خطبه 219 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام
لِلَّهِ بِلَادُ فُلَانٍ فَلَقَدْ قَوَّمَ الْأَوَدَ وَ دَاوَى الْعَمَدَ- وَ أَقَامَ السُّنَّةَ وَ خَلَّفَ الْفِتْنَةَ- ذَهَبَ نَقِيَّ الثَّوْبِ قَلِيلَ الْعَيْبِ- أَصَابَ خَيْرَهَا وَ سَبَقَ شَرَّهَا- أَدَّى إِلَى اللَّهِ طَاعَتَهُ وَ اتَّقَاهُ بِحَقِّهِ- رَحَلَ وَ تَرَكَهُمْ فِي طُرُقٍ مُتَشَعِّبَةٍ- لَا يَهْتَدِي بِهَا الضَّالُّ وَ لَا يَسْتَيْقِنُ الْمُهْتَدِي

اللغة
أقول:

الأود: العرج.

و العمد: مرض، و هو انسداخ داخل سنام البعير من الحمل و نحوه مع صحّة ظاهره.

المعنى
و قوله: للّه بلاد فلان. لفظ يقال في معرض المدح كقولهم: للّه درّه، و للّه أبوه. و أصله أنّ العرب إذا أرادوا مدح شي‏ء و تعظيمه نسبوه إلى اللّه تعالى بهذا اللفظ، و روى: للّه بلاء فلان: أى عمله الحسن في سبيل اللّه، و المنقول أنّ المراد بفلان عمر، و عن القطب الراوندى أنّه إنّما أراد بعض أصحابه في زمن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ممّن مات قبل وقوع الفتن و انتشارها، و قال ابن أبى الحديد- رحمه اللّه- : إنّ ظاهر الأوصاف المذكورة في الكلام يدلّ على أنّه أراد رجلا ولّى أمر الخلافة قبله.
لقوله: قوّم الأود و داوى العمد. و لم يرد عثمان لوقوعه في الفتنة و تشعبّها بسببه، و لا أبا بكر لقصر مدّة خلافته و بعد عهده عن الفتن فكان الأظهر أنّه أراد عمر، و أقول: إرادته لأبى بكر أشبه من إرادته لعمر لما ذكره في خلافة عمر و ذمّها به في خطبتها المعروفة بالشقشقيّة كما سبقت الإشارة إليه.

و قد وصفه بامور: أحدها: تقويمه للأود، و هو كناية عن تقويمه لا عوجاج الخلق عن سبل اللّه إلى الاستقامة فيها. الثانى: مداواته للعمد، و استعار لفظ العمد للأمراض النفسانيّة باعتبار استلزامها للأذى كالعمد، و وصف المداواة لمعالجة تلك الأمراض بالمواعظ البالغة و الزواجر القارعة القوليّة و الفعليّة. الثالث: إقامته للسنّة و لزومها. الرابع: تخليفه للفتنة. أى موته قبلها. و وجه كون ذلك مدحا له هو اعتبار عدم وقوعها بسببه و في زمنه لحسن تدبيره. الخامس: ذهابه نقّى الثوب، و استعار لفظ الثوب لعرضه، و نقاه لسلامته عن دنس المذامّ. السادس: قلّة عيوبه. السابع: إصابة خيرها و سبق شرّها، و الضمير في الموضعين يشبه أن يرجع‏ إلى المعهود ممّا هو فيه من الخلافة. أى أصاب ما فيها من الخير المطلوب و هو العدل و إقامة دين اللّه الّذي به يكون الثواب الجزيل في الآخرة و الشرف الجليل في الدنيا، و سبق شرّها: أى مات قبل وقوع الفتنة فيها و سفك الدماء لأجلها. الثامن: إدّاؤه إلى اللّه طاعته.
التاسع: اتّقاه بحقّه. أى أدّى حقّه خوفا من عقوبته. العاشر: رحيله إلى الآخرة تاركا للناس بعده في طرق متشعّبة من الجهالات لا يهتدي فيها من ضلّ عن سبيل اللّه و لا يستيقن المهتدى في سبيل اللّه أنّه على سبيله لاختلاف طرق الضلال و كثرة المخالف له إليها. و الواو في قوله: و تركتم. للحال.
و أعلم أنّ الشيعة قد أوردوا هنا سؤالا فقالوا: إنّ هذه الممادح الّتي ذكرها عليه السّلام في حقّ أحد الرجلين تنافي ما أجمعنا عليه من تخطئتهم و أخذهما لمنصب الخلافة. فإمّا أن لا يكون هذا الكلام من كلامه عليه السّلام أو أن يكون إجماعنا خطأ.
ثمّ أجابوا من وجهين: أحدهما: لا نسلّم التنافي المذكور فإنّه جاز أن يكون ذلك المدح منه عليه السّلام على وجه استصلاح من يعتقد صحّة خلافة الشيخين و استجلاب قلوبهم بمثل هذا الكلام. الثاني: أنّه جاز أن يكون مدحه ذلك لأحدهما في معرض توبيخ عثمان بوقوع الفتنة في خلافته و اضطراب الأمر عليه و استئثاره ببيت مال المسلمين هو و بنو أبيه حتّى كان ذلك سببا لثوران المسلمين من الأمصار إليه و قتلهم له، و نبّه على ذلك بقوله: و خلّف الفتنة و ذهب نقىّ الثوب قليل العيب أصاب خيرها و سبق شرّها. و قوله: و تركهم في طرق متشعّبة. إلى آخره. فإنّ مفهوم ذلك يستلزم أنّ الوالى بعد هذا الموصوف قد اتّصف بأضداد هذه الصفات، و اللّه أعلم.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحه‏ى 97

 

خطبه 218 شرح ابن میثم بحرانی

و من دعاء له عليه السّلام
اللَّهُمَّ إِنَّكَ آنَسُ الْآنِسِينَ لِأَوْلِيَائِكَ- وَ أَحْضَرُهُمْ بِالْكِفَايَةِ لِلْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْكَ- تُشَاهِدُهُمْ فِي سَرَائِرِهِمْ وَ تَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ فِي ضَمَائِرِهِمْ- وَ تَعْلَمُ مَبْلَغَ بَصَائِرِهِمْ- فَأَسْرَارُهُمْ لَكَ مَكْشُوفَةٌ وَ قُلُوبُهُمْ إِلَيْكَ مَلْهُوفَةٌ- إِنْ أَوْحَشَتْهُمُ الْغُرْبَةُ آنَسَهُمْ ذِكْرُكَ- وَ إِنْ صُبَّتْ عَلَيْهِمُ الْمَصَائِبُ لَجَئُوا إِلَى الِاسْتِجَارَةِ بِكَ- عِلْماً بِأَنَّ أَزِمَّةَ الْأُمُورِ بِيَدِكَ- وَ مَصَادِرَهَا عَنْ قَضَائِكَ‏ اللَّهُمَّ إِنْ فَهِهْتُ عَنْ مَسْأَلَتِي أَوْ عَمِيتُ عَنْ طِلْبَتِي- فَدُلَّنِي عَلَى مَصَالِحِي- وَ خُذْ بِقَلْبِي إِلَى مَرَاشِدِي- فَلَيْسَ ذَلِكَ بِنُكْرٍ مِنْ هِدَايَاتِكَ- وَ لَا بِبِدْعٍ مِنْ كِفَايَاتِكَ- اللَّهُمَّ احْمِلْنِي عَلَى عَفْوِكَ وَ لَا تَحْمِلْنِي عَلَى عَدْلِكَ

اللغة
أقول:

الفهاهة: العىّ.

و العمه: التحيّر.

المعنى
و قد ضرع إلى اللّه تعالى باعتبارات من الصفات الإضافيّة و الحقيقيّة:

الأوّل: كونه آنس الآنسين لأوليائه. و قد علمت أنّ أوليائه هم السالكون لطريقة عن المحبّة الصادقة له و الرغبة التامّة عمّا عداه، و لمّا كان الأنيس هو الّذي يرفع الوحشة و تسكن إليه النفس في الوحدة و الغربة و كانت أولياء اللّه في الحياة الدنيا غريبا في أبنائها منفردين عنهم في سلوك سبيل اللّه مولّين وجوههم شطر كعبة وجوب وجوده مبتهجين بمطالعة أنوار كبريائه لا جرم كان أشدّ الآنسين لهم انسا. إذ ما من عبد تعبّد لغير اللّه و استأنس به كالولد بوالده و بالعكس إلّا كان لكلّ واحد منهما مع صاحبه نفرة من وجه و استيحاش باعتبار. فلم يكن لهم أنيس في الحقيقة إلّا هو إن كانوا في الالتفات إليه منقطعين عمّا عداه مستوحشين من غيره.

الثاني: كونه تعالى أحضرهم بالكفاية للمتوكّلين عليه. إذ كان تعالى هو الغنىّ المطلق و الجواد الّذي لا بخل من جهته و لا منع، و العالم المطلق بحاجّة المتوكّلين و حسن استعدادهم فإذا استعدّ المتوكّلون عليه لحسن توكّلهم لقبول رحمته أفاض على كلّ منهم قدر كفايته من الكمالات النفسانيّة و البدنيّة بلا تعويق عائق أو تردّد في استحقاق مستحقّ أو مقدار كفايته أو حاجة إلى تحصيل ذلك المقدار. إلى غير ذلك ممّا هو منسوب إلى غيره تعالى من سلوك الدنيا. فلا جرم‏ أقوم من توكّل عليه بكفاية المتوكّلين و أسرعهم إحضارا لما استعدّ كلّ منهم له من الكمال.

الثالث: كونه تعالى يشاهدهم. إلى قوله: مكشوفة. إشاره إلى علمه تعالى بأحوالهم الباطنة الّذي هو من لوازم كونه أحضر لكفايتهم كما بيّناه. و اطّلاعه عليهم في ضمائرهم اعتبار لكمال علمه تعالى و براءته عن النقصان، و كذلك علمه بمبلغ بصائرهم: أى بمقادير عقولهم و تفاوت استعداد نفوسهم لدرك الكمالات، و أكّد بقوله: فأسرارهم لك مكشوفة. ما سبق من الإشارة إلى إحاطة علمه تعالى بأحوالهم الباطنة في معرض الإقرار بكمال العبوديّة و الخضوع له و الاعتراف بأنّه لا يخفى عليه منهم شي‏ء، و لهف قلوبهم إليه تحسّرها على الوصول إليه و الحضور بين يديه، و هو اعتبار لكمال محبّتهم له و رغبتهم فيما عنده. و قوله: إن أوحشتهم الغربة آنسهم ذكرك. أى الغربة في هذه الدار كما هنا، و هو اعتبار لحصول الاستيناس من جهتهم به، و الأوّل اعتبار لكونه تعالى أنيسا لهم. و قوله: و إن صبّت. إلى قوله: بك. اعتبار لتحقّق توكّلهم عليه تعالى في دفع ما يكرهون من مصائب الدنيا عند نزولها بهم. إذ سبق اعتبار كونه تعالى أحضر من توكّل عليه لكفاية المتوكّلين. و لجئوهم إلى الاستجارة به يعود إلى توجيه وجوه نفوسهم إليه تعالى في دفع ذلك المكروه دون غيره و هو التوكّل الخالص.

و قوله: علما. إلى قوله: قضائك. فعلما مفعول له: أى لأجل علمهم بأنّ الامور كلّها مربوطة بأسبابها تحت تصريف قدرتك، و أنّ مصادرها و هى أسبابها القريبة منتهية إلى قضائك، و هو حكم علمك. إذ به و منه كانت أسبابا و مصادر لتلك المصايب كان لجئوهم في الاستجارة بك. و يحتمل أن يكون علما مصدرا سدّ مسدّ الحال، و هو يستلزم كونهم في عباداتهم و أحوالهم مقطوعى النظر عن غيره تعالى، و لفظ الأزمّة مستعارلأسباب الأمور، و وجه المشابهة كونها ضابطة لها و بها يحرز نظام وجودها كالأزمّة، و لفظ اليد مجاز في القدرة.

و قوله. الّلهمّ. إلى آخره. شروع في المطلب على وجه كلّىّ، و هو طلب دلالته على مصالحه في أىّ أمر كان و جذب قلبه بالهداية إلى مواضع رشده من العقائد و الآراء الصحيحة التامّة على تقدير إن عىّ عن مسئلته أو تحيّر في وجه معرفة مصالحه. و قوله: فليس ذلك. إلى قوله: كفاياتك. استعطاف بما في العادة أن يستعطف به أهل العواطف و الرحمة من الكلام: أى أنّ هداياتك لخلقك إلى وجوه مصالحهم و كفاياتك لهم ما يحتاجون إليه امور متعارفة جرت عادتك بها، و ألفها منك عبادك. و قوله: الّلهمّ احملنى. إلى آخره. سؤال أن تحمله تعالى على عفوه عمّا عساه صدر عنه من ذنب، و لا يحمله على عدله فيحرمه بما فعل حرمانا أو عقوبة، و هو من لطيف ما تستعدّ به النفس لاستنزال الرحمة الإلهيّة، و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحه‏ى‏93

 

خطبه 217 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام
دَارٌ بِالْبَلَاءِ مَحْفُوفَةٌ وَ بِالْغَدْرِ مَعْرُوفَةٌ- لَا تَدُومُ أَحْوَالُهَا وَ لَا تسْلَمُ‏ نُزَّالُهَا- أَحْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ وَ تَارَاتٌ مُتَصَرِّفَةٌ- الْعَيْشُ فِيهَا مَذْمُومٌ وَ الْأَمَانُ مِنْهَا مَعْدُومٌ- وَ إِنَّمَا أَهْلُهَا فِيهَا أَغْرَاضٌ مُسْتَهْدَفَةٌ- تَرْمِيهِمْ بِسِهَامِهَا وَ تُفْنِيهِمْ بِحِمَامِهَا- وَ اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّكُمْ وَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الدُّنْيَا- عَلَى سَبِيلِ مَنْ قَدْ مَضَى قَبْلَكُمْ- مِمَّنْ كَانَ أَطْوَلَ مِنْكُمْ أَعْمَاراً وَ أَعْمَرَ دِيَاراً وَ أَبْعَدَ آثَاراً- أَصْبَحَتْ أَصْوَاتُهُمْ هَامِدَةً وَ رِيَاحُهُمْ رَاكِدَةً- وَ أَجْسَادُهُمْ بَالِيَةً وَ دِيَارُهُمْ خَالِيَةً وَ آثَارُهُمْ عَافِيَةً- فَاسْتَبْدَلُوا بِالْقُصُورِ الْمَشَيَّدَةِ وَ النَّمَارِقِ الْمُمَهَّدَةِ- الصُّخُورَ وَ الْأَحْجَارَ الْمُسْنَدَةَ وَ الْقُبُورَ اللَّاطِئَةَ الْمُلْحَدَةَ- الَّتِي قَدْ بُنِيَ عَلَى الْخَرَابِ فِنَاؤُهَا- وَ شُيِّدَ بِالتُّرَابِ بِنَاؤُهَا فَمَحَلُّهَا مُقْتَرِبٌ وَ سَاكِنُهَا مُغْتَرِبٌ- بَيْنَ أَهْلِ مَحَلَّةٍ مُوحِشِينَ وَ أَهْلِ فَرَاغٍ مُتَشَاغِلِينَ- لَا يَسْتَأْنِسُونَ بِالْأَوْطَانِ وَ لَا يَتَوَاصَلُونَ تَوَاصُلَ الْجِيرَانِ- عَلَى مَا بَيْنَهُمْ مِنْ قُرْبِ الْجِوَارِ وَ دُنُوِّ الدَّارِ- وَ كَيْفَ يَكُونُ بَيْنَهُمْ تَزَاوُرٌ وَ قَدْ طَحَنَهُمْ بِكَلْكَلِهِ الْبِلَى- وَ أَكَلَتْهُمُ الْجَنَادِلُ وَ الثَّرَى- وَ كَأَنْ قَدْ صِرْتُمْ إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ- وَ ارْتَهَنَكُمْ ذَلِكَ الْمَضْجَعُ وَ ضَمَّكُمْ ذَلِكَ الْمُسْتَوْدَعُ- فَكَيْفَ بِكُمْ لَوْ تَنَاهَتْ بِكُمُ الْأُمُورُ- وَ بُعْثِرَتِ الْقُبُورُ هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ- وَ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ‏ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ

اللغة

أقول:

التارة: المرّة.

و المستهدفة: الّتي جعلت هدفا نصبت لترمى.

و عفت الآثار: انمحت.

و النمارق: جمع نمرق و نمرقة، و هى وسادة صغيرة. و الكلكل الصدر.

و بعثرت القبور، و بعثرتها: إخراج ما فيها و نبشها. يقال: بعثر الرجل متاعه إذا فرّقه و قلّب أعلاه أسفله.

و غرض الفصل التحذير من الدنيا و الاشتغال بها عن اللّه، و التنفير عن ذلك بذكر معايبها، و الجذب به إلى استعمالها على الوجه المطلوب الّذي لأجله وجدت.
فقوله: دار. خبر مبتداء محذوف هو الدنيا، و ذكر من معايبها عدّة: أحدها: كونها مقرونة بالبلاء ملازما لها فكنّى عن ذلك بالحفوف الّذي هو الإحاطة من الجوانب لأنّه أبلغ. الثاني: كونها معروفة بالغدر، و استعار لفظ الغدر لغيرهما عمّا يتوهّم الإنسان دوامها عليه في حقّه من أحوالها المعجبة له كالمال و الصحّة و الشباب فكأنّه في مدّة بقاء تلك الأحوال عليه قد أخذ منها عهدا فكان التغيّر العارض لها المستلزم لزوال تلك الأحوال عنه أشبه شي‏ء بالغدر و لمّا كان كثر منها ذلك صارت معروفة به. و ثالثها: كونها لا تدوم أحوالها. و رابعها: لا تسلم نزّالها من آفاتها. و خامسها: اختلاف أحوالها، و أحوال خبر مبتدأ محذوف تقديره: أحولها أحوال كذلك. و سادسها: تصرّف تاراتها، و هو تغيّر أحوالها تارة بعد اخرى. و سابعها: كون العيش فيها مذموما، و لمّا كان العيش فيها كناية عن الالتذاذ بها و التنعّم فيها و استلزم ذلك العاقبة المهلكة لا جرم لزم الذمّ، و لأنّه‏ مشوب بتكدير الأمراض و الأعراض فلا يزال مذموما في الألسنة حتّى في لسان صاحبه و المستريح إليه عند معاناته بعض مراتب الكدر. و ثامنها. عدم الأمان فيها: أى من مخاوفها، و ما يلزم تصرّفاتها من البلاء و كلّ ذلك من ضرورتها و اختلاف استعدادات القوابل فيها عن حركات الأفلاك و كواكبها، و كون المبادى المفارقة مفيضة على كلّ قابل منها ما استعدّ له. و تاسعها: كون أهلها فيها أغراضا مستهدفة، و استعار لفظ الأغراض، و رشّح بذكر الاستهداف، كذلك استعار لفظ الرمى لإيقاع المصايب بهم و رشّح بذكر السهام. و عاشرها: كونها معهم على سبيل من قد مضى من القرون الخالية ممّن كان أطول أعمارا و أعمار ديارا و أبعد آثارا: أى كانت آثارهم لا يقدر عليها و لا تنال لعظمها، و كونها معهم على ذلك السبيل إشارة إلى إقبالها لهم كإفناء اولئك و إلحاقهم بأحوالهم. و قوله: أصبحت أصواتهم. إلى قوله: و الثرى. تفصيل لأحوال اولئك و وعيد للسامعين بلحوقها لهم. إذ كان سبيل الدنيا مع الجمع واحدا، و ركود رياحهم كناية عن سكون أحوالهم و خمول ذكرهم بعد العظمة في الصدور. و قوله: قد بنى بالخراب فناؤها. أى على خراب ما كان معمورا من الأبدان و المساكن، و ظاهر أنّ القبور اسّست على ذلك و بنيت عليه، و راعى في قوله: فناؤها و بناؤها و مغترب و مقترب السجع المتوازى مع المطابقة في القرينتين الاخريين، و أراد أنّ ساكنها و إن اقترب محلّه فهو غريب عن أهله، و نبّه بقوله: موحشين و متشاغلين و كونهم لا يستأنسون بالأوطان و لا يتواصلون تواصل الجيران على أنّ أحوالهم من تجاورهم و فراغهم ليس كأحوال الدنيا المألوفة لهم ليخوّف بها و ينفرّ عنها. ثمّ أشار إلى عدم علّة المزاورة، و استعار لفظ الطحن لإفساد البلى لأجسادهم ورشّح بلفظ الكلكل، و كذلك استعار لفظ الأكل لإفنائها. و قوله: و كأن قد صرتم. إلى قوله: المستودع. فكأن المخفّفة من الثقيلة، و اسمها ضمير الشأن، و التقدير فيشبه أنّكم قد صرتم إلى مصيرهم و أحوالهم و يقرب من ذلك لأنّ مشابهة الأحوال يستلزم قرب بعضها من بعض، و ارتهنكم ذلك المضجع: أى صار لكم دار إقامة و اتّخذكم سكّانه المقيمين به، و أطلق عليه لفظ المستودع باعتبار كونهم سيخرجون منه يوم القيامة. و قوله: فكيف بكم. إلى قوله: القبور. سؤال لهم عن كيفيّة حالهم عند تناهى امورهم و أحوالهم في يوم البعث سؤالا على سبيل التذكير بتلك الأحوال و التخويف بتلك الأهوال ليذكروا شدّتها فيفزغوا إلى العمل، و ذكر منها أمرا واحدا و هو اطّلاع النفوس على ما قدّمت و أسلفت في الدنيا من خير و شرّ و الردّ إلى المولى الحقّ الّذي ضلّ مع الرجوع إليه كلّ ما كان يفترى من دعوى حقيقة ساير الأباطيل المعبودة. و باللّه التوفيق.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحه‏ى 90

خطبه 216 شرح ابن میثم بحرانی

 و من دعاء له عليه السّلام
اللَّهُمَّ صُنْ وَجْهِي بِالْيَسَارِ وَ لَا تَبْذُلْ جَاهِيَ بِالْإِقْتَارِ- فَأَسْتَرْزِقَ طَالِبِي رِزْقِكَ وَ أَسْتَعْطِفَ شِرَارَ خَلْقِكَ- وَ أُبْتَلَى بِحَمْدِ مَنْ أَعْطَانِي وَ أُفْتَتَنَ بِذَمِّ مَنْ مَنَعَنِي- وَ أَنْتَ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ كُلِّهِ وَلِيُّ الْإِعْطَاءِ وَ الْمَنْعِ- إِنَّكَ عَلى‏ كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ

اللغة
أقول:

اليسار بالفتح: الغنى.

و الإقتار: ضيق الرزق و الفقر.
و حاصل الفصل التجاء إلى اللّه في طلب الغنى و عدم الابتلاء بالفقر و لوازمه.
و اعلم أنّ الغنى المطلوب لمثله عليه السّلام هو ما دفع ضرورة حاجته بحسب الاقتصاد و القناعة لا المفهوم المتعارف بين أرباب الدنيا من جمع المال و ادّخاره و الاتّساع به فوق الحاجة، و طلب الغنى على ذلك الوجه محمود، و على الوجه الثاني هو المذموم، و الفقر هو ما احتاج الإنسان معه إلى سؤال الناس و يلزمه بذلك الاعتبار لوازم صارفة عن وجه اللّه و عبادته: أوّلها: ابتذال الجاه و نقصان الحرمة، و لمّا كان الجاه و الغنى كالمتلازمين لا يليق أحدهما إلّا بالآخر جعل مزيل الجاه الفقر لأنّه مزيل الغنى، و إلى وجوب تلازمهما أشار ابو الطيّب بقوله:
     فلا مجد في الدنيا لمن قلّ ماله         و لا مال في الدنيا لمن قلّ مجده‏

و الجاه أيضا له اعتبارات فما اريد للّه منه كان شرفا به و اعتزازا بدينه، و ما اريد الاستعانة به على أداء حقوق اللّه و طاعته فهو الوجه المحمود الّذي سأل اللّه حفظه عليه بالغنا عن الناس، و هو الّذي امتنّ اللّه تعالى به على الأنبياء في قوله يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ«» و ما اريد به الفخر و الترؤّس في الدنيا فهو المذموم.

