أحد الأربعة.

و رجل سمع من رسول الله صلى الله عليه و آله شيئا لم يحمله على وجهه و وهم فيه و لم يتعمد كذبا فهو في يده يقول به و يعمل به و يرويه فيقول: أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه و آله، فلو علم المسلمون أنه و هم لم يقبلوه، و لو علم هو أنه و هم لرفضه. الى آخر ما أفاد عليه السلام.

و أتى بهذه الرواية الرضي- ره- في باب الخطب من نهج البلاغة و الصدوق في الباب الخامس و الأربعين من رسالته في الاعتقادات و إنما أردنا نقل هذا المقدار من كلامه عليه السلام ليعلم أن الكذابة قد كثرت على رسول الله صلى الله عليه و آله و أن هؤلاء المتكذبين اختلقوا الأخبار، و افتروا على الله و رسوله فلا يكون كل خبر مروي على حياله حجة إلا ما يوافقه شاهد صادق كالعقل و القرآن و الأحاديث الصحيحة.

و أوضح منه في مقصودنا هذا ما روي عن الحسن بن الجهم، عن الرضا عليه السلام أتى به الفيض قدس سره في باب اختلاف الحديث و الحكم من الوافي (ص 66 ج 1) قال: قلت له عليه السلام: يجيئنا الأحاديث عنكم مختلفة، قال: ما جاءك عنا فاعرضه على كتاب الله عز و جل و أحاديثنا فان كان يشبههما فهو منا و إن لم يشبههما فليس منا. الحديث.

و قال ثقة الإسلام أبو جعفر الكليني قدس سره في أوائل الكافي:يا أخي أرشدك الله أنه لا يسع أحدا تمييز شي‏ء مما اختلف الرواية فيه عن العلماء عليهم السلام برأيه إلا على ما أطلقه العالم عليه السلام بقوله: اعرضوها على كتاب الله فما وافق كتاب الله عز و جل فخذوه، و ما خالف كتاب الله فردوه.

و قال العالم الرباني أبو جعفر محمد بن بابويه الملقب بالصدوق قدس سره الشريف في الباب الأول من رسالته في الاعتقادات:اعلم أن اعتقادنا في التوحيد أن الله تعالى واحد ليس كمثله شي‏ء، قديم لم يزل و لا يزال سميعا، بصيرا، عليما، حكيما، حيا، قيوما، عزيزا، قدوسا عالما، قادرا، غنيا، لا يوصف بجوهر، و لا جسم، و لا صورة، و لا عرض، و لا خط و لا سطح، و لا ثقل، و لا خفة، و لا سكون، و لا حركة، و لا مكان، و لا زمان فإنه تعالى متعال من جميع صفات خلقه خارج عن الحدين حد الإبطال و حد التشبيه و أنه تعالى شي‏ء لا كالأشياء، أحد صمد لم يلد فيورث، و لم يولد فيشارك، و لم يكن له كفوا أحد، و لا ندله، و لا ضد، و لا شبه، و لا صاحبة، و لا مثل، و لا نظير، و لا شريك له، لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار، و لا الأوهام و هو يدركها، لا تأخذه سنة و لا نوم، و هو اللطيف الخبير، خالق كل شي‏ء لا إله إلا هو له الخلق و الأمر تبارك الله رب العالمين، و من قال بالتشبيه فهو مشرك، و من نسب إلى الامامية غير ما وصف في التوحيد فهو كاذب، و كل خبر يخالف ما ذكرت في التوحيد فهو موضوع مخترع، و كل حديث لا يوافق كتاب الله فهو باطل، و إن وجد في كتب علمائنا فهو مدلس و الأخبار التي يتوهمها الجهال تشبيها لله تعالى بخلقه فمعانيها محمولةعلى ما في القرآن من نظائرها، إلى آخر ما قال.

أقول: لله دره فانه- ره- أجاد و أفاد بما قضى به العقل الصريح و النقل الصحيح، إلا أنه رحمه الله ذهب إلى أن من قال بالتشبيه فهو مشرك.

فإن عنى بذلك الشرك المصطلح عند المتشرعة بأن يكون قائله كافرا بحيث يترتب عليه أحكامه من النجاسة و عدم حل ذبيحته و سائر أحكامه التي دونت في الكتب الفقهية كما هو ظاهر كلامه- ره- فلا نسلم، لأن القائل برؤيته تعالى بالأبصار مثلا و إن كان شبهه تعالى بالجسم و أثبت له صفات المخلوق المركب المرئي إلا أنه ذهب إليه من غير شعور بتلك التوالي الفاسدة و اللوازم الباطلة غير اللائقة بذاته تعالى، و لو تنبه بها أعرض عنها، و ذلك القائل أطاع الوهم من حيث لا يشعر فأضله السبيل حيث رأى أن الأرض و الماء و الكواكب و غيرها مرئية محسوسة أو قابلة للرؤية، قاده الوهم إلى أن كل ما هو موجود فهو مرئي محسوس فالله تعالى موجود فتصح رؤيته و ما درى أن ذلك القول ينتهي إلى التركيب و الافتقار و سائر صفات الجسم في الله تعالى و لم يعلم من الشرع أن القائل بما تترتب عليه لوازم غير بينة من حيث لا يشعر مأخوذ و محكوم بأحكام تلك اللوازم الشرعية، بل المعلوم خلافه، نعم لو كانت اللوازم بينة و مع ذلك مال إليها و شبهه تعالى بما يعلم تواليه الفاسدة المترتبة على رأيه يمكن أن يقال إنه مشبه مشرك كافر.

و إن عنى معناه اللغوي العاري عن الأحكام الشرعية توسعا، أو أن هذا قول المشرك و هو لا يعلم به أو نظائر هذين الوجهين فلا كلام فيه إلا أن نحو هذا القائل ليس بمشرك كافر.

و قال- ره- في باب ما جاء في الرؤية من كتابه القيم المفيد في التوحيد (ص 108 طبع ايران 1321 ه): و الأخبار التي رويت في هذه المعنى- يعني في الرؤية- صحيحة و إنما تركت إيرادها في هذا الباب خشية أن يقرؤها جاهل بمعانيها فيكذب بها فيكفر بالله عز و جل و هو لا يعلم.

و الأخبار التي ذكرها أحمد بن محمد بن عيسى في نوادره و التي أوردها محمد بن أحمد بن يحيى في جامعه في معنى الرؤية صحيحة لا يردها إلا مكذب بالحق أو جاهل به، و ألفاظها ألفاظ القرآن، و لكل خبر منها معنى ينفي التشبيه و التعطيل و يثبت التوحيد و قد أمرنا الأئمة صلوات الله عليهم أن لا نكلم الناس إلا على قدر عقولهم.

و معنى الرؤية الواردة في الأخبار العلم، و ذلك أن الدنيا دار شكوك و ارتياب و خطرات فإذا كان يوم القيامة كشف للعباد من آيات الله و اموره في ثوابه و عقابه ما يزول به الشكوك و يعلم حقيقة قدرة الله عز و جل، و تصديق ذلك في كتاب الله عز و جل: لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد (ق- 22).

فمعنى ما روي في الحديث أنه عز و جل يرى أي يعلم علما يقينيا كقوله عز و جل‏ أ لم تر إلى ربك كيف مد الظل‏ (الفرقان- 45) و قوله تعالى: أ لم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه‏ (البقرة- 258) و قوله تعالى: أ لم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم و هم ألوف حذر الموت‏ (البقرة- 243) و قوله تعالى:

أ لم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل‏ (الفيل- 2) و أشباه ذلك من رؤية القلب و ليست من رؤية العين. إلى آخر ما أفاد قدس سره و إنما نقلنا موضع الحاجة من كلامه.

أقول: قوله- ره- فيكفر بالله عز و جل و هو لا يعلم، كأنما أراد به المعنى الثاني من المعنيين المتقدمين فلا بأس أن يجعل كلامه في التوحيد قرينة على حمل كلامه في الاعتقادات على ذلك أيضا، أي و من قال بالتشبيه فهو مشرك و هو لا يعلم.

فنقول: إن ما يدرك بالقوة الباصرة لا بد من أن يكون جسما كثيفا، لأن للرؤية شروطا.

فمنها أن يكون المرئي مقابلا للرائي أو في حكم المقابل، و الثاني كرؤية الانسان وجهه في المرآة و رؤية الأعراض، لأن المقابل حقيقة هو الجسم و اعراضه مقابلة للرائي بالتبع فهي في حكم المقابل.

و منها عدم البعد المفرط.

و منها عدم القرب المفرط.

و منها عدم الصغر المفرط.

و منها عدم الحاجب بين الرائي و المرئي.

و منها أن يكون المرئي مضيئا إما من ذاته أو من غيره.

و منها أن يكون المرئي كثيفا أي مانعا للشعاع من النفوذ فيه فلو لم يكن كثيفا لا يمكن رؤيته.

سواء قيل: إن الابصار بخروج الشعاع من العين على هيئة مخروط رأسه عند مركز البصر و قاعدته عند سطح المبصر.

إما يكون ذلك المخروط مصمتا أو مركبا من خطوط شعاعية مستقيمة أطرافه التي يلي البصر مجتمعة عند مركزه ثم تمتد متفرقة إلى البصر، فما ينطبق عليه من المبصر أطراف تلك الخطوط أدركه البصر و ما وقع بين أطراف تلك الخطوط لم يدركه.

و إما لم يكن الشعاع مخروطا أصلا بل هو خط مستقيم خارج من العين فإذا انتهى إلى المرئي تحرك على سطحه في جهتي طوله و عرضه حركة في غاية السرعة و يتخيل بحركته هيئة مخروطة كما يتخيل القطر النازل خطا مستقيما و النقطة الدائرة بسرعة خطا مستديرا، و هذا قول الرياضيين ذهب إلى كل واحدة من الشعب المذكورة طائفة منهم.

و سواء قيل: إن الابصار بالانطباع و هو مذهب الطبيعيين و هو المختار عند أرسطو و أتباعه كالشيخ الرئيس حيث اختاره في الشفاء.

أو قيل: إن المشف الذي بين البصر و المرئي يتكيف بكيفية الشعاع الذي هو في البصر و يصير بذلك آلة للإبصار كما ذهب اليه طائفة من الحكماء.

أو قيل: لا انطباع و لا شعاع و إنما الابصار بمقابلة المستنير للباصرة فيقع حينئذ للنفس علم اشراقي حضوري على المبصر كما مال إليه الشيخ الاشراقي شهاب الدين السهروردي.

أو أن الإبصار بإنشاء صورة مماثلة له بقدرة الله من عالم الملكوت النفساني مجردة عن المادة الخارجية حاضرة عند النفس المدركة قائمة بها قيام الفعل بفاعله لا قيام المقبول بقابله.

و بالجملة أن المحسوس لكل حاسة هو الصورة الإدراكية المفارقة عن المادة، لا التي هي في مادة جسمانية و مع ذلك لا بد في الإبصار من مقابلة البصر لما يقع صورته عند القوة المدركة و البصر، و من تحقق سائر شروط الرؤية كما ذهب إليه المولى صدر المتألهين في السفر الرابع من الأسفار. و حجة كل طائفة مذكورة في محالها و لسنا الان في ذلك المقام.

و قد أشار إلى تلك الاراء في كيفية الابصار الحكيم السبزواري قدس سره في غرر الفرائد بقوله منظوما:

قد قيل الابصار بالانطباع‏ و قيل بالخارج من شعاع‏
مضطرب الاخر أو مخروطي‏ مصمت أو الف من خطوط
لدى الجليدية رأسه ثبت‏ قاعدة منه على المرئي حوت‏
تكيف المشف باستحالة بكيف ضوء العين بعض قاله‏
و بانتساب النفس و الاشراق‏ منها لخارج لدى الاشراقي‏
و صدر الاراء هو رأى الصدر فهو بجعل النفس رأيا يدري‏
للعضو أعداد إفاضة الصور قامت قياما عنه كالذي استتر

و كيف كان و لو جازت رؤيته تعالى بالأبصار لزم أن يكون جسما ذا جهة لأن المرئي بالعين يجب أن يكون كثيفا مقابلا للرائي. و ليس ذلك إلا الأشياء التي قبلنا، فاذن يلزم تركيبه تعالى و تحديده و افتقاره و غيرها من التوالي الباطلة و المفاسد اللازمة على هذا الرأي السخيف، تعالى الله عما يقول الجاهلون علوا كبيرا.

فلما كانت البراهين العقلية تمنعنا عن القول برويته تعالى بل برؤية المفارقات مطلقا سواء كانوا عقولا أو نفوسا بالأبصار فلا يصح لنا الأخذ بظواهر الأحاديث المروية في الرؤية بل بظاهر الايات القرآنية الناطقة فيها، و قد نعلم قطعا أن الله تعالى و حججه ما أرادوا معانيها الظاهرة، و لذلك تصدى العقلاء إلى درك معانيها الحقيقية و حمل ظاهرها على ما يوافقه صريح العقل و صحيح النقل.

مثلا أنهم بينوا في قوله تعالى: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة (القيامة- 23) الذي تمسك به الأشعري و أتباعه في القول بالرؤية وجوها من المعاني الصحيحة التي تناسب حكم العقل و لا يأبى عنها طباع الاية.

روى الصدوق قدس سره في الباب الحادى عشر من عيون أخبار الرضا عليه السلام باسناده عن ابراهيم بن أبي محمود قال: قال علي بن موسى الرضا عليه السلام في قول الله تعالى‏ وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة يعني مشرقة ينتظر ثواب ربها.

و قال علم الهدى السيد المرتضى- ره- في كتابه غرر الفوائد و درر القلائد (ص 16 طبع طهران 1272 ه):

إن أصحابنا قد اعتمدوا فى إبطال ما ظن أصحاب الرؤية في قوله تعالى‏ وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة على وجوه معروفة، لأنهم بينوا أن النظر ليس يفيد الرؤية و لا الرؤية من أجل محتملاته. و دلوا على أن النظر ينقسم إلى أقسام كثيرة منها تقليب الحدقة الصحيحة حيال المرئي طلبا لرؤيته، و منها النظر الذي هو الانتظار، و منها النظر الذي هو التعطف و الرحمة، و منها النظر الذي هو الفكر و التأمل، و قالوا: إذا لم يكن في أقسام النظر الرؤية لم يكن للقوم بظاهرها تعلق و احتجنا جميعا إلى طلب تأويل الاية من غير جهة الرؤية، و تأولها بعضهم على الانتظار للثواب و إن كان المنتظر في الحقيقة محذوفا و المنتظر منه مذكورا على عادة للعرب معروفة و سلم بعضهم أن النظر يكون الرؤية بالبصر و حمل الاية على رؤية أهل الجنة لنعم الله تعالى عليهم على سبيل حذف المرئي في الحقيقة، و هذا الكلام مشروح في مواضعه و قد بينا ما يورد عليه و ما يجاب عن الشبهة المعترضة فيه في مواضع كثيرة.

قال: و ههنا وجه غريب في الاية حكي عن بعض المتأخرين- قيل: إن ذلك البعض هو الصاحب بن عباد- لا يفتقر معتمده إلى العدول عن الظاهر أو إلى تقدير محذوف، و لا يحتاج إلى منازعتهم في أن النظر يحتمل الرؤية أولا يحتملها، بل يصح الاعتماد عليه، سواء كان النظر المذكور في الاية هو الانتظار بالقلب أو الرؤية بالعين، و هو أن يحمل قوله تعالى‏ إلى ربها على أنه أراد به نعمة ربها لأن الالاء النعم و في واحدها أربع لغات يقال: ألى مثل قفا، و إلى مثل معى و ألي مثل ظبي، و إلى مثل حسى: قال الأعشى بكر بن وائل:

255

أبيض لا يرهب الهزال و لا يقطع رحما و لا يخون إلى‏

أراد أنه لا يخون نعمة و أراد تعالى بإلى ربها نعم ربها، و اسقط التنوين للإضافة.

قال: فإن قيل: أي فرق بين هذا الوجه و بين تأويل من حمل الاية على أنه اريد بها إلى ثواب ربها ناظرة يعني رائية لنعمه و ثوابه؟

قلنا: ذلك الوجه يفتقر إلى محذوف لأنه إذا جعل إلى حرفا و لم يعلقها بالرب تعالى فلا بد من تقدير محذوف و في الجواب الذي ذكرناه لا يفتقر إلى تقدير محذوف، لأن إلى فيه اسم تتعلق به الرؤية فلا يحتاج إلى تقدير محذوف غيره، و الله أعلم بالصواب، انتهى كلامه رفع مقامه، و ذكر البيت الطبرسي- ره- أيضا فى التفسير و استشهد به بأن إلى في الاية اسم مفرد الالاء.

و جميع الايات التي تمسك بها الأشاعرة كان من هذا القبيل، و كذا الأخبار الظاهرة في الرؤية، و لو كان خبر ناصا في مقصودهم بالفرض لرفضناه و نضربه على الجدار لعلمنا بأنه موضوع و إلا لما خالف العقل و القرآن.

على أن للروايات التي تعلقوا بها أيضا معاني صحيحة كما سنشير إلى نبذة منها عند شرح الأحاديث الاتية المروية عن الأئمة عليهم السلام في إبطال رؤيته تعالى بالأبصار.

ثم إن الأشاعرة سلكوا في قولهم هذا مسلك قولهم في الكلام النفسي حيث‏ زعموا في ماهية كلامه تعالى أنه معنى قديم قائم بذاته ليس بحرف و لا صوت و لا أمر و لا نهي و لا خبر و لا استخبار و غير ذلك من أساليب الكلام، لأنهم مع ذهابهم إلى تجرده تعالى قالوا برؤيته بالأبصار و لكنه يرى لا كما يرى الاجسام بل يرى و ليس فوقا و لا تحتا و لا يمينا- الى آخر ما نقلنا من مذهبهم في الرؤية.

ثم إن بعض الأشاعرة لما التفتوا إلى سخافة رأي شيخهم في الرؤية تصدى لحمل كلامه على وجه لعله يوافق حكم العقل فقال: ليس مرادنا بالرؤية الانطباع أو خروج الشعاع، بل الحالة التي تحصل من رؤية الشي‏ء بعد حصول العلم به.

و مراده من كلامه هذا أنه ليس المراد بالرؤية هو الانكشاف التام المسلم جوزاه عند الكل، و لا ارتسام صورة المرئي في العين المسلم امتناعه عند الكل بل أمر آخر وراء ذلك يسمونه بالحالة التي تحصل من رؤية الشي‏ء بعد حصول العلم كما صرح به شارح الفصوص المنسوب إلى الفارابي، و الفخر الرازي في المحصل و الرجلان من كبار الأشاعرة.

فقال الأول (ص 126 طبع طهران 1318 ه): مذهب أهل الحق و هم الأشاعرة أن الله تعالى يجوز أن يرى منزها عن المقابلة و الجهة و المكان، و خالفهم في ذلك سائر الفرق، و لا نزاع للنافين في جواز الانكشاف التام العلمي، و لا للمثبتين في امتناع ارتسام صورة المرئي في العين، و اتصال الشعاع الخارج من العين بالمرئي إنما محل النزاع إذا عرفنا الشمس مثلا بحد أو رسم كان نوعا من الإدراك، ثم إذا بصرناها و غمضنا العين كان نوعا آخر فوق الأول، ثم إذا فتحنا العين يحصل لنا من الإدراك نوع آخر فوق الأولين نسميها الرؤية و لا يتعلق في الدنيا إلا بما هو في جهة أو مكان، فمثل هذه الحالة الادراكية هل يصح أن يقع بدون المقابلة و الجهة و أن يتعلق بذات الله تعالى منزهة عن الجهة و المكان أم لا فالأشاعرة يثبتونها و المعتزلة و سائر الفرق ينكرونها. انتهى كلامه.

و لا يخفى عليك أنه لم يأت بما يغنيهم و ينجيهم من مهالك رأيهم الكاسد، و أورد عليه الفخر في المحصل اعتراضات كثيرة مع أنه حرر البحث أيضا مثل ذلك‏ الرجل و قال: محل النزاع ذلك الأمر الاخر لا الأولان، و اختار آخر الأمر أن المعتمد في مسألة الرؤية الدلائل السمعية.

و نقل كلامه و إن كان مفضيا إلى إطناب، و لكن لما كان الرجل من أعاظم الأشعرية، و قوله يعتنى به في تقرير ما ذهبوا إليه يعجبني نقله حتى يعلم منه أنهم لما رأوا ركاكة رأي رئيسهم تصدوا إلى تحصيل مخلص، فتراهم أنهم في كل و اديهيمون، فذهب بعضهم الى أن المراد من الرؤية تلك الحالة، و الاخر إلى أنه الكشف التام، و ثالث إلى أن المعتمد الدلائل السمعية مع أن شيخهم أبا الحسن علي ابن إسماعيل الأشعري اعتقد خلاف ما بينوه.

قال الشهرستاني في الملل و النحل (ص 45 طبع ايران 1288 ه): و من مذهب الأشعري أن كل موجود فيصح أن يرى، فإن المصحح للرؤيه إنما هو الوجود، و الباري تعالى موجود فيصح أن يرى، و قد ورد السمع بأن المؤمنين يرونه في الاخرة قال الله تعالى‏ وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة إلى غير ذلك من الايات و الأخبار. قال: و لا يجوز أن تتعلق به الرؤية على جهة و مكان و صورة و مقابلة و اتصال شعاع أو على سبيل انطباع فإن ذلك مستحيل.انتهى قوله.

و أقول: إن قول الأشعري يضاهي ما ذهب إليه الملحدون قديما و حديثا حيث قالوا: كل ما يرى فهو موجود، فلو كان الله موجودا كان مرئيا، فحيث لم نره فليس بموجود.

على أنه يرد على الأشعري أن المعاني و المشمومات و المسموعات و كثيرا من الأجسام كالهواء و الفلك و جميع المشف الذي ينفذ فيه نور البصر لا تصح أن ترى، اللهم إلا أن يقال: إن الرجل لما كان يعتقد بالإرادة الجزافية و يجوز تخلف المسببات عن الأسباب إلا أن عادة الله جرت باحراق النار و تبريد الماء مثلا لا أن النار سبب للإحراق، يقول في عدم رؤية تلك الأشياء أيضا بتخلفها عن أسبابها و بأن إرادة الله لم تجر برؤيتها.

أما كلام الفخر الرازي في المحصل فقال (ص 137 طبع مصر 1323 ه) «مسألة» الله تعالى يصح أن يكون مرئيا، خلافا لجميع الفرق، أما الفلاسفة و المعتزلة فلا إشكال في مخالفتهم، و أما المشبهة و الكرامية فلأنهم إنما جوزوا رؤيته لاعتقادهم كونه تعالى في المكان و الجهة و أما بتقدير أن يكون هو تعالى منزها عن الجهة فهم يحيلون رؤيته، فثبت أن هذه الرؤية المنزهة عن الكيفية مما لا يقول به أحد إلا أصحابنا.

و قبل الشروع في الدلالة لا بد في تلخيص محل النزاع.

فإن لقائل أن يقول: إن أردت بالرؤية الكشف التام فذلك مسلم، لأن المعارف تصير يوم القيامة ضرورية، و إن أردت بها الحالة التي نجدها من أنفسنا عند اتصال الشعاع الخارج من العين إلى المرئي أو عن حالة مستلزمة لارتسام الصورة أو لخروج الشعاع و كل ذلك في حق الله تعالى محال، و إن أردت به أمرا ثالثا فلا بد من إفادة تصوره، فإن التصديق مسبوق بالتصور.

و الجواب أنا إذا علمنا الشي‏ء حال مالا نراه ثم رأيناه فانا ندرك تفرقة بين الحالين. و قد عرفت أن تلك التفرقة لا يجوز عودها إلى ارتسام الشبح في العين، و لا إلى خروج الشعاع منها، فهي عائدة إلى حالة اخرى مسماة بالرؤية فندعي أن تعلق هذه الصفة بذات الله جائز، هذا هو البحث عن محل النزاع، و المعتمد أن الوجود في الشاهد علة لصحة الرؤية فيجب أن يكون في الغائب كذلك.

قال: و هذه الدلالة ضعيفة من وجوه:أحدها أن وجود الله تعالى عين ذاته، و ذاته مخالف لغيره فيكون وجوده مخالفا لوجود غيره فلم يلزم من كون وجودنا علة لصحة الرؤية كون وجوده كذلك.

سلمنا أن وجودنا يساوي وجود الله تعالى و مجرد كونه وجودا لكن لا نسلم أن صحة الرؤية في الشاهد مفتقرة إلى العلة، فإنا بينا أن الصحة ليست أمرا ثبوتيا فتكون عدمية، و قد عرفت أن العدم لا يعلل.

سلمنا أن صحة رؤيتنا معللة فلم قلت إن العلة هي الوجود؟ قالوا: لأنا نرى الجوهر و اللون قد اشتركا في صحة الرؤية، و الحكم المشترك لابد له من علة مشتركة و لا مشترك إلا الحدوث و الوجود، و الحدوث لا يصلح للعلية، لأنه عبارة عن وجود مسبوق بالعدم، و العدم نفي محض، و العدم السابق لا دخل له في التأثير فيبقى المستقل بالتأثير محض الوجود، فنقول: لا نسلم أن الجوهر مرئي على ما تقدم.

سلمناه لكن لا نسلم أن صحة كون الجوهر مرئيا يمنع حصولها في اللون مرئيا، فلم لا يجوز أن يقال: الصحتان نوعان تحت جنس الصحة، تحقيقه أن صحة كون الجوهر مرئيا يمتنع حصولها في اللون، لأن اللون يستحيل أن يرى جوهرا و الجوهر يستحيل أن يرى لونا، و هذا يدل على اختلاف هاتين الصحتين في الماهية سلمنا الاشتراك في الحكم فلم قلت: إنه يلزم من الاشتراك في الحكم الاشتراك في العلة؟ بيانه ما تقدم من جواز تعليل الحكمين المتماثلين بعلتين.

مختلفتين.

سلمنا وجوب الاشتراك فلم قلت: إنه لا مشترك سوى الحدوث و الوجود و عليكم الدلالة. ثم نحن نذكره و هو الإمكان و لا شك أن الإمكان مغاير للحدوث فان قلت: الامكان عدمي قلت: فامكان الرؤية أيضا عدمي، و لا استبعاد في تعليل عدمي بعدمي.

سلمنا أنه لا مشترك سوى الحدوث و الوجود فلم قلت: إن الحدوث لا يصلح قوله لأنه عبارة عن مجموع عدم و وجود؟ قلنا: لا نسلم بل هو عبارة عن كون الوجود مسبوقا بالعدم و مسبوقية الوجود بالعدم غير نفس العدم. و الدليل عليه أن الحدوث لا يحصل إلا في أول زمان الوجود، و في ذلك الزمان مستحيل حصول العدم فعلمنا أن الحدوث كيفية زائدة على العدم.

سلمنا أن المصحح هو الوجود فلم قلت: إنه يلزم من حصوله في حق الله تعالى حصول الصحة فان الحكم كما يعتبر في تحققه حصول المقتضي يعتبر فيه أيضا انتفاء المانع، فلعل ماهية الله تعالى أو ماهية صفة من صفاته ينافي هذا الحكم و مما يحققه إن الحياة مصححة للجهل و الشهوة، ثم إن حياة الله تعالى لا تصححها إما لأن الاشتراك ليس إلا في اللفظ، أو اشتراكا في المعنى لكن ماهية ذات الله تعالى و ماهية صفة من صفاته ينافيهما، و على التقديرين فإنه يجوز في هذه المسألة ذلك أيضا.

سلمنا أنه لم يوجد المنافي لكن لم لا يجوز أن يكون حصول هذه الرؤية في أعيننا موقوفا على شرط يمتنع تحققه بالنسبة إلى ذات الله تعالى، فإنا لا نرى المرئي إلا إذا انطبعت صورة صغيرة متساوية للمرئي في الشكل في أعيننا، و في المحتمل أن يكون حصول الحالة المسماة بالرؤية مشروطا بحصول هذه الصورة أو كان مشروطا بحصول المقابلة، و لما امتنع حصول هذه الامور بالنسبة إلى ذات الله لا حرم امتنع علينا أن نرى ذات الله تعالى و المعتمد في المسألة الدلائل السمعية:

أحدها أن رؤية الله تعالى معلقة باستقرار الجبل و هو ممكن و المعلق على الممكن ممكن فالرؤية ممكنة.

و ثانيها أن موسى عليه الصلاة و السلام سأل الرؤية و لو لم تكن الرؤية جائزة لكان سؤال موسى عبثا أو جهلا.

و ثالثها قوله تعالى‏ وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة انتهى ما أردنا من نقل كلامه في المسألة فعلمت أنه صرح بأن المراد بالرؤية عند الأشعري و أتباعه ليس الانكشاف التام، و لا ارتسام صورة المرئي في العين، لعدم الخلاف في صحة الأول و بطلان الثاني بل المراد تلك الحالة الإدراكية التي فسرت.

و لما كان هذا المعنى أيضا غير مستقيم بوجوه اشير إلى بعضها عدل عنه الفخر و تمسك بظاهر الايات الثلاث، مع أنها لا تدل على مرادهم.

و العجب من الفخر كيف اعتمد على الايات في إفادة ذلك المعنى الذي يأبى عنه العقل و النقل أيضا كقوله تعالى‏ لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار و هو اللطيف الخبير. (الأنعام- 104) و كيف تدركه الأبصار و هو اللطيف الخبير. و في كلمة اللطيف في المقام لطائف يفهمها من كان له قلب.

نعم الوجه الأول الذي بينه بعض آخر منهم من أن معنى الرؤية عندهم الكشف التام أي ينكشف لعباده المؤمنين في الاخرة انكشاف البدر المرئي متين غاية المتانة، لما علمت آنفا من أن الدنيا دار شكوك و ارتياب، فاذا كان يوم القيامة كشف للعباد ما يزول به الشكوك.

قال بعض المحققين كما نقل المولى صدرا عنه في الفصل الرابع من الموقف السابع من السفر الرابع من الأسفار:إن الإنسان ما دام في مضيق البدن و سجن الدنيا مقيدا بقيود البعد و المكان و سلاسل الحركة و الزمان، لا يمكنه مشاهدة الايات الافاقية و الأنفسية على وجه التمام و لا يتلوها دفعة واحدة إلا كلمة بعد كلمة، و حرفا بعد حرف، و يوما بعد يوم و ساعة بعد ساعة.

فيتلو آية و يغيب عنه اخرى، فيتوارد عليه الأوضاع، و يتعاقب له الشئون و الأحوال، و هو على مثال من يقرأ طومارا و ينظر إلى سطر عقيب آخر، و ذلك لقصور نظره و قوة إدراكه عن الإحاطة بالتمام دفعة واحدة قال تعالى: و ذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات‏ (ابراهيم- 5).

فإذا قويت بصيرته و تكحلت عينه بنور الهداية و التوفيق كما يكون عند قيام الساعة فيتجاوز نظره عن مضيق عالم الخلق و الظلمات إلى عالم الأمر و النور فيطالع دفعة جميع ما في هذا الكتاب الجامع للايات من صور الأكوان و الأعيان كمن يطوى عنده السجل الجامع للسطور و الكلمات، و إليه الإشارة بقوله تعالى‏ يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب‏ (الأنبياء- 104) و قوله: و السماوات مطويات بيمينه‏.

و إنما قال بيمينه لأن أصحاب الشمال و أهل دار النكال ليس لهم نصيب في طي السماء بالقياس إليهم و في حقهم غير مطوية أبدا، لتقيد نفوسهم بالأمكنة و الغواشي كما قال تعالى‏ لهم من جهنم مهاد و من فوقهم غواش‏ (الأعراف- 42)

فلو كانت الأشاعرة عنوا من قولهم هذا المعنى أعني ذلك الكشف التام الذي بينه ذلك البعض، فنعم الوفاق، و إلا فلا يتصور منه إلا الرؤية بالبصر و هو باطل عقلا و سمعا، و لكن قد عرفت أن هذا المعنى اللطيف الصحيح ليس بمراد الأشعري و أتباعه كما صرح به الرجلان و الشهرستاني في الملل و غيرهم.

ثم إن حمل الحائطية و الحدثية خبر رؤية الباري تعالى مثل قوله صلى الله عليه و آله «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته» و أشباهه على رؤية العقل الأول كما نقل عنهما الشهرستاني في الملل على ما قدمنا آنفا فليس بصحيح أيضا.

و ذلك لأنهما حملا كلمة الرب في الحديث على العقل الأول من حيث إنه مرب لما دونه من الموجودات و هذا لا بأس به كما برهن في محله أن لكل نوع من الامور التي تلينا فردا مجردا عقلانيا على صورته يسمى رب ذلك النوع و هو تعالى رب أرباب النوعيات، و لكنهما أخطئا في هذا الرأي أيضا من حيث إنهما اختاراه حذرا من الإشكال الوارد على ظاهر الحديث أعني ما يتبارد إليه الذهن من أن كلمة الرب هو الله تعالى رب العالمين و قد كرا إلى ما فرا منه، لأن العقل الأول لا يمكن رؤيته بالأبصار، لأنه من الموجودات النورية المحضة و المجردات الصرفة، و المفارقات مطلقا سواء كانوا عقولا أو نفوسا لا يمكن رؤيتهم بالأبصار، لأنهم ليسوا بجسم و لا جسماني، و ليس لهم جهة و كثافة و ثقل و غيرها من أوصاف الجسم.

على أن الأجسام المشفة و كثيرا من الأعراض مع كونها في جهة لا ترى و حكم بما أشرنا إليه العقل و عاضده الشرع، فقد قام البرهان على أن الصادر الأول لا يكون إلا عقلا، و العقل لا يكون إلا مجردا. و قد قال الله تعالى: ثم أنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين و أنزل جنودا لم تروها (التوبة- 26) و قال تعالى: فأنزل الله سكينته عليه و أيده بجنود لم تروها (التوبة- 40) و قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم‏ ريحا و جنودا لم تروها (الأحزاب- 10) و الجنود في الايات الملائكة، و ذلك أن الله تعالى قال: لقد نصركم الله في مواطن كثيرة و يوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا و ضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين و أنزل جنودا لم تروها و عذب الذين كفروا و ذلك جزاء الكافرين‏ (التوبة- 25 و 26).

و من تلك المواطن بدر و قد قال الله تعالى: و لقد نصركم الله ببدر و أنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون إذ تقول للمؤمنين أ لن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا و تتقوا و يأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين‏ (آل عمران 121- 123).

و قال تعالى. إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين‏ (الأنفال- 10).

و قد قال أمير المؤمنين عليه السلام حين سئل عن العالم العلوي: صور عارية عن المواد، خالية عن القوة و الاستعداد، تجلى لها فأشرقت، و طالعها فتلألأت، ألقى في هويتها مثاله، و أظهر عنها أفعاله. الحديث.

و هذه الصور قد يعبر عنهم بالعقول، و قد يعبر عنهم بالملائكة، و إذا كانوا عارين عن المواد لا يمكن رؤيتهم بالأبصار، لما أشرنا إليه آنفا من أن المرئي بالبصر يجب أن يكون ماديا كثيفا، و قد قدمنا في المباحث السابقة نبذة من الكلام في ذلك (راجع ص 79 ج 2 من التكملة).

و أما جواب الأقوال التي نقلها الشهرستاني من أن داود الجواري ذهب إلى أن معبوده جسم و لحم و دم- إلخ، و أن مضر و كهمش و الهجيمي أجازوا على ربهم الملامسة و المصافحة، و أن المخلصين يعانقونه في الدارين و غيرهما من أقوال المشبهة فهو أنهم شبهوه تعالى بأنفسهم.

على حذوما أفاده مولانا الامام الخامس محمد بن علي الباقر عليه السلام: هل سمي عالما قادرا إلا لما وهب العلم للعلماء، و القدرة للقادرين؟ و كلما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه فهو مخلوق مصنوع مثلكم.

و في رواية اخرى عن الصادق عليه السلام: كلما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه مخلوق مصنوع مثلكم مردود إليكم، و لعل النمل الصغار تتوهم أن لله سبحانه زبانتين، فان ذلك كمالها، و تتوهم أن عدمهما نقصان لمن لا يتصف بهما، و كذا حال العقلاء فيما يصفون الله سبحانه و تعالى به.

و أما الروايات الموعودة فقد رويت عن أئمتنا المعصومين عليهم السلام في إبطال رؤيته تعالى بالأبصار مطلقا روايات لطيفة دقيقة لو تأمل فيها من كان له قلب سليم و سر نقي علم أن تلك الدقائق الحكمية و المعارف الحقة الالهية، و الاشارات التوحيدية و الاصول الكلية العقلية التي لم تبلغ إليها أفكار أوحدي الناس في تلك الأعصار فضلا عن غيرهم، و لا يدركها الراسخون في العلوم الالهية و المعارف العقلية إلا بعد تلطيف سر، و تصفية فكر، و تجريد ذهن، و مدد سماوي إنما فاضت من سماء صدور الذين هم المستضيئون بأنوار الرحمن، و العارفون ببطون القرآن، و العالمون بالعلوم اللدنية المستفاضة من لدن مبدء العالم عليهم و هم الذين فتحوا أبواب الاستدالال العقلي على العلوم الربوبية.

و المتضلع في أقوال علماء الشرع و مباحثهم الكلامية المنقولة من الخاصة و العامة علم أن قصارى استدلالهم على اصول العقائد و غيرها كانت مقصورة بمفاهيم الايات و الأحاديث الظاهرة و لم يعهد منهم إقامة نحو تلك البراهين العقلية المأثورة عن آل محمد صلى الله عليه و آله.

فعليك بما رواه عنهم ثقة الإسلام أبو جعفر الكليني في الكافي، و الشيخ الأجل الصدوق في التوحيد و الأمالي، و الشيخ الجليل الطبرسي في الاحتجاج، و بما استنبط منها المتألهون من مطالب عرشية رقيقه، و نكات عقلية أنيقة مما يضي‏ء العقل و يقويه و يحييه.

إذا شئت أن ترضى لنفسك مذهبا و تعرف صدق القول من كذب أخبار
فوال أناسا قولهم و حديثهم‏ روى جدنا عن جبرئيل عن الباري‏

و دونك شرح الحكيم المتأله المولى صدر الشيرازي، و شرح الحكيم المولى محمد صالح المازندراني، و شرح الحكيم الفيض في الوافي على اصول الكافي و شرح الحكيم القاضي السعيد القمي على كتاب التوحيد للصدوق، و شروح غيرهم من فحول العلماء على الكافي و التوحيد و غيرهما مما رويت عن أئمتنا الطاهرين حتى يتبين لك أن المعارف الحقة في الاصول الإعتقادية هي التي أفادوها و بينوها لأهلها، و أن من حاد عنها فقد سلك طريقة عمياء قاده الهوى إليها، و أطاع الوهم فأضله الجادة الوسطى و أن من عزى إلى الإمامية غير ما هداهم إليها أئمتهم فقد افترى.

فقد يخلق بنا الان أن نذكر عدة روايات في ذلك الموضوع المعنون و نفسرها بقدر الوسع على الإيجاز و الاختصار، دون التطويل و الإكثار عسى أن ينفع طالب الرشاد و باغي السداد فنقول و بالله التوفيق و عليه التكلان:

إن الكليني قدس سره قد نقل في الباب التاسع من كتاب التوحيد من جامعه اصول الكافي المترجم بباب إبطال الرؤية أحاديث عنهم عليهم السلام و أتى بطائفة منها الصدوق قدس سره في التوحيد و الأمالي، و الشيخ الجليل الطبرسي- ره- في الاحتجاج، و العلامة المجلسي في البحار، و نحن اخترنا منها ما نوردها ههنا و نبحث عن معانيها و نكشف القناع عن دقائقها و لطائفها بعون الله تعالى.

الحديث الاول‏

و هو الحديث الرابع من ذلك الباب من الكافي رواه باسناده عن أحمد بن إسحاق قال: كتبت إلى أبي الحسن الثالث عليه السلام أسأله عن الرؤية و ما اختلف فيه الناس، فكتب عليه السلام: لا يجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي و المرئي هواء ينفذه البصر فاذا انقطع الهواء عن الرائي و المرئي لم تصح الرؤية، و كان في ذلك الاشتباه، لأن الرائي متى ساوى المرئي في السبب الموجب بينهما في الرؤية وجب الاشتباه‏ و كان ذلك التشبيه لأن الأسباب لا بد من اتصالها بالمسببات.

و روى الحديث الصدوق في باب ما جاء في الرؤية من كتابه التوحيد عن الحسين بن أحمد بن إدريس، عن أبيه، عن أحمد بن إسحاق أيضا، و بينهما اختلاف في الجملة و على ما في التوحيد: قال: كتبت إلى أبي احسن الثالث عليه السلام عن الرؤية و ما فيه الناس- فاذا انقطع الهواء و عدم الضياء بين الرائي- و كان في في ذلك التشبيه- إلخ. و قال المجلسي- ره- في مرآة العقول: و في بعض النسخ لم ينفذه البصر.

و رواه أيضا الشيخ الجليل الطبرسي في الاحتجاج عن أحمد بن اسحاق عنه عليه السلام: قال: كتبت إلى أبي الحسن علي بن محمد عليهما السلام أسأله عن الرؤية و ما فيه الخلق، فكتب عليه السلام: لا يجوز الرؤية، و في وجوب اتصال الضياء بين الرائي و المرئي وجوب الاشتباه، و الله منزه عن الاشتباه، فثبت أنه لا يجوز على الله تعالى الرؤية بالأبصار، لأن الأسباب لا بد من اتصالها بالمسببات.

أقول: يعلم من عقد ذلك الباب في الكافي و التوحيد و في الغرر و الدرر للشريف المرتضى علم الهدى، و في أوائل المقالات للشيخ الأجل المفيد، و في غيرها من الكتب الكلامية و الروائية، و من سؤال الناس الأئمة عليهم السلام عن الرؤية سيما من سؤال محمد بن عبيد أبا الحسن الرضا عليه السلام عن الرؤية و ما ترويه العامة و الخاصة و من سؤال عبد السلام بن صالح الهروي عنه عليه السلام رواه الطبرسي في الاحتجاج و الصدوق في أول الباب الحادى عشر من عيون أخبار الرضا عليه السلام قال: قلت لعلي بن موسى الرضا عليه السلام: يا ابن رسول الله ما تقول في الحديث الذي يرويه أهل الحديث أن المؤمنين يزورون ربهم إلخ. و من سؤال أحمد بن إسحاق أبا الحسن الثالث عليه السلام عن الرؤية و ما اختلف فيه الناس و غيرها مما سيأتي طائفة منها و بيانها أن البحث عن الرؤية كان دارجا و رائجا في تلك الأعصار جدا.

قال القاضي نور الله نور الله مرقده في المجالس عند ترجمة اسماعيل بن علي ابن إسحاق بن أبي سهل بن نوبخت البغدادي نقلا عن النجاشي أنه صنف كتابا في استحالة رؤية القديم.

اغتر كثير من الناس بظاهر الايات و الأخبار، و تفننت الاراء فيها و كان محضر الأئمة مختلف الناس يسألونهم عن الرؤية و كان الأئمة عليهم السلام يقودهم إلى الصراط السوي، و يهديهم إلى مناهج الصدق ببراهين متقنة متفننة على حسب اختلاف عقول الناس و وسعهم.

ثم لما كان ذلك البحث دائرا و مال غير فرقة إلى التشبيه و الرؤية بالأبصار و كانت فطرة الناس السليمة تأبى عن قبول الرؤية و التشبيه و أشباههما التجئوا إلى الأئمة الهداة المهديين لعلمهم بأنهم عليهم السلام خزنة علمه تعالى و عيبة وحيه، و بأن عندهم مفاتيح الحكمة و علم الكتاب و فصل الخطاب، فتبصر ثم استقم.

أبو الحسن الثالث هو الإمام العاشر علي بن محمد الهادي العسكري عليه السلام كما في رواية الطبرسي في الاحتجاج.

و أحمد بن إسحاق بن سهل القمي كان ثقة قال الكشي في الرجال: إنه عاش بعد وفاة أبي محمد (الحسن بن علي العسكري عليهما السلام).

سأله عليه السلام عن الرؤية هل يجوزها أم لا و عما اختلف فيه الناس من جوازها عند بعض و استحالتها عند آخر، و المراد أنه سأله عليه السلام عن المذهب الحق في ذلك فكتب عليه السلام إليه بأن رؤيته تعالى بالأبصار مستحيلة. لأن الرؤية تلازم تجسم الباري و تحيزه، و ذلك لأن الرؤية إنما تتحقق إذا كان بين الرائي و المرئي هواء نيفذه البصر، فإذا انقطع الهواء عن الرائي و المرئي بأن وقع بينهما حائل مثلا لم تصح الرؤية، فاذا لا بد أن يكون المرئي شبيها بالرائي من حيث انهما وقعا في طرفي امتداد فاصل هو الهواء و تحقق بينهما الوضع بمعنى تمام المقولة على هيئة مخصوصة لازمة للإبصار.

و المراد بالاشتباه هو هذا المعنى في المقام أي كون المرئي شبيها بالرائي في تلك الصفات الخاصة بالأجسام من الوضع و المحاذاة و التقابل و الطرف و الجهة و غيرها يقال: اشتبه الشيئان إذا أشبه كل منهما الاخر، و كان ذلك الاشتباه تشبيهه‏ تعالى بالأجسام و هو منزه عن ذلك فلا تدركه الأبصار.

و إنما يجب في الرؤية واسطة الهواء بين الرائي و المرئي و كونهما طرفي الواسطة بحيث يساوي أي يسامت الرائي المرئي، و ذلك كله يكون موجبا لكون المرئي شبيها بالأجسام، لأن الهواء المتوسط سبب للرؤية، و هي سبب لمسامتة الرائي و المرئي في طرفي الواسطة، و المسامتة سبب لكون كل منهما في حيز وجهة فهي أسباب لوجوب المشابهة بينه تعالى و الأجسام، و الأسباب لا بد أن تكون متصلة بمسبباتها غير منفكة عنها.

و بالجملة إنه عليه السلام احتج على بطلان رؤيته تعالى بالأبصار بقياسين: أحدهما قياس اقتراني مؤلف من متصلتين، و الاخر قياس استثنائي مؤلف من شرطية هي نتيجة الأول و حملية، و صورتهما:كلما كان الشي‏ء مرئيا بالأبصار وجب أن يكون طرف الهواء المتوسط و مقابلا للرائي، و كلما كان كذلك فهو جسم، ينتج كلما كان الشي‏ء مرئيا بالأبصار فهو جسم، ثم نقول: لو كان الله تعالى مرئيا بالأبصار فهو جسم، لكنه ليس بجسم فليس بمرئي.

إن قلت: قد يرى الأشياء و هي أو الرائي تحت الماء الصافية فليس بينهما إلا ماء نيفذها نور البصر، و ليس من شروط الإبصار أن يكون الواسطة هواء ليس إلا فكيف قال عليه السلام: ما لم يكن بين الرائي و المرئي هواء ينفذه البصر؟

أقول: المذهب المصنور في الإبصار سواء كان بخروج الشعاع أو الانطباع أو غيرهما أنه لا بد من توسط جسم شفاف كما سيأتي برهانه، و أما كونه هواء فقط فليس بواجب و لكن لما كان أكثر ما يبصر بالقوة الباصرة إنما كان الهواء بينهما متوسطا و كان انس الناس به آكد لهج به عليه السلام على سبيل ذكر مصداق لا على سبيل الانحصار.

و ذهب بعض أعاظم العصر إلي أن الهواء في الحديث ليس الهواء الذي هو أحد العناصر حيث قال: الهواء في لغة العرب هو الخلاء العرفي قال الله تعالى:و أفئدتهم هواء أي خالية من العقل و التدبر، و قال جرير: و مجاشع قصب هوت أجوافه أي خلت أجوافه، و في الصحاح كل خال هواء، و هدا هو المراد هنا لا الهواء المصطلح للطبيعيين و هو جسم رقيق شفاف كما حمله عليه صدر المتألهين قدس سره و هذا الهواء الذي هو جسم رقيق عند العرف بمنزلة العدم.

و الحاصل أنه لا بد للرؤية من فاصلة بين الرائي و المرئي، و يتحقق الفاصلة بعدم وجود جسم كثيف، و الأجسام الفلكية غير مانعة للرؤية لأنها أشف و أرق من هذا الهواء المكتنف للأرض، فهي بمنزلة الهواء فيكون الهواء في لغة العرب أقرب من البعد المفطور الذى يقول به بعض الفلاسفة، انتهى موضع الحاجة من نقل كلامه.

أقول: لا كلام في أن الهواء أحد معانيه ما ذكره كما قدمنا البحث عن ذلك في شرح الكتاب السابع، و لكن ليس هذا المعنى بمراد في الحديث، لبطلان الخلاء أولا، و عدم تحقق الرؤية بلا واسطة جسم شفاف بين الرائي و المرئي ثانيا و إن ذهب بعض إلى أن الواسطة كلما كانت أرق كانت الرؤية أولى و أسرع كالمرئي في الهواء و الماء ثم قال بالقياس فلو كانت الواسطة خلاء محضا لكانت الرؤية أكمل لكن حجته داحضة و الحق أن في الرؤية لا بد من توسط جسم شفاف كما اختاره الحكيم المولى صدرا قدس سره في آخر الباب الرابع من السفر الرابع من الأسفار، و أقام فيه برهانا بما لا مزيد عليه حيث قال:

«فصل» في أنه لا بد في الابصار من توسط الجسم الشفاف. و اعلم أن الحجة على ذلك أن تأثير القوى المتعلقة بالأجسام في شي‏ء و تأثرها عنه لا يكون إلا بمشاركة الوضع و منشأ ذلك أن التأثير و التأثر لا يكون إلا بين شيئين بينهما علاقة علية و معلولية، و هذه العلاقة متحققة بالذات بين القوة و ما يتعلق به من مادة أو موضوع أو بدن، لأنها إما علة ذاته أو علة تشخصه أو كماله، و متحققة بالعرض بينها و بين ماله نسبة وضعية إلى ذلك المتعلق به، فإن العلاقة الوضعية في الأجسام بمنزلة العلاقة العلية في العقليات إذ الوضع هو بعينه نحو وجود الجسم و تشخصه‏ فإذا كان الجسمان بحيث يتجاوران بأن يتصل طرفاهما فكأنهما كانا جسما واحدا فإذا وقع تأثير خارجي على أحدهما فيسري ذلك التأثير إلى الاخر كما تسخن بعض جسم بالنار فانه يتسخن بعضه الاخر أيضا بذلك التسخين، و كما استضاء سطح أحدها بضوء النير يستضي‏ء سطح آخر وضعه إلى الأول كوضعه إلى ذلك النير.

و إنما قيدنا التأثير بالخارجي لأن التأثير الباطني الذي لا يكون بحسب الوضع لا يسري فيما يجاور الشي‏ء.فإذا تقرر هذا فنقول: إن الإحساس كالإبصار و غيره هو عبارة عن تأثر القوى الحاسة من المؤثر الجسماني، و هو الأمر المحسوس الخارجي فلا بد ههنا من علاقة وضعية بين مادة القوة الحاسة و ذلك الأمر المحسوس، و تلك العلاقة لا يتحقق بمجرد المحاذاة من غير توسط جسم مادي بينهما إذ لا علاقة بين أمرين لا اتصال بينهما وضعا و لا نسبة بينهما طبعا، بل العلاقة إما ربط عقلي، أو اتصال حسي فلا بد من وجود جسم و اصل بينهما.

و ذلك الجسم إن كان جسما كثيفا مظلما تسخن فليس هو في نفسه قابلا للأثر النوري فكيف يوجب ارتباط المبصر بالبصر أو ارتباط المنير بالمستنير فإن الرابط بين الشيئين لا بد و أن يكون من قبلهما، لا أن يكون منافيا لفعلهما، فإذا لا بد أن يكون بينهما جسم مشف غير حاجز و لا مانع لوقوع أحد الأثرين أعني النور من النير إلى المستنير أو من البصر إلى المبصر أو تأدية الشبح من المبصر إلى البصر.

فعلى هذا يظهر فساد قول من قال: المتوسط كلما كان أرق كان أولى، فلو كان خلاء صرفا لكان الإبصار أكمل حتى كان يمكن ابصارنا النملة على الصماء.

لا بما ذكروه في جوابه بأن هذا باطل فليس إذا أوجب رقة المتوسط زيادة قوة في الإبصار لزم أن يكون عدمه يزيد أيضا في ذلك، فإن الرقة ليست طريقة إلى عدم الجسم لأن اشتراط الرقة في الجسم المتوسط لو كان لأجل أن لا يمنع‏ نفوذ الشعاع فصح أنه إذا كان رقة الجسم منشأ سهولة النفوش كان عدم الجسم فيما بين أولى في ذلك و كانت الرقة على هذا التقدير طريقا إلى العدم.بل فساده لأنه لو لم يكن بين الرائي و المرئي أمر وجودي متوسط موصل رابط لم يكن هناك فعل و انفعال.

فان قلت: إن الشيخ اعترف بأن هذا النوع من الفعل و الانفعال لا يحتاج إلى ملاقات الفاعل و المنفعل، فلو قدرنا الخلاء بين الحاس و المحسوس فأي إلى ملاقات الفاعل و المنفعل، فلو قدرنا الخلاء بين الحاس و المحسوس فأي محال يلزم من انطباع صورة المحسوس في الحاس، بل الخلاء محال في نفسه و الملاء واجب.؟

قلنا: إن ملاقاتهما، و إن لم يكن واجبا لكن يجب مع ذلك إما الملاقاة و إما وجود متوسط جسماني بينهما يكون مجموع المتوسط و المنفعل في حكم جسم واحد بعضه يقبل التأثير لوجود الاستعداد فيه، و بعضه لا يقبل لعدم الاستعداد فلو فرض أن ليس بين النار و الجسم المتسخن جسم متوسط لم يتحقق هناك تسخين و تسخن، لعدم الرابطة، و كذا لو لم يكن بين الشمس و الأرض جسم متوسط لم يقبل الأرض ضوء و لا سخونة، انتهى كلامه رفع مقامه.

و قد أشار إلى هذا البرهان اجمالا العلامة الخواجه نصير الدين الطوسي في شرحه على أواخر النمط الثاني من الاشارات للشيخ الرئيس بقوله: الأجسام العنصرية قد تخلو عن الكيفيات المبصرة و المسموعة و المشمومة و المذوقة و السبب في ذلك أن إحساس الحواس الأربعة بهذه المحسوسات إنما يكون بتوسط جسم ماكالهواء و الماء- إلخ.

و لعمري أن هذا كلام صدر من معدن تحقيق و فاض من عين صافية، و عليه جل علماء هذه الأعصار من افرنج و غيره أيضا، حيث ذهبوا بأن الإترهو حامل النور من الشمس و القمر و الكواكب، و هو منفوش بين السماء و الأرض، فإذا أصاب النور الأجسام الكثيفة كالأرض مثلا ينكسر قهرا، و الانكسار مولد للحرارة كما اختاره الرياضيون من سالف الدهر و بالجملة لو لم يكن بين الرائي و المرئي متوسط مشف لا يمكن الرؤية، و المتوسط إما هواء أو إتر أو غيرها، و المخالف مكابر.

ثم إن قوله عليه السلام: الأسباب لا بد من اتصالها بالمسببات. حكم كلي أصيل عقلي رد على من زعم أن القول بتأثير الأسباب و الوسائط ينافي كونه تعالى مستغنيا عن غيره، و يفضي إلى إنكار معجزات الأنبياء عليهم السلام و الشرك بالله تعالى و غيرها من الأوهام الباطلة.

كما ذهب إليه الأشاعرة و قالوا: إن استناد الاثار الصادرة عن الانسان و عن الطبائع و غيرها من الممكنات جميعا إلى واجب الوجود ابتداء من غير واسطة حتى تسخين النار و تبريد الماء، فلا النار سبب للإحراق و لا الماء للتبريد و لا الفكر لتحصيل النتيجة و هكذا الكلام في سائر الأسباب فيقول بجواز تخلف الاحراق عن النار و التبريد عن الماء و النتيجة عن المقدمات الفكرية إلا أن عادة الله جرت بترتب تلك الاثار عنها من غير تأثير لشي‏ء منها فيها.

و العقل بفطرته الأصلية يكذب هذا القول و ينفر عنه و الكلمات الالهية تنادي بأعلى صوتها بشناعته، و الموحد مع أنه يرى الكل من الله تعالى و يقول بحقائق الايمان: ليس المؤثر في الوجود إلا الله، يقول: أبى الله أن يجري الامور إلا بأسبابها، و يرى ما سواه معدات مسخرات بأمره تعالى، و المؤثر في الحقيقه هو تعالى و مع ذلك يقول: لا يجوز تخلف المسببات عن الأسباب، و نعم ما قاله الحكيم السبزواري في اللالي المنتظمة عند الأقوال في نتيجة القياس:

و الحق ان فاض من القدسي الصور و إنما إعداده من الفكر

قال تعالى في القرآن الكريم: الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء و يجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله‏ (الروم- 48) فهو تعالى أرسل الرياح ثم أسند اليها أنها تثير سحابا.

و قال تعالى: و هو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات‏

كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون‏ (الاعراف- 57).

و الايات الالهية من هذا القبيل كثيرة، و المخالف يخالف فطرته و يكذبها و نعم ما قيل:

إذا لم تكن للمرء عين صحيحة فلا غرو أن يرتاب و الصبح مسفر

الحديث الثاني‏

و هو الثاني من ذلك الباب من الكافي أيضا روى الكليني قدس سره عن أحمد بن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى قال: سألني أبو قرة المحدث أن ادخله إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام، فاستأذنته في ذلك فأذن لي فدخل عليه، فسأله عن الحلال و الحرام و الأحكام حتى بلغ سؤاله إلى التوحيد فقال أبو قرة: إنا روينا أن الله قسم الرؤية و الكلام بين نبيين، فقسم الكلام لموسى و لمحمد الرؤية، فقال أبو الحسن عليه السلام: فمن المبلغ عن الله إلى الثقلين من الجن و الانس لا تدركه الأبصار و لا يحيطون به علما و ليس كمثله شي‏ء، أليس محمد؟ قال: بلى، قال: كيف يجي‏ء رجل إلى الخلق جميعا فيخبرهم أنه جاء من عند الله و أنه يدعوهم إلى الله بأمر الله فيقول: لا تدركه الأبصار و لا يحيطون به علما و ليس كمثله شي‏ء ثم يقول: أنا رأيته بعيني و أحطت به علما و هو على صورة البشر، أما تستحيون ما قدرت الزنادقة أن ترميه عليه السلام بهذا أن يكون يأتي من عند الله بشي‏ء ثم يأتي بخلافه من وجه آخر.

ثم قال أبو قرة: فانه تعالى يقول «و لقد رآه نزلة أخرى‏» فقال أبو الحسن عليه السلام: إن بعد هذه الاية ما يدل على ما رأى حيث قال‏ ما كذب الفؤاد ما رأى‏ يقول ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه و آله ما رأت عيناه. ثم أخبر بما رأى فقال «لقد رأى من آيات ربه الكبرى» فايات الله غير الله، و قد قال الله: و لا يحيطون به علما، فاذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم و وقعت المعرفة.

فقال أبو قرة: فنكذب بالروايات؟ فقال أبو الحسن عليه السلام: إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها و ما أجمع المسملون عليه أنه لا يحاط به علما و لا تدركه‏ الأبصار و ليس كمثله شي‏ء، انتهى الحديث على ما في الكافي.

أقول: روى الحديث أبو جعفر محمد بن بابويه الصدوق في باب ما جاء في الرؤية من كتابه في التوحيد قال: حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق قال: حدثنا محمد بن يعقوب الكليني، عن أحمد بن إدريس- إلخ، و فيه: بين اثنين مكان بين نبيين. إلى الثقلين الجن و الانس، ليس فيه كلمة من الجارة. قال:فكيف يجي‏ء رجل، مع كلمة الفاء، و يقول لا تدركه، مكان فيقول لا تدركه. يأتي عن الله بشي‏ء، مكان يأتي من عند الله بشي‏ء، كذبت بها مكان كذبتها و ما اجتمع المسملون مكان و ما أجمع المسلمون.

و كذا رواه الطبرسي في الاحتجاج و بين النسخ اختلاف في الألفاظ في الجملة و الحديث على ما في الكافي و التوحيد يكون على مقدار خمس ما في الأخير.

و قد صرح الشيخ الطبرسي في الاحتجاج بأن أبا قرة المحدث صاحب شبرمة و قد مضى في شرح المختار 237 في البحث الروائي عن الأخبار الناهية عن العمل بالقياس في الدين أن عبد الله بن شبرمة القاضي كان يعمل بالقياس، و قال أبو عبد الله عليه السلام: ضل علم ابن شبرمة عند الجامعة إلخ.

و لكن ابن شبرمة هذا لم يدرك أبا الحسن الرضا عليه السلام قال المحدث القمي- ره- في مادة شبرم من السفينة: ابن شبرمة هو عبد الله البجلي الكوفي الضبي كان قاضيا لأبي جعفر المنصور على سواد الكوفة و كان شاعرا توفي سنة 144 ه.

و قال الاستاذ الشعراني في تعليقته على شرح المولى صالح المازندراني على اصول الكافي: أبو قرة و شبرمة كلاهما مجهولان و ليس عبد الله بن شبرمة المتوفي سنة 144 على عهد الصادق عليه السلام لأنه لم يدرك الرضا عليه السلام، و قد ذكر ابن حجر في التقريب موسى بن طارق القاضي المكنى بأبي قرة من الطبقة التاسعة و هو معاصر للرضا عليه السلام فلعله هو. انتهى كلامه مد ظله.

و نقل في شرح المذكور عن بعض الأصحاب أن أبا قرة هذا هو علي بن أبي قرة أبو الحسن المحدث رزقه الله تعالى الاستبصار و معرفة هذا الأمر أخيرا، ثم‏

قال الشارح: و انما وصفه بالمحدث لئلا يتوهم أنه أبو قرة النصراني اسمه يوحنا صاحب جاثليق.

قوله: فدخل عليه فسأله عن الحلال و الحرام و الأحكام حتى بلع سؤاله إلى التوحيد، أقول: قد ذكرنا أن هذا الحديث يكون في الاحتجاج على مقدار خمسة أمثال ما في الكافي، على أن الطبرسي لم ينقل الحديث بتمامه و لا بأس بذكره على ما في الاحتجاج لا شتماله على فوائد عظمى في مسائل شتى.

قال الطبرسي- ره-: و عن صفوان بن يحيى قال: سألني أبو قرة المحدث صاحب شبرمة أن ادخله إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام فاستأذنته فأذن له، فدخل فسأله عن أشياء من الحلال و الحرام و الأحكام و الفرائض حتى بلغ كلامه «سؤاله- خ ل» إلى التوحيد.

فقال له: أخبرني جعلني الله فداك عن كلام الله تعالى لموسى.

فقال: الله أعلم و رسوله بأي لسان كلمه بالسريانية أم بالعبرانية.

فأخذ أبو قرة بلسانه فقال: إنما أسألك عن هذا اللسان.

فقال أبو الحسن عليه السلام: سبحان الله مما تقول، و معاذ الله أن يشبه خلقه أو يتكلم بمثل ما هم به يتكلمون، و لكنه عز و جل ليس كمثله شي‏ء و لا كمثله قائل فاعل.

قال: كيف ذلك؟

قال: كلام الخالق لمخلوق ليس ككلام المخلوق لمخلوق، و لا يلفظ بشق فم و لا لسان، و لكن يقول له كن فكان بمشيته ما خاطب به موسى من الأمر و النهي من غير تردد في نفس.

فقال له أبو قرة: فما تقول في الكتب؟

فقال أبو الحسن عليه السلام: التوراة و الانجيل و الزبور و القرآن و كل كتاب انزل كان كلام الله أنزله للعالمين نورا و هدى و هي كلها محدثة و هي غير الله حيث يقول «أو يحدث لهم ذكرا» و قال «ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه‏

و هم يلعبون» و الله أحدث الكتب كلها الذي أنزلها.

فقال أبو قرة: فهل تفنى؟

فقال أبو الحسن عليه السلام: أجمع المسلمون على أن ما سوى الله فان و ما سوى الله فعل الله، و التوراة و الانجيل و الزبور و القرآن فعل الله، ألم تسمع الناس يقولون رب القرآن و أن القرآن يوم القيامة يقول يا رب هذا فلان و هو أعرف به منه قد اظمأت نهاره و أسهرت ليله فشفعنى فيه و كذلك (فكذلك- خ ل» التوراة و الانجيل و الزبور و هي كلها محدثة مربوبة أحدثها من ليس كمثله شي‏ء هدى لقوم يعقلون، فمن زعم أنهن لم يزلن فقد أظهر أن الله ليس بأول قديم و لا واحد و أن الكلام لم يزل معه، و ليس له بدؤ و ليس بإله.

قال أبو قرة: فإنا روينا أن الكتب كلها تجي‏ء يوم القيامة و الناس في صعيد واحد صفوف قيام لرب العالمين ينظرون حتى ترجع فيه لأنها منه و هي جزء منه فإليه تصير.

قال أبو الحسن عليه السلام: فهكذا قالت النصارى في المسيح إن روحه جزء منه و يرجع فيه، و كذلك قالت المجوس في النار و الشمس إنهما جزء منه و يرجع فيه تعالى ربنا أن يكون متجزيا أو مختلفا، و انما يختلف و يأتلف المتجزي لأن كل متجز متوهم و القلة و الكثرة مخلوقة دالة على خالق خلقها.

فقال أبو قرة: فاناروينا أن الله قسم الرؤية و الكلام بين نبيين، فقسم لموسى الكلام و لمحمد الرؤية- الى آخر ما نقلناه عن الكافي و بعده: و سأله عن قوله تعالى‏ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى‏.

فقال أبو الحسن عليه السلام: قد أخبر الله أنه أسرى به ثم أخبر لم اسرى به فقال‏ لنريه من آياتنا فايات الله غير الله فقد أعاد «أعذر- خ ل» و بين لم فعل ذلك به و ما رآه، و قال‏ فبأي حديث بعد الله و آياته يؤمنون‏ فأخبر أنه غير الله.

فقال أبو قرة: فأين الله؟

فقال عليه السلام: الأين مكان و هذه مسألة شاهد عن غائب، فالله ليس بغائب و لا يقدمه قادم، و هو بكل مكان موجود مدبر صانع حافظ يمسك السماوات و الأرض.

فقال أبو قرة: أليس هو فوق السماء دون ما سواها؟

فقال أبو الحسن عليه السلام: هو الله في السماوات و في الأرض و هو الذي في السماء إله و في الأرض إله، و هو الذى يصوركم في الأرحام كيف يشاء، و هو معكم أينما كنتم، و هو الذي استوى إلى السماء و هي دخان، و هو الذي استوى إلى السماء فسويهن سبع سموات، و هو الذى استوى إلى العرش قد كان و لا خلق و هو كما كان إذ لا خلق لم ينتقل مع المنتقلين.

فقال أبو قرة: فما بالكم إذا دعوتم رفعتم أيديكم إلى السماء؟

فقال أبو الحسن عليه السلام: إن الله استعبد خلقه بضروب من العبادة و لله مفازع يفزعون إليه و مستعبد فاستعبد عباده بالقول و العلم و العمل و التوجه و نحو ذلك استعبدهم بتوجه الصلاة إلى الكعبة و وجه إليها الحج و العمرة، و استعبد خلقه عند الدعاء و الطلب و التضرع ببسط الأيدي و رفعها إلى السماء لحال الاستكانة و علامة العبودية و التذلل.

قال أبو قرة: فمن أقرب إلى الله الملائكة أو أهل الأرض؟

قال أبو الحسن عليه السلام: إن كنت تقول بالشبر و الذراع فان الأشياء كلها باب واحد هي فعله لا يشتغل ببعضها عن بعض يدبر أعلى الخلق من حيث يدبر أسفله و يدبر أوله من حيث يدبر آخره، من غير عناء و كلفة، و لا مؤنة و لا مشاورة و لا نصب، و إن كنت تقول: من أقرب إليه في الوسيلة فأطوعهم له، و أنتم تروون أن أقرب ما يكون العبد إلى الله و هو ساجد، و رويتم أن أربعة أملاك التقوا:أحدهم من أعلى الخلق، و أحدهم من أسفل الخلق، و أحدهم من شرق الخلق و أحدهم من غرب الخلق، فسأل بعضهم بعضا فكلهم قال: من عند الله أرسلني بكذا و كذا، ففي هذا دليل على أن ذلك في المنزلة دون التشبيه و التمثيل.

فقال أبو قرة: أتقر أن الله محمول؟

فقال أبو الحسن عليه السلام: كل محمول مفعول و مضاف إلى غيره محتاج فالمحمول اسم نقص في اللفظ، و الحامل فاعل و هو في اللفظ ممدوح، و كذلك قول القائل: فوق و تحت و أعلى و أسفل، و قد قال الله تعالى‏ لله الأسماء الحسنى فادعوه بها (الأعراف- 180) و لم يقل في شي‏ء من كتبه انه محمول، بل هو الحامل في البر و البحر و الممسك للسماوات و الأرض، و المحمول ما سوى الله و لم نسمع أحدا آمن بالله و عظمه قط قال في دعائه: يا محمول.

قال أبو قرة: أفتكذب بالرواية إن الله إذا غضب إنما يعرف غضبه أن الملائكة الذين يحملون العرش يجدون ثقله على كواهلهم، فيخرون سجدا، فإذا ذهب الغضب خف فرجعوا إلى مواقفهم؟

فقال أبو الحسن عليه السلام: أخبرني عن الله تعالى منذ لعن إبليس إلى يومك هذا و إلى يوم القيامة غضبان هو على إبليس و أوليائه أو عنهم راض؟

فقال: نعم هو غضبان عليه.

قال: فمتى رضي فخف و هو في صفتك لم يزل غضبانا عليه و على أتباعه.

ثم قال: و يحك كيف تجتري‏ء أن تصف ربك بالتغير من حال إلى حال و أنه يجري عليه ما يجري على المخلوقين سبحانه لم يزل مع الزائلين و لم يتغير مع المتغيرين.

قال صفوان: فتحير أبو قرة و لم يحر جوابا حتى قام و خرج.

قوله «إنا روينا» بضم الراء و تشديد الواو المكسورة مبنية للمفعول من التروية قال الشهاب الفيومي في المصباح المنير: روى البعير الماء يرويه من باب رمى حمله فهو راوية، و الهاء فيه للمبالغة ثم اطلقت الراوية على كل دابة يستقى الماء عليها، و منه قيل، رويت الحديث إذا حملته و نقلته و يعدى بالتضعيف فيقال:

رويت زيدا الحديث، و يبنى للمفعول فيقال: رويت الحديث. انتهى كلامه.

قوله: «إن الله قسم الرؤية و الكلام بين نبيين فقسم الكلام لموسى و لمحمد الرؤية» فهم أبو قرة أن المراد بالرؤية رؤيته تعالى بالأبصار و لذا تصدى الإمام عليه السلام‏ على عدم صحتها مستدلا عليه بما سيأتي شرحه. فجوابه عليه السلام إنما كان على حذو زعم أبي قرة و إلا فالرؤية القلبية التي هي الانكشاف التام للمخلصين و الكملين فلا كلام في صحتها كما سيجي‏ء بيانه من الأئمة الهداة المهديين عليهم السلام ثم لما كان على مشرب العرفان للحق سبحانه و تعالى في كل خلق ظهور خاص به و هو تعالى متجل للعباد على حسب استعداداتهم المتنوعة بالعطايا الأسمائية الفائضة عليهم بالفيض المقدس، بل له تعالى بحسب كل يوم هو في شأن شئونات و تجليات في مراتبه الإلهية و قد قال الامام جعفر الصادق عليه السلام: إن الله تعالى قد يتجلى لعباده في كلامه و لكنهم لا يعلمون كما نقله عنه عليه السلام القيصري في شرحه على فصوص الحكم لمحي الدين في أول فص حكمة سبوحية في كلمة نوحية.

و لما كان وجود العالم مستندا إلى الأسماء لأن كل فرد من أفراد الموجودات تحت تربية اسم خاص من أسماء الله تعالى و قد تقرر في محله أن للأسماء دولا بحسب ظهوراتها و ظهور أحكامها اتصف كل موجود بمقتضى الاسم الخاص الغالب عليه، فبتلك الاشارات يعلم إجمالا سر اتصاف بعض الأنبياء و الأولياء ببعض الأوصاف دون بعض كما وصف آدم عليه السلام بصفي الله، و نوح عليه السلام بنجي الله، و إبراهيم عليه السلام بخليل الله،، و موسى عليه السلام بكليم الله، و مثل ما وصف الامام علي بن الحسين عليه السلام بالسجاد، و ابنه الامام أبو جعفر محمد عليه السلام بباقر العلوم.

و لما كان خاتم النبيين صلى الله عليه و آله منفردا بمقام الجمعية الإلهية الذي ما فوقه إلا مرتبة الذات الأحدية لأنه صلى الله عليه و آله مظهر اسم الله، و هو الاسم الجامع للأسماء و النعوت كلها، فتخصيص الكلام و سائر النعوت الكمالية بموسى عليه السلام و غيره من الأنبياء غير ثابتة بل هي ثابتة له صلى الله عليه و آله أيضا.

قوله: «فقال أبو الحسن عليه السلام فمن المبلغ عن الله الثقلين من الجن و الانس لا تدركه الأبصار- الى قوله- و هو على صورة البشر» لما زعم أبو قرة الرؤية بالأبصار احتج عليه الامام، أبو الحسن الرضا عليه السلام: بتلك الايات المنزلة من عند الله تعالى بلسان نبيه الخاتم و سأله على صورة الاستفهام للتقرير بأن مبلغها ليس محمد صلى الله عليه و آله؟ قال: بلى، أي هو صلى الله عليه و آله مبلغها.

ثم سأله على صورة الاستفهام للإنكار كيف يخبر الخلائق عن الله تعالى رسوله المبعوث إليهم بأن الأبصار لا تدركه ثم يقول هو: و رأيته بعيني كما تكلم المتكلمون في رؤيته صلى الله عليه و آله ربه تعالى ليلة الاسراء، فذهب بعضهم كأبي الحسن الأشعري أنه صلى الله عليه و آله رآه بعيني رأسه.

ثم إن ضمير هو في قوله: و هو على صورة البشر، يرجع إلى الله تعالى أعنى أن الجملة الأخيرة مقولة الرجل أي النبي صلى الله عليه و آله كالاوليين لا أنها مقولة الامام عليه السلام حتى تكون حالية، و إنه عليه السلام رتب ثلاثة امور على الايات الثلاث على اللف و النشر المرتبين فرتب أنا رأيته بعيني على لا تدركه الأبصار، و أحطت به علما على لا يحيطون به علما، و هو على صورة البشر على ليس كمثله شي‏ء.

أما وجه دلالة الاية الاولى على نفي الرؤية بالعين فلأن إدراك كل قوة من قوى ظاهرية كانت أو باطنية على حسبها، فإذا سمعت الاذن كلاما فقد أدركته و إذا رأت العين شيئا فقد أدركته و ان كان المدرك في الحقيقة هو النفس و القوى آلاتها، لأن الادراك إذا تعلق بما يكون ماديا تدركه النفس بالة تخصه، و إلا تدركه النفس بذاتها، و على الأول يكون حقيقة ذلك الشي‏ء متمثلة عند المدرك أي النفس بواسطة الحس بانتزاعها صورته من نفس حقيقته على تجريد بين في محله.

و لذا قال الشيخ في الاشارة الثالثة من النمط الثالث من الاشارات: إدراك الشي‏ء هو أن يكون حقيقته متمثلة عند المدرك يشاهدها ما به يدرك، و الفعل في سياق النفي كالنكرة في سياقه يفيد العموم، فالحجة أن النبي صلى الله عليه و آله أخبر عن الله بأنه لا تدركه عين فكيف يقول هو: رأيته تعالى بعيني و هل هذا إلا التناقض في قوله.

و أما الاية الثانية فوجه الاحتجاج بها أن النبي صلى الله عليه و آله أخبرهم بأنهم لا يحيطون به علما، فكيف يقول هو بالتناقض: إني أحطت به علما.

سواء كانت تلك الإحاطة بالإبصار لأن إبصار الشي‏ء إحاطة ما علمية به كما صرح به الامام عليه السلام في قوله الاتي: فاذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم و وقعت المعرفة.

أو كانت بادراك آخر من غير إبصار كالوهم و العقل فان إحاطته تعالى بأية قوة مدركة كانت مستحيلة، فالاية الثانية تدل على نفي الرؤية أيضا.

و أما الاية الثالثة فوجه الاحتجاج بها أنه تعالى أخبرهم بأمره تعالى بأنه ليس كمثله شي‏ء فكيف يقول: إنه تعالى على صورة البشر.

و هذا إشارة إلى ردما رووا عن رسول الله صلى الله عليه و آله من أن الله تعالى خلق آدم على صورته كما في الملل و النحل للشهرستاني عند الكلام في المشبهة (ص 48 طبع ايران 1288 ه)، و إلى رد ما رووا عنه صلى الله عليه و آله من أنه قال: رأيت ربي في أحسن صورة. نقله الشهرستاني أيضا في ص 49 من الكتاب. و نقل بعضهم عنه صلى الله عليه و آله انه رآه تعالى ليلة المعراج على صورة شاب حسن الوجه أو على صورة الشاب المراهق و نحوهما من المنقولات الظاهرة في أنه تعالى على صورة البشر.

روي في عيون أخبار الرضا عليه السلام للصدوق و في الاحتجاج للطبرسي قدس سرهما عن الحسين بن خالد أنه قال: قلت للرضا عليه السلام: إن الناس يقولون: إن رسول الله صلى الله عليه و آله قال: إن الله خلق آدم على صورته، فقال: قاتلهم الله لقد حذفوا أول الحديث إن رسول الله صلى الله عليه و آله مر برجلين يتسابان فسمع أحدهما يقول: قبح الله وجهك و وجه من يشبهك فقال صلى الله عليه و آله له: يا عبد الله لا تقل هذا لأخيك فان الله خلق آدم على صورته.

روى لكليني في باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه من جامعه الكافي باسناده عن إبراهيم بن محمد الخزاز و محمد بن الحسين قالا: دخلنا على أبي الحسن الرضا عليه السلام فحكينا له أن محمدا صلى الله عليه و آله رأى ربه في صورة الشاب الموفق في سن أبناء ثلاثين سنة- الى أن قال: ثم قال عليه السلام: يا محمد إن رسول الله صلى الله عليه و آله حين نظر إلى عظمة ربه كان في هيئة الشاب الموفق و سن أبناء ثلاثين سنة؟! يا محمد عظم ربي عز و جل أن يكون في صفة المخلوقين- الى أن قال عليه السلام: يا محمد ما شهد له الكتاب و السنة فنحن القائلون به.

فبما حققنا دريت أن الاية الاولى مطابقة للسؤال عن الرؤية، و الأخيرتين إنما ذكرتا على نحو التمثيل و التنظير، و هذا الدأب ليس بعزيز في الاحتجاجات و إن كان مورد السؤال نفي الرؤية، على أنه يمكن إرجاع الايات الثلاث إلى دلالتها على نفي الرؤية أيضا ضمنا.

أما وجه دلالة الاوليين عليه فقد علم، و أما دلالة الأخيرة عليه فلأنه لو تعلق الادراك بالبصر عليه تعالى لزم أن يكون مماثلا لأجسام كثيفة حتى يتحقق الرؤية بالعين، لما علم في شرح الحديث الأول من أن الرؤية انما تعلق على الأجسام التي لا ينفذ عنها نور البصر، فلا تكون إلا كثيفا ذا وضع و جهة فيلزم من القول بالرؤية أن يكون له تعالى مماثل من الأجسام، لأن كلما يدرك بالأبصار فهو ذو مثل، و هذه الدقيقة مستفادة ضمنا و يؤيده قوله عليه السلام بعد ذا: فاذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم و وقعت المعرفة.

و يحتمل بعيدا أن يرجع ضمير هو في «و هو على صورة البشر» إلى الرجل أي النبي صلى الله عليه و آله بأن تكون الجملة حالية و الايات الثلاث استشهد بها لدلالتها على نفي الرؤية و منساقة اليه رأسا، لا أنه يستفاد ضمنا كما ذهب إليه جم غفير من شراح الحديث.

فيكون المعنى أنه صلى الله عليه و آله أخبرهم عن الله تعالى بأمره، لا تدركه الأبصار و لا يحيطون به علما و ليس كمثله شي‏ء، تدل كل واحدة منها على نفي رؤيته تعالى بالأبصار، ثم يقول ذلك المخبر أنا رأيت الله بعيني و أحطت به علما برؤيتي إياه بعيني أيضا و الحال أنه على صورة البشر أي إذا لم يكن للبشر إدراكه و إحاطته بالأبصار فكيف يجوز له صلى الله عليه و آله و هو من البشر أيضا.

و لكن طبع الحديث يأبى عن هذا الاحتمال جدا كما لا يخفى على المتدرب بصناعة الكلام من متن الحديث و اسلوبه، و المختار هو المتعين.

و بعض نسخ الكافي بلا ضمير هو، أي و أحطت به علما على صورة البشر فعلى‏ هذا الوجه إما أن تتعلق على بضمير الفاعل في أحطت فيكون الرائي أي النبي صلى الله عليه و آله على صورة البشر، و إما أن تتعلق بالضمير المجرور في به فيكون المرئي أي الله تعالى على صورة البشر.

و بما حققناه يعلم أن تلك النسخة ليست بصواب و اسقط الضمير من الكاتب و كم له من نظير.

قوله عليه السلام: «أما تستحيون ما قدرت الزنادقة أن ترميه عليه السلام بهذا أن يكون يأتي من عند الله بشي‏ء ثم يأتي بخلافه من وجه آخر» و في بعض النسخ أما تستحون و هي صحيحة أيضا لأنها مخففة الاولى و لغة منها. و كلمة ما في قوله:ما قدرت، نافية.

قوله: أن ترميه عليه السلام بهذا أي تنسبه به و الضمير يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه و آله و قال العلامة المجلسي- ره- في مرآة العقول: و إرجاع الضمير إلى الله بعيد جدا. و أقول: بل هو و هم رأسا لعدم مناسبته الحجة و لا لفظ الحديث.

قوله: أن يكون «اه» بدل لقوله هذا و بيان و تفصيل له. و المراد أن الزنادقة مع كفرهم و عنادهم لا ينسبونه صلى الله عليه و آله إلى ما نسبتموه إليه من المناقضة في أقواله و كذبه على الله تارة يقول من أمر الله لا تدركه الأبصار و تارة يقول إني رأيته ببصري فكيف أنتم مع اعترافكم بنبوته صلى الله عليه و آله ترمونه به.

قوله: «ثم قال أبو قرة فانه تعالى يقول و لقد رآه نزلة اخرى» لما بين الإمام عليه السلام استحالة إدراكه تعالى بالأبصار استدل أبو قرة في مقام المعارضة بقوله تعالى على أن رسول الله صلى الله عليه و آله رآه تعالى بعينه بناء على أن ضمير المفعول في رآه راجع إليه تعالى، فأجابه الإمام عليه السلام بأن القرآن يفسر بعضه بعضا و أن بعد هذه الاية ما يدل على ما رأى حيث قال تعالى‏ ما كذب الفؤاد ما رأى‏ و فسرها عليه السلام بقوله ما كذب فؤاد محمد ما رأت عيناه، ثم استشهد بالاية التالية المبينة لما رأت عيناه صلى الله عليه و آله‏ «ما زاغ البصر و ما طغى. لقد رأى من آيات ربه الكبرى» فضمير المفعول في رآه راجع إلى المخلوق لا إلى الخالق حيث قال: لقد رأى من آيات‏ ربه الكبرى و آيات الله غير الله. ثم احتج عليه بقوله تعالى‏ و لا يحيطون به علما ثم فسره زيادة توضيح و بيان في دلالة الاية على نفى الرؤية بالأبصار بقوله:فإذا رأته الأبصار فقد أحاط به العلم و وقعت المعرفة.

ثم إن كثيرا من نسخ مخطوطة و مطبوعة من الكافي متفقة في تأنيث فعل أحاط أي «فقد أحاطت به العلم» و لكنها من تصحيف النساخ ظنا منهم أن ضمير الفعل راجع إلى الأبصار، و هو و هم لأن العلم فاعله و إلا يلزم أن يكون العلم تميزا و التميز يجب أن يكون نكرة.

قال الجوهري في الصحاح: أحاط به علمه، و أحاط به علما، و أحاطت الخيل بفلان، و احتاطت به أي أحدقت. و في الوحي الإلهي‏ و لا يحيطون به علما و أن الله قد أحاط بكل شي‏ء علما.

قوله: «فقال أبو قرة فتكذب بالروايات» لما استدل الامام عليه السلام بالدليلين العقلي و النقلي على استحالة رؤيته تعالى بالأبصار و لم يبق لأبي قرة دليل يستدل به على مطلوبه اعترض على الإمام فقال على صورة الاستفهام للانكا: أ فتكذب بالروايات؟ يعني إذا لم تكن تلك الروايات دالة على رؤيته تعالى لزم تكذيبها أي القول بعدم اسنادها إلى النبي صلى الله عليه و آله.

فأجابه الامام بالتزامه فقال: إذا كانت مخالفة للقرآن كذبتها، و ذلك لأنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فهو الأصل الصدق و المعيار الحق و لا يعارضه الأخبار المتخالفة المختلفه، و لا يجوز التجاوز في التوحيد عما في القرآن المجيد و قد أدب الأئمة عليهم السلام أصحابهم بذلك.

ففي الحديث الحادي و الثلاثين من الباب الأول من كتاب التوحيد للصدوق- ره- باسناده عن الفضل بن شاذان، عن ابن أبي عمير قال: دخلت على سيدي موسى ابن جعفر عليهما السلام فقلت له: يا ابن رسول الله علمني التوحيد، فقال: يا أبا أحمد لا تتجاوز في التوحيد ما ذكره الله تعالى في كتابه فتهلك، الحديث.

فما وافقته من الأخبار و إلا تضرب بالجدار، و لا يخفى أن الأخبار التي يمكن الجمع بينها و بين الكتاب ليست بمخالفة له، و نسخة التوحيد للصدوق: كذبت بها، و هي أنسب بقول أبي قرة فتكذب بالروايات مطابقة.

قوله: «و ما أجمع المسلمون عليه أنه لا يحاط به علما، و لا تدركه الأبصار و ليس كمثله شي‏ء» قوله عليه السلام انه لا يحاط به علما إشارة إلى قوله تعالى‏ يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم و لا يحيطون به علما (طه- 111).

و لا تدركه الأبصار بعض آية 104 من الأنعام قوله تعالى: لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار و هو اللطيف الخبير.

و ليس كمثله شي‏ء بعض آية 10 من الشورى قوله تعالى: فاطر السماوات و الأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا و من الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شي‏ء و هو السميع البصير.

و كلمة ما موصولة اسمي مبتداء و خبره كل واحد من أنه لا يحاط به علما و لا تدركه الأبصار، و ليس كمثله شي‏ء، و ليست معطوفة على القرآن حتى يكون التقدير: إذا كانت الروايات مخالفة لما أجمع المسلمون عليه كذبتها، و لو كانت معطوفة عليه لوجب أن تقدم على كذبتها.

و معنى العبارة أن القرآن لما كان منزلا من عند الله تعالى و أجمع المسلمون قاطبة على تسليم ما فيه و منه قوله تعالى: لا يحيطون به علما، و لا تدركه الأبصار و ليس كمثله شي‏ء، لم يجز الاعراض عنه و خرقه بروايات تنافيه و تخالفه و من تمسك بها خالف القرآن و إجماع المسلمين.

و إلى هنا تمت الحجة على أبي قرة على أتم بيان و أكمل برهان في استحالة إدراكه تعالى بالأبصار ما فاه بشي‏ء من مناقضة أو معارضة في المسألة أصلا، بل انتقل إلى أسالة اخرى قدمناها من رواية الطبرسي في الاحتجاج و في آخرها:

قال صفوان: فتحير أبو قرة و لم يحر جوابا حتى قام و خرج.

تقديم مطالب يليق أن يشار اليها

الاول‏:

 أن قوله عليه السلام: «فمن المبلغ عن الله إلى الثقلين من الجن و الإنس و قوله عليه السلام «كيف يجي‏ء رجل إلى الخلق جميعا» أفادا ثلاثة امور.

الأول: أن الثقلين بفتحتين هما الجن و الانس و عليه إجماع أهل اللغة و التفسير في قوله تعالى: سنفرغ لكم أيه الثقلان‏ (الرحمن- 33) و يفسر الثقلين بالجن و الانس آيات اخرى من سورة الرحمن كقوله تعالى‏ خلق الإنسان من صلصال كالفخار و خلق الجان من مارج من نار و قوله تعالى‏ يا معشر الجن و الإنس‏ الاية. و قوله تعالى‏ فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس و لا جان‏.

قال القاضي البيضاوي في تفسير أنوار التنزيل: الثقلان الإنس و الجن سميا بذلك لثقلهما على الأرض، أو لرزانة رأيهم و قدرهم، أو لأنهما مثقلان بالتكليف انتهى قوله.

و الجن و الانس يؤنثان باعتبار أنهما طائفة أو جماعة، قال المرزوقي في شرح قول إياس بن مالك الطائي (الحماسة 194).

كلا ثقلينا طامع بغنيمة و قد قدر الرحمن ما هو قادر

قوله: كلا ثقلينا، أي كل واحد من جماعتينا، و الثقل «بالتحريك» الجماعة. و الثقلان الجن و الانس.

الأمر الثاني: أن الجن مكلفون بما كلف بها الأنس.

الأمر الثالث: أن رسول الله صلى الله عليه و آله مبعوث إليهم أيضا، و القرآن الكريم ناطق بذين في عدة مواضع.

قال تعالى: قل لئن اجتمعت الإنس و الجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا (الاسراء- 91) وجه الاستدلال بالاية عليه أنهم لو لم يكونوا مكلفين بما كلف بها الانس و لم يكن خاتم النبيين مبعوثا إليهم أيضا لما تحديهم الله تعالى بالاتيان‏ بمثل القرآن.

و قال تعالى: و يوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس و قال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض و بلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم و كذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون يا معشر الجن و الإنس أ لم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي و ينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا و غرتهم الحياة الدنيا و شهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين‏ (الانعام- 130- 132) أي اذكر يوم يحشرهم الله تعالى، بالياء على قراءة حفص عن عاصم، و على قراءة أبي بكر عنه يوم نحشرهم بالنون، و ضميرهم لمن يحشر من الثقلين.

و وجه الاستدلال بهما بين، فان لهم حشرا و ثوابا و عقابا فهم مكلفون.

و الاية الأخيرة صريحة على أن رسلا ارسلوا إليهم، و أما أن هؤلاء الرسل المبعوثون إلى الانس فلا تدل عليه هذه الاية صريحة و إن دلت على أن رسول الله صلى الله عليه و آله مبعوث اليهم، لأنهم مخاطبون بالقرآن، و لو لا القرآن كتابهم و الرسول صلى الله عليه و آله بعث إليهم ايضا لما خوطبوا به و انما الكلام في الرسل الذين كانوا قبله صلى الله عليه و آله.

و انما قلنا لا تدل الاية عليه صريحا، لا مكان ارجاع الضمير في قوله: رسل منكم إلى الانس خاصة لما سنشير اليه بعيد هذا، و لكن الاية ظاهرة في أن لكل طائفتين نبيا من جنسهما.

و قال تعالى في سورة الملك: و لقد زينا السماء الدنيا بمصابيح و جعلناها رجوما للشياطين و أعتدنا لهم عذاب السعير و للذين كفروا بربهم عذاب جهنم و بئس المصير إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا و هي تفور تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها أ لم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا و قلنا ما نزل الله من شي‏ء إن أنتم إلا في ضلال كبير و قالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير.

فالايات تدل على أن للجن ثوابا و عقابا حيث قال تعالى: و أعتدنا لهم عذاب السعير، ثم إن لهم نذيرا أيضا حيث قالوا بلى قد جاءنا نذير، و الذين كفروا يشملهم أيضا بدليل قولهم لو كنا- نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير و قال تعالى أولا: و أعتدنا لهم عذاب السعير فأصحاب السعير شامل للكافرين من الجن أيضا و تدل ايضا على أن رسول الله صلى الله عليه و آله بعث إليهم بدليل المخاطبة و الانذار، و أما أن جميع نذرهم هل كانوا منهم أو من الانس فلا تدل الاية عليه.

و نظير هذه الايات الدالة على أنه كان لهم نذير في كل زمان قوله تعالى‏ و إن من أمة إلا خلا فيها نذير (فاطر- 23) لأن الجنة امة أيضا بلا كلام و القرآن ناطق بذلك.

قال تعالى‏ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا و شهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن و الإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف و لكن لا تعلمون و قالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون‏ الاعراف 37- 39) نعم و لقائل أن يقول: إن جميع نذرهم لم يكونوا من الانس بدليل قوله تعالى‏ و الجان خلقناه من قبل من نار السموم‏ (الحجر- 28).

وجه الاستدلال أن الجان خلق من قبل خلق الانس من نار السموم، و قال تعالى‏ و إن من أمة إلا خلا فيها نذير فكان لهم نذير و لم يكن خلق الانسان بعد، و الله تعالى أعلم، و ما اوتينا من العلم إلا قليلا.

ثم إن الشياطين في سورة الملك هم بعض من طائفة الجن و كذا قوله تعالى‏ فو ربك لنحشرنهم و الشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا (مريم- 71).

و ذلك لأنه تعالى قال: و لسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها و كنا بكل شي‏ء عالمين و من الشياطين من يغوصون له و يعملون عملا دون ذلك و كنا لهم حافظين‏ (الانبياء- 82 و 83) و كذا قال: «و لقد فتنا سليمان- الى قوله: فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب و الشياطين كل بناء و غواص و آخرين مقرنين في الأصفاد (ص، 35- 39).

و إذا أضفناها إلى قوله تعالى‏ و لسليمان الريح غدوها شهر و رواحها شهر و أسلنا له عين القطر و من الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه و من يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير يعملون له ما يشاء من محاريب و تماثيل و جفان كالجواب و قدور راسيات اعملوا آل داود شكرا و قليل من عبادي الشكور فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين‏ (سباء، 12- 14) و إلى قوله تعالى: و حشر لسليمان جنوده من الجن و الإنس و الطير فهم يوزعون‏ (النمل- 19) و إلى قوله تعالى: قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك‏ (النمل- 42) تنتج أن هؤلاء الشياطين كانوا من الجن.

و كذا إذا أضفنا قوله تعالى: و لقد زينا السماء الدنيا بمصابيح و جعلناها رجوما للشياطين‏ (الملك- 6) إلى قوله تعالى: قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن‏- إلى قوله تعالى مخبرا عنهم: و أنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا و شهبا و أنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا (الجن، 2- 10) ينتج أن الشياطين طائفة من الجن.

و قال تعالى: سنفرغ لكم أيه الثقلان‏ (الرحمن- 33) أي سنجرد لحسابكم و جزائكم و ذلك يوم القيامة قال القاضي: و فيه تهديد مستعار من قولك لمن تهدده: سأفرغ لك فان المتجرد للشي‏ء كان أقوى عليه و أحد فيه. و وجه الاستدلال به ظاهر.

و كذا آية اخرى من تلك السورة و هي قوله تعالى‏ فيومئذ لا يسئل عن‏ ذنبه إنس و لا جان‏ بل المخاطب فيها الجن و الانس في آيات‏ فبأي آلاء ربكما تكذبان‏، بدليل قوله تعالى: سنفرغ لكم أيه الثقلان‏، و قوله تعالى: يا معشر الجن و الإنس‏، و بعض آي اخرى و عليه إجماع المفسرين، و لو لم يكن الرسول صلى الله عليه و آله مبعوثا إليهم أيضا لما خوطبوا بالقرآن الكريم.

و قال تعالى في سورة الجن: قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به و لن نشرك بربنا أحدا إلى قوله تعالى مخبرا عنهم: و أنا منا الصالحون و منا دون ذلك كنا طرائق قددا و أنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض و لن نعجزه هربا و أنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا و لا رهقا و أنا منا المسلمون و منا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا و أما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا.

و قال تعالى آخر الأحقاف: و إذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق و إلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله و آمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم و يجركم من عذاب أليم و من لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض و ليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين‏.

وجه الاستدلال بايات هاتين السورتين ظاهر و أنها تدل مع كونهم مكلفين على أن القرآن كتابهم أيضا فرسول الله صلى الله عليه و آله مبعوث اليهم أيضا، بل ما في الأحقاف تدل على أن أنبياء السلف من الانس كانوا مبعوثين إليهم أيضا حيث قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا انزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه، كما تدل على أن هؤلاء النفر من الجن كانوا يهودا ما آمنو بعيسى عليه السلام.

و لعل هؤلاء النفرهم القوم الذين أخبر الله تعالى عنهم: و من قوم موسى أمة يهدون بالحق و به يعدلون‏ (الأعراف- 161) أو أن هذه الاية تشملهم‏ أيضا كقوله الاخر: و ممن خلقنا أمة يهدون بالحق و به يعدلون‏ (الأعراف- 282) و الله تعالى أعلم.

و قال تعالى: و لقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين‏- الى قوله تعالى: قال اخرج منها مذؤما مدحورا لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين‏ (الأعراف، 12- 19) وجه الاستدلال به أن العقاب فرع التكليف، و قال تعالى: لأملأن جهنم منكم أجمعين، عدل عن الغيبة إلى الخطاب ليشمل الحكم و الخطاب كلا الفريقين من الجن و الانس.

نظير قوله تعالى أيضا: و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس‏ إلى قوله: قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا (الاسراء- 64- 66) و يفسره قوله تعالى آيات آخر ص: فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس استكبر و كان من الكافرين‏ الى قوله تعالى: قال فالحق و الحق أقول لأملأن جهنم منك و ممن تبعك منهم أجمعين‏ و قوله تعالى: و تمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة و الناس أجمعين‏ (هود- 121) و قوله تعالى:و لكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة و الناس أجمعين‏ (السجدة- 15) و قوله تعالى: و لقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن و الإنس لهم قلوب لا يفقهون بها الاية (الأعراف- 180).

و كذا يبين أن المراد كلا الفريقين قول أمير المؤمنين عليه السلام (الخطبة الاولى من النهج): فقال سبحانه اسجدوا لادم فسجدوا إلا ابليس و قبيله- إلخ، و في بعض النسخ إلا ابليس و جنوده.

و بالجملة أن الايات القرآنية تدل على أن الجن مكلفون كالإنس و لا ريب أن من شرائط التكليف أن يكون المكلف عاقلا، فلهم عقل و تمييز و لذا هدى هؤلاء النفر من الجن عقولهم إلى الهداية و الرشد حيث قالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به و لن نشرك بربنا أحدا و قال تعالى‏ و لقدذرأنا الاية، و القلب في القرآن بمعنى العقل.

كما تدل أنهم رجال و اناث كالانس حيث قال تعالى مخبرا عنهم: و أنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن‏ (الجن- 7) و أخبر تعالى أن بعضهم فرسانا و الاخر مشاة حيث قال: و استفزز من استطعت منهم بصوتك و أجلب عليهم بخيلك و رجلك‏ (الاسراء- 67).

فالايات تنتج بأنهم ليسوا بمجردين، لأن التكثر إنما يصح فيما كان له مادة.على أن الله تعالى صرح بذلك أيضا في قوله: و خلق الجان من مارج من نار (الرحمن- 16) و قوله تعالى: و الجان خلقناه من قبل من نار السموم‏ (الحجر- 28) و قوله تعالى: و لقد فتنا سليمان‏- إلى قوله تعالى: فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب و الشياطين كل بناء و غواص و آخرين مقرنين في الأصفاد (الزمر 35- 39).

وجه الاستدلال به أن كونهم مقرنين في الأصفاد إنما يصح مع عدم تجردهم، و قال تعالى‏ و ترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد (ابراهيم- 51) و الله أعلم.

و كذا القرآن يدل على أنهم يتوالدون، لدلالة النارية على ذلك، و قد قال الله تعالى: و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أ فتتخذونه و ذريته أولياء من دوني و هم لكم عدو بئس للظالمين بدلا (الكهف- 49). و حيث قال عز من قائل: فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم و لا جان‏ (الرحمن- 58).

ثم إذا كانت الجن مادية جسمانية و مع ذلك أنا لا نراهم و هم يرونا كما قال عز من قائل: يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو و قبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون‏ (الاعراف- 28) علمنا أنهم من الأجسام‏ اللطيفة و ليس بلازم أن يدرك بالأبصار كل ما هو جسم فإن بعض الأجسام الذي قبلنا لا نراه بالعين كالهواء مثلا.

و الشيطان في الاية هو ابليس و ابليس من الجن بدليل قوله تعالى:

و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه‏ الاية المتقدمة. و قوله تعالى‏ و كذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس و الجن‏ (الانعام- 113). و قوله تعالى‏ ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين‏- إلى قوله تعالى مخبرا عنه: قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم‏- إلى قوله تعالى: فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما (الاعراف 12- 21).

و كذا إذا أضفنا قوله تعالى: و قال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق و وعدتكم فأخلفتكم و ما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني و لوموا أنفسكم‏ الاية (ابراهيم- 28) إلى قوله تعالى‏ و لقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين و ما كان له عليهم من سلطان إلا لنعلم من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك‏ الاية (سبأ- 21) ينتج أن الشيطان هو ابليس.

و قوله تعالى: و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس‏- إلى قوله تعالى‏ و عدهم و ما يعدهم الشيطان إلا غرورا إن عبادي ليس لك عليهم سلطان و كفى بربك وكيلا (الاسراء 64- 68) كالصريح بأن الشيطان هو ابليس.

فقد تحصل من الايات المتقدمة أن الجن مكلفون و لهم عقل و تمييز و أن رسول الله صلى الله عليه و آله مبعوث إليهم أيضا، و أن بعضهم مسلم و بعضهم قاسط و كافر كما اعترفوا في سورة الجن بذلك حيث قالوا: و أنا منا المسلمون و منا القاسطون‏ و قال تعالى في الاية المتقدمة من الكهف‏ فسجدوا إلا إبليس كان من الجن‏ إلخ، و قال تعالى‏ فسجدوا إلا إبليس أبى و استكبر و كان من الكافرين‏ (البقرة- 24)

فبعض الجن كافر.

و أن من كان من الجن و الإنس شريرا متمردا عن الله تعالى فهو شيطان قال تعالى: و إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم‏ (البقرة- 14) و قال تعالى: و كذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس و الجن‏ (الانعام- 13) و أن بعض أنبياء الانس مبعوثون إليهم أيضا، و أن نذيرا أو نذرا من جنسهم بعثوا إليهم.

ثم‏

ههنا يخلق بنا أن نبحث عن مسائل‏: منها أن أنبياء الانس كيف بعثوا إلى الجن و هما ليسا من جنس واحد، و قد مر في شرح الخطبة 237 (ص 79- 82 ج 16) البحث عن لزوم التناسب و التجانس في ذلك و قد قال تعالى: و ما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أ بعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا (الاسراء- 98).

و حيث أنكر الناس أن يكون الرسل بشرا قال تعالى لرسوله صلى الله عليه و آله «قل» جوابا لشبهتهم «لو كان في الأرض» الاية و ذلك لتمكينهم من الاجتماع بالرسول و التلقي منه. و قريب من هذه الاية قوله تعالى: و لو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا (الأنعام- 10).

و منها أن شياطين الإنس و الجن كيف يضلون غيرهم من الجن و الانس عن سواء الصراط ، و على أي نحو كان سلطانهم عليهم، و ما معنى قوله تعالى‏ من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة و الناس‏ . و منها لم بعث بعض الأنبياء من الانس إليهم أيضا

و بعضهم الاخر من جنسهم و ما سر التبعيض، أو أن قوله تعالى: يا معشر الجن و الإنس أ لم يأتكم رسل منكم‏ الاية (الانعام- 131).

ليس المراد أن بعث إلى كل من الثقلين رسل من جنسهم بل إنما المراد الرسل من الانس خاصة، و لكن لما جمعوا مع الجن في الخطاب صح ذلك، نظير

قوله تعالى‏ يخرج منهما اللؤلؤ و المرجان‏ و المرجان يخرج من الملح دون العذب.

أو أن الرسل من الجن رسل الرسل إليهم لقوله تعالى: ولوا إلى قومهم منذرين‏.

و منها أن الجن إذا كانوا مكلفين فلابد لهم في كل زمان من نبي‏، قال الله تعالى‏ و لو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لو لا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل و نخزى‏ (طه- 136) و لما كان بدؤخلقهم قبل الانس بلا ارتياب فلابد من أن يكون لهم نبي من جنسهم من قبل بلا كلام، و يحمل قوله تعالى في سورة الأنعام‏ أ لم يأتكم رسل منكم‏ على ظاهره.

و غيرها من المسائل التي يحتاج عنوانها و حلها و البحث عنها و عن الروايات المروية في المقام إلى تدوين كتاب على حدة، و لعلنا نبحث عن بعضها في أثناء مباحثنا الاتية.

المطلب الثاني‏:

 أن احتجاجه عليه السلام على أبي قرة بقوله: إن بعد هذه الاية ما يدل على ما رأى- إلخ، تحريض الناس على التدبر في آيات القرآن الكريم، و تعليمهم باسلوب التنعم من تلك المأدبة الإلهية و قد فهمنا بعمله هذا أن القرآن يفسر بعضه بعضا.

و قد مضى الكلام من سميه و جده باب مدينة العلم أمير المؤمنين عليه السلام في ذلك عند شرحنا على المختار الأول من باب الكتب و الرسائل قال عليه السلام: كتاب الله تبصرون به و تنطقون به و تسمعون به يفسر بعضه بعضا و يشهد بعضه على بعض (ص 254 ج 2 من تكملة المنهاج).

و كذلك قد تبين في (ص 89 منها) أن الله تعالى نزل القرآن تبيانا لكل شي‏ء، و قال عز من قائل: و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شي‏ء (النحل- 92) و قال تعالى‏ ما فرطنا في الكتاب من شي‏ء (الانعام- 39).

فكيف لا يكون تبيانا لنفسه. و الله تعالى حث عباده على التدبر في كلامه، قال عز من قائل: أ فلا يتدبرون القرآن و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (النساء- 85). و قال تعالى: أ فلايتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها (محمد- 27). و قال سبحانه: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته و ليتذكر أولوا الألباب‏ (ص- 30).

فمما بينا دريت أن من ذهب إلى عدم جواز التدبر في آيات الله و الأخذ بها إلا بما ورد تفسيره عنهم عليهم السلام خالف كتاب الله، و قد ذهب إلى هذا القول الأخباريون على ما نقل الخوانساري في روضات الجنات عند ترجمة محمد أمين الأخباري الاسترابادي عن الشيخ عبد الله بن صالح السماهيجي البحراني في الفروق بين المجتهدين و الأخباريين.[1] حيث قال: الفرق الخامس عشر إنهم يجوزون الأخذ بظاهر الكتاب بل يرجحونه على ظاهر الخبر و الأخباريون لا يجوزون الأخذ إلا بما ورد تفسيره عنهم عليهم السلام. حتى أن بعض الأخباريين لا يعد الكتاب من الأدلة أيضا و يقتصر على السنة فقط، و هذا الفرق بينهما في التمسك بالكتاب و عدمه إنما هو في الفروع و أما في الاصول فانهم لا يجوزون أخذ العقائد من القرآن و أخبار الاحاد، و الأخباريون يقولون بعكس ذلك.

و لا يخفى عليك أن الأخباريين سلكوا في الفروع و الاصول مسلكي الافراط و التفريط. و لو قيل بجواز أخذ الاصول من الكتاب ليلزم الدور لأن اعتقاد أن رسول الله صلى الله عليه و آله مبعوث من عند الله تعالى مثلا لو كان بأخذ آية يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا الاية، مثلا إنما يصح إذا اعتقد أنه رسول الله و كلامه وحي من عنده تعالى، و لو كان الاعتقاد به من نفس هذه الاية و لم يثبت نبوته بعد مثلا لكان هو الدور.

 المطلب الثالث‏:

 أنه عليه السلام في جواب أبي قرة لما سأله فتكذب بالروايات؟

قال: إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها. و ذلك أن القرآن هو معيارالحق و ميزان الصدق، و هو الأصل في المعارف و ميزان كل شي‏ء بحسبه، فاذا كانت رواية لم يمضها القرآن و لو كانت من الكتب الأربعة لا يجوز الأخذ بها.

و ذهب الأخباريون إلى أن جملة ما فيها صحيحة، فلو كانت دعواهم أن جميع الروايات المنقولة فيها موافقة لكتاب الله ففيه القطع بأن بعضها لا يوافقه الكتاب و لا العقل، فمجرد أن الرواية منقولة فيها لا يوجب صحتها و المعيار كتاب الله كما قدمنا البحث عن ذلك في صدر هذه المسألة في الرؤية.

المطلب الرابع‏

قوله عليه السلام: و ما أجمع المسلمون عليه الى آخره دليل على حجية الاجماع ففي كل مسألة تحقق فيها إجماع المسلمين عليها فلا يجوز التخلف عنها، و أجمعوا على حجية القرآن و هو ناطق بعدم إدراك الأبصار إياه تعالى، و المتبع الإجماع المحقق.

و العجب من الأخباريين كيف يقتصرون في الأدلة على الكتاب و السنة بل بعضهم على الثاني فقط كما دريت و يدعون الإجماع و العقل مع شدة اهتمامهم بالتمسك بالأخبار، و هذا هو خبر مروي في الكافي ذهب الأخباريون إلى أن جملة ما فيه صحيحة، و ينادي الامام عليه السلام بأعلى صوته بأن ما أجمع المسلمون عليه لا يجوز الاعراض عنه، فهل هذا إلا الإعراض عن الكتاب و السنة.

المطلب الخامس‏

أن أبا قرة لما زعم من الرؤية، الرؤية بالأبصار احتج الامام عليه السلام عليه على مقدار فهمه و حذاء زعمه بعدم رؤيته تعالى بها، و إلا فسيأتي أخبار اخر في صحة رؤيته تعالى بمعنى آخر أدق و ألطف لا يعقله إلا الأوحدي من الناس.

الحديث الثالث‏

رواه الكليني قدس سره في باب إبطال الرؤية من جامعه الكافي عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن أبي هاشم الجعفري، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال سألته عن الله هل يوصف؟ فقال: أما تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قال: أما تقرأ قوله تعالى‏ لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار قلت: بلى، قال: فتعرفون‏ الأبصار؟ قلت: بلى، قال: ماهي؟ قلت: أبصار العيون، فقال: إن أوهام القلوب أكبر من أبصار العيون، فهو لا تدركه الأوهام و هو يدرك الأوهام.

و قريب منه رواية اخرى في ذلك الباب من الكافي أيضا رواها عن محمد بن أبي عبد الله، عمن ذكره، عن محمد بن عيسى، عن داود بن القاسم أبي هاشم الجعفري قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام: لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار؟ فقال: يا أبا هاشم أوهام القلوب أدق من أبصار العيون، أنت قد تدرك بوهمك السند و الهند و البلدان التي لم تدخلها و لا تدركها ببصرك، و أوهام القلوب لا تدركه فكيف أبصار العيون.

و قد رواهما الصدوق قدس سره في باب ما جاء في الرؤية من كتابه في التوحيد فروى الأول باسناده عن محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، عن محمد بن الحسن الصفار، عن أحمد بن محمد، عن أبي هاشم الجعفري، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام.

و الثاني عن علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق، عن محمد بن أبي عبد الله على حذو ما في الكافي.

و روى في المجلس الرابع و الستين من أماليه عن الحسين بن إبراهيم بن أحمد ابن هشام المؤدب قال: حدثنا أبو الحسين محمد بن جعفر الأسدي، قال: حدثني محمد ابن إسماعيل بن بزيع، قال: قال أبو الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام في قول الله عز و جل‏ لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار قال: لا تدركه أوهام القلوب فكيف تدركه أبصار العيون.

بيان: أبو جعفر عليه السلام هو الامام التاسع محمد بن علي الرضا، بقرينة رواية أبي هاشم الجعفري عنه، و صرح به الصدوق في التوحيد حيث قال في ذلك الاسناد:عن داود بن القاسم عن أبي هاشم الجعفري قال: قلت لأبي جعفر ابن الرضا عليه السلام.

الأوهام جمع و هم و هو يطلق في الكتب الحكمية على القوة الوهمية التي من شأنها إدراك المعاني الجزئية المتعلقة بالمحسوسات كعداوة زيد و محبة عمرو قال الشيخ في الشفاء: القوة المسماة بالوهم هي الرئيسة الحاكمة في الحيوان حكما

ليس فصلا كالحكم العقلي، و لكن حكما تخييلا مقرونا بالجزئية و بالصورة الحسية و عنه يصدر أكثر الأفعال الحيوانية، انتهى كلامه.

و كما أن العقل رئيس الوهم و مخدومه كذلك الوهم رئيس الحواس الظاهرة و الباطنة و مستعملها و مستخدمها و لذا بينوا أن آلتها الدماغ كله و لكن الأخص بها التجويف الأوسط على التفصيل الذي بين في محله.

و لكن المراد بالوهم في تلك الروايات معناه اللغوي أي ما يقع في القلب من الخاطر. قال الطريحي في مجمع البحرين: الوهم ما يقع في الخاطر يقال:

و همت الشي‏ء أهمه و هما من باب ضرب أي وقع في خلدي. و قال الفيومي في المصباح: و همت و هما وقع في خلدي، و الجمع أوهام.

فالمراد بأوهام القلوب إدراكاتها و منه قول الصادق و الباقر عليهما السلام: كلما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه فهو مخلوق مصنوع مثلكم- الحديث الذي ذكرناه في صدر هذا البحث.

و قد مر غير مرة أن القلب في الايات و الأخبار بمعنى النفس و العقل. و الوهم بذلك المعنى أعني الإدراك المتعلق بالقوة العقلية المتعلقة بالمعقولات في الأخبار غير عزيز بل شائع ذائع.

و لا يبعد أن يقال: وجه التعبير بالأوهام إنما كان من جهة عدم إحاطة العقول به تعالى أعني أن هذا التعبير يشير ضمنا إلى أن تلك الادراكات في صفة الباري تعالى أوهام من الوهم بمعنى الغلط و خيالات لا أنها حقائق و معقولات صحيحة.

و إنما كان إدراكات القلوب أكبر من أبصار العيون لأن القلب أعني العقل مجرد و العقل قد لا يحتاج في إدراكه إلى المادة و الجهة و غيرهما مما يحتاج إليها غيره من القوى المدركة في إدراكاتها.

و لا يخفى أن إدراك البصر مثلا مقصور على ما هو محصور في المادة و لا بد أن يكون ذا جهة و وضع وضوء و لون و أن لا يكون بعيدا مفرطا عن محسة الرؤية و لا قريبا منها كذلك، و أن لا يكون صغيرا جدا مما يحتاج في رؤيتها إلى الالات‏ المكبرة و أن لا يكون بينهما حاجب مما قدمنا في صدر هذا البحث من شرائط الابصار و أما العقل فيدرك ما هو مجرد عن المادة و الجهة و لا يشترط في رؤيته وجود الواسطة و عدم الظلمة و عدم القرب و البعد المفرطين و لا عدم الحاجب، فانه يدرك مطلقا و لذا قال عليه السلام: أنت قد تدرك بوهمك أي بعقلك السند و الهند- إلخ، و المجرد عن المادة يكون أدق و ألطف و أكبر و أعظم وجودا من إدراكات البصر، لأن مدركاتها محبوسة محصورة.

و في نسخة مخطوطة مصححة من توحيد الصدوق موجودة عندنا: أن أوهام القلوب أكثر من أبصار العيون، بالثاء المثلثة و هذا صحيح أيضا، و الكل يشير إلى معنى واحد أي أوسع وجودا.

و بالجملة أن كل ما تدركه أوهام القلوب لا تدركه العيون، بخلاف العكس و أن العقل مجرد عن المادة و مدركاتها كذلك، و ساير القوى ليست في مرتبته، و كذلك مدركاتها.

فالمدركات العقلية أدق و أكبر و أكثر وجودا من الحسية، قل كل يعمل على شاكلته، فاذا لم يكن الوهم قادرا على إدراكه تعالى و الإحاطة به فما ظنك بالعيون التي دون الوهم بمراحل، فنفي إدراكه تعالى بالوهم الذي هو أوسع وجودا و أتم إدراكا يستلزم نفي إدراكه بالأبصار بطريق أولى، فان نفي الأعم يستلزم نفي الأخص، كما أن نفي الحيوان يستلزم نفي الانسان على ما بين في صنعة الميزان.

ثم لا يخفى على من ساعده التوفيق أن هذه الأخبار الصادرة من أهل بيت العصمة تشير إلى تجرد الروح الانساني الذي به امتاز الانسان عن سائر الحيوانات و به كرم الله بني آدم عليهم، فالحيوانات و إن كانت قوية في إدراكاتها الحسية لكنها عاجزة عن نيل ما رزق به الانسان من تعقل المعقولات و إدراك الحقائق المجردة و المعاني اللطيفة الخفية من فعل العقل، و الفرق بين المعاني الحسية و بين المعاني العقلية شرفا كالفرق بين الحاسة و العقل.

و المراد من سؤال أبي هاشم الجعفري أبا الحسن الرضا عليه السلام عن الله هل يوصف يعني هل يدرك سبحانه بالحواس و العقول ثم يوصف بأن يقال: إن الله ذاته كذا و صفاته كذا و لا محالة ينجر إلى محدوديته تعالى و إلى وصفه بالصورة و التخطيط و غيرها من صفات خلقه كما يستفاد من الأخبار الواردة في باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه جل و علا كما في الكافي و التوحيد و غيرهما.

ثم إن هذه الأخبار لا تفسر الأبصار بالأوهام، بل لما انجر الكلام إلى إدراك الأبصار الحق تعالى قالوا عليهم السلام: إن أوهام القلوب لا تدركه تعالى فكيف الأبصار تقدر على إدراكه، و كذا أنه تعالى يدرك أوهام القلوب مع دقتها و سعتها فكيف لا يدرك الأبصار و يظهر ما قلنا بأدنى تأمل في سياق تلك الأخبار، فقدوهم من قال إنها فسر الأبصار بأوهام القلوب.

نعم رواية اخرى منقولة في باب في قوله تعالى، لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار من الكافي و في باب ما جاء في الرؤية من توحيد الصدوق بسند واحد و متن واحد من غير اختلاف ظاهرة في أنها تفسر الأبصار بأبصار القلوب.

ففيهما باسنادهما عن محمد بن يحيى العطار، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن أبي نجران، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله‏ لا تدركه الأبصار قال: إحاطة الوهم، ألا ترى إلى قوله: «قد جاءكم بصائر من ربكم» ليس يعني بصر العيون «فمن أبصر فلنفسه» ليس يعني من البصر بعينه «و من عمي فعليها» ليس يعني عمي العيون إنما عنى إحاطة الوهم كما يقال: فلان بصير بالشعر، و فلان بصير بالفقه، و فلان بصير بالدراهم، و فلان بصير بالثياب، الله أعظم من أن يرى بالعين، انتهى.

و كأنه عليه السلام أراد من قوله هذا مفسرا كما أن للعين بصرا كذلك للقلب بصر و بصر القلب يسمى بصيرة، فالمراد من إحاطة الوهم إحاطة بصيرة القلب و مع ذلك لا يبعد أن يقال: إنه عليه السلام أراد من كلامه هذا التنبيه على إرادة أبصار القلوب بالاية أيضا لا أبصار العيون فقط، أي أن الأبصار في الاية تشمل أبصار العيون‏ و القلوب كليهما.

و أشار عليه السلام في صحة إرادة إدراك القلبي من الأبصار إلى إطلاق البصر على بصيرة القلب في القرآن الكريم بقوله: ألا ترى إلى قوله تعالى‏ قد جاءكم بصائر من ربكم‏ إلخ، و إلى إطلاقه عليها في العرف أيضا بقوله: كما يقال:فلان بصير- إلخ. و قوله: إنما عنى إحاطة الوهم، أي إنما أراد الله من قوله:لا تدركه الأبصار إحاطة الوهم.

إن قلت: هذه الأخبار تكذب إدراكه تعالى بأوهام القلب، و قد رويت أخبار اخر أن القلوب تدركه بحقائق الايمان فكيف التوفيق؟.

قلت: المراد من الأخبار النافية، إدراكه تعالى بالاكتناه و الإحاطة، و من الأخبار المثبتة إدراكه بوجه بمعنى الانكشاف التام الحضوري و الشهود العلمي من غير اكتناه كما نتلوها عليك مبينة.

«الحديث الرابع»

في الكافي عن محمد بن أبي عبد الله، عن علي بن أبي القاسم، عن يعقوب بن إسحاق قال: كتبت إلى أبي محمد عليه السلام أسأله كيف يعبد العبد ربه و هو لا يراه؟ فوقع عليه السلام يا با يوسف جل سيدي و مولاي و المنعم علي و على آبائي أن يرى، قال: و سألته هل رأى رسول الله صلى الله عليه و آله ربه؟ فوقع عليه السلام: إن الله تبارك و تعالى أرى رسوله بقلبه من نور عظمته ما أحب.

أقول: هذا هو الحديث الأول من باب في إبطال الرؤية من اصول الكافي و قريب منه الحديث الثامن منه.

قال: محمد بن يحيى و غيره عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن أبي نصر، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله: لما اسري بي إلى السماء بلغ بي جبرئيل مكانا لم يطأه قط جبرئيل فكشف له فأراه الله من نور عظمته ما أحب و رواه الصدوق في التوحيد عن أبيه، عن محمد العطار، عن ابن عيسى، عن البزنطي عن الرضا عليه السلام.

بيان: محمد بن أبي عبد الله هو الذي أكثر المشايخ الثلاثة رضوان الله عليهم الرواية عنه. و علي بن أبي القاسم عبد الله بن عمران البرقي المعروف أبوه بما جيلويه يكنى أبا الحسن، و ذهب المولى صالح المازندراني و المولى صدرا الشيرازي في شرحهما على اصول الكافي إلى إن يعقوب بن إسحاق هو الشيخ أبو يوسف يعقوب بن إسحاق ابن السكيت الدورقي، و ابن السكيت هذا من أكابر علماء العربية و عظماء الشيعة و هو من أصحاب الجواد و الهادي عليهما السلام، و مؤلف كتاب إصلاح المنطق.

قال ابن خلكان في وفيات الأعيان: قال بعض العلماء: ما عبر على جسر بغداد كتاب من اللغة مثل إصلاح المنطق و قال: قال أبو العباس المبرد: ما رأيت للبغداديين كتابا أحسن من كتاب ابن السكيت.

و قال الشيخ الجليل النجاشي في الفهرست: يعقوب بن إسحاق السكيت أبو يوسف كان مقدما عند أبي جعفر الثاني و أبي الحسن عليهما السلام و كان يختصانه (و كان يخصانه- ظ) و له عن أبي جعفر عليه السلام رواية و مسائل، و قتله المتوكل لأجل التشيع و أمره مشهور، و كان وجيها في علم العربية و اللغة ثقة مصدق لا يطعن عليه و له كتب ثم عد كتبه.

قال ابن النديم في الفهرست: و كان يعقوب بن السكيت يكنى بأبي يوسف و كان مؤدبا لولد المتوكل و يقال: إن المتوكل ناله بشي‏ء حتى مات في سنة ست و أربعين و مائتين، و ليعقوب ابن يقال له: يوسف نادم المعتضد و خص به، انتهى ما أردنا من نقل كلامه.

و في وفيات الأعيان و كان يميل في رأيه و اعتقاده إلى مذهب من يرى تقديم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال أحمد بن عبيد: شاورني ابن السكيت في منادمته المتوكل فنهيته، فحمل قولي على الحسد و أجاب إلى ما دعى إليه من المنادمة فبينما هو مع المتوكل يوما جاء المعتز و المؤيد فقال المتوكل: يا يعقوب أيما أحب إليك ابناي هذان أم الحسن و الحسين؟ فغض ابن السكيت من ابنيه و ذكر الحسن و الحسين رضي الله عنهما بما هما أهله، فأمر الأتراك فداسوا بطنه فحمل إلى‏ داره فمات بعد غد ذلك اليوم، و كان ذلك في سنة أربع و أربعين و مائتين- إلى أن قال:

و قد روي في قتله غير ما ذكرته أولا، فقيل: إن المتوكل كان كثير التحامل على علي بن أبي طالب رضي الله عنه و ابنيه الحسن و الحسين رضي الله عنهم أجمعين، و كان ابن السكيت من المغالين في محبتهم و التوالي لهم، فلما قال له المتوكل تلك المقالة قال ابن السكيت: و الله إن قنبر خادم علي رضي الله عنه خير منك و من ابنيك، فقال المتوكل: سلوا لسانه من قفاه، ففعلوا ذلك به فمات و ذلك في ليلة الاثنين لخمس خلون من رجب سنة أربع و أربعين و مائتين، و قيل: سنة ثلاث و أربعين. و بلغ عمره ثمانيا و خمسين سنة.

و قال المجلسي- ره- في مرآة العقول: و ظن أصحاب الرجال أن يعقوب ابن إسحاق هو ابن السكيت، و الظاهر أنه غيره، لأن ابن السكيت قتله المتوكل في زمان الهادي عليه السلام و لم يلحق أبا محمد عليه السلام. انتهى كلامه- ره-.

أقول: أبو محمد في الروايات هو الحسن بن علي العسكري الامام الحادى عشر والد الامام المنتظر عليهما السلام.

قال في الكافي: ولد أبو محمد الحسن بن علي عليهما السلام في شهر رمضان و في نسخة اخرى في شهر ربيع الاخر سنة اثنتين و ثلاثين و مائتين، و قبض عليه السلام يوم الجمعة لثمان ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة ستين و مائتين و هو ابن ثمان و عشرين سنة.

و في الكافي أن والده أبا الحسن الثالث علي بن محمد الهادي الامام العاشر عليه السلام قبض سنة أربع و خمسين و مائتين فكان أبو محمد عليه السلام عند وفات أبيه الهادي عليه السلام ابن اثنتين و عشرين سنة، و عند وفاة ابن السكيت ابن اثنتين و عشر سنة، فابن السكيت لحق أبا محمد عليه السلام إلا أن نقل ابن السكيت عنه عليه السلام مستغرب في ظاهر الأمر فلا يبعد احتمال المجلسي- ره- عن الصواب.

فالظاهر أن يعقوب بن إسحاق هذا هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي فيلسوف الغرب المتوفي- 246 ه- و لما كان هو و ابن السكيت في الاسم و الكنية و اسم الوالد مشتركين، و كانا أيضا معاصرين اشتبه على الشراح أحدهما بالاخر.

و مما يؤيد هذا الاحتمال الاحتجاج الذي وقع بين أبي محمد عليه السلام و بين الكندي لما أخذ في تأليف تناقض القرآن على زعمه نقله المجلسي- ره- في احتجاجات البحار عن مناقب ابن شهر آشوب قال:

أبو القاسم الكوفي في كتاب التبديل إن اسحاق الكندي كان فيلسوف العراق في زمانه، أخذ في تأليف تناقض القرآن و شغل نفسه بذلك و تفرد به في منزله و أن بعض تلامذته دخل يوما على الامام الحسن العسكري عليه السلام فقال له أبو محمد عليه السلام: أما فيكم رجل رشيد يردع استاذكم الكندي عما أخذ فيه من تشاغله بالقرآن؟ فقال التلميذ: نحن من تلامذته كيف يجوز منا الاعتراض عليه في هذا أو في غيره؟ فقال أبو محمد عليه السلام: أتؤدي إليه ما ألقيه إليك؟ قال: نعم، قال فصر إليه (فسر إليه- خ ل) و تلطف في مؤانسته و معونته على ما هو بسبيله، فاذا وقعت المؤانسة في ذلك فقل: قد حضرتني مسألة أسألك عنها فإنه يستدعي ذلك منك فقل له: إن أتاك هذا المتكلم بهذا القرآن هل يجوز أن يكون مراده بما تكلم به منه غير المعاني التي ظننتها أنك ذهبت إليها؟ فانه سيقول: إنه من الجائز لأنه رجل يفهم إذا سمع، فاذا أوجب ذلك فقل له: فما يدريك لعله قد أراد غير الذي ذهبت أنت إليه فتكون واضعا لغير معانيه، فصار الرجل الى الكندي و تلطف إلى أن ألقى إليه (عليه- خ ل) هذه المسألة فقال له: أعد علي فأعاد عليه فتفكر في نفسه و رأى ذلك محتملا في اللغة و سائغا في النظر.

و مما يؤيد هذا الاحتمال أيضا أن السؤال عن نحو هذه المسألة أنسب بحال الكندي من ابن السكيت لأنه كان فيلسوفا حكيما، و قد عد ابن النديم في الفهرست من كتبه الفلسفية أكثر من عشرين كتابا، و كأنه أراد اختبار الإمام فيه تعالى فأجابه عليه السلام بما يناسبه.

و لكن مع ذلك كله ههنا كلاما يختلج بالبال و هو أن علي بن أبي القاسم لم يكن ممن يروي عن الكندي أو يكون أحد تلامذته و لم نجد في الكتب الرجالية و الفهارس من عده من تلامذته أو رواته بل عدوه من رواة ابن السكيت و منهم المولى‏ الأردبيلي- ره- في جامع الرواة.

ثم إن أبا محمد عليه السلام كان عند وفاة الكندي ابن أربع عشرة سنة لما مضى من تاريخ وفاتهما، و عند وفاة ابن السكيت ابن اثنتين و عشرة سنة كما دريت، فكان الفاصلة بين وفاة ابن السكيت و الكندي سنتين، فلو كان نقل ابن السكيت عنه عليه السلام مستغربا لكان كذلك الكلام في نقل الكندي عنه كما لا يخفى و قول المجلسي- ره- إن ابن السكيت لم يلحق أبا محمد ليس بصواب كما علم.

و قال بعضهم في تعليقة على جامع الرواة المذكور آنفا في المقام ما هذا لفظه فيه اشتباه لأن يعقوب بن إسحاق السكيت لم يروعن أبي محمد جزما إذ كما صرح المؤلف أيضا قتله المتوكل فكيف يمكن روايته عن أبي محمد عليه السلام، فالظاهر أنه يعقوب بن إسحاق البرقي لأنه من رواة العسكري كما صرح «مح» انتهى قوله.

و فيه أولا أن ابن السكيت أدرك أبا محمد عليه السلام كما علم.

و ثانيا أن يعقوب بن إسحاق البرقي لم يكن بأبي يوسف، على أنه مجهول الحال عده الشيخ- ره- في الفهرست بعنوان يعقوب بن إسحاق من أصحاب الهادي عليه السلام و بزيادة وصفه بالبرقي من أصحاب العسكري عليه السلام، و لم يعلم من هو و من روى عنه و لم يذكر أحد أن علي بن أبي القاسم روى عنه. و الله تعالى أعلم.

و أما سؤال أبي يوسف أبا محمد عليه السلام عن رؤيته تعالى ففيه كلام أيضا، لأن السائل إن كان ابن السكيت فكيف لم يكن استحالة رؤيته تعالى بالأبصار معلومة له و هو أدرك الجواد و العسكريين عليه السلام و قال النجاشي: و له عن أبي جعفر الثاني عليه السلام رواية و مسائل.

نعم إن كان السائل الكندي فلا ضير فيه لأنه سأله اختبارا و كيف كان فأجابه عليه السلام بأن الله تعالى جل أن يرى بالأبصار، لما دريت آنفا أن ما يدرك بالأبصار يجب أن يكون جسما كثيفا له ضوء و لون وجهة و مكان و سائر ما يشترط في الأبصار حتى يرى، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

ثم سأله من باب المكاتبة أيضا بدليل مقابلته بالتوقيع هل رأى رسول الله صلى الله عليه و آله‏ ربه و إنما سأل عن ذلك لأن طائفة من الروايات و بعض آيات النجم تدل على أنه صلى الله عليه و آله رآه تعالى، و يتبادر وهم العامة في أمثال هذه المعاني إلى ما يتوهمونها في الأجسام فيزعمون أن كل ما هو موجود فهو مرئي فما لم يكن بمرئي فليس بموجود، أو أن كل ما هو مرئي فهو مرئي بالأبصار فقط، و لا يعلمون أن الرؤية بعين القلب أعني العقل أتم و أكمل و أشرف و أقوى و أبقى من الرؤية بعين الرأس، و الفرق بين الرؤيتين كالفرق بين المدركين من العقل و العين.

فأجابه عليه السلام بأتم بيان بأنه تعالى أرى رسوله بقلبه من نور عظمته ما أحب نفى رؤيته تعالى بالبصر و قال: أرى رسوله بقلبه ما أحب من نور عظمته.

و رؤية القلب أشرف من رؤية العين، لعدم احتياجها إلى ما يشترط في الابصار بالعين، بل هو انكشاف تام و وصول لا يتأتى بيانه بالقلم يفهمه من كان له قلب و قال أبو الحسن الرضا عليه السلام في الحديث المقدم ذكره: فكشف له فأراه- إلخ، كأنه بيان لقول أبي محمد عليه السلام أرى بقلبه أي الإرائة ههنا هي الكشف التام.

و قوله عليه السلام: من نور عظمته، بيان لكلمة ما قدم عليها توسعة للظرف.

و اسلوب الكلام يقتضي إرجاع ضمير أحب إليه تعالى لا إلى رسوله.

و قوله عليه السلام: من نور عظمته، بيان لكلمة ما قدم عليها توسعة للظرف.

و اسلوب الكلام يقتضي إرجاع ضمير أحب إليه تعالى لا إلى رسوله.

فبما حققنا في المقام علمت أن أبا الحسن عليه السلام احتج على أبي قرة في الحديث المقدم على زنة معرفته و قدر عقله، و لو وجده الامام أهلا للاشارات الرقيقة لفسر له قوله تعالى‏ ما كذب الفؤاد ما رأى‏ بما رأى الفؤاد كما في الحديث الاتي.

و علمت أيضا أن ما جاء في الروايات بأنه صلى الله عليه و آله رآه تعالى، فالمراد رؤيته بالقلب من غير إحاطة لا بالبصر جمعا بين ما حكم به العقل الناصع و بين ظاهر النقل.

فنعم ما أشار إليه العالم الجليل الصدوق- ره- في باب ما جاء في الرؤية من كتابه في التوحيد حيث قال: حدثنا محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، قال: حدثنا إبراهيم بن هاشم، عن ابن أبي عمير، عن مرازم، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سمعته يقول: رأى رسول الله صلى الله عليه و آله ربه عز و جل- يعني بقلبه- و تصديق ذلك ما حدثنا به محمد بن الحسن بن أحمد بن الوليد، قال: حدثنا محمد بن الحسن الصفار، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن محمد بن الفضيل قال: سألت أبا الحسن عليه السلام هل رأى‏ رسول الله صلى الله عليه و آله ربه عز و جل؟ فقال: نعم بقلبه رآه. أما سمعت الله عز و جل يقول‏ ما كذب الفؤاد ما رأى‏ أي لم يره بالبصر و لكن رآه بالفؤاد. انتهى ما أفاده- ره-

الحديث الخامس‏

في الكافي: عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبي الحسن الموصلي، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: جاء حبر إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك حين عبدته؟ قال فقال: ويلك ما كنت أعبد ربا لم أره، قال: و كيف رأيته؟ قال: ويلك لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار و لكن رأته القلوب بحقائق الايمان.

أقول: هذه الرواية جاءت في الجوامع بطرق متعددة بينها اختلاف لفظا و كما في الجملة و ما أتى به الكليني في هذا الباب من جامعه الكافي جزء مما نقل في الجوامع الاخر.

ثم إن الظاهر أن ذلك الحبر هو ذعلب اليماني و الحديث بعض حديث دعلب المشهور رواه الخاصة و العامة بألفاظ مختلفة متقاربة و أسناده متعددة.

نعم لا يبعد أن يذهب إلى أن ذلك السؤال و الجواب وقع بينه عليه السلام و بين ذلك الحبر مرة، و بينه و بين ذعلب مرة اخرى، و لكن مشاركتهما في هيئة السؤال و الجواب و نضد الألفاظ تأبيان بظاهرهما عن ذلك الاحتمال.

ففي باب التوحيد من الكافي و في الوافي ص 95 ج 1 في باب جوامع التوحيد و في مرآة العقول ص 91 ج 1: محمد بن أبي عبد الله رفعه عن أبي عبد الله عليه السلام قال:بينا أمير المؤمنين يخطب على منبر الكوفة إذ قام إليه رجل يقال له: ذعلب ذو لسان بليغ في الخطب شجاع القلب فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك؟

فقال: ويلك يا ذعلب ما كنت أعبد ربا لم أره.

فقال: يا أمير المؤمنين كيف رأيته؟

قال: ويلك يا ذعلب لم تره العيون بمشاهدة هذه الأبصار، و لكن رأته القلوب بحقايق الايمان، ويلك يا ذعلب إن ربي لطيف اللطافة لا يوصف باللطف، عظيم‏

العظمة لا يوصف بالعظم، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ، قبل كل شي‏ء لا يقال شي‏ء قبله، و بعد كل شي‏ء لا يقال له بعد، شاء (شيأ خ ل) الأشياء لا بهمة، دراك لا بخديعة، في الأشياء كلها غير متمازج بها و لا بائن منها، ظاهر لا بتأويل المباشرة، متجل لا باستهلال رؤية، نائي لا بمسافة، قريب لا بمداناة، لطيف لا بتجسم، موجود لا بعد عدم، فاعل لا باضطرار، مقدر لا بحركة مزيد لا بهامة، سميع لا بالة، بصير لا بأداة، لا تحويه الأماكن، و لا تضمنه الأوقات و لا تحده الصفات، و لا تأخذه السنات، سبق الأوقات كونه، و العدم وجوده، و الابتداء أزله، بتشعيره المشاعر عرف أن لا مشعر له، و بتجهيره الجواهر عرف أن لا جوهر له، و بمضادته بين الأشياء عرف أن لا ضد له، و بمقارنته بين الأشياء عرف أن لا قرين له، ضاد النور بالظلمة، و اليبس بالبلل، و الخشن باللين، و الصرد بالحرور، مؤلف بين متعادياتها، مفرق بين متدانياتها، دالة بتفريقها على مفرقها و بتأليفها على مؤلفها، و ذلك قول الله تعالى‏ و من كل شي‏ء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون‏.

ففرق بين قبل و بعد ليعلم أن لا قبل له و لا بعد، شاهدة بغرائزها أن لا غريزة لمغرزها، مخبرة بتوقيتها أن لا وقت لموقتها، حجب بعضها عن بعض ليعلم أن لا حجاب بينه و بين خلقه، كان ربا إذ لا مربوب، و إلها إذ لا مألوه، و عالما إذ لا معلوم و سميعا إذ لا مسموع. انتهى ما في الكافي.

و رواه الصدوق في باب إثبات حدوث العالم من كتابه في التوحيد بطريقين و كل واحد منهما يشتمل على أكثر مما في الكافي إلا أن ما في الكافي واقع في أثناء الطريق الأول و أما الطريق الثاني فمبتدأ بما في الكافي.

فعلى الثاني قال: حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق- ره- قال: حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي قال: حدثنا محمد بن إسماعيل البرمكي قال:حدثنا الحسين بن الحسن قال: حدثنا عبد الله بن زاهر قال: حدثني الحسين بن يحيى الكوفي قال: حدثني قثم بن قتادة، عن عبد الله بن يونس، عن أبي عبد الله عليه السلام‏

قال: بينا أمير المؤمنين عليه السلام يخطب على منبر الكوفة إذ قام إليه رجل يقال له ذعلب ذرب اللسان بليغ في الخطاب شجاع القلب- إلى آخر ما في الكافي، إلا أن في التوحيد شائي الأشياء على صورة الفاعل و يمكن أن يكون ما في الكافي أيضا على اسم فاعل منون كرام. و في التوحيد: لا تصحبه الأوقات. ضاد النور بالظلمة و الجسو بالبلل، ليعلم أن لا حجاب بينه و بين خلقه غير خلقه.

و جاء ذيل الحديث بعد قوله و سميعا إذ لا مسموع أبيات على هذا الوجه: ثم أنشأ يقول:

و لم يزل سيدي بالحمد معروفا و لم يزل سيدي بالجود موصوفا
و كنت إذ ليس نور يستضاء به‏ و لا ظلام على الافاق معكوفا
و ربنا بخلاف الخلق كلهم‏ و كلما كان في الأوهام موصوفا
و من يرده على التشبيه ممتثلا يرجع أخا حصر بالعجز مكتوفا
و في المعارج يلقى موج قدرته‏ موجا يعارض طرف الروح مكفوفا
فاترك أخا جدل في الدين منعمقا قد باشر الشك فيه الرأي موؤفا
و اصحب أخا ثقة حبا لسيده‏ و بالكرامات من مولاه محفوفا
أمسى دليل الهدى في الأرض منتشرا و في السماء جميل الحال معروفا

قال: فخر ذعلب مغشيا عليه ثم أفاق و قال: ما سمعت بمثل هذا الكلام و لا أعود إلى شي‏ء من ذلك، انتهى.

أقول: و الأبيات مذكورة في الديوان المنسوب إلى الأمير عليه السلام، و بين النسختين اختلاف في الجملة.

و أما الطريق الأول فالظاهر من التوحيد- إن لم يكن صريحا- أن حديث ذعلب إنما كان من جملة ما قالها عليه السلام في أول خطبة خطب بها الناس على المنبر بعد ما بايعوه.

قال الصدوق- ره-: حدثنا أحمد بن الحسن القطان و علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق- ره- قالا: حدثنا أحمد بن يحيى بن زكريا القطان، قال:

حدثنا محمد بن العباس، قال: حدثني محمد بن أبي السرى قال: حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، عن سعد الكناني، عن الأصبغ بن نباتة قال: لما جلس علي عليه السلام الخلافة و بايعه الناس خرج إلى المسجد متعمما بعمامة رسول الله صلى الله عليه و آله، لا بسا بردة رسول الله صلى الله عليه و آله، متنعلا نعل رسول الله صلى الله عليه و آله، متقلدا سيف رسول الله صلى الله عليه و آله فصعد المنبر فجلس عليه متمكنا ثم شبك أصابعه فوضعها أسفل بطنه ثم قال:

يا معاشر الناس سلوني قبل أن تفقدوني هذا سفط العلم هذا لعاب رسول الله صلى الله عليه و آله هذا ما زقني رسول الله زقازقا، سلوني فان عندي علم الأولين و الاخرين، أما و الله لو ثنيت لي الوسادة فجلست عليها لأفتيت لأهل التوراة بتوراتهم حتى تنطق التوراة فتقول: صدق علي ما كذب لقد أفتاكم بما أنزل الله في. و أفتيت أهل الإنجيل بإنجيلهم حتى ينطق الانجيل فيقول: صدق علي ما كذب لقد أفتاكم بما أنزل الله في. و أفتيت أهل القرآن بقرآنهم حتى ينطق القرآن فيقول: صدق علي ما كذب لقد أفتاكم بما أنزل الله في. و أنتم تتلون القرآن ليلا و نهارا فهل فيكم أحد يعلم ما نزل فيه، و لولا آية في كتاب الله لأخبرتكم بما كان و ما يكون و ما هو كائن إلى يوم القيامة و هي هذه الاية يمحوا الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب‏.

ثم قال: سلوني قبل أن تفقدوني فو الله الذي فلق الحبة و برأ النسمة لو سألتموني عن آية آية في ليل انزلت، أو في نهارا نزلت، مكيها، و مدنيها، سفريها لأخبرتكم.

فقام إليه رجل يقال له: ذعلب و كان ذرب اللسان بليغا في الخطب شجاع القلب فقال: لقد ارتقى ابن أبي طالب مرقاة صعبة لأخجلنه اليوم لكم في مسألتي إياه فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك؟

قال: ويلك يا ذعلب لم أكن بالذي أعبد ربا لم أره قال: فكيف رأيته صفه لنا؟

قال: ويلك يا ذعلب إن ربي لا يوصف بالبعد، و لا بالحركة، و لا بالسكون و لا بالقيام قيام انتصاب، و لا بمجي‏ء و لا ذهاب، لطيف اللطافة لا يوصف باللطف، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم، كبير الكبرياء لا يوصف بالكبر، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ، رؤوف الرحمة لا يوصف بالرقة، مؤمن لا بعبادة، مدرك لا بمحسة، قائل لا باللفظ، هو في الأشياء على غير ممازجة، خارج منها على غير مباينة، فوق كل شي‏ء فلا يقال شي‏ء فوقه، و أمام كل شي‏ء و لا يقال له أمام، داخل في الأشياء لا كشي‏ء في شي‏ء داخل، و خارج منها لا كشي‏ء من شي‏ء خارج.

فخر ذعلب مغشيا ثم قال: تالله ما سمعت بمثل هذا الجواب و الله لا عدت إلى مثلها.

ثم قال عليه السلام: سلوني قبل أن تفقدوني.

فقام إليه الأشعث بن قيس فقال: يا أمير المؤمنين كيف يؤخذ من المجوس الجزية و لم ينزل عليهم كتاب و لم يبعث إليهم نبي؟

قال: بلى يا أشعث قد أنزل الله عليهم كتابا، و بعث إليهم رسولا حتى كان لهم ملك سكرذات ليلة فدعا بابنته إلى فراشه فارتكبها، فلما أصبح تسامع به قومه فاجتمعوا إلى بابه فقالوا: أيها الملك دنست علينا ذيننا فأهلكته فاخرج نطهرك و نقيم عليك الحد. فقال لهم: اجتمعوا و اسمعوا كلامي فإن يكن لي مخرج مما ارتكبت و إلا فشأنكم، فاجتمعوا فقال لهم: هل علمتم أن الله لم يخلق خلقا أكرم عليه من أبينا آدم و امنا حواء؟ قالوا: صدقت أيها الملك. قال: أ فليس قد زوج بنيه بناته و بناته من بنيه؟ قالوا: صدقت هذا هو الدين فتعاقدوا على ذلك فمحى الله ما في صدورهم من العلم و رفع عنهم الكتاب، فهم الكفرة يدخلون النار بلا حساب و المنافقون أشد حالا منهم.

قال الأشعث: و الله ما سمعت لمثل هذا الجواب، و الله لاعدت إلى مثلها أبدا.

ثم قال عليه السلام: سلوني قبل أن تفقدوني.

فقام إليه رجل من أقصى المسجد متوكيا على عصاه فلم يزل يتخطى الناس‏

حتى دنا منه، فقال: يا أمير المؤمنين دلني على عمل إذا أنا عملته نجاني الله من النار.

فقال له: اسمع يا هذا ثم افهم ثم استيقن قامت الدنيا بثلاثة: بعالم ناطق مستعمل لعلمه، و بغني لا يبخل بماله على أهل دين الله، و بفقير صابر. فاذا كتم العالم علمه، و بخل الغني، و لم يصبر الققير فعندها الويل و الثبور، و عندها يعرف العارفون بالله أن الدار قد رجعت إلى بدئها أي الكفر بعد الايمان.

أيها السائل فلا تغترن بكثرة المساجد و جماعة أقوام أجسادهم مجتمعة و قلوبهم شتى.

أيها الناس إنما الناس ثلاثة: زاهد، و راغب، و صابر، فأما الزاهد فلا يفرح بشي‏ء من الدنيا أتاه و لا يحزن على شي‏ء منها فاته، و أما الصابر فيتمناها بقلبه فإن أدرك منها شيئا صرف عنها نفسه لم «لماظ» يعلم من سوء عاقبتها، و أما الراغب فلا يبالي من حل أصابها أم من حرام.

قال له: يا أمير المؤمنين فما علامة المؤمن في ذلك الزمان؟

قال: ينظر إلى ما أوجب الله عليه من حق فيتولاه، و ينظر إلى ما خلفه فيتبرأ منه و إن كان حميما قريبا.

