خطبه 179شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام فى ذم أصحابه

أَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى مَا قَضَى مِنْ أَمْرٍ وَ قَدَّرَ مِنْ فِعْلٍ- وَ عَلَى ابْتِلَائِي بِكُمْ أَيَّتُهَا الْفِرْقَةُ الَّتِي إِذَا أَمَرْتُ لَمْ تُطِعْ- وَ إِذَا دَعَوْتُ لَمْ تُجِبْ- إِنْ أُمْهِلْتُمْ خُضْتُمْ وَ إِنْ حُورِبْتُمْ خُرْتُمْ- وَ إِنِ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى إِمَامٍ طَعَنْتُمْ- وَ إِنْ أُجِئْتُمْ إِلَى مُشَاقَّةٍ نَكَصْتُمْ- . لَا أَبَا لِغَيْرِكُمْ مَا تَنْتَظِرُونَ بِنَصْرِكُمْ- وَ الْجِهَادِ عَلَى حَقِّكُمْ- الْمَوْتَ أَوِ الذُّلَّ لَكُمْ- فَوَاللَّهِ لَئِنْ جَاءَ يَومِي وَ لَيَأْتِيَنِّي لَيُفَرِّقَنَّ بَيْنِي وَ بَيْنِكُمْ- وَ أَنَا لِصُحْبَتِكُمْ قَالٍ وَ بِكُمْ غَيْرُ كَثِيرٍ- لِلَّهِ أَنْتُمْ أَ مَا دِينٌ يَجْمَعُكُمْ وَ لَا حَمِيَّةٌ تَشْحَذُكُمْ- أَ وَ لَيْسَ عَجَباً أَنَّ مُعَاوِيَةَ يَدْعُو الْجُفَاةَ الطَّغَامَ- فَيَتَّبِعُونَهُ عَلَى غَيْرِ مَعُونَةٍ وَ لَا عَطَاءٍ- وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ وَ أَنْتُمْ تَرِيكَةُ الْإِسْلَامِ- وَ بَقِيَّةُ النَّاسِ‏ إِلَى الْمَعُونَةِ أَوْ طَائِفَةٍ مِنَ الْعَطَاءِ- فَتَفَرَّقُونَ عَنِّي وَ تَخْتَلِفُونَ عَلَيَّ- إِنَّهُ لَا يَخْرُجُ إِلَيْكُمْ مِنْ أَمْرِي رِضًا فَتَرْضَوْنَهُ- وَ لَا سُخْطٌ فَتَجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ- وَ إِنَّ أَحَبَّ مَا أَنَا لَاقٍ إِلَيَّ الْمَوْتُ- قَدْ دَارَسْتُكُمُ الْكِتَابَ وَ فَاتَحْتُكُمُ الْحِجَاجَ- وَ عَرَّفْتُكُمْ مَا أَنْكَرْتُمْ وَ سَوَّغْتُكُمْ مَا مَجَجْتُمْ- لَوْ كَانَ الْأَعْمَى يَلْحَظُ أَوِ النَّائِمُ يَسْتَيْقِظُ- وَ أَقْرِبْ بِقَوْمٍ مِنَ الْجَهْلِ بِاللَّهِ قَائِدُهُمْ مُعَاوِيَةُ- وَ مُؤَدِّبُهُمُ ابْنُ النَّابِغَةِ

اللغة

أقول: الخور: الضعف، و يحتمل أن يكون من الخوارج و هو الصياح.

و اجئتم: جذبتم، و دعيتم.

و نكص: رجع على عقبه.

و القالى: المبغض.

و الطعام: أوغاد الناس.

و التريكة: بيضة النعام.

و مجّه: ألقاه من فيه.

 

المعنى

و قد حمد اللّه تعالى على ما قضى و قدّر، و لمّا كان القضاء هو الحكم الإلهى بما يكون قال: على ما قضى من الأمر. لأنّ الأمر أعمّ أن يكون فعلا، و لمّا كان القدر هو تفصيل القضاء و إيجاد الأشياء على وفقه قال: و قدّر من فعل. و قوله: و على ابتلائى بكم. تخصيص لبعض ما قضى و قدّر. و قوله: إذا أمرت. إلى قوله: نكصتم. شرح لوجوه الابتلاء بهم، و حاصلها يعود إلى مخالفتهم له في جميع ما يريده منهم ممّا ينتظم به حالهم. و قوله: إلى مشاقّة. أى إلى مشاقّة عدوّ. و قوله: لا أبا لغيركم. دعاء بالذلّ لغيرهم، و فيه نوع تلطّف لهم، و الأصل لا أب، و الألف مزيدة إمّا لاستثقال توالى أربع حركات فأشبعوا الفتحة فانقلبت ألفا أو لأنّهم قصدوا الإضافة و أتوا باللام للتأكيد. ثمّ أقسم إن جاء يومه: أى وقت موته ليفرقنّ بينهم و بينه و هو تهديد لهم بفراقه و انشعاب امورهم بعده. و قوله: و ليأتينّى. حشوة لطيفة و أتى به مؤكّدة لأنّ إتيان الموت أمر محقّق، و كأنّه ردّ بها ما يقتضيه إن من الشكّ فحسنت هذه الحشوة بعدها. ثمّ أخذ في التضجّر منهم، و أخبرهم أنّه لصحبتهم مبغض، و أنّه غير كثير بهم لأنّ الكثرة إنّما تراد للمنفعة فحيث لا منفعة فكأنّه لا كثرة. و قوله: للّه أنتم. جملة اسميّة فيها معنى التعجّب من حالهم، و مثله للّه أبوك و للّه درّك. ثمّ أخذ في استفهامهم عمّا يدّعون أنّه موجود فيهم، و هو الدين و الحميّة و الأنفة، و من شأن الدين أن يجمع على إنكار المنكر، و الحميّة أن تشحذ و تثير القوّة الغضبيّة لمقاومة العدوّ استفهاما على سبيل العيب و الإنكار عليهم. و قوله: أ و ليس عجبا. إلى قوله: و تختلفون علىّ. استفهام لتقرير التعجّب من حاله معهم في تفرّقهم عنه حتّى عند الدعوة إلى العطاء، و من حال معاوية مع قومه في اجتماعهم عليه من غير معونة و لاعطاء.

فإن قلت: المشهور أنّ معاوية إنّما استجلب من استجلب من العرب بالأموال و الرغائب فلم قال: فيتّبعونه على غير معونة و لا عطاء قلت: إنّ معاوية لم يكن يعطى جنده على وجه المعونة و العطاء المتعارف بين الجند، و إنّما كان يعطى رؤساء القبائل من اليمن و الشام الأموال الجليلة ليستعبدهم بها و اولئك الرؤساء يدعون أتّباعهم من العرب فيطيعونهم. فصادق إذن أنّهم يتّبعونه على غير معونة و عطاء، و أمّا هو عليه السّلام فإنّه كان يقسّم بيوت الأموال بالسويّة بين الأتباع و الرؤساء على وجه الرزق و العطاء، لا يرى لشريف على مشروف فضلا، و كان أكثر من يقعد عن نصرته من الرؤساء لما يجدونه في أنفسهم من أمر المساواة بينهم و بين الأتباع، و إذا أحسّ الأتباع بذلك تخاذلوا أيضا متابعة لرؤسائهم. و المعونة هى ما يعطى للجند في وقت الحاجة لترميم أسلحتهم و إصلاح دوابّهم و هو خارج عن العطاء المفروض شهراً فشهراً، و استعار لهم لفظ التريكة، و وجه المشابهة أنّهم خلف الإسلام و بقيّة أهله كالبيضة الّتي تتركها النعامة. و قوله: إنّه لا يخرج. إلى قوله: فترضونه. أى إنّه لا يخرج إليكم من أمرى أمر من شأنه أن يرضى به أو يسخط منه فترضونه و تجتمعون عليه بل لا بدّ لكم من التفرّق و المخالفة على الحالين. ثمّ نبّههم على سوء صنيعهم معه بأنّ أحبّ الأشياء إليه الموت. و قد لاحظ هذه الحال أبو الطيّب فقال:
كفى بك داء أن ترى الموت شافيا و حسب المنايا أن تكون أمانيا
تمنّيتها لمّا تمنّيت أن أرى‏
صديقا فأعيا أو عدوّا مداجيا

و قوله: قد دارستكم الكتاب. إلى قوله: مججتم. إشارة إلى وجوه الامتنان عليهم و هى مدارستهم الكتاب: أى تعليمه، و مفاتحتهم الحجاج: أى مماراتهم و تعريفهم وجوه الاحتجاج، و تعريفهم ما أنكروه: أى الامور المجهولة لهم، و تسويغهم ما مجّوه. و استعار وصف التسويغ إمّا لإعطائه لهم العطيّات و الأرزاق الّتي كانوا يحرمونها من يد غيره لو كان كمعاوية، و إمّا لإدخاله العلوم في أفواه أذهانهم، و كذلك لفظ المجّ إمّا لحرمانهم من يد غيره أو لعدم العلوم عن أذهانهم و نبوّ أفهامهم عنها فكأنّهم ألقوها لعدم صلوحها للإساغة، و وجه الاستعارتين ظاهر. و قوله: لو كان الأعمى. إلى قوله: يستيقظ. إشارة إلى أنّهم جهّال لا يلحظون بأعين بصائرهم ما أفادهم من العلوم، و غافلون لا يستيقظون من سنة غفلتهم بما أيقظهم به من المواعظ أو غيرها، و لفظ الأعمى و النائم مستعاران، و القوم في قوله: و أقرب بقوم. هم أهل الشام. و هو تعجّب من شدّة قربهم من الجهل باللّه. إذ كان قائدهم في الطريق معاويه و مؤدّبهم ابن النابغة: أى عمرو بن العاص و هو رئيسهم رئيس المنافقين و أهل الغدر و الخداع، و إذا كان‏ الرئيس القائد و المؤدّب في تلك الطريق من الجهل و الفجور بحال الرجلين المشار إليهما فما أقرب أتباعهما من البعد عن اللّه و الجهل به. و أقرب: صيغة التعجّب.

و قائدهم معاوية: جملة اسميّة محلّها الجرّ صفة لقوم. و فصّل بين الموصوف و الصفة بالجار و المجرور كما في قوله تعالى «وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ»«» فمحلّ مردوا الرفع صفة المنافقون، و فصّل بينهما بقوله: و من أهل المدينة، و الغرض من ذكرهم و وصفهم بما وصف التنفير عنهم.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 375

خطبه 178شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام

و قد ساله ذعلب اليمانى فقال: هل رأيت ربك يا أمير المؤمنين فقال عليه السلام: أ فأعبد ما لا أرى فقال: و كيف تراه فقال:

لَا تُدْرِكُهُ الْعُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الْعِيَانِ- وَ لَكِنْ تُدْرِكُهُ الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ- قَرِيبٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ غَيْرَ مُلَامِسٍ بَعِيدٌ مِنْهَا غَيْرَ مُبَايِنٍ- مُتَكَلِّمٌ لَا بِرَوِيَّةٍ مُرِيدٌ لَا بِهِمَّةٍ صَانِعٌ لَا بِجَارِحَةٍ- لَطِيفٌ لَا يُوصَفُ بِالْخَفَاءِ كَبِيرٌ لَا يُوصَفُ بِالْجَفَاءِ- بَصِيرٌ لَا يُوصَفُ بِالْحَاسَّةِ رَحِيمٌ لَا يُوصَفُ بِالرِّقَّةِ- تَعْنُو الْوُجُوهُ لِعَظَمَتِهِ وَ تَجِبُ الْقُلُوبُ مِنْ مَخَافَتِهِ

اللغة

أقول: تعنو: تخضع.

و تجب القلوب: تخفق.

و الفصل فصل شريف من التوحيد و التنزيه.
فقوله: أ فأعبد ما لا أرى. استفهام على سبيل الإنكار لعبادة ما لا يدرك، و فيه إزراء على السائل. و قوله: لا تدركه العيون. إلى آخره. تنزية له عن الرؤية بحاسّة البصر و شرح لكيفيّة الرؤية الممكنة، و لمّا كان تعالى منزّها عن الجسميّة و لواحقها من الجهة و توجيه البصر إليه و إدراكه به و إنّما يرى و يدرك بحسب ما يمكن لبصيرة العقل لا جرم نزّهه عن تلك و أثبت له هذه. فقال: لا تدركه العيون. إلى قوله: بحقائق الإيمان. و أراد بحقائق الإيمان أركانه، و هى التصديق بوجود اللّه و وحدانيّته و سائر صفاته و اعتبارات أسمائه الحسنى، و عدّ من جملتها اعتبارات يدركه بها: أحدها: كونه قريبا من الأشياء، و لمّا كان المفهوم من القرب المطلق الملامسة و الالتصاق و هما من عوارض الجسميّة نزّه قربه تعالى عنها. فقال: غير ملامس فأخرجت هذه القرينة ذلك اللفظ عن حقيقته إلى مجازه و هو اتّصاله بالأشياء و قربه منها بعلمه المحيط و قدرته التامّة. الثاني: كونه بعيدا منها، و لمّا كان البعد يستلزم المباينة و هي أيضا من لواحق الجسميّة نزّهه عنها بقوله: غير مباين. و قد سبق بيان ذلك مرارا فكان بعده عنها إشارة إلى مباينته بذاته الكاملة عن مشابهة شي‏ء منها. الثالث: و كذلك قوله: متكلّم بلا رويّة. و كلامه يعود إلى علمه بصور الأوامر و النواهى و سائر أنواع الكلام عند قوم، و إلى المعنى النفسانىّ عند الأشعرى، و إلى خلقة الكلام في جسم النبىّ عند المعتزلة.

و قوله: بلا رويّة [لا برويّة خ‏].
تنزيه له عن كلام الخلق لكونه تابعا للأفكار و التروّى. الرابع: و كذلك مريد بلا همّة تنزيه لإرادته عن مثليّة إرادتنا في سبق العزم و الهمّة لها. الخامس: صانع بلا جارحة. و هو تنزيه لصنعه عن صنع المخلوقين لكونه بالجارحة الّتي هي من لواحق الجسميّة. السادس: و كذلك لطيف لا يوصف بالخفاء، و اللطيف يطلق و يراد به رقيق القوام، و يراد به صغير الحجم المستلزمين للخفاء، و عديم اللون من الأجسام، و المحكم من الصنعة. و هو تعالى منزّه عن إطلاقه بأحد هذه المعاني لاستلزام‏ الجسميّة و الإمكان فبقى إطلاقها عليه باعتبارين: أحدهما: تصرّفه في الذوات و الصفات تصرّفا خفيّا بفعل الأسباب المعدّة لها لإفاضة كمالاتها. و الثاني: جلالة ذاته و تنزيهها عن قبول الإدراك البصرى. السابع: رحيم لا يوصف بالرّقة. تنزية لرحمته عن رحمة أحدنا لاستلزامها رقّة الطبع و الانفعال النفسانىّ، و قد سبق بيان كونه تعالى رحيما الثامن: كونه عظيما تخضع الوجوه لعظمته. إذ هو الإله المطلق لكلّ موجود و ممكن فهو العظيم المطلق الّذي تفرّد باستحقاق ذلّ الكلّ و خضوعه له، و وجيب القلوب و اضطرابها من هيبته عند ملاحظة كلّ منها ما يمكن له من تلك العظمة.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 374

خطبه 177شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ وَ لَا يُغَيِّرُهُ زَمَانٌ- وَ لَا يَحْوِيهِ مَكَانٌ وَ لَا يَصِفُهُ لِسَانٌ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ عَدَدُ قَطْرِ الْمَاءِ وَ لَا نُجُومِ السَّمَاءِ- وَ لَا سَوَافِي الرِّيحِ فِي الْهَوَاءِ- وَ لَا دَبِيبُ النَّمْلِ عَلَى الصَّفَا- وَ لَا مَقِيلُ الذَّرِّ فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ- يَعْلَمُ مَسَاقِطَ الْأَوْرَاقِ وَ خَفِيَّ طَرْفِ الْأَحْدَاقِ- وَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ غَيْرَ مَعْدُولٍ بِهِ- وَ لَا مَشْكُوكٍ فِيهِ وَ لَا مَكْفُورٍ دِينُهُ- وَ لَا مَجْحُودٍ تَكْوِينُهُ شَهَادَةَ مَنْ صَدَقَتْ نِيَّتُهُ- وَ صَفَتْ دِخْلَتُهُ وَ خَلَصَ يَقِينُهُ وَ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ الَمْجُتْبَىَ مِنْ خَلَائِقِهِ- وَ الْمُعْتَامُ لِشَرْحِ حَقَائِقِهِ‏

وَ الْمُخْتَصُّ بِعَقَائِلِ كَرَامَاتِهِ- وَ الْمُصْطَفَى لِكَرَائِمِ رِسَالَاتِهِ- وَ الْمُوَضَّحَةُ بِهِ أَشْرَاطُ الْهُدَى وَ الْمَجْلُوُّ بِهِ غِرْبِيبُ الْعَمَى أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ الدُّنْيَا تَغُرُّ الْمُؤَمِّلَ لَهَا وَ الْمُخْلِدَ إِلَيْهَا- وَ لَا تَنْفَسُ بِمَنْ نَافَسَ فِيهَا وَ تَغْلِبُ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهَا- وَ ايْمُ اللَّهِ مَا كَانَ قَوْمٌ قَطُّ فِي غَضِّ نِعْمَةٍ مِنْ عَيْشٍ- فَزَالَ عَنْهُمْ إِلَّا بِذُنُوبٍ اجْتَرَحُوهَا- لِ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ وَ لَوْ أَنَّ النَّاسَ حِينَ تَنْزِلُ بِهِمُ النِّقَمُ وَ تَزُولُ عَنْهُمُ النِّعَمُ- فَزِعُوا إِلَى رَبِّهِمْ بِصِدْقٍ مِنْ نِيَّاتِهِمْ وَ وَلَهٍ مِنْ قُلُوبِهِمْ- لَرَدَّ عَلَيْهِمْ كُلَّ شَارِدٍ وَ أَصْلَحَ لَهُمْ كُلَّ فَاسِدٍ- وَ إِنِّي لَأَخْشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تَكُونُوا فِي فَتْرَةٍ- وَ قَدْ كَانَتْ أُمُورٌ مَضَتْ مِلْتُمْ فِيهَا مَيْلَةً- كُنْتُمْ فِيهَا عِنْدِي غَيْرَ مَحْمُودِينَ- وَ لَئِنْ رُدَّ عَلَيْكُمْ أَمْرُكُمْ إِنَّكُمْ لَسُعَدَاءُ وَ مَا عَلَيَّ إِلَّا الْجُهْدُ- وَ لَوْ أَشَاءُ أَنْ أَقُولَ لَقُلْتُ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ أقول: هذه الخطبة خطب بها بعد مقتل عثمان في أوّل خلافته.

 

اللغة

و الدخلة بالكسر و الضمّ: باطن الشي‏ء.

و المعتام: المختار.

و عقائل الشي‏ء: نفايسه.

و أشراط الهدى: علاماته.

و الغربيب: الأسود.

و المخلد إليها: المسلّم إليها اموره.

و لا تنفس: لا تضنّ و لا تبخل.

و غضّ النعمة: طريفها.

المعنى

و صدّر الخطبة بالإشارة إلى اعتبارات توحيديّة: الأوّل: أنّه لا يشغله شأن عن شأن، و ذلك لأنّ الشغل عن الشي‏ء إمّا لقصور القدرة أو العلم، و قدرته تعالى و علمه المحيطان بكلّ مقدور و معلوم فإذن لا يشغله مقدور عن مقدور و لا معلوم عن معلوم، و تقرير هاتين المسألتين في الكتب‏ الكلاميّة و الحكميّة. الثاني: لا يغيّره زمان، و إذ ثبت أنّه تعالى خالق الزمان، و لا زمان يلحقه.

فلا تغيّر يلحقه، و لأنّه واجب الوجود، و لا شي‏ء من المتغيّر في ذاته أو صفاته بواجب الوجود. فلا شي‏ء منه يلحقه التغيّر. الثالث: و لا يحويه مكان لبراءته عن الجسميّة و لواحقها، و كلّما كان كذلك فهو برى‏ء عن المكان و لواحقه فينتج أنّه برى‏ء من المكان و لواحقه. الرابع: و لا يصفه لسان: أى لا يعبر اللسان عن حقيقة وصفه، و بيان ما هو ذلك أنّه تعالى منزّه عن ركوب [وجوه خ‏] التراكيب فمحال أن يقع العقول على حقيقة وصفه فكيف باللسان الّذي هو المعبّر عنها. الخامس: و لا يعزب عنه عدد قطر الماء. إلى قوله: الأحداق، و هو إشارة إلى إحاطة علمه المقدّس بكلّيّات الأمور و جزئيّاتها، و هذه مسئلة عظيمة حارت العقول، و قد أشرنا إليها في المختصر الموسوم بالقواعد الإلهيّة.

ثمّ عقّب هذا التنزيه بالشهادة بكلمة التوحيد، و ذكر للّه تعالى أحوالا شهد بوحدانيّته عليها: الأوّل: كونه غير معدول به: أى لا عديل له و لا مثل.

الثاني: و لا مشكوك فيه: أى في وجوده فإنّ ذلك ينافي الشهادة بوحدانيّته.

الثالث: و لا مكفور دينه لأنّ الجحود لدينه يستلزم النقصان في معرفته فكان الاعتراف به كمالا لمعرفته و للشهادة بوحدانيّته.

الرابع: و لا مجحود تكوينه: أى إيجاده للموجودات و كونه ربّا لها. ثمّ عقّب وصف المشهود له حال تلك الشهادة بأوصاف الشاهد بها باعتبار شهادته: و هى كونه صادق النيّة في تلك الشهادة: أى باعتقاد جازم، و صافي الدخلة: أى نقىّ الباطن من الرياء و النفاق، و خالص اليقين بوجود المشهود أو كمال وحدانيّته من الشكوك و الشبهات فيه، و ثقيل الموازين بكمال تلك الشهادة و القيام بحقوقها من سائر الأعمال الصالحات، و أردفها باختها و ذكر للمشهود بحقّية رسالته أوصافا:

أحدها: كونه مجتبى من الخلايق و مصطفى منهم، و ذلك يعود إلى إكرامه بإعداد نفسه لقبول أنوار النبوّة. الثاني: و المعتام لشرح حقايقه: أى لإيضاح ما خفى من الحقائق الإلهيّة و الشرعيّة الّتى بيّنها. الثالث: المختصّ بنفايس كرامته، و هى الكمالات النفسانيّة من العلوم و مكارم الأخلاق الّتي اقتدر معها على تكميل الناقصين. الرابع: و المصطفى لكرائم رسالاته: أى لرسالاته الكريمة. و تعديدها باعتبار تعداد نزول الأوامر عليه فإنّ كلّ أمر أمر بتبليغه إلى الخلق رسالة كريمة. الخامس: الموضّحة به أعلام الهدى، و هى قوانين الشريعة و دلالات الكتاب و السنّة. السادس: و المجلوّ به غربيب العمى، و استعار لفظ الغربيب لشدّة ظلمة الجهل، و لفظ الجلاء لزوال تلك الظلم بأنوار النبوّة. ثمّ أيّه بالناس منبّها لهم على مقابح الدنيا و مذامّها. منها: تغرّ المؤمّل لها و الراكن إليها. و ذلك أنّ المؤمّل لبعض مطالبها لا يزال يتجدّد له أمارات خياليّة على مطالب و هميّة و أنّها ممكنة التحصيل نافعة فتوجب له مدّ الأمل، و قد يخترم دون بلوغها، و قد ينكشف بطلان تلك الأمارات بعد العناء الطويل، و منها: أنّها لا تنفس على من نافس فيها و أحبّها بل تسمح به للمهالك و ترميه بغرايب من النوايب، و منها: أنّها تغلب على من غلب عليها: أى من ملكها و أخذها بالغلبة فعن قريب تقهره و تهلكه، و الأوصاف المذكورة الّتى من شأنها أن تكون للعدوّ القوىّ الداهى و هى كونها تغرّ المؤمّل لها و تغلب مغالبها و لا تبقى على محبّها مستعارة، و وجه المشابهة استلزام الكون فيها و الاغترار بها و محبّتها و التملّك لها الهلاك فيها و في الآخرة كاستلزام الغرور بالعدوّ الداهى الّذي لا يحبّ أحدا و الركون إليه الهلاك.