الثاني: من لوازمه استرزاق الخلق الّذين من شأنهم أن يسألوا الرزق لا أن يطلب منهم و في ذلك من الذلّ و الخضوع للمطلوب منه و مهانة النفس و اشتغالها عن التوجّه إلى المعبود ما يجب أن يستعاذ باللّه منه، و من أدعية زين العابدين عليه السّلام: تمدّحت بالغنى عن خلقك و أنت أهل الغنى عنهم، و نسبتهم إلى الفقر و هم أهل الفقر إليك فمن حاول سدّ خلّته من عندك ورام صرف الفقر عن نفسه بك فقد طلب حاجته من مظانّها و أتى طلبته من وجهها، و من توجّه بحاجته إلى أحد من خلقك أو جعله سبب نجحها دونك فقد تعرّض للحذمان و استحقّ من عندك فوت الإحسان. و إنّما حكم عليه باستحقاق فوت الإحسان لعدم استعداده لنفحات اللّه بالتوجّه إلى غيره و اشتغال نفسه بذلك الغير، و نبّه بقوله: طالبى رزقك على عدم أهليّتهم لأن يطلب منهم. الثالث: استعطاف شرار خلقه، و ظاهر أنّ الحاجة قد تدعو إلى ذلك، و التجربة تقضى بأنّ طلب العاطفة من الأشرار و الحاجة إليهم يستلذّ معه ذو المروّة طعم العلقم و يستحلى مذاق الصبر. الرابع: الابتلاء بحمد المعطى و الافتنان بذمّ المانع، و ذلك مستلزم للصرف عن اللّه و التوجّه إلى القبلة الحقيقيّة، و الواو في قوله: و أنت. للحال: أى لا تبذل جاهى بالإقتار فيلحقنى بسببه ما يلحقني من المكاره المعدودات و أنت من وراء ذلك كلّه أولى من أعطى و منع بأن تعطى و تمنع لقدرتك على كلّ شي‏ء، و مفهوم كونه وراء ذلك كلّه إحاطته و كونه مستند الغنى و أهله المحتاج إليهم من الخلق و أولى بإزالة الفقر و لوازمه لقدرتك على صرفه و الأغنياء عن الخلق لأنّ كونه محيطا و كونه مستندا مستلزمان للورائيّة فالمستند الوراء المعقول للمعقول و المحسوس للمحسوس، و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحه‏ى 88

 

خطبه 215 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام
وَ اللَّهِ لَأَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً- أَوْ أُجَرَّ فِي الْأَغْلَالِ مُصَفَّداً- أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً- لِبَعْضِ الْعِبَادِ- وَ غَاصِباً لِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْحُطَامِ- وَ كَيْفَ أَظْلِمُ أَحَداً لِنَفْسٍ يُسْرِعُ إِلَى الْبِلَى قُفُولُهَا- وَ يَطُولُ فِي الثَّرَى حُلُولُهَا- وَ اللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ عَقِيلًا وَ قَدْ أَمْلَقَ- حَتَّى اسْتَمَاحَنِي مِنْ بُرِّكُمْ صَاعاً- وَ رَأَيْتُ صِبْيَانَهُ شُعْثَ الشُّعُورِ غُبْرَ الْأَلْوَانِ مِنْ فَقْرِهِمْ- كَأَنَّمَا سُوِّدَتْ وُجُوهُهُمْ بِالْعِظْلِمِ- وَ عَاوَدَنِي مُؤَكِّداً وَ كَرَّرَ عَلَيَّ الْقَوْلَ مُرَدِّداً- فَأَصْغَيْتُ إِلَيْهِ سَمْعِي فَظَنَّ أَنِّي أَبِيعُهُ دِينِي- وَ أَتَّبِعُ قِيَادَهُ مُفَارِقاً طَرِيقَتِي- فَأَحْمَيْتُ لَهُ حَدِيدَةً ثُمَّ أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ لِيَعْتَبِرَ بِهَا- فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَفٍ مِنْ أَلَمِهَا- وَ كَادَ أَنْ يَحْتَرِقَ مِنْ مِيسَمِهَا- فَقُلْتُ لَهُ ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ يَا عَقِيلُ- أَ تَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ- وَ تَجُرُّنِي إِلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ- أَ تَئِنُّ مِنَ الْأَذَى وَ لَا أَئِنُّ مِنْ لَظَى- وَ أَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ طَارِقٌ طَرَقَنَا بِمَلْفُوفَةٍ فِي وِعَائِهَا- وَ مَعْجُونَةٍ شَنِئْتُهَا- كَأَنَّمَا عُجِنَتْ بِرِيقِ حَيَّةٍ أَوْ قَيْئِهَا- فَقُلْتُ أَ صِلَةٌ أَمْ زَكَاةٌ أَمْ صَدَقَةٌ- فَذَلِكَ مُحَرَّمٌ عَلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْتِ- فَقَالَ لَا ذَا وَ لَا ذَاكَ وَ لَكِنَّهَا هَدِيَّةٌ- فَقُلْتُ هَبِلَتْكَ الْهَبُولُ أَ عَنْ دِينِ اللَّهِ أَتَيْتَنِي لِتَخْدَعَنِي- أَ مُخْتَبِطٌ أَمْ ذُو جِنَّةٍ أَمْ تَهْجُرُ- وَ اللَّهِ لَوْ أُعْطِيتُ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا- عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللَّهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُهُ- وَ إِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لَأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا- مَا لِعَلِيٍّ وَ لِنَعِيمٍ يَفْنَى وَ لَذَّةٍ لَا تَبْقَى- نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ سُبَاتِ الْعَقْلِ وَ قُبْحِ الزَّلَلِ وَ بِهِ نَسْتَعِينُ

اللغة
أقول:

السعدان: نبت شوكىّ ذو حسك لها ثلاث أرؤس محدّدة على أىّ وجه وقعت من الأرض كان لها رأسان قائمان.

و المصفّد: الموثوق شدّا بغلّ أو قيد و نحوهما.

و القفول: الرجوع من السفر.

و الإملاق: الافتقار.

و الاستماحة: طلب المنح و هو العطاء.

و العظلم: نبت و هو بالعربيّة النيل، و قيل: نبت آخر يصبغ به.

و الدنف: شدّة المرض.

و الميسم: المكواة.

و سجّرها: و قدها و أحماها.

و شنئتها: أبغضتها.

و هبلته الهبول: ثكلته الثواكل.

و الخباط: مرض كالجنون و ليس به، و المختبط: الّذي يطلب معروفك من غير سبب سابق بينكما من رحم أو معروفة سابقة أو سابقة معروف لك عنده.

و الجنّة: الجنون.

و الهجر: الهذيان.

و جلب الشعيرة: قشرها.

و غرض الفصل التبرّى من الظلم
و ذلك أنّ أحدهم كان يأتيه فيسأله العطاء و هو عليه السّلام لم يكن ليستبقى لنفسه شيئا و لا يرى أن يعطى من بيت المال أحدا دون غيره. فيحرمه، و ربّما كان في غاية الحاجه فينسبه إلى الظلم و التخصيص بالمال دونه. فتبرّأ بهذا الكلام ممّا نسب إليه من ذلك.

فقوله: و اللّه. إلى قوله: الحطام.

بيان لمقدار نفرته عن الظلم و غايتها. و علّة ترجيحه أو اختياره لأحد الأمرين المذكورين على الظلم مع ما يستلزمانه من التألّم و العذاب أنّ ما يستلزمه الظلم من عذاب اللّه أشدّ خصوصا في حقّ من نظر بعين بصيرته تفاوت العذابين، مؤكّدا لذلك البيان بالقسم البارّ. و لفظ الحطام مستعار لمتاع الدنيا باعتبار حقارته، و أصله ما تكسر من نبت الأرض. و ظالما و غاصبا حالان. و قوله: و كيف. إلى قوله: حلولها. استفهام عن وجه ظلمه لأحد استفهام إنكار على من نسب إليه ذلك مع ذكر سببين يمنعان العاقل من الظلم، و هما الرجوع إلى البلى من السفر في الدنيا، و طول الحلول في الثرى. و قوله: و اللّه لقد رأيت. إلى قوله: لظى. تنبيه لنفى الظلم عنه ببلوغه في المحافظة على بيت المال و مراعاة العدل إلى الحدّ الّذي فعله مع أخيه عقيل على شدّة فاقته و فاقة عياله و كونه ذا حقّ في بيت المال، و معلوم أنّ من لم تدعه هذه الأسباب الثلاثة، و هى الاخوّة و الفاقة و الحقّ الموجود لذى الفاقة. إلى أن يدفعه إليه أو بعضه خوفا من شبهة الظلم فهو أنزه الناس أن يظلم أو يحوم حول الظلم بوجه، و استعار لفظ السمع لما يوهم من استعاضة لذّة العطاء للأخ الفقير بما يفوت من الدين لسبب الظلم في عطيّته على غير الوجه الشرعىّ، و قيادة ما يقوده به من الاستعطاف و الرحم عن طريقة العدل، و إنّما أحمى له الحديدة لينبّهه بها على النار الاخرويّة، و لذلك احتجّ عند أنينه من حرّها بقوله: أتئنّ من حديدة.
إلى قوله: لغضبه، و وجه الاحتجاج أنّك إذا كنت تئنّ من هذه فبالأولى أن تئنّ من تلك النار، و غاية ذلك أن تترك الظلم بطلب ما لا تستحقّه لاستلزام الأنين من نار اللّه ترك الظلم، و لمّا أثبت عليه وجوب ترك الظلم بذلك الطلب أعقبه بالاحتجاج لنفسه على وجوب تركها للظلم بإعطائه بقوله: أتئنّ من الأذى و لا أئنّ من لظى: أى إذا كنت تئنّ من الأذى فبالأولى أن أئنّ من لظى. و إنّما قال: و لا أئنّ من لظى مع أنّ لظى غير حاصلة الآن تنزيلا للمتوقّع الّذى لا بدّ منه‏ بسبب الظلم منزلة الواقع ليكون أبلغ في الموعظة، و إنّما أضاف الإنسان إلى الحديدة لأنّه أراد إنسانا خاصّا هو المتولّى لأمر تلك الحديدة فعرّفه بإضافته إليها، و كذلك الإضافة في جبّارها، و إنّما قال: للعبه. استسهالا و تحقيرا لما فعل لغرض أن يكبّر فعل الحارّ من سجر النار، و كذلك جعل العلّة الحاملة على سجر النار هو غضب الجبّار تعظيما لشأنه. و قوله: و أعجب من ذلك. إلى قوله: أم تهجر. أى و أعجب من عقيل و حاله طارق طرقنا. و الطارق: الآتى ليلا، و كنّى بالملفوفة في وعائها عن الهديّة. و قيل: كان شيئا من الحلواء كالفالوذج أو الحنبص و نحوه، و نبّه بقوله: شنئتها. على بعضه للامور اللذيذة الدنيويّة و نفرته عنها زهدا فيها، و وجه تشبيهها بما عجن بريق الحيّة أوقيئها هو ما في تصوّره في قبولها من الفساد و ما قصد بها مهديها في طلب الميل إليه المستلزم للظلم و الجور عن سبيل اللّه فإنّ القصد الّذي اشتمل عليه كالسمّ المهلك، و أمّا كون وجه كون المهدى أعجب من عقيل فلأنّ عقيلا جاء بثلاث وسايل كلّ منها يستلزم العاطفة عليه: و هى الأخوّة و الفاقة و كونه ذا حقّ في بيت المال، و هذا المهدى إنّما أدلى بهديّته.

فأمّا قوله في جوابه: فقلت له. إلى قوله: أهل البيت. فإنّه أراد به حصر وجوب البرّ في العرف لأنّ التقرّب إلى اللّه ببذل المال لعباده إمّا صلة رحم أولا، و الثاني فإمّا على وجه الصدقة أو الزكاة الواجبة و لم يذكر الهديّة لأنّه لم يكن في وهم عاقل قبول علىّ عليه السّلام لها خصوصا زمان خلافته، و ذلك أنّ مطلوب العاقل منه بالهديّة إمّا حقّ أو باطل، و الحقّ لا يحتاج فيه إلى الهديّة و الباطل لا يفعله بوجه، و لذلك لمّا قال له الطارق: إنّها هديّة. دعا عليه و نسبه إلى الجنون و الهذيان، و لمّا قسّم عليه وجوب البرّ أبطل قسمين منها بقوله: فذلك محرّم علينا أهل البيت. و أراد الصدقة و الزكاة.
و أمّا صلة الرحم فلم يحتجّ إلى إبطالها لأنّ الطارق لم يكن ذا رحم له، و قول الطارق: لا هذا و لا ذاك. يجرى في مجرى إبطال الحصر بإبراز قسم رابع‏ هو الهديّة. و قوله: هبلتك الهبول. إلى قوله: تهجر. جواب لقوله: و لكنّها هديّة. قرّر عليه فيه ما فهمه من غرضه بالهديّة، و هو خداعه عن دينه. إذا الهديّه لغرض حرام صورة استغرار و خداع، و ذكر الخداع عن الدين تنفيرا لصاحب الهدية عن فعله ذلك، و لمّا كان ذلك الأمر لو تمّ الغرض به استلزم نقصان الدين كالخداع عن الدين فأطلق عليه لفظة الخداع استعارة. و قوله: أ مختبط أم ذو جنّة أم تهجر. استفهام على سبيل الإنكار و التوبيخ على ذلك الخداع بعد تقريره عليه.
إذ كان المخادع لمثله عليه السّلام عن دينه لا يكون إلّا على أحد الوجوه المذكورة غالبا و لا يتصوّر أن يصدر منه ذلك الخداع عن رويّة صحيحة، و قد ذكر وجوه الخروج عن الصواب ممّا يتعلّق بالعقل. و قوله: و اللّه. إلى قوله: ما فعلت. يحتمل أن يكون ردّا لوهم الطارق فيه أنّه يفعل مطلوبه الحرام بتلك الهديّة، و إبطال لذلك الوهم عنه. و الأقاليم السبعة: أقسام الأرض، و هو دليل منه على غاية العدل. و قوله: و إنّ دنياكم. إلى قوله: تقضمها. دليل على غاية الزهد منه في الدنيا كقوله في الشقشقيّة: و لألفيتم دنياكم هذه أهون عندى من عفطة عنز. و قوله: ما لعلىّ و لنعيم يفنى و لذّة لا تبقى. استفهام إنكار لملامته نعيم الدنيا و لذّاتها الفانية، و المعنى أنّ حال علىّ ينافي ذلك النعيم، و اختياره يضادّ تلك اللذّة. ثمّ تعوّذ باللّه من سبات العقل و هى اختياراته لتلك اللذّات و لذلك النعيم و ميله في مطاوعة النفس الأمّارة بالسوء، و من قبح الزلل و هو الانحراف عن سبيل اللّه الموقع في مهاوى الهلاك، و استعان به على دفع ما تعوّذ به منه. و باللّه التوفيق و العصمة.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحه‏ى 83

 

خطبه 214 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام قاله عند تلاوته يا أيها الانسان ما غرك بربك الكريم

أَدْحَضُ مَسْئُولٍ حُجَّةً وَ أَقْطَعُ مُغْتَرٍّ مَعْذِرَةً- لَقَدْ أَبْرَحَ جَهَالَةً بِنَفْسِهِ- يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا جَرَّأَكَ عَلَى ذَنْبِكَ- وَ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ وَ مَا أَنَّسَكَ بِهَلَكَةِ نَفْسِكَ- أَ مَا مِنْ دَائِكَ بُلُولٌ أَمْ لَيْسَ مِنْ نَوْمِكَ يَقَظَةٌ- أَ مَا تَرْحَمُ مِنْ نَفْسِكَ‏ مَا تَرْحَمُ مِنْ غَيْرِكَ- فَلَرُبَّمَا تَرَى الضَّاحِيَ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ فَتُظِلُّهُ- أَوْ تَرَى الْمُبْتَلَى بِأَلَمٍ يُمِضُّ جَسَدَهُ فَتَبْكِي رَحْمَةً لَهُ- فَمَا صَبَّرَكَ عَلَى دَائِكَ وَ جَلَّدَكَ عَلَى بِمُصَابِكَ وَ عَزَّاكَ عَنِ الْبُكَاءِ عَلَى نَفْسِكَ- وَ هِيَ أَعَزُّ الْأَنْفُسِ عَلَيْكَ- وَ كَيْفَ لَا يُوقِظُكَ خَوْفُ بَيَاتِ نِقْمَةٍ- وَ قَدْ تَوَرَّطْتَ بِمَعَاصِيهِ مَدَارِجَ سَطَوَاتِهِ- فَتَدَاوَ مِنْ دَاءِ الْفَتْرَةِ فِي قَلْبِكَ بِعَزِيمَةٍ- وَ مِنْ كَرَى الْغَفْلَةِ فِي نَاظِرِكَ بِيَقَظَةٍ- وَ كُنْ لِلَّهِ مُطِيعاً وَ بِذِكْرِهِ آنِساً- وَ تَمَثَّلْ فِي حَالِ تَوَلِّيكَ عَنْهُ- إِقْبَالَهُ عَلَيْكَ يَدْعُوكَ إِلَى عَفْوِهِ- وَ يَتَغَمَّدُكَ بِفَضْلِهِ وَ أَنْتَ مُتَوَلٍّ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ- فَتَعَالَى مِنْ قَوِيٍّ مَا أَكْرَمَهُ- وَ تَوَاضَعْتَ مِنْ ضَعِيفٍ مَا أَجْرَأَكَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ- وَ أَنْتَ فِي كَنَفِ سِتْرِهِ مُقِيمٌ- وَ فِي سَعَةِ فَضْلِهِ مُتَقَلِّبٌ- فَلَمْ يَمْنَعْكَ فَضْلَهُ وَ لَمْ يَهْتِكْ عَنْكَ سِتْرَهُ- بَلْ لَمْ تَخْلُ مِنْ لُطْفِهِ مَطْرَفَ عَيْنٍ- فِي نِعْمَةٍ يُحْدِثُهَا لَكَ أَوْ سَيِّئَةٍ يَسْتُرُهَا عَلَيْكَ- أَوْ بَلِيَّةٍ يَصْرِفُهَا عَنْكَ فَمَا ظَنُّكَ بِهِ لَوْ أَطَعْتَهُ- وَ ايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ كَانَتْ فِي مُتَّفِقَيْنِ فِي الْقُوَّةِ- مُتَوَازِيَيْنِ فِي الْقُدْرَةِ- لَكُنْتَ أَوَّلَ حَاكِمٍ عَلَى نَفْسِكَ بِذَمِيمِ الْأَخْلَاقِ- وَ مَسَاوِئِ الْأَعْمَالِ- وَ حَقّاً أَقُولُ مَا الدُّنْيَا غَرَّتْكَ وَ لَكِنْ بِهَا اغْتَرَرْتَ- وَ لَقَدْ كَاشَفَتْكَ الْعِظَاتِ وَ آذَنَتْكَ عَلَى سَوَاءٍ- وَ لَهِيَ بِمَا تَعِدُكَ مِنْ نُزُولِ الْبَلَاءِ بِجِسْمِكَ- وَ النَّقْصِ فِي قُوَّتِكَ أَصْدَقُ وَ أَوْفَى مِنْ أَنْ‏ تَكْذِبَكَ أَوْ تَغُرَّكَ- وَ لَرُبَّ نَاصِحٍ لَهَا عِنْدَكَ مُتَّهَمٌ- وَ صَادِقٍ مِنْ خَبَرِهَا مُكَذَّبٌ- وَ لَئِنْ تَعَرَّفْتَهَا فِي الدِّيَارِ الْخَاوِيَةِ وَ الرُّبُوعِ الْخَالِيَةِ- لَتَجِدَنَّهَا مِنْ حُسْنِ تَذْكِيرِكَ- وَ بَلَاغِ مَوْعِظَتِكَ- بِمَحَلَّةِ الشَّفِيقِ عَلَيْكَ وَ الشَّحِيحِ بِكَ- وَ لَنِعْمَ دَارُ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِهَا دَاراً- وَ مَحَلُّ مَنْ لَمْ يُوَطِّنْهَا مَحَلًّا- وَ إِنَّ السُّعَدَاءَ بِالدُّنْيَا غَداً هُمُ الْهَارِبُونَ مِنْهَا الْيَوْمَ- إِذَا رَجَفَتِ الرَّاجِفَةُ وَ حَقَّتْ بِجَلَائِلِهَا الْقِيَامَةُ- وَ لَحِقَ بِكُلِّ مَنْسَكٍ أَهْلُهُ وَ بِكُلِّ مَعْبُودٍ عَبَدَتُهُ- وَ بِكُلِّ مُطَاعٍ أَهْلُ طَاعَتِهِ- فَلَمْ يُجْزَ فِي عَدْلِهِ وَ قِسْطِهِ يَوْمَئِذٍ خَرْقُ بَصَرٍ فِي الْهَوَاءِ- وَ لَا هَمْسُ قَدَمٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا بِحَقِّهِ- فَكَمْ حُجَّةٍ يَوْمَ ذَاكَ دَاحِضَةٌ- وَ عَلَائِقِ عُذْرٍ مُنْقَطِعَةٌ- فَتَحَرَّ مِنْ أَمْرِكَ مَا يَقُومُ بِهِ عُذْرُكَ وَ تَثْبُتُ بِهِ حُجَّتُكَ- وَ خُذْ مَا يَبْقَى لَكَ مِمَّا لَا تَبْقَى لَهُ- وَ تَيَسَّرْ لِسَفَرِكَ وَ شِمْ بَرْقَ النَّجَاةِ وَ ارْحَلْ مَطَايَا التَّشْمِيرِ

اللغة
أقول: حجّة داحضة: باطلة.

و أبرح جهالة بنفسه: أى بالغ في تحصيل جهالتها و أعجبه ذلك.

و البلول: الصحّة.

و الضاحى: البارز للشمس.

و الممضّ: المؤلم.

و السطوة: البطش و القهر، و السطوة المرّة منه و الجمع سطوات.

و التجلّد: التقوّى و التصبّر.

و الورطة: الهلاك. و تعمّدك: قصدك.

و الكنف: الحياطة.

و الكنف: الجانب.

و آذنك: أعلمك.

و المنسك: موضع العبادة، و أصله كلّ موضع يتردّد إليه و يقصد.

و التحرّى: طلب الأحرى و الأولى.

و شم‏ برق النجاة: أى أنظر إليه.

المعنى

فقوله: أدحض. خبر مبتداء محذوف و التقدير الإنسان عند سؤال ربّه له ما غرّك بربّك الكريم أدحض مسئول حجّة، و أشدّه انقطاعا في عذره. و مبالغته في تجهيل نفسه: كثرة إمهالها في متابعة هواها و تركها عن الإصلاح، و المنصوبات الثلاثة مميّزات. و قوله: يا أيّها الإنسان. إلى قوله: بهلكة نفسك. استفهامات عن أسباب جرأته على الذنوب و أسباب غرّته بربّه و غفلته عن شدّة بأسه و عن أسباب انسه بهلكة نفسه بتوريطها في المعاصى معها استفهاما على سبيل التقريع و التوبيخ، و يحتمل أن يكون قوله: ما آنسك. تعجّبا، و كذلك الاستفهام عن بلوله من داء الجهل و يقظته من نوم الغفلة و رحمته لنفسه كما يرحم غيرها إلّا أنّ الاستفهامات الثلاثة الأولى يطلب فيها تصوّر تلك الأسباب و فهم حقيقتها على سبيل تجاهل العارف، و في هذه الثلاثة الأخيرة يطلب فيها التصديق. ثمّ نبّه على وجوب رحمته لنفسه كما يرحم غيرها بقوله: فلربّما ترى الضاحى.
إلى قوله: رحمة له، و هى في قوّة صغرى قياس احتجّ به، و وجه ذلك أنّك قد ترحم من تراه في حرّ الشمس فتظلّه أو مبتلى بألم فتبكى رحمة له، و كلّ من كان كذلك فأولى أن يرحم لنفسه بانقاذها من بلاء تقع فيه. ينتج إنّك أولى أن ترحم نفسك من دائها. و قوله: فما صبّرك. إلى قوله: الأنفس عليك. استفهام عن أسباب صبره على دائه و تجلّده على مصائبه الّتي تلحقه بسبب ذلك الداء و تعزيّه عن البكاء على نفسه و على أعزّ الأنفس عليه استفهام توبيخ و لائمة حسنها بعد ذلك الاحتجاج ظاهر، و نبّه بقوله: و كيف لا يوقظك. إلى قوله: سطواته. على بعض أسباب اليقظة لعظمة اللّه عن الغفلة عنها و هى خوف بيات نقمه أن يوقعها به ليلا كقوله تعالى أَ فَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى‏ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَ هُمْ‏
نائِمُونَ«» و مدارج سطواته مجارى بطشه و قهره و هى محالّ المعاصى و أسبابها.
و التورّط فيها: الحصول فيها المستلزم للهلاك الاخروىّ. و قوله: فتداو. إلى قوله: بيقظة. تنبيه على الدواء من الفترة في القلب عن ذكر اللّه و هو العزيمة على طاعته و الإجماع على ملازمة ذكره، و من نوم الغفلة في ناظر القلب عن ذلك باليقظة له. ثمّ أمر بما ينبغي أن يكون تلك العزيمة عليه و تلك اليقظة له و هما طاعة اللّه و تحصيل الانس بدوام ذكره. و قوله: و تمثّل. إلى قوله: يصرفها عنك. تنبيه له على ضروب نعم اللّه عليه و مقابلته لها بالكفران و المعصية لعلّه يتذكّر أو يخشى فأمره أن يتمثّل في ذهنه في حال إعراضه عن ربّه و انهما كه في معصيته إقباله عليه بضروب نعمه من دعوته له بكلامه على ألسنة خواصّ رسله إلى عفوه و تعمّده إيّاه بفضله و إقامته في كنف ستره و تقلّبه في سعة فضله لم يمنعه فضله و لاهتك عنه ستره لمقابلته تلك النعم بالكفران و المعصية بل لم يخل من لطفه مقدار طرفة عين، و ذلك الطف في نعمة يحدثها له أو سيّئة يسترها عليه أو بليّة يصرفها عنه. فأحسن بهذا التنبيه فإنّ استحضار ذهن العاقل بضروب هذه النعم في حال الإقبال على المعصية من أقوى الجواذب إلى اللّه عنها، و إنّما قال: و تمثّل. لأنّ الحاضر في الذهن ليس هو نفس إقبال اللّه على العبد بل معناه و مثاله. و يدعوه: في موضع الحال، و كذلك الواو في قوله: و أنت. و الملازمة أنّ فضله كان عليك حال معصيتك له كثيرا كما تقدّم بيانه فبالطريق الأولى أن يتمّ فضله عليك حال طاعتك إيّاه و حسن ظنّك به.
و قوله: و أيم اللّه. إلى قوله: الأعمال. أى لو كان هذا الوصف الّذي ذكرناه من إقبال اللّه عليك بضروب نعمه و مقابلتك له بالإعراض عنه و الإقبال على معاصيه وصف مثلين من الناس في القوّة و القدرة و المنزلة و كنت أنت المسي‏ء منهما لكان فيما ينبغي لك من الحياء و الأنفة أن تكون أوّل حاكم على نفسك بتقصيرها و ذميم أخلاقها و مقابح أعمالها. وهو صورة احتجاج يقرّر عليه مساوى أعماله و يجذبه بذلك إلى تبديلها بمحاسنها في قياس ضمير من الشكل الأوّل ذكر في الكلام صغراه. تلخيصها: أنّك أوّل حاكم على نفسك بتقصيرها على تقدير أن يكون موليك هذه النعم مثلا لك، و تقدير الكبرى و كلّ من كان كذلك فأولى به أن يكون أوّل حاكم عليها بتقصيرها على تقدير أن يكون موليه تلك النعم خالقه و مالك رقّه، و ينتج أنّ الأولى بك أن يكون أوّل حاكم على نفسك بتقصيرها على تقدير أن يكون مولى تلك النعم خالقك و مالك رقّك. و قوله: و حقّا أقول: ما الدنيا غرّتك و لكن بها اغتررت. تقدير منع لما عساه أن يجيب به الناس سؤاله تعالى إيّاهم بقوله: ما غرّك بربّك، و هو كثير في كلامهم: إنّ الدنيا هى الغارّة، و كما نسب القرآن الكريم إليها ذلك بقوله وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا و كلامه عليه السّلام حقّ من وجهين: أحدهما: أنّ الاستغرار من لواحق العقل و ليست الدنيا لها العقل، و الثاني: أنّها لم تخلق لأنّ يستغرّ بها. إذ كان مقصد العناية الإلهيّة بوجود الإنسان فيها فلا يجوز أن ينسب إليها الاستغرار حقيقة لكن لمّا كانت سببا ماديّا للاغترار بها جاز أن ينسب إليها الاستغرار مجازا، و صدق قوله أيضا: و لكن بها اغتررت. و قوله: و لقد كاشفتك العظات. تقرير لمنع نسبة الاستغرار إليها بنسبة ضدّه إليها و هو النصيحة له بما كاشفته بالمواعظ و هى محالّ الاتّعاظ من تصاريفها و عبرها، و بمجاهرتها و إعلامها على عدل منها. إذ خلقت لذلك التغيير و الإعلام و على ذلك التصريف و لم يمكن أن يكون إلّا كذلك فلم يكن تصاريفها بك جورا عليك. و قوله: و لهى بما تعدك. إلى قوله: تغرّك.