قال: صدقت يا أمير المؤمنين ثم غاب الرجل فلم نره فطلبه الناس فلم يجدوه فتبسم علي عليه السلام على المنبر ثم قال: ما لكم هذا أخي الخضر عليه السلام.

ثم قال: سلوني قبل أن تفقدوني فلم يقم إليه أحد فحمد الله و أثنى عليه و صلى على نبيه صلى الله عليه و آله.

ثم قال للحسن عليه السلام: يا حسن قم فاصعد المنبر فتكلم بكلام لا تجهلك قريش من بعدي فيقولون: إن الحسن بن علي لا يحسن شيئا، قال الحسن عليه السلام: يا أبه كيف أصعد و أ تكلم و أنت في الناس تسمع و ترى؟ قال له: بأبي و امي و أرى «اواري ظ» نفسي عنك و أسمع و أرى و أنت لا تراني.

فصعد الحسن عليه السلام المنبر فحمد الله بمحامد بليغة شريفة و صلى على النبي صلى الله عليه و آله صلاة موجزة ثم قال:

أيها الناس سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه و آله يقول: أنا مدينة العلم و علي بابها و هل تدخل المدينة إلا من بابها، ثم نزل، فوثب إليه علي عليه السلام فحمله و ضمه إلى صدره.

ثم قال للحسين عليه السلام: يا بني قم فاصعد المنبر و تكلم بكلام لا تجهلك قريش من بعدي فيقولون: إن الحسين بن علي لا يبصر شيئا، و ليكن كلامك تبعا لكلام أخيك.

فصعد الحسين عليه السلام المنبر فحمد الله و أثنى عليه و صلى على نبيه صلاة موجزة ثم قال:

يا معاشر الناس سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله و هو يقول: إن عليا هو مدينة هدى فمن دخله نجى و من تخلف عنها هلك. فوثب إليه علي عليه السلام فضمه إلى صدره و قبله ثم قال: معاشر الناس اشهدوا أنهما فرخا رسول الله وديعته التي استودعنيها، و أنا أستودعكموها، معاشر الناس و رسول الله سائلكم عنهما. انتهى ما في التوحيد.

و روى هذا الطريق في أول المجلس الخامس و الخمسين من أماليه بهذا الاسناد في التوحيد.

و اعلم أن كلامه عليه السلام في جواب ذعلب مذكور في النهج أيضا، و هو الكلام 177 من باب الخطب أوله: و من كلامه عليه السلام و قد سأله ذعلب اليماني فقال: هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين؟ فقال عليه السلام: أ فأعبد ما لا أرى، قال: و كيف تراه- إلخ.

لكن ما في النهج يكون قريبا من ثلث ما في الكافي و التوحيد، على أن نسخة النهج لا يوافقهما في الألفاظ و العبارات و بينهما تفاوت إلا في صدر الرواية حيث قال عليه السلام:

لا تدركه العيون بمشاهدة العيان و لكن تدركه القلوب بحقائق الايمان. و أما سائر كلامه هذا ليس بمذكور في النهج إلا أن قوله عليه السلام: قامت الدنيا بثلاثة: بعالم ناطق مستعمل علمه- إلخ، شبيه بقوله عليه السلام لجابر بن عبد الله الأنصاري: يا جابر قوام الدنيا بأربعة: عالم مستعمل علمه- إلخ، و هو الحكمة 372 من باب المختار من حكمه عليه السلام من النهج.

تنبيه‏ :

قد قدمنا في شرح المختار الأول من كتبه عليه السلام (ص 357 ج 2 من تكملة المنهاج) اختلاف الأقوال في أول خطبة خطبها عليه السلام بعد ما بويع له بالخلافة و قد حققنا هنا لك أن الخطب: 21 و 28 و 166 و 176 من النهج كانت جميعا خطبة واحدة، فبما نقلنا من رواية التوحيد ههنا علمت أن كلامه في جواب ذعلب أي ذلك الكلام 177 من باب الخطب أيضا كان منها، و أن الجميع مما قالها في جلسة واحدة حين صعد المنبر بعد ما بويع له عليه السلام بالخلافة.

و روى الكليني في ذلك الباب من الكافي حديثا عن أبي جعفر عليه السلام وقع بينه و بين رجل من الخوارج مثل ما وقع بين أمير المؤمنين عليه السلام و ذعلب فأجاب الرجل بما يقرب من كلام أمير المؤمنين عليه السلام.

قال: علي بن إبراهيم عن أبيه، عن علي بن معبد، عن عبد الله بن سنان، عن أبيه قال: حضرت أبا جعفر عليه السلام فدخل عليه رجل من الخوارج فقال: يا با جعفر أي شي‏ء تعبد؟ قال: الله، قال: رأيته؟ قال: بلى لم تره العيون بمشاهدة الأبصار و لكن رأته القلوب بحقائق الايمان، لا يعرف بالقياس، و لا يدرك بالحواس، و لا يشبه بالناس، موصوف بالايات، معروف بالعلامات، لا يجور في حكمه، ذلك الله لا إله إلا هو، قال: فخرج الرجل و هو يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته. انتهى.

و رواه الصدوق في المجلس السابع و الأربعين من أماليه و في باب ما جاء في الرؤية من التوحيد أيضا. و أبو جعفر هذا هو محمد بن علي الباقر عليه السلام لا الامام التاسع بقرينة رواية سنان عنه عليه السلام صرح به في اسناد الأمالي حيث قال: عن عبد الله بن سنان عن أبيه قال: حضرت أبا جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام.

قال الصدوق في التوحيد بعد نقل حديث ذعلب: في هذا الخبر ألفاظ قد ذكرها الرضا عليه السلام في خطبته، و هذا تصديق قولنا في الأئمة عليهم السلام أن علم كل واحد منهم مأخوذ عن أبيه حتى يتصل ذلك بالنبي صلى الله عليه و آله. انتهى قوله رحمه الله.

أقول: إن ما يجب أن يعتقد و يذعن فيهم عليهم السلام أن علمهم من معدن واحد لا يخالفون الحق و لا يختلفون فيه، و لقد أجاد الصدوق رحمه الله بما أفاد، و لكن‏ ذلك الحديث المروي في الكافي عن أبي جعفر عليه السلام منسوب إلى أمير المؤمنين عليه السلام على نسق واحد.

روى الطبرسي في كتاب الاحتجاج في باب احتجاج أمير المؤمنين عليه السلام فيما يتعلق بتوحيد الله و تنزيهه عما لا يليق به ما هذا لفظه:

و روى أهل السير أن رجلا جاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني عن الله أ رأيته حين عبدته؟ فقال له أمير المؤمنين: لم أك بالذي أعبد من لم أره، فقال له: كيف رأيته يا أمير المؤمنين؟ فقال له: ويحك لم تره العيون بمشاهدة العيان، و لكن رأته العقول بحقائق الايمان، معروف بالدلالات، منعوت بالعلامات لا يقاس بالناس، و لا يدرك بالحواس، فانصرف الرجل و هو يقول: الله أعلم حيث يجعل رسالته، انتهى.

و الناقد في الأحاديث يرى أن ذينك الحديثين واحد قاله أحدهما عليهما السلام و وقعت تلك الواقعة لأحدهما و تعددت من سهو الراوي فتأمل و الله تعالى أعلم.

أما بيان الحديث فيجوز قراءة الأبصار بالفتح و الكسر، فعلى الأول جمع و على الثاني مصدر، و في نسختي النهج و الاحتجاج بمشاهدة العيان، و المراد بالقلوب العقول. كما في الاحتجاج، و قد بينا في شرح المختار 237 من باب الخطب أن المراد من القلب في الايات و الأخبار و اصطلاح الإلهيين هو اللطيفة القدسية الربانية التي يعبر عنها بالقوة العقلية، لا الجسم اللحمي الصنوبري.

قوله عليه السلام: لا تدركه العيون في مشاهدة الأبصار. قد عرفت في شرح الأحاديث المتقدمة أن ما تدركه الأبصار لا بد من أن يكون جسما ذا ضوء و لون، و ما يقبل الضوء و اللون لا بد من أن يكون كثيفا، فلزم من رؤيته تعالى بالأبصار كونه جسما، و الجسم مركب حادث ذو جهة و وضع، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

و أما قوله: و لكن رأته القلوب بحقائق الايمان فاعلم أن السائل الحبر لما سأله عليه السلام هل رأيت ربك حين عبدته و أجابه عليه السلام ما كنت أعبد ربا لم أره، حمل الرؤية على الرؤية بالعين، لأن المرتكز عند عامة الناس إنما تكون الرؤية بهذا المعنى لأنهم يتبادرون إلى الأحكام التي تحس بمحسة لحشرهم معها و انسهم بها.

و أما التوجه إلى ما وراء الطبيعة و السير إلى باطن عالم الشهود بقدم المعرفة فلا تيسر لهم إلا بعد تنبيه و ايقاظ و إرشاد، و لما رأى عليه السلام أنه حمل الرؤية على ذلك بين له أن المراد من الرؤية هو الرؤية القلبية لا العينية، و قال عليه السلام رأته القلوب بحقائق الإيمان.

و أما الرؤية القلبية بحقائق الايمان فلابد من أن نمهد مقدمة في بيانه كي يتضح المراد و هي:أن حقيقته تعالى غير معلومة لأحد بالعلم الحصولي الصوري كما أنها غير معلومة لأحد أيضا بالعلم الاكتناهي أعني إحاطته تعالى بالعقل أو الحس أو بغيرهما من القوى المدركة، و اتفق على امتناع ذينك العلمين به تعالى الحكماء الالهيون و العرفاء الشامخون.

أما الأول فلأن العلم الحصولي به تعالى إنما يتمشي فيما له ماهية حتى يصح تعدد أنحاء الوجود لتلك الماهية فيحصل نحو من وجوده في الأذهان، و العلم الحصولي هو حصول صورة الشي‏ء و ارتسامه في الذهن، و العلم بالشي‏ء ليس إلا نحو وجوده لدى الذات العاقلة المجردة، فهذا الوجود الذهني نحو من وجود ذلك الشي‏ء الخارجي، غاية الأمر أن للذهني بالنسبة إلى الخارجي تجردا ما، و لكن الواجب تعالى لما كان حقيقته وجوده العيني الخاص و تعينه عين ذاته و إنيته ماهيته لا يتطرق إليه التعدد و الكثرة، فلا يرتسم في الذهن، فلا يكون معلوما لأحد بالعلم الحصولي.

و أما الثاني فلأن ما سواه معلول له، و أنى للمعلول أن يحيط بعلته و هو دونها و شأن من شئونها، و هو تعالى لشدة نورية وجوده الغير المتناهي العيني الخاص به و نهاية كماله وسعة عظمته و قاهرية ذاته و تسلطه على من سواه حجب العقول المجردة و النفوس الكاملة، فضلا عن الأوهام و الأبصار عن الإحاطة به و اكتناه ذاته‏ لقصورها و فتورها.

و في الحديث: إن الله قد احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار، و أن الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم و في الكتاب الإلهي‏ لا يحيطون به علما و عنت الوجوه للحي القيوم‏ (طه- 110) و العلم به تعالى على ما هو عليه مختص به.

سبحان من تحير في ذاته سواه‏ فهم خرد بكنه كمالش نبرده راه‏
از ما قياس ساحت قدسش بود چنانك‏ مورى كند مساحت گردون ز قعر چاه‏

و كما أن أبصارنا عاجزة عن أن تملأ من نور الشمس المشرقة و عن إحاطة الرؤية بها و اكتناهها، كذلك بصيرتنا عن اكتناه ذاته تعالى.

على أن هذا التمثيل للتقريب، كيف؟ و هو تعالى أجل و أعلى عن التشبيه و التمثيل و القياس بمخلوقاته‏ و لله المثل الأعلى و هو العزيز الحكيم‏ (النحل- 61).

اى برون از وهم و قال و قيل من‏ خاك بر فرق من و تمثيل من‏

نكتة:

فاذا كان الأبصار عاجزة عن أن تملأها من نور الشمس المشرقة فما ظنك برؤية من هو في شدة نوريته فوق ما لا يتناهى بما لا يتناهى.

و قد روى في ذلك الكليني في باب إبطال الرؤية من جامعه الكافي و الصدوق في باب ما جاء في الرؤية من كتابه في التوحيد عن أحمد بن ادريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان بن يحيى، عن عاصم بن حميد، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ذاكرت أبا عبد الله عليه السلام فيما يروون من الرؤية، فقال: الشمس جزء من سبعين جزءا من نور الكرسي، و الكرسي جزء من سبعين جزءا من نور العرش، و العرش جزء من سبعين جزءا من نور الحجاب، و الحجاب جزء من سبعين جزءا من نور الستر، فان كانوا صادقين فليملئوا أعينهم من الشمس ليس دونها سحاب.

فاذا ساقنا البرهان إلى أن العلم به تعالى حصوليا و اكتناهيا محال، فلا جرم يكون المراد من الرؤية القلبية بحقائق الايمان غير هذين النحوين من العلم بل هي طور آخر أدق و ألطف و هو:أن الرؤية القلبية به تعالى هي الكشف التام الحضوري و شهوده تعالى للعبد على مقدار تقربه منه تعالى بقدم المعرفة و درج معارف العقل و عقائد حقانية برهانية، فإنه عز و جل يتجلى للعبد بقدر و عائه الوجودي، لأنه رب العباد و الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق، و هم في وجودهم و بقائهم في جميع الأحوال و العوالم ربط محض و فقر صرف، و الأول تعالى لا ينفك فيضه عليهم طرفة عين، و يفيض عليهم على مقدار قابليتهم و سعة وجودهم و تقربهم، و العارف السالك يشهده على مقدار حقائق ايمانه لا بالكنه، و هذا الشهود الوجودي و الانكشاف التام الحضوري ذو درجات‏ يرفع الله الذين آمنوا منكم و الذين أوتوا العلم درجات‏ (المجادلة- 12).

و تنتهي هذه الدرجات إلى مرتبة يقول العبد السالك النائل بها على لسان صدق و قول حق: لو كشف الغطاء لما ازددت يقينا.

قال يعقوب بن إسحاق الكندي فيلسوف العرب: إذا كانت العلة الاولى متصلة بنا لفيضه علينا و كنا غير متصلين به إلا من جهته، فقد يمكن فينا ملاحظته على قدر ما يمكن للمفاض عليه أن يلاحظ المفيض، فيجب أن لا ينسب قدر إحاطته بنا إلى قدر ملاحظتنا له، لأنها أغزر و أوفر و أشد استغراقا.

و قال المحقق الشهرزوري في الشجرة الإلهية: الواجب لذاته أجمل الأشياء و أكملها، لأن كل جمال و كمال رشح و فيض و ظل من جماله و كماله، فله الجلال الأرفع، و النور الأقهر، فهو محتجب بكمال نوريته و شدة ظهوره، و الحكماء المتألهون العارفون به يشهدونه لا بالكنه، لأن شدة ظهوره و قوة لمعانه و ضعف ذواتنا المجردة النورية يمنعنا عن مشاهدته بالكنه كما منع شدة ظهور الشمس و قوة نورها أبصارنا اكتناهها، لأن شدة نوريتها حجابها، و نحن نعرف الحق الأول و نشاهده، لكن لا نحيط به علما كما ورد في الوحي الإلهي «و لا يحيطون به علما و عنت الوجوه للحي القيوم». نقلهما صدر المتألهين عنهما في الفصل الثالث من المنهج الثاني من أول الأسفار.

و المراد من حقائق الايمان مراتبه لأن الايمان به في كل مرتبة كان حقيقة و عقيدة حقة.

فان قول الأعرابي حيث سئل عن الدليل علي وجود الصانع: البعرة تدل على البعير و آثار الأقدام تدل على المسير، أ فسماء ذات أبراج و أرض ذات فجاج لا تدل على وجود اللطيف الخبير، مرتبة من مراتب الايمان، و هو استدلال بالاثار المحوجة إلى السبب الدال على وجوده تعالى، و هو اعتقاد صدق و ايمان حق.

و قد سلك هذا المسلك أمير المؤمنين عليه السلام في مقام إرشاد من كان وعاء عقله يقتضي هذا القدر من الخطاب بقوله: البعرة تدل على البعير، و الروثة تدل على الحمير و آثار الأقدام تدل على المسير فهيكل علوي بهذه اللطافة، و مركز ثفلي بهذه الكثافة كيف لا يدلان على اللطيف الخبير؟.

و كأن قول الأعرابي مأخوذ من كلامه عليه السلام كما أشار إليه السيد نعمة الله الجزائري في تعليقته على أول كتابه الموسوم بالأنوار النعمانية.

و استدلال المتكلمين بحدوث الأجسام و الأعراض على وجود الخالق و بالنظر في أحوال الخليقة على صفاته تعالى واحدة فواحدة أيضا مرتبة من الإيمان، و هذه المرتبة حقيقة من حقائق الإيمان.

و هذا طريق إبراهيم الخليل عليه السلام في مقام هداية العباد، فانه استدل بالافول الذي هو الغيبة المستلزمة للحركة المستلزمة للحدوث المستلزم لوجود الصانع تعالى.

و ما استدل به الحكماء الطبيعيون من وجود الحركة على محرك، و بامتناع اتصال المحركات لا إلى نهاية على وجود محرك أول غير متحرك، ثم استدلوا من ذلك على وجود مبدء أول أيضا حقيقة من حقائق الايمان و مرتبة من مراتبه و ما استدل به طائفة اخرى من الإلهيين كالعرفاء الشامخين من ذاته على ذاته من غير الاستعانة بابطال الدور و التسلسل، أعني برهان الصديقين حق و حقيقة من مراتب حقائق الايمان. و اشير إليه في الكتاب الإلهي‏ سنريهم آياتنا في الآفاق و في أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أ و لم يكف بربك أنه على كل شي‏ء شهيد (فصلت- 55) فعرفوا بذاته ذاته و وحدانيته شهد الله أنه لا إله إلا هو، و بذاته عرفوا غيره، أو لم يكف بربك أنه على كل شي‏ء شهيد.

و اعلم أن أظهر الموجودات و أجلاها عند أهل البصيرة هو الله تعالى، و يستدلون بذاته على وجود غيره لا بالعكس كما هو دأب من لم يصل إلى تلك المرتبة العلياء و قد نطق ببرهان الصديقين على أوضح بيان إمام الموحدين سيد الشهداء أبو عبد الله الحسين عليه السلام في دعاء عرفة: كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك، أ يكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك، متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك، و متى بعدت حتى تكون الاثار هي التي توصل إليك- إلخ.

و نعم قال العارف الشبستري:

رهي نادان كه او خورشيد تابان‏ ز نور شمع جويد در بيابان‏

و لا يخفى أن أتم مراتب الإيمان و حقائقه هذه المرتبة الأخيرة، و هي أيضا بحسب مراتب العرفان متفاوتة، و قد كان الفائزون بهذه الرتبة العلياء و النائلون بهذه النعمة العظمى يكتمونها عن غير أهلها مخافة أن تزل أقدام لم تسلك منازل السائرين، و تضطرب أحلام لم ترق إلى مقامات العارفين.

قد روى الشيخ الجليل السعيد الصدوق قدس سره في باب ما جاء في الرؤية من كتابه في التوحيد حديثا في ذلك.

قال: حدثنا علي بن أحمد بن محمد بن عمران الدقاق، قال: حدثنا محمد بن أبي عبد الله الكوفي، قال: حدثنا موسى بن عمران النخعي، عن الحسين بن يزيد النوفلي، عن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له:أخبرني عن الله عز و جل هل يراه المؤمنون يوم القيامة؟ قال: نعم و قد رأوه قبل يوم القيامة. فقلت: متى؟ قال: حين قال لهم: أ لست بربكم قالوا بلى‏ (الأعراف 173) ثم سكت ساعة ثم قال: إن المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة أ لست تراه في وقتك هذا؟ قال أبو بصير: فقلت له: جعلت فداك فاحدث بهذا عنك؟

فقال: لا فانك إذا حدثت به فأنكره منكر جاهل بمعنى ما نقوله ثم قدر أن ذلك تشبيه كفر، و ليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين، تعالى الله عما يصفه المشبهون و الملحدون.

بيان: قوله: فاحدث جملة استفهامية أو أن أداة الاستفهام محذوفة أي أفاحدث بهذا عنك؟.

و قوله عليه السلام: كفر، فعل ماض جزاء للشرط أعني إذا حدثت به. و المراد بالكفر، الكفر بأهل البيت عليهم السلام، لأن الجاهل بذلك المعنى الرقيق الذي أشار إليه الامام عليه السلام يعتقد أنهم عليهم السلام قائلون بالتشبيه المحال.

و في الفتح الرابع من الفاتحة الاولى من شرح الميبدي على الديوان المنسوب إلى الأمير عليه السلام أبيات منسوبة إلى الإمام السجاد عليه السلام أنه قال:

إني لأكتم من علمي جواهره‏ كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتنا
و قد تقدم في هذا أبو حسن‏ إلى الحسين و وصى قبله الحسنا
و رب جوهر علم لو أبوح به‏ لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
و لا ستحل رجال مسلمون دمي‏ يرون أقبح ما يأتونه حسنا

أو المراد بالكفر، الكفر بالله باعتقاد تشبيهه تعالى بسائر المرئيات بالأبصار كما مر في الحديث الأول عن أبي الحسن الثالث عليه السلام أن الرائي متى ساوى المرئي في السبب الموجب بينهما في الرؤية وجب الاشتباه و كان ذلك التشبيه، و كأن الكفر بهذا المعنى أنسب بسياق العبارة.

و بما حققنا دريت أن معنى الرؤية القلبية هو الانكشاف التام الحضوري الذي شهد على صحته العقل و النقل، و أن الرؤية البصرية على أي نحو كانت محالة في حقه تعالى بشهادة العقل و النقل أيضا.

فقد أخطأ من فسر قوله تعالى: ما كذب الفؤاد ما رأى‏ (النجم- 12) بقوله: إن الله تعالى جعل بصر رسول الله في فؤاده أو خلق لفؤاده بصرا حتى رآه‏ تعالى رؤية العين. و نسب هذا الرأي إلى النواوي من العامة.

و يرد عليه جميع ما يرد على إدراكه تعالى بالعين، لأن الإدراك البصري محال فيه تعالى سواء كانت قوة الإبصار في هذه البنية المخصوصة أعني العين أو في غيرها، و جعل العين في القلب لا يخرج الرؤية عن الإدراك البصري و لا يدخلها في الرؤية القلبية، بل هي رؤية بصرية بلا كلام.

مثلا رؤيتنا زيدا في المنام و إن لم تكن بعين الرأس لكن ما يعتبر فيها حالة اليقظة معتبر في المنام أيضا، فزيد المرئي في المنام محدود ذو جهة مسامت للرائي فرؤيته في المنام بغير هذه المحسة أعني عين الرأس لا تخرج عن أحكام الرؤية العينية و لا تدخل في الرؤية القلبية المجردة عن أوصاف الجسم.

و لو أراد هذا القائل من كلامه ذلك المعنى اللطيف الصحيح الذي بيناه آنفا فنعم الوفاق و لكن صرح غير واحد بأنه لم يرده، و لفظه يأبى عن حمله عليه.

و دريت أيضا أن الذين ذهبوا إلى عكس ما ذهب إليه النواوي أي إلى جواز أن يحول الله تعالى قوة القلب إلى العين فيعلم الله تعالى بها فيكون ذلك الادراك علما باعتبار أنه بقوة القلب، و رؤية باعتبار أنه قد وقع بالمعنى الحال في العين سلكوا طريقة عمياء أيضا، و يرد عليهم الإيراد من وجوه رأينا الاعراض عنها أجدر.

و لما كان هذا البحث الحكمي العقلي حاويا لتلك النكات الأنيقة و المطالب الرقيقة، أكثرها كان مستفادا من كلمات الأئمة الهداة عليهم السلام، رأينا أن نشير إليها على حسب ما يقتضي المقام، و لعمري من ساعده التوفيق و أخذت الفطانة بيده اغتنم ذلك البحث العقلي الجامع لكثير من ضوابط عقلية تزيده بصيرة و رقيا في معرفة الله تعالى و فقها في الأخبار المروية في الرؤية و غيرها مما يغتر المنتسبون إلى العلم بظاهرها. الحمد لله الذي هدانا لهذا و ما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله‏ .

 الترجمة

اين نامه ‏ايست كه امير المؤمنين علي عليه السلام بجرير بن عبد الله بجلي گاهى كه او را بسوى معاويه گسيل داشت تا از وى بيعت بگيرد، نوشت.

معاويه در بيعت با آن بزرگوار به تسويف و مماطله مى‏ گذرانيد و ببهانه‏ هاى بيجا امروز و فردا مى‏ كرد، و بدين سبب جرير مدتى دراز در شام سرگردان بود و أمير المؤمنين عليه السلام چون ديد كه معاويه در أمر بيعت دو دل است و به لعل و عسى روزگار مى‏ گذراند اين نامه را بجرير نوشت:

أما بعد اى جرير برسيدن نامه‏ ام، معاويه را وادار كه قبول بيعت يا امتناع آنرا يكسره كند، و فرا گيرش كه در إطاعت يا عصيان بجزم سخن گويد، پس او را ميان كارزارى كه آواره‏ اش كند، و يا گردن نهادني كه ارجش دهد و بهره‏ اش رساند[1]، مخير گردان. اگر كارزار را بر گزيد عهد أمان بسويش افكن و اعلام جنگ در ده، و اگر بصلح گرايد بيعت از وى بستان. و السلام.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی

__________________________________________________________

[1] ( 1)- نقل 29 فرقا فيما اختلف فيها المجتهدون و الاخباريون من كتاب السماهيجى الموسوم بمنية الممارسين لا يخلو من فائدة فراجع،.

نهج البلاغه نامه ها نامه شماره 7 شرح میر حبیب الله خوئی(به قلم علامه حسن زاده آملی )

نامه 7 صبحی صالح

7- و من كتاب منه ( عليه‏ السلام  ) إليه أيضا

أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ أَتَتْنِي مِنْكَ مَوْعِظَةٌ مُوَصَّلَةٌ وَ رِسَالَةٌ مُحَبَّرَةٌ نَمَّقْتَهَا بِضَلَالِكَ وَ أَمْضَيْتَهَا بِسُوءِ رَأْيِكَ

وَ كِتَابُ امْرِئٍ لَيْسَ لَهُ بَصَرٌ يَهْدِيهِ وَ لَا قَائِدٌ يُرْشِدُهُ قَدْ دَعَاهُ الْهَوَى فَأَجَابَهُ وَ قَادَهُ الضَّلَالُ فَاتَّبَعَهُ فَهَجَرَ لَاغِطاً وَ ضَلَّ خَابِطاً

وَ مِنْهُ‏لِأَنَّهَا بَيْعَةٌ وَاحِدَةٌ لَا يُثَنَّى فِيهَا النَّظَرُ وَ لَا يُسْتَأْنَفُ فِيهَا الْخِيَارُ الْخَارِجُ مِنْهَا طَاعِنٌ وَ الْمُرَوِّي فِيهَا مُدَاهِنٌ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج17  

و من كتاب له عليه السلام اليه أيضا. و هو الكتاب السابع من باب المختار من كتبه عليه السلام و رسائله:

أما بعد فقد أتتني منك موعظة موصلة، و رسالة محبرة، نمقتها بضلالك، و أمضيتها بسوء رأيك،

و كتاب امرء ليس له بصر يهديه، و لا قائد [و لا صالح- خ ل‏] يرشده، قد دعاه الهوى فأجابه و قاده الضلال فاتبعه، فهجر لاغطا، و ضل خابطا.

و من هذا الكتاب: لأنها بيعة واحدة لا يثني فيها النظر، و لا يستأنف فيها الخيار، الخارج منها طاعن، و المروي فيها مداهن.

اللغة

(موصلة) بصيغة المفعول من وصل الشي‏ء بالشي‏ء وصلا و وصله لأمه أي ربطه به.

(محبرة) بصيغة المفعول من تحبير الخط و الشعر و غيرهما بمعنى تحسينها قال الجوهري في الصحاح: قال الأصمعي و كان يقال لطفيل الغنوي في الجاهلية محبر لأنه كان يحسن الشعر.

قال الشهاب الفيومي في المصباح: حبرت الشي‏ء حبرا من باب قتل زينته و الحبر بالكسر اسم منه فهو محبور و حبرته بالتثقيل مبالغة.

نمق الكتاب تنميقا حسنه و زينه، فقوله عليه السلام: نمقتها بضلالك أي زينتها به. أمضيت الأمر إمضاء أي أنفذته أو بمعنى إمضاء الصكوك و الرسائل لتوقيعها البصر: العين و نفاذ القلب و حكي أن معاوية قال لابن عباس و قد كف بصره: ما لكم يا بني هاشم تصابون بأبصاركم إذا أسننتم؟ فقال: كما تصابون ببصائر كم عنده.

قاد الرجل الفرس قودا و قيادة و قيادا بالكسر: مشى أمامها آخذا بقيادها نقيض ساقه، قال الخليل- كما في مصباح الفيومي: القود أن يكون الرجل أمام الدابة آخذا بقيادها، و السوق أن يكون خلفها فإن قادها لنفسه قيل: اقتادها لنفسه. و قاد الأمير الجيش قيادة فهو قائد و جمعه قادة و قواد و قود.

(الهوى) مقصورة: إرادة النفس و ميلانها إلى ما تستلذ. و ممدودة: الهواء المكتنف للأرض. و في الصحاح: كل خال هواء. قال الشاعر:

فكيف أرحل عنها اليوم إذ جمعت‏ طيب الهوائين مقصور و ممدود

قال المبرد في الكامل: الهوى من هويت مقصور و تقديره فعل فانقلبت الياء ألفا فلذلك كان مقصورا، و إنما كان كذلك لأنك تقول هوي يهوى كما تقول فرق يفرق و هو هو كما تقول هو فرق كما ترى و كان المصدر على فعل بمنزلة الفرق و الحذر و البطر لأن الوزن واحد في الفعل و اسم الفاعل. فأما الهواء من الجو فممدود يدلك على ذلك جمعه إذا قلت أهوية، لأن أفعلة إنما تكون جمع فعال و فعال و فعيل كما تقول قذال و أقذلة و حمار و أحمرة فهواء كذلك و المقصور جمعه أهواء فاعلم لأنه على فعل و جمع فعل أفعال كما تقول جمل و أجمال و قتب و أقتاب، قال الله عز و جل: و اتبعوا أهواءهم‏ (محمد صلى الله عليه و آله- 19).

و قوله: هذا هواء يافتى في صفة الرجل إنما هو ذم يقول لا قلب له قال الله عز و جل:

و أفئدتهم هواء أي خالية و قال زهير:

كأن الرحل منها فوق صعل‏ من الظلمان جؤجؤه هواء

و هذا من هواء الجو قال الهذلي:

هواء مثل بعلك مستميت‏ على ما في وعائك كالخيال‏

(الهجر): الهذيان و قد هجر المريض يهجر هجرا من باب قتل خلط و هذى فهو هاجر و الكلام مهجور. قال الجوهري في الصحاح: قال أبو عبيد يروي عن إبراهيم ما يثبت هذا القول في قوله تعالى‏ إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا (الفرقان- 33) قال: قالوا فيه غير الحق ألم تر إلى المريض إذا هجر قال غير الحق، قال: و عن مجاهد نحوه.

و الهجر: الاسم من الإهجار و هو الافحاش في المنطق أي الكلام القبيح المهجور لقبحه. و في الحديث: و لا تقولوا هجرا، قال عوف بن الخرع:

زعمتم من الهجر المضلل أنكم‏ ستنصر كم عمر و علينا و منقر

و أهجر فلان إذا أتى بهجر من الكلام عن قصد، قال الشماخ بن ضرار:

كماجدة الأعراق قال ابن ضرة عليها كلاما جار فيه و أهجرا

(اللاغط): ذو اللغط، قال في المصباح: لغط لغطا من باب نفع و اللغط بفتحتين اسم منه و هو كلام فيه جلبة و اختلاط و لا يتبين. قال عمرو بن أحمر

الباهلي (الحماسة 762):

لها لغط جنح الظلام كأنها عجارف غيث رائح متهزم‏

قال المرزوقي في الشرح: اللغط: الصوت يعني هزتها «أي هزة القدور السود المذكورة في صدر الأشعار» في الغليان، و انتصب جنح الظلام على الظرف يريد أنها تغلي إذا جنح الظلام بالعشي و ذاك وقت الضيافة و كأن لغطه صوت رعد من غيث ذي تعجرف، و العجارف شدة وقوع المطر و تتابعه يريد أنه هبت الريح فيه و صار له هزمة أي صوت شبه صوت القدر في غليانها بصوت الرعد من سحاب هكذا.

كنايه (الخبط): الحركة على غير نظام يقال: خبط الليل اذا سار فيه على غير هدى. و فلان خبط خبط عشواء أي تصرف في الامور على غير بصيرة. و قال الفيومي حقيقة الخبط الضرب و خبط البعير الأرض ضربها بيده.

و قد يكنى بالخابط عن السائل كقول زهير بن أبي سلمى في قصيدة يمدح فيها هرم بن سنان:

و ليس بمانع ذي قربى و لا حرم‏ يوما و لا معدما من خابط ورقا

استعار الورق فكنى به عن المال كما استعار الخبط فكنى به عن طلبه و الخابط عن طالبه، و أصله أن العرب تقول إذا ضرب الرجل الشجر ليحت و ينفض ورقه فيعلقه، قد خرج يختبط الشجر، و الورق المنفوض يسمى الخبط بالفتحتين و يقال للرجل: إن خابطه ليجد ورقا أي إن سائله ليجد عطاء، لكنه ليس بمراد ههنا و المقصود هو المعنى الأول.

(لا يثنى) ثنى الشي‏ء تثنية جعله اثنين، فالمعنى لا يجعل النظر في تلك البيعة اثنين بل هو نظر واحد تحقق من أهل الحل و العقد من امة محمد صلى الله عليه و آله فيها بالمدينة، فهي لازمة على غيرهم من الحاضر و الغائب.

و جاء في بعض نسخ النهج و غيره «لا يستثنى فيها النظر» مكان لا يثنى فيها النظر، يقال: استثنى الشي‏ء استثناء إذا أخرجه من حكم عام، فالمعنى على هذا الوجه لا يستثنى النظر في هذه البيعة مما قبلها أي كما أن بيعة أهل العقد و الحل قبل هذه البيعة في أبي بكر و عمر و عثمان كانت واحدة لازمة على الشاهد و الغائب و كان نظرهم في المرة الاولى لازما و ثابتا كما يعترف به الخصم فكذلك ههنا فلا يجوز أن يستثنى النظر فيها عما قبلها.

و لكن المعنى على الوجه الثاني لا يخلو من تكلف، و قوله عليه السلام: يستأنف فيها الخيار قرينة على أن الوجه الأول هو الصواب، على أن العبارة في نسختنا المصححة الخطية العتيقة و في نسخة صديقنا اللاجوردي قد قوبلت بنسخة الشريف الرضي رحمه الله هي الوجه الأول.

(المروي): من رويت في الأمر تروية أو من روأت بالهمز إذا نظرت فيه و تفكرت و أصلها من الروية و هي الفكر و التدبر. (المداهن): المصانع يقال داهنه مداهنة و أدهنه إذا خدعه و ختله و أظهر له خلاف ما يضمر قال تعالى:ودوا لو تدهن فيدهنون‏.

الاعراب‏

الباء من بضلالك سببية كأن تقول: زينت الدار بالزخرف، و كذا الباء الثانية، كتاب امرى‏ء عطف على موعظة، جملة ليس له بصر يهديه صفة لقوله امرء و كذلك الجمل التالية، يهديه صفة للبصر، و يرشده للقائد. الفاء في فهجر فصيحة و اللتان قبلها للترتيب. لاغطا و خابطا حالان لضمير الفعلين. و ضمير لأنها للقصة، كقوله تعالى: فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا أو أنها راجعة إلى البيعة المذكورة في كتابه عليه السلام كما سيجي‏ء نقل كتابه بتمامه.

اسناد هذا الكتاب و مداركه و نقل صورته الكاملة و اختلاف الاراء فيه و تحقيق أنيق فى فيصل الامر فى المقام‏ قد بينا في عدة مواضع أن الشريف الرضي رضوان الله عليه إنما عنى في النهج اجتباء محاسن كلام أمير المؤمنين عليه السلام و اجتناء ما تضمن عجائب البلاغة و غرائب الفصاحة و جواهر العربية من كلامه عليه السلام كما نص عليه في خطبته على النهج‏

بقوله: فأجمعت بتوفيق الله تعالى على الابتداء باختيار محاسن الخطب، ثم محاسن الكتب، ثم محاسن الحكم و الأدب- إلخ.

و لذلك ترى كثيرا في النهج أنه قدس سره ينقل من كتاب له عليه السلام شطرا و يدع آخر فدونك الكتاب بتمامه مع ذكر ماخذه القيمة و اختلاف نسخه المروية و بيان الحق و فصل الأمر في ذلك:

فلما فرغ جرير من خطبته «قد مضى نقلها في شرح الكتاب السادس» أمر معاوية مناديا فنادى: الصلاة جامعة، فلما اجتمع الناس صعد المنبر و خطب خطبة و استدعى أهل الشام إلى الطلب إلى دم عثمان فأجابوه و بايعوه على ذلك، و استحثه جرير بالبيعة بخلافة أمير المؤمنين علي عليه السلام فقال: يا جرير إنها ليست بخلسة و أنه أمر له ما بعده فابلعني ريقي حتى أنظر، و دعا ثقاته و استشارهم في ذلك فأشاروا عليه أن يكتب إلى عمرو بن العاص و كان وقتئذ بالبيع من فلسطين، و كتب كتابا آخر إلى شرحبيل، و دعا أتباعهم و أجمعوا آخر الأمر إلى حرب أهل العراق.

روى نصر بن مزاحم المنقري التميمي الكوفي في كتاب صفين (ص 30 إلى ص 34 من الطبع الناصري) عن محمد بن عبيد الله، عن الجرجاني قال: كان معاوية أتى جريرا في منزله فقال: يا جرير إني قد رأيت رأيا، قال: هاته. قال:اكتب إلى صاحبك يجعل لي الشام و مصر جباية، فاذا حضرته الوفاة لم يجعل لاحد بعده بيعة في عنقي و اسلم له هذا الأمر و أكتب إليه بالخلافة.

فقال جرير: اكتب بما أردت و أكتب معك، فكتب معاوية بذلك إلى علي فكتب علي عليه السلام إلى جرير:أما بعد فانما أراد معاوية أن لا يكون لي في عنقه بيعة، و أن يختار من أمره ما أحب، و أراد أن يرثيك حتى يذوق أهل الشام، و أن المغيرة بن شعبة قد كان أشار علي أن أستعمل معاوية على الشام و أنا بالمدينة فأبيت ذلك عليه، و لم يكن الله ليراني أتخذ المضلين عضدا، فان بايعك الرجل و إلا فاقبل.

أقول: كتابه هذا ليس بمذكور في النهج، و يقال: راث على خبرك من باب باع إذا أبطأ.

قال نصر: و في حديث صالح بن صدقة قال: أبطأ جرير عند معاوية حتى اتهمه الناس و قال علي: وقت لرسولي وقتا لا يقيم بعده إلا مخدوعا أو عاصيا، و أبطأ على علي حتى أيس منه.

قال: و في حديث محمد و صالح بن صدقة قالا: و كتب علي عليه السلام إلى جرير بعد ذلك:أما بعد فإذا أتاك كتابي هذا فاحمل معاوية على الفصل، و خذه بالأمر الجزم ثم خيره بين حرب مجلية أو سلم محظية، فان اختار الحرب فانبذ له، و إن اختار السلم فخذ بيعته.

أقول: نقل الرضي هذا الكتاب في النهج و هو الكتاب التالي لهذا الكتاب أعني الكتاب الثامن من باب المختار من كتبه و رسائله، و سيأتي شرحه إن شاء الله تعالى.

فلما انتهى الكتاب إلى جرير أتى معاوية فأقرأه الكتاب فقال: يا معاوية إنه لا يطبع على قلب إلا بذنب، و لا ينشرح إلا بتوبة، و لا أظن قلبك إلا مطبوعا أراك قد وقفت بين الحق و الباطل كأنك تنتظر شيئا في يدي غيرك.

فقال معاوية: ألقاك بالفيصل أول مجلس إنشاء الله.

قال نصر: فلما بايع معاوية أهل الشام و ذاقهم قال: يا جرير الحق بصاحبك و كتب إليه بالحرب و كتب في أسفل كتابه: يقول كعب بن جعيل:

أرى الشام تكره ملك العراق‏ و أهل العراق لهم كارهينا
و كلا لصاحبه مبغضا يرى كل ما كان من ذاك دينا
إذا ما رمونا رميناهم‏ و دناهم مثل ما يقرضونا
فقالوا علي إمام لنا فقلنا رضينا ابن هند رضينا
و قالوا نرى أن تدينوا لنا فقلنا ألا لا نرى أن ندينا
و من دون ذلك خرط القتاد و ضرب و طعن يقر العيونا
و كل يسر بما عنده‏ يرى غث ما في يديه سمينا
و ما في علي لمستعتب‏ مقال سوا ضمه المحدثينا
و إيثاره اليوم أهل الذنوب‏ و رفع القصاص عن القاتلينا
إذا سيل عنه حدا شبهة و عمى الجواب عن السائلينا
فليس براض و لا ساخط و لا في النهاة و لا الامرينا
و لا هو ساء و لا سره‏ و لا بد من بعض ذا أن يكونا

أقول: ما ذكر نصر في صفين صورة كتاب معاوية إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام بل قال بالإجمال إنه كتب إليه عليه السلام بالحرب و كتب في أسفل كتابه أشعار كعب بن جعيل كما قدمنا، لكن أبا العباس محمد بن يزيد المبرد نقلها في الكامل و ابن قتيبة الدينوري في الامامة و السياسة.

قال المبرد: كتب معاوية إلي علي عليه السلام جوابا عن كتابه إليه:

بسم الله الرحمن الرحيم من معاوية بن صخر إلى علي بن أبي طالب أما بعد فلعمري لو بايعك القوم الذين بايعوك و أنت بري‏ء من دم عثمان كنت كأبي بكر و عمر و عثمان، و لكنك أغريت بعثمان المهاجرين و خذلت عنه الأنصار، فأطاعك الجاهل و قوى بك الضعيف، و قد أبى أهل الشام إلا قتالك حتى تدفع إليهم قتلة عثمان فإن فعلت كانت شورى بين المسلمين، و لعمري ليس حجتك علي كحججك على طلحة و الزبير، لأنهما بايعاك و لم ابايعك، و ما حجتك على أهل الشام كحجتك على أهل البصرة، لأن أهل البصرة أطاعوك و لم يطعك أهل الشام، و أما شرفك في الاسلام و قرابتك من النبي صلى الله عليه و آله و سلم و موضعك من قريش فلست أدفعه، قال: ثم كتب في آخر كتابه بشعر كعب بن جعيل و هو: أرى الشام تكره ملك العراق- إلخ.

أقول: و قد نقل الدينوري ذيل كتاب معاوية هكذا: فإذا دفعتهم كانت شورى بين المسلمين و قد كان أهل الحجاز الحكام على الناس و في أيديهم الحق فلما تركوه صار الحق في أيدي أهل الشام، و لعمري ما حجتك على أهل الشام كحجتك على أهل البصرة، و لا حجتك علي كحجتك على طلحة و الزبير، لأن‏

أهل البصرة بايعوك و لم يبايعك أحد من أهل الشام، و أن طلحة و الزبير بايعاك و لم ابايعك، و أما فضلك في الاسلام و قرابتك من النبي عليه الصلاة و السلام فلعمري ما أدفعه و لا انكره، و ما نقله كان أوفق بكتاب أمير المؤمنين عليه السلام جوابا عنه كما لا يخفى.

ثم النسخ في إعراب تلك الأبيات مختلفة و نحن اخترنا نسخة الكامل للمبرد و نسخة صفين لنصر:

«و أهل العراق له كارهونا»«و كل لصاحبه مبغض»
«و قلنا نرى أن تدينوا لنا» «فقالوا لنا لا نرى أن ندينا»

ثم روى المصراع الثاني من البيت الخامس على وجه آخر و هو:

«و ضرب و طعن يفض الشئونا»

و قال أبو العباس المبرد في كتابه الكامل: و أحسن الروايتين: يفض الشئونا، ثم أخذ في شرح كتاب معاوية (و سنذكر صورة كتابه) و الأبيات فقال:

قوله: و لكنك أغريت بعثمان المهاجرين، فهو من الاغراء، و هو التحضيض عليه، يقال: أغريته به و آسدت الكلب على الصيد اوسده ايسادا، و من قال: أشليت الكلب في معنى أغريت فقد أخطأ إنما أشليته دعوته إلي، و آسدته أغريته.

و قول ابن جعيل: و أهل العراق لهم كارهينا، محمول على أرى، و من قال و أهل العراق لهم كارهونا، فالرفع من وجهين أحدهما قطع و ابتداء ثم عطف جملة على جملة بالواو و لم يحمله على أرى، و لكن كقولك كان زيد منطلقا و عمرو منطلق، الساعة خبرت بخبر بعد خبر. و الوجه الاخر أن تكون الواو و ما بعدها حالا فيكون معناها إذ كما تقول رأيت زيدا قائما و عمر و منطلق، و هذه الاية تحمل على هذا المعنى و هو قول الله عز و جل: يغشى طائفة منكم و طائفة قد أهمتهم أنفسهم‏ (آل عمران: 148) و المعنى و الله أعلم إذ طائفة في هذه الحال، و كذلك قراءة من قرأ و لو أن ما في الأرض من شجرة أقلام و البحر يمده من بعده سبعة أبحر (لقمان: 26) أي و البحر- بالرفع- هذه حاله، و من قرأ البحر- بالنصب- فعلى أن و قوله: و دناهم مثل ما يقرضونا، يقول: جزيناهم، و قال المفسرون في قوله عز و جل: مالك يوم الدين‏ قالوا: يوم الجزاء و الحساب، و من أمثال العرب: كما تدين تدان، و أنشد أبو عبيدة (الشعر ليزيد بن الصعق الكلابي):

و اعلم و أيقن أن ملكك زائل‏ و اعلم بأن كما تدين تدان‏

و للدين مواضع منها ما ذكرنا، و منها الطاعة و دين الإسلام من ذلك يقال فلان في دين فلان أي في طاعته، و يقال: كانت مكة بلدا القاحا أي لم يكونوا في دين ملك، و قال زهير:

لئن حللت بجو في بني أسد في دين عمرو و حالت بيننا فدك‏

فهذا يريد في طاعة عمرو بن هند، و الدين العادة، يقال: ما زال هذا ديني و دأبي و عادتي و ديدني و إجرياي، قال المثقب العبدي:

تقول إذا درأت لها و ضيني‏ أ هذا دينه أبدا و ديني‏
أكل الدهر حل و ارتحال‏ أما تبقى علي و ما يقيني‏

و قال الكميت بن زيد:

على ذاك إجر ياي و هي ضريبتي‏ و إن أجلبوا طرا علي و أحلبوا

و قوله: فقلنا رضينا ابن هند رضينا، يعني معاوية بن أبي سفيان و أمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف.

و قوله: أن تدينوا له أي أن تطيعوه، و تدخلوا في دينه أي في طاعته.

و قوله: و من دون ذلك خرط القتاد، فهذا مثل من أمثال العرب، و القتاد شجيرة شاكة غليظة اصول الشوك فلذلك يضرب خرطه مثلا في الأمر الشديد لأنه غاية الجهد.

و من قال: يفض الشئونا، فيفض يفرق، تقول: فضضت عليه المال. و الشئون واحدها شأن و هي مواصل قبائل الرأس و ذلك أن للرأس أربع قبائل أي قطع مشعوب بعضها إلى بعض فموضع شعبها يقول له الشئون واحدها شأن. و زعم الأصمعي قال: يقال إن مجاري الدموع منها، فلذلك يقال: استهلت شئونه و أنشد قول أوس بن حجر:

لا تحزنيني بالفراق فإنني‏ لا تستهل من الفراق شئوني‏

و من قال: يقر العيونا، ففيه قولان: أحدهما للأصمعي و كان يقول: لا يجوز

غيره يقال: قرت عينه و أقرها الله، و قال إنما هو بردت من القر و هو خلاف قولهم سخنت عينه و أسخنها الله، و غيره يقول قرت هدأت و أقرها الله أهد أها الله، و هذا قول حسن جميل، و الأول أغرب و أطرف. انتهى قوله.

كتاب أمير المؤمنين على عليه السلام الى معاوية

كتبه عليه السلام جواب الكتاب الذي كتب إليه معاوية و نقل هذا الكتاب نصر ابن مزاحم في صفين (ص 33 من الطبع الناصري) و ابن قتيبة الدينوري المتوفى سنة 276 في كتاب الإمامة و السياسة (ص 101 ج 1 طبع مصر 1377 ه) و أبو العباس المبرد المتوفى سنة 285 ه في الكامل (ص 193 ج 1 طبع مصر) و هو:

بسم الله الرحمن الرحيم من علي إلى معاوية بن صخر أما بعد فقد أتاني كتاب امرى‏ء ليس له نظر يهديه، و لا قائد يرشده، دعاه الهوى فأجابه، و قاده فاتبعه، زعمت أنه أفسد عليك بيعتي خطيئتي في عثمان و لعمري ما كنت إلا رجلا من المهاجرين، أوردت كما أوردوا، و أصدرت كما أصدروا، و ما كان الله ليجمعهم على ضلالة، و لا ليضربهم بالعمى، و ما أمرت فيلزمني خطيئة الأمر، و لا قتلت فيجب علي القصاص.

و أما قولك: إن أهل الشام هم الحكام على أهل الحجاز، فهات رجلا من قريش الشام يقبل في الشورى أو تحل له الخلافة، فان زعمت ذلك كذبك المهاجرون و الأنصار، و إلا أتيتك به من قريش الحجاز.

و أما قولك: ادفع إلينا قتلة عثمان، فما أنت و عثمان، إنما أنت رجل من بني امية، و بنو عثمان أولى بذلك منك، فان زعمت أنك أقوى على دم أبيهم منهم فادخل في طاعتي ثم حاكم القوم إلي أحملك و إياهم على المحجة.

و أما تمييزك بين الشام و البصرة و بينك و بين طلحة و الزبير فلعمري ما الأمر فيما هناك إلا واحد، لأنها بيعة عامة لا يثنى فيها النظر، و لا يستأنف فيها الخيار.

و أما و لو عك بي في أمر عثمان فما قلت ذلك عن حق العيان و لا بعين الخبر.

و أما فضلي في الإسلام و قرابتي من النبي صلى الله عليه و آله و شرفي في قريش، فلعمري‏ لو استطعت دفع ذلك لدفعته.

قال نصر: و أمر- يعني أمر أمير المؤمنين عليه السلام- النجاشي فأجابه في الشعر، و قال المبرد: ثم دعا النجاشي أحد بني الحرث بن كعب فقال له: إن ابن جعيل شاعر أهل الشام و أنت شاعر أهل العراق فأجب الرجل، فقال: يا أمير المؤمنين أسمعني قوله قال: إذن اسمعك شعر شاعر ثم أسمعه فقال النجاشي يجيبه:

دعن يا معاوي ما لم يكونا فقد حقق الله ما تحذرونا
أتاكم علي بأهل الحجاز و أهل العراق فما تصنعونا
على كل جرداء خيفانة و أشعث نهد يسر العيونا
عليها فوارس تحسبهم‏ كأسد العرين حمين العرينا
يرون الطعان خلال العجاج‏ و ضرب الفوارس في النقع دينا
هم هزموا الجمع جمع الزبير و طلحة و المعشر الناكثينا
و قالوا يمينا على حلفة لنهدي إلى الشام حربا زبونا
تشيب النواصي قبل المشيب‏ و تلقي الحوامل منها الجنينا
فان تكرهوا الملك ملك العراق‏ فقد رضي القوم ما تكرهونا
فقل للمضلل من وائل‏ و من جعل الغث يوما سمينا
جعلتم عليا و أشياعه‏ نظير ابن هند ألا تستحونا
إلى أول الناس بعد الرسول‏ و صنو الرسول من العالمينا
و صهر الرسول و من مثله‏ إذا كان يوم يشيب القرونا

و اعلم أن بين نسختي صفين و الكامل في كتاب أمير المؤمنين عليه السلام اختلافا في الجملة فما في الكامل: فكتب إليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام جواب هذه الرسالة «يعني رسالة معاوية»: بسم الله الرحمن الرحيم من علي بن أبي طالب ..

ليس له بصر يهديه .. زعمت أنك أنما أفسد … و ما كان الله ليجمعهم على ضلال و لا ليضربهم بالعمى، و بعد فما أنت و عثمان إنما أنت رجل من بني امية، و بنو عثمان أولى بمطالبة دمه، فان زعمت أنك أقوى على ذلك فادخل فيما دخل فيه‏ المسلمون ثم حاكم القوم إلي، و أما تمييزك بينك و بين طلحة و الزبير و أهل الشام و أهل البصرة فلعمري ما الأمر فيما هناك إلا سواء، لأنها بيعة شاملة لا يستثنى فيها الخيار و لا يستأنف فيها النظر، و أما شرفي في الإسلام و قرابتي من رسول الله صلى الله عليه و آله و موضعي من قريش فلعمري لو استطعت دفعه لدفعته.

أقول: و لله در النجاشي كأنما روح القدس نفث في روعه و نطق بلسانه قائلا:

جعلتم عليا و أشياعه‏ نظير ابن هند ألا تستحونا

و قد قال أمير المؤمنين عليه السلام كما يأتي في الكتاب التاسع الذي كتبه إلى معاوية: فيا عجبا للدهر إذ صرت يقرن بي من لم يسع بقدمي و لم تكن له كسابقتي التي لا يدلى أحد بمثلها إلا أن يدعي مدع لا أعرفه، و لا أظن الله يعرفه و الحمد لله على كل حال.

و أقول: يا عجبا للدهر ثم يا عجبا للدهر قد أصبح رأى يراعة تفوه بأن لها براعة على يوح، و خنفساء شمخت بأنفها و شمزت من الروح. سبحان الله، ما للتراب و رب الأرباب، ما للذي عبد الله على حرف و الذي لو كشف الغطاء لما ازداد يقينا، ما لابن آكلة الأكباد و الذي تاهت في بيداء عظمته عقول العباد.

لحى الله هذا الدهر من شر سائس‏ عصاقيره تروى و تظمى قشاعمه‏

تبا لأشباه رجال اتبعوا أهواءهم، فضيعوا دينهم بدنياهم، فنصروا من اتخذ المضلين عضدا حتى ردوا الناس عن الإسلام القهقرى.

زعم الشارح البحراني أن ذلك الكتاب المعنون للشرح أعني الكتاب السابع ملفق من بعض عبارات كتابين أحدهما ذلك الكتاب المنقول من الثلاثة، و ثانيهما كتاب آخر.

و الحق أنه ليس جزء منهما و إن كانا مشتركين في بعض الجمل و العبارات و أنه جزء من كتاب آخر له عليه السلام جوابا عن كتاب آخر من معاوية كما سيجي‏ء نقلهما، و ذلك الكتاب المنقول من هؤلاء الثلاثة مذكور في النهج، و احتمال‏ أنهما كتاب واحد و جاء الاختلاف من النسخ بعيد عن الصواب، لأن بينهما بونا بعيدا، و مجرد الاشتراك في بعض الجمل و العبارات لا يجعلهما كتابا واحدا و لا يؤيد الاحتمال، فدونك ما قاله الشارح البحراني في شرح هذا الكتاب:

هذا جواب كتاب كتبه إليه معاوية صورته: من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب.

أما بعد فلو كنت على ما كان عليه أبو بكر و عمر إذن ما قاتلتك، و لا استحللت ذلك، و لكنه إنما أفسد عليك بيعتي خطيئتك في عثمان بن عفان، و إنما كان أهل الحجاز الحكام على الناس حين كان الحق فيهم، فلما تركوه صار أهل الشام الحكام على أهل الحجاز و غيرهم من الناس، و لعمري ما حجتك على أهل الشام كحجتك على أهل البصرة، و لا حجتك علي كحجتك على طلحة و الزبير، لأن أهل البصرة قد كان بايعوك و لم يبايعك أهل الشام، و أن طلحة و الزبير بايعاك و لم ابايعك، و أما فضلك في الاسلام و قرابتك من رسول الله و موضعك من هاشم فلست أدفعه، و السلام.

قال: فكتب عليه السلام جوابه: من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن صخر أما بعد فإنه أتاني كتابك كتاب امرى‏ء- إلى قوله: خابطا، ثم يتصل به أن قال: زعمت أنه إنما أفسد علي بيعتك كما أصدروا، «كذا» و ما كان الله ليجمعهم على ضلال و لا يضربهم بعمى، و أما ما زعمت أن أهل الشام الحكام على أهل الحجاز فهات رجلين من قريش الشام يقبلان في الشورى ارتحل لهما الخلافة، فان زعمت ذلك كذبك المهاجرون و الأنصار، و إلا فأنا آتيك بهما من قريش الحجاز. و أما ما ميزت بين أهل الشام و أهل البصرة و بينك و بين طلحة و الزبير فلعمري ما الأمر في ذلك إلا واحد.

قال: ثم يتصل به قوله لأنها بيعة عامة إلى آخره، ثم يتصل به: و أما فضلي في الاسلام و قرابتي من الرسول و شرفي في بني هاشم فلو استطعت دفعه لفعلت و السلام.

قال: و أما قوله: أما بعد فقد أتتني- إلى قوله: بسوء رأيك، فهو صدر كتاب آخر أجاب به معاوية عن كتاب كتبه إليه بعد الكتاب الذي ذكرناه، و ذلك أنه لما وصل إليه هذا الكتاب من علي عليه السلام كتب إليه كتابا يعظه فيه و صورته:

أما بعد فاتق الله يا علي ودع الحسد فانه طالما ينتفع به أهله، و لا تفسد سابقة قديمك بشر من حديثك فان الأعمال بخواتيمها، و لا تلحدن بباطل في حق من لا حق لك في حقه، فانك إن تفعل ذلك لا تضلل إلا نفسك، و لا تمحق إلا عملك، و لعمري أن ما مضى لك من السوابق الحسنة لحقيقة أن تردك و تردعك عما قد اجترأت عليه من سفك الدماء و إجلاء أهل الحق عن الحل و الحرام فاقرأ سورة الفلق و تعوذ بالله من شر ما خلق و من شر نفسك الحاسد إذا حسد قفل الله بقلبك، و أخذ بناصيتك، و عجل توفيقك، فاني أسعد الناس بذلك، و السلام قال: فكتب عليه السلام جوابه:

أما بعد فقد أتتني منك موعظة- إلى قوله: سوء رأيك، ثم يتصل به و كتاب ليس ببعيد الشبه منك، حملك علي الوثوب على ما ليس لك فيه حق، و لو لا علمي بك و ما قد سبق من رسول الله صلى الله عليه و آله فيك مما لا مرد له دون انفاذه إذن لو عظتك لكن عظتي لا تنفع من حقت عليه كلمة العذاب، و لم يخف الله العقاب، و لا يرجو الله و قارا، و لم يخف له حذارا، فشأنك و ما أنت عليه من الضلالة و الحيرة و الجهالة تجد الله ذلك بالمرصاد من دنيا المنقطعة و تمنيك الأباطيل، و قد علمت ما قال النبي صلى الله عليه و آله فيك و في أمك و أبيك، و السلام.

قال: و مما ينبه على أن هذا الفصل المذكور ليس من الكتاب الأول أن الأول لم يكن فيه ذكر موعظة حتى يذكرها عليه السلام في جوابه، غير أن السيد رحمه الله- أضافه إلى هذا الكتاب كما هو عادته في عدم مراعاة ذلك و أمثاله.انتهى كلامه.

أقول: و كذلك نقل هذا الكتاب من معاوية أعني قوله: أما بعد فاتق الله يا علي ودع الحسد- إلخ. و جواب أمير المؤمنين عليه السلام عنه أعني قوله: أما بعد فقد أتتني منك موعظة موصلة- إلخ، في بعض الجوامع أيضا على الصورة التي‏ نقله الشارح البحراني.

و كذا ما نقلنا قبلهما من كتاب معاوية أعني قوله: من معاوية بن صخر إلى علي بن أبي طالب: أما بعد فلعمرى لو بايعك القوم- إلخ، و جواب أمير المؤمنين عليه السلام عنه أعني قوله: من علي إلى معاوية بن صخر: أما بعد فقد أتاني كتاب امرى‏ء ليس له نظر- إلخ، كانا في سائر نسخ الجوامع على تلك الصورة التي نقلناها و الاختلاف يسير لا يعبأ به.

و لكن نصر بن مزاحم المنقري قال في كتاب صفين (ص 59 من الطبع الناصري) إن معاوية كتب كتابه: أما بعد فاتق الله يا علي ودع الحسد فانه طالما ينتفع به إلخ- جوابا عن كتاب آخر من أمير المؤمنين علي عليه السلام كتبه إلى معاوية و هو الكتاب الذي جعله السيد رحمه الله الكتاب العاشر من باب المختار من كتبه و رسائله عليه السلام أوله: و كيف أنت صانع إذا تكشفت عنك جلابيب ما أنت فيه من دنيا قد تبهجت بزينتها- إلخ، و سيجي‏ء اختلاف النسخ و أقوال اخر فيه أيضا في شرحه إن شاء الله تعالى.

فهذا القول من نصر بن مزاحم يناقض ما ذهب إليه الشارح البحراني، و نصر كان من الأقدمين قد أدرك الامام سيد الساجدين علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام و كان قريب العهد من واقعة صفين، و كلما أتى به في كتابه فهو الأصل في ذلك و كل من أتى بعده و كتب كتابا في صفين أخذ عنه و اقتبس منه جل المطالب المهمة.

على أنه نقل في جوامع الفريقين أنه عليه السلام كتب كتابا إلى معاوية جوابا عن كتاب آخر من معاوية إليه و في ذلك الكتاب من أمير المؤمنين عليه السلام مذكور جميع ما أتى به السيد في المقام أعني في هذا الكتاب السابع المعنون للشرح بلا زيادة و نقصان أجاب عليه السلام به عن الأباطيل التي أتى بها معاوية في كتابه إليه فاندفع ما أوردها الشارح البحراني بحذافيرها.

و الحق أن كتابه عليه السلام: من علي إلى معاوية بن صخر: أما بعد فقد أتاني‏ كتاب امرى‏ء- إلخ، المنقول آنفا من نصر في صفين و المبرد في الكامل و الدينوري في الإمامة و السياسة ليس بمذكور في النهج و إن كان في بعض الجمل و العبارات مشاركا لهذا الكتاب السابع، و إن أبيت إلا جعلهما كتابا واحدا فما اعترض الشارح البحراني على السيد في المقام و ما زعم من أن هذا الكتاب ملفق من صدر كتاب و ذيل آخر فليس بصواب، فعليك بما كتب عليه السلام جواب كتاب معاوية:

نسخة كتاب أمير المؤمنين على عليه السلام الى معاوية جوابا عن كتاب كتبه معاوية اليه‏ نقلهما غير واحد من رجال الأخبار و السير في جوامعهم، و نقلهما الفاضل الشارح المعتزلي في شرحه على النهج، و قد كتبه عليه السلام إلى معاوية جوابا عن كتاب كتبه معاوية إليه عليه السلام في أواخر حرب صفين لما اشتد الأمر على معاوية و أتباعه و كادوا أن ينهزموا و يولوا الدبر.

و كان كتاب معاوية: من عبد الله معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب أما بعد فان الله تعالى يقول في محكم كتابه «و لقد أوحى إليك و إلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك و لتكونن من الخاسرين».و إني احذرك الله أن تحبط عملك و سابقتك بشق عصا هذه الامة و تفريق جماعتها.

فاتق الله و اذكر موقف القيامة و اقلع عما أسرفت فيه من الخوض في دماء المسلمين، و إني سمعت رسول الله يقول: لو تمالأ أهل صنعاء و عدن على قتل رجل واحد من المسلمين لأكبهم الله على مناخرهم في النار، فكيف يكون حال من قتل أعلام المسلمين، و سادات المهاجرين، بله ما طحنت رحاء حربه من أهل القرآن و ذي العبادة و الإيمان من شيخ كبير، و شاب غرير، كلهم بالله تعالى مؤمن، و له مخلص، و برسوله مقر عارف.

فإن كنت أبا حسن إنما تحارب على الإمرة و الخلافة فلعمري لو صحت خلافتك لكنت قريبا من أن تعذر في حرب المسلمين، و لكنها ما صحت لك و أنى‏ بصحتها و أهل الشام لم يدخلوا فيها و لم يرتضوا بها، و خف الله و سطواته، و اتق بأسه و نكاله، و اغمد سيفك عن الناس، فقد و الله أكلتهم الحرب فلم يبق منهم إلا كالثمد في قرارة الغدير، و الله المستعان.

فكتب أمير المؤمنين علي عليه السلام جوابا عن كتابه: من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان.

أما بعد فقد أتتني منك موعظة موصلة، و رسالة محبرة، نمقتها بضلالك و أمضيتها بسوء رأيك، و كتاب امرى‏ء ليس له بصر يهديه، و لا قائد يرشده، دعاه الهوى فأجابه، و قاده الضلال فاتبعه، فهجر لاغطا، و ضل خابطا.

فأما أمرك بالتقوى فأرجو أن أكون من أهلها، و أستعيذ بالله من أن أكون من الذين إذا امروا بها أخذتهم العزة بالإثم.

و أما تحذيرك إياي أن يحبط عملي و سابقتي في الاسلام، فلعمري لو كنت الباغي عليك لكان لك أن تحذرني ذلك، و لكني وجدت الله تعالى يقول «فقاتلوا التي تبغي حتى تفي‏ء إلى أمر الله» ننظرنا إلى الفئتين ما الفئة الباغية فوجدناها الفئة التي أنت فيها، لأن بيعتي بالمدينة لزمتك و أنت بالشام كما لزمتك بيعة عثمان بالمدينة و أنت أمير لعمر على الشام، و كما لزمت يزيد أخاك بيعة أبي بكر و هو أمير لأبي بكر على الشام، و أما شق عصا هذه الامة فأنا أحق أن أنهاك عنه، فأما تخويفك لي من قتل أهل البغي فان رسول الله صلى الله عليه و آله أمرني بقتالهم و قتلهم و قال لأصحابه: إن فيكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله، و أشار إلي و أنا أولى من اتبع أمره.

و أما فولك إن بيعتي لم تصح لأن أهل الشام لم يدخلوا فيها، كيف و إنما هي بيعة واحدة تلزم الحاضر و الغائب، لا يستثنى فيها النظر، و لا يستأنف فيها الخيار، الخارج منها طاعن، و المروي فيها مداهن، فاربع على ظلعك، و انزع سربال غيك، و اترك ما لا جدوى له عليك، فليس لك عندي إلا السيف حتى تفي‏ء إلى أمر الله صاغرا، و تدخل في البيعة راغما، و السلام‏.

المعنى‏

تشبيه قوله عليه السلام: (فقد أتتني منك موعظة موصلة) كأنما شبه عليه السلام كتابه بثوب موصل أي مرقع و المراد أنها ملفقة من كلمات مختلفة و جمل غير مناسبة وصل بعضها ببعض.

أو المراد أنها موعظة مجموعة ملتقطة من ألفاظ الناس، لا أنها من منشاته و مما تكلم بها مرتجلا، و كأنما المعنى الأول أظهر.

قوله عليه السلام: (و رسالة محبرة) أي أتتني منك رسالة أتعبت نفسك في تقريرها و زينت ألفاظها بالتكلف و التصنع، لما دريت في بيان اللغة أن المحبر من يحسن الشعر و الخط و غيرهما، و بالجملة فيه إشارة لطيفة إلى أن الرجل كان في ميدان الكلام راجلا لا مرتجلا.

قوله عليه السلام: (نمقتها بضلالك) قد بينا في الاعراب أن الباء هذه سببية، و المعنى أتتني رسالة زينتها و زوقتها بسبب‏ ضلالك‏، و سر ذلك أن كل فعل إذا لم يكن على اعتقاد و حقيقة لا يقع في محله على ما ينبغي، و لا يصدر من الفاعل على ترتيب حسن و نظم متين، لأنه عمل قسري خارج عن سجية الطبع واقع بالتكلف فلا يرجى منه حسن الوقوع و النضد، نظير ما قاله أبو الحسن علي بن محمد التهامي:

و مكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار

فإذا لا بد لهذا العامل من أن غير طوية الطبع أن ينمق عمله ثانيا و يزينه ليقرب من موقع ما وقع بغير تكلف.

فنقول: لما كان معاوية عالما بأن أمير المؤمنين عليا عليه السلام كان على بينة من ربه، و أن الحق كان معه عليه السلام حيث دار كان كتابه الذي كتبه إليه عليه السلام على التكلف و التصنع لا محالة، فلو لا ضلاله عن الحق لما يحتاج كتابه إلى التنميق لأنه كان كتابا صادرا بالطبع و لم يكن مضطربا مشوشا حتى يلوح منه أثر الكلفة المحتاج إلى التزيين.

قوله عليه السلام: (و أمضيتها بسوء رأيك) أي أنفذت تلك الرسالة و بعثتها إلي بسبب‏ سوء رأيك‏ بي، و من‏ سوء رأيه به اختلق عليه عليه السلام بأنه قتل عثمان و أعرض عن‏ إجماع المهاجرين و الأنصار في المدينة على بيعته عليه السلام للخلافة و فعل ما فعل.

قوله عليه السلام: (و كتاب امرى‏ء ليس له بصر يهديه‏- إلى قوله: خابطا) عطف على موعظة أي أتاني‏ كتاب امرى‏ء ليس له‏ عقل‏ يهديه‏ إلى الحق أي يقوده إليه و الهادي هو الذي يتقدم فيدل، و الحادي هو الذي يتأخر فيسوق.

و إنما حملنا البصر على العقل لا العين لأن العقل هو لطيفة مجردة إلهية و جوهرة ثمينة نورانية ربانية يقود الانسان إلى الرشاد، و يهديه‏ إلى السداد و يدعوه إلى الاتصاف بالصفات الإلهية، و التخلق بالأخلاق الربوبية، لأن العقل ما عبد به الرحمن و اكتسب به الجنان، فمن لم يكن له نور العقل ينجيه من المهالك، فلا جرم يتبع الجهل و الهوى، لأن بعد الحق ليس إلا الضلال، و بعد نور العقل ليس إلا ظلمة الجهل قال عز من قائل: فما ذا بعد الحق إلا الضلال‏ (يونس- 33).

و كما أن العاقل يتفوه و ينطق بما يعنيه و هو في أقواله و أعماله على الصراط السوي، و النهج القويم كذلك تابع الهوى لفقدان بصيرته و عميان سريرته لا بد أن يهجر و يهذي في نطقه و يضل عن سبيل الله في فعله و قوله لاقتضاء الهوى ذلك ففاقد البصر يجيب داعي الهوى و يتبع‏ قائد الضلال فيلزمه أن يهجر لا غطا و يضل‏ خابطا، و بذلك ظهر سر قول أمير المؤمنين علي عليه السلام كما رواه الصدوق رضوان الله عليه في الخصال: المؤمن ينقلب في خمسة من النور: مدخله نور، و مخرجه نور، و علمه نور، و كلامه نور، و منظره يوم القيامة إلى النور.

بحث روائى مناسب للمقام‏

رواه ثقة الاسلام محمد بن يعقوب الكليني قدس سره في اصول الكافي: أحمد ابن إدريس، عن محمد بن عبد الجبار، عن بعض أصحابنا رفعه إلى أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: ما العقل؟ قال: ما عبد به الرحمن، و اكتسب به الجنان، قال:

قلت: فالذي كان في معاوية؟ فقال: تلك النكراء تلك الشيطنة و هي شبيهة بالعقل و ليست بالعقل.

بيان: سأل أبا عبد الله عليه السلام سائل عن معرفة العقل، و لما كان درك حقيقته و عرفان ذاته للسائل في غاية الصعوبة و التعسر جدا، بل قد أعجز الحكماء الراسخين و تحير عقول المتألهين النيل إلى عرفان ذاته و لذا تحيروا في تحديده و اختلفوا فيه، عرفه ببعض آثاره و خواصه، و هذا تعريف بالرسم في اصطلاح أهل الميزان.

قال المحقق الطوسي في أوائل شرحه على منطق الإشارات للشيخ الرئيس:

قد يختلف رسوم الشي‏ء باختلاف الاعتبارات، فمنها ما يكون بحسب ذاته فقط و منها ما يكون بحسب ذاته مقيسا إلى غيره كفعله أو فاعله أو غايته أو شي‏ء آخر مثلا يرسم الكوز بأنه و عاء صفري أو خزفي كذا و كذا و هو رسم بحسب ذاته، و بأنه آلة يشرب بها الماء، و هو رسم بالقياس إلى غايته و كذا في سائر الاعتبارات.انتهى كلامه.

فنقول: تعريفه عليه السلام العقل في الحديث بأنه ما عبد به الرحمن و اكتسب به الجنان رسم له بغايته فإن ما ينبغي للسائل أن يعرفه أو يتأتي له عرفانه هذا الرسم له نحو قوله تعالى: يسئلونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس و الحج‏ (البقرة آية 187).

و إنما رسمه بذلك لأن اقتضاء العقل الناصع أعني المجرد عن شوائب الامور المادية الدنيوية الموجبة لبعده عن ساحة جناب الرب جل جلاله هو ميله و ارتقاءه إلى الله تعالى، لأنه من عالم الأمر يرتقي بالطبع إليه كما أن الحجر مثلا بالطبع يهبط إلى مكانه الطبيعي له قضاء لحكم الجنسية، و نعم ما أشار إليه العارف الرومي:

ذره ذره كاندرين أرض و سما است‏ جنس خود را همچو كاه و كهربا است‏
جان گشايد سوي بالا بالها تن زده اندر زمين چنگالها

و لذا يستلذ العقل من استفاضته من عالم القدس، و يقوي و يتسع وجودا من إفاضة الاشراقات النورية الإلهية عليه، فمقتضى طويته و سجيته التقرب إلى‏

الله تعالى و اتصافه بصفاته العلياء، فهو الهادي إليه تعالى، و لذا قال عليه السلام: ما عبد به الرحمن لأن العبادة فرع المعرفة و لذا فسروا قوله تعالى: و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون‏ (الذاريات- 57) بقولهم: ليعرفون، فبالعقل يعرف الله و يعبد فهو مبدء جميع الخيرات الموجبة للسعادة الأبدية، فبه يكتسب الجنان لما دريت من أن العقل يهدي إلى سواء السبيل، فالعاقل على الجادة الوسطى و الطريقة المثلى لا يسلك مسلكي الإفراط و التفريط، بل يعمل ما هو رضى الله تعالى.

و لذا قال الامام أبو عبد الله جعفر بن محمد الصادق كما رواه ثقة الإسلام الكليني في اصول الكافي: من كان عاقلا كان له دين و من كان له دين دخل الجنة.

فينتج على هيئة قياس منطقي شرطي اقتراني من أعلى ضروب الشكل الاول فمن كان عاقلا دخل الجنة.

ثم إن قوله عليه السلام: ما عبد به الرحمن، إشارة إلى كمال القوة النظرية و قوله عليه السلام: و اكتسب به الجنان إلى العقل العملي، لأن الأول مقدم بالرتبة على الثاني كما عرفت، و بالقوة النظرية يعلم المعارف الكلية الإلهية، و الأحكام الشرعية. و الأخلاق الحسنة، و بالثانية يعمل بها، و هاتان القوتان بمنزلة جناحين للعقل يطير بهما من حضيض الناسوت إلى أوج القدس.

و قد تظافرت الأخبار في العقل و آثاره و خواصه بعبارات عذبة لطيفة علمية من خزنة العلم أئمتنا عليهم السلام أتى بجلها المحدث العالم لخبير الثقة الكليني رضوان الله عليه في الكافي و جعل كتابه الأول في العقل و الجهل، و من تأمل علم أن تلك الأخبار علوم لدنية فاضت من سحاب وجود الذين هم وسائط الفيض بين الله تعالى و عباده.

ثم السائل سأله عليه السلام عن الذي كان في معاوية بقوله: قلت: فالذي كان في معاوية أي فالذي كان في معاوية ما هو على أن يكون الموصول مبتداء حذف خبره، و في بعض النسخ كما في مرآة العقول للمجلسي- ره فما الذي كان في معاوية فعلى هذه النسخة فلا يحتاج إلى تقدير الخبر.

و بالجملة: أن السائل لما رأى جربزة معاوية و دهاه و مكره و احتياله في الامور و طلب الفضول في الدنيا التبس عليه الأمر فزعم أن تلك الروية الردية الدنية الدنيوية كانت في معاوية عقلا فعده من العقلاء كما يزعم الجهال لبعدهم عن الأنوار العلمية من كان له شيطنة في اقتراف الأغراض الشهوانية و الزخارف الدنياوية عاقلا، فأجابه عليه السلام دفعا لا لتباسه و توضيحا لمسألته أن تلك القوة الحاكمة على معاوية هي النكراء.

و النكراء بفتح الأول و سكون الثاني الدهاء و الفطنة و المنكر، قال الجوهري في الصحاح: النكر «بضم الأول و سكون» المنكر، قال الله تعالى: لقد جئت شيئا نكرا (الكهف- 75) و قد يحرك مثل عسر و عسر. قال الشاعر: و كانوا أتوني بشي‏ء نكر، و النكراء مثله. انتهى قوله.

أقول: و المنكر كل فعل و قول تقبحهما العقول الصحيحة الناصعة أو ما تعجز عن درك استحسانه و استقباحه فتتوقف فيه فيحكم بقبحه الشرع، فالنكراء كل ما قبحه العقل أو الشرع.

ثم أعاد عليه السلام اسم الإشارة تأكيدا و تنصيصا بأن تلك القوة النكراء شيطنة أي الأفعال البارزة من معاوية ليست مما يأمره العقل لأن العقل يسلك إلى ما فيه عبادة الرحمن و اكتساب الجنان، و كل ما ليس كذلك فلا يأمر به بل ينكره و ينهى عن ارتكابه، و منهيات العقل و منكراته ما يوسوس بفعلها الشيطان السائق إلى التمرد و العصيان.

و لما كان الجهال رأوا أن علل المعلولات المختلفة تجب أن تكون مختلفة و زعموا بالقياس أن الاثار المتقاربة و المعلولات المتشابهة تجب أن تكون مستندة إلى العلل المتشابهة أيضا، و ما زادهم ذلك القياس إلا بعدا عن الحق، و لذا يعدون معاوية و أشباهه السفهاء من العقلاء، بين الإمام عليه السلام بأن المعلولات المتشابهة قد تكون مستندة إلى العلل المختلفة أيضا. فمجرد اشتراك القوتين في بعض الاثار كجلب نفع و دفع ضر و سرعة التفطن وجودة الحدس و أمثالها لا يوجب‏ اتحادهما حقيقة، لأن المنافع مثلا قد تتعلق بالدنيا كما قد تتعلق بالاخرة فالنفع الذي يجلبه معاوية إلى نفسه مشوب بالهوى، قاده إليه الشيطنة و الضلال و هو عند اولي الألباب منكر محض و ضرر صرف، فأين هذا من ذاك؟! و لذا قال عليه السلام: هي شبيهة بالعقل، و آكده توضيحا و صرح به ثانيا بقوله: و ليست بالعقل، فبينهما بون بعيد و مسافة كثيرة. و حرف التعريف في العقل للعهد أي ليست تلك القوة الشيطنة النكراء هي تلك اللطيفة النورية الإلهية، أي العقل الذي عرفناه بالرسم بأنه ما عبد به الرحمن و اكتسب به الجنان.

قال الجاحظ في البيان و التبيين (ص 258 ج 3 طبع مصر 1380 ه): قيل لشريك بن عبد الله: كان معاوية حليما، قال: لو كان حليما ماسفه الحق و لا قاتل عليا، و لو كان حليما ما حمل أبناء العبيد على حرمه و لما أنكح إلا الأكفاء.

قوله عليه السلام: (لأنها بيعة واحدة- إلخ) هذا رد على كلام معاوية حيث قال في كتابه المقدم ذكره: فلعمري لو صحت خلافتك لكنت قريبا من أن تعذر في حرب المسلمين و لكنها ما صحت لك و أنى بصحتها و أهل الشام لم يدخلوا فيها و لم يرتضوا به.

و بيان الرذ إنما هو على حذو ما قدمنا في شرح الكتاب السادس من أنه عليه السلام احتج على الخصم بما كان يعتقد من أن أمر الإمامة و مبنى الخلافة إنما هو بالبيعة دون النص فألزم معاوية بما أثبت به هو و الناس خلافة أبي بكر و عمر و عثمان من أن أهل الشورى من المهاجرين و الأنصار و هما أهل الحل و العقد من امة محمد صلى الله عليه و آله، كما اتفقت كلمتهم على خلافة الثلاث و اتبعهم الناس و لم ينكروا عليهم و لم يكن للشاهد أن يختار غير من اختاروا، و لا للغائب أن يرد من بايعوه للإمامة بل‏ إن خرج من أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فان أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين‏، كذلك اتفاقهم على إمامته عليه السلام بعد عثمان حجة على الشاهد و الغائب، فلا يجوز لمعاوية و أتباعه من‏ أهل الشام أن يردوا من نصبه أهل الحل و العقد من المهاجرين و الأنصار لأنها بيعة واحدة لا يثنى فيها النظر و لا يستأنف فيها الخيار كما كان الأمر في بيعة الناس مع الثلاث كذلك، فقد أهجر معاوية في قوله: و أنى بصحتها و أهل الشام لم يدخلوا فيها و لم يرتضوا بها.

قوله عليه السلام: (الخارج منها طاعن) أي‏ الخارج من‏ البيعة طاعن فيما اتفق عليه كلمة أهل العقد و الحل و إجماعهم، فعليهم‏ أن يردوه إلى ما خرج منه فان أبى‏ فعليهم أن‏ يقاتلوه‏. كأنما إشارة إلى قوله تعالى: و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون‏ (التوبة- 12).

قوله عليه السلام: (و المروي فيها مداهن) أي الذي يتفكر و يرتئي في صحة البيعة بعد تحققها و استقرارها خادع خائن منافق.

الترجمة

اين يكي از نامه‏ هاى أمير المؤمنين علي عليه السلام است كه در جواب نامه معاويه نوشت و بسويش ارسال داشت. اين نامه معاويه و جواب آن در أواخر جنگ صفين وقوع يافت و صورت آن چنين است:

چون معاويه ديد كه على و سربازانش در صفين عرصه را بر او و پيروانش چنان تنگ كردند كه راه گزيرى جز گريز بر ايشان نمانده بود بدر عجز در آمده نامه‏ اى باين مضمون به أمير المؤمنين نوشت:

اين نامه ايست كه بنده خدا معاوية بن أبي سفيان به علي بن أبي طالب نوشت أما بعد خداوند در كتاب استوارش فرمود لقد أوحي إليك و إلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك و لتكونن من الخاسرين‏ (الزمر: 65) أي پيغمبر بتو و به پيغمبران پيش از تو وحي شد كه اگر شرك آوري عملت تباه خواهد شد و من تو را أى على از خدا تحذير مى ‏نمايم و بيم مى ‏دهم كه مبادا عمل و سابقه‏ات در اسلام بايجاد شكاف در وحدت أمت و پراكنده كردن جماعتشان كه همسنگ شرك‏ است تباه شود. پس از خدا بترس و موقف قيامت را بياد آر و از ريختن خون اين همه مسلمانان دست بدار كه من از پيغمبر شنيدم اگر أهل صنعاء و عدن بر كشتن مسلمانى همدست شوند خداوند همه آنانرا برو در آتش جهنم در اندازد، پس چگونه خواهد بود حال كسى كه اين همه أعلام مسلمين و بزرگان مهاجرين را كشته است.

أي على دست بدار از جنگى كه چون آسيا اين همه از أهل قرآن و عبادت كنندگان و أفراد با ايمان از پيرو جوان كه مؤمن مخلص و مقر و عارف بخدا و پيغمبرش بودند آرد كرده است.

أي أبو الحسن اگر از آن روي خويشتن را أمير و خليفه مى‏ پنداري جنگي اين چنين روا مى ‏دارى، بجانم سوگند كه اگر خلافت تو صحيح بوقوع مى ‏پيوست گويا جاى آن بود كه توان گفت در ريختن خون مسلمانان معذور باشى، و لكن چگونه بصحت رسيده باشد با اين كه أهل شام در بيعت تو در نيامدند و بدان راضي نشدند. بترس از خدا و قهرش، و بپرهيز از سخت گيرى و گوشمال دادنش و شمشير را از روى مردم در غلاف نه كه آتش جنگ مردمان را در ربود، و از آن دريا لشكر باندازه مشت آبي در تك گودالى بيش نمانده، خدا مستعان است.

أمير المؤمنين عليه السلام در جواب او نوشت:

اين نامه ‏ايست از بنده خدا علي أمير مؤمنان بمعاوية پور بو سفيان. أما بعد نامه‏ اى باندرز از تو بما آمده كه عبارات آن از گفتار اين و آن چون جامه پينه دار بهم بر دوخته، و نوشته‏ اى بتكلف انشاء شده بألفاظ نا مربوط آراسته بود آنرا بگمراهى خود زينت داده ‏اى و بانديشه بد خود فرستاده‏ اى (در شرح گفته‏ ايم كه هر عمل در لباس حقيقت نباشد ناچار بايد آنرا بيارايند تا بظاهر رنگ حقيقتش دهند و در معرض ترويجش در آورند).

نامه مردي كه نه بصيرتى دارد تا هدايتش كند و نه رهبري تا ارشادش نمايد هواى نفس دعوتش كرد، و او هم إجابتش، گمراهي افسار او را در دست گرفت و او نيز در پيش روان شد، از اين روى ژاژ خاييد و ياوه گفت و بانگ بيهوده‏ بر آورد.

أما آنكه مرا بتقوى خوانده ‏اى اميدوارم كه اهل آن بوده، و پناه مى ‏برم كه از كسانى باشم چون بتقوى دعوت شوند حميت آنانرا بگناه بدارد (اشاره است بايه كريمه 207 سوره بقره: و إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم و لبئس المهاد.

و أما پاسخ بيم دادنت مرا از خدا كه مبادا عمل و سابقه من در اسلام تباه شود اين كه بجانم سوگند اگر بر تو ستمكار بودم حق داشتى كه مرا تحذير كنى و بيم دهى، و لكن مى ‏بينم كه خدا مى ‏فرمايد فقاتلوا التي تبغي حتى تفي‏ء إلى أمر الله‏ (الحجرات- 9) يعني پس كارزار كنيد با آن فرقه‏اي كه ستم مي كنند تا بأمر خدا بر گردند، و فرقه ستم كننده كسانى‏ اند كه تو در آنهائي چه بيعت مردم با من در مدينه بر تو نيز كه در شام بودى لازم شد چنانكه بيعت با عثمان در مدينه بر تو كه از طرف عمر أمير شام بودى لازم شده بود، و چنانكه برادرت يزيد را كه از طرف أبو بكر أمير شام بود بيعت أبو بكر لازم شده بود (كذا).

أما پاسخ ايجاد شكاف در وحدت أمت اين كه من سزاوارترم كه تو را از آن نهى كنم (زيرا كه معاويه آتش فتنه بپا كرد و مردم را باختلاف و قتال كشانيد).

أما پاسخ ترساندنت مرا از كشتن ستمكاران اين كه پيغمبر صلى الله عليه و آله مرا بكارزار با آنان و كشتنشان امر كرد و فرمود «إن فيكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله و أشار إلي» يعنى در ميان شما كسى است كه بر تأويل قرآن قتال مي كند چنانكه من بر تنزيل آن قتال كردم و إشاره بسوى من فرمود كه آن كس علي است.

و أما پاسخ گفتارت كه بيعتت صحيح بوقوع نپيوست از آن روي كه شاميان بيعت نكردند اين كه آن يك بيعت است و بر حاضر و غائب لازم، نظر در آن دو نمى‏شود و استيناف در آن راه ندارد، هر كه از آن سر پيچيد و بدر رفت طعن در بيعت و آئين مسلمانان زد، و هركه در آن انديشه ناك و دو دل است خائن و منافق است.

(احتجاج امام عليه السلام بر سبيل مماشاة به آن چه خصم بدان معتقد است ميباشد و گرنه در امام عصمت شرط است كه بايد از جانب خدا و رسول منصوص و منصوب باشد چنانكه در شرح كتاب ششم گفته ‏ايم).

أي معاويه آرام گير، و جامه گمرهي از تن بدر كن، و آنچه كه در آن تو را سودى نيست ترك گوي، و براي تو در نزدم جز شمشير چيزى نيست تا اين كه بأمر خدا بر گردي، و بذلت در بيعت در آئي، درود بر آنكه سزاوارش است.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی

نهج البلاغه نامه ها نامه شماره 6 شرح میر حبیب الله خوئی(به قلم علامه حسن زاده آملی )

نامه 6 صبحی صالح

6- و من كتاب له ( عليه‏ السلام  ) إلى معاوية

إِنَّهُ بَايَعَنِي الْقَوْمُ الَّذِينَ بَايَعُوا أَبَا بَكْرٍ وَ عُمَرَ وَ عُثْمَانَ عَلَى مَا بَايَعُوهُمْ‏

عَلَيْهِ فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَخْتَارَ وَ لَا لِلْغَائِبِ أَنْ يَرُدَّ

وَ إِنَّمَا الشُّورَى لِلْمُهَاجِرِينَ وَ الْأَنْصَارِ فَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى رَجُلٍ وَ سَمَّوْهُ إِمَاماً كَانَ ذَلِكَ لِلَّهِ رِضًا

فَإِنْ خَرَجَ عَنْ أَمْرِهِمْ خَارِجٌ بِطَعْنٍ أَوْ بِدْعَةٍ رَدُّوهُ إِلَى مَا خَرَجَ مِنْهُ فَإِنْ أَبَى قَاتَلُوهُ عَلَى اتِّبَاعِهِ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَ وَلَّاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى

وَ لَعَمْرِي يَا مُعَاوِيَةُ لَئِنْ نَظَرْتَ بِعَقْلِكَ دُونَ هَوَاكَ لَتَجِدَنِّي أَبْرَأَ النَّاسِ مِنْ دَمِ عُثْمَانَ وَ لَتَعْلَمَنَّ أَنِّي كُنْتُ فِي عُزْلَةٍ عَنْهُ إِلَّا أَنْ تَتَجَنَّى فَتَجَنَّ مَا بَدَا لَكَ وَ السَّلَامُ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج17  

و من كتاب له عليه السلام الى معاوية و هو الكتاب السادس من باب المختار من كتبه عليه السلام و رسائله‏

إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر و عمر و عثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار، و لا للغائب أن يرد، و إنما الشورى للمهاجرين و الأنصار، فإن اجتمعوا على رجل و سموه إماما كان ذلك لله رضى، فإن خرج من أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، و ولاه الله ما تولى. و لعمري يا معاوية لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ الناس من دم عثمان، و لتعلمن أني كنت في عزلة عنه، إلا أن تتجنى، فتجن ما بدا لك- و السلام‏.

اللغة

(الشورى) فعلى من المشاورة و هي المفاوضه في الكلام ليظهر الحق، قوله تعالى: و أمرهم شورى بينهم‏ (حمعسق- 38) أي لا يتفردون بأمر حتى يشاوروا غيرهم فيه، قال الفيومي في المصباح: شاورته في كذا و استشرته: راجعته لأرى رأيه فيه، فأشار علي بكذا أراني ما عنده فيه من المصلحة فكانت إشارته حسنة و الاسم: المشورة، و تشاور القوم و اشتوروا و الشورى اسم منه، و أمرهم شورى بينهم أي لا يستأثر أحد بشي‏ء دون غيره. انتهى.

(العزلة) بالضم اسم بمعنى الاعتزال.«تتجنى» من الجناية. التجني: طلب الجناية و هو أن يدعي عليك أحد ذنبا لم تفعله. تجنى عليه أي رماه باثم لم يفعله.

«فتجن» أمر من تتجنى بلا كلام فالكلمة بالفتحات. و قد ذهب غير واحد من الشراح و المترجمين إلى أنها بضم الجيم و النون فعل مضارع من جنه إذا ستره كتمد من مد أي تستر و تخفى ما ظهر لك، و لكنها و هم بلا ارتياب، و كانت العبارة في نسختنا المصححة العتيقة و في نسخة صديقنا اللاجوردي قد قوبلت بنسخة الرضي- رحمه الله- هي الأول على أن تتجنى قرينة قوية على أنها أمر منها، و اسلوب العبارة ينادي بأعلى صوتها على أنها أمر و أول ما تبادر ذهننا إليه قبل الفحص و الاستقراء أنها أمر من تتجنى.

الاعراب‏

الضمير في أنه للشأن، على ما بايعوهم عليه، متعلقة بقوله بايعني، اللام من لعمري لام الابتداء و عمري مبتداء و خبر المبتدأ محذوف لا يجوز إظهاره كأنه قال:لعمري قسمي أو لعمري ما أقسم به، و العمر و العمر بالفتح و الضم لغتان، و معناهما البقاء و لا يجي‏ء عمر في اليمين إلا مفتوح العين. و الباء في بطعن للسببية متعلقة بقوله خرج، و اللام في لئن موطئة للقسم و جواب لعمري لتجدني، و جواب الشرط ما دل عليه هذا الجواب، و المعنى: و بقائي لئن نظرت بعقلك فقد تجدني أبرأ الناس من دم عثمان، على و زان قول شبيب بن عوانة (الحماسة 337):

لعمري لئن سر الأعادي و أظهروا شماتا لقد مروا بربعك خاليا

أي: و بقائي لئن كان الأعادي مسرورين بموتك شامتين بذويك و عشيرتك لفقدهم لك، فقد وقعت الشماتة في وقتها و حينها و وافاهم السرور لحادث أمر عظم موقعه، لأنهم مروا بربعك خاليا كما أفاده المرزوقي في شرح الحماسة.و لتعلمن عطف على لتجدني.

«دون هواك» كلمة دون تكون هنا بمعنى سوى كما جاء في وصفه تعالى:ليس دونه منتهى، أي ليس سواه سبحانه من ينتهي إليه أمل الاملين، فهو تعالى منتهى رغبة الراغبين. و تكون بمعنى القدام كقول قيس الخطيم الأوسي (الحماسة 36):

ملكت بها كفي فأنهرت فتقها يرى قائما من دونها ما ورائها

و تكون بمعنى الظرف نحو هذا دون ذلك أي أقرب منه. أو شي‏ء من دون بالتنوين أي حقير ساقط، و على الأول قوله‏ (الحماسة 127):

ألم تريا أني حميت حقيقتي‏ و باشرت حد الموت و الموت دونها

و بهذا المعنى تصغر و يقال: دوين على نحو قولهم: قبيل و بعيد و فويق قال خلف بن خليفة (الحماسة 296):

و بالدير أشجاني و كم من شج له‏ دوين المصلى بالبقيع شجون‏

و تكون بمعنى عند و غير و خذ نحو دونكها أي خذها و بمعنى نقيض فوق و بمعنى الشريف و الخسيس و الوعيد.«إلا أن تتجنى» استثناء منقطع. «فتجن ما بدا لك» ما منصوب محلا بالمفعولية.

المعنى‏

هذا الكتاب‏ بعض ما كتب‏ عليه السلام إلى معاوية مع جرير بن عبد الله البجلي و روى الكتاب بتمامه نصر بن مزاحم المنقري الكوفي مسندا في صفين (ص 18 الطبع الناصري 1301 ه) و هذا الكتاب مروي أيضا في كتاب الفتن و المحن من البحار ص 434 و سنتلوه عليك بحذافيره.

قال نصر في صفين: إن أمير المؤمنين عليا عليه السلام لما قدم من البصرة و دخل الكوفة و أقام بها بعث إلى العمال في الافاق «يعني بهم العمال لعثمان على البلاد» و كان أهم الوجوه إليه الشام.

و روى عن محمد بن عبيد الله القرشي، عن الجرجاني قال: لما بويع علي عليه السلام و كتب إلى العمال في الافاق كتب إلى جرير بن عبد الله البجلي و كان جرير عاملا لعثمان على ثغر همدان فكتب إليه مع زحر بن قيس الجعفي:

«كتاب على عليه السلام الى جرير بن عبد الله البجلى»

أما بعد فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم و إذا أراد الله‏ بقوم سوء فلا مرد له و ما لهم من دونه من وال، و إني اخبرك عن نبا من سرنا إليه من جموح طلحة و الزبير عند نكثهم بيعتهم و ما صنعوا بعاملي عثمان بن حنيف، إني هبطت من المدينة بالمهاجرين و الأنصار حتى إذا كنت بالعذيب بعثت إلى أهل الكوفة بالحسن بن علي، و عبد الله بن عباس، و عمار بن ياسر، و قيس بن سعد ابن عبادة، فاستنفروهم فأجابوا فسرت بهم حتى نزلت بظهر البصرة، فأعذرت في الدعاء، و أقلت العثرة، و ناشدتهم عقد بيعتهم، فأبوا إلا قتالي، فاستعنت بالله عليهم فقتل من قتل، و ولوا مدبرين إلى مصرهم، فسألوني ما كنت دعوتهم إليه قبل اللقاء فقبلت العافية، و رفعت السيف، و استعملت عليهم عبد الله بن عباس، و سرت إلى الكوفة و قد بعثت إليكم زحر بن قيس فاسأل عما بدا لك.

أقول: كتابه هذا إلى جرير ليس بمذكور في النهج و هذا الكتاب مذكور أيضا في كتاب الإمامة و السياسة لابن قتيبة الدينوري المتوفى سنة- 213 ه- و بين النسختين اختلاف يسير لا يعبأ به.

ثم إن زحر بن قيس هذا هو الذي كان في خيل عمر بن سعد يوم الطف و كان ممن حمل الاسازى و رءوس الشهداء من أهل بيت الطهارة و النبوة إلى الشام و ما جرى بينه و بين الإمام السجاد عليه السلام و سائر أقواله و أفعاله مذكور في كتب المقاتل، نعوذ بالله تعالى من سوء الخاتمة.

قال نصر: فلما قرأ جرير الكتاب قام فقال: أيها الناس هذا كتاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام و هو المأمون على الدين و الدنيا، و قد كان من أمره و أمر عدوه ما نحمد الله عليه، و قد بايعه السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار و التابعين بإحسان، و لو جعل هذا الأمر شورى بين المسلمين كان أحقهم بها، ألا و إن البقاء في الجماعة، و الفناء في الفرقة و علي حاملكم على الحق ما استقمتم، فإن ملتم أقام ميلكم، فقال الناس: سمعا و طاعة رضينا رضينا، فأجاب جرير و كتب جواب كتابه بالطاعة.

قال: و كان مع علي رجل من طي‏ء ابن اخت لجرير، فحمل زحر بن قيس‏ شعرا له إلى خاله جرير و هو:

جرير بن عبد الله لا تردد الهدى‏ و بايع عليا إنني لك ناصح‏
فان عليا خير من وطأ الحصى‏ سوى أحمد و الموت غاد و رائح‏
ودع عنك قول الناكثين فإنما اولاك أبا عمرو كلاب نوابح‏
و بايعه إن بايعته بنصيحة و لا يك معها في ضميرك فادح‏
فانك إن تطلب به الدين تعطه‏ و إن تطلب الدنيا فبيعك رابح‏
و إن قلت عثمان بن عفان حقه‏ علي عظيم و الشكور مناصح‏
فحق علي إذ وليك كحقه‏ علي عظيم و الشكور مناصح‏
فحق علي إذ وليك كحقه‏ و شكرك ما أوليت في الناس صالح‏
و إن قلت لا نرضى عليا إمامنا فدع عنك بحرا ضل فيه السوابح‏
أبى الله إلا أنه خير دهره‏ و أفضل من ضمت عليه الأباطح‏

قال: ثم قام زحر بن قيس خطيبا فكان مما حفظ من كلامه أن قال:

الحمد لله الذي اختار الحمد لنفسه، و تولاه دون خلقه، لا شريك له في الحمد، و لا نظير له في المجد، و لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائم الدائم، إله السماء و الأرض، و أشهد أن محمدا عبده و رسوله، أرسله بالحق الوضح، و الحق الناطق، داعيا إلى الخير، و قائدا إلى الهدى.

ثم قال: أيها الناس إن عليا قد كتب إليكم كتابا لا يقال بعده إلا رجيع من القول، و لكن لا بد من رد الكلام، إن الناس بايعوا عليا بالمدينة من غير محاباة له ببيعتهم، لعلمه بكتاب الله و سنن الحق، و إن طلحة و الزبير نقضا بيعته على غير حدث، و ألبا عليه الناس ثم لم يرضيا حتى نصبا له الحرب، و أخرجا ام المؤمنين، فلقيهما فأعذر في الدعاء، و أحسن في البقية، و حمل الناس على ما يعرفون، هذا عيان ما غاب عنكم، و لإن سألتم الزيادة زدناكم و لا قوة إلا بالله و نقل كلامه الدينوري في الإمامة و السياسة و بين النسختين اختلاف في الجملة.

قال نصر: و قال جرير في ذلك:

أتانا كتاب علي فلم‏ نرد الكتاب بأرض العجم‏
و لم نعص ما فيه لما أتا و لما نضام و لما نلم‏
و نحن ولاة على ثغرها نضيم العزيز و نحمى الذمم‏
نساقيهم الموت عند اللفاء بكأس المنايا و نشفي القرم‏
طحناهم طحنة بالقنا و ضرب سيوف تطير اللمم‏
مضينا يقينا على ديننا و دين النبي مجلي الظلم‏
أمين الإله و برهانه‏ و عدل البرية و المعتصم‏
رسول المليك و من بعده‏ خليفتنا القائم المدعم‏
عليا عنيت وصي النبي‏ نجالد عنه غواة الامم‏
له الفضل و السبق و المكرمات‏ و بيت النبوة لا يهتضم‏

أقول: قد قدمنا في مواضع أن كثيرا من سنام المسلمين في صدر الإسلام و صفوا أمير المؤمنين عليه السلام بأنه وصي النبي، و قلنا إن هذه الكلمة الصادرة من هؤلاء الذين أدرك كثير منهم. النبي صلى الله عليه و آله مما ينبغي أن يعتنى بها و يبجلها من يطلب طريق الحق و يبحث عنه. و لعمري أن هذه الدفيقة حجة على من كان له قلب إلا أن ختم الله على قلبه و نعم ما قال العارف الرومي:

چشم باز و گوش باز و اين عمى‏ حيرتم از چشم بندي خدا

نصر: عمر بن سعد عن نمير بن و علة، عن عامر الشعبي أن عليا عليه السلام حين قدم من البصرة نزع جريرا عن همدان فجاء حتى نزل الكوفة فأراد علي عليه السلام أن يبعث إلى معاوية رسولا، فقال له جرير: ابعثني إلى معاوية فإنه لم يزل لي مستنصحا و ودا نأتيه فأدعوه على أن يسلم لك هذا الأمر و يجامعك على الحق على أن يكون أميرا من امرائك و عاملا من عمالك ما عمل بطاعة الله و اتبع ما في كتاب الله، و أدعو أهل الشام إلى طاعتك و ولايتك و جلهم قومي و أهل بلادي و قد رجوت أن لا يعصوني.

فقال له عليه السلام الأشتر: لا تبعثه و دعه و لا تصدقه فوالله إني لأظن هواه‏ هواهم و نيته نيتهم.

فقال له علي عليه السلام: دعه حتى ننظر ما يرجع به إلينا، فبعثه علي عليه السلام و قال له حين أراد أن يبعثه: إن حولي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله من أهل الدين و الرأي من قد رأيت، و قد اخترتك عليهم لقول رسول الله صلى الله عليه و آله فيك: إنك من خير ذي يمن، ايت معاوية بكتابي فإن دخل فيما دخل فيه المسلمون، و إلا فانبذ إليه و أعلمه أني لا أرضى به أميرا و أن العامة لا ترضى به خليفة.

فانطلق جرير حتى أتى الشام و نزل بمعاوية فدخل عليه، فحمد الله و أثنى عليه و قال: أما بعد يا معاوية فانه قد اجتمع لابن عمك أهل الحرمين و أهل المصرين و أهل الحجاز و أهل اليمن و أهل مصر و أهل العروض و عمان و أهل البحرين و اليمامة، فلم يبق إلا أهل هذه الحصون التي أنت فيها لو سال عليها سيل من أوديته غرقها، و قد أتيتك أدعوك إلى ما يرشدك و يهديك إلى مبايعة هذا الرجل، و دفع إليه الكتاب كتاب علي بن أبي طالب عليه السلام و فيه‏:

صورة كتابه عليه السلام الكاملة الى معاوية على ما فى كتاب نصر فى صفين (ص 18 من الطبع الناصرى) و كتاب الامامة و السياسة لابن قتيبة الدينورى (ص 93 ج 1 طبع مصر 1377 ه) بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإن بيعتي لزمتك بالمدينة و أنت بالشام لأنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر و عمر و عثمان على ما بايعوا عليه فلم يكن للشاهد أن يختار، و لا للغائب أن يرد، و إنما الشورى للمهاجرين و الأنصار، فاذا اجتمعوا على رجل فسموه إماما كان ذلك لله رضى، فان خرج من أمرهم خارج بطعن أو رغبة ردوه إلى ما خرج منه، فان أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين و ولاه الله ما تولى و يصليه جهنم و سائت مصيرا، و إن طلحة و الزبير بايعاني ثم نقضا بيعتي و كان نقضهما كردهما، فجاهدتهما على ذلك حتى جاء الحق و ظهر أمر الله و هم كارهون، فادخل فيما دخل فيه المسلمون، فإن أحب الامور إلي فيك العافية إلا أن تتعرض للبلاء، فان تعرضت له قاتلتك، و استعنت الله عليك و قد أكثرت في قتلة عثمان، فادخل فيما دخل فيه الناس، ثم حاكم القوم إلي‏ أحملك و إياهم على كتاب الله، فأما تلك التي تريدها فخدعة الصبي عن اللبن و لعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك، لتجدني أبرأ قريش من دم عثمان، و اعلم أنك من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة، و لا تعرض فيهم الشورى و قد أرسلت إليك و إلى من قبلك جرير بن عبد الله، و هو من أهل الإيمان و الهجرة فبايع و لا قوة إلا بالله.

أقول: و لا يخفى عليك أن بين نسخة النهج و بين نسخة صفين لنصر تفاوتا في الجملة كما أن بين نسختي نصر و الدينوري اختلافا يسيرا لا يعبأ به.

ثم إن قوله عليه السلام: و قد أكثرت في قتلة عثمان‏- الى قوله: فخدعة الصبي عن اللبن‏، مذكور في ذيل كتابه الاخر إلى معاوية أيضا، و هو الكتاب الرابع و الستون أوله: أما بعد فانا كنا نحن و أنتم على ما ذكرت من الالفة- إلخ.

قال نصر: فلما قرأ معاوية الكتاب قام جرير فقال:الحمد لله المحمود بالعوائد، المأمول منه الزوايد، المرتجى منه الثواب المستعان على النوائب، أحمده و أستعينه في الامور التي تحير دونه الألباب و تضمحل عندها الأرباب، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كل شي‏ء هالك إلا وجهه له الحكم و إليه ترجعون، و أشهد أن محمدا عبده و رسوله، أرسله بعد الفترة و بعد الرسل الماضية، و القرون الخالية، و الأبدان البالية، و الجبلة الطاغية، فبلغ الرسالة، و نصح الامة، و أدى الحق الذي استودعه الله و أمره بأدائه إلى امته، صلى الله عليه و آله و سلم من مبتعث و منتجب.

ثم قال: أيها الناس إن أمر عثمان قد أعيى من شهده فما ظنكم بما غاب عنه، و إن الناس بايعوا عليا غير و اترو لا موتور. و كان طلحة و الزبير ممن بايعه ثم نكثا بيعته على غير حدث، ألا و إن هذا الدين لا يحتمل الفتن، ألا و إن العرب لا تحتمل السيف، و قد كانت بالبصرة أمس ملحمة إن يشفع البلاء بمثلها فلا بقاء للناس، و قد بايعت العامة عليا و لو ملكنا و الله امورنا لم نختر لها غيره، و من خالف هذا استعتب، فادخل يا معاوية فيما دخل فيه الناس، فان قلت: استعملني‏ عثمان ثم لم يعزلني فان هذا أمر لو جاز لم يقم لله دين، و كان لكل امرى‏ء ما في يديه، و لكن الله لم يجعل للاخر من الولاة حق الأول، و جعل تلك امورا موطاة، و حقوقا ينسخ بعضها بعضا.

فقال معاوية: انظر و ننظر و أستطلع رأي أهل الشام.

أقول: الظاهر أن هذا الكتاب هو أول كتاب أرسله عليه السلام إلى معاوية يدعوه إلى بيعته إلا أن الرضي رضي الله عنه قال في آخر هذا الباب (الكتاب 75) و من كتاب له عليه السلام إلى معاوية في أول ما بويع له، ذكره الواقدي في كتاب الجمل، من عبد الله أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان فقد علمت إعذاري فيكم و إعراضي عنكم- إلخ.

و قال ابن قتيبة الدينوري في كتاب الإمامة و السياسة المعروف بتاريخ الخلفاء (ص 82 ج 1 طبع مصر 1377 ه): و ذكروا أنه لما فرغ من وقعة الجمل بايع له القوم جميعا و بايع له أهل العراق و استقام له الأمر بها، فكتب إلى معاوية أما بعد فإن القضاء السابق و القدر النافذ ينزل من السماء كقطر المطر فتمضى أحكامه عز و جل و تنفذ مشيئته بغير تحاب المخلوقين و لا رضى الادميين، و قد بلغك ما كان من قتل عثمان و بيعة الناس عامة إياي و مصارع الناكثين لي، فادخل فيما دخل الناس فيه، و إلا فأنا الذي عرفت و حولي من تعلمه، و السلام.

و يمكن أن يكون هذه الكتب الثلاث كتابا واحدا فتفرق كما قدمنا كثيرا من نظائره، و مما يؤيده أن الدينوري بعد نقل الكتاب قال: ثم إن معاوية انتخب رجلا من عبس و كان له لسان، فكتب إلى علي عليه السلام كتابا عنوانه: من معاوية إلى علي، و داخله: بسم الله الرحمن الرحيم لا غير، فلما قدم الرسول دفع الكتاب إلى علي فعرف علي عليه السلام ما فيه و أن معاوية محارب له و أنه لا يجيبه إلى شي‏ء مما يريد.

و قد نقل قريبا من هذا الكلام الشارح المعتزلي في شرح نسخة النهج و هو:فلما جاء معاوية هذا الكتاب «يعني به الكتاب المذكور في النهج» وصل بين‏ طومارين أبيضين ثم طواهما و كتب عنوانهما من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب- قال جرير: و دفعهما معاوية إلي لا أعلم ما فيهما و لا أظنهما إلا جوابا و بعث معي رجلا من بني عبس لا أدري ما معه فخرجنا حتى قدمنا الكوفة و اجتمع الناس في المسجد لا يشكون أنها بيعة أهل الشام، فلما فتح علي عليه السلام الكتاب لم يجد شيئا- إلخ، و الله تعالى أعلم.

و قد روي أنه عليه السلام كتب إلى معاوية مع جرير: أني قد عزلتك ففوض الأمر إلى جرير، و السلام.

و قال: لجرير: صن نفسك عن خداعه فان سلم إليك الأمر و توجه إلي فأقم أنت بالشام، و ان تعلل بشي‏ء فارجع، فلما جاءه تعلل بمشاورة أهل الشام و غير ذلك، فرجع جرير فكتب معاوية في أثره على ظهر كتابه عليه السلام: من ولاك حتى تعزلني، و السلام.

قوله عليه السلام‏ (إنه بايعني‏- إلى قوله: على ما بايعوهم عليه) و اعلم أن بيعة الناس أمير المؤمنين عليا عليه السلام و إطباقهم على إمامته كان أشد و أوكد بمراحل من إطباقهم على إمامة الثلاثة قبله عليه السلام، كما أشرنا إلى نبذة من شواهده في المباحث الماضية، و كفى في ذلك قوله عليه السلام: فتداكوا علي تداك الابل الهيم يوم ورودها قد أرسلها راعيها و خلعت مثانيها، حتى ظننت أنهم قاتلي أو بعضهم قاتل بعض لدي‏ (الخطبة 54 من النهج).

و قوله عليه السلام: و بسطتم يدي فكففتها و مددتموها فقبضتها، ثم تداككتم علي تداك الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها، حتى انقطعت النعل و سقطت الرداء و وطى‏ء الضعيف و بلغ من سرور الناس ببيعتهم إياي أن ابتهج بها الصغير، و هدج إليها الكبير و تحامل نحوها العليل، و حسرت إليها الكعاب‏ (الخطبة 227 من النهج).

ثم إن ذلك الكلام لا يدل على أنه عليه السلام أثبت خلافته ببيعة الناس و إجماعهم بل احتج على القوم باتفاق الناس و إجماعهم على خلافته على وجه التسليم و المماشاة و حسب مقتضى عقيدتهم بأنهم لما اعتقدوا أن مبنى الخلافة و نصب الإمام على البيعة دون النص لزمهم قبول خلافته و امامته و التسليم و الانقياد لأمره.

و لو احتج عليهم بالنص لم يقبلوا منه و لم يسلموا له و إلا فخلافته بلا فصل ثبتت بنص الله تعالى و رسوله، و قد أشرنا إلى ذلك في شرح الخطبة السابعة و الثلاثين و المأتين من أن الإمام يجب أن يكون منصوبا من الله تعالى، لأن الامامة عهده تعالى و لا يناله إلا من اجتبيه.

ثم إنه عليه السلام لو تمسك لإمامته بالنص لكان هذا طعنا على الذين سبقوه بالخلافة الظاهرية، فإذا تفسد حاله مع الذين بايعوه من المهاجرين و الأنصار في المدينة و كان المقام لا يناسب سوق الاحتجاج على سبيل النص، و لو لا مراعاة المقام لكان يصرح بما هو الحق الصريح، و الشقشقية حجة بالغة على ذلك.

قوله عليه السلام: (فلم يكن للشاهد أن يختار و لا للغائب أن يرد) هذه نتيجة لما قدم أي إذا بايعني القوم على الوجه الذي بايعوا أبا بكر و عمر و عثمان و ما اختار أحد من الشاهدين في المدينة غير ما بايعوه و كذا لم يرد أحد من الغائبين عن المدينة من بايعوه بل الكل انقادوا و تسلموا فكذا لم يكن للشاهد أن يختار غيري‏ و لا للغائب أن يردني‏، بل يجب على الشاهد و الغائب جميعا الاطاعة و الانقياد.

ثم إن فيه تعريضا و طعنا على الناكثين طلحة و الزبير و أتباعهما، و على معاوية و أهل الشام من أتباعه لأن الشاهد أي الناكثين اختاروا غيره عليه السلام و الغائب أي معاوية و أهل الشام لم يقبلوا بيعته.

ثم يمكن أن يستفاد من قوله عليه السلام‏ (أن يرد) أن لا يكون هذا الكتاب أول كتاب كتبه إلى معاوية بأن يكون الأول هو الكتاب 75 من هذا الباب أو الذي نقله الدينوري في الامامة و السياسة، و لما رد معاوية كتابه و لم يقبل البيعة قال عليه السلام: و لا للغائب أن يرد، فتأمل.

قوله عليه السلام‏ (و إنما الشورى- الى قوله: و ولاه ما تولى) الشورى المشورة و إنما تفيد حصر الشورى في المهاجرين و الأنصار، و إنما حصر الشورى‏ فيهما لأنهما أهل الحل و العقد من أمة محمد صلى الله عليه و آله فمتى اتفقت كلمتهم على أمر و أجمعوا عليه كان ذلك حقا مرضيا لله تعالى فيجب على الناس اتباعه.

و من ذلك إطباقهم على إمامة علي عليه السلام كما أشار إليه بقوله: فان اجتمعوا على رجل فسموه إماما فان خرج من أمرهم‏ أحد بطعن‏ عليهم أو على من بايعوه بالامامة كمن طعن عليه عليه السلام بدم عثمان، أو ببدعة كنكث الناكثين و من بايع معاوية بالخلافة بعد ما أجمع المهاجرون و الأنصار على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام‏ ردوه‏ عما خرج إليه‏ إلى ما خرج منه‏.

فان امتنع ذلك الخارج عن الرجوع‏ إلى ما خرج منه قاتلوه‏، لأنه اتبع‏ غير سبيل المؤمنين‏ و حيث أبى و اتبع‏ غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى‏ أي يخلي بينه و بين ما اختاره لنفسه و يكله إلى من انتصر به و اتكل عليه.

و هذا إشارة الى قوله تعالى: و من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى و يتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى و نصله جهنم و ساءت مصيرا (النساء: 116).

و انما تهدده بكلامه هذا و توعده بالعقوبة لئلا يتبع‏ غير سبيل المؤمنين‏ و نبهه على أنه إن خالف سبيلهم‏ بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه و قاتلوه‏ على أن الله يوليه ما تولى و يصليه جهنم.

ثم إن كلامه هذا أيضا على مقتضى عقيدة القوم مداراة و مماشاة معهم بما اعتقدوا من أن أمر الخلافة إنما هو بالبيعة من أهل العقد و الحل لا بالنص، و إلا فامامته بلا فصل كانت ثابتة بالبراهين القطعية فالقياس جدلي على اصطلاح أهل الميزان، لأنه اعتبر في مقدماته التسليم من الخصم أي تبكيت الخصم و إلزامه بما سلم به.

قوله عليه السلام: (و لعمري‏- الى قوله: في عزلة عنه) قد قدمنا في أبحاثنا السالفة نقل كلام عمار بن ياسر رضوان الله عليه و شبث و غيرهما من أن معاوية لم يجد شيئا يستغوي به الناس و يستميل به أهواءهم و يستخلص به طاعتهم إلا قوله.قتل إمامكم عثمان مظلوما فنحن نطلب بدمه.

و قد روى أبو جعفر الطبري في التاريخ باسناده عن زيد بن وهب الجهني أن عمار بن ياسر قال في صفين: أيها الناس اقصدوا بنا نحو هؤلاء الذين- يعني بهم معاوية و أتباعهم- يبغون دم ابن عفان و يزعمون أنه قتل مظلوما، و الله ما طلبتم و لكن القوم ذاقوا الدنيا فاستحبوها و استمرءوها و علموا أن الحق إذا لزمهم حال بينهم و بين ما يتمرغون فيه من دنياهم، و لم يكن للقوم سابقة في الاسلام يستحفون بها طاعة الناس و الولاية عليهم فخدعوا أتباعهم أن قالوا: إمامنا قتل مظلوما، ليكونوا بذلك جبابرة ملوكا و تلك مكيدة بلغوا بها ما ترون، و لولا هي ما تبعهم من الناس رجلان. إلخ.

و قال عمار أيضا: أيها الناس و الله ما أسلموا- يعني معاوية و أتباعه كما مضى من قبل مسندا- و لكنهم استسلموا و أسروا الكفر فلما وجدوا له أعوانا أظهروه. و الظاهر أنه أخذ هذا القول منه عليه السلام كما سيأتي في الكلام 16 من هذا الباب.

ثم قد مضى في الخطبة 238 قوله عليه السلام: و الله لقد دفعت عنه‏- يعني عن عثمان- حتى خشيت أن أكون آثما. و قوله المنقول عن الطبري (ص 410 ج 3 طبع مصر 1357 ه) في عثمان: و الله ما زلت أذب عنه حتى أني لأستحي، و كذا برهنا في مواضع كثيرة من مباحثنا الماضية على أنه عليه السلام كان أبرأ الناس من دم عثمان.

ثم لما كانت هوى النفس قائدة إلى خلاف الحق، لأنها قرين سوء يزين كل قبيح و يقبح كل حسن و كاسفة بيضاء العقل كما قيل: «إنارة العقل مكسوف بطوع الهوى» أقسم عليه السلام بعمره لئن نظر معاوية فيما جرى على عثمان بعقله الناصع من الهوى ليجدنه أبرأ الناس من دمه، و ليعلمن أنه عليه السلام كان في عزلة عن دم عثمان.

قوله عليه السلام: (إلا أن تتجنى فتجن ما بدا لك و السلام) يعني به أنك لو خالفت هواك لتجدني أبرأ الناس من دم عثمان إلا أن تعزيني إلى الجناية افتراءو تدعي علي ذنبا لم أفعله فافتر على ما ظهر لك من الذنوب و الجفايات.

ثم إن أمير المؤمنين عليه السلام لما كان أبرأ الناس من دم عثمان و كان منزها عن جناية و ذنب رأى أن معاوية أراد استغواء الناس بذلك الافتراء، و أن الانسان المبرى عن الشين لا يبالي بأقاويل كاذبة تقال فيه، لأن الباطل يذهب جفاء قال:فتجن ما بدا لك.

و بوجه آخر أنه عليه السلام قال لمعاوية: إذا كنت تعلم أني أبرأ الناس من دم عثمان و مع ذلك تفوه بما خلافه معلوم لك و لا تستحي بالافتراء فان شئت أن تدعي علي أية جناية كانت، و أردت أن تنسب إلي أي ذنب كان: فافعل، و لا يخفى أن كلامه عليه السلام ينبى‏ء عن استخفاف أمر معاوية و استحقار تجنيه عليه.

و أما على مختار القوم، أي كون تجن مضارع جن فالمعنى أنك لو خالفت هواك لتجدني أبرأ الناس من دم عثمان إلا أن تعزيني إلى الجناية افتراء و تدعي علي ذنبا لم أفعله، ثم تأخذ ذلك الاختلاق وسيلة لأن تستر و تخفي ما ظهر لك من براءتي من دم عثمان، يعني أن براءتي من دم عثمان ظاهرة لك غير خفية إلا أنك تريد إخفاءه و الافتراء علي بدمه حتى تجعله ذريعة لك فتستغوي بها الناس و لكن الصواب هو الوجه الأول لما دريت في بيان اللغة.

قوله عليه السلام: (و السلام) أي‏ و السلام‏ على من اتبع الهدى، أو و السلام‏ على أهله أو غيرهما مما يناسبهما.

قال الفاضل الشارح المعتزلي: و اعلم أن هذا الفصل دال بصريحه على كون الاختيار طريقا إلى الإمامه كما يذكره أصحابنا المتكلمون، لأنه احتج على معاوية بيعته أهل الحل و العقد له، و لم يراع في ذلك إجماع المسلمين كلهم و قياسه على بيعة أهل الحل و العقد لأبي بكر، فانه ما روعي فيها إجماع المسلمين، لأن سعد بن عبادة لم يبايع و لا واحد من أهل بيته و ولده، و لأن عليا و بني هاشم و من انضوى إليهم لم يبايعوا في مبدء الأمر و امتنعوا، و لم يتوقف المسلمون في تصحيح إمامة أبي بكر و تنفيذ أحكامه على بيعتهم، و هذا دليل على صحة الإختيار و كونه‏ طريقا إلى الإمامة و أنه لا يقدح في إمامته امتناع معاوية من البيعة و أهل الشام.

فأما الإمامية فتحمل هذا الكتاب منه على التقية و تقول إنه ما كان يمكنه أن يصرح لمعاوية في مكتوبه بباطن الحال و يقول له: أنا منصوص علي من رسول الله صلى الله عليه و آله و معهود إلى المسلمين أن أكون خليفة فيهم بلا فصل، فيكون في ذلك طعن على الأئمة المتقدمين و تفسد حاله مع الذين بايعوه من أهل المدينة.

و هذا القول من الإمامية دعوى لو عضدها دليل لوجب أن يقال بها و يصار إليها، و لكن لا دليل لهم على ما يدهبون إليه من الاصول التي تسوقهم إلى حمل هذا الكلام على التقية.

ثم قال: فأما قوله: و قد أكثرت في قتلة عثمان فادخل فيما دخل فيه المسلمون ثم حاكم القوم إلي أحملك و إياهم على كتاب الله‏، فيجب أن يذكر في شرحه ما يقول المتكلمون في هذه الواقعة.

قال أصحابنا المعتزلة: هذا الكلام حق و صواب لأن أولياء الدم يجب أن يبايعوا الإمام و يدخلوا تحت طاعته ثم يرفعوا خصومهم إليه، فان حكم بالحق استديمت إمامته، و إن حاد عن الحق انتقضت خلافته، و اولياء عثمان الذين هم بنوه لم يبايعوا عليا و لا دخلوا تحت طاعته، و كذلك معاوية ابن عم عثمان لم يبايع و لا أطاع، فمطالبتهم له بأن يقتص لهم من قاتلي عثمان قبل بيعتهم إياه و طاعتهم له ظلم منهم و عدوان.

ثم قال: فإن قلت: هب أن القصاص من قتلة عثمان موقوف على ما ذكره أما كان يجب عليه لا من طريق القصاص أن ينهى عن المنكر و أنتم تذهبون إلى أن النبي عن المنكر واجب على من هو سوقه فكيف على الامام الأعظم؟.

قلت: هذا غير وارد ههنا لأن النهي عن المنكر إنما يجب قبل وقوع المنكر لكيلا يقع، فاذا وقع المنكر فأي نهي يكون عنه، و قد نهي علي عليه السلام أهل مصر و غيرهم عن قتل عثمان قبل قتله مرارا، و نابذهم بيده و لسانه و بأولاده فلم يغن شيئا، و تفاقم الأمر حتى قتل، و لا يجب بعد القتل إلا القصاص، فاذا امتنع أولياء الدم من طاعة الامام لم يجب عليه أن يقتص من القاتلين، لأن القصاص حقهم و قد سقط ببغيهم على الإمام و خروجهم عن طاعته، و قد قلنا نحن فيما تقدم أن القصاص إنما يجب على من باشر القتل، و الذين باشروا قتل عثمان قتلوا يوم قتل عثمان في دار عثمان و الذين كان معاوية يطالبه بدم عثمان لم يباشروا القتل و إنما كثروا السواد و حصروا عثمان في الدار و أجلبوا عليه و شتموه و توعدوه و منهم من تسور عليه داره و لم ينزل إليه، و منهم من نزل فحضر قتله و لم يشرك فيه و كل هؤلاء لا يجب عليهم القصاص في الشرع.

أقول: أما قوله إن الاختيار طريق إلى الإمامة فيرده ما برهنا في عدة مواضع من مباحثنا السالفة من أن الإمامة أجل قدرا، و أعظم شأنا، و أعلا مكانا و أمنع جانبا، و أبعد غورا، من أن يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالوها برأيهم، أو يقيموا إماما باختيارهم، بل انها رئاسة إلهية يجب على الله تعالى نصب من اجتبيه لها.

و أما قوله: و قياسه على بيعة أهل الحل و العقد لأبي بكر- إلخ، فيرده أن خلافة أبي بكر لم يكن بحق حتى يقاس بها، و إعراض سعد بن عبادة و أتباعه و علي عليه السلام و أشياعه عن بيعته كان على بصيرة في أمر الخلافة.

و أما قوله عليه السلام: و هذا القول‏ من الامامية دعوى لو عضدها دليل لوجب أن يقال بها- إلخ فقد قلنا آنفا في شرح هذا الكتاب إن كلامه عليه السلام هذا إنما هو على مقتضى عقيدة القوم حيث ذهبوا إلى أن أمر الامامة و الخلافة إنما هو بالبيعة لا بالنص، و أنه سيق على القياس الجدلي أعني إلزام الخصم بما اعتقد و سلم به فلا حاجة إلى حمل كلامه عليه السلام على التقية.

و إسناد هذا القول إلى الامامية لا يخلو من دغدغة، و لو مال إليه واحد منهم فقد أخطأ و لا يصح إسناده إلى الجميع و قد سبقنا بهذه الدقيقة المجلسي رحمه الله في البحار ص 528 ج 8 من الطبع الكمباني.

و أما الأدلة على كونه عليه السلام خليفة رسول الله صلى الله عليه و آله بلا فصل فتجل عن الاحصاء من العقلية و النقلبة، و قد ألف بغاة الحقيقة و الهداية في ذلك رسائل شتى و صنف أهل الفحص و التتبع من الفريقين جوامع عديدة حاوية للأخبار المأثورة عن النبي صلى الله عليه و آله في خلافته بلا فصل، و كذا في خلافة سائر الأئمة واحدا بعد واحد و لو ثنينا البيان على تفصيل ذلك لطال بنا الخطب و عظم علينا الأمر.

و لعمري‏ أن الرجل يحب أن يتشابه بالجهال، و إلا فالأمر أبلج من الشمس في رابعة النهار، و قد قدمنا أن رسول الله صلى الله عليه و آله كان أشفق على الناس من الوالد على ولده حتى أنه أرشدهم إلى امور كانت دون مرتبة ولاية الأمر بمراحل كتعليمهم تقليهم الأظفار، و آداب طلى النورة، و تسريح اللحى، و أخذ الشوارب و لبس الثياب حتى أرشدهم في قضاء الحاجة إلى امور كثيرة مندوبة و غير مندوبة فكيف يسكت عن أجل الأشياء قدرا و أشدها حاجة أعني النص على الامام الذي يتولي امورهم بعده.

و أما قوله عليه السلام: و قد أكثرت في قتلة عثمان‏- إلخ، فمذكور في ذلك الكتاب كما نقلنا صورته الكاملة عن كتاب صفين لنصر بن مزاحم.

ثم إن ما نقل الفاضل الشارح من أصحابه من أن أولياء الدم يجب أن يبايعوا الإمام و يدخلوا تحت طاعته ثم يرافعوا خصومهم إليه فان حكم بالحق استديمت إمامته، و إن حاد عن الحق انتقضت خلافته- إلخ. اعتراف منهم بانتقاض خلافة عثمان من أول ما بويع له بالخلافة، لأنه عطل الحد الواجب في عبيد الله ابن عمر قاتل جفينة و الهرمزان و ابنة أبي لؤلؤة، و قد قدمنا الكلام في ذلك في شرح الخطبة 236 و المختار الأول من باب الكتب و الرسائل، فراجع.

الترجمة

اين يكى از نامه‏ هاى أمير المؤمنين على عليه السلام است كه بسوى معاويه ارسال داشت:

همانا گروهى كه بر وجهي با أبو بكر و عمر و عثمان بيعت كردند بر آن وجه نيز با من بيعت كردند، پس حاضر- در مدينه- را نشايد كه ديگري را بامامت بر گزيند و غائب را نسزد كه از بر گزيده قوم بامامت سر باز زند.

(اين گفتار تعريض است به عمل طلحه و زبير و پيروانشان كه در مدينه بودند و بيعت كردند و نكث و نقض عهد كردند، و بكار معاويه و أتباع او كه در مدينه نبودند و از اختيار قوم و اجماع ايشان اعراض كردند).

و جز اين نيست كه مشورت در أمر خلافت براى مهاجرين و أنصار است كه آنان أهل حل و عقد از امت محمد و پيشوا و زعماى آنانند پس اگر آنان اجتماع كردند بر مردمى و او را امام خود ناميدند آن كار مرضي خداوند است، پس اگر كسى بسبب طعنى بر آنان يا بر كسى كه با او بامامت بيعت كردند، يا بسبب بدعتي در آن كار از امرشان بدر مى ‏رفت او را بسوى آنچه كه از او بدر رفت بر مى ‏گردانيدند و اگر إبا مي كرد با او كار زار مى ‏كردند چه او جز راه مؤمنين را پيروى كرده است و خداوند او را بخودش وا مى ‏گذارد.

(مراد اين است كه برخي به آن حضرت بر قتل عثمان طعن مى‏ زدند، و برخى بدعت نهادند كه معاويه را براى منصب خلافت نصب كردند، و امام عليه السلام در اين نامه تعريضا بمعاويه ارائه مى‏ دهد كه اگر سبيل مؤمنين را اتباع نكند و از اجماع مهاجر و أنصار بر امامت آن بزرگوار روي بر گرداند نخست آن قوم او را بقبول آن أمر و رجوع از خود كامى و خود سرى دعوت كنند، و اگر گردن كشد و ياغى شود با وى بقتال قيام كنند).

هر آينه قسم بزندگانى من اى معاويه! اگر بديده خرد بنگرى نه بهواى نفس أماره‏ات مرا برى ‏ترين مردم از خون عثمان مى ‏يابى، و خواهى دانست كه من از ريختن خونش بر كنار بودم جز اين كه خواهى جنايتى بافترا و بهتان بمن نسبت دهى تا آنرا دست آويز خود گردانى و آنچه را كه بر تو هويدا است بپوشانى.

(اين معنى بنا بر آن وجه است كه تجن مضارع جن باشد كه بسيارى بر آن رفته‏اند اگر چه صحيح اين است تجن امر از تتجنى است، خلاصه بنا بر مضارع‏ بودنش مراد اين كه بر معاويه معلوم بود كه امام عليه السلام از قتل عثمان دفاع ميكرد و مردم را از آن تحذير مى‏فرمود و از ريختن خونش بر كناره بود، جز اين كه مى‏خواست بهانه‏اى در دست گيرد تا بدشمنى و كينه توزى اين امر روشن و أمثال آنرا بپوشاند و انكار كند و حضرتش را بخون عثمان بيالايد).

درود بر آنكه راه حق را پيروى كند.

(و بنا بر نسخه صحيح كه تجن را امر از تتجنى بگيريم معنى چنين است) پس هر چه از افتراء و بهتان كه بخاطرت مى ‏رسد و خواهى بمن نسبت دهى بده «كه گفته‏اند: دروازه شهر را توان بست و دهن مردم را نتوان بست». و در لغت و شرح اين وجه أخير متعين و صحيح دانسته شد.

بدانكه إمام عليه السلام اين نامه را بنا بر عقيده قوم و حسب مقتضي مقام كه مماشات با آنان است تقرير فرمود كه چنانچه خلافت آن سه تن بعقيده قوم به بيعت أهل حل و عقد بود و ديگران آنرا قبول كردند و نقض بيعت نكردند و بدعت در دين ننهادند، مى‏بايستى در باره آن حضرت نيز كه أهل حل و عقد از مهاجر و أنصار بر امامت او گردن نهادند و اتفاق كردند مخالفت ننمايند، و گرنه خلافت بلا فصل آن بزرگوار و امامت حضرتش بنص خدا و رسول ثابت و مبرهن است.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی

نهج البلاغه نامه ها نامه شماره 5 شرح میر حبیب الله خوئی(به قلم علامه حسن زاده آملی )

نامه 5 صبحی صالح

5- و من كتاب له ( عليه‏ السلام  ) إلى أشعث بن قيس عامل أذربيجان‏

وَ إِنَّ عَمَلَكَ لَيْسَ لَكَ بِطُعْمَةٍ وَ لَكِنَّهُ فِي عُنُقِكَ أَمَانَةٌ وَ أَنْتَ مُسْتَرْعًى لِمَنْ فَوْقَكَ

لَيْسَ لَكَ أَنْ تَفْتَاتَ فِي رَعِيَّةٍ وَ لَا تُخَاطِرَ إِلَّا بِوَثِيقَةٍ وَ فِي يَدَيْكَ مَالٌ مِنْ مَالِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ وَ أَنْتَ مِنْ خُزَّانِهِ حَتَّى تُسَلِّمَهُ إِلَيَّ وَ لَعَلِّي أَلَّا أَكُونَ شَرَّ وُلَاتِكَ لَكَ وَ السَّلَامُ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج17  

و من كتاب له عليه السلام الى الاشعث بن قيس و هو عامل آذربيجان، و هو الكتاب الخامس من باب المختار من كتبه و رسائله عليه السلام‏

و إن عملك ليس لك بطعمة، و لكنه في عنقك أمانة، و أنت مسترعى لمن فوقك، ليس لك أن تفتأت في رعية، و لا تخاطر إلا بوثيقة، و في يديك مال من مال الله عز و جل و أنت من خزاني حتى تسلمه إلي، و لعلي أن لا أكون شر ولاتك لك، و السلام‏.

اللغة

(الطعمة) بضم الطاء المهملة المشالة: المأكلة و وجه الكسب و الجمع طعم كصرد على و زان الغرفة و الغرف. (مسترعى) على هيئة المفعول أي من استرعاه آخر فوقه بمعنى أن طلب منه حفظ أمر من الامور و جعله راعيا لذلك الأمر فذلك الاخر مسترع، و منه ما في زيارة الأئمة عليهم السلام: و استرعاكم أمر خلقه، أي جعلكم رعاة و ولاة و حفظة على خلقه و جعلهم رعية لكم تحكمون بهم بما أجزتم و أمرتم، قاله الطريحي‏ في مجمع البحرين.

(تفتات) مضارع افتأت بالفاء و الهمزة من باب الافتعال و أصله فأت و في القاموس: افتأت برأيه استبد، و يصح أن يقرأ تفتات كتحتاج من الافتيات، و أصله الفوت، و الافتيات الاستبداد أي السبق إلى الشي‏ء من دون ايتمار من يؤتمر إليه و يقال بالفارسية: خود سرى كار كردن، و فلان افتات برأيه أي استبد به كافتأت بالهمزة، و فلان لا يفتات عليه أي لا يعمل شي‏ء دون أمره.

(رعية) الرعية: المرعية فعلية بمعنى مفعولة و الجمع رعايا كشظية و شظايا (تخاطر) المخاطرة: الإقدام في الامور العظام و الاشراف فيها على الهلاك يقال: خاطر بنفسه مخاطرة، إذا عرضها للخطر.

(وثيقة) الوثيقة ما يوثق به في الدين فهي فعلية بمعنى المفعول أي موثوق به لأجل الدين، و التاء فيها لنقل اللفظ من الوصفية إلى الإسمية كالحقيقة، و يقال فلان أخذ في أمره بالوثيقة أي احتاط فيه.

(خزاني) الخزان جمع الخازن كطلاب و طالب و هو الذي يتولي حفظ المال المخزون و المدخر. (و لا تك) الولاة جمع الوالي كالقضاة و القاضي و الوالي الولي كما يقال القادر و القدير و هو المتولي للشي‏ء و الفاعل له، قال جواس الكلبي (الحماسة 633):

كنا ولاة طعانها و ضرابها حتى تجلت عنكم غماها

الاعراب‏

لك متعلق بالطعمة و كذلك في عنقك بالأمانة قدما توسعا للظروف، و الباء في طعمة زائدة في خبر ليس للتأكيد. جملة أن تفتأت في رعية مأولة بالمصدر المرفوع حتى يكون اسم ليس. و جملة و لا تخاطر إلا بوثيقة معطوفة عليها. و الظاهر أن كلمة حتى بمعنى إلى أن كما أنها بهذا المعنى في البيت المقدم آنفا. و جملة أن لا أكون- إلى قوله- و السلام، مأولة بالمصدر المرفوع خبر لعل. و السلام مبتداء و خبره محذوف، و التقدير و السلام على من اتبع الهدى، أو و السلام لأهله‏ بقرينة كتبه الاتية.

المعنى‏

هذا الكتاب جزء من كتاب‏ كتبه‏ إلى الأشعث بن قيس‏ بعد انقضاء الجمل و الكتاب بتمامه مذكور مسندا في كتاب صفين لنصر بن مزاحم المنقري الكوفي (ص 13 من الطبع الناصري 1301 ه) كما سنتلوه عليك.

قال نصر في أول كتاب صفين: قال عمر بن سعد بن أبي الصيد الأسدي، عن الحارث بن حصيرة، عن عبد الرحمن بن عبيد بن أبي الكنود و غيره قالوا: لما قدم علي عليه السلام من البصرة إلى الكوفة يوم الاثنين لثنتي عشرة ليلة مضت من رجب سنة ثلاث و ستين‏[1] و قد أعز الله نصره و أظهره على عدوه و معه أشراف الناس من أهل البصرة و غيرهم استقبله أهل الكوفة و فيهم قراؤهم و أشرافهم، فدعوا له بالبركة و قالوا: يا أمير المؤمنين أين تنزل؟ أ ننزل القصر؟ فقال: لا، و لكني أنزل الرحبة، فنزلها و أفبل حتى دخل المسجد الأعظم فصلى فيه ركعتين ثم صعد المنبر.

أول خطبة خطبها امير المؤمنين فى الكوفة لما قدم من البصرة اليها و قد أظهره الله على أعدائه الناكثين‏ فحمد الله و أثنى عليه و صلى على رسوله و قال: أما بعد يا أهل الكوفة فإن لكم في الاسلام فضلا ما لم تبدلوا و تغيروا، دعوتكم إلى الحق فأجبتم، و بدأتم بالمنكر فغيرتم، ألا إن فضلكم فيما بينكم و بين الله في الأحكام و القسم، فأنتم أسوة من أجابكم، و دخل فيما دخلتم فيه، ألا إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى و طول الأمل‏، فأما اتباع الهوى‏ فيصد عن الحق، و أما طول الأمل‏ فينسي الاخرة، ألا إن الدنيا قد ترحلت مدبرة، و الاخرة قد ترحلت مقبلة، و لكل‏ واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الاخرة، اليوم عمل و لا حساب، و غدا حساب و لا عمل‏، الحمد لله الذي نصر وليه و خذل عدوه، و أعز الصادق المحق، و أذل‏ الناكث المبطل.

عليكم بتقوى الله و طاعة من أطاع الله من أهل بيت نبيكم الذين هم أولى بطاعتكم فيما أطاعوا الله فيه من المنتحلين المدعين المقابلين إلينا، يتفضلون بفضلنا و يجاحدونا أمرنا، و ينازعونا حقنا، و يدافعونا عنه، فقد ذاقوا و بال ما اجترحوا فسوف يلقون غيا، ألا إنه قد قعد عن نصرتي منكم رجال فأنا عليهم عاتب زار فاهجروهم، و أسمعوهم ما يكرهون حتى يعتبوا ليعرف بذلك حزب الله عند الفرقة.

أقول: قد أتى الرضي ببعض هذه الخطبة في النهج و هي الخطبة الثانية و الأربعين من باب الخطب أولها: أيها الناس إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى و طول الأمل‏- إلخ، و بين النسختين اختلاف في الجملة.

فقام إليه مالك بن حبيب اليربوعي و كان صاحب شرطته، فقال: و الله إني لأرى الهجر و سماع المكروه لهم قليلا، و الله لئن أمرتنا لنقتلنهم، فقال علي:

سبحان الله يا مال، جزت المدى، و عدوت الحد، و أغرقت في النزع، فقال: يا أمير المؤمنين:

لبعض الغشم أبلغ في امور تنوبك من مهادنة الأعادي‏

فقال علي عليه السلام: ليس هكذا قضى الله، يا مال قتل النفس بالنفس فما بال الغشم، و قال: «و من قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا» و الإسراف في القتل أن تقتل غير قاتلك فقد نهى الله عنه و ذلك هو الغشم.فقام إليه أبو بردة بن عوف الأزدي و كان ممن تخلف عنه فقال: يا أمير المؤمنين أرأيت القتلى حول عائشة و الزبير و طلحة بم قتلوا؟.

قال علي عليه السلام: قتلوا شيعتي و عما لي و قتلوا أخا ربيعة العبدي رحمة الله عليه في عصابة من المسلمين قالوا: لا ننكث كما نكثتم، و لا نغدر كما غدرتم فوثبوا عليهم فقتلوهم فسألتهم أن يدفعوا إلي قتلة إخواني أقتلهم بهم ثم كتاب الله حكم بيني و بينهم فأبوا علي فقاتلوني و في أعناقهم بيعتي و دماء قريب من ألف رجل من شيعتي فقتلتهم بهم أفي شك أنت من ذلك؟

قال: قد كنت في شك فأما الان فقد عرفت و استبان لي خطؤ القوم و أنك أنت المهدي المصيب، و كان أشياخ الحي يذكرون أنه كان عثمانيا، و قد شهد مع علي على ذلك صفين لكنه بعد ما رجع كان يكاتب معاوية، فلما ظهر معاوية أقطعه قطيعة بالفلوجة و كان عليه كريما.ثم إن عليا عليه السلام تهيأ لينزل و قام رجال ليتكلموا، فلما رأوه نزل جلسوا و سكتوا.

نصر: أبو عبد الله سيف بن عمر، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباتة أن عليا لما دخل الكوفة قيل له: أي القصرين ننزلك؟ قال: قصر الخبال لا تنزلونيه فنزل على جعدة بن هبيرة المخزومي.

أقول: الخبال على وزن السحاب: الفساد و النقصان و أراد منه قصر دار الامارة و كانه عليه السلام سماه به لما وقع فيه قبله من امراء الجور و عمال أهل النفاق و الشقاق من الهلكة و الفساد و النقصان. و جعدة بن هبيرة كان ابن اخته عليه السلام أمه أم هاني بنت أبي طالب كانت تحت هبيرة بن أبي وهب المخزومي و قد قدمنا الكلام فيه في شرح الخطبة 231 (ص 34 ج 15) فراجع.

نصر: عن الفيض بن محمد، عن عون بن عبد الله بن عتبة قال: لما قدم علي عليه السلام الكوفة نزل على باب المسجد فدخل و صلى ثم تحول فجلس إليه الناس فسأل عن رجل من أصحابه كان ينزل الكوفة؟ فقال قائل: استأثر الله به. فقال عليه السلام:

إن الله لا يستأثر بأحد من خلقه إنما أراد الله بالموت إعراز نفسه و إذلال خلقه و قرأ «و كنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم». قال: فلما لحق النقل قالوا: أي القصرين تنزل؟ فقال عليه السلام: قصر الخبال لا تنزلونيه.

نصر: عن سيف قال: حدثني اسماعيل بن أبي عميرة، عن عبد الرحمن بن عبيد ابن أبي الكنود أن سليمان بن صرد الخزاعي دخل على علي بن أبي طالب عليه السلام بعد رجعته من البصرة فعاتبه و عذله و قال له: ارتبت و تربصت و راوغت، و قد كنت من أوثق الناس في نفسى، و أسرعهم فيما أظن إلى نصرتي، فما قعد بك عن أهل بيت‏ نبيك و ما زهدك في نصرهم؟.

فقال: يا أمير المؤمنين لا تردن الامور على أعقابها، و لا تؤنبني بما مضى منها، و استبق مودتي يخلص لك نصيحتي و قد بقيت امور تعرف فيها وليك من عدوك، فسكت عنه، و جلس سليمان قليلا ثم نهض فخرج إلى الحسن بن علي عليه السلام و هو قاعد في المسجد فقال: ألا اعجبك من أمير المؤمنين و ما لقيت منه من التبكيت و التوبيخ؟ فقال الحسن عليه السلام: إنما يعاتب من ترجى مودته و نصيحته، فقال: إنه بقيت امور سيستوسق فيها القنا، و ينتضى فيها السيوف و يحتاج فيها إلى أشباهي، فلا تستبشعوا غيبتي، و لا تتهموا نصيحتي. فقال له الحسن عليه السلام: رحمك الله ما أنت عندنا بالظنين.

نصر: عن عمر يعني ابن سعد عن نمير بن وعلة، عن الشعبي، أن سعيد بن قيس دخل على علي بن أبي طالب عليه السلام فسلم عليه فقال له علي عليه السلام: و عليك، و إن كنت من المتربصين، فقال: حاش لله يا أمير المؤمنين لست من اولئك قال: فعل الله ذلك.

نصر: عن عمر بن سعد عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن مخنف قال: دخلت مع أبي على علي عليه السلام حين قدم من البصرة و هو عام بلغت الحلم، فاذا بين يديه رجال يؤنبهم و يقول لهم: ما بطأ بكم عني و أنتم أشراف قومكم؟ و الله لئن كان من ضعف النية و تقصير البصيرة إنكم لبور، و الله لئن كان من شك في فضلي و مظاهرة علي إنكم لعدو.

