نامه 79 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

79 و من كتاب كتبه ع لما استخلف إلى أمراء الأجناد

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ-  أَنَّهُمْ مَنَعُوا النَّاسَ الْحَقَّ فَاشْتَرَوْهُ-  وَ أَخَذُوهُمْ بِالْبَاطِلِ فَاقْتَدَوْهُ أي منعوا الناس الحق-  فاشترى الناس الحق منهم بالرشى و الأموال-  أي لم يضعوا الأمور مواضعها-  و لا ولوا الولايات مستحقيها-  و كانت أمورهم الدينية و الدنياوية تجري على وفق الهوى-  و الغرض الفاسد-  فاشترى الناس منهم الميراث و الحقوق-  كما تشترى السلع بالمال- .

ثم قال و أخذوهم بالباطل فاقتدوه-  أي حملوهم على الباطل فجاء الخلف من بعد السلف-  فاقتدوا بآبائهم و أسلافهم في ارتكاب ذلك الباطل-  ظنا أنه حق لما قد ألفوه و نشئوا و ربوا عليه- . و روي فاستروه بالسين المهملة أي اختاروه-  يقال استريت خيار المال أي اخترته-  و يكون الضمير عائدا إلى الظلمة لا إلى الناس-  أي منعوا الناس حقهم من المال-  و اختاروه لأنفسهم و استأثروا به

 

باب الحكم و المواعظ

 

باب المختار من حكم أمير المؤمنين و مواعظه و يدخل في ذلك المختار من أجوبة مسائله و الكلام القصير الخارج من سائر أغراضه اعلم أن هذا الباب من كتابنا كالروح من البدن-  و السواد من العين-  و هو الدرة المكنونة التي سائر الكتاب صدفها-  و ربما وقع فيه تكرار لبعض ما تقدم يسير جدا-  و سبب ذلك طول الكتاب و بعد أطرافه عن الذهن-  و إذا كان الرضي رحمه الله قدسها-  فكرر في مواضع كثيرة في نهج البلاغة على اختصاره-  كنا نحن في تكرار يسير في كتابنا الطويل أعذر

 

 شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 18

نامه 78 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

78 و من كتاب له ع أجاب به أبا موسى الأشعري

 عن كتاب كتبه إليه-  من المكان الذي اتعدوا فيه للحكومة-  و ذكر هذا الكتاب سعيد بن يحيى الأموي في كتاب المغازي: فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ تَغَيَّرَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ حَظِّهِمْ-  فَمَالُوا مَعَ الدُّنْيَا وَ نَطَقُوا بِالْهَوَى-  وَ إِنِّي نَزَلْتُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ مَنْزِلًا مُعْجِباً-  اجْتَمَعَ بِهِ أَقْوَامٌ أَعْجَبَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ-  وَ أَنَا أُدَاوِي مِنْهُمْ قَرْحاً أَخَافُ أَنْ يَعُودَ عَلَقاً يَعُودُ-  وَ لَيْسَ رَجُلٌ فَاعْلَمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى جَمَاعَةِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ص-  وَ أُلْفَتِهَا مِنِّي-  أَبْتَغِي بِذَلِكَ حُسْنَ الثَّوَابِ وَ كَرَمَ الْمَآبِ-  وَ سَأَفِي بِالَّذِي وَأَيْتُ عَلَى نَفْسِي-  وَ إِنْ تَغَيَّرْتَ عَنْ صَالِحِ مَا فَارَقْتَنِي عَلَيْهِ-  فَإِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ حُرِمَ نَفْعَ مَا أُوتِيَ مِنَ الْعَقْلِ وَ التَّجْرِبَةِ-  وَ إِنِّي لَأَعْبَدُ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ بِبَاطِلٍ-  وَ أَنْ أُفْسِدَ أَمْراً قَدْ أَصْلَحَهُ اللَّهُ-  فَدَعْ عَنْكَ مَا لَا تَعْرِفُ-  فَإِنَّ شِرَارَ النَّاسِ طَائِرُونَ إِلَيْكَ بِأَقَاوِيلِ السُّوءِ-  وَ السَّلَامُ روي و نطقوا مع الهوى-  أي مائلين مع الهوى- . و روي و أنا أداري بالراء-  من المداراة و هي الملاينة و المساهلة- .

 

و روي نفع ما أولى باللام يقول أوليته معروفا- . و روي-  إن قال قائل بباطل و يفسد أمرا قد أصلحه الله- . و اعلم أن هذا الكتاب كتاب من شك في أبي موسى-  و استوحش منه-  و من قد نقل عنه إلى أبي موسى كلاما إما صدقا و إما كذبا-  و قد نقل عن أبي موسى إليه كلاما إما صدقا أيضا و إما كذبا-  قال ع-  إن الناس قد تغير كثير منهم عن حظهم من الآخرة-  فمالوا مع الدنيا-  و إني نزلت من هذا الأمر منزلا معجبا-  بكسر الجيم أي يعجب من رآه-  أي يجعله متعجبا منه- .

و هذا الكلام شكوى من أصحابه و نصاره من أهل العراق-  فإنهم كان اختلافهم عليه و اضطرابهم شديدا جدا-  و المنزل و النزول هاهنا مجاز و استعارة-  و المعنى أني حصلت في هذا الأمر-  الذي حصلت فيه على حال معجبة لمن تأملها-  لأني حصلت بين قوم كل واحد منهم مستبد برأي-  يخالف فيه رأي صاحبه-  فلا تنتظم لهم كلمة و لا يستوثق لهم أمر-  و إن حكمت عليهم برأي أراه أنا خالفوه و عصوه-  و من لا يطاع فلا رأي له-  و أنا معهم كالطبيب الذي يداوي قرحا-  أي جراحة قد قاربت الاندمال و لم تندمل بعد-  فهو يخاف أن يعود علقا أي دما- .

ثم قال له-  ليس أحد فاعلم-  أحرص على ألفة الأمة و ضم نشر المسلمين- . و أدخل قوله فاعلم بين اسم ليس و خبرها فصاحة-  و يجوز رفع أحرص بجعله صفة لاسم ليس-  و يكون الخبر محذوفا أي ليس في الوجود رجل- . و تقول قد وأيت وأيا أي وعدت وعدا-  قال له أما أنا فسوف أفي بما وعدت-  و ما استقر بيني و بينك-  و إن كنت أنت قد تغيرت عن صالح ما فارقتني عليه- .

فإن قلت فهل يجوز أن يكون قوله-  و إن تغيرت من جملة قوله فيما بعد-  فإن الشقي-  كما تقول إن خالفتني فإن الشقي من يخالف الحق- . قلت نعم و الأول أحسن-  لأنه أدخل في مدح أمير المؤمنين ع-  كأنه يقول أنا أفي و إن كنت لا تفي-  و الإيجاب يحسنه السلب الواقع في مقابلته- و الضد يظهر حسنه الضد- .

ثم قال و إني لأعبد أي آنف-  من عبد بالكسر أي أنف-  و فسروا قوله فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ بذلك-  يقول إني لآنف من أن يقول غيري قولا باطلا-  فكيف لا آنف أنا من ذلك لنفسي-  ثم تختلف الروايات في اللفظة بعدها كما ذكرنا- . ثم قال فدع عنك ما لا تعرف-  أي لا تبن أمرك إلا على اليقين و العلم القطعي-  و لا تصغ إلى أقوال الوشاة و نقلة الحديث-  فإن الكذب يخالط أقوالهم كثيرا-  فلا تصدق ما عساه يبلغك عني شرار الناس-  فإنهم سراع إلى أقاويل السوء-  و لقد أحسن القائل فيهم- 

 أن يسمعوا الخير يخفوه و إن سمعوا
شرا أذاعوا و إن لم يسمعوا كذبوا

و نحو قول الآخر-

إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا
و إن ذكرت بخير عندهم دفنوا

  شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 18

نامه 77 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

77 و من وصية له ع لعبد الله بن العباس أيضا-  لما بعثه للاحتجاج على الخوارج

لَا تُخَاصِمْهُمْ بِالْقُرْآنِ-  فَإِنَّ الْقُرْآنَ حَمَّالٌ ذُو وُجُوهٍ-  تَقُولُ وَ يَقُولُونَ… وَ لَكِنْ حَاجِجْهُمْ بِالسُّنَّةِ-  فَإِنَّهُمْ لَنْ يَجِدُوا عَنْهَا مَحِيصاً هذا الكلام لا نظير له في شرفه و علو معناه-  و ذلك أن القرآن كثير الاشتباه-  فيه مواضع يظن في الظاهر أنها متناقضة متنافية-  نحو قوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ-  و قوله إِلى‏ رَبِّها ناظِرَةٌ-  و نحو قوله وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا-  فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ-  و قوله وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ-  فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى‏ عَلَى الْهُدى‏-  و نحو ذلك و هو كثير جدا-  و أما السنة فليست كذلك-  و ذلك لأن الصحابة كانت تسأل رسول الله ص-  و تستوضح منه الأحكام في الوقائع-  و ما عساه يشتبه عليهم من كلامهم يراجعونه فيه-  و لم يكونوا يراجعونه في القرآن إلا فيما قل-  بل كانوا يأخذونه منه تلقفا-  و أكثرهم لا يفهم معناه‏لا لأنه غير مفهوم-  بل لأنهم ما كانوا يتعاطون فهمه-  إما إجلالا له أو لرسول الله أن يسألوه عنه-  أو يجرونه مجرى الأسماء الشريفة-  التي إنما يراد منها بركتها لا الإحاطة بمعناها-  فلذلك كثر الاختلاف في القرآن-  و أيضا فإن ناسخه و منسوخه-  أكثر من ناسخ السنة و منسوخها-  و قد كان في الصحابة من يسأل الرسول-  عن كلمة في القرآن يفسرها له تفسيرا موجزا-  فلا يحصل له كل الفهم-  لما أنزلت آية الكلالة و قال في آخرها-  يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا- 

سأله عمر عن الكلالة ما هو-  فقال له يكفيك آية الصيف-  لم يزد على ذلك فلم يراجعه عمر و انصرف عنه-  فلم يفهم مراده و بقي عمر على ذلك إلى أن مات-  و كان يقول بعد ذلك اللهم مهما بينت-  فإن عمر لم يتبين-  يشير إلى قوله يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا-  و كانوا في السنة و مخاطبة الرسول على خلاف هذه القاعدة-  فلذلك أوصاه علي ع أن يحاجهم بالسنة لا بالقرآن- .

فإن قلت فهل حاجهم بوصيته- . قلت لا بل حاجهم بالقرآن-  مثل قوله فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها-  و مثل قوله في صيد المحرم-  يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ-  و لذلك لم يرجعوا و التحمت الحرب-  و إنما رجع باحتجاجه نفر منهم- . فإن قلت-  فما هي السنة التي أمره أن يحاجهم بها- . قلت كان لأمير المؤمنين ع في ذلك غرض صحيح-  و إليه أشار و حوله كان يطوف و يحوم-  و ذلك أنه أراد أن يقول لهم- 

 قال رسول الله ص علي مع الحق و الحق مع علي يدور معه حيثما دارو قوله اللهم وال من والاه و عاد من عاداه-  و انصر من نصره و اخذل من خذله-  و نحو ذلك من الأخبار-  التي‏كانت الصحابة قد سمعتها من فلق فيه ص-  و قد بقي ممن سمعها جماعة تقوم الحجة و تثبت بنقلهم-  و لو احتج بها على الخوارج-  أنه لا يحل مخالفته و العدول عنه بحال-  لحصل من ذلك غرض أمير المؤمنين في محاجتهم-  و أغراض أخرى أرفع و أعلى منهم-  فلم يقع الأمر بموجب ما أراد-  و قضي عليهم بالحرب حتى أكلتهم عن آخرهم-  و كان أمر الله مفعولا

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 18

نامه 76 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

76 و من وصية له ع لعبد الله بن العباس-  عند استخلافه إياه على البصرة

سَعِ النَّاسَ بِوَجْهِكَ وَ مَجْلِسِكَ وَ حُكْمِكَ-  وَ إِيَّاكَ وَ الْغَضَبَ فَإِنَّهُ طَيْرَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ-  وَ اعْلَمْ أَنَّ مَا قَرَّبَكَ مِنَ اللَّهِ يُبَاعِدُكَ مِنَ النَّارِ-  وَ مَا بَاعَدَكَ مِنَ اللَّهِ يُقَرِّبُكَ مِنَ النَّارِ روي و حلمك-  و القرب من الله هو القرب من ثوابه-  و لا شبهة أن ما قرب من الثواب باعد من العقاب-  و بالعكس لتنافيهما- . فأما وصيته له أن يسع الناس بوجهه و مجلسه و حكمه-  فقد تقدم شرح مثله-  و كذلك القول في الغضب- . و طيرة من الشيطان بفتح الطاء و سكون الياء-  أي خفة و طيش-  قال الكميت

  و حلمك عز إذا ما حلمت
و طيرتك الصاب و الحنظل‏

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 18

نامه 75 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

75 و من كتاب له ع إلى معاوية من المدينة-  في أول ما بويع له بالخلافة

ذكره الواقدي في كتاب الجمل: مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ-  إِلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ-  أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ عَلِمْتَ إِعْذَارِي فِيكُمْ-  وَ إِعْرَاضِي عَنْكُمْ-  حَتَّى كَانَ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ وَ لَا دَفْعَ لَهُ-  وَ الْحَدِيثُ طَوِيلٌ وَ الْكَلَامُ كَثِيرٌ-  وَ قَدْ أَدْبَرَ مَا أَدْبَرَ-  وَ أَقْبَلَ مَا أَقْبَلَ-  فَبَايِعْ مَنْ قِبَلَكَ-  وَ أَقْبِلْ إِلَيَّ فِي وَفْدٍ مِنْ أَصْحَابِكَ وَ السَّلَامُ كتابه إلى معاوية و مخاطبته لبني أمية جميعا-  قال و قد علمت إعذاري فيكم-  أي كوني ذا عذر لو لمتكم أو ذممتكم-  يعني في أيام عثمان- .

ثم قال و إعراضي عنكم-  أي مع كوني ذا عذر لو فعلت ذلك فلم أفعله-  بل أعرضت عن إساءتكم إلي و ضربت عنكم صفحا-  حتى كان ما لا بد منه-  يعني قتل عثمان و ما جرى من الرجبة بالمدينة- . ثم قاطعه الكلام مقاطعة و قال له-  و الحديث طويل و الكلام كثير-  و قد أدبر ذلك الزمان و أقبل زمان آخر-  فبايع و أقدم فلم يبايع و لا قدم-  و كيف يبايع‏و عينه طامحة إلى الملك و الرئاسة-  منذ أمره عمر على الشام و كان عالي الهمة-  تواقا إلى معالي الأمور-  و كيف يطيع عليا و المحرضون له على حربه عدد الحصى-  و لو لم يكن إلا الوليد بن عقبة لكفى-  و كيف يسمع قوله- 

   فو الله ما هند بأمك إن مضى النهار
و لم يثأر بعثمان ثائر

أ يقتل عبد القوم سيد أهله‏
و لم تقتلوه ليت أمك عاقر

و من عجب أن بت بالشام وادعا
قريرا و قد دارت عليه الدوائر

 و يطيع عليا و يبايع له-  و يقدم عليه و يسلم نفسه إليه-  و هو نازل بالشام في وسط قحطان و دونه منهم حرة لا ترام-  و هم أطوع له من نعله-  و الأمر قد أمكنه الشروع فيه-  و تالله لو سمع هذا التحريض-  أجبن الناس و أضعفهم نفسا و أنقصهم همة-  لحركه و شحذ من عزمه-  فكيف معاوية-  و قد أيقظ الوليد بشعره من لا ينام

 شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 18

نامه 74 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

74 و من حلف له ع كتبه بين ربيعة و اليمن

–  و نقل من خط هشام بن الكلبي: هَذَا مَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْيَمَنِ-  حَاضِرُهَا وَ بَادِيهَا-  وَ رَبِيعَةُ حَاضِرُهَا وَ بَادِيهَا-  أَنَّهُمْ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ يَدْعُونَ إِلَيْهِ-  وَ يَأْمُرُونَ بِهِ وَ يُجِيبُونَ مَنْ دَعَا إِلَيْهِ وَ أَمَرَ بِهِ-  لَا يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا-  وَ لَا يَرْضَوْنَ بِهِ بَدَلًا-  وَ أَنَّهُمْ يَدٌ وَاحِدَةٌ عَلَى مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ وَ تَرَكَهُ-  وَ أَنَّهُمْ أَنْصَارٌ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ-  دَعْوَتُهُمْ وَاحِدَةٌ-  لَا يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ لِمَعْتَبَةِ عَاتِبٍ-  وَ لَا لِغَضَبِ غَاضِبٍ-  وَ لَا لِاسْتِذْلَالِ قَوْمٍ قَوْماً-  وَ لَا لِمَسَبَّةِ قَوْمٍ قَوْماً-  عَلَى ذَلِكَ شَاهِدُهُمْ وَ غَائِبُهُمْ-  وَ سَفِيهُهُمْ وَ عَالِمُهُمْ وَ حَلِيمُهُمْ وَ جَاهِلُهُمْ-  ثُمَّ إِنَّ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ عَهْدَ اللَّهِ وَ مِيثَاقَهُ-  إِنَّ عَهْدَ اللَّهِ كَانَ مَسْئُولًا-  وَ كَتَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الحلف العهد أي و من كتاب حلف فحذف المضاف-  و اليمن كل من ولده قحطان نحو حمير و عك-  و جذام و كندة و الأزد و غيرهم- . و ربيعة هو ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان-  و هم بكر و تغلب و عبد القيس- . و هشام هو هشام بن محمد بن السائب الكلبي-  نسابة ابن نسابة عالم بأيام العرب و أخبارها-  و أبوه أعلم منه و هو يروى عن أبيه- .

 

و الحاضر ساكنو الحضر-  و البادي ساكنو البادية-  و اللفظ لفظ المفرد و المعنى الجمع- . قوله إنهم على كتاب الله-  حرف الجر يتعلق بمحذوف أي مجتمعون- . قوله لا يشترون به ثمنا قليلا-  أي لا يتعوضون عنه بالثمن فسمى التعوض اشتراء-  و الأصل هو أن يشترى الشي‏ء بالثمن لا الثمن بالشي‏ء-  لكنه من باب اتساع العرب-  و هو من ألفاظ القرآن العزيز- .

و إنهم يد واحدة أي لا خلف بينهم- . قوله لمعتبة عاتب-  أي لا يؤثر في هذا العهد و الحلف-  و لا ينقضه أن يعتب أحد منهم على بعضهم-  لأنه استجداه فلم يجده-  أو طلب منه أمرا فلم يقم به-  و لا لأن أحدا منهم غضب من أمر صدر من صاحبه-  و لا لأن عزيزا منهم استذل ذليلا منهم-  و لا لأن إنسانا منهم سب أو هجا بعضهم-  فإن أمثال هذه الأمور يتعذر ارتفاعها بين الناس-  و لو كانت تنقض الحلف لما كان حلف أصلا- .

و اعلم أنه قد ورد في الحديث عن النبي ص كل حلف كان في الجاهلية فلا يزيده الإسلام إلا شدة-  و لا حلف في الإسلام-  لكن فعل أمير المؤمنين ع أولى بالاتباع من خبر الواحد-  و قد تحالفت العرب في الإسلام مرارا-  و من أراد الوقوف على ذلك-  فليطلبه من كتب التواريخ

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 18

نامه 73 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

73 و من كتاب له ع إلى معاوية

أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي عَلَى التَّرَدُّدِ فِي جَوَابِكَ-  وَ الِاسْتِمَاعِ إِلَى كِتَابِكَ-  لَمُوَهِّنٌ رَأْيِي وَ مُخَطِّئٌ فِرَاسَتِي-  وَ إِنَّكَ إِذْ تُحَاوِلُنِي الْأُمُورَ-  وَ تُرَاجِعُنِي السُّطُورَ-  كَالْمُسْتَثْقِلِ النَّائِمِ تَكْذِبُهُ أَحْلَامُهُ-  وَ الْمُتَحَيِّرِ الْقَائِمِ يَبْهَظُهُ مَقَامُهُ-  لَا يَدْرِي أَ لَهُ مَا يَأْتِي أَمْ عَلَيْهِ-  وَ لَسْتَ بِهِ غَيْرَ أَنَّهُ بِكَ شَبِيهٌ-  وَ أُقْسِمُ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَوْ لَا بَعْضُ الِاسْتِبْقَاءِ-  لَوَصَلَتْ مِنِّي إِلَيْكَ قَوَارِعُ تَقْرَعُ الْعَظْمَ-  وَ تَنْهَسُ اللَّحْمَ-  وَ اعْلَمْ أَنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ ثَبَّطَكَ-  عَنْ أَنْ تُرَاجِعَ أَحْسَنَ أُمُورِكَ-  وَ تَأْذَنَ لِمَقَالِ نَصِيحِكَ وَ السَّلَامُ لِأَهْلِهِ روي نوازع جمع نازعة أي جاذبة قالعة-  و روي تهلس اللحم و تلهس بتقديم اللام-  و تهلس بكسر اللام-  تذيبه حتى يصير كبدن به الهلاس و هو السل-  و أما تلهس فهو بمعنى تلحس أبدلت الحاء هاء-  و هو عن لحست كذا بلساني بالكسر-  ألحسه أي تأتي على اللحم حتى تلحسه لحسا-  لأن الشي‏ء إنما يلحس إذا ذهب و بقي أثره-  و أما ينهس و هي الرواية المشهورة فمعناه يعترق- .

 

و تأذن بفتح الذال أي تسمع- . قوله ع إني لموهن رأيي بالتشديد-  أي إني لائم نفسي-  و مستضعف رأيي في أن جعلتك نظيرا-  أكتب و تجيبني و تكتب و أجيبك-  و إنما كان ينبغي أن يكون جواب مثلك السكوت لهوانك- . فإن قلت فما معنى قوله على التردد- . قلت ليس معناه التوقف-  بل معناه الترداد و التكرار-  أي أنا لائم نفسي-  على أني أكرر تارة بعد تارة أجوبتك عما تكتبه ثم قال-  و إنك في مناظرتي و مقاومتي بالأمور التي تحاولها-  و الكتب التي تكتبها كالنائم يرى أحلاما كاذبة-  أو كمن قام مقاما بين يدي سلطان-  أو بين قوم عقلاء ليعتذر عن أمر-  أو ليخطب بأمر في نفسه-  قد بهظه مقامه ذلك-  أي أثقله فهو لا يدري هل ينطق بكلام هو له أم عليه-  فيتحير و يتبلد و يدركه العمى و الحصر- .

قال و إن كنت لست بذلك الرجل فإنك شبيه به-  أما تشبيهه بالنائم ثم ذي الأحلام-  فإن معاوية لو رأى في المنام في حياة رسول الله ص أنه خليفة-  يخاطب بإمرة المؤمنين و يحارب عليا على الخلافة-  و يقوم في المسلمين مقام رسول الله ص-  لما طلب لذلك المنام تأويلا و لا تعبيرا-  و لعده من وساوس الخيال و أضغاث الأحلام-  و كيف و أنى له أن يخطر هذا بباله-  و هو أبعد الخلق منه-  و هذا كما يخطر للنفاط أن يكون ملكا-  و لا تنظرن إلى نسبه في المناقب-  بل انظر إلى أن‏الإمامة هي نبوة مختصره-  و أن الطليق المعدود من المؤلفة قلوبهم-  المكذب بقلبه و أن أقر بلسانه-  الناقص المنزلة عند المسلمين-  القاعد في أخريات الصف- 

إذا دخل إلى مجلس فيه أهل السوابق من المهاجرين-  كيف يخطر ببال أحد أنها تصير فيه-  و يملكها و يسمه الناس وسمها-  و يكون للمؤمنين أميرا-  و يصير هو الحاكم في رقاب أولئك العظماء-  من أهل الدين و الفضل-  و هذا أعجب من العجب-  أن يجاهد النبي ص قوما بسيفه و لسانه ثلاثا و عشرين سنة-  و يلعنهم و يبعدهم عنه-  و ينزل القرآن بذمهم و لعنهم و البراءة منهم-  فلما تمهدت له الدولة-  و غلب الدين على الدنيا-  و صارت شريعة دينية محكمة-  مات فشيد دينه الصالحون من أصحابه-  و أوسعوا رقعة ملته-  و عظم قدرها في النفوس-  فتسلمها منهم أولئك الأعداء-  الذين جاهدهم النبي ص فملكوها و حكموا فيها-  و قتلوا الصلحاء و الأبرار-  و أقارب نبيهم الذين يظهرون طاعته-  و آلت تلك الحركة الأولى و ذلك الاجتهاد السابق-  إلى أن كان ثمرته لهم-  فليته كان يبعث فيرى معاوية الطليق و ابنه-  و مروان و ابنه خلفاء في مقامه يحكمون على المسلمين-  فوضح أن معاوية فيما يراجعه و يكاتبه به-  كصاحب الأحلام- .

و أما تشبيهه إياه بالقائم مقاما قد بهظه-  فلأن الحجج و الشبه و المعاذير-  التي يذكرها معاوية في كتبه أوهن من نسج العنكبوت-  فهو حال ما يكتب كالقائم ذلك المقام-  يخبط خبط العشواء-  و يكتب ما يعلم هو و العقلاء من الناس أنه سفه و باطل- . فإن قلت فما معنى قوله ع-  لو لا بعض الاستبقاء-  و هل كانت الحال تقتضي أن يستبقي-  و ما تلك القوارع التي أشار إليها- .

 

قلت قد قيل-  إن النبي ص فوض إليه أمر نسائه بعد موته-  و جعل إليه أن يقطع عصمة أيتهن شاء إذا رأى ذلك-  و له من الصحابة جماعة يشهدون له بذلك-  فقد كان قادرا على أن يقطع عصمة أم حبيبة-  و يبيح نكاحها الرجال عقوبة لها و لمعاوية أخيها-  فإنها كانت تبغض عليا كما يبغضه أخوها-  و لو فعل ذلك لانتهس لحمه-  و هذا قول الإمامية-  و قد رووا عن رجالهم أنه ع تهدد عائشة بضرب من ذلك-  و أما نحن فلا نصدق هذا الخبر-  و نفسر كلامه على معنى آخر-  و هو أنه قد كان معه من الصحابة قوم كثيرون-  سمعوا من رسول الله ص يلعن معاوية بعد إسلامه-  و يقول إنه منافق كافر و إنه من أهل النار-  و الأخبار في ذلك مشهورة-  فلو شاء أن يحمل إلى أهل الشام-  خطوطهم و شهاداتهم بذلك-  و يسمعهم قولهم ملافظة و مشافهة لفعل-  و لكنه رأى العدول عن ذلك-  مصلحة لأمر يعلمه هو ع-  و لو فعل ذلك لانتهس لحمه و إنما أبقى عليه- . و قلت لأبي زيد البصري لم أبقى عليه-  فقال و الله ما أبقى عليه مراعاة له و لا رفقا به-  و لكنه خاف أن يفعل كفعله-  فيقول لعمرو بن العاص و حبيب بن مسلمة-  و بسر بن أبي أرطاة و أبي الأعور و أمثالهم-  ارووا أنتم عن النبي ص-  أن عليا ع منافق من أهل النار-  ثم يحمل ذلك إلى أهل العراق-  فلهذا السبب أبقى عليه

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 18

نامه 72 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

72 و من كتاب له ع إلى عبد الله بن العباس رضي الله عنه

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكَ لَسْتُ بِسَابِقٍ أَجَلَكَ-  وَ لَا مَرْزُوقٍ مَا لَيْسَ لَكَ-  وَ اعْلَمْ بِأَنَّ الدَّهْرَ يَوْمَانِ-  يَوْمٌ لَكَ وَ يَوْمٌ عَلَيْكَ-  وَ أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ دُوَلٍ-  فَمَا كَانَ مِنْهَا لَكَ أَتَاكَ عَلَى ضَعْفِكَ-  وَ مَا كَانَ مِنْهَا عَلَيْكَ لَمْ تَدْفَعْهُ بِقُوَّتِكَ قد تقدم شرح مثل هذا الكلام-  و هذا معنى مطروق-  قد قال الناس فيه فأكثروا-  قال الشاعر

قد يرزق العاجز الضعيف و ما
شد بكور رحلا و لا قتبا

و يحرم المرء ذو الجلادة و الرأي‏
و من لا يزال مغتربا

و من جيد ما قيل في هذا المعنى- قول أبي يعقوب الخريمي-

هل الدهر إلا صرفه و نوائبه
و سراء عيش زائل و مصائبه‏

يقول الفتى ثمرت مالي و إنما
لوارثه ما ثمر المال كاسبه‏

يحاسب فيه نفسه في حياته
و يتركه نهبا لمن لا يحاسبه‏

فكله و أطعمه و خالسه وارثا
شحيحا و دهرا تعتريك نوائبه‏

أرى المال و الإنسان للدهر نهبة
فلا البخل مبقية و لا الجود خاربه‏

لكل امرئ رزق و للرزق جالب‏
و ليس يفوت المرء ما خط كاتبه‏

يخيب الفتى من حيث يرزق غيره
و يعطى الفتى من حيث يحرم صاحبه‏

يساق إلى ذا رزقه و هو وادع‏
و يحرم هذا الرزق و هو يغالبه‏

و إنك لا تدري أ رزقك في الذي
تطالبه أم في الذي لا تطالبه‏

تناس ذنوب الأقربين فإنه‏
لكل حميم راكب هو راكبه‏

له هفوات في الرخاء يشوبها
بنصرة يوم لا توارى كواكبه‏

تراه غدوا ما أمنت و تتقي‏
بجبهته يوم الوغى من يحاربه‏

لكل امرئ إخوان بؤس و نعمة
و أعظمهم في النائبات أقاربه‏

 

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 18

نامه 71 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

71 و من كتاب له ع إلى المنذر بن الجارود العبدي

و قد كان استعمله على بعض النواحي-  فخان الأمانة في بعض ما ولاه من أعماله: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ صَلَاحَ أَبِيكَ غَرَّنِي مِنْكَ-  وَ ظَنَنْتُ أَنَّكَ تَتَّبِعُ هَدْيَهُ-  وَ تَسْلُكُ سَبِيلَهُ-  فَإِذَا أَنْتَ فِيمَا رُقِّيَ إِلَيَّ عَنْكَ لَا تَدَعُ لِهَوَاكَ انْقِيَاداً-  وَ لَا تُبْقِي لآِخِرَتِكَ عَتَاداً-  تَعْمُرُ دُنْيَاكَ بِخَرَابِ آخِرَتِكَ-  وَ تَصِلُ عَشِيرَتَكَ بِقَطِيعَةِ دِينِكَ-  وَ لَئِنْ كَانَ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ حَقّاً-  لَجَمَلُ أَهْلِكَ وَ شِسْعُ نَعْلِكَ خَيْرٌ مِنْكَ-  وَ مَنْ كَانَ بِصِفَتِكَ فَلَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يُسَدَّ بِهِ ثَغْرٌ-  أَوْ يُنْفَذَ بِهِ أَمْرٌ أَوْ يُعْلَى لَهُ قَدْرٌ-  أَوْ يُشْرَكَ فِي أَمَانَةٍ أَوْ يُؤْمَنَ عَلَى جِبَايَةٍ-  فَأَقْبِلْ إِلَيَّ حِينَ يَصِلُ إِلَيْكَ كِتَابِي هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ: قال الرضي رضي الله عنه: المنذر بن الجارود-  هذا هو الذي قال فيه أمير المؤمنين ع-  إنه لنظار في عطفيه مختال في برديه-  تفال في شراكيه‏

 

 ذكر المنذر و أبيه الجارود

هو المنذر بن الجارود-  و اسم الجارود بشر بن خنيس بن المعلى-  و هو الحارث بن زيد بن حارثة بن معاوية بن ثعلبة-  بن جذيمة بن عوف بن أنمار بن عمرو بن وديعة-  بن لكيز بن أفصى بن عبد القيس بن أفصى-  بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة-  بن نزار بن معد بن عدنان-  بيتهم بيت الشرف في عبد القيس-  و إنما سمي الجارود لبيت قاله بعض الشعراء فيه في آخره- .

كما جرد الجارود بكر بن وائل‏

و وفد الجارود على النبي ص في سنة تسع-  و قيل في سنة عشر- . و ذكر أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب-  أنه كان نصرانيا فأسلم و حسن إسلامه-  و كان قد وفد مع المنذر بن ساوى في جماعة من عبد القيس-  و قال

 شهدت بأن الله حق و سامحت
بنات فؤادي بالشهادة و النهض‏

فأبلغ رسول الله مني رسالة
بأني حنيف حيث كنت من الأرض‏

قال و قد اختلف في نسبه اختلافا كثيرا-  فقيل بشر بن المعلى بن خنيس-  و قيل بشر بن خنيس بن المعلى-  و قيل بشر بن عمرو بن العلاء-  و قيل بشر بن عمرو بن المعلى-  و كنيته أبو عتاب و يكنى أيضا أبا المنذر- . و سكن الجارود البصرة و قتل بأرض فارس-  و قيل بل قتل بنهاوند مع النعمان بن مقرن-  و قيل إن عثمان بن العاص بعث الجارود في بعث نحو ساحل فارس-  فقتل‏بموضع يعرف بعقبة الجارود-  و كان قبل ذلك يعرف بعقبة الطين-  فلما قتل الجارود فيه عرفه الناس بعقبة الجارود-  و ذلك في سنة إحدى و عشرين- . و قد روي عن النبي ص أحاديث و روي عنه-  و أمه دريمكة بنت رويم الشيبانية- .

و قال أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتاب التاج-  إن رسول الله ص أكرم الجارود و عبد القيس حين وفدا إليه-  و قال للأنصار قوموا إلى إخوانكم-  و أشبه الناس بكم-  قال لأنهم أصحاب نخل-  كما أن الأوس و الخزرج أصحاب نخل-  و مسكنهم البحرين و اليمامة-  قال أبو عبيدة و قال عمر بن الخطاب لو لا أني سمعت رسول الله ص يقول إن هذا الأمر لا يكون إلا في قريش

لما عدلت بالخلافة عن الجارود بن بشر بن المعلى-  و لا تخالجني في ذلك الأمور- . قال أبو عبيدة-  و لعبد القيس ست خصال فاقت بها على العرب-  منها أسود العرب بيتا-  و أشرفهم رهطا الجارود هو و ولده- . و منها أشجع العرب حكيم بن جبلة-  قطعت رجله يوم الجمل-  فأخذها بيده و زحف على قاتله فضربه بها حتى قتله-  و هو يقول

  يا نفس لا تراعي
إن قطعت كراعي‏
إن معي ذراعي‏

 فلا يعرف في العرب أحد صنع صنيعه- . و منها أعبد العرب هرم بن حيان-  صاحب أويس القرني- . و منها أجود العرب عبد الله بن سواد بن همام-  غزا السند في أربعة آلاف-  ففتحها و أطعم الجيش كله ذاهبا و قافلا-  فبلغه أن رجلا من الجيش مرض فاشتهى خبيصا-فأمر باتخاذ الخبيص لأربعة آلاف إنسان-  فأطعمهم حتى فضل و تقدم إليهم-  ألا يوقد أحد منهم نارا لطعام في عسكره مع ناره- . و منها أخطب العرب مصقلة بن رقبة-  به يضرب المثل فيقال أخطب من مصقلة- . و منها أهدى العرب في الجاهلية-  و أبعدهم مغارا و أثرا في الأرض في عدوه-  و هو دعيميص الرمل كان يعرف بالنجوم هداية-  و كان أهدى من القطا-  يدفن بيض النعام في الرمل مملوءا ماء-  ثم يعود إليه فيستخرجه- .

فأما المنذر بن الجارود فكان شريفا-  و ابنه الحكم بن المنذر يتلوه في الشرف-  و المنذر غير معدود في الصحابة-  و لا رأى رسول الله ص و لا ولد له في أيامه-  و كان تائها معجبا بنفسه-  و في الحكم ابنه يقول الراجز- 

    يا حكم بن المنذر بن الجارود
أنت الجواد ابن الجواد المحمود
سرادق المجد عليك ممدود

  و كان يقال-  أطوع الناس في قومه الجارود بن بشر بن المعلى-  لما قبض رسول الله ص فارتدت العرب-  خطب قومه فقال أيها الناس-  إن كان محمد قد مات فإن الله حتى لا يموت-  فاستمسكوا بدينكم-  و من ذهب له في هذه الفتنة-  دينار أو درهم أو بقرة أو شاة فعلي مثلاه-  فما خالفه من عبد القيس أحد- .

قوله ع إن صلاح أبيك غرني منك-  قد ذكرنا حال الجارود و صحبته و صلاحه-  و كثيرا ما يغتر الإنسان بحال الآباء-  فيظن أن الأبناء على منهاجهم-  فلا يكون و الأمر كذلك-  يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ- . قوله فيما رقي بالتشديد أي فيما رفع إلي-  و أصله أن يكون الإنسان في موضع عال‏ فيرقى إليه شي‏ء-  و كان العلو هاهنا-  هو علو المرتبة بين الإمام و الأمير-  و نحوه قولهم تعال باعتبار علو رتبة الآمر على المأمور-  و اللام في لهواك متعلقة بمحذوف دل عليه انقيادا-  و لا يتعلق بنفس انقياد-  لأن المتعلق من حروف الجر بالمصدر-  لا يجوز أن يتقدم على المصدر- . و العتاد العدة- .

قوله و تصل عشيرتك-  كان فيما رقي إليه عنه أنه يقتطع المال-  و يفيضه على رهطه و قومه-  و يخرج بعضه في لذاته و مآربه- . قوله لجمل أهلك-  العرب تضرب بالجمل المثل في الهوان قال- 

 لقد عظم البعير بغير لب
و لم يستغن بالعظم البعير

يصرفه الصبي بكل وجه‏
و يحبسه على الخسف الجرير

و تضربه الوليدة بالهراوى
فلا غير لديه و لا نكير

فأما شسع النعل فضرب المثل بها في الاستهانة مشهور-  لابتذالها و وطئها الأقدام في التراب- . ثم ذكر أنه من كان بصفته فليس بأهل لكذا و لا كذا-  إلى أن قال أو يشرك في أمانة-  و قد جعل الله تعالى البلاد و الرعايا أمانة في ذمة الإمام-  فإذا استعمل العمال على البلاد و الرعايا-  فقد شركهم في تلك الأمانة- . قال أو يؤمن على جباية-  أي على استجباء الخراج و جمعه-  و هذه الرواية التي سمعناها-  و من الناس من يرويها على خيانة-  و هكذا رواها الراوندي-  و لم يرو الرواية الصحيحة التي ذكرناها نحن-  و قال يكون على متعلقة بمحذوف-  أو بيؤمن نفسها و هو بعيد و متكلف- .

ثم أمره أن يقبل إليه-  و هذه كناية عن العزل- . فأما الكلمات التي ذكرها الرضي عنه ع في أمر المنذر-  فهي دالة على أنه نسبه إلى التيه و العجب-  فقال نظار في عطفيه أي جانبيه-  ينظر تارة هكذا و تارة هكذا-  ينظر لنفسه و يستحسن هيئته و لبسته-  و ينظر هل عنده نقص في ذلك أو عيب فيستدركه بإزالته-  كما يفعل أرباب الزهو و من يدعي لنفسه الحسن و الملاحة- .

قال مختال في برديه-  يمشي الخيلاء عجبا-  قال محمد بن واسع لابن له-  و قد رآه يختال في برد له ادن-  فدنا فقال من أين جاءتك هذه الخيلاء ويلك-  أما أمك فأمة ابتعتها بمائتي درهم-  و أما أبوك فلا أكثر الله في الناس أمثاله- . قوله تفال في شراكيه-  الشراك السير الذي يكون في النعل على ظهر القدم- . و التفل بالسكون مصدر تفل أي بصق-  و التفل محركا البصاق نفسه-  و إنما يفعله المعجب و التائه في شراكيه-  ليذهب عنهما الغبار و الوسخ-  يتفل فيهما و يمسحهما ليعودا كالجديدين

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 18

نامه 70 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

70 و من كتاب له ع إلى سهل بن حنيف الأنصاري-  و هو عامله على المدينة-  في معنى قوم من أهلها لحقوا بمعاوية

أَمَّا بَعْدُ-  فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالًا مِمَّنْ قِبَلَكَ يَتَسَلَّلُونَ إِلَى مُعَاوِيَةَ-  فَلَا تَأْسَفْ عَلَى مَا يَفُوتُكَ مِنْ عَدَدِهِمْ-  وَ يَذْهَبُ عَنْكَ مِنْ مَدَدِهِمْ-  فَكَفَى لَهُمْ غَيّاً-  وَ لَكَ مِنْهُمْ شَافِياً فِرَارُهُمْ مِنَ الْهُدَى وَ الْحَقِّ-  وَ إِيضَاعُهُمْ إِلَى الْعَمَى وَ الْجَهْلِ-  فَإِنَّمَا هُمْ أَهْلُ دُنْيَا مُقْبِلُونَ عَلَيْهَا وَ مُهْطِعُونَ إِلَيْهَا-  قَدْ عَرَفُوا الْعَدْلَ وَ رَأَوْهُ وَ سَمِعُوهُ وَ وَعَوْهُ-  وَ عَلِمُوا أَنَّ النَّاسَ عِنْدَنَا فِي الْحَقِّ أُسْوَةٌ-  فَهَرَبُوا إِلَى الْأَثَرَةِ-  فَبُعْداً لَهُمْ وَ سُحْقاً-  إِنَّهُمْ وَ اللَّهِ لَمْ يَفِرُّوا مِنْ جَوْرٍ-  وَ لَمْ يَلْحَقُوا بِعَدْلٍ-  وَ إِنَّا لَنَطْمَعُ فِي هَذَا الْأَمْرِ أَنْ يُذَلِّلَ اللَّهُ لَنَا صَعْبَهُ-  وَ يُسَهِّلَ لَنَا حَزْنَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ-  وَ السَّلَامُ عَلَيْكَ وَ رَحْمَةُ اللَّهِ وَ بَرَكَاتُهُ قد تقدم نسب سهل بن حنيف-  و أخيه عثمان فيما مضى- . و يتسللون يخرجون إلى معاوية هاربين في خفية و استتار- . قال فلا تأسف أي لا تحزن-  و الغي الضلال- . قال و لك منهم شافيا-  أي يكفيك في الانتقام منهم و شفاء النفس من عقوبتهم-  أنهم يتسللون إلى معاوية- .

 قال ارض لمن غاب عنك غيبته-  فذاك ذنب عقابه فيه- . و الإيضاع الإسراع-  وضع البعير أي أسرع و أوضعه صاحبه-  قال

  رأى برقا فأوضع فوق بكر
فلا يك ما أسال و لا أعاما

و مهطعون مسرعون أيضا-  و الأثرة الاستئثار-  يقول قد عرفوا أني لا أقسم إلا بالسوية-  و أني لا أنفل قوما على قوم-  و لا أعطي على الأحساب و الأنساب كما فعل غيري-  فتركوني و هربوا إلى من يستأثر و يؤثر- . قال فبعدا لهم و سحقا-  دعاء عليهم بالبعد و الهلاك- . و روي أنهم لم ينفروا بالنون من نفر-  ثم ذكر أنه راج من الله-  أن يذلل له صعب هذا الأمر و يسهل له حزنه-  و الحزن ما غلظ من الأرض-  و ضده السهل

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 18

نامه 69 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)( كتبه إلى الحارث الهمداني)

69 و من كتاب له ع كتبه إلى الحارث الهمداني

وَ تَمَسَّكْ بِحَبْلِ الْقُرْآنِ وَ انْتَصِحْهُ-  وَ أَحِلَّ حَلَالَهُ وَ حَرِّمْ حَرَامَهُ-  وَ صَدِّقْ بِمَا سَلَفَ مِنَ الْحَقِّ-  وَ اعْتَبِرْ بِمَا مَضَى مِنَ الدُّنْيَا لِمَا بَقِيَ مِنْهَا-  فَإِنَّ بَعْضَهَا يُشْبِهُ بَعْضاً-  وَ آخِرَهَا لَاحِقٌ بِأَوَّلِهَا-  وَ كُلُّهَا حَائِلٌ مُفَارِقٌ-  وَ عَظِّمِ اسْمَ اللَّهِ أَنْ تَذْكُرَهُ إِلَّا عَلَى حَقٍّ-  وَ أَكْثِرْ ذِكْرَ الْمَوْتِ وَ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ-  وَ لَا تَتَمَنَّ الْمَوْتَ إِلَّا بِشَرْطٍ وَثِيقٍ-  وَ احْذَرْ كُلَّ عَمَلٍ يَرْضَاهُ صَاحِبُهُ لِنَفْسِهِ-  وَ يَكْرَهُهُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ-  وَ احْذَرْ كُلَّ عَمَلٍ يُعْمَلُ بِهِ فِي السِّرِّ-  وَ يُسْتَحَى مِنْهُ فِي الْعَلَانِيَةِ-  وَ احْذَرْ كُلَّ عَمَلٍ إِذَا سُئِلَ عَنْهُ صَاحِبُهُ أَنْكَرَهُ وَ اعْتَذَرَ مِنْهُ-  وَ لَا تَجْعَلْ عِرْضَكَ غَرَضاً لِنِبَالِ الْقَوْمِ-  وَ لَا تُحَدِّثِ النَّاسَ بِكُلِّ مَا سَمِعْتَ بِهِ-  فَكَفَى بِذَلِكَ كَذِباً-  وَ لَا تَرُدَّ عَلَى النَّاسِ كُلَّ مَا حَدَّثُوكَ بِهِ-  فَكَفَى بِذَلِكَ جَهْلًا-  وَ اكْظِمِ الْغَيْظَ وَ احْلُمْ عِنْدَ الْغَضَبِ-  وَ تَجَاوَزْ عِنْدَ الْمَقْدِرَةِ-  وَ اصْفَحْ مَعَ الدَّوْلَةِ تَكُنْ لَكَ الْعَاقِبَةُ-  وَ اسْتَصْلِحْ كُلَّ نِعْمَةٍ أَنْعَمَهَا اللَّهُ عَلَيْكَ-  وَ لَا تُضَيِّعَنَّ نِعْمَةً مِنْ نِعَمِ اللَّهِ عِنْدَكَ-  وَ لْيُرَ عَلَيْكَ أَثَرُ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكَ-  وَ اعْلَمْ أَنَّ أَفْضَلَ الْمُؤْمِنِينَ-  أَفْضَلُهُمْ تَقْدِمَةً مِنْ نَفْسِهِ وَ أَهْلِهِ وَ مَالِهِ-  وَ إِنَّكَ مَا تُقَدِّمْ مِنْ خَيْرٍ يَبْقَ لَكَ ذُخْرُهُ-  وَ مَا تُؤَخِّرْهُ يَكُنْ لِغَيْرِكَ خَيْرُهُ-وَ احْذَرْ صَحَابَةَ مَنْ يَفِيلُ رَأْيُهُ-  وَ يُنْكَرُ عَمَلُهُ فَإِنَّ الصَّاحِبَ مُعْتَبَرٌ بِصَاحِبِهِ-  وَ اسْكُنِ الْأَمْصَارَ الْعِظَامَ فَإِنَّهَا جِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ-  وَ احْذَرْ مَنَازِلَ الْغَفْلَةِ وَ الْجَفَاءِ-  وَ قِلَّةَ الْأَعْوَانِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ-  وَ اقْصُرْ رَأْيَكَ عَلَى مَا يَعْنِيكَ-  وَ إِيَّاكَ وَ مَقَاعِدَ الْأَسْوَاقِ-  فَإِنَّهَا مَحَاضِرُ الشَّيْطَانِ وَ مَعَارِيضُ الْفِتَنِ-  وَ أَكْثِرْ أَنْ تَنْظُرَ إِلَى مَنْ فُضِّلْتَ عَلَيْهِ-  فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَبْوَابِ الشُّكْرِ-  وَ لَا تُسَافِرْ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ حَتَّى تَشْهَدَ الصَّلَاةَ-  إِلَّا فَاصِلًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ فِي أَمْرٍ تُعْذَرُ بِهِ-  وَ أَطِعِ اللَّهَ فِي جُمَلِ أُمُورِكَ-  فَإِنَّ طَاعَةَ اللَّهِ فَاضِلَةٌ عَلَى مَا سِوَاهَا-  وَ خَادِعْ نَفْسَكَ فِي الْعِبَادَةِ وَ ارْفُقْ بِهَا وَ لَا تَقْهَرْهَا-  وَ خُذْ عَفْوَهَا وَ نَشَاطَهَا-  إِلَّا مَا كَانَ مَكْتُوباً عَلَيْكَ مِنَ الْفَرِيضَةِ-  فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قَضَائِهَا وَ تَعَاهُدِهَا عِنْدَ مَحَلِّهَا-  وَ إِيَّاكَ أَنْ يَنْزِلَ بِكَ الْمَوْتُ-  وَ أَنْتَ آبِقٌ مِنْ رَبِّكَ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا-  وَ إِيَّاكَ وَ مُصَاحَبَةَ الْفُسَّاقِ-  فَإِنَّ الشَّرَّ بِالشَّرِّ مُلْحَقٌ-  وَ وَقِّرِ اللَّهَ وَ أَحْبِبْ أَحِبَّاءَهُ-  وَ احْذَرِ الْغَضَبَ فَإِنَّهُ جُنْدٌ مِنْ جُنُودِ إِبْلِيسَ-  وَ السَّلَامُ

الحارث الأعور و نسبه

هو الحارث الأعور صاحب أمير المؤمنين ع-  و هو الحارث بن عبد الله بن كعب بن أسد بن نخلة بن حرث-  بن سبع بن صعب بن معاوية الهمداني-  كان أحدالفقهاء له قول في الفتيا-  و كان صاحب علي ع-  و إليه تنسب الشيعة الخطاب الذي خاطبه به في قوله ع‏

  يا حار همدان من يمت يرني
من مؤمن أو منافق قبلا

 و هي أبيات مشهورة قد ذكرناها فيما تقدم

نبذ من الأقوال الحكيمة

و قد اشتمل هذا الفصل على وصايا جليلة الموقع-  منها قوله و تمسك بحبل القرآن-  جاء في الخبر المرفوع لما ذكر الثقلين-  فقال أحدهما كتاب الله-  حبل ممدود من السماء إلى الأرض-  طرف بيد الله و طرف بأيديكم- . و منها قوله انتصحه-  أي عده ناصحا لك فيما أمرك به و نهاك عنه- . و منها قوله و أحل حلاله و حرم حرامه-  أي احكم بين الناس في الحلال و الحرام بما نص عليه القرآن- . و منها قوله و صدق بما سلف من الحق-  أي صدق بما تضمنه القرآن من أيام الله-  و مثلاته في الأمم السالفة لما عصوا و كذبوا- . و منها قوله و اعتبر بما مضى من الدنيا لما بقي منها-  و في المثل إذا شئت أن تنظر الدنيا بعدك فانظرها بعد غيرك-  و قال الشاعر- 

و ما نحن إلا مثلهم غير أننا
أقمنا قليلا بعدهم ثم نرحل‏

 و يناسب قوله و آخرها لاحق بأولها-  و كلها حائل مفارق-  قوله أيضا ع‏في غير هذا الفصل الماضي- للمقيم عبرة و الميت للحي عظة-  و ليس لأمس عودة و لا المرء من غد على ثقة-  الأول للأوسط رائد و الأوسط للأخير قائد-  و كل بكل لاحق و الكل للكل مفارق- . و منها قوله و عظم اسم الله أن تذكره إلا على حق-  قال الله سبحانه وَ لا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ-  و قد نهى عن الحلف بالله في الكذب و الصدق-  أما في أحدهما فمحرم و أما في الآخر فمكروه-  و لذلك لا يجوز ذكر اسمه تعالى-  في لغو القول و الهزء و العبث- .

و منها قوله و أكثر ذكر الموت و ما بعد الموت-  جاء في الخبر المرفوع أكثروا ذكر هاذم اللذات-  و ما بعد الموت العقاب و الثواب في القبر و في الآخرة- . و منها قوله و لا تتمن الموت إلا بشرط وثيق-  هذه كلمة شريفة عظيمة القدر-  أي لا تتمن الموت إلا و أنت واثق من أعمالك الصالحة-  أنها تؤديك إلى الجنة و تنقذك من النار-  و هذا هو معنى قوله تعالى لليهود-  إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ-  فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ-  وَ لا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ-  وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ- . و منها قوله و احذر كل عمل يرضاه صاحبه لنفسه-  و يكرهه لعامة المسلمين-  و احذر كل عمل يعمل في السر-  و يستحيا منه في العلانية-  و احذر كل عمل إذا سئل عنه صاحبه أنكره و اعتذر منه-  و هذه الوصايا الثلاث متقاربة في المعنى-  و يشملها معنى قول الشاعر- 

  لا تنه عن خلق و تأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم‏

 و قال الله تعالى حاكيا عن نبي من أنبيائه-  وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى‏ ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ- . و من كلام الجنيد الصوفي-  ليكن عملك من وراء سترك-  كعملك من وراء الزجاج الصافي-  و في المثل و هو منسوب إلى علي ع-  إياك و ما يعتذر منه- . و منها قوله و لا تجعل عرضك غرضا لنبال القوم-  قال الشاعر

  لا تستتر أبدا ما لا تقوم له
و لا تهيجن من عريسة الأسدا

إن الزنابير إن حركتها سفها
من كورها أوجعت من لسعها الجسدا

و قال

مقالة السوء إلى أهلها
أسرع من منحدر سائل‏

و من دعا الناس إلى ذمه‏
ذموه بالحق و بالباطل‏

 و منها قوله و لا تحدث الناس بكل ما سمعت-  فكفى بذلك كذبا-  قد نهى أن يحدث الإنسان بكل ما رأى من العجائب-  فضلا عما سمع-  لأن الحديث الغريب المعجب تسارع النفس إلى تكذيبه-  و إلى أن تقوم الدلالة على صدقه-  قد فرط من سوء الظن فيه ما فرط- . و يقال إن بعض العلوية- 

قال في حضرة عضد الدولة ببغداد-  عندنا في الكوفة نبق وزن كل نبقة مثقالان-  فاستطرف الملك ذلك و كاد يكذبه الحاضرون-  فلما قام ذكر ذلك لأبيه-  فأرسل حماما كان عنده في الحال إلى الكوفة-  يأمر وكلاءه بإرسال مائة حمامة-  في رجلي كل واحدة نبقتان من ذلك النبق-  فجاء النبق في بكرة الغد و حمل إلى عضد الدولة-  فاستحسنه و صدقه حينئذ-  ثم قال له لعمري لقد صدقت-و لكن لا تحدث فيما بعد بكل ما رأيت من الغرائب-  فليس كل وقت يتهيأ لك إرسال الحمام- . و كان يقال الناس يكتبون أحسن ما يسمعون-  و يحفظون أحسن ما يكتبون-  و يتحدثون بأحسن ما يحفظون-  و الأصدق نوع تحت جنس الأحسن و منها قوله و لا ترد على الناس كل ما حدثوك-  فكفى بذلك جهلا-  من الجهل المبادرة بإنكار ما يسمعه- 

و قال ابن سينا في آخر الإشارات-  إياك أن يكون تكيسك و تبرؤك من العامة-  هو أن تنبري منكرا لكل شي‏ء-  فلذلك عجز و طيش-  و ليس الخرق في تكذيبك ما لم يستبن لك بعد جليته-  دون الخرق في تصديقك بما لم تقم بين يديك بينة-  بل عليك الاعتصام بحبل التوقف-  و إن أزعجك استنكار ما يوعيه سمعك-  مما لم يبرهن على استحالته لك-  فالصواب أن تسرح أمثال ذلك إلى بقعة الإمكان-  ما لم يذدك عنها قائم البرهان- . و منها قوله و اكظم الغيظ-  قد مدح الله تعالى ذلك فقال-  وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ- 

و روي أن عبدا لموسى بن جعفر ع قدم إليه صحفة-  فيها طعام حار-  فعجل فصبها على رأسه و وجهه فغضب-  فقال له وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ قال قد كظمت-  قال وَ الْعافِينَ عَنِ النَّاسِ قال قد عفوت-  قال وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ-  قال أنت حر لوجه الله-  و قد نحلتك ضيعتي الفلانية- . و منها قوله و احلم عند الغضب-  هذه مناسبة الأولى-  و قد تقدم منا قول كثير في الحلم و فضله-  و كذلك القول في قوله ع-  و تجاوز عند القدرة-  و كان يقال القدرة تذهب الحفيظة- .

 

و منها قوله و اصفح مع الدولة تكن لك العاقبة-  هذه كانت شيمة رسول الله ص-  و شيمة علي ع-  أما شيمة رسول الله ص فظفر بمشركي مكة و عفا عنهم-  كما سبق القول فيه في عام الفتح-  و أما علي ع فظفر بأصحاب الجمل-  و قد شقوا عصا الإسلام عليه-  و طعنوا فيه و في خلافته فعفا عنهم-  مع علمه بأنهم يفسدون عليه أمره فيما بعد-  و يصيرون إلى معاوية-  إما بأنفسهم أو بآرائهم و مكتوباتهم-  و هذا أعظم من الصفح عن أهل مكة-  لأن أهل مكة لم يبق لهم لما فتحت فئة يتحيزون إليها-  و يفسدون الدين عندها- . و منها قوله و استصلح كل نعمة أنعمها الله عليك-  معنى استصلحها استدمها-  لأنه إذا استدامها فقد أصلحها-  فإن بقاءها صلاح لها و استدامتها بالشكر- . و منها قوله و لا تضيعن نعمة من نعم الله عندك-  أي واس الناس منها و أحسن إليهم-  و اجعل بعضها لنفسك و بعضها للصدقة و الإيثار-  فإنك إن لم تفعل ذلك تكن قد أضعتها- .

و منها قوله و لير عليك أثر النعمة-  قد أمر بأن يظهر الإنسان على نفسه-  آثار نعمة الله عليه-  و قال سبحانه وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ-  و قال الرشيد لجعفر قم بنا لنمضي إلى منزل الأصمعي-  فمضيا إليه خفية-  و معهما خادم معه ألف دينار ليدفع ذلك إليه-  فدخلا داره فوجدا كساء جرداء و بارية سملاء-  و حصيرا مقطوعا و خباء قديمة-  و أباريق من خزف و دواة من زجاج-  و دفاتر عليها التراب و حيطانا مملوءة من نسج العناكب-  فوجم الرشيد-  و سأله مسائل غشة لم تكن من غرضه-  و إنما قطع بها خجله-  و قال الرشيد لجعفر أ لا ترى إلى نفس هذا المهين-  قد بررناه بأكثر  من خمسين ألف دينار و هذه حاله-  لم تظهر عليه آثار نعمتنا-  و الله لا دفعت إليه شيئا-  و خرج و لم يعطه- .

و منها قوله و اعلم أن أفضل المؤمنين-  أفضلهم تقدمة من نفسه و أهله و ماله-  أي أفضلهم إنفاقا في البر و الخير من ماله-  و هي التقدمة-  قال الله تعالى وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ-  فأما النفس و الأهل فإن تقدمتهما في الجهاد-  و قد تكون التقدمة في النفس بأن يشفع شفاعة حسنة-  أو يحضر عند السلطان بكلام طيب و ثناء حسن-  و أن يصلح بين المتخاصمين و نحو ذلك-  و التقدمة في الأهل أن يحج بولده و زوجته-  و يكلفهما المشاق في طاعة الله-  و أن يؤدب ولده إن أذنب-  و أن يقيم عليه الحد و نحو ذلك- . و منها قوله و ما تقدم من خير يبق لك زخره-  و ما تؤخره يكن لغيرك خيره-  و قد سبق مثل هذا-  و أن ما يتركه الإنسان بعده فقد حرم نفعه-  و كأنما كان يكدح لغيره-  و ذلك من الشقاوة و قلة التوفيق- .

و منها قوله و احذر صحابة من يفيل رأيه-  الصحابة بفتح الصاد مصدر صحبت-  و الصحابة بالفتح أيضا جمع صاحب-  و المراد هاهنا الأول-  و فال رأيه فسد و هذا المعنى قد تكرر-  و قال طرفة

عن المرء لا تسأل و سل عن قرينه
فإن القرين بالمقارن يقتدي‏

 و منها قوله و اسكن الأمصار العظام-  قد قيل لا تسكن إلا في مصر فيه سوق قائمة-  و نهر جار و طبيب حاذق و سلطان عادل-  فأما منازل الغفلة و الجفاء-  فمثل قرى السواد الصغار-  فإن أهلها لا نور فيهم و لا ضوء عليهم-  و إنما هم كالدواب‏ و الأنعام-  همهم الحرث و الفلاحة-  و لا يفقهون شيئا أصلا-  فمجاورتهم تعمي القلب و تظلم الحس-  و إذا لم يجد الإنسان من يعينه على طاعة الله-  و على تعلم العلم قصر فيهما- . و منها قوله و اقصر رأيك على ما يعنيك-  كان يقال من دخل فيما لا يعنيه فاته ما يعنيه- . و منها نهيه إياه عن القعود في الأسواق-  قد جاء في المثل السوق محل الفسوق- .

و جاء في الخبر المرفوع الأسواق مواطن إبليس و جنده-  و ذلك لأنها قلما تخلو عن الأيمان الكاذبة-  و البيوع الفاسدة-  و هي أيضا مجمع النساء المومسات و فجار الرجال-  و فيها اجتماع أرباب الأهواء و البدع-  فلا يخلو أن يتجادل اثنان منهم-  في المذاهب و النحل فيفضي إلى الفتن- .

و منها قوله و انظر إلى من فضلت عليه-  كان يقال انظر إلى من دونك-  و لا تنظر إلى من فوقك-  و قد بين ع السر فيه فقال-  إن ذلك من أبواب الشكر-  و صدق ع لأنك إذا رأيت جاهلا و أنت عالم-  أو عالما و أنت أعلم منه-  أو فقيرا و أنت أغنى منه-  أو مبتلى بسقم و أنت معافى عنه-  كان ذلك باعثا و داعيا لك إلى الشكر- . و منها نهيه عن السفر يوم الجمعة-  ينبغي أن يكون هذا النهي-  عن السفر يوم الجمعة قبل الصلاة-  و أما بعد الصلاة فلا بأس به-  و استثنى فقال إلا فاصلا في سبيل الله-  أي شاخصا إلى الجهاد- . قال أو في أمر تعذر به-  أي لضرورة دعتك إلى ذلك- .

 

و قد ورد نهي كثير عن السفر يوم الجمعة-  قبل أداء الفرض-  على أن من الناس من كره ذلك بعد الصلاة أيضا-  و هو قول شاذ- . و منها قوله و أطع الله في جمل أمورك-  أي في جملتها و فيها كلها-  و ليس يعني في جملتها دون تفاصيلها-  قال فإن طاعة الله فاضلة على غيرها-  و صدق ع لأنها توجب السعادة الدائمة-  و الخلاص من الشقاء الدائم-  و لا أفضل مما يؤدي إلى ذلك- . و منها قوله و خادع نفسك في العبادة-  أمره أن يتلطف بنفسه في النوافل-  و أن يخادعها و لا يقهرها فتمل و تضجر و تترك-  بل يأخذ عفوها و يتوخى أوقات النشاط-  و انشراح الصدر للعبادة- .

قال فأما الفرائض فحكمها غير هذا الحكم-  عليك أن تقوم بها كرهتها النفس أو لم تكرهها-  ثم أمره أن يقوم بالفريضة في وقتها-  و لا يؤخرها عنه فتصير قضاء- . و منها قوله و إياك أن ينزل بك المنون-  و أنت آبق من ربك في طلب الدنيا-  هذه وصية شريفة جدا-  جعل طالب الدنيا المعرض عن الله عند موته-  كالعبد الآبق يقدم به على مولاه أسيرا مكتوفا ناكس الرأس-  فما ظنك به حينئذ- . و منها قوله و إياك و مصاحبة الفساق-  فإن الشر بالشر ملحق-  يقول إن الطباع ينزع بعضها إلى بعض-  فلا تصحبن الفساق-  فإنه ينزع بك ما فيك من طبع الشر-  إلى مساعدتهم على الفسوق و المعصية-  و ما هو إلا كالنار تقوى بالنار-  فإذا لم تجاورها و تمازجها نار-  كانت إلى الانطفاء و الخمود أقرب- .

 

و روي ملحق بكسر الحاء-  و قد جاء ذلك في الخبر النبوي فإن عذابك بالكفار ملحقبالكسر- . و منها قوله و أحب أحباءه-  قد جاء في الخبر لا يكمل إيمان امرئ حتى يحب من أحب الله-  و يبغض من أبغض الله-  و منها قوله و احذر الغضب-  قد تقدم لنا كلام طويل في الغضب-  وقال إنسان للنبي ص أوصني-  قال لا تغضب-  فقال زدني فقال لا تغضب-  قال زدني قال لا أجد لك مزيدا-  و إنما جعله ع جندا عظيما من جنود إبليس-  لأنه أصل الظلم و القتل و إفساد كل أمر صالح-  و هو إحدى القوتين المشئومتين-  اللتين لم يخلق أضر منهما على الإنسان-  و هما منبع الشر الغضب و الشهوة

 شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 18

نامه 68 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)(كتبه إلى سلمان الفارسي رحمه الله)

68 و من كتاب له ع كتبه إلى سلمان الفارسي رحمه الله-  قبل أيام خلافته

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّمَا مَثَلُ الدُّنْيَا مَثَلُ الْحَيَّةِ-  لَيِّنٌ مَسُّهَا قَاتِلٌ سَمُّهَا-  فَأَعْرِضْ عَمَّا يُعْجِبُكَ فِيهَا-  لِقِلَّةِ مَا يَصْحَبُكَ مِنْهَا-  وَ ضَعْ عَنْكَ هُمُومَهَا-  لِمَا أَيْقَنْتَ بِهِ مِنْ فِرَاقِهَا-  وَ تَصَرُّفِ حَالَاتِهَا-  وَ كُنْ آنَسَ مَا تَكُونُ بِهَا أَحْذَرَ مَا تَكُونُ مِنْهَا-  فَإِنَّ صَاحِبَهَا كُلَّمَا اطْمَأَنَّ فِيهَا إِلَى سُرُورٍ-  أَشْخَصَتْهُ إِلَى مَحْذُورٍ-  أَوْ إِلَى إِينَاسٍ أَزَالَتْهُ عَنْهُ إِلَى إِيحَاشٍ وَ السَّلَامُ

سلمان الفارسي و خبر إسلامه

سلمان رجل من فارس من رامهرمز-  و قيل بل من أصبهان-  من قرية يقال لها جي-  و هو معدود من موالي رسول الله ص-  و كنيته أبو عبد الله-  و كان إذا قيل ابن من أنت-  يقول أنا سلمان ابن الإسلام أنا من بني آدم- . و قد روي أنه قد تداوله أرباب كثيرة-  بضعة عشر ربا-  من واحد إلى آخر حتى أفضى إلى رسول الله ص- .

و روى أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب-  أن سلمان أتى رسول الله‏ ص بصدقة-  فقال هذه صدقة عليك و على أصحابك-  فلم يقبلها و قال إنه لا تحل لنا الصدقة-  فرفعها ثم جاء من الغد بمثلها-  و قال هدية هذه فقال لأصحابه كلوا- . و اشتراه من أربابه و هم قوم يهود بدراهم-  و على أن يغرس لهم من النخيل كذا و كذا-  و يعمل فيها حتى تدرك-  فغرس رسول الله ص ذلك النخل كله بيده-  إلا نخلة واحدة غرسها عمر بن الخطاب-  فأطعم النخل كله إلا تلك النخلة-  فقال رسول الله ص من غرسها قيل عمر-  فقلعها و غرسها رسول الله ص بيده فأطعمت- .

قال أبو عمر و كان سلمان يسف الخوص-  و هو أمير على المدائن و يبيعه و يأكل منه-  و يقول لا أحب أن آكل إلا من عمل يدي-  و كان قد تعلم سف الخوص من المدينة- . و أول مشاهده الخندق و هو الذي أشار بحفره-  فقال أبو سفيان و أصحابه لما رأوه-  هذه مكيدة ما كانت العرب تكيدها- . قال أبو عمر و قد روي أن سلمان شهد بدرا و أحدا-  و هو عبد يومئذ و الأكثر أن أول مشاهده الخندق-  و لم يفته بعد ذلك مشهد- . قال و كان سلمان خيرا فاضلا حبرا-  عالما زاهدا متقشفا- .

قال و ذكر هشام بن حسان عن الحسن البصري-  قال كان عطاء سلمان خمسة آلاف-  و كان إذا خرج عطاؤه تصدق به-  و يأكل من عمل يده-  و كانت له عباءة يفرش بعضها و يلبس بعضها- .قال و قد ذكر ابن وهب و ابن نافع-  أن سلمان لم يكن له بيت-  إنما كان يستظل بالجدر و الشجر-  و أن رجلا قال له أ لا أبني لك بيتا تسكن فيه-  قال لا حاجة لي في ذلك-  فما زال به الرجل حتى قال له-  أنا أعرف البيت الذي يوافقك قال فصفه لي-  قال أبني لك بيتا إذا أنت قمت فيه-  أصاب رأسك سقفه-  و إن أنت مددت فيه رجليك أصابهما الجدار-  قال نعم فبنى له- .

 قال أبو عمر و قد روي عن رسول الله ص من وجوه أنه قال لو كان الدين في الثريا لناله سلمانو في رواية أخرى لناله رجل من فارسقال و قد روينا عن عائشة قالت كان لسلمان مجلس من رسول الله ص-  ينفرد به بالليل حتى كاد يغلبنا على رسول الله ص قال و قد روي من حديث ابن بريدة عن أبيه أن رسول الله ص قال أمرني ربي بحب أربعة و أخبرني أنه يحبهم-  علي و أبو ذر و المقداد و سلمان قال و روى قتادة عن أبي هريرة قال سلمان صاحب الكتابين-  يعني الإنجيل و القرآن- .

و قد روى الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي البختري عن علي ع أنه سئل عن سلمان فقال-  علم العلم الأول و العلم الآخر-  ذاك بحر لا ينزف و هو منا أهل البيت قال و في رواية زاذان عن علي ع سلمان الفارسي كلقمان الحكيم قال و قال فيه كعب الأحبار سلمان حشي علما و حكمة- .

 

قال و في الحديث المروي-  أن أبا سفيان مر على سلمان و صهيب و بلال-  في نفر من المسلمين-  فقالوا ما أخذت السيوف من عنق عدو الله مأخذها-  و أبو سفيان يسمع قولهم-  فقال لهم أبو بكر أ تقولون هذا لشيخ قريش و سيدها-  و أتى النبي ص و أخبره فقال-  يا أبا بكر لعلك أغضبتهم-  لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت الله فأتاهم أبو بكر-  فقال أبو بكر يا إخوتاه لعلي أغضبتكم-  قالوا لا يا أبا بكر يغفر الله لك- . قال و آخى رسول الله ص بينه و بين أبي الدرداء-  لما آخى بين المسلمين- .

قال و لسلمان فضائل جمة و أخبار حسان-  و توفي في آخر خلافة عثمان سنة خمس و ثلاثين-  و قيل توفي في أول سنة ست و ثلاثين-  و قال قوم توفي في خلافة عمر و الأول أكثر- . و أما حديث إسلام سلمان-  فقد ذكره كثير من المحدثين و رووه عنه-  قال كنت ابن دهقان قرية جي من أصبهان-  و بلغ من حب أبي لي أن حبسني في البيت-  كما تحبس الجارية-  فاجتهدت في المجوسية حتى صرت قطن بيت النار-  فأرسلني أبي يوما إلى ضيعة له-  فمررت بكنيسة النصارى فدخلت عليهم-  فأعجبتني صلاتهم-  فقلت دين هؤلاء خير من ديني-  فسألتهم أين أصل هذا الدين-  قالوا بالشام فهربت من والدي حتى قدمت الشام-  فدخلت على الأسقف فجعلت أخدمه و أتعلم منه-  حتى حضرته الوفاة-  فقلت إلى من توصي بي فقال-  قد هلك الناس و تركوا دينهم إلا رجلا بالموصل فالحق به-  فلما قضى نحبه لحقت بذلك الرجل-فلم يلبث إلا قليلا حتى حضرته الوفاة-  فقلت إلى من توصي بي فقال-  ما أعلم رجلا بقي على الطريقة المستقيمة إلا رجلا بنصيبين-  فلحقت بصاحب نصيبين-  قالوا و تلك الصومعة اليوم باقية-  و هي التي تعبد فيها سلمان قبل الإسلام- 

قال ثم احتضر صاحب نصيبين-  فبعثني إلى رجل بعمورية من أرض الروم-  فأتيته و أقمت عنده و اكتسبت بقيرات و غنيمات-  فلما نزل به الموت قلت له بمن توصي بي-  فقال قد ترك الناس دينهم و ما بقي أحد منهم على الحق-  و قد أظل زمان نبي مبعوث بدين إبراهيم-  يخرج بأرض العرب مهاجرا إلى أرض بين حرتين-  لها نخل قلت فما علامته-  قال يأكل الهدية-  و لا يأكل الصدقة-  بين كتفيه خاتم النبوة قال و مر بي ركب من كلب فخرجت معهم-  فلما بلغوا بي وادي القرى ظلموني و باعوني من يهودي-  فكنت أعمل له في زرعه و نخله-  فبينا أنا عنده إذ قدم ابن عم له-  فابتاعني منه و حملني إلى المدينة-  فو الله ما هو إلا أن رأيتها فعرفتها-  و بعث الله محمدا بمكة-  و لا أعلم بشي‏ء من أمره-  فبينا أنا في رأس نخلة إذ أقبل ابن عم لسيدي- 

فقال قاتل الله بني قيلة-  قد اجتمعوا على رجل بقباء قدم عليهم من مكة-  يزعمون أنه نبي قال فأخذني القر و الانتفاض-  و نزلت عن النخلة و جعلت أستقصي في السؤال-  فما كلمني سيدي بكلمة-  بل قال أقبل على شأنك و دع ما لا يعنيك-  فلما أمسيت أخذت شيئا كان عندي من التمر-  و أتيت به النبي ص فقلت له بلغني أنك رجل صالح-  و أن لك أصحابا غرباء ذوي حاجة-  و هذا شي‏ء عندي للصدقة-  فرأيتكم أحق به من غيركم-  فقال ع لأصحابه كلوا و أمسك فلم يأكل-  فقلت في نفسي هذه واحدة و انصرفت-  فلما كان من الغد أخذت ما كان بقي عندي و أتيته به-  فقلت له إني رأيتك لا تأكل الصدقة-  و هذه هدية فقال كلوا و أكل معهم-  فقلت إنه لهو فأكببت عليه أقبله و أبكي-  فقال ما لك فقصصت عليه القصة فأعجبه-  ثم قال يا سلمان كاتب صاحبك-  فكاتبته على ثلاثمائة نخلة و أربعين أوقية-  فقال رسول الله ص للأنصار أعينوا أخاكم-  فأعانوني بالنخل حتى جمعت ثلاثمائة ودية-  فوضعها رسول الله ص بيده فصحت كلها-  و أتاه مال من بعض المغازي فأعطاني منه-  و قال أد كتابتك فأديت و عتقت- .

و كان سلمان من شيعة علي ع و خاصته-  و تزعم الإمامية أنه أحد الأربعة الذين حلقوا رءوسهم-  و أتوه متقلدي سيوفهم في خبر يطول-  و ليس هذا موضع ذكره-  و أصحابنا لا يخالفونهم في أن سلمان كان من الشيعة-  و إنما يخالفونهم في أمر أزيد من ذلك-  و ما يذكره المحدثون من قوله للمسلمين يوم السقيفة-  كرديد و نكرديد-  محمول عند أصحابنا على أن المراد صنعتم شيئا و ما صنعتم-  أي استخلفتم خليفة و نعم ما فعلتم-  إلا أنكم عدلتم عن أهل البيت-  فلو كان الخليفة منهم كان أولى-  و الإمامية تقول معناه أسلمتم و ما أسلمتم-  و اللفظة المذكورة في الفارسية لا تعطي هذا المعنى-  و إنما تدل على الفعل و العمل لا غير-  و يدل على صحة قول أصحابنا أن سلمان عمل لعمر على المدائن-  فلو كان ما تنسبه الإمامية إليه حقا لم يعمل له.

فأما ألفاظ الفصل و معانيه فظاهرة-  و مما يناسب مضمونه قول بعض الحكماء-  تعز عن الشي‏ء إذا منعته بقلة صحبته لك إذا أعطيته- . و كان يقال الهالك على الدنيا رجلان-  رجل نافس في عزها و رجل أنف من ذلها- .

 

و مر بعض الزهاد بباب دار و أهلها يبكون ميتا لهم-  فقال وا عجبا لقوم مسافرين-  يبكون مسافرا قد بلغ منزله- . و كان يقال يا ابن آدم-  لا تأسف على مفقود لا يرده عليك الفوت-  و لا تفرح بموجود لا يتركه عليك الموت- . لقي عالم من العلماء راهبا فقال أيها الراهب-  كيف ترى الدنيا قال تخلق الأبدان-  و تجدد الآمال و تباعد الأمنية و تقرب المنية-  قال فما حال أهلها-  قال من ظفر بها نصب و من فاتته أسف-  قال فكيف الغنى عنها-  قال بقطع الرجاء منها-  قال فأي الأصحاب أبر و أوفى-  قال العمل الصالح-  قال فأيهم أضر و أنكى-  قال النفس و الهوى-  قال فكيف المخرج قال في سلوك المنهج-  قال و بما ذا أسلكه-  قال بأن تخلع لباس الشهوات الفانية-  و تعمل للدار الباقية

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 18

نامه 67 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

67 و من كتاب له ع كتبه إلى قثم بن العباس-  و هو عامله على مكة

أَمَّا بَعْدُ فَأَقِمْ لِلنَّاسِ الْحَجَّ-  وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ-  وَ اجْلِسْ لَهُمُ الْعَصْرَيْنِ-  فَأَفْتِ الْمُسْتَفْتِيَ-  وَ عَلِّمِ الْجَاهِلَ وَ ذَاكِرِ الْعَالِمَ-  وَ لَا يَكُنْ لَكَ إِلَى النَّاسِ سَفِيرٌ إِلَّا لِسَانُكَ-  وَ لَا حَاجِبٌ إِلَّا وَجْهُكَ-  وَ لَا تَحْجُبَنَّ ذَا حَاجَةٍ عَنْ لِقَائِكَ بِهَا-  فَإِنَّهَا إِنْ ذِيدَتْ عَنْ أَبْوَابِكَ فِي أَوَّلِ وِرْدِهَا-  لَمْ تُحْمَدْ فِيمَا بَعْدُ عَلَى قَضَائِهَا-  وَ انْظُرْ إِلَى مَا اجْتَمَعَ عِنْدَكَ مِنْ مَالِ اللَّهِ-  فَاصْرِفْهُ إِلَى مَنْ قِبَلَكَ مِنْ ذَوِي الْعِيَالِ وَ الْمَجَاعَةِ-  مُصِيباً بِهِ مَوَاضِعَ الْمَفَاقِرِ وَ الْخَلَّاتِ-  وَ مَا فَضَلَ عَنْ ذَلِكَ فَاحْمِلْهُ إِلَيْنَا لِنَقْسِمَهُ فِيمَنْ قِبَلَنَا-  وَ مُرْ أَهْلَ مَكَّةَ أَلَّا يَأْخُذُوا مِنْ سَاكِنٍ أَجْراً-  فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ-  سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَ الْبادِ-  فَالْعَاكِفُ الْمُقِيمُ بِهِ-  وَ الْبَادِي الَّذِي يَحُجُّ إِلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ-  وَفَّقَنَا اللَّهُ وَ إِيَّاكُمْ لِمَحَابِّهِ وَ السَّلَامُ‏

 

قد تقدم ذكر قثم و نسبه-  أمره أن يقيم للناس حجهم-  و أن يذكرهم بأيام الله و هي أيام الإنعام-  و أيام الانتقام لتحصل الرغبة و الرهبة- . و اجلس لهم العصرين الغداة و العشي- . ثم قسم له ثمرة جلوسه لهم ثلاثة أقسام-  إما أن يفتي مستفتيا من العامة في بعض الأحكام-  و إما أن يعلم متعلما يطلب الفقه-  و إما أن يذاكر عالما و يباحثه و يفاوضه-  و لم يذكر السياسة و الأمور السلطانية-  لأن غرضه متعلق بالحجيج و هم أضيافه-  يقيمون ليالي يسيرة و يقفلون- 

و إنما يذكر السياسة و ما يتعلق بها فيما يرجع إلى أهل مكة-  و من يدخل تحت ولايته دائما-  ثم نهاه عن توسط السفراء و الحجاب بينه و بينهم-  بل ينبغي أن يكون سفيره لسانه و حاجبه وجهه-  و روي و لا يكن إلا لسانك سفيرا لك إلى الناس-  بجعل لسانك اسم كان مثل قوله-  فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا-  و الرواية الأولى هي المشهورة-  و هو أن يكون سفيرا اسم كان-  و لك خبرها-  و لا يصح ما قاله الراوندي إن خبرها إلى الناس-  لأن إلى هاهنا متعلقة بنفس سفير-  فلا يجوز أن تكون-  الخبر عن سفير تقول سفرت إلى بني فلان في الصلح-  و إذا تعلق حرف الجر بالكلمة صار كالشي‏ء الواحد- . ثم قال فإنها إن ذيدت أي طردت و دفعت- . كان أبو عباد ثابت بن يحيى كاتب المأمون إذا سئل الحاجة-  يشتم السائل و يسطو عليه و يخجله و يبكته ساعة-  ثم يأمر له بها فيقوم و قد صارت إليه-  و هو يذمه و يلعنه قال علي بن جبلة العكوك-

 

  لعن الله أبا عباد
لعنا يتوالى‏

يوسع السائل شتما
ثم يعطيه السؤالا

و كان الناس يقفون لأبي عباد وقت ركوبه-  فيتقدم الواحد منهم إليه بقصته ليناوله إياها-  فيركله برجله بالركاب و يضربه بسوطه-  و يطير غضبا ثم لا ينزل عن فرسه حتى يقضي حاجته-  و يأمر له بطلبته فينصرف الرجل بها-  و هو ذام له ساخط عليه فقال فيه دعبل- 

أولى الأمور بضيعة و فساد
ملك يدبره أبو عباد

متعمد بدواته جلساءه‏
فمضرج و مخضب بمداد

و كأنه من دير هزقل مفلت
حرب يجر سلاسل الأقياد

فاشدد أمير المؤمنين صفاده‏
بأشد منه في يد الحداد

و قال فيه بعض الشعراء-

قل للخليفة يا ابن عم محمد
قيد وزيرك إنه ركال‏

فلسوطه بين الرءوس مسالك‏
و لرجله بين الصدور مجال‏

و المفاقر الحاجات يقال سد الله مفاقره-  أي أغنى الله فقره-  ثم أمره أن يأمر أهل مكة-  ألا يأخذوا من أحد من الحجيج أجرة مسكن-  و احتج على ذلك بالآية-  و أصحاب أبي حنيفة يتمسكون بها-  في امتناع بيع دور مكة و إجارتها-  و هذا بناء على أن‏المسجد الحرام هو مكة كلها-  و الشافعي يرى خلاف ذلك و يقول إنه الكعبة-  و لا يمنع من بيع دور مكة و لا إجارتها-  و يحتج بقوله تعالى الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ-  و أصحاب أبي حنيفة يقولون-  إنها إضافة اختصاص لا إضافة تمليك-  كما تقول جل الدابة-  و قرأ سواء بالنصب على أن يكون أحد مفعولي جعلنا-  أي جعلناه مستويا فيه العاكف و الباد-  و من قرأ بالرفع جعل الجملة هي المفعول الثاني

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 18

 

نامه 66 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

66 و من كتاب له ع كتبه إلى عبد الله بن العباس

و قد تقدم ذكره بخلاف هذه الرواية: أَمَّا بَعْدُ-  فَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَفْرَحُ بِالشَّيْ‏ءِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لِيَفُوتَهُ-  وَ يَحْزَنُ عَلَى الشَّيْ‏ءِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ-  فَلَا يَكُنْ أَفْضَلَ مَا نِلْتَ فِي نَفْسِكَ-  مِنْ دُنْيَاكَ بُلُوغُ لَذَّةٍ-  أَوْ شِفَاءُ غَيْظٍ-  وَ لَكِنْ إِطْفَاءُ بَاطِلٍ وَ إِحْيَاءُ حَقٍّ-  وَ لْيَكُنْ سُرُورُكَ بِمَا قَدَّمْتَ-  وَ أَسَفُكَ عَلَى مَا خَلَّفْتَ-  وَ هَمُّكَ فِيمَا بَعْدَ الْمَوْتِ هذا الفصل قد تقدم شرح نظيره-  و ليس في ألفاظه و لا معانيه ما يفتقر إلى تفسير-  و لكنا سنذكر من كلام الحكماء و الصالحين-  كلمات تناسبه

نبذ من كلام الحكماء

فمن كلام بعضهم ما قدر لك أتاك-  و ما لم يقدر لك تعداك-  فعلام تفرح بما لم يكن بد من وصوله إليك-  و علام تحزن بما لم يكن ليقدم عليك- . و من كلامهم الدنيا تقبل إقبال الطالب-  و تدبر إدبار الهارب-  و تصل وصال المتهالك-  و تفارق فراق المبغض الفارك-  فخيرها يسير و عيشها قصير-  و إقبالها خدعة و إدبارهافجعة-  و لذاتها فانية و تبعاتها باقية-  فاغتنم غفلة الزمان و انتهز فرصة الإمكان-  و خذ من نفسك لنفسك-  و تزود من يومك لغدك قبل نفاذ المدة-  و زوال القدرة-  فلكل امرئ من دنياه ما ينفعه على عمارة أخراه- .

و من كلامهم من نكد الدنيا أنها لا تبقى على حالة-  و لا تخلو من استحالة-  تصلح جانبا بإفساد جانب و تسر صاحبا بمساءة صاحب-  فالسكون فيها خطر و الثقة إليها غرر-  و الالتجاء إليها محال و الاعتماد عليها ضلال- . و من كلامهم-  لا تبتهجن لنفسك بما أدركت من لذاتها الجسمانية-  و ابتهج لها بما تناله من لذاتها العقلية-  و من القول بالحق و العمل بالحق-  فإن اللذات الحسية خيال ينفد-  و المعارف العقلية باقية بقاء الأبد

 شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 18

نامه 65 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

65 و من كتاب له ع إليه أيضا

أَمَّا بَعْدُ-  فَقَدْ آنَ لَكَ أَنْ تَنْتَفِعَ بِاللَّمْحِ الْبَاصِرِ مِنْ عِيَانِ الْأُمُورِ-  فَلَقَدْ سَلَكْتَ مَدَارِجَ أَسْلَافِكَ بِادِّعَائِكَ الْأَبَاطِيلَ-  وَ اقْتِحَامِكَ غُرُورَ الْمَيْنِ وَ الْأَكَاذِيبِ مِنِ انْتِحَالِكَ مَا قَدْ عَلَا عَنْكَ-  وَ ابْتِزَازِكَ لِمَا قَدِ اخْتُزِنَ دُونَكَ-  فِرَاراً مِنَ الْحَقِّ-  وَ جُحُوداً لِمَا هُوَ أَلْزَمُ لَكَ مِنْ لَحْمِكَ وَ دَمِكَ-  مِمَّا قَدْ وَعَاهُ سَمْعُكَ-  وَ مُلِئَ بِهِ صَدْرُكَ-  فَمَا ذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ-  وَ بَعْدَ الْبَيَانِ إِلَّا اللَّبْسُ-  فَاحْذَرِ الشُّبْهَةَ وَ اشْتِمَالَهَا عَلَى لُبْسَتِهَا-  فَإِنَّ الْفِتْنَةَ طَالَمَا أَغْدَفَتْ جَلَابِيبَهَا-  وَ أَعْشَتِ الْأَبْصَارَ ظُلْمَتُهَا-  وَ قَدْ أَتَانِي كِتَابٌ مِنْكَ ذُو أَفَانِينَ مِنَ الْقَوْلِ-  ضَعُفَتْ قُوَاهَا عَنِ السِّلْمِ-  وَ أَسَاطِيرَ لَمْ يَحُكْهَا عَنْكَ عِلْمٌ وَ لَا حِلْمٌ-  أَصْبَحْتَ مِنْهَا كَالْخَائِضِ فِي الدَّهَاسِ-  وَ الْخَابِطِ فِي الدِّيمَاسِ-  وَ تَرَقَّيْتَ إِلَى مَرْقَبَةٍ بَعِيدَةِ الْمَرَامِ-  نَازِحَةِ الْأَعْلَامِ-  تَقْصُرُ دُونَهَا الْأَنُوقُ-  وَ يُحَاذَى بِهَا الْعَيُّوقُ-  وَ حَاشَ لِلَّهِ أَنْ تَلِيَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ بَعْدِي صَدْراً أَوْ وِرْداً-  أَوْ أُجْرِيَ لَكَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ عَقْداً أَوْ عَهْداً-  فَمِنَ الآْنَ فَتَدَارَكْ نَفْسَكَ وَ انْظُرْ لَهَا-  فَإِنَّكَ إِنْ فَرَّطْتَ حَتَّى يَنْهَدَ إِلَيْكَ عِبَادُ اللَّهِ-  أُرْتِجَتْ عَلَيْكَ الْأُمُورُ-  وَ مُنِعْتَ أَمْراً هُوَ مِنْكَ الْيَوْمَ مَقْبُولٌ وَ السَّلَامُ‏

 

آن لك و أنى لك بمعنى أي قرب و حان-  تقول آن لك أن تفعل كذا يئين أينا و قال- 

  أ لم يأن أن لي تجل عني عمايتي
و أقصر عن ليلى بلى قد أنى ليا

فجمع بين اللغتين-  و أنى مقلوبة عن آن-  و مما يجري مجرى المثل قولهم لمن يرونه شيئا-  شديدا يبصره و لا يشك فيه-  قد رأيته لمحا باصرا-  قالوا أي نظرا بتحديق شديد-  و مخرجه مخرج رجل لابن و تامر-  أي ذو لبن و تمر-  فمعنى باصر ذو بصر-  يقول ع لمعاوية-  قد حان لك أن تنتفع بما تعلمه من معاينة الأمور و الأحوال-  و تتحققه يقينا بقلبك-  كما يتحقق ذو اللمح الباصر ما يبصره بحاسة بصره-  و أراد ببيان الأمور هاهنا معاينتها-  و هو ما يعرفه ضرورة من استحقاق علي ع للخلافة دونه-  و براءته من كل شبهة ينسبها إليه- . ثم قال له فقد سلكت-  أي اتبعت طرائق أبي سفيان أبيك-  و عتبة جدك و أمثالهما من أهلك-  ذوي الكفر و الشقاق- . و الأباطيل جمع باطل على غير قياس-  كأنهم جمعوا إبطيلا- . و الاقتحام إلقاء النفس في الأمر من غير روية- . و المين الكذب-  و الغرور بالضم المصدر و بالفتح الاسم- . و انتحلت القصيدة أي ادعيتها كذبا- . قال ما قد علا عنك أي أنت دون الخلافة-  و لست من أهلها-  و الابتزاز الاستلاب- .

 

قال لما قد اختزن دونك-  يعني التسمي بإمرة المؤمنين- . ثم قال فرارا من الحق-  أي فعلت ذلك كله هربا من التمسك بالحق و الدين-  و حبا للكفر و الشقاق و التغلب- . قال و جحودا لما هو ألزم-  يعني فرض طاعة علي ع لأنه قد وعاها سمعه-  لا ريب في ذلك إما بالنص في أيام رسول الله ص-  كما تذكره الشيعة فقد كان معاوية حاضرا يوم الغدير-  لأنه حج معهم حجة الوداع-  و قد كان أيضا حاضرا يوم تبوك-  حين قال له بمحضر من الناس كافة-  أنت مني بمنزلة هارون من موسى-  و قد سمع غير ذلك-  و أما بالبيعة كما نذكره نحن فإنه قد اتصل به خبرها-  و تواتر عنده وقوعها-  فصار وقوعها عنده معلوما بالضرورة-  كعلمه بأن في الدنيا بلدا اسمها مصر-  و إن كان ما رآها- .

و الظاهر من كلام أمير المؤمنين ع-  أنه يريد المعنى الأول-  و نحن نخرجه على وجه لا يلزم منه ما تقوله الشيعة-  فنقول لنفرض أن النبي ص ما نص عليه بالخلافة بعده-  أ ليس يعلم معاوية و غيره من الصحابة-  أنه لو قال له في ألف مقام-  أنا حرب لمن حاربت و سلم لمن سالمت-  و نحو ذلك من قوله اللهم عاد من عاداه-  و وال من والاه-  و قوله حربك حربي و سلمك سلمي-  و قوله أنت مع الحق و الحق معك-  و قوله هذا مني و أنا منه-  و قوله هذا أخي-  و قوله يحب الله و رسوله-  و يحبه الله و رسوله-  و قوله اللهم ائتني بأحب خلقك إليك-  و قوله إنه ولي كل مؤمن و مؤمنة بعدي-  و قوله في كلام قاله خاصف النعل-  و قوله لا يحبه إلا مؤمن و لا يبغضه إلا منافق-  و قوله إن الجنة لتشتاق إلى أربعة-  و جعله أولهم-  و قوله لعمار تقتلك الفئة الباغية-  و قوله ستقاتل الناكثين و القاسطين-و المارقين بعدي-  إلى غير ذلك مما يطول تعداده جدا-  و يحتاج إلى كتاب مفرد يوضع له-  أ فما كان ينبغي لمعاوية أن يفكر في هذا و يتأمله-  و يخشى الله و يتقيه-  فلعله ع إلى هذا أشار بقوله-  و جحودا لما هو ألزم لك من لحمك و دمك-  مما قد وعاه سمعك و ملئ به صدرك- . قوله فما ذا بعد الحق إلا الضلال-  كلمة من الكلام الإلهي المقدس- .

قال و بعد البيان إلا اللبس-  يقال لبست عليه الأمر لبسا-  أي خلطته و المضارع يلبس بالكسر- . قال فاحذر الشبهة و اشتمالها على اللبسة بالضم-  يقال في الأمر لبسة أي اشتباه و ليس بواضح-  و يجوز أن يكون اشتمال مصدرا مضافا إلى معاوية-  أي احذر الشبهة و احذر اشتمالك إياها على اللبسة-  أي ادراعك بها و تقمصك بها على ما فيها-  من الإبهام و الاشتباه-  و يجوز أن يكون مصدرا مضافا إلى ضمير الشبهة فقط-  أي احذر الشبهة و احتواءها على اللبسة التي فيها- .

و تقول أغدفت المرأة قناعها-  أي أرسلته على وجهها-  و أغدف الليل-  أي أرخى سدوله-  و أصل الكلمة التغطية- . و الجلابيب جمع جلباب و هو الثوب- . قال و أعشت الأبصار ظلمتها-  أي أكسبتها العشي و هو ظلمة العين-  و روي و أغشت بالغين المعجمة ظلمتها بالنصب-  أي جعلت الفتنة ظلمتها غشاء للأبصار- . و الأفانين الأساليب المختلفة- . قوله ضعفت قواها عن السلم أي عن الإسلام-  أي لا تصدر تلك الأفانين‏المختلطة عن مسلم-  و كان كتب إليه يطلب منه أن يفرده بالشام-  و أن يوليه العهد من بعده-  و ألا يكلفه الحضور عنده-  و قرأ أبو عمرو ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً-  و قال ليس المعني بهذا الصلح-  بل الإسلام و الإيمان لا غير-  و معنى ضعفت قواها أي ليس لتلك الطلبات و الدعاوي-  و الشبهات التي تضمنها كتابك من القوة-  ما يقتضي أن يكون المتمسك به مسلما-  لأنه كلام لا يقوله إلا من هو-  إما كافر منافق أو فاسق-  و الكافر ليس بمسلم-  و الفاسق أيضا ليس بمسلم على قول أصحابنا و لا كافر- . ثم قال و أساطير لم يحكها منك علم و لا حلم-  الأساطير الأباطيل واحدها أسطورة بالضم-  و إسطارة بالكسر و الألف-  و حوك الكلام صنعته و نظمه-  و الحلم العقل يقول له-  ما صدر هذا الكلام و الهجر الفاسد عن عالم و لا عاقل- .

و من رواها الدهاس بالكسر فهو جمع دهس-  و من قرأها بالفتح فهو مفرد-  يقول هذا دهس و دهاس بالفتح مثل لبث و لباث-  للمكان السهل الذي لا يبلغ أن يكون رملا-  و ليس هو بتراب و لا طين- . و الديماس بالكسر السرب المظلم تحت الأرض-  و في حديث المسيح أنه سبط الشعر-  كثير خيلان الوجه كأنه خرج من ديماس-  يعني في نضرته و كثرة ماء وجهه-  كأنه خرج من كن-  لأنه قال في وصفه كان رأسه يقطر ماء-  و كان للحجاج سجن اسمه الديماس لظلمته-  و أصله من دمس الظلام يدمس أي اشتد-  و ليل دامس و داموس أي مظلم-  و جاءنا فلان بأمور دمس أي مظلمة عظيمة-  يقول له أنت في كتابك هذا كالخائض في تلك الأرض الرخوة-  و تقوم و تقع و لا تتخلص-  و كالخابط في الليل المظلم يعثر و ينهض-  و لا يهتدى الطريق- .

 

و المرقبة الموضع العالي و الأعلام جمع علم-  و هو ما يهتدى به في الطرقات من المنار-  يقول له سمت همتك إلى دعوى الخلافة-  و هي منك كالمرقبة التي لا ترام بتعد على من يطلبها-  و ليس فيها أعلام تهدى إلى سلوك طريقها-  أي الطرق إليها غامضة-  كالجبل الأملس الذي ليس فيه درج و مراق-  يسلك منها إلى ذروته- . و الأنوق على فعول بالفتح كأكول و شروب طائر-  و هو الرخمة و في المثل أعز من بيض الأنوق-  لأنها تحرزه و لا يكاد أحد يظفر به-  و ذلك لأن أوكارها في رءوس الجبال-  و الأماكن الصعبة البعيدة- . و العيوق كوكب معروف فوق زحل في العلو-  و هذه أمثال ضربها في بعد معاوية عن الخلافة- .

ثم قال حاش لله-  إن أوليك شيئا من أمور المسلمين بعدي-  أي معاذ الله و الأصل إثبات الألف في حاشا-  و إنما اتبع فيها المصحف- . و الورد و الصدر الدخول و الخروج-  و أصله في الإبل و الماء-  و ينهد إليك عباد الله أي ينهض-  و أرتجت عليك الأمور أغلقت- . و هذا الكتاب هو جواب كتاب وصل من معاوية إليه ع-  بعد قتل علي ع الخوارج-  و فيه تلويح بما كان يقوله من قبل-  إن رسول الله وعدني بقتال طائفة أخرى-  غير أصحاب الجمل و صفين و إنه سماهم المارقين-  فلما واقعهم ع بالنهروان و قتلهم كلهم بيوم واحد-  و هم عشرة آلاف فارس-  أحب أن يذكر معاوية بما كان يقول من قبل-  و يعد به أصحابه و خواصه-  فقال له قد آن لك أن تنتفع بما عاينت-  و شاهدت معاينة و مشاهدة-  من صدق القول الذي كنت أقوله للناس-  و يبلغك فتستهزئ به

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 18

نامه 64 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

 64 و من كتاب له ع إلى معاوية جوابا عن كتابه

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّا كُنَّا نَحْنُ وَ أَنْتُمْ عَلَى مَا ذَكَرْتَ-  مِنَ الْأُلْفَةِ وَ الْجَمَاعَةِ-  فَفَرَّقَ بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمْ أَمْسِ أَنَّا آمَنَّا وَ كَفَرْتُمْ-  وَ الْيَوْمَ أَنَّا اسْتَقَمْنَا وَ فُتِنْتُمْ-  وَ مَا أَسْلَمَ مُسْلِمُكُمْ إِلَّا كَرْهاً-  وَ بَعْدَ أَنْ كَانَ أَنْفُ الْإِسْلَامِ كُلُّهُ لِرَسُولِ اللَّهِ ص حَرْباً-  وَ ذَكَرْتَ أَنِّي قَتَلْتُ طَلْحَةَ وَ الزُّبَيْرَ-  وَ شَرَّدْتُ بِعَائِشَةَ وَ نَزَلْتُ بَيْنَ الْمِصْرَيْنِ-  وَ ذَلِكَ أَمْرٌ غِبْتَ عَنْهُ فَلَا عَلَيْكَ وَ لَا الْعُذْرُ فِيهِ إِلَيْكَ-  وَ ذَكَرْتَ أَنَّكَ زَائِرِي فِي جَمْعِ الْمُهَاجِرِينَ وَ الْأَنْصَارِ-  وَ قَدِ انْقَطَعَتِ الْهِجْرَةُ يَوْمَ أُسِرَ أَخُوكَ-  فَإِنْ كَانَ فِيكَ عَجَلٌ فَاسْتَرْفِهْ-  فَإِنِّي إِنْ أَزُرْكَ فَذَلِكَ جَدِيرٌ-  أَنْ يَكُونَ اللَّهُ إِنَّمَا بَعَثَنِي إِلَيْكَ لِلنِّقْمَةِ مِنْكَ-  وَ إِنْ تَزُرْنِي فَكَمَا قَالَ أَخُو بَنِي أَسَدٍ- 

  مُسْتَقْبِلِينَ رِيَاحَ الصَّيْفِ تَضْرِبُهُمْ
بِحَاصِبٍ بَيْنَ أَغْوَارٍ وَ جُلْمُودِ

 وَ عِنْدِي السَّيْفُ الَّذِي أَعْضَضْتُهُ بِجَدِّكَ-  وَ خَالِكَ وَ أَخِيكَ فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ-  فَإِنَّكَ وَ اللَّهِ مَا عَلِمْتُ الْأَغْلَفُ الْقَلْبِ الْمُقَارِبُ الْعَقْلِ-  وَ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ لَكَ-  إِنَّكَ رَقِيتَ سُلَّماً أَطْلَعَكَ مَطْلَعَ سُوءٍ عَلَيْكَ لَا لَكَ-  لِأَنَّكَ نَشَدْتَ غَيْرَ ضَالَّتِكَ وَ رَعَيْتَ غَيْرَ سَائِمَتِكَ-  وَ طَلَبْتَ أَمْراً لَسْتَ مِنْ أَهْلِهِ وَ لَا فِي مَعْدِنِهِ-  فَمَا أَبْعَدَ قَوْلَكَ مِنْ فِعْلِكَ-وَ قَرِيبٌ مَا أَشْبَهْتَ مِنْ أَعْمَامٍ وَ أَخْوَالٍ-  حَمَلَتْهُمُ الشَّقَاوَةُ وَ تَمَنِّي الْبَاطِلِ عَلَى الْجُحُودِ بِمُحَمَّدٍ ص-  فَصُرِعُوا مَصَارِعَهُمْ حَيْثُ عَلِمْتَ-  لَمْ يَدْفَعُوا عَظِيماً وَ لَمْ يَمْنَعُوا حَرِيماً-  بِوَقْعِ سُيُوفٍ مَا خَلَا مِنْهَا الْوَغَى-  وَ لَمْ تُمَاشِهَا الْهُوَيْنَى-  وَ قَدْ أَكْثَرْتَ فِي قَتَلَةِ عُثْمَانَ-  فَادْخُلْ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ ثُمَّ حَاكِمِ الْقَوْمَ إِلَيَّ-  أَحْمِلْكَ وَ إِيَّاهُمْ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى-  وَ أَمَّا تِلْكَ الَّتِي تُرِيدُ-  فَإِنَّهَا خُدْعَةُ الصَّبِيِّ عَنِ اللَّبَنِ فِي أَوَّلِ الْفِصَالِ-  وَ السَّلَامُ لِأَهْلِهِ

كتاب معاوية إلى علي

أما الكتاب الذي كتبه إليه معاوية-  و هذا الكتاب جوابه فهو-  من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب-  أما بعد فإنا بني عبد مناف-  لم نزل ننزع من قليب واحد و نجري في حلبة واحدة-  ليس لبعضنا على بعض فضل-  و لا لقائمنا على قاعدنا فخر-  كلمتنا مؤتلفة و ألفتنا جامعة و دارنا واحدة-  يجمعنا كرم العرق و يحوينا شرف النجار-  و يحنو قوينا على ضعيفنا و يواسي غنينا فقيرنا-  قد خلصت قلوبنا من وغل الحسد-  و طهرت أنفسنا من خبث النية-  فلم نزل كذلك حتى كان منك ما كان من الإدهان-  في أمر ابن عمك و الحسد له-  و نصرة الناس عليه حتى قتل بمشهد منك-  لا تدفع عنه بلسان و لا يد-  فليتك‏ أظهرت نصره حيث أسررت خبره-  فكنت كالمتعلق بين الناس بعذر و إن ضعف-  و المتبرئ من دمه بدفع و إن وهن-  و لكنك جلست في دارك تدس إليه الدواهي-  و ترسل إليه الأفاعي-  حتى إذا قضيت وطرك منه-  أظهرت شماتة و أبديت طلاقة-  و حسرت للأمر عن ساعدك و شمرت عن ساقك-  و دعوت الناس إلى نفسك-  و أكرهت أعيان المسلمين على بيعتك-  ثم كان منك بعد ما كان-  من قتلك شيخي المسلمين-  أبي محمد طلحة و أبي عبد الله الزبير-  و هما من الموعودين بالجنة-  و المبشر قاتل أحدهما بالنار في الآخرة-  هذا إلى تشريدك بأم المؤمنين عائشة-  و إحلالها محل الهون-  متبذلة بين أيدي الأعراب و فسقة أهل الكوفة-  فمن بين مشهر لها و بين شامت بها و بين ساخر منها-  ترى ابن عمك كان بهذه لو رآه راضيا-  أم كان يكون عليك ساخطا و لك عنه زاجرا-  أن تؤذي أهله و تشرد بحليلته و تسفك دماء أهل ملته-  ثم تركك دار الهجرة التي قال رسول الله ص عنها إن المدينة لتنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد-  فلعمري لقد صح وعده و صدق قوله-  و لقد نفت خبثها-  و طردت عنها من ليس بأهل أن يستوطنها-  فأقمت بين المصرين و بعدت عن بركة الحرمين-  و رضيت بالكوفة بدلا من المدينة-  و بمجاورة الخورنق و الحيرة عوضا من مجاورة خاتم النبوة-  و من قبل ذلك ما عبت خليفتي رسول الله ص أيام حياتهما-  فقعدت عنهما و ألبت عليهما و امتنعت من بيعتهما-  و رمت أمرا لم يرك الله تعالى له أهلا-  و رقيت سلما وعرا و حاولت مقاما دحضا-  و ادعيت ما لم تجد عليه ناصرا-  و لعمري لو وليتها حينئذ لما ازدادت-  إلا فسادا و اضطرابا-  و لا أعقبت ولايتكها إلا انتشارا و ارتدادا-  لأنك الشامخ بأنفه الذاهب بنفسه-  المستطيل على الناس بلسانه و يده-  و ها أنا سائر إليك في جمع‏من المهاجرين و الأنصار-  تحفهم سيوف شامية و رماح قحطانية-  حتى يحاكموك إلى الله-  فانظر لنفسك و للمسلمين و ادفع إلي قتلة عثمان-  فإنهم خاصتك و خلصاؤك و المحدقون بك-  فإن أبيت إلا سلوك سبيل اللجاج-  و الإصرار على الغي و الضلال-  فاعلم أن هذه الآية إنما نزلت فيك-  و في أهل العراق معك وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً-  يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ-  فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ.

ثم نعود إلى تفسير ألفاظ الفصل و معانيه-  قال ع لعمري إنا كنا بيتا واحدا في الجاهلية-  لأنا بنو عبد مناف إلا أن الفرقة بيننا و بينكم-  حصلت منذ بعث الله محمدا ص فإنا آمنا و كفرتم-  ثم تأكدت الفرقة اليوم-  بأنا استقمنا على منهاج الحق و فتنتم- . ثم قال و ما أسلم من أسلم منكم إلا كرها-  كأبي سفيان و أولاده يزيد و معاوية-  و غيرهم من بني عبد شمس- . قال و بعد أن كان أنف الإسلام محاربا لرسول الله ص-  أي في أول الإسلام-  يقال كان ذلك في أنف دولة بني فلان أي في أولها-  و أنف كل شي‏ء أوله و طرفه-  و كان أبو سفيان و أهله من بني عبد شمس-  أشد الناس على رسول الله ص في أول الهجرة-  إلى أن فتح مكة-  ثم أجابه عن قوله قتلت طلحة و الزبير و شردت بعائشة-  و نزلت بين المصرين-  بكلام مختصر أعرض فيه عنه‏هوانا به-  فقال هذا أمر غبت عنه-  فليس عليك كان العدوان الذي تزعم-  و لا العذر إليك لو وجب على العذر عنه- .

فأما الجواب المفصل فأن يقال-  إن طلحة و الزبير قتلا أنفسهما ببغيهما و نكثهما-  و لو استقاما على الطريقة لسلما-  و من قتله الحق فدمه هدر-  و أما كونهما شيخين من شيوخ الإسلام فغير مدفوع-  و لكن العيب يحدث-  و أصحابنا يذهبون إلى أنهما تابا و فارقا الدنيا-  نادمين على ما صنعا-  و كذلك نقول نحن فإن الأخبار كثرت بذلك-  فهما من أهل الجنة لتوبتهما-  و لو لا توبتهما لكانا هالكين كما هلك غيرهما-  فإن الله تعالى لا يحابي أحدا في الطاعة و التقوى-  لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى‏ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ- . و أما الوعد لهما بالجنة فمشروط بسلامة العاقبة-  و الكلام في سلامتهما-  و إذا ثبتت توبتهما فقد صح الوعد لهما و تحقق- 

وقوله بشر قاتل ابن صفية بالنار-  فقد اختلف فيه-  فقال قوم من أرباب السير و علماء الحديث-  هو كلام أمير المؤمنين ع غير مرفوع-  و قوم منهم جعلوه مرفوعا-  و على كل حال فهو حق-  لأن ابن جرموز قلته موليا خارجا من الصف-  مفارقا للحرب-  فقد قتله على توبة و إنابة و رجوع من الباطل-  و قاتل من هذه حاله فاسق مستحق للنار-  و أما أم المؤمنين عائشة فقد صحت توبتها-  و الأخبار الواردة في توبتها-  أكثر من الأخبار الواردة في توبة طلحة و الزبير-  لأنها عاشت زمانا طويلا و هما لم يبقيا-  و الذي جرى لها كان خطأ منها-  فأي ذنب لأمير المؤمنين ع في ذلك-  و لو أقامت في منزلها-  لم تبتذل بين الأعراب و أهل الكوفة-  على أن أمير المؤمنين ع أكرمها و صانها و عظم من شأنها-  و من أحب أن يقف على ما فعله معها-  فليطالع كتب السيرة-  و لو كانت فعلت بعمر ما فعلت به-  و شقت عصا الأمة عليه ثم ظفر بها-  لقتلها و مزقها إربا إربا-  و لكن عليا كان حليما كريما- .

 

و أما قوله لو عاش رسول الله ص-  فبربك هل كان يرضى لك أن تؤذي حليلته-  فلعلي ع أن يقلب الكلام عليه فيقول-  أ فتراه لو عاش أ كان يرضى لحليلته أن تؤذي أخاه و وصيه-  و أيضا أ تراه لو عاش أ كان يرضى لك يا ابن أبي سفيان-  أن تنازع عليا الخلافة و تفرق جماعة هذه الأمة-  و أيضا أ تراه لو عاش-  أ كان يرضى لطلحة و الزبير أن يبايعا-  ثم ينكثا لا لسبب بل قالا جئنا نطلب الدراهم-  فقد قيل لنا إن بالبصرة أموالا كثيرة-  هذا كلام يقوله مثلهما- .

فأما قوله تركت دار الهجرة فلا عيب عليه-  إذا انقضت عليه أطراف الإسلام بالبغي و الفساد-  أن يخرج من المدينة إليها و يهذب أهلها-  و ليس كل من خرج من المدينة كان خبثا-  فقد خرج عنها عمر مرارا إلى الشام-  ثم لعلي ع أن يقلب عليه الكلام فيقول له-  و أنت يا معاوية فقد نفتك المدينة أيضا عنها-  فأنت إذا خبث و كذلك طلحة و الزبير و عائشة-  الذين تتعصب لهم و تحتج على الناس بهم-  و قد خرج عن المدينة الصالحون-  كابن مسعود و أبي ذر و غيرهما-  و ماتوا في بلاد نائية عنها و أما قوله بعدت عن حرمة الحرمين-  و مجاورة قبر رسول الله ص-  فكلام إقناعي ضعيف-  و الواجب على الإمام أن يقدم الأهم فالأهم-  من مصالح الإسلام-  و تقديم قتال أهل البغي على المقام بين الحرمين أولى-  فأما ما ذكره من خذلانه عثمان و شماتته به-  و دعائه الناس بعد قتله إلى نفسه-  و إكراهه طلحة و الزبير و غيرهما على بيعته-  فكله دعوى و الأمر بخلافها-  و من نظر كتب السير عرف أنه قد بهته-  و ادعى عليه ما لم يقع منه- .

و أما قوله التويت على أبي بكر و عمر و قعدت عنهما-  و حاولت الخلافة بعد رسول الله ص-  فإن عليا ع لم يكن يجحد ذلك و لا ينكره-  و لا ريب‏أنه كان يدعى الأمر بعد وفاة رسول الله ص لنفسه-  على الجملة-  أما لنص كما تقوله الشيعة-  أو لأمر آخر كما يقوله أصحابنا-  فأما قوله لو وليتها حينئذ لفسد الأمر و اضطرب الإسلام-  فهذا علم غيب لا يعلمه إلا الله-  و لعله لو وليها حينئذ لاستقام الأمر-  و صلح الإسلام و تمهد-  فإنه ما وقع الاضطراب عند ولايته بعد عثمان-  إلا لأن أمره هان عندهم بتأخره عن الخلافة-  و تقدم غيره عليه-  فصغر شأنه في النفوس-  و قرر من تقدمه في قلوب الناس-  أنه لا يصلح لها كل الصلاحية-  و الناس على ما يحصل في نفوسهم-  و لو كان وليها ابتداء و هو على تلك الحالة-  التي كان عليها أيام حياة رسول الله ص-  و تلك المنزلة الرفيعة و الاختصاص الذي كان له-  لكان الأمر غير الذي رأيناه عند ولايته بعد عثمان-  و أما قوله لأنك الشامخ بأنفه الذاهب بنفسه-  فقد أسرف في وصفه بما وصفه به-  و لا شك أن عليا ع كان عنده زهو لكن لا هكذا-  و كان ع مع زهوه ألطف الناس خلقا- .

ثم نرجع إلى تفسير ألفاظه ع-  قوله و ذكرت أنك زائري في جمع من المهاجرين و الأنصار-  و قد انقطعت الهجرة يوم أسر أخوك-  هذا الكلام تكذيب له في قوله-  في جمع من المهاجرين و الأنصار أي ليس معك مهاجر-  لأن أكثر من معك ممن رأى رسول الله ص هم أبناء الطلقاء-  و من أسلم بعد الفتح و قد قال النبي ص لا هجرة بعد الفتح- . و عبر عن يوم الفتح بعبارة حسنة-  فيها تقريع لمعاوية و أهله بالكفر-  و أنهم ليسوا من ذوي السوابق-  فقال قد انقطعت الهجرة يوم أسر أخوك-  يعني يزيد بن أبي سفيان أسر يوم الفتح في باب الخندمة-  و كان خرج في نفر من قريش-  يحاربون و يمنعون‏من دخول مكة-  فقتل منهم قوم و أسر يزيد بن أبي سفيان-  أسره خالد بن الوليد-  فخلصه أبو سفيان منه و أدخله داره-  فأمن لأن رسول الله ص قال يومئذ من دخل دار أبي سفيان فهو آمن

ذكر الخبر عن فتح مكة

و يجب أن نذكر في هذا الموضع-  ملخص ما ذكره الواقدي في كتاب المغازي-  في فتح مكة فإن الموضع يقتضيه-  لقوله ع ما أسلم مسلمكم إلا كرها-  و قوله يوم أسر أخوك- . قال محمد بن عمر الواقدي في كتاب المغازي-  كان رسول الله ص-  قد هادن قريشا في عام الحديبية عشر سنين-  و جعل خزاعة داخلة معه-  و جعلت قريش بني بكر بن عبد مناة من كنانة داخلة معهم-  و كان بين بني بكر و بين خزاعة-  تراث في الجاهلية و دماء-  و قد كانت خزاعة من قبل حالفت عبد المطلب بن هاشم-  و كان معها كتاب منه و كان رسول الله ص يعرف ذلك-  فلما تم صلح الحديبية و أمن الناس-  سمع غلام من خزاعة إنسانا من بني كنانة-  يقال له أنس بن زنيم الدؤلي-  ينشد هجاء له في رسول الله ص-  فضربه فشجه-  فخرج أنس إلى قومه فأراهم شجته فثار بينهم الشر-  و تذاكروا أحقادهم القديمة-  و القوم مجاورون بمكة-  فاستنجدت بكر بن عبد مناة قريشا على خزاعة-  فمن قريش من كره ذلك و قال لا انقض عهد محمد-  و منهم من خف إليه و كان أبو سفيان أحد من كره ذلك-  و كان صفوان بن أمية و حويطب بن عبد العزى-  و مكرز بن حفص‏ممن أعان بني بكر-  و دسوا إليهم الرجال بالسلاح سرا-  و بيتوا خزاعة ليلا فأوقعوا بهم-  فقتلوا منهم عشرين رجلا-  فلما أصبحوا عاتبوا قريشا-  فجحدت قريش أنها أعانت بكرا و كذبت في ذلك-  و تبرأ أبو سفيان و قوم من قريش مما جرى-  و شخص قوم من خزاعة إلى المدينة مستصرخين برسول الله ص-  فدخلوا عليه و هو في المسجد-  فقام عمرو بن سالم الخزاعي فأنشده- 

  لا هم إني ناشد محمدا
حلف أبينا و أبيه الأتلدا

لكنت والدا و كنا ولدا
ثمت أسلمنا و لم ننزع يدا

إن قريشا أخلفوك الموعدا
و نقضوا ميثاقك المؤكدا

هم بيتونا بالوتير هجدا
نتلو القران ركعا و سجدا

و زعموا أن لست تدعو أحدا
و هم أذل و أقل عددا

فانصر هداك الله نصرا أيدا
و ادع عباد الله يأتوا مددا

في فيلق كالبحر يجري مزبدا
فيهم رسول الله قد تجردا
قرم لقوم من قروم أصيدا

ثم ذكروا له ما أثار الشر-  و قالوا له إن أنس بن زنيم هجاك-  و إن صفوان بن أمية-  و فلانا و فلانا-  دسوا إلينا رجال قريش مستنصرين-  فبيتونا بمنزلنا بالوتير فقتلونا-  و جئناك مستصرخين بك-  فزعموا أن رسول الله ص قام مغضبا يجر رداءه و يقول-  لا نصرت إن لم أنصر خزاعة فيما أنصر منه نفسي- .

قلت-  فصادف ذلك من رسول الله ص إيثارا و حبا لنقض العهد-  لأنه كان يريد أن يفتح مكة و هم بها في عام الحديبية فصد-  ثم هم بها في عمرة القضية-  ثم وقف لأجل العهد و الميثاق الذي كان عقده معهم-  فلما جرى ما جرى على خزاعة اغتنمها- . قال الواقدي-  فكتب إلى جميع الناس في أقطار الحجاز و غيرها-  يأمرهم أن يكونوا بالمدينة في رمضان من سنة ثمان للهجرة-  فوافته الوفود و القبائل من كل جهة-  فخرج من المدينة بالناس-  يوم الأربعاء لعشر خلون من رمضان في عشرة آلاف-  فكان المهاجرون سبعمائة و معهم من الخيل ثلاثمائة فرس-  و كانت الأنصار أربعة آلاف معهم من الخيل خمسمائة-  و كانت مزينة ألفا فيها من الخيل مائة فرس-  و كانت أسلم أربعمائة فيها من الخيل ثلاثون فرسا-  و كانت جهينة ثمانمائة معها خمسون فرسا-  و من سائر الناس تمام عشرة آلاف-  و هم بنو ضمرة و بنو غفار و أشجع-  و بنو سليم و بنو كعب بن عمرو و غيرهم-  و عقد للمهاجرين ثلاثة ألوية-  لواء مع علي و لواء مع الزبير-  و لواء مع سعد بن أبي وقاص-  و كانت الرايات في الأنصار و غيرهم-  و كتم عن الناس الخبر فلم يعلم به إلا خواصه-  و أما قريش بمكة فندمت على ما صنعت بخزاعة-  و عرفت أن ذلك انقضاء ما بينهم و بين النبي ص من العهد-  و مشى الحارث بن هشام و عبد الله بن أبي ربيعة-  إلى أبي سفيان فقالا له-  إن هذا أمر لا بد له أن يصلح-  و الله إن لم يصلح لا يروعكم إلا محمد في أصحابه-  و قال أبو سفيان قد رأت هند بنت عتبة رؤيا-  كرهتها و أفظعتها و خفت من شرها-  قالوا ما رأت قال رأت كان دما أقبل من الحجون يسيل-  حتى وقف بالخندمة مليا-  ثم كان ذلك الدم لم يكن-  فكره القوم ذلك و قالوا هذا شر- .

قال الواقدي-  فلما رأى أبو سفيان ما رأى من الشر قال-  هذا و الله أمر لم أشهده‏و لم أغب عنه-  لا يحمل هذا إلا علي-  و لا و الله ما شوورت و لا هونت حيث بلغني-  و الله ليغزونا محمد إن صدق ظني و هو صادق-  و ما لي بد أن آتي محمدا فأكلمه أن يزيد في الهدنة-  و يجدد العهد قبل أن يبلغه هذا الأمر-  قالت قريش قد و الله أصبت-  و ندمت قريش على ما صنعت بخزاعة-  و عرفت أن رسول الله ص لا بد أن يغزوها-  فخرج أبو سفيان و خرج معه مولى له على راحلتين-  و أسرع السير-  و هو يرى أنه أول من خرج من مكة إلى رسول الله ص قال الواقدي و قد روى الخبر على وجه آخر-  و هو أنه لما قدم ركب خزاعة على رسول الله ص-  فأخبروه بمن قتل منهم- 

قال لهم بمن تهمتكم و طلبتكم-  قالوا بنو بكر بن عبد مناة-  قال كلها قالوا لا و لكن تهمتنا بنو نفاثة قصرة-  و رأسهم نوفل بن معاوية النفاثي-  فقال هذا بطن من بكر-  فأنا باعث إلى أهل مكة فسائلهم عن هذا الأمر-  و مخيرهم في خصال-  فبعث إليهم ضمرة يخيرهم بين إحدى خلال ثلاث-  بين أن يدوا خزاعة أو يبرءوا من حلف نفاثة-  أو ينبذ إليهم على سواء-  فأتاهم ضمرة فخيرهم بين الخلال الثلاث-  فقال قريظة بن عبد عمرو الأعمى-  أما أن ندي قتلى خزاعة-  فإنا إن وديناهم لم يبق لنا سبد و لا لبد-  و أما أن نبرأ من حلف نفاثة-  فإنه ليس قبيلة تحج هذا البيت أشد تعظيما له من نفاثة-  و هم حلفاؤنا فلا نبرأ من حلفهم-  و لكنا ننبذ إليه على سواء-  فعاد ضمرة إلى رسول الله ص بذلك-  و ندمت قريش أن ردت ضمرة بما ردته به- . قال الواقدي و قد روي غير ذلك-  روي أن قريشا لما ندمت على قتل خزاعة-  و قالت محمد غازينا- 

قال لهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح-  و هو يومئذ كافر مرتد عندهم-  أن عندي رأيا أن محمدا ليس يغزوكم-  حتى يعذر إليكم و يخيركم في خصال-  كلها أهون عليكم من غزوة-  قالوا ما هي قال يرسل إليكم أن تدوا قتلى خزاعة-  أو تبرءوا من حلف من نقض العهد و هم بنو نفاثة-  أو ينبذ إليكم العهد-  فقال القوم أحر بما قال ابن أبي سرح أن يكون-  فقال سهيل بن عمرو-  ما خصلة أيسر علينا من أن نبرأ من حلف نفاثة-  فقال شيبة بن عثمان العبدري-  حطت أخوالك خزاعة و غضبت لهم-  قال سهيل و أي قريش لم تلد خزاعة-  قال شيبة لا و لكن ندي قتلى خزاعة فهو أهون علينا-  فقال قريظة بن عبد عمرو-  لا و الله لا نديهم و لا نبرأ عن نفاثة أبر العرب بنا-  و أعمرهم لبيت ربنا-  و لكن ننبذ إليهم على سواء-  فقال أبو سفيان ما هذا بشي‏ء و ما الرأي إلا جحد هذا الأمر-  أن تكون قريش دخلت في نقض العهد أو قطع مدة-  فإن قطعه قوم بغير هوى منا و لا مشورة فما علينا- 

قالوا هذا هو الرأي لا رأي إلا الجحد لكل ما كان من ذلك-  فقال أنا أقسم أني لم أشهد و لم أوامر و أنا صادق-  لقد كرهت ما صنعتم و عرفت أن سيكون له يوم غماس-  قالت قريش لأبي سفيان فاخرج أنت بذلك فخرج- . قال الواقدي و حدثني عبد الله بن عامر الأسلمي-  عن عطاء بن أبي مروان قال-  قال رسول الله ص لعائشة صبيحة الليلة-  التي أوقعت فيها نفاثة و قريش بخزاعة بالوتير-  يا عائشة لقد حدث الليلة في خزاعة أمر-  فقالت عائشة يا رسول الله-  أ ترى قريشا تجترئ على نقض العهد بينك و بينهم-  أ ينقضون و قد أفناهم السيف-  فقال العهد لأمر يريده الله بهم-  فقالت خير أم شر يا رسول الله فقال خير- .

 قال الواقدي و حدثني عبد الحميد بن جعفر قال حدثني عمران بن أبي أنس عن ابن عباس قال قام رسول الله ص و هو يجر طرف ردائه و يقول-لا نصرت إن لم أنصر بني كعب يعني خزاعة-  فيما أنصر منه نفسي- .

قال الواقدي و حدثني حرام بن هشام عن أبيه قال-  قال رسول الله ص لكأنكم بأبي سفيان قد جاءكم يقول-  جدد العهد و زد في الهدنة و هو راجع بسخطه-  و قال لبني خزاعة عمرو بن سالم و أصحابه-  ارجعوا و تفرقوا في الأودية-  و قام فدخل على عائشة و هو مغضب فدعا بماء فدخل يغتسل  قالت عائشة فأسمعه يقول و هو يصب الماء على رجليه-  لا نصرت أن لم أنصر بني كعب- .

قال الواقدي فأما أبو سفيان فخرج من مكة و هو متخوف-  أن يكون عمرو بن سالم-  و رهطه من خزاعة سبقوه إلى المدينة-  و كان القوم لما رجعوا من المدينة و أتوا الأبواء-  تفرقوا كما أوصاهم رسول الله ص-  فذهبت طائفة إلى الساحل تعارض الطريق-  و لزم بديل بن أم أصرم الطريق في نفر معه-  فلقيهم أبو سفيان فلما رآهم أشفق أن يكونوا-  لقوا محمدا ص بل كان اليقين عنده-  فقام للقوم منذ كم عهدكم بيثرب قالوا لا عهد لنا بها-  فعرف أنهم كتموه فقال-  أ ما معكم من تمر يثرب شي‏ء تطعموناه-  فإن لتمر يثرب فضلا على تمر تهامة-  قالوا لا-  ثم أبت نفسه أن تقر فقال يا بديل هل جئت محمدا-  قال لا و لكني سرت في بلاد خزاعة من هذا الساحل-  في قتيل كان بينهم حتى أصلحت بينهم-  قال يقول أبو سفيان إنك و الله ما علمت بر واصل-  فلما راح بديل و أصحابه جاء أبو سفيان إلى أبعار إبلهم-  ففتها فإذا فيها النوى-  و وجد في منزلهم نوى من تمر عجوة كأنه ألسنة العصافير-  فقال أحلف بالله لقد جاء القوم محمدا-  و أقبل حتى قدم المدينة فدخل على النبي ص-  فقال يا محمد إني كنت غائبا في صلح الحديبية-  فاشدد العهد و زدنا في المدة-  فقال رسول الله ص و لذلك قدمت يا أبا سفيان-  قال نعم قال فهل كان قبلكم حدث-

 فقال معاذ الله-  فقال رسول الله-  فنحن على موثقنا و صلحنا يوم الحديبية لا نغير و لا نبدل-  فقام من عنده فدخل على ابنته أم حبيبة-  فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله ص طوته دونه-  فقال أ رغبت بهذا الفراش عني أم رغبت بي عنه-  فقالت بل هو فراش رسول الله ص-  و أنت امرؤ نجس مشرك-  قال يا بنية لقد أصابك بعدي شر-  فقالت إن الله هداني للإسلام-  و أنت يا أبت سيد قريش و كبيرها-  كيف يخفى عنك فضل الإسلام-  و تعبد حجرا لا يسمع و لا يبصر-  فقال يا عجبا و هذا منك أيضا-  أ أترك ما كان يعبد آبائي و أتبع دين محمد-  ثم قام من عندها فلقي أبا بكر فكلمه-  و قال تكلم أنت محمدا و تجير أنت بين الناس-  فقال أبو بكر جواري جوار رسول الله ص-  ثم لقي عمر فكلمه بمثل ما كلم به أبا بكر فقال عمر-  و الله لو وجدت السنور تقاتلكم لأعنتها عليكم- 

قال أبو سفيان جزيت من ذي رحم شرا-  ثم دخل على عثمان بن عفان فقال له-  إنه ليس في القوم أحد أمس بي رحما منك-  فزدني الهدنة و جدد العهد-  فإن صاحبك لا يرد عليك أبدا-  و الله ما رأيت رجلا قط أشد إكراما لصاحب من محمد لأصحابه-  فقال عثمان جواري جوار رسول الله ص-  فجاء أبو سفيان حتى دخل على فاطمة بنت رسول الله ص-  فكلمها و قال أجيري بين الناس-  فقالت إنما أنا امرأة-  قال إن جوارك جائز-  و قد أجارت أختك أبا العاص بن الربيع-  فأجاز محمد ذلك-  فقالت فاطمة ذلك إلى رسول الله ص و أبت عليه-  فقال مري أحد هذين ابنيك يجير بين الناس-  قالت إنهما صبيان و ليس يجير الصبي-  فلما أبت عليه أتى عليا ع فقال يا أبا حسن-  أجر بين الناس و كلم محمدا ليزيد في المدة-  فقال علي ع ويحك يا أبا سفيان-  إن رسول الله ص قد عزمألا يفعل-  و ليس أحد يستطيع أن يكلمه في شي‏ء يكرهه-  قال أبو سفيان فما الرأي عندك فتشير لأمري-  فإنه قد ضاق علي فمرني بأمر ترى أنه نافعي- 

قال علي ع و الله ما أجد لك شيئا-  مثل أن تقوم فتجير بين الناس-  فإنك سيد كنانة-  قال أ ترى ذلك مغنيا عني شيئا-  قال علي إني لا أظن ذلك و الله و لكني لا أجد لك غيره-  فقام أبو سفيان بين ظهري الناس فصاح-  ألا إني قد أجرت بين الناس و لا أظن محمدا يحقرني-  ثم دخل على رسول الله ص فقال-  يا محمد ما أظن أن ترد جواري-  فقال ع أنت تقول ذلك يا أبا سفيان-  و يقال إنه لما صاح لم يأت النبي ص-  و ركب راحلته و انطلق إلى مكة-  و يروى أنه أيضا أتى سعد بن عبادة فكلمه في ذلك-  و قال يا أبا ثابت قد عرفت الذي كان بيني و بينك-  و إني كنت لك في حرمنا جارا و كنت لي بيثرب مثل ذلك-  و أنت سيد هذه المدرة فأجر بين الناس و زدني في المدة-  فقال سعد جواري جوار رسول الله ص-  ما يجير أحد على رسول الله ص-  فلما انطلق أبو سفيان إلى مكة-  و قد كان طالت غيبته عن قريش و أبطأ فاتهموه و قالوا-  نراه قد صبا و اتبع محمدا سرا و كتم إسلامه-  فلما دخل على هند ليلا قالت-  قد احتبست حتى اتهمك قومك-  فإن كنت جئتهم بنجح فأنت الرجل-  و قد كان دنا منها ليغشاها-  فأخبرها الخبر و قال لم أجد إلا ما قال لي علي-  فضربت برجلها في صدوره و قالت-  قبحت من رسول قوم- .

قال الواقدي فحدثني عبد الله بن عثمان-  عن أبي سليمان عن أبيه قال-  لما أصبح أبو سفيان حلق رأسه عند الصنمين-  أساف و نائلة و ذبح لهما-  و جعل يمسح بالدم رءوسهما و يقول-  لا أفارق عبادتكما حتى أموت على ما مات عليه أبي-  قال فعل ذلك ليبرئ نفسه مما اتهمته قريش به‏

قال الواقدي و قالت قريش لأبي سفيان-  ما صنعت و ما وراءك-  و هل جئتنا بكتاب من محمد و زيادة في المدة-  فإنا لا نأمن من أن يغزونا-  فقال و الله لقد أبى علي-  و لقد كلمت عليه أصحابه فما قدرت على شي‏ء منهم-  و رموني بكلمة منهم واحدة-  إلا أن عليا قال لما ضاقت بي الأمور-  أنت سيد كنانة فأجر بين الناس فناديت بالجوار-  ثم دخلت على محمد فقلت إني قد أجرت بين الناس-  و ما أظن محمدا يرد جواري-  فقال محمد أنت تقول ذاك يا أبا سفيان-  لم يزد على ذلك-  قالوا ما زاد علي على أن يلعب بك تلعبا-  قال فو الله ما وجدت غير ذلك- .

 قال الواقدي فحدثني محمد بن عبد الله عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم قال لما خرج أبو سفيان عن المدينة-  قال رسول الله ص لعائشة-  جهزينا و أخفي أمركو قال رسول الله ص اللهم خذ عن قريش الأخبار و العيون حتى نأتيهم بغتةو روي أنه قال اللهم خذ على أبصارهم فلا يروني إلا بغتة-  و لا يسمعون بي إلا فجأة-  قال و أخذ رسول الله ص الأنقاب و جعل عليها الرجال-  و منع من يخرج من المدينة-  فدخل أبو بكر على عائشة و هي تجهز رسول الله ص-  تعمل له قمحا سويقا و دقيقا و تمرا-  فقال لها أ هم رسول الله ص بغزو قالت لا أدري-  قال إن كان هم بسفر فآذنينا نتهيأ له-  قالت لا أدري لعله أراد بني سليم-  لعله أراد ثقيفا أو هوازن فاستعجمت عليه-  فدخل على رسول الله ص فقال-  يا رسول الله أردت سفرا قال نعم قال أ فأتجهز قال نعم-  قال و أين تريد قال قريشا و أخف ذلك يا أبا بكر-  و أمر رسول الله ص الناس فتجهزوا-  و طوى عنهم الوجه الذي يريد- 

و قال له أبو بكر يا رسول الله أ و ليس بيننا و بينهم مدة-  فقال إنهم غدروا و نقضوا العهدفأنا غازيهم-  فاطو ما ذكرت لك-  فكان الناس بين ظان يظن أنه يريد سليما-  و ظان يظن أنه يريد هوازن و ظان يظن أنه يريد ثقيفا-  و ظان يظن أنه يريد الشام-  و بعث رسول الله ص أبا قتادة بن ربعي في نفر إلى بطن-  ليظن الناس أن رسول الله ص قدم أمامه أولئك الرجال-  لتوجهه إلى تلك الجهة و لتذهب بذلك الأخبار- .

قال الواقدي حدثني المنذر بن سعد-  عن يزيد بن رومان قال-  لما أجمع رسول الله ص المسير إلى قريش-  و علم بذلك من علم من الناس-  كتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش-  يخبرهم بالذي أجمع عليه رسول الله ص في أمرهم-  و أعطى الكتاب امرأة من مزينة-  و جعل لها على ذلك جعلا على أن تبلغه قريشا-  فجعلت الكتاب في رأسها-  ثم فتلت عليه قرونها و خرجت به-  و أتى الخبر إلى النبي ص من السماء بما صنع حاطب-  فبعث عليا ع و الزبير فقال-  أدركا امرأة من مزينة-  قد كتب معها حاطب كتابا يحذر قريشا-  فخرجا و أدركاها بذي الحليفة-  فاستنزلاها و التمسا الكتاب في رحلها فلم يجدا شيئا-  فقالا لها نحلف بالله ما كذب رسول الله ص-  و لا كذبنا-  و لتخرجن الكتاب أو لنكشفنك-  فلما رأت منهما الجد حلت قرونها-  و استخرجت الكتاب فدفعته إليهما-  فأقبلا به إلى رسول الله ص-  فدعا حاطبا و قال له ما حملك على هذا-  فقال يا رسول الله و الله إني لمسلم مؤمن بالله و رسوله-  ما غيرت و لا بدلت-  و لكني كنت امرأ ليس لي في القوم أصل و لا عشيرة-  و كان لي بين أظهرهم أهل و ولد فصانعتهم-  فقال عمر قاتلك الله ترى رسول الله ص يأخذ بالأنقاب-  و تكتب إلى قريش تحذرهم-  دعني يا رسول الله أضرب عنقه فإنه قد نافق-  فقال رسول الله ص‏و ما يدريك يا عمر-  لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال- 

اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم-  قال الواقدي فلما خرج رسول الله ص من المدينة-  بالألوية المعقودة و الرايات-  بعد العصر من يوم الأربعاء لعشر خلون من شهر رمضان-  لم يحل عقده حتى انتهى إلى الصلصل-  و المسلمون يقودون الخيل و قد امتطوا الإبل-  و قدم أمامه الزبير بن العوام في مائتين-  قال فلما كان بالبيداء نظر إلى عنان السماء-  فقال إني لأرى السحاب تستهل بنصر بني كعب يعني خزاعة- . قال الواقدي-  و جاء كعب بن مالك ليعلم أي جهة يقصد-  فبرك بين يديه على ركبتيه ثم أنشده- 

قضينا من تهامة كل نحب
و خيبر ثم أحمينا السيوفا

فسائلها و لو نطقت لقالت‏
قواضبهن دوسا أو ثقيفا

فلست بحاضر إن لم تروها
بساحة داركم منها ألوفا

فننتزع الخيام ببطن وج‏
و نترك دوركم منها خلوفا

قال فتبسم رسول الله ص و لم يزد على ذلك-  فجعل الناس يقولون و الله ما بين لك رسول الله ص شيئا-  فلم تزل الناس كذلك حتى نزلوا بمر الظهران- . قال الواقدي و خرج العباس بن عبد المطلب-  و مخرمة بن نوفل-  من مكة يطلبان رسول الله ص-  ظنا منهما أنه بالمدينة يريدان الإسلام-  فلقياه بالسقيا- .

قال الواقدي فلما كانت الليلة التي أصبح فيها بالجحفة-  رأى فيها أبو بكر في منامه أن النبي ص و أصحابه-  قد دنوا من مكة فخرجت عليهم كلبة تهر-  فلما دنوا منها استلقت على قفاها-  و إذا أطباؤها تشخب لبنا-  فقصها على رسول الله ص-  فقال ذهب كلبهم و أقبل درهم-  و هم سائلونا بأرحامهم و أنتم لاقون بعضهم-  فإن لقيتم أبا سفيان فلا تقتلوه قال الواقدي و إلى أن وصل مر الظهران-  لم يبلغ قريشا حرف واحد من حاله-  فلما نزل بمر الظهران أمر أصحابه أن يوقدوا النار-  فأوقدوا عشرة آلاف نار-  و أجمعت قريش أن يبعثوا أبا سفيان يتجسس لهم الأخبار-  فخرج هو و حكيم بن حزام و بديل بن ورقاء-  قال و قد كان العباس بن عبد المطلب قال-  وا سوء صباح قريش-  و الله إن دخلها رسول الله ص عنوة-  إنه لهلاك قريش آخر الدهر-  قال العباس فأخذت بغلة رسول الله ص الشهباء فركبتها-  و قلت ألتمس حطابا أو إنسانا أبعثه إلى قريش-  فيلقوا رسول الله ص قبل أن يدخلها عليهم عنوة-  فو الله إني لفي الأراك ليلا أبتغي ذلك إذ سمعت كلاما يقول-  و الله إن رأيت كالليلة نارا- 

قال يقول بديل بن ورقاء-  إنها نيران خزاعة جاشها الحرب-  قال يقول أبو سفيان خزاعة أذل-  من أن تكون هذه نيرانها و عسكرها-  فعرفت صوته فقلت أبا حنظلة-  فعرف صوتي فقال لبيك أبا الفضل-  فقلت ويحك هذا رسول الله ص في عشرة آلاف و هو مصبحكم-  فقال بأبي و أمي فهل من حيلة فقلت نعم-  تركب عجز هذه البغلة فأذهب بك إلى رسول الله ص-  فإنه إن ظفر بك دون ذلك ليقتلنك-  قال و الله أنا أرى ذلك فركب خلفي-  و رحل‏بديل و حكيم فتوجهت به-  فلما مررت به على نار من نيران المسلمين قالوا من هذا-  فإذا رأوني قالوا عم رسول الله ص على بغلة رسول الله-  حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فلما رآني قال من هذا- 

قلت العباس فذهب ينظر فرأى أبا سفيان خلفي-  فقال أبو سفيان عدو الله-  الحمد لله الذي أمكن منك بغير عهد و لا عقد-  ثم خرج يشتد نحو رسول الله ص-  و ركضت البغلة-  حتى اجتمعنا جميعا على باب قبة رسول الله ص-  فدخلت و دخل عمر بن الخطاب على أثري-  فقال عمر يا رسول الله هذا أبو سفيان عدو الله-  قد أمكن الله منه بغير عقد و لا عهد فدعني أضرب عنقه-  فقلت يا رسول الله إني قد أجرته-  ثم لزمت رسول الله ص فقلت-  و الله لا يناجيه الليلة أحد دوني-  فلما أكثر عمر فيه قلت مهلا يا عمر-  فإنه لو كان رجلا من عدي بن كعب ما قلت هذا-  و لكنه أحد بني عبد مناف-  فقال عمر مهلا يا أبا الفضل-  فو الله لإسلامك كان أحب إلي من إسلام الخطاب-  أو قال من إسلام رجل من ولد الخطاب لو أسلم-  فقال رسول الله ص اذهب به فقد أجرناه-  فليبت عندك حتى تغدو به علينا إذا أصبحت-  فلما أصبحت غدوت به-  فلما رآه رسول الله ص قال ويحك يا أبا سفيان-  أ لم يأن لك أن تعلم لا إله إلا الله-  قال بأبي أنت ما أحلمك و أكرمك و أعظم عفوك-  قد كان يقع في نفسي أن لو كان مع الله إله آخر لأغنى- 

قال يا أبا سفيان أ لم يأن لك أن تعلم أني رسول الله-  قال بأبي أنت ما أحلمك و أكرمك و أعظم عفوك-  أما هذه فو الله إن في النفس منها لشيئا بعد-  قال العباس فقلت ويحك-  تشهد و قل لا إله الله محمد رسول الله قبل أن تقتل-  فتشهد-  و قال العباس يا رسول الله-  إنك قد عرفت أبا سفيان و فيه الشرف و الفخر فاجعل له شيئا- 

 فقال من دخل دار أبي سفيان فهو آمن-  و من أغلق داره فهو آمن-  ثم قال خذه فاحبسه بمضيق الوادي إلى خطم الجبل-حتى تمر عليه جنود الله فيراها-  قال العباس فعدلت به في مضيق الوادي إلى خطم الجبل-  فحبسته هناك فقال أ غدرا يا بني هاشم-  فقلت له إن أهل النبوة لا يغدرون-  و إنما حبستك لحاجة-  قال فهلا بدأت بها أولا فأعلمتنيها فكان أفرخ لروعي-  ثم مرت به القبائل على قادتها و الكتائب على راياتها-  فكان أول من مر به خالد بن الوليد في بني سليم و هم ألف-  و لهم لواءان يحمل أحدهما العباس بن مرداس-  و الآخر خفاف بن ندبة و راية يحملها المقداد-  فقال أبو سفيان يا أبا الفضل من هؤلاء-  قال هؤلاء بنو سليم و عليهم خالد بن الوليد-  قال الغلام قال نعم-  فلما حاذى خالد العباس و أبا سفيان كبر ثلاثا-  و كبروا معه ثم مضوا-  و مر على أثره الزبير بن العوام في خمسمائة-  فيهم جماعة من المهاجرين و قوم من أفناء الناس-  و معه راية سوداء فلما حاذاهما كبر ثلاثا و كبر أصحابه-  فقال من هذا-  قال هذا الزبير قال ابن أختك قال نعم-  قال ثم مرت به بنو غفار في ثلاثمائة يحمل رايتهم أبو ذر-  و يقال إيماء بن رحضة-  فلما حاذوهما كبروا ثلاثا- 

قال يا أبا الفضل من هؤلاء قال بنو غفار-  قال ما لي و لبني غفار-  ثم مرت به أسلم في أربعمائة-  يحمل لواءها يزيد بن الخصيب-  و لواء آخر مع ناجية بن الأعجم فلما حاذوه كبروا ثلاثا-  فسأل عنهم فقال هؤلاء أسلم فقال ما لي و لأسلم-  ما كان بيننا و بينهم ترة قط-  ثم مرت بنو كعب بن عمرو بن خزاعة في خمسمائة-  يحمل رايتهم بشر بن سفيان-  فقال من هؤلاء قال كعب بن عمرو قال نعم حلفاء محمد-  فلما حاذوه كبروا ثلاثا-  ثم مرت مزينة في ألف فيها ثلاثة ألوية-  مع النعمان بن مقرن و بلال بن الحارث و عبد الله بن عمرو-  فلما حاذوهما كبروا-  قال من هؤلاء قال مزينة قال يا أبا الفضل ما لي و لمزينة-  قد جاءتني تقعقع من شواهقها-ثم مرت جهينة في ثمانمائة فيها أربعة ألوية-  مع معبد بن خالد و سويد بن صخر و رافع بن مكيث-  و عبد الله بن بدر-  فلما حاذوه كبروا ثلاثا فسأل عنهم فقيل جهينة-  ثم مرت بنو كنانة و بنو ليث و ضمرة و سعد بن أبي بكر-  في مائتين يحمل لواءهم أبو واقد الليثي-  فلما حاذوه كبروا ثلاثا- 

قال من هؤلاء قال بنو بكر قال نعم أهل شؤم هؤلاء-  الذين غزانا محمد لأجلهم-  أما و الله ما شوورت فيهم و لا علمته-  و لقد كنت له كارها حيث بلغني و لكنه أمر حم-  قال العباس لقد خار الله لك في غزو محمد إياكم-  و دخلتم في الإسلام كافة-  ثم مرت أشجع-  و هم آخر من مر به قبل أن تأتي كتيبة رسول الله ص-  و هم ثلاثة يحمل لواءهم معقل بن سنان-  و لواء آخر مع نعيم بن مسعود فكبروا-  قال من هؤلاء قال أشجع-  فقال هؤلاء كانوا أشد العرب على محمد-  قال العباس نعم و لكن الله أدخل الإسلام قلوبهم-  و ذلك من فضل الله-  فسكت و قال أ ما مر محمد بعد قال لا-  و لو رأيت الكتيبة التي هو فيها-  لرأيت الحديد و الخيل و الرجال و ما ليس لأحد به طاقة-  فلما طلعت كتيبة رسول الله ص الخضراء-  طلع سواد شديد و غبرة من سنابك الخيل-  و جعل الناس يمرون كل ذلك يقول أ ما مر محمد بعد-  فيقول العباس لا حتى مر رسول الله ص-  يسير على ناقته القصوى بين أبي بكر و أسيد بن حضير-  و هو يحدثهما- 

و قال له العباس هذا رسول الله ص في كتيبته الخضراء-  فانظر-  قال و كان في تلك الكتيبة وجوه المهاجرين و الأنصار-  و فيها الألوية و الرايات-  و كلهم منغمسون في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق-  و لعمر بن الخطاب فيها زجل و عليه الحديد و صوته عال و هو يزعها-  فقال يا أبا الفضل من هذا المتكلم-  قال هذاعمر بن الخطاب-  قال لقد أمر أمر بني عدي بعد قلة و ذلة-  فقال إن الله يرفع من يشاء بما يشاء-  و إن عمر ممن رفعه الإسلام-  و كان في الكتيبة ألفا دارع-  و راية رسول الله ص مع سعد بن عبادة و هو أمام الكتيبة-  فلما حاذاهما سعد نادى يا أبا سفيان- 

   اليوم يوم الملحمة
اليوم تسبى الحرمة

اليوم أذل الله قريشا- فلما حاذاهما رسول الله ص ناداه أبو سفيان- يا رسول الله أمرت بقتل قومك أن سعدا قال-

اليوم يوم الملحمة
اليوم تسبى الحرمة

 اليوم أذل الله قريشا-  و إني أنشدك الله في قومك فأنت أبر الناس-  و أرحم الناس و أوصل الناس-  فقال عثمان بن عفان و عبد الرحمن بن عوف-  يا رسول الله إنا لا نأمن سعدا أن يكون له في قريش صولة- فوقف رسول الله ص و ناداه-  يا أبا سفيان بل اليوم يوم المرحمة-  اليوم أعز الله قريشا-  و أرسل إلى سعد فعزله عن اللواء-  و اختلف فيمن دفع إليه اللواء-  فقيل دفعه إلى علي بن أبي طالب ع-  فذهب به حتى دخل مكة فغرزه عند الركن-  و هو قول ضرار بن الخطاب الفهري-  و قيل دفعه إلى قيس بن سعد بن عبادة-  و رأى رسول الله ص أنه لم يخرجه عن سعد حيث دفعه إلى ولده-  فذهب به حتى غرزه بالحجون-  قال و قال أبو سفيان للعباس-  ما رأيت مثل هذه الكتيبة قط و لا أخبرنيه مخبر-  سبحان الله ما لأحد بهؤلاء طاقة و لا يدان-  لقد أصبح ملك ابن أخيك يا عباس عظيما-  قال فقلت ويحك إنه ليس بملك و إنها النبوة قال نعم- .

قال الواقدي قال العباس فقلت له-  انج ويحك فأدرك قومك قبل أن يدخل‏ عليهم-  فخرج أبو سفيان حتى دخل من كداء و هو ينادي-  من دخل دار أبي سفيان فهو آمن-  و من أغلق عليه بابه فهو آمن-  حتى انتهى إلى هند بنت عتبة فقالت ما وراءك-  قال هذا محمد في عشرة آلاف عليهم الحديد-  و قد جعل لي أنه من دخل داري فهو آمن-  و من أغلق عليه بابه فهو آمن و من ألقى سلاحه فهو آمن-  فقالت قبحك الله من رسول قوم و جعلت تقول ويحكم-  اقتلوا وافدكم قبحه الله من وافد قوم-  فيقول أبو سفيان ويحكم-  لا تغرنكم هذه من أنفسكم فإني رأيت ما لم تروا-  الرجال و الكراع و السلاح ليس لأحد بهذا طاقة-  محمد في عشرة آلاف فأسلموا تسلموا-  و قال المبرد في الكامل-  أمسكت هند برأس أبي سفيان و قالت بئس طليعة القوم-  و الله ما خدشت خدشا يا أهل مكة-  عليكم الحميت الدسم فاقتلوه-  قال الحميت الزق المزفت- .

قال الواقدي و خرج أهل مكة إلى ذي طوى-  ينظرون إلى رسول الله ص-  و انضوى إلى صفوان بن أمية و عكرمة بن أبي جهل-  و سهيل بن عمرو ناس من أهل مكة و من بني بكر و هذيل-  فلبسوا السلاح و أقسموا لا يدخل محمد مكة عنوة أبدا-  و كان رجل من بني الدؤل يقال له-  حماس بن قيس بن خالد الدؤلي-  لما سمع برسول الله ص جلس يصلح سلاحه-  فقالت له امرأته لم تعد السلاح قال لمحمد و أصحابه-  و إني لأرجو أن أخدمك منهم خادما فإنك إليه محتاجة-  قالت ويحك لا تفعل لا تقاتل محمدا-  و الله ليضلن هذا عنك لو رأيت محمدا و أصحابه-  قال سترين و أقبل رسول الله ص-  و هو على ناقته القصواء معتجرا ببرد حبرة-  و عليه عمامة سوداء و رايته سوداء و لواؤه أسود-  حتى وقف بذي طوى و توسط الناس-  و إن عثنونه ليمس واسطة الرحل أو يقرب منه تواضعا لله-  حيث رأى ما رأى من الفتح و كثرة المسلمين-  و قال لا عيش إلا عيش الآخرة- .

   و جعلت الخيل تعج بذي طوى في كل وجه-  ثم ثابت و سكنت و التفت رسول الله ص إلى أسيد بن حضير-  فقال كيف قال حسان بن ثابت قال فأنشده- 

   عدمنا خيلنا إن لم تروها
تثير النقع موعدها كداء

تظل جيادنا متمطرات‏
تلطمهن بالخمر النساء

 فتبسم رسول الله ص و حمد الله-  و أمر الزبير بن العوام أن يدخل من كداء-  و أمر خالد بن الوليد أن يدخل من الليط-  و أمر قيس بن سعد أن يدخل من كدى-  و دخل هو ص من أذاخر- . قال الواقدي-  و حدثني مروان بن محمد عن عيسى بن عميلة الفزاري-  قال دخل رسول الله ص مكة بين الأقرع بن حابس و عيينة بن حصن- . قال الواقدي و روى عيسى بن معمر-  عن عباد بن عبد الله عن أسماء بنت أبي بكر قالت-  صعد أبو قحافة بصغرى بناته و اسمها قريبة-  و هو يومئذ أعمى و هي تقوده حتى ظهرت به إلى أبي قبيس-  فلما أشرفت به قال يا بنية ما ذا ترين- 

قالت أرى سوادا مجتمعا مقبلا كثيرا-  قال يا بنية تلك الخيل فانظري ما ذا ترين-  قالت أرى رجلا يسعى بين ذلك السواد مقبلا و مدبرا-  قال ذاك الوازع فانظري ما ذا ترين-  قالت قد تفرق السواد قال قد تفرق الجيش البيت البيت-  قالت فنزلت الجارية به و هي ترعب لما ترى-  فقال يا بنية لا تخافي-  فو الله إن أخاك عتيقا لآثر أصحاب محمد عند محمد-  قالت و عليها طوق من فضة-  فاختلسه بعض من دخل- فلما دخل رسول الله ص مكة-  جعل أبو بكر ينادي أنشدكم الله أيها الناس طوق أختي-  فلم يرد أحد عليه-  فقال يا أخية احتسبي طوقك-  فإن الأمانة في الناس قليل- . قال الواقدي و نهى رسول الله ص عن الحرب-  و أمر بقتل ستة رجال و أربع نسوة-  عكرمة بن أبي جهل و هبار بن الأسود-  و عبد الله بن سعد بن أبي سرح-  و مقيس بن صبابة الليثي و الحويرث بن نفيل-  و عبد الله بن هلال بن خطل الأدرمي-  و هند بنت عتبة و سارة مولاة لبني هاشم-  و قينتين لابن خطل قريبا و قريبة-  و يقال قرينا و أرنب- .

قال الواقدي و دخلت الجنود كلها-  فلم تلق حربا إلا خالد بن الوليد-  فإنه وجد جمعا من قريش و أحابيشها قد جمعوا له-  فيهم صفوان بن أمية و عكرمة بن أبي جهل-  و سهيل بن عمرو-  فمنعوه الدخول و شهروا السلاح و رموه بالنبل-  و قالوا لا تدخلها عنوة أبدا-  فصاح خالد في أصحابه و قاتلهم-  فقتل من قريش أربعة و عشرون و من هذيل أربعة-  و انهزموا أقبح انهزام حتى قتلوا بالحزورة-  و هم مولون من كل وجه-  و انطلقت طائفة منهم فوق رءوس الجبال-  و اتبعهم المسلمون-  و جعل أبو سفيان بن حرب و حكيم بن حزام يناديان-  يا معشر قريش علام تقتلون أنفسكم-  من دخل داره فهو آمن و من أغلق عليه بابه فهو آمن-  و من وضع السلاح فهو آمن-  فجعل الناس يقتحمون الدور و يغلقون عليهم الأبواب-  و يطرحون السلاح في الطرق حتى يأخذه المسلمون- . قال الواقدي و أشرف رسول الله ص من على ثنية أذاخر-  فنظر إلى البارقة فقال ما هذه البارقة-  أ لم أنه عن القتال-  قيل يا رسول الله خالد بن الوليدقوتل-  و لو لم يقاتل ما قاتل-  فقال قضاء الله خير-  و أقبل ابن خطل مدججا في الحديد-  على فرس ذنوب بيده قناة يقول-  لا و الله لا يدخلها عنوة حتى يرى ضربا كأفواه المزاد-  فلما انتهى إلى الخندمة و رأى القتال-  دخله رعب حتى ما يستمسك من الرعدة-  و مر هاربا حتى انتهى إلى الكعبة-  فدخل بين أستارها بعد أن طرح سلاحه و ترك فرسه-  و أقبل حماس بن خالد الدؤلي منهزما حتى أتى بيته فدقه-  ففتحت له امرأته فدخل و قد ذهبت روحه-  فقالت أين الخادم التي وعدتني-  ما زلت منتظرتك منذ اليوم تسخر به-  فقال دعي هذا و أغلقي الباب-  فإنه من أغلق بابه فهو آمن-  قالت ويحك أ لم أنهك عن قتال محمد-  و قلت لك إني ما رأيته يقاتلكم مرة-  إلا و ظهر عليكم و ما بابنا-  قال إنه لا يفتح على أحد بابه-  ثم أنشدها- 

   إنك لو شهدتنا بالخندمه
إذ فر صفوان و فر عكرمه‏

و بو يزيد كالعجوز المؤتمه‏
و ضربناهم بالسيوف المسلمه‏

لهم زئير خلفنا و غمغمه
لم تنطقي في اللوم أدنى كلمه‏

 قال الواقدي و حدثني قدامة بن موسى-  عن بشير مولى المازنيين عن جابر بن عبد الله قال-  كنت ممن لزم رسول الله ص يومئذ-  فدخلت معه يوم الفتح من أذاخر-  فلما أشرف نظر إلى بيوت مكة فحمد الله و أثنى عليه-  و نظر إلى موضع قبة بالأبطح تجاه شعب بني هاشم-  حيث حصر رسول الله ص و أهله ثلاث‏سنين-  و قال يا جابر-  إن منزلنا اليوم حيث تقاسمت علينا قريش في كفرها-  قال جابر فذكرت كلاما كنت أسمعه في المدينة قبل ذلك-  كان يقول منزلنا غدا إن شاء الله إذا فتح علينا مكة-  في الخيف حيث تقاسموا على الكفر- . قال الواقدي-  و كانت قبته يومئذ بالأدم ضربت له بالحجون-  فأقبل حتى انتهى إليها و معه أم سلمة و ميمونة قال الواقدي و حدثني معاوية بن عبد الله بن عبيد الله-  عن أبيه عن أبي رافع قال-  قيل للنبي ص أ لا تنزل منزلك من الشعب-  قال و هل ترك لنا عقيل من منزل-  و كان عقيل قد باع منزل رسول الله ص-  و منازل إخوته من الرجال و النساء بمكة-  فقيل لرسول الله ص فانزل في بعض بيوت مكة من غير منازلك-  فأبى و قال لا أدخل البيوت-  فلم يزل مضطربا بالحجون لم يدخل بيتا-  و كان يأتي إلى المسجد من الحجون-  قال و كذلك فعل في عمرة القضية و في حجته- .