ثمّ أخذ عليه السّلام في التنبيه على وجوب شكر المنعم و استدراكها بالفزع إلى اللّه، و أقسم أنّ زوالها عنهم ليس إلّا بذنوب اجترحوها، و ذلك إشارة إلى أنّ الذنوب تعدّلزوال النعم و حلول النقم لأنّهم لو استحقّوا إفاضة النعم مع الذنوب لكان منعهم إيّاها منعا للمستحقّ المستعدّ، و ذلك عين الظلم و هو من الجود الإلهي محال كما قال تعالى «وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ»«» و إلى هذا المعنى الإشارة بقوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ»«» أى يستعدّوا للتغيّر بالمعاصى.

و قوله: و لو أنّ الناس. إلى قوله: كلّ فاسد. إشارة إلى أنّ الفزع إلى اللّه بصدق النيّة و وله القلب و تحيّره و ذهوله عن كلّ شي‏ء سوى اللّه يعدّ الإعداد التامّ لإفاضة المطالب سواء كانت عود نعمة أو استحداثها أو زوال نقمة أو استنزالها على عدوّ. و ردّ الشارد: أى من النعم، و إصلاح الفاسد: أى من سائر الأحوال.

و قوله: و إنّى لأخشى عليكم أن تكونوا في فترة. كنّى بالفترة عن أمر الجاهليّة كناية بالمجاز إطلاقا لاسم الظرف على المظروف: أى أخشى أن يكون أحوالهم [لكم خ‏] أحوال الجاهليّة في التعصّبات الباطلة بحسب الأهواء المختلفة. و قوله: و قد كانت امور. إلى قوله: محمودين. قالت الإماميّة: تلك الامور الّتي مالوا فيها هى تقديمهم عليه من سبق من الأئمّة، و قال غيرهم: هى حركاتهم و ميلهم عليه في تقديم عثمان وقت الشورى، و اختيارهم له و ما جرى فيها من الأقوال و الأفعال. و قوله: و لئن ردّ عليكم أمركم. أى صلاح أحوالكم و استقامة سيرتكم الّتي كنتم عليها في زمن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم إنّكم لسعداء عند اللّه و في الدنيا. و ما علىّ إلّا الجهد: أى في عود ذلك الأمر عليكم. و قوله: و لو أشاء أن أقول لقلت. يفهم منه أنّه لو قال لكان مقتضى قوله نسبة من تقدّم عليه إلى الظلم له و تخطئهم في التقدّم عليه، و ذكر معايب يقتضى وجوب تأخّرهم في نظره. و تقدير الكلام: و لكنّى لا أقول فلم أكن مريدا للقول. و قوله: عفا اللّه عمّا سلف. إشارة إلى مسامحته لهم بما سبق منهم. إذ العادة جارية بأن يقول الإنسان مثل ذلك فيما تسامح به غيره من الذنوب، و أحسن العبارات في ذلك لفظ القرآن الكريم فيقتبس في الكلام. و باللّه التوفيق.

 

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 3 ، صفحه‏ى 369

خطبه 176 شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام في معنى الحكمين

فَأَجْمَعَ رَأْيُ مَلَئِكُمْ عَلَى أَنِ اخْتَارُوا رَجُلَيْنِ- فَأَخَذْنَا عَلَيْهِمَا أَنْ يُجَعْجِعَا عِنْدَ الْقُرْآنِ وَ لَا يُجَاوِزَاهُ- وَ تَكُونُ أَلْسِنَتُهُمَا مَعَهُ وَ قُلُوبُهُمَا تَبَعَهُ فَتَاهَا عَنْهُ- وَ تَرَكَا الْحَقَّ وَ هُمَا يُبْصِرَانِهِ- وَ كَانَ الْجَوْرُ هَوَاهُمَا وَ الِاعْوِجَاجُ رَأْيَهُمَا- وَ قَدْ سَبَقَ اسْتِثْنَاؤُنَا عَلَيْهِمَا فِي الْحُكْمِ بِالْعَدْلِ- وَ الْعَمَلِ بِالْحَقِّ سُوءَ رَأْيِهِمَا وَ جَوْرَ حُكْمِهِمَا- وَ الثِّقَةُ فِي أَيْدِينَا لِأَنْفُسِنَا حِينَ خَالَفَا سَبِيلَ الْحَقِّ- وَ أَتَيَا بِمَا لَا يُعْرَفُ مِنْ مَعْكُوسِ الْحُكْمِ أقول: هذا الفصل من خطبة خطبها بعد ما بلغه أمر الحكمين.

اللغة

و الإجماع: تصميم العزم.

و يجعجعا: يحبسا نفسهما على القرآن

المعنى
و الخطاب لمن أنكر عليه رضاه بالتحكيم بعد الرضا به، و قد حكى فيه إجماع رأى جماعتهم على اختيار الرجلين و هما أبو موسى الأشعرى و عمرو بن العاص و أخذه عليهما أن يحبسا نفسهما على العمل بالقرآن و لا يجاوزاه، و تكون ألسنتهما و قلوبهما معه، و اطلق لفظ القلوب على الميول الإراديّة مجازا إطلاقا لاسم السبب على المسبّب كقوله تعالى «فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما» و ذلك هو شرط رضاه عليه السّلام بالتحكيم. ثمّ حكى‏ خروجهما عمّا اشترط عليهما و تيهه ما عن الكتاب و تركهما للحقّ مع إبصارهما له، و خروجه ما عن فضيلة العدل بحسب الهوى إلى رذيلة الجور و الاعوجاج عن طريقة الحقّ. و قوله: و قد سبق استثناؤنا. إعادة لذكر سبق الشرط في الحكم بالعدل، و سوء رأيهما منصوب لأنّه مفعول سبق. و قوله: و الثقة في أيدينا لأنفسنا. أى إنّا على برهان وثقة من أمرنا، و ليس بلازم لنا حكمهما لأنّهما خالفا الشرط و آتيا بما لا يعرف من الحكم المعكوس، و قد حكينا فيما سبق طرفا من حال التحكيم و خداع عمرو بن العاص لأبي موسى الأشعرى. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 367

خطبه 175 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السلام

انْتَفِعُوا بِبَيَانِ اللَّهِ وَ اتَّعِظُوا بِمَوَاعِظِ اللَّهِ- وَ اقْبَلُوا نَصِيحَةَ اللَّهِ- فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعْذَرَ إِلَيْكُمْ بِالْجَلِيَّةِ وَ أَخَذَ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةَ- وَ بَيَّنَ لَكُمْ مَحَابَّهُ مِنَ الْأَعْمَالِ وَ مَكَارِهَهُ مِنْهَا- لِتَتَّبِعُوا هَذِهِ وَ تَجْتَنِبُوا هَذِهِ- فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص كَانَ يَقُولُ- إِنَّ الْجَنَّةَ حُفَّتْ بِالْمَكَارِهِ- وَ إِنَّ النَّارَ حُفَّتْ بِالشَّهَوَاتِ- وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ مَا مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ شَيْ‏ءٌ إِلَّا يَأْتِي فِي كُرْهٍ- وَ مَا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ شَيْ‏ءٌ إِلَّا يَأْتِي فِي شَهْوَةٍ- فَرَحِمَ اللَّهُ امْرَأً نَزَعَ عَنْ شَهْوَتِهِ وَ قَمَعَ هَوَى نَفْسِهِ- فَإِنَّ هَذِهِ النَّفْسَ أَبْعَدُ شَيْ‏ءٍ مَنْزِعاً- وَ إِنَّهَا لَا تَزَالُ تَنْزِعُ إِلَى مَعْصِيَةٍ فِي هَوًى- وَ اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُمْسِي وَ لَا يُصْبِحُ-

إِلَّا وَ نَفْسُهُ ظَنُونٌ عِنْدَهُ- فَلَا يَزَالُ زَارِياً عَلَيْهَا وَ مُسْتَزِيداً لَهَا- فَكُونُوا كَالسَّابِقِينَ قَبْلَكُمْ وَ الْمَاضِينَ‏ أَمَامَكُمْ- قَوَّضُوا مِنَ الدُّنْيَا تَقْوِيضَ الرَّاحِلِ وَ طَوَوْهَا طَيَّ الْمَنَازِلِ وَ اعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِي لَا يَغُشُّ- وَ الْهَادِي الَّذِي لَا يُضِلُّ وَ الْمُحَدِّثُ الَّذِي لَا يَكْذِبُ- وَ مَا جَالَسَ هَذَا الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلَّا قَامَ عَنْهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ- زِيَادَةٍ فِي هُدًى أَوْ نُقْصَانٍ مِنْ عَمًى- وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَعْدَ الْقُرْآنِ مِنْ فَاقَةٍ- وَ لَا لِأَحَدٍ قَبْلَ الْقُرْآنِ مِن غِنًى- فَاسْتَشْفُوهُ مِنْ أَدْوَائِكُمْ- وَ اسْتَعِينُوا بِهِ عَلَى لَأْوَائِكُمْ- فَإِنَّ فِيهِ شِفَاءً مِنْ أَكْبَرِ الدَّاءِ- وَ هُوَ الْكُفْرُ وَ النِّفَاقُ وَ الْغَيُّ وَ الضَّلَالُ- فَاسْأَلُوا اللَّهَ بِهِ وَ تَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِحُبِّهِ- وَ لَا تَسْأَلُوا بِهِ خَلْقَهُ- إِنَّهُ مَا تَوَجَّهَ الْعِبَادُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمِثْلِهِ- وَ اعْلَمُوا أَنَّهُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ وَ قَائِلٌ مُصَدَّقٌ- وَ أَنَّهُ مَنْ شَفَعَ لَهُ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُفِّعَ فِيهِ- وَ مَنْ مَحَلَ بِهِ الْقُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صُدِّقَ عَلَيْهِ- فَإِنَّهُ يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ- أَلَا إِنَّ كُلَّ حَارِثٍ مُبْتَلًى فِي حَرْثِهِ وَ عَاقِبَةِ عَمَلِهِ- غَيْرَ حَرَثَةِ الْقُرْآنِ- فَكُونُوا مِنْ حَرَثَتِهِ وَ أَتْبَاعِهِ- وَ اسْتَدِلُّوهُ عَلَى رَبِّكُمْ وَ اسْتَنْصِحُوهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ- وَ اتَّهِمُوا عَلَيْهِ آرَاءَكُمْ وَ اسْتَغِشُّوا فِيهِ أَهْوَاءَكُمْ الْعَمَلَ الْعَمَلَ ثُمَّ النِّهَايَةَ النِّهَايَةَ- وَ الِاسْتِقَامَةَ الِاسْتِقَامَةَ ثُمَّ الصَّبْرَ الصَّبْرَ وَ الْوَرَعَ الْوَرَعَ- إِنَّ لَكُمْ نِهَايَةً فَانْتَهُوا إِلَى نِهَايَتِكُمْ- وَ إِنَّ لَكُمْ عَلَماً فَاهْتَدُوا بِعَلَمِكُمْ- وَ إِنَّ لِلْإِسْلَامِ غَايَةً فَانْتَهُوا إِلَى غَايَتِهِ- وَ اخْرُجُوا إِلَى اللَّهِ بِمَا افْتَرَضَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَقِّهِ- وَ بَيَّنَ لَكُمْ مِنْ وَظَائِفِهِ- أَنَا شَاهِدٌ لَكُمْ وَ حَجِيجٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْكُمْ أَلَا وَ إِنَّ الْقَدَرَ السَّابِقَ قَدْ وَقَعَ- وَ الْقَضَاءَ الْمَاضِيَ قَدْ تَوَرَّدَ- وَ إِنِّي مُتَكَلِّمٌ بِعِدَةِ اللَّهِ وَ حُجَّتِهِ- قَالَ اللَّهُ تَعَالَى- إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا- تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا- وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ وَ قَدْ قُلْتُمْ رَبُّنَا اللَّهُ فَاسْتَقِيمُوا عَلَى كِتَابِهِ- وَ عَلَى مِنْهَاجِ أَمْرِهِ وَ عَلَى الطَّرِيقَةِ الصَّالِحَةِ مِنْ عِبَادَتِهِ-

ثُمَّ لَا تَمْرُقُوا مِنْهَا وَ لَا تَبْتَدِعُوا فِيهَا- وَ لَا تُخَالِفُوا عَنْهَا فَإِنَّ أَهْلَ الْمُرُوقِ مُنْقَطَعٌ بِهِمْ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِيَّاكُمْ وَ تَهْزِيعَ الْأَخْلَاقِ وَ تَصْرِيفَهَا- وَ اجْعَلُوا اللِّسَانَ وَاحِداً وَ لْيَخْزُنِ الرَّجُلُ لِسَانَهُ- فَإِنَّ هَذَا اللِّسَانَ جَمُوحٌ بِصَاحِبِهِ- وَ اللَّهِ مَا أَرَى عَبْداً يَتَّقِي تَقْوَى تَنْفَعُهُ حَتَّى يَخْزُنَ لِسَانَهُ- وَ إِنَّ لِسَانَ الْمُؤْمِنِ مِنْ وَرَاءِ قَلْبِهِ- وَ إِنَّ قَلْبَ الْمُنَافِقِ مِنْ وَرَاءِ لِسَانِهِ- لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ تَدَبَّرَهُ فِي نَفْسِهِ- فَإِنْ كَانَ خَيْراً أَبْدَاهُ وَ إِنْ كَانَ شَرّاً وَارَاهُ- وَ إِنَّ الْمُنَافِقَ يَتَكَلَّمُ بِمَا أَتَى عَلَى لِسَانِهِ- لَا يَدْرِي مَا ذَا لَهُ وَ مَا ذَا عَلَيْهِ- وَ لَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص- لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ

حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ- وَ لَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ- فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ تَعَالَى- وَ هُوَ نَقِيُّ الرَّاحَةِ مِنْ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَ أَمْوَالِهِمْ- سَلِيمُ اللِّسَانِ مِنْ أَعْرَاضِهِمْ فَلْيَفْعَلْ وَ اعْلَمُوا عِبَادَ اللَّهِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ يَسْتَحِلُّ الْعَامَ- مَا اسْتَحَلَّ عَاماً أَوَّلَ وَ يُحَرِّمُ الْعَامَ مَا حَرَّمَ عَاماً أَوَّلَ- وَ أَنَّ مَا أَحْدَثَ النَّاسُ لَا يُحِلُّ لَكُمْ شَيْئاً- مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ- وَ لَكِنَّ الْحَلَالَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ وَ الْحَرَامَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ- فَقَدْ جَرَّبْتُمُ الْأُمُورَ وَ ضَرَّسْتُمُوهَا- وَ وُعِظْتُمْ بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَ ضُرِبَتِ لَكُمْ الْأَمْثَالُ وَ دُعِيتُمْ إِلَى الْأَمْرِ الْوَاضِحِ فَلَا يَصَمُّ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا أَصَمُّ- وَ لَا يَعْمَى عَنْ ذَلِكَ إِلَّا أَعْمَى- وَ مَنْ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ بِالْبَلَاءِ وَ التَّجَارِبِ- لَمْ يَنْتَفِعْ بِشَيْ‏ءٍ مِنَ الْعِظَةِ وَ أَتَاهُ التَّقْصِيرُ مِنْ أَمَامِهِ- حَتَّى يَعْرِفَ مَا أَنْكَرَ وَ يُنْكِرَ مَا عَرَفَ- فَإِنَّ النَّاسَ رَجُلَانِ مُتَّبِعٌ شِرْعَةً وَ مُبْتَدِعٌ بِدْعَةً- لَيْسَ مَعَهُ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بُرْهَانُ سُنَّةٍ وَ لَا ضِيَاءُ حُجَّةٍ وَ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَعِظْ أَحَداً بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ- فَإِنَّهُ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ وَ سَبَبُهُ الْأَمِينُ- وَ فِيهِ رَبِيعُ الْقَلْبِ وَ يَنَابِيعُ الْعِلْمِ- وَ مَا لِلْقَلْبِ جِلَاءٌ غَيْرُهُ مَعَ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ الْمُتَذَكِّرُونَ- وَ بَقِيَ النَّاسُونَ أَوِ الْمُتَنَاسُونَ- فَإِذَا رَأَيْتُمْ خَيْراً فَأَعِينُوا عَلَيْهِ- وَ إِذَا رَأَيْتُمْ شَرّاً فَاذْهَبُوا عَنْهُ-

فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص‏ كَانَ يَقُولُ- يَا ابْنَ آدَمَ اعْمَلِ الْخَيْرَ وَ دَعِ الشَّرَّ- فَإِذَا أَنْتَ جَوَادٌ قَاصِدٌ أَلَا وَ إِنَّ الظُّلْمَ ثَلَاثَةٌ- فَظُلْمٌ لَا يُغْفَرُ وَ ظُلْمٌ لَا يُتْرَكُ- وَ ظُلْمٌ مَغْفُورٌ لَا يُطْلَبُ- فَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لَا يُغْفَرُ فَالشِّرْكُ بِاللَّهِ- قَالَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ أَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي يُغْفَرُ- فَظُلْمُ الْعَبْدِ نَفْسَهُ عِنْدَ بَعْضِ الْهَنَاتِ- وَ أَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لَا يُتْرَكُ- فَظُلْمُ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً- الْقِصَاصُ هُنَاكَ شَدِيدٌ لَيْسَ هُوَ جَرْحاً بِاْلمُدَى- وَ لَا ضَرْباً بِالسِّيَاطِ وَ لَكِنَّهُ مَا يُسْتَصْغَرُ ذَلِكَ مَعَهُ- فَإِيَّاكُمْ وَ التَّلَوُّنَ فِي دِينِ اللَّهِ- فَإِنَّ جَمَاعَةً فِيمَا تَكْرَهُونَ مِنَ الْحَقِّ- خَيْرٌ مِنْ فُرْقَةٍ فِيمَا تُحِبُّونَ مِنَ الْبَاطِلِ- وَ إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يُعْطِ أَحَداً بِفُرْقَةٍ خَيْراً مِمَّنْ مَضَى- وَ لَا مِمَّنْ بَقِيَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ- طُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ- وَ طُوبَى لِمَنْ لَزِمَ بَيْتَهُ وَ أَكَلَ قُوتَهُ- وَ اشْتَغَلَ بِطَاعَةِ رَبِّهِ وَ بَكَى عَلَى خَطِيئَتِهِ- فَكَانَ مِنْ نَفْسِهِ فِي شُغُلٍ وَ النَّاسُ مِنْهُ فِي رَاحَةٍ

اللغة

أقول: الظنون: المتّهمة.

و الزارى: العايب.

و تقويض البناء: نقضه.

و اللأواء: الشدّة.

و محل به السلطان: كاده و قال فيه ما يضرّه.

و تورّدت الخيل البلدة: دخلتها قطعة قطعة.

و تهزيع الأخلاق: تكسيرها و تفريقها.

و ضرست الأمر: أحكمته تجربة.

المعنى

و قد أمر السامعين أن ينتفعوا ببيان اللّه في كتابه و على لسان رسوله، و يتّعظوا بمواعظه و يقبلوا نصيحته فيما لأجله خلقوا، و إنّما عدّد اسم اللّه صريحا دون‏ الضمير للتعظيم. ثمّ أشار إلى وجه وجوب الامتثال عليهم و هو إعذاره إليهم بالجليّة: أى إظهار ما هو صورة العذر من الآيات و النذر الجليّة الواضحة، و اتّخاذ الحجّة ببعث الرسل، و بيان محابّه من الأعمال الصالحات و مكارهه من المحرّمات في كتابه العزيز لغاية اتّباع محابّه و اجتناب مكارهه. ثمّ نبّه على ما في الطاعة و امتثال التكليف من الشدّة و المكروه فذكر الخبر، و نعم ما تضمّنه الخبر و أنّه لم ينبّه على الشدّة مجرّدة بل قرنها بذكر الجنّة و جعلها محجوبة بها لتحصل الرغبة في الجنّة فيتمّ السعى في قطع تلك الحجب المكروهة، و كذلك قرن ذكر الشهوات بذكر كونها محفوفة بها بالنار تنفيرا عنها. ثمّ بعد تسهيل المكاره الّتي يشتمل عليها الطاعات بذكر الجنّة و تحقير الشهوات الّتي يريد الجذب عنها بذكر النار صرّح بأنّه لا تأتى طاعة إلّا في كره و لا معصية إلّا في شهوة، و قد عرفت سرّ ذلك، و أنّ النفس للقوّة الشهويّة أطوع منها للعقل خصوصا فيما هو أقرب إليها من اللذّات المحسوسة الّتي يلحقها العقاب عليها. ثمّ عقّب ذلك بدعاء اللّه أن يرحم امرأ نزع عن شهوته: أى امتنع من الانهماك فيها و قمع نفسه الأمّارة بالسوء فإنّها أبعد شي‏ء منزعا عن اللّه. ثمّ فسّر منزعها الّذي ينزع إليه و هي المعصية في هواها، و ما تميل إليه. ثمّ نبّه على حال المؤمن الحقّ و تهمته نفسه في جميع أوقاته من صباح و مساء، و أنّه لا يزال عائبا عليها و مراقبا لأحوالها، و مؤاخذا لها بالزيادة في الأعمال الصالحة، و قد سبقت الإشارة إلى ذلك. ثمّ أمرهم أن يكونوا كالسابقين من أكابر الصحابة و الماضين أمامهم إلى الجنّة في الإعراض عن الدنيا، و استعار لفظ التقويض و الطىّ لقطعهم علائق الدنيا و رحيلهم إلى الآخرة كما يقوّض الراحل متاعه للسفر، و يطوى خيامه للرحيل. ثمّ عقّب بذكر القرآن و ممادحه ترغيبا في الاقتداء به، و استعار وصف الناصح له، و وجه الاستعارة أنّ القرآن يرشده إلى وجوه المصالح كما أنّ الناصح كذلك، و رشّح بكونه لا غشّ معه و كذلك كونه هاديا لا يضلّ: أى طريق اللّه، و روى لا يضلّ: أى لا يضلّ غيره، و كذلك استعار وصف المحدّث له، و رشّح بكونه لا يكذب، و وجه الاستعارة اشتماله على الأخبار و القصص الصحيح، و فهمه و استفادته عنه كالمحدّث الصادق، و كنّى بمجالسة القرآن عن مجالسة حملته و قرّائه لاستماعه منهم، و تدبّره عنهم فإنّ فيه من الآيات الباهرة و النواهي الزاجرة ما يزيد بصيرة المستبصر من الهدى، و ينقص من عمى الجهل. ثمّ نبّههم على أنّه ليس بعده على أحد فقر: أى ليس بعد نزوله للناس و بيانه الواضح حاجة بالناس إلى بيان حكم في إصلاح معاشهم و معادهم، و لا لأحد قبله من غنى: أى قبل نزوله لا غنى عنه للنفوس الجاهلة، و إذا كان بهذه الصفة أمرهم بأخذ الشفاء عنه لأدوائهم: أى أدواء الجهل، و أن يستعينوا به على شدّتهم و فقرهم إلى أن يستليحوا منه وجوه المصالح الدنيويّة و الاخرويّة.

