خطبه 214 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام قاله عند تلاوته يا أيها الانسان ما غرك بربك الكريم

أَدْحَضُ مَسْئُولٍ حُجَّةً وَ أَقْطَعُ مُغْتَرٍّ مَعْذِرَةً- لَقَدْ أَبْرَحَ جَهَالَةً بِنَفْسِهِ- يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا جَرَّأَكَ عَلَى ذَنْبِكَ- وَ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ وَ مَا أَنَّسَكَ بِهَلَكَةِ نَفْسِكَ- أَ مَا مِنْ دَائِكَ بُلُولٌ أَمْ لَيْسَ مِنْ نَوْمِكَ يَقَظَةٌ- أَ مَا تَرْحَمُ مِنْ نَفْسِكَ‏ مَا تَرْحَمُ مِنْ غَيْرِكَ- فَلَرُبَّمَا تَرَى الضَّاحِيَ مِنْ حَرِّ الشَّمْسِ فَتُظِلُّهُ- أَوْ تَرَى الْمُبْتَلَى بِأَلَمٍ يُمِضُّ جَسَدَهُ فَتَبْكِي رَحْمَةً لَهُ- فَمَا صَبَّرَكَ عَلَى دَائِكَ وَ جَلَّدَكَ عَلَى بِمُصَابِكَ وَ عَزَّاكَ عَنِ الْبُكَاءِ عَلَى نَفْسِكَ- وَ هِيَ أَعَزُّ الْأَنْفُسِ عَلَيْكَ- وَ كَيْفَ لَا يُوقِظُكَ خَوْفُ بَيَاتِ نِقْمَةٍ- وَ قَدْ تَوَرَّطْتَ بِمَعَاصِيهِ مَدَارِجَ سَطَوَاتِهِ- فَتَدَاوَ مِنْ دَاءِ الْفَتْرَةِ فِي قَلْبِكَ بِعَزِيمَةٍ- وَ مِنْ كَرَى الْغَفْلَةِ فِي نَاظِرِكَ بِيَقَظَةٍ- وَ كُنْ لِلَّهِ مُطِيعاً وَ بِذِكْرِهِ آنِساً- وَ تَمَثَّلْ فِي حَالِ تَوَلِّيكَ عَنْهُ- إِقْبَالَهُ عَلَيْكَ يَدْعُوكَ إِلَى عَفْوِهِ- وَ يَتَغَمَّدُكَ بِفَضْلِهِ وَ أَنْتَ مُتَوَلٍّ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ- فَتَعَالَى مِنْ قَوِيٍّ مَا أَكْرَمَهُ- وَ تَوَاضَعْتَ مِنْ ضَعِيفٍ مَا أَجْرَأَكَ عَلَى مَعْصِيَتِهِ- وَ أَنْتَ فِي كَنَفِ سِتْرِهِ مُقِيمٌ- وَ فِي سَعَةِ فَضْلِهِ مُتَقَلِّبٌ- فَلَمْ يَمْنَعْكَ فَضْلَهُ وَ لَمْ يَهْتِكْ عَنْكَ سِتْرَهُ- بَلْ لَمْ تَخْلُ مِنْ لُطْفِهِ مَطْرَفَ عَيْنٍ- فِي نِعْمَةٍ يُحْدِثُهَا لَكَ أَوْ سَيِّئَةٍ يَسْتُرُهَا عَلَيْكَ- أَوْ بَلِيَّةٍ يَصْرِفُهَا