زياده تأكيد لنصيحتها و تخويف منها، و استعار لفظ الوعد لإشعارها في تغييراتها بما يتوقّع من مصائبها كما أنّ الوعد إشعار بإعطاء مطلوب، و استعمل الوعد في مكان الوعيد مجازا إطلاقا لاسم أحد الضدّين على الآخر كتسمية السيّئة جزاء، و كذلك استعار لها لفظ الصدق و الوفاء ملاحظة لشبهها بالصادق الوفّى في أنّه لا بدّ من إيقاع ما وعد به.
و قوله: أصدق و أوفى. مع قوله: من أن تكذبك أو تغرّك. من باب اللفّ و النشر و فيه المقابلة. و قوله: و لربّ. إلى قوله: مكذّب. تقرير لبعض لوازم الغفلة عليه و هى تهمته للمناصح منها و تكذيبه لصادق خبرها، و أطلق لفظ التهمة و التكذيب مجازا في عدم الالتفات إلى نصيحتها بتصاريفها و ما يعلم من صادق تغيّراتها و عدم اعتبار ذلك منها إطلاقا لاسم ذى الغاية على غايته، و كانت غاية التهمة و التكذيب عدم الالتفات إلى المتّهم و المكذّب و الإعراض عنها. و قوله: و لئن تعرّفتها. إلى قوله. الشحيح بك، صورة احتجاج نبّه فيه على صدقها في نصيحتها كى تستنصح و لا تتّهم، و هو بقياس شرطيّ متّصل، و تقريره و لئن تعرّفتها: أى طلبت معرفة حالها في نصيحتها و غشّها من الديار الخاوية و الربوع الخالية للامم السالفة و القرون الماضية لتعرّفتها بمنزلة الشفيق عليك و الشحيح بك، و وجه شبهها بذلك حسن تذكّرها لك و بلاغ موعظتك و عبرتك منها كما أنّ الناصح الشفيق عليك، و بيان الملازمة بحال الوجدان بعد تعرّفها. و الاستثناء في هذه المتّصلة لعين المقدّم لينتج عين التالى. و قوله: و لنعم. إلى قوله: محلّا. مدح للدنيا باعتبار استعمالها على الوجه المقصود بالعناية الإلهيّة و هو الاعتبار بها دون الرضا بها لذاتها و اتّخاذها وطنا و دار إقامة، و اسم نعم هو دارمن لم يرض، و المخصوص بالمدح هو الدنيا، و دارا و محلا منصوبان على التميز يقومان مقام اسم الجنس الّذي هو اسم نعم إذا حذف، و هاهنا مسئلتان: إحداهما: أنّ اسم الجنس الّذي هو اسم نعم و بئس تضاف في العادة إلى ما فيه الألف و اللام كقولك: نعم صاحب القوم، و قد أضافه هاهنا إلى ما ليس فيه الألف و اللام، و قد جاء مثله في الشعر كقوله: فنعم صاحب قوم لا سلاح لهم.

الثانية: أنّه جمع بين اسم الجنس و النكرة الّتي تبدل منه، و قد جاء مثله في قوله: فنعم الزاد زاد أبيك زادا، و إنّما أضاف دارا إلى من لم يرض بها، و محلّا إلى من لم يوطّنها لأنّ الدنيا إنّما يكون دارا ممدوحة باعتبار كونها دار من لم يرض بها و لم يوطنّها لاستلزام عدم رضاهم بها الانتفاع بالعبر بها و اتّخاذ زاد التقوى، و اولئك هم المتّقون السعداء بها. و يحتمل أن يكون دارا و محلّا منصوبين على التميز عن قوله: لم يرض بها و لم يوطّنها. و قوله: و إنّ السعداء بالدنيا غدا هم الهاربون منها اليوم. فوجه سعادتهم بها استثمارهم للكمالات المسعدة في الآخرة منها، و لن يحصل ذلك إلّا بالهرب منها اليوم، و كنّى بالهرب منها عن الإعراض الحقيقى عن لذّاتها، و التباعد من اقتنائها و لذّاتها لاستلزام الهرب عن الشي‏ء التباعد عنه و الزهد فيه، و ظاهر أنّ التباعد منها بالقلوب إلّا ما دعت الضرورة إليه و اتّخاذها مع ذلك سببا إلى الآخرة من أسباب السعادة و مستلزماتها كما أشار إليه سيّد المرسلين صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من حاله فيها بقوله: ما أنا و الدنيا إنّما مثلى فيها كمثل راكب سار في يوم صايف فرفعت له شجرة فنزل فقعد في ظلّها ساعة ثمّ راح و تركها. و دلّ بقوله: إذا رجفت. على الوقت المذكور المدلول عليه بقوله: غدا. و هو يوم القيامة لقوله تعالى يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ«» قال المفسّرون: الراجفة: هى النفخة الاولى في الصور و هى صيحة عظيمة فيها تردّد و اضطراب كالرعد يصعق فيها الخلايق و تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ و هى النفخة الثانية تردف الأوّل. و جلائل القيامة: محنها الجليلة العظيمة. و قوله: و لحق بكلّ منسك أهله. إشارة إلى لحقوق كلّ نفس يوم القيامة لعبودها و مطاعها و ما ألفته و أحبّته من أمر دنيوىّ أو اخروىّ فأقبلت عليه و عملت له، و نحوه أشار الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يحشر المرء مع من أحبّ، و لو أحبّ أحدكم حجرا لحشر معه. و قوله: فلم يجز. إلى قوله: بحقّه. تقرير لعدله تعالى في ذلك اليوم. و المعنى أنّ كلّ حركة و لو طرفة عين في الهواء أو همس قدم في الأرض فإنّها لا تجرى في عدله إلّا بحقّها لا يزاد عليه و لا ينقص عنه. ثمّ أشار إلى كثرة الحجج الباطلة يومئذ و الأعذار المنقطعة ترغيبا في تحصيل الكمالات البرهانيّة و لزوم آثار المرسلين و الأولياء الأبرار في سلوك سبيل اللّه، و إنّما ذكر مخاوف ذلك اليوم و أهواله بعد ذكر السعداء فيه و تعيين أنّهم هم الهاربون من الدنيا اليوم ليرغّب إلى الاقتداء بهم في ذلك الهرب لغاية تلك السعادة. ثمّ أمر أن يطلب الإنسان من اموره و أحواله أحراها و أولاها ممّا يقوم به عذره في ذلك اليوم و تثبت به حجّته في محفل القيامة، و ذلك الأمر هو ما أشرنا إليه من البرهان و اقتفاء أثر المرسلين، و كذلك أمره أن يأخذ ما يبقى له من الكمالات المسعدة في الآخرة ممّا لا يبقى له و هو الدنيا و متاعها، و قد بيّنا كيفيّة ذلك الأخذ غير مرّة، و أن تيسّر لسفره: أى يستعدّ لسفره إلى اللّه بالرياضة بالزهد و العبادة، و أن يشيم برق النجاة: أى يوجّه سرّه إلى اللّه تعالى بعد الزهد الحقيقى و العبادة الكاسرة للنفس الأمّارة بالسوء لتشرق لوامع الأنوار الإلهيّة و بروقها الّتى هى بروق النجاة و أبواب السلامة كما أشار إليه فيما قبل هذا الفصل بفصلين بقوله: و تدافعته الأبواب إلى باب السلامة، و أن يرحل مطايا التشمير و هو إشارة إلى الجدّ في سلوك سبيل اللّه و الاجتهاد في العمل لما بعد الموت، و استعار لفط المطايا لآلات العمل، و لفظ الإرحال لإعمالها، و باللّه التوفيق.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی) ، ج 4 ، صفحه‏ ى 75

 

خطبه 213 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام قاله عند تلاوته: رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَ لَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ
إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى جَعَلَ الذِّكْرَ جِلاءً لِلْقُلُوبِ- تَسْمَعُ بِهِ بَعْدَ الْوَقْرَةِ وَ تُبْصِرُ بِهِ بَعْدَ الْعَشْوَةِ- وَ تَنْقَادُ بِهِ بَعْدَ الْمُعَانَدَةِ- وَ مَا بَرِحَ لِلَّهِ عَزَّتْ آلَاؤُهُ فِي الْبُرْهَةِ بَعْدَ الْبُرْهَةِ- وَ فِي أَزْمَانِ الْفَتَرَاتِ عِبَادٌ نَاجَاهُمْ فِي فِكْرِهِمْ- وَ كَلَّمَهُمْ فِي ذَاتِ عُقُولِهِمْ- فَاسْتَصْبَحُوا بِنُورِ يَقَظَةٍ فِي الْأَبْصَارِ وَ الْأَسْمَاعِ وَ الْأَفْئِدَةِ- يُذَكِّرُونَ بِأَيَّامِ اللَّهِ وَ يُخَوِّفُونَ مَقَامَهُ- بِمَنْزِلَةِ الْأَدِلَّةِ فِي الْفَلَوَاتِ- مَنْ أَخَذَ الْقَصْدَ حَمِدُوا إِلَيْهِ طَرِيقَهُ وَ بَشَّرُوهُ بِالنَّجَاةِ- وَ مَنْ أَخَذَ يَمِيناً وَ شِمَالًا ذَمُّوا إِلَيْهِ الطَّرِيقَ- وَ حَذَّرُوهُ مِنَ الْهَلَكَةِ- وَ كَانُوا كَذَلِكَ مَصَابِيحَ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ- وَ أَدِلَّةَ تِلْكَ الشُّبُهَاتِ- وَ إِنَّ لِلذِّكْرِ لَأَهْلًا أَخَذُوهُ مِنَ الدُّنْيَا بَدَلًا- فَلَمْ تَشْغَلْهُمْ تِجَارَةٌ وَ لَا بَيْعٌ عَنْهُ- يَقْطَعُونَ بِهِ أَيَّامَ الْحَيَاةِ- وَ يَهْتِفُونَ بِالزَّوَاجِرِ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فِي أَسْمَاعِ الْغَافِلِينَ- وَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ وَ يَأْتَمِرُونَ بِهِ- وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْهُ- فَكَأَنَّمَا قَطَعُوا الدُّنْيَا إِلَى الْآخِرَةِ وَ هُمْ فِيهَا- فَشَاهَدُوا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ- فَكَأَنَّمَا اطَّلَعُوا غُيُوبَ أَهْلِ الْبَرْزَخِ فِي طُولِ الْإِقَامَةِ فِيهِ- وَ حَقَّقَتِ الْقِيَامَةُ عَلَيْهِمْ عِدَاتِهَا- فَكَشَفُوا غِطَاءَ ذَلِكَ لِأَهْلِ الدُّنْيَا- حَتَّى كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَ مَا لَا يَرَى النَّاسُ وَ يَسْمَعُونَ مَا لَا يَسْمَعُونَ- فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ لِعَقْلِكَ فِي مَقَاوِمِهِمُ الْمَحْمُودَةِ- وَ مَجَالِسِهِمُ الْمَشْهُودَةِ- وَ قَدْ نَشَرُوا دَوَاوِينَ أَعْمَالِهِمْ- وَ فَرَغُوا لِمُحَاسَبَةِ أَنْفُسِهِمْ عَلَى كُلِّ صَغِيرَةٍ وَ كَبِيرَةٍ- أُمِرُوا بِهَا فَقَصَّرُوا عَنْهَا أَوْ نُهُوا عَنْهَا فَفَرَّطُوا فيهَا وَ حَمَّلُوا ثِقَلَ أَوْزَاِرِهمْ ظُهُورَهُمْ- فَضَعُفُوا عَنِ الِاسْتِقْلَالِ بِهَا- فَنَشَجُوا نَشِيجاً وَ تَجَاوَبُوا نَحِيباً- يَعِجُّونَ إِلَى رَبِّهِمْ مِنْ مَقَامِ نَدَمٍ وَ اعْتِرَافٍ- لَرَأَيْتَ أَعْلَامَ هُدًى وَ مَصَابِيحَ دُجًى- قَدْ حَفَّتْ بِهِمُ الْمَلَائِكَةُ- وَ تَنَزَّلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ- وَ فُتِحَتْ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَ أُعِدَّتْ لَهُمْ مَقَاعِدُ الْكَرَامَاتِ- فِي مَقْعَدٍ اطَّلَعَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فِيهِ- فَرَضِيَ سَعْيَهُمْ وَ حَمِدَ مَقَامَهُمْ- يَتَنَسَّمُونَ بِدُعَائِهِ رَوْحَ التَّجَاوُزِ- رَهَائِنُ فَاقَةٍ إِلَى فَضْلِهِ وَ أُسَارَى ذِلَّةٍ لِعَظَمَتِهِ- جَرَحَ طُولُ الْأَسَى قُلُوبَهُمْ وَ طُولُ الْبُكَاءِ عُيُونَهُمْ- لِكُلِّ بَابِ رَغْبَةٍ إِلَى اللَّهِ مِنْهُمْ يَدٌ قَارِعَةٌ- يَسْأَلُونَ مَنْ لَا تَضِيقُ لَدَيْهِ الْمَنَادِحُ- وَ لَا يَخِيبُ عَلَيْهِ الرَّاغِبُونَ- فَحَاسِبْ نَفْسَكَ لِنَفْسِكَ فَإِنَّ غَيْرَهَا مِنَ الْأَنْفُسِ لَهَا حَسِيبٌ غَيْرُكَ

اللغة

أقول: الوقرة: الغفلة من الوقر و هو الصمم.

و العشوة: الغفلة من العشاء و هو ظلمة العين بالليل دون النهار.

و البرهة: المدّة الطويلة من الزمان.

و يهتفون: يصيحون.

و البرزخ: ما بعد الموت من مكان و زمان.

و النشج: الصوت في ترديد النفس عند البكاء.

و المنادح: جمع مندح و هو المتّسع.

المعنى
فقوله: إنّ اللّه سبحانه. إلى قوله: بعد المعاندة.

إنّما يتّضح بالإشارة إلى الذكر و فضيلته و فائدته: الذكر هو القرآن الكريم لقوله تعالى وَ هذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ«» و نحوه، و قيل: هو إشارة إلى تحميده تعالى و تسبيحه و تكبيره و تهليله و الثناء عليه و نحو ذلك، و أمّا فضيلته فمن القرآن قوله تعالى فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ«» و قوله اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً«» و قوله فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ«» الآية، و قوله فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ«» الآية. و أمّا من الأخبار فقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ذاكر اللّه في الغافلين كالمقاتل في الفارّين، و قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يقول اللّه: أنا مع عبدى ما ذكرنى و تحرّكت بى شفتاه، و قوله: ما عمل ابن آدم من عمل أنجى له من عذاب اللّه من ذكر اللّه. قالوا: يا رسول اللّه و لا الجهاد في سبيل اللّه. قال: و لا الجهاد في سبيل اللّه إلّا أن تضرب بسيفك إلى أن ينقطع ثمّ تضرب به حتّى ينقطع- ثلاثا- و قوله: من أحبّ أن يرتع في رياض الجنّة فليكثر منه ذكر اللّه. و نحو ذلك. فأمّا فائدته: فاعلم أنّ المؤثّر من الذكر و النافع منه ما كان على الدوام أو في أكثر الأوقات مع حضور القلب، و بدونهما فهو قليل الجدوى. و بذينك الاعتبارين هو المقدّم على ساير العبادات بل هو روح العبادات العمليّة و غاية ثمرتها، و له أوّل يوجب الانس باللّه و آخر يوجبه الانس باللّه، و ذلك أنّ المريد في مبدء أمره قد يكون متكلّفا لذكر أمر ليصرف إليه قلبه و لسانه عن الوسواس فإن وفّق للمداومة أنس به و انغرس في قلبه حبّ المذكور، و ممّا ينبّه على ذلك أنّ أحدنا يمدح بين يديه شخص و يذكر بحميد الخصال فيحبّه و يعشقه بالوصف و كثرة الذكر ثمّ إذا عشق بكثرة الذكر اضطرّ إلى كثرة الذكر آخرا بحيث لا يصبر عنه فإنّ من أحبّ شيئا أكثر ذكره و من أكثر من ذكر شي‏ء و إن كان متكلّفا أحبّه، و قد شاهدنا ذلك كثيرا.
كذلك أوّل ذكر اللّه متكلّف إلى أن يثمر الانس به و الحبّ له. ثمّ يمتنع الصبر عنه آخرا فيثمر الثمرة، و لذلك قال بعضهم: كابدت القرآن عشرين سنة. ثمّ تنعّمت به عشرين سنة. و لا يصدر التنعّم إلّا عن الانس و الحبّ و لا يصدر الانس إلّا من المداومة على المكابدة حتّى يصير التكلّف طبعا. ثمّ إذا حصل الانس باللّه انقطع عن غير اللّه، و ما سوى اللّه يفارقه عند الموت فلا تبقى معه في القبر أهل و لا مال و لا ولد و لا ولاية و لا تبقى إلّا المحبوب المذكور فيتمتّع به و يتلذّذ بانقطاع العوائق الصارفة عنه من أسباب الدنيا و محبوباتها. إذا عرفت ذلك فقوله: جعله جلاء. إشارة إلى فائدته و هى استعداد النفوس بمداومته على الوجه الّذي ذكرناه لمحبّة المذكور و الإعراض عمّا سواه، و استعار لفظ الجلاء لإزالة كلّ ما سوا المذكور عن لوح القلب بالذكر كما يزال خبث المرآة بالصقال، و تجوّز بلفظ السمع في إقبالها على ما ينبغي أن يسمع من أوامر اللّه و نواهيه و ساير كلامه، و الوقرة لإعراضها عنها، و كذلك بلفظ البصر في إدراكها للحقايق و ما ينبغي لها، و لفظ العشوة لعدم ذلك الإدراك إطلاقا في المجازات الأربعة لاسم السبب على المسبّب. و انقياد هاله: أي للحقّ، و سلوك طريقه بعد المعاندة فيه و الانحراف عنه. و قوله: و ما برح. إلى قوله: عقولهم. إشارة إلى أنّه لم يخلو المدد و أزمان الفترات قطّ من عباد اللّه و أولياء له و ألهمهم معرفته و أفاض على أفكارهم و عقولهم صور الحقّ و كيفيّة الهداية إليه مكاشفة، و تلك الإفاضة و الإلهام هو المراد بالمناجات و التكلّم منه. و قوله: فاستصبحوا.
إلى قوله: و الأفئدة. أى استضاءوا بمصباح نور اليقظة، و اليقظة في الافئدة فطانتها و استعدادها الكامل لما ينبغي لها من الكمالات العقليّة، و نور تلك اليقظة هو ما يفاض عليها بسبب استعدادها بتلك الفطانة و يقظة الأبصار و الأسماع بتتّبعها لإبصار الامور النافعة المحصّلة منها عبرة و كمالا نفسانيّا و سماع النافع من الكلام، و أنوار اليقظه فيهما ما يحصل بسبب ذلك الإبصار و السماع من أنوار الكمالات النفسانيّة.

ثمّ شرع في وصف حالهم في هديهم لسبيل اللّه بأيّامه، و هى كناية عن شدايده النازلة بالماضين من الامم، و أصله أنّها يقع في الأيّام، و يحتمل أن يكون مجازا إطلاقا لاسم المحلّ على الحالّ، و مقام اللّه كناية عن عظمته و جلالته المستلزمة للهيبة و الخوف. و شبّههم بالأدلّة في الفلوات، و وجه الشبه كونهم هادين لسبيل اللّه كما تهدى الأدلّة، و كما أنّ الأدلّة تحمد من أخذ القصد في الطريق طريقه و تبشّره بالنجاة و من انحرف عنها يمينا و شمالا ذمّوا إليه طريقه و حذّروه من الهلكة كذلك الهداة إلى اللّه من سلك سبيل اللّه العدل إليه و قصد فيها حمدوا إليه طريقه و بشّروه بالنجاة من المهالك، و من انحرف عنها يمينا و شمالا: أى سلك أحد طرفي الإفراط و التفريط ذمّوا إليه مسلكه و حذّروه من الهلاك الأبديّ. و قوله: و كانوا كذلك. أى كما و صفناهم، و استعار لفظ المصابيح باعتبار إضاءتهم بكمالاتهم بطريق اللّه، و لفظ الأدلّة باعتبار هداهم إلى الحقّ و تمييزه عن شبهاب الباطل. و قوله: و إن للذكر لأهلا. إلى قوله: أيّام الحياة. فأهله هو من ذكرنا أنّهم اشتغلوا به حتّى أحبّوا المذكور و نسوا ما عداه من المحبوبات الدنيويّة، و إنّ من حبّ محبّة المذكور محبّة ذكره و ملازمته حتّى اتّخذوه بدلا من متاع الدنيا و طيّباتها و لم يشغلهم عنه تجارة و لا بيع و قطعوا به أيّام حياتهم الدنيا.
و قوله: و يهتفون. إلى قوله: و يتناهون عنه. إشارة إلى وجوه طاعتهم للّه و عبادتهم له و هى من ثمرات الذكر و محبّة المذكور لأنّ من أحبّ محبوبا سلك مسلكه و لم يخالف رسمه و كان له في ذلك الابتهاج و اللذّة. و قوله: فكأنّما قطعوا. إلى قوله: عداتها. تشبيه لهم في ثقتهم باللّه و بما جاءت به كتبه و رسله، و تحقّقهم لأحوال القيامة و وعدها و وعيدها بعين اليقين عن قطع الدنيا من أحوال أهل البرزخ وطول إقامتهم فيه فكشفوا غطاء تلك الأحوال لأهل الدنيا بالعبادات الواضحة و البيانات اللايحة حتّى كأنّهم في وصفهم لها عن صفاء سرائرهم و صقال جواهر نفوسهم بالرياضة التامّة يرون بأبصارهم ما لا يرى الناس، و يسمعون بآذانهم ما لا يسمعون الناس. إذ يخبرون عن مشاهدات و مسموعات لا يدركها الناس، و لمّا كان السبب في قصور النفوس عن إدراك أحوال الآخرة هو تعلّقها بهذه الأبدان و اشتغالها بتدبيرها و الانغماس في الهيئات الدنيويّة المكتسبة عنها، و كان هؤلاء الموصوفون قد غسلوا درن تلك الهيئات عن ألواح نفوسهم بمداومة ذكر اللّه و ملازمة الرياضة التامّة حتّى صارت نفوسهم كمرأى مجلوّة حوذى بها شطر الحقائق الإلهيّة فتجلّت و انتقشت بها لا جرم شاهدوا بعين اليقين سبيل النجاة و سبيل الهلاك و ما بينهما فسلكوا على بصيرة و هدوا الناس على يقين و أخبروا عن امور شاهدوها بأعين بصائرهم و سمعوا بآذان عقولهم فكأنّهم في وضوح ذلك لهم و ظهوره و إخبارهم عنه قد شاهدوا ما شاهده الناس بحواسّهم فشاهدوا ما لم يشاهده الناس و سمعوا ما لم يسمعوه. و قوله: فلو مثّلتهم بعقلك.
أى استحضرت صورهم و أعمالهم في مقاومهم المحمودة و مجالسهم المشهودة و هى مقامات العبادة و مجالسها. و دواوين أعمالهم: أذهانهم و ما ثبت فيها من أفعالهم. و نشرها: تتّبع نفوسهم بأفكارها و تخيّلاتها لصور تلك الأعمال و تصفّحها لها المشبّهة لتصفّح الأوراق. و الواو في قوله: و فرغوا لمحاسبة أنفسهم على كلّ صغيرة و كبيرة للبيان. ليستدعى بيان معنى المحاسبة، و لمّا كان معناها ليستدعى محاسبا حتّى يكون النظر معه في رأس المال في الربح و الخسران ليبيّن له الزيادة و النقصان، و إن كان من فضل حاصل استوفاه و إن كان من خسران طالبه بضمانه و كلّفه تداركه في المستقبل فكذلك العبد معامله نفسه الأمّارة بالسوء، و رأس ماله الفرائض و ربحه النوافل و الفضائل، و الخسران المعاصى، و موسم هذه التجارة جملة النهار فينبغى أن يكون للعبد في آخره ساعة يطالب بها نفسه و يحاسبها على جميع حركاتها و سكاناتها فإن كان قد أدّى الفرائض على وجهها شكر اللّه تعالى عليه و رغبّها في مثلها، و إن فوّتها من أصلها كلّفها بالقضاء، و إن أدّتها ناقصة كلّفها بالجبران بالنوافل، و إن ارتكب معصية اشتغل بعقابها و تعذيبها و معاتبتها و استوفى منها ما يتدارك به تفريطها كما يصنع التاجر بشريكه. و كما أنّه ينقش في حساب الدنيا عن الحبّة و القيراط فيحفظ مداخل الزيادة و النقصان كذلك ينبغي أن تتّقى خدعة النفس و مكرها فإنّها مخادعة مكّارة فليطالبها أوّلا بتصحيح الجواب عمّا تكلّم به طول نهاره و ليتولّى من حسابها بنفسه ما سيتولّاه غيره في محفل القيامة، و كذلك عن نظره و خواطره و أفكاره و قيامه و قعوده و أكله و شربه، و حتّى عن سكونه و سكوته. فإذا عرف أنّها أدّت الحقّ في الجميع كان ذلك القدر محسوبا له فيظهر بها الباقى و يقرّره عليها و يكتبه على صحيفة قلبه. ثمّ إنّ النفس غريم يمكن أن يستوفى منه الديون أمّا بعضها فبالغرامة و الضمان و بعضها بردّ عينها بالعقوبة لها على ذلك و لا يمكن شي‏ء من ذلك إلّا بعد تحقّق الحساب و تميّز باقى الحقّ الواجب عليه.
ثمّ يشتغل بعده بالمطالبة. و ينبغي أن يحاسب الإنسان النفس على جميع العمر يوما يوما و ساعة في جميع الأعضاء الظاهرة و الباطنة كما نقل عن توبة بن الصمة و كان بالرقّة و كان محاسبا لنفسه فحسب يوما فإذا هو ستّين سنة فحسب أيّامها فإذا أحد و عشرون ألف يوم و خمس مائة يوم فصرخ فقال: يا ويلتى ألقى الملك بأحد و عشرين ألف ذنب. ثمّ خرّ مغشيّا عليه فإذا هو ميّت فسمعوا قائلا يقول: يا لك ركضة إلى الفردوس الأعلى. فهكذا ينبغي أن تكون المحاسبة، و لو رمى العبد بكلّ معصية حصاة في داره لامتلأت داره في مدة يسيرة من عمره و لكنّه يتساهل في حفظها و الملكان يحفظان عليه كما قال تعالى أَحْصاهُ اللَّهُ وَ نَسُوهُ«».
إذا عرفت ذلك فقوله: و فرغوا لمحاسبة أنفسهم. إلى قوله: ندم و اعتراف. إشارة إلى حال وجدانهم عند محاسبة أنفسهم لتقصيرها و الخسران في رءوس‏ أموالهم الّتي هى الطاعات و نشيجهم و نحيبهم و عجّهم في الندم و الاعتراف بالذنب إشارة إلى حالهم في تدارك ذلك الخسران بالشروع في الجبران. فأوّل مقاماته التوبة و لوازمها المذكورة، ثمّ العمل. و قوله: لرأيت. إلى قوله: الراغبون. صفات أحوالهم المحمودة، و اللام في قوله: لرأيت. جواب لو في قوله: فلو مثّلهم، و استعار لهم لفظة الأعلام و المصابيح‏ باعتبار كونهم أدلّة إلى طريق اللّه و ذوى أنوار يستضاء بها فيها، و حفوف الملائكة بهم كناية عن إحاطة عنايتهم به، و ذلك لكمال استعدادهم لقبول الأنوار عن اللّه بواسطة الملائكة الكروبيّة و وجوب فيضها عليهم عنهم، و في ذلك الإشارة إلى إكرامهم بذلك. و قوله: و تنزّلت عليهم السكينة. إشارة إلى بلوغ استعداد نفوسهم لإفاضة السكينة عليها و هى المرتبة الثالثة من أحوال السالك بعد الطمأنينة، و ذلك أن تكثّر تلك البروق و اللوامع الّتي كانت تغشيه حتّى يصير ما كان مخوفا منها مألوفا، و كانت تحصل لا لمشيئة السالك فيصير حصولها بمشيئته و إرادته. و فتح أبواب السماء لهم إشارة إلى فتح أبواب سماء الجود الإلهىّ بإفاضة الكمالات عليهم كما قال تعالى فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ«» و مقاعد الكرامات مراتب الوصول إليه. و تلك المقاعد الّتي اطّلع اللّه تعالى عليهم فيها فرضى سعيهم بالأعمال الصالحة المبلّغة إليها، و حمد مقامهم فيها.