ثمّ عدّ أكبر أدواء الجهل و أعاد ذكر كونه شفاء منها: أوّلها: الكفر باللّه و هو عمى القوّة النظريّة من قوى النفس عن معرفة صانعها و مبدعها إلى غاية إنكاره أو اتّخاذ ثان له أو الحكم عليه بصفات المخلوقين المحدّثين، و الثاني: النفاق و هو مستلزم لرذيلة الكذب المقابلة لفضيلة الصدق. ثمّ لرذيلة الغدر المقابلة لفضيلة الوفاء، و قد سبق بيان حال النفس في هاتين الرذيلتين. الثالث: الغىّ و هو رذيلة التفريط من فضيلة الحكمة. الرابع: الضلال و هو الانحراف عن فضيلة العدل، و إلى كونه شفاء الإشارة بقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ القلوب تصدء كما يصدء الحديد. قيل: يا رسول اللّه ما جلاؤها قال: قراءة القرآن و ذكر الموت، و قد علم اشتماله على ذكر الموت في مواضع كثيرة. ثمّ أمرهم أن يسألو اللّه به، و المراد أنّكم اعدّوا أنفسكم و كمّلوها لاستنزال المطالب من اللّه بما اشتمل عليه القرآن من الكمالات النفسانيّة، و توجّهوا إليه بحبّه لأنّ من أحبّه استكمل بما فيه فحسن توجّهه إلى اللّه.

و قوله: و لا تسئلوا به خلقه.
و قوله: و لا تسئلوا به خلقه. أى لا تجعلوا تعلّمكم له لطلب الرزق به من خلق مثلكم فإنّه لم ينزل لذلك.

و قوله: إنّه [فإنّه خ‏] ما توجّه العباد إلى اللّه بمثله.
و قوله: إنّه [فإنّه خ‏] ما توجّه العباد إلى اللّه بمثله. و ذلك لاشتماله على جميع الكمالات النفسانيّة من العلوم، و مكارم الأخلاق‏ و النهى عن جميع الرذائل الموبقة. ثم استعار لفظى الشافع و المشفّع. و وجه الاستعارة كون تدبّره و العمل بما فيه ماحيا لما يعرض للنفس من الهيئات الرديئة من المعاصي، و ذلك مستلزم لمحو غضب اللّه كما يمحو الشفيع المشفّع أثر الذنب عن قلب المشفوع إليه، و ذلك سرّ الخبر المرفوع ما من شفيع من ملك و لا نبىّ و لا غيرهما أفضل من القرآن، و كذلك لفظ القائل المصدّق، و وجه الاستعارة كونه ذا ألفاظ إذا نطق بها لا يمكن تكذيبها كالقائل الصادق. ثمّ أعاد معنى كونه شافعا مشفّعا يوم القيامة. ثمّ استعار لفظ المحل للقرآن، و وجه الاستعارة أنّ لسان حال القرآن شاهد في علم اللّه و حضرة ربوبيّته على من أعرض عنه بعدم اتّباعه و مخالفته لما اشتمل عليه، و تلك شهادة لا يجوز عليها الكذب فبالواجب أن يصدق فأشبه الساعى إلى السلطان في حقّ غيره بما يضرّه.

و قوله: فإنّه لا ينادى مناد يوم القيامة. إلى آخره.
و قوله: فإنّه لا ينادى مناد يوم القيامة. إلى آخره. فالمنادى هو لسان حال الأعمال، و الحرث كلّ عمل تطلب به غاية و تستخرج منه ثمرة، و الابتلاء هاهنا ما يلحق النفس على الأعمال و عواقبها من العذاب بقدر الخروج فيها عن طاعة اللّه، و ظاهر أنّ حرث القرآن و البحث عن مقاصده لغاية الاستكمال به برى‏ء من لواحق العقوبات. ثمّ حثّهم على أن يكونوا من حرثته و أتباعه، و أن يستدلّوه: أى يتّخذوه دليلا قاعدا إلى ربّهم، و أن يستنصحوه على انفسهم: أى يتّخذوه ناصحا على نفوسهم الأمّارة بالسوء لكونها هي الغاشية لهم يقودها إلى معصية اللّه، و كون القرآن زاجرا لهم عمّا تأمرهم به تلك النفوس فيجب أن تقبل نصيحته عليها، و كذلك اتّهموا عليه آرائكم: أى إذا رأيتم رأيا يخالف القرآن فاتّهموا ذلك الرأى فإنّه صادر عن النفس الأمّارة بالسوء، و كذلك قوله: و استغشّوا فيه أهوائكم، و إنّما قال هنا: استغشّوا، و قال في الآراء: اتّهموا لأنّ الهوى هو ميل النفس الأمّارة من غير مراجعة العقل فإذا حكمت النفس عن متابعتها بحكم فهو غشّ صراح، و أمّا الرأي فقد يكون‏ بمراجعة العقل و حكمه، و قد يكون بدونه فجاز أن يكون حقّا، و جاز أن يكون باطلا فكان بالتهمة أولى.

ثمّ أمر بلزوم العمل الصالح. ثمّ بحفظ النهاية المطلوبة منهم بالعمل و الوصول إليها منه: أى راعوا عاقبتكم و نهاية أعمالكم و غايتها فإنّ الأمور بخواتيمها. ثمّ أمر بالاستقامة: أى على العمل. ثمّ بالصبر عليه، و حقيقته مقاومة الهوى لئلّا ينقاد إلى قبائح اللذّات فيخرج عن الصراط. ثمّ بالورع، و هو لزوم الأعمال الجميلة، و إنّما عطف النهاية و الصبر بثمّ لتأخّر نهاية العمل عنه، و كون الصبر أمرا عدميّا فهو في معنى المتراخي و المنفك عن العمل الّذي هو معنى وجوديّ بخلاف الاستقامة على العمل فإنّها كيفيّة له، و الورع فإنّه جزء منه، و كرّر تلك الألفاظ للتأكيد، و النصب في جميعها على الإغراء. ثمّ أشار إلى أنّ تلك النهاية هي النهاية الّتي لهم و أمرهم بالانتهاء إليها، و هي الأمر الّذي خلقوا لأجله أعنى الوصول إلى اللّه طاهرين عن رجس الشيطان، و هو لفظ الخبر النبويّ أيّها الناس إنّ لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، و إنّ لكم غاية فانتهوا إلى غايتكم فإنّ المراد بالغاية و النهاية واحد، و المراد بالمعالم حظائر القدس و منازل الملائكة، و كذلك إنّ لكم علما فاهتدوا بعلمكم: أى إلى تلك النهاية. و استعار لفظ العلم لنفسه. ثمّ أخبر أنّ للإسلام غاية و أمرهم بالانتهاء إليها، و تلك الغاية هي النهاية المشار إليها.

و قوله: و أخرجوا إلى اللّه. إلى قوله: وظائفه.
و قوله: و أخرجوا إلى اللّه. إلى قوله: وظائفه. فالتقدير أخرجوا من حقّه فيما افترض عليكم، و حقّه في فرائضه و وظائفه الإخلاص بها لوجهه. ثمّ رغّبهم في طاعته و اتّباع أوامره بكونه شاهدا لهم يوم القيامة و محتجّا. قال بعض الشارحين: و إنّما ذكر الاحتجاج و إن كان ذلك الموقف ليس موقف محاجّة لأنّه إذا شهد لهم فكأنّه أثبت الحجّة لهم فأشبه المحاجّ، و أقول: لمّا كان إمام كلّ قوم هو المخاطب عنهم و الشهيد لهم كما قال تعالى «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ»«» و قوله «وَ نَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ»«» و كان ذلك الموقف هو موقف السؤال و الجواب كان ذلك معنى المحاجّة و المجادلة. فالخلوص من الأسئلة بأجوبتها يشبه غلب المسئول بالحجّة و هو البرهان المطلوب، و جرت العادة بأنّ البرهان يكون عند المحاجّة، و كذلك الانقطاع عن الجواب يشبه كون المسئول محجوجا، و هذا الاحتجاج و الشهادة مقاليّة عند القائلين بحشر الأجساد، و حاليّة عند غيرهم. ثمّ أخبر أنّ القدر السابق في علم اللّه قد وقع، و القضاء الماضى: أى النافذ قد تورّد: أى دخل في الوجود شيئا فشيئا، و قد علمت فيما سلف أنّ القضاء هو العلم الإلهى بما يكون و ما هو كائن، و أنّ القدر تفصيله الواقع على وفقه لكنّه أشار بوقوع القدر هنا إلى وقع خاص و هو خلافته و ما يلزمها من الفتن و الوقايع، و روى أنّ هذه الخطبة من أوائل الخطب الّتي خطب بها أيّام بويع بعد قتل عثمان. قال بعض الشارحين: و في هذا الكلام إشارة إلى أنّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخبره أنّ الأمر سيصل إليه في آخر وقته، و أقول: لا شكّ أنّ وقوع هذا الأمر من القدر السابق على وفق القضاء، و ليس للّفظ إشعار بما قال هذا الفاضل. إذ كان عليه السّلام عالما بأنّ كلّ واقع في الوجود فبقضاء من اللّه و قدر.

و قوله: و إنّى متكلّم بعدة اللّه و حجّته.
و قوله: و إنّى متكلّم بعدة اللّه و حجّته. أى لمّا وقع هذا الأمر إلىّ فإنّى أتكلّم بكذا، وعدة اللّه ما وعد به عباده الّذين اعترفوا بربوبيّته و استقاموا على سلوك سبيله بطاعته من تنزّل الملائكة عليهم بذهاب الخوف و الحزن و البشارة بالجنّة، و أمّا حجّته الّتي تكلّم بها فقوله: و قد قلتم ربّنا اللّه: أى اعترفتم بالربوبيّته فاستقيموا على كتابه و على منهاج أمره و على الطريقة الصالحة من عبادته: أى الّتي هي عن علم و الخالصة من الرياء و النفاق من غير أن يمرقوا منها: أى يخرجوا فيها بالتحذلق و التشدّد إلى طرف الإفراط الّذي هو ثمرة الجهل، و لا تحدثوا فيها بدعة و لا تخالفوا عنها و تحيدوا يمينا و شمالا فتقعوا في مهاوى الهلاك فإنّكم متى فعلتم ذلك فقد تمّ شرط استحقاقكم لإنجاز عدته المذكورة فإنّ ذلك الشرط مركّب من الاعتراف بربوبيّته، و الاستقامة على الامور المذكورة فحينئذ يجب أن تفاض تلك العدة، و مع فوات جزء من ذلك الشرط لا يقع المشروط فلم يتحقّق الموعود به، و ذلك معنى كون أهل المروق‏ منقطعا بهم: أى لا يجدون بلاغا يوصلهم إلى المقصد لأنّ الشرط هو البلاغ إلى المقصد الحقيقىّ. ثمّ شرع في النهى عن النفاق لأنّ تهزيع الأخلاق تغييرها و نقلها من حال إلى حال و هو معنى تصريفها، و ذلك هو النفاق. إذ المنافق لا يلزم خلقا واحدا بل تارة يكون صادقا، و تارة كاذبا، و تارة وفيّا، و اخرى غادرا، و مع الظالمين ظالم، و مع أهل العدل عادل، و لذلك قال: و اجعلوا اللسان واحدا، و هو شروع في الوصيّة بحال اللسان وعد له: أى لا يكوننّ أحدكم ذا لسانين و هو المنافق.. ثمّ أمر بخزنه و استلزم النهى عن امور، و هي الفضل من القول و وضعه في غير مواضعه و الغيبة و النميمة و السعاية و المسابة و القذف و نحوه، و كلّها رذائل في طرف الإفراط من فضيلة العدل.

و قوله: فإنّ اللسان جموح بصاحبه.
و قوله: فإنّ اللسان جموح بصاحبه. تعليل لذلك النهى، و إشارة إلى خروجه بصاحبه عن فضيلة العدل إلى الرذائل الّتي هي موارد الهلكة في الآخرة و الدنيا كما أنّ الفرس الجموح مخرج بصاحبه إلى الهلاك، و لفظ الجموح مستعار له بهذا الاعتبار. ثمّ أقسم أنّه لا متّقى ينفعه تقواه إلّا بخزن لسانه، و هو حقّ لأنّ التقوى النافع هو تقوى التامّ، و خزن اللسان و كفّه عن الرذائل المذكورة جزء عظيم من التقوى لا يتمّ بدونه فهي إذن لا ينفع إلّا به. ثمّ نبّه على ما ينبغي عند إرادة القول من التثبّت و التأمّل ما يراد النطق به و على ما لا ينبغي من القول بغير مراجعة الفكر، و قرن الأوّل بالإيمان ترغيبا فيه، و الثاني بالنفاق تنفيرا عنه.

و قوله: لأنّ المؤمن. إلى قوله: و ما ذا عليه.
و قوله: لأنّ المؤمن. إلى قوله: و ما ذا عليه. بيان لمعنى كون اللسان وراء و أماما، و تلخيص هذا البيان أنّ الوراء في الموضعين كناية عن التبعيّة لأنّ لسان المؤمن تابع لقلبه فلا ينطق إلّا بعد تقديم الفكر فيما ينبغي أن يقوله، و قلب المنافق و ذكره متأخّر عن نطقه فكان لفظ الوراء استعارة من المعنى المحسوس للمعقول فأمّا الخبر النبوىّ المذكور فهو استشهاد على أنّ الإيمان لا يتمّ إلّا باستقامة اللسان على الحقّ و خزنه عن الرذائل‏ الّتى عدّدناها و ذلك عين ما ادّعاه في قوله: إنّ التقوى لا ينفع العبد حتّى يخزن لسانه. فأمّا برهان الخبر فهو أنّ استقامة القلب عبارة عن التصديق باللّه و رسوله و اعتقاد حقيّة ما وردت به الشريعة من المأمورات و المنهيّات، و ذلك عين الإيمان و حقيقته فإذن لا يستقيم الإيمان حتّى يستقيم القلب، و أمّا أنّه لا يستقيم القلب حتّى يستقيم اللسان فلأنّ استقامة اللسان على الإقرار بالشهادتين و لوازمها و على الإمساك عمّا لا ينبغي من الأمور المعدودة من لوازم استقامة القلب لحكمنا على غير المقرّ بتلك الامور و القائل بها بعدم الإيمان الكامل، و لا يستقيم أمر من دون لازمه.

و قوله: فمن استطاع. إلى قوله: فليفعل.
و قوله: فمن استطاع. إلى قوله: فليفعل. أمر بالاجتهاد في لقاء اللّه تعالى على أحوال، و هي نقاء الراحة من دماء المسلمين و أراد السلامة من قتل النفس، و أموالهم و أراد السلامة من الظلم، و أن يكون الإنسان سليم اللسان من أعراضهم و أراد الكفّ عن الغيبة و السبّ، و شرط ذلك بالاستطاعة لعسره و شدّته و إن كان واجب الترك على كلّ حال، و أشدّها الكفّ عن الغيبة فإنّه يكاد أن لا يستطاع، و إلى نحو هذا إشارة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المسلّم من سلم المسلمون من يده و لسانه. فسلامتهم من يده سلامة دمائهم و أموالهم، و سلامتهم من لسانه سلامة أعراضهم، و أعمّ من ذلك قال بعض الحكماء: من علم أنّ لسانه جارحة من جوارحه أقلّ من إعمالها و استقبح إدامة تحريكها كما يستقبح أن يحرّك رأسه أو منكبه دائما.

و قوله: و اعلموا. إلى قوله: حرّم عليكم
و قوله: و اعلموا. إلى قوله: حرّم عليكم قال بعض الشارحين: هو إشارة إلى أنّ ما ثبت من طريق النصّ أو العادة الّتي شهد بها النصّ في زمان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يجوز أن ينقض بالقياس و الاجتهاد بل كلّ ما ورد به النصّ فيتبع فيه مورد النصّ فما كان حلالا بمقتضى النصّ و عمومه العام الماضى فهو في هذا العام حلال، و كذا في الحرام، و عموم هذا الكلام يقتضى عدم جواز نسخ النصّ و تخصيصه بالقياس و هو مذهب الإماميّة لاعتقادهم بطلان القول بالقياس المتعارف، ومذهب جماعة من الاصوليّين مع اعترافهم بصحّة القياس، و من يجوّز تخصيصه به يحمل هذا الكلام على عدم قبول القياس في نسخ النصّ من كتاب أو سنّة، و ما أحدثه الناس إشارة إلى القياس.

و قوله: و لكنّ الحلال ما أحلّ اللّه و الحرام ما حرّم اللّه،
و قوله: و لكنّ الحلال ما أحلّ اللّه و الحرام ما حرّم اللّه، تأكيد لاتّباع النصّ و ما كان عليه الصحابة من الدين ممّا هو معلوم بينهم دون ما أحدث من الآراء و المذاهب.

و قوله: و قد جرّبتم الامور و ضرّستموها. إلى قوله: الأمر الواضح.
و قوله: و قد جرّبتم الامور و ضرّستموها. إلى قوله: الأمر الواضح. إشارة إلى وجوه العلم و مأخذه، و وجه اتّصاله بما قبله أنّهم إذا كانوا قد أحكموا الامور تجربة، و وعّظوا بمن كان قبلهم، و ضربت لهم الأمثال، و دعوا إلى الأمر الواضح و هو الدين و طريقه فلا بدّ أن تكون نفوسهم قد استعدّت بذلك لعلم الأحكام الشرعيّة و مقاصدها من الكتاب و السنّة و عادات الرسول و الصحابة، و لا يخفى عليهم ما ابتدع بعدها، و أنّ كلّ بدعة حرام فضلا أن ترفع حكم نصّ أو سنّة سبق العلم بها، و لا يصمّ عن هذه المواعظ و الأمثال و الدعوة إلى الدين إلّا أصمّ. أى من هو شديد الصمم كما يقال: ما يجهل بهذا الأمر إلّا جاهل: أى أشدّ الناس جهلا، و كذلك لا يعمى عنه: أى لا يعمى عنه بصيرة إلّا بصيرة اشتدّ عماها.

و قوله: من لم ينفعه. إلى قوله: من أمامه.
و قوله: من لم ينفعه. إلى قوله: من أمامه. كلام حقّ، و ذلك أنّ الإنسان في مبدء الفطرة خال عن العلوم، و إنّما خلقت له هذه الآلات البدنيّة ليتصفّح بها صور المحسوسات و معانيها و يتنبّه لمشاركات بينها و مباينات فيحصل له التجربة و سائر العلوم الضروريّة و المكتسبة فمن لم ينتفع بالبلاء: أى بامتحان الأمور و تجاريبها، و هو إشارة إلى اعتبار الأمور و التفكّر فيها و الابتلاء بها كالوقوع في المكاره و معاناة الأعمال و لم يستفد منها علما فظاهر أنّه لا ينفعه العظة لأنّ العظة فرع تصفّح الأمور و اعتبار آيات اللّه منها، و محال أن يحصل فرع من دون أصله و حينئذ يأتيه النقص في كمال نفسه و وجوه مصالحه، و يحتمل أن لا يريد بالعظة الاتّعاظ بل الموعظة، و ظاهر أنّ الموعظة أيضا لا ينفعه لأنّ البلاء بالمكاره و الوقائع النازلة أقوى فعلا في النفس و أكثر تأثيراً فإذا لم ينتفع بها و لم يستفد منها علما فبالأولى أن لا ينتفع بالموعظة.

و قوله: من أمامه.
و قوله: من أمامه. لأنّ الكمالات الّتي يتوجّه إليها بوجه عقله تفوته لنقصان تجربته و وقوف عقله عنها فأشبه فوتها له مع طلبه لها إتيان النقصان له من أمامه.

و قوله: حتّى يعرف ما أنكر و ينكر ما عرف.
و قوله: حتّى يعرف ما أنكر و ينكر ما عرف. إشارة إلى غاية نقصانه، و هي الاختلاط و الحكم على غير بصيرة فتارة يتخيّل فيما أنكره و جهله أنّه عارف بحقيقته، و تارة ينكر ما كان يعرفه و يحكم بصحّته لخيال يطرأ عليه. ثمّ قسّم لهم الناس إلى قسمين: فقسم متّبع شرعة: أى طريقة و منهاجا و هو منهاج الدين، و قسم مبتدع بدعة بغير برهان سنّة من اللّه يعتمد عليه، و لا ضياء حجّة يقوده في ظلمات الجهل ليلحقوا بأفضل القسمين.

و قوله: إنّ اللّه سبحانه لم يعظ أحداً بمثل هذا القرآن.
و قوله: إنّ اللّه سبحانه لم يعظ أحداً بمثل هذا القرآن. رجوع إلى ممادح القرآن، و استعار له ألفاظا: الأوّل: لفظ الحبل، و رشّح بالمتين، و قد عرفت وجه هذا الاستعارة مراراً. الثاني: و كذلك سببه الأمين. الثالث: لفظ الربيع، و وجهها أنّ القلوب يحيى به كما يحيى الأنعام بالربيع. الرابع: لفظ الينابيع، و وجهها أنّ العلوم عند تدبّره و التفهم عنه تغيض عنه و ينتفع بها كما يغيض الماء عن الينابيع. الخامس: لفظ الجلاء، و وجهها أنّ الفهم عنه يكشف عن القلوب صداء الجهل كما يجلو الصيقل المرآة.
فإن قلت: فلم قال: و ليس للقلب جلاء غيره مع أنّ سائر العلوم جلاء له.
فالجواب من وجهين: أحدهما: أنّ العلوم الجالية للقلب هي المعدّة لسلوك سبيل اللّه و الوصول إلى الغاية من الكمال النفسانىّ كالعلوم الإلهيّة، و علم الأخلاق و أحوال المعاد، و لا علم منها إلّا و في القرآن أصله و مادّته و هو مقتبس من القرآن. الثاني: أنّ هذا الكلام صدر عنه عليه السّلام و لم يكن في ذلك الزمان علم مدوّن و لا استفادة للمسلمين إلّا من