قال الواقدي و كانت أم هانئ بنت أبي طالب-  تحت هبيرة بن أبي وهب المخزومي-  فلما كان يوم الفتح دخل عليها حموان لها-  عبد الله بن أبي ربيعة و الحارث بن هشام المخزوميان-  فاستجارا بها و قالا نحن في جوارك-  فقالت نعم أنتما في جواري-  قالت أم هانئ-  فهما عندي إذ دخل علي فارس مدجج في الحديد و لا أعرفه-  فقلت له أنا بنت عم رسول الله فأسفر عن وجهه-  فإذا علي أخي فاعتنقته-  و نظر إليهما فشهر السيف عليهما-  فقلت أخي من بين الناس تصنع بي هذا-  فألقيت عليهما ثوبا فقال أ تجيرين المشركين-  فحلت دونهما و قلت لا و الله و ابتدئ بي قبلهما-  قالت فخرج و لم يكد فأغلقت عليهما بيتا و قلت لا تخافا-  و ذهبت إلى خباء رسول الله ص‏بالبطحاء فلم أجده-  و وجدت فيه فاطمة فقلت لها ما لقيت من ابن أمي علي-  أجرت حموين لي من المشركين فتفلت عليهما ليقتلهما-  قالت و كانت أشد علي من زوجها-  و قالت لم تجيرين المشركين-  و طلع رسول الله ص و عليه الغبار-  فقال مرحبا بفاختة و هو اسم أم هانئ-  فقلت ما ذا لقيت من ابن أمي علي ما كدت أفلت منه-  أجرت حموين لي من المشركين فتفلت عليهما ليقتلهما-  فقال ما كان ذلك له قد أجرنا من أجرت و أمنا من أمنت-  ثم أمر فاطمة فسكبت له غسلا فاغتسل-  ثم صلى ثماني ركعات-  في ثوب واحد ملتحفا به وقت الضحى-  قالت فرجعت إليهما و أخبرتهما و قلت إن شئتما فأقيما-  و إن شئتما فارجعا إلى منازلكما-  فأقاما عندي في منزلي يومين ثم انصرفا إلى منازلهما- .

و أتى آت إلى النبي ص فقال-  إن الحارث بن هشام و عبد الله بن أبي ربيعة-  جالسان في ناديهما متفضلان في الملإ المزعفر-  فقال لا سبيل إليهما قد أجرناهما- . قال الواقدي-  و مكث رسول الله ص في قبة ساعة من النهار-  ثم دعا براحلته بعد أن اغتسل و صلى-  فأدنيت إلى باب القبة-  و خرج و عليه السلاح و المغفر على رأسه و قد صف له الناس-  فركبها و الخيل تمعج ما بين الخندمة إلى الحجون-  ثم مر و أبو بكر إلى جانبه على راحلة أخرى يسير و يحادثه-  و إذا بنات أبي أحيحة سعيد بن العاص بالبطحاء-  حذاء منزل أبي أحيحة و قد نشرن شعورهن-  فلطمن وجوه الخيل بالخمر-  فنظر رسول الله ص إلى أبي بكر فتبسم و أنشده قول حسان-

تظل جيادنا متمطرات
تلطمهن بالخمر النساء

فلما انتهى إلى الكعبة تقدم على راحلته-  فاستلم الركن بمحجنه و كبر فكبر المسلمون لتكبيره-  و عجوا بالتكبير حتى ارتجت مكة-  و جعل رسول الله ص يشير إليهم أن اسكتوا-  و المشركون فوق الجبال ينظرون-  ثم طاف بالبيت على راحلته-  و محمد بن مسلمة آخذ بزمامها-  و حول الكعبة ثلاثمائة و ستون صنما مرصوصة بالرصاص-  و كان هبل أعظمها و هو تجاه الكعبة على بابها-  و إساف و نائلة حيث ينحرون و يذبحون الذبائح-  فجعل كلما يمر بصنم منها يشير بقضيب في يده-  و يقول جاء الحق و زهق الباطل إن الباطل كان زهوقا-  فيقع الصنم لوجهه ثم أمر بهبل فكسر و هو واقف عليه-  فقال الزبير لأبي سفيان يا أبا سفيان قد كسر هبل-  أ ما إنك قد كنت منه يوم أحد في غرور-  حين تزعم أنه قد أنعم-  فقال دع هذا عنك يا ابن العوام-  فقد أرى أن لو كان مع إله محمد غيره لكان غير ما كان- .

قال الواقدي ثم انصرف رسول الله ص-  فجلس ناحية من المسجد-  و أرسل بلالا إلى عثمان بن طلحة يأتيه بالمفتاح-  مفتاح الكعبة-  فقال عثمان نعم فخرج إلى أمه و هي بنت شيبة-  فقال لها و المفتاح عندها يومئذ-  إن رسول الله ص قد طلب المفتاح-  فقالت أعيذك بالله-  أن يكون الذي يذهب مأثرة قومه على يده-  فقال فو الله لتأتيني به أو ليأتينك غيري فيأخذه منك-  فأدخلته في حجرتها و قالت-  أي رجل يدخل يده هاهنا-  فبينما هما على ذلك و هو يكلمها-  إذ سمعت صوت أبي بكر و عمر في الدار-  و عمر رافع صوته حين رأى عثمان أبطأ-  يا عثمان اخرج فقالت أمه خذ المفتاح-  فلأن تأخذه أنت أحب إلي من أن يأخذه تيم و عدي-  فأخذه فأتى به رسول الله ص-  فلما تناوله بسط العباس بن عبد المطلب يده و قال-  يا رسول الله بأبي أنت اجمع لنا بين السقاية و الحجابة-  فقال إنما أعطيكم ما ترضون فيه-  و لا أعطيكم ما ترزءون منه-قالوا و كان عثمان بن طلحة قد قدم على رسول الله ص-  مع خالد بن الوليد و عمرو بن العاص مسلما قبل الفتح- .

قال الواقدي-  و بعث رسول الله ص عمر بن الخطاب-  و معه عثمان بن طلحة-  و أمره أن يفتح البيت فلا يدع فيه صورة و لا تمثالا-  إلا صورة إبراهيم الخليل ع-  فلما دخل الكعبة-  رأى صورة إبراهيم شيخا كبيرا يستقسم بالأزلام- .

قال الواقدي-  و قد روي أنه أمره بمحو الصور كلها لم يستثن-  فترك عمر صورة إبراهيم-  فقال لعمر أ لم آمرك ألا تدع فيها صورة-  فقال عمر كانت صورة إبراهيم قال فامحها-  و قال قاتلهم الله جعلوه شيخا يستقسم بالأزلام- . قال و محا صورة مريم-  قال و قد روي أن رسول الله ص محا الصور بيده-  روى ذلك ابن أبي ذئب عن عبد الرحمن بن مهران عن عمير مولى ابن عباس عن أسامة بن زيد قال دخلت مع رسول الله ص الكعبة-  فرأى فيها صورا فأمرني أن آتيه في الدلو بماء-  فجعل يبل به الثوب و يضرب به الصور و يقول-  قاتل الله قوما يصورون ما لا يخلقون

 قال الواقدي و أمر رسول الله ص بالكعبة فأغلقت عليه-  و معه فيها أسامة بن زيد و بلال بن رباح و عثمان بن طلحة-  فمكث فيها ما شاء الله-  و خالد بن الوليد واقف على الباب يذب الناس عنه-  حتى خرج رسول الله ص-  فوقف و أخذ بعضادتي الباب-  و أشرف على الناس و في يده المفتاح-  ثم جعله في كمه و أهل مكة قيام تحته-  و بعضهم جلوس قد ليط بهم-  فقال الحمد لله الذي‏ صدق وعده و نصر عبده-  و هزم الأحزاب وحده ما ذا تقولون-  و ما ذا تظنون قالوا نقول خيرا و نظن شرا-  أخ كريم و ابن أخ كريم و قد قدرت-  فقال إني أقول كما قال أخي يوسف-  لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ-  يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ-  ألا إن كل ربا في الجاهلية أو دم أو مأثرة-  فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة الكعبة و سقاية الحاج-  ألا و في قتيل شبه العمد-  قتيل العصا و السوط الدية مغلظة مائة ناقة-  منها أربعون في بطونها أولادها-  إن الله قد أذهب نخوة الجاهلية و تكبرها بآبائها-  كلكم لآدم و آدم من تراب-  و أكرمكم عند الله أتقاكم-  ألا إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات و الأرض-  فهي حرام بحرم الله لم تحل لأحد كان قبل-  و لا تحل لأحد يأتي بعدي-  و ما أحلت لي إلا ساعة من النهار- 

قال يقصدها رسول الله ص بيده هكذا-  لا ينفر صيدها و لا يعضد عضاهها-  و لا تحل لقطتها إلا لمنشد و لا يختلى خلاها-  فقال العباس إلا الإذخر يا رسول الله-  فإنه لا بد منه للقبور و البيوت-  فسكت رسول الله ص ساعة-  ثم قال إلا الإذخر فإنه حلال-  و لا وصية لوارث و الولد للفراش و للعاهر الحجر-  و لا يحل لامرأة أن تعطي من مالها إلا بإذن زوجها-  و المسلم أخو المسلم و المسلمون إخوة-  يد واحدة على من سواهم تتكافأ دماؤهم-  يسعى بذمتهم أدناهم و يرد عليهم أقصاهم-  و لا يقتل مسلم بكافر و لا ذو عهد في عهده-  و لا يتوارث أهل ملتين مختلفتين-  و لا تنكح المرأة على عمتها و لا على خالتها-  و البينة على من ادعى و اليمين على من أنكر-  و لا تسافر امرأة مسيرة ثلاث إلا مع ذي محرم-  و لا صلاة بعد العصر و لا بعد الصبح-  و أنهاكم عن صيام يومين يوم الأضحى و يوم الفطرثم قال ادعوا لي عثمان بن طلحة فجاء-  و قد كان رسول الله ص قال له يوما بمكة قبل الهجرة-  و مع عثمان المفتاح-  لعلك سترى هذا المفتاح بيدي يوما أضعه حيث شئت-  فقال عثمان لقد هلكت قريش إذا و ذلت-  فقال ع بل عمرت و عزت- 

قال عثمان فلما دعاني يومئذ و المفتاح بيده-  ذكرت قوله حين قال-  فاستقبلته‏ببشر فاستقبلني بمثله-  ثم قال خذوها يا بني أبي طلحة خالدة تالدة-  لا ينزعها منكم إلا ظالم-  يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته-  فكلوا بالمعروف-  قال عثمان فلما وليت ناداني فرجعت-  فقال أ لم يكن الذي قلت لك-  يعني ما كان قاله بمكة من قبل-  فقلت بلى أشهد أنك رسول الله ص قال الواقدي و أمر رسول الله ص يومئذ برفع السلاح-  و قال إلا خزاعة عن بني بكر إلى صلاة العصر-  فخبطوهم بالسيف ساعة و هي الساعة التي أحلت لرسول الله ص- .

قال الواقدي و قد كان نوفل بن معاوية الدؤلي من بني بكر-  استأمن رسول الله ص على نفسه فأمنه-  و كانت خزاعة-  تطلبه بدماء من قتلت بكر و قريش منها بالوتير-  و قد كانت خزاعة قالت أيضا لرسول الله ص-  إن أنس بن زنيم هجاك فهدر رسول الله ص-  دمه-  فلما فتح مكة هرب و التحق بالجبال-  و قد كان قبل أن يفتح رسول الله ص مكة-  قال شعرا يعتذر فيه إلى رسول الله ص من جملته- 

 أنت الذي تهدى معد بأمره
بك الله يهديها و قال لها ارشدي‏

فما حملت من ناقة فوق كورها
أبر و أوفى ذمة من محمد

أحث على خير و أوسع نائلا
إذا راح يهتز اهتزاز المهند

و أكسى لبرد الخال قبل ارتدائه‏
و أعطى لرأس السابق المتجرد

تعلم رسول الله أنك مدركي
و إن وعيدا منك كالأخذ باليد

تعلم رسول الله أنك قادر
على كل حي من تهام و منجد

و نبي رسول الله أني هجوته
فلا رفعت سوطي إلي إذن يدي‏

سوى أنني قد قلت يا ويح فتية
أصيبوا بنحس يوم طلق و أسعد

أصابهم من لم يكن لدمائهم
كفاء فعزت عبرتي و تلددي‏

ذؤيبا و كلثوما و سلمى تتابعوا
جميعا فإلا تدمع العين أكمد

على أن سلمى ليس منهم كمثله
و إخوته و هل ملوك كأعبد

فإني لا عرضا خرقت و لا دما
هرقت ففكر عالم الحق و اقصد

قال الواقدي و كانت كلمته هذه-  قد بلغت رسول الله ص قبل أن يفتح مكة-  فنهنهت عنه و كلمه يوم الفتح نوفل بن معاوية الدؤلي-  فقال يا رسول الله أنت أولى الناس بالعفو-  و من منا لم يعادك و لم يؤذك-  و نحن في جاهلية لا ندري ما نأخذ و ما ندع-  حتى هدانا الله بك و أنقذنا بيمنك من الهلكة-  و قد كذب عليه الركب و كثروا في أمره عندك-  فقال رسول الله ص دع الركب عنك أنا لم نجد بتهامة أحدا-  من ذوي رحم و لا بعيد الرحم كان أبر بنا من خزاعة-  فاسكت يا نوفل-  فلما سكت قال رسول الله ص-  قد عفوت عنه فقال نوفل فداك أبي و أمي- .

قال الواقدي و جاءت الظهر-  فأمر رسول الله ص بلالا أن يؤذن فوق ظهر الكعبة-  و قريش في رءوس الجبال-  و منهم من قد تغيب و ستر وجهه خوفا من أن يقتلوا-  و منهم من يطلب الأمان و منهم من قد أمن-  فلما أذن بلال و بلغ إلى قوله-  أشهد أن محمدا رسول الله ص-  رفع صوته كأشد ما يكون قال-  تقول جويرية بنت أبي جهل قد لعمري رفع لك ذكرك-  فأما الصلاة فسنصلي-  و لكن و الله لا نحب من قتل الأحبة أبدا-  و لقد كان جاء أبي الذي جاء محمدا من النبوة-  فردها و لم يرد خلاف قومه- .

و قال خالد بن سعيد بن العاص-  الحمد لله الذي أكرم أبي فلم يدرك هذا اليوم-و قال الحارث بن هشام وا ثكلاه-  ليتني مت قبل هذا اليوم-  قبل أن أسمع بلالا ينهق فوق الكعبة-  و قال الحكم بن أبي العاص هذا و الله الحدث العظيم-  أن يصيح عبد بني جمح-  يصيح بما يصيح به على بيت أبي طلحة-  و قال سهيل بن عمرو-  إن كان هذا سخطا من الله تعالى فسيغيره-  و إن كان لله رضا فسيقره-  و قال أبو سفيان أما أنا فلا أقول شيئا-  لو قلت شيئا لأخبرته هذه الحصباء-  قال فأتى جبرئيل ع رسول الله ص فأخبره مقالة القوم- .

قال الواقدي فكان سهيل بن عمرو يحدث فيقول-  لما دخل محمد مكة انقمعت فدخلت بيتي و أغلقته علي-  و قلت لابني عبد الله بن سهيل-  اذهب فاطلب لي جوارا من محمد فإني لا آمن أن أقتل-  و جعلت أتذكر أثري عنده و عند أصحابه-  فلا أرى أسوأ أثرا مني-  فإني لقيته يوم الحديبية بما لم يلقه أحد به-  و كنت الذي كاتبه مع حضوري بدرا و أحدا-  و كلما تحركت قريش كنت فيها-  فذهب عبد الله بن سهيل إلى رسول الله ص فقال-  يا رسول الله أبي تؤمنه قال نعم هو آمن بأمان الله-  فليظهر-  ثم التفت إلى من حوله فقال-  من لقي سهيل بن عمرو فلا يشدن النظر إليه-  ثم قال قل له فليخرج فلعمري إن سهيلا له عقل و شرف-  و ما مثل سهيل جهل الإسلام-  و لقد رأى ما كان يوضع فيه إن لم يكن له تتابع-  فخرج عبد الله إلى أبيه فأخبره بمقالة رسول الله ص-  فقال سهيل كان و الله برا صغيرا و كبيرا-  و كان سهيل يقبل و يدبر غير خائف-  و خرج إلى خيبر مع النبي ص و هو على شركه حتى أسلم بالجعرانة

الجزء الثامن عشر

تتمة أبواب الكتب و الرسائل

تتمة 64 كتاب له ع إلى معاوية

ذكر بقية الخبر عن فتح مكة

بسم الله الرحمن الرحيم-  الحمد لله الواحد العدل قال الواقدي و هرب هبيرة بن أبي وهب-  و عبد الله بن الزبعري جميعا حتى انتهيا إلى نجران-  فلم يأمنا الخوف حتى دخلا حصن نجران-  فقيل ما شأنكما قالا-  أما قريش فقد قتلت و دخل محمد مكة-  و نحن و الله نرى أن محمدا سائر إلى حصنكم هذا-  فجعلت بلحارث بن كعب يصلحون ما رث من حصنهم-  و جمعوا ماشيتهم فأرسل حسان بن ثابت إلى ابن الزبعرى- 

لا تعدمن رجلا أحلك بغضه
نجران في عيش أجد ذميم‏

بليت قناتك في الحروب فألفيت‏
جوفاء ذات معايب و وصوم‏

غضب الإله على الزبعرى و ابنه
بعذاب سوء في الحياة مقيم‏

 فلما جاء ابن الزبعرى شعر حسان تهيأ للخروج-  فقال هبيرة بن وهب أين تريد يا ابن عم-  قال له أريد و الله محمدا-  قال أ تريد أن تتبعه قال إي و الله-  قال هبيرة يا ليت أني كنت رافقت غيرك-  و الله ما ظننت أنك تتبع محمدا أبدا-  قال ابن الزبعرى هو ذاك-  فعلى أي شي‏ء أقيم مع بني الحارث بن كعب-  و أترك ابن عمى و خير الناس و أبرهم-  و بين قومي و داري-  فانحدر ابن الزبعرى-  حتى جاء رسول الله ص-و هو جالس في أصحابه فلما نظر إليه قال-  هذا ابن الزبعرى و معه وجه فيه نور الإسلام-  فلما وقف على رسول الله ص قال-  السلام عليك يا رسول الله-  شهدت أن لا إله إلا الله-  و أنك عبده و رسوله-  و الحمد لله الذي هداني للإسلام-  لقد عاديتك و أجلبت عليك-  و ركبت الفرس و البعير-  و مشيت على قدمي في عداوتك-  ثم هربت منك إلى نجران-  و أنا أريد ألا أقرب الإسلام أبدا-  ثم أرادني الله منه بخير-  فألقاه في قلبي و حببه إلي-  و ذكرت ما كنت فيه من الضلال-  و اتباع ما لا ينفع ذا عقل من حجر يعبد-  و يذبح له لا يدرى من عبده و من لا يعبده-  فقال رسول الله ص الحمد لله الذي هداك للإسلام-  احمد الله إن الإسلام يجب ما كان قبله-  و أقام هبيرة بنجران-  و أسلمت أم هانئ-  فقال هبيرة حين بلغه إسلامها يوم الفتح-  يؤنبها شعرا من جملته- 

    و إن كنت قد تابعت دين محمد
و قطعت الأرحام منك حبالها

فكوني على أعلى سحوق بهضبة
ململمة غبراء يبس بلالها

 فأقام بنجران حتى مات مشركا- . قال الواقدي و هرب حويطب بن عبد العزى-  فدخل حائطا بمكة-  و جاء أبو ذر لحاجته-  فدخل الحائط فرآه-  فهرب حويطب فقال أبو ذر-  تعال فأنت آمن فرجع إليه فقال-  أنت آمن فاذهب حيث شئت-  و إن شئت أدخلتك على رسول الله ص-  و إن شئت فإلى منزلك-  قال و هل من سبيل إلى منزلي ألفى-  فأقتل قبل أن أصل إلى منزلي-أو يدخل علي منزلي فأقتل-  قال فأنا أبلغ معك منزلك-  فبلغ معه منزله ثم جعل ينادي على بابه-  أن حويطبا آمن فلا يهيج-  ثم انصرف إلى رسول الله ص فأخبره-  فقال أ و ليس قد أمنا الناس كلهم-  إلا من أمرت بقتله- .

قال الواقدي و هرب عكرمة بن أبي جهل إلى اليمن-  حتى ركب البحر-  قال و جاءت زوجته أم حكيم بنت الحارث بن هشام-  إلى رسول الله ص في نسوة منهن هند بنت عتبة-  و قد كان رسول الله ص أمر بقتلها-  و البغوم بنت المعدل الكنانية امرأة صفوان بن أمية-  و فاطمة بنت الوليد بن المغيرة امرأة الحارث بن هشام-  و هند بنت عتبة بن الحجاج-  أم عبد الله بن عمرو بن العاص-  و رسول الله ص بالأبطح فأسلمن-  و لما دخلن عليه دخلن و عنده زوجتاه-  و ابنته فاطمة و نساء من نساء بني عبد المطلب-  و سألن أن يبايعهن فقال إني لا أصافح النساء- 

و يقال إنه وضع على يده ثوبا فمسحن عليه-  و يقال كان يؤتى بقدح من ماء فيدخل يده فيه-  ثم يرفعه إليهن فيدخلن أيديهن فيه-  فقالت أم حكيم امرأة عكرمة يا رسول الله-  إن عكرمة هرب منك إلى اليمن-  خاف أن تقتله فأمنه-  فقال هو آمن فخرجت أم حكيم في طلبه-  و معها غلام لها رومي فراودها عن نفسها-  فجعلت تمنيه حتى قدمت به على حي-  فاستغاثت بهم عليه فأوثقوه رباطا-  و أدركت عكرمة و قد انتهى إلى ساحل من سواحل تهامة-  فركب البحر فهاج بهم-  فجعل نوتي السفينة يقول له-  أن أخلص قال أي شي‏ء أقول-  قال قل لا إله إلا الله- 

قال عكرمة ما هربت إلا من هذا-  فجاءت أم حكيم على هذا من الأمر-  فجعلت تلح عليه و تقول يا ابن عم-  جئتك من عند خير الناس و أوصل الناس و أبر الناس-  لا تهلك نفسك فوقف لها حتى أدركته-  فقالت إني قد استأمنت لك رسول الله ص فأمنك-  قال‏أنت فعلت قالت نعم أنا كلمته فأمنك-  فرجع معها فقالت ما لقيت من غلامك الرومي-  و أخبرته خبره فقتله عكرمة-  فلما دنا من مكة قال رسول الله ص لأصحابه يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمنا-  فلا تسبوا أباه فإن سب الميت يؤذي الحي-  و لا يبلغ الميت-  فلما وصل عكرمة و دخل على رسول الله ص-  وثب إليه ص و ليس عليه رداء فرحا به-  ثم جلس فوق عكرمة بين يديه-  و معه زوجته منقبة فقال يا محمد-  إن هذه أخبرتني أنك أمنتني-  فقال صدقت أنت آمن-  فقال عكرمة فإلام تدعو-  فقال إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله-  و أني رسول الله و أن تقيم الصلاة و تؤتي الزكاة-  و عد خصال الإسلام فقال عكرمة-  ما دعوت إلا إلى حق و إلى حسن جميل-  و لقد كنت فينا من قبل أن تدعو إلى ما دعوت إليه-  و أنت أصدقنا حديثا و أعظمنا برا-  ثم قال فإني أشهد أن لا إله إلا الله و أنك رسول الله-  فقال رسول الله ص-  لا تسألني اليوم شيئا أعطيه أحدا إلا أعطيتكه- 

قال فإني أسألك أن تغفر لي كل عداوة عاديتكها-  أو مسير أوضعت فيه أو مقام لقيتك فيه-  أو كلام قلته في وجهك أو أنت غائب عنه-  فقال اللهم اغفر له كل عداوة عادانيها-  و كل مسير سار فيه إلي يريد بذلك إطفاء نورك-  و اغفر له ما نال مني و من عرضي-  في وجهي أو أنا غائب عنه-  فقال عكرمة رضيت بذلك يا رسول الله-  ثم قال أما و الله لا أدع نفقة كنت أنفقها-  في صد عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها-  في سبيل الإسلام و في سبيل الله-  و لأجتهدن في القتال بين يديك حتى أقتل شهيدا-  قال فرد عليه رسول الله ص امرأته بذلك النكاح الأول- . قال الواقدي و أما صفوان بن أمية-  فهرب حتى أتى الشعبة و جعل يقول لغلامه‏ يسار-  و ليس معه غيره ويحك انظر من ترى-  فقال هذا عمير بن وهب- 

قال صفوان ما أصنع بعمير-  و الله ما جاء إلا يريد قتلي قد ظاهر محمدا علي-  فلحقه فقال صفوان يا عمير ما لك-  ما كفاك ما صنعت حملتني دينك و عيالك-  ثم جئت تريد قتلي فقال يا أبا وهب-  جعلت فداك جئتك من عند خير الناس-  و أبر الناس و أوصل الناس-  و قد كان عمير قال لرسول الله ص يا رسول الله-  سيد قومي صفوان بن أمية خرج هاربا ليقذف نفسه في البحر-  خاف ألا تؤمنه فأمنه فداك أبي و أمي-  فقال قد أمنته فخرج في أثره فقال-  إن رسول الله ص قد أمنك صفوان-  لا و الله حتى تأتيني بعلامة أعرفها-  فرجع إلى رسول الله ص فأخبره و قال-  يا رسول الله جئته و هو يريد أن يقتل نفسه-  فقال لا أرجع إلا بعلامة أعرفها-  فقال خذ عمامتي-  فرجع عمير إليه بعمامة رسول الله ص-  و هي البرد الذي دخل فيه رسول الله ص مكة-  معتجرا به برد حبرة أحمر-  فخرج عمير في طلبه الثانية حتى جاءه بالبرد فقال-  يا أبا وهب جئتك من عند خير الناس-  و أوصل الناس و أبر الناس و أحلم الناس-  مجده مجدك و عزه عزك-  و ملكه ملكك ابن أبيك و أمك-  أذكرك الله في نفسك-  فقال أخاف أن أقتل-  قال فإنه دعاك إلى الإسلام فإن رضيت-  و إلا سيرك شهرين فهو أوفى الناس و أبرهم-  و قد بعث إليك ببرده الذي دخل به معتجرا-  أ تعرفه قال نعم-  فأخرجه-  فقال نعم هو هو-  فرجع صفوان حتى انتهى إلى رسول الله ص-  فوجده يصلي العصر بالناس فقال-  كم يصلون قالوا خمس صلوات في اليوم و الليلة-  قال أ محمد يصلي بهم قالوا نعم-  فلما سلم من صلاته صاح صفوان يا محمد-  إن عمير بن وهب جاءني ببردك-  و زعم أنك دعوتني إلى القدوم إليك-  فإن رضيت أمرا و إلا سيرتني شهرين-  فقال رسول الله ص انزل أبا وهب-  فقال لا و الله أو تبين لي- 

قال بل سر أربعة أشهر-  فنزل صفوان و خرج معه إلى حنين و هو كافر-  و أرسل إليه يستعير أدراعه و كانت مائة درع-  فقال أ طوعا أم كرها فقال ع-  بل طوعا عارية مؤداة فأعاره إياها-  ثم أعادها إليه بعد انقضاء حنين و الطائف-  فلما كان رسول الله ص بالجعرانة-  يسير في غنائم هوازن ينظر إليها-  فنظر صفوان إلى شعب هناك مملوء نعما وشاء ورعاء-  فأدام النظر إليه و رسول الله ص يرمقه فقال-  أبا وهب يعجبك هذا الشعب-  قال نعم قال هو لك و ما فيه-  فقال صفوان ما طابت نفس أحد بمثل هذا-  إلا نفس نبي أشهد أن لا إله إلا الله-  و أنك رسول الله ص- .

قال الواقدي فأما عبد الله بن سعد بن أبي سرح-  فكان قد أسلم و كان يكتب لرسول الله ص الوحي-  فربما أملى عليه رسول الله ص سميع عليم-  فيكتب عزيز حكيم و نحو ذلك-  و يقرأ على رسول الله ص فيقول كذلك الله-  و يقرأ فافتتن-  و قال و الله ما يدري ما يقول-  إني لأكتب له ما شئت فلا ينكر-  و إنه ليوحى إلي كما يوحى إلى محمد-  و خرج هاربا من المدينة إلى مكة مرتدا-  فأهدر رسول الله دمه-  و أمر بقتله يوم الفتح-  فلما كان يومئذ جاء إلى عثمان و كان أخاه من الرضاعة-  فقال يا أخي إني قد أجرتك فاحتبسني هاهنا-  و اذهب إلى محمد فكلمه في-  فإن محمدا إن رآني ضرب عنقي-  أن جرمي أعظم الجرم و قد جئت تائبا-  فقال عثمان قم فاذهب معي إليه-  قال كلا و الله إنه إن رآني ضرب عنقي و لم يناظرني-  قد أهدر دمي و أصحابه يطلبونني في كل موضع-  فقال عثمان انطلق معي فإنه لا يقتلك إن شاء الله-  فلم يرع رسول الله ص إلا بعثمان-آخذا بيد عبد الله بن سعد واقفين بين يديه-  فقال عثمان يا رسول الله هذا أخي من الرضاعة-  إن أمه كانت تحملني و تمشيه و ترضعني و تفطمه-  و تلطفني و تتركه فهبه لي-  فأعرض رسول الله ص عنه-  و جعل عثمان كلما أعرض رسول الله عنه استقبله بوجهه-  و أعاد عليه هذا الكلام-  و إنما أعرض ع عنه إرادة لأن يقوم رجل فيضرب عنقه-  فلما رأى ألا يقوم أحد و عثمان قد انكب عليه-  يقبل رأسه و يقول يا رسول الله-  بايعه فداك أبي و أمي على الإسلام-  فقال رسول الله ص نعم فبايعه- .

قال الواقدي قال رسول الله ص بعد ذلك للمسلمين-  ما منعكم أن يقوم منكم واحد إلى هذا الكلب فيقتله-  أو قال الفاسق-  فقال عباد بن بشر و الذي بعثك بالحق-  إني لأتبع طرفك من كل ناحية-  رجاء أن تشير إلي فأضرب عنقه-  و يقال إن أبا البشير هو الذي قال هذا-  و يقال بل قاله عمر بن الخطاب-  فقال ع إني لا أقتل بالإشارة-  و قيل إنه قال إن النبي لا يكون له خائنة الأعين- . قال الواقدي فجعل عبد الله بن سعد-  يفر من رسول الله ص كلما رآه-  فقال له عثمان بأبي أنت و أمي-  لو ترى ابن أم عبد يفر منك كلما رآك-  فتبسم رسول الله ص فقال-  أ و لم أبايعه و أؤمنه-  قال بلى و لكنه يتذكر عظم جرمه في الإسلام-  فقال إن الإسلام يجب ما قبله

قال الواقدي و أما الحويرث بن معبد-  و هو من ولد قصي بن كلاب-  فإنه كان يؤذي رسول الله ص بمكة فأهدر دمه-  فبينما هو في منزله يوم الفتح و قد أغلق عليه بابه-  جاء علي ع يسأل عنه-  فقيل له هو في البادية-  و أخبر الحويرث أنه جاء يطلبه و تنحى علي ع عن بابه-  فخرج الحويرث يريد أن‏ يهرب من بيت إلى بيت آخر-  فتلقاه علي ع فضرب عنقه- .

قال الواقدي و أما هبار بن الأسود-  فقد كان رسول الله ص أمر أن يحرقه بالنار-  ثم قال إنما يعذب بالنار رب النار-  اقطعوا يديه و رجليه إن قدرتم عليه ثم اقتلوه-  و كان جرمه أن نخس زينب بنت رسول الله ص لما هاجرت-  و ضرب ظهرها بالرمح و هي حبلى فأسقطت-  فلم يقدر المسلمون عليه يوم الفتح-  فلما رجع رسول الله ص إلى المدينة-  طلع هبار بن الأسود قائلا-  أشهد أن لا إله إلا الله-  و أشهد أن محمدا رسول الله-  فقبل النبي ص إسلامه-  فخرجت سلمى مولاة النبي ص فقالت-  لا أنعم الله بك عينا-  أنت الذي فعلت و فعلت-  فقال رسول الله ص و هبار يعتذر إليه-  أن الإسلام محا ذلك و نهى عن التعرض له- .

قال الواقدي قال ابن عباس رضي الله عنه-  رأيت رسول الله ص و هبار يعتذر إليه-  و هو يطأطئ رأسه استحياء مما يعتذر هبار-  و يقول له قد عفوت عنك- . قال الواقدي و أما ابن خطل-  فإنه خرج حتى دخل بين أستار الكعبة-  فأخرجه أبو برزة الأسلمي منها-  فضرب عنقه بين الركن و المقام-  و يقال بل قتله عمار بن ياسر-  و قيل سعد بن حريث المخزومي-  و قيل شريك بن عبدة العجلاني-  و الأثبت أنه أبو برزة-  قال و كان جرمه أنه أسلم و هاجر إلى المدينة-  و بعثه رسول الله ص ساعيا-  و بعث معه رجلا من خزاعة فقتله-  و ساق ما أخذ من مال الصدقة و رجع إلى مكة-  فقالت له قريش ما جاء بك-  قال لم أجد دينا خيرا من دينكم-  و كانت له قينتان إحداهما قرينى-  و الأخرى قرينة أو أرنب-  و كان ابن خطل يقول‏ الشعر-  يهجو به رسول الله ص و يغنيان به-  و يدخل عليه المشركون بيته فيشربون عنده الخمر-  و يسمعون الغناء بهجاء رسول الله ص- .

قال الواقدي و أما مقيس بن صبابة فإن أمه سهمية-  و كان يوم الفتح عند أخواله بني سهم-  فاصطبح الخمر ذلك اليوم في ندامى له-  و خرج ثملا يتغنى و يتمثل بأبيات منها- 

دعيني أصطبح يا بكر إني
رأيت الموت نقب عن هشام‏

و نقب عن أبيك أبي يزيد
أخي القينات و الشرب الكرام‏

يخبرنا ابن كبشة أن سنحيا
و كيف حياة أصداء و هام‏

إذا ما الرأس زال بمنكبيه‏
فقد شبع الأنيس من الطعام‏

أ تقتلني إذا ما كنت حيا
و تحييني إذا رمت عظامي‏

 فلقيه نميلة بن عبد الله الليثي و هو من رهطه- فضربه بالسيف حتى قتله- فقالت أخته ترثيه-

لعمري لقد أخزى نميلة رهطه
و فجع أصناف النساء بمقيس‏

فلله عينا من رأى مثل مقيس‏
إذا النفساء أصبحت لم تخرس‏

 و كان جرم مقيس من قبل أن أخاه-  هاشم بن صبابة أسلم و شهد المريسيع-  مع رسول الله ص-  فقتله رجل من رهط عبادة بن الصامت-  و قيل من بني عمرو بن عوف و هو لا يعرفه-  فظنه من المشركين-  فقضى له رسول الله ص بالدية على العاقلة-  فقدم مقيس أخوه المدينة فأخذ ديته و أسلم-  ثم عدا على قاتل أخيه فقتله-  و هرب مرتدا كافرا يهجو رسول الله ص بالشعر-  فأهدر دمه- .

 

قال الواقدي فأما سارة مولاة بني هاشم-  و كانت مغنية نواحة بمكة-  و كانت قد قدمت على رسول الله ص المدينة-  تطلب أن يصلها و شكت إليه الحاجة-  و ذلك بعد بدر و أحد فقال لها-  أ ما كان لك في غنائك و نياحك ما يغنيك-  قالت يا محمد إن قريشا منذ قتل من قتل منهم ببدر-  تركوا استماع الغناء-  فوصلها رسول الله ص و أوقر لها بعيرا طعاما-  فرجعت إلى قريش و هي على دينها-  و كانت يلقى عليها هجاء رسول الله ص فتغنى به-  فأمر بها رسول الله ص يوم الفتح أن تقتل فقتلت-  و أما قينتا ابن خطل فقتل يوم الفتح إحداهما-  و هي أرنب أو قرينة-  و أما قريني فاستؤمن لها رسول الله ص فأمنها-  و عاشت حتى ماتت في أيام عثمان- . قال الواقدي و قد روي أن رسول الله ص-  أمر بقتل وحشي يوم الفتح-  فهرب إلى الطائف-  فلم يزل بها مقيما حتى قدم مع وفد الطائف-  على رسول الله ص فدخل عليه فقال-  أشهد أن لا إله إلا الله و أنك رسول الله-  فقال أ وحشي قال نعم-  قال اجلس و حدثني كيف قتلت حمزة-  فلما أخبره قال قم و غيب عني وجهك-  فكان إذا رآه توارى عنه- .

 قال الواقدي و حدثني ابن أبي ذئب و معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي عمرو بن عدي بن أبي الحمراء قال سمعت رسول الله ص يقول بعد فراغه من أمر الفتح-  و هو يريد الخروج من مكة أما و الله إنك لخير أرض الله-  و أحب بلاد الله إلي-  و لو لا أن أهلك أخرجوني ما خرجت- . و زاد محمد بن إسحاق في كتاب المغازي-  أن هند بنت عتبة جاءت إلى رسول الله‏ص-  مع نساء قريش متنكرة متنقبة-  لحدثها الذي كان في الإسلام-  و ما صنعت بحمزة حين جدعته و بقرت بطنه عن كبده-  فهي تخاف أن يأخذها رسول الله ص بحدثها ذلك-  فلما دنت منه و قال حين بايعنه-  على ألا يشركن بالله شيئا قلن نعم-  قال و لا يسرقن فقالت هند-  و الله أنا كنت لأصيب من مال أبي سفيان-  الهنة و الهنيهة فما أعلم أ حلال ذلك أم لا-  فقال رسول الله ص و إنك لهند-  قالت نعم أنا هند-  و أنا أشهد أن لا إله إلا الله و أنك رسول الله-  فاعف عما سلف عفا الله عنك-  فقال رسول الله ص و لا يزنين-  فقالت هند و هل تزني الحرة-  فقال لا و لا يقتلن أولادهن-  فقالت هند قد لعمري ربيناهم صغارا و قتلتهم كبارا ببدر-  فأنت و هم أعرف-  فضحك عمر بن الخطاب من قولها حتى أسفرت نواجذه-  قال و لا يأتين ببهتان يفترينه-  فقالت هند إن إتيان البهتان لقبيح-  فقال و لا يعصينك في معروف-  فقالت ما جلسنا هذه الجلسة و نحن نريد أن نعصيك- . قال محمد بن إسحاق-  و من جيد شعر عبد الله بن الزبعرى-  الذي اعتذر به إلى رسول الله ص حين قدم عليه- 

منع الرقاد بلابل و هموم
فالليل ممتد الرواق بهيم‏

مما أتاني أن أحمد لامني‏
فيه فبت كأنني محموم‏

يا خير من حملت على أوصالها
عيرانة سرح اليدين سعوم‏

إني لمعتذر إليك من الذي
أسديت إذ أنا في الضلال أهيم‏

أيان تأمرني بأغوى خطة
سهم و تأمرني به مخزوم‏

و أمد أسباب الردى و يقودني
أمر الغواة و أمرهم مشئوم‏

فاليوم آمن بالنبي محمد
قلبي و مخطئ هذه محروم‏

مضت العداوة و انقضت أسبابها
و دعت أواصر بيننا و حلوم‏

فاغفر فدى لك والدي كلاهما
زللي فإنك راحم مرحوم‏

و عليك من علم المليك علامة
نور أغر و خاتم مختوم‏

أعطاك بعد محبة برهانه‏
شرفا و برهان الإله عظيم‏

و لقد شهدت بأن دينك صادق
بر و شأنك في العباد جسيم‏

و الله يشهد أن أحمد مصطفى‏
متقبل في الصالحين كريم‏

فرع علا بنيانه من هاشم
دوح تمكن في العلا و أروم‏

قال الواقدي و في يوم الفتح-  سمى رسول الله ص أهل مكة الذين دخلها عليهم الطلقاء-  لمنه عليهم بعد أن أظفره الله بهم-  فصاروا أرقاء له-  و قد قيل له يوم الفتح قد أمكنك الله تعالى-  فخذ ما شئت من أقمار على غصون يعنون النساء-  فقال ع يأبى ذلك إطعامهم الضيف-  و إكرامهم البيت و وجؤهم مناحر الهدي.

ثم نعود إلى تفسير ما بقي من ألفاظ الفصل-  قوله فإن كان فيك عجل فاسترفه-أي كن ذا رفاهية-  و لا ترهقن نفسك بالعجل-  فلا بد من لقاء بعضنا بعضا-  فأي حاجة بك إلى أن تعجل-  ثم فسر ذلك فقال إن أزرك في بلادك-  أي إن غزوتك في بلادك-  فخليق أن يكون الله بعثني للانتقام منك-  و إن زرتني أي إن غزوتني في بلادي-  و أقبلت بجموعك إلي- . كنتم كما قال أخو بني أسد كنت أسمع قديما-  أن هذا البيت من شعر بشر بن أبي خازم الأسدي-  و الآن فقد تصفحت شعره فلم أجده-  و لا وقفت بعد على قائله-  و إن وقفت فيما يستقبل من الزمان عليه ألحقته- . و ريح حاصب تحمل الحصباء-  و هي صغار الحصى-  و إذا كانت بين أغوار و هي ما سفل من الأرض-  و كانت مع ذلك ريح صيف-  كانت أعظم مشقة-  و أشد ضررا على من تلاقيه-  و جلمود يمكن أن يكون عطفا على حاصب-  و يمكن أن يكون عطفا على أغوار-  أي بين غور من الأرض و حرة-  و ذلك أشد لأذاها لما تكسبه الحرة-  من لفح السموم و وهجها و الوجه الأول أليق- .

و أعضضته أي جعلته معضوضا برءوس أهلك-  و أكثر ما يأتي أفعلته أن تجعله فاعلا-  و هي هاهنا من المقلوب-  أي أعضضت رءوس أهلك به-  كقوله قد قطع الحبل بالمرود- . و جده عتبة بن ربيعة و خاله الوليد بن عتبة-  و أخوه حنظلة بن أبي سفيان-  قتلهم علي ع يوم بدر- . و الأغلف القلب الذي لا بصيرة له-  كأن قلبه في غلاف قال تعالى-  وَ قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ- .

 

و المقارب العقل بالكسر-  الذي ليس عقله بجيد-  و العامة تقول فيما هذا شأنه-  مقارب بفتح الراء- . ثم قال الأولى أن يقال هذه الكلمة لك- . و نشدت الضالة طلبتها-  و أنشدتها عرفتها أي طلبت ما ليس لك- . و السائمة المال الراعي-  و الكلام خارج مخرج الاستعارة- . فإن قلت كل هذا الكلام يطابق بعضه بعضا-  إلا قوله فما أبعد قولك من فعلك-  و كيف استبعد ع ذلك و لا بعد بينهما-  لأنه يطلب الخلافة قولا و فعلا-  فأي بعد بين قوله و فعله- . قلت لأن فعله البغي-  و الخروج على الإمام الذي ثبتت إمامته و صحت-  و تفريق جماعة المسلمين و شق العصا-  هذا مع الأمور التي كانت تظهر عليه و تقتضي الفسق-  من لبس الحرير و المنسوج بالذهب-  و ما كان يتعاطاه في حياة عثمان من المنكرات-  التي لم تثبت توبته منها فهذا فعله- .

و أما قوله فزعمه أنه أمير المؤمنين-  و خليفة المسلمين-  و هذا القول بعيد من ذلك الفعل جدا- . و ما في قوله و قريب ما أشبهت مصدرية-  أي و قريب شبهك بأعمام و أخوال-  و قد ذكرنا من قتل من بني أمية-  في حروب رسول الله ص فيما تقدم-  و إليهم الإشارة بالأعمام و الأخوال-  لأن أخوال معاوية من بني عبد شمس-  كما أن أعمامه من بني عبد شمس- . قوله و لم تماشها الهوينى أي لم تصحبها-  يصفها بالسرعة و المضي في الرءوس الأعناق-

 

و أما قوله ادخل فيما دخل فيه الناس و حاكم القوم-  فهي الحجة التي يحتج بها أصحابنا له-  في أنه لم يسلم قتلة عثمان إلى معاوية-  و هي حجة صحيحة-  لأن الإمام يجب أن يطاع-  ثم يتحاكم إليه أولياء الدم و المتهمون-  فإن حكم بالحق استديمت حكومته-  و إلا فسق و بطلت إمامته- .

قوله فأما تلك التي تريدها-  قيل إنه يريد التعلق بهذه الشبهة-  و هي قتلة عثمان-  و قيل أراد به ما كان معاوية يكرر طلبه-  من أمير المؤمنين ع و هو أن يقره على الشام وحده-  و لا يكلفه البيعة-  قال إن ذلك كمخادعة الصبي في أول فطامه عن اللبن-  بما تصنعه النساء له مما يكره إليه الثدي و يسليه عنه-  و يرغبه في التعوض بغيره-  و كتاب معاوية الذي ذكرناه لم يتضمن حديث الشام

 

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 17-18

 

نامه 63 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

63 و من كتاب له ع إلى أبي موسى الأشعري

و هو عامله على الكوفة-  و قد بلغه عنه تثبيطه الناس عن الخروج إليه-  لما ندبهم لحرب أصحاب الجمل-  مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ-  أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنِي عَنْكَ قَوْلٌ هُوَ لَكَ وَ عَلَيْكَ-  فَإِذَا قَدِمَ عَلَيْكَ رَسُولِي فَارْفَعْ ذَيْلَكَ-  وَ اشْدُدْ مِئْزَرَكَ وَ اخْرُجْ مِنْ جُحْرِكَ وَ انْدُبْ مَنْ مَعَكَ-  فَإِنْ حَقَّقْتَ فَانْفُذْ وَ إِنْ تَفَشَّلْتَ فَابْعُدْ-  وَ ايْمُ اللَّهِ لَتُؤْتَيَنَّ مِنْ حَيْثُ أَنْتَ-  وَ لَا تُتْرَكُ حَتَّى يُخْلَطَ زُبْدُكَ بِخَاثِرِكَ-  وَ ذَائِبُكَ بِجَامِدِكَ-  وَ حَتَّى تُعْجَلُ عَنْ قِعْدَتِكَ-  وَ تَحْذَرَ مِنْ أَمَامِكَ كَحَذَرِكَ مِنْ خَلْفِكَ-  وَ مَا هِيَ بِالْهُوَيْنَى الَّتِي تَرْجُو-  وَ لَكِنَّهَا الدَّاهِيَةُ الْكُبْرَى-  يُرْكَبُ جَمَلُهَا وَ يُذَلُّ صَعْبُهَا وَ يُسَهَّلُ جَبَلُهَا-  فَاعْقِلْ عَقْلَكَ وَ امْلِكْ أَمْرَكَ وَ خُذْ نَصِيبَكَ وَ حَظَّكَ-  فَإِنْ كَرِهْتَ فَتَنَحَّ إِلَى غَيْرِ رَحْبٍ وَ لَا فِي نَجَاةٍ-  فَبِالْحَرِيِّ لَتُكْفَيَنَّ وَ أَنْتَ نَائِمٌ حَتَّى لَا يُقَالَ أَيْنَ فُلَانٌ-  وَ اللَّهِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مَعَ مُحِقٍّ وَ مَا يُبَالِي مَا صَنَعَ الْمُلْحِدُونَ-  وَ السَّلَامُ المراد بقوله قول هو لك و عليك-  أن أبا موسى كان يقول لأهل الكوفة-  إن عليا إمام هدى و بيعته صحيحة-  ألا إنه لا يجوز القتال معه لأهل القبلة-  و هذا القول بعضه حق و بعضه باطل- .

و قوله فارفع ذيلك-  أي شمر للنهوض معي و اللحاق بي-  لنشهد حرب أهل البصرة-  و كذلك قوله و اشدد مئزرك-  و كلتاهما كنايتان عن الجد و التشمير في الأمر- . قال و اخرج من جحرك-  أمر له بالخروج من منزله للحاق به-  و هي كناية فيها غض من أبي موسى و استهانة به-  لأنه لو أراد إعظامه لقال و اخرج من خيسك-  أو من غيلك كما يقال للأسد-  و لكنه جعله ثعلبا أو ضبا- .

قال و اندب من معك-  أي و اندب رعيتك من أهل الكوفة-  إلى الخروج معي و اللحاق بي- . ثم قال و إن تحققت فانفذ-  أي أمرك مبني على الشك-  و كلامك في طاعتي كالمتناقض-  فإن حققت لزوم طاعتي لك فانفذ-  أي سر حتى تقدم علي-  و إن أقمت على الشك فاعتزل العمل فقد عزلتك- . قوله و ايم الله لتؤتين-  معناه إن أقمت على الشك و الاسترابة-  و تثبيط أهل الكوفة عن الخروج إلي و قولك لهم-  لا يحل لكم سل السيف لا مع علي و لا مع طلحة-  و الزموا بيوتكم و اكسروا سيوفكم ليأتينكم-  و أنتم في منازلكم بالكوفة أهل البصرة مع طلحة-  و نأتينكم نحن بأهل المدينة و الحجاز-  فيجتمع عليكم سيفان من أمامكم و من خلفكم-  فتكون ذلك الداهية الكبرى التي لا شواة لها- .

قوله و لا تترك حتى يخلط زبدك بخاثرك-  تقول للرجل إذا ضربته حتى أثخنته-  لقد ضربته حتى خلطت زبده بخاثره-  و كذلك حتى خلطت ذائبه بجامده-  و الخاثر اللبن الغيظ و الزبد خلاصة اللبن و صفوته-  فإذا أثخنت الإنسان ضربا كنت كأنك‏ خلطت ما رق-  و لطف من أخلاطه بما كثف و غلظ منها-  و هذا مثل و معناه لتفسدن حالك و لتخلطن-  و ليضربن ما هو الآن منتظم من أمرك- . قوله و حتى تعجل عن قعدتك-  القعدة بالكسر هيئة القعود كالجلسة و الركبة-  أي و ليعجلنك الأمر عن هيئة قعودك-  يصف شدة الأمر و صعوبته- .

قوله و تحذر من أمامك كحذرك من خلفك-  يعني يأتيك من خلفك-  إن أقمت على منع الناس عن الحرب معنا-  و معهم أهل البصرة و أهل المدينة-  فتكون كما قال الله تعالى-  إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ- . قوله و ما هي بالهوينى التي ترجو-  الهوينى تصغير الهونى التي هي أنثى أهون-  أي ليست هذه الداهية و الجائحة-  التي أذكرها لك بالشي‏ء الهين-  الذي ترجو اندفاعه و سهولته- . ثم قال بل هي الداهية الكبرى ستفعل لا محالة-  إن استمررت على ما أنت عليه-  و كنى عن قوله ستفعل لا محالة-  بقوله يركب جملها و ما بعده-  و ذلك لأنها إذا ركب جملها-  و ذلل صعبها و سهل وعرها فقد فعلت-  أي لا تقل هذا أمر عظيم صعب المرام-  أي قصد الجيوش من كلا الجانبين الكوفة-  فإنه إن دام الأمر على ما أشرت إلى أهل الكوفة-  من التخاذل و الجلوس في البيوت-  و قولك لهم كن عبد الله المقتول-  لنقعن بموجب ما ذكرته لك-  و ليرتكبن أهل الحجاز و أهل البصرة-  هذا الأمر المستصعب-  لأنا نحن نطلب أن نملك الكوفة-  و أهل البصرة كذلك-  فيجتمع عليها الفريقان- .

ثم عاد إلى أمره بالخروج إليه فقال له-  فاعقل عقلك و املك أمرك و خذ نصيبك‏ و حظك-  أي من الطاعة و اتباع الإمام الذي لزمتك بيعته-  فإن كرهت ذلك فتنح عن العمل فقد عزلتك-  و ابعد عنا لا في رحب أي لا في سعة-  و هذا ضد قولهم مرحبا- . ثم قال فجدير أن تكفى ما كلفته-  من حضور الحرب و أنت نائم-  أي لست معدودا عندنا و لا عند الناس من الرجال-  الذين تفتقر الحروب و التدبيرات إليهم-  فسيغني الله عنك و لا يقال أين فلان- . ثم أقسم إنه لحق أي إني في حرب هؤلاء لعلى حق-  و إن من أطاعني مع إمام محق ليس يبالي ما صنع الملحدون-  و هذا إشارة إلى  قول النبي ص اللهم أدر الحق معه حيثما دار

 شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 17  

نامه 62 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

62 و من كتاب له ع إلى أهل مصر مع مالك الأشتر رحمه الله-  لما ولاه إمارتها

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً ص-  نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ وَ مُهَيْمِناً عَلَى الْمُرْسَلِينَ-  فَلَمَّا مَضَى ص تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ-  فَوَاللَّهِ مَا كَانَ يُلْقَى فِي رُوعِي-  وَ لَا يَخْطُرُ بِبَالِي أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هَذَا الْأَمْرَ-  مِنْ بَعْدِهِ ص عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ-  وَ لَا أَنَّهُمْ مُنَحُّوهُ عَنِّي مِنْ بَعْدِهِ-  فَمَا رَاعَنِي إِلَّا انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلَانٍ يُبَايِعُونَهُ-  فَأَمْسَكْتُ بِيَدِي حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ-  قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الْإِسْلَامِ-  يَدْعُونَ إِلَى مَحْقِ دَيْنِ مُحَمَّدٍ ص-  فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الْإِسْلَامَ وَ أَهْلَهُ-  أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً-  تَكُونُ الْمُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلَايَتِكُمُ-  الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلَائِلَ-  يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ-  وَ كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ-  فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الْأَحْدَاثِ حَتَّى زَاحَ الْبَاطِلُ وَ زَهَقَ-  وَ اطْمَأَنَّ الدِّينُ وَ تَنَهْنَهَ المهيمن الشاهد-  قال الله تعالى-  إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً-  أي تشهد بإيمان من آمن و كفر من كفر-  و قيل تشهد بصحة نبوة الأنبياء قبلك-و قوله على المرسلين يؤكد صحة هذا التفسير الثاني-  و أصل اللفظة من آمن غيره من الخوف-  لأن الشاهد يؤمن غيره من الخوف بشهادته-  ثم تصرفوا فيها فابدلوا إحدى همزتي مؤامن ياء-  فصار مؤيمن-  ثم قلبوا الهمزة هاء كأرقت و هرقت فصار مهيمن- . و الروع الخلد-  و في الحديث أن روح القدس نفث في روعي-  قال ما يخطر لي ببال أن العرب تعدل بالأمر-  بعد وفاة محمد ص عن بني هاشم ثم من بني هاشم عني-  لأنه كان المتيقن بحكم الحال الحاضرة-  و هذا الكلام يدل على بطلان دعوى الإمامية-  النص و خصوصا الجلي- .

قال فما راعني إلا انثيال الناس-  تقول للشي‏ء يفجؤك بغتة ما راعني إلا كذا-  و الروع بالفتح الفزع-  كأنه يقول ما أفزعني شي‏ء بعد ذلك السكون-  الذي كان عندي-  و تلك الثقة التي اطمأننت إليها-  إلا وقوع ما وقع من انثيال الناس-  أي انصبابهم من كل وجه كما ينثاب التراب-  على أبي بكر-  و هكذا لفظ الكتاب الذي كتبه للأشتر-  و إنما الناس يكتبونه الآن إلى فلان-  تذمما من ذكر الاسم كما يكتبون في أول الشقشقية-  أما و الله لقد تقمصها فلان-  و اللفظ أما و الله لقد تقمصها ابن أبي قحافة- . قوله فأمسكت يدي أي امتنعت عن بيعته-  حتى رأيت راجعة الناس يعني أهل الردة كمسيلمة-  و سجاح و طليحة بن خويلد و مانعي الزكاة-  و إن كان مانعو الزكاة قد اختلف في أنهم أهل ردة أم لا- . و محق الدين إبطاله- . و زهق خرج و زال-  تنهنه سكن و أصله الكف-  تقول نهنهت السبع فتنهنه- أي كف عن حركته و إقدامه-  فكان الدين كان متحركا مضطربا فسكن-  و كف عن ذلك الاضطراب- .

روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ الكبير-  أن رسول الله ص لما مات-  اجتمعت أسد و غطفان و طي‏ء-  على طليحة بن خويلد-  إلا ما كان من خواص أقوام في الطوائف الثلاث-  فاجتمعت أسد بسميراء و غطفان بجنوب طيبة-  و طي‏ء في حدود أرضهم-  و اجتمعت ثعلبة بن أسد و من يليهم من قيس-  بالأبرق من الربذة-  و تأشب إليهم ناس من بني كنانة-  و لم تحملهم البلاد فافترقوا فرقتين-  أقامت إحداهما بالأبرق و سارت الأخرى إلى ذي القصة-  و بعثوا وفودا إلى أبي بكر-  يسألونه أن يقارهم على إقامة الصلاة و منع الزكاة-  فعزم الله لأبي بكر على الحق-  فقال لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه-  و رجع الوفود إلى قومهم-  فأخبروهم بقلة من أهل المدينة-  فأطمعوهم فيها و علم أبو بكر و المسلمون بذلك-  و قال لهم أبو بكر أيها المسلمون إن الأرض كافرة-  و قد رأى وفدهم منكم قلة-  و إنكم لا تدرون أ ليلا تؤتون أم نهارا-  و أدناهم منكم على بريد-  و قد كان القوم يأملون أن نقبل منهم و نوادعهم-  و قد أبينا عليهم و نبذنا إليهم فأعدوا و استعدوا-  فخرج علي ع بنفسه-  و كان على نقب من أنقاب المدينة-  و خرج الزبير و طلحة و عبد الله بن مسعود و غيرهم-  فكانوا على الأنقاب الثلاثة-  فلم يلبثوا إلا قليلا-  حتى طرق القوم المدينة غارة مع الليل-  و خلفوا بعضهم بذي حسى ليكونوا ردءا لهم-  فوافوا الأنقاب و عليها المسلمون-  فأرسلوا إلى أبي بكر بالخبر-  فأرسل إليهم أن الزموا مكانكم ففعلوا- 

و خرج أبو بكر في جمع من أهل المدينة على النواضح فانتشر العدو بين أيديهم-  و اتبعهم المسلمون على النواضح حتى بلغوا ذا حسى-  فخرج عليهم الكمين بأنحاء قد نفخوها-  و جعلوا فيها الحبال-  ثم دهدهوها بأرجلهم في وجوه الإبل-  فتدهده كل نحي منها في طوله فنفرت إبل المسلمين-  و هم عليها و لا تنفر الإبل من شي‏ء نفارها من الأنحاء-  فعاجت بهم لا يملكونها حتى دخلت بهم المدينة-  و لم يصرع منهم أحد و لم يصب-  فبات المسلمون تلك الليلة يتهيئون-  ثم خرجوا على تعبئة-  فما طلع الفجر إلا و هم و القوم على صعيد واحد-  فلم يسمعوا للمسلمين حسا و لا همسا-  حتى وضعوا فيهم السيف فاقتتلوا أعجاز ليلتهم-  فما ذر قرن الشمس إلا و قد ولوا الأدبار-  و غلبوهم على عامة ظهرهم-  و رجعوا إلى المدينة ظافرين- . قلت هذا هو الحديث الذي أشار ع-  إلى أنه نهض فيه أيام أبي بكر-  و كأنه جواب عن قول قائل إنه عمل لأبي بكر-  و جاهد بين يدي أبي بكر فبين ع عذره في ذلك-  و قال إنه لم يكن كما ظنه القائل-  و لكنه من باب دفع الضرر عن النفس و الدين-  فإنه واجب سواء كان للناس إمام أو لم يكن

ذكر ما طعن به الشيعة في إمامة أبي بكر و الجواب عنها

و ينبغي حيث جرى ذكر أبي بكر في كلام أمير المؤمنين ع-  أن نذكر ما أورده قاضي القضاة في المغني-  من المطاعن التي طعن بها فيه-  و جواب قاضي القضاة عنها-  و اعتراض المرتضى في الشافي على قاضي القضاة-  و نذكر ما عندنا في ذلك-  ثم نذكر مطاعن أخرى لم يذكرها قاضي القضاة- .

الطعن الأول

 قال قاضي القضاة-  بعد أن ذكر ما طعن به فيه في أمر فدك-  و قد سبق القول فيه-  و مما طعن به عليه قولهم-  كيف يصلح للإمامة-  من يخبر عن نفسه أن له شيطانا يعتريه-  و من يحذر الناس نفسه-  و من يقول أقيلوني بعد دخوله في الإمامة-  مع أنه لا يحل للإمام أن يقول أقيلوني البيعة- . أجاب قاضي القضاة فقال إن شيخنا أبا علي قال-  لو كان ذلك نقصا فيه لكان قول الله في آدم و حواء-  فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ-  و قوله فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ-  و قوله وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ-  إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ-  يوجب النقص في الأنبياء-  و إذا لم يجب ذلك فكذلك ما وصف به أبو بكر نفسه-  و إنما أراد أنه عند الغضب يشفق من المعصية و يحذر منها-  و يخاف أن يكون الشيطان يعتريه في تلك الحال-  فيوسوس إليه-  و ذلك منه على طريقة الزجر لنفسه عن المعاصي-  و قد روي عن أمير المؤمنين ع-  أنه ترك مخاصمة الناس في حقوقه-  إشفاقا من المعصية-  و كان يولي ذلك عقيلا-  فلما أسن عقيل كان يوليها عبد الله بن جعفر-  فأما ما روي في إقالة البيعة فهو خبر ضعيف-  و إن صح فالمراد به التنبيه على أنه لا يبالي لأمر-  يرجع إليه أن يقيله الناس البيعة-  و إنما يضرون بذلك أنفسهم-  و كأنه نبه بذلك‏على أنه غير مكره لهم-  و أنه قد خلاهم و ما يريدون إلا أن يعرض ما يوجب خلافه-  و قد روي أن أمير المؤمنين ع-  أقال عبد الله بن عمر البيعة حين استقاله-  و المراد بذلك أنه تركه و ما يختار- .

اعترض المرتضى رضي الله عنه فقال-  أما قول أبي بكر وليتكم و لست بخيركم-  فإن استقمت فاتبعوني و إن اعوججت فقوموني-  فإن لي شيطانا يعتريني عند غضبي-  فإذا رأيتموني مغضبا فاجتنبوني-  لا أؤثر في أشعاركم و أبشاركم-  فإنه يدل على أنه لا يصلح للإمامة من وجهين-  أحدهما أن هذا صفة من ليس بمعصوم-  و لا يأمن الغلط على نفسه-  من يحتاج إلى تقويم رعيته له إذا وقع في المعصية-  و قد بينا أن الإمام لا بد أن يكون معصوما موفقا مسددا-  و الوجه الآخر أن هذه صفة من لا يملك نفسه-  و لا يضبط غضبه-  و من هو في نهاية الطيش و الحدة و الخرق و العجلة-  و لا خلاف أن الإمام-  يجب أن يكون منزها عن هذه الأوصاف-  غير حاصل عليها و ليس يشبه قول أبي بكر-  ما تلاه من الآيات كلها-  لأن أبا بكر خبر عن نفسه بطاعة الشيطان عند الغضب-  و أن عادته بذلك جارية-  و ليس هذا بمنزلة من يوسوس إليه الشيطان و لا يطيعه-  و يزين له القبيح فلا يأتيه-  و ليس وسوسة الشيطان بعيب على الموسوس له-  إذا لم يستزله ذلك عن الصواب-  بل هو زيادة في التكليف-  و وجه يتضاعف معه الثواب-  و قوله تعالى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ-  قيل معناه في تلاوته-  و قيل في فكرته على سبيل الخاطر-  و أي الأمرين كان-  فلا عار في ذلك على النبي ص و لا نقص- 

و إنما العار و النقص على من يطيع الشيطان-  و يتبع ما يدعو إليه-  و ليس لأحد أن يقول-  هذا إن سلم لكم في جميع الآيات لم يسلم في قوله تعالى-  فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ-  لأنه قد خبر عن تأثير غوايته و وسوسته-  بما كان منهما من الفعل-  و ذلك أن المعنى الصحيح في هذه الآية أن آدم و حواء-  كانا مندوبين إلى اجتناب الشجرة و ترك التناول منها-  و لم يكن ذلك عليهما واجبا لازما- لأن الأنبياء لا يخلون بالواجب-  فوسوس لهما الشيطان حتى تناولا من الشجرة-  فتركا مندوبا إليه و حرما بذلك أنفسهما الثواب-  و سماه إزلالا-  لأنه حط لهما عن درجة الثواب و فعل الأفضل-  و قوله تعالى في موضع آخر-  وَ عَصى‏ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى‏-  لا ينافي هذا المعنى-  لأن المعصية قد يسمى بها من أخل بالواجب و الندب معا-  قوله فغوى-  أي خاب من حيث لم يستحق الثواب على ما ندب إليه على أن صاحب الكتاب يقول- 

إن هذه المعصية من آدم كانت صغيرة-  لا يستحق بها عقابا و لا ذما-  فعلى مذهبه أيضا-  تكون المفارقة بينه و بين أبي بكر ظاهرة-  لأن أبا بكر خبر عن نفسه أن الشيطان يعتريه-  حتى يؤثر في الأشعار و الأبشار-  و يأتي ما يستحق به التقويم-  فأين هذا من ذنب صغير لا ذم و لا عقاب عليه-  و هو يجري من وجه من الوجوه مجرى المباح-  لأنه لا يؤثر في أحوال فاعله و حط رتبته-  و ليس يجوز أن يكون ذلك منه-  على سبيل الخشية و الإشفاق على ما ظن-  لأن مفهوم خطابه يقتضي خلاف ذلك-  أ لا ترى أنه قال إن لي شيطانا يعتريني-  و هذا قول من قد عرف عادته-  و لو كان على سبيل الإشفاق و الخوف لخرج عن هذا المخرج-  و لكان يقول-  فإني آمن من كذا و إني لمشفق منه-  فأما ترك أمير المؤمنين ع مخاصمة الناس في حقوقه-  فكأنه إنما كان تنزها و تكرما-  و أي نسبة بين ذلك و بين من صرح و شهد على نفسه-  بما لا يليق بالأئمة-  و أما خبر استقالة البيعة و تضعيف صاحب الكتاب له-  فهو أبدا يضعف ما لا يوافقه-  من غير حجة يعتمدها في تضعيفه-  و قوله إنه ما استقال على التحقيق- 

و إنما نبه على أنه لا يبالي بخروج الأمر عنه-  و أنه غير مكره لهم عليه-  فبعيد من الصواب-  لأن ظاهر قوله أقيلوني أمر بالإقالة-  و أقل أحواله أن يكون عرضا لها و بذلا-  و كلا الأمرين قبيح-  و لو أراد ما ظنه لكان له  في غير هذا القول مندوحة-  و لكان يقول إني ما أكرهتكم و لا حملتكم على مبايعتي-  و ما كنت أبالي ألا يكون هذا الأمر في و لا إلي-  و إن مفارقته لتسرني-  لو لا ما ألزمنيه الدخول فيه من التمسك به-  و متى عدلنا عن ظواهر الكلام بلا دليل-  جر ذلك علينا ما لا قبل لنا به-  و أما أمير المؤمنين ع-  فإنه لم يقل ابن عمر البيعة بعد دخولها فيها-  و إنما استعفاه من أن يلزمه البيعة ابتداء-  فأعفاه قلة فكر فيه-  و علما بأن إمامته لا تثبت بمبايعة من يبايعه عليها-  فأين هذا من استقالة بيعة قد تقدمت و استقرت- .

قلت أما قول أبي بكر وليتكم و لست بخيركم-  فقد صدق عند كثير من أصحابنا-  لأن خيرهم علي بن أبي طالب ع-  و من لا يقول بذلك يقول بما قاله الحسن البصري-  و الله إنه ليعلم أنه خيرهم و لكن المؤمن يهضم نفسه-  و لم يطعن المرتضى فيه بهذه اللفظة لنطيل القول فيها-  و أما قول المرتضى عنه أنه قال-  فإن لي شيطانا يعتريني عند غضبى-  فالمشهور في الرواية فإن لي شيطانا يعتريني-  قال المفسرون أراد بالشيطان الغضب-  و سماه شيطانا على طريق الاستعارة-  و كذا ذكره شيخنا أبو الحسين في الغرر-  قال معاوية لإنسان غضب في حضرته-  فتكلم بما لا يتكلم بمثله في حضرة الخلفاء-  اربع على ظلعك أيها الإنسان- 

فإنما الغضب شيطان و أنا لم نقل إلا خيرا- . و قد ذكر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري-  في كتاب التاريخ الكبير-  خطبتي أبي بكر عقيب بيعته بالسقيفة-  و نحن نذكرهما نقلا من كتابه-  أما الخطبة الأولى فهي-  أما بعد أيها الناس فإني وليتكم و لست بخيركم-  فإن أحسنت فأعينوني و إن أسأت فقوموني-  لأن الصدق أمانة و الكذب خيانة-  الضعيف منكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه-  و القوي منكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه-  لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل-  و لا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء-  أطيعوني ما أطعت الله و رسوله-  فإذا عصيت الله و رسوله فلا طاعة لي عليكم-  قوموا إلى صلاتكم رحمكم الله و أما الخطبة الثانية فهي أيها الناس إنما أنا مثلكم-  و إني لا أدري لعلكم ستكلفونني-  ما كان رسول الله ص يطيقه- 

إن الله اصطفى محمدا ص على العالمين-  و عصمه من الآفات-  و إنما أنا متبع و لست بمتبوع-  فإن استقمت فاتبعوني و إن زغت فقوموني-  و إن رسول الله ص-  قبض و ليس أحد من هذه الأمة-  يطلبه بمظلمة ضربة سوط فما دونها-  ألا و إن لي شيطانا يعتريني-  فإذا غضبت فاجتنبوني لا أؤثر في أشعاركم و أبشاركم-  ألا و إنكم تغدون و تروحون في أجل قد غيب عنكم علمه-  فإن استطعتم ألا يمضي هذا الأجل-  إلا و أنتم في عمل صالح فافعلوا-  و لن تستطيعوا ذلك إلا بالله-  فسابقوا في مهل آجالكم-  من قبل أن تسلمكم آجالكم إلى انقطاع الأعمال-  فإن قوما نسوا آجالهم و جعلوا أعمالهم لغيرهم-  فأنهاكم أن تكونوا أمثالهم-  الجد الجد الوحا الوحا-  فإن وراءكم طالبا حثيثا-  أجل مره سريع احذروا الموت-  و اعتبروا بالآباء و الأبناء و الإخوان-  و لا تغبطوا الأحياء إلا بما يغبط به الأموات- . إن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما يراد به وجهه-  فأريدوا وجه الله بأعمالكم- 

و اعلمواأن ما أخلصتم لله من أعمالكم-  فلطاعة أتيتموها-  و حظ ظفرتم به و ضرائب أديتموها-  و سلف قدمتموه من أيام فانية لأخرى باقية-  لحين فقركم و حاجتكم-  فاعتبروا عباد الله بمن مات منكم-  و تفكروا فيمن كان قبلكم-  أين كانوا أمس و أين هم اليوم أين الجبارون-  أين الذين كان لهم ذكر القتال و الغلبة-  في مواطن الحرب-  قد تضعضع بهم الدهر و صاروا رميما-  قد تركت عليهم القالات الخبيثات-  و إنما الخبيثات للخبيثين و الخبيثون للخبيثات-  و أين الملوك الذين أثاروا الأرض و عمروها-  قد بعدوا بسيئ ذكرهم-  و بقي ذكرهم و صاروا كلا شي‏ء-  ألا إن الله قد أبقى عليهم التبعات-  و قطع عنهم الشهوات و مضوا-  و الأعمال أعمالهم و الدنيا دنيا غيرهم-  و بقينا خلفا من بعدهم-  فإن نحن اعتبرنا بهم نجونا-  و إن اغتررنا كنا مثلهم-  أين الوضاء الحسنة وجوههم المعجبون بشبابهم-  صاروا ترابا و صار ما فرطوا فيه حسرة عليهم-  أين الذين بنوا المدائن و حصنوها بالحوائط-  و جعلوا فيها العجائب و تركوها لمن خلفهم-  فتلك مساكنهم خاوية و هم في ظلم القبور-  هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا-  أين من تعرفون من آبائكم و إخوانكم-  قد انتهت بهم آجالهم فوردوا على ما قدموا عليه-  و أقاموا للشقوة و للسعادة-  إلا إن الله لا شريك له-  ليس بينه و بين أحد من خلقه سبب-  يعطيه به خيرا و لا يصرف عنه به شرا-  إلا بطاعته و اتباع أمره- 

و اعلموا أنكم عباد مدينون-  و أن ما عنده لا يدرك إلا بتقواه و عبادته-  ألا و إنه لا خير بخير بعده النار-  و لا شر بشر بعد الجنة- .فهذه خطبتا أبي بكر يوم السقيفة و اليوم الذي يليه-  إنما قال إن لي شيطانا يعتريني-  و أراد بالشيطان الغضب-  و لم يرد أن له شيطانا من مردة الجن-  يعتريه إذا غضب-  فالزيادة فيما ذكره المرتضى في قوله-  إن لي شيطانا يعتريني عند غضبي-  تحريف لا محالة-  و لو كان له شيطان من الجن يعتاده و ينوبه-  لكان في عداد المصروعين من المجانين-  و ما ادعى أحد على أبي بكر هذا-  لا من أوليائه و لا من أعدائه-  و إنما ذكرنا خطبته على طولها-  و المراد منها كلمة واحدة-  لما فيها من الفصاحة و الموعظة-  على عادتنا في الاعتناء بإيداع هذا الكتاب-  ما كان ذاهبا هذا المذهب و سالكا هذا السبيل- . فأما قول المرتضى فهذه صفة من ليس بمعصوم-  فالأمر كذلك و العصمة عندنا ليست شرطا في الإمامة-  و لو لم يدل على عدم اشتراطها-  إلا أنه قال على المنبر بحضور الصحابة هذا القول-  و أقروه على الإمامة-  لكفى في عدم كون العصمة شرطا-  لأنه قد حصل الإجماع على عدم اشتراط ذلك-  إذ لو كان شرطا لأنكر منكر إمامته كما لو قال- 

إني لا أصبر عن شرب الخمر و عن الزنا- . فأما قوله هذه صفة طائش لا يملك نفسه-  فلعمري إن أبا بكر كان حديدا و قد ذكره عمر بذلك-  و ذكره غيره من الصحابة بالحدة و السرعة-  و لكن لا بحيث أن تبطل به أهليته للإمامة-  لأن الذي يبطل الإمامة من ذلك-  و ما يخرج الإنسان عن العقل-  و أما ما هو دون ذلك فلا-  و ليس قوله فاجتنبوني لا أؤثر في أشعاركم و أبشاركم-  محمول على ظاهره-  و إنما أراد به المبالغة في وصف القوة الغضبية عنده-  و إلا فما سمعنا و لا نقل ناقل-  من الشيعة و لا من غير الشيعة-  أن أبا بكر في أيام رسول الله ص-  و لا في الجاهلية و لا في أيام خلافته-  احتد على إنسان-  فقام إليه فضربه بيده و مزق شعره- .

فأما ما حكاه قاضي القضاة عن الشيخ أبي علي-  من تشبيه هذه اللفظة بما ورد في القرآن-  فهو على تقدير أن يكون أبو بكر عنى الشيطان حقيقة-  و ما اعترض به المرتضى ثانية عليه غير لازم-  لأن الله تعالى قال فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ-  و تعقب ذلك قبولهما وسوسته و أكلهما من الشجرة-  فكيف يقول المرتضى-  ليس قول أبي بكر بمنزلة من وسوس له الشيطان فلم يطعه-  و كذلك قوله تعالى في قصة موسى لما قتل القبطي-  هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ-  و كذلك قوله فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها-  و قوله أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ-  و ما ذهب إليه المرتضى من التأويلات-  مبني على مذهبه في العصمة الكلية-  و هو مذهب يحتاج في نصرته إلى تكلف شديد-  و تعسف عظيم في تأويل الآيات-  على أنه إذا سلم أن الشيطان-  ألقى في تلاوة الرسول ص ما ليس من القرآن-  حتى ظنه السامعون كلاما من كلام الرسول-  فقد نقض دلالة التنفير المقتضية عنده في العصمة-  لأنه لا تنفير عنده أبلغ من تمكين الله الشيطان-  أن يخلط كلامه بكلامه و رسوله يؤديه إلى المكلفين-  حتى يعتقد السامعون كلهم أن الكلامين كلام واحد- .

و أما قوله إن آدم كان مندوبا-  إلى ألا يأكل من الشجرة لا محرم عليه أكلها-  و لفظة عصى إنما المراد بها خالف المندوب-  و لفظه غوى إنما المراد خاب-  من حيث لم يستحق الثواب على اعتماد ما ندب إليه-  فقول يدفعه ظاهر الآية لأن الصيغة صيغة النهي-  و هي قوله وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ-  و النهي عند المرتضى يقتضي التحريم لا محالة-  و ليس الأمر الذي قد يراد به الندب-  و قد يراد به الوجوب- . و أما قول شيخنا أبي علي-  إن كلام أبي بكر خرج مخرج الإشفاق و الحذر-  من المعصية عند الغضب فجيد- . و اعتراض المرتضى عليه-  بأنه ليس ظاهر اللفظ ذاك غير لازم-  لأن هذه عادة العرب-  يعبرون عن الأمر بما هو منه بسبب و سبيل-  كقولهم لا تدن من الأسد فيأكلك-  فليس أنهم قطعوا على الأكل عند الدنو-  و إنما المراد الحذر و الخوف-  و التوقع للأكل عند الدنو- .

 

و أما الكلام في قوله أقيلوني-  فلو صح الخبر لم يكن فيه مطعن عليه-  لأنه إنما أراد في اليوم الثاني اختبار حالهم في البيعة-  التي وقعت في اليوم الأول ليعلم وليه من عدوه منهم-  و قد روى جميع أصحاب السير أن أمير المؤمنين خطب في اليوم الثاني من بيعته-  فقال أيها الناس إنكم بايعتموني على السمع و الطاعة-  و أنا أعرض اليوم عليكم ما دعوتموني إليه أمس-  فإن أجبتم قعدت لكم و إلا فلا أجد على أحد-  و ليس بجيد قول المرتضى-  إنه لو كان يريد العرض و البذل-  لكان قد قال كذا و كذا-  فإن هذه مضايقة منه شديدة للألفاظ-  و لو شرعنا في مثل هذا لفسد أكثر ما يتكلم به الناس-  على أنا لو سلمنا أنه استقالهم البيعة حقيقة-  فلم قال المرتضى إن ذلك لا يجوز-  أ ليس يجوز للقاضي أن يستقيل من القضاء-  بعد توليته إياه و دخوله فيه-  فكذلك يجوز للإمام أن يستقيل من الإمامة-  إذا أنس من نفسه ضعفا عنها-  أو أنس من رعيته نبوة عنه-  أو أحس بفساد ينشأ في الأرض-  من جهة ولايته على الناس-  و من يذهب إلى أن الإمامة تكون بالاختيار-  كيف يمنع من جواز استقالة الإمام-  و طلبه إلى الأمة أن يختاروا غيره-  لعذر يعلمه من حال نفسه-  و إنما يمنع من ذلك المرتضى و أصحابه-  القائلون بأن الإمامة بالنص-  و إن الإمام محرم عليه ألا يقوم بالإمامة-  لأنه مأمور بالقيام بها لتعينه خاصة-  دون كل أحد من المكلفين-  و أصحاب الاختيار يقولون-  إذا لم يكن زيد إماما كان عمرو إماما عوضه-  لأنهم لا يعتبرون الشروط-  التي يعتبرها الإمامية من العصمة-  و أنه أفضل أهل عصره و أكثرهم ثوابا-  و أعلمهم و أشجعهم و غير ذلك من الشروط-  التي تقتضي تفرده و توحده بالأمر-  على أنه إذا جاز عندهم-  أن يترك الإمام الإمامة في الظاهر كما فعله الحسن-  و كما فعله غيره من الأئمة بعد الحسين ع للتقية-  جاز للإمام‏ على مذهب أصحاب الاختيار-  أن يترك الإمامة ظاهرا و باطنا-  لعذر يعلمه من حال نفسه أو حال رعيته

الطعن الثاني

قال قاضي القضاة بعد أن ذكر قول عمر كانت بيعة أبي بكر فلتة-  و قد تقدم منا القول في ذلك في أول هذا الكتاب-  و مما طعنوا به على أبي بكر أنه قال عند موته-  ليتني كنت سألت رسول الله ص عن ثلاثة-  فذكر في أحدها ليتني كنت سألته-  هل للأنصار في هذا الأمر حق-  قالوا و ذلك يدل على شكه في صحة بيعته-  و ربما قالوا قد روي أنه قال في مرضه-  ليتني كنت تركت بيت فاطمة لم أكشفه-  و ليتني في ظلة بني ساعدة كنت-  ضربت على يد أحد الرجلين-  فكان هو الأمير و كنت الوزير-  قالوا و ذلك يدل-  على ما روي من إقدامه على بيت فاطمة ع-  عند اجتماع علي ع و الزبير و غيرهما فيه-  و يدل على أنه كان يرى الفضل لغيره لا لنفسه- .

قال قاضي القضاة و الجواب أن قوله-  ليتني لا يدل على الشك فيما تمناه-  و قول إبراهيم ع-  رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى‏-  قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى‏ وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي-  أقوى من ذلك في الشبهة-  ثم حمل تمنيه على أنه أراد سماع شي‏ء مفصل-  أو أراد ليتني سألته عند الموت-  لقرب العهد لأن ما قرب عهده لا ينسى-  و يكون أردع للأنصار على ما حاولوه-  ثم قال على أنه ليس في ظاهره أنه تمنى أن‏ يسأل-  هل لهم حق في الإمامة أم لا-  لأن الإمامة قد يتعلق بها حقوق سواها-  ثم دفع الرواية المتعلقة ببيت فاطمة ع-  و قال فأما تمنيه أن يبايع غيره فلو ثبت لم يكن ذما-  لأن من اشتد التكليف عليه فهو يتمنى خلافه- .

اعترض المرتضى رحمه الله هذا الكلام فقال-  ليس يجوز أن يقول أبو بكر-  ليتني كنت سألت عن كذا-  إلا مع الشك و الشبهة-  لأن مع العلم و اليقين لا يجوز مثل هذا القول-  هكذا يقتضي الظاهر-  فأما قول إبراهيم ع-  فإنما ساغ أن يعدل عن ظاهره-  لأن الشك لا يجوز على الأنبياء و يجوز على غيرهم-  على أنه ع قد نفى عن نفسه الشك بقوله-  بَلى‏ وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي-  و قد قيل إن نمرود قال له-  إذا كنت تزعم أن لك ربا يحيي الموتى-  فاسأله أن يحيي لنا ميتا إن كان على ذلك قادرا-  فإن لم تفعل ذلك قتلتك-  فأراد بقوله وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي-  أي لآمن توعد عدوك لي بالقتل-  و قد يجوز أن يكون طلب ذلك لقومه-  و قد سألوه أن يرغب إلى الله تعالى فيه فقال-  ليطمئن قلبي إلى إجابتك لي-  و إلى إزاحة علة قومي-  و لم يرد ليطمئن قلبي إلى أنك تقدر على أن تحيي الموتى-  لأن قلبه قد كان بذلك مطمئنا-  و أي شي‏ء يريد أبو بكر من التفضيل أكثر من قوله-  إن هذا الأمر لا يصلح إلا لهذا الحي من قريش-  و أي فرق بين ما يقال عند الموت و بين ما يقال قبله-  إذا كان محفوظا معلوما-  لم ترفع كلمة و لم تنسخ- . و بعد فظاهر الكلام لا يقتضي هذا التخصيص-  و نحن مع الإطلاق و الظاهر-  و أي حق يجوز أن يكون للأنصار في الإمامة-  غير أن يتولاها رجل منهم حتى يجوز أن يكون الحق-  الذي تمنى أن يسأل عنه غير الإمامة-  و هل هذا إلا تعسف و تكلف-و أي شبهة تبقى بعد قول أبي بكر-  ليتني كنت سألته هل للأنصار في هذا الأمر حق-  فكنا لا ننازعه أهله-  و معلوم أن التنازع لم يقع بينهم-  إلا في الإمامة نفسها لا في حق آخر من حقوقها- .

فأما قوله إنا قد بينا أنه لم يكن منه في بيت فاطمة-  ما يوجب أن يتمنى أنه لم يفعله-  فقد بينا فساد ما ظنه فيما تقدم- . فأما قوله-  إن من اشتد التكليف عليه قد يتمنى خلافه-  فليس بصحيح-  لأن ولاية أبي بكر إذا كانت هي التي اقتضاها الدين-  و النظر للمسلمين في تلك الحال و ما عداها كان مفسدة-  و مؤديا إلى الفتنة-  فالتمني لخلافها لا يكون إلا قبيحا- . قلت أما قول قاضي القضاة-  إن هذا التمني لا يقتضي الشك-  في أن الإمامة لا تكون إلا في قريش-  كما أن قول إبراهيم وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي-  لا يقتضي الشك في أنه تعالى قادر على ذلك فجيد- .

فأما قول المرتضى-  إنما ساغ أن يعدل عن الظاهر في حق إبراهيم-  لأنه نبي معصوم لا يجوز عليه الشك-  فيقال له و كذلك ينبغي أن يعدل عن ظاهر كلام أبي بكر-  لأنه رجل مسلم عاقل-  فحسن الظن به-  يقتضي صيانة أفعاله و أقواله عن التناقض-  قوله إن إبراهيم قد نفى عن نفسه الشك بقوله-  بَلى‏ وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي-  قلنا إن أبا بكر قد نفى عن نفسه الشك-  بدفع الأنصار عن الإمامة و إثباتها في قريش خاصة-  فإن كانت لفظة بلى دافعة لشك إبراهيم-  الذي يقتضيه قوله وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي-  ففعل أبي بكر و قوله يوم السقيفة- يدفع الشك الذي يقتضيه قوله ليتني سألته-  و لا فرق في دفع الشك-  بين أن يتقدم الدافع أو يتأخر أو يقارن- . ثم يقال للمرتضى أ لست في هذا الكتاب-  و هو الشافي بينت أن قصة السقيفة لم يجر فيها ذكر نص-  عن رسول الله ص بأن الأئمة من قريش-  و أنه لم يكن هناك إلا احتجاج أبي بكر و عمر-  بأن قريشا أهل النبي ص و عشيرته-  و أن العرب لا تطيع غير قريش-  و ذكرت عن الزهري و غيره أن القول الصادر عن أبي بكر-  إن هذا الأمر لا يصلح إلا لهذا الحي من قريش-  ليس نصا مرويا عن رسول الله ص-  و إنما هو قول قاله أبو بكر من تلقاء نفسه-  و رويت في ذلك الروايات-  و نقلت من الكتب من تاريخ الطبري و غيره-  صورة الكلام و الجدال الدائر بينه و بين الأنصار-  فإذا كان هذا قولك فلم تنكر على أبي بكر قوله-  ليتني كنت سألت رسول الله ص-  هل للأنصار في هذا الأمر حق-  لأنه لم يسمع النص و لا رواه و لا روي له-  و إنما دفع الأنصار بنوع من الجدل-  فلا جرم بقي في نفسه شي‏ء من ذلك- 

و قال عند موته ليتني كنت سألت رسول الله ص-  و ليس ذلك مما يقتضي شكه في بيعته كما زعم الطاعن-  لأنه إنما يشك في بيعته-  لو كان قال قائل أو ذهب ذاهب-  إلى أن الإمامة ليست إلا في الأنصار-  و لم يقل أحد ذلك-  بل النزاع كان في هل الإمامة مقصورة على قريش خاصة-  أم هي فوضى بين الناس كلهم-  و إذا كانت الحال هذه-  لم يكن شاكا في إمامته و بيعته بقوله-  ليتني سألت رسول الله ص-  هل للأنصار في هذا حق-  لأن بيعته على كلا التقديرين تكون صحيحة- .

 

فأما قول قاضي القضاة-  لعله أراد حقا للأنصار غير الإمامة نفسها-  فليس بجيد و الذي اعترضه به المرتضى جيد-  فإن الكلام لا يدل إلا على الإمامة نفسها-  و لفظة المنازعة تؤكد ذلك- . و أما حديث الهجوم على بيت فاطمة ع-  فقد تقدم الكلام فيه-  و الظاهر عندي صحة ما يرويه المرتضى و الشيعة-  و لكن لا كل ما يزعمونه بل كان بعض ذلك-  و حق لأبي بكر أن يندم و يتأسف على ذلك-  و هذا يدل على قوة دينه و خوفه من الله تعالى-  فهو بأن يكون منقبة له أولى من كونه طعنا عليه- .

فأما قول قاضي القضاة-  إن من اشتد التكليف عليه فقد يتمنى خلافه-  و اعتراض المرتضى عليه-  فكلام قاضي القضاة أصح و أصوب-  لأن أبا بكر و إن كانت ولايته مصلحة-  و ولاية غير مفسدة-  فإنه ما يتمنى أن يكون الإمام غيره-  مع استلزام ذلك للمفسدة-  بل تمنى أن يلي الأمر غيره و تكون المصلحة بحالها-  أ لا ترى أن خصال الكفارة في اليمين-  كل واحدة منها مصلحة-  و ما عداها لا يقوم مقامها في المصلحة-  و أحدها يقوم مقام الأخرى في المصلحة-  فأبو بكر تمنى أن يلي الأمر عمر أو أبو عبيدة-  بشرط أن تكون المصلحة الدينية-  التي تحصل من بيعته-  حاصلة من بيعة كل واحد من الآخرين

الطعن الثالث

قالوا إنه ولي عمر الخلافة-  و لم يوله رسول الله ص شيئامن أعماله البتة-  إلا ما ولاه يوم خيبر فرجع منهزما-  و ولاه الصدقة فلما شكاه العباس عزله- . أجاب قاضي القضاة بأن تركه ع أن يوليه-  لا يدل على أنه لا يصلح لذلك-  و توليته إياه لا يدل على صلاحيته للإمامة-  فإنه ص قد ولى خالد بن الوليد و عمرو بن العاص-  و لم يدل ذلك على صلاحيتهما للإمامة-  و كذلك تركه أن يولي لا يدل على أنه غير صالح-  بل المعتبر بالصفات التي تصلح للإمامة-  فإذا كملت صلح لذلك ولي من قبل أو لم يول-  و قد ثبت أن النبي ص-  ترك أن يولي أمير المؤمنين ع أمورا كثيرة-  و لم يجب إلا من يصلح لها-  و ثبت أن أمير المؤمنين ع لم يول الحسين ع ابنه-  و لم يمنع ذلك من أن يصلح للإمامة-  و حكي عن أبي علي-  أن ذلك إنما كان يصح أن يتعلق به-  لو ظفروا بتقصير من عمر فيما تولاه-  فأما و أحواله معروفة في قيامه بالأمر-  حين يعجز غيره فكيف يصح ما قالوه-  و بعد فهلا دل ما روي من قوله-  و إن تولوا عمر تجدوه قويا في أمر الله-  قويا في بدنه على جواز ذلك-  و إن ترك النبي ص توليته-  لأن هذا القول أقوى من الفعل- .

اعترض المرتضى رحمه الله فقال-  قد علمنا بالعادة أن من ترشح لكبار الأمور-  لا بد من أن يدرج إليها بصغارها-  لأن من يريد بعض الملوك تأهيله للأمر من بعده-  لا بد من أن ينبه عليه بكل قول و فعل-  يدل على ترشيحه لهذه المنزلة-  و يستكفيه من أمور ولاياته ما يعلم عنده-  أو يغلب على ظنه صلاحه لما يريده له-  و إن من يرى الملك مع حضوره و امتداد الزمان و تطاوله-  لا يستكفيه شيئا من الولايات-  و متى ولاه عزله-  و إنما يولي غيره و يستكفي سواه-  لا بد أن يغلب في الظن أنه ليس بأهل للولاية-  و إن جوزنا أنه لم يوله لأسباب كثيرة-  سوى أنه لا يصلح للولاية-  إلا أن مع هذا التجويز-  لا بد أن يغلب على الظن بما ذكرناه-  فأما خالد و عمرو فإنما لم يصلحا للإمامة-  لفقد شروط الإمامة فيهما-  و إن كانا يصلحان لما ولياه من الإمارة-  فترك الولاية مع امتداد الزمان و تطاول الأيام-  و جميع الشروط التي ذكرناها-  تقتضي غلبه الظن لفقد الصلاح-  و الولاية لشي‏ء لا تدل على الصلاح لغيره-  إذا كانت الشرائط في القيام بذلك الغير معلوما فقدها-  و قد نجد الملك يولي بعض أموره-  من لا يصلح للملك بعده لظهور فقد الشرائط فيه-  و لا يجوز أن يكون بحضرته من يرشحه للملك بعده-  ثم لا يوليه على تطاول الزمان شيئا من الولايات-  فبان الفرق بين الولاية و تركها فيما ذكرناه- . فأما أمير المؤمنين ع-  و إن يتول جميع أمور النبي ص في حياته-  فقد تولى أكثرها و أعظمها و خلفه في المدينة-  و كان الأمير على الجيش المبعوث إلى خيبر-  و جرى الفتح على يديه بعد انهزام من انهزم منها-  و كان المؤدي عنه سورة براءة-  بعد عزل من عزل عنها و ارتجاعها منه-  إلى غير ذلك من عظيم الولايات و المقامات-  بما يطول شرحه-  و لو لم يكن إلا أنه لم يول عليه واليا قط لكفى- .

فأما اعتراضه بأن أمير المؤمنين ع-  لم يول الحسين فبعيد عن الصواب-  لأن أيام أمير المؤمنين ع لم تطل-  فيتمكن فيها من مراداته-  و كانت على قصرها منقسمة بين قتال الأعداء-  لأنه ع لما بويع لم يلبث أن خرج عليه أهل البصرة-  فاحتاج إلى قتالهم-  ثم انكفأ من قتالهم إلى قتال أهل الشام-  و تعقب ذلك قتال أهل النهروان-  و لم تستقر به الدار و لا امتد به الزمان-  و هذا بخلاف أيام النبي ص-  التي تطاولت و امتدت-  على أنه قد نص عليه بالإمامة بعد أخيه الحسن-  و إنما تطلب الولايات لغلبة الظن بالصلاح للإمامة- . فإن كان هناك وجه يقتضي العلم بالصلاح لها-  كان أولى من طريق الظن-  على أنه‏ لا خلاف بين المسلمين-  أن الحسين ع كان يصلح للإمامة-  و إن لم يوله أبوه الولايات-  و في مثل ذلك خلاف من حال عمر فافترق الأمران-  فأما قوله إنه لم يعثر على عمر بتقصير في الولاية-  فمن سلم بذلك-  أ و ليس يعلم أن مخالفته تعد تقصيرا كثيرا-  و لو لم يكن إلا ما اتفق عليه من خطئه في الأحكام-  و رجوعه من قول إلى غيره-  و استفتائه الناس في الصغير و الكبير-  و قوله كل الناس أفقه من عمر لكان فيه كفاية-  و ليس كل النهوض بالإمامة-  يرجع إلى حسن التدبير و السياسة الدنياوية-  و رم الأعمال و الاستظهار في جباية الأموال-  و تمصير الأمصار و وضع الأعشار-  بل حظ الإمامة من العلم بالأحكام-  و الفتيا بالحلال و الحرام-  و الناسخ و المنسوخ و المحكم و المتشابه أقوى-  فمن قصر في هذا لم ينفعه أن يكون كاملا في ذلك- .

فأما قوله فهلا دل ما روي من  قوله ع فإن وليتم عمر-  وجدتموه قويا في أمر الله قويا في بدنه-  فهذا لو ثبت لدل و قد تقدم القول عليه-  و أقوى ما يبطله عدول أبي بكر عن ذكره-  و الاحتجاج به لما أراد النص على عمر-  فعوتب على ذلك و قيل له-  ما تقول لربك إذ وليت علينا فظا غليظا-  فلو كان صحيحا لكان يحتج به و يقول-  وليت عليكم من شهد النبي ص-  بأنه قوي في أمر الله قوي في بدنه-  و قد قيل في الطعن على صحة هذا الخبر-  إن ظاهره يقتضي تفضيل عمر على أبي بكر-  و الإجماع بخلاف ذلك لأن القوة في الجسم فضل-  قال الله تعالى إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ-  وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ-  و بعد فكيف يعارض ما اعتمدناه-  من عدوله ع عن ولايته-  و هو أمر معلوم-  بهذا الخبر المردود المدفوع- . قلت أما ما ادعاه من عادة الملوك فالأمر بخلافه-  فإنا قد وقفنا على سير الأكاسرة و ملوك الروم و غيرهم-  فما سمعنا أن أحدا منهم رشح ولده‏ للملك بعده-  باستعماله على طرف من الأطراف و لا جيش من الجيوش-  و إنما كانوا يثقفونهم بالآداب و الفروسية-  في مقار ملكهم لا غير-  و الحال في ملوك الإسلام كذلك-  فقد سمعنا بالدولة الأموية-  و رأينا الدولة العباسية-  فلم نعرف الدولة التي ادعاها المرتضى- 

و إنما قد يقع في الأقل النادر شي‏ء مما أشار إليه-  و الأغلب الأكثر خلاف ذلك-  على أن أصحابنا لا يقولون إن عمر كان مرشحا للخلافة-  بعد رسول الله ص ليقال لهم-  فلو كان قد رشحه للخلافة بعده-  لاستكفاه كثيرا من أموره-  و إنما عمر مرشح عندهم-  في أيام أبي بكر للخلافة بعد أبي بكر-  و قد كان أبو بكر استعمله على القضاء مدة خلافته-  بل كان هو الخليفة في المعنى-  لأنه فوض إليه أكثر التدبير-  فعلى هذا يكون قد سلمنا-  أن ترك استعمال النبي ص لعمر-  يدل على أنه غير مرشح في نظره للخلافة بعده-  و كذلك نقول و لا يلزم من ذلك-  ألا يكون خليفة بعد أبي بكر على أنا لا نسلم أنه ما استعمله-  فقد ذكر الواقدي و ابن إسحاق-  أنه بعثه في سرية في سنة سبع من الهجرة-  إلى الوادي المعروف ببرمة بضم الباء و فتح الراء-  و بها جمع من هوازن-  فخرج و معه دليل من بني هلال-  و كانوا يسيرون الليل و يكمنون النهار-  و أتى الخبر هوازن فهربوا-  و جاء عمر محالهم فلم يلق منهم أحدا-  فانصرف إلى المدينة- .

ثم يعارض المرتضى بما ذكره قاضي القضاة-  من ترك تولية علي ابنه الحسين ع-  و قوله في العذر عن ذلك-  إن عليا ع كان ممنوا-  بحرب البغاة و الخوارج لا يدفع المعارضة-  لأن تلك الأيام التي هي أيام حروبه مع هؤلاء-  هي الأيام التي كان ينبغي أن يولي الحسين ع-  بعض الأمور فيها-  كاستعماله على جيش ينفذه سرية إلى بعض الجهات-  و استعماله على الكوفة بعد خروجه منها إلى حرب صفين-  أو استعماله على القضاء-و ليس اشتغاله بالحرب بمانع له عن ولاية ولده-  و قد كان مشتغلا بالحرب-  و هو يولي بني عمه العباس الولايات و البلاد الجليلة فأما قوله-  على أنه قد نص عليه بالإمامة بعد أخيه الحسن-  فهذا يغني عن توليته شيئا من الأعمال-  فلقائل أن يمنع ما ذكره من حديث النص-  فإنه أمر تنفرد به الشيعة-  و أكثر أرباب السير و التواريخ لا يذكرون-  أن أمير المؤمنين ع نص على أحد-  ثم إن ساغ له ذلك ساغ لقاضي القضاة أن يقول-  إن  قول النبي ص اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر و عمر-  يغني عن تولية عمر شيئا من الولايات-  لأن هذا القول آكد من الولاية في ترشحه للخلافة- .

فأما قوله على أنه لا خلاف بين المسلمين-  في صلاحية الحسين للخلافة-  و إن لم يوله أبوه الولايات-  و في عمر خلاف ظاهر بين المسلمين-  فلقائل أن يقول له-  إجماع المسلمين على صلاحية الحسين للخلافة-  لا يدفع المعارضة بل يؤكدها-  لأنه إذا كان المسلمون-  قد أجمعوا على صلاحيته للخلافة-  و لم يكن ترك تولية أبيه إياه الولايات-  قادحا في صلاحيته لها بعده-  جاز أيضا أن يكون ترك تولية رسول الله ص-  عمر الولايات في حياته-  غير قادح في صلاحيته للخلافة بعده- . ثم ما ذكره من تقصير عمر في الخلافة-  بطريق اختلاف أحكامه و رجوعه إلى فتاوى العلماء-  فقد ذكرنا ذلك فيما تقدم-  لما تكلمنا في مطاعن الشيعة على عمر و أجبنا عنه- .

و أما قوله لا يغني حسن التدبير و السياسة و رم الأمور-  مر القصور في الفقه-  فأصحابنا يذهبون-  إلى أنه إذا تساوى اثنان في خصال الإمامة-  إلا أنه كان أحدهما أعلم و الآخرأسوس-  فإن الأسوس أولى بالإمامة-  لأن حاجة الإمامة إلى السياسة و حسن التدبير-  آكد من حاجتها إلى العلم و الفقه- . و أما الخبر المروي في عمر-  و هو قوله و إن تولوها عمر-  فيجوز ألا يكون أبو بكر سمعه من رسول الله ص-  و يكون الراوي له غيره-  و يجوز أن يكون سمعه و شذ عنه-  أن يحتج به على طلحة لما أنكر استخلاف عمر-  و يجوز ألا يكون شذ عنه و ترك الاحتجاج به-  استغناء عنه لعلمه أن طلحة لا يعتد بقوله-  عند الناس إذا عارض قوله-  و لعله كنى عن هذا النص بقوله-  إذا سألني ربي قلت له-  استخلفت عليهم خير أهلك-  على أنا متى فتحنا باب هلا احتج فلان بكذا-  جر علينا ما لا قبل لنا به-  و قيل هلا احتج علي ع على-  طلحة و عائشة و الزبير-  بقول رسول الله ص من كنت مولاه فهذا علي مولاه-  و هلا احتج عليهم بقوله أنت مني بمنزله هارون من موسى-  و لا يمكن الشيعة أن يعتذروا هاهنا بالتقية-  لأن السيوف كانت قد سلت من الفريقين-  و لم يكن مقام تقية- .

و أما قوله هذا الخبر لو صح-  لاقتضى أن يكون عمر أفضل من أبي بكر-  و هو خلاف إجماع المسلمين-  فلقائل أن يقول لم قلت إن المسلمين أجمعوا-  على أن أبا بكر أفضل من عمر-  مع أن كتب الكلام و التصانيف المصنفة في المقالات-  مشحونة بذكر الفرقة العمرية-  و هم القائلون إن عمر أفضل من أبي بكر-  و هي طائفة عظيمة من المسلمين-  يقال إن عبد الله بن مسعود منهم-  و قد رأيت أن جماعة من الفقهاء يذهبون إلى هذا-  و يناظرون عليه-  على أنه لا يدل الخبر على ما ذكره المرتضى-  لأنه و إن كان عمر أفضل منه باعتبار قوة البدن-  فلا يدل على أنه أفضل منه مطلقا-  فمن الجائز أن يكون بإزاء هذه الخصلة-  خصال كثيرة في أبي بكر من خصال الخير-  يفضل بها على عمر-أ لا ترى أنا نقول أبو دجانة أفضل من أبي بكر-  بجهاده بالسيف في مقام الحرب-  و لا يلزم من ذلك أن يكون أفضل منه مطلقا-  لأن في أبي بكر من خصال الفضل-  ما إذا قيس بهذه الخصلة-  أربى عليها أضعافا مضاعفة

الطعن الرابع

قالوا إن أبا بكر كان في جيش أسامة-  و إن رسول الله ص-  كرر حين موته الأمر بتنفيذ جيش أسامة-  فتأخره يقتضي مخالفة الرسول ص-  فإن قلتم إنه لم يكن في الجيش-  قيل لكم لا شك أن عمر بن الخطاب كان في الجيش-  و أنه حبسه و منعه من النفوذ مع القوم-  و هذا كالأول في أنه معصية-  و ربما قالوا إنه ص-  جعل هؤلاء القوم في جيش أسامة-  ليبعدوا بعد وفاته عن المدينة-  فلا يقع منهم توثب على الإمامة-  و لذلك لم يجعل أمير المؤمنين ع في ذلك الجيش-  و جعل فيه أبا بكر و عمر و عثمان و غيرهم-  و ذلك من أوكد الدلالة-  على أنه لم يرد أن يختاروا للإمامة- .

أجاب قاضي القضاة-  بأن أنكر أولا أن يكون أبو بكر في جيش أسامة-  و أحال على كتب المغازي-  ثم سلم ذلك و قال إن الأمر لا يقتضي الفور-  فلا يلزم من تأخر أبي بكر عن النفوذ أن يكون عاصيا-  ثم قال إن خطابه ص بتنفيذ الجيش-  يجب أن يكون متوجها إلى القائم بعده-  لأنه من خطاب الأئمة-  و هذا يقتضي ألا يدخل المخاطب بالتنفيذ في الجملة-  ثم قال-  و هذا يدل على أنه لم يكن هناك إمام منصوص عليه-  لأنه لو كان لأقبل بالخطاب عليه-  و خصه بالأمر بالتنفيذ دون الجميع-ثم ذكر أن أمر رسول الله ص-  لا بد أن يكون مشروطا بالمصلحة-  و بأن لا يعرض ما هو أهم منه-  لأنه لا يجوز أن يأمرهم بالنفوذ-  و إن أعقب ضررا في الدين-  ثم قوى ذلك بأنه لم ينكر على أسامة تأخره- 

و قوله لم أكن لأسأل عنك الركب-  ثم قال لو كان الإمام منصوصا عليه-  لجاز أن يسترد جيش أسامة أو بعضه لنصرته-  و كذلك إذا كان بالاختيار-  ثم حكى عن الشيخ أبي علي استدلاله-  على أن أبا بكر لم يكن في جيش أسامة-  بأنه ولاه الصلاة في مرضه-  مع تكريره أمر الجيش بالنفوذ و الخروج- . ثم ذكر أن الرسول ص-  إنما يأمر بما يتعلق بمصالح الدنيا-  من الحروب و نحوها عن اجتهاده-  و ليس بواجب أن يكون ذلك عن وحي-  كما يجب في الأحكام الشرعية-  و أن اجتهاده يجوز أن يخالف بعد وفاته-  و إن لم يجز في حياته-  لأن اجتهاده في الحياة أولى من اجتهاد غيره-  ثم ذكر أن العلة في احتباس عمر عن الجيش-  حاجة أبي بكر إليه و قيامه بما لا يقوم به غيره-  و أن ذلك أحوط للدين من نفوذه- . ثم ذكر أن أمير المؤمنين ع حارب معاوية-  بأمر الله تعالى و أمر رسوله-  و مع هذا فقد ترك محاربته في بعض الأوقات-  و لم يجب بذلك ألا يكون متمثلا للأمر-  و ذكر توليته ع أبا موسى-  و تولية الرسول ص خالد بن الوليد-  مع ما جرى منهما و أن ذلك يقتضي الشرط- .

ثم ذكر أن من يصلح للإمامة ممن ضمه جيش أسامة-  يجب تأخيره ليختار للإمامة أحدهم-  فإن ذلك أهم من نفوذهم-  فإذا جاز لهذه العلة التأخير قبل العقد-  جاز التأخير بعده للمعاضدة و غيرها-  و طعن في قول من جعل أن إخراجهم في الجيش-  على جهة الإبعاد لهم عن المدينة بأن قال-  إن بعدهم عن المدينة-  لا يمنع من أن يختاروا للإمامة-و لأنه ع لم يكن قاطعا على موته لا محالة-  لأنه لم يردنفذوا جيش أسامة في حياتي-  ثم ذكر أن ولاية أسامة عليهما-  لا تقتضي فضله و أنهما دونه-  و ذكر ولاية عمرو بن العاص عليهما-  و إن لم يكونا دونه في الفضل-  و أن أحدا لم يفضل أسامة عليهما ثم ذكر أن السبب في كون عمر من جملة جيش أسامة-  أن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي-  قال عند ولاية أسامة-  تولى علينا شاب حدث و نحن مشيخة قريش-  فقال عمر يا رسول الله مرني حتى أضرب عنقه-  فقد طعن في تأميرك إياه-  ثم قال أنا أخرج في جيش أسامة-  تواضعا و تعظيما لأمره ع- .

اعترض المرتضى هذه الأجوبة فقال-  أما كون أبي بكر في جملة جيش أسامة فظاهر-  قد ذكره أصحاب السير و التواريخ-  و قد روى البلاذري في تاريخه-  و هو معروف بالثقة و الضبط-  و بري‏ء من ممالاة الشيعة و مقاربتها-  أن أبا بكر و عمر معا كانا في جيش أسامة-  و الإنكار لما يجري هذا المجرى لا يغني شيئا-  و قد كان يجب على من أحال بذلك-  على كتب المغازي في الجملة-  أن يومئ إلى الكتاب المتضمن لذلك بعينه ليرجع إليه-  فأما خطابه ع بالتنفيذ للجيش-  فالمقصود به الفور دون التراخي-  إما من حيث مقتضى الأمر على مذهب من يرى ذلك لغة-  و إما شرعا من حيث وجدنا جميع الأمة-  من لدن الصحابة إلى هذا الوقت-  يحملون أوامره على الفور-  و يطلبون في تراخيها الأدلة-  ثم لو لم يثبت كل ذلك لكان قول أسامة-  لم أكن لأسأل عنك الركب-  أوضح دليل على أنه عقل من الأمر الفور-  لأن سؤال الركب عنه ع بعد وفاته لا معنى له- .

 و أما قول صاحب الكتاب-  إنه لم ينكر على أسامة تأخره فليس بشي‏ء-  و أي إنكار أبلغ من تكراره الأمر-  و ترداده القول في حال يشغل عن المهم-  و يقطع الفكر إلا فيها-  و قد كرر الأمر على المأمور تارة بتكرار الأمر-  و أخرى بغيره-  و إذا سلمنا أن أمره ع-  كان متوجها إلى القائم بعده بالأمر لتنفيذ الجيش بعد الوفاة-  لم يلزم ما ذكره من خروج المخاطب بالتنفيذ عن الجملة-  و كيف يصح ذلك و هو من جملة الجيش-  و الأمر متضمن تنفيذ الجيش-  فلا بد من نفوذ كل من كان في جملته-  لأن تأخر بعضهم-  يسلب النافذين اسم الجيش على الإطلاق-  أ و ليس من مذهب صاحب الكتاب-  أن الأمر بالشي‏ء أمر بما لا يتم إلا معه-  و قد اعتمد على هذا في مواضع كثيرة-  فإن كان خروج الجيش و نفوذه لا يتم إلا بخروج أبي بكر-  فالأمر بخروج الجيش أمر لأبي بكر بالنفوذ و الخروج-  و كذلك لو أقبل عليه على سبيل التخصيص-  و قال نفذوا جيش أسامة-  و كان هو من جملة الجيش-  فلا بد أن يكون ذلك أمرا له بالخروج-  و استدلاله على أنه لم يكن هناك إمام منصوص عليه-  بعموم الأمر بالتنفيذ ليس بصحيح-  لأنا قد بينا أن الخطاب إنما توجه إلى الحاضرين-  و لم يتوجه إلى الإمام بعده-  على أن هذا لازم له-  لأن الإمام بعده لا يكون إلا واحدا-  فلم عمم الخطاب و لم يفرد به الواحد فيقول-  لينفذ القائم من بعدي بالأمر جيش أسامة-  فإن الحال لا يختلف في كون الإمام بعده واحدا-  بين أن يكون منصوصا عليه أو مختارا- .

و أما ما ادعاه أن الشرط في أمره ع لهم بالنفوذ-  فباطل لأن إطلاق الأمر يمنع من إثبات الشرط-  و إنما يثبت من الشروط ما يقتضي الدليل إثباته-  من التمكن و القدرة-  لأن ذلك شرط ثابت في كل أمر ورد من حكيم-  و المصلحة بخلاف ذلك لأن الحكيم لا يأمر بشرط المصلحة-  بل إطلاق الأمر منه يقتضي ثبوت المصلحة-  و انتفاء المفسدة-  و ليس كذلك التمكن و ما يجري مجراه-  و لهذا لا يشترط أحد في أوامر الله تعالى و رسوله ص-  بالشرائع المصلحة و انتفاء المفسدة-  و شرطوا في ذلك التمكن و رفع التعذر-  و لو كان الإمام منصوصا عليه بعينه و اسمه-  لما جاز أن يسترد جيش أسامة بخلاف ما ظنه-  و لا يعزل من ولاه ع و لا يولي من عزله للعلة التي ذكرناها- . فأما استدلال أبي علي على أن أبا بكر-  لم يكن في الجيش بحديث الصلاة-  فأول ما فيه أنه اعتراف بأن الأمر بتنفيذ الجيش-  كان في الحياة دون بعد الوفاة-  و هذا ناقض لما بنى صاحب الكتاب عليه أمره ع- .

ثم إنا قد بينا أنه ع لم يوله الصلاة-  و ذكرنا ما في ذلك-  ثم ما المانع من أن يوليه تلك الصلاة إن كان ولاه إياها-  ثم يأمره بالنفوذ من بعد مع الجيش-  فإن الأمر بالصلاة في تلك الحال-  لا يقتضي أمره بها على التأبيد- . و أما ادعاؤه أن النبي ص يأمر بالحروب-  و ما يتصل بها عن اجتهاد دون الوحي-  فمعاذ الله أن يكون صحيحا-  لأن حروبه ع لم تكن مما يختص بمصالح أمور الدنيا-  بل للدين فيها أقوى تعلق لما يعود على الإسلام و أهله-  بفتوحه من العز و القوة و علو الكلمة-  و ليس يجري ذلك مجرى أكله و شربه و نومه-  لأن ذلك لا تعلق له بالدين-  فيجوز أن يكون عن رأيه-  و لو جاز أن تكون مغازيه و بعوثه-  مع التعلق القوي لها بالدين عن اجتهاد-  لجاز ذلك في الأحكام- .

ثم لو كان ذلك عن اجتهاد-  لما ساغت مخالفته فيه بعد وفاته-  كما لا تسوغ في حياته-  فكل علة تمنع من أحد الأمرين هي مانعة من الآخر-  فأما الاعتذار له عن حبس عمر عن الجيش-  بما ذكره فباطل لأنا قد قلنا-  إن ما يأمر به ع لا يسوغ مخالفته مع الإمكان-  و لا مراعاة لما عساه يعرض فيه من رأي غيره-  و أي حاجة إلى عمر بعد تمام العقد-  و استقراره و رضا الأمة به-  على طريق المخالف و إجماعها عليه-  و لم يكن‏ هناك فتنة و لا تنازع-  و لا اختلاف يحتاج فيه إلى مشاورته و تدبيره-  و كل هذا تعلل باطل- . فأما محاربة أمير المؤمنين ع معاوية-  فإنما كان مأمورا بها مع التمكن و وجود الأنصار-  و قد فعل ع من ذلك ما وجب عليه لما تمكن منه-  فأما مع التعذر و فقد الأنصار فما كان مأمورا بها-  و ليس كذلك القول في جيش أسامة-  لأن تأخر من تأخر عنه كان مع القدرة و التمكن-  فأما تولية أبي موسى فلا ندري كيف يشبه ما نحن فيه-  لأنه إنما ولاه بأن يرجع إلى كتاب الله تعالى-  فيحكم فيه و في خصمه بما يقتضيه-  و أبو موسى فعل خلاف ما جعل إليه-  فلم يكن ممتثلا لأمر من ولاه-  و كذلك خالد بن الوليد-  إنما خالف ما أمره به الرسول ص فتبرأ من فعله-  و كل هذا لا يشبه أمره ع-  بتنفيذ جيش أسامة أمرا مطلقا-  و تأكيده ذلك و تكراره له-  فأما جيش أسامة فإنه لم يضم من يصلح للإمامة-  فيجوز تأخرهم ليختار أحدهم على ما ظنه صاحب الكتاب-  على أن ذلك لو صح أيضا لم يكن عذرا في التأخر-  لأن من خرج في الجيش-  يمكن أن يختار و إن كان بعيدا-  و لا يمنع بعده من صحة الاختيار-  و قد صرح صاحب الكتاب بذلك-  ثم لو صح هذا العذر لكان عذرا في التأخر قبل العقد-  فأما بعد إبرامه فلا عذر فيه-  و المعاضدة التي ادعاها قد بينا ما فيها- .

فأما ادعاء صاحب الكتاب-  رادا على من جعل إخراج القوم في الجيش ليتم أمر النص-  أن من أبعدهم لا يمنع أن يختاروا للإمامة-  فيدل على أنه لم يتبين معنى هذا الطعن على حقيقته-  لأن الطاعن به لا يقول إنه أبعدهم-  لئلا يختاروا للإمامة-  و إنما يقول-  إنه أبعدهم حتى ينتصب بعده في الأرض من نص عليه-  و لا يكون هناك من ينازعه و يخالفه‏

 و أما قوله لم يكن قاطعا علي موته فلا يضر تسليمه-  أ ليس كان مشفقا و خائفا-  و على الخائف أن يتحرز ممن يخاف منه-  فأما قوله فإنه لم يرد-  نفذوا الجيش في حياتي فقد بينا ما فيه-  فأما ولاية أسامة على من ولي عليه-  فلا بد من اقتضائها لفضله على الجماعة-  فيما كان واليا فيه-  و قد دللنا فيما تقدم من الكتاب-  على أن ولاية المفضول على الفاضل-  فيما كان أفضل منه فيه قبيحة-  فكذلك القول في ولاية عمرو بن العاص عليها فيما تقدم-  و القول في الأمرين واحد- .

و قوله إن أحدا لم يدع فضل أسامة على أبي بكر و عمر-  فليس الأمر علي ما ظنه-  لأن من ذهب إلى فساد إمامة المفضول-  لا بد من أن يفضل أسامة عليهما فيما كان واليا فيه-  فأما ادعاؤه ما ذكره من السبب-  في دخول عمر في الجيش فما نعرفه-  و لا وقفنا عليه إلا من كتابه ثم لو صح لم يغن شيئا-  لأن عمر لو كان أفضل من أسامة-  لمنعه الرسول ص من الدخول في إمارته-  و المسير تحت لوائه-  و التواضع لا يقتضي فعل القبيح- . قلت إن الكلام في هذا الفصل قد تشعب شعبا كثيرة-  و المرتضى رحمه الله لا يورد كلام قاضي القضاة بنصه-  و إنما يختصره و يورده مبتورا-  و يومئ إلى المعاني إيماء لطيفا و غرضه الإيجاز-  و لو أورد كلام قاضي القضاة بنصه لكان أليق-  و كان أبعد عن الظنة و أدفع لقول قائل من خصومه-  إنه يحرف كلام قاضي القضاة و يذكر على غير وجه-  أ لا ترى أن من نصب نفسه لاختصار كلام-  فقد ضمن على نفسه أنه قد فهم معاني ذلك الكلام-  حتى يصح منه اختصاره-  و من الجائز أن يظن أنه قد فهم بعض المواضع-  و لم يكن قد فهمه على الحقيقة-  فيختصر ما في نفسه لا ما في تصنيف ذلك الشخص-  و أما من يورد كلام الناس بنصه-  فقد استراح من هذه التبعة-  و عرض عقل غيره و عقل نفسه على الناظرين و السامعين- . ثم نقول إن هذا الفصل ينقسم أقساما-  منها قول قاضي القضاة-  لا نسلم أن أبا بكر كان في جيش أسامة- .

و أما قول المرتضى-  إنه قد ذكره أرباب السير و التواريخ-  و قوله إن البلاذري ذكره في تاريخه-  و قوله هلا عين قاضي القضاة الكتاب-  الذي ذكر أنه يتضمن عدم كون أبي بكر في ذلك الجيش-  فإن الأمر عندي في هذا الموضع مشتبه-  و التواريخ مختلفة في هذه القضية-  فمنهم من يقول إن أبا بكر كان في جملة الجيش-  و منهم من يقول إنه لم يكن-  و ما أشار إليه قاضي القضاة بقوله في كتب المغازي-  لا ينتهي إلى أمر صحيح-  و لم يكن ممن يستحل القول بالباطل في دينه و لا في رئاسته-  ذكر الواقدي في كتاب المغازي-  أن أبا بكر لم يكن في جيش أسامة-  و إنما كان عمر و أبو عبيدة و سعد بن أبي وقاص-  و سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل-  و قتادة بن النعمان و سلمة بن أسلم-  و رجال كثير من المهاجرين و الأنصار-  قال و كان المنكر لإمارة أسامة عياش بن أبي ربيعة-  و غير الواقدي يقول عبد الله بن عياش-  و قد قيل عبد الله بن أبي ربيعة أخو عياش- .

و قال الواقدي-  و جاء عمر بن الخطاب فودع رسول الله ص ليسير مع أسامة-  و قال و جاء أبو بكر فقال يا رسول الله-  أصبحت مفيقا بحمد الله-  و اليوم يوم ابنة خارجة-  فأذن لي فأذن له-  فذهب إلى منزله بالسنح و سار أسامة في العسكر-  و هذا تصريح بأن أبا بكر لم يكن في جيش أسامة- .

 

و ذكر موسى بن عقبة في كتاب المغازي-  أن أبا بكر لم يكن في جيش أسامة-  و كثير من المحدثين يقولون بل كان في جيشه- . فأما أبو جعفر محمد بن جرير الطبري-  فلم يذكر أنه كان في جيش أسامة إلا عمر-  و قال أبو جعفر-  حدثني السدي بإسناد ذكره أن رسول الله ص-  ضرب قبل وفاته بعثا على أهل المدينة و من حولهم-  و فيهم عمر بن الخطاب-  و أمر عليهم أسامة بن زيد-  فلم يجاوز آخرهم الخندق حتى قبض رسول الله ص-  فوقف أسامة بالناس ثم قال لعمر-  ارجع إلى خليفة رسول الله ص-  فاستأذنه يأذن لي أرجع بالناس-  فإن معي وجوه الصحابة-  و لا آمن على خليفة رسول الله ص-  و ثقل رسول الله ص و أثقال المسلمين-  أن يتخطفهم المشركون حول المدينة-  و قالت الأنصار لعمر سرا-  فإن أبى إلا أن يمضي فأبلغه عنا-  و اطلب إليه أن يولي أمرنا رجلا أقدم سنا من أسامة-  فخرج عمر بأمر أسامة-  فأتى أبا بكر فأخبره بما قال أسامة-  فقال أبو بكر لو تخطفتني الكلاب و الذئاب-  لم أرد قضاء قضى به رسول الله ص- 

قال فإن الأنصار أمروني أن أبلغك أنهم يطلبون إليك-  أن تولي أمرهم رجلا أقدم سنا من أسامة-  فوثب أبو بكر و كان جالسا فأخذ بلحية عمر-  و قال ثكلتك أمك يا ابن الخطاب-  أ يستعمله رسول الله ص و تأمرني أن أنزعه-  فخرج عمر إلى الناس فقالوا له ما صنعت-  فقال امضوا ثكلتكم أمهاتكم-  ما لقيت في سبيلكم اليوم من خليفة رسول الله ص-  ثم خرج أبو بكر حتى أتاهم فأشخصهم و شيعهم-  و هو ماش و أسامة راكب-  و عبد الرحمن بن عوف يقود دابة أبي بكر-  فقال له أسامة بن زيد يا خليفة رسول الله-  لتركبن أو لأنزلن-  فقال و الله لا تنزل و لا أركب-  و ما علي أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة-فإن للغازي بكل خطوة يخطوها-  سبعمائة حسنة تكتب له-  و سبعمائة درجة ترفع له-  و سبعمائة خطيئة تمحى عنه-  حتى إذا انتهى قال لأسامة-  إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل فأذن له-  ثم قال أيها الناس قفوا حتى أوصيكم بعشر فاحفظوها عني-  لا تخونوا و لا تغدروا و لا تغلوا و لا تمثلوا-  و لا تقتلوا طفلا صغيرا و لا شيخا كبيرا و لا امرأة-  و لا تعقروا نخلا و لا تحرقوه و لا تقطعوا شجرة مثمرة-  و لا تذبحوا شاة و لا بعيرا و لا بقرة إلا لمأكلة-  و سوف تمرون بأقوام-  قد فرغوا أنفسهم للعبادة في الصوامع-  فدعوهم فيما فرغوا أنفسهم له-  و سوف تقدمون على أقوام-  يأتونكم بصحاف فيها ألوان الطعام-  فلا تأكلوا من شي‏ء حتى تذكروا اسم الله عليه-  و سوف تلقون أقواما قد حصوا أوساط رءوسهم-  و تركوا حولها مثل العصائب-  فاخفقوهم بالسيوف خفقا-  أفناهم الله بالطعن و الطاعون-  سيروا على اسم الله- .

و أما قول الشيخ أبي علي-  فإنه يدل على أنه لم يكن في جيش أسامة-  أمره إياه بالصلاة-  و قول المرتضى هذا اعتراف بأن الأمر بتنفيذ الجيش-  كان في الحال دون ما بعد الوفاة-  و هذا ينقض ما بنى عليه قاضي القضاة أمره-  فلقائل أن يقول إنه لا ينقض ما بناه-  لأن قاضي القضاة ما قال-  إن الأمر بتنفيذ الجيش ما كان إلا بعد الوفاة-  بل قال إنه أمر و الأمر على التراخي-  فلو نفذ الجيش في الحال لجاز-  و لو تأخر إلى بعد الوفاة لجاز- .

فأما إنكار المرتضى-  أن تكون صلاة أبي بكر بالناس كانت عن أمر رسول الله ص-  فقد ذكرنا ما عندنا في هذا فيما تقدم- . و أما قوله-  يجوز أن يكون أمر بصلاة واحدة أو صلاتين-  ثم أمره بالنفوذ بعدذلك فهذا لعمري جائز-  و قد يمكن أن يقال-  إنه لما خرج متحاملا من شدة المرض-  فتأخر أبو بكر عن مقامه-  و صلى رسول الله ص بالناس-  أمره بالنفوذ مع الجيش-  و أسكت رسول الله ص في أثناء ذلك اليوم-  و استمر أبو بكر على الصلاة بالناس إلى أن توفي ع-  فقد جاء في الحديث أنه أسكت-  و أن أسامة دخل عليه فلم يستطع كلامه-  لكنه كان يرفع يديه و يضعهما عليه كالداعي له-  و يمكن أن يكون زمان هذه السكتة-  قد امتد يوما أو يومين-  و هذا الموضع من المواضع المشتبهة عندي و منها قول قاضي القضاة إن الأمر على التراخي-  فلا يلزم من تأخر أبي بكر عن النفوذ أن يكون عاصيا- . فأما قول المرتضى-  الأمر على الفور إما لغة عند من قال به-  أو شرعا لإجماع الكل-  على أن الأوامر الشرعية على الفور-  إلا ما خرج بالدليل-  فالظاهر في هذا الموضع صحة ما قاله المرتضى-  لأن قرائن الأحوال-  عند من يقرأ السير و يعرف التواريخ-  تدل على أن الرسول ص-  كان يحثهم على الخروج و المسير و هذا هو الفور- .

و أما قول المرتضى و قول أسامة-  لم أكن لأسأل عنك الركب-  فهو أوضح دليل على أنه عقل من الأمر الفور-  لأن سؤال الركب عنه بعد الوفاة لا معنى له-  فلقائل أن يقول إن ذلك لا يدل على الفور-  بل يدل على أنه مأمور في الجملة بالنفوذ و المسير-  فإن التعجيل و التأخير مفوضان إلى رأيه-  فلما قال له النبي ص لم تأخرت عن المسير-  قال لم أكن لأسير و أسأل عنك الركب-  إني انتظرت عافيتك فإني إذا سرت و أنت على هذه الحال-  لم يكن لي قلب للجهاد بل أكون قلقا شديد الجزع-  أسأل‏ عنك الركبان-  و هذا الكلام لا يدل-  على أنه عقل من الأمر الفور لا محالة-  بل هو على أن يدل على التراخي أظهر-  و قول النبي ص لم تأخرت عن المسير-  لا يدل على الفور-  لأنه قد يقال مثل ذلك-  لمن يؤمر بالشي‏ء على جهة التراخي-  إذا لم يكن سؤال إنكار- .

و قول المرتضى-  لأن سؤال الركب عنه بعد الوفاة لا معنى له-  قول من قد توهم على قاضي القضاة أنه يقول-  إن النبي ص ما أمرهم بالنفوذ-  إلا بعد وفاته-  و لم يقل قاضي القضاة ذلك-  و إنما ادعى أن الأمر على التراخي لا غير-  و كيف يظن بقاضي القضاة-  أنه حمل كلام أسامة على سؤال الركب بعد الموت-  و هل كان أسامة يعلم الغيب فيقول ذاك-  و هل سأل أحد عن حال أحد من المرضى بعد موته- . فأما قول المرتضى عقيب هذا الكلام-  لا معنى لقول قاضي القضاة-  إنه لم ينكر على أسامة تأخره-  فإن الإنكار قد وقع بتكرار الأمر حالا بعد حال-  فلقائل أن يقول-  إن قاضي القضاة لم يجعل عدم الإنكار على أسامة-  حجة على كون الأمر على التراخي-  و إنما جعل ذلك دليلا-  على أن الأمر كان مشروطا بالمصلحة-  و من تأمل كلام قاضي القضاة-  الذي حكاه عنه المرتضى تحقق ذلك-  فلا يجوز للمرتضى أن ينتزعه-  من الوضع الذي أورده فيه-  فيجعله في موضع آخر- .

و منها قول قاضي القضاة-  الأمر بتنفيذ الجيش-  يجب أن يكون متوجها إلى الخليفة بعده-  و المخاطب لا يدخل تحت الخطاب-  و اعتراض المرتضى عليه-  بأن لفظة الجيش يدخل تحتها أبو بكر-  فلا بد من وجوب النفوذ عليه-  لأن عدم نفوذه يسلب الجماعة اسم الجيش-  فليس بجيد-  لأن لفظة الجيش لفظة موضوعة لجماعة من الناس-  قد أعدت للحرب-  فإذا خرج منها واحد أو اثنان-  لم يزل مسمى الجيش عن الباقين-  و المرتضى‏ اعتقد أن ذلك مثل الماهيات المركبة-  نحو العشرة إذا عدم منها واحد زال مسمى العشرة-  و ليس الأمر كذلك-  يبين ذلك أنه لو قال بعض الملوك لمائة إنسان-  أنتم جيشي-  ثم قال لواحد منهم-  إذا مت فأعط كل واحد من جيشي درهما من خزانتي-  فقد جعلتك أميرا عليهم-  لم يكن له أن يأخذ لنفسه درهما-  و يقول أنا من جملة الجماعة-  الذين أطلق عليهم لفظة الجيش- .

و منها قول قاضي القضاة-  هذه القضية تدل على أنه لم يكن هناك-  إمام منصوص عليه-  و أما قول المرتضى-  فقد بينا أن الخطاب إنما توجه إلى الحاضرين-  لا إلى القائم بالأمر بعده-  فلم نجد في كلامه في هذا الفصل بطوله ما بين فيه ذلك-  و لا أعلم على ما ذا أحال-  و لو كان قد بين على ما زعم-  أن الخطاب متوجه إلى الحاضرين-  لكان الإشكال قائما-  لأنه يقال له-  إذا كان الإمام المنصوص عليه حاضرا عنده-  فلم وجه الخطاب إلى الحاضرين-  أ لا ترى أنه لا يجوز أن يقول الملك للرعية-  اقضوا بين هذين الشخصين و القاضي حاضر عنده-  إلا إذا كان قد عزله عن القضاء-  في تلك الواقعة عن الرعية- .

فأما قول المرتضى هذا ينقلب عليكم فليس ينقلب-  و إنما ينقلب لو كان يريد تنفيذ الجيش بعد موته فقط-  و لا يريده و هو حي-  فكان يجي‏ء ما قاله المرتضى-  لينفذ القائم بالأمر بعدي جيش أسامة-  فأما إذا كان يريد نفوذ الجيش-  من حين ما أمر بنفوذه فقد سقط القلب-  لأن الخليفة حينئذ لم يكن قد تعين-  لأن الاختيار ما وقع بعد-  و على مذهب المرتضى-  الإمام متعين حاضر عنده نصب عينه-  فافترق الوصفان- . و منها قول قاضي القضاة-  إن مخالفة أمره ص في النفوذ مع الجيش-  أو في إنفاذ الجيش لا يكون معصية-  و بين ذلك من وجوه-أحدها أن أمره ع بذلك-  لا بد أن يكون مشروطا بالمصلحة-  و ألا يعرض ما هو أهم من نفوذ الجيش-  لأنه لا يجوز أن يأمرهم بالنفوذ-  و إن أعقب ضررا في الدين- 

فأما قول المرتضى-  الأمر المطلق يدل على ثبوت المصلحة-  و لا يجوز أن يجعل الأمر المطلق-  فقول جيد إذا اعترض به-  على الوجه الذي أورده قاضي القضاة-  فأما إذا أورده أصحابنا على وجه آخر-  فإنه يندفع كلام المرتضى-  و ذلك أنه يجوز تخصيص عمومات النصوص-  بالقياس الجلي عند كثير من أصحابنا-  على ما هو مذكور في أصول الفقه-  فلم لا يجوز لأبي بكر أن يخص عموم قوله-  انفذوا بعث أسامة-  لمصلحة غلبت على ظنه في عدم نفوذه نفسه-  و لمفسدة غلبت على نفسه في نفوذه نفسه مع البعث- . و ثانيها أنه ع كان يبعث السرايا-  عن اجتهاد لا عن وحي يحرم مخالفته-  فأما قول المرتضى إن للدين تعلقا قويا بأمثال ذلك-  و إنها ليست من الأمور الدنياوية المحضة-  نحو أكله و شربه و نومه-  فإنه يعود على الإسلام بفتوحه عز و قوة و علو كلمة-  فيقال له و إذا أكل اللحم و قوي مزاجه بذلك-  و نام نوما طبيعيا يزول عنه به المرض و الإعياء-  اقتضى ذلك أيضا عز الإسلام و قوته-  فقل إن ذلك أيضا عن وحي- .

ثم إن الذي يقتضيه فتوحه و غزواته و حروبه-  من العز و علو الكلمة-  لا ينافي كون تلك الغزوات و الحروب باجتهاده-  لأنه لا منافاة بين اجتهاده و بين عز الدين-  و علو كلمته بحروبه-  و إن الذي ينافي اجتهاده بالرأي-  هو مثل فرائض الصلوات و مقادير الزكوات-  و مناسك الحج و نحو ذلك من الأحكام-  التي تشعر بأنها متلقاة من محض الوحي-  و ليس للرأي و الاجتهاد فيها مدخل-  و قد خرج بهذا الكلام الجواب عن قوله-لو جاز أن تكون السرايا و الحروب عن اجتهاده-  لجاز أن تكون الأحكام كلها عن اجتهاده-  و أيضا فإن الصحابة كانوا يراجعونه في الحروب و آراءه-  التي يدبرها بها و يرجع ع إليهم-  في كثير منها بعد أن قد رأى غيره-  و أما الأحكام فلم يكن يراجع فيها أصلا-  فكيف يحمل أحد البابين على الآخر- .

فأما قوله لو كانت عن اجتهاد-  لوجب أن يحرم مخالفته فيها و هو حي-  لا فرق بين الحالين-  فلقائل أن يقول القياس يقتضي ما ذكرت-  إلا أنه وقع الإجماع-  على أنه لو كان في الأحكام أو في الحروب و الجهاد-  ما هو باجتهاده لما جازت مخالفته-  و العدول عن مذهبه و هو حي-  لم يختلف أحد من المسلمين في ذلك-  و أجازوا مخالفته بعد وفاته-  بتقدير أن يكون ما صار إليه عن اجتهاد-  و الإجماع حجة- . فأما قول قاضي القضاة-  لأن اجتهاده و هو حي أولى من اجتهاد غيره-  فليس يكاد يظهر-  لأن اجتهاده و هو ميت أولى أيضا من اجتهاد غيره-  و يغلب على ظني-  أنهم فرقوا بين حالتي الحياة و الموت-  فإن في مخالفته و هو حي نوعا من أذى له-  و أذاه محرم لقوله تعالى وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ-  و الأذى بعد الموت لا يكون-  فافترق الحالان- .

و ثالثها أنه لو كان الإمام منصوصا عليه-  لجاز أن يسترد جيش أسامة أو بعضه لنصرته-  فكذلك إذا كان بالاختيار-  و هذا قد منع منه المرتضى-  و قال إنه لا يجوز للمنصوص عليه ذلك-  و لا أن يولي من عزله رسول الله ص-  و لا أن يعزل من ولاه رسول الله ص‏ و رابعها-  أنه ع ترك حرب معاوية في بعض الحالات-  و لم يوجب ذلك أن يكون عاصيا-  فكذلك أبو بكر في ترك النفوذ في جيش أسامة- . فأما قول المرتضى-  إن عليا ع كان مأمورا بحرب معاوية-  مع التمكن و وجود الأنصار-  فإذا عدما لم يكن مأمورا بحربه-  فلقائل أن يقول و أبو بكر كان مأمورا-  بالنفوذ في جيش أسامة مع التمكن و وجود الأنصار-  و قد عدم التمكن لما استخلف-  فإنه قد تحمل أعباء الإمامة-  و تعذر عليه الخروج عن المدينة التي هي دار الإمامة-  فلم يكن مأمورا و الحال هذه بالنفوذ في جيش أسامة- .

فإن قلت-  الإشكال عليكم إنما هو من قبل الاستخلاف-  كيف جاز لأبي بكر أن يتأخر عن المسير-  و كيف جاز له أن يرجع إلى المدينة و هو مأمور بالمسير-  و هلا نفذ لوجهه و لم يرجع-  و إن بلغه موت رسول الله ص- . قلت لعل أسامة أذن له فهو مأمور بطاعته-  و لأنه رأى أسامة و قد عاد باللواء فعاد هو-  لأنه لم يكن يمكنه أن يسير إلى الروم وحده-  و أيضا فإن أصحابنا قالوا-  إن ولاية أسامة بطلت بموت النبي ص-  و عاد الأمر إلى رأي من ينصب للأمر-  قالوا لأن تصرف أسامة إنما كان من جهة النبي ص-  ثم زال تصرف النبي ص بموته-  فوجب أن يزول تصرف أسامة-  لأن تصرفه تبع لتصرف الرسول ص-  قالوا و ذلك كالوكيل تبطل وكالته بموت الموكل- 

قالوا و يفارق الوصي-  لأن ولايته لا تثبت إلا بعد موت الموصي-  فهو كعهد الإمام إلى غيره-  لا يثبت إلا بعد موت الإمام-  ثم فرع أصحابنا على هذا الأصل مسألة-  و هي الحاكم هل ينعزل بموت الإمام أم لا-  قال قوم من أصحابنا لا ينعزل-  و بنوه على أن التولي من غير جهة الإمام يجوز-  فجعلوا الحاكم نائبا عن المسلمين أجمعين-  لا عن الإمام- و إن وقف تصرفه على اختياره-  و صار ذلك عندهم بمنزلة أن يختار المسلمون واحدا-  يحكم بينهم ثم يموت من رضي بذلك-  فإن تصرفه يبقى على ما كان عليه-  و قال قوم من أصحابنا ينعزل-  و إن هذا النوع من التصرف لا يستفاد إلا من جهة الإمام-  و لا يقوم به غيره-  و إذا ثبت أن أسامة قد بطلت ولايته-  لم تبق تبعة على أبي بكر-  في الرجوع من بعض الطريق إلى المدينة- .

و خامسها-  أن أمير المؤمنين ولى أبا موسى الحكم-  و ولى رسول الله ص-  خالد بن الوليد السرية إلى الغميصاء-  و هذا الكلام إنما ذكره قاضي القضاة تتمة لقوله-  إن أمره ع بنفوذ بعث أسامة كان مشروطا بالمصلحة-  قال كما أن توليته ع أبا موسى-  كانت مشروطة باتباع القرآن-  و كما أن تولية رسول الله ص خالد بن الوليد-  كانت مشروطة بأن يعمل بما أوصاه به-  فخالفا و لم يعملا الحق-  فإذا كانت هذه الأوامر مشروطة-  فكذلك أمره جيش أسامة بالنفوذ-  كان مشروطا بالمصلحة-  و ألا يعرض ما يقتضي رجوع الجيش أو بعضه إلى المدينة-  و قد سبق القول في كون الأمر مشروطا- . و سادسها-  أن أبا بكر كان محتاجا إلى مقام عمر عنده-  ليعاضده و يقوم في تمهيد أمر الإمامة ما لا يقوم به غيره-  فكان ذلك أصلح في باب الدين من مسيره مع الجيش-  فجاز أن يحبسه عنده لذلك-  و هذا الوجه مختص بمن قال إن أبا بكر لم يكن في الجيش-  و إيضاح عذره في حبس عمر عن النفوذ مع الجيش- .

 

فأما قول المرتضى فإن ذلك غير جائز-  لأن مخالفة النص حرام-  فقد قلنا إن هذا مبني على مسألة تخصيص العمومات-  الواردة في القرآن بالقياس- .و أما قوله-  أي حاجة كانت لأبي بكر إلى عمر بعد وقوع البيعة-  و لم يكن هناك تنازع و لا اختلاف فعجيب-  و هل كان لو لا مقام عمر و حضوره في تلك المقامات-  يتم لأبي بكر أمر أو ينتظم له حال-  و لو لا عمر-  لما بايع علي و لا الزبير و لا أكثر الأنصار-  و الأمر في هذا أظهر من كل ظاهر- . و سابعها أن من يصلح للإمامة ممن ضمه جيش أسامة-  يجب تأخرهم ليختار للإمامة أحدهم-  فإن ذلك أهم من نفوذهم-  فإذا جاز لهذه العلة التأخر قبل العقد-  جاز التأخر بعده للمعاضدة و غيرها- .

فأما قول المرتضى-  إن ذلك الجيش لم يضم من يصلح للإمامة-  فبناء على مذهبه-  في أن كل من ليس بمعصوم لا يصلح للإمامة-  فأما قوله و لو صح ذلك لم يكن عذرا في التأخر-  لأن من خرج في الجيش يمكن أن يختار و لو كان بعيدا-  و لا يمكن بعده من صحة الاختيار-  فلقائل أن يقول-  دار الهجرة هي التي فيها أهل الحل و العقد-  و أقارب رسول الله ص و القراء و أصحاب السقيفة-  فلا يجوز العدول عن الاجتماع و المشاورة فيها-  إلى الاختيار على البعد-  و على جناح السفر-  من غير مشاركة من ذكرنا من أعيان المسلمين- . فأما قوله و لو صح هذا العقد-  لكان عذرا في التأخر قبل العقد-  فأما بعد إبرامه فلا عذر فيه-  فلقائل أن يقول-  إذا أجزت التأخر قبل العقد لنوع من المصلحة-  فأجز التأخر بعد العقد لنوع آخر من المصلحة-  و هو المعاضدة و المساعدة- .

 

هذه الوجوه السبعة كلها لبيان قوله-  تأخر أبي بكر أو عمر عن النفوذ في جيش أسامة-  و إن كان مأمورا بالنفوذ- .ثم نعود إلى تمام أقسام الفصل-  و منها قول قاضي القضاة لا معنى لقول من قال-  إن رسول الله ص قصد إبعادهم عن المدينة-  لأن بعدهم عنها-  لا يمنعهم من أن يختاروا واحدا منهم للإمامة-  و لأنه ع لم يكن قاطعا على موته لا محالة-  لأنه لم يرد نفذوا جيش أسامة في حياته- . و قد اعترض المرتضى هذا فقال-  إنه لم يتبين معنى الطعن-  لأن الطاعن لا يقول-  إنهم أبعدوا عن المدينة كي لا يختاروا واحدا للإمامة-  بل يقول إنما أبعدوا لينتصب بعد موته ص في المدينة-  الشخص الذي نص عليه-  و لا يكون حاضرا بالمدينة من يخالفه و ينازعه-  و ليس يضرنا ألا يكون ص قاطعا على موته-  لأنه و إن لم يكن قاطعا-  فهو لا محالة يشفق و يخاف من الموت-  و على الخائف أن يتحرز مما يخاف منه-  و كلام المرتضى في هذا الموضع-  أظهر من كلام قاضي القضاة- . و منها قول قاضي القضاة-  إن ولاية أسامة عليهما لا تقتضي كونهما دونه في الفضل-  كما أن عمرو بن العاص لما ولي عليهما-  لم يقتض كونه أفضل منهما-  و قد اعترض المرتضى-  هذا بأنه يقبح تقديم المفضول على الفاضل-  فيما هو أفضل منه-  و إن تقديم عمرو بن العاص عليهما في الإمرة-  يقتضي أن يكون أفضل منهما-  فيما يرجع إلى الإمرة و السياسة-  و لا يقتضي أفضليته عليهما في غير ذلك-  و كذلك القول في أسامة- .

و لقائل أن يقول-  إن الملوك قد يؤمرون الأمراء على الجيوش لوجهين-  أحدهما أن يقصد الملك بتأمير ذلك الشخص-  أن يسوس الجيش و يدبره بفضل رأيه و شيخوخته-  و قديم تجربته-  و ما عرف من يمن نقيبته في الحرب و قود العساكر-  و الثاني أن يؤمر على الجيش-  غلاما حدثا من غلمانه أو من ولده أو من أهله-  و يأمر الأكابر من الجيش أن يثقفوه و يعلموه-  و يأمره أن يتدبر بتدبيرهم و يرجع إلى رأيهم-  و يكون قصد الملك من ذلك-  تخريج ذلك الغلام و تمرينه على الإمارة-  و أن يثبت له في نفوس الناس منزلة-  و أن يرشحه لجلائل الأمور و معاظم الشئون-  ففي الوجه الأول يقبح تقديم المفضول على الفاضل-  و في الوجه الثاني لا يقبح-  فلم لا يجوز أن يكون تأمير أسامة عليهما-  من قبيل الوجه الثاني و الحال يشهد لذلك-  لأن أسامة كان غلاما لم يبلغ ثماني عشرة سنة-  حين قبض النبي ص-  فمن أين حصل له من تجربة الحرب و ممارسة الوقائع-  و قود الجيش ما يكون به أعرف بالإمرة من أبي بكر-  و عمر و أبي عبيدة و سعد بن أبي وقاص و غيرهم- .

و منها قول قاضي القضاة-  إن السبب في كون عمر في الجيش-  أنه أنكر على عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة-  تسخطه إمرة أسامة-  و قال أنا أخرج في جيش أسامة-  فخرج من تلقاء نفسه تعظيما لأمر رسول الله ص-  و قد اعترضه المرتضى فقال-  هذا شي‏ء لم نسمعه من راو و لا قرأناه في كتاب-  و صدق المرتضى فيما قال-  فإن هذا حديث غريب لا يعرف- . و أما قول عمر دعني أضرب عنقه فقد نافق-  فمنقول مشهور لا محالة-  و إنما الغريب الذي لم يعرف-  كون عمر خرج من تلقاء نفسه في الجيش-  مراغمة لعبد الله بن عياش بن أبي ربيعة-  حيث أنكر ما أنكر-  و لعل قاضي القضاة سمعه من راو أو نقله من كتاب-  إلا أنا نحن ما وقفنا على ذلك

 

الطعن الخامس

قالوا-  إنه ص لم يول أبا بكر الأعمال و ولى غيره-  و لما ولاه الحج بالناس و قراءة سورة براءة على الناس-  عزله عن ذلك كله-  و جعل الأمر إلى أمير المؤمنين ع-  و قال لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني-  حتى يرجع أبو بكر إلى النبي ص- . أجاب قاضي القضاة فقال-  لو سلمنا أنه لم يوله لما دل ذلك على نقص-  و لا على أنه لم يصلح للإمارة و الإمامة-  بل لو قيل إنه لم يوله لحاجته إليه بحضرته-  و إن ذلك رفعة له لكان أقرب-  لا سيما و قد روي عنه ما يدل على أنهما وزيراه-  و أنه كان ص محتاجا إليهما و إلى رأيهما-  فلذلك لم يولهما-  و لو كان للعمل على تركه فضل-  لكان عمرو بن العاص و خالد بن الوليد و غيرهما-  أفضل من أكابر الصحابة-  لأنه ع ولاهما و قدمهما-  و قد قدمنا أن توليته هي بحسب الصلاح-  و قد يولى المفضول على الفاضل تارة و الفاضل أخرى-  و ربما ولى الواحد لاستغنائه عنه بحضرته-  و ربما ولاه لاتصال بينه و بين من يولى عليه إلى غير ذلك-  ثم ادعى أنه ولى أبا بكر على الموسم و الحج-  قد ثبتت بلا خلاف بين أهل الأخبار و لم يصح أنه عزله-  و لا يدل رجوع أبي بكر إلى النبي ص-  مستفهما عن القصة على العزل-  ثم جعل إنكار من أنكر حج أبي بكر في تلك السنة بالناس-  كإنكار عباد و طبقته-  أخذ أمير المؤمنين ع سورة براءة من أبي بكر-  و حكي عن أبي علي أن المعنى كان في أخذ السورة من أبي بكر-  أن من عادة العرب أن سيدا من سادات قبائلهم-  إذا عقد عقد القوم فإن ذلك العقد لا ينحل-  إلا أن يحله هو أو بعض سادات قومه-  فلما كان هذا عادتهم-  و أراد النبي ص أن ينبذ إليهم عقدهم-  و ينقض ما كان بينه و بينهم-  علم أنه لا ينحل ذلك إلا به-  أو بسيد من سادات رهطه-  فعدل عن أبي بكر إلى أمير المؤمنين المقرب في النسب-  ثم ادعى أنه ص ولى أبا بكر في مرضه الصلاة-  و ذلك أشرف الولايات و قال في ذلك-  يأبى الله و رسوله و المسلمون إلا أبا بكر- . ثم اعترض نفسه بصلاته ع خلف عبد الرحمن بن عوف-  و أجاب بأنه ص إنما صلى خلفه-  لا أنه ولاه الصلاة و قدمه فيها-  قال و إنما قدم عبد الرحمن عند غيبة النبي ص-  فصلى بغير أمره-  و قد ضاق الوقت فجاء النبي ص فصلى خلفه- .

اعترض المرتضى فقال-  قد بينا أن تركه ص الولاية لبعض أصحابه-  مع حضوره و إمكان ولايته و العدول عنه إلى غيره-  مع تطاول الزمان و امتداده-  لا بد من أن تقتضي غلبة الظن بأنه لا يصلح للولاية-  فأما ادعاؤه أنه لم يوله لافتقاره إليه بحضرته-  و حاجته إلى تدبيره و رأيه-  فقد بينا أنه ع ما كان يفتقر إلى رأي أحد-  لكماله و رجحانه على كل أحد-  و إنما كان يشاور أصحابه على سبيل التعليم لهم و التأديب-  أو لغير ذلك مما قد ذكر-  و بعد فكيف استمرت هذه الحاجة و اتصلت منه إليهما-  حتى لم يستغن في زمان من الأزمان عن حضورهما فيوليهما-  و هل هذا إلا قدح في رأي رسول الله ص-  و نسبته إلى أنه كان ممن يحتاج-  إلى أن يلقن و يوقف على كل شي‏ء-  و قد نزهه الله تعالى عن ذلك-  فأما ادعاؤه أن الرواية قد وردت بأنهما وزيراه-  فقد كان يجب أن يصحح ذلك قبل أن يعتمده و يحتج به-  فإنا ندفعه عنه أشد دفع-  فأما ولاية عمرو بن العاص و خالد بن الوليد-  فقد تكلمنا عليها من قبل-  و بينا أن ولايتهما تدل على صلاحهما لما ولياه-  و لا تدل على صلاحهما للإمامة-  لأن شرائط الإمامة لم تتكامل فيهما-  و بينا أيضا لأن ولاية المفضول على الفاضل لا تجوز-  فأما تعظيمه‏ و إكباره قول من يذهب إلى أن أبا بكر-  عزل عن أداء السورة و الموسم جميعا-  و جمعه بين ذلك في البعد و بين إنكار عباد-  أن يكون أمير المؤمنين ع ارتجع سورة براءة من أبي بكر-  فأول ما فيه أنا لا ننكر أن يكون أكثر الأخبار واردة-  بأن أبا بكر حج بالناس في تلك السنة-  إلا أنه قد روى قوم من أصحابنا خلاف ذلك-  و أن أمير المؤمنين ع كان أمير الموسم في تلك السنة-  و أن عزل الرجل كان عن الأمرين معا-  و استكبار ذلك-  و فيه خلاف لا معنى له-  فأما ما حكاه عن عباد فإنا لا نعرفه-  و ما نظن أحدا يذهب إلى مثله-  و ليس يمكنه بإزاء ذلك جحد مذهب أصحابنا-  الذي حكيناه-  و ليس عباد لو صحت الرواية عنه بإزاء من ذكرناه-  فهو ملي‏ء بالجهالات و دفع الضرورات-  و بعد فلو سلمنا أن ولاية الموسم لم تفسخ-  لكان الكلام باقيا-  لأنه إذا كان ما ولي مع تطاول الزمان إلا هذه الولاية-  ثم سلب شطرها و الأفخم الأعظم منها-  فليس ذلك إلا تنبيها على ما ذكرناه- .

فأما ما حكاه عن أبي علي-  من أن عادة العرب ألا يحل ما عقده الرئيس منهم-  إلا هو أو المتقدم من رهطه-  فمعاذ الله أن يجري النبي ص-  سنته و أحكامه على عادات الجاهلية-  و قد بين ع لما رجع إليه أبو بكر-  يسأله عن أخذ السورة منه الحال-  فقال إنه أوحي إلي ألا يؤدي عني-  إلا أنا أو رجل مني-  و لم يذكر ما ادعاه أبو علي-  على أن هذه العادة قد كان يعرفها النبي ص-  قبل بعثه أبا بكر بسورة براءة-  فما باله لم يعتمدها في الابتداء-  و يبعث من يجوز أن يحل عقده من قومه- . فأما ادعاؤه ولاية أبي بكر الصلاة-  فقد ذكرنا فيما تقدم أنه لم يوله إياها-  فأما فصله بين صلاته خلف عبد الرحمن-  و بين صلاة أبي بكر بالناس فليس بشي‏ء-  لأنا إذا كنا قد دللنا على أن الرسول ص-  ما قدم أبا بكر إلى الصلاة-  فقداستوى الأمران-  و بعد فأي فرق بين أن يصلي خلفه و بين أن يوليه و يقدمه-  و نحن نعلم أن صلاته خلفه إقرار لولايته و رضا بها-  فقد عاد الأمر إلى أن عبد الرحمن-  كأنه قد صلى بأمره و إذنه-  على أن قصة عبد الرحمن أوكد-  لأنه قد اعترف بأن الرسول صلى خلفه-  و لم يصل خلف أبي بكر-  و إن ذهب كثير من الناس إلى أنه قدمه و أمر بالصلاة-  قبل خروجه إلى المسجد و تحامله- . ثم سأل المرتضى رحمه الله نفسه فقال-  إن قيل ليس يخلو النبي ص-  من أن يكون سلم في الابتداء سورة براءة إلى أبي بكر-  بأمر الله أو باجتهاده و رأيه-  فإن كان بأمر الله تعالى-  فكيف يجوز أن يرتجع منه السورة قبل وقت الأداء-  و عندكم أنه لا يجوز نسخ الشي‏ء قبل تقضي وقت فعله-  و إن كان باجتهاده ص-  فعندكم أنه لا يجوز أن يجتهد فيما يجري هذا المجرى- . و أجاب فقال-  إنه ما سلم السورة إلى أبي بكر إلا بإذنه تعالى-  إلا أنه لم يأمره بأدائها-  و لا كلفه قراءتها على أهل الموسم-  لأن أحدا لم يمكنه أن ينقل ع في ذلك-  لفظ الأمر و التكليف-  فكأنه سلم سورة براءة إليه لتقرأ على أهل الموسم-  و لم يصرح بذكر القارئ المبلغ لها في الحال-  و لو نقل عنه تصريح لجاز أن يكون مشروطا بشرط لم يظهر- .

فإن قيل فأي فائدة في دفع السورة إلى أبي بكر-  و هو لا يريد أن يؤديها ثم ارتجاعها منه-  و هلا دفعت في الابتداء إلى أمير المؤمنين ع- . قيل الفائدة في ذلك-  ظهور فضل أمير المؤمنين ع و مرتبته-  و أن الرجل الذي نزعت السورة عنه لا يصلح لما يصلح له-  و هذا غرض قوي في وقوع الأمر على ما وقع عليه‏ قلت قد ذكرنا فيما تقدم-  القول في تولية الملك بعض أصحابه-  و ترك تولية بعضهم-  و كيفية الحال في ذلك-  على أنه قد روى أصحاب المغازي-  أنه أمر أبا بكر في شعبان من سنة سبع على سرية-  بعثها إلى نجد فلقوا جمعا من هوازن فبيتوهم-  فروى إياس بن سلمة عن أبيه قال-  كنت في ذلك البعث فقتلت بيدي سبعة منهم-  و كان شعارنا أمت أمت-  و قتل من أصحاب النبي ص قوم-  و جرح أبو بكر و ارتث و عاد إلى المدينة-  على أن أمراء السرايا الذين كان يبعثهم ص-  كانوا قوما مشهورين بالشجاعة و لقاء الحروب-  كمحمد بن مسلمة و أبي دجانة و زيد بن حارثة و نحوهم-  و لم يكن أبو بكر مشهورا بالشجاعة و لقاء الحروب-  و لم يكن جبانا و لا خوارا-  و إنما كان رجلا مجتمع القلب عاقلا ذا رأي و حسن تدبير-  و كان رسول الله ص يترك بعثه في السرايا-  لأن غيره أنفع منه فيها-  و لا يدل ذلك على أنه لا يصلح للإمامة-  و أن الإمامة-  لا تحتاج أن يكون صاحبها من المشهورين بالشجاعة-  و إنما يحتاج إلى ثبات القلب-  و إلا يكون هلعا طائر الجنان-  و كيف يقول المرتضى إنه ص لم يكن محتاجا إلى رأي أحد-  و قد نقل الناس كلهم رجوعه من رأي إلى رأي عند المشورة-  نحو ما جرى يوم بدر-  من تغير المنزل لما أشار عليه الحباب بن المنذر-  و نحو ما جرى يوم الخندق-  من فسخ رأيه في دفع ثلث تمر المدينة-  إلى عيينة بن حصن ليرجع بالأحزاب عنهم-  لأجل ما رآه سعد بن معاذ و سعد بن عبادة من الحرب-  و العدول عن الصلح-  و نحو ما جرى في تلقيح النخل بالمدينة و غير ذلك-  فأما ولاية أبي بكر الموسم فأكثر الأخبار على ذلك-  و لم يرو عزله عن الموسم إلا قوم من الشيعة- .

 

و أما ما أنكره المرتضى من حال عباد بن سليمان-  و دفعه أن يكون علي أخذ براءة من أبي بكر-  و استغرابه ذلك عجب-  فإن قول عباد قد ذهب إليه كثير من الناس-  و رووا أن رسول الله ص-  لم يدفع براءة إلى أبي بكر-  و أنه بعد أن نفذ أبو بكر بالحجيج-  أتبعه عليا و معه تسع آيات من براءة-  و قد أمره أن يقرأها على الناس-  و يؤذنهم بنقض العهد و قطع الدنية-  فانصرف أبو بكر إلى رسول الله ص-  فأعاده على الحجيج-  و قال له أنت الأمير و علي المبلغ-  فإنه لا يبلغ عني إلا أنا أو رجل مني-  و لم ينكر عباد أمر براءة بالكلية- 

و إنما أنكر أن يكون النبي ص دفعها إلى أبي بكر-  ثم انتزعها منه-  و طائفة عظيمة من المحدثين يروون ما ذكرناه-  و إن كان الأكثر الأظهر أنه دفعها إليه-  ثم أتبعه بعلي ع فانتزعها منه-  و المقصود أن المرتضى قد تعجب مما لا يتعجب من مثله-  فظن أن عبادا أنكر حديث براءة بالكلية-  و قد وقفت أنا على ما ذكره عباد في هذه القضية-  في كتابه المعروف بكتاب الأبواب-  و هو الكتاب الذي نقضه شيخنا أبو هاشم-  فأما عذر شيخنا أبي علي-  و قوله إن عادة العرب ذلك و اعتراض المرتضى عليه-  فالذي قاله المرتضى أصح و أظهر-  و ما نسب إلى عادة العرب غير معروف- 

و إنما هو تأويل تأول به متعصبو أبي بكر-  لانتزاع براءة منه-  و ليس بشي‏ء-  و لست أقول ما قاله المرتضى-  من أن غرض رسول الله ص-  إظهار أن أبا بكر لا يصلح للأداء عنه-  بل أقول فعل ذلك لمصلحة رآها-  و لعل السبب في ذلك أن عليا ع من بني عبد مناف-  و هم جمرة قريش بمكة-  و علي أيضا شجاع لا يقام له-  و قد حصل في صدور قريش منه-  الهيبة الشديدة و المخافة العظيمة-  فإذا حصل مثل هذا الشجاع البطل و حوله من بني عمه-  و هم أهل العزة و القوة و الحمية-كان أدعى إلى نجاته من قريش-  و سلامة نفسه و بلوغ الغرض من نبذ العهد على يده-  أ لا ترى أن رسول الله ص في عمرة الحديبية-  بعث عثمان بن عفان إلى مكة-  يطلب منهم الإذن له في الدخول-  و إنما بعثه لأنه من بني عبد مناف-  و لم يكن بنو عبد مناف و خصوصا بني عبد شمس-  ليمكنوا من قتله-  و لذلك حمله بنو سعيد بن العاص على بعير يوم دخل مكة-  و أحدقوا به مستلئمين بالسلاح-  و قالوا له أقبل و أدبر و لا تخف أحدا-  بنو سعيد أعزة الحرم-  و أما القول في تولية رسول الله ص أبا بكر الصلاة-  فقد تقدم-  و ما رامه قاضي القضاة-  من الفرق بين صلاة أبي بكر بالناس-  و صلاة عبد الرحمن بهم-  مع كون رسول الله ص صلى خلفه ضعيف-  و كلام المرتضى أقوى منه-  فأما السؤال الذي سأله المرتضى من نفسه فقوي-  و الجواب الصحيح أن بعث براءة مع أبي بكر-  كان باجتهاد من الرسول ص-  و لم يكن عن وحي و لا من جملة الشرائع-  التي تتلقى عن جبرائيل ع-  فلم يقبح نسخ ذلك قبل تقضي وقت فعله-  و جواب المرتضى ليس بقوي-  لأنه من البعيد أن يسلم سورة براءة إلى أبي بكر-  و لا يقال له ما ذا تصنع بها-  بل يقال خذ هذه معك لا غير-  و القول بأن الكلام مشروط بشرط لم يظهر خلاف الظاهر-  و فتح هذا الباب يفسد كثيرا من القواعد.