و قوله: يتنسّمون بدعائه روح التجاوز. أى يدعونه و يتوقّعون بدعائه تجاوزه عن ذنوبهم، و أن لا يجعل تقصيرهم فيما عساهم قصّروا فيه سببا لانقطاع فيضه، و قد علمت أنّ سيّئات هؤلاء يعود إلى ترك الأولى بهم. ثمّ استعار لهم لفظ الرهائن لكونهم في محلّ الحاجة إلى فضله لا معدول و لا ملجأ لهم عنه كالرهائن في يد المسترهن، و كذلك لفظ الاسارى،و وجه المشابهة كونهم في مقام الذلّة بحسب عظمته كالأسير بالنظر إلى عظمة من أسرّه. و قوله: جرح. إلى قوله: عيونهم. فذلك الجرح من لوازم اطّلاعهم على خيانة أنفسهم و خسرانهم في معاملتهم لها بعد محاسبتها. و قوله: لكلّ باب. إلى قوله: يد قارعة. أشار بقرعهم لكلّ باب من أبواب الرغبة إلى اللّه إلى توجيه أسرارهم و عقولهم إلى القبلة الحقيقيّة استشراقا لأنوار اللّه و استسماحا لجوده. و قوله: يسألون. إلى قوله: المنادح. إشارة إلى سعة جوده و فضله و أنّه أكرم الأكرمين ليتبيّن أنّه أحقّ مسئول بإعطاء سؤل و أولى مرغوب إليه بإسداء مرغوب. و قوله: فحاسب نفسك. إلى آخره. أى فتولّ أنت حساب نفسك. فإنّ حساب غيرها من النفوس و هى الّتي لم يحاسبها صاحبها يتولّاه غيرك و هو أسرع الحاسبين، و ذلك في معنى تهديد الإنسان على ترك محاسبة نفسه. و باللّه التوفيق.

شرح نهج ‏البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحه‏ى 66

 

خطبه 212 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام قاله بعد تلاوته: (ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر)
يَا لَهُ مَرَاماً مَا أَبْعَدَهُ وَ زَوْراً مَا أَغْفَلَهُ- وَ خَطَراً مَا أَفْظَعَهُ- لَقَدِ اسْتَخْلَوْا مِنْهُمْ أَيَّ مُدَّكِرٍ وَ تَنَاوَشُوهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ- أَ فَبِمَصَارِعِ آبَائِهِمْ يَفْخَرُونَ- أَمْ بِعَدِيدِ الْهَلْكَى يَتَكَاثَرُونَ يَرْتَجِعُونَ مِنْهُمْ أَجْسَاداً خَوَتْ وَ حَرَكَاتٍ سَكَنَتْ- وَ لَأَنْ يَكُونُوا عِبَراً أَحَقُّ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُفْتَخَراً- وَ لَأَنْ يَهْبِطُوا بِهِمْ جَنَابَ ذِلَّةٍ- أَحْجَى مِنْ أَنْ يَقُومُوا بِهِمْ مَقَامَ عِزَّةٍ- لَقَدْ نَظَرُوا إِلَيْهِمْ بِأَبْصَارِ الْعَشْوَةِ- وَ ضَرَبُوا مِنْهُمْ فِي غَمْرَةِ جَهَالَةٍ- وَ لَوِ اسْتَنْطَقُوا عَنْهُمْ عَرَصَاتِ تِلْكَ الدِّيَارِ الْخَاوِيَةِ- وَ الرُّبُوعِ الْخَالِيَةِ لَقَالَتْ- ذَهَبُوا فِي الْأَرْضِ ضُلَّالًا وَ ذَهَبْتُمْ فِي أَعْقَابِهِمْ جُهَّالًا- تَطَئُونَ فِي هَامِهِمْ وَ تَسْتَنْبِتُونَ فِي أَجْسَادِهِمْ- وَ تَرْتَعُونَ فِيمَا لَفَظُوا وَ تَسْكُنُونَ فِيمَا خَرَّبُوا- وَ إِنَّمَا الْأَيَّامُ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ بَوَاكٍ وَ نَوَائِحُ عَلَيْكُمْ- أُولَئِكُمْ سَلَفُ غَايَتِكُمْ وَ فُرَّاطُ مَنَاهِلِكُمْ- الَّذِينَ كَانَتْ لَهُمْ مَقَاوِمُ الْعِزِّ-وَ حَلَبَاتُ الْفَخْرِ مُلُوكاً وَ سُوَقاً سَلَكُوا فِي بُطُونِ الْبَرْزَخِ سَبِيلًا سُلِّطَتِ الْأَرْضُ عَلَيْهِمْ فِيهِ- فَأَكَلَتْ مِنْ لُحُومِهِمْ وَ شَرِبَتْ مِنْ دِمَائِهِمْ- فَأَصْبَحُوا فِي فَجَوَاتِ قُبُورِهِمْ جَمَاداً لَا يَنْمُونَ- وَ ضِمَاراً لَا يُوجَدُونَ- لَا يُفْزِعُهُمْ وُرُودُ الْأَهْوَالِ- وَ لَا يَحْزُنُهُمْ تَنَكُّرُ الْأَحْوَالِ- وَ لَا يَحْفِلُونَ بِالرَّوَاجِفِ وَ لَا يَأْذَنُونَ لِلْقَوَاصِفِ- غُيَّباً لَا يُنْتَظَرُونَ وَ شُهُوداً لَا يَحْضُرُونَ- وَ إِنَّمَا كَانُوا جَمِيعاً فَتَشَتَّتُوا وَ أُلَّافاً فَافْتَرَقُوا- وَ مَا عَنْ طُولِ عَهْدِهِمْ وَ لَا بُعْدِ مَحَلِّهِمْ- عَمِيَتْ أَخْبَارُهُمْ وَ صَمَّتْ دِيَارُهُمْ- وَ لَكِنَّهُمْ سُقُوا كَأْساً بَدَّلَتْهُمْ بِالنُّطْقِ خَرَساً- وَ بِالسَّمْعِ صَمَماً وَ بِالْحَرَكَاتِ سُكُوناً- فَكَأَنَّهُمْ فِي ارْتِجَالِ الصِّفَةِ صَرْعَى سُبَاتٍ- جِيرَانٌ لَا يَتَأَنَّسُونَ وَ أَحِبَّاءُ لَا يَتَزَاوَرُونَ- بَلِيَتْ بَيْنَهُمْ عُرَا التَّعَارُفِ- وَ انْقَطَعَتْ مِنْهُمْ أَسْبَابُ الْإِخَاءِ- فَكُلُّهُمْ وَحِيدٌ وَ هُمْ جَمِيعٌ- وَ بِجَانِبِ الْهَجْرِ وَ هُمْ أَخِلَّاءُ- لَا يَتَعَارَفُونَ لِلَيْلٍ صَبَاحاً وَ لَا لِنَهَارٍ مَسَاءً- أَيُّ الْجَدِيدَيْنِ ظَعَنُوا فِيهِ كَانَ عَلَيْهِمْ سَرْمَداً- شَاهَدُوا مِنْ أَخْطَارِ دَارِهِمْ أَفْظَعَ مِمَّا خَافُوا- وَ رَأَوْا مِنْ آيَاتِهَا أَعْظَمَ مِمَّا قَدَّرُوا- فَكِلْتَا الْغَايَتَيْنِ مُدَّتْ لَهُمْ- إِلَى مَبَاءَةٍ فَاتَتْ مَبَالِغَ الْخَوْفِ وَ الرَّجَاءِ- فَلَوْ كَانُوا يَنْطِقُونَ بِهَا- لَعَيُّوا بِصِفَةِ مَا شَاهَدُوا وَ مَا عَايَنُوا- وَ لَئِنْ عَمِيَتْ آثَارُهُمْ وَ انْقَطَعَتْ أَخْبَارُهُمْ- لَقَدْ رَجَعَتْ فِيهِمْ أَبْصَارُ الْعِبَرِ- وَ سَمِعَتْ عَنْهُمْ آذَانُ الْعُقُولِ- وَ تَكَلَّمُوا مِنْ غَيْرِ جِهَاتِ النُّطْقِ- فَقَالُوا كَلَحَتِ الْوُجُوهُ النَّوَاضِرُ وَ خَوَتِ الْأَجْسَامُ النَّوَاعِمُ- وَ لَبِسْنَا أَهْدَامَ الْبِلَى وَ تَكَاءَدَنَا ضِيقُ الْمَضْجَعِ- وَ تَوَارَثْنَا الْوَحْشَةَ وَ تَهَكَّمَتْ عَلَيْنَا الرُّبُوعُ الصُّمُوتُ- فَانْمَحَتْ مَحَاسِنُ أَجْسَادِنَا وَ تَنَكَّرَتْ مَعَارِفُ صُوَرِنَا- وَ طَالَتْ فِي مَسَاكِنِ الْوَحْشَةِ إِقَامَتُنَا- وَ لَمْ نَجِدْ مِنْ كَرْبٍ فَرَجاً وَ لَا مِنْ ضِيقٍ مُتَّسَعاً- فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ بِعَقْلِكَ- أَوْ كُشِفَ عَنْهُمْ مَحْجُوبُ الْغِطَاءِ لَكَ- وَ قَدِ ارْتَسَخَتْ أَسْمَاعُهُمْ بِالْهَوَامِّ فَاسْتَكَّتْ- وَ اكْتَحَلَتْ أَبْصَارُهُمْ بِالتُّرَاب فَخَسَفَتْ- وَ تَقَطَّعَتِ الْأَلْسِنَةُ فِي أَفْوَاهِهِمْ بَعْدَ ذَلَاقَتِهَا- وَ هَمَدَتِ الْقُلُوبُ فِي صُدُورِهِمْ بَعْدَ يَقَظَتِهَا- وَ عَاثَ فِي كُلِّ جَارِحَةٍ مِنْهُمْ جَدِيدُ بِلًى سَمَّجَهَا- وَ سَهَّلَ طُرُقَ الْآفَةِ إِلَيْهَا- مُسْتَسْلِمَاتٍ فَلَا أَيْدٍ تَدْفَعُ وَ لَا قُلُوبٌ تَجْزَعُ- لَرَأَيْتَ أَشْجَانَ قُلُوبٍ وَ أَقْذَاءَ عُيُونٍ- لَهُمْ فِي كُلِّ فَظَاعَةٍ صِفَةُ حَالٍ لَا تَنْتَقِلُ- وَ غَمْرَةٌ لَا تَنْجَلِي- فَكَمْ أَكَلَتِ الْأَرْضُ مِنْ عَزِيزِ جَسَدٍ وَ أَنِيقِ لَوْنٍ- كَانَ فِي الدُّنْيَا غَذِيَّ تَرَفٍ وَ رَبِيبَ شَرَفٍ- يَتَعَلَّلُ بِالسُّرُورِ فِي سَاعَةِ حُزْنِهِ- وَ يَفْزَعُ إِلَى السَّلْوَةِ إِنْ مُصِيبَةٌ نَزَلَتْ بِهِ- ضَنّاً بِغَضَارَةِ عَيْشِهِ وَ شَحَاحَةً بِلَهْوِهِ وَ لَعِبِهِ فَبَيْنَا هُوَ يَضْحَكُ إِلَى الدُّنْيَا وَ تَضْحَكُ إِلَيْهِ- فِي ظِلِّ عَيْشٍ غَفُولٍ إِذْ وَطِئَ الدَّهْرُ بِهِ حَسَكَهُ- وَ نَقَضَتِ الْأَيَّامُ قُوَاهُ- وَ نَظَرَتْ إِلَيْهِ الْحُتُوفُ مِنْ كَثَبٍ- فَخَالَطَهُ بَثٌّ لَا يَعْرِفُهُ وَ نَجِيُّ هَمٍّ مَا كَانَ يَجِدُهُ- وَ تَوَلَّدَتْ فِيهِ فَتَرَاتُ عِلَلٍ آنَسَ مَا كَانَ بِصِحَّتِهِ- فَفَزِعَ إِلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ الْأَطِبَّاءُ- مِنْ تَسْكِينِ الْحَارِّ بِالْقَارِّ وَ تَحْرِيكِ الْبَارِدِ بِالْحَارِّ- فَلَمْ يُطْفِئْ بِبَارِدٍ إِلَّا ثَوَّرَ حَرَارَةً- وَ لَا حَرَّكَ بِحَارٍّ إِلَّا هَيَّجَ بُرُودَةً- وَ لَا اعْتَدَلَ بِمُمَازِجٍ لِتِلْكَ الطَّبَائِعِ- إِلَّا أَمَدَّ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ دَاءٍ- حَتَّى فَتَرَ مُعَلِّلُهُ وَ ذَهَلَ مُمَرِّضُهُ- وَ تَعَايَا أَهْلُهُ بِصِفَةِ دَائِهِ- وَ خَرِسُوا عَنْ جَوَابِ السَّاِئِلينَ عَنْهُ- وَ تَنَازَعُوا دُونَهُ شَجِيَّ خَبَرٍ يَكْتُمُونَهُ- فَقَائِلٌ هُوَ لِمَا بِهِ وَ مُمَنٍّ لَهُمْ إِيَابَ عَافِيَتِهِ- وَ مُصَبِّرٌ لَهُمْ عَلَى فَقْدِهِ- يُذَكِّرُهُمْ أُسَى الْمَاضِينَ مِنْ قَبْلِهِ- فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ عَلَى جَنَاحٍ مِنْ فِرَاقِ الدُّنْيَا- وَ تَرْكِ الْأَحِبَّةِ- إِذْ عَرَضَ لَهُ عَارِضٌ مِنْ غُصَصِهِ- فَتَحَيَّرَتْ نَوَافِذُ فِطْنَتِهِ وَ يَبِسَتْ رُطُوبَةُ لِسَانِهِ- فَكَمْ مِنْ مُهِمٍّ مِنْ جَوَابِهِ عَرَفَهُ فَعَيَّ عَنْ رَدِّهِ- وَ دُعَاءٍ مُؤْلِمٍ بِقَلْبِهِ سَمِعَهُ فَتَصَامَّ عَنْهُ- مِنْ كَبِيرٍ كَانَ يُعَظِّمُهُ أَوْ صَغِيرٍ كَانَ يَرْحَمُهُ- وَ إِنَّ لِلْمَوْتِ لَغَمَرَاتٍ هِيَ أَفْظَعُ مِنْ أَنْ تُسْتَغْرَقَ بِصِفَةٍ- أَوْ تَعْتَدِلَ عَلَى عُقُولِ أَهْلِ الدُّنْيَا

اللغة

أقول: المرام: المطلوب.

و الزور: الزائرون.

و الخطر: الإشراف على الهلاك.

و الفظيع: الشديد الّذي جاوز الحدّ في شدّته.

و استحلوا: أى اتّخذوا تحلية الذكر و أبهم و شأنهم، و قيل: استخلوا: أى وجدوه خاليا.

و التناوش:التنازل.

و أحجى: أولى بالحجى و هو العقل.

و العشوة: ركوب الأمر على جهل به.

و ترتعون: يتنعمون.

و لفظوا: أرموا و تركوا.

و الفارط: السابق إلى الماء و المورد.

و حلبات الفخر: جماعاته.

و السوق: جمع سوقة و هى الرعيّة.

و البرزخ: ما بين الدنيا و الآخرة من وقت الموت إلى البعث.

و الفجوات: جمع فجوة و هى المتّسع من الأرض.

و الضمار: الغايب الّذي لا يرجى إيابه.

و يحفلون: يبالون.

و الرواجف: الزلازل.

و يأذنون: يسمعون.

و ارتجال الصفة: انتشاؤها.

و السبات: النوم، و أصله الراحة.

و أفظع: أشدّ.

و المباءة: الموضع يبوء الإنسان إليه: أى يرجع: و عىّ عن الكلام: أى عجز عنه.

و الكلوح: تكشّر في عبوس.

و الأهدام: جمع هدم، و هو الثوب البالى.

و تكاءدنا: شقّ علينا و صعب.

و تهكّعت: تهدّمت.

و ارتسخت: ثبتت في قرارها الهوام.

و استكّت: انسدّت.

و ذلاقة اللسان: حدّته و سهولة الكلام به.

و همدت: سكنت و بليت.

و عاث: انسدّ.

و سمّجها: قبّحها.

و الأشجان: الأحزان.

و الأنيق: العجب للناظر.

و غضارة العيش: طيّبه.

و الكثب: القرب.

و البثّ: الحال من همّ و حزن.

و القارّ و القرور: الماء البارد.

المعنى

و في الفصل فوائد:

فالاولى: اللام في قوله: يا له. لام الجرّ للتعجّب كقولهم: يا للدواهى، و الجارّ و المجرور في محلّ النصب لأنّه المنادى و يروى: يا مراما. و مراما و زورا و خطرا منصوبات على التميز لمعنى التعجّب من بعد ذلك المرام و هو التكاثر فإنّ الغاية المطلوبة منه لا يدركها الإنسان لأنّ كلّ غاية بلغها ففوقها غاية اخرى قد أدركها غيره فنفسه تطمح إليها، و ذلك التعجّب من شدّة غفلة الزور: أى الزائرين للمقابر لأنّ الكلام خرج بسبب الآية، و ظاهر أنّ غفلة الإنسان عمّا يزور و يقدم بعد تلك الزيارة عليه غفلة عظيمة و هى محلّ التعجّب، و كذلك التعجّب من فظاعة الخطر و الإشراف على شدائد الآخرة فإنّ كلّ خطر دنيائى يستحقر في جنبه، و الضمير في قوله: استحلوا للأحياء، و في منهم‏ للأموات، و عنّى بالذكر عمّا خلّفوه من الآثار الّتي هى محلّ العبرة. و قوله: أىّ مدّكر. استفهام على سبيل التعجّب من ذلك المدّكر في أحسن إفادته للعبر لاولى الأبصار، و تناوشوهم من مكان بعيد: أى تركهم ما ينتفعون به و هو المدّكر من جهة الاعتبار به و تناولوهم من جهة بعيدة، و الّذي تناولوه هو افتخار كلّ منهم بأبه و قبيلته، و مكاثرته بالماضين من قومه الّذينهم بعد الموت أبعد الناس عنه أو الّذين كمالاتهم أبعد الكمالات عنه، و كنّى بالمكان البعيد عن ذلك الاعتبار فإنّ الأموات و كمالاتهم في أبعد الاعتبارات عن الأحياء و الأبناء، و لذلك استفهم عن ذلك استفهام إنكار و توبيخ فقال: أ فبمصارع آبائهم يفخرون. إلى قوله: سكنت، و ذلك الارتجاع بالمفاخرة بهم فكأنّهم بذكرهم لهم في الفخر قد ارتجعوهم بعد موتهم، و يحتمل أن يكون ذلك مستفهما عنه أيضا على سبيل الإنكار و إن لم يكن حرف الاستفهام، و التقدير أ يرتجعون منهم بفخرهم لهم أجسادا خوت.
و قوله: و لأن يكونوا عبرا أحقّ من أن يكونوا مفتخرا. مؤكّد لتوبيخه لهم ترك العبرة بالمدّكر الّذي هو وجه النفع و أخذهم بالوجه البعيد و هو الافتخار، و كشف لمعناه. و كذلك قوله: لأن يهبطوا بهم جناب ذلّة: أى بالاعتبار بمصارعهم فإنّه يستلزم الخشوع لعزّة اللّه و الخشية منه. و ذلك أولى بالعقل و التدبير من أن يقوموا بهم مقام عزّة بالمفاخرة و المكاثرة، و أضاف الأبصار إلى العشوة لنسبتها إليها: أى نظروا إليها بأبصار قلوب غطّى عليها الجهل بأحوالهم فساروا في تلك الأحوال بجهالة غامرة لهم. و قوله: و لو استنطقوا. إلى قوله: لقالت. أى لو طلبت منها النطق لقالت بلسان حالها كذا و كذا. إلى قوله: و تسكنون فيما خرّبوا، و يحتمل أن يكون باقى الفصل كلّه مقولا بلسان حال تلك الديار، و النصب في قوله: ضلّالا و جهّالا على الحال: أى ذهبوا في الأرض هالكين و ذهبتم بعدهم جاهلين بأحوالهم تطئون رؤسهم و تستنبتون الأشجار في‏ أجسادهم و ذلك في المواضع الّتي بليت فيها الأجساد، و استعار لفظ البواكى و النوائح لأيّام الحياة ملاحظة لشبهها في مفارقتهم لها بالامّهات الّتي فارقها أولادها بالموت. و قوله: اولئك سلف غايتكم و فرّاط مناهلكم. السابقون لكم إلى غايتكم و هى الموت و ما بعده، و إلى مناهلكم و هى تلك الموارد أيضا، و مقاوم: جمع مقام لأنّ ألفه عن واو، و ملوكا و سوقا نصب على الحال، و بطون البرزخ ما غاب و بطن منه عن علومنا و مشاهداتنا، و السبيل فيه هى مسلك القدر بهم إلى غاياتهم الاخرويّة من سعادة أو شقاوة، و نسبة الأكل و الشرب إلى الأرض مجاز يقارب الحقيقة في كثرة الاستعمال، و إنّما سلب عنهم النموّ و الفزع من ورود أهوال الأرض عليهم، و الحزن من تغيّر الأحوال بهم، و الحفلة بزلازل الأرض و سماع الرياح القاصفة، لكون انتظار ذلك من توابع الحياة و صفاتها.
فإن قلت: فهذا ينافي ما نقل من عذاب القبر فإنّه يستلزم الفزع و الحزن.
قلت: إنّما سلب عنهم الفزع و الحزن من أحوال الدنيا المشاهدة لنا، و كذلك الحفلة بأهوالها و سماعها. و عذاب القبر ليس من ذلك القبيل بل من أحوال الآخرة و أهوالها، و لا يلزم من سلب الفزع الخاصّ سلب العامّ، و نبّه على أنّ غيبتهم و شهودهم ليس كغيبة أهل الدنيا و شهودهم. إذ كان الغائب في الدنيا من شأنه أن ينتظر و الشاهد فيها حاضر و هم شاهدون بأبدانهم مع صدق الغيبة عليهم عنّا: أى بأنفسهم، و لمّا امتنع ذلك العود لا جرم صدق أنّهم غيّب لا ينتظرون و شهود لا يحضرون. و قوله: و ما عن طول عهدهم. إلى قوله: سكونا. أى عدم علمنا بأخبارهم و صمم ديارهم عند ندائنا ليس لأجل طول عهد بيننا و بينهم و لا بعد محلّتهم و مستقرّهم فإنّ الميّت حال موته و هو بعد مطروح الجسد مشاهد لنا تعمى علينا أخباره و لا يسمع نداءنا دياره، و لكن ذلك لأجل أنّهم سقوا كأس المنيّة فبدّلتهم بالنطق خرسا و بالسمع صمما و بالحركات سكونا و إسناد العمى إلى الأخبار و الصمم إلى الديار مجاز كقولهم: نهاره صائم و ليله قايم. و قوله: فكأنّهم. إلى قوله: سبات. أى إذا أراد أحد ينشى‏ء صفة حالهم، شبّههم بالصرعى عن النوم، و وجه الشبه عدم الحركات و السماع و النطق مع الهيئة المشاهدة من المستغرق في نومه. ثمّ نبّه على أنّهم في أحوالهم الاخرويّة من تجاورهم مع وحدتهم و تهاجرهم ليس كتلك الأحوال في الدنيا. إذ من شأن الجيران فيها أن يأنس بعضهم ببعض، و الأحياء أن تزاوروا، و الواحد أن لا يكون في جماعة. و أشار بالجوار إلى تقارب أبدانهم في القبور، و بالمحابّة إلى ما كانوا عليه من التحابّ في الدنيا، و بهجرهم إلى عدم تزاورهم، و كذلك خلالهم إلى ما كانوا عليه من المودّة في الدنيا، و كونهم لا يتعارفون لليل صباحا و لا لنهار مساء لكون الليل و النهار من لواحق الحركات الدنيويّة الفانية عنهم فتساوى الليل و النهار بالنسبة إليهم،

و كذلك قوله: أىّ الجديدين.إلى قوله: سرمدا، و الجديدان الليل و النهار لتجدّد كلّ منهما أبدا. و استعار وصف الظعن لانتقالهم إلى الدار الآخرة، و كون ذلك الجديد الّذي ظعنوا فيه سرمدا عليهم ليس حقيقة لعدم عوده بعينه بل إسناد السرمديّة إليه لكونه جزء من الزمان الّذي يلزمه السرمديّة لذاته حقيقة.