و قوله: مع أنّه قد ذهب المتذكّرون
و قوله: مع أنّه قد ذهب المتذكّرون: أى المتدبّرون لمقاصد القرآن، و بقى الناسون له و المتناسون المتعمّدون للتشاغل و النسيان للجواذب إلى اللّه، و هو في معنى التوبيخ لهم. ثمّ أمرهم بإعانة من يعمل الخير على فعله، و وجوه الإعانة كثيرة. ثمّ بالإعراض عن الشرّ و إنكاره عند رؤيته و استشهد على وجوب امتثال أمره بالخبر النبوىّ، و قد نبّه الخبر على وجوب عمل الخير و الانتهاء عن الشرّ باستلزام ذلك لكون فاعله جوادا قاصدا، و استعار وصفى الجواد القاصد، و وجه المشابهة أنّ العامل للخير المنتهى عن الشرّ مستقيم على طريق اللّه فلا تعريج في طريقه و لا اعوجاج فيكون سيره في سلوك سبيل اللّه أسرع سير كالجواد من الخيل المستقيم على الطريق. ثمّ قسّم عليه السّلام الظلم إلى ثلاثة أقسام: الأوّل: الظلم الّذي لا يغفر أصلا. و هو ظلم النفس بالشرك باللّه، و برهانه النصّ و المعقول: أمّا النصّ فقوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ» و أمّا المعقول فلأنّ المغفرة عبارة إمّا عن محو آثار الجرائم عن ألواح النفوس أو عمّا يلزم ذلك من ستر اللّه على النفوس أن تحترق بنار جهنّم، و الهيئات البدنيّة الّتي حجبت نفوس المشركين عن معرفة اللّه هيئات متمكّنة من تلك النفوس قد صارت ملكات لا يمكن زوالها مع عدم مسكتهم بالمعارف الإلهيّة فهم في العذاب ماكثون، و في سلاسل تلك الهيئات و أغلالها مكبّلون فإذن لا يتحقّق المغفرة في حقّهم لعدم مخلصهم منها و جاذبهم عنها و هي عصمة المعرفة. الثاني: ظلم لا يترك: أى لا بدّ من أخذ فاعله بالعقوبة و القصاص به، و هو ظلم العباد بعضهم لبعض، و إليه الإشارة بقوله: يوم يقتصّ للجماء من القرناء، و هذا الظالم إن كانت له مسكة ببعض عصم النجاة من المعارف الإلهيّة وجب خلاصه من العذاب بعد حين لكن يتفاوت مكثه بحسب تفاوت شدّة تمكّن تلك الهيئات الرديئة من نفسه و ضعفها، و إليه أشار الخبر النبوىّ يخرجون من النار بعد ما يصيرون حمما و فحما.
و الثالث: الظلم الّذي يغفر و لا يطلب و هو ظلم العبد نفسه عند ارتكابه بعض‏ صغائر الزلّات، و هي الّتي لا تكسب النفس هيئة رديئة باقية بل حالة يسرع زوالها، و إليه الإشارة بقوله تعالى «وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَ قَدْ خَلَتْ»«» أى في حال كونهم ظالمين: ثمّ أخذ في التحذير من الظلم بذكر شدّة القصاص في الآخرة، و صدق أنّه ليس جرحا بمدية و لا ضربا بسوط كقصاص الدنيا، و لكنّه ما يستصغر ذلك معه من العقوبات بالنار المشهورة أوصافها، و روى عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّه كان جالسا في أصحابه فسمع هدّة. فقال: هذا حجر أرسله اللّه تعالى من شفير جهنّم فهو يهوى فيها منذ سبعين خريفا حتّى بلغ الآن قعرها فهذا بعض أوصافها المحسوسة.
و اعلم أنّ لهذا الخبر تماما ما يكشف سرّه، و هو أنّ الراوى قال: فسمعنا بعد ذلك صيحة و صراخا فقلنا: ما هذا فقالوا: فلان المنافق مات و كان عمره يومئذ سبعين سنة. قال بعض من تلطّف: إنّ المراد بجهنّم المشار إليها هي الدنيا و متاعها. و بالحجر هو ذلك المنافق استعارة، و وجه المشابهة أنّ ذلك المنافق لم ينتفع بوجوده مدّة حياته و لم تكسب نفسه خيرا فأشبه الحجر في ذلك، و إرسال اللّه تعالى له هو إفاضته عليه ما استعدّ له من اتّباع هواه فيها و الانهماك في شهوتها و التيه عن سبيله المشار إليه بقوله «يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ» و شفيرها هو أوّلها بالنسبة إليه و ذلك حين استعداده للانهماك فيها، و أوّل الامور القائدة له في طرق الضلال من متاعها و لذّاتها، و هويّه فيها سبعين خريفا هو انهماكه فيها مدّة عمره، و بلوغه قعرها هو وصوله بموته إلى غاية العذاب بسبب ما اكتسب منها من ملكات السوء كما أومأنا إليه غير مرّة. ثمّ نهى عن التلوّن في دين اللّه، و كنّى به عن منافقة بعضهم لبعض فإنّ ذلك يستلزم الفرقة و لذلك. قال: فإنّ جماعة فيما تكرهون من الحقّ خير من فرقة فيما تحبّون من الباطل: أى فإنّ الاجتماع على الحقّ المكروه إليكم كالحرب مثلا خير لكم من الافتراق في الباطل المحبوب عندكم كمتاع الدنيا. ثمّ تمّم النهى عن الفرقة و قال: فإنّ اللّه لم يعط أحدا بفرقة خيراً لا من الماضين و لا من الباقين، و لمّا كان الخير في الاجتماع و الالفة و المحبّة حتّى يصير الناس كرجل واحد و يتمّ نظام العالم بذلك كان في الفرقة أضداد ذلك و كذلك ما روى عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، و قد سبق بيان فضيلة الاجتماع. ثمّ أعاد النهى عن الغيبة للناس بذكر معايبهم و نبّه من عساه أن يستحيى من نفسه بأنّ لكلّ عيبا ينبغي أن يشتغل به، و طوبى فعلى من الطيب، و الواو منقلبه عن الياء، و قيل: هى اسم شجرة في الجنّة، و على التقديرين مبتداء. ثمّ نبّه على فضل العزلة و لزوم البيت للاشتغال بطاعة اللّه و البكاء على الخطيئة و الندم عليها.

و قوله: و كان من نفسه في شغل. إلى آخر ما ذكره ثمرة العزلة.
و قوله: و كان من نفسه في شغل. إلى آخر ما ذكره ثمرة العزلة. و اعلم أنّ الناس قد اختلفوا في أنّ العزلة أفضل أم المخالطة ففضّل جماعة من مشاهير الصوفيّة و العارفين العزلة منهم إبراهيم بن أدهم و سفيان الثورى، و داود الطائى و الفضيل بن عياض و سليمان الخواص و بشر الحافي، و فضّل الآخرين المخالطة و منهم الشعبى و ابن أبى ليلى و هشام بن عروة و ابن شبرمة و ابن عيينة و ابن المبارك، و احتجّ الأوّلون بالنقل و العقل: أمّا النقل فقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم لعبد اللّه بن عامر الجهنى لمّا سأله عن طريق النجاة. فقال: ليسعك بيتك و أمسك عليك لسانك و ابك على خطيئتك. و قيل له صلّى اللّه عليه و آله و سلم: أىّ الناس أفضل. فقال: رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربّه و يدع الناس من شرّه، و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلم: يحبّ التقى النقى الخفىّ، و أمّا العقل فهو أنّ في العزلة فوائد مطلوبة للّه لا توجد في المخالطة فكانت أشرف منها الفراغ لعبادة اللّه و الذكر له و الاستيناس بمناجاته و الاستكشاف لأسراره في امور الدنيا و الآخرة من ملكوت السماوات و الأرض، و لذلك كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم يتعبّد بجبل حراء و يعتزل به حتّى آتته النبوّة، و احتجّ الآخرون بالقرآن و السنّة: أمّا القرآن فقوله تعالى «فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً»«» و قوله «وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا»«» و معلوم أنّ العزلة تنفى تألّف القلوب و توجب تفرّقها، و أمّا السنّة فقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم: من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام عن عنقه. و ما روى أنّ رجلا أتى جبلا يعبد اللّه فيه فجاء به أهله إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم فنهاه عن ذلك. و قال له: إنّ صبر المسلم في بعض مواطن الجهاد يوما واحدا خير له من عبادة أربعين سنة، و أقول: إنّ كلا الاحتجاجين صحيح لكنّه ليس أفضليّة العزلة مطلقا و لا أفضليّة المخالطة مطلقا بل كلّ في حقّ بعض الناس بحسب مصلحته، و في بعض الأوقات بحسب ما يشتمل عليه من المصلحة.

و اعلم أنّه من أراد أن يعرف مقاصد الأنبياء عليهم السّلام في أوامرهم و تدبيراتهم فينبغي أن يتعرّف طرفا من قوانين الأطبّاء، و مقاصدهم من العبارات المطلقة لهم فإنّه كما أنّ الأطبّاء هم المعالجون للأبدان بأنواع الأدوية و العلاجات لغاية بقائها على صلاحها أو رجوعها إلى العافية من الأمراض البدنيّة كذلك الأنبياء عليهم السّلام و من يقوم مقامهم فإنّهم أطبّاء النفوس و المبعوثون لعلاجها من الأمراض النفسانيّة كالجهل و سائر رذائل الأخلاق بأنواع الكلام من الآداب و المواعظ و النواهى و الضرب و القتل، و كما أنّ الطبيب قد يقول الدواء الفلانى نافع من المرض الفلانى، و لا يعنى به في كلّ الأمزجة بل في بعضها كذلك الأنبياء و الأولياء إذا أطلقوا القول في شي‏ء أنّه نافع كالعزلة مثلا فإنّهم لا يريدون أنّها نافعة لكلّ إنسان، و كما أنّ الطبيب قد يصف لبعض المرضى دواء و يرى شفائه فيه و يرى أنّ ذلك الدواء بعينه لمريض آخر كالسم‏ ّ القاتل و يعالجه بغيره كذلك الأنبياء عليهم السّلام قد يرون أنّ بعض الامور دواء لبعض النفوس فيقتصرون عليه، و قد يرون أنّ بعض الأوامر علاج لبعض النفوس كالأمر بالعزلة و الحثّ عليها لبعض الناس، و قد يرون أنّ ذلك العلاج بعينه مضرّ لغير تلك النفس فيأمرونها بضدّ ذلك كالأمر بالمخالطة و المعاشرة، و أكثر ما يختارون العزلة لمن بلغ رتبة من الكمال في قوّتيه النظريّة و العمليّة، و استغنى عن مخالطة كثير من الناس لأنّ أكثر الكمالات الإنسانيّة من العلوم و الأخلاق إنّما تحصل بالمخالطة خصوصا إذا كان ذلك الإنسان أعنى المأمور بالعزلة خاليا عن عائلة يحتاج أن يتكسب لهم، و أكثر ما يختارون المخالطة و الاجتماع لتحصّل الألفة و الإتّحاد بالمحبّة، و للاتّحاد غايتان كلّيّتان: إحداهما: حفظ أصل الدين و تقويته بالجهاد، و الثانية: تحصيل الكمالات الّتي بها نظام أمر الدارين لأنّ أكثر العلوم و الأخلاق يستفاد من العشرة و المخالطة كما بيّنّاه. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 349

خطبه 174 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السلام

أَيُّهَا النَّاسُ غَيْرُ الْمَغْفُولِ عَنْهُمْ- وَ التَّارِكُونَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ- مَا لِي أَرَاكُمْ عَنِ اللَّهِ ذَاهِبِينَ وَ إِلَى غَيْرِهِ رَاغِبِينَ- كَأَنَّكُمْ نَعَمٌ أَرَاحَ بِهَا سَائِمٌ إِلَى مَرْعًى وَبِيٍّ وَ مَشْرَبٍ دَوِيٍّ- وَ إِنَّمَا هِيَ كَالْمَعْلُوفَةِ لِلْمُدَى لَا تَعْرِفُ مَا ذَا يُرَادُ بِهَا- إِذَا أُحْسِنَ إِلَيْهَا تَحْسَبُ يَوْمَهَا دَهْرَهَا وَ شِبَعَهَا أَمْرَهَا- وَ اللَّهِ لَوْ شِئْتُ أَنْ أُخْبِرَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْكُمْ- بِمَخْرَجِهِ وَ مَوْلِجِهِ وَ جَمِيعِ شَأْنِهِ لَفَعَلْتُ- وَ لَكِنْ أَخَافُ أَنْ تَكْفُرُوا فِيَّ بِرَسُولِ اللَّهِ ص- أَلَا وَ إِنِّي مُفْضِيهِ إِلَى الْخَاصَّةِ مِمَّنْ يُؤْمَنُ ذَلِكَ مِنْهُ- وَ الَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ وَ اصْطَفَاهُ عَلَى الْخَلْقِ- مَا أَنْطِقُ إِلَّا صَادِقاً- وَ قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَ بِمَهْلِكِ مَنْ يَهْلِكُ- وَ مَنْجَى مَنْ يَنْجُو وَ مَآلِ هَذَا الْأَمْرِ- وَ مَا أَبْقَى شَيْئاً يَمُرُّ عَلَى رَأْسِي إِلَّا أَفْرَغَهُ فِي أُذُنَيَّ- وَ أَفْضَى بِهِ إِلَيَّ- أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي وَ اللَّهِ مَا أَحُثُّكُمْ عَلَى طَاعَةٍ- إِلَّا وَ أَسْبِقُكُمْ إِلَيْهَا- وَ لَا أَنْهَاكُمْ‏ عَنْ مَعْصِيَةٍ إِلَّا وَ أَتَنَاهَى قَبْلَكُمْ عَنْهَا

اللغة

أقول: السائم: الراعى.

و الوبىّ: محلّ الوباء.

و الدوىّ: محلّ الداء.

و المدى: جمع مدية، و هي السكين.

المعنى

و الخطاب عامّ. و كونهم غافلين: أى عمّا يراد بهم من أمر الآخرة، و غير مغفول عنهم: أى أنّ أعمالهم محصّلة في اللوح المحفوظ. و تاركين: أى لما امروا به من الطاعة، المأخوذ منهم: أى منتقص من أعمارهم و قيناتهم الدنيويّة من مال و أهل. ثمّ نبّههم على ذهابهم عن اللّه و هو التفاتهم عن طاعته و رغبتهم في غيره و هو الحياة الدنيا و زينتها. ثمّ شبّههم في ذلك بالنعم الّتي أراح بها راعيها إلى مرعى كثير الوباء و الداء. و وجه الشبه أنّهم لغفلتهم كالنعم و نفوسهم الأمّارة بالسوء القائدة لهم إلى المعاصى كالراعى القائد إلى المرعى الوبيّ و لذّات الدنيا و مشتهياتها، و كون تلك اللذّات و المشتهيات محلّ الآثام الّتي هي مظنّة الهلاك الاخروىّ و الداء الدويّ تشبه المرعى الوبيّ و المشرب الدوىّ. و قوله: و إنّما هي كالمعلوفة. تشبيه آخر لهم بمعلوفة النعم، و وجه الشبه أنّهم لعنايتهم بلذّات الدنيا من المطاعم و المشارب كالنعم المعتنى بعلفها، و كون ذلك التلذّذ غايته الموت تشبه غاية المعلوفة و هي الذبح، و كونهم غافلين من غاية الموت و ما يراد بهم يشبه غفلة النعم عن غايتها من الذبح، و كونهم يظنّون أنّ الإحسان إليهم ببسط اللذّات الدنيويّة في بعض الأوقات دائم في جميع أوقاتهم و، أنّ شبعهم في هذه الحياة و ريّهم هو غايتهم الّتي خلقوا لأجلها و تمام أمرهم يشبه غفلة النعم في حال حضور علفها في بعض الأوقات عمّا بعده من الأوقات و توهّمها أنّ ذلك غايتها الّتي خلقت لأجلها، و وجه هذا الشبه مركّب من هذه الوجوه. ثمّ أقسم أنّه لو شاء لأخبر كلّ رجل منهم بمواضع تصرّفاته و حركاته و جميع أحواله. و هو كقول المسيح عليه السّلام: و أنبّئكم بما تأكلون و ما تدّخرون في بيوتكم.«» و قد علمت إمكان ذلك‏ العلم و سببه في حقّ الأنبياء و الأولياء في مقدّمة الكتاب. و قوله: و لكن أخاف أن تكفروا فيّ برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم. أى أخاف أن تغلوا في أمرى، و تفضّلوني على رسول اللّه. بل كان يخاف أن يكفروا فيه باللّه كما ادّعت النصارى في المسيح حيث أخبرهم بالأمور الغايبة. ثمّ قال: ألا و إنّى مفضيه إلى الخاصّة: أى أهل العلم و الثبات من أصحابه ممّن يؤمن ذلك الكفر منه، و هكذا شأن العلماء و أساطين الحكمة رأيهم أن لا يضعو العلم إلّا في أهله. هذا مع أنّ من الناس من يدّعى فيه النبوّة و أنّه شريك محمّد في الرسالة، و منهم من ادّعى أنّه إله، و هو الّذي أرسل محمّدا. إلى غير ذلك من الضلال. و فيه يقول بعض شعرائهم:

        و من أهلك عادا و ثمود بدوا هيه         و من كلّم موسى فوق طور إذ يناديه‏
        و من قال على المنبر يوما و هو راقيه   سلونى أيّها الناس. فحاروا في معانيه‏

و قول الآخر:

           إنّما خالق الخلائق من               زعزع أركان خيبر جذبا
           قد رضينا به إماما و مولى‏           و سجدنا له إلها و ربّا

ثمّ أقسم أنّه ما نطق إلّا صادقا فيما يخبر به من هذه الامور، و أخبر أنّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم عهد إليه بذلك و بمهلك من يهلك. إلى قوله: و أفضى به إلىّ: أى ألقاه إلىّ و أعلمنى به. و ذلك التعليم منه ما يكون على وجه جزئىّ أعنى أن يخبره بواقعة واقعة، و منه ما يكون على وجه كلّىّ: أى يلقى إليه اصولا كلّيّة يعدّ ذهنه بها لاستفاضته الصور الجزئيّة من واهب الصور كما سبق تقريره. و ممّا نقل عنه من ذلك في بعض خطبته الّتى يشير فيها إلى الملاحم يؤمى به إلى القرامطة: ينتحلون لنا الحبّ و الهوى و يضمرون لنا البغض و القلى و آية ذلك قتلهم ورّاثنا و هجرهم أحداثنا. و صحّ ما أخبر عنه لأنّ القرامطة قتلت من آل أبى طالب خلقا كثيرا. و أسماؤهم مذكورة في كتاب مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج الإصبهانىّ.
قال بعض الشارحين: و من هذه الخطبة- و هو يشير إلى السارية الّتي كانت‏

يستند إليها في مسجد الكوفة- : كأنّى بالحجر الأسود منصوبا هاهنا و يحهم إنّ فضيلته ليست في نفسه بل في موضعه و أنّه يمكث هاهنا مدّة ثمّ هاهنا مدّة- و أشار إلى مواضع- ثمّ يعود إلى ما وراءه و يأمّ مثواه. و وقع من القرامطة في الحجر الأسود بموجب ما أخبر به عليه السّلام.
و أقول: في هذا النقل نظر لأنّ المشهور أنّ القرامطة نقلوا الحجر الأسود إلى أرض البحرين، و بنوا له موضعا وضعوه فيه يسمّى إلى الآن بالكعبة، و بقى هناك مدّة ثمّ أعيد إلى مكّة، و روي أنّه مات في المجي‏ء به خمسة و عشرون بعيرا و عاد به إلى مكّة بعير ليس بالقوىّ، و ذلك من أسرار دين اللّه تعالى، و لم ينقل أنّهم نقلوه مرّتين، و اللّه أعلم.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 346

 

خطبه173 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام في طلحة بن عبيد اللّه

قَدْ كُنْتُ وَ مَا أُهَدَّدُ بِالْحَرْبِ- وَ لَا أُرَهَّبُ بِالضَّرْبِ- وَ أَنَا عَلَى مَا قَدْ وَعَدَنِي رَبِّي مِنَ النَّصْرِ- وَ اللَّهِ مَا اسْتَعْجَلَ مُتَجَرِّداً لِلطَّلَبِ بِدَمِ عُثْمَانَ- إِلَّا خَوْفاً مِنْ أَنْ يُطَالَبَ بِدَمِهِ لِأَنَّهُ مَظِنَّتُهُ- وَ لَمْ يَكُنْ فِي الْقَوْمِ أَحْرَصُ عَلَيْهِ مِنْهُ- فَأَرَادَ أَنْ يُغَالِطَ بِمَا أَجْلَبَ فِيهِ- لِيَلْتَبِسَ الْأَمْرُ وَ يَقَعَ الشَّكُّ- . وَ وَ اللَّهِ مَا صَنَعَ فِي أَمْرِ عُثْمَانَ وَاحِدَةً مِنْ ثَلَاثٍ- لَئِنْ كَانَ ابْنُ عَفَّانَ ظَالِماً كَمَا كَانَ يَزْعُمُ- لَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُوَازِرَ قَاتِلِيهِ- وَ أَنْ يُنَابِذَ نَاصِرِيهِ- . وَ لَئِنْ كَانَ مَظْلُوماً- لَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُنَهْنِهِينَ عَنْهُ- وَ الْمُعَذِّرِينَ فِيهِ- وَ لَئِنْ كَانَ فِي شَكٍّ مِنَ الْخَصْلَتَيْنِ- لَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْتَزِلَهُ- وَ يَرْكُدَ جَانِباً وَ يَدَعَ النَّاسَ مَعَهُ- فَمَا فَعَلَ وَاحِدَةً مِنَ الثَّلَاثِ- وَ جَاءَ بِأَمْرٍ لَمْ يُعْرَفْ بَابُهُ وَ لَمْ تَسْلَمْ مَعَاذِيرُهُ أقول: هذا الفصل من كلام قاله حين بلغه خروج طلحة و الزبير إلى البصرة.و تهديدهم بالحرب.

اللغة

و نهنه عنه: كفّ و زجر.

و المعذرين بالتخفيف: المتعذّرين عنه.

و بالتشديد المظهرين للعذر مع أنّه لا عذر.

و ركد: سكن.

المعنى

فقوله: و قد كنت. إلى قوله: النصر.

جواب لتهديدهم. و قد مرّت هذه الألفاظ بعينها مشروحة إلّا أنّ هناك: و إنّى على يقين من ربّى. و هنا: و أنا على ما قد وعدنى ربّى من النصر. و ذلك الّذي هو عليه هو اليقين بالنصر على لسان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم، و الواو في قوله: و ما اهدّد للحال. و كان تامّة. و قوله: و اللّه ما استعجل. إلى قوله: و يقع الشكّ. إشارة إلى شبهتهم في الخروج إلى البصرة. و هي الطلب بدم عثمان، ثمّ إلى معارضة هذه الشبهة و هي أنّ خروجه ليس إلّا خوفا من أن يطلب بدمه لأنّه مظنّة ذلك. و قد سبقت منّا الإشارة إلى دخول طلحة في تحريص الناس على قتل عثمان و جمعه لهم في داره. و روى أنّه منع الناس من دفنه ثلاثة أيّام، و أنّ حكيم بن حزام و جبير بن مطعم استنجدا بعلىّ في دفنه فأقعد لهم طلحة في الطريق اناسا يرمونهم بالحجارة فخرج به نفر من أهله يريدون به حائطا في المدينة يعرف بحشّ كوكب كانت اليهود تدفن فيه موتاهم فلمّا صار هناك رجم سريره فهمّوا بطرحه فأرسل إليهم علىّ عليه السّلام فكفّهم عنه حتّى دفن بحشّ كوكب. و روى أنّه جادل في دفنه بمقابر المسلمين و قال: ينبغي أن يدفن بدير سلع يعني مقابر اليهود.
و بالجملة فهو كما قال عليه السّلام: لم يكن في القوم أحرص منه على قتله لكنّه أراد أن يغالط بما أجلب في الطلب بدمه ليلتبس الأمر و يقع الشكّ في دخوله في قتله. و قوله: و و اللّه ما صنع في أمر عثمان. إلى آخره. صورة احتجاج عليه و قطع لعذره في الخروج و الطلب بدمه بقياس شرطىّ منفصل، و تقريره أنّ حاله في أمر عثمان و خروجه في طلب دمه لا تخلو من امور ثلاثة فإنّه إمّا أن يعلم أنّه كان ظالما أو يعلم أنّه كان مظلوما أو يشكّ في الأمرين و يتوقّف فيهما فإن كان الأوّل فقد كان الواجب عليه أن يساعد قاتليه و يوازرهم و ينابذ ناصريه لوجوب إنكار المنكر عليه. و هو قد عكس الحال لأنّه نابذ قاتليه و ثار في طلب دمه مع ناصريه ممّن توهّم فيه ذلك، و إن كان الثاني فقد كان يجب عليه أن يكون ممّن يكفّ الناس عنه و يعتذر عنه فيما فعل لوجوب إنكار المنكر أيضا مع أنّه ممّن وازر عليه الناس و أظهر أحداثه و عظّمها كما هو المنقول المشهور عنه، و إن كان الثالث فقد كان الواجب عليه أن يعتزله و يسكن عن الخوض في أمره و لم يفعل ذلك بل ثار في طلب دمه. فكان في هذه الأحوال الثلاثة محجوجاً في خروجه و نكثه للبيعة. فإذن ما جاء به من ذلك أمر لا يعرف بابه: أى وجه دخوله فيه، و لم يسلّم فيه عذر. و باللّه التوفيق.