عَنْكَ فَمَا ظَنُّكَ بِهِ لَوْ أَطَعْتَهُ- وَ ايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ كَانَتْ فِي مُتَّفِقَيْنِ فِي الْقُوَّةِ- مُتَوَازِيَيْنِ فِي الْقُدْرَةِ- لَكُنْتَ أَوَّلَ حَاكِمٍ عَلَى نَفْسِكَ بِذَمِيمِ الْأَخْلَاقِ- وَ مَسَاوِئِ الْأَعْمَالِ- وَ حَقّاً أَقُولُ مَا الدُّنْيَا غَرَّتْكَ وَ لَكِنْ بِهَا اغْتَرَرْتَ- وَ لَقَدْ كَاشَفَتْكَ الْعِظَاتِ وَ آذَنَتْكَ عَلَى سَوَاءٍ- وَ لَهِيَ بِمَا تَعِدُكَ مِنْ نُزُولِ الْبَلَاءِ بِجِسْمِكَ- وَ النَّقْصِ فِي قُوَّتِكَ أَصْدَقُ وَ أَوْفَى مِنْ أَنْ‏ تَكْذِبَكَ أَوْ تَغُرَّكَ- وَ لَرُبَّ نَاصِحٍ لَهَا عِنْدَكَ مُتَّهَمٌ- وَ صَادِقٍ مِنْ خَبَرِهَا مُكَذَّبٌ- وَ لَئِنْ تَعَرَّفْتَهَا فِي الدِّيَارِ الْخَاوِيَةِ وَ الرُّبُوعِ الْخَالِيَةِ- لَتَجِدَنَّهَا مِنْ حُسْنِ تَذْكِيرِكَ- وَ بَلَاغِ مَوْعِظَتِكَ- بِمَحَلَّةِ الشَّفِيقِ عَلَيْكَ وَ الشَّحِيحِ بِكَ- وَ لَنِعْمَ دَارُ مَنْ لَمْ يَرْضَ بِهَا دَاراً- وَ مَحَلُّ مَنْ لَمْ يُوَطِّنْهَا مَحَلًّا- وَ إِنَّ السُّعَدَاءَ بِالدُّنْيَا غَداً هُمُ الْهَارِبُونَ مِنْهَا الْيَوْمَ- إِذَا رَجَفَتِ الرَّاجِفَةُ وَ حَقَّتْ بِجَلَائِلِهَا الْقِيَامَةُ- وَ لَحِقَ بِكُلِّ مَنْسَكٍ أَهْلُهُ وَ بِكُلِّ مَعْبُودٍ عَبَدَتُهُ- وَ بِكُلِّ مُطَاعٍ أَهْلُ طَاعَتِهِ- فَلَمْ يُجْزَ فِي عَدْلِهِ وَ قِسْطِهِ يَوْمَئِذٍ خَرْقُ بَصَرٍ فِي الْهَوَاءِ- وَ لَا هَمْسُ قَدَمٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا بِحَقِّهِ- فَكَمْ حُجَّةٍ يَوْمَ ذَاكَ دَاحِضَةٌ- وَ عَلَائِقِ عُذْرٍ مُنْقَطِعَةٌ- فَتَحَرَّ مِنْ أَمْرِكَ مَا يَقُومُ بِهِ عُذْرُكَ وَ تَثْبُتُ بِهِ حُجَّتُكَ- وَ خُذْ مَا يَبْقَى لَكَ مِمَّا لَا تَبْقَى لَهُ- وَ تَيَسَّرْ لِسَفَرِكَ وَ شِمْ بَرْقَ النَّجَاةِ وَ ارْحَلْ مَطَايَا التَّشْمِيرِ