الطعن السادس

أن أبا بكر لم يكن يعرف الفقه و أحكام الشريعة-  فقد قال في الكلالة أقول‏ فيها برأيي-  فإن يكن صوابا فمن الله و إن يكن خطأ فمني-  و لم يعرف ميراث الجد-  و من حاله هذه لا يصلح للإمامة- . أجاب قاضي القضاة-  بأن الإمام لا يجب أن يعلم جميع الأحكام-  و أن القدر الذي يحتاج إليه-  هو القدر الذي يحتاج إليه الحاكم-  و أن القول بالرأي هو الواجب فيما لا نص فيه-  و قد قال أمير المؤمنين ع بالرأي في مسائل كثيرة- .

اعترض المرتضى فقال-  قد دللنا على أن الإمام-  لا بد أن يكون عالما بجميع الشرعيات-  و فرقنا بينه و بين الحاكم-  و دللنا على فساد الرأي و الاجتهاد-  و أما أمير المؤمنين ع فلم يقل قط بالرأي-  و ما يروى من خبر بيع أمهات الأولاد غير صحيح-  و لو صح لجاز أن يكون أراد بالرأي-  الرجوع إلى النصوص و الأدلة-  و لا شبهة عندنا أن قوله كان واحدا في الحالين-  و إن ظهر في أحدهما خلاف مذهبه للتقية- . قلت هذا الطعن مبني على أمرين-  أحدهما هل من شرط الإمامة-  أن يعلم الإمام كل الأحكام الشرعية أم لا-  و هذا مذكور في كتبنا الكلامية-  و الثاني هو القول في الاجتهاد و الرأي حق أم لا-  و هذا مذكور في كتبنا الأصولية.

الطعن السابع

قصة خالد بن الوليد و قتله مالك بن نويرة-  و مضاجعته امرأته من ليلته-  و أن أبا بكرترك إقامة الحد عليه-  و زعم أنه سيف من سيوف الله سله الله على أعدائه-  مع أن الله تعالى قد أوجب القود و حد الزناء عموما-  و أن عمر نبهه و قال له-  اقتله فإنه قتل مسلما- . أجاب قاضي القضاة فقال إن شيخنا أبا علي قال-  إن الردة ظهرت من مالك بن نويرة-  لأنه جاء في الأخبار أنه رد صدقات قومه عليهم-  لما بلغه موت رسول الله ص-  كما فعله سائر أهل الردة فاستحق القتل-  فإن قال قائل فقد كان يصلي-  قيل له و كذلك سائر أهل الردة- 

و إنما كفروا بالامتناع من الزكاة-  و اعتقادهم إسقاط وجوبها دون غيره-  فإن قيل فلم أنكر عمر-  قيل كان الأمر إلى أبي بكر فلا وجه لإنكار عمر-  و قد يجوز أن يعلم أبو بكر من الحال ما يخفى على عمر-  فإن قيل فما معنى ما روي عن أبي بكر-  من أن خالدا تأول فأخطأ-  قيل أراد عجلته عليه بالقتل-  و قد كان الواجب عنده على خالد أن يتوقف للشبهة-  و استدل أبو علي على ردته-  بأن أخاه متمم بن نويرة لما أنشد عمر مرثيته أخاه-  قال له وددت أني أقول الشعر-  فأرثي أخي زيدا بمثل ما رثيت به أخاك-  فقال متمم-  لو قتل أخي على مثل ما قتل عليه أخوك ما رثيته-  فقال عمر ما عزاني أحد بمثل تعزيتك-  فدل هذا على أن مالكا لم يقتل على الإسلام-  كما قتل زيد- . و أجاب عن تزويج خالد بامرأته-  بأنه إذا قتل على الردة في دار الكفر-  جاز تزويج امرأته عند كثير من أهل العلم-  و إن كان لا يجوز أن يطأها إلا بعد الاستبراء- .

و حكي عن أبي علي-  أنه إنما قتله لأنه ذكر رسول الله ص فقال-  صاحبك و أوهم بذلك أنه ليس بصاحب له-  و كان عنده أن ذلك رده و علم عند المشاهدةالمقصد-  و هو أمير القوم-  فجاز أن يقتله و إن كان الأولى ألا يستعجل-  و أن يكشف الأمر في ردته حتى يتضح-  فلهذا لم يقتله أبو بكر به-  فأما وطؤه لامرأته فلم يثبت فلا يصح أن يجعل طعنا فيه اعترض المرتضى فقال-  أما منع خالد في قتل مالك بن نويرة-  و استباحة امرأته و أمواله لنسبته إياه إلى ردة-  لم تظهر منه-  بل كان الظاهر خلافها من الإسلام فعظيم-  و يجري مجراه في العظم تغافل من تغافل عن أمره-  و لم يقم فيه حكم الله تعالى-  و أقره على الخطإ الذي شهد هو به على نفسه-  و يجري مجراهما من أمكنه أن يعلم الحال فأهملها-  و لم يتصفح ما روي من الأخبار في هذا الباب-  و تعصب لأسلافه و مذهبه-  و كيف يجوز عند خصومنا على مالك و أصحابه جحد الزكاة-  مع المقام على الصلاة-  و هما جميعا في قرن-  لأن العلم الضروري-  بأنهما من دينه ع و شريعته على حد واحد-  و هل نسبة مالك إلى الردة مع ما ذكرناه-  إلا قدح في الأصول و نقض لما تضمنته-  من أن الزكاة معلومة ضرورة من دينه ع-  و أعجب من كل عجيب قوله-  و كذلك سائر أهل الردة-  يعني أنهم كانوا يصلون و يجحدون الزكاة-  لأنا قد بينا أن ذلك مستحيل غير ممكن-  و كيف يصح ذلك- 

و قد روى جميع أهل النقل-  أن أبا بكر لما وصى الجيش-  الذين أنفذهم بأن يؤذنوا و يقيموا-  فإن أذن القوم كأذانهم و إقامتهم كفوا عنهم-  و إن لم يفعلوا أغاروا عليهم-  فجعل أمارة الإسلام و البراءة من الردة-  الأذان و الإقامة-  و كيف يطلق في سائر أهل الردة-  ما أطلقه من أنهم كانوا يصلون-  و قد علمنا أن أصحاب مسيلمة و طليحة و غيرهما-  ممن كان ادعى النبوة و خلع الشريعة-  ما كانوا يرون الصلاة و لا شيئا مما جاءت به شريعتنا-  و قصة مالك معروفة عند من تأمل كتب السير و النقل-  لأنه كان على صدقات قومه بني‏يربوع واليا-  من قبل رسول الله ص-  و لما بلغته وفاة رسول الله ص أمسك عن أخذ الصدقة من قومه-  و قال لهم تربصوا بها حتى يقوم قائم بعد النبي ص-  و ننظر ما يكون من أمره-  و قد صرح بذلك في شعره حيث يقول- 

  و قال رجال سدد اليوم مالك
و قال رجال مالك لم يسدد

فقلت دعوني لا أبا لأبيكم‏
فلم أخط رأيا في المقام و لا الندي‏

و قلت خذوا أموالكم غير خائف
و لا ناظر فيما يجي‏ء به غدي‏

فدونكموها إنما هي مالكم‏
مصورة أخلاقها لم تجدد

سأجعل نفسي دون ما تحذرونه
و أرهنكم يوما بما قلته يدي‏

فإن قام بالأمر المجدد قائم‏
أطعنا و قلنا الدين دين محمد

 فصرح كما ترى أنه استبقى الصدقة في أيدي قومه-  رفقا بهم و تقربا إليهم-  إلى أن يقوم بالأمر من يدفع ذلك إليه-  و قد روى جماعة من أهل السير-  و ذكره الطبري في تاريخه-  أن مالكا نهى قومه-  عن الاجتماع على منع الصدقات و فرقهم-  و قال يا بني يربوع-  إنا كنا قد عصينا أمراءنا إذ دعونا إلى هذا الدين-  و بطأنا الناس عنه فلم نفلح و لم ننجح-  و أني قد نظرت في هذا الأمر-  فوجدت الأمر يتأتى لهؤلاء القوم بغير سياسة-  و إذا أمر لا يسوسه الناس-  فإياكم و معاداة قوم يصنع لهم-  فتفرقوا على ذلك إلى أموالهم-  و رجع مالك إلى منزله-  فلما قدم خالد البطاح بث السرايا و أمرهم بداعية الإسلام-  و أن يأتوه بكل من لم يجب-  و أمرهم إن امتنع أن يقاتلوه-  فجاءته الخيل بمالك بن نويرة في نفر من بني يربوع-  و اختلف السرية في أمرهم-  و في السرية أبو قتادة الحارث بن ربعي-  فكان ممن شهد أنهم أذنوا و أقاموا و صلوا-  فلما اختلفوا فيهم‏أمر بهم خالد فحبسوا-  و كانت ليلة باردة لا يقوم لها شي‏ء-  فأمر خالد مناديا ينادي-  أدفئوا أسراءكم-  فظنوا أنهم أمروا بقتلهم-  لأن هذه اللفظة تستعمل في لغة كنانة للقتل-  فقتل ضرار بن الأزور مالكا-  و تزوج خالد زوجته أم تميم بنت المنهال- .

و في خبر آخر أن السرية التي بعث بها خالد-  لما غشيت القوم تحت الليل راعوهم-  فأخذ القوم السلاح-  قال فقلنا إنا المسلمون فقالوا و نحن المسلمون-  قلنا فما بال السلاح معكم قلنا فضعوا السلاح-  فلما وضعوا السلاح ربطوا أسارى-  فأتوا بهم خالدا-  فحدث أبو قتادة خالد بن الوليد-  أن القوم نادوا بالإسلام و أن لهم أمانا-  فلم يلتفت خالد إلى قولهم و أمر بقتلهم و قسم سبيهم-  و حلف أبو قتادة ألا يسير تحت لواء خالد في جيش أبدا-  و ركب فرسه شاذا إلى أبي بكر فأخبره الخبر-  و قال له إني نهيت خالدا عن قتله فلم يقبل قولي-  و أخذ بشهادة الأعراب الذين غرضهم الغنائم-  و أن عمر لما سمع ذلك تكلم فيه عند أبي بكر فأكثر-  و قال إن القصاص قد وجب عليه-  و لما أقبل خالد بن الوليد قافلا دخل المسجد-  و عليه قباء له عليه صدأ الحديد-  معتجرا بعمامة له قد غرز في عمامته أسهما-  فلما دخل المسجد قام إليه عمر-  فنزع الأسهم عن رأسه فحطمها-  ثم قال له يا عدو نفسه أ عدوت على امرئ مسلم فقتلته-  ثم نزوت على امرأته-  و الله لنرجمنك بأحجارك-  و خالد لا يكلمه-  و لا يظن إلا أن رأي أبي بكر مثل رأيه-  حتى دخل إلى أبي بكر و اعتذر إليه بعذره و تجاوز عنه-  فخرج خالد و عمر جالس في المسجد-  فقال هلم إلى يا ابن أم شملة-  فعرف عمر أن أبا بكر قد رضي عنه فلم يكلمه-  و دخل بيته- .

و قد روي أيضا أن عمر لما ولي-  جمع من عشيرة مالك بن نويرة من وجد منهم-و استرجع ما وجد عند المسلمين من أموالهم-  و أولادهم و نسائهم-  فرد ذلك عليهم جميعا مع نصيبه كان منهم-  و قيل إنه ارتجع بعض نسائهم من نواحي دمشق-  و بعضهن حوامل فردهن على أزواجهن-  فالأمر ظاهر في خطإ خالد و خطإ من تجاوز عنه-  و قول صاحب الكتاب-  إنه يجوز أن يخفى عن عمر ما يظهر لأبي بكر ليس بشي‏ء-  لأن الأمر في قصة خالد لم يكن مشتبها-  بل كان مشاهدا معلوما لكل من حضره-  و ما تأول به في القتل لا يعذر لأجله-  و ما رأينا أبا بكر حكم فيه بحكم المتأول و لا غيره-  و لا تلافى خطأه و زلله-  و كونه سيفا من سيوف الله-  على ما ادعاه لا يسقط عنه الأحكام-  و يبرئه من الآثام-  و أما قول متمم-  لو قتل أخي على ما قتل عليه أخوك لما رثيته-  لا يدل على أنه كان مرتدا-  فكيف يظن عاقل أن متمما يعترف بردة أخيه-  و هو يطالب أبا بكر بدمه و الاقتصاص من قاتليه و رد سبيه-  و أنه أراد في الجملة التقرب إلى عمر بتقريظ أخيه-  ثم لو كان ظاهر هذا القول كباطنه-  لكان إنما يقصد تفضيل قتلة زيد على قتلة مالك-  و الحال في ذلك أظهر-  لأن زيدا قتل في بعث المسلمين ذابا عن وجوههم-  و مالك قتل على شبهة و بين الأمرين فرق- .

و أما قوله في النبي ص صاحبك-  فقد قال أهل العلم إنه أراد القرشية-  لأن خالدا قرشي-  و بعد فليس في ظاهر إضافته إليه-  دلالة على نفيه له عن نفسه-  و لو كان علم من مقصده-  الاستخفاف و الإهانة على ما ادعاه صاحب الكتاب-  لوجب أن يعتذر خالد بذلك-  عند أبي بكر و عمر-  و يعتذر به أبو بكر لما طالبه عمر بقتله-  فإن عمر-  ما كان يمنع من قتل قادح في نبوة النبي ص-  و إن كان الأمر على ذلك فأي معنى لقول أبي بكر-  تأول فأخطأ-  و إنما تأول فأصاب إن كان الأمر على ما ذكرقلت أما تعجب المرتضى-  من كون قوم منعوا الزكاة و أقاموا على الصلاة-  و دعواه أن هذا غير ممكن و لا صحيح-  فالعجب منه كيف ينكر وقوع ذلك-  و كيف ينكر إمكانه-  أما الإمكان فلأنه لا ملازمة بين العبادتين-  إلا من كونهما مقترنتين في بعض المواضع في القرآن-  و ذلك لا يوجب تلازمهما في الوجود-  أو من قوله إن الناس يعلمون-  كون الزكاة واجبة في دين الإسلام ضرورة-  كما تعلمون كون الصلاة في دين الإسلام ضرورة-  و هذا لا يمنع اعتقادهم سقوط وجوب الزكاة-  لشبهة دخلت عليهم-  فإنهم قالوا إن الله تعالى قال لرسوله-  خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها-  وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ-  قالوا فوصف الصدقة المفروضة-  بأنها صدقة من شأنها أن يطهر رسول الله ص الناس-  و يزكيهم بأخذها منهم-  ثم عقب ذلك بأن فرض عليه مع أخذ الزكاة منهم-  أن يصلي عليهم صلاة تكون سكنا لهم-  قالوا و هذه الصفات لا تتحقق في غيره-  لأن غيره لا يطهر الناس و يزكيهم بأخذ الصدقة-  و لا إذا صلى على الناس كانت صلاته سكنا لهم-  فلم يجب علينا دفع الزكاة إلى غيره-  و هذه الشبهة لا تنافي كون الزكاة-  معلوما وجوبها ضرورة من دين محمد ص-  لأنهم ما جحدوا وجوبها-  و لكنهم قالوا إنه وجوب مشروط-  و ليس يعلم بالضرورة انتفاء كونها مشروطة-  و إنما يعلم ذلك بنظر و تأويل-  فقد بان أن ما ادعاه من الضرورة-  ليس بدال على أنه لا يمكن أحد-  اعتقاد نفي وجوب الزكاة بعد موت الرسول-  و لو عرضت مثل هذه الشبهة في صلاة-  لصح لذاهب أن يذهب إلى أنها قد سقطت عن الناس-  فأما الوقوع فهو المعلوم ضرورة بالتواتر-  كالعلم بأن أبا بكر ولي الخلافة بعد الرسول ص-  ضرورة بطريق التواتر-  و من أراد الوقوف على ذلك فلينظر في كتب التواريخ- فإنها تشتمل من ذلك على ما يشفي و يكفي-  و قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري-  في التاريخ الكبير بإسناد ذكره-  أن أبا بكر أقام بالمدينة بعد وفاة رسول الله ص-  و توجيهه أسامة في جيشه-  إلى حيث قتل أبوه زيد بن حارثة لم يحدث شيئا-  و جاءته وفود العرب مرتدين-  يقرون بالصلاة و يمنعون الصدقة-  فلم يقيل منهم و ردهم-  و أقام حتى قدم أسامة بعد أربعين يوما من شخوصه-  و يقال بعد سبعين يوما- . و روى أبو جعفر قال امتنعت العرب قاطبة-  من أداء الزكاة بعد رسول الله ص إلا قريشا و ثقيفا- . و روى أبو جعفر عن السري عن شعيب عن سيف-  عن هشام بن عروة عن أبيه قال-  ارتدت العرب و منعت الزكاة إلا قريشا و ثقيفا-  فأما هوازن فقدمت رجلا و أخرت أخرى-  أمسكوا الصدقة- .

و روى أبو جعفر قال-  لما منعت العرب الزكاة-  كان أبو بكر ينتظر قدوم أسامة بالجيش-  فلم يحارب أحدا قبل قدومه إلا عبسا و ذبيان-  فإنه قاتلهم قبل رجوع أسامة- . و روى أبو جعفر قال-  قدمت وفود من قبائل العرب المدينة-  فنزلوا على وجوه الناس بها-  و يحملونهم إلى أبي بكر أن يقيموا الصلاة-  و ألا يؤتوا الزكاة فعزم الله لأبي بكر على الحق-  و قال لو منعوني عقال بعير لجاهدتهم عليه- . و روى أبو جعفر شعرا للخطيل بن أوس-  أخي الحطيئة في معنى منع الزكاة-  و أن‏أبا بكر رد سؤال العرب و لم يجبهم من جملته- 

  أطعنا رسول الله إذا كان بيننا
فيا لعباد الله ما لأبي بكر

أ يورثها بكر إذا مات بعده‏
و تلك لعمر الله قاصمة الظهر

فهلا رددتم وفدنا بإجابة
و هلا حسبتم منه راعية البكر

فإن الذي سألوكم فمنعتم‏
لكالتمر أو أحلى لحلف بني فهر

و روى أبو جعفر قال-  لما قدمت العرب المدينة على أبي بكر-  فكلموه في إسقاط الزكاة-  نزلوا على وجوه الناس بالمدينة-  فلم يبق أحد إلا و أنزل عليه ناسا منهم-  إلا العباس بن عبد المطلب-  ثم اجتمع إلى أبي بكر المسلمون-  فخوفوه بأس العرب و اجتماعها-  قال ضرار بن الأزور-  فما رأيت أحدا ليس رسول الله أملأ بحرب شعواء-  من أبي بكر فجعلنا نخوفه و نروعه-  و كأنما إنما نخبره بما له لا ما عليه-  و اجتمعت كلمة المسلمين على إجابة العرب إلى ما طلبت-  و أبى أبو بكر أن يفعل إلا ما كان يفعله رسول الله ص-  و أن يأخذ إلا ما كان يأخذ-  ثم أجلهم يوما و ليلة ثم أمرهم بالانصراف-  و طاروا إلى عشائرهم- .

و روى أبو جعفر قال-  كان رسول الله ص-  بعث عمرو بن العاص إلى عمان قبل موته-  فمات و هو بعمان فأقبل قافلا إلى المدينة-  فوجد العرب قد منعت الزكاة-  فنزل في بني عامر على قرة بن هبيرة-  و قرة يقدم رجلا و يؤخر أخرى-  و على ذلك بنو عامر كلهم إلا الخواص-  ثم قدم المدينة فأطافت به قريش-  فأخبرهم أن العساكر معسكرة حولهم-  فتفرق المسلمون و تحلقوا حلقا-  و أقبل عمر بن الخطاب-  فمر بحلقةو هم يتحدثون فيما سمعوا من عمرو-  و في تلك الحلقة علي و عثمان و طلحة و الزبير-  و عبد الرحمن بن عوف و سعد-  فلما دنا عمر منهم سكتوا-  فقال في أي شي‏ء أنتم فلم يخبروه-  فقال ما أعلمني بالذي خلوتم عليه-  فغضب طلحة و قال الله يا ابن الخطاب إنك لتعلم الغيب-  فقال لا يعلم الغيب إلا الله و لكن أظن قلتم-  ما أخوفنا على قريش من العرب و أخلقهم-  ألا يقروا بهذا الأمر-  قالوا صدقت-  فقال فلا تخافوا هذه المنزلة-  أنا و الله منكم على العرب أخوف مني عليكم من العرب- .

قال أبو جعفر و حدثني السري قال-  حدثنا شعيب عن سيف عن هشام بن عروة عن أبيه قال-  نزل عمرو بن العاص بمنصرفه من عمان-  بعد وفاة رسول الله ص-  بقرة بن هبيرة بن سلمة بن يسير-  و حوله عساكر من أفنائهم فذبح له-  و أكرم منزلته فلما أراد الرحلة خلا به و قال-  يا هذا إن العرب لا تطيب لكم أنفسا بالإتاوة-  فإن أنتم أعفيتموها من أخذ أموالها فستسمع و تطيع-  و إن أبيتم فإنها تجتمع عليكم-  فقال عمرو أ توعدنا بالعرب و تخوفنا بها-  موعدنا حفش أمك أما و الله لأوطئنه عليك الخيل-  و قدم على أبي بكر و المسلمين فأخبرهم- .

و روى أبو جعفر قال-  كان رسول الله ص-  قد فرق عماله في بني تميم على قبض الصدقات-  فجعل الزبرقان بن بدر على عوف و الرباب-  و قيس بن عاصم على مقاعس و البطون-  و صفوان بن صفوان و سبرة بن عمرو على بني عمرو-  و مالك بن نويرة على بني حنظلة-  فلما توفي رسول الله ص ضرب صفوان إلى أبي بكر-  حين وقع إليه الخبر بموت النبي ص بصدقات بني عمرو-  و بما ولي منها و ما ولي سبرة-  و أقام سبرة في قومه لحدث إن ناب-  و أطرق قيس بن عاصم ينظر ما الزبرقان صانع-  فكان له عدوا و قال و هو ينتظره و ينتظر ما يصنع-  و يلي عليه ما أدري ما أصنع-  إن أنابايعت أبا بكر و أتيته بصدقات قومي-  خلفني فيهم فساءني عندهم-  و إن رددتها عليهم فليأتين أبا بكر فيسوءني عنده-  ثم عزم قيس على قسمتها في مقاعس و البطون-  ففعل و عزم الزبرقان على الوفاء-  فاتبع صفوان بصدقات عوف و الرباب-  حتى قدم بها المدينة و قال شعرا يعرض فيه بقيس بن عاصم-  و من جملته- 

وفيت بأذواد الرسول و قد أبت
سعاة فلم يردد بعيرا أميرها

فلما أرسل أبو بكر إلى قيس العلاء بن الحضرمي-  أخرج الصدقة فأتاه بها و قدم معه إلى المدينة- . و في تاريخ أبي جعفر الطبري من هذا الكثير الواسع-  و كذلك في تاريخ غيره من التواريخ-  و هذا أمر معلوم باضطرار لا يجوز لأحد أن يخالف فيه فأما قوله كيف يصح ذلك و قد قال لهم أبو بكر-  إذا أذنوا و أقاموا كإقامتكم فكفوا عنهم-  فجعل أمارة الإسلام و البراءة من الردة-  الأذان و الإقامة-  فإنه قد أسقط بعض الخبر-  قال أبو جعفر الطبري في كتابه-  كانت وصيته لهم إذا نزلتم فأذنوا و أقيموا-  فإن أذن القوم و أقاموا فكفوا عنهم-  فإن لم يفعلوا فلا شي‏ء إلا الغارة-  ثم اقتلوهم كل قتلة-  الحرق فما سواه-  و إن أجابوا داعية الإسلام فاسألوهم-  فإن أقروا بالزكاة فاقبلوا منهم-  و إن أبوا فلا شي‏ء إلا الغارة و لا كلمة- .

فأما قوله-  و كيف يطلق قاضي القضاة في سائر أهل الردة-  ما أطلقه من أنهم كانوا يصلون-  و من جملتهم أصحاب مسيلمة و طلحة-  فإنما أراد قاضي القضاة بأهل الردة هاهنا-  مانعي الزكاة لا غير-  و لم يرد من جحد الإسلام بالكلية- . فأما قصة مالك بن نويرة و خالد بن الوليد-  فإنها مشتبهة عندي و لا غرو فقد اشتهت على الصحابة-  و ذلك أن من حضرها من العرب اختلفوا في حال القوم-  هل كان‏ عليهم شعار الإسلام أو لا-  و اختلف أبو بكر و عمر في خالد مع شدة اتفاقهما-  فأما الشعر الذي رواه المرتضى لمالك بن نويرة-  فهو معروف إلا البيت الأخير فإنه غير معروف-  و عليه عمدة المرتضى في هذا المقام-  و ما ذكره بعد من قصة القوم صحيح كله-  مطابق لما في التواريخ إلا مويضعات يسيرة- .

منها قوله-  إن مالكا نهى قومه عن الاجتماع على منع الصدقات-  فإن ذلك غير منقول-  و إنما المنقول أنه نهى قومه عن الاجتماع في موضع واحد-  و أمرهم أن يتفرقوا في مياههم-  ذكر ذلك الطبري و لم يذكر نهيه إياهم-  عن الاجتماع على منع الصدقة-  و قال الطبري إن مالكا تردد في أمره-  هل يحمل الصدقات أم لا-  فجاءه خالد و هو متحير سبح- . و منها أن الطبري ذكر أن ضرار بن الأزور-  قتل مالكا عن غير أمر خالد-  و أن خالدا لما سمع الواعية خرج و قد فرغوا منهم-  فقال إذا أراد الله أمرا أصابه-  قال الطبري و غضب أبو قتادة لذلك-  و قال لخالد هذا عملك-  و فارقه و أتى أبا بكر فأخبره فغضب عليه أبو بكر-  حتى كلمه فيه عمر فلم يرض إلا أن يرجع إلى خالد-  فرجع إليه حتى قدم معه المدينة- .

و منها أن الطبري روى أن خالدا-  لما تزوج أم تميم بنت المنهال امرأة مالك-  لم يدخل بها و تركها حتى تقضي طهرها-  و لم يذكر المرتضى ذلك- . و منها أن الطبري روى-  أن متمما لما قدم المدينة طلب إلى أبي بكر في سبيهم-  فكتب له برد السبي-  و المرتضى ذكر أنه لم يرد إلا في خلافة عمر- . فأما قول المرتضى إن قول متمم-  لو قتل أخي على مثل ما قتل عليه أخوك لما رثيته-لا يدل على ردته فصحيح-  و لا ريب أنه قصد تقريظ زيد بن الخطاب-  و أن يرضي عمر أخاه بذلك-  و نعما قال المرتضى إن بين القتلتين فرقا ظاهرا-  و إليه أشار متمم لا محالة- . فأما قول مالك صاحبك يعني النبي ص-  فقد روى هذه اللفظة الطبري في التاريخ قال-  كان خالد يعتذر عن قتله فيقول-  إنه قال له و هو يراجعه-  ما إخال صاحبكم إلا قال كذا و كذا-  فقال له خالد أ و ما تعده لك صاحبا-  و هذه لعمري كلمة جافية و إن كان لها مخرج في التأويل-  إلا أنه مستكره-  و قرائن الأحوال يعرفها من شاهدها و سمعها-  فإذا كان خالد قد كان يعتذر بذلك-  فقد اندفع قول المرتضى هلا اعتذر بذلك-  و لست أنزه خالدا عن الخطإ-  و أعلم أنه كان جبارا فاتكا-  لا يراقب الدين فيما يحمله عليه الغضب و هوى نفسه-  و لقد وقع منه في حياة رسول الله ص-  مع بني خذيمة بالغميصاء-  أعظم مما وقع منه في حق مالك بن نويرة-  و عفا عنه رسول الله ص-  بعد أن غضب عليه مدة و أعرض عنه-  و ذلك العفو هو الذي أطمعه-  حتى فعل ببني يربوع ما فعل بالبطاح.

الطعن الثامن

قولهم إن مما يؤثر في حاله و حال عمر-  دفنهما مع رسول الله ص في بيته-  و قد منع الله تعالى الكل من ذلك-  في حال حياته فكيف بعد الممات-  بقوله تعالى-  لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ- . أجاب قاضي القضاة بأن الموضع كان ملكا لعائشة-  و هي حجرتها التي كانت‏معروفة بها-  و الحجر كلها كانت أملاكا لأزواج النبي ص-  و قد نطق القرآن بذلك في قوله-  وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ-  و ذكر أن عمر استأذن عائشة-  في أن يدفن في ذلك الموضع-  و حتى قال إن لم تأذن لي فادفنوني في البقيع-  و على هذا الوجه يحمل-  ما روي عن الحسن ع أنه لما مات-  أوصى أن يدفن إلى جنب رسول الله ص-  و إن لم يترك ففي البقيع-  فلما كان من مروان و سعيد بن العاص ما كان دفن بالبقيع-  و إنما أوصى بذلك بإذن عائشة-  و يجوز أن يكون علم من عائشة-  أنها جعلت الموضع في حكم الوقف-  فاستباحوا ذلك لهذا الوجه-  قال و في دفنه ع في ذلك الموضع ما يدل على فضل أبي بكر-  لأنه ع لما مات اختلفوا في موضع دفنه-  و كثر القول حتى روى أبو بكر عنه ص أنه قال-  ما يدل على أن الأنبياء إذا ماتوا دفنوا حيث ماتوا-  فزال الخلاف في ذلك- .

اعترض المرتضى فقال-  لا يخلو موضع قبر النبي ص من أن يكون باقيا على ملكه ع-  أو يكون انتقل في حياته إلى عائشة على ما ادعاه-  فإن كان الأول لم يخل أن يكون ميراثا بعده أو صدقة-  فإن كان ميراثا فما كان يحل لأبي بكر و لا لعمر من بعده-  أن يأمرا بدفنهما فيه إلا بعد إرضاء الورثة-  الذين هم على مذهبنا فاطمة و جماعة الأزواج-  و على مذهبهم هؤلاء و العباس-  و لم نجد واحدا منهما خاطب أحدا من هؤلاء الورثة-  على ابتياع هذا المكان و لا استنزله عنه بثمن و لا غيره-  و إن كان صدقة-  فقد كان يجب أن يرضى عنه جماعة المسلمين و يبتاعه منهم-  هذا إن جاز الابتياع لما يجري هذا المجرى-  و إن كان انتقل في حياته-  فقد كان يجب أن يظهر سبب انتقاله و الحجة فيه-  فإن فاطمة ع-  لم يقنع منها في انتقال فدك إلى ملكها بقولها-  و لا بشهادة من‏شهد لها-  فأما تعلقه بإضافة البيوت إليهن في قوله-  وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ فمن ضعيف الشبهة-  لأنا قد بينا فيما مضى من هذا الكتاب-  أن هذه الإضافة لا تقتضي الملك و إنما تقتضي السكنى-  و العادة في استعمال هذه اللفظة فيما ذكرناه ظاهرة-  قال تعالى لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ-  و لم يرد الله تعالى إلا حيث يسكن و ينزلن-  دون حيث يملكن و ما أشبهه-  و أظرف من كل شي‏ء تقدم قوله-  إن الحسن ع استأذن عائشة في أن يدفن في البيت-  حتى منعه مروان و سعيد بن العاص-  لأن هذه مكابرة منه ظاهرة-  فإن المانع للحسن ع من ذلك لم يكن إلا عائشة-  و لعل من ذكره من مروان و سعيد و غيرهما-  أعانها و اتبع في ذلك أمرهما- 

و روي أنها خرجت في ذلك اليوم على بغل-  حتى قال ابن عباس يوما على بغل و يوما على جمل-  فكيف تأذن عائشة في ذلك و هي مالكة الموضع على قولهم-  و يمنع منه مروان و غيره-  ممن لا ملك له في الموضع و لا شركة و لا يد-  و هذا من قبيح ما يرتكب-  و أي فضل لأبي بكر في روايته عن النبي ص حديث الدفن-  و عملهم بقوله إن صح فمن مذهب صاحب الكتاب و أصحابه-  العمل بخبر الواحد العدل في أحكام الدين العظيمة-  فكيف لا يعمل بقول أبي بكر في الدفن-  و هم يعملون بقول من هو دونه فيما هو أعظم من ذلك قلت أما أبو بكر فإنه لا يلحقه بدفنه مع الرسول ص ذم-  لأنه ما دفن نفسه و إنما دفنه الناس و هو ميت-  فإن كان ذلك خطأ فالإثم و الذم لاحقان بمن فعل به ذلك-  و لم يثبت عنه بأنه أوصى أن يدفن مع رسول الله ص- 

و إنما قد يمكن أن يتوجه هذا الطعن إلى عمر-  لأنه سأل عائشة أن يدفن في الحجرة-  مع رسول الله ص و أبي بكر-  و القول عندي مشتبه في أمر حجر الأزواج- هل كانت على ملك رسول الله ص إلى أن توفي-  أم ملكها نساؤه-  و الذي تنطق به التواريخ أنه لما خرج من قباء-  و دخل المدينة و سكن منزل أبي أيوب-  اختط المسجد و اختط حجر نسائه و بناته-  و هذا يدل على أنه كان المالك للمواضع-  و أما خروجها عن ملكه إلى الأزواج و البنات-  فمما لم أقف عليه-  و يجوز أن تكون الصحابة قد فهمت-  من قرائن الأحوال و مما شاهدوه منه ع-  أنه قد أقر كل بيت منها في يد زوجة من الزوجات-  على سبيل الهبة و العطية-  و إن لم ينقل عنه في ذلك صيغة لفظ معين-  و القول في بيت فاطمة ع كذلك-  لأن فاطمة ع لم تكن تملك مالا-  و علي ع بعلها كان فقيرا في حياة رسول الله ص-  حتى أنه كان يستقي الماء ليهود بيده-  يسقي بساتينهم لقوت يدفعونه إليه-  فمن أين كان له ما يبتاع به حجرة يسكن فيها هو و زوجته-  و القول في كثير من الزوجات كذلك-  أنهن كن فقيرات مدقعات-  نحو صفية بنت حيي بن أخطب و جويرية بنت الحارث-  و ميمونة و غيرهن-  فلا وجه يمكن أن يتملك منه هؤلاء النسوة و البنت الحجر-  إلا أن يكون رسول الله ص وهبها لهن-  هذا إن ثبت أنها خرجت عن ملكيته ع-  و إلا فهي باقية على ملكيته باستصحاب الحال-  و القول في حجرة زينب بنت رسول الله ص كذلك-  لأنه أقدمها من مكة-  مفارقة لبعلها أبي العاص بن الربيع-  فأسكنها بالمدينة في حجرة منفردة خالية عن بعل-  فلا بد أن تكون تلك الحجرة بمقتضى ما يتغلب على الظن-  ملكا له ع-  فيستدام الحكم بملكه لها-  إلى أن نجد دليلا ينقلنا عن ذلك-  و أما رقية و أم كلثوم زوجتا عثمان-  فإن كان مثريا ذا مال-  فيجوز أن يكون ابتاع حجرة-  سكنت فيها الأولى منهما ثم الثانية بعدها- .

 

فأما احتجاج قاضي القضاة بقوله-  وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ-  فاعتراض المرتضى عليه قوي-  لأن هذه الإضافة إنما تقتضي التخصيص فقط لا التمليك-  كما قال-  لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ-  و يجوز أن يكون أبو بكر لما روى قوله-  نحن لا نورث-  ترك الحجر في أيدي الزوجات و البنت-  على سبيل الإقطاع لهن لا التمليك أي أباحهن السكنى-  لا التصرف في رقاب الأرض و الأبنية و الآلات-  لما رأى في ذلك من المصلحة-  و لأنه كان من المتهجن القبيح إخراجهن من البيوت-  و ليس كذلك فدك-  فإنها قرية كبيرة ذات نخل كثير خارجة عن المدينة-  و لم تكن فاطمة متصرفة فيها من قبل نفسها و لا بوكيلها-  و لا رأتها قط فلا تشبه حالها حال الحجر-  و أيضا لإباحة هذه الحجر و نزارة أثمانهن-  فإنها كانت مبنية من طين قصيرة الجدران-  فلعل أبا بكر و الصحابة استحقروها-  فأقروا النساء فيها-  و عوضوا المسلمين عنها بالشي‏ء اليسير-  مما يقتضي الحساب أن يكون من سهم الأزواج و البنت-  عند قسمة الفي‏ء- .

و أما القول في الحسن و ما جرى من عائشة و بني أمية-  فقد تقدم-  و كذلك القول في الخبر المروي في دفن الرسول ع-  فكان أبو المظفر هبة الله بن الموسوي صدر المخزن المعمور-  كان في أيام الناصر لدين الله-  إذا حادثته حديث وفاة رسول الله ص و رواية أبي بكر-  ما رواه من قوله ع الأنبياء يدفنون حيث يموتون-  يحلف أن أبا بكر افتعل هذا الحديث في الحال و الوقت-  ليدفن النبي ص في حجرة ابنته-  ثم يدفن هو معه عند موته-  علما منه أنه لم يبق من عمره إلا مثل ظم‏ء الحمار-  و أنه إذا دفن النبي ص في حجرة ابنته-  فإن ابنته تدفنه لا محالة في حجرتها عند بعلها-  و إن دفن النبي ص في موضع‏آخر-  فربما لا يتهيأ له أن يدفن عنده-  فرأى أن هذا الفوز بهذا الشرف العظيم-  و هذا المكان الجليل-  مما لا يقتضي حسن التدبير فوته-  و إن انتهاز الفرصة فيه واجب-  فروى لهم الخبر فلا يمكنهم بعد روايته ألا يعملوا به-  لا سيما و قد صار هو الخليفة-  و إليه السلطان و النفع و الضرر-  و أدرك ما كان في نفسه-  ثم نسج عمر على منواله-  فرغب إلى عائشة في مثل ذلك-  و قد كان يكرمها-  و يقدمها على سائر الزوجات في العطاء و غيره-  فأجابته إلى ذلك-  و كان مطاعا في حياته و بعد مماته-  و كان يقول وا عجبا للحسن-  و طمعه في أن يدفن في حجرة عائشة-  و الله لو كان أبوه الخليفة يومئذ لما تهيأ له ذلك-  و لا تم لبغض عائشة لهم و حسد الناس إياهم-  و تمالؤ بني أمية و غيرهم من قريش عليهم-  و لهذا قالوا يدفن عثمان في حش كوكب-  و يدفن الحسن في حجرة رسول الله ص-  فكيف و الخليفة معاوية و الأمراء بالمدينة بنو أمية-  و عائشة صاحبة الموضع-  و الناصر لبني هاشم قليل و الشانئ كثير- . و أنا أستغفر الله مما كان أبو المظفر يحلف عليه-  و أعلم و أظن ظنا شبيها بالعلم-  أن أبا بكر ما روى إلا ما سمع-  و أنه كان أتقى لله من ذلك.

الطعن التاسع

قولهم إنه نص على عمر بالخلافة-  فخالف رسول الله ص على زعمه-  لأنه كان يزعم هو و من قال بقوله-  أن رسول الله ص لم يستخلف- .و الجواب أن كونه لم يستخلف-  لا يدل على تحريم الاستخلاف-  كما أنه من لم يركب الفيل لا يدل على تحريم ركوب الفيل-  فإن قالوا ركوب الفيل فيه منفعة و لا مضرة فيه-  و لم يرد نص بتحريمه فوجب أن يحسن-  قيل لهم و الاستخلاف مصلحة و لا مضرة فيه-  و قد أجمع المسلمون أنه طريق إلى الإمامة-  فوجب كونه طريقا إليها-  و قد روي عن عمر أنه قال إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني يعني أبا بكر-  و إن أترك فقد ترك من هو خير مني يعني رسول الله ص-  فأما الاجتماع المشار إليه-  فهو أن الصحابة أجمعوا-  على أن عمر إمام بنص أبي بكر عليه-  و أنفذوا أحكامه و انقادوا إليه-  لأجل نص أبي بكر لا لشي‏ء سواه-  فلو لم يكن ذلك طريقا إلى الإمامة لما أطبقوا عليه-  و قد اختلف الشيخان أبو علي و أبو هاشم-  في أن نص الإمام على إمام بعده-  هل يكفي في انعقاد إمامته-  فقال أبو علي لا يكفي-  بل لا بد من أن يرضى به أربعة-  حتى يجري عهده إليه مجرى عقد الواحد برضا أربعة-  فإذا قارنه رضا أربعة صار بذلك إماما-  و يقول في بيعة عمر-  أن أبا بكر أحضر جماعة من الصحابة لما نص عليه-  و رجع إلى رضاهم بذلك-  و قال أبو هاشم بل يكفي نصه ع-  و لا يراعى في ذلك رضا غيره به-  و لو ثبت أن أبا بكر فعله-  لكان على طريق التبع للنص-  لا أنه يؤثر في إمامته مع العهد-  و لعل أبا بكر إن كان فعل ذلك فقد استطاب به نفوسهم-  و لهذا لم يؤثر فيه كراهية طلحة حين قال-  وليت علينا فظا غليظا-  و يبين ذلك أنه لم ينقل استئناف العقد من الصحابة-  لعمر بعد موت أبي بكر-  و لا اجتماع جماعة لعقد البيعة له و الرضا به-  فدل على أنهم اكتفوا بعهد أبي بكر إليه

 

الطعن العاشر

–  قولهم إنه سمى نفسه بخليفة رسول الله ص-  لاستخلافه إياه بعد موته-  مع اعترافه أنه لم يستخلفه- . و الجواب أن الصحابة سمته خليفة رسول الله ص-  لاستخلافه إياه على الصلاة عند موته-  و الاستخلاف على الصلاة عند الموت له مزية-  على الاستخلاف على الصلاة حال الحياة-  لأن حال الموت هي الحال التي تكون فيها العهود-  و الوصايا و ما يهتم به الإنسان من أمور الدنيا و الدين-  لأنها حال المفارقة-  و أيضا فإن رسول الله ص-  ما استخلف أحدا على الصلاة بالمدينة و هو حاضر-  و إنما كان يستخلف على الصلاة قوما-  أيام غيبته عن المدينة-  فلم يحصل الاستخلاف المطلق على الصلاة بالناس كلهم-  و هو ص حاضر بين الناس حي إلا لأبي بكر-  و هذه مزية ظاهرة على سائر الاستخلافات في أمر الصلاة-  فلذلك سموه خليفة رسول الله ص-  و بعد فإذا ثبت أن الإجماع على كون الاختيار-  طريقا إلى الإمامة و حجة-  و ثبت أن قوما من أفاضل الصحابة اختاروه للخلافة-  فقد ثبت أنه خليفة رسول الله ص-  لأنه لا فرق بين أن ينص الرسول ص-  على شخص معين-  و بين أن يشير إلى قوم فيقول-  من اختار هؤلاء القوم فهو الإمام-  في أن كل واحد منهما يصح أن يطلق عليه خليفة رسول الله ص.

 

الطعن الحادي عشر

قولهم إنه حرق الفجاءة السلمي بالنار-  و قد نهى النبي ص أن يحرق أحد بالنار- . و الجواب أن الفجاءة جاء إلى أبي بكر-  كما ذكر أصحاب التواريخ-  فطلب منه سلاحا يتقوى به على الجهاد في أهل الردة-  فأعطاه فلما خرج قطع الطريق-  و نهب أموال المسلمين و أهل الردة جميعا-  و قتل كل من وجد-  كما فعلت الخوارج حيث خرجت-  فلما ظفر به أبو بكر رأى حرقه بالنار-  إرهابا لأمثاله من أهل الفساد-  و يجوز للإمام أن يخص النص العام بالقياس الجلي عندنا.

الطعن الثاني عشر

قولهم إنه تكلم في الصلاة قبل التسليم-  فقال لا يفعلن خالد ما أمرته-  قالوا و لذلك جاز عند أبي حنيفة-  أن يخرج الإنسان من الصلاة بالكلام و غيره-  من مفسدات الصلاة من دون تسليم-  و بهذا احتج أبو حنيفة- . و الجواب أن هذا من الأخبار التي تتفرد بها الإمامية-  و لم تثبت-  و أما أبو حنيفة فلم يذهب إلى ما ذهب إليه-  لأجل هذا الحديث-  و إنما احتج بأن التسليم خطاب آدمي-  و ليس هو من الصلاة و أذكارها-  و لا من أركانها بل هو ضدها-  و لذلك يبطلها قبل التمام-  و لذلك لا يسلم المسبوق تبعا لسلام الإمام-  بل يقوم من غير تسليم-  فدل على أنه ضد للصلاة-  و جميع الأضداد بالنسبة إلى رفع الضد-  على وتيرة واحدة-  و لذلك استوى الكل في‏ الإبطال قبل التمام-  فيستوي الكل في الانتهاء بعد التمام-  و ما يذكره القوم من سبب كلام أبي بكر في الصلاة أمر بعيد-  و لو كان أبو بكر يريد ذلك-  لأمر خالد أن يفعل ذلك الفعل بالشخص المعروف-  و هو نائم ليلا في بيته-  و لا يعلم أحد من الفاعل.

الطعن الثالث عشر

قولهم إنه كتب إلى خالد بن الوليد و هو على الشام-  يأمره أن يقتل سعد بن عبادة-  فكمن له هو و آخر معه ليلا-  فلما مر بهما رمياه فقتلاه-  و هتف صاحب خالد في ظلام الليل-  بعد أن ألقيا سعدا في بئر هناك فيها ماء ببيتين- 

نحن قتلنا سيد الخزرج
سعد بن عباده‏

و رميناه بسهمين‏
فلم تخط فؤاده‏

 يوهم أن ذلك شعر الجن و أن الجن قتلت سعدا-  فلما أصبح الناس فقدوا سعدا-  و قد سمع قوم منهم ذلك الهاتف فطلبوه-  فوجدوه بعد ثلاثة أيام في تلك البئر و قد اخضر-  فقالوا هذا مسيس الجن-  و قال شيطان الطاق لسائل سأله-  ما منع عليا أن يخاصم أبا بكر في الخلافة-  فقال يا ابن أخي خاف أن تقتله الجن- . و الجواب-  أما أنا فلا أعتقد أن الجن قتلت سعدا-  و لا أن هذا شعر الجن و لا أرتاب أن البشر قتلوه-  و أن هذا الشعر شعر البشر-  و لكن لم يثبت عندي أن أبا بكر أمر خالدا-  و لا أستبعد أن يكون فعله من تلقاء نفسه-  ليرضى بذلك أبا بكر و حاشاه-  فيكون الإثم على‏خالد و أبو بكر بري‏ء من إثمه-  و ما ذلك من أفعال خالد ببعيد.

الطعن الرابع عشر

قولهم إنه لما استخلف قطع لنفسه على بيت المال أجرة-  كل يوم ثلاثة دراهم-  قالوا و ذلك لا يجوز-  لأن مصارف أموال بيت المسلمين-  لم يذكر فيها أجرة للإمام- . و الجواب أنه تعالى جعل في جملة مصرف أموال الصدقات-  العاملين عليها و أبو بكر من العاملين-  و اعلم أن الإمامية لو أنصفت لرأت أن هذا الطعن-  بأن يكون من مناقب أبي بكر-  أولى من أن يكون من مساويه و مثالبه-  و لكن العصبية لا حيلة فيها.

الطعن الخامس عشر

قولهم إنه لما استخلف صرخ مناديه في المدينة-  من كان عنده شي‏ء من كلام الله فليأتنا به-  فإنا عازمون على جمع القرآن-  و لا يأتنا بشي‏ء منه إلا و معه شاهدا عدل-  قالوا و هذا خطأ-  لأن القرآن قد بان بفصاحته عن فصاحة البشر-  فأي حاجة إلى شاهدي عدل- . و الجواب أن المرتضى و من تابعه من الشيعة-  لا يصح لهم هذا الطعن-  لأن القرآن عندهم ليس معجزا بفصاحته-  على أن من جعل معجزته للفصاحة لم يقل-  إن كل آية من القرآن هي معجزة في الفصاحة-  و أبو بكر إنما طلب كل آية من القرآن-  لا السورة بتمامها و كمالها-  التي يتحقق الإعجاز من طريق الفصاحة فيها-  و أيضا فإنه لو أحضر إنسان آية أو آيتين-  و لم يكن معه شاهد فربما تختلف العرب-  هل هذه في الفصاحة بالغةمبلغ الإعجاز الكلي-  أم هي ثابتة من كلام العرب بثبوته-  غير بالغة إلى حد الإعجاز-  فكان يلتبس الأمر و يقع النزاع-  فاستظهر أبو بكر بطلب الشهود تأكيدا-  لأنه إذا انضمت الشهادة إلى الفصاحة الظاهرة-  ثبت أن ذلك الكلام من القرآن

وَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ-  إِنِّي وَ اللَّهِ لَوْ لَقِيتُهُمْ وَاحِداً وَ هُمْ طِلَاعُ الْأَرْضِ كُلِّهَا-  مَا بَالَيْتُ وَ لَا اسْتَوْحَشْتُ-  وَ إِنِّي مِنْ ضَلَالِهِمُ الَّذِي هُمْ فِيهِ-  وَ الْهُدَى الَّذِي أَنَا عَلَيْهِ-  لَعَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ نَفْسِي وَ يَقِينٍ مِنْ رَبِّي-  وَ إِنِّي إِلَى لِقَاءِ اللَّهِ لَمُشْتَاقٌ-  وَ لِحُسْنِ ثَوَابِهِ لَمُنْتَظِرٌ رَاجٍ-  وَ لَكِنَّنِي آسَى أَنْ يَلِيَ هَذِهِ الْأُمَّةَ سُفَهَاؤُهَا وَ فُجَّارُهَا-  فَيَتَّخِذُوا مَالَ اللَّهِ دُوَلًا وَ عِبَادَهُ خَوَلًا-  وَ الصَّالِحِينَ حَرْباً وَ الْفَاسِقِينَ حِزْباً-  فَإِنَّ مِنْهُمُ الَّذِي شَرِبَ فِيكُمُ الْحَرَامَ-  وَ جُلِدَ حَدّاً فِي الْإِسْلَامِ-  وَ إِنَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى رُضِخَتْ لَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ الرَّضَائِخُ-  فَلَوْ لَا ذَلِكَ مَا أَكْثَرْتُ تَأْلِيبَكُمْ وَ تَأْنِيبَكُمْ-  وَ جَمْعَكُمْ وَ تَحْرِيضَكُمْ-  وَ لَتَرَكْتُكُمْ إِذْ أَبَيْتُمْ وَ وَنَيْتُمْ-  أَ لَا تَرَوْنَ إِلَى أَطْرَافِكُمْ قَدِ انْتَقَصَتْ-  وَ إِلَى أَمْصَارِكُمْ قَدِ افْتُتِحَتْ-  وَ إِلَى مَمَالِكِكُمْ تُزْوَى وَ إِلَى بِلَادِكُمْ تُغْزَى-  انْفِرُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ إِلَى قِتَالِ عَدُوِّكُمْ-  وَ لَا تَثَّاقَلُوا إِلَى الْأَرْضِ فَتُقِرُّوا بِالْخَسْفِ-  وَ تَبَوَّءُوا بِالذُّلِّ وَ يَكُونَ نَصِيبُكُمُ الْأَخَسَّ-  وَ إِنَّ أَخَا الْحَرْبِ الْأَرِقُ وَ مَنْ نَامَ لَمْ يُنَمْ عَنْهُ وَ السَّلَامُ‏ طلاع الأرض ملؤها-  و منه قول عمر لو أن لي طلاع الأرض ذهبا-  لافتديت به من هول المطلع- . و آسى أحزن- . و أكثرت تأليبكم تحريضكم و إغراءكم به-  و التأنيب أشد اللوم- . و ونيتم ضعفتم و فترتم-  و ممالككم تزوى أي تقبض- . و لا تثاقلوا بالتشديد أصله تتثاقلوا-  و تقروا بالخسف تعترفوا بالضيم و تصبروا له-  و تبوءوا بالذل ترجعوا به و الأرق الذي لا ينام-  و مثل قوله ع-  من نام لم ينم عنه قول الشاعر- 

   لله درك ما أردت بثائر
حران ليس عن الترات براقد

أسهرته ثم اضطجعت و لم ينم‏
حنقا عليك و كيف نوم الحاقد

فأما الذي رضخت له على الإسلام الرضائخ فمعاوية-  و الرضيخة شي‏ء قليل يعطاه الإنسان-  يصانع به عن شي‏ء يطلب منه كالأجر-  و ذلك لأنه من المؤلفة قلوبهم الذين رغبوا في الإسلام-  و الطاعة بجمال وشاء دفعت إليهم-  و هم قوم معروفون كمعاوية و أخيه يزيد-  و أبيهما أبي سفيان و حكيم بن حزام و سهيل بن عمرو-  و الحارث بن هشام بن المغيرة و حويطب بن عبد العزى-  و الأخنس بن شريق و صفوان بن أمية-  و عمير بن وهب الجمحي و عيينة بن حصن-  و الأقرع بن حابس و عباس بن مرداس و غيرهم-  و كان إسلام هؤلاء للطمع و الأغراض الدنياوية-  و لم يكن عن أصل و لا عن يقين و علم- .

 

و قال الراوندي-  عنى بقوله رضخت لهم الرضائخ-  عمرو بن العاص-  و ليس بصحيح لأن عمرا لم يسلم بعد الفتح-  و أصحاب الرضائخ كلهم أسلموا بعد الفتح-  صونعوا على الإسلام بغنائم حنين-  و لعمري إن إسلام عمرو كان مدخولا أيضا-  إلا أنه لم يكن عن رضيخة و إنما كان لمعنى آخر-  فأما الذي شرب الحرام و جلد في حد الإسلام-  فقد قال الراوندي هو المغيرة بن شعبة-  و أخطأ فيما قال-  لأن المغيرة إنما اتهم بالزنى و لم يحد-  و لم يجر للمغيرة ذكر في شرب الخمر-  و قد تقدم خبر المغيرة مستوفى-  و أيضا فإن المغيرة لم يشهد صفين مع معاوية و لا مع علي ع-  و ما للراوندي و لهذا-  إنما يعرف هذا الفن أربابه-  و الذي عناه علي ع الوليد بن عقبة بن أبي معيط-  و كان أشد الناس عليه-  و أبلغهم تحريضا لمعاوية و أهل الشام على حربه

أخبار الوليد بن عقبة

و نحن نذكر خبر الوليد و شربه الخمر-  منقولا من كتاب الأغاني-  لأبي الفرج علي بن الحسين الأصفهاني-  قال أبو الفرج-  كان سبب إمارة الوليد بن عقبة الكوفة لعثمان-  ما حدثني به أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال-  حدثنا عمر بن شبة قال-  حدثني عبد العزيز بن محمد بن حكيم-  عن خالد بن سعيد بن عمرو بن سعيد عن أبيه قال-  لم يكن يجلس مع عثمان على سريره-  إلا العباس بن عبد المطلب و أبو سفيان بن حرب-  و الحكم بن أبي العاص و الوليد بن عقبة-  و لم يكن سريره يسع إلا عثمان و واحدا منهم-  فأقبل الوليد يوما فجلس-  فجاء الحكم بن أبي العاص فأومأ عثمان إلى الوليد-  فرحل له عن مجلسه-  فلما قام الحكم قال الوليد-  و الله يا أمير المؤمنين لقد تلجلج في صدري بيتان-  قلتهما حين رأيتك آثرت ابن عمك على ابن أمك-  و كان الحكم عم عثمان و الوليد أخاه‏ لأمه-  فقال عثمان إن الحكم شيخ قريش فما البيتان-  فقال

   رأيت لعم المرء زلفى قرابة
دوين أخيه حادثا لم يكن قدما

فأملت عمرا أن يشب و خالدا
لكي يدعواني يوم نائبة عما

يعني عمرا و خالدا ابني عثمان-  قال فرق له عثمان و قال-  قد وليتك الكوفة فأخرجه إليها- . قال أبو الفرج و أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال-  حدثني عمر بن شبة قال-  حدثني بعض أصحابنا عن ابن دأب قال-  لما ولى عثمان الوليد بن عقبة الكوفة-  قدمها و عليها سعد بن أبي وقاص-  فأخبر بقدومه و لم يعلم أنه قد أمر فقال و ما صنع-  قالوا وقف في السوق فهو يحدث الناس هناك-  و لسنا ننكر شيئا من أمره-  فلم يلبث أن جاءه نصف النهار-  فاستأذن على سعد فأذن له-  فسلم عليه بالإمرة و جلس معه-  فقال له سعد-  ما أقدمك يا أبا وهب قال أحببت زيارتك-  قال و على ذاك أ جئت بريدا-  قال أنا أرزن من ذلك-  و لكن القوم احتاجوا إلى عملهم فسرحوني إليه-  و قد استعملني أمير المؤمنين على الكوفة-  فسكت سعد طويلا ثم قال-  لا و الله ما أدري أصلحت بعدنا أم فسدنا بعدك-  ثم قال- 

كليني و جريني ضباع و أبشري
بلحم امرئ لم يشهد اليوم ناصره‏

فقال الوليد أما و الله لأنا أقول للشعر منك-  و أروى له و لو شئت لأجبتك و لكني أدع ذاك لما تعلم-  نعم و الله لقد أمرت بمحاسبتك و النظر في أمر عمالك-  ثم بعث إلى عمال سعد فحبسهم و ضيق عليهم-  فكتبوا إلى سعد يستغيثون به-  فكلمه فيهم فقال له أ و للمعروف عندك موضع-  قال نعم فخلى سبيلهم- .

 

قال أحمد و حدثني عمر عن أبي بكر الباهلي-  عن هشيم عن العوام بن حوشب قال-  لما قدم الوليد على سعد قال له سعد-  و الله ما أدري كست بعدنا أم حمقنا بعدك-  فقال لا تجزعن يا أبا إسحاق-  فإنه الملك يتغداه قوم و يتعشاه آخرون-  فقال سعد أراكم و الله ستجعلونه ملكا- . قال أبو الفرج و حدثنا أحمد قال حدثني عمر قال-  حدثني هارون بن معروف عن ضمرة بن ربيعة-  عن ابن شوذب قال-  صلى الوليد بأهل الكوفة الغداة أربع ركعات-  ثم التفت إليهم فقال أزيدكم-  فقال عبد الله بن مسعود ما زلنا معك في زيادة منذ اليوم- . قال أبو الفرج-  و حدثني أحمد قال حدثنا عمر قال-  حدثنا محمد بن حميد قال-  حدثنا جرير عن الأجلح عن الشعبي قال-  قال الحطيئة يذكر الوليد- 

 شهد الحطيئة يوم يلقى ربه
إن الوليد أحق بالغدر

نادى و قد تمت صلاتهم‏
أ أزيدكم سكرا و لم يدر

فأبوا أبا وهب و لو أذنوا
لقرنت بين الشفع و الوتر

كفوا عنانك إذ جريت و لو
تركوا عنانك لم تزل تجري‏

و قال الحطيئة أيضا-

تكلم في الصلاة و زاد فيها
علانية و أعلن بالنفاق‏

و مج الخمر في سنن المصلي‏
و نادى و الجميع إلى افتراق‏

أزيدكم على أن تحمدوني
فما لكم و ما لي من خلاق‏

قال أبو الفرج و أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال-  حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني أبي قال-  قال أبو عبيدة و هشام بن الكلبي و الأصمعي-  كان الوليد زانيا يشرب الخمر-  فشرب بالكوفة و قام ليصلي بهم الصبح في المسجد الجامع-  فصلى بهم أربع ركعات ثم التفت إليهم فقال أزيدكم-  و تقيأ في المحراب بعد أن قرأ بهم رافعا صوته في الصلاة- 

        علق القلب الربابا
بعد ما شابت و شابا

فشخص أهل الكوفة إلى عثمان فأخبروه بخبره-  و شهدوا عليه بشرب الخمر-  فأتي به فأمر رجلا من المسلمين أن يضربه الحد-  فلما دنا منه قال نشدتك الله و قرابتي من أمير المؤمنين فتركه-  فخاف علي بن أبي طالب ع أن يعطل الحد-  فقام إليه فحده بيده-  فقال الوليد نشدتك الله و القرابة-  فقال أمير المؤمنين ع اسكت أبا وهب-  فإنما هلك بنو إسرائيل لتعطيلهم الحدود-  فلما ضربه و فرغ منه قال-  لتدعوني قريش بعدها جلادا-  قال إسحاق و حدثني مصعب بن الزبير قال-  قال الوليد بعد ما شهدوا عليه فجلد-  اللهم إنهم قد شهدوا علي بزور فلا ترضهم عن أمير-  و لا ترض عنهم أميرا-  قال و قد عكس الحطيئة أبياته فجعلها مدحا للوليد- 

شهد الحطيئة حين يلقى ربه
أن الوليد أحق بالعذر

كفوا عنانك إذ جريت و لو
تركوا عنانك لم تزل تجري‏

و رأوا شمائل ماجد أنف‏
يعطى على الميسور و العسر

فنزعت مكذوبا عليك و لم
تنزع على طمع و لا ذعر

 قال أبو الفرج و نسخت من كتاب هارون بن الرباب بخطه-  عن عمر بن شبة قال-  شهد رجل عند أبي العجاج و كان على قضاء البصرة-  على رجل من المعيطيين بشهادة-  و كان الشاهد سكران فقال المشهود عليه-  و هو المعيطي أعزك الله أيها القاضي-  إنه لا يحسن من السكر أن يقرأ شيئا من القرآن-  فقال الشاهد بلى أحسن قال فاقرأ فقال- 

علق القلب الربابا
بعد ما شابت و شابا

 يمجن بذلك-  و يحكي ما قاله الوليد في الصلاة-  و كان أبو العجاج أحمق فظن أن هذا الكلام من القرآن-  فجعل يقول صدق الله و رسوله-  ويلكم كم تعلمون و لا تعملون- . قال أبو الفرج و أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال-  حدثنا عمر بن شبة عن المدائني عن مبارك بن سلام-  عن فطر بن خليفة عن أبي الضحى قال-  كان ناس من أهل الكوفة يتطلبون عثرة الوليد بن عقبة-  منهم أبو زينب الأزدي و أبو مورع-  فجاءا يوما و لم يحضر الوليد الصلاة-  فسألا عنه فتلطفا حتى علما أنه يشرب-  فاقتحما الدار فوجداه يقي‏ء-  فاحتملاه و هو سكران حتى وضعاه على سريره-  و أخذا خاتمه من يده فأفاق فافتقد خاتمه-  فسأل عنه أهله فقالوا لا ندري-  و قد رأينا رجلين دخلا عليك-فاحتملاك فوضعاك على سريرك-  فقال صفوهما لي-  فقالوا أحدهما آدم طوال حسن الوجه-  و الآخر عريض مربوع عليه خميصة-  فقال هذا أبو زينب و هذا أبو مورع- .

قال و لقي أبو زينب و صاحبه عبد الله بن حبيش الأسدي-  و علقمة بن يزيد البكري و غيرهما-  فأخبروهم فقالوا أشخصوا إلى أمير المؤمنين فأعلموه-  و قال بعضهم إنه لا يقبل قولكم في أخيه-  فشخصوا إليه فقالوا إنا جئناك في أمر-  و نحن مخرجوه إليك من أعناقنا-  و قد قيل إنك لا تقبله-  قال و ما هو قالوا رأينا الوليد-  و هو سكران من خمر شربها-  و هذا خاتمه أخذناه من يده و هو لا يعقل- فأرسل عثمان إلى علي ع فأخبره-  فقال أرى أن تشخصه-  فإذا شهدوا عليه بمحضر منه حددته-  فكتب عثمان إلى الوليد فقدم عليه-  فشهد عليه أبو زينب و أبو مورع-  و جندب الأزدي و سعد بن مالك الأشعري-  فقال عثمان لعلي ع-  قم يا أبا الحسن فاجلده-  فقال علي ع للحسن ابنه قم فاضربه-  فقال الحسن ما لك و لهذا يكفيك غيرك-  فقال علي لعبد الله بن جعفر قم فاضربه-  فضربه بمخصرة فيها سير له رأسان-  فلما بلغ أربعين قال حسبك- .

قال أبو الفرج و حدثني أحمد قال حدثنا عمر قال-  حدثني المدائني عن الوقاصي عن الزهري قال-  خرج رهط من أهل الكوفة إلى عثمان في أمر الوليد-  فقال أ كلما غضب رجل على أميره رماه بالباطل-  لئن أصبحت لكم لأنكلن بكم-  فاستجاروا بعائشة-  و أصبح عثمان فسمع من حجرتها صوتا و كلاما-  فيه بعض الغلظة-  فقال أ ما يجد فساق العراق و مراقها ملجأ-  إلا بيت عائشة-  فسمعت فرفعت نعل رسول الله ص و قالت-  تركت سنة صاحب هذا النعل-  و تسامع الناس فجاءوا حتى ملئوا المسجد-  فمن قائل قد أحسنت و من قائل ما للنساء و لهذا-  حتى تخاصمواو تضاربوا بالنعال-  و دخل رهط من أصحاب رسول الله ص على عثمان-  فقالوا له اتق الله و لا تعطل الحدود-  و اعزل أخاك عنهم ففعل قال أبو الفرج حدثنا أحمد قال حدثني عمر-  عن المدائني عن أبي محمد الناجي-  عن مطر الوراق قال-  قدم رجل من أهل الكوفة إلى المدينة-  فقال لعثمان إني صليت صلاة الغداة خلف الوليد-  فالتفت في الصلاة إلى الناس فقال أ أزيدكم-  فإني أجد اليوم نشاطا-  و شممنا منه رائحة الخمر-  فضرب عثمان الرجل-  فقال الناس عطلت الحدود و ضربت الشهود- . قال أبو الفرج و حدثنا أحمد قال حدثنا عمر قال-  حدثنا أبو بكر الباهلي عن بعض من حدثه قال-  لما شهد على الوليد عند عثمان بشرب الخمر-  كتب إليه يأمره بالشخوص-  فخرج و خرج معه قوم يعذرونه-  منهم عدي بن حاتم الطائي-  فنزل الوليد يوما يسوق بهم فارتجز و قال- 

لا تحسبنا قد نسينا الأحقاف
و النشوات من معتق صاف‏
و عزف قينات علينا عزاف‏

فقال عدي فأين تذهب بنا إذن فأقم- . قال أبو الفرج و قد روى أحمد عن عمر عن رجاله-  عن الشعبي عن جندب الأزدي قال-  كنت فيمن شهد على الوليد عند عثمان-  فلما استتممنا عليه الشهادة حبسه عثمان-  ثم ذكر باقي الخبر و ضرب علي ع إياه-  و قول الحسن ابنه ما لك و لهذا-  و زاد فيه و قال علي ع لست إذن مسلما-  أو قال من المسلمين- .

 

 قال أبو الفرج و أخبرني أحمد عن عمر عن رجاله أن الشهادة لما تمت قال عثمان لعلي ع-  دونك ابن عمك فأقم عليه الحد-  فأمر علي ع ابنه الحسن ع فلم يفعل فقال يكفيك غيرك-  فقال علي ع بل ضعفت و وهنت و عجزت-  قم يا عبد الله بن جعفر فاجلده فقام فجلده-  و علي ع يعد حتى بلغ أربعين-  فقال له علي ع أمسك حسبك-  جلد رسول الله ص أربعين-  و جلد أبو بكر أربعين و كملها عمر ثمانين-  و كل سنة- .

قال أبو الفرج و حدثني أحمد عن عمر-  عن عبد الله بن محمد بن حكيم عن خالد بن سعيد قال-  و أخبرني بذلك أيضا إبراهيم بن محمد بن أيوب-  عن عبد الله بن مسلم قالوا جميعا-  لما ضرب عثمان الوليد الحد قال-  إنك لتضربني اليوم بشهادة قوم ليقتلنك عاما قابلا- . قال أبو الفرج-  و حدثني أحمد بن عبد العزيز الجوهري-  عن عمر بن شبة عن عبد الله بن محمد بن حكيم-  عن خالد بن سعيد-  و أخبرني أيضا إبراهيم عن عبد الله قالوا جميعا-  كان أبو زبيد الطائي نديما للوليد بن عقبة-  أيام ولايته الكوفة-  فلما شهدوا عليه بالسكر من الخمر خرج عن الكوفة معزولا-  فقال أبو زبيد يتذكر أيامه و ندامته- 

 من يرى العير أن تمشي على ظهر
المرورى حداتهن عجال‏

ناعجات و البيت بيت أبي وهب‏
خلاء تحن فيه الشمال‏

يعرف الجاهل المضلل أن الدهر
فيه النكراء و الزلزال‏

ليت شعري كذا كم العهد أم كانوا
أناسا كمن يزول فزالوا

بعد ما تعلمين يا أم عمرو
كان فيهم عز لنا و جمال‏

و وجوه تودنا مشرقات‏
و نوال إذا أريد النوال‏

أصبح البيت قد تبدل بالحي
وجوها كأنها الأقيال‏

كل شي‏ء يحتال فيه الرجال‏
غير أن ليس للمنايا احتيال‏

و لعمر الإله لو كان للسيف
مضاء و للسان مقال‏

ما تناسيتك الصفاء و لا
الود و لا حال دونك الإشغال‏

و لحرمت لحمك المتعضي
ضلة ضل حلمهم ما اغتالوا

قولهم شربك الحرام و قد كان‏
شراب سوى الحرام حلال‏

و أبي ظاهر العداوة و الشنآن
إلا مقال ما لا يقال‏

من رجال تقارضوا منكرات‏
لينالوا الذي أرادوا فنالوا

غير ما طالبين ذحلا و لكن
مال دهر على أناس فمالوا

من يخنك الصفاء أو يتبدل‏
أو يزل مثل ما يزول الظلال‏

فاعلمن أنني أخوك أخو
الود حياتي حتى تزول الجبال‏

ليس بخلي عليك يوما بمال‏
أبدا ما أقل نعلا قبال‏

و لك النصر باللسان و بالكف
إذا كان لليدين مصال‏

قال أبو الفرج و حدثني أحمد قال حدثني عمر قال-  لما قدم الوليد بن عقبة الكوفة قدم عليه أبو زبيد-  فأنزله دار عقيل بن أبي طالب على باب المسجد-  و هي التي‏ تعرف بدار القبطي-  فكان مما احتج به عليه أهل الكوفة-  أن أبا زبيد كان يخرج إليه من داره-  و هو نصراني يخترق المسجد فيجعله طريقا- . قال أبو الفرج-  و أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال-  حدثني عمي عبيد الله عن ابن حبيب عن ابن الأعرابي-  أن أبا زبيد وفد على الوليد-  حين استعمله عثمان على الكوفة-  فأنزله الوليد دار عقيل بن أبي طالب عند باب المسجد-  و استوهبها منه فوهبها له-  فكان ذلك أول الطعن عليه من أهل الكوفة-  لأن أبا زبيد كان يخرج من داره حتى يشق المسجد إلى الوليد-  فيسمر عنده و يشرب معه-  و يخرج فيشق المسجد و هو سكران-  فذاك نبههم عليه-  قال و قد كان عثمان ولى الوليد صدقات بني تغلب-  فبلغه عنه شعر فيه خلاعه فعزله-  قال فلما ولاه الكوفة اختص أبا زبيد الطائي و قربه-  و مدحه أبو زبيد بشعر كثير-  و قد كان الوليد استعمل-  الربيع بن مري بن أوس بن حارثة بن لام الطائي-  على الحمى فيما بين الجزيرة و ظهر الحيرة-  فأجدبت الجزيرة-  و كان أبو زبيد في بني تغلب نازلا-  فخرج بإبلهم ليرعيهم-  فأبى عليهم الربيع بن مري و منعهم-  و قال لأبي زبيد إن شئت أرعيك وحدك فعلت-  فأتى أبو زبيد إلى الوليد فشكاه-  فأعطاه ما بين القصور الحمر من الشام-  إلى القصور الحمر من الحيرة و جعلها له حمى-  و أخذها من الربيع بن مري فقال أبو زبيد يمدح الوليد-  و الشعر يدل على أن الحمى كان بيد مري بن أوس-  لا بيد الربيع ابنه-  و هكذا هو في رواية عمر بن شبة- 

لعمر أبيك يا ابن أبي مري
لغيرك من أباح لنا الديارا

أباح لنا أبارق ذات قور
و نرعى القف منها و القفارا

بحمد الله ثم فتى قريش
أبي وهب غدت بدنا غزارا

أباح لنا و لا نحمي عليكم‏
إذا ما كنتم سنة جزارا

قال يقول إذا أجدبتم فإنا لا نحميها عليكم- و إذا كنتم أسأتم و حميتموها علينا- .

فتى طالت يداه إلى المعالي
و طحطحت المجذمة القصارا

قال و من شعر أبي زبيد- فيه يذكر نصره له على مري بن أوس بن حارثة-

يا ليت شعري بأنباء أنبؤها
قد كان يعنى بها صدري و تقديري‏

عن امرئ ما يزده الله من شرف‏
أفرح به و مري غير مسرور

إن الوليد له عندي و حق له
ود الخليل و نصح غير مذخور

لقد دعاني و أدناني أظهرني‏
على الأعادي بنصر غير تغرير

و شذب القوم عني غير مكترث
حتى تناهوا على رغم و تصغير

نفسي فداء أبي وهب و قل له‏
يا أم عمرو فحلي اليوم أو سيري‏

و قال أبو زبيد يمدح الوليد و يتألم لفراقه- حين عزل عن الكوفة-

لعمري لئن أمسى الوليد ببلدة
سواي لقد أمسيت للدهر معورا

خلا أن رزق الله غاد و رائح‏
و إني له راج و إن سار أشهرا

و كان هو الحصن الذي ليس مسلمي
إذا أنا بالنكراء هيجت معشرا

إذا صادفوا دوني الوليد فإنما
يرون بوادي ذي حماس مزعفرا

و هي طويلة يصف فيها الأسد قال أبو الفرج و حدثنا أحمد بن عبد العزيز-  قال حدثنا عمر عن رجاله عن الوليد قال-  لما فتح رسول الله ص مكة-  جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم-  فيدعو لهم بالبركة و يمسح يده على رءوسهم-  فجي‏ء بي إليه و أنا مخلق فلم يمسني-  و ما منعه إلا أن أمي خلقتني بخلوق-  فلم يمسني من أجل الخلوق- .

 قال أبو الفرج و حدثني إسحاق بن بنان الأنماطي عن حنيش بن ميسر عن عبد الله بن موسى عن أبي ليلى عن الحكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال الوليد بن عقبة لعلي بن أبي طالب ع-  أنا أحد منك سنانا و أبسط منك لسانا و أملأ للكتيبة-  فقال علي ع اسكت يا فاسق فنزل القرآن فيهما-  أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ‏- .

قال أبو الفرج و حدثني أحمد بن عبد العزيز-  عن عمر بن شبة عن محمد بن حاتم عن يونس بن عمر-  عن شيبان عن يونس عن قتادة في قوله تعالى-  يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا-  قال هو الوليد بن عقبة بعثه النبي ص مصدقا إلى بني المصطلق-  فلما رأوه أقبلوا نحوه فهابهم-  فرجع إلى النبي ص فقال له-  إنهم ارتدوا عن الإسلام-  فبعث النبي ص خالد بن الوليد فعلم عملهم-  و أمره أن يتثبت و قال له انطلق و لا تعجل-  فانطلق حتى أتاهم ليلا و أنفذ عيونه نحوهم-  فلما جاءوه أخبروه أنهم متمسكون بالإسلام-  و سمع أذانهم و صلاتهم-  فلما أصبح أتاهم فرأى ما يعجبه-  فرجع إلى الرسول ص فأخبره فنزلت هذه الآية- .

 

قلت-  قد لمح ابن عبد البر صاحب كتاب الإستيعاب-  في هذا الموضع نكتة حسنة-  فقال في حديث الخلوق-  هذا حديث مضطرب منكر لا يصح-  و ليس يمكن أن يكون من بعثه النبي ص مصدقا-  صبيا يوم الفتح-  قال و يدل أيضا على فساده-  أن الزبير بن بكار و غيره من أهل العلم بالسير و الأخبار-  ذكروا أن الوليد و أخاه عمارة ابني عقبة بن أبي معيط-  خرجا من مكة ليردا أختهما أم كلثوم عن الهجرة-  و كانت هجرتها في الهدنة-  التي بين النبي ص و بين أهل مكة-  و من كان غلاما مخلقا بالخلوق يوم الفتح-  ليس يجي‏ء منه مثل هذا-  قال و لا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن-  أن قوله عز و جل إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا-  أنزلت في الوليد لما بعثه رسول الله ص مصدقا-  فكذب على بني المصطلق و قال-  إنهم ارتدوا و امتنعوا من أداء الصدقة-  قال أبو عمر و فيه و في علي ع نزل-  أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ-  في قصتهما المشهورة-  قال و من كان صبيا يوم الفتح لا يجي‏ء منه مثل هذا-  فوجب أن ينظر في حديث الخلوق-  فإنه رواية جعفر بن برقان عن ثابت-  عن الحجاج عن أبي موسى الهمداني-  و أبو موسى مجهول لا يصح حديثه- .

ثم نعود إلى كتاب أبي الفرج الأصبهاني-  قال أبو الفرج و أخبرني أحمد بن عبد العزيز عن عمر بن شبة عن عبد الله بن موسى عن نعيم بن حكيم عن أبي مريم عن علي ع أن امرأة الوليد بن عقبة جاءت إلى النبي ص-  تشتكي إليه الوليد و قالت إنه يضربها-  فقال لها ارجعي إليه و قولي له-  إن رسول الله قد أجارني فانطلقت-  فمكثت ساعة ثم رجعت فقالت-  إنه‏ ما أقلع عني-  فقطع رسول الله ص هدبة من ثوبه-  و قال اذهبي بها إليه و قولي له إن رسول الله قد أجارني-  فانطلقت فمكثت ساعة ثم رجعت فقالت-  ما زادني إلا ضربا-  فرفع رسول الله ص يده ثم قال-  اللهم عليك بالوليد مرتين أو ثلاثا- .

قال أبو الفرج-  و اختص الوليد لما كان واليا بالكوفة ساحرا-  كاد يفتن الناس-  كان يريه كتيبتين تقتتلان-  فتحمل إحداهما على الأخرى فتهزمها-  ثم يقول له أ يسرك-  أن أريك المنهزمة تغلب الغالبة فتهزمها-  فيقول نعم-  فجاء جندب الأزدي مشتملا على سيفه-  فقال أفرجوا لي فأفرجوا فضربه حتى قتله-  فحبسه الوليد قليلا ثم تركه- . قال أبو الفرج و روى أحمد عن عمر عن رجاله-  أن جندبا لما قتل الساحر حبسه الوليد-  فقال له دينار بن دينار فيم حبست هذا-  و قد قتل من أعلن بالسحر في دين محمد ص-  ثم مضى إليه فأخرجه من الحبس-  فأرسل الوليد إلى دينار بن دينار فقتله- . قال أبو الفرج حدثني عمي الحسن بن محمد قال-  حدثني الخراز عن المدائني عن علي بن مجاهد-  عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان-  عن الزهري و غيره-  أن رسول الله ص-  لما انصرف عن غزاة بني المصطلق-  نزل رجل من المسلمين فساق بالقوم و رجز-  ثم آخر فساق بهم و رجز-  ثم بدا لرسول الله ص أن يواسي أصحابه-  فنزل فساق بهم و رجز و جعل يقول فيما يقول- 

جندب و ما جندب
و الأقطع زيد الخير

فدنا منه أصحابه فقالوا يا رسول الله- ما ينفعنا سيرنا مخافة أن تنهشك دابة- أو تصيبك نكبة- فركب و دنوا منه و قالوا- قلت قولا لا ندري ما هو قال و ما ذاك- قالوا كنت تقول-

جندب و ما جندب
و الأقطع زيد الخير

 فقال رجلان يكونان في هذه الأمة- يضرب أحدهما ضربة يفرق بين الحق و الباطل- و تقطع يد الآخر في سبيل الله- ثم يتبع الله آخر جسده بأوله- و كان زيد هو زيد بن صوحان- و قطعت يده في سبيل الله يوم جلولاء- و قتل يوم الجمل مع علي بن أبي طالب ع- و أما جندب هذا فدخل على الوليد بن عقبة- و عنده ساحر يقال له أبو شيبان- يأخذ أعين الناس فيخرج مصارين بطنهم ثم يردها- فجاء من خلفه فضربه فقتله و قال-

العن وليدا و أبا شيبان
و ابن حبيش راكب الشيطان‏
رسول فرعون إلى هامان‏

 قال أبو الفرج و قد روي أن هذا الساحر-  كان يدخل عند الوليد في جوف بقرة حية-  ثم يخرج منها-  فرآه جندب فذهب إلى بيته فاشتمل على سيف-  فلما دخل الساحر في البقرة قال جندب-  أ فتأتون السحر و أنتم تبصرون-  ثم ضرب وسط البقرة فقطعها و قطع الساحر معها-  فذعر الناس فسجنه الوليد و كتب بأمره إلى عثمان- . قال أبو الفرج فروى أحمد بن عبد العزيز-  عن حجاج بن نصير عن قرة عن‏محمد بن سيرين قال-  انطلق بجندب بن كعب الأزدي-  قاتل الساحر بالكوفة إلى السجن-  و على السجن رجل نصراني من قبل الوليد-  و كان يرى جندب بن كعب يقوم بالليل و يصبح صائما-  فوكل بالسجن رجلا-  ثم خرج فسأل الناس عن أفضل أهل الكوفة-  فقالوا الأشعث بن قيس فاستضافه-  فجعل يراه ينام الليل ثم يصبح فيدعو بغدائه-  فخرج من عنده و سأل أي أهل الكوفة أفضل-  قالوا جرير بن عبد الله فذهب إليه-  فوجده ينام الليل ثم يصبح فيدعو بغدائه-  فاستقبل القبلة و قال ربي رب جندب و ديني دين جندب-  ثم أسلم- . قال أبو الفرج-  فلما نزع عثمان الوليد عن الكوفة-  أمر عليها سعيد بن العاص-  فلما قدمها قال اغسلوا هذا المنبر-  فإن الوليد كان رجلا نجسا فلم يصعده حتى غسل-  قال أبو الفرج و كان الوليد أسن من سعيد بن العاص-  و أسخى نفسا و ألين جانبا و أرضى عندهم-  فقال بعض شعرائهم- 

   و جاءنا من بعده سعيد
ينقص في الصاع و لا يزيد

و قال آخر منهم-

فررت من الوليد إلى سعيد
كأهل الحجر إذ فزعوا فباروا

يلينا من قريش كل عام‏
أمير محدث أو مستشار

لنا نار تحرقنا فنخشى
و ليس لهم و لا يخشون نار

قال أبو الفرج و حدثنا أحمد قال-  حدثنا عمر عن المدائني قال-  قدم الوليد بن‏ عقبة الكوفة في أيام معاوية-  زائرا للمغيرة بن شعبة-  فأتاه أشراف الكوفة فسلموا عليه-  و قالوا و الله ما رأينا بعدك مثلك-  فقال أ خيرا أم شرا قالوا بل خيرا-  قال و لكني ما رأيت بعدكم شرا منكم-  فأعادوا الثناء عليه-  فقال بعض ما تأتون به-  فو الله إن بغضكم لتلف و إن حبكم لصلف قال أبو الفرج و روى عمر بن شبة-  أن قبيصة بن جابر كان ممن كثر على الوليد-  فقال معاوية يوما و الوليد و قبيصة عنده-  يا قبيصة ما كان شأنك و شأن الوليد-  قال خير يا أمير المؤمنين-  إنه في أول الأمر وصل الرحم و أحسن الكلام-  فلا تسأل عن شكر و حسن ثناء-  ثم غضب على الناس و غضبوا عليه و كنا معهم-  فإما ظالمون فنستغفر الله و إما مظلومون فيغفر الله له-  فخذ في غير هذا يا أمير المؤمنين-  فإن الحديث ينسي القديم-  قال معاوية ما أعلمه إلا قد أحسن السيرة-  و بسط الخير و قبض الشر-  قال فأنت يا أمير المؤمنين اليوم أقدر على ذلك فافعله-  فقال اسكت لا سكت فسكت و سكت القوم-  فقال معاوية بعد يسير ما لك لا تتكلم يا قبيصة-  قال نهيتني عما كنت أحب فسكت عما لا أحب- . قال أبو الفرج-  و مات الوليد بن عقبة فويق الرقة-  و مات أبو زبيد هناك-  فدفنا جميعا في موضع واحد-  فقال في ذلك أشجع السلمي و قد مر بقبريهما- 

 مررت على عظام أبي زبيد
و قد لاحت ببلقعة صلود

فكان له الوليد نديم صدق‏
فنادم قبره قبر الوليد

و ما أدري بمن تبدو المنايا
بحمزة أم بأشجع أم يزيد

قيل هم إخوته و قيل ندماؤه- . قال أبو الفرج و حدثني أحمد بن عبد العزيز-  عن محمد بن زكريا الغلابي‏ عن عبد الله بن الضحاك-  عن هشام بن محمد عن أبيه قال-  وفد الوليد بن عقبة و كان جوادا إلى معاوية-  فقيل له هذا الوليد بن عقبة بالباب-  فقال و الله ليرجعن مغيظا غير معطى-  فإنه الآن قد أتانا يقول-  علي دين و علي كذا-  ائذن له فأذن له فسأله و تحدث معه-  ثم قال له معاوية-  أما و الله إن كنا لنحب إتيان مالك بالوادي-  و لقد كان يعجب أمير المؤمنين-  فإن رأيت أن تهبه ليزيد فافعل-  قال هو ليزيد-  ثم خرج و جعل يختلف إلى معاوية-  فقال له يوما انظر يا أمير المؤمنين في شأني-  فإن علي مئونة و قد أرهقني دين-  فقال له أ لا تستحيي لنفسك و حسبك-  تأخذ ما تأخذه فتبذره-  ثم لا تنفك تشكو دينا-  فقال الوليد أفعل ثم انطلق من مكانه-  فسار إلى الجزيرة و قال يخاطب معاوية- 

  فإذا سئلت تقول لا
و إذا سألت تقول هات‏

تأبى فعال الخير لا
تروي و أنت على الفرات‏

أ فلا تميل إلى نعم
أو ترك لا حتى الممات‏

و بلغ معاوية شخوصه إلى الجزيرة فخافه- و كتب إليه أقبل فكتب-

أعف و أستعفي كما قد أمرتني
فأعط سواي ما بدا لك و ابخل‏

سأحدو ركابي عنك إن عزيمتي‏
إذا نابني أمر كسلة منصل‏

و إني امرؤ للنأي مني تطرب
و ليس شبا قفل علي بمقفل‏

ثم رحل إلى الحجاز فبعث إليه معاوية بجائزة- . و أما أبو عمر بن عبد البر-  فإنه ذكر في الإستيعاب في باب الوليد قال-  إن له أخبارا فيها شناعة تقطع على سوء حاله-  و قبح أفعاله غفر الله لنا و له-  فلقد كان من رجال قريش‏ظرفا و حلما-  و شجاعة و جودا و أدبا-  و كان من الشعراء المطبوعين-  قال و كان الأصمعي و أبو عبيدة و ابن الكلبي و غيرهم-  يقولون إنه كان فاسقا شريب خمر و كان شاعرا كريما-  قال و أخباره في شربه الخمر-  و منادمته أبا زبيد الطائي كثيرة مشهورة-  و يسمج بنا ذكرها و لكنا نذكر منها طرفا-  ثم ذكر ما ذكره أبو الفرج في الأغاني-  و قال إن خبر الصلاة و هو سكران-  و قوله أ أزيدكم-  خبر مشهور روته الثقات من نقلة الحديث- . قال أبو عمر بن عبد البر-  و قد ذكر الطبري في رواية-  أنه تغضب عليه قوم من أهل الكوفة حسدا و بغيا-  و شهدوا عليه بشرب الخمر-  و قال إن عثمان قال له يا أخي اصبر-  فإن الله يأجرك و يبوء القوم بإثمك- . قال أبو عمر-  هذا الحديث لا يصح عند أهل الأخبار و نقلة الحديث-  و لا له عند أهل العلم أصل-  و الصحيح ثبوت الشهادة عليه عند عثمان-  و جلده الحد و أن عليا هو الذي جلده-  قال و لم يجلده بيده-  و إنما أمر بجلده فنسب الجلد إليه- . قال أبو عمر-  و لم يرو الوليد من السنة ما يحتاج فيها إليه-  و لكن حارثة بن مضرب روى عنه أنه قال-  ما كانت نبوة إلا كان بعدها ملك

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 17

نامه 61 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

61 و من كتاب له ع إلى كميل بن زياد النخعي

و هو عامله على هيت ينكر عليه تركه دفع من يجتاز به-  من جيش العدو طالبا للغارة- : أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ تَضْيِيعَ الْمَرْءِ مَا وُلِّيَ وَ تَكَلُّفَهُ مَا كُفِيَ-  لَعَجْزٌ حَاضِرٌ وَ رَأْيٌ مُتَبَّرٌ-  وَ إِنَّ تَعَاطِيَكَ الْغَارَةَ عَلَى أَهْلِ قِرْقِيسِيَا-  وَ تَعْطِيلَكَ مَسَالِحَكَ الَّتِي وَلَّيْنَاكَ-  لَيْسَ لَهَا مَنْ يَمْنَعُهَا وَ لَا يَرُدُّ الْجَيْشَ عَنْهَا-  لَرَأْيٌ شَعَاعٌ-  فَقَدْ صِرْتَ جِسْراً لِمَنْ أَرَادَ الْغَارَةَ-  مِنْ أَعْدَائِكَ عَلَى أَوْلِيَائِكَ-  غَيْرَ شَدِيدِ الْمَنْكِبِ وَ لَا مَهِيبِ الْجَانِبِ-  وَ لَا سَادٍّ ثُغْرَةً وَ لَا كَاسِرٍ لِعَدُوٍّ شَوْكَةً-  وَ لَا مُغْنٍ عَنْ أَهْلِ مِصْرِهِ وَ لَا مُجْزٍ عَنْ أَمِيرِهِ

كميل بن زياد و نسبه

هو كميل بن زياد بن سهيل بن هيثم بن سعد بن مالك-  بن الحارث بن صهبان بن سعد بن مالك بن النخع بن عمرو-  بن وعلة بن خالد بن مالك بن أدد-  كان من أصحاب علي ع و شيعته و خاصته-  و قتله الحجاج على المذهب فيمن قتل من الشيعة-  و كان كميل بن زياد عامل علي ع على هيت-  و كان ضعيفا يمر عليه سرايا معاوية-  تنهب أطراف العراق و لا يردها-  و يحاول أن يجبر ما عنده من الضعف-  بأن يغيرعلى أطراف أعمال معاوية مثل قرقيسيا-  و ما يجري مجراها من القرى التي على الفرات-  فأنكر ع ذلك من فعله و قال-  إن من العجز الحاضر أن يهمل الوالي ما وليه-  و يتكلف ما ليس من تكليفهو المتبر الهالك قال تعالى-  إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ- . و المسالح جمع مسلحة-  و هي المواضع التي يقام فيها طائفة من الجند لحمايتها- . و رأي شعاع بالفتح أي متفرق- .

ثم قال له قد صرت جسرا-  أي يعبر عليك العدو كما يعبر الناس على الجسور-  و كما أن الجسر لا يمنع من يعبر به و يمر عليه فكذاك أنت- . و الثغرة الثلمة-  و مجز كاف و مغن-  و الأصل مجزئ بالهمز فخفف

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 17

نامه 60 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

60 و من كتاب له ع إلى العمال-  الذين يطأ عملهم الجيوش

مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى مَنْ مَرَّ بِهِ الْجَيْشُ-  مِنْ جُبَاةِ الْخَرَاجِ وَ عُمَّالِ الْبِلَادِ-  أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي قَدْ سَيَّرْتُ جُنُوداً-  هِيَ مَارَّةٌ بِكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ-  وَ قَدْ أَوْصَيْتُهُمْ بِمَا يَجِبُ لِلَّهِ عَلَيْهِمْ-  مِنْ كَفِّ الْأَذَى وَ صَرْفِ الشَّذَا-  وَ أَنَا أَبْرَأُ إِلَيْكُمْ وَ إِلَى ذِمَّتِكُمْ مِنْ مَعَرَّةِ الْجَيْشِ-  إِلَّا مِنْ جَوْعَةِ الْمُضْطَرِّ لَا يَجِدُ عَنْهَا مَذْهَباً إِلَى شِبَعِهِ-  فَنَكِّلُوا مَنْ تَنَاوَلَ مِنْهُمْ ظُلْماً عَنْ ظُلْمِهِمْ-  وَ كُفُّوا أَيْدِيَ سُفَهَائِكُمْ عَنْ مُضَادَّتِهِمْ-  وَ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِيمَا اسْتَثْنَيْنَاهُ مِنْهُمْ-  وَ أَنَا بَيْنَ أَظْهُرِ الْجَيْشِ-  فَارْفَعُوا إِلَيَّ مَظَالِمَكُمْ-  وَ مَا عَرَاكُمْ مِمَّا يَغْلِبُكُمْ مِنْ أَمْرِهِمْ-  وَ لَا تُطِيقُونَ دَفَعَهُ إِلَّا بِاللَّهِ وَ بِي-  أُغَيِّرُهُ بِمَعُونَةِ اللَّهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ روي عن مضارتهم بالراء المشددة-  و جباة الخراج الذين يجمعونه-  جبيت الماء في الحوض أي جمعته-  و الشذا و الضر الشر تقول لقد أشذيت و آذيت-  و إلى ذمتكم أي إلى اليهود و النصارى الذين بينكم-  قال ع من آذى ذميا فكأنما آذاني-

و قال إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا-  و أموالهم كأموالنا-  و يسمى هؤلاء ذمة أي أهل ذمة بحذف المضاف-  و المعرة المضرة-  قال الجيش ممنوع من أذى من يمر به من المسلمين و أهل الذمة-  إلا من سد جوعة المضطر منهم خاصة-  لأن المضطر تباح له الميتة فضلا عن غيرها- . ثم قال فنكلوا من تناول-  و روي بمن تناول بالباء أي عاقبوه-  و عن في قوله عن ظلمهم يتعلق بنكلوا-  لأنها في معنى اردعوا لأن النكال يوجب الردع- . ثم أمرهم أن يكفوا أيدي أحداثهم و سفهائهم-  عن منازعة الجيش و مصادمته-  و التعرض لمنعه عما استثناه-  و هو سد الجوعة عند الاضطرار-  فإن ذلك لا يجوز في الشرع-  و أيضا فإنه يفضي إلى فتنة و هرج- . ثم قال و أنا بين أظهر الجيش أي أنا قريب منكم-  و سائر على أثر الجيش-  فارفعوا إلي مظالمكم و ما عراكم منهم-  على وجه الغلبة و القهر-  فإني مغير ذلك و منتصف لكم منهم

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 17

نامه 59 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

59 و من كتاب له ع-  إلى الأسود بن قطبة صاحب جند حلوان

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْوَالِيَ إِذَا اخْتَلَفَ هَوَاهُ-  مَنَعَهُ ذَلِكَ كَثِيراً مِنَ الْعَدْلِ-  فَلْيَكُنْ أَمْرُ النَّاسِ عِنْدَكَ فِي الْحَقِّ سَوَاءً-  فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْجَوْرِ عِوَضٌ مِنَ الْعَدْلِ-  فَاجْتَنِبْ مَا تُنْكِرُ أَمْثَالَهُ-  وَ ابْتَذِلْ نَفْسَكَ فِيمَا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكَ-  رَاجِياً ثَوَابَهُ وَ مُتَخَوِّفاً عِقَابَهُ-  وَ اعْلَمْ أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ بَلِيَّةٍ-  لَمْ يَفْرُغْ صَاحِبُهَا فِيهَا قَطُّ سَاعَةً-  إِلَّا كَانَتْ فَرْغَتُهُ عَلَيْهِ حَسْرَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ-  وَ أَنَّهُ لَنْ يُغْنِيَكَ عَنِ الْحَقِّ شَيْ‏ءٌ أَبَداً-  وَ مِنَ الْحَقِّ عَلَيْكَ حِفْظُ نَفْسِكَ-  وَ الِاحْتِسَابُ عَلَى الرَّعِيَّةِ بِجُهْدِكَ-  فَإِنَّ الَّذِي يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْ ذَلِكَ-  أَفْضَلُ مِنَ الَّذِي يَصِلُ بِكَ وَ السَّلَامُ

الأسود بن قطبة

لم أقف إلى الآن على نسب الأسود بن قطبة-  و قرأت في كثير من النسخ-  أنه حارثي من بني الحارث بن كعب و لم أتحقق ذلك-  و الذي يغلب على ظني أنه الأسود بن زيد-  بن قطبة بن غنم الأنصاري من بني عبيد بن عدي-  ذكره أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب-  و قال إن موسى بن عقبة عده فيمن شهد بدرا قوله ع إذا اختلف هوى الوالي-  منعه كثيرا من الحق قول صدق-  لأنه متى لم يكن الخصمان عند الوالي سواء في الحق-  جار و ظلم- .

ثم قال له فإنه ليس في الجور عوض من العدل-  و هذا أيضا حق-  و في العدل كل العوض من الجور- . ثم أمره باجتناب ما ينكر مثله من غيره-  و قد تقدم نحو هذا- . و قوله إلا كانت فرغته كلمة فصيحة-  و هي المرة الواحدة من الفراغ-  و قد روي عن النبي ص أن الله يبغض الصحيح الفارغ-  لا في شغل الدنيا و لا في شغل الآخرة-  و مراد أمير المؤمنين ع هاهنا-  الفراغ من عمل الآخرة خاصة- . قوله فإن الذي يصل إليك من ذلك-  أفضل من الذي يصل بك-  معناه فإن الذي يصل إليك-  من ثواب الاحتساب على الرعية-  و حفظ نفسك من مظالمهم و الحيف عليهم-  أفضل من الذي يصل بك من حراسة دمائهم-  و أعراضهم و أموالهم-  و لا شبهة في ذلك لأن إحدى المنفعتين دائمة-  و الأخرى منقطعة و النفع الدائم أفضل من المنقطع

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 17

نامه 58 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

58 و من كتاب له ع كتبه إلى أهل الأمصار-  يقص فيه ما جرى بينه و بين أهل صفين

وَ كَانَ بَدْءُ أَمْرِنَا أَنَّا الْتَقَيْنَا بِالْقَوْمِ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ-  وَ الظَّاهِرُ أَنَّ رَبَّنَا وَاحِدٌ وَ نَبِيَّنَا وَاحِدٌ-  وَ دَعْوَتَنَا فِي الْإِسْلَامِ وَاحِدَةٌ-  وَ لَا نَسْتَزِيدُهُمْ فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَ التَّصْدِيقِ بِرَسُولِهِ-  وَ لَا يَسْتَزِيدُونَنَا-  وَ الْأَمْرُ وَاحِدٌ إِلَّا مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ مِنْ دَمِ عُثْمَانَ-  وَ نَحْنُ مِنْهُ بَرَاءٌ-  فَقُلْنَا تَعَالَوْا نُدَاوِي مَا لَا يُدْرَكُ الْيَوْمَ-  بِإِطْفَاءِ النَّائِرَةِ وَ تَسْكِينِ الْعَامَّةِ-  حَتَّى يَشْتَدَّ الْأَمْرُ وَ يَسْتَجْمِعَ-  فَنَقْوَى عَلَى وَضْعِ الْحَقِّ فِي مَوَاضِعِهِ-  فَقَالُوا بَلْ نُدَاوِيهِ بِالْمُكَابَرَةِ-  فَأَبَوْا حَتَّى جَنَحَتِ الْحَرْبُ وَ رَكَدَتْ-  وَ وَقَدَتْ نِيرَانُهَا وَ حَمِشَتْ-  فَلَمَّا ضَرَّسَتْنَا وَ إِيَّاهُمْ-  وَ وَضَعَتْ مَخَالِبَهَا فِينَا وَ فِيهِمْ-  أَجَابُوا عِنْدَ ذَلِكَ إِلَى الَّذِي دَعَوْنَاهُمْ إِلَيْهِ-  فَأَجَبْنَاهُمْ إِلَى مَا دَعَوْا وَ سَارَعْنَاهُمْ إِلَى مَا طَلَبُوا-  حَتَّى اسْتَبَانَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ-  وَ انْقَطَعَتْ مِنْهُمُ الْمَعْذِرَةُ-  فَمَنْ تَمَّ عَلَى ذَلِكَ مِنْهُمْ-  فَهُوَ الَّذِي أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنَ الْهَلَكَةِ-  وَ مَنْ لَجَّ وَ تَمَادَى فَهُوَ الرَّاكِسُ-  الَّذِي رَانَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ-  وَ صَارَتْ دَائِرَةُ السَّوْءِ عَلَى رَأْسِهِ‏ روي التقينا و القوم بالواو-  كما قال

قلت إذ أقبلت و زهر تهادى‏- . و من لم يروها بالواو فقد استراح من التكلف- . قوله و الظاهر أن ربنا واحد-  كلام من لم يحكم لأهل صفين من جانب معاوية-  حكما قاطعا بالإسلام-  بل قال ظاهرهم الإسلام-  و لا خلف بيننا و بينهم فيه بل الخلف في دم عثمان- . قال ع قلنا لهم-  تعالوا فلنطفئ هذه النائرة الآن يوضع الحرب-  إلى أن تتمهد قاعدتي في الخلافة-  و تزول هذه الشوائب التي تكدر علي الأمر-  و يكون للناس جماعة ترجع إليها-  و بعد ذلك أتمكن من قتلة عثمان بأعيانهم فأقتص منهم-  فأبوا إلا المكابرة و المغالبة و الحرب- . قوله حتى جنحت الحرب و ركدت-  جنحت أقبلت و منه قد جنح الليل أي أقبل-  و ركدت دامت و ثبتت- . قوله و وقدت نيرانها أي التهبت- . قوله و حمشت أي استعرت و شبت-  و روي و استحشمت و هو أصح-  و من رواها حمست بالسين المهملة-  أراد اشتدت و صلبت- . قوله فلما ضرستنا و إياهم أي عضتنا بأضراسها-  و يقال ضرسهم الدهر أي اشتد عليهم- .

 

قال لما اشتدت الحرب علينا و عليهم-  و أكلت منا و منهم-  عادوا إلى ما كنا سألناهم ابتداء-  و ضرعوا إلينا في رفع الحرب-  و رفعوا المصاحف يسألون النزول على حكمها-  و إغماد السيف فأجبناهم إلى ذلك- . قوله و سارعناهم إلى ما طلبوا كلمة فصيحة-  و هي تعدية الفعل اللازم-  كأنها لما كانت في معنى المسابقة-  و المسابقة متعدية عدي المسارعة- .

قوله حتى استبانت-  يقول استمررنا على كف الحرب و وضعها-  إجابة لسؤالهم-  إلى أن استبانت عليهم حجتنا-  و بطلت معاذيرهم و شبهتهم في الحرب و شق العصا-  فمن تم منهم على ذلك-  أي على انقياده إلى الحق بعد ظهوره له-  فذاك الذي خلصه الله من الهلاك و عذاب الآخرة-  و من لج منهم على ذلك و تمادى في ضلاله فهو الراكس-  قال قوم الراكس هنا بمعنى المركوس-  فهو مقلوب فاعل بمعنى مفعول-  كقوله تعالى فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ أي مرضية-  و عندي أن اللفظة على بابها-  يعني أن من لج فقد ركس نفسه فهو الراكس و هو المركوس-  يقال ركسه و أركسه بمعنى-  و الكتاب العزيز جاء بالهمز فقال-  وَ اللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أي ردهم إلى كفرهم-  و يقول ارتكس فلان في أمر كان نجا منه-  و ران على قلبه أي ران هو على قلبه كما قلنا في الراكس-  و لا يجوز أن يكون الفاعل و هو الله محذوفا-  لأن الفاعل لا يحذف-  بل يجوز أن يكون الفاعل كالمحذوف-  و ليس بمحذوف-  و يكون المصدر و هو الرين و دل الفعل عليه-  كقوله تعالى ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ-  أي بدا لهم البداء-  و ران بمعنى غلب و غطى-  و روي فهو الراكس الذي رين على قلبه- .

قال و صارت دائرة السوء على رأسه-  من ألفاظ القرآن العزيز قال الله تعالى-  عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ و الدوائر الدول- .  و إن على الباغي تدور الدوائر- . و الدائرة أيضا الهزيمة يقال على من الدائرة منهما-  و الدوائر أيضا الدواهي

 شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 17

نامه 57 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

 57 و من كتاب له ع إلى أهل الكوفة-  عند مسيره من المدينة إلى البصرة

أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي خَرَجْتُ عَنْ حَيِّي هَذَا-  إِمَّا ظَالِماً وَ إِمَّا مَظْلُوماً وَ إِمَّا بَاغِياً وَ إِمَّا مَبْغِيّاً عَلَيْهِ-  وَ أَنَا أُذَكِّرُ اللَّهَ مَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي هَذَا لَمَّا نَفَرَ إِلَيَّ-  فَإِنْ كُنْتُ مُحْسِناً أَعَانَنِي-  وَ إِنْ كُنْتُ مُسِيئاً اسْتَعْتَبَنِي ما أحسن هذا التقسيم و ما أبلغه في عطف القلوب عليه-  و استمالة النفوس إليه- .

قال لا يخلو حالي في خروجي من أحد أمرين-  إما أن أكون ظالما أو مظلوما-  و بدأ بالظالم هضما لنفسه-  و لئلا يقول عدوه بدأ بدعوى كونه مظلوما-  فأعطى عدوه من نفسه ما أراد- . قال فلينفر المسلمون إلي فإن وجدوني مظلوما أعانوني-  و إن وجدوني ظالما نهوني عن ظلمي-  لأعتب و أنيب إلى الحق-  و هذا كلام حسن-  و مراده ع يحصل على كلا الوجهين-  لأنه إنما أراد أن يستنفرهم-  و هذان الوجهان يقتضيان نفيرهم إليه على كل حال-  و الحي المنزل و لما هاهنا بمعنى إلا-  كقوله تعالى إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ-  في قراءة من قرأها بالتشديد

 شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 17

نامه 56 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

 56 و من كلام له ع وصى به شريح بن هانئ-  لما جعله على مقدمته إلى الشام

اتَّقِ اللَّهَ فِي كُلِّ مَسَاءٍ وَ صَبَاحٍ-  وَ خَفْ عَلَى نَفْسِكَ الدُّنْيَا الْغَرُورَ-  وَ لَا تَأْمَنْهَا عَلَى حَالٍ-  وَ اعْلَمْ أَنَّكَ إِنْ لَمْ تَرْدَعْ نَفْسَكَ عَنْ كَثِيرٍ مِمَّا تُحِبُّ-  مَخَافَةَ مَكْرُوهِهِ-  سَمَتْ بِكَ الْأَهْوَاءُ إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الضَّرَرِ-  فَكُنْ لِنَفْسِكَ مَانِعاً رَادِعاً-  وَ لِنَزَوَاتِكَ عِنْدَ الْحَفِيظَةِ وَاقِماً قَامِعاً

شريح بن هانئ

هو شريح بن هانئ بن يزيد-  بن نهيك بن دريد بن سفيان بن الضباب-  و هو سلمة بن الحارث بن ربيعة بن الحارث بن كعب المذحجي-  كان هانئ يكنى في الجاهلية أبا الحكم لأنه كان يحكم بينهم-  فكناه رسول الله ص بأبي شريح إذ وفد عليه-  و ابنه شريح هذا من جلة أصحاب علي ع-  شهد معه المشاهد كلها-  و عاش حتى قتل بسجستان في زمن الحجاج-  و شريح جاهلي إسلامي يكنى أبا المقدام-ذكر ذلك كله أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب

قوله ع و خف على نفسك الغرور يعني الشيطان-  فأما الغرور بالضم فمصدر و الرادع الكاف المانع-  و النزوات الوثبات و الحفيظة الغضب-  و الواقم فاعل-  من وقمته أي رددته أقبح الرد و قهرته-  يقول ع إن لم تردع نفسك عن كثير من شهواتك-  أفضت بك إلى كثير من الضرر-  و مثل هذا قول الشاعر- 

  فإنك إن أعطيت بطنك سؤلها
و فرجك نالا منتهى الذم أجمعا

 شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 17

نامه 55 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

 55 و من كتاب له ع إلى معاوية

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الدُّنْيَا لِمَا بَعْدَهَا-  وَ ابْتَلَى فِيهَا أَهْلَهَا لِيَعْلَمَ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا-  وَ لَسْنَا لِلدُّنْيَا خُلِقْنَا وَ لَا بِالسَّعْيِ فِيهَا أُمِرْنَا-  وَ إِنَّمَا وُضِعْنَا فِيهَا لِنُبْتَلَي بِهَا-  وَ قَدِ ابْتَلَانِي اللَّهُ بِكَ وَ ابْتَلَاكَ بِي-  فَجَعَلَ أَحَدُنَا حُجَّةً عَلَى الآْخَرِ-  فَعَدَوْتَ عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ-  وَ طَلَبْتَنِي بِمَا لَمْ تَجْنِ يَدِي وَ لَا لِسَانِي-  وَ عَصَبْتَهُ أَنْتَ وَ أَهْلُ الشَّامِ بِي-  وَ أَلَّبَ عَالِمُكُمْ جَاهِلَكُمْ وَ قَائِمُكُمْ قَاعِدَكُمْ-  فَاتَّقِ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ وَ نَازِعِ الشَّيْطَانَ قِيَادَكَ-  وَ اصْرِفْ إِلَى الآْخِرَةِ وَجْهَكَ-  فَهِيَ طَرِيقُنَا وَ طَرِيقُكَ-  وَ احْذَرْ أَنْ يُصِيبَكَ اللَّهُ مِنْهُ بِعَاجِلِ قَارِعَةٍ-  تَمَسُّ الْأَصْلَ وَ تَقْطَعُ الدَّابِرَ-  فَإِنِّي أُولِي لَكَ بِاللَّهِ أَلِيَّهً غَيْرَ فَاجِرَةٍ-  لَئِنْ جَمَعَتْنِي وَ إِيَّاكَ جَوَامِعُ الْأَقْدَارِ لَا أَزَالُ بِبَاحَتِكَ-  حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَ هُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ قال ع إن الله قد جعل الدنيا لما بعدها-  أي جعلها طريقا إلى الآخرة- . و من الكلمات الحكمية-  الدنيا قنطرة فاعبروها و لا تعمروها-  و ابتلي فيها أهلها أي اختبرهم ليعلم أيهم أحسن عملا-  و هذا من ألفاظ القرآن العزيز-  و المراد ليعلم خلقه‏أو ليعلم ملائكته و رسله-  فحذف المضاف-  و قد سبق ذكر شي‏ء يناسب ذلك فيما تقدم-  قال و لسنا للدنيا خلقنا أي لم نخلق للدنيا فقط- .

قال و لا بالسعي فيها أمرنا-  أي لم نؤمر بالسعي فيها لها-  بل أمرنا بالسعي فيها لغيرها- . ثم ذكر أن كل واحد منه و من معاوية مبتلى بصاحبه-  و ذلك كابتلاء آدم بإبليس و إبليس بآدم- . قال فغدوت على طلب الدنيا بتأويل القرآن-  أي تعديت و ظلمت-  و على هاهنا متعلقة بمحذوف دل عليه الكلام-  تقديره مثابرا على طلب الدنيا أو مصرا على طلب الدنيا-  و تأويل القرآن ما كان معاوية يموه به على أهل الشام-  فيقول لهم أنا ولي عثمان و قد قال الله تعالى-  وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً- . ثم يعدهم الظفر و الدولة على أهل العراق بقوله تعالى-  فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً- . قوله و عصبته أنت و أهل الشام-  أي ألزمتنيه كما تلزم العصابة الرأس-  و ألب عالمكم جاهلكم أي حرض- . و القياد حبل تقاد به الدابة- . قوله و احذر أن يصيبك الله منه بعاجل قارعة-  الضمير في منه راجع إلى الله تعالى-  و من لابتداء الغاية- .

 و قال الراوندي منه أي من البهتان الذي أتيته-  أي من أجله و من للتعليل-  و هذا بعيد و خلاف الظاهر- . قوله تمس الأصل أي تقطعه-  و منه ماء ممسوس أي يقطع الغلة-  و يقطع الدابر أي العقب و النسل- . و الألية اليمين-  و باحة الدار وسطها و كذلك ساحتها-  و روي بناحيتك- . قوله بعاجل قارعة و جوامع الأقدار-  من باب إضافة الصفة إلى الموصوف للتأكيد-  كقوله تعالى وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ

 شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 17

نامه 54 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

54 و من كتاب له ع إلى طلحة و الزبير

–  مع عمران بن الحصين الخزاعي-  و ذكر هذا الكتاب أبو جعفر الإسكافي في كتاب المقامات- : أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ عَلِمْتُمَا وَ إِنْ كَتَمْتُمَا-  أَنِّي لَمْ أُرِدِ النَّاسَ حَتَّى أَرَادُونِي-  وَ لَمْ أُبَايِعْهُمْ حَتَّى بَايَعُونِي-  وَ إِنَّكُمَا مِمَّنْ أَرَادَنِي وَ بَايَعَنِي-  وَ إِنَّ الْعَامَّةَ لَمْ تُبَايِعْنِي لِسُلْطَانٍ غَالِبٍ وَ لَا لِحِرْصٍ حَاضِرٍ-  فَإِنْ كُنْتُمَا بَايَعْتُمَانِي طَائِعَيْنِ-  فَارْجِعَا وَ تُوبَا إِلَى اللَّهِ مِنْ قَرِيبٍ-  وَ إِنْ كُنْتُمَا بَايَعْتُمَانِي كَارِهَيْنِ-  فَقَدْ جَعَلْتُمَا لِي عَلَيْكُمَا السَّبِيلَ بِإِظْهَارِكُمَا الطَّاعَةَ-  وَ إِسْرَارِكُمَا الْمَعْصِيَةَ-  وَ لَعَمْرِي مَا كُنْتُمَا بِأَحَقَّ الْمُهَاجِرِينَ-  بِالتَّقِيَّةِ وَ الْكِتْمَانِ-  وَ إِنَّ دَفْعَكُمَا هَذَا الْأَمْرَ قَبْلَ أَنْ تَدْخُلَا فِيهِ-  كَانَ أَوْسَعَ عَلَيْكُمَا مِنْ خُرُوجِكُمَا مِنْهُ-  بَعْدَ إِقْرَارِكُمَا بِهِ-  وَ قَدْ زَعَمْتُمَا أَنِّي قَتَلْتُ عُثْمَانَ-  فَبَيْنِي وَ بَيْنَكُمَا مَنْ تَخَلَّفَ عَنِّي وَ عَنْكُمَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ-  ثُمَّ يُلْزَمُ كُلُّ امْرِئٍ بِقَدْرِ مَا احْتَمَلَ-  فَارْجِعَا أَيُّهَا الشَّيْخَانِ عَنْ رَأْيِكُمَا-  فَإِنَّ الآْنَ أَعْظَمَ أَمْرِكُمَا الْعَارُ-  مِنْ قَبْلِ أَنْ يَجْتَمِعَ الْعَارُ وَ النَّارُ-  وَ السَّلَامُ‏

  عمران بن الحصين

  هو عمران بن الحصين بن عبيد بن خلف بن عبد بن نهم-  بن سالم بن غاضرة بن سلول بن حبشية بن سلول-  بن كعب بن عمرو الخزاعي-  يكنى أبا بجيد بابنه بجيد بن عمران-  أسلم هو و أبو هريرة عام خيبر-  و كان من فضلاء الصحابة و فقهائهم-  يقول أهل البصرة عنه-  إنه كان يرى الحفظة و كانت تكلمه حتى اكتوى- . و قال محمد بن سيرين أفضل من نزل البصرة-  من أصحاب رسول الله ص عمران بن الحصين و أبو بكرة-  و استقضاه عبد الله بن عامر بن كريز على البصرة-  فعمل له أياما ثم استعفاه فأعفاه-  و مات بالبصرة سنة اثنتين و خمسين في أيام معاوية

أبو جعفر الإسكافي

و أما أبو جعفر الإسكافي-  و هو شيخنا محمد بن عبد الله الإسكافي-  عده قاضي القضاة في الطبقة السابعة من طبقات المعتزلة-  مع عباد بن سليمان الصيمري و مع زرقان-  و مع عيسى بن الهيثم الصوفي-  و جعل أول الطبقة ثمامة بن أشرس أبا معن-  ثم أبا عثمان الجاحظ-  ثم أبا موسى عيسى بن صبيح المردار-  ثم أبا عمران يونس بن عمران ثم محمد بن شبيب-  ثم محمد بن إسماعيل بن العسكري-  ثم عبد الكريم بن روح العسكري-  ثم أبا يعقوب يوسف بن عبد الله الشحام-  ثم أبا الحسين الصالحي-ثم الجعفران جعفر بن جرير و جعفر بن ميسر-  ثم أبا عمران بن النقاش-  ثم أبا سعيد أحمد بن سعيد الأسدي-  ثم عباد بن سليمان ثم أبا جعفر الإسكافي هذا-  و قال كان أبو جعفر فاضلا عالما-  و صنف سبعين كتابا في علم الكلام- .

و هو الذي نقض كتاب العثمانية-  على أبي عثمان الجاحظ في حياته-  و دخل الجاحظ الوراقين ببغداد فقال-  من هذا الغلام السوادي-  الذي بلغني أنه تعرض لنقض كتابي-  و أبو جعفر جالس فاختفى منه حتى لم يره- . و كان أبو جعفر يقول بالتفضيل-  على قاعدة معتزلة بغداد و يبالغ في ذلك-  و كان علوي الرأي محققا منصفا قليل العصبية ثم نعود إلى شرح ألفاظ الفصل و معانيه-  قوله ع لم أرد الناس-  أي لم أرد الولاية عليهم حتى أرادوا هم مني ذلك- .

قال و لم أبايعهم حتى بايعوني-  أي لم أمدد يدي إليهم مد الطلب و الحرص على الأمر-  و لم أمددها إلا بعد أن خاطبوني بالإمرة و الخلافة-  و قالوا بألسنتهم قد بايعناك-  فحينئذ مددت يدي إليهم- . قال و لم يبايعني العامة و المسلمون لسلطان-  غصبهم و قهرهم على ذلك-  و لا لحرص حاضر أي مال موجود فرقته عليهم- . ثم قسم عليهما الكلام فقال-  إن كنتما بايعتماني طوعا عن رضا-  فقد وجب عليكما الرجوع-  لأنه لا وجه لانتقاض تلك البيعة-  و إن كنتما بايعتماني مكرهين عليها-  فالإكراه‏ له صورة-  و هي أن يجرد السيف و يمد العنق-  و لم يكن قد وقع ذلك و لا يمكنكما أن تدعياه-  و إن كنتما بايعتماني لا عن رضا و لا مكرهين بل كارهين-  و بين المكره و الكاره فرق بين-  فالأمور الشرعية إنما تبني على الظاهر-  و قد جعلتما لي على أنفسكما السبيل بإظهاركما الطاعة-  و الدخول فيما دخل فيه الناس-  و لا اعتبار بما أسررتما من كراهية ذلك-  على أنه لو كان عندي ما يكرهه المسلمون-  لكان المهاجرون في كراهية ذلك سواء-  فما الذي جعلكما أحق المهاجرين كلهم-  بالكتمان و التقية- .

ثم قال و قد كان امتناعكما عن البيعة في مبدإ الأمر-  أجمل من دخولكما فيها ثم نكثها- . قال و قد زعمتما أن الشبهة-  التي دخلت عليكما في أمري أني قتلت عثمان-  و قد جعلت الحكم بيني و بينكما-  من تخلف عني و عنكما من أهل المدينة-  أي الجماعة التي لم تنصر عليا و لا طلحة-  كمحمد بن مسلمة و أسامة بن زيد-  و عبد الله بن عمر و غيرهم-  يعني أنهم غير متهمين عليه و لا على طلحة و الزبير-  فإذا حكموا لزم كل امرئ منا بقدر ما تقتضيه الشهادات-  و لا شبهة أنهم لو حكموا و شهدوا بصورة الحال-  لحكموا ببراءة علي ع من دم عثمان-  و بأن طلحة كان هو الجملة-  و التفصيل في أمره و حصره و قتله-  و كان الزبير مساعدا له على ذلك-  و إن لم يكن مكاشفا مكاشفة طلحة- . ثم نهاهما عن الإصرار على الخطيئة-  و قال لهما إنكما إنما تخافان العار-  في رجوعكما و انصرافكما عن الحرب-  فإن لم ترجعا اجتمع عليكما العار و النار-  أما العار فلأنكما تهزمان-  و تفران عند اللقاء فتعيران بذلك-  و أيضا سيكشف للناس أنكما كنتما على باطل-  فتعيران بذلك-  و أما النار فإليها مصير العصاة إذا ماتوا على غير توبة-  و احتمال العار وحده-  أهون من احتماله و احتمال النار معه

 شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 17

نامه 53 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)( كتبه للأشتر النخعي رحمه الله)

53 و من كتاب له ع كتبه للأشتر النخعي رحمه الله-  لما ولاه على مصر و أعمالها

حين اضطرب أمر أميرها محمد بن أبي بكر-  و هو أطول عهد كتبه و أجمعه للمحاسن- : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ-  هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ عَلِيٌّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ-  مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الْأَشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ-  حِينَ وَلَّاهُ مِصْرَ جِبَايَةَ خَرَاجِهَا وَ جِهَادَ عَدُوِّهَا-  وَ اسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا وَ عِمَارَةَ بِلَادِهَا-  أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ وَ إِيْثَارِ طَاعَتِهِ-  وَ اتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ وَ سُنَنِهِ-  الَّتِي لَا يَسْعَدُ أَحَدٌ إِلَّا بِاتِّبَاعِهَا-  وَ لَا يَشْقَى إِلَّا مَعَ جُحُودِهَا وَ إِضَاعَتِهَا-  وَ أَنْ يَنْصُرَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بِيَدِهِ وَ قَلْبِهِ وَ لِسَانِهِ-  فَإِنَّهُ جَلَّ اسْمُهُ قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ وَ إِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ-  وَ أَمَرَهُ أَنْ يَكْسِرَ مِنْ نَفْسِهِ عِنْدَ الشَّهَوَاتِ-  وَ يَنْزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ-  فَإِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ اللَّهُ-  ثُمَّ اعْلَمْ يَا مَالِكُ-  أَنِّي قَدْ وَجَّهْتُكَ إِلَى بِلَادٍ قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ-  مِنْ عَدْلٍ وَ جَوْرٍ-  وَ أَنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِكَ-  فِي مِثْلِ مَا كُنْتَ تَنْظُرُ فِيهِ مِنْ أُمُورِالْوُلَاةِ قَبْلَكَ-  وَ يَقُولُونَ فِيكَ مَا كُنْتَ تَقُولُهُ فِيهِمْ-  وَ إِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحِينَ-  بِمَا يُجْرِي اللَّهُ لَهُمْ عَلَى أَلْسُنِ عِبَادِهِ-  فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِيرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ-  فَامْلِكْ هَوَاكَ وَ شُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لَا يَحِلُّ لَكَ-  فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الْإِنْصَافُ مِنْهَا فِيمَا أَحَبَّتْ أَوْ كَرِهَتْ نصرة الله باليد الجهاد بالسيف و بالقلب الاعتقاد للحق-  و باللسان قول الحق و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر-  و قد تكفل الله بنصرة من نصره لأنه تعالى قال-  وَ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ- . و الجمحات منازعة النفس إلى شهواتها و مآربها-  و نزعها بكفها- .

ثم قال له قد كنت تسمع أخبار الولاة-  و تعيب قوما و تمدح قوما-  و سيقول الناس في إمارتك الآن-  نحو ما كنت تقول في الأمراء-  فاحذر أن تعاب و تذم كما كنت تعيب و تذم من يستحق الذم- . ثم قال إنما يستدل على الصالحين-  بما يكثر سماعه من ألسنة الناس بمدحهم و الثناء عليهم-  و كذلك يستدل على الفاسقين بمثل ذلك- . و كان يقال ألسنة الرعية أقلام الحق سبحانه إلى الملوك- . ثم أمره أن يشح بنفسه و فسر له الشح ما هو-  فقال إن تنتصف منها فيما أحبت‏و كرهت-  أي لا تمكنها من الاسترسال في الشهوات-  و كن أميرا عليها-  و مسيطرا و قامعا لها من التهور-  و الانهماك- . فإن قلت هذا معنى قوله فيما أحبت-  فما معنى قوله و كرهت-  قلت لأنها تكره الصلاة و الصوم و غيرهما-  من العبادات الشرعية و من الواجبات العقلية-  و كما يجب أن يكون الإنسان مهيمنا عليها في طرف الفعل-  يجب أن يكون مهيمنا عليها في طرف الترك:

وَ أَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ-  وَ الْمَحَبَّةَ لَهُمْ وَ اللُّطْفَ بِهِمْ-  وَ لَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ-  فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ-  وَ إِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ-  يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ وَ تَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ-  وَ يُؤْتَى عَلَى أَيْدِيهِمْ فِي الْعَمْدِ وَ الْخَطَإِ-  فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وَ صَفْحِكَ-  مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وَ تَرْضَى أَنْ يُعْطِيَكَ اللَّهُ مِنْ عَفْوِهِ وَ صَفْحِهِ-  فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ وَ وَالِي الْأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ-  وَ اللَّهُ فَوْقَ مَنْ وَلَّاكَ-  وَ قَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ وَ ابْتَلَاكَ بِهِمْ-  وَ لَا تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ اللَّهِ-  فَإِنَّهُ لَا يَدَيْ لَكَ بِنِقْمَتِهِ-  وَ لَا غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَ رَحْمَتِهِ-  وَ لَا تَنْدَمَنَّ عَلَى عَفْوٍ وَ لَا تَبْجَحَنَّ بِعُقُوبَةٍ-  وَ لَا تُسْرِعَنَّ إِلَى بَادِرَةٍ وَجَدْتَ عَنْهَا مَنْدُوحَةً-  وَ لَا تَقُولَنَّ إِنِّي مُؤَمَّرٌ آمُرُ فَأُطَاعُ-  فَإِنَّ ذَلِكَ إِدْغَالٌ فِي الْقَلْبِ-  وَ مَنْهَكَةٌ لِلدِّينِ وَ تَقَرُّبٌ مِنَ الْغِيَرِ-وَ إِذَا أَحْدَثَ لَكَ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ سُلْطَانِكَ أُبَّهَةً أَوْ مَخِيلَةً-  فَانْظُرْ إِلَى عِظَمِ مُلْكِ اللَّهِ فَوْقَكَ-  وَ قُدْرَتِهِ مِنْكَ عَلَى مَا لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِكَ-  فَإِنَّ ذَلِكَ يُطَامِنُ إِلَيْكَ مِنْ طِمَاحِكَ-  وَ يَكُفُّ عَنْكَ مِنْ غَرْبِكَ-  وَ يَفِي‏ءُ إِلَيْكَ بِمَا عَزَبَ عَنْكَ مِنْ عَقْلِكَ-  إِيَّاكَ وَ مُسَامَاةَ اللَّهِ فِي عَظَمَتِهِ وَ التَّشَبُّهَ بِهِ فِي جَبَرُوتِهِ-  فَإِنَّ اللَّهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّارٍ وَ يُهِينُ كُلَّ مُخْتَالٍ أشعر قلبك الرحمة أي اجعلها كالشعار له-  و هو الثوب الملاصق للجسد-  قال لأن الرعية إما أخوك في الدين-  أو إنسان مثلك تقتضي رقة الجنسية-  و طبع البشرية الرحمة له- .

قوله و يؤتى على أيديهم-  مثل قولك و يؤخذ على أيديهم-  أي يهذبون و يثقفون يقال خذ على يد هذا السفيه-  و قد حجر الحاكم على فلان و أخذ على يده- . ثم قال فنسبتهم إليك كنسبتك إلى الله تعالى-  و كما تحب أن يصفح الله عنك ينبغي أن تصفح أنت عنهم- . قوله لا تنصبن نفسك لحرب الله-  أي لا تبارزه بالمعاصي-  فإنه لا يدي لك بنقمته-  اللام مقحمة و المراد الإضافة-  و نحوه قولهم لا أبا لك- . قوله و لا تقولن إني مؤمر-  أي لا تقل إني أمير و وال آمر بالشي‏ء فأطاع- .

 و الإدغال الإفساد و منهكة للدين ضعف و سقم- . ثم أمره عند حدوث الأبهة و العظمة عنده-  لأجل الرئاسة و الإمرة أن يذكر عظمة الله تعالى-  و قدرته على إعدامه و إيجاده و إماتته و إحيائه-  فإن تذكر ذلك يطامن من غلوائه-  أي يغض من تعظمه و تكبره و يطأطئ منه- . و الغرب حد السيف و يستعار للسطوة-  و السرعة في البطش و الفتك- . قوله و يفي‏ء-  أي يرجع إليك بما بعد عنك من عقلك-  و حرف المضارعة مضموم لأنه من أفاء- . و مساماة الله تعالى مباراته في السمو و هو العلو: أَنْصِفِ اللَّهَ وَ أَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ-  وَ مِنْ خَاصَّةً أَهْلِكَ-  وَ مَنْ لَكَ هَوًى فِيهِ مِنْ رَعِيَّتِكَ-  فَإِنَّكَ إِلَّا تَفْعَلْ تَظْلِمْ-  وَ مَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللَّهِ كَانَ اللَّهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ-  وَ مَنْ خَاصَمَهُ اللَّهُ أَدْحَضَ حُجَّتَهُ-  وَ كَانَ لِلَّهِ حَرْباً حَتَّى يَنْزِعَ أَوْ يَتُوبَ-  وَ لَيْسَ شَيْ‏ءٌ أَدْعَى إِلَى تَغْيِيرِ نِعْمَةِ اللَّهِ وَ تَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ-  مِنْ إِقَامَةٍ عَلَى ظُلْمٍ-  فَإِنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ دَعْوَةَ الْمُضْطَهَدِينَ-  وَ هُوَ لِلظَّالِمِينَ بِالْمِرْصَادِ-  وَ لْيَكُنْ أَحَبَّ الْأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ-  وَ أَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ وَ أَجْمَعُهَا لِرِضَا الرَّعِيَّةِ-  فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَا الْخَاصَّةِ-  وَ إِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَا الْعَامَّةِ-وَ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَئُونَةً فِي الرَّخَاءِ-  وَ أَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلَاءِ-  وَ أَكْرَهَ لِلْإِنْصَافِ وَ أَسْأَلَ بِالْإِلْحَافِ-  وَ أَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الْإِعْطَاءِ وَ أَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ-  وَ أَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ-  مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ-  وَ إِنَّمَا عَمُودُ الدِّينِ وَ جِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ-  وَ الْعُدَّةُ لِلْأَعْدَاءِ الْعَامَّةُ مِنَ الْأُمَّةِ-  فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ لَهُمْ وَ مَيْلُكَ مَعَهُمْ قال له أنصف الله أي قم له بما فرض عليك-  من العبادة و الواجبات العقلية و السمعية- .

ثم قال و أنصف الناس من نفسك و من ولدك و خاصة أهلك-  و من تحبه و تميل إليه من رعيتك-  فمتى لم تفعل ذلك كنت ظالما- . ثم نهاه عن الظلم و أكد الوصاية عليه في ذلك- . ثم عرفه أن قانون الإمارة الاجتهاد في رضا العامة-  فإنه لا مبالاة بسخط خاصة الأمير مع رضا العامة-  فأما إذا سخطت العامة لم ينفعه رضا الخاصة-  و ذلك مثل أن يكون في البلد عشرة أو عشرون من أغنيائه-  و ذوي الثروة من أهله-  يلازمون الوالي و يخدمونه و يسامرونه-  و قد صار كالصديق لهم-  فإن هؤلاء و من ضارعهم من حواشي الوالي-  و أرباب الشفاعات و القربات عنده لا يغنون عنه شيئا-  عند تنكر العامة له-  و كذاك لا يضر سخط هؤلاء إذا رضيت العامة-  و ذلك لأن هؤلاء عنهم غنى و لهم بدل-  و العامة لا غنى عنهم و لا بدل منهم-  و لأنهم إذا شغبوا عليه كانوا كالبحر إذا هاج و اضطرب-  فلا يقاومه أحد و ليس الخاصة كذلك- .

ثم قال ع و نعم ما قال-  ليس شي‏ء أقل نفعا-  و لا أكثر ضررا على الوالي من خواصه أيام الولاية-  لأنهم يثقلون عليه بالحاجات و المسائل و الشفاعات-  فإذا عزل هجروه و رفضوه-  حتى لو لقوه في الطريق لم يسلموا عليه- . و الصغو بالكسر و الفتح و الصغا مقصور الميل: وَ لْيَكُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ وَ أَشْنَأَهُمْ عِنْدَكَ-  أَطْلَبُهُمْ لِمَعَايِبِ النَّاسِ-  فَإِنَّ فِي النَّاسِ عُيُوباً الْوَالِي أَحَقُّ مَنْ سَتَرَهَا-  فَلَا تَكْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْكَ مِنْهَا-  فَإِنَّمَا عَلَيْكَ تَطْهِيرُ مَا ظَهَرَ لَكَ-  وَ اللَّهُ يَحْكُمُ عَلَى مَا غَابَ عَنْكَ-  فَاسْتُرِ الْعَوْرَةَ مَا اسْتَطَعْتَ-  يَسْتُرِ اللَّهُ مِنْكَ مَا تُحِبُّ سَتْرَهُ مِنْ رَعِيَّتِكَ-  أَطْلِقْ عَنِ النَّاسِ عُقْدَةَ كُلِّ حِقْدٍ-  وَ اقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ كُلِّ وِتْرٍ-  وَ تَغَابَ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَضِحُ لَكَ-  وَ لَا تَعْجَلَنَّ إِلَى تَصْدِيقِ سَاعٍ-  فَإِنَّ السَّاعِيَ غَاشٌّ وَ إِنْ تَشَبَّهَ بِالنَّاصِحِينَ-  وَ لَا تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلًا يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ-  وَ يَعِدُكَ الْفَقْرَ-  وَ لَا جَبَاناً يُضْعِفُكَ عَنِ الْأُمُورِ-  وَ لَا حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ-  فَإِنَّ الْبُخْلَ وَ الْجُبْنَ وَ الْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى-  يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ أشناهم عندك أبغضهم إليك- . و تغاب تغافل يقال تغابى فلان عن كذا- . و يضح يظهر و الماضي وضح

فصل في النهي عن ذكر عيوب الناس و ما ورد في ذلك من الآثار

عاب رجل رجلا عند بعض الأشراف فقال له-  لقد استدللت على كثرة عيوبك-  بما تكثر فيه من عيوب الناس-  لأن طالب العيوب إنما يطلبها بقدر ما فيه منها- . و قال الشاعر- 

   و أجرأ من رأيت بظهر غيب
على عيب الرجال أولو العيوب‏

 و قال آخر-

يا من يعيب و عيبه متشعب
كم فيك من عيب و أنت تعيب‏

 و في الخبر المرفوع دعوا الناس بغفلاتهم يعيش بعضهم مع بعض – . و قال الوليد بن عتبة بن أبي سفيان-  كنت أساير أبي و رجل معنا يقع في رجل-  فالتفت أبي إلي فقال يا بني-  نزه سمعك عن استماع الخنى-  كما تنزه لسانك عن الكلام به-  فإن المستمع شريك القائل-  إنما نظر إلى أخبث ما في وعائه فأفرغه في وعائك-  و لو ردت كلمة جاهل في فيه لسعد رادها كما شقي قائلها- . و قال ابن عباس الحدث حدثان-  حدث من فيك و حدث من فرجك- .

و عاب رجل رجلا عند قتيبة بن مسلم-  فقال له قتيبة أمسك ويحك-  فقد تلمظت بمضغه طالما لفظها الكرام- . و مر رجل بجارين له و معه ريبة-  فقال أحدهما لصاحبه أ فهمت ما معه من الريبة-  قال و ما معه قال كذا قال-  عبدي حر لوجه الله شكرا له تعالى-  إذ لم يعرفني من الشر ما عرفك- . و قال الفضيل بن عياض-  إن الفاحشة لتشيع في كثير من المسلمين-  حتى إذا صارت إلى الصالحين كانوا لها خزانا- . و قيل لبزرجمهر هل من أحد لا عيب فيه-  فقال الذي لا عيب فيه لا يموت- . و قال الشاعر- 

و لست بذي نيرب في الرجا
ل مناع خير و سبابها

و لا من إذا كان في جانب‏
أضاع العشيرة و اغتابها

و لكن أطاوع ساداتها
و لا أتعلم ألقابها

و قال آخر-

لا تلتمس من مساوي الناس ما ستروا
فيكشف الله سترا من مساويكا

و اذكر محاسن ما فيهم إذا ذكروا
و لا تعب أحدا منهم بما فيكا

و قال آخر-

ابدأ بنفسك فإنهما عن عيبها
فإذا انتهت عنه فأنت حكيم‏

فهناك تعذر إن وعظت و يقتدى‏
بالقول منك و يقبل التعليم‏

فأما قوله ع أطلق عن الناس عقدة كل حقد-  فقد استوفى هذا المعنى زياد في خطبته البتراء-  فقال و قد كانت بيني و بين أقوام إحن-  و قد جعلت ذلك دبر أذني و تحت قدمي-  فمن كان منكم محسنا فليزدد إحسانا-  و من كان منكم مسيئا فلينزع عن إساءته-  إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السلال-  من بغضي لم أكشف عنه قناعا-  و لم أهتك له سترا حتى يبدي لي صفحته-  فإذا فعل لم أناظره-  ألا فليشمل كل امرئ منكم على ما في صدره-  و لا يكونن لسانه شفرة تجري على ودجه

فصل في النهي عن سماع السعاية و ما ورد ذلك من الآثار

فأما قوله ع و لا تعجلن إلى تصديق ساع-  فقد ورد في هذا المعنى كلام حسن-  قال ذو الرئاستين قبول السعاية شر من السعاية-  لأن السعاية دلالة و القبول إجازة-  و ليس من دل على شي‏ء كمن قبله و أجازه-  فامقت الساعي على سعايته-  فإنه لو كان صادقا كان لئيما-  إذ هتك العورة و أضاع الحرمة- . و عاتب مصعب بن الزبير الأحنف على أمر بلغه عنه فأنكره-  فقال مصعب أخبرني به الثقة-  قال كلا أيها الأمير إن الثقة لا يبلغ- . و كان يقال لو لم يكن من عيب الساعي-  إلا أنه أصدق ما يكون أضر ما يكون على الناس لكان كافيا- . كانت الأكاسرة لا تأذن لأحد أن يطبخ السكباج-  و كان ذلك مما يختص به الملك-  فرفع ساع إلى أنوشروان-  إن فلانا دعانا و نحن جماعة-  إلى طعام له و فيه‏ سكباج-  فوقع أنوشروان على رقعته قد حمدنا نصيحتك-  و ذممنا صديقك على سوء اختياره للإخوان- . جاء رجل إلى الوليد بن عبد الملك-  و هو خليفة عبد الملك على دمشق-  فقال أيها الأمير إن عندي نصيحة قال اذكرها-  قال جار لي رجع من بعثه سرا-  فقال أما أنت فقد أخبرتنا أنك جار سوء-  فإن شئت أرسلنا معك فإن كنت كاذبا عاقبناك-  و إن كنت صادقا مقتناك و إن تركتنا تركناك-  قال بل أتركك أيها الأمير قال فانصرف- . و مثل هذا يحكى عن عبد الملك أن إنسانا سأله الخلوة-  فقال لجلسائه إذا شئتم فانصرفوا-  فلما تهيأ الرجل للكلام قال له اسمع ما أقول-  إياك أن تمدحني فأنا أعرف بنفسي منك-  أو تكذبني فإنه لا رأي لمكذوب-  أو تسعى بأحد إلي فإني لا أحب السعاية-  قال أ فيأذن أمير المؤمنين بالانصراف قال إذا شئت- . و قال بعض الشعراء- 

لعمرك ما سب الأمير عدوه
و لكنما سب الأمير المبلغ‏

و قال آخر-

حرمت منائي منك إن كان ذا الذي
أتاك به الواشون عني كما قالوا

و لكنهم لما رأوك شريعة
إلي تواصوا بالنميمة و احتالوا

فقد صرت أذنا للوشاة سميعة
ينالون من عرضي و لو شئت ما نالوا

و قال عبد الملك بن صالح لجعفر بن يحيى-  و قد خرج يودعه لما شخص إلى خراسان-  أيها الأمير أحب أن تكون لي كما قال الشاعر-

 فكوني على الواشين لداء شغبة
كما أنا للواشي ألد شغوب‏

قال بل أكون كما قال القائل-

و إذا الواشي وشى يوما بها
نفع الواشي بما جاء يضر

 و قال العباس بن الأحنف-

ما حطك الواشون من رتبة
عندي و لا ضرك مغتاب‏

كأنهم أثنوا و لم يعلموا
عليك عندي بالذي عابوا

 قوله ع-  و لا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل-  و يعدك الفقر-  مأخوذ من قول الله تعالى-  الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ-  وَ اللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلًا-  قال المفسرون الفحشاء هاهنا البخل-  و معنى يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ-  يخيل إليكم أنكم إن سمحتم بأموالكم افتقرتم-  فيخوفكم فتخافون فتبخلون- . قوله ع-  فإن البخل و الجبن و الحرص غرائز شتى-  يجمعها سوء الظن بالله-  كلام شريف عال على كلام الحكماء-  يقول إن بينها قدرا مشتركا-  و إن كانت غرائز و طبائع مختلفة-  و ذلك القدر المشترك هو سوء الظن بالله-  لأن الجبان يقول في نفسه إن أقدمت قتلت-  و البخيل يقول إن سمحت و أنفقت افتقرت-  و الحريص يقول إن لم أجد و أجتهد و أدأب فاتني ما أروم-  و كل هذه الأمور ترجع إلى سوء الظن بالله-  و لو أحسن الظن الإنسان بالله و كان يقينه صادقا-  لعلم أن الأجل مقدر و أن الرزق مقدر-  و أن الغنى و الفقر مقدران-  و أنه لا يكون من ذلك إلا ما قضى الله تعالى كونه‏

شَرُّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ لِلْأَشْرَارِ وَزِيراً-  وَ مَنْ شَرِكَهُمْ فِي الآْثَامِ فَلَا يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً-  فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الْأَثَمَةِ وَ إِخْوَانُ الظَّلَمَةِ-  وَ أَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَيْرَ الْخَلَفِ-  مِمَّنْ لَهُ مِثْلُ آرَائِهِمْ وَ نَفَاذِهِمْ-  وَ لَيْسَ عَلَيْهِ مِثْلُ آصَارِهِمْ وَ أَوْزَارِهِمْ وَ آثَامِهِمْ-  مِمَّنْ لَمْ يُعَاوِنْ ظَالِماً عَلَى ظُلْمِهِ وَ لَا آثِماً عَلَى إِثْمِهِ-  أُولَئِكَ أَخَفُّ عَلَيْكَ مَئُونَةً وَ أَحْسَنُ لَكَ مَعُونَةً-  وَ أَحْنَى عَلَيْكَ عَطْفاً وَ أَقَلُّ لِغَيْرِكَ إِلْفاً-  فَاتَّخِذْ أُولَئِكَ خَاصَّةً لِخَلَوَاتِكَ وَ حَفَلَاتِكَ-  ثُمَّ لْيَكُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَكَ أَقْوَلَهُمْ بِمُرِّ الْحَقِّ لَكَ-  وَ أَقَلَّهُمْ مُسَاعَدَةً فِيمَا يَكُونُ مِنْكَ مِمَّا كَرِهَ اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ-  وَاقِعاً ذَلِكَ مِنْ هَوَاكَ حَيْثُ وَقَعَ نهاه ع ألا يتخذ بطانة-  قد كانوا من قبل بطانة للظلمة-  و ذلك لأن الظلم و تحسينه قد صار ملكة ثابتة في أنفسهم-  فبعيد أن يمكنهم الخلو منها-  إذ قد صارت كالخلق الغريزي اللازم-  لتكرارها و صيرورتها عادة-  فقد جاءت النصوص في الكتاب و السنة-  بتحريم معاونة الظلمة و مساعدتهم-  و تحريم الاستعانة بهم-  فإن من استعان بهم كان معينا لهم-  قال تعالى وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً-  و قال لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ-  يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ و جاء في الخبر المرفوع ينادى يوم القيامة-  أين من بري لهم أي الظالمين قلما- .

أتي الوليد بن عبد الملك برجل من الخوارج-  فقال له ما تقول في الحجاج-  قال و ما عسيت أن أقول فيه-  هل هو إلا خطيئة من خطاياك و شرر من نارك-  فلعنك الله و لعن الحجاج معك و أقبل يشتمهما-  فالتفت الوليد إلى عمر بن عبد العزيز فقال-  ما تقول في هذا قال ما أقول فيه-  هذا رجل يشتمكم-  فإما أن تشتموه كما شتمكم و إما أن تعفوا عنه-  فغضب الوليد و قال لعمر-  ما أظنك إلا خارجيا-  فقال عمر و ما أظنك إلا مجنونا و قام فخرج مغضبا-  و لحقه خالد بن الريان صاحب شرطة الوليد-  فقال له ما دعاك إلى ما كلمت به أمير المؤمنين-  لقد ضربت بيدي إلى قائم سيفي-  أنتظر متى يأمرني بضرب عنقك-  قال أ و كنت فاعلا لو أمرك قال نعم-  فلما استخلف عمر جاء خالد بن الريان-  فوقف على رأسه متقلدا سيفه فنظر إليه و قال يا خالد-  ضع سيفك فإنك مطيعنا في كل أمر نأمرك به-  و كان بين يديه كاتب للوليد-  فقال له ضع أنت قلمك فإنك كنت تضر به و تنفع-  اللهم إني قد وضعتهما فلا ترفعهما-  قال فو الله ما زالا وضيعين مهينين حتى ماتا- .

و روى الغزالي في كتاب إحياء علوم الدين-  قال لما خالط الزهري السلطان كتب أخ له في الدين إليه-  عافانا الله و إياك أبا بكر من الفتن-  فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك أن يدعو الله لك و يرحمك-  فقد أصبحت شيخا كبيرا-  و قد أثقلتك نعم الله عليك بما فهمك من كتابه-  و علمك من سنة نبيه-  و ليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء-  فإنه تعالى قال-  لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ-  و اعلم أن أيسر ما ارتكبت و أخف ما احتملت-  أنك آنست وحشة الظالم-  و سهلت سبيل الغي بدنوك إلى من لم يؤد حقا-  و لم يترك باطلا حين أدناك-  اتخذوك أبا بكر قطبا تدورعليه رحى ظلمهم-  و جسرا يعبرون عليه إلى بلائهم و معاصيهم-  و سلما يصعدون فيه إلى ضلالتهم-  يدخلون بك الشك على العلماء-  و يقتادون بك قلوب الجهلاء-  فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خربوا عليك-  و ما أكثر ما أخذوا منك-  في جنب ما أفسدوا من حالك و دينك-  و ما يؤمنك أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم-  فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ-  وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا-  يا أبا بكر إنك تعامل من لا يجهل-  و يحفظ عليك من لا يغفل-  فداو دينك فقد دخله سقم-  و هيئ زادك فقد حضر سفر بعيد-  و ما يخفى على الله من شي‏ء في الأرض و لا في السماء-  و السلام: وَ الْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ وَ الصِّدْقِ-  ثُمَّ رُضْهُمْ عَلَى أَلَّا يُطْرُوكَ-  وَ لَا يَبْجَحُوكَ بِبَاطِلٍ لَمْ تَفْعَلْهُ-  فَإِنَّ كَثْرَةَ الْإِطْرَاءِ تُحْدِثُ الزَّهْوَ وَ تُدْنِي مِنَ الْعِزَّةِ-  وَ لَا يَكُونَنَّ الْمُحْسِنُ وَ الْمُسِي‏ءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ-  فَإِنَّ فِي ذَلِكَ تَزْهِيداً لِأَهْلِ الْإِحْسَانِ فِي الْإِحْسَانِ-  وَ تَدْرِيباً لِأَهْلِ الْإِسَاءَةِ-  وَ أَلْزِمْ كُلًّا مِنْهُمْ مَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ‏

قوله و الصق بأهل الورع كلمة فصيحة-  يقول اجعلهم خاصتك و خلصاءك- . قال ثم رضهم على ألا يطروك-  أي عودهم ألا يمدحوك في وجهك-  و لا يبجحوك بباطل-  لا يجعلوك ممن يبجح أي يفخر بباطل لم يفعله-  كما يبجح أصحاب الأمراء الأمراء بأن يقولوا لهم-  ما رأينا أعدل منكم و لا أسمح-  و لا حمى هذا الثغر أمير أشد بأسا منكم-  و نحو ذلك و قد جاء في الخبر احثوا في وجوه المداحين التراب- . و قال عبد الملك لمن قام يساره ما تريد-  أ تريد أن تمدحني و تصفني أنا أعلم بنفسي منك- . و قام خالد بن عبد الله القسري-  إلى عمر بن عبد العزيز يوم بيعته-  فقال يا أمير المؤمنين-  من كانت الخلافة زائنته فقد زينتها-  و من كانت شرفته فقد شرفتها-  فإنك لكما قال القائل- 

و إذا الدر زان حسن وجوه
كان للدر حسن وجهك زينا

 فقال عمر بن عبد العزيز-  لقد أعطي صاحبكم هذا مقولا و حرم معقولا-  و أمره أن يجلس- . و لما عقد معاوية البيعة لابنه يزيد قام الناس يخطبون-  فقال معاوية لعمرو بن سعيد الأشدق-  قم فاخطب يا أبا أمية فقام فقال-  أما بعد فإن يزيد ابن أمير المؤمنين-  أمل تأملونه-  و أجل تأمنونه-  إن افتقرتم إلى حلمه وسعكم-  و إن احتجتم إلى رأيه أرشدكم-  و إن اجتديتم ذات يده أغناكم و شملكم-  جذع قارح سوبق فسبق و موجد فمجد-و قورع فقرع-  و هو خلف أمير المؤمنين و لا خلف منه-  فقال معاوية أوسعت يا أبا أمية فاجلس-  فإنما أردنا بعض هذا- .

و أثنى رجل على علي ع في وجهه ثناء أوسع فيه-  و كان عنده متهما-  فقال له أنا دون ما تقول و فوق ما في نفسك و قال ابن عباس لعتبة بن أبي سفيان-  و قد أثنى عليه فأكثر-  رويدا فقد أمهيت يا أبا الوليد-  يعني بالغت يقال أمهى حافر البئر إذا استقصى حفرها- . فأما قوله ع-  و لا يكونن المحسن و المسي‏ء عندك بمنزلة سواء-  فقد أخذه الصابي فقال-  و إذا لم يكن للمحسن ما يرفعه و للمسي‏ء ما يضعه-  زهد المحسن في الإحسان و استمر المسي‏ء على الطغيان-  و قال أبو الطيب- 

 شر البلاد بلاد لا صديق بها
و شر ما يكسب الإنسان ما يصم‏

و شر ما قبضته راحتي قنص‏
شهب البزاة سواء فيه و الرخم‏

و كان يقال قضاء حق المحسن أدب للمسي‏ء-  و عقوبة المسي‏ء جزاء للمحسن: وَ اعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْ‏ءٌ بِأَدْعَى-  إِلَى حُسْنِ ظَنِّ وَالٍ بِرَعِيَّتِهِ-  مِنْ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ وَ تَخْفِيفِهِ الْمَئُونَاتِ عَلَيْهِمْ-  وَ تَرْكِ اسْتِكْرَاهِهِ إِيَّاهُمْ عَلَى مَا لَيْسَ لَهُ قِبَلَهُمْ-  فَلْيَكُنْ مِنْكَ فِي ذَلِكَ أَمْرٌ-  يَجْتَمِعُ لَكَ بِهِ حُسْنُ الظَّنِّ بِرَعِيَّتِكَ-  فَإِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ يَقْطَعُ عَنْكَ نَصَباً طَوِيلًا-  وَ إِنَّ أَحَقَّ مَنْ حَسُنَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ حَسُنَ بَلَاؤُكَ عِنْدَهُ-  وَ إِنَّ أَحَقَّ مَنْ سَاءَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ سَاءَ بَلَاؤُكَ عِنْدَهُ-وَ لَا تَنْقُضْ سُنَّةً صَالِحَةً عَمِلَ بِهَا صُدُورُ هَذِهِ الْأُمَّةِ-  وَ اجْتَمَعَتْ بِهَا الْأُلْفَةُ وَ صَلَحَتْ عَلَيْهَا الرَّعِيَّةُ-  وَ لَا تُحْدِثَنَّ سُنَّةً تَضُرُّ بِشَيْ‏ءٍ مِنْ مَاضِي تِلْكَ السُّنَنِ-  فَيَكُونَ الْأَجْرُ لِمَنْ سَنَّهَا-  وَ الْوِزْرُ عَلَيْكَ بِمَا نَقَضْتَ مِنْهَا-  وَ أَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الْعُلَمَاءِ وَ مُنَاقَشَةَ الْحُكَمَاءِ-  فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلَادِكَ-  وَ إِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ قَبْلَكَ خلاصة صدر هذا الفصل-  أن من أحسن إليك حسن ظنه فيك-  و من أساء إليك استوحش منك-  و ذلك لأنك إذا أحسنت إلى إنسان-  و تكرر منك ذلك الإحسان-  تبع ذلك اعتقادك أنه قد أحبك-  ثم يتبع ذلك الاعتقاد أمر آخر و هو أنك تحبه-  لأن الإنسان مجبول على أن يحب من يحبه-  و إذا أحببته سكنت إليه و حسن ظنك فيه-  و بالعكس من ذلك إذا أسأت إلى زيد-  لأنك إذا أسأت إليه و تكررت الإساءة-  تبع ذلك اعتقادك أنه قد أبغضك-  ثم يتبع ذلك الاعتقاد أمر آخر و هو أن تبغضه أنت-  و إذا أبغضته انقبضت منه و استوحشت و ساء ظنك به- .

قال المنصور للربيع-  سلني لنفسك قال يا أمير المؤمنين-  ملأت يدي فلم يبق عندي موضع للمسألة-  قال فسلني لولدك قال أسألك أن تحبه-  فقال المنصور يا ربيع إن الحب لا يسأل-  و إنما هو أمر تقتضيه الأسباب-  قال يا أمير المؤمنين و إنما أسألك أن تزيد من إحسانك-  فإذا تكرر أحبك و إذا أحبك أحببته-  فاستحسن‏المنصور ذلك-  ثم نهاه عن نقض السنن الصالحة-  التي قد عمل بها من قبله من صالحي الأمة-  فيكون الوزر عليه بما نقض و الأجر لأولئك بما أسسوا-  ثم أمره بمطارحة العلماء و الحكماء في مصالح عمله-  فإن المشورة بركة و من استشار فقد أضاف عقلا إلى عقله- . و مما جاء في معنى الأول-  قال رجل لإياس بن معاوية من أحب الناس إليك-  قال الذين يعطوني قال ثم من قال الذين أعطيهم- .

و قال رجل لهشام بن عبد الملك-  إن الله جعل العطاء محبة و المنع مبغضة-  فأعني على حبك و لا تعني في بغضك: وَ اعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ-  لَا يَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ-  وَ لَا غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ-  فَمِنْهَا جُنُودُ اللَّهِ وَ مِنْهَا كُتَّابُ الْعَامَّةِ وَ الْخَاصَّةِ-  وَ مِنْهَا قُضَاةُ الْعَدْلِ وَ مِنْهَا عُمَّالُ الْإِنْصَافِ وَ الرِّفْقِ-  وَ مِنْهَا أَهْلُ الْجِزْيَةِ وَ الْخَرَاجِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَ مُسْلِمَةِ النَّاسِ-  وَ مِنْهَا التُّجَّارُ وَ أَهْلُ الصِّنَاعَاتِ-  وَ مِنْهَا الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ وَ الْمَسْكَنَةِ-  وَ كُلٌّ قَدْ سَمَّى اللَّهُ لَهُ سَهْمَهُ-  وَ وَضَعَ عَلَى حَدِّهِ وَ فَرِيضَتِهِ فِي كِتَابِهِ أَوْ سُنَّةِ نَبِيِّهِ ص عَهْداً-  مِنْهُ عِنْدَنَا مَحْفُوظاً-  فَالْجُنُودُ بِإِذْنِ اللَّهِ حُصُونُ الرَّعِيَّةِ وَ زَيْنُ الْوُلَاةِ-  وَ عِزُّ الدِّينِ وَ سُبُلُ الْأَمْنِ-  وَ لَيْسَ تَقُومُ الرَّعِيَّةُ إِلَّا بِهِمْ-  ثُمَّ لَا قِوَامَ لِلْجُنُودِ-  إِلَّا بِمَا يُخْرِجُ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ-  الَّذِي يَقْوَوْنَ بِهِ عَلَى جِهَادِ عَدُوِّهِمْ-  وَ يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ فِيمَا يُصْلِحُهُمْ-  وَ يَكُونُ مِنْ وَرَاءِ حَاجَتِهِمْ-  ثُمَّ لَا قِوَامَ لِهَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ إِلَّا بِالصِّنْفِ الثَّالِثِ-  مِنَ الْقُضَاةِ وَ الْعُمَّالِ‏ وَ الْكُتَّابِ-  لِمَا يُحْكِمُونَ مِنَ الْمَعَاقِدِ وَ يَجْمَعُونَ مِنَ الْمَنَافِعِ-  وَ يُؤْتَمَنُونَ عَلَيْهِ مِنْ خَوَاصِّ الْأُمُورِ وَ عَوَامِّهَا-  وَ لَا قِوَامَ لَهُمْ جَمِيعاً إِلَّا بِالتُّجَّارِ وَ ذَوِي الصِّنَاعَاتِ-  فِيمَا يَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ مِنْ مَرَافِقِهِمْ-  وَ يُقِيمُونَهُ مِنْ أَسْوَاقِهِمْ-  وَ يَكْفُونَهُمْ مِنَ التَّرَفُّقِ بِأَيْدِيهِمْ-  مِمَّا لَا يَبْلُغُهُ رِفْقُ غَيْرِهِمْ-  ثُمَّ الطَّبَقَةُ السُّفْلَى مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ وَ الْمَسْكَنَةِ-  الَّذِينَ يَحِقُّ رِفْدُهُمْ وَ مَعُونَتُهُمْ-  وَ فِي اللَّهِ لِكُلٍّ سَعَةٌ-  وَ لِكُلٍّ عَلَى الْوَالِي حَقٌّ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهُ-  وَ لَيْسَ يَخْرُجُ الْوَالِي-  مِنْ حَقِيقَةِ مَا أَلْزَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ-  إِلَّا بِالِاهْتِمَامِ وَ الِاسْتِعَانَةِ بِاللَّهِ-  وَ تَوْطِينِ نَفْسِهِ عَلَى لُزُومِ الْحَقِّ-  وَ الصَّبْرِ عَلَيْهِ فِيمَا خَفَّ عَلَيْهِ أَوْ ثَقُلَ قالت الحكماء الإنسان مدني بالطبع-  و معناه أنه خلق خلقة-  لا بد معها من أن يكون منضما إلى أشخاص من بني جنسه-  و متمدنا في مكان بعينه-  و ليس المراد بالمتمدن ساكن المدينة ذات السور و السوق-  بل لا بد أن يقيم في موضع ما مع قوم من البشر-  و ذلك لأن الإنسان مضطر-  إلى ما يأكله و يشربه ليقيم صورته-  و مضطر إلى ما يلبسه ليدفع عنه أذى الحر و البرد-  و إلى مسكن يسكنه ليرد عنه عادية غيره من الحيوانات-  و ليكون منزلا له ليتمكن من التصرف و الحركة عليه-  و معلوم أن الإنسان وحده-  لا يستقل بالأمور التي عددناها-  بل لا بد من جماعة يحرث بعضهم لغيره الحرث-  و ذلك الغير يحوك للحراث الثوب-  و ذلك الحائك يبني له غيره المسكن-  و ذلك البناء يحمل له‏ غيره الماء-  و ذلك السقاء يكفيه غيره أمر تحصيل الآلة-  التي يطحن بها الحب و يعجن بها الدقيق-  و يخبز بها العجين-  و ذلك المحصل لهذه الأشياء يكفيه غيره-  الاهتمام بتحصيل الزوجة-  التي تدعو إليها داعية الشبق-  فيحصل مساعدة بعض الناس لبعض-  لو لا ذلك لما قامت الدنيا-  فلهذا معنى قوله ع-  إنهم طبقات لا يصلح بعضها إلا ببعض-  و لا غناء ببعضها عن بعض- .