 

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 344

خطبه172 شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

أَمِينُ وَحْيِهِ وَ خَاتَمُ رُسُلِهِ- وَ بَشِيرُ رَحْمَتِهِ وَ نَذِيرُ نِقْمَتِهِ أَيُّهَا النَّاسُ- إِنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِهَذَا الْأَمْرِ أَقْوَاهُمْ عَلَيْهِ- وَ أَعْلَمُهُمْ بِأَمْرِ اللَّهِ فِيهِ- فَإِنْ شَغَبَ شَاغِبٌ اسْتُعْتِبَ فَإِنْ أَبَى قُوتِلَ- وَ لَعَمْرِي لَئِنْ كَانَتِ الْإِمَامَةُ لَا تَنْعَقِدُ- حَتَّى يَحْضُرَهَا عَامَّةُ النَّاسِ فَمَا إِلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ- وَ لَكِنْ أَهْلُهَا يَحْكُمُونَ عَلَى مَنْ غَابَ عَنْهَا- ثُمَّ لَيْسَ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَرْجِعَ وَ لَا لِلْغَائِبِ أَنْ يَخْتَارَ- أَلَا وَ إِنِّي أُقَاتِلُ رَجُلَيْنِ- رَجُلًا ادَّعَى مَا لَيْسَ لَهُ وَ آخَرَ مَنَعَ الَّذِي عَلَيْهِ أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ- فَإِنَّهَا خَيْرُ مَا تَوَاصَى الْعِبَادُ بِهِ- وَ خَيْرُ عَوَاقِبِ الْأُمُورِ عِنْدَ اللَّهِ- وَ قَدْ فُتِحَ بَابُ الْحَرْبِ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ- وَ لَا يَحْمِلُ هَذَا الْعَلَمَ إِلَّا أَهْلُ الْبَصَرِ وَ الصَّبْرِ- وَ الْعِلْمِ بِمَوَاقِعِ الْحَقِّ- فَامْضُوا لِمَا تُؤْمَرُونَ بِهِ وَ قِفُوا عِنْدَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ- وَ لَا تَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ حَتَّى تَتَبَيَّنُوا- فَإِنَّ لَنَا مَعَ كُلِّ أَمْرٍ تُنْكِرُونَهُ غِيَراً

أَلَا وَ إِنَّ هَذِهِ الدُّنْيَا الَّتِي أَصْبَحْتُمْ تَتَمَنَّوْنَهَا- وَ تَرْغَبُونَ فِيهَا وَ أَصْبَحَتْ تُغْضِبُكُمْ وَ تُرْضِيكُمْ- لَيْسَتْ بِدَارِكُمْ وَ لَا مَنْزِلِكُمُ الَّذِي خُلِقْتُمْ لَهُ- وَ لَا الَّذِي دُعِيتُمْ إِلَيْهِ- أَلَا وَ إِنَّهَا لَيْسَتْ بِبَاقِيَةٍ لَكُمْ وَ لَا تَبْقَوْنَ عَلَيْهَا- وَ هِيَ وَ إِنْ غَرَّتْكُمْ مِنْهَا فَقَدْ حَذَّرَتْكُمْ شَرَّهَا- فَدَعُوا غُرُورَهَا لِتَحْذِيرِهَا وَ أَطْمَاعَهَا لِتَخْوِيفِهَا- وَ سَابِقُوا فِيهَا إِلَى الدَّارِ الَّتِي دُعِيتُمْ إِلَيْهَا- وَ انْصَرِفُوا بِقُلُوبِكُمْ عَنْهَا- وَ لَا يَخِنَّنَّ أَحَدُكُمْ خَنِينَ الْأَمَةِ عَلَى مَا زُوِيَ عَنْهُ مِنْهَا- وَ اسْتَتِمُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ- وَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى مَا اسْتَحْفَظَكُمْ مِنْ كِتَابِهِ- أَلَا وَ إِنَّهُ لَا يَضُرُّكُمْ تَضْيِيعُ شَيْ‏ءٍ مِنْ دُنْيَاكُمْ- بَعْدَ حِفْظِكُمْ قَائِمَةَ دِينِكُمْ- أَلَا وَ إِنَّهُ لَا يَنْفَعُكُمْ بَعْدَ تَضْيِيعِ دِينِكُمْ شَيْ‏ءٌ- حَافَظْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكُمْ- أَخَذَ اللَّهُ بِقُلُوبِنَا وَ قُلُوبِكُمْ إِلَى الْحَقِّ- وَ أَلْهَمَنَا وَ إِيَّاكُمُ الصَّبْرَ

المعنى

أقول: صدر هذا الفصل من ممادح الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم
فشهادة كونه أمينا على التنزيل من التحريف و التبديل العصمة، و شهادة ختامه للرسل قوله تعالى «وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ» و كونه بشير رحمته بالثواب الجزيل و نذير نقمته بالعذاب الوبيل قوله تعالى «إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً».

ثمّ أردفه ببيان أحكام:

الأوّل: بيان أحكام الّذي هو أحقّ الناس بأمر الخلافة
و حصر الأحقّ به في أمرين: أحدهما أقوى الناس عليه و هو الأكمل قدرة على السياسة و الأكمل علما بمواقعها و كيفيّاتها و كيفيّة تدبير المدن و الحروب و ذلك يستلزم كونه أشجع الناس. و الثاني أعملهم بأوامر اللّه فيه، و مفهوم الأعمل بأوامر اللّه يستلزم الأعلم باصول الدين و فروعه ليضع الأعمال مواضعها، و يستلزم أشدّ حفاظا على مراعاة حدود اللّه‏ و العمل بها، و ذلك يستلزم كونه أزهد الناس و أعفّهم و أعدلهم. و لمّا كانت هذه الفضائل مجتمعة له عليه السّلام كان إشارة إلى نفسه، و روى عوض أعملهم أعلمهم.

الثاني: في بيان حكم المشاغب للإمام بعد انعقاد بيعته
و هو أنّه يستعتب: أى أنّه في أوّل مشاغبته يطلب منه العتبى و الرجوع إلى الحقّ و الطاعة بلين القول فإن أبى قوتل و ذلك الحكم مقتضى قوله تعالى «وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما»«» الآية.

الثالث: بيان كيفيّة انعقاد الإمامة بالإجماع
فبيّن بقوله: و لعمرى. إلى قوله: ما إلى ذلك سبيل. أنّ الإجماع لا يعتبر فيه دخول جميع الناس حتّى العوامّ.

إذ لو كان ذلك شرطا لأدّى إلى أن لا ينعقد إجماع قطّ فلم تصحّ إمامة أحد أبدا لتعذّر اجتماع المسلمين بأسرهم من أطراف الأرض بل المعتبر في الإجماع اتّفاق أهل الحلّ و العقد من امّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم على بعض الأمور، و هم العلماء، و قد كانوا بأسرهم مجتمعين حين بيعته عليه السّلام فليس لأحد منهم بعد انعقادها أن يرجع، و لا لمن عداهم من العوامّ و من غاب عنهما أن يختاروا غير من أجمع هؤلاء عليه. فإن قلت: إنّه عليه السّلام إنّما احتجّ على القوم بالإجماع على بيعته، و لو كان متمسّك آخر من نصّ أو غيره لكان احتجاجه بالنصّ أولى فلم يعدل إلى دعوى الإجماع.
قلت: احتجاجه بالإجماع لا يتعرّض لنفى النصّ و لا لإثباته بل يجوز أن يكون النصّ موجودا، و إنّما احتجّ عليهم بالإجماع لاتّفاقهم على العمل به فيمن سبق من الأئمّة، و لأنّه يحتمل أن يكون سكوته عنه لعلمه بأنّه لا يلتفت إلى ذكره على تقدير وجوده لأنّه لمّا لم يلتفت إليه في مبدء الأمر حين موت الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم فبالأولى أن لا يلتفت إليه الآن و قد طالت المدّة و بعد العهد فلم تكن في ذكره فايدة.

الرابع: بيان من يجب قتاله
و هو أحد رجلين: الأوّل: رجل خرج على‏ الإمام العادل بعد تمام بيعته و ادّعى أنّ الإمامة حقّ له و قد ثبت بالإجماع على غيره أنّها ليست له، و الثاني: رجل خرج على الإمام و لم يمتثل له في شي‏ء من الأحكام. و الأوّل إشارة إلى أصحاب الجمل، و الثاني إلى معاوية و أصحابه.
ثمّ عقّب بالوصيّة بتقوى اللّه فإنّها خير زاد عند اللّه يستعقبه الإنسان من حركاته و سكناته و لمّا كان كذلك كان خير ما تواصى به عباد اللّه. و قوله: و قد فتح باب الحرب بينكم و بين أهل القبلة. إلى قوله: غيرا. إعلام لأصحابه بحكم البغاة من أهل القبلة على سبيل الإجمال، و أحال التفصيل على أوامره حال الحرب، و قد كان الناس قبل حرب الجمل لا يعرفون كيفيّة قتال أهل القبلة و لا كيف السنّة فيهم إلى أن علموا ذلك منه عليه السّلام. و نقل عن الشافعي أنّه قال: لو لا علىّ ما عرفت شي‏ء من أحكام أهل البغى. و قوله: و لا يحمل هذا العلم إلّا أهل البصر. أى أهل البصائر، و العقول الراجحة، و الصبر: أى على المكاره و عن التسرّع إلى الوساوس، و العلم بمواضع الحقّ. و ذلك أنّ المسلمين عظم عندهم حرب أهل القبلة و أكبروه، و المقدمون منهم على ذلك إنّما أقدموا على خوف و حذر. فقال عليه السّلام: إنّ هذا العلم لا يدركه كلّ أحد بل من ذكره. و روى العلم بفتح اللام، و ذلك ظاهر فإنّ حامل العلم عليه مدار الحرب و قلوب العسكر منوطة به فيجب أن يكون بالشرائط المذكورة ليضع الأشياء مواضعها. ثمّ أمرهم بقواعد كلّيّة عند عزمه على المسير للحرب و هي أن يمضوا فيما يؤمرون به و يقفوا عند ما ينهون عنه و لا يعجلوا في أمر إلى غاية أن يتبيّنوه: أى لا يتسرّعوا إلى إنكار أمر فعله أو يأمرهم به حتّى سألوه عن فايدته و بيانه. فإنّ له عند كلّ أمر ينكرونه تغييرا: أى قوّة على التغيير إن لم يكن في ذلك الأمر مصلحة في نفس الأمر و فايدة أمرهم بالتبيّن عند استنكار أمر أنّه يحتمل أن لا يكون ما استنكروه منكرا في نفس الأمر فيحكمون بكونه منكرا لعدم علمهم بوجهه، و يتسرّعون إلى إنكاره بلسان أو يد فيقعون في الخطأ. قال بعض الشارحين: و في قوله: فإنّ لنا عند كلّ أمر ينكرونه‏ تغييرا. إيماء إلى أنّه ليس كعثمان في صبره على ارتكاب الناس لما كان ينهاهم عنه بل يغيّر كلّ ما ينكره المسلمون و يقتضى العرف و الشرع تغييره. ثمّ أخذ في التنفير عن الدنيا بامور: الأوّل: التنفير عن تمنّيها و الرغبة فيها و عن الغضب لفوتها و الرضى بحصولها بكونها ليست الدار و المنزل الّذي خلقوا له و دعوا إليه، و استلزم ذلك التنفير التنبيه على ما ورائها و العمل له. الثاني نفر عنها بفنائها عنهم و فنائهم عنها. الثالث: بأنّه لا فائدة فيها فإنّها و إن كانت تغرّ و تخدع بما فيها ممّا يعتقد خيرا و كمالا فإنّ فيها ما يقابل ذلك و هو التحذير بما فيها من الآفات و التغيّرات المتعدّدة شرّا فينبغي أن يتركوا خيرها القليل لشرّها الكثير، و إطماعها لتخويفها، و يسابقوا إلى الخير الخالص و الدار الّتي دعوا إليها و خلقوا لأجلها، و يتصرّفوا بقلوبهم عنها: أى يزهدوا الزهد الحقيقىّ فيها فإنّ الزهد الظاهرىّ مع الحنين إلى ما زوى منها عن أحدكم غير منتفع و به خصّ حنين الأمة لأنّ الحنين أكثر ما يسمع من الأمة لأنّ العادة أن تضرب و تؤذى فيكثر حنينها. و روى حنين بالخاء المعجمة. و الخنين كالبكاء في الأنف. و إذ أمر بالزهد الحقيقى أمر بالصبر على طاعة اللّه و عبادته و المحافظة على أوامر كتابه و نواهيه إذ بالزهد يكون حذف الموانع الداخلة و الخارجة، و بالطاعة و العبادة يكون تطويع النفس الأمّارة بالسوء للنفس المطمئنّة. و هما جزاء الرياضة و السلوك لسبيل اللّه. و رغّب في الصبر على طاعة اللّه بأنّ فيه استتماما لنعمة اللّه. و ظاهر أنّ طاعة اللّه سبب عظيم لإفاضة نعمه الدنيويّة و الاخرويّة. ثمّ أكّد الأمر بالمحافظة على ما قام من الدين بأنّه لا مضرّة في ترك شي‏ء من الدنيا و تضييعها مع المحافظة على الدين لما في المحافظة على الدين من الخير الدائم التامّ الاخروى الّذي لا نسبة لخير الدنيا إليه، و بأنّه لا منفعة في المحافظة على ما فيها: أى في الدنيا مع تضييع الدين و إهماله. و ذلك أمر مفروغ عنه و مستغنى عن بيانه. ثمّ ختم بالدعاء لهم و لنفسه بأخذ اللّه بقلوبهم إلى الحقّ:

أى إلهامهم لطلبه و هدايتهم إليه و جذبهم إلى سلوك سبيله، ثمّ إلهامهم الصبر: أى على طاعته و عن معصية. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 339

 

خطبه 171شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

القسم الأول

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا تُوَارِي عَنْهُ سَمَاءٌ سَمَاءً- وَ لَا أَرْضٌ أَرْضاً

المعنى

أقول: حمد اللّه تعالى باعتبار إحاطة علمه بالسماوات و الأرضين، و استلزم ذلك تنزيهه تعالى عن وصف المخلوقين. إذ كانوا في إدراكهم لبعض الأجرام السماويّة و الأرضيّة محجوبين عمّا ورائها، و علمه تعالى هو المحيط بالكلّ الّذي لا يحجبه السواتر و لا تخفى عليه السرائر.

القسم الثاني منها

وَ قَدْ قَالَ قَائِلٌ إِنَّكَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ يَا ابْنَ أَبِي طَالِبٍ لَحَرِيصٌ- فَقُلْتُ بَلْ أَنْتُمْ وَ اللَّهِ لَأَحْرَصُ وَ أَبْعَدُ وَ أَنَا أَخَصُّ وَ أَقْرَبُ- وَ إِنَّمَا طَلَبْتُ حَقّاً لِي وَ أَنْتُمْ تَحُولُونَ بَيْنِي وَ بَيْنَهُ- وَ تَضْرِبُونَ وَجْهِي دُونَهُ- فَلَمَّا قَرَّعْتُهُ بِالْحُجَّةِ فِي الْمَلَإِ الْحَاضِرِينَ- هَبَّ كَأَنَّهُ بُهِتَ لَا يَدْرِي مَا يُجِيبُنِي بِهِ‏ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْشٍ وَ مَنْ أَعَانَهُمْ- فَإِنَّهُمْ قَطَعُوا رَحِمِي وَ صَغَّرُوا عَظِيمَ مَنْزِلَتِيَ- وَ أَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي أَمْراً هُوَ لِي- ثُمَّ قَالُوا أَلَا إِنَّ فِي الْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ وَ فِي الْحَقِّ أَنْ تَتْرُكَهُ

المعنى

أقول: هذا الفصل من خطبة يذكر فيها عليه السّلام ما جرى له يوم الشورى بعد مقتل عمر، و الّذي قال له هذا القول هو سعد بن أبى وقّاص مع روايته فيه: أنت منّى بمنزلة هرون من موسى. و هو محلّ التعجّب. فأجابه بقوله: بل أنتم و اللّه أحرص و أبعد: أى أحرص على هذا الأمر و أبعد من استحقاقه. و هو في صورة احتجاج بقياس ضمير من الشكل الأوّل مسكت للقائل صغراه ما ذكر، و تقدير كبراه: و كلّ من كان أحرص على هذا الأمر و أبعد منه فليس له أن يعيّر الأقرب إليه بالحرص عليه. و قوله: و أنا أخصّ و أقرب. صغرى قياس ضمير احتجّ به على أولويّته بطلب هذا الأمر، و تقدير كبراه: و كلّ من كان أخصّ و أقرب إلى هذا الأمر فهو أولى بطلبه، و روى أنّ هذا الكلام قاله يوم السقيفة، و أنّ الّذي قال له: إنّك على هذا الأمر لحريص. هو أبى عبيدة بن الجرّاح، و الرواية الاولى أظهر و أشهر. و روى عوض بهت هبّ: أى انبته كأنّه كان غافلا ذاهلا عن الحجّة فاستيقظ من غفلته. ثمّ أخذ في استعانة اللّه تعالى على قريش و من أعانهم عليه، و شكا امورا: منها قطع رحمه فإنّهم لم يراعو قربه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و منها تصغير عظيم منزلته بعدم التفاتهم إلى ما ورد من النصوص النبويّة في حقّه، و منها اتّفاقهم على منازعته أمر الخلافة الّذي يرى أنّه أحقّ به منهم. و قوله: ثمّ قالوا: إلى آخره. أى إنّهم لم يقتصروا على أخذ حقّى ساكتين عن دعوى كونه حقّا لهم و لكنّهم‏ أخذوه مع دعواهم أنّ الحقّ لهم، و أنّه يجب عليّ أن أترك المنازعة فيه. فليتهم أخذوه معترفين أنّه حقّ لى فكانت المصيبة أهون، و روى نأخذه و نتركه بالنون في الكلمتين، و عليه نسخة الرضى- رضوان اللّه عليه- و المراد إنّا نتصرّف فيه كما نشاء بالأخذ و الترك دونك، و هذه شكاية ظاهرة لا تأويل فيها.

القسم الثالث منها في ذكر أصحاب الجمل:

فَخَرَجُوا يَجُرُّونَ حُرْمَةَ رَسُولِ اللَّهِ ص- كَمَا تُجَرُّ الْأَمَةُ عِنْدَ شِرَائِهَا- مُتَوَجِّهِينَ بِهَا إِلَى الْبَصْرَةِ- فَحَبَسَا نِسَاءَهُمَا فِي بُيُوتِهِمَا- وَ أَبْرَزَا حَبِيسَ رَسُولِ اللَّهِ ص لَهُمَا وَ لِغَيْرِهِمَا- فِي جَيْشٍ مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا وَ قَدْ أَعْطَانِي الطَّاعَةَ- وَ سَمَحَ لِي بِالْبَيْعَةِ طَائِعاً غَيْرَ مُكْرَهٍ- فَقَدِمُوا عَلَى عَامِلِي بِهَا- وَ خُزَّانِ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِهَا- فَقَتَلُوا طَائِفَةً صَبْراً وَ طَائِفَةً غَدْراً- فَوَاللَّهِ لَوْ لَمْ يُصِيبُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ- إِلَّا رَجُلًا وَاحِداً مُعْتَمِدِينَ لِقَتْلِهِ- بِلَا جُرْمٍ جَرَّهُ لَحَلَّ لِي قَتْلُ ذَلِكَ الْجَيْشِ كُلِّهِ- إِذْ حَضَرُوهُ فَلَمْ يُنْكِرُوا- وَ لَمْ يَدْفَعُوا عَنْهُ بِلِسَانٍ وَ لَا بِيَدٍ- دَعْ مَا إِنَّهُمْ قَدْ قَتَلُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ- مِثْلَ الْعِدَّةِ الَّتِي دَخَلُوا بِهَا عَلَيْهِمْ

اللغة

أقول: جرّه: جناه.
و مقصود الفصل إظهار عذره في قتال أصحاب الجمل.
و ذكر لهم ثلاث كبائر من الذنوب تستلزم إباحة قتالهم و قتلهم:

الاولى: خروجهم بحرمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و حبيسه يجرّونها كما تجرّ الأمة عند شرائها مع حبسهما لنسائهما و محافظتهما عليهنّ، و ضمير التثنية في حبسا لطلحة و الزبير، و وجه الشبه انتهاك الحرمة و نقصانها في إخراجها، و في ذلك جرأة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و روى عكرمة عن ابن عبّاس أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال يوما لنسائه و هنّ عنده جميعا: ليت شعرى أيتكنّ صاحبة الجمل الأرب تنبحها كلاب الحوؤب يقتل عن يمينها و شمالها قتلى كثير كلّهم في النار و تنجو بعد ما كادت، و روى حبيب بن عمير قال: لمّا خرجت عايشة و طلحة و الزبير من مكّة إلى البصرة طرقت ماء الحوؤب- و هو ماء لبنى عامر بن صعصعة- فنبحتهم الكلاب فنفرت صعاب إبلهم. فقال قائل منهم: لعن اللّه الحوؤب فما أكثر كلابها. فلمّا سمعت عايشة ذكر الحوؤب قالت: أ هذا ماء الحوؤب قال: نعم. قالت: ردّونى. فسئلوها ما شأنها و ما بدء لها. قالت: إنّى سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: كأنّى بكلاب الحوؤب قد نبحت بعض نسائى ثمّ قال لى: يا حميراء إيّاك أن تكونيها. فقال الزبير: مهلا يرحمك اللّه فإنّا قد جزنا ماء الحوؤب بفراسخ كثيرة. فقالت: أ عندك من يشهد بأنّ هذه الكلاب النابحة ليست على ماء الحوؤب فلفّف لها الزبير و طلحة و طلبا خمسين أعرابيّا جعلا لهم جعلا فحلفوا لها و شهدوا أنّ هذا الماء ليس بماء الحوؤب. فكانت هذه أوّل شهادة زور علمت في الإسلام. فسارت عايشة لوجهها. فأمّا قوله في الخبر: و تنجو بعد ما كادت. فقالت الإماميّة: معناه تنجو من القتل بعد ما كادت أن تقتل، و قال المعتذرون لها معناه تنجو من النار بالتوبة بعد ما كادت أن تدخلها بما فعلت.

الثانية: نكثهم لبيعته
و خروجهم عليه بعد الطاعة في جماعة ما منهم إلّا من أخذ بيعته.