اللغة
أقول: حجّة داحضة: باطلة.

و أبرح جهالة بنفسه: أى بالغ في تحصيل جهالتها و أعجبه ذلك.

و البلول: الصحّة.

و الضاحى: البارز للشمس.

و الممضّ: المؤلم.

و السطوة: البطش و القهر، و السطوة المرّة منه و الجمع سطوات.

و التجلّد: التقوّى و التصبّر.

و الورطة: الهلاك. و تعمّدك: قصدك.

و الكنف: الحياطة.

و الكنف: الجانب.

و آذنك: أعلمك.

و المنسك: موضع العبادة، و أصله كلّ موضع يتردّد إليه و يقصد.

و التحرّى: طلب الأحرى و الأولى.

و شم‏ برق النجاة: أى أنظر إليه.

المعنى

فقوله: أدحض. خبر مبتداء محذوف و التقدير الإنسان عند سؤال ربّه له ما غرّك بربّك الكريم أدحض مسئول حجّة، و أشدّه انقطاعا في عذره. و مبالغته في تجهيل نفسه: كثرة إمهالها في متابعة هواها و تركها عن الإصلاح، و المنصوبات الثلاثة مميّزات. و قوله: يا أيّها الإنسان. إلى قوله: بهلكة نفسك. استفهامات عن أسباب جرأته على الذنوب و أسباب غرّته بربّه و غفلته عن شدّة بأسه و عن أسباب انسه بهلكة نفسه بتوريطها في المعاصى معها استفهاما على سبيل التقريع و التوبيخ، و يحتمل أن يكون قوله: ما آنسك. تعجّبا، و كذلك الاستفهام عن بلوله من داء الجهل و يقظته من نوم الغفلة و رحمته لنفسه كما يرحم غيرها إلّا أنّ الاستفهامات الثلاثة الأولى يطلب فيها تصوّر تلك الأسباب و فهم حقيقتها على سبيل تجاهل العارف، و في هذه الثلاثة الأخيرة يطلب فيها التصديق. ثمّ نبّه على وجوب رحمته لنفسه كما يرحم غيرها بقوله: فلربّما ترى الضاحى.
إلى قوله: رحمة له، و هى في قوّة صغرى قياس احتجّ به، و وجه ذلك أنّك قد ترحم من تراه في حرّ الشمس فتظلّه أو مبتلى بألم فتبكى رحمة له، و كلّ من كان كذلك فأولى أن يرحم لنفسه بانقاذها من بلاء تقع فيه. ينتج إنّك أولى أن ترحم نفسك من دائها. و قوله: فما صبّرك. إلى قوله: الأنفس عليك. استفهام عن أسباب صبره على دائه و تجلّده على مصائبه الّتي تلحقه بسبب ذلك الداء و تعزيّه عن البكاء على نفسه و على أعزّ الأنفس عليه استفهام توبيخ و لائمة حسنها بعد ذلك الاحتجاج ظاهر، و نبّه بقوله: و كيف لا يوقظك. إلى قوله: سطواته. على بعض أسباب اليقظة لعظمة اللّه عن الغفلة عنها و هى خوف بيات نقمه أن يوقعها به ليلا كقوله تعالى أَ فَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى‏ أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَ هُمْ‏
نائِمُونَ«» و مدارج سطواته مجارى بطشه و قهره و هى محالّ المعاصى و أسبابها.
و التورّط فيها: الحصول فيها المستلزم للهلاك الاخروىّ. و قوله: فتداو. إلى قوله: بيقظة. تنبيه على الدواء من الفترة في القلب عن ذكر اللّه و هو العزيمة على طاعته و الإجماع على ملازمة ذكره، و من نوم الغفلة في ناظر القلب عن ذلك باليقظة له. ثمّ أمر بما ينبغي أن يكون تلك العزيمة عليه و تلك اليقظة له و هما طاعة اللّه و تحصيل الانس بدوام ذكره. و قوله: و تمثّل. إلى قوله: يصرفها عنك. تنبيه له على ضروب نعم اللّه عليه و مقابلته لها بالكفران و المعصية لعلّه