و قوله: شاهدوا. إلى قوله: عاينوا. إشارة إلى صعوبة أهوال الآخرة و عظمة أحوالها بالنسبة إلى ما يخاف منها في الدنيا، و ذلك أمر عرف بأخبار الشريعة الحقّة و تأكّد باستقراء اللذّات و الآلام العقليّة و نسبتها إلى الحسيّة. ثمّ إنّ الخوف و الرجاء لامور الآخرة إنّما يبعثان منّا بسبب وصف تلك الامور، و إنّما يفعل من تلك الأوصاف ما كان فيه مناسبة و تشبّه بالامور المخوفة و المرجّوة في الدنيا فنحن نتصوّر تلك على قياس هذه فذلك سبب سهولتها علينا و ضعف خوفنا منها و رجائنا لها حتّى لو شاهدنا أخطار تلك الدار لشاهدنا أشدّ ممّا نخافه الآن و نتصوّره و نقدّره بأوهامنا. فلا جرم لمّا وصل السابقون شاهدوا أفظع ممّا خافوا، و لو أمكنهم النطق لعيّوا بصفة ما شاهدوا منها و عجزوا عن شرحها.

و قوله: فكلتا الغايتين. أى غاية المؤمنين و الكافرين من سعادة و شقاوة مدّت: أى مدّ لهم أجل ينتهون فيه إلى غاية و مرجع و هو الجنّة أو النار، و ذلك المرجع يفوت مبالغ خوفنا و رجاءنا: أى هو أعظم ممّا نخافه و نرجوه، و أسند المدّ إلى الغاية مجازا. و قوله: لقد رجعت. إلى قوله. النطق. من أفصح الكلام و أبلغه، و أبصار العبر أبصار البصائر الّتي يعتبر بها، و آذان العقول مجاز في علمها بأحوالهم الّتي من شأنها أن تسمع إطلاقا لاسم السبب على المسبّب.
و قوله: و تكلّموا من غير جهات النطق. أى من غير أفواه و ألسنة لحمانيّة و لكن بألسنة أحواليّة. و قوله: فقالوا. إلى قوله: متّسعا. إشارة إلى ما تنطق به ألسنة أحوالهم و تحكيه منها في القبور، و روى عوض خلت خوت، و استعار لفظ الأهدام للتغيّر و التقشّف و التمزيق العارض لجسم الميّت لمشابهتها العظم البالى، و يحتمل أن يريد بها الأكفان، و المضجع: القبر. و توارث الوحشة: أى وحشة القبر، و استعار لفظ التوارث لكون تلك الوحشة كانت لآبائهم قبلهم فحصلت لهم بعدهم، و الربوع الصموت: أيضا القبور.
و كذلك مساكن الوحشة. و معارف صورهم: ما كان معروفا منها في الدنيا. و قوله: فلو مثّلتهم بعقلك. أى تخيّلت صورهم و استحضرتها في خيالك و كشف عنهم محجوب الغطاء لك: أى ما حجب بأغطية التراب و السواتر لأجسادهم عن بصرك. و الواو في قوله: و قد ارتسخت. للحال، و يقظة قلوبهم استعارة لحياتهم و حركاتها، و إسناد العبث إلى جديد البلى مجاز، و مستسلمات حال للجوارح و العامل عاث و سهل، واللام في قوله: لرأيت. جواب لو، و أحسن بقوله: لهم في كلّ فظاعة صفة حال لا تنتقل و غمرة لا تنجلى. وصفا إجماليّا. فإنّه لا مزيد عليه في البلاغة اللذيذة، و أراد بالغمرة من الفظاعة ما يغمرهم من الشدائد، و الغذىّ فعيل بمعنى مفعول: أى مغذى بالترف. و قوله: و يفزع إلى السلوة. أى عن المصيبة النازلة له إلى المسرّات و المتنزّهات، و ضحكه إلى الدنيا كناية عن ابتهاجه بها و ما فيها من القينات و غاية إقباله عليه لأنّ غاية المبتهج بالشي‏ء أن يضحك له، و كذلك ضحك الدنيا مجاز في إقبالها عليه إطلاقا لاسم السبب الغائى على مسبّبه، و أصل بينا بين و الألف عن إشباع الفتحة، و العيش الغفول الّذي يكثر الغفلة فيه لطيبه. و استعار لفظ الحسك للآلام و الأمراض و مصائب الدهر، و وجه المشابهة استلزامها للأذى كاستلزام الحسك له، و رشّح بذكر الوطى، و كذلك استعار وصف النظر لإقبال الحتوف إليه لاستعداد لها فشابهت في ذلك الراصد للشي‏ء المصوب إليه نظره ليقتنصه، و البثّ و النجىّ من الهمّ الحال الّتي يجدها الإنسان عند و هم الموت من الوسواس و التخيّلات و الغموم و الأحزان الّتي عند و هم الموت من الوسواس و التخيّلات و الغموم و الأحزان الّتي لم تكن تعرض له. و قوله: فتولّدت فيه فترات علل آنس ما كان بصحّته. و انتصاب آنس على الحال، و ما بمعنى الزمان، و كان تامّة، و بصحّته متعلّق بآنس: أى حال ما هو آنس زمان مدّة صحّته، و قيل: ما مصدريّة، و التقدير آنس كونه على أحواله لصحّته. و قوله، فلم يطفى‏ء ببارد إلّا ثوّر حرارة. إلى قوله: ذات داء. إشارة إلى لوازم العلاج عند سقوطه العلّة من المرض الحارّة و البارد المقاوم لها، و ليس العلاج بالبارد هو المثوّر للحرارة و لا بالعكس لأنّ الدواء معين للطبيعة على مقاومة المرض فلا يكون مثوّرا له، و لكن ما كان مع ذلك العلاج و تلك الإعانة لغلب الحرارة و البرودة و يظهر بسبب ذلك: أى الدواء، و كذلك‏ قوله: و لا اعتدل بممازج لتلك الطبايع إلّا أمدّ منها كلّ ذات داء: أى و لا اعتدل المريض في علاجه نفسه بما يمازج تلك الطبايع من الحرارة و البرودة و الرطوبة و اليبوسة إلّا كان مادّة لداء، و ليس مادّة على الحقيقة و لكن لمّا كان يغلب معه المرض على القوّة فكأنّه مادّة له فنسب إليه و هى امور عرفيّة يقال كثيرا، و الكلام فيها على المتعارف. و قوله: حتّى فتر معلّله. غاية تلك اللوازم. و معلّله: طبيبه و ممرّضه. و خرس أهله عن جواب السائل: إشارة إلى سكوتهم عند السؤال من حاله، و ذلك أنّهم لا يخبرون عن عافية لعدمها، و تكره نفوسهم الإخبار عنه بما هو عليه من الحال لشدّتها عليهم، فيكون شأنهم في ذلك السكوت عن حاله المشبه للخرس في جوابه. فذلك استعارة له. و قوله: و تنازعوا. إلى قوله: من قبله. إشارة إلى ما يتحاوره أهل المريض المشرف على الموت من أحواله و صوره بما العادة جارية أن يقولوه. و قوله: فبينا هو كذلك. صفة حال الأخذ في الموت المعتاد للناس. و قوله: إنّ للموت. إلى آخره. تلك الغمرات و كونها، أفظع من أن يحيط بها وصف الإنسان أو يستقيم شرحها على الإنسان كما يخبر عليه السّلام. و يعلم ذلك على سبيل الجملة و بالحدس و القياس إلى الأمراض الصعبة الّتي يمارسها الناس و يشتدّ عليهم فيعرف عند مقاساتها و معاناة شدايدها. و كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول في سكرات موته: الّلهمّ أعنّى على سكرات الموت. و ما يستعين عليه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع كمال اتّصاله بالعالم الأعلى فلا شكّ في شدّته. و باللّه التوفيق.

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحه‏ى 56

خطبه 211 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام
قَدْ أَحْيَا عَقْلَهُ وَ أَمَاتَ نَفْسَهُ حَتَّى دَقَّ جَلِيلُهُ- وَ لَطُفَ غَلِيظُهُ وَ بَرَقَ لَهُ لَامِعٌ كَثِيرُ الْبَرْقِ- فَأَبَانَ لَهُ الطَّرِيقَ وَ سَلَكَ بِهِ السَّبِيلَ- وَ تَدَافَعَتْهُ الْأَبْوَابُ إِلَى‏ بَابِ السَّلَامَةِ وَ دَارِ الْإِقَامَةِ- وَ ثَبَتَتْ رِجْلَاهُ بِطُمَأْنِينَةِ بَدَنِهِ فِي قَرَارِ الْأَمْنِ وَ الرَّاحَةِ- بِمَا اسْتَعْمَلَ قَلْبَهُ وَ أَرْضَى رَبَّهُ

أقول: هذا الفصل من أجلّ كلام له في وصف السالك المحقّق إلى اللّه، و في كيفيّة سلوكه المحقّق و أفضل اموره
فأشار بإحياء عقله إلى صرف همّته في تحصيل الكمالات العقليّة من العلوم و الأخلاق و إحياء عقله النظري و العملى بها بعد الرياضة بالزهد و العبادة، و أشار بإماتة نفسه إلى قهر نفسه الأمّارة بالسوء، و تطويعها بالعبادة للنفس المطمئنّة بحيث لا يكون لها تصرّف على حدّ طباعها إلّا بإرسال العقل و باعثه فكانت في حكم الميّت عن الشهوات و الميول الطبيعيّة الّذي لا تصرّف له من نفسه. و قوله: حتّى دقّ جليله. أى حتّى انتهت به إماتته لنفسه الشهويّة إلى أن دقّ جليله، و كنّى بجليله عن بدنه فإنّه أعظم ما يرى منه، و لطف غليظه إشارة إلى لطف بدنه أيضا، و يحتمل أن يشير به إلى لطف قواه النفسانيّة بتلك الرياضة و كسر الشهوة فإنّ إعطاء القوّة الشهويّة مقتضى طباعها من الانهماك في المآكل و المشارب ممّا يثقل البدن و يكدّر الحواسّ، و لذلك قيل: البطنة تذهب الفطنة و تورث القسوة و الغلظة.
فإذا قصرت على حدّ العقل لطفت الحواسّ عن قلّة الأبخرة المتولّدة عن التملّؤ بالطعام و الشراب، و لطف بلطف ذلك ما غلظ من جوهر النفس بالهيئات البدنيّة المكتسبة من متابعة النفس الأمّارة بالسوء كلطف المرآة بالصقال حتّى يصير ذلك اللطف مسبّبا لاتّصالها بعالمها و استشراقها بأنوار من الملأ الأعلى. و قوله: و برق له لا مع كثير البرق. أشار باللامع إلى ما يعرض للسالك عند بلوغ الإرادة بالرياضة به حدّا ما من الخلسات إلى الجناب الأعلى فيظهر له أنوار إلهيّة لذيذة شبيهة بالبرق في سرعة لمعانه و اختفائه، و تلك اللوامع مسمّاة بالأوقات عند أهل الطريقة، و كلّ وقت فإنّه محفوف بوجد إليه قبله و وجد عليه بعده لأنّه لمّا ذاق تلك اللذّة ثمّ فارقها وصل فيه حنين و أنين إلى ما فات منها. ثمّ إنّ هذه اللوامع في مبدء الأمر تعرض له قليلا فإذا أمعن في الارتياض كثرت، فأشار باللامع إلى نفس ذلك النور، و بكثرة برقه إلى كثرة عروضه بعد الإمعان في الرياضة. و يحتمل أن يكون قد استعار لفظ اللامع للعقل الفعّال، و لمعانه ظهوره للعقل الإنسانىّ، و كثرة بروقه إشارة إلى كثرة فيضان تلك الأنوار الشبيهة بالبروق عند الإمعان في الرياضة، و قوله: فأبان له الطريق. أى ظهر له بسبب ذلك أنّ الطريق الحقّ إلى اللّه هى ما هو عليه من الرياضة، و سلك به السبيل: أى كان سببا لسلوكه في سبيل اللّه إليه. و قوله: و تدافعته الأبواب. أى أبواب الرياضة، و هى أبواب الجنّة أعنى تطويع النفس الأمّارة، و الزهد الحقيقىّ، و الأسباب الموصلة إليهما كالعبادات و ترك الدنيا فإنّ كلّ تلك أبواب يسير منها السالك حتّى ينتهى إلى باب السلامة و هو الباب الّذى إذا دخله السالك تيقّن فيه السلامة من الانحراف عن سلوك سبيل اللّه بمعرفته أنّ تلك هى الطريق و ذلك الباب هو الوقت الّذي أشرنا إليه، و هو أوّل منزل من منازل الجنّة العقليّة. و قوله: و ثبتت رجلاه. إلى قوله: و الراحة. ففى قرار الأمن متعلّق ثبتت، و هو إشارة إلى الطور الثاني للسالك بعد طور الوقت و يسمّى طمأنينة و ذلك أنّ السالك ما دام في مرتبة الوقت فإنّه يعرض لبدنه عند لمعان تلك البروق في سرّه اضطراب و قلق يحسّ بها خلسة لأنّ النفس إذا فاجأها أمر عظيم اضطربت و تقلقلت فإذا كثرت تلك الغواشى ألفتها بحيث لا تنزعج عنها و لا تضطرب لورودها عليها بل تسكن و تطمئنّ لثبوت قدم عقله في درجة أعلى من درجات الجنّة الّتى هى قرار الأمن و الراحة من عذاب اللّه.

و قوله: بما استعمل. إلى آخره. فالجار و المجرور متعلّق بثبتت أيضا: أى و ثبتت رجلاه بسبب استعمال قلبه و نفسه في طاعة اللّه و إرضائه بذلك الاستعمال، و باللّه التوفيق.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحه‏ى 53

خطبه 210 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام لما مر بطلحة و عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد و هما قتيلان يوم الجمل

لَقَدْ أَصْبَحَ أَبُو مُحَمَّدٍ بِهَذَا الْمَكَانِ غَرِيباً- أَمَا وَ اللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَكْرَهُ أَنْ تَكُونَ قُرَيْشٌ قَتْلَى- تَحْتَ بُطُونِ الْكَوَاكِبِ- أَدْرَكْتُ وَتْرِي مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ- وَ أَفْلَتَنِي أَعْيَانُ بَنِي جُمَحَ- لَقَدْ أَتْلَعُوا أَعْنَاقَهُمْ إِلَى أَمْرٍ- لَمْ يَكُونُوا أَهْلَهُ فَوُقِصُوا دُونَهُ

أقول: هو عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد بن أبى العاص بن اميّة شهد واقعة الجمل و قتل بها، و روى أنّ عقابا احتمل كفّه فاصيب باليمامة في ذلك اليوم، و عرفت بخاتمه و كان يدعى يعسوب قريش.

اللغة
و أعيان: جمع عين: هم سادات القوم و أوتادهم.

و جمح: قبيلة،

و أتلعوا: مدّوا أعناقهم كالمتطلّعين إلى الأمر.

و وقصوا: كسرت أعناقهم.

المعنى

و أبو محمّد كنية طلحة.
و في الفصل إشارات:
فالاولى: أنّ قتله عليه السّلام لمن قتل من مخالفيه
و من قتل من عسكره لم يكن إلّا إقامة للدين و نظام العالم.
فإن قلت: إنّ قتل هؤلاء على كثرتهم فساد حاضر.قلت: إنّه و إن كان فساد إلّا أنّه جرى بالنسبة إلى صلاح جمع المسلمين في مصر جزئيّة بالنسبة إلى صلاح أكثر بلاد المسلمين، و فعل ما هو بصورة جزئيّة من الفساد لمصلحة كلّيّة واجب في الحكمة فهو كقطع عضو فاسد لإصلاح باقى البدن.

الثانية: قوله: تحت بطون الكواكب
كناية لطيفة عن الفلوات، و أراد أنّى كنت أكره أن يكونوا بهذه الحالة في الفلوات بحيث لا كنّ و لا ظلّ يواريهم.

الثالثة: لقائل أن يقول: لم قال عليه السّلام: أدركت و ترى من بنى عبد مناف
و الوتر الحقد و هو رذيلة فكيف يجوز منه عليه السّلام أن ينسبه إلى نفسه و يقول: قد أدركته. و الجواب أنّ الحقد تعود حقيقته إلى ثبات الغضب و بقائه ببقاء صورة الموذى في الخيال، و من حيث إنّ ثبات ذلك الغضب بتصوّر الموذى في الدين لا يكون رذيلة، فلا يكون أخذ الحقّ به و نصرته مكروهة.

الرابعة: أنّ طلحة و الزبير كانا من بنى عبد مناف من قبل الامّ دون الأب
فإنّ أبا الزبير من بنى عبد العزّى بن قصى بن كلاب، و أمّا طلحة من بنى جعد بن تميم بن مرّة، و كان في زمن أمير المؤمنين عليه السّلام من بنى جمح عبد اللّه بن صفوان بن اميّة بن خلف، و عبد الرحمن بن صفوان، و قيل: كان مروان بن الحكم منهم اخذ أسيرا يوم الجمل و استشفع بالحسين إلى أبيه عليهم السّلام، و روى عوض أعيان أغيار بنى جمح و هم السادات أيضا.

و الخامسة: إتلاع رقابهم
استعارة كنّى بها عن تطاولهم لأمر الخلافة مع كونهم ليسوا أهلا لها. و وقصهم كناية عن قتلهم دون ذلك الأمر و قصورهم عنه.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ ميثم برانی)، ج 4 ، صفحه‏ى 52

 

خطبه 209 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام فى ذكر السائرين إلى البصرة لحربه عليه السّلام

فَقَدِمُوا عَلَى عُمَّالِي وَ خُزَّانِ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِي فِي يَدَيَّ- وَ عَلَى أَهْلِ مِصْرٍ كُلُّهُمْ فِي طَاعَتِي وَ عَلَى بَيْعَتِي- فَشَتَّتُوا كَلِمَتَهُمْ وَ أَفْسَدُوا عَلَيَّ جَمَاعَتَهُمْ- وَ وَثَبُواعَلَى شِيعَتِي فَقَتَلُوا طَاِئفَةً منْهُمْ غَدْراً- وَ طَاِئفَةٌ عَضُّوا عَلَى أَسْيَافِهِمْ- فَضَارَبُوا بِهَا حَتَّى لَقُوا اللَّهَ صَادِقِينَ
اللغة
أقول: عضّوا على أسيافهم: أى لزموها
المعنى
و أشار بالمصر إلى البصرة، و بالّذين قدموا على عمّاله إلى طلحة و الزبير و عايشة و أتباعهم فأمّا حالهم مع عمّاله و ما فعلوا بهم و بخزّان بيت المال بالبصرة فقد مرّ ذكره مستوفى، و باللّه التوفيق.

شرح‏ نهج‏ البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحه‏ى 51

خطبه 208 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام
اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْشٍ وَ مَنْ أَعَانَهُمْ- فَإِنَّهُمْ قَدْ قَطَعُوا رَحِمِي وَ أَكْفَئُوا إِنَائِي- وَ أَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي حَقّاً كُنْتُ أَوْلَى بِهِ مِنْ غَيْرِي- وَ قَالُوا أَلَا إِنَّ فِي الْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ- وَ فِي الْحَقِّ أَنْ تُمْنَعَهُ فَاصْبِرْ مَغْمُوماً أَوْ مُتْ مُتَأَسِّفاً- فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ لِي رَافِدٌ وَ لَا ذَابٌّ وَ لَا مُسَاعِدٌ- إِلَّا أَهْلَ بَيْتِي فَضَنَنْتُ بِهِمْ عَنِ الْمَنِيَّةِ- فَأَغْضَيْتُ عَلَى الْقَذَى وَ جَرِعْتُ رِيقِي عَلَى الشَّجَا- وَ صَبَرْتُ مِنْ كَظْمِ الْغَيْظِ عَلَى أَمَرَّ مِنَ الْعَلْقَمِ- وَ آلَمَ لِلْقَلْبِ مِنْ وَخْزِ الشِّفَارِ قال الرضى: و قد مضى هذا الكلام فى أثناء خطبة متقدمة إلا أنى كررته ههنا لاختلاف الروايتين.

اللغة
أقول: أستعديك: أستعينك.

و الاسم العدى و هى الإعانة، و أكفأت الإناء و كفأته: كببته.

و الرافد: المعاون.

و القذى: ما يسقط في العين فيؤذيها.

و الشجى: ما يعرض في الحلق عند الغمّ و الحزن من الأثر فيكون الإنسان كالمغتصّ بلقمة و نحوها. و العلقم: شجر مرّ.

و الشفار: جمع شفرة و هى السكّين.
و غرض الفصل التظلّم و التشكّى و الاستعانة باللّه على قريش
فيما دفعوه عنه من حقّ الإمامة الّذي هو أولى به، و كنّى عن ذلك بقطع الرحم، و كذلك كنّى بقلب إنائه عن إعراضهم و تفرّقهم عنه فإنّ ذلك من لوازم قلب الإناء كما أنّ من لوازم نصبهم له و تعديله إقبالهم و اجتماعهم عليه.

و قوله: و أجمعوا. إلى قوله: غيرى. قالت الشيعة: الإشارة بالمجتمعين إلى قريش حين وفات الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ذلك الغير الّذي كان هو أولى منه هم الخلفاء الثلاثة قبله، و قال غيرهم: بل أشار بالمجمعين إليهم وقت الشورى و اتّفاقهم بعد الترديد الطويل على عثمان فلا يدخل الشيخان الأوّلان في هذه الشكاية، و القول الثاني ضعيف. إذ صرّح بمثل هذه الشكاية من الأئمّة الثلاثة قبله في الخطبة الشقشقيّة كما بيّناه، و بالجملة مراده من هذا الكلام و أمثاله بعد استقراء أقواله و تصفّح أحواله لا يخفى على عاقل، و يشبه أن يكون صدور هذا الكلام منه حين خروج طلحة و الزبير إلى البصرة تظلّما عليهما فيكون المفهوم من قوله: و أجمعوا على منازعتى حقّا كنت أولى به من غيرى إنكارا لإجماعهم منازعته ذلك الحقّ فإنّه إذا كان أولى به ممّن سبق من الأئمّة على جلالة قدرهم و تقدّمهم في الإسلام فكيف بهؤلاء مع كونهم أدون حالا منهم، و هو كقوله فياللّه و للشورى متى اعترض الريب فيّ مع الأوّل منهم حتّى صرت اقرن إلى هذه النظائر. و قوله: و قالوا: ألا إنّ في الحقّ. إلى قوله: متأسّفا. حكاية لقولهم بلسان حال فعلهم لا أنّهم قالوا له ذلك. قوله: فنظرت. إلى آخره. قد مضى تفسير من الآلام الحسيّة من حرّ السكين و غيره.

و من طالع الفصلين المتقدّمين علم التفاوت في الرواية لهما و لهذا الفصل.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 4 ، صفحه‏ى 49

 

خطبه 207 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام خطبها بصفين
أَمَّا بَعْدُ- فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً بِوِلَايَةِ أَمْرِكُمْ- وَ لَكُمْ عَلَيَّ مِنَ الْحَقِّ مِثْلُ الَّذِي لِي عَلَيْكُمْ- فَالْحَقُّ أَوْسَعُ الْأَشْيَاءِ فِي التَّوَاصُفِ- وَ أَضْيَقُهَا فِي التَّنَاصُفِ- لَا يَجْرِي لِأَحَدٍ إِلَّا جَرَى عَلَيْهِ- وَ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ إِلَّا جَرَى لَهُ- وَ لَوْ كَانَ لِأَحَدٍ أَنْ يَجْرِيَ لَهُ وَ لَا يَجْرِيَ عَلَيْهِ- لَكَانَ ذَلِكَ خَالِصاً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ دُونَ خَلْقِهِ- لِقُدْرَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ- وَ لِعَدْلِهِ فِي كُلِّ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ صُرُوفُ قَضَائِهِ- وَ لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ حَقَّهُ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يُطِيعُوهُ- وَ جَعَلَ جَزَاءَهُمْ عَلَيْهِ مُضَاعَفَةَ الثَّوَابِ- تَفَضُّلًا مِنْهُ وَ تَوَسُّعاً بِمَا هُوَ مِنَ الْمَزِيدِ أَهْلُهُ ثُمَّ جَعَلَ سُبْحَانَهُ مِنْ حُقُوقِهِ حُقُوقاً- افْتَرَضَهَا لِبَعْضِ النَّاسِ عَلَى بَعْضٍ- فَجَعَلَهَا تَتَكَافَأُ فِي وُجُوهِهَا- وَ يُوجِبُ بَعْضُهَا بَعْضاً- وَ لَا يُسْتَوْجَبُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ- . وَ أَعْظَمُ مَا افْتَرَضَ سُبْحَانَهُ مِنْ تِلْكَ الْحُقُوقِ- حَقُّ الْوَالِي عَلَى الرَّعِيَّةِ وَ حَقُّ الرَّعِيَّةِ عَلَى الْوَالِي- فَرِيضَةٌ فَرَضَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِكُلٍّ عَلَى كُلٍّ- فَجَعَلَهَا نِظَاماً لِأُلْفَتِهِمْ وَ عِزّاً لِدِينِهِمْ- فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ إِلَّا بِصَلَاحِ الْوُلَاةِ- وَ لَا تَصْلُحُ الْوُلَاةُ إِلَّا بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِيَّةِ- فَإِذَا أَدَّتْ الرَّعِيَّةُ إِلَى الْوَالِي‏ حَقَّهُ- وَ أَدَّى الْوَالِي إِلَيْهَا حَقَّهَا- عَزَّ الْحَقُّ بَيْنَهُمْ وَ قَامَتْ مَنَاهِجُ الدِّينِ- وَ اعْتَدَلَتْ مَعَالِمُ الْعَدْلِ وَ جَرَتْ عَلَى أَذْلَالِهَا السُّنَنُ- فَصَلَحَ بِذَلِكَ الزَّمَانُ- وَ طُمِعَ فِي بَقَاءِ الدَّوْلَةِ وَ يَئِسَتْ مَطَامِعُ الْأَعْدَاءِ- . وَ إِذَا غَلَبَتِ الرَّعِيَّةُ وَالِيَهَا- أَوْ أَجْحَفَ الْوَالِي بِرَعِيَّتِهِ- اخْتَلَفَتْ هُنَالِكَ الْكَلِمَةُ- وَ ظَهَرَتْ مَعَالِمُ الْجَوْرِ وَ كَثُرَ الْإِدْغَالُ فِي الدِّينِ- وَ تُرِكَتْ مَحَاجُّ السُّنَنِ فَعُمِلَ بِالْهَوَى- وَ عُطِّلَتِ الْأَحْكَامُ وَ كَثُرَتْ عِلَلُ النُّفُوسِ- فَلَا يُسْتَوْحَشُ لِعَظِيمِ حَقٍّ عُطِّلَ- وَ لَا لِعَظِيمِ بَاطِلٍ فُعِلَ- فَهُنَالِكَ تَذِلُّ الْأَبْرَارُ وَ تَعِزُّ الْأَشْرَارُ- وَ تَعْظُمُ تَبِعَاتُ اللَّهِ عِنْدَ الْعِبَادِ- . فَعَلَيْكُمْ بِالتَّنَاصُحِ فِي ذَلِكَ وَ حُسْنِ التَّعَاوُنِ عَلَيْهِ- فَلَيْسَ أَحَدٌ وَ إِنِ اشْتَدَّ عَلَى رِضَا اللَّهِ حِرْصُهُ- وَ طَالَ فِي الْعَمَلِ اجْتِهَادُهُ- بِبَالِغٍ حَقِيقَةَ مَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَهْلُهُ مِنَ الطَّاعَةِ لَهُ- وَ لَكِنْ مِنْ وَاجِبِ حُقُوقِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ- النَّصِيحَةُ بِمَبْلَغِ جُهْدِهِمْ- وَ التَّعَاوُنُ عَلَى إِقَامَةِ الْحَقِّ بَيْنَهُمْ- وَ لَيْسَ امْرُؤٌ وَ إِنْ عَظُمَتْ فِي الْحَقِّ مَنْزِلَتُهُ- وَ تَقَدَّمَتْ فِي الدِّينِ فَضِيلَتُهُ- بِفَوْقِ أَنْ يُعَانَ عَلَى مَا حَمَّلَهُ اللَّهُ مِنْ حَقِّهِ- وَ لَا امْرُؤٌ وَ إِنْ صَغَّرَتْهُ النُّفُوسُ- وَ اقْتَحَمَتْهُ الْعُيُونُ- بِدُونِ أَنْ يُعِينَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يُعَانَ عَلَيْهِ فَأَجَابَهُ ع رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ- بِكَلَامٍ طَوِيلٍ يُكْثِرُ فِيهِ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ-