الثالثة: قتلهم لعامله بالبصرة و خزّان بيت مال المسلمين بها بعض صبرا
أى بعد الأسر و بعض غدرا: أى بعد إعطائهم الأمان. و خلاصة القصّة ما روى أنّ طلحة و الزبير و عايشة لمّا انتهوا في مسيرهم إلى حفر أبى موسى قريب البصرة كتبوا إلى عثمان بن حنيف الأنصارىّ، و هو يومئذ عامل عليّ على البصرة: أنّ أخل لنا دار الأمارة. فلمّا قرأ كتابهم بعث إلى الأحنف بن قيس و إلى حكيم بن جبلّة العبدىّ‏ فاقرء هما الكتاب. فقال الأحنف: إنّهم إن حاولوا بهذا الطلب بدم عثمان و هم الّذين أكّبوا على عثمان و سفكوا دمه فأراهم و اللّه لا يزايلونا حتّى يلقوا العداوة بيننا و يسفكوا دماءنا، و أظنّهم سيركبون منك خاصّة ما لا قبل لك به، و الرأى إن تتأهّب لهم بالنهوض إليهم في من معك من أهل البصرة فإنّك اليوم الوالى عليهم و أنت فيهم مطاع فسر إليهم بالناس و بادرهم قبل أن يكونوا معك في دار واحدة فيكون الناس لهم أطوع منهم لك. و قال حكيم: مثل ذلك. فقال عثمان بن حنيف: الرأى ما رأيتما لكنّى اكره الشرّ و أن أبدأهم به و أرجو العافية و السلامة إلى أن يأتيني كتاب أمير المؤمنين و رأيه فأعمل به. فقال له حكيم: فاذن لى حتّى أسير إليهم بالناس فإن دخلوا في طاعة أمير المؤمنين و إلّا نابذتهم إلى سواء. فقال عثمان: و لو كان ذلك لى لسرت إليهم بنفسى. فقال حكيم: أمّا و اللّه لئن دخلوا عليك هذا المصر لينتقلنّ قلوب كثير من الناس إليهم و ليزيلنّك عن مجلسك هذا، و أنت أعلم.
فأبى عثمان. ثمّ كتب عليّ عليه السّلام إلى عثمان بن حنيف لمّا بلغه مسير القوم إلى البصرة: من عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين إلى عثمان بن حنيف أمّا بعد فإنّ البغاة عاهدوا اللّه ثمّ نكثوا و توجّهوا إلى مصرك و ساقهم الشيطان لطلب ما لا يرضى اللّه به، و اللّه أشدّ بأسا و أشدّ تنكيلا فإذا قدموا عليك فادعهم إلى الطاعة و الرجوع إلى الوفاء بالعهد و الميثاق الّذي فارقونا عليه فإن أجابوا فأحسن جوارهم ما داموا عندك، و إن أبوا إلّا التمسّك بحبل النكث و الخلاف فناجزهم القتال حتّى يحكم اللّه بينك و بينهم و هو خير الحاكمين، و كتبت كتابى هذا من الربذة و أنا معجّل السير إليك إنشاء اللّه، و كتب عبيد اللّه بن أبى رافع في صفر سنة ستّ و ثلاثين. فلمّا وصل الكتاب إلى عثمان بعث أبا الاسود الدؤلىّ و عمران بن الحصين إليهم فدخلا على عايشة فسألاها عمّا جاء بهم. فقالت لهما: ألقيا طلحة و الزبير. فقاما و ألقيا الزبير فكلّماه فقال: جئنا لنطلب بدم عثمان و ندعو الناس أن يردّوا أمر الخلافة شورى ليختار الناس لأنفسهم. فقالا له: إنّ عثمان لم يقتل بالبصرة لتطلبا دمه فيها، و أنت تعلم قتلة عثمان و أين هم، و إنّك و صاحبك و عايشة كنتم أشدّ الناس عليه و أعظمهم إغراء بدمه فأقيدوا أنفسكم، و أمّا إعادة أمر الخلافة شورى فكيف و قد بايعتم عليّا طائعين غير مكرهين، و أنت يا أبا عبد اللّه لم يبعد العهد بقيامك دون هذا الرجل يوم مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أنت آخذ قائم سيفك تقول: ما أحد أحقّ بالخلافة منه.

و امتنعت من بيعة أبى بكر. فأين ذلك الفعل من هذا القول فقال لهما: اذهبا إلى طلحة. فقاما إلى طلحه فوجداه خشن الملمس شديد العريكة قوىّ العزم في إثارة الفتنة. فانصرفا إلى عثمان بن حنيف فأخبراه بما جرى، و قال له أبو الأسود: يا ابن حنيف قد أتيت فانفر و طاعن القوم و جالد و اصبر و أبرز لهما مستلئما و شمّر. فقال ابن حنيف: أى و الحرمين لأفعلنّ، و أمر مناديه فنادى في الناس: السلاح السلاح. فاجتمعوا إليه و أقبلوا حتّى انتهوا إلى المربد. فملأ مشاة و ركبانا فقام طلحة فأشار إلى الناس بالسكوت ليخطب فسكتوا بعد جهد فقال: أمّا بعد فإنّ عثمان بن عفّان كان من أهل السابقة و الفضيلة و من المهاجرين الأوّلين الّذين رضى اللّه عنهم و رضوا عنه، و نزل القرآن ناطقا بفضلهم و أحد الأئمّة الوالين عليكم بعد أبى بكر و عمر صاحبى رسول اللّه و قد كان أحدث أحداثا نقمناها عليه فأتيناه و استعتبناه فأعتبنا فعدا عليه امرؤ ابتزّ هذه الامّة أمرها غصبا بغير رضى و لا مشورة فقتله و ساعده على ذلك قوم غير أتقياء و لا أبرار فقتل محرما بريئا تائبا، و قد جئتناكم أيّها النّاس نطلب بدمه و ندعوكم إلى الطلب بدمه فإن نحن أمكننا اللّه قتلهم قتلناهم به و جعلنا هذا الأمر شورى بين المسلمين و كانت خلافته رحمة للامّة جميعا فإنّ كلّ من أخذ الأمر من غير رضى العامّة و لا مشورة منها ابتزازا كان ملكه ملكا عضوضا و حدثا كبيرا. ثمّ قام الزبير فتكلّم بمثل كلام طلحة. فقام إليهما ناس من أهل البصرة فقالوا لهما: ألم تبايعا عليّا فيمن بايعه ففيم بايعتما ثمّ نكثتما.

فقالا: ما بايعناه و ما لأحد في أعناقنا بيعة و إنّما استكرهنا على بيعته. فقال ناس: قد صدقا و نطقا بالصواب، و قال آخرون: ما صدقا و لا أصابا. حتّى ارتفعت الأصوات فأقبلت عايشة على جملها فنادت بصوت مرتفع أيّها الناس أقلّوا الكلام و اسكتوا. فسكت الناس لها.
فقالت: إنّ أمير المؤمنين عثمان قد كان غيّر و بدّل. ثمّ لم يزل يغسل ذلك بالتوبة حتّى قتل مظلوما تائبا و إنّما نقموا عليه ضربه بالسوط و تأميره الشبّان و حمايته موضع الغمامة فقتلوه محرما في حرمة الشهر، و حرمة البلد ذبحا كما يذبح الجمل، ألا و إنّ قريشا رمت غرضها بنبالها و أدمت أفواهها بأيديها و ما نالت بقتلها إيّاه شيئا و لا سلكت به سبيلا قاصدا أما و اللّه ليرونها بلايا عقيمة تنبه النائم و تقيم الجالس، و ليسلطنّ عليهم قوم لا يرحمونهم، يسومونهم سوء العذاب. أيّها الناس إنّه ما بلغ من ذنب عثمان ما يستحلّ به دمه مصّتموه كما يماصّ الثوب الرحيض، ثمّ عدوتم عليه فقتلتموه بعد توبته و خروجه من ذنبه و بايعتم ابن أبى طالب بغير مشورة من الجماعة ابتزازا و غصبا، أ ترانى أغضب لكم من سوط عثمان و لسانه و لا أغضب لعثمان من سيوفكم. ألا إنّ عثمان قتل مظلوما فاطلبوا قتلته فإذا ظفرتم بهم فاقتلوهم، ثمّ اجعلوا الأمر شورى بين الرهط الّذين اختارهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب و لا يدخل فيهم من شرك في دم عثمان. قال: فماج الناس و اختلطوا فمن قايل يقول: القول ما قالت، و من قائل يقول: و ما هي من هذا الأمر إنّما هي امرأة مأمورة بلزوم بيتها.

و ارتفعت الأصوات و كثر اللغط حتّى تضاربوا بالنعال و ترامو بالحصا. ثمّ تمايزوا فرقتين فرقة مع عثمان بن حنيف و فرقة مع طلحة و الزبير. ثمّ أقبلا من المربد يريدان عثمان بن حنيف فوجدوه و أصحابه قد أخذوا بأفواه السكك فمضوا حتّى انتهوا إلى مواضع الدبّاغين فاستقبلهم أصحاب ابن حنيف فشجرهم طلحة و الزبير و أصحابهما بالرماح فحمل عليهم حكيم بن جبلّة فلم يزل هو و أصحابه يقاتلونهم حتّى أخرجوهم من جميع السكك، و رماهم النساء من فوق البيوت بالأحجار فأخذوا إلى مقبرة بنى مازن فوقفوا بها مليّا حتّى ثابت إليهم خيلهم، ثمّ أخذوا على مسنّاة البصرة حتّى انتهوا إلى الرابوقة. ثمّ أتوا سبخة دار الرزق فنزلوها فأتاهما عبد اللّه بن حكيم التميمىّ لمّا نزلا السبخة بكتب كتباها إليه فقال لطلحة: يا أبا محمّد أما هذه كتبك إلينا. فقال: بلى. فقال: فكنت أمس تدعونا إلى خلع عثمان و قتله حتّى إذا قتلته أتيتنا ثائرا بدمه، فلعمرى ما هذا رأيك و لا تريد إلّا هذه الدنيا. مهلا إذا كان هذا رأيك قبلت من علىّ ما عرض عليك من البيعة فبايعته‏ طائعا راضيا ثمّ نكثت بيعتك و جئتنا لتدخلنا في فتنتك. فقال: إنّ عليّا دعانى إلى بيعته بعد ما بايع الناس فعلمت أنّى لو لم أقبل ما عرضه عليّ لا يتمّ لى ثمّ يغرى بى من معه. ثمّ أصبحا من غد فصفّا للحرب و خرج إليهما عثمان في أصحابه فناشدهما اللّه و الإسلام و أذكرهما بيعتهما ثلاثا. فشتماه شتما قبيحا و ذكرا امّة.

فقال للزبير: أما و اللّه لو لا صفيّة و مكانها من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإنّها أذرتك إلى الظلّ، و إنّ الأمر بينى و بينك يا ابن الصعبة يعنى طلحة أعظم من القول لأعلمتكما من أمركما ما يسوئكما. اللّهمّ إنّى قد أعذرت إلى هذين الرجلين. ثمّ حمل عليهم فاقتتل الناس قتالا شديدا. ثمّ تحاجزوا و اصطلحوا على أن يكتب بينهم كتاب صلح.
فكتب: هذا ما اصطلح عليه عثمان بن حنيف الأنصارىّ و من معه من المؤمنين من شيعة عليّ بن أبي طالب و طلحة و الزبير و من معهما من المؤمنين و المسلمين من شيعتهما أنّ لعثمان بن حنيف الأنصارىّ دار الأمارة و الرحبة و المسجد و بيت المال و المنبر، و أنّ لطلحة و الزبير و من معهما أن ينزلوا حيث شاءوا من البصرة و لا يضارّ بعضهم بعضا في طريق و لا سوق و لا فرضة و لا مشرعة و لا مرفق حتّى يقدم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب فإن أحبّوا دخلوا فيما دخلت فيه الأمّة و إنّ أحبّوا ألحق كلّ قوم بهواهم و ما أحبّوا من قتال أو سلم أو خروج أو إقامة، و على الفريقين بما كتبوا عهد اللّه و ميثاقه و أشدّ ما أخذه على نبىّ من أنبيائه من عهد و ذمّة. و ختم الكتاب، و رجع عثمان حتّى دخل دار الأمارة و أمر أصحابه أن يلحقوا بأهلهم و يداووا جراحاتهم فمكثوا كذلك أيّاما. ثمّ خاف طلحة و الزبير من مقدم عليّ عليه السّلام و هما على تلك القلّة و الضعف فراسلوا القبائل يدعونهم إلى الطلب بدم عثمان و خلع علىّ عليه السّلام فبايعهم على ذلك الأزد و ضبّة و قيس غيلان كلّها إلّا الرجل و الرجلين من القبيلة كرهوا أمرهم فتواروا عنهم، و بايعهما هلال بن وكيع بمن معه من بنى عمرو ابن تميم و أكثر بنى حنظلة و بنى دارم. فلمّا استوسق لهما أمرهما خرجا في ليلة مظلمة ذات ريح و مطر في أصحابهما، و قد ألبسوهم الدروع، و ظاهروا فوقها بالثياب فانتهوا إلى المسجد وقت صلاة الفجر و قد سبقهم عثمان بن حنيف إليه و اقيمت الصلاة فتقدّم عثمان ليصلّى بهم فأخّره أصحاب طلحة و الزبير، و قدّموا الزبير فجاءت الشرط- حرس بيت المال- و أخّروا الزبير و قدّموا عثمان فغلبهم أصحاب الزبير فقدّموه و أخّروا عثمان فلم يزالوا كذلك حتّى كادت الشمس أن تطلع فصاح بهم أهل المسجد ألا تتّقون اللّه أصحاب محمّد قد طلعت الشمس فغلب الزبير فصلّى بالناس فلمّا انصرف من صلاته صاح بأصحابه المتسلّحين أن خذوا عثمان فأخذوه بعد أن تضارب هو و مروان بن الحكم بسيفهما فلمّا اسر ضرب ضرب الموت و نتفت حاجباه و أشفار عينيه و كلّ شعرة في رأسه و وجهه، و أخذوا السيالحة و هم سبعون رجلا فانطلقوا بهم و بعثمان بن حنيف إلى عايشة فأشارت إلى أحد أولاد عثمان أن اضرب عنقه فإنّ الأنصار قتلت أباك و أعانت على قتله. فنادى عثمان يا عايشة و يا طلحة و يا زبير إنّ أخى سهل بن حنيف خليفة عليّ بن أبى طالب على المدينة و أقسم باللّه إن قتلتمونى ليضعنّ السيف في بنى أبيكم و أهليكم و رهطكم فلا يبقى منكم أحدا.

فكفّوا عنه و خافوا من قوله فتركوه، و أرسلت عايشة إلى الزبير أن اقتل السيالحة فإنّه قد بلغنى الّذي صنعوا بك قبل. فذبحهم و اللّه كما يذبح الغنم. ولى ذلك عبد اللّه ابنه و هم سبعون رجلا، و بقيت منهم بقيّة متمسّكون ببيت المال قالوا: لا نسلّمه حتّى يقدم أمير المؤمنين. فسار إليهم الزبير في جيش ليلا و أوقع بهم و أخذ منهم خمسين أسيرا فقتلهم صبرا. فحكى أنّ القتلى من السيالحة يومئذ أربع مأئة رجل، و كان غدر طلحة و الزبير بعثمان بن حنيف بعد غدرهم في بيعة عليّ غدرا في غدر، و كانت السيالحة أوّل قوم ضربت أعناقهم من المسلمين صبرا، و خيّروا عثمان بن حنيف بين أن يقيم أو يلحق بعليّ فاختار الرحيل فخلّوا سبيله فلحق بعليّ عليه السّلام فلمّا رآه بكى و قال له شيخ و جئتك أمردا. فقال عليّ عليه السّلام: إنّا للّه و إنّا إليه راجعون قالها ثلاثا. فذلك معنى قوله: فقدموا على عاملى بها و خزّان بيت مال المسلمين.
إلى آخره. ثمّ أقسم عليه السّلام إنّهم لو لم يصيبوا أى يقتلوا من المسلمين إلّا رجلا واحدا متعمّدين قتله بغير ذنب جناه لحلّ له قتل ذلك الجيش كلّه، و- إن- زايدة.

فإن قلت: المفهوم من هذا الكلام تعليل جواز قتله لذلك الجيش كلّه بعدم‏ إنكارهم للمنكر فهل يجوز قتل من لم ينكر المنكر قلت: أجاب الشارح عبد الحميد بن أبى الحديد عنه. فقال: إنّه تجوّز قتلهم لأنّهم اعتقدوا ذلك القتل مباحا مع أنّه ممّا حرّمه اللّه فجرى ذلك مجرى اعتقادهم لإباحة الزنا و شرب الخمر.

و أجاب القطب الراوندىّ بأنّ جواز قتلهم لدخولهم في عموم قوله تعالى «إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا»«» الآية و إنّ هؤلاء القوم قد حاربوا رسول اللّه لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: حربك يا عليّ حربى، و سعوا في الأرض بالفساد، و اعترض المجيب الأوّل عليه. فقال: الإشكال إنّما هو في تحليله لقتل الجيش المذكور لكونه لم ينكر على من قتل رجلا واحدا من المسلمين فالتعليل بعدم إنكار المنكر لا بعموم الآية.
و أقول: الجواب الثاني أسدّ، و الأوّل ضعيف. لأنّ القتل و إن وجب على من اعتقد إباحة ما علم تحريمه من الدين ضرورة كشرب الخمر و الزنا فلم قلت إنّه يجب على من اعتقد إباحة ما علم تحريمه من الدين بالتأويل كقتل هؤلاء القوم لمن قتلوا و خروجهم لما خرجوا له فإنّ جميع ما فعلوه كان بتأويل لهم و إن كان معلوم الفساد.

فظهر الفرق بين اعتقاد حلّ الخمر و الزنا و بين اعتقاد هؤلاء لإباحة ما فعلوه، و أمّا الاعتراض على الجواب الثاني فضعيف أيضا. لأنّ له أن يقول: إنّ قتل المسلم الّذي لا ذنب له عمدا إذا صدر من بعض الجيش و لم ينكر الباقون مع تمكّنهم و حضورهم كان ذلك قرينة دالّة على الرضا من جميعهم، و الراضى بالقتل شريك القاتل خصوصا إذا كان معروفا بصحبته و الاتّحاد به كاتّحاد بعض الجيش ببعض. فكان خروج ذلك الجيش على الإمام العادل محاربة للّه و رسوله، و قتلهم لعامله و خزّان بيت مال المسلمين و نهبهم له و تفريق كلمة أهل المصر و فساد نظامهم سعى في الأرض بالفساد، و ذلك عين مقتضى الآية. و قوله: دع. إلى آخره.

أى لو كان من قتلوه من المسلمين واحدا لحلّ لى قتلهم فكيف و قد قتلوا منهم عدّة مثل عدّتهم الّتي دخلوا بها البصرة. و- ما- بعد- دع- زايدة، و المماثلة هنا في الكثرة. و صدق عليه السّلام فإنّهم قتلوا من أوليائه و خزّان بيت المال بالبصرة خلقا كثيرا كما ذكرناه على الوجه الّذي ذكره بعض غدرا و بعض صبرا. و باللّه التوفيق.

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن ‏ميثم بحرانی)، ج 3 ، صفحه‏ى 329

 

خطبه 170شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام لما عزم على لقاء القوم بصفين

اللَّهُمَّ رَبَّ السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَ الْجَوِّ الْمَكْفُوفِ- الَّذِي جَعَلْتَهُ مَغِيضاً لِلَّيْلِ وَ النَّهَارِ- وَ مَجْرًى لِلشَّمْسِ وَ الْقَمَرِ وَ مُخْتَلَفاً لِلنُّجُومِ السَّيَّارَةِ- وَ جَعَلْتَ سُكَّانَهُ سِبْطاً مِنْ مَلَائِكَتِكَ- لَا يَسْأَمُونَ مِنْ عِبَادَتِكَ- وَ رَبَّ هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي جَعَلْتَهَا قَرَاراً لِلْأَنَامِ- وَ مَدْرَجاً لِلْهَوَامِّ وَ الْأَنْعَامِ- وَ مَا لَا يُحْصَى مِمَّا يُرَى وَ مَا لَا يُرَى- وَ رَبَّ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي الَّتِي جَعَلْتَهَا لِلْأَرْضِ أَوْتَاداً- وَ لِلْخَلْقِ اعْتِمَاداً إِنْ أَظْهَرْتَنَا عَلَى عَدُوِّنَا- فَجَنِّبْنَا الْبَغْيَ وَ سَدِّدْنَا لِلْحَقِّ- وَ إِنْ أَظْهَرْتَهُمْ عَلَيْنَا فَارْزُقْنَا الشَّهَادَةَ- وَ اعْصِمْنَا مِنَ الْفِتْنَةِ أَيْنَ الْمَانِعُ لِلذِّمَارِ- وَ الْغَائِرُ عِنْدَ نُزُولِ الْحَقَائِقِ مِنْ أَهْلِ الْحِفَاظِ- الْعَارُ وَرَاءَكُمْ وَ الْجَنَّةُ أَمَامَكُمْ

اللغة

أقول: مغيضا لهما: أى مغيبا.

و السبط: القبيلة.

المعنى

و قد دعا اللّه سبحانه باعتبار كونه ربّا للسماء و الأرض و باعتبار ما فيهما من الآيات المنبّهة على كمال عظمته و لطفه بخلقه، و هذا الدعاء ممّا تستعدّ به القلوب و الأبدان لاستفاضة الغلبة و النصر على العدوّ. و السقف المرفوع: السماء. و كذلك الجوّ المكفوف، و قد مرّت الإشارة إلى ذلك في الخطبة الاولى، و كونه مغيضا للّيل و النهار لأنّ الفلك بحركته المستلزمة لحركة الشمس إلى وجه الأرض يكون سببا لغيبوبة الليل، و استلزام حركته لحركاتها عن وجه الأرض يكون سببا لغيبوبة النهار فكان كالمغيض لهما فاستعار له لفظ المغيض. و كونه محلّا لجرى الشمس و القمر و محلّ اختلاف النجوم السيّارة ظاهر. و ليس فيه دلالة على أنّ النجوم تتحرّك: بذاتها من دون حركته. و الطائفة من الملائكة إشارة إلى الأرواح الفلكيّة لأجرامها، و قد سبقت الإشارة إليهم و بيان أنّهم لا يسأمون من العبادة في الخطبة الاولى. ثمّ دعاه باعتبار كونه ربّا للأرض، و باعتبار ما بسطها لأجله من كونها قراراً للأنام و مدرجا للهوامّ و الأنعام و ما لا يحصى ممّا يرى و لا يرى من أنواع الحيوان. قال بعض العلماء: من أراد أن يعرف حقيقة قوله عليه السّلام: ما يرى و ما لا يرى فليوقد نارا صغيرة في فلاة في ليلة صيفيّة و ينظر ما يجتمع عليها من غرائب أنواع الحيوان العجيبة الخلق لم يشاهدها هو و لا غيره. و أقول: يحتمل أن يريد بقوله: و ما لا يرى ما ليس من شأنه أن يرى إمّا لصغره أو لشفافيّته. ثمّ باعتبار كونه ربّا للجبال، و قد علمت معنى كونها أوتادا للأرض. فأمّا كونها اعتمادا للخلق فلأنّهم قد يبنون بها المساكن و يقوم فيها من المنافع ما لا يقوم في الأودية لكثير من الأشجار و الثمار، و لأنّها معادن الينابيع و منابع المعادن، و ظاهر كونها إذن معتمدا للخلق في مراتعهم و منافعهم. ثمّ سأل على تقدير نصره أن يجنّبه‏ البغى و هو العبور إلى طرف الإفراط من فضيلة العدل ثمّ التسديد و الاستقامة على فضيلة العدل و هو الحقّ، و على تقدير إظهار عدوّه عليه الشهادة و العصمة من فتنة الغبن و الانقهار فإنّ المغلوب إذا كان معتقدا أنّه على الحقّ قلّما يسلم من التسخّط على البخت و التعتّب على ربّه، و ربّما كفر كثير من الناس عند نزول البلاء بهم. و ظاهر كونه فتنة: أى صارفا عن اللّه. و اعتصم عليه السّلام من تلك الفتنة و أمثالها استثباتا لنفسه على الحقّ و تأديبا للسامعين. ثمّ أخذ فيما العادة أن يستحمى به الإنسان أصحابه في الحرب، و يستثير به طباعهم: من الاستفهام عن حامى الذمار، و الّذي تصيبه الغيرة من أهل المحافظة عند نزول الحقائق: أى عظائم الامور و شدائدها. ثمّ قال: النار ورائكم: أى إنّ رجوعكم القهقرى هربا من العدوّ مستلزم لدخولكم النار و استحقاقكم لها، و الجنّة أمامكم: أى في إقدامكم على العدوّ و التقدّم إلى مناجزته، و هو كلام في غاية الوجازة و البلاغة.