قالوا: حاش لله يا أمير المؤمنين نحن سلمك و حرب عدوك. ثم اعتذر القوم فمنهم من ذكر عذره، و منهم اعتل بمرض، و منهم من ذكر غيبته فنظرت إليهم فعرفتهم فإذا عبد الله بن المعتم العبسي، و إذا حنظلة بن الربيع التميمي، و كلاهما كانت له صحبة، و إذا أبو بردة بن عوف الأزدي، و إذا غريب بن شرحبيل الهمداني قال: و نظر علي عليه السلام إلى أبي فقال: لكن مخنف بن سليم و قومه لم يتخلفوا و لم يكن مثلهم مثل القوم الذين قال الله تعالى‏ و إن منكم لمن ليبطئن فإن‏ أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا و لئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم و بينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما (النساء- 74) ثم إن عليا عليه السلام مكث بالكوفة.

أقول: كل ما ذكرنا و نقلنا من كلماته عليه السلام عن كتاب صفين بعد الخطبة المذكورة آنفا ما ذكرت في النهج مع أنها من محاسن كلامه عليه السلام سيما قوله عليه السلام لسليمان بن صرد الخزاعي: ارتبت و تربصت- الى قوله- و ما زهدك في نصرهم و لعل الرضي رضوان الله عليه لم يظفر بها. و الله العالم.

خطبته عليه السلام فى الجمعة بالكوفة و الاشارة الى مسألة فقهية فى المقام‏

نصر: عن أبي عبد الله سيف بن عمر، عن الوليد بن عبد الله، عن أبي طيبة، عن أبيه قال: أتم علي عليه السلام الصلاة يوم دخل الكوفة فلما كانت الجمعة و حضرت الصلاة صلى بهم و خطب خطبة.

نصر: قال أبو عبد الله عن سليمان بن المغيرة، عن علي بن الحسين خطبة علي ابن أبي طالب في الجمعة بالكوفة و المدينة أن: الحمد لله أحمده و أستعينه و أستهديه و أعوذ بالله من الضلالة، من يهدي الله فلا مضل له، و من يضلل فلا هادي له، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، و أن محمدا صلى الله عليه و آله عبده و رسوله انتجبه لأمره و اختصه بالنبوة، أكرم خلقه عليه، و أحبهم إليه، فبلغ رسالة ربه، و نصح لأمته و أدى الذي عليه.

و اوصيكم بتقوى الله فإن تقوى الله خير ما تواصى به عباد الله و أقربه لرضوان الله و خيره في عواقب الامور عند الله، و بتقوى الله امرتم، و للإحسان و الطاعة خلقتم، فاحذروا من الله ما حذركم من نفسه، فإنه حذر بأسا شديدا، و اخشوا الله خشية ليست بتعذير، و اعملوا في غير رياء و لا سمعة، فإنه من عمل لغير الله و كله الله إلى ما عمل له، و من عمل لله مخلصا تولى الله أجره، و أشفقوا من عذاب الله فانه لم يخلقكم عبثا، و لم يترك شيئا من أمركم سدى، قد سمى آثاركم‏ و علم أعمالكم، و كتب آجالكم، فلا تغتروا بالدنيا فإنها غرارة بأهلها، مغرور من اغتر بها، و إلى فناء ما هي، إن الاخرة هي دار الحيوان لو كانوا يعلمون أسأل الله منازل الشهداء، و مرافقة الأنبياء، و معيشة السعداء، فانما نحن له و به.

أقول: ذكر بعض هذه الخطبة و هو قوله عليه السلام: و اخشوه خشية ليست بتعذير و اعملوا في غير رياء و لا سمعة فإنه من عمل لغير الله و كله الله إلى ما عمل له نسأل الله منازل الشهداء و معايشة السعداء و مرافقة الأنبياء، في النهج في ضمن الخطبة 23 أولها: أما بعد فان الأمر ينزل من السماء إلى الأرض- إلخ، إلا أن في النهج ذكر مكان و كله إلى ما عمل له: يكله الله إلى من عمل له.

و كذا ذكر بعضها و هو قوله عليه السلام: فانه لم يخلقكم عبثا، و لم يترك شيئا من أمر كم سدى، قد سمى آثاركم، و علم أعمالكم، و كتب آجالكم‏، في ضمن الخطبة 84 أولها: قد علم السرائر و خبر الضمائر- إلخ.

و لكن الخطبة المذكورة بتمامها على تلك الهيئة ليست بمذكورة في النهج و شر ذمة من صدرها مذكورة في خطبة يوم الجمعة المروية في الكافي عن أبي جعفر عليه السلام.

ثم اعلم أنه يجب في صلاة الجمعة الخطبتان قبل الصلاة، لأن الخطبة شرط في صحة الجمعة، و روى محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: ليس تكون جمعة إلا بخطبة.

و صورة الخطبتين جاءت في الجوامع على أنحاء، ففي الكافي روى عن أبي جعفر عليه السلام على صورة ثم عن أمير المؤمنين علي عليه السلام على صورة اخرى، و في الفقيه روى عنه عليه السلام أيضا على صورة اخرى غير ما في الكافي، و ذكر كل واحد منها في الوسائل للعاملي و كذا في الوافي من ص 170 الى 174 من المجلد الخامس فلا حاجة إلى نقلها ههنا.

ثم إنها تغاير الخطبة المنقولة من نصر في صفين و لم يعلم من نصر أنها الخطبة الاولي أو الثانية، و لكن ما يناسب أحكام الجمعة و ساير الروايات أن تكون‏ هي للاولى و الثانية كليهما، و ذلك لأن جمع الروايات يدل على أنهما شاملتين على حمد الله تعالى و الثناء عليه و الصلاة على النبي صلى الله عليه و آله و قراءة شي‏ء من القرآن سواء كانت سورة خفيفة أو آية تامة الفائدة، و وعظ الناس، و الخطبة المذكورة حائزة لها. و إن كان الأوفق بالاحتياط في الاولى أن يحمد الله و يثنى عليه و يوصى بتقوى الله و يقرأ سورة من القرآن قصيرة، و في الثانية بعد الحمد و الثناء أن يصلى على محمد و أئمة المسلمين و يستغفر للمؤمنين، و البحث عنها على التفصيل موكول إلى الفقه أعرضنا عنه خوفا من الإطناب و الخروج عن موضوع الكتاب.

صورة كتابه بتمامه الى الاشعث بن قيس نقلا مسندا عن نصر فى صفين‏

قال نصر: ثم إن عليا عليه السلام أقام بالكوفة و استعمل العمال و بعث إلى الأشعث بن قيس الكندي.

نصر: محمد بن عبيد الله عن الجرجاني قال: لما بويع علي عليه السلام و كتب إلى العمال كتب إلى الأشعث بن قيس مع زياد بن مرحب الهمداني و الأشعث على آذربيجان عامل لعثمان و قد كان عمرو بن عثمان تزوج ابنة الأشعث بن قيس قبل ذلك فكتب إليه علي عليه السلام:

بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى الأشعث بن قيس أما بعد فلو لا هنات كن فيك كنت المقدم في هذا الأمر قبل الناس، و لعل أمرك يحمل بعضه بعضا إن اتقيت الله، ثم إنه كان من بيعة الناس إياي ما قد بلغك، و كان طلحة و الزبير ممن بايعاني ثم نقضا بيعتي على غير حدث، و أخرجا أم المؤمنين و سارا إلى البصرة فسرت إليهما فالتقينا فدعوتهم إلى أن يرجعوا فيما خرجوا منه فأبوا، فأبلغت في الدعاء و أحسنت في البقية، و إن عملك ليس لك بطعمة، و لكنه أمانة و في يديك مال من مال الله و أنت من خزان الله عليه حتى تسلمه إلي و لعلي أن لا أكون شر و لا تك لك إن استقمت، و لا قوة إلا بالله.

أقول: و قد روى الكتاب الشارح البحراني عن الشعبي و بينهما و بين ما في النهج اختلاف في بعض الكلمات و الجمل في الجملة.

فما نقل عن الشعبي: أما بعد فلو لا هنات كن منك كنت المقدم في هذا الأمر قبل الناس، و لعل آخر أمرك يحمد أوله و بعضه بعضا إن اتقيت الله، إنه قد كان من بيعة الناس إياي ما قد بلغك، و كان طلحة و الزبير أول من بايعني ثم نقضا بيعتي عن غير حدث، و أخرجا عايشة فساروا بها إلى البصرة فصرت اليهم في المهاجرين و الأنصار، فالتقينا فدعوتهم إلى أن يرجعوا إلى ما خرجوا منه فأبوا فأبلغت في الدعاء و أحسنت في البقية، و اعلم أن عملك- إلى آخر الفصل على ما في النهج، و كتب عبد الله بن أبي رافع في شعبان سنة ست و ثلاثين.

قال نصر: فلما قرأ الأشعث الكتاب قام زياد بن مرحب فحمد الله و أثنى عليه ثم قال: أيها الناس إنه من لم يكفه القليل لم يكفه الكثير، إن أمر عثمان لا ينفع فيه العيان و لا يشفي منه الخبر، غير أن من سمع به ليس كمن عاينه، إن الناس بايعوا عليا عليه السلام راضين به، و إن طلحة و الزبير نقضا بيعته على غير حدث ثم أذنا بحرب، فأخرجا أم المؤمنين فسار إليهما فلم يقاتلهم و في نفسه منهم حاجة فأورثه الله الأرض و جعل له عاقبة المتقين.

قال: ثم قام الأشعث بن قيس فحمد الله و أثنى عليه ثم قال: أيها الناس إن أمير المؤمنين عثمان و لاني آذربيجان فهلك و هي في يدي، و قد بايع الناس عليا و طاعتنا له كطاعة من كان قبله، و قد كان من أمره و أمر طلحة و الزبير ما قد بلغكم، و علي المأمون على ما غاب عنا و عنكم من ذلك الأمر.

فلما أتى منزله دعا أصحابه فقال: إن كتاب علي قد أوحشني و هو آخذ بمال آذربيجان و أنا لا حق بمعاوية، فقال القوم: الموت خير لك من ذلك أتدع مصرك و جماعة قومك و تكون ذنبا لأهل الشام؟ فاستحيى فسار حتى قدم على علي عليه السلام و روي أن قوله هذا و توبيخ الناس إياه على ذلك بلغ أهل الكوفة فكتب أمير المؤمنين علي عليه السلام إليه كتابا يوبخه و يأمره بالقدوم عليه، و بعث به حجر بن عدي الكندي، فلامه حجر على ذلك و ناشده الله و قال له: أتدع قومك و أهل مصرك و أمير المؤمنين عليه السلام و تلحق بأهل الشام؟ و لم يزل به حتى أقدمه إلى الكوفة فعرض علي عليه السلام ثقلته فوجد فيها مائة ألف درهم و روي أربعمائة ألف فأخذها و كان ذلك بالنخيلة، فاستشفع الأشعث بالحسن و الحسين عليهما السلام و بعبد الله بن جعفر فأطلق له منها ثلاثين ألفا، فقال: لا تكفيني، فقال: لست بزائدك درهما واحدا و أيم الله لو تركتها لكان خيرا مما لك و ما أظنها تحل لك و لو تيقنت ذلك لما بلغتها عندي فقال الأشعث: خذ من خدعك ما أعطاك. فقال السكوني و قد خاب أن يلحق بمعاوية:

إني اعيذك بالذي هو مالك‏ بمعاذة الاباء و الأجداد
مما يظن بك الرجال و إنما ساموك خطة معشر أو غاد
إن آذربيجان التي مزقتها ليست لجدك فاشنها ببلاد
كانت بلاد خليفة ولاكها و قضاء ربك رائح أو غاد
فدع البلاد فليس فيها مطمع‏ ضربت عليك الأرض بالأسداد
فادفع بما لك دون نفسك إننا فادوك بالأموال و الأولاد
أنت الذي تثنى الخناصر دونه‏ و بكبش كندة يستهل الوادي‏
و معصب بالتاج مفرق رأسه‏ ملك لعمرك راسخ الأوتاد
و أطع زيادا إنه لك ناصح‏ لا شك في قول النصيح زياد
و انظر عليا إنه لك جنة يرشد و يهديك للسعادة هاد

قال نصر: و مما قيل على لسان الأشعث:

أتانا الرسول رسول علي‏ فسر بمقدمه المسلمونا
رسول الوصي وصي النبي‏ له الفضل و السبق في المؤمنينا
بما نصح الله و المصطفى‏ رسول الإله النبي الأمينا
يجاهد في الله لا ينثني‏ جميع الطغاة مع الجاحدينا
وزير النبي و ذو صهره‏ و سيف المنية في الظالمينا
و كم بطل ماجد قد أذا ق منية حتف من الكافرينا
و كم فارس كان سال النزال‏ فاب إلى النار في الائبينا
فذاك علي إمام الهدى‏ و غيث البرية و المفخمينا
و كان إذا ما دعي للنزال‏ كليث عرين بن ليث العرينا
أجاب السؤال بنصح و نصر و خالص ود على العالمينا
فما زال ذلك من شأنه‏ ففاز و ربي مع الفائزينا

قال: و مما قيل على لسان الأشعث أيضا:

أتانا الرسول رسول الوصي‏ علي المهذب من هاشم‏
رسول الوصي وصي النبي‏ و خير البرية من قائم‏
وزير النبي و دو صهره‏ و خير البرية في العالم‏
له الفضل و السبق بالصالحات‏ لهدي النبي به يأتم‏
محمدا أعني رسول الاله‏ و غيث البرية و الخاتم‏
أجبنا عليا بفضل له‏ و طاعة نصح له دائم‏
فقيه حليم له صولة كليث عرين بها سائم‏
حليم عفيف و ذو نجدة بعيد من الغدر و المأثم‏

تذكرة: قد تقدم منا الكلام في الذين وصفوا عليا عليه السلام و عرفوه بأنه وصي رسول الله من كبار الصحابة و غيرهم في صدر الإسلام فراجع إلى ص 19 من المجلد الأول من تكملة المنهاج. و قد مضى في باب الخطب قوله عليه السلام للأشعث:ما يدريك ما علي مما لي عليك لعنة الله- إلخ (الكلام 19 من باب الخطب).

و كان الأشعث في خلافة أمير المؤمنين عليه السلام من المنافقين المعاندين و هو كما قال الشارح المعتزلي: كان في أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام كما كان عبد الله بن أبي سلول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله و قال: كل فساد كان في خلافة أمير المؤمنين و كل اضطراب حدث فأصله الأشعث و كان الأشعث خائفا من أمير المؤمنين عليه السلام و جازما بأنه عليه السلام لا يبقيه في عمله، و ذلك لهنات كن منه كما عرضها عليه السلام عليه فهو في الحقيقة كان خائفا من أعماله السيئة و كان قد استوحش من كلامه عليه السلام له: فلو لا هنات كن منك، حيث علم أن الأمير كان عارفا بها حتى دعا من الدهشة أصحابه فقال: أنا لا حق بمعاوية.

ثم الظاهر المستفاد من كلامه عليه السلام له: فلو لا هنات كن فيك «أو- منك» كنت المقدم في هذا الأمر أن أمير المؤمنين عزله عن آذربيجان بذلك الكتاب، و مما يظاهره قول المؤرخ الخبير المسعودي في كتابه مروج الذهب حيث قال (ص 15 ج 2 طبع مصر 1346 ه): و سار [علي عليه السلام بعد انقضاء الجمل‏] إلى الكوفة فكان دخوله إليها لاثنتي عشرة ليلة مضت من رجب، و بعث إلى الأشعث بن قيس يعزله عن آذربيجان و ارمينية و كان عاملا لعثمان، فكان في نفس الأشعث على ما ذكرنا من العزل و ما خاطبه به حين قدم عليه فيما اقتطع هنالك الأموال، انتهى:و مما يؤيده أيضا ما روينا عن نصر و غيره من إرادته اللحوق بمعاوية و ما جرى بينه و بين علي عليه السلام فتأمل.

في الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الأشعث بن قيس شرك في دم أمير المؤمنين عليه السلام، و ابنته جعدة سمت الحسن عليه السلام، و محمد ابنه شرك في دم الحسين عليه السلام.

و روى أبو الفرج أن الأشعث دخل على علي عليه السلام فكلمه فأغلظ علي عليه السلام له فعرض له الأشعث أنه سيفتك به، فقال علي عليه السلام: أبا لموت تخوفني أو تهددني فو الله ما ابالي وقعت على الموت أو وقع الموت علي.

قوله عليه السلام‏ (و إن عملك ليس لك بطعمة و لكنه في عنقك أمانة) ظاهر كلامه عليه السلام تنبى‏ء أن‏ الأشعث‏ اتخذ مال الله مأكلته و لم يكن أمينا عليه فنبهه على أنه‏ ليس له بطعمة أي ما جعلتك عاملا أن تدخر أموال المسلمين لنفسك و تأكل ما جنى يداك منها، بل هي‏ أمانة بيده بل ألزمها في عنقه تشديدا عليه و تنبيها له على أنها تعلقت بذمته و تكون أو زارا عليه، و ذلك لأنه كان عاملا من قبل غيره و مسترعى لمن فوقه، و كان مال المسلمين أمانة بيده فما سوغ له الشرع التصرف في بيت مال المسلمين.

قوله عليه السلام‏ (و أنت مسترعى‏- إلى قوله: بوثيقة) يعني أنت‏ رعية من هو فوقك و أميرك جعلك راعيا للناس و عاملا لهم و أمينا و حافظا على أموالهم و أملاكهم و غيرها مما جعل ولايتها بيدك فلا يجوز لك أن تسبق إلى امور الرعية من غير أن تستأذن من استرعاك و تستأمر من ائتمنك، و كذا لا يسوغ لك أن تقدم في الامور الخطيرة مما يتعلق بالمال و غيره من غير احتياط تام و وثيقة، أي من غير أن يكون للمسلمين وثوق و اعتماد في صحة ذلك العمل و عدم الإضرار بالرعية، و بالجملة لا ينبغي لك أن تقدم فيما لا يثق المسلمون ببا و لا يعتمدون عليها مما هي خلاف العقل و الشرع و العرف.

قوله عليه السلام‏ (و في يديك‏- إلى قوله: تسلمه) لعل تثنية اليد إشارة إلى تسلطه التام على الأموال حيث كان عاملا و واليا، و إنما قال: مال من‏ أموال‏ الله‏ تشديدا عليه بالحفظ و الحراسة و ترعيبا له بالمخالفة حتى لا يخون الله تعالى في ماله بأن الزكاة و الخمس‏ من مال الله‏ الذي أفاه على عباده قال تعالى‏ و اعلموا أنما غنمتم من شي‏ء فأن لله خمسه و للرسول‏ الاية، ثم قال له: و أنت من خزاني أي لا يجوز لك التصرف فيما في الخزينة إلا بإذني و يجب عليك حفظه و رعايته إلى أن تسلمها إلي.

قوله عليه السلام‏ (و لعلي أن لا أكون‏- إلخ) لما كان كلامه المصدر أولا تشديدا و مؤاخذة عليه و موجبا للوحشة و الاضطراب فانه كان يدل على أنه عليه السلام لم يره أمينا على ما ولى عليه أتى بلفظة لعل المفيد للترجي حتى يسكن جاشه و يطمعه إلى عدم المؤاخذة و التشديد لئلا يفر إلى العدو و يجعله خائفا راجيا فلا يخفى لطفه على أن الرجاء بعد الخوف ألذ في النفوس و أوقع في القلوب.

و مع ذلك كله أعلمه بأنه لو تجاوز عن الحق و خالف الدين يكون هو عليه السلام شر ولاته له، أي يجازيه بما فعل و يؤاخذ عليه بذنبه. و كلامه هذا تعريض لسائر الولاة و العمال أيضا إنهم لو عدلوا عن الحق و جعلوا أموال الناس طعمة لهم كان هو عليه السلام شر ولاة لهم أي يكافأهم على ما كان منهم، و يجازيهم به‏

الترجمة

اين كتابيست كه أمير المؤمنين عليه السلام بأشعث بن قيس نگاشت.

(أشعث از جانب عثمان عامل آذربايجان بود و أموال بسيار در دست او بود چون أمير المؤمنين عليه السلام بمسند خلافت نشست و بعد از فتح بصره بكوفه آمد اين نامه را بوي نوشت و او را تنبيه فرمود بحفظ آن، چون نامه باو رسيد سخت مستوحش و مضطرب شد و ياران خود را طلبيد، و با آنان در اين موضوع سخن بميان آورد كه نامه على عليه السلام مرا بوحشت انداخت و او از من تمامى أموالي كه از آذربايجان بدست آورده ‏ام خواهد ستاند، از اين روى بمعاويه پناه مى ‏برم كه علي عليه السلام نتواند اين أموال را از من أخذ كند، آنان گفتند بهتر آنست كه در نزد مرتضى روي و از انديشه خود سر باز زني، و در روايتي آمده كه حجر بن عدي الكندي كه فرستاده حضرت بسوى أشعث بود وى را باندرز و نرمى بكوفه آورد على عليه السلام أموال او را تفتيش كرد، چهار صد هزار درهم يافته همه آنرا اخذ كرد أشعث حسنين عليهما السلام و عبد الله بن جعفر را شفيع خود گرفت كه امام پولها را بأورد كند، امام سى هزار درهم را بأو رد كرده و هر چه الحاح و ابرام در رد بقيه نمود امام فرمود كه بيش از اين يك درم رد نخواهم كرد كه بر خلاف است. و أشعث مردي منافق بود و أكثر مصائب و شدائدى كه به امام على عليه السلام روي آورد أشعث اصل آن فتنه ‏ها و ام الفساد بود).

أي أشعث عملت طعمه تو نيست (يعني تو را عامل آن ديار نگردانيدم كه هر چه از مال مسلمين بدست تو آيد بخوري و براي خود اندوخته كنى) و لكن آن در گردن تو أمانت است كه بايد طريق ديانت را در آن رعايت كنى. كسى كه أمير و بزرگ تو است تو را حافظ و والى امور مردم كرده، لذا نشايدت كه در كار رعيت بى اذن أميرت خود سري پا پيش نهى و در كارهاى بزرگ اقدام كنى مگر اين كه مورد اعتماد و وثوق مسلمانان باشد، و در دستهاى تو مالي از مالهاى خداوند ارجمند و بزرگوار است و تو يكى از خزينه داران منى كه بايد در حفاظت آن بكوشى تا آنرا تسليم من كنى و شايد كه من بدترين واليان تو نباشم. والسلام‏

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی

____________________________________________________________

[1] ( 1)- كذا في الاصل لكن الظاهر« سنة ست و ثلاثين المصحح».

نهج البلاغه نامه ها نامه شماره 4 شرح میر حبیب الله خوئی(به قلم علامه حسن زاده آملی )

نامه 4 صبحی صالح

4- و من كتاب له ( عليه ‏السلام  ) إلى بعض أمراء جيشه‏

فَإِنْ عَادُوا إِلَى ظِلِّ الطَّاعَةِ فَذَاكَ الَّذِي نُحِبُّ وَ إِنْ تَوَافَتِ الْأُمُورُ بِالْقَوْمِ إِلَى الشِّقَاقِ وَ الْعِصْيَانِ فَانْهَدْ بِمَنْ أَطَاعَكَ إِلَى مَنْ عَصَاكَ وَ اسْتَغْنِ بِمَنِ انْقَادَ مَعَكَ عَمَّنْ تَقَاعَسَ عَنْكَ

فَإِنَّ الْمُتَكَارِهَ مَغِيبُهُ خَيْرٌ مِنْ مَشْهَدِهِ وَ قُعُودُهُ أَغْنَى مِنْ نُهُوضِهِ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج17  

و من كتاب له عليه السلام الى بعض امراء جيشه و هو الكتاب الرابع من باب المختار من كتبه عليه السلام و رسائله:

فإن عادوا إلى ظل الطاعة فذاك الذي نحب، و إن توافت الامور بالقوم إلى الشقاق و العصيان فانهد بمن أطاعك إلى من عصاك، و استغن بمن انقاد معك عمن تقاعس عنك، فإن المتكاره مغيبه خير من مشهده (شهوده- خ ل) و قعوده أغنى من نهوضه‏.

اللغة

(توافت الامور) أى تتامت، (الشقاق) بالكسر: المخالفة و العداوة (انهد) أي انهض أمر من نهد إلى العدو من بابي منع و نصر أي قصد لهم و أسرع في قتالهم و نهض إليهم، و المناهدة المناهضة في الحرب يقال: نهد لعدوه و إليه نهودا و نهدا بالفتح و التحريك اذا صمد لهم. و (استغن) بالغين المعجمة أمر من الاستغناء و في كثير من النسخ جعل بالمهملة من الاستعانة و كذا مال غير واحد من المفسرين و المترجمين إلى المهملة لكنه مذهب مهمل و طريقة عمياء كما سيتضح لك وجهه في تقرير الإعراب و تحرير المعنى إنشاء الله تعالى.

(تقاعس عنك) أي أبطأ و تأخر عنك و تكاره القتال (المتكاره): المتسخط من تكارهه إذا تسخطه و لم يرض به يقال: فعله على تكاره و متكارها. و (المغيب) و (المشهد) مصدران كالغيبة و الشهود.

الاعراب‏

(الفاء) في قوله عليه السلام: فذاك رابطة للجواب، لأن جواب الشرط أعني ذاك الذي يحب جملة اسمية فهي من المواضع الستة التي لا تصلح لأن تكون شرطا فيجب دخول الفاء فيها نحو قوله تعالى: و إن يمسسك بخير فهو على كل شي‏ء قدير. و كذا الفاء في قوله: فانهد، لأن الفعل هنا إنشائي فهذه الجملة من تلك المواضع أيضا نحو قوله تعالى: إن كنتم تحبون الله فاتبعوني‏.

(بمن أطاعك) الباء صلة لقوله: فانهد إما بمعنى المصاحبة و المعية. أو الاستعانة.

(إلى من عصاك) صلة لقوله فانهد أيضا لا أطاعك لما علم في اللغة أنه يقال نهد لعدوه و إليه. (عمن تقاعس) متعلق بقوله استغن أيضا و لا يصح استعمال عن مع الاستعانة.

(فان المتكاره) الفاء في مقام التعليل لقوله عليه السلام: استغن، فهي فصيحة تنبى‏ء عن محذوف يدل عليه ما قبله، و كأن الجملة جواب عن سؤال مقدر، و التقدير:و ما علة الاستغناء بمن انقاد عمن تقاعس؟ فأجاب بقوله: لأن المتكاره- إلخ.

و جملة (مغيبه خير من مشهده) خبر لاسم إن أعني المتكاره. و جملة (قعوده أغنى من نهوضه) معطوفة على الاولى.

المعنى‏

هذا الكلام هو جزء من كتاب له عليه السلام‏ كما هو من دأب الشريف الرضي رضوان الله عليه من اختيار محاسن كلامه و البليغ منه و رفض ما عداه كما نبهنا به غير مرة في شروحنا السالفة، و هذا هو الظاهر من قوله: فان عادوا إلى ظل الطاعة، إلخ و هذا لامرية فيه إلا أنا لم نظفر به في الكتب الموجودة عندنا بعد، و لكن قال الشارح البحراني و المولى فتح الله القاساني: روي أن الأمير الذي كتب إليه هو عثمان بن حنيف عامله على البصرة، و ذلك حين انتهت أصحاب الجمل إليها و عزموا على الحرب، فكتب عثمان إليه عليه السلام يخبره بحالهم، فكتب عليه السلام إليه كتابا فيه الفصل المذكور.

قوله عليه السلام‏ (فإن عادوا إلى ظل الطاعة فذاك الذي نحب) الضمير في‏ عادوا يرجع إلى ناكثي بيعته عليه السلام أعني طلحة و الزبير و أتباعهما، و قد قدمنا في مباحثنا السالفة أنه لما تم أمر البيعة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام و أيس طلحة و الزبير مما كانا يرجوان به من قتل عثمان بن عفان من البيعة لأحدهما بالإمامة نقضوا العهد و نكثوا البيعة و خرجوا إلى مكة و اجتمعوا فيه و رأوا في ذلك أمرهم فتحقق عزمهم على المسير إلى البصرة، و سارت معهم عائشة بخدعتهم و مكرهم، حيث بعث طلحة و الزبير في مكة إلى عائشة عبد الله بن الزبير و قالا له: امض إلى خالتك فاهد إليها السلام منا و قل لها: إن طلحة و الزبير يقرءانك السلام و يقولان لك:

إن أمير المؤمنين عثمان قتل مظلوما و أن علي بن أبي طالب ابتز الناس أمرهم و غلبهم عليه بالسفهاء الذين تولوا قتل عثمان و نحن نخاف انتشار الأمر به فان رأيت أن تسيري معنا لعل الله يرتق بك فتق هذه الامة، و يشعب بك صدعهم، و يلم بك شعثهم، و يصلح بك امورهم.

فأتاها عبد الله فبلغها ما أرسلاه به فأظهرت الامتناع أولا ثم أجابتهما غداإلى الخروج.

فلما انتهوا إلى البصرة و عزموا على الحرب كتب عثمان بن حنيف و كان عامل أمير المؤمنين علي عليه السلام وقتئذ في البصرة إلى أمير المؤمنين بحالهم.

فكتب عليه السلام إليه: استعاره‏ فان عادوا إلى ظل الطاعة فذاك الذي نحب‏ و إنما استعار لفظ الظل‏ لأن‏ الطاعة كما قيل يستلزم السلامة و الرفاهة و الراحة عن حرارة الحرب كما يستلزم‏ الظل‏ الراحة من حرارة الشمس قال تعالى‏ و ظللنا عليكم الغمام‏ امتنانا عليهم حيث سخر لهم السحاب تسير بسيرهم في التيه و تظلهم من حرارة الشمس.

و في الحديث، السلطان ظل الله في الأرض، استعار الظل له لأنه يدفع الأذى عن الناس كما يدفع الظل أذى الشمس.

و يمكن بيانه بوجه أدق و ألطف من هذا و هو أن المراد من السلطان هو السلطان العادل الإلهي و إنما كان ظله تعالى بمعنى أنه مظهره الأتم و مجلى أسمائه الحسنى، و صفاته العليا يحكي عنه بحيث من رآه كأنما رأى الله كما يحكي الظل عن ذي الظل و قد روي عن رسول الله صلى الله عليه و آله أنه قال: من رآني فقد رأى الله.

قوله عليه السلام‏ (و إن توافت الامور- إلى قوله- من عصاك) أي‏ إن‏ تتامت‏ الامور بالقوم‏ و تهيأت لهم أسباب المخالفة و توافقت و سلكهم في‏ الشقاق و العصيان‏ فانهض و أسرع مع من انقاد لك إلى من خالفك و خرج عن طاعنك أي الناكثين و أشياعهم.

قوله عليه السلام‏ (و استغن بمن انقاد- إلخ) من نظر في كلامه عليه السلام حق النظر و تدبر فيه علم أن قوله عليه السلام: فإن المتكاره مغيبه خير من مشهده‏ اه في مقام التعليل لقوله: و استغن‏ كما قدمناه في الاعراب، و هذا لا يناسب إلا أن يكون‏ استغن‏ أمرا من الاستغناء لا بالعين المهملة من الاستعانة، فانه عليه السلام بين وجه الاستغناء بالمنقاد عن المتقاعس أي‏ المتكاره‏ بأن‏ المتكاره‏ عدم حضوره في الحرب خير من حضوره فيه، لأنه لا يقاتل على جد و اهتمام

كما يقال بالفارسية: سگ كه‏ بزورش بشكار برند از او تك نيايد، و ربما انهزم و ولى الدبر في أثناء الحرب فساعتئذ عمله هذا يوجب التخاذل و الوهن و الضعف في العسكر فيتبعونه في الفرار و نعم ما قاله السعدي بالفارسية:

آنكه جنگ آرد بخون خويش بازى مي كند روز ميدان، و آن كه بگريزد بخون لشكرى‏

فالمتكاره يوجب مغيبه عن الحرب عدم الانتفاع به فقط، و حضوره في الحرب موجب للمفسدة العظيمة التي هي تخاذل العسكر و وهنهم، فمغيبه خير من شهوده و كذا قعوده عن الحرب‏ أغنى من نهوضه‏ إليها، و مثل قوله هذا قوله تعالى: لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا (التوبة- 48) و العجب من شارح البحراني و المولى فتح الله القاساني ذهبا إلى أن قوله: استعن، أمر من الاستعانة، على أن صلة الاستعانة لا تكون كلمة عن الجارة، و أما الشارح المعتزلي فلم يتفوه بشي‏ء، و الأمر بين، و المخالف مكابر.

الترجمة

يكى از نامه ‏هاى أمير المؤمنين علي عليه السلام اين كتابست كه آنرا ببعضي از سرداران لشكرش نوشته.

(اين مقدار كه در نهج البلاغه مذكور است برخى از آن نامه است كه آنرا مرحوم سيد رضي از تمام نامه اختيار كرده است زيرا آنچه كه بيشتر مورد اهتمام سيد رضى بود انتخاب كلمات فصيح و جمله‏ هاى بليغ آن حضرت است، و روايت شده كه آن سردار سپه عثمان بن حنيف بود كه در شهر بصره عامل آن حضرت بود و ارسال اين نامه بعثمان وقتى بود كه طلحه و زبير و أتباع آن دو پيمانى را كه بان حضرت بستند شكستند، و نقض بيعت كردند، و با لشكر بسيار از مكه بجانب بصره روان شدند كه فتنه جنگ جمل را بر انگيختند و عثمان بن حنيف صورت واقعه را براى امام عليه السلام مرقوم داشت، و امام در جوابش فرمود):

پس اگر آن گروه بيعت شكن برگشتند بسايه فرمانبرداري، اين خود همان است كه ما مى ‏خواهيم و دوست مى‏ داريم، و اگر كارها تمام شود بايشان يعنى أسباب و علل مخالفت براى آنها مهيا گردد كه ايشان را بمخالفت و نافرمانى كشاند پس بمعاونت كسانى كه تو را فرمان برده ‏اند قيام كن بجنگ كسانى كه نافرمانى كرده ‏اند و عاصى گشته ‏اند. و بى نيازى جو بكسانى كه گردن نهادند از كسانى كه از يارى تو و حضور در معركه كراهت دارند و باز پس مى‏ ايستند، زيرا آنكه از حضور در عرصه جنگ كاره است نبودش در جنگ بهتر از حضورش است و باز نشستنش از جنگ بى‏ نياز كننده‏ تر و سودمندتر است از نهضتش.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی

نهج البلاغه نامه ها نامه شماره 3 شرح میر حبیب الله خوئی(به قلم علامه حسن زاده آملی )

نامه 3 صبحی صالح

3 و من كتاب له ( عليه‏ السلام  ) لشريح بن الحارث قاضيه

و روي أن شريح بن الحارث قاضي أمير المؤمنين ( عليه‏ السلام  )

اشترى على عهده دارا بثمانين دينارا فبلغه ذلك فاستدعى شريحا و قال له

بَلَغَنِي أَنَّكَ ابْتَعْتَ دَاراً بِثَمَانِينَ دِينَاراً وَ كَتَبْتَ لَهَا كِتَاباً وَ أَشْهَدْتَ فِيهِ شُهُوداً

فَقَالَ له شريح قد كان ذلك يا أمير المؤمنين قال فنظر إليه نظر المغضب ثم قال له‏ يَا شُرَيْحُ أَمَا إِنَّهُ سَيَأْتِيكَ مَنْ لَا يَنْظُرُ فِي كِتَابِكَ وَ لَا يَسْأَلُكَ عَنْ بَيِّنَتِكَ حَتَّى يُخْرِجَكَ مِنْهَا شَاخِصاً وَ يُسْلِمَكَ إِلَى قَبْرِكَ خَالِصاً

فَانْظُرْ يَا شُرَيْحُ لَا تَكُونُ ابْتَعْتَ هَذِهِ الدَّارَ مِنْ غَيْرِ مَالِكَ أَوْ نَقَدْتَ الثَّمَنَ مِنْ غَيْرِ حَلَالِكَ فَإِذَا أَنْتَ قَدْ خَسِرْتَ دَارَ الدُّنْيَاوَ دَارَ الْآخِرَةِ.

أَمَا إِنَّكَ لَوْ كُنْتَ أَتَيْتَنِي عِنْدَ شِرَائِكَ مَا اشْتَرَيْتَ لَكَتَبْتُ لَكَ كِتَاباً عَلَى هَذِهِ النُّسْخَةِ فَلَمْ تَرْغَبْ فِي شِرَاءِ هَذِهِ الدَّارِ بِدِرْهَمٍ فَمَا فَوْقُ وَ النُّسْخَةُ هَذِهِ

هَذَا مَا اشْتَرَى عَبْدٌ ذَلِيلٌ مِنْ مَيِّتٍ قَدْ أُزْعِجَ لِلرَّحِيلِ اشْتَرَى مِنْهُ دَاراً مِنْ دَارِ الْغُرُورِ مِنْ جَانِبِ الْفَانِينَ وَ خِطَّةِ الْهَالِكِينَ

وَ تَجْمَعُ هَذِهِ الدَّارَ حُدُودٌ أَرْبَعَةٌ الْحَدُّ الْأَوَّلُ يَنْتَهِي إِلَى دَوَاعِي الْآفَاتِ وَ الْحَدُّ الثَّانِي يَنْتَهِي إِلَى دَوَاعِي الْمُصِيبَاتِ وَ الْحَدُّ الثَّالِثُ يَنْتَهِي إِلَى الْهَوَى الْمُرْدِي وَ الْحَدُّ الرَّابِعُ يَنْتَهِي إِلَى الشَّيْطَانِ الْمُغْوِي وَ فِيهِ يُشْرَعُ بَابُ هَذِهِ الدَّارِ

اشْتَرَى هَذَا الْمُغْتَرُّ بِالْأَمَلِ مِنْ هَذَا الْمُزْعَجِ بِالْأَجَلِ هَذِهِ الدَّارَ بِالْخُرُوجِ مِنْ عِزِّ الْقَنَاعَةِ وَ الدُّخُولِ فِي ذُلِّ الطَّلَبِ وَ الضَّرَاعَةِ فَمَا أَدْرَكَ هَذَا الْمُشْتَرِي فِيمَا اشْتَرَى مِنْهُ مِنْ دَرَكٍ

فَعَلَى مُبَلْبِلِ أَجْسَامِ الْمُلُوكِ وَ سَالِبِ نُفُوسِ الْجَبَابِرَةِ وَ مُزِيلِ مُلْكِ الْفَرَاعِنَةِ مِثْلِ كِسْرَى وَ قَيْصَرَ وَ تُبَّعٍ وَ حِمْيَرَ وَ مَنْ جَمَعَ الْمَالَ عَلَى الْمَالِ فَأَكْثَرَ وَ مَنْ بَنَى وَ شَيَّدَ وَ زَخْرَفَ وَ نَجَّدَ وَ ادَّخَرَ وَ اعْتَقَدَ وَ نَظَرَ بِزَعْمِهِ لِلْوَلَدِ إِشْخَاصُهُمْ جَمِيعاً

إِلَى مَوْقِفِ الْعَرْضِ وَ الْحِسَابِ وَ مَوْضِعِ الثَّوَابِ وَ الْعِقَابِ إِذَا وَقَعَ الْأَمْرُ بِفَصْلِ الْقَضَاءِ وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ‏

شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ الْعَقْلُ إِذَا خَرَجَ مِنْ أَسْرِ الْهَوَى وَ سَلِمَ مِنْ عَلَائِقِ الدُّنْيَا

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج17  

و من كتاب له عليه السلام كتبه لشريح بن الحارث قاضيه و هو الكتاب الثالث من باب المختار من كتبه و رسائله عليه السلام‏

روي أن شريح بن الحارث قاضي أمير المؤمنين عليه السلام اشترى على عهده دارا بثمانين دينارا، فبلغه ذلك فاستدعى شريحا و قال له:

بلغني أنك ابتعت دارا بثمانين دينارا، و كتبت لها كتابا، و أشهدت فيه شهودا، فقال شريح: قد كان ذلك يا أمير المؤمنين، قال: فنظر إليه نظر مغضب ثم قال له: يا شريح أما إنه سيأتيك من لا ينظر في كتابك، و لا يسئلك عن بينتك حتى يخرجك منها شاخصا و يسلمك إلى قبرك خالصا، فانظر يا شريح لا تكون ابتعت هذه الدار من غير مالك، أو نقدت الثمن من غير حلالك، فإذا أنت قد خسرت دار الدنيا و دار الاخرة، أما لو إنك كنت أتيتني عند شرائك ما شريت لكتبت لك كتابا على هذه النسخة، فلم ترغب في شراء هذه الدار بدرهم فما فوقه، و النسخة هذه:

بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما اشترى عبد ذليل من ميت قد أزعج للرحيل، اشترى منه دارا من دار الغرور من جانب الفانين، و خطة الهالكين، و تجمع‏ هذه الدار حدود أربعة: فالحد الأول ينتهي إلى دواعي الافات، و الحد الثاني ينتهي إلى دواعي المصيبات، و الحد الثالث ينتهي إلى الهوى المردي، و الحد الرابع ينتهي إلى الشيطان المغوي، و فيه يشرع باب هذه الدار، اشترى هذا المغتر بالأمل من هذا المزعج بالأجل هذه الدار بالخروج من عز القناعة و الدخول في ذل الطلب و الضراعة، فما أدرك هذا المشتري فيما اشترى من درك. فعلى مبلبل أجسام الملوك و سالب نفوس الجبابرة، و مزيل ملك الفراعنة، مثل كسرى و قيصر و تبع و حمير، و من جمع المال على المال فأكثر، و من بنى و شيد، و زخرف و نجد، و ادخر و اعتقد و نظر بزعمه للولد إشخاصهم جميعا إلى موقف العرض و الحساب، و مواضع الثواب و العقاب إذا وقع الأمر بفصل القضاء و خسر هنالك المبطلون. شهد على ذلك العقل إذا خرج من أسر الهوى و سلم من علائق الدنيا.

أقول: نقل الكتاب في البحار (ص 632 ج 8 و ص 545 ج 9 من طبع الكمباني) نقله أبو نعيم الأصفهاني في حلية الأولياء، و العلامة الشيخ البهائي في الأربعين بلى ما نتلو عليك و سيأتي من ذي قبل بعض كلماته عليه السلام لشريح في بحثنا المعنون القضاء و القاضي في الإسلام ذيل شرح هذا الكتاب.

«وهم و رجم»

إن ما يهمنا و لا بد لنا منه ههنا قبل بيان لغة الكتاب و إعرابه تقديم مطلب‏ لم يتعرضه أحد من شراح النهج، و هو أن الحافظ أبا نعيم أحمد بن عبد الله الاصفهاني المتوفى سنة 430 ه أسند هذا الكتاب في كتابه حلية الأولياء إلى الفضيل بن عياض قاله للفيض بن إسحاق في واقعة اقتضت ذلك، و بين ما في النهج و بين الحلية اختلاف يسير في بعض الألفاظ و العبارات و لكنهما واحد بلا ارتياب و دونك ما نقله أبو نعيم:قال أبو نعيم في ترجمة الفضيل بن عياض من حلية الأولياء (ص 101 و 102 ج 8 طبع مصر 1356 ه- 1937 م) ما هذا لفظه:

حدثنا سليمان بن أحمد، ثنا بشر بن موسى، ثنا علي بن الحسين بن مخلد قال: قال الفيض بن إسحاق: اشتريت دارا و كتبت كتابا و أشهدت عدولا فبلغ ذلك الفضيل بن عياض فأرسل إلي يدعوني فلم أذهب، ثم أرسل إلي فمررت إليه فلما رآني قال: يا ابن يزيد بلغني أنك اشتريت دارا و كتبت كتابا و أشهدت عدولا؟ قلت: قد كان كذلك، قال: فانه يأتيك من لا ينظر في كتابك و لا يسأل عن بينتك حتى يخرجك منها شاخصا يسلمك إلى قبرك خالصا، فانظر أن لا تكون اشتريت هذه الدار من غير مالك، أو ورثت مالا من غير حله، فتكون قد خسرت الدنيا و الاخرة، و لو كنت حين اشتريت كتبت على هذه النسخة:

هذا ما اشترى عبد ذليل من ميت قد ازعج بالرحيل، اشترى منه دارا تعرف بدار الغرور، حد منها في زقاق الفناء إلى عسكر الهالكين، و يجمع هذه الدار حدود أربعة: الحد الأول ينتهي منها إلى دواعي العاهات، و الحد الثاني ينتهي إلى دواعي المصيبات، و الحد الثالث ينتهي منها إلى دواعي الافات، و الحد الرابع ينتهي إلى الهوى المردي و الشيطان المغوي، و فيه يشرع باب هذه الدار على الخروج من عز الطاعة إلى الدخول في ذل الطلب، فما أدركك في هذه الدار فعلى مبلبل أجسام الملوك، و سالب نفوس الجبابرة، و مزيل ملك الفراعنة مثل كسرى و قيصر، و تبع و حمير، و من جمع المال فأكثر و اتحد و نظر بزعمه الولد، و من بنى و شيد و زخرف و أشخصهم إلى موقف العرض إذا نصب الله عز و جل كرسيه لفصل القضاء، و خسر هنالك المبطلون، يشهد على ذلك العقل إذا خرج من أسر الهوى، و نظر بالعينين إلى زوال الدنيا، و سمع صارخ الزهد عن عرصاتها.

ما أبين الحق لذي عينين‏ إن الرحيل أحد اليومين‏

فبادروا بصالح الأعمال فقد دنا النقلة و الزوال. انتهى.

أقول: مع فرض صحة إسناد الرواية إلى الفضيل أولا، و عدم سهو الراوي و عدم الإسقاط و الحذف ثانيا، ما كان للفضيل و أضرابه أن يسوقوا الكلام إلى ذلك الحد من الزهد في الدنيا و الرغبة عنها أو يعبروا تلك المعاني اللطيفة بتلك الألفاظ الوجيزة ثالثا، بل لا نشك في أن سبك العبارات على هذا الاسلوب البديع، و سوق المعاني على هذا النهج المنيع و التنفير عن الدنيا بهذه الغاية و الجودة و اللطافة إنما نزل من حضرة القدس العلوية.

و لا ننكر أن مثل تلك الواقعة وقع للفضيل أيضا إلا أن الفضيل لما رأى أن عمل الفيض بن إسحاق شبيه بعمل شريح و يناسبه انتقل إلى ما قاله أمير المؤمنين عليه السلام لشريح فخاطب به الفيض تنبيها له، و إنما لم ينسب الكلام إليه عليه السلام إما لعلمه بأن الفيض أيضا عالم بذلك الكتاب لاشتهاره بين أهله، أو كان نقله من باب الاقتباس إن لم يتطرق إليه سقط و حذف من الراوي و كم لما قلنا من نظير و شبيه نظما و نثرا، مثلا أن العروضي نقل في كتابه المعروف ب «چهار مقاله» أى أربع مقالات، أن نوح بن منصور أمير الخراسان كتب إلى آلبتكين كتابا توعده فيه بالعقوبة و أوعده بالقتل و الأسر و النهب فلما بلغه الكتاب أمر الإسكافي الكاتب البليغ المشهور أن يجيبه عن كتابه و يستخف به و يستهين، فكتب الإسكافي: «يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما نعدنا إن كنت من الصادقين».فانظر فيه كيف اقتبس كتابه من القرآن الكريم من غير أن يتفوه باسناده إليه.

ثم لا ننكر فضل الفضيل و أن له كلمات فاضلة لأنه كان له شأن و إدراك السعادة العظمى لأنه كان من سلسلة الرواة و أتى بكثير من رواياته و كلماته الأنيقة العذبة أبو نعيم في الحلية، و لأنه أدرك أبا عبد الله عليه السلام و اغترف من بحر حقائقه‏ بقدر وسعه، و اقترف من كنوز معارفه بمبلغ كده و جهده، روى عنه عليه السلام نسخة يرويها النجاشي و لكن كلماته موجودة و نقل كثير منها في الحلية بينها و بين الكتاب بون بعيد و مسافة كثيرة لا تشابهه في سلك ألفاظه و لا تدانيه في سبك معانيه.

ثم مما يؤيد كلامنا بأن الفضيل اقتبس الكتاب منه عليه السلام ما أسند إليه أبو نعيم في الحلية أيضا و هو عن الصادق عليه السلام قال أبو نعيم (ص 100 ج 8 حلية الأولياء الطبع المذكور): حدثنا محمد بن علي، ثنا المفضل بن محمد الجندي، ثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: سمعت الفضيل ابن عياض يقول: يغفر للجاهل سبعون ذنبا ما لم يغفر للعالم ذنب واحد. انتهى.

و هذه الرواية مع أنها لا تدل على أن الفضيل قائلها تنافي ما في الكافي و نقلها الفيض في الوافي (ص 52 ج 1) في أول باب لزوم الحجة على العالم و تشديد الأمر عليه مسندا عن المنقري عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال يا حفص يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد.

و إن اختلج ببالك أن تنظيم قبالة الأرض و الدار على هذا النظم المتضمن للحدود لم يعهد مثله في صدر الاسلام، بل صار متعارفا معهودا بعد ذلك العصر فكيف يصح اسناد هذا الكتاب إلى الأمير عليه السلام؟.

فاعلم: أن أمثال هذه الامور الغير المعهودة الصادرة منه عليه السلام ليس بعزيز حتى يستغرب من إسناد هذا الكتاب إليه عليه السلام.

و من نظر في كتبه و رسائله حيث إنه عليه السلام يبين في بعضها آداب العامل و الوالي، و في بعضها وظائف الخليفة و الأمير، و في بعضها فنون المجاهدة و رسوم المقاتلة، و في بعضها تعيين أوقات الفرائض، و في بعضها ما يتم به صلاح الاجتماع و ما به يصير المدينة فاضلة و غيرها من المطالب المتنوعة في الموضوعات المختلفة الشاخصة التي لم تتغير بتغير الأعصار، و لم تختلف باختلاف الأمصار قط، لأنها حقائق و الحقيقة فوق الزمان و الزماني و غير متغير بتغير المادة و الماديات، علم أن جميع ما فاض من سماء علمه مما يتحير فيه العقول، و يستغرب، و أن‏ بروز نحو هذا الكتاب منه عليه السلام ليس بمستبعد.

على أنه رويت عنه عليه السلام واقعة اخرى و قبالة نظير هذه الواقعة و القبالة نقلها حسين بن معين الدين الميبدي في شرح الديوان المنسوب إلى الأمير عليه السلام (ص 448 طبع ايران 1285 ه): روى أن بعض أهل الكوفة اشترى دارا و ناول أمير المؤمنين عليه السلام رقا و قال له: اكتب لي قبالة، فكتب عليه السلام: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما اشترى ميت عن ميت دارا في بلدة المذنبين، و سكنة الغافلين.

الحد الأول منها ينتهي إلى الموت، و الثاني إلى القبر، و الثالث إلى الحساب و الرابع إما إلى الجنة و إما إلى النار، ثم كتب في ذيلها هذه الأبيات:

النفس تبكي على الدنيا و قد علمت‏ أن السلامة منها ترك ما فيها
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت بانيها
فإن بناها بخير طاب مسكنها و إن بناها بشر خاب ثاويها
أين الملوك التي كانت مسلطة حتى سقاها بكأس الموت ساقيها
لكل نفس و إن كانت على و جل‏ من المنية آمال تقويها
فالمرء يبسطها و الدهر يقبضها و النفس تنشرها و الموت تطوبها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها و دورنا لخراب الدهر نبنيها
كم من مدائن في الافاق قد بنيت‏ أمست خرابا و دون الموت أهليها

و كذا روي عن الصادق عليه السلام نحو هذا الحديث من جهة تحديد الحدود الأربعة كما في المناقب لمحمد بن شهر آشوب عن هشام بن الحكم قال: كان رجل من ملوك أهل الجبل يأتي الصادق عليه السلام في حجة كل سنة، فينزله أبو عبد الله عليه السلام في دار من دوره في المدينة، و طال حجه و نزوله فأعطى أبا عبد الله عليه السلام عشرة آلاف درهم ليشتري له دارا و خرج إلى الحج، فلما انصرف قال: جعلت فداك اشتريت لي الدار؟ قال عليه السلام: نعم، و أتى بصك فيه:بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما اشترى جعفر بن محمد لفلان بن فلان الجبلي، اشترى دارا في الفردوس حدها الأول رسول الله صلى الله عليه و آله، و الحد الثاني‏ أمير المؤمنين عليه السلام، و الحد الثالث الحسن بن علي، و الحد الرابع الحسين بن علي عليهم السلام.

فلما قرأ الرجل ذلك قال: قد رضيت جعلني الله فداك قال: فقال أبو عبد الله عليه السلام: إني أخذت ذلك المال ففرقته في ولد الحسن و الحسين عليهما السلام و أرجو أن يتقبل الله ذلك، و يثيبك به الجنة.

قال: فانصرف الرجل إلى منزله و كان الصك معه، ثم اعتل علة الموت فلما حضرته الوفاة جمع أهله و حلفهم أن يجعلوا الصك معه، ففعلوا ذلك فلما أصبح القوم غدوا إلى قبره فوجدو الصك على ظهر القبر مكتوب عليه: و في لي و الله جعفر بن محمد عليهما السلام بما قال.

أقول: و للخدشة في هذا الحديث المنسوب إلى الصادق عليه السلام مجال و إنما ذكرناه تأييدا لما قدمنا و بالجملة إنما يستفاد من واقعة الأمير عليه السلام مع شريح و مع بعض أهل الكوفة أن القبالة المتداولة في زماننا تكتب في ابتياع الأملاك حيث يتعين فيه الحدود و يذكر فيه الشروط و الشهود إنما كانت متعارفة في زمن الصحابة أيضا هب أنها بتلك الكيفية لم تكن معهودة في صدر الإسلام، فلا بأس أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام مبتكرة فيه، فانه عليه السلام كان سباقا إلى العجائب و الغرائب دائما فلا مجال لتوهم إسناد الكتاب إلى غيره عليه السلام بمجرد الاستبعاد بل استناده إلى مثل الفضيل مستبعد جدا، بل عدم صحة الاسناد إليه معلوم قطعا.

«سند الكتاب»

نحن بعون الله تعالى وجدنا أسانيد جل ما في نهج البلاغة و نرجو من الله الهادي تحصيل أسانيد ما لم يحصل بعد، و ببالي إن أخذ التوفيق بيدي أن أذكر أسانيد ما في النهج و ما لم يأت به الرضي رضوان الله عليه من كلامه عليه السلام في آخر الشرح.

فنقول: يا ليت الرضي ذكر أسانيد ما نقل في النهج و مدار كه لئلا يتقول عليه بعض الأقاويل، و لكن الانصاف أن يقال: كفى في سنده أن مثل الرضي‏ أسنده إليه عليه السلام.

ثم نقول في المقام: أولا إن الشريف الرضي مع جلالة شأنه و فخامة أمره و تتبعه في الاثار و عرفانه بالأخبار و تبحره في فنون الكلام و تضلعه في جل ما أتى به الشرع أسند الكتاب أعني ذلك الكتاب الذي كتبه عليه السلام لشريح، إليه عليه السلام و ثانيا أن العلامة الشيخ بهاء الدين العاملي قدس سره رواه مسندا في كتابه المعروف بالأربعين و هو الحديث الرابع عشر منه و سلسلة سنده من المشايخ العظام و الرواة الأجلاء، فبعد اللتيا و التي فلا مجال لأحد أن يناقش في إسناد الكتاب إليه عليه السلام، و في اقتباس الفضيل منه عليه السلام و دونك الكتاب و سنده على ما في الأربعين.

روى الشيخ رحمه الله بسنده المتصل إلى الشيخ الجليل محمد بن بابويه- و قد ذكر سنده إلى ابن بابويه في الحديث الأول من الأربعين- عن صالح بن عيسى بن أحمد، عن محمد بن محمد بن علي، عن محمد بن الفرج الرخجي- بالراء المهملة المضمومة و الخاء المعجمة المفتوحة و الجيم ثقة من أصحاب الرضا عليه السلام- عن عبد الله بن محمد العجلي، عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني- المعروف بشاه عبد العظيم المدفون بالري- عن أبيه، عن أبان مولى زيد بن علي، عن عاصم بن بهدلة قال:

قال لي شريح القاضي: اشتريت دارا و كتبت كتابا و أشهدت عدولا، فبلغ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فبعث إلي مولاه قنبر، فأتيته فلماد دخلت عليه قال: يا شريح اتق الله فإنه سيأتيك من لا ينظر في كتابك، و لا يسأل عن بينتك حتى يخرجك من دارك شاخصا، و يسلمك إلى قبرك خالصا، فانظر أن لا تكون اشتريت هذه الدار من غير مالكها، و وزنت مالا من غير حله، فاذا قد خسرت الدارين جميعا: الدنيا و الاخرة، ثم قال عليه السلام: فلو كنت عند ما اشتريت هذه الدار أتيتني فكتبت لك كتابا على هذه النسخة إذ لم تشترها بدرهمين، قال: قلت:و ما كنت تكتب يا أمير المؤمنين؟ قال عليه السلام: كنت أكتب لك هذا الكتاب:

بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما اشترى عبد ذليل من ميت ازعج بالرحيل اشترى دارا في دار الغرور من جانب الفانين إلى عسكر الهالكين و تجمع هذه الدار

حدود أربعة: فالحد الأول منها ينتهي إلى دواعي الافات، و الحد الثاني منها ينتهي إلى دواعي العاهات، و الحد الثالث منها ينتهي إلى دواعي المصيبات، و الحد الرابع منها ينتهي إلى الهوى المردي و الشيطان المغوي، و فيه يشرع باب هذه الدار.

اشترى هذا المفتون بالأمل، من هذا المزعج بالأجل، جميع هذه الدار بالخروج من عز القنوع، و الدخول في ذل الطلب، فما أدرك هذا المشتري من درك فعلى مبلي أجسام الملوك و سالب نفوس الجبابرة مثل كسرى و قيصر، و تبع و حمير، و من جمع المال إلى المال فأكثر، و بنى فشيد، و نجد فزخرف و ادخر بزعمه للولد، إشخاصهم جميعا إلى موقف العرض لفصل القضاء، و خسر هنالك المبطلون شهد على ذلك العقل إذا خرج من أسرى الهوى، و نظر بعين الزوال لأهل الدنيا، و سمع منادي الزهد ينادي في عرصاتها:

ما أبين الحق لذي عينين‏ إن الرحيل أحد اليومين‏

تزودوا من صالح الأعمال، و قربوا الامال بالاجال.

«اللغة»

(على عهده) أي في زمانه فإن كلمة الجارة ههنا بمعنى في، و أحد معاني العهد الزمان، ففي أقرب الموارد: كان ذلك في عهد شبابي أي زمانه، و منه كان ذلك على عهد فلان أي في زمانه. انتهى.

(دينار) الدينار ضرب من النقود القديمة الذهبية، و في أقرب الموارد أنه فارسي معرب، و أصله دنار بالتشديد بدليل جمعه على دنانير و تصغيره على دنينير، لأنهما يرجعان الكلمة إلى أصلها غالبا فابدل من أحد حرفي تضعيفه ياء لئلا يلتبس بالمصادر التي يجي‏ء على فعال كقوله تعالى: و كذبوا بآياتنا كذابا (النبأ- 29) إلا أن يكون بالهاء فيخرج على أصله مثل الصنارة و الدنامة لأنه أمن الان من الالتباس، قاله في الصحاح.

(استدعاه) أي طلبه (أشهدت فيه شهودا) أي أحضرت فيه شهودا، أو تكون‏ كلمة في الجارة بمعنى على نحو قوله تعالى‏ و لأصلبنكم في جذوع النخل‏ (طه 76) و يقال: أشهد فلانا على كذا أي جعله شاهدا عليه، فالمعنى و جعلت قوما شهودا عليه، و الشهود جاء مصدرا و غير مصدر و المراد هنا الثاني يقال: شهد عند الحاكم لفلان على فلان بكذا شهادة من بابي علم و كرم إذا أدى ما عنده من الشهادة، فهو شاهد فيجمع على شهود نحو عادل و عدول، و شهد كصاحب و صحب، و أشهاد كناصر و أنصار و شاهدين كعالم و عالمين. و في نسختي الأربعين و حلية الأولياء: و أشهدت عدولا و لكن الشهود أنسب بالمقام من العدول.(أما) بفتح الأول و تخفيف الثاني: حرف تنبيه ههنا.

(سيأتيك من) المراد من من إما الموت أو ملك لموت، و الثاني أولى لأن من يستعمل غالبا في ذوي العقول كما أن ما يستعمل غالبا في غير ذوي العقول و إنما قلنا غالبا لأن ما قد يستعمل في ذوي العقول كقوله تعالى: و السماء و ما بناها (الشمس- 6) و من في غير ذوي العقول كقوله تعالى‏ فمنهم من يمشي على بطنه‏ (النور- 45) و التفصيل مذكور في الموصولات من كتب النحو.

(لا ينظر في كتابك) يقال: نظره و نظر إليه إذا أبصره بعينه و نظر فيه إذا تدبره و فكر فيه، يقدره و يقيسه و منه قوله تعالى‏ فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم‏ (الصافات- 87 و 88) و لذا قال بعضهم: إن نظر يتعدى إلى المبصرات بنفسه و يتعدى إلى المعاني بفي.

(لا يسألك عن بينتك) السؤال إذا كان بمعنى الاستخبار يتعدى إلى مفعولين إلى الأول بنفسه و إلى الثاني بعن كما في المقام، و قد يتعدى إلى الثاني بالباء مضمنة معنى عن نحو: سل به خبيرا، إي سل عنه، و قد تخفف الهمزة من فعله فيقال سال يسال سل و مسول كخاف يخاف خف و مخوف، المستفاد من ظاهر كلام المرزوقي في شرح الحماسة (الحماسة 757 ص 1715 طبع مصر 1371 ه) أن التخفيف هو لغة هذيل. قال عبد الله بن الدمينة (الحماسة 510).

سلي البانة الغناء بالأجرع الذي‏ به البان هل حببت أطلال دارك‏

فقوله: سلي، كان أصله اسألي فخذف الهمزة تخفيفا و ألقيت حركتها على السين فصار اسلي، ثم استغنى عن همزة الوصل لتحرك ما بعدها فحذفت فصارت سلي، و على هذا القياس قوله تعالى: سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة (البقرة- 209).

(البينة) الحجة. و في نسخة الأربعين عن بيتك أي دارك التي اشتريتها و الأول أنسب بالمقام، و ما يختلج في البال أن الثاني حرف من الكتاب و إلا لقال عليه السلام: حتى يخرجك منه، لا من دارك كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام، و الشاهد لذلك ترجمة ابن خاتون العاملي بالفارسية في شرحه على الأربعين للشيخ بهاء الدين قدس سره حيث قال: زود باشد كه بر تو وارد شود شخصى كه نگاه بسند تو نكند، و از گواهان تو چيزى نپرسد، إلخ. على أن النسختين متفقتان في الأول.

كنايه (شاخصا) إشارة إلى قوله تعالى: إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار (الحجر- 44) و قوله تعالى: فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا (الأنبياء 98) قال الراغب في المفردات: قال تعالى: تشخص فيه الأبصار، شاخصة أبصارهم أي أجفانهم لا تطرف. و في مجمع البيان التفسير: شخص المسافر شخوصا إذا خرج من منزله، و شخص عن بلد إلى بلد و شخص بصره إذا نظر إليه كأنه خرج إليه. يقال: شخص بصره فهو شاخص إذا فتح عينيه و جعل لا يطرف مع دوران في الشحمة، و شخص الميت بصره و ببصره أي رفعه، و في منتهى الارب: شخص بصره:

واكرد چشم را و وا داشت و بر هم نزد آنرا و بلند كرد نگاه را، و شخصت عينه باز ماند چشم او.

و يمكن أن يتخذ الشاخص من شخص المسافر من بلد إلى بلد شخوصا بمعنى ذهب و سار و خرج من موضع إلى غيره، و منه حديث إقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل.

أو من شخص السهم إذا ارتفع عن الهدف، و منه الدعاء: اللهم إليك شخصت‏ الأبصار أي ارتفعت أجفانها ناظرة إلى عفوك و رحمتك، قال الجوهري في الصحاح:

أشخص الرامي إذا جاز سهمه الغرض من أعلاه، و هو سهم شاخص، فالمراد على هذا الوجه الأخير حتى يخرجك منها مرفوعا أي محمولا على أكتاف الرجال.

و الوجهان الأخيران مما احتملهما الشيخ في الأربعين أيضا و جعل العبارة على الأول كناية عن الموت، فانه ذكر معنى الشاخص على الوجه الذي أتى به الجوهري في الصحاح حيث قال: شخص بصره بالفتح فهو شاخص إذا فتح عينيه و صار لا يطرف، و هو كناية عن الموت و كذا الطريحي في مجمع البحرين.

و لكن في أقرب الموارد بعد ما في الصحاح أتى بقيد زائد و هو قوله: مع دوران الشحمة، و هذا المعنى لا يناسب قوله عليه السلام: حتى يخرجك، فان المرء ما لم يمت لا يخرج من داره، و لا يخفى أن المعنى الذي ذكره في الصحاح لا يشير إلى الموت، غاية الأمر إلى شدة الأمر و هو له، و لذا فسر الكلبي كما في مجمع البيان قوله تعالى: فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا بقوله: إن أبصار الذين كفروا تشخص في ذلك اليوم أي لا تكاد تطرف من شدة ذلك اليوم و هو له، ينظرون إلى تلك الأهوال.

و بالجملة إن شخص بالمعنى الأول لا يدل على موت الشاخص إلا أن يؤخذ الشاخص من شخص الميت بصره و ببصره إذا رفعه، و كذا شخصت عينه، حتى يستقيم المعنى الكنائي، أو من شخص المسافر بمعنى ذهب و سار على نوع من التجوز.

(يسلمك إلى قبرك) من التسليم أي يعطيك قبرك و يناولك إياه يقال: سلمه إلى فلان أي أعطاه إياه فتناوله منه، و يمكن أن يؤخذ من الاسلام لأن أسلم جاء بمعنى سلم أيضا يقال: فلان أسلم أمره إلى فلان أي سلمه إليه.

(خالصا) الخالص هو المحض و المراد هنا العاري من أعراض الدنيا و حطامها أي يخرجك عاريا منها.(نقدت الثمن من غير حلالك) يقال: نقدته و نقدته لفلان الثمن أي أعطيته‏ إياه نقدا معجلا، فالمراد أنك ابتعتها بيعا نقدا أي بيع الحال بالحال.

و على نسخة الشيخ في الأربعين: و وزنت مالا من غير حله، أي وزنت للدار أو لبائعها مالا يقال: وزنت فلانا وزنت لفلان كما يقال: كلت زيدا و كلت لزيد قال تعالى‏ و إذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون‏ (المطففين- 4).

و على نسخة أبي نعيم في الحلية: أو ورثت مالا من غير حله، و معناه ظاهر و لكن الصواب أن يقال: إن ورثت محرف و زنت لعدم مناسبة ورثت في المقام و تفسير العبارة على ورثت لا يخلو من تكلف و تعسف. و ما في المتن موافق للنسختين.

(ترغب في شراء) الأفعال كما تتغير معانيها بتغير الأبواب سواء كانت الأبواب مجردة أو غير مجردة كذلك تتغير معانيها بتغير صلاتها، و كذا الحكم في مصادرها، فالرغبة و مشتقاتها إذا كانت صلتها كلمة في الجارة تفيد معنى الارادة و الميل إلى الشي‏ء و نحوهما يقال: رغب في الشي‏ء إذا أراده و أحبه، و مال إليه و طمع فيه و حرص عليه، و إذا كانت صلتها كلمة عن الجارة تفيد الاعراض و الترك يقال: رغب عنه إذا زهد فيه و لم يرده و أعرض عنه و تركه قال تعالى: و من يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه‏ (البقرة- 126).

(الدرهم) بكسر الدال و فتح الهاء و كسرها: ضرب من النقود القديمة المضروبة من الفضة للمعاملة، قال في الصحاح و منتهى الارب: إنه فارسي معرب و في أقرب الموارد و المنجد: يوناني معرب. و ربما قالوا درهام أيضا بكسر الدال قال الشاعر:

لو أن عندي مأتي درهام‏ لجاز في آفاقها خاتامي‏

و جمع الدرهم دراهم، و جمع الدرهام دراهيم، قال الشاعر:

تنفي يداها الحصى في كل هاجرة نفي الدراهيم تنقاد الصياريف‏

نقل البيتين في الصحاح.

(ميت) أصله ميوت على وزن فيعل من الموت.

(ازعج للرحيل) ازعج بالبناء للمفعول أي شخص به للرحيل يقال‏ أزعجه فانزعج أي أقلقه و قلعه من مكانه فقلق و اقنلع، هذا إن كانت اللام للتعليل و إن كانت بمعنى إلى فالمعنى سيق إليه يقال: أزعجه إلى المعصية أي ساقه إليها كما في لسان العرب في مادة أزز على ما في أقرب الموارد.

(دار الغرور) الغرور بضم الغين المعجمة مصدر يقال غره يغره غرورا من باب نصر أي خدعه و أطمعه بالباطل و لذا قيل: الغرور تزيين الخطاء بما يوهم أنه صواب، و كذا قيل: الغرور شرك الطريق بفتحتين، و المراد من دار الغرور الدنيا قال تعالى‏ و ما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور (آل عمران- 184 و الحديد- 21) و قال تعالى: إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا و لا يغرنكم بالله الغرور (لقمان- 35) و لذا توصف الدنيا بالغرور بالفتح و يقال: دنيا غرور بل أحد معاني الغرور بالفتح الدنيا، قال ابن السكيت كما في صحاح الجوهري: الغرور الشيطان و منه قوله تعالى‏ و لا يغرنكم بالله الغرور.

أقول: الصواب أن كل ما يغر الانسان من مال و جاه و شهوة و شيطان و غيرها فهو غرور بالفتح و إنما فسر بالشيطان لأنه الغار الحقيقي و تلك الامور آلات و وسائط. إذ هو أخبث الغارين، و بالدنيا لأنها تغر و تضر و تمر كما قاله عليه السلام و سيأتي في باب المختار من حكمه.

(خطة) واحدة خطط قال الجوهري في الصحاح: الخطة بالكسر الأرض يختطها الرجل لنفسه و هو أن يعلم عليها علامة بالخط ليعلم أنه قد اختارها لنفسه ليبنيها دارا، و منه خطط الكوفة و البصرة، و المراد منها البقعة و الناحية و الجانب و أمثالها و يقال بالفارسية: سرزمين.

(تجمع هذه الدار) أي تحويها و تحيط بها. (دواعي) جمع الداعية بمعنى السبب، قال الحريري: و تاقت نفسي إلى أن أفض ختم سره و أبطن داعية يسره، أي أعرف باطن سبب يسره نقله في أقرب الموارد، دواعي الدهر: صروفه، دواعي الصدر: همومه، و لكن المراد هنا معناها الأول أى أسباب الافات و المصيبات.

و في الحلية: و الحد الأول منها و في الأربعين و الحد الثاني منها ينتهي إلى دواعي العاهات، و هي جمع العاهة أي الافة، و أصل العاهة عوهة، يقال: عيه الزرع و أيف و أرض معيوهة أي ذات عاهة و طعام ذو معوهة أي من أكله أصابته عاهة و في النهاية الأثيرية:في الحديث نهى عن بيع الثمار حتى تذهب العاهة، أي الافة التي تصيبها فتفسدها يقال: عاه القوم و أعوهوا إذا أصابت ثمارهم و ماشيتهم العاهة،

و منه الحديث:لا يورد ذو عاهة على مصح، أي لا يورد من بابله آفة من جرب أو غيره على من إبله صحاح لئلا ينزل بهذه ما نزل بتلك فيظن المصح أن تلك أعدتها فيأثم.

و في مجمع البحرين: في الحديث بظهر الكوفة قبر لا يلوذ به ذو عاهة إلا شفاه الله، أي آفة من الوجع، و في الحديث: لم يزل الإمام مبرءا عن العاهات أي هو مستوي الخلقة من غير تشويه.

و قيل: الفرق بين الافات و العاهات أن العاهات تكون الأمراض الظاهرية من قبيل برص أو جذام، و الافات تكون الأمراض الباطنية من مثل الحمي.

(المردي) اسم فاعل من الإرداء بمعنى الاهلاك، فالهوى المردي أي الهوى المهلك، و الردي: الهلاك، و المراد هنا هلاك الدين، و يقال أيضا: أرداه في البئر مثلا أي أسقطه فيها، فالمعنى على هذا الوجه الهوى المسقط إلى هوة جهنم و مال المعنيين واحد.

(المغوي) كالمردي فاعل من الاغواء أي المضل، و هو إشارة إلى قوله تعالى حاكيا عن الشيطان: و لأغوينهم أجمعين‏ (الحجر- 41) قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين‏ (ص- 85).

و في الحلية (زقاق الفناء) الزقاق بضم الأول و تخفيف الثاني: السكة و قيل:الطريق الضيق دون السكة نافذا كان أو غير نافذ يذكر و يؤنث جمعه زقاق بالضم فالتشديد و أزقة.

(يشرع) بالبناء للمفعول من الاشراع أي يفتح، و في القاموس: أشرع بابا إلى الطريق فتحه. أو من الاشراع بمعنى التهيؤ أى يتهيأ للدخول و الخروج‏ نحو قول جعفر بن علبة الحارثي (الحماسة 4):

فقالوا لنا ثنتان لابد منهما صدور رماح اشرعت أو سلاسل‏

أي إذا كان الأمر على هذا فلا بد من أحدهما إما صدور رماح هيأت للطعن أو سلاسل، أي إما القتل أو الأسر و لكن المعنى الأول أبين و أنسب.

في الأربعين: بالخروج من عز القنوع، و القنوع بالضم: القناعة.

(الضراعة): الذلة: مصدر من ضرع ضراعة من بابي منع و شرف أي خضع و ذل و تذلل.

(أدرك) بمعنى لحق يقال: طلب الشي‏ء حتى أدركه أي حتى لحقه و وصل إليه.

(درك) قال في الصحاح: الدرك التبعة، تسكن و تحرك، يعني أن الدرك يقرأ على وجهين بفتح الأولين و بفتح الأول و سكون الثاني يقال: ما لحقك من درك فعلي خلاصه. و المراد من الدرك هنا ما يضر بملكية المشتري كأن يدعي أحد كان المبيع ملكه و بيع بغير حق و كان البائع غاصبا و غير ذلك.

(مبلبل) اسم فاعل من بلبل القوم بلبلة و بلبالا إذا هيجهم و أوقعهم في الهم و وسواس الصدور. قال باعث بن صريم «على التصغير»:

سائل أسيد هل ثأرت بوائل‏ أم هل شفيت النفس من بلبالها

أى من همها و حزنها (الحماسة 175).

و قال منصور النمري:

فلما رآني كبر الله وحده‏ و بشر قلبا كان جما بلابله‏

أى كانت غمومه مجتمعة عليه (الحماسة 749).أو من بلبل الألسنة أي خلطها أي يخلط و يمزج أجسامهم بتراب القبر.

أو من بلبل الشي‏ء إذا فرقه و مزقه و أفسده بحيث أخرجه عن حد الانتفاع به، و المراد هنا المعنى الثاني أو الثالث كما هو ظاهر لاغبار عليه، فلا حاجة إلى ما تكلف به الشيخ محمد عبده حيث فسر مبلبل الأجسام بقوله: مهيج داءاتها المهلكة لها.

و في نسخة الشيخ في الأربعين: فعلى مبلي أجسام الملوك، و قال قدس سره في بيانه: مبلي كمكرم من البلاء بالكسر و هو الدثور و الاندراس، و كذا ابن الخاتون العاملي في شرحه قال: مبلي بر وزن مكرم مأخوذ از بلاى بكسر با است كه بمعني دثور و اندراس است يعني از هم پاشيدن و ريزه ريزه شدن، و لم ينقلا غير المبلي نسخة اخرى فعندهما المبلي هو المتعين، و في النهج و الحلية:المبلبل مكان المبلي، و مال الكل واحد يقال: أبلى الثوب أي أخلقه و بلبله أي مزقه و أفسده، فمعنى أحدهما قريب من الاخر.

(سالب نفوس الجبابرة) سلبه يسلبه سلبا و سلبا من باب نصر أى انتزعه من غيره على القهر، و النفوس جمع النفس و هي هنا بمعنى الروح، و الجبابرة:

الملوك كما في اللسان فسالب نفوس الجبابرة أي قابض أرواح الملوك أو أن الملوك أحد بعض مصاديق الجبابرة.

كنايه [مبلبل اجسام الملوك … الفراعنة] ثم الظاهر أنه عليه السلام كنى بالمبلبل و السالب و المزيل عن الله جلت عظمته و يمكن إرادة ملك الموت منها و لكن الشيخ صرح في الأربعين بأن المراد منها الموت فليتأمل.

(كسرى) بكسر الكاف و فتحها أيضا لقب ملوك الفرس، و هو معرب خسرو أي واسع الملك و أحد جموعه: أكاسرة.

(قيصر) لقب ملوك الروم و جمعه: قياصرة.

(تبع) بضم التاء المثناة من فوق و تشديد الباء الموحدة المفتوحة. لقب ملوك اليمن و الجمع: تبايعة.

(حمير) بكسر أوله و فتح ثالثه أبو قبيلة من اليمن و هو حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، و منهم كانت الملوك في الدهر الأول و اسم حمير العرنج، قاله في الصحاح.

(شيد) الشيد بكسر الشين ما يطلى به الحائط من حص أو بلاط و نحوهماو بالفتح المصدر يقال: شاده يشيده شيدا بالفتح جصصه، و هو مشيد أى معمول بالشيد قال تعالى: و قصر مشيد و نقل إلى باب التفعيل للمبالغه، أو يكون من شيد البناء أي رفعه كما في أقرب الموارد و كذا في الصحاح حيث قال: و المشيد بالتشديد المطول، أو من شيد قواعده أي أحكمها.

قال الكسائي: المشيد للواحد من قوله تعالى‏ و قصر مشيد و المشيد بالتشديد للجمع من قوله تعالى‏ في بروج مشيدة نقله في الصحاح.

أقول: الظاهر أن الكسائي أراد أن المشيد و المشيد بمعنى واحد إلا أن الأول يستعمل في المفرد و الثاني في الجمع فلا يقال قصر مشيد بالتشديد أو بروج مشيدة بالتخفيف فتأمل.

تشبيه (زخرف) زخرفه أى زينه و حسنه، و الزخرف كل ما حسن به الشي‏ء و المزخرف المزين قال الله تعالى: حتى إذا أخذت الأرض زخرفها و ازينت‏ (يونس- 26).

قال عنترة بن الأخرس (الحماسة 817):

لعلك تمنى من أراقم أرضنا بأرقم يسقى السم من كل منطف‏
تراه بأجواز الهشيم كأنما على متنه أخلاق برد مفوف‏
كأن بضاحي جلده و سراته‏ و مجمع ليتيه تهاويل زخرف‏

شبه بارز جلد الحية و ظهره و مجمع صفحتي عنقه لاختلاف ألوانها بالتهاويل التي تزخرف بها الإبل. و في المفردات: الزخرف الزينة المزوقة و منه قيل للذهب زخرف.

قال في الصحاح: الزخرف الذهب ثم يشبه به كل مموه مزور، فعلى هذا قوله عليه السلام زخرف بمعنى زينه بالزخرف أي ذهبه.

(نجد) بالنون و الجيم المشددة و الدال المهملة يقال: نجد البيت أي زينه بالبسط و الفرش و الوسائد، و في اللسان نجدت البيت بسطته بثياب موشية و النجد محركة: متاع البيت من فرش و نمارق و ستور، جمعه أنجاد، و نجود البيت:ستوره التي تعلق على حيطانه يزين بها.

أو يكون نجد من النجد بمعنى ما ارتفع من الأرض أي رفع البناء، و هذا المعنى على نسخة الشيخ في الأربعين حيث قال: «نجد فزخرف» أنسب إن لم يكن متعينا، و على نسخة الرضي المعنى الأول أنسب فإن زخرف أعني ذهب يستعمل غالبا في تزيين سقف البيت، و نجد في تزيين أرضه.

(ادخر) أي اكتسب المال و خبأه لوقت الحاجة إليه، و هو افتعل من الذخر لكنه أبدل من التاء دالا فادغم الدال فيه فلك أن تقول: ادخر، و لك أن تقول: اذخر، قال منظور بن سحيم «بالتصغير» الحماسة 422:

و عرضي أبقى ما ادخرت ذخيرة و بطني أطويه كطي ردائيا

(اعتقد) مالا: جمعه، و اعتقد ضيعة: اقتناها، تقول: اعتقد عقدة إذا اشترى ضيعة، و العقدة: الضيعة و العقار الذي اعتقده صاحبه ملكا أي اقتناه و غيرهما من الأموال الصامتة فلك أن تقول: اعتقد أي جعل لنفسه عقدة.

(الولد) بسكون الثاني و حركات الواو و بفتحههما كل ما ولده شي‏ء و يطلق على الذكر و الانثى و المثنى و المجموع، و هو مذكر و الجمع أولاد و ولدة بالكسر فالسكون و إلدة بإبدال الواو همزة و ولد بالضم فالكسر فالأخير جاء جمعا و مفردا كالفلك قال تعالى: و الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس‏ (البقرة- 161)، و قال تعالى: حتى إذا كنتم في الفلك و جرين بهم بريح طيبة (يونس- 24) فالأولى مفرد و الثانية جمع.

(نظر بزعمه للولد) يقال: نظر له أي رثاه و أعانه و المراد هنا جمع المال للولد إعانة له و تحننا عليه.

(إشخاصهم جميعا إلى موقف العرض و الحساب) أي إرجاعهم إليه قال في اللسان: أشخص فلانا إلى قومه: أرجعه اليهم. و يقال أيضا: أشخصه أي أزعجه و أحضره.

(العرض) أي عرض أعمالهم عليهم من عرض الشي‏ء عليه و له أي أراه إياه‏

قال تعالى: ثم عرضهم على الملائكة (البقرة- 31) و عرضوا على ربك صفا (الكهف- 47) إنا عرضنا الأمانة على السماوات و الأرض‏ (الأحزاب- 73) و عرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا (الكهف- 101) و يوم يعرض الذين كفروا على النار «الأحقاف- 35).

(فصل القضاء) الفصل إبانة أحد الشيئين من الاخر حتى تكون بينهما فرجة و يوم الفصل أحد أسماء القيامة قال تعالى‏ هذا يوم الفصل جمعناكم و الأولين‏ (المرسلات- 39) أي اليوم يبين الحق من الباطل، و قال تعالى‏ إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين‏ (الدخان- 42) و قال: و هو خير الفاصلين‏ (الأنعام- 58) فقوله عليه السلام: فصل القضاء أي فصل القضاء بين الحق و الباطل.

(خسر هنالك المبطلون) اقتباس من قوله تعالى: فإذا جاء أمر الله قضي بالحق و خسر هنالك المبطلون‏ (المؤمن- 80).

الاعراب‏

«قاضي» صفة لشريح بالإضافة. «بثمانين» الباء للتعويض و المقابلة و هي الداخلة على الأعواض و الأثمان. جملة اشترى على عهده دارا بثمانين دينارا خبر إن. «قد كان ذلك» كان تامة و ذلك فاعل لها. «نظر مغضب» مفعول مطلق لفعل نظر.

ثم إن كلمة مغضب فيما رأينا من النسخ المطبوعة من النهج مشكولة بكسر الضاد لكنها و هم و الصواب بفتحها كما في نسخة عتيقة مصححة جدا قد رزقنا الله أثناء الشرح و وفقنا بابتياعها و قد تفألت بها التوفيق في إتمام هذا الأثر كيف لا و في الخبر: إذا أراد الله شيئا هيا أسبابه.

و بعد ذلك تفضل علينا صديقنا الفاضل السيد مهدي الحسيني اللاجوردي زاده الله توفيقا بالاطلاع على نسخة من مكتبته بدار العلم قم قوبلت بنسخة السيد الامام الرضي رضوان الله عليه، و النسختان موافقتان متنا و صحة في عدة مواضع قوبلتا فيها، و المغضب فيهما مشكولة بالفتح.

أما من حروف التنبيه يصدر بها الجمل كلها حتى لا يغفل المخاطب عن شي‏ء مما يلقي المتكلم إليه، و لذا سميت حروف التنبيه، و هي: أما و ألا و ها، و الأخيرة خاصة من المفردات على أسماء الإشارة حتى لا يغفل المخاطب عن الاشارة التي لا يتعين معانيها إلا بها نحو: هذا، و هاتا، و نحوهما.

«حتى لا يخرجك» الفعل منصوب بأن المقدرة وجوبا و يسلمك عطف عليه.

«شاخصا» حال لضمير المفعول في يخرجك. «خالصا» حال لضمير المفعول في يسلمك.

«فانظر يا شريح لا تكون» في نسختي الأربعين و حلية الأولياء: فانظر أن لا تكون. فإن كان بمعنى تدبر و تفكر فلا بد من صلته بفي، و إن كان بمعنى أبصر إما أن تكون صلته بإلى، و إما يتعدى بنفسه يقال نظره و نظر إليه أي أبصره بعينه كما قدمنا في اللغة.

ثم إن الأولى و الأنسب أن تكون صلة الفعل كلمة في الجارة المقدرة حتى تفيد معنى التدبر و التأمل و التفكر أي تأمل و تدبر في أن لا تكون اشتريت هذه الدار من غير مالك أو نقدت الثمن من غير حلالك. فعلى هذا يكون المصدر المسبوك بأن الناصبة منصوبا بنزع الخافض، أي تأمل في عدم كونك شاريا لها من غير مالك و في أدائك ثمنها من غير حلالك، و أما نسخة النهج فعلى وزان قوله تعالى: انظر كيف ضربوا لك الأمثال‏ (الاسراء- 52) ثم اعلم الصواب أن يقرأ ما لك في قوله عليه السلام: ابتعت هذه الدار من غير مالك بهيئة الفاعل لأنه لو قرئ باضافة المال إلى الضمير يلزم التكرار لأن معنى جملتي «ابتعت هذه الدار من غير مالك» و «أو نقدت الثمن من غير حلالك» واحد حينئذ فالمتعين أنه فاعل لا مضاف و مضاف اليه، و نسخة الشيخ في الأربعين «فانظر أن لا تكون اشتريت هذه الدار من غير مالكها» شاهد صادق بل حجة قاطعة للمختار و قد ترجم العبارة و فسرها كثير من المترجمين و المفسرين بالإضافة و لم يتفطنوا لتلك الدقيقة.

«فاذا أنت قد خسرت» قال الشيخ في الأربعين: إذا هذه فجائية كالواقعة في قوله تعالى‏ فإذا هم خامدون‏ (يس- 30) أي فيكون مفاجئا للخسران.

«فلم ترغب في شراء هذه الدار بالدرهم فما فوقه» و في نسخة الأربعين «إذا لم تشترها بدرهمين» و قال الشيخ في إعرابه: إذا حرف جواب و جزاء و الأكثر وقوعها بعد أن و لو، و اختلف في رسم كتابتها و الجمهور بالألف و المازني بالنون، و الفراء كالجمهور إن أعملت و كالمازني إن أهملت. انتهى قوله.

أقول: و أما على نسخة النهج فقوله عليه السلام: بالدرهم فما فوقه. الفاء للعطف و ما نكرة موصوفة أو بمعنى الذي مجرور محلا بالباء و لم تعد لأنه عطف على الظاهر و العامل في فوق على الوجهين الاستقرار، و المعطوف عليه الدرهم و سيأتي توجيه قوله عليه السلام فما فوقه و تحقيقه في المعنى إن شاء الله تعالى.

«من ميت قد ازعج للرحيل» قد ازعج للرحيل صفة للميت لأنه نكرة كالذليل للعبد. «اشترى منه دارا» بدل للأول كالثالث.

و القياس أن يقال: هذه ما اشترى لأن ما ابتاعها كانت دارا كقوله عليه السلام:تجمع هذه الدار، و لكنه عليه السلام قال: هذا ما اشترى باعتبار المنزل و نحوه.

«دارا من دار الغرور» كلمة من بمعنى في إن كان المراد من دار الغرور الدنيا كما بينا أي دارا في دار الغرور نحو قوله تعالى (الجمعة- 10) إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة أي في يوم الجمعة، و يمكن أن تكون من على هذا الوجه للتبعيض أيضا كما هو ظاهر أو يكون الظرف مستقرا صفة للدار، و إن كانت من لبيان الجنس لا يكون المراد منها الدنيا. نحو من الثانية في قوله تعالى‏ يحلون فيها من أساور من ذهب‏ (الكهف- 31) أي دارا هي دار الغزور.

«تجمع هذه الدار حدود أربعة» هذه الدار مفعول قدم و حدود فاعل تجمع و في بعض نسخ الأربعين جعلت هذه الدار فاعل الفعل و حدود مفعوله حيث كتب‏

تجمع هذه الدار حدودا أربعة، و لكنه من تحريف النساخ و تصرفهم.

«فالحد الأول» الفاء هذه للترتيب الذكري لأن أكثر ما يكون ذلك في عطف مفصل على مجمل نحو قوله تعالى: فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة (النساء- 153).

«بالخروج من عز القناعة» الباء للعوض و المقابلة أي اشترى هذا بهذا كما تقول: اشتريت هذه الدار بهذه الدنانير. و الدخول مجروره معطوف على الخروج «فما أدرك» كلمة ما إما موصولة أو موصوفة و على التقديرين مبتداء و خبره جملة «فعلى مبلبل أجسام الملوك إشخاصهم جميعا إلى موقف العرض» لأن إشخاصهم مبتداء ثان و خبره على مبلبل أجسام الملوك قدم لتوسعة الظروف، و هذه الجملة الاسمية خبر لما.

«من درك» من بيانية يبين ما «فعلى مبلبل» كلمة الفاء جواب لما لأنه على حد: الذي يأتيني فله درهم، أعني من المواضع التي يتضمن المبتدأ فيها معنى الشرط فتدخل الفاء في خبره نحو قوله تعالى: و ما بكم من نعمة فمن الله‏ (النحل- 55) و قوله تعالى: قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم‏ (الجمعة- 8) و كأنما أراد الشيخ في الأربعين هذا المعنى حيث قال: ما في ما درك شرطية، سالب عطف على مبلبل، و كذا المزيل.

«و من جمع» من موصول اسمي معطوف على الفراعنة أي مزيل ملك الذي جمع المال- إلخ، أو على كسرى كقيصر و أخويه و كأن الأخير أظهر و كذا الحكم في من الثاني، و نسخة الشيخ هكذا: و من جمع المال إلى المال فأكثر و بنى فشيد و نجد فزخرف.

و لولا كلمة- إلى- مكان- على- لكانت نسخته أولى من النهج لعدم الاحتياج إلى من الثاني أولا، و عدم تنسيق العبارة على نظام واحد في النهج ثانيا، و خلوه عن التعريفات الحسنة الأنيقة ثالثا.

و أما كلمة إلى و إن كانت تفيد معنى صحيحا في المقام و لكن على أصح و أفصح‏ منها. و الفاءات تفيد الترتيب «بزعمه» الباء للسببية.

إلى موقف العرض متعلق بالاشخاص، و الظرف لغو، و على نسختي الشيخ و أبي نعيم «ما أبين الحق» كلمة ما للتعجب.

ما الذى اوجب سخط الامير عليه السلام على عمل شريح حتى كتب له ذلك الكتاب؟

قبل الورود في تفسير جمل الكتاب لا بد من ذكر مقدمة ليزيد الطالب بصيرة في غرض الكتاب، و هي:

أن سفراء الله تعالى لم يمنعوا الناس عما لا مناص عنها في حياتهم كتعلم المعارف و تحصيل المأكل و المشرب و الملبس و المنكح و بناء الدور و اتخاذ الحرف و الصنائع و نحوها مما هي ضرورية لحفظ نظام الاجتماع و بقاء بني نوع الانسان، بل ندبوهم إليها و رغبوهم فيها و حرموا عليهم الرهبانية بأن الانسان مدني بالطبع، و كذا لم يدع أحد و لم يرو أن حجة من الحجج الالهية عاتب أحدا في قبال عمله الصحيح العقلاني، بل حذروهم و نهوهم عما يحكم العقل الناصع بقبحه و يذم من ارتكبه كالسرقة و الكذب و الافتراء و الخيانة و الغصب و الاقتداء بالنساء و نحوها مما هي تضر سعادة الاجتماع، و تمنع الناس عن التكامل و الارتقاء، و تورث بينهم العداوة و البغضاء.

و هذا هو أمير المؤمنين علي عليه السلام يمدح هدية و يذم اخرى، لأن الاولى كانت عارية عن الهوى، و الثانية كانت مشوبة بها، فانها كانت رشوة في صورة هدية أتى بها آت ليلا و زعم أن أمير المؤمنين عليه السلام يضل بها عن الحق، و يفسق عن أمر ربه أما مدحه عليه السلام الاولى فبعض من كان يأنس إليه عليه السلام من أصحابه دعاه إلى حلواء عملها يوم نوروز، فأكل و قال عليه السلام: لم عملت هذا؟ فقال: لأنه يوم نوروز، فضحك عليه السلام و قال: نورزوا لنا في كل يوم إن استطعتم.

و أما ذمه الثانية فإن أشعث بن القيس أهدى له نوعا من الحلواء تأنق فيه و ظن الأشعث أنه يستميله بالمهاداة لغرض دنيوي كان في نفس الأشعث، و كان‏ يبغض أمير المؤمنين عليه السلام فرد هديته و قال:و أعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعائها و معجونة شنئتها كأنما عجنت بريق حية أوقيئها، فقلت: أصلة؟ أم زكاة؟ أم صدقة؟ فذلك كله محرم علينا أهل البيت، فقال: لا ذا و لا ذاك و لكنها هدية، فقلت: هبلتك الهبول أعن دين الله أتيتني لتخدعني أ مختبط أم ذوجنة أم تهجر؟ و الله لو اعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصى الله في نملة اسلبها جلب شعيرة ما فعلته، و إن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها ما لعلي و نعيم يفنى، و لذة لا تبقى نعوذ بالله من سبات العقل و قبح الزلل و به نستعين (ذيل الكلام 222 من باب الخطب من النهج).

ثم إذا كان المتجر الحلال و تحصيل ما يحتاج إليه الناس و منه ابتياع الدار ممدوحا شرعا و عقلا حتى قال رسول الله صلى الله عليه و آله: من سعادة المرء المسلم المسكن الواسع، و قال أبو جعفر عليه السلام: من شقاء العيش ضيق المنزل و غيرهما من الأخبار المروية في الكافي و غيره (الوافي ص 107 ج 11).

فلازم للعاقل المستبصر أن ينظر في قول أمير المؤمنين عليه السلام لشريح حتى يظهر له سبب سؤاله شريحا عن داره هذه فإن شريحا كان قاضيا من قبله عليه السلام و سيأتي ترجمته في ذيل الشرح، و الظاهر أن شريحا تجاوز عن الحق في أوان قضائه و اشترى بالارتشاء أو نحوه بيتا فصار عمله هذا سبب مؤاخذة أمير المؤمنين عليه السلام إياه على ابتياع الدار سيما أن القائمين بامور الدين كالقاضي و المفتي و المدرس و المؤذن و الخطيب و الامام و أمثالهم لا تعظم ثروتهم في الغالب.

و لا ريب أن أزمة الامور إذا كانت بيد رجل إلهي خير للاجتماع و رؤف بالناس يجتاح شوك الجور و العدوان من أصله و لا يدع أحدا أن يتجاوز عن قانون الفطرة و ينحرف عن الحق فلا جرم يدور رحى الاجتماع على محور العدل.

و بالجملة أن ما أوجب سخطه عليه السلام على شريح و عمله كما يلوح من ظاهر كتابه عدول شريح عن الحق و تجاوزه عن حقوق الناس حتى اشترى دارا بثمانين دينارا من غير حلال، و لو لا ذلك لما سخط عليه و ما جعل له أحد الحدود الحد الذي ينتهي إلى الشيطان المغوي و فيه يشرع باب هذه الدار.

المعنى‏

قوله: (روي أن شريح بن الحارث قاضي أمير المؤمنين عليه السلام) سنذكر في ذيل شرح الكتاب ترجمة شريح‏ و نسبه و خبره و مدة قضائه و ما قيل فيه إنشاء الله تعالى قوله: (اشترى على عهده دارا بثمانين دينارا) أي‏ اشترى‏ في زمان حياة أمير المؤمنين عليه السلام‏ دارا في الكوفة كان ثمنها ثمانين دينارا، و إنما قلنا اشترى دارا في الكوفة لأنه كان قاضيا فيها، و يظن ظاهرا أنه اشتراها في الكوفة أيضا.

قوله: (فبلغه ذلك فاستدعى شريحا) أي بلغ أمير المؤمنين عليا عليه السلام ابتياع‏ شريح‏ تلك الدار فطلب عليه السلام‏ شريحا.

قوله: (و قال له بلغني أنك ابتعت دارا بثمانين دينارا و كتبت لها كتابا و أشهدت فيه شهودا) أي‏ قال عليه السلام لشريح‏: بلغني اشتراءك دارا ثمنها ثمانون‏ دينارا، و كتبت لها قبالة و أحضرت في ذلك‏ شهودا، أو جعلت قوما شهودا عليه على أن تكون في بمعنى على.

قوله: (فقال له شريح قد كان ذلك يا أمير المؤمنين) أي قد ثبت و وقع ذلك لأن كان تامة.

قوله: (قال فنظر إليه نظر مغضب) أي قال الراوي و هو عاصم بن بهدلة على رواية الشيخ قدس سره في الأربعين، و لا يجوز إرجاع الضمير إلى‏ شريح‏ و إلا لقال فنظر إلي.ثم إن غضب سفراء الله و أوليائه على غيرهم لا يكون إلا لله عز و جل، و إنما كان ذلك من كمال إيمانهم بالله و غاية رأفتهم بالناس، لأنهم لا يحبون أن تشيع الفاحشة أو يرتكب أحد منكرا، و شريح قد آسف أمير المؤمنين عليه السلام باعترافه باشتراء الدار فنظر عليه السلام إليه نظر مغضب و ذلك لما قدمنا أن‏ شريحا لو لم يظلم أحدا على اشترائها و لم يتجاوز عن الحق لما سخط عليه السلام عليه و لما جعل أحد حدود الدار الحد الذي ينتهي إلى الشيطان المغوي.

قوله: (ثم قال يا شريح أما أنه سيأتيك) و في نسخة الشيخ في الأربعين «قال‏ يا شريح اتق الله فانه سيأتيك» أي خف الله و احذر ما حرمه عليك، قال بعضهم:

التقوى أن لا يراك الله حيث نهاك، و لا يفقدك حيث أمرك. و قيل: المتقي الذي اتقى ما حرم عليه و فعل ما أوجب عليه. و قيل: هو الذي يتقي بصالح أعماله عذاب الله. و سأل عمر بن الخطاب كعب الأحبار عن التقوى، فقال: هل أخذت طريقا ذا شوك؟ فقال: نعم، قال: فما عملت فيه؟ قال: حذرت و شمرت، فقال كعب: ذلك التقوى، و نظمه بعض الناس فقال:

خل الذنوب صغيرها و كبيرها فهو التقى‏
و اصنع كماش فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى‏
لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى‏

و روي عن النبي صلى الله عليه و آله أنه قال: إنما سمي المتقون لتركهم ما لا بأس به حذرا للوقوع فيما به بأس.

و قال عمر بن عبد العزيز: التقي ملجم كالمحرم في الحرم أتى بها الطبرسي في المجمع ضمن قوله تعالى‏ ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين‏ (البقرة- 3).

قوله عليه السلام: (أما إنه سيأتيك من لا ينظر في كتابك و لا يسألك عن بينتك) أما للتنبيه كأن‏ شريحا كان نائما استيقظه أمير المؤمنين عليه السلام، لأن الغافل في أعماله كالنائم فنبهه عليه السلام من نوم الغفلة فقال: انتبه‏ يا شريح سيأتيك‏ ملك الموت أو الموت لا يتأمل في كتابك و لا يستخبرك عن حجتك.

أما عدم نظره و استخباره، فان كان المراد من من الموت فالأمر واضح و إن كان المراد منه ملك الموت عليه السلام فوجهان:

الأول أنه مأمور لقبض الأرواح فقط، و ليس تكليفه السؤال عن أعمال الناس قال تعالى: قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون‏ (السجدة- 13) و قوله تعالى: و ما منا إلا له مقام معلوم‏ (الصافات- 165).

الوجه الثاني أنه من العقول المجردة المحيطة بما دونهم، و إنما يسأل عن الشي‏ء و يستخبر عنه من لم يكن محيطا به.

قوله عليه السلام: (حتى يخرجك منها شاخصا) أي‏ حتى يخرجك‏ الموت، أو ملك الموت من تلك الدار حال كونك مرفوعا محمولا على أكتاف الرجال، هذا إن أخذنا الشاخص من شخص السهم إذا ارتفع عن الهدف.

أو و الحال أنت خارج من تلك الدار و سائر إلى دار اخرى أي أنت مرتحل من هذه الدار إلى الدار الاخرة إن أخذناه من شخص المسافر شخوصا إذا خرج من منزله إلى غيره.

أو حال كونك ميتا إن أخذناه من شخص الميت بصره و شخصت عينه على التحقيق الذي قدمناه في اللغة.

قوله عليه السلام: (و يسلمك إلى قبرك خالصا) أي‏ يسلمك إلى قبرك‏ حال كونك عاريا من المال و الأهل و العيال و مجردا من أعراض الدنيا و حطامها، أي لا ينفعك ما تركت من الأهل و العيال و ما ادخرت من الأموال في وحشة القبر و غربته إلا صالح الأعمال يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

مجاز قوله عليه السلام: (فانظر يا شريح لا تكون ابتعت هذه الدار من غير مالك) أي إذا كان مال كل أحد أن يخرج من الدنيا شاخصا و يسلم إلى قبره‏ خالصا فتأمل و تدبر في عدم كونك شاريا لها من غير مالكها بأن تكون‏ الدار مغصوبة فحينئذ لا بد في معنى ابتعت من توسع، لأنه لم يكن بيعا صحيحا جزما.

قوله عليه السلام: (أو نقدت الثمن من غير حلالك) عطف على ابتعت، أي إذا كان كذلك فتدبر و تأمل في أدائك ثمنها من غير حلالك‏ بأن اكتسبه من حرام بأخذ رشوة أو نحوها، لأنه كان قاضيا و القضاة في معرض الارتشاء و أكل المال بالباطل، إلا من اتقى لله حق تقاته.

قوله عليه السلام: (فاذا أنت قد خسرت دار الدنيا و دار الاخرة) إذا فجائية أى إن كانت‏ الدار المبيعة مغصوبة أو ثمنها من الحرام فأنت مفاجأ للخسران في الدارين.

أما خسرانه في دار الدنيا لأن مالك الدار يسلبها من يد غاصبها سيما في عصر كان فيه هيكل التوحيد و عنصر العدل علي بن أبي طالب عليه السلام أمير الناس رحب الباع فيرد الدار إلى مالكها، فيبقى الخسران على المشتري، فقد تقرر في الفقه أن أحدا لو اشترى مالا من غير مالكه فمالكه يأخذه من المشتري و المشتري يرجع في ثمنه إلى البائع الغاصب، و إن تعاقبت أيد عديدة فيه تخير المالك في إلزام أيهم شاء.

و أما خسرانه في دار الاخرة فإن التمتع من غير الحلال في الدنيا تصير و بالا في الاخرة، و ذلك هو الخسران المبين.

قوله عليه السلام: (أما لو أنك كنت- إلى قوله: بدرهم فما فوقه) أي كتبت لك في قبال قبالتك قبالة في مسافة تلك‏ الدار و حدودها و مبدئها و منتهاها و سائر أوصافها لم ترد و لم تحب ابتياعها بدرهم فما دونه في الصغر و القيمة.

و العاقل إذا تأمل في نسخة القبالة كيف يرغب في بيت أحد حدوده دواعي الافات، و الاخر دواعي المصيبات، و الثالث منته إلى الهوى المردي، و الرابع إلى الشيطان المغوي و لو اعطيها مجانا.

فإن قلت: إنه عليه السلام قال: بدرهم فما فوقه‏، فكيف فسرته‏ بدرهم فما دونه؟

قلت: إن الدار التي لا يرغب في شرائها بدرهم فبالأولى أن لا يرغب بما فوقه من الدرهمين فأكثر، و هذا ظاهر لا غبار عليه، فلا يصح حمل العبارة على ما فوق الدرهم في مقدار الثمن، بل المراد من قوله‏ فما فوقه‏، فوق الدرهم في القلة و الحقارة، نحو قولك لمن يقول: فلان أسفل الناس و أنذلهم: هو فوق ذاك، تريد هو أبلغ و أعرق فيما وصف به من السفالة و النذالة فيئول‏ فما فوقه‏ إلى فما دونه في الصغر و القيمة.

و هذا هو أحد الوجهين ذكرهما المفسرون في قوله تعالى: إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها (البقرة- 26) فذهب بعضهم كقتادة و ابن جريح و أتباعهما إلى أن المراد فما فوقها في الصغر و القلة، و بعض آخر إلى أن المراد فما فوقها أي أكبر منها و ما زاد عليها في الحجم.

و يجري الاحتمالان في ما روي في صحيح مسلم عن ابراهيم عن الأسود قال:دخل شباب من قريش على عائشة و هي بمنى و هم يضحكون، فقالت: ما يضحككم؟

قالوا: فلان خر على طنب فسطاط فكادت عنقه أو عينه أن تذهب، فقالت: لا تضحكوا إتي سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله قال: ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة و محيت عنه بها خطيئة.

فيحتمل فما عدا الشوكة و تجاوزها في القلة، و يحتمل ما هو أشد من الشوكة و أوجع.

و قال العكبري في شرحه على ديوان المتنبي عند قوله:

و من جسدي لم يترك السقم شعرة فما فوقها إلا و فيها له فعل‏

و ما فوقها يجوز أن يكون ما هو أعظم منها، و يجوز أن يريد ما دونها في الصغر و قد قال المفسرون في قوله تعالى‏ بعوضة فما فوقها الوجهان اللذان ذكرنا. انتهى.

و لكن كلا الوجهين في الاية و الخبر لا يتمشيان في المقام لما علمت أن ما لا يرغب فيه بدرهم فبالأولى أن لا يرغب فيه بما فوقه.

فما أشار إليه بعض في حاشية النهج من أن هذه العبارة في المقام تكون مثل قوله تعالى‏ بعوضة فما فوقها ليس باطلاقه صحيحا.

ثم إن لتفسير نحو هذه العبارة وجها آخر أدق و ألطف مما قدمنا لم يتعرضه أحد من الشراح و المفسرين و هي:أن مفاد عبارة النهج مثلا يكون هكذا: لم ترغب فيها بدرهم فكيف ترغب فيها بما فوقه، كأنه قال: فبأن لا يرغب فيها بما فوق الدرهم أولى، نظير هذا المضمون يقال في المحاورات الفارسية: اين كالا بدرمي نمى‏ارزد تا چه رسد كه به بيشتر از آن. و هكذا نحوه في كل مقام بحسبه مثلا إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فبأن لا يستحيي أن يضرب مثلا فوقها أولى، أو كيف يستحيي أن يضرب مثلا فوقها، و على هذا القياس في الخبر و شعر المتنبي و نحوها.

ثم إن الشارح البحراني قرر السؤال و الجواب بقوله:فان قلت: فكيف قال‏ فما فوقه‏ و معلوم أنه إذا لم يرغب فيها بدرهم‏ فبالأولى أن لا يرغب فيها بما فوقه؟.

قلت: لما كان الدرهم أقل ما يحسن التملك به في القلة و كان الغرض أنك لو أتيتني عند شرائك هذه الدار لما شريتها بشي‏ء أصلا لم يحسن أن يذكر وراء الدرهم إلا ما فوقه، و نحوه قول المتنبي: و من جسدي لم يترك، البيت، و كان قياسه أن يقول: فما دونها. انتهى.

أقول: إذا كان الدرهم أقل ما يحسن التملك به و كان الغرض ذلك فكيف لم يكتف عليه السلام بدرهم فقط و لما ذا ذكر فوقه، و لا يرتبط قوله لم يحسن أن يذكر وراء الدرهم إلا ما فوقه بما قبله معنى، و بالجملة أن ما أتى به من الجواب بعيد عن الصواب، و تأبى عنه عبارة الكتاب.

قوله عليه السلام: (بسم الله الرحمن الرحيم) من هنا إلى آخر الكتاب قبالة الدار على نهج لو تؤمل فيها لا يرغب في شرائها بدرهم، و لو نظر فيها العارف بفنون الكلام و أساليب البيان لأيقن أن هذا الكلام متميز عن كلام من سواه عليه السلام كالفضيل و أضرابه.

افتتح الكتاب بالبسملة اقتداء بالقرآن العظيم و امتثالا لمثال الرسول الكريم.

افتتح القرآن ببسم الله الرحمن الرحيم تعليما للعباد أن يبدؤا امورهم كبيرها و صغيرها بتلك الاية المباركة ليبارك فيها، و الافتتاح بتلك الكلمة الطيبة سنة الأنبياء و المرسلين، و شعار الأولياء و الصالحين كما جاء في القرآن المبين حكاية كتاب سليمان النبي صلوات الله و سلامه عليه: بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي و أتوني مسلمين‏ (النمل- 32 و 33).

و في الكافي عن الباقر عليه السلام أول كل كتاب نزل من السماء بسم الله الرحمن الرحيم، فاذا قرأتها فلاتبال أن لا تستعيذ، و إذا قرأتها سترتك فيما بين السماء و الأرض‏ و في التهذيب عن الصادق عليه السلام إنها أفرب إلى اسم الله الأعظم من ناظر العين إلى بياضها.

و في التوحيد عن الصادق عليه السلام من تركها من شيعتنا امتحنه الله بمكروه لينبهه على الشكر و الثناء و يمحق عنه و صمة تقصيره عند تركه.

و عن أمير المؤمنين عليه السلام إن رسول الله صلى الله عليه و آله حدثني عن الله عز و جل أنه قال: كل أمر ذي بال لم يذكر فيه بسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر.

قوله عليه السلام: (هذا ما اشترى عبد ذليل) لم يقل هذه باعتبار المنزل و البيت و نحوهما و إنما عبر شريحا بالعبد الذليل لئلا يتوهم حيث كان قاضيا أن له شأنا و رفعة بل نبهه بأنه في أية حال كان، و بلغ إلى أية رتبة رفيعة و درجة شامخة تتصور عبد ذليل في يد مولى قاهر لا يقدر من الفرار عن سلطانه و حكومته، و معلوم أن دأب الإنسان الفخر و العجب و الاستكبار إن رآه ذا رياسة و اقتدار إلا الأوحدي من الناس، لا يلهيه التكاثر و لا يعتني بالتفاخر قال عز من قائل: رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر الله‏ الاية (النور- 38).

و هذا التوجيه المختار أمتن و أتقن من توجيه الشارح البحراني حيث قال:خص المشتري بصفة العبودية و الذلة كسرا لما عساه يعرض لنفسه من العجب و الفخر بشراء هذه الدار.

قوله عليه السلام: (من ميت قد ازعج للرحيل) و في بعض النسخ من عبد قد ازعج للرحيل، و على الاولى إنما عبر البائع بالميت الذي‏ قد ازعج للرحيل‏ مع أنه حي لعدم استقامة الشراء من الميت، تنبيها على أن الموت لبالمرصاد بل أنشب أظفاره فإذا حان حينه لا منجى منه و لا مناص، فعده ميتا لتحقق وقوعه عن قريب و هذا تذكار للناس بأن الموت قريب وقوعه و كل نفس ذائقته، فلا ينبغي لهم أن يحبوا العاجلة و يذروا و رائهم يوما ثقيلا.

و في الكافي عن علي بن الحسين عليهما السلام همام أن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، و أن الاخرة قد ارتحلت مقبلة و لكل واحد منهما بنون، فكونوا من أبناء الاخرة و لا تكونوا من أبناء الدنيا، إلخ.

قوله عليه السلام: (اشترى منه دارا من دار الغرور) بدل من اشترى الاولى: أي‏ اشترى دارا في بيت‏ الغرور أي الدنيا، أو دارا هي دار الغرور، و قد مضى وجه التفسيرين في الاعراب فراجع.

و إنما كانت الدنيا دار الغرور لأنها تغر أهلها بألوانها و زخارفها و حطامها فتلهيهم عن ذكر الله عز و جل قال تعالى‏ و ما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور (آل عمران 184) و قال: فلا تغرنكم الحياة الدنيا (لقمن- 35).

و في كتاب عيون الحكم عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: احذروا هذه الدنيا الخداعة الغدارة التي قد تزينت بحليها، و افتتنت بغرورها، و غرت بامالها و تشوفت لخطابها، فأصبحت كالعروس المجلوة، و العيون إليها ناظرة، و النفوس بها مشغوفة، و القلوب إليها تائقة، و هي لأزواجها كلهم قاتلة، إلخ.

قوله عليه السلام: (من جانب الفانين و خطة الهالكين) في نسخة الشيخ في الأربعين:من جانب الفانين إلى عسكر الهالكين، و في نسخة أبي نعيم في حلية الأولياء:حد منها في زقاق الفناء إلى عسكر الهالكين، و ترجم ابن الخاتون العاملي نسخة الشيخ في شرحه الفارسي عليه بقوله: مسافت آن از جانب فنا و زوال است تا لشكر هلاك و ارتحال، و نسخ النهج متفقة في العبارة المذكورة.

أقول: الفناء خلاف البقاء، و الهلاك يستعمل غالبا في من مات ميتة سوء من معصية الله و مخالفة أمره قال تعالى: كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته‏ (آل عمران- 115) و قال: و كم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون‏ (الأعراف- 5) و قال: و تلك القرى أهلكناهم لما ظلموا (الكهف- 60) و قال عز من قائل: فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية و أما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية (الحاقة- 7) و غيرها من الايات.

و إنما قلنا غالبا لأنه قد يطلق على الموت على حتف الأنف كقوله تعالى:إن امرؤ هلك ليس له ولد (النساء- 176) و على غير الموت أيضا نحو قوله تعالى حكاية عن أصحاب الشمال: هلك عني سلطانيه‏ (الحاقة- 30).

و قال في أقرب الموارد: هلك الرجل مات، و لا يكون إلا في ميتة سوء و لهذا لا يستعمل للأنبياء العظام، انتهى.

أقول: و يرده قول الله عز و جل: و لقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا الاية (المؤمن- 38).على أنا لا نفرق بين الأنبياء في قبح اسناد نحو الميتة السوء مما ينفر عنه الطباع إليهم و إن كنا لا ننكر أن الله تعالى فضل بعضهم على بعض قال عز قائلا: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله و رفع بعضهم درجات‏ الاية (البقرة- 256).فعلى ما عرفت من معنى دار الغرور و الفناء و الهلاك فيكون من جانب الفانين أخص من دار الغرور و خطة الهالكين أخص من جانب الفانين، و هذا كما قيل على ما جرت العادت به في كتب البيع من الابتداء بالأعم و الانتهاء في تخصيص المبيع إلى امور بعينه.ثم على نسختي الأربعين و حلية الأولياء عين عليه السلام أولا مسافة الدار بأنها من جانب الفانين أو رقاق الفناء إلى عسكر الهالكين، و بين ثانيا حدودها الأربعة و لا يخفى لطفه.

قوله عليه السلام: (و تجمع هذه الدار حدود أربعة) أي تحوي‏ هذه الدار و تحيط بها حدود أربعة آتية، بين حدودها الأربعة كما هو المتعارف في تعيين حدود الأراضي و الدور و غيرهما، و الحدود في تحديد الأملاك بمنزلة الجنس و الفصل في الحدود قوله عليه السلام: (فالحد الأول ينتهي إلى دواعي الافات- إلى آخر الحدود) أخذ يفصل حدودها المذكورة على الاجمال أولا و في النسخ الثلاث أعني النهج و الأربعين و الحلية في تعيين الحدود اختلاف في الجملة و قد ذكرنا النسخ فلا حاجة إلى الإعادة.

ثم إنه لا توجد دار في الدنيا تكون دار السلام، بل تنتهي لا محالة إلى الافات و الأسقام و المصيبات و الالام، لأن الدنيا نفسها دار بالبلاء معروفة و بالتزاحم و التصادم معجونة، فالحد ان الأولان تعم جميع الدار و أما الاخران فيختصان بما بنيت على أساس الجور و مال الزور لأن المال الصالح في يد الرجل الصالح لا ينجر إلى الهوى المردي و الشيطان المغوي بل هو نعم المال.

ثم إنه عليه السلام جعل باب هذه الدار الذي يشرع أي يفتح للدخول فيها في الحد المنتهي إلى الشيطان المغوي تنبيها على أن الدار المبنية على الجور و العدوان ليست إلا من إغواء الشيطان، و إشارة إلى أن الشيطان كان سببا لاشترائها، و لو أعرض شريح عن اتباعه لما أقدم إلى ابتياعها.

قوله عليه السلام: (اشترى هذا المغتر بالأمل من هذا المزعج بالأجل هذه الدار بالخروج من عز القناعة و الدخول في ذل الطلب و الضراعة) بدل من الأول و أفاد عليه السلام في هذه الفقرة:

أولا أن اغترار شريح بالأمل‏ صار سبب‏ اشترائه الدار.

و ثانيا أنه جعل ثمنها الخروج من عز القناعة و الدخول في ذل الطلب و الضراعة لما مر في الإعراب من أن الباء للعوض و للمقابلة.

و ثالثا أن القانع عزيز و للقناعة عزة.

و رابعا أن‏ الخروج من عز القناعة يؤدي إلى الذلة و المسكنة من الطلب و الضراعة للخلق.

ثم انظر في لطائف كلامه عليه السلام و دقائق بيانه: ذم‏ الأمل‏، و الطلب و الضراعة و الخروج من القناعة، مدح‏ القناعة، و وصفها بالعزة، و جمع بين‏ الأمل و الأجل و الخروج و الدخول، و العز و الذل، و القناعة و الضراعة، و محاسن هذا الكتاب فوق أن يحوم حولها العبارة.

الانبياء و ورثتهم عليهم السلام لا يأمرون بالذل و السؤال بل يحضون على العز و الجلال‏ زعم الجاهلون و المغفلون عن غرض سفراء الله تعالى و بعثتهم أنهم يدعون الناس إلى الفقر و الكدية، و يأمرونهم بالبطالة و العزلة و الرهبانية، و ذلك ظن الذين اتبعوا أهواءهم و لم يصلوا إلى درك مقاصد الأنبياء و فهم مطالبهم، و لم يدروا أنهم نهوا الناس عن الدنيا المذمومة أي اقتراف المال و ادخاره على وجه لم يمضه العقل و لا يرضى به، كأن يقترفه بالسرقة و القيادة و القمار و الربا و الجور و شهادة الزور و بيع الخمر و نحوها مما تضر الاجتماع و تمنعه عن الارتقاء.

قال الله تبارك و تعالى: و لكن الله حبب إليكم الإيمان و زينه في قلوبكم و كره إليكم الكفر و الفسوق و العصيان أولئك هم الراشدون فضلا من الله و نعمة و الله عليم حكيم‏ (الحجرات- 8 و 9).

و لا منعوهم عن الدنيا المحمودة قال عز من قائل: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و الإثم و البغي بغير الحق و أن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا و أن تقولوا على الله ما لا تعلمون‏ (الأعراف- 32 و 33).

ثم إن إسناد الأمر بالرهبانية إلى الأنبياء و ورثتهم كما اجترأ النصارى بذلك و عزوه إلى عيسى نبي الله فرية و اختلاق، لأنهم حرموا عليهم الرهبانية و حثوهم على الكسب و تحصيل العزة و الكمال و ما رضوا بالذلة و النكبة قال الله تعالى: و لله العزة و لرسوله و للمؤمنين‏ (المنافقون- 9).

و هذا هو رسول الله صلى الله عليه و آله كيف شدد النكير على عثمان بن مظعون لمار كن إلى الرهبانية: روى الشيخ الأجل ابن بابويه الصدوق رضوان الله عليه في أول المجلس السادس عشر من اماليه باسناده عن أنس بن مالك قال: توفى ابن لعثمان بن مظعون رضي الله عنه فاشتد حزنه عليه حتى اتخذ من داره مسجدا يتعبد فيه، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه و آله، فقال له: يا عثمان إن الله تبارك و تعالى لم يكتب علينا الرهبانية إنما رهبانية امتي الجهاد في سبيل الله، الحديث.

و كيف يدعونهم إليها مع أن كلماتهم في ذمها لا تحصى كثرة، و ينادون الناس جهارا، بأن كل واحد منهم كعضو من أعضاء جثمان الاجتماع، لأن الانسان مدني بالطبع فلا بد لكل واحد منهم من مكسب يتم به أمرهم، و لا يختل حتى لا يتطرق إليهم النكبة و الذلة قال تعالى: و أن ليس للإنسان إلا ما سعى‏ (النجم- 41).

و لقد روى الفريقان عن رسول الله صلى الله عليه و آله أنه قال: إنما المؤمنون في تعاطفهم‏ و تراحمهم بمنزلة جسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى و السهر فمن هذا الحديث يستفاد مطالب أنيقة أخلاقية و اجتماعية منها أنهم بمنزلة جسد، فأخذ هذا المضمون الشيخ الأجل السعدي و قال بالفارسية:

بني آدم أعضاي يكديگرند كه در آفرينش ز يك گوهرند
چو عضوي بدرد آورد روزگار دگر عضوها را نماند قرار
تو كز محنت ديگران بى‏غمي‏ نشايد كه نامت نهند آدمي‏

و هذا هو أمير المؤمنين علي عليه السلام كيف آخذ شريحا في كتابه هذا بخروجه من عز القناعة، و دخوله في ذل الطلب و الضراعة، باغتراره بالأمل.

و أخبارنا في ذم طول الأمل و السؤال من الناس و مدح الكسب و تحصيل الكمال و ترغيب الناس إلى ما فيه سعادتهم و رفعتهم و تبري الأنبياء من الذين صاروا بالعطالة و البطالة كلا على الناس كثيرة جدا و لولا خوف الإطناب و الخروج عن اسلوب الكتاب لذكرناها فلعلنا نأتي بطائفة منها في المباحث الاتية إن شاء الله تعالى.

و بالجملة أن ما جاء به الأنبياء فانما هو لاحياء النفوس و إيقاظ العقول و سوق الناس إلى ما فيه حياتهم الأبدية المعنوية و سعادتهم السرمدية و خروجهم من حضيض الذل إلى أوج العز، قال الله جل و علا. يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله و للرسول إذا دعاكم لما يحييكم‏ (الأنفال- 25).

قوله عليه السلام: (فما أدرك هذا المشتري فيما اشترى من درك فعلى مبلبل أجسام الملوك) لما بين عليه السلام مسافة الدار و حدودها أخذ في بيان ضمان درك ما يلحق‏ المشترى‏.

فاعلم أن‏ المشتري‏ إن لم يكن عالما بالغصب فاشترى المال المغصوب ثم شهد مالكه و لم يجز بناء على صحة البيع الفضولي و أخذه منه يرجع في ثمنه و ما لحقه من درك آخر إلى البائع، و إن كان عالما به و أقدم إلى شراء المغصوب فلا حرمة لماله لأنه ألقى بيده. إلى التهلكة، لأنه استولى على مال الغير و تصرف فيه عدوانا فهو غاصب‏ و ضامن العين و المنافع، و لم يكن حينئذ ما أدركه من درك على البائع و ليس له حق الرجوع اليه.

و لذا ذهب طائفة من الفقهاء إلى أنه لا رجوع للمشتري على البائع الغاصب مع علمه حتى بالثمن مع تلفه، بل في المسالك أن الأشهر عدم الرجوع به مع وجود عينه، بل ادعى عليه في التذكرة الإجماع عقوبة له، و خالفهم الاخرون فصرح بعضهم كالشهيد في اللمعة بالرجوع به مع بقاء العين سواء كان عالما أو جاهلا و بعضهم بالرجوع مطلقا سواء تلف الثمن أو لا كالمحقق في أحد قوليه.

و من لطائف كلامه عليه السلام في المقام أنه عليه السلام لم يبين حكم ضمان الدرك الذي يلحق المشتري في هذه المعاملة بأن الضامن من هو؟ بل أحاله إلى يوم القيامة حيث قال عليه السلام: فعلى مبلبل أجسام الملوك إشخاصهم جميعا إلى موقف العرض و الحساب‏- إلخ، فلا يخفى لطفه.

ثم إن درك الضمان لا يختص بمال المغصوب بل يجري في المبيع المعيب أيضا، و كذا في الثمن المعيب على التفصيل المذكور في الفقه.

ثم لا يخفى على ذي مسكة أنه عليه السلام لم يعلق ضمان‏ الدرك‏ على أحد. بل صريح كلامه أن‏ على مبلبل أجسام الملوك إشخاصهم إلى موقف العرض و الحساب‏ يعني هنا لك يحكم بين الحق و الباطل بفصل القضاء فيعلم أن ضامن الدرك من هو و العجب من شارح البحراني ذهب في شرحه على النهج إلى أنه عليه السلام علق الدرك و التبعة اللازمة في هذا البيع بملك الموت.

و كذلك بما حققنا علم أن ما ذهب إليه المجلسي قدس سره في شرح الكتاب (ص 545 ج 9 من البحار الطبع الكمباني) حيث قال: ثم اعلم أنه يكفي لمناسبته ما يكتب في سجلات البيوع لفظ الدرك، و لا يلزم مطابقته لما هو المعهود فيها من كون الدرك لكون المبيع أو الثمن معيبا أو مستحقا للغير، فالمراد بالدرك التبعة و الاثم أي ما يلحق هذا المشتري من وزر و حط مرتبة و نقص عن حظوظ الاخرة، فيجزي بها في القيامة، ليس بصحيح، و يأباه قوله عليه السلام‏ إشخاصهم جميعاو غيره من العبارات فهو تفسير لا يناسبه الكتاب.

قوله عليه السلام: (و سالب نفوس الجبابرة) عطف‏ على مبلبل‏ و كذا قوله عليه السلام:و مزيل ملك الفراعنة. و إنما خص الملوك و الجبابرة و الفراعنة بالذكر كسرا لشريح‏ و أضرابه حتى لا يغتروا بالمنصب و المقام و الشهرة و العنوان، و تنبيها لهم أنه لما كان هؤلاء الملوك و الجبابرة و الفراعنة مقهورين في يد الله الواحد القهار فكيف مثل شريح و أشياعه، على و زان قوله تعالى: أ و لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة و آثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم و ما كان لهم من الله من واق‏ (المؤمن- 24)

و قوله تعالى:أ فلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم و أشد قوة و آثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون‏ (المؤمن- 84).

قوله عليه السلام: (مثل كسرى و قيصر و تبع و حمير) مثل لكل واحد من الملوك و الجبابرة و الفراعنة و لا يختص بالأخير.

قوله عليه السلام: (و من جمع المال على المال فأكثر) قد مضى في الاعراب أن الأظهر أن يكون من معطوفا على كسرى كالثلاثة قبله أي مثل من جمع المال- إلخ قوله عليه السلام: (و من بنى و شيد) عطف على من الأول أي‏ مثل من بنى دارا و جصصها أو رفعها أو أحكم قواعدها على الوجوه التي بيناها في اللغة.

قوله عليه السلام: (و زخرف) أي زين سقف البناء و جدرانه بالذهب.

قوله عليه السلام‏ (نجد) أي زينه بالبسط و الفرش و الوسائد و النمارق و الستور و نحوها، و قد مضى في اللغة أن التذهيب يناسب تزيين سقف البيت، و التنجيد تزيين أرضه و جدرانه.

قوله عليه السلام: (و ادخر) أي اكتسب المال و جعله ذخيرة لوقت الحاجة إليه قوله عليه السلام: (و اعتقد) أي جعل لنفسه عقدة أي اقتنى الضياع و العقار و غيرهما من الأموال الصامتة.

قوله عليه السلام: (و نظر بزعمه للولد) أي‏ نظر في جمع المال‏ لولده‏ إعانة له‏ و ترحما عليه و رآه مصلحة له ظنا منه أن عمله هذا ينفعه و يعزه. و سيأتي في أواخر باب المختار من حكم أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال لابنه الحسن عليه السلام: يا بني لا تخلفن وراءك شيئا من الدنيا فإنك تخلفه لأحد رجلين: إما رجل عمل فيه بطاعة الله فسعد بما شقيت، و إما رجل عمل فيه بمعصية الله فكنت عونا له على معصيته، و ليس أحد هذين حقيقا أن تؤثره على نفسك.

فإن قلت: فعلى هذا ترى أن الشارع منع الناس أن ينظروا لأولادهم و يخلفوا لأخلافهم ما ينفعهم و يمدهم في معاشهم؟.

قلت: كلا بل الشارع أغراهم بذلك و كره أن يتكفف أولادهم بعدهم الناس غاية الأمر نهاهم عن الاكتساب بالحرام نظرا للأولاد و نكتفي في ذلك بذكر رواية روما للاختصار.

روى ابن بابويه الصدوق رضوان الله عليه في من لا يحضره الفقيه و نقلها الفيض في الوافي في أبواب الوصية (ص 12 ج 13): أن رجلا من الأنصار توفى و له صبية صغار و له ستة من الرقيق فأعتقهم عند موته و ليس له مال غيرهم، فاتي النبي صلى الله عليه و آله فاخبر فقال: ما صنعتم بصاحبكم؟ قالوا: دفناه، قال: لو علمت ما دفناه مع أهل الإسلام، ترك ولده يتكففون الناس.

قوله عليه السلام: (إشخاصهم جميعا- إلى قوله: و خسر هنالك المبطلون) إشخاصهم‏ أي إزعاجهم و إحضارهم و في نسخة أبي نعيم: و أشخصهم إلى موقف العرض و لكنها تصحيف و الحق ما في النسختين الاخريين لأن‏ إشخاصهم‏ مبتداء مؤخر عن‏ على مبلبل أجسام الملوك‏ قدم الخبر لتوسع الظروف و ما يجري مجراها و لا يمكن حمل تلك النسخة على وجه صحيح.

ثم إن الضمير في‏ إشخاصهم‏ لا يمكن إرجاعه إلى‏ الملوك‏ و ما بعده لا لفظا و لا معنى أما الأول فلأن الضمير في المبتدأ لا يرجع إلى جزء لفظ الخبر و هو ظاهر، و أما الثاني فلأن المقصود إحالة ضمان الدرك على من أوجب الشرع الرجوع به إليه، فلا بد أن يكون ممن كان دخيلا في البيع فهو يرجع إلى البائع‏

و المبيع و المشتري و صاحب الدرك، فالمراد أن ملك الموت متعهد و متكفل باحضارهم جميعا إلى موقف العرض و الحساب للفصل و القضاء.

قوله عليه السلام: (شهد على ذلك العقل إذا خرج من أسر الهوى و سلم من علائق الدنيا) لما بين حكم الدرك أردفه بذكر الشهود كما هو السنة المتعارفة في سائر القبالة و جعل العقل شاهدا على ما قال.

ثم إن ههنا دقيقة أنيقة و هي أن الشاهد لا بد من أن يكون عادلا، و إنما قيد عليه السلام‏ شهد على ذلك العقل‏ بقوله: إذا خرج من أسر الهوى و سلم من علائق الدنيا، ليفيد هذا المعنى، أعني أن يأتي بالشاهد العادل على ما كتب، و ذلك لأن تلك القوة القدسية الملكوتية أعني العقل لما تعلق بشرك البدن و ألف مجاورة الخراب البلقع و صار حشره مع الماديات قد يتأثر عن البدن و قواه الحيوانية و غيرهما، فيعرض له من غيره ما يشغله عن فعل نفسه، لأن تلك العوائق كاللصوص القطاع لطريقه تمنعه عن الوصول إلى صريح الحق و محض الحكم العقلي، فلو لم يجرد عنها سيما عن النفس الأمارة بالسوء و حب الدنيا و أسر الهوى و قيد الأوهام كان حكمه مزوقا مشوبا بالباطل، فلم يكن حينئذ شاهدا عادلا، فلا يخفى لطفه.

فالمراد أن‏ العقل‏ لو خلي و طبعه بحيث لم يكن مأسورا في قيد الهوى و علائق الدنيا يشهد على أن لنحو هذا المشتري خسران الدارين، و في نحو هذا المبيع يلزم تلك الافات و المصيبات عليه و غيرهما مما هي مذكورة في القبالة.

ثم الحق أن الرضي رضي الله عنه لم يذكر الكتاب بتمامه، لأن غرضه كان جمع المختار من كلامه عليه السلام كما صرح في عدة مواضع النهج بأن ما أتى به هو بعض تلك الخطبة أو ذلك الكتاب أو نحوهما، و الكتاب بتمامه هو ما في النسختين الاخريين و إن كان بينهما اختلاف ما في بعض العبارات، فنذكر بعض ما في الأربعين و بيان الشيخ فيه:قوله عليه السلام: (في عرصاتها) أي ساحاتها و الضمير إما للدار أو للدنيا و الأول أقرب و إن كان أبعد.

قوله عليه السلام: (ما أبين الحق لذي عينين) كلمة ما تعجبية أي ما أظهر الحق لصاحب البصيرة.

قوله عليه السلام: (إن الرحيل أحد اليومين) أي كما أن لابن آدم يوم ولادة و هو يوم القدوم إلى هذه الدار، فله يوم رحيل عنها و هو يوم الموت فينبغي أن لا يزول عن خاطره، بل يجعله أبدا نصب عينيه.

قوله عليه السلام: (و قربوا الامال بالاجال) أي قصروها بتذكر الموت الذي هو هادم اللذات، و فاضح الامال.

«اشارة»

فسر العالم العامل العاملي الشيخ بهاء الدين قدس سره في الأربعين هذا الكتاب بوجه آخر أيضا يليق أن يذكر في المقام للطافته و عذوبته.

قال: اشارة. يمكن أن يكون الدار في قوله عليه السلام اشترى منه دارا، رمزا إلى هذه البنية البدنية، و المشتري رمزا إلى النفس الناطقة الإنسانية العاكفة على تلك البنية الظلمانية المشغولة بها عن العوالم المقدسة النورانية، و البائع رمزا إلى الأبوين اللذين منهما حصلت الأجزاء المنوية المتكون منها البنية التي مبدءها من جانب الفانين و مالها إلى عسكر الهالكين.

ثم إن هذه البنية أعني البدن و إن كان مركبا للنفس و وسيلة لها إلى تحصيل كمالاتها، لكن قواه البهيمية دواع و أسباب لافات النفس و عاهاتها و مصيباتها و اتباعها للهوى و الشيطان، فنزل تلك الدواعي منزلة حدود الدار المكتنفة بها من جوانبها.

و لما كان الخروج من ولاية الله و الدخول في ولاية الطاغوت يحصل باتباع الهوى و الشيطان ناسب أن يجعل باب تلك الدار في هذا الحد.

و لما كان ذل النفس و خروجها عن استغنائها الذي كانت عليه في عالمها النوراني ملازما لعكوفها على هذا البدن الهيولاني و مسببا عن تعلقها به و شرائها له شبهه عليه السلام بالثمن الذي هو من لوازم الشراء.

و لما كان الموت هو السائق الذي يسوق الخلق بأجمعهم طوعا و كرها إلى موقف القيامة ليقضي بينهم الحكم العدل و ينتصف من المعتدي للمعتدى عليه شبهه عليه السلام بشخص ضمن الدرك فتعهد أن يحضر كل من له دخل في هذه المعاملة إلى دار القضاء ليحكم بينهم و يقضي لمن له الحق بحقه.

هذا ما خطر بالبال في معنى هذا الكلام و لعل أمير المؤمنين عليه السلام أراد معنى آخر غير هذا لم يهتد نظري الكليل إليه، و ثم يعثر فكري العليل عليه، و الله أعلم بحقيقة الحال. انتهى كلامه رفع مقامه.

و ذكر قريبا من هذه الإشارة أو عينها على عبارات اخر العلامة المجلسي في المجلد التاسع من البحار (ص 545 الطبع الكمباني) أيضا.

أقول: الحق أن هذا التوجيه وجيه في نفسه و لكنه ليس معنى كلامه عليه السلام بل تأويل يناسبه و يستفاد منه كالتأويلات المذكورة في طائفة من التفاسير و شروح الأخبار المناسبة للايات و الأخبار.

مثلا أن النيشابوري ذكر في تفسيره غرائب القرآن التأويل الاتي من قوله تعالى‏ و إذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة- الى قوله تعالى- و إن منها لما يهبط من خشية الله و ما الله بغافل عما تعملون‏ (البقرة- 65- الى 71) و نعلم يقينا أن هذا التأويل ليس تفسير كلامه تعالى و إن كان لا يخفى من لطافة من حيث التشبيهات و المناسبات و هو صرح بذلك أيضا حيث قال بعد تفسيره الايات ما هذا لفظه:التأويل: ذبح البقرة إشارة إلى ذبح النفس البهيمية فإن في ذبحها حياة القلب الروحاني و هو الجهاد الأكبر، موتوا قبل أن تموتوا.

اقتلوني يا ثقاتي إن في قتلي حياتي‏ و حياتي في مماتي و مماتي في حياتي‏

مت بالإرادة تحي بالطبيعة، و قال بعضهم: مت بالطبيعة تحي بالحقيقة، ما هي أنه بقرة نفس تصلح للذبح بسيف الصدق، لا فارض في سن الشيخوخة فيعجز عن رضايف سلوك الطريق لضعف القوى البدنية كما قيل: الصوفي بعد الأربعين‏ بارد، و لا يكون في سن شرح الشباب يستهويه سكره عوان بين ذلك لقوله تعالى حتى إذا بلغ أشده و بلغ أربعين سنة، صفراء إشارة إلى صفرة وجوه أصحاب الرياضات، فاقع لونها يريد أنها صفرة زين لا صفرة شين فانها سيماء الصالحين لا ذلول تثير الأرض، لا يحتمل ذلة الطمع و لا تثير بالة الحرص أرض الدنيا لطلب زخارفها و مشتهياتها، و لا تسقي حرث الدنيا بماء وجهه عند الخلق و بماء وجاهته عند الخالق فيذهب ماؤه عند الحق و عند الخلق، مسلمة من آفات صفاتها ليس فيها علامة طلب غير الله، و ما كادوا يفعلون بمقتضى الطبيعة، لو لا فضل الله و حسن توفيقه و إذ قتلتم نفسا يعني القلب، فادارأتم، فاختلفتم أنه كان من الشيطان أم من الدنيا أو من نفس الأمارة، فقلنا اضربوه ببعضها ضرب لسان بقرة النفس المذبوحة بسكين الصدق على قتيل القلب بمداومة الذكر فحيي باذن الله عز و جل و قال:

إن النفس لأمارة بالسوء و إن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، مراتب القلوب في القسوة مختلفة فالتي يتفجر منها الأنهار قلوب يظهر عليها الغليان «من ظ» أنوار الروح بترك اللذات و الشهوات، بعض الأشياء المشبهة بخرق العادات كما يكون لبعض الرهبانيين و الهنود، و التي تشقق فيخرج منها الماء هي التي يظهر عليها في بعض الأوقات عند انخراق الحجب البشرية من أنوار الروح فيريه بعض الايات و المعاني المعقولة كما يكون لبعض الحكماء، و التي يهبط من خشية الله ما يكون لبعض أهل الأديان و الملل من قبول عكس أنوار الروح من وراء الحجب فيقع فيها الخوف و الخشية، انتهى.

«القضاء و القاضى فى الاسلام»

إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها و إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا (القرآن الكريم- سورة النساء- الاية 62) يناسب في المقام تقديم نبذة من الكلام على ما قرره الشرع في القضاء و القاضي على سبيل الإجمال و الاختصار فنقول:

الغرض من إرسال الرسل و إنزال الكتب إحياء مكارم الأخلاق، و محاسن الأفعال، و إماتة الصفات المردية، و الاداب المغوية، و إيقاظ عقول الناس من نوم الغفلة، و تزكيتهم من رين الهوى، و إنارة أرواحهم بالملكات الملكوتية، و إثارة فطرتهم إلى جناب الرب جل و علا، و قيامهم بالعدل، و احتياج الظلم من بينهم ليتصفوا بالأوصاف الربوبية، و يتخلقوا بالأخلاق الإلهية، و لئلا يتطرق إليهم الجور و العدوان و الهرج و المرج قال الله تعالى: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات و أنزلنا معهم الكتاب و الميزان ليقوم الناس بالقسط (الحديد- 26).

ثم لو تنازع اثنان في أمر فلا بد من حكم عدل يعطي كل ذي الحق حقه، و يذب عنه التصرف العدواني و أكل المال بالباطل بالأمارات و الاصول التي جعلها الشارح الحكيم ميزانا له لحسم مادة التنازع و قلع شجر التشاجر و فصل القضاء.

قال أمير المؤمنين عليه السلام كما في الكافي و التهذيب: أحكام المسلمين على ثلاثة:شهادة عادلة. أو يمين قاطعة. أو سنة ماضية من أئمة الهدى.

فلا بد لحفظ اجتماع الناس من حاكم عادل لا يبيع آخرته بدنياه و لا يعقل عقله بهواه.

و كما أن الإنسان يحتاج في سلامة جسمه إلى الطبيب الحاذق الأمين المؤمن، و في سلامة روحه إلى عالم عامل إلهي روحاني، كذلك يحتاج الاجتماع لحفظ نظامه و رفع المخاصمة و النزاع إلى طبيب آخر و هو القاضي العادل و حكومة عادلة و لا مناص للناس من هؤلاء الأطباء.

قال الامام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام في هذا المعنى: لا يستغني أهل كل بلد عن ثلاثة تفزع إليه في أمر دنيا [هم ظ] و آخرتهم، فإن عدموا ذلك كانوا همجا:فقيه عالم ورع، و أمير خير مطاع، و طبيب بصير ثقة (نقل في مادة طبب من السفينة).

و اعتبر الشارع في القاضي البلوغ و كمال العقل و الايمان و طهارة المولد و العلم و الذكورة و العدالة، و إنما اعتبر فيه العدالة حتى يراعي التسوية بين الخصمين‏ مطلقا و إن كان أحدهما وضيعا و الاخر شريفا و في الكافي و التهذيب عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: من ابتلى بالقضاء فليواس بينهم في الاشارة و في النظر و في المجلس فيجب عليه التسوية بينهما في الكلام و السلام و القيام و غيرها من أنواع الاكرام حتى لا يجوز له خطاب أحد الخصمين بالكنية و الاخر بالاسم لأن الاولى تنبى‏ء بالتعظيم دون الثاني، و كذا الانصات لكل واحد منهما على التفصيل الذي بين في الكتب الفقهية.

و نحن نكتفي ههنا بما قال أمير المؤمنين علي عليه السلام لشريح أيضا في آداب الحكم لم يأت به الرضي رضوان الله عليه في النهج، نقله ثقة الاسلام الكليني مسندا في الكافي، و شيخ الطائفة في التهذيب، و الشيخ الأجل الصدوق في من لا يحضره الفقيه، و المحقق الفيض في الوافي (ص 135 ج 9) باسنادهم عن سلمة بن كهيل قال:

سمعت عليا عليه السلام يقول لشريح: انظر إلى أهل المعك و المطل و دفع حقوق الناس من أهل المقدرة و اليسار ممن يدلي بأموال المسلمين إلى الحكام، فخذ للناس بحقوقهم منهم، و بع فيها العقار و الديار، فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله يقول: مطل المسلم الموسر ظلم للمسلم، و من لم يكن له عقار و لا دار و لا مال فلا سبيل عليه، و اعلم أنه لا يحمل الناس على الحق إلا من وزعهم عن الباطل، ثم واس بين المسلمين بوجهك و منطقك و مجلسك حتى لا يطمع قريبك في حيفك، و لا ييأس عدوك من عدلك. و رد اليمين على المدعي مع بينته فان ذلك أجلى للعمى و أثبت في القضاء، و اعلم أن المسلمين عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد لم يتب منه، أو معروفا بشهادة زور، أو ظنينا، و إياك و التضجر و التأذي في مجلس القضاء الذي أوجب الله فيه الأجر، و أحسن فيه الذخر لمن قضى بالحق، و اعلم أن الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما، و اجعل لمن ادعى شهودا غيبا أمدا بينهما، فان أحضرهم أخذت له بحقه، و إن لم يحضرهم أوجبت عليه القضية. و إياك أن تنفذ قضية في قصاص أو حد من حدود الله أو حق‏ من حقوق المسلمين حتى تعرض ذلك علي إنشاء الله، و لا تقعدن في مجلس القضاء حتى تطعم.

و قال عليه السلام لشريح أيضا كما في الكافي و التهذيب و الفقيه: لا تسار أحدا في مجلسك، و إن غضبت فقم، و لا تقضين و أنت غضبان.

و الأخبار المروية في الكتب الأربعة و غيرها عن رسول الله صلى الله عليه و آله و أئمة الهدى في آداب الحكم و القضاء و القاضي كثيرة جدا تركناها خوفا من الإطناب و فيما قدمناه كفاية لمن كان طالبا للصواب.

ثم إن ما قدمنا من وجوب مراعاة المساواة بين الخصمين على القاضي يكون على وجه تساويهما في الإسلام أو الكفر، بأن كانا مسلمين أو كافرين، و لو كان أحدهما مسلما و الاخر كافرا، فلا يجب عليه مراعاتها بينهما، بل له أن يرفع المسلم على الكافر، و ذلك لما يأتي من قول أمير المؤمنين مع الرجل اليهودي في مجلس شريح.

و لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل و تدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم و أنتم تعلمون‏ (القرآن الكريم الاية 186 من البقرة).

و حرم على الناس رفع الدعاوي إلى قضاة الجور و التحاكم إليهم كما حرم عليهم أكل المال بالباطل، و في الصحاح للجوهري: أدلى بما له إلى الحاكم:رفعه إليه و منه قوله تعالى‏ و تدلوا بها إلى الحكام‏ يعني الرشوة، انتهى.

و قال الفيض في الوافي: قوله تعالى: تدلوا، أي و لا تدلوا حذف لا اعتمادا على العطف و المعنى لا تعطوا الحكام أموالكم ليحكموا لكم استعارة من قولهم أدلى دلوه إذا أرسلها، فان الرشوة ترسل إلى الحكام.

و في الكافي و التهذيب باسنادهما عن ابن مسكان عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: قول الله تعالى في كتابه‏ و لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل و تدلوا بها إلى الحكام‏ فقال: يا با بصير إن الله قد علم أن في الامة حكاما يجورون أما أنه لم يعن حكام أهل العدل و لكنه عنى حكام أهل الجور، يا با محمد إنه لو كان‏ لك على رجل حق فدعوته إلى حكام أهل العدل فأبى عليك إلا أن يرافعك إلى حكام أهل الجور ليقضوا له، لكان ممن حاكم إلى الطاغوت و هو قول الله عز و جل‏ أ لم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك و ما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت و قد أمروا أن يكفروا به و يريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا (النساء- 65).

و في التهذيب باسناده عن ابن فضال قال: قرأت في كتاب أبي الأسد إلى أبي الحسن الثاني عليه السلام و قرأته بخطه سأله ما تفسير قوله‏ و لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل و تدلوا بها إلى الحكام‏ قال: فكتب إليه بخطه: الحكام القضاة قال: ثم كتب تحته: هو أن يعلم الرجل أنه ظالم فيحكم له القاضي فهو غير معذور في أخذ ذلك الذي حكم له إذا كان قد علم أنه ظالم.

و إنما اعتبر فيه العلم أي العلم بجميع الأحكام عن اجتهاده أعني أن يكون مجتهدا في الدين مستنبطا أحكامه بالأدلة الأربعة من العقل و الإجماع و الكتاب و السنة فلا يكفيه فتوى العلماء و قد وردت آيات و روايات كثيرة في تشديد ذلك و تأكيده، و لو نذكرها لكثر بنا الخطب و نقتصر بذكر شر ذمة قليلة منها.

قال أمير المؤمنين عليه السلام كما في الكافي و الفقيه و التهذيب لشريح: يا شريح قد جلست مجلسا لا يجلسه إلا نبي أو وصي نبي أو شقي.

قال الباقر عليه السلام: إن من أفتى الناس بغير علم و لا هدى من الله لعنته ملائكة الرحمة و ملائكة العذاب، و لحقه و زر من عمل بفتياه.