وَ يَذْكُرُ سَمْعَهُ وَ طَاعَتَهُ لَهُ فَقَالَ ع إِنَّ مِنْ حَقِّ مَنْ عَظُمَ جَلَالُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي نَفْسِهِ- وَ جَلَّ مَوْضِعُهُ مِنْ قَلْبِهِ- أَنْ يَصْغُرَ عِنْدَهُ لِعِظَمِ ذَلِكَ كُلُّ مَا سِوَاهُ- وَ إِنَّ أَحَقَّ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَنْ عَظُمَتْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ- وَ لَطُفَ إِحْسَانُهُ إِلَيْهِ فَإِنَّهُ لَمْ تَعْظُمْ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَى أَحَدٍ- إِلَّا ازْدَادَ حَقُّ اللَّهِ عَلَيْهِ عِظَماً- وَ إِنَّ مِنْ أَسْخَفِ حَالَاتِ الْوُلَاةِ عِنْدَ صَالِحِ النَّاسِ- أَنْ يُظَنَّ بِهِمْ حُبُّ الْفَخْرِ- وَ يُوضَعَ أَمْرُهُمْ عَلَى الْكِبْرِ- وَ قَدْ كَرِهْتُ أَنْ يَكُونَ جَالَ فِي ظَنِّكُمْ أَنِّي أُحِبُّ الْإِطْرَاءَ- وَ اسْتِمَاعَ الثَّنَاءِ وَ لَسْتُ بِحَمْدِ اللَّهِ كَذَلِكَ- وَ لَوْ كُنْتُ أُحِبُّ أَنْ يُقَالَ ذَلِكَ- لَتَرَكْتُهُ انْحِطَاطاً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ- عَنْ تَنَاوُلِ مَا هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْعَظَمَةِ وَ الْكِبْرِيَاءِ- وَ رُبَّمَا اسْتَحْلَى النَّاسُ الثَّنَاءَ بَعْدَ الْبَلَاءِ- فَلَا تُثْنُوا عَلَيَّ بِجَمِيلِ ثَنَاءٍ- لِإِخْرَاجِي نَفْسِي إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ إِلَيْكُمْ مِنَ التَّقِيَّةِ- فِي حُقُوقٍ لَمْ أَفْرُغْ مِنْ أَدَائِهَا وَ فَرَائِضَ لَا بُدَّ مِنْ إِمْضَائِهَا- فَلَا تُكَلِّمُونِي بِمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ- وَ لَا تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ- وَ لَا تُخَالِطُونِي بِالْمُصَانَعَةِ وَ لَا تَظُنُّوا بِي اسْتِثْقَالًا فِي حَقٍّ قِيلَ لِي- وَ لَا الْتِمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِي- فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ- أَوِ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ- فَلَا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ- فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ- وَ لَا آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي- إِلَّا أَنْ يَكْفِيَ اللَّهُ مِنْ نَفْسِي مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي- فَإِنَّمَا أَنَا وَ أَنْتُمْ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ لِرَبٍّ لَا رَبَّ غَيْرُهُ- يَمْلِكُ مِنَّا مَا لَا نَمْلِكُ مِنْ أَنْفُسِنَا- وَ أَخْرَجَنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ إِلَى مَا صَلَحْنَا عَلَيْهِ- فَأَبْدَلَنَا بَعْدَ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى وَ أَعْطَانَا الْبَصِيرَةَ بَعْدَ الْعَمَى

اللغة
أقول: أذلالها: وجوهها و طرقها.

و أجحف بهم: ذهب بأصلهم.

و الإدغال: الإفساد.

و اقتحمته: دخلت فيه بالاحتقاد و الازدراد.

و أسخف: أضعف و أصغر.

و البادرة: الحدّة.

و غرض الفصل جمع كلمتهم و اتّفاقهم على أوامره
فأشار أوّلا إلى أنّ لكلّ منه و منهم على الآخر حقّ يجب أن يخرج إليه منه
فحقّه عليهم هو حقّ ولايته لأمرهم، و حقّهم عليه حقّ الرعيّة على الوالى، و هو مثله في وجوب مراعاته و في استلزامه اللوازم الّتي سيذكرها. و قوله: فالحقّ أوسع. إلى قوله: قضائه. تقرير لوجوب حقّه عليهم، و كالتوبيخ لهم على قلّة الإنصاف فيه. و معناه أنّه إذا أخذ الناس في وصف الحقّ و بيانه كان له في ذلك مجال واسع لسهولته على ألسنتهم، و إذا حضر الناصف بينهم و طلب منهم ضاق عليهم المجال لشدّة العمل بالحقّ و صعوبة الانصاف لاستلزامه ترك بعض المطالب المحبوبة لهم، و إطلاق السعة و الضيق على الحقّ استعارة ملاحظة لتشبيه ما يتوهّم فيه من اتّساعه للقول و ضيقه عن العمل بالمكان الّذي يتّسع لشي‏ء أو يضيق عمّا هو أعظم منه. و قوله: لا يجرى لأحد إلّا جرى عليه. تقرير للحقّ عليهم و توطين لنفوسهم عليه، و لا يجرى عليه إلّا جرى له تسكين لنفوسهم بذكر الحقّ لهم. ثمّ أعاد تقرير الحقّ عليهم بحجّة في صورة متّصلة، و هى لو كان لأحد أن يجرى له الحقّ و لا يجرى عليه لكان اللّه تعالى هو الأولى بخلوص ذلك له دون خلقه. ثمّ بيّن الملازمة بقوله: لقدرته. إلى قوله: صروف قضائه: أى لكونه قادرا على عباده و على الانتصاف منهم مع كونه لا يستحقّ عليه شي‏ء لهم لعدله فيهم في كلّ ما جرت به مقاديره الّتي هى صروف قضائه فكان أولى بخلوص ذلك دونهم، و بيّن استثناء نقيض التالى باستثناء ملزومه و هو قوله: و لكنّه تعالى جعل. إلى قوله: أهله، و معناه لكنّه تعالى جعل لنفسه على عباده حقّا هو طاعتهم له ليثبت لهم بذلك حقّا يكون جزاء طاعتهم له فقد ثبت أنّه لم يخلص ذلك للّه تعالى بل كما أوجب على عباده حقّا له أوجب لهم على نفسه بذلك حقّا. فإذن لا يجرى لأحد حقّ إلّا جرى عليه و هو نقيض المقدّم، و في قوله: مضاعفة الثواب. إلى قوله: أهله تنبيه لهم على أنّ الحقّ الّذي أوجبه على نفسه أعظم ممّا أوجب لها مع أنّه ليس بحقّ وجب عليه بل بفضل منه عليهم ممّا هو أهله من مزيد النعمة ليتخلّقوا بأخلاق اللّه في أداء ما وجب عليهم من الحقّ بأفضل وجوهه و يقابلوا ذلك التفضّل بمزيد الشكر، و تلك المضاعفة كما في قوله تعالى مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها«» و نحوه. و قوله: ثمّ جعل سبحانه. إلى قوله: ببعض. كالمقدّمة لما يريد أن ينبّه من كون حقّه عليهم واجبا من قبل اللّه تعالى و هو حقّ من حقوقه ليكون أدعى لهم إلى أدائه. و بيّن فيها أنّ حقوق الخلق بعضهم على بعض من حقّ اللّه تعالى من حيث إنّ حقّه على عباده هو الطاعة، و أداء تلك الحقوق طاعات للّه كحقّ الوالد على ولده و بالعكس، و حقّ الزوج على الزوجة، و حقّ الوالى على الرعيّة و بالعكس. و قوله: فجعلها تتكافأ في وجوهها. أى جعل كلّ وجه من تلك الحقوق مقابلا لمثله فحقّ الوالى و هو الطاعة من الرعيّة مقابل لمثله منه و هو العدل فيهم و حسن السيرة، و لا يستوجب كلّ من‏ الحقّين إلّا بالآخر. ثمّ قال: و أعظم ما افترض اللّه من تلك الحقوق حقّ الوالى على الرعيّة و حقّ الرعيّة على الوالى لأنّ هذين الحقّين أمرين كلّيّين تدور عليها أكثر المصالح في المعاش و المعاد، و أكّد ذلك بقوله: فريضة فرضها اللّه سبحانه لكلّ على كلّ: أى ذلك فريضة.

و قوله: فجعلها نظاما. إلى قوله: عند العباد.
إشارة إلى لوازم حقّ الوالى على الرعيّة و حقّ الرعيّة على الوالى:
(ا) إنّ اللّه تعالى جعل تلك الحقوق سببا لالفتهم إن أدّى كلّ إلى كلّ حقّه، و قد بيّنا فيما سلف غير مرّة أنّ الفتهم من أعزّ مطالب الشارع، و أنّها مطلوبة من اجتماع الخلق على الصلاة في المساجد: في كلّ يوم خمس مرّات، و في كلّ اسبوع مرّة في الجمعة، و في كلّ سنة مرّتين في الأعياد. و التناصف و الاجتماع في طاعة الإمام العادل من موجبات الانس و الالفة و المحبّة في اللّه حتّى يكون الناس كلّهم كرجل واحد عالم بما يصلحه و متّبع له و بما يفسده و مجتنب عنه. (ب) أنّه جعل تلك الحقوق عزّا لدينهم، و ظاهر أنّ الاجتماع إذا كان سببا للالفة و المحبّة كان سببا عظيما للقوّة و لقهر الأعداء و إعزاز الدين. ثمّ أكّد القول في أنّ صلاح الرعيّة منوط بصلاح الولاة، و هو أمر قد شهدت به العقول و توافقت عليه الآراء الحقّة، و إليه أشار القائل: تهدى الرعيّة ما استقام الرئيس.

و قول الآخر:
تهدى الامور بأهل الرأي ما صلحت فإن تولّت فبا لأشرار تنقاد

و كذلك صلاح حال الولاة منوط بصلاح الرعيّة و استقامتهم في طاعتهم، و فساد أحوالهم بعصيانهم و مخالفتهم. فإذا أدّى كلّ من الوالى و الرعيّة الحقّ إلى صاحبه عزّ الحقّ بينهم و لم يكن له مخالف. (ج) من لوازم ذلك قيام مناهج الدين و طرقه بالاستقامة على قوانينه و العمل بها.

(د) و اعتدال معالم العدل و مظانّه بحيث لاجور فيها.

(ه) و جريان السنن على وجوهها و مسالكها بحيث لا تحريف فيها.

(و) صلاح الزمان بذلك. و نسبة الصلاح إليه مجاز. إذ الصلاح في الحقيقة يعود إلى حال أهل الزمان و انتظام امورهم في معاشهم و معادهم، و إنّما يوصف بالصلاح و الفساد باعتبار وقوعهما فيه و كونه من الأسباب المعدّة لهما.

(ز) من لوازم ذلك الطمع في بقاء الدولة و يأس مطامع الأعداء في فسادها و هدمها. و قوله: فإذا غلبت. إلى قوله: عند العباد. إشارة إلى ما يلزم عصيان الرعيّة للإمام أو حيفه هو عليهم و إجحافه بهم في الفساد: (ا) اختلاف الكلمة، و كنّى به عن اختلاف الآراء و التفرّق بسببه. (ب) ظهور معالم الجور و علاماته، و هو ظاهر لعدم العدل بعدم أسبابه. (ج) كثرة الفساد في الدين، و ذلك لتبدّد الأهواء و تفّرقها عن رأى الإمام العادل الجامع لها، و أخذ كلّ فيما يشتهيه ممّا هو مفسد للدين و مخالف له. (د) ترك محاجّ السنن و طرقها. فمن الإمام لجوره، و من الرعيّة لتبدّد نظام آرائها. (ه) العمل بالهوى. و علّته ما مرّ. (و) تعطيل الأحكام الشرعيّة، و هو لازم للعمل بالهوى. (ز) و كثرة علل النفوس، و عللها أمراضها بملكات السوء كالغلّ و الحسد و العداوات و العجب و الكبر و نحوها، و قيل: عللها وجوه ارتكابها للمنكرات فيأتى في كلّ منكر بوجه و علّة و رأى فاسد. (ح) فلا يستوحش بعظيم حقّ عطّل، و ذلك للانس بتعطيله، و لا بعظيم باطل فعل، و ذلك لاعتياده و الاتّفاق عليه و كونه مقتضى الأهويه. (ط) فهنالك تذلّ الأبرار لذلّة الحقّ المعطّل الّذي هم أهله و كان غيرهم بغيره.(ى) و تعزّ الأشرار لعزّة الباطل الّذي هم عليه بعد ذلّهم بعزّة الحقّ. (يا) و تعظم تبعات اللّه على العباد: أى عقوباته بسبب خروجهم عن طاعته. و لمّا بيّن لوازم طاعته و عصيانه قال: فعليكم بالتناصح في ذلك: أى في ذلك الحقّ، و حسن التعاون عليه.

و قوله: فليس أحد. إلى قوله: من الطاعة له. تأكيد لأمره بالمبالغة في طاعة اللّه: أى قليل من الناس يبلغ بطاعته للّه تعالى ما هو أهله منها و إن اشتدّ حرصه على إرضائها بالعمل و طال فيه اجتهاده، و لكن على العباد من ذلك مبلغ جهدهم في النصيحة و التعاون على إقامة حقّ اللّه بينهم بقدر الإمكان لا بقدر ما يستحقّه هو تعالى فإنّ ذلك غير ممكن. و قوله: و ليس امرؤ و إن عظمت. إلى قوله: حمّله اللّه تعالى من حقّه. أى أنّه و إن بلغ المرء أىّ درجة كانت من طاعة اللّه فهو محتاج إلى أن يعان عليها، و ليس هو بأرفع من أن يعان على ما حمّله اللّه منها، و ذلك أنّ تكليف اللّه تعالى بطاعته بحسب وسع المكلّف، و الوسع في بعض العبادات قد يكون مشروطا بمعونة الغير فيها فلا يستغنى أحد منها. و قوله: و لا امرء و إن صغّرته النفوس. إلى قوله: أو يعان عليه.
إشارة إلى أنّه لا ينبغي أن يزدرى أحد عن الاستعانة في طاعة اللّه أو أن يعان عليها
فإنّه و إن احتقرته النفوس فليس بدون أن يعين على طاعة اللّه و أداء حقّه و لو بقبول الصدقات و نحوها أو تعاونوا عليها بإعطاء ما يسدّ خلّتهم أو يدفع عنهم ضررا كالجاه، و لفظ الاقتحام استعارة، و وجهها أنّ الّذي تحتقره النفوس تجبّرا عليه و تعبره العيون عبور الاحتقار فكأنّها قد اقتحمته. و غرض هذا الكلام الحثّ على استعانة بعض ببعض و على الالفة و الاتّحاد في‏ الدين، و أن لا يزدرى فقير لفقره و لا ضعيف لضعفه، و أن لا يستغنى غنىّ عن فقير فلا يلتفت إليه و لا قوىّ عن ضعيف فيحتقره بل أن يكون الكلّ كنفس واحدة. و أمّا قوله لمن أكثر عليه الثناء فحاصله التأديب على الإطراء أو النهى عن الغلوّ في الثناء على الإنسان في وجهه‏ بالفضائل و إن كانت حقّه، و سرّه أنّ ذلك يستلزم في كثير من الناس الكبر و العجب بالنفس و العمل.

فقوله: إنّ من حقّ من عظم. إلى قوله: إحسانه إليه. مقدّمة في الجواب بيّن فيها أنّ من عظمت نعمة اللّه عليه و لطف إحسانه إليه فحقّه أن يصغر عنده كلّ ما سواه بقياس من الشكل الأوّل، و تقدير صغراه أنّ من عظمت نعم اللّه عليه و لطف إحسانه إليه فهو أحقّ الناس بتعظيم جلال اللّه في نفسه و إجلال موضعه من قلبه، و تقدير كبراه و كلّ من كان أحقّ بذلك فمن حقّه أن يصغر كلّ ما سواه عنده، و دلّ على الكبرى بقوله: لعظم ذلك: أى لعظم جلال اللّه في قلبه يجب أن يصغر عنده كلّ شي‏ء سواه، و هذه المقدّمة و إن كانت عامّة إلّا أنّ الإشارة الحاضرة بها إلى نفسه، و ذلك أنّ أعظم نعمة اللّه في الدنيا خلافة المسلمين، و في الآخرة ما هو عليه من الكمالات النفسانيّة فكان أحقّ الناس بتعظيم جلال اللّه في نفسه، و كان بذلك من حقّه أن يصغر كلّ ما سوى اللّه في قلبه. ثمّ قال: و من أسخف حالات الولات. إلى قوله: و الكبرياء. فكأنّه قال: و من كان من حقّه أن يصغر كلّ ما سوى اللّه في قلبه فكيف يليق به أن يحبّ الفخر أو يصنع أمره على الكبر الذين لا يليقان إلّا بعظمة اللّه، أو يظنّ به ذلك و يعامل بما يعامل به الجبابرة من الخطاب به، و صرّح بأنّ المراد نفسه في قوله: و قد كرهت، إلى آخره. و قوله: و لو كنت احبّ أن يقال فيّ ذلك. يجرى مجرى تسليم الجدل: أى وهب إنّى احبّ أن يقال ذلك فيّ باعتبار ما فيه اللذّة لكنّى لو كنت كذلك لتركته باعتبار آخر، و هو الانحطاط و التصاغر عن تناول ما هو اللّه أحقّ به من العظمة و الكبرياء، و نبّه في ذلك على أنّ الإطراء يستلزم التكبّر و التعظيم فكان تركه له و كراهته لكونه مستلزما لهما. و قوله: و ربّما استحلى الناس الثناء بعد البلاء. يجرى مجرى تمهيد العذر لمن أثنى عليه فكأنّه يقول: و أنت معذور في‏ ذلك حيث رأيتنى اجاهد في اللّه و أحثّ الناس على ذلك، و من عادة الناس أن يستحلوا الثناء عند أن يبلوا بلاء حسنا في جهاد أو غيره من ساير الطاعات. ثمّ أجاب عن هذا العذر في نفسه بقوله: فلا تثنوا علىّ بجميل ثناء، إلى قوله: من إمضائها، و أراد فلا تثنوا علىّ لأجل ما ترونه منّى من طاعة اللّه فإنّ ذلك إنّما هو إخراج لنفسى إلى اللّه من الحقوق الباقية علىّ لم أفرغ بعد من أدائها و هى حقوق نعمه، و من فرائضه الّتي لا بدّ من المضى فيها، و كذلك إليكم من الحقوق الّتي أوجبها اللّه علىّ لكم من النصيحة في الدين و الارشاد إلى الطريق الأقصد و التعليم لكيفيّة سلوكه، و في خطّ الرضى- رحمه اللّه- من التقيّة بالتاء، و المعنى فإنّ الّذي أفعله من طاعة اللّه إنّما هو إخراج لنفسى إلى اللّه و إليكم من تقيّة الحقّ فيما يجب علىّ من الحقوق إذ كان عليه السّلام إنّما يعبد اللّه للّه غير ملتفت في شي‏ء من عبادته و أداء واجب حقّه إلى أحد سواء خوفا منه أو رغبة إليه، و كأنّه قال: لم أفعل شيئا إلّا و هو ذا حقّ وجب علىّ و إذا كان كذلك فكيف أستحقّ أن يثنى علىّ لأجله بثناء جميل و اقابل بهذا التعظيم، و هو من باب التواضع للّه و تعليم كيفيّته و كسر النفس عن محبّة الباطل و الميل إليه.

و قوله: فلا تكلّمونى. إلى قوله: بعدل.
إرشاد لهم إلى ما ينبغي أن يكونوا عليه من السيرة عنده و نهاهم من امور:
(ا) أن لا يكلّموه بكلام الجبابرة لما فيه من إغراء النفس، و لأنّه عليه السّلام ليس بجبّار فيكون ذلك منهم وصفا للشي‏ء في غير موضعه. (ب) أن لا يتحفّظوا منه بما يتحفّظ به عند أهل البادرة و سرعة الغضب من الملوك و غيرهم، و ذلك التحفّظ كتكلّف ترك المساورة و الحديث إجلالا و خوفا منه أو كترك مشاورته أو إعلامه ببعض الامور أو كالقيام بين يديه فإنّ ذلك التحفّظ قد يفوت به مصالح كثيرة، و لأنّه ممّا يغرى النفس بحبّ الفخر و العجب، و لأنّه وضع للشي‏ء في غير موضعه. (ج) أن لا تخالطوه بالمصانعة و النفاق لما فيه من فساد الدين و الدنيا.(د) أن لا يظنّوا به استثقالا لحقّ يقال له و إن كان فيه مرارة، و استعار لفظ المرار لشدّة الحقّ و صعوبته فإنّ عدله عليه السّلام و ما يستلزمه من قبول الحقّ كيف كان يرشد إلى أن لا يظنّوا به أنّه يلتمس الإعظام لنفسه، و ذلك لمعرفته بمن هو أهله دونه و هو اللّه تعالى. و قوله: فإنّه من استثقل. إلى قوله: أثقل. قياس ضمير من الشكل الثاني بيّن فيه أنّه لا يستثقل قول الحقّ له و عرض العدل عليه ليزول ظنّ من ظنّ ذلك به، و المذكور هو صغرى القياس و تلخيصها أنّ من استثقل قول الحقّ له و عرض العدل عليه كان العمل الحقّ و العدل عليه ثقيلا بطريق أولى، و تقدير الكبرى و لا شي‏ء من العمل بهما بثقيل علىّ أمّا الصغرى فظاهرة لأنّ تكلّف فعل الحقّ أصعب على النفس من سماع وصفه، و أمّا الكبرى فلأنّه عليه السّلام يعمل بهما من غير تكلّف و استثقال كما هو المعلوم من حاله فينتج أنّه لا شي‏ء من قول الحقّ له و عرض العدل عليه بثقيل. (ه) أن لا يكفّوا عن قول حقّ و مشورة بعدل لما في الكفّ عن ذلك من المفسدة.
و قوله: فإنّى لست. إلى قوله: منّى. من قبيل التواضع الباعث لهم على الانبساط معه بقول الحقّ، و في قوله: إلّا أن يكفى اللّه من نفسى: أى من نفسى الأمّارة بالسوء ما هو أقوى منّى على دفعه و كفايته من شرورها، و هو إسناد العصمة إلى اللّه تعالى. و قوله: فإنّما أنا و أنتم. إلى آخر. تأديب في الانقياد للّه و تذليل لعظمته، و ظاهر كونه تعالى يملك من أنفسنا و ميولها و خواطرها. إذ الكلّ منه و هو مبدء فيضه و الاستعداد له. و قوله: و أخرجنا ممّا كنّا فيه.
أى من الضلالة في الجاهليّة و عمى الجهل فيها عن إدراك الحقّ و سلوك‏ سبيل اللّه إلى ما صلحنا عليه: أى من الهدى بسبيل اللّه و البصيرة لما ينبغي من مصالح الدارين، و ذلك ببعثة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ظهور نور النبوّة عنه.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 4 ، صفحه‏ى 38

خطبه 206 شرح ابن میثم بحرانی

و من دعائه له عليه السّلام
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يُصْبِحْ بِي مَيِّتاً وَ لَا سَقِيماً- وَ لَا مَضْرُوباً عَلَى عُرُوقِي بِسُوءٍ- وَ لَا مَأْخُوذاً بِأَسْوَإِ عَمَلِي وَ لَا مَقْطُوعاً دَابِرِي- وَ لَا مُرْتَدّاً عَنْ دِينِي وَ لَا مُنْكِراً لِرَبِّي- وَ لَا مُسْتَوْحِشاً مِنْ إِيمَانِي وَ لَا مُلْتَبِساً عَقْلِي- وَ لَا مُعَذَّباً بِعَذَابِ الْأُمَمِ مِنْ قَبْلِي- أَصْبَحْتُ عَبْداً مَمْلُوكاً ظَالِماً لِنَفْسِي- لَكَ الْحُجَّةُ عَلَيَّ وَ لَا حُجَّةَ لِي- وَ لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ آخُذَ إِلَّا مَا أَعْطَيْتَنِي- وَ لَا أَتَّقِيَ إِلَّا مَا وَقَيْتَنِي- اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَفْتَقِرَ فِي غِنَاكَ- أَوْ أَضِلَّ فِي هُدَاكَ أَوْ أُضَامَ فِي سُلْطَانِكَ- أَوْ أُضْطَهَدَ وَ الْأَمْرُ لَكَ- اللَّهُمَّ اجْعَلْ نَفْسِي أَوَّلَ كَرِيمَةٍ تَنْتَزِعُهَا مِنْ كَرَائِمِي- وَ أَوَّلَ وَدِيعَةٍ تَرْتَجِعُهَا مِنْ وَدَائِعِ نِعَمِكَ عِنْدِي- اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَذْهَبَ عَنْ قَوْلِكَ- أَوْ أَنْ نُفْتَتَنَ عَنْ دِينِكَ- أَوْ تَتَابَعَ بِنَا أَهْوَاؤُنَا دُونَ الْهُدَى الَّذِي جَاءَ مِنْ عِنْدِكَ

اللغة
أقول: الدابر: بقيّة الرجل و ولده و نسله.

و الدابر: الظهر.

و الالتباس: الاختلاط.

و اضطهد: أظلم.

و التتابع: التهافت في الشرّ و إلقاء النفس فيه.

المعنى
و قد حمد اللّه تعالى باعتبار ضروب من النعم اعترف بها و عدّ منها عشرة: و هى الحياة، و الصحّة، و السلامة من آفات العروق و أمراضها. و من الأخذ بالجريمة.