ثم فصلهم و قسمهم فقال-  منهم الجند و منهم الكتاب-  و منهم القضاة و منهم العمال-  و منهم أرباب الجزية من أهل الذمة-  و منهم أرباب الخراج من المسلمين-  و منهم التجار و منهم أرباب الصناعات-  و منهم ذوو الحاجات و المسكنة و هم أدون الطبقات- . ثم ذكر أعمال هذه الطبقات فقال الجند للحماية-  و الخراج يصرف إلى الجند و القضاة و العمال و الكتاب-  لما يحكمونه من المعاقد و يجمعونه من المنافع-  و لا بد لهؤلاء جميعا من التجار-  لأجل البيع و الشراء الذي لا غناء عنه-  و لا بد لكل من أرباب الصناعات-  كالحداد و النجار و البناء و أمثالهم-  ثم تلي هؤلاء الطبقة السفلى و هم أهل الفقر و الحاجة-  الذين تجب معونتهم و الإحسان إليهم- . و إنما قسمهم في هذا الفصل هذا التقسيم-  تمهيدا لما يذكره فيما بعد فإنه قد شرع بعد هذا الفصل-  فذكر طبقة طبقة و صنفا صنفا-  و أوصاه في كل طبقة و في كل صنف منهم بما يليق بحاله-  و كأنه مهد هذا التمهيد-  كالفهرست لما يأتي بعده من التفصيل‏

فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ-  أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ لِلَّهِ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِإِمَامِكَ-  وَ أَطْهَرَهُمْ جَيْباً وَ أَفْضَلَهُمْ حِلْماً-  مِمَّنْ يُبْطِئُ عَنِ الْغَضَبِ وَ يَسْتَرِيحُ إِلَى الْعُذْرِ-  وَ يَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ وَ يَنْبُو عَلَى الْأَقْوِيَاءِ-  وَ مِمَّنْ لَا يُثِيرُهُ الْعُنْفُ وَ لَا يَقْعُدُ بِهِ الضَّعْفُ-  ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِي الْمُرُوءَاتِ وَ الْأَحْسَابِ-  وَ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ وَ السَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ-  ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَ الشَّجَاعَةِ وَ السَّخَاءِ وَ السَّمَاحَةِ-  فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْكَرَمِ وَ شُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ-  ثُمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يَتَفَقَّدُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا-  وَ لَا يَتَفَاقَمَنَّ فِي نَفْسِكَ شَيْ‏ءٌ قَوَّيْتَهُمْ بِهِ-  وَ لَا تَحْقِرَنَّ لُطْفاً تَعَاهَدْتَهُمْ بِهِ وَ إِنْ قَلَّ-  فَإِنَّهُ دَاعِيَةٌ لَهُمْ إِلَى بَذْلِ النَّصِيحَةِ لَكَ وَ حُسْنِ الظَّنِّ بِكَ-  وَ لَا تَدَعْ تَفَقُّدَ لَطِيفِ أُمُورِهِمُ اتِّكَالًا عَلَى جَسِيمِهَا-  فَإِنَّ لِلْيَسِيرِ مِنْ لُطْفِكَ مَوْضِعاً يَنْتَفِعُونَ بِهِ-  وَ لِلْجَسِيمِ مَوْقِعاً لَا يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ-  وَ لْيَكُنْ آثَرُ رُءُوسِ جُنْدِكَ عِنْدَكَ مَنْ وَاسَاهُمْ فِي مَعُونَتِهِ-  وَ أَفْضَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ جِدَتِهِ-  بِمَا يَسَعُهُمْ وَ يَسَعُ مَنْ وَرَاءَهُمْ مِنْ خُلُوفِ أَهْلِيهِمْ-  حَتَّى يَكُونَ هَمُّهُمْ هَمّاً وَاحِداً فِي جِهَادِ الْعَدُوِّ-  فَإِنَّ عَطْفَكَ عَلَيْهِمْ يَعْطِفُ قُلُوبَهُمْ عَلَيْكَ-  وَ لَا تَصِحُّ نَصِيحَتُهُمْ إِلَّا بِحِيطَتِهِمْ عَلَى وُلَاةِ أُمُورِهِمْ-  وَ قِلَّةِ اسْتَثْقَالِ دُوَلِهِمْ-  وَ تَرْكِ اسْتِبْطَاءِ انْقِطَاعِ مُدَّتِهِمْ-  فَافْسَحْ فِي آمَالِهِمْ وَ وَاصِلْ مِنْ حُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ-  وَ تَعْدِيدِ مَا أَبْلَى ذَوُو الْبَلَاءِ مِنْهُمْ-  فَإِنَّ كَثْرَةَ الذِّكْرِ لِحُسْنِ فِعَالِهِمْ تَهُزُّ الشُّجَاعَ-  وَ تُحَرِّضُ النَّاكِلَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ-  ثُمَّ اعْرِفْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا أَبْلَى-  وَ لَا تَضُمَّنَّ بَلَاءَ امْرِئٍ إِلَى غَيْرِهِ-  وَ لَا تُقَصِّرَنَّ بِهِ دُونَ غَايَةِ بَلَائِهِ-  وَ لَا يَدْعُوَنَّكَ شَرَفُ امْرِئٍ-  إِلَى أَنْ تُعْظِمَ مِنْ بَلَائِهِ مَا كَانَ صَغِيراً-  وَ لَا ضَعَةُ امْرِئٍ إِلَى أَنْ تَسْتَصْغِرَ مِنْ بَلَائِهِ مَا كَانَ عَظِيماً-  وَ ارْدُدْ إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ مَا يُضْلِعُكَ مِنَ الْخُطُوبِ-  وَ يَشْتَبِهُ عَلَيْكَ مِنَ الْأُمُورِ-  فَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِقَوْمٍ أَحَبَّ إِرْشَادَهُمْ-  يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ-  وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ-  فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ‏ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ-  فَالرَّدُّ إِلَى اللَّهِ الْأَخْذُ بِمُحْكَمِ كِتَابِهِ-  وَ الرَّدُّ إِلَى الرَّسُولِ الْأَخْذُ بِسُنَّتِهِ الْجَامِعَةِ غَيْرِ الْمُفَرِّقَةِ هذا الفصل مختص بالوصاة فيما يتعلق بأمراء الجيش-  أمره أن يولى أمر الجيش من جنوده-  من كان أنصحهم لله في ظنه-  و أطهرهم جيبا أي عفيفا أمينا-  و يكنى عن العفة و الأمانة بطهارة الجيب-  لأن الذي يسرق يجعل المسروق في جيبه- .

فإن قلت و أي تعلق لهذا بولاة الجيش-  إنما ينبغي أن تكون هذه الوصية في ولاة الخراج-  قلت لا بد منها في أمراء الجيش لأجل الغنائم- . ثم وصف ذلك الأمير فقال-  ممن يبطئ عن الغضب و يستريح إلى العذر-  أي يقبل‏ أدنى عذر و يستريح إليه و يسكن عنده-  و يرؤف على الضعفاء يرفق بهم و يرحمهم-  و الرأفة الرحمة-  و ينبو عن الأقوياء يتجافى عنهم و يبعد-  أي لا يمكنهم من الظلم و التعدي على الضعفاء-  و لا يثيره العنف لا يهيج غضبه عنف و قسوة-  و لا يقعد به الضعف أي ليس عاجزا- . ثم أمره أن يلصق بذوي الأحساب و أهل البيوتات-  أي يكرمهم و يجعل معوله في ذلك عليهم-  و لا يتعداهم إلى غيرهم-  و كان يقال عليكم بذوي الأحساب-  فإن هم لم يتكرموا استحيوا- . ثم ذكر بعدهم أهل الشجاعة و السخاء-  ثم قال إنها جماع من الكرم و شعب من العرف-  من هاهنا زائدة-  و إن كانت في الإيجاب على مذهب أبي الحسن الأخفش-  أي جماع الكرم أي يجمعه-  كقول النبي ص الخمر جماع الإثم-  و العرف المعروف- . و كذلك من في قوله و شعب من العرف-  أي شعب العرف أي هي أقسامه و أجزاؤه-  و يجوز أن تكون من على حقيقتها للتبعيض-  أي هذه الخلال جملة من الكرم و أقسام المعروف-  و ذلك لأن غيرها أيضا من الكرم و المعروف-  و نحو العدل و العفة- . قوله ثم تفقد من أمورهم-  الضمير هاهنا يرجع إلى الأجناد لا إلى الأمراء-  لما سنذكره مما يدل الكلام عليه- . فإن قلت إنه لم يجر للأجناد ذكر فيما سبق-  و إنما المذكور الأمراء-  قلت كلا بل سبق ذكر الأجناد-  و هو قوله الضعفاء و الأقوياء- .

و أمره ع أن يتفقد من أمور الجيش-  ما يتفقد الوالدان من حال الولد-  و أمره ألا يعظم عنده ما يقويهم به و إن عظم-  و ألا يستحقر شيئا تعهدهم به و إن قل-  و ألا يمنعه تفقد جسيم أمورهم عن تفقد صغيرها-  و أمره أن يكون آثر رءوس جنوده عنده و أحظاهم عنده-  و أقربهم إليه من واساهم في معونته-  هذا هو الضمير الدال على أن الضمير المذكور أولا للجند-  لا لأمراء الجند-  لو لا ذلك لما انتظم الكلام- . قوله من خلوف أهليهم-  أي ممن يخلفونه من أولادهم و أهليهم- . ثم قال لا يصح نصيحة الجند لك-  إلا بحيطتهم على ولاتهم أي بتعطفهم عليهم و تحننهم-  و هي الحيطة على وزن الشيمة-  مصدر حاطه يحوطه حوطا و حياطا و حيطة أي كلأه و رعاه-  و أكثر الناس يروونها إلا بحيطتهم-  بتشديد الياء و كسرها-  و الصحيح ما ذكرناه- . قوله و قلة استثقال دولهم-  أي لا تصح نصيحة الجند لك إلا إذا أحبوا أمراءهم-  ثم لم يستثقلوا دولهم و لم يتمنوا زوالها- .

ثم أمره أن يذكر في المجالس و المحافل-  بلاء ذوي البلاء منهم-  فإن ذلك مما يرهف عزم الشجاع و يحرك الجبان- . قوله و لا تضمن بلاء امرئ إلى غيره-  أي اذكر كل من أبلى منهم مفردا-  غير مضموم ذكر بلائه إلى غيره-  كي لا يكون مغمورا في جنب ذكر غيره- . ثم قال له لا تعظم بلاء ذوي الشرف لأجل شرفهم-  و لا تحقر بلاء ذوي الضعة لضعة أنسابهم-  بل اذكر الأمور على حقائقها- . ثم أمره أن يرد إلى الله و رسوله ما يضلعه من الخطوب-  أي ما يئوده و يميله‏لثقله-  و هذه الرواية أصح من رواية من رواها بالظاء-  و إن كان لتلك وجه

رسالة الإسكندر إلى أرسطو و رد أرسطو عليه

و ينبغي أن نذكر في هذا الموضع-  رسالة أرسطو إلى الإسكندر-  في معنى المحافظة على أهل البيوتات و ذوي الأحساب-  و أن يخصهم بالرئاسة و الإمرة-  و لا يعدل عنهم إلى العامة و السفلة-  فإن في ذلك تشييدا لكلام أمير المؤمنين ع و وصيته- . لما ملك الإسكندر ايرانشهر-  و هو العراق مملكة الأكاسرة-  و قتل دارا بن دارا كتب إلى أرسطو و هو ببلاد اليونان-  عليك أيها الحكيم منا السلام-  أما بعد فإن الأفلاك الدائرة و العلل السمائية-  و إن كانت أسعدتنا بالأمور-  التي أصبح الناس لنا بها دائبين-  فإنا جد واجدين لمس الاضطرار إلى حكمتك-  غير جاحدين لفضلك و الإقرار بمنزلتك-  و الاستنامة إلى مشورتك و الاقتداء برأيك-  و الاعتماد لأمرك و نهيك-  لما بلونا من جدا ذلك علينا و ذقنا من جنا منفعته-  حتى صار ذلك بنجوعه فينا-  و ترسخه في أذهاننا و عقولنا كالغذاء لنا-  فما ننفك نعول عليه-  و نستمد منه استمداد الجداول من البحور-  و تعويل الفروع على الأصول-  و قوة الأشكال بالأشكال-  و قد كان مما سيق إلينا من النصر و الفلج-  و أتيح لنا من الظفر-  و بلغنا في العدو من النكاية و البطش-  ما يعجز القول عن وصفه-  و يقصر شكر المنعم عن موقع الإنعام به-  و كان من ذلك أنا جاوزنا أرض سورية و الجزيرة-  إلى بابل و أرض فارس-  فلما حللنا بعقوة أهلها و ساحة بلادهم-  لم يكن إلا ريثما تلقانا نفر منهم-  برأس ملكهم هدية إلينا و طلبا للحظوة عندنا-  فأمرنا بصلب من‏ جاء به و شهرته لسوء بلائه-  و قلة ارعوائه و وفائه-  ثم أمرنا بجمع من كان هناك من أولاد ملوكهم-  و أحرارهم و ذي الشرف منهم-  فرأينا رجالا عظيمة أجسامهم و أحلامهم-  حاضرة ألبابهم و أذهانهم رائعة مناظرهم و مناطقهم-  دليلا على أن ما يظهر من روائهم و منطقهم-  أن وراءه من قوة أيديهم-  و شدة نجدتهم و بأسهم ما لم يكن-  ليكون لنا سبيل إلى غلبتهم و إعطائهم بأيديهم-  لو لا أن القضاء أدالنا منهم-  و أظفرنا بهم و أظهرنا عليهم-  و لم نر بعيدا من الرأي في أمرهم أن نستأصل شأفتهم-  و نجتث أصلهم و نلحقهم بمن مضى من أسلافهم-  لتسكن القلوب بذلك الأمن إلى جرائرهم و بوائقهم-  فرأينا ألا نجعل بإسعاف بادئ الرأي في قتلهم-  دون الاستظهار عليهم بمشورتك فيهم-  فارفع إلينا رأيك فيما استشرناك فيه بعد صحته عندك-  و تقليبك إياه بجلي نظرك-  و سلام أهل السلام فليكن علينا و عليك- .

فكتب إليه أرسطو-  لملك الملوك و عظيم العظماء-  الإسكندر المؤيد بالنصر على الأعداء-  المهدي له الظفر بالملوك-  من أصغر عبيده و أقل خوله-  أرسطوطاليس البخوع بالسجود و التذلل في السلام-  و الإذعان في الطاعة-  أما بعد فإنه لا قوة بالمنطق و إن احتشد الناطق فيه-  و اجتهد في تثقيف معانيه و تأليف حروفه و مبانيه-  على الإحاطة بأقل ما تناله القدرة-  من بسطة علو الملك و سمو ارتفاعه عن كل قول-  و إبرازه على كل وصف و اغترافه بكل إطناب-  و قد كان تقرر عندي-  من مقدمات إعلام فضل الملك في صهلة سبقه-  و بروز شأوه و يمن نقيبته-  مذ أدت إلي حاسة بصري صورة شخصه-  و اضطرب في حس سمعي صوت لفظه-  و وقع وهمي‏ على تعقيب نجاح رأيه-  أيام كنت أؤدي إليه من تكلف تعليمي إياه-  ما أصبحت قاضيا على نفسي بالحاجة إلى تعلمه منه-  و مهما يكن مني إليه في ذلك- 

فإنما هو عقل مردود إلى عقله-  مستنبطة أواليه و تواليه من علمه و حكمته-  و قد جلا إلى كتاب الملك و مخاطبته إياي و مسألته لي-  عما لا يتخالجني الشك في لقاح ذلك و إنتاجه من عنده-  فعنه صدر و عليه ورد-  و أنا فيما أشير به على الملك-  و إن اجتهدت فيه و احتشدت له-  و تجاوزت حد الوسع و الطاقة مني في استنظافه و استقصائه-  كالعدم مع الوجود بل كما لا يتجزأ في جنب معظم الأشياء-  و لكني غير ممتنع من إجابة الملك إلى ما سأل-  مع علمي و يقيني بعظيم غناه عني و شدة فاقتي إليه-  و أنا راد إلى الملك ما اكتسبته منه-  و مشير عليه بما أخذته منه فقائل له-  إن لكل تربة لا محالة قسما من الفضائل-  و إن لفارس قسمها من النجدة و القوة-  و إنك إن تقتل أشرافهم تخلف الوضعاء علي أعقابهم-  و تورث سفلتهم على منازل عليتهم-  و تغلب أدنياءهم على مراتب ذوي أخطارهم-  و لم يبتل الملوك قط ببلاء هو أعظم عليهم-  و أشد توهينا لسلطانهم من غلبة السفلة و ذل الوجوه-  فاحذر الحذر كله أن تمكن تلك الطبقة من الغلبة و الحركة-  فإنه إن نجم منهم بعد اليوم على جندك و أهل بلادك ناجم-  دهمهم منه ما لا روية فيه و لا بقية معه-  فانصرف عن هذا الرأي إلى غيره-  و اعمد إلى من قبلك من أولئك العظماء و الأحرار-  فوزع بينهم مملكتهم-  و ألزم اسم الملك كل من وليته منهم ناحيته-  و اعقد التاج على رأسه و إن صغر ملكه-  فإن المتسمي بالملك لازم لاسمه-  و المعقود التاج على رأسه لا يخضع لغيره-  فليس ينشب ذلك أن يوقع كل ملك منهم-  بينه و بين صاحبه تدابرا و تقاطعا و تغالبا على الملك-  و تفاخرا بالمال و الجند-  حتى ينسوا بذلك أضغانهم عليك و أوتارهم فيك-  و يعود حربهم لك حربا بينهم-  و حنقهم عليك حنقا منهم على أنفسهم-  ثم لا يزدادون في ذلك بصيرة-  إلا أحدثوا لك بها استقامة-  إن دنوت منهم دانوا لك و إن نأيت عنهم تعززوا بك-  حتى يثب من ملك منهم على جاره باسمك و يسترهبه بجندك-  و في ذلك شاغل لهم عنك و أمان لأحداثهم بعدك-  و إن كان لا أمان للدهر و لا ثقة بالأيام- . قد أديت إلى الملك ما رأيته لي حظا و علي حقا-  من إجابتي إياه إلى ما سألني عنه-  و محضته النصيحة فيه-  و الملك أعلى عينا و أنفذ روية و أفضل رأيا-  و أبعد همة فيما استعان بي عليه-  و كلفني بتبيينه و المشورة عليه فيه-  لا زال الملك متعرفا من عوائد النعم و عواقب الصنع-  و توطيد الملك و تنفيس الأجل و درك الأمل-  ما تأتي فيه قدرته على غاية قصوى ما تناله قدرة البشر- . و السلام الذي لا انقضاء له-  و لا انتهاء و لا غاية و لا فناء-  فليكن على الملك- .

قالوا فعمل الملك برأيه-  و استخلف على ايرانشهر-  أبناء الملوك و العظماء من أهل فارس-  فهم ملوك الطوائف الذين بقوا بعده-  و المملكة موزعة بينهم-  إلى أن جاء أردشير بن بابك فانتزع الملك منهمثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ-  مِمَّنْ لَا تَضِيقُ بِهِ الْأُمُورُ وَ لَا تُمَحِّكُهُ الْخُصُومُ-  وَ لَا يَتَمَادَى فِي الزَّلَّةِ-  وَ لَا يَحْصَرُ مِنَ الْفَيْ‏ءِ إِلَى الْحَقِّ إِذَا عَرَفَهُ-  وَ لَا تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَى طَمَعٍ-  وَ لَا يَكْتَفِي بِأَدْنَى فَهْمٍ دُونَ أَقْصَاهُ-  وَ أَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ وَ آخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ-  وَ أَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ-  وَ أَصْبَرَهُمْ‏ عَلَى تَكَشُّفِ الْأُمُورِ-  وَ أَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُكْمِ-  مِمَّنْ لَا يَزْدَهِيهِ إِطْرَاءٌ وَ لَا يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ-  وَ أُولَئِكَ قَلِيلٌ-  ثُمَّ أَكْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ-  وَ أَفْسِحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ مَا يُزِيحُ عِلَّتَهُ-  وَ تَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَى النَّاسِ-  وَ أَعْطِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَيْكَ مَا لَا يَطْمَعُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ خَاصَّتِكَ-  لِيَأْمَنَ بِذَلِكَ اغْتِيَالَ الرِّجَالِ لَهُ عِنْدَكَ-  فَانْظُرْ فِي ذَلِكَ نَظَراً بَلِيغاً-  فَإِنَّ هَذَا الدِّينَ قَدْ كَانَ أَسِيراً فِي أَيْدِي الْأَشْرَارِ-  يُعْمَلُ فِيهِ بِالْهَوَى وَ تُطْلَبُ بِهِ الدُّنْيَا تمحكه الخصوم تجعله ما حكا أي لجوجا-  محك الرجل أي لج و ماحك زيد عمرا أي لاجه- . قوله و لا يتمادى في الزلة أي إن زل رجع و أناب-  و الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل- . قوله و لا يحصر من الفي‏ء هو المعنى الأول بعينه-  و الفي‏ء الرجوع إلا أن هاهنا زيادة-  و هو أنه لا يحصر أي لا يعيا في المنطق-  لأن من الناس من إذا زل حصر عن أن يرجع-  و أصابه كالفهاهة و العي خجلا- . قوله و لا تشرف نفسه أي لا تشفق-  و الإشراف الإشفاق و الخوف-  و أنشد الليث

و من مضر الحمراء إسراف أنفس
علينا و حياها علينا تمضرا

و قال عروة بن أذينة-

لقد علمت و ما الإشراف من خلقي
أن الذي هو رزقي سوف يأتيني‏

 و المعنى و لا تشفق نفسه-  و تخاف من فوت المنافع و المرافق- . ثم قال و لا يكتفى بأدنى فهم-  أي لا يكون قانعا بما يخطر له بادئ الرأي من أمر الخصوم-  بل يستقصي و يبحث أشد البحث- . قوله و أقلهم تبرما بمراجعة الخصم أي تضجرا-  و هذه الخصلة من محاسن ما شرطه ع-  فإن القلق و الضجر و التبرم قبيح-  و أقبح ما يكون من القاضي- . قوله و أصرمهم أي أقطعهم و أمضاهم-  و ازدهاه كذا أي استخفه-  و الإطراء المدح و الإغراء التحريض- . ثم أمره أن يتطلع على أحكامه و أقضيته-  و أن يفرض له عطاء واسعا يملأ عينه-  و يتعفف به عن المرافق و الرشوات-  و أن يكون قريب المكان منه كثير الاختصاص به-  ليمنع قربه من سعاية الرجال به و تقبيحهم ذكره عنده- . ثم قال إن هذا الدين قد كان أسيرا-  هذه إشارة إلى قضاة عثمان و حكامه-  و أنهم لم يكونوا يقضون بالحق عنده-  بل بالهوى لطلب الدنيا- . و أما أصحابنا فيقولون-  رحم الله عثمان فإنه كان ضعيفا و استولى عليه أهله-  قطعوا الأمور دونه فإثمهم عليهم و عثمان بري‏ء منهم‏

فصل في القضاة و ما يلزمهم و ذكر بعض نوادرهم

 قد جاء في الحديث المرفوع لا يقضي القاضي و هو غضبانو جاء في الحديث المرفوع أيضا من ابتلي بالقضاء بين المسلمين-  فليعدل بينهم في لحظه و إشارته و مجلسه و مقعده- . دخل ابن شهاب على الوليد أو سليمان فقال له-  يا ابن شهاب ما حديث يرويه أهل الشام-  قال ما هو يا أمير المؤمنين-  قال إنهم يروون أن الله تعالى إذا استرعى عبدا رعية-  كتب له الحسنات و لم يكتب عليه السيئات-  فقال كذبوا يا أمير المؤمنين-  أيما أقرب إلى الله نبي أم خليفة قال بل نبي-  قال فإنه تعالى يقول لنبيه داود-  يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ-  فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ-  وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى‏ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ-  إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ-  فقال سليمان إن الناس ليغروننا عن ديننا- .

و قال بكر بن عبد الله العدوي لابن أرطاة-  و أراد أن يستقضيه و الله ما أحسن القضاء-  فإن كنت صادقا لم يحل لك أن تستقضي من لا يحسن-  و إن كنت كاذبا فقد فسقت-  و الله لا يحل أن تستقضي الفاسق- . و قال الزهري ثلاث إذا كن في القاضي فليس بقاض-  أن يكره اللائمة و يحب المحمدة و يخاف العزل- . و قال محارب بن زياد للأعمش وليت القضاء فبكى أهلي-  فلما عزلت بكى أهلي فما أدري مم ذلك-  قال لأنك وليت القضاء و أنت تكرهه و تجزع منه-فبكى أهلك لجزعك-  و عزلت عنه فكرهت العزل و جزعت فبكى أهلك لجزعك-  قال صدقت- . أتي ابن شبرمة بقوم يشهدون على قراح نخل-  فشهدوا و كانوا عدولا فامتحنهم فقال-  كم في القراح من نخلة قالوا لا نعلم فرد شهادتهم-  فقال له أحدهم-  أنت أيها القاضي تقضي في هذا المسجد منذ ثلاثين سنة-  فأعلمنا كم فيه من أسطوانة-  فسكت و أجازهم- . خرج شريك و هو على قضاء الكوفة يتلقى الخيزران-  و قد أقبلت تريد الحج-  و قد كان استقضي و هو كاره-  فأتي شاهي فأقام بها ثلاثا فلم تواف-  فخف زاده و ما كان معه-  فجعل يبله بالماء و يأكله بالملح-  فقال العلاء بن المنهال الغنوي- 

   فإن كان الذي قد قلت حقا
بأن قد أكرهوك على القضاء

فما لك موضعا في كل يوم‏
تلقى من يحج من النساء

مقيما في قرى شاهي ثلاثا
بلا زاد سوى كسر و ماء

و تقدمت كلثم بنت سريع مولى عمرو بن حريث- و كانت جميلة- و أخوها الوليد بن سريع إلى عبد الملك بن عمير- و هو قاض بالكوفة فقضى لها على أخيها- فقال هذيل الأشجعي-

أتاه وليد بالشهود يسوقهم
على ما ادعى من صامت المال و الخول‏

و جاءت إليه كلثم و كلامها
شفاء من الداء المخامر و الخبل‏

فأدلى وليد عند ذاك بحقه
و كان وليد ذا مراء و ذا جدل‏

فدلهت القبطي حتى قضى لها
بغير قضاء الله في محكم الطول‏

فلو كان من في القصر يعلم علمه
لما استعمل القبطي فينا على عمل‏

له حين يقضي للنساء تخاوص‏
و كان و ما فيه التخاوص و الحول‏

إذا ذات دل كلمته لحاجة
فهم بأن يقضي تنحنح أو سعل‏

و برق عينيه و لاك لسانه‏
يرى كل شي‏ء ما خلا وصلها جلل‏

 و كان عبد الملك بن عمير يقول لعن الله الأشجعي-  و الله لربما جاءتني السعلة و النحنحة و أنا في المتوضإ-  فأردهما لما شاع من شعره- . كتب عمر بن الخطاب إلى معاوية-  أما بعد فقد كتبت إليك في القضاء بكتاب-  لم آلك و نفسي فيه خيرا-  الزم خمس خصال يسلم لك دينك و تأخذ بأفضل حظك-  إذا تقدم إليك الخصمان-  فعليك بالبينة العادلة أو اليمين القاطعة-  و ادن الضعيف حتى يشتد قلبه و ينبسط لسانه-  و تعهد الغريب-  فإنك إن لم تتعهده ترك حقه و رجع إلى أهله-  و إنما ضيع حقه من لم يرفق به-  و آس بين الخصوم في لحظك و لفظك-  و عليك بالصلح بين الناس-  ما لم يستبن لك فصل القضاء- . و كتب عمر إلى شريح لا تسارر و لا تضارر-  و لا تبع و لا تبتع في مجلس القضاء-  و لا تقض و أنت غضبان و لا شديد الجوع-  و لا مشغول القلب- . شهد رجل عند سوار القاضي-  فقال ما صناعتك فقال مؤدب-  قال أنا لا أجيز شهادتك قال و لم-  قال لأنك تأخذ على تعليم القرآن أجرا-  قال و أنت أيضا تأخذ على القضاء بين المسلمين أجرا-  قال إنهم أكرهوني قال نعم أكرهوك على القضاء-  فهل أكرهوك على أخذ الأجر-  قال هلم شهادتك- . و دخل أبو دلامة ليشهد عند أبي ليلى-  فقال حين جلس بين يديه- 

 إذا الناس غطوني تغطيت عنهم
و إن بحثوا عني ففيهم مباحث‏

و إن حفروا بئري حفرت بئارهم
ليعلم ما تخفيه تلك النبائث‏

– . فقال بل نغطيك يا أبا دلامة و لا نبحثك-  و صرفه راضيا-  و أعطى المشهود عليه من عنده قيمة ذلك الشي‏ء- . كان عامر بن الظرب العدواني حاكم العرب و قاضيها-  فنزل به قوم يستفتونه في الخنثى و ميراثه-  فلم يدر ما يقضي فيه-  و كان له جارية اسمها خصيلة-  ربما لامها في الإبطاء عن الرعي و في الشي‏ء يجده عليها-  فقال لها يا خصيلة لقد أسرع هؤلاء القوم في غنمي-  و أطالوا المكث-  قالت و ما يكبر عليك من ذلك اتبعه مباله و خلاك ذم-  فقال لها مسي خصيل بعدها أو روحي- . و قال أعرابي لقوم يتنازعون-  هل لكم في الحق أو ما هو خير من الحق-  قيل و ما الذي هو خير من الحق-  قال التحاط و الهضم فإن أخذ الحق كله مر- . و عزل عمر بن عبد العزيز بعض قضاته-  فقال لم عزلتني-  فقال بلغني أن كلامك أكثر من كلام الخصمين-  إذا تحاكما إليك- . و دخل إياس بن معاوية الشام و هو غلام-  فقدم خصما إلى باب القاضي في أيام عبد الملك-  فقال القاضي أ ما تستحيي تخاصم و أنت غلام شيخا كبيرا-  فقال الحق أكبر منه فقال اسكت ويحك-  قال فمن ينطق بحجتي إذا-  قال ما أظنك تقول اليوم حقا حتى تقوم-  فقال لا إله إلا الله-  فقام القاضي و دخل على عبد الملك و أخبره-  فقال اقض حاجته-  و أخرجه من الشام كي لا يفسد علينا الناس- . و اختصم أعرابي و حضري إلى قاض-  فقال الأعرابي أيها القاضي إنه و إن هملج إلى الباطل-  فإنه عن الحق لعطوف- . و رد رجل جارية على رجل اشتراها منه بالحمق-  فترافعا إلى إياس بن معاوية-فقال لها إياس أي رجليك أطول فقالت هذه-  فقال أ تذكرين ليلة ولدتك أمك قالت نعم-  فقال إياس رد رد- .

و جاء في الخبر المرفوع من رواية عبد الله بن عمر لا قدست أمة لا يقضى فيها بالحقو من الحديث المرفوع من رواية أبي هريرة ليس أحد يحكم بين الناس-  إلا جي‏ء به يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه-  فكه العدل و أسلمه الجور واستعدى رجل على علي بن أبي طالب ع-  عمر بن الخطاب رضي الله عنه و علي جالس-  فالتفت عمر إليه فقال-  قم يا أبا الحسن فاجلس مع خصمك-  فقام فجلس معه و تناظرا-  ثم انصرف الرجل و رجع علي ع إلى محله-  فتبين عمر التغير في وجهه-  فقال يا أبا الحسن ما لي أراك متغيرا أ كرهت ما كان-  قال نعم قال و ما ذاك-  قال كنيتني بحضرة خصمي-  هلا قلت قم يا علي فاجلس مع خصمك-  فاعتنق عمر عليا و جعل يقبل وجهه-  و قال بأبي أنتم بكم هدانا الله-  و بكم أخرجنا من الظلمة إلى النور- . أبان بن عبد الحميد اللاحقي في سوار بن عبد الله القاضي- 

   لا تقدح الظنة في حكمه
شيمته عدل و إنصاف‏

يمضي إذا لم تلقه شبهة
و في اعتراض الشك وقاف‏

كان ببغداد رجل يذكر بالصلاح و الزهد يقال له رويم-  فولي القضاء فقال الجنيد-  من أراد أن يستودع سره من لا يفشيه فعليه برويم-  فإنه كتم حب الدنيا أربعين سنة إلى أن قدر عليها- . الأشهب الكوفي

يا أهل بغداد قد قامت قيامتكم
مذ صار قاضيكم نوح بن دراج‏

لو كان حيا له الحجاج ما سلمت‏
صحيحة يده من وسم حجاج‏

و كان الحجاج يسم أيدي النبط بالمشراط و النيل- . لما وقعت فتنة ابن الزبير اعتزل شريح القضاء-  و قال لا أقضي في الفتنة-  فبقي لا يقضي تسع سنين-  ثم عاد إلى القضاء و قد كبرت سنه-  فاعترضه رجل و قد انصرف من مجلس القضاء-  فقال له أ ما حان لك أن تخاف الله-  كبرت سنك و فسد ذهنك و صارت الأمور تجوز عليك-  فقال و الله لا يقولها بعدك لي أحد-  فلزم بيته حتى مات- . قيل لأبي قلابة و قد هرب من القضاء لو أجبت-  قال أخاف الهلاك-  قيل لو اجتهدت لم يكن عليك بأس-  قال ويحكم إذا وقع السابح في البحر كم عسى أن يسبح- . دعا رجل لسليمان الشاذكوني-  فقال أرانيك الله يا أبا أيوب على قضاء أصبهان-  قال ويحك إن كان و لا بد فعلى خراجها-  فإن أخذ أموال الأغنياء أسهل من أخذ أموال الأيتام- . ارتفعت جميلة بنت عيسى بن جراد و كانت جميلة كاسمها-  مع خصم لها إلى الشعبي و هو قاضي عبد الملك فقضى لها-  فقال هذيل الأشجعي

  فتن الشعبي لما
رفع الطرف إليها

فتنته بثنايا
ها و قوسي حاجبيها

و مشت مشيا رويدا
ثم هزت منكبيها

فقضى جورا على الخصم‏
و لم يقض عليها

–  فقبض الشعبي عليه و ضربه ثلاثين سوطا- . قال ابن أبي ليلى-  ثم انصرف الشعبي يوما من مجلس القضاء-  و قد شاعت الأبيات‏و تناشدها الناس-  و نحن معه فمررنا بخادم تغسل الثياب-  و تقولفتن الشعبي لما-  و لا تحفظ تتمة البيت فوقف عليها و لقنها-  و قال رفع الطرف إليها-  ثم ضحك و قال-  أبعده الله و الله ما قضينا لها إلا بالحق- . جاءت امرأة إلى قاض فقالت-  مات بعلي و ترك أبوين و ابنا و بني عم-  فقال القاضي لأبويه الثكل و لابنه اليتم-  و لك اللائمة و لبني عمه الذلة-  و احملي المال إلينا إلى أن ترتفع الخصوم- . لقي سفيان الثوري شريكا بعد ما استقضي-  فقال له يا أبا عبد الله-  بعد الإسلام و الفقه و الصلاح تلي القضاء-  قال يا أبا عبد الله فهل للناس بد من قاض-  قال و لا بد يا أبا عبد الله للناس من شرطي- . و كان الحسن بن صالح بن حي يقول-  لما ولي شريك القضاء أي شيخ أفسدوا- .

 قال أبو ذر رضي الله عنه قال لي رسول الله ص-  يا أبا ذر اعقل ما أقول لك-  جعل يرددها على ستة أيام ثم قال لي في اليوم السابع-  أوصيك بتقوى الله في سريرتك و علانيتك-  و إذا أسأت فأحسن-  و لا تسألن أحدا شيئا و لو سقط سوطك-  و لا تتقلدن أمانة و لا تلين ولاية-  و لا تكفلن يتيما و لا تقضين بين اثنين- . أراد عثمان بن عفان أن يستقضي عبد الله بن عمر-  فقال له أ لست قد سمعت النبي ص يقول من استعاذ بالله فقد عاذ بمعاذ-  قال بلى قال فإني أعوذ بالله منك أن تستقضيني- .

و قد ذكر الفقهاء في آداب القاضي أمورا-  قالوا لا يجوز أن يقبل هدية في أيام القضاء-  إلا ممن كانت له عادة يهدي إليه قبل أيام القضاء-  و لا يجوز قبولها في أيام القضاء ممن له حكومة و خصومة-  و إن كان ممن له عادة قديمة-  و كذلك إن كانت الهدية أنفس و أرفع-  مما كانت قبل أيام القضاء لا يجوز قبولها-  و يجوز أن يحضر القاضي الولائم-  و لا يحضر عند قوم دون قوم لأن التخصيص يشعر بالميل-  و يجوز أن يعود المرضى و يشهد الجنائز-  و يأتي مقدم الغائب و يكره له مباشرة البيع و الشراء-  و لا يجوز أن يقضي و هو غضبان و لا جائع و لا عطشان-  و لا في حال الحزن الشديد و لا الفرح الشديد-  و لا يقضي و النعاس يغلبه و المرض يقلقه-  و لا و هو يدافع الأخبثين-  و لا في حر مزعج و لا في برد مزعج-  و ينبغي أن يجلس للحكم في موضع بارز يصل إليه كل أحد-  و لا يحتجب إلا لعذر-  و يستحب أن يكون مجلسه فسيحا لا يتأذى بذلك هو أيضا-  و يكره الجلوس في المساجد للقضاء-  فإن احتاج إلى وكلاء جاز أن يتخذهم-  و يوصيهم بالرفق بالخصوم-  و يستحب أن يكون له حبس-  و أن يتخذ كاتبا إن احتاج إليه-  و من شرط كاتبه أن يكون عارفا بما يكتب به عن القضاء- . و اختلف في جواز كونه ذميا و الأظهر أنه لا يجوز-  و لا يجوز أن يكون كاتبه فاسقا-  و لا يجوز أن يكون الشهود عنده قوما معينين-  بل الشهادة عامة فيمن استكمل شروطها

ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِيَاراً-  وَ لَا تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وَ أَثَرَةً-  فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ وَ الْخِيَانَةِ-  وَ تَوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ وَ الْحَيَاءِ-  مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ وَ الْقَدَمِ فِي الْإِسْلَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ-  فَإِنَّهُمْ أَكْرَمُ أَخْلَاقاً وَ أَصَحُّ أَعْرَاضاً-  وَ أَقَلُّ فِي الْمَطَامِعِ إِشْرَافاً-  وَ أَبْلَغُ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ نَظَراً-ثُمَّ أَسْبِغْ عَلَيْهِمُ الْأَرْزَاقَ-  فَإِنَّ ذَلِكَ قُوَّةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِصْلَاحِ أَنْفُسِهِمْ-  وَ غِنًى لَهُمْ عَنْ تَنَاوُلِ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ-  وَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ إِنْ خَالَفُوا أَمْرَكَ أَوْ ثَلَمُوا أَمَانَتَكَ-  ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ-  وَ ابْعَثِ الْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَ الْوَفَاءِ عَلَيْهِمْ-  فَإِنَّ تَعَاهُدَكَ فِي السِّرِّ لِأُمُورِهِمْ-  حَدْوَةٌ لَهُمْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْأَمَانَةِ وَ الرِّفْقِ بِالرَّعِيَّةِ-  وَ تَحَفَّظْ مِنَ الْأَعْوَانِ-  فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَى خِيَانَةٍ-  اجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَيْهِ عِنْدَكَ أَخْبَارُ عُيُونِكَ-  اكْتَفَيْتَ بِذَلِكَ شَاهِداً-  فَبَسَطْتَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ فِي بَدَنِهِ-  وَ أَخَذْتَهُ بِمَا أَصَابَ مِنْ عَمَلِهِ-  ثُمَّ نَصَبْتَهُ بِمَقَامِ الْمَذَلَّةِ وَ وَسَمْتَهُ بِالْخِيَانَةِ-  وَ قَلَّدْتَهُ عَارَ التُّهَمَةِ لما فرغ ع من أمر القضاء شرع في أمر العمال-  و هم عمال السواد و الصدقات و الوقوف و المصالح و غيرها-  فأمره أن يستعملهم بعد اختبارهم و تجربتهم-  و ألا يوليهم محاباة لهم و لمن يشفع فيهم-  و لا أثرة و لا إنعاما عليهم- .

كان أبو الحسن بن الفرات يقول-  الأعمال للكفاة من أصحابنا-  و قضاء الحقوق على خواص أموالنا- . و كان يحيى بن خالد يقول من تسبب إلينا بشفاعة في عمل-  فقد حل عندنا محل من ينهض بغيره-  و من لم ينهض بنفسه لم يكن للعمل أهلا- . و وقع جعفر بن يحيى في رقعة متحرم به-  هذا فتى له حرمة الأمل فامتحنه بالعمل-  فإن كان كافيا فالسلطان له دوننا-  و إن لم يكن كافيا فنحن له دون السلطان- . ثم قال ع فإنهما يعني استعمالهم للمحاباة و الأثرة-  جماع من شعب الجور و الخيانة-  و قد تقدم شرح مثل هذه اللفظة-  و المعنى أن ذلك يجمع ضروبا من الجور و الخيانة-  أما الجور-  فإنه يكون قد عدل عن المستحق إلى غير المستحق-  ففي ذلك جور على المستحق- .

و أما الخيانة-  فلأن الأمانة تقتضي تقليد الأعمال الأكفاء-  فمن لم يعتمد ذلك فقد خان من ولاه- . ثم أمره بتخير من قد جرب-  و من هو من أهل البيوتات و الأشراف-  لشدة الحرص على الشي‏ء و الخوف من فواته- . ثم أمره بإسباغ الأرزاق عليهم فإن الجائع لا أمانة له-  و لأن الحجة تكون لازمة لهم إن خانوا-  لأنهم قد كفوا مئونة أنفسهم و أهليهم-  بما فرض لهم من الأرزاق- . ثم أمره بالتطلع عليهم-  و إذكاء العيون و الأرصاد على حركاتهم- . و حدوة باعث يقال حداني هذا الأمر حدوة على كذا-  و أصله سوق الإبل-  و يقال للشمال حدواء لأنها تسوق السحاب- . ثم أمره بمؤاخذة من ثبتت خيانته و استعادة المال منه-  و قد صنع عمر كثيرا من ذلك و ذكرناه فيما تقدم- . قال بعض الأكاسرة لعامل من عماله-  كيف نومك بالليل قال أنامه كله-  قال أحسنت لو سرقت ما نمت هذا النوم: وَ تَفَقَّدْ أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ-  فَإِنَّ فِي صَلَاحِهِ وَ صَلَاحِهِمْ صَلَاحاً لِمَنْ سِوَاهُمْ-  وَ لَا صَلَاحَ لِمَنْ سِوَاهُمْ إِلَّا بِهِمْ-  لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ عِيَالٌ عَلَى الْخَرَاجِ وَ أَهْلِهِ-  وَ لْيَكُنْ نَظَرُكَ فِي عِمَارَةِ الْأَرْضِ-  أَبْلَغَ مِنْ نَظَرِكَ فِي اسْتِجْلَابِ الْخَرَاجِ-  لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُدْرَكُ إِلَّا بِالْعِمَارَةِ-  وَ مَنْ طَلَبَ الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَةٍ أَخْرَبَ الْبِلَادَ-  وَ أَهْلَكَ‏ الْعِبَادَ وَ لَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلَّا قَلِيلًا-  فَإِنْ شَكَوْا ثِقَلًا أَوْ عِلَّةً أَوِ انْقِطَاعَ شِرْبٍ أَوْ بَالَّةٍ-  أَوْ إِحَالَةَ أَرْضٍ اغْتَمَرَهَا غَرَقٌ-  أَوْ أَجْحَفَ بِهَا عَطَشٌ-  خَفَّفْتَ عَنْهُمْ بِمَا تَرْجُو أَنْ يَصْلُحَ بِهِ أَمْرُهُمْ-  وَ لَا يَثْقُلَنَّ عَلَيْكَ شَيْ‏ءٌ خَفَّفْتَ بِهِ الْمَئُونَةَ عَنْهُمْ-  فَإِنَّهُ ذُخْرٌ يَعُودُونَ بِهِ عَلَيْكَ فِي عِمَارَةِ بِلَادِكَ-  وَ تَزْيِينِ وِلَايَتِكَ مَعَ اسْتِجْلَابِكَ حُسْنَ ثَنَائِهِمْ-  وَ تَبَجُّحِكَ بِاسْتِفَاضَةِ الْعَدْلِ فِيهِمْ-  مُعْتَمِداً فَضْلَ قُوَّتِهِمْ-  بِمَا ذَخَرْتَ عِنْدَهُمْ مِنْ إِجْمَامِكَ لَهُمْ-  وَ الثِّقَةَ مِنْهُمْ بِمَا عَوَّدْتَهُمْ مِنْ عَدْلِكَ عَلَيْهِمْ وَ رِفْقِكَ بِهِمْ-  فَرُبَّمَا حَدَثَ مِنَ الْأُمُورِ-  مَا إِذَا عَوَّلْتَ فِيهِ عَلَيْهِمْ مِنْ بَعْدُ احْتَمَلُوهُ-  طَيِّبَةً أَنْفُسُهُمْ بِهِ-  فَإِنَّ الْعُمْرَانَ مُحْتَمِلٌ مَا حَمَّلْتَهُ-  وَ إِنَّمَا يُؤْتَى خَرَابُ الْأَرْضِ مِنْ إِعْوَازِ أَهْلِهَا-  وَ إِنَّمَا يُعْوِزُ أَهْلُهَا لِإِشْرَافِ أَنْفُسِ الْوُلَاةِ عَلَى الْجَمْعِ-  وَ سُوءِ ظَنِّهِمْ بِالْبَقَاءِ وَ قِلَّةِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْعِبَرِ انتقل ع من ذكر العمال-  إلى ذكر أرباب الخراج و دهاقين السواد-  فقال تفقد أمرهم فإن الناس عيال عليهم-  و كان يقال استوصوا بأهل الخراج-  فإنكم لا تزالون سمانا ما سمنوا- .

و رفع إلى أنوشروان أن عامل الأهواز-  قد حمل من مال الخراج ما يزيد على العادة-  و ربما يكون ذلك قد أجحف بالرعية-  فوقع يرد هذا المال على من قد استوفى منه-  فإن تكثير الملك ماله بأموال رعيته-  بمنزلة من يحصن سطوحه بما يقتلعه من قواعد بنيانه- .

و كان على خاتم أنوشروان-  لا يكون عمران حيث يجور السلطان- . و روي استحلاب الخراج بالحاء- . ثم قال فإن شكوا ثقلا-  أي ثقل طسق الخراج المضروب عليهم-  أو ثقل وطأة العامل- . قال أو علة نحو أن يصيب الغلة آفة-  كالجراد و البرق أو البرد- . قال أو انقطاع شرب بأن ينقص الماء في النهر-  أو تتعلق أرض الشرب عنه لفقد الحفر- . قال أو بالة يعني المطر- . قال أو إحالة أرض اغتمرها غرق-  يعني أو كون الأرض قد حالت و لم يحصل منها ارتفاع-  لأن الغرق غمرها و أفسد زرعها- .

قال أو أجحف بها عطش أي أتلفها- . فإن قلت فهذا هو انقطاع الشرب-  قلت لا قد يكون الشرب غير منقطع-  و مع ذلك يجحف بها العطش-  بأن لا يكفيها الماء الموجود في الشرب- . ثم أمره أن يخفف عنهم متى لحقهم شي‏ء من ذلك-  فإن التخفيف يصلح أمورهم-  و هو و إن كان يدخل على المال نقصا في العاجل-  إلا أنه يقتضي توفير زيادة في الآجل-  فهو بمنزلة التجارة-  التي لا بد فيها من إخراج رأس المال-  و انتظار عوده و عود ربحه- .

قال و مع ذلك فإنه يفضي إلى تزين بلادك بعمارتها-  و إلى أنك تبجح بين الولاة بإفاضة العدل في رعيتك-  معتمدا فضل قوتهم-  و معتمدا منصوب على الحال من الضمير في خففت الأولى-  أي خففت عنهم معتمدا بالتخفيف فضل قوتهم- . و الإجمام الترفيه- . ثم قال له و ربما احتجت فيما بعد-  إلى تكلفهم بحادث يحدث عندك-  المساعدة بمال يقسطونه عليهم قرضا أو معونة محضة-  فإذا كانت لهم ثروة نهضوا بمثل ذلك طيبة قلوبهم به- . ثم قال ع فإن العمران محتمل ما حملته- . سمعت أبا محمد بن خليد-  و كان صاحب ديوان الخراج في أيام الناصر لدين الله-  يقول لمن قال له قد قيل عنك إن واسط و البصرة-  قد خربت لشدة العنف بأهلها في تحصيل الأموال-  فقال أبو محمد ما دام هذا الشط بحاله-  و النخل نابتا في منابته بحاله-  ما تخرب واسط و البصرة أبدا- . ثم قال ع إنما تؤتى الأرض-  أي إنما تدهى من إعواز أهلها أي من فقرهم- .

قال و الموجب لإعوازهم طمع ولاتهم في الجباية-  و جمع الأموال لأنفسهم و لسلطانهم و سوء ظنهم بالبقاء-  يحتمل أن يريد به أنهم يظنون طول البقاء-  و ينسون الموت و الزوال- . و يحتمل أن يريد به أنهم يتخيلون العزل و الصرف-  فينتهزون الفرص و يقتطعون الأموال-  و لا ينظرون في عمارة البلاد

عهد سابور بن أردشير لابنه

و قد وجدت في عهد سابور بن أردشير إلى ابنه كلاما-  يشابه كلام أمير المؤمنين ع في هذا العهد-  و هو قوله و اعلم أن قوام أمرك بدرور الخراج-  و درور الخراج بعمارة البلاد-  و بلوغ الغاية في ذلك استصلاح أهله-  بالعدل عليهم و المعونة لهم-  فإن بعض الأمور لبعض سبب و عوام الناس لخواصهم عدة-  و بكل صنف منهم إلى الآخر حاجة-  فاختر لذلك أفضل من تقدر عليه من كتابك-  و ليكونوا من أهل البصر و العفاف و الكفاية-  و استرسل إلى كل امرئ منهم شخصا يضطلع به-  و يمكنه تعجيل الفراغ منه-  فإن اطلعت على أن أحدا منهم خان أو تعدى-  فنكل به و بالغ في عقوبته-  و احذر أن تستعمل على الأرض الكثير خراجها-  إلا البعيد الصوت العظيم شرف المنزلة- . و لا تولين أحدا من قواد جندك الذين هم عدة للحرب-  و جنة من الأعداء شيئا من أمر الخراج-  فلعلك تهجم من بعضهم-  على خيانة في المال أو تضييع للعمل-  فإن سوغته المال و أغضيت له على التضييع-  كان ذلك هلاكا و إضرارا بك و برعيتك-  و داعية إلى فساد غيره-  و إن أنت كافأته فقد استفسدته و أضقت صدره-  و هذا أمر توقيه حزم و الإقدام عليه خرق-  و التقصير فيه عجز- .

و اعلم أن من أهل الخراج من يلجئ بعض أرضه و ضياعه-  إلى خاصة الملك و بطانته لأحد أمرين-  أنت حري بكراهتهما-  إما لامتناع من جور العمال و ظلم الولاة-  و تلك منزلة يظهر بها سوء أثر العمال-  و ضعف الملك و إخلاله بما تحت يده-  و إما للدفع عما يلزمهم‏ من الحق و التيسر له-  و هذه خلة تفسد بها آداب الرعية-  و تنتقص بها أموال الملك-  فاحذر ذلك و عاقب الملتجئين و الملجأ إليهمركب زياد يوما بالسوس يطوف بالضياع و الزروع-  فرأى عمارة حسنة فتعجب منها-  فخاف أهلها أن يزيد في خراجهم-  فلما نزل دعا وجوه البلد و قال بارك الله عليكم-  فقد أحسنتم العمارة و قد وضعت عنكم مائة ألف درهم-  ثم قال ما توفر علي من تهالك غيرهم على العمارة-  و أمنهم جوري أضعاف ما وضعت عن هؤلاء الآن-  و الذي وضعته بقدر ما يحصل من ذاك-  و ثواب عموم العمارة و أمن الرعية أفضل ربح: ثُمَّ انْظُرْ فِي حَالِ كُتَّابِكَ-  فَوَلِّ عَلَى أُمُورِكَ خَيْرَهُمْ-  وَ اخْصُصْ رَسَائِلَكَ الَّتِي تُدْخِلُ فِيهَا مَكَايِدَكَ وَ أَسْرَارَكَ-  بِأَجْمَعِهِمْ لِوُجُودِ صَالِحِ الْأَخْلَاقِ مِمَّنْ لَا تُبْطِرُهُ الْكَرَامَةُ-  فَيَجْتَرِئَ بِهَا عَلَيْكَ فِي خِلَافٍ لَكَ بِحَضْرَةِ مَلٍا-  وَ لَا تُقَصِّرُ بِهِ الْغَفْلَةُ عَنْ إِيرَادِ مُكَاتَبَاتِ عُمِّالِكَ عَلَيْكَ-  وَ إِصْدَارِ جَوَابَاتِهَا عَلَى الصَّوَابِ عَنْكَ-  وَ فِيمَا يَأْخُذُ لَكَ وَ يُعْطِي مِنْكَ-  وَ لَا يُضْعِفُ عَقْداً اعْتَقَدَهُ لَكَ-  وَ لَا يَعْجِزُ عَنْ إِطْلَاقِ مَا عُقِدَ عَلَيْكَ-  وَ لَا يَجْهَلُ مَبْلَغَ قَدْرِ نَفْسِهِ فِي الْأُمُورِ-  فَإِنَّ الْجَاهِلَ بِقَدْرِ نَفْسِهِ يَكُونُ بِقَدْرِ غَيْرِهِ أَجْهَلَ-  ثُمَّ لَا يَكُنِ اخْتِيَارُكَ إِيَّاهُمْ عَلَى فِرَاسَتِكَ-  وَ اسْتِنَامَتِكَ وَ حُسْنِ الظَّنِّ مِنْكَ-فَإِنَّ الرِّجَالَ يَتَعَرَّضُونَ لِفِرَاسَاتِ الْوُلَاةِ-  بِتَصَنُّعِهِمْ وَ حُسْنِ حَدِيثِهِمْ-  وَ لَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ النَّصِيحَةِ وَ الْأَمَانَةِ شَيْ‏ءٌ-  وَ لَكِنِ اخْتَبِرْهُمْ بِمَا وُلُّوا لِلصَّالِحِينَ قَبْلَكَ-  فَاعْمِدْ لِأَحْسَنِهِمْ كَانَ فِي الْعَامَّةِ أَثَراً-  وَ أَعْرَفِهِمْ بِالْأَمَانَةِ وَجْهاً-  فَإِنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى نَصِيحَتِكَ لِلَّهِ وَ لِمَنْ وُلِّيتَ أَمْرَهُ-  وَ اجْعَلْ لِرَأْسِ كُلِّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِكَ رَأْساً مِنْهُمْ-  لَا يَقْهَرُهُ كَبِيرُهَا وَ لَا يَتَشَتَّتُ عَلَيْهِ كَثِيرُهَا-  وَ مَهْمَا كَانَ فِي كُتَّابِكَ مِنْ عَيْبٍ فَتَغَابَيْتَ عَنْهُ أُلْزِمْتَهُ

فصل فيما يجب على مصاحب الملك

لما فرغ من أمر الخراج شرع في أمر الكتاب-  الذين يلون أمر الحضرة-  و يترسلون عنه إلى عماله و أمرائه-  و إليهم معاقد التدبير و أمر الديوان-  فأمره أن يتخير الصالح منهم-  و من يوثق على الاطلاع على الأسرار و المكايد-  و الحيل و التدبيرات-  و من لا يبطره الإكرام و التقريب-  فيطمع فيجترئ على مخالفته في ملإ من الناس و الرد عليه-  ففي ذلك من الوهن للأمير و سوء الأدب-  الذي انكشف الكاتب عنه ما لا خفاء به- . قال الرشيد للكسائي يا علي بن حمزة-  قد أحللناك المحل الذي لم تكن تبلغه همتك-  فرونا من الأشعار أعفها-  و من الأحاديث أجمعها لمحاسن الأخلاق-  و ذاكرنا بآداب الفرس و الهند-  و لا تسرع علينا الرد في ملإ و لا تترك تثقيفنا في خلإ- . و في آداب ابن المقفع-  لا تكونن صحبتك للسلطان إلا بعد رياضة منك لنفسك-  على‏طاعتهم في المكروه عندك و موافقتهم فيما خالفك-  و تقدير الأمور على أهوائهم دون هواك-  فإن كنت حافظا إذا ولوك حذرا إذا قربوك-  أمينا إذا ائتمنوك-  تعلمهم و كأنك تتعلم منهم-  و تأدبهم و كأنك تتأدب بهم-  و تشكر لهم و لا تكلفهم الشكر-  ذليلا إن صرموك راضيا إن أسخطوك-  و إلا فالبعد منهم كل البعد و الحذر منهم كل الحذر-  و إن وجدت عن السلطان و صحبته غنى فاستغن عنه-  فإنه من يخدم السلطان حق خدمته-  يخلى بينه و بين لذة الدنيا و عمل الأخرى-  و من يخدمه غير حق الخدمة فقد احتمل وزر الآخرة-  و عرض نفسه للهلكة و الفضيحة في الدنيا-  فإذا صحبت السلطان-  فعليك بطول الملازمة من غير إملال-  و إذا نزلت منه بمنزلة الثقة فاعزل عنه كلام الملق-  و لا تكثر له من الدعاء-  و لا تردن عليه كلاما في حفل و إن أخطأ-  فإذا خلوت به فبصره في رفق-  و لا يكونن طلبك ما عنده بالمسألة-  و لا تستبطئه و إن أبطأ-  و لا تخبرنه أن لك عليه حقا-  و أنك تعتمد عليه ببلاء-  و إن استطعت ألا تنسى حقك و بلاءك-  بتجديد النصح و الاجتهاد فافعل-  و لا تعطينه المجهود كله من نفسك في أول صحبتك له-  و أعد موضعا للمزيد-  و إذا سأل غيرك عن شي‏ء فلا تكن المجيب- .

و اعلم أن استلابك الكلام خفة فيك-  و استخفاف منك بالسائل و المسئول-  فما أنت قائل إن قال لك السائل ما إياك سألت-  أو قال المسئول أجب بمجالسته و محادثته-  أيها المعجب بنفسه و المستخف بسلطانه- . و قال عبد الملك بن صالح لمؤدب ولده-  بعد أن اختصه بمجالسته و محادثته-  يا عبد الله كن على التماس الحظ فيك بالسكوت-  أحرص منك على التماسه بالكلام-  فإنهم قالوا إذا أعجبك الكلام فاصمت-  و إذا أعجبك الصمت فتكلم-  و اعلم أن أصعب الملوك معاملة الجبار الفطن المتفقد-  فإن ابتليت بصحبته فاحترس-  و إن عوفيت فاشكر الله على السلامة-  فإن السلامة أصل كل نعمة-  لا تساعدني على ما يقبح بي-  و لا تردن علي‏خطأ في مجلس-  و لا تكلفني جواب التشميت و التهنئة-  و دع عنك كيف أصبح الأمير و كيف أمسى-  و كلمني بقدر ما أستنطقك-  و اجعل بدل التقريظ لي صواب الاستماع مني-  و اعلم أن صواب الاستماع أحسن من صواب القول-  فإذا سمعتني أتحدث فلا يفوتنك منه شي‏ء-  و أرني فهمك إياه في طرفك و وجهك-  فما ظنك بالملك-  و قد أحلك محل المعجب بما يسمعك إياه-  و أحللته محل من لا يسمع منه-  و كل من هذا يحبط إحسانك و يسقط حق حرمتك-  و لا تستدع الزيادة من كلامي-  بما تظهر من استحسان ما يكون مني-  فمن أسوأ حالا ممن يستكد الملوك بالباطل-  و ذلك يدل على تهاونه بقدر ما أوجب الله تعالى من حقهم- 

و اعلم أني جعلتك مؤدبا بعد أن كنت معلما-  و جعلتك جليسا مقربا بعد أن كنت مع الصبيان مباعدا-  فمتى لم تعرف نقصان ما خرجت منه-  لم تعرف رجحان ما دخلت فيه-  و قد قالوا من لم يعرف سوء ما أولى-  لم يعرف حسن ما أبلىثم قال ع و ليكن كاتبك غير مقصر-  عن عرض مكتوبات عمالك عليك-  و الإجابة عنها حسن الوكالة و النيابة عنك-  فيما يحتج به لك عليهم من مكتوباتهم-  و ما يصدره عنك إليهم من الأجوبة-  فإن عقد لك عقدا قواه و أحكمه-  و إن عقد عليك عقدا اجتهد في نقضه و حله-  قال و أن يكون عارفا بنفسه-  فمن لم يعرف قدر نفسه لم يعرف قدر غيره- . ثم نهاه أن يكون مستند اختياره لهؤلاء فراسته فيهم-  و غلبة ظنه بأحوالهم-  فإن التدليس ينم في ذلك كثيرا-  و ما زال الكتاب يتصنعون للأمراء بحسن الظاهر-  و ليس وراء ذلك كثير طائل في النصيحة و المعرفة-  و لكن ينبغي أن يرجع في ذلك-  إلى ما حكمت‏به التجربة لهم و ما ولوه من قبل-  فإن كانت ولايتهم و كتابتهم حسنة مشكورة فهم هم-  و إلا فلا-  و يتعرفون لفراسات الولاة-  يجعلون أنفسهم بحيث يعرف بضروب من التصنع-  و روي يتعرضون- . ثم أمره أن يقسم فنون الكتابة و ضروبها بينهم-  نحو أن يكون أحدهم للرسائل إلى الأطراف و الأعداء-  و الآخر لأجوبة عمال السواد-  و الآخرة بحضرة الأمير في خاصته و داره و حاشيته و ثقاته- . ثم ذكر له أنه مأخوذ مع الله تعالى بما يتغابى عنه-  و يتغافل من عيوب كتابه-  فإن الدين لا يبيح الإغضاء و الغفلة عن الأعوان و الخول-  و يوجب التطلع عليهم

فصل في الكتاب و ما يلزمهم من الآداب

و اعلم أن الكاتب الذي يشير أمير المؤمنين ع إليه-  هو الذي يسمى الآن في الاصطلاح العرفي وزيرا-  لأنه صاحب تدبير حضرة الأمير و النائب عنه في أموره-  و إليه تصل مكتوبات العمال و عنه تصدر الأجوبة-  و إليه العرض على الأمير-  و هو المستدرك على العمال و المهيمن عليهم-  و هو على الحقيقة كاتب الكتاب-  و لهذا يسمونه الكاتب المطلق- . و كان يقال للكاتب على الملك ثلاث-  رفع الحجاب عنه و اتهام الوشاة عليه-  و إفشاء السر إليه- . و كان يقال صاحب السلطان نصفه و كاتبه كله-  و ينبغي لصاحب الشرطة أن يطيل الجلوس و يديم العبوس-  و يستخف بالشفاعات- .

و كان يقال إذا كان الملك ضعيفا و الوزير شرها-  و القاضي جائرا فرقوا الملك شعاعا- . و كان يقال لا تخف صولة الأمير مع رضا الكاتب-  و لا تثقن برضا الأمير مع سخط الكاتب-  و أخذ هذا المعنى أبو الفضل بن العميد فقال- 

   و زعمت أنك لست تفكر بعد ما
علقت يداك بذمة الأمراء

هيهات قد كذبتك فكرتك التي‏
قد أوهمتك غنى عن الوزراء

لم تغن عن أحد سماء لم تجد
أرضا و لا أرض بغير سماء

 و كان يقال إذا لم يشرف الملك على أموره-  صار أغش الناس إليه وزيره- . و كان يقال ليس الحرب الغشوم بأسرع في اجتياح الملك-  من تضييع مراتب الكتاب حتى يصيبها أهل النذالة-  و يزهد فيها أولو الفضل

فصل في ذكر ما نصحت به الأوائل الوزراء

و كان يقال لا شي‏ء أذهب بالدول-  من استكفاء الملك الأسرار- . و كان يقال من سعادة جد المرء-  ألا يكون في الزمان المختلط وزيرا للسلطان- . و كان يقال كما أن أشجع الرجال يحتاج إلى السلاح-  و أسبق الخيل يحتاج إلى السوط-  و أحد الشفار يحتاج إلى المسن-  كذلك أحزم الملوك و أعقلهم-  يحتاج إلى الوزير الصالح- . و كان يقال صلاح الدنيا بصلاح الملوك-  و صلاح الملوك بصلاح الوزراء-و كما لا يصلح الملك إلا بمن يستحق الملك-  كذلك لا تصلح الوزارة إلا بمن يستحق الوزارة- . و كان يقال-  الوزير الصالح لا يرى أن صلاحه في نفسه كائن صلاحا-  حتى يتصل بصلاح الملك و صلاح رعيته-  و أن تكون عنايته فيما عطف الملك على رعيته-  و فيما استعطف قلوب الرعية و العامة-  على الطاعة للملك-  و فيما فيه قوام أمر الملك من التدبير الحسن-  حتى يجمع إلى أخذ الحق تقديم عموم الأمن-  و إذا طرقت الحوادث كان للملك عدة و عتادا-  و للرعية كافيا محتاطا و من ورائها محاميا ذابا-  يعنيه من صلاحها ما لا يعنيه من صلاح نفسه دونها- . و كان يقال مثل الملك الصالح إذا كان وزيره فاسدا-  مثل الماء العذب الصافي و فيه التمساح-  لا يستطيع الإنسان و إن كان سابحا-  و إلى الماء ظامئا دخوله-  حذرا على نفسه- .

قال عمر بن عبد العزيز لمحمد بن كعب القرظي-  حين استخلف-  لو كنت كاتبي و ردءا لي على ما دفعت إليه-  قال لا أفعل و لكني سأرشدك-  أسرع الاستماع و أبطئ في التصديق-  حتى يأتيك واضح البرهان-  و لا تعملن ثبجتك فيما تكتفي فيه بلسانك-  و لا سوطك فيما تكتفي فيه بثبجتك-  و لا سيفك فيما تكتفي فيه بسوطك- . و كان يقال-  التقاط الكاتب للرشا و ضبط الملك لا يجتمعان- . و قال أبرويز لكاتبه اكتم السر و اصدق الحديث-  و اجتهد في النصيحة و عليك بالحذر-  فإن لك علي ألا أعجل عليك حتى أستأني لك-  و لا أقبل فيك قولا حتى أستيقن-  و لا أطمع فيك أحدا فتغتال- 

و اعلم أنك بمنجاة رفعة فلا تحطنها-  و في‏ظل مملكة فلا تستزيلنه-  قارب الناس مجاملة من نفسك-  و باعدهم مسامحة عن عدوك-  و اقصد إلى الجميل ازدراعا لغدك-  و تنزه بالعفاف صونا لمروءتك-  و تحسن عندي بما قدرت عليه-  احذر لا تسرعن الألسنة عليك-  و لا تقبحن الأحدوثة عنك-  و صن نفسك صون الدرة الصافية-  و أخلصها إخلاص الفضة البيضاء-  و عاتبها معاتبة الحذر المشفق-  و حصنها تحصين المدينة المنيعة-  لا تدعن أن ترفع إلى الصغير فإنه يدل على الكبير-  و لا تكتمن عني الكبير فإنه ليس بشاغل عن الصغير-  هذب أمورك ثم القني بها-  و احكم أمرك ثم راجعني فيه-  و لا تجترئن علي فأمتعض-  و لا تنقبضن مني فأتهم-  و لا تمرضن ما تلقاني به و لا تخدجنه-  و إذا أفكرت فلا تجعل و إذا كتبت فلا تعذر-  و لا تستعن بالفضول فإنها علاوة على الكفاية-  و لا تقصرن عن التحقيق فإنها هجنة بالمقالة-  و لا تلبس كلاما بكلام و لا تبعدن معنى عن معنى-  و أكرم لي كتابك عن ثلاث-  خضوع يستخفه و انتشار يهجنه و معان تعقد به-  و اجمع الكثير مما تريد في القليل مما تقول-  و ليكن بسطة كلامك على كلام السوقة كبسطة الملك-  الذي تحدثه على الملوك-  لا يكن ما نلته عظيما و ما تتكلم به صغيرا- 

فإنما كلام الكاتب على مقدار الملك-  فاجعله عاليا كعلوه و فائقا كتفوقه-  فإنما جماع الكلام كله خصال أربع-  سؤالك الشي‏ء و سؤالك عن الشي‏ء-  و أمرك بالشي‏ء و خبرك عن الشي‏ء-  فهذه الخصال دعائم المقالات-  إن التمس إليها خامس لم يوجد-  و إن نقص منها واحد لم يتم-  فإذا أمرت فاحكم و إذا سألت فأوضح-  و إذا طلبت فأسمح و إذا أخبرت فحقق-  فإنك إذا فعلت ذلك أخذت بجراثيم القول كله-  فلم يشتبه عليك واردة و لم تعجزك صادرة-  أثبت في دواوينك ما أخذت و أحص فيها ما أخرجت-  و تيقظ لما تعطي و تجرد لما تأخذ-  و لا يغلبنك النسيان عن الإحصاء-  و لا الأناة عن التقدم-  و لا تخرجن‏ وزن قيراط في غير حق-  و لا تعظمن إخراج الألوف الكثيرة في الحق-  و ليكن ذلك كله عن مؤامرتي

ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وَ ذَوِي الصِّنَاعَاتِ وَ أَوْصِ بِهِمْ خَيْراً-  الْمُقِيمِ مِنْهُمْ وَ الْمُضْطَرِبِ بِمَالِهِ وَ الْمُتَرَفِّقِ بِبَدَنِهِ-  فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ وَ أَسْبَابُ الْمَرَافِقِ-  وَ جُلَّابُهَا مِنَ الْمَبَاعِدِ وَ الْمَطَارِحِ-  فِي بَرِّكَ وَ بَحْرِكَ وَ سَهْلِكَ وَ جَبَلِكَ-  وَ حَيْثُ لَا يَلْتَئِمُ النَّاسُ لِمَوَاضِعِهَا-  وَ لَا يَجْتَرِءُونَ عَلَيْهَا-  فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لَا تُخَافُ بَائِقَتُهُ-  وَ صُلْحٌ لَا تُخْشَى غَائِلَتُهُ-  وَ تَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِكَ وَ فِي حَوَاشِي بِلَادِكَ-  وَ اعْلَمْ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ فِي كَثِيرٍ مِنْهُمْ ضِيقاً فَاحِشاً-  وَ شُحّاً قَبِيحاً-  وَ احْتِكَاراً لِلْمَنَافِعِ وَ تَحَكُّماً فِي الْبِيَاعَاتِ-  وَ ذَلِكَ بَابُ مَضَرَّةٍ لِلْعَامَّةِ-  وَ عَيْبٌ عَلَى الْوُلَاةِ فَامْنَعْ مِنَ الِاحْتِكَارِ-  فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص مَنَعَ مِنْهُ-  وَ لْيَكُنِ الْبَيْعُ بَيْعاً سَمْحاً بِمَوَازِينِ عَدْلٍ-  وَ أَسْعَارٍ لَا تُجْحِفُ بِالْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَ الْمُبْتَاعِ-  فَمَنْ قَارَفَ حُكْرَةً بَعْدَ نَهْيِكَ إِيَّاهُ فَنَكِّلْ بِهِ-  وَ عَاقِبْهُ مِنْ غَيْرِ إِسْرَافٍ خرج ع الآن إلى ذكر التجار و ذوي الصناعات-  و أمره بأن يعمل معهم الخير-  و أن يوصى غيره من أمرائه و عماله أن يعملوا معهم الخير-  و استوص بمعنى أوص‏نحو قر في المكان و استقر-  و علا قرنه و استعلاه- .

و قوله استوص بالتجار خيرا أي أوص نفسك بذلك-  و منه قول النبي ص استوصوا بالنساء خيرا-  و مفعولا استوص و أوص هاهنا محذوفان للعلم بهما-  و يجوز أن يكون استوص أي اقبل الوصية مني بهم-  و أوص بهم أنت غيرك- . ثم قسم ع الموصى بهم ثلاثة أقسام-  اثنان منها للتجار و هما المقيم-  و المضطرب يعني المسافر و الضرب السير في الأرض-  قال تعالى إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ-  و واحد لأرباب الصناعات-  و هو قوله و المترفق ببدنه-  و روي بيديه تثنية يد- . و المطارح الأماكن البعيدة- . و حيث لا يلتئم الناس لا يجتمعون-  و روي حيث لا يلتئم بحذف الواو-  ثم قال فإنهم أولو سلم يعني التجار و الصناع-  استعطفه عليهم و استماله إليهم- .

و قال ليسوا كعمال الخراج و أمراء الأجناد-  فجانبهم ينبغي أن يراعى و حالهم يجب أن يحاط و يحمى-  إذ لا يتخوف منهم بائقة لا في مال يخونون فيه-  و لا في دولة يفسدونها-  و حواشي البلاد أطرافها- . ثم قال له قد يكون في كثير منهم نوع من الشح و البخل-  فيدعوهم ذلك إلى الاحتكار في الأقوات-  و الحيف في البياعات-  و الاحتكار ابتياع الغلات في أيام‏رخصها-  و ادخارها في المخازن إلى أيام الغلاء و القحط-  و الحيف تطفيف في الوزن و الكيل و زيادة في السعر-  و هو الذي عبر عنه بالتحكم-  و قد نهى رسول الله ص عن الاحتكار-  و أما التطفيف و زياد التسعير فمنهي عنهما في نص الكتاب- . و قارف حكرة واقعها و الحاء مضمومة-  و أمره أن يؤدب فاعل ذلك من غير إسراف-  و ذلك أنه دون المعاصي التي توجب الحدود-  فغاية أمره من التعزير الإهانة و المنع: ثُمَّ اللَّهَ اللَّهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لَا حِيلَةَ لَهُمْ-  مِنَ الْمَسَاكِينِ وَ الْمُحْتَاجِينَ وَ أَهْلِ الْبُؤْسَى وَ الزَّمْنَى-  فَإِنَّ فِي هَذِهِ الطَّبَقَةِ قَانِعاً وَ مُعْتَرّاً-  وَ احْفَظِ اللَّهَ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ حَقِّهِ فِيهِمْ-  وَ اجْعَلْ لَهُمْ قِسْماً مِنْ بَيْتِ مَالِكِ-  وَ قِسْماً مِنْ غَلَّاتِ صَوَافِي الْإِسْلَامِ فِي كُلِّ بَلَدٍ-  فَإِنَّ لِلْأَقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلْأَدْنَى-  وَ كُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ-  وَ لَا يَشْغَلَنَّكَ عَنْهُمْ بَطَرٌ-  فَإِنَّكَ لَا تُعْذَرُ بِتَضْيِيعِ التَّافِهِ لِإِحْكَامِكَ الْكَثِيرَ الْمُهِمَّ-  فَلَا تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ وَ لَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ-  وَ تَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لَا يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ-  مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ الْعُيُونُ وَ تَحْقِرُهُ الرِّجَالُ-  فَفَرِّغْ لِأُولَئِكَ ثِقَتَكَ مِنْ أَهْلِ الْخَشْيَةِ وَ التَّوَاضُعِ-  فَلْيَرْفَعْ إِلَيْكَ أُمُورَهُمْ-  ثُمَّ اعْمَلْ فِيهِمْ بِالْإِعْذَارِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ يَوْمَ تَلْقَاهُ-  فَإِنَّ هَؤُلَاءِ مِنْ بَيْنِ الرَّعِيَّةِ أَحْوَجُ إِلَى الْإِنْصَافِ مِنْ غَيْرِهِمْ-  وَ كُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَى اللَّهِ فِي تَأْدِيَةِ حَقِّهِ إِلَيْهِ-وَ تَعَهَّدْ أَهْلَ الْيُتْمِ وَ ذَوِي الرِّقَّةِ فِي السِّنِّ-  مِمَّنْ لَا حِيلَةَ لَهُ وَ لَا يَنْصِبُ لِلْمَسْأَلَةِ نَفْسَهُ-  وَ ذَلِكَ عَلَى الْوُلَاةِ ثَقِيلٌ-  وَ الْحَقُّ كُلُّهُ ثَقِيلٌ وَ قَدْ يُخَفِّفُهُ اللَّهُ عَلَى أَقْوَامٍ-  طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ فَصَبَّرُوا أَنْفُسَهُمْ-  وَ وَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللَّهِ لَهُمْ انتقل من التجار و أرباب الصناعات-  إلى ذكر فقراء الرعية و مغموريها فقال-  و أهل البؤسى و هي البؤس كالنعمى للنعيم-  و الزمنى أولو الزمانة- .

و القانع السائل و المعتر الذي يعرض لك و لا يسألك-  و هما من ألفاظ الكتاب العزيز- . و أمره أن يعطيهم من بيت مال المسلمين-  لأنهم من الأصناف المذكورين في قوله تعالى-  وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ-  وَ لِذِي الْقُرْبى‏ وَ الْيَتامى‏ وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ-  و أن يعطيهم من غلات صوافي الإسلام-  و هي الأرضون التي لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب-  و كانت صافية لرسول الله ص-  فلما قبض صارت لفقراء المسلمين-  و لما يراه الإمام من مصالح الإسلام- .

ثم قال له فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى-  أي كل فقراء المسلمين سواء في سهامهم-  ليس فيها أقصى و أدنى-  أي لا تؤثر من هو قريب إليك أو إلى أحد من خاصتك-  على من هو بعيد ليس له سبب إليك-  و لا علقة بينه و بينك-  و يمكن أن يريد به-  لا تصرف غلات ما كان من الصوافي في بعض البلاد-  إلى مساكين ذلك‏ البلد خاصة-  فإن حق البعيد عن ذلك البلد فيها-  كمثل حق المقيم في ذلك البلد- . و التافه الحقير-  و أشخصت زيدا من موضع كذا أخرجته عنه-  و فلان يصعر خده للناس أي يتكبر عليهم- . و تقتحمه العيون تزدريه و تحتقره-  و الإعذار إلى الله-  الاجتهاد و المبالغة في تأدية حقه و القيام بفرائضه- . كان بعض الأكاسرة يجلس للمظالم بنفسه-  و لا يثق إلى غيره-  و يقعد بحيث يسمع الصوت-  فإذا سمعه أدخل المتظلم فأصيب بصمم في سمعه-  فنادى مناديه أن الملك يقول أيها الرعية-  إني إن أصبت بصمم في سمعي فلم أصب في بصري-  كل ذي ظلامة فليلبس ثوبا أحمر-  ثم جلس لهم في مستشرف له- . و كان لأمير المؤمنين ع بيت سماه بيت القصص-  يلقي الناس فيه رقاعهم-  و كذلك كان فعل المهدي محمد بن هارون الواثق-  من خلفاء بني العباس: وَ اجْعَلْ لِذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِيهِ شَخْصَكَ-  وَ تَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً-  فَتَتَوَاضَعُ فِيهِ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَكَ-  وَ تُقْعِدُ عَنْهُمْ جُنْدَكَ وَ أَعْوَانَكَ مِنْ أَحْرَاسِكَ وَ شُرَطِكَ-  حَتَّى يُكَلِّمَكَ مُتَكَلِّمُهُمْ غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ-  فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص يَقُولُ فِي غَيْرِ مَوْطِنٍ-  لَنْ تُقَدَّسَ أُمَّةٌ لَا يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ-  غَيْرَ مُتَتَعْتِعٍ-ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ مِنْهُمْ وَ الْعِيَّ-  وَ نَحِّ عَنْهُمُ الضِّيقَ وَ الْأَنَفَ-  يَبْسُطِ اللَّهُ عَلَيْكَ بِذَلِكَ أَكْنَافَ رَحْمَتِهِ-  وَ يُوجِبُ لَكَ ثَوَابَ طَاعَتِهِ-  وَ أَعْطِ مَا أَعْطَيْتَ هَنِيئاً وَ امْنَعْ فِي إِجْمَالٍ وَ إِعْذَارٍ-  ثُمَّ أُمُورٌ مِنْ أُمُورِكَ لَا بُدَّ لَكَ مِنْ مُبَاشَرَتِهَا-  مِنْهَا إِجَابَةُ عُمَّالِكَ بِمَا يَعْيَا عَنْهُ كُتَّابُكَ-  وَ مِنْهَا إِصْدَارُ حَاجَاتِ النَّاسِ عِنْدَ وُرُودِهَا عَلَيْكَ-  بِمَا تَحْرَجُ بِهِ صُدُورُ أَعْوَانِكَ-  وَ أَمْضِ لِكُلِّ يَوْمٍ عَمَلَهُ فَإِنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ مَا فِيهِ هذا الفصل من تتمة ما قبله-  و قد روي حتى يكلمك مكلمهم فاعل من كلم-  و الرواية الأولى الأحسن- . و غير متتعتع غير مزعج و لا مقلق-  و المتتعتع في الخبر النبوي-  المتردد المضطرب في كلامه عيا من خوف لحقه-  و هو راجع إلى المعنى الأول- . و الخرق الجهل- 

و روي ثم احتمل الخرق منهم و الغي-  و الغي و هو الجهل أيضا-  و الرواية الأولى أحسن- . ثم بين له ع أنه لا بد له من هذا المجلس-  لأمر آخر-  غير ما قدمه ع-  و ذلك لأنه لا بد من أن يكون في حاجات الناس-  ما يضيق به صدور أعوانه و النواب عنه-  فيتعين عليه أن يباشرها بنفسه-  و لا بد من أن يكون في كتب عماله الواردة عليه-ما يعيا كتابه عن جوابه-  فيجيب عنه بعلمه-  و يدخل في ذلك-  أن يكون فيها ما لا يجوز في حكم السياسة و مصلحة الولاية-  أن يطلع الكتاب عليه-  فيجيب أيضا عن ذلك بعلمه- .

ثم قال له لا تدخل عمل يوم في عمل يوم آخر-  فيتعبك و يكدرك-  فإن لكل يوم ما فيه من العمل: وَ اجْعَلْ لِنَفْسِكَ فِيمَا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى-  أَفْضَلَ تِلْكَ الْمَوَاقِيتِ وَ أَجْزَلَ تِلْكَ الْأَقْسَامِ-  وَ إِنْ كَانَتْ كُلُّهَا لِلَّهِ إِذَا صَلَحَتْ فِيهَا النِّيَّةُ-  وَ سَلِمَتْ مِنْهَا الرَّعِيَّةُ-  وَ لْيَكُنْ فِي خَاصَّةِ مَا تُخْلِصُ بِهِ لِلَّهِ دِينَكَ إِقَامَةُ فَرَائِضِهِ-  الَّتِي هِيَ لَهُ خَاصَّةً-  فَأَعْطِ اللَّهَ مِنْ بَدَنِكَ فِي لَيْلِكَ وَ نَهَارِكَ-  وَ وَفِّ مَا تَقَرَّبْتَ بِهِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ-  مِنْ ذَلِكَ كَامِلًا غَيْرَ مَثْلُومٍ وَ لَا مَنْقُوصٍ-  بَالِغاً مِنْ بَدَنِكَ مَا بَلَغَ-  وَ إِذَا قُمْتَ فِي صَلَاتِكَ لِلنَّاسِ-  فَلَا تَكُونَنَّ مُنَفِّراً وَ لَا مُضَيِّعاً-  فَإِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ بِهِ الْعِلَّةُ وَ لَهُ الْحَاجَةُ-  وَ قَدْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص حِينَ وَجَّهَنِي إِلَى الْيَمَنِ-  كَيْفَ أُصَلِّي بِهِمْ-  فَقَالَ صَلِّ بِهِمْ كَصَلَاةِ أَضْعَفِهِمْ-  وَ كُنْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً لمافرغ ع من وصيته بأمور رعيته-  شرع في وصيته بأداء الفرائض-  التي‏افترضها الله عليه من عبادته-  و لقد أحسن ع في قوله و إن كانت كلها لله-  أي أن النظر في أمور الرعية-  مع صحة النية و سلامة الناس من الظلم-  من جملة العبادات و الفرائض أيضا- .

ثم قال له كاملا غير مثلوم-  أي لا يحملنك شغل السلطان على أن تختصر الصلاة اختصارا-  بل صلها بفرائضها و سننها و شعائرها في نهارك و ليلك-  و إن أتعبك ذلك و نال من بدنك و قوتك- . ثم أمره إذا صلى بالناس جماعة ألا يطيل فينفرهم عنها-  و ألا يخدج الصلاة و ينقصها فيضيعها- . ثم روى خبرا عن النبي ص-  و هو قوله ع له صل بهم كصلاة أضعفهم-  و قوله و كن بالمؤمنين رحيما-  يحتمل أن يكون من تتمة الخبر النبوي-  و يحتمل أن يكون من كلام أمير المؤمنين ع-  و الظاهر أنه من كلام أمير المؤمنين من الوصية للأشتر-  لأن اللفظة الأولى عند أرباب الحديث-  هي المشهور في الخبر: وَ أَمَّا بَعْدَ هَذَا فَلَا تُطَوِّلَنَّ احْتِجَابَكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ-  فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلَاةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّيقِ-  وَ قِلَّةُ عِلْمٍ بِالْأُمُورِ-  وَ الِاحْتِجَابُ مِنْهُمْ يَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا دُونَهُ-  فَيَصْغُرُ عِنْدَهُمُ الْكَبِيرُ وَ يَعْظُمُ الصَّغِيرُ-  وَ يَقْبُحُ الْحَسَنُ وَ يَحْسُنُ الْقَبِيحُ-  وَ يُشَابُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ-  وَ إِنَّمَا الْوَالِي بَشَرٌ-  لَا يَعْرِفُ مَا تَوَارَى عَنْهُ النَّاسُ بِهِ مِنَ الْأُمُورِ-  وَ لَيْسَتْ عَلَى الْحَقِّ سِمَاتٌ-  تُعْرَفُ بِهَا ضُرُوبُ الصِّدْقِ مِنَ‏ الْكَذِبِ-  وَ إِنَّمَا أَنْتَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ-  إِمَّا امْرُؤٌ سَخَتْ نَفْسُكَ بِالْبَذْلِ فِي الْحَقِّ-  فَفِيمَ احْتِجَابُكَ مِنْ وَاجِبِ حَقٍّ تُعْطِيهِ-  أَوْ فِعْلٍ كَرِيمٍ تُسْدِيهِ أَوْ مُبْتَلًى بِالْمَنْعِ-  فَمَا أَسْرَعَ كَفَّ النَّاسِ عَنْ مَسْأَلَتِكَ-  إِذَا أَيِسُوا مِنْ بَذْلِكَ-  مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ حَاجَاتِ النَّاسِ إِلَيْكَ-  مَا لَا مَئُونَةَ فِيهِ عَلَيْكَ-  مِنْ شَكَاةِ مَظْلِمَةٍ أَوْ طَلَبِ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ نهاه عن الاحتجاب فإنه مظنة انطواء الأمور عنه-  و إذا رفع الحجاب دخل عليه كل أحد فعرف الأخبار-  و لم يخف عليه شي‏ء من أحوال عمله- .

ثم قال لم تحتجب-  فإن أكثر الناس يحتجبون كيلا يطلب منهم الرفد- . و أنت فإن كنت جوادا سمحا لم يكن لك إلى الحجاب داع-  و إن كنت ممسكا فسيعلم الناس ذلك منك-  فلا يسألك أحد شيئا- . ثم قال-  على أن أكثر ما يسأل منك ما لا مئونة عليه في ماله-  كرد ظلامة أو إنصاف من خصم

ذكر الحجاب و ما ورد فيه من الخبر و الشعر

و القول في الحجاب كثير-  حضر باب عمر جماعة من الأشراف-  منهم سهيل بن عمرو و عيينة بن حصن-  و الأقرع بن حابس-  فحجبوا ثم خرج الآذن فنادى-  أين عمار أين سلمان أين صهيب-فأدخلهم فتمعرت وجوه القوم-  فقال سهيل بن عمرو لم تتمعر وجوهكم-  دعوا و دعينا فأسرعوا و أبطأنا-  و لئن حسدتموهم على باب عمر اليوم لأنتم غدا لهم أحسد- . و استأذن أبو سفيان على عثمان فحجبه-  فقيل له حجبك-  فقال لا عدمت من أهلي من إذا شاء حجبني- . و حجب معاوية أبا الدرداء-  فقيل لأبي الدرداء حجبك معاوية-  فقال من يغش أبواب الملوك يهن و يكرم-  و من صادف بابا مغلقا عليه وجد إلى جانبه بابا مفتوحا-  إن سأل أعطي و إن دعا أجيب-  و إن يكن معاوية قد احتجب فرب معاوية لم يحتجب- .

و قال أبرويز لحاجبه لا تضعن شريفا بصعوبة حجاب-  و لا ترفعن وضيعا بسهولته-  ضع الرجال مواضع أخطارهم-  فمن كان قديما شرفه ثم ازدرعه و لم يهدمه بعد آبائه-  فقدمه على شرفه الأول و حسن رأيه الآخر-  و من كان له شرف متقدم و لم يصن ذلك حياطة له-  و لم يزدرعه تثمير المغارسة-  فألحق بآبائه من رفعة حاله ما يقتضيه سابق شرفهم-  و ألحق به في خاصته ما ألحق بنفسه-  و لا تأذن له إلا دبريا و إلا سرارا-  و لا تلحقه بطبقة الأولين-  و إذا ورد كتاب عامل من عمالي فلا تحبسه عني طرفة عين-  إلا أن أكون على حال لا تستطيع الوصول إلي فيها-  و إذا أتاك من يدعي النصيحة لنا فلتكتبها سرا-  ثم أدخله بعد أن تستأذن له-  حتى إذا كان مني بحيث أراه فادفع إلي كتابه-  فإن أحمدت قبلت و إن كرهت رفضت-  و إن أتاك عالم مشتهر بالعلم و الفضل يستأذن فأذن له-  فإن العلم شريف و شريف صاحبه-  و لا تحجبن عني أحدا من أفناء الناس-  إذا أخذت مجلسي مجلس العامة-  فإن الملك لا يحجب إلا عن ثلاث-  عي يكره أن يطلع عليه منه-  أو بخل يكره أن يدخل عليه من يسأله-  أو ريبة هو مصر عليها فيشفق من إبدائها-و وقوف الناس عليها-  و لا بد أن يحيطوا بها علما و إن اجتهد في سترها-  و قد أخذ هذا المعنى الأخير محمود الوراق فقال- 

 إذا اعتصم الوالي بإغلاق بابه
و رد ذوي الحاجات دون حجابه‏

ظننت به إحدى ثلاث و ربما
رجمت بظن واقع بصوابه‏

أقول به مس من العي ظاهر
ففي إذنه للناس إظهار ما به‏

فإن لم يكن عي اللسان فغالب‏
من البخل يحمى ماله عن طلابه‏

و إن لم يكن لا ذا و لا ذا فريبة
يكتمها مستورة بثيابه‏

أقام عبد العزيز بن زرارة الكلابي-  على باب معاوية سنة في شملة من صوف لا يأذن له-  ثم أذن له و قربه و أدناه-  و لطف محله عنده حتى ولاه مصر-  فكان يقال استأذن أقوام لعبد العزيز بن زرارة-  ثم صار يستأذن لهم-  و قال في ذلك

دخلت على معاوية بن حرب
و لكن بعد يأس من دخول‏

و ما نلت الدخول عليه حتى‏
حللت محلة الرجل الذليل‏

و أغضيت الجفون على قذاها
و لم أنظر إلى قال و قيل‏

و أدركت الذي أملت منه‏
و حرمان المنى زاد العجول‏

 و يقال إنه قال له لما دخل عليه- أمير المؤمنين دخلت إليك بالأمل- و احتملت جفوتك بالصبر- و رأيت ببابك أقواما قدمهم الحظ- و آخرين أخرهم الحرمان- فليس ينبغي للمقدم أن يأمن عواقب الأيام- و لا للمؤخر أن ييأس من عطف الزمان- . و أول المعرفة الاختبار فابل و اختبر إن رأيت- و كان يقال لم يلزم باب السلطان أحد- فصبر على ذل الحجاب و كلام البواب- و ألقى الأنف و حمل الضيم و أدام الملازمة- إلا وصل إلى حاجته أو إلى معظمها- .

قال عبد الملك لحاجبه إنك عين أنظر بها- و جنة أستلئم بها- و قد وليتك ما وراء بابي فما ذا تراك صانعا برعيتي- قال أنظر إليهم بعينك و أحملهم على قدر منازلهم عندك- و أضعهم في إبطائهم عن بابك- و لزوم خدمتك مواضع استحقاقهم- و أرتبهم حيث وضعهم ترتيبك- و أحسن إبلاغهم عنك و إبلاغك عنهم- قال لقد وفيت بما عليك و لكن إن صدقت ذلك بفعلك- و قال دعبل و قد حجب عن باب مالك بن طوق-

لعمري لئن حجبتني العبيد
لما حجبت دونك القافيه‏

سأرمي بها من وراء الحجاب‏
شنعاء تأتيك بالداهيه‏

تصم السميع و تعمي البصير
و يسأل من مثلها العافيه‏

 و قال آخر

سأترك هذا الباب ما دام إذنه
على ما أرى حتى يلين قليلا

فما خاب من لم يأته مترفعا
و لا فاز من قد رام فيه دخولا

إذا لم نجد للإذن عندك موضعا
وجدنا إلى ترك المجي‏ء سبيلا

و كتب أبو العتاهية إلى أحمد بن يوسف الكاتب و قد حجبه-

و إن عدت بعد اليوم إني لظالم
سأصرف وجهي حيث تبغي المكارم‏

متى يفلح الغادي إليك لحاجة
و نصفك محجوب و نصفك نائم‏

– يعني ليله و نهاره- . استأذن رجلان على معاوية فأذن لأحدهما- و كان أشرف منزلة من الآخر- ثم أذن للآخر فدخل فجلس فوق الأول- فقال معاوية إن الله قد ألزمنا تأديبكم-كما ألزمنا رعايتكم- و أنا لم نأذن له قبلك- و نحن نريد أن يكون مجلسه دونك- فقم لا أقام الله لك وزنا- و قال بشار

تأبى خلائق خالد و فعاله
إلا تجنب كل أمر عائب‏

و إذا أتينا الباب وقت غدائه‏
أدنى الغداء لنا برغم الحاجب‏

 و قال آخر يهجو-

يا أميرا على جريب من الأر
ض له تسعة من الحجاب‏

قاعد في الخراب يحجب عنا
ما سمعنا بحاجب في خراب‏

 و كتب بعضهم إلى جعفر بن محمد- بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب-

أبا جعفر إن الولاية إن تكن
منبلة قوسا فأنت لها نبل‏

فلا ترتفع عنا لأمر وليته‏
كما لم يصغر عندنا شأنك العزل‏

 و من جيد ما مدح به بشر بن مروان قول القائل-

بعيد مراد الطرف ما رد طرفه
حذار الغواشي باب دار و لا ستر

و لو شاء بشر كان من دون بابه‏
طماطم سود أو صقالبة حمر

و لكن بشرا يستر الباب للتي
يكون لها في غبها الحمد و الأجر

 و قال بشار

خليلي من كعب أعينا أخاكما
على دهره إن الكريم يعين‏

و لا تبخلا بخل ابن قرعة إنه‏
مخافة أن يرجى نداه حزين‏

إذا جئته للعرف أغلق بابه
فلم تلقه إلا و أنت كمين‏

فقل لأبي يحيى متى تدرك العلا
و في كل معروف عليك يمين‏

و قال إبراهيم بن هرمة

هش إذا نزل الوفود ببابه
سهل الحجاب مؤدب الخدام‏

و إذا رأيت صديقه و شقيقه‏
لم تدر أيهما ذوي الأرحام‏

و قال آخر

و إني لأستحيي الكريم إذا أتى
على طمع عند اللئيم يطالبه‏

و أرثي له من مجلس عند بابه‏
كمرثيتي للطرف و العلج راكبه‏

و قال عبد الله بن محمد بن عيينة-

أتيتك زائرا لقضاء حق
فحال الستر دونك و الحجاب‏

و رأيي مذهب عن كل ناء
يجانبه إذا عز الذهاب‏

و لست بساقط في قدر قوم
و إن كرهوا كما يقع الذباب‏

و قال آخر

ما ضاقت الأرض على راغب
تطلب الرزق و لا راهب‏

بل ضاقت الأرض على شاعر
أصبح يشكو جفوة الحاجب‏

قد شتم الحاجب في شعره
و إنما يقصد للصاحب‏

ثُمَّ إِنَّ لِلْوَالِي خَاصَّةً وَ بِطَانَةً-  فِيهِمُ اسْتِئْثَارٌ وَ تَطَاوُلٌ وَ قِلَّةُ إِنْصَافٍ فِي مُعَامَلَةٍ-  فَاحْسِمْ مَئُونَةَ أُولَئِكَ بِقَطْعِ أَسْبَابِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ-  وَ لَا تُقْطِعَنَّ لِأَحَدٍ مِنْ حَاشِيَتِكَ وَ حَامَّتِكَ قَطِيعَةً-  وَ لَا يَطْمَعَنَّ مِنْكَ فِي اعْتِقَادِ عُقْدَةٍ-  تَضُرُّ بِمَنْ يَلِيهَا مِنَ النَّاسِ-  فِي‏ شِرْبٍ أَوْ عَمَلٍ مُشْتَرَكٍ-  يَحْمِلُونَ مَئُونَتَهُ عَلَى غَيْرِهِمْ-  فَيَكُونَ مَهْنَأُ ذَلِكَ لَهُمْ دُونَكَ-  وَ عَيْبُهُ عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَ الآْخِرَةِ-  وَ أَلْزِمِ الْحَقَّ مَنْ لَزِمَهُ مِنَ الْقَرِيبِ وَ الْبَعِيدِ-  وَ كُنْ فِي ذَلِكَ صَابِراً مُحْتَسِباً-  وَاقِعاً ذَلِكَ مِنْ قَرَابَتِكَ وَ خَوَاصِّكَ حَيْثُ وَقَعَ-  وَ ابْتَغِ عَاقِبَتَهُ بِمَا يَثْقُلُ عَلَيْكَ مِنْهُ-  فَإِنَّ مَغَبَّةَ ذَلِكَ مَحْمُودَةٌ-  وَ إِنْ ظَنَّتِ الرَّعِيَّةُ بِكَ حَيْفاً فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِكَ-  وَ اعْدِلْ عَنْكَ ظُنُونَهُمْ بِإِصْحَارِكَ-  فَإِنَّ فِي ذَلِكَ إِعْذَاراً-  تَبْلُغُ بِهِ حَاجَتَكَ مِنْ تَقْوِيمِهِمْ عَلَى الْحَقِّ نهاه ع عن أن يحمل أقاربه و حاشيته و خواصه-  على رقاب الناس-  و أن يمكنهم من الاستئثار عليهم و التطاول و الإذلال-  و نهاه من أن يقطع أحدا منهم قطيعة-  أو يملكه ضيعة تضر بمن يجاورها من السادة و الدهاقين-  في شرب يتغلبون على الماء منه-  أو ضياع يضيفونها إلى ما ملكهم إياه-  و إعفاء لهم من مئونة أو حفر و غيره-  فيعفيهم الولاة منه مراقبة لهم-  فيكون مئونة ذلك الواجب عليهم قد أسقطت عنهم-  و حمل ثقلها على غيرهم- . ثم قال ع لأن منفعة ذلك في الدنيا تكون لهم دونك-  و الوزر في الآخرة عليك-  و العيب و الذم في الدنيا أيضا لاحقان بك- . ثم قال له إن اتهمتك الرعية بحيف عليهم-  أو ظنت بك جورا فاذكر لهم عذرك‏ في ذلك-  و ما عندك ظاهرا غير مستور-  فإنه الأولى و الأقرب إلى استقامتهم لك على الحق- .

و أصحرت بكذا أي كشفته-  مأخوذ من الإصحار و هو الخروج إلى الصحراء- . و حامة الرجل أقاربه و بطانته-  و اعتقدت عقدة أي ادخرت ذخيرة-  و المهنأ مصدر هنأه كذا و مغبة الشي‏ء عاقبته- . و اعدل عنك ظنونهم نحها و الإعذار إقامة العذر

طرف من أخبار عمر بن عبد العزيز و نزاهته في خلافته

رد عمر بن عبد العزيز المظالم-  التي احتقبها بنو مروان فأبغضوه و ذموه-  و قيل إنهم سموه فمات- . و روى الزبير بن بكار في الموفقيات-  أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز-  دخل على أبيه يوما و هو في قائلته فأيقظه-  و قال له ما يؤمنك أن تؤتى في منامك-  و قد رفعت إليك مظالم لم تقض حق الله فيها-  فقال يا بني إن نفسي مطيتي إن لم أرفق بها لم تبلغني-  إني لو أتعبت نفسي و أعواني لم يكن ذلك-  إلا قليلا حتى أسقط و يسقطوا-  و إني لأحتسب في نومتي من الأجر-  مثل الذي أحتسب في يقظتي-  إن الله جل ثناؤه لو أراد أن ينزل القرآن جملة لأنزله-  و لكنه أنزل الآية و الآيتين-  حتى استكثر الإيمان في قلوبهم- .

ثم قال يا بني مما أنا فيه آمر هو أهم إلى أهل بيتك-  هم أهل العدة و العدد و قبلهم ما قبلهم-  فلو جمعت ذلك في يوم واحد خشيت انتشارهم علي-  و لكني أنصف من الرجل‏و الاثنين-  فيبلغ ذلك من وراءهما فيكون أنجع له-  فإن يرد الله إتمام هذا الأمر أتمه-  و إن تكن الأخرى فحسب عبد-  أن يعلم الله منه أنه يحب أن ينصف جميع رعيته- . و روى جويرية بن أسماء عن إسماعيل بن أبي حكيم قال-  كنا عند عمر بن عبد العزيز فلما تفرقنا نادى مناديه-  الصلاة جامعة فجئت المسجد-  فإذا عمر على المنبر فحمد الله و أثنى عليه-  ثم قال أما بعد فإن هؤلاء يعني خلفاء بني أمية قبله-  قد كانوا أعطونا عطايا ما كان ينبغي لنا أن نأخذها منهم-  و ما كان ينبغي لهم أن يعطوناها-  و إني قد رأيت الآن أنه ليس علي في ذلك دون الله حسيب-  و قد بدأت بنفسي و الأقربين من أهل بيتي-  اقرأ يا مزاحم فجعل مزاحم يقرأ كتابا-  فيه الإقطاعات بالضياع و النواحي-  ثم يأخذه عمر بيده فيقصه بالجلم-  لم يزل كذلك حتى نودي بالظهر- .

و روى الفرات بن السائب قال-  كان عند فاطمة بنت عبد الملك بن مروان جوهر جليل-  وهبها أبوها و لم يكن لأحد مثله-  و كانت تحت عمر بن عبد العزيز-  فلما ولي الخلافة قال لها اختاري-  إما أن تردي جوهرك و حليك إلى بيت مال المسلمين-  و إما أن تأذني لي في فراقك-  فإني أكره أن اجتمع أنا و أنت و هو في بيت واحد-  فقالت بل أختارك عليه و على أضعافه لو كان لي-  و أمرت به فحمل إلى بيت المال-  فلما هلك عمر و استخلف يزيد بن عبد الملك-  قال لفاطمة أخته إن شئت رددته عليك-  قالت فإني لا أشاء ذلك-  طبت عنه نفسا في حياة عمر-  و أرجع فيه بعد موته لا و الله أبدا-  فلما رأى يزيد ذلك قسمه بين ولده و أهله- .

و روى سهيل بن يحيى المروزي عن أبيه-  عن عبد العزيز عن عمر بن عبد العزيز قال-  لما دفن سليمان صعد عمر على المنبر فقال-  إني قد خلعت ما في رقبتي من بيعتكم-  فصاح الناس صيحة واحدة قد اخترناك-  فنزل و دخل و أمر بالستور فهتكت-و الثياب التي كانت تبسط للخلفاء-  فحملت إلى بيت المال-  ثم خرج و نادى مناديه من كانت له مظلمة-  من بعيد أو قريب من أمير المؤمنين فليحضر-  فقام رجل ذمي من أهل حمص أبيض الرأس و اللحية-  فقال أسألك كتاب الله قال ما شأنك-  قال العباس بن الوليد بن عبد الملك اغتصبني ضيعتي-  و العباس جالس-  فقال عمر ما تقول يا عباس-  قال أقطعنيها أمير المؤمنين الوليد و كتب لي بها سجلا-  فقال عمر ما تقول أنت أيها الذمي-  قال يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله-  فقال عمر إيها لعمري إن كتاب الله لأحق أن يتبع-  من كتاب الوليد-  اردد عليه يا عباس ضيعته-  فجعل لا يدع شيئا مما كان في أيدي أهل بيته من المظالم-  إلا ردها مظلمة مظلمة- .

و روى ميمون بن مهران قال-  بعث إلي عمر بن عبد العزيز و إلى مكحول و أبي قلابة-  فقال ما ترون في هذه الأموال-  التي أخذها أهلي من الناس ظلما-  فقال مكحول قولا ضعيفا كرهه عمر-  فقال أرى أن تستأنف و تدع ما مضى-  فنظر إلي عمر كالمستغيث بي-  فقلت يا أمير المؤمنين-  أحضر ولدك عبد الملك لننظر ما يقول فحضر-  فقال ما تقول يا عبد الملك فقال ما ذا أقول أ لست تعرف مواضعها-  قال بلى و الله قال فارددها-  فإن لم تفعل كنت شريكا لمن أخذها- . و روى ابن درستويه عن يعقوب بن سفيان-  عن جويرية بن أسماء قال-  كان بيد عمر بن عبد العزيز قبل الخلافة-  ضيعته المعروفة بالسهلة و كانت باليمامة-  و كانت أمرا عظيما لها غلة عظيمة كثيرة-  إنما عيشه و عيش أهله منها-  فلما ولي الخلافة قال لمزاحم مولاه و كان فاضلا-  إني قد عزمت أن أرد السهلة إلى بيت مال المسلمين-  فقال مزاحم أ تدري كم ولدك إنهم كذا و كذا-  قال فذرفت عيناه فجعل يستدمع-  و يمسح الدمعة بإصبعه الوسطى و يقول-  أكلهم إلى الله أكلهم إلى الله-  فمضى مزاحم فدخل على عبد الملك بن عمر فقال له-  أ لا تعلم ما قد عزم عليه أبوك إنه يريد أن يرد السهلة-  قال فما قلت‏ له قال ذكرت له ولده-  فجعل يستدمع و يقول أكلهم إلى الله-  فقال عبد الملك بئس وزير الدين أنت-  ثم وثب و انطلق إلى أبيه فقال للآذن استأذن لي عليه-  فقال إنه قد وضع رأسه الساعة للقائلة-  فقال استأذن لي عليه فقال أ ما ترحمونه-  ليس له من الليل و النهار إلا هذه الساعة-  قال استأذن لي عليه لا أم لك-  فسمع عمر كلامهما فقال ائذن لعبد الملك-  فدخل فقال على ما ذا عزمت قال أرد السهلة-  قال فلا تؤخر ذلك قم الآن-  قال فجعل عمر يرفع يديه و يقول-  الحمد لله الذي جعل لي من ذريتي من يعينني على أمر ديني-  قال نعم يا بني أصلي الظهر ثم أصعد المنبر-  فأردها علانية على رءوس الناس-  قال و من لك أن تعيش إلى الظهر-  ثم من لك أن تسلم نيتك إلى الظهر إن عشت إليها-  فقام عمر فصعد المنبر فخطب الناس و رد السهلة- .

قال و كتب عمر بن الوليد بن عبد الملك-  إلى عمر بن عبد العزيز لما أخذ بني مروان-  برد المظالم كتابا أغلظ له فيه-  من جملته أنك أزريت على كل من كان قبلك-  من الخلفاء و عبتهم و سرت بغير سيرتهم-  بغضا لهم و شنآنا لمن بعدهم من أولادهم-  و قطعت ما أمر الله به أن يوصل-  و عمدت إلى أموال قريش و مواريثهم-  فأدخلتها بيت المال جورا و عدوانا-  فاتق الله يا ابن عبد العزيز و راقبه-  فإنك خصصت أهل بيتك بالظلم و الجور-  و و الذي خص محمد ص بما خصه به-  لقد ازددت من الله بعدا بولايتك هذه-  التي زعمت أنها عليك بلاء-  فأقصر عن بعض ما صنعت-  و اعلم أنك بعين جبار عزيز و في قبضته-  و لن يتركك على ما أنت عليه- .

قالوا فكتب عمر جوابه أما بعد فقد قرأت كتابك-  و سوف أجيبك بنحو منه-  أما أول أمرك يا ابن الوليد فإن أمك نباتة أمة السكون-  كانت تطوف في أسواق حمص-  و تدخل حوانيتها ثم الله أعلم بها-  اشتراها ذبيان بن ذبيان من في‏ء المسلمين-  فأهداهالأبيك فحملت بك-  فبئس الحامل و بئس المحمول-  ثم نشأت فكنت جبارا عنيدا-  و تزعم أني من الظالمين لأني حرمتك و أهل بيتك في‏ء الله-  الذي هو حق القرابة و المساكين و الأرامل-  و إن أظلم مني و أترك لعهد الله-  من استعملك صبيا سفيها على جند المسلمين-  تحكم فيهم برأيك-  و لم يكن له في ذاك نية إلا حب الوالد ولده-  فويل لك و ويل لأبيك-  ما أكثر خصماءكما يوم القيامة-  و إن أظلم مني و أترك لعهد الله-  من استعمل الحجاج بن يوسف على خمسي العرب-  يسفك الدم الحرام و يأخذ المال الحرام-  و إن أظلم مني و أترك لعهد الله-  من استعمل قرة بن شريك أعرابيا جافيا على مصر-  و أذن له في المعازف و الخمر و الشرب و اللهو-  و إن أظلم مني و أترك لعهد الله-  من استعمل عثمان بن حيان على الحجاز-  فينشد الأشعار على منبر رسول الله ص-  و من جعل للعالية البربرية سهما في الخمس-  فرويدا يا ابن نباتة-  و لو التقت حلقتا البطان و رد الفي‏ء إلى أهله-  لتفرغت لك و لأهل بيتك فوضعتكم على المحجة البيضاء-  فطالما تركتم الحق و أخذتم في بنيات الطريق-  و من وراء هذا من الفضل ما أرجو أن أعمله-  بيع رقبتك-  و قسم ثمنك بين الأرامل و اليتامى و المساكين-  فإن لكل فيك حقا-  و السلام علينا و لا ينال سلام الله الظالمين- .

و روى الأوزاعي قال-  لما قطع عمر بن عبد العزيز عن أهل بيته ما كان من قبله-  يجرونه عليهم من أرزاق الخاصة-  فتكلم في ذلك عنبسة بن سعيد فقال-  يا أمير المؤمنين إن لنا قرابة-  فقال مالي إن يتسع لكم و أما هذا المال فحقكم فيه-  كحق رجل بأقصى برك الغماد-  و لا يمنعه من أخذه إلا بعد مكانه-  و الله إني لأرى أن الأمورلو استحالت حتى يصبح أهل الأرض-  يرون مثل رأيكم لنزلت بهم بائقة من عذاب الله- . و روى الأوزاعي أيضا قال قال عمر بن عبد العزيز يوما-  و قد بلغه عن بني أمية كلام أغضبه-  إن لله في بني أمية يوما أو قال ذبحا-  و ايم الله لئن كان ذلك الذبح أو قال ذلك اليوم-  على يدي لأعذرن الله فيهم-  قال فلما بلغهم ذلك كفوا-  و كانوا يعلمون صرامته-  و إنه إذا وقع في أمر مضى فيه- .

و روى إسماعيل بن أبي حكيم قال-  قال عمر بن عبد العزيز يوما لحاجبه-  لا تدخلن علي اليوم إلا مروانيا-  فلما اجتمعوا قال يا بني مروان-  إنكم قد أعطيتم حظا و شرفا و أموالا-  إني لأحسب شطر أموال هذه الأمة أو ثلثيها في أيديكم-  فسكتوا فقال أ لا تجيبوني-  فقال رجل منهم فما بالك-  قال إني أريد أن أنتزعها منكم-  فأردها إلى بيت مال المسلمين-  فقال رجل منهم و الله لا يكون ذلك-  حتى يحال بين رءوسنا و أجسادنا-  و الله لا نكفر أسلافنا و لا نفقر أولادنا-  فقال عمر و الله لو لا أن تستعينوا علي بمن أطلب هذا الحق له-  لأضرعت خدودكم قوموا عني- . و روى مالك بن أنس قال ذكر عمر بن عبد العزيز-  من كان قبله من المروانية فعابهم-  و عنده هشام بن عبد الملك فقال يا أمير المؤمنين-  إنا و الله نكره أن تعيب آباءنا و تضع شرفنا-  فقال عمر و أي عيب أعيب مما عابه القرآن- .

و روى نوفل بن الفرات قال-  شكا بنو مروان إلى عاتكة بنت مروان بن الحكم عمر-  فقالوا إنه يعيب أسلافنا و يأخذ أموالنا-  فذكرت ذلك له و كانت عظيمة عند بني مروان-  فقال لها يا عمة إن رسول الله ص قبض-  و ترك‏الناس على نهر مورود-  فولي ذلك النهر بعده رجلان-  لم يستخصا أنفسهما و أهلهما منه بشي‏ء-  ثم وليه ثالث فكرى منه ساقية-  ثم لم تزل الناس يكرون منه السواقي-  حتى تركوه يابسا لا قطرة فيه-  و ايم الله لئن أبقاني الله لأسكرن تلك السواقي-  حتى أعيد النهر إلى مجراه الأول-  قالت فلا يسبون إذا عندك-  قال و من يسبهم إنما يرفع الرجل مظلمته فأردها عليه- .

و روى عبد الله بن محمد التيمي قال-  كان بنو أمية ينزلون عاتكة بنت مروان بن الحكم-  على أبواب قصورهم-  و كانت جليلة الموضع عندهم-  فلما ولي عمر قال لا يلي إنزالها أحد غيري-  فأدخلوها على دابتها إلى باب قبته فأنزلها-  ثم طبق لها وسادتين إحداهما على الأخرى-  ثم أنشأ يمازحها و لم يكن من شأنه و لا من شأنها المزاح-  فقال أ ما رأيت الحرس الذين على الباب-  فقالت بلى و ربما رأيتهم عند من هو خير منك-  فلما رأى الغضب لا يتحلل عنها ترك المزاح-  و سألها أن تذكر حاجتها-  فقالت إن قرابتك يشكونك-  و يزعمون أنك أخذت منهم خير غيرك-  قال ما منعتهم شيئا هو لهم-  و لا أخذت منهم حقا يستحقونه-  قالت إني أخاف أن يهيجوا عليك يوما عصيبا-  و قال كل يوم أخافه دون يوم القيامة فلا وقاني الله شره-  ثم دعا بدينار و مجمرة و جلد فألقى الدينار في النار-  و جعل ينفخ حتى احمر-  ثم تناوله بشي‏ء فأخرجه فوضعه على الجلد فنش و فتر-  فقال يا عمة أ ما تأوين لابن أخيك من مثل هذا-  فقامت فخرجت إلى بني مروان فقالت-  تزوجون في آل عمر بن الخطاب-  فإذا نزعوا إلى الشبه جزعتم اصبروا له- .

و روى وهيب بن الورد قال-  اجتمع بنو مروان على باب عمر بن عبد العزيز-  فقالوا لولد له قل لأبيك يأذن لنا-  فإن لم يأذن فأبلغ إليه عنا و سأله-  فلم يأذن لهم و قال‏ فليقولوا-  فقالوا قل له إن من كان قبلك من الخلفاء كان يعطينا-  و يعرف لنا مواضعنا-  و إن أباك قد حرمنا ما في يديه-  فدخل إلى أبيه فأبلغه عنهم-  فقال اخرج فقل لهم-  إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم و روى سعيد بن عمار عن أسماء بنت عبيد قال-  دخل عنبسة بن سعيد بن العاص على عمر بن عبد العزيز فقال-  يا أمير المؤمنين إن من كان قبلك من الخلفاء-  كانوا يعطوننا عطايا منعتناها و لي عيال و ضيعة-  فأذن لي أخرج إلى ضيعتي و ما يصلح عيالي-  فقال عمر إن أحبكم إلينا من كفانا مئونته-  فخرج عنبسة فلما صار إلى الباب ناداه أبا خالد أبا خالد-  فرجع فقال أكثر ذكر الموت-  فإن كنت في ضيق من العيش وسعه عليك-  و إن كنت في سعة من العيش ضيقه عليك- .

و روى عمر بن علي بن مقدم قال-  قال ابن صغير لسليمان بن عبد الملك لمزاحم-  إن لي حاجة إلى أمير المؤمنين عمر-  قال فاستأذنت له فأدخله-  فقال يا أمير المؤمنين لم أخذت قطيعتي-  قال معاذ الله إن آخذ قطيعة ثبتت في الإسلام-  قال فهذا كتابي بها و أخرج كتابا من كمه-  فقرأه عمر و قال لمن كانت هذه الأرض-  قال كانت للمسلمين قال فالمسلمون أولى بها-  قال فاردد علي كتابي-  قال إنك لو لم تأتني به لم أسألكه-  فأما إذ جئتني به فلست أدعك تطلب به ما ليس لك بحق-  فبكى ابن سليمان فقال مزاحم-  يا أمير المؤمنين ابن سليمان تصنع به هذا-  قال و ذلك لأن سليمان عهد إلى عمر و قدمه على إخوته-  فقال عمر ويحك يا مزاحم-  إني لأجد له من اللوط ما أجد لولدي-  و لكنها نفسي أجادل عنها- .

و روى الأوزاعي قال قال هشام بن عبد الملك-  و سعيد بن خالد بن عمر بن عثمان‏ بن عفان-  لعمر بن عبد العزيز يا أمير المؤمنين-  استأنف العمل برأيك فيما تحت يدك-  و خل بين من سبقك و بين ما ولوه عليهم كان أو لهم-  فإنك مستكف أن تدخل في خير ذلك و شره-  قال أنشدكما الله الذي إليه تعودان-  لو أن رجلا هلك و ترك بنين أصاغر و أكابر-  فغر الأكابر الأصاغر بقوتهم فأكلوا أموالهم-  ثم بلغ الأصاغر الحلم فجاءوكما بهم-  و بما صنعوا في أموالهم ما كنتما صانعين-  قالا كنا نرد عليهم حقوقهم حتى يستوفوها-  قال فإني وجدت كثيرا ممن كان قبلي من الولاة-  غر الناس بسلطانه و قوته-  و آثر بأموالهم أتباعه و أهله و رهطه و خاصته-  فلما وليت أتوني بذلك-  فلم يسعني إلا الرد على الضعيف من القوي-  و على الدني‏ء من الشريف-  فقالا يوفق الله أمير المؤمنين

وَ لَا تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ لِلَّهِ فِيهِ رِضًا-  فَإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ-  وَ رَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ وَ أَمْناً لِبِلَادِكَ-  وَ لَكِنِ الْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكَ بَعْدَ صُلْحِهِ-  فَإِنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا قَارَبَ لِيَتَغَفَّلَ-  فَخُذْ بِالْحَزْمِ وَ اتَّهِمْ فِي ذَلِكَ حُسْنَ الظَّنِّ-  وَ إِنْ عَقَدْتَ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ عَدُوٍّ لَكَ عُقْدَةً-  أَوْ أَلْبَسْتَهُ مِنْكَ ذِمَّةً-  فَحُطْ عَهْدَكَ بِالْوَفَاءِ وَ ارْعَ ذِمَّتَكَ بِالْأَمَانَةِ-  وَ اجْعَلْ نَفْسَكَ جُنَّةً دُونَ مَا أَعْطَيْتَ-  فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ شَيْ‏ءٌ-  النَّاسُ أَشَدُّ عَلَيْهِ اجْتِمَاعاً مَعَ تَفَرُّقِ أَهْوَائِهِمْ-  وَ تَشَتُّتِ آرَائِهِمْ-  مِنْ تَعْظِيمِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ-  وَ قَدْ لَزِمَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ-  لِمَا اسْتَوْبَلُوا مِنْ عَوَاقِبِ الْغَدْرِ-  فَلَا تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ وَ لَا تَخِيسَنَّ بِعَهْدِكَ-  وَ لَا تَخْتِلَنَّ عَدُوَّكَ-  فَإِنَّهُ لَا يَجْتَرِئُ عَلَى اللَّهِ إِلَّا جَاهِلٌ شَقِيٌّ-  وَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ عَهْدَهُ وَ ذِمَّتَهُ أَمْناً أَفْضَاهُ بَيْنَ الْعِبَادِ بِرَحْمَتِهِ-وَ حَرِيماً يَسْكُنُونَ إِلَى مَنَعَتِهِ وَ يَسْتَفِيضُونَ إِلَى جِوَارِهِ-  فَلَا إِدْغَالَ وَ لَا مُدَالَسَةَ وَ لَا خِدَاعَ فِيهِ-  وَ لَا تَعْقِدْهُ عَقْداً تُجَوِّزُ فِيهِ الْعِلَلَ-  وَ لَا تُعَوِّلَنَّ عَلَى لَحْنِ الْقَوْلِ بَعْدَ التَّأْكِيدِ وَ التَّوْثِقَةِ-  وَ لَا يَدْعُوَنَّكَ ضِيقُ أَمْرٍ-  لَزِمَكَ فِيهِ عَهْدُ اللَّهِ إِلَى طَلَبِ انْفِسَاخِهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ-  فَإِنَّ صَبْرَكَ عَلَى ضِيقِ أَمْرٍ تَرْجُو انْفِرَاجَهُ وَ فَضْلَ عَاقِبَتِهِ-  خَيْرٌ مِنْ غَدْرٍ تَخَافُ تَبِعَتَهُ-  وَ أَنْ تُحِيطَ بِكَ مِنَ اللَّهِ طِلْبَةٌ-  لَا تَسْتَقِيلُ فِيهَا دُنْيَاكَ وَ لَا آخِرَتَكَ أمره أن يقبل السلم و الصلح إذا دعي إليه-  لما فيه من دعة الجنود-  و الراحة من الهم و الأمن للبلاد-  و لكن ينبغي أن يحذر بعد الصلح من غائلة العدو و كيده-  فإنه ربما قارب بالصلح ليتغفل أي يطلب غفلتك-  فخذ بالحزم و اتهم حسن ظنك-  لا تثق و لا تسكن إلى حسن ظنك بالعدو-  و كن كالطائر الحذر- .

ثم أمره بالوفاء بالعهود-  قال و اجعل نفسك جنة دون ما أعطيت-  أي و لو ذهبت نفسك فلا تغدر- . و قال الراوندي الناس مبتدأ و أشد مبتدأ ثان-  و من تعظيم الوفاء خبره-  و هذا المبتدأ الثاني مع خبره خبر المبتدإ الأول-  و محل الجملة نصب لأنها خبر ليس-  و محل ليس مع اسمه و خبره رفع لأنه خبر-  فإنه و شي‏ء اسم ليس و من فرائض الله حال-  و لو تأخر لكان صفة لشي‏ء-  و الصواب أن شي‏ء اسم ليس-  و جاز ذلك و إن كان نكرة لاعتماده على النفي-  و لأن الجار و المجرور قبله في موضع الحال كالصفة-  فتخصص بذلك و قرب من المعرفة-  و الناس مبتدأ و أشد خبره-  و هذه الجملة المركبة من مبتدإ

و خبر في موضع رفع-  لأنها صفة شي‏ء-  و أما خبر المبتدإ الذي هو شي‏ء فمحذوف-  و تقديره في الوجود كما حذف الخبر في قولنا-  لا إله إلا الله أي في الوجود-  و ليس يصح ما قال الراوندي من أن أشد مبتدأ ثان-  و من تعظيم الوفاء خبره-  لأن حرف الجر إذا كان خبرا لمبتدإ تعلق بمحذوف-  و هاهنا هو متعلق بأشد نفسه فكيف يكون خبرا عنه-  و أيضا فإنه لا يجوز أن يكون أشد من تعظيم الوفاء-  خبرا عن الناس-  كما زعم الراوندي لأن ذلك كلام غير مفيد-  أ لا ترى أنك إذا أردت أن تخبر بهذا الكلام عن المبتدإ-  الذي هو الناس لم يقم من ذلك صورة محصلة تفيدك شيئا-  بل يكون كلاما مضطربا- . و يمكن أيضا أن يكون من فرائض الله في موضع رفع-  لأنه خبر المبتدإ و قد قدم عليه-  و يكون موضع الناس و ما بعده رفع-  لأنه خبر المبتدإ الذي هو شي‏ء كما قلناه أولا-  و ليس يمتنع أيضا أن يكون من فرائض الله-  منصوب الموضع لأنه حال-  و يكون موضع الناس أشد رفعا-  لأنه خبر المبتدإ الذي هو شي‏ء- .

ثم قال له ع-  و قد لزم المشركون مع شركهم الوفاء بالعهود-  و صار ذلك لهم شريعة و بينهم سنة-  فالإسلام أولى باللزوم و الوفاء- . و استوبلوا وجدوه وبيلا أي ثقيلا-  استوبلت البلد أي استوخمته و استثقلته-  و لم يوافق مزاجك- . و لا تخيسن بعهدك أي لا تغدرن-  خاس فلان بذمته أي غدر و نكث- . قوله و لا تختلن عدوك أي لا تمكرن به-  ختلته أي خدعته- . و قوله أفضاه بين عباده جعله مشتركا بينهم-  لا يختص به فريق دون فريق- .

قال و يستفيضون إلى جواره-  أي ينتشرون في طلب حاجاتهم و مآربهم-  ساكنين إلى جواره-  فإلى هاهنا متعلقة بمحذوف مقدر-  كقوله تعالى فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى‏ فِرْعَوْنَ أي مرسلا-  قال فلا إدغال أي لا إفساد-  و الدغل الفساد-  و لا مدالسة أي لا خديعة-  يقال فلان لا يوالس و لا يدالس أي لا يخادع و لا يخون-  و أصل الدلس الظلمة-  و التدليس في البيع كتمان عيب السلعة عن المشتري- . ثم نهاه عن أن يعقد عقدا يمكن فيه التأويلات-  و العلل و طلب المخارج-  و نهاه إذا عقد العقد بينه و بين العدو أن ينقضه-  معولا على تأويل خفي أو فحوى قول-  أو يقول إنما عنيت كذا-  و لم أعن ظاهر اللفظة-  فإن العقود إنما تعقد على ما هو ظاهر في الاستعمال-  متداول في الاصطلاح و العرف لا على ما في الباطن- . و روي انفساحه بالحاء المهملة أي سعته

فصل فيما جاء في الحذر من كيد العدو

قد جاء في الحذر من كيد العدو-  و النهي عن التفريط في الرأي السكون-  إلى ظاهر السلم أشياء كثيرة-  و كذا في النهي عن الغدر و النهي عن طلب تأويلات العهود-  و فسخها بغير الحق- . فرط عبد الله بن طاهر في أيام أبيه في أمر-  أشرف فيه على العطب و نجا بعد لأي-  فكتب إليه أبوه أتاني يا بني من خبر تفريطك-  ما كان أكبر عندي من نعيك لو ورد-  لأني لم أرج قط ألا تموت-  و قد كنت أرجو ألا تفتضح بترك الحزم و التيقظ- .

و روى ابن الكلبي أن قيس بن زهير-  لما قتل حذيفة بن بدر و من معه بجفر الهباءة-خرج حتى لحق بالنمر بن قاسط و قال-  لا تنظر في وجهي غطفانية بعد اليوم-  فقال يا معاخرج حتى لحق بالنمر بن قاسط و قال-  لا تنظر في وجهي غطفانية بعد اليوم-  فقال يا معاشر النمر أنا قيس بن زهير-  غريب حريب طريد شريد موتور-  فانظروا لي امرأة قد أدبها الغني و أذلها الفقر-  فزوجوه بامرأة منهم-  فقال لهم إني لا أقيم فيكم حتى أخبركم بأخلاقي-  أنا فخور غيور أنف و لست أفخر حتى أبتلى-  و لا أغار حتى أرى و لا آنف حتى أظلم-  فرضوا أخلاقه فأقام فيهم حتى ولد له-  ثم أراد أن يتحول عنهم-  فقال يا معشر النمر إن لكم حقا علي في مصاهرتي فيكم-  و مقامي بين أظهركم-  و إني موصيكم بخصال آمركم بها و أنهاكم عن خصال-  عليكم بالأناة فإن بها تدرك الحاجة و تنال الفرصة-  و تسويد من لا تعابون بتسويده-  و الوفاء بالعهود فإن به يعيش الناس-  و إعطاء ما تريدون إعطاءه قبل المسألة-  و منع ما تريدون منعه قبل الإنعام-  و إجارة الجار على الدهر-  و تنفيس البيوت عن منازل الأيامى-  و خلط الضيف بالعيال-  و أنهاكم عن الغدر فإنه عار الدهر-  و عن الرهان فإن به ثكلت مالكا أخي-  و عن البغي فإن به صرع زهير أبي-  و عن السرف في الدماء-  فإن قتلي أهل الهباءة أورثني العار-  و لا تعطوا في الفضول فتعجزوا عن الحقوق-  و أنكحوا الأيامى الأكفاء-  فإن لم تصيبوا بهن الأكفاء فخير بيوتهن القبور- 

و اعلموا أني أصبحت ظالما و مظلوما-  ظلمني بنو بدر بقتلهم مالكا-  و ظلمتهم بقتلي من لا ذنب له-  ثم رحل عنهم إلى غمار فتنصر بها-  و عف عن المآكل حتى أكل الحنظل إلى أن ماتإِيَّاكَ وَ الدِّمَاءَ وَ سَفْكَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا-  فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْ‏ءٌ أَدْعَى لِنِقْمَةٍ وَ لَا أَعْظَمَ‏لِتَبِعَةٍ-  وَ لَا أَحْرَى بِزَوَالِ نِعْمَةٍ وَ انْقِطَاعِ مُدَّةٍ-  مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا-  وَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُبْتَدِئٌ بِالْحُكْمِ بَيْنَ الْعِبَادِ-  فِيمَا تَسَافَكُوا مِنَ الدِّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ-  فَلَا تُقَوِّيَنَّ سُلْطَانَكَ بِسَفْكِ دَمٍ حَرَامٍ-  فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُضْعِفُهُ وَ يُوهِنُهُ بَلْ يُزِيلُهُ وَ يَنْقُلُهُ-  وَ لَا عُذْرَ لَكَ عِنْدَ اللَّهِ وَ لَا عِنْدِي فِي قَتْلِ الْعَمْدِ-  لِأَنَّ فِيهِ قَوَدَ الْبَدَنِ-  وَ إِنِ ابْتُلِيتَ بِخَطَإٍ-  وَ أَفْرَطَ عَلَيْكَ سَوْطُكَ أَوْ يَدُكَ بِالْعُقُوبَةِ-  فَإِنَّ فِي الْوَكْزَةِ فَمَا فَوْقَهَا مَقْتَلَةً-  فَلَا تَطْمَحَنَّ بِكَ نَخْوَةُ سُلْطَانِكَ-  عَنْ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ حَقَّهُمْ قد ذكرنا في وصية قيس بن زهير آنفا-  النهي عن الإسراف في الدماء-  و تلك وصية مبنية على شريعة الجاهلية-  مع حميتها و تهالكها على القتل و القتال-  و وصية أمير المؤمنين ع مبنية على الشريعة الإسلامية-  و النهي عن القتل و العدوان الذي لا يسيغه الدين-  و قد ورد في الخبر المرفوع أن أول ما يقضي الله به يوم القيامة بين العباد-  أمر الدماء-  قال إنه ليس شي‏ء أدعى إلى حلول النقم-  و زوال النعم و انتقال الدول-  من سفك الدم الحرام-  و إنك إن ظننت أنك تقوي سلطانك بذلك-  فليس الأمر كما ظننت-  بل تضعفه بل تعدمه بالكلية- . ثم عرفه أن قتل العمد يوجب القود-  و قال له قود البدن أي يجب عليك هدم صورتك-  كما هدمت صورة المقتول-  و المراد إرهابه بهذه اللفظة-  أنها أبلغ من أن يقول له فإن فيه القود- .

ثم قال إن قتلت خطأ أو شبه عمد-  كالضرب بالسوط فعليك الدية-  و قد اختلف‏الفقهاء في هذه المسألة-  فقال أبو حنيفة و أصحابه القتل على خمسة أوجه-  عمد و شبه عمد و خطأ-  و ما أجري مجرى الخطإ و قتل بسبب- . فالعمد ما تعمد به ضرب الإنسان بسلاح-  أو ما يجري مجرى السلاح كالمحدد من الخشب و ليطة القصب-  و المروءة المحددة و النار و موجب ذلك المأثم و القود-  إلا أن يعفو الأولياء و لا كفارة فيه- . و شبه العمد أن يتعمد الضرب بما ليس بسلاح-  و لا أجري مجرى السلاح كالحجر العظيم-  و الخشبة العظيمة-  و موجب ذلك المأثم و الكفارة و لا قود فيه-  و فيه الدية مغلظة على العاقلة- . و الخطأ على وجهين خطأ في القصد-  و هو أن يرمي شخصا يظنه صيدا فإذا هو آدمي-  و خطأ في الفعل و هو أن يرمي غرضا فيصيب آدميا-  و موجب النوعين جميعا الكفارة و الدية على العاقلة-  و لا مأثم فيه- . و ما أجري مجرى الخطإ-  مثل النائم يتقلب على رجل فيقتله-  فحكمه حكم الخطإ-  و أما القتل بسبب-  فحافر البئر و واضع الحجر في غير ملكه-  و موجبه إذا تلف فيه إنسان الدية على العاقلة-  و لا كفارة فيه- . فهذا قول أبي حنيفة و من تابعه-  و قد خالفه صاحباه أبو يوسف و محمد في شبه العمد-  و قالا إذا ضربه بحجر عظيم أو خشبة غليظة فهو عمد-  قال و شبه العمد أن يتعمد ضربه بما لا يقتل به غالبا-  كالعصا الصغيرة و السوط-  و بهذا القول قال الشافعي- . و كلام أمير المؤمنين ع يدل-  على أن المؤدب من الولاة-  إذا تلف تحت‏ يده إنسان في التأديب فعليه الدية-  و قال لي قوم من فقهاء الإمامية أن مذهبنا أن لا دية عليه-  و هو خلاف ما يقتضيه كلام أمير المؤمنين ع: وَ إِيَّاكَ وَ الْإِعْجَابَ بِنَفْسِكَ-  وَ الثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا وَ حُبَّ الْإِطْرَاءِ-  فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ أَوْثَقِ فُرَصِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِهِ-  لِيَمْحَقَ مَا يَكُونُ مِنْ إِحْسَانِ الْمُحْسِنِينَ-  وَ إِيَّاكَ وَ الْمَنَّ عَلَى رَعِيَّتِكَ بِإِحْسَانِكَ-  أَوِ التَّزَيُّدَ فِيمَا كَانَ مِنْ فِعْلِكَ-  أَوْ أَنْ تَعِدَهُمْ فَتُتْبِعَ مَوْعِدَكَ بِخُلْفِكَ-  فَإِنَّ الْمَنَّ يُبْطِلُ الْإِحْسَانَ وَ التَّزَيُّدَ يَذْهَبُ بِنُورِ الْحَقِّ-  وَ الْخُلْفَ يُوجِبُ الْمَقْتَ عِنْدَ اللَّهِ وَ النَّاسِ-  قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى-  كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ-  وَ إِيَّاكَ وَ الْعَجَلَةَ بِالْأُمُورِ قَبْلَ أَوَانِهَا-  أَوِ التَّسَاقُطَ فِيهَا عِنْدَ إِمْكَانِهَا-  أَوِ اللَّجَاجَةَ فِيهَا إِذَا تَنَكَّرَتْ-  أَوِ الْوَهْنَ عَنْهَا إِذَا اسْتَوْضَحَتْ-  فَضَعْ كُلَّ أَمْرٍ مَوْضِعَهُ وَ أَوْقِعْ كُلَّ عَمَلٍ مَوْقِعَهُ-  وَ إِيَّاكَ وَ الِاسْتِئْثَارَ بِمَا النَّاسُ فِيهِ أُسْوَةٌ-  وَ التَّغَابِيَ عَمَّا تُعْنَى بِهِ مِمَّا قَدْ وَضَحَ لِلْعُيُونِ-  فَإِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْكَ لِغَيْرِكَ-  وَ عَمَّا قَلِيلٍ تَنْكَشِفُ عَنْكَ أَغْطِيَةُ الْأُمُورِ-  وَ يُنْتَصَفُ مِنْكَ لِلْمَظْلُومِ-  امْلِكْ حَمِيَّةَ أَنْفِكَ وَ سَوْرَةَ حَدِّكَ-  وَ سَطْوَةَ يَدِكَ وَ غَرْبَ لِسَانِكَ-  وَ احْتَرِسْ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ بِكَفِّ الْبَادِرَةِ وَ تَأْخِيرِ السَّطْوَةِ-  حَتَّى يَسْكُنَ غَضَبُكَ فَتَمْلِكَ الِاخْتِيَارَ-  وَ لَنْ تَحْكُمَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِكَ-  حَتَّى تُكْثِرَ هُمُومَكَ بِذِكْرِ الْمَعَادِ إِلَى رَبِّكَ-وَ الْوَاجِبُ عَلَيْكَ أَنْ تَتَذَكَّرَ مَا مَضَى لِمَنْ تَقَدَّمَكَ-  مِنْ حُكُومَةٍ عَادِلَةٍ أَوْ سُنَّةٍ فَاضِلَةٍ-  أَوْ أَثَرٍ عَنْ نَبِيِّنَا ص أَوْ فَرِيضَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ-  فَتَقْتَدِيَ بِمَا شَاهَدْتَ مِمَّا عَمِلْنَا بِهِ فِيهَا-  وَ تَجْتَهِدَ لِنَفْسِكَ فِي اتِّبَاعِ مَا عَهِدْتُ إِلَيْكَ فِي عَهْدِي هَذَا-  وَ اسْتَوْثَقْتُ بِهِ مِنَ الْحُجَّةِ لِنَفْسِي عَلَيْكَ-  لِكَيْلَا تَكُونَ لَكَ عِلَّةٌ عِنْدَ تَسَرُّعِ نَفْسِكَ إِلَى هَوَاهَا قد اشتمل هذا الفصل على وصايا نحن شارحوها-  منها قوله ع إياك و ما يعجبك من نفسك-  و الثقة بما يعجبك منها- 

 قد ورد في الخبر ثلاث مهلكات شح مطاع و هوى متبع و إعجاب المرء بنفسهو في الخبر أيضا لا وحشة أشد من العجبو في الخبر الناس لآدم و آدم من تراب-  فما لابن آدم و الفخر و العجبو في الخبر الجار ثوبه خيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامةو في الخبر و قد رأى أبا دجانة-  يتبختر-  إنها لمشية يبغضها الله إلا بين الصفين- .

و منها قوله و حب الإطراء-  ناظر المأمون محمد بن القاسم النوشجاني المتكلم-  فجعل يصدقه و يطريه و يستحسن قوله-  فقال المأمون يا محمد-  أراك تنقاد إلى ما تظن أنه يسرني-  قبل وجوب الحجة لي عليك-  و تطريني بما لست أحب أن أطري به-  و تستخذي لي في المقام-  الذي ينبغي أن تكون فيه مقاوما لي و محتجا علي-  و لو شئت أن أقسر الأمور بفضل بيان و طول لسان-  و أغتصب الحجة بقوة الخلافة-  و أبهة الرئاسة لصدقت و إن كنت كاذبا-  و عدلت و إن كنت جائرا و صوبت و إن كنت مخطئا-لكني لا أرضى إلا بغلبة الحجة و دفع الشبهة-  و إن أنقص الملوك عقلا و أسخفهم رأيا-  من رضي بقولهم صدق الأمير- . و أثنى رجل على رجل فقال الحمد لله الذي سترني عنك-  و كان بعض الصالحين يقول إذا أطراه إنسان-  ليسألك الله عن حسن ظنك- . و منها قوله و إياك و المن-  قال الله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا-  لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى‏-  و كان يقال المن محبة للنفس مفسدة للصنع- .

و منها نهيه إياه عن التزيد في فعله-  قال ع إنه يذهب بنور الحق-  و ذلك لأنه محض الكذب-  مثل أن يسدي ثلاثة أجزاء من الجميل-  فيدعي في المجالس و المحافل أنه أسدى عشرة-  و إذا خالط الحق الكذب أذهب نوره- . و منها نهيه إياه عن خلف الوعد-  قد مدح الله نبيا من الأنبياء-  و هو إسماعيل بن إبراهيم ع بصدق الوعد-  و كان يقال وعد الكريم نقد و تعجيل-  و وعد اللئيم مطل و تعطيل-  و كتب بعض الكتاب و حق لمن أزهر بقول أن يثمر بفعل-  و قال أبو مقاتل الضرير قلت لأعرابي-  قد أكثر الناس في المواعيد فما قولك فيها-  فقال بئس الشي‏ء الوعد مشغلة للقلب الفارغ-  متعبة للبدن الخافض خيره غائب و شره حاضر-  و في الحديث المرفوع عدة المؤمن كأخذ باليد-  فأما أمير المؤمنين ع فقال إنه يوجب المقت-  و استشهد عليه بالآية-  و المقت البغض- . و منها نهيه عن العجلة و كان يقال-  أصاب متثبت أو كاد و أخطأ عجل أو كاد-  و في المثل رب عجلة تهب ريثا-  و ذمها الله تعالى فقال خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ- .

و منها نهيه عن التساقط في الشي‏ء الممكن عند حضوره-  و هذا عبارة عن النهي عن الحرص و الجشع-  قال الشنفري

 و إن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن
بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل‏

و منها نهيه عن اللجاجة في الحاجة إذا تعذرت- كان يقال من لاج الله فقد جعله خصما- و من كان الله خصمه فهو مخصوم- قال الغزي

دعها سماوية تجري على قدر
لا تفسدنها برأي منك معكوس‏

و منها نهيه له عن الوهن فيها إذا استوضحت- أي وضحت و انكشفت- و يروى و استوضحت فعل ما لم يسم فاعله- و الوهن فيها إهمالها و ترك انتهاز الفرصة فيها- قال الشاعر

فإذا أمكنت فبادر إليها
حذرا من تعذر الإمكان‏

و منها نهيه عن الاستئثار و هذا هو الخلق النبوي-  غنم رسول الله ص غنائم خيبر و كانت مل‏ء الأرض نعما-  فلما ركب راحلته و سار تبعه الناس-  يطلبون الغنائم و قسمها و هو ساكت لا يكلمهم-  و قد أكثروا عليه إلحاحا و سؤالا-  فمر بشجرة فخطفت رداءه فالتفت فقال-  ردوا علي ردائي-  فلو ملكت بعدد رمل تهامة مغنما-  لقسمته بينكم عن آخره-  ثم لا تجدونني بخيلا و لا جبانا-  و نزل و قسم ذلك المال عن آخره عليهم كله-  لم يأخذ لنفسه منه وبرة- . و منها نهيه له عن التغابي-  و صورة ذلك أن الأمير يومئ إليه-  أن فلانا من خاصته يفعل كذا-  و يفعل كذا من الأمور المنكرة و يرتكبها سرا-  فيتغابى عنه و يتغافل-  نهاه ع عن ذلك و قال-  إنك مأخوذ منك لغيرك أي معاقب-  تقول اللهم خذ لي من فلان بحقي-  أي اللهم انتقم لي منه- .

و منها نهيه إياه عن الغضب-  و عن الحكم بما تقتضيه قوته الغضبية حتى يسكن غضبه-  قد جاء في الخبر المرفوع لا يقضي القاضي و هو غضبان-  فإذا كان قد نهي أن يقضي القاضي-  و هو غضبان على غير صاحب الخصومة-  فبالأولى أن ينهى الأمير عن أن يسطو على إنسان-  و هو غضبان عليه- . و كان لكسرى أنوشروان صاحب قد رتبه و نصبه لهذا المعنى-  يقف على رأس الملك يوم جلوسه-  فإذا غضب على إنسان و أمر به-  قرع سلسلة تاجه بقضيب في يده و قال له-  إنما أنت بشر-  فارحم من في الأرض يرحمك من في السماء: وَ مِنْ هَذَا الْعَهْدِ وَ هُوَ آخِرُهُ-  وَ أَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ بِسَعَةِ رَحْمَتِهِ-  وَ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ عَلَى إِعْطَاءِ كُلِّ رَغْبَةٍ-  أَنْ يُوَفِّقَنِي وَ إِيَّاكَ لِمَا فِيهِ رِضَاهُ-  مِنَ الْإِقَامَةِ عَلَى الْعُذْرِ الْوَاضِحِ إِلَيْهِ وَ إِلَى خَلْقِهِ-  مِنْ حُسْنِ الثَّنَاءِ فِي الْعِبَادِ وَ جَمِيلِ الْأَثَرِ فِي الْبِلَادِ-  وَ تَمَامِ النِّعْمَةِ وَ تَضْعِيفِ الْكَرَامَةِ-  وَ أَنْ يَخْتِمَ لِي وَ لَكَ بِالسَّعَادَةِ وَ الشَّهَادَةِ-  إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ-  وَ السَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ-  صَلَّى اللَّهِ عَلَيْهِ وَ عَلَى آلِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ روي كل رغيبة و الرغيبة ما يرغب فيه-  فأما الرغبة فمصدر رغب في كذا-  كأنه قال القادر على إعطاء كل سؤال-  أي إعطاء كل سائل ما سأله- .

و معنى قوله من الإقامة على العذر-  أي أسأل الله أن يوفقني للإقامة على الاجتهاد-  و بذل الوسع في الطاعة-  و ذلك لأنه إذا بذل جهده فقد أعذر-  ثم فسر اجتهاده في ذلك في رضا الخلق-  و لم يفسر اجتهاده في رضا الخالق لأنه معلوم-  فقال هو حسن الثناء في العباد و جميل الأثر في البلاد- . فإن قلت فقوله و تمام النعمة على ما ذا تعطفه-  قلت هو معطوف على ما من قوله لما فيه-  كأنه قال أسأل الله توفيقي لذا و لتمام النعمة-  أي و لتمام نعمته علي و تضاعف كرامته لدي-  و توفيقه لهما هو توفيقه للأعمال الصالحة-  التي يستوجبهما بها

فصل في ذكر بعض وصايا العرب

و ينبغي أن يذكر في هذا الموضع وصايا-  من كلام قوم من رؤساء العرب-  أوصوا بها أولادهم و رهطهم-  فيها آداب حسان و كلام فصيح-  و هي مناسبة لعهد أمير المؤمنين ع هذا-  و وصاياه المودعة فيه-  و إن كان كلام أمير المؤمنين ع أجل و أعلى-  من أن يناسبه كلام-  لأنه قبس من نور الكلام الإلهي-  و فرع من دوحة المنطق النبوي- .

روى ابن الكلبي قال-  لما حضرت الوفاة أوس بن حارثة أخا الخزرج-  لم يكن له ولد غير مالك بن الأوس-  و كان لأخيه الخزرج خمسة-  قيل له كنا نأمرك بأن تتزوج في شبابك-  فلم تفعل حتى حضرك الموت-  و لا ولد لك إلا مالك-  فقال لم يهلك هالك ترك مثل مالك-  و إن كان الخزرج ذا عدد و ليس لمالك ولد-  فلعل الذي استخرج‏ العذق من الجريمة و النار من الوثيمة-  أن يجعل لمالك نسلا و رجالا بسلا-  و كلنا إلى الموت-  يا مالك المنية و لا الدنية-  و العتاب قبل العقاب و التجلد لا التبلد-  و اعلم أن القبر خير من الفقر-  و من لم يعط قاعدا حرم قائما-  و شر الشرب الاشتفاف و شر الطعم الاقتفاف-  و ذهاب البصر خير من كثير من النظر-  و من كرم الكريم الدفع عن الحريم-  و من قل ذل-  و خير الغنى القناعة و شر الفقر الخضوع-  الدهر صرفان صرف رخاء و صرف بلاء-  و اليوم يومان يوم لك و يوم عليك-  فإذا كان لك فلا تبطر و إذا كان عليك فاصطبر-  و كلاهما سينحسر و كيف بالسلامة لمن ليست له إقامة-  و حياك ربك- .

و أوصى الحارث بن كعب بنيه فقال-  يا بني قد أتت علي مائة و ستون سنة-  ما صافحت يميني يمين غادر-  و لا قنعت لنفسي بخلة فاجر-  و لا صبوت بابنة عم و لا كنة و لا بحت لصديق بسر-  و لا طرحت عن مومسة قناعا-  و لا بقي على دين عيسى ابن مريم-  و قد روي على دين شعيب-  من العرب غيري و غير تميم بن مر بن أسد بن خزيمة-  فموتوا على شريعتي و احفظوا علي وصيتي-  و إلهكم فاتقوا يكفكم ما أهمكم و يصلح لكم حالكم-  و إياكم و معصيته فيحل بكم الدمار-  و يوحش منكم الديار-  كونوا جميعا و لا تفرقوا فتكنوا شيعا-  و بزوا قبل أن تبزوا-  فموت‏ في عز خير من حياة في ذل و عجز-  و كل ما هو كائن كائن و كل جمع إلى تباين-  و الدهر صرفان صرف بلاء و صرف رخاء-  و اليوم يومان يوم حبرة و يوم عبرة-  و الناس رجلان رجل لك و رجل عليك-  زوجوا النساء الأكفاء و إلا فانتظروا بهن القضاء-  و ليكن أطيب طيبهم الماء-  و إياكم و الورهاء فإنها أدوأ الداء-  و إن ولدها إلى أفن يكون-  لا راحة لقاطع القرابة-  و إذا اختلف القوم أمكنوا عدوهم-  و آفة العدد اختلاف الكلمة-  و التفضل بالحسنة يقي السيئة-  و المكافأة بالسيئة دخول فيها-  و عمل السوء يزيل النعماء-  و قطيعة الرحم تورث الهم-  و انتهاك الحرمة يزيل النعمة-  و عقوق الوالدين يعقب النكد و يخرب البلد-  و يمحق العدد-  و الإسراف في النصيحة هو الفضيحة-  و الحقد منع الرفد-  و لزوم الخطيئة يعقب البلية-  و سوء الدعة يقطع أسباب المنفعة-  و الضغائن تدعو إلى التباين-  يا بني إني قد أكلت مع أقوام و شربت-  فذهبوا و غبرت و كأني بهم قد لحقت-  ثم قال

أكلت شبابي فأفنيته
و أبليت بعد دهور دهورا

ثلاثة أهلين صاحبتهم‏
فبادروا و أصبحت شيخا كبيرا

قليل الطعام عسير القيام
قد ترك الدهر خطوي قصيرا

أبيت أراعي نجوم السماء
أقلب أمري بطونا ظهورا

وصى أكثم بن صيفي بنيه و رهطه فقال-  يا بني تميم لا يفوتنكم وعظي إن فاتكم الدهر بنفسي-  إن بين حيزومي و صدري لكلاما لا أجد له مواقع-  إلا أسماعكم و لا مقار إلا قلوبكم-  فتلقوه بأسماع مصغية و قلوب دواعية-  تحمدوا مغبته الهوى‏ يقظان و العقل راقد-  و الشهوات مطلقة و الحزم معقول-  و النفس مهملة و الروية مقيدة-  و من جهة التواني و ترك الروية يتلف الحزم-  و لن يعدم المشاور مرشدا-  و المستبد برأيه موقوف على مداحض الزلل-  و من سمع سمع به-  و مصارع الرجال تحت بروق الطمع-  و لو اعتبرت مواقع المحن ما وجدت-  إلا في مقاتل الكرام-  و على الاعتبار طريق الرشاد-  و من سلك الجدد أمن العثار-  و لن يعدم الحسود أن يتعب قلبه و يشغل فكره-  و يورث غيظه و لا تجاوز مضرته نفسه-  يا بني تميم-  الصبر على جرع الحلم أعذب من جنا ثمر الندامة-  و من جعل عرضه دون ماله استهدف للذم-  و كلم اللسان أنكى من كلم السنان-  و الكلمة مرهونة ما لم تنجم من الفم-  فإذا نجمت مزجت-  فهي أسد محرب أو نار تلهب-  و رأي الناصح اللبيب دليل لا يجوز-  و نفاذ الرأي في الحرب أجدى من الطعن و الضرب- . و أوصى يزيد بن المهلب ابنه مخلدا-  حين استخلفه على جرجان-  فقال له يا بني قد استخلفتك على هذه البلاد-  فانظر هذا الحي من اليمن فكن لهم كما قال الشاعر- 

 إذا كنت مرتاد الرجال لنفعهم
فرش و اصطنع عند الذين بهم ترمي‏

و انظر هذا الحي من ربيعة-  فإنهم شيعتك و أنصارك فاقض حقوقهم-  و انظر هذا الحي من تميم فأمطرهم و لا تزه لهم-  و لا تدنهم فيطمعوا و لا تقصهم فيقطعوا-  و انظر هذا الحي من قيس-  فإنهم أكفاء قومك في الجاهلية-  و مناصفوهم المآثر في الإسلام و رضاهم منك البشر-  يا بني إن لأبيك صنائع فلا تفسدها-  فإنه كفى بالمرء نقصا أن يهدم ما بنى أبوه-  و إياك و الدماء فإنه لا تقية معها-  و إياك و شتم الأعراض-  فإن الحر لا يرضيه عن عرضه عوض-  و إياك و ضرب الأبشار فإنه عار باق و وتر مطلوب-  و استعمل على النجدة و الفضل دون الهوى-  و لا تعزل إلا عن عجز أو خيانة-  و لا يمنعك من اصطناع الرجل-  أن يكون غيرك قد سبقك إليه-  فإنك إنما تصطنع الرجال لفضلها-  و ليكن صنيعك عند من يكافئك عنه العشائر-  احمل الناس على أحسن أدبك يكفوك أنفسهم-  و إذا كتبت كتابا فأكثر النظر فيه-  و ليكن رسولك فيما بيني و بينك من يفقه عني و عنك-  فإن كتاب الرجل موضع عقله و رسوله موضع سره-  و أستودعك الله فلا بد للمودع أن يسكت-  و للمشيع أن يرجع-  و ما عف من المنطق و قل من الخطيئة أحب إلى أبيك- . و أوصى قيس بن عاصم المنقري بنيه فقال-  يا بني خذوا عني فلا أحد أنصح لكم مني-  إذا دفنتموني فانصرفوا إلى رحالكم-  فسودوا أكبركم-  فإن القوم إذا سودوا أكبرهم خلفوا أباهم-  و إذا سودوا أصغرهم أزرى ذلك بهم في أكفائهم-  و إياكم و معصية الله و قطيعة الرحم-  و تمسكوا بطاعة أمرائكم فإنهم من رفعوا ارتفع-  و من وضعوا اتضع-  و عليكم بهذا المال فأصلحوه-  فإنه منبهة للكريم و جنة لعرض اللئيم-  و إياكم و المسألة فإنها آخر كسب الرجل-  و إن أحدا لم يسأل إلا ترك الكسب-  و إياكم و النياحة فإني سمعت رسول الله ص ينهى عنها-  و ادفنوني في ثيابي التي كنت أصلي فيها و أصوم-  و لا يعلم بكر بن وائل بمدفني-  فقد كانت بيني و بينهم-  مشاحنات في الجاهلية و الإسلام-  و أخاف أن يدخلوا عليكم بي عارا-  و خذوا عني ثلاث خصال-  إياكم و كل عرق لئيم أن تلابسوه-  فإنه إن يسرركم اليوم يسؤكم غدا-  و اكظموا الغيظ-  و احذروا بني أعداء آبائكم فإنهم على منهاج آبائهم-  ثم قال‏

   أحيا الضغائن آباء لنا سلفوا
فلن تبيد و للآباء أبناء

 قال ابن الكلبي فيحكي الناس هذا البيت سابقا للزبير-  و ما هو إلا لقيس بن عاصم- . و أوصى عمرو بن كلثوم التغلبي بنيه فقال-  يا بني إني قد بلغت من العمر-  ما لم يبلغ أحد من آبائي و أجدادي-  و لا بد من أمر مقتبل-  و أن ينزل بي ما نزل بالآباء-  و الأجداد و الأمهات و الأولاد-  فاحفظوا عني ما أوصيكم به-  إني و الله ما عيرت رجلا قط أمرا إلا عيرني مثله-  إن حقا فحق و إن باطلا فباطل-  و من سب سب-  فكفوا عن الشتم فإنه أسلم لأعراضكم-  و صلوا أرحامكم تعمر داركم-  و أكرموا جاركم بحسن ثنائكم-  و زوجوا بنات العم بني العم-  فإن تعديتم بهن إلى الغرباء فلا تألوا بهن عن الأكفاء-  و أبعدوا بيوت النساء من بيوت الرجال-  فإنه أغض للبصر و أعف للذكر-  و متى كانت المعاينة و اللقاء-  ففي ذلك داء من الأدواء-  و لا خير فيمن لا يغار لغيره كما يغار لنفسه-  و قل من انتهك حرمة لغيره إلا انتهكت حرمته-  و امنعوا القريب من ظلم الغريب-  فإنك تدل على قريبك و لا يجمل بك ذل غريبك-  و إذا تنازعتم في الدماء فلا يكن حقكم الكفاء-  فرب رجل خير من ألف و ود خير من خلف-  و إذا حدثتم فعوا و إذا حدثتم فأوجزوا-  فإن مع الإكثار يكون الإهذار-  و موت عاجل خير من ضنى آجل-  و ما بكيت من زمان إلا دهاني بعده زمان-  و ربما شجاني من لم يكن أمره‏ عناني-  و ما عجبت من أحدوثة إلا رأيت بعدها أعجوبة-  و اعلموا أن أشجع القوم العطوف-  و خير الموت تحت ظلال السيوف-  و لا خير فيمن لا روية له عند الغضب-  و لا فيمن إذا عوتب لم يعتب-  و من الناس من لا يرجى خيره و لا يخاف شره-  فبكوؤه خير من دره و عقوقه خير من بره-  و لا تبرحوا في حبكم-  فإن من أبرح في حب آل ذلك إلى قبيح بغض-  و كم قد زارني إنسان و زرته فانقلب الدهر بنا فقبرته-  و اعلموا أن الحليم سليم و أن السفيه كليم-  أني لم أمت و لكن هرمت و دخلتني ذلة فسكت-  و ضعف قلبي فأهترت-  سلمكم ربكم و حياكم- .