شرح ‏نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 3 ، صفحه‏ى 327

خطبه 169شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام كلّم به بعض العرب

و قد أرسله قوم من أهل البصره لمّا قرب عليه السّلام منها ليعلم لهم منه حقيقة حاله مع أصحاب الجمل لتزول الشبهة من نفوسهم فبيّن له عليه السّلام من أمره معهم ما علم به أنّه على الحقّ. ثمّ قال له: بايع. فقال: إنّى رسول قوم و لا احدث حدثا دونهم حتّى أرجع إليهم. كذا في أكثر النسخ لكن في آخر بعضها بعد قول الرجل «فبايعته عليه السّلام». و الرجل يعرف بكليب الجرمىّ. أَ رَأَيْتَ لَوْ أَنَّ الَّذِينَ وَرَاءَكَ بَعَثُوكَ رَائِداً- تَبْتَغِي لَهُمْ مَسَاقِطَ الْغَيْثِ- فَرَجَعْتَ إِلَيْهِمْ وَ أَخْبَرْتَهُمْ عَنِ الْكَلَإِ وَ الْمَاءِ- فَخَالَفُوا إِلَى الْمَعَاطِشِ وَ الْمَجَادِبِ مَا كُنْتَ صَانِعاً- قَالَ كُنْتُ تَارِكَهُمْ وَ مُخَالِفَهُمْ إِلَى الْكَلَإِ وَ الْمَاءِ- فقال عليه السلام: فامدد إذا يدك فقال الرجل: فو اللّه ما استطعت أن أمتنع عند قيام الحجة على، فبايعته عليه السّلام

المعنى

أقول: الجرمىّ: منسوب إلى بنى جرم، و كان قوم من أهل البصرة بعثوه إليه عليه السّلام ليستعلم حاله أهو على حجّة أم على شبهة فلمّا رآه و سمع لفظه لم يتخالجه شكّ في صدقه فبايعه، و كان بينهما الكلام المنقول. و لا ألطف من التمثيل الّذي جذبه به عليه السّلام فالأصل في هذا التمثيل هو حالة هذا المخاطب في وجدانه للماء و الكلاء على تقدير كونه رائدا لهما، و الفرع هو حاله في وجدانه للعلم و الفضائل و الهداية عنده، و الحكم في الأصل هو مخالفته لأصحابه إلى الماء و الكلاء على تقدير وجدانه لهما و مخالفة أصحابه له، و علّة ذلك الحكم في الأصل هو وجدانه للكلاء و الماء، و لمّا كان المشبّه لهذه العلّة و هو وجدانه للفضائل و العلوم الّتي هي غذاء النفوس و مادّة حياتها كما أنّ الكلاء و الماء غذاء للأبدان و مادّة حياتها موجود لهذا الرائد في الفرع و هو حالة وجدانه للعلم و الفضل و الهداية وجب عن تلك العلّة مثل الحكم في الأصل و هو مخالفة أصحابه إلى الفضل و العلم و الهداية عنده عليه السّلام و لزوم أن يبايع. و لذلك قال له: فامدد إذن يدك. و هو تمثيل لا تكاد النفس السليمة عند سماعه أن تقف دون الانفعال عنه و الإذعان له، و لذلك أقسم الرجل أنّه لم يستطع الامتناع عند قيام هذه الحجّة فبايع. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم)، ج 3 ، صفحه‏ى 326

خطبه 168شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام عند مسير أصحاب الجمل إلى البصرة

إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ رَسُولًا هَادِياً بِكِتَابٍ نَاطِقٍ وَ أَمْرٍ قَائِمٍ- لَا يَهْلِكُ عَنْهُ إِلَّا هَالِكٌ- وَ إِنَّ الْمُبْتَدَعَاتِ الْمُشَبَّهَاتِ هُنَّ الْمُهْلِكَاتُ- إِلَّا مَا حَفِظَ اللَّهُ مِنْهَا- وَ إِنَّ فِي سُلْطَانِ اللَّهِ عِصْمَةً لِأَمْرِكُمْ- فَأَعْطُوهُ طَاعَتَكُمْ غَيْرَ مُلَوَّمَةٍ وَ لَا مُسْتَكْرَهٍ بِهَا- وَ اللَّهِ لَتَفْعَلُنَّ أَوْ لَيَنْقُلَنَّ اللَّهُ عَنْكُمْ سُلْطَانَ الْإِسْلَامِ- ثُمَّ لَا يَنْقُلُهُ إِلَيْكُمْ أَبَداً- حَتَّى يَأْرِزَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِكُمْ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ تَمَالَئُوا عَلَى سَخْطَةِ إِمَارَتِي- وَ سَأَصْبِرُ مَا لَمْ أَخَفْ عَلَى جَمَاعَتِكُمْ- فَإِنَّهُمْ إِنْ تَمَّمُوا عَلَى فَيَالَةِ هَذَا الرَّأْيِ- انْقَطَعَ نِظَامُ الْمُسْلِمِينَ- وَ إِنَّمَا طَلَبُوا هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَداً لِمَنْ أَفَاءَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ- فَأَرَادُوا رَدَّ الْأُمُورِ عَلَى أَدْبَارِهَا- وَ لَكُمْ عَلَيْنَا الْعَمَلُ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى- وَ سِيرَةِ رَسُولِ اللَّهِ ص- وَ الْقِيَامُ بِحَقِّهِ وَ النَّعْشُ لِسُنَّتِهِ

اللغة

أقول: يأرز: ينحاز و ينقبض.

و تمالئوا: اجتمعوا.

و الفيالة: الضعف.

و النعش: الرفع.

 

المعنى

و قوله: إنّ اللّه بعث. إلى قوله: هالك. تصدير للفصل بالامور الجامعة للمسلمين الّتي هي اصول دولتهم و تذكير لهم بها ليرجعوا إليها. و أمر قائم: مستقيم. و قوله: لا يهلك عنه إلّا هالك. أى لا يهلك من مخالفته إلّا أعظم هالك كما تقول لا يعلم هذا الفنّ من العلم إلّا عالم: أى من بلغ الغاية من العلم. و قوله: و إنّ المبتدعات المشبهات هنّ المهلكات إلّا ما حفظ اللّه. لمخالفتها الكتاب و السنّة الجامعين لحدود اللّه و خروجها عنهما، و أراد الهلاك الاخروىّ. و قوله: إلّا من حفظ اللّه. استثناء من المهلكات: أى إلّا ما حفظ اللّه منها بالعصمة عن ارتكابها.

إذ لا تكون مهلكة إلّا لمن ارتكبها، و المشبهات ما أشبه السنن و ليس منها، و روى المشبّهات بتشديد الباء و فتحها، و هو ما شبّه على الناس و ليس. و روى المشتبهات: أى الملتبسات، و سلطان اللّه هو سلطان الإسلام، و أراد سلطان دين اللّه فحذف المضاف، و يحتمل أن يريد بسلطان اللّه نفسه لكونه خليفة له في أرضه، و إنّما أضافها إليه اعتزارا به، و ظاهر أنّ فيه منعة و عصمة لهم فإنّ الّذي نصرهم و هم قليلون حيّ قيّوم فبالأولى أن ينصرهم على كثرتهم بشرط طاعته الخالصة و الدخول في أمر سلطانه. و لذلك قال: فأعطوه طاعتكم غير ملوّمة: أى غير ملوم صاحبها بالنسبة إلى النفاق و الرياء و لا مستكره بها: و يروى غير ملويّة: أى معوجّة. ثمّ أخذ في وعيدهم إن لم يطيعوا بنقل اللّه عنهم سلطان الإسلام من غير أن يردّه إليهم أبدا حتّى يصير الأمر إلى غيرهم، و أراد أمر الخلافة. ثمّ إن جعلنا حتّى و ما بعدها غاية لنقل السلطان عنهم لم يفهم منها عوده إليهم، و إن جعلناها غاية من عدم نقله إليهم فهم منها ذلك.

فإن قلت: لم قال لا يرجع إليهم أبدا و قد عاد بالدولة العباسيّة.
قلت: اجيب من وجوه: الأوّل: أنّ القوم الّذين خاطبهم من أصحابه بهذا الخطاب لم ترجع الدولة إليهم أبدا فإنّ اولئك بعد انقضاء دولة بني اميّة لم يبق منهم أحد. ثمّ لم يرجع إلى أحد من أولادهم أصلا. الثاني: أنّه قيّد بالغاية فقال: لا يصير إليكم حتّى يصير في قوم آخرين، و ظاهر أنّه كذلك بانتقاله إلى بني اميّة. الثالث: قال بعض الشارحين: إنّما عاد لأنّ الشرط لم يقع و هو عدم الطاعة فإنّ أكثرهم أطاعه طاعة غير ملوّمة و لا مستكره بها. الرابع: قال قوم: أراد بقوله: أبدا المبالغة كما تقول لغريمك: لا حبسنّك أبدا، و المراد بالقوم الّذين يأرز إليهم هذا الأمر بنو اميّة كما هو الواقع. و قوله: إنّ هؤلاء قد تمالئوا. إشارة إلى طلحة و الزبير و عايشة و أتباعهم، و أومى إلى أنّ مسيرهم لسخطهم من أمارته لا ما أظهروه من الطلب بدم عثمان. ثمّ وعد بالصبر عليهم ما دام لا يخاف على حوزة الجماعة، و أخبرهم أنّهم إن بقوا على ضعف رأيهم في مسيرهم و مخالفتهم قطعوا نظام المسلمين و فرّقوا جماعتهم.

و قوله: إنّما طلبوا. إلى قوله: عليه. بيان لعلّة سخطهم لأمارته و هي الحسد على الدنيا لمن أفاء اللّه عليه، و الإشارة إلى بيت الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قوله: فأرادوا ردّ الامور على أدبارها.

أى أرادوا إخراج هذا الأمر عن أهل بيت الرسول آخرا كما أخرجوه أوّلا، أو صرف هذا الأمر عنهم بعد إقباله إلى ما كان عليه من إدباره عنهم. ثمّ أخبر بما عليه من الحقّ إن أطاعوه الطاعة غير المدخولة، و هي أن يعمل فيهم بكتاب اللّه و يسير سيرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و القيام بحقوقه الّتي أوجبها و إقامة سننه، و ذلك هو الواجب على الإمام. و باللّه التوفيق.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 3 ، صفحه‏ى 324

خطبه 167شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام بعد ما بويع بالخلافة،

و قد قال له قوم من الصحابه: لو عاقبت قوما ممن أجلب على عثمان فقال عليه السّلام: يَا إِخْوَتَاهْ إِنِّي لَسْتُ أَجْهَلُ مَا تَعْلَمُونَ- وَ لَكِنْ كَيْفَ لِي بِقُوَّةٍ وَ الْقَوْمُ الْمُجْلِبُونَ- عَلَى حَدِّ شَوْكَتِهِمْ يَمْلِكُونَنَا وَ لَا نَمْلِكُهُمْ- وَ هَا هُمْ هَؤُلَاءِ قَدْ ثَارَتْ مَعَهُمْ عِبْدَانُكُمْ- وَ الْتَفَّتْ إِلَيْهِمْ أَعْرَابُكُمْ- وَ هُمْ خِلَالَكُمْ يَسُومُونَكُمْ مَا شَاءُوا- وَ هَلْ تَرَوْنَ مَوْضِعاً لِقُدْرَةٍ عَلَى شَيْ‏ءٍ تُرِيدُونَهُ- إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ أَمْرُ جَاهِلِيَّةٍ- وَ إِنَّ لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مَادَّةً- إِنَّ النَّاسَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ إِذَا حُرِّكَ عَلَى أُمُورٍ- فِرْقَةٌ تَرَى مَا تَرَوْنَ وَ فِرْقَةٌ تَرَى مَا لَا تَرَوْنَ- وَ فِرْقَةٌ لَا تَرَى هَذَا وَ لَا ذَاكَ- فَاصْبِرُوا حَتَّى يَهْدَأَ النَّاسُ وَ تَقَعَ الْقُلُوبُ مَوَاقِعَهَا- وَ تُؤْخَذَ الْحُقُوقُ‏ مُسْمَحَةً- فَاهْدَءُوا عَنِّي وَ انْظُرُوا مَا ذَا يَأْتِيكُمْ بِهِ أَمْرِي- وَ لَا تَفْعَلُوا فَعْلَةً تُضَعْضِعُ قُوَّةً وَ تُسْقِطُ مُنَّةً- وَ تُورِثُ وَهْناً وَ ذِلَّةً وَ سَأُمْسِكُ الْأَمْرَ مَا اسْتَمْسَكَ- وَ إِذَا لَمْ أَجِدْ بُدّاً فَآخِرُ الدَّوَاءِ الْكَيُّ

اللغة

أقول: أجلب عليه: جمع.

و شوكتهم: قوّتهم.

و العبدان بتشديد الدال و تخفيفها و كسر العين و ضمّها: جمع عبد.

و التفّت: انضمّت.

و يسومونكم: يكلّفونكم.

و مسمحة: مسهلة،

المعنى

و الألف في إخوتاه هي المنقلبة عن ياء النفس المضاف إليه، و الهاء للسكت.
و اعلم أنّ هذا الكلام اعتذار منه عليه السّلام في تأخير القصاص عن قتلة عثمان. و قوله: إنّي لست أجهل ما تعملون. دليل على أنّه كان ذلك في نفسه، و حاصل هذا العذر عدم التمكّن كما ينبغي، و لذلك قال: و كيف لى بقوّة و القوم على حدّ شوكتهم. و صدقه عليه السّلام ظاهر فإنّ أكثر أهل المدينة كانوا من المجلبين عليه، و كان من أهل مصر و من الكوفة خلق عظيم حضروا من بلادهم و قطعوا المسافة البعيدة لذلك و انضمّ إليها أعراب أجلاف من البادية و عبدان المدينة. فكانوا في غاية من شدّة الشوكة حال اجتماعهم، و ثاروا ثورة واحدة، و لذلك قال: و القوم مجلبون. إلى قوله: يسومونكم ما شاءوا. و روى أنّه عليه السّلام جمع الناس و وعظهم. ثمّ قال: لتقم قتلة عثمان فقام الناس بأسرهم إلّا القليل، و كان ذلك الفعل منه استشهادا على صدق قوله عليه السّلام: و القوم على حدّ شوكتهم. و مع تحقّق هذه الحال لا يبقى له موضع قدرة على شي‏ء من أمرهم. ثمّ قال على سبيل قطع لجاج الطالبين مخاطبا لهم: إنّ هذا الأمر أمر الجاهليّة. يريد أمر المجلبين عليه إذ لم يكن قتلهم إيّاه بمقتضى الشريعة. إذ الصادر عنه من الأحداث لا يجب فيها قتل. و إنّ لهؤلاء القوم مادّة: أى معينين و ناصرين. ثمّ‏ قسّم حال الناس على تقدير الشروع في أمر القصاص إلى ثلاثة أقسام، و هو احتجاج منه على الطالبين و تضعيف لرأيهم بقياس ضمير من الشكل الأوّل مركّب من شرطيّتين متّصلتين صغراهما قوله: إنّ هذا الأمر إذا حرّك كان الناس فيه على امور، و تقدير الكبرى و إذا كان الناس فيه على امور لم يتمكّن من إتمامه و فعله.

فينتج أنّ هذا الأمر إذا حرّك لا يتمّ فعله. ثمّ عدّ تلك الامور، و هى أنّ فرقة ترى كونه مصيبا كما رأى الطالبون، و فرقة ترى أنّه مخطئ و هم أنصار المقتصّ منهم، و فرقة لا ترى هذا و لا ذاك بل تتوقّف كما جرى ذلك في أمر التحكيم. ثمّ أمرهم بالصبر إلى غاية هدوء الناس. إذ بيّن لهم أنّه لا مصلحة في تحريك الأمر حينئذ فإنّ الحقوق عند هدوء الناس و استقرار القلوب أسهل مأخذا. و قوله: فاهدءوا عنّى و انظروا ما ذا يأتيكم به من أمرى. يدلّ على ترصّده و انتظاره للفرصة من هذا الأمر. ثمّ خوّفهم من الاستعجال بفعل يضعف شوكة الدين و يورث وهنه فإنّه لو شرع في عقوبة الناس و القبض عليهم لم يؤمن من تجدّد فتنة اخرى أعظم من الأولى، و هو غالب الظنّ. فكان الأصوب في التدبير و الّذي يقتضيه العقل و الشرع الإمساك إلى حين سكون الفتنة و تعرّق اولئك الشعوب و رجوع كلّ قوم إلى بلادهم، و ربّما كان عليه السّلام ينتظر مع ذلك أن يحضر بنو عثمان للطلب بدمه، و يعيّنون قوما بأعيانهم بعضهم للقتل و بعضهم للحصار كما جرت عادة المتظلّمين إلى الإمام ليتمكّن من العمل بحكم اللّه. فلم يقع الأمر كذلك، و عصى معاوية و أهل الشام و التجأ إليه ورثة عثمان، و فارقوا حوزة أمير المؤمنين عليه السّلام و لم يطلبوا القصاص طلبا شرعيّا، و إنّما طالبوه مغالبة، و جعلها معاوية عصبيّة جاهليّة، و لم يأت أحد منهم الأمر من بابه، و قيل: ذلك ما كان من أمر طلحة و الزبير و نقضهما للبيعة و نهبهما أموال المسلمين بالبصرة و قتلهما للصالحين من أهلها، و كلّ تلك الامور الّتي جرت مانعة للإمام عن التصدىّ للقصاص، و لذلك قال عليه السّلام لمعاوية في بعض كلامه: فأمّا طلبك بدم عثمان فادخل في الطاعة و حاكم القوم إلىّ أحملك و إيّاهم على كتاب اللّه و سنّة رسوله.

فأمّا قوله: و سأمسك الأمر ما استمسك. إلى آخره. فاعلم أنّ هذا الكلام إنّما صدر عنه عليه السّلام بعد إكثار القول عليه في أمر عثمان و اضطراب الأمر من قبل طلحة و الزبير و نكثهما للبيعة بسبب هذه الشبهة مع كونهما من أكابر الصحابة، و تشتّت قلوب كثير من المسلمين عنه. فحينئذ أشار بعض الصحابة بأخذ القصاص من قتلة عثمان تسكينا لفتنة طلحة و الزبير و معاوية لغلبة الظنّ حينئذ بمخالفته و اضطراب أمر الشام فقال الكلام: أى قد أبديت هذا العذر فإن لم يقبلوا منّى فسأمسك الأمر: أى أمر الخلافة بجهدى فإذا لم أجد بدّا: أى من قتال من يبغى و ينكث فآخر الدواء الكىّ: أى الحرب و القتال لأنّها الغاية الّتي ينتهى أمر العصاة إليها و مداواة أمراض قلوبهم كما تنتهى مداواة المريض إلى أن يكوى. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم)، ج 3 ، صفحه‏ى 321

 

خطبه 166شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام في أول خلافته

إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ كِتَاباً هَادِياً- بَيَّنَ فِيهِ الْخَيْرَ وَ الشَّرَّ- فَخُذُوا نَهْجَ الْخَيْرِ تَهْتَدُوا- وَ اصْدِفُوا عَنْ سَمْتِ الشَّرِّ تَقْصِدُوا- الْفَرَائِضَ الْفَرَائِضَ أَدُّوهَا إِلَى اللَّهِ تُؤَدِّكُمْ إِلَى الْجَنَّةِ- إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ حَرَاماً غَيْرَ مَجْهُولٍ- وَ أَحَلَّ حَلَالًا غَيْرَ مَدْخُولٍ- وَ فَضَّلَ حُرْمَةَ الْمُسْلِمِ عَلَى الْحُرَمِ كُلِّهَا- وَ شَدَّ بِالْإِخْلَاصِ وَ التَّوْحِيدِ حُقُوقَ الْمُسْلِمِينَ فِي مَعَاقِدِهَا- فَالْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَ يَدِهِ إِلَّا بِالْحَقِّ- وَ لَا يَحِلُّ أَذَى الْمُسْلِمِ إِلَّا بِمَا يَجِبُ- بَادِرُوا أَمْرَ الْعَامَّةِ وَ خَاصَّةَ أَحَدِكُمْ وَ هُوَ الْمَوْتُ- فَإِنَّ النَّاسَ أَمَامَكُمْ وَ إِنَّ السَّاعَةَ تَحْدُوكُمْ مِنْ خَلْفِكُمْ- تَخَفَّفُوا تَلْحَقُوا فَإِنَّمَا يُنْتَظَرُ بِأَوَّلِكُمْ آخِرُكُمْ- اتَّقُوا اللَّهَ فِي عِبَادِهِ وَ بِلَادِهِ- فَإِنَّكُمْ مَسْئُولُونَ حَتَّى عَنِ الْبِقَاعِ وَ الْبَهَائِمِ- وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ لَا تَعْصُوهُ- وَ إِذَا رَأَيْتُمُ الْخَيْرَ فَخُذُوا بِهِ- وَ إِذَا رَأَيْتُمُ الشَّرَّ فَأَعْرِضُوا عَنْهُ

اللغة

أقول: اصدفوا: أعرضوا.

و تقصدوا: تعدلوا.

و معاقدها: مواضعها.

المعنى

و صدّر الفصل بالتنبيه على فضيلة الكتاب، و هى كونه هاديا إلى طريق‏ الخير و الشر. ثم أمر بأخذ طريق الخير لكونه طريق الهدى الى المطالب الحقيقيّة الباقية، و بالإعراض عن طريق الشرّ و سمته لاستلزام الإعراض عنه لزوم طريق الحقّ و الاستقامة فيه. ثمّ أمر بأداء الفرائض لأنّها أقوى طرق الخير، و لذلك قال: تؤدّكم إلى الجنّة لأنّ الجنّة منتهى الخير كلّه. ثمّ بيّن أنّ اللّه حرّم حراما غير مجهول بل هو في غاية الوضوح، و كذلك أحلّ حلالا غير مدخول: أى لا عيب فيه و لا شبهة فلا عذر لمن تركه، و فضّل حرمة المسلم على الحرم كلّها، و هذا لفظ الخبر النبوىّ: حرمة المسلم فوق كلّ حرمة دمه و عرضه و ماله. و شدّ بالإخلاص و التوحيد حقوق المسلمين في معاقدها: أى ربطها بهما و أوجب على المخلصين المعترفين بوحدانيّته المحافظة على حقوق المسلمين و مراعات مواضعها، و قرن توحيده بذلك حتّى صار فضله كفضل التوحيد. ثمّ عرّف المسلم ببعض صفات المسلم الحقّ، و هو من سلم المسلمون من يده و لسانه إلّا أن تكون يد حقّ أو لسان حقّ. و هو لفظ الخبر النبوىّ أيضا. و قوله: لا يحلّ أذى المسلم إلّا بما يجب. كقوله: إلّا بالحقّ. أورده تأكيدا له ثمّ عقّب بتنبيههم على أمر العامّة و خاصّة أحدهم و هو الموت: أى ذلك الأمر هو الموت، و إنّما كان مع عمومه لكلّ الحيوان خاصّة أحدهم لأنّ له مع كلّ شخص خصوصيّة و كيفيّة مخالفة لحاله مع غيره، و أمر بمبادرته. أى بمبادرة العمل له و لما بعده قبل سبقه إليهم، و نبّههم على أنّ الناس أمامهم: أى قد سبقوهم إلى الآخرة و الساعة تحدوهم من خلفهم، و أمر بالتخفيف للّحاق بهم، و حثّهم على ذلك بقوله: فإنّما ينتظر بأوّلكم آخركم: أى السابقين إلى الآخرة اللاحقين منكم ليبعث الكلّ جميعا، و قد سبقت هذه الألفاظ بعينها و شرحها مستوفى. ثمّ أمر بتقوى اللّه في عباده و ذلك بلزوم خوفه في مراعاة ما ينبغي لكلّ أحد مع غيره، و في بلاده بترك الفساد في الأرض، و نبّه على وجوب ذلك باستعقاب كلّ عمل و إن قلّ للسؤال عنه، و مناقشة الحساب عليه حتّى عن البقاع. فيقال: لم استوطنتم هذا المكان و زهدتم في ذلك و عن‏ البهايم. فيقال: لم ضربتم هذه و قتلتم هذه و لم أوجعتموها، و إليه الإشارة بقوله تعالى «وَ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»«» و قوله «ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ»«» قيل: هو شبع البطن و بارد الشراب و لذّة النوم و ظلال المساكن و اعتدال الخلق، و قوله تعالى «وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ»«» فيقال: لم أشغلت قلبك و سمعك، و في الخبر الصحيح النبوىّ إنّ اللّه عذّب إنسانا بهرة حبسه في بيت و أجاعه حتّى هلك. ثمّ أجمل القول بعد تفصيله و أمر بطاعة اللّه و نهى عن معصيته و أرشده إلى الأخذ بالخير عند رؤيته و الإعراض عن الشرّ عن رؤيته.