و قال عليه السلام: أنهاك عن خصلتين فيهما هلك الرجال: أنهاك أن تدين الله بالباطل، و تفتي الناس بما لا تعلم.

و قال الصادق عليه السلام كما في الكافي و التهذيب: القضاة أربعة ثلاثة في النار و واحد في الجنة: رجل قضى بجور و هو يعلم فهو في النار، و رجل قضى بجور و هو لا يعلم أنه قضى بجور فهو في النار، و رجل قضى بجور و هو لا يعلم أنه قضى بجور فهو في النار، و رجل قضى بالحق و هو لا يعلم فهو في النار جل قضى بالحق و هو يعلم فهو في الجنة.

و في دعائم الاسلام عن علي عليه السلام أنه قال: القضاة ثلاثة واحد في الجنة و اثنان في النار: رجل جار متعمدا فذلك في النار، و رجل أخطأ في القضاء فذلك في النار و رجل عمل بالحق فذلك في الجنة.

بيان: و لا تنافي بين الأخيرين لأن الوسط من الأخير يعم الوسطين من الأول و الوصي في قوله عليه السلام أو وصي نبي يعم الوصي الخاص و العام، جمعا بين الأدلة و تفصيل البحث موكول إلى الكتب الفقهية.

و أما الايات فقد قدمنا بعضها و قال الله تبارك و تعالى‏ إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله و لا تكن للخائنين خصيما (النساء- 106) و قوله تعالى: و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون‏ (المائدة- 51) و قوله تعالى: يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق و لا تتبع الهوى‏ (ص- 27).

و إنما اعتبر فيه الذكورة فلقوله صلى الله عليه و آله: لا يفلح قوم وليتهم امرأة، و وصيته صلى الله عليه و آله لعلي عليه السلام المروية في الفقيه باسناده عن حماد: يا علي ليس على المرأة جمعه- إلى أن قال: و لا تولي القضاء، على أن ذلك إجماعي لا خلاف فيه عندنا الإمامية، فلا يليق لها مجالسة الرجال و رفع الصوت بينهم.

و أما اعتبار الإيمان فلأن المسلم الفاسق، إذا لم يصلح لهذا المنصب الجليل فكيف الكافر، على أن الكافر ليس أهلا للأمانة و لم يجعل الله له سبيلا على المسلم إذ الإسلام يعلو و لا يعلا عليه قال الله تعالى: و لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا (النساء- 140). و أما اعتبار البلوغ و العقل فبين، و أما طهارة المولد فالعمدة فيها الإجماع و فحوى ما دل على المنع من إمامته و شهادته، على أن النفوس تنفر عن ولد الزنا.

ثم إن في سيرة رسول الله صلى الله عليه و آله و أهل بيته في دعاوي الناس لعبرة لأولي الألباب يليق لهم أن ينظروا فيها بعين العلم و الدراية حتى يتبين لهم أن الغرض من بعثهم لم يكن إلا تعليم الناس ما فيه نجاحهم و نجاتهم:و هذا هو رسول الله صلى الله عليه و آله كيف يراعي حقوق الناس و يحترمها، روى الشيخ‏ الجليل العلامة بهاء الدين العاملي في الأربعين الحديث التاسع عشر باسناده عن موسى بن اسماعيل، عن أبيه، عن الامام أبي الحسن موسى الكاظم، عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السلام قال: إن يهوديا كان له على رسول الله صلى الله عليه و آله دنانير فتقاضاه، فقال: يا يهودي ما عندي ما أعطيك، قال: فاني لا افارقك يا محمد حتى تقضيني، فقال صلى الله عليه و آله: إذا أجلس معك، فجلس صلى الله عليه و آله معه حتى صلى في ذلك الموضع الظهر و العصر و المغرب و العشاء الاخرة و الغداة و كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله يتهددونه و يتواعدونه، فنظر رسول الله صلى الله عليه و آله إليهم فقال: ما الذي تصنعون به؟

فقالوا: يا رسول الله يهودي يحبسك، فقال صلى الله عليه و آله: لم يبعثني ربي عز و جل بأن أظلم معاهدا و لا غيره، فلما علا النهار قال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمدا عبده و رسوله، و شطر ما لي في سبيل الله أما و الله ما فعلت بك الذي فعلت إلا لأنظر إلى نعتك في التوراة فاني قرأت نعتك في التوراة: محمد بن عبد الله مولده بمكة، و مهاجره بطيبة و ليس بفظ، و لا غليظ، و لا سخاب، و لا مترنن بالفحش و لا قول الخنا، و أنا أشهد أن لا إله إلا الله و أنك رسول الله، و هذا مالي فاحكم فيه بما أنزل الله و كان اليهودي كثير المال.

و هذا هو أمير المؤمنين علي عليه السلام فانظر إلى فعله و قوله كيف يراعي المواساة و العدل مع يهودي و يؤاخذ شريحا بر كونه إلى خلاف العدل حيث قام في مجلس المحاكمة له عليه السلام إكراما له و لم يقم لليهودي.

قال أبو الفرج في الأغاني: و لشريح أخبار في قضايا كثيرة يطول ذكرها و فيها ما لا يستغنى عن ذكره، منها محاكمة أمير المؤمنين علي عليه السلام في الدرع قال:حدثني به عبد الله بن محمد بن إسحاق ابن اخت داهر بن نوح بالأهواز، قال: حدثنا أبو الأشعث أحمد بن المقدام العجلي، قال حدثني حكيم بن حزام عن الأعمش عن إبراهيم التيمي قال: عرف علي صلوات الله عليه درعا مع يهودي فقال: يا يهودي درعي سقطت مني يوم كذا و كذا. فقال اليهودي: ما أدري ما تقول، درعي و في يدي بيني و بينك قاضي المسلمين، فانطلقا إلى شريح فلما رآه شريح قام له عن‏ مجلسه.

فقال له علي: اجلس: فجلس شريح ثم قال: إن خصمي لو كان مسلما لجلست معه بين يديك و لكني سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله يقول: لا تساووهم في المجلس و لا تعودوا مرضاهم. و لا تشيعوا جنائزهم، و اضطروهم إلى أضيق الطرق، و إن سبوكم فاضربوهم، و إن ضربوكم فاقتلوهم، ثم قال عليه السلام: درعي عرفتها مع هذا اليهودي، فقال شريح لليهودي: ما تقول؟ قال: درعي و في يدي، قال شريح:

صدقت و الله يا أمير المؤمنين إنها لدرعك كما قلت و لكن لا بد من شاهد، فدعا قنبرا فشهد له، و دعا الحسن بن علي فشهد له، فقال: أما شهادة مولاك فقد قبلتها و أما شهادة ابنك لك فلا، فقال علي عليه السلام: سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله يقول: إن الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة، قال: اللهم نعم، قال عليه السلام: أفلا تجيز شهادة أحد سيدي شباب أهل الجنة، و الله لتخرجن إلى بانقيا فلتقضين بين أهلها أربعين يوما، ثم سلم الدرع إلى اليهودي فقال اليهودي: أمير المؤمنين مشى معي إلى قاضيه فقضى عليه فرضي به، صدقت إنها لدرعك سقطت منك يوم كذا و كذا عن جمل أورق فالتقطتها و أنا أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله صلى الله عليه و آله، فقال علي عليه السلام: هذه الدرع لك، و هذه الفرس لك، و فرض له في تسعمائة فلم يزل معه حتى قتل يوم صفين. انتهى.

و قال القاضي ابن خلكان في التاريخ: روي أن علي بن أبي طالب عليه السلام دخل مع خصم ذمي إلى القاضي شريح فقام له، فقال: هذا أول جورك ثم أسند ظهره إلى الجدار و قال: أما إن خصمي لو كان مسلما لجلست بجنبه.

أقول: الظاهر أنهما قضية واحدة نقلها أبو الفرج بالتفصيل، و ابن خلكان بالإجمال إلا أن أبا الفرج لم ينقل قوله عليه السلام له «هذا أول جورك».

و كذا يشير إلى هذه القضية ما في الروضات و غيره حيث قالوا: روي أنه عليه السلام سخط على شريح مرة فطرده من الكوفة و لم يعزله عن القضاء و أمره بالقيام ببانقيا، و كانت قرية من الكوفة أكثر سكانها اليهود، فأقام بها مدة حتى رضي عنه و أعاده إلى الكوفة.

و روي قريب هذه المحاكمة في الكافي و التهذيب و الفقيه و جاء بها الفيض في أبواب الفضاء و الشهادات من الوافي (ص 141 ج 9) عن ابن أبي عمير، عن البجلي قال: دخل الحكم بن عتيبة و سلمة بن كهيل على أبي جعفر عليه السلام، فسألاه عن شاهد و يمين فقال: قضى به رسول الله صلى الله عليه و آله، و قضى به علي عليه السلام عندكم بالكوفة فقالا: هذا خلاف القرآن: قال عليه السلام: و أين وجدتموه خلاف القرآن؟ فقالا:

إن الله عز و جل يقول‏ و أشهدوا ذوي عدل منكم‏ (الطلاق- 3) فقال لهما أبو جعفر عليه السلام: و أشهدوا ذوي عدل منكم هو أن لا تقبلوا شهادة واحد و يمينا؟!

ثم قال عليه السلام:إن عليا عليه السلام كان قاعدا في مسجد الكوفة فمر به عبد الله بن قفل التميمي و معه درع طلحة، فقال له علي عليه السلام: هذه درع طلحة اخذت غلولا يوم البصرة فقال له عبد الله بن قفل: فاجعل بيني و بينك قاضيك الذي رضيته للمسلمين، فجعل بينه و بينه شريحا، فقال علي عليه السلام: هذه درع طلحة أخذت غلولا يوم البصرة، فقال له شريح: هات على ما تقول بينة، فأتاه بالحسن عليه السلام، فشهد أنها درع طلحة اخذت غلولا يوم البصرة، فقال: هذا شاهد و لا أقضي بشهادة شاهد حتى يكون معه آخر، قال: فدعا قنبرا فشهد أنها. درع طلحة اخذت غلولا يوم البصرة فقال شريح: هذا مملوك و لا أقضي بشهادة مملوك، قال: فغضب علي صلوات الله عليه و قال: خذوها فإن هذا قضى بجور ثلاث مرات.

قال: فنحول شريح عن مجلسه ثم قال: لا أقضي بين اثنين حتى تخبرني من أين قضيت بجور ثلاث مرات؟.

فقال له: ويلك أو ويحك إني لما أخبرتك أنها درع طلحة اخذت غلولا يوم البصرة فقلت هات على ما تقول بينة و قد قال رسول الله صلى الله عليه و آله حيث ما وجد غلول اخذ بغير بينة فقلت رجل لم يسمع الحديث فهذه واحدة، ثم أتيتك بالحسن عليه السلام فشهد، فقلت: هذا واحد و لا أقضي بشهادة واحد حتى يكون معه آخر و قد قضى رسول الله صلى الله عليه و آله بشهادة واحد و يمين فهذه ثنتان، ثم أتيتك بقنبر فشهد أنها درع طلحة اخذت غلولا يوم البصرة فقلت: هذا مملوك و لا أقضي بشهادة مملوك و ما بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلا ثم قال: ويلك أو ويحك إمام المسلمين‏ يؤتمن من امورهم على ما هو أعظم من هذا.

قال الفيض في بيانها: الغلول الخيانة و ربما يختص بالغنيمة يقال: غل شي‏ء من المغنم إذا اخذ في خفية، و لعل الوجه في جواز أخذ الغلول بغير بينة أنه مما يعرفه العسكر و لم يقسم بعد بين أهله ليباع و يوهب، و كفى بهذه القضية شاهدا على حماقة شريح، إلى آخر ما قال.

ثم و مما يليق أن يذكر في المقام تنبيها للقضاة و غيرهم من ذوي المناصب أن رسول الله صلى الله عليه و آله قال: الفقر فخري، و هذا الفقر قد فسر بالفقر إلى الله تعالى قال عز من قائل‏ أنتم الفقراء إلى الله و الله هو الغني الحميد (فاطر- 17) كما هو السائر في ألسنة العرفاء.

و لكن يمكن أن يفسر بوجه آخر و هو أن يكون الفقر بمعناه المصطلح الدراج أي الفقر من الدرهم و الدينار و الأرض و الدار و غيرها من حطام الدنيا و زخارفها، و أن رسول الله صلى الله عليه و آله يباهي بفقره من حيث إنه لم يخن الناس و لم يطمع إلى أموالهم مع أن الدنيا كانت مقبلة إليه، و لو شاء أن يكون له بيت من زخرف فما فوقه لتيسر له و قد قدمنا في شرح الخطبة 233 (ص 93 ج 1 من تكملة المنهاج) كانت عنده صلى الله عليه و آله في مرضه الذي توفي منه سبعة دنانير أو ستة فأمر أن يتصدق بها و قال صلى الله عليه و آله: ما ظن محمد بربه أن لو لقى الله و هذه عنده؟.

و لا ريب أن ذا منصب و مقام إذا زاد أمواله على قدر اجرته و نفقته من غير نسبة متناسبة كما نرى في عصرنا هذا أن كثيرا من أشباه الرجال و لا رجال إذا تولوا أمرا من الامور لم ينصرم عليهم برهة من الزمان إلا بلغت أموالهم من الدور و القصور و النقود و الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة اولي القوة، اتبع الشيطان لا جرم فعدل عن سواء الطريق، فخان الناس.

و لو لا السرقة و الخيانة و الارتشاء و أكل المال بالباطل فأنى حصلت له، و لم لم تحصل للاخر الشريف النجيب الأصيل المؤمن الموحد الرؤوف بالناس و خدومهم فحري أن يقال لهؤلاء اللصوص: اجتنبوا عن ظلم العباد فان ربكم لبالمرصاد و إن لم يكن لكم دين فكونوا في دنياكم أحرارا، و لا تكونوا كالذين قال الشاعر فيهم:

ليل البراغيث ليل لا نفاد له‏ لا بارك الله في ليل البراغيث‏
كأنهن بجسمي إذ خلون به‏ قضاة سوء على مال المواريث‏

ثم الروايات في ذم أخذ الرشا في الحكم و ذم القاضي الجائر في الحكم كثير جدا مع أنها تمضي حكم العقل في ذلك، لأن العقل يحكم بذم الرشا و الجور.

روي في الكافي و التهذيب عن سماعة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: الرشا في الحكم هو الكفر بالله.و فيهما عن ابن مسكان عن يزيد بن فرقد قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن السحت فقال: الرشا في الحكم.

بيان: مراد السائل من السحت هو قوله تعالى: سماعون للكذب أكالون للسحت‏ الاية (المائدة- 47) و قوله تعالى: و ترى كثيرا منهم يسارعون في الإثم و العدوان و أكلهم السحت‏ و قوله تعالى‏ لو لا ينهاهم الربانيون و الأحبار عن قولهم الإثم و أكلهم السحت‏ (المائدة- 68 و 69) فسأله عليه السلام عن السحت أي ما معناه في القرآن الكريم أكالون للسحت و أكلهم السحت. و نعم ما قال العارف الرومي:

تا تو رشوت نستدي بيننده اي‏ چون طمع كردي ضرير و بنده‏اى‏

«ذكر شريح و نسبه و خبره»

قد اختلف الرواة في نسبه اختلافا كثيرا و أصح الطرق فيه هو: أبو امية شريح بن المحارث بن قيس بن الجهم بن معاوية بن عامر بن الرائش بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع- بتشديد التاء المثناة من فوقها و كسرها- الكندي، كما في الأغاني (ص 35 ج 16 طبع ساسي) و اسد الغابة و تاريخ ابن خلكان و غيرها من الكتب المعتبرة.

و في الروضات للخوانساري: الكندي بكسر الكاف نسبة إلى كندة التي‏ لقب بها جده الثامن ثور بن مرتع الكوفي، لأنه كند أباه نعمته بمعنى كفرها و كذا في تاريخ ابن خلكان أيضا.

و قال في الأغاني بعد ذكر نسبه المذكور: و قد اختلف الرواة بعد هذا في نسبه فقال بعضهم: شريح بن هانى‏ء، و هذا غلط، ذاك شريح بن هانى‏ء الحارثي، و اعتل من قال هذا بخبر روي عن مجاهد عن الشعبي أنه قرأ كتابا من عمر إلى شريح من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى شريح بن هانى‏ء، و قد يجوز أن يكون كتب عمر هذا الكتاب إلى شريح بن هانى‏ء الحارثني و قرأه الشعبي و كلا هذين الرجلين معروف، و الفرق بينهما النسب و القضاء، فان شريح بن هانى‏ء لم يقض و شريح ابن الحارث قد قضى لعمر بن الخطاب و علي بن أبي طالب عليه السلام.

و قيل: شريح بن عبد الله، و شريح بن شراحيل، و الصحيح ابن الحارث و ابنه أعلم به.

أقول: و إنما قال و ابنه أعلم به لأنه روى نسبه المذكور عن هشام بن السائب و عن ابن شريح ميسرة بن شريح.

ثم روى باسناده عن أبي ليلى أن خاتم شريح كان نقشه: شريح الحارث و قيل: إنه من أولاد الفرس الذين قدموا اليمن مع سيف بن ذي يزن و عداه في كندة و قد روى عنه شيبة بذلك.

و روى باسناده عن الشعبي قال: جاء أعرابي إلى شريح فقال: من أنت؟

قال: أنا من الذين أنعم الله عليهم و عدادي في كندة. و روى عن أبي حصين قال:كان شريح إذا قيل له: ممن أنت؟ قال: ممن أنعم الله عليه بالإسلام عديد كندة قال و كيع: و قيل: إنه لما خرج إلى المدينة ثم إلى العراق لأن امه تزوجت بعد أبيه، فاستحيا.

و في اسد الغابة: أنه أدرك النبي صلى الله عليه و آله و سلم و لم يلقه، و قيل لقيه، و استقضاه عمر بن الخطاب على الكوفة فقضى بها أيام عمر و عثمان و علي، و لم يزل على القضاء بها إلى أيام الحجاج، فأقام قاضيا بها ستين سنة، و كان أعلم الناس بالقضاء

ذا فطنة و ذكاء و معرفة و عقل، و كان شاعرا محسنا، له أشعار محفوظة و كان كوسجا لا شعر في وجهه.

قال: روى علي بن عبد الله بن معاوية بن ميسرة بن شريح القاضي، عن أبيه عن جده معاوية، عن شريح أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه و آله فأسلم ثم قال: يا رسول الله إن لي أهل بيت ذو عدد باليمن فقال له: جي‏ء بهم، فجاء بهم و النبي صلى الله عليه و آله قد قبض.

و قال ابن خلكان: كان من كبار التابعين و أدرك الجاهلية و استقضاه عمر ابن الخطاب على الكوفة فأقام قاضيا خمسا و ستين سنة لم يتعطل فيها إلا ثلاث سنين امتنع فيها من القضاء في فتنة ابن الزبير، و استعفى الحجاج بن يوسف من القضاء فأعفاه و لم يقض بين اثنين حتى مات.

و قال ابن عبد البر: و كان شاعرا محسنا، و هو أحد السادات الطلس و هم أربعة: عبد الله بن الزبير، و قيس بن سعد بن عبادة، و الأحنف بن قيس الذي يضرب به المثل في الحلم، و القاضي شريح المذكور.

الطلس: جمع الأطلس أي الذي لا شعر في وجهه و قال الخوانساري في الروضات: و قيل: إنه من الكواسج الأربعة و فيه مسامحة، لأن الكوسج في اللغة من كانت لحيته على الذقن دون العارضين أو كان خفيفها جدا و كذلك في العرف و عليه قول بعض أهل الحكمة: ما طالت لحية أحد إلا تكوسج عقله، بمعنى رق و خف- انتهى.

أقول: الكوسج إن كان معرب كوسه كما في البرهان القاطع قال: كوسه بر وزن بوسه معروف است يعنى شخصى كه او را در چانه و زنخ زياده بر چندي موى نباشد و معرب آن كوسج است، فهو كما قاله الخوانساري، و إن كان عربيا من كسج الرجل أي لم ينبت له لحية فالتعبير بالكوسج صحيح بلا مسامحة و إن كان الأول هو الأصح و الأصوب، قال الجوهري: الكوسج الأثط و هو معرب، و قال الأزهري لا أصل له في العربية. و الأثط هو الذي لحيته على ذقنه لا على العارضين.

و كان شريح خفيف الروح مزاحا دخل عليه عذي بن أرطاة (حاتم خ ل) فقال له: أين أنت أصلحك الله؟ فقال: بينك و بين الحائط قال: استمع مني، قال:

قل أسمع، قال: إني رجل من أهل الشام، قال: من مكان سحيق، قال: تزوجت عندكم، قال: بالرفاء و البنين، قال: و أردت أن أرحلها، قال: الرجل أحق بأهله، قال: و شرطت لها دارها، قال: الشرط أملك، قال: فاحكم الان بيننا قال: قد فعلت، قال: فعلى من حكمت؟ قال: على ابن امك، قال: بشهادة من؟

قال: بشهادة ابن اخت خالتك. نقله الجاحظ في البيان و التبيين (ص 98 ج 4 طبع مصر 1380 ه) و ابن خلكان في وفيات الأعيان و أنباء أبناء الزمان.

و في الوفيات أيضا: حدث أبو جعفر المدني عن شيخ من قريش قال: عرض شريح ناقة ليبيعها فقال له المشتري: يا أبا امية كيف لبنها؟ قال: احلب في أي إناء شئت، قال: كيف الوطأ؟ قال: افرش و نم، قال: كيف نجاؤها؟ قال: إذا رأيتها في الابل عرفت مكانها علق سوطك و نم، قال: كيف قوتها؟ قال: احمل على الحائط ما شئت، فاشتراها فلم ير شيئا مما وصفها به. قال: ما كذبتك قال:أقلني قال: نعم.

و فيه أيضا: قيل: تقدم رجلان إلى شريح فاعترف أحدهما بما ادعى عليه و هو لا يعلم بذلك فقضى عليه، فقال الرجل: تقضي علي من غير بينة؟ فقال:

قد شهد عندي الثقة، قال: و من هو؟ قال: ابن أخي عمك. و قد ألم بهذا المعنى أبو عبد الله الحسين الحجاج:

و إن قدموا خيلهم للركوب‏ خرجت فقدمت لي ركبتي‏
و في جمل الناس غلمانهم‏ و ليس سوى أنا في جملتي‏
و لا لي غلام فادعى به‏ سوى من أبوه أخو عمتي‏

قال: و قال الأشعث بن قيس لشريح: ما أشد ما ارتفعت؟! قال: فهل ضرك ذلك؟

قال: لا، قال: الأشعث بن قيس لشريح: ما أشد ما ارتفعت! قال:: فهل ضرك ذلك؟

قال: لا، قال: فأراك تعرف نعمة الله عليك فيحفظها في نفسك.

قال: و حدث محمد بن سعد عن عامر الشعبي أن ابن الشريح قال لأبيه: إن بيني و بين قوم خصومة فانظر فان كان الحق لي خاصمت و إن لم يكن لي الحق‏

لم اخاصمهم، فقص قصته عليه، فقال: انطلق فخاصمهم، فانطلق إليهم فتخاصموا إليه فقضى عليه ابنه، فقال لما رجع إلى أهله: و الله لو لم أتقدم إليك لم ألمك فقال: و الله يا بني لأنت أحب إلي من مل‏ء الأرض مثلهم، و لكن الله هو أعز علي منك خشيت أن اخبرك أن القضاء عليك فتصالحهم ببعض حقهم.

و عن الشعبي أيضا قال: شهدت شريحا و جائته امرأة تخاصم رجلا فأرسلت عينيها فبكت، فقلت: يا أبا امية ما أظن هذه الباكية إلا مظلومة، فقال: يا شعبي إن إخوة يوسف جاءوا أباهم عشاء يبكون.

قال: و يروى أن زياد بن أبيه كتب إلى معاوية: يا أمير المؤمنين قد ضبطت لك العراق بشمالي و فرغت يميني لطاعتك فولني الحجاز، فبلغ ذلك عبد الله بن عمر و كان مقيما بمكة فقال: اللهم اشغل عنا يمين زياد، فأصابه الطاعون في يمينه فجمع الأطباء و استشارهم فأشاروا عليه بقطعها، فاستدعى القاضي شريحا و عرض عليه ما أشار به الأطباء فقال له: لك رزق معلوم و أجل محتوم و إني أكره إن كانت لك مدة أن تعيش فى الدنيا بلا يمين، و إن كان قد دنا أجلك أن تلقى ربك مقطوع اليمين، فاذا سألك لم قطعتها؟ قلت: بغضا في لقائك و فرارا من قضائك فمات زياد من يومه، فلام الناس شريحا على منعه من القطع لبغضهم له فقال: إنه استشارني و المستشار مؤتمن، و لو لا الأمانة في المشورة لوددت أنه قطع يده يوما و رجله يوما. و سائر جسده يوما يوما.

و كان شريح رجلا داهيا، قال الدميري في حيوة الحيوان: قيل للشعبي:

يقال في المثل: إن شريحا أدهى من الثعلب و أحيل. فما هذا؟ فقال: خرج شريح أيام الطاعون إلى النجف فكان إذا قام يصلي يجي‏ء ثعلب فيقف تجاهه و يحاكيه و يخيل بين يديه و يشغله عن صلاته، فلما طال ذلك عليه نزع قميصه فجعله على قصبة و أخرج كميه و جعل قلنسوته عليها، فأقبل الثعلب فوقف بين يديه على عادته فأتاه شريح من خلفه و أخذه بغتة فلذلك يقال: شريح أدهى من الثعلب و أحيل.

و كان شاعرا محسنا و ذكر أبياتا منه أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني و القاضي ابن خلكان في وفيات الأعيان ففي الأغاني، بعد ذكر خبر زينب بنت حدير و ترويج شريح إياها قال: قال شريح: فما غضبت عليها قط إلا مرة كنت لها ظالما فيها، و ذاك إني كنت إمام قومي فسمعت الإقامة و قد ركعت ركعتي الفجر فأبصرت عقربا فعجلت عن قتلها فأكفأت عليها الإناء، فلما كنت عند الباب قلت:

يا زينب لا تحركي الإناء حتى أجي‏ء. فعجلت فحركت الإناء فضربتها العقرب فجئت فإذا هي تلوي، فقلت: ما لك؟ قالت: لسعتني العقرب فلو رأيتني يا شعبي و أنا أعرك اصبعها بالماء و الملح و أقرأ عليها المعوذتين و فاتحة الكتاب، و كان لي يا شعبي جار يقال له: ميسرة بن عرير من الحي، فكان لا يزال يضرب امرأته فقلت:

رأيت رجالا يضربون نساءهم‏ فشلت يميني يوم أضرب زينبا

يا شعبي فوددت أني قاسمتها عيشي، قال: و مما يغني فيه من الأشعار التي قالها شريح في امرأته زينب:

رأيت رجالا يضربون نساءهم‏ فشلت يميني يوم أضرب زينبا
أ أضربها في غير جرم أتت به‏ إلي فما عذري إذا كنت مذنبا
فزينب شمس و النساء كواكب‏ إذا طلعت لم تبد منهن كوكب‏
فتاة تزين الحلي إن هي حليت‏ كأن بفيها المسك خالط محلبا

أقول: و قال آخر نحو مضمون البيت الأخير:

و إذا الدر زان حسن وجوه‏ كان للدر حسن وجهك زينا

و كذا قال بهذا المضمون حسين بن مطير «بالتصغير» في باب النسيب من الحماسة (الحماسة 460):

مخصرة الأوساط زانت عقودها بأحسن مما زينتها عقودها

و بهذا المضمون للشيخ الأجل السعدي بالفارسية:

تو از هر در كه باز آيي بدين خوبي و رعنائي‏ درى باشد كه از رحمت بروى خلق بگشائي‏
بزيورها بيارايند مردم خوبرويان را تو سيمين تن چنان خوبي كه زيورها بيارائي‏

و ذكر أبو الفرج في الأغاني أن شريحا قال هذه الأبيات الاتية في زوجته زينب بنت حدير التميمية أيضا، ثم قال: و ذكر اسحاق في كتاب الاغاني المنسوب اليه أنه لابن محرز:

إذا زينب زارها أهلها حشدت و أكرمت زوارها
و إن هي زارتهم زرتهم‏ و إن لم أحد لي هوى دارها
فسلمي لمن سالمت زينب‏ و حربي لمن أشعلت نارها
و ما زلت أرعى لها عهدها و لم أتبع ساعة عارها

و في تاريخ ابن خلكان: روي أن عليا عليه السلام قال: اجمعوا إلي القراء فاجتمعوا في رحبة المسجد فقال: إني اوشك أن افارقكم، فجعل يسألهم ما تقولون في كذا؟. ما تقولون في كذا؟، ما تقولون في كذا؟، و شريح ساكت، ثم سأله فلما فرغ منهم قال: اذهب فأنت من أفضل الناس أو من أفضل العرب.

و في الروضات بعد نقل هذه الرواية من ابن خلكان قال: و أنت خبير بأن من هذه الرواية العامية تلوح آثار الوضع إلى آخر ما قال، فراجع و تأمل.

و قال في الأغاني باسناده عن الشعبي: إن عمر بن الخطاب أخذ من رجل فرسا على سوم فحمل عليه رجلا فعطب الفرس، فقال عمر: اجعل بيني و بينك رجلا، فقال له الرجل: اجعل بيني و بينك شريحا العراقي، فقال: يا أمير المؤمنين أخذته صحيحا سليما على سوم فعليك أن ترده كما أحذته، قال: فأعجبه ما قال و بعث به قاضيا ثم قال: ما وجدته في كتاب الله فلا تسأل عنه أخذا، و ما لم تستبن في كتاب الله فالزم السنة، فإن لم يكن في السنة فاجتهد رأيك.

أقول: قد قدمنا في المباحث السالفة أن كل ما يحتاج اليه الناس من امور الدين قد جاء به الكتاب و السنة يستنبط منهما الأحكام الجزئية.

و في الأغاني قال عمر لشريح حين استقضاه: لاتشار، و لا تضار، و لا تشتر و لا تبع، فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين:

إن القضاة إن أرادوا عدلا و فصلوا بين الخصوم فصلا
و زحزحوا بالحكم منهم جهلا كانوا كمثل الغيث صاب محلا

ثم قال: و له أخبار في قضايا كثيرة يطول ذكرها، و فيها ما لا يستغنى عن ذكره، منها محاكمة أمير المؤمنين علي عليه السلام في الدرع و قد قدمناها في البحث السابق آنفا.

و قد روى ثقة الإسلام الكليني في الكافي و الصدوق في الفقيه و شيخ الطائفة في التهذيب و الفيض في أبواب القضاء و الشهادات من الوافي (ص 159 ج 9) قضية قضى بها شريح أولا ثم قضى بها أمير المؤمنين علي عليه السلام بخلافه رادا عليه و هي:

أن أمير المؤمنين عليه السلام دخل المسجد فاستقبله شاب يبكي و حوله قوم يسكتونه، فقال علي عليه السلام: ما أبكاك؟ فقال: يا أمير المؤمنين إن شريحا قضى علي بقضية ما أدري ما هي، إن هؤلاء النفر خرجوا بأبي معهم في السفر فرجعوا و لم يرجع أبي فسألتهم عنه فقالوا: مات، فسألتهم عن ماله، فقالوا: ما ترك مالا فقدمتهم إلى شريح فاستحلفهم، و قد علمت يا أمير المؤمنين أن أبي خرج و معه مال كثير، فقال لهم أمير المؤمنين عليه السلام: ارجعوا، فرجعوا و الفتى معهم إلى شريح، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: يا شريح كيف قضيت بين هؤلاء القوم؟ فقال:

يا أمير المؤمنين ادعى هذا الفتى على هؤلاء النفر أنهم خرجوا في سفر و أبوه معهم فرجعوا و لم يرجع أبوه، فسألتهم عنه فقالوا: مات، فسألتهم عن ماله فقالوا: ما خلف مالا، فقلت للفتى: هل لك بينة على ما تدعي؟ فقال: لا، فاستحلفتهم فقال أمير المؤمنين عليه السلام: هيهات يا شريح هكذا تحكم في مثل هذا؟ فقال: يا أمير المؤمنين فكيف؟.

فقال أمير المؤمنين عليه السلام: و الله لأحكمن فيهم بحكم ما حكم به خلق قبلي إلا داود النبي عليه السلام، يا قنبر ادع لي شرطة الخميس، فدعاهم فوكل بكل‏ واحد منهم رجلا من الشرطة، ثم نظر إلى وجوههم فقال: ما ذا تقولون؟

أ تقولون إني لا أعلم ما صنعتم بأب هذا الفتى؟ إني إذا لجاهل، ثم قال: فرقوهم غطوا رؤوسهم ففرق بينهم و اقيم كل رجل منهم إلى اسطوانة من أساطين المسجد و و رؤوسهم مغطاة بثيابهم.

ثم دعا عبيد الله بن أبي رافع كاتبه فقال: هات صحيفة و دواة، و جلس أمير المؤمنين عليه السلام في مجلس القضاء و اجتمع الناس إليه فقال لهم: إذا أنا كبرت فكبروا، ثم قال للناس: افرجوا.

ثم دعا بواحد منهم فأجلسه بين يديه و كشف عن وجهه ثم قال لعبيد الله:

اكتب إقراره و ما يقول، ثم أقبل عليه بالسؤال فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: في أي يوم خرجتم من منازلكم و أبو هذا الفتى معكم؟ فقال الرجل: في يوم كذا.

و كذا، قال عليه السلام في أي شهر؟ قال: في شهر كذا و كذا، قال عليه السلام: في أي سنة؟ قال في سنة كذا و كذا، قال: و إلى أين بلغتم من سفركم حين مات أبو هذا الفتى؟ قال: إلى موضع كذا و كذا، قال عليه السلام: في منزل من مات؟

قال:في منزل فلان بن فلان: قال: و ما كان مرضه؟ قال: كذا و كذا، قال عليه السلام:فكم يوما مرض؟ قال، كذا و كذا، قال عليه السلام، فمن كان يمرضه و في أي يوم مات و من غسله و أين غسله، و من كفنه و بم كفنتموه، و من صلى عليه و من نزل قبره؟

فلما سأله عن جميع ما يريد كبر أمير المؤمنين عليه السلام و كبر الناس جميعا فارتاب اولئك الباقون و لم يشكوا أن صاحبهم قد أقر عليهم و على نفسه، فأمر عليه السلام أن يغطي رأسه و ينطلق به إلى السجن.

ثم دعا باخر فأجلسه بين يديه و كشف عن وجهه ثم قال عليه السلام، كلا زعمتم أني لا أعلم بما صنعتم؟ فقال: يا أمير المؤمنين ما أنا إلا واحد من القوم و لقد كنت كارها لقتله فأقر.

ثم دعا بواحد بعد واحد كلهم يقر بالقتل و أخذ المال ثم رد الذي كان أمر به إلى السجن فأقر أيضا فألزمهم المال و الدم.

فقال شريح: يا أمير المؤمنين و كيف كان حكم داود النبي عليه السلام؟

فقال عليه السلام: إن داود النبي مر بغلمة يلعبون و ينادون بعضهم بيامات الدين فيجيب منهم غلام، فدعاهم داود عليه السلام فقال: يا غلام ما اسمك؟ فقال: مات الدين فقال له داود: من سماك بهذا الاسم؟ فقال: أمي، قال عليه السلام: فانطلق داود عليه السلام إلى امه فقال لها: يا أيتها المرأة ما اسم ابنك هذا؟ فقالت: مات الدين، فقال لها: و من سماه بهذا الاسم؟ قالت: أبوه، قال: و كيف كان ذلك؟ قالت: إن أباه خرج في سفر له و معه قوم و هذا الصبي حمل في بطني فانصرف القوم و لم ينصرف زوجي فسألتهم عنه فقالوا: مات، فقلت لهم: فأين ما ترك؟ قالوا: لم يخلف شيئا فقلت: هل أوصاكم بوصية؟ قالوا: نعم زعم أنك حبلى فما ولدت من ولد جارية أه غلام فسميه مات الدين، فسميته.

قال داود: و تعرفين القوم الذين كانوا خرجوا مع زوجك؟ قالت: نعم قال: فأحياء هم أم أموات؟ قالت: بل أحياء، قال: فانطلقي بي إليهم.

ثم مضى معها فاستخرجهم من منازلهم فحكم بينهم بهذا الحكم بعينه و أثبت عليهم المال و الدم، ثم قال للمرأة: سمي ابنك هذا عاش الدين.

ثم إن الفتى و القوم اختلفوا في مال الفتى كم كان؟ فأخذ أمير المؤمنين عليه السلام خاتمه و خواتيم من عنده ثم قال: اجبلوا بهذه السهام فأيكم أخرج خاتمي فهو صادق في دعواه، لأنه سهم الله و سهم الله لا يخيب.

ثم إن الكليني روى تلك القضية باسناده عن الأصبغ بن نباتة أيضا و قال:إن أمير المؤمنين عليه السلام لما رأى قضاء شريح فيها قال:

أوردها سعد و سعد مشتمل‏ ما هكذا تورد يا سعد الابل‏

و قال عليه السلام: ما يغني قضاك يا شريح، ثم قال عليه السلام: و الله لأحكمن فيهم بحكم ما حكمه قبلي إلا داود النبي عليه السلام- إلى آخرها.

بيان: قال الميداني في باب الألف من مجمع الأمثال في بيان مثل «آبل من مالك بن زيد مناة» هو سبط تميم بن مرة، و كان يحمق إلا أنه كان آبل أهل‏

زمانه، ثم إنه تزوج و بنى بامرأته فأورد الإبل أخوه سعد و لم يحسن القيام بها و الرفق عليها، فقال مالك: أوردها سعد، البيت. فأجابه سعد و قال:

يظل يوم وردها مزعفرا و هي خناطيل تجوش الخضرا

و قال في فصل الواو الساكنة منه في بيان مثل‏

«أوردها سعد و سعد مشتمل»

يضرب لمن قصر في طلب الأمر. انتهى.

فمراده عليه السلام أن شريحا قصر في حكم هذه القضية و لم يحسن القيام به.

و في المجلد العاشر من البحار ص 90 طبع الكمباني: ادعى رجل على الحسن ابن علي عليهما السلام ألف دينار كذبا و لم يكن له عليه فذهبا إلى شريح فقال للحسن عليه السلام أ تحلف؟ قال: إن حلف خصمي أعطيه، فقال شريح للرجل: قل بالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب و الشهادة، فقال الحسن عليه السلام: لا اريد مثل هذا لكن قل: بالله إن لك علي هذا و خذ الألف، فقال الرجل ذلك و أخذ الدنانير، فلما قام خر إلى الأرض و مات، فسئل الحسن عليه السلام عن ذلك فقال: خشيت أنه لو تكلم بالتوحيد يغفر له يمينه ببركة التوحيد و يحجب عنه عقوبة يمينه.

أقول: و نظير ذلك روى الشيخ المفيد في الإرشاد و الكليني في الكافي و الفيض في الوافي (ص 245 ج 5) عن أبي عبد الله عليه السلام و هو أن المنصور أمر الربيع باحضاره فأحضره فلما بصر به المنصور قال له: قتلني الله إن لم أقتلك أتلحد في سلطاني و تبغيني الغوائل؟ فقال له أبو عبد الله عليه السلام: و الله ما فعلت و لا أردت و إن كان يلغك فمن كاذب، و لو كنت فعلت فقد ظلم يوسف فغفر، و ابتلى أيوب فصبر، و اعطى سليمان فشكر، فهؤلاء أنبياء الله و إليهم يرجع نسبك.

فقال له المنصور: أجل ارتفع ههنا فارتفع، فقال له: إن فلان بن فلان أخبرني عنك بما ذكرت، فقال: أحضره يا أمير المؤمنين ليوافقني على ذلك، فاحضر الرجل المذكور فقال له المنصور: أنت سمعت ما حكيت عن جعفر عليه السلام؟ قال:نعم، فقال له أبو عبد الله عليه السلام: فاستحلفه على ذلك.

فقال له المنصور: أ تحلف؟ قال: نعم، و ابتدأ باليمين. فقال له أبو عبد الله‏ عليه السلام: دعني يا أمير المؤمنين احلفه أنا، فقال له: افعل فقال أبو عبد الله عليه السلام للساعي: قل: برئت من حول الله و قوته و التجأت إلى حولي و قوتي لقد فعل كذا و كذا جعفر و قال كذا و كذا جعفر، فامتنع منها هنيئة ثم حلف بها فما برح حتى ضرب برجله فقال أبو جعفر: جروا برجله فأخرجوه لعنه الله.

قال الربيع: و كنت رأيت جعفر بن محمد عليهما السلام حين دخل على المنصور يحرك شفتيه. فكلما حركهما سكن غضب المنصور حتى أدناه منه و قد رضي عنه، فلما خرج أبو عبد الله عليه السلام من عند أبي جعفر اتبعته فقلت له: إن هذا الرجل كان من أشد الناس غضبا عليك فلما دخلت عليه دخلت و أنت تحرك شفتيك و كلما حركتهما سكن غضبه فبأي شي‏ء كنت تحركهما؟.

قال عليه السلام: بدعاء جدي الحسين بن علي عليهما السلام قلت: جعلت فداك و ما هذا الدعاء؟ قال: «يا عدتي عند شدني و يا غوثي عند كربتي احرسني بعينك التي لا تنام و اكتفني بركنك الذي لا يرام».

قال الربيع: فحفظت هذا الدعاء فما نزلت بي شدة قط إلا دعوت به ففرج عني.

قال: و قلت لجعفر بن محمد عليهما السلام: لم منعت الساعي أن يحلف بالله؟.

قال عليه السلام: كرهت أن يراه الله يوحده و يمجده فيحلم عنه و يؤخر عقوبته فاستحلفته بما سمعت، فأخذه الله أخذا رابية.

و في عاشر البحار ص 179 طبع الكمباني أن ابن زياد لما ضرب بالقضيب هانيا رضوان الله عليه في قضية مسلم بن عقيل عليه السلام حتى كسر أنفه و سال الدماء على ثيابه و وجهه و لحيته و نثر لحم جبينه و خده على لحيته حتى كسر القضيب ثم أمر بإلقائه في بيت من بيوت الدار و حبسه فيه بلغ عمرو بن الحجاج أن هانيا قد قتل فأقبل في مذحج حتى أحاط بالقصر و معه جمع عظيم، ثم نادى و قال: أنا عمرو بن الحجاج و هذه فرسان مذحج و وجوهها لم نخلع طاعة و لم نفارق جماعة و قد بلغهم أن صاحبهم قد قتل فأعظموا ذلك.

فقيل لابن زياد: هذه فرسان مذحج بالباب، فقال لشريح القاضي: ادخل على صاحبكم فانظر إليه ثم اخرج و أعلمهم أنه حي لم يقتل.

فدخل شريح فنظر إليه فقال هانى‏ء لما رأى شريحا: يا لله يا للمسلمين أهلكت عشيرتي أين أهل الدين؟ أين أهل المصر؟ و الدماء تسيل على لحيته إذ سمع الصيحة على باب القصر فقال: إني لأظنها أصوات مذحج و شيعتي من المسلمين إنه إن دخل علي عشرة نفر أنقذوني.

فلما سمع مقاله شريح خرج إليهم فقال لهم: إن الأمير لما بلغه كلامكم و مقالتكم في صاحبكم أمرني بالدخول إليه فأتيته فنظرت إليه فأمرني أن ألقيكم و أعرفكم أنه حي و أن الذي بلغكم من قتله باطل، فقال له عمرو بن الحجاج و أصحابه:أما إذا لم يقتل فالحمد لله، ثم انصرفوا.

و في روضات الجنات بعد نبذة من ترجمة شريح قال:و بالجملة فالأخبار في خباثة رأي هذا الرجل و سوء عاقبته كثيرة، و حسب الدلالة على غاية ملعنته و شقاوته كونه من جملة من ترك إغاثة مولانا الحسين عليه السلام بكلمة خير عند بني امية، كانت تمكنه يقينا بل كونه من جملة من تسبب ذلك منه و من أمثاله الذين كانوا يطئون بساط الظالم عبيد الله بن زياد الملعون في دار الإمارة كوفة، كما يشهد بذلك واقعة مسلم بن عقيل المظلوم و ولديه الشهيدين و ما صدر منه في حقهم و بدر منه على قتلهم، و يؤيده أيضا ما نقل عن أبي مخنف الأزدي صاحب المقتل أنه ذكره من جملة من قتله المختار في زمن انتقامه من بني امية و أتباعهم الملعونين. فليتأمل. انتهى قوله.

اختلف في سنه فقيل: مائة و عشرون سنة، و قيل: مائة و عشر، و قيل: أقل من ذلك و أكثر، و كان وفاته سنة سبع و ثمانين للهجرة، و قيل غير ذلك.

و في الأغاني عن أبي سعيد الجعفي أنه مات في زمن عبد الملك بن مروان، و فيه باسناده عن الأصمعي ولد شريح و هو ابن مائة سنة.

و في الروضات، أنه كان خفيف الروح مزاحا و يشهد بصحة هذه النسبة إليه‏

طول عمره فان من أشد ما ينقص به العمرو ينغص به العيش إنما هو زيادة الغيرة و الاغتمام، و الشفقة على أهل الكروب. انتهى.

الترجمة

اين كتابيست از أمير المؤمنين علي عليه السلام كه بقاضي خود شريح بن حارث مرقوم فرموده است:

روايت است كه شريح در زمان خلافت أمير المؤمنين عليه السلام كه از جانب آن بزرگوار بسمت قضا منصوب بود، خانه‏ اى بهشتاد دينار خريد، اين خبر بان جناب رسيد و شريح را طلبيد و بدو گفت كه شنيدم خانه ‏اى بهشتاد دينار خريده ‏اى و سند و قباله بر آن نوشته ‏اى و جمعى را بر آن گواه گرفته ‏اى؟.

شريح گفت: أي أمير المؤمنين آري چنين است.

راوي گفت: چون على اين سخن از شريح بشنيد خشمگين در وي نگريست و گفت اى شريح آگاه باش كه بزودي كسى بسويت آيد (مرگ، يا جان شكر) كه در قباله‏ ات ننگرد و از گواهت نپرسد تا از خانه تو را با چشم بى ‏نور و جسم بى روح بدر برد و دست از همه چيز شده و جدا مانده بخانه گورت سپارد، پس اى شريح با ديده بصيرت درنگر كه مبادا آنرا از كسى كه مالك آن نبوده خريده باشى، و يا بهاى آنرا از مال حرام داده باشى كه در اين سرا و آن سرا زيان كار خواهى بود.

بدان كه گاه خريد آن اگر نزد من آمدى هر آينه اين قباله برايت نوشتمى كه بدرمى آنرا نمى‏ خريدى تا چه رسد كه به بيشتر.

بسم الله الرحمن الرحيم اين سرائيس كه آنرا بنده ‏اى خوار از مرده ‏اى كه از اين سرا كوچش داده اند خريده است، خانه‏ اى خريده كه مسافت آن از جانب فانى شدگان تا سرزمين هالكان است. اين سرا محدود به چهار حد است حد نخستين آن باسباب آفتها پايان مى ‏يابد، و دوم آن بعلل مصيبتها، حد سوم به هواى نفس، و چهارم آن به ديو گمراه كننده، و در آن در اين حد گشوده مى‏ شود.

اين شخص فريب آرزو خورده اين خانه را از آنكه مرگش فرا رسيد و كوچ داده شد ببهاى از عزت قناعت بدر رفتن و در ذلت سؤال بدر آمدن، خريده است.

پس اگر عوارضى در اين معامله از پى پديد آيد بر عهده خراب كننده خانه كالبد شاهان- و رباينده جان ستمكاران، و نابود كننده سلطنت فرعونان، همچون شاهان پارس و ملوك روم و سلاطين و واليان يمن، و آنانكه مال را بر مال انباشتند و بنا كردند و بر أفراشتند، و زينتش دادند و بياراستند، و گنج نهفتند و آب و خاك گرد آوردند، و بدلسوزى فرزندان و بخيال يارى آنان مال اندوخته‏ اند- ميباشد كه فروشنده و خريدار و آنكه درك باو تعلق گرفته همه را در پيشگاه عدل إلهى كه خلايق را براي پرسش سان دهند و بپاداش و كيفر رسانند، حاضر كند تا آن گاه كه فرمان خداوند قهار بفصل ميان حق و باطل فرود آيد مهم دعواى ايشان فيصل يابد، در آنجا تباه پيشه‏گان باطل كيش زيانكار شوند.

خرد آزاد از بردگى هوى، و سالم از أمراض علائق دنيا بر اين قباله شاهد عادل و حجت بالغ است.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی

نهج البلاغه نامه ها نامه شماره 2 شرح میر حبیب الله خوئی(به قلم علامه حسن زاده آملی )

نامه 2 صبحی صالح

2- و من كتاب له ( عليه‏ السلام  ) إليهم بعد فتح البصرة

وَ جَزَاكُمُ اللَّهُ مِنْ أَهْلِ مِصْرٍ عَنْ أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ أَحْسَنَ مَا يَجْزِي الْعَامِلِينَ بِطَاعَتِهِ وَ الشَّاكِرِينَ لِنِعْمَتِهِ فَقَدْ سَمِعْتُمْ وَ أَطَعْتُمْ وَ دُعِيتُمْ فَأَجَبْتُمْ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج17 

و من كتاب له عليه السلام اليهم بعد فتح البصرة و هو الكتاب الثاني من باب المختار من كتب أمير المؤمنين عليه السلام‏

و جزاكم الله من أهل مصر عن أهل بيت نبيكم أحسن ما يجزي العاملين بطاعته، و الشاكرين لنعمته، فقد سمعتم و أطعتم و دعيتم فأجبتم‏.

اللغة

(جزاكم) الجزاء يائي و هو ما فيه الكفاية من المقابلة إن خيرا فخير و إن شرا فشر، قال الله تعالى: و جزاهم بما صبروا جنة و حريرا و قال تعالى:

و جزاء سيئة سيئة مثلها يقال: جزاه كذا و بكذا و على كذا يجزيه جزاء من باب ضرب.

(أهل) قال الخليل: أهل الرجل أخص الناس به، أهل البلد و البيت سكانه، و أهل كل نبي امته، و أهل الأمر ولاته، و أهل الاسلام من يدين به.

و قوله عليه السلام: (أهل بيت نبيكم) إشارة إلى قوله تعالى: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت‏، فالمراد من قوله: أهل بيت نبيكم، هو أهل البيت في الاية.

 الاعراب‏

(من أهل مصر) تميز لضمير المفعول أعني «كم» في «جزاكم» لأنه يجوز جر التميز بمن إذا لم يكن تميزا لعدد و ما كان فاعلا في المعنى و التميز المحول عن المفعول كقولهم رطل من زيت و نعم من رجل، قال أبو بكر بن الأسود:

تخيره فلم تعدل سواه‏ فنعم المرء من رجل تهامى‏

و قال آخر:

يا سيدا ما أنت من سيد موطأ الأكتاف رحب الذراع‏

و استثنى ابن مالك الأولين في الأولين في الألفية و قال:

و اجرر بمن إن شئت غير ذي العدد و الفاعل المعنى كطب نفسا تفد

(عن أهل بيت نبيكم) تتعلق بقوله جزاكم.

(أحسن ما يجزي) مفعول مطلق نوعي فناب أحسن عن المصدر المحذوف في الانتصاب على المفعول المطلق و يدل عليه و هو صفة له أي جزاكم الله الجزاء أحسن ما يجزي العاملين بطاعته كقولهم: سرت أحسن السير، أي سرت السير أحسن السير.

و الظاهر أن كلمة ما مصدرية أي أحسن جزاء العاملين بطاعته، و يجوز أن تكون من الموصولات و حذف العائد إليها و التقدير: أحسن الذي يجزي به العاملين بطاعته.

(بطاعته) متعلق للعاملين، و لنعمته للشاكرين يقال عمل بطاعته و شكر لنعمته.

المعنى‏

ضمير (إليهم) في قول الرضي رضوان الله عليه يرجع إلى‏ أهل الكوفة في الكتاب السابق، فقوله صريح بأنه عليه السلام كتب إلى‏ أهل الكوفة هذا الكتاب‏ بعد فتح البصرة و العجب من الفاضل الشارح البحراني حيث قال في شرحه على النهج: يشبه أن يكون الخطاب لأهل الكوفة مع أنه نقل في عنوانه قول الرضي‏ و من كتاب له عليه السلام إليهم بعد فتح البصرة.

ثم إن هذا الكتاب لجزء الكتاب الذي كتب عليه السلام‏ إليهم بعد فتح البصرة و لم يذكره الرضي رضي الله عنه بتمامه إما لعدم عثوره عليه، أو لاختياره منه هذا القدر لبلاغته، و هذا ليس بعزيز في النهج كما بينا في المباحث السالفة أن خطبة واحدة قطعت و جزئت في أربع مواضع من النهج و ذكر في كل موضع جزء منها، أو أتى ببعض ما في الخطب و الكتب و ترك بعضهما الاخر و ستقف على أكثر ما قدمنا في المباحث الاتية أيضا.

ثم نقل هذا الكتاب و الذي قبله في المجلد الثامن من البحار ص 409 الطبع الكمباني، و دونك الكتاب بالسند و التمام.

سند الكتاب و نقله بتمامه و نسخ اخرى منه‏

إن ما يهمنا في ذلك الشرح تحصيل سند ما في النهج و نقله من الجوامع و المجاميع التي ألفت قبل الرضي رضوان الله عليه كالجامع الكافي لثقة الاسلام الكليني المتوفى سنة 328 ه، و البيان و التبيين لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ المتوفى سنة 255 ه، و الكامل لأبي العباس محمد بن يزيد المعروف بالمبرد المتوفى سنة 285 ه، و الكتاب المعروف بالتاريخ اليعقوبي لأحمد بن أبي يعقوب الكاتب المتوفى حدود سنة 292 ه، و في الكنى و الألقاب للمحدث القمي رحمه الله أنه توفى سنة 246 ه، و تاريخ الامم و الملوك المعروف بالتاريخ الطبري لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري الاملي المتوفى سنة 310 ه، و كتاب صفين للشيخ أبي الفضل نصر بن مزاحم المنقري التميمي الكوفي من جملة الرواة المتقدمين بل الواقعة في درجة التابعين كان من معاصري محمد بن علي بن الحسين عليهم السلام باقر العلوم و كأنه كان من رجاله عليه السلام و أدرك علي بن موسى الرضا عليهما السلام كما في الخرائج للراوندي، و كتب الشيخ الأجل المفيد قدس سره المتوفى سنة 413 ه، لا سيما ما نقل في كتبه باسناده عن المورخ المشهور محمد بن عمر بن واقد الواقدي المدني المتوفى سنة 207 ه، و كتاب الإمامة و السياسة المعروف بتاريخ الخلفاء من مؤلفات عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري المتوفى سنة 276 ه، و مروج الذهب و معادن الجوهر في التاريخ لأبي الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي المتوفى سنة 346 ه، و كتب أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي المشتهر بالشيخ الصدوق المتوفى سنة 381 ه و غيرها من الكتب المشهورة للعلماء الأقدمين الذين كانوا قبل الرضي جامع النهج ببضع سنين إلى فوق مئين و هو توفى سنة 406 من هجرة خاتم النبيين.

و إنما حدانا على ذلك طعن بعض المخالفين من السابقين و اللاحقين بل بعض المعاصرين على النهج بأنه ليس من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بل مما وضعه الرضي أو من جمعه و نسبه إليه عليه السلام.

و قد نقل القاضي نور الله رحمه الله في مجالس المؤمنين عند ترجمة الشريف المرتضى علم الهدى أخ الرضي من تاريخ اليافعي أنه قال: و قد اختلف الناس في كتاب نهج البلاغة المجموع من كلام علي بن أبي طالب عليه السلام، هل هو جمعه أو أخوه الرضي و قد قيل: إنه ليس من كلام علي بن أبي طالب و إنما أحدهما هو الذي وضعه و نسبه إليه، انتهى ما أردنا من نقل القاضي كلام اليافعي.

أقول: الظاهر أن اليافعي أخذ هذا الطعن من القاضي ابن خلكان في وفيات الأعيان و نقله بألفاظه في تاريخه و القائل واحد، و قد قاله القاضي عند ترجمة علم الهدى و هو مات سنة 681 ه و اليافعي سنة 768 ه، إلا أن ابن خلكان قال بعد قوله في اختلاف الناس أنه ليس من كلامه عليه السلام و إنما الذي جمعه و نسبه إليه هو الذي وضعه. و الفرق بينهما أن القائل بالوضع على عبارة اليافعي هو علم الهدى أو أخوه الرضي، و أما على ما في الوفيات فيمكن أن يكون غيرهما.

ثم إن تلك الشبهة الواهية إنما صدرت من معاند جاهل هتاك لم يتفحص في الكتب و لم يكن عارفا بأنحاء الكلام، و إلا فكيف يجتري العالم المتتبع الباحث عن فنون الكلام أن ينحل الكلام الذي هو فوق كلام المخلوق و دون كلام الخالق إلى من نسبة منشاته و أشعاره و سائر كلماته إلى ما في النهج كنسبة السهاء إلى‏ الشمس. على أن الألسن قد كلت عن أن يتفوه باتيان خطبة من خطبه لفظا أو معنى، و الخطباء الذين تشار إليهم بالبنان و تثنى عليهم الخناصر عياله عليه السلام و كل أخذوا منه، و قد قدمنا بعض ما أشرنا إليه في شرح المختار 237.

و قد افترى بعض المخالفين على الرضي بأن الخطبة الشقشقية التي تدل على إثبات إمامة أمير المؤمنين عليه السلام و خلافته بعد رسول الله بلا فصل من مجعولاته نسبها إليه، و أقول: إنها من الخطب التي أعجزت العقلاء عن فهم معناها، و أعيت الخطباء البلغاء عن أن يأتوا بمثلها فأنى للرضي و لغير الرضي هذا النفس و هذا الاسلوب و ما جرى بين مصدق بن شبيب و شيخه ابن الخشاب مشهور معروف قد نقله الشارحان المعتزلي و البحراني الأول في آخر شرحه عليها، و الاخر في أوله و نقلها ابن أبي جمهور الأحسائي في المجلي أيضا (ص 393 طبع طهران 1329 ه) و هي رويت على طرق كثيرة روتها الخاصة و العامة أتى بها المجلسي قدس سره في المجلد الثامن من البحار (ص 160 من الطبع الكمباني) فلا حاجة إلى نقلها.

و أما ما في الوفيات و تاريخ اليافعي من أن الناس قد اختلفوا في النهج هل المرتضى جمعه أو الرضي فيدفعه ما قاله جامع النهج في مقدمته عليه: فاني كنت في عنفوان السن و غضاضة الغصن ابتدأت بتأليف كتاب في خصائص الأئمة عليهم السلام «إلخ»، و لا كلام في أن خصائص الأئمة من كتب الرضي رحمه الله، على أن جل المورخين و المحدثين من الشيعة بل كلهم و كذلك من العامة قالوا: إنه مما جمعه الرضي، و ارتياب من لا خبرة له في ذلك لا يعبأ به.

على أن كثيرا من المؤلفين حتى من كبار الصحابة و التابعين اعتنوا بجمع خطبه عليه السلام و كتبه و سائر كلماته، و قد ذكر عدة منها الاستاذ الشعراني في مقالته المفيدة القيمة على شرحنا هذا في أول المجلد الأول من تكملة المنهاج، و على شرح المولى صالح القزويني على نهج البلاغة بالفارسية، و كذا عد عدة كثيرة منها علي بن عبد العظيم التبريزي الخياباني في ص 349 من كتابه الموسوم بوقايع الأيام في أحوال شهر الصيام طبع إيران.

و قد التمس مني غير واحد من أصدقائي الاهتمام كل الاهتمام بذكر مدارك ما في النهج من الكتب الأقدمين الذين جمع الرضي كلماته عليه السلام منها و أوصاني بذلك مكررا، و أرجو من الله أن اجيب التماسهم بقدر الوسع بل الطاقة فاني لم آل جهدا إلى الان في ما لا بد منه في تفسير كلماته عليه السلام و ما يحتاج إليها من أراد أن يغوص في بحار معانيها لاقتناء دررها من السند و اللغة و الاعراب و نقد المعاني و نضد الحقائق في كل باب، و نقل الايات و الأخبار المناسبة في كل مقام بعون الله الفياض الوهاب.

و أما سند الكتاب المعنون و نقله بتمامه و نسخ اخرى منه:فقال الشيخ الأجل أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان المعروف بالمفيد المتوفى 413 ه في كتاب الجمل (ص 201 طبع النجف) في رواية عمر بن سعد عن يزيد بن الصلت، عن عامر الأسدي قال: إن عليا عليه السلام كتب بعد فتح البصرة مع عمر بن سلمة الأرحبي إلى أهل الكوفة: من عبد الله علي بن أبي طالب إلى قرضة بن كعب و من قبله من المسلمين، سلام عليكم، فاني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو، أما بعد فانا لقينا القوم الناكثين لبيعتنا المفرقين لجماعتنا الباغين علينا من امتنا فحاججنا هم إلى الله فنصرنا الله عليهم و قتل طلحة و الزبير و قد تقدمت إليهما بالنذر، و أشهدت عليهما صلحاء الامة و مكنتهما في البيعة فما أطاعا المرشدين و لا أجابا الناصحين، و لاذ أهل البغي بعائشة فقتل حولها جم لا يحصي عدد هم إلا الله، ثم ضرب الله وجه بقيتهم فأدبروا، فما كانت ناقة الحجر بأشأم منها على أهل ذلك المصر مع ما جاءت به من الحوب الكبير في معصيتها لربها و نبيها من الحرب و اغترار من اغتر بها و ما صنعته من التفرقة بين المؤمنين و سفك دماء المسلمين لا بينة و لا معذرة و لا حجة لها، فلما هزمهم الله أمرت أن لا يقتل مدبر، و لا يجهز على جريح، و لا يهتك ستر، و لا يدخل دار إلا باذن أهلها، و قد آمنت الناس و استشهد منا رجال صالحون، ضاعف الله لهم الحسنات و رفع درجاتهم، و أثابهم ثواب الصابرين، و جزاهم من أهل مصر عن أهل بيت‏ نبيهم أحسن ما يجزي العاملين بطاعته و الشاكرين لنعمته، فقد سمعتم و أطعتم و دعيتم فأجبتم فنعم الاخوان و الأعوان على الحق أنتم، و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته، كتب عبد الله بن أبي رافع في رجب سنة ست و ثلاثين. انتهى.

بيان: عبد الله بن أبي رافع كان كاتبه عليه السلام.

ثم إن كتابه عليه السلام إليهم بعد فتح البصرة روي بوجه آخر أيضا رواها علم الهدى الشريف المرتضى في الشافي (ص 287، الطبع الناصري 1302) و الشيخ الطوسي في تلخيصه، و الشيخ المفيد في الجمل (ص 198) و في الارشاد (ص 123 طبع طهران 1377 ه)رووا عن الواقدي أنه عليه السلام كتب إلى أهل الكوفة بعد فتح البصرة:

بسم الله الرحمن الرحيم من علي أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة، سلام عليكم فاني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو، أما بعد فان الله حكم عدل لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم و إذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له و ما لهم من دونه من وال، و إني اخبركم عنا و عمن سرنا إليه من جموع أهل البصرة و من سار إليه من قريش و غيرهم مع طلحة و الزبير بعد نكثهما صفقة أيمانهما، فنهضت من المدينة حين انتهى إلي خبرهم و ما صنعوه بعاملي عثمان بن حنيف حتى قدمت ذا قار فبعثت ابني الحسن و عمارا و قيسا، فاستنفرتهم لحق الله و حق رسوله و حقنا فأجابني أخوانكم سرعا حتى قدموا علي فسرت بهم و بالمسارعة إلى طاعة الله حتى نزلت ظهر البصرة فأعذرت بالدعاء و أقمت الحجة و أقلت العثرة و الزلة من أهل الردة من قريش و غيرهم، و استتبتهم عن نكثهم بيعتي و عهد الله لي عليهم فأبوا إلا قتالي و قتال من معي و التمادي في الغي، فناهضتهم بالجهاد و قتل من قتل منهم و ولى من ولى إلى مصرهم، فسألوني ما دعوتهم إليه من كف القتال فقبلت منهم و أغمدت السيوف عنهم و أخذت بالعفو فيهم و أجريت الحق و السنة بينهم و استعملت عليهم عبد الله بن العباس على البصرة، و أنا سائر إلى الكوفة إن شاء الله تعالى، و قدبعثت إليكم زجر بن قيس الجعفي لتسألوه يخبركم عنا و عنهم و ردهم الحق علينا و ردهم الله و هم كارهون، و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته، و كتب عبد الله بن أبي رافع في جمادى الاولى سنة ست و ثلاثين.

ففي الارشاد: ثم كتب عليه السلام بالفتح إلى أهل الكوفة- إلى أن قال: من جموع أهل البصرة و من تأشب إليهم من قريش (مكان و من سار إليه من قريش- كما في الجمل)- ثم نقل إلى قوله عليه السلام: و ولى من ولى إلى مصرهم، مع اختلاف يسير في بعض العبارات، و بعده: و قتل طلحة و الزبير علي نكثهما و شقاقهما و كانت المرأة عليهم أشأم من ناقة الحجر فخذلوا و أدبروا و تقطعت بهم الأسباب، فلما رأوا ما حل بهم سألوني العفو عنهم فقبلت منهم و غمدت- إلى آخره مع اختلاف قليل في بعض الألفاظ و الجمل.

و نقل الكتاب أبو جعفر الطبري في التاريخ (545 ج 3 طبع مصر 1357 ه) بالاجمال و الاختصار قال: ما كتب به علي بن أبي طالب من الفتح إلى عامله بالكوفة: كتب إلى السري، عن شعيب، عن سيف، عن محمد و طلحة قالا: و كتب علي بالفتح إلى عامله بالكوفة حين كتب في أمرها و هو يومئذ بمكة:

من عبد الله أمير المؤمنين أما بعد فانا التقينا في النصف من جمادى الاخرة بالخريبة فناء من أفنية البصرة فأعطاهم الله عز و جل سنة المسلمين و قتل منا و منهم قتلى كثيرة و اصيب ممن اصيب منا ثمامة بن المثنى و هند بن عمرو و علباء بن الهيثم و سيحان و زيد ابنا صوحان و محدوج، و كتب عبد الله بن أبي رافع و كان الرسول زفر بن قيس إلى الكوفة بالبشارة في جمادى الاخرة.

أقول: الظاهر أن الكتاب واحد و إنما روي بطرق مختلفة بعضه نقل في طريق و بعضه الاخر في طريق آخر، و روايته كذلك لا تدل على تعدد الكتاب إليهم بعد الفتح و ما وجدنا في كتب الاثار بعد الفخص و التتبع ما يدل على تعدده.

ثم إن محاسن هذا الكتاب كثيرة بل كله حسن، و اختيار بعضه و ترك الباقي‏ كما فعله السيد الرضي ليس بصواب و القول بعدم عثوره على الكتاب بتمامه لا يخلو من دغدغة.

كتابان آخران له عليه السلام‏

هذان الكتابان غير مذكورين في النهج و إنما نقلهما المفيد قدس سره في الجمل (ص 197) عن الواقدي أحدهما كتبه إلى أهل المدينة بعد فتح البصرة و ثانيهما إلى أم هاني بنت أبي طالب بعد الفتح أيضا.

أما الأول فاستدعى كاتبه عبد الله بن أبي رافع و قال: اكتب إلى أهل المدينة:

بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله علي بن أبي طالب: سلام عليكم فاني أحمد الله إليكم الذي لا إله إلا هو فان الله بمنه و فضله و حسن بلائه عندي و عندكم حكم عدل، و قد قال سبحانه في كتابه و قوله الحق: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم و إذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له و ما لهم من دونه من وال‏ و إني مخبركم عنا و عمن سرنا إليه من جموع أهل البصرة و من سار إليهم من قريش و غيرهم مع طلحة و الزبير و نكثهما على ما قد علمتم من بيعتي و هما طائعان غير مكرهين فخرجت من عندكم بمن خرجت ممن سارع إلى بيعتي و إلى الحق حتى نزلت ذاقار فنفر معي من نفر من أهل الكوفة و قدم طلحة و الزبير البصرة و صنعا بعاملي عثمان بن حنيف ما صنعا، فقدمت إليهم الرسل و أعذرت كل الاعذار، ثم نزلت ظهر البصرة فأعذرت بالدعاء و قدمت الحجة و أقلت العثرة و الزلة و استتبتهما و من معهما من نكثهم بيعتي و نقضهما عهدي فأبوا إلا قتالي و قتال من معي و التمادي في الغي، فلم أجد بدا في مناصفتهم لي فناصفتهم بالجهاد، فقتل الله من قتل منهم ناكثا، و ولى من ولى منهم، و أغمدت السيوف عنهم و أخذت بالعفو فيهم و أجريت الحق و السنة في حكمهم و اخترت لهم عاملا استعملته عليهم و هو عبد الله بن عباس، و إني سائر إلى الكوفة إن شاء الله تعالى، و كتب عبد الله بن أبي رافع في جمادى الاولى سنة ست و ثلاثين من الهجرة.

و قال علم الهدى في الشافي: و روى الواقدي أيضا كتاب أمير المؤمنين عليه السلام‏ إلى أهل المدينة يتضمن مثل معاني كتابه إلى أهل الكوفة و قريبا من ألفاظه.

أقول: و لعل الوجه في عدم ذكر الرضي كتابه عليه السلام إلى أهل المدينة في النهج كان ذلك أعني أن كتابه إلى أهل المدينة كان قريبا من كتابه إلى أهل الكوفة في ألفاظه و معانيه.

أما الكتاب الثاني: فكتب عليه السلام إلى أم هاني بنت أبي طالب:

سلام عليك أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فانا التقينا مع البغاة و الظلمة في البصرة فأعطانا الله تعالى النصر عليهم بحوله و قوته، و أعطاهم سنة الظالمين فقتل كل من طلحة و الزبير و عبد الرحمن بن عتاب و جمع لا يحصى و قتل منا بنو مخدوع و ابنا صوحان و غلباء و هند و ثمامة فيمن يعد من المسلمين رحمهم الله- و السلام.

و لقد حان أن نرجع إلى تتميم واقعة الجمل وفاء بالعهد الذي عهدناه في الكتاب المتقدم، و ليعلم أولا أن غرضنا كله أن نأتي بالكتب و الخطب و الأشعار و الحكم التي صدرت منه عليه السلام على الترتيب الواقع في بدء واقعة الجمل إلى آخرها حتى نذكر سند ما في النهج على ما وجدنا طائفة منه في سالف الأيام، و اخرى حين شرح الكتاب بالتتبع و الفحص على قدر الوسع و الطاقة، و كذا نذكر في ذكر نحو هذه الوقائع ما لم يأت به في النهج من كلماته عليه السلام كما فعلنا في نقل واقعة صفين على اسلوب بديع بين فيه كثير ما في النهج، و ذكر طائفة من كلماته عليه السلام لم تذكر فيه مع فوائد غزيرة جليلة قد مناها في ذكر واقعة صفين، فنقول:

لما أتى أمير المؤمنين عليا عليه السلام الخبر و هو بالمدينة بأمر عائشة و طلحة و الزبير أنهم قد توجهوا نحو العراق. خرج يبادر و هو يرجو أن يدركهم و يردهم فلما انتهى إلى الربذة أتاه عنهم أنهم قد أمعنوا، فأقام بالربذة أياما و أتاه عن القوم أنهم يريدون البصرة فسرى بذلك عنه، و قال: إن أهل الكوفة أشد إلي حبا و فيهم رءوس العرب و أعلامهم، ثم دعا هاشم بن عتبة المرقال و كتب معه كتابا إلى أبي موسى الأشعري، و كان بالكوفة من قبل عثمان أن يوصل الكتاب إليه‏ ليستنفر الناس منها إلى الجهاد معه.

روى أبو مخنف، قال: حدثني الصعقب، قال: سمعت عبد الله بن جنادة يحدث أن عليا عليه السلام لما نزل الربذة بعث هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إلى أبي موسى الأشعري و هو الأمير يومئذ على الكوفة لينفر إليه الناس، و كتب إليه معه من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس (هو أبو موسى الأشعري) أما بعد فاني قد بعثت إليك هاشم بن عتبة لتشخص إلي من قبلك من المسلمين ليتوجهوا إلى قوم نكثوا بيعتي و قتلوا شيعتي و أحدثوا في الاسلام هذا الحدث العظيم، فأشخص بالناس إلي معه حين يقدم عليك فاني لم اولك المصر الذي أنت فيه و لم أقرك عليه إلا لتكون من أعواني على الحق و أنصاري على هذا الأمر، و السلام.

نقل هذا الكتاب أيضا في جمل المفيد (ص 115 طبع النجف)، و تاريخ أبي جعفر الطبري (ص 512 ج 3 طبع مصر 1357 ه)، إلا أن المفيد ذهب إلى أنه عليه السلام أرسل هاشم بالكتاب إلى أبي موسى من ذي قار، فانه رحمه الله قال: لما بلغ الربذة وجد القوم قد فاتوا فنزل بها قليلا، ثم توجه نحو البصرة حتى نزل بذي قار فأقام بها، ثم أرسل ذلك الكتاب مع هاشم، إلخ.و لكن على رواية أبي مخنف و ابن إسحاق و الطبري و غيرهم ما نقلناه و رتبناه.

فقدم هاشم بالكتاب على أبي موسى الأشعري، فدعا أبو موسى السائب بن مالك الأشعري فأقرأه الكتاب، و قال له: ما ترى؟ فقال له أبو السائب: اتبع ما كتب به إليك، فأبى ذلك و حبس الكتاب و بعث إلى هاشم يتوعده و يخوفه.

كتاب هاشم بن عتبة الى أمير المؤمنين عليه السلام من الكوفة

فقال السائب: فأتيت هاشم بن عتبة فأخبرته برأي أبي موسى فكتب هاشم إلى أمير المؤمنين عليه السلام: لعبد الله علي أمير المؤمنين من هاشم بن عتبة: أما بعديا أمير المؤمنين و إني قدمت بكتابك على امرء مشاق عاق بعيد الرحم ظاهر الغل و الشنان فتهددني بالسجن و خوفني بالقتل، و قد كتبت إليك هذا الكتاب مع المحل بن خليفة أخي طي و هو من شيعتك و أنصارك و عنده علم ما قبلنا فاسأله عما بدا لك و اكتب إلي برأيك، و السلام.

فلما قدم المحل بكتاب هاشم علي علي عليه السلام سلم عليه ثم قال: الحمد لله الذي أدى الحق إلى أهله و وضعه موضعه، فكره ذلك قوم قدو الله كرهوا نبوة محمد صلى الله عليه و آله ثم بارزوه و جاهدوه، فرد الله عليهم كيدهم في نحورهم، و جعل دائرة السوء عليهم، و الله يا أمير المؤمنين لنجاهدنهم معك في كل موطن حفظا لرسول الله صلى الله عليه و آله في أهل بيته إذ صاروا أعداء لهم بعده، فرحب به علي عليه السلام و قال له خيرا، ثم أجلسه إلى جانبه و قرأ كتاب هاشم و سأله عن الناس و عن أبي موسى الأشعري، فقال: و الله يا أمير المؤمنين ما أثق به و لا آمنه على خلافك إن وجد من يساعده على ذلك. فقال علي عليه السلام: و الله ما كان عندي بمؤتمن و لا ناصح، و لقد أردت عزله فأتاني الأشتر فسألني أن اقره و ذكر أن أهل الكوفة به راضون فأقررته.

كتاب على عليه السلام الى أبى موسى الاشعرى‏

ثم دعا عليه السلام عبد الله بن عباس و محمد بن أبي بكر و بعثهما إلى أبي موسى و كتب معهما:

من عبد الله علي أمير المؤمنين عليه السلام إلى عبد الله بن قيس: أما بعد يا ابن الحائك يا عاض إير أبيه، فو الله إني كنت لأرى أن بعدك من هذا الأمر الذي لم يجعلك الله له أهلا و لا جعل لك فيه نصيبا سيمنعك من رد أمري و الانتزاء علي، و قد بعثت إليك ابن عباس و ابن أبي بكر فخلهما و المصر و أهله و اعتزل عملنا مذؤما مدجورا، فان فعلت، و إلا فاني قد أمرتهما أن ينابذاك على سواء إن الله لا يهدي كيد الخائنين، فاذا ظهرا عليك قطعاك إربا إربا، و السلام على من شكر النعمة و وفى بالبيعة و عمل برجاء العاقبة.

أقول: هذا الكتاب غير مذكور في النهج و إنما ذكر فيه كتاب آخر منه عليه السلام إليه و هو الكتاب 63 منه و هو قوله عليه السلام: من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس، أما بعد فقد بلغني عنك قول هو لك و عليك، إلخ.

قال أبو مخنف: فلما أبطأ ابن عباس و ابن أبي بكر عن علي عليه السلام و لم يدر ما صنعا رحل عن الربذة إلى ذي قار فنزلها، فلما نزل ذا قار بعث إلى الكوفة الحسن ابنه عليه السلام و عمار بن ياسر و زيد بن صوحان و قيس بن سعد بن عبادة و معهم كتاب إلى الكوفة، فأقبلوا حتى كانوا بالقادسية، فتلقا هم الناس، فلما دخلوا الكوفة قرءوا كتاب علي عليه السلام و هو:من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من بالكوفة من المسلمين: أما بعد فاني خرجت مخرجي هذا إما ظالما، و إما مظلوما، و إما باغيا، و إما مبغيا علي، فأنشد الله رجلا بلغ كتابي هذا إلا نفر إلي، فان كنت مظلوما أعانني، و إن كنت ظالما استعتبني، و السلام.

أقول: أتى بهذا الكتاب الشريف الرضي في النهج مع اختلاف يسير و هو الكتاب 57 منه قوله: و من كتاب له عليه السلام إلى أهل الكوفة عند مسيره من المدينة إلى البصرة، أما بعد فاني خرجت من حيي هذا، إلخ.

و كذا نقل هذا الكتاب أبو جعفر الطبري في التاريخ (ص 512 ج 3 طبع مصر 1357 ه) و بين النسخ اختلاف في الجملة و نذكرها في شرح الكتاب بعون الله الملك الوهاب.

فلما دخل الحسن بن علي عليهما السلام و عمار الكوفة اجتمع إليهما الناس، فقام الحسن عليه السلام، فاستنفر الناس و خطب خطبة رواها أبو مخنف على صورتين فاحداهما ما قال: حدثني جابر بن يزيد قال: حدثني تميم بن حذيم الناجي قال: قدم علينا الحسن بن علي عليهما السلام و عمار بن ياسر يستنفران الناس إلى علي عليه السلام و معهما كتابه، فلما فرغا من قراءة كتابه قام الحسن عليه السلام و هو فتى حدث و الله إني لأرثي له من حداثة سنه و صعوبة مقامه، فرماه الناس بأبصارهم و هم يقولون اللهم:سدد منطق ابن بنت نبينا، فوضع يده على عمود يتساند إليه و كان عليلا من شكوى به فقال‏:

خطبة الحسن بن على عليهما السلام فى الكوفة يستنفر الناس الى أبيه عليه السلام‏

الحمد لله العزيز الجبار، الواحد القهار، الكبير المتعال، سواء منكم من أسر القول و من جهر به و من هو مستخف بالليل و سارب بالنهار، أحمده على حسن البلاء، و تظاهر النعماء، و على ما أحببنا و كرهنا من شدة و رخاء، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، و أن محمدا عبده و رسوله، امتن علينا بنبوته، و اختصه برسالته، و أنزل عليه وحيه، و اصطفاه على جميع خلقه، و أرسله إلى الإنس و الجن حين عبدت الأوثان، و اطيع الشيطان، و جحد الرحمن، فصلى الله عليه و على آله، و جزاه أفضل ما جزى المسلمين، أما بعد فاني لا أقول لكم إلا ما تعرفون أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أرشد الله أمره، و أعز نصره، بعثني إليكم يدعو كم إلى الصواب، و إلى العمل بالكتاب، و الجهاد في سبيل الله، و إن كان في عاجل ذلك ما تكرهون، فان في آجله ما تحبون إن شاء الله، و لقد علمتم أن عليا صلى مع رسول الله صلى الله عليه و آله وحده و أنه يوم صدق به لفي عاشرة من سنه، ثم شهد مع رسول الله صلى الله عليه و آله جميع مشاهده و كان من اجتهاده في مرضاة الله و طاعة رسوله و آثاره الحسنة في الاسلام ما قد بلغكم و لم يزل رسول الله صلى الله عليه و آله راضيا عنه حتى غمضه بيده، و غسله وحده و الملائكة أعوانه و الفضل ابن عمه ينقل إليه الماء، ثم أدخله حفرته، و أوصاه بقضاء دينه و عداته و غير ذلك من اموره، كل ذلك من من الله عليه، ثم و الله ما دعا إلى نفسه، و لقد تداك الناس عليه تداك الإبل الهيم العطاش ورودها، فبايعوه طائعين، ثم نكث منهم ناكثون بلا حدث أحدثه، و لا خلاف أتاه، حسدا له و بغيا عليه فعليكم عباد الله بتقوى الله و طاعته، و الجد و الصبر و الاستعانة بالله، و الخفوف إلى ما دعا كم إليه أمير المؤمنين عليه السلام عصمنا الله و إياكم بما عصم به أولياءه و أهل طاعته، و ألهمنا

و إياكم تقواه، و أعاننا و إياكم على جهاد أعدائه، و أستغفر الله العظيم لي و لكم ثم مضى إلى الرهبة فهيأ منزلا لأبيه أمير المؤمنين عليه السلام.

قال جابر: فقلت لتميم: كيف أطاق هذا الغلام ما قد قصصته من كلامه؟

فقال: و لما سقط عني من قوله أكثر و لقد حفظت بعض ما سمعت.

و أما صورتها الاخرى فروي عن موسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه أنه لما دخل الحسن عليه السلام و عمار الكوفة اجتمع إليهما الناس فقام الحسن عليه السلام فاستنفر الناس، فحمد الله و صلى على رسوله ثم قال:

أيها الناس إنا جئنا ندعوكم إلى الله و إلى كتابه و سنة رسوله و إلى أفقه من تفقه من المسلمين، و أعدل من تعدلون، و أفضل من تفضلون، و أوفى من تبايعون، من لم يعيه القرآن، و لم تجهله السنة، و لم تقعد به السابقة، إلى من قربه الله تعالى و رسوله قرابتين: قرابة الدين، و قرابة الرحم، إلى من سبق الناس إلى كل مأثرة، إلى من كفى الله به رسوله و الناس متخاذلون، فقرب منهم و هم متباعدون، و صلى معه و هم مشركون، و قاتل معه و هم منهزمون، و بارز معه و هم محجمون، و صدقه و هم يكذبون، إلى من لم ترد له راية، و لا تكافا له سابقة، و هو يسألكم النصر، و يدعوكم إلى الحق، و يأمر كم بالمسير إليه لتوازروه و تنصروه على قوم نكثوا بيعته و قتلوا أهل الصلاح من أصحابه، و مثلوا بعماله، و انتهبوا بيت ماله، فاشخصوا إليه، رحمكم الله، فمروا بالمعروف و انهوا عن المنكر و احضروا بما يحضر به الصالحون.

و نقل ابن قتيبة الدينوري في الإمامة و السياسة خطبته عليه السلام بوجه آخر قال:

(ص 67 ج 1 طبع مصر 1377 ه-. 1957 م) ثم قام الحسن بن علي عليهما السلام فقال:أيها الناس إنه قد كان من مسير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ما قد بلغكم، و قد أتيناكم مستنفرين، لأنكم جبهة الأنصار، و رءوس العرب، و قد كان من نقض طلحة و الزبير بعد بيعتهما و خروجهما بعائشة ما بلغكم، و تعلمون أن و هن النساء و ضعف رأيهن إلى التلاشي، و من أجل ذلك جعل الله الرجال قوامين على النساء و أيم الله لو لم ينصره منكم أحد لرجوت أن يكون فيمن أقبل معه من المهاجرين و الأنصار كفاية.

و نقل الخطبة في (جمل المفيد ص 117 طبع نجف) أيضا و نسخته قريبة من نسخة الامامة و السياسة.

و أقول: الظاهر أن تلك النسخ كلها كانت خطبة واحدة منه عليه السلام و هي كما قال تميم بن حذيم الناجي حفظ بعضها فريق، و حفظ طائفة منها فريق آخر فنقلوا ما حفظوا، أو اختار بعضهم بعضها اختصارا و ترك الاخر الاخر كذلك.

و لما فرغ الحسن بن علي عليهما السلام من خطبته قام بعده عمار فحمد الله و أثنى عليه و صلى على رسوله ثم قال:

يا أيها الناس أخو نبيكم و ابن عمه يستنفر كم لنصر دين الله، و قد بلاكم الله بحق دينكم و حرمة امكم، فحق دينكم أوجب، و حرمته أعظم، أيها الناس عليكم بامام لا يؤدب، و فقيه لا يعلم، و صاحب بأس لا ينكل، و ذي سابقة في الاسلام ليست لأحد، و إنكم لو قد حضرتموه بين لكم أمركم إن شاء الله.

أقول: لقد مضى وجه قول عمار فيه عليه السلام عليكم بامام لا يؤدب في شرح الخطبة 236 ص 2 ج 16 من تكملة المنهاج.

ثم إن المفيد قدس سره نقل خطبة عمار بن ياسر في الجمل (ص 117 طبع النجف) تغاير الاولى، و نقلها ابن قتيبة في الامامة و السياسة على وجه تغايرهما، و لا بعد أن تكون خطبته أيضا قطعت و فرقت، و ذكرت في كتاب طائفة منها و في آخر اخرى منها.

ثم قام بعدهما قيس بن سعد فقال:

أيها الناس إن هذا الأمر لو استقبلنا به الشورى لكان علي أحق الناس به لمكانه من رسول الله صلى الله عليه و آله و كان قتال من أبى ذلك حلالا فكيف بالحجة على طلحة و الزبير و قد بايعاه طوعا ثم خلعا حسدا و بغيا، و قد جاءكم علي في المهاجرين و الأنصار، ثم أنشأ يقول:

رضينا بقسم الله إذ كان قسمنا عليا و أبناء الرسول محمد
و قلنا لهم أهلا و سهلا و مرحبا نمد يدينا من هدى و تودد
فما للزبير الناقض العهد حرمة و لا لأخيه طلحة فيه من يد
أتاكم سليل المصطفى و وصيه‏ و أنتم بحمد الله عارضه الندى‏
فمن قائم يرجى بخيل إلى الوغى‏ و ضم العوالي و الصفيح المهند
يسود من أدناه فغير مدلع‏ و إن كان ما نفضيه غير مسود
فان يك ما نهوى فذاك نريده‏ و إن تخط ما نهوى فغير تعمد

تذكرة: قد ذكرنا في المجلد 16 من تكملة المنهاج من ص 19 إلى ص 23 طائفة من أشعار الصحابة و التابعين في مدح أمير المؤمنين و تعريفه بأنه وصي رسول الله صلى الله عليه و آله و منها بيتان من قيس بن سعد هذا و قد قدمنا هنالك أن هذه الكلمة الصادرة من هؤلاء العظام مع قربهم بزمان رسول الله صلى الله عليه و آله بل إدراك كثير منهم إياه مما يعتنى بها و يبجلها من يطلب الحق و يبحث عنه، فراجع.

فلما فرغ القوم من كلامهم و سمع أبو موسى خطبتهم قام فصعد المنبر و قال:

الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد فجمعنا- إلى آخر ما نقلنا كلامه لأهل الكوفة و تثبيطه إياهم عن نصرة أمير المؤمنين علي عليه السلام في شرح الخطبة 236 في ص 6 من المجلد السادس عشر من تكملة المنهاج، و كذا احتجاج عمار بن ياسر رحمة الله عليهما عليه من كلامه فلا حاجة إلى الإعادة- فراجع.

ثم قام زيد بن صوحان، و بعده عبد الله بن عبد خير، و بعده عبد خير، ثم رجل آخر و خاصموا أبا موسى و احتجوا عليه و بخوه بفعاله و لاموه بمقاله و نهوه عن تثبيطه الناس عن نصرة أمير المؤمنين علي عليه السلام، نقل كلام كل واحد منهم المفيد رحمه الله في الجمل، ثم قال: و بلغ أمير المؤمنين ما كان من أمر أبي موسى و تخذيله الناس عن نصرته، فقام إليه مالك الأشتر «ره» فقال: يا أمير المؤمنين إنك قد بعثت إلى الكوفة رجلا قيل من العنت الان فلم أره حكم شيئا و هؤلاء اخلف من بعثت أن يستنيب لك الناس على ما تحب، و لست أدري ما يكون، فان رأيت جعلت فداك‏

أن تبعثني في إثرهم فان أهل الكوفة أحسن لي طاعة، و إن قدمت عليهم رجوت أن لا يخالفني أحد منهم.

فقال أمير المؤمنين عليه السلام: الحق بهم على اسم الله، فأقبل الأشتر حتى دخل الكوفة و قد اجتمع الناس بالمسجد الأعظم، فأخذ لا يمر بقبيلة فيها جماعة في مجلس أو مسجد إلا دعاهم و قال لهم: اتبعوني إلى القصر، فانتهى إلى القصر في جماعة من الناس فاقتحم و أبو موسى قائم في المسجد الأعظم يخطب الناس و يثبطهم عن نصرة علي عليه السلام و الحسن عليه السلام و عمار و قيس يقولون له: اعتزل عملنا لا ام لك، و تنح عن منبرنا.

فبيناهم في الكلام و المشاجرة إذ دخل غلمان أبي موسى ينادون يا أبا موسى هذا الأشتر اخرج من في المسجد، و دخل عليه أصحاب الأشتر فقالوا له: اخرج من المسجد يا ويلك أخرج الله روحك إنك و الله لمن المنافقين، فخرج أبو موسى و أنفذ إلى الأشتر أن أجلني هذه العشية، قال: قد أجلتك و تبيت في القصر هذه الليلة و اعتزل ناحية عنه، و دخل الناس ينتهبون متاع أبي موسى فأتبعهم الأشتر بمن أخرجهم من القصر و قال لهم: إني أجلته، فكف الناس عنه.

قال أبو جعفر الطبري في التاريخ: و أتت الأخبار عليا عليه السلام باختلاف الناس بالكوفة، فقال للأشتر: أنت شفعت في أبي موسى أن اقره على الكوفة، فاذهب فاصلح ما أفسدت، فقام الأشتر فشخص نحو الكوفة، فأقبل حتى دخلها و الناس في المسجد الأعظم، فجعل لا يمر بقبيلة إلا دعاهم، و قال: اتبعوني إلى القصر حتى وصل القصر فاقتحمه و أبو موسى يومئذ يخطب الناس على المنبر و يثبطهم و عمار يخاطبه و الحسن عليه السلام يقول: اعتزل عملنا و تنح عن منبرنا لا ام لك.

ثم صعد الحسن بن علي عليهما السلام ثانيا و بعده عمار بن ياسر (ره) و خطبنا خطبة ثم سعد المنبر الأشتر رضوان الله عليه و خطب خطبة، ثم قام حجر بن عدي الكندي رحمه الله تعالى و خطب خطبة، نقل خطبهم الشيخ الأجل المفيد (ره) في الجمل استنفر كل واحد منهم الناس إلى أمير المؤمنين عليه السلام و الجهاد في سبيل الله،فأجابهم الناس بالسمع و الطاعة.

قال المفيد في الجمل نقلا عن الواقدي: و كان أمير المؤمنين عليه السلام كتب مع ابن عباس كتابا إلى أبي موسى و غلظه فقال ابن عباس: قلت في نفسي أقدم على رجل و هو أمير بمثل هذا الكتاب أن لا ينظر في كتابي و نظرت أن أشق كتاب أمير المؤمنين عليه السلام، و كتبت من عندي كتابا عنه لأبي موسى: أما بعد فقد عرفت مودتك إيانا أهل البيت و انقطاعك إلينا و إنما نرغب إليك لما نعرف من حسن رأيك فينا، فاذا أتاك كتابي فبايع لنا الناس و السلام. فدفعه إليه، فلما قرأه أبو موسى قال لي: أنا الأمير بل و أنت قلت الأمير فدعا الناس إلى بيعة علي عليه السلام فلما بايع قمت و صعدت المنبر فرام، انزالى منه فقلت: أنت تنزلني عن المنبر و أخذت بقائم سيفي فقلت: اثبت مكانك و الله لأن نزلت إليك هذبتك به، فلم يبرح فبايعت الناس لعلي عليه السلام و خلعت أبا موسى في الحال و استعملت مكانه قرضة بن عبد الله الأنصاري، و لم أبرح من الكوفة حتى سيرت لعلي عليه السلام في البر و البحر من أهلها سبعة آلاف رجل، و لحقته بذي قار قال: و قد سار معه من جبال طي و غيرها ألفا رجل.

ظهور معجزة من أمير المؤمنين عليه السلام باخباره بالغيب‏

قد تظافرت الأخبار و تناصرت الاثار من الفريقين أن أمير المؤمنين عليه السلام أخبر الناس في ذي قار بأن رجالا من قبل الكوفة يأتونه لنصرته و يبايعونه على الموت، و إنما اختلفت تلك الروايات في العد: الذي أخبر عليه السلام به.

ففي الارشاد للمفيد قدس سره (ص 149 طبع طهران 1377 ه): قال عليه السلام بذي قار و هو جالس لأخذ البيعة: يأتيكم من قبل الكوفة ألف رجل لا يزيدون رجلا و لا ينقصون رجلا يبايعونني على الموت، قال ابن عباس: فجزعت لذلك و خفت أن ينقص القوم عن العدد أو يزيدون عليه فيفسد الأمر علينا و لم أزل مهموما دأبي إحصاء القوم حتى ورد أوائلهم فجعلت أحصيهم فاستوفيت عددهم تسعمائة و تسعة و تسعون رجلا، ثم انقطع مجي‏ء القوم فقلت: إنا لله و إنا إليه راجعون ما ذا حمله على ما قال، فبينما أنا مفكر في ذلك إذ رأيت شخصا قد أقبل حتى إذا دنى و إذا هو رجل عليه قباء صوف معه سيفه و ترسه و أدواته، فقرب من أمير المؤمنين عليه السلام فقال له: امدد يدك ابايعك، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: على م تبايعني؟ قال:

على السمع و الطاعة و القتال بين يديك حتى أموت أو يفتح الله عليك، فقال عليه السلام:

ما اسمك؟ قال: اويس، قال: أنت اويس القرني؟ قال: نعم، قال: الله أكبر أخبرني حبيبي رسول الله صلى الله عليه و آله أني أدرك رجلا من امته يقال له: اويس القرني يكون من حزب الله و رسوله يموت على الشهادة يدخل في شفاعته مثل ربيعة و مضر قال ابن عباس: فسرى و الله عني.

و قال في الجمل: روى نصر بن عمرو بن سعد عن الأحلج، عن زيد بن علي قال: لما أبطأ على علي عليه السلام خبر أهل البصرة و نحن في فلاة قال عبد الله بن عباس:

فأخبرت عليا بذلك فقال لي: اسكت يا ابن عباس، فوالله لتأتينا في هذين اليومين من الكوفة ستة آلاف و ستمائة رجل و ليغلبن أهل البصرة و ليقتلن طلحة و الزبير فوالله إنني أستشرف الأخبار و أستقبلها حتى إذا أتى راكب فاستقبلته و استخبرته فأخبرني بالعدة التي سمعتها من علي عليه السلام لم تنقص رجلا واحدا.

و قال أبو جعفر الطبري في التاريخ (ص 513 ج 3 طبع مصر 1357 ه):

حدثني عمر قال: حدثنا أبو الحسن قال: حدثنا أبو مخنف، عن جابر، عن الشعبي عن أبي الطفيل قال: قال علي عليه السلام يأتيكم من الكوفة اثنا عشر ألف رجل و رجل فقعدت على نجفة ذي قار فأحصيتهم، فما زادوا رجلا و لا نقصوا رجلا.

ثم قال: حدثني عمر قال: حدثنا أبو الحسن، عن بشير بن عاصم، عن ابن أبي ليلى، عن أبيه قال: خرج إلى علي عليه السلام اثنا عشر ألف رجل و هم أسباع على قريش و كنانة و أسد إلخ.

و روى أبو مخنف كما في شرح الفاضل الشارح المعتزلي (ص 102 ج 1 طبع طهران 1304 ه الخطبة 33) عن الكلبي، عن أبي صالح، عن زيد بن علي بن عباس‏ قال: لما نزلنا مع علي عليه السلام ذا قار قلت: يا أمير المؤمنين ما أقل من يأتيك من أهل الكوفة فيما أظن؟ فقال: و الله ليأتيني منهم ستة آلاف و خمسة و ستون رجلا لا يزيدون و لا ينقصون، قال ابن عباس: فدخلني و الله من ذلك شك شديد في قوله و قلت في نفسي: و الله إن قدموا لأعدنهم.

قال أبو مخنف: فحدث ابن إسحاق عن عمه عبد الرحمن بن يسار قال: نفر إلى علي عليه السلام إلى ذي قار من الكوفة في البحر و البر ستة آلاف و خمسمائة و ستون رجلا أقام علي عليه السلام بذي قار خمسة عشر يوما حتى سمع صهيل الخيل و شحيج البغال حوله، فلما ساربهم منقلة قال ابن عباس: و الله لأعدنهم فان كانوا كما قال و إلا أتممتهم من غير هم فان الناس قد كانوا سمعوا قوله، فعرضتهم فوالله ما وجدتهم يزيدون رجلا و لا ينقصون رجلا، فقلت: الله أكبر صدق الله و رسوله، ثم سرنا.

و قال المسعودي في مروج الذهب: أتاه عليه السلام من أهل الكوفة نحو من سبعة آلاف و قيل ستة آلاف و خمسمائة و ستون رجلا، و قال: قتل من أصحاب علي عليه السلام في وقعة الجمل خمسة آلاف.

و الأخبار الواردة في العدة التي خرجوا مع علي عليه السلام من المدينة و في أنه عليه السلام سار من ذي قار قاصدا البصرة في اثنى عشر ألف، و في عدد القتلى من أصحابه عليه السلام و غيرها لا يناسب العدد الذي ذكره المفيد في الارشاد، و لم نر مع كثرة فحصنا في الاثار من يوافقه في نقل ذلك المقدار.

عدة خطب خطب بها أمير المؤمنين عليه السلام فى ذى قار و تحقيق أنيق فى سند عدة خطب مذكورة فى النهج و بيان أصلها و لم شعثها

(1) قال المفيد في الإرشاد (ص 119 طبع طهران 1377 ه) و لما نزل بذي قار أخذ البيعة على من حضره ثم تكلم فأكثر من الحمد لله و الثناء عليه الصلاة على رسول الله صلى الله عليه و آله ثم قال:

قد جرت امور صبرنا عليها و في أعيننا القذى تسليما لأمر الله تعالى فيما امتحننا به، و رجاء الثواب على ذلك، و كان الصبر عليها أمثل من أن يتفرق المسلمون و تسفك دماؤهم، نحن أهل بيت النبوة و عترة الرسول و أحق الخلق بسلطان الرسالة و معدن الكرامة التي ابتدأ الله بها هذه الامة، و هذا طلحة و الزبير ليسا من أهل النبوة و لا من ذرية الرسول حين رأيا أن الله قد رد علينا حقنا بعد أعصر، فلم يصبرا حولا واحدا ولا شهرا كاملا، حتى و ثبا على دأب الماضين قبلهما ليذهبا بحقي و يفرقا جماعة المسلمين عني، ثم دعا عليهما.

(2) قال أبو جعفر الطبري في التاريخ (ص 501 ج 3 طبع مصر 1357 ه):كتب إلي السري عن شعيب، عن سيف، عن عمرو، عن الشعبي قال: لما التقوا بذي قار تلقاهم علي في اناس فيهم ابن عباس فرحب بهم و قال:

يا أهل الكوفة أنتم وليتم شوكة العجم و ملوكهم و فضضتم جموعهم حتى صارت إليكم مواريثهم، فأغنيتم حوزتكم و أعنتم الناس على عدوهم، و قد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة، فان يرجعوا فذاك ما نريد، و إن يلجوا داريناهم بالرفق، و بايناهم حتى يبدءونا بظلم، و لن ندع أمرا فيه صلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد إن شاء الله، و لا قوة إلا بالله. أقول: هذه الخطبة و التي قبلها ما ذكرتا في النهج و يمكن أن يكون جميعها خطبة واحدة فتفرقت باختلاف الروايات.

(3) و قال الواقدي كما في جمل المفيد: لما صار أهل الكوفة إلى ذي قار و لقوا عليا عليه السلام بها رحبوا به و قالوا: الحمد لله الذي خصنا بمودتنا و أكرمنا بنصرتك، فجزاهم خيرا، ثم قام عليه السلام و خطبهم فحمد الله و أثنى عليه و ذكر النبي صلى الله عليه و آله فصلى عليه ثم قال:

يا أهل الكوفة إنكم من أكرم المسلمين و أعدلهم سنة، و أفضلهم في الاسلام سهما، و أجودهم في العرب مركبا و نصابا، حربكم بيوتات العرب و فرسانهم و مواليهم، أنتم أشد العرب ودا للنبي صلى الله عليه و آله، و إنما اخترتكم ثقة بعد الله لما بذلتم لي أنفسكم عند نقض طلحة و الزبير بيعتي و عهدي، و خلافهما طاعتي و إقبالهما بعائشة لمخالفتي و مبارزتي، و إخراجهما لها من بيتها حتى أقدماها البصرة، و قد بلغني أن أهل البصرة فرقتان: فرقة الخير و الفضل و الدين قد اعتزلوا و كرهوا ما فعل طلحة و الزبير، ثم سكت عليه السلام فأجابه أهل الكوفة: نحن أنصارك و أعوانك على عدوك و لو دعوتنا إلى أضعافهم من الناس احتسبنا في ذلك الخير و رجوناه فرد عليهم خيرا.

أقول: هذه الخطبة ليست بمذكورة في النهج و قد رواها المفيد قدس سره في الارشاد أيضا (ص 119 طبع طهران 1377 ه) و بين النسختين اختلاف في الجملة و كأن ما في الارشاد أحكم و أقوم.

قال رحمه الله: و قد روى عبد الحميد بن عمران العجلي، عن سلمة بن كهيل قال: لما التقى أهل الكوفة أمير المؤمنين عليه السلام بذي قار رحبوا به ثم قالوا: الحمد لله الذي خصنا بجوارك و أكرمنا بنصرتك، فقام أمير المؤمنين عليه السلام فيهم خطيبا فحمد الله و أثنى عليه و قال:

يا أهل الكوفة إنكم من أكرم المسلمين، و أقصدهم تقويما، و أعدلهم سنة و أفضلهم سهما في الاسلام، و أجودهم في العرب مركبا و نصابا، أنتم أشد العرب ودا للنبي صلى الله عليه و آله و أهل بيته، و إنما جئتكم ثقة بعد الله بكم للذي بذلتم من أنفسكم عند نقض طلحة و الزبير و خلفهما طاعتي، و إقبالهما بعائشة للفتنة و إخراجهما إياها من بيتها حتى أقدماها البصرة فاستغووا طغامها و غوغاها، مع أنه قد بلغني أن أهل الفضل منهم و خيارهم في الدين قد اعتزلوا و كرهوا ما صنع طلحة و الزبير ثم سكت عليه السلام، فقال أهل الكوفة: نحن أنصارك و أعوانك على عدوك، و لو دعوتنا إلى أضعافهم من الناس احتسبنا في ذلك الخير و رجوناه، فدعا لهم أمير المؤمنين عليه السلام و أثنى عليهم ثم قال:

لقد علمتم معاشر المسلمين أن طلحة و الزبير بايعاني طائعين غير مكرهين راغبين ثم استأذناني في العمرة فأذنت لهما فسارا إلى البصرة فقتلا المسلمين و فعلاالمنكر، اللهم إنهما قطعاني و ظلماني و نكثا بيعتي و ألبا الناس علي، فاحلل ما عقدا، و لا تحكم ما أبرما، و أرهما المساءة فيما عملا.

(4) قال المفيد ره في الجمل (ص 128 طبع النجف) نقلا عن الواقدي أيضا:لما أراد عليه السلام المسير من ذي قار تكلم فحمد الله و أثنى عليه ثم قال:

إن الله عز و جل بعث محمدا صلى الله عليه و آله للناس كافة و رحمة للعالمين. فصدع بما امر به، و بلغ رسالات ربه، فلما ألم به الصدع، و رتق به الفتق، و آمن به السبيل و حقن به الدماء، و ألف بين ذوي الأحقاد و العداوة الواغرة في الصدور، و الضغائن الكامنة في القلوب فقبضه الله عز و جل إليه حميدا، و قد أدى الرسالة، و نصح للامة، فلما مضى صلى الله عليه و آله لسبيله دفعنا عن حقنا من دفعنا، و ولوا من ولوا سوانا ثم وليها عثمان بن عفان فنال منكم و نلتم منه حتى إذا كان من أمره ما كان أتيتموني فقلتم: بايعنا، فقلت لكم: لا أفعل، فقلتم: بلى لا بد من ذلك، فقبضتم يدي فبسطتموها، و تداككتم علي تداك الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها حتى لقد خفت أنكم قاتلي أو بعضكم قاتل بعض، فبايعتموني و أنا غير مسرور بذلك و لا جذل، و قد علم الله سبحانه أني كنت كارها للحكومة بين امة محمد، و لقد سمعته يقول: ما من وال يلي شيئا من أمر امتي إلا أتى الله يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه على رءوس الخلائق، ثم ينشر كتابه: فان كان عادلا نجا، و إن كان جائرا هوى.

ثم اجتمع علي ملاكم و بايعني طلحة و الزبير و أنا أعرف الغدر في وجههما و النكث في عينيهما ثم استأذناني في العمرة فأعلمتهما أن ليس العمرة يريدان، فسارا إلى مكة و استخفا عائشة و خدعاها. و شخص معهما أبناء الطلقاء، فقدموا البصرة هتكوا بها المسلمين و فعلوا المنكر، و يا عجبا لاستقامتهما لأبي بكر و عمر و بغيهما علي و هما يعلمان أني لست دون أحدهما، و لو شئت أن أقول لقلت، و لقد كان معاوية كتب إليهما من الشام كتابا يخدعهما فيه، فكتماه عني و خرجا يوهمان الطغام أنهما يطلبان بدم عثمان، و الله ما أنكرا علي منكرا، و لا جعلا بيني و بينهما نصفا، و أن دم‏

عثمان لمعصوب بهما و مطلوب فيهما، يا خيبة الداعي إلى ما دعى، و بما ذا اجيب و الله إنهما لفي ضلالة صماء، و جهالة عمياء، و إن الشيطان قد دير لهما حزبه و استجلب منهما خيله و رجله، ليعيد الجور إلى أوطانه و يرد الباطل إلى نصابه.

ثم رفع يديه و قال: اللهم إن طلحة و الزبير قطعاني و ظلماني و نكثا بيعتي فاحلل ما عقدا، و انكث ما أبرما، و لا تغفر لهما أبدا، و أرهما المساءة فيما عملا و أملا.

و قد نقل هذه الخطبة المفيد رحمه الله في الارشاد أيضا، و الطبرسي رحمه الله في الاحتجاج و بين النسخ اختلاف في الجملة و ما في الارشاد أمتن و أتقن.

قال رحمه الله (117 طبع طهران 1377 ه): و من كلامه عليه السلام عند نكث طلحة و الزبير بيعته و توجههما إلى مكة للاجتماع مع عائشة في التأليب عليه و التأليف على خلافه ما حفظه العلماء عنه عليه السلام أنه بعد أن حمد الله و أثنى عليه قال:

أما بعد فان الله بعث محمدا صلى الله عليه و آله للناس كافة، و جعله رحمة للعالمين، فصدع بما امر به، و بلغ رسالات ربه، فلم به الصدع، و رتق به الفتق‏، و آمن به السبيل و حقن به الدماء، و ألف به بين ذوي‏ الاحن و العداوة و الوغر في الصدور، و الضغائن‏ الراسخة في القلوب‏، ثم قبضه الله إليه حميدا لم يقصر في الغاية التي إليها أدى الرسالة، و لا بلغ شيئا كان في التقصير عنه القصد، و كان من بعده ما كان من التنازع في الامرة، فتولى أبو بكر و بعده عمر، ثم تولى عثمان، فلما كان من أمره ما عرفتموه أتيتموني فقلتم: بايعنا، فقلت: لا أفعل، فقلتم: بلى، فقلت: لا و قبضت‏ يدي‏ فبسطتموها، و نازعتكم‏ فجذبتموه، و تدا ككتم علي تداك الابل الهيم على حياضها يوم ورودها حتى‏ ظننت أنكم قاتلي، و أن بعضكم قاتل بعضا لدي فبسطت يدي فبايعتموني مختارين، و بايعني في أولكم طلحة و الزبير طائعين غير مكرهين، ثم لم يلبثا أن استأذناني في العمرة، و الله يعلم أنهما أرادا الغدرة، فجددت عليهما العهد في الطاعة، و أن لا يبغيا الامة الغوائل، فعاهداني ثم لم يفيا لي. و نكثا بيعتي و نقضا عهدي، فعجبا لهما من انقيادهما لأبي بكر و عمر، و خلافهما لي، و لست بدون أحد الرجلين، و لو شئت أن أقول لقلت اللهم احكم عليهما بما صنعا في حقي و صغرا من أمرى و ظفرني بهما.

أقول: الخطبة 227 من النهج كأنها جزء هذه الخطبة حيث قال عليه السلام:و بسطتم يدي فكففتها، و مددتموها فقبضتها، ثم تداككتم علي تداك الابل الهيم على حياضها يوم ورودها. إلخ. و انما تغايرها في قليل من العبارات. نعم الخطبة 54 منه و هى قوله عليه السلام: فتداكوا على تداك الإبل الهيم يوم ورودها قد أرسلها راعيها و خلعت مثانيها- إلخ. يشبه أن تكون جزء خطبة اخرى و إن كانت تشابهها في بعض العبارات و الجمل، كما أن ذيل كلامه عليه السلام و هو الكلام 135 من باب الخطب أوله: ما أنكروا على منكرا- إلخ تشابه كثيرا من فقرات هذه الخطبة و لا يبعد أن تكونا جزئين من هذه الخطبة.

و ليعلم أنا قد قدمنا في شرح الخطبة 229 و هي قوله عليه السلام: (فصدع بما امر و بلغ رسالة ربه فلم الله به الصدع و رتق به الفتق‏- إلخ) أنها لجزء خطبة و حكمنا بذلك بالحدس و الفراسة لما قلنا هنالك (ص 19 ج 15 تكملة المنهاج) أنا و إن فحصنا و تتبعنا في مظانها لم نظفر بها و بحمد الله تعالى أصاب حدسنا حيث أصبناها في جمل المفيد و إرشاده و احتجاج الطبرسي، و لا يخفى أنها لجزء من هذه الخطبة المنقولة عن الواقدي في جمل المفيد و الارشاد و قد قال الرضي رحمه الله ثمة: إنه عليه السلام خطبها بذي قار و هو متوجه إلى البصرة ذكرها الواقدي في كتاب الجمل و لم يتعرض أحد من الشراح لذلك مع أن من أهم ما يجب عليهم في شرح كلامه عليه السلام تحقيق أمثال هذه الأمور، فتحصل مما ذكرنا أن الخطبة 227 من النهج و الخطبة 229 منه جميعا بعض هذه الخطبة خطب بها أمير المؤمنين عليه السلام في ذي قار، و أن الخطبة 54 و 135 أيضا يمكن أن تكونا جزئين منها.

ثم اعلم أن ذيل الخطبة المذكورة نقله الطبري في التاريخ (ص 495 ج 3 طبع مصر 1357 ه) عنه عليه السلام قاله لعثمان بن حنيف في الربذة، و قد أتاه عثمان من‏ البصرة لما صنع الناكثون به ما صنعوا كما سنذكره بالاختصار.

قال الطبري: حدثني عمر قال: حدثنا أبو الحسن عن أبي محمد عن عبد الله ابن عمير عن محمد ابن الحنفية قال: قدم عثمان بن حنيف على علي عليه السلام بالربذة و قد نتفوا شعر رأسه و لحيته و حاجبيه فقال: يا أمير المؤمنين بعثتني ذا الحية و جئتك أمرد قال، أصبت أجرا و خيرا إن الناس وليهم قبلي رجلان فعملا بالكتاب، ثم وليهم ثالث فقالوا و فعلوا، ثم بايعوني و بايعني طلحة و الزبير ثم نكثا بيعتي و ألبا الناس علي، و من العجب انقيادهما لأبي بكر و عمرو خلافهما علي، و الله إنهما ليعلمان أني لست بدون رجل ممن قد مضى، اللهم فاحلل ما عقدا، و لا تبرم ما قد أحكما في أنفسهما و أرهما المساءة فيما عملا.

(5) الخطبة التي نقلناها في ذيل شرح الخطبة 229 من النهج عن الكافى (ص 19 ج 15 تكملة المنهاج) و هي لم تذكر بتمامها في النهج كما قلنا ثم و هي الخطبة 145 من النهج أولها: فبعث محمدا صلى الله عليه و آله بالحق ليخرج عباده من عبادة الأوثان إلى عبادته «إلخ» و إن كان بين نسخة النهج و بين نسخة الكافي اختلاف في الجملة في بعض الكلمات و الجمل، و لكنهما خطبة واحدة بلا ارتياب كما يعلم بأدنى تأمل و نظر متى قوبلت النسختان.

و كذا الخطبة 237 من النهج يذكر عليه السلام فيها آل محمد صلى الله عليه و آله بقوله: هم عيش العلم و موت الجهل يخبركم حلمهم عن علمهم «إلخ» هي ذيل الخطبة 145 من النهج أعني ذيل تلك الخطبة المنقولة عن الكافي بلا كلام.

فتحصل أن الخطبة 145 من النهج و الخطبة 237 منه واحدة و الخطبة بتمامها و سندها هو الذي نقلناها عن الكافي و رواها غير الكليني بسند آخر أيضا خطب بها عليه السلام في ذي قار كما قدمنا.

ثم إن الرضي رضوان الله عليه لم يتعرض في كلا الموضعين من النهج لبيان الخطبة بأنه عليه السلام أين خطبها أولا، و جعل الخطبة في موضع ثم ذيلها في موضع آخر ثانيا.

(6) الخطبة 33 التي ذكرها الرضي في النهج قال رحمه الله: و من خطبة له عند خروجه لقتال أهل البصرة، قال عبد الله بن عباس: دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام بذي قار و هو يخصف نعله «إلخ».

و هذه الخطبة نقلها المفيد رحمه الله في الارشاد (ص 118 طبع طهران 1377 ه) و قال: إنه عليه السلام خطب القوم بها في الربذة لا في ذي قار كما في النهج، على أن بين النسختين اختلاف في الجملة، أما ما في النهج فلا حاجة الى تسويده، و أما ما في الارشاد فقال:

و لما توجه أمير المؤمنين عليه السلام إلى البصرة نزل الربذة فلقيه بها آخر الحاج فاجتمعوا ليسمعوا من كلامه و هو في خبائه، قال ابن عباس رضي الله عنه: فأتيته فوجدته بخصف نعلا فقلت له: نحن إلى أن تصلح أمرنا أحوج منا إلى ما تصنع فلم يكلمني حتى فرغ من نعله ثم ضمها إلى صاحبتها و قال لي: قومهما، فقلت:

ليس لهما قيمة، قال: على ذاك قلت: كسر درهم قال: الله لهما أحب إلي من أمركم هذا إلا أن اقيم حقا أو أدفع باطلا، قلت: إن الحاج قد اجتمعوا ليسمعوا من كلامك فتأذن لي ان أتكلم فان كان حسنا كان منك و إن كان غير ذلك كان مني؟ قال: لا أنا أتكلم ثم وضع يده على صدري و كان شثن الكفين فألمني، ثم قام فأخذت بثوبه و قلت: نشدتك الله و الرحم قال: لا تنشدني ثم خرج فاجتمعوا عليه فحمد الله و أثنى عليه ثم قال:

أما بعد، فان الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه و آله و ليس في العرب أحد يقرأ كتابا و لا يدعي نبوة، فساق الناس‏ إلى‏ منجاتهم‏، أم و الله ما زلت في ساقتها ما غيرت و لا بدلت، و لا خنت حتى تولت بحذافيرها، ما لي و لقريش، أم و الله لقد قاتلتهم كافرين و لا قاتلنهم مفتونين، و أن مسيري هذا عن عهد إلي فيه، أم و الله لأبقرن الباطل حتى يخرج الحق من خاصرته، ما تنقم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم فأدخلناهم في حيزنا و أنشد:

ذنب لعمري شربك المحض خالصا و أكلك بالزبد المقشرة التمرا

 

و نحن و هبناك العلاء و لم تكن‏ عليا و حطنا حولك الجرد و السمرا

انتهى ما في الإرشاد.

ثم إن الخطبة 102 من النهج لقريبة منها، أولها: فان الله سبحانه بعث محمدا صلى الله عليه و آله و ليس أحد من العرب يقرأ كتابا اه، و قال الرضي رضي الله عنه: و قد تقدم مختارها بخلاف هذه الرواية.

أقول: و أراد ما تقدم مختارها هو الخطبة 33 التي نقلناها عنه و عن المفيد فتحصل أن الخطبة 33 و الخطبة 102 من النهج واحدة و إنما الاختلاف في الرواية و هي التي أتى بها المفيد في الارشاد، و الحمد لله على إنعامه و إفضاله.

و بالجملة لما فرغ عليه السلام من الخطبة قام الأشتر رضي الله عنه فقال: خفض عليك يا أمير المؤمنين، فوالله ما أمر طلحة و الزبير علينا بمحيل، لقد دخلا في هذا الأمر اختيارا ثم فارقانا على غير جور عملناه، و لا حدث في الإسلام أحدثناه ثم أقبلا يثيران الفتنة علينا تائهين جائرين ليس معهما حجة ترى، و لا أثر يعرف لقد لبسا العار، و توجها نحو الديار، فان زعما أن عثمان قتل مظلوما فليستقد آل عثمان منهما، فأشهد أنهما قتلاه، و اشهد الله يا أمير المؤمنين لئن لم يدخلا فيما خرجا منه و لم يرجعا إلى طاعتك و ما كانا عليه لنلتحقهما بابن عفان.

و قام أبو الهيثم بن التيهان و كذا عدي بن حاتم و قالا قريبا مما قال الأشتر، نقل قولهما المفيد في الجمل.

و قام أبو زينب الأزدي فقال: و الله إن كنا على الحق انك لأهدانا سبيلا و أعظمنا في الخير نصيبا، و إن كنا على الضلالة- العياذ بالله أن نكون عليه- لأنك أعظمنا وزرا و أثقلنا ظهرا، و قد أردنا المسير إلى هؤلاء القوم، و قطعنا منهم الولاية و أظهرنا منهم البراءة، و ظاهرناهم بالعداوة، و نريد بذلك ما يعلمه الله عز و جل، و أنا ننشدك الله الذي علمك ما لم نكن نعلم، ألسنا على الحق و عدونا على الضلال؟

فقال عليه السلام: أشهد لئن خرجت لدينك ناصرا صحيح النية قد قطعت منهم الولاية، و أظهرت منهم البراءة كما قلت إنك لفي رضوان الله، فابشر يا أبا زينب فانك و الله‏ على الحق فلا تشك، فانك إنما تقاتل الأحزاب فأنشأ أبو زينب يقول:

سيروا إلى الأحزاب أعداء النبي‏ فإن خير الناس أتباع علي‏
هذا أوان طاب سل المشرفي‏ وقودنا الخيل و هز السمهر

و في جمل المفيد: لما استقر أمر أهل الكوفة على النهوض لأمير المؤمنين عليه السلام و خف بعضهم لذلك، بادر ابن عباس و من معه من الرسل فيمن اتبعهم من أهل الكوفة إلى ذي قار للالتحاق بأمير المؤمنين عليه السلام و إخباره بما عليه القوم من الجد و الاجتهاد في طاعته، و أنهم لاحقون به غير متأخرين عنه، و إنما تقدمهم ليستعد للسفر و للحرب، و قد كان استخلف فرضة بن كعب الأنصاري على الكوفة، و يحث الناس على اللحاق به.

فورد على أمير المؤمنين عليه السلام كتابا قد كتب اليه من البصرة ما صنعه القوم بعامله عثمان بن حنيف رحمه الله و ما استحلوه من الدماء و نهب الأموال و قتل من قتلوه من شيعته و أنصاره و ما أثاروه من الفتنة فيها فوجده ابن عباس و قد أحزنه ذلك و غمه و أزعجه و أقلقه، فأخبروه بطاعة أهل الكوفة، و وعده منهم بالنصرة، فسر عند ذلك و أقام ينتظر أهل الكوفة و المدد الذي ينتصر بهم على عدوه.

دخول الناكثين البصرة و الحرب بينهم و بين عثمان بن حنيف عامل أمير المؤمنين عليه السلام‏

قال الدينوري في الإمامة و السياسة: لما نزل طلحة و الزبير و عائشه البصرة اصطف لها الناس فى الطريق- إلى أن قال: أتاهم رجل من أشراف البصرة بكتاب كان كتبه طلحة في التأليب على قتل عثمان، فقال لطلحة: هل تعرف هذا الكتاب؟

قال: نعم. قال: فما ردك على ما كنت عليه؟ و كنت أمس تكتب إلينا تؤلبنا على قتل عثمان و أنت اليوم تدعونا إلى الطلب بدمه، و قد زعمتما أن عليا دعا كما إلى أن تكون البيعة لكما قبله إذ كنتما أسن منه، فأبيتما إلا أن تقدماه لقرابته و سابقته، فبايعتماه فكيف تنكثان بيعتكما بعد الذي عرض عليكما؟.

قال طلحة: دعانا إلى البيعة بعد أن اغتصبها و بايعه الناس، فعلمنا حين عرض‏ علينا أنه غير فاعل، و لو فعل أبى ذلك المهاجرون و الأنصار، و خفنا أن نرد بيعته فنقتل، فبايعناه كارهين.

قال: فما بدا لكما في عثمان؟ قال: ذكرنا ما كان من طعننا عليه و خذلاننا إياه فلم نجد من ذلك مخرجا إلا الطلب بدمه. قال: ما تأمر انني به؟ قال: بايعنا على قتال علي و نقض بيعته. قال: أرأيتما إن أتانا بعد كما من يدعونا إلى ما تدعوان إليه ما نصنع؟ قالا: لا تبايعه، قال: ما أنصفتما، أ تأمرانني أن اقاتل عليا و أنقض بيعته و هي في أعناقكما و تنهياني عن بيعة من لا بيعة له عليكما؟ أما إننا قد بايعنا عليا فان شئتما بايعنا كما بيسار أيدينا.

و نذكر ما صنع القوم بعثمان بن حنيف و غيره من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام عن تاريخ أبي جعفر الطبري و جمل المفيد و مروج الذهب للمسعودي و غيرها من كتب نقلة السير و الاثار على الاختصار بما اتفق عليه حاملوا الأخبار.

قال المفيد في الجمل: روى الواقدي و أبو مخنف عن أصحابهما و المدائني و ابن دأب عن مشايخهما بالأسانيد التي اختصرنا القول باسقاطها، و اعتمدنا فيها على ثبوتها في مصنفات القوم و كتبهم فقالوا: إن عائشة و طلحة و الزبير لما ساروا من مكة إلى البصرة أعدوا السير مع من اتبعهم من بنى امية و عمال عثمان و غيرهم من قريش، حتى صاروا إلى البصرة، فنزلوا حفر أبي موسى.

فبلغ عثمان بن حنيف و هو عامل البصرة يومئذ و خليفة أمير المؤمنين عليه السلام و كان عنده حكيم بن جبلة، فقال له حكيم: ما الذي بلغك؟ فقال: خبرت أن القوم قد نزلوا حفر أبي موسى، فقال له حكيم: ائذن لي أن أسير إليهم فاني رجل في طاعة أمير المؤمنين عليه السلام فقال له عثمان: توقف عن ذلك حتى اراسلهم.

فأرسل إلى عمران بن حصين و أبي الأسود الدؤلي فذكر لهما قدوم القوم و سألهما المسير إليهم و خطابهم على ما قصدوا به و كفهم عن الفتنة فخرجا حتى دخلا على عائشة فقالا لها: يا أم المؤمنين ما حملك على المسير؟ فقالت: غضبت لكما من سوط عثمان و عصاه و لا أغضب أن يقتل، فقالا لها: و ما أنت من سوط عثمان‏

و عصاه إنما أنت حبيس رسول الله صلى الله عليه و آله، و إنا نذكرك الله أن يهراق الدماء في سبيلك، فقالت: و هل من أحد يقاتلني؟ فقال لها أبو الأسود الدؤلي: نعم و الله قتالا أهونه شديد.

ثم خرجا من عندها فدخلا على الزبير و بعده على طلحة و جعلا يعد دان لهما مناقب أمير المؤمنين عليه السلام و فضائله، فقالا لهما: ننشد كما الله أن يهراق الدماء في سبيلكما، فأبيا النصح و الاعراض عن الفتنة فايسا منهما فخرجا من عندهما حتى، صارا إلى عثمان بن حنيف فأخبراه الخبر فأذن عثمان للناس بالحرب.

و لما بلغ عائشة رأي ابن حنيف في القتال ركبت الجمل و أحاطتها القوم و سارت حتى وقفت بالمربد و اجتمع اليها الناس حتى امتلأ المربد بهم، فتكلمت و كانت جهورية يعلو صوتها كثرة كأنه صوت امرأة جليلة فحمدت الله عز و جل و أثنت عليه و قالت:

أما بعد فان عثمان بن عفان قد كان غير و بدل فلم يزل يغسله بالتوبة حتى صار كالذهب المصفى، فعدوا عليه و قتلوه في داره و قتل ناس معه في داره ظلما و عدوانا، ثم آثروا عليا فبايعوه من غير ملاء من الناس و لا شورى و لا اختيار فابتز و الله أمرهم و كان المبايعون له يقولون: خذها إليك و احذرن أبا حسن إنا غضبنا لكم على عثمان من السوط فكيف لا نغضب لعثمان من السيف إن الأمر لا يصح حتى يرد الأمر إلى ما صنع عمر من الشورى فلا يدخل فيه أحد سفك دم عثمان.

فقال بعض الناس: صدقت، و قال بعضهم: كذبت، و اضطربوا بالفعال و تركتهم و سارت حتى أتت الدباغين، و قد تحيز الناس بعضهم مع طلحة و الزبير و عائشة، و بعضهم متمسك ببيعة أمير المؤمنين عليه السلام و الرضا به فسارت من موضعها و من معها و اتبعها على رأيها و معها طلحة و الزبير و مروان ابن الحكم و عبد الله بن الزبير حتى أتوادر الامارة، فسألوا عثمان بن حنيف الخروج عنها، فأبى عليهم ذلك، و اجتمع إليه أنصاره و زمرة من أهل البصرة فاقتتلوا قتالا شديدا حتى زالت الشمس، و اصيب يومئذ من عبد القيس خاصة خمسمائة شيخ‏ مخضوب من أصحاب عثمان بن حنيف و شيعة أمير المؤمنين عليه السلام سوى من اصيب من سائر الناس، و بلغ الحرب بينهم التزاحف إلى مقبرة بنى مازن ثم خرجوا على مسناة البصرة حتى انتهوا إلى الرابوقة و هى سلعة دار الرزق، فاقتتلوا قتالا شديدا كثر فيه القتلى و الجرحى من الفريقين.

ثم إنهم تداعوا إلى الصلح و دخل بينهم الناس لما رأوا من عظيم ما ابتلوا به فتصالحوا على أن لعثمان بن حنيف دار الامارة و المسجد و بيت المال، و طلحة و الزبير و عائشة ما شاءوا من البصرة و لا يحاجوا حتى يقدم أمير المؤمنين عليه السلام فان أحبوا فعند ذلك الدخول في طاعته، و إن أحبوا أن يقاتلوا، و كتبوا بذلك كتابا بينهم و أوثقوا فيه العهود و أكدوها و أشهدوا الناس على ذلك و وضع السلاح و أمن عثمان بن حنيف على نفسه و تفرق الناس عنه، و نقل الكتاب في تاريخ الطبري بتمامه ثم طلب طلحة و الزبير أصحابهما في ليلة مظلمة باردة ذات رياح و ندى حتى أتوا دار الامارة و عثمان بن حنيف غافل عنهم، و على باب الدار السبابجة يحرسون بيوت الأموال، و كانوا قوما من الزط من أربع جوانبهم و وضعوا فيهم السيف فقتلوا أربعين رجلا منهم صبرا، يتولى منهم ذلك الزبير خاصة.

ثم هجموا على عثمان فأوثقوه رباطا و عمدوا إلى لحيته و كان شيخا كث اللحية فنتفوها حتى لم يبق منها شي‏ء و لا شعرة واحدة و قال طلحة: عذبوا الفاسق و انتفوا شعر حاجبيه و أشفار عينيه و أوثقوه بالحديد.

و في الإمامة و السياسة للدينوري: أن طلحة و الزبير و مروان بن الحكم أتوه نصف الليل في جماعة معهم في ليلة مظلمة سوداء مطيرة، و عثمان نائم، فقتلوا أربعين رجلا من الحرس، فخرج عثمان فشد عليه مروان فأسره و قتل أصحابه فأخذه مروان فنتف لحيته و رأسه و حاجبيه، فنظر عثمان بن حنيف إلى مروان فقال: إن فتنى بها في الدنيا لم تفتني بها في الاخرة.

تنازع طلحة و الزبير لامامتهما الناس فى الصلاة

فلما أصبحوا اجتمع الناس اليهم و أذن مؤذن المسجد لصلاة الغداة، فرام‏ طلحة أن يتقدم للصلاة بهم، فدفعه الزبير و أراد أن يصلي بهم، فمنعه طلحة، فما زالا يتدافعان حتى كادت الشمس أن تطلع، فنادى أهل البصرة: الله الله يا أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله في الصلاة نخاف فوتها، ثم اتفقوا على أن يصلي بالناس عبد الله ابن الزبير يوما و محمد بن طلحة يوما.

ثم بلغ حكيم بن جبلة العبدي رحمه الله ما صنع القوم بعثمان بن حنيف و شيعة أمير المؤمنين عليه السلام، فنادى في قومه يا قوم انفروا إلى هؤلاء الضالين الظالمين الذين سفكوا الدم الحرام، و فعلوا بالعبد الصالح و استحلوا ما حرم الله عز و جل، فأجابه سبعمائة رجل من عبد قيس، و أقبل عليهم طلحة و الزبير و من معهما و اقتتلوا قتالا شديدا حتى كثرت بينهم الجرحى و القتلى.

ثم إن القوم غلبوا على بيت المال فما نعهم الخزان و الموكلون به، فقتل القوم سبعين رجلا منهم، و ضربوا رقاب خمسين من السبعين صبرا من بعد الأسر و ممن قتلوه حكيم بن جبلة العبدي رحمه الله و كان من سادات عبد القيس و زهاد ربيعة و نساكها و من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام.

و قال المسعودي في مروج الذهب: و هؤلاء أول من قتلوا ظلما في الاسلام.

تعجب أبى الاسود الدؤلى من طلحة و الزبير لما دخلا بيت مال البصرة و من أمير المؤمنين عليه السلام لما دخله‏ لما دخل طلحة و الزبير بيت المال تأملا إلى ما فيه من الذهب و الفضة قالا: هذه الغنائم التي و عدنا الله بها و أخبرنا أنه يعجلها لنا، قال أبو الأسود الدؤلي: و قد سمعت هذا منهما و رأيت عليا عليه السلام بعد ذلك و قد دخل بيت مال البصرة فلما رأى ما فيه قال: صفراء بيضاء غري غيري المال يعسوب الظلمة، و أنا يعسوب المؤمنين، فلا و الله ما التفت إلى ما فيه و لا أفكر فيما رآه منه، و ما وجدته عنده إلا كالتراب هوانا فتعجبت من القوم و منه عليه السلام.

أقول: سيأتي كلامه عليه السلام في باب المختار من حكمه: أنا يعسوب المؤمنين و المال يعسوب الفجار (الحكمة 316).

ثم الظاهر من مراد المسعودي بقوله: و هؤلاء أول من قتلوا ظلما فى الاسلام أنهم أول من قتلهم المسلمون ظلما، و إلا فقد قد منافي تكملة المنهاج (ص 275 ج 1، 15 من المنهاج) أن ياسرا أبا عمار رحمه الله و سمية امه هما أول قتيلين في الاسلام قتلهما الكفار.

ثم لما أخذ القوم عثمان بن حنيف قال طلحة و الزبير لعائشة: ما تأمرين في عثمان؟ فقالت: اقتلوه قتله الله، و كانت عندها امرأة من أهل البصرة فقالت لها:

يا اماه أين يذهب بك؟ أ تأمرين بقتل عثمان بن حنيف و أخوه سهل خليفة على المدينة و له مكانة من الأوس و الخزرج ما قد علمت، و الله لئن فعلت ذلك ليكونن له صولة بالمدينة يقتل فيها ذراري قريش، فاب إلى عائشة رأيها و قالت: لا تقتلوه و لكن احبسوه و ضيقوا عليه حتى أرى رأيي.

فحبس أياما ثم بدا لهم في حبسه و خافوا من أخيه أن يحبس مشايخهم بالمدينة و يوقع بهم، فتركوا حبسه فخرج حتى جاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام و هو بذي قار فلما نظر إليه أمير المؤمنين عليه السلام و قد نكل به القوم بكى. و قال: يا عثمان بعثتك شيخا ملتحيا فرددت أمرد إلى، اللهم إنك تعلم أنهم اجترءوا عليك و استحلوا حرماتك، اللهم اقتلهم بمن قتلوا من شيعتي و عجل لهم النقمة بما صنعوا بخليفتي.

أقول: هذا ما نقلنا على ما ذكره المفيد في الجمل عن الواقدي و أبي مخنف و المدائني و غيرهما، و أما على ما قاله أبو جعفر الطبري في التاريخ كما قدمناه آنفا باسناده عن محمد ابن الحنفية أن عثمان بن حنيف قدم على علي عليه السلام بالربذة و قد نتفوا شعر رأسه و لحيته و حاجبيه، فقال: يا أمير المؤمنين بعثتني ذا الحية و جئتك أمرد، قال عليه السلام: أصبت أجرا و خيرا- إلخ.

ثم إن قوله عليه السلام: اللهم إنك تعلم أنهم اجترءوا اه. ليس بمذكور في النهج و لما بلغ أمير المؤمنين عليه السلام قبيح ما ارتكب القوم من قتل من قتلوا من المسلمين صبرا و ما صنعوا بصاحب رسول الله صلى الله عليه و آله عثمان بن حنيف و تعبئتهم‏ للقتال، عبى عليه السلام الناس للقتال و سار من ذي قار و قدم صعصعة بن صوحان بكتاب إلى طلحة و الزبير و عائشة يعظم عليهم حرمة الإسلام و يخوفهم فيما صنعوه و قبيح ما ارتكبوه.

قال صعصعة رحمه الله: فقدمت عليهم فبدأت بطلحة و أعطيته الكتاب و أديت الرسالة فقال: الان حين غضب ابن أبي طالب الحرب ترفق لنا، ثم جئت إلى الزبير فوجدته ألين من طلحة، ثم جئت إلى عائشة فوجدتها أسرع الناس إلى الشر، فقالت: نعم، قد خرجت للطلب بدم عثمان و الله لأفعلن و أفعلن.

فعدت إلى أمير المؤمنين عليه السلام فلقيته قبل أن يدخل البصرة فقال عليه السلام: ما وراءك يا صعصعة؟ قلت: يا أمير المؤمنين رأيت قوما ما يريدون إلا قتالك، فقال عليه السلام: الله المستعان.

كتاب أمير المؤمنين (ع) الى طلحة و الزبير و عائشة

أقول: ما نقلناه ههنا ذكره المفيد في الجمل و لم ينقل الكتاب الذي كتبه إلى طلحة و الزبير و عائشة و أداه صعصعة اليهم و الظاهر أن هذا الكتاب هو الذي نقله الدينوري في الإمامة و السياسة (ص 70 ج 1 طبع مصر 1377 ه) فان الدينوري و إن لم يتعرض بأن الكتاب الذي كتبه اليهم كان صعصعة حامله، و لكن يلوح للمتتبع في الأخبار أن الكتاب هو ما في الامامة و السياسة، قال الدينوري:

لما بلغ عليا عليه السلام تعبئة القوم عبى الناس للقتال ثم كتب إلى طلحة و الزبير أما بعد فقد علمتما أني لم أرد الناس حتى أرادوني، و لم ابايعهم حتى بايعوني و إنكما لممن أراد و بايع، و إن العامة لم تبايعني لسلطان خاص، فان كنتما بايعتماني كارهين فقد جعلتما لي عليكما السبيل باظهار كما الطاعة و إسرار كما المعصية، و إن كنتما بايعتماني طائعين فارجعا إلى الله من قريب، إنك يا زبير لفارس رسول الله صلى الله عليه و آله و حواريه، و إنك يا طلحة لشيخ المهاجرين و إن دفاعكما هذا الأمر قبل أن تدخلا فيه كان أوسع عليكما من خروجكما منه [بعد] إقرار كما به و قد زعمتما أني قتلت عثمان فبيني و بينكما فيه بعض من تخلف عني و عنكما من‏ أهل المدينة، و زعمتما أني آويت قتلة عثمان فهؤلاء بنو عثمان فليدخلوا في طاعتي ثم يخاصموا إلي قتلة أبيهم، و ما أنتما و عثمان إن كان قتل ظالما أو مظلوما و قد بايعتماني و أنتما بين خصلتين قبيحتين: نكث بيعتكما، و إخراجكما أمكما.

و كتب إلى عائشة:

أما بعد فانك خرجت غاضبة لله و لرسوله تطلبين أمرا كان عنك موضوعا، ما بال النساء و الحرب و الاصلاح بين الناس، تطلبين بدم عثمان و لعمري لمن عرضك للبلاء و حملك على المعصية أعظم إليك ذنبا من قتلة عثمان، و ما غضبت حتى أغضبت و ما هجت حتى هيجت، فاتقي الله و ارجعي إلى بيتك.

فأجابه طلحة و الزبير: إنك سرت مسيرا له ما بعده و لست راجعا و في نفسك منه حاجة، فامض لأمرك، أما أنت فلست راضيا دون دخولنا في طاعتك، و لسنا بداخلين فيها أبدا، فاقض ما أنت قاض.

و كتبت عائشة: جل الأمر عن العتاب، و السلام.

أقول: هذان الكتابان منه عليه السلام إلى طلحة و الزبير، و عائشة غير مذكورين في النهج.

ثم دعا عليه السلام عبد الله بن عباس فقال له: انطلق إليهم فناشدهم و ذكرهم العهد الذي لي في رقابهم، فجاءهم ابن عباس فبدأ بطلحة فوقع بينهما كلام كثير فأبى طلحة إلا إثارة الفتنة، قال ابن عباس: فخرجت إلى علي عليه السلام و قد دخل البيوت بالبصرة، فقال:

ما وراءك؟ فأخبرته الخبر فقال عليه السلام: اللهم افتح بيننا و بين قومنا بالحق و أنت خير الفاتحين.

أقول: كذا نقله المفيد في الجمل و الظاهر أنه عليه السلام بعث ابن عباس إلى الزبير و أمره أن لا يلقى طلحة و ذلك لما مر في باب الخطب (الكلام 31 منه) قوله عليه السلام لابن عباس لما أنفذه إلى الزبير يستفيئه إلى طاعته قبل حرب الجمل: لا تلقين طلحة فانك إن تلقه تجده كالثور عاقصا قرنه يركب الصعب و يقول هو الذلول، و لكن ألق الزبير فانه ألين عريكة فقل له يقول لك ابن خالك: عرفتني بالحجاز و أنكرتني بالعراق فما عدا مما بدا.

و لما نقله المفيد في الجمل أيضا و يوافق ما في النهج من أن ابن عباس قال:

و قد كان أمير المؤمنين عليه السلام أوصاني أن ألقى الزبير (ص 153 طبع النجف) كما سنذكره، فعلى هذا مع فرض صحة الاولى و عدم سهو الراوي باتيان طلحة مكان الزبير يمكن أن يقال: إنه عليه السلام بعثه إليهم غير مرة.

قال ابن عباس: قد كان أمير المؤمنين عليه السلام أوصاني أن ألقى الزبير و إن قدرت أن اكلمه و ابنه ليس بحاضر، فجئت مرة أو مرتين كل ذلك أجده عنده ثم جئت مرة اخرى فلم أجده عنده فدخلت عليه و أمر الزبير مولاه شرحسا أن يجلس على الباب و يحبس عنا الناس، فجعلت اكلمه فقال: عصيتم أن خولفتم و الله لتعلمن عاقبة ابن عمك، فعلمت أن الرجل مغضب، فجعلت الاينه فيلين مرة و يشتد اخرى، فلما سمع شرحسا ذلك أنفذ إلى عبد الله بن الزبير و كان عند طلحة فدعاه، فأقبل سريعا حتى دخل علينا، ثم جرى بينه و بين ابن الزبير كلام كثير فأبى ابن الزبير إلا القتال و الجدال.

أقول: إن عبد الله بن الزبير كان أشد عداوة من أبيه بأمير المؤمنين عليه السلام و قال عليه السلام: ما زال الزبير رجلا منا أهل البيت حتى نشأ ابنه المشوم عبد الله نقله الشارح المعتزلي في شرحه على النهج (ص 474 ج 2 طبع طهران 1302 ه) و ذكر هذا الكلام ابن عبد البر في الاستيعاب عن أمير المؤمنين عليه السلام في عبد الله بن الزبير إلا أنه لم يذكر لفظة المشوم.

و بالجملة أنه عليه السلام أكثر إليهم الرسل فعادوا منهم اليه عليه السلام باصرارهم على خلافه و استحلال دمه و دم شيعته، فلما رأى عليه السلام أنهم لا يتعظون بوعظ و لا ينتهون عن الفساد و عبوا للقتال كتب الكتائب و رتب العساكر فنفر من ذي قار متوجها الى البصرة.

من كلامه (ع) لما نفر من ذى قار متوجها الى البصرة

في الارشاد للمفيد قدس سره: و من كلامه عليه السلام و قد نفر من ذي قار متوجها الى البصرة بعد حمد الله و الثناء عليه و الصلاة على رسول الله صلى الله عليه و آله.

أما بعد فان الله تعالى فرض الجهاد و عظمه و جعله نصرة له، و الله ما صلحت دنيا قط و لا دين إلا به، و إن الشيطان قد جمع حزبه و استجلب خيله و شبه في ذلك و خدع، و قد بانت الامور و تمحصت، و الله ما أنكروا علي منكرا و لا جعلوا بيني و بينهم نصفا، و أنهم ليطلبون حقا تركوه، و دما سفكوه، و لئن كنت شركتهم فيه إن لهم لنصيبهم منه، و ان كانوا ولوه دوني فما تبعته إلا قبلهم، و إن أعظم حجتهم لعلى أنفسهم، و إني لعلى بصيرتي ما لبست علي، و إنها للفئة الباغية فيه اللحم «الحم خ» و اللحمة «الحمة خ» قد طالت جلبتها، و أمكنت درتها، يرضعون ما فطمت، و يحيون بيعة تركت، ليعود الضلال إلى نصابه، ما أعتذر مما فعلت، و لا أتبرأ مما صنعت، فيا خيبة للداعي و من دعى لو قيل له إلى من دعوتك، و إلى من أجبت و من إمامك و ما سنته إذا لزاح الباطل عن مقامه، و لصمت لسانه فيما نطق، و أيم الله لأفرطن لهم حوضا أنا ماتحه، لا يصدرون عنه، و لا يلقون بعده ريا أبدا، و إني لراض بحجة الله عليهم، و عذره فيهم، إذ أنا داعيهم فمعذر إليهم، فان تابوا و أقبلوا فلتوبة مبذولة، و الحق مقبول، و ليس على الله كفران، و إن أبوا أعطيتهم حد السيف و كفى به شافيا من باطل، و ناصرا لمؤمن.

أقول: كلامه هذا مذكور في النهج أيضا إلا أنه قطعت في ثلاثة مواضع منه، و ذكر في كل موضع قطعة منه بل كرر بعض جمله فيها.

الموضع الأول هو الخطبة العاشرة منه قال الرضي: و من خطبة له عليه السلام:

ألا و إن الشيطان قد جمع حزبه و استجلب خيله‏ اه.

الموضع الثاني هو الخطبة الثانية و العشرون منه قوله: و من خطبة له عليه السلام:

ألا و إن الشيطان قد ذمر حزبه و استحلب حلبه ليعود الجور إلى أوطانه، و يرجع الباطل إلى نصابه‏ اه.

الموضع الثالث هو الخطبة الخامسة و الثلاثون و المائة منه قوله: و من كلامه عليه السلام في معنى طلحة و الزبير: و الله ما أنكروا على منكرا و لا جعلوا بيني و بينهم نصفا إلى قوله عليه السلام: و أيم الله لأفرطن لهم حوضا أنا ماتحه لا يصدرون عنه بري، و لا يعبون بعده في حسى‏. و أما بعده إلى آخرها و قد مر بيانه قبيل هذا.

و اعلم أن ثقة الاسلام الكليني قدس سره روى في الكافي خطبة منه عليه السلام خطبها يوم الجمل، و نقلها الفيض قدس سره في الوافي (ص 27 ج 9 من كتاب الجهاد) تشترك فيها الخطبة الثانية و العشرون المذكورة و الخطبة الواحدة و العشرون و المائة.

أولها: و أي امرى‏ء منكم أحس من نفسه رباطة جاش- إلخ. فالظاهر أيضا أنهما خطبة واحدة تشتتت في الجوامع فما وجدها الرضي فيها أتى بها في النهج فدونك ما في الكافي على ما في الوافي:

علي عن أبيه، عن السراد رفعه أن أمير المؤمنين عليه السلام خطب يوم الجمل فحمد الله و أثنى عليه ثم قال:

أيها الناس إني أتيت هؤلاء القوم و دعوتهم و احتججت عليهم فدعوني إلى أن أصبر للجلاد، و أبرز للطعان، فلامهم الهبل قد كنت و ما اهدد بالحرب، و لا ارهب بالضرب، أنصف القادة من راماها، فلغيري فليبرقوا و ليرعدوا، فأنا أبو الحسن الذي فللت حدهم، و فرقت جماعتهم، و بذلك القلب ألقى عدوي، و أنا على ما وعدني ربي من النصر و التأييد و الظفر، و إني لعلى يقين من ربي و غير شبهة من أمري. أيها الناس إن الموت لا يفوته المقيم، و لا يعجزه الهارب، ليس عن الموت محيص، و من لم يمت يقتل، و إن أفضل الموت القتل، و الذي نفسي بيده لألف ضربة بالسيف أهون علي من ميتة على فراش. و اعجبا لطلحة ألب الناس على ابن عفان حتى إذا قتل أعطاني صفقة بيمينه طائعا، ثم نكث بيعتي، اللهم خذه و لا تمهله و أن الزبير نكث بيعتي و قطع رحمي و ظاهر علي عدوي فاكفنيه اليوم بما شئت.انتهى ما في الكافي.

و نقل بعض هذه الخطبة المفيد رحمه الله في الإرشاد (ص 114 طبع طهران 1377 ه) و رواه في كتاب الجمل (النصرة في حرب البصرة) مسندا عن الواقدي ص، 174طبع النجف.

و بما حققنا علمت أن خطبة واحدة تفرقت في عدة مواضع من النهج و كم لها من نظير، و ديدن الرضي رحمه الله في النهج كان اختيار محاسن كلامه عليه السلام فقط لا ذكر طرق الروايات و اختلافها كما نص بذلك في خطبته في صدر الكتاب حيث قال:

و ربما جاء في أثناء هذا الإختيار اللفظ المردد و المعنى المكرر، و العذر في ذلك أن روايات كلامه عليه السلام تختلف اختلافا شديدا فربما اتفق الكلام المختار في رواية فنقل على وجهه ثم وجد بعد ذلك في رواية اخرى موضوعا غير وضعه الأول إما بزيادة مختار أو بلفظ أحسن عبارة فتقتضى الحال أن يعاد استظهارا للاختيار و غيره على عقائل الكلام، و ربما بعد العهد أيضا بما اختير أولا فاعيد بعضه سهوا و نسيانا لا قصدا و اعتمادا. إلى آخر ما قال.