و من كتاب أردشير بن بابك إلى بنيه-  و الملوك من بعده-  رشاد الوالي خير للرعية من خصب الزمان-  الملك و الدين توأمان لا قوام لأحدهما إلا بصاحبه-  فالدين أس الملك و عماده-  ثم صار الملك حارس الدين-  فلا بد للملك من أسه و لا بد للدين من حارسه-  فأما ما لا حارس له فضائع و ما لا أس له فمهدوم-  إن رأس ما أخاف عليكم مبادرة السفلة-  إياكم إلى دراسة الدين و تأويله و التفقه فيه-  فتحملكم الثقة بقوة الملك على التهاون بهم-  فتحدث في الدين رئاسات منتشرات سرا-  فيمن قد وترتم و جفوتم و حرمتم و أخفتم-  و صغرتم من سفلة الناس و الرعية و حشو العامة-  ثم لا تنشب تلك الرئاسات-  أن تحدث خرقا في الملك و وهنا في الدولة-  و اعلموا أن سلطانكم إنما هو على أجسادكم الرعية-  لا على قلوبها-  و إن غلبتم الناس على ما في أيديهم-  فلن تغلبوهم على ما في عقولهم و آرائهم و مكايدهم-  و اعلموا أن العاقل المحروم سال عليكم لسانه-  و هو أقطع سيفيه-  و إن أشد ما يضر بكم من لسانه-  ما صرف الحيلة فيه إلى الدين-  فكان للدنيا يحتج و للدين فيما يظهر يتعصب-  فيكون‏ للدين بكاؤه و إليه دعاؤه-  ثم هو أوحد للتابعين و المصدقين-  و المناصحين و المؤازرين-  لأن تعصب الناس موكل بالملوك-  و رحمتهم و محبتهم موكلة بالضعفاء المغلوبين-  فاحذروا هذا المعنى كل الحذر و اعلموا أنه ليس ينبغي للملك أن يعرف للعباد و النساك-  بأن يكونوا أولى بالدين منه-  و لا أحدب عليه و لا أغضب له-  و لا ينبغي له أن يخلي النساك و العباد-  من الأمر و النهي في نسكهم و دينهم-  فإن خروج النساك و غيرهم من الأمر و النهي-  عيب على الملوك و على المملكة-  و ثلمة بينة الضرر على الملك و على من بعده- .

و اعلموا أنه قد مضى قبلنا من أسلافنا ملوك-  كان الملك منهم يتعهد الحماية بالتفتيش-  و الجماعة بالتفضيل و الفراغ بالاشتغال-  كتعهده جسده بقص فضول الشعر و الظفر-  و غسل الدرن و الغمر-  و مداواة ما ظهر من الأدواء و ما بطن-  و قد كان من أولئك الملوك-  من صحة ملكه أحب إليه من صحة جسده-  فتتابعت تلك الأملاك بذلك كأنهم ملك واحد-  و كان أرواحهم روح واحدة-  يمكن أولهم لآخرهم و يصدق آخرهم أولهم-  يجتمع أبناء أسلافهم و مواريث آرائهم-  و ثمرات عقولهم عند الباقي منهم بعدهم-  و كأنهم جلوس معه يحدثونه و يشاورونه-  حتى كأن على رأس دارا بن دارا-  ما كان من غلبة الإسكندر الرومي-  على ما غلب عليه من ملكه-  و كان إفساده أمرنا و تفرقته جماعتنا-  و تخريبه عمران مملكتنا-  أبلغ له فيما أراد من سفك دمائنا-  فلما أذن الله عز و جل في جمع مملكتنا و إعادة أمرنا-  كان من بعثه إيانا ما كان-  و بالاعتبار يتقى العثار-  و التجارب الماضية دستور-  يرجع إليه من الحوادث الآتية- .

و اعلموا أن طباع الملوك-  على غير طباع الرعية و السوقة-  فإن الملك يطيف به العز-  و الأمن و السرور و القدرة على ما يريد-  و الأنفة و الجرأة و العبث و البطر-  و كلما ازدادفي العمر تنفسا-  و في الملك سلامة ازداد من هذه الطبائع و الأخلاق-  حتى يسلمه ذلك إلى سكر السلطان-  الذي هو أشد من سكر الشراب-  فينسى النكبات و العثرات و الغير و الدوائر-  و فحش تسلط الأيام و لؤم غلبة الدهر-  فيرسل يده بالفعل و لسانه بالقول-  و عند حسن الظن بالأيام تحدث الغير و تزول النعم-  و قد كان من أسلافنا و قدماء ملوكنا-  من يذكره عزه الذل و أمنه الخوف-  و سروره الكآبة و قدرته المعجزة-  و ذلك هو الرجل الكامل قد جمع بهجة الملوك-  و فكرة السوقة-  و لا كمال إلا في جمعها- .

و اعلموا أنكم ستبلون على الملك-  بالأزواج و الأولاد و القرباء و الوزراء و الأخدان-  و الأنصار و الأعوان و المتقربين و الندماء و المضحكين-  و كل هؤلاء إلا قليلا-  أن يأخذ لنفسه أحب إليه من أن يعطي منها عمله-  و إنما عمله سوق ليومه و ذخيرة لغده-  فنصيحته للملوك فضل نصيحته لنفسه-  و غاية الصلاح عنده صلاح نفسه-  و غاية الفساد عنده فسادها-  يقيم للسلطان سوق المودة-  ما أقام له سوق الأرباح و المنافع-  إذا استوحش الملك من ثقاته أطبقت عليه ظلم الجهالة-  أخوف ما يكون العامة آمن ما يكون الوزراء-  و آمن ما يكون العامة أخوف ما يكون الوزراء- . و اعلموا أن كثيرا من وزراء الملوك-  من يحاول استبقاء دولته و أيامه بإيقاع الاضطراب-  و الخبط في أطراف مملكة الملك-  ليحتاج الملك إلى رأيه و تدبيره-  فإذا عرفتم هذا من وزير من وزرائكم فاعزلوه-  فإنه يدخل الوهن و النقص على الملك و الرعية-  لصلاح حال نفسه-  و لا تقوم نفسه بهذه النفوس كلها- .

و اعلموا أن بدء ذهاب الدولة-  ينشأ من قبل إهمال الرعية بغير أشغال معروفة-  و لا أعمال معلومة-  فإذا نشأ الفراغ تولد منه النظر في الأمور-  و الفكر في الفروع و الأصول- . فإذا نظروا في ذلك نظروا فيه بطبائع مختلفة-  فتختلف بهم المذاهب-  و يتولد من اختلاف مذاهبهم تعاديهم و تضاغنهم-  و هم مع اختلافهم هذا متفقون و مجتمعون على بغض الملوك-  فكل صنف منهم إنما يجري إلى فجيعة الملك بملكه-  و لكنهم لا يجدون سلما إلى‏ ذلك-  أوثق من الدين و الناموس-  ثم يتولد من تعاديهم-  أن الملك لا يستطيع جمعهم على هوى واحد-  فإن انفرد باختصاص بعضهم صار عدو بقيتهم-  ولى طباع العامة استثقال الولاة و ملالهم-  و النفاسة عليهم و الحسد لهم-  و في الرعية المحروم و المضروب-  و المقام عليه الحدود-  و يتولد من كثرتهم مع عداوتهم-  أن يجبن الملك عن الإقدام عليهم-  فإن في إقدام الملك على الرعية-  كلها كافة تغريرا بملكه-  و يتولد من جبن الملك عن الرعية استعجالهم عليه-  و هم أقوى عدو له و أخلقه بالظفر-  لأنه حاضر مع الملك في دار ملكه-  فمن أفضى إليه الملك بعدي-  فلا يكونن بإصلاح جسده أشد اهتماما منه بهذه الحال-  و لا تكونن لشي‏ء من الأشياء-  أكره و أنكر لرأس صار ذنبا-  و ذنب صار رأسا و يد مشغولة صارت فارغة-  أو غني صار فقيرا أو عامل مصروف أو أمير معزول- .

و اعلموا أن سياسة الملك و حراسته-  ألا يكون ابن الكاتب إلا كاتبا-  و ابن الجندي إلا جنديا و ابن التاجر إلا تاجرا-  و هكذا في جميع الطبقات-  فإنه يتولد من تنقل الناس عن حالاتهم-  أن يلتمس كل امرئ منهم فوق مرتبته-  فإذا انتقل أوشك أن يرى شيئا أرفع مما انتقل إليه-  فيحسد أو ينافس-  و في ذلك من الضرر المتولد ما لا خفاء به-  فإن عجز ملك منكم عن إصلاح رعيته كما أوصيناه-  فلا يكون للقميص القمل أصرع خلعا منه-  لما لبس من قميص ذلك الملك- .

و اعلموا أنه ليس ملك إلا و هو كثير الذكر-  لمن يلي الأمر بعده-  و من فساد أمر الملك نشر ذكره ولاة العهود-  فإن في ذلك ضروبا من الضرر-  و أن ذلك دخول عداوة بين الملك و ولي عهده-  لأنه تطمح عينه إلى الملك-  و يصير له أحباب و أخدان يمنونه ذلك-  و يستبطئون موت الملك-  ثم إن الملك يستوحش منه-  و تنساق الأمور إلى هلاك أحدهما-  و لكن لينظر الوالي منكم لله تعالى-  ثم لنفسه ثم للرعية-  و لينتخب وليا للعهد من بعده‏ و لا يعلمه ذلك-  و لا أحد من الخلق قريبا كان منه أو بعيدا-  ثم يكتب اسمه في أربع صحائف و يختمها بخاتمه-  و يضعها عند أربعة نفر من أعيان أهل المملكة-  ثم لا يكون منه في سره و علانيته أمر-  يستدل به على ولي عهده من هؤلاء-  في إدناء و تقريب يعرف به-  و لا في إقصاء و أعراض يستراب له-  و ليتق ذلك في اللحظة و الكلمة-  فإذا هلك الملك جمعت تلك الصحائف إلى النسخة-  التي تكون في خزانة الملك-  فتفض جميعا ثم ينوه حينئذ باسم ذلك الرجل-  فيلقي الملك إذا لنية بحداثة عهده بحال السوقة-  و يلبسه إذا لبسه ببصر السوقة و سمعها-  فإن في معرفته بحاله قبل إفضاء الملك إليه سكرا-  تحدثه عنده ولاية العهد-  ثم يلقاه الملك فيزيده سكرا إلى سكره-  فيعمي و يصم-  هذا مع ما لا بد أن يلقاه أيام ولاية العهد من حيل العتاة-  و بغي الكذابين و ترقية النمامين-  و إيغار صدره و إفساد قلبه على كثير من رعيته-  و خواص دولته-  و ليس ذلك بمحمود و لا صالح- .

و اعلموا أنه ليس للملك أن يحلف-  لأنه لا يقدر أحد استكراهه-  و ليس له أن يغضب لأنه قادر-  و الغضب لقاح الشر و الندامة-  و ليس له أن يعبث و يلعب-  لأن اللعب و العبث من عمل الفراغ-  و ليس له أن يفرغ لأن الفراغ من أمر السوقة-  و ليس للملك أن يحسد أحدا إلا على حسن التدبير-  و ليس له أن يخاف لأنه لا يد فوق يده- .

و اعلموا أنكم لن تقدروا على أن تختموا أفواه الناس-  من الطعن و الإزراء عليكم-  و لا قدرة لكم على أن تجعلوا القبيح من أفعالكم حسنا-  فاجتهدوا في أن تحسن أفعالكم كلها-  و إلا تجعلوا للعامة إلى الطعن عليكم سبيلا- . و اعلموا أن لباس الملك و مطعمه و مشربه-  مقارب للباس السوقة و مطعمهم-  و ليس‏ فضل الملك على السوقة-  إلا بقدرته على اقتناء المحامد و استفادة المكارم-  فإن الملك إذا شاء أحسن و ليس كذلك السوقة- . و اعلموا أن لكل ملك بطانة-  و لكل رجل من بطانته بطانة-  ثم إن لكل امرئ من بطانة البطانة بطانة-  حتى يجتمع من ذلك أهل المملكة-  فإذا أقام الملك بطانته على حال الصواب فيهم-  أقام كل امرئ منهم بطانته على مثل ذلك-  حتى يجتمع على الصلاح عامة الرعية- . احذروا بابا واحدا طالما أمنته فضرني-  و حذرته فنفعني-  احذروا إفشاء السر بحضرة الصغار من أهليكم و خدمكم-  فإنه ليس يصغر واحد منهم عن حمل ذلك السر كاملا-  لا يترك منه شيئا حتى يضعه حيث تكرهون-  إما سقطا أو غشا- .

و اعلموا أن في الرعية صنفا-  أتوا الملك من قبل النصائح له-  و التمسوا إصلاح منازلهم بإفساد منازل الناس-  فأولئك أعداء الناس و أعداء الملوك-  و من عادى الملوك و الناس كلهم فقد عادى نفسه- .

و اعلموا أن الدهر حاملكم على طبقات-  فمنها حال السخاء حتى يدنو أحدكم من السرف-  و منها حال التبذير حتى يدنو من البخل-  و منها حال الأناة حتى يدنو من البلادة-  و منها حال انتهاز الفرصة حتى يدنو من الخفة-  و منها حال الطلاقة في اللسان حتى يدنو من الهذر-  و منها حال الأخذ بحكمة الصمت حتى يدنو من العي-  فالملك منكم جدير-  أن يبلغ من كل طبقة في محاسنها حدها-  فإذا وقف عليه ألجم نفسه عما وراءها- . و اعلموا أن ابن الملك و أخاه و ابن عمه يقول-  كدت أن أكون ملكا و بالحري ألا أموت حتى أكون ملكا-  فإذا قال ذلك قال ما لا يسر الملك-  و إن كتمه فالداء في كل مكتوم-  و إذا تمنى ذلك جعل الفساد سلما إلى الصلاح-  و لم يكن الفساد سلما إلى صلاح قط-  و قد رسمت لكم في ذلك مثالا-  اجعلوا الملك لا ينبغي إلا لأبناء الملوك-  من بنات عمومتهم-  و لا يصلح من أولاد بنات العم إلا كامل غير سخيف العقل-  و لا عازب الرأي و لا ناقص الجوارح-  و لا مطعون عليه في الدين-  فإنكم إذا فعلتم ذلك قل طلاب الملك-  و إذا قل طلابه استراح كل امرئ إلى ما يليه-  و نزع إلى حد يليه و عرف حاله-  و رضي معيشته و استطاب زمانه- . فقد ذكرنا وصايا قوم من العرب-  و وصايا أكثر ملوك الفرس و أعظمهم-  حكمة لتضم إلى وصايا أمير المؤمنين-  فيحصل منها وصايا الدين و الدنيا-  فإن وصايا أمير المؤمنين ع الدين عليها أغلب-  و وصايا هؤلاء الدنيا عليها أغلب-  فإذا أخذ من أخذ التوفيق بيده بمجموع ذلك فقد سعد-  و لا سعيد إلا من أسعده الله

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 17

نامه 52 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

52 و من كتاب له ع إلى أمراء البلاد في معنى الصلاة

أَمَّا بَعْدُ فَصَلُّوا بِالنَّاسِ الظُّهْرَ-  حَتَّى تَفِي‏ءَ الشَّمْسُ مِثْلَ مَرْبِضِ الْعَنْزِ-  وَ صَلُّوا بِهِمُ الْعَصْرَ وَ الشَّمْسُ بَيْضَاءُ حَيَّةٌ فِي عُضْوٍ مِنَ النَّهَارِ-  حِينَ يُسَارُ فِيهَا فَرْسَخَانِ-  وَ صَلُّوا بِهِمُ الْمَغْرِبَ حِينَ يُفْطِرُ الصَّائِمُ-  وَ يَدْفَعُ الْحَاجُّ إِلَى مِنًى-  وَ صَلُّوا بِهِمُ الْعِشَاءَ حِينَ يَتَوَارَى الشَّفَقُ إِلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ-  وَ صَلُّوا بِهِمُ الْغَدَاةَ وَ الرَّجُلُ يَعْرِفُ وَجْهَ صَاحِبِهِ-  وَ صَلُّوا بِهِمْ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ وَ لَا تَكُونُوا فَتَّانِينَ

بيان اختلاف الفقهاء في أوقات الصلاة

قد اختلف الفقهاء في أوقات الصلاة-  فقال أبو حنيفة أول وقت الفجر إذا طلع الفجر الثاني-  و هو المعترض في الأفق و آخر وقتها ما لم تطلع الشمس-  و أول وقت الظهر إذا زالت الشمس-  و آخر وقتها إذا صار ظل كل شي‏ء مثليه سوى الزوال-  و قال أبو يوسف و محمد آخر وقتها إذا صار الظل مثله- . قال أبو حنيفة و أول وقت العصر إذا خرج وقت الظهر-  و هذا على القولين-  و آخر وقتها ما لم تغرب الشمس-  و أول وقت المغرب إذا غربت الشمس-  و آخر وقتها ما لم يغب الشفق-  و هو البياض الذي في الأفق بعد الحمرة-  و قال أبو يوسف و محمد هو الحمرة- .

قال أبو حنيفة و أول وقت العشاء إذا غاب الشفق-  و هذا على القولين-  و آخر وقتها ما لم يطلع الفجر- . و قال الشافعي أول وقت الفجر إذا طلع الفجر الثاني-  و لا يزال وقتها المختار باقيا إلى أن يسفر-  ثم يبقى وقت الجواز إلى طلوع الشمس- . و قال أبو سعيد الإصطخري من الشافعية-  لا يبقى وقت الجواز-  بل يخرج وقتها بعد الإسفار و يصلى قضاء-  و لم يتابعه على هذا القول أحد-  قال الشافعي و أول وقت الظهر إذا زالت الشمس-  و حكى أبو الطيب الطبري من الشافعية أن من الناس من قال-  لا تجوز الصلاة حتى يصير الفي‏ء بعد الزوال مثل الشراك- . و قال مالك أحب أن يؤخر الظهر بعد الزوال-  بقدر ما يصير الظل ذراعا-  و هذا مطابق لما قال أمير المؤمنين ع-  حين تفي‏ء الشمس كمربض العنز أي كموضع تربض العنز-  و ذلك نحو ذراع أو أكثر بزيادة يسيرة- .

قال الشافعي-  و آخر وقت الظهر إذا صار ظل كل شي‏ء مثله-  و يعتبر المثل من حد الزيادة-  على الظل الذي كان عند الزوال-  و بهذا القول قال أبو يوسف و محمد و قد حكيناه من قبل-  و به أيضا قال الثوري و أحمد-  و هو رواية الحسن بن زياد اللؤلؤي عن أبي حنيفة-  فأما الرواية المشهورة عنه-  و هي التي رواها أبو يوسف-  فهو أن آخر وقت الظهر صيرورة الظل مثليه-  و قد حكيناه عنه فيما تقدم- . و قال ابن المنذر تفرد أبو حنيفة بهذا القول-  و عن أبي حنيفة رواية ثالثة-  أنه إذا صار ظل كل شي‏ء مثله خرج وقت الظهر-  و لم يدخل وقت العصر-  إلى أن يصير ظل كل شي‏ء مثليه- .

 و قال أبو ثور و محمد بن جرير الطبري-  قدر أربع ركعات بين المثل و المثلين-  يكون مشتركا بين الظهر و العصر- . و حكي عن مالك أنه قال-  إذا صار ظل كل شي‏ء مثله فهو آخر وقت الظهر-  و أول وقت العصر-  فإذا زاد على المثل زيادة بينة خرج وقت الظهر-  و اختص الوقت بالعصر- . و حكى ابن الصباغ من الشافعية عن مالك-  أن وقت الظهر إلى أن يصير ظل كل شي‏ء مثله وقتا مختارا-  فأما وقت الجواز و الأداء-  فآخره إلى أن يبقى إلى غروب الشمس قدر أربع ركعات-  و هذا القول مطابق لمذهب الإمامية- . و قال ابن جريج و عطاء-  لا يكون مفرطا بتأخيرها حتى تكون في الشمس صفرة- . و عن طاوس لا يفوت حتى الليل- . فأما العصر فإن الشافعي يقول-  إذا زاد على المثل أدنى زيادة فقد دخل وقت العصر-  و الخلاف في ذلك بينه و بين أبي حنيفة-  لأنه يقول أول وقت العصر إذا صار ظل كل شي‏ء مثليه-  و زاد عليه أدنى زيادة و قد حكيناه عنه فيما تقدم- .

و كلام أمير المؤمنين ع في العصر-  مطابق لمذهب أبي حنيفة-  لأن بعد صيرورة الظل مثليه-  هو الوقت الذي تكون فيه الشمس حية بيضاء-  في عضو من النهار حين يسار فيه فرسخان-  و أما قبل ذلك فإنه فوق ذلك-  يسار من الفراسخ أكثر من ذلك-  و لا يزال وقت الاختيار عند الشافعي للعصر باقيا-  حتى يصير ظل كل شي‏ء مثليه-  ثم يبقى وقت الجواز إلى غروب الشمس- . و قال أبو سعيد الإصطخري من أصحابه-  يصير قضاء بمجاوزة المثلين-  فأما وقت المغرب فإذا غربت الشمس و غروبها سقوط القرص- .

و قال أبو الحسن علي بن حبيب الماوردي من الشافعية-  لا بد أن يسقط القرص و يغيب‏ حاجب الشمس-  و هو الضياء المستعلي عليها كالمتصل بها-  و لم يذكر ذلك من الشافعية أحد غيره- . و ذكر الشاشي في كتاب حلية العلماء-  أن الشيعة قالت أول وقت المغرب إذا اشتبكت النجوم-  قال قد حكي هذا عنهم و لا يساوي الحكاية-  و لم تذهب الشيعة إلى هذا و سنذكر قولهم فيما بعد- . و كلام أمير المؤمنين ع في المغرب لا ينص على وقت معين-  لأنه عرف ذلك بكونه وقت الإفطار و وقت ما يدفع الحاج-  و كلا الأمرين يحتاج إلى تعريف كما يحتاج وقت الصلاة-  اللهم إلا أن يكون قد عرف أمراء البلاد-  الذين يصلون بالناس من قبل هذا الكتاب-  متى هذا الوقت الذي يفطر فيه الصائم-  ثم يدفع فيه الحاج بعينه-  ثم يحيلهم في هذا الكتاب على ذلك التعريف المخصوص- .

قال الشافعي و للمغرب وقت واحد و هو قول مالك- . و حكى أبو ثور عن الشافعي أن لها وقتين-  و آخر وقتها إذا غاب الشفق-  و ليس بمشهور عنه و المشهور القول الأول-  و قد ذكرنا قول أبي حنيفة فيما تقدم-  و هو امتداد وقتها إلى أن يغيب الشفق-  و به قال أحمد و داود- .

و اختلف أصحاب الشافعي في مقدار الوقت الواحد-  فمنهم من قال هو مقدر بقدر الطهارة و ستر العورة-  و الأذان و الإقامة و فعل ثلاث ركعات-  و منهم من قدره بغير ذلك- . و قال أبو إسحاق الشيرازي منهم-  التضييق إنما هو في الشروع-  فأما الاستدامة فتجوز إلى مغيب الشفق- . فأما وقت العشاء-  فقال الشافعي هو أن يغيب الشفق و هو الحمرة-  و هو قول مالك و أحمد و داود و أبي يوسف و محمد-  و قد حكينا مذهب أبي حنيفة فيما تقدم-  و هو أن يغيب الشفق الذي هو البياض و به قال زفر و المزني- .

  قال الشافعي و آخر وقتها المختار إلى نصف الليل-  هذا هو قوله القديم و هو مذهب أبي حنيفة-  و قال في الجديد إلى ثلث الليل-  و يجب أن يحمل قول أمير المؤمنين ع في العشاء-  إنها إلى ثلث الليل على وقت الاختيار-  ليكون مطابقا لهذا القول-  و به قال مالك و إحدى الروايتين عن أحمد-  ثم يذهب وقت الاختيار-  و يبقى وقت الجواز إلى طلوع الفجر الثاني- .

و قال أبو سعيد الإصطخري-  لا يبقى وقت الجواز بعد نصف الليل بل يصير قضاء- . فقد ذكرنا مذهبي أبي حنيفة و الشافعي في الأوقات-  و هما الإمامان المعتبران في الفقه-  و دخل في ضمن حكاية مذهب الشافعي-  ما يقوله مالك و أحمد و غيرهما من الفقهاء- . فأما مذهب الإمامية من الشيعة-  فنحن نذكره نقلا عن كتاب أبي عبد الله-  محمد بن محمد بن النعمان رحمه الله-  المعروف بالرسالة المقنعة-  قال وقت الظهر من بعد زوال الشمس-  إلى أن يرجع الفي‏ء سبعي الشخص-  و علامة الزوال رجوع الفي‏ء بعد انتهائه إلى النقصان-  و طريق معرفة ذلك بالأصطرلاب أو ميزان الشمس-  و هو معروف عند كثير من الناس-  أو بالعمود المنصوب في الدائرة الهندية أيضا-  فمن لم يعرف حقيقة العمل بذلك أو لم يجد آلته-  فلينصب عودا من خشب أو غيره في أرض مستوية السطح-  و يكون أصل العود غليظا و رأسه دقيقا شبه المذري-  الذي ينسج به التكك أو المسلة التي تخاط بها الأحمال-  فإن ظل هذا العود-  يكون بلا شك في أول النهار أطول من العود-  و كلما ارتفعت الشمس نقص من طوله-  حتى يقف القرص في وسط السماء-  فيقف الفي‏ء حينئذ-  فإذا زال القرص عن الوسط إلى جهة المغرب-  رجع الفي‏ء إلى الزيادة-  فليعتبر من أراد الوقوف على وقت الزوال ذلك-  بخطط و علامات يجعلها على رأس ظل العود-  عند وضعه في صدر النهار-  و كلما نقص في الظل شي‏ء علم عليه-  فإذا رجع إلى الزيادة على موضع العلامة-  عرف حينئذ برجوعه أن الشمس قد زالت- . و بذلك تعرف أيضا القبلة-  فإن قرص الشمس يقف فيها وسط النهار-  و يصير عن يسارها و يمين المتوجه إليها-  بعد وقوفها و زوالها عن القطب-  فإذا صارت مما يلي حاجبه الأيمن من بين عينيه-  علم أنها قد زالت و عرف أن القبلة تلقاء وجهه-  و من سبقت معرفته بجهة القبلة-  فهو يعرف زوال الشمس إذا توجه إليها-  فرأى عين الشمس مما يلي حاجبه الأيمن-  إلا أن ذلك لا يبين إلا بعد زوالها بزمان-  و يبين الزوال من أول وقته بما ذكرناه-  من الأصطرلاب و ميزان الشمس و الدائرة الهندية-  و العمود الذي وصفناه-  و من لم يحصل له معرفة ذلك أو فقد الآلة توجه إلى القبلة-  فاعتبر صيرورة الشمس على طرف حاجبه الأيمن وقت العصر-  من بعد الفراغ من الظهر-  إذا صليت الظهر في أول أوقاتها-  أعني بعد زوال الشمس بلا فصل-  و يمتد إلى أن يتغير لون الشمس باصفرارها للغروب-  و للمضطر و الناسي إلى مغيبها بسقوط القرص-  عما تبلغه أبصارنا من السماء-  و أول وقت المغرب مغيب الشمس-  و علامة مغيبها عدم الحمرة في المشرق-  المقابل للمغرب في السماء-  و ذلك أن المشرق في السماء مطل على المغرب-  فما دامت الشمس ظاهرة فوق أرضنا-  فهي تلقى ضوءها على المشرق في السماء فيرى حمرتها فيه-  فإذا ذهبت الحمرة منه علم أن القرص قد سقط و غاب-  و آخره أول وقت العشاء الآخرة-  و أول وقتها مغيب الشمس و هو الحمرة في المغرب-  و آخره مضي الثلث الأول من الليل-  و أول وقت الغداة اعتراض الفجر-  و هو البياض في المشرق يعقبه الحمرة في مكانه-  و يكون مقدمة لطلوع الشمس على الأرض من السماء-  و ذلك أن الفجر الأول-  و هو البياض الظاهر في المشرق يطلع طولا-  ثم ينعكس بعد مدة عرضا ثم يحمر الأفق بعده للشمس- .

 و لا ينبغي للإنسان أن يصلي فريضة الغداة-  حتى يعترض البياض و ينتشر صعدا في السماء كما ذكرنا-  و آخر وقت الغداة طلوع الشمس- . هذا ما تقوله الفقهاء في مواقيت الصلاةفأما قوله ع و الرجل يعرف وجه صاحبه-  فمعناه الإسفار و قد ذكرناه- . و قوله ع و صلوا بهم صلاة أضعفهم-  أي لا تطيلوا بالقراءة الكثيرة و الدعوات الطويلة- . ثم قال و لا تكونوا فتانين-  أي لا تفتنوا الناس بإتعابهم-  و إدخال المشقة عليهم بإطالة الصلاة-  و إفساد صلاة المأمومين بما يفعلونه من أفعال مخصوصة-  نحو أن يحدث الإمام فيستخلف فيصلي الناس خلف خليفته-  فإن ذلك لا يجوز على أحد قولي الشافعي-  و نحو أن يطيل الإمام الركوع و السجود-  فيظن المأمومون أنه قد رفع فيرفعون-  أو يسبقونه بأركان كثيرة-  و نحو ذلك من مسائل يذكرها الفقهاء في كتبهم- .

و اعلم أن أمير المؤمنين ع إنما بدأ بصلاة الظهر-  لأنها أول فريضة افترضت على المكلفين من الصلاة-  على ما كان يذهب إليه ع-  و إلى ذلك تذهب الإمامية و ينصر قولهم تسميتها بالأولى-  و لهذا بدأ أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان-  بذكرها قبل غيرها-  فأما من عدا هؤلاء فأول الصلاة المفروضة عندهم الصبح-  و هي أول النهار- . و أيضا يتفرع على هذا البحث-  القول في الصلاة الوسطى ما هي-  فذهب جمهور الناس إلى أنها العصر-  لأنها بين صلاتي نهار و صلاتي ليل-  و قد رووا أيضا في ذلك روايات بعضها في الصحاح-  و قياس مذهب الإمامية أنها المغرب-  لأن الظهر إذا كانت الأولى كانت المغرب الوسطى-  إلا أنهم يروون عن أئمتهم ع أنها الظهر-  و يفسرون الوسطى بمعنى الفضلى-  لأن الوسط في اللغة هو خيار كل شي‏ء-  و منه قوله تعالى جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً-  و قد ذهب إلى أنها المغرب قوم من الفقهاء أيضا- . و قال كثير من الناس أنها الصبح-  لأنها أيضا بين صلاتي ليل و صلاتي نهار-  و رووا أيضا فيها روايات و هو مذهب الشافعي-  و من الناس من قال إنها الظهر كقول الإمامية-  و لم يسمع عن أحد معتبرا أنها العشاء-  إلا قولا شاذا ذكره بعضهم- .

و قال لأنها بين صلاتين لا تقصران

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 17

 

نامه 51 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

51 و من كتاب له ع إلى عماله على الخراج

مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى أَصْحَابِ الْخَرَاجِ-  أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَحْذَرْ مَا هُوَ سَائِرٌ إِلَيْهِ-  لَمْ يُقَدِّمْ لِنَفْسِهِ مَا يُحْرِزُهَا-  وَ اعْلَمُوا أَنَّ مَا كُلِّفْتُمْ يَسِيرٌ وَ أَنَّ ثَوَابَهُ كَثِيرٌ-  وَ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ-  مِنَ الْبَغْيِ وَ الْعُدْوَانِ عِقَابٌ يُخَافُ-  لَكَانَ فِي ثَوَابِ اجْتِنَابِهِ مَا لَا عُذْرَ فِي تَرْكِ طَلَبِهِ-  فَأَنْصِفُوا النَّاسَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ وَ اصْبِرُوا لِحَوَائِجِهِمْ-  فَإِنَّكُمْ خُزَّانُ الرَّعِيَّةِ-  وَ وُكَلَاءُ الْأُمَّةِ وَ سُفَرَاءُ الْأَئِمَّةِ-  وَ لَا تُحْشِمُوا أَحَداً عَنْ حَاجَتِهِ وَ لَا تَحْبِسُوهُ عَنْ طَلِبَتِهِ-  وَ لَا تَبِيعُنَّ النَّاسَ فِي الْخَرَاجِ كِسْوَةَ شِتَاءٍ وَ لَا صَيْفٍ-  وَ لَا دَابَّةً يَعْتَمِلُونَ عَلَيْهَا وَ لَا عَبْداً-  وَ لَا تَضْرِبُنَّ أَحَداً سَوْطاً لِمَكَانِ دِرْهَمٍ-  وَ لَا تَمَسُّنَّ مَالَ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ مُصَلٍّ وَ لَا مُعَاهَدٍ-  إِلَّا أَنْ تَجِدُوا فَرَساً أَوْ سِلَاحاً-  يُعْدَى بِهِ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ-  فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَدَعَ ذَلِكَ فِي أَيْدِي أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ-  فَيَكُونَ شَوْكَةً عَلَيْهِ-  وَ لَا تَدَّخِرُوا أَنْفُسَكُمْ نَصِيحَةً وَ لَا الْجُنْدَ حُسْنَ سِيرَةٍ-  وَ لَا الرَّعِيَّةَ مَعُونَةً وَ لَا دِينَ اللَّهِ قُوَّةً-  وَ أَبْلُوهُ فِي سَبِيلِ مَا اسْتَوْجَبَ عَلَيْكُمْ-  فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدِ اصْطَنَعَ عِنْدَنَاوَ عِنْدَكُمْ-  أَنْ نَشْكُرَهُ بِجُهْدِنَا-  وَ أَنْ نَنْصُرَهُ بِمَا بَلَغَتْ قُوَّتُنَا-  وَ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ يقول لو قدرنا أن القبائح العقلية-  كالظلم و البغي لا عقاب على فعلها-  بل في تركها ثواب فقط-  لم يكن الإنسان معذورا إذا فرط في ذلك الترك-  لأنه يكون قد حرم نفسه نفعا هو قادر على إيصاله إليها- . قوله و لا تحشموا أحدا-  أي لا تغضبوا طالب حاجة فتقطعوه عن طلبها-  أحشمت زيدا و جاء حشمته-  و هو أن يجلس إليك فتغضبه و تؤذيه-  و قال ابن الأعرابي حشمته أخجلته و أحشمته أغضبته-  و الاسم الحشمة و هي الاستحياء و الغضب- .

ثم نهاهم أن يبيعوا لأرباب الخراج-  ما هو من ضرورياتهم كثياب أبدانهم-  و كدابة يعتملون عليها نحو بقر الفلاحة-  و كعبد لا بد للإنسان منه يخدمه-  و يسعى بين يديه- . ثم نهاهم عن ضرب الأبشار لاستيفاء الخراج- . و كتب عدي بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز-  يستأذنه في عذاب العمال فكتب إليه-  كأني لك جنة من عذاب الله-  و كأن رضاي ينجيك من سخط الله-  من قامت عليه بينة-  أو أقر بما لم يكن مضطهدا مضطرا إلا الإقرار به-  فخذه بأدائه-  فإن كان قادرا عليه فاستأد-  و إن أبى فاحبسه و إن لم يقدر فخل سبيله-  بعد أن تحلفه بالله أنه لا يقدر على شي‏ء-  فلأن يلقوا الله بجناياتهم-  أحب إلي من أن ألقاه بدمائهم- .

ثم نهاهم أن يعرضوا لمال أحد من المسلمين-  أو من المعاهدين-  المعاهد هاهنا هو الذمي أو من يدخل دار الإسلام-  من بلاد الشرك على عهد إما لأداء رسالة-  أو لتجارة و نحو ذلك ثم يعود إلى بلاده- . ثم نهاهم عن الظلم و أخذ أموال الناس-  على طريق المصادرة و التأويل الباطل-  قال إلا أن تخافوا غائلة المعاهدين-  بأن تجدوا عندهم خيولا أو سلاحا-  و تظنوا منهم وثبة على بلد من بلاد المسلمين-  فإنه لا يجوز الإغضاء عن ذلك حينئذ- . قوله و أبلوا في سبيل الله-  أي اصطنعوا من المعروف في سبيل الله ما استوجب عليكم-  يقال هو يبلوه معروفا أي يصنعه إليه-  قال زهير

  جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم
و أبلاهما خير البلاء الذي يبلو

قوله ع قد اصطنعا عندنا و عندكم أن نشكره-  أي لأن نشكره-  بلام التعليل و حذفها أي أحسن إلينا لنشكره-  و حذفها أكثر نحو قوله تعالى-  لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ-  أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 17

نامه 50 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

50 و من كتاب له ع إلى أمرائه على الجيوش

مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ رَفَعَهُ إِلَى أَصْحَابِ الْمَسَالِحِ-  أَمَّا بَعْدُ-  فَإِنَّ حَقّاً عَلَى الْوَالِي أَلَّا يُغَيِّرَهُ عَلَى رَعِيَّتِهِ فَضْلٌ نَالَهُ-  وَ لَا طَوْلٌ خُصَّ بِهِ-  وَ أَنْ يَزِيدَهُ مَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ مِنْ نِعَمِهِ دُنُوّاً مِنْ عِبَادِهِ-  وَ عَطْفاً عَلَى إِخْوَانِهِ-  أَلَا وَ إِنَّ لَكُمْ عِنْدِي أَلَّا أَحْتَجِزَ دُونَكُمْ سِرّاً إِلَّا فِي حَرْبٍ-  وَ لَا أَطْوِيَ دُونَكُمْ أَمْراً إِلَّا فِي حُكْمٍ-  وَ لَا أُؤَخِّرَ لَكُمْ حَقّاً عَنْ مَحَلِّهِ-  وَ لَا أَقِفَ بِهِ دُونَ مَقْطَعِهِ-  وَ أَنْ تَكُونُوا عِنْدِي فِي الْحَقِّ سَوَاءً-  فَإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ وَجَبَتْ لِلَّهِ عَلَيْكُمُ النِّعْمَةُ-  وَ لِي عَلَيْكُمُ الطَّاعَةُ-  وَ أَلَّا تَنْكُصُوا عَنْ دَعْوَةٍ وَ لَا تُفَرِّطُوا فِي صَلَاحٍ-  وَ أَنْ تَخُوضُوا الْغَمَرَاتِ إِلَى الْحَقِّ-  فَإِنْ أَنْتُمْ لَمْ تَسْتَقِيمُوا لِي عَلَى ذَلِكَ-  لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِمَّنِ اعْوَجَّ مِنْكُمْ-  ثُمَّ أُعْظِمُ لَهُ الْعُقُوبَةَ وَ لَا يَجِدُ عِنْدِي فِيهَا رُخْصَةً-  فَخُذُوا هَذَا مِنْ أُمَرَائِكُمْ-  وَ أَعْطُوهُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ مَا يُصْلِحُ اللَّهُ بِهِ أَمْرَكُمْ وَ السَّلَامُ‏

أصحاب المسالح جماعات تكون بالثغر يحمون البيضة-  و المسلحة هي الثغر كالمرغبة-  و في الحديث كان أدنى مسالح فارس إلى العرب العذيب-  قال يجب على الوالي ألا يتطاول على الرعية بولايته-  و ما خص به عليهم من الطول و هو الفضل-  و أن تكون تلك الزيادة التي أعطيها-  سببا لزيادة دنوه من الرعية و حنوه عليهم- . ثم قال لكم عندي ألا أحتجز دونكم بسر-  أي لا أستتر-  قال إلا في حرب و ذلك لأن الحرب-  يحمد فيها طي الأسرار-  و الحرب خدعة- . ثم قال و لا أطوي دونكم أمرا إلا في حكم-  أي أظهركم على كل ما نفسي مما يحسن أن أظهركم عليه-  فأما أحكام الشريعة و القضاء على أحد الخصمين-  فإني لا أعلمكم به قبل وقوعه-  كيلا تفسد القضية بأن يحتال ذلك الشخص لصرف الحكم عنه- . ثم ذكر أنه لا يؤخر لهم حقا عن محله-  يعني العطاء و أنه لا يقف دون مقطعه-  و الحق هاهنا غير العطاء بل الحكم-  قال زهير

  فإن الحق مقطعه ثلاث
يمين أو نفار أو جلاء

 أي متى تعين الحكم حكمت به و قطعت و لا أقف و لا أتحبس- . و لما استوفى ما شرط لهم قال-  فإذا أنا وفيت بما شرطت على نفسي-  وجبت لله عليكم النعمة و لي عليكم الطاعة- . ثم أخذ في الاشتراط عليهم كما شرط لهم-  فقال و لي عليكم ألا تنكصوا عن‏ دعوة-  أي لا تتقاعسوا عن الجهاد إذا دعوتكم إليه-  و لا تفرطوا في صلاح أي إذا أمكنتكم فرصة-  أو رأيتم مصلحة في حرب العدو أو حماية الثغر-  فلا تفرطوا فيها فتفوت-  و أن تخوضوا الغمرات إلى الحق أي تكابدوا المشاق العظيمة-  و لا يهولنكم خوضها إلى الحق- . ثم توعدهم إن لم يفعلوا ذلك-  ثم قال فخذوا هذا من أمرائكم-  ليس يعني به أن على هؤلاء أصحاب المسالح أمراء من قبله ع-  كالواسطة بينهم و بينه بل من أمرائكم-  يعني مني و ممن يقوم في الخلافة مقامي بعدي-  لأنه لو كان الغرض هو الأول لما كان محلهم عنده أن يقول-  ألا أحتجز دونكم بسر و لا أطوي دونكم أمرا-  لأن محل من كان بتلك الصفة دون هذا

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 17

نامه 49 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

 

49 و من كتاب له ع إلى معاوية أيضا

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الدُّنْيَا مَشْغَلَةٌ عَنْ غَيْرِهَا-  وَ لَمْ يُصِبْ صَاحِبُهَا مِنْهَا شَيْئاً-  إِلَّا فَتَحَتْ لَهُ حِرْصاً عَلَيْهَا وَ لَهَجاً بِهَا-  وَ لَنْ يَسْتَغْنِيَ صَاحِبُهَا بِمَا نَالَ فِيهَا عَمَّا لَمْ يَبْلُغْهُ مِنْهَا-  وَ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ فِرَاقُ مَا جَمَعَ وَ نَقْضُ مَا أَبْرَمَ-  وَ لَوِ اعْتَبَرْتَ بِمَا مَضَى حَفِظْتَ مَا بَقِيَ وَ السَّلَامُ هذا كما قيل في المثل صاحب الدنيا كشارب ماء البحر-  كلما ازداد شربا ازداد عطشا و الأصل في هذا

 قول الله تعالى لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثا-  و لا يملأ عين ابن آدم إلا التراب-  و هذا من القرآن الذي رفع و نسخت تلاوته- . و قد ذكر نصر بن مزاحم هذا الكتاب و قال-  إن أمير المؤمنين ع كتبه إلى عمرو بن العاص-  و زاد فيه زيادة لم يذكرها الرضيأما بعد فإن الدنيا مشغلة عن الآخرة-  و صاحبها منهوم عليها-  لم يصب شيئا منها قط إلا فتحت عليه حرصا-  و أدخلت عليه مئونة تزيده رغبة فيها-و لن يستغني صاحبها بما نال عما لم يدرك-  و من وراء ذلك فراق ما جمع-  و السعيد من وعظ بغيره-  فلا تحبط أجرك أبا عبد الله و لا تشرك معاوية في باطله-  فإن معاوية غمص الناس و سفه الحق و السلام- .

قال نصر و هذا أول كتاب كتبه علي ع إلى عمرو بن العاص-  فكتب إليه عمرو جوابه-  أما بعد فإن الذي فيه صلاحنا-  و ألفة ذات بيننا أن تنيب إلى الحق-  و أن تجيب إلى ما ندعوكم إليه من الشورى-  فصبر الرجل منا نفسه على الحق-  و عذره الناس بالمحاجزة و السلام- . قال نصر-  فكتب علي ع إلى عمرو بن العاص بعد ذلك كتابا غليظا- . و هو الذي ضرب مثله فيه بالكلب يتبع الرجل-  و هو مذكور في نهج البلاغة-  و اللهج الحرص- . و معنى قوله ع لو اعتبرت بما مضى حفظت ما بقي-  أي لو اعتبرت بما مضى من عمرك لحفظت باقيه-  أن تنفقه في الضلال و طلب الدنيا و تضيعه

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 17

نامه 48 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

48 و من كتاب له ع إلى معاوية

فَإِنَّ الْبَغْيَ وَ الزُّورَ يُوتِغَانِ الْمَرْءَ فِي دِينِهِ وَ دُنْيَاهُ-  وَ يُبْدِيَانِ خَلَلَهُ عِنْدَ مَنْ يَعِيبُهُ-  وَ قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ غَيْرُ مُدْرِكٍ مَا قُضِيَ فَوَاتُهُ-  وَ قَدْ رَامَ أَقْوَامٌ أَمْراً بِغَيْرِ الْحَقِّ-  فَتَأَلَّوْا عَلَى اللَّهِ فَأَكْذَبَهُمْ-  فَاحْذَرْ يَوْماً يَغْتَبِطُ فِيهِ مَنْ أَحْمَدَ عَاقِبَةَ عَمَلِهِ-  وَ يَنْدَمُ مَنْ أَمْكَنَ الشَّيْطَانَ مِنْ قِيَادِهِ فَلَمْ يُجَاذِبْهُ-  وَ قَدْ دَعَوْتَنَا إِلَى حُكْمِ الْقُرْآنِ وَ لَسْتَ مِنْ أَهْلِهِ-  وَ لَسْنَا إِيَّاكَ أَجَبْنَا وَ لَكِنَّا أَجَبْنَا الْقُرْآنَ فِي حُكْمِهِ-  وَ السَّلَامُ يوتغان يهلكان و الوتغ بالتحريك الهلاك-  و قد وتغ يوتغ وتغا أي أثم و هلك-  و أوتغه الله أهلكه الله و أوتغ فلان دينه بالإثم- . قوله فتألوا على الله أي حلفوا من الألية و هي اليمين-  و في الحديث من تألى على الله أكذبه الله-  و معناه من أقسم تجبرا و اقتدارا لأفعلن كذا-  أكذبه الله و لم يبلغ أمله- . و قد روي تأولوا على الله-  أي حرفوا الكلم عن مواضعه-  و تعلقوا بشبهة في تأويل القرآن انتصارا لمذاهبهم و آرائهم-  فأكذبهم الله بأن أظهر للعقلاء فساد تأويلاتهم-  و الأول أصح- .

 و يغتبط فيه يفرح و يسر و الغبطة السرور-  روي يغبط فيه أي يتمنى مثل حاله هذه- . قوله و يندم من أمكن الشيطان من قياده فلم يجاذبه-  الياء التي هي حرف المضارعة عائدة على المكلف-  الذي أمكن الشيطان من قياده-  يقول إذا لم يجاذب الشيطان من قياده فإنه يندم-  فأما من جاذبه قياده فقد قام بما عليه- . و مثله قوله و لسنا إياك أجبنا-  قوله و الله ما حكمت مخلوقا و إنما حكمت القرآن-  و معنى مخلوقا بشرا لا محدثا

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 17

نامه 47 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)(وصية له ع للحسن و الحسين ع)

47 و من وصية له ع للحسن و الحسين ع-  لما ضربه ابن ملجم لعنه الله

أُوصِيكُمَا بِتَقْوَى اللَّهِ وَ أَلَّا تَبْغِيَا الدُّنْيَا وَ إِنْ بَغَتْكُمَا-  وَ لَا تَأْسَفَا عَلَى شَيْ‏ءٍ مِنْهَا زُوِيَ عَنْكُمَا-  وَ قُولَا بِالْحَقِّ وَ اعْمَلَا لِلْأَجْرِ-  وَ كُونَا لِلظَّالِمِ خَصْماً وَ لِلْمَظْلُومِ عَوْناً-  أُوصِيكُمَا وَ جَمِيعَ وَلَدِي وَ أَهْلِي وَ مَنْ بَلَغَهُ كِتَابِي-  بِتَقْوَى اللَّهِ وَ نَظْمِ أَمْرِكُمْ وَ صَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِكُمْ-  فَإِنِّي سَمِعْتُ جَدَّكُمَا ص يَقُولُ-  صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ عَامَّةِ الصَّلَاةِ وَ الصِّيَامِ-  اللَّهَ اللَّهَ فِي الْأَيْتَامِ فَلَا تُغِبُّوا أَفْوَاهَهُمْ-  وَ لَا يَضِيعُوا بِحَضْرَتِكُمْ-  وَ اللَّهَ اللَّهَ فِي جِيرَانِكُمْ فَإِنَّهُمْ وَصِيَّةُ نَبِيِّكُمْ-  مَا زَالَ يُوصِي بِهِمْ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُمْ-  وَ اللَّهَ اللَّهَ فِي الْقُرْآنِ-  لَا يَسْبِقُكُمْ بِالْعَمَلِ بِهِ غَيْرُكُمْ-  وَ اللَّهَ اللَّهَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا عَمُودُ دِينِكُمْ-  وَ اللَّهَ اللَّهَ فِي بَيْتِ رَبِّكُمْ لَا تُخَلُّوهُ مَا بَقِيتُمْ-  فَإِنَّهُ إِنْ تُرِكَ لَمْ تُنَاظَرُوا-  وَ اللَّهَ اللَّهَ فِي الْجِهَادِ بِأَمْوَالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ-  وَ أَلْسِنَتِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ-  وَ عَلَيْكُمْ بِالتَّوَاصُلِ وَ التَّبَاذُلِ-  وَ إِيَّاكُمْ وَ التَّدَابُرَ وَ التَّقَاطُعَ-  لَا تَتْرُكُوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ-  فَيُوَلَّى عَلَيْكُمْ أَشْرَارُكُمْ ثُمَّ تَدْعُونَ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ-  ثُمَّ قَالَ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ-  لَا أُلْفِيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ خَوْضاً-  تَقُولُونَ قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ-  أَلَا لَا تَقْتُلُنَّ بِي إِلَّا قَاتِلِي-  انْظُرُوا إِذَا أَنَا مِتُّ مِنْ ضَرْبَتِهِ هَذِهِ-  فَاضْرِبُوهُ ضَرْبَةً بِضَرْبَةٍ-  وَ لَا تُمَثِّلُوا بِالرَّجُلِ-  فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص يَقُولُ-  إِيَّاكُمْ وَ الْمُثْلَةَ وَ لَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ روي و اعملا للآخرة و روي فلا تغيروا أفواهكم-  يقول لا تطلبا الدنيا و إن طلبتكما-  فإذا كان من تطلبه الدنيا منهيا عن طلبها-  فمن لا تطلبه يكون منهيا عن طلبها بالطريق الأولى- .

ثم قال و لا تأسفا على شي‏ء منها زوي عنكما-  أي قبض قال رسول الله ص زويت لي الدنيا فأريت مشارقها و مغاربها-  و سيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها- . و روي و لا تأسيا و كلاهما بمعنى واحد أي لا تحزنا-  و هذا من قوله تعالى لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى‏ ما فاتَكُمْ- .قوله صلاح ذات البين-  أخذه هذه اللفظة عبد الملك بن مروان فقال لبنيه-  و قد جمعوا عنده يوم موته- 

انفوا الضغائن بينكم و عليكم
عند المغيب و في حضور المشهد

بصلاح ذات البين طول حياتكم‏
إن مد في عمري و إن لم يمدد

إن القداح إذا اجتمعن فرامها
بالكسر ذو بطش شديد أيد

عزت فلم تكسر و إن هي بددت‏
فالوهن و التكسير للمتبدد

و ذات هاهنا زائدة مقحمة- . قوله فلا تغبوا أفواههم-  أي لا تجيعوهم بأن تطمعوهم غبا-  و من روى فلا تغيروا أفواههم-  فذاك لأن الجائع يتغير فمه-  قال ع لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك- . قال و لا يضيعوا بحضرتكم أي لا تضيعوهم-  فالنهي في الظاهر للأيتام-  و في المعنى للأوصياء و الأولياء-  و الظاهر أنه لا يعني الأيتام-  الذين لهم مال تحت أيدي أوصيائهم-  لأن أولئك الأوصياء محرم عليهم-  أن يصيبوا من أموال اليتامى-  إلا القدر النزر جدا عند الضرورة-  ثم يقضونه مع التمكن-  و من هذه حاله لا يحسن أن يقال له-  لا تغيروا أفواه أيتامكم-  و إنما الأظهر أنه يعني الذين مات آباؤهم-  و هم فقراء يتعين مواساتهم و يقبح القعود عنهم-  كما قال تعالى وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى‏ حُبِّهِ-  مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً-  و اليتم في الناس من قبل الأب و في البهائم من قبل الأم-  لأن الآباء من البهائم لا عناية لهم بالأولاد-  بل العناية للأم لأنها المرضعة المشفقة-  و أما الناس فإن الأب هو الكافل القيم بنفقة الولد-  فإذا مات وصل الضرر إليه لفقد كافله-  و الأم بمعزل عن ذلك-  و جمع يتيم على أيتام كما قالوا شريف و أشراف-  و حكى أبو علي في التكملة كمي‏ء و أكماء-  و لا يسمى الصبي يتيما إلا إذا كان دون البلوغ-  و إذا بلغ زال اسم اليتيم عنه-  و اليتامى أحد الأصناف الذين عينوا في الخمس-  بنص الكتاب العزيز

فصل في الآثار الواردة في حقوق الجار

ثم أوصى بالجيران-  و اللفظ الذي ذكره ع-  قد ورد مرفوعا في رواية عبد الله بن عمر لما ذبح شاة-  فقال أهديتم لجارنا اليهودي-  فإني سمعت رسول الله ص يقول-  ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثهو في الحديث أنه ص قال من كان يؤمن بالله و اليوم الآخر فليكرم جارهو عنه ع جار السوء في دار المقامة قاصمة الظهرو عنه ع من جهد البلاء جار سوء معك في دار مقامة-  إن رأى حسنة دفنها-  و إن رأى سيئة أذاعها و أفشاها و من أدعيتهم اللهم إني أعوذ بك من مال يكون علي فتنة-  و من ولد يكون علي كلا-  و من حليلة تقرب الشيب-  و من جار تراني عيناه و ترعاني أذناه-  إن رأى خيرا دفنه و إن سمع شرا طار به ابن مسعود يرفعه و الذي نفسي بيده لا يسلم العبد-  حتى يسلم قلبه و لسانه و يأمن جاره بوائقه-  قالوا ما بوائقه قال غشمه و ظلمه لقمان يا بني حملت الحجارة و الحديد-  فلم أر شيئا أثقل من جار السوء- . و أنشدوا

ألا من يشتري دارا برخص
كراهة بعض جيرتها تباع‏

 و قال الأصمعي-  جاور أهل الشام الروم-  فأخذوا عنهم خصلتين اللؤم و قلة الغيرة-و جاور أهل البصرة الخزر-  فأخذوا عنهم خصلتين الزناء و قلة الوفاء-  و جاور أهل الكوفة السواد-  فأخذوا عنهم خصلتين السخاء و الغيرة- . و كان يقال من تطاول على جاره حرم بركة داره- . و كان يقال من آذى جاره ورثه الله داره- . باع أبو الجهم العدوي داره-  و كان في جوار سعيد بن العاص بمائة ألف درهم-  فلما أحضرها المشتري قال له-  هذا ثمن الدار فأعطني ثمن الجوار-  قال أي جوار قال جوار سعيد بن العاص-  قال و هل اشترى أحد جوارا قط-  فقال رد علي داري و خذ مالك-  لا أدع جوار رجل إن قعدت سأل عني-  و إن رآني رحب بي و إن غبت عنه حفظني-  و إن شهدت عنده قربني و إن سألته قضى حاجتي-  و إن لم أسأله بدأني و إن نابتني نائبة فرج عني-  فبلغ ذلك سعيدا فبعث إليه مائة ألف درهم-  و قال هذا ثمن دارك و دارك لك- . الحسن-  ليس حسن الجوار كف الأذى-  و لكن حسن الجوار الصبر على الأذى- . جاءت امرأة إلى الحسن فشكت إليه الخلة-  و قالت أنا جارتك قال كم بيني و بينك قالت سبع أدؤر-  فنظر الحسن فإذا تحت فراشه سبعة دراهم-  فأعطاها إياها و قال كدنا نهلك- . و كان كعب بن مامة إذا جاوره رجل قام له بما يصلحه-  و حماه ممن يقصده-  و إن هلك له شي‏ء أخلفه عليه و إن مات وداه لأهله-  فجاوره أبو دواد الإيادي فزاره على العادة-  فبالغ في إكرامه-  و كانت العرب إذا حمدت جارا قالت جار كجار أبي دواد-  قال قيس بن زهير

أطوف ما أطوف ثم آوي
إلى جار كجار أبي دواد

ثم تعلم منه أبو دواد و كان يفعل لجاره فعل كعب به- . و قال مسكين الدارمي

ما ضر جارا لي أجاوره
ألا يكون لبابه ستر

أعمى إذا ما إذا جارتي خرجت‏
حتى يواري جارتي الخدر

ناري و نار الجار واحدة
و إلبه قبلي ينزل القدر

استعرض أبو مسلم صاحب الدولة فرسا محضيرا-  فقال لأصحابه لما ذا يصلح هذا فذكروا سباق الخيل-  و صيد الحمر و النعام و اتباع الفار من الحرب-  فقال لم تصنعوا شيئا يصلح للفرار من الجار السوء- . سأل سليمان علي بن خالد بن صفوان عن ابنيه-  محمد و سليمان و كانا جاريه فقال-  كيف إحمادك جوارهما-  فتمثل بقول يزيد بن مفرغ الحميري- 

   سقى الله دارا لي و أرضا تركتها
إلى جنب داري معقل بن يسار

أبو مالك جار لها و ابن مرثد
فيا لك جاري ذلة و صغار

 و في الحديث المرفوع أيضا من رواية جابر الجيران ثلاثة فجار له حق و جار له حقان-  و جار له ثلاثة حقوق-  فصاحب الحق الواحد جار مشرك لا رحم له-  فحقه‏ حق الجوار-  و صاحب الحقين جار مسلم لا رحم له-  و صاحب الثلاثة جار مسلم ذو رحم-  و أدنى حق الجوار ألا تؤذي جارك بقتار قدرك-  إلا أن تقتدح له منها- . قلت تقتدح تغترف و المقدحة المغرفة- . و كان يقال الجيران خمسة-  الجار الضار السيئ الجوار-  و الجار الدمس الحسن الجوار و الجار اليربوعي المنافق-  و الجار البراقشي المتلون في أفعاله و الجار الحسدلي-  الذي عينه تراك و قلبه يرعاك- .

و روى أبو هريرة كان رسول الله ص يقول اللهم إني أعوذ بك من جار السوء في دار المقامة-  فإن دار البادية تتحول قوله ع الله الله في القرآن-  أمرهما بالمسارعة إلى العمل به-  و نهاها أن يسبقهما غيرهما إلى ذلك-  ثم أمرهما بالصلاة و الحج- . و شدد الوصاة في الحج فقال فإنه إن ترك لم تناظروا-  أي يتعجل الانتقام منكم- . فأما المثلة فمنهي عنها- أمر رسول الله ص أن يمثل بهبار بن الأسود-  لأنه روع زينب حتى أجهضت-  ثم نهى عن ذلك و قال لا مثلة المثلة حرام

 شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 17

نامه 46 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

الجزء السابع عشر

تتمة أبواب الكتب و الرسائل

بسم الله الرحمن الرحيم-  الحمد لله الواحد العدل

46 و من كتاب له ع إلى بعض عماله

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكَ مِمَّنْ أَسْتَظْهِرُ بِهِ عَلَى إِقَامَةِ الدِّينِ-  وَ أَقْمَعُ بِهِ نَخْوَةَ الْأَثِيمِ-  وَ أَسُدُّ بِهِ لَهَاةَ الثَّغْرِ الْمَخُوفِ-  فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ عَلَى مَا أَهَمَّكَ-  وَ اخْلِطِ الشِّدَّةَ بِضِغْثٍ مِنَ اللِّينِ-  وَ ارْفُقْ مَا كَانَ الرِّفْقُ أَرْفَقَ-  وَ اعْتَزِمْ بِالشِّدَّةِ حِينَ لَا تُغْنِي عَنْكَ إِلَّا الشِّدَّةُ-  وَ اخْفِضْ لِلرَّعِيَّةِ جَنَاحَكَ وَ ابْسُطْ لَهُمْ وَجْهَكَ-  وَ أَلِنْ لَهُمْ جَانِبَكَ-  وَ آسِ بَيْنَهُمْ فِي اللَّحْظَةِ وَ النَّظْرَةِ وَ الْإِشَارَةِ وَ التَّحِيَّةِ-  حَتَّى لَا يَطْمَعَ الْعُظَمَاءُ فِي حَيْفِكَ-  وَ لَا يَيْأَسَ الضُّعَفَاءُ مِنْ عَدْلِكَ وَ السَّلَامُ قد أخذ الشاعر معنى قوله-  و آس بينهم في اللحظة و النظرة-  فقال‏

اقسم اللحظ بيننا إن في اللحظ
لعنوان ما تجن الصدور

إنما البر روضة فإذا ما
كان بشر فروضة و غدير

قوله و آس بينهم في اللحظة أي اجعلهم أسوة-  و روي و ساو بينهم في اللحظة و المعنى واحد- . و أستظهر به أجعله كالظهر- . و النخوة الكبرياء-  و الأثيم المخطئ المذنب- . و قوله و أسد به لهاة الثغر استعارة حسنة- . و الضغث في الأصل-  قبضة حشيش مختلط يابسها بشي‏ء من الرطب-  و منه أضغاث الأحلام-  للرؤيا المختلطة التي لا يصح تأويلها-  فاستعار اللفظة هاهنا-  و المراد امزج الشدة بشي‏ء من اللين فاجعلهما كالضغث-  و قال تعالى وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً- . قوله فاعتزم بالشدة أي إذا جد بك الحد فدع اللين-  فإن في حال الشدة لا تغني إلا الشدة-  قال الفند الزماني

 فلما صرح الشر
فأمسى و هو عريان‏

و لم يبق سوى العدوان‏
دناهم كما دانوا

 قوله حتى لا يطمع العظماء في حيفك-  أي حتى لا يطمع العظماء في أن تمالئهم على حيف الضعفاء-  و قد تقدم مثل هذا فيما سبق

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 17

نامه 45 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)(ذكر ما ورد من السير و الأخبار في أمر فدك)

45 و من كتاب له ع إلى عثمان بن حنيف الأنصاري-  و كان عامله على البصرة

  و قد بلغه أنه دعي إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها-  قوله- : أَمَّا بَعْدُ يَا ابْنَ حُنَيْفٍ-  فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلًا مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ-  دَعَاكَ إِلَى مَأْدُبَةٍ فَأَسْرَعْتَ إِلَيْهَا-  تُسْتَطَابُ لَكَ الْأَلْوَانُ وَ تُنْقَلُ إِلَيْكَ الْجِفَانُ-  وَ مَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُجِيبُ إِلَى طَعَامِ قَوْمٍ-  عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ وَ غَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ-  فَانْظُرْ إِلَى مَا تَقْضَمُهُ مِنْ هَذَا الْمَقْضَمِ-  فَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ عِلْمُهُ فَالْفِظْهُ-  وَ مَا أَيْقَنْتَ بِطِيبِ وَجْهِهِ فَنَلْ مِنْهُ-  أَلَا وَ إِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً يَقْتَدِي بِهِ-  وَ يَسْتَضِي‏ءُ بِنُورِ عِلْمِهِ-  أَلَا وَ إِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ-  وَ مِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ-  أَلَا وَ إِنَّكُمْ لَا تَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ-  وَ لَكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَ اجْتِهَادٍ وَ عِفَّةٍ وَ سَدَادٍ-  فَوَاللَّهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبْراً-  وَ لَا ادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً-  وَ لَا أَعْدَدْتُ لِبَالِي ثَوْبِي طِمْراً-  وَ لَا حُزْتُ مِنْ أَرْضِهَا شِبْراً-  وَ لَا أَخَذْتُ مِنْهُ إِلَّا كَقُوتِ أَتَانٍ دَبِرَةٍ-  وَ لَهِيَ فِي عَيْنِي أَوْهَى مِنْ عَفْصَةٍ مَقِرَةٍ

عثمان بن حنيف و نسبه

هو عثمان بن حنيف بضم الحاء بن واهب بن العكم-  بن ثعلبة بن الحارث الأنصاري-ثم الأوسي أخو سهل بن حنيف-  يكنى أبا عمرو و قيل أبا عبد الله-  عمل لعمر ثم لعلي ع-  و ولاه عمر مساحة الأرض و جبايتها بالعراق-  و ضرب الخراج و الجزية على أهلها-  و ولاه علي ع على البصرة-  فأخرجه طلحة و الزبير منها حين قدماها-  و سكن عثمان الكوفة بعد وفاة علي ع-  و مات بها في زمن معاوية.

قوله من فتية البصرة أي من فتيانها-  أي من شبابها أو من أسخيائها-  يقال للسخي هذا فتى و الجمع فتية و فتيان و فتو-  و يروى أن رجلا من قطان البصرة أي سكانها- . و المأدبة بضم الدال الطعام يدعى إليه القوم-  و قد جاءت بفتح الدال أيضا-  و يقال أدب فلان القوم يأدبهم بالكسر-  أي دعاهم إلى طعامه و الآدب الداعي إليه-  قال طرفة- 

 نحن في المشتاة ندعو الجفلى
لا ترى الآدب فينا ينتقر

و يقال أيضا آدبهم إلى طعامه يؤدبهم إيدابا-  و يروى و كثرت عليك الجفان فكرعت-  و أكلت أكل ذئب نهم أو ضبع قرم- . و روي و ما حسبتك تأكل طعام قوم- . ثم ذم أهل البصرة فقال-  عائلهم مجفو و غنيهم مدعو-  و العائل الفقير و هذا كقول الشاعر- 

فإن تملق فأنت لنا عدو
فإن تثر فأنت لنا صديق‏

ثم أمره بأن يترك ما فيه شبهة إلى ما لا شبهة فيه-  و سمي ذلك قضما و مقضما-  و إن كان مما لا يقضم لاحتقاره له و ازدرائه إياه-  و أنه عنده ليس مما يستحق-  أن يسمى بأسماء المرغوب فيه المتنافس عليه-  و ذلك لأن القضم يطلق على معنيين-  أحدهما على أكل الشي‏ء اليابس-  و الثاني على ما يؤكل ببعض الفم-  و كلاهما يدلان على أن ذلك المقضم المرغوب عنه لا فيه- . ثم ذكر ع حال نفسه فقال-  إن إمامكم قد قنع من الدنيا بطمريه-  و الطمر الثوب الخلق البالي-  و إنما جعلهما اثنين لأنهما إزار و رداء لا بد منهما-  أي للجسد و الرأس- .

قال و من طعمه بقرصيه-  أي قرصان يفطر عليهما لا ثالث لهما-  و روي قد اكتفى من الدنيا بطمريه-  و سد فورة جوعه بقرصيه-  لا يطعم الفلذة في حوليه إلا في يوم أضحية- . ثم قال إنكم لن تقدروا على ما أقدر عليه-  و لكني أسألكم أن تعينوني بالورع و الاجتهاد- . ثم أقسم أنه ما كنز ذهبا و لا ادخر مالا-  و لا أعد ثوبا باليا سملا لبالي ثوبيه-  فضلا عن أن يعد ثوبا قشيبا-  كما يفعله الناس في إعداد ثوب جديد-  ليلبسوه عوض الأسمال التي ينزعونها-  و لا حاز من أرضها شبرا-  و الضمير في أرضها يرجع إلى دنياكم-  و لا أخذ منها إلا كقوت أتان دبرة-  و هي التي عقر ظهرها فقل أكلها- . ثم قال و لهي في عيني أهون من عفصة مقرة أي مرة-  مقر الشي‏ء بالكسر أي صار مرا-  و أمقره بالهمز أيضا-  قال لبيد

ممقر مر على أعدائه
و على الأدنين حلو كالعسل‏

 

: بَلَى كَانَتْ فِي أَيْدِينَا فَدَكٌ مِنْ كُلِّ مَا أَظَلَّتْهُ السَّمَاءُ-  فَشَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ-  وَ سَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ آخَرِينَ-  وَ نِعْمَ الْحَكَمُ اللَّهُ-  وَ مَا أَصْنَعُ بِفَدَكٍ وَ غَيْرِ فَدَكٍ-  وَ النَّفْسُ مَظَانُّهَا فِي غَدٍ جَدَثٌ تَنْقَطِعُ فِي ظُلْمَتِهِ آثَارُهَا-  وَ تَغِيبُ أَخْبَارُهَا-  وَ حُفْرَةٌ لَوْ زِيدَ فِي فُسْحَتِهَا وَ أَوْسَعَتْ يَدَا حَافِرِهَا-  لَأَضْغَطَهَا الْحَجَرُ وَ الْمَدَرُ-  وَ سَدَّ فُرَجَهَا التُّرَابُ الْمُتَرَاكِمُ-  وَ إِنَّمَا هِيَ نَفْسِي أَرُوضُهَا بِالتَّقْوَى-  لِتَأْتِيَ آمِنَةً يَوْمَ الْخَوْفِ الْأَكْبَرِ-  وَ تَثْبُتَ عَلَى جَوَانِبِ الْمَزْلَقِ الجدث القبر-  و أضغطها الحجر جعلها ضاغطة و الهمزة للتعدية-  و يروى و ضغطها- . و قوله مظانها في غد جدث-  المظان جمع مظنة و هو موضع الشي‏ء و مألفه الذي يكون فيه-  قال

فإن يك عامر قد قال جهلا
فإن مظنة الجهل الشباب‏

 يقول لا مال لي و لا اقتنيت فيما مضى مالا-  و إنما كانت في أيدينا فدك فشحت عليها نفوس قوم-  أي بخلت و سخت عنها نفوس آخرين-  سامحت و أغضت-  و ليس يعني هاهنا بالسخاء إلا هذا-  لا السخاء الحقيقي-  لأنه ع و أهله لم يسمحوا بفدك إلا غصبا و قسرا-  و قد قال هذه الألفاظ في موضع آخر فيما تقدم-  و هو يعني الخلافة بعد وفاة رسول الله ص- .

 

 ثم قال و نعم الحكم الله الحكم الحاكم-  و هذا الكلام كلام شاك متظلم-  ثم ذكر مال الإنسان-  و أنه لا ينبغي أن يكترث بالقينات و الأموال-  فإنه يصير عن قريب إلى دار البلى و منازل الموتى- . ثم ذكر أن الحفرة ضيقة-  و أنه لو وسعها الحافر-  لألجأها الحجر المتداعي و المدر المتهافت-  إلى أن تضغط الميت و تزحمه-  و هذا كلام محمول على ظاهره لأنه خطاب للعامة-  و إلا فأي فرق بين سعة الحفرة و ضيقها على الميت-  اللهم إلا أن يقول قائل إن الميت يحس في قبره-  فإذا قيل ذلك فالجاعل له حساسا بعد عدم الحس-  هو الذي يوسع الحفرة-  و إن كان الحافر قد جعلها ضيقة-  فإذن هذا الكلام جيد لخطاب العرب خاصة-  و من يحمل الأمور على ظواهرها- . ثم قال و إنما هي نفسي أروضها بالتقوى-  يقول تقللي و اقتصاري من المطعم و الملبس-  على الجشب و الخشن رياضة لنفسي-  لأن ذلك إنما أعمله خوفا من الله أن أنغمس في الدنيا-  فالرياضة بذلك هي رياضة في الحقيقة بالتقوى-  لا بنفس التقلل و التقشف-  لتأتي نفسي آمنة يوم الفزع الأكبر-  و تثبت في مداحض الزلق

ذكر ما ورد من السير و الأخبار في أمر فدك

و اعلم أنا نتكلم في شرح هذه الكلمات بثلاثة فصول-  الفصل الأول فيما ورد في الحديث و السير من أمر فدك-  و الفصل الثاني في هل النبي ص يورث أم لا-  و الفصل الثالث-  في أن فدك هل صح كونها نحلة-  من رسول الله ص لفاطمة أم لا- .

 

الفصل الأول-  فيما ورد من الأخبار و السير-  المنقولة من أفواه أهل الحديث و كتبهم-  لا من كتب الشيعة و رجالهم

لأنا مشترطون على أنفسنا ألا نحفل بذلك-  جميع ما نورده في هذا الفصل-  من كتاب أبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري-  في السقيفة و فدك-  و ما وقع من الاختلاف و الاضطراب-  عقب وفاة النبي ص-  و أبو بكر الجوهري هذا عالم محدث كثير الأدب ثقة ورع-  أثنى عليه المحدثون و رووا عنه مصنفاته- . قال أبو بكر حدثني أبو زيد عمر بن شبة قال-  حدثنا حيان بن بشر قال حدثنا يحيى بن آدم قال-  أخبرنا ابن أبي زائدة عن محمد بن إسحاق-  عن الزهري قال بقيت بقية من أهل خيبر تحصنوا-  فسألوا رسول الله ص أن يحقن دماءهم و يسيرهم ففعل-  فسمع ذلك أهل فدك فنزلوا على مثل ذلك-  و كانت للنبي ص خاصة-  لأنه لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب- .

قال أبو بكر و روى محمد بن إسحاق أيضا-  أن رسول الله ص لما فرغ من خيبر-  قذف الله الرعب في قلوب أهل فدك-  فبعثوا إلى رسول الله ص-  فصالحوه على النصف من فدك-  فقدمت عليه رسلهم بخيبر أو بالطريق-  أو بعد ما أقام بالمدينة فقبل ذلك منهم-  و كانت فدك لرسول الله ص خالصة له-  لأنه لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب- . قال و قد روى أنه صالحهم عليها كلها-  الله أعلم أي الأمرين كان- . قال و كان مالك بن أنس-  يحدث عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم-  أنه صالحهم على النصف فلم يزل الأمر كذلك-  حتى أخرجهم عمر بن الخطاب و أجلاهم-  بعد أن عوضهم عن النصف-  الذي كان لهم عوضا من إبل و غيرها- .

 

و قال غير مالك بن أنس-  لما أجلاهم عمر بعث إليهم من يقوم الأموال-  بعث أبا الهيثم بن التيهان و فروة بن عمرو-  و حباب بن صخر و زيد بن ثابت-  فقوموا أرض فدك و نخلها فأخذها عمر-  و دفع إليهم قيمة النصف الذي لهم-  و كان مبلغ ذلك خمسين ألف درهم-  أعطاهم إياها من مال أتاه من العراق-  و أجلاهم إلى الشام- .

 قال أبو بكر فحدثني محمد بن زكريا قال حدثني جعفر بن محمد بن عمارة الكندي قال-  حدثني أبي عن الحسين بن صالح بن حي قال حدثني رجلان من بني هاشم عن زينب بنت علي بن أبي طالب ع قال و قال جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه قال أبو بكر و حدثني عثمان بن عمران العجيفي عن نائل بن نجيح بن عمير بن شمر عن جابر الجعفي عن أبي جعفر محمد بن علي ع قال أبو بكر و حدثني أحمد بن محمد بن يزيد عن عبد الله بن محمد بن سليمان عن أبيه عن عبد الله بن حسن بن الحسن قالوا جميعا لما بلغ فاطمة ع-  إجماع أبي بكر على منعها فدك-  لاثت خمارها-  و أقبلت في لمة من حفدتها و نساء قومها-  تطأ في ذيولها-  ما تخرم مشيتها مشية رسول الله ص-  حتى دخلت على أبي بكر-  و قد حشد الناس من المهاجرين و الأنصار-  فضرب بينها و بينهم ريطة بيضاء-  و قال بعضهم قبطية-  و قالوا قبطية بالكسر و الضم-  ثم أنت أنة أجهش لها القوم بالبكاء-  ثم أمهلت طويلا حتى سكنوا من فورتهم ثم قالت-  أبتدئ بحمد من هو أولى بالحمد و الطول و المجد-  الحمد لله على ما أنعم و له الشكر بما ألهم-  و ذكر خطبة طويلة جيدة قالت في آخرها-  فاتقوا الله حق تقاته-  و أطيعوه فيما أمركم به-  فإنما يخشى الله من عباده العلماء-  و احمدوا الله الذي لعظمته و نوره-  يبتغي من في السموات و الأرض إليه الوسيلة-  و نحن وسيلته في خلقه و نحن خاصته و محل قدسه-  و نحن حجته في غيبه و نحن ورثةأنبيائه-  ثم قالت أنا فاطمة ابنة محمد-  أقول عودا على بدء-  و ما أقول ذلك سرفا و لا شططا-  فاسمعوا بأسماع واعية و قلوب راعية-  ثم قالت لقد جاءكم رسول من أنفسكم-  عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم-  بالمؤمنين رءوف رحيم-  فإن تعزوه تجدوه أبي دون آبائكم-  و أخا ابن عمي دون رجالكم-  ثم ذكرت كلاما طويلا سنذكره فيما بعد في الفصل الثاني- 

 تقول في آخره ثم أنتم الآن تزعمون أن لا إرث لي-  أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ-  وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ-  إيها معاشر المسلمين ابتز إرث أبي-  أبى الله أن ترث يا ابن أبي قحافة أباك و لا أرث أبي-  لقد جئت شيئا فريا-  فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك-  فنعم الحكم الله-  و الزعيم محمد و الموعد القيامة-  و عند الساعة يخسر المبطلون-  و لكل نبأ مستقر و سوف تعلمون من يأتيه عذاب-  يخزيه و يحل عليه عذاب مقيم-  ثم التفتت إلى قبر أبيها-  فتمثلت بقول هند بنت أثاثة- 

قد كان بعدك أنباء و هينمة
لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب‏

أبدت رجال لنا نجوى صدورهم‏
لما قضيت و حالت دونك الكتب‏

تجهمتنا رجال و استخف بنا
إذا غبت عنا فنحن اليوم نغتصب‏

 قال و لم ير الناس أكثر باك و لا باكية منهم يومئذ-  ثم عدلت إلى مسجد الأنصار فقالت-  يا معشر البقية و أعضاد الملة و حضنة الإسلام-  ما هذه الفترة عن نصرتي و الونية عن معونتي-  و الغمزة في حقي و السنة عن ظلامتي-  أ ما كان رسول الله ص يقول المرء يحفظ في ولده-  سرعان ما أحدثتم و عجلان ما أتيتم أ لأن مات رسول الله ص أمتم دينه-  ها إن موته لعمري خطب جليل استوسع وهنه‏ و استبهم فتقه و فقد راتقه-  و أظلمت الأرض له و خشعت الجبال و أكدت الآمال-  أضيع بعده الحريم-  و هتكت الحرمة و أذيلت المصونة-  و تلك نازلة أعلن بها كتاب الله قبل موته-  و أنبأكم بها قبل وفاته فقال-  وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ-  أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى‏ أَعْقابِكُمْ-  وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى‏ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً-  وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ-  إيها بني قيلة اهتضم تراث أبي-  و أنتم بمرأى و مسمع تبلغكم الدعوة-  و يشملكم الصوت و فيكم العدة و العدد-  و لكم الدار و الجنن-  و أنتم نخبة الله التي انتخب-  و خيرته التي اختار-  باديتم العرب و بادهتم الأمور-  و كافحتم البهم حتى دارت بكم رحى الإسلام-  و در حلبه و خبت نيران الحرب-  و سكنت فورة الشرك و هدأت دعوة الهرج-  و استوثق نظام الدين-  أ فتأخرتم بعد الإقدام و نكصتم بعد الشدة-  و جبنتم بعد الشجاعة-  عن قوم نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم-  و طعنوا في دينكم-  فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون-  ألا و قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض-  و ركنتم إلى الدعة فجحدتم الذي وعيتم-  و سغتم الذي سوغتم-  و إن تكفروا أنتم و من في الأرض جميعا-  فإن الله لغني حميد-  ألا و قد قلت لكم ما قلت على معرفة مني بالخذلة-  التي خامرتكم-  و خور القناة و ضعف اليقين-  فدونكموها فاحتووها مدبرة الظهر-  ناقبة الخف باقية العار موسومة الشعار-  موصولة بنار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة-  فبعين الله ما تعملون-  وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ‏

 قال و حدثني محمد بن زكريا قال حدثنا محمد بن الضحاك قال حدثنا هشام بن محمد عن عوانة بن الحكم قال لما كلمت فاطمة ع أبا بكر بما كلمته به-  حمد أبو بكر الله و أثنى عليه و صلى على رسوله ثم قال-  يا خيرة النساء و ابنة خير الآباء-  و الله ما عدوت رأي رسول الله ص-  و ما عملت إلا بأمره و إن الرائد لا يكذب أهله-  و قد قلت فأبلغت و أغلظت فأهجرت-  فغفر الله لنا و لك-  أما بعد فقد دفعت آلة رسول الله و دابته و حذاءه إلى علي ع-  و أما ما سوى ذلك فإني سمعت رسول الله ص يقول-  إنا معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا و لا فضة-  و لا أرضا و لا عقارا و لا دارا-  و لكنا نورث الإيمان و الحكمة و العلم و السنة-  فقد عملت بما أمرني و نصحت له-  و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه أنيب قال أبو بكر- 

و روى هشام بن محمد عن أبيه قال-  قالت فاطمة لأبي بكر-  إن أم أيمن تشهد لي-  أن رسول الله ص أعطاني فدك-  فقال لها يا ابنة رسول الله-  و الله ما خلق الله خلقا أحب إلي من رسول الله ص أبيك-  و لوددت أن السماء وقعت على الأرض يوم مات أبوك-  و الله لأن تفتقر عائشة أحب إلي من أن تفتقري-  أ تراني أعطي الأحمر و الأبيض حقه و أظلمك حقك-  و أنت بنت رسول الله ص-  إن هذا المال لم يكن للنبي ص-  و إنما كان مالا من أموال المسلمين-  يحمل النبي به الرجال-  و ينفقه في سبيل الله-  فلما توفي رسول الله ص وليته كما كان يليه-  قالت و الله لا كلمتك أبدا قال و الله لا هجرتك أبدا-  قالت و الله لأدعون الله عليك-  قال و الله لأدعون الله لك-  فلما حضرتها الوفاة أوصت ألا يصلي عليها-  فدفنت ليلا و صلى عليها عباس بن عبد المطلب-  و كان بين وفاتها و وفاة أبيها اثنتان و سبعون ليلة- .

 قال أبو بكر و حدثني محمد بن زكريا قال حدثنا جعفر بن محمد بن عمارة بالإسناد الأول قال فلما سمع أبو بكر خطبتها شق عليه مقالتها-  فصعد المنبر و قال أيها الناس-  ما هذه الرعة إلى كل قالة-  أين كانت هذه الأماني في عهد رسول الله ص-ألا من سمع فليقل و من شهد فليتكلم-  إنما هو ثعالة شهيده ذنبه مرب لكل فتنة-  هو الذي يقول كروها جذعة بعد ما هرمت-  يستعينون بالضعفة و يستنصرون بالنساء-  كأم طحال أحب أهلها إليها البغي-  ألا إني لو أشاء أن أقول لقلت و لو قلت لبحت-  إني ساكت ما تركت-  ثم التفت إلى الأنصار فقال-  قد بلغني يا معشر الأنصار مقالة سفهائكم-  و أحق من لزم عهد رسول الله ص أنتم-  فقد جاءكم فآويتم و نصرتم-  ألا إني لست باسطا يدا و لا لسانا-  على من لم يستحق ذلك منا- .

ثم نزل-  فانصرفت فاطمة ع إلى منزلها- . قلت قرأت هذا الكلام-  على النقيب أبي يحيى جعفر بن يحيى بن أبي زيد البصري-  و قلت له بمن يعرض فقال بل يصرح-  قلت لو صرح لم أسألك فضحك و قال-  بعلي بن أبي طالب ع-  قلت هذا الكلام كله لعلي يقوله-  قال نعم إنه الملك يا بني-  قلت فما مقالة الأنصار-  قال هتفوا بذكر علي-  فخاف من اضطراب الأمر عليهم فنهاهم-  فسألته عن غريبه-  فقال أما الرعة بالتخفيف أي الاستماع و الإصغاء-  و القالة القول-  و ثعالة اسم الثعلب علم غير مصروف-  و مثل ذؤالة للذئب-  و شهيده ذنبه أي لا شاهد له على ما يدعي-  إلا بعضه و جزء منه-  و أصله مثل-  قالوا إن الثعلب أراد أن يغرى الأسد بالذئب فقال-  إنه قد أكل الشاة التي كنت قد أعددتها لنفسك-  و كنت حاضرا-  قال فمن يشهد لك بذلك-  فرفع ذنبه و عليه دم-  و كان الأسد قد افتقد الشاة فقبل شهادته و قتل الذئب-  و مرب ملازم أرب بالمكان-  و كروها جذعة أعيدوها إلى الحال الأولى-  يعني الفتنة و الهرج-  و أم طحال امرأة بغي في الجاهلية-  و يضرب بها المثل فيقال أزنى من أم طحال- .

 

قال أبو بكر و حدثني محمد بن زكريا قال-  حدثني ابن عائشة قال حدثني أبي عن عمه-  قال لما كلمت فاطمة أبا بكر بكى ثم قال-  يا ابنة رسول الله و الله ما ورث أبوك دينارا و لا درهما-  و إنه قال إن الأنبياء لا يورثون-  فقالت إن فدك وهبها لي رسول الله ص-  قال فمن يشهد بذلك-  فجاء علي بن أبي طالب ع فشهد-  و جاءت أم أيمن فشهدت أيضا-  فجاء عمر بن الخطاب و عبد الرحمن بن عوف-  فشهد أن رسول الله ص كان يقسمها-  قال أبو بكر صدقت يا ابنة رسول الله ص-  و صدق علي و صدقت أم أيمن-  و صدق عمر و صدق عبد الرحمن بن عوف-  و ذلك أن مالك لأبيك-  كان رسول الله ص يأخذ من فدك قوتكم-  و يقسم الباقي و يحمل منه في سبيل الله-  فما تصنعين بها قالت أصنع بها كما يصنع بها أبي-  قال فلك على الله أن أصنع فيها كما يصنع فيها أبوك-  قالت الله لتفعلن قال الله لأفعلن-  قالت اللهم اشهد-  و كان أبو بكر يأخذ غلتها فيدفع إليهم منها ما يكفيهم-  و يقسم الباقي-  و كان عمر كذلك ثم كان عثمان كذلك-  ثم كان علي كذلك-  فلما ولي الأمر معاوية بن أبي سفيان-  أقطع مروان بن الحكم ثلثها-  و أقطع عمرو بن عثمان بن عفان ثلثها-  و أقطع يزيد بن معاوية ثلثها-  و ذلك بعد موت الحسن بن علي ع-  فلم يزالوا يتداولونها-  حتى خلصت كلها لمروان بن الحكم أيام خلافته-  فوهبها لعبد العزيز ابنه-  فوهبها عبد العزيز لابنه عمر بن عبد العزيز-  فلما ولي عمر بن العزيز الخلافة كانت أول ظلامة ردها-  دعا حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ع-  و قيل بل دعا علي بن الحسين ع فردها عليه-  و كانت بيد أولاد فاطمة ع-  مدة ولاية عمر بن عبد العزيز-  فلما ولي يزيد بن عاتكة قبضها منهم-  فصارت في أيدي بني مروان كما كانت يتداولونها-  حتى انتقلت الخلافة عنهم-  فلما ولي أبو العباس السفاح-  ردها على عبد الله بن الحسن بن الحسن-  ثم قبضها أبو جعفر لما حدث من بني حسن ما حدث-  ثم ردها المهدي ابنه على ولد فاطمة ع-  ثم قبضها موسى بن المهدي و هارون أخوه-  فلم تزل أيديهم حتى ولي المأمون-  فردها على الفاطميين قال أبو بكر حدثني محمد بن زكريا قال-  حدثني مهدي بن سابق قال-  جلس المأمون للمظالم-  فأول رقعة وقعت في يده نظر فيها و بكى-  و قال للذي على رأسه-  ناد أين وكيل فاطمة-  فقام شيخ عليه دراعة و عمامة و خف تعزى-  فتقدم فجعل يناظره في فدك-  و المأمون يحتج عليه و هو يحتج على المأمون-  ثم أمر أن يسجل لهم بها-  فكتب السجل و قرئ عليه فأنفذه-  فقام دعبل إلى المأمون فأنشده الأبيات التي أولها- 

  أصبح وجه الزمان قد ضحكا
برد مأمون هاشم فدكا

 فلم تزل في أيديهم حتى كان في أيام المتوكل-  فأقطعها عبد الله بن عمر البازيار-  و كان فيها إحدى عشرة نخلة غرسها رسول الله ص بيده-  فكان بنو فاطمة يأخذون ثمرها-  فإذا قدم الحجاج أهدوا لهم من ذلك التمر فيصلونهم-  فيصير إليهم من ذلك مال جزيل جليل-  فصرم عبد الله بن عمر البازيار ذلك التمر-  و وجه رجلا يقال له بشران بن أبي أمية الثقفي-  إلى المدينة فصرمه-  ثم عاد إلى البصرة ففلج- . قال أبو بكر أخبرنا أبو زيد عمر بن شبة-  قال حدثنا سويد بن سعيد و الحسن بن عثمان-  قالا حدثنا الوليد بن محمد عن الزهري-  عن عروة عن عائشة-  أن فاطمة ع أرسلت إلى أبي بكر-  تسأله ميراثها من رسول الله ص-  و هي حينئذ تطلب ما كان لرسول الله ص بالمدينة و فدك-  و ما بقي من خمس خيبر-  فقال أبو بكرإن رسول الله ص قال لا نورث ما تركناه صدقة-  إنما يأكل آل محمد من هذا المال-  و إني و الله لا أغير شيئا من صدقات رسول الله ص-  عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله ص-  و لأعملن فيها بما عمل فيها رسول الله ص-  فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا-  فوجدت من ذلك على أبي بكر-  و هجرته فلم تكلمه حتى توفيت-  و عاشت بعد أبيها ستة أشهر-  فلما توفيت دفنها علي ع ليلا-  و لم يؤذن بها أبا بكر- .

قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال-  حدثنا إسحاق بن إدريس قال حدثنا محمد بن أحمد-  عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة-  أن فاطمة و العباس أتيا أبا بكر-  يلتمسان ميراثهما من رسول الله ص-  و هما حينئذ يطلبان أرضه بفدك و سهمه بخيبر-  فقال لهما أبو بكر إني سمعت رسول الله ص يقول-  لا نورث ما تركنا صدقة-  إنما يأكل آل محمد ص من هذا المال-  و إني و الله لا أغير أمرا-  رأيت رسول الله ص يصنعه إلا صنعته-  قال فهجرته فاطمة فلم تكلمه حتى ماتت- .

 قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال حدثنا عمر بن عاصم و موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد بن سلمه عن الكلبي عن أبي صالح عن أم هانئ أن فاطمة قالت لأبي بكر من يرثك إذا مت-  قال ولدي و أهلي-  قالت فما لك ترث رسول الله ص دوننا-  قال يا ابنة رسول الله-  ما ورث أبوك دارا و لا مالا و لا ذهبا و لا فضة-  قالت بلى سهم الله الذي جعله لنا-  و صار فيئنا الذي بيدك-  فقال لها سمعت رسول الله ص يقول-  إنما هي طعمة أطعمناها الله-  فإذا مت كانت بين المسلمين  قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثنا محمد بن الفضل عن الوليد بن جميع عن أبي الطفيل قال أرسلت فاطمة إلى أبي بكر-أنت ورثت رسول الله ص أم أهله قال بل أهله-  قالت فما بال سهم رسول الله ص-  قال إني سمعت رسول الله ص يقول-  إن الله أطعم نبيه طعمة-  ثم قبضه و جعله للذي يقوم بعده-  فوليت أنا بعده على أن أرده على المسلمين-  قالت أنت و ما سمعت من رسول الله ص أعلم- .

قلت في هذا الحديث عجب لأنها قالت له-  أنت ورثت رسول الله ص أم أهله-  قال بل أهله-  و هذا تصريح بأنه ص موروث يرثه أهله-  و هو خلاف قوله لا نورث-  و أيضا فإنه يدل-  على أن أبا بكر استنبط من قول رسول الله ص-  أن الله أطعم نبيا طعمة-  أن يجري رسول الله ص عند وفاته مجرى ذلك النبي ص-  أو يكون قد فهم أنه عنى بذلك النبي المنكر لفظا نفسه-  كما فهم من قوله في خطبته-  إن عبدا خيره الله بين الدنيا و ما عند ربه-  فاختار ما عند ربه-  فقال أبو بكر بل نفديك بأنفسنا- .

 قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال أخبرنا القعنبي قال حدثنا عبد العزيز بن محمد عن محمد بن عمر عن أبي سلمة أن فاطمة طلبت فدك من أبي بكر-  فقال إني سمعت رسول الله ص يقول-  إن النبي لا يورث-  من كان النبي يعوله فأنا أعوله-  و من كان النبي ص ينفق عليه فأنا أنفق عليه-  فقالت يا أبا بكر أ يرثك بناتك-  و لا يرث رسول الله ص بناته-  فقال هو ذاك

 قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير قال حدثنا فضيل بن مرزوق قال حدثنا البحتري بن حسان قال قلت لزيد بن علي ع-  و أنا أريد أن أهجن أمر أبي بكر-  إن أبا بكر انتزع فدك من فاطمة ع-  فقال إن أبا بكر كان رجلارحيما-  و كان يكره أن يغير شيئا فعله رسول الله ص-  فأتته فاطمة فقالت-  إن رسول الله ص أعطاني فدك-  فقال لها هل لك على هذا بينة-  فجاءت بعلي ع فشهد لها-  ثم جاءت أم أيمن فقالت-  أ لستما تشهدان أني من أهل الجنة-  قالا بلى قال أبو زيد-  يعني أنها قالت لأبي بكر و عمر-  قالت فأنا أشهد أن رسول الله ص أعطاها فدك-  فقال أبو بكر-  فرجل آخر أو امرأة أخرى لتستحقي بها القضية-  ثم قال أبو زيد و ايم الله لو رجع الأمر إلي-  لقضيت فيها بقضاء أبي بكر قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال حدثنا محمد بن الصباح قال حدثنا يحيى بن المتوكل أبو عقيل عن كثير النوال قال قلت لأبي جعفر محمد بن علي ع-  جعلني الله فداك-  أ رأيت أبا بكر و عمر هل ظلماكم من حقكم شيئا-  أو قال ذهبا من حقكم بشي‏ء فقال لا-  و الذي أنزل القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيرا-  ما ظلمنا من حقنا مثقال حبة من خردل-  قلت جعلت فداك أ فأتولاهما قال نعم ويحك-  تولهما في الدنيا و الآخرة-  و ما أصابك ففي عنقي-  ثم قال فعل الله بالمغيرة و بنان-  فإنهما كذبا علينا أهل البيت قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال حدثنا عبد الله بن نافع و القعنبي عن مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة أن أزواج النبي ص-  أردن لما توفي أن يبعثن عثمان بن عفان إلى أبي بكر-  يسألنه ميراثهن-  أو قال ثمنهن-  قالت فقلت لهن أ ليس قد قال النبي ص لا نورث ما تركنا صدقة

 قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال حدثنا عبد الله بن نافع و القعنبي و بشر بن عمر عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي ص قال لا يقسم ورثتي دينارا و لا درهما-  ما تركت بعد نفقة نسائي و مئونة عيالي فهو صدقةقلت هذا حديث غريب-  لأن المشهور أنه لم يرو حديث انتفاء الإرث إلا أبو بكر وحده- . و قال أبو بكر و حدثنا أبو زيد عن الحزامي عن ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن عبد الرحمن الأعرج أنه سمع أبا هريرة يقول سمعت رسول الله ص يقول و الذي نفسي بيده لا يقسم ورثتي شيئا ما تركت صدقة-  قال و كانت هذه الصدقة بيد علي ع-  غلب عليها العباس و كانت فيها خصومتهما-  فأبى عمر أن يقسمها بينهما حتى أعرض عنها العباس-  و غلب عليها ع-  ثم كانت بيد حسن و حسين ابني علي ع-  ثم كانت بيد علي بن الحسين ع و الحسن بن الحسن-  كلاهما يتداولانها ثم بيد زيد بن علي ع- 

قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال-  حدثنا عثمان بن عمر بن فارس-  قال حدثنا يونس عن الزهري-  عن مالك بن أوس بن الحدثان-  أن عمر بن الخطاب دعاه يوما بعد ما ارتفع النهار-  قال فدخلت عليه و هو جالس على سرير رمال-  ليس بينه و بين الرمال فراش على وسادة أدم-  فقال يا مالك-  إنه قد قدم من قومك أهل أبيات حضروا المدينة-  و قد أمرت لهم برضخ فاقسمه بينهم-  فقلت يا أمير المؤمنين مر بذلك غيري-  قال اقسم أيها المرء-  قال فبينا نحن على ذلك إذ دخل يرفأ فقال-  هل لك في عثمان و سعد و عبد الرحمن و الزبير-  يستأذنون عليك قال نعم فأذن لهم- 

قال ثم لبث قليلا ثم جاء فقال-  هل لك في علي و العباس يستأذنان عليك-  قال ائذن لهما فلما دخلا قال عباس-  يا أمير المؤمنين اقض بيني و بين هذا يعني عليا-  و هما يختصمان في الصوافي-  التي أفاء الله على رسوله‏ من أموال بني النضير-  قال فاستب علي و العباس عند عمر-  فقال عبد الرحمن يا أمير المؤمنين-  اقض بينهما و أرح أحدهما من الآخر-  فقال عمر أنشدكم الله الذي تقوم بإذنه السماوات و الأرض-  هل تعلمون أن رسول الله ص قال-  لا نورث ما تركناه صدقة يعني نفسه-  قالوا قد قال ذلك-  فأقبل على العباس و علي فقال-  أنشدكما الله هل تعلمان ذلك قالا نعم-  قال عمر فإني أحدثكم عن هذا الأمر-  أن الله تبارك و تعالى خص رسوله ص-  في هذا الفي‏ء بشي‏ء لم يعطه غيره- 

قال تعالى وَ ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى‏ رَسُولِهِ مِنْهُمْ-  فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لا رِكابٍ-  وَ لكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى‏ مَنْ يَشاءُ-  وَ اللَّهُ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ-  و كانت هذه خاصة لرسول الله ص-  فما اختارها دونكم و لا استأثر بها عليكم-  لقد أعطاكموها و ثبتها فيكم حتى بقي منها هذا المال-  و كان ينفق منه على أهله سنتهم-  ثم يأخذ ما بقي فيجعله فيما يجعل مال الله عز و جل-  فعل ذلك في حياته ثم توفي-  فقال أبو بكر أنا ولي رسول الله ص-  فقبضه الله و قد عمل فيها بما عمل به رسول الله ص-  و أنتما حينئذ و التفت إلى علي و العباس-  تزعمان أن أبا بكر فيها ظالم فاجر-  و الله يعلم أنه فيها لصادق بار راشد تابع للحق-  ثم توفى الله أبا بكر فقلت-  أنا أولى الناس بأبي بكر و برسول الله ص-  فقبضتها سنتين أو قال سنين من إمارتي-  أعمل فيها مثل ما عمل به رسول الله ص و أبو بكر-  ثم قال و أنتما و أقبل على العباس و علي-  تزعمان أني فيها ظالم فاجر-  و الله يعلم أني فيها بار راشد تابع للحق-  ثم جئتماني و كلمتكما واحدة و أمركما جميع-  فجئتني يعني العباس تسألني نصيبك من ابن أخيك-  و جاءني هذا يعني عليا يسألني نصيب امرأته من أبيها-  فقلت لكما أن رسول الله ص قال-  لا نورث ما تركناه صدقة-  فلما بدا لي أن‏ أدفعها إليكما قلت-  أدفعها على أن عليكما عهد الله و ميثاقه-  لتعملان فيها بما عمل رسول الله ص و أبو بكر-  و بما عملت به فيها و إلا فلا تكلماني-  فقلتما ادفعها إلينا بذلك-  فدفعتها إليكما بذلك-  أ فتلتمسان مني قضاء غير ذلك-  و الله الذي تقوم بإذنه السماوات و الأرض-  لا أقضي بينكما بقضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة-  فإن عجزتما عنها فادفعاها إلي فأنا أكفيكماها- .

 قال أبو بكر و حدثنا أبو زيد قال حدثنا إسحاق بن إدريس قال حدثنا عبد الله بن المبارك قال حدثني يونس عن الزهري قال حدثني مالك بن أوس بن الحدثان بنحوه قال فذكرت ذلك لعروة فقال صدق مالك بن أوس أنا سمعت عائشة تقول أرسل أزواج النبي ص عثمان بن عفان-  إلى أبي بكر يسأل لهن ميراثهن-  من رسول الله ص مما أفاء الله عليه-  حتى كنت أردهن عن ذلك فقلت-  أ لا تتقين الله أ لم تعلمن أن رسول الله ص كان يقول-  لا نورث ما تركناه صدقة-  يريد بذلك نفسه-  إنما يأكل آل محمد من هذا المال-  فانتهى أزواج النبي ص إلى ما أمرتهن به قلت هذا مشكل لأن الحديث الأول-  يتضمن أن عمر أقسم على جماعة فيهم عثمان-  فقال نشدتكم الله-  أ لستم تعلمون أن رسول الله ص قال-  لا نورث ما تركناه صدقة-  يعني نفسه-  فقالوا نعم و من جملتهم عثمان-  فكيف يعلم بذلك فيكون مترسلا لأزواج النبي ص-  يسأله أن يعطيهن الميراث-  اللهم إلا أن يكون عثمان و سعد-  و عبد الرحمن و الزبير صدقوا عمر-  على سبيل التقليد لأبي بكر فيما رواه و حسن الظن-  و سموا ذلك علما-  لأنه قد يطلق على الظن اسم العلم- .

 

فإن قال قائل-  فهلا حسن ظن عثمان برواية أبي بكر في مبدإ الأمر-  فلم يكن رسولا لزوجات النبي ص في طلب الميراث-  قيل له يجوز أن يكون في مبدإ الأمر شاكا-  ثم يغلب على ظنه صدقه لأمارات اقتضت تصديقه-  و كل الناس يقع لهم مثل ذلك- . و هاهنا إشكال آخر-  و هو أن عمر ناشد عليا و العباس-  هل تعلمان ذلك فقالا نعم-  فإذا كانا يعلمانه-  فكيف جاء العباس و فاطمة إلى أبي بكر-  يطلبان الميراث على ما ذكره في خبر سابق على هذا الخبر-  و قد أوردناه نحن-  و هل يجوز أن يقال-  كان العباس يعلم ذلك ثم يطلب الإرث الذي لا يستحقه-  و هل يجوز أن يقال أن عليا كان يعلم ذلك-  و يمكن زوجته أن تطلب ما لا تستحقه-  خرجت من دارها إلى المسجد و نازعت أبا بكر-  و كلمته بما كلمته إلا بقوله و إذنه و رأيه-  و أيضا فإنه إذا كان ص لا يورث-  فقد أشكل دفع آلته و دابته و حذائه إلى علي ع-  لأنه غير وارث في الأصل-  و إن كان أعطاه ذلك لأن زوجته بعرضه أن ترث-  لو لا الخبر فهو أيضا غير جائز-  لأن الخبر قد منع أن يرث منه شيئا-  قليلا كان أو كثيرا- .

فإن قال قائل-  نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا-  و لا فضة و لا أرضا و لا عقارا و لا دارا-  قيل هذا الكلام يفهم من مضمونه-  أنهم لا يورثون شيئا أصلا-  لأن عادة العرب جارية بمثل ذلك-  و ليس يقصدون نفي ميراث هذه الأجناس-  المعدودة دون غيرها-  بل يجعلون ذلك-  كالتصريح بنفي أن يورثوا شيئا ما على الإطلاق- . و أيضا فإنه جاء في خبر الدابة و الآلة و الحذاء-  أنه روي عن النبي ص-  لا نورث ما تركناه صدقة-  و لم يقل لا نورث كذا و لا كذا-  و ذلك يقتضي عموم انتفاء الإرث عن كل شي‏ء

 

و أما الخبر الثاني-  و هو الذي رواه هشام بن محمد الكلبي عن أبيه-  ففيه إشكال أيضا-  لأنه قال إنها طلبت فدك-  و قالت إن أبي أعطانيها و إن أم أيمن تشهد لي بذلك-  فقال لها أبو بكر في الجواب-  إن هذا المال لم يكن لرسول الله ص-  و إنما كان مالا من أموال المسلمين-  يحمل به الرجال و ينفقه في سبيل الله-  فلقائل أن يقول له-  أ يجوز للنبي ص أن يملك ابنته أو غير ابنته-  من أفناء الناس ضيعة مخصوصة-  أو عقارا مخصوصا من مال المسلمين-  لوحي أوحى الله تعالى إليه أو لاجتهاد رأيه-  على قول من أجاز له أن يحكم بالاجتهاد-  أو لا يجوز للنبي ص ذلك-  فإن قال لا يجوز-  قال ما لا يوافقه العقل و لا المسلمون عليه-  و إن قال يجوز ذلك-  قيل فإن المرأة ما اقتصرت على الدعوى-  بل قالت أم أيمن تشهد لي-  فكان ينبغي أن يقول لها في الجواب-  شهادة أم أيمن وحدها غير مقبولة-  و لم يتضمن هذا الخبر ذلك-  بل قال لها لما ادعت و ذكرت من يشهد لها-  هذا مال من مال الله لم يكن لرسول الله ص-  و هذا ليس بجواب صحيح- .

و أما الخبر الذي رواه محمد بن زكريا عن عائشة-  ففيه من الإشكال مثل ما في هذا الخبر-  لأنه إذا شهد لها علي ع و أم أيمن-  أن رسول الله ص وهب لها فدك-  لم يصح اجتماع صدقها و صدق عبد الرحمن و عمر-  و لا ما تكلفه أبو بكر من تأويل ذلك بمستقيم-  لأن كونها هبة من رسول الله ص لها-  يمنع من قوله-  كان يأخذ منها قوتكم و يقسم الباقي-  و يحمل منه في سبيل الله-  لأن هذا ينافي كونها هبة لها-  لأن معنى كونها لها انتقالها إلى ملكيتها-  و أن تتصرف فيها خاصة دون كل أحد من الناس-  و ما هذه صفته كيف يقسم و يحمل منه في سبيل الله- .

 

فإن قال قائل هو ص أبوها-  و حكمه في مالها كحكمه في ماله-  و في بيت مال المسلمين-  فلعله كان بحكم الأبوة يفعل ذلك-  قيل فإذا كان يتصرف فيها تصرف الأب في مال ولده-  لا يخرجه ذلك عن كونه مال ولده-  فإذا مات الأب لم يجز لأحد أن يتصرف في مال ذلك الولد-  لأنه ليس باب له فيتصرف في ماله-  تصرف الآباء في أموال أولادهم-  على أن الفقهاء أو معظمهم لا يجيزون للأب-  أن يتصرف في مال الابن- . و هاهنا إشكال آخر-  و هو قول عمر لعلي ع و العباس-  و أنتما حينئذ تزعمان أن أبا بكر فيها ظالم فاجر-  ثم قال لما ذكر نفسه-  و أنتما تزعمان أني فيها ظالم فاجر-  فإذا كانا يزعمان ذلك فكيف يزعم هذا الزعم-  مع كونهما يعلمان أن رسول الله ص قال لا أورث-  إن هذا لمن أعجب العجائب-  و لو لا أن هذا الحديث-  أعني حديث خصومة العباس و علي عند عمر-  مذكور في الصحاح المجمع عليها-  لما أطلت العجب من مضمونه-  إذ لو كان غير مذكور في الصحاح-  لكان بعض ما ذكرناه يطعن في صحته-  و إنما الحديث في الصحاح لا ريب في ذلك- .

قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال-  حدثنا ابن أبي شيبة قال حدثنا ابن علية-  عن أيوب عن عكرمة-  عن مالك بن أوس بن الحدثان قال-  جاء العباس و علي إلى عمر فقال العباس-  اقض بيني و بين هذا الكذا و كذا أي يشتمه-  فقال الناس افصل بينهما فقال لا أفصل بينهما-  قد علما أن رسول الله ص قال-  لا نورث ما تركناه صدقة- . قلت و هذا أيضا مشكل-  لأنهما حضرا يتنازعان لا في الميراث-  بل في ولاية صدقة رسول الله ص-  أيهما يتولاها ولاية لا إرثا-  و على هذا كانت الخصومة-

 

فهل يكون جواب ذلك-  قد علما أن رسول الله ص قال لا نورث- . قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال-  حدثني يحيى بن كثير أبو غسان-  قال حدثنا شعبة عن عمر بن مرة-  عن أبي البختري قال-  جاء العباس و علي إلى عمر و هما يختصمان-  فقال عمر لطلحة و الزبير و عبد الرحمن و سعد-  أنشدكم الله أ سمعتم رسول الله ص يقول-  كل مال نبي فهو صدقة-  إلا ما أطعمه أهله إنا لا نورث-  فقالوا نعم-  قال و كان رسول الله يتصدق به و يقسم فضله-  ثم توفي فوليه أبو بكر سنتين يصنع فيه-  ما كان يصنع رسول الله ص-  و أنتما تقولان أنه كان بذلك خاطئا-  و كان بذلك ظالما-  و ما كان بذلك إلا راشدا-  ثم وليته بعد أبي بكر فقلت لكما-  إن شئتما قبلتماه على عمل رسول الله ص و عهده-  الذي عهد فيه-  فقلتما نعم و جئتماني الآن تختصمان-  يقول هذا أريد نصيبي من ابن أخي-  و يقول هذا أريد نصيبي من امرأتي-  و الله لا أقضي بينكما إلا بذلك- .

قلت و هذا أيضا مشكل-  لأن أكثر الروايات أنه لم يرو هذا الخبر-  إلا أبو بكر وحده-  ذكر ذلك أعظم المحدثين-  حتى إن الفقهاء في أصول الفقه-  أطبقوا على ذلك في احتجاجهم في الخبر-  برواية الصحابي الواحد-  و قال شيخنا أبو علي-  لا تقبل في الرواية إلا رواية اثنين كالشهادة-  فخالفه المتكلمون و الفقهاء كلهم-  و احتجوا عليه بقبول الصحابة رواية أبي بكر وحده-  نحن معاشر الأنبياء لا نورث-  حتى إن بعض أصحاب أبي علي تكلف لذلك جوابا-  فقال قد روي أن أبا بكر يوم حاج فاطمة ع قال-  أنشد الله امرأ سمع من رسول الله ص في هذا شيئا-  فروى مالك بن أوس بن الحدثان أنه سمعه من رسول الله ص-  و هذا الحديث ينطق‏  بأنه استشهد عمر و طلحة و الزبير-  و عبد الرحمن و سعدا-  فقالوا سمعناه من رسول الله ص-  فأين كانت هذه الروايات أيام أبي بكر-  ما نقل أن أحدا من هؤلاء-  يوم خصومة فاطمة ع و أبي بكر-  روى من هذا شيئا- .

قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد عمر بن شبة قال-  حدثنا محمد بن يحيى عن إبراهيم بن أبي يحيى-  عن الزهري عن عروة عن عائشة-  أن أزواج النبي ص أرسلن عثمان إلى أبي بكر-  فذكر الحديث-  قال عروة و كانت فاطمة قد سألت ميراثها من أبي بكر-  مما تركه النبي ص فقال لها-  بأبي أنت و أمي و بأبي أبوك و أمي و نفسي-  إن كنت سمعت من رسول الله ص شيئا-  أو أمرك بشي‏ء لم أتبع غير ما تقولين-  و أعطيتك ما تبتغين-  و إلا فإني أتبع ما أمرت به- .

 قال أبو بكر و حدثنا أبو زيد قال حدثنا عمرو بن مرزوق عن شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي البختري قال قال لها أبو بكر لما طلبت فدك-  بأبي أنت و أمي أنت عندي الصادقة الأمينة-  إن كان رسول الله ص عهد إليك في ذلك عهدا-  أو وعدك به وعدا صدقتك و سلمت إليك-  فقالت لم يعهد إلي في ذلك بشي‏ء-  و لكن الله تعالى يقول يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ-  فقال أشهد لقد سمعت رسول الله ص يقول-  إنا معاشر الأنبياء لا نورث- . قلت و في هذا من الإشكال ما هو ظاهر-  لأنها قد ادعت أنه عهد إليها رسول الله ص في ذلك أعظم العهد-  و هو النحلة-  فكيف سكتت عن ذكر هذا لما سألها أبو بكر-  و هذا أعجب من العجب- .

 

قال أبو بكر و حدثنا أبو زيد-  قال حدثنا محمد بن يحيى-  قال حدثنا عبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز بن عبد الله الأنصاري-  عن ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان قال-  سمعت عمر و هو يقول للعباس و علي-  و عبد الرحمن بن عوف و الزبير و طلحة-  أنشدكم الله هل تعلمون أن رسول الله ص قال-  إنا لا نورث معاشر الأنبياء ما تركنا صدقة-  قالوا اللهم نعم-  قال أنشدكم الله هل تعلمون أن رسول الله ص-  يدخل في فيئه أهله السنة من صدقاته-  ثم يجعل ما بقي في بيت المال-  قالوا اللهم نعم-  فلما توفي رسول الله ص قبضها أبو بكر-  فجئت يا عباس تطلب ميراثك من ابن أخيك-  و جئت يا علي تطلب ميراث زوجتك من أبيها-  و زعمتما أن أبا بكر كان فيها خائنا فاجرا-  و الله لقد كان امرأ مطيعا تابعا للحق-  ثم توفي أبو بكر فقبضتها-  فجئتماني تطلبان ميراثكما-  أما أنت يا عباس فتطلب ميراثك من ابن أخيك-  و أما علي فيطلب ميراث زوجته من أبيها-  و زعمتما أني فيها خائن و فاجر-  و الله يعلم أني فيها مطيع تابع للحق-  فأصلحا أمركما و إلا و الله لم ترجع إليكما-  فقاما و تركا الخصومة و أمضيت صدقة- . قال أبو زيد قال أبو غسان-  فحدثنا عبد الرزاق الصنعاني عن معمر بن شهاب-  عن مالك بنحوه و قال في آخره-  فغلب علي عباسا عليها-  فكانت بيد علي ثم كانت بيد الحسن-  ثم كانت بيد الحسين ثم علي بن الحسين-  ثم الحسن بن الحسن ثم زيد بن الحسن- .

قلت و هذا الحديث يدل صريحا-  على أنهما جاءا يطلبان الميراث لا الولاية-  و هذا من المشكلات-  لأن أبا بكر حسم المادة أولا-  و قرر عند العباس و علي و غيرهما-  أن النبي ص لا يورث-  و كان عمر من المساعدين له على ذلك-  فكيف يعود العباس و علي بعد وفاة أبي بكر-  يحاولان امرأ قد كان فرغ منه-  و يئس من حصوله-  اللهم إلا أن يكونا ظنا-  أن عمر ينقض قضاء أبي بكر في هذه المسألة-  و هذا بعيد لأن عليا و العباس-  كانا في هذه المسألة يتهمان عمر-  بممالأة أبي بكر على ذلك أ لا تراه يقول-  نسبتماني و نسبتما أبا بكر إلى الظلم و الخيانة-  فكيف يظنان أنه ينقض قضاء أبي بكر و يورثهما و اعلم أن الناس يظنون-  أن نزاع فاطمة أبا بكر كان في أمرين-  في الميراث و النحلة-  و قد وجدت في الحديث أنها نازعت في أمر ثالث-  و منعها أبو بكر إياه أيضا-  و هو سهم ذوي القربى- 

 قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري أخبرني أبو زيد عمر بن شبة قال حدثني هارون بن عمير قال حدثنا الوليد بن مسلم قال حدثني صدقة أبو معاوية عن محمد بن عبد الله عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك أن فاطمة ع أتت أبا بكر فقالت-  لقد علمت الذي ظلمتنا عنه أهل البيت من الصدقات-  و ما أفاء الله علينا من الغنائم في القرآن-  من سهم ذوي القربى-  ثم قرأت عليه قوله تعالى وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ‏ءٍ-  فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى‏ الآية-  فقال لها أبو بكر بأبي أنت و أمي و والد ولدك-  السمع و الطاعة لكتاب الله و لحق رسول الله ص-  و حق قرابته-  و أنا أقرأ من كتاب الله الذي تقرءين منه-  و لم يبلغ علمي منه-  أن هذا السهم من الخمس يسلم إليكم كاملا-  قالت أ فلك هو و لأقربائك-  قال لا بل أنفق عليكم منه-  و أصرف الباقي في مصالح المسلمين-  قالت ليس هذا حكم الله تعالى- 

قال هذا حكم الله-  فإن كان رسول الله عهد إليك‏ في هذا عهدا-  أو أوجبه لكم حقا-  صدقتك و سلمته كله إليك و إلى أهلك-  قالت إن رسول الله ص لم يعهد إلي في ذلك بشي‏ء-  إلا أني سمعته يقول لما أنزلت هذه الآية-  أبشروا آل محمد فقد جاءكم الغنى-  قال أبو بكر لم يبلغ علمي من هذه الآية-  أن أسلم إليكم هذا السهم كله كاملا-  و لكن لكم الغنى الذي يغنيكم و يفضل عنكم-  و هذا عمر بن الخطاب و أبو عبيدة بن الجراح-  فاسأليهم عن ذلك-  و انظري هل يوافقك على ما طلبت أحد منهم-  فانصرفت إلى عمر فقالت له مثل ما قالت لأبي بكر-  فقال لها مثل ما قاله لها أبو بكر-  فعجبت فاطمة ع من ذلك-  و تظنت أنهما كانا قد تذاكرا ذلك و اجتمعا عليه- .

قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال-  حدثنا هارون بن عمير قال حدثنا الوليد-  عن ابن أبي لهيعة عن أبي الأسود-  عن عروة قال-  أرادت فاطمة أبا بكر على فدك و سهم ذوي القربى-  فأبى عليها و جعلهما في مال الله تعالى- . قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد-  قال حدثنا أحمد بن معاوية عن هيثم-  عن جويبر عن أبي الضحاك-  عن الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب ع-  أن أبا بكر منع فاطمة و بني هاشم سهم ذوي القربى-  و جعله في سبيل الله في السلاح و الكراع- .

 قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال حدثنا حيان بن هلال عن محمد بن يزيد بن ذريع عن محمد بن إسحاق قال سألت أبا جعفر محمد بن علي ع قلت-  أ رأيت عليا حين ولي العراق-  و ما ولي من أمر الناس كيف صنع في سهم ذوي القربى-  قال سلك بهم طريق أبي بكر و عمر-  قلت و كيف و لم و أنتم تقولون ما تقولون-  قال أما و الله ما كان أهله يصدرون إلا عن رأيه-  فقلت فما منعه-  قال كان يكره‏

 

أن يدعى عليه مخالفة أبي بكر و عمر

قال أبو بكر و حدثني المؤمل بن جعفر قال-  حدثني محمد بن ميمون عن داود بن المبارك قال-  أتينا عبد الله بن موسى بن عبد الله بن حسن بن الحسن-  و نحن راجعون من الحج في جماعة-  فسألناه عن مسائل و كنت أحد من سأله-  فسألته عن أبي بكر و عمر فقال-  سئل جدي عبد الله بن الحسن بن الحسن عن هذه المسألة-  فقال كانت أمي صديقة بنت نبي مرسل-  فماتت و هي غضبى على إنسان-  فنحن غضاب لغضبها و إذا رضيت رضينا- . قال أبو بكر و حدثني أبو جعفر محمد بن القاسم-  قال حدثني علي بن الصباح-  قال أنشدنا أبو الحسن رواية المفضل للكميت- 

 أهوى عليا أمير المؤمنين و لا
أرضى بشتم أبي بكر و لا عمرا

و لا أقول و إن لم يعطيا فدكا
بنت النبي و لا ميراثها كفرا

الله يعلم ما ذا يحضران به
يوم القيامة من عذر إذا اعتذرا

 قال ابن الصباح فقال لي أبو الحسن-  أ تقول إنه قد أكفرهما في هذا الشعر قلت نعم-  قال كذاك هو- . قال أبو بكر حدثنا أبو زيد عن هارون بن عمير عن الوليد بن مسلم عن إسماعيل بن عباس عن محمد بن السائب عن أبي صالح عن مولى أم هانئ قال دخلت فاطمة على أبي بكر بعد ما استخلف-  فسألته ميراثها من أبيها فمنعها-  فقالت له لئن مت اليوم من كان يرثك-  قال ولدي و أهلي-  قالت فلم ورثت أنت رسول الله ص-  دون ولده و أهله-  قال فما فعلت يا بنت رسول الله ص-  قالت بلى إنك عمدت إلى فدك-  و كانت صافية لرسول الله ص فأخذتها-  و عمدت إلى ما أنزل الله من السماء فرفعته عنا-  فقال يا بنت رسول الله‏ ص لم أفعل-  حدثني رسول الله ص-  أن الله تعالى يطعم النبي ص الطعمة ما كان حيا-  فإذا قبضه الله إليه رفعت-  فقالت أنت و رسول الله أعلم-  ما أنا بسائلتك بعد مجلسي ثم انصرفت   

قال أبو بكر و حدثنا محمد بن زكريا قال حدثنا محمد بن عبد الرحمن المهلبي عن عبد الله بن حماد بن سليمان عن أبيه عن عبد الله بن حسن بن حسن عن أمه فاطمة بنت الحسين ع قالت لما اشتد بفاطمة بنت رسول الله ص الوجع-  و ثقلت في علتها-  اجتمع عندها نساء من نساء المهاجرين و الأنصار-  فقلن لها كيف أصبحت يا ابنة رسول الله ص-  قالت و الله أصبحت عائفة لدنياكم قالية لرجالكم-  لفظتهم بعد أن عجمتهم-  و شنئتهم بعد أن سبرتهم-  فقبحا لفلول الحد و خور القناة و خطل الرأي-  و بئسما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم-  و في العذاب هم خالدون لا جرم-  قد قلدتهم ربقتها و شنت عليهم غارتها-  فجدعا و عقرا و سحقا للقوم الظالمين-  ويحهم أين زحزحوها عن رواسي الرسالة-  و قواعد النبوة و مهبط الروح الأمين-  و الطيبين بأمر الدنيا و الدين-  ألا ذلك هو الخسران المبين-  و ما الذي نقموا من أبي حسن-  نقموا و الله نكير سيفه-  و شدة وطأته و نكال وقعته-  و تنمره في ذات الله-  و تالله لو تكافوا عن زمام-  نبذه إليه رسول الله ص لاعتلقه-  و لسار إليهم سيرا سجحا-  لا تكلم حشاشته و لا يتعتع راكبه-  و لأوردهم منهلا نميرا فضفاضا يطفح ضفتاه-  و لأصدرهم بطانا قد تحير بهم الرأي غير متحل بطائل-  إلا بغمر الناهل و ردعه سورة الساغب-  و لفتحت عليهم بركات من السماء و الأرض-  و سيأخذهم الله بما كانوا يكسبون-  ألا هلم فاستمع و ما عشت‏ أراك الدهر عجبه-  و إن تعجب فقد أعجبك الحادث-  إلى أي لجإ استندوا و بأي عروة تمسكوا-  لبئس المولى و لبئس العشير-  و لبئس للظالمين بدلا-  استبدلوا و الله الذنابى بالقوادم و العجز بالكاهل-  فرغما لمعاطس قوم يحسبون أنهم يحسنون صنعا-  ألا إنهم هم المفسدون و لكن لا يشعرون-  ويحهم أ فمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع-  أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون-  أما لعمر الله لقد لقحت فنظرة ريثما تنتج-  ثم احتلبوها طلاع العقب دما عبيطا و ذعاقا ممقرا-  هنالك يخسر المبطلون-  و يعرف التالون غب ما أسس الأولون-  ثم طيبوا عن أنفسكم نفسا و اطمئنوا للفتنة جأشا-  و أبشروا بسيف صارم و هرج شامل-  و استبداد من الظالمين-  يدع فيئكم زهيدا و جمعكم حصيدا-  فيا حسرة عليكم-  و أنى لكم و قد عميت عليكم أ نلزمكموها-  و أنتم لها كارهون-  و الحمد لله رب العالمين-  و صلاته على محمد خاتم النبيين و سيد المرسلين- .

قلت هذا الكلام و إن لم يكن فيه ذكر فدك و الميراث-  إلا أنه من تتمة ذلك-  و فيه إيضاح لما كان عندها-  و بيان لشدة غيظها و غضبها-  فإنه سيأتي فيما بعد-  ذكر ما يناقض به قاضي القضاة و المرتضى-  في أنها هل كانت غضبى أم لا-  و نحن لا ننصر مذهبا بعينه-  و إنما نذكر ما قيل-  و إذا جرى بحث نظري قلنا ما يقوى في أنفسنا منه- . و اعلم أنا إنما نذكر في هذا الفصل-  ما رواه رجال الحديث و ثقاتهم-  و ما أودعه أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتابه-  و هو من الثقات الأمناء عند أصحاب الحديث-  و أما ما يرويه رجال الشيعة و الأخباريون منهم في كتبهم-  من قولهم إنهما أهاناها و أسمعاها كلاما غليظا-  و إن أبا بكر رق لها حيث لم يكن عمر حاضرا-  فكتب لها بفدك كتابا-  فلما خرجت به وجدها عمر-  فمد يده إليه ليأخذه مغالبة فمنعته-  فدفع بيده في صدرها و أخذ الصحيفة-  فخرقها بعد أن تفل فيها فمحاها-  و إنها دعت عليه فقالت-  بقر الله بطنك كما بقرت صحيفتي-  فشي‏ء لا يرويه أصحاب الحديث و لا ينقلونه-  و قدر الصحابة يجل عنه-  و كان عمر أتقى لله و أعرف لحقوق الله من ذلك-  و قد نظمت الشيعة بعض هذه الواقعة-  التي يذكرونها شعرا-  أوله أبيات لمهيار بن مرزويه الشاعر من قصيدته التي أولها- 

يا ابنة القوم تراك
بالغ قتلي رضاك‏

و قد ذيل عليها بعض الشيعة و أتمها و الأبيات-

يا ابنة الطاهر كم تقرع
بالظلم عصاك‏

غضب الله لخطب‏
ليلة الطف عراك‏

و رعى النار غدا قط
رعى أمس حماك‏

مر لم يعطفه شكوى‏
و لا استحيا بكاك‏

و اقتدى الناس به بعد
فأردى ولداك‏

يا ابنة الراقي إلى السدرة
في لوح السكاك‏

لهف نفسي و على مثلك
فلتبك البواكي‏

كيف لم تقطع يد مد
إليك ابن صحاك‏

فرحوا يوم أهانوك
بما ساء أباك‏

و لقد أخبرهم أن‏
رضاه في رضاك‏

دفعا النص على إرثك
لما دفعاك‏

و تعرضت لقدر
تافه و انتهراك‏

و ادعيت النحلة المشهود
فيها بالصكاك‏

فاستشاطا ثم ما إن‏
كذبا إن كذباك‏

فزوى الله عن الرحمة
زنديقا ذواك‏

و نفى عن بابه الواسع‏
شيطانا نفاك‏

 فانظر إلى هذه البلية التي صبت من هؤلاء-  على سادات المسلمين و أعلام المهاجرين-  و ليس ذلك بقادح في علو شأنهم و جلالة مكانهم-  كما أن مبغضي الأنبياء و حسدتهم-  و مصنفي الكتب-  في إلحاق العيب و التهجين لشرائعهم-  لم تزدد لأنبيائهم إلا رفعة-  و لا زادت شرائعهم إلا انتشارا في الأرض-  و قبولا في النفس-  و بهجة و نورا عند ذوي الألباب و العقول- . و قال لي علوي في الحلة-  يعرف بعلي بن مهنإ ذكي ذو فضائل-  ما تظن قصد أبي بكر و عمر بمنع فاطمة فدك-  قلت ما قصدا-  قال أرادا ألا يظهرا لعلي و قد اغتصباه الخلافة-  رقة ولينا و خذلانا-  و لا يرى عندهما خورا فأتبعا القرح بالقرح- . و قلت لمتكلم من متكلمي الإمامية-  يعرف بعلي بن تقي من بلدة النيل-  و هل كانت فدك إلا نخلا يسيرا و عقارا-  ليس بذلك الخطير-  فقال لي ليس الأمر كذلك بل كانت جليلة جدا-  و كان فيها من النخل نحو ما بالكوفة الآن من النخل-  و ما قصد أبو بكر و عمر بمنع فاطمة عنها-  إلا ألا يتقوى علي بحاصلها و غلتها-  على المنازعة في الخلافة-  و لهذا أتبعا ذلك بمنع فاطمة و علي-  و سائر بني هاشم و بني المطلب حقهم في الخمس-  فإن‏الفقير الذي لا مال له-  تضعف همته و يتصاغر عند نفسه-  و يكون مشغولا بالاحتراف و الاكتساب-  عن طلب الملك و الرئاسة-  فانظر إلى ما قد وقر في صدور هؤلاء-  و هو داء لا دواء له-  و ما أكثر ما تزول الأخلاق و الشيم-  فأما العقائد الراسخة فلا سبيل إلى زوالها

الفصل الثاني في النظر في أن النبي ص هل يورث أم لا

نذكر في هذا الموضع-  ما حكاه المرتضى رحمه الله في الشافي-  عن قاضي القضاة في هذا المعنى-  و ما اعترضه به-  و إن استضعفنا شيئا من ذلك قلنا ما عندنا-  و إلا تركناه على حاله- . قال المرتضى أول ما ابتدأ به قاضي القضاة حكايته عنا-  استدلالنا على أنه ص مورث بقوله تعالى-  يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ-  و هذا الخطاب عام يدخل فيه النبي و غيره- . ثم أجاب يعني قاضي القضاة عن ذلك-  فقال إن الخبر الذي احتج به أبو بكر-  يعني قوله نحن معاشر الأنبياء لا نورث-  لم يقتصر على روايته هو وحده-  حتى استشهد عليه عمر و عثمان و طلحة-  و الزبير و سعدا و عبد الرحمن فشهدوا به-  فكان لا يحل لأبي بكر و قد صار الأمر إليه-  أن يقسم التركة ميراثا-  و قد خبر رسول الله ص بأنها صدقة و ليست بميراث-  و أقل ما في هذا الباب أن يكون الخبر من أخبار الآحاد- فلو أن شاهدين شهدا في التركة أن فيها حقا-  أ ليس كان يجب أن يصرف ذلك عن الإرث-  فعلمه بما قال رسول الله ص مع شهادة غيره أقوى-  و لسنا نجعله مدعيا لأنه لم يدع ذلك لنفسه-  و إنما بين أنه ليس بميراث و أنه صدقة-  و لا يمتنع تخصيص القرآن بذلك-  كما يخص في العبد و القاتل و غيرهما-  و ليس ذلك بنقص في الأنبياء بل هو إجلال لهم-  يرفع الله به قدرهم عن أن يورثوا المال-  و صار ذلك من أوكد الدواعي ألا يتشاغلوا بجمعه لأن أحد الدواعي القوية إلى ذلك-  تركه على الأولاد و الأهلين-  و لما سمعت فاطمة ع ذلك من أبي بكر-  كفت عن الطلب فيما ثبت من الأخبار الصحيحة-  فلا يمتنع أن تكون غير عارفة بذلك فطلبت الإرث-  فلما روى لها ما روى كفت-  فأصابت أولا و أصابت ثانيا- . و ليس لأحد أن يقول-  كيف يجوز أن يبين النبي ص ذلك للقوم-  و لا حق لهم في الإرث-  و يدع أن يبين ذلك لمن له حق في الإرث-  مع أن التكليف يتصل به-  و ذلك لأن التكليف في ذلك يتعلق بالإمام-  فإذا بين له جاز ألا يبين لغيره-  و يصير البيان له بيانا لغيره-  و إن لم يسمعه من الرسول-  لأن هذا الجنس من البيان-  يجب أن يكون بحسب المصلحة- .

قال ثم حكى عن أبي علي أنه قال-  أ تعلمون كذب أبي بكر في هذه الرواية-  أم تجوزون أن يكون صادقا-  قال و قد علم أنه لا شي‏ء يقطع به على كذبه-  فلا بد من تجويز كونه صادقا-  و إذا صح ذلك قيل لهم-  فهل كان يحل له مخالفة الرسول-  فإن قالوا لو كان صدقا لظهر و اشتهر-  قيل لهم إن ذلك من باب العمل-  و لا يمتنع أن ينفرد بروايته جماعة يسيرة-  بل الواحد و الاثنان مثل سائر الأحكام و مثل الشهادات-  فإن قالوا نعلم أنه لا يصح لقوله تعالى في كتابه-  وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ-  قيل لهم‏ و من أين أنه ورثه الأموال-  مع تجويز أن يكون ورثه العلم و الحكمة-  فإن قالوا إطلاق الميراث لا يكون إلا في الأموال-  قيل لهم إن كتاب الله يبطل قولكم-  لأنه قال ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا-  و الكتاب ليس بمال-  و يقال في اللغة-  ما ورثت الأبناء عن الآباء شيئا أفضل من أدب حسن-  و قالوا العلماء ورثة الأنبياء-  و إنما ورثوا منهم العلم دون المال-  على أن في آخر الآية ما يدل على ما قلناه-  و هو قوله تعالى حاكيا عنه-  وَ قالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ-  وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ-  فنبه على أن الذي ورث هو هذا العلم و هذا الفضل-  و إلا لم يكن لهذا القول تعلق بالأول-  فإن قالوا فقد قال تعالى-  فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ-  و ذلك يبطل الخبر-  قيل لهم ليس في ذلك بيان المال أيضا-  و في الآية ما يدل على أن المراد النبوة و العلم-  لأن زكريا خاف على العلم أن يندرس-

  و قوله وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي يدل على ذلك-  لأن الأنبياء لا تحرص على الأموال-  حرصا يتعلق خوفها بها-  و إنما أراد خوفه على العلم أن يضيع-  فسأل الله تعالى وليا يقوم بالدين مقامه-  و قوله وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ-  يدل على أن المراد العلم و الحكمة-  لأنه لا يرث أموال يعقوب في الحقيقة-  و إنما يرث ذلك غيره-  قال فأما من يقول-  إن المراد أنا معاشر الأنبياء لا نورث-  ما تركناه صدقة-  أي ما جعلناه صدقة في حال حياتنا لا نورثه-  فركيك من القول-  لأن إجماع الصحابة يخالفه-  لأن أحدا لم يتأوله على هذا الوجه-  لأنه لا يكون في ذلك تخصيص الأنبياء-  و لا مزية لهم و لأن قوله ما تركناه صدقة-  جملة من الكلام مستقلة بنفسها-  كأنه ع مع بيانه أنهم لا يورثون المال-  يبين أنه صدقة-  لأنه كان يجوز ألا يكون ميراثا-  و يصرف إلى وجه آخر غير الصدقة- .

قال فأما خبر السيف و البغلة و العمامة و غير ذلك-  فقد قال أبو علي إنه لم يثبت أن أبا بكر دفع ذلك-  إلى أمير المؤمنين ع على جهة الإرث-  كيف يجوز ذلك مع الخبر الذي رواه-  و كيف يجوز لو كان وارثا أن يخصه بذلك-  و لا إرث له مع العم لأنه عصبة-  فإن كان وصل إلى فاطمة ع-  فقد كان ينبغي أن يكون العباس شريكا في ذلك-  و أزواج رسول الله ص-  و لوجب أن يكون ذلك ظاهرا مشهورا-  ليعرف أنهم أخذوا نصيبهم من ذلك أو بدله-  و لا يجب إذا لم يدفع أبو بكر ذلك إليه على جهة الإرث-  ألا يحصل ذلك في يده-  لأنه قد يجوز أن يكون النبي ص نحله ذلك-  و يجوز أيضا أن يكون أبو بكر رأى الصلاح في ذلك-  أن يكون بيده لما فيه من تقوية الدين-  و تصدق ببدله بعد التقويم-  لأن الإمام له أن يفعل ذلك- . قال و حكى عن أبي علي في البرد و القضيب-  أنه لم يمتنع أن يكون جعله عدة في سبيل الله-  و تقوية على المشركين-  فتداولته الأئمة لما فيه من التقوية-  و رأى أن ذلك أولى من أن يتصدق به-  إن ثبت أنه ع لم يكن قد نحله غيره في حياته-  ثم عارض نفسه بطلب أزواج النبي ص الميراث-  و تنازع أمير المؤمنين ع و العباس بعد موت فاطمة ع-  و أجاب عن ذلك بأن قال-  يجوز أن يكونوا لم يعرفوا رواية أبي بكر و غيره للخبر- .

و قد روي أن عائشة لما عرفتهن الخبر أمسكن-  و قد بينا أنه لا يمتنع في مثل ذلك-  أن يخفى على من يستحق الإرث-  و يعرفه من يتقلد الأمر-  كما يعرف العلماء و الحكام من أحكام المواريث-  ما لا يعلمه أرباب الإرث-  و قد بينا أن رواية أبي بكر مع الجماعة-أقوى من شاهدين لو شهد أن بعض تركته ع دين-  و هو أقوى من رواية سلمان و ابن مسعود لو رويا ذلك- .

قال و متى تعلقوا بعموم القرآن-  أريناهم جواز التخصيص بهذا الخبر-  كما أن عموم القرآن يقتضي كون الصدقات للفقراء-  و قد ثبت أن آل محمد لا تحل لهم الصدقة- . هذا آخر ما حكاه المرتضى من كلام قاضي القضاة- . ثم قال نحن نبين أولا ما يدل على أنه ص يورث المال-  و نرتب الكلام في ذلك الترتيب الصحيح-  ثم نعطف على ما أورده و نتكلم عليه- . قال رضي الله عنه و الذي يدل على ما ذكرنا قوله تعالى-  مخبرا عن زكريا ع-  وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي-  وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً-  فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا-  يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا-  فخبر أنه خاف من بني عمه-  لأن الموالي هاهنا هم بنو العم بلا شبهة-  و إنما خافهم أن يرثوا ماله فينفقوه في الفساد-  لأنه كان يعرف ذلك من خلائقهم و طرائقهم-  فسأل ربه ولدا يكون أحق بميراثه منهم-  و الذي يدل على أن المراد بالميراث المذكور ميراث المال-  دون العلم و النبوة-  على ما يقولون إن لفظة الميراث في اللغة و الشريعة-  لا يفيد إطلاقها إلا على ما يجوز أن ينتقل على الحقيقة-  من الموروث إلى الوارث-  كالأموال و ما في معناها-  و لا يستعمل في غير المال إلا تجوزا و اتساعا-  و لهذا لا يفهم من قول القائل-  لا وارث لفلان إلا فلان-  و فلان يرث مع فلان بالظاهر و الإطلاق-  إلا ميراث الأموال و الأعراض دون العلوم و غيرها-  و ليس لنا أن نعدل عن ظاهر الكلام و حقيقته-  إلى مجازه بغير دلالة-  و أيضا فإنه تعالى خبر عن نبيه-  أنه اشترط في وارثه أن يكون رضيا-  و متى لم يحمل الميراث في الآية على المال-  دون العلمو النبوة-  لم يكن للاشتراط معنى و كان لغوا و عبثا-  لأنه إذا كان إنما سأل من يقوم مقامه و يرث مكانه-  فقد دخل الرضا-  و ما هو أعظم من الرضا في جملة كلامه و سؤاله-  فلا مقتضي لاشتراطه-  أ لا ترى أنه لا يحسن أن يقول-  اللهم ابعث إلينا نبيا و اجعله عاقلا و مكلفا-  فإذا ثبتت هذه الجملة-  صح أن زكريا موروث ماله-  و صح أيضا لصحتها أن نبينا ص ممن يورث المال-  لأن الإجماع واقع على أن حال نبينا ع-  لا يخالف حال الأنبياء المتقدمين في ميراث المال-  فمن مثبت للأمرين و ناف للأمرين- .

قلت إن شيخنا أبا الحسين قال في كتاب الغرر-  صورة الخبر الوارد في هذا الباب-  و هو الذي رواه أبو بكر لا نورث-  و لم يقل نحن معاشر الأنبياء لا نورث-  فلا يلزم من كون زكريا يورث الطعن في الخبر-  و تصفحت أنا كتب الصحاح في الحديث-  فوجدت صيغة الخبر كما قاله أبو الحسين-  و إن كان رسول الله ص عنى نفسه خاصة بذلك-  فقد سقط احتجاج الشيعة بقصة زكريا و غيره من الأنبياء-  إلا أنه يبعد عندي أن يكون أراد نفسه خاصة-  لأنه لم تجر عادته أن يخبر عن نفسه في شي‏ء بالنون- . فإن قلت-  أ يصح من المرتضى أن يوافق على أن صورة الخبر هكذا-  ثم يحتج بقصة زكريا بأن يقول-  إذا ثبت أن زكريا موروث-  ثبت أن رسول الله ص يجوز أن يكون موروثا-  لإجماع الأمة على أن لا فرق بين الأنبياء كلهم-  في هذا الحكم- .

قلت و إن ثبت له هذا الإجماع صح احتجاجه-  و لكن ثبوته يبعد-  لأن من نفى كون زكريا ع موروثا من الأمة-  إنما نفاه لاعتقاده أن رسول الله ص قال-  نحن معاشر الأنبياء-  فإذا كان لم يقل هكذا-  لم يقل إن زكريا ع غير موروث قال المرتضى و مما يقوي ما قدمناه-  أن زكريا ع خاف بني عمه-  فطلب وارثا لأجل خوفه-  و لا يليق خوفه منهم إلا بالمال دون العلم و النبوة-  لأنه ع كان أعلم بالله تعالى-  من أن يخاف أن يبعث نبيا ليس بأهل للنبوة-  و أن يورث علمه و حكمه من ليس أهلا لهما-  و لأنه إنما بعث لإذاعة العلم و نشره في الناس-  فلا يجوز أن يخاف من الأمر الذي هو الغرض في البعثة-  فإن قيل هذا يرجع عليكم في الخوف عن إرث المال-  لأن ذلك غاية الضن و البخل-  قلنا معاذ الله أن يستوي الحال-  لأن المال قد يصح أن يرزقه الله تعالى المؤمن و الكافر-  و العدو و الولي-  و لا يصح ذلك في النبوة و علومها-  و ليس من الضن أن يأسى على بني عمه-  و هم من أهل الفساد-  أن يظفروا بماله فينفقوه على المعاصي-  و يصرفوه في غير وجوهه المحبوبة-  بل ذلك غاية الحكمة و حسن التدبير في الدين-  لأن الدين يحظر تقوية الفساق و إمدادهم-  بما يعينهم على طرائقهم المذمومة-  و ما يعد ذلك شحا و لا بخلا إلا من لا تأمل له- .

فإن قيل أ فلا جاز أن يكون خاف من بني عمه-  أن يرثوا علمه-  و هم من أهل الفساد على ما ادعيتم-  فيستفسدوا به الناس و يموهوا به عليهم-  قلنا لا يخلو هذا العلم الذي أشرتم إليه-  من أن يكون هو كتب علمه و صحف حكمته-  لأن ذلك قد يسمى علما على طريق المجاز-  أو يكون هو العلم الذي يحل القلب-  فإن كان الأول فهو يرجع إلى معنى المال-  و يصحح أن الأنبياء يورثون أموالهم و ما في معناها-  و إن كان الثاني لم يخل هذا-  من أن يكون هو العلم الذي بعث النبي لنشره و أدائه-  أو أن يكون علما مخصوصا لا يتعلق بالشريعة-  و لا يجب إطلاع جميع الأمة عليه-  كعلم العواقب و ما يجري في مستقبل الأوقات-  و ما جرى مجرى ذلك-  و القسم الأول لا يجوز على النبي-  أن يخاف من وصوله إلى بني عمه-  و هم من جملة أمته الذين بعث لإطلاعهم على ذلك-  و تأديته إليهم-  و كأنه على هذا الوجه يخاف مما هو الغرض من بعثته-  و القسم الثاني فاسد أيضا-  لأن هذا العلم المخصوص إنما يستفاد من جهته-  و يوقف عليه بإطلاعه و إعلامه-  و ليس هو مما يجب نشره في جميع الناس-  فقد كان يجب إذا خاف من إلقائه-  إلى بعض الناس فسادا-  ألا يلقيه إليه-  فإن ذلك في يده و لا يحتاج إلى أكثر من ذلك- .

قلت لعاكس أن يعكس هذا على المرتضى رحمه الله حينئذ-  و يقول له و قد كان يجب-  إذا خاف من أن يرث بنو عمه أمواله-  فينفقوها في الفساد-  أن يتصدق بها على الفقراء و المساكين-  فإن ذلك في يده فيحصل له ثواب الصدقة-  و يحصل له غرضه من حرمان أولئك المفسدين ميراثه- . قال المرتضى رضي الله عنه-  و مما يدل على أن الأنبياء يورثون قوله تعالى-  وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ-  و الظاهر من إطلاق لفظة الميراث-  يقتضي الأموال و ما في معناها على ما دللنا به من قبل- .

قال و يدل على ذلك أيضا قوله تعالى-  يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ الآية-  و قد أجمعت الأمة على عموم هذه اللفظة-  إلا من أخرجه الدليل-  فيجب أن يتمسك بعمومها لمكان هذه الدلالة-  و لا يخرج عن حكمها إلا من أخرجه دليل قاطع- . قلت أما قوله تعالى وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ-  فظاهرها يقتضي وراثة النبوة أو الملك أو العلم-  الذي قال في أول الآية-  وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً-  لأنه لا معنى لذكر ميراث سليمان المال-  فإن غيره من أولاد داود قد ورث أيضا أباه داود-  و في كتب اليهود و النصارى-  أن بني داود كانوا تسعة عشر-  و قد قال بعض المسلمين أيضا ذلك-  فأي معنى في تخصيص سليمان بالذكر إذا كان إرث المال-  و أما يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ-  فالبحث في تخصيص ذلك بالخبر-  فرع من فروع مسألة خبر الواحد-  هل هو حجة فيالشرعيات أم لا-  فإن ثبت مذهب المرتضى في كونه ليس بحجة-  فكلامه هنا جيد-  و إن لم يثبت فلا مانع من تخصيص العموم بالخبر-  فإن الصحابة قد خصصت عمومات الكتاب-  بالأخبار في مواضع كثيرة- .

قال المرتضى و أما تعلق صاحب الكتاب-  بالخبر الذي رواه أبو بكر-  و ادعاؤه أنه استشهد عمر و عثمان و فلانا و فلانا-  فأول ما فيه أن الذي ادعاه من الاستشهاد غير معروف-  و الذي روي أن عمر استشهد هؤلاء النفر-  لما تنازع أمير المؤمنين ع-  و العباس رضي الله عنه في الميراث-  فشهدوا بالخبر المتضمن لنفي الميراث-  و إنما مقول مخالفينا في صحة الخبر-  الذي رواه أبو بكر عند مطالبة فاطمة ع بالإرث-  على إمساك الأمة عن النكير عليه و الرد لقضيته- .

قلت صدق المرتضى رحمه الله فيما قال-  أما عقيب وفاة النبي ص-  و مطالبة فاطمة ع بالإرث-  فلم يرو الخبر إلا أبو بكر وحده-  و قيل إنه رواه معه مالك بن أوس بن الحدثان-  و أما المهاجرون الذين ذكرهم قاضي القضاة-  فإنما شهدوا بالخبر في خلافة عمر-  و قد تقدم ذكر ذلك- . قال المرتضى-  ثم لو سلمنا استشهاد من ذكر على الخبر لم يكن فيه حجة-  لأن الخبر على كل حال لا يخرج من أن يكون غير موجب للعلم-  و هو في حكم أخبار الآحاد-  و ليس يجوز أن يرجع عن ظاهر القرآن-  بما يجرى هذا المجرى-  لأن المعلوم لا يخص إلا بمعلوم-  و إذا كانت دلالة الظاهر معلومة-  لم يجز أن يخرج عنها بأمر مظنون- .

قال و هذا الكلام مبني-  على أن التخصيص للكتاب و السنة المقطوع بها-  لا يقع‏ بأخبار الآحاد-  و هو المذهب الصحيح-  و قد أشرنا إلى ما يمكن أن يعتمد في الدلالة عليه-  من أن الظن لا يقابل العلم-  و لا يرجع عن المعلوم بالمظنون-  قال و ليس لهم أن يقولوا-  إن التخصيص بأخبار الآحاد يستند أيضا إلى علم-  و إن كان الطريق مظنونا-  و يشيروا إلى ما يدعونه-  من الدلالة على وجوب العمل بخبر الواحد في الشريعة-  و أنه حجة لأن ذلك مبني من قولهم على ما لا نسلمه-  و قد دل الدليل على فساده-  أعني قولهم خبر الواحد حجة في الشرع-  على أنهم لو سلم لهم ذلك لاحتاجوا إلى دليل مستأنف-  على أنه يقبل في تخصيص القرآن-  لأن ما دل على العمل به في الجملة لا يتناول هذا الموضع-  كما لا يتناول جواز النسخ به- .

قلت أما قول المرتضى-  لو سلمنا أن هؤلاء المهاجرين الستة رووه-  لما خرج عن كونه خبرا واحدا-  و لما جاز أن يرجع عن عموم الكتاب به-  لأنه معلوم و الخبر مظنون- . و لقائل أن يقول-  ليته حصل في كل واحد من آيات القرآن رواية-  مثل هذه الستة-  حيث جمع القرآن على عهد عثمان و من قبله من الخلفاء-  فإنهم بدون هذا العدد-  كانوا يعملون في إثبات الآية في المصحف-  بل كانوا يحلفون من أتاهم بالآية-  و من نظر في كتب التواريخ عرف ذلك-  فإن كان هذا العدد إنما يفيد الظن-  فالقول في آيات الكتاب كذلك-  و إن كانت آيات الكتاب أثبتت عن علم مستفاد-  من رواية هذا العدد و نحوه-  فالخبر مثل ذلك- . فأما مذهب المرتضى في خبر الواحد فإنه-  قول انفرد به عن سائر الشيعة-  لأن من قبله من فقهائهم ما عولوا في الفقه-  إلا على أخبار الآحاد كزرارة و يونس و أبي بصير-  و ابني بابويه و الحلبي و أبي جعفر القمي و غيرهم-  ثم من كان في عصر المرتضى منهم‏ كأبي جعفر الطوسي و غيره-  و قد تكلمت في اعتبار الذريعة-  على ما أعتمد عليه في هذه المسألة-  و أما تخصيص الكتاب بخبر الواحد-  فالظاهر أنه إذا صح كون خبر الواحد حجة في الشرع-  جاز تخصيص الكتاب به-  و هذا من فن أصول الفقه فلا معنى لذكره هنا- .

قال المرتضى رضي الله عنه-  و هذا يسقط قول صاحب الكتاب-  إن الشاهدين لو شهدا أن في التركة حقا-  لكان يجب أن ينصرف عن الإرث-  و ذلك لأن الشهادة و إن كانت مظنونة-  فالعمل بها يستند إلى علم-  لأن الشريعة قد قررت العمل بالشهادة-  و لم تقرر العمل بخبر الواحد-  و ليس له أن يقيس خبر الواحد على الشهادة-  من حيث اجتمعا في غلبة الظن-  لأنا لا نعمل على الشهادة من حيث غلبة الظن-  دون ما ذكرناه من تقرير الشريعة العمل بها-  أ لا ترى أنا قد نظن بصدق الفاسق و المرأة و الصبي-  و كثير ممن لا يجوز العمل بقوله-  فبان أن المعول في هذا على المصلحة-  التي نستفيدها على طريق الجملة من دليل الشرع- .

قال و أبو بكر في حكم المدعي لنفسه و الجار إليها-  بخلاف ما ظنه صاحب الكتاب-  و كذلك من شهد له إن كانت هناك شهادة-  و ذلك أن أبا بكر و سائر المسلمين-  سوى أهل بيت الرسول ص يحل لهم الصدقة-  و يجوز أن يصيبوا فيها-  و هذه تهمة في الحكم و الشهادة- . قال و ليس له أن يقول-  فهذا يقتضي ألا يقبل شهادة شاهدين في تركة-  فيها صدقة لمثل ما ذكرتم- .

قال و ذلك لأن الشاهدين إذا شهدا في الصدقة-  فحظهما منها كحظ صاحب الميراث بل سائر المسلمين-  و ليس كذلك حال تركة الرسول-  لأن كونها صدقة يحرمها على ورثته-  و يبيحها لسائر المسلمين- . قلت هذا فرق غير مؤثر-  اللهم إلا أن يعني به تهمة أبي بكر و الشهود الستة-  في جر النفع إلى أنفسهم يكون أكثر من تهمتهم-  لو شهدوا على أبي هريرة مثلا أن ما تركه صدقة-  لأن أهل أبي هريرة يشاركون في القسمة-  و أهل النبي ص لا يشاركون الشهود فيما يصيبهم-  إذ هم لا تحل لهم الصدقة-  فتكون حصة أبي بكر و الشهود مما تركه رسول الله-  أكثر من حصتهم مما يتركه أبو هريرة-  فيكون تطرق التهمة إلى أبي بكر و الشهود-  أكثر حسب زيادة حصتهم-  و ما وقفت للمرتضى على شي‏ء أطرف من هذا-  لأن رسول الله ص مات-  و المسلمون أكثر من خمسين ألف إنسان-  لأنه قاد في غزاة تبوك عشرين ألفا-  ثم وفدت إليه الوفود كلها بعد ذلك-  فليت شعري كم مقدار ما يتوفر على أبي بكر و ستة نفر معه-  و هم من جملة خمسين ألفا-  بين ما إذا كان بنو هاشم و بنو المطلب-  و هم حينئذ عشرة نفر-  لا يأخذون حصة-  و بين ما إذا كانوا يأخذون-  أ ترى أ يكون المتوفر على أبي بكر و شهوده-  من التركة عشر عشر درهم-  ما أظن أنه يبلغ ذلك-  و كم مقدار ما يقلل حصص الشهود على أبي هريرة-  إذا شركهم أهله في التركة-  لتكون هذه القلة موجبة رفع التهمة-  و تلك الزيادة و الكثرة موجبة حصول التهمة-  و هذا الكلام لا أرتضيه للمرتضى- . قال المرتضى رضي الله عنه- 

و أما قوله يخص القرآن بالخبر-  كما خصصناه في العبد و القاتل-  فليس بشي‏ء-  لأنا إنما خصصنا من ذكر بدليل مقطوع عليه معلوم-  و ليس هذا موجودا في الخبر الذي ادعاه-  فأما قوله و ليس ذلك ينقص الأنبياء-  بل هو إجلال لهم-فمن الذي قال له إن فيه نقصا-  و كما أنه لا نقص فيه فلا إجلال فيه و لا فضيلة-  لأن الداعي و إن كان قد يقوى على جمع المال-  ليخلف على الورثة-  فقد يقويه أيضا إرادة صرفه في وجوه الخير و البر-  و كلا الأمرين يكون داعيا إلى تحصيل المال-  بل الداعي الذي ذكرناه أقوى فيما يتعلق بالدين- . قال و أما قوله-  إن فاطمة لما سمعت ذلك كفت عن الطلب-  فأصابت أولا و أصابت ثانيا-  فلعمري إنها كفت عن المنازعة و المشاحة-  لكنها انصرفت مغضبة متظلمة متألمة-  و الأمر في غضبها و سخطها-  أظهر من أن يخفى على منصف-  فقد روى أكثر الرواة-  الذين لا يتهمون بتشيع و لا عصبية فيه-  من كلامها في تلك الحال-  و بعد انصرافها عن مقام المنازعة و المطالبة-  ما يدل على ما ذكرناه من سخطها و غضبها- .

 أخبرنا أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني قال حدثني محمد بن أحمد الكاتب قال حدثنا أحمد بن عبيد بن ناصح النحوي قال حدثني الزيادي قال حدثنا الشرقي بن القطامي عن محمد بن إسحاق قال حدثنا صالح بن كيسان عن عروة عن عائشة قالت لما بلغ فاطمة إجماع أبي بكر على منعها فدك-  لاثت خمارها على رأسها و اشتملت بجلبابها-  و أقبلت في لمة من حفدتها…

 قال المرتضى و أخبرنا المرزباني قال حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد المكي قال حدثنا أبو العيناء بن القاسم اليماني قال حدثنا ابن عائشة قال لما قبض رسول الله ص-  أقبلت فاطمة إلى أبي بكر في لمة من حفدتها-  ثم اجتمعت الروايتان من هاهنا…-  و نساء قومها تطأ ذيولها-  ما تخرم مشيتها مشية رسول الله ص-حتى دخلت على أبي بكر-  و هو في حشد من المهاجرين و الأنصار و غيرهم-  فنيطت دونها ملاءة-  ثم أنت أنة أجهش لها القوم بالبكاء-  و ارتج المجلس-  ثم أمهلت هنيهة حتى إذا سكن نشيج القوم-  و هدأت فورتهم-  افتتحت كلامها بالحمد لله عز و جل و الثناء عليه-  و الصلاة على رسول الله ص-  ثم قالت لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ-  عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ-  بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ-  فإن تعزوه تجدوه أبي دون آبائكم-  و أخا ابن عمي دون رجالكم-  فبلغ الرسالة صادعا بالنذارة-  مائلا عن سنن المشركين ضاربا ثبجهم- 

يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة و الموعظة الحسنة-  آخذا بأكظام المشركين-  يهشم الأصنام و يفلق الهام-  حتى انهزم الجمع و ولوا الدبر-  و حتى تفرى الليل عن صبحه-  و أسفر الحق عن محضه و نطق زعيم الدين-  و خرست شقائق الشياطين و تمت كلمة الإخلاص-  و كنتم على شفا حفرة من النار نهزة الطامع-  و مذقة الشارب و قبسة العجلان-  و موطإ الأقدام تشربون الطرق-  و تقتاتون القد أذلة خاسئين-  يختطفكم الناس من حولكم-  حتى أنقذكم الله برسوله ص بعد اللتيا و التي-  و بعد أن مني بهم الرجال-  و ذؤبان العرب و مردة أهل الكتاب-  و كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله-  أو نجم قرن الشيطان أو فغرت فاغرة-  قذف أخاه في لهواتها-  و لا ينكفئ حتى يطأ صماخها بأخمصه-  و يطفئ عادية لهبها بسيفه-  أو قالت يخمد لهبها بحده-  مكدودا في ذات الله-  و أنتم في رفاهية فكهون آمنون وادعون-إلى هنا انتهى خبر أبي العيناء عن ابن عائشة-  و أما عروة عن عائشة فزاد بعد هذا حتى إذا اختار الله لنبيه دار أنبيائه-  ظهرت حسيكة النفاق و شمل جلباب الدين-  و نطق كاظم الغاوين و نبغ خامل الآفكين-  و هدر فنيق المبطلين فخطر في عرصاتكم-  و أطلع الشيطان رأسه صارخا بكم-  فدعاكم فألفاكم لدعوته مستجيبين و لقربه متلاحظين-  ثم استنهضكم فوجدكم خفافا-  و أحمشكم فألفاكم غضابا-  فوسمتم غير إبلكم و وردتم غير شربكم-  هذا و العهد قريب و الكلم رحيب و الجرح لما يندمل- 

إنما زعمتم ذلك خوف الفتنة-  ألا في الفتنة سقطوا و إن جهنم لمحيطة بالكافرين-  فهيهات و أنى بكم و أنى تؤفكون-  و كتاب الله بين أظهركم زواجره بينة-  و شواهده لائحة و أوامره واضحة-  أ رغبة عنه تريدون أم لغيره تحكمون-  بئس للظالمين بدلا-  و من يتبع غير الإسلام دينا فلن يقبل منه-  و هو في الآخرة من الخاسرين-  ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفرتها-  تسرون حسوا في ارتغاء-  و نحن نصبر منكم على مثل حز المدى-  و أنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا-  أ فحكم الجاهلية يبغون-  و من أحسن من الله حكما لقوم يوقنون-  يا ابن أبي قحافة أ ترث أباك و لا أرث أبي-  لقد جئت شيئا فريا-  فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك-  فنعم الحكم الله و الزعيم محمد و الموعد القيامة-  و عند الساعة يخسر المبطلون-  ثم انكفأت إلى قبر أبيها ع فقالت- 

قد كان بعدك أنباء و هنبثة
لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب‏

إذا فقدناك فقد الأرض وابلها
و اختل قومك فاشهدهم و لا تغب‏

و روى حرمي بن أبي العلاء مع هذين البيتين بيتا ثالثا-

فليت بعدك كان الموت صادفنا
لما قضيت و حالت دونك الكتب‏

 

قال-  فحمد أبو بكر الله و أثنى عليه و صلى على رسوله ص-  و قال يا خير النساء و ابنة خير الآباء-  و الله ما عدوت رأي رسول الله ص و لا عملت إلا بإذنه-  و إن الرائد لا يكذب أهله-  و إني أشهد الله و كفى بالله شهيدا-  أني سمعت رسول الله يقول إنا معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا-  و لا فضة و لا دارا و لا عقارا-  و إنما نورث الكتاب و الحكمة و العلم و النبوة قال فلما وصل الأمر إلى علي بن أبي طالب ع-  كلم في رد فدك فقال إني لأستحيي من الله-  أن أرد شيئا منع منه أبو بكر و أمضاه عمر قال المرتضى و أخبرنا أبو عبد الله المرزباني قال حدثني علي بن هارون قال أخبرني عبيد الله بن أحمد بن أبي طاهر عن أبيه قال ذكرت لأبي الحسين زيد بن علي بن الحسين-  بن علي بن أبي طالب ع-  كلام فاطمة ع عند منع أبي بكر إياها فدك-  و قلت له إن هؤلاء يزعمون أنه مصنوع-  و أنه من كلام أبي العيناء لأن الكلام منسوق البلاغة-  فقال لي رأيت مشايخ آل أبي طالب يروونه عن آبائهم-  و يعلمونه أولادهم-  و قد حدثني به أبي عن جدي-  يبلغ به فاطمة ع على هذه الحكاية-  و قد رواه مشايخ الشيعة و تدارسوه-  قبل أن يوجد جد أبي العيناء-  و قد حدث الحسين بن علوان عن عطية العوفي-  أنه سمع عبد الله بن الحسن بن الحسن-  يذكر عن أبيه هذا الكلام- .