يتذكّر أو يخشى فأمره أن يتمثّل في ذهنه في حال إعراضه عن ربّه و انهما كه في معصيته إقباله عليه بضروب نعمه من دعوته له بكلامه على ألسنة خواصّ رسله إلى عفوه و تعمّده إيّاه بفضله و إقامته في كنف ستره و تقلّبه في سعة فضله لم يمنعه فضله و لاهتك عنه ستره لمقابلته تلك النعم بالكفران و المعصية بل لم يخل من لطفه مقدار طرفة عين، و ذلك الطف في نعمة يحدثها له أو سيّئة يسترها عليه أو بليّة يصرفها عنه. فأحسن بهذا التنبيه فإنّ استحضار ذهن العاقل بضروب هذه النعم في حال الإقبال على المعصية من أقوى الجواذب إلى اللّه عنها، و إنّما قال: و تمثّل. لأنّ الحاضر في الذهن ليس هو نفس إقبال اللّه على العبد بل معناه و مثاله. و يدعوه: في موضع الحال، و كذلك الواو في قوله: و أنت. و الملازمة أنّ فضله كان عليك حال معصيتك له كثيرا كما تقدّم بيانه فبالطريق الأولى أن يتمّ فضله عليك حال طاعتك إيّاه و حسن ظنّك به.
و قوله: و أيم اللّه. إلى قوله: الأعمال. أى لو كان هذا الوصف الّذي ذكرناه من إقبال اللّه عليك بضروب نعمه و مقابلتك له بالإعراض عنه و الإقبال على معاصيه وصف مثلين من الناس في القوّة و القدرة و المنزلة و كنت أنت المسي‏ء منهما لكان فيما ينبغي لك من الحياء و الأنفة أن تكون أوّل حاكم على نفسك بتقصيرها و ذميم أخلاقها و مقابح أعمالها. وهو صورة احتجاج يقرّر عليه مساوى أعماله و يجذبه بذلك إلى تبديلها بمحاسنها في قياس ضمير من الشكل الأوّل ذكر في الكلام صغراه. تلخيصها: أنّك أوّل حاكم على نفسك بتقصيرها على تقدير أن يكون موليك هذه النعم مثلا لك، و تقدير الكبرى و كلّ من كان كذلك فأولى به أن يكون أوّل حاكم عليها بتقصيرها على تقدير أن يكون موليه تلك النعم خالقه و مالك رقّه، و ينتج أنّ الأولى بك أن يكون أوّل حاكم على نفسك بتقصيرها على تقدير أن يكون مولى تلك النعم خالقك و مالك رقّك. و قوله: و حقّا أقول: ما الدنيا غرّتك و لكن بها اغتررت. تقدير منع لما عساه أن يجيب به الناس سؤاله تعالى إيّاهم بقوله: ما غرّك بربّك، و هو كثير في كلامهم: إنّ الدنيا هى الغارّة، و كما نسب القرآن الكريم إليها ذلك بقوله وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا و كلامه عليه السّلام حقّ من وجهين: أحدهما: أنّ الاستغرار من لواحق العقل و ليست الدنيا لها العقل، و الثاني: أنّها لم تخلق لأنّ يستغرّ بها. إذ كان مقصد العناية الإلهيّة بوجود الإنسان فيها فلا يجوز أن ينسب إليها الاستغرار حقيقة لكن لمّا كانت سببا ماديّا للاغترار بها جاز أن ينسب إليها الاستغرار مجازا، و صدق قوله أيضا: و لكن بها اغتررت. و قوله: و لقد كاشفتك العظات. تقرير لمنع نسبة الاستغرار إليها بنسبة ضدّه إليها و هو النصيحة له بما كاشفته بالمواعظ و هى محالّ الاتّعاظ من تصاريفها و عبرها، و بمجاهرتها و إعلامها على عدل منها. إذ خلقت لذلك التغيير و الإعلام و على ذلك التصريف و لم يمكن أن يكون إلّا كذلك فلم يكن تصاريفها بك جورا عليك. و قوله: و لهى بما تعدك. إلى قوله: تغرّك.