ثم انتهى عليه السلام إلى البصرة و راسل القوم و ناشدهم الله فأبوا إلا قتاله، و قال المسعودي في مروج الذهب: ذكر عن المنذر بن الجارود فيما حدث به أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي عن ابن عائشة عن معن بن عيسى عن المنذر بن جارود قال:

لما قدم علي عليه السلام البصرة دخل مما يلي الطف، فأتى الزاوية فخرجت أنظر إليه فورد موكب نحو ألف فارس يقدمهم فارس على فرس أشهب عليه قلنسوه و ثياب بيض متقلد سيفا معه راية، و إذا تيجان القوم الأغلب عليها البياض و الصفرة مدججين في الحديد و السلاح فقلت: من هذا؟ فقيل: أبو أيوب الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه و آله، و هؤلاء الأنصار و غيرهم.

ثم تلاهم فارس آخر عليه عمامة صفراء و ثياب بيض متقلد سيفا متنكب قوسا معه راية على فرس أشقر في نحو ألف فارس فقلت: من هذا؟ فقيل: هذا خزيمة بن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين.

ثم مر بنا فارس آخر على فرس كميت معتم بعمامة صفراء من تحتها قلنسوة بيضاء و عليه قباء أبيض و عمامة سوداء قد سدلها بين يديه و من خلفه شديد الأدمة عليه سكينة و وقار رافع صوته بقراءة القرآن متقلد سيفا متنكب قوسا معه راية بيضاء في ألف من الناس مختلفي التيجان حوله مشيخة و كهول و شباب كان قد أوقفوا للحساب، أثر السجود قد أثر في جباههم، فقلت: من هذا؟ فقيل: عمار بن ياسر في عدة من الصحابة المهاجرين و الأنصار و أبنائهم.

ثم مر بنا فارس على فرس أشقر عليه ثياب بيض و قلنسوة بيضاء و عمامة صفراء متنكب قوسا متقلد سيفا تخط رجلاه في الأرض في ألف من الناس الغالب على تيجانهم الصفرة و البياض معه راية صفراء قلت: من هذا؟ قيل: هذا قيس بن سعد بن عبادة في الأنصار و أبنائهم و غيرهم من قحطان.

ثم مر بنا فارس على فرس أشهل ما رأينا أحسن منه عليه ثياب بيض و عمامة سوداء قد سد لها بين يديها بلواء قلت: من هذا؟ قيل: هو عبد الله بن العباس في عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله.

ثم تلا موكب آخر فيه فارس أشبه الناس بالأولين قلت: من هذا؟ قيل:قثم بن العباس أو سعيد بن العاص.

ثم أقبلت المواكب و الرايات بقدم بعضها بعضا و اشتبكت الرماح.

ثم ورد موكب فيه خلق من الناس عليهم السلاح و الجديد مختلفوا الرايات في أوله راية كبيرة يقدمهم رجل كانما كسر و جبر «قال ابن عائشة: و هذه صفة رجل شديد الساعدين نظره إلى الأرض أكثر من نظره إلى فوق، كذلك تخبر العرب في وصفها إذا أخبرت عن الرجل أنه كسر و جبر» كأنما على رؤوسهم الطير و عن ميسرتهم شاب حسن الوجه قلت: من هؤلاء؟ قيل: هذا علي بن أبي طالب عليه السلام و هذان الحسن و الحسين عن يمينه و شماله، و هذا محمد ابن الحنفية بين يديه معه الراية العظمى، و هذا الذي خلفه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، و هؤلاء ولد عقيل و غيرهم من فتيان بني هاشم و هؤلاء المشايخ أهل بدر من المهاجرين و الأنصار فساروا حتى نزلوا الموضع المعروف بالزاوية، فصلى عليه السلام أربع ركعات‏

و عفر خديه على التربة و قد خالط ذلك دموعه، ثم رفع يديه يدعو:اللهم رب السماوات و ما أظلت، و الأرضين و ما أقلت، و رب العرش العظيم هذه البصرة أسألك من خيرها و أعوذ بك من شرها، اللهم أنزلنا فيها خير منزل و أنت خير المنزلين، اللهم هؤلاء القوم قد خلعوا طاعتي و بغوا علي و نكثوا بيعتي اللهم احقن دماء المسلمين.

أقول: كلامه هذا ليس بمذكور في النهج و لعل السر فيه أنه لم يكن منه عليه السلام حقيقة بل هو من رسول الله صلى الله عليه و آله فقاله اقتباسا منه و تأسيا به صلى الله عليه و آله قال ابن هشام في السيرة النبوية (ص 329 ج 2 طبع مصر 1375 ه و 1955 م) في ذكر مسيره صلى الله عليه و آله إلى خيبر: قال ابن اسحاق: حدثني من لا أتهم، عن عطاء بن أبي مروان الأسلمي، عن أبيه، عن أبي معتب بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه و آله لما أشرف على خيبر، قال لأصحابه و أنا فيهم: قفوا، ثم قال:

اللهم رب السماوات و ما أظللن، و رب الأرضين و ما أقللن، و رب الشياطين و ما أضللن، و رب الرياح و ما أذرين، فإنا نسألك خير هذه القرية و خير أهلها و خير ما فيها، و نعوذ بك من شرها و شر أهلها و شر ما فيها. أقدموا باسم الله قال: و كان يقولها صلى الله عليه و آله لكل قرية دخلها.

و لما تقرر أمر الكتائب في الفريقين فخرج كل فريق بقومه و قام خطباؤهم بالتحريض على القتال، فقام عبد الله بن الزبير في معسكرهم و حرض الناس على القتال و من جملة ما قال:

أيها الناس إن هذا الرعث و الوعث قتل عثمان بالمدينة ثم جاء كم بنشر اموركم بالبصرة أ ترضون أن يتوردكم أهل الكوفة في بلادكم اغضبوا فقد غضبتم و قاتلوا فقد قوتلتم إن عليا لا يرى أن معه في هذا الأمر أحد سواه، و الله لئن أظفر بكم ليهلكن دينكم و دنياكم.

و أكثر من نحو هذا القول و شبهه، فبلغ ذلك أمير المؤمنين عليا عليه السلام فقال لولده الحسن عليه السلام: قم يا بني فاخطب، فقام خطيبا فحمد الله و أثنى عليه و قال:

أيها الناس قد بلغتنا مقالة ابن الزبير و قد كان و الله يتجني على عثمان الذنوب، و قد ضيق عليه البلاد حتى قتل، و أن طلحة راكز رايته على بيت ماله و هو حي، و أما قوله: إن عليا ابتز الناس أمرهم فان أعظم الناس حجة لأبيه زعم أنه بايعه بيده و لم يبايعه بقلبه، فقد أقر بالبيعة و ادعى الوليجة، فليأت على ما ادعاه ببرهان و انى له ذلك، و أما تعجبه من تورد أهل الكوفة على أهل البصرة فما عجبه من أهل حق تورد و اعلى أهل الباطل، و لعمرى و الله ليعلمن أهل البصرة و ميعاد ما بيننا و بينهم، اليوم نحاكمهم إلى الله تعالى، فيقضي الله بالحق و هو خير الفاصلين.

فلما فرغ الحسن عليه السلام من كلامه قام رجل يقال له: عمر بن محمود و أنشد شعرا يمدح الحسن عليه السلام.

فلما بلغ طلحة و الزبير خطبة الحسن عليه السلام و مدح المادح له قام طلحة خطيبا في أصحابه و حرض الناس على إثارة الفتنة و ألب و أجلب على أمير المؤمنين عليه السلام الناس.

فقام إليه رجل يقال له: جبران بن عبد الله من أهل الحجاز كان قدم البصرة و هو غلام و اعترض على طلحة و احتج عليه بنكث البيعة فهم القوم به فخرج منهم إشفاقا على دمه، ثم كثر اللغط و التنازع.و لما بلغ أمير المؤمنين عليه السلام لغط القوم و اجتماعهم على حربه قام في الناس خطيبا.

خطبة أمير المؤمنين (ع) فى البصرة لما بلغه لغط القوم و اجتماعهم على حربه‏

فحمد الله و أثنى عليه و صلى على النبي صلى الله عليه و آله ثم قال:أيها الناس إن طلحة و الزبير قدما البصرة و قد اجتمع أهلها على طاعة الله و بيعتي، فدعواهم إلى معصية الله تعالى و خلافي، فمن أطاعهما منهم فتنوه و من عصاهما قتلوه، و قد كان من قتلهما حكيم بن جبلة ما بلغكم، و قتلهم السبابحة و فعلهما بعثمان بن حنيف ما لم يخف عليكم، و قد كشفوا الان القناع و أذنوا بالحرب، و قام طلحة بالشتم و القدح في أديانكم، و قد أرعد و صاحبه و أبرقا، و هذان‏ أمران معهما الفشل، و لسنا نريد منكم أن تلقونهم بظنون ما في نفوسكم عليهم، و لا ترون ما في أنفسكم لنا، و لسنا نرعد حتى نوقع، و لا نسيل حتى نمطر، و قد خرجوا من هدى إلى ضلال، و دعوناكم الى الرضا، و دعونا إلى السخط فحل لنا و لكم ردهم إلى الحق و القتال، و حل لهم بقصاصهم القتل، و قد و الله مشوا إليكم ضرارا، و أذاقوكم أمس من الجمر، فاذا لقيتم القوم غدا فاعذروا فى الدعاء و احسنوا فى التقية، و استعينوا بالله و اصبروا إن الله مع الصابرين.

أقول: نقلها المفيد قدس سره فى الجمل (ص 161 طبع النجف) و هي بتمامها ليست بمذكورة في النهج و أتى ببعضها فيه و هو: و من كلام له عليه السلام: و قد أرعدوا و أبرقوا و مع هذين الأمرين الفشل. و لسنا نرعد حتى نوقع، و لا نسيل حتى نمطر. و هو الكلام التاسع من باب الخطب من النهج.

قال المفيد رحمه الله في الجمل نقلا عن الواقدي: ثم إن أمير المؤمنين عليه السلام أنظرهم و أنذرهم ثلاثة أيام ليكفوا و يرعوا، فلما علم إصرارهم على الخلاف قام في أصحابه و قال‏: 

«خطبة اخرى له عليه السلام فى ذلك المقام يحرض أصحابه على الجهاد»

عباد الله انهدوا إلى هؤلاء القوم منشرحة صدوركم، فانهم نكثوا بيعتي و قتلوا شيعتي، و نكلوا بعاملي، و أخرجوه من البصرة بعد أن ألموه بالضرب المبرح و العقوبة الشديدة، و هو شيخ من وجوه الأنصار و الفضلاء، و لم يرعوا له حرمة و قتلوا السبابجة رجالا صالحين، و قتلوا حكيم بن جبلة ظلما و عدوانا لغضبه لله تعالى ثم تتبعوا شيعتي بعد أن ضربوهم و أخذوهم في كل عابية و تحت كل رابية يضربون أعناقهم صبرا، ما لهم قاتلهم الله أنى يؤفكون، فانهدوا إليهم عباد الله و كونوا اسودا عليهم فانهم شرار، و مساعدهم على الباطل شرار، فالقوهم صابرين محتسبين موطنين أنفسكم أنكم منازلون و مقاتلون، قد وطنتم أنفسكم على الضرب و الطعن و منازلة الأقران، فأي امرء أحس من نفسه رباطة جاش عند الفزع و شجاعة عند اللقاء و رأى من أخيه فشلا أو وهنا فليذب عنه كما يذب عن نفسه‏ فلو شاء الله لجعله مثله.

أقول: بعض هذه الخطبة مذكور في النهج الكلام 121 من باب الخطب أوله: و أي امرى‏ء منكم أحس من نفسه- إلخ، و نقلها المفيد رحمه الله فى الإرشاد (ص 115 طبع طهران 1377 ه) أيضا و بين النسخ اختلاف يسير في بعض من الكلمات و الجمل.

و في جمل المفيد: ثم إن أمير المؤمنين عليه السلام رحل بالناس إلى القوم غداة الخميس لعشر مضين من جمادى الاولى، و على ميمنته الأشتر، و على ميسرته عمار بن ياسر، و أعطى الراية محمد بن الحنفية ابنه، و سار حتى وقف موقفا ثم نادى في الناس لا تعجلوا حتى أعذر إلى القوم.

أقول: مضى كلامه عليه السلام لابنه محمد ابن الحنفية لما أعطاه الراية يوم الجمل تزول الجبال و لا تزل، عض على ناجذك أعر الله جمجمتك، تدفي الأرض قدمك إرم ببصرك أقصى القوم، و غض بصرك، و اعلم أن النصر من عند الله سبحانه الكلام الحادى عشر من باب الخطب من النهج.

و قد مضى في ص 241 من المجلد الأول من تكملة المنهاج أن أمير المؤمنين عليه السلام دفع يوم الجمل رايته إلى ابنه محمد ابن الحنفية و قد استوت الصفوف و قال له: احمل، فتوقف قليلا، فقال له: احمل، فقال: يا أمير المؤمنين، أما ترى السهام كأنها شابيب المطر، فدفع في صدره فقال: ادركك عرق من امك- إلخ، نقله المسعودي في مروج الذهب.

فدعا عليه السلام: عبد الله بن عباس فأعطاه المصحف و قال: امض بهذا المصحف إلى طلحة و الزبير و عائشه و ادعهم إلى ما فيه و قل لطلحة و الزبير: ألم تبايعاني مختارين؟ فما الذي دعاكما إلى نكث بيعتي و هذا كتاب الله بيني و بينكما.

فذهب إليهم ابن عباس فبدأ بالزبير ثم انصرف عنه إلى طلحة، ثم انصرف عنه إلى عائشه، و جرى بينه و بينهم كلام كثير فأبوا إلا طغيانا و بغيا و القتال و سفك الدماء و إثارة الفتنة و إنارة الحرب، فرجع إلى أمير المؤمنين عليه السلام فأخبره الخبر

و قال له عليه السلام: ما تنتظر؟ و الله لا يعطيك القوم إلا السيف فاحمل عليهم قبل أن يحملوا عليك، فقال عليه السلام: نستظهر بالله عليهم، قال ابن عباس: فوالله ما رمت من مكاني حتى طلع علي نشابهم كأنه جرد منتشر فقلت: ما ترى يا أمير المؤمنين إلى ما يصنع القوم مرنا ندفعهم، فقال عليه السلام: حتى أعذر اليهم ثانية.

فأخذ عليه السلام مصحفا كما نقله الطبري مسندا في التاريخ و المفيد في الجمل عن الواقدي، فطاف به في أصحابه و قال: من يأخذ هذا المصحف فيدعوهم إليه و هو مقتول و أنا ضامن له على الله الجنة؟ فقام فتى من أهل الكوفة حدث السن من عبد القيس يقال له: مسلم بن عبد الله عليه قباء أبيض محشو فقال: أنا أعرضه يا أمير المؤمنين عليهم و قد احتسبت نفسي عند الله، فأعرض عليه السلام عنه إشفاقا.

و نادى ثانية: من يأخذ هذا المصحف و يعرضه على القوم و ليعلم أنه مقتول و له الجنة؟ فقال الفتى أنا أعرضه.

و نادى ثالثة: من يأخذ المصحف و يدعوهم إلى ما فيه؟ فقال الفتى: أنا فدفع المصحف اليه و قال: امض اليهم و اعرضه عليهم و ادعهم إلى ما فيه.

فأقبل الفتى حتى وقف بازاء الصفوف و نشر المصحف و قال: هذا كتاب الله و أمير المؤمنين يدعوكم إلى ما فيه، فقالت عائشة: اشجروه بالرماح فقبحه الله، فتبادروا إليه بالرماح فطعنوه من كل جانب فقطعوا يده اليمنى، فأخذه بيده اليسرى فدعاهم فقطعوا يده اليسرى، فأخذه بصدره و الدماء تسيل على قبائه، فقتل رضوان الله عليه، و كانت أمه حاضرة فصاحت و طرحت نفسها عليه و جرته من موضعه و لحقها جماعة من عسكر أمير المؤمنين عليه السلام أعانوها على حمله حتى طرحته بين يدي أمير المؤمنين عليه السلام و هي تبكي و تقول:

لاهم إن مسلما دعاهم‏ يتلو كتاب الله لا يخشاهم‏
فخضبوا من دمه قناهم‏ و امه قائمة تراهم‏
تأمرهم بالقتل لا تنهاهم‏

فلما رأى أمير المؤمنين عليه السلام ما قدم عليه القوم من العناد و استحلوه من سفك‏

الدم الحرام رفع يديه إلى السماء و قال:

اللهم الحرام رفع يديه إلى اسماء و قال:

اللهم اليك شخصت الأبصار و بسطت الأيدي و أقضت القلوب و تقربت إليك بالأعمال، ربنا افتح بيننا و بين قومنا بالحق و أنت خير الفاتحين.

أقول: قوله عليه السلام هذا نقلناه من جمل المفيد و نقله نصر بن مزاحم المنقري في صفين (ص 256 طبع الطهران 1301 ه) مع زيادة و أتى به الرضي رحمه الله في النهج و هو الخامس عشر من باب الكتب و الرسائل، و قد مضى في ص 326 من المجلد الأول من تكملة المنهاج كلامنا فيه و سيأتي طائفة اخرى في شرحه إنشاء الله تعالى.

قال الطبري بعد نقل شهادة الفتى: فقال علي عليه السلام: الان حل قتالهم.

و في الامامة و السياسة للدينوري فلما توافقوا للقتال أمر علي عليه السلام مناديا ينادي من أصحابه لا يرمين أحد سهما و لا حجرا و لا يطعن برمح حتى أعذر إلى القوم فأتخذ عليهم الحجة البالغة.

فكلم عليه السلام طلحة و الزبير قبل القتال فقال لهما: استحلفا عائشة بحق الله و بحق رسوله على أربع خصال أن تصدق فيها: هل تعلم رجلا من قريش أولى مني بالله و رسوله، و إسلامي قبل كافة الناس أجمعين، و كفايتي رسول الله صلى الله عليه و آله كفار العرب بسيفي و رمحي، و على براءتي من دم عثمان، و على أني لم أستكره أحدا على بيعة، و على أني لم أكن أحسن قولا في عثمان منكما؟ فأجابه طلحة جوابا غليظا، ورق له الزبير.

ثم رجع علي عليه السلام إلى أصحابه فقالوا: يا أمير المؤمنين بم كلمت الرجلين؟

فقال علي عليه السلام إن شأنهما لمختلف أما الزبير فقاده اللجاج و لن يقاتلكم، و أما طلحة فسألته عن الحق فأجابني بالباطل، و لقيته باليقين و لقيني بالشك، فو الله ما نفعه حقي و لا ضرني باطله، و هو مقتول غدا في الرعيل الأول.

أقول: ما نقله الدينوري من كلامه عليه السلام ليس بمذكور في النهج.

و في احتجاج الطبرسي عن الأصبغ بن نباتة قال: كنت واقفا مع أمير المؤمنين‏

عليه السلام يوم الجمل فجاء رجل حتى وقف بين يديه فقال: يا أمير المؤمنين كبر القوم و كبرنا، و هلل القوم و هللنا، و صلى القوم و صلينا، فعلى ما نقاتلهم؟

فقال أمير المؤمنين عليه السلام: على ما أنزل الله في كتابه، فقال: يا أمير المؤمنين ليس كل ما أنزل الله في كتابه أعلمه فعلمنيه، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: ما أنزل الله في سورة البقرة؟ فقال: يا أمير المؤمنين ليس كلما أنزل الله في سورة البقرة أعلمه فعلمنيه، فقال عليه السلام: هذه الاية «تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله و رفع بعضهم فوق بعض درجات و آتينا عيسى بن مريم البينات و أيدناه بروح القدس و لو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات و لكن اختلفوا فمنهم من آمن و منهم من كفر و لو شاء الله ما اقتتلوا و لكن الله يفعل ما يريد» فنحن الذين آمنا، و هم الذين كفروا، فقال الرجل: كفر القوم و رب الكعبة، ثم حمل و قاتل حتى قتل رحمه الله. انتهى.

و في تاريخ الطبري (ص 7 ج 4 طبع مصر 1358 ه 1939 م) قال أبو مخنف:

و حدثني إسماعيل بن يزيد، عن أبي صادق، عن الحضرمي قال: سمعت عليا عليه السلام يحرض الناس في ثلاثة مواطن: يحرض الناس يوم الجمل، و يوم صفين، و يوم النهر: يقول: عباد الله اتقوا الله- إلى آخر ما نقلناه في ص 238 من المجلد الأول من تكملة المنهاج. و نقله المفيد رحمه الله فى الإرشاد ايضا (ص 107 طبع طهران 1377 ه) إلا أنه ذكر في عنوانه يوم صفين فقط و لكنه لا يفيد الإختصاص به و بين النسختين اختلاف يسير، و الظاهر أن الرضي رضوان الله عليه لم يعثر عليه و إلا لذكره في النهج لأن الكلام بليغ جدا و كان اهتمام الرضي اختيار البليغ من كلامه عليه السلام و دونك قوله هذا على ما في الارشاد: قال:

و من كلامه عليه السلام في تحضيضه على القتال يوم صفين بعد حمد الله و الثناء عليه عباد الله اتقوا الله‏ و غضوا الأبصار، و اخفضوا الأصوات، و أقلوا الكلام، و وطنوا أنفسكم على المنازلة، و المجادلة، و المبارزة، و المبالطة، و المبالدة، و المعانقة و المكادمة، و اثبتوا و اذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون، و أطيعوا الله و رسوله و لاتنازعوا فتفشلوا و تذهب ريحكم و اصبروا إن الله مع الصابرين، اللهم الهمهم الصبر و أنزل عليهم النصر، و أعظم لهم الأجر.

و قد تظافرت الأخبار أن أمير المؤمنين عليه السلام أمر جنده أن لا يبدأوا القوم الناكثين بقتال، و لا يرموهم بسهم، و لا يضربوهم و لا يطعنوهم برمح، حتى جاء عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي من الميمنة بأخ له مقتول، و جاء قوم من الميسرة برجل قد رمي بسهم فقتل، فقال علي عليه السلام: اللهم اشهد.

و في جمل المفيد: ثم دعا عليه السلام ابنه محمد بن الحنفية فأعطاه الراية و هي راية رسول الله صلى الله عليه و آله و قال: يا بني هذه راية لا ترد قط و لا ترد أبدا، قال محمد: فأخذتها و الريح تهب عليها فلما تمكنت من حملها صارت الريح على طلحة و الزبير و أصحاب الجمل، فأردت أن أمشي بها فقال امير المؤمنين عليه السلام: قف يا بني حتى آمرك.

ثم نادى أيها الناس لا تقتلوا مدبرا، و لا تجهزوا على جريح، و لا تكشفوا عورة، و لا تهيجوا امرأة، و لا تمثلوا بقتيل.

فبينا هو يوصي أصحابه إذ ظلنا نبل القوم فقتل رجل من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، فلما رآه قتيلا قال: اللهم اشهد، ثم رمي ابن عبد الله بن بديل فقتل، فحمل أبوه عبد الله و معه عبد الله بن العباس حتى وضعاه بين يدي أمير المؤمنين عليه السلام، فقال عبد الله بن بديل: حتى متى يا أمير المؤمنين ندلي نحورنا للقوم يقتلوننا رجلا رجلا قد و الله أعذرت إن كنت تريد الاعتذار.

أقول: قال اليعقوبي في تاريخه: ثم رمى رجل آخر فأصاب عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي فقتله فأتى به أخوه عبد الرحمن يحمله فقال علي عليه السلام اللهم اشهد و الله العالم.

و في مروج الذهب للمسعودي: ثم قام عمار بن ياسر بين الصفين فقال:

أيها الناس ما أنصفتم نبيكم حيث كففتم عتقاء تلك الخدور، و أبرزتم عقيلته للسيوف، و عائشة على الجمل المسمى عسكرا في هودج من دفوف الخشب. قد ألبسوه المسوح و جلود البقر، و جعلوا دونه اللبود قد غشى على ذلك بالدروع، فدنا عمار من موضعها، فنادى: إلى ما ذا تدعينني؟ قالت: إلى الطلب بدم عثمان، فقال: قتل الله في هذا اليوم الباغي و الطالب بغير الحق، ثم قال: أيها الناس إنكم لتعلمون أينا الممالي في قتل عثمان، ثم أنشأ يقول و قد رشقوه بالنبل:

فمنك البكاء و منك العويل‏ و منك الرياح و منك المطر
و أنت أمرت بقتل الإمام‏ و قاتله عندنا من أمر

و تواتر عليه الرمي و اتصل فحرك فرسه و زال عن موضعه فقال: ما ذا تنتظر يا أمير المؤمنين و ليس لك عند القوم إلا الحرب فقال علي عليه السلام: أيها الناس إذا هزمتموهم فلا تجهزوا على جريح، و لا تقتلوا أسيرا، و لا تتبعوا موليا، و لا تطلبوا مدبرا، و لا تكشفوا عورة، و لا تمثلوا بقتيل، و لا تهتكوا سترا، و لا تقربوا من أموالهم إلا ما تجدونه في عسكرهم من سلاح أو كراع او عبد أو أمة، و ما سوى ذلك فهو ميراث لورثتهم على كتاب الله.

أقول: و قد مضى في ص 222 من المجلد الأول من تكملة المنهاج عن نصر في كتاب صفين باسناده عن عبد الرحمن بن جندب الأزدي عن أبيه أن عليا عليه السلام كان يأمرنا في كل موطن لقينا معه عدوه يقول: لا تقاتلوا القوم حتى يبدءوكم- إلى آخره و سيأتي شرحه و نقل أقواله الاخر في الكتاب الخامس عشر إنشاء الله تعالى.

ثم قد ذكرنا في شرح الكتاب الأول البيتين المذكورين و قائلهما فراجع.

و قال المفيد في الجمل: روى عبد الله بن رياح مولى الأنصاري عن عبد الله بن زياد مولى عثمان بن عفان قال: خرج عمار بن ياسر يوم الجمل إلينا فقال: يا هؤلاء على أي شي‏ء تقاتلونا؟ فقلنا: على أن عثمان قتل مؤمنا، فقال عمار:

نحن نقاتلكم على أنه قتل كافرا، قال: و سمعت عمارا يقول: و الله لو ضربتمونا حتى نبلغ شعفات هجر لعلمنا أنا على الحق و أنكم على الباطل، قال: و سمعته و الله يقول: ما نزل تأويل هذه الاية إلا اليوم‏ يا أيها الذين آمنوا من يرتدمنكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه‏ (المائدة: 59).

و في احتجاج الطبرسي: روى الواقدي أن عمار بن ياسر لما دخل على عايشة- بعد أن ظفر علي عليه السلام و أصحابه على أصحاب الجمل- فقال لها: كيف رأيت ضرب بنيك على الحق؟ فقالت: استبصرت من أجل أنك غلبت، فقال عمار: أنا أشد استبصارا من ذلك، و الله لو ضربتمونا حتى تبلغونا سعيفات هجر لعلمنا أنا على الحق و أنكم على الباطل، فقالت عائشة: هكذا يخيل اليك اتق الله يا عمار أذهبت دينك لابن أبي طالب.

أقول: قد قال عمار في صفين أيضا: إني لأرى وجوه قوم لا يزالون يقاتلون حتى يرتاب المبطلون، و الله لو هزمونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لكنا على الحق و كانوا على الباطل. و قد مر بيانه في ص 285 من المجلد الأول من تكملة المنهاج و اختلاف النسخ فيه فراجع.

روى الواقدي قال: حدثني عبد الله بن الفضيل عن أبيه عن محمد ابن الحنفية قال: لما نزلنا البصرة و عسكرنا بها و صففنا صفوفنا دفع أبي علي عليه السلام إلي باللواء و قال: لا تحدثن شيئا ثم نام فنالنا نبل القوم فأفزعته ففزع و هو يمسح عينيه من النوم و أصحاب الجمل يصيحون: يا لثارات عثمان، فبرز عليه السلام و ليس عليه إلا قميص واحد، ثم قال: تقدم باللواء، فتقدمت و قلت: يا أبة في مثل هذا اليوم بقميص واحد، قال: أحرز امرء أجله و الله قاتلت مع النبي صلى الله عليه و آله و أنا حاسر أكثر مما قاتلت و أنا دارع، ثم دنا كل من طلحة و الزبير فكلمهما و رجع و هو يقول: يأبى القوم إلا القتال، فقاتلوهم فقد بغوا، و دعا بدرعه البتراء و لم يلبسها بعد النبي صلى الله عليه و آله إلا يومئذ فكان بين كتفيه منها متوهيا.

قال: و جاء أمير المؤمنين عليه السلام و في يده شسع نعل فقال له ابن عباس: ما تريد بهذا الشسع يا أمير المؤمنين؟ فقال عليه السلام: أربط بها ما قد توهى من هذا الدرع من خلفي، فقال له ابن عباس: أفي مثل هذا اليوم تلبس مثل هذا؟ فقال عليه السلام:

لم؟ قال: أخاف عليك، قال عليه السلام: لا تخف أن أوتى من ورائي و الله يا ابن عباس‏

ما وليت في زحف قط ثم قال له: البس يا ابن عباس، فلبس درعا سعد ياثم تقدم إلى الميمنة و قال: احملوا، ثم إلى الميسرة و قال: احملوا، و جعل يدفع في ظهري و يقول: تقدم يا بني فجعلت أتقدم حتى انهزموا من كل وجه.

و روى الواقدي عن هشام بن سعد عن شيخ من مشايخ أهل البصرة قال: لما صف علي بن أبي طالب عليه السلام صفوفه أطال الوقوف و الناس ينتظرون أمره، فاشتد عليهم ذلك، فصاحوا حتى متى، فصفق بإحدى يديه على الاخرى ثم قال: عباد الله لا تعجلوا فإني كنت أرى رسول الله صلى الله عليه و آله يستحب أن يحمل إذ اهبت الريح قال: فأمهل حتى زالت الشمس و صلى ركعتين ثم قال: ادعوا ابني محمدا، فدعي له محمد ابن الحنفية فجاء و هو يومئذ ابن تسع عشر سنة، فوقف بين يديه و دعا بالراية فنصبت فحمد الله و أثنى عليه و قال: أما هذه الراية لم ترد قط و لا ترد أبدا و إني واضعها اليوم في أهلها، و دفعها إلى ولده محمد و قال: تقدم يا بني فلما رآه القوم قد أقبل و الراية بين يديه فتضعضعوا فما هو إلا أن الناس التقوا و نظروا إلى غرة أمير المؤمنين عليه السلام و وجدوا مس السلاح حتى انهزموا.

و روى محمد بن عبد الله بن عمر بن دينار قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام لابنه محمد:

خذ الراية و امض، و علي عليه السلام خلفه فناداه يا أبا القاسم! فقال: لبيك يا أبة، فقال:

يا بني لا يستنفزنك ما ترى قد حملت الراية و أنا أصغر منك فما استنفزني عدوي و ذلك أنني لم ابارز أحدا إلا حدثنني نفسي بقتله، فحدث نفسك بعون الله تعالى بظهورك عليهم و لا يخذلك ضعف النفس من اليقين فان ذلك أشد الخذلان، قال: قلت يا أبة أرجو أن أكون كما تحب إن شاء الله، قال: فالزم رايتك فإن اختلفت الصفوف قف في مكانك و بين أصحابك فإن لم تبين من أصحابك فاعلم أنهم سيرونك.

قال: و الله إني لفي وسط أصحابي فصاروا كلهم خلفي و ما بيني و بين القوم أحد يردهم عني و أنا اريد أن أتقدم في وجوه القوم فما شعرت إلا بأبي خلفي قد جرد بسيفه و هو يقول: لا تقدم حتى أكون أمامك، فتقدم بين يدي يهرول و معه طائفة من أصحابه، فضرب الذين في وجهه حتى نهضوهم و لحقتهم بالراية فوقفوا وقفة و اختلط الناس و ركدت السيوف ساعة فنظرت إلى أبي يفرج الناس يمينا و شمالا و يسوقهم أمامه فأردت أن أجول فكرهت خلافه و وصيته لي- لا تفارق الراية- حتى انتهى إلى الجمل و حوله أربعة آلاف مقاتل من بني ضبة و الأزد و تميم و غيرهم و صاح: اقطعوا البطان.

فأسرع محمد بن أبي بكر فقطعه و أطلع الهودج، فقالت عائشة: من أنت؟

قال: أبغض أهلك إليك، قالت: ابن الخثعمية؟ قال: نعم و لم تكن دون أمهاتك قالت: لعمري بل هي شريفة دع عنك هذا الحمد لله الذي سلمك قال: قد كان ذلك ما تكرهين، قالت: يا أخي لو كرهته ما قلت ما قلت، قال: كنت تحبين الظفر و إني قتلت، قالت: قد كنت احب ذلك لكنه ما صرنا إلى ما صرنا أحببت سلامتك لقرابتي منك فاكفف و لا تعقب الامور و خذ الظاهر و لا تكن لومة و لا عذلة فإن أباك لم يكن لومة و لا عذلة.

قال: و جاء علي عليه السلام فقرع الهودج برمحه و قال: يا شقيراء بهذا وصاك رسول الله صلى الله عليه و آله؟ قالت: يا ابن أبي طالب قد ملكت فاسمح، و في تاريخ الطبري:فاسجح.

ثم أمر عليه السلام ابنه محمدا أن يتولى أمرها و يحملها إلى دار ابن خلف حتى ينظر عليه السلام في أمرها، فحملها إلى الموضع و أن لسانها لا يفتر من السب له و لعلي عليه السلام و الترحم على أصحاب الجمل.

و روي عن ابن الزبير قال: خرجت عائشة يوم البصرة و هي على جملها عسكر قد اتخذت عليه خدرا و دقته بالدقوق خشية أن يخلص إليها النبل، و سار إليهم علي بن أبي طالب عليه السلام حتى التقوا فاقتتلوا قتالا شديدا و أخذ بخطام الجمل يومئذ سبعون رجلا من قريش كلهم قتل، و خرج مروان بن الحكم و عبد الله بن الزبير و رأيتهما جريحين، فلما قتلت تلك العصابة من قريش أخذ رجال كثير من بني ضبة بخطام الجمل فقتلوا عن آخرهم، و لم يأخذ بخطامه أحد إلا قتل حتى غرق الجمل بدماء القتلى، و تقدم محمد بن أبي بكر فقطع بطان الجمل و احتمل الخدرو معه أصحاب له و فيه عائشة حتى أنزلوها بعض دور البصرة، و ولى الزبير منهزما فأدركه ابن جرموز فقتله، و لما رأى مروان توجه الأمر على أصحاب الجمل نظر إلى طلحة و هو يريد الهرب فقال، و الله لا يفوتني ثاري من عثمان، فرماه بسهم فقطع أكحله فسقط بدمه و حمل من موضعه و هو يقول: إنا لله هذا و الله سهم لم يأتني من بعد ما أراه إلا من معسكرنا، و الله ما رأيت مصرع شيخ أضيع من مصرعي ثم لم يلبث أن هلك.

روى الطبري في التاريخ باسناده عن أبي البختري الطائي قال: أطافت ضبة و الأزد بعائشة يوم الجمل، و إذا رجال من الأزد يأخذون بعر الجمل فيفتونه و يشمونه و يقولون: بعر جمل امنا ريحه ريح المسك، و رجل من أصحاب علي عليه السلام يقاتل و يقول:

جردت سيفي في رجال الأزد أضرب في كهولهم و المرد
كل طويل الساعدين نهد

و ماج الناس بعضهم في بعض، فصرخ صارخ: اعقروا الجمل، فضربه بجير بن دلجة الضبي فقيل له: لم عقرته؟ فقال: رأيت قومي يقتلون فخفت أن يفنوا و رجوت إن عقرته أن يبقى لهم بقية.

و روى باسناده عن الصعب بن عطية عن أبيه قال: لما أمسى الناس و تقدم علي عليه السلام و احيط بالجمل و من حوله و عقره بجير بن دلجة و قال: إنكم آمنون فكف بعض الناس عن بعض، و قال في ذلك حين أمسى و انخنس عنهم القتال:

إليك أشكو عجري و بجري‏ و معشرا غشوا علي بصري‏
قتلت منهم مضرا بمضري‏ شفيت نفسي و قتلت معشري‏

أقول: قد ذكر البيتان في الديوان المنسوب إليه عليه السلام أيضا و فيه «أعشوا» مكان «غشوا»، و «إني قتلت مضري بمصري» مكان المصراع الثالث: «و جذعت أنفي» مكان «شفيت نفسي». و لكن الصريح من كلام أبي العباس محمد بن يزيد المعروف بالمبرد المتوفى سنة 285 ه في الكامل ص 126 ج 1 طبع مصر أنه عليه السلام‏ لم يقل كلامه على هيئة الشعر حيث قال:

حدثني التوزي قال: حدثني محمد بن عباد بن حبيب بن المهلب أحسبه عن أبيه قال: لما انقضى يوم الجمل خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه في ليلة ذلك اليوم و معه قنبر و في يده مشعلة من نار يتصفح القتلى حتى وقف على رجل، قال التوزي: فقلت: أهو طلحة؟ قال: نعم، فلما وقف عليه قال: اعزز علي أبا محمد أن أراك معفرا تحت تخوم السماء و في بطون الأودية، شفيت نفسي و قتلت معشري إلى الله أشكو عجري و بجري. انتهى قوله.

أقول: الظاهر أن غيره أخذ كلامه هذا و أدرجه في الشعر، و قد نقلنا في المجلد الأول من تكملة المنهاج (من ص 306- إلى 314) أبياتا عديدة من ذلك الديوان أنها مما قالها غيره عليه السلام كما بيناها بالشواهد و الماخذ، و قد عثرنا على عدة اخرى منها بعد ذلك فخذها:

ما في ذلك الديوان من ثلاثة عشر بيتا قالها في صفين:

لنا الراية السوداء يخفق ظلها إذا قيل قدمها حصين تقدما

إلى آخرها، فأتى بتمامها نصر بن مزاحم المنقري في كتاب صفين (ص 145 الطبع الناصري) و أسندها باسناده عن الحصين بن المنذر إليه عليه السلام، و قال الفاضل الشارح المعتزلي ابن ابي الحديد في شرحه على النهج: هكذا روى نصر بن مزاحم، و سائر الرواة رووا له عليه السلام الأبيات الستة الاولى و رووا باقي الأبيات من قوله‏

«و قد صبرت عك و لخم»

إلخ- للحصين بن المنذر صاحب الراية.

و اعلم أن البيت الثامن منه على ما في الديوان هو البيت الرابع في كتاب صفين. على أن بين نسختي صفين و الديوان اختلافا يسيرا في بعض عبارات الأبيات و ما في ذلك الديوان:

قد كنت ميتا فصرت حيا و عن قليل تصير ميتا
عز بدار الفناء بيت‏ فأين دار البقاء بيتا

ففي مادة خضر من سفينة البحار نقل عن المناقب لابن شهر آشوب أن أمير المؤمنين عليه السلام رأى الخضر في المنام فسأله نصيحة قال: فأراني كفه فإذا فيها مكتوب بالخضرة:

قد كنت ميتا فصرت حيا و عن قليل تعود ميتا
فابن لدار البقاء بيتا ودع لدار الفناء بيتا

و ما في السيرة الهشامية (ص 225 ج 2 طبع مصر 1375 ه) فنقل عن ابن إسحاق أنه لما قتل أمير المؤمنين علي عليه السلام عمرو بن عبدود في غزوة الخندق قال عليه السلام في ذلك:

نصر الحجارة من سفاهة رأيه‏ و نصرت رب محمد بصوابي‏
فصددت حين تركته متجدلا كالجذع بين دكادك و روابي‏
و عففت عن أثوابه لو إنني‏ كنت المقطر بزني أثوابي‏
لا تحسبن الله خاذل دينه‏ و نبيه يا معشر الأحراب‏

ثم قال ابن هشام: و أكثر أهل العلم بالشعر يشك فيها لعلي بن أبي طالب عليه السلام و ما في الديوان المنسوب اليه‏

لكل اجتماع من خليلين فرقة و كل الذي دون الفراق قليل‏
و إن افتقادي فاطما بعد أحمد دليل على أن لا يدوم خليل‏

فقال أبو العباس محمد بن يزيد المعروف بالمبرد في (ص 268 ج 2 من كتابه الكامل طبع مصر): و يروى أن علي بن أبي طالب رضوان الله عليه تمثل عند قبر فاطمة عليها السلام، ثم ذكر البيتين و المصراع الثاني من الأول فيه:

«و إن الذى دون الفراق قليل»

و الأول من الثاني:

«و إن افتقادي واحدا بعد واحد»

.و في البيان و التبيين للجاحظ (ص 181 ج 3 طبع مصر 1380 ه 1960 بتحقيق و شرح عبد السلام محمد هارون): و قال الاخر:

ذكرت أبا أروى فبت كأنني‏ برد امور ماضيات وكيل‏
لكل اجتماع من خليلين فرقة و كل الذي قبل الفراق قليل‏
و أن افتقادي واحدا بعد واحد دليل على أن لا يدوم خليل‏

و هو كما ترى لم يسم قائل الأبيات.

و قال عبد السلام محمد هارون في الهامش: ذكر ابن الأنباري أن هذه الأبيات لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه حين دفن فاطمة رضي الله عنها. و قال ابن الأعرابي:

إنها لشقران السلاماني. و في الكامل 724 ليبسك أن الشعر تمثل به علي بن أبي طالب عند قبر فاطمة. و قد روى البحتري في حماسة 233 البيتين الأخيرين.انتهى كلامه.

و ما في ذلك الديوان:

الناس من جهة التمثال أكفاء أبوهم آدم و الأم حواء

إلى آخر الأبيات فأسندها عبد القاهر الجرجاني في أسرار البلاغة (ص 214 طبع مصر 1319 ه) إلى محمد بن الربيع الموصلي، و قيل: إنها منسوبة إلى علي القيرواني كما في ذيل ص 307 من كتاب «اخلاق محتشمى» المنسوب إلى المحقق الطوسي قدس سره (طبع ايران، الطبع الأول) و ذكرناه في المجلد الأول من تكملة المنهاج ص 306 و لنعد إلى ما كنا بصدده:

و رأي ذلك اليوم من الجمل الذي ركبته عائشة كل العجب، و ذلك كما في إثبات الوصية للمسعودي و احتجاج الطبرسي و تاريخ الطبري و غيرها أنه كلما ابتز منه قائمه من قوائمه ثبت على الاخرى حتى نادى أمير المؤمنين عليه السلام: اقتلوا الجمل فإنه شيطان، و تولى محمد بن أبي بكر و عمار بن ياسر عقره بعد طول دمائه.

و قال المفيد في الجمل: روى ابراهيم بن نافع عن سعيد بن أبي هند قال:

أخبرنا أصحابنا ممن حضر القتال يوم البصرة أن أمير المؤمنين عليه السلام قاتل يومئذ أشد الفتال و سمعوه و هو يقول: تبارك الذي أذن لهذه السيوف تصنع ما تصنع.

و قال فيه: روى الواقدي قال: حدثني عبد الله بن عمر بن علي بن أبي طالب قال: سمع أبي أصوات الناس يوم الجمل و قد ارتفعت فقال لابنه محمد: ما يقولون؟

قال: يقولون: يا ثارات عثمان، قال: فشد عليهم و أصحابه يهشون في وجهه‏

يقولون: ارتفعت الشمس و هو يقول: الصبر أبلغ حجة، ثم قام خطيبا يتو كأعلى قوس عربية فحمد الله و أثنى عليه و ذكر النبي فصلى عليه و قال:

«خطبة أمير المؤمنين عليه السلام فى اثناء حرب الجمل»

 «خطبة أمير المؤمنين عليه السلام فى اثناء حرب الجمل»

أما بعد فإن الموت طالب حثيث لا يفوته الهارب و لا يعجزه، فأقدموا و لا تنكلوا، و هذه الأصوات التي تسمعوها من عدوكم فشل و اختلاف، إنا كنا نؤمر في الحرب بالصمت، فعضوا على الناجذ، و اصبروا لوقع السيوف، فوالذي نفسي بيده لألف ضربة بالسيف أهون علي من موتة على فراشي، فقاتلوهم صابروا محتسبين فإن الكتاب معكم و السنة معكم، و من كانا معه فهو القوي، اصدقوهم بالضرب فأي امرء أحس من نفسه شجاعة و إقداما و صبرا عند اللقاء فلا يبطرنه، و لا يرى أن له فضلا على من هو دونه، و إن رأى من أخيه فشلا و ضعفا فليذب عنه كما يذب عن نفسه، فان الله لو شاء لجعله مثله.

أقول: أتى الرضي رضوان الله عليه ببعض هذه الخطبة في النهج، قوله:و من كلام له عليه السلام قاله للأصحاب في ساعة الحرب: و أى امرء منكم أحس من نفسه إلخ (الكلام 122 من باب الخطب من النهج)، و نقله المفيد في الإرشاد ص 114 طبع طهران 1377 ه و بين النسخ اختلاف في الجملة.

ثم لما حمل أمير المؤمنين عليه السلام الناكثين و حمل أعوانه معه فما كان القوم إلا كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف، و لما رأت عائشة هزيمة القوم نادت يا بني الكرة الكرة اصبروا فإني ضامنة لكم الجنة، فحفوا بها من كل جانب، و استقدموا حتى دنوا من عسكر أمير المؤمنين عليه السلام، و لفت عائشة نفسها ببردة كانت معها و قلبت يمينها على منكبها الأيمن إلى الأيسر و الأيسر إلى الأيمن كما كان رسول الله صلى الله عليه و آله يفعل عند الاستسقاء، ثم قالت: ناولوني كفا من تراب، فناولوها فحثت به وجوه أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام و قالت: شاهت الوجوه كما فعل رسول الله صلى الله عليه و آله بأهل بدر، و لما فعلت عائشة من السب المبرح و حصب أصحاب أمير المؤمنين قال عليه السلام: و ما رميت إذ رميت و لكن الشيطان رمى و ليعودن وبالك عليك‏ إن شاء الله تعالى.

قال المفيد في الجمل: روى محمد بن موسى عن محمد بن إبراهيم عن أبيه قال:سمعت معاذ بن عبد الله التميمي و كان قد حضر الجمل يقول: لما التقينا و اصطففنا نادى منادي علي بن أبي طالب عليه السلام: يا معشر قريش اتقوا الله على أنفسكم فإني أعلم أنكم قد خرجتم و ظننتم أن الأمر لا يبلغ إلى هذا، فالله الله في أنفسكم فإن السيف ليس له بقيا، فان أحببتم فانصرفوا حتى نحاكم هؤلاء القوم، و إن أحببتم فإلي فانكم آمنون بأمان الله، قال: فاستحيينا أشد الحياء و أبصرنا ما نحن فيه و لكن الحفاظ حملنا على الصبر مع عائشة حتى قتل من قتل منا، فو الله لقد رأيت أصحاب علي عليه السلام و قد وصلوا إلى الجمل و صاح منهم صائح: اعقروه، فعقروه و نادى علي عليه السلام: من طرح السلاح فهو آمن، و من دخل بيته فهو آمن، فو الله ما رأيت أكرم عفوا منه.

و فى الامامة و السياسة للدينوري. قال حية بين جهين: نظرت إلى علي عليه السلام و هو يخفق نعاسا فقلت له: تا الله ما رأيت كاليوم قط، إن بإزائنا لمائة ألف سيف و قد هزمت ميمنتك و ميسرتك و أنت تخفق نعاسا؟ فانتبه و رفع يديه و قال: اللهم إنك تعلم ما كتبت في عثمان سوادا في بياض و أن الزبير و طلحة ألبا و أجلبا علي الناس، اللهم أولانا بدم عثمان فخذه اليوم.

و في مروج الذهب: قد كان أصحاب الجمل حملوا على ميمنة علي عليه السلام و ميسرته فكشفوها فأتاه بعض ولد عقيل و علي عليه السلام يخفق نعاسا على قربوس سرجه فقال له: يا عم قد بلغت ميمنتك و ميسرتك حيث ترى و أنك تخفق نعاسا؟ قال:اسكت يا ابن أخي فإن لعمك يوما لا يعدوه، و الله لا يبالي عمك وقع على الموت أو وقع الموت عليه.

ثم بعث إلى ولده محمد ابن الحنفية و كان صاحب رايته: احمل على القوم فأبطأ محمد عليه و كان بإزائه قوم من الرماة ينتظر نفاد سهامهم، فأتاه علي عليه السلام فقال:هلا حملت؟

فقال: لا أجد متقدما إلا على سهم أو سنان و إني لمنتظر نفاد سهامهم و أحمل، فقال:

احمل بين الأسنة فإن للموت عليك جنة، فحمل محمد فسكن بين الرماح و النشاب فوقف فأتاه علي فضربه بقائم سيفه و قال: أدركك عرق امك، و أخذ الراية و حمل و حمل الناس معه فما كان القوم إلا كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف و طافت بنو امية بالجمل و قطع على خطام الجمل سبعون يدا من بني ضبة، و رمي الهودج بالنشاب و النبل و عرقب الجمل و وقع الهودج و الناس مفترقون يقتتلون.

و لما سقط الجمل و وقع الهودج جاء محمد بن أبي بكر فأدخل يده فقالت: من أنت؟ قال: أقرب الناس قرابة و أبغضهم إليك أنا محمد أخوك يقول لك أمير المؤمنين هل أصابك شي‏ء؟ قالت: ما أصابني إلا سهم لم يضرني.

فجاء علي عليه السلام حتى وقف عليها فضرب الهودج بقضيب و قال: يا حميراء رسول الله أمرك بهذا؟ ألم يأمرك أن تقري في بيتك، و الله ما أنصفك الذين أخرجوك إذ صانوا عقائلهم و أبرزوك، و أمر أخاها محمدا فأنزلها في دار صفية بنت الحارث بن أبي طلحة العبدي و هي ام طلحة الطلحات، و وقع الهودج و الناس مفترقون يقتتلون، و التقى الأشتر بن مالك بن الحارث النخعي و عبد الله بن الزبير فاعتركا و سقطا إلى الأرض عن فرسيهما و الناس حولهم يجولون و ابن الزبير ينادي:

اقتلوني و مالكا، و اقتلوا مالكا معي، فلا يسمعهما أحد لشدة الجلاد و وقع الحديد، و لا يراهما راء لظلمة النقع و ترادف العجاج، و جاء ذو الشهادتين خزيمة ابن ثابت إلى علي فقال، يا أمير المؤمنين لا تنكس اليوم رأس محمد و اردد إليه الراية فدعا به ورد عليه الراية و قال:

اطعنهم طعن أبيك تحمد لا خير في حرب إذا لم توقد
بالمشرفي و القنا المشرد

ثم استسقى فاتي بعسل و ماء فحسا منه حسوة و قال: هذا الطائفي و هو غريب البلد فقال له عبد الله بن جعفر: ما شغلك ما نحن فيه عن علم هذا؟ قال: إنه و الله يا بني ما ملأ بصدر عمك شي‏ء قط من أمر الدنيا، ثم دخل عليه السلام البصرة و كانت الواقعة في الموضع المعروف بالخريبة يوم الخميس لعشر خلون من جمادى‏ الاخرة سنة ست و ثلاثين.

و قال الدينوري: فشق علي في عسكر القوم يطعن و يقتل ثم خرج و هو يقول الماء الماء، فأتاه رجل بأداوة فيها عسل فقال له: يا أمير المؤمنين أما الماء فإنه لا يصلح لك في هذا المقام و لكن أذوقك هذا العسل فقال: هات، فحسا منه حسوة ثم قال: إن عسلك لطائفي، قال الرجل: لعجبا منك و الله يا أمير المؤمنين لمعرفتك الطائفي من غيره في هذا اليوم و قد بلغت القلوب الحناجر، فقال له علي عليه السلام: إنه و الله يا ابن أخي ما ملأ صدر عمك شي‏ء قط و لا هابه شي‏ء، ثم أعطى الراية لابنه محمد و قال: هكذا فاصنع فاقتتل الناس ذلك اليوم قتالا شديدا و كانوا كذلك يروحون و يغدون على القتال سبعة أيام و إن عليا خرج إليهم بعد سبعة أيام فهزمهم.

«قتل الزبير بن العوام»

كان الزبير ممن ولى يوم الجمل مدبرا و عده الطبري في التاريخ ممن انهزم يوم الجمل فاختفى و مضى في البلاد قال: كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن محمد و طلحة قالا: و مضى الزبير في صدر يوم الهزيمة راجلا نحو المدينة فقتله ابن جرموز، و ممن ولى مدبرا مروان بن الحكم و أوى إلى أهل بيت من عنزة و عد نفرا كثيرا منهم في تاريخه.

و قد تظافرت الأخبار عن الفريقين أن أمير المؤمنين عليا عليه السلام خرج بنفسه حاسرا على بغلة رسول الله صلى الله عليه و آله الشهباء بين الصفين، فنادى يا زبير اخرج إلي فخرج شائكا في سلاحه فدنا إليه حتى اختلفت أعناق دابتيهما فقال له علي:

ويحك يا زبير ما الذي أخرجك؟ قال: دم عثمان، قال: قتل الله أولانا بدم عثمان أما تذكر يوما لقيت رسول الله صلى الله عليه و آله في بني بياضة و هو راكب حماره فضحك إلي رسول الله صلى الله عليه و آله و ضحكت أنت معه فقلت أنت: يا رسول الله ما يدع علي زهوه فقال لك: ليس به زهو، أتحبه يا زبير؟ فقلت: إني و الله لاحبه فقال لك: إنك‏ و الله ستقاتله و أنت له ظالم.

فقال الزبير: أستغفر الله لو ذكرتها ما خرجت، فقال عليه السلام: يا زبير ارجع فقال: و كيف أرجع الان و قد التقت حلقتا البطان، هذا و الله العار الذي لا يغسل فقال: يا زبير ارجع بالعار قبل أن تجمع العار و النار، فانصرف الزبير و دخل على عائشة فقال: يا اماه ما شهدت موطنا قط في الشرك و لا في الإسلام إلا ولي فيه رأي و بصيرة غير هذا الموطن، فانه لا رأي لي فيه و لا بصيرة، و على نقل الدينوري في الامامة و السياسة قال: و إني لعلى باطل، قالت له عائشة: يا أبا عبد الله خفت سيوف بني عبد المطلب، فقال: أما و الله إن سيوف بني عبد المطلب طوال حداد يحملها فتية أنجاد.

و قال المسعودي في مروج الذهب: و لما رجع الزبير عن الحرب قال ابنه عبد الله: أين تدعنا؟ فقال: يا بني أذكرني أبو حسن بأمر كنت قد أنسيته قال: بل خفت سيوف بني عبد المطلب فانها طوال حداد يحملها فتية أنجاد فقال: لا و الله و لكني ذكرت ما أنسانيه الدهر فاخترت العار على النار أبا لجبن تعيرني لا أبا لك؟ ثم أمال سنانه و شد في الميمنة فقال علي عليه السلام: افرجوا له فقدها جوه ثم رجع فشد في الميسرة، ثم رجع فشد في القلب، ثم عاد إلى ابنه فقال: أ يفعل هذا جبان.

و قال الدينوري: إن الزبير قال لابنه عبد الله حينئذ: عليك بحربك. أما أنا فراجع إلى بيتي، فقال له ابنه عبد الله: الان حين التقت حلقتا البطان و اجتمعت الفئتان، و الله لا نغسل رءوسنا منها، فقال الزبير لابنه: لا تعد هذا مني جبنا، فو الله ما فارقت أحدا في جاهلية و لا إسلام، قال: فما يردك؟ قال: يردني ما إن علمته كسرك.

ثم انصرف الزبير راجعا إلى المدينة حتى أتى وادي السباع و الأحنف بن قيس معتزل في قومه من بني تميم، فأتاه آت فقال له: هذا الزبير مار، فقال:

ما أصنع بالزبير؟ و قد جمع بين فئتين عظيمتين من الناس يقتل بعضهم بعضا و هو مار إلى منزله سالما.

فلحقه نفر من بني تميم فسبقهم إليه عمرو بن جرموز التميمي فقال للزبير:يا أبا عبد الله أحييت حربا ظالما أو مظلوما ثم تنصرف؟ أ تائب أنت أم عاجز؟ فسكت عنه، ثم عاوده فقال له: يا أبا عبد الله حدثني عن خصال خمس أسألك عنها،

فقال:هات. قال: خذلك عثمان، و بيعتك عليا، و إخراجك ام المؤمنين، و صلاتك خلف ابنك، و رجوعك عن الحرب.

فقال الزبير: نعم اخبرك أما خذلي عثمان فأمر قدر الله فيه الخطيئة و أخر التوبة، و أما بيعتي عليا فو الله ما وجدت من ذلك بدا حيث بايعه المهاجرون و الأنصار و خشيت القتل، و أما إخراجنا امنا عائشة فأردنا أمرا و أراد الله غيره، و أما صلاتي خلف ابني فإنما قدمته عائشة ام المؤمنين و لم يكن لي دون صاحبي أمر و أما رجوعي عن هذا الحرب فظن بي ما شئت غير الجبن.

فقال ابن جرموز: و الهفا على ابن صفية أضرم نارا ثم أراد أن يلحق بأهله قتلني الله إن لم أقتله و سار معه ابن جرموز و قد كفر على الدرع، فلما انتهى إلى وادي السباع استغفله فطعنه.

و قال المسعودي في مروج الذهب: و قد نزل الزبير إلى الصلاة فقال لابن جرموز: أتؤمني أو أؤمك؟ فأمه الزبير فقتله عمرو في الصلاة، و أتى عمرو عليا بسيف الزبير و خاتمه و رأسه و قيل: إنه لم يأت برأسه فقال علي عليه السلام: سيف طال ما جلى به الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه و آله، و لكن الحين و مصارع السوء، و قاتل ابن صفية في النار، ففي ذلك يقول ابن جرموز:

أتيت عليا برأس الزبير و كنت ارجي به الزلفة
فبشر بالنار قبل العيان‏ و بئس بشارة ذي التحفة
فقلت إن قتل الزبير لو لا رضاك من الكلفة
فان ترض ذلك فمنك الرضا و إلا فدونك لي حلفة
و رب المحلين و المحرمين‏ و رب الجماعة و الألفة
لسيان عندي قتل الزبير و ضرطة عنز بذي الجحفة

«قتل طلحة»

في الكافي: قال أمير المؤمنين عليه السلام في خطبته يوم الجمل: وا عجبا لطلحة ألب الناس على ابن عفان حتى إذا قتل أعطاني صفقته بيمينه طائعا، ثم نكث بيعتي اللهم خذه و لا تمهله، و أن الزبير نكث بيعتي و قطع رحمي و ظاهر على عدوي فاكفنيه اليوم بما شئت.

و قال الدينوري في الامامة و السياسة: إن القوم اقتتلوا حول الجمل حتى حال بينهم الليل و كانوا كذلك يروحون و يغدون على القتال سبعة أيام و أن عليا خرج إليهم بعد سبعة أيام فهزمهم، فلما رأى طلحة ذلك رفع يديه إلى السماء و قال: إن كنا قد داهنا في أمر عثمان و ظلمناه فخذله اليوم منا حتى ترضى، فما مضى كلامه حتى ضربه مروان ضربة أتى منها على نفسه فخر.

قال الطبري في التاريخ (ص 534 ج 3 طبع مصر 1357 ه) كتب إلي السري عن شعيب عن سيف عن اسماعيل بن أبي خالد عن حكيم بن جابر قال: قال طلحة يومئذ- اي يوم حرب الجمل- اللهم أعط عثمان مني حتى يرضى، فجاء سهم غرب و هو واقف فخل ركبته بالسرج و ثبت حتى امتلاء موزجه دما، فلما ثقل قال لمولاه:

اردفني و ابغني مكانا لا اعرف فيه، فلم أر كاليوم شيخا أضيع دما، فركب مولاه و أمسكه و جعل يقول: قد لحقنا القوم حتى انتهى به إلى دار من دور البصرة خربة و أنزله في فيئها، فمات في تلك الخربة و دفن في بني سعد. انتهى.

و قال المفيد في الجمل: روى اسماعيل بن عبد الملك عن يحيى بن شبل عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام قال: حدثني أبي علي زين العابدين عليه السلام قال: قال لي مروان بن الحكم: لما رأيت الناس يوم الجمل قد كشفوا قلت و الله لأدركن ثاري و لأفزن منه الان، فرميت طلحة فأصبت نساه، فجعل الدم ينزف، فرميته ثانية فجاءت به فأخذوه حتى وضعوه تحت شجرة فبقي تحتها ينزف منه الدم حتى مات.

و في مروج الذهب للمسعودي بعد ما رجع الزبير عن الحرب نادى علي عليه السلام طلحة حين رجع الزبير: يا أبا محمد ما الذي أخرجك؟ قال: الطلب بدم عثمان.

قال على عليه السلام: قتل الله اولانا بدم عثمان، أما سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله يقول:اللهم وال من والاه و عاد من عاداه؟ و أنت أول من بايعني ثم نكثت، و قد قال الله عز و جل‏ فمن نكث فإنما ينكث على نفسه‏ فقال: أستغفر الله ثم رجع، فقال مروان بن الحكم: رجع الزبير و يرجع طلحة ما ابالي رميت ههنا أم ههنا فرماه في أكحله فقتله، فمر به علي عليه السلام بعد الوقعة في موضعه في قنطرة قرة فوقف عليه فقال: إنا لله و إنا إليه راجعون و الله لكنت كارها لهذا أنت و الله كما قال القائل:

فتى كان يدنيه الغنى من صديقه‏ إذا ما هو استغنى و يبعده الفقر
كأن الثريا علقت في يمينه‏ و في خده الشعرى و في الاخر البدر

و ذكر أن طلحة لما ولى سمع و هو يقول:

ندمت ندامة و ضل حلمي‏ و لهفي ثم لهف أبي و امي‏
ندمت ندامة الكسعي لما طلبت رضا بني حزم بزعمي‏

و هو يمسح عن جبينه الغبار و هو يقول: و كان أمر الله قدرا مقدورا، و قيل:إنه سمع و يقول هذا الشعر و قد جرحه في جبهته عبد الملك و رماه مروان في أكحله و قد وقع صريعا يجود بنفسه.

و نقل الطبرسي في الاحتجاج عن نصر بن مزاحم أن قتل طلحة كان قبل قتل الزبير فانه قال: روى نصر بن مزاحم أن أمير المؤمنين عليه السلام حين وقع القتال و قتل طلحة تقدم على بغلة رسول الله صلى الله عليه و آله الشهباء بين الصفين فدعا الزبير فدنا إليه- إلخ.

قال: و روي أيضا أن مروان بن الحكم يوم الجمل كان يرمي بسهامه في العسكرين معا و يقول: أصبت أيا منهما فهو فتح لقلة دينه و تهمته للجميع بيان: الكسع بالضم فالفتح حي من اليمن و منه قولهم ندامة الكسعي.

قال الميداني في مجمع الأمثال في بيان مثلهم: أندم من الكسعي ما هذا لفظه: قال حمزة: هو رجل من كسعة و اسمه محارب بن قيس، و قال غيره:هو من بني كسع ثم من بني محارب و اسمه غامد بن الحارث و من حديثه أنه كان‏ يرعى إبلا له بواد معشب فبينا هو كذلك إذ ابصر بنبعة في صخرة فأعجبته

فقال:ينبغي أن يكون هذه قوسا، فجعل يتعهدها و يرقبها حتى أدركت قطعها و جففها فلما جفت اتخذت منها قوسا و أنشا يقول:

يا رب وفقني لنحت قوسي‏ فإنها من لذتي لنفسي‏
و انفع بقوسي ولدي و عرسي‏ أنحتها صفراء مثل الورس‏
صفراء ليست كقسي النكس‏

ثم دهنها و خطمها بوتر ثم عمد إلى مكان من برايتها فجعل منه خمسة أسهم و جعل يقلبها في كفه و يقول:

هن و ربي أسهم حسان‏ تلذ للرامي بها البنان‏
كأنما قومها ميزان‏ فابشروا بالخصب يا صبيان‏
إن لم يعقني الشوم و الحرمان‏

ثم خرج حتى أتى قترة على موارد حمر فكمن فيها، فمر قطيع منها فرمى عيرا منها فأمخطه السهم أي أنفذه فيه و جازه و أصاب الجبل فأورى نارا فظن أنه أخطأ فأنشأ يقول:

أعوذ بالله العزيز الرحمن‏ من نكد الجد معا و الحرمان‏
مالي رأيت السهم بين الصوان‏ يوري شرارا مثل لون العقيان‏
فأخلف اليوم رجاء الصبيان‏

ثم مكث على حاله فمر قطيع آخر فرمى عيرا منها فأمخطه السهم و صنع صنيع الأول فأنشأ يقول:

لا بارك الرحمن في رمي القتر أعوذ بالخالق من سوء القدر
أ أمخط السهم لازهاق الضرر أم ذاك من سوء احتيال و نظر

ثم مكث على حاله فمر قطيع آخر فرمى عيرا منها فأمخطه السهم و صنع صنيع الثاني فأنشأ يقول:

ما بال سهمي يوقد الحبا حبا قد كنت أرجو أن يكون صائبا
و أمكن العير و ولى جانبا فصار رأيي فيه رأيا خائبا

ثم مكث مكانه فمر به قطيع آخر فرمى عيرا منهما فصنع صنيع الثالث فأنشأ يقول:

يا أسفا للشوم و الجد النكد أخلف ما أرجو لأهل و ولد

ثم مر به قطيع آخر فرمى عيرا منها فصنع صنيع الرابع فأنشأ يقول:

أبعد خمس قد حفظت عدها أحمل قوسي و اريد ردها
أخزى الاله لينها و شدها و الله لا تسلم عندي بعدها
و لا ارجي ما حييت رفدها

ثم عمد إلى قوسه فضرب بها حجرا فكسرها، ثم بات فلما أصبح نظر فاذا الحمر مطرحة حوله مصرعة و أسهمه بالدم مضرجة فندم على كسر القوس فشد على إبهامه فقطعها و أنشأ يقول:

ندمت ندامة لو أن نفسي‏ تطاوعني إذا لقطعت خمسي‏
تبين لي سفاء الرأي مني‏ لعمر أبيك حين كسرت قوسي‏

قال الفرزدق:

ندمت ندامة الكسعي لما غدت مني مطلقة نوار
و كانت جنتي فخرجت منها كادم حين لج به الضرار
و كنت كفاقي‏ء عينيه عمدا فأصبح ما يضي‏ء له النهار
و لو إني ملكت يدي و قلبي‏ لكان علي للقدر الخيار

و قال آخر:

ندمت ندامة الكسعي لما رأت عيناه ما صنعت يداه‏

و قال علم الهدى في الشافي: إن طلحة تمثل بهذا البيت، و روى المفيد في آخر الجمل مسندا أن طلحة لما قدم مكة بعد قتل عثمان و بيعته عليا عليه السلام و قبل حرب الجمل جاء إلى عائشة فلما رأته قالت: يا أبا محمد قتلت عثمان و بايعت عليا فقال لها: يا اماه مثلي كما قال الشاعر:

ندمت ندامة الكسعي لما رأت عيناه ما صنعت يداه‏

«تأميره عليه السلام ابن العباس على البصرة و وصيته له و خطبته الناس»

قال المفيد في الجمل: و مما رواه الواقدي عن رجاله قال: لما أراد أمير المؤمنين عليه السلام الخروج من البصرة استخلف عليها عبد الله بن عباس و وصاه و كان في وصيته له أن قال:يا ابن عباس عليك بتقوى الله و العدل بمن وليت عليه، و أن تبسط للناس وجهك، و توسع عليهم مجلسك، و تسعهم بحلمك، و إياك و الغضب فانه طيرة الشيطان و إياك و الهوى فانه يصدك عن سبيل الله، و اعلم أن ما قربك من الله فهو مباعدك من النار، و ما باعدك من الله فمقربك من النار، و اذكر الله كثيرا و لا تكن من الغافلين.

أقول: أتى ببعض هذه الوصية في آخر باب الكتب و الرسائل من النهج قوله: و من وصية له عليه السلام بعبد الله بن العباس عند استخلافه إياه على البصرة: سع الناس بوجهك و مجلسك- إلخ.

و روى أبو مخنف لوط بن يحيى قال: لما استعمل أمير المؤمنين عليه السلام عبد الله ابن العباس على البصرة خطب الناس فحمد الله و أثنى عليه و صلى على النبي ثم قال:معاشر الناس قد استخلفت عليكم عبد الله بن العباس فاسمعوا له و أطيعوا أمره ما أطاع الله و رسوله، فان أحدث فيكم أو زاغ عن الحق فاعلموا أني أعز له عنكم فاني أرجو أن أجده عفيفا تقيا ورعا، و إني لم اوله عليكم إلا و أنا أظن ذلك به غفر الله لنا و لكم.

قال: فأقام عبد الله بالبصرة حتى عمد أمير المؤمنين عليه السلام إلى التوجه إلى الشام، فاستخلف. عليها زياد بن أبيه و ضم إليه أبا الأسود الدؤلي و لحق بأمير المؤمنين عليه السلام حتى صار إلى صفين.

أقول: خطبته هذه ما ذكرت في النهج. و قال أبو جعفر الطبري في التاريخ:

أمر علي عليه السلام ابن عباس على البصرة و ولي زيادا الخراج و بيت المال، و امر ابن عباس أن يسمع منه فكان ابن عباس يقول: استشرته عند هنة كانت من الناس، فقال:إن كنت تعلم أنك على الحق و أن من خالفك على الباطل أشرت عليك بما ينبغي و إن كنت لا تدري أشرت عليك بما ينبغي كذلك، فقلت: إني على الحق و إنهم على الباطل، فقال: اضرب بمن أطاعك من عصاك و من ترك أمرك، فان كان أعز للاسلام و أصلح له أن يضرب عنقه فاضرب عنقه، فاستكتبه.

و روى ثقة الاسلام الكليني رضوان الله عليه في الكافي خطبة اخرى له عليه السلام خطب الناس في البصرة بعد انقضاء الحرب نقلها الفيض قدس سره في الوافي أيضا (ص 17 ج 14) قال: محمد بن عيسى عن السراد عن مؤمن الطاق عن سلام بن المستنير عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال: إن أمير المؤمنين عليه السلام لما انقضت القصة فيما بينه و بين طلحة و الزبير و عائشة بالبصرة صعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه و صلى على رسول الله صلى الله عليه و آله ثم قال:

أيها الناس إن الدنيا حلوة خضرة تفتن الناس بالشهوات و تزين لهم بعاجلها و أيم الله إنها لتغر من أملها، و تخلف من رجاها و ستورث غدا أقواما الندامة و الحسرة باقبالهم عليها و تنافسهم فيها و حسدهم و بغيهم على أهل الدين و الفضل فيها ظلما و عدوانا و بغيا و أشرا و بطرا و بالله أنه ما عاش قوم قط في غضارة من كرامة نعم الله في معاش دنيا و لا دائم تقوى في طاعة الله و الشكر لنعمه فأزال ذلك عنهم إلا من بعد تغيير من أنفسهم، و تحويل عن طاعة الله و الحادث من ذنوبهم و قلة محافظته و ترك مراقبة الله و تهاون بشكر نعمة الله، لأن الله تعالى يقول في محكم كتابه‏ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم و إذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له و ما لهم من دونه من وال‏.

و لو أن أهل المعاصي و كسبة الذنوب إذا هم حذروا زوال نعمة الله و حلول نقمته و تحويل عافيته أيقنوا أن ذلك من الله تعالى بما كسبت أيديهم فأقلعوا و تابوا و فزعوا إلى الله تعالى بصدق من نياتهم و إقرار منهم له بذنوبهم و إساءتهم لصفح لهم‏ عن كل ذنب، و اذا لأقالهم كل عثرة و لرد عليهم كل كرامة نعمة ثم أعاد لهم من صلاح أمرهم و مما كان أنعم به عليهم كل ما زال عنهم و فسد عليهم، فاتقوا الله أيها الناس حق تقاته، و استشعروا خوف الله تعالى، و أخلصوا اليقين، و توبوا إليه من قبيح ما استنفركم الشيطان من قتال ولي الأمر و أهل العلم بعد رسول الله صلى الله عليه و آله، و ما تعاونتم عليه من تفريق الجماعة، و تشتيت الأمر، و فساد صلاح ذات البين، إن الله يقبل التوبة و يعفو عن السيئة و يعلم ما تفعلون.أقول: و هذه الخطبة ما ذكرت في النهج أيضا.

«اشارة اجمالية الى ما عند الائمة من سلاح رسول الله صلى الله عليه و آله و غيرها»

في الكافي للكليني قدس سره و في الوافي ص 134 ج 2 من الطبع المظفري في باب ما عندهم من سلاح رسول الله صلى الله عليه و آله و متاعه: أبان، عن يحيى بن أبي العلاء قال:سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: درع رسول الله صلى الله عليه و آله ذات الفضول لها حلقتان من ورق في مقدمها، و حلقتان من ورق في مؤخرها، و قال: لبسها علي عليه السلام يوم الجمل.

و في الكافي: أبان، عن يعقوب بن شعيب، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: شد علي عليه السلام بطنه يوم الجمل بعقال أبرق نزل به جبرئيل عليه السلام من السماء، و كان رسول الله صلى الله عليه و آله يشد به على بطنه إذا لبس الدرع.

و في الفقيه: كان صلى الله عليه و آله يلبس من القلانس اليمنية و البيضاء و المصرية ذات الاذنين في الحرب، و كانت له عنزة يتكي عليها و يخرجها في العيدين فيخطب بها و كان له قضيب يقال له الممشوق، و كان له فسطاط يسمى الكن، و كانت له قصعة تسمى السعة، و كان له قعب يسمى الري، و كان له فرسان يقال لأحدهما المرتجز و للاخر السكب، و كل له بغلتان يقال لاحداهما الدلدل و للاخرى الشهباء و كان له نافتان يقال لاحداهما العضباء و للاخرى الجدعاء، و كان له سيفان يقال لأحدهما ذو الفقار و للاخر العون، و كان له سيفان آخران يقال لأحدهما المخذم و للاخر الرسوم، و كان له حمار يسمى اليعفور، و كانت له عمامة تسمى السحاب و كان له درع تسمى ذات الفضول لها ثلاث حلقات فضة: حلقة بين يديها، و حلقتان‏ خلفها، و كانت له راية تسمى العقاب، و كان له بعير يحمل عليه يقال له الديباج و كان له لواء يسمى العلوم، و كان له مغفر يقال له الأسعد، فسلم ذلك كلها إلى علي عليه السلام عند موته و أخرج خاتمه و جعله في اصبعه فذكر علي عليه السلام أنه وجد في قائم سيف من سيوفه صحيفة فيها ثلاثة أحرف: صل من قطعك، و قل الحق و لو على نفسك، و أحسن إلى من أساء إليك.

الكافي: محمد، عن ابن عيسى، عن الحسين، عن النضر، عن يحيى الحلبي، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال: ترك رسول الله صلى الله عليه و آله في المتاع سيفا، و درعا، و عنزة، و رحلا، و بغلته الشهباء فورث ذلك كله لعي بن أبي طالب.

الكافي: محمد، عن أحمد، عن الحسين، عن فضالة، عن عمر بن أبان قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عما يتحدث الناس أنه دفع إلى ام سلمة صحيفة مختومة فقال:إن رسول الله صلى الله عليه و آله لما قبض ورث علي عليه السلام علمه و سلاحه و ما هناك، ثم صار إلى الحسن، ثم صار إلى الحسين، قال، قلت: ثم صار إلى علي بن الحسين، ثم صار إلى ابنه، ثم انتهى اليك؟ فقال: نعم.

الكافي: الاثنان، عن الوشاء، عن أبان، عن الفضيل بن يسار، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لبس أبي درع رسول الله صلى الله عليه و آله ذات الفضول فخطت و لبستها أنا ففضلت.

الكافي: الاثنان، عن الوشاء، عن حماد بن عثمان، عن عبد الأعلى بن أعين، قال:سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: عندي سلاح رسول الله صلى الله عليه و آله لا انازع فيه،

ثم قال:إن السلاح مدفوع عنه لو وضع عند شر خلق الله لكان خيرهم، ثم قال: إن هذا الأمر يصير إلى من يلوي له الحنك فاذا كانت من الله فيه المشية خرج فيقول الناس ما هذا الذي كان و يضع الله له يدا على رأس رعيته.

أقول: قد مضى في (ص 254 ج 1 من تكملة المنهاج) أن أمير المؤمنين عليه السلام تقدم في صفين للحرب على بغلة رسول الله صلى الله عليه و آله الشهباء نقلا عن المسعودي في مروج الذهب و الأخبار في ذلك المعنى متظافرة جدا و نقلها و بيانها ينجران إلى بحث طويل الذيل و لسنا في ذلك المقام إلا أنه لما قادنا شرح الخطبة إلى الإشارة إلى وقعة الجمل مجملة و قد تظافرت الأخبار بأن أمير المؤمنين عليه السلام لبس درع رسول الله ذات الفضول يوم الجمل أحببت أن اشير إلى ما عند الأئمة من سلاح رسول الله صلى الله عليه و آله و غيرها.

ثم المراد من قوله عليه السلام في الخبر الأخير: إن هذا الأمر يصير إلى من يلوي له الحنك، هو قائم آل محمد صلى الله عليه و آله ولي العصر الحجة بن الحسن العسكري عجل الله تعالى فرجه الشريف.

فقد آن أن نشرع في شرح جمل الكتاب فإن غرضنا من شرح هذا الكتاب و الذي قبله أن نورد واقعة الجمل على الايجاز و الاختصار و أن نبين مدارك الخطب و الخطب الواردة منه عليه السلام في النهج و طرق اسنادها مما تتعلق بالجمل، فقد أتبعنا لذلك أنفسنا، و أسهرنا أعيننا، و بذلنا جهدنا على ما أمكننا حتى استقام الأمر على النهج الذي قدمناه، فلله الحمد على ما هدانا، و له الشكر بما أولانا.

قوله عليه السلام: (و جزاكم الله من أهل مصر عن أهل بيت نبيكم) لما أن أهل الكوفة أجابوا دعوته عليه السلام مخلصين و قاموا بنصرته مرتاحين، و هو عليه السلام من أهل بيت نبيهم خاطب أهل الكوفة في الكتاب، و دعا لهم بدعاء مستطاب مستجاب، بقوله:جزاكم الله من أهل مصر عن أهل بيت نبيكم‏.

قوله عليه السلام: (أحسن ما يجزي العاملين بطاعته، و الشاكرين لنعمته) العمل‏ بطاعته‏ تعالى فعل أوامره و ترك نواهيه، و النعمة تعم جميع ما أنعم الله به عباده و منه نعمة وجود الأنبياء و الأوصياء.

ثم إن الشكر بإزاء كل نعمة بحسبها كالتوبة عن الذنب مثلا، ففي بعضها يتم الشكر بالقول فقط مثلا أن يقول: الحمد لله رب العالمين، و في بعضها لا يتم إلا بالفعل و هو على أنحاء أيضا و منه الجهاد في سبيل الله تعالى فمن الشكر بإزاء نعمة وجود النبي صلى الله عليه و آله و أهل بيته أن يبذل الأموال و الأنفس دونهم كما فعل أهل الكوفة فكأنما هو عليه السلام أشار في كلامه إلى أنهم عملوا بطاعة الله و شكروا لنعمته و يمكن أن يقال: و من ثم أتى بهيئة الجمع دون الإفراد أي لم يقل العامل‏ بطاعته و الشاكر لنعمته ليومئ إلى أنهم كانوا العاملين و الشاكرين، كما يمكن أن يقال إن لفظ الجمع تنبى‏ء عن كثرة ثوابهم و جزائهم أيضا.ثم إن فيه إيماء أيضا إلى جزاء العاملين بطاعته و الشاكرين لنعمته حيث خصهما بالذكر دون غيرهما.

قوله عليه السلام: (فقد سمعتم‏- إلخ) أي إنما كان لكم جزاء العاملين‏ بطاعته‏ لأنكم أيضا سمعتم‏ أمر الله و أطعتموه، لأن أمر حجة الله هو أمره تعالى، و دعيتم إلى نصرة أهل بيت نبيكم و هي نصرة دين الله في الحقيقة فأجبتم الداعي و إنما لم يذكر متعلقات الأفعال لأنها ظاهرة من سياق الكلام و من معاني الكلمات، أو لأن الغرض كما قيل ذكر الأفعال دون نسبتها إليها.

الترجمة

اين يكى از نامه ‏هاى آن بزرگوار است كه بعد از فتح بصره بمردم كوفه نوشت:

اي مردم كوفه خداوند شما را از جانب أهل بيت پيغمبرتان نيكوترين جزائي كه به إطاعت كنندگان سپاسگزارانش مى‏ دهد پاداش دهد كه فرمان ولي خدا را شنيديد و إطاعت كرديد، و بياري دين خدا دعوت شديد و إجابت كرديد.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی

نهج البلاغه نامه ها نامه شماره ۱/3 شرح میر حبیب الله خوئی(به قلم علامه حسن زاده آملی )

نامه ۱ صبحی صالح

باب المختار من کتب مولانا أمیر المؤمنین علی ( علیه ‏السلام  )، و رسائله إلى أعدائه و أمراء بلاده، و یدخل فی ذلک ما اختیر من عهوده إلى عماله، و وصایاه لأهله و أصحابه.

۱- و من کتاب له ( علیه‏ السلام  ) إلى أهل الکوفه عند مسیره من المدینه إلى البصره

مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عَلِیٍّ أَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ إِلَى أَهْلِ الْکُوفَهِ جَبْهَهِ الْأَنْصَارِ وَ سَنَامِ الْعَرَبِ

أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّی أُخْبِرُکُمْ عَنْ أَمْرِ عُثْمَانَ حَتَّى یَکُونَ سَمْعُهُ کَعِیَانِهِ إِنَّ النَّاسَ طَعَنُوا عَلَیْهِ فَکُنْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِینَ أُکْثِرُ اسْتِعْتَابَهُ وَ أُقِلُّ عِتَابَهُ وَ کَانَ طَلْحَهُ وَ الزُّبَیْرُ أَهْوَنُ سَیْرِهِمَا فِیهِ الْوَجِیفُ وَ أَرْفَقُ حِدَائِهِمَا الْعَنِیفُ

وَ کَانَ مِنْ عَائِشَهَ فِیهِ فَلْتَهُ غَضَبٍ فَأُتِیحَ لَهُ قَوْمٌ فَقَتَلُوهُ وَ بَایَعَنِی النَّاسُ غَیْرَ مُسْتَکْرَهِینَ وَ لَا مُجْبَرِینَ بَلْ طَائِعِینَ مُخَیَّرِینَ

وَ اعْلَمُوا أَنَّ دَارَ الْهِجْرَهِ قَدْ قَلَعَتْ بِأَهْلِهَا وَ قَلَعُوا بِهَا وَ جَاشَتْ جَیْشَ الْمِرْجَلِ وَ قَامَتِ الْفِتْنَهُ عَلَى الْقُطْبِ فَأَسْرِعُوا إِلَى أَمِیرِکُمْ وَ بَادِرُوا جِهَادَ عَدُوِّکُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج۱۶

«حصار أهل مصر و الكوفة و غيرهم عثمان»

و في الإمامة و السياسة للدينوري: ذكروا أن أهل مصر أقبلوا إلى علي عليه السلام فقالوا: أ لم تر عدو الله ما ذا كتب فينا؟ قم معنا إليه فقد أحل الله دمه، فقال علي عليه السلام لا و الله لا أقوم معكم قالوا: فلم كتبت إلينا؟ قال على عليه السلام: لا و الله ما كتبت إليكم كتابا قط فنظر بعضهم إلى بعض. ثم أقبل الأشتر النخعي من الكوفة في ألف رجل و أقبل ابن أبي حذيفة من مصر في أربعمائة رجل فأقام اهل الكوفة و أهل مصر بباب عثمان ليلا و نهارا و طلحة يحرض الفريقين جميعا على عثمان ثم إن طلحة قال لهم: إن عثمان لا يبالي ما حصرتموه و هو يدخل إليه الطعام و الشراب فامنعوه الماء أن يدخل عليه.

و في تاريخ الطبري: لما انكر عثمان أن يكون كتب الكتاب و قال هذا مفتعل قالوا: فالكتاب كتاب كاتبك، قال: اجل و لكنه كتبه بغير امرى، قالوا: فإن الرسول الذي وجدنا معه الكتاب غلامك. قال: اجل و لكنه خرج بغير إذني، قالوا فالجمل جملك. قال: اجل و لكنه اخذ بغير علمي، قالوا: ما انت إلا صادق او كاذب فان كنت كاذبا فقد استحققت الخلع لما امرت به من سفك دمائنا بغير حقها و إن كنت صادقا فقد استحققت ان تخلع لضعفك و غفلتك و خبث بطانتك لأنه لا ينبغي لنا ان نترك على رقابنا من يقتطع مثل هذا الأمر دونه لضعفه و غفلته.

و قالوا له: إنك ضربت رجالا من اصحاب النبي صلى الله عليه و آله و غيرهم حين يعظونك و يأمرونك بمراجعة الحق عند من يستنكرون من اعمالك فأقد من نفسك من‏ ضربته و انت له ظالم.

فقال: الإمام يخطى‏ء و يصيب فلا اقيد من نفسي لأنى لو أقدت كل من أصبته بخطاء أتى على نفسي.

قالوا: إنك قد أحدثت أحداثا عظاما فاستحققت بها الخلع فاذا كلمت فيها اعطيت التوبة ثم عدت إليها و إلى مثلها ثم قدمنا عليك فاعطيتنا التوبة و الرجوع إلى الحق و لا منافيك محمد بن مسلمة و ضمن لنا ما حدث من أمر فأخفرته فتبرأ منك و قال: لا أدخل في أمره فرجعنا أول مرة لنقطع حجتك و نبلغ أقصى الأعذار إليك نستظهر بالله عز و جل عليك فلحقنا كتاب منك إلى عاملك علينا تأمره فينا بالقتل و القطع و الصلب و زعمت أنه كتب بغير علمك و هو مع غلامك و على جملك و بخط كاتبك و عليه خاتمك فقد وقعت عليك بذلك التهمة القبيحة مع ما بلونا منك قبل ذلك من الجور في الحكم و الأثرة في القسم و العقوبة للأمر بالتبسط من الناس و الإظهار للتوبة ثم الرجوع إلى الخطيئة و لقد رجعنا عنك و ما كان لنا أن نرجع حتى نخلعك و نستبدل بك من اصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله من لم يحدث مثل ما جربنا منك و لم يقع عليه من التهمة ما وقع عليك فاردد خلافتنا و اعتزل امرنا فان ذلك أسلم لنا منك و أسلم لك منا.

فقال عثمان: فرغتم من جميع ما تريدون؟ قالوا: نعم. قال: أما بعد فانكم لم تعدلوا في المنطق و لم تنصفوا في القضاء أما قولكم تخلع نفسك فلا أنزع قميصا قمصنيه الله و لكني أتوب و أنزع و لا أعود لشي‏ء عابه المسلمون فإني و الله الفقير إلى الله الخائف منه.

قالوا: إن هذا لو كان أول حدث أحدثته ثم تبت منه و لم تقم عليه لكان علينا أن نقبل منك و أن ننصرف عنك، و لكنه قد كان منك من الاحداث قبل هذا ما قد علمت و لقد انصرفنا عنك في المرة الأولى و ما نخشى أن تكتب فينا و لا من اعتللت به بما وجدنا في كتابك مع غلامك و كيف نقبل توبتك و قد بلونا منك أن لا تعطى‏ من نفسك التوبة من ذنب إلا عدت عليه فلسنا منصرفين حتى نعزلك و نستبدل بك فإن حال من معك من قومك و ذوى رحمك و أهل الانقطاع إليك دونك بقتال قاتلناهم حتى نخلص إليك فنقتلك أو تلحق أرواحنا بالله. إلى أن قال: ثم انصرفوا عن عثمان و آذنوه بالحرب، و ارسل عثمان إلى محمد بن مسلمة فكلمه أن يردهم فقال: و الله لا أكذب الله في سنة مرتين.

قال الطبري: إن عليا جاء عثمان بعد انصراف المصريين فقال له: تكلم كلاما يسمعه الناس منك و يشهدون عليه و يشهد الله على ما في قلبك من النزوع و الإنابة فان البلاد قد تمخضت عليك فلا آمن ركبا آخرين يقدمون من الكوفة فتقول يا علي اركب إليهم و لا أقدر أن أركب إليهم و لا أسمع عذرا و يقدم ركب آخرون من البصرة فتقول يا علي اركب إليهم فان لم أفعل رأيتني قد قطعت رحمك و استحققت «استخففت ظ» بحقك.

فخرج عثمان فخطب الخطبة التي نزع فيها و أعطى الناس من نفسه التوبة فقام فحمد الله و أثنى عليه بما هو أهله ثم قال: أما بعد أيها الناس فو الله ما عاب من عاب منكم شيئا أجهله و ما جئت شيئا إلا و أنا أعرفه و لكنى مننتني نفسي و كذبتني و ضل عن رشدي و لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله يقول: من زل فليتب و من أخطأ فليتب و لا يتمادى في الهلكة إن من تمادى في الجور كان أبعد من الطريق فأنا أول من اتعظ أستغفر الله مما فعلت و أتوب إليه فمثلي نزع و تاب فاذا نزلت فليأتني اشرافكم فليروني رأيهم فو الله لئن ردني الحق عبدا لأستنن بسنة العبد و لأذلن ذل العبد و لأكونن كالمرقوق إن ملك صبر و إن عتق شكر و ما عن الله مذهب إلا إليه فلا يعجزن عنكم خياركم أن يدنو إلى أبت يميني لتتابعني شمالي.

فلما نزل عثمان وجد في منزله مروان و سعيدا و نفرا من بني أمية و لم يكونوا شهدوا الخطبة فلما جلس قال مروان: يا أمير المؤمنين أتكلم أم أصمت؟ فقالت نائلة ابنة الفرافصة امرأة عثمان الكلبية: لا بل اصمت فانهم و الله قاتلوه و مؤتموه إنه قد قال مقالة لا ينبغي له أن ينزع عنها، فأقبل عليها مروان فقال: ما أنت و ذاك‏ فو الله لقد مات أبوك و ما يحسن يتوضأ، فقالت له: مهلا يا مروان عن ذكر الاباء تخبر عن أبي و هو غائب تكذب عليه و إن أباك لا يستطيع أن يدفع عنه أما و الله لو لا أنه عمه و أنه يناله غمه أخبرتك عنه ما لن أكذب عليه، فأعرض عنها مروان ثم قال: يا أمير المؤمنين أتكلم أم أصمت؟ قال: بل تكلم.

فقال مروان: بأبي أنت و امي و الله لوددت أن مقالتك هذه كانت و أنت ممتنع منيع فكنت أول من رضى بها و أعان عليها و لكنك قلت ما قلت حين بلغ الحزام الطبيين و خلف السبيل الزبى و حين أعطى الخطة الذليلة الذليل و الله لإقامة على خطيئة تستغفر الله منها أجمل من توبة تخوف عليها و إنك إن شئت تقربت بالتوبة و لم تقرب بالخطيئة و قد اجتمع إليك على الباب مثل الجبال من الناس.

فقال عثمان: فاخرج إليهم فكلمهم فاني استحيى ان اكلمهم.

فخرج مروان إلى الباب و الناس يركب بعضهم بعضا فقال: ما شأنكم قد اجتمعتم؟ كأنكم قد جئتم لنهب شاهت الوجوه كل إنسان آخذ باذن صاحبه الا من اريد جئتم ترويدون ان تنزعوا ملكنا من ايدينا؟ اخرجوا عنا اما و الله لئن رمتمونا ليمرن عليكم منا امر لا يسركم و لا تحمدوا غب رأيكم ارجعوا إلى منازلكم فانا و الله ما نحن مغلوبين على ما في ايدينا.

فرجع الناس و خرج بعضهم حتى اتى عليا عليه السلام فاخبره الخبر فجاء علي عليه السلام مغضبا حتى دخل على عثمان فقال: اما رضيت من مروان و لا رضى منك إلا بتحرفك عن دينك و عن عقلك مثل جمل الظعينة يقاد حيث يسار به و الله ما مروان بذي رأى في دينه و لا نفسه و ايم الله إني لأراه سيوردك ثم لا يصدرك و ما انا بعائذ بعد مقامي هذا لمعاتبتك اذهلت شرفك و غلبت على امرك.

فلما خرج علي عليه السلام دخلت عليه نائلة ابنة الفرافصة امرأته فقالت: قد سمعت قول على لك و إنه ليس يعاودك و قد اطعت مروان يقودك حيث شاء.

قال عثمان: فما اصنع؟ قالت: تتقى الله وحده لا شريك له و تتبع سنة صاحبيك من قبلك فانك متى اطعت مروان قتلك و مروان ليس له عند الناس قدر

و لا هيبة و لا محبة و إنما تركك الناس لمكان مروان فأرسل إلى علي عليه السلام فاستصلحه فإن له قرابة منك و هو لا يعصى، فأرسل عثمان إلى علي عليه السلام فأبى أن يأتيه و قال:

قد أعلمته له أنى لست بعائد. فبلغ مروان مقالة نائلة فيه فجاء إلى عثمان فجلس بين يديه فقال: أتكلم أو أسكت؟ فقال: تكلم، فقال: إن بنت الفرافصة، فقال عثمان:لا تذكرنها بحرف فاسوى لك وجهك فهى و الله أنصح لي منك فكف مروان.

فلما رأى عثمان ما قد نزل به و ما قد انبعث عليه من الناس كتب إلى معاوية ابن أبي سفيان و هو بالشام: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإن أهل المدينة قد كفروا و أخلفوا الطاعة و نكثوا البيعة فابعث إلى من قبلك من مقاتلة أهل الشام على كل صعب و ذلول، ثم كتب إلى يزيد بن أسد بن كرز و إلى أهل الشام: إن كان عندكم غياث فالعجل العجل فان القوم معاجلي.

«مخاطبة عثمان من أعلى القصر طلحة»

في الامامة و السياسة: إن عثمان لما منع الماء صعد على القصر و استوى في أعلاه ثم نادى أين طلحة؟ فأتاه فقال: يا طلحة أما تعلم أن بئر رومة كانت لفلان اليهودي لا يسقى أحدا من الناس منها قطرة إلا بثمن فاشتريتها بأربعين ألفا فجعلت رشائي فيها كرشاء رجل من المسلمين، لم أستأثر عليهم؟ قال: نعم، قال: فهل تعلم أن أحدا يمنع أن يشرب منها اليوم غيري؟ لم ذلك؟.

قال: لأنك بدلت و غيرت.

قال: فهل تعلم: أن رسول الله قال: من اشترى هذا البيت و زاده في المسجد فله به الجنة، فاشتريته بعشرين ألفا و أدخلته في المسجد. قال طلحة: نعم. قال:

فهل تعلم اليوم أحدا يمنع فيه من الصلاة غيري؟ قال: لا. قال: لم؟

قال: لأنك غيرت و بدلت.

«كلام عثمان في طلحة»

روى الطبرى- ص 411 ج 3 طبع مصر 1357 ه- باسناده عن عبد الله بن عباس‏ ابن ربيعة قال: دخلت على عثمان فتحدثت عنده ساعة، فقال: يا ابن عباس تعال فأخذ بيدي فأسمعني كلام من على باب عثمان فسمعنا كلاما منهم من يقول: ما تنتظرون به، و منهم من يقول: انظروا عسى أن يراجع فبينا أنا و هو واقفان إذ مر طلحة بن عبيد الله فوقف فقال أين ابن عديس؟ فقيل: ها هو ذا. فجائه ابن عديس فناجاه بشي‏ء ثم رجع ابن عديس فقال لأصحابه: لا تتركوا أحدا يدخل على هذا الرجل و لا يخرج من عنده، قال: فقال لي عثمان: هذا ما أمر به طلحة بن عبيد الله، ثم قال عثمان: اللهم اكفني طلحة بن عبيد الله فانه حمل على هؤلاء و ألبهم و الله إنى لأرجو أن يكون منها صفر أو أن يسفك دمه إنه انتهك مني ما لا يحل له.

«انكار طلحة و الزبير على عثمان»

في الجمل للمفيد: لما أبى عثمان أن يخلع نفسه تولى طلحة و الزبير حصاره و الناس معهما على ذلك فحصروه حصرا شديدا و منعوه الماء و أنفذ إلى علي عليه السلام يقول: إن طلحة و الزبير قد قتلاني من العطش و الموت بالسلاح أحسن، فخرج عليه السلام معتمدا على يد المسود بن مخزمة الزهري حتى دخل على طلحة بن عبيد الله و هو جالس في داره يسوى نبلا و عليه قميص هندي فلما رآه طلحة رحب به و وسع له على الوسادة، فقال له علي عليه السلام إن عثمان قد أرسل إلى أنكم قد هلكتموه عطشا و أن ذلك ليس بالحسن و القتل بالسلاح أحسن و كنت قد آليت على نفسي أن لا أرد عنه أحدا بعد أهل مصر و أنا احب أن تدخلوا عليه الماء حتى تروا رأيكم فيه، فقال طلحة: لا و الله لا ننعمنه عينا و لا نتركه يأكل و لا يشرب، فقال علي عليه السلام: ما كنت أظن أن اكلم أحدا من قريش فيردني، دع ما كنت فيه يا طلحة، فقال طلحة: ما كنت أنت يا علي في ذلك من شي‏ء فقام علي عليه السلام مغضبا و قال:ستعلم يا ابن الحضرمية أكون في ذلك من شي‏ء أم لا، ثم انصرف.

قال: و روي أبو حذيفة بن إسحاق بن بشير القرشي أيضا قال: حدثني يزيد ابن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: و الله إني لأنظر إلى طلحة و عثمان‏ محصور و هو على فرس أدهم و بيده الرمح يجول حول الدار و كأني انظر إلى بياض ما وراء الدرع.

قال: و روى أبو إسحاق قال: لما اشتد الحصار بعثمان عمد بنو امية على إخراجه ليلا إلى مكة و عرف الناس فجعلوا عليه حرسا و كان على الحرس طلحة ابن عبيد الله و هو أول من رمى بسهم في دار عثمان.

قال: قال: و اطلع عثمان و قد اشتد به الحصار و ظمأ من العطش فنادى:

أيها الناس اسقونا شربة من الماء و أطعمونا مما رزقكم الله، فناداه الزبير بن العوام يا نعثل لا و الله لا تذوقه.

قال: و روى أبو حذيفة القرشي عن الأعمش عن حبيب بن ثابت عن تغلبة بن يزيد الحماني قال: أتيت الزبير و هو عند أحجار الزيت فقلت له: يا أبا عبد الله قد حيل بين أهل الدار و بين الماء فنظر نحوهم و قال: و حيل بينهم و بين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب‏ (سبأ: 54) فهذه الأحاديث من جملة كثيرة في هذا المعنى.

«كان عمرو بن العاص شديد التحريض و التأليب على عثمان»

روى أبو جعفر الطبري في التاريخ- ص 395 ج 3 طبع مصر 1357- أن عمرو بن العاص كان ممن يحرض على عثمان و يغرى به و لقد خطب عثمان يوما في أواخر خلافته فصاح به عمرو بن العاص اتق الله يا عثمان فإنك قد ركبت نهابير و ركبناها معك فتب إلى الله نتب فناداه عثمان و إنك ههنا يا ابن النابغة قملت و الله جبتك منذ تركتك من العمل فنودى من ناحية اخرى تب إلى الله و نودى من اخرى مثل ذلك و أظهر التوبة يكف الناس عنك قال: فرفع عثمان يديه مدا و استقبل القبلة فقال: اللهم اني أول تائب إليك و رجع منزله و خرج عمرو بن العاص حتى نزل منزله بفلسطين فكان يقول: و الله إن كنت لألقى الراعى فاحرضه عليه. و كذا نقل تأليبه على عثمان على التفصيل و التطويل في ص 392 فراجع.

و في ص 392 منه: كان عمرو بن العاص على مصر عاملا لعثمان فعزله عن الخراج و استعمله على الصلاة و استعمل عبد الله بن سعد على الخراج ثم جمعهما لعبد الله بن سعد فلما قدم عمرو بن العاص المدينة جعل يطعن على عثمان فأرسل إليه يوما عثمان خاليا به فقال: يا ابن النابغة ما أسرع ما قمل جربان جبتك إنما عهدك بالعمل عاما أول أتطعن علي؟ و تأتيني بوجه و تذهب عني باخر و الله لو لا أكلة ما فعلت ذلك.

فقال عمرو: إن كثيرا مما يقول الناس و ينقلون إلى ولاتهم باطل فاتق الله يا أمير المؤمنين في رعيتك، فقال عثمان: و الله لقد استعملتك على ظلعك و كثرة القالة فيك، فقال عمرو: قد كنت عاملا لعمر بن الخطاب ففارقني و هو عني راض فقال عثمان: و أنا و الله لو آخذتك بما آخذك به عمر لاستصمت و لكني لنت عليك فاجترأت على أما و الله لأنا أعز منك نفرا في الجاهلية و قبل أن ألى هذا السلطان فقال عمرو: دع عنك هذا فالحمد لله الذي أكرمنا بمحمد صلى الله عليه و آله و هذانا به قد رأيت العاص بن وائل و رأيت أباك عفان فو الله للعاص كان أشرف من أبيك، فانكسر عثمان و قال: ما لنا و لذكر الجاهلية، و خرج عمرو و دخل مروان فقال: يا أمير المؤمنين و قد بلغت مبلغا يذكر عمرو بن العاص أباك؟ فقال عثمان: دع هذا عنك من ذكر آباء الرجال ذكروا أباه.

فخرج عمرو من عند عثمان و هو محتقد عليه يأتي عليا مرة فيؤلبه على عثمان و يأتي الزبير مرة فيؤلبه على عثمان و يأتي طلحة مرة فيؤلبه على عثمان و يعترض الحاج فيخبرهم بما أحدث عثمان، فلما كان حصر عثمان الأول خرج من المدينة حتى انتهى إلى أرض له بفلسطين يقال لها السبع فنزل في قصر له يقال له العجلان و هو يقول العجب ما يأتينا عن ابن عفان فبينا هو جالس في قصره ذلك و معه ابناه محمد و عبد الله و سلامة بن روح الجذامي إذ مر بهم راكب فناداه عمرو من أين قدم الرجل؟ فقال: من المدينة قال: ما فعل الرجل؟ يعني عثمان، قال:تركته محصورا شديد الحصار، قال عمرو: أنا أبو عبد الله قد يضرط العير و المكواة في النار فلم يبرح مجلسه ذلك حتى مر به راكب آخر فناداه عمرو ما فعل الرجل؟

يعني عثمان، قال: قتل، قال: أنا أبو عبد الله إذا حككت قرحة نكأتها ان كنت لأحرض عليه حتى أني لأحرض عليه الراعي في غنمه في رأس الجبل.

فقال سلامة بن روح: يا معشر قريش إنه كان بينكم و بين العرب باب وثيق فكسرتموه فما حملكم على ذلك؟ فقال: أردنا أن نخرج الحق من حافرة الباطل و أن يكون الناس في الحق شرعا سواء.

و كانت عند عمرو اخت عثمان لأمه ام كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ففارقها حين عزله.

بيان‏

جربان: بضم الأولين و تشديد الباء و بكسرهما أيضا: جيب الجبة و القميص و نحوهما و يقال بالفارسية گريبان جامه و يشبه أن يكون معربه. و قوله: قد يضرط العير و المكواة في النار، مثل يضرب للرجل يخوف الأمر فيجزع قبل وقوعه فيه و أول من قال ذلك عرفطة بن عرفجة الهزائي ذكر تفصيله أبو هلال العسكري في الباب الحادي و العشرين من جمهرة الأمثال و الميداني في الباب الحادي و العشرين من مجمع الأمثال فراجع.

«كلامه الاخر المخالف للأول الصريح في انه كان عبيد الدنيا»

قال المسعودي في مروج الذهب- ص 4 ج 2 طبع مصر 1346 ه-: و قد كان عمرو بن العاص انحرف عن عثمان لانحرافه و تولية مصر غيره فنزل الشام فلما اتصل به أمر عثمان و ما كان من بيعة علي كتب إلى معاوية يهزه و يشير عليه بالمطالبة بدم عثمان و كان فيما كتب به إليه: ما كنت صانعا إذا قشرت من كل شي‏ء تملكه فاصنع ما أنت صانع، فبعث إليه معاوية فسار إليه فقال له معاوية: بايعني قال: و الله لا اعينك من دينى حتى أنال من دنياك، قال: سل، قال: مصر طعمة فأجابه إلى ذلك و كتب له به كتابا و قال عمرو بن العاص في ذلك:

معاوى لا أعطيك ديني و لم أنل‏ به منك دنيا فانظرن كيف تصنع‏
فان تعطني مصرا فأربح صفقة أخذت بها شيخا يضر و ينفع‏

روى الطبري أيضا (ص 560 ج 3) انه لما احيط بعثمان خرج عمرو بن العاص من المدينة متوجها نحو الشام و معه ابناه عبد الله و محمد- إلى أن قال في كلام طويل- حتى قدم على معاوية فوجد أهل الشام يحضون معاوية على الطلب بدم عثمان فقال عمرو بن العاص: أنتم على الحق اطلبوا بدم الخليفة المظلوم، و معاوية لا يلتفت إلى قول عمرو فقال ابنا عمرو لعمرو: ألا ترى إلى معاوية لا يلتفت إلى قولك؟ انصرف إلى غيره، فدخل عمرو على معاوية فقال: و الله لعجب لك إني أرفد مما أرفدك و أنت معرض عني أما و الله إن قاتلنا معك نطلب بدم الخليفة إن في النفس من ذلك ما فيها حيث نقاتل من تعلم سابقته و فضله و قرابته و لكنا إنما أردنا هذه الدنيا، فصالحه معاوية و عطف عليه. انتهى.

أقول: لا يخفى على اولى الدراية و الفطانة أن عمرو بن العاص كان بمعزل عن الحق و الصدق و ما كان همه إلا الدنيا و التقرب إلى أهلها و انه كأضرا به ممن سمعت أسامي بعضهم لعبوا بالدين و اتخذوا كتاب الله سخريا و كانوا أهل الختل و الغدر و قاموا إلى حرب ولى الله الأعظم سيد الموحدين علي أمير المؤمنين بالعداوة الواغرة في صدورهم و الضغائن الكامنة في قلوبهم حبا للدنيا الدنية و بغضا لأهل الله و هذا هو عمرو بن العاصى قال مرة لعثمان: فانك قد ركبت نهابير و ركبناها معك و قال تارة لشيعة عثمان: أنتم على الحق اطلبوا بدم الخليفة المظلوم، و اخرى اظهر خبث سريرته فقال لمعاوية: نقاتل من تعلم سابقته و فضله و قرابته (يعني عليا عليه السلام) و لكنا إنما اردنا هذه الدنيا.

«كلام عائشة في عثمان و انكارها عليه»

في الإمامة و السياسة و غيره من كتب السير: ان عائشة كانت أول من طعن على عثمان و اطمع الناس فيه و كانت تقول: اقتلوا نعثلا فقد فجر. و تعنى من نعثل عثمان. و قال عبيد بن ام كلاب مخاطبا إياها في ابيات له:

و أنت أمرت بقتل الإمام‏ و قلت لنا إنه قد فجر

و تجهزت عائشة خارجة إلى الحج هاربة و استتبعت أخاها.

في الجمل للمفيد «ره»: و أما تأليب عائشة على عثمان فهي أظهر مما وردت به الأخبار من تأليب طلحة و الزبير عليه فمن ذلك ما رواه محمد بن إسحاق صاحب السيرة عن مشايخه عن حكيم بن عبد الله قال: دخلت يوما بالمدينة إلى المسجد فاذا كف مرتفعة و صاحب الكف يقول: أيها الناس العهد قريب هذان نعلا رسول الله صلى الله عليه و آله و قميصه و كأني أرى ذلك القميص يلوح و أن فيكم فرعون هذه الأمة فإذا هي عائشة، و عثمان يقول لها: اسكتي ثم يقول للناس: انها امرأة و عقلها عقل النساء فلا تصغوا إلى قولها.

قال: و روى الحسن بن سعد قال: رفعت عائشة ورقة من المصحف بين عودتين من وراء حجلها و عثمان قائم ثم قالت: يا عثمان أقم ما في هذا الكتاب، فقال:

لتنتهين عما أنت عليه أو لأدخلن عليك حمر النار، فقالت له عائشة: أما و الله لأن فعلت ذلك بنساء النبي يلعنك الله و رسوله و هذا قميص رسول الله لم يتغير و قد غيرت سنته.

قال: و روى الليث بن أبي سليمان عن ثابت الأنصاري عن ابن أبي عامر مولى الأنصار قال: كنت في المسجد فمر عثمان فنادته عائشة يا غدر يا فجر أحقرت أمانتك و ضيعت رعيتك و لو لا الصلوات الخمس لمشى إليك الرجال حتى يذبحوك ذبح الشاة، فقال عثمان: ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح و امرأت لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا و قيل ادخلا النار مع الداخلين‏ (التحريم: 11).

قال: و روى محمد بن إسحاق المدائني و حذيفة قال: لما عرفت عائشة أن الرجل مقتول تجهزت إلى مكة جاءها مروان بن الحكم و سعيد بن العاص فقالا لها: إنا لنظن أن الرجل مقتول و أنت قادرة على الدفع عنه و إن تقيمي يدفع الله بك عنه، قالت: ما أنا بقاعدة و قد قدمت ركابي و غريت غرائري و أوجبت الحج‏ على نفسي فخرج من عندها مروان يقول زخرف قيس على البلاد حتى إذا اضطربت فسمعت عائشة فقالت: أيها المتمثل هلم قد سمعت ما تقول أ تراني في شك من صاحبك و الله لوددت انه في غرارة من غرائري حتى إذا مررت بالبحر قذفته فيه. فقال مروان: قل و الله تبنيت قل و الله تبنيت.

قال: قال فسارت عائشة فاستقبلها ابن عباس بمنزل يقال له الصلعاء و ابن عباس يريد المدينة فقالت يا ابن عباس انك قد اوتيت عقلا و بيانا و إياك ان ترد الناس عن قتل الطاغية.و سيأتي طائفة من الأخبار في أقوالها له و ما فعلت بعد ذلك.

«قتل عثمان»

لما حصر الناس عثمان في داره منعوه الماء فأشرف على الناس و قال: ألا أحد يسقينا؟ قال المسعودي: فبلغ عليا طلبه للماء فبعث إليه بثلاث قرب ماء فما وصل إليه ذلك حتى خرج جماعة من موالي بني هاشم و بني اميه و ارتفع الصوت و كثر الضجيج و أحدقوا بداره بالسلاح و طالبوه بمروان فأبى أن يخلى عنه و في الناس بنو زهرة لأجل عبد الله بن مسعود لأنه كان من أحلافها. و هذيل لأنه كان منها و بنو مخزوم و أحلافها لعمار، و غفار و أحلافها لأجل أبي ذر، و تيم بن مرة مع محمد ابن أبي بكر و غير هؤلاء من خلق كثير.

قال الطبري: كان الحصر أربعين ليلة و النزول سبعين فلما مضت من الأربعين ثمان عشرة قدم ركبان من الوجوه فأخبروا خبر من تهيأ إليهم من الافاق: حبيب من الشام و معاوية من مصر و القعقاع من الكوفة و مجاشع من البصرة فعندها حالوا بين الناس و بين عثمان و منعوه كل شي‏ء حتى الماء و قد كان يدخل على عليه السلام بالشي‏ء مما يريد و طلبوا العلل فلم تطلع عليهم علة فعثروا في داره بالحجارة ليرموا فيقولوا قوتلنا و ذلك ليلا.

فناداهم عثمان: ألا تتقون الله ألا تعلمون أن في الدار غيري؟ قالوا: لا و الله ما رميناك قال: فمن رمانا؟ قالوا: الله، قال: كذبتم إن الله عز و جل لو رمانا لم‏

يخطئنا و أنتم تخطئوننا و أشرف عثمان على آل حزم و هم جيرانه فسرح ابنا لعمرو إلى على بأنهم قد منعونا الماء فإن قدرتم أن ترسلوا إلينا شيئا من الماء فافعلوا و إلى طلحة و الزبير و إلى عائشة و أزواج النبي؛ فكان أولهم إنجادا له علي و ام حبيبة جاء علي عليه السلام في الغلس فقال: يا أيها الناس إن الذي تصنعون لا يشبه أمر المؤمنين و لا أمر الكافرين لا تقطعوا عن هذا الرجل المادة فان الروم و فارس لتأسر فتطعم و تسقى.

قال الدينوري في الإمامة و السياسة و المسعودي و الطبري: بعث عثمان إلى علي عليه السلام يخبره أنه منع من الماء و يستغيث به فبعث إليه علي عليه السلام ثلاث قرب مملوءة ماء فما كادت تصل إليه فقال طلحة: ما أنت و هذا؟ و كان بينهما في ذلك كلام شديد فبينما هم كذلك إذا أتاهم آت فقال لهم: إن معاوية قد بعث من الشام يزيد بن أسيد ممدا لعثمان في أربعة آلاف من خيل الشام فاصنعوا ما أنتم صانعون و إلا فانصرفوا.

قال المسعودي: فلما بلغ عليا أنهم يريدون قتله بعث بابنيه الحسن و الحسين و مواليه بالسلاح إلى بابه لنصرته و أمرهم أن يمنعوه منهم و بعث الزبير ابنه عبد الله على كره و بعث طلحة ابنه محمدا كذلك و أكثر أبناء الصحابة أرسلهم آباؤهم اقتداء بهم فصدوهم عن الدار فاشتبك القوم و جرح الحسن و شج قنبر و جرح محمد بن طلحة فخشى القوم أن يتعصب بنو هاشم و بنو امية فتركوا القوم في القتال على الباب و مضى نفر منهم إلى دار قوم من الأنصار فتسوروا عليها و كان ممن وصل إليه محمد بن أبي بكر و رجلان آخران و عند عثمان زوجته نائلة و أهله و مواليه مشاغيل بالقتال فصرعه محمد و قعد على صدره و أخذ بلحيته و قال: يا نعثل ما أغنى عنك معاوية و ما اغنى عنك ابن عامر و ابن أبي سرح.

فقال له عثمان: يا ابن أخي دع عنك لحيتى فما كان أبوك ليقبض على ما قبضت عليه فقال محمد: لو رآك أبي تعمل هذه الأعمال أنكرها عليك و ما اريد بك أشد من قبضي على لحيتك و خرج عنه إلى الدار و تركه فدعا عثمان بوضوء فتوضأ و أخذمصحفا فوضعه في حجره ليحترم به و دخل الرجلان فوجداه فقتلاه يقال لأحدهما الموت الأسود خنق عثمان ثم خفقه ثم خرج فقال و الله ما رأيت شيئا قط ألين من حلقه و الله لقد خنقته حتى رأيت نفسه تتردد في جسده كنفس الجان.

قال الطبري: فدخل عليه كنانة بن بشر التجيبي فأشعره مشقصا فانتضح الدم على هذه الاية فسيكفيكهم الله و هو السميع العليم‏.

قال الدينوري: لما أخذ مصحفا فوضعه في حجره ليحترم به دخل عليه رجل من أهل الكوفة بمشقص في يده فوجأ به منكبه مما يلي الترقوة فأدماه و نضح الدم على ذلك المصحف و جاء آخر فضربه برجله و جاء آخر فوجأه بقائم سيفه فغشى عليه و محمد بن أبي بكر لم يدخل مع هؤلاء فتصايح نساؤه و رش الماء على وجهه فأفاق، فدخل محمد بن أبي بكر و قد أفاق فقال له: أى نعثل غيرت و بدلت و فعلت ثم دخل رجل من أهل مصر فأخذ بلحيته فنتف منها خصلة و سل سيفه و قال: افرجوا لي فعلاه بالسيف فتلقاه عثمان بيده فقطعها ثم دخل رجل آخر و هو كنانة بن بشر ابن عتاب التجيبي و معه جرز آخر من حديد فمشى إليه فقال: على أى ملة أنت يا نعثل؟ فقال: لست بنعثل و لكنى عثمان بن عفان و أنا على ملة إبراهيم حنيفا و ما أنا من المشركين؛ قال: كذبت و ضربه بالجرز على صدغه الأيسر فغسله الدم و خر على وجهه و قد قيل: ان عمرو بن الحمق طعنه بسهام تسع طعنات و كان فيمن مال عليه عمير بن ضابئ البرجمي التميمي و خضخض بسيفه بطنه.

و قال الطبري: رفع كنانة مشاقص كانت في يده فوجأ بها في أصل اذن عثمان فمضت حتى دخلت في حلقه ثم علاه بالسيف حتى قتله، و روى رواية اخرى أن كنانة ضرب جبينه و مقدم رأسه بعمود حديد فخر لجبينه فضربه سودان بن حمران المرادي بعد ما خر لجبينه فقتله.

فصرخت امرأته و قالت: قد قتل أمير المؤمنين فدخل الحسن و الحسين و من كان معهما من بني امية فوجدوه قد فاضت نفسه؛ قال المسعودي: فبلغ ذلك عليا و طلحة و الزبير و سعدا و غيرهم من المهاجرين و الأنصار فاسترجع القوم و دخل علي عليه السلام‏ الدار و هو كالواله الحزين فقال لابنيه: كيف قتل أمير المؤمنين و أنتما على الباب و لطم الحسن و ضرب الحسين و شتم محمد بن طلحة و لعن عبد الله بن الزبير.

و قال علي عليه السلام لزوجته نائلة بنت الفرافصة: من قتله و أنت كنت معه؟ فقالت دخل إليه رجلان و قصت خبر محمد بن أبي بكر فلم ينكر ما قالت و قال: و الله لقد دخلت عليه و أنا اريد قتله فلما خاطبني بما قال خرجت و لا أعلم بتخلف الرجلين عنى، و الله ما كان لي في قتله سبب و لقد قتل و أنا لا أعلم بقتله، و كان مدة ما حوصر عثمان في داره تسعا و اربعين يوما و قيل أكثر من ذلك.

«الموضع الذي دفن فيه عثمان»

قال أبو جعفر الطبري في التاريخ: لبث عثمان بعد ما قتل ثلاثة أيام لا يستطيعون دفنه و لم يشهد جنازته الا مروان و ثلاثة من مواليه و ابنته الخامسة فناحت ابنته و أخذ الناس الحجارة و قالوا: نعثل نعثل و كادت ترجم. و قال ابن قتيبة: احتملوه على باب و انطلقوا مسرعين و يسمع وقع رأسه على اللوح و ان رأسه ليقول: طق طق.

فلما وضع ليصلى عليه جاء نفر من الأنصار يمنعونهم الصلاة عليه و منعوهم ان يدفن بالبقيع فقال بعض من حمل جنازته: ادفنوه فقد صلى الله عليه و ملائكته، فقالوا: لا و الله لا يدفن في مقابر المسلمين ابدا فدفنوه في حائط يقال له: حش كوكب كانت اليهود تدفن فيه موتاهم فلما ظهر معاوية بن ابي سفيان على الناس امر بهدم ذلك الحائط حتى افضى به إلى البقيع فأمر الناس ان يدفنوا موتاهم حول قبره حتى اتصل ذلك بمقابر المسلمين و لم يغسل عثمان و كفن في ثيابه و دمائه و دفنوه ليلا لأنهم لا يقدرون أن يخرجوا به نهارا.

و قال في نقل آخر: إن نائلة تبعتهم بسراج استسرجته بالبقيع و صلى عليه جبير بن مطعم و في نقل آخر صلى عليه مروان و أرادت نائلة أن تتكلم فزبرها القوم و قالوا: إنا نخاف عليه من هؤلاء الغوغاء أن ينبشوه، فرجعت نائلة إلى منزلها.

و قال ابن قتيبة في الإمامة و السياسة: ثم دلوه في حفرته فدفنوه و لم يلحدوه‏ بلبن، و حثوا عليه التراب حثوا.

و في تاريخ أبي جعفر الطبري أن حكيم بن حزام القرشي و جبير بن مطعم كلما عليا في دفنه و طلبا إليه أن يأذن لأهله في ذلك ففعل و أذن لهم علي عليه السلام فلما سمع بذلك قعدوا له في الطريق بالحجارة و خرج به ناس يسير من أهله و هم يريدون به حائطا بالمدينة يقال له: حش كوكب كانت اليهود تدفن فيه موتاهم فلما خرج على الناس رجموا سريره و هموا بطرحه فبلغ ذلك عليا فأرسل إليهم يعزم عليهم ليكفن عنه ففعلوا فانطلق حتى دفن في حش كوكب. و في نقل آخر منه: و جاء ناس من الأنصار ليمنعوا من الصلاة عليه فأرسل علي عليه السلام فمنع من رجم سريره و كف الذين راموا منع الصلاة عليه.

و كان الوليد بن عقبة بن أبي معيط أخا عثمان لأمه فسمع الليلة الثانية من مقتل عثمان يندبه و هو يقول:

بني هاشم إيه فما كان بيننا و سيف ابن أروى عندكم و حرائبه‏
بني هاشم ردوا سلاح ابن اختكم‏ و لا تنهبوه ما تحل مناهبه‏
غدرتم به كيما تكونوا مكانه‏ كما غدرت يوما بكسرى مرازبه‏

و هي أبيات، فأجابه عن هذا الشعر و فيما رمى به بني هاشم و نسب إليهم الفضل ابن العباس بن أبي لهب فقال:

فلا تسألونا سيفكم إن سيفكم‏ أضيع و ألقاه لدى الروع صاحبه‏
سلوا أهل مصر عن سلاح ابن اختنا فهم سلبوه سيفه و حرائبه‏
و كان ولى العهد بعد محمد على و في كل المواطن صاحبه‏
على ولي الله أظهر دينه‏ و أنت مع الأشقين فيما تحاربه‏
و أنت امرؤ من أهل صيفور مارح‏ فما لك فينا من حميم تعاتبه‏
و قد أنزل الرحمن أنك فاسق‏ فما لك في الإسلام سهم تطالبه‏

و قال الوليد بن عقبة بن أبي معيط المذكور أيضا يحرض أخاه عمارة بن عقبة:

ألا إن خير الناس بعد ثلاثة قتيل التجيبي الذي جاء من مصر
فان يك ظني بابن امي صادقا عمارة لا يطلب بذحل و لا وتر
يبيت و أوتار ابن عفان عنده‏ محيمه بين الخورنق و القصر

فأجابه الفضل بن عباس أيضا:

أ تطلب ثارا لست منه و لا له‏ و أين ابن ذكوان الصفوري من عمرو
كما اتصلت بنت الحمار بامها و تنسى أباها إذ تسامي اولى الفخر
ألا إن خير الناس بعد محمد وصي النبي المصطى عند ذى الذكر
و أول من صلى و صنو نبيه‏ و أول من أردى الغواة لدى بدر
فلو رأت الأنصار ظلم ابن عمكم‏ لكانوا له من ظلمه حاضرى النصر
كفى ذاك عيبا أن يشيروا بقتله‏ و أن يسلموه للأحابيش من مصر

«تذكرة»

قد مضت طائفة من الأقوال في حصر عثمان و هتف الناس باسم أمير المؤمنين علي عليه السلام للخلافة و قوله عليه السلام: ما زلت أذب عن عثمان حتى اني لأستحى و غيرها فى المختار 238 من كلامه عليه السلام في باب الخطب فراجع.

اقول: و لو لم يكن كلما نقلنا من احداث عثمان او بعضه مما يوجب خلعه و البراءة منه لوجب أن يكون الصحابة ينكر على من قصده من البلاد متظلما مما فعلوه و قدموا عليه و قد علمنا ان بالمدينة المهاجرين و الأنصار و كبار الصحابة لم ينكروا ذلك و صدقوا عليه ما نسب إليه من الأحداث و لم يقبلوا ما جعله عذرا بل أسلموه و لم يدفعوا عنه بل اعانوا قاتليه و لم يمنعوا من قتله و حصره و منع الماء منه مع أنهم متمكنون من خلاف ذلك و ذلك أقوى الدليل على ما قلناه.

«جواب القاضى عبد الجبار عن بعض ما قدمناه و اعتذاره منه»

و قد تكلف القاضي عبد الجبار في الجواب عن بعض هذه الأمور على أن‏ إمامه قتل مظلوما بما لا يخفى وهنها عن من كان له أدنى بصيرة في سيرة عثمان و أحداثه المخالفة لسيرة الرسول و حكم القرآن و لكنا نذكر ما قال ثم نتبعه باعتراض علم الهدى له زيادة للبصيرة. قال القاضي: فأما قولهم إنه كتب إلى ابن أبي سرح حيث ولى محمد بن أبي بكر بأن يقتله و يقتل أصحابه فقد أنكر أشد التنكير حتى حلف عليه و بين أن الكتاب الذي ظهر ليس كتابه و لا الغلام غلامه و لا الراحلة راحلته و كان في جملة من خاطبه في ذلك أمير المؤمنين عليه السلام فقبل عذره و ذلك بين لأن قول كل أحد مقبول في مثل ذلك و قد علم أن الكتاب قد يجوز فيه التزوير فهو بمنزلة الخير الذي يجوز فيه الكذب.

ثم اعتذر عن قول من يقول قد علم أن مروان هو الذي زور الكتاب لأنه الذى كان يكتب عنه فهلا أقام الواجب فيه؟ بأن قال: ليس يجب بهذا القدر أن يقطع على أن مروان هو الذى فعل ذلك لأنه و إن غلب ذلك في الظن فلا يجوز أن يحكم به و قد كان القوم يسومونه تسليم مروان إليهم و ذلك ظلم لأن الواجب على الإمام أن يقيم الحد على من يستحقه أو التأديب و لا يحل له تسليمه من غيره فقد كان الواجب أن يثبتوا عنده ما يوجب في مروان الحد ليفعله به و كان إذا لم يفعل و الحال هذه يستحق التعنيف.

ثم ذكر أن الفقهاء ذكروا في كتبهم أن الأمر بالقتل لا يوجب قودا ولادية و لا حدا فلو ثبت في مروان ما ذكروه لم يستحق القتل و إن استحق التعزير لكنه عدل عن تعزيره لأنه لم يثبت قال: و قد يجوز أن يكون عثمان ظن أن هذا الفعل فعل بعض ما يعادى مروان تقبيحا لأمره لأن ذلك يجوز كما يجوز أن يكون من فعله و لا يعلم كيف كان اجتهاده و ظنه و بعد فان هذا الحديث من أجل ما نقموا عليه فان كان شي‏ء من ذلك يوجب خلع عثمان و قتله فليس إلا ذلك و قد علمنا أن هذا الأمر لو ثبت ما كان يوجب القتل لأن الأمر بالقتل لا يوجب القتل لا سيما قبل وقوع القتل المأمور به.

قال: فيقال لهم لو ثبت ذلك على عثمان أ كان يجب قتله؟ فلا يمكنهم إدعاء ذلك لأنه بخلاف الدين و لابد أن يقولوا: إن قتله ظلم فكذلك في حبسه في الدار و منعه من الماء فقد كان يجب أن يدفع القوم عن كل ذلك و أن يقال إن من لم يدفعهم و ينكر عليهم يكون مخطئا و في ذلك تخطئة أصحاب الرسول.

ثم ذكر أن مستحق القتل و الخلع لا يحل أن يمنع الطعام و الشراب و أن أمير المؤمنين عليا عليه السلام لم يمنع أهل الشام من الماء في صفين و قد تمكن من منعهم و أطنب في ذلك إلى أن قال: و كل ذلك يدل على كونه مظلوما و أن ذلك كان من صنيع الجهال و أعيان الصحابة كارهون لذلك. ثم ذكر أن قتله لو وجب لم يجز أن يتولاه العوام من الناس و أن الذين أقدموا على قتله كانوا بهذه الصفة و إذا صح أن قتله لم يكن لهم فمنعهم و النكير عليهم واجب.

ثم ذكر أنه لم يكن منه ما يستحق القتل من ردة أوزنا بعد إحصان أو قتل نفس و انه لو كان منه ما يوجب القتل لكان الواجب أن يتولاه الإمام فقتله على كل حال منكر و انكار المنكر واجب، قال: و ليس أحد أن يقول إنه أباح قتل نفسه من حيث امتنع من دفع الظلم عنهم لأنه لم يمتنع من ذلك بل أنصفهم و نظر في حالهم و لأنه لو لم يفعل ذلك لم يحل لهم قتله لأنه إنما يحل قتل الظالم إذا كان على وجه الدفع.

قال: و المروي أنهم أحرقوا بابه و هجموا عليه في منزله و بعجوه بالسيف و المشاقص فضربوا يد زوجته لما وقعت عليه و انتهبوا متاع داره و مثل هذه القتلة لا يحل في الكافر و المرتد فكيف يظن أن الصحابة لم ينكر ذلك و لم يعده ظلما حتى يقال انه مستحق من حيث لم يدفع القوم عنه ثم قص شيئا من قصته في تجمع القوم عليه و توسط أمير المؤمنين عليه السلام لأمرهم و أنه بذل لهم ما أرادوه و أعتبهم و أشهد على نفسه بذلك حرفه و لم يأت به على وجهه و ذكر قصة الكتاب الذي وجدوه بعد ذلك المتضمن لقتل القوم و ذكر أن أمير المؤمنين عليه السلام واقفه على الكتاب فحلف أنه ما كتبه و لا أمر به فقال له: فمن تتهم؟ قال: ما أتهم أحدا و أن للناس لحيلا

و ذكر أن الرواية ظاهرة بقوله إن كنت أخطأت أو تعمدت فإني تائب مستغفر قال:فكيف يجوز و الحال هذه أن تهتك فيه حرمة الإسلام و حرمة البلد الحرام.

قال: و لا شبهة أن القتل على وجه الغيلة حرام لا يحل فيمن يستحق القتل فكيف فيمن لا يستحقه و لو لا أنه كان يمنع من محاربة القوم ظنا منه بأن ذلك يؤدى إلى القتل الذريع لكثرة نصاره و حكى أن الأنصار بذلت معونته و نصرته، و أن أمير المؤمنين عليه السلام بعث إليه الحسن عليه السلام فقال له: قل لأبيك فليأتني و أراد أمير المؤمنين عليه السلام المصير إليه فمنعه من ذلك ابنه محمد و استغاث بالنساء عليه حتى جاء الصريخ بقتل عثمان فمد يده إلى القبلة و قال: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان.

ثم قال: فإن قالوا إنهم اعتقدوا أنه من المفسدين في الأرض و أنه داخل تحت آية المحاربين، قيل لهم فقد كان يجب أن يتولى الإمام هذا الفعل لأن ذلك يجرى مجرى الحد: قال: و كيف يدعى ذلك و المشهور أنه كان يمنع من مقاتلتهم حتى روى أنه قال لعبيده و مواليه و قد هموا بالقتال: من أغمد سيفه فهو حر و قد كان مؤثرا للنكير لذلك الأمر إلا أنه بما لا يؤدى إلى إراقة الدماء و الفتنة فلذلك لم يستعن بأصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله و إن كان لما اشتد الأمر أعانه من أعانه لأن عند ذلك تجب النصرة و المعونة لا بأمره فحيث وقفت النصرة على أمره امتنعوا و توقفوا، و حيث اشتد الأمر كانت إعانته ممن أدركه دون من لم يقدر و يغلب ذلك في ظنه.

«اعتراض الشريف المرتضى علم الهدى على» «القاضى و جوابه عما تشبث به»

قال علم الهدى في الشافي بعد ما نقل قول القاضي من المغني: أما قوله «إنه أنكر الكتاب المتضمن لقتل محمد بن أبي بكر و أصحابه و حلف أن الكتاب ليس كتابه و لا الغلام غلامه و لا الراحلة راحلته و أن أمير المؤمنين عليه السلام قبل عذره» فأول ما فيه أنه حكى القصة بخلاف ما جرت عليه لأن جميع من روى هذه القصة ذكر أنه اعترف بالخاتم و الغلام و الراحلة و إنما أنكر أن يكون أمر بالكتاب‏ لأنه روى أن القوم لما ظفروا بالكتاب قدموا المدينة فجمعوا أمير المؤمنين عليه السلام و طلحة و الزبير و سعدا و جماعة الأصحاب ثم فكوا الكتاب بمحضر منهم و اخبروهم بقصة الغلام فدخلوا على عثمان و الكتاب مع أمير المؤمنين عليه السلام فقال له: أ هذا الغلام غلامك؟ قال: نعم، قال: و البعير بعيرك؟ قال: نعم، قال: أ فأنت كتبت هذا الكتاب؟

قال: لا و حلف بالله أنه ما كتب الكتاب و لا أمر به، فقال له: فالخاتم خاتمك؟

فقال: نعم، قال: كيف يخرج غلامك ببعيرك بكتاب عليه خاتمك و لا تعلم به؟.

و في رواية اخرى أنه لما واقفه قال له عثمان اما الخط فخط كاتبي و اما الخاتم فعلى خاتمي، قال: فمن تتهم؟ قال: أتهمك و أتهم كاتبي، فخرج أمير المؤمنين عليه السلام مغضبا و هو يقول: بل هو امرك و لزم داره و قعد عن توسط امره حتى جرى ما جرى في امره و اعجب الأمور قوله لأمير المؤمنين عليه السلام إني أتهمك و تظاهره بذلك و تلقيه إياه في وجهه بهذا القول مع بعد أمير المؤمنين عليه السلام عن التهمة و الظنة في كل شي‏ء ثم في امره خاصة فإن القوم في الدفعة الأولى ارادوا ان يعجلوا له ما اخروه حتى قام أمير المؤمنين عليه السلام بأمره و توسطه و اصلحه و اشار إليه بأن يقاربهم و يعتبهم حتى انصرفوا عنه و هذا فعل النصيح المشفق الحدب المتحنن و لو كان عليه السلام و حوشى من ذلك متهما عليه لما كان للتهمة مجال عليه في امر الكتاب خاصة لأن الكتاب بخط عدو الله و عدو رسوله و عدو أمير المؤمنين عليه السلام مروان و في يد غلام عثمان و مختوم بخاتمه و محمول على بعيره فأى ظن تعلق بأمير المؤمنين عليه السلام في هذا المكان لو لا العداوة و قلة الشكر للنعمة. و لقد قال له المصريون لما جحد ان يكون الكتاب كتابه شيئا لا زيادة عليه في باب الحجة لأنهم قالوا: إذا كنت ما كتبته و لا امرت به فأنت ضعيف من حيث تم عليك أن يكتب كاتبك بما يختمه بخاتمك و ينفذه بيد غلامك على بعيرك بغير أمرك و من تم عليه مثل ذلك لا يصلح أن يكون واليا على امور المسلمين فاختلع عن الخلافة على كل حال و قد كان يجب على صاحب الكتاب أن يستحيى من قوله: إن أمير المؤمنين عليه السلام قبل عذره و كيف يقبل عذر من يتهمه و يشنعه و هو له ناصح و ما قاله أمير المؤمنين بعد سماع هذا القول منه معروف.

و قوله إن الكتاب يجوز فيه التزوير ليس بشي‏ء لأنه لا يجوز التزوير في الكتاب و الغلام و البعير و هذه الأمور إذا انضاف بعضها إلى بعض بعد فيها التزوير و قد كان يجب على كل حال أن يبحث عن القصة و عمن زور الكتاب و أنفذ الرسول و لا ينام عن ذلك و لا يقيم حتى يعرف من أين دهى و كيف تمت الحيلة عليه فيحترز من مثلها و لا يغضى عن ذلك إغضاء خائف له ساتر عليه مشفق من بحثه و كشفه.

فأما قوله «انه و إن غلب في الظن أن مروان كتب الكتاب فإن الحكم بالظن لا يجوز و تسليمه إلى القوم على ما ساموه إياه ظلم لأن الحد و التأديب إذا وجب عليه فالإمام يقيمه دونهم» فتعلل منه بالباطل لأنا لا نعمل إلا على قوله في أنه لم يعلم أن مروان هو الذي كتب الكتاب و إنما غلب في ظنه أما كان يستحق بهذا الظن بعض التعنيف و الزجر و التهديد أو ما كان يجب مع وقوع التهمة و قوة الأمارات في أنه جالب للفتنة و سبب الفرقة أن يبعده عنه و يطرده عن داره و يسلبه نعمته و ما كان يخصه به من إكرامه و ما في هذه الأمور أظهر من أن ينبه عليه.

فأما قوله «إن الأمر بالقتل لا يوجب قودا و لا دية لا سيما قبل وقوع القتل المأمور به» فهب أن ذلك على ما قال أما يوجب على الامر بالقتل تأديبا و لا تعزيرا و لا طردا و لا إبعادا، و قوله: لم يثبت ذلك، فقد مضى ما فيه و بينا أنه لم يستعمل فيه ما يجب استعماله من البحث و الكشف و تهديد المتهم و طرده و إبعاده و التبرء من التهمة بما يتبرأ به من مثلها.

فأما قوله: «إن قتله ظلم و كذلك حبسه في الدار و منعه من الماء و إن استحق القتل أو الخلع لا يحل أن يمنع الطعام و الشراب و اطنابه في ذلك، و قوله إن من لم يدفع عن ذلك من الصحابة يجب أن يكون مخطئا، و قوله إن قتله أيضا لو وجب لم يجز أن يتولاه العوام من الناس» فباطل لأن الذين قتلوه لا ينكر أن يكونوا ما تعمدوا قتله و إنما طالبوه بأن يخلع نفسه لما ظهر من أحداثه و يعتزل الأمر اعتزالا يتمكنون معه من إقامة غيره فلج و صمم على الامتناع و أقام على أمر واحد فقصد القوم بحصره إلى أن يلجئوه إلى خلع نفسه فاعتصم بداره و اجتمع إليه نفر من أوباش بني امية يدفعون عنه ثم يرمون من دنى من الدار فانتهى الأمر إلى القتال بتدريج ثم إلى القتل و لم يكن القتال و لا القتل مقصودا في الأصل و إنما أفضى الأمر إليهما بتدريج و ترتيب و جرى ذلك مجرى ظالم غلب إنسانا على رحله و متاعه فالواجب على المغلوب أن يمانعه و يدافعه ليخلص ماله من يده و لا يقصد إلى إتلافه و لا قتله فان افضى الأمر إلى ذلك بلا قصد كان معذورا و إنما خاف القوم في التأني به و الصبر عليه إلى أن يخلع نفسه من كتبه التي طارت في الافاق يستنصر عليهم و يستقدم الجيوش إليه و لم يأمنوا أن يرد بعض من يدفع عنه فيؤدى ذلك إلى الفتنة الكبرى و البلية العظمى.

و أما منع الماء و الطعام فما فعل ذلك إلا تضيقا عليه ليخرج و يحوج إلى الخلع الواجب عليه و قد يستعمل في الشريعة مثل ذلك فيمن لجأ إلى الحرم من ذوى الجنايات فتعذر إقامة الحد عليه لمكان الحرم، على أن أمير المؤمنين عليه السلام قد أنكر منع الماء و الطعام و أنفذ من مكن من حمل ذلك لأنه قد كان في الدار من النساء و الحرم و الصبيان من لا يحل منعه الطعام و الشراب و لو كان حكم المطالبة بالخلع و التجمع عليه و التظاهر فيه حكم منع الطعام و الشراب في القبح و المنكر لأنكره أمير المؤمنين عليه السلام و منع منه كما منع من غيره فقد روى عنه عليه السلام أنه لما بلغه أن القوم قد منعوا من في الدار من الماء قال عليه السلام لا أرى ذلك في الدار صبيان و عيال لا أرى أن يقتل هؤلاء عطشا بجرم عثمان فصرح بالمعنى الذي ذكرناه و معلوم أن أمير المؤمنين عليه السلام ما أنكر المطالبة بالخلع بل كان مساعدا على ذلك مشاورا فيه.

فأما قوله «إن قتل الظالم إنما يحل على سبيل الدفع» فقد بينا أنه لا ننكر أن يكون قتله وقع على هذا الوجه لأن في تمسكه بالولاية عليهم و هو لا يستحقها في حكم الظالم لهم فمدافعته واجبة.

فأما ما قصة من قصة الكتاب الموجود فقد حرفها لأنا قد ذكرنا شرحها الذي‏ وردت به الرواية و هو بخلاف ما ذكروه.

و أما قوله «إنه قال: إن كنت أخطأت أو تعمدت فإني تائب إلى الله أستغفر» فقد أجابه القوم عن هذا فقالوا: هكذا قلت في المرة الأولى و خطبت على المنبر بالتوبة و الاستغفار ثم وجدنا كتابك بما يقتضى الإصرار على أقبح ما عتبنا منه فكيف نثق بتوبتك و استغفارك.

فأما قوله «إن القتل على وجه الغيلة لا تحل فيمن يستحق القتل فكيف فيمن لا يستحقه» فقد بينا أنه لم يكن على سبيل الغيلة و أنه لا يمتنع أن يكون إنما وقع على سبيل المدافعة.

فأما ادعائه أنه منع من نصرته و اقسم على عبيده في ترك القتال فقد كان ذلك لعمرى في ابتداء الأمر طلبا للسلامة و ظنا منه بأن الأمر يصلح و القوم يرجعون عما هم عليه و ما هموا به، فلما اشتد الأمر و وقع اليأس من الرجوع و النزوع لم يمنع أحدا من نصرته و المحاربة عنه و كيف يمنع من ذلك و قد بعث إلى أمير المؤمنين عليه السلام يستنصره و يستصرخه و الذي يدل على ذلك أنه لم يمنع في الابتداء من محاربتهم إلا للوجه الذي ذكرناه دون غيره أنه لا خلاف بين أهل الرواية في أن كتبه تفرقت في الافاق يستنصر و يستدعى الجيوش فكيف يرغب عن نصرة الحاضر من يستدعى نصرة الغائب.

فأما قوله: «إن أمير المؤمنين عليه السلام أراد أن يأتيه حتى منعه ابنه محمد» فقول بعيد مما جاءت به الرواية جدا لأنه لا اشكال في أمير المؤمنين عليه السلام لما واجهه عثمان بأنه يتهمه و يستغشه انصرف مغضبا عاملا على أنه لا يأتيه أبدا قائلا فيه ما يستحقه من الأقوال.

فأما قوله في جواب سؤال من قال إنهم اعتقدوا فيه أنه من المفسدين في الأرض و آية المحاربين تتناوله «و قد كان يجب أن يتولى الإمام ذلك الفعل بنفسه لأن ذلك يجرى مجرى الحد» فطريف لأن الإمام يتولى ما يجرى هذا المجرى إذا كان منصوبا ثابتا و لم يكن على مذهب أكثر القوم هناك إمام يقوم بالدفع عن‏

الدين و الذب عن الامة جاز أن يتولى ذلك بنفوسها و ما رأيت أعجب من ادعاء مخالفينا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله كانوا كارهين لما جرى عليه و أنهم كانوا يعتقدونه منكرا و ظلما و هذا يجرى عند من تأمله مجرى دفع الضرورة قبل النظر في الأخبار و سماع ما ورد من شرح هذه القصة لأنه معلوم أن ما يكرهه جميع الصحابة أو أكثرهم في دار عزهم و بحيث ينفذ أمرهم و نهيهم لا يجوز أن يتم و معلوم أن نفرا من أهل مصر لا يجوز أن يتم و معلوم أن نفرا من أهل مصر لا يجوز أن يقدموا المدينة و أن يغلبوا جميع المسلمين على آرائهم و يفعلوا ما يكرهونه بإمامهم بمرأى منهم و مسمع و هذا معلوم بطلانه بالبداهة و الضرورات قبل مجي‏ء الاثار و تصفح الأخبار و تأملها.

و قد روى الواقدي عن ابن أبي الزناد عن أبي جعفر القاري مولى بني مخزوم قال: كان المصريون الذين حصروا عثمان ستمائة عليهم عبد الرحمن بن عديس البلوى و كنانة بن بشير الكندي و عمرو بن الحمق الخزاعي، و الذين قدموا من الكوفة مأتين عليهم مالك بن الحرث الأشتر النخعي و الذين قدموا من البصرة مأئة رجل رئيسهم حكيم بن جبلة العبدي و كان أصحاب النبي صلى الله عليه و آله الذين خذلوه لا يرون أن الأمر يبلغ بهم إلى القتل و لعمري لو قام بعضهم فحثا التراب في وجوه اولئك لانصرفوا و هذه الرواية تضمنت من عدد القوم الوافدين في هذا الباب اكثر مما تضمنه غيرها.

و روى شعبة بن الحجاج عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن قال: قلت له:

كيف لم يمنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله عن عثمان؟ قال: إنما قتله أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله. و روى عن أبي سعيد الخدري أنه سئل عن مقتل عثمان هل شهده واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله؟ قال: نعم شهده ثمانمائة، و كيف يقال: إن القوم كانوا كارهين و هؤلاء المصريون كانوا يغدون إلى كل واحد منهم و يروحون و يشاورونه فيما يصنعونه، و هذا عبد الرحمن بن عوف و هو عاقد الأمر لعثمان و جالبه إليه و مصيره في يده يقول على ما رواه الواقدي و قد ذكر له عثمان في مرضه الذي مات فيه عاجلوه قبل أن يتمادى في ملكه فبلغ عثمان ذلك فبعث إلى بئر كان يسقى منها

نعم عبد الرحمن فمنع منها و وصي عبد الرحمن أن لا يصلى عليه عثمان فصلى عليه الزبير أو سعد بن أبي وقاص و قد كان حلف لما تتابعت أحداثه ألا يكلم عثمان أبدا.

و روى الواقدي قال: لما توفى أبو ذر بالربذة تذاكر أمير المؤمنين عليه السلام و عبد الرحمن فعل عثمان فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: هذا عملك فقال له عبد الرحمن فإذا شئت فخذ سيفك و آخذ سيفى انه خالف ما أعطاني.

فأما محمد بن مسلمة فانه أرسل إليه عثمان يقول له عند قدوم المصريين في الدفعة الثانية: اردد عني فقال: لا و الله لا أكذب الله في سنة مرتين، و إنما عني بذلك أنه كان أحد من كلم المصريين في الدفعة الأولى و ضمن لهم عن عثمان الرضا و في رواية الواقدي أن محمد بن مسلمة كان يؤتى و عثمان محصور، فيقال له:

عثمان مقتول فيقول: هو قتل نفسه فأما كلام أمير المؤمنين عليه السلام طلحة و الزبير و عائشة و جميع الصحابة واحدا و احدا فلو تعاطينا ذكره لطال به الشرح و من أراد أن يقف على أقوالهم مفصلة و ما صرحوا به من خلعه و الإجلاب عليه فعليه بكتاب الواقدي فقد ذكر هو و غيره من ذلك ما لا زيادة عليه في هذا الباب.

«اعتراض القاضى عبد الجبار في المغنى على الطاعنين» «على عثمان بأحداثه»

نقل عنه الشريف المرتضى علم الهدى في الشافي انه قال: و نحن نقدم قبل الجواب عن هذه المطاعن مقدمات تبين بطلانها على الجملة ثم نتكلم على تفصيلها.

حكى عن أبي علي أن ذلك لو كان صحيحا لوجب من الوقت الذي ظهر ذلك من حاله أن يطلبوا رجلا ينصب للإمامة و أن يكون ظهور ذلك كموته لأنه لا خلاف أنه متى ظهر من الإمام ما يوجب خلعه أن الواجب على المسلمين إقامة إمام سواه فلما علمنا أن طلبهم لإقامة إمام كان بعد قتله و لم يكن من قبل و التمكن قائم فذلك من أدل الدلالة على بطلان ما أضافوه إليه من الأحداث.