ثم قال أبو الحسن زيد-  و كيف تنكرون هذا من كلام فاطمة ع-  و هم‏يروون من كلام عائشة عند موت أبيها-  ما هو أعجب من كلام فاطمة ع-  و يحققونه لو لا عداوتهم لنا أهل البيت-  ثم ذكر الحديث بطوله على نسقه-  و زاد في الأبيات بعد البيتين الأولين- 

 ضاقت علي بلادي بعد ما رحبت
وسم سبطاك خسفا فيه لي نصب‏

فليت قبلك كان الموت صادفنا
قوم تمنوا فأعطوا كل ما طلبوا

تجهمتنا رجال و استخف بنا
مذ غبت عنا و كل الإرث قد غصبوا

قال فما رأينا يوما أكثر باكيا أو باكية-  من ذلك اليوم- . قال المرتضى و قد روى هذا الكلام على هذا الوجه-  من طرق مختلفة و وجوه كثيرة-  فمن أرادها أخذها من مواضعها-  فكيف يدعي أنها ع كفت راضية-  و أمسكت قانعة لو لا البهت و قلة الحياء- . قلت ليس في هذا الخبر ما يدل على فساد-  ما ادعاه قاضي القضاة-  لأنه ادعى أنها نازعت و خاصمت-  ثم كفت لما سمعت الرواية و انصرفت-  تاركة للنزاع راضية بموجب الخبر المروي-  و ما ذكره المرتضى من هذا الكلام-  لا يدل إلا على سخطها حال حضورها-  و لا يدل على أنها بعد رواية الخبر-  و بعد أن أقسم لها أبو بكر بالله تعالى-  أنه ما روى عن رسول الله ص إلا ما سمعه منه-  انصرفت ساخطة-  و لا في الحديث المذكور و الكلام المروي ما يدل على ذلك-  و لست أعتقد أنها انصرفت راضية-  كما قال قاضي القضاة-  بل أعلم أنها انصرفت ساخطة-  و ماتت و هي على أبي بكر واجدة-  و لكن لا من هذا الخبر بل من أخبار أخر-  كان الأولى بالمرتضى أن يحتج بها-  على‏ ما يرويه في انصرافها ساخطة-  و موتها على ذلك السخط-  و أما هذا الخبر و هذا الكلام فلا يدل على هذا المطلوب- .

قال المرتضى رحمه الله-  فأما قوله إنه يجوز أن يبين ع-  أنه لا حق لميراثه في ورثته لغير الورثة-  و لا يمتنع أن يرد من جهة الآحاد لأنه من باب العمل-  و كل هذا بناء منه على أصوله الفاسدة-  في أن خبر الواحد حجة في الشرع و أن العمل به واجب-  و دون صحة ذلك خرط القتاد-  و إنما يجوز أن يبين من جهة أخرى-  إذا تساويا في الحجة و وقوع العمل-  فأما مع تباينهما فلا يجوز التخيير فيهما-  و إذا كان ورثة النبي ص متعبدين بألا يرثوه-  فلا بد من إزاحة علتهم في هذه العبادة-  بأن يوقفهم على الحكم و يشافههم به-  و يلقيه إلى من يقيم الحجة عليهم بنقله-  و كل ذلك لم يكن- .

فأما قوله-  أ تجوزون صدقه في الرواية أم لا تجوزون ذلك-  فالجواب إنا لا نجوزه-  لأن كتاب الله أصدق منه و هو يدفع روايته و يبطلها-  فأما اعتراضه على قولنا-  إن إطلاق الميراث لا يكون إلا في الأموال بقوله تعالى-  ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا-  و قولهم ما ورثت الأبناء من الآباء شيئا-  أفضل من أدب حسن-  و قولهم العلماء ورثة الأنبياء-  فعجيب لأن كل ما ذكر مقيد غير مطلق-  و إنما قلنا إن مطلق لفظ الميراث من غير قرينة-  و لا تقييد يفيد بظاهره ميراث الأموال-  فبعد ما ذكره و عارض به لا يخفى على متأمل- .

فأما استدلاله على أن سليمان ورث داود علمه دون ماله-  بقوله يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ-  إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ-  و أن المراد أنه‏ورث العلم و الفضل-  و إلا لم يكن لهذا القول تعلق بالأول-  فليس بشي‏ء يعول عليه-  لأنه لا يمتنع أن يريد به أنه ورث المال بالظاهر-  و العلم بهذا المعنى من الاستدلال-  فليس يجب إذا دلت الدلالة في بعض الألفاظ-  على معنى المجاز أن يقتصر بها عليه-  بل يجب أن يحملها على الحقيقة-  التي هي الأصل إذا لم يمنع من ذلك مانع-  على أنه لا يمتنع أن يريد ميراث المال خاصة-  ثم يقول مع ذلك إنا عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ-  و يشير الْفَضْلُ الْمُبِينُ إلى العلم و المال جميعا-  فله بالأمرين جميعا فضل على من لم يكن عليهما-  و قوله وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ‏ءٍ-  يحتمل المال كما يحتمل العلم-  فليس بخالص ما ظنه- .

فأما قوله في قصة زكريا-  إنه خاف على العلم أن يندرس-  لأن الأنبياء و إن كانوا لا يحرصون على الأموال-  و إنما خاف أن يضيع العلم-  فسأل الله تعالى وليا يقوم بالدين مقامه-  فقد بينا أن الأنبياء و إن كانوا لا يحرصون على الأموال-  و لا يبخلون بها-  فإنهم يجتهدون في منع المفسدين-  من الانتفاع بها على الفساد-  و لا يعد ذلك بخلا و لا حرصا بل فضلا و دينا-  و ليس يجوز من زكريا-  أن يخاف على العلم الاندراس و الضياع-  لأنه يعلم أن حكمة الله تعالى تقتضي حفظ العلم-  الذي هو الحجة على العباد-  و به تنزاح عللهم في مصالحهم-  فكيف يخاف ما لا يخاف من مثله- .

فإن قيل فهبوا أن الأمر كما ذكرتم-  من أن زكريا كان يأمن على العلم أن يندرس-  أ ليس لا بد أن يكون مجوزا-  أن يحفظه الله تعالى بمن هو من أهله و أقاربه-  كما يجوز حفظه بغريب أجنبي-  فما أنكرتم أن يكون خوفه إنما كان من بني عمه-  ألا يتعلموا العلم و لا يقوموا فيه مقامه-  فسأل الله ولدا يجمع فيه هذه العلوم-  حتى لا يخرج العلم عن بيته و يتعدى إلى غير قومه-  فيلحقه بذلك وصمة- .

 

قلنا أما إذا رتب السؤال هذا الترتيب-  فالجواب عنه ما أجبنا به صاحب الكتاب-  و هو أن الخوف الذي أشاروا إليه-  ليس من ضرر ديني-  و إنما هو من ضرر دنياوي-  و الأنبياء إنما بعثوا لتحمل المضار الدنياوية-  و منازلهم في الثواب-  إنما زادت على كل المنازل لهذا الوجه-  و من كانت حاله هذه الحال-  فالظاهر من خوفه إذا لم يعلم وجهه بعينه-  أن يكون محمولا على مضار الدين-  لأنها هي جهة خوفهم-  و الغرض في بعثهم تحمل ما سواها من المضار-  فإذا قال النبي ص أنا خائف-  فلم يعلم جهة خوفه على التفصيل-  يجب أن يصرف خوفه بالظاهر-  إلى مضار الدين دون الدنيا-  لأن أحوالهم و بعثهم يقتضي ذلك-  فإذا كنا لو اعتدنا من بعضنا الزهد في الدنيا-  و أسبابها و التعفف عن منافعها-  و الرغبة في الآخرة و التفرد بالعمل لها-  لكنا نحمل على ما يظهر لنا-  من خوفه الذي لا يعلم وجهه بعينه-  على ما هو أشبه و أليق بحاله-  و نضيفه إلى الآخرة دون الدنيا-  و إذا كان هذا واجبا فيمن ذكرناه-  فهو في الأنبياء ع أوجب- .

قلت ينبغي ألا يقول المعترض-  فيلحقه بذلك وصمة-  فيجعل الخوف من هذه الوصمة-  بل يقول إنه خاف ألا يفلح بنو عمه و لا يتعلموا العلم-  لما رأى من الأمارات الدالة على ذلك-  فالخوف على هذا الترتيب يتعلق بأمر ديني لا دنيوي-  فسأل الله تعالى أن يرزقه ولدا يرث عنه علمه-  أي يكون عالما بالدينيات كما أنا عالم بها-  و هذا السؤال متعلق بأمر ديني لا دنيوي-  و على هذا يندفع ما ذكره المرتضى-  على أنه لا يجوز إطلاق القول-  بأن الأنبياء بعثوا لتحمل المضار الدنياوية-  و لا القول الغرض في بعثتهم-  تحمل ما سوى المضار الدينية من المضار-  فإنهم ما بعثوا لذلك و لا الغرض في بعثتهم ذلك-  و إنما بعثوا لأمر آخر-  و قد تحصل المضار في أداء الشرع ضمنا و تبعا-  لا على أنها الغرض و لا داخلةفي الغرض و على أن قول المرتضى لا يجوز أن يخاف زكريا-  من تبديل الدين و تغييره-  لأنه محفوظ من الله-  فكيف يخاف ما لا يخاف من مثله غير مستمر على أصوله-  لأن المكلفين الآن قد حرموا بغيبة الإمام-  عنده ألطافا كثيرة الوصلة بالشرعيات-  كالحدود و صلاة الجمعة و الأعياد-  و هو و أصحابه يقولون في ذلك أن اللوم على المكلفين-  لأنهم قد حرموا أنفسهم اللطف-  فهلا جاز أن يخاف زكريا من تبديل الدين و تغييره-  و إفساد الأحكام الشرعية-  لأنه إنما يجب على الله تعالى-  التبليغ بالرسول إلى المكلفين-  فإذا أفسدوا هم الأديان و بدلوها-  لم يجب عليه أن يحفظها عليهم-  لأنهم هم الذين حرموا أنفسهم اللطف- .

و اعلم أنه قد قرئ وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي-  و قيل إنها قراءة زين العابدين-  و ابنه محمد بن علي الباقر ع-  و عثمان بن عفان-  و فسروه على وجهين-  أحدهما أن يكون ورائي بمعنى خلفي و بعدي-  أي قلت الموالي و عجزوا عن إقامة الدين-  تقول قد خف بنو فلان أي قل عددهم-  فسأل زكريا ربه تقويتهم و مظاهرتهم بولي يرزقه- . و ثانيهما أن يكون ورائي بمعنى قدامي-  أي خف الموالي و أنا حي و درجوا و انقرضوا-  و لم يبق منهم من به اعتضاد-  و على هذه القراءة لا يبقى متعلق بلفظة الخوف- . و قد فسر قوم قوله وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ-  أي خفت الذين يلون الأمر من بعدي-  لأن الموالي يستعمل في الوالي و جمعه موال-  أي خفت أن يلي بعد موتي أمراء و رؤساء-  يفسدون شيئا من الدين-  فارزقني ولدا تنعم عليه بالنبوة و العلم-  كما أنعمت علي-  و اجعل الدين محفوظا به-  و هذا التأويل غير منكر-  و فيه أيضا دفع لكلام المرتضى- .

قال المرتضى و أما تعلق صاحب الكتاب-  في أن الميراث محمول على العلم بقوله-  وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ-  لأنه لا يرث أموال آل يعقوب في الحقيقة-  و إنما يرث ذلك غيره-  فبعيد من الصواب-  لأن ولد زكريا يرث بالقرابة من آل يعقوب أموالهم-  على أنه لم يقل يرث آل يعقوب-  بل قال يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ-  تنبيها بذلك-  على أنه يرث من كان أحق بميراثه في القرابة- . فأما طعنه على من تأول الخبر بأنه ع لا يورث-  ما تركه للصدقة بقوله-  إن أحدا من الصحابة لم يتأوله على هذا الوجه-  فهذا التأويل الذي ذكرناه أحد-  ما قاله أصحابنا في هذا الخبر-  فمن أين له إجماع الصحابة على خلافه-  و إن أحدا لم يتأوله على هذا الوجه- . فإن قال لو كان ذلك لظهر و اشتهر-  و لوقف أبو بكر عليه-  فقد مضى من الكلام فيما يمنع من الموافقة-  على هذا المعنى ما فيه كفاية- . قلت لم يكن ذلك اليوم أعني يوم حضور فاطمة ع-  و قولها لأبي بكر ما قالت يوم تقية و خوف-  و كيف يكون يوم تقية و هي تقول له و هو الخليفة-  يا ابن أبي قحافة أ ترث أباك و لا أرث أبي-  و تقول له أيضا لقد جئت شيئا فريا-  فكان ينبغي إذا لم يؤثر أمير المؤمنين ع-  أن يفسر لأبي بكر معنى الخبر أن يعلم فاطمة ع‏ تفسيره-  فتقول لأبي بكر أنت غالط فيما ظننت-  إنما قال أبي ما تركناه صدقة فإنه لا يورث- . و اعلم أن هذا التأويل كاد يكون مدفوعا بالضرورة-  لأن من نظر في الأحاديث التي ذكرناها-  و ما جرت عليه الحال يعلم بطلانه علما قطعيا- .

قال المرتضى و قوله إنه لا يكون-  إذ ذلك تخصيص للأنبياء و لا مزية-  ليس بصحيح-  و قد قيل في الجواب عن هذا-  إن النبي ص يجوز أن يريد أن ما ننوي فيه الصدقة-  و نفرده لها من غير أن نخرجه عن أيدينا لا تناله ورثتنا-  و هذا تخصيص للأنبياء و مزية ظاهرة- . قلت هذه مخالفة لظاهر الكلام-  و إحالة اللفظ عن وضعه-  و بين قوله ما ننوي فيه الصدقة-  و هو بعد في ملكنا ليس بموروث-  و قوله ما نخلفه صدقة ليس بموروث فرق عظيم-  فلا يجوز أن يراد أحد المعنيين-  باللفظ المفيد للمعنى الآخر-  لأنه إلباس و تعمية-  و أيضا فإن العلماء ذكروا خصائص الرسول-  في الشرعيات عن أمته و عددوها-  نحو حل الزيادة في النكاح على أربع-  و نحو النكاح بلفظ الهبة على قول فرقة من المسلمين-  و نحو تحريم أكل البصل و الثوم عليه و إباحة شرب دمه-  و غير ذلك-  و لم يذكروا في خصائصه أنه إذا كان قد نوى أن يتصدق بشي‏ء-  فإنه لا يناله ورثته لو قدرنا أنه يورث الأموال-  و لا الشيعة قبل المرتضى ذكرت ذلك-  و لا رأينا في كتاب من كتبهم-  و هو مسبوق بإجماع طائفته عليه و إجماعهم عندهم حجة- .

قال المرتضى فأما قوله إن قوله ع ما تركناه صدقة-  جملة من الكلام‏مستقلة بنفسها-  فصحيح إذا كانت لفظة ما مرفوعة على الابتداء-  و لم تكن منصوبة بوقوع الفعل عليها-  و كانت لفظة صدقة أيضا مرفوعة غير منصوبة-  و في هذا وقع النزاع-  فكيف يدعى أنها جملة مستقلة بنفسها-  و أقوى ما يمكن أن نذكره أن نقول-  الرواية جاءت بلفظ صدقة بالرفع-  و على ما تأولتموه لا تكون إلا منصوبة-  و الجواب عن ذلك إنا لا نسلم الرواية بالرفع-  و لم تجر عادة الرواة-  بضبط ما جرى هذا المجرى من الإعراب-  و الاشتباه يقع في مثله-  فمن حقق منهم و صرح بالرواية بالرفع-  يجوز أن يكون اشتبه عليه فظنها مرفوعة و هي منصوبة-  قلت و هذا أيضا خلاف الظاهر-  و فتح الباب فيه يؤدي إلى إفساد الاحتجاج-  بكثير من الأخبار- .

قال و أما حكايته عن أبي علي-  أن أبا بكر لم يدفع إلى أمير المؤمنين ع-  السيف و البغلة و العمامة على جهة الإرث-  و قوله كيف يجوز ذلك مع الخبر الذي رواه-  و كيف خصصه بذلك دون العم الذي هو العصبة-  فما نراه زاد على التعجب-  و مما عجب منه عجبنا-  و لم يثبت عصمة أبي بكر فينتفي عن أفعاله التناقض- . قلت لا يشك أحد في أن أبا بكر كان عاقلا-  و إن شك قوم في ذلك-  فالعاقل في يوم واحد-  لا يدفع فاطمة ع عن الإرث و يقول-  إن أباك قال لي إنني لا أورث-  ثم يورث في ذلك اليوم شخصا آخر من مال ذلك المتوفى-  الذي حكى عنه أنه لا يورث-  و ليس انتفاء هذا التناقض عن أفعاله-  موقوفا على العصمة بل على العقل- .

 

قال المرتضى و قوله يجوز أن يكون النبي ص نحله إياه-  و تركه أبو بكر في يده لما في ذلك من تقوية الدين-  و تصدق ببدله-  و كل ما ذكره جائز-  إلا أنه قد كان يجب أن يظهر أسباب النحلة-  و الشهادة بها و الحجة عليها-  و لم يظهر من ذلك شي‏ء فنعرفه-  و من العجائب أن تدعي فاطمة فدك نحلة-  و تستشهد على قولها أمير المؤمنين ع و غيره-  فلا يصغى إلى قولها-  و يترك السيف و البغلة و العمامة في يد أمير المؤمنين-  على سبيل النحلة بغير بينة ظهرت-  و لا شهادة قامت- . قلت لعل أبا بكر سمع الرسول ص-  و هو ينحل ذلك عليا ع-  فلذلك لم يحتج إلى البينة و الشهادة-  فقد روى أنه أعطاه خاتمه و سيفه في مرضه-  و أبو بكر حاضر-  و أما البغلة فقد كان نحله إياها-  في حجة الوداع على ما وردت به الرواية-  و أما العمامة فسلب الميت-  و كذلك القميص و الحجزة و الحذاء-  فالعادة أن يأخذ ذلك ولد الميت-  و لا ينازع فيه لأنه خارج أو كالخارج عن التركة-  فلما غسل ع أخذت ابنته ثيابه التي مات فيها-  و هذه عادة الناس-  على أنا قد ذكرنا في الفصل الأول-  كيف دفع إليه آلة النبي ص و حذاءه و دابته-  و الظاهر أنه فعل ذلك اجتهادا لمصلحة رآها-  و للإمام أن يفعل ذلك- .

قال المرتضى-  على أنه كان يجب على أبي بكر أن يبين ذلك-  و يذكر وجهه بعينه-  لما نازع العباس فيه-  فلا وقت لذكر الوجه في ذلك أولى من هذا الوقت- . قلت لم ينازع العباس في أيام أبي بكر-  لا في البغلة و العمامة و نحوها و لا في غير ذلك-  و إنما نازع عليا في أيام عمر-  و قد ذكرنا كيفية المنازعة و فيما ذا كانت- . قال المرتضى رضي الله عنه في البردة و القضيب-  إن كان نحلة أو على الوجه الآخر-  يجري مجرى ما ذكرناه-  في وجوب الظهور و الاستشهاد-  و لسنا نرى أصحابنا يعني المعتزلة-  يطالبون أنفسهم في هذه المواضع بما يطالبوننا بمثله-  إذا ادعينا وجوها و أسبابا و عللا مجوزة-  لأنهم لا يقنعون منا بما يجوز و يمكن-  بل يوجبون فيما ندعيه الظهور و الاستشهاد-  و إذا كان هذا عليهم نسوه أو تناسوه- .

قلت أما القضيب-  فهو السيف الذي نحله رسول الله ص عليا ع في مرضه-  و ليس بذي الفقار بل هو سيف آخر-  و أما البردة فإنه وهبها كعب بن زهير-  ثم صار هذا السيف و هذه البردة إلى الخلفاء-  بعد تنقلات كثيرة مذكورة في كتب التواريخ- . قال المرتضى فأما قوله-  فإن أزواج النبي ص إنما طلبن الميراث-  لأنهن لم يعرفن رواية أبي بكر للخبر-  و كذلك إنما نازع علي ع-  بعد موت فاطمة ع في الميراث لهذا الوجه-  فمن أقبح ما يقال في هذا الباب و أبعده عن الصواب-  و كيف لا يعرف أمير المؤمنين ع رواية أبي بكر-  و بها دفعت زوجته عن الميراث-  و هل مثل ذلك المقام الذي قامته-  و ما رواه أبو بكر في دفعها-  يخفى على من هو في أقاصي البلاد-  فضلا عمن هو في المدينة حاضر شاهد يراعي الأخبار-  و يعني بها-  إن هذا لخروج في المكابرة عن الحد-  و كيف يخفى على الأزواج ذلك-  حتى يطلبنه مرة بعد أخرى-  و يكون عثمان الرسول لهن و المطالب عنهن-  و عثمان على زعمهم أحد من شهد- أن النبي ص لا يورث-  و قد سمعن على كل حال أن بنت النبي ص لم تورث ماله-  و لا بد أن يكن قد سألن عن السبب في دفعها-  فذكر لهن الخبر-  فكيف يقال إنهن لم يعرفنه- .

قلت الصحيح أن أمير المؤمنين ع-  لم ينازع بعد موت فاطمة في الميراث-  و إنما نازع في الولاية لفدك و غيرها-  من صدقات رسول الله ص-  و جرى بينه و بين العباس في ذلك ما هو مشهور-  و أما أزواج النبي ص فما ثبت أنهن نازعن في ميراثه-  و لا أن عثمان كان المرسل لهن و المطالب عنهن-  إلا في رواية شاذة-  و الأزواج لما عرفن أن فاطمة ع-  قد دفعت عن الميراث أمسكن-  و لم يكن قد نازعن و إنما اكتفين بغيرهن-  و حديث فدك و حضور فاطمة عند أبي بكر-  كان بعد عشرة أيام من وفاة رسول الله ص-  و الصحيح أنه لم ينطق أحد بعد ذلك من الناس-  من ذكر أو أنثى بعد عود فاطمة ع من ذلك المجلس-  بكلمة واحدة في الميراث- . قال المرتضى فإن قيل-  فإذا كان أبو بكر قد حكم بالخطإ-  في دفع فاطمة ع عن الميراث-  و احتج بخبر لا حجة فيه-  فما بال الأمة أقرته على هذا الحكم و لم تنكر عليه-  و في رضاها و إمساكها دليل على صوابه- . قلت قد مضى أن ترك النكير لا يكون دليل الرضا-  إلا في هذا الموضع الذي لا يكون له وجه سوى الرضا-  و ذكرنا في ذلك قولا شافيا-  و قد أجاب أبو عثمان الجاحظ في كتاب العباسية-  عن هذا السؤال جوابا حسن المعنى و اللفظ-  نحن نذكره على وجهه-  ليقابل بينه و بين كلامه في العثمانية و غيرها- .

قلت ما كناه المرتضى رحمه الله في غير هذا الموضع أصلا-  بل كان ساخطا عليه-  و كناه في هذا الموضع و استجاد قوله-  لأنه موافق غرضه-  فسبحان الله ما أشد حب الناس لعقائدهم- . قال قال أبو عثمان و قد زعم أناس-  أن الدليل على صدق خبرهما يعني أبا بكر و عمر-  في منع الميراث و براءة ساحتهما-  ترك أصحاب رسول الله ص النكير عليهما-  ثم قال قد يقال لهم-  لئن كان ترك النكير دليلا على صدقهما-  ليكونن ترك النكير على المتظلمين-  و المحتجين عليهما و المطالبين لهما-  دليلا على صدق دعواهم أو استحسان مقالتهم-  و لا سيما و قد طالت المناجاة-  و كثرت المراجعة و الملاحاة-  و ظهرت الشكية و اشتدت الموجدة-  و قد بلغ ذلك من فاطمة ع-  حتى إنها أوصت ألا يصلي عليها أبو بكر-  و لقد كانت قالت له حين أتته طالبة بحقها-  و محتجة لرهطها-  من يرثك يا أبا بكر إذا مت-  قال أهلي و ولدي- 

قالت فما بالنا لا نرث النبي ص-  فلما منعها ميراثها و بخسها حقها-  و اعتل عليها و جلح في أمرها-  و عاينت التهضم و أيست من التورع-  و وجدت نشوة الضعف و قلة الناصر-  قالت و الله لأدعون الله عليك-  قال و الله لأدعون الله لك-  قالت و الله لا أكلمك أبدا قال و الله لا أهجرك أبدا-  فإن يكن ترك النكير على أبي بكر دليلا على صواب منعها-  إن في ترك النكير على فاطمة ع-  دليلا على صواب طلبها-  و أدنى ما كان يجب عليهم في ذلك تعريفها ما جهلت-  و تذكيرها ما نسيت-  و صرفها عن الخطإ و رفع قدرها عن البذاء-  و أن تقول هجرا-  أو تجور عادلا أو تقطع واصلا-  فإذا لم تجدهم أنكروا على الخصمين جميعا-  فقد تكافأت‏الأمور و استوت الأسباب-  و الرجوع إلى أصل حكم الله من المواريث أولى بنا و بكم-  و أوجب علينا و عليكم- .

قال فإن قالوا كيف تظن به ظلمها و التعدي عليها-  و كلما ازدادت عليه غلظة ازداد لها لينا و رقة-  حيث تقول له و الله لا أكلمك أبدا-  فيقول و الله لا أهجرك أبدا-  ثم تقول و الله لأدعون الله عليك-  فيقول و الله لأدعون الله لك-  ثم يحتمل منها هذا الكلام الغليظ-  و القول الشديد في دار الخلافة-  و بحضرة قريش و الصحابة-  مع حاجة الخلافة إلى البهاء و التنزيه-  و ما يجب لها من الرفعة و الهيبة-  ثم لم يمنعه ذلك أن قال معتذرا متقربا-  كلام المعظم لحقها المكبر لمقامها-  و الصائن لوجهها المتحنن عليها-  ما أحد أعز علي منك فقرا-  و لا أحب إلي منك غنى-  و لكني سمعت رسول الله ص يقول-  إنا معاشر الأنبياء لا نورث-  ما تركناه فهو صدقة-  قيل لهم ليس ذلك بدليل على البراءة من الظلم-  و السلامة من الجور-  و قد يبلغ من مكر الظالم و دهاء الماكر إذا كان أريبا-  و للخصومة معتادا-  أن يظهر كلام المظلوم و ذلة المنتصف-  و حدب الوامق و مقة المحق-  و كيف جعلتم ترك النكير حجة قاطعة-  و دلالة واضحة-  و قد زعمتم أن عمر قال على منبره-  متعتان كانتا على عهد رسول الله ص-  متعة النساء و متعة الحج-  أنا أنهى عنهما و أعاقب عليهما-  فما وجدتم أحدا أنكر قوله-  و لا استشنع مخرج نهيه و لا خطأه في معناه-  و لا تعجب منه و لا استفهمه-  و كيف تقضون بترك النكير و قد شهد عمر يوم السقيفة-  و بعد ذلك أن النبي ص قال الأئمة من قريش-  ثم قال في شكاته-  لو كان سالم حيا ما تخالجني فيه شك-  حين أظهر الشك في استحقاق كل واحد من الستة-  الذين‏جعلهم شورى-  و سالم عبد لامرأة من الأنصار-  و هي أعتقته و حازت ميراثه-  ثم لم ينكر ذلك من قوله منكر-  و لا قابل إنسان بين قوله و لا تعجب منه- 

و إنما يكون ترك النكير على من لا رغبة و لا رهبة عنده-  دليلا على صدق قوله و صواب عمله-  فأما ترك النكير على من يملك الضعة و الرفعة-  و الأمر و النهي و القتل و الاستحياء و الحبس و الإطلاق-  فليس بحجة تشفي و لا دلالة تضي‏ء- . قال و قال آخرون-  بل الدليل على صدق قولهما و صواب عملهما-  إمساك الصحابة عن خلعهما و الخروج عليهما-  و هم الذين وثبوا على عثمان في أيسر من جحد التنزيل-  و رد النصوص و لو كان كما تقولون و ما تصفون-  ما كان سبيل الأمة فيهما إلا كسبيلهم فيه-  و عثمان كان أعز نفرا و أشرف رهطا-  و أكثر عددا و ثروة و أقوى عدة- .

قلنا إنهما لم يجحدا التنزيل و لم ينكرا النصوص-  و لكنهما بعد إقرارهما بحكم الميراث-  و ما عليه الظاهر من الشريعة ادعيا رواية-  و تحدثا بحديث لم يكن محالا كونه-  و لا ممتنعا في حجج العقول مجيئه-  و شهد لهما عليه من علته مثل علتهما فيه-  و لعل بعضهم كان يرى تصديق الرجل-  إذا كان عدلا في رهطه مأمونا في ظاهره-  و لم يكن قبل ذلك عرفه بفجرة و لا جرت عليه غدرة-  فيكون تصديقه له على جهة حسن الظن-  و تعديل الشاهد-  و لأنه لم يكن كثير منهم يعرف حقائق الحجج-  و الذي يقطع بشهادته على الغيب-  و كان ذلك شبهة على أكثرهم-  فلذلك قل النكير و تواكل الناس فاشتبه الأمر-  فصار لا يتخلص إلى معرفة حق ذلك من باطله إلا العالم المتقدم أو المؤيد المرشد-  و لأنه لم يكن لعثمان في صدور العوام-  و قلوب السفلة و الطغام-  ما كان لهما من المحبة و الهيبة-  و لأنهما كانا أقل استئثارا بالفي‏ء و تفضلا بمال الله منه-  و من شأن الناس إهمال السلطان ما وفر عليهم أموالهم-  و لم يستأثر بخراجهم و لم يعطل ثغورهم-  و لأن الذي صنع أبو بكرمن منع العترة حقها-  و العمومة ميراثها-  قد كان موافقا لجلة قريش و كبراء العرب-  و لأن عثمان أيضا كان مضعوفا في نفسه-  مستخفا بقدره-  لا يمنع ضيما و لا يقمع عدوا-  و لقد وثب ناس على عثمان-  بالشتم و القذف و التشنيع و النكير-  لأمور لو أتى أضعافها و بلغ أقصاها-  لما اجترءوا على اغتيابه-  فضلا على مبادأته و الإغراء به و مواجهته-  كما أغلظ عيينة بن حصن له فقال له-  أما إنه لو كان عمر لقمعك و منعك-  فقال عيينة إن عمر كان خيرا لي منك-  أرهبني فاتقاني- .

ثم قال و العجب أنا وجدنا جميع من خالفنا في الميراث-  على اختلافهم في التشبيه و القدر و الوعيد-  يرد كل صنف منهم من أحاديث مخالفيه و خصومه-  ما هو أقرب إسنادا و أصح رجالا و أحسن اتصالا-  حتى إذا صاروا إلى القول في ميراث النبي ص-  نسخوا الكتاب-  و خصوا الخبر العام بما لا يداني بعض ما ردوه-  و أكذبوا قائليه-  و ذلك أن كل إنسان منهم إنما يجري إلى هواه-  و يصدق ما وافق رضاه- . هذا آخر كلام الجاحظ ثم قال المرتضى رضي الله عنه فإن قيل-  ليس ما عارض به الجاحظ من الاستدلال بترك النكير-  و قوله كما لم ينكروا على أبي بكر-  فلم ينكروا أيضا على فاطمة ع-  و لا على غيرها من الطالبين بالإرث-  كالأزواج و غيرهن معارضة صحيحة-  و ذلك أن نكير أبي بكر لذلك-  و دفعها و الاحتجاج عليها-  و يكفيهم و يغنيهم عن تكلف نكير آخر-  و لم ينكر على أبي بكر ما رواه منكر فيستغنوا بإنكاره- . قلنا أول ما يبطل هذا السؤال-  أن أبا بكر لم ينكر عليها ما أقامت عليه-  بعد احتجاجها من التظلم و التألم-  و التعنيف و التبكيت-  و قولها على ما روي و الله لأدعون الله عليك-  و لا أكلمك أبدا و ما جرى هذا المجرى-  فقد كان يجب أن ينكره غيره-  و من المنكر الغضب على المنصف-  و بعد فإن كان إنكار أبي بكر مقنعا و مغنيا-  عن إنكار غيره من المسلمين-  فإنكار فاطمة حكمه و مقامها على التظلم منه-  مغن عن نكير غيرها-  و هذا واضح

الفصل الثالث في أن فدك هل صح كونها نحلة رسول الله ص لفاطمة ع أم لا

نذكر في هذا الفصل ما حكاه المرتضى-  عن قاضي القضاة في المغني و ما اعترض به عليه-  ثم نذكر ما عندنا في ذلك- . قال المرتضى حاكيا عن قاضي القضاة-  و مما عظمت الشيعة القول في أمر فدك-  قالوا و قد روى أبو سعيد الخدري أنه لما أنزلت-  وَ آتِ ذَا الْقُرْبى‏ حَقَّهُ-  أعطى رسول الله ص فاطمة ع فدك-  ثم فعل عمر بن عبد العزيز مثل ذلك فردها على ولدها-  قالوا و لا شك أن أبا بكر أغضبها-  إن لم يصح كل الذي روي في هذا الباب-  و قد كان الأجمل أن يمنعهم التكرم مما ارتكبوا منها-  فضلا عن الدين-  ثم ذكروا أنها استشهدت أمير المؤمنين ع و أم أيمن-  فلم يقبل شهادتهما-  هذا مع تركه أزواج النبي ص في حجرهن-  و لم يجعلها صدقة-  و صدقهن في ذلك أن ذلك لهن و لم يصدقها- .

 

قال و الجواب عن ذلك-  أن أكثر ما يروون في هذا الباب غير صحيح-  و لسنا ننكر صحة ما روي من ادعائها فدك-  فأما أنها كانت في يدها فغير مسلم-  بل إن كانت في يدها لكان الظاهر أنها لها-  فإذا كانت في جملة التركة فالظاهر أنها ميراث-  و إذا كان كذلك فغير جائز لأبي بكر قبول دعواها-  لأنه لا خلاف في أن العمل على الدعوى لا يجوز-  و إنما يعمل على مثل ذلك إذا علمت صحته بمشاهدة-  أو ما جرى مجراها أو حصلت بينة أو إقرار-  ثم إن البينة لا بد منها-  و إن أمير المؤمنين ع لما خاصمه اليهودي حاكمه-  و أن أم سلمة التي يطبق على فضلها-  لو ادعت نحلا ما قبلت دعواها- .

ثم قال و لو كان أمير المؤمنين ع هو الوالي-  و لم يعلم صحة هذه الدعوى-  ما الذي كان يجب أن يعمل-  فإن قلتم يقبل الدعوى فالشرع بخلاف ذلك-  و إن قلتم يلتمس البينة-  فهو الذي فعله أبو بكر- . ثم قال و أما قول أبي بكر-  رجل مع الرجل و امرأة مع المرأة-  فهو الذي يوجبه الدين-  و لم يثبت أن الشاهد في ذلك كان أمير المؤمنين ع-  بل الرواية المنقولة أنه شهد لها-  مولى لرسول الله ص مع أم أيمن- . قال و ليس لأحد أن يقول-  فلما ذا ادعت و لا بينة معها-  لأنه لا يمتنع أن تجوز-  أن يحكم أبو بكر بالشاهد و اليمين-  أو تجوز عند شهادة من شهد لها أن تذكر غيره فيشهد-  لا و هذا هو الموجب على ملتمس الحق-  و لا عيب عليها في ذلك-  و لا على أبي بكر في التماس البينة-  و إن لم يحكم لها لما لم يتم و لم يكن لها خصم-  لأن التركة صدقة على ما ذكرنا-  و كان لا يمكن أن يعول في ذلك على يمين أو نكول-  و لم يكن في الأمر إلا ما فعله-  قال و قد أنكر أبو علي ما قاله السائل-  من أنها لما ردت في دعوى النحلة ادعته إرثا-  و قال بل كان طلبت الإرث قبل ذلك-  فلما سمعت منه الخبر كفت و ادعت النحلة- .

قال فأما فعل عمر بن عبد العزيز-  فلم يثبت أنه رده على سبيل النحلة-  بل عمل في ذلك ما عمله عمر بن الخطاب-  بأن أقره في يد أمير المؤمنين ع-  ليصرف غلاتها في المواضع-  التي كان يجعلها رسول الله ص فيه-  فقام بذلك مدة ثم ردها إلى عمر في آخر سنته-  و كذلك فعل عمر بن عبد العزيز-  و لو ثبت أنه فعل بخلاف ما فعل السلف-  لكان هو المحجوج بفعلهم و قولهم-  و أحد ما يقوي ما ذكرناه-  أن الأمر لما انتهى إلى أمير المؤمنين ع-  ترك فدك على ما كان و لم يجعله ميراثا لولد فاطمة-  و هذا يبين أن الشاهد كان غيره-  لأنه لو كان هو الشاهد لكان الأقرب أن يحكم بعلمه-  على أن الناس اختلفوا في الهبة إذا لم تقبض-  فعند بعضهم تستحق بالعقد-  و عند بعضهم أنها إذا لم تقبض يصير وجودها كعدمها-  فلا يمتنع من هذا الوجه-  أن يمتنع أمير المؤمنين ع من ردها-  و إن صح عنده عقد الهبة-  و هذا هو الظاهر-  لأن التسليم لو كان وقع لظهر أنه كان في يدها-  و لكان ذلك كافيا في الاستحقاق-  فأما حجر أزواج النبي ص-  فإنما تركت في أيديهن لأنها كانت لهن-  و نص الكتاب يشهد بذلك-  و قوله وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ-  و روي في الأخبار أن النبي ص-  قسم ما كان له من الحجر على نسائه و بناته-  و يبين صحة ذلك أنه لو كان ميراثا أو صدقة-  لكان أمير المؤمنين ع لما أفضى الأمر إليه يغيره- .

قال و ليس لأحد أن يقول-  إنما لم يغير ذلك لأن الملك قد صار له فتبرع به-  و ذلك أن الذي يحصل له ليس-  إلا ربع ميراث فاطمة ع-  و هو الثمن من ميراث رسول الله ص-  فقد كان يجب أن ينتصف لأولاد العباس-  و أولاد فاطمة منهن في باب الحجر-  و يأخذ هذا الحق منهن-  فتركه ذلك يدل على صحة ما قلناه-  و ليس يمكنهم بعد ذلك إلا التعلق بالتقية-  و قد سبق الكلام فيها- .

قال و مما يذكرونه أن فاطمة ع-  لغضبها على أبي بكر و عمر أوصت ألا يصليا عليها-  و أن تدفن سرا منهما فدفنت ليلا-  و هذا كما ادعوا رواية رووها عن جعفر بن محمد ع و غيره-  أن عمر ضرب فاطمة ع بالسوط-  و ضرب الزبير بالسيف-  و أن عمر قصد منزلها و فيه علي ع-  و الزبير و المقداد و جماعة ممن تخلف عن أبي بكر-  و هم مجتمعون هناك-  فقال لها ما أحد بعد أبيك أحب إلينا منك-  و ايم الله لئن اجتمع هؤلاء النفر عندك-  لنحرقن عليهم-  فمنعت القوم من الاجتماع- .

قال و نحن لا نصدق هذه الروايات و لا نجوزها-  و أما أمر الصلاة فقد روي أن أبا بكر-  هو الذي صلى على فاطمة ع و كبر عليها أربعا-  و هذا أحد ما استدل به كثير من الفقهاء-  في التكبير على الميت-  و لا يصح أيضا أنها دفنت ليلا-  و إن صح ذلك فقد دفن رسول الله ص ليلا-  و دفن عمر ابنه ليلا-  و قد كان أصحاب رسول الله ص-  يدفنون بالنهار و يدفنون بالليل-  فما في هذا مما يطعن به-  بل الأقرب في النساء-  أن دفنهن ليلا أستر و أولى بالسنة- .

ثم حكى عن أبي علي تكذيب ما روي من الضرب بالسوط-  قال و المروي عن جعفر بن محمد ع أنه كان يتولاهما-  و يأتي القبر فيسلم عليهما-  مع تسليمه على رسول الله ص-  روى ذلك عباد بن صهيب و شعبة بن الحجاج-  و مهدي بن هلال و الدراوردي و غيرهم-  و قد روى عن أبيه محمد بن علي ع-  و عن علي بن الحسين مثل ذلك-  فكيف يصح ما ادعوه-  و هل هذه الرواية إلا كروايتهم-  على أن علي بن أبي طالب ع هو إسرافيل-  و الحسن ميكائيل و الحسين جبرائيل-  و فاطمة ملك الموت-  و آمنة أم النبي ص ليلة القدر-  فإن صدقوا ذلك أيضا قيل لهم-  فعمر بن الخطاب كيف يقدر على ضرب ملك الموت-  و إن قالوا لا نصدق ذلك-  فقد جوزوا رد هذه الروايات-  و صح أنه لا يجوز التعويل على هذا الخبر-و إنما يتعلق بذلك من غرضه الإلحاد كالوراق- 

و ابن الراوندي-  لأن غرضهم القدح في الإسلام- . و حكى عن أبي علي أنه قال و لم صار غضبها-  إن ثبت كأنه غضب رسول الله ص من حيث قال فمن أغضبها فقد أغضبني أولى من أن يقال-  فمن أغضب أبا بكر و عمر فقد نافق و فارق الدين-  لأنه روي عنه ع قال حب أبي بكر و عمر إيمان و بغضهما نفاق-  و من يورد مثل هذا فقصده الطعن في الإسلام-  و أن يتوهم الناس أن أصحاب النبي ص نافقوا-  مع مشاهدة الأعلام-  ليضعفوا دلالة العلم في النفوس- . قال و أما حديث الإحراق فلو صح لم يكن طعنا على عمر-  لأن له أن يهدد من امتنع من المبايعة-  إرادة للخلاف على المسلمين لكنه غير ثابت-  انتهى كلام قاضي القضاة- .

قال المرتضى نحن نبتدئ فندل على أن فاطمة ع-  ما ادعت من نحل فدك إلا ما كانت مصيبة فيه-  و إن مانعها و مطالبها بالبينة متعنت-  عادل عن الصواب-  لأنها لا تحتاج إلى شهادة و بينة-  ثم نعطف على ما ذكره على التفصيل فنتكلم عليه- . أما الذي يدل على ما ذكرناه-  فهو أنها كانت معصومة من الغلط-  مأمونا منها فعل القبيح-  و من هذه صفته لا يحتاج فيما يدعيه إلى شهادة و بينة فإن قيل دللوا على الأمرين قلنا بيان الأول قوله تعالى-  إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ-  وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً-  و الآية تتناول جماعة منهم فاطمةع-  بما تواترت الأخبار في ذلك-  و الإرادة هاهنا دلالة على وقوع الفعل للمراد-  و أيضا فيدل على ذلك قوله ع فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني-  و من آذاني فقد آذى الله عز و جل-  و هذا يدل على عصمتها-  لأنها لو كانت ممن تقارف الذنوب-  لم يكن من يؤذيها مؤذيا له على كل حال-  بل كان متى فعل المستحق من ذمها أو إقامة الحد عليها-  إن كان الفعل يقتضيه سارا له و مطيعا-  على أنا لا نحتاج أن ننبه هذا الموضع-  على الدلالة على عصمتها-  بل يكفي في هذا الموضع العلم بصدقها فيما ادعته-  و هذا لا خلاف فيه بين المسلمين-  لأن أحدا لا يشك أنها لم تدع ما ادعته كاذبة-  و ليس بعد ألا تكون كاذبة إلا أن تكون صادقة-  و إنما اختلفوا في هل يجب مع العلم بصدقها-  تسلم ما ادعته بغير بينة أم لا يجب ذلك- 

قال الذي يدل على الفصل الثاني-  أن البينة إنما تراد ليغلب في الظن صدق المدعي-  أ لا ترى أن العدالة معتبرة في الشهادات-  لما كانت مؤثرة في غلبة الظن لما ذكرناه-  و لهذا جاز أن يحكم الحاكم بعلمه من غير شهادة-  لأن علمه أقوى من الشهادة-  و لهذا كان الإقرار أقوى من البينة-  من حيث كان أغلب في تأثير غلبة الظن-  و إذا قدم الإقرار على الشهادة لقوة الظن عنده-  فأولى أن يقدم العلم على الجميع-  و إذا لم يحتج مع الإقرار إلى شهادة-  لسقوط حكم الضعيف مع القوي-  لا يحتاج أيضا مع العلم إلى ما يؤثر الظن-  من البينات و الشهادات- . و الذي يدل على صحة ما ذكرناه أيضا-  أنه لا خلاف بين أهل النقل-  في أن أعرابيا نازع النبي ص في ناقة-  فقال ع هذه لي و قد خرجت إليك من ثمنها-  فقال الأعرابي من يشهد لك بذلك-  فقال خزيمة بن ثابت أنا أشهد بذلك-  فقال النبي ص من أين علمت و ما حضرت ذلك-  قال لا و لكن علمت ذلك-  من حيث علمت أنك رسول الله-  فقال قد أجزت شهادتك و جعلتها شهادتين-  فسمي ذا الشهادتين- .

و هذه القصة شبيهة لقصة فاطمة ع-  لأن خزيمة اكتفى في العلم بأن الناقة له ص-  و شهد بذلك من حيث علم لأنه رسول الله ص-  و لا يقول إلا حقا و أمضى النبي ص ذلك له-  من حيث لم يحضر الابتياع و تسليم الثمن-  فقد كان يجب على من علم-  أن فاطمة ع لا تقول إلا حقا-  ألا يستظهر عليها بطلب شهادة أو بينة-  هذا و قد روي أن أبا بكر لما شهد أمير المؤمنين ع-  كتب بتسليم فدك إليها-  فاعترض عمر قضيته و خرق ما كتبه- .

 روى إبراهيم بن السعيد الثقفي عن إبراهيم بن ميمون قال حدثنا عيسى بن عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب ع عن أبيه عن جده عن علي ع قال جاءت فاطمة ع إلى أبي بكر و قالت-  إن أبي أعطاني فدك و علي و أم أيمن يشهدان-  فقال ما كنت لتقولي على أبيك إلا الحق قد أعطيتكها-  و دعا بصحيفة من أدم فكتب لها فيها-  فخرجت فلقيت عمر-  فقال من أين جئت يا فاطمة-  قالت جئت من عند أبي بكر-  أخبرته أن رسول الله ص أعطاني فدك-  و أن عليا و أم أيمن يشهدان لي بذلك-  فأعطانيها و كتب لي بها-  فأخذ عمر منها الكتاب-  ثم رجع إلى أبي بكر فقال-  أعطيت فاطمة فدك و كتبت بها لها قال نعم-  فقال إن عليا يجر إلى نفسه-  و أم أيمن امرأة-  و بصق في الكتاب فمحاه و خرقه- .

و قد روي هذا المعنى من طرق مختلفة على وجوه مختلفة-  فمن أراد الوقوف عليها و استقصاءها-  أخذها من مواضعها- . و ليس لهم أن يقولوا إنها أخبار آحاد-  لأنها و إن كانت كذلك-  فأقل أحوالها أن توجب الظن-  و تمنع من القطع على خلاف معناها-  و ليس لهم أن يقولوا كيف يسلم إليها فدك-  و هو يروي عن الرسول أن ما خلفه صدقة-  و ذلك لأنه لا تنافي بين الأمرين-  لأنه إنما سلمها على ما وردت به الرواية-  على سبيل النحل-  فلما وقعت المطالبة بالميراث روى الخبر في معنى الميراث-  فلا اختلاف بين الأمرين- .

فأما إنكار صاحب الكتاب لكون فدك في يدها-  فما رأيناه اعتمد في إنكار ذلك على حجة-  بل قال لو كان ذلك في يدها لكان الظاهر أنها لها-  و الأمر على ما قال-  فمن أين أنه لم يخرج عن يدها-  على وجه يقتضي الظاهر خلافه-  و قد روي من طرق مختلفة-  غير طريق أبي سعيد الذي ذكره صاحب الكتاب-  أنه لما نزل قوله تعالى-  وَ آتِ ذَا الْقُرْبى‏ حَقَّهُ-  دعا النبي ص فاطمة ع فأعطاها فدك-  و إذا كان ذلك مرويا فلا معنى لدفعه بغير حجة- .

و قوله لا خلاف أن العمل على الدعوى لا يجوز صحيح-  و قد بينا أن قولها كان معلوما صحته-  و إنما قوله إنما يعمل على ذلك متى علم صحته بشهادة-  أو ما يجري مجراها-  أو حصلت بينة أو إقرار-  فيقال له إما علمت بمشاهدة فلم يكن هناك-  و إما بينة فقد كانت على الحقيقة-  لأن شهادة أمير المؤمنين ع-  من أكبر البينات و أعدلها-  و لكن على مذهبك أنه لم تكن هناك بينة-  فمن أين زعمت أنه لم يكن هناك علم-  و إن لم يكن عن مشاهدة-  فقد أدخلت ذلك في جملة الأقسام- .

فإن قال لأن قولها بمجرده لا يكون جهة للعلم-  قيل له لم قلت ذلك أو ليس قد دللنا على أنها معصومة-  و أن الخطأ مأمون عليها ثم لو لم يكن كذلك-  لكان قولها في تلك القضية معلوما صحته على كل حال-  لأنها لو لم تكن مصيبة لكانت مبطلة عاصية فيما ادعته-  إذ الشبهة لا تدخل في مثله-  و قد أجمعت الأمة-  على أنها لم يظهر منها بعد رسول الله ص معصية-  بلا شك و ارتياب-  بل أجمعوا على أنها لم تدع إلا الصحيح-  و إن اختلفوا فمن قائل يقول مانعها مخطئ-  و آخر يقول هو أيضا مصيب-  لفقد البينة و إن علم صدقها- . و أما قوله إنه لو حاكم غيره لطولب بالبينة-  فقد تقدم في هذا المعنى ما يكفي-  و قصة خزيمة بن ثابت-  و قبول شهادته تبطل هذا الكلام- .

و أما قوله إن أمير المؤمنين ع حاكم يهوديا-  على الوجه الواجب في سائر الناس-  فقد روي ذلك إلا أن أمير المؤمنين لم يفعل من ذلك-  ما كان يجب عليه أن يفعله-  و إنما تبرع به و استظهر بإقامة الحجة فيه-  و قد أخطأ من طالبه ببينة كائنا من كان-  فأما اعتراضه بأم سلمة-  فلم يثبت من عصمتها ما ثبت من عصمة فاطمة ع-  فلذلك احتاجت في دعواها إلى بينة-  فأما إنكاره و ادعاؤه أنه لم يثبت-  أن الشاهد في ذلك كان أمير المؤمنين-  فلم يزد في ذلك إلا مجرد الدعوى و الإنكار-  و الأخبار مستفيضة بأنه ع شهد لها-  فدفع ذلك بالزيغ لا يغني شيئا-  و قوله إن الشاهد لها مولى لرسول الله ص-  هو المنكر الذي ليس بمعروف- .

و أما قوله-  إنها جوزت أن يحكم أبو بكر بالشاهد و اليمين فطريف-  مع قوله فيما بعد إن التركة صدقة و لا خصم فيها-  فتدخل اليمين في مثلها-  أ فترى أن فاطمة لم تكن تعلم من الشريعة هذا المقدار-  الذي نبه صاحب الكتاب عليه-  و لو لم تعلمه ما كان أمير المؤمنين ع-  و هو أعلم الناس بالشريعة يوافقها عليه- .

و قوله إنها جوزت عند شهادة من شهد لها-  أن يتذكر غيرهم فيشهد باطل-  لأن مثلها لا يتعرض للظنة و التهمة-  و يعرض قوله للرد-  و قد كان يجب أن تعلم من يشهد لها ممن لا يشهد-  حتى تكون دعواها على الوجه-  الذي يجب معه القبول و الإمضاء-  و من هو دونها في الرتبة و الجلالة-  و الصيانة من أفناء الناس-  لا يتعرض لمثل هذه الخطة و يتورطها-  للتجويز الذي لا أصل له و لا أمارة عليه- . فأما إنكار أبي علي-  لأن يكون النحل قبل ادعاء الميراث-  و عكسه الأمر فيه-  فأول ما فيه أنا لا نعرف له غرضا صحيحا في إنكار ذلك-  لأن كون أحد الأمرين قبل الآخر-  لا يصحح له مذهبا-  فلا يفسد على مخالفه مذهبا- .

ثم إن الأمر في أن الكلام في النحل كان المتقدم ظاهرا-  و الروايات كلها به واردة-  و كيف يجوز أن تبتدئ بطلب الميراث-  فيما تدعيه بعينه نحلا-  أ و ليس هذا يوجب أن تكون قد طالبت بحقها-  من وجه لا تستحقه منه مع الاختيار-  و كيف يجوز ذلك و الميراث يشركها فيه غيرها-  و النحل تنفرد به-  و لا ينقلب مثل ذلك علينا-  من حيث طالبت بالميراث بعد النحل-  لأنها في الابتداء طالبت بالنحل-  و هو الوجه الذي تستحق فدك منه-  فلما دفعت عنه طالبت ضرورة بالميراث-  لأن للمدفوع عن حقه-  أن يتوصل إلى تناوله بكل وجه و سبب-  و هذا بخلاف قول أبي علي-  لأنه أضاف إليها ادعاء الحق من وجه لا تستحقه منه و هي مختارة- .

و أما إنكاره أن يكون عمر بن عبد العزيز-  رد فدك على وجه النحل-  و ادعاؤه أنه فعل في ذلك ما فعله عمر بن الخطاب-  من إقرارها في يد أمير المؤمنين ع-  ليصرف غلاتها في وجوهها-  فأول ما فيه أنا لا نحتج عليه بفعل عمر بن عبد العزيز-  على أي وجه وقع-  لأن فعله ليس بحجة-  و لو أردنا الاحتجاج بهذا الجنس من الحجج-  لذكرنا فعل المأمون-  فإنه رد فدك بعد أن جلس مجلسا مشهورا-  حكم فيه بين خصمين نصبهما-  أحدهما لفاطمة و الآخر لأبي بكر-  و ردها بعد قيام الحجة و وضوح الأمر و مع ذلك فإنه قد أنكر من فعل عمر بن عبد العزيز-  ما هو معروف مشهور بلا خلاف بين أهل النقل فيه-  و قد روى محمد بن زكريا الغلابي عن شيوخه-  عن أبي المقدام هشام بن زياد مولى آل عثمان- 

قال لما ولي عمر بن عبد العزيز رد فدك على ولد فاطمة-  و كتب إلى واليه على المدينة-  أبي بكر بن عمرو بن حزم يأمره بذلك-  فكتب إليه إن فاطمة قد ولدت في آل عثمان-  و آل فلان و فلان فعلى من أرد منهم-  فكتب إليه أما-  بعد فإني لو كتبت إليك-  آمرك أن تذبح شاة لكتبت إلي أ جماء أم قرناء-  أو كتبت إليك أن تذبح بقرة لسألتني ما لونها-  فإذا ورد عليك كتابي هذا فاقسمها في ولد فاطمة ع-  من علي ع و السلام- . قال أبو المقدام فنقمت بنو أمية ذلك-  على عمر بن عبد العزيز و عاتبوه فيه-  و قالوا له هجنت فعل الشيخين-  و خرج إليه عمر بن قيس في جماعة من أهل الكوفة-  فلما عاتبوه على فعله قال-  إنكم جهلتم و علمت و نسيتم و ذكرت-  إن أبا بكر محمد بن عمرو بن حزم حدثني عن أبيه عن جده-  أن رسول الله ص قال فاطمة بضعة مني يسخطها ما يسخطني-  و يرضيني ما أرضاها-  و إن فدك كان صافية على عهد أبي بكر و عمر- 

ثم صار أمرها إلى مروان-  فوهبها لعبد العزيز أبي-  فورثتها أنا و إخوتي عنه-  فسألتهم أن يبيعوني حصتهم منها-  فمن بائع و واهب حتى استجمعت لي-  فرأيت أن أردها على ولد فاطمة-  قالوا فإن أبيت إلا هذا فأمسك الأصل-  و اقسم الغلة ففعل- . و أما ما ذكره من ترك أمير المؤمنين ع فدك-  لما أفضى الأمر إليه-  و استدلاله بذلك على أنه لم يكن الشاهد فيها-  فالوجه في تركه ع رد فدك-  هو الوجه في إقراره‏ أحكام القوم-  و كفه عن نقضها و تغييرها و قد بينا ذلك فيما سبق-  و ذكرنا أنه كان في انتهاء الأمر إليه-  في بقية من التقية قوية- . فأما استدلاله على أن حجر أزواج النبي ص-  كانت لهن بقوله تعالى-  وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ-  فمن عجيب الاستدلال-  لأن هذه الإضافة لا تقتضي الملك-  بل العادة جارية فيها أن تستعمل من جهة السكنى-  و لهذا يقال هذا بيت فلان و مسكنه-  و لا يراد بذلك الملك و قد قال تعالى-  لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَ لا يَخْرُجْنَ-  إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ-  و لا شبهة في أنه تعالى-  أراد منازل الرجال التي يسكنون فيها زوجاتهم-  و لم يرد بهذه الإضافة الملك- . فأما ما رواه من أن رسول الله ص-  قسم حجره على نسائه و بناته-  فمن أين له إذا كان الخبر صحيحا-  أن هذه القسمة على وجه التمليك-  دون الإسكان و الإنزال-  و لو كان قد ملكهن ذلك-  لوجب أن يكون ظاهرا مشهورا- . فأما الوجه في ترك أمير المؤمنين لما صار الأمر إليه في يده-  منازعة الأزواج في هذه الحجر فهو ما تقدم و تكرر- .

و أما قوله إن أبا بكر هو الذي صلى على فاطمة و كبر أربعا-  و إن كثيرا من الفقهاء-  يستدلون به في التكبير على الميت-  و هو شي‏ء ما سمع إلا منه-  و إن كان تلقاه عن غيره فممن يجري مجراه في العصبية-  و إلا فالروايات المشهورة و كتب الآثار و السير-  خالية من ذلك-  و لم يختلف أهل النقل-  في أن عليا ع هو الذي صلى على فاطمة-  إلا رواية نادرة شاذة-  وردت بأن العباس رحمه الله صلى عليها- . و روى الواقدي بإسناده في تاريخه عن الزهري-  قال سألت ابن عباس-متى دفنتم فاطمة ع-  قال دفناها بليل بعد هدأة-  قال قلت فمن صلى عليها قال علي- . و روى الطبري عن الحارث بن أبي أسامة-  عن المدائني عن أبي زكريا العجلاني-  أن فاطمة ع عمل لها نعش قبل وفاتها-  فنظرت إليه فقالت سترتموني ستركما الله- .

قال أبو جعفر محمد بن جرير-  و الثبت في ذلك أنها زينب لأن فاطمة دفنت ليلا-  و لم يحضرها إلا علي و العباس و المقداد و الزبير- . و روى القاضي أبو بكر أحمد بن كامل-  بإسناده في تاريخه عن الزهري-  قال حدثني عروة بن الزبير أن عائشة أخبرته-  أن فاطمة عاشت بعد رسول الله ص ستة أشهر-  فلما توفيت دفنها علي ليلا و صلى عليها-  و ذكر في كتابه هذا-  أن عليا و الحسن و الحسين ع دفنوها ليلا-  و غيبوا قبرها- . و روى سفيان بن عيينة-  عن عمرو بن عبيد عن الحسن بن محمد بن الحنفية-  أن فاطمة دفنت ليلا- . و روى عبد الله بن أبي شيبة عن يحيى بن سعيد القطان-  عن معمر عن الزهري مثل ذلك- .

و قال البلاذري في تاريخه-  إن فاطمة ع لم تر متبسمة بعد وفاة النبي ص-  و لم يعلم أبو بكر و عمر بموتها- . و الأمر في هذا أوضح و أشهر-  من أن نطنب في الاستشهاد عليه-  و نذكر الروايات فيه-فأما قوله و لا يصح أنها دفنت ليلا و إن صح-  فقد دفن فلان و فلان ليلا-  فقد بينا أن دفنها ليلا في الصحة أظهر من الشمس-  و أن منكر ذلك كالدافع للمشاهدات-  و لم يجعل دفنها ليلا بمجرده هو الحجة-  ليقال لقد دفن فلان و فلان ليلا-  بل يقع الاحتجاج بذلك-  على ما وردت به الروايات المستفيضة الظاهرة التي هي كالتواتر-  أنها أوصت بأن تدفن ليلا-  حتى لا يصلي الرجلان عليها-  و صرحت بذلك و عهدت فيه عهدا-  بعد أن كانا استأذنا عليها في مرضها ليعوداها-  فأبت أن تأذن لهما-  فلما طالت عليهما المدافعة-  رغبا إلى أمير المؤمنين ع في أن يستأذن لهما-  و جعلاها حاجة إليه-  و كلمها ع في ذلك و ألح عليها-  فأذنت لهما في الدخول-  ثم أعرضت عنهما عند دخولهما و لم تكلمهما-  فلما خرجا قالت لأمير المؤمنين ع-  هل صنعت ما أردت قال نعم-  قالت فهل أنت صانع ما آمرك به قال نعم-  قالت فإني أنشدك الله-  ألا يصليا على جنازتي و لا يقوما على قبري- .

و روى أنه عفى قبرها و علم عليه-  و رش أربعين قبرا في البقيع-  و لم يرش قبرها حتى لا يهتدى إليه-  و أنهما عاتباه على ترك إعلامهما بشأنها-  و إحضارهما الصلاة عليها-  فمن هاهنا احتججنا بالدفن ليلا-  و لو كان ليس غير الدفن بالليل-  من غير ما تقدم عليه و ما تأخر عنه-  لم يكن فيه حجة- .

و أما حكايته عن أبي علي إنكار ضرب الرجل لها-  و قوله إن جعفر بن محمد و أباه و جده كانوا يتولونهما-  فكيف لا ينكر أبو علي ذلك-  و اعتقاده فيهما اعتقاده-  و قد كنا نظن أن مخالفينا يقتنعون-  أن ينسبوا إلى أئمتنا الكف عن القوم و الإمساك-  و ما ظننا أنهم يحملون أنفسهم-  على أن ينسبوا إليهم الثناء و الولاء-و قد علم كل أحد أن أصحاب هؤلاء السادة المختصين بهم-  قد رووا عنهم ضد ما روى شعبة بن الحجاج و فلان و فلان-  و قولهم هما أول من ظلمنا حقنا و حمل الناس على رقابنا-  و قولهم أنهما أصفيا بإنائنا و اضطجعا بسبلنا-  و جلسا مجلسا نحن أحق به منهما-  إلى غير ذلك من فنون التظلم و الشكاية-  و هو طويل متسع-  و من أراد استقصاء ذلك فلينظر في كتاب المعرفة-  لأبي إسحاق إبراهيم بن سعيد الثقفي-  فإنه قد ذكر عن رجل من أهل البيت-  بالأسانيد النيرة ما لا زيادة عليه-  ثم لو صح ما ذكره شعبة لجاز أن يحمل على التقية- . و أما ذكره إسرافيل و ميكائيل-  فما كنا نظن أن مثله يذكر ذلك-  و هذا من أقوال الغلاة-  الذين ضلوا في أمير المؤمنين ع و أهل البيت-  و ليسوا من الشيعة و لا من المسلمين-  فأي عيب علينا فيما يقولونه-  ثم إن جماعة من مخالفينا قد غلوا في أبي بكر و عمر-  و رووا روايات مختلفة فيهما-  تجري مجرى ما ذكره في الشناعة-  و لا يلزم العقلاء و ذوي الألباب من المخالفين عيب من ذلك- . و أما معارضة ما روي في فاطمة ع-  بما روي في أن حبهما إيمان و بغضهما نفاق-  فالخبر الذي رويناه مجمع عليه-  و الخبر الآخر مطعون فيه-  فكيف يعارض ذلك بهذا- .

و أما قوله إنما قصد من يورد هذه الأخبار-  تضعيف دلالة الأعلام في النفوس-  من حيث أضاف النفاق إلى من شاهدها-  فتشنيع في غير موضعه-  و استناد إلى ما لا يجدي نفعا-  لأن من شاهد الأعلام لا يضعفها و لا يوهن دليلها-  و لا يقدح في كونها حجة-  لأن الأعلام ليست ملجئة إلى العلم-  و لا موجبة لحصوله على كل حال-  و إنما تثمر العلم لمن أمعن النظر فيها-  من الوجه الذي تدل منه-  فمن عدل عن ذلك لسوء اختياره-  لا يكون‏ عدوله مؤثرا في دلالتها-  فكم قد عدل من العقلاء و ذوي الأحلام الراجحة-  و الألباب الصحيحة عن تأمل هذه الأعلام و إصابة الحق منها-  و لم يكن ذلك عندنا و عند صاحب الكتاب-  قادحا في دلالة الأعلام-  على أن هذا القول يوجب أن ينفي الشك و النفاق-  عن كل من صحب النبي ص-  و عاصره و شاهد أعلامه كأبي سفيان و ابنه-  و عمرو بن العاص و فلان و فلان-  ممن قد اشتهر نفاقهم و ظهر شكهم في الدين-  و ارتيابهم باتفاق بيننا و بينه-  و إن كانت إضافة النفاق إلى هؤلاء-  لا تقدح في دلالة الأعلام فكذلك القول في غيرهم- . فأما قوله إن حديث الإحراق لم يصح-  و لو صح لساغ لعمر مثل ذلك-  فقد بينا أن خبر الإحراق قد رواه غير الشيعة- .

و قوله إنه يسوغ مثل ذلك-  فكيف يسوغ إحراق بيت علي و فاطمة ع-  و هل في ذلك عذر يصغى إليه أو يسمع-  و إنما يكون علي و أصحابه خارقين للإجماع-  و مخالفين للمسلمين-  لو كان الإجماع قد تقرر و ثبت-  و ليس بمتقرر و لا ثابت مع خلاف علي وحده-  فضلا عن أن يوافقه على ذلك غيره-  و بعد فلا فرق بين أن يهدد بالإحراق لهذه العلة-  و بين أن يضرب فاطمة ع لمثلها-  فإن إحراق المنازل أعظم من ضرب سوط أو سوطين-  فلا وجه لامتعاض المخالف من حديث الضرب-  إذا كان عنده مثل هذا الاعتذار قلت أما الكلام في عصمة فاطمة ع-  فهو بفن الكلام أشبه-  و للقول فيه موضع غير هذا- .

و أما قول المرتضى-  إذا كانت صادقة لم يبق حاجة إلى من يشهد لها-  فلقائل أن‏يقول لم قلت ذلك-  و لم زعمت أن الحاجة إلى البينة-  إنما كانت لزيادة غلبة الظن-  و لم لا يجوز أن يكون الله تعالى يعبد بالبينة-  لمصلحة يعلمها-  و إن كان المدعي لا يكذب-  أ ليس قد تعبد الله تعالى بالعدة في العجوز-  التي قد أيست من الحمل-  و إن كان أصل وضعها لاستبراء الرحم- . و أما قصة خزيمة بن ثابت-  فيجوز أن يكون الله تعالى قد علم-  أن مصلحة المكلفين في تلك الصورة-  أن يكتفى بدعوى النبي ص وحدها-  و يستغنى فيها عن الشهادة- . و لا يمتنع أن يكون غير تلك الصورة مخالفا لها-  و إن كان المدعي لا يكذب-  و يبين ذلك أن مذهب المرتضى-  جواز ظهور خوارق العادات على أيدي الأئمة و الصالحين-  و لو قدرنا أن واحدا من أهل الصلاح و الخير ادعى دعوى-  و قال بحضرة جماعة من الناس من جملتهم القاضي-  اللهم إن كنت صادقا فأظهر علي معجزة خارقة للعادة-  فظهرت عليه لعلمنا أنه صادق-  و مع ذلك لا تقبل دعواه إلا ببينة- . و سألت علي بن الفارقي مدرس المدرسة الغربية ببغداد-  فقلت له أ كانت فاطمة صادقة قال نعم-  قلت فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدك و هي عنده صادقة-  فتبسم ثم قال كلاما لطيفا مستحسنا-  مع ناموسه و حرمته و قلة دعابته-  قال لو أعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها-  لجاءت إليه غدا و ادعت لزوجها الخلافة-  و زحزحته عن مقامه-  و لم يكن يمكنه الاعتذار و الموافقة بشي‏ء-  لأنه يكون قد أسجل على نفسه أنها صادقة فيها تدعي-  كائنا ما كان من غير حاجة إلى بينة و لا شهود-  و هذا كلام صحيح-  و إن كان أخرجه مخرج الدعابة و الهزل- .

فأما قول قاضي القضاة-  لو كان في يدها لكان الظاهر أنها لها-  و اعتراض المرتضى عليه بقوله-  إنه لم يعتمد في إنكار ذلك على حجة-  بل قال لو كانت في يدها لكان الظاهر إنها لها-  و الأمر على ما قال-  فمن أين أنها لم تخرج عن يدها على وجه-  كما أن الظاهر يقتضي خلافه-  فإنه لم يجب عما ذكره قاضي القضاة-  لأن معنى قوله إنها لو كانت في يدها أي متصرفة فيها-  لكانت اليد حجة في الملكية-  لأن اليد و التصرف حجة لا محالة-  فلو كانت في يدها تتصرف فيها و في ارتفاقها-  كما يتصرف الناس في ضياعهم و أملاكهم-  لما احتاجت إلى الاحتجاج بآية الميراث-  و لا بدعوى النحل لأن اليد حجة-  فهلا قالت لأبي بكر هذه الأرض في يدي-  و لا يجوز انتزاعها مني إلا بحجة-  و حينئذ كان يسقط احتجاج أبي بكر بقوله-  نحن معاشر الأنبياء لا نورث-  لأنها ما تكون قد ادعتها ميراثا ليحتج عليها بالخبر-  و خبر أبي سعيد في قوله فأعطاها فدك-  يدل على الهبة لا على القبض و التصرف-  و لأنه يقال أعطاني فلان كذا فلم أقبضه-  و لو كان الإعطاء هو القبض و التصرف-  لكان هذا الكلام متناقضا- .

فأما تعجب المرتضى من قول أبي علي-  إن دعوى الإرث كانت متقدمة على دعوى النحل-  و قوله إنا لا نعرف له غرضا في ذلك-  فإنه لا يصح له بذلك مذهب-  و لا يبطل على مخالفيه مذهب-  فإن المرتضى لم يقف على مراد الشيخ أبي علي في ذلك-  و هذا شي‏ء يرجع إلى أصول الفقه-  فإن أصحابنا استدلوا-  على جواز تخصيص الكتاب بخبر الواحد بإجماع الصحابة-  لأنهم أجمعوا على تخصيص قوله تعالى-  يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ

 برواية أبي بكر عن النبي ص لا نورث ما تركناه صدقة

–  قالوا و الصحيح في الخبر أن فاطمة ع-  طالبت بعد ذلك بالنحل لا بالميراث-  فلهذا قال الشيخ أبو علي-  إن دعوى الميراث تقدمت على دعوى النحل-  و ذلك لأنه ثبت أن فاطمة-  انصرفت عن ذلك المجلس غير راضية و لا موافقة لأبي بكر-  فلو كانت دعوى الإرث متأخرة-  و انصرفت عن سخط-  لم يثبت الإجماع على تخصيص الكتاب بخبر الواحد-  أما إذا كانت دعوى الإرث متقدمة فلما روى لها الخبر-  أمسكت و انتقلت إلى النزاع من جهة أخرى-  فإنه يصح حينئذ الاستدلال بالإجماع-  على تخصيص الكتاب بخبر الواحد- .

فأما أنا فإن الأخبار عندي متعارضة-  يدل بعضها على أن دعوى الإرث متأخرة-  و يدل بعضها على أنها متقدمة-  و أنا في هذا الموضع متوقف- . و ما ذكره المرتضى من أن الحال تقتضي-  أن تكون البداية بدعوى النحل فصحيح-  و أما إخفاء القبر و كتمان الموت و عدم الصلاة-  و كل ما ذكره المرتضى فيه فهو الذي يظهر و يقوى عندي-  لأن الروايات به أكثر و أصح من غيرها-  و كذلك القول في موجدتها و غضبها-  فأما المنقول عن رجال أهل البيت فإنه يختلف-  فتارة و تارة و على كل حال-  فميل أهل البيت إلى ما فيه نصرة أبيهم و بيتهم- .

و قد أخل قاضي القضاة بلفظة حكاها عن الشيعة-  فلم يتكلم عليها و هي لفظة جيدة-  قال قد كان الأجمل أن يمنعهم التكرم-  مما ارتكبا منها فضلا عن الدين-  و هذا الكلام لا جواب عنه-  و لقد كان التكرم و رعاية حق رسول الله ص-  و حفظ عهده يقتضي أن تعوض ابنته بشي‏ء يرضيها-  إن لم يستنزل المسلمون عن فدك-  و تسلم إليها تطييبا لقلبها-  و قد يسوغ للإمام أن يفعل ذلك-  من غير مشاورة المسلمين إذا رأى المصلحة فيه-  و قد بعد العهد الآن بيننا و بينهم-  و لا نعلم حقيقة ما كان و إلى الله نرجع الأمور

وَ لَوْ شِئْتُ لَاهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ إِلَى مُصَفَّى هَذَا الْعَسَلِ-  وَ لُبَابِ هَذَا الْقَمْحِ وَ نَسَائِجِ هَذَا الْقَزِّ-  وَ لَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ-  وَ يَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الْأَطْعِمَةِ-  وَ لَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ بِالْيَمَامَةِ مَنْ لَا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ-  وَ لَا عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ-  أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَ حَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى-  وَ أَكْبَادٌ حَرَّى أَوْ أَكُونَ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ- 

وَ حَسْبُكَ عَاراً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَةٍ
وَ حَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلَى الْقِدِّ

أَ أَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ-  هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ-  وَ لَا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ-  أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ-  فَمَا خُلِقْتُ لِيَشْغَلَنِي أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ-  كَالْبَهِيمَةِ الْمَرْبُوطَةِ هَمُّهَا عَلَفُهَا-  أَوِ الْمُرْسَلَةِ شُغُلُهَا تَقَمُّمُهَا-  تَكْتَرِشُ مِنْ أَعْلَافِهَا وَ تَلْهُو عَمَّا يُرَادُ بِهَا-  أَوْ أُتْرَكَ سُدًى أَوْ أُهْمَلَ عَابِثاً-  أَوْ أَجُرَّ حَبْلَ الضَّلَالَةِ أَوْ أَعْتَسِفَ طَرِيقَ الْمَتَاهَةِ قد روي و لو شئت لاهتديت إلى هذا العسل المصفى-  و لباب هذا البر المنقى فضربت هذا بذاك-  حتى ينضج وقودا و يستحكم معقودا- .

و روي و لعل بالمدينة يتيما تربا يتضور سغبا-  أ أبيت مبطانا و حولي بطون غرثى-  إذن يحضرني يوم القيامة و هم من ذكر و أنثى- . و روي بطون غرثى-  بإضافة بطون إلى غرثى- . و القمح الحنطة- . و الجشع أشد الحرص- . و المبطان الذي لا يزال عظيم البطن من كثرة الأكل-  فأما المبطن فالضامر البطن-  و أما البطين فالعظيم البطن لا من الأكل-  و أما البطن فهو الذي لا يهمه إلا بطنه-  و أما المبطون فالعليل البطن-  و بطون غرثى جائعة و البطنة الكظة-  و ذلك أن يمتلئ الإنسان من الطعام امتلاء شديدا-  و كان يقال ينبغي للإنسان أن يجعل وعاء بطنه أثلاثا-  فثلث للطعام و ثلث للشراب و ثلث للنفس- .

 

و التقمم أكل الشاة ما بين يديها بمقمتها أي بشفتها-  و كل ذي ظلف كالثور و غيره فهو ذو مقمة- . و تكترش من أعلافها تملأ كرشها من العلف- . قوله أو أجر حبل الضلالة-  منصوب بالعطف على يشغلني-  و كذلك أترك و يقال أجررته رسنه إذا أهملته- . و الاعتساف السلوك في غير طريق واضح- . و المتاهة الأرض يتاه فيها أي يتحير- . و في قوله لو شئت لاهتديت-  شبه من قول عمر-  لو نشاء لملأنا هذا الرحاب من صلائق و صناب-  و قد ذكرناه فيما تقدم- . و هذا البيت من أبيات منسوبة-  إلى حاتم بن عبد الله الطائي الجواد و أولها- 

   أيا ابنة عبد الله و ابنة مالك
و يا ابنة ذي الجدين و الفرس الورد

إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له‏
أكيلا فإني لست آكله وحدي‏

قصيا بعيدا أو قريبا فإنني
أخاف مذمات الأحاديث من بعدي‏

كفى بك عارا أن تبيت ببطنة
و حولك أكباد تحن إلى القد

و إني لعبد الضيف ما دام نازلا
و ما من خلالي غيرها شيمة العبد

وَ كَأَنِّي بِقَائِلِكُمْ يَقُولُ-  إِذَا كَانَ هَذَا قُوتَ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ-  فَقَدْ قَعَدَ بِهِ الضَّعْفُ عَنْ قِتَالِ الْأَقْرَانِ-  وَ مُنَازَلَةِ الشُّجْعَانِ-  أَلَا وَ إِنَّ الشَّجَرَةَ الْبَرِّيَّةَ أَصْلَبُ عُوداً-  وَ الرَّوَاتِعَ الْخَضِرَةَ أَرَقُّ جُلُوداً-  وَ النَّابِتَاتِ الْعِذْيَةَ أَقْوَى وَقُوداً وَ أَبْطَأُ خُمُوداً- . وَ أَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ كَالضَّوْءِ مِنَ الضَّوْءِ-  وَ الذِّرَاعِ مِنَ الْعَضُدِ-  وَ اللَّهِ لَوْ تَظَاهَرَتِ الْعَرَبُ عَلَى قِتَالِي لَمَا وَلَّيْتُ عَنْهَا-  وَ لَوْ أَمْكَنَتِ الْفُرَصُ مِنْ رِقَابِهَا لَسَارَعْتُ إِلَيْهَا-  وَ سَأَجْهَدُ فِي أَنْ أُطَهِّرَ الْأَرْضَ مِنْ هَذَا الشَّخْصِ الْمَعْكُوسِ-  وَ الْجِسْمِ الْمَرْكُوسِ-  حَتَّى تَخْرُجَ الْمَدَرَةُ مِنْ بَيْنِ حَبِّ الْحَصِيدِ الشجرة البرية التي تنبت في البر الذي لا ماء فيه-  فهي أصلب عودا من الشجرة التي تنبت في الأرض الندية-  و إليه وقعت الإشارة بقوله-  و الرواتع الخضرة أرق جلودا- .

ثم قال و النابتات العذية التي تنبت عذيا-  و العذي بسكون الذال الزرع لا يسقيه إلا ماء المطر-  و هو يكون أقل أخذا من الماء من النبت سقيا-  قال ع إنها تكون أقوى وقودا-  مما يشرب الماء السائح أو ماء الناضح-  و أبطأ خمودا و ذلك لصلابة جرمها- . ثم قال و أنا من رسول الله ص-  كالضوء من الضوء و الذراع من العضد-و ذلك لأن الضوء الأول يكون علة في الضوء الثاني-  أ لا ترى أن الهواء المقابل للشمس-  يصير مضيئا من الشمس-  فهذا الضوء هو الضوء الأول ثم إنه يقابل وجه الأرض فيضي‏ء وجه الأرض منه-  فالضوء الذي على وجه الأرض هو الضوء الثاني-  و ما دام الضوء الأول ضعيفا فالضوء الثاني ضعيف-  فإذا ازداد الجو إضاءة-  ازداد وجه الأرض إضاءة-  لأن المعلول يتبع العلة-  فشبه ع نفسه بالضوء الثاني-  و شبه رسول الله ص بالضوء الأول-  و شبه منبع الأضواء و الأنوار سبحانه-  و جلت أسماؤه بالشمس التي توجب الضوء الأول-  ثم الضوء الأول يوجب الضوء الثاني-  و هاهنا نكتة-  و هي أن الضوء الثاني يكون أيضا علة لضوء ثالث-  و ذلك أن الضوء الحاصل على وجه الأرض-  و هو الضوء الثاني-  إذا أشرق على جدار مقابل ذلك الجدار-  قريبا منه مكان مظلم-  فإن ذلك المكان يصير مضيئا بعد أن كان مظلما-  و إن كان لذلك المكان المظلم باب-  و كان داخل البيت مقابل ذلك الباب جدار-  كان ذلك الجدار أشد إضاءة من باقي البيت-  ثم ذلك الجدار إن كان فيه ثقب إلى موضع آخر-  كان ما يحاذي ذلك البيت-  أشد إضاءة مما حواليه-  و هكذا لا تزال الأضواء-  يوجب بعضها بعضا على وجه الانعكاس بطريق العلية-  و بشرط المقابلة و لا تزال تضعف درجة درجة-  إلى أن تضمحل و يعود الأمر إلى الظلمة-  و هكذا عالم العلوم-  و الحكم المأخوذة من أمير المؤمنين ع-  لا تزال تضعف كما انتقلت من قوم إلى قوم-  إلى أن يعود الإسلام غريبا كما بدأ-  بموجب الخبر النبوي الوارد في الصحاح- . و أما قوله و الذراع من العضد-  فلأن الذراع فرع على العضد و العضد أصل-  أ لا ترى أنه لا يمكن أن يكون ذراع إلا إذا كان عضد-  و يمكن أن يكون عضد لا ذراع له-  و لهذا قال الراجز لولده- 

يا بكر بكرين و يا خلب الكبد
أصبحت مني كذراع من عضد

 

فشبه ع بالنسبة إلى رسول الله ص بالذراع-  الذي العضد أصله و أسه-  و المراد من هذا التشبيه-  الإبابة عن شدة الامتزاج و الاتحاد و القرب بينهما-  فإن الضوء الثاني شبيه بالضوء الأول-  و الذراع متصل بالعضد اتصالا بينا-  و هذه المنزلة قد أعطاه إياها رسول الله ص-  في مقامات كثيرة نحو قوله في قصة براءة قد أمرت أن لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل منيو قولهلتنتهن يا بني وليعة-  أو لأبعثن إليكم رجلا مني-  أو قال عديل نفسي-  و قد سماه الكتاب العزيز نفسه-  فقال وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ و قد قال له لحمك مختلط بلحمي-  و دمك مسوط بدمي و شبرك و شبري واحد- .

فإن قلت أما قوله-  لو تظاهرت العرب علي لما وليت عنها فمعلوم-  فما الفائدة في قوله-  و لو أمكنت الفرصة من رقابها لسارعت إليها-  و هل هذا مما يفخر به الرؤساء و يعدونه منقبة-  و إنما المنقبة أن لو أمكنته الفرصة تجاوز و عفا- . قلت غرضه أن يقرر في نفوس أصحابه-  و غيرهم من العرب أنه يحارب على حق-  و أن حربه لأهل الشام كالجهاد أيام رسول الله ص-  و أن من يجاهد الكفار يجب عليه أن يغلظ عليهم-  و يستأصل شأفتهم-  أ لا ترى أن رسول الله ص لما جاهد بني قريظة-  و ظفر لم يبق و لم يعف-  و حصد في يوم واحد رقاب ألف إنسان صبرا في مقام واحد-  لما علم في ذلك من إعزاز الدين و إذلال المشركين-  فالعفو له مقام و الانتقام له مقام- .

قوله و سأجهد في أن أطهر الأرض-  الإشارة في هذا إلى معاوية-  سماه شخصا معكوسا و جسما مركوسا-  و المراد انعكاس عقيدته و أنها ليست عقيدة هدى-  بل هي معاكسة للحق و الصواب-  و سماه مركوسا من قولهم ارتكس في الضلال-  و الركس‏ رد الشي‏ء مقلوبا قال تعالى-  وَ اللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أي قلبهم-  و ردهم إلى كفرهم-  فلما كان تاركا للفطرة التي كل مولود يولد عليها-  كان مرتكسا في ضلالة-  و أصحاب التناسخ يفسرون هذا بتفسير آخر-  قالوا الحيوان على ضربين منتصب و منحن-  فالمنتصب الإنسان-  و المنحني ما كان رأسه منكوسا إلى جهة الأرض-  كالبهائم و السباع- .

قالوا و إلى ذلك وقعت الإشارة بقوله-  أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى‏ وَجْهِهِ أَهْدى‏-  أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ- . قالوا فأصحاب الشقاوة-  تنتقل أنفسهم عند الموت إلى الحيوان المكبوب-  و أصحاب السعادة تنتقل أنفسهم إلى الحيوان المنتصب-  و لما كان معاوية عنده ع من أهل الشقاوة-  سماه معكوسا و مركوسا رمزا إلى هذا المعنى- . قوله حتى تخرج المدرة من بين حب الحصيد-  أي حتى يتطهر الدين و أهله منه-  و ذلك لأن الزراع يجتهدون في إخراج المدر-  و الحجر و الشوك و العوسج و نحو ذلك-  من بين الزرع كي تفسد منابته-  فيفسد الحب الذي يخرج منه-  فشبه معاوية بالمدر و نحوه من مفسدات الحب-  و شبه الدين بالحب الذي هو ثمرة الزرع: وَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَ هُوَ آخِرُهُ-  إِلَيْكِ عَنِّي يَا دُنْيَا فَحَبْلُكِ عَلَى غَارِبِكِ-  قَدِ انْسَلَلْتُ مِنْ مَخَالِبِكِ-  وَ أَفْلَتُّ مِنْ حَبَائِلِكِ-  وَ اجْتَنَبْتُ الذَّهَابَ فِي مَدَاحِضِكِ-أَيْنَ الْقُرُونُ الَّذِينَ غَرَرْتِهِمْ بِمَدَاعِبِكِ-  أَيْنَ الْأُمَمُ الَّذِينَ فَتَنْتِهِمْ بِزَخَارِفِكِ-  فَهَا هُمْ رَهَائِنُ الْقُبُورِ وَ مَضَامِينُ اللُّحُودِ-  وَ اللَّهِ لَوْ كُنْتِ شَخْصاً مَرْئِيّاً وَ قَالَباً حِسِّيّاً-  لَأَقَمْتُ عَلَيْكِ حُدُودَ اللَّهِ فِي عِبَادٍ غَرَرْتِهِمْ بِالْأَمَانِيِّ-  وَ أُمَمٍ أَلْقَيْتِهِمْ فِي الْمَهَاوِي-  وَ مُلُوكٍ أَسْلَمْتِهِمْ إِلَى التَّلَفِ-  وَ أَوْرَدْتِهِمْ مَوَارِدَ الْبَلَاءِ إِذْ لَا وِرْدَ وَ لَا صَدَرَ-  هَيْهَاتَ مَنْ وَطِئَ دَحْضَكِ زَلِقَ-  وَ مَنْ رَكِبَ لُجَجَكِ غَرِقَ-  وَ مَنِ ازْوَرَّ عَنْ حَبَائِلِكِ وُفِّقَ-  وَ السَّالِمُ مِنْكِ لَا يُبَالِي إِنْ ضَاقَ بِهِ مُنَاخُهُ-  وَ الدُّنْيَا عِنْدَهُ كَيَوْمَ حَانَ انْسِلَاخُهُ إليك عني أي ابعدي-  و حبلك على غاربك كناية من كنايات الطلاق-  أي اذهبي حيث شئت-  لأن الناقة إذا ألقي حبلها على غاربها-  فقد فسح لها أن ترعى حيث شاءت-  و تذهب أين شاءت لأنه إنما يردها زمامها-  فإذا ألقي حبلها على غاربها فقد أهملت- . و الغارب ما بين السنام و العنق-  و المداحض المزالق- . و قيل إن في النسخة التي بخط الرضي رضي الله عنه-  غررتيهم بالياء-  و كذلك فتنتيهم و ألقيتيهم-  و أسلمتيهم و أوردتيهم-  و الأحسن حذف الياء-  و إذا كانت الرواية وردت بها-  فهي من إشباع الكسرة كقوله- 

 أ لم يأتيك و الأنباء تنمي
بما فعلت لبون بني زياد

و مضامين اللحود أي الذين تضمنتهم-  و في الحديث نهى عن بيع المضامين و الملاقيح-  و هي ما في أصلاب الفحول و بطون الإناث- .ثم قال لو كنت أيتها الدنيا إنسانا محسوسا-  كالواحد من البشر لأقمت عليك الحد كما فعلت بالناس- . ثم شرح أفعالها فقال-  منهم من غررت-  و منهم من ألقيت في مهاوي الضلال و الكفر-  و منهم من أتلفت و أهلكت- . ثم قال و من وطئ دحضك زلق-  مكان دحض أي مزلة- . ثم قال لا يبالي من سلم منك إن ضاق مناخه-  لا يبالي بالفقر و لا بالمرض-  و لا بالحبوس و السجون و غير ذلك من أنواع المحن-  لأن هذا كله حقير لا اعتداد به-  في جنب السلامة من فتنة الدنيا- .

قال و الدنيا عند من قد سلم منها-  كيوم قرب انقضاؤه و فناؤه: اعْزُبِي عَنِّي فَوَاللَّهِ لَا أَذِلُّ لَكِ فَتَسْتَذِلِّينِي-  وَ لَا أَسْلَسُ لَكِ فَتَقُودِينِي-  وَ ايْمُ اللَّهِ يَمِيناً أَسْتَثْنِي فِيهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ-  لَأَرُوضَنَّ نَفْسِي رِيَاضَةً تَهِشُّ مَعَهَا إِلَى الْقُرْصِ-  إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهِ مَطْعُوماً-  وَ تَقْنَعُ بِالْمِلْحِ مَأْدُوماً-  وَ لَأَدَعَنَّ مُقْلَتِي كَعَيْنِ مَاءٍ نَضَبَ مَعِينُهَا-  مُسْتَفْرِغَةً دُمُوعَهَا-  أَ تَمْتَلِئُ السَّائِمَةُ مِنْ رِعْيِهَا فَتَبْرُكَ-  وَ تَشْبَعُ الرَّبِيضَةُ مِنْ عُشْبِهَا فَتَرْبِضَ-  وَ يَأْكُلُ عَلِيٌّ مِنْ زَادِهِ فَيَهْجَعَ-  قَرَّتْ إِذاً عَيْنُهُ إِذَا اقْتَدَى بَعْدَ السِّنِينَ الْمُتَطَاوِلَةِ-  بِالْبَهِيمَةِ الْهَامِلَةِ وَ السَّائِمَةِ الْمَرْعِيَّةِ-  طُوبَى لِنَفْسٍ أَدَّتْ إِلَى رَبِّهَا فَرْضَهَا-  وَ عَرَكَتْ بِجَنْبِهَا بُؤْسَهَا وَ هَجَرَتْ فِي‏ اللَّيْلِ غُمْضَهَا-  حَتَّى إِذَا غَلَبَ الْكَرَى عَلَيْهَا افْتَرَشَتْ أَرْضَهَا-  وَ تَوَسَّدَتْ كَفَّهَا-  فِي مَعْشَرٍ أَسْهَرَ عُيُونَهُمْ خَوْفُ مَعَادِهِمْ-  وَ تَجَافَتْ عَنْ مَضَاجِعِهِمْ جُنُوبُهُمْ-  وَ هَمْهَمَتْ بِذِكْرِ رَبِّهِمْ شِفَاهُهُمْ-  وَ تَقَشَّعَتْ بِطُولِ اسْتِغْفَارِهِمْ ذُنُوبُهُمْ-  أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ-  فَاتَّقِ اللَّهَ يَا ابْنَ حُنَيْفٍ وَ لْتَكْفُفْ أَقْرَاصُكَ-  لِيَكُونَ مِنَ النَّارِ خَلَاصُكَ اعزبي ابعدي يقال عزب الرجل بالفتح أي بعد-  و لا أسلس لك بفتح اللام أي لا أنقاد لك-  سلس الرجل بالكسر يسلس فهو بين السلس-  أي سهل قياده- .

ثم حلف و استثنى بالمشيئة أدبا-  كما أدب الله تعالى رسوله ص-  ليروضن نفسه أي يدربها بالجوع-  و الجوع هو أصل الرياضة عند الحكماء و أرباب الطريقة- . قال حتى أهش إلى القرص-  أي إلى الرغيف و أقنع من الإدام بالملح- . و نضب معينها فني ماؤها- . ثم أنكر على نفسه فقال-  أ تشبع السائمة من رعيها بكسر الراء-  و هو الكلأ و الربيضة-  جماعة من الغنم أو البقر تربض في أماكنها-  و أنا أيضا مثلها أشبع و أنام- . لقد قرت عيني إذا حيث أشابه البهائم-  بعد الجهاد و السبق و العبادة و العم و الجد في السنين المتطاولة- . قوله و عركت بجنبها بؤسها-  أي صبرت على بؤسها و المشقة التي تنالها-  يقال قد عرك فلان بجنبه الأذى-  أي أغضى عنه و صبر عليه- .

قوله افترشت أرضها-  أي لم يكن لها فراش إلا الأرض- . و توسدت كفها لم يكن لها وسادة إلا الكف- . و تجافت عن مضاجعهم جنوبهم-  لفظ الكتاب العزيز-  تَتَجافى‏ جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ- . و همهمت تكلمت كلاما خفيا- . و تقشعت ذنوبهم-  زالت و ذهبت كما يتقشع السحاب- . قوله و لتكفف أقراصك-  إنما هو نهي لابن حنيف أن يكف عن الأقراص-  و إن كان اللفظ يقتضي أن تكف الأقراص عن ابن حنيف-  و قد رواها قوم بالنصب-  قالوا فاتق الله يا ابن حنيف و لتكفف أقراصك-  لترجو بها من النار خلاصك-  و التاء هاهنا للأمر عوض الياء-  و هي لغة لا بأس بها-  و قد قيل إن رسول الله ص قرأ-  فبذلك فلتفرحوا بالتاء

 

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 16

نامه 44 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

44 و من كتاب له ع إلى زياد بن أبيه

و قد بلغه أن معاوية كتب إليه يريد خديعته باستلحاقه- : وَ قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ كَتَبَ إِلَيْكَ-  يَسْتَزِلُّ لُبَّكَ وَ يَسْتَفِلُّ غَرْبَكَ-  فَاحْذَرْهُ فَإِنَّمَا هُوَ الشَّيْطَانُ-  يَأْتِي الْمَرْءَ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ-  وَ عَنْ يَمِينِهِ وَ عَنْ شِمَالِهِ-  لِيَقْتَحِمَ غَفْلَتَهُ وَ يَسْتَلِبَ غِرَّتَهُ-  وَ قَدْ كَانَ مِنْ أَبِي سُفْيَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَلْتَةٌ-  مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ-  وَ نَزْغَةٌ مِنْ نَزَغَاتِ الشَّيْطَانِ-  لَا يَثْبُتُ بِهَا نَسَبٌ وَ لَا يُسْتَحَقُّ بِهَا إِرْثٌ-  وَ الْمُتَعَلِّقُ بِهَا كَالْوَاغِلِ الْمُدَفَّعِ وَ النَّوْطِ الْمُذَبْذَبِ-  فَلَمَّا قَرَأَ زِيَادٌ الْكِتَابَ قَالَ-  شَهِدَ بِهَا وَ رَبِّ الْكَعْبَةِ-  وَ لَمْ تَزَلْ فِي نَفْسِهِ حَتَّى ادَّعَاهُ مُعَاوِيَةُ

قال الرضي رحمه الله تعالى-  قوله ع الواغل-  هو الذي يهجم على الشرب-  ليشرب معهم و ليس منهم-  فلا يزال مدفعا محاجزا-  و النوط المذبذب هو ما يناط برحل الراكب-  من قعب أو قدح أو ما أشبه ذلك-  فهو أبدا يتقلقل إذا حث ظهره و استعجل سيره‏ يستزل لبك يطلب زلله و خطأه-  أي يحاول أن تزل-  و اللب العقل-  و يستفل غربك يحاول أن يفل حدك أي عزمك-  و هذا من باب المجاز-  ثم أمره أن يحذره و قال إنه يعني معاوية-  كالشيطان يأتي المرء من كذا و من كذا-  و هو مأخوذ من قول الله تعالى-  ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ-  وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ-  قالوا في تفسيره من بين أيديهم-  يطمعهم في العفو و يغريهم بالعصيان-  و من خلفهم يذكرهم مخلفيهم و يحسن لهم جمع المال و تركه لهم-  و عن أيمانهم يحبب إليهم الرئاسة و الثناء-  و عن شمائلهم يحبب إليهم اللهو و اللذات- .

و قال شقيق البلخي-  ما من صباح إلا قعد لي الشيطان على أربعة مراصد-  من بين يدي و من خلفي و عن يميني و عن شمالي-  أما من بين يدي فيقول-  لا تخف فإن الله غفور رحيم-  فأقرأ وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ-  وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى‏-  و أما من خلفي فيخوفني الضيعة على مخلفي-  فأقرأ وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها-  و أما من قبل يميني فيأتيني من جهة الثناء-  فأقرأ وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ-  و أما من قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات-  فأقرأ وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ- . فإن قلت لم لم يقل و من فوقهم و من تحتهم-

  قلت لأن جهة فوق جهة نزول الرحمة-  و مستقر الملائكة و مكان العرش-  و الأنوار الشريفة و لا سبيل له إليها-  و أما من جهة تحت فلأن الإتيان منها يوحش-  و ينفر عنه لأنها الجهة المعروفة بالشياطين-  فعدل عنها إلى ما هو أدعى إلى قبول وساوسه و أضاليله- . و قد فسر قوم المعنى الأول فقالوا-  مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ من جهة الدنيا-  و مِنْ خَلْفِهِمْ من جهة الآخرة-  و عَنْ أَيْمانِهِمْ الحسنات-  و عَنْ شَمائِلِهِمْ أي يحثهم على طلب الدنيا-  و يؤيسهم من الآخرة و يثبطهم عن الحسنات-  و يغريهم بالسيئات- .

قوله ليقتحم غفلته أي ليلج و يهجم عليه و هو غافل-  جعل اقتحامه إياه-  اقتحاما للغرة نفسها لما كانت غالبة عليه- . و يستلب غرته ليس المعنى باستلابه الغرة-  أن يرفعها و يأخذها لأنه لو كان كذلك-  لصار ذلك الغافل المغتر فاقدا للغفلة و الغرة-  و كان لبيبا فطنا فلا يبقى له سبيل عليه-  و إنما المعنى بقوله و يستلب غرته-  ما يعنيه الناس بقولهم أخذ فلان غفلتي و فعل كذا- . و معنى أخذها هنا أخذ ما يستدل به على غفلتي- . و فلتة أمر وقع من غير تثبت و لا روية- . و نزغة كلمة فاسدة من نزغات الشيطان-  أي من حركاته القبيحة التي يستفسد بها مكلفين-  و لا يثبت بها نسب و لا يستحق بها إرث-  لأن المقر بالزناء لا يلحقه النسب-  و لا يرثه المولود لقوله ص الولد للفراش و للعاهر الحجر

نسب زياد بن أبيه و ذكر بعض أخباره و كتبه و خطبه

فأما زياد فهو زياد بن عبيد و من الناس من يقول-  عبيد بن فلان و ينسبه إلى‏ثقيف-  و الأكثرون يقولون إن عبيدا كان عبدا-  و إنه بقي إلى أيام زياد فابتاعه و أعتقه-  و سنذكر ما ورد في ذلك و نسبة زياد لغير أبيه لخمول أبيه-  و الدعوة التي استلحق بها-  فقيل تارة زياد بن سمية و هي أمه-  و كانت أمة للحارث بن كلدة بن عمرو بن علاج الثقفي-  طبيب العرب و كانت تحت عبيد- . و قيل تارة زياد بن أبيه و قيل تارة زياد بن أمه-  و لما استلحق قال له أكثر الناس-  زياد بن أبي سفيان-  لأن الناس مع الملوك الذين هم مظنة الرهبة و الرغبة-  و ليس أتباع الدين بالنسبة إلى أتباع الملوك-  إلا كالقطرة في البحر المحيط-  فأما ما كان يدعى به قبل الاستلحاق فزياد بن عبيد-  و لا يشك في ذلك أحد- . و روى أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب-  عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبيه-  عن أبي صالح عن ابن عباس-  أن عمر بعث زيادا في إصلاح فساد واقع باليمن-  فلما رجع من وجهه خطب عند عمر خطبة لم يسمع مثلها-  و أبو سفيان حاضر و علي ع و عمرو بن العاص-  فقال عمرو بن العاص لله أبو هذا الغلام-  لو كان قرشيا لساق العرب بعصاه-  فقال أبو سفيان إنه لقرشي-  و إني لأعرف الذي وضعه في رحم أمه-  فقال علي ع و من هو قال أنا-  فقال مهلا يا أبا سفيان فقال أبو سفيان- 

أما و الله لو لا خوف شخص
يراني يا علي من الأعادي‏

لأظهر أمره صخر بن حرب‏
و لم يخف المقالة في زياد

و قد طالت مجاملتي ثقيفا
و تركي فيهم ثمر الفؤاد

عنى بقوله لو لا خوف شخص عمر بن الخطاب‏

 

و روى أحمد بن يحيى البلاذري قال-  تكلم زياد و هو غلام حدث-  بحضرة عمر كلاما أعجب الحاضرين-  فقال عمرو بن العاص لله أبوه-  لو كان قرشيا لساق العرب بعصاه-  فقال أبو سفيان أما و الله إنه لقرشي-  و لو عرفته لعرفت أنه خير من أهلك-  فقال و من أبوه قال أنا و الله وضعته في رحم أمه-  فقال فهلا تستلحقه-  قال أخاف هذا العير الجالس-  أن يخرق علي إهابي- . و روى محمد بن عمر الواقدي قال قال أبو سفيان-  و هو جالس عند عمر و علي هناك-  و قد تكلم زياد فأحسن-  أبت المناقب إلا أن تظهر في شمائل زياد-  فقال علي ع من أي بني عبد مناف هو قال ابني-  قال كيف قال أتيت أمه في الجاهلية سفاحا-  فقال علي ع مه يا أبا سفيان-  فإن عمر إلى المساءة سريع-  قال فعرف زياد ما دار بينهما فكانت في نفسه- . و روى علي بن محمد المدائني قال لما كان زمن علي ع-  ولى زيادا فارس أو بعض أعمال فارس-  فضبطها ضبطا صالحا و جبى خراجها و حماها-  و عرف ذلك معاوية فكتب إليه-  أما بعد فإنه غرتك قلاع تأوي إليها ليلا-  كما تأوي الطير إلى وكرها-  و ايم الله لو لا انتظاري بك ما الله أعلم به-  لكان لك مني ما قاله العبد الصالح-  فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها-  وَ لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَ هُمْ صاغِرُونَ-  و كتب في أسفل الكتاب شعرا من جملته- 

تنسى أباك و قد شالت نعامته
إذ يخطب الناس و الوالي لهم عمر

 فلما ورد الكتاب على زياد قام فخطب الناس و قال-  العجب من ابن آكلة الأكباد و رأس النفاق-  يهددني و بيني و بينه ابن عم رسول الله ص-  و زوج سيدة نساء العالمين و أبو السبطين-  و صاحب الولاية و المنزلة و الإخاء في مائة ألف-من المهاجرين و الأنصار و التابعين لهم بإحسان-  أما و الله لو تخطى هؤلاء أجمعين إلي-  لوجدني أحمر مخشا ضرابا بالسيف-  ثم كتب إلى علي ع و بعث بكتاب معاوية في كتابه- .

 فكتب إليه علي ع و بعث بكتابه أما بعد فإني قد وليتك ما وليتك-  و أنا أراك لذلك أهلا-  و إنه قد كانت من أبي سفيان فلتة في أيام عمر-  من أماني التيه و كذب النفس-  لم تستوجب بها ميراثا و لم تستحق بها نسبا-  و إن معاوية كالشيطان الرجيم-  يأتي المرء من بين يديه و من خلفه-  و عن يمينه و عن شماله-  فاحذره ثم احذره ثم احذره و السلام

و روى أبو جعفر محمد بن حبيب قال-  كان علي ع قد ولى زيادا قطعة من أعمال فارس-  و اصطنعه لنفسه-  فلما قتل علي ع بقي زياد في عمله-  و خاف معاوية جانبه و علم صعوبة ناحيته-  و أشفق من ممالأته الحسن بن علي ع فكتب إليه-  من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان-  إلى زياد بن عبيد أما بعد-  فإنك عبد قد كفرت النعمة و استدعيت النقمة-  و لقد كان الشكر أولى بك من الكفر-  و إن الشجرة لتضرب بعرقها و تتفرع من أصلها-  إنك لا أم لك بل لا أب لك قد هلكت و أهلكت-  و ظننت أنك تخرج من قبضتي-  و لا ينالك سلطاني هيهات-  ما كل ذي لب يصيب رأيه-  و لا كل ذي رأي ينصح في مشورته-  أمس عبد و اليوم أمير-  خطة ما ارتقاها مثلك يا ابن سمية-  و إذا أتاك كتابي هذا فخذ الناس بالطاعة و البيعة-  و أسرع الإجابة-  فإنك أن تفعل فدمك حقنت-  و نفسك تداركت و إلا اختطفتك‏ بأضعف ريش-  و نلتك بأهون سعي-  و أقسم قسما مبرورا إلا أوتى بك إلا في زمارة-  تمشي حافيا من أرض فارس إلى الشام-  حتى أقيمك في السوق و أبيعك عبدا-  و أردك إلى حيث كنت فيه و خرجت منه و السلام- .

فلما ورد الكتاب على زياد غضب غضبا شديدا-  و جمع الناس و صعد المنبر فحمد الله ثم قال-  ابن آكلة الأكباد و قاتلة أسد الله-  و مظهر الخلاف و مسر النفاق و رئيس الأحزاب-  و من أنفق ماله في إطفاء نور الله-  كتب إلي يرعد و يبرق عن سحابة جفل لا ماء فيها-  و عما قليل تصيرها الرياح قزعا-  و الذي يدلني على ضعفه تهدده قبل القدرة-  أ فمن إشفاق علي تنذر و تعذر كلا-  و لكن ذهب إلى غير مذهب-  و قعقع لمن ربي بين صواعق تهامة-  كيف أرهبه و بيني و بينه ابن بنت رسول الله ص-  و ابن ابن عمه في مائة ألف من المهاجرين و الأنصار-  و الله لو أذن لي فيه أو ندبني إليه-  لأريته الكواكب نهارا و لأسعطته ماء الخردل-  دونه الكلام اليوم و الجمع غدا-  و المشورة بعد ذلك إن شاء الله ثم نزل- .

و كتب إلى معاوية أما بعد فقد وصل إلي كتابك يا معاوية-  و فهمت ما فيه-  فوجدتك كالغريق يغطيه الموج فيتشبث بالطحلب-  و يتعلق بأرجل الضفادع طمعا في الحياة-  إنما يكفر النعم-  و يستدعي النقم من حاد الله و رسوله-  و سعى في الأرض فسادا-  فأما سبك لي فلو لا حلم ينهاني عنك-  و خوفي أن أدعى سفيها-  لأثرت لك مخازي لا يغسلها الماء-  و أما تعييرك لي بسمية-  فإن كنت ابن سمية فأنت ابن جماعة-  و أما زعمك أنك تختطفني بأضعف ريش-  و تتناولني بأهون سعي-  فهل رأيت بازيا يفزعه صغير القنابر-  أم هل سمعت بذئب أكله خروف-  فامض الآن لطيتك و اجتهد جهدك-  فلست أنزل إلا بحيث تكره-  و لا أجتهد إلا فيما يسوؤك-  و ستعلم أينا الخاضع لصاحبه الطالع إليه و السلام- .

فلما ورد كتاب زياد على معاوية غمه و أحزنه-  و بعث إلى المغيرة بن شعبة فخلا به و قال-  يا مغيرة إني أريد مشاورتك في أمر أهمني-  فانصحني فيه و أشر علي برأي المجتهد-  و كن لي أكن لك فقد خصصتك بسري-  و آثرتك على ولدي-  قال المغيرة فما ذاك-  و الله لتجدني في طاعتك أمضى من الماء إلى الحدور-  و من ذي الرونق في كف البطل الشجاع-  قال يا مغيرة إن زيادا قد أقام بفارس-  يكش لنا كشيش الأفاعي-  و هو رجل ثاقب الرأي ماضي العزيمة-  جوال الفكر مصيب إذا رمى-  و قد خفت منه الآن ما كنت آمنه-  إذ كان صاحبه حيا و أخشى ممالأته حسنا-  فكيف السبيل إليه و ما الحيلة في إصلاح رأيه-  قال المغيرة أنا له إن لم أمت-  إن زيادا رجل يحب الشرف و الذكر و صعود المنابر-  فلو لاطفته المسألة و ألنت له الكتاب-  لكان لك أميل و بك أوثق-  فاكتب إليه و أنا الرسول-  فكتب معاوية إليه-  من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان-  إلى زياد بن أبي سفيان-  أما بعد فإن المرء ربما طرحه الهوى في مطارح العطب-  و إنك للمرء المضروب به المثل-  قاطع الرحم و واصل العدو-  و حملك سوء ظنك بي و بغضك لي-  على أن عققت قرابتي و قطعت رحمي-  و بتت نسبي و حرمتي حتى كأنك لست أخي-  و ليس صخر بن حرب أباك و أبي-  و شتان ما بيني و بينك-  أطلب بدم ابن أبي العاص و أنت تقاتلني-  و لكن أدركك عرق الرخاوة من قبل النساء-  فكنت‏

 

 كتاركة بيضها بالعراء
و ملحفة بيض أخرى جناحا

و قد رأيت أن أعطف عليك-  و لا أؤاخذك بسوء سعيك و أن أصل رحمك-  و أبتغي الثواب في أمرك-  فاعلم أبا المغيرة إنك لو خضت البحر في طاعة القوم-  فتضرب بالسيف حتى انقطع متنه-  لما ازددت منهم إلا بعدا-  فإن بني عبد شمس أبغض إلى بني هاشم-  من الشفرة إلى الثور الصريع و قد أوثق للذبح-  فارجع رحمك الله إلى أصلك و اتصل بقومك-  و لا تكن كالموصول بريش غيره-  فقد أصبحت ضال النسب-  و لعمري ما فعل بك ذلك إلا اللجاج فدعه عنك-  فقد أصبحت على بينة من أمرك-  و وضوح من حجتك-  فإن أحببت جانبي و وثقت بي فأمره بأمره-  و إن كرهت جانبي و لم تثق بقولي-  ففعل جميل لا علي و لا لي و السلام- . فرحل المغيرة بالكتاب حتى قدم فارس-  فلما رآه زياد قربه و أدناه و لطف به-  فدفع إليه الكتاب فجعل يتأمله و يضحك-  فلما فرغ من قراءته وضعه تحت قدمه-  ثم قال حسبك يا مغيرة-  فإني أطلع على ما في ضميرك-  و قد قدمت من سفرة بعيدة-  فقم و أرح ركابك- 

قال أجل فدع عنك اللجاج يرحمك الله-  و ارجع إلى قومك و صل أخاك-  و انظر لنفسك و لا تقطع رحمك-  قال زياد إني رجل صاحب أناة-  و لي في أمري روية فلا تعجل علي-  و لا تبدأني بشي‏ء حتى أبدأك-  ثم جمع الناس بعد يومين أو ثلاثة-  فصعد المنبر فحمد الله و أثنى عليه-  ثم قال أيها الناس ادفعوا البلاء ما اندفع عنكم-  و ارغبوا إلى الله في دوام العافية لكم-  فقد نظرت في أمور الناس منذ قتل عثمان-  و فكرت فيهم فوجدتهم كالأضاحي-  في كل عيد يذبحون و لقد أفنى هذان اليومان-  يوم الجمل و صفين ما ينيف على مائة ألف-  كلهم يزعم أنه طالب حق و تابع إمام-  و على بصيرة من أمره-  فإن كان الأمر هكذا فالقاتل و المقتول في الجنة-  كلاليس كذلك-  و لكن أشكل الأمر و التبس على القوم-  و إني لخائف أن يرجع الأمر كما بدأ-  فكيف لامرئ بسلامة دينه-  و قد نظرت في أمر الناس فوجدت أحد العاقبتين العافية-  و سأعمل في أموركم ما تحمدون عاقبته و مغبته-  فقد حمدت طاعتكم إن شاء الله ثم نزل و كتب جواب الكتاب-  أما بعد فقد وصل كتابك يا معاوية مع المغيرة بن شعبة-  و فهمت ما فيه-  فالحمد لله الذي عرفك الحق و ردك إلى الصلة-  و لست ممن يجهل معروفا و لا يغفل حسبا-  و لو أردت أن أجيبك بما أوجبته الحجة-  و احتمله الجواب لطال الكتاب و كثر الخطاب-  و لكنك إن كنت كتبت كتابك هذا-  عن عقد صحيح و نية حسنة-  و أردت بذلك برا فستزرع في قلبي مودة و قبولا-  و إن كنت إنما أردت مكيدة و مكرا و فساد نية-  فإن النفس تأبى ما فيه العطب-  و لقد قمت يوم قرأت كتابك مقاما يعبأ به الخطيب المدره-  فتركت من حضر لا أهل ورد و لا صدر-  كالمتحيرين بمهمة ضل بهم الدليل-  و أنا على أمثال ذلك قدير-  و كتب في أسفل الكتاب- 

إذا معشري لم ينصفوني وجدتني
أدافع عني الضيم ما دمت باقيا

و كم معشر أعيت قناتي عليهم‏
فلاموا و ألفوني لدى العزم ماضيا

و هم به ضاقت صدور فرجته
و كنت بطبي للرجال مداويا

أدافع بالحلم الجهول مكيدة
و أخفى له تحت العضاه الدواهيا

فإن تدن مني أدن منك و إن تبن
تجدني إذا لم تدن مني نائيا

 فأعطاه معاوية جميع ما سأله-  و كتب إليه بخط يده ما وثق به-  فدخل إليه الشام فقربه و أدناه-  و أقره على ولايته ثم استعمله على العراق- .

 

و روى علي بن محمد المدائني قال-  لما أراد معاوية استلحاق زياد و قد قدم عليه الشام-  جمع الناس و صعد المنبر-  و أصعد زيادا معه فأجلسه بين يديه على المرقاة-  التي تحت مرقاته-  و حمد الله و أثنى عليه ثم قال-  أيها الناس-  إني قد عرفت نسبنا أهل البيت في زياد-  فمن كان عنده شهادة فليقم بها-  فقام ناس فشهدوا أنه ابن أبي سفيان-  و أنهم سمعوا ما أقر به قبل موته-  فقام أبو مريم السلولي و كان خمارا في الجاهلية-  فقال أشهد يا أمير المؤمنين-  أن أبا سفيان قدم علينا بالطائف-  فأتاني فاشتريت له لحما و خمرا و طعاما-  فلما أكل قال يا أبا مريم أصب لي بغيا-  فخرجت فأتيت بسمية فقلت لها-  إن أبا سفيان ممن قد عرفت شرفه و جوده-  و قد أمرني أن أصيب له بغيا فهل لك-  فقالت نعم يجي‏ء الآن عبيد بغنمه و كان راعيا-  فإذا تعشى و وضع رأسه أتيته-  فرجعت إلى أبي سفيان فأعلمته-  فلم نلبث أن جاءت تجر ذيلها-  فدخلت معه فلم تزل عنده حتى أصبحت-  فقلت له لما انصرفت كيف رأيت صاحبتك-  قال خير صاحبة لو لا ذفر في إبطيها- .

فقال زياد من فوق المنبر يا أبا مريم-  لا تشتم أمهات الرجال فتشتم أمك- . فلما انقضى كلام معاوية و مناشدته قام زياد-  و أنصت الناس فحمد الله و أثنى عليه ثم قال-  أيها الناس إن معاوية و الشهود قد قالوا ما سمعتم-  و لست أدري حق هذا من باطله-  و هو و الشهود أعلم بما قالوا-  و إنما عبيد أب مبرور و وال مشكور-  ثم نزل- . و روى شيخنا أبو عثمان أن زيادا مر-  و هو والي البصرة بأبي العريان العدوي-  و كان شيخا مكفوفا ذا لسن و عارضة شديدة-  فقال أبو العريان ما هذه الجلبة-  قالوا زياد بن أبي سفيان-  قال و الله ما ترك أبو سفيان-  إلا يزيد و معاوية و عتبة و عنبسة و حنظلة و محمدا-  فمن أين جاء زياد-  فبلغ الكلام زيادا و قال له قائل-  لو سددت‏عنك فم هذا الكلب-  فأرسل إليه بمائتي دينار فقال له رسول زياد-  إن ابن عمك زيادا الأمير-  قد أرسل إليك مائتي دينار لتنفقها-  فقال وصلته رحم إي و الله ابن عمي حقا-  ثم مر به زياد من الغد في موكبه-  فوقف عليه فسلم و بكى أبو العريان-  فقيل له ما يبكيك-  قال عرفت صوت أبي سفيان في صوت زياد-  فبلغ ذلك معاوية فكتب إلى أبي العريان- 

ما ألبثتك الدنانير التي بعثت
أن لونتك أبا العريان ألوانا

أمسى إليك زياد في أرومته‏
نكرا فأصبح ما أنكرت عرفانا

لله در زياد لو تعجلها
كانت له دون ما يخشاه قربانا

فلما قرئ كتاب معاوية على أبي العريان قال- اكتب جوابه يا غلام-

أحدث لنا صلة تحيا النفوس بها
قد كدت يا ابن أبي سفيان تنسانا

أما زياد فقد صحت مناسبه‏
عندي فلا أبتغي في الحق بهتانا

من يسد خيرا يصبه حين يفعله
أو يسد شرا يصبه حيثما كانا

و روى أبو عثمان أيضا قال-  كتب زياد إلى معاوية ليستأذنه في الحج-  فكتب إليه إني قد أذنت لك و استعملتك على الموسم-  و أجزتك بألف ألف درهم-  فبينا هو يتجهز إذ بلغ ذلك أبا بكرة أخاه-  و كان مصارما له-  منذ لجلج في الشهادة على المغيرة بن شعبة-  أيام عمر-  لا يكلمه قد لزمته أيمان عظيمة ألا يكلمه أبدا-  فأقبل أبو بكرة يدخل القصر يريد زيادا-  فبصر به الحاجب فأسرع إلى زياد قائلا-  أيها الأمير هذا أخوك أبو بكرة قد دخل القصر-  قال ويحك أنت رأيته-  قال ها هو ذا قد طلع-  و في حجر زياد بني يلاعبه-  و جاء أبو بكرة حتى وقف عليه-  فقال للغلام كيف أنت يا غلام-  إن أباك ركب في الإسلام عظيما-  زنى أمه و انتفى من أبيه-  و لا و الله ما علمت سمية رأت‏ أبا سفيان قط-  ثم أبوك يريد أن يركب ما هو أعظم من ذلك-  يوافي الموسم غدا-  و يوافي أم حبيبة بنت أبي سفيان-  و هي من أمهات المؤمنين-  فإن جاء يستأذن عليها فأذنت له-  فأعظم بها فرية على رسول الله ص و مصيبة-  و إن هي منعته فأعظم بها على أبيك فضيحة-  ثم انصرف-  فقال جزاك الله يا أخي عن النصيحة خيرا-  ساخطا كنت أو راضيا-  ثم كتب إلى معاوية إني قد اعتللت عن الموسم-  فليوجه إليه أمير المؤمنين من أحب-  فوجه عتبة بن أبي سفيان- .

فأما أبو عمر بن عبد البر في كتاب الإستيعاب-  فإنه قال لما ادعى معاوية زيادا في سنة أربع و أربعين-  و ألحقه به أخا-  زوج ابنته من ابنه محمد بن زياد-  ليؤكد بذلك صحة الاستلحاق-  و كان أبو بكرة أخا زياد لأمه أمهما جميعا سمية-  فحلف ألا يكلم زيادا أبدا-  و قال هذا زنى أمه و انتفى من أبيه-  و لا و الله ما علمت سمية رأت أبا سفيان قبل-  ويله ما يصنع بأم حبيبة أ يريد أن يراها-  فإن حجبته فضحته و إن رآها فيا لها مصيبة-  يهتك من رسول الله ص حرمة عظيمة- . و حج زياد مع معاوية-  و دخل المدينة فأراد الدخول على أم حبيبة-  ثم ذكر قول أبي بكرة فانصرف عن ذلك-  و قيل إن أم حبيبة حجبته-  و لم تأذن له في الدخول عليها-  و قيل إنه حج و لم يرد المدينة من أجل قول أبي بكرة-  و إنه قال جزى الله أبا بكرة خيرا-  فما يدع النصيحة في حال-  و روى أبو عمر بن عبد البر في هذا الكتاب قال-  دخل بنو أمية و فيهم عبد الرحمن بن الحكم على معاوية-  أيام ما استلحق زيادا-  فقال له عبد الرحمن يا معاوية-  لو لم تجد إلا الزنج لاستكثرت بهم علينا قلة و ذلة-  يعني على بني أبي العاص-  فأقبل معاوية على مروان و قال أخرج عنا هذا الخليع-  فقال مروان إي و الله إنه لخليع ما يطاق-  فقال معاوية و الله لو لا حلمي و تجاوزي-  لعلمت أنه يطاق-  أ لم يبلغني شعره في و في زياد-  ثم قال مروان أسمعنيه فأنشد- 

   ألا أبلغ معاوية بن حرب
لقد ضاقت بما يأتي اليدان‏

أ تغضب أن يقال أبوك عف‏
و ترضى أن يقال أبوك زان‏

فأشهد أن رحمك من زياد
كرحم الفيل من ولد الأتان‏

و أشهد أنها حملت زيادا
و صخر من سمية غير دان‏

ثم قال و الله لا أرضى عنه- حتى يأتي زيادا فيترضاه و يعتذر إليه- فجاء عبد الرحمن إلى زياد معتذرا- يستأذن عليه فلم يأذن له- فأقبلت قريش إلى زياد تكلمه في أمر عبد الرحمن- فلما دخل سلم فتشاوس له زياد بعينه- و كان يكسر عينه- فقال له زياد أنت القائل ما قلت- قال عبد الرحمن ما الذي قلت قال قلت ما لا يقال- قال أصلح الله الأمير- إنه لا ذنب لمن أعتب و إنما الصفح عمن أذنب- فاسمع مني ما أقول قال هات فأنشده-

إليك أبا المغيرة تبت مما
جرى بالشام من خطل اللسان‏

و أغضبت الخليفة فيك حتى‏
دعاه فرط غيظ إن هجاني‏

و قلت لمن لحاني في اعتذاري
إليك اذهب فشأنك غير شأني‏

عرفت الحق بعد ضلال رأيي
و بعد الغي من زيغ الجنان‏

زياد من أبي سفيان غصن‏
تهادى ناضرا بين الجنان‏

أراك أخا و عما و ابن عم
فما أدري بعيب ما تراني‏

و إن زيادة في آل حرب‏
أحب إلي من وسطي بناني‏

ألا أبلغ معاوية بن حرب
فقد ظفرت بما تأتي اليدان‏

فقال زياد أراك أحمق صرفا شاعرا ضيع اللسان-  يسوغ لك ريقك ساخطا و مسخوطا-  و لكنا قد سمعنا شعرك و قبلنا عذرك-  فهات حاجتك-  قال تكتب إلى أمير المؤمنين بالرضا عني قال نعم-  ثم دعا كاتبه فكتب له بالرضا عنه-  فأخذ كتابه و مضى حتى دخل على معاوية-  فلما قرأه قال لحا الله زيادا لم يتنبه لقوله-و إن زيادة في آل حرب‏- . ثم رضي عن عبد الرحمن و رده إلى حالته- . و أما أشعار يزيد بن مفرغ الحميري-  و هجاؤه عبيد الله و عبادا-  ابني زياد بالدعوة فكثيرة مشهورة نحو قوله- 

 أ عباد ما للؤم عنك تحول
و لا لك أم من قريش و لا أب‏

و قل لعبيد الله ما لك والد
بحق و لا يدري امرؤ كيف تنسب‏

 و نحو قوله

شهدت بأن أمك لم تباشر
أبا سفيان واضعة القناع‏

و لكن كان أمر فيه لبس
على حذر شديد و ارتياع‏

إذا أودى معاوية بن حرب‏
فبشر شعب قعبك بانصداع‏

 و نحو قوله-

إن زيادا و نافعا و أبا بكرة
عندي من أعجب العجب‏

هم رجال ثلاثة خلقوا
في رحم أنثى و كلهم لأب‏

ذا قرشي كما تقول و ذا
مولى و هذا بزعمه عربي‏

 كان عبيد الله بن زياد يقول- ما شجيت بشي‏ء أشد علي من قول ابن مفرغ-

فكر ففي ذاك إن فكرت معتبر
هل نلت مكرمة إلا بتأمير

عاشت سمية ما عاشت و ما علمت‏
أن ابنها من قريش في الجماهير

 و يقال إن الأبيات النونية المنسوبة- إلى عبد الرحمن بن أم الحكم ليزيد بن مفرغ- و إن أولها-

أ لا أبلغ معاوية بن حرب
مغلغلة من الرجل اليماني‏

و نحو قوله- و قد باع برد غلامه- لما حبسه عباد بن زياد بسجستان-

يا برد ما مسنا دهر أضر بنا
من قبل هذا و لا بعنا له ولدا

لامتني النفس في برد فقلت لها
لا تهلكي إثر برد هكذا كمدا

لو لا الدعي و لو لا ما تعرض بي
من الحوادث ما فارقته أبدا

 و نحو قوله-

أبلغ لديك بني قحطان مألكة
عضت بأير أبيها سادة اليمن‏

أضحى دعي زياد فقع قرقرة
يا للعجائب يلهو بابن ذي يزن‏

 

و روى ابن الكلبي أن عبادا استلحقه زياد-  كما استلحق معاوية زيادا كلاهما لدعوة-  قال لما أذن لزياد في الحج تجهز-  فبينا هو يتجهز و أصحاب القرب يعرضون عليه قربهم-  إذ تقدم عباد و كان خرازا-  فصار يعرض عليه و يحاوره و يجيبه-  فقال زياد ويحك من أنت قال أنا ابنك-  قال ويحك و أي بني-  قال قد وقعت على أمي فلانة-  و كانت من بني كذا فولدتني-  و كنت في بني قيس بن ثعلبة و أنا مملوك لهم-  فقال صدقت و الله إني لأعرف ما تقول-  فبعث فاشتراه و ادعاه و ألحقه-  و كان يتعهد بني قيس بن ثعلبة بسببه و يصلهم-  و عظم أمر عباد-  حتى ولاه معاوية سجستان بعد موت زياد-  و ولى أخاه عبيد الله البصرة-  فتزوج عباد الستيرة ابنة أنيف بن زياد الكلبي-  فقال الشاعر يخاطب أنيفا و كان سيد كلب في زمانه- 

  أبلغ لديك أبا تركان مألكة
أ نائما كنت أم بالسمع من صمم‏

أنكحت عبد بني قيس مهذبة
آباؤها من عليم معدن الكرم‏

أ كنت تجهل عبادا و محتده
لا در درك أم أنكحت من عدم‏

أ بعد آل أبي سفيان تجعله‏
صهرا و بعد بني مروان و الحكم‏

أعظم عليك بذا عارا و منقصة
ما دمت حيا و بعد الموت في الرحم‏

و قال الحسن البصري ثلاث كن في معاوية-  لو لم تكن فيه إلا واحدة منهن لكانت موبقة-  انتزاؤه على هذه الأمة بالسفهاء حتى ابتزها أمرها-  و استلحاقه زيادا مراغمة لقول رسول الله الولد للفراش و للعاهر الحجر-  و قتله حجر بن عدي-  فيا ويله من حجر و أصحاب حجر- .

 

و روى الشرقي بن القطامي قال-  كان سعيد بن سرح مولى حبيب بن عبد شمس-  شيعة لعلي بن أبي طالب ع-  فلما قدم زياد الكوفة طلبه و أخافه-  فأتى الحسن بن علي ع مستجيرا به-  فوثب زياد على أخيه و ولده و امرأته فحبسهم-  و أخذ ماله و نقض داره-  فكتب الحسن بن علي ع إلى زياد أما بعد فإنك عمدت إلى رجل من المسلمين-  له ما لهم و عليه ما عليهم-  فهدمت داره و أخذت ماله-  و حبست أهله و عياله-  فإن أتاك كتابي هذا فابن له داره-  و اردد عليه عياله و ماله-  و شفعني فيه فقد أجرته و السلام

فكتب إليه زياد-  من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن بن فاطمة-  أما بعد فقد أتاني كتابك تبدأ فيه بنفسك قبلي-  و أنت طالب حاجة و أنا سلطان و أنت سوقة-  و تأمرني فيه بأمر المطاع المسلط على رعيته-  كتبت إلي في فاسق آويته-  إقامة منك على سوء الرأي و رضا منك بذلك-  و ايم الله لا تسبقني به و لو كان بين جلدك و لحمك-  و إن نلت بعضك غير رفيق بك و لا مرع عليك-  فإن أحب لحم علي أن آكله-  للحم الذي أنت منه-  فسلمه بجريرته إلى من هو أولى به منك-  فإن عفوت عنه لم أكن شفعتك فيه-  و إن قتلته لم أقتله إلا لحبه أباك الفاسق-  و السلام- .

فلما ورد الكتاب على الحسن ع قرأه و تبسم-  و كتب بذلك إلى معاوية-  و جعل كتاب زياد عطفه و بعث به إلى الشام-  و كتب جواب كتابه كلمتين لا ثالثة لهما-  من الحسن بن فاطمة إلى زياد بن سمية أما بعد فإن رسول الله ص قال-  الولد للفراش و للعاهر الحجر-  و السلام

 فلما قرأ معاوية كتاب زياد إلى الحسن ضاقت به الشام-  و كتب إلى زياد-  أما بعد فإن الحسن بن علي بعث إلي بكتابك إليه-  جوابا عن كتاب كتبه‏ إليك في ابن سرح-  فأكثرت العجب منك و علمت أن لك رأيين-  أحدهما من أبي سفيان و الآخر من سمية-  فأما الذي من أبي سفيان فحلم و حزم-  و أما الذي من سمية فما يكون من رأي مثلها-  من ذلك كتابك إلى الحسن تشتم أباه-  و تعرض له بالفسق و لعمري إنك الأولى بالفسق من أبيه-  فأما أن الحسن بدأ بنفسه ارتفاعا عليك-  فإن ذلك لا يضعك لو عقلت-  و أما تسلطه عليك بالأمر-  فحق لمثل الحسن أن يتسلط-  و أما تركك تشفيعه فيما شفع فيه إليك-  فحظ دفعته عن نفسك إلى من هو أولى به منك-  فإذا ورد عليك كتابي فخل ما في يديك لسعيد بن أبي سرح-  و ابن له داره و اردد عليه ماله و لا تعرض له-  فقد كتبت إلى الحسن أن يخيره-  إن شاء أقام عنده و إن شاء رجع إلى بلده-  و لا سلطان لك عليه لا بيد و لا لسان-  و أما كتابك إلى الحسن باسمه و اسم أمه-  و لا تنسبه إلى أبيه-  فإن الحسن ويحك من لا يرمى به الرجوان-  و إلى أي أم وكلته لا أم لك-  أ ما علمت أنها فاطمة بنت رسول الله ص-  فذاك أفخر له لو كنت تعلمه و تعقله-  و كتب في أسفل الكتاب شعرا من جملته- 

 أما حسن فابن الذي كان قبله
إذا سار سار الموت حيث يسير

و هل يلد الرئبال إلا نظيره‏
و ذا حسن شبه له و نظير

و لكنه لو يوزن الحلم و الحجا
بأمر لقالوا يذبل و ثبير

و روى الزبير بن بكار في الموفقيات- أن عبد الملك أجرى خيلا فسبقه عباد بن زياد- فأنشد عبد الملك-

سبق عباد و صلت لحيته
و كان خرازا تجود قربته‏

فشكا عباد قول عبد الملك إلى خالد بن يزيد بن معاوية-  فقال له أما و الله لأنصفنك منه بحيث يكره-  فزوجه أخته فكتب الحجاج إلى عبد الملك-  يا أمير المؤمنين إن مناكح آل أبي سفيان قد ضاعت-  فأخبر عبد الملك خالدا بما كتب به الحجاج-  فقال خالد يا أمير المؤمنين-  ما أعلم امرأة منا ضاعت و نزلت-  إلا عاتكة بنت يزيد بن معاوية فإنها عندك-  و لم يعن الحجاج غيرك-  قال عبد الملك بل عنى الدعي ابن الدعي عبادا-  قال خالد يا أمير المؤمنين ما أنصفتني-  أدعي رجلا ثم لا أزوجه-  إنما كنت ملوما لو زوجت دعيك-  فأما دعيي فلم لا أزوجه- . فأما أول ما ارتفع به زياد-  فهو استخلاف ابن عباس له على البصرة-  في خلافة علي ع-  و بلغت عليا عنه هنات فكتب إليه يلومه و يؤنبه-  فمنها الكتاب الذي ذكر الرضي رحمه الله بعضه-  و قد شرحنا فيما تقدم ما ذكر الرضي منه-  و كان علي ع أخرج إليه سعدا مولاه-  يحثه على حمل مال البصرة إلى الكوفة-  و كان بين سعد و زياد ملاحاة و منازعة-  و عاد سعد و شكاه إلى علي ع و عابه- 

 فكتب علي ع إليه أما بعد فإن سعدا ذكر أنك شتمته ظلما-  و هددته و جبهته تجبرا و تكبرا-  فما دعاك إلى التكبر و قد قال رسول الله ص-  الكبر رداء الله-  فمن نازع الله رداءه قصمه-  و قد أخبرني أنك تكثر من الألوان المختلفة في الطعام-  في اليوم الواحد-و تدهن كل يوم فما عليك لو صمت لله أياما-  و تصدقت ببعض ما عندك محتسبا-  و أكلت طعامك مرارا قفارا-  فإن ذلك شعار الصالحين-  أ فتطمع و أنت متمرغ في النعيم-  تستأثر به على الجار و المسكين و الضعيف و الفقير-  و الأرملة و اليتيم-  أن يحسب لك أجر المتصدقين-  و أخبرني أنك تتكلم بكلام الأبرار و تعمل عمل الخاطئين-  فإن كنت تفعل ذلك فنفسك ظلمت و عملك أحبطت-  فتب إلى ربك يصلح لك عملك و اقتصد في أمرك-  و قدم إلى ربك الفضل ليوم حاجتك و ادهن غبا-  فإني سمعت رسول الله ص يقول-  ادهنوا غبا و لا تدهنوا رفها- .

فكتب إليه زياد أما بعد يا أمير المؤمنين-  فإن سعدا قدم علي فأساء القول و العمل-  فانتهرته و زجرته-  و كان أهلا لأكثر من ذلك-  و أما ما ذكرت من الإسراف و اتخاذ الألوان-  من الطعام و النعم-  فإن كان صادقا فأثابه الله ثواب الصالحين-  و إن كان كاذبا فوقاه الله أشد عقوبة الكاذبين-  و أما قوله إني أصف العدل و أخالفه إلى غيره-  فإني إذن من الأخسرين-  فخذ يا أمير المؤمنين بمقال قلته في مقام قمته-  الدعوى بلا بينة كالسهم بلا نصل-  فإن أتاك بشاهدي عدل-  و إلا تبين لك كذبه و ظلمه- . و من كلام زياد تأخير جزاء المحسن لؤم-  و تعجيل عقوبة المسي‏ء طيش- . و كتب إليه معاوية أما بعد-  فاعزل حريث بن جابر عن العمل-  فإني لا أذكر مقاماته بصفين إلا كانت حزازة في صدري-  فكتب إليه زياد-  أما بعد فخفض عليك يا أمير المؤمنين-  فإن حريثا قد سبق شرفا لا يرفعه معه عمل-  و لا يضعه معه عزل- .

 

و قال لابنه عبيد الله عليك بالحجاب-  و إنما اجترأت الرعاة على السباع بكثرة نظرها إليها- . و من كلامه أحسنوا إلى أهل الخراج-  فإنكم لا تزالون سمانا ما سمنوا- . قدم رجل خصما له إلى زياد في حق له عليه و قال-  أيها الأمير-  إن هذا يدل بخاصة ذكر أنها له منك-  قال زياد صدق-  و سأخبرك بما ينفعه عندي من خاصته و مودته-  إن يكن له الحق عليك آخذك به أخذا عنيفا-  و إن يكن الحق لك قضيت عليه ثم قضيت عنه- . و قال ليس العاقل من يحتال للأمر إذا وقع فيه-  لكن العاقل من يحتال للأمر ألا يقع فيه- .

و قال في خطبة له-  إلا رب مسرور بقدومنا لا نسره و خائف ضرنا لا نضره- . كان مكتوبا في الحيطان الأربعة-  في قصر زياد كتابة بالجص-  أربعة أسطر أولها-  الشدة في غير عنف و اللين في غير ضعف-  و الثاني المحسن مجازى بإحسانه و المسي‏ء يكافأ بإساءته-  و الثالث العطيات و الأرزاق في إبانها و أوقاتها-  و الرابع لا احتجاب عن صاحب ثغر و لا عن طارق ليل- . و قال يوما على المنبر-  إن الرجل ليتكلم بالكلمة يشفي بها غيظه-  لا يقطع بها ذنب عنز فتضره-  لو بلغتنا عنه لسفكنا دمه- . و قال ما قرأت كتاب رجل قط إلا عرفت عقله منه- . و قال في خطبة استوصوا بثلاثة منكم خيرا-  الشريف و العالم و الشيخ-  فو الله لا يأتيني وضيع بشريف يستخف به إلا انتقمت منه-  أو شاب بشيخ يستخف به إلا أوجعته ضربا-  و لا جاهل بعالم يستخف به إلا نكلت به- .

 

و قيل لزياد ما الحظ-  قال أن يطول عمرك و ترى في عدوك ما يسرك- . قيل كان زياد يقول-  هما طريقان للعامة الطاعة و السيف- . و كان المغيرة يقول-  لا و الله حتى يحملوا على سبعين طريقا غير السيف- . و قال الحسن البصري لرجل-  أ لا تحدثني بخطبتي زياد و الحجاج حين دخلا العراق-  قال بلى أما زياد فلما قدم البصرة-  حمد الله و أثنى عليه ثم قال أما بعد-  فإن معاوية غير مخوف على قومه-  و لم يكن ليلحق بنسبة من ليس منه-  و قد شهدت الشهود بما قد بلغكم-  و الحق أحق أن يتبع-  و الله حيث وضع البينات كان أعلم-  و قد رحلت عنكم و أنا أعرف صديقي من عدوي-  ثم قدمت عليكم و قد صار العدو صديقا مناصحا-  و الصديق عدوا مكاشحا-  فليشتمل كل امرئ على ما في صدره-  و لا يكونن لسانه شفرة تجري على أوداجه-  و ليعلم أحدكم إذا خلا بنفسه أني قد حملت سيفي بيدي-  فإن أشهره لم أغمده و إن أغمده لم أشهره-  ثم نزل-  و أما الحجاج فإنه قال-  من أعياه داؤه فعلي دواؤه-  و من استبطأ أجله فعلي أن أعجله-  ألا إن الحزم و العزم استلبا مني سوطي-  و جعلا سوطي سيفي-  فنجاده في عنقي و قائمه بيدي-  و ذبابه قلادة لمن اغتر بي- .

فقال الحسن البؤس لهما ما أغرهما بربهما-  اللهم اجعلنا ممن يعتبر بهما- . و قال بعضهم ما رأيت زيادا كاسرا إحدى عينيه-  واضعا إحدى رجليه على الأخرى-  يخاطب رجلا إلا رحمت المخاطب- . و من كلامه نعم الشي‏ء الإمارة-  لو لا قعقعة لجام البريد و تسنم ذروة المنبر- .

قال لحاجبه يا عجلان-  إني قد وليتك هذا الباب و عزلتك عن أربعة-  المنادي إذا جاء يؤذن بالصلاة-  فإنها كانت كتابا موقوتا-  و رسول صاحب الثغر-  فإنه إن أبطأ ساعة فسد تدبير سنة-  و طارق الليل فشر ما جاء به-  و الطباخ إذا فرغ من الطعام-  فإنه متى أعيد عليه التسخين فسد- . و كان حارثة بن بدر الغداني قد غلب على زياد-  و كان حارثة مشتهرا بالشراب-  فقيل لزياد في ذلك فقال-  كيف بإطراح رجل هو يسايرني منذ قدمت العراق-  فلا يصل ركابه ركابي-  و لا تقدمني قط فنظرت إلى قفاه-  و لا تأخر عني فلويت عنقي إليه-  و لا أخذ علي الشمس في شتاء قط-  و لا الروح في صيف قط-  و لا سألته عن علم إلا ظننته لا يحسن غيره- . و من كلامه كفى بالبخل عارا أن اسمه لم يقع في حمد قط-  و كفى بالجود فخرا أن اسمه لم يقع في ذم قط- . و قال ملاك السلطان الشدة على المريب-  و اللين للمحسن و صدق الحديث و الوفاء بالعهد- . و قال ما أتيت مجلسا قط-  إلا تركت منه ما لو أخذته لكان لي-  و ترك ما لي أحب إلي من أخذ ما ليس لي- . و قال ما قرأت مثل كتب الربيع بن زياد الحارثي-  ما كتب إلي كتابا قط إلا في اجترار منفعة-  أو دفع مضرة-  و لا شاورته يوما قط في أمر مبهم إلا و سبق إلى الرأي- .

و قال يعجبني من الرجل-  إذا أتى مجلسا أن يعلم أين مكانه منه-  فلا يتعداه إلى غيره-  و إذا سيم خطة خسف أن يقول لا بمل‏ء فيه- . فأما خطبة زياد المعروفة بالبتراء-  و إنما سميت بذلك لأنه لم يحمد الله فيها-  و لا صلى على رسوله-  فقد ذكرها علي بن محمد المدائني قال-  قدم زياد البصرة أميرا عليها أيام معاوية-  و الفسق فيها فاش جدا-  و أموال الناس منتهبة و السياسة ضعيفة-  فصعد المنبر فقال-أما بعد فإن الجاهلية الجهلاء و الضلالة العمياء-  و الغي الموفد لأهله على النار-  ما فيه سفهاؤكم و يشتمل عليه حلماؤكم-  من الأمور العظام-  ينبت فيها الصغير و لا يتحاشى منها الكبير-  كأنكم لم تقرءوا كتاب الله-  و لم تستمعوا ما أعد من الثواب الكثير لأهل طاعته-  و العذاب الأليم لأهل معصيته-  في الزمن السرمد الذي لا يزول- . أ تكونون كمن طرفت عينه الدنيا-  و سدت مسامعه الشهوات و اختار الفانية على الباقية-  لا تذكرون أنكم أحدثتم في الإسلام الحدث-  الذي لم تسبقوا به-  من ترككم الضعيف يقهر و يؤخذ ماله-  و الضعيفة المسلوبة في النهار المبصر- 

هذا و العدد غير قليل- . أ لم يكن منكم نهاه تمنع الغواة-  عن دلج الليل و غارة النهار-  قربتم القرابة-  و باعدتم الذين يعتذرون بغير العذر-  و يعطون على المختلس-  كل امرئ منكم يذب عن سيفه-  صنيع من لا يخاف عاقبة و لا يرجو معادا-  ما أنتم بالحلماء و قد اتبعتم السفهاء-  فلم يزل بهم ما ترون من قيامكم دونهم-  حتى انتهكوا حرمة الإسلام-  ثم أطرقوا وراءكم كنوسا في مكانس الريب-  حرم علي الطعام و الشراب-  حتى أسويها بالأرض هدما و إحراقا-  إني رأيت آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله-  لين في غير ضعف و شدة في غير عنف-  و أنا أقسم بالله لآخذن الولي بالولي و الظاعن بالظاعن-  و المقبل بالمدبر و الصحيح منكم في نفسه بالسقيم-  حتى يلقى الرجل أخاه فيقول-  انج سعد فقد هلك سعيد أو تستقيم لي قناتكم- .

إن كذبة المنبر تلفى مشهورة-  فإذا تعلقتم علي بكذبة فقد حلت لكم معصيتي-  من نقب عليه منكم فأنا ضامن لما ذهب منه-  فإياكم و دلج الليل فإني لا أوتى بمدلج إلا سفكت دمه-  و قد أجلتكم بقدر ما يأتي الخبر الكوفة و يرجع إليكم- . إياكم و دعوى الجاهلية-  فإني لا أجد أحدا دعا بها إلا قطعت لسانه-  و قد أحدثتم أحداثا و قد أحدثنا لكل ذنب عقوبة-  فمن غرق بيوت قوم غرقناه-  و من حرق على قوم حرقناه-  و من نقب على أحد بيتا نقبنا على قلبه-  و من نبش قبرا دفناه فيه حيا- .

كفوا عني أيديكم و ألسنتكم أكف عنكم يدي و لساني-  و لا يظهرن من أحدكم خلاف ما عليه عامتكم فأضرب عنقه-  و قد كانت بيني و بين أقوام إحن-  فقد جعلت ذلك وراء أذني و تحت قدمي-  فمن كان منكم محسنا فليزدد إحسانا-  و من كان مسيئا فلينزع عن إساءته-  إني لو علمت أن أحدكم قد قتله السلال من بغضي-  لم أكشف عنه قناعا-  و لم أهتك له سترا حتى يبدي لي صفحته-  فإذا فعل لم أناظره-  فاستأنفوا أموركم و أعينوا على أنفسكم-  فرب مبتئس بقدومنا سيسر و مسرور بقدومنا سيبأس أيها الناس إنا أصبحنا لكم ساسة و عنكم ذادة-  نسوسكم بسلطان الله الذي أعطاناه-  و نذود عنكم بفي‏ء الله الذي خولناه-  فلنا عليكم السمع و الطاعة فيما أحببنا-  و لكم علينا العدل و الإنصاف فيما ولينا-  فاستوجبوا عدلنا و فيئنا بمناصحتكم لنا- 

و اعلموا أني مهما قصرت عنه فلن أقصر عن ثلاث-  لست محتجبا عن طالب حاجة منكم- و لا حابسا عطاء و لا مجمرا بعثا-  فادعوا الله بالصلاح لأئمتكم-  فإنهم ساستكم المؤدبون و كهفكم الذي إليه تأوون-  و متى يصلحوا تصلحوا-  فلا تشربوا قلوبكم بغضهم فيشتد لذلك غيظكم-  و يطول لذلك حزنكم-  و لا تدركوا حاجتكم-  مع أنه لو استجيب لأحد منكم لكان شرا لكم-  أسأل الله أن يعين كلا على كل-  و إذا رأيتموني أنفذ فيكم الأمر فانفذوه على أذلاله-  و ايم الله إن لي فيكم لصرعى كثيرة-  فليحذر كل امرئ منكم أن يكون من صرعاي- . فقام عبد الله بن الأهتم فقال أشهد أيها الأمير-  لقد أوتيت الحكمة و فصل الخطاب- .

فقال كذبت ذاك نبي الله داود- . فقام الأحنف فقال إنما الثناء بعد البلاء-  و الحمد بعد العطاء و إنا لا نثني حتى نبتلى-  و لا نحمد حتى نعطى فقال زياد صدقت-  فقام أبو بلال مرداس بن أدية يهمس و يقول-  أنبأنا الله بغير ما قلت فقال-  وَ إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى-  أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى‏-  فسمعها زياد فقال يا أبا بلال-  إنا لا نبلغ ما نريد بأصحابك-  حتى نخوض إليهم الباطل خوضا- . و روى الشعبي قال-  قدم زياد الكوفة لما جمعت له مع البصرة-  فدنوت من المنبر لأسمع كلامه-  فلم أر أحدا يتكلم فيحسن-  إلا تمنيت أن يسكت مخافة أن يسي‏ء-  إلا زيادا فإنه كان لا يزداد إكثارا إلا ازداد إحسانا-  فكنت أتمنى ألا يسكت- .

 

و روى الشعبي أيضا قال-  لما خطب زياد خطبته البتراء بالبصرة-  و نزل سمع تلك الليلة أصوات الناس يتحارسون-  فقال ما هذا قالوا إن البلد مفتونة-  و إن المرأة من أهل المصر لتأخذها الفتيان الفساق-  فيقال لها نادي ثلاث أصوات-  فإن أجابك أحد و إلا فلا لوم علينا فيما نصنع-  فغضب فقال ففيم أنا و فيم قدمت-  فلما أصبح أمر فنودي في الناس-  فاجتمعوا فقال أيها الناس-  إني قد نبئت بما أنتم فيه و سمعت ذروا منه-  و قد أنذرتكم و أجلتكم شهرا مسير الرجل إلى الشام-  و مسيره إلى خراسان و مسيره إلى الحجاز-  فمن وجدناه بعد شهر-  خارجا من منزله بعد العشاء الآخرة فدمه هدر-  فانصرف الناس يقولون-  هذا القول كقول من تقدمه من الأمراء-  فلما كمل الشهر دعا صاحب شرطته-  عبد الله بن حصين اليريوعي-  و كانت رجال الشرطة معه أربعة آلاف-  فقال له هيئ خيلك و رجلك-  فإذا صليت العشاء الآخرة-  و قرأ القارئ مقدار سبع من القرآن-  و رفع الطن القصب من القصر-  فسر و لا تلقين أحدا عبيد الله بن زياد فمن دونه-  إلا جئتني برأسه-  و إن راجعتني في أحد ضربت عنقك- .

قال فصبح على باب القصر تلك الليلة سبعمائة رأس-  ثم خرج الليلة الثانية فجاء بخمسين رأسا-  ثم خرج الليلة الثالثة فجاء برأس واحد-  ثم لم يجي‏ء بعدها بشي‏ء-  و كان الناس إذا صلوا العشاء الآخرة-  أحضروا إلى منازلهم شدا حثيثا-  و قد يترك بعضهم نعاله- . كتبت عائشة إلى زياد كتابا-  فلم تدر ما تكتب عنوانه-  إن كتبت زياد بن عبيد أو ابن أبيه أغضبته-  و إن كتبت زياد بن أبي سفيان أثمت-  فكتبت من أم المؤمنين إلى ابنها زياد-  فلما قرأه ضحك و قال-  لقد لقيت أم المؤمنين من هذا العنوان نصبا

 

 

نامه 43 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

43 و من كتاب له ع-  إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني-  و كان عامله على أردشيرخرة

بَلَغَنِي عَنْكَ أَمْرٌ إِنْ كُنْتَ فَعَلْتَهُ فَقَدْ أَسْخَطْتَ إِلَهَكَ-  وَ عَصَيْتَ إِمَامَكَ-  أَنَّكَ تَقْسِمُ فَيْ‏ءَ الْمُسْلِمِينَ-  الَّذِي حَازَتْهُ رِمَاحُهُمْ وَ خُيُولُهُمْ وَ أُرِيقَتْ عَلَيْهِ دِمَاؤُهُمْ-  فِيمَنِ اعْتَامَكَ مِنْ أَعْرَابِ قَوْمِكَ-  فَوَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَ بَرَأَ النَّسَمَةَ-  لَئِنْ كَانَ ذَلِكَ حَقّاً-  لَتَجِدَنَّ لَكَ عَلَيَّ هَوَاناً وَ لَتَخِفَّنَّ عِنْدِي مِيزَاناً-  فَلَا تَسْتَهِنْ بِحَقِّ رَبِّكَ-  وَ لَا تُصْلِحْ دُنْيَاكَ بِمَحْقِ دِينِكَ-  فَتَكُونَ مِنَ الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا-  أَلَا وَ إِنَّ حَقَّ مَنْ قِبَلَكَ وَ قِبَلَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ-  فِي قِسْمَةِ هَذَا الْفَيْ‏ءِ سَوَاءٌ-  يَرِدُونَ عِنْدِي عَلَيْهِ وَ يَصْدُرُونَ عَنْهُ قد تقدم ذكر نسب مصقلة بن هبيرة-  و أردشيرخرة كورة من كور فارس- . و اعتامك اختارك من بين الناس-  أصله من العيمة بالكسر و هي خيار المال-  اعتام المصدق إذا أخذ العيمة-  و قد روي فيمن اعتماك بالقلب-  و الصحيح‏المشهور الأول- 

و روي و لتجدن بك عندي هوانا بالباء-  و معناها اللام-  و لتجدن بسبب فعلك هوانك عندي-  و الباء ترد للسببية كقوله تعالى-  فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ- . و المحق الإهلاك- . و المعنى أنه نهى مصقلة-  عن أن يقسم الفي‏ء على أعراب قومه-  الذين اتخذوه سيدا و رئيسا-  و يحرم المسلمين الذين حازوه بأنفسهم و سلاحهم-  و هذا هو الأمر الذي كان ينكره على عثمان-  و هو إيثار أهله و أقاربه بمال الفي‏ء-  و قد سبق شرح مثل ذلك مستوفى

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 16

نامه 42 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

42 و من كتاب له ع إلى عمر بن أبي سلمة المخزومي

و كان عامله على البحرين-  فعزله و استعمل النعمان بن عجلان الزرقي مكانه- : أَمَّا بَعْدُ-  فَإِنِّي قَدْ وَلَّيْتُ النُّعْمَانَ بْنِ عَجْلَانَ الزُّرَقِيَّ عَلَى الْبَحْرَيْنِ-  وَ نَزَعْتُ يَدَكَ بِلَا ذَمٍّ لَكَ وَ لَا تَثْرِيبٍ عَلَيْكَ-  فَلَقَدْ أَحْسَنْتَ الْوِلَايَةَ وَ أَدَّيْتَ الْأَمَانَةَ-  فَأَقْبِلْ غَيْرَ ظَنِينٍ وَ لَا مَلُومٍ-  وَ لَا مُتَّهَمٍ وَ لَا مَأْثُومٍ-  فَقَدْ أَرَدْتُ الْمَسِيرَ إِلَى ظَلَمَةِ أَهْلِ الشَّامِ-  وَ أَحْبَبْتُ أَنْ تَشْهَدَ مَعِي-  فَإِنَّكَ مِمَّنْ أَسْتَظْهِرُ بِهِ عَلَى جِهَادِ الْعَدُوِّ-  وَ إِقَامَةِ عَمُودِ الدِّينِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ

عمر بن أبي سلمة و نسبه و بعض أخباره

أما عمر بن أبي سلمة فهو ربيب رسول الله ص-  و أبوه أبو سلمة بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر-  بن مخزوم بن يقظة-  يكنى أبا حفص-  ولد في السنة الثانية من الهجرة بأرض الحبشة-  و قيل إنه كان يوم قبض رسول الله ص ابن تسع سنين-  و توفي في المدينة في خلافة عبد الملك-  سنة ثلاث و ثمانين-  و قد حفظ عن رسول الله ص الحديث-  و روى عنه سعيد بن المسيب و غيره-  ذكرذلك كله ابن عبد البر في كتاب الإستيعاب

النعمان بن عجلان و نسبه و بعض أخباره

و أما النعمان بن عجلان الزرقي فمن الأنصار-  ثم من بني زريق-  و هو الذي خلف على خولة-  زوجة حمزة بن عبد المطلب رحمه الله بعد قتله-  قال ابن عبد البر في كتاب الإستيعاب-  كان النعمان هذا لسان الأنصار و شاعرهم-  و يقال إنه كان رجلا أحمر قصيرا تزدريه العين-  إلا أنه كان سيدا و هو القائل يوم السقيفة- 

و قلتم حرام نصب سعد و نصبكم
عتيق بن عثمان حلال أبا بكر

و أهل أبو بكر لها خير قائم‏
و إن عليا كان أخلق بالأمر

و إن هوانا في علي و إنه
لأهل لها من حيث يدرى و لا يدرى‏

قوله و لا تثريب عليك-  فالتثريب الاستقصاء في اللوم-  و يقال ثربت عليه و عربت عليه-  إذا قبحت عليه فعله- . و الظنين المتهم و الظنة التهمة و الجمع الظنن-  يقول قد أظن زيد عمرا-  و الألف ألف وصل و الظاء مشددة-  و النون مشددة أيضا-  و جاء بالطاء المهملة أيضا أي اتهمه-  و في حديث ابن سيرين-  لم يكن علي ع يظن في قتل عثمان-  الحرفان مشددان و هو يفتعل من يظنن و أدغم-  قال الشاعر

    و ما كل من يظنني أنا معتب
و ما كل ما يروى علي أقول‏

 شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 16

 

نامه 41 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

41 و من كتاب له ع إلى بعض عماله

أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي كُنْتُ أَشْرَكْتُكَ فِي أَمَانَتِي-  وَ جَعَلْتُكَ شِعَارِي وَ بِطَانَتِي-  وَ لَمْ يَكُنْ فِي أَهْلِي رَجُلٌ أَوْثَقَ مِنْكَ فِي نَفْسِي-  لِمُوَاسَاتِي وَ مُوَازَرَتِي وَ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ إِلَيَّ-  فَلَمَّا رَأَيْتَ الزَّمَانَ عَلَى ابْنِ عَمِّكَ قَدْ كَلِبَ-  وَ الْعَدُوَّ قَدْ حَرِبَ وَ أَمَانَةَ النَّاسِ قَدْ خَزِيَتْ-  وَ هَذِهِ الْأُمَّةُ قَدْ فَتَكَتْ وَ شَغَرَتْ-  قَلَبْتَ لِابْنِ عَمِّكَ ظَهْرَ الْمِجَنِّ-  فَفَارَقْتَهُ مَعَ الْمُفَارِقِينَ وَ خَذَلْتَهُ مَعَ الْخَاذِلِينَ-  وَ خُنْتَهُ مَعَ الْخَائِنِينَ-  فَلَا ابْنَ عَمِّكَ آسَيْتَ وَ لَا الْأَمَانَةَ أَدَّيْتَ-  وَ كَأَنَّكَ لَمْ تَكُنِ اللَّهَ تُرِيدُ بِجِهَادِكَ-  وَ كَأَنَّكَ لَمْ تَكُنْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكَ-  وَ كَأَنَّكَ إِنَّمَا كُنْتَ تَكِيدُ هَذِهِ الْأُمَّةَ عَنْ دُنْيَاهُمْ-  وَ تَنْوِي غِرَّتَهُمْ عَنْ فَيْئِهِمْ-  فَلَمَّا أَمْكَنَتْكَ الشِّدَّةُ فِي خِيَانَةِ الْأُمَّةِ أَسْرَعْتَ الْكَرَّةَ-  وَ عَاجَلْتَ الْوَثْبَةَ وَ اخْتَطَفْتَ مَا قَدَرْتَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمُ-  الْمَصُونَةِ لِأَرَامِلِهِمْ وَ أَيْتَامِهِمُ-  اخْتِطَافَ الذِّئْبِ الْأَزَلِّ دَامِيَةَ الْمِعْزَى الْكَسِيرَةَ-  فَحَمَلْتَهُ إِلَى الْحِجَازِ رَحِيبَ الصَّدْرِ بِحَمْلِهِ-  غَيْرَ مُتَأَثِّمٍ مِنْ أَخْذِهِ-  كَأَنَّكَ لَا أَبَا لِغَيْرِكَ-  حَدَرْتَ إِلَى أَهْلِكَ تُرَاثَكَ مِنْ أَبِيكَ وَ أُمِّكَ-  فَسُبْحَانَ اللَّهِ أَ مَا تُؤْمِنُ بِالْمَعَادِ-  أَ وَ مَا تَخَافُ نِقَاشَ الْحِسَابِ-  أَيُّهَا الْمَعْدُودُ كَانَ عِنْدَنَا مِنْ أُولِي الْأَلْبَابِ-  كَيْفَ تُسِيغُ شَرَاباً وَ طَعَاماً-  وَ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ تَأْكُلُ حَرَاماً وَ تَشْرَبُ حَرَاماً-  وَ تَبْتَاعُ الْإِمَاءَ وَ تَنْكِحُ النِّسَاءَ-  مِنْ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَ الْمَسَاكِينِ‏وَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُجَاهِدِينَ-  الَّذِينَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْأَمْوَالَ-  وَ أَحْرَزَ بِهِمْ هَذِهِ الْبِلَادَ-  فَاتَّقِ اللَّهَ وَ ارْدُدْ إِلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ أَمْوَالَهُمْ-  فَإِنَّكَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ ثُمَّ أَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْكَ-  لَأُعْذِرَنَّ إِلَى اللَّهِ فِيكَ-  وَ لَأَضْرِبَنَّكَ بِسَيْفِي الَّذِي مَا ضَرَبْتُ بِهِ أَحَداً-  إِلَّا دَخَلَ النَّارَ-  وَ وَ اللَّهِ لَوْ أَنَّ الْحَسَنَ وَ الْحُسَيْنَ فَعَلَا مِثْلَ الَّذِي فَعَلْتَ-  مَا كَانَتْ لَهُمَا عِنْدِي هَوَادَةٌ وَ لَا ظَفِرَا مِنِّي بِإِرَادَةٍ-  حَتَّى آخُذُ الْحَقَّ مِنْهُمَا وَ أُزِيحَ الْبَاطِلَ عَنْ مَظْلَمَتِهِمَا-  وَ أُقْسِمُ بِاللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ-  مَا يَسُرُّنِي أَنَّ مَا أَخَذْتَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ حَلَالٌ لِي-  أَتْرُكُهُ مِيرَاثاً لِمَنْ بَعْدِي فَضَحِّ رُوَيْداً-  فَكَأَنَّكَ قَدْ بَلَغْتَ الْمَدَى وَ دُفِنْتَ تَحْتَ الثَّرَى-  وَ عُرِضَتْ عَلَيْكَ أَعْمَالُكَ بِالْمَحَلِّ-  الَّذِي يُنَادِي الظَّالِمُ فِيهِ بِالْحَسْرَةِ-  وَ يَتَمَنَّى الْمُضَيِّعُ فِيهِ الرَّجْعَةَ وَ لَاتَ حِينَ مَنَاصٍ أشركتك في أمانتي-  جعلتك شريكا فيما قمت فيه من الأمر-  و ائتمنني الله عليه من سياسة الأمة-  و سمى الخلافة أمانة-  كما سمى الله تعالى التكليف أمانة في قوله-  إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ-  فأما قوله و أداء الأمانة إلي فأمر آخر-  و مراده بالأمانة الثانية ما يتعارفه الناس من قولهم-  فلان ذو أمانة أي لا يخون فيما أسند إليه- . و كلب الزمان اشتد و كذلك كلب البرد- .