زياده تأكيد لنصيحتها و تخويف منها، و استعار لفظ الوعد لإشعارها في تغييراتها بما يتوقّع من مصائبها كما أنّ الوعد إشعار بإعطاء مطلوب، و استعمل الوعد في مكان الوعيد مجازا إطلاقا لاسم أحد الضدّين على الآخر كتسمية السيّئة جزاء، و كذلك استعار لها لفظ الصدق و الوفاء ملاحظة لشبهها بالصادق الوفّى في أنّه لا بدّ من إيقاع ما وعد به.
و قوله: أصدق و أوفى. مع قوله: من أن تكذبك أو تغرّك. من باب اللفّ و النشر و فيه المقابلة. و قوله: و لربّ. إلى قوله: مكذّب. تقرير لبعض لوازم الغفلة عليه و هى تهمته للمناصح منها و تكذيبه لصادق خبرها، و أطلق لفظ التهمة و التكذيب مجازا في عدم الالتفات إلى نصيحتها بتصاريفها و ما يعلم من صادق تغيّراتها و عدم اعتبار ذلك منها إطلاقا لاسم ذى الغاية على غايته، و كانت غاية التهمة و التكذيب عدم الالتفات إلى المتّهم و المكذّب و الإعراض عنها. و قوله: و لئن تعرّفتها. إلى قوله. الشحيح بك، صورة احتجاج نبّه فيه على صدقها في نصيحتها كى تستنصح و لا تتّهم، و هو بقياس شرطيّ متّصل، و تقريره و لئن تعرّفتها: أى طلبت معرفة حالها في نصيحتها و غشّها من الديار الخاوية و الربوع الخالية للامم السالفة و القرون الماضية لتعرّفتها بمنزلة الشفيق عليك و الشحيح بك، و وجه شبهها بذلك حسن تذكّرها لك و بلاغ موعظتك و عبرتك منها كما أنّ الناصح الشفيق عليك، و بيان الملازمة بحال الوجدان بعد تعرّفها. و الاستثناء في هذه المتّصلة لعين المقدّم لينتج عين التالى. و قوله: و لنعم. إلى قوله: محلّا. مدح للدنيا باعتبار استعمالها على الوجه المقصود بالعناية الإلهيّة و هو الاعتبار بها دون الرضا بها لذاتها و اتّخاذها وطنا و دار إقامة، و اسم نعم هو دارمن لم يرض، و المخصوص بالمدح هو الدنيا، و دارا و محلا منصوبان على التميز يقومان مقام اسم الجنس الّذي هو اسم نعم إذا حذف، و هاهنا مسئلتان: إحداهما: أنّ اسم الجنس الّذي هو اسم نعم و بئس تضاف في العادة إلى ما فيه الألف و اللام كقولك: نعم صاحب القوم، و قد أضافه هاهنا إلى ما ليس فيه الألف و اللام، و قد جاء مثله في الشعر كقوله: فنعم صاحب قوم لا سلاح لهم.