قال: و ليس لأحد أن يقول لم يتمكنوا من ذلك لأن المتعالم من حالهم‏ و قد حصروه و منعوه التمكن من ذلك خصوصا و هم يدعون أن الجميع كانوا على حول واحد في خلعه و البراءة منه. قال: و معلوم من حال هذه الأحداث أنها لم تحصل أجمع في الأيام التي حوصر فيها و قتل بل كانت تحصل من قبل حالا بعد حال فلو كان ذلك يوجب الخلع و البراءة لما تأخر من المسلمين الإنكار عليه و لكان كبار الصحابة المقيمين بالمدينة أولى بذلك من الواردين من البلاد لأن أهل العلم و الفضل بالنكير في ذلك أحق من غيرهم. قال: فقد كان يجب على طريقتهم أن تحصل البراءة و الخلع من أول يوم حدث فيه منه ما حدث و لا ينتظر حصول غيره من الأحداث لأنه لو وجب انتظار ذلك لم ينته إلى حد إلا و ينتظر غيره.

ثم ذكر أن امساكهم عن ذلك إذا تيقنوا الأحداث منه يوجب نسبة الخطاء إلى جميعهم و الضلال فلا يجوز ذلك. و قال: و لا يمكنهم أن يقولوا إن علمهم بذلك حصل في الوقت الذي منع لأن في جملة الأحداث التي يذكرونها ما تقدم هذه الحال بل كلها أو جلها تقدم هذا الوقت و إنما يمكنهم أن يتعلقوا فيما حدث في الوقت بما يذكرون من حديث الكتاب النافذ إلى ابن أبي سرح بالقتل و ما أوجب كون ذلك حدثا يوجب كون غيره حدثا فكان يجب أن يفعلوا ذلك من قبل و احتمال المتقدم للتأويل كاحتمال المتأخر و بعد فليس يخلو من أن يدعوا أن طلب الخلع وقع من كل الأمة أو من بعضهم فإن ادعوا ذلك في بعض الأمة فقد علمنا أن الإمامة إذا ثبتت بالإجماع لم يجز إبطالها بالخلاف لأن الخطاء جائز على بعض الأمة و إن ادعوا في ذلك الإجماع لم يصح لأن من جملة الإجماع عثمان و من كان ينصره و لا يمكن إخراجه من الإجماع بأنه يقال إنه كان على باطل لأن بالإجماع يتوصل إلى ذلك و لما يثبت. قال: على أن الظاهر من حال الصحابة أنها كانت بين فريقين اما من ينصره فقد روى عن زيد بن ثابت أنه قال لعثمان و من معه الأنصار ائذن لنا ننصرك. و روى مثل ذلك عن ابن عمر و أبي هريرة و المغيرة بن شعبة و الباقون يمتنعون انتظار الزوال العارض لا لأنه لو ضيق عليهم الأمر في الدفع ما فعلوا بل المتعالم من حالهم ذلك.

ثم ذكر ما روى من انفاذ أمير المؤمنين الحسن و الحسين إليه و انه لما قتل لامهما على وصول القول إليه ظنا منه بأنهما قصرا. و ذكر أن أصحاب الحديث يروون عن النبي صلى الله عليه و آله أنه قال: ستكون فتنة و اختلاف و أن عثمان و أصحابه يومئذ على الهدى و ما روى عن عائشة من قولها قتل و الله مظلوما. قال و لا يمتنع أن يتعلق بأخبار آحاد في ذلك لأنه ليس هناك أمر ظاهر يدفعه نحو دعواهم أن جميع الصحابة كانوا عليه لأن ذلك دعوى منهم و إن كان فيه رواية فمن الاحاد و إذا تعارضت الروايات سقطت و وجب الرجوع إلى أمر ثابت و هو ما ثبت من أحواله السليمة و وجوب توليه.

قال: و ليس يجوز أن يعدل عن تعظيمه و صحة إمامته بامور محتملة فلا شي‏ء مما ذكروه إلا و يحتمل الوجه الذى هو صحيح.

ثم ذكر أن للإمام أن يجتهد رأيه في الأمور المنوطة به و يعمل فيها على غالب ظنه و قد يكون مصيبا و إن أفضت إلى عاقبة مذمومة و أكد ذلك و أطنب فيه.

«اعتراض علم الهدى على هذه الكلمات»

اعترض عليه في الشافي بقوله: فاما ما حكاه عن أبي علي من قوله «لو كان ما ذكروه من الأحداث قادحا لوجب من الوقت الذى ظهرت فيه أن يطلبوا رجلا ينصبونه في الإمامة لأن ظهور الحدث كموته قال فلما رأيناهم طلبوا إماما بعد قتله دل على بطلان ما أضافوه إليه من الأحداث» فليس ذلك بشي‏ء معتمد لأن تلك الأحداث و إن كان مزيلة عندكم لامامته و فاسخة لها و مقتضية لأن يعقدوا لغيره الإمامة فانهم لم يقدموا على نصب غيره مع تشبثه خوفا من الفتنة و التنازع و التجاذب و أرادوا أن يخلع نفسه حتى تزول الشبهة و ينشط من يصلح للإمامة لقبول العقد و التكفل بالأمر و ليس يجرى ذلك مجرى موته لأن موته يحسم الطمع في استمرار ولايته و لا يبقى شبهة في خلو الزمان من إمام، و ليس كذلك حدثه الذي يسوغ فيه التأويل على بعده و يبقى معه الشبهة في استمرار أمره و ليس نقول: إنهم لم يتمكنوا من ذلك‏ كما سأل نفسه بل الوجه في عدولهم ما ذكرناه من ارادتهم لحسم المواد و إزالة الشبهة و قطع أسباب الفتنة.

فأما قوله «إنه معلوم من هذه الأحداث أنها لم تحصل أجمع في الأيام التي حصر فيها و قتل بل كانت تقع حالا بعد حال فلو كانت توجب الخلع و البراءة لما تأخر من المسلمين الإنكار عليه و لكان المقيمون بالمدينة من الصحابة أولى بذلك من الواردين من البلاد» فلا شك أن الأحداث لم تحصل في وقت واحد إلا أنه غير منكر أن يكون نكيرهم إنما تأخر لأنهم تأولوا ما ورد عليهم من أفعاله على أجمل الوجوه حتى زاد الأمر و تفاقم و بعد التأويل و تعذر التخريج لم يبق للظن الجميل طريق فحينئذ أنكروا و هذا مستمر على ما قدمنا ذكره من أن العدالة و الطريقة الجميلة تتأول في الفعل و الأفعال القليلة بحسب ما تقدم من حسن الظن به ثم ينتهى الأمر بعد ذلك إلى بعد التأويل و العمل على الظاهر القبيح.

على أن الوجه الصحيح في هذا الباب أن أهل الحق كانوا معتقدين لخلعه من أول حدث بل معتقدين لأن إمامته لم تثبت وقتا من الأوقات و إنما منعهم من اظهار ما في نفوسهم ما قدمناه من أسباب الخوف و التقية و لأن الاغترار بالرجل كان عاما فلما تبين أمره حالا بعد حال و اعرضت الوجوه عنه و قل العاذلة قويت الكلمة في عزله و هذا إنما كان في آخر الأمر دون أوله فليس يقتضي الامساك إلى الوقت الذي وقع الكلام فيه نسبة الخطاء إلى الجميع على ما ظنه.

فأما دفعه أن يكون الأمة أجمعت على خلعه باخراجه نفسه و خروج من كان في حيزه عن القوم» فليس بشي‏ء لأنه إذا ثبت أن من عداه و عدا عبيده و الرهط من فجار أهله و فساقهم كمروان و من جرى مجراه كانوا مجمعين على خلعه فلا شبهة أن الحق في غير حيزه لأنه لا يجوز أن يكون هو المصيب و جميع الأمة مبطل و إنما يدعى أنه على الحق من تنازع في إجماع من عداه فأما مع تسليم ذلك فليس يبقى شبهة و ما نجد مخالفينا يعتبرون في باب الإجماع الشذاذ عنه و النفر القليل الخارجين منه ألا ترى أنهم لا يحلفون بخلاف سعد و ولده و أهله في بيعة أبي بكر لقلتهم‏ و كثرة من بازائهم و كذلك لا يعتدون بخلاف من امتنع من بيعة أمير المؤمنين عليه السلام و يجعلونه شاذا لا تأثير له فكيف فارقوا هذه الطريقة في خلع عثمان و هل هذا إلا تقلب و تلون.

فأما قوله «إن الصحابة بين فريقين اما من ينصره كزيد بن ثابت و ابن عمر و فلان و فلان و الباقون ممتنعون انتظار الزوال العارض و لأنه ما ضيق عليهم الأمر في الدفع عنه» فعجيب لأن الظاهر أن انصاره هم الذين كانوا معه في الدار يقاتلون عنه و يدفعون الهاجمين عليه فقط، فأما من كان في منزله ما أغنى عنه فتيلا لا يعد ناصرا و كيف يجوز ممن أراد نصرته و كان معتقدا لصوابه و خطاء الطالبين لخلعه أن يتوقف عن النصرة طلبا لزوال العارض و هل يراد النصرة إلا لدفع العارض و بعد زواله لا حاجة إليها و ليس يحتاج في نصرته إلى أن يضيق هو عليهم الأمر فيها بل من كان معتقدا لها لا يحتاج حمله إلى إذنه فيها و لا يحفل بنهيه عنها لأن المنكر مما قد تقدم أمر الله تعالى فيه بالنهى عنه فليس يحتاج في إنكاره إلى أمر غيره.

فأما زيد بن ثابت فقد روى ميله إلى عثمان فما نعنى ذلك و بازائه جميع الأنصار و المهاجرين و لميله إليه سبب معروف قد روته الرواة فان الواقدي قد روى في كتاب الدار أن مروان بن الحكم لما حصر عثمان الحصر الأخير جاء إلى زيد بن ثابت فاستصحبه إلى عائشة ليكلمها في هذا الأمر فمضيا إليها و هي عازمة إلى الحج فكلماها في أن تقيم و تذب عنه فأقبلت على زيد بن ثابت فقالت: و ما منعك يا ابن ثابت و لك الاساويف قد قطعها لك عثمان و لك كذا و كذا و أعطاك من بيت المال زها عشرة ألف دينار؟ قال زيد: فلم أرجع عليها حرفا واحدا.

قال: و أشارت إلى مروان بالقيام فقام مروان و هو يقول متمثلا حرق قيس على البلاد حتى إذا اضطرمت أجد ما، فنادته عايشة و قد خرج من العتبة:يا ابن الحكم أعلى تمثل الاشعار؟ قد و الله سمعت ما قلت، أ تراني في شك من صاحبك؟ و الذي نفسي بيده لوددت أنه الان في غرارة من غرائري مخيطة عليها فألقيها في البحر الأخضر، قال زيد: فخرجنا من عندها على الناس.

و روى الواقدي: أن زيد بن ثابت اجتمع عليه عصبة من الأنصار و هو يدعوهم إلى نصر عثمان فوقف عليه جبلة بن عمرو بن حية المازني فقال له جبلة: ما يمنعك يا زيد أن تذب عنه أعطاك عشرة ألف دينار و أعطاك حدائق من نخل ما لم ترث من أبيك مثل حديقة منها.

فأما ابن عمر فان الواقدي أيضا روى عن ابن عمر أنه قال: و الله ما كان منا إلا خاذل أو قاتل و الأمر في هذا أوضح من أن يخفى.

فأما ذكره إنفاذ أمير المؤمنين عليه السلام الحسن و الحسين» فانما أنفذهما إن كان أنفذهما ليمنعان من انتهاك حريمه و تعمد قتله و منع حرمه و نسائه من الطعام و الشراب و لم ينفذهما ليمنعا من مطالبته بالخلع كيف و هو مصرح بأنه بأحداثه مستحق للخلع و القوم الذين سعوا في ذلك إليه كانوا يغدون و يروحون إليه و معلوم منه ضرورة أنه كان مساعدا على خلعه و نقض أمره لا سيما في المرة الأخيرة.

فأما ادعائه أنه لعن قتلته فهو يعلم ما في هذا من الروايات المختلفة التي هي أظهر من هذه الرواية و إن صحت فيجوز أن يكون محمولة على لعن من قتله متعمدا لقتله قاصدا إليه فإن ذلك لم يكن لهم.

فأما ادعائه أن طلحة رجع لما ناشده عثمان يوم الدار فظاهر البطلان و غير معروف في الرواية و الظاهر المعروف أنه لم يكن على عثمان أشد من طلحة يوم الدار و لا أغلظ و لو حكينا من كلامه فيه ما قد روى لافنينا قطعة كبيرة من هذا الكتاب.

و قد روى: أن عثمان كان يقول يوم الدار: اللهم اكفني طلحة و يكرر ذلك علما منه بأنه أشد القوم عليه.

و روى أن طلحة كان عليه يوم الدار درع و هو يرامي الناس و لم ينزع عن القتال حتى قتل الرجل.

فأما ادعائه من الرواية «عن النبي صلى الله عليه و آله أنه ستكون فتنة و أن عثمان و أصحابه‏

يومئذ على الهدى» فهو يعلم أن هذه الرواية الشاذة لا يكون في مقابلة المعلوم ضرورة من إجماع الأمة على خلعه و خذله و كلام وجوه المهاجرين و الأنصار فيه و بإزاء هذه الرواية مما يملأ الطروس عن النبي صلى الله عليه و آله و غيره مما يتضمن ضد ما تضمنته و لو كانت هذه الرواية معروفة لكان عثمان أولى الناس بالاحتجاج بها يوم الدار و قد احتج عليهم بكل غث و سمين، و قبل ذلك لما خوصم و طولب بأن يخلع نفسه، و لاحتج عنه بعض أصحابه و أنصاره و في علمنا بأن شيئا من ذلك لم يكن دلالة على أنها مصنوعة.

فأما ما رواه عن عائشة من قولها: «قتل و الله مظلوما» فأقوال عايشة فيه معروفة معلومة و إخراجها قميص رسول الله صلى الله عليه و آله و هى تقول: هذا قميصه لم يبل و قد بليت سنته و غير ذلك مما لا يحصى كثرة.

فأما مدحها و ثناؤها عليه فانما كان عقيب علمها بانتقال الأمر إلى أمير المؤمنين عليه السلام و السبب فيه معروف و قد وقفت عليه و قوبل بين كلامها فيه متقدما و متأخرا.

فأما قوله: «لا يمتنع أن يتعلق بأخبار الاحاد في ذلك لأنها في مقابلة ما يدعونه مما طريقه أيضا الاحاد» فواضح البطلان لأن إطباق الصحابة و أهل المدينة إلا من كان في الدار معه على خلافه و أنهم كانوا بين مجاهد و مقاتل مبارز و بين خاذل متقاعد معلوم ضرورة لكل من سمع الأخبار و كيف يدعى أنها من جملة الاحاد حتى يعارض بأخبار شاذة نادرة و هل هذا إلا مكابرة ظاهرة؟

فأما قوله: «إنا لا نعدل عن ولايته بامور محتملة» فقد مضى الكلام في هذا المعنى و قلنا ان المحتمل هو ما لا ظاهر له و الذي يتجاذ به الأمور المختلفة فأما ما له ظاهر فلا يسمى محتملا و إن سماه بهذه التسمية فقد بينا أنه مما يعدل من أجله عن الولاية و فصلنا ذلك تفصيلا بينا.

فأما قوله «إن للإمام أن يجتهد رأيه في الأمور المنوطة به و يكون مصيبا و إن أفضت إلى عاقبة مذمومة» فأول ما فيه أنه ليس للإمام و لا غيره أن يجتهد في الأحكام و لا يجوز العمل فيها إلا على النصوص. ثم إذا سلمنا الاجتهاد فلا شك أن‏ ههنا امورا لا يسوغ فيها الاجتهاد حتى يكون من خبرنا عنه بأنه اجتهد فيها غير مصدق و تفصيل هذه الجملة يبين عند الكلام على ما تعاطاه من الأعذار في أحداثه.

أقول: من نظر في فعل كبار الصحابة من المهاجرين و الأنصار بعثمان أنهم حصروه أربعين ليلة و منعوه من الماء و خذلوه حتى قتل و قد كان يمكنهم الدفع عنه على أنهم أعانوا قاتليه بل شهد قتله ثمانمائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله و تركوه بعد القتل ثلاثة أيام و لم يدفنوه حتى قام ثلاثة نفر من بني امية فأخذوه بالليل سرقة و دفنوه لكيلا يعلم بهم أحد و دفنوه في حش كوكب مقبر يهود يدل على عظم أحداثه و كبر معاصيه و الحق كما قال محمد بن مسلمة برواية الواقدي المتقدمة إن عثمان قتل نفسه، على أن خاذليه كانوا خيرا من ناصريه لأن الذين نصره كان أكثرهم فساقا كمروان بن الحكم و أضرابه و خذله المهاجرون و الأنصار، و كفى في المقام إعراض أمير المؤمنين علي عليه السلام عن نصرته آخر الأمر مع قدرته على ذلك و قوله عليه السلام الله قتله. على أنه عليه السلام نصحه و نصره غير مرة و ما أراد عثمان منه عليه السلام نصحا و إلا لتاب من قوادحه حقيقة و لما خدع الناس مرة بعد مرة، و من تتبع كتب السير و التواريخ و سمع مقالات كبار الصحابة و عظماء القوم في عثمان و توبته ظاهرا من أحداثه دفعة ثم نقضه التوبة و فعله ما فعل دفعة اخرى درى أن عثمان اتخذ دين الله لعبا و بيت المال طعما له و لبني امية و أتباعه و ذوي رحمه ممن سمعت شناعة حالهم و بشاعة أمرهم، و أن أجوبة القاضي عبد الجبار و اشياعه الواهية ناشئة من التعصب، و أن أمير المؤمنين عليا عليه السلام كان معتزلا للفتنة بقتل عثمان و أنه بعد عن منزله في المدينة لأن لا تتطرق عليه الظنون برغبته في البيعة بالأمر على الناس و أن الصحابة لما كان من أمر عثمان ما كان التمسوه و بحثوا عن مكانه حتى وجدوه فصاروا إليه و سألوه القيام بالأمة. و نص أبو جعفر الطبري في التاريخ انه لما حصر عثمان كان علي عليه السلام بخيبر و أن معاوية و أهل البصرة اتهموا عليا عليه السلام بدم عثمان اتباعا لتسويلات شيطانية و أن اسناد دم عثمان إليه عليه السلام تهمة و بهتان‏ ليس إلا و هذه التهمة كفران النعمة و قلة الشكر لأن أمير المؤمنين عليه السلام نصر عثمان من بدو الأمر لما استنصره غير مرة و لقد مضى قوله عليه السلام في الكلام 238 من المختار في باب الخطب: و الله لقد دفعت عنه (يعني عن عثمان) حتى خشيت أن أكون آثما، و لعمري أن أمير المؤمنين عليه السلام أشار على عثمان بامور كان صلاحه فيها و لو قبلها لم يحدث عليه ما حدث فلما رأى عليه السلام أفعاله و أقواله كما سمعت خرج من عنده مغضبا تركه مخذولا حتى ذاق ما ذاق.

ثم ليعلم أن طلحة و الزبير و عائشة فيما صنعوه في أيام عثمان من أوكد أسباب ما تم عليه من الخلع و الحصر و سفك الدم و الفساد و ذلك ظاهر بين لذوى العقول السليمة من آفة التعصب و التقليد و سيتضح أشد ايضاح في شرح الكتب الاتية.

و اعلم أنه ليس غرضنا من ذكر أحداث عثمان و ما نقم الناس منه إبطالا لامامته بعد ظهورها منه فان هذا البحث انما يختص بمن قال بإمامته قبل أحداثه و رجع عنها عند وقوع أحداثه و هم الخوارج و من وافقهم و أما عندنا معاشر الإمامية لم يثبت إمامة الرجل و أشباهه وقتا من الأوقات لما قدمنا في شرح الخطبة 237 ان الإمامة عندنا رئاسة إلهية و الله تعالى أعلم حيث يجعلها و أن الإمام يجب أن يكون منصوبا و منصوصا من الله تعالى و معصوما من جميع الذنوب و منزها من العيوب مطلقا و أنها عهد الله لا ينال الظالمين فالحري بنا أن نعود إلى الشرح:

قول الرضي رضى الله عنه: «و من كتاب له عليه السلام إلى أهل الكوفة عند مسيره إليهم من المدينة إلى البصرة» أقول: إنما كان مسيره عليه السلام إلى البصرة لقتال أصحاب الجمل فيليق أن نذكر ما كان سبب ذلك القتال و علة وقوعه في البصرة على الاجمال ليكون القاري على بصيرة. و اعلم ان الناس بعد قتل عثمان أتوا أمير المؤمنين عليا عليه السلام منزله فقالوا إن هذا الرجل قد قتل و لابد للناس من إمام و لا يصلح لامامة المسلمين سواك و لا نجد اليوم أحدا أحق بهذا الأمر منك لا أقدم سابقة و لا أقرب من رسول الله صلى الله عليه و آله فقال عليه السلام: لا حاجة لي في أمركم أنا معكم فمن اخترتم فقد رضيت به فإني أكون وزيرا خير من أن أكون أميرا، فاختاروا فقالوا: و الله ما نختار غيرك. فلما انصرفوا عنه عليه السلام كلم بعضهم بعضا فقالوا: يمضى قتل عثمان في البلاد فيسمعون بقتله و لا يسمعون أنه بويع لأحد بعده فيثور كل رجل منهم في ناحية فلا نأمن أن يكون في ذلك الفساد فلنرجع إلى علي عليه السلام فلا نتركه حتى يبايع فيطمئن الناس و يسكنون.

فاختلفوا إليه عليه السلام مرارا ثم أتوه في آخر ذلك فقالوا له: إنه لا يصلح الناس إلا بامرة و قد طال الأمر فو الله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك فقال عليه السلام:ففي المسجد فإن بيعتي لا تكون خفية و لا تكون إلا عن رضا المسلمين، قال عبد الله بن عباس: فلقد كرهت أن يأتي المسجد مخافة أن يشغب عليه و أبي هو إلا المسجد فلما دخل دخل المهاجرون و الأنصار فبايعوه.

أقول: و لقد مضى في الخطبة الواحدة و التسعين قوله عليه السلام للناس- لما اريد على البيعة بعد قتل عثمان-: دعونى و التمسوا غيرى فإنا مستقبلون أمرا له وجوه و ألوان لا تقوم له القلوب و لا تثبت عليه العقول و إن الافاق قد أغامت و المحجة قد تنكرت و اعلموا أنى إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم و لم اصغ إلى قول القائل و عتب العاتب و إن تركتمونى فأنا كأحدكم و لعلي أسمعكم و أطوعكم لمن وليتموه أمركم و أنا لكم وزيرا خير لكم مني أميرا. و رواه أبو جعفر الطبري في التاريخ أيضا مسندا (ص 256 ج 3 طبع مصر 1357 ه).

«بيعة طلحة و الزبير عليا (ع) و انهما أول من بايعه (ع)»

قال الشيخ المفيد في الجمل: روي أبو إسحاق بن إبراهيم بن محمد الثقفي عن عثمان بن أبي شيبة عن إدريس عن محمد بن عجلان عن زيد بن أسلم قال: جاء طلحة و الزبير إلى علي عليه السلام و هو متعوذ بحيطان المدينة فدخلا عليه و قالا ابسط يدك نبايعك فإن الناس لا يرضون إلا بك فقال لهما: لا حاجة لي في ذلك و أن أكون لكما وزيرا خير من أن أكون لكما أميرا فليبسط قرشى منكما يده ابايعه. فقالا إن الناس لا يؤثرون غيرك و لا يعدلون عنك إلى سواك فابسط يدك نبايعك أول الناس فقال: إن بيعتي لا تكون سرا فامهلا حتى أخرج إلى المسجد. فقالا: بل نبايعك ههنا ثم نبايعك في المسجد فبايعاه أول الناس ثم بايعه الناس على المنبر أولهم طلحة بن عبيد الله و كانت يده شلاء فصعد المنبر إليه فصفق على يده و رجل من بني أسد يزجر الطير قائم ينظر إليه فلما رأى أول يد صفقت على يد أمير المؤمنين عليه السلام يد طلحة و هي شلاء قال: إنا لله و إنا إليه راجعون أول يد صفقت على يده شلاء يوشك أن لا يتم هذا الأمر ثم نزل طلحة و الزبير و بايعه الناس بعدهما.

قال أبو جعفر الطبري في التاريخ: لما قتل عثمان خرج على عليه السلام إلى السوق و ذلك يوم السبت لثماني عشرة ليلة خلت من ذي الحجة فاتبعه الناس و بهشوا في وجهه فدخل حائط بنى عمرو بن مبذول و قال لأبي عمرة بن عمرو بن محصن أغلق الباب فجاء الناس فقرعوا الباب فدخلوا فيهم طلحة و الزبير فقالا: يا علي ابسط يدك فبايعه طلحة و الزبير فنظر حبيب بن ذؤيب إلى طلحة حين بايع فقال: أول من بدأ بالبيعة يد شلاء لا يتم هذا الأمر و خرج علي إلى المسجد فصعد المنبر و عليه إزار و طاق و عمامة خز و نعلاه في يده متوكئا على قوس فبايعه الناس.

و قال الطبري في نقل آخر: لما اختلف الناس إليه عليه السلام مرارا للبيعة فقال عليه السلام لهم: إنكم قد اختلفتم إلى و أتيتم و إني قائل لكم قولا إن قبلتموه قبلت أمركم و إلا فلا حاجة لي فيه؟ قالوا: ما قلت من شي‏ء قبلناه إن شاء الله فجاء فصعد المنبر فاجتمع الناس إليه فقال: إني كنت كارها لأمركم فأبيتم إلا أن أكون عليكم ألا و إنه ليس لي أمر دونكم إلا أن مفاتيح مالكم معى ألا و إنه ليس لي أن آخذ منه درهما دونكم رضيتم؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد عليهم ثم بايعهم على ذلك إلا نفيرا يسيرا كانوا عثمانية منهم حسان بن ثابت و كعب بن مالك و مسلمة بن مخلد و أبو سعيد الخدرى و محمد بن مسلمة و النعمان بن بشير و زيد ابن ثابت و رافع بن خديج و فضالة بن عبيد و كعب بن عجرة. قال: فقال رجل لعبد الله بن حسن كيف أبى هؤلاء بيعة علي عليه السلام و كانوا عثمانية؟ قال: أما حسان‏ فكان شاعرا لا يبالي ما يصنع و أما زيد بن ثابت فولاه عثمان الديوان و بيت المال فلما حصر عثمان قال: يا معشر الأنصار كونوا أنصار الله مرتين فقال أبو أيوب:ما تنصره إلا أنه أكثر لك من العضدان، فأما كعب بن مالك فاستعمله على صدقة مزنية و ترك ما أخذ منهم له.

و في نقل آخر فيه: بايع الناس عليا عليه السلام بالمدينة و تربص سبعة نفر فلم يبايعوه منهم سعد بن أبي وقاص و عبد الله بن عمر و صهيب و زيد بن ثابت و محمد بن مسلمة و سلمة بن وقش و اسامة بن زيد و لم يتخلف أحد من الأنصار إلا بايع.

و في الإمامة و السياسة أن عمار بن ياسر استأذن عليا عليه السلام أن يكلم عبد الله ابن عمر و محمد بن مسلمة و سعد بن أبي وقاص في بيعتهم عليا عليه السلام فأبوا- و بعد نقل مكالمة عمار لكل واحد منهم قال-: فانصرف عمار إلى علي عليه السلام فقال له على عليه السلام: دع هؤلاء الرهط اما ابن عمر فضعيف، و اما سعد فحسود، و ذنبى إلى محمد ابن مسلمة انى قتلت اخاه يوم خيبر: مرحب اليهودى.

«كلامه (ع) لما تخلف هؤلاء عن بيعته»

في الارشاد للمفيد قدس سره: و من كلامه عليه السلام حين تخلف عن بيعته عبد الله ابن عمر بن الخطاب و سعد بن أبى وقاص و محمد بن مسلمة و حسان بن ثابت و اسامة ابن زيد، ما رواه الشعبى قال: لما اعتزل سعد و من سميناه أمير المؤمنين عليه السلام و توقفوا عن بيعته حمد الله و اثنى عليه ثم قال: ايها الناس إنكم بايعتمونى على ما بويع عليه من كان قبلى و إنما الخيار للناس قبل أن يبايعوا فإذا بايعوا فلا خيار لهم و إن على الإمام الاستقامة و على الرعية التسليم و هذه بيعة عامة من رغب عنها رغب عن دين الإسلام و اتبع غير سبيل أهله و لم تكن بيعتكم إياى فلتة و ليس أمري و أمركم واحد و إني اريدكم لله و أنتم تريدونني لأنفسكم و أيم الله لأنصحن للخصم و لأنصفن للمظلوم و قد بلغني عن سعد و ابن مسلمة و اسامة و عبد الله و حسان بن ثابت امور كرهتها و الحق بيني و بينهم.

أقول: أتى بكلامه هذا الشريف الرضي في النهج. و لكن لم يفسر هو و لا أحد من الشراح الذين نعرفهم سببه كما فسره المفيد على أن بينهما تفاوتا في الكيف و الكم فانه نقل هكذا: و من كلامه عليه السلام: لم تكن بيعتكم إياى فلتة و ليس أمري و أمركم واحدا إني اريدكم لله و أنتم تريدونني لأنفسكم أيها الناس أعينوني على انفسكم و أيم الله لأنصفن المظلوم من ظالمه و لأقودن الظالم بخزامته حتى اورده منهل الحق و إن كان كارها (الكلام 136 من باب الخطب).

و في كتاب الجمل للشيخ الأجل المفيد قدس سره: انه روى أبو مخنف لوط بن يحيى عن محمد بن عبد الله بن سوادة و طلحة بن الأعلم و أبي عثمان اجمع قالوا: بقيت المدينة بعد قتل عثمان خمسة أيام و أميرها الواقض بن حرب و الناس يلتمسون من يجيبهم لهذا الأمر فلا يجدون فيأتون المصريون عليا عليه السلام فيختبئ عنهم و يلوذ بحيطان المدينة فاذا لقوه يأبى عليهم.

قال: و روى إسحاق بن راشد عن الحميد بن عبد الرحمن عن ابن أثري قال: ألا احدثك بما رأت عيناى و سمعت اذناى لما التقى الناس عند بيت المال قال علي عليه السلام لطلحة: ابسط يدك ابايعك فقال طلحة: أنت أحق بهذا الأمر منى و قد اجتمع لك من هؤلاء الناس ما لم يجتمع لي، فقال علي عليه السلام: ما خشيناك غيرك فقال طلحة: لا تخش فو الله لا تؤتي من قبلي، و قام عمار بن ياسر و الهيثم بن التيهان و رفاعة بن أبي رافع و مالك بن عجلان و أبو أيوب خالد بن زيد فقالوا لعلي عليه السلام إن هذا الأمر قد فسد و قد رأيت ما صنع عثمان و ما أتاه من خلاف الكتاب و السنة فابسط يدك لنبايعك لتصلح من أمر الأمة ما قد فسد، فاستقال علي عليه السلام و قال: قد رأيتم ما صنع بي و عرفتم رأى القوم فلا حاجة لي فيهم فاقبلوا على الأنصار و قالوا يا معشر الأنصار أنتم أنصار الله و أنصار رسوله و برسوله أكرمكم الله و قد علمتم فضل علي و سابقته في الإسلام و قرابته و مكانته من النبي صلى الله عليه و آله و إن ولي ينالكم خيرا.

فقال القوم: نحن أرضى الناس به ما نريد به بدلا ثم اجتمعوا عليه و ما يزالوابه حتى بايعوه.

و باسناده عن ابن أبي الهيثم بن التيهان قال: يا معشر الأنصار و قد عرفتم رأيى و نصيحتى و مكانى من رسول الله صلى الله عليه و آله و اختياره إياى فردوا هذا الأمر إلى أقدمكم إسلاما و أولاكم برسول الله صلى الله عليه و آله لعل الله أن يجمع به الفتكم و يحقن به دماءكم فأجابه القوم بالسمع و الطاعة.

و روى سيف عن رجاله قال: اجتمع الناس إلى علي عليه السلام و سألوه أن ينظر في امورهم و بذلوا له البيعة فقال لهم: التمسوا غيري، فقالوا له: ننشدك الله أما ترى الفتنة ألا تخاف الله في ضياع هذه الأمة فلما ألحوا عليه قال لهم: إنى لو أجبتكم حملتكم على ما أعلم و إن تركتموني كنت لأحدكم «كأحدكم ظ».

قالوا: قد رضينا بحلمك «بحملك ط» و ما فينا مخالف لك فاحملنا على ما تراه ثم بايعه الجماعة.

أقول: إن أمير المؤمنين عليه السلام كره إجابة القوم على الفور و البدار لعلمه بعاقبة الأمور و إقدام القوم على الخلاف عليه و للظاهرة له و الشنان و القوم ألحوا فيما دعوه إليه و لم يمنعهم إبائه عليه السلام من الإجابة عن الالحاح فيما أرادوا و اذكروه بالله عز و جل و قالوا له إنه لا يصلح لامامة المسلمين سواك و لا نجد أحدا يقوم بهذا الأمر غيرك يصلح امور الدين و يقوم لحياطة الاسلام و المسلمين فبايعوه عليه السلام على السمع و الطاعة.

«أول خطبة خطبها أمير المؤمنين عليه السلام بعد ما بويع له بالخلافة» «و اختلاف الأقوال فيه و التوفيق بينهما على التحقيق»

قال أبو جعفر الطبري في التاريخ (ص 457 ج 3 طبع مصر 1357 ه):

بويع علي عليه السلام يوم الجمعة لخمس بقبن من ذي الحجة فأول خطبة خطبها على عليه السلام حين استخلف فيما كتب به إلى السرى عن شعيب عن سيف عن سليمان بن أبى المغيرة عن على بن الحسين: حمد الله و أثنى عليه فقال: إن الله عز و جل أنزل كتابا هاديا

بين فيه الخير و الشر فخذوا بالخير و دعوا الشر، الفرائض أدوها إلى الله سبحانه يؤدكم إلى الجنة، إن الله حرم حرما غير مجهولة و فضل حرمة المسلم على الحرم كلها و شد بالإخلاص و التوحيد المسلمين و المسلم من سلم الناس من لسانه و يده إلا بالحق لا يحل أذى المسلم إلا بما يجب بادروا أمر العامة و خاصة أحدكم الموت فإن الناس أمامكم و إن ما من خلفكم الساعة تحدوكم تخففوا تلحقوا فانما ينتظر الناس أخراهم اتقوا الله عباده في عباده و بلاده إنكم مسؤلون حتى عن البقاع و البهائم أطيعوا الله عز و جل و لا تعصوه و إذا رأيتم الخير فخذوا به و إذا رأيتم الشر فدعوه و اذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض.

أقول: أتى بهذه الخطبة الرضي رضي الله عنه في النهج و بين النسختين تفاوت في بعض العبارات فارجع إلى الخطبة 166 من النهج أولها: إن الله سبحانه أنزل كتابا هاديا بين فيه الخير و الشر فخذوا نهج الخير تهتدوا و اصدفوا عن سمت الشر تقصدوا- إلى آخرها.

ثم الظاهر أن الخطبة 21 من النهج و هي قوله عليه السلام «فإن الغاية أمامكم و إن ورائكم الساعة تحدوكم تخففوا تلحقوا فانما ينتظر بأولكم آخركم» التي جعلها الرضى خطبة بحيالها جزء من تلك الخطبة و الاختلاف بين الخطبتين في النهج في كلمة واحدة فقط لأنها في الخطبة 21 تكون «فان الغاية أمامكم» و في الخطبة 166 «فان الناس أمامكم» و إنما افرد ذلك الجزء بالذكر لأنه جمع و جازة الألفاظ و جزالة المعنى على حد كلت ألسن الناس عن أن تأتي بمثله و تتفوه بشبهه و هو كما قال الرضي: لو وزن بعد كلام الله سبحانه و بعد كلام رسول الله صلى الله عليه و آله بكل كلام لمال به راجحا و برز عليه سابقا، قال: فأما قوله عليه السلام تخففوا تلحقوا فما سمع كلام أقل منه مسموعا و لا أكثر محصولا، إلى آخر ما قال.

ثم إن ابن قتيبة الدينوري قال في الإمامة و السياسة: و ذكروا أن البيعة لما تمت بالمدينة خرج علي عليه السلام إلى المسجد الشريف فصعد المنبر فحمد الله تعالى و أثنى عليه و وعد الناس من نفسه خيرا و تألفهم جهده ثم قال عليه السلام: لا يستغنى‏

الرجل و إن كان ذا مال و ولد عن عشيرته و دفاعهم عنه بأيديهم و ألسنتهم هم أعظم الناس حيطة من ورائه و إليهم سعيه و أعطفهم عليه إن أصابته مصيبة أو نزل به بعض مكاره الأمور و من يقبض يده عن عشيرته فانه يقبض عنهم يدا واحدة و تقبض عنه أيد كثيرة و من بسط يده بالمعروف ابتغاء وجه الله تعالى يخلف الله له ما أنفق في دنياه و يضاعف له في آخرته، و اعلموا أن لسان صدق يجعله الله للمرء في الناس خير له من المال فلا يزدادن أحدكم كبرياء و لا عظمة في نفسه و لا يغفل أحدكم عن القرابة أن يصلها بالذي لا يزيده إن أمسكه و لا ينقصه إن أهلكه، و اعلموا أن الدنيا قد أدبرت و الاخرة قد أقبلت ألا و إن المضمار اليوم و السبق غدا ألا و إن السبقة الجنة و الغاية النار ألا إن الأمل يسهى القلب و يكذب الوعد و يأتي بغفلة و يورث حسرة فهو غرور و صاحبه في عناء فافزعوا إلى قوام دينكم و إتمام صلاتكم و أداء زكاتكم و النصيحة لامامكم و تعلموا كتاب الله و اصدقوا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و آله و أوفوا بالعهد إذا عاهدتم و أدوا الأمانات إذا ائتمنتم و ارغبوا في ثواب الله و ارهبوا عذابه و اعملوا الخير تجزوا خيرا يوم يفوز بالخير من قدم الخير.

أقول: هذه الخطبة المنقولة من الدينوري مذكورة في النهج (الخطبة 28) و نقلها المفيد في الارشاد مبتدأة من قوله عليه السلام و اعلموا أن الدنيا قد أدبرت و لم يبينا بأن الخطبة خطبها عليه السلام لما تمت البيعة له عليه السلام كما صرح به الدينوري مع أن بين النسخ اختلافا سيما بين ما في الإمامة و السياسة و بين ما في النهج و الإرشاد.

و لا يخفى أن ظاهر كلام الدينوري أن ما نقله هو أول خطبة خطبها بعد تمام البيعة و إن كان يمكن بالدقة أن يستفاد منه عدم كونه أول خطبة خطبها في خلافته عليه السلام لكنه خلاف الظاهر من عبارته.

ثم إن المفيد قدس سره قال في الجمل (ص 77 طبع النجف): قوله عليه السلام في أول خطبة خطبها بعد قتل عثمان و بيعة الناس له: قد مضت امور كنتم فيها غير محمودى الرأى أما لو أشاء لقلت و لكن عفى الله عما سلف سبق الرجلان و قام الثالث كالغراب همته بطنه و فرجه يا ويله لو قص جناحه و قطع رأسه لكان خيرا له حتى‏

انتهى إلى قوله- و قد أهلك الله فرعون و هامان و قارون، فما يتصل بهذه الخطبة إلى آخرها.

أقول: ما نقله المفيد «ره» مذكور بعضها في الخطبة 177 من النهج أولها:

لا يشغله شأن و لا يغيره زمان و لا يحويه مكان و لا يصفه لسان لا يعزب عنه عدد قطر الماء- إلى آخرها- و صرح الشارح المحقق ابن ميثم البحراني رحمه الله في شرح النهج (ص 354 طبع 1276 المطبوعة بالحجر) بأن هذه الخطبة اعني الخطبة 177 من النهج خطب بها أمير المؤمنين علي عليه السلام بعد مقتل عثمان في أول خلافته كما أنه و الشارح الفاضل المعتزلي و الشريف الرضى و الطبرى و غيرهم صرحوا بأن الخطبة 166 من النهج المذكورة آنفا أول خطبة خطبها في أول خلافته.

«التوفيق بين تلك الأقوال و وجه الجمع فيها»

فبعد الفحص و التتبع و الغور في الأخبار و السير و الأقوال و التأمل في فحوى الخطب الموسومة من النهج حصل لنا أن الخطبة 21 من النهج و الخطبة 28 و الخطبة 166 و الخطبة 177 كانت جميعا خطبة واحدة خطبها عليه السلام في أول خلافته و ذكر المؤلفون في كل موضع جزء منها فتشتت في النهج فجعل كل جزء خطبة على حدة. فلنرجع إلى ما كنا فيه.

«الناكثان طلحة و الزبير و علة نكثهما بيعة أمير المؤمنين (ع)»

و اعلم أن ظاهر الفتنة بالبصرة إنما أحدثه طلحة و الزبير من نكث البيعة التي بذلاها لأمير المؤمنين عليه السلام طوعا و اختيارا و ايثارا و خروجهما عن المدينة إلى مكة على اظهار منهما ابتغاء العمرة فلما وصلاها اجتمعا مع عائشة و عمال عثمان الهاربين بأموال المسلمين إلى مكة طمعا فيما احتجبوه منها و خوفا من أمير المؤمنين عليه السلام و اتفاق رأيهم على الطلب بدم عثمان و التعلق عليه في ذلك بانحياز قتلة عثمان و حاصريه و خاذليه من المهاجرين و الأنصار و أهل مصر و العراق و كونهم جندا له و أنصارا و اختصاصهم به في حربهم منه و مظاهرته لهم بالجميل و قوله فيهم الحسن من‏

الكلام و ترك إنكار ما منعوه بعثمان و الأعراض عنهم في ذلك، و شبهوا بذلك على الضعفاء و اغتروا به السفهاء و أوهموهم بذلك لظلم عثمان و البراءة من شي‏ء يستحق به ما صنع به القوم من احصاره و خلعه و المنازعة إلى دمه فأجابهم إلى مرادهم من الفتنة من استغووه بما وصفناه و قصدوا البصرة لعلمهم أن جمهور أهلها من شيعة عثمان و أصحاب عامله ابن عمه كان بها و هو عبد الله بن كريز بن عامر و كان ذلك منهم ظاهرا و باطنا بخلافه كما تدل عليه الأخبار و يوضح عن صحة الحكم به الاعتبار، ألا ترى أن طلحة و الزبير و عائشة باجماع العلماء بالسير و الاثار هم الذين كانوا أوكد السبب لخلع عثمان و حصره و قتله و أن أمير المؤمنين عليه السلام لم يزل يدفعهم عن ذلك و يلطف في منعهم عنه و يبذل الجهد في إصلاح حاله مع المنكرين عليه العائبين له بأفعاله و المحتجين عليه بأقواله فلنذكر طائفة من الأخبار في سبب نكث طلحة و الزبير البيعة و إثارتهما فتنة الجمل.

في الامامة و السياسة للدينوري: ذكروا أن الزبير و طلحة أتيا عليا عليه السلام بعد فراغ البيعة فقالا: هل تدرى على ما بايعناك يا أمير المؤمنين؟ قال على عليه السلام:

نعم على السمع و الطاعة و على ما بايعتم عليه أبا بكر و عمر و عثمان، فقالا: لا و لكنا بايعناك على أنا شريكاك في الأمر. قال على عليه السلام: لا، و لكنكما شريكان في القول و الاستقامة و العون على العجز و الأولاد. قال: و كان الزبير لا يشك في ولاية العراق و طلحة في اليمن فلما استبان لهما أن عليا غير موليهما شيئا أظهرا الشكاة فتكلم الزبير في ملاء من قريش، فقال: هذا جزاؤنا من على، قمنا له في أمر عثمان حتى أثبتنا عليه الذنب و سببنا له القتل و هو جالس في بيته و كفى الأمر فلما نال بنا ما أراد جعل دوننا غيرنا، فقال طلحة: ما اللوم إلا أنا كنا ثلاثة من أهل الشورى كرهه أحدنا و بايعناه و أعطيناه ما في أيدينا و منعنا ما في يده فأصبحنا قد أخطأنا ما رجونا. قال: فانتهى قولهما إلى على عليه السلام فدعا عبد الله بن عباس و كان استوزره، فقال له: بلغك قول هذين الرجلين؟ قال: نعم، بلغنى قولهما. قال: فما ترى؟

قال: أرى أنهما أحبا الولاية فول البصرة الزبير و ول طلحة الكوفة فانهما ليسا

بأقرب إليك من الوليد و ابن عامر من عثمان، فضحك على عليه السلام ثم قال: ويحك إن العراقين بهما الرجال و الأموال و متى تملكا رقاب الناس يستميلا السفيه بالطمع و يضربا الضعيف بالبلاء و يقويا على القوى بالسلطان، و لو كنت مستعملا أحدا لضره و نفعه لاستعملت معاوية على الشام و لو لا ما ظهر لي من حرصهما على الولاية لكان لي فيهما رأى. قال: ثم أتى طلحة و الزبير إلى علي عليه السلام فقالا: يا أمير المؤمنين ائذن لنا إلى العمرة فان تقم إلى انقضائها رجعنا إليك و إن تسر نتبعك، فنظر إليهما علي عليه السلام و قال: نعم، و الله ما العمرة تريدان و إنما تريدان أن تمضيا إلى شأنكما فمضيا.

و قال المسعودي في مروج الذهب: انهما استأذنا عليا عليه السلام في العمرة فقال عليه السلام لعلكما تريدان البصرة و الشام فأقسما أنهما لا يريدان غير مكة.

أقول: و سيأتى طائفة من الأقوال و الأخبار فيهما بعيد هذا و إن ما يستفيد المتتبع الخبير من سبب نكث الرجلين البيعة هو يأسهما مما كانا يرجوان به من قتل عثمان بن عفان من البيعة لأحدهما بالامامة و اتساق الأمر في البيعة لعلى بن أبي طالب ثم انه عليه السلام ما وليهما شيئا لأنهما لم يكونا أهلا لذلك لما قد سمعت و تأكد سبب النكث بذلك.

في الجمل للمفيد: لما أيس الرجلان من نيل ما طمعا فيه من التأمر على الناس و التملك لأمرهم و بسط اليد عليهم و وجدا الأمة لا تعدل بأمير المؤمنين عليه السلام أحدا و عرفا رأى المهاجرين و الأنصار و من ذلك أرادا الحظوة عنده بالبدار إلى بيعته و ظنا بذلك شركائه في أمره و تحققا أنهما لا يليان معه أمرا و استقر الأمر على أمير المؤمنين عليه السلام ببيعة المهاجرين و الأنصار و بنى هاشم و كافة الناس إلا من شذ من بطانة عثمان و كانوا على خفاء لاشخاصهم مخافة على دمائهم من أهل الايمان، فصارا إلى أمير المؤمنين عليه السلام فطلب منه طلحة ولاية العراق و طلب منه الزبير ولاية الشام فأمسك علي عليه السلام عن إجابتهما في شي‏ء من ذلك فانصرفا و هما ساخطان و قد عرفا ما كان غلب في ظنهما قبل من رأيه فتركاه يومين أو ثلاثة أيام ثم صارا إليه و استأذنا عليه‏

فأذن لهما و كان في علية داره فصعدا إليه و جلسا عنده بين يديه و قالا يا أمير المؤمنين قد عرفت حال هذه الأزمنة و ما نحن فيه من الشدة و قد جئناك لتدفع إلينا شيئا نصلح به أحوالنا و نقضى به حقوقا علينا.

فقال عليه السلام قد عرفتما ما لي بينبع‏[1] فإن شئتما كتبت لكما منه ما تيسر.

فقالا: لا حاجة لنا في مالك بينبع فقال عليه السلام لهما: ما أصنع؟ فقالا له: أعطنا من بيت المال شيئا لنا فيه كفاية. فقال عليه السلام سبحان الله و أى يدلى في بيت المال و ذلك للمسلمين و أنا خازنهم و أمين لهم، فإن شئتما رقيتما المنبر و سألتما ذلك ما شئتما فإن أذنوا فيه فعلت، و أنى لي بذلك و هو لكافة المسلمين شاهدهم و غائبهم لكنى أبدى لكما عذرا فقالا ما كنا بالذي نكلفك ذلك و لو كلفناك لما أجابك المسلمون فقال لهما: فما أصنع؟ قالا: قد سمعنا ما عندك ثم نزلا من العلية و كان في أرض الدار خادمة لأمير المؤمنين عليه السلام سمعتهما يقولان: و الله ما بايعنا بقلوبنا و إن كنا بايعنا بألسنتنا، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه و من أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما (الفتح: 11) فتركاه يومين آخرين و قد جاءهما الخبر بإظهار عائشة بمكة ما أظهرته من كراهة أمره و كراهة من قتل عثمان و الدعاء إلى نصره و الطلب بدمه و أن عمال عثمان قد هربوا من الأمصار إلى مكة بما احتجبوه من أموال المسلمين و لخوفهم من أمير المؤمنين عليه السلام و من معه من المهاجرين و الأنصار و أن مروان بن الحكم ابن عم عثمان و يعلى بن منبه خليفته و عامله كان باليمن و عبد الله بن عامر بن كريز ابن عمه و عامله كان على البصرة و قد اجتمعوا مع عائشة و هم يدبرون الأمر في الفتنة فصارا إلى أمير المؤمنين عليه السلام و تيمما وقت خلوته فلما دخلا عليه قالا يا أمير المؤمنين قد جئناك نستأذنك للخروج في العمرة لأنا بعيد العهد بها ائذن لنا فيها.

فقال عليه السلام: و الله ما تريدان العمرة و لكنكما تريدان الغدرة، و إنما تريدان البصرة. فقالا: اللهم غفرا ما نريد إلا العمرة. فقال عليه السلام احلفا لى بالله العظيم انكما لا تفسدان على أمر المسلمين و لا تنكثان لي بيعة و لا تسعيان في فتنة فبذلا ألسنتهما بالأيمان المؤكدة فيما استحلفهما عليه من ذلك.

فلما خرجا من عنده عليه السلام لقيهما ابن عباس فقال لهما: أذن لكما أمير المؤمنين؟

فقالا: نعم. فدخل على أمير المؤمنين فابتدأه عليه السلام فقال: يا ابن عباس! أ عندك الخبر؟ قال: قد رأيت طلحة و الزبير فقال عليه السلام انهما استأذناني في العمرة فأذنت لهما بعد أن استوثقت منهما بالأيمان أن لا يغدرا و لا ينكثا و لا يحدثا فسادا و الله يا ابن عباس و إني أعلم أنهما ما قصدا إلا الفتنة فكأني بهما و قد صارا إلى مكه ليسعيا إلى حربي فإن يعلى بن منبه الخائن الفاجر قد حمل أموال العراق و فارس لينفق ذلك و سيفسدان هذان الرجلان على أمري و يسفكان دماء شيعتي و أنصاري.

قال عبد الله بن عباس: إذا كان ذلك عندك يا أمير المؤمنين معلوم فلم أذنت لهما و هلا حبستهما و أوثقتهما بالحديد و كفيت المسلمين شرهما؟

فقال عليه السلام: يا ابن عباس أ تأمرني بالظلم بدءا و بالسيئة قبل الحسنة و أعاقب على الظنة و التهمة و أؤاخذ بالفعل قبل كونه؟ كلا و الله لا عدلت عما أخذ الله على من الحكم و العدل و لا ابتدأ بالفصل يا ابن عباس انني أذنت لهما و أعرف ما يكون منهما و لكني استظهرت بالله عليهما و الله لأقتلنهما و لأخيبن ظنهما و لا يلقيان من الأمر مناهما و أن الله يأخذهما بظلمهما لى و نكثهما بيعتي و بغيهما علي.

أقول: قد علمت سابقا مما نقلنا من الفريقين أن طلحة كان أول من رمى بسهم في دار عثمان و قال: لا ننعمنه عينا و لا نتركه يأكل و لا يشرب، و لما حيل بين أهل دار عثمان و بين الماء فنظر الزبير نحوهم و قال و حيل بينهم و بين ما يشتهون- الاية، و غير ذلك مما قالوا لعثمان و فعلوا به مما لا حاجة إلى إعادته ثم دريت أنهما أول من بايع عليا عليه السلام على ما قد فصلنا و بينا ثم نكثا بيعته بالسبب الذى ذكرناه و العجب أنهما مع ما فعلا بعثمان جعلا دم عثمان مستمسكا و نهضا إلى طلب‏

دمه فحاربا أمير المؤمنين عليه السلام و شيعته الموحدين المسلمين و من تأمل حق التأمل في جميع ما قدمنا علم أنهما و أضرابهما لم يكونوا فيما صنعوه على جميل طوية في الدين و لا نصيحة للمسلمين و أن الذي أظهروه من الطلب بدم عثمان إنما كان تشبيها و تلبيسا على العامة و المستضعفين. نعوذ بالله من همزات الشياطين و نسأله أن لا يجعل الدنيا أكبر همنا فانها رأس كل خطيئة و اسها.

«خلاف عائشة على على (ع) و أطوار أحوالها و أقوالها فيه (ع) و في عثمان»

قد علمت مما سبق أن عائشة كانت أول من طعن على عثمان و أطمع الناس فيه و كانت تقول: اقتلوا نعثلا و صرحت بانه طاغية و أمرت بقتل عثمان و نادته بقولها يا غدر يا فجر و أرائته قميص رسول الله صلى الله عليه و آله و نعليه و قالت له انها لم يتغير و أنت غيرت سنته، و نهت ابن عباس عن أن يرد الناس عن قتل الطاغية تعنى بالطاغية عثمان و غيرها مما نقلناها من الفريقين. هذا هو طور.

ثم لما قتل عثمان بن عفان خرج البغاة إلى الافاق فلما وصل بعضهم إلى مكة سمعت بذلك عائشة فاستبشرت بقتله و قالت قتلته عماله إنه أحرق كتاب الله و أمات سنة رسول الله صلى الله عليه و آله فقتله الله، فقالت للناعي: و من بايع الناس؟ فقال لها الناعي: لم أبرح من المدينة حتى أخذ طلحة بن عبد الله نعاجا لعثمان و عمل مفاتيح لأبواب بيت المال و لا شك أن الناس قد بايعوه فقالت اى هذا لأصيبع وجدوك لها محسنا و بها كافيا، ثم قالت شدوا رحلي فقد قضيت عمرتي لأتوجه إلى منزلي فلما شدوا رحالها و استوت على مركبها سارت حتى بلغت شرقاء (موضع معروف بهذا الاسم) لقيها إبراهيم بن عبيد بن ام كلاب فقالت: ما الخبر؟ فقال: قتل عثمان، قالت: قتل نعثل، فقالت: أخبرني عن قصته و كيف كان أمره؟ فقال لها:

لما أحاط الناس بالدار رأيت طلحة بن عبد الله قد غلب على الأمر و اتخذ مفاتيح على بيوت الأموال و الخزائن و تهيأ ليبايع له فلما قتل عثمان مال الناس إلى علي بن أبي طالب و لم يعدلوا به طلحة و لا غيره و خرجوا في طلب على يقدمهم الأشتر

و محمد بن أبي بكر و عمار بن ياسر حتى أتوا عليا و هو في بيت سكن فيه فقالوا له بايعنا على الطاعة لك فتفكر ساعة فقال الأشتر: يا علي إن الناس لا يعدلون بك غيرك فبايع قبل أن يختلف الناس، قال و كان في الجماعة طلحة و الزبير فظننت أن سيكون بين طلحة و الزبير و على كلام قبل ذلك، فقال الأشتر لطلحة: قم يا طلحة فبايع ثم قم يا زبير فبايع فما تنتظران فقاما فبايعا و أنا أرى أيديهما على يد علي يصفقانهما ببيعته ثم صعد علي بن أبي طالب المنبر فتكلم بكلام لا أحفظ إلا أن الناس بايعوه يومئذ على المنبر و بايعوه من الغد فلما كان اليوم الثالث خرجت و لا أعلم ما جرى بعدي.

فقالت: يا أخا بني بكر أنت رأيت طلحة بايع عليا؟ فقلت: اى و الله رأيته بايعه و ما قلت إلا رأيت طلحة و الزبير أول من بايعه فقالت: إنا لله اكره و الله الرجل و غصب علي بن أبي طالب أمرهم و قتل خليفة الله مظلوما، ردوا بغالي فرجعت إلى مكة، قال: و سرت معها فجعلت تسألني في المسير و جعلت اخبرها ما كان فقالت لي هذا بعهدي و ما كنت أظن أن الناس يعدلون عن طلحة مع بلائه يوم احد، قلت فإن كان بالبلاء فصاحبه الذى بويع ذو بلاء و عناء، فقالت يا أخا بنى بكر لا نسألك هذا غير حتى إذا دخلت مكة فسألك الناس ما رد ام المؤمنين فقل: القيام بدم عثمان و الطلب به.

و جاءها يعلى بن منبه فقال لها: قد قتل خليفتك الذى تحرضين على قتله فقالت: برأت إلى الله ممن قتله، قال: الان، ثم قال لها: أظهرى البراءة ثانيا من قاتله.

فخرجت عائشة إلى المسجد فابتدأت بالحجر فتسترت فيه و نادى مناديها باجتماع الناس إليها فلما اجتمعوا تكلمت من وراء الستر و جعلت تتبرأ ممن قتل عثمان و تدعو إلى نصرة عثمان و تنعاه إلى الناس و تبكيه و تشهد أنه قتل مظلوما و جاءها عبد الله بن الحضرمي عامل عثمان على مكة فقال: قرت عينك قتل عثمان و بلغت ما أردت من أمره، فقالت: سبحان الله أنا طلبت قتله إنما كنت عاتبة

عليه من شي‏ء أرضاني فيه قتل و الله من خير من عثمان بن عفان و أرضى عند الله و عند المسلمين و الله ما زال قاتله (تعنى أمير المؤمنين عليا عليه السلام) مؤخرا منذ بعث محمد صلى الله عليه و آله و بعد أن توفى عدل عنه الناس على خيرة من أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و لا يرونه أهلا للأمر و لكنه رجل يحب الإمرة و الله لا تجتمع عليه و لا على أحد من ولده إلى قيام الساعة. ثم قالت: معاشر المسلمين ان عثمان قتل مظلوما و لقد قتل عثمان من اصبع عثمان خير منه و جعلت تحرض الناس على خلاف أمير المؤمنين و تحثهم على نقض عهده.

قال أبو جعفر الطبري في التاريخ: إن عائشة لما انتهت إلى سرف راجعة في طريقها إلى مكة لقيها عبد بن ام كلاب‏[2] و هو عبد بن أبي سلمة ينسب إلى امه فقالت له مهيم؟ قال قتلوا عثمان فمكثوا ثمانيا، قالت: ثم صنعوا ما ذا؟

قال: أخذها أهل المدينة بالاجتماع فجازت بهم الأمور إلى خير مجاز اجتمعوا على علي بن أبي طالب فقالت: و الله ليت أن هذه انطبقت على هذه إن تم الأمر لصاحبك ردوني ردوني فانصرفت إلى مكة و هي تقول: قتل و الله عثمان مظلوما و الله لأطلبن بدمه. فقال لها ابن ام كلاب: و لم؟ فو الله إن أول من أمال حرفه لأنت و لقد كنت تقولين: اقتلوا نعثلا فقد كفر قالت: إنهم استتابوه ثم قتلوه و قد قلت و قالوا و قولي الأخير خير من قولي الأول فقال لها ابن ام كلاب:

منك البداء و منك الغير و منك الرياح و منك المطر
و أنت أمرت بقتل الإمام‏ و قلت لنا إنه قد كفر
فهبنا أطعناك في قتله‏ و قاتله عندنا من أمر
و لم يسقط السقف من فوقنا و لم ينكسف شمسنا و القمر
و قد بايع الناس ذا تدر إ يزيل الشبا و يقيم الصعر
و يلبس للحرب أثوابها و ما من و في مثل من قد غدر

 

فانصرفت إلى مكة فنزلت على باب المسجد فقصدت للحجر فسترت و اجتمع إليها الناس فقالت: يا أيها الناس إن عثمان قتل مظلوما و و الله لأطلبن بدمه.

بيان‏

مهيم على وزان جعفر كلمة استفهام يستفهم بها معناها ما حالك، و ما شأنك و ما حدث، و ما الخبر، و امثالها المناسبة للمقام. قولها: ليت أن هذه انطبقت على هذه. تعنى أن السماء انطبقت على الأرض.

ثم لما تجهز القوم وعبوا العسكر و خرجوا إلى البصرة لاثارة الفتنة و إنارة الحرب و كانت عائشة معهم على الجمل الأدب انتهوا في الليل إلى ماء لبني كلاب يعرف بالحوأب عليه ناس من بني كلاب فعوت كلابهم على الركب حتى نفرت صعاب ابلها فقالت: ما اسم هذا الموضع؟ فقال لها السائق لجملها: الحوأب فاسترجعت و ذكرت ما قيل لها في ذلك فأمسكت زمام بعيرها فقالت و إنها لكلاب الحوئب ردوني ردوني إلى حرم رسول الله لا حاجة لي في المسير فاني سمعت رسول الله يقول: ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأدبب التي تنبحها كلاب الحوئب فيقتل عن يمينها و يسارها قتلى كثيرة.

فقال ابن الزبير: بالله ما هذا الحوأب و لقد غلط فيما أخبرك به و كان طلحة في ساقة الناس فلحقها فأقسم أن ذلك ليس بالحوأب فلفقوا لها خمسين أعرابيا جعلوا لهم جعلا فحلفوا لها أن هذا ليس بماء الحوأب فسارت لوجهها. قال المسعودى في مروج الذهب، شهد مع ابن الزبير و طلحة خمسون رجلا ممن كان معهم فكان ذلك أول شهادة زورا قيمت في البصرة. انتهى كلامه.

و قال الدينوري في الإمامة و السياسة: فقال لها محمد بن طلحة: تقدمى رحمك الله و دعى هذا القول. و أتى عبد الله بن الزبير فحلف لها بالله لقد خلفته أول الليل و أتاها ببينة زور من الأعراب فشهدوا بذلك فزعموا أنها أول شهادة

زور شهد بها في الإسلام.

و روى أبو جعفر الطبري في التاريخ بإسناده عن الزهري (ص 485 ج 3 طبع مصر 1357 ه) قال: بلغني أنه لما بلغ طلحة و الزبير منزل على بذي قار انصرفوا إلى البصرة فأخذوا على المنكدر فسمعت عائشة نباح الكلاب فقالت أى ماء هذا؟

فقالوا الحوأب فقالت إنا لله و إنا إليه راجعون إنى لهيه قد سمعت رسول الله يقول و عنده نساؤه ليت شعري أيتكن تنبحها كلاب الحوأب فأرادت الرجوع فأتاها عبد الله بن الزبير فزعم أنه قال كذب من قال إن هذا الحوأب و لم يزل حتى مضت.

أقول: حديث الحوأب مما اتفق به الفريقان و روته الخاصة و العامة بطرق عديدة و أسانيد كثيرة.

بيان‏

قال ابن الأثير في النهاية: و في الحديث أنه صلى الله عليه و آله قال لنسائه ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأدبب تنبحها كلاب الحوأب، أراد الأدب فأظهر الإدغام لأجل الحوأب، و الأدبب: الكثير وبر الوجه. و المنقول من السيوطى في بعض تصانيفه انه قد يفك ما استحق الادغام لاتباع كلمة أخرى كحديث ايتكن صاحبة الجمل- إلخ. قولها: إنى لهيه، اللام لام الابتداء تدخل بعد ان المكسورة و تسمى اللام المزحلفة بالقاف و الفاء و بنو تميم يقولون زحلوقة بالقاف و أهل العالية زحلوفة بالفاء سميت بذلك لأن أصل إن زيدا لقائم مثلا لأن زيدا قائم فكرهوا افتتاح الكلام بحرفين مؤكدين فزحلفوا اللام دون أن لئلا يتقدم معمولها عليها.

و هى ضمير راجعة إلى المرأة و الها في آخره للسكت نحو قوله تعالى: و ما أدراك ما هيه‏ (القارعة: 8). و نقل الحديث في الإمامة و السياسة للدينوري هكذا:

قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله يقول لنسائه كأنى باحداكن قد نبحها كلاب الحوأب و إياك أن تكوني أنت يا حميراء- ص 63 ج 1 طبع مصر 1377 ه.

ثم قال أبو جعفر الطبري في التاريخ: إن عائشة في فتنة الجمل ركبت‏

جملها و كان جملها يدعى عسكرا و البسوا هودجها الأدراع و قتل يومئذ سبعون رجلا كلهم يأخذ بخطام الجمل فلما عقر الجمل و هزم الناس احتمل محمد بن أبي بكر عائشة فضرب عليها فسطاط فوقف علي عليه السلام عليها فقال: استفززت الناس و قد فزوا فألبت بينهم حتى قتل بعضهم بعضا في كلام كثير فقالت عائشة: يا ابن أبي طالب ملكت فأسجح نعم ما أبليت قومك اليوم، فسرحها على عليه السلام و أرسل معها جماعة من رجال و نساء و جهزها و أمر لها باثنى عشر ألفا- إلى آخر ما قال.

ثم قال الفاضل الشارح المعتزلي (ص 159 ج 2 طبع طهران 1302 ه):

قد تواترت الرواية عنها باظهار الندم انه كانت تقول ليته كان لى من رسول الله صلى الله عليه و آله بنون عشرة كلهم مثل عبد الرحمن بن عبد الحارث بن هشام و ثكلتهم و لم يكن يوم الجمل، و أنها كانت تقول: ليتنى مت قبل يوم الجمل، أنها كانت إذا ذكرت ذلك اليوم تبكى حتى تبل خمارها.

أقول: و مما ذكرنا من الفريقين من اختلاف أقوالها و أطوار أحوالها دريت أن المرأة كالرجلين طلحة و الزبير ما أظهرت من الطلب بدم عثمان إنما كان تشبيها و تلبيسا على العامة و المستضعفين و أن القوم لم يكونوا فيما صنعوه على جميل طوية في الدين و لا نصيحة للمسلمين و علمت من فعل عائشة أنها كانت عمدت على التوجه إلى المدينة قبل أن تعرف ما كان من أمر المسلمين راجية بتمام الأمر بعد عثمان لطلحة و الزبير زوج اختها فلما صارت ببعض الطريق لقيت الناعي لعثمان فاستبشرت بنعيه له فلما اخبرت أن البيعة تمت لأمير المؤمنين ساءها ذلك و أحزنها و أظهرت الندم على ما كان منها في التأليب على عثمان فأسرعت راجعة إلى مكة حتى فعلت ما فعلت. على أن عائشة كانت تبغض عليا عليه السلام و إنما أثارت الفتنة و حثت القوم عليه عليه السلام بالعداوة و الشنان و من ذلك ما رواه كافة العلماء عنها أنها كانت تقول لم يزل بيني و بين على من التباعد ما يكون بين بنت الأحماء و منهم أبو جعفر الطبرى رواه في التاريخ ج 3 ص 547 طبع مصر 1357 ه.

و من ذلك أيضا ما رواه كافة العلماء و منهم الطبري في التاريخ ص ج 433 2

روى بإسناده عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه و آله لما مرض في مرضه الذي توفى فيه- إلى أن قالت- و هو صلى الله عليه و آله في بيت ميمونة فدعا نسائه فاستأذنهن أن يمرض في بيتى فأذن له فخرج رسول الله صلى الله عليه و آله بين رجلين من أهله أحدهما الفضل بن العباس و رجل آخر تخط قدماه صلى الله عليه و آله الأرض عاصبا رأسه حتى دخل بيتي، قال أبو جعفر الطبري: قال عبيد الله: فحدثت هذا الحديث عنها عبد الله بن عباس فقال هل تدرى من الرجل؟ قلت لا، قال: علي بن أبي طالب عليه السلام و لكنها كانت لا تقدر على أن تذكره بخير و هي تستطيع.

و من ذلك ما رواه الشيخ الأجل المفيد قدس سره في الجمل ص 68 طبع النجف: لما قتل أمير المؤمنين عليه السلام جاء الناعي فنعى أهل المدينة فلما سمعت عائشة بنعيه استبشرت و قالت متمثلة:

فإن يك ناعيا فلقد نعاه‏ بناع ليس في فيه التراب‏

فقالت لها زينب بنت أبي سلمي: العلي تقولين؟ فتضاحكت ثم قالت أنسي فاذا نسيت فذكروني ثم خرت ساجدة شكرا على ما بلغها من قتله و رفعت رأسها و هي تقول:

فألقت عصاها و استقر بها النوى‏ كما قر عينا بالإياب المسافر

و قال (ره) هذا من الأخبار التي لا ريب فيها و لا مرية في صحتها لاتفاق الرواة عليها.

و من ذلك ما في الجمل أيضا و قد روى عن مسروق أنه قال: ادخلت عليها فاستدعت غلاما باسم عبد الرحمن قالت: عبدي، قلت لها: فكيف سميته عبد الرحمن؟ قالت حبا لعبد الرحمن بن ملجم قاتل علي.

و من ذلك الخبر المشهور الذي رواه نقلة الاثار انه لما بعث إليها أمير المؤمنين عليه السلام بالبصرة أن ارتحلى عن هذه البلدة قالت لا أريتم مكاني هذا فقال لها أمير المؤمنين عليه السلام أم و الله لترتحلين أو لأنفذن إليك نسوة من بكر بن وائل يأخذنك بشقاق حداد فقالت لرسوله ارتحل فبالله احلف ما كان مكان أبغض‏

إلى من مكان يكون هو فيه. و غيرها من الأخبار الواردة في بغضها أمير المؤمنين عليه السلام.

«خروج عائشة و طلحة و الزبير و اتباعهم و اشياعهم» «من مكة إلى البصرة»

لما تم أمر البيعة لأمير المؤمنين عليه السلام و أيس طلحة و الزبير مما كانا يرجوان به من قتل عثمان من البيعة لأحدهما بالإمامة و تحققت عائشة تمام الأمر لأمير المؤمنين عليه السلام و عرف عمال عثمان أن أمير المؤمنين عليه السلام لا يقرهم على ولاياتهم و انهم إن ثبتوا في أماكنهم أو صاروا إليه طالبهم الخروج مما في أيديهم من أموال الله تعالى و حذروا من عقابه على تورطهم في خيانة المسلمين عمل كل فريق منهم على التحرز منه و احتال في الكيد له و اجتهد في تفريق الناس عنه فسار القوم من كل مكان إلى مكة استعاذة بها و سكنوا إلى ذلك المكان و عائشة بها و طمعوا في تمام كيدهم لأمير المؤمنين للتحيز إليها و التمويه على الناس بها و جعلت عائشة تحرض الناس على خلاف أمير المؤمنين و تحثهم على نقض عهده و لحق إلى مكة جماعة من منافقي قريش و صار إليها عمال عثمان الذين هربوا من أمير المؤمنين عليه السلام و لحق بها عبد الله بن عمر بن الخطاب و أخوه عبيد الله و مروان بن الحكم و أولاد عثمان و عبيده و خاصته من بني امية و انحازوا إليها و جعلوها الملجأ لهم فيما دبروه من كيد أمير المؤمنين عليه السلام.

و لما عرف طلحة و الزبير حال القوم عمدا على اللحاق بها و التعاضد على شقاق أمير المؤمنين فاستأذنا أمير المؤمنين في العمرة كما نقلنا آنفا و سارا إلى مكة خالعين الطاعة و ناكثين البيعة و كان ظهورهما إلى مكة بعد قتل عثمان بأربعة أشهر فلما وردا إليها فيمن تبعهما من أولادهما و خاصتهما طافا بالبيت طواف العمرة و سعيا بين الصفا و المروة و بعثا إلى عائشة عبد الله بن الزبير بالخروج علي أمير المؤمنين عليه السلام.

و جعل عبد الله بن أبي ربيعة يحرض الناس على الخروج و كان قد صحب مالا جزيلا فانفقه في جهاز الناس إلى البصرة، و كان يعلي بن منبه التميمي عاملا لعثمان على الجند فوافي الحج ذلك العام فلما بلغه قول ابن أبي ربيعة خرج من داره و قال: أيها الناس من خرج لطلب دم عثمان فعلى جهازه و حمل معه عشرة آلاف دينار فجعل يعطيها الناس و اشترى أربعمائة بعير و أناخها بالبطحاء و حمل عليها الرجال.

و لما اتصل أمير المؤمنين عليه السلام خبر ابن أبي ربيعة و ابن منبه و ما بذلاه من المال في شقاقه و الإفساد عليه قال: و الله إن ظفرت بابن منبه و ابن أبي ربيعة لأجعلن أموالهما في سبيل الله، ثم قال: بلغني أن ابن منبه بذل عشرة آلاف دينار في حربي من أين له عشرة آلاف دينار سرقها من اليمن ثم جاء بها لإن وجدته لأخذته بما أقر به.

و لما رأت عائشة اجتماعهم بمكة من مخالفة أمير المؤمنين عليه السلام تأهبت للخروج و مناديها يقول: من كان يريد المسير فليسر فإن ام المؤمنين سائرة إلى البصرة تطلب بدم عثمان فلما تحقق عزم القوم على المسير إلى البصرة اجتمع طلحة و الزبير و عائشة و خواصهم و قالوا نحب أن نسرع النهضة إلى البصرة فإن بها شيعة عثمان و عامله عبد الله بن عامر و قد عمل على استمداد الجنود من فارس و بلاد المشرق لمعونته على الطلب بدم عثمان و قد كاتبنا معاوية بن أبي سفيان أن ينفذ لنا الجنود من الشام فإن أبطينا من الخروج خفنا من أن يدهمنا على بمكة أو في بعض الطريق فيمن يراى رأيه خوفا من أن يفرق كلمتنا و إذا أسرعنا المسير إلى البصرة و أخرجنا عامله منها و قتلنا شيعته بها و استعنا بأمواله منها كنا على الثقة من الظفر بابن أبي طالب و إن أقام بالمدينة سيرنا إليه جنودا حتى نحصره فيخلع نفسه أو نقتله كما قتل عثمان و إن سار فهو كالئ و نحن حامون و هو على ظاهر البصرة و نحن بها متحصنون فلابد له إلا أن يريح المسلمين من فتنته‏

. «تحذير ام سلمة عائشة من الخروج و نصحها لها طورا بعد» «طور و اباء عائشة عن القبول»

قال المفيد في الجمل: روى الواقدي عن أفلح بن سعيد عن يزيد بن زياد عن عبد الله بن أبي رافع عن ام سلمة زوجة النبي صلى الله عليه و آله قالت: كنت مقيمة بمكة تلك السنة حتى دخل المحرم فلم أر إلا برسول طلحة و الزبير جاءني عنهما يقول ان ام المؤمنين عائشة تريد أن تخرج للطلب بدم عثمان فلو خرجت معها رجونا أن يصلح بكما فتق هذه الأمة فأرسلت إليهما و الله ما بهذا امرت و لا عائشة لقد أمرنا الله أن نقر في بيوتنا لا نخرج للحرب أو للقتال مع أن أولياء عثمان غيرنا و الله لا يجوز لنا عفو و لا صلح و لا قصاص و ما ذاك إلا لولد عثمان، و اخرى نقاتل علي ابن أبي طالب أمير المؤمنين ذا البلاء بهذا الأمر و العناء و أولى الناس بهذا الأمر و الله ما أنصفتما رسول الله صلى الله عليه و آله في نسائه حيث تخرجوهن إلى العراق و تتركوا نساءكم في بيوتكم.

ثم قال فيه: و بلغ ام سلمة اجتماع القوم و ما خاضوه فيه فبكت حتى اخضل خمارها ثم ادنت ثيابها فلبستها و تخفرت و مشت إلى عائشة لتعظها و تصدها عن رأيها في مظاهرة أمير المؤمنين عليه السلام بالخلافة و تقعدها عن الخروج مع القوم فلما صارت إليها قالت: إنك عدت رسول الله صلى الله عليه و آله، و بين امته و حجابك مضروب على حرمته و قد جمع القرآن ذيلك فلا تندحيه و ملك خفرك فلا تضحيها الله الله من وراء هذه الأمة قد علم رسول الله صلى الله عليه و آله مكانك لو أراد أن يعهد إليك فعل بل نهاك عن الفرط في البلاء و أن عمود الدين لا يقام بالنساء إن انثلم و لا يشعب بهن إن انصدع فصدع النساء غض الأطراف و حف الأعطاف و قصر الوهادة و ضم الذيول و ما كنت قائلة لو أن رسول الله صلى الله عليه و آله عارضك ببعض الفلاة ناضه قلوصا من منهل إلى آخر أن قد هتكت صداقته و تركت عهدته أن يغير الله بك لهواك على رسول الله صلى الله عليه و آله تردين و الله لو سرت سيرك هذا ثم قيل لي ادخلى الفردوس لاستحييت أن ألقى رسول الله صلى الله عليه و آله هاتكة حجابا قد ستره على اجعلي حصنك بيتك و قاعة البيت قبرك حتى‏

تلقينه و أنت على ذلك أطوع ما تكوني له ما لزمتيه و انظرى نبوع الدين ما حلت عنه.

فقالت لها عائشة: ما أعرفني بوعظك و اقبلني لنصحك و لنعم المسير مسير فزعت إليه و أنا بين سائرة و متأخرة فان انعد فمن غير حرج و إن أسير فإلى ما لابد من الإزياد منه.

فلما رأت ام سلمة أن عائشة لا تقنع عن الخروج عادت إلى مكانها و بعثت إلى رهط من المهاجرين و الأنصار قالت لهم لقد قتل عثمان بحضرتكم و كانا هذان الرجلان- أعني طلحة و الزبير- يشعيان عليه كما رأيتم فلما قضى أمره بايعا عليا عليه السلام و قد خرجا الان عليه زعما أن يطلبا بدم عثمان و يريدان أن يخرجا حبيسة رسول الله صلى الله عليه و آله معهم و قد عهد إلى جميع نسائه عهدا واحدا أن يقرن في بيوتهن فإن كان مع عائشة عهد سوى ذلك تظهره و تخرجه إلينا نعرفه فاتقوا الله عباد الله فإنا نأمركم بتقوى الله و الاعتصام بحبله و الله ولي لنا و لكم، فشق كثير على طلحة و الزبير عند سماع هذا القول من ام سلمة.

ثم أنفذت ام سلمة إلى عائشة فقالت لها: قد وعظتك فلم تتعظي و قد كنت أعرف رأيك في عثمان و أنه لو طلب منك شربة ماء لمنعتيه ثم أنت اليوم تقولين إنه قتل مظلوما و تريدين أن تثيرى لقتال أولى الناس بهذا الأمر قديما و حديثا فاتقى الله حق تقاته و لا تعرضي لسخطه.

فأرسلت إليها عائشة أما ما كنت تعرفيه من رأيى في عثمان فقد كان و لا أجد مخرجا منه إلا الطلب بدمه و أما على فاني آمره برد هذا الأمر شوري بين الناس.

فانفذت إليها أم سلمة أما أنا فغير واعظة لك من بعد و لا مكلمة جهدي و طاقتي و الله إني لخائفة عليك البوار ثم النار و الله ليخيبن ظنك و لينصرن الله ابن أبي طالب على من بغي عليه و ستعرفين عاقبة ما أقول و السلام.

أقول: و قد أتى بما ذكرنا من تحذير ام سلمة عائشة ابن قتيبة الدينورى‏

في الإمامة و السياسة (ص 56 ج 1 طبع مصر 1377 ه) و الفاضل الشارح المعتزلي ابن أبي الحديد في الجزء الثاني من شرحه على نهج البلاغة، و بين النسخ اختلاف في بعض الجمل في الجملة ففي الأول: و قد علمت أن عمود الدين لا يثبت بالنساء إن مال و لا يراب بهن إن انصدع، حماديات النساء غض الأبصار و ضم الذيول.

«خروج على (ع) إلى الربذة»

لما تأهب القوم للمسير إلى البصرة جاء عليا عليه السلام الخبر عن أمرهم قد توجهوا نحو العراق فدعا ابن عباس و محمد بن أبي بكر و عمار بن ياسر و سهل بن حنيف و أخبرهم بذلك فقال أشيروا على بما اسمع منكم القول فيه، فقال عمار:

الرأى أن نسير إلى الكوفة فان أهلها لنا شيعة و قد انطلق هؤلاء القوم إلى البصرة، و قال ابن عباس: الرأي عندى يا أمير المؤمنين أن تقدم رجالا إلى الكوفة فيبايعوا لك و تكتب إلى الأشعري (يعني أبا موسى الأشعري و كان عاملا لعثمان على الكوفة) أن يبايع لك ثم بعده المسير حتى نلحق بالكوفة فنعاجل القوم قبل أن يدخلوا البصرة و تكتب إلى ام سلمة فتخرج معك فانها لك قوة.

فقال أمير المؤمنين عليه السلام بل أنهض بنفسي و من معى في اتباع الطريق وراء القوم فان أدركتهم بالطريق أخذتهم و إن فاتوني كتبت إلى الكوفة و استمددت الجنود إلى الأمصار و سرت إليهم، و أما ام سلمة فاني لا أرى إخراجها من بيتها كما رأى الرجلان إخراج عائشة.

ثم نادى أمير المؤمنين عليه السلام في الناس: تجهزوا للمسير فان طلحة و الزبير قد نكثا البيعة و نقضا العهد و أخرجا عائشة من بيتها يريدان البصرة لاثارة الفتنة و سفك دماء أهل القبلة، ثم رفع يديه إلى السماء فقال:

اللهم إن هذين الرجلين قد بغيا علي و نكثا عهدي و نقضا عهدى و شقياني بغير حق سومها ذلك اللهم خذهما بظلمهما و اظفرني بهما و انصرني عليهما ثم خرج في سبعمائة رجل من المهاجرين و الأنصار و استخلف على المدينة تمام بن عباس و بعث قثم بن‏

عباس إلى مكة و لما رأى عليه السلام التوجه إلى القوم ركب جملا أحمر و هو يقول:

سيروا مبلين و حثوا السيرا في طلحة التميمي و الزبيرا
إذ جلبا شرا و عافا خيرا يا رب أدخلهم غدا سعيرا

و سار مجدا في السير حتى بلغ الربذة بين الكوفة و مكة من طريق الجادة فوجد القوم قد فاتوا فنزل بها فأقام بها أياما فكتب إلى أهل الكوفة:

«كتاب على (ع) إلى أهل الكوفة من الربذة» «و خطبته التي خطب بها الناس في الربذة»

قال أبو جعفر الطبري في التاريخ (ص 493 طبع مصر 1357 ه): حدثني عمر قال:

حدثنا أبو الحسن عن بشير بن عاصم، عن محمد بن عبد الرحمان بن أبي ليلى عن أبيه قال كتب علي عليه السلام إلى أهل الكوفة: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فإني اخترتكم و النزول بين أظهركم لما أعرف من مودتكم و حبكم لله عز و جل و لرسوله صلى الله عليه و آله فمن جاءني و نصرني فقد أجاب الحق و قضى الذي عليه.

أقول: كتابه هذا ليس بمذكور في النهج و نقله الطبرى على وجه آخر أيضا قال (ص 394 ج 3): كتب إلى السرى، عن شعيب، عن سيف، عن محمد و طلحة قال: لما قدم على عليه السلام الربذة أقام بها و سرح منها إلى الكوفة محمد بن أبي بكر و محمد ابن جعفر و كتب إليهم إني اخترتكم على الأمصار و فزعت إليكم لما حدث فكونوا لدين الله أعوانا و أنصارا و أيدونا و انهضوا إلينا فالإصلاح ما نريد لتعود الأمة إخوانا و من أحب ذلك و آثره فقد أحب الحق و آثره و من أبغض ذلك فقد أبغض الحق و غمصه.

قال: فمضى الرجلان و بقى علي عليه السلام بالربذة يتهيأ و أرسل إلى المدينة فلحقه ما أراد من دابة و سلاح و أمر أمره و قام في الناس فخطبهم و قال:

إن الله عز و جل أعزنا بالإسلام و رفعنا به و جعلنا به إخوانا بعد ذلة و قلة و تباغض و تباعد فجرى الناس على ذلك ما شاء الله الإسلام دينهم و الحق فيهم و الكتاب إمامهم حتى اصيب هذا الرجل بأيدى هؤلاء القوم الذي نزغهم الشيطان‏

لينزع بين هذه الأمة ألا إن هذه الأمة لابد مفترقة كما افترقت الأمم قبلهم فنعوذ بالله من شر ما هو كائن ثم عاد ثانية فقال: إنه لابد مما كائن أن يكون ألا و إن هذه الأمة ستفترق على ثلاث و سبعين فرقة شرها فرقة تنتحلني و لا تعمل بعملي فقد أدركتم و رأيتم فالزموا دينكم و اهدوا بهدى نبيكم صلى الله عليه و آله و اتبعوا سنته و أعرضوا ما أشكل عليكم على القرآن فما عرفه القرآن فالزموه و ما أنكره فردوه و ارضوا بالله جل و عز ربا و بالإسلام دينا و بمحمد صلى الله عليه و آله نبيا و بالقرآن حكما و إماما.

أقول: ذلك الكتاب و هذه الخطبة أيضا ليسا بمذكورين في النهج- ثم لا يخفى على المتضلع في الايات القرآنية أن هذه الخطبة يبين لنا بطنا من بطون القرآن بل يظهر لنا سرا من أسرار القدر بأن هذه الأمة لابد مفترقة كما افترقت الأمم قبلهم فلعل هذا ما يشير إليه بعض الاى القرآني يأتي هذه الأمة مثل الذين خلوا من قبلها.

ثم قال الطبرى: إنه عليه السلام بعث محمد بن أبي بكر إلى الكوفة و محمد بن عون فجاء الناس إلى أبي موسى يستشيرونه في الخروج فقال أبو موسى: أما سبيل الاخرة فأن تقيموا، و أما سبيل الدنيا فأن تخرجوا و أنتم أعلم، و بلغ المحمدين قول أبي موسى فبايناه و أغلظا له فقال: أما و الله إن بيعة عثمان في عنقي و عنق صاحبكما الذي أرسلكما إن أردنا أن نقاتل لا نقاتل حتى لا يبقى أحد من قتلة عثمان إلا قتل حيث كان.

فانطلقا إلى علي عليه السلام فوافياه بذي قار و أخبراه الخبر و قد خرج مع الأشتر و قد كان يعجل إلى الكوفة فقال علي عليه السلام: يا أشتر أنت صاحبنا في أبي موسى و المعترض في كل شي‏ء اذهب أنت و عبد الله بن عباس فاصلح ما أفسدت فخرج عبد الله بن عباس و معه الأشتر فقدما الكوفة و كلما أبا موسى و استعانا عليه باناس من الكوفة فقال للكوفيين: أنا صاحبكم يوم الجرعة و أنا صاحبكم اليوم فجمع الناس و خطبهم و استنفرهم إلى أمير المؤمنين عليه السلام‏

. «نزول أمير المؤمنين عليه السلام ذا قار و كتابه إلى» «أبى موسى عبد الله بن قيس الأشعرى»

ثم سار علي عليه السلام بمن معه حتى نزل بذي قار ثم دعا عليه السلام هاشم بن عتبة المرقال و كتب معه كتابا إلى أبي موسى الأشعري و كان بالكوفة من قبل عثمان أن يوصل الكتاب إليه ليستنفر الناس منها إلى الجهاد معه و كان مضمون الكتاب:

بسم الله الرحمن الرحيم من على أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس أما بعد فإني أرسلت إليك هاشم بن عتبة المرقال لتشخص معه من قبلك من المسلمين ليتوجهوا إلى قوم نكثوا بيعتي و قتلوا شيعتي و أحدثوا في هذه الأمة الحدث العظيم فاشخص الناس إلى معه حين يقدم بالكتاب عليك فلا تحبسه فإني لم أقرك في المصر الذي أنت فيه إلا أن تكون من أعواني و أنصاري على هذا الأمر و السلام.

فقدم هاشم بالكتاب على أبى موسى فدعى أبو موسى السائب بن مالك الأشعرى فأقرأه الكتاب، و قال له: ما ترى؟ فقال له السائب: اتبع ما كتب به إليك، فأبى أبو موسى ذلك و كسر الكتاب و محاه و بعث إلى هاشم بن عتبة يخوفه و يتوعده بالسجن فقال السائب بن مالك: فأتيت هاشما فأخبرته بأمر أبي موسى.

فكتب هاشم إلى أمير المؤمنين عليه السلام أما بعد يا أمير المؤمنين فإني قدمت بكتابك على امرء شاق عاق بعيد الرحم ظاهر الغل و الشقاق و قد بعثت إليك بهذا الكتاب مع المغل بن خليفة أخي ظني و هو من شيعتك و أنصارك و عنده علم ما قبلنا فاسأله عما بدا لك و اكتب إلي برأيك أتبعه و السلام.

فلما قدم الكتاب إلى علي عليه السلام و قرأه دعا الحسن ابنه و عمار بن ياسر و قيس بن سعد و بعثهم إلى أبي موسى و كتب معهم.

«كتاب على عليه السلام إلى أبى موسى الأشعرى ثانيا»

من عبد الله على أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس أما بعد يا ابن الحائك‏[3]

و الله إني كنت لا أرى بعدك من هذا الأمر الذي لم يجعلك الله له أهلا و لا جعل لك فيه نصيبا و قد بعثت لك الحسن و عمارا و قيسا خل لهم المصر و أهله و اعتزل عملنا منسوبا مدحورا فان فعلت و إلا أمرتهم أن ينابذوك على سوى إن الله لا يحب الخائنين فإن أظهروا عليك قطعوك إربا إربا و السلام على من شكر النعم و رضي البيعة و عمل لله رجاء العاقبة.

فقدم الحسن عليه السلام و عمار و قيس الكوفة مستنفرين لأهلها و كان أمير المؤمنين عليه السلام كتب إلى أهل الكوفة كتابا كان معهم و هو الكتاب الأول من باب المختار من كتب أمير المؤمنين عليه السلام أى ذلك الكتاب المعنون للشرح و أتينا به في صدر هذا الباب و قد ذكرنا النسختين منه احداهما ما في النهج و الأخرى ما في الجمل للمفيد.

و اعلم أن هذين الكتابين منه عليه السلام إلى أبي موسى الأشعري ليسا بمذكورين في النهج و قد نقلناهما من الجمل للمفيد (ص 115 طبع النجف) و تاريخ أبي جعفر محمد بن جرير الطبري (ص 512 ج 3 طبع مصر 1357 ه) و بين النسختين اختلاف في بعض العبارات و سيأتي الكتاب الثالث و الستين منه عليه السلام إلى أبي موسى الأشعرى و قد بلغه عنه تثبيطه الناس عن الخروج إليه لما ندبهم لحرب أصحاب الجمل: من عبد الله على أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس أما بعد فقد بلغني عنك قول هو لك و عليك- إلخ. فقد حان أن نتصدى جمل الكتاب بعون الله الملك الوهاب و نذكر تتمة واقعة الجمل في شرح الكتاب التالي إن شاء الله تعالى:

كنايه قوله عليه السلام: (من عبد الله على أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة جبهة الأنصار و سنام العرب) قد قدمنا في تفسير لغات الكتاب أن الجبهة لها معنيان: الجماعة و موضع السجود من الرأس و قد يكنى على الثاني أعيان الناس و سادتهم و اشرافهم من حيث أن للجبهة حرمة و شرفا في الوجه و لذا توضع على الأرض في السجدة و هذا هو المراد في المقام بقرينة السنام‏ فصدر عليه السلام كتابه بمدحهم بقوله‏ جبهة الأنصار و سنام العرب‏ لأنهم كانوا بين أعوانه عليه السلام كالجبهة و السنام في العزة و الرفعة و صار أهل‏

الكوفة آخر الأمر أنصاره عليه السلام و الكوفة دار هجرته كما أن أهل المدينة صاروا أنصار رسول الله صلى الله عليه و آله و المدينة دار هجرته. ثم لا يخفى أن مثل هذا المقام يقتضي تصدير الكتاب بالألفاظ الدالة على التحبيب و تأليف القلوب و الترغيب فيما يراد فصدره بالمدح اجتذابا لهم إلى ما يريد من نصرته على الناكثين.

قوله عليه السلام: (أما بعد فإني اخبركم عن أمر عثمان حتى يكون سمعه كعيانه) قد أثبتنا و حققنا أن الناس لما رأوا أن عثمان أحدث ما أحدث و فعل ما فعل نقموها منه و طعنوا عليه و حصروه أربعين ليلة و منعوه من الماء أياما للأغراض التي قدمناها و علل بيناها و شهد قتله ثمانمائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله حتى قيل إن المجمعين على قتل عثمان كانوا أكثر من المجمعين على بيعته، و أن أمير المؤمنين عليا عليه السلام لقد دفع عنه غير مرة حتى قال: و الله لقد دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثما و غير ذلك مما لا حاجة إلى إعادتها و أن طلحة و الزبير و عائشة فيما صنعوه في عثمان كانت من أوكد أسباب ما تم على عثمان من الخلع و الحصر و سفك دمه و الفساد، و سمعت أقوال الفريقين في طلحة أنه كان أول من رمي بسهم في دار عثمان و في الزبير ما قال لعثمان و في انكار عايشة عليه و أنها كانت أول من طعن على عثمان و أطمع الناس فيه.

و دريت أن طلحة و الزبير كانا أول من بايع أمير المؤمنين عليه السلام إلا أنهم لما رأوا خيبتهم من الامال الدنيوية و يأسهم من الأغراض الشهوانية و الشيطانية نكثوا البيعة و استمسكوا بطلب دم عثمان تشبيها و تلبيسا على العامة و المستضعفين و اتهموا أمير المؤمنين عليه السلام بقتله و عزوا دمه إليه و من نظر فيما قدمنا في تفسير هذا الكتاب علم أن الناكثين و أضرابهم و أتباعهم قد لعبوا بالدين و أنما كان قصدهم التملك للأمر و التأمر على المسلمين. ثم لما كانت شبهة قتل عثمان مبدأ كل فتنة نشأت في الإسلام من فتنة الجمل و صفين و نهروان حتى أن بني امية تمسكوا بها في منع الماء من ريحانة رسول الله صلى الله عليه و آله سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين بن علي عليه السلام و قتله فأخبر علي عليه السلام‏ أهل الكوفة عن أمر عثمان‏ و الأحوال التى جرت عليه مما نقمها الناس منه و طعنوا فيه على حد ايضاح يكون سمعه‏

لمن لم يشهده كعيانه أى كانه شهد تلك الواقعة و رآها بعينه ليعلم تنزيهه عليه السلام عن اسناد قتل عثمان إليه و أن اسناد دمه إليه عليه السلام تهمة و بهتان ليس إلا و أنه عليه السلام أبرء الناس من دم عثمان.

قوله عليه السلام: (إن الناس طعنوا عليه) هذا شروع في الإخبار عن أمر عثمان‏، و إنما صرح عليه السلام بأن الناس طعنوا عليه ليعلم‏ أهل الكوفة أن الناس نقموا من عثمان بالقوادح التي ارتكبها و طعنوا عليه بالأحداث التي أحدثها مما سمعتها من كتب الفريقين و فيه إشارة إلى مبدأ قتله.

قوله عليه السلام: (فكنت رجلا من المهاجرين) قال الفاضل الشارح المعتزلي:

و من لطيف الكلام قوله عليه السلام: فكنت رجلا من المهاجرين‏ فإن في ذلك من التخلص و التبرى ما لا يخفى على المتأمل ألا ترى أنه لم تبق عليه في ذلك حجة لطاعن من حيث كان قد جعل نفسه كواحد من عرض‏ المهاجرين‏ الذين بنفر يسير منهم انعقدت خلافة أبي بكر و هم أهل الحل و العقد و إنما كان الإجماع حجة لدخولهم فيه. انتهى قوله.

أقول: إن الشارح خلط الحق بالباطل و ذلك لأن من هاجر مع رسول الله و من هاجر الهجرتين كان له رتبة و رفعة و شرف بين سائر الصحابة و كان المهاجرون يباهون بالمهاجرة كما ترى في كثير من الجوامع التي دونت لمعرفة الصحابة و هذا مما لا مرية فيه مثلا ان أمير المؤمنين عليه السلام قال: في الكلام 56 من باب الخطب:

و أما البراءة فلا تتبرأوا مني فإني ولدت على الفطرة و سبقت إلى الإيمان و الهجرة.

و أما أن جميع ما قاله المهاجر و فعله إلا رسول الله صلى الله عليه و آله و وصيه على أمير المؤمنين سواء كان واحدا أو أكثر فلم يثبت صوابه بل تحقق خطاؤهم في بعض الموارد لأن هؤلاء المهاجرين‏ لم يكونوا معصومين عن الخطاء و لم يثبت عصمتهم و لم يدع احد العصمة فيهم سيما في الواقعة التي أشارت إليه من انعقاد خلافة أبي بكر بنفر يسير منهم، و كون الإجماع حجة لدخولهم فيه ففيه ما فيه و كيف يكون ذلك الإجماع حجة و لم يكن فيه أفضل المهاجرين و أقدم المسلمين و سيد الموحدين و من كان‏

من رسول الله صلى الله عليه و آله بمنزلة هارون من موسى، على أنه قد طعن ذلك الإجماع الحاصل من هؤلاء النفر غير واحد من كبار رسول الله صلى الله عليه و آله ممن تثني عليهم الخناصر و هذا هو خزيمة بن ثابت الأنصارى ذو الشهادتين طعن إجماعهم و انكر عليهم فعلهم و قال:

ما كنت أحسب هذا الأمر منصرفا عن هاشم ثم منها عن أبي حسن‏
أليس أول من صلي بقبلتهم‏ و أعرف الناس بالاثار و السنن‏
و آخر الناس عهدا بالنبي و من‏ جبريل عون له في الغسل و الكفن‏
من فيه ما فيهم لا يمترون به‏ و ليس في القوم ما فيه من الحسن‏
ما ذا الذي ردكم عنه فنعلمه‏ ها إن بيعتكم من أغبن الغبن‏

و في نسخة:

ها إن بيعتكم من أول الفتن‏

.

و هذا هو العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه و آله دعا أمير المؤمنين عليه السلام فقال له: امدد يدك يا ابن أخي أبايعك ليقول الناس عم رسول الله صلى الله عليه و آله بايع ابن عم رسول الله فلا يختلف عليك اثنان.

و هؤلاء أهل اليمامة لما عرفوا تقلد أبي بكر أنكروا أمره و امتنعوا من حمل الزكاة حتى أنفذ اليهم الجيوش فقتلهم و حكم عليهم بالردة عن الإسلام.

و لو أطنبنا الكلام في ذلك لكثر بنا الخطب و لخرجنا عن اسلوب الكلام و موضوع الكتاب.

قوله عليه السلام: (اكثر استعتابه و اقل عتابه) لا يخفى دلالة كلامه عليه السلام هذا على حسن طويته و لطف رويته بالناس و ذلك لأن الناصح الكريم إذا رأى غيره في صوب غير صواب لا يلومه بألفاظ خشنة و لا ينهى عنه بعنف و لا يشمت به و لا يفرح ببليته و لا يوبخه بفعله لأنها من ديدن الجهال و دأب من لم يطلع بسر الله في القدر، بل يعظه بالرفق و اللين فإن الرفق يمن و الحزق شوم و لذا قال عليه السلام: اكثر استعتابه و اقل عتابه‏ أى‏ اكثر استرضائه و نصحه ليرجع عما صارت سبب سخط القوم عليه و نقموها منه، أو اكثر استرضاء القوم عنه كما دريت أن أمير المؤمنين دفع عنه غير مرة حتى قال عليه السلام: و الله لقد دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثما (الخطبة

238 من النهج).

و قال عليه السلام أيضا: و الله ما زلت أذب عنه حتى أني لأستحى (تاريخ الطبرى ج 3 ص 410 طبع مصر 1357 ه) و مما حققناه في شرح هذا الكتاب و في شرح الخطبة 238 دريت أن عثمان لو قبل ما أشار أمير المؤمنين على عليه السلام عليه من امور كان صلاحه فيها لم يحدث عليه ما حدث‏[4] و إنما ذاق ما ذاق بإبائه عن مواعظ أمير المؤمنين عليه السلام و إعراضه عن نصحه. و لقد أتي الرضى (ره) بطائفة من نصحه عليه السلام له في باب الخطب (الكلام 163) قوله عليه السلام: إن الناس ورائي و قد استسفروني بينك و بينهم إلخ- و نقله أبو جعفر الطبري في التاريخ ص 376 ج 3 و الشيخ المفيد في الجمل ص 84.

قوله عليه السلام‏ و اقل عتابه‏، أى ما عاتبت عليه و ما كلمته باللوم و التوبيخ لما حققنا في البحث اللغوى أن المراد من‏ اقل‏ هنا النفي و ذلك لما سمعت أن من دأب كرام الناس الرفق و اللين و اللطف و ترك الخشونة و العنف مع الناس حتى في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و نعم ما اشار إليه الشيخ الرئيس في آخر النمط التاسع من الاشارات: العارف لا يعنيه التجسس و التحسس و لا يستهويه الغضب عند مشاهدة المنكر كما يعتريه الرحمة فانه مستبصر لسر الله في القدر و أما إذا أمر بالمعروف أمر برفق ناصح لا بعنف معير. و قال المحقق الطوسي في الشرح: إذا أمر العارف بالمعروف امر برفق ناصح لا بعنف معير أمر الوالد ولده و ذلك لشفقته على جميع خلق الله على أنه لم ينقل أنه وبخه و لامه على أفعاله بل كان يعظه.

هذا إذا كان المراد من لفظة اقل‏ عتابه نفي العتاب و إذا كان المراد منها حمل العتاب فالمعنى اني حملت عتابه و مع ذلك كنت اكثر استعتابه و نصحه و ما منعني‏

عتابه عن نصحه و ذلك لما علمت من الأخبار السالفة أن عثمان قد عدله عليه السلام بمروان بن الحكم و قال له عليه السلام: فو الله ما أنت عندى بأفضل من مروان، و لما شيع عليه السلام أبا ذر قال عثمان: من يعذرني من علي رد رسولي إلى أن قال: و الله لنعطينه حقه و غير ذلك مما نقلناها من الفريقين و هو عليه السلام مع ذلك كان يكثر استعتابه لكن عثمان أبى منه عليه السلام النصح كما دريت.

كنايه قوله عليه السلام: (و كان طلحة و الزبير أهون سيرهما فيه الوجيف و أرفق حدائهما العنيف) كنى عليه السلام بالجملتين عن شدة سعيهما في قتل عثمان حتى أن السير الوجيف كان أهون‏ ما يسيران في قتله، و الحداء العنيف‏ كان أرفق فعلهما فيه. و قد ذهب بعض إلى أن سيرهما عثمان و حداءهما إياه كان أهونه‏ الوجيف و أرفقه العنيف‏ أعنى أن ذلك البعض شبه‏ طلحة و الزبير بالسائق و الحادى و عثمان بالإبل مثلا و لكنه و هم لأن السير و إن جاء لكل واحد من اللزوم و التعدي لكن كلامه عليه السلام ينادي بأعلى صوته على خطاء ما ذهب إليه ذلك البعض و صواب ما فسرناه من أنهما سارا أشد سرعة من السير الوجيف‏ حتى أن السير الوجيف كان أهون سيرهما في‏ قتله و كذا الجملة التالية. و هذا ظاهر لا غبار عليه.

ثم إنك قد علمت مما قدمنا من أخبار الفريقين عمل‏ طلحة و الزبير و أقوالهما في عثمان و نذكر نبذة منها ههنا على الاختصار: لما حصر عثمان صعد على القصر و نادى طلحة ثم سأله عن علة حصره و منعه من الماء فأجابه مرتين: لأنك بدلت و غيرت- الإمامة و السياسة للدينوري ص 38 ج 1 طبع مصر 1377 ه-.

و روى أبو جعفر الطبرى- ص 411 ج 3 طبع مصر 1357 ه- قال طلحة لأصحابه لا تتركوا أحدا يدخل على هذا الرجل و لا يخرج من عنده فقال عثمان اللهم اكفنى طلحة بن عبيد الله فانه حمل على هؤلاء و ألبهم إني لأرجو أن يكون منها صفرا أو أن يسفك دمه إنه انتهك مني ما لا يحل له، و في الجمل للمفيد- ص 60 طبع النجف-: روى أبو إسحاق إنه لما اشتد الحصار بعثمان و ظمأ من العطش فنادى: يا أيها الناس اسقونا شربة من الماء و أطعمونا مما

رزقكم الله، فناداه الزبير بن العوام يا نعثل لا و الله لا تذوقه.

ثم قال: لما اشتد الحصار بعثمان عمد بنو امية على إخراجه ليلا إلى مكة و عرف الناس فجعلوا عليه حرسا و كان على الحرس طلحة بن عبيد الله و هو أول من رمى بسهم في دار عثمان.

قوله عليه السلام‏ (و كان من عائشة فيه فلتة غضب) السبب في‏ فلتة غضبها عليه هو ما قدمنا أن عثمان جعل مال المسلمين طعمة له و لبني امية و أتباعه و ذويه و عشيرته و آثر أهل بيته بالأموال العظيمة التي هي عدة للمسلمين نحو ما نقلنا من الفريقين أنه دفع إلى أربعة أنفس من قريش زوجهم بناته أربعمائة ألف دينار و أعطى مروان مأئة ألف على فتح إفريقية و يروى خمس افريقية، و نحو ما رووا أن أبا موسى بعث بمال عظيم من البصرة فجعل عثمان يقسمه بين أهله و ولده بالصحاف و غير ذلك مما مر من قوادحه و مطاعنه و ما نقمها الناس منه.

و قال الدينورى في الإمامة و السياسة: إن‏ عائشة كانت أول من طعن على عثمان و أطمع الناس فيه، و كانت‏ عائشة تقول اقتلوا نعثلا فقد فجر، و في رواية اخرى كانت تقول: اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا.

و روى الشيخ الأجل المفيد في الجمل- ص 61 طبع النجف- عن محمد بن إسحاق صاحب السيرة عن مشايخه عن حكيم بن عبد الله قال: دخلت يوما بالمدينة إلى المسجد فإذا كف مرتفعة و صاحب الكف يقول: أيها الناس العهد قريب هذان نعلا رسول الله و قميصه و كأني أرى ذلك القميص يلوح و أن فيكم فرعون هذه الأمة فإذا هي عائشة و عثمان يقول لها: اسكتي ثم يقول للناس إنها امرأة و عقلها عقل النساء فلا تصغوا إلى قولها، و في رواية اخرى كما قدمناها أنها قالت له: هذا قميص رسول الله صلى الله عليه و آله لم يتغير و قد غيرت سنته يا نعثل، و اخرى أنها قالت لابن عباس:

إياك أن ترد الناس عن قتل الطاغية و تعنى بالطاغية و نعثل عثمان و غير ذلك من الأخبار التي جاءت في إنكار عائشة و تأليبها على عثمان و إغرائها الناس بقتل عثمان قد قدمنا طائفة منها و كان نعثل اسم يهودى طويل اللحية و شبهت عائشة

عثمان به.

ايجاز قوله عليه السلام‏ (فاتيح له قوم فقتلوه) قد يحذف الفاعل للجهل به أو لغرض لفظي أو معنوى أو للإبهام أو للعلم به أو لغيرها مما قرر في محله و يمكن أن يكون حذفه في المقام للعلم به نحو قوله تعالى‏ غيض الماء و قضي الأمر أى غاض الله الماء و قضى الله الأمر فحذف الفاعل للعلم به و كذا في المقام فالمعنى أن قتله كان بتقدير إلهى أى قدر الله و هيأ قوما له فقتلوه و لقائل أن يقول: إن كلامه عليه السلام في‏ طلحة و الزبير و عائشة له قوما فقتلوه و الأخبار المتقدمة تؤيد هذا الاحتمال لأنهم قد حثوا و حرضوا و أغروا الناس على قتله كما دريت فحذف الفاعل للعلم به و للإيجاز في اللفظ، و يمكن أن يكون للإبهام كما أفاد القطب الراوندي انه عليه السلام إنما بنى الفعل للمفعول و لم يقل أتاح الله أو أتاح الشيطان ليرضى بذلك الفريقان و بالجملة لا يخفى لطف كلامه عليه السلام حيث أتى بالفعل المجهول.

قوله عليه السلام: (و بايعني الناس غير مستكرهين و لا مجبرين بل طائعين مخيرين) قد حققنا و برهنا أن المتعين في المستكره بكسر الراء أى غير كارهين و قوله عليه السلام‏ و لا مجبرين‏ أى غير مكرهين، و قد مضى في الخطبة 238 أن عثمان لما كان محصورا كان الناس يذكرون أمير المؤمنين عليا عليه السلام على رءوس الأشهاد و كانوا يهتفون باسمه عليه السلام للخلافة و قالوا لعثمان إنك قد أحدثت أحداثا عظاما فاستحققت بها الخلع و ما كان لنا أن نرجع حتى نخلعك و نستبدل بك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله من لم يحدث مثل ما جربنا منك و لم يقع عليه من التهمة ما وقع عليك فاردد خلافتنا و اعتزل أمرنا فإن ذلك أسلم لنا منك و يعنون بذلك الصحابي أمير المؤمنين عليا عليه السلام فلما رأى عثمان أن قلوب الجماعة مائلة إليه سأله الخروج إلى ينبع ليقل هتف الناس باسمه للخلافة.

و قد بينا آنفا أن أمير المؤمنين عليه السلام كان يمتنع من بيعة الناس له فيختبئ عنهم و يلوذ بحيطان المدينة، و لما اجتمع الناس إليه و سألوه أن ينظر في‏

امورهم و بذلوا له البيعة قال لهم: التمسوا غيري‏، و لما جاء طلحة و الزبير إليه عليه السلام و هو متعوذ بحيطان المدينة فدخلا عليه و قالا له: ابسط يدك نبايعك فإن الناس لا يرضون إلا بك، قال عليه السلام لهما لا حاجة لي في ذلك و أن أكون لكما وزيرا خير من أن أكون‏ أميرا فقالا إن الناس لا يؤثرون غيرك و لا يعدلون عنك إلى سواك فابسط يدك نبايعك أول الناس، ثم ألح الناس في ذلك عليه فقالوا نحن أرضى الناس به ما نريد به بدلا و قالوا له ننشدك الله أما ترى الفتنة ألا تخاف الله في ضياع هذه الأمة و قالوا إن تجبنا إلى ما دعوناك إليه من تقليد الأمر و قبول البيعة و إلا انفتق في الإسلام ما لا يمكن رتقه و انصدع في الدين ما لا يستطاع شعبه فلما ألحوا عليه قال لهم‏ اني‏ لو أجبتكم‏ حملتكم على‏ ما أعلم و إن تركتموني‏ كنت لأحدكم، قالوا قد رضينا بحلمك و ما فينا مخالف لك فاحملنا على ما تراه ثم بايعه الجماعة فتداكوا عليه تداك الإبل على حياضها يوم ورودها حتى شقوا أعطافه و وطئوا ابنيه الحسن و الحسين لشدة ازدحامهم عليه و حرصهم على البيعة له.

و لقد مضى كلامه عليه السلام في ذلك لما اريد على البيعة بعد قتل عثمان: دعوني و التمسوا غيري‏- إلى قوله: و أنا لكم وزيرا خير لكم مني أميرا (الخطبة 91).

ثم المراد من قوله عليه السلام هذا أن الناس بايعوه غير كارهين و لا مكرهين بل طاعين مخيرين و لم يحدث عليه السلام ما يغاير كتاب الله و سنة رسول الله صلى الله عليه و آله فلا يجوز لهم أن ينكثوا بيعته عليه السلام فضلا عن أن يحاربوه قال عز من قائل‏ فمن نكث فإنما ينكث على نفسه‏ الاية و ذكر أصحاب السير و منهم المسعودي في مروج الذهب- ص 11 ج 2 طبع مصر 1346 ه- ثم نادى علي عليه السلام طلحة حين رجع الزبير يا أبا محمد- أبو محمد كنية الزبير- ما الذى أخرجك؟ قال: الطلب بدم عثمان قال علي عليه السلام قتل الله أولانا بدم عثمان أما سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله يقول: اللهم وال من والاه و عاد من عاداه؟ و أنت أول من بايعني ثم نكثت و قد قال الله عز و جل: فمن نكث فإنما ينكث على نفسه‏ فقال استغفر الله ثم رجع.

و في الإمامة و السياسة: قال له علي عليه السلام أو لم تبايعني يا أبا محمد طائعا غير مكره‏؟ فما كنت لأترك بيعتي: قال طلحة: بايعتك و السيف على عنقي، قال:

ألم تعلم أني ما أكرهت أحدا على البيعة؟ و لو كنت مكرها أحدا لأكرهت سعدا و ابن عمر و محمد بن مسلمة أبو البيعة و اعتزلوا فتركتهم، قال طلحة: كنا في الشورى ستة فمات اثنان و قد كرهناك و نحن ثلاثة، قال علي عليه السلام إنما كان لكما ألا ترضيا قبل الرضا و قبل البيعة و أما الان فليس لكما غير ما رضيتما به إلا أن تخرجا مما بويعت عليه بحدث فإن كنت أحدثت حدثا فسموه لي.

بيان‏

أراد طلحة بقوله و السيف على عنقي أنه بايعه بالإجبار و الإكراه و أن سيف الأشتر على عنقه.

ثم إنا نرى كثير من الناكثين اعترفوا بظلمهم عليا عليه السلام بنقضهم و نكثهم عهده و بيعته عليه السلام ففي الجمل للمفيد- ص 207 طبع النجف-: روى أبو مخنف عن العدوى عن أبي هاشم عن البريد عن عبد الله بن المخارق عن هاشم بن مساحق القرشي قال: حدثنا أبي أنه لما انهزم الناس يوم الجمل اجتمع معه طائفة من قريش فيهم مروان بن الحكم فقال بعضهم لبعض و الله لقد ظلمنا هذا الرجل- يعنون أمير المؤمنين عليا عليه السلام- و نكثنا بيعته من غير حدث و الله لقد ظهر علينا فما رأينا قط أكرم سيرة منه و لا أحسن عفوا بعد رسول الله صلى الله عليه و آله تعالوا حتى ندخل عليه و نعتذر إليه فيما صنعناه، قال فصرنا إلى بابه فاستأذناه فأذن لنا. فلما مثلنا بين يديه جعل متكلمنا يتكلم فقال عليه السلام انصتوا أكفكم إنما أنا بشر مثلكم فإن قلت حقا فصدقوني و إن قلت باطلا فردوا على انشدكم الله أ تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه و آله قبض و أنا أول الناس به و بالناس من بعده؟ قلنا اللهم نعم، قال فعدلتم عني و بايعتم أبا بكر فأمسكت و لم احب أشق عصا المسلمين و أفرق بين جماعتهم، ثم إن أبا بكر جعلها لعمر من بعده فكففت و لم اهيج الناس و قد علمت أني كنت أولى الناس بالله و برسوله و بمقامه فصبرت حتى قتل و جعلني سادس ستة فكففت و لم احب أن افرق بين المسلمين، ثم بايعتم عثمان فطغيتم عليه و قتلتموه و أنا جالس في بيتي و أتيتموني و بايعتموني كما بايعتم أبا بكر و عمر فما بالكم‏

وفيتم لهما و لم تفوا لي و ما الذى منعكم من نكث بيعتهما و دعاكم إلى نكث بيعتي؟

فقلنا له: كن يا أمير المؤمنين كالعبد الصالح يوسف إذ قال‏ لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم و هو أرحم الراحمين‏ فقال عليه السلام: لا تثريب عليكم اليوم و أن فيكم رجلا لو بايعني بيده لنكث بإسته، يعني مروان بن الحكم.

و قد تكلم عليه السلام في الموضعين من باب الخطب في وصف بيعته بالخلافة أحدهما الخطبة 53 قوله عليه السلام فتداكوا علي تداك الإبل الهيم يوم ورودها- إلخ.

و ثانيهما القريب من الأول في بعض الكلم و الجمل، الكلام 227 من باب الخطب قوله عليه السلام: و بسطتم يدي فكففتها و مددتموها فقبضتها ثم تداككتم علي تداك الإبل اليهم على حياضها يوم ورودها- إلخ. و مال الشارح البحراني إلى أن كلامه الأول أعني الخطبة 53 أشار إلى صفة أصحابه بصفين و لكنه و هم و الصواب ما أشرنا إليه.

و قال الشارح المعتزلي في شرح تلك الخطبة: اختلف الناس في بيعة أمير المؤمنين عليه السلام فالذى عليه أكثر الناس و جمهور أرباب السير أن طلحة و الزبير بايعاه طائعين غير مكرهين ثم تغيرت عزائمهما و فسدت نياتهما و غذرا به و قال الزبيريون منهم عبد الله بن مصعب و الزبير بن بكار و شيعتهم و من وافق قولهم من بني تميم بن مرة أرباب العصبية لطلحة إنهما بايعا مكرهين، و إن الزبير كان يقول: بايعت و اللج على قفى و اللج سيف الأشتر و قفى لغة هذلية إذا أضافوا المنقوص إلى أنفسهم قلبوا الألف ياء و أدغموا احدى اليائين في الأخرى فيقولون: قد وافق ذلك هوى أى هواى و هذه عصى أى عصاى.

انتهى المجلد السادس عشر من هذه الطبعة الجديدة القيمة في اليوم الثاني عشر من شهر شعبان المعظم سنة- 1384- بتصحيح و تهذيب من العبد- السيد ابراهيم الميانجى- عفى عنه و عن والديه في المطبعة المباركة الاسلامية بطهران. و يليه انشاء الله: المجلد السابع عشر و الحمد لله رب العالمين.

الجزء السابع عشر

[تتمة باب المختار من كتب مولانا أمير المؤمنين ع و رسائله إلى أعدائه و أمراء بلاده‏]

[تتمة المختار الاول من كتبه عليه السلام و رسائله‏]

[تتمة المعنى‏]

قوله عليه السلام: (و اعلموا أن دار الهجرة قد قلعت بأهلها و قلعوا بها) أي أن مدينة الرسول صلى الله عليه و آله فارقت‏ أهلها و خلت منهم و كذا أهلها فارقوها على ما بينا في تفسير لغات الكتاب. و أما مراده عليه السلام منه فقال بعضهم: إنه عليه السلام يخبرهم من قوله‏ و اعلموا- إلى- على القطب‏، عن سبب حركته و خروجه من المدينة أن المدينة قامت فيها رحى الفتنة و اضطربت أحوال ساكنيها و امورهم و جاشت جيش المرجل من الهرج و المرج، و انقلبت أحوال البلد و تبدلت بحيث ليس المقام فيها للناس سيما للمؤمنين و الخواص بميسور، و لذا خرج منها و جعل الكوفة مهاجره و مقر خلافته.

أقول: لا يخفى على أن هذا التفسير لا يناسب المقام و لا يوافق قوله عليه السلام‏ فأسرعوا إلى أمير كم و بادروا جهاد عدوكم‏، فانه عليه السلام كتب إليهم الكتاب ليستنفرهم إلى‏ الجهاد كما صرح به في ذيل الكتاب و نفر من المدينة نحو البصرة لجهاد الناكثين، لا أنه يخبرهم عن صرف سبب خروجه منها، و هذا ظاهر لا كلام فيه.

كنايه [و اعلموا أن دار الهجرة قد قلعت بأهلها و قلعوا بها] و يقرب من هذا التفسير ما قيل: إنه عليه السلام كنى بقلعها بأهلها و قلعهم‏ بها عن اضطراب امورهم بها و عدم استقرار قلوبهم من ثوران هذه الفتنة.

أقول: الظاهر أنه عليه السلام لما أخبر أهل الكوفة عن أمر عثمان و عن سيرته معه و عما جرى عليه من‏ طلحة و الزبير و عائشة و عن بيعة الناس أعلمهم أن منهم من نكثوا البيعة و أثاروا الفتنة و نشطوا أقواما على الحرب و هيجوا بين الناس الشر و العداوة و الشحناء حتى أقاموا الحرب، فنهضوا أهل المدينة مجاهدين في سبيل الله أعداء الله لإطفاء هذه النائرة و إزالة الفتنة نهضة خلت المدينة من أهلها و فارقها ساكنوها، سيما أنهم كانوا من أفعال عثمان و شيعته متألمين، فلما رأوا أن آل عثمان تمسكوا بدم عثمان تفتينا لم يلبثوا في المدينة خوفا من أن تشيع الفتنة و يفسد المبطلون، فبادروا إلى جهاد عدوهم فقلعوا بالمدينة مسرعين.

فهو عليه السلام أراد إعلام أهل الكوفة بنهوض أهل المدينة على ذلك الحد ليرغبوا في الجهاد و ينصروا دين الله و ينهضوا لقتال أصحاب الجمل معهم و يهتموا همتهم في إماتة الباطل و إزاحة أهله، و لذا أمرهم عليه السلام بالسرعة إليه و المبادرة بالجهاد.

قوله عليه السلام: (و جاشت جيش المرجل) أي غلت كغليان الماء في القدر. و المراد إخبار أهل الكوفة باضطراب أهل المدينة و ولعهم بالجهاد لما علموا بمسير الناكثين و أتباعهم إلى البصرة لإثارة الفتنة. و هذا أيضا تحريض أهل الكوفة على النهضة و الجهاد.

تشبيه قوله عليه السلام: (و قامت الفتنة على القطب) أي‏ الفتنة التي أثارها الناكثون و أتباعهم‏ قامت على القطب‏، شبه‏ الفتنة بالرحى بقرينة القطب‏، أي أن رحى‏ الفتنة دائرة و المراد أن الفتنة قائمة و نارها مشتعلة فاسرعوا إلى إطفائها، ففيها أيضا تحريض أهل الكوفة على الجهاد.

و قد قدر بعض الشارحين الجملة بقوله: قامت الفتنة في المدينة على القطب حيث فسرها بأن رحى‏ الفتنة في المدينة دائرة، و لا يخفى أن ذلك التقدير غير مناسب للمقام لأن فتنة الحرب حين إرساله عليه السلام الكتاب إلى أهل الكوفة كانت في البصرة بين أصحاب الجمل و عامله عليه السلام عثمان بن حنيف قائمة كما سيتضح في شرح الكتاب الثاني إن شاء الله تعالى.

و هو عليه السلام كان ساعتئذ في ذي قار كما دريت مما حققنا آنفا، و بالجملة أنه عليه السلام أعلم أهل الكوفة بأن‏ الفتنة قائمة على القطب‏ و لا حاجة إلى ذلك التقدير فكأنما اغتر ذلك البعض من الجمل المتقدمة.

ثم يمكن أن يقال: إنه عليه السلام أراد بالقطب‏ نفسه، فانه عليه السلام قطب الاسلام و المسلمين يقال: فلان قطب بني فلان أي سيدهم الذي يدور عليه أمرهم، و كذا يقال لصاحب الجيش: قطب رحى الحرب تشبيها بالنقطة التي يدور عليها الفلك و يسمونها قطب الفلك، فيكون المعنى أن تلك‏ الفتنة أقبلت إليه‏ و قامت‏ و هجمت عليه فتكون كلمة على، على هذا الوجه للضرر و على الوجه الأول للإستعلاء

و يمكن أن يكون على الوجهين للإستعلاء، فاذا كانت‏ الفتنة قائمة على القطب‏ بهذا المعنى فللرعية أن تعاونوه بإطفائها و نجاته منها لأنهم في الحقيقة ينجون أنفسهم منها و ينصرون دين الله، و يطلبون بذلك رفعتهم و منزلتهم، و نعم ما قال الشاعر:

لك العز إن مولاك عز و إن يهن‏ فأنت لدى بحبوحة الهون كاهن!

و يمكن أن يجعل كلمة الأمير في قوله الاتي قرينة على إرادة هذا المعنى من‏ القطب‏.

و بعد ما بادر ذهننا إلى هذا المعنى فرأينا أن المولى فتح الله القاساني فسر القطب في شرحه الفارسي على النهج بهذا الوجه، فالحمد لله على الوفاق.

قوله عليه السلام‏ (فأسرعوا إلى أميركم و بادروا جهاد عدوكم إن شاء الله تعالى) أي إذا سمعتم ما قلنا من عمل الناكثين و ما فعل أهل المدينة لإزهاق الباطل و نصرة الدين، فأسرعوا إلى أميركم‏ يعني بالأمير نفسه عليه السلام، و بادروا جهاد عدوكم‏ يعني بالعدو أصحاب الجمل.

الترجمة

باب دوم از بابهاى سه‏ گانه نهج البلاغة: در نامه ‏ها و رساله‏ هاى برگزيده أمير المؤمنين علي عليه السلام كه بدشمنانش و أميران شهرهايش نوشته است، و در اين باب نيز فرمانهاى برگزيده‏اى كه بعمال خويش فرستاد، و وصيتها و اندرزها كه بدودمان و يارانش فرمود، نگاشته آمد.

اين يكى از نامه‏ هاى آن قطب اسلام و مسلمين است كه هنگامى از مدينه بسوى بصره، براى خاموش كردن آتش فتنه أصحاب جمل رهسپار شد، در جايى بنام ذى قار رسيد، آنرا بمردم كوفه نوشت و از ايشان يارى خواست و فرزندش إمام حسن مجتبى و عمار بن ياسر و قيس را بسوى كوفه گسيل داشت كه نامه را بكوفيان رسانند و ايشان را بمدد و نصرت خوانند. و اين نخستين كتاب اين باب است:

اين نامه‏ ايست از بنده خدا علي أمير المؤمنين بمردم كوفه كه پيشانى يارى‏ كنندگان دين و كوهان عربند (كنايه از اين كه آنان در شرف نسبت بأنصار دين چون پيشانى نسبت به پيكرند و برفعت در ميان عرب همچون كوهان نسبت با شتر) شما را از أمر عثمان خبر دهم چنانكه شنيدن آن همچون ديدن آن باشد:

همانا كه مردم عثمان را بأفعال او عيب كردند و بر او طعن و إنكار نمودند من مردى از مهاجرين بودم كه بسيار از او درخواست مى ‏كردم كه مردم را خوشنود سازد، و همواره او را نصيحت مى ‏كردم و براه رستگارى دلالت مى ‏نمودم، و از سرزنش او خود دارى مى ‏نمودم، و هيچ او را سرزنش نمى ‏كردم (چه معنى «اقل عتابه» در اينجا بمعنى نفى عتاب است نه اين كه كمتر او را سرزنش مى‏ كردم چنانكه مترجمين باشتباه رفته‏ اند، و در شرح بيان كرده ‏ايم كه مردان خدا برفق و مدارا نهى از منكر مي كنند و از درشتى سر باز زنند، و ممكن است كه معنى جمله چنين باشد كه من همواره عثمان را نصيحت و دلالت مى‏ كردم و سرزنش او را بر خويشتن تحميل مى‏ كردم و بتوبيخ او از إرشاد و هدايتش دريغ نداشتم، چه عثمان از اندرزهاى أمير المؤمنين عليه السلام مى‏ رنجيد و مى ‏گفت كه ابو الحسن نمى ‏خواهد دودمان مرا در نعمت آسايش ببيند، و اين بنا بر وجهى است كه «أقل» را بمعنى بر مى‏ دارم و حمل مي كنم، بگيريم، چنانكه در بحث لغوى اين كتاب تحقيق كرده‏ ايم كه «اقل» هم براى نفى و هم براى حمل استعمال مى‏ شود).

و سست‏ ترين رفتنشان در كشتن او رفتن بشتاب و اضطراب بود، و نرم‏ترين راندنشان راندن سخت (يعنى آن دو در كشتن عثمان شتاب بسيار مى ‏كردند و مردم را بر آن بر مى‏ انگيختند هنگامى كه عثمان در حصر بود و آب را برويش بستند از طلحه سبب خواست، طلحه در جواب گفت: چون تو دين خدا را تبديل كردى و تغيير دادى، و آن گاه كه تشنگى بر او چيره شد و ندا درداد كه اى مردم ما را آب دهيد و از آنچه خدا بر شما روزى كرد ما را بخورانيد، زبير بعثمان خطاب كرد و گفت: اى نعثل و الله هرگز آب نخواهى چشيد، و طلحه اول كسى بود كه تير بخانه عثمان رها كرد، و گفتار طلحه و زبير در قتل عثمان و تحريض و ترغيب‏ آن دو مردم را بر آن بسيار است).

و از عائشه در باره او خشمى ناگهانى بود (سبب خشم وى بر عثمان اين بود كه مى‏ گفت عثمان اموال مسلمانان را طعمه خويش و خويشاوندانش گردانيد و دودمان و پيروانش را بدان برگزيد و دين خدا را تغيير داد و از سنت رسول إعراض كرد، گاهى عثمان بر منبر بود كه عائشه نعلين و پيراهن پيغمبر را در ميان مجلس بمردم نموده و گفت: اين نعلين و پيراهن رسول خدا هنوز كهنه نشده كه فرعون اين امت عثمان دين خدا را تبديل كرده است. و مى ‏گفت: بكشيد نعثل را كه او فاجر است، و نيز مى ‏گفت: بكشيد نعثل را خدا نعثل را بكشد. و نعثل مردى يهود بود دراز ريش كه عائشه عثمان را بدان تشبيه مى ‏كرده است، و عائشه اول كسى بود كه بر عثمان طعن كرده است و كارهاى او را عيب گرفته و مردم را بر كشتن او بر انگيخت).

پس برايش گروهى مقدر شد كه او را كشتند و مردم با من بيعت كردند بى ‏آنكه بيعت با مرا ناخوش و ناپسند داشته باشند و كاره باشند، و بى آنكه إجبار شده باشند بلكه بميل و رغبت و اختيار بيعت كردند. بدانيد كه مدينه از اهلش خالى شد و مردم از آن بر كنده شدند (يا اين كه مدينه با اهلش بر كنده شد و أهل آن با مدينه، كه در دلالت مقصود آكداست، و خلاصه اين كه مردم مدينه از آنجا بيرون آمدند بقصد يارى دين خدا و جهاد في سبيل الله در ركاب أمير المؤمنين عليه السلام براى خاموش كردن آتش فتنه اصحاب جمل، اين گفتار حضرت براى ترغيب و تهييج أهل كوفه است كه در جهاد و نصرت دين تأسى بأهل مدينه كنند).

و مدينه چون ديگ بجوش آمده است (مراد اين است كه وقتى مردم ديدند گروهى ببهانه خون عثمان بيعت را شكستند و نقض عهد كردند و قصد تفتين دارند بخصوص كه از افعال عثمان سخت رنج ديدند و دل آزرده بودند براى دفع آنان چنان نهضت و قيام كردند كه از اضطراب و هيجان گويا چون ديگ بجوش آمدند)

فتنه بر قطب ايستاده است (كنايه از اين كه آسياى فتنه دور مى‏ زند يعنى آتش فتنه مشتعل است يا اين كه مراد أمير المؤمنين عليه السلام از قطب خود آن حضرت باشد چه آن بزرگوار قطب إسلام و مسلمين و مدار إيمان و أهل آن است، يعني فتنه اصحاب جمل بر آن بزرگوار روى آورده است و بر آن قطب عالم إمكان دور مى ‏زند) پس بشتابيد بسوى أمير خود و پيشى گيريد بجهاد دشمن خود اگر خدا خواهد.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی

_____________________________________________________________

[1] ( 1) قد مضى البيان في ينبع في شرح الكلام 238 من المختار في باب الخطب فراجع.

[2] ( 1) هذا الرجل ذكر اسمه في الإمامة و السياسة: عبيد، و في الجمل للمفيد: ابراهيم ابن عبد بن ام كلاب.

[3] ( 1) نقل الكتاب المسعودى في مروج الذهب هكذا: كتب إلى أبي موسى: اعتزل عملنا يا ابن الحائد مذموما مدحورا فما هذا أول يومنا منك و ان لك فيها لهنات و هنيات( ص 7 ج 2 طبع مصر 1346 ه).

[4] ( 1) يقال: أشار إليه إذا أومأ إليه و أشار عليه إذا أمره و نصحه و دله على وجه الصواب.

و قال الشارح المعتزلي في مقدمة شرح على النهج في فضائله( ع): و أما الراى و التدبير فكان من أسد الناس رأيا و أصحهم تدبيرا هو الذى اشار على عثمان بامور كان صلاحه فيها و لو قبلها لم يحدث عليه ما حدث- إلخ ..

نهج البلاغه نامه ها نامه شماره ۱/2 شرح میر حبیب الله خوئی(به قلم علامه حسن زاده آملی )

نامه ۱ صبحی صالح

باب المختار من کتب مولانا أمیر المؤمنین علی ( علیه ‏السلام  )، و رسائله إلى أعدائه و أمراء بلاده، و یدخل فی ذلک ما اختیر من عهوده إلى عماله، و وصایاه لأهله و أصحابه.

۱- و من کتاب له ( علیه‏ السلام  ) إلى أهل الکوفه عند مسیره من المدینه إلى البصره

مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عَلِیٍّ أَمِیرِ الْمُؤْمِنِینَ إِلَى أَهْلِ الْکُوفَهِ جَبْهَهِ الْأَنْصَارِ وَ سَنَامِ الْعَرَبِ

أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّی أُخْبِرُکُمْ عَنْ أَمْرِ عُثْمَانَ حَتَّى یَکُونَ سَمْعُهُ کَعِیَانِهِ إِنَّ النَّاسَ طَعَنُوا عَلَیْهِ فَکُنْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِینَ أُکْثِرُ اسْتِعْتَابَهُ وَ أُقِلُّ عِتَابَهُ وَ کَانَ طَلْحَهُ وَ الزُّبَیْرُ أَهْوَنُ سَیْرِهِمَا فِیهِ الْوَجِیفُ وَ أَرْفَقُ حِدَائِهِمَا الْعَنِیفُ

وَ کَانَ مِنْ عَائِشَهَ فِیهِ فَلْتَهُ غَضَبٍ فَأُتِیحَ لَهُ قَوْمٌ فَقَتَلُوهُ وَ بَایَعَنِی النَّاسُ غَیْرَ مُسْتَکْرَهِینَ وَ لَا مُجْبَرِینَ بَلْ طَائِعِینَ مُخَیَّرِینَ

وَ اعْلَمُوا أَنَّ دَارَ الْهِجْرَهِ قَدْ قَلَعَتْ بِأَهْلِهَا وَ قَلَعُوا بِهَا وَ جَاشَتْ جَیْشَ الْمِرْجَلِ وَ قَامَتِ الْفِتْنَهُ عَلَى الْقُطْبِ فَأَسْرِعُوا إِلَى أَمِیرِکُمْ وَ بَادِرُوا جِهَادَ عَدُوِّکُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج۱۶

«اعتذار القاضى عبد الجبار في المغنى من ذلك»

قال الشريف علم الهدى في الشافي نقلا عن القاضي أنه حكى عن أبي علي في قصة ابن مسعود و ضربه أنه قال: لم يثبت عندنا ضربه إياه و لا صح عندنا طعن عبد الله عليه و لا إكفاره له و الذي يصح في ذلك أنه كره منه جمع الناس على قراءة زيد و إحراقه المصاحف و ثقل ذلك عليه كما يثقل على الواحد منا تقديم غيره عليه و ذكر أن الوجه في جمع الناس على قراءة واحدة تحصين القرآن و ضبطه و قطع المنازعة فيه و الاختلاف. قال القاضي: و ليس لأحد أن يقول لو كان واجبا لفعله رسول الله صلى الله عليه و آله و ذلك أن الإمام إذا فعله صار كأنه فعله و لأن الأحوال في ذلك يختلف. و قد روى عن عمر انه كان قد عزم على ذلك فمات دونه، و ليس لأحد أن يقول إن احراقه المصاحف إنما كان استخفافا بالدين و ذلك لأنه إذا جاز من الرسول صلوات الله عليه أن يخرب المسجد الذي بنى ضرارا و كفرا فغير ممتنع إحراق المصاحف.

«اعتراض الشريف المرتضى في الشافى على القاضى»

قال بعد ما اثبت ضرب عثمان ابن مسعود و طعنه عثمان- فأما قوله: إن ابن مسعود سخط جمعه الناس على قراءة زيد و إحراقه المصاحف و اعتذاره من جمع الناس على قراءة واحدة بأن فيه تحصين القرآن و قطع المنازعة و الاختلاف فيه، ليس بصحيح و لا شك في أن ابن مسعود كره إحراق المصاحف كما كرهه‏

جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله و تكلموا فيه و ذكروا الرواة كلام كل واحد منهم في ذلك مفصلا و ما كره عبد الله من تحريم قراءته و قصر الناس على قراءة غيره إلا مكروها و هو الذي يقول النبي صلى الله عليه و آله: من سره أن يقرأ القرآن غضا كما انزل فليقرأ على قراءة ابن ام عبد.

و روى عن ابن عباس انه قال قراءة ابن ام عبد هي القرائة الأخيرة إن رسول الله صلى الله عليه و آله كان يعرض عليه القرآن في كل سنة في شهر رمضان فلما كان العام الذي توفي فيه صلى الله عليه و آله عرض عليه دفعتين و شهد عبد الله ما نسخ منه و ما صح فهي القرائة الأخيرة.

و روى شريك عن الأعمش قال: قال ابن مسعود: لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه و آله سبعين سورة و أن زيد بن ثابت لغلام يهودى في الكتاب له ذوابة.

أقول: قال في اسد الغابة: قال أبو وائل: لما شق عثمان المصاحف بلغ ذلك عبد الله فقال: لقد علم أصحاب محمد أني اعلمهم بكتاب الله و ما أنا بخيرهم و لو إني اعلم أن أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغنيه الابل لأتيته، فقال أبو وائل: فقمت إلى الخلق أسمع ما يقولون، فما سمعت أحدا من أصحاب محمد ينكر ذلك عليه. انتهى.

قال الشريف علم الهدى: فأما اختلاف الناس في القرائة و الأحرف فليس بموجب لما صنعه عثمان لأنهم يروون أن النبي صلى الله عليه و آله نزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف فهذا الاختلاف عندهم في القرآن مباح مسند عن الرسول صلى الله عليه و آله فكيف يحظر عليهم عثمان من التوسع في الحروف ما هو مباح فلو كان في القرائة الواحدة تحصين القرآن كما ادعى لما أباح النبي صلى الله عليه و آله في الأصل إلا القرائة الواحدة لأنه أعلم بوجوه المصالح من جميع امته من حيث كان مؤيدا بالوحى موقفا في كل ما يأتي و يذر و ليس له أن يقول: حدث من الاختلاف في أيامه ما لم يكن في أيام الرسول صلى الله عليه و آله و لا من جملة ما أباحه و ذلك أن الأمر لو كان على هذا لوجب أن ينهى عن القرائة الحادثة و الأمر المبتدع و لا يحمله ما حدث من القرائة على تحريم المتقدم المباح بلا شبهة.

و قول صاحب الكتاب: إن الإمام إذا فعل ذلك فكأن الرسول صلى الله عليه و آله فعله.

فتعلل بالباطل منه و كيف يكون ما ادعى و هذا الاختلاف بعينه قد كان موجودا في ايام الرسول صلى الله عليه و آله و ما نهى عنه فلو كان سببا لانتشار الزيادة في القرآن و في قطعه تحصين له لكان عليه السلام بالنهى عن هذا الاختلاف اولى من غيره، اللهم إلا ان يقال: انه حدث اختلاف لم يكن فقد قلنا ان الأمر لو كان على هذا- إلخ.

و أما قوله: إن عمر كان قد عزم على ذلك فمات دونه، فما سمعناه إلا منه‏[1] فلو فعل ذلك أي فاعل كان لكان منكرا.

فأما اعتذاره من أن إحراق المصاحف لا يكون استخفافا بالدين بحمله إياه على تخريب مسجد الضرار و الكفر فبين الأمرين بون بعيد لأن البنيان إنما يكون مسجدا و بيتا لله تعالى بنية الباني و قصده و لو لا ذلك لم يكن بعض البنيان بأن يكون مسجدا أولى من بعض و لما كان قصده في الموضع الذي ذكره غير القربة و العبادة بل خلافها و ضدها من الفساد و المكيدة لم يكن في الحقيقة مسجدا و ان سمى بذلك مجازا و على ظاهر الأمر، فهدمه لا حرج فيه و ليس كذلك ما بين الدفتين لأنه كلام الله تعالى الموقر المعظم الذي يجب صيانته عن البذلة و الاستخفاف فأي نسبة بين الأمرين.

ثم قال علم الهدى: قال صاحب الكتاب «يعني القاضي عبد الجبار صاحب المغني» فأما جمعه الناس على قراءة واحدة فقد بينا أن ذلك من عظيم ما حصن به القرآن لأنه مع هذا الصنيع قد وقع فيه من الاختلاف ما وقع فكيف لو لم يفعل‏ ذلك و لو لم يكن فيه إلا إطباق لجميع على ما أتاه من أيام الصحابة إلى وقتنا هذا لكان كافيا.

و اعترض عليه علم الهدى حيث قال: أما ما اعتذر به من جمع الناس على قراءة واحدة فقد مضى الكلام عليه مستقصى و بينا أن ذلك ليس تحصينا للقرآن و لو كان تحصينا لما كان رسول الله صلى الله عليه و آله يبيح القراآت المختلفة. و قوله: لو لم يكن فيه إلا إطباق الجميع على ما أتاه من أيام الصحابة إلى وقتنا هذا، ليس بشي‏ء لأنا نجد الاختلاف في القراآت الرجوع فيها إلى الحروف مستمرا في جميع الأوقات التي ذكرها إلى وقتنا هذا و ليس نجد المسلمين يوجبون على أحد التمسك بحرف واحد؛ فكيف يدعى إجماع الجميع على ما أتاه عثمان؟

فإن قال: لم أعن بجمعه الناس على قراءة واحدة إلا أنه جمعهم على مصحف زيد لأن ما عداه من المصاحف كان يتضمن من الزيادة و النقصان مما عداه ما هو منكر.

قيل له: هذا بخلاف ما تضمنه ظاهر كلامك أولا و لا تخلو تلك المصاحف التي تعد مصاحف زيد من أن تتضمن من الخلاف في الألفاظ و الكلم ما أقر رسول الله صلى الله عليه و آله عليه و أباح قراءته فان كان كذلك فالكلام في الزيادة و النقصان يجرى مجرى الكلام في الحروف المختلفة و أن الخلاف إذا كان مباحا و مرويا عن الرسول صلى الله عليه و آله و منقولا فليس لأحد أن يحظره. و ان كانت هذه الزيادة و النقصان بخلاف ما أنزله الله تعالى و ما لم يبح الرسول صلى الله عليه و آله تلاوته فهو أسوء ثناء على القوم الذين يقرون بهذه المصاحف كابن مسعود و غيره و قد علمنا أنه لم يكن منهم إلا من كان علما في القرائه و الثقة و الأمانة و النزاهة عن أن يقرأ بخلاف ما أنزله الله و قد كان يجب أن يتقدم هذا الإنكار منه من غيره لأن انكار الزيادة في القرآن و النقصان لا يجوز تأخيره عن ولي الأمر قبله.

أقول: زيد بن ثابت هو أحد كتاب الوحى كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه و آله الوحى و غيره. قال في اسد الغابة و كانت ترد على رسول الله صلى الله عليه و آله كتب بالسريانية فأمر زيدا فتعلمها. قال: و كان زيد عثمانيا و لم يشهد مع على شيئا من حروبه و كان يظهر فضل على و تعظيمه. و هو الذي كتب القرآن في عهد أبي بكر و عثمان كما في الفهرست لابن النديم أيضا.

و هو الذي ذكر المسعودي في مروج الذهب عن سعيد بن المسيب أن زيد ابن ثابت حين مات خلف من الذهب و الفضة ما كان يكسر بالفئوس غير ما خلف من الأموال و الضياع بقيمة مأئة ألف دينار اقتناها من عثمان لأنه كان عثمانيا.

و في الشافي لعلم الهدى أنه روى الواقدى أن زيد بن ثابت اجتمع عليه عصابة من الأنصار و هو يدعوهم إلى نصر عثمان فوقف عليه جبلة بن عمرو بن حية المازني فقال له جبلة: ما يمنعك يا زيد أن تذب عنه أعطاك عشرة ألف دينار و أعطاك حدائق من نخل ما لم ترث من أبيك مثل حديقة منها.

انظر أيها القارئ الكريم في أمر رسول الله صلى الله عليه و آله زيدا بتعلم السريانية نظر دقة أنه صلى الله عليه و آله كان في نشر العلوم و توسعة المعارف على ذلك الحد من الاهتمام و لم يكن دأبه العصبية و الجمود على لسان واحد و لغة واحدة و لا ريب أن لسان كل قوم سلم للوصول إلى معارفهم و نيل علومهم و درك فنونهم و لم يمنع الناس نبي عن الارتقاء و لم يحرم عليهم ما فيه سعادتهم بل الأنبياء بعثوا لترويج العلوم و تهذيب النفوس و تشحيذ العقول قال عز من قائل‏ هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلوا عليهم آياته و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة إلا أن الأوباش و عبيد الدنيا المأسورين في قيود الوساوس الشيطانية و المحرومين من اللذات الروحانية و المحجوبين عن جناب الرب جل جلاله و المغفلين عن معنى التمدن و التكامل لما تعودوا بما لا يزدادهم من الحق إلا بعدا و ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون اشمأزوا عما جاء من الشارع الحكيم فيما لم يوافق غرضا من أغراضهم الدنية.

«التبيان في عدم تحريف القرآن»

لما انجر البحث إلى إحراق عثمان مصاحف فلا بأس أن نشير إلى عدم تحريف القرآن الكريم في المقام فانه كثيرا ما يتوهم بل كثيرا ما يسأل عن تحريفه‏ و زيادته و نقصانه، و يختلج في بعض الأذهان أن ما بين الدفتين الذي بأيدي المسلمين الان ليس هو جميع ما أنزل على الرسول الخاتم صلى الله عليه و آله.

و اعلم أن الحق المحقق المبرهن بالبراهين القطعية من العقلية و النقلية أن ما في أيدي الناس من القرآن الكريم هو جميع ما أنزل الله تعالى على رسوله خاتم النبيين محمد بن عبد الله صلى الله عليه و آله و ما تطرق إليه زيادة و نقصان أصلا؛ و مبلغ سوره مأئة و أربع عشرة سورة من لدن رسول الله صلى الله عليه و آله إلى الان بلا ريب و أن ترتيب الايات في السور توقيفي إنما كان بأمر النبي صلى الله عليه و آله كما أخبر به الأمين جبرائيل عن أمر ربه، و أن الناس كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه و آله قبل رحلته يعرفون السور بأساميها، و أن رسم الخط في القرآن المجيد هو الرسم المكتوب من كتاب الوحى في زمن الرسول صلى الله عليه و آله، و أن آية بسم الله الرحمن الرحيم لم تكتب في أول البراءة لأنها لم تنزل معها كما نزلت مع غيرها من السور 113 مرة و انها جزء كل سورة كما أنها جزء آية النمل بل انها آيتان فيه. و أن ما جاء من الأخبار و الاثار في جمع جم غفير من الصحابة القرآن في عهد الرسول صلى الله عليه و آله أو بعد رحلته كما ورد أن جمع القرآن وقع على عهد أبي بكر فليس المراد أنهم رتبوا الايات في السور و سيأتي الكلام في تحقيق ترتيب السور أيضا.

و كلما ذكرنا هو مذهب المحققين من علمائنا الإمامية رضوان الله عليهم و غيرهم من علماء العامة هداهم الله إلى الصواب و من ذهب إلى خلاف ذلك فقد خبط خبط عشواء و سلك طريقة عمياء.

ثم إنا لو نأتي بالبراهين في كل واحد مما اشرنا إليها و نبين بطلان قول المخالف على التفصيل لطال بها الكتاب و انتشر الخطاب و كثر بنا الخطب لكنا نورد جملة منها فإن فيها كفاية إن شاء الله تعالى لمن كان له قلب.

و اعلم أن ما جاء به النبي صلى الله عليه و آله من الأخبار المتواترة في فضائل السور بأساميها بل في فضائل بعض آيات القرآن و في وضع الايات في كل موضع خاص بأمر أمين الوحى، و أن بعض السور افتتح ببعض من الحروف المقطعة دون بعض‏ مثلا ان البقرة افتتحت بالم، و يونس بالر، و الرعد بالمر، و الأعراف بالمص، و مريم بكهيعص، و الشعراء بطسم، و النمل بطس، و المؤمن بحم، و الشورى بحمعسق، و هكذا في السور الأخر، و أن بعضها لم يفتتح بها و أن سورة البراءة ليست مبدوة ببسم الله الرحمن الرحيم، و قوله تعالى: سورة أنزلناها و فرضناها (النور- 2) و قوله تعالى (البقرة- 22) و إن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله و ادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين‏. و قوله‏ (يونس- 39) أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله و ادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين‏ و قوله تعالى (التوبة- 88) و إذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله‏ إلخ. و قوله‏ (هود- 16) أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات و ادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين‏- أدلة قطعية على أن تركيب السور من الايات كان بأمر النبي صلى الله عليه و آله و انها كانت مرتبة موسومة بأساميها في عهده صلى الله عليه و آله قبل ارتحاله يعرفها الناس بها.