و حرب العدو استأسد-  و خزيت أمانة الناس ذلت و هانت- . و شغرت الأمة خلت من الخير-  و شغر البلد خلا من الناس- . و قلبت له ظهر المجن-  إذا كنت معه فصرت عليه-  و أصل ذلك أن الجيش إذا لقوا العدو-  و كانت ظهور مجانهم إلى وجه العدو-  و بطون مجانهم إلى وجه عسكرهم-  فإذا فارقوا رئيسهم و صاروا مع العدو-  كان وضع مجانهم بدلا من الوضع الذي كان من قبل-  و ذلك أن ظهور الترسة لا يمكن أن تكون-  إلا في وجوه الأعداء لأنها مرمى سهامهم- .

و أمكنتك الشدة أي الحملة- . قوله أسرعت الكرة-  لا يجوز أن يقال الكرة إلا بعد فرة-  فكأنه لما كان مقلعا في ابتداء الحال-  عن التعرض لأموالهم-  كان كالفار عنها-  فلذلك قال أسرعت الكرة- . و الذئب الأزل الخفيف الوركين-  و ذلك أشد لعدوه و أسرع لوثبته-  و إن اتفق أن تكون شاة من المعزى كثيرة و دامية أيضا-  كان الذئب على اختطافها أقدر- . و نقاش الحساب مناقشته- . قوله فضح رويدا-  كلمة تقال لمن يؤمر بالتؤدة و الأناة و السكون-  و أصلها الرجل يطعم إبله ضحى-  و يسيرها مسرعا ليسير فلا يشبعها-  فيقال له ضح رويدا

اختلاف الرأي فيمن كتب له هذا الكتاب

و قد اختلف الناس في المكتوب إليه هذا الكتاب-  فقال الأكثرون إنه عبد الله بن العباس رحمه الله-  و رووا في ذلك روايات-  و استدلوا عليه بألفاظ من ألفاظ الكتاب‏كقوله-  أشركتك في أمانتي و جعلتك بطانتي و شعاري-  و أنه لم يكن في أهلي رجل أوثق منك-  و قوله على ابن عمك قد كلب-  ثم قال ثانيا قلبت لابن عمك ظهر المجن-  ثم قال ثالثا و لابن عمك آسيت-  و قوله لا أبا لغيرك-  و هذه كلمة لا تقال إلا لمثله-  فأما غيره من أفناء الناس-  فإن عليا ع كان يقول لا أبا لك- . و قوله أيها المعدود كان عندنا من أولي الألباب-  و قوله لو أن الحسن و الحسين ع-  و هذا يدل على أن المكتوب إليه هذا الكتاب-  قريب من أن يجري مجراهما عنده- . و قد روى أرباب هذا القول أن عبد الله بن عباس-  كتب إلى علي ع-  جوابا من هذا الكتاب قالوا و كان جوابه-  أما بعد فقد أتاني كتابك-  تعظم علي ما أصبت من بيت مال البصرة-  و لعمري أن حقي في بيت المال أكثر مما أخذت و السلام- .

قالوا فكتب إليه علي ع أما بعد فإن من العجب أن تزين لك نفسك-  أن لك في بيت مال المسلمين من الحق-  أكثر مما لرجل واحد من المسلمين-  فقد أفلحت إن كان تمنيك الباطل-  و ادعاؤك ما لا يكون ينجيك من المأثم-  و يحل لك المحرم-  إنك لأنت المهتدي السعيد إذا-  و قد بلغني أنك اتخذت مكة وطنا-  و ضربت بها عطنا-  تشتري بها مولدات مكة و المدينة و الطائف-  تختارهن على عينك و تعطي فيهن مال غيرك-  فارجع هداك الله إلى رشدك و تب إلى الله ربك-  و أخرج إلى المسلمين من أموالهم-  فعما قليل تفارق من ألفت و تترك ما جمعت-  و تغيب في صدع من الأرض غير موسد و لا ممهد-  قد فارقت الأحباب و سكنت التراب و واجهت الحساب-  غنيا عما خلفت فقيرا إلى ما قدمت-  و السلام- .

 قالوا فكتب إليه ابن عباس-  أما بعد فإنك قد أكثرت علي-  و و الله لأن ألقى الله قد احتويت على كنوز الأرض كلها-  و ذهبها و عقيانها و لجينها-  أحب إلي من أن ألقاه بدم امرئ مسلم و السلام- . و قال آخرون و هم الأقلون هذا لم يكن-  و لا فارق عبد الله بن عباس عليا ع و لا باينه و لا خالفه-  و لم يزل أميرا على البصرة إلى أن قتل علي ع- . قالوا و يدل على ذلك-  ما رواه أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني-  من كتابه الذي كتبه إلى معاوية من البصرة-  لما قتل علي ع-  و قد ذكرناه من قبل-  قالوا و كيف يكون ذلك و لم يخدعه معاوية-  و يجره إلى جهته-  فقد علمتم كيف اختدع كثيرا من عمال أمير المؤمنين ع-  و استمالهم إليه بالأموال-  فمالوا و تركوا أمير المؤمنين ع-  فما باله و قد علم النبوة التي حدثت بينهما-  لم يستمل ابن عباس و لا اجتذبه إلى نفسه-  و كل من قرأ السير و عرف التواريخ-  يعرف مشاقة ابن عباس لمعاوية بعد وفاة علي ع-  و ما كان يلقاه به من قوارع الكلام و شديد الخصام-  و ما كان يثني به على أمير المؤمنين ع-  و يذكر خصائصه و فضائله-  و يصدع به من مناقبه و مآثره-  فلو كان بينهما غبار أو كدر لما كان الأمر كذلك-  بل كانت الحال تكون بالضد لما اشتهر من أمرهما- . و هذا عندي هو الأمثل و الأصوب- . و قد قال الراوندي المكتوب إليه هذا الكتاب-  هو عبيد الله بن العباس لا عبد الله-

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 16

نامه 40 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

40 و من كتاب له ع إلى بعض عماله

أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنِي عَنْكَ أَمْرٌ-  إِنْ كُنْتَ فَعَلْتَهُ فَقَدْ أَسْخَطْتَ رَبَّكَ-  وَ عَصَيْتَ إِمَامَكَ وَ أَخْزَيْتَ أَمَانَتَكَ-  بَلَغَنِي أَنَّكَ جَرَّدْتَ الْأَرْضَ فَأَخَذْتَ مَا تَحْتَ قَدَمَيْكَ-  وَ أَكَلْتَ مَا تَحْتَ يَدَيْكَ فَارْفَعْ إِلَيَّ حِسَابَكَ-  وَ اعْلَمْ أَنَّ حِسَابَ اللَّهِ أَعْظَمُ مِنْ حِسَابِ النَّاسِ وَ السَّلَامُ

أخزيت أمانتك أذللتها و أهنتها-  و جردت الأرض قشرتها-  و المعنى أنه نسبه إلى الخيانة في المال-  و إلى إخراب الضياع-  و في حكمة أبرويز أنه قال لخازن بيت المال-  إني لا أحتملك على خيانة درهم-  و لا أحمدك على حفظ عشرة آلاف ألف درهم-  لأنك إنما تحقن بذلك دمك و تعمر به أمانتك-  و إنك إن خنت قليلا خنت كثيرا-  فاحترس من خصلتين-  من النقصان فيما تأخذ و من الزيادة فيما تعطي- 

و اعلم أني لم أجعلك على ذخائر الملك-  و عمارة المملكة و العدة على العدو-  إلا و أنت أمين عندي من الموضع الذي هي فيه-  و من خواتمها التي هي عليها-  فحقق ظني في اختياري إياك أحقق ظنك في رجائك لي-  و لا تتعوض بخير شرا و لا برفعة ضعة-  و لا بسلامة ندامة و لا بأمانة خيانة- .

 

و في الحديث المرفوع من ولي لنا عملا فليتزوج-  و ليتخذ مسكنا و مركبا و خادما-  فمن اتخذ سوى ذلك جاء يوم القيامة عادلا غالا سارقاو قال عمر في وصيته لابن مسعود-  إياك و الهدية و ليست بحرام-  و لكني أخاف عليك الدالة- . و أهدى رجل لعمر فخذ جزور فقبله-  ثم ارتفع إليه بعد أيام مع خصم له-  فجعل في أثناء الكلام يقول-  يا أمير المؤمنين افصل القضاء بيني و بينه-  كما يفصل فخذ الجزور-  فقضى عمر عليه ثم قام فخطب الناس-  و حرم الهدايا على الولاة و القضاة- . و أهدى إنسان إلى المغيرة سراجا من شبه-  و أهدى آخر إليه بغلا-  ثم اتفقت لهما خصومة في أمر فترافعا إليه-  فجعل صاحب السراج يقول-  إن أمري أضوأ من السراج-  فلما أكثر قال المغيرة ويحك-  إن البغل يرمح السراج فيكسره- . و مر عمر ببناء يبنى بآجر و جص لبعض عماله-  فقال أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها-  و روي هذا الكلام عن علي ع-  و كان عمر يقول على كل عامل أمينان الماء و الطين- . و لما قدم أبو هريرة من البحرين قال له عمر-  يا عدو الله و عدو كتابه-  أ سرقت مال الله تعالى- 

قال أبو هريرة لست بعدو الله و لا عدو كتابه-  و لكني عدو من عاداهما و لم أسرق مال الله-  فضربه بجريدة على رأسه ثم ثناه بالدرة-  و أغرمه عشرة آلاف درهم-  ثم أحضره فقال يا أبا هريرة-  من أين لك عشرة آلاف درهم-  قال خيلي تناسلت و عطائي تلاحق و سهامي تتابعت-  قال عمر كلا و الله ثم تركه أياما-  ثم قال له أ لا تعمل قال لا-  قال قد عمل من هو خير منك يا أبا هريرة-  قال من هو قال يوسف الصديق-  فقال أبو هريرة إن يوسف عمل لمن لم يضرب رأسه‏و ظهره-  و لا شتم عرضه و لا نزع ماله-  لا و الله لا أعمل لك أبدا- . و كان زياد إذا ولى رجلا قال له-  خذ عهدك و سر إلى عملك- 

و اعلم أنك محاسب رأس سنتك-  و أنك ستصير إلى أربع خصال فاختر لنفسك-  إنا إن وجدناك أمينا ضعيفا استبدلنا بك لضعفك-  و سلمتك من معرتنا أمانتك-  و إن وجدناك خائنا قويا استعنا بقوتك-  و أحسنا أدبك على خيانتك و أوجعنا ظهرك-  و أثقلنا غرمك-  و إن جمعت علينا الجرمين جمعنا عليك المضرتين-  و إن وجدناك أمينا قويا زدنا رزقك-  و رفعنا ذكرك و كثرنا مالك-  و أوطأنا الرجال عقبك- . و وصف أعرابي عاملا خائنا فقال-  الناس يأكلون أماناتهم لقما-  و هو يحسوها حسوا- . قال أنس بن أبي إياس الدؤلي لحارثة بن بدر الغداني-  و قد ولي سرق-  و يقال إنها لأبي الأسود- 

   أ حار بن بدر قد وليت ولاية
فكن جرذا فيها تخون و تسرق‏

و لا تحقرن يا حار شيئا أصبته‏
فحظك من ملك العراقين سرق‏

و باه تميما بالغنى إن للغني
لسانا به المرء الهيوبة ينطق‏

فإن جميع الناس إما مكذب‏
يقول بما تهوى و إما مصدق‏

يقولون أقوالا و لا يتبعونها
و إن قيل هاتوا حققوا لم يحققوا

فيقال إنها بلغت حارثة بن بدر فقال-  أصاب الله به الرشاد-  فلم يعد بإشارته ما في نفسي

 شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 16

نامه 39 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

39 و من كتاب له ع إلى عمرو بن العاص

فَإِنَّكَ قَدْ جَعَلْتَ دِينَكَ تَبَعاً لِدُنْيَا امْرِئٍ-  ظَاهِرٍ غَيُّهُ مَهْتُوكٍ سِتْرُهُ-  يَشِينُ الْكَرِيمَ بِمَجْلِسِهِ وَ يُسَفِّهُ الْحَلِيمَ بِخِلْطَتِهِ-  فَاتَّبَعْتَ أَثَرَهُ وَ طَلَبْتَ فَضْلَهُ-  اتِّبَاعَ الْكَلْبِ لِلضِّرْغَامِ يَلُوذُ بِمَخَالِبِهِ-  وَ يَنْتَظِرُ مَا يُلْقَى إِلَيْهِ مِنْ فَضْلِ فَرِيسَتِهِ-  فَأَذْهَبْتَ دُنْيَاكَ وَ آخِرَتَكَ-  وَ لَوْ بِالْحَقِّ أَخَذْتَ أَدْرَكْتَ مَا طَلَبْتَ-  فَإِنْ يُمَكِّنِ اللَّهُ مِنْكَ وَ مِنِ ابْنِ أَبِي سُفْيَانَ-  أَجْزِكُمَا بِمَا قَدَّمْتُمَا-  وَ إِنْ تُعْجِزَا وَ تَبْقَيَا فَمَا أَمَامَكُمَا شَرٌّ لَكُمَا-  وَ السَّلَامُ كل ما قاله فيهما هو الحق الصريح بعينه-  لم يحمله بغضه لهما و غيظه منهما-  إلى أن بالغ في ذمهما به-  كما يبالغ الفصحاء عند سورة الغضب-  و تدفق الألفاظ على الألسنة-  و لا ريب عند أحد من العقلاء ذوي الإنصاف-  أن عمرا جعل دينه تبعا لدنيا معاوية-  و أنه ما بايعه و تابعه إلا على جعالة جعلها له-  و ضمان تكفل له بإيصاله-  و هي ولاية مصر مؤجلة-  و قطعة وافرة من المال معجلة-  و لولديه و غلمانه ما ملأ أعينهم- . فأما قوله ع في معاوية ظاهر غيه-  فلا ريب في ظهور ضلاله و بغيه-  و كل باغ غاو- .

 

أما مهتوك ستره فإنه كان كثير الهزل و الخلاعة-  صاحب جلساء و سمار و معاوية لم يتوقر-  و لم يلزم قانون الرئاسة إلا منذ خرج على أمير المؤمنين-  و احتاج إلى الناموس و السكينة-  و إلا فقد كان في أيام عثمان شديد التهتك-  موسوما بكل قبيح-  و كان في أيام عمر يستر نفسه قليلا خوفا منه-  إلا أنه كان يلبس الحرير و الديباج-  و يشرب في آنية الذهب و الفضة-  و يركب البغلات ذوات السروج المحلاة بها-  و عليها جلال الديباج و الوشي-  و كان حينئذ شابا و عنده نزق الصبا-  و أثر الشبيبة و سكر السلطان و الإمرة-  و نقل الناس عنه في كتب السيرة-  أنه كان يشرب الخمر في أيام عثمان في الشام-  و أما بعد وفاة أمير المؤمنين و استقرار الأمر له-  فقد اختلف فيه فقيل إنه شرب الخمر في ستر-  و قيل إنه لم يشربه-  و لا خلاف في أنه سمع الغناء و طرب عليه-  و أعطى و وصل عليه أيضا- .

و روى أبو الفرج الأصفهاني قال-  قال عمرو بن العاص لمعاوية-  في قدمة قدمها إلى المدينة أيام خلافته-  قم بنا إلى هذا الذي قد هدم شرفه و هتك ستره-  عبد الله بن جعفر-  نقف على بابه فنسمع غناء جواريه-  فقاما ليلا و معهما وردان غلام عمرو-  و وقفا بباب عبد الله بن جعفر-  فاستمعا الغناء و أحس عبد الله بوقوفهما-  ففتح الباب و عزم على معاوية أن يدخل فدخل-  فجلس على سرير عبد الله-  فدعا عبد الله له و قدم إليه يسيرا من طعام فأكل-  فلما أنس قال يا أمير المؤمنين-  أ لا تأذن لجواريك أن يتممن أصواتهن-  فإنك قطعتها عليهن-  قال فليقلن فرفعن أصواتهن-  و جعل معاوية يتحرك قليلا قليلا-  حتى ضرب برجله السرير ضربا شديدا-  فقال عمرو قم أيها الرجل-  فإن الرجل الذي جئت لتلحاه أو لتعجب من امرئ-  أحسن حالا منك-  فقال مهلا فإن الكريم طروب- .

 

أما قوله يشين الكريم بمجلسه-  و يسفه الحليم بخلطته-  فالأمر كذلك-  فإنه لم يكن في مجلسه إلا شتم بني هاشم و قذفهم-  و التعرض بذكر الإسلام و الطعن عليه-  و إن أظهر الانتماء إليه-  و أما طلب عمرو فضله و اتباعه أثره-  اتباع الكلب للأسد فظاهر-  و لم يقل الثعلب غضا من قدر عمرو-  و تشبيها له بما هو أبلغ في الإهانة و الاستخفاف- .

ثم قال و لو بالحق أخذت أدركت ما طلبت-  أي لو قعدت عن نصره و لم تشخص إليه ممالئا به على الحق-  لوصل إليك من بيت المال قدر كفايتك- . و لقائل أن يقول إن عمرا ما كان يطلب قدر الكفاية-  و علي ع ما كان يعطيه إلا حقه فقط-  و لا يعطيه بلدا و لا طرفا من الأطراف-  و الذي كان يطلب ملك مصر-  لأنه فتحها أيام عمر و وليها برهة-  و كانت حسرة في قلبه و حزازة في صدره-  فباع آخرته بها-  فالأولى أن يقال معناه لو أخذت بالحق-  أدركت ما طلبت من الآخرة- . فإن قلت إن عمرا لم يكن علي ع يعتقد أنه من أهل الآخرة-  فكيف يقول له هذا الكلام-  قلت لا خلل و لا زلل في كلامه ع-  لأنه لو أخذ بالحق-  لكان معتقدا كون علي ع على الحق-  باعتقاده صحة نبوة رسول الله ص و صحة التوحيد-  فيصير تقدير الكلام-  لو بايعتني معتقدا للزوم بيعتي لك-  لكنت في ضمن ذلك طالبا الثواب-  فكنت تدركه في الآخرة- . ثم قال مهددا لهما و متوعدا إياهما-  فإن يمكن الله منك و من ابن أبي سفيان-  و أقول لو ظفر بهما لما كان في غالب ظني يقتلهما-  فإنه كان حليما كريما-  و لكن كان يحبسهما ليحسم بحبسهما مادة فسادهما- .

 

ثم قال و إن تعجزا و تبقيا-  أي و إن لم أستطع أخذكما أو أمت قبل ذلك-  و بقيتما بعدي-  فما أمامكما شر لكما من عقوبة الدنيا-  لأن عذاب الدنيا منقطع-  و عذاب الآخرة غير منقطع- . و ذكر نصر بن مزاحم في كتاب صفين-  هذا الكتاب بزيادة لم يذكرها الرضي-  قال نصر و كتب علي ع إلى عمرو بن العاص-  من عبد الله علي أمير المؤمنين-  إلى الأبتر ابن الأبتر عمرو بن العاص بن وائل-  شانئ محمد و آل محمد في الجاهلية و الإسلام-  سلام على من اتبع الهدى-  أما بعد فإنك تركت مروءتك لامرئ فاسق مهتوك ستره-  يشين الكريم بمجلسه و يسفه الحليم بخلطته-  فصار قلبك لقلبه تبعا-  كما قيل وافق شن طبقة-  فسلبك دينك و أمانتك و دنياك و آخرتك-  و كان علم الله بالغا فيك-  فصرت كالذئب يتبع الضرغام إذا ما الليل دجى-  أو أتى الصبح يلتمس فاضل سؤره-  و حوايا فريسته-  و لكن لا نجاة من القدر-  و لو بالحق أخذت لأدركت ما رجوت-  و قد رشد من كان الحق قائده-  فإن يمكن الله منك و من ابن آكلة الأكباد-  ألحقتكما بمن قتله الله من ظلمة قريش على عهد رسول الله ص-  و إن تعجزا و تبقيا بعد فالله حسبكما-  و كفى بانتقامه انتقاما و بعقابه عقابا و السلام

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 16

 

نامه 38 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

38 و من كتاب له ع إلى أهل مصر لما ولى عليهم الأشتر

مِنْ عَبْدِ اللَّهِ عَلِيٍّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ-  إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ غَضِبُوا لِلَّهِ-  حِينَ عُصِيَ فِي أَرْضِهِ وَ ذُهِبَ بِحَقِّهِ-  فَضَرَبَ الْجَوْرُ سُرَادِقَهُ عَلَى الْبَرِّ وَ الْفَاجِرِ-  وَ الْمُقِيمِ وَ الظَّاعِنِ-  فَلَا مَعْرُوفٌ يُسْتَرَاحُ إِلَيْهِ-  وَ لَا مُنْكَرٌ يُتَنَاهَى عَنْهُ-  أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ عَبْداً مِنْ عِبَادِ اللَّهِ-  لَا يَنَامُ أَيَّامَ الْخَوْفِ-  وَ لَا يَنْكُلُ عَنِ الْأَعْدَاءِ سَاعَاتِ الرَّوْعِ-  أَشَدَّ عَلَى الْفُجَّارِ مِنْ حَرِيقِ النَّارِ-  وَ هُوَ مَالِكُ بْنُ الْحَارِثِ أَخُو مَذْحِجٍ-  فَاسْمَعُوا لَهُ وَ أَطِيعُوا أَمْرَهُ فِيمَا طَابَقَ الْحَقَّ-  فَإِنَّهُ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ-  لَا كَلِيلُ الظُّبَةِ وَ لَا نَابِي الضَّرِيبَةَ-  فَإِنْ أَمَرَكُمْ أَنْ تَنْفِرُوا فَانْفِرُوا-  وَ إِنْ أَمَرَكُمْ أَنْ تُقِيمُوا فَأَقِيمُوا-  فَإِنَّهُ لَا يُقْدِمُ وَ لَا يُحْجِمُ-  وَ لَا يُؤَخِّرُ وَ لَا يُقَدِّمُ إِلَّا عَنْ أَمْرِي-  وَ قَدْ آثَرْتُكُمْ بِهِ عَلَى نَفْسِي لِنَصِيحَتِهِ لَكُمْ-  وَ شِدَّةِ شَكِيمَتِهِ عَلَى عَدُوِّكُمْ

هذا الفصل يشكل علي تأويله-  لأن أهل مصر هم الذين قتلوا عثمان-  و إذا شهد أمير المؤمنين ع-  أنهم غضبوا لله حين عصي في الأرض-  فهذه شهادة قاطعة على عثمان بالعصيان و إتيان المنكر-  و يمكن أن يقال و إن كان متعسفا-  إن الله تعالى‏عصي في الأرض لا من عثمان-  بل من ولاته و أمرائه و أهله-  و ذهب بينهم بحق الله-  و ضرب الجور سرادقه بولايتهم-  و أمرهم على البر و الفاجر و المقيم و الظاعن-  فشاع المنكر و فقد المعروف-  يبقى أن يقال هب أن الأمر كما تأولت-  فهؤلاء الذين غضبوا لله إلى ما ذا آل أمرهم-  أ ليس الأمر آل إلى أنهم قطعوا المسافة-  من مصر إلى المدينة فقتلوا عثمان-  فلا تعدو حالهم أمرين إلا أن يكونوا أطاعوا الله بقتله-  فيكون عثمان عاصيا مستحقا للقتل-  أو يكونوا أسخطوا الله تعالى بقتله-  فعثمان إذا على حق و هم الفساق العصاة-  فكيف يجوز أن يبجلهم أو يخاطبهم خطاب الصالحين-  و يمكن أن يجاب عن ذلك بأنهم غضبوا لله-  و جاءوا من مصر-  و أنكروا على عثمان تأميره الأمراء الفساق-  و حصروه في داره-  طلبا أن يدفع إليهم مروان ليحبسوه-  أو يؤدبوه على ما كتبه في أمرهم-  فلما حصر طمع فيه مبغضوه و أعداؤه-  من أهل المدينة و غيرها-  و صار معظم الناس إلبا عليه-  و قل عدد المصريين-  بالنسبة إلى ما اجتمع من الناس على حصره-  و مطالبته بخلع نفسه-  و تسليم مروان و غيره من بني أمية إليهم-  و عزل عماله و الاستبدال بهم-  و لم يكونوا حينئذ يطلبون نفسه-  و لكن قوما منهم و من غيرهم تسوروا داره-  فرماهم بعض عبيده بالسهام فجرح بعضهم-  فقادت الضرورة إلى النزول و الإحاطة به-  و تسرع إليه واحد منهم فقتله-  ثم إن ذلك القاتل قتل في الوقت-  و قد ذكرنا ذلك فيما تقدم و شرحناه-  فلا يلزم من فسق ذلك القاتل و عصيانه-  أن يفسق الباقون لأنهم ما أنكروا إلا المنكر-  و أما القتل فلم يقع منهم-  و لا راموه و لا أرادوه-  فجاز أن يقال إنهم غضبوا لله-  و أن يثنى عليهم و يمدحهم- . ثم وصف الأشتر بما وصفه به-  و مثل قوله لا ينام أيام الخوف قولهم-  لا ينام ليلة يخاف و لا يشبع ليلة يضاف-  و قال‏

فأتت به حوش الفؤاد مبطنا
سهدا إذا ما نام ليل الهوجل‏

ثم أمرهم أن يطيعوه فيما يأمرهم به مما يطابق الحق-  و هذا من شدة دينه و صلابته ع-  لم يسامح نفسه في حق أحب الخلق إليه-  أن يهمل هذا القيد-  قال رسول الله ص لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق- . و قال أبو حنيفة قال لي الربيع في دهليز المنصور-  إن أمير المؤمنين يأمرني بالشي‏ء بعد الشي‏ء-  من أمور ملكه-  فأنفذه و أنا خائف على ديني فما تقول في ذلك-  قال و لم يقل لي ذلك إلا في ملإ الناس-  فقلت له أ فيأمر أمير المؤمنين بغير الحق قال لا-  قلت فلا بأس عليك أن تفعل بالحق-  قال أبو حنيفة فأراد أن يصطادني فاصطدته- .

و الذي صدع بالحق في هذا المقام الحسن البصري-  قال له عمر بن هبيرة أمير العراق-  في خلافة يزيد بن عبد الملك في ملإ من الناس-  منهم الشعبي و ابن سيرين-  يا أبا سعيد إن أمير المؤمنين يأمرني بالشي‏ء-  اعلم أن في تنفيذه الهلكة في الدين-  فما تقول في ذلك-  قال الحسن ما ذا أقول إن الله مانعك من يزيد-  و لن يمنعك يزيد من الله-  يا عمر خف الله-  و اذكر يوما يأتيك تتمخض ليلته عن القيامة-  أنه سينزل عليك ملك من السماء-  فيحطك عن سريرك إلى قصرك-  و يضطرك من قصرك إلى لزوم فراشك-  ثم ينقلك عن فراشك إلى قبرك-  ثم لا يغني عنك إلا عملك-

فقام عمر بن هبيرة باكيا يصطك لسانه- . قوله فإنه سيف من سيوف الله-  هذا لقب خالد بن الوليد و اختلف فيمن‏ لقبه به-  فقيل لقبه به رسول الله ص-  و الصحيح أنه لقبه به أبو بكر لقتاله أهل الردة-  و قتله مسيلمة- . و الظبة بالتخفيف حد السيف-  و النابي من السيوف الذي لا يقطع-  و أصله نبا أي ارتفع-  فلما لم يقطع كان مرتفعا فسمي نابيا-  و في الكلام حذف تقديره و لا ناب ضارب الضريبة-  و ضارب الضريبة هو حد السيف-  فأما الضريبة نفسها فهو الشي‏ء المضروب بالسيف-  و إنما دخلته الهاء و إن كان بمعنى مفعول-  لأنه صار في عداد الأسماء كالنطيحة و الأكيلة- . ثم أمرهم بأن يطيعوه في جميع ما يأمرهم به-  من الإقدام و الإحجام-  و قال إنه لا يقدم و لا يؤخر إلا عن أمري-  و هذا إن كان قاله-  مع أنه قد سنح له أن يعمل برأيه في أمور الحرب-  من غير مراجعته فهو عظيم جدا-  لأنه يكون قد أقامه مقام نفسه-

و جاز أن يقول إنه لا يفعل شيئا إلا عن أمري-  و إن كان لا يراجعه في الجزئيات على عادة العرب-  في مثل ذلك-  لأنهم يقولون فيمن يثقون به نحو ذلك-  و قد ذهب كثير من الأصوليين-  إلى أن الله تعالى قال لمحمد ص-  احكم بما شئت في الشريعة فإنك لا تحكم إلا بالحق-  و إنه كان يحكم من غير مراجعته لجبرائيل-  و إن الله تعالى قد قال في حقه-  وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى‏-  إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى‏-  و إن كان ع قال هذا القول عن الأشتر-  لأنه قد قرر معه بينه و بينه ألا يعمل شيئا قليلا و لا كثيرا-  إلا بعد مراجعته-  فيجوز و لكن هذا بعيد-  لأن المسافة طويلة بين العراق و مصر-  و كانت الأمور هناك تقف و تفسد- .

ثم ذكر أنه آثرهم به على نفسه-  و هكذا قال عمر لما أنفذ عبد الله بن مسعود إلى الكوفة-  في كتابه إليهم قد آثرتكم به على نفسي-  و ذلك أن عمر كان يستفتيه في الأحكام-  و علي ع كان يصول على الأعداء بالأشتر-  و يقوي أنفس جيوشه بمقامه بينهم-  فلما بعثه إلى مصر كان مؤثرا لأهل مصر به على نفسه

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 16

نامه 37 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

 37 و من كتاب له ع إلى معاوية

فَسُبْحَانَ اللَّهِ-  مَا أَشَدَّ لُزُومَكَ لِلْأَهْوَاءَ الْمُبْتَدَعَةِ وَ الْحَيْرَةِ الْمُتَّبَعَةِ-  مَعَ تَضْيِيعِ الْحَقَائِقِ وَ اطِّرَاحِ الْوَثَائِقِ-  الَّتِي هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى طِلْبَةٌ وَ عَلَى عِبَادِهِ حُجَّةٌ-  فَأَمَّا إِكْثَارُكَ الْحِجَاجَ عَلَى عُثْمَانَ وَ قَتَلَتِهِ-  فَإِنَّكَ إِنَّمَا نَصَرْتَ عُثْمَانَ حَيْثُ كَانَ النَّصْرُ لَكَ-  وَ خَذَلْتَهُ حَيْثُ كَانَ النَّصْرُ لَهُ وَ السَّلَامُ أول هذا الكتاب

 قوله أما بعد فإن الدنيا حلوة خضرة ذات زينة و بهجة-  لم يصب إليها أحد إلا و شغلته بزينتها-  عما هو أنفع له منها-  و بالآخرة أمرنا و عليها حثثنا-  فدع يا معاوية ما يفنى و اعمل لما يبقى-  و احذر الموت الذي إليه مصيرك-  و الحساب الذي إليه عاقبتك-  و اعلم أن الله تعالى إذا أراد بعبد خيرا-  حال بينه و بين ما يكره و وفقه لطاعته-  و إذا أراد الله بعبد سوءا أغراه بالدنيا-  و أنساه الآخرة و بسط له أمله-  و عاقه عما فيه صلاحه-  و قد وصلني كتابك فوجدتك ترمي غير غرضك-  و تنشد غير ضالتك و تخبط في عماية-و تتيه في ضلالة و تعتصم بغير حجة-  و تلوذ بأضعف شبهة-  فأما سؤالك المتاركة و الإقرار لك على الشام-  فلو كنت فاعلا ذلك اليوم لفعلته أمس-  و أما قولك إن عمر ولاكه فقد عزل من كان ولاه صاحبه-  و عزل عثمان من كان عمر ولاه-  و لم ينصب للناس إمام-  إلا ليرى من صلاح الأمة إماما قد كان ظهر لمن قبله-  أو أخفى عنهم عيبه-  و الأمر يحدث بعده الأمر و لكل وال رأي و اجتهاد-  فسبحان الله ما أشد لزومك للأهواء المبتدعة-  و الحيرة المتبعةإلى آخر الفصل- .

و أما قوله ع إنما نصرت عثمان حيث كان النصر لك-  إلى آخره-  فقد روى البلاذري قال-  لما أرسل عثمان إلى معاوية يستمده-  بعث يزيد بن أسد القسري-  جد خالد بن عبد الله بن يزيد أمير العراق-  و قال له إذا أتيت ذا خشب فأقم بها و لا تتجاوزها-  و لا تقل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب-  فإنني أنا الشاهد و أنت الغائب- . قال فأقام بذي خشب حتى قتل عثمان-  فاستقدمه حينئذ معاوية-  فعاد إلى الشام بالجيش الذي كان أرسل معه-  و إنما صنع ذلك معاوية ليقتل عثمان فيدعو إلى نفسه- . و كتب معاوية إلى ابن عباس عند صلح الحسن ع له كتابا-  يدعوه فيه إلى بيعته و يقول له فيه-  و لعمري لو قتلتك بعثمان-  رجوت أن يكون ذلك لله رضا-  و أن يكون رأيا صوابا-  فإنك من الساعين عليه و الخاذلين له-  و السافكين دمه-  و ما جرى بيني و بينك صلح فيمنعك مني-  و لا بيدك أمان- .

فكتب إليه ابن عباس جوابا طويلا يقول فيه-  و أما قولك إني من الساعين على عثمان-  و الخاذلين له و السافكين دمه-  و ما جرى بيني و بينك صلح فيمنعك مني-  فأقسم بالله لأنت المتربص بقتله و المحب لهلاكه-  و الحابس الناس قبلك عنه على بصيرة من أمره-  و لقد أتاك كتابه و صريخه يستغيث بك و يستصرخ-  فما حفلت به حتى بعثت إليه معذرا بأجرة-  أنت تعلم إنهم لن يتركوه حتى يقتل-  فقتل كما كنت أردت-  ثم علمت عند ذلك أن الناس لن يعدلوا بيننا و بينك-  فطفقت تنعى عثمان و تلزمنا دمه-  و تقول قتل مظلوما-  فإن يك قتل مظلوما فأنت أظلم الظالمين-  ثم لم تزل مصوبا و مصعدا و جاثما و رابضا-  تستغوي الجهال و تنازعنا حقنا بالسفهاء-  حتى أدركت ما طلبت-  وَ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ-  وَ مَتاعٌ إِلى‏ حِينٍ

 شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 16

نامه 36 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

36 و من كتاب له ع إلى أخيه عقيل بن أبي طالب-  في ذكر جيش أنفذه إلى بعض الأعداء

  و هو جواب كتاب كتبه إليه عقيل- : فَسَرَّحْتُ إِلَيْهِ جَيْشاً كَثِيفاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ-  فَلَمَّا بَلَغَهُ ذَلِكَ شَمَّرَ هَارِباً وَ نَكَصَ نَادِماً-  فَلَحِقُوهُ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ-  وَ قَدْ طَفَّلَتِ الشَّمْسُ لِلْإِيَابِ-  فَاقْتَتَلُوا شَيْئاً كَلَا وَ لَا-  فَمَا كَانَ إِلَّا كَمَوْقِفِ سَاعَةٍ حَتَّى نَجَا جَرِيضاً-  بَعْدَ مَا أُخِذَ مِنْهُ بِالْمُخَنَّقِ-  وَ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ غَيْرُ الرَّمَقِ-  فَلَأْياً بِلَأْيٍ مَا نَجَا-  فَدَعْ عَنْكَ قُرَيْشاً وَ تَرْكَاضَهُمْ فِي الضَّلَالِ-  وَ تَجْوَالَهُمْ فِي الشِّقَاقِ وَ جِمَاحَهُمْ فِي التِّيهِ-  فَإِنَّهُمْ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى حَرْبِي-  كَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى حَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ ص قَبْلِي-  فَجَزَتْ قُرَيْشاً عَنِّي الْجَوَازِي-  فَقَدْ قَطَعُوا رَحِمِي وَ سَلَبُونِي سُلْطَانَ ابْنِ أُمِّي-  وَ أَمَّا مَا سَأَلْتَ عَنْهُ مِنْ رَأْيِي فِي الْقِتَالِ-  فَإِنَّ رَأْيِي قِتَالُ الْمُحِلِّينَ حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ-  لَا يَزِيدُنِي كَثْرَةُ النَّاسِ حَوْلِي عِزَّةً-  وَ لَا تَفَرُّقُهُمْ عَنِّي وَحْشَةً-  وَ لَا تَحْسَبَنَّ ابْنَ أَبِيكَ-  وَ لَوْ أَسْلَمَهُ النَّاسُ مُتَضَرِّعاً مُتَخَشِّعاً-  وَ لَا مُقِرّاً لِلضَّيْمِ وَاهِناً-  وَ لَا سَلِسَ الزِّمَامِ لِلْقَائِدِ-  وَ لَا وَطِئَ الظَّهْرِ لِلرَّاكِبِ الْمُقْتَعِدِ-  وَ لَكِنَّهُ كَمَا قَالَ أَخُو بَنِي سَلِيمٍ- 

فَإِنْ تَسْأَلِينِي كَيْفَ أَنْتَ فَإِنَّنِي
صَبُورٌ عَلَى رَيْبِ الزَّمَانِ صَلِيبُ‏

يَعِزُّ عَلَيَّ أَنْ تُرَى بِي كَآبَةٌ
فَيَشْمَتَ عَادٍ أَوْ يُسَاءَ حَبِيبُ‏

 قد تقدم ذكر هذا الكتاب-  في اقتصاصنا ذكر حال بسر بن أرطاة-  و غارته على اليمن في أول الكتاب- . و يقال طفلت الشمس بالتشديد إذا مالت للغروب-  و طفل الليل مشددا أيضا إذا أقبل ظلامه-  و الطفل بالتحريك بعد العصر-  حين تطفل الشمس للغروب-  و يقال أتيته طفلي أي في ذلك الوقت- . و قوله ع للإياب أي للرجوع-  أي ما كانت عليه في الليلة التي قبلها-  يعني غيبوبتها تحت الأرض-  و هذا الخطاب إنما هو على قدر أفهام العرب-  كانوا يعتقدون أن الشمس منزلها و مقرها تحت الأرض-  و أنها تخرج كل يوم فتسير على العالم-  ثم تعود إلى منزلها-  فتأوي إليه كما يأوي الناس ليلا إلى منازلهم- . و قال الراوندي عند الإياب عند الزوال-  و هذا غير صحيح-  لأن ذلك الوقت لا يسمى طفلا-  ليقال إن الشمس قد طفلت فيه- . قوله ع فاقتتلوا شيئا كلا و لا-  أي شيئا قليلا-  و موضع كلا و لا نصب لأنه صفة شيئا-  و هي كلمة تقال لما يستقصر وقته جدا-  و المعروف عند أهل اللغة كلا و ذا-  قال ابن هانئ المغربي- 

  و أسرع في العين من لحظة
و أقصر في السمع من لا و ذا

و في شعر الكميت كلا و كذا تغميضة- . و قد رويت في نهج البلاغة كذلك-  إلا أن في أكثر النسخ كلا و لا-  و من الناس من يرويها كلا و لات-  و هي حرف أجري مجرى ليس-  و لا تجي‏ءحين إلا أن تحذف في شعر-  و من الرواة من يرويها كلا و لأي-  و لأي فعل معناه أبطأ- . قوله ع نجا جريضا-  أي قد غص بالريق من شدة الجهد و الكرب-  يقال جرض بريقه يجرض بالكسر-  مثال كسر يكسر-  و رجل جريض مثل قدر يقدر فهو قدير-  و يجوز أن يريد بقوله فنجا جريضا أي ذا جريض-  و الجريض الغصة نفسها-  و في المثل حال الجريض دون القريض-  قال الشاعر- 

كان الفتى لم يغن في الناس ليلة
إذا اختلف اللحيان عند الجريض‏

قال الأصمعي و يقال هو يجرض بنفسه- أي يكاد يموت- و منه قول إمرئ القيس-

و أفلتهن علباء جريضا
و لو أدركنه صفر الوطاب‏

و أجرضه الله بريقه أغصه- . قوله ع بعد ما أخذ منه بالمخنق-  هو موضع الخنق من الحيوان-  و كذلك الخناق بالضم-  يقال أخذ بخناقه-  فأما الخناق بالكسر فالحبل تخنق به الشاة-  و الرمق بقية الروح- . قوله ع فلأيا بلأي ما نجا-  أي بعد بطء و شدة-  و ما زائدة أو مصدرية-  و انتصب لأيا على المصدر القائم مقام الحال-  أي نجا مبطئا-  و العامل في المصدر محذوف أي أبطأ بطئا-  و الفائدة في تكرير اللفظة المبالغة في وصف البطء-  الذي نجا موصوفة به-  أي لأيا مقرونا بلأي‏

 و قال الراوندي-  هذه القصة و هذا الهارب جريضا و بعد لأي ما نجا-  هو معاوية-  قال و قد قيل-  إن معاوية بعث أمويا فهرب على هذه الحال-  و الأول أصح-  و هذا عجيب مضحك وددت له ألا يكون شرح هذا الكتاب- . قوله فدع عنك قريشا-  إلى قوله على حرب رسول الله ص-  هذا الكلام حق-  فإن قريشا اجتمعت على حربه-  منذ يوم بويع بغضا له و حسدا و حقدا عليه-  فأصفقوا كلهم يدا واحدة على شقاقه و حربه-  كما كانت حالهم في ابتداء الإسلام مع رسول الله ص-  لم تخرم حاله من حاله أبدا-  إلا أن ذاك عصمه الله من القتل-  فمات موتا طبيعيا و هذا اغتاله إنسان فقتله- .

قوله فجزت قريشا عني الجوازي-  فقد قطعوا رحمي و سلبوني سلطان ابن أمي-  هذه كلمة تجري مجرى المثل-  تقول لمن يسي‏ء إليك و تدعو عليه جزتك عني الجوازي-  يقال جزاه الله بما صنع و جازاه الله بما صنع-  و مصدر الأول جزاء و الثاني مجازاة-  و أصل الكلمة أن الجوازي جمع جازية-  كالجواري جمع جارية-  فكأنه يقول جزت قريشا عني بما صنعت لي كل خصلة-  من نكبة أو شدة أو مصيبة أو جائحة-  أي جعل الله هذه الدواهي كلها-  جزاء قريش بما صنعت بي-  و سلطان ابن أمي يعني به الخلافة-  و ابن أمه هو رسول الله ص-  لأنهما ابنا فاطمة بنت عمرو بن عمران بن عائذ بن مخزوم-  أم عبد الله و أبي طالب-  و لم يقل سلطان ابن أبي-  لأن غير أبي طالب من الأعمام-  يشركه في النسب إلى عبد المطلب- . قال الراوندي الجوازي جمع جازية-  و هي النفس التي تجزي-  أي جزاهم و فعل بهم-  ما يستحقون عساكر لأجلي و في نيابتي-  و كافأهم سرية تنهض إليهم-  و هذا إشارة إلى بني أمية يهلكون من بعده-  و هذا تفسير غريب طريف- .

و قال أيضا قوله سلطان ابن أمي-  يعني نفسه أي سلطانه-  لأنه ابن أم نفسه-  قال و هذا من أحسن الكلام-  و لا شبهة أنه على تفسير الراوندي لو قال-  و سلبوني سلطان ابن أخت خالتي-  أو ابن أخت عمتي-  لكان أحسن و أحسن-  و هذا الرجل قد كان يجب أن يحجر عليه-  و لا يمكن من تفسير هذا الكتاب-  و يؤخذ عليه أيمان البيعة ألا يتعرض له- . قوله فإن رأيي قتال المحلين-  أي الخارجين من الميثاق و البيعة-  يعني البغاة و مخالفي الإمام-  و يقال لكل من خرج من إسلام-  أو حارب في الحرم أو في الأشهر الحرم-  محل-  و على هذا فسر قول زهير- 

 و كم بالقنان من محل و محرم‏

أي من لا ذمة له و من له ذمة-  و كذلك قول خالد بن يزيد بن معاوية-  في زوجته رملة بنت الزبير بن العوام- 

    ألا من لقلب معنى غزل
يحب المحلة أخت المحل‏

 أي ناقضة العهد أخت المحارب في الحرم-  أو أخت ناقض بيعة بني أمية-  و روي متخضعا متضرعا بالضاد- . و مقرا للضيم و بالضيم-  أي هو راض به صابر عليه-  و واهنا أي ضعيفا- . السلس السهل و مقتعد البعير راكبه- . و الشعر ينسب إلى العباس بن مرداس السلمي-  و لم أجده في ديوانه و معناه ظاهر-  و في الأمثال الحكمية-  لا تشكون حالك إلى مخلوق مثلك-  فإنه إن كان صديقا أحزنته-  و إن كان عدوا أشمته-  و لا خير في واحد من الأمرين

 شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 16

نامه 35 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

35 و من كتاب له ع إلى عبد الله بن العباس بعد مقتل محمد بن أبي بكر

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ مِصْرَ قَدِ افْتُتِحَتْ-  وَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدِ اسْتُشْهِدَ-  فَعِنْدَ اللَّهِ نَحْتَسِبُهُ وَلَداً نَاصِحاً وَ عَامِلًا كَادِحاً-  وَ سَيْفاً قَاطِعاً وَ رُكْناً دَافِعاً-  وَ قَدْ كُنْتُ حَثَثْتُ النَّاسَ عَلَى لَحَاقِهِ-  وَ أَمَرْتُهُمْ بِغِيَاثِهِ قَبْلَ الْوَقْعَةِ-  وَ دَعَوْتُهُمْ سِرّاً وَ جَهْراً وَ عَوْداً وَ بَدْءاً-  فَمِنْهُمُ الآْتِي كَارِهاً وَ مِنْهُمُ الْمُعْتَلُّ كَاذِباً-  وَ مِنْهُمُ الْقَاعِدُ خَاذِلًا-  أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ لِي مِنْهُمْ فَرَجاً عَاجِلًا-  فَوَاللَّهِ لَوْ لَا طَمَعِي عِنْدَ لِقَائِي عَدُوِّي فِي الشَّهَادَةِ-  وَ تَوْطِينِي نَفْسِي عَلَى الْمَنِيَّةِ-  لَأَحْبَبْتُ أَلَّا أَبْقَى مَعَ هَؤُلَاءِ يَوْماً وَاحِداً-  وَ لَا أَلْتَقِيَ بِهِمْ أَبَداً انظر إلى الفصاحة كيف تعطي هذا الرجل قيادها-  و تملكه زمامها و اعجب لهذه الألفاظ المنصوبة-  يتلو بعضها بعضا كيف تواتيه و تطاوعه سلسة سهلة-  تتدفق من غير تعسف و لا تكلف-  حتى انتهى إلى آخر الفصل فقال-  يوما واحدا و لا ألتقي بهم أبدا-  و أنت و غيرك من الفصحاء إذا شرعوا في كتاب أو خطبة-  جاءت القرائن و الفواصل‏تارة مرفوعة-  و تارة مجرورة و تارة منصوبة-  فإن أرادوا قسرها بإعراب واحد-  ظهر منها في التكلف أثر بين و علامة واضحة-  و هذا الصنف من البيان أحد أنواع الإعجاز في القرآن-  ذكره عبد القاهر قال-  انظر إلى سورة النساء و بعدها سورة المائدة-  الأولى منصوبة الفواصل-  و الثانية ليس فيها منصوب أصلا-  و لو مزجت إحدى السورتين بالأخرى لم تمتزجا-  و ظهر أثر التركيب و التأليف بينهما- .

ثم إن فواصل كل واحد منهما-  تنساق سياقة بمقتضى البيان الطبيعي لا الصناعة التكلفية-  ثم انظر إلى الصفات و الموصوفات في هذا الفصل-  كيف قال ولدا ناصحا و عاملا كادحا-  و سيفا قاطعا-  و ركنا دافعا-  لو قال ولدا كادحا و عاملا ناصحا-  و كذلك ما بعده لما كان صوابا و لا في الموقع واقعا-  فسبحان من منح هذا الرجل-  هذه المزايا النفيسة و الخصائص الشريفة-  أن يكون غلام من أبناء عرب مكة-  ينشأ بين أهله لم يخالط الحكماء-  و خرج أعرف بالحكمة و دقائق العلوم الإلهية-  من أفلاطون و أرسطو-  و لم يعاشر أرباب الحكم الخلقية و الآداب النفسانية-  لأن قريشا لم يكن أحد منهم مشهورا بمثل ذلك-  و خرج أعرف بهذا الباب من سقراط و لم يرب بين الشجعان-  لأن أهل مكة كانوا ذوي تجارة-  و لم يكونوا ذوي حرب-  و خرج أشجع من كل بشر مشى على الأرض-  قيل لخلف الأحمر-  أيما أشجع عنبسة و بسطام-  أم علي بن أبي طالب-  فقال إنما يذكر عنبسة و بسطام مع البشر و الناس-  لا مع من يرتفع عن هذه الطبقة-  فقيل له فعلى كل حال-  قال و الله لو صاح في وجوههما لماتا-  قبل أن يحمل عليهما-  و خرج أفصح من سحبان و قس-  و لم تكن قريش بأفصح العرب كان غيرها أفصح منها-  قالوا أفصح العرب جرهم و إن لم تكن لهم نباهة-  و خرج أزهد الناس في الدنيا و أعفهم-  مع أن قريشا ذوو حرص و محبة للدنيا-  و لا غرو فيمن كان‏محمد ص مربيه و مخرجه-  و العناية الإلهية تمده-  و ترفده أن يكون منه ما كان- .

يقال احتسب ولده إذا مات كبيرا-  و افترط ولده إذا مات صغيرا-  قوله فمنهم الآتي-  قسم جنده أقساما-  فمنهم من أجابه و خرج كارها للخروج-  كما قال تعالى كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ-  و منهم من قعد و اعتل بعلة كاذبة كما قال تعالى-  يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ-  إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً-  و منهم من تأخر و صرح بالقعود و الخذلان-  كما قال تعالى فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ-  وَ كَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ-  و المعنى أن حاله كانت مناسبة لحال النبي ص-  و من تذكر أحوالهما و سيرتهما-  و ما جرى لهما إلى أن قبضا-  علم تحقيق ذلك- . ثم أقسم أنه لو لا طمعه في الشهادة-  لما أقام مع أهل العراق و لا صحبهم- . فإن قلت فهلا خرج إلى معاوية وحده من غير جيش-  إن كان يريد الشهادة-  قلت ذلك لا يجوز لأنه إلقاء النفس إلى التهلكة-  و للشهادة شروط متى فقدت-  فلا يجوز أن تحمل إحدى الحالتين على الأخرى

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 16

 

نامه 34 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

34 و من كتاب له ع إلى محمد بن أبي بكر

لما بلغه توجده من عزله بالأشتر عن مصر-  ثم توفي الأشتر في توجهه إلى هناك قبل وصوله إليها- : أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَلَغَنِي مَوْجِدَتُكَ مِنْ تَسْرِيحِ الْأَشْتَرِ إِلَى عَمَلِكَ-  وَ إِنِّي لَمْ أَفْعَلْ ذَلِكَ اسْتِبْطَاءً لَكَ فِي الْجَهْدَ-  وَ لَا ازْدِيَاداً لَكَ فِي الْجِدِّ-  وَ لَوْ نَزَعْتُ مَا تَحْتَ يَدِكَ مِنْ سُلْطَانِكَ-  لَوَلَّيْتُكَ مَا هُوَ أَيْسَرُ عَلَيْكَ مَئُونَةً-  وَ أَعْجَبُ إِلَيْكَ وِلَايَةً-  إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي كُنْتُ وَلَّيْتُهُ أَمْرَ مِصْرَ-  كَانَ رَجُلًا لَنَا نَاصِحاً وَ عَلَى عَدُوِّنَا شَدِيداً نَاقِماً-  فَرَحِمَهُ اللَّهُ فَلَقَدِ اسْتَكْمَلَ أَيَّامَهُ-  وَ لَاقَى حِمَامَهُ وَ نَحْنُ عَنْهُ رَاضُونَ-  أَوْلَاهُ اللَّهُ رِضْوَانَهُ وَ ضَاعَفَ الثَّوَابَ لَهُ-  فَأَصْحِرْ لِعَدُوِّكَ وَ امْضِ عَلَى بَصِيرَتِكَ-  وَ شَمِّرْ لِحَرْبِ مَنْ حَارَبَكَ وَ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ-  وَ أَكْثِرِ الِاسْتِعَانَةَ بِاللَّهِ يَكْفِكَ مَا أَهَمَّكَ-  وَ يُعِنْكَ عَلَى مَا يُنْزِلُ بِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ

محمد بن أبي بكر و بعض أخباره

أم محمد رحمه الله أسماء بنت عميس الخثعمية-  و هي أخت ميمونة زوج النبي ص-و أخت لبابة أم الفضل و عبد الله-  زوج العباس بن عبد المطلب-  و كانت من المهاجرات إلى أرض الحبشة-  و هي إذ ذاك تحت جعفر بن أبي طالب ع-  فولدت له هناك محمد بن جعفر و عبد الله و عونا-  ثم هاجرت معه إلى المدينة-  فلما قتل جعفر يوم مؤتة تزوجها أبو بكر-  فولدت له محمد بن أبي بكر هذا-  ثم مات عنها فتزوجها علي ع-  و ولدت له يحيى بن علي لا خلاف في ذلك- . و قال ابن عبد البر في الإستيعاب-  ذكر ابن الكلبي أن عون بن علي-  اسم أمه أسماء بنت عميس و لم يقل ذلك أحد غيره- . و قد روي أن أسماء كانت تحت حمزة بن عبد المطلب-  فولدت له بنتا تسمى أمة الله و قيل أمامة-  و محمد بن أبي بكر ممن ولد في عصر رسول الله ص- .

قال ابن عبد البر في كتاب الإستيعاب-  ولد عام حجة الوداع في عقب ذي القعدة بذي الحليفة-  حين توجه رسول الله ص إلى الحج-  فسمته عائشة محمدا و كنته أبا القاسم-  بعد ذلك لما ولد له ولد سماه القاسم-  و لم تكن الصحابة ترى بذلك بأسا-  ثم كان في حجر علي ع و قتل بمصر-  و كان علي ع يثني عليه و يقرظه و يفضله-  و كان لمحمد رحمه الله عبادة و اجتهاد-  و كان ممن حضر عثمان و دخل عليه فقال له-  لو رآك أبوك لم يسره هذا المقام منك-  فخرج و تركه و دخل عليه بعده من قتله-  و يقال إنه أشار إلى من كان معه فقتلوه.قوله و بلغني موجدتك أي غضبك-  وجدت على فلان موجدة-  و وجدانا لغة قليلة-  و أنشدوا

  كلانا رد صاحبه بغيظ
على حنق و وجدان شديد

 فأما في الحزن فلا يقال إلا وجدت أنا بالفتح لا غير- . و الجهد الطاقة-  أي لم أستبطئك في بذل طاقتك و وسعك-  و من رواها الجهد بالفتح فهو من قولهم-  اجهد جهدك في كذا أي أبلغ الغاية-  و لا يقال هذا الحرف هاهنا إلا مفتوحا- . ثم طيب ع نفسه بأن قال له-  لو تم الأمر الذي شرعت فيه من ولاية الأشتر مصر-  لعوضتك بما هو أخف عليك مئونة و ثقلا-  و أقل نصبا من ولاية مصر-  لأنه كان في مصر بإزاء معاوية من الشام-  و هو مدفوع إلى حربه- . ثم أكد ع ترغيبه بقوله-  و أعجب إليك ولاية- . فإن قلت ما الذي بيده مما هو أخف على محمد مئونة-  و أعجب إليه من ولاية مصر-  قلت ملك الإسلام كله كان بيد علي ع إلا الشام-  فيجوز أن يكون قد كان في عزمه-  أن يوليه اليمن أو خراسان أو أرمينية أو فارس- .

ثم أخذ في الثناء على الأشتر-  و كان علي ع شديد الاعتضاد به-  كما كان هو شديد التحقق بولايته و طاعته- . و ناقما من نقمت على فلان كذا-  إذا أنكرته عليه و كرهته منه- . ثم دعا له بالرضوان-  و لست أشك بأن الأشتر بهذه الدعوة-  يغفر الله له و يكفر ذنوبه و يدخله الجنة-  و لا فرق عندي بينها و بين دعوة رسول الله ص-  و يا طوبى لمن حصل له من علي ع بعض هذا- . قوله و أصحر لعدوك أي ابرز له-  و لا تستتر عنه بالمدينة التي أنت فيها-  أصحر الأسد من خيسه إذا خرج إلى الصحراء- . و شمر فلان للحرب إذا أخذ لها أهبتها

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 16

نامه 33 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

33 و من كتاب له ع إلى قثم بن العباس-  و هو عامله على مكة

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ عَيْنِي بِالْمَغْرِبِ كَتَبَ إِلَيَّ يُعْلِمُنِي-  أَنَّهُ وُجِّهَ إِلَى الْمَوْسِمِ أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ-  الْعُمْيِ الْقُلُوبِ الصُّمِّ الْأَسْمَاعِ الْكُمْهِ الْأَبْصَارِ-  الَّذِينَ يَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ-  وَ يُطِيعُونَ الْمَخْلُوقَ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ-  وَ يَحْتَلِبُونَ الدُّنْيَا دَرَّهَا بِالدِّينِ-  وَ يَشْتَرُونَ عَاجِلَهَا بِآجِلِ الْأَبْرَارِ الْمُتَّقِينَ-  وَ لَنْ يَفُوزَ بِالْخَيْرِ إِلَّا عَامِلُهُ-  وَ لَا يُجْزَى جَزَاءَ الشَّرِّ إِلَّا فَاعِلُهُ-  فَأَقِمْ عَلَى مَا فِي يَدَيْكَ قِيَامَ الْحَازِمِ الطَّبِيبِ-  وَ النَّاصِحِ اللَّبِيبِ-  التَّابِعِ لِسُلْطَانِهِ الْمُطِيعِ لِإِمَامِهِ-  وَ إِيَّاكَ وَ مَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ-  وَ لَا تَكُنْ عِنْدَ النَّعْمَاءِ بَطِراً-  وَ لَا عِنْدَ الْبَأْسَاءِ فَشِلًا-  وَ السَّلَامُ كان معاوية قد بعث إلى مكة دعاة في السر-  يدعون إلى طاعته-  و يثبطون العرب عن نصرة أمير المؤمنين-  و يوقعون في أنفسهم أنه إما قاتل لعثمان أو خاذل-  و إن الخلافة لا تصلح فيمن قتل أو خذل-  و ينشرون عندهم-  محاسن معاوية بزعمهم و أخلاقه و سيرته-  فكتب أمير المؤمنين ع هذا الكتاب إلى عامله بمكة-  ينبهه على ذلك ليعتمد فيه بما تقتضيه السياسة-  و لم يصرح في هذا الكتاب-  بما ذا يأمره أن يفعل إذا ظفر بهم- . قوله عيني بالمغرب-  أي أصحاب أخباره عند معاوية-  و سمى الشام مغربا لأنه من الأقاليم المغربية- . و الموسم الأيام التي يقام فيها الحج- .

و قوله و يحتلبون الدنيا درها بالدين-  دلالة على ما قلنا-  إنهم كانوا دعاة يظهرون سمت الدين-  و ناموس العبادة-  و فيه إبطال قول من ظن أن المراد بذلك السرايا-  التي كان معاوية يبعثها-  فتغير على أعمال علي ع-  و درها منصوب بالبدل من الدنيا-  و روي الذين يلتمسون الحق بالباطل أي يطلبونه-  أي يتبعون معاوية و هو على الباطل-  التماسا و طلبا للحق-  و لا يعلمون أنهم قد ضلوا- .

قوله و إياك و ما يعتذر منه-  من الكلمات الشريفة الجليلة الموقع-  و قد رويت مرفوعة و كان يقال-  ما شي‏ء أشد على الإنسان من حمل المروءة-  و المروءة ألا يعمل الإنسان في غيبة صاحبه-  ما يعتذر منه عند حضوره- . قوله و لا تكن عند النعماء بطرا-  و لا عند البأساء فشلا-  معنى مستعمل-  قال الشاعر

 فلست بمفراح إذا الدهر سرني
و لا جازع من صرفه المتقلب‏

و لا أتمنى الشر و الشر تاركي‏
و لكن متى أحمل على الشر أركب‏

 قثم بن عباس و بعض أخباره

فأما قثم بن العباس فأمه أم إخوته-  و روى ابن عبد البر في كتاب الاستيعاب-  عن عبد الله بن جعفر قال كنت أنا و عبيد الله و قثم ابنا العباس نلعب-  فمر بنا رسول الله ص راكبا فقال-  ارفعوا إلي هذا الفتى يعني قثم-  فرفع إليه فأردفه خلفه-  ثم جعلني بين يديه و دعا لنا-  فاستشهد قثم بسمرقند- . قال ابن عبد البر و روى عبد الله بن عباس قال-  كان قثم آخر الناس عهدا برسول الله ص-  أي آخر من خرج من قبره ممن نزل فيه-  قال و كان المغيرة بن شعبة يدعي ذلك لنفسه-  فأنكر علي بن أبي طالب ع ذلك و قال-  بل آخر من خرج من القبر قثم بن العباس- . قال ابن عبد البر و كان قثم واليا لعلي ع على مكة-  عزل علي ع خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة المخزومي-  و كان واليها لعثمان-  و ولاها أبا قتادة الأنصاري-  ثم عزله عنها و ولى مكانه قثم بن العباس-  فلم يزل واليه عليها حتى قتل علي ع-  قال هذا قول خليفة-  و قال الزبير بن بكار استعمل علي ع-  قثم بن العباس على المدينة- . قال ابن عبد البر و استشهد قثم بسمرقند-  كان خرج إليها مع سعيد بن عثمان بن عفان-  زمن معاوية فقتل هناك- . قال و كان قثم يشبه رسول الله ص-  و فيه يقول داود بن مسلم-

 عتقت من حل و من رحلة
يا ناق إن أدنيتني من قثم‏

إنك إن أدنيت منه غدا
حالفني اليسر و مات العدم‏

في كفه بحر و في وجهه
بدر و في العرنين منه شمم‏

أصم عن قيل الخنا سمعه‏
و ما على الخير به من صمم‏

لم يدر ما لا و بلا قد درى
فعافها و اعتاض منها نعم‏

 شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 16

نامه 32 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

32 و من كتاب له ع إلى معاوية

وَ أَرْدَيْتَ جِيلًا مِنَ النَّاسِ كَثِيراً-  خَدَعْتَهُمْ بِغَيِّكَ وَ أَلْقَيْتَهُمْ فِي مَوْجِ بَحْرِكَ-  تَغْشَاهُمُ الظُّلُمَاتُ وَ تَتَلَاطَمُ بِهِمُ الشُّبُهَاتُ-  فَجَارُوا عَنْ وِجْهَتِهِمْ وَ نَكَصُوا عَلَى أَعْقَابِهِمْ-  وَ تَوَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ وَ عَوَّلُوا عَلَى أَحْسَابِهِمْ-  إِلَّا مَنْ فَاءَ مِنْ أَهْلِ الْبَصَائِرِ-  فَإِنَّهُمْ فَارَقُوكَ بَعْدَ مَعْرِفَتِكَ-  وَ هَرَبُوا إِلَى اللَّهِ مِنْ مُوَازَرَتِكَ-  إِذْ حَمَلْتَهُمْ عَلَى الصَّعْبِ وَ عَدَلْتَ بِهِمْ عَنِ الْقَصْدِ-  فَاتَّقِ اللَّهَ يَا مُعَاوِيَةُ فِي نَفْسِكَ-  وَ جَاذِبِ الشَّيْطَانَ قِيَادَكَ-  فَإِنَّ الدُّنْيَا مُنْقَطِعَةٌ عَنْكَ وَ الآْخِرَةَ قَرِيبَةٌ مِنْكَ-  وَ السَّلَامُ أرديتهم أهلكتهم-  و جيلا من الناس أي صنفا من الناس-  و الغي الضلال و جاروا عدلوا عن القصد-  و وجهتهم بكسر الواو يقال هذا وجه الرأي-  أي هو الرأي بنفسه-  و الاسم الوجه بالكسر و يجوز بالضم- . قوله و عولوا على أحسابهم أي لم يعتمدوا على الدين-  و إنما أردتهم الحمية و نخوة الجاهلية-  فأخلدوا إليها و تركوا الدين-  و الإشارة إلى بني أمية و خلفائهم-  الذين اتهموه ع بدم عثمان-  فحاموا عن الحسب-  و لم يأخذوا بموجب الشرع في تلك الواقعة-ثم استثنى قوما فاءوا أي رجعوا عن نصرة معاوية-  و قد ذكرنا في أخبار صفين من فارق معاوية-  و رجع إلى أمير المؤمنين ع-  أو فارقه و اعتزل الطائفتين- . قوله حملتهم على الصعب أي على الأمر الشاق-  و الأصل في ذلك البعير المستصعب-  يركبه الإنسان فيغرر بنفسه

ذكر بعض ما دار بين علي و معاوية من الكتب

و أول هذا الكتاب من عبد الله علي أمير المؤمنين ع-  إلى معاوية بن أبي سفيان-  أما بعد فإن الدنيا دار تجارة-  و ربحها أو خسرها الآخرة-  فالسعيد من كانت بضاعته فيها الأعمال الصالحة-  و من رأى الدنيا بعينها و قدرها بقدرها-  و إني لأعظك مع علمي بسابق العلم فيك-  مما لا مرد له دون نفاذه-  و لكن الله تعالى أخذ على العلماء أن يؤدوا الأمانة-  و أن ينصحوا الغوي و الرشيد-  فاتق الله و لا تكن ممن لا يرجو لله وقارا-  و من حقت عليه كلمة العذاب فإن الله بالمرصاد-  و إن دنياك ستدبر عنك و ستعود حسرة عليك-  فاقلع عما أنت عليه من الغي و الضلال-  على كبر سنك و فناء عمرك-  فإن حالك اليوم كحال الثوب المهيل-  الذي لا يصلح من جانب إلا فسد من آخر-  و قد أرديت جيلا من الناس كثيرا-  خدعتهم بغيك-  إلى آخر الكتاب- .

قال أبو الحسن علي بن محمد المدائني-  فكتب إليه معاوية-  من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب-  أما بعد فقد وقفت على كتابك-  و قد أبيت على الفتن إلا تماديا-  و إني لعالم أن الذي يدعوك إلى ذلك-  مصرعك الذي‏ لا بد لك منه-  و إن كنت موائلا فازدد غيا إلى غيك-  فطالما خف عقلك-  و منيت نفسك ما ليس لك-  و التويت على من هو خير منك-  ثم كانت العاقبة لغيرك-  و احتملت الوزر بما أحاط بك من خطيئتك و السلام- .

 فكتب علي ع إليه أما بعد فإن ما أتيت به من ضلالك-  ليس ببعيد الشبه مما أتى به أهلك و قومك-  الذين حملهم الكفر و تمني الأباطيل-  على حسد محمد ص حتى صرعوا مصارعهم حيث علمت-  لم يمنعوا حريما و لم يدفعوا عظيما-  و أنا صاحبهم في تلك المواطن-  الصالي بحربهم و الفال لحدهم-  و القاتل لرءوسهم و رءوس الضلالة-  و المتبع إن شاء الله خلفهم بسلفهم-  فبئس الخلف خلف أتبع سلفا محله و محطه النار-  و السلام- .

قال فكتب إليه معاوية-  أما بعد فقد طال في الغي ما استمررت أدراجك-  كما طالما تمادي عن الحرب نكوصك و إبطاؤك-  فتوعد وعيد الأسد و تروغ روغان الثعلب-  فحتام تحيد عن لقاء مباشرة الليوث الضارية-  و الأفاعي القاتلة و لا تستبعدنها-  فكل ما هو آت قريب إن شاء الله و السلام- .

 قال فكتب إليه علي ع أما بعد فما أعجب ما يأتيني منك-  و ما أعلمني بما أنت إليه صائر-  و ليس إبطائي عنك إلا ترقبا لما أنت له مكذب-  و أنا به مصدق-  و كأني بك غدا و أنت تضج من الحرب-  ضجيج الجمال من الأثقال-  و ستدعوني أنت و أصحابك إلى كتاب تعظمونه بألسنتكم-  و تجحدونه بقلوبكم و السلام- .

قال فكتب إليه معاوية-أما بعد فدعني من أساطيرك-  و اكفف عني من أحاديثك-  و اقصر عن تقولك على رسول الله ص-  و افترائك من الكذب ما لم يقل-  و غرور من معك و الخداع لهم-  فقد استغويتهم-  و يوشك أمرك أن ينكشف لهم فيعتزلوك-  و يعلموا أن ما جئت به باطل مضمحل و السلام- .

 قال فكتب إليه علي ع أما بعد-  فطالما دعوت أنت و أولياؤك أولياء الشيطان الرجيم-  الحق أساطير الأولين-  و نبذتموه وراء ظهوركم-  و جهدتم بإطفاء نور الله بأيديكم و أفواهكم-  وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ-  و لعمري ليتمن النور على كرهك-  و لينفذن العلم بصغارك و لتجازين بعملك-  فعث في دنياك المنقطعة عنك ما طاب لك-  فكأنك بباطلك و قد انقضى-  و بعملك و قد هوى-  ثم تصير إلى لظى لم يظلمك الله شيئا-  وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ- .

قال فكتب إليه معاوية-  أما بعد فما أعظم الرين على قلبك-  و الغطاء على بصرك-  الشره من شيمتك و الحسد من خليقتك-  فشمر للحرب و اصبر للضرب-  فو الله ليرجعن الأمر إلى ما علمت و العاقبة للمتقين-  هيهات هيهات أخطأك ما تمنى-  و هوى قلبك مع من هوى-  فاربع على ظلعك و قس شبرك بفترك-  لتعلم أين حالك من حال من يزن الجبال حلمه-  و يفصل بين أهل الشك علمه و السلام- .

 قال فكتب إليه علي ع-  أما بعد فإن مساوئك مع علم الله تعالى فيك-  حالت بينك و بين أن يصلح لك أمرك-  و أن يرعوي قلبك-  يا ابن الصخر اللعين زعمت أن يزن الجبال حلمك-  و يفصل بين أهل الشك علمك-  و أنت الجلف المنافق الأغلف القلب-  القليل العقل الجبان الرذل-  فإن كنت صادقا فيما تسطر-  و يعينك عليه أخو بني سهم فدع الناس جانبا-  و تيسر لما دعوتني إليه من الحرب-  و الصبر على‏  الضرب و أعف الفريقين من القتال-  ليعلم أينا المرين على قلبه المغطى على بصره-  فأنا أبو الحسن قاتل جدك و أخيك و خالك-  و ما أنت منهم ببعيد و السلام

قلت و أعجب و أطرب ما جاء به الدهر-  و إن كانت عجائبه و بدائعه جمة-  أن يفضى أمر علي ع-  إلى أن يصير معاوية ندا له و نظيرا مماثلا-  يتعارضان الكتاب و الجواب-  و يتساويان فيما يواجه به أحدهما صاحبه-  و لا يقول له علي ع كلمة إلا قال مثلها-  و أخشن مسا منها-  فليت محمدا ص كان شاهد ذلك-  ليرى عيانا لا خبرا أن الدعوة التي قام بها-  و قاسى أعظم المشاق في تحملها-  و كابد الأهوال في الذب عنها-  و ضرب بالسيوف عليها لتأييد دولتها-  و شيد أركانها و ملأ الآفاق بها-  خلصت صفوا عفوا لأعدائه الذين كذبوه-  لما دعا إليها-  و أخرجوه عن أوطانه لما حض عليها-  و أدموا وجهه و قتلوا عمه و أهله-  فكأنه كان يسعى لهم و يدأب لراحتهم-  كما قال أبو سفيان في أيام عثمان-  و قد مر بقبر حمزة و ضربه برجله و قال-  يا أبا عمارة إن الأمر الذي اجتلدنا عليه بالسيف-  أمسى في يد غلماننا اليوم يتلعبون به-  ثم آل الأمر إلى أن يفاخر معاوية عليا-  كما يتفاخر الأكفاء و النظراء- .

 إذا عير الطائي بالبخل مادر
و قرع قسا بالفهاهة باقل‏

و قال السها للشمس أنت خفية
و قال الدجى يا صبح لونك حائل‏

و فاخرت الأرض السماء سفاهة
و كاثرت الشهب الحصى و الجنادل‏

فيا موت زر إن الحياة ذميمة
و يا نفس جدي إن دهرك هازل‏

ثم أقول ثانيا لأمير المؤمنين ع ليت شعري-  لما ذا فتح باب الكتاب‏و الجواب بينه و بين معاوية-  و إذا كانت الضرورة قد قادت إلى ذلك-  فهلا اقتصر في الكتاب إليه على الموعظة-  من غير تعرض للمفاخرة و المنافرة-  و إذا كان لا بد منهما فهلا اكتفى بهما-  من غير تعرض لأمر آخر-  يوجب المقابلة و المعارضة بمثله-  و بأشد منه-  وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ-  فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ-  و هلا دفع هذا الرجل العظيم الجليل نفسه-  عن سباب هذا السفيه الأحمق-  هذا مع أنه القائل-  من واجه الناس بما يكرهون قالوا فيه ما لا يعلمون-  أي افتروا عليه و قالوا فيه الباطل- .

  أيها الشاتمي لتحسب مثلي
إنما أنت في الضلال تهيم‏

لا تسبنني فلست بسبي‏
إن سبي من الرجال الكريم‏

 و هكذا جرى في القنوت و اللعن-  قنت بالكوفة على معاوية و لعنه في الصلاة و خطبة الجمعة-  و أضاف إليه عمرو بن العاص و أبا موسى-  و أبا الأعور السلمي و حبيب بن مسلمة-  فبلغ ذلك معاوية بالشام فقنت عليه-  و لعنه بالصلاة و خطبة الجمعة-  و أضاف إليه الحسن و الحسين و ابن عباس و الأشتر النخعي-  و لعله ع قد كان يظهر له من المصلحة حينئذ-  ما يغيب عنا الآن و لله أمر هو بالغه

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 16

نامه 31 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)( وصيته ع للحسن ع-ترجمة الحسن بن علي و ذكر بعض أخباره)

 31 و من وصيته ع للحسن ع-  كتبها إليه بحاضرين عند انصرافه من صفين

مِنَ الْوَالِدِ الْفَانِ الْمُقِرِّ لِلزَّمَانِ الْمُدْبِرِ الْعُمُرِ-  الْمُسْتَسْلِمِ لِلدَّهْرِ الذَّامِّ لِلدُّنْيَا-  السَّاكِنِ مَسَاكِنَ الْمَوْتَى الظَّاعِنِ عَنْهَا غَداً-  إِلَى الْمَوْلُودِ الْمُؤَمِّلِ مَا لَا يُدْرِكُ-  السَّالِكِ سَبِيلَ مَنْ قَدْ هَلَكَ-  غَرَضِ الْأَسْقَامِ وَ رَهِينَةِ الْأَيَّامِ-  وَ رَمِيَّةِ الْمَصَائِبِ وَ عَبْدِ الدُّنْيَا وَ تَاجِرِ الْغُرُورِ-  وَ غَرِيمِ الْمَنَايَا وَ أَسِيرِ الْمَوْتِ-  وَ حَلِيفِ الْهُمُومِ وَ قَرِينِ الْأَحْزَانِ-  وَ نُصُبِ الآْفَاتِ وَ صَرِيعِ الشَّهَوَاتِ وَ خَلِيفَةِ الْأَمْوَاتِ

ترجمة الحسن بن علي و ذكر بعض أخباره

قال الزبير بن بكار في كتاب أنساب قريش-  ولد الحسن بن علي ع للنصف من شهر رمضان-  سنة ثلاث من الهجرة-  و سماه رسول الله ص حسنا-  و توفي لليال خلون من شهر ربيع الأول سنة خمسين- . قال و المروي أن رسول الله ص-  سمى حسنا و حسينا رضي الله عنهما يوم سابعهما-  و اشتق اسم حسين من اسم حسن- .

  قال و روى جعفر بن محمد ع أن فاطمة ع حلقت حسنا و حسينا يوم سابعهما-  و وزنت شعرهما فتصدقت بوزنه فضة قال الزبير و روت زينب بنت أبي رافع قالت أتت فاطمة ع بابنيها إلى رسول الله ص-  في شكوه الذي توفي فيه-  فقالت يا رسول الله هذان ابناك فورثهما شيئا-  فقال أما حسن فإن له هيبتي و سوددي-  و أما حسين فإن له جرأتي و جودي- .

و روى محمد بن حبيب في أماليه-  أن الحسن ع حج خمس عشرة حجة ماشيا-  تقاد الجنائب معه-  و خرج من ماله مرتين-  و قاسم الله عز و جل ثلاث مرات ماله-  حتى أنه كان يعطي نعلا و يمسك نعلا-  و يعطي خفا و يمسك خفا- . و روى أبو جعفر محمد بن حبيب أيضا أن الحسن ع أعطى شاعرا-  فقال له رجل من جلسائه سبحان الله-  أ تعطي شاعرا يعصي الرحمن و يقول البهتان-  فقال يا عبد الله-  إن خير ما بذلت من مالك ما وقيت به عرضك-  و إن من ابتغاء الخير اتقاء الشر- .

و روى أبو جعفر قال قال ابن عباس رحمه الله-  أول ذل دخل على العرب موت الحسن ع- . و روى أبو الحسن المدائني قال سقي الحسن ع السم أربع مرات-  فقال لقد سقيته مرارا-  فما شق علي مثل مشقته هذه المرة-  فقال له الحسين ع أخبرني من سقاك-  قال لتقتله قال نعم-  قال ما أنا بمخبرك-  إن يكن صاحبي الذي أظن فالله أشد نقمة-  و إلا فما أحب أن يقتل بي بري‏ء- .

 

و روى أبو الحسن قال-  قال معاوية لابن عباس و لقيه بمكة-  يا عجبا من وفاة الحسن-  شرب علة بماء رومة فقضى نحبة-  فوجم ابن عباس فقال معاوية لا يحزنك الله و لا يسوءك-  فقال لا يسوءني ما أبقاك الله فأمر له بمائة ألف درهم- . و روى أبو الحسن قال-  أول من نعى الحسن ع بالبصرة عبد الله بن سلمة نعاه لزياد-  فخرج الحكم بن أبي العاص الثقفي فنعاه-  فبكى الناس و أبو بكرة يومئذ مريض فسمع الضجة-  فقال ما هذا-  فقالت امرأته ميسة بنت سخام الثقفية-  مات الحسن بن علي فالحمد لله الذي أراح الناس منه-  فقال اسكتي ويحك فقد أراحه الله من شر كثير-  و فقد الناس بموته خيرا كثيرا يرحم الله حسنا- .

قال أبو الحسن المدائني و كانت وفاته في سنة تسع و أربعين-  و كان مرضه أربعين يوما-  و كانت سنه سبعا و أربعين سنة-  دس إليه معاوية سما-  على يد جعدة بنت الأشعث بن قيس زوجة الحسن-  و قال لها إن قتلتيه بالسم فلك مائة ألف-  و أزوجك يزيد ابني-  فلما مات وفى لها بالمال و لم يزوجها من يزيد-  قال أخشى أن تصنع بابني كما صنعت بابن رسول الله ص- .

و روى أبو جعفر محمد بن حبيب عن المسيب بن نجبة قال سمعت أمير المؤمنين ع يقول أنا أحدثكم عني و عن أهل بيتي-  أما عبد الله ابن أخي فصاحب لهو و سماح-  و أما الحسن فصاحب جفنة و خوان-  فتى من فتيان قريش-  و لو قد التقت حلقتا البطان-  لم يغن عنكم شيئا في الحرب-  و أما أنا و حسين فنحن منكم و أنتم منا  قال أبو جعفر و روى ابن عباس قال دخل الحسن بن علي ع على معاوية بعد عام الجماعة-  و هو جالس في مجلس ضيق فجلس عند رجليه-  فتحدث معاوية بما شاء أن يتحدث-  ثم قال عجبا لعائشة تزعم أني في غير ما أنا أهله-  و أن الذي أصبحت فيه ليس لي بحق-  ما لها و لهذا يغفر الله لها-  إنما كان ينازعني في هذا الأمر أبو هذا الجالس-  و قد استأثر الله به-  فقال الحسن أ و عجب ذلك يا معاوية قال إي و الله-  قال أ فلا أخبرك بما هو أعجب من هذا قال ما هو-  قال جلوسك في صدر المجلس و أنا عند رجليك-  فضحك معاوية و قال يا ابن أخي بلغني أن عليك دينا-  قال إن لعلي دينا قال كم هو قال مائة ألف-  فقال قد أمرنا لك بثلاثمائة ألف-  مائة منها لدينك و مائة تقسمها في أهل بيتك-  و مائة لخاصة نفسك-  فقم مكرما و اقبض صلتك-  فلما خرج الحسن ع-  قال يزيد بن معاوية لأبيه-  تالله ما رأيت رجلا استقبلك بما استقبلك به-  ثم أمرت له بثلاثمائة ألف-  قال يا بني إن الحق حقهم فمن أتاك منهم فاحث لهو روى أبو جعفر محمد بن حبيب قال قال علي ع لقد تزوج الحسن و طلق حتى خفت أن يثير عداوة-  قال أبو جعفر-  و كان الحسن إذا أراد أن يطلق امرأة جلس إليها-  فقال أ يسرك أن أهب لك كذا و كذا-  فتقول له ما شاءت-  أو نعم فيقول هو لك-  فإذا قام أرسل إليها بالطلاق و بما سمى لها- .

و روى أبو الحسن المدائني قال-  تزوج الحسن بن علي ع هندا بنت سهيل ابن عمرو-  و كانت عند عبد الله بن عامر بن كريز فطلقها-  فكتب معاوية إلى أبي هريرة أن يخطبها على يزيد بن معاوية-  فلقيه الحسن ع فقال أين تريد-  قال أخطب هندا بنت سهيل بن عمرو على يزيد بن معاوية-  قال الحسن ع‏ فاذكرني لها-  فأتاها أبو هريرة فأخبرها الخبر-  فقالت اختر لي فقال أختار لك الحسن فتزوجته-  فقدم عبد الله بن عامر المدينة-  فقال للحسن إن لي عند هند وديعة-  فدخل إليها و الحسن معه-  فخرجت حتى جلست بين يدي عبد الله بن عامر-  فرق لها رقة عظيمة-  فقال الحسن أ لا أنزل لك عنها-  فلا أراك تجد محللا خيرا لكما مني قال لا-  ثم قال لها وديعتي فأخرجت سفطين فيهما جوهر-  ففتحهما و أخذ من أحدهما قبضة و ترك الآخر عليها-  و كانت قبل ابن عامر عند عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد-  فكانت تقول سيدهم جميعا الحسن-  و أسخاهم ابن عامر و أحبهم إلي عبد الرحمن بن عتاب- .

و روى أبو الحسن المدائني-  قال تزوج الحسن حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر-  و كان المنذر بن الزبير يهواها-  فأبلغ الحسن عنها شيئا فطلقها-  فخطبها المنذر فأبت أن تتزوجه-  و قالت شهر بي-  فخطبها عاصم بن عمر بن الخطاب فتزوجها-  فأبلغه المنذر عنها شيئا فطلقها-  فخطبها المنذر فقيل لها تزوجيه فقالت لا و الله ما أفعل-  و قد فعل بي ما قد فعل مرتين-  لا و الله لا يراني في منزله أبدا- . و روى المدائني عن جويرية بن أسماء قال-  لما مات الحسن ع أخرجوا جنازته-  فحمل مروان بن الحكم سريره-  فقال له الحسين ع تحمل اليوم جنازته و كنت بالأمس تجرعه الغيظ-  قال مروان نعم كنت أفعل ذلك بمن يوازن حلمه الجبال- . و روى المدائني عن يحيى بن زكريا عن هشام بن عروة قال قال الحسن عند وفاته ادفنوني عند قبر رسول الله ص-  إلا أن تخافوا أن يكون في ذلك شر-  فلما أرادوا دفنه-  قال مروان بن الحكم لا يدفن عثمان في حش كوكب-  و يدفن الحسن هاهنا-  فاجتمع بنو هاشم و بنو أمية-  و أعان هؤلاء قوم و هؤلاء قوم و جاءوا بالسلاح-  فقال أبو هريرة لمروان-  أ تمنع الحسن أن يدفن في هذا الموضع- 

و قد سمعت رسول الله ص يقول الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة-  قال مروان دعنا منك-  لقد ضاع حديث رسول الله ص-  إذ كان لا يحفظه غيرك و غير أبي سعيد الخدري-  و إنما أسلمت أيام خيبر-  قال أبو هريرة صدقت أسلمت أيام خيبر-  و لكنني لزمت رسول الله ص و لم أكن أفارقه-  و كنت أسأله و عنيت بذلك-  حتى علمت من أحب و من أبغض-  و من قرب و من أبعد و من أقر و من نفى-  و من لعن و من دعا له-  فلما رأت عائشة السلاح و الرجال-  و خافت أن يعظم الشر بينهم و تسفك الدماء-  قالت البيت بيتي و لا آذن لأحد أن يدفن فيه-  و أبى الحسين ع أن يدفنه إلا مع جده-  فقال له محمد بن الحنفية يا أخي-  إنه لو أوصى أن ندفنه لدفناه أو نموت قبل ذلك-  و لكنه قد استثنى و قال إلا أن تخافوا الشر-  فأي شر يرى أشد مما نحن فيه فدفنوه في البقيع- . قال أبو الحسن المدائني-  وصل نعي الحسن ع إلى البصرة في يومين و ليلتين-  فقال الجارود بن أبي سبرة- 

إذا كان شر سار يوما و ليلة
و إن كان خير أخر السير أربعا

إذا ما بريد الشر أقبل نحونا
بإحدى الدواهي الربد سار و أسرعا

 و روى أبو الحسن المدائني-  قال خرج على معاوية قوم من الخوارج-  بعد دخوله الكوفة و صلح الحسن ع له-  فأرسل معاوية إلى الحسن ع-  يسأله أن يخرج فيقاتل الخوارج-  فقال الحسن سبحان الله تركت قتالك-  و هو لي حلال لصلاح الأمة و ألفتهم-  أ فتراني أقاتل معك-  فخطب معاوية أهل الكوفة-  فقال يا أهل الكوفةأ تروني قاتلتكم على الصلاة و الزكاة و الحج-  و قد علمت أنكم تصلون و تزكون و تحجون-  و لكنني قاتلتكم لأتأمر عليكم و على رقابكم-  و قد آتاني الله ذلك و أنتم كارهون-  ألا إن كل مال أو دم أصيب في هذه الفتنة فمطلول-  و كل شرط شرطته فتحت قدمي هاتين-  و لا يصلح الناس إلا ثلاث إخراج العطاء عند محله-  و إقفال الجنود لوقتها و غزو العدو في داره-  فإنهم إن لم تغزوهم غزوكم ثم نزل- .

 قال المدائني فقال المسيب بن نجبة للحسن ع-  ما ينقضي عجبي منك-  بايعت معاوية و معك أربعون ألفا-  و لم تأخذ لنفسك وثيقة و عقدا ظاهرا-  أعطاك أمرا فيما بينك و بينه-  ثم قال ما قد سمعت و الله ما أراد بها غيرك-  قال فما ترى قال أرى أن ترجع إلى ما كنت عليه-  فقد نقض ما كان بينه و بينك-  فقال يا مسيب إني لو أردت بما فعلت الدنيا-  لم يكن معاوية بأصبر عند اللقاء-  و لا أثبت عند الحرب مني-  و لكني أردت صلاحكم و كف بعضكم عن بعض-  فارضوا بقدر الله و قضائه-  حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر

– . قال المدائني و دخل عبيدة بن عمرو الكندي على الحسن ع-  و كان ضرب على وجهه ضربة-  و هو مع قيس بن سعد بن عبادة-  فقال ما الذي أرى بوجهك قال أصابني مع قيس-  فالتفت حجر بن عدي إلى الحسن-  فقال لوددت أنك كنت مت قبل هذا اليوم و لم يكن ما كان-  إنا رجعنا راغمين بما كرهنا-  و رجعوا مسرورين بما أحبوا-  فتغير وجه الحسن و غمز الحسين ع حجرا فسكت-  فقال الحسن ع-  يا حجر ليس كل الناس يحب ما تحب و لا رأيه كرأيك-  و ما فعلت إلا إبقاء عليك و الله كل يوم في شأن- .

 

 قال المدائني و دخل عليه سفيان بن أبي ليلى النهدي-  فقال له السلام عليك يا مذل المؤمنين-  فقال الحسن اجلس يرحمك الله-  إن رسول الله ص رفع له ملك بني أمية-  فنظر إليهم يعلون منبره واحدا فواحدا-  فشق ذلك عليه-  فأنزل الله تعالى في ذلك قرآنا قال له-  وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ-  وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ-  و سمعت عليا أبي رحمه الله يقول-  سيلي أمر هذه الأمة رجل واسع البلعوم كبير البطن-  فسألته من هو فقال معاوية-  و قال لي إن القرآن قد نطق بملك بني أمية و مدتهم-  قال تعالى لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ-  قال أبي هذه ملك بني أمية-.

قال المدائني فلما كان عام الصلح-  أقام الحسن ع بالكوفة أياما-  ثم تجهز للشخوص إلى المدينة-  فدخل عليه المسيب بن نجبة الفزاري-  و ظبيان بن عمارة التيمي ليودعاه-  فقال الحسن: الحمد لله الغالب على أمره-  لو أجمع الخلق جميعا على ألا يكون ما هو كائن ما استطاعوا-  فقال أخوه الحسين ع: لقد كنت كارها لما كان طيب النفس على سبيل أبي-  حتى عزم علي أخي فأطعته-  و كأنما يجذ أنفي بالمواسي-  فقال المسيب إنه و الله ما يكبر علينا هذا الأمر-  إلا أن تضاموا و تنتقصوا-  فأما نحن فإنهم سيطلبون مودتنا بكل ما قدروا عليه-  فقال الحسين يا مسيب نحن نعلم أنك تحبنا-  فقال الحسن ع سمعت أبي يقول-  سمعت رسول الله ص يقول-  من أحب قوما كان معهم-  فعرض له المسيب و ظبيان بالرجوع-  فقال ليس لي إلى ذلك سبيل-  فلما كان من غد خرج-  فلما صار بدير هند نظر إلى الكوفة-  و قال

و لا عن قلى فارقت دار معاشري
هم المانعون حوزتي و ذماري‏

ثم سار إلى المدينة- . قال المدائني- فقال معاوية يومئذ للوليد بن عقبة بن أبي معيط- بعد شخوص الحسن ع- يا أبا وهب هل رمت قال نعم و سموت- . قال المدائني أراد معاوية قول الوليد بن عقبة- يحرضه على الطلب بدم عثمان-

ألا أبلغ معاوية بن حرب
فإنك من أخي ثقة مليم‏

قطعت الدهر كالسدم المعنى‏
تهدر في دمشق و لا تريم‏

فلو كنت القتيل و كان حيا
لشمر لا ألف و لا سئوم‏

و إنك و الكتاب إلى علي‏
كدابغة و قد حلم الأديم‏

و روى المدائني عن إبراهيم بن محمد عن زيد بن أسلم قال دخل رجل على الحسن ع بالمدينة و في يده صحيفة-  فقال له الرجل ما هذه قال هذا كتاب معاوية-  يتوعد فيه على أمر كذا-  فقال الرجل لقد كنت على النصف فما فعلت-  فقال له الحسن ع أجل-  و لكني خشيت أن يأتي يوم القيامة سبعون ألفا أو ثمانون ألفا-  تشخب أوداجهم دما-  كلهم يستعدي الله فيم هريق دمه- .

قال أبو الحسن و كان الحصين بن المنذر الرقاشي يقول-  و الله ما وفى معاوية للحسن بشي‏ء مما أعطاه-  قتل حجرا و أصحاب حجر-  و بايع لابنه يزيد و سم الحسن- .

 قال المدائني و روى أبو الطفيل قال قال الحسن ع لمولى له-  أ تعرف معاوية بن خديج قال نعم-  قال إذا رأيته فأعلمني-  فرآه خارجا من دار عمرو ابن حريث فقال هو هذا فدعاه-  فقال له أنت الشاتم عليا عند ابن آكلة الأكباد-  أما و الله لئن وردت الحوض و لم ترده-  لترينه مشمرا عن ساقيه-  حاسرا عن ذراعيه يذود عنه المنافقين-  قال أبو الحسن و روى هذا الخبر أيضا قيس بن الربيع-  عن بدر بن الخليل عن مولى الحسن ع- .

 قال أبو الحسن و حدثنا سليمان بن أيوب عن الأسود بن قيس العبدي إن الحسن ع لقي يوما حبيب بن مسلمة-  فقال له يا حبيب رب مسير لك في غير طاعة الله-  فقال أما مسيري إلى أبيك فليس من ذلك-  قال بلى و الله-  و لكنك أطعت معاوية على دنيا قليلة زائلة-  فلئن قام بك في دنياك لقد قعد بك في آخرتك-  و لو كنت إذ فعلت شرا قلت خيرا-  كان ذلك كما قال عز و جل خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً-  و لكنك كما قال سبحانه-  كَلَّا بَلْ رانَ عَلى‏ قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ‏ قال أبو الحسن طلب زياد رجلا من أصحاب الحسن-  ممن كان في كتاب الأمان-  فكتب إليه الحسن من الحسن بن علي إلى زياد-  أما بعد فقد علمت ما كنا أخذنا من الأمان لأصحابنا-  و قد ذكر لي فلان أنك تعرضت له-  فأحب ألا تعرض له إلا بخير و السلام- .

فلما أتاه الكتاب-  و ذلك بعد ادعاء معاوية إياه غضب-  حيث لم ينسبه إلى أبي سفيان فكتب إليه من زياد بن أبي سفيان إلى الحسن-  أما بعد فإنه أتاني كتابك-  في فاسق تؤويه الفساق من شيعتك و شيعة أبيك-  و ايم الله لأطلبنه بين جلدك و لحمك-  و إن أحب الناس إلي لحما أن آكله-  للحم أنت منه و السلام- . فلما قرأ الحسن ع الكتاب-  بعث به إلى معاوية فلما قرأه غضب و كتب-  من معاوية بن أبي سفيان إلى زياد-  أما بعد فإن لك رأيين-  رأيا من أبي سفيان و رأيا من سمية-  فأما رأيك من أبي سفيان فحلم و حزم-  و أما رأيك من سمية فما يكون من مثلها-  إن الحسن بن علي ع كتب إلي بأنك عرضت لصاحبه-  فلا تعرض له-  فإني لم أجعل لك عليه سبيلا-  و إن الحسن ليس ممن يرمى به الرجوان-  و العجب من كتابك إليه لا تنسبه إلى أبيه أو إلى أمه-  فالآن حين اخترت له و السلام- .

قلت جرى في مجلس بعض الأكابر و أنا حاضر-  القول في أن عليا ع شرف بفاطمة ع-  فقال إنسان كان حاضر المجلس-  بل فاطمة ع شرفت به-  و خاض الحاضرون في ذلك بعد إنكارهم تلك اللفظة-  و سألني صاحب المجلس أن أذكر ما عندي في المعنى و أن أوضح-  أيما أفضل علي أم فاطمة فقلت أما أيهما أفضل-  فإن أريد بالأفضل الأجمع للمناقب التي تتفاضل بها الناس-  نحو العلم و الشجاعة و نحو ذلك فعلي أفضل-  و إن أريد بالأفضل الأرفع منزلة عند الله-  فالذي‏استقر عليه رأي المتأخرين من أصحابنا-  أن عليا أرفع المسلمين كافة عند الله تعالى-  بعد رسول الله ص من الذكور و الإناث-  و فاطمة امرأة من المسلمين-  و إن كانت سيدة نساء العالمين-  و يدل على ذلك أنه قد ثبت أنه أحب الخلق إلى الله تعالى-  بحديث الطائر-  و فاطمة من الخلق-  و أحب الخلق إليه سبحانه أعظمهم ثوابا يوم القيامة-  على ما فسره المحققون من أهل الكلام-  و إن أريد بالأفضل الأشرف نسبا ففاطمة أفضل-  لأن أباها سيد ولد آدم من الأولين و الآخرين-  فليس في آباء علي ع مثله و لا مقارنه-  و إن أريد بالأفضل من كان رسول الله ص أشد عليه حنوا و أمس به رحما-  ففاطمة أفضل لأنها ابنته-  و كان شديد الحب لها و الحنو عليها جدا-  و هي أقرب إليه نسبا من ابن العم-  لا شبهة في ذلك- .

فأما القول في أن عليا شرف بها أو شرفت به-  فإن عليا ع كانت أسباب شرفه و تميزه على الناس متنوعة-  فمنها ما هو متعلق بفاطمة ع-  و منها ما هو متعلق بأبيها ص-  و منها ما هو مستقل بنفسه- . فأما الذي هو مستقل بنفسه-  فنحو شجاعته و عفته و حلمه و قناعته-  و سجاحة أخلاقه و سماحة نفسه-  و أما الذي هو متعلق برسول الله ص-  فنحو علمه و دينه و زهده و عبادته-  و سبقه إلى الإسلام و إخباره بالغيوب- . و أما الذي يتعلق بفاطمة ع فنكاحه لها-  حتى صار بينه و بين رسول الله ص الصهر-  المضاف إلى النسب و السبب-  و حتى إن ذريته منها صارت ذرية لرسول الله ص-  و أجزاء من ذاته ع-  و ذلك لأن الولد إنما يكون من مني الرجل و دم المرأة-  و هما جزءان من ذاتي الأب و الأم-  ثم هكذا أبدا في ولد الولد و من بعده من البطون دائما-  فهذا هو القول في شرف علي ع بفاطمة- .

 

فأما شرفها به فإنها و إن كانت ابنة سيد العالمين-  إلا أن كونها زوجة علي أفادها نوعا من شرف آخر-  زائدا على ذلك الشرف الأول-  أ لا ترى أن أباها لو زوجها أبا هريرة أو أنس بن مالك-  لم يكن حالها في العظمة و الجلالة كحالها الآن-  و كذلك لو كان بنوها و ذريتها-  من أبي هريرة و أنس بن مالك-  لم يكن حالهم في أنفسهم كحالهم الآن- . قال أبو الحسن المدائني و كان الحسن كثير التزوج-  تزوج خولة بنت منظور بن زبان الفزارية-  و أمها مليكة بنت خارجة بن سنان-  فولدت له الحسن بن الحسن-  و تزوج أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله-  فولدت له ابنا سماه طلحة-  و تزوج أم بشر بنت أبي مسعود الأنصاري-  و اسم أبي مسعود عقبة بن عمر-  فولدت له زيد بن الحسن-  و تزوج جعدة بنت الأشعث بن قيس-  و هي التي سقته السم-  و تزوج هند ابنة سهيل بن عمرو-  و حفصة ابنة عبد الرحمن بن أبي بكر-  و تزوج امرأة من كلب-  و تزوج امرأة من بنات عمرو بن أهتم المنقري-  و امرأة من ثقيف فولدت له عمرا-  و تزوج امرأة من بنات علقمة ابن زرارة-  و امرأة من بني شيبان من آل همام بن مرة-  فقيل له إنها ترى رأي الخوارج فطلقها-  و قال إني أكره أن أضم إلى نحري جمرة من جمر جهنم- . و قال المدائني و خطب إلى رجل فزوجه-  و قال له إني مزوجك-  و أعلم أنك ملق طلق غلق-  و لكنك خير الناس نسبا و أرفعهم جدا و أبا- . قلت أما قوله ملق طلق فقد صدق-  و أما قوله غلق فلا-  فإن الغلق الكثير الضجر-  و كان الحسن ع أوسع الناس صدرا و أسجحهم خلقا- .

 

قال المدائني-  أحصيت زوجات الحسن بن علي فكن سبعين امرأة- . قال المدائني و لما توفي علي ع-  خرج عبد الله بن العباس بن عبد المطلب إلى الناس-  فقال إن أمير المؤمنين ع توفي و قد ترك خلفا-  فإن أحببتم خرج إليكم-  و إن كرهتم فلا أحد على أحد-  فبكى الناس و قالوا بل يخرج إلينا- فخرج الحسن ع فخطبهم-  فقال أيها الناس اتقوا الله فإنا أمراؤكم و أولياؤكم-  و إنا أهل البيت الذين قال الله تعالى فينا-  إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ-  وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً-  فبايعه الناس- .

و كان خرج إليهم و عليه ثياب سود-  ثم وجه عبد الله بن عباس-  و معه قيس بن سعد بن عبادة مقدمة له-  في اثني عشر ألفا إلى الشام-  و خرج و هو يريد المدائن-  فطعن بساباط و انتهب متاعه-  و دخل المدائن و بلغ ذلك معاوية فأشاعه-  و جعل أصحاب الحسن-  الذين وجههم مع عبد الله يتسللون إلى معاوية-  الوجوه و أهل البيوتات-  فكتب عبد الله بن العباس بذلك إلى الحسن ع-  فخطب الناس و وبخهم-  و قال خالفتم أبي حتى حكم و هو كاره-  ثم دعاكم إلى قتال أهل الشام بعد التحكيم-  فأبيتم حتى صار إلى كرامة الله-  ثم بايعتموني على أن تسالموا من سالمني-  و تحاربوا من حاربني-  و قد أتاني أن أهل الشرف منكم قد أتوا معاوية و بايعوه-  فحسبي منكم لا تغروني من ديني و نفسي- . و أرسل عبد الله بن الحارث بن نوفل-  بن الحارث بن عبد المطلب-  و أمه هند بنت أبي سفيان بن حرب-  إلى معاوية يسأله المسالمة-  و اشترط عليه العمل بكتاب الله و سنة نبيه-  و ألا يبايع لأحد من بعده-  و أن يكون الأمر شورى-  و أن يكون الناس أجمعون آمنين- .

و كتب بذلك كتابا-  فأبى الحسين ع و امتنع-  فكلمه الحسن حتى رضي و قدم معاوية إلى الكوفة- . قال أبو الحسن و حدثنا أبو بكر بن الأسود-  قال كتب ابن العباس إلى الحسن-  أما بعد فإن المسلمين ولوك أمرهم بعد علي ع-  فشمر للحرب و جاهد عدوك و قارب أصحابك-  و اشتر من الظنين دينه بما لا يثلم لك دينا-  و وال أهل البيوتات و الشرف-  تستصلح به عشائرهم حتى يكون الناس جماعة-  فإن بعض ما يكره الناس ما لم يتعد الحق-  و كانت عواقبه تؤدي إلى ظهور العدل و عز الدين-  خير من كثير مما يحبه الناس-  إذا كانت عواقبه تدعو إلى ظهور الجور-  و ذل المؤمنين و عز الفاجرين-  و اقتد بما جاء عن أئمة العدل-  فقد جاء عنهم أنه لا يصلح الكذب إلا في حرب أو إصلاح بين الناس-  فإن الحرب خدعة-  و لك في ذلك سعة إذا كنت محاربا ما لم تبطل حقا- .

و اعلم أن عليا أباك إنما رغب الناس عنه إلى معاوية-  أنه أساء بينهم في الفي‏ء-  و سوى بينهم في العطاء فثقل عليهم-  و اعلم أنك تحارب من حارب الله و رسوله-  في ابتداء الإسلام-  حتى ظهر أمر الله-  فلما وحد الرب و محق الشرك و عز الدين-  أظهروا الإيمان و قرءوا القرآن مستهزءين بآياته-  و قاموا إلى الصلاة و هم كسالى-  و أدوا الفرائض‏ و هم لها كارهون-  فلما رأوا أنه لا يعز في الدين إلا الأتقياء الأبرار-  توسموا بسيما الصالحين ليظن المسلمون بهم خيرا-  فما زالوا بذلك حتى شركوهم في أماناتهم-  و قالوا حسابهم على الله-  فإن كانوا صادقين فإخواننا في الدين-  و إن كانوا كاذبين كانوا بما اقترفوا هم الأخسرين-  و قد منيت بأولئك و بأبنائهم و أشباههم-  و الله ما زادهم طول العمر إلا غيا-  و لا زادهم ذلك لأهل الدين إلا مقتا-  فجاهدهم و لا ترض دنية و لا تقبل خسفا-  فإن عليا لم يجب إلى الحكومة-  حتى غلب على أمره فأجاب-  و إنهم يعلمون أنه أولى بالأمر إن حكموا بالعدل-  فلما حكموا بالهوى رجع إلى ما كان عليه-  حتى أتى عليه أجله-  و لا تخرجن من حق أنت أولى به-  حتى يحول الموت دون ذلك و السلام

 قال المدائني و كتب الحسن ع إلى معاوية من عبد الله الحسن بن علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان-  أما بعد فإن الله بعث محمدا ص رحمة للعالمين-  فأظهر به الحق و قمع به الشرك-  و أعز به العرب عامة و شرف به قريشا خاصة-  فقال وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ-  فلما توفاه الله تنازعت العرب في الأمر بعده-  فقالت قريش نحن عشيرته و أولياؤه-  فلا تنازعونا سلطانه-  فعرفت العرب لقريش ذلك-  و جاحدتنا قريش ما عرفت لها العرب-  فهيهات ما أنصفتنا قريش-  و قد كانوا ذوي فضيلة في الدين و سابقة في الإسلام-  و لا غرو إلا منازعته إيانا الأمر-  بغير حق في الدنيا معروف-  و لا أثر في الإسلام محمود-  فالله الموعد-  نسأل الله ألا يؤتينا في هذه الدنيا شيئا-  ينقصنا عنده في الآخرة-  إن عليا لما توفاه الله ولاني المسلمون الأمر بعده-  فاتق الله يا معاوية-  و انظر لأمة محمدص ما تحقن به دماءها-  و تصلح به أمرها و السلام- .

و بعث بالكتاب مع الحارث بن سويد التيمي تيم الرباب-  و جندب الأزدي-  فقدما على معاوية فدعواه إلى بيعة الحسن ع فلم يجبهما-  و كتب جوابه أما بعد-  فقد فهمت ما ذكرت به رسول الله-  و هو أحق الأولين و الآخرين بالفضل كله-  و ذكرت تنازع المسلمين الأمر بعده-  فصرحت بتهمة أبي بكر الصديق و عمر-  و أبي عبيدة الأمين و صلحاء المهاجرين-  فكرهت لك ذلك-  إن الأمة لما تنازعت الأمر بينها رأت قريشا أخلقها به-  فرأت قريش و الأنصار و ذوو الفضل و الدين من المسلمين-  أن يولوا من قريش أعلمها بالله و أخشاها له-  و أقواها على الأمر فاختاروا أبا بكر و لم يألوا-  و لو علموا مكان رجل غير أبي بكر يقوم مقامه-  و يذب عن حرم الإسلام ذبه ما عدلوا بالأمر إلى أبي بكر-  و الحال اليوم بيني و بينك على ما كانوا عليه-  فلو علمت أنك أضبط لأمر الرعية-  و أحوط على هذه الأمة و أحسن سياسة-  و أكيد للعدو و أقوى على جمع الفي‏ء-  لسلمت لك الأمر بعد أبيك-  فإن أباك سعى على عثمان حتى قتل مظلوما-  فطالب الله بدمه و من يطلبه الله فلن يفوته-  ثم ابتز الأمة أمرها و فرق جماعتها-  فخالفه نظراؤه-  من أهل السابقة و الجهاد و القدم في الإسلام-  و ادعى أنهم نكثوا بيعته-  فقاتلهم فسفكت الدماء و استحلت الحرم-  ثم أقبل إلينا لا يدعي علينا بيعة-  و لكنه يريد أن يملكنا اغترارا فحاربناه و حاربنا-  ثم صارت الحرب إلى أن اختار رجلا و اخترنا رجلا-  ليحكما بما تصلح عليه الأمة-  و تعود به الجماعة و الألفة-  و أخذنا بذلك عليهما ميثاقا-  و عليه مثله و علينا مثله على الرضا بما حكما-  فأمضى الحكمان عليه الحكم بما علمت و خلعاه-  فو الله ما رضي بالحكم و لا صبر لأمر الله-  فكيف تدعوني إلى أمر إنما تطلبه بحق أبيك-  و قد خرج منه فانظر لنفسك و لدينك و السلام- .

 

قال ثم قال للحارث و جندب-  ارجعا فليس بيني و بينكم إلا السيف-  فرجعا و أقبل إلى العراق في ستين ألفا-  و استخلف على الشام الضحاك بن قيس الفهري-  و الحسن مقيم بالكوفة لم يشخص-  حتى بلغه أن معاوية قد عبر جسر منبج-  فوجه حجر بن عدي يأمر العمال بالاحتراس-  و يذب الناس فسارعوا-  فعقد لقيس بن سعد بن عبادة على اثني عشر ألفا-  فنزل دير عبد الرحمن-  و استخلف على الكوفة المغيرة بن نوفل-  بن الحارث ابن عبد المطلب-  و أمر قيس بن سعد بالمسير و ودعه و أوصاه-  فأخذ على الفرات و قرى الفلوجة ثم إلى مسكن- و ارتحل الحسن ع متوجها نحو المدائن-  فأتى ساباط فأقام بها أياما-  فلما أراد أن يرحل إلى المدائن قام فخطب الناس-  فقال أيها الناس إنكم بايعتموني-  على أن تسالموا من سالمت و تحاربوا من حاربت-  و إني و الله ما أصبحت محتملا-  على أحد من هذه الأمة ضغينة في شرق و لا غرب-  و لما تكرهون في الجماعة و الألفة و الأمن-  و صلاح ذات البين خير مما تحبون في الفرقة-  و الخوف و التباغض و العداوة-  و إن عليا أبي كان يقول-  لا تكرهوا إمارة معاوية-  فإنكم لو فارقتموه-  لرأيتم الرءوس تندر عن كواهلها كالحنظل ثم نزل- .

فقال الناس ما قال هذا القول إلا و هو خالع نفسه-  و مسلم الأمر لمعاوية-  فثاروا به فقطعوا كلامه و انتهبوا متاعه-  و انتزعوا مطرفا كان عليه-  و أخذوا جارية كانت معه-  و اختلف الناس فصارت طائفة معه و أكثرهم عليه-  فقال اللهم أنت المستعان و أمر بالرحيل فارتحل الناس-  و أتاه رجل بفرس فركبه و أطاف به بعض أصحابه-  فمنعوا الناس عنه و ساروا-  فقدمه سنان بن الجراح الأسدي إلى مظلم ساباط فأقام به-  فلما دنا منه تقدم إليه يكلمه-  و طعنه في فخذه بالمعول طعنة كادت تصل إلى العظم-  فغشي عليه و ابتدره أصحابه-  فسبق إليه عبيد الله الطائي فصرع سنانا-  و أخذ ظبيان بن عمارة المعول‏ من يده-  فضربه به فقطع أنفه-  ثم ضربه بصخرة على رأسه فقتله-  و أفاق الحسن ع من غشيته-  فعصبوا جرحه و قد نزف و ضعف-  فقدموا به المدائن-  و عليها سعد بن مسعود عم المختار بن أبي عبيد-  و أقام بالمدائن حتى برأ من جرحه- . قال المدائني و كان الحسن ع أكبر ولد علي-  و كان سيدا سخيا حليما خطيبا-  و كان رسول الله ص يحبه-  سابق يوما بين الحسين و بينه فسبق الحسن-  فأجلسه على فخذه اليمنى-  ثم أجلس الحسين على الفخذ اليسرى-  فقيل له يا رسول الله أيهما أحب إليك-  فقال أقول كما قال إبراهيم أبونا-  و قيل له أي ابنيك أحب إليك-  قال أكبرهما و هو الذي يلد ابني محمدا ص- .

و روى المدائني عن زيد بن أرقم قال خرج الحسن ع و هو صغير-  و عليه بردة و رسول الله ص يخطب-  فعثر فسقط فقطع رسول الله ص الخطبة-  و نزل مسرعا إليه و قد حمله الناس-  فتسلمه و أخذه على كتفه-  و قال إن الولد لفتنة-  لقد نزلت إليه و ما أدري ثم صعد فأتم الخطبةو روى المدائني قال لقي عمرو بن العاص الحسن ع في الطواف-  فقال له يا حسن-  زعمت أن الدين لا يقوم إلا بك و بأبيك-  فقد رأيت الله أقامه بمعاوية-  فجعله راسيا بعد ميله و بينا بعد خفائه-  أ فرضي الله بقتل عثمان-  أ و من الحق أن تطوف بالبيت كما يدور الجمل بالطحين-  عليك ثياب كغرقئ البيض-  و أنت قاتل عثمان-  و الله إنه لألم للشعث و أسهل للوعث-  أن يوردك معاوية حياض أبيك-  فقال الحسن ع إن لأهل النار علامات يعرفون بها-  إلحادا لأولياء الله و موالاة لأعداء الله-  و الله إنك‏ لتعلم أن عليا لم يرتب في الدين-  و لا يشك في الله ساعة و لا طرفة عين قط-  و ايم الله لتنتهين يا ابن أم عمرو أو لأنفذن حضنيك بنوافذ أشد من القعضبية-  فإياك و التهجم علي-  فإني من قد عرفت لست بضعيف الغمزة-  و لا هش المشاشة و لا مري‏ء المأكلة-  و إني من قريش كواسطة القلادة-  يعرف حسبي و لا أدعى لغير أبي-  و أنت من تعلم و يعلم الناس-  تحاكمت فيك رجال قريش فغلب عليك جزاروها-  ألأمهم حسبا و أعظمهم لؤما-  فإياك عني فإنك رجس-  و نحن أهل بيت الطهارة-  أذهب الله عنا الرجس و طهرنا تطهيرا-  فأفحم عمرو و انصرف كئيبا

و روى أبو الحسن المدائني قال سأل معاوية الحسن بن علي بعد الصلح-  أن يخطب الناس فامتنع-  فناشده أن يفعل فوضع له كرسي فجلس عليه-  ثم قال الحمد لله الذي توحد في ملكه و تفرد في ربوبيته-  يؤتي الملك من يشاء و ينزعه عمن يشاء-  و الحمد لله الذي أكرم بنا مؤمنكم-  و أخرج من الشرك أولكم و حقن دماء آخركم-  فبلاؤنا عندكم قديما و حديثا أحسن البلاء-  إن شكرتم أو كفرتم-  أيها الناس إن رب علي كان أعلم بعلي حين قبضه إليه-  و لقد اختصه بفضل لم تعتادوا مثله و لم تجدوا مثل سابقته-  فهيهات هيهات طالما قلبتم له الأمور-  حتى أعلاه الله عليكم و هو صاحبكم-  و عدوكم في بدر و أخواتها-  جرعكم رنقا و سقاكم علقا-  و أذل رقابكم و أشرقكم بريقكم-  فلستم بملومين على بغضه-  و ايم الله لا ترى أمة محمد خفضا-  ما كانت سادتهم و قادتهم في بني أمية-  و لقد وجه الله إليكم فتنة لن تصدروا عنها حتى تهلكوا-  لطاعتكم طواغيتكم و انضوائكم إلى شياطينكم-  فعند الله أحتسب ما مضى و ما ينتظر من سوء دعتكم-  و حيف حكمكم-  ثم قال يا أهل الكوفة-  لقد فارقكم بالأمس سهم من مرامي الله-  صائب‏على أعداء الله نكال على فجار قريش-  لم يزل آخذا بحناجرها جاثما على أنفاسها-  ليس بالملومة في أمر الله و لا بالسروقة لمال الله-  و لا بالفروقة في حرب أعداء الله-  أعطى الكتاب خواتمه و عزائمه-  دعاه فأجابه و قاده فاتبعه-  لا تأخذه في الله لومة لائم-  فصلوات الله عليه و رحمته ثم نزل-  فقال معاوية أخطأ عجل أو كاد-  و أصاب مثبت أو كاد ما ذا أردت من خطبة الحسن- .

فأما أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني-  فإنه قال كان في لسان أبي محمد الحسن ع ثقل كالفأفأة-  حدثني بذلك محمد بن الحسين الأشناني-  قال حدثني محمد بن إسماعيل الأحمسي-  عن مفضل بن صالح عن جابر-  قال كان في لسان الحسن ع رتة-  فكان سلمان الفارسي رحمه الله يقول-  أتته من قبل عمه موسى بن عمران ع- . قال أبو الفرج و مات شهيدا مسموما-  دس معاوية إليه و إلى سعد بن أبي وقاص-  حين أراد أن يعهد إلى يزيد ابنه بالأمر بعده سما-  فماتا منه في أيام متقاربة-  و كان الذي تولى ذلك من الحسن ع-  زوجته جعدة بنت الأشعث بن قيس بمال بذله لها معاوية-  و يقال إن اسمها سكينة و يقال عائشة و يقال شعثاء-  و الصحيح أن اسمها جعدة- .

قال أبو الفرج فروى عمرو بن ثابت-  قال كنت أختلف إلى أبي إسحاق‏السبيعي سنة-  أسأله عن الخطبة التي خطب بها الحسن بن علي ع عقيب وفاة أبيه-  و لا يحدثني بها-  فدخلت إليه في يوم شات و هو في الشمس-  و عليه برنسه فكأنه غول-  فقال لي من أنت فأخبرته فبكى-  و قال كيف أبوك و كيف أهلك قلت صالحون-  قال في أي شي‏ء تتردد منذ سنة-  قلت في خطبة الحسن بن علي بعد وفاه أبيه- .

 حدثني هبيرة ابن مريم قال-  خطب الحسن ع بعد وفاة أمير المؤمنين ع-  فقال قد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون-  و لا يدركه الآخرون بعمل-  لقد كان يجاهد مع رسول الله ص فيسبقه بنفسه-  و لقد كان يوجهه برايته-  فيكنفه جبرائيل عن يمينه و ميكائيل عن يساره-  فلا يرجع حتى يفتح الله عليه-  و لقد توفي في الليلة التي عرج فيها بعيسى ابن مريم-  و التي توفي فيها يوشع بن نوح-  و ما خلف صفراء و لا بيضاء إلا سبعمائة درهم من عطائه-  أراد أن يبتاع بها خادما لأهله-  ثم خنقته العبرة فبكى و بكى الناس معه-  ثم قال أيها الناس من عرفني فقد عرفني-  و من لم يعرفني فأنا الحسن بن محمد رسول الله ص-  أنا ابن البشير أنا ابن النذير-  أنا ابن الداعي إلى الله بإذنه و السراج المنير-  أنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس-  و طهرهم تطهيرا-  و الذين افترض الله مودتهم في كتابه-  إذ يقول وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً-  فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت- .

قال أبو الفرج فلما انتهى إلى هذا الموضع من الخطبة-  قام عبد الله بن العباس بين‏يديه-  فدعا الناس إلى بيعته فاستجابوا-  و قالوا ما أحبه إلينا و أحقه بالخلافة فبايعوه-  ثم نزل من المنبر- . قال أبو الفرج و دس معاوية رجلا من حمير إلى الكوفة-  و رجلا من بني القين إلى البصرة يكتبان إليه بالأخبار-  فدل على الحميري و على القيني فأخذا و قتلا- .

و كتب الحسن ع إلى معاوية أما بعد فإنك دسست إلي الرجال كأنك تحب اللقاء-  لا أشك في ذلك فتوقعه إن شاء الله-  و بلغني أنك شمت بما لم يشمت به ذو الحجى-  و إنما مثلك في ذلك كما قال الأول- 

 فإنا و من قد مات منا لكالذي
يروح فيمسي في المبيت ليغتدي‏

فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى‏
تجهز لأخرى مثلها فكأن قد

فأجابه معاوية أما بعد فقد وصل كتابك-  و فهمت ما ذكرت فيه-  و لقد علمت بما حدث فلم أفرح و لم أحزن و لم أشمت و لم آس-  و إن عليا أباك لكما قال أعشى بني قيس ابن ثعلبة- 

فأنت الجواد و أنت الذي
إذا ما القلوب ملأن الصدورا

جدير بطعنة يوم اللقاء
يضرب منها النساء النحورا

و ما مزيد من خليج البحار
يعلو الإكام و يعلو الجسورا

بأجود منه بما عنده‏
فيعطي الألوف و يعطي البدورا

 

قال أبو الفرج-  و كتب عبد الله بن العباس من البصرة إلى معاوية-  أما بعد فإنك و دسك أخا بني القين إلى البصرة-  تلتمس من غفلات قريش بمثل ما ظفرت به من يمانيتك-  لكما قال أمية بن أبي الأسكر- 

لعمرك إني و الخزاعي طارقا
كنعجة عاد حتفها تتحفر

أثارت عليها شفرة بكراعها
فظلت بها من آخر الليل تنحر

شمت بقوم من صديقك أهلكوا
أصابهم يوم من الدهر أصفر

فأجابه معاوية أما بعد-  فإن الحسن بن علي قد كتب إلي بنحو مما كتبت به-  و أنبأني بما لم يحقق سوء ظن و رأي في-  و إنك لم تصب مثلي و مثلكم-  و إنما مثلنا كما قال طارق الخزاعي-  يجيب أمية عن هذا الشعر- 

 فو الله ما أدري و إني لصادق
إلى أي من يظنني أتعذر

أعنف إن كانت زبينة أهلكت‏
و نال بني لحيان شر فأنفروا

قال أبو الفرج-  و كان أول شي‏ء أحدثه الحسن ع أنه زاد المقاتلة مائة مائة-  و قد كان علي ع فعل ذلك يوم الجمل-  و فعله الحسن حال الاستخلاف-  فتبعه الخلفاء من بعده في ذلك- .

 قال و كتب الحسن ع إلى معاوية-  مع حرب بن عبد الله الأزدي من الحسن بن علي أمير المؤمنين-  إلى معاوية بن أبي سفيان-  سلام عليك-  فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو-  أما بعد فإن الله جل جلاله بعث محمدا رحمة للعالمين-  و منة للمؤمنين و كافة للناس أجمعين-  لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَ يَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ-  فبلغ رسالات الله-  و قام بأمر الله حتى توفاه الله غير مقصر و لا وان-  و بعد أن أظهر الله به الحق و محق به الشرك-  و خص به قريشا خاصة فقال له-  وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ-  فلما توفي تنازعت سلطانه العرب-  فقالت قريش نحن قبيلته و أسرته و أولياؤه-  و لا يحل لكم أن تنازعونا سلطان محمد و حقه-  فرأت العرب أن القول ما قالت قريش-  و أن الحجة في ذلك لهم على من نازعهم أمر محمد-  فأنعمت لهم و سلمت إليهم-  ثم حاججنا نحن قريشا بمثل ما حاججت به العرب-  فلم تنصفنا قريش إنصاف العرب لها-  إنهم أخذوا هذا الأمر دون العرب-  بالانتصاف و الاحتجاج-  فلما صرنا أهل بيت محمد و أولياءه إلى محاجتهم-  و طلب النصف منهم باعدونا-  و استولوا بالإجماع على ظلمنا و مراغمتنا-  و العنت منهم لنا-  فالموعد الله و هو الولي النصيرو لقد كنا تعجبنا لتوثب المتوثبين علينا-  في حقنا و سلطان نبينا-  و إن كانوا ذوي فضيلة و سابقة في الإسلام-  و أمسكنا عن منازعتهم مخافة على الدين-  أن يجد المنافقون و الأحزاب في ذلك مغمزا يثلمونه به-  أو يكون لهم بذلك سبب إلى ما أرادوا من إفساده-  فاليوم فليتعجب المتعجب من توثبك يا معاوية-  على أمر لست من أهله-  لا بفضل في الدين معروف-  و لا أثر في الإسلام محمود-  و أنت ابن حزب من الأحزاب-  و ابن أعدى قريش لرسول الله ص و لكتابه-  و الله حسيبك فسترد فتعلم لمن عقبى الدار-  و بالله لتلقين عن قليل ربك-  ثم ليجزينك بما قدمت يداك و ما الله بظلام للعبيد-  إن عليا لما مضى لسبيله رحمة الله عليه يوم قبض-  و يوم من الله عليه بالإسلام و يوم يبعث حيا-  ولاني المسلمون الأمر بعده-  فأسأل الله ألا يؤتينا في الدنيا الزائلة شيئا-  ينقصنا به في الآخرة مما عنده من كرامة- 

و إنما حملني على الكتاب إليك الإعذار-  فيما بيني و بين الله عز و جل في أمرك-  و لك في ذلك إن فعلته الحظ الجسيم و الصلاح للمسلمين-  فدع التمادي في الباطل-  و ادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي-  فإنك تعلم أني أحق بهذا الأمر منك عند الله-  و عند كل أواب حفيظ-  و من له قلب منيب-  و اتق الله و دع البغي و احقن دماء المسلمين-  فو الله ما لك خير في أن تلقى الله من دمائهم-  بأكثر مما أنت لاقيه به-  و ادخل في السلم و الطاعة-  و لا تنازع الأمر أهله و من هو أحق به منك-  ليطفئ الله النائرة بذلك-  و يجمع الكلمة و يصلح ذات البين-  و إن أنت أبيت إلا التمادي في غيك-  سرت إليك بالمسلمين فحاكمتك-  حتى يحكم الله بيننا و هو خير الحاكمين- .

فكتب معاوية إليه-من عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى الحسن بن علي-  سلام الله عليك-  فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو-  أما بعد فقد بلغني كتابك-  و فهمت ما ذكرت به محمدا رسول الله من الفضل-  و هو أحق الأولين و الآخرين-  بالفضل كله قديمه و حديثه و صغيره و كبيره-  و قد و الله بلغ و أدى و نصح و هدى-  حتى أنقذ الله به من الهلكة و أنار به من العمى-  و هدى به من الجهالة و الضلالة-  فجزاه الله أفضل ما جزى نبيا عن أمته-  و صلوات الله عليه يوم ولد و يوم بعث-  و يوم قبض و يوم يبعث حيا- .

و ذكرت وفاة النبي ص و تنازع المسلمين الأمر بعده-  و تغلبهم على أبيك-  فصرحت بتهمة أبي بكر الصديق و عمر الفاروق-  و أبي عبيدة الأمين و حواري رسول الله ص-  و صلحاء المهاجرين و الأنصار فكرهت ذلك لك-  إنك امرؤ عندنا و عند الناس غير الظنين-  و لا المسي‏ء و لا اللئيم-  و أنا أحب لك القول السديد و الذكر الجميل-  إن هذه الأمة لما اختلفت بعد نبيها-  لم تجهل فضلكم و لا سابقتكم-  و لا قرابتكم من نبيكم و لا مكانكم في الإسلام و أهله-  فرأت الأمة أن تخرج من هذا الأمر لقريش-  لمكانها من نبيها-  و رأى صلحاء الناس من قريش و الأنصار-  و غيرهم من سائر الناس و عوامهم-  أن يولوا هذا الأمر من قريش أقدمها إسلاما-  و أعلمها بالله و أحبها له و أقواها على أمر الله-  فاختاروا أبا بكر-  و كان ذلك رأي ذوي الدين و الفضل و الناظرين للأمة-  فأوقع ذلك في صدوركم لهم التهمة-  و لم يكونوا متهمين و لا فيما أتوا بالمخطئين-  و لو رأى المسلمون أن فيكم من يغني غناءه و يقوم مقامه-  و يذب عن حريم الإسلام ذبه- ما عدلوا بالأمر إلى غيره رغبة عنه-  و لكنهم علموا في ذلك بما رأوه صلاحا للإسلام و أهله-  و الله يجزيهم عن الإسلام و أهله خيرا- .

و قد فهمت الذي دعوتني إليه من الصلح-  و الحال فيما بيني و بينك اليوم-  مثل الحال التي كنتم عليها أنتم و أبو بكر-  بعد وفاة النبي ص-  فلو علمت أنك أضبط مني للرعية-  و أحوط على هذه الأمة و أحسن سياسة-  و أقوى على جمع الأموال و أكيد للعدو-  لأجبتك إلى ما دعوتني إليه و رأيتك لذلك أهلا-  و لكن قد علمت أني أطول منك ولاية-  و أقدم منك بهذه الأمة تجربة و أكبر منك سنا-  فأنت أحق أن تجيبني إلى هذه المنزلة التي سألتني-  فادخل في طاعتي و لك الأمر من بعدي-  و لك ما في بيت مال العراق من مال بالغا ما يبلغ-  تحمله إلى حيث أحببت-  و لك خراج أي كور العراق شئت-  معونة لك على نفقتك يجيبها أمينك-  و يحملها إليك في كل سنة-  و لك ألا نستولي عليك بالإساءة-  و لا نقضي دونك الأمور-  و لا نعصي في أمر أردت به طاعة الله-  أعاننا الله و إياك على طاعته-  إنه سميع مجيب الدعاء و السلام- . قال جندب فلما أتيت الحسن بكتاب معاوية-  قلت له إن الرجل سائر إليك-  فابدأه بالمسير حتى تقاتله في أرضه و بلاده و عمله-  فإما أن تقدر أنه ينقاد لك-  فلا و الله حتى يرى منا أعظم من يوم صفين-  فقال افعل ثم قعد عن مشورتي و تناسى قولي- .

قالوا و كتب معاوية إلى الحسن-أما بعد فإن الله يفعل في عباده ما يشاء-  لا معقب لحكمه و هو سريع الحساب-  فاحذر أن تكون منيتك على أيدي رعاع من الناس-  و ايئس من أن تجد فينا غميزة و إن أنت أعرضت عما أنت فيه و بايعتني-  وفيت لك بما وعدت-  و أجريت لك ما شرطت-  و أكون في ذلك كما قال أعشى بني قيس بن ثعلبة- 

 و إن أحد أسدى إليك أمانة
فأوف بها تدعى إذا مت وافيا

و لا تحسد المولى إذا كان ذا غنى‏
و لا تجفه إن كان في المال فانيا

ثم الخلافة لك من بعدي-  فأنت أولى الناس بها و السلام- .

 فأجابه الحسن أما بعد فقد وصل إلي كتابك-  تذكر فيه ما ذكرت-  فتركت جوابك خشية البغي مني عليك-  و بالله أعوذ من ذلك-  فاتبع الحق تعلم أني من أهله-  و علي إثم أن أقول فأكذب و السلام- .

فلما وصل كتاب الحسن إلى معاوية قرأه-  ثم كتب إلى عماله على النواحي بنسخة واحدة-  من عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى فلان بن فلان-  و من قبله من المسلمين-  سلام عليكم-  فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو-  أما بعد-  فالحمد لله الذي كفاكم مؤنة عدوكم و قتل خليفتكم-  إن الله بلطفه و حسن صنعه-  أتاح لعلي بن أبي طالب رجلا من عباده-فاغتاله فقتله فترك أصحابه متفرقين مختلفين-  و قد جاءتنا كتب أشرافهم و قادتهم-  يلتمسون الأمان لأنفسهم و عشائرهم-  فاقبلوا إلى حين يأتيكم كتابي هذا-  بجهدكم و جندكم و حسن عدتكم-  فقد أصبتم بحمد الله الثأر و بلغتم الأمل-  و أهلك الله أهل البغي و العدوان-  و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته- .

قال فاجتمعت العساكر إلى معاوية-  فسار بها قاصدا إلى العراق-  و بلغ الحسن خبره و مسيره نحوه-  و إنه قد بلغ جسر منبج فتحرك عند ذلك-  و بعث حجر بن عدي-  فأمر العمال و الناس بالتهيؤ للمسير-  و نادى المنادي الصلاة جامعة-  فأقبل الناس يثوبون و يجتمعون-  و قال الحسن إذا رضيت جماعة الناس فأعلمني-  و جاءه سعيد بن قيس الهمداني فقال له اخرج- فخرج الحسن ع و صعد المنبر-  فحمد الله و أثنى عليه ثم قال أما بعد-  فإن الله كتب الجهاد على خلقه و سماه كرها-  ثم قال لأهل الجهاد من المؤمنين-  اصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ-  فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون-  إلا بالصبر على ما تكرهون-  بلغني أن معاوية بلغه أنا كنا أزمعنا على المسير إليه-  فتحرك لذلك-  اخرجوا رحمكم الله إلى معسكركم بالنخيلة-  حتى ننظر و تنظروا و نرى و تروا- .

قال و إنه في كلامه ليتخوف خذلان الناس له-  قال فسكتوا فما تكلم منهم أحد و لا أجابه بحرف-  فلما رأى ذلك عدي بن حاتم قام فقال أنا ابن حاتم-  سبحان الله ما أقبح هذا المقام-  أ لا تجيبون إمامكم و ابن بنت نبيكم-  أين خطباء مضر أين المسلمون-  أين‏الخواضون من أهل المصر-  الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة-  فإذا جد الجد فرواغون كالثعالب-  أ ما تخافون مقت الله و لا عيبها و عارها- . ثم استقبل الحسن بوجهه-  فقال أصاب الله بك المراشد و جنبك المكاره-  و وفقك لما يحمد ورده و صدره-  قد سمعنا مقالتك و انتهينا إلى أمرك-  و سمعنا لك و أطعناك فيما قلت و ما رأيت-  و هذا وجهي إلى معسكري-  فمن أحب أن يوافيني فليواف- . ثم مضى لوجهه فخرج من المسجد و دابته بالباب-  فركبها و مضى إلى النخيلة-  و أمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه-  و كان عدي بن حاتم أول الناس عسكرا. و قام قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري-  و معقل بن قيس الرياحي و زياد بن صعصعة التيمي-  فأنبوا الناس و لاموهم و حرضوهم-  و كلموا الحسن ع بمثل كلام عدي بن حاتم في الإجابة و القبول-  فقال لهم الحسن ع صدقتم رحمكم الله-  ما زلت أعرفكم بصدق النية و الوفاء-  و القبول و المودة الصحيحة-  فجزاكم الله خيرا ثم نزل- . و خرج الناس فعسكروا و نشطوا للخروج-  و خرج الحسن إلى العسكر-  و استخلف على الكوفة-  المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب-  و أمره باستحثاث الناس و أشخاصهم إليه-  فجعل يستحثهم و يستخرجهم حتى يلتئم العسكر- .

و سار الحسن ع في عسكر عظيم و عدة حسنة-  حتى نزل دير عبد الرحمن-فأقام به ثلاثا حتى اجتمع الناس-  ثم دعا عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب-  فقال له يا ابن عم-  إني باعث إليك اثني عشر ألفا-  من فرسان العرب و قراء المصر-  الرجل منهم يزيد الكتيبة-  فسر بهم و ألن لهم جانبك-  و ابسط لهم وجهك و افرش لهم جناحك-  و أدنهم من مجلسك فإنهم بقية ثقات أمير المؤمنين-  و سر بهم على شط الفرات حتى تقطع بهم الفرات-  ثم تصير إلى مسكن-  ثم امض حتى تستقبل بهم معاوية-  فإن أنت لقيته فاحبسه حتى آتيك-  فإني على أثرك وشيكا-  و ليكن خبرك عندي كل يوم-  و شاور هذين يعني قيس بن سعد و سعيد بن قيس-  و إذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك-  فإن فعل فقاتله-  و إن أصبت فقيس بن سعد على الناس-  و إن أصيب قيس بن سعد فسعيد بن قيس على الناس- .

فسار عبيد الله حتى انتهى إلى شينور-  حتى خرج إلى شاهي-  ثم لزم الفرات و الفلوجة حتى أتى مسكن-  و أخذ الحسن على حمام عمر حتى أتى دير كعب-  ثم بكر فنزل ساباط دون القنطرة-  فلما أصبح نادى في الناس الصلاة جامعة فاجتمعوا-  فصعد المنبر فخطبهم-  فقال الحمد لله كلما حمده حامد-  و أشهد أن لا إله إلا الله كلما شهد له شاهد-  و أشهد أن محمدا رسول الله-  أرسله بالحق و ائتمنه على الوحي-  ص-  أما بعد-  فو الله إني لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله و منه-  و أنا أنصح خلقه لخلقه-  و ما أصبحت محتملا على مسلم ضغينة-  و لا مريد له بسوء و لا غائلة-  ألا و إن ما تكرهون في الجماعة خير لكم-  مما تحبون في الفرقة-  ألا و إني ناظر لكم خيرامن نظركم لأنفسكم-  فلا تخالفوا أمري و لا تردوا على رأيي-  غفر الله لي و لكم-  و أرشدني و إياكم لما فيه محبته و رضاه-  إن شاء الله ثم نزل- .

قال فنظر الناس بعضهم إلى بعض-  و قالوا ما ترونه يريد بما قال-  قالوا نظنه يريد أن يصالح معاوية-  و يكل الأمر إليه-  كفر و الله الرجل ثم شدوا على فسطاطه-  فانتهبوه حتى أخذوا مصلاه من تحته-  ثم شد عليه عبد الرحمن بن عبد الله بن جعال الأزدي-  فنزع مطرفه عن عاتقه-  فبقي جالسا متقلدا سيفا بغير رداء-  فدعا بفرسه فركبه-  و أحدق به طوائف من خاصته و شيعته-  و منعوا منه من أراده-  و لاموه و ضعفوه لما تكلم به-  فقال ادعوا إلي ربيعة و همدان-  فدعوا له فأطافوا به-  و دفعوا الناس عنه و معهم شوب من غيرهم-  فلما مر في مظلم ساباط قام إليه رجل من بني أسد-  ثم من بني نصر بن قعين يقال له جراح بن سنان-  و بيده معول فأخذ بلجام فرسه-  و قال الله أكبر يا حسن-  أشرك أبوك ثم أشركت أنت-  و طعنه بالمعول فوقعت في فخذه-  فشقته حتى بلغت أربيته-  و سقط الحسن ع إلى الأرض-  بعد أن ضرب الذي طعنه بسيف كان بيده و اعتنقه-  فخرا جميعا إلى الأرض-  فوثب عبد الله بن الأخطل الطائي-  و نزع المعول من يد جراح بن سنان فخضخضه به-  و أكب ظبيان بن عمارة عليه فقطع أنفه-  ثم أخذا له الآجر فشدخا رأسه و وجهه حتى قتلوه- .

و حمل الحسن ع على سرير إلى المدائن-  و بها سعيد بن مسعود الثقفي واليا عليها من قبله-  و قد كان علي ع ولاه المدائن-  فأقره الحسن ع عليها فأقام عنده يعالج نفسه-  فأما معاوية فإنه وافى-  حتى نزل قرية يقال لها الحلوبية بمسكن-  و أقبل عبيد الله بن عباس حتى نزل بإزائه-  فلما كان من غد وجه معاوية بخيله إليه-  فخرج إليهم عبيد الله فيمن معه-  فضربهم حتى ردهم إلى معسكرهم-  فلما كان الليل أرسل معاوية إلى عبيد الله بن عباس-  أن الحسن قد راسلني في الصلح-  و هو مسلم الأمر إلي-  فإن دخلت في طاعتي الآن كنت متبوعا-  و إلا دخلت و أنت تابع-  و لك إن أجبتني الآن أن أعطيك ألف ألف درهم-  أعجل لك في هذا الوقت نصفها-  و إذا دخلت الكوفة النصف الآخر-  فانسل عبيد الله إليه ليلا فدخل عسكر معاوية-  فوفى له بما وعده-  و أصبح الناس ينتظرون عبيد الله أن يخرج فيصلي بهم-  فلم يخرج حتى أصبحوا فطلبوه فلم يجدوه-  فصلى بهم قيس بن سعد بن عبادة ثم خطبهم فثبتهم-  و ذكر عبيد الله فنال منه-  ثم أمرهم بالصبر و النهوض إلى العدو-  فأجابوه بالطاعة-  و قالوا له انهض بنا إلى عدونا على اسم الله-  فنزل فنهض بهم- .و خرج إليه بسر بن أرطاة فصاح إلى أهل العراق-  ويحكم هذا أميركم عندنا قد بايع-  و إمامكم الحسن قد صالح-  فعلام تقتلون أنفسكم- .

 

فقال لهم قيس بن سعد اختاروا إحدى اثنتين-  إما القتال مع غير إمام و إما أن تبايعوا بيعة ضلال-  فقالوا بل نقاتل بلا إمام-  فخرجوا فضربوا أهل الشام حتى ردوهم إلى مصافهم- . فكتب معاوية إلى قيس بن سعد يدعوه و يمنيه فكتب إليه قيس-  لا و الله لا تلقاني أبدا إلا بيني و بينك الرمح-  فكتب إليه معاوية حينئذ لما يئس منه-  أما بعد فإنك يهودي ابن يهودي-  تشقي نفسك و تقتلها فيما ليس لك-  فإن ظهر أحب الفريقين إليك نبذك و غدرك-  و إن ظهر أبغضهم إليك نكل بك و قتلك-  و قد كان أبوك أوتر غير قوسه و رمى غير غرضه-  فأكثر الحز و أخطأ المفصل-  فخذله قومه و أدركه يومه-  فمات بحوران طريدا غريبا و السلام- . فكتب إليه قيس بن سعد أما بعد-  فإنما أنت وثن ابن وثن-  دخلت في الإسلام كرها-  و أقمت فيه فرقا و خرجت منه طوعا-  و لم يجعل الله لك فيه نصيبا-  لم يقدم إسلامك و لم يحدث نفاقك-  و لم تزل حربا لله و لرسوله-  و حزبا من أحزاب المشركين-  و عدوا لله و لنبيه و للمؤمنين من عباده-  و ذكرت أبي-  فلعمري ما أوتر إلا قوسه و لا رمى إلا غرضه-  فشغب عليه من لا يشق غباره و لا يبلغ كعبه-  و زعمت أني يهودي ابن يهودي-  و قد علمت و علم الناس أني و أبي أعداء الدين الذي خرجت منه-  و أنصار الدين الذي دخلت فيه و صرت إليه و السلام- .

فلما قرأ معاوية كتابه غاظه و أراد إجابته-  فقال له عمرو مهلا-  فإنك إن كاتبته أجابك بأشد من هذا-  و إن تركته دخل فيما دخل فيه الناس فأمسك عنه- . قال و بعث معاوية عبد الله بن عامر-  و عبد الرحمن بن سمرة إلى الحسن للصلح-  فدعواه‏ إليه فزهداه في الأمر-  و أعطياه ما شرط له معاوية-  و ألا يتبع أحد بما مضى-  و لا ينال أحد من شيعة علي بمكروه-  و لا يذكر علي إلا بخير-  و أشياء شرطها الحسن-  فأجاب إلى ذلك-  و انصرف قيس بن سعد فيمن معه إلى الكوفة-  و انصرف الحسن أيضا إليها-  و أقبل معاوية قاصدا نحو الكوفة-  و اجتمع إلى الحسن ع وجوه الشيعة-  و أكابر أصحاب أمير المؤمنين ع يلومونه-  و يبكون إليه جزعا مما فعله قال أبو الفرج فحدثني محمد بن أحمد بن عبيد قال حدثنا الفضل بن الحسن البصري قال حدثنا ابن عمرو قال حدثنا مكي بن إبراهيم قال حدثنا السري بن إسماعيل عن الشعبي عن سفيان بن أبي ليلى قال أبو الفرج و حدثني به أيضا محمد بن الحسين الأشنانداني و علي بن العباس المقانعي عن عباد بن يعقوب عن عمرو بن ثابت عن الحسن بن الحكم عن عدي بن ثابت عن سفيان بن أبي ليلى قال أتيت الحسن بن علي حين بايع معاوية-  فوجدته بفناء داره و عنده رهط-  فقلت السلام عليك يا مذل المؤمنين- 

قال و عليك السلام يا سفيان-  و نزلت فعقلت راحلتي ثم أتيته فجلست إليه-  فقال كيف قلت يا سفيان-  قلت السلام عليك يا مذل المؤمنين-  فقال لم جرى هذا منك إلينا-  قلت أنت و الله بأبي و أمي أذللت رقابنا-  حيث أعطيت هذا الطاغية البيعة-  و سلمت الأمر إلى اللعين ابن آكلة الأكباد-  و معك مائة ألف كلهم يموت دونك-  فقد جمع الله عليك أمر الناس-  فقال يا سفيان إنا أهل بيت إذا علمنا الحق تمسكنا به-  و إني سمعت عليا يقول سمعت رسول الله ص يقول-  لا تذهب الليالي و الأيام-  حتى يجتمع أمر هذه الأمة على رجل واسع السرم-ضخم البلعوم يأكل و لا يشبع لا ينظر الله إليه-  و لا يموت حتى لا يكون له في السماء عاذر-  و لا في الأرض ناصر-  و إنه لمعاوية و إني عرفت أن الله بالغ أمره-  ثم أذن المؤذن فقمنا على حالب نحلب ناقته-  فتناول الإناء فشرب قائما ثم سقاني-  و خرجنا نمشي إلى المسجد-  فقال لي ما جاء بك يا سفيان-  قلت حبكم و الذي بعث محمدا بالهدى و دين الحق-  قال فأبشر يا سفيان فإني سمعت عليا يقول-  سمعت رسول الله ص يقول-  يرد علي الحوض أهل بيتي-  و من أحبهم من أمتي كهاتين يعني السبابتين-  أو كهاتين يعني السبابة و الوسطى-  إحداهما تفضل على الأخرى-  أبشر يا سفيان فإن الدنيا تسع البر و الفاجر-  حتى يبعث الله إمام الحق من آل محمد ص- .

قلت قوله و لا في الأرض ناصر أي ناصر ديني-  أي لا يمكن أحدا أن ينتصر له بتأويل ديني-  يتكلف به عذرا لأفعاله القبيحة- . فإن قلت قوله و إنه لمعاوية من الحديث المرفوع-  أو من كلام علي ع أو من كلام الحسن ع-  قلت الظاهر أنه من كلام الحسن ع-  فإنه قد غلب على ظنه أن معاوية صاحب هذه الصفات-  و إن كان القسمان الأولان غير ممتنعين- . فإن قلت فمن هو إمام الحق من آل محمد-  قلت أما الإمامية-  فتزعم أنه صاحبهم الذي يعتقدون أنه الآن حي في الأرض-  و أما أصحابنا فيزعمون أنه فاطمي-  يخلقه الله في آخر الزمان- .

قال أبو الفرج و سار معاوية حتى نزل النخيلة-  و جمع الناس بها فخطبهم قبل أن يدخل الكوفة-  خطبة طويلة لم ينقلها أحد من الرواة تامة-  و جاءت منقطعة في الحديث-  و سنذكر ما انتهى إلينا منها- . فأما الشعبي فإنه روى أنه قال في الخطبة-  ما اختلف أمر أمة بعد نبيها-  إلا و ظهر أهل باطلها على أهل حقها-  ثم انتبه فندم فقال إلا هذه الأمة فإنها و إنها-  و أما أبو إسحاق السبيعي-  فقال إن معاوية قال في خطبته بالنخيلة-  ألا إن كل شي‏ء أعطيته الحسن بن علي تحت قدمي هاتين-  لا أفي به- . قال أبو إسحاق و كان و الله غدارا- . و روى الأعمش عن عمرو بن مرة عن سعيد بن سويد-  قال صلى بنا معاوية بالنخيلة الجمعة ثم خطبنا-  فقال و الله إني ما قاتلتكم لتصلوا و لا لتصوموا-  و لا لتحجوا و لا لتزكوا إنكم لتفعلون ذلك-  و إنما قاتلتكم لأتأمر عليكم-  و قد أعطاني الله ذلك و أنتم كارهون- . قال و كان عبد الرحمن بن شريك إذا حدث بذلك-  يقول هذا و الله هو التهتك- .

 قال أبو الفرج و حدثني أبو عبيد محمد بن أحمد قال حدثني الفضل بن الحسن البصري قال حدثني يحيى بن معين قال حدثني أبو حفص اللبان عن عبد الرحمن بن شريك عن إسماعيل بن أبي خالد عن حبيب بن أبي ثابت قال خطب معاوية بالكوفة حين دخلها-  و الحسن و الحسين ع جالسان تحت المنبر-  فذكر عليا ع‏فنال منه-  ثم نال من الحسن فقام الحسين ع ليرد عليه-  فأخذه الحسن بيده فأجلسه-  ثم قام فقال أيها الذاكر عليا أنا الحسن و أبي علي-  و أنت معاوية و أبوك صخر-  و أمي فاطمة و أمك هند-  و جدي رسول الله و جدك عتبة بن ربيعة-  و جدتي خديجة و جدتك قتيلة-  فلعن الله أخملنا ذكرا و ألأمنا حسبا-  و شرنا قديما و حديثا و أقدمنا كفرا و نفاقا-  فقال طوائف من أهل المسجد آمين  قال الفضل قال يحيى بن معين و أنا أقول آمين- . قال أبو الفرج قال أبو عبيد-  قال الفضل و أنا أقول آمين-  و يقول علي بن الحسين الأصفهاني آمين- . قلت و يقول عبد الحميد بن أبي الحديد مصنف هذا الكتاب-  آمين- . قال أبو الفرج و دخل معاوية الكوفة-  بعد فراغه من خطبته بالنخيلة-  و بين يديه خالد ابن عرفطة-  و معه حبيب بن حماد يحمل رايته-  فلما صار بالكوفة دخل المسجد من باب الفيل-  و اجتمع الناس إليه- .

 قال أبو الفرج فحدثني أبو عبيد الصيرفي و أحمد بن عبيد الله بن عمار عن محمد بن علي بن خلف عن محمد بن عمرو الرازي عن مالك بن سعيد عن محمد بن عبد الله الليثي عن عطاء بن السائب عن أبيه قال بينما علي بن أبي طالب ع على منبر الكوفة-  إذ دخل رجل فقال يا أمير المؤمنين-  مات خالد بن عرفطة-  فقال لا و الله ما مات و لا يموت-  حتى يدخل من باب المسجد-  و أشار إلى باب الفيل-  و معه راية ضلالة يحملها حبيب بن حماد-  قال فوثب رجل فقال يا أمير المؤمنين-  أنا حبيب بن حماد و أنا لك شيعة-  فقال‏فإنه كما أقول-  فو الله لقد قدم خالد بن عرفطة على مقدمة معاوية-  يحمل رايته حبيب بن حماد: قال أبو الفرج و قال مالك بن سعيد و حدثني الأعمش بهذا الحديث قال حدثني صاحب هذه الدار و أشار إلى دار السائب أبي عطاء إنه سمع عليا ع يقول هذا- .

قال أبو الفرج فلما تم الصلح بين الحسن و معاوية-  أرسل إلى قيس بن سعد يدعوه إلى البيعة-  فجاءه و كان رجلا طوالا يركب الفرس المشرف-  و رجلاه تخطان في الأرض-  و ما في وجهه طاقة شعر-  و كان يسمى خصي الأنصار-  فلما أرادوا إدخاله إليه-  قال إني حلفت ألا ألقاه-  إلا و بيني و بينه الرمح أو السيف-  فأمر معاوية برمح و سيف-  فوضعا بينه و بينه ليبر يمينه- . قال أبو الفرج-  و قد روي أن الحسن لما صالح معاوية-  اعتزل قيس بن سعد في أربعة آلاف فارس فأبى أن يبايع-  فلما بايع الحسن أدخل قيس ليبايع-  فأقبل على الحسن فقال أ في حل أنا من بيعتك فقال نعم-  فألقي له كرسي و جلس معاوية على سرير و الحسن معه-  فقال له معاوية أ تبايع يا قيس قال نعم-  و وضع يده على فخذه و لم يمدها إلى معاوية-  فجاء معاوية من سريره-  و أكب على قيس حتى مسح يده على يده-  و ما رفع إليه قيس يده- .

 

قال أبو الفرج ثم إن معاوية أمر الحسن أن يخطب-  فظن أنه سيحصر فقام فخطب فقال في خطبته إنما الخليفة من سار بكتاب الله و سنة نبيه-  و ليس الخليفة من سار بالجور-  ذاك رجل ملك ملكا تمتع به قليلا-  ثم تنخمه تنقطع لذته و تبقى تبعته-  وَ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَ مَتاعٌ إِلى‏ حِينٍ‏-  قال و انصرف الحسن إلى المدينة فأقام بها-  و أراد معاوية البيعة لابنه يزيد-  فلم يكن عليه شي‏ء أثقل من أمر الحسن بن علي-  و سعد بن أبي وقاص-  فدس إليهما سما فماتا منه- . قال أبو الفرج فحدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار-  عن عيسى بن مهران عن عبيد بن الصباح الخراز-  عن جرير عن مغيرة قال-  أرسل معاوية إلى بنت الأشعث بن قيس و هي تحت الحسن-  فقال لها إني مزوجك يزيد ابني على أن تسمي الحسن-  و بعث إليها بمائة ألف درهم ففعلت-  و سمت الحسن فسوغها المال و لم يزوجها منه-  فخلف عليها رجل من آل طلحة فأولدها-  فكان إذا وقع بينهم و بين بطون قريش كلام عيروهم-  و قالوا يا بني مسمة الأزواج- . قال حدثني أحمد قال حدثني يحيى بن بكير عن شعبة-  عن أبي بكر بن حفص-  قال توفي الحسن بن علي و سعد بن أبي وقاص-  في أيام متقاربة-  و ذلك بعد ما مضى من ولاية إمارة معاوية عشر سنين-  و كانوا يروون أنه سقاهما السم

 قال أبو الفرج و حدثني أحمد بن عون عن عمران بن إسحاق قال كنت مع الحسن و الحسين ع في الدار-  فدخل الحسن المخرج ثم خرج-  فقال لقد سقيت السم مرارا-  ما سقيت مثل هذه المرة-  لقد لفظت قطعة من كبدي فجعلت‏ أقلبها بعود معي-  فقال الحسين و من سقاك قال و ما تريد منه-  أ تريد أن تقتله إن يكن هو هو-  فالله أشد نقمة منك-  و إن لم يكن هو فما أحب أن يؤخذ بي بري‏ء- .

قال أبو الفرج-  دفن الحسن ع في قبر فاطمة بنت رسول الله ص في البقيع-  و قد كان أوصى أن يدفن مع النبي ص-  فمنع مروان بن الحكم من ذلك-  و ركبت بنو أمية في السلاح-  و جعل مروان يقول

 يا رب هيجا هي خير من دعه‏

  يدفن عثمان في البقيع-  و يدفن الحسن في بيت النبي ص-  و الله لا يكون ذلك أبدا و أنا أحمل السيف-  و كادت الفتنة تقع-  و أبى الحسين ع أن يدفنه إلا مع النبي ص-  فقال له عبد الله بن جعفر-  عزمت عليك يا أبا عبد الله بحقي ألا تكلم بكلمة-  فمضوا به إلى البقيع و انصرف مروان- .

 قال أبو الفرج و قد روى الزبير بن بكار أن الحسن ع أرسل إلى عائشة-  أن تأذن له أن يدفن مع النبي ص-  فقالت نعم-  فلما سمعت بنو أمية بذلك استلأموا في السلاح-  و تنادوا هم و بنو هاشم في القتال-  فبلغ ذلك الحسن فأرسل إلى بني هاشم-  أما إذا كان هذا فلا حاجة لي فيه-  ادفنوني إلى جنب أمي فدفن إلى جنب فاطمة ع- .

قال أبو الفرج فأما يحيى بن الحسن صاحب كتاب النسب-  فإنه روى أن عائشة ركبت ذلك اليوم بغلا-  و استنفرت بنو أمية مروان بن الحكم-  و من كان هناك منهم و من حشمهم-  و هو قول القائل

 فيوما على بغل و يوما على جمل‏

 قلت و ليس في رواية يحيى بن الحسن ما يؤخذ على عائشة-  لأنه لم يرو أنها استنفرت الناس لما ركبت البغل-  و إنما المستنفرون هم بنو أمية-  و يجوز أن تكون عائشة ركبت لتسكين الفتنة-  لا سيما و قد روي عنها أنه لما طلب منها الدفن قالت نعم-  فهذه الحال و القصة منقبة من مناقب عائشة- .

 قال أبو الفرج و قال جويرية بن أسماء لما مات الحسن و أخرجوا جنازته-  جاء مروان حتى دخل تحته فحمل سريره-  فقال له الحسين ع أ تحمل اليوم سريره و بالأمس كنت تجرعه الغيظ-  قال مروان كنت أفعل ذلك بمن يوازن حلمه الجبال- . قال و قدم الحسين ع للصلاة عليه سعيد بن العاص-  و هو يومئذ أمير المدينة-  و قال تقدم فلو لا أنها سنة لما قدمتك- . قال قيل لأبي إسحاق السبيعي متى ذل الناس-  فقال حين مات الحسن-  و ادعي زياد و قتل حجر بن عدي- . قال اختلف الناس في سن الحسن ع وقت وفاته-  فقيل ابن ثمان و أربعين-  و هو المروي عن جعفر بن محمد ع في رواية هشام بن سالم-  و قيل ابن ست و أربعين-  و هو المروي أيضا عن جعفر بن محمد ع في رواية أبي بصير- .

 

قال و في الحسن ع يقول سليمان بن قتة يرثيه-  و كان محبا له- 

   يا كذب الله من نعى حسنا
ليس لتكذيب نعيه ثمن‏

كنت خليلي و كنت خالصتي‏
لكل حي من أهله سكن‏

أجول في الدار لا أراك و في
الدار أناس جوارهم غبن‏

بدلتهم منك ليت أنهم‏
أضحوا و بيني و بينهم عدن‏

ثم نرجع إلى تفسير ألفاظ الفصل-  أما قوله كتبها إليه بحاضرين-  فالذي كنا نقرؤه قديما-  كتبها إليه بالحاضرين على صيغة التثنية-  يعني حاضر حلب و حاضر قنسرين-  و هي الأرباض و الضواحي المحيطة بهذه البلاد-  ثم قرأناه بعد ذلك على جماعة من الشيوخ بغير لام-  و لم يفسروه-  و منهم من يذكره بصيغة الجمع لا بصيغة التثنية-  و منهم من يقول بخناصرين-  يظنونه تثنية خناصرة أو جمعها-  و قد طلبت هذه الكلمة في الكتب المصنفة-  سيما في البلاد و الأرضين فلم أجدها-  و لعلي أظفر بها فيما بعد فألحقها في هذا الموضع- . قوله من الوالد الفان-  حذف الياء ها هنا للازدواج بين الفان و الزمان-  و لأنه وقف-  و في الوقف على المنقوص-  يجوز مع اللام حذف الياء و إثباتها-  و الإثبات هو الوجه-  و مع عدم اللام يجوز الأمران و إسقاط الياء هو الوجه- .