الثانية: أنّه جمع بين اسم الجنس و النكرة الّتي تبدل منه، و قد جاء مثله في قوله: فنعم الزاد زاد أبيك زادا، و إنّما أضاف دارا إلى من لم يرض بها، و محلّا إلى من لم يوطّنها لأنّ الدنيا إنّما يكون دارا ممدوحة باعتبار كونها دار من لم يرض بها و لم يوطنّها لاستلزام عدم رضاهم بها الانتفاع بالعبر بها و اتّخاذ زاد التقوى، و اولئك هم المتّقون السعداء بها. و يحتمل أن يكون دارا و محلّا منصوبين على التميز عن قوله: لم يرض بها و لم يوطّنها. و قوله: و إنّ السعداء بالدنيا غدا هم الهاربون منها اليوم. فوجه سعادتهم بها استثمارهم للكمالات المسعدة في الآخرة منها، و لن يحصل ذلك إلّا بالهرب منها اليوم، و كنّى بالهرب منها عن الإعراض الحقيقى عن لذّاتها، و التباعد من اقتنائها و لذّاتها لاستلزام الهرب عن الشي‏ء التباعد عنه و الزهد فيه، و ظاهر أنّ التباعد منها بالقلوب إلّا ما دعت الضرورة إليه و اتّخاذها مع ذلك سببا إلى الآخرة من أسباب السعادة و مستلزماتها كما أشار إليه سيّد المرسلين صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من حاله فيها بقوله: ما أنا و الدنيا إنّما مثلى فيها كمثل راكب سار في يوم صايف فرفعت له شجرة فنزل فقعد في ظلّها ساعة ثمّ راح و تركها. و دلّ بقوله: إذا رجفت. على الوقت المذكور المدلول عليه بقوله: غدا. و هو يوم القيامة لقوله تعالى يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ«» قال المفسّرون: الراجفة: هى النفخة الاولى في الصور و هى صيحة عظيمة فيها تردّد و اضطراب كالرعد يصعق فيها الخلايق و تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ و هى النفخة الثانية تردف الأوّل. و جلائل القيامة: محنها الجليلة العظيمة. و قوله: و لحق بكلّ منسك أهله. إشارة إلى لحقوق كلّ نفس يوم القيامة لعبودها و مطاعها و ما ألفته و أحبّته من أمر دنيوىّ أو اخروىّ فأقبلت عليه و عملت له، و نحوه أشار الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يحشر المرء مع من أحبّ، و لو أحبّ أحدكم حجرا لحشر معه. و قوله: فلم يجز. إلى قوله: بحقّه. تقرير لعدله تعالى في ذلك اليوم. و المعنى أنّ كلّ حركة و لو طرفة عين في الهواء أو همس قدم في الأرض فإنّها لا تجرى في عدله إلّا بحقّها لا يزاد عليه و لا ينقص عنه. ثمّ أشار إلى كثرة الحجج الباطلة يومئذ و الأعذار المنقطعة ترغيبا في تحصيل الكمالات البرهانيّة و لزوم آثار المرسلين و الأولياء الأبرار في سلوك سبيل اللّه، و إنّما ذكر مخاوف ذلك اليوم و أهواله بعد ذكر السعداء فيه و تعيين أنّهم هم الهاربون من الدنيا اليوم ليرغّب إلى الاقتداء بهم في ذلك الهرب لغاية تلك السعادة. ثمّ أمر أن يطلب الإنسان من اموره و أحواله أحراها و أولاها ممّا يقوم به عذره في ذلك اليوم و تثبت به حجّته في محفل القيامة، و ذلك الأمر هو ما أشرنا إليه من البرهان و اقتفاء أثر المرسلين، و كذلك أمره أن يأخذ ما يبقى له من الكمالات المسعدة في الآخرة ممّا لا يبقى له و هو الدنيا و متاعها، و قد بيّنا كيفيّة ذلك الأخذ غير مرّة، و أن تيسّر لسفره: أى يستعدّ لسفره إلى اللّه بالرياضة بالزهد و العبادة، و أن يشيم برق النجاة: أى يوجّه سرّه إلى اللّه تعالى بعد الزهد الحقيقى و العبادة الكاسرة للنفس الأمّارة بالسوء لتشرق لوامع الأنوار الإلهيّة و بروقها الّتى هى بروق النجاة و أبواب السلامة كما أشار إليه فيما قبل هذا الفصل بفصلين بقوله: و تدافعته الأبواب إلى باب السلامة، و أن يرحل مطايا التشمير و هو إشارة إلى الجدّ في سلوك سبيل اللّه و الاجتهاد في العمل لما بعد الموت، و استعار لفط المطايا لآلات العمل، و لفظ الإرحال لإعمالها، و باللّه التوفيق.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی) ، ج 4 ، صفحه‏ ى 75

 

دیدگاه‌ها

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

این سایت از اکیسمت برای کاهش هرزنامه استفاده می کند. بیاموزید که چگونه اطلاعات دیدگاه های شما پردازش می‌شوند.