و قطع النسل، و يحتمل أن يريد بالدابر الظهر، و كنّى بالقطع عن الرمى بالدواهى العظيمة الّتي من شأنها قصم الظهر و قطع القوّ. ثمّ عن الارتداد. ثمّ عن جحود ربوبيّة اللّه. ثمّ عن الاستيحاش من الإيمان استثقاله و النفرة عنه. ثمّ من اختلاط العقل.
ثمّ من التعذيب بعذاب الامم السالفة بالصواعق و الخسف و نحوها. و عقّب ذلك الحمد بالإقرار على نفسه و صفات الخضوع و الذلّة المستلزمة لاستنزال الرحمة و عدّ منها خمسة: و هى كونه عبدا مملوكا للّه تعالى. ثمّ كونه ظالما لنفسه. ثمّ كونه معترفا بحجّة اللّه عليه مقطوع الحجّة في نفسه. ثمّ كونه معترفا بعدم استطاعة أن يأخذ إلّا ما قسّم اللّه له و سبّب له الوصول إليه، و أنّه لا يقدر أن يتّقى من المضارّ إلّا ما وقاه اللّه إيّاه. ثمّ لمّا أعدّ نفسه بهذه الإقرارات بقبول الرحمة من اللّه استعاذ به من اموره: و هى أن يفتقر في غناه تعالى: أى أن يفتقر مع أنّه الغنىّ المطلق، و أن يضلّ في هداه: أى مع أنّ له الهدى الّذي لا اختلال معه، و أن يظلم في سلطانه: أى مع أنّ له السلطان الظاهر، و أن يضطهد و له الأمر القاهر. ثمّ سأله أن يجعل نفسه أوّل كريمة ينتزعها من كرائمه. و أراد بكرائمه قواه النفسانيّة و البدنيّة و أعضاه، و غرض السؤال تمتّعه بجميعها سليمة من الآفات إلى حين الممات فتكون نفسه أوّل منتزع من كرائمه قبل أن يفقد شي‏ء منها. و نحوه قول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: الّلهمّ متّعنى بسمعى و بصرى و اجعلهما الوارث منى: أى اجعلهما باقيين صحيحين إلى حين وفاتى. و استعار لفظ الوديعة للنفس باعتبار أنّها في معرض الاسترجاع كالوديعة. ثمّ استعاذ به من الذهاب عن قوله تعالى: و الافتنان عن دينه. و قد روى الرضى- رضوان اللّه عليه- يفتتن بالبناء للفاعل على أن يكون الفتنة من النفس الأمّارة. و روى و يفتتن بالبناء للمفعول فيكون المستعار منه الفتنة بالغير. ثمّ من الانخراط في سلك الأهواء و تتابعها به في مرامى الشقاوة دون الهدى الّذي جاءت به الكتب الإلهيّة من عند اللّه. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم‏بحراني)، ج 4 ، صفحه‏ى 37

 

خطبه 205 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام
وَ أَشْهَدُ أَنَّهُ عَدْلٌ عَدَلَ وَ حَكَمٌ فَصَلَ- وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ سَيِّدُ عِبَادِهِ- كُلَّمَا نَسَخَ اللَّهُ الْخَلْقَ فِرْقَتَيْنِ جَعَلَهُ فِي خَيْرِهِمَا- لَمْ يُسْهِمْ فِيهِ عَاهِرٌ وَ لَا ضَرَبَ فِيهِ فَاجِرٌ- أَلَا وَ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَعَلَ لِلْخَيْرِ أَهْلًا- وَ لِلْحَقِّ دَعَائِمَ وَ لِلطَّاعَةِ- عِصَماً- وَ إِنَ‏ لَكُمْ عِنْدَ كُلِّ طَاعَةٍ عَوْناً مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ- يَقُولُ عَلَى الْأَلْسِنَةِ وَ يُثَبِّتُ الْأَفْئِدَةَ- فِيهِ كِفَاءٌ لِمُكْتَفٍ وَ شِفَاءٌ لِمُشْتَفٍ وَ اعْلَمُوا أَنَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُسْتَحْفَظِينَ عِلْمَهُ- يَصُونُونَ مَصُونَهُ وَ يُفَجِّرُونَ عُيُونَهُ- يَتَوَاصَلُونَ بِالْوِلَايَةِ- وَ يَتَلَاقَوْنَ بِالْمَحَبَّةِ وَ يَتَسَاقَوْنَ بِكَأْسٍ رَوِيَّةٍ- وَ يَصْدُرُونَ بِرِيَّةٍ لَا تَشُوبُهُمُ الرِّيبَةُ- وَ لَا تُسْرِعُ فِيهِمُ الْغِيبَةُ- عَلَى ذَلِكَ عَقَدَ خَلْقَهُمْ وَ أَخْلَاقَهُمْ- فَعَلَيْهِ يَتَحَابُّونَ وَ بِهِ يَتَوَاصَلُونَ- فَكَانُوا كَتَفَاضُلِ الْبَذْرِ يُنْتَقَى فَيُؤْخَذُ مِنْهُ وَ يُلْقَى- قَدْ مَيَّزَهُ التَّخْلِيصُ وَ هَذَّبَهُ التَّمْحِيصُ فَلْيَقْبَلِ امْرُؤٌ كَرَامَةً بِقَبُولِهَا- وَ لْيَحْذَرْ قَارِعَةً قَبْلَ حُلُولِهَا- وَ لْيَنْظُرِ امْرُؤٌ فِي قَصِيرِ أَيَّامِهِ وَ قَلِيلِ مُقَامِهِ فِي مَنْزِلٍ- حَتَّى يَسْتَبْدِلَ بِهِ مَنْزِلًا- فَلْيَصْنَعْ لِمُتَحَوَّلِهِ وَ مَعَارِفِ مُنْتَقَلِهِ- فَطُوبَى لِذِي قَلْبٍ سَلِيمٍ- أَطَاعَ مَنْ يَهْدِيهِ وَ تَجَنَّبَ مَنْ يُرْدِيهِ- وَ أَصَابَ سَبِيلَ السَّلَامَةِ بِبَصَرِ مَنْ بَصَّرَهُ- وَ طَاعَةِ هَادٍ أَمَرَهُ وَ بَادَرَ الْهُدَى قَبْلَ أَنْ تُغْلَقَ أَبْوَابُهُ- وَ تُقْطَعَ أَسْبَابُهُ وَ اسْتَفْتَحَ التَّوْبَةَ وَ أَمَاطَ الْحَوْبَةَ- فَقَدْ أُقِيمَ عَلَى الطَّرِيقِ وَ هُدِيَ نَهْجَ السَّبِيلِ

اللغة

أقول: نسخ: أزال و غيّر.

و العاهر: الزانى و يصدق على الذكر و الانثى، و كذلك الفاجر.

و الكفاء: الكفاية و المكافاة.

و الريّة بالكسر: الفعلة منه الري و هى الهيئة الّتي عليها المرتوى.

و الريبة الدغل و الغلّ.

و التمحيص: الابتلاء و الاختبار.

و القارعة: الشديدة من شدائد الدهر.

و يرديه: يوقعه في الردى. 

وأماط: أزال.

و الحوبة: الإثم.

المعنى
و أطلق لفظ العدل على العادل مجازا إطلاقا لاسم اللازم على ملزومه، و البارى تعالى عادل بالنظر إلى علمه و قضائه: أى لا يقضى في ملكه بأمر إلّا و هو على وفق النظام الكلّىّ و الحكمة البالغة، و يدخل في ذلك جميع أقواله و أفعاله فإنّه لا يصدر منها شي‏ء إلّا و هو كذلك، و أمّا الجزئيّات المعدودة شرورا و صورة جور في هذا العالم فإنّها إذا اعتبرت كانت شرورا بالنسبة و مع ذلك فهى من لوازم الخير و العدل لا بدّ منها و لا يمكن أن يكون العدل و الخير من دونها كما لا يمكن أن يكون الإنسان إنسانا إلّا و هو ذو شهوة و غضب تلزمها الفساد و الشرّ الجزئيّ، و لمّا كان الخير أكثر و كان ترك الخير الكثير لأجل الشرّ القليل شرّا كثيرا في الجود و الحكمة وجب وجود تلك الشرور الجزئيّة لوجود ملزوماتها، و أشار بقوله: عدل إلى إيجاد العدل بالفعل، و بقوله في وصف الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: سيّد عباده إلى قوله: أنا سيّد ولد آدم و لا فخر. و قوله: كلّما نسخ اللّه الخلق فرقتين. فنسخ الخلق قسمة كلّ قرن و فرقة إلى خيار و أشرار، و القسمة يغيّر للمقسوم و إزالة عن حال إتحاده. و قوله: جعله في خيرهما. إشارة إلى ما روى عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال المطّلب بن أبى وداعة: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنا محمّد بن عبد اللّه بن عبد المطّلب إنّ اللّه خلق الخلق فجعلنى في خيرهم. ثمّ جعلهم فرقتين فجعلنى في خيرهم. ثمّ جعلهم قبايل فجعلنى في خيرهم.
ثمّ جعلهم بيوتا فجعلنى في خيرهم فأنا خيركم بيتا و خيركم نفسا. و قوله: لم يسهم فيه عاهر، و لا ضرب فيه فاجر. أى لم يضرب فيه العاهر بسهم و لم يكن للفجور في أصله شركة يقال: ضرب في كذا بنصيب إذا كان له فيه شرك، و هو إشارة إلى طهارته من قبل أصله عن الزنا كما روى عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يزل ينقلني اللّه تعالى من أصلاب الطاهرين إلى أرحام‏ الطاهرات، و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لمّا خلق اللّه آدم أودع نورى في جبينه فما زال ينقله من الآباء الأخاير إلى الامّهات الطواهر حتّى انتهى إلى عبد المطّلب، و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ولدت من نكاح لا من سفاح. و قوله: ألا و إنّ اللّه. إلى قوله: عصما. ترغيب للسامعين أن يكونوا أهل الجنّة و دعائم الحقّ و عصم الطاعة، و كذلك قوله: و إنّ لكم. إلى قوله: من اللّه. جذب لهم إلى طاعته بذكر العون منه و كأنّه عنّى بالعون القرآن الكريم. و قوله: يقول على الألسنة، و يثبّت الأفئدة. تفصيل لوجوه العون منه تعالى، و عونه من جهة القول على الألسنة وعده المطيعين بالثواب العظيم على الطاعة، و مدحه لهم، و تبشيرهم بالجنّة و الرضوان منه على ألسنة الرسل فإنّ كلّ ذلك مقوّ على الطاعة و معين عليها، و أمّا تثبيت الأفئدة فمن جهة الاستعداد لطاعة اللّه و استلاحة أنواره من كتابه العزيز و استكشاف أسراره كما قال تعالى أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ«» و قوله كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا«» و إنّ في القرآن الكريم من المواعظ و الزواجر المخوّفة ما يوجب الفزع إلى اللّه و تثبّت القلوب على طاعته للخلاص منها.
و قوله: فيه كفاء لمكتف. أى في ذلك القول كفاية لطالبى الاكتفاء: أى من الكمالات النفسانيّة، و شفاء لمن طلب الشفاء من أمراض الرذائل الموبقة. ثمّ نبّه على عباد اللّه الصالحين و صفاتهم ليقتفوا آثارهم و يكونوا منهم فأعلمهم أنّهم هم الّذين استحفظهم علمه و أسرار خلقه.
فمن صفاتهم امور:

أحدها: أنّهم يصرفون ما وجب صرفه من غير أهله، و لا يضعون أسراره إلّا في أهله.

الثاني: يفجّرون عيونه، و لفظ العيون مستعار إمّا لمعادنه و هى أذهان‏ الأنبياء و الأولياء و أئمّة العلماء، و إمّا لاصوله الطيّبة و حملته الّتى علموها، و يكون لفظ التفجير مستعار لإفادتها و تفريقها و تفصيلها.

الثالث: و يتواصلون بالولاية الّتي نصرة بعضهم لبعض في دين اللّه و إقامة ناموس شريعته.

الرابع: و يتلاقون بالمحبّة فيه الّتي هى مطلوب الشارع من شريعته حتّى يصيروا كنفس واحدة. الخامس: و يتساقون بكأس رويّة. و استعار لفظ الكأس للعلم: أى تستفيد بعضهم من بعض. و رشّح بذكر الرويّة، و أراد بها تمام الإفادة.

السادس: و يصدرون بريّة: أى يصدر كلّ منهم عن الآخر بفايدة قد ملأت نفسه كمالا. و لفظ الريّة مستعار.
السابع: كونهم لا تشوبهم الريبة: أى لا يتداخل بعضهم شكّ في بعض، و لا يهمّه بنفاق أو بسوء باطن له من غلّ أو حسد.

الثامن: و لا تسرع فيهم الغيبة. و إنّما نفى عنهم سرعة الغيبة لأنّ فيهم من ليس بمعصوم فلم يكن نفيها عنهم بالكلّيّة بل استبعد وقوعها منهم، و يحتمل أن يريد أنّهم لقلّة عيوبهم لا يكاد أحد يتسرّع فيهم بغيبة.

التاسع: كونهم على ذلك عقد اللّه خلقهم: أى على ذلك الوصف و الكمال قد خلقهم على وفق قضائه لهم بذلك و أوجدهم. فعليه: أى فعلى ما عقد خلقهم عليه من الكمال يتحابّون، و به يتواصلون.

العاشر: كونهم في ذلك كتفاضل البذر. أى فكانوا في فضلهم بالقياس إلى الناس كتفاضل البذر، و أشار إلى وجه الشبه بقوله: ينتقى. إلى قوله: التمحيص، و تقريره أنّهم خلاصة الناس و نقاوتهم الّذين صفاهم منهم و ميّزهم عنهم تخليص عناية اللّه لهم بإفاضة رحمته و هدايته إلى طريقه، و خلّصهم ابتلاؤه و اختباره بأوامره.

و قوله: فليقبل امرء كرامة بقبولها. إلى آخره. عود إلى النصيحة و الموعظة، و أراد كرامة اللّه بطاعته و ما استلزمه من‏ المواهب الجليلة، و أراد بقبولها قبولها الحقّ التامّ على الوجه الّذي ينبغي من مراعاة مصلحتها و مراقبتها عن آثار النفاق كما قال تعالى فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ«» و بالقارعة الّتي حذّر منها قبل حلولها قارعة الموت. ثمّ أمر أن يعتبر المرء قصر أيّام حياته و قلّة مقامه في منزل يستلزم الإقامة القليلة فيه هذه العناية و هى أن يستبدل به منزلا آخر: أى يحلّ محلّ عبرته إقامته القصيرة في الدنيا المستلزمة لانتقاله منها إلى الآخرة فإنّ في تصوّره قلّة المقام في هذا المنزل للعبور إلى منزل آخر عبرة تامّة، و يحتمل أن تكون حتّى غاية من أمره بالنظر في الاعتبار: أى فلينظر في ذلك المنزل يستبدل به غيره، و إذا كان كذلك فينبغى أن يعمل لذلك المنزل المتحوّل إليه، و لمعارف منتقلة: أى لمواضع الّتي يعرف انتقاله إليها. و طوبى فعلى من الطيب قلّبوا ياءها واو للضمّة قبلها، و قيل: هى اسم شجرة في الجنّة، و قلب سليم: أى لم يتدنّس برذيلة الجهل المركّب و لا بنجاسات الأخلاق الرديئة، و من يهديه إشارة إلى نفسه عليه السّلام و أئمّة الدين، و من يرديه في مهاوى الهلاك المنافقون و أئمّة الضلالة، و إصابته لسبيل السلامة وقوفه على سبيل اللّه عند حدوده بهداية من هداه و طاعته لها و أمره بسلوكها، و مبادرته للهدى مسارعته إليه قبل غلق أبوابه، و استعار لفظ الأبواب له و لأئمّة الدين من قبله، و رشّح بذكر الغلق و أراد به عدمهم أو موت الطالب، و كذلك استعار لفظ الأسباب لهم، و وجه الاستعارة كونهم وصلا إلى المراد كالجبال، و رشّح بذكر القطع و أراد به أيضا موتهم، و استفتاح التوبة استقبالها و الشروع فيها، و إماطة الحوبة إزالة الإثم عن لوح نفسه بتوبته.

و قوله: فقد اقيم. إلى آخره. إشعار منه بإقامة أعلام اللّه و هم العلماء و الكتاب المنزل و السنّة النبويّة و الهداية بها إلى واضح سبيله ليقتدى الناس بها و يسلكوا على بصيرة. و باللّه التوفيق و العصمة.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 4 ، صفحه‏ى 36

 

خطبه 204 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام
القسم الأول
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ عَنْ شَبَهِ الْمَخْلُوقِينَ- الْغَالِبِ لِمَقَالِ الْوَاصِفِينَ- الظَّاهِرِ بِعَجَائِبِ تَدْبِيرِهِ لِلنَّاظِرِينَ- وَ الْبَاطِنِ بِجَلَالِ عِزَّتِهِ عَنْ فِكْرِ الْمُتَوَهِّمِينَ- الْعَالِمِ بِلَا اكْتِسَابٍ وَ لَا ازْدِيَادٍ- وَ لَا عِلْمٍ مُسْتَفَادٍ- الْمُقَدِّرِ لِجَمِيعِ الْأُمُورِ بِلَا رَوِيَّةٍ وَ لَا ضَمِيرٍ- الَّذِي لَا تَغْشَاهُ الظُّلَمُ وَ لَا يَسْتَضِي‏ءُ بِالْأَنْوَارِ- وَ لَا يَرْهَقُهُ لَيْلٌ وَ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ نَهَارٌ- لَيْسَ إِدْرَاكُهُ بِالْإِبْصَارِ وَ لَا عِلْمُهُ بِالْإِخْبَارِ
أقول: حمد اللّه تعالى باعتبارات إضافيّة و سلبيّة:
أولها: العلىّ عن شبه المخلوقين
أي في ذاته و صفاته و أفعاله و أقواله، و قد علمت كيفيّة ذلك من غير مرّة.
الثاني: الغالب لمقال الواصفين
و ذلك الغلب إشارة إلى تعاليه عن إحاطة الأوصاف به و فوته لها و عدم القدرة على ذلك منه، و قد أشرنا إلى ذلك مرارا.
الثالث: الظاهر بعجائب تدبيره للناظرين
بأعين بصايرهم و أبصارهم.

الرابع: الباطن بجلال عزّته عن فكر المتوهّمين.
و قد مرّ بيان هذين الوصفين و فايدة قوله: بجلال عزّته تنزيه بطونه عن الفكر باعتبار جلالته و عزّته عن أن تناله لا باعتبار حقارة و صغر، و إنّما قال: فكر المتوهّمين لأنّ النفس الإنسانيّة حال التفاتها إلى استلاحة الامور العلويّة المجردّة لا بدّ أنّ يستعين بالقوّة المتخيّلة يباعث الوهم في أن تصوّر تلك الامور بصور خياليّة مناسبة لتشبيهها بها و تحطّها إلى الخيال، و قد علمت أنّ الوهم إنّما يدرك ما كان متعلّقا بمحسوس أو متخيّل من المحسوسات فكلّ أمر يتصوّره الإنسان و هو في هذا العالم سواء كان ذات اللّه سبحانه أو صفاته أو غير ذلك فلا بدّ أن يكون مشوبا بصورة خياليّة أو معلّقا بها و هو تعالى منزّه بجلال عزّته عن تكيّف تلك الفكر له و باطن عنها.
الخامس: العالم المنزّه في كيفيّة علمه عن اكتساب له بعد جهل أو ازدياد
منه بعد نقصان أو استفادة له عن غير كما عليه علم المخلوقين.
السادس: المقدّر لجميع الامور
أى الموجد لجميع الامور على وفق قضائه كلّا بمقدار معلوم تنزّه فيه عن التفكّر و الضمير، و أراد بالضمير ما اضمر من الرويّة.
السابع: الّذي لا تغشاه الظلم، و لا يستضي‏ء بالأنوار
لتنزّهه عن الجسميّة و لواحقها.
الثامن: و لا يرهقه
أى لا يدركه ليل. و لا يجرى عليه نهار، و ذلك لتنزّهه عن إحاطة الزمان.
التاسع: ليس إدراكه بالأبصار
لتقدّس ذاته عن الحاجة إلى الآلة في الإدراك و غيره.
العاشر: و لا علمه بالأخبار
أى كما عليه كثير من علومنا لتقدّسه عن حاسّة السمع. و باللّه التوفيق.

القسم الثاني و منها فى ذكر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

أَرْسَلَهُ بِالضِّيَاءِ وَ قَدَّمَهُ فِي الِاصْطِفَاءِ- فَرَتَقَ بِهِ الْمَفَاتِقَ وَ سَاوَرَ بِهِ الْمُغَالِبَ- وَ ذَلَّلَ بِهِ الصُّعُوبَةَ وَ سَهَّلَ بِهِ الْحُزُونَةَ- حَتَّى سَرَّحَ الضَّلَالَ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمَالٍ
اللغة
أقول: المساورة: المواثبة.

و سرّح: فرّق.
و قد أشار إلى بعض فضائل النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بعض فوايده
فمن فضائله إرساله بالضياء، و لفظ الضياء مستعار لأنوار الإسلام الهادية في سبيل اللّه إليه، و منها تقديمه على سائر الأنبياء ء في الفضيلة و إن كان الكلّ منهم مصطفى، و ذكر من فوايده كونه رتق به المفاتق، و كنّى بها عن امور العالم المتفرّقة و تشتّت مصالحه زمان الفترة، و رتقها به كناية عن نظمها به بعد تفرّقها كناية بالمستعار، و منها كونه ساور به المغالب، و أسند المساورة إلى اللّه مجازا باعتبار بعثه للنبىّ بالدين عن أمره لمواثبة مغالبه من المشركين و غيرهم، و منها كونه ذلّل به الصعوبة: أى صعوبة أهل الجاهليّة و أعداء دين اللّه، و منها كونه سهّل به الحزونة: أى حزونة طريق اللّه بهدايته فيها إلى غاية أن سرّح الضلال و الجهل عن يمين النفوس و شمالها، و هو إشارة إلى إلقائه رذيلتي التفريط و الإفراط عن ظهور النفوس كسريح جنبتى الحمل عن ظهر الدابة، و هو من ألطف الاستعارات و أبلغها، و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 4 ، صفحه‏ى 29

 

خطبه 203 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام
اللَّهُمَّ أَيُّمَا عَبْدٍ مِنْ عِبَادِكَ- سَمِعَ مَقَالَتَنَا الْعَادِلَةَ غَيْرَ الْجَائِرَةِ- وَ الْمُصْلِحَةَ غَيْرَ الْمُفْسِدَةِ فِي الدِّينِ وَ الدُّنْيَا- فَأَبَى بَعْدَ سَمْعِهِ لَهَا إِلَّا النُّكُوصَ عَنْ نُصْرَتِكَ- وَ الْإِبْطَاءَ عَنْ إِعْزَازِ دِينِكَ- فَإِنَّا نَسْتَشْهِدُكَ عَلَيْهِ يَا أَكْبَرَ الشَّاهِدِينَ شَهَادَةً- وَ نَسْتَشْهِدُ عَلَيْهِ جَمِيعَ مَا أَسْكَنْتَهُ أَرْضَكَ وَ سمَاوَاتِكَ- ثُمَّ أَنْتَ بَعْدَهُ الْمُغْنِي عَنْ نَصْرِهِ- وَ الْآخِذُ لَهُ بِذَنْبِهِ

اللغة
أقول: النكوص: الرجوع على الأعقاب.

و هذا الفصل من خطبة كان يستنهض بها أصحابه إلى جهاد أهل الشام
قال بعد تقاعد أكثرهم عن نصرته. استشهد فيه اللّه تعالى و ملائكته و عباده على من سمع مقالته العادلة المستقيمة الّتي هى طريق اللّه القايدة للناس إلى الرشاد في دينهم ودنياهم المصلحة غير المفسدة لهم و هى دعوته إيّاهم إلى جهاد أعداء الدين و البغاة عليه. ثمّ أعرض عنها و قعد عن نصرته و تباطى‏ء عن إعزاز دينه و أبى إلّا التأخّر عن طاعته، و في ذلك الاستشهاد ترغيب إلى الجهاد و تنفير عن التأخّر عنه. إذ كان كأنّه إعلام للّه بحال المتخاذلين عن نصرة دينه و قعودهم عمّا أمرهم به من الذبّ عنه فتتحرّك أوهامهم لذلك بالفزع إلى طاعته، و كذلك في وصفه لمقالته بالعدل و الإصلاح ترغيب في سماعها و جذب إليها. و في قوله: ثمّ أنت بعد: أى بعد تلك الشهادة عليه المغنى لنا عن نصرته تنبيه على عظمة ملك اللّه، و تحقير للنفوس المتخاذلة عن نصرة الدين، و في ذلك الأخذ بالذنب تذكير بوعيد اللّه و أنّ في ذلك التخاذل ذنب عظيم يؤخذ به العبد. و باللّه التوفيق.

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 4 ، صفحه‏ى 28

خطبه 202شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام
وَ كَانَ مِنِ اقْتِدَارِ جَبَرُوتِهِ- وَ بَدِيعِ لَطَائِفِ صَنْعَتِهِ- أَنْ جَعَلَ مِنْ مَاءِ الْبَحْرِ الزَّاخِرِ- الْمُتَرَاكِمِ الْمُتَقَاصِفِ يَبَساً جَامِداً- ثُمَّ فَطَرَ مِنْهُ أَطْبَاقاً- فَفَتَقَهَا سَبْعَ سَمَاوَاتٍ بَعْدَ ارْتِتَاقِهَا فَاسْتَمْسَكَتْ بِأَمْرِهِ- وَ قَامَتْ عَلَى حَدِّهِ وَ أَرْسَى‏ أَرْضاً يَحْمِلُهَا الْأَخْضَرُ الْمُثْعَنْجِرُ- وَ الْقَمْقَامُ الْمُسَخَّرُ- قَدْ ذَلَّ لِأَمْرِهِ وَ أَذْعَنَ لِهَيْبَتِهِ- وَ وَقَفَ الْجَارِي مِنْهُ لِخَشْيَتِهِ- وَ جَبَلَ جَلَامِيدَهَا وَ نُشُوزَ مُتُونِهَا وَ أَطْوَادِهَا- فَأَرْسَاهَا فِي مَرَاسِيهَا- وَ أَلْزَمَهَا قَرَارَتَهَا- فَمَضَتْ رُءُوسُهَا فِي الْهَوَاءِ- وَ رَسَتْ أُصُولُهَا فِي الْمَاءِ- فَأَنْهَدَ جِبَالَهَا عَنْ سُهُولِهَا- وَ أَسَاخَ قَوَاعِدَهَا فِي مُتُونِ أَقْطَارِهَا وَ مَوَاضِعِ أَنْصَابِهَا- فَأَشْهَقَ قِلَالَهَا وَ أَطَالَ أَنْشَازَهَا- وَ جَعَلَهَا لِلْأَرْضِ عِمَاداً وَ أَرَّزَهَا فِيهَا أَوْتَاداً- فَسَكَنَتْ عَلَى حَرَكَتِهَا مِنْ أَنْ تَمِيدَ بِأَهْلِهَا أَوْ تَسِيخَ بِحِمْلِهَا أَوْ تَزُولَ عَنْ مَوَاضِعِهَا- فَسُبْحَانَ مَنْ أَمْسَكَهَا بَعْدَ مَوَجَانِ مِيَاهِهَا- وَ أَجْمَدَهَا بَعْدَ رُطُوبَةِ أَكْنَافِهَا- فَجَعَلَهَا لِخَلْقِهِ مِهَاداً- وَ بَسَطَهَا لَهُمْ فِرَاشاً- فَوْقَ بَحْرٍ لُجِّيٍّ رَاكِدٍ لَا يَجْرِي وَ قَائِمٍ لَا يَسْرِي- تُكَرْكِرُهُ الرِّيَاحُ الْعَوَاصِفُ- وَ تَمْخُضُهُ الْغَمَامُ الذَّوَارِفُ- إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى‏

اللغة

أقول: تعاصفه: تراد أمواجه و تلاطمها و كسر بعضها بعضا.