قوله المقر للزمان أي المقر له بالغلبة-  كأنه جعل نفسه فيما مضى خصما للزمان بالقهر- . قوله المدبر العمر لأنه كان قد جاوز الستين-  و لم يبق بعد مجاوزة الستين إلا إدبار العمر-  لأنها نصف العمر الطبيعي الذي قل أن يبلغه أحد-  فعلى تقدير أنه‏ يبلغه-  فكل ما بعد الستين أقل مما مضى-  فلا جرم يكون العمر قد أدبر- . قوله المستسلم للدهر-  هذا آكد من قوله المقر للزمان-  لأنه قد يقر الإنسان لخصمه و لا يستسلم- . قوله الذام للدنيا-  هذا وصف لم يستحدثه عند الكبر-  بل لم يزل عليه-  و لكن يجوز أن يزيد ذمه لها-  لأن الشيخ تنقص قواه-  التي يستعين بها على الدنيا و الدين جميعا-  و لا يزال يتأفف من الدنيا- . قوله الساكن مساكن الموتى إشعار بأنه سيموت-  و هذا من قوله تعالى-  وَ سَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ- . قوله الظاعن عنها غدا-  لا يريد الغد بعينه بل يريد قرب الرحيل و الظعن- .

و هذا الكلام من أمير المؤمنين ع-  كلام من قد أيقن بالفراق-  و لا ريب في ظهور الاستكانة و الخضوع عليه-  و يدل أيضا على كرب و ضيق عطن-  لكونه لم يبلغ أربه من حرب أهل الشام-  و انعكس ما قدره بتخاذل أصحابه عنه-  و نفوذ حكم عمرو بن العاص فيه-  لحمق أبي موسى و غباوته و انحرافه أيضا- . قوله إلى المولود هذه اللفظة بإزاء الوالد- . قوله المؤمل ما لا يدرك-  لو قال قائل إنه كنى بذلك-  عن أنه لا ينال الخلافة بعد موتي-  و إن كان مؤملا لها لم يبعد-  و يكون ذلك إخبارا عن غيب-  و لكن الأظهر أنه لم يرد ذلك-  إنما أراد جنس البشر لا خصوص الحسن-  و كذلك سائر الأوصاف التي تلي هذه اللفظة-  لا تخص الحسن ع بعينه-  بل هي و إن كانت له في الظاهر-  بل هي للناس كلهم في الحقيقة-  أ لا ترى إلى قوله بعدها السالك سبيل من قد هلك-  فإن كل واحد من الناس يؤمل أمورا لا يدركها-  و كل واحد من الناس سألك سبيل من هلك قبله- .

 

قوله ع غرض الأسقام-  لأن الإنسان كالهدف لآفات الدنيا و أعراضها- . قوله ع و رهينة الأيام-  الرهينة هاهنا المهزول-  يقال إنه لرهن و إنه لرهينة إذا كان مهزولا بالياء-  قال الراجز

  أما ترى جسمي خلاء قد رهن
هزلا و ما مجد الرجال في السمن‏

 و يجوز أن يريد بالرهينة واحدة الرهائن-  يقال للأسير أو للزمن أو للعاجز عند الرحيل أنه لرهينة-  و ذلك لأن الرهائن محتبسة عند مرتهنها- . قوله و رمية المصائب الرمية ما يرمى- . قوله و عبد الدنيا-  و تاجر الغرور و غريم المنايا-  لأن الإنسان طوع شهواته فهو عبد الدنيا-  و حركاته فيها مبنية على غرور لا أصل له-  فهو تاجر الغرور لا محالة-  و لما كانت المنايا تطالبه بالرحيل عن هذه الدار-  كانت غريما له يقتضيه ما لا بد له من أدائه- . قوله و أسير الموت و حليف الهموم-  و قرين الأحزان و نصب الآفات و سريع الشهوات-  لما كان الإنسان مع الموت-  كما قال طرفة

  لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى
لكالطول المرخى و ثنياه باليد

كان أسيرا له لا محالة-  و لما كان لا بد لكل إنسان من الهم كان حليف الهموم-  و كذلك لا يخلو و لا ينفك من الحزن فكان قرينا له-  و لما كان معرضا للآفات كان نصبا لها-  و لما كان إنما يهلك بشهواته كان صريعا لها- . قوله و خليفة الأموات-  قد أخذه من قال-  إن أمرا ليس بينه و بين آدم إلا أب ميت-  لمعرق في الموت- . و اعلم أنه عد من صفات نفسه سبعا-  و عد من صفات ولده أربع عشرة صفة-  فجعل‏بإزاء كل واحدة مما له اثنتين فليلمح ذلكبعض ما قيل من الشعر في الدهر و فعله بالإنسانو من جيد ما نعى به شاعر نفسه-  و وصف ما نقص الدهر من قواه-  قول عوف بن محلم الشيباني-  في عبد الله بن طاهر أمير خراسان- 

يا ابن الذي دان له المشرقان
و ألبس الأمن به المغربان‏

إن الثمانين و بلغتها
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان‏

و بدلتني بالشطاط انحنا
و كنت كالصعدة تحت السنان‏

و قاربت مني خطا لم تكن‏
مقاربات و ثنت من عنان‏

و عوضتني من زماع الفتى
و همه هم الجبان الهدان‏

و أنشأت بيني و بين الورى‏
عنانة من غير نسج العنان‏

و لم تدع في لمستمتع
إلا لساني و كفاني لسان‏

أدعو به الله و أثني به‏
على الأمير المصعبي الهجان‏

و من الشعر القديم الجيد في هذا المعنى- قول سالم بن عونة الضبي-

لا يبعدن عصر الشباب و لا
لذاته و نباته النضر

و المشرفات من الخدور كإيماض‏
الغمام يجوز بالقطر

و طراد خيل مثلها التقتا
لحفيظة و مقاعد الخمر

لو لا أولئك ما حلفت متى‏
عوليت في خرج إلى قبري‏

هربت زبيبة أن رأت ثرمي
و أن انحنى لتقادم ظهري‏

من بعد ما عهدت فأدلفني‏
يوم يمر و ليلة تسري‏

حتى كأني خاتل قنصا
و المرء بعد تمامه يجري‏

لا تهزئي مني زبيب فما
في ذاك من عجب و لا سخر

أ و لم تري لقمان أهلكه
ما اقتات من سنة و من شهر

و بقاء نسر كلما انقرضت‏
أيامه عادت إلى نسر

ما طال من أمد على لبد
رجعت محارته إلى قصر

و لقد حلبت الدهر أشطره‏
و علمت ما آتي من الأمر

–  أنا أستفصح قوله ما اقتات من سنة و من شهر-  جعل الزمان كالقوت له-  و من اقتات الشي‏ء فقد أكله-  و الأكل سبب المرض و المرض سبب الهلاك

 

أَمَّا بَعْدُ-  فَإِنَّ فِيمَا تَبَيَّنْتُ مِنْ إِدْبَارِ الدُّنْيَا عَنِّي-  وَ جُمُوحِ الدَّهْرِ عَلَيَّ وَ إِقْبَالِ الآْخِرَةِ إِلَيَّ-  مَا يَزَعُنِي عَنْ ذِكْرِ مَنْ سِوَايَ-  وَ الِاهْتِمَامِ بِمَا وَرَائِي-  غَيْرَ أَنِّي حَيْثُ تَفَرَّدَ بِي دُونَ هُمُومِ النَّاسِ هَمُّ نَفْسِي-  فَصَدَّقَنِي رَأْيِي وَ صَرَفَنِي عَنْ هَوَايَ-  وَ صَرَّحَ لِي مَحْضُ أَمْرِي-  فَأَفْضَى بِي إِلَى جَدٍّ لَا يَكُونُ فِيهِ لَعِبٌ-  وَ صِدْقٍ لَا يَشُوبُهُ كَذِبٌ وَجَدْتُكَ بَعْضِي-  بَلْ وَجَدْتُكَ كُلِّي-  حَتَّى كَأَنَّ شَيْئاً لَوْ أَصَابَكَ أَصَابَنِي-  وَ كَأَنَّ الْمَوْتَ لَوْ أَتَاكَ أَتَانِي-  فَعَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِينِي مِنْ أَمْرِ نَفْسِي-  فَكَتَبْتُ إِلَيْكَ كِتَابِي هَذَا-  مُسْتَظْهِراً بِهِ إِنْ أَنَا بَقِيتُ لَكَ أَوْ فَنِيتُ يزعني يكفني و يصدني وزعت فلانا-  و لا بد للناس من وزعة- . و سوى لفظة تقصر إذا كسرت سينها-  و تمد إذا فتحتها و هي هاهنا بمعنى غير-  و من قبلها بمعنى شي‏ء منكر-  كقوله

         رب من أنضجت غيظا قلبه‏

و التقدير غير ذكر إنسان سواي-  و يجوز أن تكون من موصولة-  و قد حذف أحد جزأي الصلة-  و التقدير عن ذكر الذي هو غيري-  كما قالوا في لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ أي هو أشد-  يقول ع إن فيما قد بان لي-  من تنكر الوقت و إدبار الدنيا و إقبال الآخرة-  شاغلا لي عن الاهتمام بأحد غيري-  و الاهتمام و الفكر في أمر الولد و غيره ممن أخلفه ورائي- .

ثم عاد فقال ألا إن همي بنفسي يقتضي اهتمامي بك-  لأنك بعضي بل كلي-  فإن كان اهتمامي بنفسي يصرفني عن غيري-  لم تكن أنت داخلا في جملة من يصرفني همي بنفسي عنهم-  لأنك لست غيري- . فإن قلت أ فهذا الهم حدث لأمير المؤمنين ع الآن-  أو من قبل لم يكن عالما بأن الدنيا مدبرة و الآخرة مقبلة- . قلت كلا بل لم يزل عالما عارفا بذلك-  و لكنه الآن تأكد و قوي-  بطريق علو السن و ضعف القوى-  و هذا أمر يحصل للإنسان على سبيل الإيجاب-  لا بد من حصوله لكل أحد-  و إن كان عالما بالحال من قبل-  و لكن ليس العيان كالخبر- . و من مستحسن ما قيل في هذا المعنى قول أبي إسحاق الصابئ- 

  أقيك الردى إني تنبهت من كرى
و سهو على طول المدى اعترياني‏

فأثبت شخصا دانيا كان خافيا
على البعد حتى صار نصب عياني‏

هو الأجل المحتوم لي جد جده
و كان يريني غفلة المتواني‏

له نذر قد آذنتني بهجمة
له لست منها آخذا بأمان‏

و لا بد منه ممهلا أو معاجلا
سيأتي فلا يثنيه عني ثان‏

 و أول هذه القصيدة و هو داخل له في هذا المعنى أيضا-

إذا ما تعدت بي و سارت محفة
لها أرجل يسعى بها رجلان‏

و ما كنت من فرسانها غير أنها
وفت لي لما خانت القدمان‏

نزلت إليها عن سراة حصاني
بحكم مشيب أو فراش حصان‏

فقد حملت مني ابن سبعين سالكا
سبيلا عليها يسلك الثقلان‏

 قوله تفرد بي دون هموم الناس هم نفسي-  أي دون الهموم-  التي قد كانت تعتريني لأجل أحوال الناس- . فصدقني رأيي يقال صدقته كذا أي عن كذا-  و في المثل صدقني سن بكره-  لأنه لما نفر قال له هدع-  و هي كلمة تسكن بها صغار الإبل إذا نفرت-  و المعنى أن هذا الهم صدقني عن الصفة-  التي يجب أن يكون رأيي عليها-  و تلك الصفة هي-  ألا يفكر في‏أمر شي‏ء من الموجودات أصلا-  إلا الله تعالى و نفسه-  و فوق هذه الطبقة طبقة أخرى جدا-  و هي ألا تفكر في شي‏ء قط إلا في الله وحده-  و فوق هذه الطبقة طبقة أخرى تجل عن الذكر و التفسير-  و لا تصلح لأحد من المخلوقين إلا النادر الشاذ-  و قد ذكرها هو فيما سبق-  و هو ألا يفكر في شي‏ء أصلا-  لا في المخلوق و لا في الخالق-  لأنه قد قارب أن يتحد بالخالق-  و يستغني عن الفكر فيه- . قوله و صرفني عن هواي-  أي عن هواي و فكري في تدبير الخلافة و سياسة الرعية-  و القيام بما يقوم به الأئمة- .

قوله ع و صرح لي محض أمري-  يروى بنصب محض و رفعه-  فمن نصب فتقديره عن محض أمري-  فلما حذف الجار نصب و من رفع جعله فاعلا-  و صرح كشف أو انكشف- . قوله فأفضى بي إلى كذا-  ليس بمعنى أنه قد كان من قبل يمازج جده باللعب-  بل المعنى أن همومه الأولى-  قد كانت بحيث يمكن أن يتخللها وقت راحة-  أو دعابة لا يخرج بها عن الحق-  كما كان رسول الله ص يمزح و لا يقول إلا حقا-  فالآن قد حدث عنده هم-  لا يمكن أن يتخلله من ذلك شي‏ء أصلا-  و مدار الفرق بين الحالتين أعني الأولى و الثانية-  على إمكان اللعب لا نفس اللعب-  و ما يلزم من قوله أفضى لك بي هذا الهم-  إلى انتفاء إمكان اللعب-  أن تكون همومه الأولى قد كان يمازجها اللعب-  و لكن يلزم من ذلك-  أنها قد كانت يمكن ذلك فيها إمكانا محضا-  على أن اللعب غير منكر إذا لم يكن باطلا-  أ لا ترى إلى قول النبي ص المؤمن دعب لعب-  و كذلك القول في قوله و صدق لا يشوبه كذب-  أي لا يمكن أن يشوبه كذب-  و ليس المراد بالصدق و الكذب هاهنا مفهومهما المشهورين-  بل هو من قولهم صدقونا اللقاء-  و من قولهم حمل عليهم فما كذب-  قال زهير

  ليث بعثر يصطاد الليوث إذا
ما كذب الليث عن أقرانه صدقا

أي أفضى بي هذا الهم إلى أن صدقتني الدنيا حربها-  كأنه جعل نفسه محاربا للدنيا-  أي صدقتني الدنيا حربها و لم تكذب-  أي لم تجبن و لم تخن- . أخبر عن شدة اتحاد ولده به فقال وجدتك بعضي-  قال الشاعر

و إنما أولادنا بيننا
أكبادنا تمشي على الأرض‏

لو هبت الريح على بعضهم‏
لامتنعت عيني من الغمض‏

و غضب معاوية على ابنه يزيد فهجره-  فاستعطفه له الأحنف-  قال له يا أمير المؤمنين-  أولادنا ثمار قلوبنا و عماد ظهورنا-  و نحن لهم سماء ظليلة و أرض ذليلة-  فإن غضبوا فأرضهم و إن سألوا فأعطهم-  فلا تكن عليهم قفلا فيملوا حياتك و يتمنوا موتك- . و قيل لابنة الخس أي ولديك أحب إليك-  قالت الصغير حتى يكبر-  و المريض حتى يبرأ و الغائب حتى يقدم- . غضب الطرماح على امرأته فشفع فيها ولده-  منها صمصام و هو غلام لم يبلغ عشرا-  فقال الطرماح

       

أ صمصام إن تشفع لأمك تلقها
لها شافع في الصدر لم يتزحزح‏

هل الحب إلا أنها لو تعرضت‏
لذبحك يا صمصام قلت لها اذبحي‏

أحاذر يا صمصام إن مت أن يلي
تراثي و إياك امرؤ غير مصلح‏

إذا صك وسط القوم رأسك صكة
يقول له الناهي ملكت فأسجح‏
– و في الحديث المرفوع إن ريح الولد من ريح الجنةو في الحديث الصحيح أنه قال لحسن و حسين ع إنكم لتجبنون و إنكم لتبخلون- و إنكم لمن ريحان الله- . و من ترقيص الأعراب قول أعرابية لولدها-

يا حبذا ريح الولد
ريح الخزامى في البلد

أ هكذا كل ولد
أم لم يلد قبلي أحد

و في الحديث المرفوع من كان له صبي فليستصب له- . و أنشد الرياشي

من سره الدهر أن يرى الكبدا
يمشي على الأرض فلير الولدا

فَإِنِّي أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّهِ أَيُّ بُنَيَّ وَ لُزُومِ أَمْرِهِ-  وَ عِمَارَةِ قَلْبِكَ بِذِكْرِهِ وَ الِاعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ-  وَ أَيُّ سَبَبٍ أَوْثَقُ مِنْ سَبَبٍ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اللَّهِ-  إِنْ أَنْتَ أَخَذْتَ بِهِ-  أَحْيِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ وَ أَمِتْهُ بِالزَّهَادَةِ-  وَ قَوِّهِ بِالْيَقِينِ وَ نَوِّرْهُ بِالْحِكْمَةِ-  وَ ذَلِّلْهُ بِذِكْرِ الْمَوْتِ وَ قَرِّرْهُ بِالْفَنَاءِ-  وَ بَصِّرْهُ فَجَائِعَ الدُّنْيَا-  وَ حَذِّرْهُ صَوْلَةَ الدَّهْرِ وَ فُحْشَ تَقَلُّبِ اللَّيَالِي وَ الْأَيَّامِ-  وَ اعْرِضْ عَلَيْهِ أَخْبَارَ الْمَاضِينَ-  وَ ذَكِّرْهُ بِمَا أَصَابَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ الْأَوَّلِينَ-  وَ سِرْ فِي دِيَارِهِمْ وَ آثَارِهِمْ-  فَانْظُرْ فِيمَا فَعَلُوا وَ عَمَّا انْتَقَلُوا وَ أَيْنَ حَلُّوا وَ نَزَلُوا-  فَإِنَّكَ تَجِدُهُمْ انْتَقَلُوا عَنِ الْأَحِبَّةِ-  وَ حَلُّوا دَارَ الْغُرْبَةِ-  وَ كَأَنَّكَ عَنْ قَلِيلٍ قَدْ صِرْتَ كَأَحَدِهِمْ-فَأَصْلِحْ مَثْوَاكَ وَ لَا تَبِعْ آخِرَتَكَ بِدُنْيَاكَ-  وَ دَعِ الْقَوْلَ فِيمَا لَا تَعْرِفُ وَ الْخِطَابَ فِيمَا لَمْ تُكَلَّفْ-  وَ أَمْسِكْ عَنْ طَرِيقٍ إِذَا خِفْتَ ضَلَالَتَهُ-  فَإِنَّ الْكَفَّ عِنْدَ حَيْرَةِ الضَّلَالِ خَيْرٌ مِنْ رُكُوبِ الْأَهْوَالِ قوله ع و أي سبب أوثق-  إشارة إلى القرآن لأنه هو المعبر عنه بقوله تعالى-  وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا- . ثم أتى بلفظتين متقابلتين و ذلك من لطيف الصنعة-  فقال أحي قلبك بالموعظة و أمته بالزهادة-  و المراد إحياء دواعيه إلى الطاعة و إماتة الشهوات عنه- . قوله ع و اعرض عليه أخبار الماضين-  معنى قد تداوله الناس-  قال الشاعر

  سل عن الماضين إن نطقت
عنهم الأجداث و الترك‏

أي دار للبلى نزلوا
و سبيل للردي سلكوا

قوله ع و دع القول فيما لا تعرف-  من قول رسول الله ص لعبد الله بن عمرو بن العاص يا عبد الله كيف بك إذا بقيت في حثالة من الناس-  مرجت عهودهم و أماناتهم و صار الناس هكذا-  و شبك بين أصابعه-  قال عبد الله فقلت مرني يا رسول الله-  فقال خذ ما تعرف و دع ما لا تعرف-  و عليك بخويصة نفسك- .

قوله و الخطاب فيما لم تكلف-  من قول رسول الله ص من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه-  و قال معاوية في عبد الملك بن مروان و هو حينئذ غلام-  إن لهذا الغلام لهمة-  و إنه مع ذلك تارك لثلاث آخذ بثلاث-  تارك مساءة الصديق جدا و هزلا-  تارك ما لا يعنيه تارك ما لا يعتذر منه-  آخذ بأحسن الحديث إذا حدث-  و بأحسن الاستماع إذا حدث-  و بأهون الأمرين إذا خولف- . قوله ع و أمسك عن طريق إذا خفت ضلالته-  مأخوذ من قول النبي ص دع ما يريبك إلى ما لا يريبكو في خبر آخر إذا رابك أمر فدعه

وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ تَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ-  وَ أَنْكِرِ الْمُنْكَرَ بِيَدِكَ وَ لِسَانِكَ-  وَ بَايِنْ مَنْ فَعَلَهُ بِجُهْدِكَ-  وَ جَاهِدْ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ-  وَ لَا تَأْخُذْكَ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ-  وَ خُضِ الْغَمَرَاتِ إِلَى الْحَقِّ حَيْثُ كَانَ وَ تَفَقَّهْ فِي الدِّينِ-  وَ عَوِّدْ نَفْسَكَ الصَّبْرَ عَلَى الْمَكْرُوهِ-  وَ نِعْمَ الْخُلُقُ التَّصَبُرُ فِي الْحَقِّ-  وَ أَلْجِئْ نَفْسَكَ فِي أُمُورِكَ كُلِّهَا إِلَى إِلَهِكَ-  فَإِنَّكَ تُلْجِئُهَا إِلَى كَهْفٍ حَرِيزٍ وَ مَانِعٍ عَزِيزٍ-  وَ أَخْلِصْ فِي الْمَسْأَلَةِ لِرَبِّكَ-  فَإِنَّ بِيَدِهِ الْعَطَاءَ وَ الْحِرْمَانَ-  وَ أَكْثِرِ الِاسْتِخَارَةَ وَ تَفَهَّمْ وَصِيَّتِي-  وَ لَا تَذْهَبَنَّ عَنْكَ صَفْحاً-  فَإِنَّ خَيْرَ الْقَوْلِ مَا نَفَعَ-  وَ اعْلَمْ أَنَّهُ لَا خَيْرَ فِي عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ-  وَ لَا يُنْتَفَعُ بِعِلْمٍ لَا يَحِقُّ تَعَلُّمُهُ‏

 

أمره يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر-  و هما واجبان عندنا-  و أحد الأصول الخمسة التي هي أصول الدين- . و معنى قوله تكن من أهله-  لأن أهل المعروف هم الأبرار الصالحون-  و يجب إنكار المنكر باللسان فإن لم ينجع فباليد-  و تفصيل ذلك و ترتيبه مذكور في كتبي الكلامية- . قوله و خض الغمرات إلى الحق-  لا شبهة أن الحسن ع لو تمكن لخاضها-  إلا أن من فقد الأنصار لا حيلة له- .

و هل ينهض البازي بغير جناح‏-  و الذي خاضها مع عدم الأنصار هو الحسين ع-  و لهذا عظم عند الناس قدره-  فقدمه قوم كثير على الحسن ع-  فإن قلت فما قول أصحابكم في ذلك-  قلت هما عندنا في الفضيلة سيان-  أما الحسن فلوقوفه مع قوله تعالى إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا-  و أما الحسين فلإعزاز الدين- . قوله فنعم التصبر قد تقدم منا كلام شاف في الصبر- . و قوله و أكثر الاستخارة-  ليس يعني-  بها ما يفعله اليوم قوم من الناس-  من سطر رقاع و جعلها في بنادق-  و إنما المراد أمره إياه بأن يطلب الخيرة من الله-  فيما يأتي و يذر- . قوله لا خير في علم لا ينفع قول حق-  لأنه إذا لم ينفع كان عبثا- .

قوله و لا ينتفع بعلم لا يحق تعلمه-  أي لا يجب و لا يندب إليه-  و ذلك لأن النفع إنما هو نفع الآخرة-  فما لم يكن من العلوم مرغبا فيه إما بإيجاب أو ندب-  فلا انتفاع به في الآخرة-  و ذلك كعلم الهندسة و الأرثماطيقي و نحوهما: أَيْ بُنَيَّ إِنِّي لَمَّا رَأَيْتُنِي قَدْ بَلَغْتُ سِنّاً-  وَ رَأَيْتُنِي أَزْدَادُ وَهْناً-  بَادَرْتُ بِوَصِيَّتِي إِلَيْكَ-  وَ أَوْرَدْتُ خِصَالًا مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يَعْجَلَ بِي أَجَلِي-  دُونَ أَنْ أُفْضِيَ إِلَيْكَ بِمَا فِي نَفْسِي-  أَوْ أَنْ أُنْقَصَ فِي رَأْيِي كَمَا نُقِصْتُ فِي جِسْمِي-  أَوْ يَسْبِقَنِي إِلَيْكَ بَعْضُ غَلَبَاتِ الْهَوَى وَ فِتَنِ الدُّنْيَا-  فَتَكُونَ كَالصَّعْبِ النَّفُورِ-  وَ إِنَّمَا قَلْبُ الْحَدَثِ كَالْأَرْضِ الْخَالِيَةِ-  مَا أُلْقِيَ فِيهَا مِنْ شَيْ‏ءٍ قَبِلَتْهُ-  فَبَادَرْتُكَ بِالْأَدَبِ قَبْلَ أَنْ يَقْسُوَ قَلْبُكَ-  وَ يَشْتَغِلَ لُبُّكَ لِتَسْتَقْبِلَ بِجِدِّ رَأْيِكَ مِنَ الْأَمْرِ-  مَا قَدْ كَفَاكَ أَهْلُ التَّجَارِبِ بُغْيَتَهُ وَ تَجْرِبَتَهُ-  فَتَكُونَ قَدْ كُفِيتَ مَئُونَةَ الطَّلَبِ-  وَ عُوفِيتَ مِنْ عِلَاجِ التَّجْرِبَةِ-  فَأَتَاكَ مِنْ ذَلِكَ مَا قَدْ كُنَّا نَأْتِيهِ-  وَ اسْتَبَانَ لَكَ مَا رُبَّمَا أَظْلَمَ عَلَيْنَا مِنْهُ هذه الوصية كتبها ع للحسن بعد أن تجاوز الستين- 

و روي أنه ذكر عند رسول الله ص ما بين الستين و السبعين-  فقال معترك المنايا- . قوله ع أو أن أنقص في رأيي-  هذا يدل على بطلان قول من قال-  إنه لا يجوز أن ينقص في رأيه-  و أن الإمام معصوم عن أمثال ذلك-  و كذلك قوله‏ للحسن-  أو يسبقني إليك بعض غلبات الهوى و فتن الدنيا-  يدل على أن الإمام لا يجب أن يعصم عن غلبات الهوى-  و لا عن فتن الدنيا- . قوله فتكون كالصعب النفور-  أي كالبعير الصعب الذي لا يمكن راكبا-  و هو مع ذلك نفور عن الأنس- . ثم ذكر أن التعلم إنما هو في الصبا-  و في المثل الغلام كالطين يقبل الختم ما دام رطبا- . و قال الشاعر

اختم و طينك رطب إن قدرت فكم
قد أمكن الختم أقواما فما ختموا

 و مثل هو ع قلب الحدث بالأرض الخالية-  ما ألقي فيها من شي‏ء قبلته-  و كان يقال التعلم في الصغر كالنقش في الحجر-  و التعلم في الكبر كالخط على الماء- . قوله فأتاك من ذلك ما كنا نأتيه-  أي الذي كنا نحن نتجشم المشقة في اكتسابه-  و نتكلف طلبه يأتيك أنت الآن صفوا عفوا: أَيْ بُنَيَّ إِنِّي وَ إِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي-  فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ وَ فَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ-  وَ سِرْتُ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ-  بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهَى إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ-  قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ-  فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذَلِكَ مِنْ كَدَرِهِ وَ نَفْعَهُ مِنْ ضَرَرِهِ-  فَاسْتَخْلَصْتُ لَكَ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ جَلِيلَهُ-  وَ تَوَخَّيْتُ لَكَ‏جَمِيلَهُ وَ صَرَفْتُ عَنْكَ مَجْهُولَهُ-  وَ رَأَيْتُ حَيْثُ عَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِي الْوَالِدَ الشَّفِيقَ-  وَ أَجْمَعْتُ عَلَيْهِ مِنْ أَدَبِكَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ-  وَ أَنْتَ مُقْبِلُ الْعُمُرِ وَ مُقْتَبَلُ الدَّهْرِ-  ذُو نِيَّةٍ سَلِيمَةٍ وَ نَفْسٍ صَافِيَةٍ-  وَ أَنْ أَبْتَدِئَكَ بِتَعْلِيمِ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ-  وَ تَأْوِيلِهِ وَ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَ أَحْكَامِهِ وَ حَلَالِهِ وَ حَرَامِهِ-  لَا أُجَاوِزُ ذَلِكَ بِكَ إِلَى غَيْرِهِ-  ثُمَّ أَشْفَقْتُ أَنْ يَلْتَبِسَ عَلَيْكَ-  مَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ مِنْ أَهْوَائِهِمْ وَ آرَائِهِمْ-  مِثْلَ الَّذِي الْتَبَسَ عَلَيْهِمْ-  فَكَانَ إِحْكَامُ ذَلِكَ عَلَى مَا كَرِهْتُ مِنْ تَنْبِيهِكَ لَهُ أَحَبَّ إِلَيَّ-  مِنْ إِسْلَامِكَ إِلَى أَمْرٍ لَا آمَنُ عَلَيْكَ فِيهِ الْهَلَكَةَ-  وَ رَجَوْتُ أَنْ يُوَفِّقَكَ اللَّهُ فِيهِ لِرُشْدِكَ-  وَ أَنْ يَهْدِيَكَ لِقَصْدِكَ فَعَهِدْتُ إِلَيْكَ وَصِيَّتِي هَذِهِ هذا الفصل و ما بعده يشعر بالنهي عن علم الكلام-  حسب ما يقتضيه ظاهر لفظه-  أ لا تراه قال له-  كنت عازما على أن أعلمك القرآن و تفسيره-  و الفقه و هو المعرفة بأحكام الشريعة-  و لا أجاوز ذلك بك إلى غيره-  ثم خفت أن تدخل عليك شبهة في أصول الدين-  فيلتبس عليك في عقيدتك الأصلية-  ما التبس على غيرك من الناس-  فعدلت عن العزم الأول-  إلى أن أوصيك بوصايا تتعلق بأصول الدين- .

و معنى قوله ع و كان إحكام ذلك-  إلى قوله لا آمن عليك به الهلكة-  أي فكان إحكامي الأمور الأصلية عندك-  و تقرير الوصية التي أوصيك بها في ذهنك فيما رجع إلى النظر في العلوم الإلهية-  و إن كنت كارها للخوض معك‏ فيه-  و تنبيهك عليه أحب إلي-  من أن أتركك سدى مهملا تتلاعب بك الشبه-  و تعتورك الشكوك في أصول دينك-  فربما أفضى ذلك بك إلى الهلكة- .

فإن قلت فلما ذا كان كارها تنبيه ولده على ذلك-  و أنتم تقولون إن معرفة الله واجبة على المكلفين-  و ليس يليق بأمير المؤمنين أن يكره ما أوجبه الله تعالى-  قلت لعله علم إما من طريق وصية رسول الله ص-  أو من طريق معرفته بما يصلح أن يكون لطفا لولده و معرفته-  بما يكون مفسدة له لكثرة التجربة له-  و طول الممارسة لأخلاقه و طباعه-  أن الأصلح له ألا يخوض في علم الكلام الخوض الكلي-  و أن يقتنع بالمبادئ و الجمل-  فمصالح البشر تختلف-  فرب إنسان مصلحته في أمر ذلك الأمر بعينه مفسدة لغيره-  و نحن و إن أوجبنا المعرفة فلم نوجب منها إلا الأمور المجملة-  و أما التفصيلات الدقيقة الغامضة-  فلا تجب إلا عند ورود الشبهة-  فإذا لم تقع الشبهة في نفس المكلف-  لم يجب عليه الخوض في التفصيلات- .

قوله ع قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم-  العين مفتوحة و الميم مكسورة مخففة-  تقول عمر الرجل يعمر عمرا و عمرا على غير قياس-  لأن قياس مصدره التحريك أي عاش زمانا طويلا-  و استعمل في القسم أحدهما فقط و هو المفتوح- . قوله ع حيث عناني من أمرك أي أهمني-  قال عناني من صدودك ما عنا-  قوله و أجمعت عليه أي عزمت- . و مقتبل الدهر-  يقال اقتبل الغلام فهو مقتبل بالفتح و هو من الشواذ-  و مثله أحصن الرجل إذا تزوج فهو محصن-  و إذا عف فمحصن أيضا-  و أسهب إذا أطال الحديث فهو مسهب-  و ألفج إذا افتقر فهو ملفج-  و ينبغي أن يكون له من قوله تنبيهك له-  بمعنى‏ عليه-  أو تكون على أصلها أي ما كرهت تنبيهك لأجله- . فإن قلت إلى الآن ما فسرت-  لما ذا كره تنبيهه على هذا الفن-  قلت بلى قد أشرت إليه-  و هو أنه كره أن يعدل به عن تفسير القرآن و علم الفقه-  إلى الخوض في الأمور الأصولية-  فنبهه على أمور-  يجره النظر و تأمل الأدلة و الشبهات إليها دقيقة-  يخاف على الإنسان من الخوض فيها أن تضطرب عقيدته-  إلا أنه لم يجد به بدا من تنبيهه على أصول الديانة-  و إن كان كارها لتعريضه لخطر الشبهة-  فنبهه على أمور جملية غير مفصلة-  و أمره أن يلزم ذلك و لا يتجاوزه إلى غيره-  و أن يمسك عما يشتبه عليه-  و سيأتي ذكر ذلك: وَ اعْلَمْ يَا بُنَيَّ-  أَنَّ أَحَبَّ مَا أَنْتَ آخِذٌ بِهِ إِلَيَّ مِنْ وَصِيَّتِي تَقْوَى اللَّهِ-  وَ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ-  وَ الْأَخْذُ بِمَا مَضَى عَلَيْهِ الْأَوَّلُونَ مِنْ آبَائِكَ-  وَ الصَّالِحُونَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ-  فَإِنَّهُمْ لَمْ يَدَعُوا أَنْ نَظَرُوا لِأَنْفُسِهِمْ كَمَا أَنْتَ نَاظِرٌ-  وَ فَكَّرُوا كَمَا أَنْتَ مُفَكِّرٌ-  ثُمَّ رَدَّهُمْ آخِرُ ذَلِكَ إِلَى الْأَخْذِ بِمَا عَرَفُوا-  وَ الْإِمْسَاكِ عَمَّا لَمْ يُكَلَّفُوا-  فَإِنْ أَبَتْ نَفْسُكَ أَنْ تَقْبَلَ ذَلِكَ دُونَ أَنْ تَعْلَمَ كَمَا عَلِمُوا-  فَلْيَكُنْ طَلَبُكَ ذَلِكَ بِتَفَهُّمٍ وَ تَعَلُّمٍ-  لَا بِتَوَرُّطِ الشُّبُهَاتِ وَ عُلَقِ الْخُصُومَاتِ-  وَ ابْدَأْ قَبْلَ نَظَرِكَ فِي ذَلِكَ بِالِاسْتِعَانَةِ بِإِلَهِكَ-  وَ الرَّغْبَةِ إِلَيْهِ فِي تَوْفِيقِكَ-  وَ تَرْكِ كُلِّ شَائِبَةٍ أَوْلَجَتْكَ فِي شُبْهَةٍ-  أَوْ أَسْلَمَتْكَ إِلَى ضَلَالَةٍ-  فَإِنْ أَيْقَنْتَ أَنْ قَدْ صَفَا قَلْبُكَ فَخَشَعَ-  وَ تَمَّ رَأْيُكَ فَاجْتَمَعَ-  وَ كَانَ هَمُّكَ فِي ذَلِكَ هَمّاً وَاحِداً-  فَانْظُرْ فِيمَا فَسَّرْتُ لَكَ-  وَ إِنْ أَنْتَ لَمْ يَجْتَمِعْ لَكَ مَا تُحِبُّ مِنْ نَفْسِكَ-  وَ فَرَاغِ نَظَرِكَ وَ فِكْرِكَ-فَاعْلَمْ أَنَّكَ إِنَّمَا تَخْبِطُ الْعَشْوَاءَ وَ تَتَوَرَّطُ الظَّلْمَاءَ-  وَ لَيْسَ طَالِبُ الدِّينِ مَنْ خَبَطَ أَوْ خَلَطَ-  وَ الْإِمْسَاكُ عَنْ ذَلِكَ أَمْثَلُ أمره أن يقتصر على القيام بالفرائض-  و أن يأخذ بسنة السلف الصالح من آبائه و أهل بيته-  فإنهم لم يقتصروا على التقليد-  بل نظروا لأنفسهم و تأملوا الأدلة-  ثم رجعوا آخر الأمر إلى الأخذ بما عرفوا-  و الإمساك عما لم يكلفوا- .

فإن قلت من سلفه هؤلاء الذين أشار إليهم-  قلت المهاجرون الأولون من بني هاشم و بني المطلب-  كحمزة و جعفر و العباس و عبيدة بن الحارث-  و كأبي طالب في قول الشيعة و كثير من أصحابنا-  و كعبد المطلب في قول الشيعة خاصة- . فإن قلت-  فهل يكون أمير المؤمنين ع نفسه معدودا من جملة هؤلاء-  قلت لا فإنه لم يكن من أهل المبادئ و الجمل-  المقتصر بهم في تكليفهم العقليات على أوائل الأدلة-  بل كان سيد أهل النظر كافة و إمامهم- . فإن قلت ما معنى قوله لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم-  قلت لأنهم إذا تأملوا الأدلة و فكروا فيها-  فقد نظروا لأنفسهم كما ينظر الإنسان لنفسه-  ليخلصها من مضرة عظيمة سبيلها أن تقع به-  إن لم ينظر في الخلاص منها-  و هذا هو الوجه في وجوب النظر في طريق معرفة الله-  و الخوف من إهمال النظر- . فإن قلت ما معنى قوله إلى الأخذ بما عرفوا-  و الإمساك عما لم يكلفوا-قلت الأخذ بما عرفوا مثل أدلة حدوث الأجسام-  و توحيد البارئ و عدله و الإمساك عما لم يكلفوا-  مثل النظر في إثبات الجزء الذي لا يتجزأ و نفيه-  و مثل الكلام في الخلإ و الملإ-  و الكلام في أن هل بين كل حركتين مستقيمتين سكون أم لا-  و أمثال ذلك مما لا يتوقف أصول التوحيد و العدل عليه-  فإنه لا يلزم أصحاب الجمل و المبادئ أن يخوضوا في ذلك-  لأنهم لم يكلفوا الخوض فيه-  و هو من وظيفة قوم آخرين- .

قوله ع فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك-  دون أن تعلم كما علموا-  هذا الموضع فيه نظر-  لأنا قد قلنا إنهم لم يعلموا التفاصيل الدقيقة-  فكيف يجعلهم عالمين بها-  و يقول أن تعلم كما علموا-  و ينبغي أن يقال إن الكاف و ما عملت فيه في موضع نصب-  لأنه صفة مصدر محذوف-  و تقديره فإن أبت نفسك أن تقبل ذلك علما كما علموا-  دون أن تعلم التفاصيل الدقيقة-  و جاز انتصاب علما و العامل فيه تقبل-  لأن القبول من جنس العلم-  لأن القبول اعتقاد و العلم اعتقاد-  و ليس لقائل أن يقول-  فإذن يكون قد فصل بين الصفة و الموصوف بأجنبي-  لأن الفصل بينهما قد جاء كثيرا-  قال الشاعر

  جزى الله كفا ملئها من سعادة
سرت في هلاك المال و المال نائم‏

 و يجوز أن يقال كما علموا الآن بعد موتهم-  فإنهم بعد الموت يكونون عالمين-  بجميع ما يشتبه علمه على الناس في الحياة الدنيا-  لأن المعارف ضرورية بعد الموت-  و النفوس باقية على قول كثير من المسلمين و غيرهم- . و اعلم أن الذي يدعو إلى تكلف هذه التأويلات-  أن ظاهر الكلام كونه يأمر بتقليد النبي ص-  و الأخذ بما في القرآن و ترك النظر العقلي-  هذا هو ظاهر الكلام-  أ لا تراه كيف يقول له الاقتصار على ما فرضه الله عليك-  و الأخذ بما مضى عليه أهل‏ بيتك و سلفك-  فإنهم لما حاولوا النظر رجعوا بأخرة إلى السمعيات-  و تركوا العقليات-  لأنها أفضت بهم إلى ما لا يعرفونه-  و لا هو من تكليفهم- . ثم قال له فإن كرهت التقليد المحض-  و أحببت أن تسلك مسلكهم في النظر-  و إن أفضى بك الأمر بأخرة إلى تركه-  و العود إلى المعروف من الشرعيات-  و ما ورد به الكتاب و السنة-  فينبغي أن تنظر و أنت مجتمع الهم خال من الشبهة-  و تكون طالبا للحق غير قاصد إلى الجدل و المراء-  فلما وجدنا ظاهر اللفظ يقتضي هذه المعاني-  و لم يجز عندنا أن يأمر أمير المؤمنين ع ولده-  مع حكمته و أهلية ولده بالتقليد و ترك النظر-  رجعنا إلى تأويل كلامه على وجه يخرج به ع-  من أن يأمر بما لا يجوز لمثله أن يأمر به- .

و اعلم أنه قد أوصاه إذا هم بالشروع في النظر-  بمحض ما ذكره المتكلمون-  و ذلك أمور منها أن يرغب إلى الله في توفيقه و تسديده- . و منها أن يطلب المطلوب النظري بتفهم و تعلم-  لا بجدال و مغالبة و مراء و مخاصمة- . و منها إطراح العصبية لمذهب بعينه-  و التورط في الشبهات-  التي يحاول بها نصره ذلك المذهب- . و منها ترك الإلف و العادة-  و نصرة أمر يطلب به الرئاسة-  و هو المعني بالشوائب التي تولج في الضلال- . و منها أن يكون صافي القلب مجتمع الفكر-  غير مشغول السر بأمر من جوع‏ أو شبع-  أو شبق أو غضب-  و لا يكون ذا هموم كثيرة و أفكار موزعة مقسمة-  بل يكون فكره و همه هما واحدا- . قال فإذا اجتمع لك كل ذلك فانظر-  و إن لم يجتمع لك ذلك و نظرت-  كنت كالناقة العشواء الخابطة لا تهتدي-  و كمن يتورط في الظلماء لا يعلم أين يضع قدمه-  و ليس طالب الدين من كان خابطا أو خالطا-  و الإمساك عن ذلك أمثل و أفضل: فَتَفَهَّمْ يَا بُنَيَّ وَصِيَّتِي-  وَ اعْلَمْ أَنَّ مَالِكَ الْمَوْتِ هُوَ مَالِكُ الْحَيَاةِ-  وَ أَنَّ الْخَالِقَ هُوَ الْمُمِيتُ-  وَ أَنَّ الْمُفْنِيَ هُوَ الْمُعِيدُ وَ أَنَّ الْمُبْتَلِيَ هُوَ الْمُعَافِي-  وَ أَنَّ الدُّنْيَا لَمْ تَكُنْ لِتَسْتَقِرَّ-  إِلَّا عَلَى مَا جَعَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ النَّعْمَاءِ وَ الِابْتِلَاءِ-  وَ الْجَزَاءِ فِي الْمَعَادِ-  أَوْ مَا شَاءَ مِمَّا لَا تَعْلَمُ-  فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْكَ شَيْ‏ءٌ مِنْ ذَلِكَ فَاحْمِلْهُ عَلَى جَهَالَتِكَ-  فَإِنَّكَ أَوَّلُ مَا خُلِقْتَ بِهِ جَاهِلًا ثُمَّ عُلِّمْتَ-  وَ مَا أَكْثَرَ مَا تَجْهَلُ مِنَ الْأَمْرِ وَ يَتَحَيَّرُ فِيهِ رَأْيُكَ-  وَ يَضِلُّ فِيهِ بَصَرُكَ ثُمَّ تُبْصِرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قد تعلق بهذه اللفظة-  و هو قوله أو ما شاء مما لا تعلم قوم من التناسخية-  و قالوا المعني بها الجزاء في الهياكل التي تنتقل النفوس إليها-  و ليس ما قالوه بظاهر-  و يجوز أن يريد ع-  أن الله تعالى قد يجازي المذنب في الدنيا بنوع من العقوبة-  كالأسقام و الفقر و غيرهما-  و العقاب و إن كان مفعولا على وجه الاستحقاق و الإهانة-  فيجوز لمستحقه و هو الباري-  أن يقتصر منه على الإيلام فقط-  لأن الجميع حقه فله أن يستوفي البعض و يسقط البعض-  و قد روي أو بما شاء بالباء الزائدة-  و روي بما لا يعلم-  و أما الثواب فلا يجوز أن يجازى به المحسن في الدنيا-  لأنه على صفة لا يمكن أن تجامع التكليف-  فيحمل لفظ الجزاء على جزاء العقاب خاصة- .

ثم أعاد ع وصيته الأولى-  فقال و إن أشكل عليك شي‏ء من أمر القضاء و القدر-  و هو كون الكافر مخصوصا بالنعماء-  و المؤمن مخصوصا بضرب من الابتلاء-  و كون الجزاء قد يكون في المعاد-  و قد يكون في غير المعاد-  فلا تقدحن جهالتك به-  في سكون قلبك إلى ما عرفتك جملته-  و هو أن الله تعالى هو المحيي المميت-  المفني المعيد المبتلي المعافي-  و أن الدنيا بنيت على الابتلاء و الأنعام-  و أنهما لمصالح و أمور يستأثر الله تعالى بعلمها-  و أنه يجازي عباده إما في الآخرة أو غير الآخرة-  على حسب ما يريده و يختاره- . ثم قال له إنما خلقت في مبدإ خلقتك جاهلا-  فلا تطلبن نفسك غاية من العلم لا وصول لها إليها-  أو لها إليها وصول بعد أمور صعبة و متاعب شديدة-  فمن خلق جاهلا حقيق أن يكون جهله مدة عمره أكثر من علمه-  استصحابا للأصل- . ثم أراد أن يؤنسه بكلمة استدرك بها إيحاشه-  فقال له و عساك إذا جهلت شيئا من ذلك أن تعلمه فيما بعد-  فما أكثر ما تجهل من الأمور و تتحير فيه-  ثم تبصره و تعرفه و هذا من الطب اللطيف-  و الرقى الناجعة و السحر الحلال‏

 

 فَاعْتَصِمْ بِالَّذِي خَلَقَكَ وَ رَزَقَكَ وَ سَوَّاكَ-  فَلْيَكُنْ لَهُ تَعَبُّدُكَ-  وَ إِلَيْهِ رَغْبَتُكَ وَ مِنْهُ شَفَقَتُكَ-  وَ اعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ أَحَداً لَمْ يُنْبِئْ عَنِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ-  كَمَا أَنْبَأَ عَلَيْهِ نَبِيُّنَا ص-  فَارْضَ بِهِ رَائِداً وَ إِلَى النَّجَاةِ قَائِداً-  فَإِنِّي لَمْ آلُكَ نَصِيحَةً-  وَ إِنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ فِي النَّظَرِ لِنَفْسِكَ-  وَ إِنِ اجْتَهَدْتَ مَبْلَغَ نَظَرِي لَكَ عاد إلى أمره باتباع الرسول ص-  و أن يعتمد على السمع-  و ما وردت به الشريعة و نطق به الكتاب-  و قال له إن أحدا لم يخبر عن الله تعالى-  كما أخبر عنه نبينا ص-  و صدق ع-  فإن التوراة و الإنجيل و غيرهما من كتب أنبياء بني إسرائيل-  لم تتضمن من الأمور الإلهية ما تضمنه القرآن-  و خصوصا في أمر المعاد-  فإنه في أحد الكتابين مسكوت عنه-  و في الآخر مذكور ذكرا مضطربا-  و الذي كشف هذا القناع في هذا المعنى-  و صرح بالأمر هو القرآن-  ثم ذكر له أنه أنصح له من كل أحد-  و أنه ليس يبلغ و إن اجتهد في النظر لنفسه-  ما يبلغه هو ع له-  لشدة حبه له و إيثاره مصلحته-  و قوله لم آلك نصحا لم أقصر في نصحك-  ألى الرجل في كذا يألو أي قصر فهو آل و الفعل لازم-  و لكنه حذف اللام فوصل الفعل إلى الضمير فنسبه-  و كان أصله لا آلو لك نصحا و نصحا منصوب على التمييز-  و ليس كما قاله الراوندي إن انتصابه على أنه مفعول ثان-  فإنه إلى مفعول واحد لا يتعدى-  فكيف إلى اثنين-و يقول هذه امرأة آلية أي مقصرة و جمعها أوال-  و في المثل إلا حظية فلا ألية-  أصله في المرأة تصلف عند بعلها-  فتوصي حيث فاتتها الحظوة ألا تألوه في التودد إليه و التحبب إلى قلبه- . قوله و منه شفقتك أي خوفك- . و رائد أصله الرجل يتقدم القوم فيرتاد بهم المرعى: وَ اعْلَمْ يَا بُنَيَّ-  أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِرَبِّكَ شَرِيكٌ لَأَتَتْكَ رُسُلُهُ-  وَ لَرَأَيْتَ آثَارَ مِلْكِهِ وَ سُلْطَانِهِ-  وَ لَعَرَفْتَ أَفْعَالَهُ وَ صِفَاتَهُ-  وَ لَكِنَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ-  لَا يُضَادُّهُ فِي مُلْكِهِ أَحَدٌ وَ لَا يَزُولُ أَبَداً وَ لَمْ يَزَلْ-  أَوَّلٌ قَبْلَ الْأَشْيَاءِ بِلَا أَوَّلِيَّةٍ-  وَ آخِرٌ بَعْدَ الْأَشْيَاءِ بِلَا نِهَايَةٍ-  عَظُمَ أَنْ تُثْبَتَ رُبُوبِيَّتُهُ بِإِحَاطَةِ قَلْبٍ أَوْ بَصَرٍ-  فَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَافْعَلْ-  كَمَا يَنْبَغِي لِمِثْلِكَ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي صِغَرِ خَطَرِهِ-  وَ قِلَّةِ مَقْدِرَتِهِ وَ كَثْرَةِ عَجْزِهِ-  و عَظِيمِ حَاجَتِهِ إِلَى رَبِّهِ فِي طَلَبِ طَاعَتِهِ-  وَ الرَّهِينَةِ مِنْ عُقُوبَتِهِ وَ الْخَشْيَةِ مِنْ عُقُوبَتِهِ-  وَ الشَّفَقَةِ مِنْ سُخْطِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْكَ إِلَّا بِحَسَنٍ-  وَ لَمْ يَنْهَكَ إِلَّا عَنْ قَبِيحٍ يمكن أن يستدل بهذا الكلام على نفي الثاني من وجهين-  أحدهما أنه لو كان في الوجود ثان للبارئ تعالى-  لما كان القول بالوحدانية حقا-  بل كان الحق هو القول بالتثنية-  و محال ألا يكون ذلك الثاني حكيما-  و لو كان الحق هوإثبات ثان حكيم-  لوجب أن يبعث رسولا يدعو المكلفين إلى التثنية-  لأن الأنبياء كلهم دعوا إلى التوحيد-  لكن التوحيد على هذا الفرض ضلال-  فيجب على الثاني الحكيم-  أن يبعث من ينبه المكلفين على ذلك الضلال-  و يرشدهم إلى الحق و هو إثبات الثاني-  و إلا كان منسوبا في إهمال ذلك إلى السفه-  و استفساد المكلفين و ذلك لا يجوز-  و لكنا ما أتانا رسول يدعو إلى إثبات ثان في الإلهية-  فبطل كون القول بالتوحيد ضلالا-  و إذا لم يكن ضلالا كان حقا-  فنقيضه و هو القول بإثبات الثاني باطل الوجه الثاني أنه لو كان في الوجود ثان للقديم تعالى-  لوجب أن يكون لنا طريق إلى إثباته-  إما من مجرد أفعاله أو من صفات أفعاله-  أو من صفات نفسه أو لا من هذا و لا من هذا فمن التوقيف- .

و هذه هي الأقسام التي ذكرها أمير المؤمنين ع-  لأن قوله أتتك رسله هو التوقيف-  و قوله و لرأيت آثار ملكه و سلطانه هي صفات أفعاله-  و قوله و لعرفت أفعاله و صفاته هما القسمان الآخران- . أما إثبات الثاني من مجرد الفعل فباطل-  لأن الفعل إنما يدل على فاعل و لا يدل على التعدد-  و أما صفات أفعاله و هي كون أفعاله محكمة متقنة-  فإن الأحكام الذي نشاهده إنما يدل على عالم و لا يدل على التعدد-  و أما صفات ذات البارئ فالعلم بها فرع على العلم بذاته-  فلو أثبتنا ذاته بها لزم الدور- . و أما التوقيف-  فلم يأتنا رسول ذو معجزة صحيحة يدعونا إلى الثاني-  و إذا بطلت الأقسام كلها-  و قد ثبت أن ما لا طريق إلى إثباته لا يجوز إثباته-  بطل القول بإثبات الثاني- . ثم قال لا يضاده في ملكه أحد-  ليس يريد بالضد ما يريده المتكلمون من نفي ذات-  هي معاكسة لذات البارئ تعالى في صفاتها-  كمضادة السواد للبياض-  بل مراده نفي الثاني لا غير-  فإن نفي الضد بحث آخر لا دخول له بين هذا الكلام- .

 

ثم ذكر له أن البارئ تعالى قديم سابق للأشياء-  لا سبقا له حد محدود و أول معين بل لا أول له مطلقا- . ثم قال و هو مع هذا آخر الأشياء-  آخرية مطلقة ليس تنتهي إلى غاية معينة- . ثم ذكر أن له ربوبية-  جلت عن أن تحيط بها الأبصار و العقول- . و قد سبق منا خوض في هذا المعنى-  و ذكرنا من نظمنا في هذا النمط أشياء لطيفة-  و نحن نذكر هاهنا من نظمنا أيضا في هذا المعنى-  و في فننا الذي اشتهرنا به و هو المناجاة و المخاطبة-  على طريقة أرباب الطريقة ما لم نذكره هناك-  فمن ذاك قولي

 فلا و الله ما وصل ابن سينا
و لا أغنى ذكاء أبي الحسين‏

و لا رجعا بشي‏ء بعد بحث‏
و تدقيق سوى خفي حنين‏

لقد طوفت أطلبكم و لكن
يحول الوقت بينكم و بيني‏

فهل بعد انقضاء الوقت أحظى‏
بوصلكم غدا و تقر عيني‏

منى عشنا بها زمنا و كانت
تسوفنا بصدق أو بمين‏

فإن أكدت فذاك ضياع ديني‏
و إن أجدت فذاك حلول ديني‏

و منها

أ مولاي قد أحرقت قلبي فلا تكن
غدا محرقا بالنار من كان يهواكا

أ تجمع لي نارين نار محبة
و نار عذاب أنت أرحم من ذاكا

و منها

قوم موسى تاهوا سنين كما قد
جاء في النص قدرها أربعونا

و لي اليوم تائها في جوى من‏
لا أسمي و حبه خمسونا

قل لأحبابنا إلام نروم
الوصل منكم و أنتم تمنعونا
كم نناجيكم فلا ترشدونا
و نناديكم فلا تسمعونا

حسبنا علمكم بأنا مواليكم‏
و إن كنتم لنا كارهينا

فعسى تدرك السعادة أرباب
المعاصي فيصبحوا فائزينا

 و منها

و الله ما آسى من الدنيا على
مال و لا ولد و لا سلطان‏

بل في صميم القلب مني حسرة
تبقى معي و تلف في أكفاني‏

إني أراك بباطني لا ظاهري
فالحسن مشغلة عن العرفان‏

يا من سهرت مفكرا في أمره‏
خمسين حولا دائم الجولان‏

فرجعت أحمق من نعامة بيهس
و أضل سعيا من أبي غبشان‏

و منها

و حقك إن أدخلتني النار قلت
للذين بها قد كنت ممن أحبه‏

و أفنيت عمري في علوم دقيقة
و ما بغيتي إلا رضاه و قربه‏

هبوني مسيئا أوتغ الحلم جهله
و أوبقه بين البرية ذنبه‏

أ ما يقتضي شرع التكرم عتقه‏
أ يحسن أن ينسى هواه و حبه‏

أ ما كان ينوي الحق فيما يقوله
أ لم تنصر التوحيد و العدل كتبه‏

أ ما رد زيغ ابن الخطيب و شكه‏
و إلحاده إذ جل في الدين خطبه‏

أ ما قلتم من كان فينا مجاهدا
سيكرم مثواه و يعذب شربه‏

و نهديه سبلا من هدانا جهاده‏
و يدخله خير المداخل كسبه‏

فأي اجتهاد فوق ما كان صانعا
و قد أحرقت زرق الشياطين شهبه‏

و ما نال قلب الجيش جيش محمد
كما نال من أهل الضلالة قلبه‏

فإن تصفحوا يغنم و إن تتجرموا
فتعذيبكم حلو المذاقة عذبه‏

و آية صدق الصب أن يعذب الأذى‏
إذ كان من يهوى عليه يصبه‏

 و منها

إذا فكرت فيك يحار عقلي
و ألحق بالمجانين الكبار

و أصحو تارة فيشوب ذهني‏
و يقدح خاطري كشواظ نار

فيا من تاهت العقلاء فيه
فأمسوا كلهم صرعى عقار

و يا من كاعت الأفكار عنه‏
فآبت بالمتاعب و الخسار

و يا من ليس يعلمه نبي
و لا ملك و لا يدريه دار

و يا من ليس قداما و خلفا
و لا جهة اليمين و لا اليسار

و لا فوق السماء و لا تدلى
من الأرضين في لجج البحار

و يا من أمره من ذاك أجلى‏
من ابن ذكاء أو صبح النهار

سألتك باسمك المكتوم إلا
فككت النفس من رق الإسار

وجدت لها بما تهوى فأنت‏
العليم بباطن اللغز الضمار

و منها

يا رب إنك عالم
بمحبتي لك و اجتهادي‏

و تجردي للذب عنك‏
على مراغمة الأعادي‏

بالعدل و التوحيد أصدع
معلنا في كل نادي‏

و كشفت زيغ ابن الخطيب‏
و لبسه بين العباد

و نقضت سائر ما بناه
من الضلالة و الفساد

و أبنت عن إغوائه
في دين أحمد ذي الرشاد

و جعلت أوجه ناصريه‏
محممات بالسواد

و كففت من غلوائهم
بعد التمرد و العناد

فكأنما نخل الرماد
عليهم بعد الرماد

و قصدت وجهك أبتغي
حسن المثوبة في المعاد

فأفض على العبد الفقير
إليكم نور السداد

و ارزقه قبل الموت
معرفة المصائر و المبادي‏

و افكك أسير الحرص‏
باللأصفاد من أسر الصفاد

و اغسل بصفو القرب من
أبوابكم كدر البعاد

و أعضه من حر الغليل‏
بوصلكم برد الفؤاد

و ارحم عيونا فيك
هامية و قلبا فيك صاد

يا ساطح الأرض المهاد
و ممسك السبع الشداد

يَا بُنَيَّ إِنِّي قَدْ أَنْبَأْتُكَ عَنِ الدُّنْيَا وَ حَالِهَا-  وَ زَوَالِهَا وَ انْتِقَالِهَا-  وَ أَنْبَأْتُكَ عَنِ الآْخِرَةِ وَ مَا أُعِدَّ لِأَهْلِهَا-  وَ ضَرَبْتُ لَكَ فِيهِمَا الْأَمْثَالَ-  لِتَعْتَبِرَ بِهَا وَ تَحْذُوَ عَلَيْهَا-  إِنَّمَا مَثَلُ مَنْ خَبَرَ الدُّنْيَا كَمَثَلِ قَوْمٍ سَفْرٍ-  نَبَا بِهِمْ مَنْزِلٌ جَدِيبٌ-  فَأَمُّوا مَنْزِلًا خَصِيباً وَ جَنَاباً مَرِيعاً-  فَاحْتَمَلُوا وَعْثَاءَ الطَّرِيقِ وَ فِرَاقَ الصَّدِيقِ-  وَ خُشُونَةَ السَّفَرِ وَ جُشُوبَةَ المَطْعَمِ-  لِيَأْتُوا سَعَةَ دَارِهِمْ وَ مَنْزِلَ قَرَارِهِمْ-  فَلَيْسَ يَجِدُونَ لِشَيْ‏ءٍ مِنْ ذَلِكَ أَلَماً-  وَ لَا يَرَوْنَ نَفَقَةً فِيهِ مَغْرَماً-  وَ لَا شَيْ‏ءَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِمَّا قَرَّبَهُمْ مِنْ مَنْزِلِهِمْ-وَ أَدْنَاهُمْ إِلَى مَحَلَّتِهِمْ-  وَ مَثَلُ مَنِ اغْتَرَّ بِهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ كَانُوا بِمَنْزِلٍ خَصِيبٍ-  فَنَبَا بِهِمْ إِلَى مَنْزِلٍ جَدِيبٍ-  فَلَيْسَ شَيْ‏ءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِمْ وَ لَا أَفْظَعَ عِنْدَهُمْ-  مِنْ مُفَارَقَةِ مَا كَانُوا فِيهِ-  إِلَى مَا يَهْجُمُونَ عَلَيْهِ وَ يَصِيرُونَ إِلَيْهِ حذا عليه يحذو-  و احتذى مثاله يحتذي أي اقتدى به-  و قوم سفر بالتسكين أي مسافرون- . و أموا قصدوا و المنزل الجديب ضد المنزل الخصيب- . و الجناب المريع بفتح الميم ذو الكلإ و العشب-  و قد مرع الوادي بالضم- . و الجناب الفناء و وعثاء الطريق مشقتها- . و جشوبة المطعم غلظه طعام جشيب و مجشوب-  و يقال إنه الذي لا أدم معه- . يقول مثل من عرف الدنيا و عمل فيها للآخرة-  كمن سافر من منزل جدب إلى منزل خصيب-  فلقي في طريقه مشقة-  فإنه لا يكترث بذلك في جنب ما يطلب-  و بالعكس من عمل للدنيا و أهمل أمر الآخرة-  فإنه كمن يسافر إلى منزل ضنك-  و يهجر منزلا رحيبا طيبا-  و هذا من قول رسول الله ص الدنيا سجن المؤمن و جنة الكافر

يَا بُنَيَّ اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيمَا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ غَيْرِكَ-  فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ-  وَ اكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا-  وَ لَا تَظْلِمْ كَمَا لَا تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ-  وَ أَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ-  وَ اسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُهُ مِنْ غَيْرِكَ-  وَ ارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ-  وَ لَا تَقُلْ مَا لَا تَعْلَمُ وَ إِنْ قَلَّ مَا تَعْلَمُ-  وَ لَا تَقُلْ مَا لَا تُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لَكَ-  وَ اعْلَمْ أَنَّ الْإِعْجَابَ ضِدُّ الصَّوَابِ وَ آفَةُ الْأَلْبَابِ-  فَاسْعَ فِي كَدْحِكَ وَ لَا تَكُنْ خَازِناً لِغَيْرِكَ-  وَ إِذَا أَنْتَ هُدِيتَ لِقَصْدِكَ فَكُنْ أَخْشَعَ مَا تَكُونُ لِرَبِّكَ

 جاء في الحديث المرفوع لا يكمل إيمان عبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه-  و يكره لأخيه ما يكره لنفسه-  و قال بعض الأسارى لبعض الملوك-  افعل معي ما تحب أن يفعل الله معك فأطلقه و هذا هو معنى قوله ع و لا تظلم كما لا تحب أن تظلم- . و قوله و أحسن-  من قول الله تعالى وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ- . و قوله و استقبح من نفسك-  سئل الأحنف عن المروءة-  فقال أن تستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك-  و روي و ارض من الناس لك و هي أحسن- . و أما العجب و ما ورد في ذمة فقد قدمنا فيه قولا مقنعا- .

قوله ع و اسع في كدحك-  أي أذهب ما اكتسبت بالإنفاق-  و الكدح هاهنا هو المال الذي كدح في حصوله-  و السعي فيه إنفاقه و هذه كلمة فصيحة-  و قد تقدم نظائر قوله و لا تكن خازنا لغيرك- . ثم أمره أن يكون أخشع ما يكون لله إذ هداه لرشده-  و ذلك لأن هدايته إياه إلى رشده نعمة عظيمة منه-  فوجب أن يقابل بالخشوع لأنه ضرب من الشكر: وَ اعْلَمْ أَنَّ أَمَامَكَ طَرِيقاً ذَا مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ-  وَ مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ-  وَ أَنَّهُ لَا غِنَى بِكَ فِيهِ عَنْ حُسْنِ الِارْتِيَادِ-  وَ قَدْرِ بَلَاغِكَ مِنَ الزَّادِ مَعَ خِفَّةِ الظَّهْرِ-  فَلَا تَحْمِلَنَّ عَلَى ظَهْرِكَ فَوْقَ طَاقَتِكَ-  فَيَكُونَ ثِقْلُ ذَلِكَ وَبَالًا عَلَيْكَ-  وَ إِذَا وَجَدْتَ مِنْ أَهْلِ الْفَاقَةِ مَنْ يَحْمِلُ لَكَ زَادَكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ-  فَيُوَافِيكَ بِهِ غَداً حَيْثُ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ-  فَاغْتَنِمْهُ وَ حَمِّلْهُ إِيَّاهُ-  وَ أَكْثِرْ مِنْ تَزْوِيدِهِ وَ أَنْتَ قَادِرٌ عَلَيْهِ-  فَلَعَلَّكَ تَطْلُبُهُ فَلَا تَجِدُهُ-  وَ اغْتَنِمْ مَنِ اسْتَقْرَضَكَ فِي حَالِ غِنَاكَ-  لِيَجْعَلَ قَضَاءَهُ لَكَ فِي يَوْمِ عُسْرَتِكَ-  وَ اعْلَمْ أَنَّ أَمَامَكَ عَقَبَةً كَئُوداً-  الْمُخِفُّ فِيهَا أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْمُثْقِلِ-  وَ الْمُبْطِئُ عَلَيْهَا أَقْبَحُ أَمْراً مِنَ الْمُسْرِعِ-  وَ أَنَّ مَهْبِطَهَا بِكَ لَا مَحَالَةَ-  إِمَّا عَلَى جَنَّةٍ أَوْ عَلَى نَارٍ-  فَارْتَدْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ نُزُولِكَ وَ وَطِّئِ الْمَنْزِلَ قَبْلَ حُلُولِكَ-  فَلَيْسَ بَعْدَ الْمَوْتِ مُسْتَعْتَبٌ وَ لَا إِلَى الدُّنْيَا مُنْصَرَفٌ‏

 

أمره في هذا الفصل بإنفاق المال و الصدقة و المعروف-  فقال إن بين يديك طريقا بعيد المسافة شديد المشقة-  و من سلك طريقا فلا غنى له عن أن يرتاد لنفسه-  و يتزود من الزاد قدر ما يبلغه الغاية-  و أن يكون خفيف الظهر في سفره ذلك-  فإياك أن تحمل من المال ما يثقلك-  و يكون وبالا عليك-  و إذا وجدت من الفقراء و المساكين من يحمل ذلك الثقل عنك-  فيوافيك به غدا وقت الحاجة فحمله إياه-  فلعلك تطلب مالك فلا تجده-  جاء في الحديث المرفوع خمس من أتى الله بهن أو بواحدة منهن أوجب له الجنة-  من سقى هامة صادية أو أطعم كبدا هافية-  أو كسا جلدة عارية أو حمل قدما حافية-  أو أعتق رقبة عانيةقيل لحاتم الأصم-  لو قرأت لنا شيئا من القرآن قال نعم-  فاندفع فقرأ-  الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ-  الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ-  وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ يكنزون-  فقالوا أيها الشيخ ما هكذا أنزل-  قال صدقتم و لكن هكذا أنتم: وَ اعْلَمْ أَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ-  قَدْ أَذِنَ لَكَ فِي الدُّعَاءِ-  وَ تَكَفَّلَ لَكَ بِالْإِجَابَةِ وَ أَمَرَكَ أَنْ تَسْأَلَهُ لِيُعْطِيَكَ-  وَ تَسْتَرْحِمَهُ لِيَرْحَمَكَ-  وَ لَمْ يَجْعَلْ بَيْنَهُ وَ بَيْنَكَ مَنْ يَحْجُبُكَ عَنْهُ-  وَ لَمْ يُلْجِئْكَ إِلَى مَنْ يَشْفَعُ لَكَ إِلَيْهِ-وَ لَمْ يَمْنَعْكَ إِنْ أَسَأْتَ مِنَ التَّوْبَةِ-  وَ لَمْ يُعَاجِلْكَ بِالنِّقْمَةِ-  وَ لَمْ يَفْضَحْكَ حَيْثُ تَعَرَّضْتَ لِلْفَضِيحَةِ-  وَ لَمْ يُشَدِّدْ عَلَيْكَ فِي قَبُولِ الْإِنَابَةِ-  وَ لَمْ يُنَاقِشْكَ بِالْجَرِيمَةِ-  وَ لَمْ يُؤْيِسْكَ مِنَ الرَّحْمَةِ-  بَلْ جَعَلَ نُزُوعَكَ عَنِ الذَّنْبِ حَسَنَةً-  وَ حَسَبَ سَيِّئَتَكَ وَاحِدَةً-  وَ حَسَبَ حَسَنَتَكَ عَشْراً-  وَ فَتَحَ لَكَ بَابَ الْمَتَابِ وَ بَابَ الِاسْتِعْتَابِ-  فَإِذَا نَادَيْتَهُ سَمِعَ نِدَاكَ-  وَ إِذَا نَاجَيْتَهُ عَلِمَ نَجْوَاكَ-  فَأَفْضَيْتَ إِلَيْهِ بِحَاجَتِكَ-  وَ أَبْثَثْتَهُ ذَاتَ نَفْسِكَ وَ شَكَوْتَ إِلَيْهِ هُمُومَكَ-  وَ اسْتَكْشَفْتَهُ كُرُوبَكَ وَ اسْتَعَنْتَهُ عَلَى أُمُورِكَ-  وَ سَأَلْتَهُ مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِهِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى إِعْطَائِهِ غَيْرُهُ-  مِنْ زِيَادَةِ الْأَعْمَارِ وَ صِحَّةِ الْأَبْدَانِ-  وَ سَعَةِ الْأَرْزَاقِ-  ثُمَّ جَعَلَ فِي يَدَيْكَ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِهِ-  بِمَا أَذِنَ لَكَ فِيهِ مِنْ مَسْأَلَتِهِ-  فَمَتَى شِئْتَ اسْتَفْتَحْتَ بِالدُّعَاءِ أَبْوَابَ نِعْمَتِهِ-  وَ اسْتَمْطَرْتَ شَآبِيبَ رَحْمَتِهِ-  فَلَا يُقْنِطَنَّكَ إِبْطَاءُ إِجَابَتِهِ-  فَإِنَّ الْعَطِيَّةَ عَلَى قَدْرِ النِّيَّةِ-  وَ رُبَّمَا أُخِّرَتْ عَنْكَ الْإِجَابَةُ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَعْظَمَ لِأَجْرِ السَّائِلِ-  وَ أَجْزَلَ لِعَطَاءِ الآْمِلِ-  وَ رُبَّمَا سَأَلْتَ الشَّيْ‏ءَ فَلَا تُعْطَاهُ-  وَ أُوتِيتَ خَيْراً مِنْهُ عَاجِلًا أَوْ آجِلًا-  أَوْ صُرِفَ عَنْكَ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ-  فَلَرُبَّ أَمْرٍ قَدْ طَلَبْتَهُ فِيهِ هَلَاكُ دِينِكَ لَوْ أُوتِيتَهُ-  فَلْتَكُنْ مَسْأَلَتُكَ فِيمَا يَبْقَى لَكَ جَمَالُهُ-  وَ يُنْفَى عَنْكَ وَبَالُهُ-  فَالْمَالُ لَا يَبْقَى لَكَ وَ لَا تَبْقَى لَهُ قد تقدم القول في الدعاء- . قوله بل جعل نزوعك عن الذنب حسنة-  هذا متفق عليه بين أصحابنا-  و هو أن تارك القبيح لأنه قبيح يستحق الثواب- .

قوله حسب سيئتك واحدة و حسب حسنتك عشرا-  هذا إشارة إلى قوله تعالى-  مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها-  وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى‏ إِلَّا مِثْلَها- . قوله و أبثثته ذات نفسك أي حاجتك- . ثم ذكر له وجوها في سبب إبطاء الإجابة-  منها أن ذلك أمر عائد إلى النية-  فلعلها لم تكن خالصة- . و منها أنه ربما أخرت ليكون أعظم لأجر السائل-  لأن الثواب على قدر المشقة- . و منها أنه ربما أخرت ليعطي السائل خيرا مما سائل-  إما عاجلا أو آجلا أو في الحالين- . و منها أنه ربما صرف ذلك عن السائل-  لأن في إعطائه إياه مفسدة في الدين- . قوله فالمال لا يبقى لك و لا تبقى له-  لفظ شريف فصيح-  و معنى صادق محقق فيه عظة بالغة-  و قال أبو الطيب

  أين الجبابرة الأكاسرة الألى
كنزوا الكنوز فما بقين و لا بقوا

و يروى من يحجبه عنك- . و روى حيث الفضيحة أي حيث الفضيحة-  موجودة منك- . و اعلم أن في قوله قد أذن لك في الدعاء-  و تكفل لك بالإجابة-  إشارة إلى قوله تعالى ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ- . و في قوله و أمر أن تسأله ليعطيك-  إشارة إلى قوله وَ سْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ- .

 

و في قوله و تسترحمه ليرحمك-  إشارة إلى قوله وَ ما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ- . و في قوله و لم يمنعك إن أسأت من التوبة-  إشارة إلى قوله إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً-  فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ-  وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً: وَ اعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّكَ إِنَّمَا خُلِقْتَ لِلآْخِرَةِ لَا لِلدُّنْيَا-  وَ لِلْفَنَاءِ لَا لِلْبَقَاءِ وَ لِلْمَوْتِ لَا لِلْحَيَاةِ-  وَ أَنَّكَ فِي مَنْزِلِ قُلْعَةٍ وَ دَارِ بُلْغَةٍ-  وَ طَرِيقٍ إِلَى الآْخِرَةِ-  وَ أَنَّكَ طَرِيدُ الْمَوْتِ الَّذِي لَا يَنْجُو هَارِبُهُ-  وَ لَا يَفُوتُهُ طَالِبُهُ وَ لَا بُدَّ أَنَّهُ مُدْرِكُهُ فَكُنْ مِنْهُ عَلَى حَذَرٍ أَنْ يُدْرِكَكَ وَ أَنْتَ عَلَى حَالِ سَيِّئَةٍ-  قَدْ كُنْتَ تُحَدِّثُ نَفْسَكَ مِنْهَا بِالتَّوْبَةِ-  فَيَحُولَ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ ذَلِكَ-  فَإِذَا أَنْتَ قَدْ أَهْلَكْتَ نَفْسَكَ-  يَا بُنَيَّ أَكْثِرْ مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ وَ ذِكْرِ مَا تَهْجُمُ عَلَيْهِ-  وَ تُفْضِي بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَيْهِ-  حَتَّى يَأْتِيَكَ وَ قَدْ أَخَذْتَ مِنْهُ حِذْرَكَ-  وَ شَدَدْتَ لَهُ أَزْرَكَ-  وَ لَا يَأْتِيَكَ بَغْتَةً فَيَبْهَرَكَ-  وَ إِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ بِمَا تَرَى مِنْ إِخْلَادِ أَهْلِ الدُّنْيَا إِلَيْهَا-  وَ تَكَالُبِهِمْ عَلَيْهَا فَقَدْ نَبَّأَكَ اللَّهُ عَنْهَا-  وَ نَعَتَتْ لَكَ نَفْسَهَا وَ تَكَشَّفَتْ لَكَ عَنْ مَسَاوِيهَا-  فَإِنَّمَا أَهْلُهَا كِلَابٌ عَاوِيَةٌ وَ سِبَاعٌ ضَارِيَةٌ-  يَهِرُّ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضِ وَ يَأْكُلُ عَزِيزُهَا ذَلِيلَهَا-  وَ يَقْهَرُ كَبِيرُهَا صَغِيرَهَا-نَعَمٌ مُعَقَّلَةٌ وَ أُخْرَى مُهْمَلَةٌ-  قَدْ أَضَلَّتْ عُقُولَهَا وَ رَكِبَتْ مَجْهُولَهَا-  سُرُوحُ عَاهَةٍ بِوَادٍ وَعْثٍ-  لَيْسَ لَهَا رَاعٍ يُقِيمُهَا وَ لَا مُسِيمٌ يُسِيمُهَا-  سَلَكَتْ بِهِمُ الدُّنْيَا طَرِيقَ الْعَمَى-  وَ أَخَذَتْ بِأَبْصَارِهِمْ عَنْ مَنَارِ الْهُدَى-  فَتَاهُوا فِي حَيْرَتِهَا وَ غَرِقُوا فِي نِعْمَتِهَا-  وَ اتَّخَذُوهَا رَبّاً فَلَعِبَتْ بِهِمْ وَ لَعِبُوا بِهَا-  وَ نَسُوا مَا وَرَاءَهَا-  رُوَيْداً يُسْفِرُ الظَّلَامُ-  كَأَنْ قَدْ وَرَدَتِ الْأَظْعَانُ-  يُوشِكُ مَنْ أَسْرَعَ أَنْ يَلْحَقَ يقول هذا منزل قلعة بضم القاف و سكون اللام-  أي ليس بمستوطن-  و يقال هذا مجلس قلعة-  إذا كان صاحبه يحتاج إلى أن يقوم مرة بعد مرة-  و يقال أيضا هم على قلعة أي على رحلة-  و القلعة أيضا هو المال العارية-  و في الحديث بئس المال القلعة-  و كله يرجع إلى معنى واحد- . قوله و دار بلغة و البلغة ما يتبلغ به من العيش- . قوله سروح عاهة-  و السروح جمع سرح و هو المال السارح-  و العاهة الآفة أعاه القوم أصابت ماشيتهم العاهة- . و واد وعث لا يثبت الحافر و الخف فيه بل يغيب فيه-  و يشق على من يمشي فيه- . و أوعث القوم وقعوا في الوعث- . و مسيم يسيمها راع يرعاها- . قوله رويدا يسفر الظلام إلى آخر الفصل-  ثلاثة أمثال محركة لمن عنده‏ استعداد-  و استقرأني أبو الفرج محمد بن عباد رحمه الله-  و أنا يومئذ حدث هذه الوصية-  فقرأتها عليه من حفظي-  فلما وصلت إلى هذا الموضع صاح صيحة شديدة و سقط-  و كان جبارا قاسي القلب

أقوال حكيمة في وصف الدنيا و فناء الخلق

و اعلم أنا قدمنا في وصف الدنيا و الفناء و الموت-  من محاسن كلام الصالحين و الحكماء ما فيه الشفاء-  و نذكر الآن أشياء آخر- . فمن كلام الحسن البصري-  يا ابن آدم إنما أنت أيام مجموعة-  فإذا مضى يوم مضى بعضك- . عن بعض الحكماء-  رحم الله امرأ لا يغره ما يرى من كثرة الناس-  فإنه يموت وحده و يقبر وحده و يحاسب وحده- . و قال بعضهم لا وجه لمقاساة الهموم لأجل الدنيا-  و لا الاعتداد بشي‏ء من متاعها و لا التخلي منها-  أما ترك الاهتمام لها-  فمن جهة أنه لا سبيل إلى دفع الكائن من مقدورها-  و أما ترك الاعتداد بها-  فإن مرجع كل أحد إلى تركها-  و أما ترك التخلي عنها فإن الآخرة لا تدرك إلا بها- .

و من كلام بعض الحكماء-  أفضل اختيار الإنسان ما توجه به إلى الآخرة-  و أعرض به عن الدنيا-  و قد تقدمت الحجة و أذنا بالرحيل-  و لنا من الدنيا على الدنيا دليل-  و إنما أحدنا في مدة بقائه صريع لمرض-  أو مكتئب بهم أو مطروق بمصيبة أو مترقب لمخوف-  لا يأمن المرء أصناف لذته من المطعوم و المشروب-  أن يكون موته فيه-  و لا يأمن مملوكه‏و جاريته أن يقتلاه بحديد أو سم-  و هو مع ذلك عاجز عن استدامة سلامة عقله من زوال-  و سمعه من صمم و بصره من عمى-  و لسانه من خرس-  و سائر جوارحه من زمانة و نفسه من تلف-  و ماله من بوار و حبيبه من فراق-  و كل ذلك يشهد شهادة قطعية أنه فقير إلى ربه-  ذليل في قبضته محتاج إليه-  لا يزال المرء بخير ما حاسب نفسه-  و عمر آخرته بتخريب دنياه-  و إذا اعترضته بحار المكاره-  جعل معابرها الصبر و التأسي-  و لم يغتر بتتابع النعم و إبطاء حلول النقم-  و أدام صحبة التقي و فطم النفس عن الهوى-  فإنما حياته كبضاعة ينفق من رأس المال منها-  و لا يمكنه أن يزيد فيها-  و مثل ذلك يوشك فناؤه و سرعة زواله- . و قال أبو العتاهية في ذكر الموت

ستباشر الترباء خدك
و سيضحك الباكون بعدك‏

و لينزلن بك البلى‏
و ليخلفن الموت عهدك‏

و ليفنينك مثل ما
أفنى أباك بلى و جدك‏

لو قد رحلت عن القصور
و طيبها و سكنت لحدك‏

لم تنتفع إلا بفعل
صالح قد كان عندك‏

و ترى الذين قسمت مالك
بينهم حصصا و كدك‏

يتلذذون بما جمعت‏
لهم و لا يجدون فقدك‏

وَ اعْلَمْ يَا بُنَيَّ-  أَنَّ مَنْ كَانَتْ مَطِيَّتُهُ اللَّيْلَ وَ النَّهَارَ-  فَإِنَّهُ يُسَارُ بِهِ وَ إِنْ كَانَ وَاقِفاً-  وَ يَقْطَعُ الْمَسَافَةَ وَ إِنْ كَانَ مُقِيماً وَادِعاً-  وَ اعْلَمْ يَقِيناً أَنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ أَمَلَكَ وَ لَنْ تَعْدُوَ أَجَلَكَ-  وَ أَنَّكَ فِي سَبِيلِ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ-  فَخَفِّضْ فِي الطَّلَبِ وَ أَجْمِلْ فِي الْمُكْتَسَبِ-  فَإِنَّهُ رُبَّ طَلَبٍ قَدْ جَرَّ إِلَى حَرَبٍ-  وَ لَيْسَ كُلُّ طَالِبٍ بِمَرْزُوقٍ-  وَ لَا كُلُّ مُجْمِلٍ بِمَحْرُومٍ-  وَ أَكْرِمْ نَفْسَكَ عَنْ كُلِّ دَنِيَّةٍ-  وَ إِنْ سَاقَتْكَ إِلَى الرَّغَائِبِ-  فَإِنَّكَ لَنْ تَعْتَاضَ بِمَا تَبْذُلُ مِنْ نَفْسِكَ عِوَضاً-  وَ لَا تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَ قَدْ جَعَلَكَ اللَّهُ حُرّاً-  وَ مَا خَيْرُ خَيْرٍ لَا يُنَالُ إِلَّا بِشَرٍّ-  وَ يُسْرٍ لَا يُنَالُ إِلَّا بِعُسْرٍ-  وَ إِيَّاكَ أَنْ تُوجِفَ بِكَ مَطَايَا الطَّمَعِ-  فَتُورِدَكَ مَنَاهِلَ الْهَلَكَةِ-  وَ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَلَّا يَكُونَ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اللَّهِ ذُو نِعْمَةٍ فَافْعَلْ-  فَإِنَّكَ مُدْرِكٌ قَسْمَكَ وَ آخِذٌ سَهْمَكَ-  وَ إِنَّ الْيَسِيرَ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَكْرَمُ-  وَ أَعْظَمُ مِنَ الْكَثِيرِ مِنْ خَلْقِهِ-  وَ إِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُ‏

 

 

مثل الكلمة الأولى قول بعض الحكماء و قد نسب أيضا إلى أمير المؤمنين ع أهل الدنيا كركب يسار بهم و هم نيام- . قوله فخفضن في الطلب من قول رسول الله ص إن روح القدس نفث في روعي-  أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها-  فأجملوا في الطلب- . و قال الشاعر

ما اعتاض باذل وجهه بسؤاله
عوضا و لو نال الغنى بسؤال‏

و إذا النوال إلى السؤال قرنته‏
رجح السؤال و خف كل نوال‏

و قال آخر

رددت رونق وجهي عن صحيفته
رد الصقال بهاء الصارم الخذم‏

و ما أبالي و خير القول أصدقه‏
حقنت لي ماء وجهي أم حقنت دمي‏

و قال آخر

و إني لأختار الزهيد على الغنى
و أجزأ بالمال القراح عن المحض‏

و أدرع الإملاق صبرا و قد أرى‏
مكان الغنى كي لا أهين له عرضي‏

و قال أبو محمد اليزيدي في المأمون

أبقى لنا الله الإمام و زاده
شرفا إلى الشرف الذي أعطاه‏

و الله أكرمنا بأنا معشر
عتقاء من نعم العباد سواه‏

 و قال آخر

كيف النهوض بما أوليت من حسن
أم كيف أشكر ما طوقت من نعم‏

ملكتني ماء وجه كاد يسكبه
ذل السؤال و لم تفجع به هممي‏

و قال آخر

لا تحرصن على الحطام فإنما
يأتيك رزقك حين يؤذن فيه‏

سبق القضاء بقدره و زمانه‏
و بأنه يأتيك أو يأتيه‏

و كان يقال ما استغنى أحد بالله إلا افتقر الناس إليه- . و قال رجل في مجلس فيه قوم من أهل العلم-  لا أدري ما يحمل من يوقن بالقدر-  على الحرص على طلب الرزق-  فقال له أحد الحاضرين يحمله القدر فسكت- . أقول لو كنت حاضرا-  لقلت لو حمله القدر لما نهاه العقلاء عن الحرص-  و لما مدحوه على العفة و القناعة-  فإن عاد و قال و أولئك ألجأهم القدر-  إلى المدح و الذم و الأمر و النهي-  فقد جعل نفسه و غيره من الناس-  بل من جميع الحيوانات بمنزلة الجمادات-  التي يحركها غيرها-  و من بلغ إلى هذا الحد لا يكلم- . و قال الشاعر

أراك تزيدك الأيام حرصا
على الدنيا كأنك لا تموت‏

فهل لك غاية إن صرت يوما
إليها قلت حسبي قد رضيت‏

 أبو العتاهية

أي عيش يكون أطيب من عيش
كفاف قوت بقدر البلاغ‏

قمرتني الأيام عقلي و مالي‏
و شبابي و صحتي و فراغي‏

 و أوصى بعض الأدباء ابنه- فكتب إليه‏

كن حسن الظن برب خلقك
بني و احمده على ما رزقك‏

و اعلم بأن الحرص يطفي رونقك‏
فجانب الحرص و حسن خلقك‏

و اصدق و صادق أبدا من صدقك
دار معاديك و مق من ومقك‏

و اجعل لأعدائك حزما ملقك‏
و جنبن حشو الكلام منطقك‏

هذي وصاة والد قد عشقك
وصاة من يقلقه ما أقلقك‏
أرشدك الله لها و وفقك‏

 أبو العتاهية

أجل الغنى مما يؤمل أسرع
و أراك تجمع دائما لا تشبع‏

قل لي لمن أصبحت تجمع دائبا
أ لبعل عرسك لا أبا لك تجمع‏

 و أوصى زياد ابنه عبيد الله عند موته-  فقال لا تدنسن عرضك و لا تبذلن وجهك-  و لا تخلقن جدتك بالطلب-  إلى من إن ردك كان رده عليك عيبا-  و إن قضى حاجتك جعلها عليك منا-  و احتمل الفقر بالتنزه عما في أيدي الناس-  و الزم القناعة بما قسم لك-  فإن سوء عمل الفقير يضع الشريف-  و يخمل الذكر و يوجب الحرمان: وَ تَلَافِيكَ مَا فَرَطَ مِنْ صَمْتِكَ-  أَيْسَرُ مِنْ إِدْرَاكِكَ مَا فَاتَ مِنْ مَنْطِقِكَ-  وَ حِفْظُ مَا فِي الْوِعَاءِ بِشَدِّ الْوِكَاءِ-  وَ حِفْظُ مَا فِي يَدَيْكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ طَلَبِ مَا فِي يَدَيْ غَيْرِكَ-  وَ مَرَارَةُ الْيَأْسِ خَيْرٌ مِنَ الطَّلَبِ إِلَى النَّاسِ-  وَ الْحِرْفَةُ مَعَ الْعِفَّةَ خَيْرٌ مِنَ الْغِنَى مَعَ الْفُجُورِ-  وَ الْمَرْءُ أَحْفَظُ لِسِرِّهِ وَ رُبَّ سَاعٍ فِيمَا يَضُرُّهُ-مَنْ أَكْثَرَ أَهْجَرَ وَ مَنْ تَفَكَّرَ أَبْصَرَ-  قَارِنْ أَهْلَ الْخَيْرِ تَكُنْ مِنْهُمْ-  وَ بَايِنْ أَهْلَ الشَّرِّ تَبِنْ عَنْهُمْ-  بِئْسَ الطَّعَامُ الْحَرَامُ-  وَ ظُلْمُ الضَّعِيفِ أَفْحَشُ الظُّلْمِ-  إِذَا كَانَ الرِّفْقُ خُرْقاً كَانَ الْخُرْقُ رِفْقاً-  رُبَّمَا كَانَ الدَّوَاءُ دَاءً وَ الدَّاءُ دَوَاءً-  وَ رُبَّمَا نَصَحَ غَيْرُ النَّاصِحِ وَ غَشَّ الْمُسْتَنْصَحُ-  وَ إِيَّاكَ وَ الِاتِّكَالَ عَلَى الْمُنَى فَإِنَّهَا بَضَائِعُ النَّوْكَى-  وَ الْعَقْلُ حِفْظُ التَّجَارِبِ-  وَ خَيْرُ مَا جَرَّبْتَ مَا وَعَظَكَ-  بَادِرِ الْفُرْصَةَ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ غُصَّةً-  لَيْسَ كُلُّ طَالِبٍ يُصِيبُ وَ لَا كُلُّ غَائِبٍ يَئُوبُ-  وَ مِنَ الْفَسَادِ إِضَاعَةُ الزَّادِ وَ مَفْسَدَةُ الْمَعَادِ-  وَ لِكُلِّ أَمْرٍ عَاقِبَةٌ سَوْفَ يَأْتِيكَ مَا قُدِّرَ لَكَ-  التَّاجِرُ مُخَاطِرٌ وَ رُبَّ يَسِيرٍ أَنْمَى مِنْ كَثِيرٍ هذا الكلام قد اشتمل على أمثال كثيرة حكمية- . أولها قوله تلافيك ما فرط من صمتك-  أيسر من إدراكك ما فات من منطقك-  و هذا مثل قولهم أنت قادر على أن تجعل صمتك كلاما-  و لست بقادر على أن تجعل كلامك صمتا-  و هذا حق لأن الكلام يسمع و ينقل-  فلا يستطاع إعادته صمتا-  و الصمت عدم الكلام-  فالقادر على الكلام قادر على أن يبدله بالكلام-  و ليس الصمت بمنقول و لا مسموع فيتعذر استدراكه- .

 

و ثانيها قوله حفظ ما في يديك أحب إلي-  من طلب ما في أيدي غيرك-  هذا مثل قولهم في المثل البخل خير من سؤال البخيل-  و ليس مراد أمير المؤمنين ع وصايته بالإمساك و البخل-  بل نهيه عن التفريط و التبذير-  قال الله تعالى وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً-  و أحمق الناس من أضاع ماله اتكالا على مال الناس-  و ظنا أنه يقدر على الاستخلاف-  قال الشاعر

   إذا حدثتك النفس أنك قادر
على ما حوت أيدي الرجال فكذب‏

و ثالثها قوله مرارة اليأس خير من الطلب إلى الناس- من هذا أخذ الشاعر قوله

و إن كان طعم اليأس مرا فإنه
ألذ و أحلى من سؤال الأراذل‏

و قال البحتري

و اليأس إحدى الراحتين و لن ترى
تعبا كظن الخائب المغرور

 و رابعها قوله الحرفة مع العفة خير من الغنى مع الفجور-  و الحرفة بالكسر مثل الحرف بالضم-  و هو نقصان الحظ و عدم المال-  و منه قوله رجل محارف بفتح الراء-  يقول لأن يكون المرء هكذا-  و هو عفيف الفرج و اليد خير من الغنى مع الفجور-  و ذلك لأن ألم الحرفة مع العفة و مشقتها-  إنما هي في أيام قليلة و هي أيام العمر-  و لذة الغنى إذا كان مع الفجور-  ففي مثل تلك الأيام يكون-  و لكن يستعقب عذابا طويلا-  فالحال الأولى خير لا محالة-  و أيضا ففي الدنيا خير أيضا للذكر الجميل فيها-  و الذكر القبيح في الثانية-  و للمحافظة على المروءة في الأولى و سقوط المروءة في الثانية- .

و خامسها قوله المرء أحفظ لسره-  أي الأولى ألا تبوح بسرك إلى أحد-  فأنت أحفظ له من غيرك-  فإن أذعته فانتشر فلا تلم إلا نفسك-  لأنك كنت عاجزا عن حفظ سر نفسك-  فغيرك عن حفظ سرك و هو أجنبي أعجز-  قال الشاعر

إذا ضاق أصدر المرء عن حفظ سره
فصدر الذي يستودع السر أضيق‏

و سادسها قوله رب ساع فيما يضره- قال عبد الحميد الكاتب في كتابه إلى أبي مسلم- لو أراد الله بالنملة صلاحا لما أنبت لها جناحا- . و سابعها قوله من أكثر أهجر- يقال أهجر الرجل إذا أفحش في المنطق السوء و الخنى- قال الشماخ

كماجدة الأعراق قال ابن ضرة
عليها كلاما جار فيه و أهجرا

و هذا مثل قولهم من كثر كلامه كثر سقطه- و قالوا أيضا قلما سلم مكثار أو أمن من عثار- . و ثامنها قوله من تفكر أبصر- قالت الحكماء الفكر تحديق العقل نحو المعقول- كما أن النظر البصري تحديق البصر نحو المحسوس- و كما أن من حدق نحو المبصر- و حدقته صحيحة و الموانع مرتفعة لا بد أن يبصره- كذلك من نظر بعين عقله و أفكر فكرا صحيحا- لا بد أن يدرك الأمر الذي فكر فيه و يناله- . و تاسعها قوله قارن أهل الخير تكن معهم- و باين أهل الشر تبن عنهم- كأن يقال حاجبك وجهك- و كاتبك لسانك و جليسك كلك- و قال الشاعر

عن المرء لا تسأل و سل عن قرينه
فكل قرين بالمقارن مقتد

 

و عاشرها قوله بئس الطعام الحرام-  هذا من قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى‏ ظُلْماً-  إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً- . و حادي عشرها قوله ظلم الضعيف أفحش الظلم-  رأى معاوية ابنه يزيد يضرب غلاما-  فقال يا بني كيف لا يسع حلمك من تضربه فلا يمتنع منك-  و أمر المأمون بإشخاص الخطابي القاص من البصرة-  فلما مثل بين يديه-  قال له يا سليمان أنت القائل العراق عين الدنيا-  و البصرة عين العراق و المربد عين البصرة-  و مسجدي عين المربد و أنا عين مسجدي-  و أنت أعور فإن عين الدنيا عوراء-  قال يا أمير المؤمنين لم أقل ذاك-  و لا أظن أمير المؤمنين أحضرني لذلك-  قال بلغني أنك أصبحت فوجدت على سارية من سواري مسجدك

 رحم الله عليا
إنه كان تقيا

فأمرت بمحوه-  قال يا أمير المؤمنين كان و لقد كان نبيا فأمرت بإزالته-  فقال كذبت كانت القاف أصح من عينك الصحيحة-  ثم قال و الله لو لا أن أقيم لك عند العامة سوقا لأحسنت تأديبك-  قال يا أمير المؤمنين قد ترى ما أنا عليه-  من الضعف و الزمانة و الهرم و قلة البصر-  فإن عاقبتني مظلوما-  فاذكر قول ابن عمك علي ع ظلم الضعيف أفحش الظلمو إن عاقبتني بحق-  فاذكر أيضا قوله لكل شي‏ء رأس و الحلم رأس السؤدد-  فنهض المأمون من مجلسه-  و أمر برده إلى البصرة و لم يصله بشي‏ء-  و لم يحضر أحد قط مجلس المأمون إلا وصله عدا الخطابي-  و ليس هذا هو المحدث الحافظ المشهور-  ذاك أبو سليمان أحمد بن محمد بن أحمد البستي-  كان في أيام المطيع و الطائع-  و هذا قاص بالبصرة-  كان يقال له أبو زكريا سليمان بن محمد البصري- .

و ثاني عاشرها قوله إذا كان الرفق خرقا كان الخرق رفقا-  يقول إذا كان استعمال‏الرفق مفسدة و زيادة في الشر-  فلا تستعمله-  فإنه حينئذ ليس برفق بل هو خرق-  و لكن استعمل الخرق-  فإنه يكون رفقا و الحالة هذه-  لأن الشر لا يلقى إلا بشر مثله-  قال عمرو ابن كلثوم

 ألا لا يجهلن أحد علينا
فنجهل فوق جهل الجاهلينا

و في المثل إن الحديد بالحديد يفلج- . و قال زهير

و من لا يذد عن حوضه بسلاحه
يهدم و من لا يظلم الناس يظلم‏

و قال أبو الطيب

و وضع الندى في موضع السيف بالعلى
مضر كوضع السيف في موضع الندى‏

و ثالث عشرها قوله و ربما كان الدواء داء و الداء دواء- هذا مثل قول أبي الطيب

ربما صحت الأجسام بالعلل‏

و مثله قول أبي نواس

و داوني بالتي كانت هي الداء

و مثل قول الشاعر

تداويت من ليلى بليلى فلم يكن
دواء و لكن كان سقما مخالفا

و رابع عشرها قوله ربما نصح غير الناصح و غش المستنصح-  كان المغيرة بن شعبة يبغض عليا ع-  منذ أيام رسول الله ص-  و تأكدت‏ بغضته إلى أيام أبي بكر و عثمان و عمر-  و أشار عليه يوم بويع بالخلافة-  أن يقر معاوية على الشام مدة يسيرة-  فإذا خطب له بالشام و توطأت دعوته دعاه إليه-  كما كان عمر و عثمان يدعوانه إليهما-  و صرفه فلم يقبل و كان ذلك نصيحة من عدو كاشح- . و استشار الحسين ع عبد الله بن الزبير-  و هما بمكة في الخروج عنها-  و قصد العراق ظانا أنه ينصحه فغشه-  و قال له لا تقم بمكة فليس بها من يبايعك-  و لكن دونك العراق-  فإنهم متى رأوك لم يعدلوا بك أحدا-  فخرج إلى العراق حتى كان من أمره ما كان- . و خامس عشرها قوله إياك و الاتكال على المنى-  فإنها بضائع النوكى جمع أنوك و هو الأحمق-  من هذا أخذ أبو تمام قوله

  من كان مرعى عزمه و همومه
روض الأماني لم يزل مهزولا

و من كلامهم ثلاثة تخلق العقل-  و هو أوضح دليل على الضعف-  طول التمني و سرعة الجواب و الاستغراب في الضحك-  و كان يقال التمني و الحلم سيان-  و قال آخر شرف الفتى ترك المنى- . و سادس عشرها قوله العقل حفظ التجارب-  من هذا أخذ المتكلمون قولهم-  العقل نوعان غريزي و مكتسب-  فالغريزي العلوم البديهية-  و المكتسب ما أفادته التجربة و حفظته النفس- . و سابع عشرها قوله خير ما جربت ما وعظك-  مثل هذا قول أفلاطون-  إذا لم تعظك التجربة فلم تجرب-  بل أنت ساذج كما كنت- . و ثامن عشرها قوله بادر الفرصة قبل أن تكون غصة-  حضر عبيد الله بن زياد عند هانئ بن عروة عائدا-  و قد كمن له مسلم بن عقيل-  و أمره أن يقتله إذا جلس‏ و استقر-  فلما جلس جعل مسلم يؤامر نفسه-  و يريدها على الوثوب به فلم تطعه-  و جعل هانئ ينشد كأنه يترنم بالشعر- 

 ما الانتظار بسلمى لا تحييها

و يكرر ذلك-  فأوجس عبيد الله خيفة و نهض-  فعاد إلى قصر الإمارة-  و فات مسلما منه ما كان يؤمله بإضاعة الفرصة-  حتى صار أمره إلى ما صار و تاسع عشرها قوله ليس كل طالب يصيب-  و لا كل غائب يثوب-  الأولى كقول القائل

  ما كل وقت ينال المرء ما طلبا
و لا يسوغه المقدار ما وهبا

و الثانية كقول عبيد

و كل ذي غيبة يئوب
و غائب الموت لا يئوب‏

 العشرون قوله-  من الفساد إضاعة الزاد و مفسدة المعاد-  و لا ريب أن من كان في سفر و أضاع زاده-  و أفسد الحال التي يعود إليها فإنه أحمق-  و هذا مثل ضربه للإنسان في حالتي دنياه و آخرته- . الحادي و العشرون قوله و لكل أمر عاقبة-  هذا مثل المثل المشهور لكل سائلة قرار- . الثاني و العشرون قوله سوف يأتيك ما قدر لك-  هذا من قول رسول الله ص و إن يقدر لأحدكم رزق في قبة جبل-  أو حضيض بقاع يأته- . الثالث و العشرون قوله التاجر مخاطر هذا حق-  لأنه يتعجل بإخراج الثمن و لا يعلم هل يعود أم لا-  و هذا الكلام ليس على ظاهره بل له باطن-  و هو أن من مزج الأعمال الصالحة بالأعمال السيئة-  مثل قوله خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً-فإنه مخاطر-  لأنه لا يأمن أن يكون بعض تلك السيئات تحبط أعماله الصالحة-  كما لا يأمن أن يكون بعض أعماله الصالحة-  يكفر تلك السيئات-  و المراد أنه لا يجوز للمكلف أن يفعل-  إلا الطاعة أو المباح- . الرابع و العشرون قوله رب يسير أنمى من كثير-  قد جاء في الأثر قد يجعل الله من القليل الكثير-  و يجعل من الكثير البركة-  و قال الفرزدق

فإن تميما قبل أن يلد الحصى
أقام زمانا و هو في الناس واحد

و قال أبو عثمان الجاحظ رأينا بالبصرة أخوين-  كان أبوهما يحب أحدهما و يبغض الآخر-  فأعطى محبوبه يوم موته كل ماله-  و كان أكثر من مائتي ألف درهم-  و لم يعط الآخر شيئا-  و كان يتجر في الزيت-  و يكتسب منه ما يصرفه في نفقة عياله-  ثم رأينا أولاد الأخ الموسر-  بعد موت الأخوين من عائلة ولد الأخ المعسر-  يتصدقون عليهم من فواضل أرزاقهم: لَا خَيْرَ فِي مُعِينٍ مُهِينٍ وَ لَا فِي صَدِيقٍ ظَنِينٍ-  سَاهِلِ الدَّهْرَ مَا ذَلَّ لَكَ قَعُودُهُ-  وَ لَا تُخَاطِرْ بِشَيْ‏ءٍ رَجَاءَ أَكْثَرَ مِنْهُ-  وَ إِيَّاكَ أَنْ تَجْمَحَ بِكَ مَطِيَّةُ اللَّجَاجِ-  احْمِلْ نَفْسَكَ مِنْ أَخِيكَ عِنْدَ صَرْمِهِ عَلَى الصِّلَةِ-  وَ عِنْدَ صُدُودِهِ عَلَى اللُّطْفِ وَ الْمُقَارَبَةِ-  وَ عِنْدَ جُمُودِهِ عَلَى الْبَذْلِ-  وَ عِنْدَ تَبَاعُدِهِ عَلَى الدُّنُوِّ-  وَ عِنْدَ شِدَّتِهِ عَلَى اللِّينِ-  وَ عِنْدَ جُرْمِهِ عَلَى الْعُذْرِ-  حَتَّى كَأَنَّكَ لَهُ عَبْدٌ وَ كَأَنَّهُ ذُو نِعْمَةٍ عَلَيْكَ-وَ إِيَّاكَ أَنْ تَضَعَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ-  أَوْ أَنْ تَفْعَلَهُ بِغَيْرِ أَهْلِهِ-  لَا تَتَّخِذَنَّ عَدُوَّ صَدِيقِكَ صَدِيقاً فَتُعَادِيَ صَدِيقَكَ-  وَ امْحَضْ أَخَاكَ النَّصِيحَةَ-  حَسَنَةً كَانَتْ أَوْ قَبِيحَةً-  وَ تَجَرَّعِ الْغَيْظَ فَإِنِّي لَمْ أَرَ جُرْعَةً أَحْلَى مِنْهَا عَاقِبَةً-  وَ لَا أَلَذَّ مَغَبَّةً-  وَ لِنْ لِمَنْ غَالَظَكَ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَلِينَ لَكَ-  وَ خُذْ عَلَى عَدُوِّكَ بِالْفَضْلِ فَإِنَّهُ أَحَدُ الظَّفَرَيْنِ-  وَ إِنْ أَرَدْتَ قَطِيعَةَ أَخِيكَ فَاسْتَبِقْ لَهُ مِنْ نَفْسِكَ-  بَقِيَّةً يَرْجِعُ إِلَيْهَا إِنْ بَدَا لَهُ ذَلِكَ يَوْماً مَا-  وَ مَنْ ظَنَّ بِكَ خَيْراً فَصَدِّقْ ظَنَّهُ-  وَ لَا تُضِيعَنَّ حَقَّ أَخِيكَ اتِّكَالًا عَلَى مَا بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ-  فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكَ بِأَخٍ مَنْ أَضَعْتَ حَقَّهُ-  وَ لَا يَكُنْ أَهْلُكَ أَشْقَى الْخَلْقِ بِكَ-  وَ لَا تَرْغَبَنَّ فِيمَنْ زَهِدَ عَنْكَ-  وَ لَا يَكُونَنَّ أَخُوكَ أَقْوَى عَلَى قَطِيعَتِكَ مِنْكَ عَلَى صِلَتِهِ-  وَ لَا تَكُونَنَّ عَلَى الْإِسَاءَةِ أَقْوَى مِنْكَ عَلَى الْإِحْسَانِ-  وَ لَا يَكْبُرَنَّ عَلَيْكَ ظُلْمُ مَنْ ظَلَمَكَ-  فَإِنَّهُ يَسْعَى فِي مَضَرَّتِهِ وَ نَفْعِكَ-  وَ لَيْسَ جَزَاءُ مَنْ سَرَّكَ أَنْ تَسُوءَهُ هذا الفصل قد اشتمل على كثير من الأمثال الحكمية- . فأولها قوله لا خير في معين مهين-  و لا في صديق ظنين-  مثل الكلمة الأولى قولهم

إذا تكفيت بغير كاف
وجدته للهم غير شاف‏

و من الكلمة الثانية أخذ الشاعر قوله-

فإن من الإخوان من شحط النوى
به و هو راع للوصال أمين‏

و منهم صديق العين أما لقاؤه‏
فحلو و أما غيبه فظنين‏

و ثانيها قوله ساهل الدهر ما ذلك لك قعوده- هذا استعارة- و القعود البكر حين يمكن ظهره من الركوب إلى أن يثني- و مثل هذا المعنى قولهم في المثل- من ناطح الدهر أصبح أجم- . و مثله

و در مع الدهر كيفما دارا

و مثله

و من قامر الأيام عن ثمراتها
فأحر بها أن تنجلي و لها القمر

و مثله

إذا الدهر أعطاك العنان فسر به
رويدا و لا تعنف فيصبح شامسا

و ثالثها قوله لا تخاطر بشي‏ء رجاء أكثر منه-  هذا مثل قولهم من طلب الفضل حرم الأصل- . و رابعها قوله إياك و أن تجمح بك مطية اللجاج-  هذا استعارة-  و في المثل ألج من خنفساء و ألج من زنبور-  و كان يقال اللجاج من القحة و القحة من قلة الحياء-  و قلة الحياء من قلة المروءة-  و في المثل لج صاحبك فحج- . و خامسها قوله احمل نفسك من أخيك-  إلى قوله أو تفعله بغير أهله-  اللطف بفتح اللام و الطاء-  الاسم من ألطفه بكذا أي بره به-  و جاءتنا لطفة من فلان أي هدية-  و الملاطفة المبارة-  و روي عن اللطف و هو الرفق للأمر-  و المعنى أنه أوصاه إذا قطعه أخوه أن يصله-  و إذا جفاه أن يبره-  و إذا بخل عليه أن يجود عليه إلى آخر الوصاة- . ثم قال له لا تفعل ذلك مع غير أهله-  قال الشاعر
و أن الذي بيني و بين بني أبي
و بين بني أمي لمختلف جدا

فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم‏
و إن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا

و إن زجروا طيرا بنحس تمر بي
زجرت لهم طيرا تمر بهم سعدا

و لا أحمل الحقد القديم عليهم‏
و ليس رئيس القوم من يحمل الحقدا

و قال الشاعر

إني و إن كان ابن عمي كاشحا
لمقاذف من خلفه و ورائه‏

و مفيده نصري و إن كان امرأ
متزحزحا في أرضه و سمائه‏

و أكون والي سره و أصونه
حتى يحق علي وقت أدائه‏

و إذا الحوادث أجحفت بسوامه‏
قرنت صحيحتنا إلى جربائه‏

و إذا دعا باسمي ليركب مركبا
صعبا قعدت له على سيسائه‏

و إذا أجن فليقة في خدره‏
لم أطلع مما وراء خبائه‏

و إذا ارتدى ثوبا جميلا لم أقل
يا ليت أن علي فضل ردائه‏

و سادسها قوله لا تتخذن عدو صديقك صديقا- فتعادي صديقك- قد قال الناس في هذا المعنى فأكثروا- قال بعضهم

إذا صافى صديقك من تعادي
فقد عاداك و انقطع الكلام‏

و قال آخر

صديق صديقي داخل في صداقتي
و خصم صديقي ليس لي بصديق‏

و قال آخر

تود عدوي ثم تزعم أنني
صديقك إن الرأي عنك لعازب‏

و سابعها قوله و امحض أخاك النصيحة-  حسنة كانت أو قبيحة-  ليس يعني ع بقبيحة هاهنا-  القبيح الذي يستحق به الذم و العقاب-  و إنما يريد نافعة له في العاجل كانت أو ضارة له في الأجل-  فعبر عن النفع و الضرر بالحسن و القبيح-  كقوله تعالى وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ-  إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ- . و قد فسره قوم فقالوا أراد كانت نافعة لك أو ضارة لك-  و يحتمل تفسير آخر-  و هو وصيته إياه أن يمحض أخاه النصيحة-  سواء كانت مما لا يستحيا من ذكرها و شياعها-  أو كانت مما يستحيا من ذكرها و استفاضتها بين الناس-  كمن ينصح صديقه في أهله و يشير عليه بفراقهم-  لفجور اطلع عليه منهم-  فإن الناس يسمون مثل هذا إذا شاع قبيحا- . و ثامنها قوله تجرع الغيظ-  فإني لم أر جرعة أحلى منها عاقبة و لا ألذ مغبة-  هذا مثل قولهم الحلم مرارة ساعة-  و حلاوة الدهر كله-  و كان يقال التذلل للناس مصايد الشرف- .

 قال المبرد في الكامل أوصى علي بن الحسين ابنه محمد بن علي ع-  فقال يا بني عليك بتجرع الغيظ من الرجال-  فإن أباك لا يسره بنصيبه-  من تجرع الغيظ من الرجال حمر النعم-  و الحلم أعز ناصرا و أكثر عددا- .

و تاسعها قوله لن لمن غالظك-  فإنه يوشك أن يلين لك-  هذا مثل المثل المشهور إذا عز أخوك فهن-  و الأصل في هذا قوله تعالى ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ-  فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ- . و عاشرها قوله خذ على عدوك بالفضل فإنه أحد الظفرين-  هذا معنى مليح-  و منه قول ابن هانئ في المعز

  ضراب هام الروم منتقما و في
أعناقهم من جوده أعباء

لو لا انبعاث السيف و هو مسلط
في قتلهم قتلتهم النعماء

و كنت كاتبا بديوان الخلافة-  و الوزير حينئذ نصير الدين أبو الأزهر أحمد بن الناقد-  رحمه الله-  فوصل إلى حضرة الديوان-  في سنة اثنتين و ثلاثين و ستمائة-  محمد بن محمد أمير البحرين على البر-  ثم وصل بعده الهرمزي صاحب هرمز-  في دجلة بالمراكب البحرية-  و هرمز هذه فرضة في البحر نحو عمان-  و امتلأت بغداد من عرب محمد بن محمد و أصحاب الهرمزي-  و كانت تلك الأيام أياما غراء زاهرة-  لما أفاض المستنصر على الناس من عطاياه-  و الوفود تزدحم من أقطار الأرض على أبواب ديوانه-  فكتبت يوم دخول الهرمزي إلى الوزير-  أبياتا سنحت على البديهة-  و أنا متشاغل بما كنت فيه من مهام الخدمة-  و كان رحمه الله لا يزال يذكرها و ينشدها و يستحسنها- 

 يا أحمد بن محمد أنت الذي
علقت يداه بأنفس الأعلاق‏

ما أملت بغداد قبلك أن ترى‏
أبدا ملوك البحر في الأسواق‏

ولهوا عليها غيرة و تنافسوا
شغفا بها كتنافس العشاق‏

و غدت صلاتك في رقاب سراتهم‏
و نداك كالأطواق في الأعناق‏

بسديد رأيك أصلحت جمحاتهم
و تألفوا من بعد طول شقاق‏

لله همه ماجد لم تعتلق‏
بسحيل آراء و لا أحذاق‏

جلب السلاهب من أراك و بعدها
جلب المراكب من جزيرة واق‏

هذا العداء هو العداء فعد عن‏
قول ابن حجر في لأى و عناق‏

و أظنه و الظن علم أنه
سيجيئنا بممالك الآفاق‏

إما أسير صنيعة في جيده‏
بالجود غل أو أسير وثاق‏

لا زال في ظل الخليفة ما له
فان و سودده المعظم باق‏

و حادي عشرها قوله-  إن أردت قطيعة أخيك-  فاستبق له من نفسك بقية يرجع إليها-  إن بدا ذلك له يوما-  هذا مثل قولهم أحبب حبيبك هونا ما-  عسى أن يكون بغيضك يوما ما-  و أبغض بغيضك هونا ما-  عسى أن يكون حبيبك يوما ما-  و ما كان يقال إذا هويت فلا تكن غاليا-  و إذا تركت فلا تكن قاليا- . و ثاني عشرها قوله-  من ظن خيرا فصدق ظنه-  كثير من أرباب الهمم يفعلون هذا-  يقال لمن قد شدا طرفا من العلم هذا عالم هذا فاضل-  فيدعوه ما ظن فيه من ذلك إلى تحقيقه-  فيواظب على الاشتغال بالعلم-  حتى يصير عالما فاضلا حقيقة-  و كذلك يقول الناس هذا كثير العبادة هذا كثير الزهد-  لمن قد شرع في شي‏ء من ذلك-  فتحمله أقوال الناس على الالتزام بالزهد و العبادة- . و ثالث عشرها قوله-  و لا تضيعن حق أخيك اتكالا على ما بينك و بينه-  فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه-  من هذا النحو قول الشاعر- .

 إذا خنتم بالغيب عهدي فما لكم
تدلون إدلال المقيم على العهد

صلوا و افعلوا فعل المدل بوصله‏
و إلا فصدوا و افعلوا فعل ذي الصدى‏

 و كان يقال إضاعة الحقوق داعية العقوق- . و رابع عشرها قوله- لا ترغبن فيمن زهد فيك- الرغبة في الزاهد هي الداء العياء- قال العباس بن الأحنف-

ما زلت أزهد في مودة راغب
حتى ابتليت برغبة في زاهد

هذا هو الداء الذي ضاقت به‏
حيل الطبيب و طال يأس العائد

و قد قال الشعراء المتقدمون و المتأخرون فأكثروا- نحو قولهم

و في الناس إن رثت حبالك واصل
و في الأرض عن دار القلى متحول‏

و قول تأبط شرا-

إني إذا خلة ضنت بنائلها
و أمسكت بضعيف الحبل أحذاقي‏

نجوت منها نجائي من بجيلة إذ
ألقيت ليلة خبت الرهط أرواقي‏

و خامس عشرها قوله-  لا يكونن أخوك أقوى على قطيعتك منك على صلته-  و لا تكونن على الإساءة أقوى منك على الإحسان-  هذا أمر له بأن يصل من قطعه-  و أن يحسن إلى من أساء إليه- . ظفر المأمون عبد الله بن هارون الرشيد بكتب-  قد كتبها محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق ع-  إلى أهل الكرخ و غيرهم من أعمال أصفهان-  يدعوهم فيها إلى نفسه-  فأحضرها بين يديه و دفعها إليه-  و قال له أ تعرف هذه-  فأطرق خجلا فقال له أنت آمن-  و قد وهبت هذا الذنب لعلي و فاطمة ع-  فقم إلى منزلك و تخير ما شئت من الذنوب-  فإنا نتخير لك مثل ذلك من العفو- .

و سادس عشرها قوله-  لا يكبرن عليك ظلم من ظلمك-  فإنه يسعى في مضرته و نفعك-  و ليس جزاء من سرك أن تسوءه-  جاء في الخبر المرفوع إنه ص سمع عائشة تدعو على من سرق عقدا لها-  فقال لها لا تمسحي عنه بدعائك-  أي لا تخففي عذابه-  و قوله ع و ليس جزاء من سرك أن تسوءه-  يقول لا تنتقم ممن ظلمك-  فإنه قد نفعك في الآخرة بظلمه لك-  و ليس جزاء من ينفع إنسانا أن يسي‏ء إليه-  و هذا مقام جليل‏ لا يقدر عليه-  إلا الأفراد من الأولياء الأبرار-  و قبض بعض الجبابرة على قوم صالحين فحبسهم و قيدهم-  فلما طال عليهم الأمر زفر بعضهم زفرة شديدة-  و دعا على ذلك الجبار-  فقال له بعض أولاده و كان أفضل أهل زمانه في العبادة-  و كان مستجاب الدعوة-  لا تدع عليه فتخفف عن عذابه-  قالوا يا فلان أ لا ترى ما بنا و بك-  لا يأنف ربك لنا- 

قال إن لفلان مهبطا في النار-  لم يكن ليبلغه إلا بما ترون-  و إن لكم لمصعدا في الجنة-  لم تكونوا لتبلغوه إلا بما ترون-  قالوا فقد نال منا العذاب و الحديد-  فادع الله لنا أن يخلصنا و ينقذنا مما نحن فيه-  قال إني لأظن أني لو فعلت لفعل-  و لكن و الله لا أفعل حتى أموت هكذا-  فألقى الله فأقول له أي رب سل فلانا لم فعل بي هذا-  و من الناس من يجعل قوله ع-  و ليس جزاء من سرك أن تسوءه-  كلمة مفردة مستقلة بنفسها ليست من تمام الكلام الأول-  و الصحيح ما ذكرناه- . و سابع عشرها-  و من حقه أن يقدم ذكره قوله-  و لا يكن أهلك أشقى الخلق بك-  هذا كما يقال في المثل-  من شؤم الساحرة أنها أول ما تبدأ بأهلها-  و المراد من هذه الكلمة النهي عن قطيعة الرحم-  و إقصاء الأهل و حرمانهم-  و في الخبر المرفوع صلوا أرحامكم و لو بالسلام

وَ اعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ الرِّزْقَ رِزْقَانِ-  رِزْقٌ تَطْلُبُهُ وَ رِزْقٌ يَطْلُبُكَ-  فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَأْتِهِ أَتَاكَ-  مَا أَقْبَحَ الْخُضُوعَ عِنْدَ الْحَاجَةِ-  وَ الْجَفَاءَ عِنْدَ الْغِنَى-  إِنَّمَا لَكَ مِنْ دُنْيَاكَ مَا أَصْلَحْتَ بِهِ مَثْوَاكَ-  وَ إِنْ كُنْتَ جَازِعاً عَلَى مَا تَفَلَّتَ مِنْ يَدَيْكَ-  فَاجْزَعْ عَلَى كُلِّ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْكَ-اسْتَدِلَّ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ بِمَا قَدْ كَانَ-  فَإِنَّ الْأُمُورَ أَشْبَاهٌ-  وَ لَا تَكُونَنَّ مِمَّنْ لَا تَنْفَعُهُ الْعِظَةُ إِذَا بَالَغْتَ فِي إِيلَامِهِ-  فَإِنَّ الْعَاقِلَ يَتَّعِظُ بِالآْدَابِ-  وَ الْبَهَائِمَ لَا تَتَّعِظُ إِلَّا بِالضَّرْبِ- . اطْرَحْ عَنْكَ وَارِدَاتِ الْهُمُومِ بِعَزَائِمِ الصَّبْرِ-  وَ حُسْنِ الْيَقِينِ-  مَنْ تَرَكَ الْقَصْدَ جَارَ-  وَ الصَّاحِبُ مُنَاسِبٌ-  وَ الصَّدِيقُ مَنْ صَدَقَ غَيْبُهُ-  وَ الْهَوَى شَرِيكُ الْعَمَى-  وَ رُبَّ بَعِيدٍ أَقْرَبُ مِنْ قَرِيبٍ-  وَ قَرِيبٍ أَبْعَدُ مِنْ بَعِيدٍ-  وَ الْغَرِيبُ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبِيبٌ-  مَنْ تَعَدَّى الْحَقَّ ضَاقَ مَذْهَبُهُ-  وَ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى قَدْرِهِ كَانَ أَبْقَى لَهُ-  وَ أَوْثَقُ سَبَبٍ أَخَذْتَ بِهِ-  سَبَبٌ بَيْنَكَ وَ بَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ-  وَ مَنْ لَمْ يُبَالِكَ فَهُوَ عَدُوُّكَ-  قَدْ يَكُونُ الْيَأْسُ إِدْرَاكاً إِذَا كَانَ الطَّمَعُ هَلَاكاً-  لَيْسَ كُلُّ عَوْرَةٍ تَظْهَرُ وَ لَا كُلُّ فُرْصَةٍ تُصَابُ-  وَ رُبَّمَا أَخْطَأَ الْبَصِيرُ قَصْدَهُ وَ أَصَابَ الْأَعْمَى رُشْدَهُ-  أَخِّرِ الشَّرَّ فَإِنَّكَ إِذَا شِئْتَ تَعَجَّلْتَهُ-  وَ قَطِيعَةُ الْجَاهِلِ تَعْدِلُ صِلَةَ الْعَاقِلِ-  مَنْ أَمِنَ الزَّمَانَ خَانَهُ وَ مَنْ أَعْظَمَهُ أَهَانَهُ-  لَيْسَ كُلُّ مَنْ رَمَى أَصَابَ-  إِذَا تَغَيَّرَ السُّلْطَانُ تَغَيَّرَ الزَّمَانُ-  سَلْ عَنِ الرَّفِيقِ قَبْلَ الطَّرِيقِ-  وَ عَنِ الْجَارِ قَبْلَ الدَّارِ

 

 في بعض الروايات اطرح عنك واردات الهموم بحسن الصبر و كرم العزاء-  قد مضى لنا كلام شاف في الرزق- . و روى أبو حيان قال رفع الواقدي إلى المأمون رقعة-  يذكر فيها غلبة الدين عليه-  و كثرة العيال و قلة الصبر-  فوقع المأمون عليها-  أنت رجل فيك خلتان السخاء و الحياء-  فأما السخاء فهو الذي أطلق ما في يديك-  و أما الحياء فهو الذي بلغ بك إلى ما ذكرت-  و قد أمرنا لك بمائة ألف درهم-  فإن كنا أصبنا إرادتك فازدد في بسط يدك-  و إن كنا لم نصب إرادتك فبجنايتك على نفسك-  و أنت كنت حدثتني و أنت على قضاء الرشيد عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن أنس بن مالك إن رسول الله ص قال للزبير يا زبير-  إن مفاتيح الرزق بإزاء العرش-  ينزل الله تعالى للعباد أرزاقهم على قدر نفقاتهم-  فمن كثر كثر له و من قلل قلل له-  قال الواقدي و كنت أنسيت هذا الحديث-  و كانت مذاكرته إياي به أحب من صلته- . و اعلم أن هذا الفصل يشتمل على نكت كثيرة حكمية-  منها قوله الرزق رزقان-  رزق تطلبه و رزق يطلبك-  و هذا حق لأن ذلك إنما يكون على حسب ما يعلمه الله تعالى-  من مصلحة المكلف-  فتارة يأتيه الرزق بغير اكتساب-  و لا تكلف حركة و لا تجشم سعي-  و تارة يكون الأمر بالعكس- .

دخل عماد الدولة أبو الحسن بن بويه شيراز-  بعد أن هزم ابن ياقوت عنها-  و هو فقيرلا مال له-  فساخت إحدى قوائم فرسه في الصحراء في الأرض-  فنزل عنها و ابتدرها غلمانه فخلصوها-  فظهر لهم في ذلك الموضع نقب وسيع-  فأمرهم بحفرة فوجدوا فيه أموالا عظيمة-  و ذخائر لابن ياقوت-  ثم استلقى يوما آخر على ظهره في داره بشيراز-  التي كان ابن ياقوت يسكنها-  فرأى حية في السقف-  فأمر غلمانه بالصعود إليها و قتلها فهربت منهم-  و دخلت في خشب الكنيسة-  فأمر أن يقلع الخشب و تستخرج و تقتل-  فلما قلعوا الخشب وجدوا فيه أكثر من خمسين ألف دينار-  ذخيرة لابن ياقوت- . و احتاج أن يفصل و يخيط ثيابا له و لأهله فقيل-  هاهنا خياط حاذق كان يخيط لابن ياقوت-  و هو رجل منسوب إلى الدين و الخير-  إلا أنه أصم لا يسمع شيئا أصلا-  فأمر بإحضاره فأحضر و عنده رعب و هلع-  فلما أدخله إليه كلمه و قال-  أريد أن تخيط لنا كذا و كذا قطعة من الثياب-  فارتعد الخياط و اضطرب كلامه-  و قال و الله يا مولانا ما له عندي-  إلا أربعة صناديق ليس غيرها-  فلا تسمع قول الأعداء في-  فتعجب عماد الدولة و أمر بإحضار الصناديق-  فوجدها كلها ذهبا و حليا-  و جواهر مملوءة وديعة لابن ياقوت- .

و أما الرزق الذي يطلبه الإنسان و يسعى إليه-  فهو كثير جدا لا يحصى و منها قوله ما أقبح الخضوع عند الحاجة-  و الجفاء عند الغنى-  هذا من قول الله تعالى-  حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ-  وَ فَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ-  وَ جاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ-  وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ-  لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ-  فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ- . و من الشعر الحكمي في هذا الباب قول الشاعر- 

خلقان لا أرضاهما لفتى
تيه الغنى و مذلة الفقر

فإذا غنيت فلا تكن بطرا
و إذا افتقرت فته على الدهر

و منها قوله- إنما لك من دنياك ما أصلحت به مثواك- هذا منكلام رسول الله ص يا ابن آدم ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت- أو لبست فأبليت أو تصدقت فأبقيتو قال أبو العتاهية-

ليس للمتعب المكادح من دنياه
إلا الرغيف و الطمران‏

و منها قوله-  و إن كنت جازعا على ما تفلت من يديك-  فاجزع على كل ما لم يصل إليك-  يقول لا ينبغي أن تجزع على ما ذهب من مالك-  كما لا ينبغي أن تجزع على ما فاتك من المنافع و المكاسب-  فإنه لا فرق بينهما-  إلا أن هذا حصل و ذاك لم يحصل بعد-  و هذا فرق غير مؤثر-  لأن الذي تظن أنه حاصل لك غير حاصل في الحقيقة-  و إنما الحاصل على الحقيقة ما أكلته و لبسته-  و أما القنيات و المدخرات فلعلها ليست لك-  كما قال الشاعر- 

و ذي إبل يسقي و يحسبها له
أخي تعب في رعيها و دءوب‏

غدت و غدا رب سواه يسوقها
و بدل أحجارا و جال قليب‏

و منها قوله استدل على ما لم يكن بما كان- فإن للأمور أشباها- يقال إذا شئت أن تنظر للدنيا بعدك فانظرها بعد غيرك- . و قال أبو الطيب في سيف الدولة-

ذكي تظنيه طليعة عينه
يرى قلبه في يومه ما يرى غدا

و منها قوله- و لا تكونن ممن لا تنفعه العظة… إلى قوله إلا بالضرب- هو قول الشاعر-

العبد يقرع بالعصا
و الحر تكفيه الملامة

  و كان يقال اللئيم كالعبد-  و العبد كالبهيمة عتبها ضربها- . و منها قوله اطرح عنك واردات الهموم-  بحسن الصبر و كرم العزاء-  هذا كلام شريف فصيح عظيم النفع و الفائدة-  و قد أخذ عبد الله بن الزبير بعض هذه الألفاظ-  فقال في خطبته لما ورد عليه الخبر بقتل مصعب أخيه-  لقد جاءنا من العراق خبر أحزننا و سرنا-  جاءنا خبر قتل مصعب-  فأما سرورنا فلأن ذلك كان له شهادة-  و كان لنا إن شاء الله خيرة-  و أما الحزن فلوعة يجدها الحميم عند فراق حميمه-  ثم يرعوي بعدها ذو الرأي-  إلى حسن الصبر و كرم العزاء- . و منها قوله من ترك القصد جار-  القصد الطريق المعتدل يعني أن خير الأمور أوسطها-  فإن الفضائل تحيط بها الرذائل-  فمن تعدى هذه يسيرا وقع في هذه- . و منها قوله الصاحب مناسب-  كان يقال الصديق نسيب الروح و الأخ نسيب البدن-  قال أبو الطيب

ما الخل إلا من أود بقلبه
و أرى بطرف لا يرى بسوائه‏

و منها قوله الصديق من صدق غيبه- من هاهنا أخذ أبو نواس قوله في المنهوكة-

هل لك و الهل خبر
فيمن إذا غبت حضر

أو ما لك اليوم أثر
فإن رأى خيرا شكر
أو كان تقصير عذر

و منها قوله الهوى شريك العمى- هذا مثل قولهم حبك الشي‏ء يعمي و يصم- قال الشاعر-

و عين الرضا عن كل عيب كليلة
كما أن عين السخط تبدي المساويا

و منها قوله رب بعيد أقرب من قريب- و قريب أبعد من بعيد- هذا معنى مطروق- قال الشاعر

لعمرك ما يضر البعد يوما
إذا دنت القلوب من القلوب‏

و قال الأحوص-

إني لأمنحك الصدود و إنني
قسما إليك مع الصدود لأميل‏

و قال البحتري-

و نازحة و الدار منها قريبة
و ما قرب ثاو في التراب مغيب‏

 و منها قوله و الغريب من لم يكن له حبيب- يريد بالحبيب هاهنا المحب لا المحبوب- قال الشاعر

أسرة المرء والداه و فيما
بين جنبيهما الحياة تطيب‏

و إذا وليا عن المرء يوما
فهو في الناس أجنبي غريب‏

و منها قوله من تعدى الحق ضاق بمذهبه- يريد بمذهبه هاهنا طريقته و هذه استعارة- و معناه أن طريق الحق لا مشقة فيها لسالكها- و طرق الباطل فيها المشاق و المضار- و كان سالكها سالك طريقة ضيقة يتعثر فيها- و يتخبط في سلوكها- . و منها قوله من اقتصر على قدره كان أبقى له- هذا مثل قوله رحم الله امرأ عرف قدره و لم يتعد طوره و قال من جهل قدره قتل نفسه- و قال أبو الطيب-

و من جهلت نفسه قدره
رأى غيره منه ما لا يرى‏

و منها قوله أوثق سبب أخذت به-  سبب بينك و بين الله سبحانه-  هذا من قول الله تعالى-  فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ-  فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى‏ لَا انْفِصامَ لَها- . و منها قوله فمن لم يبالك فهو عدوك-  أي لم يكترث بك-  و هذه الوصاة خاصة بالحسن ع-  و أمثاله من الولاة و أرباب الرعايا-  و ليست عامة للسوقة من أفناء الناس-  و ذلك لأن الوالي إذا أنس من بعض رعيته-  أنه لا يباليه و لا يكترث به-  فقد أبدى صفحته-  و من أبدى لك صفحته فهو عدوك-  و أما غير الوالي من أفناء الناس-  فليس أحدهم إذا لم يبال الآخر بعدو له- . و منها قوله-  قد يكون اليأس إدراكا إذا كان الطمع هلاكا-  هذا مثل قول القائل- 

 من عاش لاقى ما يسوء
من الأمور و ما يسر

و لرب حتف فوقه‏
ذهب و ياقوت و در

و المعنى ربما كان بلوغ الأمل في الدنيا-  و الفوز بالمطلوب منها سببا للهلاك فيها-  و إذا كان كذلك كان الحرمان خيرا من الظفر- . و منها قوله ليس كل عورة تظهر و لا كل فرصة تصاب-  يقول قد تكون عورة العدو مستترة عنك فلا تظهر-  و قد تظهر لك و لا يمكنك إصابتها- . و قال بعض الحكماء الفرصة نوعان-  فرصة من عدوك و فرصة في غير عدوك-  فالفرصة من عدوك ما إذا بلغتها نفعتك-  و إن فاتتك ضرتك-  و في غير عدوك ما إذا أخطأك نفعه لم يصل إليك ضره- .

 

و منها قوله فربما أخطأ البصير قصده-  و أصاب الأعمى رشده-  من هذا النحو قولهم في المثل-  مع الخواطئ سهم صائب-  و قولهم رمية من غير رام-  و قالوا في مثل اللفظة الأولى-  الجواد يكبو و الحسام قد ينبو-  و قالوا قد يهفو الحليم و يجهل العليم- . و منها قوله أخر الشر فإنك إذا شئت تعجلته-  مثل هذا قولهم في الأمثال الطفيلية-  كل إذا وجدت فإنك على الجوع قادر-  و من الأمثال الحكمية-  ابدأ بالحسنة قبل السيئة-  فلست بمستطيع للحسنة في كل وقت-  و أنت على الإساءة متى شئت قادر- . و منها قوله قطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل هذا حق-  لأن الجاهل إذا قطعك انتفعت ببعده عنك-  كما تنتفع بمواصلة الصديق العاقل لك-  و هذا كما يقول المتكلمون عدم المضرة كوجود المنفعة-  و يكاد أن يبتني على هذا قولهم-  كما أن فعل المفسدة قبيح من البارئ-  فالإخلال باللطف منه أيضا يجب أن يكون قبيحا- . و منها قوله من أمن الزمان خانه و من أعظمه أهانه-  مثل الكلمة الأولى قول الشاعر- 

و من يأمن الدنيا يكن مثل قابض
على الماء خانته فروج الأنامل‏

و قالوا احذر الدنيا ما استقامت لك-  و من الأمثال الحكمية من أمن الزمان ضيع ثغرا مخوفا-  و مثل الكلمة الثانية قولهم-  الدنيا كالأمة اللئيمة المعشوقة-  كلما ازددت لها عشقا و عليها تهالكا-  ازدادت إذلالا و عليك شطاطا- . و قال أبو الطيب- 

 و هي معشوقة على الغدر لا تحفظ
عهدا و لا تتمم وصلا

شيم الغانيات فيها فلا أدري
لذا أنث اسمها الناس أم لا

و منها قوله ليس كل من رمى أصاب- هذا معنى مشهور- قال أبو الطيب-

ما كل من طلب المعالي نافذا
فيها و لا كل الرجال فحولا

و منها قوله إذا تغير السلطان تغير الزمان-  في كتب الفرس أن أنوشروان جمع عمال السواد-  و بيده درة يقلبها-  فقال أي شي‏ء أضر بارتفاع السواد و أدعى إلى محقه-  أيكم قال ما في نفسي جعلت هذه الدرة في فيه-  فقال بعضهم انقطاع الشرب-  و قال بعضهم احتباس المطر-  و قال بعضهم استيلاء الجنوب و عدم الشمال-  فقال لوزيره قل أنت-  فإني أظن عقلك يعادل عقول الرعية كلها أو يزيد عليها-  قال تغير رأي السلطان في رعيته-  و إضمار الحيف لهم و الجور عليهم-  فقال لله أبوك-  بهذا العقل أهلك آبائي و أجدادي لما أهلوك له-  و دفع إليه الدرة فجعلها في فيه- . و منها قوله سل عن الرفيق قبل الطريق-  و عن الجار قبل الدار-  و قد روي هذا الكلام مرفوعا-  و في المثل جار السوء كلب هارش و أفعى ناهش- . و في المثل الرفيق إما رحيق أو حريق: إِيَّاكَ أَنْ تَذْكُرَ مِنَ الْكَلَامِ مَا يَكُونُ مُضْحِكاً-  وَ إِنْ حَكَيْتَ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِكَ-وَ إِيَّاكَ وَ مُشَاوَرَةَ النِّسَاءِ-  فَإِنَّ رَأْيَهُنَّ إِلَى أَفْنٍ وَ عَزْمَهُنَّ إِلَى وَهْنٍ-  وَ اكْفُفْ عَلَيْهِنَّ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ بِحِجَابِكَ إِيَّاهُنَّ-  فَإِنَّ شِدَّةَ الْحِجَابِ أَبْقَى عَلَيْهِنَّ-  وَ لَيْسَ خُرُوجُهُنَّ بِأَشَدَّ-  مِنْ إِدْخَالِكَ مَنْ لَا يُوثَقُ بِهِ عَلَيْهِنَّ-  وَ إِنِ اسْتَطَعْتَ أَلَّا يَعْرِفْنَ غَيْرَكَ فَافْعَلْ-  وَ لَا تُمَلِّكِ الْمَرْأَةَ مِنْ أَمْرِهَا مَا جَاوَزَ نَفْسَهَا-  فَإِنَّ الْمَرْأَةَ رَيْحَانَةٌ وَ لَيْسَتْ بِقَهْرَمَانَةٍ-  وَ لَا تَعْدُ بِكَرَامَتِهَا نَفْسَهَا وَ لَا تُطْمِعْهَا فِي أَنْ تَشْفَعَ لِغَيْرِهَا-  وَ إِيَّاكَ وَ التَّغَايُرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ غَيْرَةٍ-  فَإِنَّ ذَلِكَ يَدْعُو الصَّحِيحَةَ إِلَى السَّقَمِ-  وَ الْبَرِيئَةَ إِلَى الرِّيَبِ-  وَ اجْعَلْ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنْ خَدَمِكَ عَمَلًا تَأْخُذُهُ بِهِ-  فَإِنَّهُ أَحْرَى أَلَّا يَتَوَاكَلُوا فِي خِدْمَتِكَ-  وَ أَكْرِمْ عَشِيرَتَكَ-  فَإِنَّهُمْ جَنَاحُكَ الَّذِي بِهِ تَطِيرُ-  وَ أَصْلُكَ الَّذِي إِلَيْهِ تَصِيرُ وَ يَدُكَ الَّتِي بِهَا تَصُولُ-  اسْتَوْدِعِ اللَّهَ دِينَكَ وَ دُنْيَاكَ-  وَ اسْأَلْهُ خَيْرَ الْقَضَاءِ لَكَ فِي الْعَاجِلَةِ وَ الآْجِلَةِ-  وَ الدُّنْيَا وَ الآْخِرَةِ وَ السَّلَامُ نهاه أن يذكر من الكلام ما كان مضحكا-  لأن ذلك من شغل أرباب الهزل و البطالة-  و قل أن يخلو ذلك من غيبة أو سخرية- 

ثم قال و إن حكيت ذلك عن غيرك-  فإنه كما يستهجن الابتداء بذلك-  يستهجن حكايته عن الغير-  و ذلك كلام فصيح-  أ لا ترى أنه لا يجوز الابتداء بكلمة الكفر-  و يكره أيضا حكايتها-  و قال عمر لما نهاه‏رسول الله ص أن يحلف بالله-  فما حلفت به ذاكرا و لا آثرا و لا حاكيا- . و كان يقال من مازح استخف به-  و من كثر ضحكه قلت هيبته- . فأما مشاورة النساء فإنه من فعل عجزة الرجال-  قال الفضل بن الربيع أيام الحرب بين الأمين و المأمون-  في كلام يذكر فيه الأمين و يصفه بالعجز-  ينام نوم الظربان و ينتبه انتباهة الذئب-  همه بطنه و لذته فرجه-  لا يفكر في زوال نعمة و لا يروي في إمضاء رأي و لا مكيدة-  قد شمر له عبد الله عن ساقه و فوق له أشد سهامه-  يرميه على بعد الدار بالحتف النافذ و الموت القاصد-  قد عبى له المنايا على متون الخيل-  و ناط له البلايا بأسنة الرماح و شفار السيوف-  فكأنه هو قال هذا الشعر-  و وصف به نفسه و أخاه- 

يقارع أتراك ابن خاقان ليله
إلى أن يرى الإصباح لا يتلعثم‏

فيصبح من طول الطراد و جسمه‏
نحيل و أضحي في النعيم أصمم‏

و همي كأس من عقار و قينة
و همته درع و رمح و مخذم‏

فشتان ما بيني و بين ابن خالد
أمية في الرزق الذي الله يقسم‏

و نحن معه نجري إلى غاية إن قصرنا عنها ذممنا-  و إن اجتهدنا في بلوغها انقطعنا-  و إنما نحن شعب من أصل-  إن قوي قوينا و إن ضعف ضعفنا-  إن هذا الرجل قد ألقى بيده إلقاء الأمة الوكعاء-  يشاور النساء و يعتزم على الرؤيا-  قد أمكن أهل الخسارة و اللهو من سمعه-  فهم يمنونه الظفر و يعدونه عقب الأيام-  و الهلاك أسرع إليه من السيل إلى قيعان الرمل- . قوله ع فإن رأيهن إلى أفن-  الأفن بالسكون النقص و المتأفن‏ المتنقص-  يقال فلان يتأفن فلانا أي يتنقصه و يعيبه-  و من رواه إلى أفن بالتحريك فهو ضعف الرأي-  أفن الرجل يأفن أفنا أي ضعف رأيه-  و في المثل إن الرقين تغطي أفن الأفين-  و الوهن الضعف- . قوله و اكفف عليهن من أبصارهن من هاهنا زائدة-  و هو مذهب أبي الحسن الأخفش في زيادة من في الموجب-  و يجوز أن يحمل على مذهب سيبويه-  فيعنى به فاكفف عليهن بعض أبصارهن- .

ثم ذكر فائدة الحجاب-  و نهاه أن يدخل عليهن من لا يوثق به-  و قال إن خروجهن أهون من ذلك-  و ذلك لأن من تلك صفته-  يتمكن من الخلوة ما لا يتمكن منه من يراهن في الطرقات- . ثم قال إن استطعت ألا يعرفن غيرك فافعل-  كان لبعضهم بنت حسناء فحج بها-  و كان يعصب عينيها و يكشف للناس وجهها-  فقيل له في ذلك فقال-  إنما الحذر من رؤيتها الناس-  لا من رؤية الناس لها- . قال و لا تملك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها-  أي لا تدخلها معك في تدبير و لا مشورة-  و لا تتعدين حال نفسها و ما يصلح شأنها- .

فإن المرأة ريحانة و ليست بقهرمانة-  أي إنما تصلح للمتعة و اللذة-  و ليست وكيلا في مال و لا وزيرا في رأي- . ثم أكد الوصية الأولى فقال لا تعد بكرامتها نفسها-  هذا هو قوله و لا تملكها من أمرها ما جاوز نفسها- . ثم نهاه أن يطمعها في الشفاعات- .

 

و روى الزبير بن بكار قال-  كانت الخيزران كثيرا ما تكلم موسى ابنها-  لما استخلف في الحوائج-  و كان يجيبها إلى كل ما تسأل-  حتى مضت أربعة أشهر من خلافته و تتألى الناس عليها-  و طمعوا فيها فكانت المواكب تغدو إلى بابها-  و كلمته يوما في أمر فلم يجد إلى إجابتها سبيلا-  و احتج عليها بحجة فقالت-  لا بد من إجابتي فقال لا أفعل-  قالت إني قد ضمنت هذه الحاجة لعبد الله بن مالك-  فغضب موسى و قال ويلي على ابن الفاعلة-  قد علمت أنه صاحبها-  و الله لا قضيتها لك و لا له-  قالت و الله لا أسألك حاجة أبدا-  قال إذن و الله لا أبالي-  فقامت مغضبة فقال مكانك تستوعبي كلامي-  و أنا و الله بري‏ء من قرابتي من رسول الله ص-  لئن بلغني أنه وقف أحد من قوادي و خاصتي و خدمي-  و كتابي على بابك لأضربن عنقه-  و أقبضن ماله فمن شاء فليلزم ذلك-  ما هذه المواكب التي تغدو إلى بابك كل يوم-  أ ما لك مغزل يشغلك أو مصحف يذكرك-  أو بيت يصونك-  إياك ثم إياك أن تفتحي فاك في حاجة لملي أو ذمي-  فانصرفت و ما تعقل ما تطأ عليه-  و لم تنطق عنده بحلوة و لا مرة بعدها حتى هلك- .

و أخذ هذه اللفظة منه و هي قوله-  إن المرأة ريحانة و ليست بقهرمانة-  الحجاج فقالها للوليد بن عبد الملك-  روى ابن قتيبة في كتاب عيون الأخبار قال-  دخل الحجاج على الوليد بن عبد الملك-  و عليه درع و عمامة سوداء و فرس عربية و كنانة-  و ذلك في أول قدمة قدمها عليه من العراق-  فبعثت أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان-  و هي تحت الوليد إليه-  من هذا الأعرابي المستلئم في السلاح عندك-  و أنت في غلالة-  فأرسل إليها هذا الحجاج-  فأعادت إليه الرسول فقال تقول لك-  و الله لأن يخلو بك ملك الموت في اليوم أحيانا-  أحب‏ إلي من أن يخلو بك الحجاج-  فأخبره الوليد بذلك و هو يمازحه-  فقال يا أمير المؤمنين-  دع عنك مفاكهة النساء بزخرف القول-  فإنما المرأة ريحانة و ليست بقهرمانة-  فلا تطلعها على سرك و مكايدة عدوك-  فلما دخل الوليد عليها أخبرها-  و هو يمازحها بمقالة الحجاج فقالت يا أمير المؤمنين-  حاجتي أن تأمره غدا أن يأتيني مسلما ففعل ذلك-  فأتاها الحجاج فحجبته-  فلم يزل قائما ثم أذنت له-  فقالت يا حجاج-  أنت الممتن على أمير المؤمنين-  بقتلك ابن الزبير و ابن الأشعث-  أما و الله لو لا أن الله علم أنك شر خلقه-  ما ابتلاك برمي الكعبة الحرام-  و لا بقتل ابن ذات النطاقين-  أول مولود في دار هجرة الإسلام-  و أما نهيك أمير المؤمنين عن مفاكهة النساء-  و بلوغ لذاته و أوطاره-  فإن كن ينفرجن عن مثلك فما أحقه بالأخذ منك-  و إن كن ينفرجن عن مثله-  فهو غير قابل لقولك-  أما و الله لقد نقص نساء أمير المؤمنين-  الطيب من غدائرهن فبعنه في أعطية أهل الشام-  حين كنت في أضيق من قرن-  قد أظلتك رماحهم و أثخنك كفاحهم-  و حين كان أمير المؤمنين أحب إليهم من أبنائهم و آبائهم-  فأنجاك الله من عدو أمير المؤمنين بحبهم إياه-  قاتل الله القائل حين ينظر إليك-  و سنان غزالة بين كتفيك- 

أسد علي و في الحروب نعامة
ربداء تنفر من صفير الصافر

هلا برزت إلى غزالة في الوغى‏
بل كان قلبك في جناحي طائر

قم فاخرج فقام فخرج‏
بعض ما قيل في الغيرة من الشعر

فأما قوله ع إياك و التغاير في غير موضع غيرة- فقد قيل هذا المعنى قال بعض المحدثين-

يا أيها الغائر مه لا تغر
إلا لما تدركه بالبصر

ما أنت في ذلك إلا كمن‏
بيته الدب لرمي الحجر

 و كان مسكين الدارمي أحد من يستهجن الغيرة- و يستقبح وقوعها في غير محلها- فمن شعره في هذا المعنى-

ما أحسن الغيرة في حينها
و أقبح الغيرة في غير حين‏

من لم يزل متهما عرسه‏
مناصبا فيها لرجم الظنون‏

يوشك أن يغريها بالذي
يخاف أو ينصبها للعيون‏

حسبك من تحصينها ضمها
منك إلى خيم كريم و دين‏

لا تظهرن يوما على عورة
فيتبع المقرون حبل القرين‏

و قال أيضا-

ألا أيها الغائر المستشيط
علام تغار إذ لم تغر

فما خير عرس إذا خفتها
و ما خير بيت إذا لم يزر

تغار من الناس أن ينظروا
و هل يفتن الصالحات النظر

فإني سأخلي لها بيتها
فتحفظ لي نفسها أو تذر

إذا الله لم يعطه ودها
فلن يعطي الود سوط ممر

و من ذا يراعي له عرسه‏
إذا ضمه و الركاب السقر

و قال أيضا-

و لست امرأ لا أبرح الدهر قاعدا
إلى جنب عرسي لا أفارقها شبرا

و لا مقسما لا أبرح الدهر بيتها
لأجعله قبل الممات لها قبرا

و لا حاملا ظني و لا قول قائل
على غيره حتى أحيط به خبرا

و هبني امرأ راعيت ما دمت شاهدا
فكيف إذا ما سرت من بيتها شهرا

إذا هي لم تحصن لما في فنائها
فليس بمنجيها بنائي لها قصرا

 فأما قوله-  و اجعل لكل إنسان من خدمك عملا تأخذه به-  فقد قالت الحكماء هذا المعنى-  قال أبرويز في وصيته لولده شيرويه-  و انظر إلى كتابك-  فمن كان منهم ذا ضياع قد أحسن عمارتها فوله الخراج-  و من كان منهم ذا عبيد قد أحسن سياستهم و تثقيفهم-  فوله الجند-  و من كان منهم ذا سراري و ضرائر-  قد أحسن القيام عليهن فوله النفقات و القهرمة-  و هكذا فاصنع في خدم دارك-  و لا تجعل أمرك فوضى بين خدمك فيفسد عليك ملكك- . و أما قوله فأكرم عشيرتك فإنهم جناحك-  فقد تقدم منا كلام في وجوب الاعتضاد بالعشائر

اعتزاز الفرزدق بقومه

روى أبو عبيدة قال-  كان الفرزدق لا ينشد بين يدي الخلفاء و الأمراء إلا قاعدا-فدخل على سليمان بن عبد الملك يوما-  فأنشده شعرا فخر فيه بآبائه-  و قال من جملته- 

تالله ما حملت من ناقة رجلا
مثلي إذا الريح لفتني على الكور

فقال سليمان هذا المدح لي أم لك-  قال لي و لك يا أمير المؤمنين-  فغضب سليمان و قال قم فأتمم-  و لا تنشد بعده إلا قائما-  فقال الفرزدق لا و الله أو يسقط إلى الأرض أكثري شعرا-  فقال سليمان ويلي على الأحمق ابن الفاعلة-  لا يكنى و ارتفع صوته فسمع الضوضاء بالباب-  فقال سليمان ما هذا قيل بنو تميم على الباب-  قالوا لا ينشد الفرزدق قائما-  و أيدينا في مقابض سيوفنا-  قال فلينشد قاعدا

وفود الوليد بن جابر على معاوية

و روى أبو عبيد الله محمد بن موسى بن عمران المرزباني قال-  كان الوليد بن جابر بن ظالم الطائي-  ممن وفد على رسول الله ص فأسلم-  ثم صحب عليا ع و شهد معه صفين-  و كان من رجاله المشهورين-  ثم وفد على معاوية في الاستقامة-  و كان معاوية لا يثبته معرفة بعينه-  فدخل عليه في جملة الناس فلما انتهى إليه استنسبه-  فانتسب له فقال أنت صاحب ليلة الهرير قال نعم-  قال و الله ما تخلو مسامعي من رجزك تلك الليلة-  و قد علا صوتك أصوات الناس و أنت تقول- 

شدوا فداء لكم أمي و أب
فإنما الأمر غدا لمن غلب‏

هذا ابن عم المصطفى و المنتجب‏
تنمه للعلياء سادات العرب‏

ليس بموصوم إذا نص النسب
أول من صلى و صام و اقترب‏

قال نعم أنا قائلها قال فلما ذا قلتها-  قال لأنا كنا مع رجل لا نعلم خصلة توجب الخلافة-  و لا فضيلة تصير إلى التقدمة-  إلا و هي مجموعة له-  كان أول الناس سلما و أكثرهم علما و أرجحهم حلما-  فات الجياد فلا يشق غباره-  يستولي على الأمد فلا يخاف عثاره-  و أوضح منهج الهدى فلا يبيد مناره-  و سلك القصد فلا تدرس آثاره-  فلما ابتلانا الله تعالى بافتقاده-  و حول الأمر إلى من يشاء من عباده-  دخلنا في جملة المسلمين فلم ننزع يدا عن طاعة-  و لم نصدع صفاة جماعة-  على أن لك منا ما ظهر و قلوبنا بيد الله-  و هو أملك بها منك-  فاقبل صفونا و أعرض عن كدرنا-  و لا تثر كوامن الأحقاد فإن النار تقدح بالزناد-  قال معاوية و إنك لتهددني يا أخا طيئ-  بأوباش العراق أهل النفاق و معدن الشقاق-  فقال يا معاوية هم الذين أشرقوك بالريق-  و حبسوك في المضيق و ذادوك عن سنن الطريق-  حتى لذت منهم بالمصاحف-  و دعوت إليها من صدق بها و كذبت-  و آمن بمنزلها و كفرت-  و عرف من تأويلها ما أنكرت-  فغضب معاوية و أدار طرفه فيمن حوله-  فإذا جلهم من مضر و نفر قليل من اليمن-  فقال أيها الشقي الخائن-  إني لإخال أن هذا آخر كلام تفوه به-  و كان عفير بن سيف بن ذي يزن بباب معاوية حينئذ-  فعرف موقف الطائي و مراد معاوية فخافه عليه-  فهجم عليهم الدار و أقبل على اليمانية فقال-  شاهت الوجوه ذلا و قلا و جدعا و فلا-  كشم الله هذه الأنف كشما مرعبا-  ثم التفت إلى معاوية فقال-  إني و الله يا معاوية ما أقول قولي هذا-  حبا لأهل العراق و لا جنوحا إليهم-  و لكن الحفيظة تذهب الغضب لقد رأيتك بالأمس-  خاطبت أخا ربيعة يعني صعصعة بن صوحان-  و هو أعظم جرما عندك من هذا و أنكأ لقلبك-  و أقدح في صفاتك و أجد في عداوتك-  و أشد انتصارا في حربك-  ثم أثبته و سرحته-  و أنت الآن مجمع على قتل هذا-  زعمت استصغارا لجماعتنا-  فإنا لا نمر و لا نحلي-  و لعمري لو وكلتك أبناء قحطان إلى قومك-  لكان جدك العاثر و ذكرك الداثر- و حدك المفلول و عرشك المثلول-  فاربع على ظلعك و اطونا على بلالتنا-  ليسهل لك حزننا و يتطامن لك شاردنا-  فإنا لا نرام بوقع الضيم و لا نتلمظ جرع الخسف-  و لا نغمز بغماز الفتن و لا نذر على الغضب-  فقال معاوية الغضب شيطان-  فاربع نفسك أيها الإنسان-  فإنا لم نأت إلى صاحبك مكروها-  و لم نرتكب منه مغضبا و لم ننتهك منه محرما-  فدونكه فإنه لم يضق عنه حلمنا و يسع غيره-  فأخذ عفير بيد الوليد-  و خرج به إلى منزله-  و قال له و الله لتئوبن بأكثر مما آب به معدي من معاوية-  و جمع من بدمشق من اليمانية-  و فرض على كل رجل دينارين في عطائه-  فبلغت أربعين ألفا فتعجلها من بيت المال-  و دفعها إلى الوليد و رده إلى العراق

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 16

نامه 30 شرح ابن ابی الحدید(متن عربی)

30 و من كتاب له ع إلى معاوية

فَاتَّقِ اللَّهَ فِيمَا لَدَيْكَ- وَ انْظُرْ فِي حَقِّهِ عَلَيْكَ- وَ ارْجِعْ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا لَا تُعْذَرُ بِجَهَالَتِهِ- فَإِنَّ لِلطَّاعَةِ أَعْلَاماً وَاضِحَةً- وَ سُبُلًا نَيِّرَةً وَ مَحَجَّةً نَهْجَةً وَ غَايَةً مُطَّلَبَةً- يَرِدُهَا الْأَكْيَاسُ وَ يُخَالِفُهَا الْأَنْكَاسُ- مَنْ نَكَبَ عَنْهَا جَارَ عَنِ الْحَقِّ وَ خَبَطَ فِي التِّيهِ- وَ غَيَّرَ اللَّهُ نِعْمَتَهُ وَ أَحَلَّ بِهِ نِقْمَتَهُ- فَنَفْسَكَ نَفْسَكَ فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لَكَ سَبِيلَكَ- وَ حَيْثُ تَنَاهَتْ بِكَ أُمُورُكَ- فَقَدْ أَجْرَيْتَ إِلَى غَايَةِ خُسْرٍ وَ مَحَلَّةِ كُفْرٍ- فَإِنَّ نَفْسَكَ قَدْ أَوْلَجَتْكَ شَرّاً وَ أَقْحَمَتْكَ غَيّاً- وَ أَوْرَدَتْكَ الْمَهَالِكَ وَ أَوْعَرَتْ عَلَيْكَ الْمَسَالِكَ قوله و غاية مطلبة أي مساعفة لطالبها بما يطلبه- تقول طلب فلان مني كذا فأطلبته أي أسعفت به- قال الراوندي مطلبة بمعنى متطلبة- يقال طلبت كذا و تطلبته- و هذا ليس بشي‏ء- و يخرج الكلام عن أن يكون له معنى- . و الأكياس العقلاء و الأنكاس جمع نكس- و هو الدني‏ء من الرجال و نكب عنها عدل- . قوله و حيث تناهت بك أمورك- الأولى ألا يكون هذا معطوفا- و لا متصلابقوله فقد بين الله لك سبيلك- بل يكون كقولهم لمن يأمرونه بالوقوف حيث أنت- أي قف حيث أنت فلا يذكرون الفعل- و مثله قولهم مكانك أي قف مكانك- .

قوله فقد أجريت- يقال فلان قد أجرى بكلامه إلى كذا- أي الغاية التي يقصدها هي كذا- مأخوذ من إجراء الخيل للمسابقة- و كذلك قد أجرى بفعله إلى كذا- أي انتهى به إلى كذا- و يروى قد أوحلتك شرا أو أورطتك في الوحل- و الغي ضد الرشاد- . و أقحمتك غيا جعلتك مقتحما له- . و أوعرت عليك المسالك جعلتها وعرة- . وأول هذا الكتاب أما بعد- فقد بلغني كتابك تذكر مشاغبتي- و تستقبح موازرتي- و تزعمني متحيرا و عن الحق مقصرا- فسبحان الله كيف تستجيز الغيبة و تستحسن العضيهة- أي لم أشاغب إلا في أمر بمعروف أو نهي عن منكر- و لم أتجبر إلا على باغ مارق أو ملحد منافق- و لم آخذ في ذلك إلا بقول الله سبحانه- لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ- يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ- وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ- و أما التقصير في حق الله تعالى فمعاذ الله- و إنما المقصر في حق الله جل ثناؤه من عطل الحقوق المؤكدة- و ركن إلى الأهواء المبتدعة- و أخلد إلى الضلالة المحيرة- و من العجب أن تصف يا معاوية الإحسان و تخالف البرهان- و تنكث الوثائق التي هي لله عز و جل طلبة- و على عباده حجة- مع نبذ الإسلام و تضييع الأحكام و طمس الأعلام-و الجري في الهوى و التهوس في الردى- فاتق الله فيما لديك و انظر في حقه عليك- الفصل المذكور في الكتاب- .

و في الخطبة زيادات يسيرة لم يذكرها الرضي رحمه الله- منهاو إن للناس جماعة يد الله عليها- و غضب الله على من خالفها- فنفسك نفسك قبل حلول رمسك- فإنك إلى الله راجع و إلى حشره مهطع- و سيبهظك كربه و يحل بك غمه- في يوم لا يغني النادم ندمه و لا يبل من المعتذر عذره- يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ‏

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ‏أبي ‏الحديد) ج 16