نقل أمين الاسلام في تفسيره مجمع البيان و الزمخشري في الكشاف و السيوطي في الاتقان و غيرهم من أجلاء العلماء عن ابن عباس و السدي أن قوله تعالى:و اتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت و هم لا يظلمون‏ (البقرة- 280) آخر آية نزلت من الفرقان على رسول الله صلى الله عليه و آله و أن جبرئيل عليه السلام قال له صلى الله عليه و آله ضعها في رأس الثمانين و المأتين من البقرة، و هذا القول كأنما إجماعى و إنما الاختلاف في مدة حياة رسول الله صلى الله عليه و آله بعد نزولها، فعن ابن عباس انه صلى الله عليه و آله عاش بعدها احدا و عشرين يوما، و قال ابن جريح: تسع ليال و قال سعيد ابن جبير و مقاتل: سبع ليال و في الكشاف: قيل ثلاث ساعات.

أقول: وضع جميع الايات في مواضعها كان بأمر الله تعالى و إن لم يذكر في الجوامع لكل واحدة واحدة منها رواية عليحدة و لا ضير أن تكون الاية المتقدمة على آية في السورة متأخرة عنها نزولا.

قال الزمخشري في أول التوبة من الكشاف: فإن قلت: هلا صدرت باية التسمية كما في سائر السور؟ قال: قلت: سأل عن ذلك ابن عثمان عنهما فقال:

إن رسول الله صلى الله عليه و آله كان إذا انزلت عليه السورة أو الاية قال: اجعلوها في الموضع الذي يذكر فيه كذا و كذا و توفي رسول الله صلى الله عليه و آله و لم يبين لنا أين نضعها- إلخ.

أقول: فالرواية دالة صريحة على أن تركيب السور بالايات كان بأمره صلى الله عليه و آله و أن آية البسملة لم ينزل مع البراءة و إلا لجعلها في أولها و أن البسملة نزلت مأئة و ثلاث عشرة مرة مع كل سورة مفتتحة بها و هذه الرواية مروية في المجمع و الاتقان أيضا.

روى الطبرسي في المجمع و غيره في التفاسير و الجوامع و السير عن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله: تعلموا سورة البقرة و سورة آل عمران فانهما الزهراوان و انهما تظلان صاحبهما يوم القيامة كانهما غمامتان أو غيابتان أو فرقان من طير صواف أقول: فالحديث يدل صريحا على أن هاتين السورتين كانتا في عهد رسول الله صلى الله عليه و آله مرتبتين متداولتين يعرفهما الناس.

و روى السيوطي في الاتقان و المفسرون منهم الطبرسي في أول سورة هود روى الثعلبي بإسناده عن إسحاق عن أبي جحيفة قال: قيل: يا رسول الله قد أسرع إليك الشيب قال صلى الله عليه و آله: شيبتني هود و أخواتها.

و في رواية اخرى عن أنس بن مالك عن أبي بكر قال: قلت يا رسول الله: عجل إليك الشيب قال صلى الله عليه و آله: شيبتني هود و أخواتها الحاقة و الواقعة و عم يتساءلون و هل أتيك حديث الغاشية.

قال الطبرسي في الفن الرابع من مقدمة مجمع البيان: و قد شاع في الخبر عن النبى صلى الله عليه و آله انه قال: أعطيت مكان التوارة السبع الطول و مكان الإنجيل المثانى و مكان الزبور المئين و فضلت بالمفصل. و رواها السيوطى في الإتقان و غيره أيضا في جوامعهم.

بيان‏

كلمة: الطول مكتوبة في النسخ المطبوعة و غيرها غالبا بالألف أعنى الطوال‏ و لكنه تصحيف و الصواب الطول كصرد جمع الطولى مؤنث الأطول قال ابن الأثير في النهاية: و قد تكرر في الحديث: اوتيت السبع الطول و الطول بالضم جمع الطولى مثل الكبر في الكبرى و هذا البناء يلزمه الالف و اللام أو الإضافة قال: و منه حديث ام سلمة كان يقرأ في المغرب بطولي الطوليين ثنية الطولى و مذكرها الأطول أى انه كان يقرأ فيها بأطول السورتين الطويلتين يعني الأنعام و الأعراف- انتهى و كذا في القاموس و مجمع البحرين.

أقول: إن هذه الأحاديث و أمثالها المروية من الفريقين عن رسول الله صلى الله عليه و آله مما لا تعد كثرة تدل على أن السور كانت مرتبة قبل رحلة الرسول صلى الله عليه و آله و كان الناس يعرفونها بأساميها فلا حاجة إلى نقل جميع الأخبار الواردة في فضائل السور.

نعم إن ترتيب السور القرآن ليس على ترتيب النزول بل إن ترتيب آيات السور أيضا ليس على ترتيب النزول سواء كانت السورة نزلت جملة واحدة كسورة الأنعام كما في مجمع البيان و كثير من المفصل أو لم تكن.

ثم إن مما الهمت على أن ترتيب الايات في السور كان من أمر رسول الله صلى الله عليه و آله أن بعض السور كالأنعام مثلا نزلت جملة واحدة، و أن أكثر آيات السور نزلت نجوما و لا كلام في أن بعضها مقدم على البعض نزولا و تركيب السور منها ليس بترتيب نزولها ظاهرا و مع ذلك ركبت على نحو كان بين الايات المتسقة في السور كمال البلاغة و الفصاحة على حد تحدى الله تعالى عباده بالاتيان بعشر سور أو بسورة من القرآن و قال: لئن اجتمعت الإنس و الجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا (الكهف- 91) و أني للبشر أن يؤلف جملا شتى نزلت في نيف و عشرين سنة في أحكام مختلفة تبلغ إلى ذلك الحد من الإعجاز؟ فهل يسع أحدا أن يقول إن ترتيبها كذلك في السور لم يكن بأمر الله تعالى و أمر رسوله؟ فانتبهوا يا اولى الالباب‏ أ فلا يتدبرون القرآن و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (النساء- 85).

على أن الايات لو لم تكن في عهد رسول الله صلى الله عليه و آله مرتبة و أن الصحابة رتبوها بعده صلى الله عليه و آله كما توهم شرذمة قليل من غير تدبر و تعمق لم يكن لقوله تعالى: فأتوا بسورة*- أو بعشر سور، و أمثالها معنى. قال السيوطى في الفصل الأول من النوع 18 من الاتقان: الإجماع و النصوص المترادفة على أن ترتيب الايات توقيفى لا شبهة في ذلك فنقله غير واحد منهم الزركشي في البرهان و أبو جعفر بن الزبير في مناسباته و عبارته: ترتيب الايات في سورها واقع بتوقيفه صلى الله عليه و آله و أمره من غير خلاف في هذا بين المسلمين.

ثم كثيرا ما يقرع سمعك في التفاسير و الشروح أن هذه الاية مرتبطة بتلك الاية و تلك بهاته، مثلا قال الطبرسى في المجمع قوله تعالى: و إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى‏ (النساء- 3) متصلة بقوله تعالى: و يستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن‏ (النساء- 127) فمرادهم أن تلك الايات متصل بعضها ببعض معنى و ذلك لأن القرآن يفسر بعضه بعضا كالمبين للمجمل و المقيد للمطلق و الخاص للعام قال أمير المؤمنين علي عليه السلام في النهج الخطبة 131: كتاب الله تبصرون به و تنطقون به و تسمعون به و ينطق بعضه ببعض و يشهد بعضه على بعض و لا يختلف في الله و لا يخالف بصاحبه عن الله- إلخ. و المراد من قوله عليه السلام: يشهد بعضه على بعض أن بعضه يصدق بعضا و لا يضاده كما قال الله تعالى: أ فلا يتدبرون القرآن و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (النساء- 85) و قال تعالى: ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق و إن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد (البقرة- 173) و ليس مرادهم أن تلك الايات متصلة بالأخرى لفظا لما دريت من أن الايات رتبت على عهد رسول الله صلى الله عليه و آله بأمره و عليه جمهور العلماء المحققين.

أقول: و من جهة ارتباط المعنى عدت سورتا و الضحى و الانشراح واحدة و جوزت قراءتهما في السورتين بل لم تجز قراءة واحدة منهما في الفريضة مع أنه ورد النهى عن القرآن بين السورتين في ركعة فريضة و يجب أن يقرأ بين السورتين بسم الله الرحمن الرحيم لأنها جزء السورة و قول الشيخ الطوسى قدس الله سره‏ بترك البسملة بين السورتين عليل لا يوافقه دليل، و كذا الفيل و قريش، قال السيد بحر العلوم قدس سره في الدرة.

و و الضحى و الإنشراح واحدة بالاتفاق و المعاني شاهدة
كذلك الفيل مع الإيلاف‏ و فصل بسم الله لا ينافي‏

و إنما قيدنا الركعة بالفريضة لأنه يجوز الجمع بين سور كثيرة في النوافل فاذا جمعها وجب أن يقرأ البسملة مع كل سورة و في النوع 19 من الاتقان قال:و في كامل الهذلى عن بعضهم انه قال: الضحى و الم نشرح سورة واحدة نقله الإمام الرازي في تفسيره عن طاوس و غيره من المفسرين.

و اعلم أن بسم الله الرحمن الرحيم جزء آية من سورة النمل بل إنها آيتان فيها و أنها آية من كل سورة و لذا من تركها في الصلاة سواء كانت الصلاة فرضا أو ندبا بطلت صلاته و يجب الجهر بها فيما يجهر فيه بالقرائة و يستحب الجهر بها فيما يخافت فيه بالقرائة و هو مذهب أصحابنا الإمامية و بين فقهاء الأمة فيها خلاف و إن وافقنا فيه أكثرهم بل هو مذهب جل علماء السلف لو لا الكل.

قال في تفسير المنار: اجمع المسلمون على أن البسملة من القرآن و أنها جزء آية من سورة النمل. و اختلفوا في مكانها من سائر السور فذهب إلى أنها آية من كل سورة علماء السلف من أهل مكة فقهائهم و قرائهم و منهم ابن كثير و أهل الكوفة و منهم عاصم و الكسائي من القراء و بعض الصحابة و التابعين من أهل المدينة و الشافعي في الجديد و اتباعه و الثوري و أحمد في أحد قوليه و الامامية، و من المروي عنهم ذلك من علماء الصحابة على عليه السلام و ابن عباس و ابن عمر و أبو هريرة و من علماء التابعين سعيد بن جبير و عطاء و الزهري و ابن المبارك، و أقوى حججهم في ذلك إجماع الصحابة و من بعدهم على إثباتها في المصحف أول كل سورة سوى سورة برائة مع الأمر بتجريد القرآن عن كل ما ليس منه.

و لذلك لم يكتبوا آمين في آخر الفاتحة، و أحاديث منها ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه و آله: انزلت على آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم، و روى‏ أبو داود بإسناد صحيح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه و آله كان لا يعرف فصل السورة و في رواية انقضاء السورة- حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم، و أخرجه الحاكم في المستدرك، و قال: صحيح على شرط الشيخين. و روى الدارقطنى من حديث أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله إذا قرأتم الحمد لله فاقرءوا بسم الله الرحمن الرحيم فانها ام القرآن و السبع المثاني، و بسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها. و ذهب مالك و غيره من علماء المدينة، و الأوزاعى و غيره من علماء الشام و أبو عمرو و يعقوب من قراء البصرة إلى أنها آية مفردة أنزلت لبيان رءوس السور و الفصل بينها، و عليه الحنفية، و قال حمزة من قراء الكوفة و روى عن أحمد أنها آية من الفاتحة دون غيرها و ثمة أقوال اخر شاذة (قاله في سورة الفاتحه).

أقول: لم يكن لهؤلاء الشرذمة القائلين بأن البسملة آية واحدة نزلت مرة واحدة فقط حجة قاطعة يعتد بها و لو أتوا بحجة فهي داحضة بلا مرية و ارتياب، و كيف؟ و أن كثيرا من الايات كررت في القرآن نحو آية فبأي آلاء ربكما تكذبان إحدى و ثلاثين مرة في الرحمن، و آية ويل يومئذ للمكذبين عشر مرات في المرسلات، و آية إنا كذلك نجزى المحسنين أربع مرات في الصافات، و آية الم ست مرات: في مفتتح البقرة، آل عمران، العنكبوت الروم، لقمن، السجدة، و آية الر خمس مرات: في مفتتح يونس، هود، يوسف، إبراهيم الهجر، و آية حم ست مرات: مفتتح المؤمن، فصلت، الزخرف، الدخان، الجاثية، الأحقاف و مع سورة الشورى‏ حم عسق‏ تصير سبع مرات، و آية طسم‏ مرتين: مفتتح الشعراء و القصص. و قوله تعالى: و ما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون‏ مرتين (النمل- 85) و (الروم- 54) إلا أن كلمة «هادي» في الثانية مكتوبة بلاياء أعنى «بهاد العمى» اتباعا للمصاحف التي كتبت على عهد النبي صلى الله عليه و آله كما سيأتي تحقيقه. و كذا طائفة من آيات اخر كررت في القرآن فأنى يجوز لهؤلاء أن يقولوا إنها نزلت مرة واحدة و ما دليلهم على ذلك فلم لم يكن البسملة نازلة كأخواتها غير مرة؟ على أن مذهبهم يضاد صريح كثير من الأخبار المصرحة في أن البسملة نزلت بعددها في القرآن، مع أن اهتمام رسول الله صلى الله عليه و آله و المسلمين و دأبهم و سيرتهم تجريد القرآن عن كل ما ليس منه؛ و في النوع 18 من الإتقان عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله: لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن.

و قال في أول التوبة من تفسير المنار: و لم يكتب الصحابة و لا من بعدهم البسملة في أولها لأنها لم تنزل معها كما نزلت مع غيرها من السور قال: هذا هو المعتمد المختار في تعليله و قيل رعاية لمن كان يقول إنها مع الأنفال سورة واحدة و المشهور انه لنزولها بالسيف و نبذ العهود و قيل غير ذلك مما في جعله سببا و علة نظر، و قد يقال: انه حكمة لا علة و مما قاله بعض العلماء في هذه الحكمة أنها تدل على أن البسملة آية من كل سورة أى لأن الاستثناء بالفعل كالاستثناء بالقول معيار العموم انتهى.

و قال في الاتقان (أول النوع 19 منه). اخرج القشيري الصحيح أن التسمية لم تكن في البراءة لأن جبرئيل عليه السلام لم ينزل بها فيها.

و في الشاطبية:

و بسمل بين السورتين [ [ب] سنة] [ر] جال [ [ن] موها] [د] ربة و تجملا

قال ابن القاصح في الشرح: أخبر أن رجالا بسملوا بين السورتين آخذين في ذلك بسنة، نموها أى رفعوها و نقلوها و هم قالون و الكسائي و عاصم و ابن كثير و اشار اليهم بالباء و الراء و النون و الدال من قوله بسنة رجال نموها دربة. و أراد بالسنة التي نموها كتابة الصحابة لها في المصحف و قول عائشة رضى الله عنها اقرءوا ما في المصحف و كان النبي صلى الله عليه و آله لا يعلم انقضاء السورة حتى تنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم ففيه دليل على تكرير نزولها مع كل سورة.

أقول: و روى عن أئمتنا عليهم السلام نحو الرواية المروية عنها كما في تفسير العياشي‏ عن صفوان الجمال قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: ما أنزل الله من السماء كتابا إلا و فاتحته بسم الله الرحمن الرحيم و إنما كان يعرف انقضاء السورة بنزول بسم الله الرحمن الرحيم ابتداء للاخرى.

و كذا في الكافي عن يحيى بن أبي عمير الهذلي قال: كتبت إلى أبي جعفر عليه السلام جعلت فداك تقول في رجل ابتدأ ببسم الله الرحمن الرحيم في صلاة وحده في أم الكتاب فلما صار إلى غير ام الكتاب من السورة تركها فقال العياشي: ليس بذلك بأس فكتب عليه السلام بخطه: يعيدها مرتين على رغم أنفه يعني العياشي.

و صحيحة محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن السبع المثاني و القرآن العظيم هي الفاتحة قال: نعم قلت: بسم الله الرحمن الرحيم من السبع قال: نعم هى أفضلهن و غيرها من الروايات و الأخيرة تختص بام الكتاب.

و مهما تصلها أو بدأت براءة لتنزيلها بالسيف لست مبسملا

قال الشارح: تصلها الضمير فيه لبرائة اضمر قبل الذكر على شريطة التفسير يعني أن سورة براءة لا بسملة في أولها سواء وصلها القاري بالأنفال أو ابتدأ بها؛ ثم ذكر الحكمة في ترك البسملة في أولها فقال لتنزيلها بالسيف يعني أن براءة نزلت على سخط و وعيد و تهديد و فيها السيف. قال ابن عباس سألت عليا رضي الله عنه لم لم تكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم؟ فقال: لأن بسم الله أمان و براءة ليس فيها أمان نزلت بالسيف.

أقول: لا كلام في أن المختار المعتمد في تعليل ترك البسملة أول البراءة هو عدم نزولها معها كما مضى غير مرة و اختاره العالم عبده في تفسيره و لو تؤمل في الأقوال الاخر حيث تصدوا لتركها في براءة لعلم أن دليلهم عليل و من قال:القول «بأن ترك البسملة في براءة لنزولها بالسيف و نبذ العهود و البسملة آية رحمة» حكمة لا علة، فنعم القول هو لأن البسملة مذكورة في أول كثير من السور بدئت بالعذاب نحو: هل أتيك حديث الغاشية و سئل سائل بعذاب واقع و نحوهما و على هذا القول يحمل قول أمير المؤمنين علي عليه السلام كما أتى به في المجمع (أول سورة برائة) و شرح الشاطبية انه لم ينزل بسم الله الرحمن الرحيم على رأس سورة برائة لأن بسم الله للأمان و الرحمة و نزلت برائة لرفع الأمان بالسيف. و بالجملة العمدة في ذلك هي السماع و التعبد، و الأخبار الواردة في ذلك نحو قوله عليه السلام لا تنافيها فانه عليه السلام يبين عدم نزولها في برائة بتلك الحكمة فهي ما نزلت معها كما صرح القشيرى و غيره ان جبرئيل عليه السلام لم ينزل بها فيها.

فاذا علمت أن البسملة جزء من السور آية على حيالها فاعلم أنه يترتب عليه كثير من المسائل الفقهية: مثلا من ابتداء بقراءة الفاتحة و لو نوى البسملة جزءا من الإخلاص مثلا لم تصح صلاته و كذا لو نوى في الإخلاص بسملة الفاتحة أو السورى الأخرى، و من كان جنبا و قلنا يحرم عليه قراءة سور العزائم لاقرائة آيات السجدة فقط فلو قرأ البسملة ناويا على أنها جزء من إحداها فعل حراما.

و من يصلى الظهرين يجب اخفاتها عليه كما أن من يصلى العشائين و الصبح يجب جهرها عليه؛ و نظائرها و من جمع الفيل و القريش و الضحى و الانشراح يجب أن يبسمل بين السورتين.

«البيان في ترتيب سور القرآن»

لا شك أن تركيب السور من الايات توقيفي أعني أن وضع كل آية في موضع معين من السور التي لم تنزل جملة واحدة كان بأمر رسول الله صلى الله عليه و آله أخبر به جبرئيل عن أمر ربه و هو اجماع المسلمين قاطبة كما حققناه و إنما قلنا في السور التي لم تنزل جملة واحدة لأن السور التي نزلت جملة واحدة أعنى دفعة واحدة فالأمر فيها أوضح لأنها نزلت مترتبة الايات أولا كسورة الفاتحة و الأنعام و كثير من المفصل.[2] و إنما الكلام في أن ترتيب سور القرآن في الدفتين على تلك الهيئة المشهودة لنا الان أولها الفاتحة و آخرها الناس هل وقع في عهد رسول الله صلى الله عليه و آله و بأمره أيضا أم لا؟ و بالجملة أن ترتيب السور أيضا كترتيب الايات توقيفي أم لا؟ و الحق هو الأول كالأول و ذلك لأن القرآن كان على عهد النبي صلى الله عليه و آله مجموعا مدونا جمعه غير واحد من الصحابة و قرءوه على النبي صلى الله عليه و آله و كان ترتيب السور كما هو في المصحف الان كترتيب الايات بأمر النبي صلى الله عليه و آله و هو مذهب المحققين من علماء المسلمين قديما و حديثا و من عدل عنه تمسك ببعض الأخبار الشاذ الواحد أو الموضوع أو لم يصل إلى فهم مراد الخبر و نحن في غني عن نقل أقوالهم و ردها و إبطالها لأنها لا يزيد إلا تطويل كلام لا طائل فيه فان الأمر بين.

قال ابن النديم في الفهرست (ص 41 طبع مصر، الفن الثالث من المقالة الأولى): الجماع للقرآن على عهد النبي صلى الله عليه و آله علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، سعد بن عبيد بن النعمان بن عمرو بن زيد رضي الله عنه، أبو الدرداء عويمر ابن زيد رضى الله عنه، معاذ بن جبل بن أوس رضي الله عنه، أبو زيد ثابت بن زيد بن النعمان، ابي بن كعب بن قيس بن مالك بن امرى‏ء القيس، عبيد بن معاوية، زيد بن ثابت بن الضحاك.

و أتى السيوطي في النوع العشرين و غيره من الإتقان بعدة من جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه و آله بطرق مختلفة من كبار المؤلفين قال: روى البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت النبي صلى الله عليه و آله يقول خذوا القرآن من أربعة من عبد الله بن مسعود و سالم و معاذ و ابى بن كعب.

و قال: أخرج النسائي بسند صحيح عن عبد الله بن عمر قال: جمعت القرآن فقرأت به كل ليلة فبلغ النبي صلى الله عليه و آله فقال اقرأه في شهر- الحديث.

قال: و أخرج ابن أبي داود بسند حسن عن محمد بن كعب القرظي قال:جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه و آله خمسة من الأنصار: معاذ بن جبل و عبادة ابن الصامت و ابي بن كعب و أبو الدرداء و أبو أيوب الأنصارى. و غيرها من الأخبار الواردة في أن القرآن جمع على عهد النبي صلى الله عليه و آله و كم من روايات دالة على أن عدة من الصحابة قرأ القرآن عليه مرارا منهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام و عبد الله بن مسعود و زيد بن ثابت و ابي بن كعب و غيرهم.

هؤلاء ممن جمعوا القرآن على عهد النبي صلى الله عليه و آله و قرءوه عليه و ختموه عليه عدة ختمات فكيف لم يكن القرآن على عهده مجموعا مرتبا و احتمال أنهم قرءوه و ختموه عليه صلى الله عليه و آله مبثوثا مبتورا مبتور جدا و من تأمل أدنى تأمل في نظم السور و شدة اهتمام رسول الله صلى الله عليه و آله في حراسة القرآن و توقيه عن اجتهاد أحد و إعمال ذوق و سليقة فيه و عنايته بحفظه و قوله صلى الله عليه و آله إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله و أهل بيتى إلخ المروي من المسلمين بطرق كثيرة و في الرواية الواردة من فرق المسلمين في معارضة جبرئيل القرآن عليه صلى الله عليه و آله في كل سنة مرة و في السنة التي توفى صلى الله عليه و آله فيها مرتين و غيرهما من الأخبار في هذا المعنى علم أنه كان مجموعا مرتبا آياته و سوره على ما هو في المصحف الان بلا تغيير و تبديل و زيادة و نقصان.

بيان

في مادة- ع ر ض- من النهاية الأثيرية: أن جبرئيل عليه السلام كان يعارضه صلى الله عليه و آله القرآن في كل سنة مرة و أنه عارضه العام مرتين؛ أي كان يدارسه جميع ما نزل من القرآن من المعارضة بمعنى المقابلة و منه عارضت الكتاب بالكتاب أى قابلته به.

و في الفصل الثامن النوع الثامن عشر من الإتقان: قال أبو بكر بن الأنبارى: أنزل الله القرآن كله إلى سماء الدنيا ثم فرقه في بضع و عشرين فكانت السورة تنزل لأمر يحدث و الاية جوابا لمستخبر و يوقف جبرئيل النبي صلى الله عليه و آله على موضع الاية و السورة فاتساق السور كاتساق الايات و الحروف كله عن النبي صلى الله عليه و آله فمن قدم سورة أو أخرها فقد أفسد نظم القرآن.

و قال الكرماني في البرهان: ترتيب السور هكذا هو عند الله في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب و عليه كان صلى الله عليه و آله يعرض على جبرئيل كل سنة ما كان يجتمع عنده منه و عرضه عليه في السنة التي توفى فيها مرتين و كان آخر الايات نزولا و اتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله‏ فأمره جبرئيل أن يضعها بين آيتي الربا و الدين.

و قال الطيبي: انزل القرآن أولا جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ثم نزل مفرقا على حسب المصالح ثم اثبت في المصاحف على التأليف و النظم المثبت في اللوح المحفوظ.

و قال البيهقي في المدخل: كان القرآن على عهد النبي صلى الله عليه و آله مرتبا سوره و آياته على هذا الترتيب- إلخ.

و قال أبو جعفر النحاس: المختار أن تأليف السور على هذا الترتيب من رسول الله صلى الله عليه و آله الحديث واثلة اعطيت مكان التوراة السبع الطول، قال: فهذا الحديث يدل على أن تأليف القرآن مأخوذ عن النبي صلى الله عليه و آله و أنه من ذلك الوقت- إلخ.

و قال ابن الحصار: ترتيب السور و وضع الايات موضعها إنما كان بالوحى.

ثم السيوطى بعد نقل أقوال اخر من الأعاظم في أن ترتيب السور كترتيب الايات توقيفي قال: قلت: و مما يدل على أن ترتيب السور توقيفي كون الحواميم رتبت ولاء و كذا الطواسين و لم ترتب المسبحات ولاء بل فصل بين سورها و فصل بين طسم الشعراء و طسم القصص بطس مع أنها أقصر منهما و لو كان الترتيب اجتهاديا لذكرت المسبحات ولاء و اخرت طس عن القصص و كذا نقل عدة أقوال في النوع 62 منه في مناسبة الايات و السور و ترتيب كل واحد منهما على هذا النهج بأمره تعالى.

أقول: الأمر أبلج من الصبح و أبين من الشمس في رائعة النهار في أن تركيب سور هذا السفر القيم الالهى و ترتيبها على هذا الأسلوب البديع لم يكن إلا بأمره تعالى و من قال في القرآن غير ما حققنا افترى على الله و اختلق على كتابه و رسوله.

و ذهب شرذمة إلى أن ترتيب السور لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه و آله و إنما رتبت على عهد أبي بكر.

أقول: لو سلمنا بعد الإغماض عن ما تمسكوا بها و استدلوا عليها و اغتروا بظاهرها، أن سور القرآن رتبت بعد رسول الله صلى الله عليه و آله فإن أول من جمع القرآن بعده صلى الله عليه و آله هو أمير المؤمنين و هو عليه السلام كان عالما فيما نزلت الايات و أين نزلت و على من نزلت و كبار الصحابة تعلموا القرآن منه عليه السلام و أخذوه عنه عليه السلام و لا ريب انه عليه السلام كان أعرف بالقرآن من غيره و أجمعت الأمة على انه كان حافظ القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه و آله و قرأه عليه مرارا فلا ريب أن جمعه و ترتيبه حجة على أنه عليه السلام معصوم كما بينا في شرح الخطبة 237 و كل ما جاء به المعصوم مصون من الخلل و حجة على بني آدم و هذا الترتيب المشهود الان في المصاحف و قراءته هو ترتيبه و قراءته عليه السلام.

قال الفاضل الشارح المعتزلي في مقدمة شرحه على النهج في فضائله عليه السلام (ص 6 طبع ايران 1304 ه): أما قراءة القرآن و الاشتغال به فهو المنظور إليه في هذا الباب اتفق الكل على أنه عليه السلام كان يحفظ القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه و آله و لم يكن غيره يحفظه ثم هو أول من جمعه، نقلوا كلهم انه تأخر عن بيعة أبي بكر فأهل الحديث لا يقولون ما تقوله الشيعة من أنه تأخر مخالفته للبيعة بل يقولون تشاغل بجمع القرآن فهذا يدل على أنه أول من جمع القرآن لأنه لو كان مجموعا في حياة رسول الله صلى الله عليه و آله لما احتاج إلى أن تشاغل بجمعه بعد وفاته صلى الله عليه و آله و إذا رجعت إلى كتب القرآن وجدت أئمة القراء كلهم يرجعون إليه كأبي عمرو بن العلاء و عاصم بن أبي النجود و غيرهما لأنهم يرجعون إلى أبى عبد الرحمان بن السلمي القاري و أبو عبد الرحمان كان تلميذه و عنه أخذ القرآن فقد صار هذا الفن من الفنون التي ينتهى إليه أيضا مثل كثير مما سبق. انتهى قوله.

أقول: قد وردت أخبار كما أتى بها السيوطي في الاتقان و غيره في جوامعهم أن أمير المؤمنين عليه السلام و غيره جمعوا القرآن فذهب قوم إلى أن السور رتبت في الدفتين باجتهاد الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه و آله جمودا على ظاهرها و قد غفلوا أن ظاهرها لا تنافي أن يكون ترتيب السور و وضع كل واحدة منها في موضع خاص كما في المصحف الان بأمر النبي صلى الله عليه و آله كما هو الحق فإياك أن تعني من قول‏ الفاضل المذكور و غيره أن القرآن جمع بعد النبي أن ترتيب السور كان بعده صلى الله عليه و آله و سنزيدك بيانا إن شاء الله تعالى.

قال ابن النديم في الفهرست (41 طبع مصر من الفن الثالث من المقالة الأولى):قال ابن المنادى حدثني الحسن العباس قال: أخبرت عن عبد الرحمان بن أبي حماد عن الحكم بن ظهير السدوسي عن عبد خير عن علي عليه السلام أنه رأي من الناس طيرة عند وفاة النبي صلى الله عليه و آله فأقسم أنه لا يضع عن ظهره ردائه حتى يجمع القرآن فجلس في بيته ثلاثة أيام حتى جمع القرآن فهو أول مصحف جمع فيه القرآن من قلبه. ثم قال: و كان المصحف عند أهل جعفر و رأيت أنا في زماننا عند أبي يعلي حمزة الحسني رحمه الله مصحفا قد سقط منه أرواق بخط علي بن أبي طالب يتوارثه بنو حسن على مر الزمان.

و قد روي السيوطي في النوع الثامن عشر من الاتقان بسند حسن عن عبد خير قال: قال علي عليه السلام: لما مات رسول الله صلى الله عليه و آله آليت أن لا آخذ على ردائي إلا لصلاة جمعة حتى أجمع القرآن فجمعته.

و روي أيضا بطريق آخر عن محمد بن سيرين عن عكرمة قال لما كان بعد بيعة أبي بكر قعد على بن أبي طالب في بيته فقيل لأبى بكر قد كره بيعتك فأرسل إليه- إلى أن قال: قال أبو بكر: ما أقعدك عني؟ قال: رأيت كتاب الله يزاد فيه فحدثت نفسى أن لا ألبس ردائى إلا لصلاة حتى أجمعه قال له أبو بكر: فانك نعم ما رأيت، قال محمد: فقلت لعكرمة: ألفوه كما أنزل الأول فالأول؟ قال: لو اجتمعت الإنس و الجن على أن يؤلفوه هذا التأليف ما استطاعوا.

قال: ابن الحجر في الصواعق المحرقة (ص 76 طبع مصر) باسناده عن سعيد ابن مسيب قال: لم يكن أحد من الصحابة يقول سلوني إلا علي عليه السلام و قال واحد من جمع القرآن و عرضه على رسول الله صلى الله عليه و آله. و قال أيضا أخرج ابن سعد عن علي عليه السلام قال:و الله ما نزلت آية إلا و قد علمت فيم نزلت و أين نزلت و على من نزلت إن ربي وهب لى‏ قلبا عقولا و لسانا ناطقا. و قال: أخرج ابن سعد قال على عليه السلام: سلونى عن كتاب الله فانه ليس من آية إلا و قد عرفت بليل نزلت أم بنهار أم في سهل أم في جبل.

قال: و أخرج الطبرانى في الأوسط عن ام سلمة قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله يقول:على مع القرآن و القرآن مع على لا يفترقان حتى يردا على الحوض.

و في الاتقان (طبع مصر 1318 ص 74 ج 1) قال ابن حجر: و قد ورد عن على انه جمع القرآن على ترتيب النزول عقب موت النبي صلى الله عليه و آله أخرجه ابن أبى داود.

أقول: ابن حجر هذا هو الحافظ أحمد بن على بن حجر العسقلانى صاحب كتاب الاصابة في معرفة الصحابة و تقريب التهذيب و غيرهما توفى سنة 852 ه و صاحب الصواعق المحرقة سميه أحمد بن محمد بن علي الهيتمى مات سنة 973 ه و جلال الدين السيوطى مات سنة 910 ه. ثم يستفاد مما روى ابن حجر أن القرآن الذى جمع على عليه السلام غير القرآن المرتبة سوره على ما هو المصحف الان فهو عليه السلام أراد أن يبين في هذا الجمع ترتيب نزول السور و الايات كما أن عالما يفسر القرآن و يبين فيه وجوه القراءات و آخر يبين في تفسيره لغات القرآن و آخر غريبه و آخر يجمع الأخبار الواردة المناسبة لكل آية في تفسيره و غيرها من التفاسير المختلفة أغراضا فان الكل ميسر لما خلق له و يؤيد ما ذهبنا إليه قوله عليه السلام نقله ثقة الاسلام الكليني في باب اختلاف الحديث من اصول الكافي باسناده عن سليم بن قيس الهلالى- في حديث طويل إلى أن قال عليه السلام: فما نزلت على رسول الله آية من القرآن إلا أقرأنيها و أملأها على فكتبتها بخطى و علمنى تأويلها و تفسيرها و ناسخها و منسوخها و محكمها و متشابهها و خاصها و عامها و دعى الله أن يعطيني فهمها و حفظها فما نسيت آية من كتاب الله و لا علما أملأه على و كتبته منذ دعا الله لى بما دعا و ما ترك شيئا علمه الله من حلال و لا حرام و لا أمر و لا نهى كان أو يكون و لا كتاب منزل على أحد قبله من طاعة أو معصية إلا علمنيه و حفظته فلم أنس حرفا واحدا ثم وضع يده على صدرى و دعى الله لى أن يملأ قلبى علما و فهما و حكما و نورا فقلت يا نبي الله بأبى أنت و أمى منذ دعوت الله لى بما دعوت لم‏ أنس شيئا و لم يفتني شي‏ء لم أكتبه أ فتتخوف على النسيان فيما بعد؟ فقال: لا لست أتخوف عليك النسيان و الجهل.

و قوله عليه السلام: كما في البحار (ج 19 ص 126): و لقد جئتهم بكتاب كملا مشتملا على التأويل و التنزيل و المحكم و المتشابه و الناسخ و المنسوخ إلخ- فعلى هذا لا يسع أحدا أن يقول بتا أنه عليه السلام جمع السور و رتبها و لم تكن السور مرتبة على عهد النبي صلى الله عليه و آله و الأخبار الاخر أيضا الدالة على أن أبا بكر و غيره جمعوه من هذا القبيل لا يدل على أن ترتيب سور القرآن لم يكن بأمر النبي صلى الله عليه و آله فمن تمسك بها لذلك الغرض فقد أخطأ.

قال الطبرسى في المجمع قوله تعالى‏ و أظهره الله عليه عرف بعضه و أعرض عن بعض‏ (التحريم- 4): قرأ الكسائى وحده عرف بالتخفيف و الباقون عرف بالتشديد و اختار التخفيف أبو بكر بن عياش و هو من الحروف العشر التى قال: إنى أدخلتها في قراءة عاصم من قراءة على بن أبي طالب عليه السلام حتى استخلصت قراءته يعنى قراءة على عليه السلام و هى قراءة الحسن و أبى عبد الرحمان السلمى و كان أبو عبد الرحمان إذا قرأ إنسان بالتشديد حصبه- انتهى.

أقول: أبو بكر بن عياش و حفص بن سليمان البزاز راويان لعاصم بن أبى النجود بهدلة و عاصم من القراء السبعة الذين تواترت قراءاتهم و لكن اعراب القرآن المتداول الان إنما هو بقراءة حفص عن عاصم و يستفاد مما نقل الطبرسى عن ابن عياش أن قراءة عاصم هى قراءة أمير المؤمنين على بن أبي طالب روحى له الفداء إلا في عشر كلمات أدخلها أبو بكر في قراءة عاصم حتى استخلصت قراءة على عليه السلام فالقراءة المتداولة هى قراءته عليه السلام و كذا قال الطبرسى في الفن الثاني من مقدمة تفسيره في ذكر أسامى القراء: فأما عاصم فانه قرأ على أبى عبد الرحمان السلمى و هو قرأ على على بن أبي طالب عليه السلام.

فإنما اختير في المصحف الكريم قراءة عاصم لسهولتها و جودتها و لأنها أضبط من القراآت الاخرى و السر في ذلك إن قراءته قراءة أمير المؤمنين عليه السلام‏ و إن كان قراءة كل واحدة من القراءات السبع متواترة و جائزة.

قال العلامة الحلي قدس سره في المنتهى ما هذا نصه: أضبط هذه القراءات السبع عند أرباب البصيرة هو قراءة عاصم المذكور برواية أبي بكر بن عياش و قال رحمه الله في التذكرة: إن هذا المصحف الموجود الان هو مصحف علي عليه السلام.

قال المحقق الطوسي قدس سره في التجريد: و على أفضل الصحابة لكثرة جهاده و … و كان أحفظهم لكتاب الله تعالى العزيز. و قال الفاضل القوشجي في شرحه: فإن أكثر أئمة القراءة كأبي عمرو و عاصم و غيرهما يسندون قراءتهم إليه فانهم تلامذة أبي عبد الرحمان السلمي و هو تلميذ علي رضي الله عنهما.

و بالجملة أنا نقول أولا إن ترتيب السور كالايات توقيفي و عليه جل المحققين من علماء الفريقين و الشواهد و البراهين عليه كثيرة و أن بعد النبي صلى الله عليه و آله لم يجمع القرآن مرتبا سوره على اجتهاد الصحابة لما دريت أن الأخبار التي تمسكوا بها غير دالة على ذلك و بعد الإغماض نقول: إن الفريقين اتفقا في أن أمير المؤمنين عليه السلام كان حافظا للقرآن على عهده صلى الله عليه و آله و قرأ عليه غير مرة و كان أعرف به منهم و قال عليه السلام (الخطبة 208 من النهج و كذا في الوافى ص 62 ج 1 نقلا من الكافي) و قد سأله سائل عما في أيدي الناس: إن في أيدي الناس حقا و باطلا- إلى أن قال: و ليس كل أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله من يسأله و يستفهمه حتى أن كانوا ليحبون أن يجي‏ء الأعرابي أو الطارى فيسأله عليه السلام حتى يسمعوا و كان لا يمر بي من ذلك شي‏ء إلا سألت عنه و حفظته، و قال هؤلاء العظام من العلماء: إن القراءة المتداولة الان قراءته عليه السلام و أنه أول من جمع القرآن بعد النبي صلى الله عليه و آله و هو عليه السلام كان معتمد الصحابة في العلوم و به يراجعون في القرآن و الأحكام سيما عند أصحابنا الإمامية القائلين بعصمته عليه السلام و باتفاق الأمة قال رسول الله صلى الله عليه و آله فيه عليه السلام أقضاكم على و علي مع القرآن و القرآن معه و الحق معه حيث دار و …. فترتيب سور القرآن وقع على النهج الذي أراده الله تعالى و رسوله.

ثم نقول: هب أن ترتيب السور في الدفتين كان بعد النبي صلى الله عليه و آله و إنما كان‏ على عهد أبي بكر و بأمره كما هو ظاهر طائفة من الأقوال و لا كلام في أن أمير المؤمنين علي عليه السلام قرره و رضي به و إلا لبدله في خلافته لو قيل انه عليه السلام لم يتمكن في عهد أبي بكر بذلك و هو عليه السلام معصوم و تقريره و إمضاؤه حجة، على أن تركيب السور من الايات إجماعي لا خلاف فيه كما دريت فلو لم يكن ترتيب السور بالفرض بأمر المعصوم فما نزل على النبي صلى الله عليه و آله هو ما بين الدفتين الان و على كل حال ما زيد فيه و ما نقص منه شي‏ء فبذلك ظهر أن قول الفقيه البحراني في الحدائق و أضرابه: أن جمع القرآن في المصحف الان ليس من جمع المعصوم فلا حجة فيه، بعيد عن الصواب غاية البعد.

«البرهان على أن عثمان ما نقص من القرآن شيئا و ما زاد فيه» «شيئا بل انما جمع الناس على قراءة واحدة»

اعلم أن عناية الصحابة و غيرهم من المسلمين كانت شديدة في حفظ القرآن و حراسته الغاية و توفرت الدواعي على نقله و حمايته النهاية و توجه آلاف من النفوس إليه، و دريت أن عدة من أصحاب الرسول صلى الله عليه و آله كانوا حفاظ القرآن على ظهر القلب كملا و أما من حفظ بعضه فلا يعد و لا يحصى فمن تأمل أدنى تأمل في سيرة الصحابة مع القرآن و شدة عنايتهم في ضبطه و أخذه علم أن احتمال تطرق الزيادة و النقصان فيه واه جدا و لم يدع أحد أن عثمان زاد في القرآن شيئا أو نقص منه شيئا لعدم تجويز العقل ذلك مع تلك العناية من المسلمين في حفظه و كان الناس في أقطار الأرض عارفين بالقرآن و عدد سوره و آياته فأني كان لعثمان مجال ذلك بل أنه جمع الناس على قراءة واحدة و لفظ بسائر القراءات ظنا منه أن القرآن يصون بذلك من الزيادة و النقصان و أن كثرة القراءات توجب إدخال ما ليس من القرآن في القرآن، و دونك الأقوال و الاراء من جم غفير من المشايخ في ذلك.

قال ابن التين و غيره (النوع الثامن عشر من الإتقان طبع مصر 1318 ه ص 58 إلى 64): لما كثر الاختلاف في وجوه القراءة حتى قرءوه بلغاتهم على‏ اتساع اللغات فأدى ذلك بعضهم إلى تخطئة بعض فخشي عثمان من تفاقم الأمر في ذلك فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد مرتبا لسوره و اقتصر من سائر اللغات على لغة قريش محتجا بأنه نزل بلغتهم و إن كان قد وسع في قراءته بلغة غيرهم رفعا للحرج و المشقة في ابتداء الأمر فرأي أن الحاجة إلى ذلك قد انتهت فاقتصر على لغة واحدة.

و فيه أيضا: قال القاضي أبو بكر في الانتصار: إنما قصد عثمان جمعهم على القراءات الثابتة المعروفة عن النبي صلى الله عليه و آله و إلغاء ما ليس كذلك و أخذهم بمصحف لا تقديم فيه و لا تأخير و لا تأويل أثبت مع تنزيل و لا منسوخ تلاوته كتب مع مثبت رسمه و مفروض قراءته و حفظه خشية دخول الفساد و الشبهة على من يأتي بعد.

قال: و قال الحارث المحاسبى: المشهور عند الناس أن جامع القرآن عثمان و ليس كذلك إنما حمل عثمان الناس على القرائة بوجه واحد على اختيار وقع بينه و بين من شهده من المهاجرين و الأنصار لما خشى الفتنة عند اختلاف أهل العراق و الشام في حروف القراءات فأما قبل ذلك فقد كانت المصاحف بوجوه من القراءات المطلقات على الحروف السبعة التي انزل بها القرآن.

و فيه أيضا نقلا عن المحاسبي المذكور: و قد قال علي عليه السلام لو وليت لعملت بالمصاحف التي عمل بها عثمان.

قال: و أخرج ابن أبي داود بسند صحيح عن سويد بن غفلة قال: قال علي عليه السلام لا تقولوا في عثمان إلا خيرا فو الله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملاء منا قال: ما تقولون في هذه القراءة فقد بلغني أن بعضهم يقول إن قراءتي خير من قراءتك و هذا يكاد يكون كفرا قلنا: فما ترى؟ قال: أرى أن يجمع الناس على مصحف واحد فلا تكون فرقة و لا اختلاف قلنا: فنعم ما رأيت.

قال: قال القاضي أبو بكر في الانتصار: الذي نذهب إليه أن جميع القرآن الذي أنزله الله و أمر باثبات رسمه و لم ينسخه و لا رفع تلاوته بعد نزوله هو هذا الذي بين الدفتين الذي حواه مصحف عثمان و أنه لم ينقص منه شي‏ء و لا زيد فيه و أن ترتيبه‏ و نظمه ثابت على ما نظمه الله و رتبه عليه رسوله صلى الله عليه و آله من آى السور لم يقدم من ذلك مؤخر و لا اخر منه مقدم و أن الأمة ضبطت عن النبى صلى الله عليه و آله ترتيب آى كل سورة و مواضعها و عرفت مواقعها كما ضبطت عنه نفس القراءات و ذات التلاوة و أنه يمكن أن يكون الرسول صلى الله عليه و آله قد رتب سوره و أن يكون قد وكل ذلك إلى الأمة بعده و لم يتول ذلك بنفسه قال: و هذا الثاني أقرب.

أقول: بل الأول متعين و لا نشك في أنه صلى الله عليه و آله تولى ترتيب السور أيضا بنفسه كما مر.

و فيه أيضا، قال البغوي في شرح السنة: الصحابة رضى الله عنهم جمعوا بين الدفتين القرآن الذي أنزله الله على رسوله من غير أن زادوا أو نقصوا منه شيئا خوف ذهاب بعضه بذهاب حفظته فكتبوه كما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه و آله من غير أن قدموا شيئا أو أخروا أو وضعوا له ترتيبا لم يأخذوه من رسول الله صلى الله عليه و آله و كان رسول الله صلى الله عليه و آله يلقن أصحابه و يعلمهم ما نزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو الان في مصاحفنا بتوقيف جبريل إياه على ذلك و إعلامه عند نزول كل آية ان هذه الاية تكتب عقب آية كذا في سورة كذا فثبت أن سعى الصحابة كان في جمعه في موضع واحد لا في ترتيبه فان القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب أنزله الله جملة إلى السماء الدنيا ثم كان ينزله مفرقا عند الحاجة و ترتيب النزول غير ترتيب التلاوة.

قال: و أخرج ابن أبي داود من طريق محمد بن سيرين عن كثير بن أفلح قال لما أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثنى عشر رجلا من قريش و الأنصار فبعثوا إلى الربعة التي في بيت عمر فجي‏ء بها و كان عثمان يتعاهدهم فكانوا إذا تدارؤا في شي‏ء أخروه- إلخ.

قال: و أخرج عن ابن وهب قال: سمعت مالكا يقول: إنما الف القرآن على ما كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه و آله.

و قال في مناهل العرفان: أخرج البخاري عن ابن زبير قال: قلت لعثمان ابن عفان‏ الذين يتوفون منكم و يذرون أزواجا* نسختها الاية الأخرى فلم تكتبها أو تدعها و المعنى لما ذا تكتبها أو قال لما ذا تتركها مكتوبة مع أنها منسوخة؟ قال:يا ابن أخي لا اغير شيئا من مكانه.

و غيرها من الأقوال و انما نقلناها تأييدا فإن الأمر أوضح من ذلك و لا حاجة فيه إلى نقلها و إنما طعنوا عثمان في عمله لوجهين: الأول أن احراقه المصاحف كان استخفافا بالدين و الثاني أن ذلك ليس تحصينا للقرآن و لو كان تحصينا لما كان رسول الله صلى الله عليه و آله يبيح القراءات المختلفة فقد مضى الكلام عليه مستقصى و أراد عثمان أن يجمع الناس على قراءة واحدة و مع ذلك تكثرت حتى بلغ متواترها إلى السبع.

«الكلام في رسم خط القرآن»

و من شدة عناية المسلمين و اهتمامهم بضبط القرآن المبين حفظهم كتابة القرآن و رسمه على الهجاء الذي كتبه كتاب الوحى على الكتبة الأولى على عهد النبي صلى الله عليه و آله و إن كان بعض المواضع من الرسم مخالفا لأدب الرسم فلا يجوز لأحد أن يكتب القرآن إلا على ذلك الرسم المضبوط من السلف بالتواتر ابقاء للقرآن على ما كان و حذرا من تطرق التحريف فيه و إن كان من الرسم بل نقول مخالفة رسم القرآن حرام بين لأن رسم القرآن من شعائر الدين و يجب حفظ الشعاعر لتبقى مصونة عن الشبهات و تحريف المعاندين إلى القيامة و تكون حجة على الناس يحتجوا به مطمئنين إلى آخر الدهر كما يجب حفظ حدود منى و مشعر و البيت و الروضة النبوية و غيرها و نأتي بعدة مواضع من القرآن حتى يتبين لك أشد تبيين أن القرآن صين من جميع الوجوه عن التغيير و التبديل و التحريف و التصحيف و الزيادة و النقصان مثلا ان كلمة «مرضات» مكتوبة بالتاء المدودة في المصاحف: و من الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله‏ (البقرة- 204)، مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله‏ (البقرة- 268)، و من يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه‏ أجرا عظيما (النساء 116)، يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك‏ (التحريم- 2).

و كلمة «نعمت» مكتوبة بالتاء المدودة أيضا في المصاحف: يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم‏ (المائدة- 12) و كذا في عدة مواضع اخرى و لسنا في مقام الحصر.

و كلمة «رحمت» مكتوبة بالتاء المدودة في المصاحف كلها: فانظر إلى آثار رحمت الله‏ (الروم- 51) و كذا مواضع اخرى.

كلمة «امرأت» مكتوبة بالتاء المدودة في المصاحف كلها: إذ قالت امرأت عمران‏ (آل عمران- 36) و مواضع اخرى.

كلمة «بينت» مكتوبة بالتاء المدودة: فهم على بينة منه‏ (الملائكة- 41) كلمة «يدع» في قوله تعالى: و يدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير (بني إسرائيل- 14) مكتوبة بلا واو مع عدم الجازم.

كلمة «يؤت» مكتوبة في قوله تعالى: و سوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما (النساء- 146) بلا ياء مع عدم الجازم.

كلمة «يعفوا» في قوله تعالى: يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب و يعفوا عن كثير (المائدة- 16) مكتوبة بالألف مع انها بصيغة الإفراد.

و في جميع بسم الله الرحمن الرحيم في القرآن أسقط الف الاسم و قوله تعالى‏ اقرأ باسم ربك الذي خلق‏ مكتوب الفه.

و قوله تعالى: و ما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون‏ (النمل- 85) مكتوبة كلمة بهادى بالياء مع أن هذه الاية في سورة الروم الاية 54 مكتوبة بلا ياء.

و كذا كم من كلمات في القرآن يخالف رسمه قواعد النحو فكم من فعل «ج 17»

ماض مثلا على صيغة الجمع لم يكتب في آخره الف و كم من فعل مفرد مكتوب آخره بالألف و كم من كلمة زيد في وسطه ألف مع عدم الاحتياج اليها و غيرها مما هى مذكورة في الشاطبية و الاتحاف و غيرهما و كثير من المشايخ ألفوا في رسم الخط رسائل عليحدة و لسنا في ذلك المقام و انما المراد أن يعلم القارى الكريم أن هذا القرآن المكتوب بين الدفتين هو الكتاب الذي نزل على خاتم النبيين صلى الله عليه و آله حتى أن الصحابة لم يعتنوا في رسم خطه بقواعد النحو و رسوم خط العرب اتباعا للمصاحف التي كتبت على عهد النبي صلى الله عليه و آله حتى لا يتغير خط القرآن و حروفه و لا يتوهم أحد فيه التصحيف.

قال السيوطي في الإتقان (النوع 76 منه ص 166 ج 2 طبع مصر 1318 ه) في مرسوم الخط و آداب كتابته أفرده بالتصنيف خلائق من المتقدمين و المتأخرين- إلى أن قال: القاعدة العربية أن اللفظ يكتب بحروف هجائية مع مراعاة الابتداء به و الوقف عليه، و قد مهد النحاة له اصولا و قواعد و قد خالفها في بعض الحروف خط المصحف الإمام، و قال أشهب: سئل مالك هل يكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء؟ فقال: لا إلا على الكتبة الأولى رواه الداني في المقنع ثم قال: و لا مخالف له من علماء الأمة و قال الداني في موضع آخر: سئل مالك عن الحروف في القرآن مثل الواو و الألف أ ترى أن يغير من المصحف إذا وجد فيه كذلك؟ قال: لا؛ قال أبو عمرو: يعنى الواو و الألف المزيدتين في الرسم المعدومتين في اللفظ نحو أولو، قال: و قال الإمام أحمد: يحرم مخالفة خط مصحف عثمان في واو أو ياء أو الف أو غير ذلك.

أقول: ما قال أحمد في حرمة المخالفة حق كما بيناه آنفا و لا حاجة في حرمته إلى رواية خاصة لو لم تكن.

و فيه أيضا قال البيهقي في شعب الايمان: من يكتب مصحفا فينبغي أن يحافظ على الهجاء الذي كتبوا به تلك المصاحف و لا يخالفهم فيه و لا يغير مما كتبوه شيئا فانهم كانوا أكثر علما و أصدق قلبا و لسانا و أعظم أمانة منا فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكا عليهم.

«لما ذا يخالف رسم تلك الحروف القرآنية أصول رسم الخط؟»

علة ذلك هو ما ذكر العلامة ابن خلدون في الفصل الثلاثين من الباب الخامس من المقدمة ص 619 طبع مصر، قال: كان الخط العربي لأول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الإحكام و الاتقان و الاجادة و لا إلى التوسط لمكان العرب من البداوة و التوحش و بعدهم عن الصنائع و انظر ما وقع لأجل ذلك في رسمهم المصحف حيث رسمه الصحابة بخطوطهم و كانت غير مستحكمة في الاجادة فخالف الكثير من رسومهم ما اقتضته رسوم صناعة الخط عند أهلها ثم اقتفى التابعون من السلف رسمهم فيها تبركا بما رسمه أصحاب الرسول صلى الله عليه و آله و خير الخلق من بعده المتلقون لوحيه من كتاب الله و كلامه كما يقتفي لهذا العهد خط ولى أو عالم تبركا و يتبع رسمه خطئا أو صوابا و أين نسبة ذلك من الصحابة فيما كتبوه فاتبع ذلك و اثبت رسما و نبه العلماء بالرسم على مواضعه و لا تلتفتن في ذلك إلى ما يزعمه بعض المغفلين من أنهم كانوا محكمين لصناعة الخط و أن ما يتخيل من مخالفة خطوطهم لأصول الرسم ليس كما يتخيل بل لكلها وجه يقولون في مثل زيادة الألف في «لا أذبحنه» إنه تنبيه على أن الذبح لم يقع، و في زيادة الياء في «بأييد» إنه تنبيه على كمال القدرة الربانية و أمثال ذلك مما لا أصل له إلا التحكم المحض و ما حملهم على ذلك إلا اعتقادهم أن في ذلك تنزيها للصحابة عن توهم النقص في قلة إجادة الخط و حسبوا أن الخط كمال فنزهوهم عن نقصه و نسبوا إليهم الكمال باجادته و طلبوا تعليل ما خالف الاجادة من رسمه و ذلك ليس بصحيح، و اعلم أن الخط ليس بكمال في حقهم إذا الخط من جملة الصنائع المدنية المعاشية كما رأيته فيما مر و الكمال في الصنائع إضافى بكمال مطلق إذ لا يعود نقصه على الذات في الدين و لا في الخلال و إنما يعود على أسباب المعاش و بحسب العمران و التعاون عليه لأجل دلالته على ما في النفوس و قد كان صلى الله عليه و آله اميا و كان ذلك كمالا في حقه و بالنسبة إلى مقامه لشرفه و تنزهه عن الصنائع العملية التى هى أسباب‏ المعاش و العمران كلها و ليست الأمية كمالا في حقنا نحن إذ هو منقطع إلى ربه و نحن متعاونون على الحياة الدنيا شأن الصنائع كلها حتى العلوم الاصطلاحية فان الكمال في حقه هو تنزهه عنها جملة بخلافنا- انتهى.

أقول: و مما ذكرنا ظهر أن ما ذهب إليه بعض المغفلين لم يكن له خبرة في علوم القرآن من أن أمثال هذه الأمور المخالفة لرسم الخط من عدم حذاقة الكاتب فلا يجب اتباعها غلط جدا.

«يقرأ القرآن على القراءات السبع المتواترة دون الشواذ»

و مما ينادى بأعلى صوته عناية المسلمين بحفظ القرآن الكريم و حراسته عن كل ما يتوهم فيه التحريف قراءتهم القرآن بالقراءات المتواترة السبع دون الشواذ و لو كان الرواية الشاذة مرويا عن النبي صلى الله عليه و آله لأن اعتمادهم في القراءة و رسم الخط و ترتيب السور و الايات كلها كان على السماع دون الاجتهاد. بل نقول:إن كل ما ينتسب إلى القراء السبعة من القراءات السبع و لم يثبت تواتره لا يجوز متابعته و إن كان موافقا لقياس العربية لأن المناط في اتباع القراءة هو التواتر فما يروى عن السبعة من الشواذ فحكمه حكم سائر القراءات الشاذ مثلا أن أمين الاسلام الطبرسى في المجمع قال: قرأ كل القراء- معايش- في قوله تعالى‏ و لقد مكناكم في الأرض و جعلنا لكم فيها معايش قليلا ما تشكرون‏ (الأعراف- 12) بغير همز و روى بعضهم عن نافع- معائش-، ممدودا مهموزا انتهى. فهذه الرواية عن النافع غير متواتر و إن كان النافع من السبعة، و لا يجوز القراءة بتلك القراءة الشاذة.

فان قلت: هل يوجد عكس ذلك في القراءات بأن يكون القارى من غير السبع كيعقوب بن إسحاق الحضرمى و أبو حاتم سهل بن محمد السجستانى و يحيى بن وثاب و الأعمش و أبان بن تغلب و أضرابهم و يكون بعض قراءتهم متواترا؟

أقول: و كم له من نظير و لكن من حيث أن تلك القراءة موافقة للقراءات السبع المتواترة فما وافقتها و إلا لا يجوز الاتكال عليها و قراءة القرآن بها.

و إنما اجتمع الناس على قراءة هؤلاء و اقتدوا بهم فيها لسببين: أحدهما أنهم تجردوا لقراءة القرآن و اشتدت بذلك عنايتهم مع كثرة علمهم و من كان قبلهم أو في أزمنتهم ممن نسب إليه القراءة من العلماء و عدت قراءتهم في الشواذ لم يتجرد لذلك تجردهم و كان الغالب على اولئك الفقه أو الحديث أو غير ذلك من العلوم.

و الاخر أن قراءتهم وجدت مسندة لفظا أو سماعا حرفا حرفا من أول القرآن إلى آخره مع ما عرف من فضائلهم و كثرة علمهم بوجوه القرآن (قالهما الطبرسي في مقدمة تفسيره مجمع البيان).

أقول: على أن أئمتنا سلام الله عليهم قرروا تلك القراءات لأنها كانت متداولة في عصرهم عليهم السلام و كان الناس يأخذونها من القراء و لم يردوهم و لم يمنعوهم عن أخذها عنهم بل نقول: إن قراءة أهل البيت عليهم السلام يوافق قراءة أحد السبعة و قلما ينفق أن تروى قراءة منهم عليهم خارجة عن المتواترات كما يظهر بالتتبع للخبير المتضلع في علوم القرآن.

فإن قلت: القرآن نزل على قراءة واحدة فكيف جاز قراءته بأكثر من واحدة فهل القراءات العديدة إلا التحريف؟.

قلت: أولا إن اختلاف القراءات لا يوجب تحريف الكتاب و تغييره و باختلافها لا تزاد كلمة في القرآن و لا تنقص منه فإن اختلافها في الإعراب و ارجاع الضمير و كيفية التلفظ و الخطاب و الغيبة و الإفراد و الجمع و أمثالها في كلمات تصلح لذلك و في الجميع الايات و الكلمات القرآنية بذاتها محفوظة مثلا في قوله تعالى‏ و ما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى‏ (يوسف- 109) قرأ أبو بكر عن عاصم يوحى بضم الياء و فتح الحاء على صيغة المجهول و قرأ حفص عن عاصم بضم النون و كسر الحاء على صيغة المتكلم و المعني على كلا الوجهين صحيح و اللفظ محفوظ و مصون. و في قوله تعالى‏ و إذا أنعمنا على الإنسان أعرض و نأى بجانبه* (الإسراء- 84) قرأ أبو بكر عن عاصم بإمالة الهمزة في نئا و حفص عن عاصم بفتحها و معلوم انه لا يوجب التحريف و التغيير، و في قوله تعالى‏ فاعبدوه أ فلا تذكرون‏ (يونس- 4) قرأ أبو بكر عن عاصم بتشديد الذال و حفص بتخفيفها و هو لا يوجب تبديل ذات الكلمة، و في قوله تعالى‏ من أزواجنا و ذرياتنا (الفرقان- 75) قرأ أبو بكر ذريتنا بالتوحيد و حفص بالجمع و أمثالها مما هي مذكورة في كتب الفن و التفاسير و لكل وجه متقن و حجة متبعة أجمع المسلمون على تلقيها بالقبول مع أنها تنتهى إلى رسول الله صلى الله عليه و آله و لا يخفى على البصير المتتبع و المتضلع في القراءات أنها لا توجب التحريف بل يبين وجوه صحة التلفظ- مثلا ان قوله صلى الله عليه و آله الدنيا رأس كل خطيئة، يصح أن يقرأ على الوجهين الأول ما هو المشهور و الثاني أن الدينار (مقابل الدرهم) اس كل خطيئة بضم الهمزة و الجملة بذاتها محفوظة، أو ما أنشده القطب الشيرازي في مجلس كان فيه الشيعة و السني (أتى به الشيخ في الكشكول ص 135 طبع نجم الدولة):

خير الورى بعد النبي من بنته في بيته‏ من في دجى ليل العمى ضوء الهدى في زيته‏

يمكن أن يكون المراد من كلمة «من» رسول الله صلى الله عليه و آله و الضمير الأول يرجع إليه و الثاني إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام، أو يكون المراد منها أبو بكر و الضمير الأول يرجع إليه و الثاني إلى رسول الله صلى الله عليه و آله و هكذا في البيت الثاني و لا يوجب تغييرا في البيت.

و ثانيا نقول: إن رسول الله صلى الله عليه و آله و الأئمة الهدى أجازوا ذلك و هذا كما أن أحدنا نجوز أن يقرأ كلامه على وجهين مثلا ان الحكيم السبزواري قال في اللئالي المنتظمة:

فالمنطقى الكلى بحمل أولى‏ و غيره لشايع الحمل كلى‏

ثم أجاز في الشرح قراءة كلي على وجهين و قال: كلي إما بضم الكاف مخفف كلي و إما بكسرها أمر من و كل يكل و الياء للإطلاق و اللام (لشائع) على الأول للتعليل و على الثاني للاختصاص. انتهى. و هكذا الكلام في القرآن الكريم.

و العجب من صاحب الجواهر رحمه الله مال في صلاة الجواهر إلى عدم تواتر القراءات السبع و قال في ذيل بحث طويل في ذلك: فإن من مارس كلماتهم علم‏

أن ليس قراءتهم إلا باجتهادهم و ما يستحسنونه بأنظارهم كما يؤمي إليه ما في كتب القراءة من عدهم قراءة النبي صلى الله عليه و آله و علي و أهل البيت عليهم السلام في مقابلة قراءتهم و من هنا سموهم المتبحرين و من ذاك (كذا- و الظاهر: و ما ذاك) إلا لأن أحدهم كان إذا برع و تمهر شرع للناس طريقا في القراءة لا يعرف إلا من قبله و لم يرد على طريقة مسلوكة و مذهب متواتر محدود و إلا لم يختص به بل كان من الواجب بمقتضى العادة أن يعلم المعاصر له بما تواتر إليه لاتحاد الفن و عدم البعد عن المأخذ و من المستبعد جدا انا نطلع على التواتر و بعضهم لا يطلع على المتواتر إلى الاخر كما أنه من المستبعد أيضا تواتر الحركات و السكنات مثلا في الفاتحة و غيرها من سور القرآن.انتهى كلامه.

أقول: قد بينا أن القراءات السبع كان متواترا من عصر الأئمة إلى الان بل النبى صلى الله عليه و آله جوز اختلاف القراءة أيضا إلا أن ما لم يوافق السبع المتواترة لا يفيد إلا الظن بخلاف السبع فانها إجماع المسلمين قاطبة من صدر الاسلام إلى الان و إجماع أهل الخبرة في كل فن حجة و لو خالف إجماعهم الخارج من فنهم لا يضر الاجماع و من مارس كتب التفسير و القراءات حق الممارسة علم إجماع المسلمين جيلا بعد جيل في كل عصر حتى في زمن الأئمة المعصومين في القراءات بالسماع و الحق في ذلك ما هو المنقول من العلامة قدس سره في النهاية حيث قال:و مخالفة الجاهلين بالقراءة لا يقدح في إجماع المسلمين إذ المعتبر في الإجماع و الخلاف قول أهل الخبرة فلو خالف غير النحوى في رفع الفاعل و غير المتكلم في حدوث العالم أو وجوب اللطف على الله لم يقدح في إجماع المسلمين أو الشيعة أو النحاة.

على أن القراءات المتواترة ينتهى إلى النبي صلى الله عليه و آله بالأخرة كما ذكرنا آنفا أن القراء كلهم يرجعون إلى أبى عبد الرحمن بن السلمى القارى و هو أخذ عن أمير المؤمنين عليه السلام و هو أخذ عن النبي صلى الله عليه و آله، قال ابن النديم في الفهرست (ص 49 من الفن الثالث من المقالة الأولى ط مصر): قرأ عاصم على أبي عبد الرحمن‏ السلمى و قرأ السلمى على على عليه السلام و قرأ على عليه السلام على النبي صلى الله عليه و آله، و قال أيضا (ص 45): على بن حمزة الكسائي قرأ على عبد الرحمن بن أبى ليلى و كان ابن أبى ليلى يقرأ بحرف على عليه السلام و كذا سائر القراء فعليك بالإتقان و الفن الثاني من مقدمة تفسير الطبرسى مجمع البيان و سائر الكتب المؤلفة في القراء و قراءات القرآن فلا مجال للوسوسة بعد ظهور البيان و تمام البرهان. و قد قال العلامة الحلى قدس سره في التذكرة: «مسئلة» يجب أن يقرأ بالمتواتر من القراءات و هي سبعة و لا يجوز أن يقرأ بالشواذ و يجب أن يقرأ بالمتواتر من الايات و هو ما تضمنه مصحف على عليه السلام لأن أكثر الصحابة اتفقوا عليه و حرق عثمان ما عداه.

«عدد آى القرآن و حروفه»

و مما يعلن بشدة عناية المسلمين بضبط القرآن و حفظه عن التحريف عدهم كلماته و آيه و حروفه حتى فتحاته و كسراته و ضماته و تشديداته و مداته و أفرد السيوطى في الإتقان فصلا في ذلك. و في الوافي للفيض قدس سره (274 م 5 طبع ايران 1324 ه): قال السيد حيدر بن على بن حيدر العلوى الحسينى طاب ثراه في تفسيره الموسوم بالمحيط الأعظم: إن أكثر القراء ذهبوا إلى أن سور القرآن بأسرها مأئة و أربع عشرة سورة و أن آياته ستة آلاف و ستمائة و ست و ستون آية و إلى أن كلماته سبعة و سبعون الفا و أربعمائة و سبع و ثلاثون كلمة و إلى ان حروفه ثلاثمأة آلاف و اثنان و عشرون الفا و ستمائة و سبعون حرفا و إلى أن فتحاته ثلاثة و تسعون الفا و مائتان و ثلاثة و اربعون فتحة- إلخ.

روى الطبرسي في تفسير سورة هل أتى من المجمع رواية مستندة عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه عليه السلام قال: سألت النبي صلى الله عليه و آله عن ثواب القرآن فأخبرني بثواب سورة سورة على نحو ما نزلت من السماء- إلى أن قال عليه السلام: ثم قال النبي صلى الله عليه و آله جميع سور القرآن مأئة و أربع عشرة سورة، و جميع آيات القرآن ستة آلاف آية و مأتا آية و ست و ثلاثون آية، و جميع حروف القرآن ثلاثمأة ألف‏ حرف و أحد و عشرون ألف حرف و مائتان و خمسون حرفا لا يرغب في تعلم القرآن إلا السعداء و لا يتعهد قراءته إلا أولياء الرحمان. انتهى. و ذكر ابن النديم في الفهرست (ص 41 من المقالة الأولى) اختلاف الناس في آى القرآن.

أقول: قد عد خلق كثير حروف القرآن و آخرون نقلوا منهم و ذكروا في تأليفاتهم و منهم المولى أحمد النراقي في الخزائن (ص 275 طبع طهران 1380 ه) ثم اختلف العادون في مقدارها عددا و لا ريب أن تحديد أمثال هذه الأمور لا يخلو من اختلاف و الاختلاف ليس إلا منهم لا من المصاحف فإنه واحد نزل من عند واحد و ما بدل منه شي‏ء و ما زيد فيه حرف و ما نقص منه كما علمت و إنما غرضنا في ذلك التوجه إلى اهتمام المسلمين قاطبة عصرا بعد عصر في ضبط كلام الله تعالى عن تحريف ما و إن كان الاشتغال باستيعاب ذلك مما لا طائل تحته و لنعم ما قال السخاوى (الاتقان ص 72 ج 1): لا أعلم لعد الكلمات و الحروف من فائدة لأن ذلك إن أفاد فإنما يفيد في كتاب يمكن فيه الزيادة و النقصان و القرآن لا يمكن فيه ذلك.

و أما اختلاف الاى و سببه فهو ما قال السيوطي في الاتقان: أجمعوا على أن عدد آيات القرآن ستة آلاف آية ثم اختلفوا فيما زاد على ذلك- إلى أن قال و سبب اختلاف السبب في عدد الاى أن النبي صلى الله عليه و آله كان يقف على رءوس الاى للتوقيف فاذا علم محلها وصلها للتمام فيحسب السامع حينئذ انها ليست فاصلة.

قال الطبرسي في الفن الأول من مقدمة التفسير في تعداد آى القرآن و الفائدة في معرفتها: اعلم أن عدد أهل الكوفة أصح الأعداد و اعلاها إسنادا لأنه مأخوذ عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام- إلى أن قال: و الفائدة في معرفة آى القرآن أن القارئ إذا عدها بأصابعه كان أكثر ثوابا لأنه قد شغل يده بالقرآن مع قلبه و لسانه و بالحرى أن تشهد له يوم القيامة فانها مسئولة و لأن ذلك أقرب إلى التحفظ فإن القاري لا يأمن من السهو و قد روى عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه و آله انه قال: تعاهدوا القرآن فانه وحشى و قال عليه الصلاة لبعض النساء اعقدن:بالأنامل فانهن مسؤلات و مستنطقات، قال حمزة بن حبيب و هو أحد القراء السبعة العدد مسامير القرآن.

و بالجملة ان عد أمثال تلك الأمور و تحديدها قلما يتفق أن يتحد الاثنان من العادين و لا يغتر القاري الكريم بتلك الاختلافات أن المصاحف كانت مختلفة. و العجب من الفيض رحمه الله تعالى قال في الوافي (ص 274 م 5): قد اشتهر اليوم بين الناس أن القرآن ستة آلاف و ستمائة و ست و ستون آية ثم روى رواية الطبرسي المذكورة آنفا في المجمع عن النبي صلى الله عليه و آله، ثم جعل أحد الاحتمالات في اختلاف الرواية و الشهرة اختلاف المصاحف حيث قال: فلعل البواقي تكون مخزونة عند أهل البيت عليهم السلام و تكون فيما جمعه أمير المؤمنين عليه السلام- إلخ.

لكنه (ره) عدل عنه و استبصر و قال في المقدمة السادسة من تفسيره الصافي بعد نقل عدة روايات في تحريف الكتاب: أقول: و يرد على هذا كله اشكال و هو أنه على هذا التقدير لم يبق لنا اعتماد على شي‏ء من القرآن إذ على هذا يحتمل كل آية منه أن يكون محرفا و مغيرا و يكون على خلاف ما أنزل الله فلم يبق لنا في القرآن حجة أصلا فتنتفى فائدة الأمر باتباعه و الوصية بالتمسك به إلى غير ذلك، و أيضا قال الله عز و جل‏ و إنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه‏ و قال‏ إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون‏ فكيف يتطرق إليه التحريف و التغيير- إلخ.

«رسم النحو في القرآن»

و مما يفحص عن شدة عناية المسلمين بضبط القرآن و يؤيده رسم النحو فيه قال ابن النديم في أول المقالة الثانية من الفهرست: زعم أكثر العلماء أن النحو اخذ عن أبي الأسود و هو أخذ عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام- إلى أن قال: و قد اختلف الناس في السبب الذي دعا أبا الأسود إلى ما رسمه من النحو فقال أبو عبيدة أخذ النحو عن علي بن أبي طالب أبو الأسود و كان لا يخرج شيئا أخذه عن علي كرم الله وجهه إلى أحد حتى بعث إليه زياد أن اعمل شيئا يكون‏ للناس إماما و يعرف به كتاب الله فاستعفاه من ذلك حتى سمع أبو الأسود قارئا يقرأ أن الله بري‏ء من المشركين و رسوله‏ بالكسر فقال: ما ظننت أن أمر الناس آل إلى هذا فرجع إلى زياد فقال: أفعل ما أمر به الأمير فليبغني كاتبا لقنا يفعل ما أقول فأتى بكاتب من عبد القيس فلم يرضه فأتى باخر قال أبو العباس المبرد أحسبه منهم فقال أبو الأسود: إذا رأيتني قد فتحت فمى بالحرف فانقط نقطة فوقه على أعلاه و إن ضممت فمى فانقط نقطة بين يدي الحرف و إن كسرت فاجعل النقطة من تحت الحرف فهذا نقط أبي الأسود. انتهى.

بيان‏

المراد من النقط ههنا هو الإعراب فنقطة الفوق بمعنى الفتحة و نقطة التحت أي الكسرة و نقطة بين يدي الحرف هي الضمة.

«رجم الأوهام و الأباطيل»

و إن قيل: قد توجد عدة من السور في بعض الكتب و ما ذكرت في القرآن كسورة النورين نقلها صاحب كتاب دبستان المذاهب و أتى بها المحدث النورى في فصل الخطاب و الاشتياني في بحر الفوائد في شرح الفرائد (ص 101 طبع طهران) و سورة الحفد، و سورة الخلع، و سورة الحفظ، أتى بها المحدث النوري في فصل الخطاب أيضا و نقل الأوليين السيوطي في أول النوع التاسع عشر من الإتقان، و سورة الولاية المنقولة في كتاب داورى للكسروى، فلم قلت إن القرآن 114 سورة و ما نقص منه شي‏ء؟

قلت: أولا عدم كونها في القرآن دليل على عدم كونها من القرآن.

و ثانيا لو كانت أمثال هذه الكلمات تضحك بها الثكلى و تبكى بها العروس مما تحدى الله تعالى عباده بقوله: فأتوا بسورة من مثله‏ (البقرة- 22 و يونس- 39) و قوله‏ فأتوا بعشر سور مثله‏ (هود- 16) و قوله تعالى: قل لئن اجتمعت الإنس و الجن‏ الاية لكان أعراب البادية و أصاغر الطلبة جميعا أنبياء يوحى إليهم فضلا

عن أكابر العلماء، و قياس هذه السور المجعولة بالمقامات للحريري مثلا كقياس التبن بالتبر فضلا بالقرآن الكريم أعجز الحريرى و من فوقه عن أن تفوهوا بالاتيان بسورة منه و لو كانت نحو الكوثر ثلاث آيات.

و هذا هو أبو العلاء المعري الخريت في فنون الأدب و شئون الكلام و المشار إليه بالبنان في جودة الشعر و عذوبة النثر يضرب به المثل في العلوم العربية و كفى في فضله شاهدا كتابه: لزوم ما لا يلزم، و سقط الزند، و شرح الحماسة، و غيرها تصدى للمعارضة بالقرآن على ما نقل ياقوت الحموي في معجم الأدباء في ترجمته فنأتي بما قال للمعارضة ثم انظر فيها بعين العلم و المعرفة حتى يتبين لك أن نسبته إلى القرآن كيراعة إلى الشمس؛ قال ياقوت: قرأت بخط عبد الله بن محمد بن سعيد بن سنان الخفاجي في كتاب له ألفه في الصرفة زعم فيه أن القرآن لم يخرق العادة بالفصاحة حتى صار معجزة للنبي صلى الله عليه و آله و أن كل فصيح بليغ قادر على الإتيان بمثله إلا أنهم صرفوا عن ذلك لا أن يكون القرآن في نفسه معجز الفصاحة و هو مذهب لجماعة من المتكلمين و الرافضة منهم بشر المريسى و المرتضى أبو القاسم قال في تضاعيفه: و قد حمل جماعة من الأدباء قول أصحاب هذا الرأى على أنه لا يمكن أحد من المعارضة بعد زمان التحدى على أن ينظموا على اسلوب القرآن و أظهر ذلك قوم و أخفاء آخرون؛ و مما ظهر منه قول أبي العلاء في بعض كلامه:

اقسم بخالق الخيل، و الريح الهابة بليل، ما بين الأشراط و مطالع سهيل، إن الكافر لطويل الذيل، و إن العمر لمكفوف الذيل، اتق مدارج السيل، و طالع التوبة من قبيل، تنج و ما اخالك بناج.

و قوله: أذلت العائذة أباها، و أصاب الوحدة و رباها، و الله بكرمه اجتباها أولاها الشرف بما حباها، أرسل الشمال و صباها، و لا يخاف عقباها.

بيان‏

قوله: ألفه في الصرفة: زعم قوم أن الله تعالى صرف القوى البشرية عن‏ المعارضة و لذلك عجزوا عن الاتيان بمثل القرآن و لو لا صرفه تعالى لهم لاستطاعوا أن يأتوا بمثله، و ذهب الاخرون إلى أنه تعالى لم يصرفهم عنها و لكنهم ليسوا بقادرين على الاتيان بمثله، و نتيجة كلا القولين واحدة لاتفاقهما على عجز البشر إلى يوم القيامة عن الاتيان بمثله و لو بسورة سواء كان بصرف القوى أو لم يكن.

و المراد من المرتضى أبي القاسم هو الشريف علم الهدى أخو الشريف الرضي رضوان الله عليهما.

و لا يخفى على أولى الفضل و الدراية أن أمثال هذه الكلمات الملفقة من الرطب و اليابس لو تعارض القرآن الكريم لما تحدي الله عباده به فإن الناس يستطيعون أن يأتوا بما هو أفضل منها لفظا و معنى.

ثم إن السور المنقولة من دبستان المذاهب و فصل الخطاب المذكورة آنفا كلمات لا يناسب ذيلها صدرها بل ليست جملها على اسلوب النحو و لا تفيد معنى فننقل شرذمة من سورة النورين حتى يظهر لك سخافة ألفاظها و ركاكة تاليفها فمن آى تلك السورة المشوهة: إن الله الذي نور السموات و الأرض بما شاء و اصطفى من الملائكة و جعل من المؤمنين اولئك في خلقه يفعل الله ما يشاء لا إله إلا هو الرحمن الرحيم؛ و منها: مثل الذين يوفون بعهدك إنى جزيتهم جنات النعيم، و منها: و لقد ارسلنا موسى و هرون بما استخلف فبغوا هرون فصبر جميل فجعلنا منهم القردة و الخنازير و لعناهم إلى يوم يبعثون، و منها: و لقد أتينا بك الحكم كالذين من قبلك من المرسلين و جعلنا لك منهم وصيا لعلهم يرجعون.

فانظر أن ذلك اللص المعاند الوضاع كيف لفق بعض الجمل القرآنية بترهاته تلبيسا على الضعفاء و خلط الحق بالباطل تفتينا بين المسلمين، و لما رأى ضعفاء العقول كلمات شتى فيها نحو صبر جميل، نور السموات، إلى يوم يبعثون، لعلهم يرجعون، المتخذة من القرآن تلقوها بالقبول حتى رأيت مصحفا مطبوعا كتبت هذه السور في هامشه و ليس هذا إلا عمل الجهال من النساك و الصبيان‏ من القراء الذين علموا مخارج حروف الحلق و أيقنوا أن ليس وراء ما علموا علم أصلا، و كأنما العارف شمس الدين محمد الحافظ أخبر عنهم حيث قال:

آه آه از دست صرافان گوهر ناشناس‏ هر زمان خر مهره را با در برابر مى‏كنند

في تفسير آلاء الرحمن للبلاغي طاب ثراه: و مما ألصقوه بالقرآن المجيد ما نقله في فصل الخطاب من كتاب دبستان المذاهب أنه نسب إلى الشيعة انهم يقولون إن إحراق المصاحف سبب إتلاف سور من القرآن نزلت في فضل علي و أهل بيته عليهم السلام منها هذه السورة (النورين) و ذكر كلاما يضاهي خمسا و عشرين آية في الفواصل قد لفق من فقرات القرآن الكريم على اسلوب آياته فاسمع ما في ذلك من الغلط فضلا عن ركاكة اسلوبه الملفق: فمن الغلط (و اصطفى من الملائكة و جعل من المؤمنين اولئك في خلقه) ما ذا اصطفى من الملائكة و ما ذا جعل من المؤمنين و ما معنى اولئك في خلقه؟ و منه: (مثل الذين يوفون بعهدك إني جزيته جنات النعيم) ليت شعرى ما هو مثلهم؟ و منه: (و لقد ارسلنا موسى و هرون بما استخلف فبغوا هرون فصبر جميل) ما معنى هذه الدمدمة، و ما معنى بما استخلف و ما معنى فبغوا هرون و لمن يعود الضمير في بغوا و لمن الأمر بالصبر الجميل؟ و من ذلك (و لقد آتينا بك الحكم كالذى من قبلك من المرسلين و جعلنا لك منهم وصيا لعلهم يرجعون) ما معنى آتينا بك الحكم و لمن يرجع الضمير الذي في منهم و لعلهم وهل المرجع الضمير هو في قلب الشاعر و ما هو وجه المناسبة في لعلهم يرجعون؟ و من ذلك- إلى أن قال: هذا بعض الكلام في هذه المهزلة و أن صاحب فصل الخطاب من المحدثين المكثرين المجدين في التتبع للشواذ و انه ليعد أمثال هذا المنقول في دبستان المذاهب ضالة منشودة و مع ذلك قال انه لم يجد لهذا المنقول أثر في كتب الشيعة، فيا للعجب من صاحب دبستان المذاهب من أين جاء نسبة هذه الدعوى إلى الشيعة و في أى كتاب لهم وجدها أ فهكذا يكون في الكتب و لكن لا عجب شنشنة أعرفها من أخزم فكم نقلوا عن الشيعة مثل هذا النقل الكاذب كما في كتاب الملل للشهرستاني و مقدمة ابن خلدون و غير ذلك مما كتبه بعض‏ الناس في هذه السنين و الله المستعان- انتهى.

«تحير الوليد بن المغيرة فيما يصف به القرآن»

(اجتماعه بنفر من قريش ليبيتوا ضد النبي صلى الله عليه و آله، و اتفاق قريش أن يصفوا الرسول صلى الله عليه و آله بالساحر و ما أنزل الله فيهم) كيف يحكم عاقل عارف بأنحاء الكلام أن تلك الأباطيل و الأضاليل وحى أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه و آله و تحدى عباد الله بالإتيان بمثله، و قد بهت العرب العرباء في نظم القرآن الكريم و تحير فصحاء العرب في بيداء فصاحته و كلت السنة بلغائهم دون علو بلاغته و عجز العالمون عن أن يتدرجوا درج معانيه أو أن يتغوصوا في بحر حقائقه، و هذا هو الخصم المبين الوليد بن المغيرة مع أنه نشأ في حجر العرب العرباء تحير فيما يصف به القرآن، قال ابن هشام في السيرة (ص 270 ج 1 طبع مصر 1375 ه- 1955 م):

إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش و كان ذا سن فيهم و قد حضر الموسم فقال لهم: يا معشر قريش إنه قد حضر هذا الموسم و إن وفود العرب ستقدم عليكم فيه و قد سمعوا بأمر صاحبكم هذا- يعني به رسول الله صلى الله عليه و آله- فأجمعوا فيه رأيا واحدا و لا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا و يرد قولكم بعضه بعضا، قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل و أقم لنا رأيا نقول به قال: بل أنتم فقولوا اسمع قالوا: نقول:

كاهن، قال: لا و الله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن و لا سجعه، قالوا: فنقول: مجنون، قال: ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون و عرفناه فما هو بخنقه و لا تخالجه و لا وسوسته، قالوا: فنقول: شاعر، قال: ما هو بشاعر لقد عرفنا الشعر كله: رجزه و هزجه و قريضه و مقبوضه و مبسوطه فما هو بالشعر، قالوا:فنقول: ساحر، قال: ما هو بساحر لقد رأينا السحار و سحرهم فما هو بنفثهم و لا عقدهم، قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟ قال: و الله إن لقوله لحلاوة، و إن أصله لعذق، و إن فرعه لجناة و ما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل و إن أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء و أبيه و بين المرء و أخيه و بين المرء و زوجته و بين المرء و عشيرته فتفرقوا عنه بذلك فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدم الموسم لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه و ذكروا لهم أمره فأنزل الله تعالى في الوليد بن المغيرة و في ذلك من قوله: ذرني و من خلقت وحيدا و جعلت له مالا ممدودا و بنين شهودا و مهدت له تمهيدا ثم يطمع أن أزيد كلا إنه كان لآياتنا عنيدا سأرهقه صعودا إنه فكر و قدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر ثم نظر ثم عبس و بسر ثم أدبر و استكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا (الايات من سورة المدثر) و أنزل الله تعالى في النفر الذين كانوا معه يصنفون القول في رسول الله صلى الله عليه و آله و فيما جاء به من الله تعالى:كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين فو ربك لنسئلنهم أجمعين عما كانوا يعملون‏ (الحجر- 92 إلى 95).

و إن قيل: قد وردت أخبار دالة على أن هذا القرآن المكتوب بين الدفتين المتداول الان اسقط منه آيات و كلمات فكيف ادعيت أن ما انزل على رسول الله صلى الله عليه و آله ما نقص منه حرف و ما تطرق إليه تحريف؟

أقول: إن بعض تلك الروايات مجعول بلا كلام كرواية نقلها في الاحتجاج و أتى بها الفيض في تفسير الصافى ان المنافقين أسقطوا في الاية: و إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء (النساء- 5) بين اليتامى و بين فانكحوا من الخطاب و القصص اكثر من ثلث القرآن.

و بعضها يبين مصداقا من مصاديق الاية كما في قوله تعالى: و ننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين و لا يزيد الظالمين إلا خسارا (بني إسرائيل- 84) وردت رواية: لا يزيد ظالمي آل محمد حقهم إلا خسارا.

و بعضها يشير إلى بعض التأويلات كما في قوله تعالى: و إذا قيل لهم ما ذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين‏ (النحل- 25) وردت رواية ما ذا أنزل ربكم في علي عليه السلام.

و بعضها يفسر الايات فجعل قوم هذه الأخبار دليلا على تحريف القرآن‏ و حكموا بظاهرها أن القرآن نقص منه شي‏ء و جمعها المحدث النورى في فصل الخطاب و جعلها دليلا على تحريف الكتاب و اتبعه الاخرون و لو لا خوف الإطالة لنقلت كل واحد من أخبار فصل الخطاب و بينت عدم دلالتها على تحريف الكتاب فإن أخباره بعضها مجعول بلا ريب و بعضها مشوب سنده بالعيب و بعضها الاخر يبين التأويل و بعضها يفسر التنزيل و يضاد طائفة منها اخرى و بعضها منقول من كتاب دبستان المذاهب لم ينقل في كتب الحديث أصلا كما أن المحدث النورى صرح به أيضا. و بالجملة أن تلك الأخبار المنقولة في فصل الخطاب و غيره الواردة في ذلك الباب آحاد لا يعارض القرآن المتواتر المصون من عهد النبي صلى الله عليه و آله إلى الان فإن وجد لها وجه لا ينافي القرآن و إلا فتضرب على الجدار.

«جرى على المحدث النورى ما جرى على ابن شنبوذ»

ثم إن هذا المحدث الجليل و الحبر النبيل صاحب مستدرك الوسائل و مؤلف كثير من الرسائل جزاه الله عن الاسلام و المسلمين خير جزاء عدل عن مذهب التحريف السخيف و لا يخفى أن الجواد قد يكبو و السيف قد ينبو و جرى عليه «ره» ما جرى على ابن شنبوذ قال ابن النديم في الفن الثالث من المقالة الأولى من الفهرست: محمد بن أحمد بن أيوب بن شنبوذ كان يناوى‏ء أبا بكر و لا يفسده و قرأ: إذا نودى للصلاة من يوم الجمعة فامضوا إلى ذكر الله، و قرأ: و كان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا، و قرأ: اليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية، و قرأ فلما خر تبينت الناس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولا في العذاب المهين- إلى أن قال بعد نقل عدة قراءاته: و يقال: إنه اعترف بذلك كله ثم استتيب و اخذ خطه بالتوبة فكتب: يقول محمد بن أحمد بن أيوب: قد كنت أقرء حروفا تخالف عثمان المجمع عليه و الذي اتفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله على قراءته ثم بان لي أن ذلك خطأ و أنا منه تائب و عنه مقلع و إلى الله جل اسمه منه برى‏ء إذ كان مصحف عثمان هو الحق الذى لا يجوز خلافه و لا يقرأ غيره.

«الله حافظ كتابه و متم نوره»

و مما تطمئن به القلوب و يزيدها إيمانا في عدم تحريف القرآن هو أن الله تعالى ضمن حفاظة كتابه و تعهد إعلاء ذكره و وعد اتمام نوره و من أصدق من الله حديثا و وعدا و دونك الاى القرآنية في ذلك:قال تعالى: إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون‏ (الحجر- 11) ففي الاية تاكيدات عديدة من الجملة الاسمية و الضمائر الأربعة الراجعة إليه تعالى و تكرار إن المؤكدة و لام التأكيد في خبر إن الثانية و اسمية خبرهما و تقديم الجار و المجرور على متعلقه. و المراد بالذكر هو القرآن الكريم لأنه تعالى قال: و قالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ما ننزل الملائكة إلا بالحق و ما كانوا إذا منظرين إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون‏ فلا يكون المراد من الذكر إلا القرآن فكيف لم يحفظ القرآن من التحريف زيادة و نقصانا.

و قال عز من قائل: إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم و إنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (فصلت- 43 و 44) و قال تعالى: يريدون ليطفؤا نور الله بأفواههم و الله متم نوره و لو كره الكافرون‏ (الصف- 10) و قال تعالى: يريدون أن يطفؤا نور الله بأفواههم و يأبى الله إلا أن يتم نوره و لو كره الكافرون‏ (التوبة- 34) و المراد من النور القرآن الكريم كما قال تعالى: يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم و أنزلنا إليكم نورا مبينا (النساء- 175) و كما قال: فالذين آمنوا به و عزروه و نصروه و اتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون‏ (الأعراف- 158).

و قال تعالى: إن علينا جمعه و قرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه‏ (القيمة- 18- 20) ثم إن القرآن هو المعجزة الباقية من رسول الله صلى الله عليه و آله بل في الحقيقة كل سورة منه معجزة على حيالها فهو مأئة و أربع عشر معجزة و انزله الله تعالى هداية لكافة العباد إلى يوم التناد فكيف لا يصونه من تحريف أهل العناد قال تعالى: و أوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به و من بلغ‏ (الأنعام- 21)، و قال تعالى: تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا (الفرقان- 2): و قال تعالى:و هذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه و لتنذر أم القرى و من حولها (الانعام- 93) و غيرها.

«من نسب إلى الامامية القول بتحريف القرآن أنه» «كان أكثر أو أقل مما بين الدفتين فهو كاذب»

و من تتبع أسفار المحققين من العلماء الإمامية يعلم أن من عزى اليهم القول بتغيير القرآن زيادة و نقصا فقد افترى عليهم قال العالم الخبير الإمامي القاضي نور الله التسترى نور الله مرقده في مصائب النواصب: ما نسب إلى الشيعة الإمامية بوقوع التغيير في القرآن ليس مما قال به جمهور الإمامية إنما قال به شرذمة قليلة منهم لا اعتداد بهم في ما بينهم.

و الشيخ الأجل أبو جعفر ابن بابويه الصدوق رحمه الله المتوفى 381 ه قال في الاعتقادات: باب الاعتقاد في مبلغ القرآن: اعتقادنا أن القرآن الذى أنزله الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه و آله هو ما بين الدفتين و هو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك و مبلغ سوره عند الناس مأئة و أربع عشر سورة و من نسب الينا أنا نقول إنه أكثر من ذلك فهو كاذب.

و شيخ الطائفة الإمامية أبو جعفر الطوسي المتوفى 460 ه قال في أول تفسيره التبيان: اعلم أن القرآن معجزة عظيمة على صدق النبي صلى الله عليه و آله بل هو أكبر المعجزات و أما الكلام في زيادته و نقصانه فمما لا يليق به لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانه و النقصان منه فالظاهر من مذاهب المسلمين خلافه و هو أليق بالصحيح من مذهبنا- إلخ.

و امين الاسلام المفسر العظيم الشأن أبو علي الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي المتوفي 548 ه قال في الفن الخامس من مقدمة تفسيره مجمع البيان:

و من ذلك الكلام في زيادته و نقصانه فانه لا يليق بالتفسير فأما الزيادة فيه فجمع على بطلانه و أما النقصان منه فقد روى جماعة من أصحابنا و قوم من حشوية العامة أن‏ في القرآن تغييرا و نقصانا و الصحيح من مذهبنا خلافه.

و العلامة حسن بن يوسف بن المطهر الحلي المتوفي 726 ه قال في النهاية:إن النبي صلى الله عليه و آله كان مكلفا بإشاعة ما نزل عليه من القرآن إلى عدد التواتر ليحصل القطع بنبوته في أنه المعجزة له و حينئذ لا يمكن التوافق على نقل ما سمعوه منه- إلى أن قال: فإنه المعجزة الدالة على صدقه فلو لم يبلغه إلى حد التواتر انقطعت معجزته فلا يبقى هناك حجة على نبوته- إلخ.

و العالم الجليل بهاء الدين العاملي المتوفى 1031 ه قال: في الزبدة:القرآن متواتر لتوفر الدواعي على نقله. و المنقول عنه في تفسير آلاء الرحمان انه (ره) قال: اختلف الأصحاب في ترتيب سور القرآن العظيم و آياتها على ما هو عليه الان فزعم جمع منهم أن ذلك وقع من الصحابة بعد النبي صلى الله عليه و آله و كانت الايات غير مرتبة على ما هي عليه الان في زمانه و لم يكن السورة متحققة في ذلك الوقت و كذا لم يكن ترتيب السور على النهج الذي كانت عليه الان في ذلك الزمان، و هذا الزعم سخيف و الحق ترتيب الايات و حصول السور كان في زمانه إلى أن قال: و اختلفوا في وقوع الزيادة و النقصان فيه و الصحيح أن القرآن العظيم محفوظ عن ذلك الوقوع زيادة كان أو نقصانا و يدل عليه قوله تعالى‏ و إنا له لحافظون* و ما اشتهر بين الناس من اسقاط اسم أمير المؤمنين عليه السلام منه في بعض المواضع مثل قوله تعالى‏ بلغ ما أنزل إليك‏ في على- و غير ذلك فهو غير معتبر عند العلماء.

«كلام السيد الاجل ذى المجدين محيى آثار الأئمة على بن الحسين» «علم الهدى قدس سره المتوفى 436 ه في عدم تغيير القرآن» «من الزيادة و النقصان»

نقل عنه الطبرسي في الفن الخامس من تفسيره مجمع البيان قال الطبرسي: فقد روى جماعة من أصحابنا و قوم من حشوية العامة أن في القرآن تغييرا و نقصانا و الصحيح من مذهب أصحابنا خلافه و هو الذي نصره المرتضى قدس الله روحه و استوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء في جواب المسائل الطرابلسيات و ذكر في مواضع أن‏ العلم بصحة نقل القرآن كالعلم بالبلدان و الحوادث الكبار و الوقائع العظام و الكتب المشهورة و أشعار العرب المسطورة فإن العناية اشتدت و الدواعي توفرت على نقله و حراسته و بلغت إلى حد لم يبلغه فيما ذكرناه لأن القرآن معجزة النبوة و مأخذ العلوم الشرعية و الأحكام الدينية، و علماء المسلمين قد بلغوا في حفظه و حمايته الغاية حتى عرفوا كل شي‏ء اختلف فيه من إعرابه و قراءته و حروفه و آياته فكيف يجوز أن يكون مغيرا أو منقوصا مع العناية الصادقة و الضبط الشديد؛ قال:و قال أيضا:إن العلم بتفصيل القرآن و أبعاضه في صحة نقله كالعلم بجملته و جرى ذلك مجرى ما علم ضرورة من الكتب المصنفة ككتاب سيبويه و المزني فإن أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلهما ما يعلمونه من جملتهما حتى لو أن مدخلا أدخل في كتاب سيبويه بابا في النحو ليس من الكتاب لعرف و ميز و علم أنه ملحق و ليس من أصل الكتاب و كذلك القول في كتاب المزني، و معلوم أن العناية بنقل القرآن و ضبطه أصدق من العناية بضبط كتاب سيبويه و دواوين الشعراء، قال: و ذكر أيضا رضى الله عنه:

أن القرآن كان على عهد رسول الله صلى الله عليه و آله مجموعا مؤلفا على ما هو عليه الان و استدل على ذلك بأن القرآن كان يدرس و يحفظ جميعه في ذلك الزمان حتى عين على جماعة من الصحابة في حفظهم له و أنه كان يعرض على النبي صلى الله عليه و آله و يتلى عليه و أن جماعة من الصحابة مثل عبد الله بن مسعود و أبي بن كعب و غيرهما ختموا القرآن على النبي صلى الله عليه و آله عدة ختمات و كل ذلك يدل بأدنى تأمل على أنه كان مجموعا مرتبا غير مبتور و لا مبثوث؛ قال: و ذكر:أن من خالف في ذلك من الإمامية و الحشوية لا يعتد بخلافهم فإن الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخبارا ضعيفة ظنوا صحتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته. انتهى ما أردنا من نقل كلامه أعلى الله مقامه.

و كذا صرح غير واحد من سائر علمائنا الإمامية كالمحقق الكركي، و كاشف الغطاء، و الشيخ الحر العاملي، و الشيخ بهاء الدين، و الفاضل التوني صاحب الوافية، و السيد المجاهد و المحقق القمي قال و جمهور المجتهدين على عدم التحريف، و المحققين من علمائنا المعاصرين متع الله المسلمين بطول بقائهم على عدم التحريف و التغيير زيادة و نقصانا.

«فذلكة البحث»

فحصل من جميع ما قدمناه أن تركيب السور من الايات و ترتيب السور أيضا كان بأمر النبي صلى الله عليه و آله و أن بسم الله الرحمن الرحيم نزلت مع كل سورة ما عدا توبة؛ و انه جزء كل سورة و آية من آيها كما أنها جزء من سورة النمل؛ و أن القرآن المكتوب بين الدفتين هو الذي نزله الله على رسوله الخاتم صلى الله عليه و آله ما زيد فيه حرف و لا نقص منه شي‏ء؛ و أن عثمان ما حرف القرآن و لا أخذ منه و لا زاد فيه شيئا بل غرضه من ذلك جمع الناس على قراءة واحدة و إياك أن تظن أنه أحرق المصحف الصحيح و ابقى الباطل و المحرف و المغير نعوذ بالله؛ و أن اعتراض علم الهدى و عيره عليه ليس إلا من جهة منعه القراءات الأخر لا إحراقه المصحف الصحيح و تبديله كلام الله المجيد، و أن القراءات السبع متواتر لا يقرأ القرآن بغيرها من الشواذ، و أن رسم خط القرآن سماعى لا يقاس بالنحو و رسم الخط المتداول فيجب ابقاء رسمه على ما كتبت على الكتبة الأولى، و أن من عزى إلى الإمامية تحريفه فهو كاذب، و أن الله حافظ كتابه و متمم نوره.

و ما أجاد و أحسن و أحلى نظم العارف الرومي في المقام قال في المجلد الثالث من كتابه المثنوى:

مصطفى را وعده كرد ألطاف حق‏ گر بميرى تو نميرد اين سبق‏
من كتاب و معجز ترا خافضم‏[3] بيش و كم كن راز قرآن رافضم‏
من تو را اندر دو عالم رافعم‏ طاغيان را از حديثت دافعم‏
كس نتاند بيش و كم كردن در او تو به از من حافظى ديگر مجو
رونقت را روز روز افزون كنم‏ نام تو بر زر و بر نقره زنم‏
منبر و محراب سازم بهر تو در محبت قهر من شد قهر تو
نام تو از ترس پنهان مى‏برند چون نماز آرند پنهان بگذرند[4] خفيه مى‏گويند نامت را كنون‏
خفيه هم بانگ نماز اى ذو فنون‏ از هراس و ترس كفار لعين‏
دينت پنهان مى‏شود زير زمين‏ من مناره بر كنم آفاق را
كور گردانم دو چشم عاق را چاكرانت شهرها گيرنده و جاه‏
دين تو گيرد ز ماهى تا بماه‏ تا قيامت باقيش داريم ما
تو مترس از نسخ دين اى مصطفى‏ اى رسول ما تو جادو نيستى‏
صادقى هم خرقه موسيستى‏ هست قرآن مر تو را هم چون عصا
كفرها را در كشد چون اژدها گر جهان فرعون گيرد شرق و غرب‏
سرنگون آيد خدا را گاه حرب‏ تو اگر در زير خاكى خفته‏اى‏
چون عصايش دان تو آنچه گفته‏اى‏ گر چه باشى خفته تو در زير خاك‏
چون عصا آگه بود آن گفت پاك‏ قاصدان را بر عصايت دست نى‏
تو بخسب اى شه مبارك خفتنى‏ تن بخفته نور جان در آسمان‏
بهر پيكار تو زه كرده كمان‏ فلسفى و آنچه پوزش ميكند
قوس نورت تير دوزش ميكند چون كه چوپان خفت گرگ ايمن شود
چون كه خفت آن جهد او ساكن شود ليك حيوانى كه چوپانش خدا است‏
گرگ را آنجا اميدوره كجا است‏

و إنما اتسع نطاق الكلام في هذا البحث لما رأينا شدة عناية الناس به‏ و كثرة حاجتهم إلى ايراد البرهان و ايضاح الحق في ذلك على أنا نرى كثيرا من الوعاظ على المنابر و في المجالس يتمسكون من غير روية و طوية بطائفة من الأخبار على تحريف الكتاب و يقولون كيت و كيت و الناس يتلقونه منهم على القبول فأحببت أن اقدم تلك المباحث الشريفة في هذا المقام المناسب لها فلعلها تنفع من أراد أن يتذكر و يسلك سبيل الهدى و مع ذلك لو لا خوف الإطناب لأحببت أن أذكر جميع الأخبار و الأقوال الواردة مما تمسكوا بها على تحريف الكتاب و إن كان ما ذكرناه كافيا لمن أخذت الفطانة بيده و لعلنا نؤلف في ذلك رسالة عليحدة تكون اعم فائدة و الله تعالى ولي التوفيق فقد آن أن نرجع إلى ما كنا فيه.

24- و من ذلك أنه حمى الحمى عن المسلمين‏ مع أن رسول الله صلى الله عليه و آله جعلهم سواء في الماء و الكلاء.

قال القاضي عبد الجبار في المغني: و أما ما ذكروه من أنه حمى الحمى عن المسلمين فجوابه أنه لم يحم الكلاء لنفسه و إلا استأثر به لكنه حماه لإبل الصدقة التي منفعتها تعود على المسلمين و قد روى عنه هذا الكلام بعينه، و أنه قال: إنما فعلت ذلك لإبل الصدقة و قد أطلقته الان و أنا أستغفر الله و ليس في الاعتذار ما يزيد على ذلك.

«اعتراض الشريف المرتضى عليه»

اعترض عليه علم الهدى في الشافي فقال: فأما اعتذاره في الحمى بأنه حماه لإبل الصدقة التي منفعتها تعود على المسلمين و أنه استغفر منه و اعتذر، فالمروى أولا بخلاف ما ذكره لأن الواقدي روى بإسناده قال: كان عثمان يحمى الربذة و الشرف و النقيع فكان لا يدخل في الحمى بعير له و لا فرس و لا لبني امية حتى كان آخر الزمان فكان يحمى الشرف لإبله و كانت الف بعير و لإبل الحكم، و كان يحمى الربذة لإبل الصدقة و يحمى النقيع لخيل المسلمين و خيله و خيل بني امية،على أنه لو كان حماه لإبل الصدقة لم يكن بذلك مصيبا لأن الله تعالى و رسوله صلى الله عليه و آله أحلا الكلاء و أباحاه و جعلاه مشتركا فليس لأحد أن يغير هذه الإباحة، و لو كان في هذا الفعل مصيبا و إنما حماه لمصلحة تعود على المسلمين لما جاز أن يستغفر منه و يعتذر لأن الاعتذار إنما يكون من الخطاء دون الصواب.

25- و من ذلك أنه أعطى من بيت مال الصدقة المقاتلة و غيرها و ذلك مما لا يحل في الدين.

و اعتذر القاضي في المغني بقوله: فأما ما ذكروه من إعطائه من بيت مال الصدقة المقاتلة فلو صح فانما فعل ذلك لعلمه بحاجة المقاتلة إليه و استغناء أهل الصدقات على طريق الاقتراض، و قد روى عن رسول الله صلى الله عليه و آله أنه كان يفعل مثل ذلك سرا و للإمام في مثل هذه الأمور أن يفعل ما جرى هذا المجرى لأن عند الحاجة ربما يجوز له أن يقترض من الناس فبأن يجوز أن يتناول من مال في يده ليرده من المال الاخر اولى.

و اعترض عليه علم الهدى في الشافي بقوله: فأما اعتذاره من اعطائه المقاتلة من بيت مال الصدقة بأن ذلك إنما جاز لعلمه بحاجة المقاتلة إليه و استغناء أهل الصدقة عنه و أن الرسول صلى الله عليه و آله فعل مثله، فليس بشي‏ء لأن المال الذي جعل الله له جهة مخصوصة لا يجوز أن يعدل عن جهته بالاجتهاد و لو كانت المصلحة في ذلك موقوفة على الحاجة لشرطها الله تعالى في هذا الحكم لأنه تعالى أعلم بالمصالح و اختلافها منا و لكان لا يجعل لأهل الصدقة منها القسط مطلقا.

فأما قوله: إن الرسول صلى الله عليه و آله فعله فهو دعوى مجردة من غير برهان و قد كان يجب أن يروى ما ذكر في ذلك.

فأما ما ذكره من الاقتراض فاين كان عثمان عن هذا العذر لما وقف عليه.

26- و من ذلك ما فعل بأبي ذر رحمه الله تعالى‏ .

و اعلم أن جلالة شأن أبي ذر و فخامة أمره و علو درجته و مكانته في الاسلام فوق أن يحوم حوله العبارة أو أن‏ يحتاج إلى بيان و كلام، فقد روى الفريقان في سمو رتبته و حسن اسلامه ما لا يسع هذه العجالة.

قال في اسد الغابة: اختلف في اسمه اختلافا كثيرا و قول الأكثر و هو أصح ما قيل فيه: جندب بالجيم المضمومة و النون الساكنة و الدال المهملة المفتوحة ابن جنادة بضم الجيم أيضا. كان من كبار الصحابة و فضلائهم قديم الإسلام يقال: أسلم بعد أربعة و كان خامسا و هو أول من حيى رسول الله صلى الله عليه و آله بتحية الإسلام و قال رسول الله صلى الله عليه و آله فيه: ما أظلت الخضراء و لا أقلت الغبراء أصدق من أبي ذر و في عبارة اخرى: على ذي لهجة أصدق من أبي ذر و سئل جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام عن هذا الخبر فصدقه.

و في اسد الغابة أن النبي صلى الله عليه و آله قال: أبو ذر في امتي على زهد عيسى بن مريم.

و أن عليا عليه السلام قال: وعى أبو ذر علما عجز الناس عنه ثم أوكأ عليه فلم يخرج منه شيئا. و كان آدم طويلا عظيما أبيض الرأس و اللحية.

«نفى عثمان أبا ذر من المدينة إلى الربذة و وفاته فيها» «و ذكر السبب في ذلك»

في الشافي للشريف المرتضى علم الهدى: قد روى جميع أهل السيرة على اختلاف طرقهم و أسانيدهم أن عثمان لما أعطى مروان بن الحكم ما أعطاه و اعطى الحرث بن الحكم بن أبي العاص ثلاثمأة ألف درهم و أعطى زيد بن ثابت مأئة ألف درهم، جعل أبو ذر يقول: بشر الكافرين بعذاب أليم و يتلو قوله تعالى: و الذين يكنزون الذهب و الفضة و لا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم‏ فرفع ذلك مروان إلى عثمان فأرسل إلى أبي ذر نائلا مولاه أن انته عما يبلغني عنك فقال:أ ينهاني عثمان عن قراءة كتاب الله تعالى و عيب من ترك أمر الله فو الله لأن أرضى الله بسخط عثمان أحب إلى و خير من أن أرضى عثمان بسخط الله، فاغضب عثمان ذلك و احفظه و تصابر.

و فيه و في مروج الذهب: أن أبا ذر حضر مجلس عثمان ذات يوم فقال عثمان:أرأيتم من زكى ماله هل فيه حق لغيره؟ فقال كعب الأحبار: لا يا أمير المؤمنين‏ فدفع أبو ذر في صدر كعب و قال له: كذبت يا ابن اليهودي ثم تلا ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق و المغرب‏ الاية. فقال عثمان: أ يجوز للإمام أن يأخذ مالا من بيت مال المسلمين فينفقه فيما ينوبه من اموره فاذا أيسر قضاه؟

فقال كعب الأحبار: لا بأس بذلك فرفع أبو ذر العصا فدفع بها في صدر كعب و قال:يا ابن اليهودي ما أجرأك على القول في ديننا فقال له عثمان: ما أكثر أذاك لي و تولعك بأصحابي غيب وجهك عني فقد آذيتني، الحق بالشام فأخرجه إليها.

و كان معاوية يومئذ عامل عثمان بالشام و كان أبو ذر ينكر على معاوية اشياء يفعلها فبعث إليه معاوية ثلاثمأة دينار، فقال أبو ذر: إن كانت من عطائى الذي حرمتمونيه عامي هذا قبلتها و إن كانت صلة فلا حاجة لي فيها و ردها عليه.

و بنى معاوية الخضراء بدمشق فقال أبو ذر: يا معاوية إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامى هذا قبلتها و إن كان من مالك فهى الإسراف.

و كان أبو ذر رحمه الله يقول: و الله لقد حدثت أعمال ما أعرفها و الله ما هى في كتاب الله و لا سنة نبيه و الله إنى لأرى حقا يطفأ و باطلا يحيى و صادقا مكذبا و اثرة بغير تقى و صالحا مستأثرا عليه. فقال حبيب بن مسلمة القهرى لمعاوية: ان أبا ذر لمفسد عليكم الشام فتدارك أهله إن كانت لكم فيه حاجة فكتب معاوية إلى عثمان أن أبا ذر تجتمع إليه الجموع و لا آمن أن يفسدهم عليك فان كان لك في القوم حاجة فاحمله إليك.

فكتب إليه عثمان: أما بعد فاحمل جندبا إلى على أغلط مركب و أوعره.

فوجه به مع من ساربه الليل و النهار و حمل على شارف ليس عليها إلا قتب حتى قدم المدينة و قد سقط لحم فخذيه من الجهد. و قال المسعودي: فحمله على بعير عليه قتب يابس معه خمسة من الصقالبة يطيرون به حتى أتوا به المدينة قد تسلخت بواطن أفخاذه و كان أن يتلف فقيل له: إنك تموت من ذلك، فقال: هيهات لن أموت حتى أنفى و ذكر جوامع ما نزل به بعد و من يتولى دفنه.

و في الشافي: فلما قدم أبو ذر المدينة بعث إليه عثمان بأن الحق بأي أرض‏

شئت فقال: بمكة قال: لا، قال: فببيت المقدس، قال: لا، قال: فبأحد المصرين، قال: لا و لكنى مسيرك إلى الربذة فسيره إليها: فلم يزل بها حتى مات رحمه الله تعالى.

و في رواية الواقدي أن أبا ذر لما دخل على عثمان فقال له: لا أنعم الله عينا يا جنيدب فقال أبو ذر: أنا جندب و سماني رسول الله صلى الله عليه و آله عبد الله فاخترت اسم رسول الله الذي سماني به على اسمى، فقال له عثمان: أنت الذي تزعم أنا نقول إن يد الله مغلولة إن الله فقير و نحن أغنياء؟ فقال أبو ذر: و لو كنتم لا تزعمون لأنفقتم مال الله على عباده و لكنى أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه و آله يقول: إذا بلغ بنو أبي العاص ثلاثين رجلا جعلوا مال الله دولا و عباد الله خولا و دين الله دخلا ثم يريح الله العباد منهم. فقال عثمان لمن حضره: أسمعتموها من نبي الله؟ فقالوا: ما سمعناه، فقال عثمان: ويلك يا أبا ذر أتكذب على رسول الله صلى الله عليه و آله؟

فقال أبو ذر لمن حضره: أما تظنون أني صدقت؟ فقال عثمان: ادعوا لي عليا عليه السلام، فلما جاء قال عثمان لأبي ذر: اقصص عليه حديثك في بني أبي العاص فحدثه، فقال عثمان لعلي عليه السلام: هل سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه و آله؟ فقال علي عليه السلام لا، و قد صدق أبو ذر، فقال عثمان: كيف عرفت صدقه؟ قال: لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله يقول: ما أظلت الخضراء و لا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر فقال من حضر من أصحاب النبي صلى الله عليه و آله جميعا: صدق أبو ذر. فقال أبو ذر: أ حدثكم أني سمعته من رسول الله صلى الله عليه و آله ثم تتهموني ما كنت أظن أني أعيش حتى أسمع هذا من أصحاب محمد صلى الله عليه و آله.

و روى الواقدي في خبر آخر باسناده عن صهبان مولى الأسلميين قال: رأيت أبا ذر يوم دخل به على عثمان فقال له: أنت الذي فعلت و فعلت. قال أبو ذر:

إني نصحتك فاستغششتني و نصحت صاحبك فاستغشني. فقال عثمان: كذبت و لكنك تريد الفتنة و تحبها قد قلبت الشام علينا. فقال أبو ذر: اتبع سنة صاحبيك لا يكون لأحد عليك كلام فقال له عثمان: ما لك و لذلك لا ام لك؟ فقال أبو ذر: و الله ما وجدت لي عذرا إلا الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر، فغضب عثمان فقال: أشيروا

على في هذا الشيخ الكذاب: إما أن أضربه أو أحبسه أو أقتله فانه قد فرق جماعة المسلمين أو أنفيه من الأرض، فتكلم علي عليه السلام و كان حاضرا فقال: اشير عليك بما قال مؤمن آل فرعون‏ و إن يك كاذبا فعليه كذبه و إن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب‏ فأجابه عثمان بجواب غليظ لم احب أن أذكره و أجابه علي عليه السلام بمثله.

ثم أمر أن يؤتى به فلما أتى به وقف بين يديه قال: ويحك يا عثمان أما رأيت رسول الله صلى الله عليه و آله و رأيت أبا بكر و عمر هل رأيت هذا هديهم (هل هديك كهديهم؟ خ ل) إنك تبطش بي بطش جبار فقال: اخرج عنا من بلادنا فقال أبو ذر: فما أبغض إلى جوارك قال: فالى أين أخرج؟ قال: حيث شئت. قال: أ فأخرج إلى الشام أرض الجهاد؟ فقال: إنما جليتك من الشام لما قد أفسدتها، أ فأردك إليها؟ قال:

أ فأخرج إلى العراق؟ قال: لا. قال: و لم؟ قال: تقدم على قوم أهل شبهة و طعن على الأئمة. قال: أ فأخرج إلى مصر؟ قال: لا. قال: أين أخرج؟ قال:

حيث شئت. فقال أبو ذر: هو أيضا التعرب بعد الهجرة أخرج إلى نجد؟ فقال عثمان:الشرف الشرف الأبعد أقصى فأقصى. فقال أبو ذر: قد أبيت ذلك على. قال: امض على وجهك هذا و لا تعدون الربذة فخرج إليها.

قال المسعودي- بعد ذكر جلوسه لدى عثمان و ذكر الخبر في ولد أبي العاص إذا بلغوا ثلاثين، الخبر- قال: و كان في ذلك اليوم قد اتى عثمان بتركة عبد الرحمن بن عوف الزهرى من المال فنضت البدر حتى حالت بين عثمان و بين الرجل القائم فقال عثمان: إني لأرجو لعبد الرحمن خيرا لأنه كان يتصدق و يقرى الضيف و ترك ما ترون، فقال كعب الأحبار: صدقت يا أمير المؤمنين، فشال أبو ذر العصا فضرب بها رأس كعب و لم يشغله ما كان فيه من الألم و قال: يا ابن اليهودي تقول لرجل مات و ترك هذا المال إن الله أعطاه خير الدنيا و خير الاخرة و تقطع على الله بذلك؟ و أنا سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله يقول: ما يسرني أن أموت و أدع ما يزن قيراطا، فقال له عثمان: وار عني وجهك، فقال: أسير إلى مكة. قال: لا و الله. قال فتمنعني:من بيت ربي أعبده فيه حتى أموت؟ قال: إى و الله قال: فالى الشام. قال: لا و الله، قال:

البصرة قال: لا و الله، فاختر غير هذه البلدان، قال: لا و الله ما أختار غير ما ذكرت لك و لو تركتني في دار هجرتي ما أردت شيئا من البلدان فسيرني حيث شئت من البلاد.

قال: فاني مسيرك إلى الربذة. قال: الله اكبر صدق رسول الله صلى الله عليه و آله قد أخبرني بكل ما أنا لاق. قال عثمان: و ما قال لك؟ قال: أخبرني بأني امنع عن مكة و المدينة و أموت بالربذة و يتولى مواراتي نفر ممن يردون من العراق نحو الحجاز.

و بعث أبو ذر إلى جمل له فحمل عليه امرأته و قيل ابنته و أمر عثمان أن يتجافاه الناس حتى يسير إلى الربذة.

«كلام أمير المؤمنين على (ع) و الحسنين و عقيل لابي ذر رحمه الله» «لما أخرجه عثمان إلى الربذة و كلام أبى ذر ره»

قد مضى كلامه عليه السلام لأبي ذر رحمه الله تعالى لما اخرج إلى الربذة «الرقم- 130- من باب المختار من الخطب» و هو: يا أبا ذر إنك غضبت لله فارج من غضبت له إن القوم خافوك على دنياهم و خفتهم على دينك. إلى آخره.

قال الشارح المعتزلي في شرح كلامه عليه السلام هذا و قريبا منه المسعودى في مروج الذهب: واقعة أبي ذر و إخراجه إلى الربذة أحد الأحداث التى نقمت على عثمان.

و قد روى هذا الكلام أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهرى في كتاب السقيفة عن عبد الرزاق عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما اخرج أبو ذر إلى الربذة أمر عثمان فنودي في الناس أن لا يكلم أحد أبا ذر و لا يشيعه و أمر مروان بن الحكم أن يخرج به فخرج به و تحاماه الناس إلا علي بن أبي طالب عليه السلام و عقيلا أخاه و حسنا و حسينا و عمارا فانهم خرجوا معه يشيعونه، فجعل الحسن عليه السلام يكلم أبا ذر فقال له مروان: إيها يا حسن! ألا تعلم أن أمير المؤمنين قد نهى عن كلام هذا

الرجل فان كنت لا تعلم فاعلم ذلك، فحمل علي عليه السلام على مروان فضرب بالسوط بين اذنى راحلته و قال: تنح نحاك الله إلى النار فرجع مروان مغضبا إلى عثمان فأخبره الخبر فتلظى على علي عليه السلام و وقف أبو ذر فودعه القوم و معه ذكوان مولى ام هانى بنت أبى طالب.

قال ذكوان: فحفظت كلام القوم و كان حافظا فقال على عليه السلام:يا با ذر! إنك غضبت لله إن القوم خافوك على دنياهم و خفتهم على دينك فامتحنوك بالقلى و نفوك إلى الفلا و الله لو كانت السماوات و الأرض على عبد رتقا ثم اتقى الله لجعل له منها مخرجا، يا با ذر! لا يونسنك إلا الحق و لا يوحشنك إلا الباطل.

ثم قال عليه السلام لأصحابه: ودعوا عمكم، و قال لعقيل: ودع أخاك فتكلم عقيل فقال: ما عسى أن نقول يا با ذر أنت تعلم أنا نحبك و أنت تحبنا فاتق الله فان التقوى نجاة و اصبر فان الصبر كرم و اعلم أن استثقا لك الصبر من الجزع و استبطائك العافية من اليأس فدع اليأس و الجزع.

ثم تكلم الحسن عليه السلام فقال: يا عماه لو لا أنه لا ينبغي للمودع أن يسكت و للمشيع أن ينصرف لقصر الكلام و إن طال الأسف و قد أتى القوم إليك ما ترى فضع عنك الدنيا بتذكر فراقها و شدة ما اشتد منها برجاء ما بعدها و اصبر حتى تلقى نبيك صلى الله عليه و آله و هو عنك راض.

ثم تكلم الحسين عليه السلام فقال: يا عماه إن الله تعالى قادر أن يغير ما قد ترى و الله كل يوم هو في شأن و قد منعك القوم دنياهم و منعتهم دينك فما أغناك عما منعوك و أحوجهم إلى ما منعتهم فاسأل الله الصبر و النصر و استعذ به من الجشع و الجزع فإن الصبر من الدين و الكرم و إن الجشع لا يقدم رزقا و الجزع لا يؤخر أجلا.

ثم تكلم عمار رحمه الله مغضبا فقال: لا آنس الله من أوحشك و لا آمن من أخافك أما و الله لو أردت دنياهم لامنوك و لو رضيت أعمالهم لأحبوك و ما منع الناس أن يقولوا بقولك إلا الرضا بالدنيا و الجزع من الموت و مالوا إلى ما سلطان جماعتهم‏ عليه و الملك لمن غلب، فوهبوا لهم دينهم و منحهم القوم ديناهم فخسروا الدنيا و الاخرة ألا ذلك هو الخسران المبين. فبكى أبو ذر رحمه الله و كان شيخا كبيرا و قال: رحمكم الله يا أهل بيت الرحمة إذا رأيتكم ذكرت بكم رسول الله صلى الله عليه و آله ما لى بالمدينة سكن و لا شجن غيركم إنى ثقلت على عثمان بالحجاز كما ثقلت على معاوية بالشام و كره أن اجاور أخاه و ابن خاله بالمصرين فافسد الناس عليهما فسيرني إلى بلد ليس لي به ناصر و لا دافع إلا الله، و الله ما اريد إلا الله صاحبا و ما أخشى مع الله وحشة.

فشكى مروان إلى عثمان ما فعل به علي بن أبي طالب فقال عثمان: يا معشر المسلمين من يعذرني من على رد رسولي عما وجهته له و فعل كذا و الله لنعطينه حقه.

فلما رجع علي عليه السلام استقبله الناس فقالوا: إن أمير المؤمنين عليك غضبان لتشييعك أبا ذر. فقال على: غضب الخيل على اللجم، ثم جاء فلما كان بالعشى جاء إلى عثمان فقال له: ما حملك على ما صنعت بمروان و اجترأت على و رددت رسولي و أمرى؟ قال: أما مروان فانه استقبلني يردني فرددته عن ردى و أما أمرك فلم اصغره.

قال: أو ما بلغك نهيى عن كلام أبي ذر؟ قال: أو ما كلما أمرت بأمر معصية أطعناك فيه؟ قال عثمان: أقد مروان من نفسك، قال: و ما أقيده؟ قال: ضربت بين اذني راحلته، قال على: أما راحلتى فهى تلك فإن أراد أن يضربها كما ضربت راحلته فليفعل، و أما شتمه إياى فو الله لا يشتمني شتمة إلا شتمتك مثلها بما لا أكذب فيه و لا أقول إلا حقا، فغضب عثمان و قال: و لم لا يشتمك إذا شتمته؟ فو الله ما أنت عندى بأفضل منه. فغضب علي بن أبي طالب عليه السلام و قال: ألي تقول هذا القول و بمروان تعدلني؟ فأنا و الله أفضل منك و أبي أفضل من أبيك و امي أفضل من امك و هذه نبلى قد نثلتها و هلم فاقبل بنبلك فغضب عثمان و احمر وجهه فقام و دخل داره و انصرف علي عليه السلام فاجتمع إليه أهل بيته و رجال من المهاجرين و الأنصار.

فلما كان من الغد أرسل عثمان إلى وجوه المهاجرين و الأنصار و إلى بني امية يشكو اليهم عليا عليه السلام و قال: إنه يعيبني و يظاهر من يعيبني- يريد بذلك أبا ذر و عمار ابن ياسر و غيرهما- فقال القوم: أنت الوالي عليه و إصلاحه أجمل، قال: وددت ذاك. فأتوا عليا عليه السلام فقالوا: لو اعتذرت إلى مروان و أتيته، فقال: كلا أمروان فلا آتيه و لا أعتذر منه و لكن إن أحب عثمان آتيته. فرجعوا إلى عثمان فأخبروه فأرسل عثمان إليه فأتاه و معه بنو هاشم فتكلم علي عليه السلام فحمد الله و أثنى عليه ثم قال:

أما ما وجدت على فيه من كلام أبي ذر و وداعه فو الله ما أردت مسائتك و لا الخلاف عليك و لكن أردت به قضاء حقه، و أما مروان فإنه اعترض يريد ردى عن قضاء حق الله عز و جل فرددته رد مثلي مثله، و أما ما كان مني إليك فإنك أغضبتني فأخرج الغضب منى ما لم أرده.

فتكلم عثمان فحمد الله و أثنى عليه ثم قال: أما ما كان منك إلى فقد وهبته لك، و أما ما كان منك إلى مروان فقد عفى الله عنك، و أما ما حلفت عليه فأنت البر الصادق فادن يدك فأخذ يده فضمها إلى صدره. فلما نهض قالت قريش و بنو امية لمروان: أ أنت رجل جبهك على و ضرب راحلتك و قد تفانت وائل في ضرع ناقة و ذبيان و عبس في لطمة فرس و الأوس و الخزرج في نسعة؟ أ فتحمل لعلي ما أتاه إليك؟ فقال مروان: و الله لو أردت ذلك لما قدرت عليه.

ثم قال الشارح المعتزلي: و اعلم أن الذي عليه أكثر أرباب السيرة و علماء الأخبار و النقل أن عثمان نفا أبا ذر أولا إلى الشام ثم استقدمه إلى المدينة لما شكى منه معاوية ثم نفاه من المدينة إلى الربذة لما عمل بالمدينة نظير ما كان يعمل بالشام و أصل هذه الواقعة أن عثمان لما أعطى مروان بن الحكم و غيره بيوت الأموال و اختص زيد بن ثابت بشي‏ء منها جعل أبو ذر يقول بين الناس و الطرقات و الشوارع بشر الكافرين بعذاب أليم و يرفع بذلك صوته- فأتى بما نقلنا من الشافي بحذافيرها.

و روى الواقدى- كما في الشافي- عن مالك بن أبي الرجال عن موسى بن‏ ميسرة أن أبا الأسود الدؤلى قال: كنت احب لقاء أبي ذر لأسأله عن سبب خروجه فنزلت به الربذة فقلت له: ألا تخبرني خرجت من المدينة طائعا أو أخرجت؟

قال: أما إني كنت في ثغر من الثغور أغنى عنهم فاخرجت إلى مدينة الرسول صلى الله عليه و آله فقلت دار هجرتي و أصحابي فاخرجت منها إلى ما ترى، ثم قال: بينا أنا ذات ليلة نائم في المسجد إذ مر بي رسول الله صلى الله عليه و آله فضربني برجليه فقال: لا أراك نائما، فقلت: بأبي أنت و أمي غلبتني عيني فنمت فيه، فقال: كيف تصنع إذا أخرجوك منه؟ فقلت: إذا ألحق بالشام فإنها أرض مقدسة و أرض بقية الإسلام و أرض الجهاد، فقال: كيف بك إذا أخرجوك منها؟ قال: فقلت: أرجع إلى المسجد، قال: كيف تصنع إذا أخرجوك منه؟ قلت: آخذ سيفي فاضرب به، فقال رسول الله صلى الله عليه و آله: ألا أدلك على خير من ذلك انسق معهم حيث ساقوك و تسمع و تطيع فسمعت و أطعت و أنا أسمع و اطيع و الله ليلقين الله عثمان و هو آثم في جنبي. و كان يقول بالربذة: ما ترك الحق لي صديقا و كان يقول فيها: ردني عثمان بعد الهجرة أعرابيا.

أقول: في الصحاح للجوهري: تعرب بعد هجرته أى صار أعرابيا.

و في النهاية الأثيرية: التعرب بعد الهجرة هو أن يعود إلى البادية و يقيم مع الأعراب بعد أن كان مهاجرا و كان من رجع بعد الهجرة إلى موضعه من غير عذر يعدونه كالمرتد.

و في باب علل تحريم الكبائر من الوافى للفيض (ره) (م 3 ص 176) نقلا عن من لا يحضره الفقيه: كتب على بن موسى الرضا عليه السلام إلى محمد بن سنان فيما كتب من جواب مسائله- إلى أن قال عليه السلام: و حرم الله التعرب بعد الهجرة للرجوع عن الدين و ترك الموازرة للأنبياء و الحجج عليهم أفضل الصلوات و ما في ذلك من الفساد و إبطال حق كل ذى حق لا لعلة سكنى البدو و لذلك لو عرف الرجل الدين كاملا لم يجز له مساكنة أهل الجهل، و الخوف عليه لأنه لا يؤمن أن وقع منه ترك العلم و الدخول مع أهل الجهل و الثمادي في ذلك.

قال الفيض في بيانه: و في بعض النسخ: لعلة سكنى البدو بدون لا و هو أوضح و أوثق بما بعده، و الخوف عليه عطف على الفساد و الإبطال. انتهى، فتأمل.

«اعتذار القاضى عبد الجبار و شيخه أبى على على نفى أبى ذر» «إلى الربذة»

قال في الشافى: حكى القاضى عن شيخه أبى على في نفى أبى ذر إلى الربذة أن الناس اختلفوا في أمره فروى عنه أنه قيل لأبى ذر: أ عثمان انزلك الربذة؟

فقال: لا، بل اخترت لنفسى ذلك و روى أن معاوية كتب يشكوه و هو بالشام فكتب إليه عثمان أن صيره إلى المدينة فلما صار إليه قال: ما أخرجك إلى الشام؟ قال: لأني سمعت الرسول صلى الله عليه و آله يقول: إذا بلغت عمارة المدينة موضع كذا فاخرج عنها فلذلك خرجت، قال: فأى البلاد أحب إليك بعد الشام؟ فقال: الربذة، فقال: صر اليها و إذا تكافأت الأخبار لم يكن في ذلك لهم حجة و لو ثبت ذلك لكان لا يمتنع أن يخرج إلى الربذة لصلاح يرجع إلى الدين فلا يكون ظلما لأبى ذر بل ربما يكون إشفاقا عليه و خوفا من أن يناله من بعض أهل المدينة مكروه.

فقد روى أنه كان يغلظ في القول و يخشن في الكلام و يقول: لم يبق أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله على عهد و ينفر بهذا القول فرأى إخراجه أصلح لما يرجع إليهم و إليه من المصلحة و إلى الدين. و قد روى أن عمر أخرج عن المدينة نصر بن حجاج لما خاف ناحيته. قال: و ندب الله تعالى إلى خفض الجناح للمؤمنين و إلى القول اللين للكافرين و بين للرسول صلى الله عليه و آله أنه لو استعمل الفظاظة لا نفضوا من حولك فلما رأى عثمان من خشونة كلام أبى ذر و ما كان يورده مما يخشى منه التنفير فعل ما فعل.

و قد روى عن زيد بن وهب قال: قلت لأبى ذر و هو بالربذة: ما أنزلك هذا المنزل؟ قال: اخبرك أنى كنت بالشام في أيام معاوية و قد ذكرت هذه الاية الذين يكنزون الذهب و الفضة و لا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم‏ فقال معاوية هذه في أصل الكتاب فقلت فيهم و فينا فكتب معاوية إلى عثمان في ذلك فكتب إلى أن أقدم على فقدمت عليه فانثال الناس إلى كأنهم لم يعرفوني فشكوت ذلك إلى عثمان فخيرنى و قال: إن أحببت أنزل حيث شئت فنزلت الربذة و حكى عن الخياط قريبا مما تقدم من أن خروج أبى ذر إلى الربذة كان باختياره قال: و أقل ما في ذلك أن يختلف الأخبار فتطرح و نرجع إلى الأمر الأول في صحة إمامة عثمان و سلامة أحواله.

«جواب الشريف المرتضى علم الهدى و اعتراضه»

اعترض في الشافي عليه و رد كلامه بقوله: فأما قوله «إن الأخبار مكافئة في أمر أبي ذر و إخراجه إلى الربذة و هل كان ذلك باختياره أو بغير اختياره» فمعاذ الله أن يتكافأ في ذلك بل المعروف الظاهر أنه نفاه من المدينة إلى الربذة، ثم أتى بالروايات الثلاث عن الواقدى و قوله قد روى جميع أهل السيرة على اختلاف الطرق إلى آخر ما نقلناه عنه من الشافي المذكورة آنفا ثم قال: و الأخبار في هذا الباب أكثر من أن نحصرها و أوسع من أن نذكرها أو ما تحمل نفسه على ادعا أن أبا ذر خرج مختارا إلى الربذة.

قال: و لسنا ننكر أن يكون ما أورده صاحب الكتاب من أنه خرج مختارا قد روى إلا أنه في الشاذ النادر و بازاء هذه الرواية الفذة كل الروايات التي تتضمن خلافها و من تصفح الأخبار علم أنها غير متكافئة على ما ظن صاحب الكتاب- يعني به القاضي صاحب كتاب المغني- و كيف يجوز خروجه عن تخيير و إنما اشخص من الشام على الوجه الذي اشخص عليه من خشونة المركب و قبح السير به للموجدة عليه. ثم لما قدم منع الناس من كلامه و أغلظ له في القول و كل هذا لا يشبه أن يكون أخرجه إلى الربذة باختياره. و كيف يظن عاقل أن أبا ذر يحب أن يختار الربذة منزلا مع جدبها و قحطها و بعدها عن الخيرات و لم يكن بمنزل مثله.

فأما قوله «إنه اشفق عليه من أن يناله بعض أهل المدينة بمكروه من حيث كان يغلظ له القول» فليس بشي‏ء يعول عليه لأنه لم يكن في أهل المدينة إلا من كان راضيا بقوله عاتبا بمثل عتبه إلا أنهم كانوا بين مجاهر بما في نفسه و مخف ما عنده و ما في أهل المدينة إلا من رثى مما حدث على أبي ذر و استفظعه و من رجع إلى كتب السير عرف ما ذكرناه.

فأما قوله «إن عمر أخرج من المدينة نصر بن حجاج» فيما بعد ما بين الأمرين و ما كنا نظن أن أحدا يسوى بين أبي ذر و هو وجه الصحابة و عينهم و من أجمع المسلمون على توقيره و تعظيمه و أن رسول الله صلى الله عليه و آله مدحه من صدق اللهجة بما لم يمدح به أحدا و بين نصر بن الحجاج الحدث الذي كان خاف عمر من افتتان النساء به و بشبابه و لا حظ له في فضل و لا دين. على أن عمر قد ذم باخراجه نصر بن الحجاج من غير ذنب كان منه و إذا كان من أخرج نصر بن الحجاج مذموما فكيف بمن أخرج مثل أبي ذر رحمه الله؟

فأما قوله «إن الله تعالى و الرسول صلى الله عليه و آله ندبا إلى خفض الجناح و لين القول للمؤمن و الكافر» فهو كما قال إلا أن هذا أدب كان ينبغي أن يتأدب به عثمان في أبى ذر و لا يقابله بالتكذيب و قد قطع الرسول صلى الله عليه و آله على صدقه و لا يسمعه مكروه الكلام و هو إنما نصح له و أهدى عليه عيوبه و عاتبه على ما لو نوزع عنه لكان خيرا له في الدنيا و الاخرة و هذه جملة كافية.

في تاريخ أبى جعفر الطبرى: لما حضرت الوفاة أبا ذر في الربذة و ذلك في سنة اثنتين و ثلاثين من الهجرة في سنة ثمان في ذى الحجة من امارة عثمان قال لابنته: استشرفي يا بنية فانظرى هل ترين أحدا؟ قالت: لا، قال: فما جاءت ساعتى بعد، ثم أمرها فذبحت شاة ثم طبختها. ثم قال: إذا جاءك الذين يدفنوني فقولى لهم: إن ابا ذر يقسم عليكم ان لا تركبوا حتى تأكلوا فلما نضجت قدرها قال لها: انظرى هل ترين أحدا؟ قالت: نعم، هؤلاء ركب مقبلون. قال: استقبلى بى الكعبة، ففعلت و قال: بسم الله و بالله و على ملة رسول الله صلى الله عليه و آله ثم خرجت ابنته فتلقتهم و قالت رحمكم الله‏

اشهدوا أبا ذر. قالوا: و أين هو؟ فأشارت لهم إليه و قد مات فادفنوه قالوا: نعم و نعمة عين لقد أكرمنا الله بذلك و إذا ركب من أهل الكوفة فيهم ابن مسعود فمالوا إليه و ابن مسعود يبكى و يقول: صدق رسول الله صلى الله عليه و آله يموت وحده و يبعث وحده فغسلوه و كفنوه و صلوا عليه و دفنوه فلما أرادوا يرتحلوا قالت لهم: إن أبا ذر يقرأ عليكم السلام و اقسم عليكم أن لا تركبوا حتى تأكلوا ففعلوا.

و فيه في رواية اخرى باسناده عن الحلحال بن ذرى قال: خرجنا مع ابن مسعود سنة 31- و نحن أربعة عشر راكبا حتى أتينا على الربذة فإذا امرأة قد تلقتنا فقالت: اشهدوا أبا ذر و ما شعرنا بأمره و لا بلغنا فقال و أين أبو ذر؟ فأشارت إلى خباء فمال ابن مسعود إليه و هو يبكى فغسلناه و كفناه و إذا خباؤه خباء منضوح بمسك فقلنا للمرأة ما هذا؟ فقالت كانت مسكة فلما حضر قال: إن الميت يحضره شهود يجدون الريح و لا يأكلون فدوفى تلك المسكة بماء ثم رشى بها الخباء فاقريهم ريحها و اطبخى هذا اللحم فانه سيشهدني قوم صالحون يلون دفنى فاقريهم فلما دفنا دعتنا إلى الطعام فأكلنا. و الأحاديث في فضائل أبي ذر و اسلامه و ترجمته و مقامه في الربذة و موته و صلاة عبد الله بن مسعود عليه و من كان معه في موته كثيرة لا نطول بذكرها.

«الكلام في اجتماع الناس و تذاكرهم أعمال عثمان»

قال أبو جعفر الطبرى في تاريخه: ذكر محمد بن عمر أن عبد الله بن جعفر حدثه عن ام بكر بنت المسور بن مخرمة عن أبيها قال: قدمت إبل من إبل الصدقة على عثمان فوهبها لبعض بني الحكم فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف فأرسل إلى المسور ابن مخرمة و إلى عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث فأخذاها فقسمها عبد الرحمن في الناس و عثمان في الدار.

قال: قال محمد بن عمرو حدثني محمد بن صالح عن عبيد الله بن رافع بن نقاحة عن عثمان بن الشريد قال: مر عثمان على جبلة بن عمرو الساعدى و هو بفناء داره و معه جامعة فقال: يا نعثل و الله لأقتلنك و لأحملنك على قلوص جرباء و لاخرجنك‏ إلى حرة النار، ثم جاءه مرة اخرى و عثمان على المنبر فأنزله عنه.

قال: كان أول من اجترأ على عثمان بالمنطق السيى‏ء جبلة بن عمرو الساعدي مر به عثمان و هو جالس في ندى قومه و في يد جبلة بن عمرو جامعة فلما مر عثمان سلم فرد القوم فقال جبلة: لم تردون على رجل فعل كذا و كذا؟ ثم أقبل على عثمان فقال: و الله لأطرحن هذه الجامعة في عنقك أو لتتركن بطانتك هذه. قال عثمان: أي بطانة؟ فو الله إني لأتخير الناس. فقال: مروان تخيرته، و معاوية تخيرته، و عبد الله بن عامر بن كريز تخيرته، و عبد الله بن سعد تخيرته، منهم من نزل القرآن بدمه و أباح رسول الله صلى الله عليه و آله دمه. قال: فانصرف عثمان فما زال الناس مجترئين عليه.

قال: و خطب في بعض أيامه فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين إنك قد ركبت نهابير و ركبناها معك فتب نتب- إلى أن قال: ثم لما كان بعد ذلك خطب عثمان الناس فقام إليه جهجاه الغفاري فصاح يا عثمان ألا إن هذه شارف قد جئنا بها عليها عباءة و جامعة قم يا نعثل فانزل عن هذا المنبر فلندرعك العباءة و لنطرحك في الجامعة و لنحملك على الشارف ثم نطرحك في جبل الدخان، فقال عثمان: قبحك الله و قبح ما جئت به، قال: و لم يكن ذلك إلا عن ملإ من الناس و قام إلى عثمان خيرته و شيعته من بني امية فحملوه و أدخلوه الدار.

قال: بعد ما غزا المسلمون غزوة الصواري و نصرهم الله على الأعداء فقتلوا منهم مقتلة عظيما و هزم القوم جعل محمد بن أبي حذيفة يقول: أما و الله لقد تركنا خلفنا الجهاد حقا، فقيل له: و أى جهاد؟ فيقول: عثمان بن عفان فعل كذا و كذا و فعل كذا و كذا حتى أفسد الناس فقدموا بلدهم و قد أفسدهم و أظهروا من القول ما لم يكونوا ينطقون به.

قال: بإسناده عن الزهري قال: خرج محمد بن أبي حذيفة و محمد بن أبي بكر عام خرج عبد الله بن سعد بن أبي سرح- يعني عام 31 خرج عبد الله بن سعد بأمر عثمان لغزوة الروم التي يقال لها غزوة الصوارى- فأظهر اعيب عثمان و ما غير و ما خالف به أبا بكر و عمر و أن دم عثمان حلال و يقولان استعمل عبد الله بن سعد رجلا كان‏ رسول الله صلى الله عليه و آله أباح دمه و نزل القرآن بكفره و أخرج رسول الله صلى الله عليه و آله قوما و أدخلهم- يعني حكم بن العاص و ابنه مروان الطريدين و غيرهما- و نزع أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله و استعمل سعيد بن العاص و عبد الله بن عامر فبلغ ذلك عبد الله بن سعد فقال:لا تركبا معنا فركبا في مركب ما فيه أحد من المسلمين- إلى أن قال: و عابا عثمان أشد العيب.

و روى بإسناده عن عبد الرحمن بن يسار أنه قال: لما رأى الناس ما صنع عثمان كتب من بالمدينة من أصحاب النبي صلى الله عليه و آله إلى من بالافاق منهم و كانوا قد تفرقوا في الثغور: إنكم انما خرجتم أن تجاهدوا في سبيل الله عز و جل تطلبون دين محمد صلى الله عليه و آله فإن دين محمد قد أفسد من خلفكم و ترك فهلموا فأقيموا دين محمد صلى الله عليه و آله فأقبلوا من كل افق حتى قتلوه.

«نصح أمير المؤمنين على (ع) عثمان»

قال: و أما الواقدي فإنه زعم أن عبد الله بن محمد حدثه عن أبيه قال: لما كانت سنة- 34- كتب أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله بعضهم إلى بعض أن اقدموا فإن كنتم تريدون الجهاد فعندنا الجهاد و كثر الناس على عثمان و نالوا منه أقبح ما نيل من أحد و أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله يرون و يسمعون ليس فيهم أحد ينهى و لا يذب إلا نفير زيد بن ثابت و أبو أسيد الساعدي و كعب بن مالك و حسان بن ثابت فاجتمع الناس و كلموا علي بن أبي طالب عليه السلام فدخل على عثمان فقال: الناس ورائي و قد كلموني فيك و الله ما أدرى ما أقول لك و ما أعرف شيئا تجهله و لا أدلك على أمر لا تعرفه إنك لتعلم ما نعلم ما سبقناك إلى شي‏ء فنخبرك عنه و لا خلونا بشي‏ء فنبلغكه و ما خصصنا بأمر دونك و قد رأيت و سمعت و صحبت رسول الله صلى الله عليه و آله و نلت صهره و ما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الحق منك و لا ابن الخطاب بأولى بشي‏ء من الخير منك، و أنك أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه و آله رحما و لقد نلت من صهر رسول الله صلى الله عليه و آله ما لم ينالا و لا سبقاك إلى شي‏ء فالله الله في نفسك فانك و الله ما تبصر من عمى و لا تعلم من جهل و إن الطريق لواضح بين‏ و إن أعلام الدين لقائمة تعلم يا عثمان أن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل هدى و هدى فأقام سنة معلومة و أمات بدعة متروكة فو الله إن كلا لبين و ان السنن لقائمة لها اعلام و ان البدع لقائمة لها اعلام و ان شر الناس عند الله إما جائر ضل و ضل به فأمات سنة معلومة و احيا بدعة متروكة و إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله يقول: يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر و ليس معه نصير و لا عاذر فيلقى في جهنم فيدور في جهنم كما تدور الرحى ثم يرتطم في غمرة جهنم و إني احذرك الله و احذرك سطواته و نقماته فان عذابه شديد اليم و احذرك ان تكون إمام هذه الأمة المقتول فانه يقال: يقتل في هذه الأمة إمام فيفتح عليها القتل و القتال إلى يوم القيامة و تلبس امورها عليها و يتركها شيعا فلا يبصرون الحق لعلو الباطل يموجون فيها موجا و يمرجون فيها مرجا.

فقال عثمان: قد و الله علمت ليقولن الذي قلت اما و الله لو كنت مكانى ما عنفتك و لا اسلمتك و لا عبت عليك و لا جئت منكرا أن وصلت رحما و سددت خلة و آويت ضائعا و وليت شبيها بمن كان عمر يولى، انشدك الله يا على هل تعلم أن المغيرة بن شعبة ليس هناك؟ قال: نعم، قال: فتعلم ان عمر ولاه؟ قال: نعلم، قال: فلم تلومونى ان وليت ابن عامر في رحمه و قرابته؟

قال على عليه السلام: سأخبرك أن عمر بن الخطاب كان كل من ولي فانما يطأ على صماخه إن بلغه عنه حرف جلبه ثم بلغ به أقصى الغاية و أنت لا تفعل ضعفت و رفقت على أقربائك.

قال عثمان: هم أقرباؤك أيضا، فقال علي عليه السلام: لعمري إن رحمهم منى لقريبة و لكن الفضل في غيرهم.