و المثعنجر: السيال الكثير الماء.

و القمقام: البحر. قيل: سمّى بذلك لاجتماعه.

و جبل: خلق. و جلاميدها: صخورها. و أنهد: رفع.

و أساخ: أدخل.

و أنصابها: جمع نصب و هو ما انتصب فيها.

و الأنشاز: جمع نشز و هو العوالى منها.

و أرّزها فيها: أى وكّرها و غرزها، و روى أرزها مخفّفة: أى أثبتها، و عليه نسخة الرضىّ و الاولى أصحّ و أظهر.

و أكنافها: أقطارها.

و تكر كره: تردّده و تصرّفه.

المعنى

و قد أشار في هذا الفصل إلى أنّ أصل الأجرام الأرضيّة و السماويّة و مادّتها هو الماء، و وصف كيفيّة خلقتها عنه و كيفيّة خلقة الأرض و السماوات و الجبال، و قد مرّ بيان كلّ ذلك مستقصى في الخطبة الأولى،
و في هذا الفصل فوايد:
الأولى
أنّه لمّا كانت هذه الأجرام في غاية القوّة و العظمة و مع ذلك ففيها من عجائب الصنع و بدايعه ما يبهر العقول و يعجزها عن كيفيّة شرحه لا جرم نسبها إلى اقتدار جبروته و عظمته و بديع لطائف صنعته تنبيها بالاعتبار الاولى على أنّه الأعظم المطلق، و بالثانى على لطفه و حكمته التامّة، و كنّى باليبس الجامد عن الأرض.
الثانية
الضمير في منه للبحر و في حدّه إمّا للّه أو لأمره و قيامها على حدّه كناية عن وقوفها على ما حدّه من المقدار و الشكل و الهيئة و النهايات و نحوها و عدم خروجها عن ذلك و تجاوزها له، و الضمير المنصوب في يحملها لمعنى اليبس الجامد و هو الأرض، و كذلك في جلاميدها و ما بعده في أرساها و ما بعده للجبال، و في جبالها و سهو لها و أقطارها للأرض، و في قواعدها و قلالها و أنشازها للجبال، و قد عرفت كيفيّة ذلك الخلق فيما حكاه عليه السّلام في الخطبة الاولى من ثوران الزبد بالريح و ارتفاعه إلى الجوّ الواسع و تكوين السماوات عنه.
الثالثة
ذلّة البحر لأمره و إذعانه لهيبته دخوله تحت الإمكان و الحاجة إلى قدرته و تصريفها له، و هو من باب الاستعارة.
الرابعة
قوله: على حركتها: أى حال حركتها لأنّ على تفيد الحال، و قوله: تسيخ بحملها يفهم منه أنّه لو لا الجبال كونها أوتادا للأرض لمادّت و ساخت بأهلها. فأمّا كونها مانعة لها من الميدان فقد عرفت وجهه في الخطبة الاولى، و أمّا كونها تسيخ لولاها فلأنّها إذا مادّت انقلبت بأهلها فغاص الوجه الّذي هم عليه و ذلك مراده بسيخها فالمانع بها من الميدان هو المانع بها أن تسيخ أو تزول عن موضعها.
الخامسة
أشار بإجمادها بعد رطوبة أكنافها إلى أنّ أصلها من زبد الماء كما اشير إليه من قبل، و يحتمل أن يشير بذلك إلى ما كان مغمورا بالماء منها.
ثمّ سال الماء عنه إلى مواضع أسفل منه فخلا و جفّ و هى مواضع كثيرة مسكونة و غير مسكونة.
السادسة
قوله: تمخضه الغمام الذوارف إشارة إلى أنّ البحر إذا وقع فيه المطر يريح و يتمخض و يضطرب كثيرا و ذلك لتحريك أوقع المطر له بكثرته و قوّته أو لكثرة اقتران المطر بالرياح فتموّجه، و أغلبها تحريكا له الرياح الجنوبيّة لانكشافه لها، و قد شاهدنا ذلك كثيرا.
السابعة
لمّا عدّد المخلوقات المذكورة و تصريف القدرة الربّانيّة لها قال: إنّ في ذلك لعبرة لمن يخشى تنبيها على وجوه الاعتبار بها لمن يخشى اللّه، و أراد العلماء لانحصار الخشية فيهم بقوله تعالى إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ«» و باللّه التوفيق.

 

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 4 ، صفحه‏ى 25

 

خطبه 201 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام

و قد سأله سائل عن أحاديث البدع، و عما فى أيدى الناس من اختلاف الخبر فقال عليه السّلام: إِنَّ فِي أَيْدِي النَّاسِ حَقّاً وَ بَاطِلًا- وَ صِدْقاً وَ كَذِباً وَ نَاسِخاً وَ مَنْسُوخاً- وَ عَامّاً وَ خَاصّاً- وَ مُحْكَماً وَ مُتَشَابِهاً وَ حِفْظاً وَ وَهْماً- وَ لَقَدْ كُذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ص عَلَى عَهْدِهِ- حَتَّى قَامَ خَطِيباً فَقَالَ- مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ- وَ إِنَّمَا أَتَاكَ بِالْحَدِيثِ أَرْبَعَةُ رِجَالٍ لَيْسَ لَهُمْ خَامِسٌ رَجُلٌ مُنَافِقٌ مُظْهِرٌ لِلْإِيمَانِ مُتَصَنِّعٌ بِالْإِسْلَامِ- لَا يَتَأَثَّمُ وَ لَا يَتَحَرَّجُ- يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ص مُتَعَمِّداً- فَلَوْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ كَاذِبٌ لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ- وَ لَمْ يُصَدِّقُوا قَوْلَهُ- وَ لَكِنَّهُمْ قَالُوا صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ ص- رَآهُ وَ سَمِعَ مِنْهُ وَ لَقِفَ عَنْهُ فَيَأْخُذُونَ بِقَوْلِهِ- وَ قَدْ أَخْبَرَكَ اللَّهُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ بِمَا أَخْبَرَكَ- وَ وَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ لَكَ ثُمَّ بَقُوا بَعْدَهُ- فَتَقَرَّبُوا إِلَى أَئِمَّةِ الضَّلَالَةِ- وَ الدُّعَاةِ إِلَى النَّارِ بِالزُّورِ وَ الْبُهْتَانِ- فَوَلَّوْهُمُ الْأَعْمَالَ وَ جَعَلُوهُمْ‏ حُكَّاماً عَلَى رِقَابِ النَّاسِ- فَأَكَلُوا بِهِمُ الدُّنْيَا وَ إِنَّمَا النَّاسُ مَعَ الْمُلُوكِ وَ الدُّنْيَا- إِلَّا مَنْ عَصَمَ اللَّهُ فَهَذَا أَحَدُ الْأَرْبَعَةِ وَ رَجُلٌ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ شَيْئاً لَمْ يَحْفَظْهُ عَلَى وَجْهِهِ- فَوَهِمَ فِيهِ وَ لَمْ يَتَعَمَّدْ كَذِباً فَهُوَ فِي يَدَيْهِ- وَ يَرْوِيهِ وَ يَعْمَلُ بِهِ- وَ يَقُولُ أَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص- فَلَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ وَهِمَ فِيهِ لَمْ يَقْبَلُوهُ مِنْهُ- وَ لَوْ عَلِمَ هُوَ أَنَّهُ كَذَلِكَ لَرَفَضَهُ وَ رَجُلٌ ثَالِثٌ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص شَيْئاً- يَأْمُرُ بِهِ ثُمَّ إِنَّهُ نَهَى عَنْهُ وَ هُوَ لَا يَعْلَمُ- أَوْ سَمِعَهُ يَنْهَى عَنْ شَيْ‏ءٍ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ وَ هُوَ لَا يَعْلَمُ- فَحَفِظَ الْمَنْسُوخَ وَ لَمْ يَحْفَظِ النَّاسِخَ- فَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضَهُ- وَ لَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ إِذْ سَمِعُوهُ مِنْهُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضُوهُ وَ آخَرُ رَابِعٌ- لَمْ يَكْذِبْ عَلَى اللَّهِ وَ لَا عَلَى رَسُولِهِ- مُبْغِضٌ لِلْكَذِبِ خَوْفاً مِنَ اللَّهِ وَ تَعْظِيماً لِرَسُولِ اللَّهِ ص- وَ لَمْ يَهِمْ بَلْ حَفِظَ مَا سَمِعَ عَلَى وَجْهِهِ- فَجَاءَ بِهِ عَلَى سَمْعِهِ- لَمْ يَزِدْ فِيهِ وَ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ- فَهُوَ حَفِظَ النَّاسِخَ فَعَمِلَ بِهِ- وَ حَفِظَ الْمَنْسُوخَ فَجَنَّبَ عَنْهُ- وَ عَرَفَ الْخَاصَّ وَ الْعَامَّ فَوَضَعَ كُلَّ شَيْ‏ءٍ مَوْضِعَهُ- وَ عَرَفَ الْمُتَشَابِهَ- وَ مُحْكَمَهُ‏ وَ قَدْ كَانَ يَكُونُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ص الْكَلَامُ- لَهُ وَجْهَانِ فَكَلَامٌ خَاصٌّ وَ كَلَامٌ عَامٌّ- فَيَسْمَعُهُ مَنْ لَا يَعْرِفُ مَا عَنَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهِ- وَ لَا مَا عَنَى رَسُولُ اللَّهِ ص- فَيَحْمِلُهُ السَّامِعُ وَ يُوَجِّهُهُ عَلَى غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِمَعْنَاهُ- وَ مَا قُصِدَ بِهِ وَ مَا خَرَجَ مِنْ أَجْلِهِ- وَ لَيْسَ كُلُّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ص مَنْ كَانَ يَسْأَلُهُ وَ يَسْتَفْهِمُهُ- حَتَّى إِنْ كَانُوا لَيُحِبُّونَ أَنْ يَجِي‏ءَ الْأَعْرَابِيُّ وَ الطَّارِئُ- فَيَسْأَلَهُ ع حَتَّى يَسْمَعُوا- وَ كَانَ لَا يَمُرُّ بِي مِنْ ذَلِكَ شَيْ‏ءٌ إِلَّا سَأَلْتُهُ عَنْهُ وَ حَفِظْتُهُ- فَهَذِهِ وُجُوهُ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ فِي اخْتِلَافِهِمْ وَ عِلَلِهِمْ فِي رِوَايَاتِهِمْ

اللغة

أقول: أحاديث البدع: أى الأحاديث المبتدعة بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المنقولة عنه، و ما يبتنى عليها من الأفعال المبتدعة في الدين بدعة أيضا.

و تبوّء مقعده: نزله و استقرّ فيه.

و لقف عنه: تناول بسرعة.

و وهم بالكسر: غلط، و بالفتح ذهب و همه إلى شي‏ء و هو يريد غيره.

و جنّب عنه: أخذ عنه جانبا.

المعنى

و قوله: إنّ في أيدى الناس. إلى قوله: و حفظا و وهما. تعديد لأنواع الكلام الواقع إلى الناس نقلا عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الصدق و الكذب من خواصّ الخبر، و الحقّ و الباطل أعمّ منهما لصدقهما على الأفعال و على الناسخ و المنسوخ و العامّ و الخاصّ و المتشابه، و قد مضى تفسير هذه المفهومات، و أمّا الحفظ فهو ما حفظ عن رسول اللّه كما هو، و الوهم ما غلط فيه و وهم مثلا أنّه عامّ و هو خاصّ أو أنّه ثابت و هو منسوخ إلى غير ذلك. و قوله: قد كذب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على عهده. إلى قوله: النار.

فذلك الكذب نحو ما روى أنّ رجلا سرق رداء الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و خرج إلى قوم و قال هذا رداء محمّد أعطانيه لتمكّنونى من تلك المرأة و استنكروا ذلك فبعثوا من سأل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن ذلك فقام الرجل الكاذب فشرب ماء فلدغته حيّة فمات، و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين سمع بتلك الحال قال لعلىّ: خذ السيف و انطلق فإن وجدته و قد كفيت فاحرقه بالنار فجائه و أمر بإحراقه فكان ذلك سبب الخبر المذكور، و اعلم أنّ العلماء ذكروا في بيان أنّه لا بدّ أن يكذّب عليه دليلا فقالوا: قد نقل عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: سيكذّب علىّ فإن كان الخبر صدقا فلا بد أن يكذّب عليه، و إن كان كذبا فقد كذّب عليه. ثمّ شرع في قسمة رجال الحديث و قسّمهم إلى أربعة أقسام، و دلّ الحصر بقوله: ليس لهم خامس، و وجه الحصر في الأقسام الأربعة أنّ الناقل للحديث عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المتسمّين بالإسلام إمّا منافق أولا، و الثاني إمّا أن يكون قد وهم فيه أولا، و الثاني إمّا أن لا يكون قد عرف ما يتعلّق به من شرائط الرواية أو يكون. فالأوّل و هو المنافق ينقل كما أراد سواء كان أصل الحديث كذبا أو أنّ له أصلا حرّفه و زاد فيه و نقص بحسب هواه فهو ضالّ مضّل تعمّدا و قصدا، و الثاني يرويه كما فهم و وهم فهو ضالّ مضلّ سهوا، و الثالث يروى ما سمع فضلا له و إضلاله عرضىّ، و الرابع يؤدّيه كما سمعه و كما هو فهو هادّ مهديّ فأشار عليه السّلام إلى القسم الأوّل بقوله: رجل منافق. إلى قوله: فهذا أحد الأربعة. فقوله: متصنّع بالإسلام.
أي يظهره شعارا له. و قوله: لا يتأثّم. أى: لا يعرف بالإثم و لزوم العقاب عليه في الآخرة فلا يحذر منه، و وجه دخول الشبهة في قبول قوله: كونه ظاهر الإسلام و الصحبة للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و سماع قوله مع كون الناس لا يعلمون باطنه و نفاقه و ما أخبر به اللّه تعالى عن المنافقين‏ كقوله إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ«» و ما وصفهم به كقوله تعالى إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ«» الآية دلّت على وصفهم بالكذب في مطابقة عقايدهم لألسنتهم في الشهادة بأنّه رسول حقّ و من كان يعتقد أنّه غير رسول فإنّه مظنّة الكذب عليه، و أئمّة الضلالة بنو اميّة، و دعاتهم إلى النار دعاتهم إلى اتّباعهم فيما يخالف الدين، و ذلك الاتّباع مستلزم لدخول النار، و الزور و البهتان إشارة إلى ما كانوا يتقرّبون به إلى بنى اميّة من وضع الأخبار عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في فضلهم و أخذهم على ذلك الأجر من اولئك الأئمّة و توليتهم الأعمال و الإمرة على الناس. و قوله: و إنّما الناس. إلى قوله: إلّا من عصم. إشارة إلى علّة فعل المنافق لما يفعل فظاهر أنّ حبّ الدنيا هو الغالب على الناس من المنافقين و غيرهم لقربهم من المحسوس و جهلهم بأحوال الآخرة و ما يراد بهم من هذه الحياة إلّا من هدى اللّه فعصمه بالجذب في طريق هدايته إليه عن محبّة الامور الباطلة، و فيه إيماء إلى قلّة الصالحين كما قال تعالى إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ قَلِيلٌ ما هُمْ و قوله يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ و إنّما قال: ثمّ بقوا بعده عليه السّلام. ثمّ حكى حالهم مع أئمّة الضلال و إن كانت الأئمّة المشار إليهم لم يوجدوا بعد إمّا تنزيلا لما لا بدّ منه من ذلك المعلوم له منزلة الواقع أو إشارة إلى من بقى منهم بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تقرّب إلى معاوية لأنّه إذن ذاك إمام ضلالة، و أشار إلى القسم الثاني بقوله: و رجل سمع من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شيئا لم يحفظه. إلى قوله: لرفضه، و ذلك أن يسمع من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كلاما فيتصوّر منه معنى غير ما يريده الرسول.

ثمّ لا يحفظ اللفظ بعينه فيورده بعبارته الدالّة على ما تصوّره من المعنى فلا يكون قد حفظه و تصوّره على وجهه المقصود للرسول فوهم فيه و لم يتعمّد كذبا لوهمه فهو في يديه يرويه و يعمل به على وفق ما تصوّر منه و يسنده إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و علّة دخول الشبهة على المسلمين فيه هى عدم علمهم بوهمه، و علّة دخولها عليه في الرواية و العمل هو وهمه حين السماع حتّى لو علم ذلك لترك روايته و العمل به، و أشار إلى القسم الثالث بقوله: و رجل سمع. إلى قوله: لرفضه، و علّة دخول الشبهة على الراوى و على المسلمين واحدة و هو عدم علمهم بأنّه منسوخ، و أشار إلى القسم الرابع بقوله: و آخر رابع. إلى قوله: و محكمه. فقوله: و عرف الخاصّ و العامّ فوضع كلّ شي‏ء موضعه. أى عمل بالعامّ فيما عدا صورة التخصيص. و قوله: و قد كان يكون من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. إلى آخره. تنبيه على صحة القسم الثالث و داخل فيه فإنّ منهم من كان يسمع الكلام ذى الوجهين منه خاصّ و منه عامّ فلا يعرف أنّ أحدهما مخصّص الآخر أو يسمع العامّ دون الخاصّ فينقل العامّ بوجهه على غير معرفة معناه أو أنّه خرج على سبب خاصّ فهو مقصور عليه و انتقل سببه فيعتقده عامّا أو أنّه عامّ فيعتقده مقصورا على السبب و لا يعمل به فيما عدا صورة السبب فيتّبعه الناس في ذلك. و كان قوله: و ليس كلّ أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. إلى آخره جواب سؤال مقدّر كأن يقال: فكيف يقع الاشتباه عليهم في قوله مع كثرتهم و تواضعه لهم فلا يسألونه فأجاب أنّهم ليسوا بأسرهم كانوا يسألونه لاحترامهم له و تعظيمه في قلوبهم، و إنّما كان يسأله آحاده حتّى كانوا يحبّون أن يجي‏ء الأعرابى أو الطارى‏ء فيسأله حتّى يسمعوا و يفتح لهم باب السؤال، و نبّه على أنّه عليه السّلام كان يستقصى في سؤاله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن كلّ ما يشتبه و يحفظ جوابه ليرجع الناس إلى فضيلته و الاقتباس من أنواره.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 4 ، صفحه‏ى 19

 

خطبه 200 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام بالبصرة،
و قد دخل على العلاء بن زياد الحارثى- و هو من أصحابه- يعوده، فلما رأى سعة داره قال: مَا كُنْتَ تَصْنَعُ بِسَعَةِ هَذِهِ الدَّارِ فِي الدُّنْيَا- أَمَا أَنْتَ إِلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ كُنْتَ أَحْوَجَ- وَ بَلَى إِنْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا الْآخِرَةَ- تَقْرِي فِيهَا الضَّيْفَ وَ تَصِلُ فِيهَا الرَّحِمَ- وَ تُطْلِعُ مِنْهَا الْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا- فَإِذاً أَنْتَ قَدْ بَلَغْتَ بِهَا الْآخِرَةَ- فَقَالَ لَهُ الْعَلَاءُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَشْكُو إِلَيْكَ أَخِي عَاصِمَ بْنَ زِيَادٍ- قَالَ وَ مَا لَهُ- قَالَ لَبِسَ الْعَبَاءَةَ وَ تَخَلَّى عَنِ الدُّنْيَا- قَالَ عَلَيَّ بِهِ فَلَمَّا جَاءَ قَالَ- يَا عُدَيَّ نَفْسِهِ لَقَدِ اسْتَهَامَ بِكَ الْخَبِيثُ- أَ مَا رَحِمْتَ أَهْلَكَ وَ وَلَدَكَ- أَ تَرَى اللَّهَ أَحَلَّ لَكَ الطَّيِّبَاتِ وَ هُوَ يَكْرَهُ أَنْ تَأْخُذَهَا- أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ- قَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ- هَذَا أَنْتَ فِي خُشُونَةِ مَلْبَسِكَ وَ جُشُوبَةِ مَأْكَلِكَ- قَالَ وَيْحَكَ إِنِّي لَسْتُ كَأَنْتَ- إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ- كَيْلَا يَتَبَيَّغَ بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ‏

اللغة

أقول: استهام بك: أى أذهبك لوجهك، و زيّن لك الهيام، و هو الذهاب في التيه.

و جشوبة المأكل: غلظته و خشونته، و قيل: الطعام الجشب: الّذي لا إدام معه.

و تبيّغ: تهيّج.

المعنى
و قد استفهمه عن غرضه في توسعة داره استفهام توبيخ و إنكار لما أنّ ذلك ينافي الزهد في الدنيا و الحرص في الآخرة. ثمّ عن كونه أحوج إليها في الآخرة استفهام تثبيت و تقرير، و أراد أنّك لو كنت أنفقت ما أخرجته على بنائها من المال في سبيل اللّه لكان أولى و لكنت إليه أحوج منها، و في رواية بإثبات الهمزة مع ما في قوله: ما أنت. و قوله: و بلى. إلى آخره.
هداية له إلى وجوه استعمالها في مرضات اللّه و التقرّب بها إليه بعد التفريط في بنائها، و عدّ وجوه المبارّ المتعلّقة بها. و مطالع الحقوق وجوهها الشرعيّة المتعلّقة به كالزكاة و الصدقة و غيرهما، و ظاهر كونها مبلّغه إلى الآخرة عند إخراج تلك الحقوق منها و فيها، و مقرّ به إلى اللّه. و قوله: علىّ به. ينوب مناب فعل الأمر: أى جيئوا به، و عدىّ تصغير عدوّ، و أصله عديو و فحذفوا إحدى الواوين و قلّبوا الثانية ياء تخفيفا و ادغموا فيها ياء التصغير، و إنّما صغّره استصغارا له باعتبار أنّ شيطانه لم يعدّه إلى كبيرة بل قاده إلى أمرو إن كان خارجا به عن الشريعة إلّا أنّه قريب من السلامة، و دخل عليه بالخدعة في رأى الصالحين، و كان شيطانه بذلك الاعتبار صغيرا بالنسبة إلى شيطان آخر و هو باعتبار القيادة لذلك الوسواس عدّى نفسه، و قيل: بل صغّره من جهة حقارة فعله ذلك لكونه عن جهل منه و إنّما منعه من هذه الطريقة لكونه لم يترك الدنيا على وجه الترك بل كان لمشاركة هواه لعقله، و كان تركه ذلك مستلزما لإهمال حقوق تجب عليه في الشريعة و تلزمه فنبّه بقوله: لقد استهام بك الخبيث على أنّ فعله ذلك عن مشاركة الشيطان و لم يكن عن عقليّة خالصة، و بقوله: أما رحمت أهلك و ولدك على الحقوق اللازمة له من قبلهم، و قد أهملها بفعله ذلك.

فقوله: أ ترى اللّه. إلى قوله: ذلك. في مقام التوبيخ له على ذلك الترك و هو كقوله تعالى قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ«» الآية، و الحاصل أنّ ترك الدنيا بالكلّيّة ليس هو مطلوب الشارع من الزهد فيها و التخلّى عنها لأنّ الشارع يراعى نظام العالم باشتراك الخلق في عمارة الدنيا و تعاونهم على المصالح بقاء النوع الإنسانىّ و ترك الدنيا و إهمالها بالكلّيّة يعدم ذلك النظام و ينافيه بل الّذي يأمر به الشارع القصد في الدنيا و استعمال متاعها على القوانين الّتي وردت بها الرسل و الوقوف فيها عند الحدود المضروبة في شرايعهم دون تعدّيها كما أشار إليه عليه السّلام من منع هذا الرجل، و أمّا السالكون من الصوفيّة بعد عصر الصحابة فهم على الطريقين: فمنهم من يختار القشف و ترك الطيّبات و هجر اللذّات رأسا، و منهم من يؤثر الترف، و الّذي يفعله المحقّقون من السالكين من التقشّف فلا ينافي الشريعة لعلمهم بأسرارها و طريقتهم تلك أقرب إلى السلامة من طريق المترفين لكون الترف مجال الشيطان، و قد كان سلوك الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و علىّ عليه السّلام و جماعة من أكابر الصحابة أميل إلى طريق التقشّف لكن مع مشاركتهم لأهل الدنيا في تدبير أحوال المدن و صلاح العالم غير منقطعين عن أهلها و لا منعزلين فأمّا اعتراض عاصم على علىّ عليه السّلام في نهيه له فحاصله أنّه قاس نفسه في ترك الدنيا عليه، و تقديره إنّك إذا نهيتنى عن ذلك فكيف بك: أى فكيف بما أرى من هذه الحال و أنت المقتدى به، أو فكيف أصنع بك مع الحال الّتي أنت عليها، و إنّما ينبغي لى أن أقتدى بك فأجابه عليه السّلام بجواب إقناعىّ بيّن فيه الفرق بينه و بينه، و هو إنّى إنّما فعلت ذلك لكونى إماما و كلّ إمام فرض اللّه عليه أن يقدّر نفسه بضعفة الناس: أى ليسويّها بهم في حالهم كيلا يهيّج بالفقير فقره فيضعف عن حلمه فيكفر أو يفسق و قد كان عليه السّلام قبل الخلافة كذلك، و الجواب المحقّق هو ما قلناه من كون هذه الطريق أسلم، و أمّا الفرق بينهما فيرجع إلى أنّ عاصما سلك على غير علم بكيفيّة السلوك مع ترك الحقوق الّتي تلزمه لأهله و ولده فكانت حالة الّتي فارقها أولى به. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 4 ، صفحه‏ى 17