قال عثمان: هل تعلم أن عمر ولى معاوية خلافته كلها فقد وليته؟.

فقال على عليه السلام: انشدك الله هل تعلم أن معاوية كان أخوف من عمر من يرفا غلام عمر منه؟ قال: نعم، قال على عليه السلام: فإن معاوية يقتطع الأمور دونك و أنت تعلمها فيقول الناس هذا أمر عثمان فيبلغك و لا تغير على معاوية. ثم خرج على عليه السلام‏ من عنده.

و خرج عثمان على اثره فجلس على المنبر فاستمال قلوب الناس إليه بما قال و اعتذر من أفعاله و اشتكى من الناس بما قالوا في مطاعنه و قوادحه فلما انتهى من كلامه قام مروان بن الحكم فقال مخاطبا للناس: إن شئتم حكمنا و الله بيننا و بينكم السيف نحن و الله و أنتم كما قال الشاعر:

فرشنا لكم أعراضنا فنبت بكم‏ معارسكم تبنون في دمن الثرى‏

فقال عثمان: اسكت لاسكت دعنى و أصحابى ما منطقك في هذا ألم أتقدم إليك ألا تنطق؟! فسكت مروان و نزل عثمان.

أقول: أتى بما رواه الطبري من نصح أمير المؤمنين علي عليه السلام عثمان الشيخ الأجل المفيد قدس سره في كتاب الجمل أيضا- ص 84 طبع النجف- و كذا نقله الشريف الرضى رضوان الله عليه في النهج و هو الكلام- 163- من المختار من باب الخطب معنونا بقول الرضى: و من كلام له عليه السلام لما اجتمع الناس عليه و شكوه مما نقموه على عثمان و سألوه مخاطبته عنهم و استعتابه لهم فدخل عليه السلام عليه فقال:

إن الناس ورائى و قد استسفروني بينك و بينهم و و الله ما ادرى ما اقول لك- إلخ و بين النسخ الثلاث اختلاف يسير.

و روى الطبرى بإسناده عن عبد الله بن زيد العنبرى أنه قال: اجتمع ناس من المسلمين فتذاكروا أعمال عثمان و ما صنع فاجتمع رأيهم على أن يبعثوا إليه رجلا يكلمه و يخبره بأحداثه فأرسلوا إليه عامر بن عبد الله التميمي فأتاه فدخل عليه فقال له: إن ناسا من المسلمين اجتمعوا فنظروا في أعمالك فوجدوك قد ركبت امورا عظاما فاتق الله عز و جل و تب إليه و انزع عنها.

قال له عثمان: انظر إلى هذا فإن الناس يزعمون أنه قارئ ثم هو يجي‏ء فيكلمني في المحقرات فو الله ما يدرى أين الله.

قال عامر: إنا لا ندرى أين الله، قال: نعم و الله ما تدرى أين الله، قال عامر:

بلى و الله إني لأدرى أن الله بالمرصاد لك.

فأرسل عثمان إلى معاوية بن أبي سفيان و إلى عبد الله بن سعد بن أبي سرح و إلى سعيد بن العاص و إلى عمرو بن العاص بن وائل السهمي و إلى عبد الله بن عامر فجمعهم ليشاورهم في أمره و ما طلب إليه و ما بلغه عنهم فلما اجتمعوا عنده قال لهم:إن لكل امرى‏ء وزراء و نصحاء و إنكم وزرائي و نصحائي و أهل ثقتي و قد صنع الناس ما قد رأيتم و طلبوا إلي أن أعزل عمالي و أن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبون فاجتهدوا رأيكم و أشيروا علي.

فقال له عبد الله بن عامر: رأيي لك يا أمير المؤمنين أن تأمرهم بجهاد يشغلهم عنك و أن تجمرهم في المغازي حتى يذلوا لك فلا يكون همة أحدهم إلا نفسه و ما هو فيه من دبرة دابته و قمل فروه.

ثم أقبل عثمان على سعيد بن العاص فقال له: ما رأيك؟ قال: يا أمير المؤمنين إن كنت تريد رأينا فاحسم عنك الداء و اقطع عنك الذي تخاف و اعمل برأيي تصب، قال:و ما هو؟ قال: إن لكل قوم قادة متى تهلك يتفرقوا و لا يجتمع لهم أمر، فقال عثمان: إن هذا الرأى لو لا ما فيه.

ثم أقبل على معاوية فقال: ما رأيك؟ قال: أرى لك يا أمير المؤمنين أن ترد عمالك على الكفاية لما قبلهم و أنا ضامن لك قبلى.

ثم أقبل على عبد الله بن سعد فقال: ما رأيك؟ قال: أرى يا أمير المؤمنين أن الناس أهل طمع فاعطهم من هذا المال تعطف عليك قلوبهم.

ثم أقبل على عمرو بن العاص، فقال له: ما رأيك؟ قال: أرى أنك قد ركبت الناس بما يكرهون فاعتزم أن تعتدل فإن أبيت فاعتزم أن تعتزل فإن أبيت فاعتزم عزما و امض قدما.

فقال عثمان: ما لك قمل فروك أ هذا الجد منك فاسكت عنه دهرا حتى إذا تفرق القوم قال عمرو: لا و الله يا أمير المؤمنين لأنت أعز على من ذلك و لكن قد علمت أن سيبلغ الناس قول كل رجل منا فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي فأقود إليك خيرا أو أدفع عنك شرا. فرد عثمان عماله على أعمالهم و أمرهم‏

بالتضييق على من قبلهم و أمرهم بتجمير الناس في البعوث و عزم على تحريم أعطياتهم ليطيعوه و يحتاجوا إليه. و رد سعيد بن العاص أميرا على الكوفة فخرج أهل الكوفة عليه بالسلاح فتلقوه فردوه و قالوا: لا و الله لا يلي علينا حكما ما حملنا سيوفنا.

قال المسعودي و الواقدي و الطبري و غيرهما من أصحاب السير: لما كان سنة خمس ثلاثين سار مالك بن الحرث النخعي من الكوفة في مائتي رجل و حكيم بن جبلة العبدي في مأئة رجل من أهل البصرة، و من أهل مصر ستمائة رجل على أربعة ألوية لها رءوس أربعة مع كل رجل منهم لواء و فيهم محمد بن أبي بكر و كان جماع أمرهم جميعا إلى عمرو بن بديل بن ورقاء الخزاعي و كان من أصحاب النبي صلى الله عليه و آله و إلى عبد الرحمان ابن عديس التجيبي فكان فيما كتبوا إليه:

بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فاعلم أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فالله الله ثم الله الله فإنك على دنيا فاستتم إليها معها آخرة و لا تنس نصيبك من الاخرة فلا تسوغ لك الدنيا و اعلم أنا و الله لله نغضب و في الله نرضى و أنا لن نضع سيوفنا عن عواتقنا حتى تاتينا منك توبة مصرحة او ضلالة مجلحة مبلجة فهذه مقالتنا لك و قضيتنا إليك و الله عذيرنا منك و السلام.

و كتب أهل المدينة إلى عثمان يدعونه إلى التوبة و يحتجون و يقسمون له بالله لا يمسكون عنه أبدا حتى يقتلوه أو يعطيهم ما يلزمه من حق الله.

فلما خاف القتل شاور نصحائه و أهل بيته فقال لهم: قد صنع القوم ما قد رأيتم فما المخرج؟ فأشاروا عليه أن يرسل إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فيطلب إليه أن يردهم عنه و يعطيهم ما يرضيهم ليطاولهم حتى يأتيه أمداد.

فقال عثمان: إن القوم لن يقبلوا التعليل و هي محملي عهدا و قد كان مني في قدمتهم الأولى ما كان فمتى أعطهم ذلك يسألوني الوفاء به.

فقال مروان بن الحكم: يا أمير المؤمنين مقاربتهم حتى تقوى أمثل من مكاثرتهم على القرب فأعطهم ما سألوك و طاولهم ما طاولوك فإنما هم بغوا عليك فلا عهد لهم.

فأرسل إلى علي عليه السلام فدعاه فلما جاءه قال: يا أبا حسن إنه قد كان من الناس ما قد رأيت و كان مني ما قد علمت و لست آمنهم على قتلي فارددهم عني فإن لهم الله عز و جل أن أعتبهم من كل ما يكرهون و أن أعطيهم الحق من نفسي و من غيرى و إن كان في ذلك سفك دمي.

فقال له علي عليه السلام: الناس إلى عدلك أحوج منهم إلى قتلك و إني لأرى قوما لا يرضون إلا بالرضي و قد كنت أعطيتهم في قدمتهم الأولى عهدا من الله لترجعن عن جميع ما نقموا فرددتهم عنك ثم لم تف لهم بشي‏ء من ذلك فلا تغرني هذه المرة من شي‏ء فإني معطيهم عليك الحق.

قال: نعم، فاعطهم فو الله لأفين لهم. فخرج علي عليه السلام إلى الناس فقال:أيها الناس إنكم إنما طلبتم الحق فقد أعطيتموه إن عثمان قد زعم أنه منصفكم من نفسه و من غيره و راجع عن جميع ما تكرهون فاقبلوا منه و وكدوا عليه.

قال الناس: قد قبلنا فاستوثق منه لنا فانا و الله ما نرضى بقول دون فعل. فقال لهم علي عليه السلام: ذلك لكم. ثم دخل عليه فأخبره الخبر فقال عثمان: اضرب بيني و بينهم أجلا يكون لي فيه مهلة فإني لا أقدر على رد ما كرهوا في يوم واحد.

قال له علي عليه السلام: ما حضر بالمدينة فلا أجل فيه و ما غاب فأجله وصول أمرك.

قال: نعم، و لكن أجلني فيما بالمدينة ثلاثة أيام. قال علي عليه السلام: نعم، فخرج إلى الناس فأخبرهم بذلك و كتب بينهم و بين عثمان كتابا أجله فيه ثلاثا على أن يرد كل مظلمة و يعزل كل عامل كرهوه. ثم أخذ عليه في الكتاب أعظم ما أخذ الله على أحد من خلقه من عهد و ميثاق و أشهد عليه ناسا من وجوه المهاجرين و الأنصار.

فكف المسلمون عنه و رجعوا إلى أن يفي لهم بما أعطاهم من نفسه.

فجعل عثمان يتأهب للقتال و يستعد بالسلاح و قد كان اتخذ جندا عظيما من رقيق الحمس فمضت الأيام الثلاثة و هو على حاله و لم يغير شيئا مما كرهوه و لم يعزل عاملا.

«تولية عثمان محمد بن أبي بكر على مصر و ارساله» «كتابا لابن أبي سرح في قتله»

فلما أن أهل مصر جاءوا و شكوا ابن أبي سرح عاملهم فنزلوا المسجد و شكوا إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله في مواقيت الصلاة ما صنع بهم ابن أبي سرح فقام طلحة فتكلم بكلام شديد و أرسلت عائشة إلى عثمان فقالت له: قد تقدم إليك أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله و سألوك عزل هذا الرجل و كذا دخل عليه علي عليه السلام فقال له:

إنما يسألونك رجلا مكان رجل و قد ادعوا قبله دما فاعزله عنه و اقض بينهم فإن وجب لهم عليه حق فأنصفهم منه.

فقال: اختاروا رجلا اوليه عليهم. فقالوا: استعمل محمد بن أبي بكر فكتب عثمان عهده و ولاه و خرج معه عدد من المهاجرين و الأنصار ينظرون فيما بين ابن أبي سرح و أهل مصر.

فخرج محمد و من معه حتى إذا كانوا على مسيرة ثلاث ليال من المدينة في الموضع المعروف بخمس إذا هم بغلام أسود على بعير يخبط البعير كأنه طالب أو هارب يتعرض لهم ثم يفارقهم ثم يرجع إليهم ثم يفارقهم و يسيئهم و هو مقبل من المدينة، فتأملوه فاذا هو ورش غلام عثمان على جمل عثمان فقال له أصحاب محمد بن أبي بكر: ما قصتك و ما شأنك إن لك لأمرا؟

فقال: أنا غلام أمير المؤمنين وجهني إلى عامل مصر. فقال له رجل: هذا عامل مصر معنا، قال: ليس هذا اريد. فاخبر محمد بأمره فبعث في طلبه رجلا فجاء به إليه فقال له: غلام من أنت؟ فأقبل مرة يقول: أنا غلام مروان، و مرة يقول: أنا غلام عثمان حتى عرفه رجل أنه لعثمان فقال له محمد: إلى من أرسلك؟ قال: إلى عامل مصر، قال: بماذا؟ قال: برسالة. قال: أ ما معك كتاب؟ قال: لا، ففتشوه فلم يجدوا معه كتابا و كانت معه إداوة قد يبست فيها شي‏ء يتقلقل فحركوه ليخرج فلم يخرج فشقوا إداوته فاذا فيه كتاب من عثمان إلى عبد الله بن ابى سرح عامل مصر.

فجمع محمد من كان معه من المهاجرين و الأنصار ثم فك الكتاب بمحضر منهم فقرأه فإذا فيه: إذا أتاك محمد بن أبي بكر و فلان و فلان أن يصلبهم أو يقتلهم أو يقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف و أبطل كتابهم و قر على عملك حتى يأتيك رأيي.

فلما رأوا الكتاب فزعوا منه و رجعوا إلى المدينة و ختم محمد الكتاب بخواتم النفر الذين كانوا معه و دفعه إلى رجل منهم ثم قدموا المدينة فجمعوا عليا عليه السلام و طلحة و الزبير و سعدا و من كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله ثم فكوا الكتاب بمحضر منهم و أخبرهم بقصة الغلام و أقرأهم الكتاب فلم يبق أحد من أهل المدينة إلا حنق على عثمان، و قام أصحاب النبي صلى الله عليه و آله فلحقوا بمنازلهم و حصر الناس عثمان و أحاطوا به و منعوه الماء و الخروج و من كان معه و اجلب عليه محمد بن أبي بكر.

و في تاريخ أبي جعفر الطبري: لما قدموا المدينة أتوا عليا عليه السلام فقالوا: ألم تر إلى عدو الله عثمان إنه كتب فينا بكذا و كذا و إن الله قد أحل دمه قم معنا إليه قال: و الله لا أقوم معكم إلى أن قالوا: فلم كتبت إلينا؟ فقال: و الله ما كتبت إليكم كتابا قط فنظر بعضهم إلى بعض ثم قال بعضهم لبعض: أ لهذا تقاتلون أو لهذا تغضبون؟

فانطلق على عليه السلام فخرج من المدينة إلى قرية ثم إنهم انطلقوا حتى دخلوا على عثمان فقالوا: كتبت فينا بكذا و كذا.

فقال عثمان: إنما هما اثنتان أن تقيموا على رجلين من المسلمين أو يميني بالله الذي لا إله إلا هو ما كتبت و لا أمللت و لا علمت و قد تعلمون أن الكتاب يكتب على لسان الرجل و قد ينقش الخاتم على الخاتم. فقالوا: فقد و الله أحل الله دمك و نقضت العهد و الميثاق فحاصروه.

و فيه أيضا لما قدموا المدينة أرسلوا إلى عثمان أ لم نفارقك على أنك زعمت أنك تائب من أحداثك و راجع عما كرهنا منك و أعطيتنا على ذلك عهد الله و ميثاقه؟

قال: بلى أنا على ذلك. قالوا: فما هذا الكتاب الذي وجدنا مع رسولك و كتبت به إلى عاملك؟ قال: ما فعلت و لا لى علم بما تقولون. قالوا: بريدك على جملك و كتاب كاتبك عليه خاتمك قال: أما الجمل فمسروق، و قد يشبه الخط الخط، و أما

الخاتم فانتقش عليه. قالوا: فإنا لا نعجل عليك و إن كنا قد اتهمناك اعزل عنا عمالك الفساق و استعمل علينا من لا يتهم على دمائنا و أموالنا و اردد علينا مظالمنا قال عثمان: ما أراني إذا في شي‏ء إن كنت أستعمل من هويتم و أعزل من كرهتم الأمر إذا أمركم. قالوا: و الله لتفعلن أو لتعزلن أو لتقتلن فانظر لنفسك أودع، فأبى عثمان عليهم و قال: لم أكن لأخلع سربالا سر بلنيه الله فحصروه أربعين.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی

________________________________________________________________

[1] ( 1) رواه السيوطى في الاتقان و ابن النديم في الفهرست قال: قال محمد بن اسحاق:

حدثنا أبو الحسن محمد بن يوسف الناقط- الا أن قال مسندا: ان زيد بن ثابت قال:

ارسلت إلى أبى بكر فأتيته فاذا عمر بن الخطاب عنده فقال أبو بكر ان عمر أتانى فقال لى ان القتل قد استحر بالقراء يوم اليمامة و انى أخشى أن يستحر القتل في القراء في المواطن كلها فيذهب كثير من القرآن فأرى أن يجمع القرآن بحال- إلى آخر ما قال فراجع( ص 36 طبع مصر) و لكن الحق كما قال علم الهدى: أى فاعل فعل ذلك كان منكرا. منه.

[2] ( 1) المراد بالمفصل السور القصار من بعد الحواميم إلى آخر القرآن كما في الفن الرابع من مقدمات مجمع البيان في تفسير القرآن للطبرسى ره و كذا في الاتقان للسيوطى في خاتمة النوع التاسع عشر.

[3] ( 1) فسره أحد الشراح بقوله: الخفض عمود الخباء يعنى من كتاب و معجزت را سازنده ستونم باين معنى كه آلت نگهدارى براى آن مى‏سازم.

[4] ( 1) يعنى أن المسلمين كانوا يكتمون اسم رسول الله( ص) و يصلون سرا خوفا من الكافرين.

[5] هاشمى خويى، ميرزا حبيب الله، منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (خوئى) – تهران، چاپ: چهارم، 1400 ق.

نهج البلاغه نامه ها نامه شماره 1/1 شرح میر حبیب الله خوئی(به قلم علامه حسن زاده آملی )

نامه 1 صبحی صالح

باب المختار من كتب مولانا أمير المؤمنين علي ( عليه ‏السلام  )، و رسائله إلى أعدائه و أمراء بلاده، و يدخل في ذلك ما اختير من عهوده إلى عماله، و وصاياه لأهله و أصحابه.

1- و من كتاب له ( عليه‏ السلام  ) إلى أهل الكوفة عند مسيره من المدينة إلى البصرة

مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ جَبْهَةِ الْأَنْصَارِ وَ سَنَامِ الْعَرَبِ

أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أُخْبِرُكُمْ عَنْ أَمْرِ عُثْمَانَ حَتَّى يَكُونَ سَمْعُهُ كَعِيَانِهِ إِنَّ النَّاسَ طَعَنُوا عَلَيْهِ فَكُنْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أُكْثِرُ اسْتِعْتَابَهُ وَ أُقِلُّ عِتَابَهُ وَ كَانَ طَلْحَةُ وَ الزُّبَيْرُ أَهْوَنُ سَيْرِهِمَا فِيهِ الْوَجِيفُ وَ أَرْفَقُ حِدَائِهِمَا الْعَنِيفُ

وَ كَانَ مِنْ عَائِشَةَ فِيهِ فَلْتَةُ غَضَبٍ فَأُتِيحَ لَهُ قَوْمٌ فَقَتَلُوهُ وَ بَايَعَنِي النَّاسُ غَيْرَ مُسْتَكْرَهِينَ وَ لَا مُجْبَرِينَ بَلْ طَائِعِينَ مُخَيَّرِينَ

وَ اعْلَمُوا أَنَّ دَارَ الْهِجْرَةِ قَدْ قَلَعَتْ بِأَهْلِهَا وَ قَلَعُوا بِهَا وَ جَاشَتْ جَيْشَ الْمِرْجَلِ وَ قَامَتِ الْفِتْنَةُ عَلَى الْقُطْبِ فَأَسْرِعُوا إِلَى أَمِيرِكُمْ وَ بَادِرُوا جِهَادَ عَدُوِّكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ

شرح وترجمه میر حبیب الله خوئی ج16  

باب المختار من كتب مولينا أمير المؤمنين عليه السلام و رسائله إلى أعدائه و امراء بلاده، و يدخل في ذلك ما اختير من عهوده عليه السلام إلى عماله و وصاياه لأهله و أصحابه.

من كتاب له عليه السلام إلى أهل الكوفة عند مسيره اليهم من المدينة الى البصرة و هو الكتاب الأول من المختار من كتبه عليه السلام.

من عبد الله على أمير المؤمنين إلى الكوفة جبهة الأنصار و سنام العرب أما بعد فإني أخبركم عن أمر عثمان حتى يكون سمعه كعيانه:إن الناس طعنوا عليه فكنت رجلا من المهاجرين أكثر استعتابه و أقل عتابه و كان طلحة و الزبير أهون سيرهما فيه الوجيف، و أرفق حدائهما العنيف، و كان من عائشة فيه فلتة غضب فاتيح له قوم فقتلوه، و بايعني الناس غير مستكرهين و لا مجبرين، بل طائعين مخيرين. و اعلموا أن دار الهجرة قد قلعت بأهلها و قلعوا بها، و جاشت جيش المرجل و قامت الفتنة على القطب، فأسرعوا إلى أميركم و بادروا جهاد عدوكم إنشاء الله‏.

اللغة

قول الرضي رضوان الله عليه: عهوده إلى عماله يقال: عهد إلى فلان أوصاه و شرط عليه، قال الجوهري في الصحاح: العهد: الأمان، و اليمين، و الموثق، و الذمة، و الحفاظ، و الوصية و قد عهدت إليه أى أوصيته و منه اشتق العهد الذي يكتب للولاة. و في المنجد: العهد ما يكتبه ولي الأمر للولاة يأمرهم فيه باجراء العدالة و كان يعرف بالفرمان و الجمع عهود. و الوصايا جمع الوصية كغنية بمعنى النصيحة و يقال بالفارسية: اندرز، و هو اسم من الإيصاء: و بمعنى ما يعهده الإنسان بعد وفاته من وصى يصى إذا وصل الشي‏ء بغيره لأن الموصي يوصل تصرفه بعد الموت بما قبله و الأخير هو المقرر في كتب الفقه و في هذا الباب يذكر وصاياه عليه السلام على كل واحد من المعنيين.

قوله عليه السلام: (جبهة) الجبهة للناس و غيره معروفة و هي ما بين الحاجبين إلى قصاص مقدم الرأس أى موضع السجود من الرأس و لذا سمي المنزل العاشر من من منازل القمر جبهة لأن كواكبها الأربع كالجبهة للكواكب الموسومة بالأسد و يقال: جبهة الأسد لذلك. في الصحاح و اللسان، الجبهة من الناس بالفتح: الجماعة يقال جاءتنا جبهة من الناس أى جماعة منهم. و على الأول يقال لأعيان الناس و أشرافهم و سادتهم و رؤسائهم جبهة من حيث إن الجبهة أعلا الأعضاء و أسناها و تسميتهم بذلك كتسميتهم بالوجوه. و المراد بالأنصار ههنا الأعوان و ليس يريد بهم بنى قبيلة و الأنصار جمع نصير كشريف و أشراف لا جمع ناصر لأنه يجمع على النصر كصاحب و صحب.

(السنام) بفتح أوله كالسحاب: حدبة في ظهر البعير. الجمع: أسنمة.

و يقال بالفارسية: كوهان شتر. و من حيث إن السنام أعلا أعضاء البعير يقال لأعلا كل شي‏ء سنامه قال حسان بن ثابت:

و ان سنام المجد من آل هاشم‏ بنو بنت مخزوم و والدك العبد

و كذا يقال السنام لمعظم كل شي‏ء و منه الحديث: الجهاد سنام الدين و لذا

يقال لكبير القوم و رفيعهم سنامهم كما هو المراد من قوله عليه السلام سنام العرم. و الصواب أن يكون السنام قرينة على أن المراد بالجبهة هو معناها الأول. (العيان) بالكسر كالضراب مصدر عاين يقال عاينه معاينة و عيانا إذا شاهده و رآه بعينه لم يشك في رؤيته إياه. استعاره (طعن) فيه و عليه بالقول طعنا و طعنانا من بابي نصر و منع: قدحه و عابه. و هو في الأصل كما في المفردات للراغب: الضرب بالرمح و بالقرن و ما يجرى مجراهما ثم استعير للوقيعة قال الله تعالى: و طعنا في الدين‏- و طعنوا في دينكم‏.

(الاستعتاب) من الأضداد يقال استعتبه إذا أعطاه العتبى و كذا إذا طلب منه العتبى، و العتبى هى الرضا. يقال: استعتبته فأعتبني أى استرضيته فأرضاني قال الله تعالى:و إن يستعتبوا فما هم من المعتبين‏ (حم: 25) فالمعنى على الوجه الثاني أني طلبت منه العتبى و الرضا بمعنى أن يرجع عما أحدث مما صار سبب سخط القوم و طعنهم عليه حتى يرضوا عنه. و هذا هو الأنسب بالمقام أو طلبت من القوم العتبى له على ما سيتضح في الشرح إنشاء الله تعالى و في الكنز: استعتاب خوشنودى خواستن و آشتى خواستن و بازگشتن خواستن از بدى و غير آن.

«بحث لغوى»

في قوله عليه السلام‏ (اقل عتابه) لطيفة لغوية لم يتعرضها الشراح و المترجمون بل في تفسيره عدلوا عن الصواب و ذلك لأن كلمة اقل ليس بمعنى اقل الشي‏ء إذا جعله قليلا او أتى بقليل و بالجملة أن معنى اقل ليس قبال اكثر و إن جعل قباله في اللفظ كما ذهب إليه القوم على ما هو ظاهر كلام الشارحين المعتزلي و البحراني و صريح ترجمة المولى فتح الله القاساني حيث قال: و كم مى‏گردانيدم سرزنش او را و المولى الصالح القزويني حيث قال: و كمتر وقت عتاب مى‏نمودم، و كذا غيرهما من المترجمين بل الصواب أن المراد من اقل هنا النفى أى ما عاتبت عليه و هذا اللفظ يستعمل كثيرا في نفى أصل الشي‏ء قال الفاضل الأديب ابن الأثير في مادة- ق ل ل- من النهاية: و في الحديث انه كان يقل اللغو أى لا يلغو أصلا و هذا اللفظ يستعمل‏ في نفى أصل الشي‏ء كقوله تعالى: فقليلا ما يؤمنون‏ انتهى قوله.

و الشيخ الإمام أبو على أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي الأصفهاني في شرحه على الاختيار المنسوب إلى أبي تمام الطائى المعروف بكتاب الحماسة (طبع القاهرة 1371 ه- 1951 م) في شرح الحماسة 13 لتأبط شرا (ص 95) قوله:

قليل التشكي للمهم يصيبه‏ كثير الهوى شتى النوى و المسالك‏

قال: و استعمل لفظ القليل، و القصد إلى نفى الكل، و هذا كما يقال فلان قليل الاكتراث بوعيد فلان، و المعنى لا يكترث. و على ذلك قولهم: قل رجل يقول كذا، و أقل رجل يقول كذا، و المعنى معنى النفي، و ليس يراد به إثبات قليل من كثير.

ثم قال: فإن قيل: من أين ساغ أن يستعمل لفظ القليل و هو للإثبات في النفي؟

قلت: إن القليل من الشي‏ء في الأكثر يكون في حكم ما لا يتعد به و لا يعرج عليه لدخوله بخفة قدره في ملكة الفناء و الدروس و الإمحاء، فلما كان كذلك استعمل لفظه في النفى على ما في ظاهره من الإثبات محترزين من الرد و مجملين في القول، و ليكون كالتعريض الذي أثره أبلغ و أنكى من التصريح، و قوله: «كثير الهوى» طابق القليل بقوله كثير من حيث اللفظ لا أنه أثبت بالأول شيئا نزرا فقابله بكثير.

و في شرح الحماسة 105 (ص 322) قول الشاعر:

فقلت لها لا تنكرينى فقل ما يسود الفتى حتى يشيب و يصلعا

قال: و قوله «قل ما» يفيد النفى هنا و ما تكون كافة لقل عن طلب الفاعل و ناقلة له عن الاسم إلى الفعل، فاذا قلت: قل ما يقوم زيد فكأنك قلت ما يقوم زيد، يدل على ذلك أنهم قالوا: قل رجل يقول ذاك إلا زيد، و أجرى مجرى ما يقول ذاك إلا زيد.

و في شرح الحماسة 165 لتأبط شرا أيضا (ص 492) قوله:

قليل غرار النوم أكير همه‏ دم الثار أو يلقى كميا مسفعا

قال: فإن قيل ما معنى قليل غرار النوم؟ و إذا كان الغرار القليل من النوم بدلالة قولهم ما نومه إلا غرارا فكيف جاز أن تقول: قليل غرار النوم و أنت لا تقول هو قليل قليل النوم؟ قلت: يجوز أن يراد بالقليل النفى لا إثبات شي‏ء منه و المعنى:

لا ينام الغرار فكيف ما فوقه؟

و في شرح الحماسة 271 لدريد بن الصمة (ص 819) قوله:

قليل التشكي للمصيبات حافظ من اليوم أعقاب الأحاديث في غد

قال: يريد بقوله «قليل» نفى أنواع التشكى كلها عنه؛ على هذا قوله تعالى‏ فقليلا ما يؤمنون‏ و قولهم: قل رجل يقول كذا و أقل رجل يقول ذاك.

و المعنى أنه لا يتألم للنوائب تنزل بساحته و المصائب تتجدد عليه في ذويه و عشيرته و أنه يحفظ من يومه ما يتعقب أفعاله من أحاديث الناس في غده إلخ.

و في شرح الحماسة 447 لمحمد بن أبي شحاذ (ص 1201) قوله:

و قل غناء عنك مال جمعته‏ إذا كان ميراثا و اراك لاحد

قال: المراد بذكر القلة ها هنا النفى لا إثبات شي‏ء قليل فيقول: لا يغنى عنك مال تجمعه إذا ذهبت عنه و تركته لورثتك إلخ.

و في مفردات الراغب: و قليل يعبر به عن النفى نحو قلما يفعل كذا إلا قاعدا أو قائما و ما يجرى مجراه و على ذلك حمل قوله تعالى‏ فقليلا ما يؤمنون‏ و إنما فسروا قوله تعالى‏ فقليلا ما يؤمنون‏ بنفى الايمان عنهم لأن ظاهر الاية تدل على ذلك قال تعالى: أ فكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم و فريقا تقتلون و قالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون‏ (82 و 83 من البقرة) و إن كان يمكن أن تجعل الاية المتقدمة عليها و هي قوله تعالى: أ فتؤمنون ببعض الكتاب و تكفرون ببعض‏ قرينة على ارادة القلة في قبال الكثرة فيها أو يؤول بوجوه اخرى على استفادة ذلك المعنى كما ذكر في التفاسير و لكن إفادة القليل معنى النفى في كلام العرب كثير، ففي مجمع البيان في تفسير هذه الاية قال: و الذي يليق بمذهبنا أن يكون المراد به لا إيمان لهم أصلا و إنما وصفهم بالقليل كما يقال قل ما رأيت هذا قط أى ما رأيت هذا قط.

و إنما اخترنا النفى من قوله عليه السلام اقل عتابه، و أعرضنا عن حمله على ظاهره لدقيقة نأتي بها في الشرح.

و ليعلم أن هذه اللفظة قد يستعمل في الكثرة على ما صرح به المرزوقي في شرح الحماسة أيضا حيث قال: و قالوا أيضا أقل رجل يقول ذلك إلا زيد و أنهم أجروا خلافه مجراه فيقول: كثر ما يقول زيد و على ذلك هذا البيت.

صددت فأطولت الصدود و قلما وصال على طول الصدود يدوم‏

انتهى (ص 322 شرح الحماسة 105). و لا يخفى أن هذا الاستعمال نزر جدا بخلاف الأول.

و اعلم أنه يمكن أن يكون قوله عليه السلام «اقل عتابه» من أقل فلان الشي‏ء إذا أطاقه و حمله و رفعه. قال تعالى: و هو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء (الأعراف: 56) أى حملت الرماح سحابا ثقالا، و منه قوله صلى الله عليه و آله في أبي ذر رضى الله عنه: ما أظلت الخضراء و لا أقلت الغبراء أصدق من أبي ذر. و وجه التفسير على هذا الوجه يعلم في الشرح إن شاء الله تعالى.

ففي الجمع بين أقل بهذا المعنى بل بالمعنى الأول أيضا تحسين بديع و هو مراعاة النظير من وجوه تحسين الكلام المقرر في فن البديع و مراعاة النظير أن يجمع بين معنيين غير متناسبين بلفظين يكون لهما معنيان متناسبان و إن لم يكونا مقصودين ههنا نحو قوله تعالى‏ الشمس و القمر بحسبان و النجم و الشجر يسجدان‏ و بالفارسية نحو قول الشاعر هر چه آن خسرو كند شيرين بود.

(عتاب) بالكثر مصدر ثان من باب المفاعلة كضراب يقال عاتبه عليه معاتبة و عتابا إذا لامه و واصفه الموجدة و خاطبه الإدلال. (الوجيف) وجف الشي‏ء بمعنى اضطرب، قال تعالى: قلوب يومئذ واجفة و الوجيف ضرب من سير الإبل و الخيل فيه سرعة و اضطراب، أو جفت البعير: أسرعته. و في أقرب الموارد:

وجف الفرس و البعير: عدا و سار العنق، و في حديث على: أهون سيرهما فيه الوجيف‏ (حداء) بكسر أوله و ضمه أيضا ككتاب و ذباب واوى من حدو: سوق الابل و الغناء لها. يقال حدا الابل و بالابل يحدو حدوا و حداء و حداء من باب نصر ساقها و غنى لها فهو حاد. يقال حدت الريح السحاب أى ساقتها. (العنيف) الشديد من القول و السير. و الذي ليس له رفق بركوب الخيل. عنف به و عليه من باب كرم لم يرفق به و عامله بشدة. (الفلتة) بالفتح، في الصحاح يقال كان ذاك الأمر فلتة أى فجأة إذا لم يكن عن تردد و لا تدبر. و في أقرب الموارد: حدث الأمر فلتة أى فجأة من غير تردد و لا تدبر حتى كأنه افتلت سريعا، قال: يقال: كانت بيعة أبي بكر فلتة.

(اتيح) تاح له الشي‏ء يتوح توحا من باب نصر و اتيح له الشي‏ء قدر له و تهيى‏ء و أتاح الله له الشي‏ء أى قدره له، قاله في الصحاح. قال انيف بن حكيم النبهاني:

و تحت نحور الخيل حرشف رجلة تتاح لغرات القلوب نبالها

و هو من أبيات الحماسة (الحماسة 33 و 209) وصفهم بأن نبالهم تقدر للقلوب الغارة.

(مستكرهين) قال الفاضل الشارح المعتزلي: و قد ذكر أن خط الرضي رضوان الله عليه مستكرهين بكسر الراء و الفتح أحسن و أصوب و إن كان قد جاء استكرهت الشي‏ء بمعنى كرهته. انتهى.

أقول: الاستكراه قد جاء بمعنى الاكراه كما جاء بمعنى عد الشي‏ء و وجدانه كريها و من الأول حديث رفع عن امتي الخطاء و ما استكرهوا عليه. أى ما اكرهوا عليه.

فلو قرئ المستكرهين بفتح الراء لكان بمعنى المكرهين و الإكراه و الإجبار واحد.

و قالوا في المعاجم: أكرهه على الأمر: حمله عليه قهرا، و كذا قالوا أجبره على الأمر أكرهه عليه فلو قرئ بالفتح للزم التكرار لأنه و المجبرين حينئذ بمعنى واحد فالكسر متعين كما اختاره الرضى. و المستكره بالكسر بمعنى الكاره أى ناخوش و ناپسند دارنده يقال: استكرهت الشي‏ء أي كرهته كما أشار إليه الفاضل الشارح، و في منتهى‏

الأرب في لغة العرب: استكراه: بنا خواست و ستم بر كارى داشتن، و ناخوش شمردن.

و المراد بدار الهجرة مدينة الرسول صلى الله عليه و آله و المنقول من الرواندي رحمه الله أن المراد بدار الهجرة ههنا الكوفة التي هاجر أمير المؤمنين علي عليه السلام اليها.

أقول: و هذا عجيب جدا و إنما هو من طغيان قلمه رحمه الله لأن أمير المؤمنين عليه السلام أخبر أهل الكوفة بأن المدينة قد قلعت بأهلها و جاشت جيش المرجل على أنه عليه السلام حين كتب الكتاب إليهم كان نازلا في ذى قار بعيدا عن الكوفة و لم يصل إلى الكوفة و لم يقم فيها بعد فكيف يكتب إليهم يخبرهم عن أنفسهم و هذا ظاهر لا عائدة في الإطالة.

و قيل: يحتمل أن يريد بدار الهجرة دار الإسلام و بلادها.

أقول: و لا يخفى ضعف هذا الاحتمال و تكلفه و سيتضح في الشرح أن المراد من المدينة مدينة الرسول صلى الله عليه و آله ليست إلا.

(قلعت بأهلها) يقال قلع المنزل بأهله إذا لم يصلح لاستيطانهم و منه قولهم كما في الصحاح، هذا منزل قلعة بالضم أي ليس بمستوطن.

و يمكن أن يقرأ الفعلان مجهولين و تكون الباء في الموضعين بمعنى مع فيكون آكد للمراد كما لا يخفى؛ أو يقال: الباء زائدة للتأكيد و الفعل معلوم في كلا الموضعين كقوله تعالى: و كفى بالله شهيدا* لأن القلع متعد بنفسه يقال قلعه إذا انتزعه من أصله أو حوله عن موضعه و المراد أن المدينة فارقت أهلها و أخرجتهم منه و كذا قلعوا بها أى انهم فارقوها و خرجوا منها و لم يستقروا فيه.

(المرجل): القدر اسم آلة على وزن مفعل. (بادروا) أى سارعوا أمر من المبادرة.

يمكن أن يكون جبهة الأنصار و سنام العرب صفتين لأهل الكوفة كما يمكن أن يكونا بدلين بدل البعض من الكل أو الكل من الكل.

«إن الناس طعنوا» بيان للأخبار. «من المهاجرين» ظرف مستقر منصوب‏ محلا صفة للرجل، و يمكن أن تكون جملتا اكثر استعتابه و اقل عتابه صفتين له أيضا لأن الجملة نكرة، و لكن الظاهر أن الجملتين حالان لضمير كنت. لا يقال:

فلم لم يأت بالواو الحالية؟ لأنا نقول: المضارع المثبت المجرد من قد لا يقترن بالواو لأنه يشبه اسم الفاعل في الزنة و المعنى و الواو لا تدخل اسم الفاعل و كذلك ما أشبهه و يكون قوله عليه السلام على وزان قوله تعالى‏ و لا تمنن تستكثر فجملة تستكثر حال من فاعل تمنن المستتر فيه و لا تكون مقترنة بالواو و في الألفية لابن مالك.

و ذات بدء بمضارع ثبت‏ حوت ضميرا و من الواو خلت‏

قال بعض: أهون سيرهما بدل من طلحة و الزبير و الوجيف خبر كان و كذا الكلام في أرفق حدائهما العنيف لأنها عطف على الأولى. قلت: الصواب أن ما ذهب إليه ذلك البعض و هم لأن الوجيف خبر أهون و جملة أهون سيرهما فيه الوجيف خبر كان و كذا الحكم في الجملة الثانية و ذلك لأن الوجيف لو كان خبر كان لصح حمله على الزبير و طلحة أن يقال طلحة و جيف مثلا و ليس كذلك لأن السير و جيف لما دريت أن الوجيف نوع من سير الابل، على أن فيه معايب اخرى لا تخفى على العارف بأحكام البدل و تركيب الجمل.

«من عائشة» يتعلق بفلتة قدم لسعة الظروف. و فلتة اسم كان و لم يقل كانت لأن تأنيث اسمه مجازى، و فيه خبر كان قدم على الاسم لأنه ظرف: «فاتيح» الفاء للتسبيب لأن من قوله عليه السلام: إن الناس إلى هنا بيان مبدء سبب قتل القوم عثمان؛ أي ان الناس لما طعنوا عليه و … فقدر له قوم فقتلوه على وزان قوله تعالى‏ فوكزه موسى فقضى عليه‏. و الفاء في فقتلوه للترتيب الذكرى لأن أكثر وقوعه في عطف المفصل على المجمل نحو قوله تعالى: فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة و المقام كذلك أيضا. و يمكن أن تكون للتعقيب نحو قوله تعالى: أماته فأقبره‏ و الفاء في «فأسرعوا» فصيحة و التقدير: إذا كان الأمر انجر إلى كذا فأسرعوا. اه‏

نقل الكتاب على صورة اخرى‏

قد نقل ذلك الكتاب الذي كتبه عليه السلام إلى أهل الكوفة عند مسيره إليهم من المدينة إلى البصرة على صورة اخرى قريبة مما في النهج في بعض الجمل الشيخ الأجل المفيد قدس سره في كتابه المترجم بالجمل، أو النصرة في حرب البصرة (ص 116 طبع النجف) و هذه صورته.

بسم الله الرحمن الرحيم من علي بن أبي طالب إلى أهل الكوفة أما بعد فإني اخبركم من أمر عثمان حتى يكون أمره كالعيان لكم: إن الناس طعنوا عليه فكنت رجلا من المهاجرين اظهر معه عتبه و أكره و أشقى به و كان طلحة و الزبير أهون سيرهما الرجيف و قد كان من أمر عائشة و قتله ما عرفتم فلما قتله الناس بايعاني غير مستنكرين طائعين مختارين و كان طلحة و الزبير أول من بايعني على ما بايعا به من كان قبلي ثم استأذناني في العمرة و لم يكونا يريدان العمرة فنقضا العهد و أذنا في الحرب و أخرجا عائشة من بيتها يتخذانها فتنة فسارا إلى البصرة و اخترت السير إليهم معكم و لعمرى إياى تجيبون انما تجيبون الله و رسوله و الله ما قاتلتهم و في نفسي شك و قد بعثت إليكم ولدى الحسن و عمارا و قيسا مستنفرين لكم فكونوا عند ظني بكم و السلام.

أقول: و نقل الكتاب الدينوري في الإمامة و السياسة أيضا (ص 66 ج 1 طبع مصر 1377 ه).

المعنى‏

إنما الحرى في المقام أن نذكر الأحداث التي أحدثها عثمان‏ مما نقمها الناس منه و طعنوا عليه و صارت سبب قتله ثم نتبعه علة وقوع فتنة الجمل.

أما أحداثه فنذكر طائفة منها ههنا عن الطبرى و المسعودى و غيرهما.

قال المسعودى في مروج الذهب‏:

1- ذكر عبد الله بن عتبة أن عثمان يوم قتل كان عند خازنه من المال خمسون و مأئة ألف دينار و ألف ألف درهم‏ و قيمة ضياعه بوادى القرى و حنين و غيرهما مأئة ألف دينار و خلف خيلا كثيرا و إبلا.

2- اقتني في أيامه جماعة من أصحابه الضياع و الدور منهم الزبير بن العوام‏ بنى داره بالبصرة و ابتني أيضا دورا بمصر و الكوفة و الاسكندرية و ما ذكر من دوره و ضياعه فمعلوم غير مجهول إلى هذه الغاية. و بلغ مال الزبير بعد وفاته خمسين ألف دينار و خلف الزبير ألف فرس و ألف عبد و ألف أمة و خططا بحيث ذكرنا من الأمصار.

3- و كذلك طلحة بن عبيد الله التيمي‏ ابتني داره بالكوفة المعروفة بالكناس بدار الطلحتين و كانت غلته من العراق كل يوم ألف دينار و قيل أكثر من ذلك و بناحية سراة أكثر مما ذكرنا. و شيد داره بالمدينة و بناها بالاجر و الجص و الساج‏.

4- و كذلك عبد الرحمان بن عوف الزهري‏ ابتني داره و وسعها و كان على مربطه مأئة فرس و له ألف بعير و عشرة آلاف من الغنم و بلغ بعد وفاته ربع ثمن ماله أربعة و ثمانين ألفا.

5- و ابتني سعد بن أبي وقاص داره بالعقيق‏ فرفع سمكها و وسع فضاءها و جعل أعلاها شرفات.

6- و قد ذكر سعيد بن المسيب أن زيد بن ثابت حين مات خلف من الذهب و الفضة ما كان يكسر بالفئوس‏ غير ما خلف من الأموال و الضياع بقيمة مأئة ألف دينار.

7- و ابتنى المقداد داره بالمدينة في الموضع المعروف بالجرف على أميال من المدينة و جعل أعلاها شرفات و جعلها مجصصة الظاهر و الباطن.

8- و مات يعلي بن امية و خلف خمسمائة ألف دينار و ديونا على الناس و عقارات و غير ذلك من التركة ما قيمته مأئة ألف دينار.

ثم قال المسعودى: و هذا باب يتسع ذكره و يكثر وصفه فيمن تملك من الأموال في أيامه و لم يكن مثل ذلك في عصر عمر بن الخطاب بل كانت جادة واضحة و طريقة بينة و حج عمر فأنفق في ذهابه و مجيئه إلى المدينة ستة عشر دينارا و قال لولده عبد الله: لقد أسرفنا في نفقتنا في سفرنا هذا. و لقد شكا الناس أميرهم سعد بن أبي وقاص و ذلك في سنة إحدى و عشرين فبعث عمر محمد بن مسلمة الأنصارى حليف‏ بني عبد الأشهل فخرق عليه باب قصر الكوفة و جمعهم في مساجد الكوفة يسألهم عنه فحمده بعضهم و ساءه بعض فعزله و بعث إلى الكوفة عمار بن ياسر على الثغر و عثمان ابن حنيف على الخراج و عبد الله بن مسعود على بيت المال و أمره أن يعلم الناس القرآن و يفقههم في الدين و فرض لهم في كل يوم شاة فجعل شطرها و سواقطها لعمار بن ياسر و الشطر الاخر بين عبد الله بن مسعود و عثمان بن حنيف فأين عمر ممن ذكرنا و أين هو عمن وصفنا؟

و في الشافي للشريف المرتضى علم الهدى: و من ذلك أنه كان يؤثر أهل بيته بالأموال العظيمة التي هي عدة للمسلمين نحو ما روى أنه دفع إلى أربعة أنفس من قريش زوجهم بناته أربعمائة ألف دينار و أعطى مروان مائة ألف على فتح افريقية و يروى خمس إفريقية و غير ذلك و هذا بخلاف سيرة من تقدم في القسمة على الناس بقدر الاستحقاق و ايثار الأباعد على الأقارب.

«جواب القاضى عبد الجبار في المغنى عن ذلك و اعتذاره منه»

قال- كما نقل عنه علم الهدى في الشافي-: و أما ما ذكروه من ايثاره أهل بيته بالأموال فقد كان عظيم اليسار كثير الأموال فلا يمتنع أن يكون إنما أعطاهم من ماله و إذا احتمل ذلك وجب حمله على الصحة و حكى عن أبي على أن الذي روي من دفعه إلى ثلاثة نفر من قريش زوجهم بناته مأئة ألف دينار لكل واحد إنما هو من ماله و لا رواية تصح في أنه أعطاهم ذلك من بيت المال و لو صح ذلك لكان لا يمتنع أن يكون أعطى من بيت المال ليرد عوضه من ماله لأن للإمام عند الحاجة أن يفعل ذلك كما له أن يقرض غيره.

قال: ثم حكى القاضي عن أبي علي أن ما روى من دفعه خمس افريقية لما فتحت إلى مروان ليس بمحفوظ و لا منقول على وجه يوجب قبوله و إنما يرويه من يقصد التشنيع على عثمان. و حكي عن أبي الحسين الخياط أن ابن أبي سرح لما غزا البحر و معه مروان في الجيش ففتح الله عليه و غنموا غنيمة اشتر وى مروان الخمس من أبي سرح بمأة ألف و أعطاه أكثرها ثم قدم على عثمان بشيرا بالفتح‏ و قد كانت قلوب المسلمين تعلقت بأمر ذلك الجيش فرأى عثمان أن يهب له ماله بقي عليه من المال و للإمام فعل ذلك ترغيبا في مثل ذلك الأمور.

قال: قال و هذا الصنيع منه كان في السنة الأولى من امامته و لم يتبرأ أحد منه فيها فلا وجه للتعلق به و ذكر فيما أعطاه لأقاربه أنه وصلهم لحاجتهم و لا يمتنع مثله في الإمام إذا رآه صلاحا. و ذكر في اقطاعه بني امية القطائع ان الأئمة قد تحصل في أيديهم الضياع لا مالك لها من جهات و يعلمون أنه لابد فيها ممن يقوم باصلاحها و عمارتها فيؤدى عنها ما يجب من الحق و له أن يصرف ذلك إلى من يقوم به و له أيضا أن يزيد بعضا على بعض بحسب ما يعلم من الصلاح و التألف و طريق ذلك الاجتهاد.

«اعتراض الشريف علم الهدى على القاضى»

قال في الشافي: فأما قوله في جواب ما يسأل عنه من ايثاره أهل بيته بالأموال أنه لا يمتنع أن يكون إنما أعطاهم من ماله، فالرواية بخلاف ذلك و قد صرح الرجل أنه كان يعطي من بيت المال صلة لرحمه و لما وقف على ذلك لم يعتذر منه بهذا الضرب من العذر و لا قال إن هذه العطايا من مالي و لا اعتراض لأحد فيه.

و قد روى الواقدى بإسناده عن الميسور بن عتبة أنه قال: سمعت عثمان يقول إن أبا بكر و عمر كانا يتناولان في هذا المال ظلف أنفسهما و ذوى أرحامهما و إني ناولت فيه صلة رحمي.

و روى عنه أنه كان بحضرته زياد بن عبيد الله الحارثي مولى الحارث بن كلدة الثقفي و قد بعث أبو موسى بمال عظيم من البصرة فجعل عثمان يقسمه بين أهله و ولده بالصحاف ففاضت عينا زياد دموعا لما رأى من صنيعه بالمال فقال: لا تبك فإن عمر كان يمنع أهله و ذوي أرحامه ابتغاء وجه الله و أنا أعطي أهلي و قرابتي ابتغاء وجه الله. و قد روى هذا المعنى عنه من عدة طرق بألفاظ مختلفة.

و روى الواقدى بإسناده قال: قدمت إبل من إهل الصدقة على عثمان فوهبها للحرث بن الحكم بن أبي العاص.

أقول: كان الحرث هذا ابن عم عثمان فقد قدمنا أن الحكم بن أبي العاص كان عمه.

قال: و روى أيضا أنه ولي الحكم بن أبي العاص صدقات قضاعة فبلغت ثلاثمأة ألف فوهبها له حين أتاه بها.

و روى أبو مخنف و الواقدى جميعا أن الناس أنكروا على عثمان إعطائه سعيد ابن أبي العاص مأئة ألف فكلمه علي عليه السلام و الزبير و طلحة و سعد و عبد الرحمان في ذلك فقال: إن لي قرابة و رحما، فقالوا: أما كان لأبي بكر و عمر قرابة و ذوو رحم؟ فقال: إن أبا بكر و عمر كانا يحتسبان في منع قرابتهما و أنا أحتسب في عطاء قرابتي. قالوا: فهديهما و الله أحب إلينا من هديك.

و قد روى أبو مخنف انه لما قدم على عثمان عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص من مكة و ناس معه أمر لعبد الله بثلاثمأة ألف و لكل واحد من القوم مأئة ألف فصك بذلك على عبد الله بن الأرقم و كان خازن بيت المال فاستكثره و رد الصك به و يقال: إنه سأل عثمان أن يكتب بذلك كتاب دين فأبى ذلك و امتنع ابن الأرقم أن يدفع المال إلى القوم، فقال له عثمان: إنما أنت خازن لنا فما حملك على ما فعلت؟ فقال ابن الأرقم: كنت أراني خازنا للمسلمين و إنما خازنك غلامك و الله لا ألى لك بيت المال أبدا فجاء بالمفاتيح فعلقها على المنبر و يقال: بل ألقاها إلى عثمان فدفعها عثمان إلى نائل مولاه.

و روى الواقدى: أن عثمان أمر زيد بن ثابت أن يحمل من بيت المال إلى عبد الله بن الأرقم في عقيب هذا الفعل ثلاثمأة ألف درهم فلما دخل بها عليه قال له:يا با محمد إن أمير المؤمنين أرسل إليك يقول إنا قد شغلناك عن التجارة و لك ذو رحم ذات حاجة ففرق هذا المال فيهم و استعن به على عيالك، فقال عبد الله بن الأرقم:

ما لي إليه حاجة و ما عملت لأن يثيبني عثمان و الله لئن كان هذا من مال المسلمين ما بلغ قدر عملي أن اعطي ثلاثمأة ألف درهم، و لئن كان من مال عثمان ما أحب‏ أن أزراه من ماله شيئا و ما في هذه الأمور أوضح من أن يشار إليه و ينبه عليه.

و أما قوله «لو صح أنه أعطاهم من بيت المال لجاز أن يكون ذلك على طريق القرض» فليس بشي‏ء لأن الروايات أولا يخالف ما ذكروه و قد كان يحب «يجب ظ» لما نقم عليه وجوه الصحابة إعطاء أقاربه من بيت المال أن يقول لهم: هذا على سبيل القرض و أنا أرد عوضه و لا يقول ما تقدم ذكره من أنني أصل به رحمي.

على أنه ليس للإمام أن يقترض من بيت المال إلا ما ينصرف في مصلحة للمسلمين مهمة يعود عليهم نفعها أو في سد خلة و فاقة لا يتمكنون من القيام بالأمر معها فأما أن يقترض المال لينتدح و يمرح فيه مترفي بني امية و فساقهم فلا أحد يجيز ذلك.

فأما قوله حاكيا عن أبي علي «أن دفعه خمس أفريقية إلى مروان ليس بمحفوظ و لا منقول» فتعلل منه بالباطل لأن العلم بذلك يجري مجري الضروري و مجري ما تقدم بسائره، و من قرأ الأخبار علم ذلك على وجه لا يتعرض فيه شك كما يعلم نظائره.

و قد روى الواقدى عن اسامة بن زيد عن نافع مولى الزبير عن عبد الله بن الزبير قال: أغزانا عثمان سنة سبع و عشرين افريقية فأصاب عبد الله بن سعد بن أبي سرح غنائم جليلة فأعطى عثمان مروان بن الحكم تلك الغنائم و هذا كما ترى يتضمن الزيادة على الخمس و يتجاوز إلى إعطاء الكل.

و روي الواقدي عن عبد الله بن جعفر، عن ام بكر بنت الميسور قالت: لما بني مروان داره بالمدينة دعي الناس إلى طعامه و كان الميسور ممن دعاه فقال مروان و هو يحدثهم: و الله ما انفقت في داري هذه من مال المسلمين درهما فما فوقه، فقال الميسور: لو أكلت طعامك و سكت كان خيرا لك لقد غزوت معنا افريقية و انك لأقلنا مالا و رقيقا و أعوانا و أخفنا ثقلا فأعطاك ابن عمك خمس افريقية و عملت على الصدقات فأخذت أموال المسلمين.

و روي الكلبي عن أبيه عن أبي مخنف أن مروان ابتاع خمس افريقية بمأتي ألف أو بمأة ألف دينار و كلم عثمان فوهبها له فأنكر الناس ذلك على عثمان، و هذا بعينه هو الذي اعترف به أبو الحسين الخياط و اعتذر بأن قلوب المسلمين تعلقت بأمر ذلك الجيش فرأى عثمان أن يهب لمروان ثمن ما ابتاعه من الخمس لما جاءه بشيرا بالفتح على سبيل الترغيب، و هذا الاعتذار ليس بشي‏ء لأن الذي رويناه من الأخبار في هذا الباب خال من البشارة و إنما يقتضي أنه سأله ترك ذلك عليه فتركه أو ابتدأ هو بصلته و لو أتى بشيرا بالفتح كما ادعوا لما جاز أن يترك عليه خمس الغنيمة العائدة على المسلمين و تلك البشارة لا يستحق أن يبلغ البشير بها مأتي ألف دينار و لا اجتهاد في مثل هذا و لا فرق بين من جوز أن يؤدي الاجتهاد إلى مثله و من جوز أن يؤدي الاجتهاد إلى دفع أصل الغنيمة إلى البشير بها، و من ارتكب ذلك الزم جواز أن يؤدي الاجتهاد إلى جواز اعطاء هذا البشير جميع أموال المسلمين في الشرق و الغرب.

و أما قوله: «انه فعل ذلك في السنة الأولى من أيامه و لم يتبرء أحد منه» فقد مضي الكلام فيه مستقصي.

فأما قوله: «إنه وصل بني عمه لحاجتهم و رأى في ذلك صلاحا» فقد بينا أن صلاته لهم كانت أكثر مما يقتضيه الحاجة و الخلة و أنه كان يصل منهم المياسير و ذوي الأحوال الواسعة و الضياع الكثيرة، ثم الصلاح الذى زعم أنه رآه لا يخلو من أن يكون عائدا على المسلمين أو على أقاربه، فان كان على المسلمين فمعلوم ضرورة أنه لا صلاح لأحد من المسلمين في اعطاء مروان مأتي ألف دينار و الحكم بن أبي العاص ثلاثمأة ألف درهم و ابن أسيد ثلاثمأة ألف درهم إلى غير ذلك ممن هو مذكور، بل على المسلمين في ذلك غاية الضرر، و إن أراد الصلاح العائد على الأقارب فليس له أن يصلح أمر أقاربه بفساد أمر المسلمين و ينفعهم بما يضر به المسلمين.

فأما قوله «إن القطائع التي أقطعها بنى امية إنما أقطعهم إياها لمصلحة يعود على المسلمين لأنه كانت خرابا لا عامر لها فسلمها إلى من يعمرها و يؤدي الحق فيها» فأول ما فيه أنه لو كان الأمر على ما ذكره و لم يكن هذه القطائع على سبيل الصلة و المعونة لأقاربه لما خفى ذلك على الحاضرين و لكانوا لا يعدون‏ ذلك من مثالبه و لا يواقفونه عليه في جملة ما واقفوه عليه من أحداثه. ثم كان يجب لو فعلوا ذلك أن يكون جوابه لهم بخلاف ما روى من جوابه، لأنه كان يجب أن يقول لهم: و أى منفعة في هذه القطائع عائدة على قرابتي حتى يعدوا ذلك من جملة صلاتي لهم و إيصال المنافع إليهم؟ و إنما جعلتهم فيها بمنزلة الأكرة الذين ينتفع بهم أكثر من انتفاعهم و ما كان يجب أن يقول ما تقدمت روايته من أنى محتسب في اعطاء قرابتي و أن ذلك على سبيل الصلة لرحمي إلى غير ذلك مما هو خال من المعنى الذي ذكروه. انتهى.

أقول: و من قوادحه ما فعل بعبد الله بن سعد قبل خلافته بعد ما هدر رسول الله صلى الله عليه و آله دمه. تفصيله أن عبد الله بن سعد بن أبي سرح يكنى أبا يحيى و هو أخو عثمان بن عفان من الرضاعة أرضعت امه عثمان أسلم قبل الفتح و هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه و آله و كان يكتب الوحى لرسول الله صلى الله عليه و آله ثم ارتد مشركا و صار إلى قريش بمكة فقال لهم: إني كنت اصرف محمدا حيث اريد كان يملى علي عزيز حكيم فأقول أو عليم حكيم فيقول نعم كل صواب فلما كان يوم الفتح أمر رسول الله صلى الله عليه و آله بقتله و قتل عبد الله بن خطل و مقيس بن صبابة و لو وجدوا تحت أستار الكعبة ففر عبد الله بن سعد إلى عثمان بن عفان فغيبه عثمان حتى أتى به إلى رسول الله صلى الله عليه و آله بعد ما اطمأن أهل مكة فاستأمنه له فصمت رسول الله صلى الله عليه و آله طويلا ثم قال: نعم فلما انصرف عثمان قال رسول الله صلى الله عليه و آله لمن حوله: ما صمت إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه فقال رجل من الأنصار: فهلا أومأت إلى يا رسول الله؟ فقال: إن النبي لا ينبغي أن يكون له خائنة الأعين؛ قاله في اسد الغابة.

و في الصافي للفيض في تفسير القرآن في ضمن قوله تعالى: و من أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي و لم يوح إليه شي‏ء و من قال سأنزل مثل ما أنزل الله‏ (الأنعام: 94) في الكافي و العياشي عن أحدهما عليهما السلام نزلت الاية في ابن أبي سرح الذي كان عثمان استعمله على مصر و هو ممن كان رسول الله صلى الله عليه و آله يوم فتح مكة هدر دمه و كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه و آله فاذا أنزل الله عز و جل إن الله عزيز حكيم كتب إن الله عليم حكيم فيقول له رسول الله صلى الله عليه و آله: دعها فان الله عليم حكيم و كان ابن أبي سرح يقول للمنافقين إني لأقول من نفسي مثل ما يجي‏ء به فما يغير علي فأنزل الله تبارك و تعالى فيه الذي أنزل.

و القمي عن الصادق عليه السلام قال: إن عبد الله بن سعد بن أبي سرح أخا عثمان من الرضاعة أسلم و قدم المدينة و كان له خط حسن و كان إذا انزل الوحى على رسول الله صلى الله عليه و آله دعاه فكتب ما يمليه عليه رسول الله صلى الله عليه و آله فكان إذا قال رسول الله صلى الله عليه و آله: سميع بصير يكتب سميع عليم و إذا قال: و الله بما يعملون خبير يكتب بصير، و يفرق بين التاء و الياء و كان رسول الله صلى الله عليه و آله يقول: هو واحد فارتد كافرا و رجع إلى مكة و قال لقريش: و الله ما يدرى محمد ما يقول أنا أقول مثل ما يقول فلا ينكر علي ذلك فأنا أنزل مثل ما ينزل فأنزل الله على نبيه في ذلك:- و من أظلم ممن افترى‏- إلى قوله: مثل ما أنزل الله‏- فلما فتح رسول الله مكة أمر بقتله فجاء به عثمان قد أخذ بيده و رسول الله صلى الله عليه و آله في المسجد فقال يا رسول الله اعف عنه فسكت رسول الله صلى الله عليه و آله ثم أعاد فسكت ثم أعاد فقال هو لك فلما مر قال رسول الله صلى الله عليه و آله لأصحابه: ألم أقل من رآه فليقتله؟ فقال رجل كانت عيني إليك يا رسول الله أن تشير إلى فأقتله فقال رسول الله صلى الله عليه و آله: إن الأنبياء لا يقتلون بالاشارة فكان من الطلقاء.

و قال ابن هشام في السيرة النبوية: قال ابن إسحاق: و كان رسول الله صلى الله عليه و آله قد عهد إلى امرائه من المسلمين حين أمرهم أن يدخلوا مكة، أن لا يقاتلوا إلا من قاتلهم، إلا أنه قد عهد في نفر سماهم أمر بقتلهم و إن وجدوا تحت أستار الكعبة منهم عبد الله بن سعد أخو بني عامر بن لؤى.

قال: و إنما أمر رسول الله صلى الله عليه و آله بقتله لأنه قد كان أسلم و كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه و آله الوحى فارتد مشركا راجعا إلى قريش ففر إلى عثمان بن عفان و كان أخاه للرضاعة فغيبه حتى أتى به رسول الله صلى الله عليه و آله بعد أن اطمأن الناس و أهل مكة فاستأمن له، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه و آله صمت طويلا، ثم قال: نعم‏ فلما انصرف عنه عثمان، قال رسول الله صلى الله عليه و آله لمن حوله من أصحابه: لقد صمت ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه فقال رجل من الأنصار: فهلا أومأت إلي يا رسول الله قال: إن النبي لا يقتل بالاشارة.

قال ابن هشام: ثم أسلم بعد فولاه عمر بن الخطاب بعض أعماله ثم ولاه عثمان بن عفان بعد عمر.

و قال الطبرسي في مجمع البيان في تفسير القرآن ضمن الاية المذكورة و قيل: المراد به عبد الله بن سعد بن أبي سرح أملى عليه رسول الله صلى الله عليه و آله ذات يوم‏ و لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين‏- إلى قوله تعالى- ثم أنشأناه خلقا آخر فجرى على لسان ابن ابي سرح فتبارك الله احسن الخالقين فأملأه عليه و قال هكذا انزل فارتد عدو الله و قال: لئن كان محمد صادقا فلقد اوحى إلي كما أوحى إليه و لئن كان كاذبا فلقد قلت كما قال و ارتد عن الاسلام و هدر رسول الله صلى الله عليه و آله دمه فلما كان يوم الفتح جاء به عثمان و قد اخذ بيده و رسول الله صلى الله عليه و آله في المسجد فقال: يا رسول الله اعف عنه فسكت رسول الله صلى الله عليه و آله ثم اعاد فسكت ثم اعاد فسكت فقال هو لك فلما مر قال رسول الله صلى الله عليه و آله لأصحابه:ألم اقل من رآه فليقتله؟ فقال عباد بن بشر: كانت عيني إليك يا رسول الله ان تشير إلي فأقتله، فقال صلى الله عليه و آله: الأنبياء لا يقتلون بالاشارة.

اقول: لا كلام في ارتداد ابن أبي سرح و إنما الاختلاف في سبب ارتداده و جملته انه نبذ كتاب الله وراء ظهره و اتخذه سخريا.

و لكن ما أتى به الفيض في الصافي من الرواية «في ان رسول الله صلى الله عليه و آله إذا قال: سميع بصير يكتب ابن ابي سرح سميع عليم و إذا قال: و الله بما يعملون خبير يكتب بصير و يفرق بين التاء و الياء و كان رسول الله صلى الله عليه و آله يقول هو واحد» ليست بصحيحة جدا لأن شدة عناية رسول الله صلى الله عليه و آله و اهتمامه بحفظ القرآن و حراسته عن التحريف و التغيير يمنعنا عن قبول ذلك و سيأتى التحقيق الأنيق بعيد هذا في ان هذا المصحف المكتوب بين الدفتين المتداول الان بين الناس جميع ما نزل عليه صلى الله عليه و آله في نيف و عشرين سنة من غير زيادة و نقصان و تصحيف و تحريف و ان تركيب السور من الايات و ترتيب السور على ما هو في المصحف توقيفي كان بأمر الله تعالى و أمر امين الوحى عليه السلام و امر رسول الله صلى الله عليه و آله.

على أن صدر كل آية يدل على انه يناسب و يقتضى كلمات خاصة في ختامها و لا يوافق غيرها كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام و فنون الأدب سيما كتاب الله الذي أعجز العالمين عن ان يتفوهوا باتيان مثله و إن كان سورة منها نحو الكوثر ثلاث آيات.

مثلا أن قوله تعالى: و أسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور أ لا يعلم من خلق و هو اللطيف الخبير (الملك- 14 و 15) لا يناسب إنه حكيم بذات الصدور، أو و هو السميع الخبير مثلا فان في الجمع بين يعلم و بين اللطيف لطيفة حكمية يدركها ذوق التأله بخلاف الجمع بين يعلم و السميع.

و قوله تعالى: و الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة و لا تقبلوا لهم شهادة أبدا و أولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا فإن الله غفور رحيم‏ (النور- 5 و 6) يناسب التوبة الغفور الرحيم دون أنه عزيز ذو انتقام، أو حكيم عليم و أمثالها و كذا في الايات الأخر فتدبر فيها بعين العلم و المعرفة.

على أنا نرى الحجج الالهية يمنعون الناس عن التصرف في الأدعية و تحريفها روى محمد بن بابويه عليه الرحمة في كتاب الغيبة باسناده عن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: سيصيبكم شبهة فتبقون بلا علم و لا إمام هدى و لا ينجو فيها إلا من دعا بدعاء الغريق؛ قلت: كيف دعاء الغريق؟ قال عليه السلام: تقول:يا الله يا رحمن يا رحيم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك؛ فقلت: يا مقلب القلوب و الأبصار ثبت قلبي على دينك، فقال عليه السلام: إن الله عز و جل مقلب القلوب و الأبصار و لكن قل كما أقول: ثبت قلبي على دينك.

فاذا كان الدعاء توقيفيا و يردع الإمام عليه السلام عن التحريف فكيف ظنك بالنبي صلى الله عليه و آله مع القرآن‏.

9- و قدم على عثمان عمه الحكم بن أبي العاص و ابن عمه مروان‏ و غيرهما من بني امية و مروان هو طريد رسول الله صلى الله عليه و آله الذي غربه عن المدينة و نفاه عن جواره.

أقول: إن الحكم و ابنه مروان كليهما كانا طريدي رسول الله صلى الله عليه و آله و الصواب أن يقال: ان الحكم هو طريد رسول الله صلى الله عليه و آله فان ابنه مروان كان طفلا حين طرده رسول الله صلى الله عليه و آله و السبب في ذلك ان الحكم بن أبي العاص عم عثمان كان يحاكى مشية رسول الله صلى الله عليه و آله و ينقصه و كان يفعل ذلك استهزاء به و سخرية فرآه النبي صلى الله عليه و آله يوما و هو يفعل ذلك فقال له النبي صلى الله عليه و آله و قد غضب لذلك: أ تحكيني؟ اخرج من المدينة فلا جاورتني فيها حيا و لا ميتا فطرده و ابنه مروان و نفاهما إلى بلاد اليمن و نفيا بهما مطرودين مدة حياة النبي صلى الله عليه و آله فلما مات و ولي أبو بكر طمع عثمان أن يردهما فكلم أبا بكر في ذلك فزبره و أغلظ عليه و قال: أ تريدني يا عثمان أن آوي طريد رسول الله صلى الله عليه و آله كلا لا يكون ذلك، فسكت عثمان حتى ولي عمر فكلمه أيضا في ردهما فأبا عليه و قال: لا يكون مني أن آوي طريد رسول الله و طريد أبي بكر اعزب عن هذا الكلام فسكت عثمان فلما ولي و استتم له الأمر كتب اليهما بأن أقدما المدينة فأقدمهما المدينة على رءوس الأشهاد مكرمين.

و قال ابن الأثير الجزري في اسد الغابة: الحكم بن أبي العاص بن امية الأموي أبو مروان بن الحكم يعد في أهل الحجاز عم عثمان بن عفان أسلم يوم الفتح. و روي بإسناده إلى نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه و آله فمر الحكم بن أبي العاص فقال النبي صلى الله عليه و آله: ويل لامتي مما في صلب هذا و هو طريد رسول الله صلى الله عليه و آله نفاه من المدينة إلى الطائف و خرج معه ابنه مروان.

و قد اختلف في السبب الموجب لنفي رسول الله صلى الله عليه و آله إياه فقيل: كان يتسمع سر رسول الله صلى الله عليه و آله و يطلع عليه من باب بيته و أنه الذي أراد رسول الله صلى الله عليه و آله أن يفقأ عينه بمدري في يده لما اطلع عليه من الباب. و قيل: كان يحكى رسول الله صلى الله عليه و آله في مشيته فالتفت يوما فرآه و هو يتخلج في مشيته فقال: كن كذلك، فلم يزل يرتعش في مشيته من يومئذ، فذكره عبد الرحمان بن حسان بن ثابت في هجائه لعبد الرحمان بن الحكم:

إن اللعين أبوك فارم عظامه‏ إن ترم ترم مخلجا مجنونا
يمسي خميص البطن من عمل التقى‏ و يظل من عمل الخبيث بطينا

و معني قول عبد الرحمان إن اللعين أبوك فروي عن عائشة من طرق ذكرها ابن أبي خيثمة أنها قالت لمروان بن الحكم حين قال لأخيها عبد الرحمان بن أبي بكر لما امتنع من البيعة ليزيد بن معاوية بولاية العهد ما قال: و القصة مشهورة أما أنت يا مروان فأشهد أن رسول الله صلى الله عليه و آله لعن أباك و أنت في صلبه و قد روي في لعنه و نقيه أحاديث كثيرة لا حاجة إلى ذكرها إلا أن الأمر المقطوع به أن النبي صلى الله عليه و آله مع حلمه و إغضائه على ما يكره ما فعل به ذلك إلا لأمر عظيم و لم يزل منفيا حياة النبي صلى الله عليه و آله فلما ولي أبو بكر الخلافة قيل له في الحكم ليرده إلى المدينة فقال: ما كنت لأحل عقدة عقدها رسول الله صلى الله عليه و آله و كذلك عمر فلما ولي عثمان الخلافة رده و قال: كنت قد شفعت فيه إلى رسول الله صلى الله عليه و آله فوعدني برده و توفي في خلافة عثمان.

و فيه أيضا: مروان بن الحكم بن أبي العاص بن امية الأموي ابن عم عثمان ابن عفان بن أبي العاص و لم ير النبي صلى الله عليه و آله لأنه خرج إلى الطائف طفلا لا يعقل لما نفي النبي صلى الله عليه و آله اباه الحكم و كان مع أبيه بالطائف حتى استخلف عثمان فردهما و اسكتب عثمان مروان و ضمه إليه و نظر إليه على يوما فقال: و يلك و ويل امة محمد منك و من بنيك. و كان يقال لمروان: خيط باطل و ضرب يوم الدار على قفاه فقطع أحد علياويه فعاش بعد ذلك أوقص و الأوقص الذى قصرت عنقه، و لما بويع مروان بالخلافة بالشام قال أخوه عبد الرحمان بن الحكم و كان ماجنا حسن الشعر لا يرى رأي مروان:

فو الله ما أدرى و إني لسائل‏ حليلة مضروب القفا كيف تصنع‏
لحا الله قوما أمروا خيط باطل‏ على الناس يعطي ما يشاء و يمنع‏

أقول: قول علي عليه السلام لمروان: ويلك و ويل امة محمد منك و من بنيك، إشارة إلى ما قاله رسول الله صلى الله عليه و آله في أبيه الحكم: ويل لأمتى مما في صلب هذا.

«جواب القاضي عبد الجبار عن ذلك و اعتذاره منه»

نقل الشريف المرتضى علم الهدى في الشافى جوابه عن ذلك عن كتابه المغنى إنه قال: فأما رده الحكم بن أبي العاص فقد روي عنه إنه لما عوتب في ذلك ذكر أنه كان استأذن رسول الله صلى الله عليه و آله و إنما لم يقبل أبو بكر و عمر قوله لأنه شاهد واحد و كذلك روي عنهما فكأنما جعلا ذلك بمنزلة الحقوق التى تخص فلم يقبلا فيه خبر الواحد و أجرياه مجري الشهادة فلما صار الأمر إلى عثمان حكم بعلمه لأن للحاكم أن يحكم بعلمه في هذا الباب و في غيره عند شيخينا و لا يفصلان بين حد و حق و لا أن يكون العلم قبل الولاية أو حال الولاية و يقولون إنه أقوى في الحكم من البينة و الإقرار.

ثم ذكر عن أبي على أنه يقطع به على كذب روايته في إذن الرسول صلى الله عليه و آله في رده، فلابد من تجويز كونه معذورا.

ثم سأل نفسه في أن الحاكم إنما يحكم بعلمه مع زوال التهمة و أن التهمة كانت في رد الحكم قوية لقرابته، و أجاب بأن الواجب على غيره أن لا يتهمه إذا كان لفعله وجه يصح عليه لأنه قد نصب منصبا يقتضى زوال التهمة عنه و حمل أفعاله على الصحة و لو جوزنا امتناعه للتهمة لأدى إلى بطلان كثير من الأحكام.

و حكى عن أبي الحسن الخياط أنه لو لم يكن في رده إذن من رسول الله صلى الله عليه و آله لجاز أن يكون طريقه الاجتهاد لأن النفى إذا كان صلاحا في الحال لا يمتنع أن يتغير حكمه باختلاف الأوقات و تغير حال المنفى و إذا جاز لأبى بكر أن يسترد عمر من جيش اسامة للحاجة إليه و إن كان قد أمر رسول الله صلى الله عليه و آله بنفوذه من حيث تغيرت الحال فغير ممتنع مثله في الحكم‏.

«اعتراض علم الهدى عليه و ابطاله جوابه»

اعترض عليه في الشافى فقال: يقال له: أما ما ادعيته و بنيت الأمر في قصة الحكم من أن عثمان لما عوتب في رده ادعى أن الرسول صلى الله عليه و آله أذن له في ذلك.

فهو شي‏ء ما سمع إلا منك و لا يدري من أين نقلته و في أي كتاب وجدته و ما رواه الناس كلهم بخلاف ذلك.

و قد روى الواقدي من طرق مختلفة و غيره أن الحكم بن أبى العاص لما قدم المدينة بعد الفتح أخرجه النبي صلى الله عليه و آله إلى الطائف و قال: لا تساكننى في بلد أبدا فجاءه عثمان فكلمه فأبى، ثم كان من أبى بكر مثل ذلك، ثم كان من عمر مثل ذلك فلما قام عثمان أدخله و وصله و أكرمه فمشى في ذلك علي عليه السلام و الزبير و طلحة و سعد و عبد الرحمان بن عوف و عمار بن ياسر حتى دخلوا على عثمان فقالوا له: إنك قد أدخلت هؤلاء القوم يعنون الحكم و من معه و قد كان النبي صلى الله عليه و آله أخرجه و أبو بكر و عمر، و إنا نذكرك الله و الاسلام و معادك فإن لك معادا و منقلبا و قد أبت ذلك الولاة من قبلك و لم يطمع أحد أن يكلمهم فيه و هذا سبب نخاف الله تعالى عليك فيه.

فقال: إن قرابتهم منى حيث تعلمون و قد كان رسول الله صلى الله عليه و آله حيث كلمته أطمعنى في أن يأذن له و إنما أخرجهم لكلمة بلغته عن الحكم و لن يضركم مكانهم شيئا و في الناس من هو شر منهم.

فقال على عليه السلام: لا أحد شرا منه و لا منهم. ثم قال على عليه السلام: هل تعلم أن عمر قال: و الله ليحملن بنى أبى معيط على رقاب الناس و الله لئن فعل ليقتلنه؟

قال: فقال عثمان: ما كان منكم أحد يكون بينه و بينه من القرابة ما بينى و بينه و ينال من المقدرة ما أنال إلا أدخله و في الناس من هو شر منه. قال: فغضب على عليه السلام قال: و الله لتأتينا بشر من هذا إن سلمت و ستري يا عثمان غب ما تفعل، ثم خرجوا من عنده.

و هذا كما ترى خلاف ما ادعاه صاحب الكتاب لأن الرجل لما احتفل ادعى أن الرسول صلى الله عليه و آله كان أطمعه في رده، ثم صرح بأن رعايته فيه من القرابة هى الموجبة لرده و مخالفة الرسول صلى الله عليه و آله.

و قد روى من طرق مختلفة أن عثمان لما كلم أبا بكر و عمر في رد الحكم أغلظا له و زبراه و قال له عمر: يخرجه رسول الله صلى الله عليه و آله و تأمرنى أن أدخله و الله لو أدخلته لم آمن أن يقول قائل غير عهد رسول الله صلى الله عليه و آله و الله لئن اشق باثنين كما تنشق الأبلمة أحب إلى من أن اخالف لرسول الله صلى الله عليه و آله أمرا، و إياك يا ابن عفان أن تعاودني فيه بعد اليوم. و ما رأينا عثمان قال في جواب هذا التعنيف و التوبيخ من أبى بكر و عمر: إن عندى عهدا من الرسول صلى الله عليه و آله فيه لا استحق معه عتابا و لا تهجينا و كيف تطيب نفس مسلم موقر لرسول الله صلى الله عليه و آله معظم له بأن يأتي إلى عدو لرسول الله صلى الله عليه و آله مصرح بعداوته و الوقيعة فيه حتى بلغ به الأمر إلى أن كان يحكى مشيته فطرده رسول الله صلى الله عليه و آله و أبعده و لعنه حتى صار مشهورا بأنه طريد رسول الله صلى الله عليه و آله فيؤويه و يكرمه و يرده إلى حيث اخرج منه و يصله بالمال العظيم و يصله إما من مال المسلمين أو ماله ان هذا العظيم كبير قبل التصفح و التأمل و التعلل بالتأويل الباطل.

فأما قول صاحب الكتاب «إن أبا بكر و عمر لم يقبلا قوله لأنه شاهد واحد و جعلا ذلك بمنزلة الحقوق التي تخص» فأول ما فيه أنه لم يشهد عندهما بشي‏ء في باب الحكم على ما رواه جميع الناس. ثم ليس هذا من الباب الذي يحتاج فيه إلى الشاهدين بل هو بمنزلة كل ما يقبل فيه أخبار الاحاد و كيف يجوز أن يجري أبو بكر و عمر مجرى الحقوق ما ليس فيها.

و قوله: لابد من تجويز كونه صادقا في روايته لأن القطع على كذب روايته لا سبيل إليه، ليس بشي‏ء لأنا قد بينا أنه لم يرو عن الرسول صلى الله عليه و آله إذنا و إنما ادعى أنه، اطمعه في ذلك و إذا جوزنا كونه صادقا في هذه الرواية بل قطعنا على صدقه لم يكن معذورا.

فأما قوله: «الواجب على غيره أن لا يتهمه إذا كان لفعله وجه يصح عليه لانتصابه منصبا يفضي إلى زوال التهمة» فأول ما فيه أن الحاكم لا يجوز أن يحكم بعلمه مع التهمة و التهمة قد يكون لها أمارات و علامات فما وقع فيها عن أمارات و أسباب تتهم في العادة كان مؤثرا و ما لم يكن كذلك و كان مبتدأ فلا تأثير له، و الحكم هو عم عثمان و قريبه و نسيبه و من قد تكلم فيه و في رده مرة بعد اخرى و لوال بعد وال و هذه كلها اسباب التهمة فقد كان يجب أن يتجنب الحكم بعلمه في هذا الباب خاصة لتطرق التهمة فيه.

فأما ما حكاه عن الخياط من «أن الرسول صلى الله عليه و آله لو لم يأذن في رده لجاز أن يرده إذا رآه اجتهاده إلى ذلك لأن الأحوال قد تتغير» فظاهر البطلان لأن الرسول إذا حظر شيئا أو أباحه لم يكن لأحد أن يجتهد في إباحة المحظور او حظر المباح و من جوز الاجتهاد في الشريعة لا يقدم على مثل هذا لأنه إنما يجوز عندهم فيما لا نص فيه و لو جوزنا الاجتهاد في مخالفة ما تناوله النص لم نأمن أن يؤدي اجتهاد مجتهد إلى تحليل الخمر و اسقاط الصلاة بأن يتغير الحال و هذا هدم للشريعة. فأما استشهاده باسترداد عمر من جيش اسامة فالكلام في الأمرين واحد و قد مضى ما فيه.

10- ثم قال المسعودي: و كان عماله جماعة منهم الوليد بن عقبة بن أبي معيط على الكوفة و هو ممن أخبر النبي صلى الله عليه و آله أنه من أهل النار. و عبد الله بن أبي سرح على مصر و معاوية بن أبي سفيان على الشام و عبد الله بن عامر على البصرة، و صرف عن الكوفة الوليد بن عقبة و ولاها سعيد بن العاص و كان السبب في صرف الوليد و ولاية سعيد على ما روي أن الوليد بن عقبة كان يشرب مع ندمائه و مغنيه من أول الليل إلى الصباح فلما آذنه المؤذنون بالصلاة خرخ منفصلا في غلائله فتقدم إلى المحراب في صلاة الصبح فصلى بهم أربعا و قال: تريدون أن أزيدكم و قيل: انه قال في سجوده و قد أطال: اشرب و اسقنى، فقال له بعض من كان خلفه في الصف الأول: ما تريد؟

لا زادك الله مزيد الخير و الله لا أعجب إلا ممن بعثك إلينا واليا و علينا أميرا و كان هذا القائل: عتاب بن غيلان الثقفي.

قال: و خطب الناس الوليد فحصبه الناس بحصباء المسجد فدخل قصره يترنح و يتمثل بأبيات لتأبط شرا:

و لست بعيدا عن مدام و قينة و لا بصفا صلد عن الخير معزل‏
و لكنني أروي من الخمر هامتي‏ و أمشي الملا بالساحب المتسلسل‏

و في ذلك يقول الحطيئة كما في الشافي و المروج:

شهد الحطيئة يوم يلقى ربه‏ إن الوليد أحق بالعذر
نادى و قد تمت صلاتهم‏ أ أزيدكم ثملا و ما يدرى‏
ليزيدهم اخرى و لو قبلوا منه لزادهم على عشر
فأبوا أبا وهب و لو فعلوا لقرنت بين الشفع و الوتر
حبسوا عنانك في الصلاة و لو خلوا عنانك لم تزل تجري‏

و اشاعوا بالكوفة فعله و ظهر فسقه و مداومته شرب الخمر فهجم عليه جماعة من المسجد منهم أبو زينب بن عوف الأزدي و أبو جندب بن زهير الأزدى و غيرهما فوجوده سكران مضطجعا على سريره لا يعقل فأيقظوه من رقدته فلم يستيقظ ثم تقايا عليهم ما شرب من الخمر فانتزعوا خاتمه من يده و خرجوا من فورهم إلى المدينة فأتوا عثمان بن عفان فشهدوا عنده على الوليد أنه شرب الخمر فقال عثمان: و ما يدريكما أنه شرب خمرا؟ فقالا:

هي الخمر التي كنا نشربها في الجاهلية و أخرجا خاتمه فدفعاه إليه فرزأهما و دفع في صدورهما و قال: تنحيا عني فخرجا و أتيا علي بن أبي طالب عليه السلام و أخبراه بالقصة فأتي عثمان و هو يقول: دفعت الشهود و أبطلت الحدود فقال له عثمان: فما تري؟

قال: أري أن تبعث إلى صاحبك فإن أقاما الشهادة عليه في وجهه و لم يدل بحجة أقمت عليه الحد فلما حضر الوليد دعاهما عثمان فاقاما الشهادة عليه و لم يدل بحجة فألقى عثمان السوط إلى علي فقال علي لابنه الحسن قم يا بني فأقم عليه ما أوجب الله عليه فقال: يكفيه بعض ما تري فلما نظر إلى امتناع الجماعة عن إقامة الحد عليه توقيا لغضب عثمان لقرابته منه أخذ على السوط و دنا منه فلما أقبل نحوه سبه الوليد و قال يا صاحب مكس، فقال عقيل بن أبي طالب و كان ممن حضر: إنك لتتكلم يا ابن أبي معيط كانك لا تدري من أنت و أنت علج من أهل صفورية- و هي قرية بين عكا و اللجون من أعمال الأردن من بلاد طبرية كان ذكر أن أباه كان يهوديا منها- فأقبل الوليد يزوغ من علي فاجتذبه فضرب به الأرض و علاه بالسوط فقال عثمان:ليس لك أن تفعل به هذا قال: بلى و شر من هذا إذا فسق و منع حق الله تعالى أن يؤخذ منه.

أقول: ان الوليد بن عقبة بن أبي معيط كان أخا عثمان لامه.

11- و ولى عثمان الكوفة بعد الوليد بن عقبة سعيد بن العاص فلما دخل‏ سعيد الكوفة واليا أبي أن يصعد المنبر حتى يغسل و أمر بغسله و قال: ان الوليد كان نجسا رجسا فلما اتصلت أيام سعيد بالكوفة ظهرت منه امور منكرة و اشتبه بالأموال و قال في بعض الأيام و كتب به إلى عثمان إنما هذا السواد فطير لقريش فقال له الأشتر و هو مالك الحرث النخعي: أ تجعل ما أفاء الله علينا بظلال سيوفنا و مراكز رماحنا بستانا لك و لقومك ثم خرج إلى عثمان في سبعين راكبا من أهل الكوفة فذكروا سوء سيرة سعيد بن العاص و سألوا عزله عنهم فمكث الأشتر و أصحابه أياما لا يخرج لهم من عثمان في سعيد شي‏ء و امتدت أيامهم بالمدينة و قدم على عثمان امراؤه من الأمصار، منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح من مصر و معاوية من الشام و عبد الله بن عامر من البصرة و سعيد بن العاص من الكوفة فأقاموا بالمدينة أياما لا يردهم إلى أمصارهم كراهة أن يرد سعيدا إلى الكوفة و كره أن يعزله حتى كتب إليه من بأمصارهم يشكون كثرة الخراج و تعطيل الثغور فجمعهم عثمان و قال:ما ترون؟

فقال معاوية أما أنا فراض بي جندي. و قال عبد الله بن عامر بن كريز ليكفك امرؤ ما قبله أكفك ما قبلي و قال عبد الله بن سعد بن أبي سرح ليس بكثير عزل عامل للعامة و تولية غيره. و قال سعيد بن العاص إنك إن فعلت هذا كان أهل الكوفة هم الذين يولون و يعزلون و قد صاروا حلقا في المسجد ليس لهم غير الأحاديث و الخوض فجهزهم في البعوث حتى يكون هم أحدهم أن يموت على ظهر دابته فسمع مقالته عمرو بن العاص فخرج إلى المسجد فاذا طلحة و الزبير جالسان في ناحية منه فقالا له: إلينا فصار إليهما فقالا: فما وراءك؟ قال ابشر ما ترك شيئا من المنكر الا أتى به و أمر به و جاء الأشتر فقالا له إن عاملكم الذي قمتم فيه خطباء قد رد عليكم و أمر بتجهيزكم في البعوث و بكذا و كذا.

فقال الأشتر: و الله قد كنا نشكو سوء سيرته و ما قمنا به خطباء فكيف و قد قمنا و ايم الله على ذلك لو لا اني انفدت النفقة و أنضيت الظهر لسبقته إلى الكوفة حتى امنعه دخولها.

فقالا له: فعندنا حاجتك التي تفوتك في سفرك. قال: فاسلفاني إذا مأئة ألف درهم فأسلفه كل واحد منهما خمسين ألف درهم فقسمها بين أصحابه و خرج إلى الكوفة فسبق سعيد و صعد المنبر و سيفه في عنقه ما وضعه بعد. ثم قال: أما بعد فان عاملكم الذي انكرتم تعديه و سوء سيرته قد رد عليكم و امر بتجهيزكم في البعوث فبايعوني على أن يدخلها فبايعه عشرة آلاف من أهل الكوفة و خرج راكبا متخفيا يريد المدينة أو مكة فلقى سعيدا بواقصة فأخبره بالخبر فانصرف إلى المدينة كتب الأشتر إلى عثمان انا و الله ما منعنا عاملك إلا ليفسد عليك عملك ول من أحببت فكتب إليهم انظروا من كان عاملكم أيام عمر بن الخطاب فولوه فنظروا فاذا هو أبو موسى الأشعري فولوه.

أقول: هذا ما نقله المسعودي في مروج الذهب و غيره من المورخين بلا خلاف و من تأمل فيه يجد أن عثمان اضطر حينئذ إلى إجابتهم إلى ولاية أبي موسى و لم يصرف سعيدا مختارا بل ما صرفه جملة و انما صرفه أهل الكوفة عنهم.

و كان سعيد هذا أحد الذين كتبوا المصحف لعثمان بن عفان و لما قتل عثمان لزم بيته فلم يشهد الجمل و لا صفين فلما استقر الأمر لمعاوية أتاه و عاتبه معاوية على تخلفه عنه في حروبه فاعتذر هو فقبل معاوية عذره ثم ولاه المدينة فكان يوليه إذا عزل مروان عن المدينة و يولى مروان إذا عزله. و قتل أبوه العاص يوم بدر كافرا قتله علي بن أبي طالب عليه السلام.

و في اسد الغابة: استعمله عثمان على الكوفة بعد الوليد بن عقبة بن أبي معيط و غزا طبرستان فافتتحها و غزا جرجان فافتتحها سنة تسع و عشرين أو سنة ثلاثين و انتقضت آذربيجان فغزاها فافتتحها في قول.

في الشافي للشريف المرتضى علم الهدى: و من أحداث عثمان أنه ولي امور المسلمين من لا يصلح لذلك و لا يؤتمن عليه و من ظهر منه الفسق و الفساد و من لا علم له مراعاة لحرمة القرابة و عدولا عن مراعاة حرمة الدين و النظر للمسلمين حتى ظهر ذلك منه و تكرر و قد كان عمر حذر من ذلك فيه من حيث وصفه بأنه كلف‏ باقاربه و قال له إذا وليت هذا الأمر لا تسلط بني أبي معيط على رقاب الناس فوجد منه ما حذره و عوتب في ذلك فلم ينفع العتب فيه و ذلك نحو استعماله الوليد ابن عقبة و تقليده إياه حتى ظهر منه شرب الخمر و استعماله سعيد بن العاص حتى ظهرت منه الأمور التي عندها أخرجه أهل الكوفة، و توليته عبد الله بن سعد بن أبي سرح و عبد الله ابن عامر بن كريز حتى يروى عنه في أمر ابن أبي سرح أنه لما تظلم منه أهل مصر و صرفه عنهم لمحمد بن أبي بكر و غيره ممن يرد عليه و ظفر بذلك الكتاب و لذلك عظم التظلم من بعد و كثر الجمع و كان سبب الحصار و القتل و حتى كان من أمر مروان و تسلطه عليه و على اموره ما قتل بسببه و ذلك ظاهر لا يمكن دفعه.

«اعتذار القاضى عبد الجبار من ذلك و جوابه عنه في المغنى»

نقل عنه علم الهدى في الشافي انه قال: أما ما ذكروه من توليته من لا يجوز أن يستعمل فقد علمنا أنه لا يمكن أن يدعى أنه حين استعملهم علم من أحوالهم خلاف الستر و الصلاح لأن الذي ثبت عنهم من الأمور حدث من بعد و لا يمتنع كونهم في الأول مستورين في الحقيقة أو مستورين عنده و انما يجب تخطئته لو استعملهم و هم في الحال لا يصلحون لذلك. فان قيل لما علم بحالهم كان يجب أن يعزلهم، قيل له: كذلك فعل لأنه استعمل الوليد بن عقبة قبل ظهور شرب الخمر منه فلما شهدوا بذلك جلده الحد و صرفه و قد روى مثله عن عمر لأنه ولى قدامة بن مظعون بعض أعماله فشهدوا عليه بشرب الخمر فأشخصه و جلده الحد فإذا عد ذلك في فضائل عمر لم يجز أن يعد ما ذكروه في الوليد من معايب عثمان؛ و يقال: إنه لما أشخصه اقيم عليه الحد بمشهد أمير المؤمنين عليه السلام و اعتذر من عزله سعد بن أبي وقاص بالوليد بأن سعدا شكاه أهل الكوفة فأداه اجتهاده إلى عزله بالوليد.

ثم قال: فأما سعيد بن العاص فإنه عزله عن الكوفة و ولى مكانه أبا موسى الأشعري، و كذلك عبد الله بن سعد بن أبي سرح عزله و ولي مكانه محمد بن أبي بكر و لم يظهر له في باب مروان ما يوجب أن يصرفه عما كان مستعملا فيه و لو كان ذلك طعنا لوجب مثله في كل من ولى و قد علمنا أنه عليه السلام ولى الوليد بن عقبة فحدث‏ منه ما حدث و حدث من بعض أمير المؤمنين الخيانة كالقعقاع بن شور فانه ولاه على ميسان (خراسان- ل خ) فأخذ مالها و لحق بمعاوية و كذلك فعل الأشعث ابن قيس بمال آذربايجان. و ولى أبا موسى الحكم و كان منه ما كان. و لا يجب أن يعاب أحد بفعل غيره.

فأما إذا لم يلحقه عيب في ابتداء الولاية فقد زال العيب فيما عداه. فقولهم: انه قسم الولايات في أقاربه و زال عن طريقة الاحتياط للمسلمين و قد كان عمر حذر من ذلك فليس بعيب لأن تولية الأقارب كتولية الأباعد و انه يحسن إذا كانوا على صفات مخصوصة.

و لو قيل إن تقديمهم أولى لم يمتنع ذلك إذ كان المولى لهم أشد تمكنا من عزلهم و الاستبدال بهم لمكان أقرب؛ و قد ولى أمير المؤمنين عليه السلام عبد الله بن عباس البصرة و عبيد الله بن عباس و قثم بن العباس مكة حتى قال الأشتر عند ذلك: على ما ذا قتلنا الشيخ أمس فيما يروى و لم يكن ذلك بعيب إذا أدى ما وجب عليه في اجتهاده.

«اعتراض علم الهدى عليه و ابطاله جوابه»

اعترض عليه الشريف المرتضى علم الهدى في الشافي أنه يقال له: أما اعتذاره في ولاية عثمان من ولاه من الفسقة بانه لم يكن عالما بذلك من حالهم قبل الولاية و إنما تجدد منهم ما تجدد فعزلهم فليس بشي‏ء يعول على مثله لأنه لم يول هؤلاء النفر إلا و حالهم مشهورة في الخلاعة و المجانة و التحرم و التهتك و لم يختلف اثنان في أن الوليد بن عقبة لم يستأنف التظاهر بشرب الخمر و الاستخفاف بالدين على استقبال ولايته الكوفة بل هذه كانت سنته و العادة المعروفة منه و كيف يخفى على عثمان و هو قريبه و لصيقه و أخوه لأمه من حاله ما لا يخفى على الأجانب الأباعد فلهذا قال له سعد بن أبي وقاص في رواية الواقدي و قد دخل الكوفة: يا با وهب أميرا أم زائرا؟ قال: بل أميرا، فقال سعد: ما أدرى أحمقت بعدك أم كسست بعدي؟ قال:ما حمقت بعدى و لا بعدك، و لكن القوم ملكوا فاستأثروا فقال سعد: ما أراك إلا صادقا.

و في رواية ابي مخنف لوط بن يحيى: ان الوليد لما دخل الكوفة مر على مجلس عمرو بن زرارة النخعي فوقف فقال عمرو: يا معشر بني اسد بئس ما استقبلنا به «ج 14»اخوكم ابن عفان من عدله ان ينزع عنا ابن ابي وقاص الهين اللين السهل القريب و يبعث علينا اخاه الوليد الأحمق الماجن الفاجر قديما و حديثا و استعظم الناس مقدمه و عزل سعد به و قالوا: اراد عثمان كرامة اخيه بهوان امة محمد صلى الله عليه و آله.

و هذا تحقيق ما ذكرناه من أن حاله كانت مشهورة قبل الولاية لا ريب فيها على أحد فكيف يقال إنه كان مستورا حتى ظهر منه ما ظهر.

و في الوليد نزل قوله تعالى‏ أ فمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون‏ (السجدة- 20) فالمؤمن ههنا علي بن أبي طالب عليه السلام و الفاسق الوليد على ما ذكره أهل التأويل.

و فيه نزل قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين‏ و السبب في ذلك انه كذب على بني المصطلق عند رسول الله صلى الله عليه و آله و ادعى أنهم منعوه الصدقة، و لو قصصنا مخازيه المتقدمة و مساويه لطال الشرح.

و أما شربه الخمر بالكوفة و سكره حتى دخل عليه من دخل و أخذ خاتمه من اصبعه و هو لا يعلم فظاهر قد سارت به الركبان و كذلك كلامه في الصلاة و التفاته إلى من يقتدى به فيها و هو سكران و قوله أزيدكم فقالوا لا قد قضينا صلاتنا حتى قال الحطيئة في ذلك شعرا: شهد الخطيئة يوم يلقى ربه- الأبيات المذكورة آنفا و قال أيضا فيه:

تكلم في الصلاة و زاد فيها علانية و جاهر بالنفاق‏
و مج الخمر في سنن المصلى‏ و نادى و الجميع إلى افتراق‏
أ أزيدكم على أن تحمدوني‏ فما لكم و مالي من خلاق‏

فأما قوله: «إنه جلده و عزله» فبعد أي شي‏ء كان ذلك؟ و لم يعزله إلا بعد أن دافع و مانع و احتج عنه و ناضل، فلو لم يكن أمير المؤمنين عليه السلام قهره على رأيه لما عزله و لا مكن من جلده.

و قد روى الواقدي أن عثمان لما جاءه الشهود يشهدون على الوليد بشرب الخمر أوعدهم و تهددهم. قال الراوي: و يقال: إنه ضرب بعض الشهود أسواطا فأتوا أمير المؤمنين عليه السلام فشكوا فأتي عثمان فقال: عطلت الحدود و ضربت قوما شهودا على أخيك فقلبت الحكم و قد قال عمر: لا تحمل بني امية و آل أبي معيط على رقاب الناس، قال: فما ترى؟ قال: أرى أن تعزله و لا توليه شيئا من أمور المسلمين، و أن تسأل عن الشهود فإن لم يكونوا أهل ظنة و لا عداوة أقمت على صاحبك الحد.

و تكلم في مثل ذلك طلحة و الزبير و عايشة و قالوا أقوالا شديدة و أخذته الألسن من كل جانب فحينئذ عزله و مكن من إقامة الحد عليه.

و روي الواقدي أن الشهود لما شهدوا عليه في وجهه و أراد عثمان أن يحده ألبسه جبة خز و أدخله بيتا فجعل إذا بعث إليه رجلا من قريش ليضربه قال له الوليد انشدك الله أن تقطع رحمي و تغضب أمير المؤمنين فيكف، فلما رأي أمير المؤمنين عليه السلام ذلك أخذ السوط و دخل عليه فجلده به فأي عذر له في عزله و جلده بعد هذه الممانعة الطويلة و المدافعة التامة.

و قصة الوليد مع الساحر الذي يلعب بين يديه و يغر الناس بمكره و خديعته و أن جندب بن عبد الله الأزدي امتعض من ذلك و دخل عليه فقتله و قال له: أحي نفسك إن كنت صادقا و أن الوليد أراد أن يقتل جندبا بالساحر حتى أنكر الأزد ذلك عليه فحبسه و طال حبسه حتى هرب من السجن معروفة مشهورة. أقول: و سيأتي نقل القصة.

قال: فان قيل: قد ولي رسول الله صلى الله عليه و آله الوليد بن عقبة صدقة بني المصطلق و ولي عمر الوليد أيضا صدقة بني تغلب فكيف يدعون أن حاله في أنه لا يصلح للولاية ظاهرة؟

قلنا: لا جرم أنه غر رسول الله صلى الله عليه و آله و كذب على القوم حتى نزلت الاية التي قدمنا ذكرها فعزله و ليس خطب ولاية الصدقة خطب ولاية الكوفة. فأما عمر لما بلغه قوله:

إذا ما شددت الرأس مني بمشور فويلك مني تغلب ابنة وائل‏

عزله. و أما عزل أمير المؤمنين عليه السلام بعض أمرائه لما ظهر منه الحدث كالقعقاع‏ ابن شور و غيره و كذلك عزل عمر قدامة بن مظعون لما شهدوا عليه بشرب الخمر و جلده له، فانه لا يشبه ما تقدم لأن كل واحد ممن ذكرناه لم يول الأمر إلا من هو حسن الظن عند توليته فيه حسن الظاهر عنده و عند الناس غير معروف باللعب (باللعنة- خ ل) و لا مشهور بالفساد، ثم لما ظهر منه ما ظهر لم يحام عنه و لا كذب الشهود عليه و كابرهم بل عزله مختار أغير مضطر و كل هذا لم يجر في امراء عثمان، و لأنا قد بينا كيف كان عزل الوليد و إقامة الحد عليه.

فأما أبو موسى فإن أمير المؤمنين عليه السلام لم يوله الحكم مختارا لكنه غلب على رأيه و قهر على أمره و لا رأى لمقهور.

فأما قوله «إن ولاية الأقارب كولاية الأباعد بل الأباعد أجدر و أولى أن يقدم الأقارب عليهم من حيث كان التمكن من عزلهم أشد و ذكر تولية أمير المؤمنين عليه السلام عبد الله و عبيد الله و قثما بني العباس و غيرهم» فليس بشي‏ء لأن عثمان لم تنقم عليه تولية الأقارب من حيث كانوا أقارب بل من حيث كانوا أهل بيت الظنة و التهمة و لهذا حذره عمر منهم و أشعر بأنه يحملهم على رقاب الناس، و أمير المؤمنين عليه السلام لم يول من أقاربه متهما و لا ظنينا و حين أحس من ابن عباس بعض الريبة لم يمهله و لا احتمله و كاتبه بما هو مشهور سائر ظاهر، و لو لم يجب على عثمان أن يعدل عن ولاية أقاربه إلا من حيث جعل عمر ذلك سبب عدوله عن النص عليه و شرط عليه يوم الشورى أن لا يحمل أقاربه على الناس و لا يؤثرهم لمكان القرابة بما لا يؤثر به غيرهم لكان صادقا قويا فضلا عن أن ينضاف إلى ذلك ما انضاف من خصالهم الذميمة و طرائفهم القبيحة.

فأما سعيد بن العاص فإنه قال في الكوفة: إنما السواد بستان لقريش تأخذ منه ما شائت و تترك حتى قالوا له أ تجعل ما أفاء الله علينا بستانا لك و لقومك و نابذوه و أفضى ذلك الأمر إلى تسييره من سير من الكوفة و القصة مشهورة ثم انتهى الأمر إلى منع أهل الكوفة سعيدا من دخولها و تكلموا فيه و في عثمان كلاما ظاهرا حتى كادوا يخلعون عثمان فاضطر حينئذ إلى إجابتهم إلى ولاية أبي موسى‏ فلم يصرف سعيدا مختارا بل ما صرفه جملة و إنما صرفه أهل الكوفة عنهم.

12- قال المسعودي: و في سنة خمس و ثلاثين كثر الطعن على عثمان و ظهر عليه النكير لأشياء ذكروها من فعله منها ما كان بينه و بين عبد الله بن مسعود و انحراف هذيل عن عثمان من أجله.

و في أسد الغابة: عبد الله بن مسعود بن غافل الهذلي كان اسلامه قديما أول الاسلام سادس ستة في الاسلام و كان أول من جهر بالقرآن بمكة بعد رسول الله صلى الله عليه و آله و هاجر الهجرتين جميعا إلى الحبشة و إلى المدينة و صلى القبلتين و شهد بدرا و احدا و الخندق و بيعة الرضوان و سائر المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه و آله، و أم عبد الله بن مسعود ام عبد بنت عبدود بن سوداء من هذيل أيضا.

و فيه بإسناده إلى عبد الرحمن بن يزيد قال: أتينا حذيفة فقلنا حدثنا بأقرب الناس من رسول الله صلى الله عليه و آله هديا و دلا فنأخذ عنه و نسمع منه قال: كان أقرب الناس هديا و دلا و سمتا برسول الله صلى الله عليه و آله ابن مسعود و لقد علم المحفوظون من أصحاب محمد أن ابن ام عبد هو من أقربهم إلى الله زلفي.

و فيه عن علي عليه السلام قال: أمر النبي صلى الله عليه و آله ابن مسعود فصعد على شجرة يأتيه منها بشي‏ء فنظر أصحابه إلى ساق عبد الله فضحكوا من حموشة ساقيه فقال رسول الله صلى الله عليه و آله:ما تضحكون لرجل عبد الله أثقل في الميزان يوم القيامة من احد.و فيه عن حبة بن جوين عن علي عليه السلام قال: كنا عنده جلوسا فقالوا: ما رأينا رجلا أحسن خلقا و لا أرفق تعليما و لا أحسن مجالسة و لا أشد ورعا من ابن مسعود.

قال علي عليه السلام: انشدكم الله أ هو الصدق من قلوبكم؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد أني أقول مثل ما قالوا و أفضل.و فيه في سبب اسلامه بإسناده إلى عبد الله بن مسعود قال: كنت غلاما يافعا في غنم لعقبة بن أبي معيط أرعاها فأتي النبي صلى الله عليه و آله و معه أبو بكر فقال: يا غلام هل معك من لبن؟ فقلت: نعم، و لكني مؤتمن فقال: ائتني بشاة لم ينز عليها الفحل فأتيته بعناق أو جذعة فاعتقلها رسول الله صلى الله عليه و آله فجعل يمسح الضرع و يدعو حتى‏ انزلت فأتاه أبو بكر بصحوة فاحتلب فيها ثم قال لأبي بكر: اشرب فشرب أبو بكر ثم شرب النبي صلى الله عليه و آله بعده ثم قال للضرع: اقلص فقلص فعاد كما كان. ثم أتيت فقلت:يا رسول الله صلى الله عليه و آله علمني من هذا الكلام أو من هذا القرآن فمسح رأسي و قال: إنك غلام معلم فلقد أخذت منه سبعين سورة ما نازعني فيها بشر.

و فيه: و قال أبو طيبة مرض عبد الله فعاده عثمان بن عفان فقال: ما تشتكى؟

قال: ذنوبي. قال: فما تشتهى؟ قال: رحمة ربي. قال: ألا آمر لك بطبيب؟ قال:

الطبيب أمرضني. قال: ألا آمر لك بعطاء؟ قال: لا حاجة لي فيه. قال: يكون لبناتك، قال: أتخشى على بناتي الفقر؟ إني أمرت بناتي أن يقرأن كل ليلة سورة الواقعة إني سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله يقول: من قرأ الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا. قال: و إنما قال له عثمان ألا آمر لك بعطائك لأنه كان قد حبسه عنه سنتين.

توفي ابن مسعود بالمدينة سنة اثنتين و ثلاثين من الهجرة و دفن ليلا اوصى بذلك و لم يعلم عثمان بدفنه فعاتب الزبير على ذلك و صلى عليه عمار و قيل صلى عليه الزبير.

و في الشافي لعلم الهدى الشريف المرتضى: و قد روى كل من روى سيرة من أصحاب الحديث على اختلاف طرقهم ان ابن مسعود كان يقول: ليتني و عثمان برمل عالج يحثى على و احثى عليه حتى يموت الأعجز منى و منه.

و فيه: و رووا انه كان يطعن عليه فيقال له ألا خرجت إليه لنخرج معك؟

فيقول: و الله لئن ازاول جبلا راسيا أحب إلي من أن ازاول ملكا مؤجلا. و كان يقول في كل يوم جمعة بالكوفة جاهرا معلنا: إن أصدق القول كتاب الله و أحسن الهدى هدى محمد صلى الله عليه و آله و شر الأمور محدثاتها و كل محدث بدعة و كل بدعة ضلالة و كل ضلالة في النار، و إنما يقول ذلك معرضا بعثمان حتى غضب الوليد من استمرار تعرضه و نهاه عن خطبته هذه فكتب إلى عثمان فيه فكتب عثمان يستقدمه عليه.

و فيه: و روى أنه لما خرج عبد الله بن مسعود إلى المدينة مزعجا عن الكوفة خرج الناس معه يشيعونه و قالوا: يا با عبد الرحمن ارجع فو الله لا يوصل إليك أبدا فانا لا نأمنه عليك، فقال: أمر سيكون و لا احب أن أكون أول من فتحه.

أقول: الظاهر أنه يريد من قوله أمر سيكون قيام الناس على عثمان و قتلهم إياه لما رأى الأمور المحدثة المنكرة منه و كلام الناس و سخطهم في عثمان و أفعاله.

و في الشافي: و قد روى عنه من طرق لا تحصى كثرة انه كان يقول: ما يزن عثمان عند الله جناح ذباب. و تعاطي شرح ما روى عنه في هذا الباب يطول و هو أظهر من أن يحتاج إلى الاستشهاد عليه. و انه بلغ من اصرار عبد الله على مظاهرته بالعداوة أن قال لما حضره الموت من يتقبل مني وصية اوصيه بها على ما فيها؟ فسكت القوم و عرفوا الذي يريد فأعادها فقال عمار بن ياسر: فانا أقبلها. فقال ابن مسعود:لا يصلى على عثمان. فقال: ذلك لك. فيقال: انه لما دفن جاء عثمان منكرا لذلك فقال له قائل: إن عمارا ولى هذا الأمر. فقال لعمار: ما حملك على أن لم تؤذني؟

فقال له: إنه عهد إلى ألا اوذنك فوقف على قبره و أثنى عليه ثم انصرف و هو يقول رفعتم و الله بايديكم عن خير من بقى فتمثل الزبير بقول الشاعر:

لأعرفنك بعد الموت تندبني‏ و في حياتي ما زودتني زادي‏

و فيه: لما مرض ابن مسعود مرضه الذي مات فيه فأتاه عثمان عائدا فقال:ما تشتكى؟ قال: ذنوبي. قال: فما تشتهى؟ قال: رحمة ربي قال: أ لا أدعو لك طبيبا؟ قال: الطبيب أمرضني. قال فلا آمر لك بعطائك؟ قال: منعتنيه و أنا محتاج إليه و تعطينيه و أنا مستغن عنه. قال: يكون لولدك، قال: رزقهم على الله. قال:استغفر لي يا با عبد الرحمن، فقال: أسأل الله أن يأخذ لي منك بحقي.

و فيه: ان كل من قرأ الأخبار علم أن عثمان أمر باخراجه من المسجد على أعنف الوجوه و بأمره جرى ما جرى عليه و لو لم يكن بأمره و رضاه لوجب أن ينكر على مولاه كسره لضلعه و يعتذر إلى من عاتبه على فعله بأن يقول: انني لم آمر بذلك و لا رضيته من فاعله و قد انكرت على من فعله و في علمنا بأن ذلك لم يكن دليل على‏ ما قلناه. و قد روى الواقدي باسناده و غيره ان عثمان لما استقدمه المدينة دخلها ليلة جمعة فلما علم عثمان بدخوله قال: أيها الناس انه قد طرقكم الليلة دويبة من تمشى على طعامه يقي و يسلح. فقال ابن مسعود: لست كذلك و لكنني صاحب رسول الله صلى الله عليه و آله يوم بدر و صاحبه يوم بيعة الرضوان و صاحبه يوم الخندق و صاحبه يوم حنين، قال: فصاحت عايشة أيا عثمان أتقول هذا لصاحب رسول الله صلى الله عليه و آله؟ فقال عثمان: اسكتى.

ثم قال لعبد الله بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن اسد بن عبد العزى ابن قصى: أخرجه إخراجا عنيفا فأخذه ابن زمعة فاحتمله حتى جاء به باب المسجد فضرب به الأرض فكسر ضلعا من أضلاعه. فقال ابن مسعود: قتلني ابن زمعة الكافر بأمر عثمان.

و في رواية اخرى أن ابن زمعة مولى لعثمان أسود كان مسدما طوالا.و في رواية اخرى أن فاعل ذلك يحموم مولى عثمان.

و في رواية أنه لما احتمله ليخرجه من المسجد ناداه عبد الله انشدك الله أن تخرجني من مسجد خليلي رسول الله صلى الله عليه و آله و هو الذي يقول فيه رسول الله صلى الله عليه و آله: لساقا ابن ام عبد أثقل في الميزان يوم القيامة من جبل احد.

13- قال المسعودي في مروج الذهب و غيره: و من ذلك ما نال عمار بن ياسر من الفتن و الضرب و انحراف بني مخزوم عن عثمان من أجله.

و في تلخيص الشافي للشيخ الطوسي: و من ذلك إقدامه على عمار حتى روى أنه صار به فتق و كان أحد من ظاهر المتظلمين على قتله و كان يقول: قتلناه كافرا.

أقول: قد ذكرنا في المجلد الخامس عشر في شرح الخطبة 236 طائفة من الأقوال و الأخبار في ترجمة عمار و مناقبه و فضائله فلا حاجة إلى الاعادة فراجع.

قال ابن جمهور الاحسائي في المجلى: و من قوادح عثمان ضربه لعمار بن‏ ياسر حتى أخذه الفتق على ما رواه الثقات من أهل السيرة ان عمار بن ياسر قام في المسجد يوما و عثمان يخطب على المنبر فوبخه بأحداثه و افعاله فنزل عثمان فركضه برجله حتى ألقاه على قفاه و داس في بطنه برجله و أمر أعوانه من بني امية فضربوه حتى غشى عليه و هو مع ذلك يشتم عمارا و يسبه و تركه و مضى إلى منزله فاحتمل عمار إلى منزله و هو لما به فلما أفاق من غشوته دخل عليه الناس فلامه بعض و قال و ما لك و التعرض لعثمان و قد علمت أفعاله و أحداثه؟ فقال: إنما حملني على ذلك كلام سمعت من رسول الله صلى الله عليه و آله فانه قال: أفضل الأعمال كلمة حق تقولها بين يدي إمام جائر فأردت أن أنال هذه الدرجة و أن لي و لعثمان موقفا عند الله يوم القيامة.

«جواب القاضي عبد الجبار و شيخه أبي على عن ذلك»

قال علم الهدى في الشافي: قال صاحب الكتاب «يعني القاضي عبد الجبار صاحب الكتاب المعروف بالمغني من الحجاج في الإمامة»: فاما ما طعنوا به من ضربه عمارا حتى صار به فتق فقد قال شيخنا أبو علي إن ذلك غير ثابت و لو ثبت انه ضربه للقول العظيم الذي كان يقوله لم يجب أن يكون طعنا لأن للإمام تأديب من يستحق ذلك و مما يبعد صحة ذلك أن عمارا لا يجوز أن يكفره و لما يقع منه ما يستوجب الكفر لأن الذي يكفر به الكافر معلوم و لأنه لو كان قد وقع ذلك لكان غيره من الصحابة أولى بذلك و لوجب أن يجتمعوا على خلعه و لوجب أن لا يكون قتله لهم مباحا بل كان يجب أن يقيموا إماما يقتله على ما قدمنا القول فيه و ليس لأحد ان يقول انما كفره من حيث وثب على الخلافة و لم يكن لها اهلا لأنا قد بينا القول في ذلك، لأنه كان مصوبا لأبي بكر و عمر على ما قدمنا من قبل، و قد بينا ان صحة إمامتهما يقتضي صحة إمامة عثمان.

و روى إن عمارا نازع الحسن عليه السلام في أمره فقال عمار قتل عثمان كافرا و قال الحسن عليه السلام قتل مؤمنا و تعلق بعضهما ببعض فصارا إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: ما ذا تريد من ابن أخيك؟ فقال إني قلت كذا و قال الحسن عليه السلام كذا فقال أمير المؤمنين عليه السلام أتكفر برب كان يؤمن به عثمان؟ فسكت عمار.

و حكى عن الخياط أن عثمان لما نقم عليه ضربه لعمار احتج لنفسه فقال جاءني‏ سعد و عمار فارسلا إلى أن ائتنا فانا نريد أن نذاكرك اشياء فعلتها فارسلت إليهما أني مشغول فانصرفا فموعد كما يوم كذا فانصرف سعد و أبي عمار أن ينصرف فأعدت الرسول إليه فأبى أن ينصرف فتناوله بعض غلماني بغير أمري و و الله ما أمرت به و لا رضيت و ها أنا فليقتص مني قال: و هذا من أنصف قول و أعدله.

«اعتراض الشريف المرتضى علم الهدى عليه»

قال علم الهدى في جوابه: انه يقال له: قد وجدناك في قصة عثمان و عمار بين أمرين مختلفين: بين دفع لما روى من ضربه و بين اعتراف بذلك و تأول له و اعتذار منه بأن التأديب المستحق لا حرج فيه و نحن نتكلم على الأمرين:أما الدفع لضرب عمار فهو كالانكار لوجود أحد يسمى عمارا أو لطلوع الشمس ظهورا و انتشارا و كل من قرأ الأخبار و تصفح السير يعلم من هذا الأمر ما لا تثنية عنه مكابرة و لا مدافعة و هذا الفعل يعني ضرب عمار لم يختلف الرواة فيه و إنما اختلفوا في سببه:فروى عباس عن هشام الكلبي عن أبي مخنف في اسناده قال: كان في بيت المال بالمدينة سفط فيه حلي و جوهر فأخذ منه عثمان ما حلي به بعض أهله فأظهر الناس الطعن عليه في ذلك و كلموه فيه بكل كلام شديد حتى أغضبوه فخطب فقال:

لنأخذن حاجتنا من هذا الفي‏ء و إن زغمت أنوف أقوام فقال علي عليه السلام إذا تمنع ذلك و يحال بينك و بينه فقال عمار: اشهد الله ان أنفي أول راغم من ذلك؛ فقال عثمان: أ على يا ابن ياسر و سمية تجترى‏ء؟ خذوه فأخذوه فدخل عثمان فدعا به فضربه حتى غشي عليه ثم اخرج فحمل إلى منزل ام سلمة زوج النبي صلى الله عليه و آله رحمة الله عليها فلم يصل الظهر و العصر و المغرب فلما أفاق توضأ و صلى و قال:الحمد لله ليس هذا أول يوم اوذينا فيه في الله فقال هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومي و كان عمار حليفا لبني مخزوم، يا عثمان أما علي فاتقيته و أما نحن فاجترأت علينا و ضربت أخانا حتى اشفيت به على التلف أما و الله لئن مات لأقتلن به رجلا من بني امية عظيم السيرة و إنك لها أنا ابن القسرية، قال: فانهما قسريتان‏ و كانت امه و جدته قسريتين من بجيلة فشتمه عثمان و أمر به فاخرج فأتي به ام سلمة فإذا هي قد غضبت بعمار و بلغ عايشة ما صنع بعمار فغضبت و أخرجت شعرا من شعر رسول الله صلى الله عليه و آله و نعلا من نعاله و ثوبا من ثيابه و قالت: ما أسرع ما تركتم سنة رسولكم و هذا شعره و ثوبه و نعله لم يبل بعد.

و روي آخرون أن السبب في ذلك أن عثمان مر بقبر جديد فسأل عنه فقيل:عبد الله بن مسعود فغضب على عمار لكتمانه إياه موته إذا كان المتولى للصلاة عليه و القيام بشأنه فعندها وطى‏ء عثمان عمارا حتى أصابه الفتق.

و روي آخرون أن المقداد و طلحة و الزبير و عمارا و عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله كتبوا كتابا عددوا فيه أحداث عثمان و خوفوه ربه و أعلموه أنهم مواثبوه إن لم يقلع. فأخذ عمار الكتاب فأتاه به فقرأه منه صدرا. فقال عثمان: أعلى تقدم من بينهم؟ فقال: لأني أنصحهم لك. فقال: كذبت يا ابن سمية. فقال: أنا و الله ابن سمية و أنا ابن ياسر فأمر غلمانه فمدوا بيديه و رجليه فضربه عثمان برجليه و هي في الخفين على مذاكيره فأصابه الفتق و كان ضعيفا كبيرا فغشي عليه.

فضرب عمار على ما ترى غير مختلف فيه بين الرواة و إنما اختلفوا في سببه، و الخبر الذي رواه صاحب الكتاب و حكاه عن الخياط ما نعرفه و كتب السير المعروفة خالية منه و من نظيره و قد كان يجب أن يضيفه إلى الموضع الذي أخذه منه، فإن قوله و قول من اسند إليه ليسا بحجة. و لو كان صحيحا لكان يجب أن يقول بدل قوله ها أنا فليقتص مني و إذا كان ما أمر بذلك و لا رضيه و إنما ضربه الغلام:هذا الغلام الجاني فليقتص منه فإنه أولى و أعدل و بعد فلا تنافي بين الروايتين لو كان ما رواه معروفا لأنه يجوز أن يكون غلامه ضربه في حال اخرى و الروايات إذا لم تتعارض لم يجز اسقاط شي‏ء منها.

فأما قوله: إن عمارا لا يجوز أن يكفره و لم يقع منه ما يوجب الكفر، فان تكفير عمار له معروف قد جاءت به الروايات.

و قد روي من طرق مختلفة و باسانيد كثيرة أن عمارا كان يقول: ثلاثة يشهدون على عثمان بالكفر و أنا الرابع و أنا الرابع و أنا شر الأربعة و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون و أنا أشهد أنه قد حكم بغير ما أنزل الله.و روي عن زيد بن أرقم من طرق مختلفة انه قيل: بأي شي‏ء أكفرتم عثمان؟

قال: بثلاث: جعل المال دولة بين الأغنياء، و جعل المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله بمنزلة من حارب الله و رسوله، و عمل بغير كتاب الله.

و روي عن حذيفة انه كان يقول: ما في عثمان بحمد الله أشك لكنني أشك في قاتله أ كافر قتل كافرا أم مؤمن خاض إليه الفتنة حتى قتله و هو أفضل المؤمنين إيمانا.

فأما ما رواه من منازعة الحسن عليه السلام عمارا في ذلك و ترافعهما فهو أولا غير رافع لكون عمار مكفرا له بل هو شاهد من قوله بذلك. و إن كان الخبر صحيحا فالوجه فيه أن عمارا علم من لحن كلام أمير المؤمنين عليه السلام و عدوله عن أن يقضى بينهما بصريح القول: انه متمسك بالتقية فأمسك عمار لما فهم من غرضه.

فأما قوله لا يجوز أن يكفره من حيث وثب على الخلافة لأنه كان مصوبا لأبى بكر و عمر و لما تقدم من كلامه في ذلك فلابد إذا حملنا تكفير عمار للرجل على الصحة من هذا الوجه أن يكون عمار غير مصوب للرجلين على ما ادعى.

فأما قوله عن أبى على انه لو ثبت انه ضربه للقول العظيم الذي كان يقول فيه لم يكن طعنا لأن للإمام تأديب من يستحق ذلك، فقد كان يجب أن يستوحش صاحب الكتاب أو من حكى كلامه من أبى على و غيره من أن يعتذر من ضرب عمار و قذه حتى لحقه من الغشى و ترك له الصلاة و وطيه بالاقدام امتهانا و استخفافا بشي‏ء من العذر فلا عذر يسمع من إيقاع نهاية المكروه بمن روى أن النبي صلى الله عليه و آله قال فيه: عمار جلدة ما بين العين و الأنف و متى تنك الجلد تدم الأنف.

و روي أنه صلى الله عليه و آله قال: ما لهم و لعمار يدعوهم إلى الجنة و يدعونه إلى النار و روي العوام بن حوشب عن سلمة بن كهيل عن علقمة عن خالد بن الوليدأن رسول الله صلى الله عليه و آله قال: من عاد عمارا عاداه الله و من أبغض عمار أبغضه الله.

و أى كلام غليظ سمعه من عمار يستحق به ذلك المكروه العظيم الذي يتجاوز المقدار الذي فرضه الله تعالى في الحدود و إنما كان عمار و غيره ينثوا عليه أحداثه و معايبه أحيانا على ما يظهر من سيئ أفعاله و قد كان يجب عليه أحد الأمرين إما أن ينزع عما يواقف عليه من تلك الأفعال أو أن يبين عذره فيها أو براءته منها ما يظهر و ينتشر و يشتهر فان أقام مقيم بعد ذلك على توبيخه و تفسيقه زجره عن ذلك بوعظ أو غيره و لا يقدم على ما تفعله الجبابرة و الأكاسرة من شفاء الغيظ بغير ما أنزل الله تعالى و حكم به.

و في الإمامة و السياسة لابن قتيبة الدينوري: ذكروا أنه اجتمع ناس من أصحاب النبي عليه الصلاة و السلام فكتبوا كتابا و ذكروا فيه ما خالف فيه عثمان من سنة رسول الله صلى الله عليه و آله و سنة صاحبيه- و بعد ما أتى بكثير من أحداثه قال: ثم تعاهد القوم ليدفعن الكتاب في يد عثمان و كان ممن حضر الكتاب عمار بن ياسر و المقداد ابن الأسود و كانوا عشرة فلما خرجوا بالكتاب ليدفعوه إلى عثمان و الكتاب في يد عمار جعلوا يتسللون عن عمار حتى بقي وحده فمضى حتى جاء دار عثمان فاستأذن عليه فأذن له في يوم شات فدخل عليه و عنده مروان بن الحكم و أهله من بني امية فدفع عليه الكتاب فقرأه فقال له: أنت كتبت هذا الكتاب؟ قال: نعم، قال: و من كان معك؟ قال: كان معي نفر تفرقوا فرقا منك، قال: من هم؟

قال: لا أخبرك بهم، قال: فلم اجترأت علي من بينهم؟ فقال مروان: يا أمير المؤمنين إن هذا العبد الأسود (يعني عمارا) قد جرأ عليك الناس و إنك إن قتلته نكلت به من ورائه، قال عثمان: اضربوه فضربوه و ضربه عثمان معهم حتى فتقوا بطنه فغشي عليه فجروه حتى طرحوه على باب الدار- إلى آخر ما قال.

14- قال المسعودي في مروج الذهب: و من ذلك فعل الوليد بن عقبة في مسجد الكوفة و ذلك أنه بلغه عن رجل من اليهود من ساكني قرية من قري الكوفة مما يلي جسر بابل يقال له: زرارة يعمل أنواعا من الشعبذة و السحر يعرف‏ بمطروي فاحضر فأراه في المسجد ضربا من التخاييل و هو أن أظهر له في الليل فيلا عظيما على فرس في صحن المسجد ثم صار اليهودي ناقة يمشي على جبل ثم أراه صورة حمار دخل من فيه ثم خرج من دبره ثم ضرب عنق رجل ففرق بين جسده و رأسه ثم أمر السيف عليه فقام الرجل و كان جماعة من أهل الكوفة حضورا منهم جندب بن كعب الأزدي فجعل يستعيذ بالله من فعل الشيطان و من عمل يبعد من الرحمن و علم أن ذلك هو ضرب من التخييل و السحر فاخترط سيفه و ضرب به اليهودي ضربة أدار رأسه ناحية من بدنه و قال: جاء الحق و زهق الباطل إن الباطل كان زهوقا.

و قد قيل ان ذلك كان نهارا و أن جندبا خرج إلى السوق و دنا من بعض الصياقلة و أخذ سيفا و دخل فضرب به عنق اليهودي و قال: إن كنت صادقا فأحى نفسك فأنكر عليه الوليد ذلك و أراد أن يقيده به فمنعه الأزد فحبسه و أراد قتله غيلة و نظر السجان إلى قيامه ليله إلى الصبح فقال له: انج بنفسك فقال له جندب: تقتل بي. قال: ليس ذلك بكثير في مرضاة الله و الدفع عن ولي من أولياء الله، فلما اصبح الوليد دعا به و قد استعد لقتله فلم يجده فسأل السجان فأخبره بهربه فضرب عنق السجان و صلبه بالكناس.

قال ابن الأثير الجزري في اسد الغابة: جندب بن كعب بن عبد الله الأزدي أحد جنادب الأزد و هو قاتل الساحر عند الأكثر و ممن قاله الكلبي و البخاري روى عنه الحسن.

قال: اخبرنا إبراهيم بن محمد بن مهران الفقيه و غيره قالوا باسنادهم عن محمد ابن عيسى أخبرنا أحمد بن منيع أخبرنا أبو معاوية عن اسماعيل بن مسلم عن الحسن عن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله: حد الساحر ضربة بالسيف. قد اختلف في رفع هذا الحديث فمنهم من رفعه بهذا الاسناد و منهم من وقفه على جندب.

و كان سبب قتله الساحر أن الوليد بن عقبة أبي معيط لما كان أميرا على‏ الكوفة حضر عنده ساحر فكان يلعب بين يدي الوليد يريه أنه يقتل رجلا ثم يحييه و يدخل في فم ناقة ثم يخرج من حيائها فأخذ سيفا من صيقل و اشتمل عليه و جاء إلى الساحر فضربه ضربة فقتله ثم قال له: أحى نفسك ثم قرأ: أ فتأتون السحر و أنتم تبصرون‏ فرفع إلى الوليد فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله يقول: حد الساحر ضربة بالسيف فحبسه الوليد فلما رأى السجان صلاته و صومه خلى سبيله.

و في الشافي و تلخيصه: ان الوليد اراد أن يقتل جندبا بالساحر حتى انكر الأزد ذلك فحبسه و أطال حبسه حتى هرب من السجن.

و قال في اسد الغابة: فأخذ الوليد السجان فقتله و قيل: بل سجنه فأتاه كتاب عثمان باطلاقه و قيل: بل حبس الوليد جندبا فأتى ابن أخيه إلى السجان فقتله و أخرج جندبا فذلك قوله:

أفي مضرب السحار يحبس جندب‏ و يقتل أصحاب النبي الأوائل‏
فان يك ظنى بابن سلمى و رهطه‏ هو الحق يطلق جندب و يقاتل‏

و انطلق إلى أرض الروم فلم يزل يقاتل بها المشركين حتى مات لعشر سنوات مضين من خلافة معاوية.

15- و من ذلك قصة قتل الهرمزان‏ و قد قدمنا الكلام فيه في شرح الخطبة 236 و جملته أن عثمان عطل الحد الواجب في عبيد الله بن عمر فانه قتل الهرمزان بعد اسلامه فلم يقده به و قد كان أمير المؤمنين علي عليه السلام يطلبه لذلك. و تلك القصة على الاجمال أن الهرمزان كان من عظماء فارس و كان قد اسر في بعض الغزوات و جي‏ء به إلى المدينة فأخذه علي عليه السلام فأسلم على يديه فأعتقه علي عليه السلام فلما ضرب عمر في غلس الصبح و اشتبه الأمر في ضاربه سمع ابنه عبيد الله قوم يقولون: قتله العلج فظن أنهم يعنون الهرمزان فبادر عبيد الله إليه فقتله قبل أن يموت عمر فسمع عمر بما فعله ابنه فقال: قد أخطأ عبيد الله إن الذي ضربني أبو لؤلؤة و إن عشت لأقيدنه به فإن عليا لا يقبل منه الدية و هو مولاه فلما مات عمر و تولى عثمان طالب علي عليه السلام بقود عبيد الله و قال: إنه قتل مولاى ظلما و أنا وليه فقال عثمان: قتل بالأمس عمر و اليوم يقتل ابنه حسب آل عمر مصابهم به و امتنع من تسليمه إلى علي عليه السلام و منع عليا حقه و لهذا قال علي عليه السلام لأن أمكنني الدهر منه يوما لأقتلنه به فلما ولى علي عليه السلام هرب عبيد الله منه إلى الشام و التجأ إلى معاوية و خرج معه إلى حرب صفين فقتله علي عليه السلام في حرب صفين قال الأحسائي في المجلى: فانظر إلى عثمان كيف عطل حق علي عليه السلام و خالف الكتاب و السنة برأيه و الله تعالى يقول‏ و من قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا.

و قال أبو جعفر الطبر في التاريخ: بعد ما بايع الناس عثمان جلس في جانب المسجد و دعا عبيد الله بن عمرو و كان محبوسا في دار سعد بن أبي وقاص و هو الذي نزع السيف من يده بعد قتله جفينة و الهرمزان و ابنة أبي لؤلؤة و كان يقول: و الله لأقتلن رجالا ممن شرك في دم أبي يعرض بالمهاجرين و الأنصار فقام إليه سعد فنزع السيف من يده و جذب شعره حتى أضجعه إلى الأرض و حبسه في داره حتى أخرجه عثمان إليه فقال عثمان لجماعة من المهاجرين و الأنصار: أشيروا على في هذا الذي فتق في الاسلام ما فتق، فقال علي أرى أن تقتله فقال بعض المهاجرين: قتل عمر أمس و يقتل ابنه اليوم؟ فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين إن الله قد أعفاك أن يكون هذا الحدث كان و لك على المسلمين سلطان إنما كان هذا الحدث و لا سلطان لك قال عثمان: أنا وليهم و قد جعلتها دية و احتملتها في مالي.

قال: و كان رجل من الأنصار يقال له زياد بن لبيد البياضي إذا رأى عبيد الله ابن عمر قال:

ألا يا عبيد الله ما لك مهرب‏ و لا ملجأ من ابن أروى و لا خفر
أصبت دما و الله في غير حله‏ حراما و قتل الهرمزان له خطر
على غير شي‏ء غير أن قال قائل‏ أتتهمون الهرمزان على عمر
فقال سفيه و الحوادث جمة نعم اتهمه قد أشار و قد أمر
و كان سلاح العبد في جوف بيته‏ يقلبها و الأمر بالأمر يعتبر

فشكى عبيد الله بن عمر إلى عثمان زياد بن لبيد و شعره فدعا عثمان زياد بن لبيد فنهاه قال: فانشأ زياد يقول في عثمان:

أبا عمر و عبيد الله رهن‏ فلا تشكك بقتل الهرمزان‏
فإنك إن غفرت الجرم عنه‏ فأسباب الخطا فرسا رهان‏
أ تعفو إذ عفوت بغير حق‏ فما لك بالذي تحكى يدان‏

فدعا عثمان زياد بن لبيد فنهاه و شذبه.

«اعتذار القاضى عبد الجبار من تعطيل عثمان الحد الواجب» «في عبيد الله بن عمر»

نقل علم الهدى في الشافي عن عبد الجبار بقوله: ثم ذكر ما نسب إليه من تعطيل الحد في الهرمزان و حكى عن أبي علي أنه لم يكن للهرمزان ولي يطلب بدمه و الإمام ولي من لا ولي له و للولي أن يعفو كما له أن يقتل. و قد روى أنه سأل المسلمين أن يعفوا عنه فأجابوا إلى ذلك.

قال القاضي: و انما أراد عثمان بالعفو عنه ما يعود إلى عز الدين لأنه خاف أن يبلغ العدو قتله فيقال: قتلوا إمامهم و قتلوا ولده و لا يعرفون الحال في ذلك فيكون شماتة.

و حكى عن الخياط أن عامة المهاجرين أجمعوا على الإيقاد بالهرمزان و قالوا: هو دم سفك في غير ولايتك فليس له ولي يطلب به و أمره إلى الإمام فاقبل منه الدية فذلك صلاح المسلمين.

قال: و لم يثبت أن أمير المؤمنين عليه السلام كان يطلبه ليقتله بالهرمزان لأنه لا يجوز قتل من عفى عنه ولي المقتول و إنما كان يطلبه ليضع من قدره و يصغر من شأنه.

قال: و يجوز أن يكون ما روى عن علي عليه السلام انه قال: لو كنت بدل عثمان‏ لقتله، يعني أنه كان يرى ذلك أقوى في الاجتهاد و أقرب إلى التشدد في دين الله.

«اعتراض علم الهدى على القاضى»

اعترض عليه الشريف المرتضى علم الهدى في الشافي بقوله: فأما الكلام في قتل الهرمزان و في العدول عن قتل قاتله و اعتذاره من ذلك بما اعتذر به من انه لم يكن له ولي لأن الإمام ولى من لا ولي له و له أن يعفو كما له أن يستوفي القود، فليس بشي‏ء لأن الهرمزان رجل من أهل فارس و لم يكن له ولي حاضر يطالب بدمه و قد كان يجب أن يبذل الإنصاف لأوليائه و يؤمنوا متى حضروا حتى ان كان له ولي يطالب و حضر و طالب.

ثم لو لم يكن له ولي لم يكن عثمان ولي دمه لأنه قتل في أيام عمر فصار عمر ولي دمه و قد أوصى عمر على ما جاءت به الروايات الظاهرة بقتل ابنه عبيد الله إن لم يقم البينة العادية على الهرمزان و جفينة أنهما أمرا أبا لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة بقتله و كانت وصيته بذلك إلى أهل الشورى فقال: أيكم ولي هذا الأمر فليفعل كذا و كذا مما ذكرناه، فلما مات عمر طلب المسلمون إلى عثمان إمضاء الوصية في عبيد الله بن عمر فدافع عنها و عللهم فلو كان هو ولي الدم على ما ذكره لم يكن له أن يعفو و أن يبطل حدا من حدود الله تعالى و أي شماتة للعدو في إقامة حدود الله تعالى؟ و إنما الشماتة كلها من اعداء الاسلام في تعطيل الحدود؛ و أي حرج في الجمع بين قتل الأب و الابن حتى يقال كره أن ينتشر الخبر بأن الإمام و ابنه قتلا و إنما قتل أحدهما ظلما بغير أمر الله و الاخر بأمر الله تعالى.

و قد روى زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح أن أمير المؤمنين عليه السلام أتى عثمان بعد ما استخلف فكلمه في عبيد الله و لم يكلمه أحد غيره فقال: اقتل هذا الفاسق الخبيث الذي قتل امرأ مسلما؛ فقال عثمان: قتلوا أباه بالأمس و أقتله اليوم و إنما هو رجل من أهل الأرض فلما أبى عليه مر عبيد الله على علي عليه السلام فقال له يا فاسق ايه أما و الله لئن ظفرت بك يوما من الدهر لأضربن عنقك فلذلك خرج مع معاوية على أمير المؤمنين عليه السلام.

و روى القناد عن الحسن بن عيسى بن زيد عن أبيه أن المسلمين لما قال عثمان إني قد عفوت عن عبيد الله بن عمر قالوا: ليس لك أن تعفو عنه. قال: بلى إنه ليس لجفينة و الهرمزان قرابة من أهل الاسلام و أنا أولى بهما لأني ولي أمر المسلمين و قد عفوت فقال علي عليه السلام إنه ليس كما تقول إنما أنت في أمرهما بمنزلة اقصى المسلمين و إنما قتلهما في إمرة غيرك و قد حكم الوالي الذي قبلك الذي قتلا في امارته بقتله و لو كان قتلهما في امارتك لم يكن لك العفو عنه فاتق الله فان الله سائلك عن هذا. فلما رأى عثمان أن المسلمين قد أبوا إلا قتل عبيد الله أمره فارتحل إلى الكوفة و ابتنى و أقطعه بها دارا و ارضا و هي التي يقال لها كويفة ابن عمر فعظم ذلك عند المسلمين و اكبروه و كثر كلامهم فيه.

و روى عن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام انه قال:ما أمسى عثمان يوم ولي حتى نقموا عليه في أمر عبيد الله بن عمر حيث لم يقتله بالهرمزان.

فأما قوله: إن أمير المؤمنين عليه السلام لم يطلبه ليقتله بل ليضع من قدره فهو بخلاف ما صرح به عليه السلام من أنه لم يكن إلا لضرب عنقه.و بعد فان ولي الدم إذا عفى عنه على ما ادعوا لم يكن لأحد أن يستخف به و يضع من قدره كما ليس له أن يقتله.

و قوله: إن أمير المؤمنين عليه السلام لا يجوز أن يتوعده مع عفو الإمام عنه فإنما يكون صحيحا لو كان ذلك العفو مؤثرا و قد بينا انه غير مؤثر.

و قوله: يجوز أن يكون عليه السلام ممن يرى قتله أقوى في الاجتهاد و أقرب إلى التشدد في دين الله فلا شك أنه كذلك و هذا بناء منه على أن كل مجتهد مصيب و قد بينا أن الأمر بخلاف ذلك، و إذا كان اجتهاد أمير المؤمنين عليه السلام يقتضى قتله فهو الذى لا يسوغ خلافه.

16- في المجلي: و من قوادحه عمله بالتكبر و اظهاره لاعماله الجبابرة و تزيينه بزي الجاهلية و الملوك خلافا لما كان عليه النبي صلى الله عليه و آله و أصحابه من‏ التواضع و الزهد و طريقة الصلحاء فاستعمل الحجاب و الغلمان و لبس الحرير و التزين بالمذهب و ضرب البوقات على بابه و كل هذه اعمال مخالفة للشريعة الأحمدية و ما كان عليه الصحابة و الخلفاء المتقدمين عليه و لهذا نقموا عليه و ظهر بين المهاجرين و الأنصار فسقه و طلبوا منه الاعتزال عن امرتهم فأبى فقتلوه لعلمهم باستحقاقه لذلك و أن الخلافة لا يجوز لمن هو معلن بالفسق.

17- و فيه: و من قوادحه عيبهم إياه بأنه لم يحضر غزاة بدر التي كانت أول حرب امتحن به المؤمنون فجلس في بيته و تعلل بمرض زوجته و كذلك بيعة الرضوان لم يحضرها و تخلف عنها متعللا بموت زوجته مع ان الله تعالى يقول في أهلها لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فكان محروما من ذلك الرضا و يوم احد انهزم و فر من الزحف أقبح فرار حتى أنه بقي في هزيمته مدة ثلاثة أيام لا يلتفت إلى وراه حتى وصل إلى قرية قريب مكة يقال لها:السوارقية و لما رجع إلى المدينة بعد أن علم بسلامة النبي صلى الله عليه و آله قال له النبي صلى الله عليه و آله:لقد ذهبت فيها عريضة يا عثمان و لم يرد جوابا خجلا مما فعله.

18- و فيه: و من قوادحه أن الصحابة بأجمعهم أجمعوا على حربه لأجل أحداثه التى نقموها عليه‏ و كانوا يومئذ بين خاذل و قاتل حتى قتلوه في بيته بين ولده و نسائه في المدينة و دار الهجرة و منعوه من الماء ثلاثة أيام و هو بين ظهراني المسلمين مع أنه خليفتهم و إمامهم لم يحم عنه منهم محام و لا له منهم قائم و ذلك دليل على اجماعهم على قتله و استحلالهم لدمه كما أجمعوا على خلافته حتى قال بعض العلماء: إن المجمعين على قتل عثمان كانوا أكثر من المجمعين على بيعته و ما ذاك إلا لعظم أحداثه حتى بقى ثلاثة أيام مرميا على الكناسة بعد قتله لم يجسر أحد أن يدفنه حتى قام ثلاثة نفر من بنى أمية فأخذوه بالليل بعد انتصافه سرقة و دفنوه لكيلا يعلم بهم أحد و ذلك دليل على عظم أحداثه و كبر معاصيه في الإسلام و أهله فلو لا انه كان مستحقا لما فعلوه به، إلى آخر ما قال. و سنذكر تفصيل الكلام في قتله و ما ذكروا في المقام‏.

19- و فيه: و من قوادحه قصته المشهورة مع أهل مصر و ذلك انه لما كثرت أحداثه و ظهرت بين المسلمين كثرت الشكايات منه و من عماله فورد إلى المدينة جماعة من أهل مصر يشكون من عامله عليهم عبد الله بن أبي سرح- إلى أن قال:و عزل عثمان عن أهل مصر عامله و قال: تختاروا لأنفسهم من شاءوا فقالوا: نريد محمد بن أبي بكر فاستعمله على مصر و كتب له بها عهدا بحضرة الكل. ثم إن أهل مصر مع عاملهم محمد بن أبي بكر لما خرجوا من المدينة كتب عثمان إلى عبد الله بن أبي سرح كتابا إنك متى قدم عليك محمد بن أبي بكر و أصحابه المصريين فاقتلهم و اصلبهم و ابق على عملك- إلى آخر ما قال و سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.

20- و منها- كما في الامامة و السياسة لابن قتيبة الدينوري-: تركه المهاجرين و الأنصارلا يستعملهم على شي‏ء و لا يستشيرهم و استغني برأيه عن رأيهم.

21- و فيه أيضا: إدراره القطائع و الأرزاق‏ و الأعطيات على أقوام بالمدينة ليست لهم صحبة من النبي عليه الصلاة و السلام ثم لا يغزون و لا يذبون.

22- و فيه أيضا: و ما كان من مجاوزته الخيزران إلى السوط و انه أول من ضرب بالسياط ظهور الناس و إنما كان ضرب الخليفتين قبله بالدرة و الخيزران.

و في الشافي و تلخيصه: انه جلد بالسوط و من كان قبله يضرب بالدرة.

23- في المجلي: و من قوادحه إحراقه المصاحف‏ التي هي كلام الله العزيز الواجب على أهل الاسلام تعظيمه و القيام بحرمته و أنهم أجمعوا على أن من استخف بحرمته كان مرتدا خارجا من الإسلام و لا شي‏ء في الاستخفاف ابلغ من الحرق بالنار، فقد نقل أهل السيرة انه لما أراد اجتماع الناس على مصحفه طلب المصاحف التي كانت في أيدي الناس حتى جمعها كلها ثم انه أحرقها. و في رواية اخرى أنه وضعها في قدر و طبخها بالنار حتى تمزقت و تفرقت و لم يبق منها غير مصحف عبد الله بن مسعود فانه طلبه منه فمنعه و لم يسلمه إليه فضربه على ذلك حتى كسر بعض أضلاعه و منعه عطاءه و بقي عبد الله مريضا حتى مات و دخل عليه عثمان في مرضه و طلب منه أن يحله فلم يرض أن يحله، و كيف صح له التهجم‏ على الكتاب العزيز بهذه الأفعال الشنيعة و كيف صح له أن يضرب رجلا من أكابر الصحابة و فضلائهم و علمائهم على منعه ملكه لا يسلمه إليه حتى مات بسبب ذلك الضرب، و من المعلوم للكل أن كل ذلك الفعل مخالف للشريعة محرم بالكتاب و السنة.

و في الشافي: ثم من عظيم ما أقدم عليه جمعه الناس على قراءة زيد و إحراقه المصاحف و إبطاله ما شك انه منزل من القرآن و أنه مأخوذ عن الرسول صلى الله عليه و آله و لو كان ذلك مما يسوغ لسبق إليه الرسول عليه السلام و لفعله أبو بكر و عمر.

منهاج ‏البراعة في ‏شرح ‏نهج ‏البلاغة(الخوئي)//میر حبیب الله خوئی