شرح ‏نهج ‏البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 3 ، صفحه‏ى 321

 

خطبه 165شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام

القسم الأول

لِيَتَأَسَّ صَغِيرُكُمْ بِكَبِيرِكُمْ- وَ لْيَرْأَفْ كَبِيرُكُمْ بِصَغِيرِكُمْ- وَ لَا تَكُونُوا كَجُفَاةِ الْجَاهِلِيَّةِ- لَا فِي الدِّينِ يَتَفَقَّهُونَ وَ لَا عَنِ اللَّهِ يَعْقِلُونَ- كَقَيْضِ بَيْضٍ فِي أَدَاحٍ- يَكُونُ كَسْرُهَا وِزْراً وَ يُخْرِجُ حِضَانُهَا شَرّاً

اللغة

أقول: قيض البيض: كسره. تقول: قضت البيضة: كسرتها،

و انقاضت: تصدّعت من غير كسر، و تقّيضت: تكسّرت فلقا.

و الأداح: جمع ادحىّ افعول من الدحوو هو الموضع الّذي تفرخ فيه النعامة.

 

المعنى

و قد أمر عليه السّلام صغيرهم بالتأسّى بكبيرهم لأنّ الكبير أكثر تجربة و علما و أكيس و أحزم فكان بالقدوة أولى، و أمر كبيرهم أن يرؤف بصغيرهم لأنّ الصغير بمظنّة الضعف و أهل لأن يرحم و يعذر لقلّة عقليّته للامور، و إنّما بدء بأمر الصغير لأنّه أحوج إلى التأديب. و الغاية من هذا الأمر انتظام امورهم و حصول الفتهم بما أمرهم به. ثمّ نهاهم أن يشبهوا جفاة الجاهليّة في عدم تفقّههم في الدين و عدم عقليّتهم لأوامر اللّه فيشبهون إذن ببيض الأفاعي في أعشاشها، و وجه الشبه أنّها إن كسرها كاسر أثم لتأذّى الحيوان به، و قيل: لأنّه يظنّ القطا فيأثم كاسره و إن لم يكسر يخرج حضانها شرّا إذ تخرج أفعى قاتلا فكذلك هؤلاء إذا أشبهوا جفاة الجاهليّة لا يحلّ لأحد أذاهم و إهانتهم لحرمة ظاهر الإسلام عليهم و إن أهملوا و تركوا على ما هم عليه من الجهل و قلّة الأدب خرجوا شياطين. و باللّه التوفيق.

القسم الثاني و منه

افْتَرَقُوا بَعْدَ أُلْفَتِهِمْ وَ تَشَتَّتُوا عَنْ أَصْلِهِمْ- فَمِنْهُمْ آخِذٌ بِغُصْنٍ أَيْنَمَا مَالَ مَالَ مَعَهُ- عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَيَجْمَعُهُمْ لِشَرِّ يَوْمٍ لِبَنِي أُمَيَّةَ- كَمَا تَجْتَمِعُ قَزَعُ الْخَرِيفِ- يُؤَلِّفُ اللَّهُ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَجْمَعُهُمْ رُكَاماً كَرُكَامِ السَّحَابِ- ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ لَهُمْ أَبْوَاباً- يَسِيلُونَ مِنْ مُسْتَثَارِهِمْ كَسَيْلِ الْجَنَّتَيْنِ- حَيْثُ لَمْ تَسْلَمْ عَلَيْهِ قَارَةٌ- وَ لَمْ تَثْبُتْ عَلَيْهِ أَكَمَةٌ- وَ لَمْ يَرُدَّ سَنَنَهُ رَصُّ طَوْدٍ وَ لَا حِدَابُ أَرْضٍ- يُذَعْذِعُهُمُ اللَّهُ فِي بُطُونِ أَوْدِيَتِهِ- ثُمَّ يَسْلُكُهُمْ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ- يَأْخُذُ بِهِمْ مِنْ قَوْمٍ حُقُوقَ قَوْمٍ- وَ يُمَكِّنُ لِقَوْمٍ فِي دِيَارِ قَوْمٍ- وَ ايْمُ اللَّهِ لَيَذُوبَنَّ مَا فِي أَيْدِيهِمْ بَعْدَ الْعُلُوِّ وَ التَّمْكِينِ- كَمَا تَذُوبُ الْأَلْيَةُ عَلَى النَّارِ أَيُّهَا النَّاسُ لَوْ لَمْ تَتَخَاذَلُوا عَنْ نَصْرِ الْحَقِّ- وَ لَمْ تَهِنُوا عَنْ تَوْهِينِ الْبَاطِلِ لَمْ يَطْمَعْ فِيكُمْ مَنْ لَيْسَ مِثْلَكُمْ- وَ لَمْ يَقْوَ مَنْ قَوِيَ عَلَيْكُمْ- لَكِنَّكُمْ تِهْتُمْ مَتَاهَ بَنِي إِسْرَائِيلَ- وَ لَعَمْرِي لَيُضَعَّفَنَّ لَكُمُ التِّيهُ مِنْ بَعْدِي أَضْعَافاً- بِمَا خَلَّفْتُمُ الْحَقَّ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ- وَ قَطَعْتُمُ الْأَدْنَى وَ وَصَلْتُمُ الْأَبْعَدَ- وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِنِ اتَّبَعْتُمُ الدَّاعِيَ لَكُمْ- سَلَكَ بِكُمْ مِنْهَاجَ الرَّسُولِ وَ كُفِيتُمْ مَئُونَةَ الِاعْتِسَافِ- وَ نَبَذْتُمُ الثِّقْلَ الْفَادِحَ عَنِ الْأَعْنَاقِ

اللغة

أقول: القزع: قطع السحاب المتفرّقة.

و مستثارهم: موضع ثورانهم.

و القارّة: المستقرّ الثابت من الأرض.

و الأكمة: التلّ. و الحداب: جمع حدب و هو ما ارتفع من الأرض.

و الذعذعة بالذال المعجمة مرّتين: التفريق.

و تهنوا. تضعفوا.

و توهين الباطل: إضعافه.

و الفادح: المثقل.

المعنى

و الإشارة في هذا الفصل إلى أصحابه، و أصلهم الّذي تشتّتوا عنه هو عليه السّلام، و افتراقهم بعد الفتهم هو افتراقهم إلى خوارج و غيرهم بعد اجتماعهم عليه. و قوله: فمنهم آخذ بغصن. أى يكون منهم من يتمسّك بمن أخلفه بعدى من ذريّة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أينما سلك سلك معه كالشيعة، و تقدير الكلام: و منهم من ليس كذلك. إلّا أنّه استغنى بالقسم الأوّل لدلالته على الثاني. و قوله: على أنّ اللّه تعالى سيجمعهم. أى من كان على عقيدته فينا و من لم يكن لشرّ يوم لبني اميّة، و شبّه جمعه لهم و تأليفه بينهم بجمعه لقزع السحاب في الخريف لتراكمهم بذلك الجمع كتراكم ذلك القزع، و وجه الشبه الاجتماع بعد التفرّق. و الأبواب الّتي يفتحها لهم إشارة إمّا إلى وجوه الآراء الّتي تكون أسباب الغلبة و الانبعاث على الاجتماع أو أعمّ منها كساير الأسباب للغلبة من إعانة بعضهم لبعض بالأنفس و الأموال و غير ذلك، و استعار لخروجهم لفظ السيل، و شبّهه بسيل جنّتى مأرب و هما جنّتا سبأ المحكىّ عنها في القرآن الكريم «فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَ بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ»«» الآية، و وجه الشبه الشدّة في الخروج و إفساد ما يأتون إليه كقوّة ذلك السيل حيث لم يسلم عليه مرتفع من الأرض، و لم يردّ طريقه و جريه جبل مرصوص: أى شديد الالتصاق. ثمّ قال: يذعذعهم اللّه في بطون أوديته ثمّ يسلكهم ينابيع في الأرض، و هو من ألفاظ القرآن، و المراد كما أنّ اللّه ينزّل من السماء ماء فيكنّه في أعماق الأرض ثمّ يظهر منها ينابيع إلى ظاهرها كذلك هؤلاء القوم يفرّقهم اللّه في بطون الأودية و غوامض الأرض ثمّ يظهرهم بعد الاختفاء فيأخذ بهم من قوم حقوق آخرين، و يمكّن قوما من ملك قوم و ديارهم. ثمّ أقسم ليذوبنّ ما في أيدى بني اميّة بعد علوّهم و تمكّنهم كما تذوب الألية على النار، و وجه الشبه الفناء و الاضمحلال. و مصداق هذه الأخبار ما كان من أمر الشيعة الهاشميّة و اجتماعها على إزالة ملك بني اميّة من كان منهم ثابتا على ولاء عليّ و أهل بيته و من حاد منهم عن ذلك في أواخر أيّام مروان الحمار عند ظهور الدعوة الهاشميّة. ثمّ عاد إلى توبيخ السامعين بالإشارة إلى سبب الطمع فيهم ممّن دونهم في القوّة و المنزلة و قوّته عليهم، و الإشارة إلى معاوية و أصحابه، و ذلك السبب هو تخاذلهم عن نصرة الحقّ و تضاعفهم عن إضعاف الباطل، و هو في معرض التوبيخ و اللائمة لهم. ثمّ شبّه تيههم بمتاه بني إسرائيل، و وجه الشبه لحوق الضعف و المذلّة و المسكنة لهم حيث لم يجتمعوا على العمل بأوامر اللّه فرماهم بالتيه و ضرب عليهم الذلّة و المسكنة. ثمّ أخبرهم بعاقبة أمرهم في التخاذل، و هو إضعاف التيه و التفرّق بعده لالتفاتهم عن الحقّ و مقاطعة بعضهم له مع دنوّه و قربه من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و وصلهم لمعاوية و غيره مع بعده عنه. ثمّ أخذ في إرشادهم و جذبهم إلى اتّباعه. فقال: إنّ اتّبعتم الداعى- و عنى نفسه- سلك بكم منهاج الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و طريقه، و كفيتم مئونة الاعتساف في طرق الضلال، و ألقيتم ثقل الأوزار في الآخرة عن أعناق نفوسكم. و ظاهر كونهم فادحة. و يحتمل أن يريد بالثقل الفادح الأيّام مع ما يلحقهم في الدنيا من الخطوب الفادحة بسبب عصيان الأنام و الخروج عن أمره. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 315

خطبه 164شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام يذكر فيها عجيب خلقة الطاوس

القسم الأول

ابْتَدَعَهُمْ خَلْقاً عَجِيباً مِنْ حَيَوَانٍ وَ مَوَاتٍ- وَ سَاكِنٍ وَ ذِي حَرَكَاتٍ- وَ أَقَامَ مِنْ شَوَاهِدِ الْبَيِّنَاتِ عَلَى لَطِيفِ صَنْعَتِهِ- وَ عَظِيمِ قُدْرَتِهِ- مَا انْقَادَتْ لَهُ الْعُقُولُ مُعْتَرِفَةً بِهِ وَ مَسَلِّمَةً لَهُ- وَ نَعَقَتْ فِي أَسْمَاعِنَا دَلَائِلُهُ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ- وَ مَا ذَرَأَ مِنْ مُخْتَلِفِ صُوَرِ الْأَطْيَارِ- الَّتِي أَسْكَنَهَا أَخَادِيدَ الْأَرْضِ- وَ خُرُوقَ فِجَاجِهَا وَ رَوَاسِيَ أَعْلَامِهَا- مِنْ ذَاتِ أَجْنِحَةٍ مُخْتَلِفَةٍ وَ هَيْئَاتٍ مُتَبَايِنَةٍ- مُصَرَّفَةٍ فِي زِمَامِ التَّسْخِيرِ- وَ مُرَفْرِفَةٍ بِأَجْنِحَتِهَا فِي مَخَارِقِ الْجَوِّ الْمُنْفَسِحِ- وَ الْفَضَاءِ الْمُنْفَرِجِ- كَوَّنَهَا بَعْدَ إِذْ لَمْ تَكُنْ فِي عَجَائِبِ صُوَرٍ ظَاهِرَةٍ- وَ رَكَّبَهَا فِي حِقَاقِ مَفَاصِلَ مُحْتَجِبَةٍ- وَ مَنَعَ بَعْضَهَا بِعَبَالَةِ خَلْقِهِ أَنْ يَسْمُوَ فِي الْهَوَاءِ خُفُوفاً- وَ جَعَلَهُ يَدِفُّ دَفِيفاً- وَ نَسَقَهَا عَلَى اخْتِلَافِهَا فِي الْأَصَابِيغِ بِلَطِيفِ قُدْرَتِهِ- وَ دَقِيقِ صَنْعَتِهِ- فَمِنْهَا مَغْمُوسٌ فِي قَالَبِ لَوْنٍ لَا يَشُوبُهُ غَيْرُ لَوْنِ مَا غُمِسَ فِيهِ- وَ مِنْهَا مَغْمُوسٌ فِي لَوْنِ صِبْغٍ قَدْ طُوِّقَ بِخِلَافِ مَا صُبِغَ بِهِ وَ مِنْ أَعْجَبِهَا خَلْقاً الطَّاوُسُ- الَّذِي أَقَامَهُ فِي أَحْكَمِ تَعْدِيلٍ- وَ نَضَّدَ أَلْوَانَهُ فِي أَحْسَنِ تَنْضِيدٍ- بِجَنَاحٍ أَشْرَجَ قَصَبَهُ وَ ذَنَبٍ أَطَالَ مَسْحَبَهُ- إِذَا دَرَجَ إِلَى الْأُنْثَى نَشَرَهُ مِنْ طَيِّهِ- وَ سَمَا بِهِ مُطِلًّا عَلَى رَأْسِهِ- كَأَنَّهُ قِلْعُ دَارِيٍّ عَنَجَهُ نُوتِيُّهُ- يَخْتَالُ بِأَلْوَانِهِ وَ يَمِيسُ بِزَيَفَانِهِ- يُفْضِي كَإِفْضَاءِ الدِّيَكَةِ- وَ يَؤُرُّ بِمَلَاقِحِهِ أَرَّ الْفُحُولِ الْمُغْتَلِمَةِ لِلضِّرَابِ- أُحِيلُكَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مُعَايَنَةٍ- لَا كَمَنْ يُحِيلُ عَلَى ضَعِيفٍ إِسْنَادُهُ- وَ لَوْ كَانَ كَزَعْمِ مَنْ يَزْعُمُ- أَنَّهُ يُلْقِحُ بِدَمْعَةٍ تَسْفَحُهَا مَدَامِعُهُ- فَتَقِفُ فِي ضَفَّتَيْ جُفُونِهِ- وَ أَنَّ أُنْثَاهُ تَطْعَمُ ذَلِكَ- ثُمَّ تَبِيضُ لَا مِنْ لِقَاحِ فَحْلٍ سِوَى الدَّمْعِ الْمُنْبَجِسِ- لَمَا كَانَ ذَلِكَ بِأَعْجَبَ مِنْ مُطَاعَمَةِ الْغُرَابِ تَخَالُ قَصَبَهُ مَدَارِيَ مِنْ فِضَّةٍ- وَ مَا أُنْبِتَ عَلَيْهَا مِنْ عَجِيبِ دَارَاتِهِ- وَ شُمُوسِهِ خَالِصَ الْعِقْيَانِ وَ فِلَذَ الزَّبَرْجَدِ- فَإِنْ شَبَّهْتَهُ بِمَا أَنْبَتَتِ الْأَرْضُ- قُلْتَ جَنًى جُنِيَ مِنْ زَهْرَةِ كُلِّ رَبِيعٍ- وَ إِنْ ضَاهَيْتَهُ بِالْمَلَابِسِ فَهُوَ كَمَوْشِيِّ الْحُلَلِ- أَوْ كَمُونِقِ عَصْبِ الْيَمَنِ- وَ إِنْ شَاكَلْتَهُ بِالْحُلِيِّ فَهُوَ كَفُصُوصٍ ذَاتِ أَلْوَانٍ- قَدْ نُطِّقَتْ بِاللُّجَيْنِ الْمُكَلَّلِ- يَمْشِي مَشْيَ الْمَرِحِ الْمُخْتَالِ وَ يَتَصَفَّحُ ذَنَبَهُ وَ جَنَاحَيْهِ فَيُقَهْقِهُ ضَاحِكاً لِجَمَالِ سِرْبَالِهِ وَ أَصَابِيغِ وِشَاحِهِ- فَإِذَا رَمَى بِبَصَرِهِ إِلَى قَوَائِمِهِ- زَقَا مُعْوِلًا بِصَوْتٍ يَكَادُ يُبِينُ عَنِ اسْتِغَاثَتِهِ- وَ يَشْهَدُ بِصَادِقِ تَوَجُّعِهِ- لِأَنَّ قَوَائِمَهُ حُمْشٌ كَقَوَائِمِ الدِّيَكَةِ الْخِلَاسِيَّةِ وَ قَدْ نَجَمَتْ مِنْ ظُنْبُوبِ سَاقِهِ صِيصِيَةٌ خَفِيَّةٌ- وَ لَهُ فِي مَوْضِعِ الْعُرْفِ قُنْزُعَةٌ خَضْرَاءُ مُوَشَّاةٌ- وَ مَخْرَجُ عَنُقِهِ كَالْإِبْرِيقِ- وَ مَغْرِزُهَا إِلَى حَيْثُ بَطْنُهُ كَصِبْغِ الْوَسِمَةِ الْيَمَانِيَّةِ- أَوْ كَحَرِيرَةٍ مُلْبَسَةٍ مِرْآةً ذَاتَ صِقَالٍ- وَ كَأَنَّهُ مُتَلَفِّعٌ بِمِعْجَرٍ أَسْحَمَ- إِلَّا أَنَّهُ يُخَيَّلُ لِكَثْرَةِ مَائِهِ وَ شِدَّةِ بَرِيقِهِ- أَنَّ الْخُضْرَةَ النَّاضِرَةَ مُمْتَزِجَةٌ بِهِ- وَ مَعَ فَتْقِ سَمْعِهِ خَطٌّ كَمُسْتَدَقِّ الْقَلَمِ فِي لَوْنِ الْأُقْحُوَانِ- أَبْيَضُ يَقَقٌ فَهُوَ بِبَيَاضِهِ فِي سَوَادِ مَا هُنَالِكَ يَأْتَلِقُ- وَ قَلَّ صِبْغٌ إِلَّا وَ قَدْ أَخَذَ مِنْهُ بِقِسْطٍ- وَ عَلَاهُ بِكَثْرَةِ صِقَالِهِ وَ بَرِيقِهِ- وَ بَصِيصِ دِيبَاجِهِ وَ رَوْنَقِهِ- فَهُوَ كَالْأَزَاهِيرِ الْمَبْثُوثَةِ لَمْ تُرَبِّهَا أَمْطَارُ رَبِيعٍ- وَ لَا شُمُوسُ قَيْظٍ وَ قَدْ يَنْحَسِرُ مِنْ رِيشِهِ وَ يَعْرَى مِنْ لِبَاسِهِ- فَيَسْقُطُ تَتْرَى وَ يَنْبُتُ تِبَاعاً- فَيَنْحَتُّ مِنْ قَصَبِهِ انْحِتَاتَ أَوْرَاقِ الْأَغْصَانِ- ثُمَّ يَتَلَاحَقُ نَامِياً حَتَّى يَعُودَ كَهَيْئَتِهِ قَبْلَ سُقُوطِهِ- لَا يُخَالِفُ سَالِفَ أَلْوَانِهِ- وَ لَا يَقَعُ لَوْنٌ فِي غَيْرِ مَكَانِهِ- وَ إِذَا تَصَفَّحْتَ شَعْرَةً مِنْ شَعَرَاتِ قَصَبِهِ- أَرَتْكَ‏ حُمْرَةً وَرْدِيَّةً وَ تَارَةً خُضْرَةً زَبَرْجَدِيَّةً- وَ أَحْيَاناً صُفْرَةً عَسْجَدِيَّةً- فَكَيْفَ تَصِلُ إِلَى صِفَةِ هَذَا عَمَائِقُ الْفِطَنِ- أَوْ تَبْلُغُهُ قَرَائِحُ الْعُقُولِ- أَوْ تَسْتَنْظِمُ وَصْفَهُ أَقْوَالُ الْوَاصِفِينَ- وَ أَقَلُّ أَجْزَائِهِ قَدْ أَعْجَزَ الْأَوْهَامَ أَنْ تُدْرِكَهُ- وَ الْأَلْسِنَةَ أَنْ تَصِفَهُ- فَسُبْحَانَ الَّذِي بَهَرَ الْعُقُولَ عَنْ وَصْفِ خَلْقٍ جَلَّاهُ لِلْعُيُونِ- فَأَدْرَكَتْهُ مَحْدُوداً مُكَوَّناً وَ مُؤَلَّفاً مُلَوَّناً- وَ أَعْجَزَ الْأَلْسُنَ عَنْ تَلْخِيصِ صِفَتِهِ- وَ قَعَدَ بِهَا عَنْ تَأْدِيَةِ نَعْتِهِ وَ سُبْحَانَ مَنْ أَدْمَجَ قَوَائِمَ الذَّرَّةِ- وَ الْهَمَجَةِ إِلَى مَا فَوْقَهُا مِنْ خَلْقِ الْحِيتَانِ وَ الْفِيَلَةِ- وَ وَأَى عَلَى نَفْسِهِ أَلَّا يَضْطَرِبَ شَبَحٌ مِمَّا أَوْلَجَ فِيهِ الرُّوحَ- إِلَّا وَ جَعَلَ الْحِمَامَ مَوْعِدَهُ وَ الْفَنَاءَ غَايَتَهُ

اللغة

أقول: نعقت: صاحت.

و الأخاديد: شقوق الأرض و شعابها.

و الفجاج: جمع فجّ.

و هي الطريق بين الجبلين: و العبالة: امتلاء الجسد.

و نسقها: نظمها.

و يختال: يصيبه الخيلاء.

و زيفانه: تمايله و تبختره.

و الأرّ: النكاح و الحركة فيه.

و ملافحه: آلات اللقاح و أعضاء التناسل.

و الاغتلام: شدّة الشبق.

و القلع الداريّ: الشراع المنسوب إلى دارين، و هي جزيرة من سواحل القطيف من بلاد البحرين يقال: إنّ الطيب كان يجلب إليها من الهند، و هي الآن خراب لا عمارة بها و لا سكنى، و فيها آثار قديمة.

و عنجه: عطفه.

و النوتىّ: ربّان السفينة.

و ضفّتى جفونه: جانباها.

و المنبجس: المنفجر.

و المدارى: جمع مدرى، و هي خشبة ذات أطراف كأصابع الكفّ محدّدة الرءوس ينقى بها الطعام.

و داراته: الخطوط المستديرة بقصبه.

و العقيان: الذهب.

و فلذ: جمع فلذة، و هي القطعة.

و الزبرجد: قيل: هو الزمرّد،

و قيل: يطلق على البلخش.

و الجنىّ: فعيل بمعنى المجنّى،

و هو الملتقط. و العصب: برود تعمل باليمن.

و المضاهاة: المشابهة.

و الحمش:الدقاق.

و نطّقت باللجين: أى شدّت فيه و رصّعت.

و الوشاح: سير ينسج من أديم و يرصّع بالجواهر فتجعله المرأة على عاتقها إلى كشحيها.

و زقا: صاح.

و المعول: الصارخ.

و الديكة الخلاسيّة: هي المتولّدة بين الدجاج الهنديّ و الفارسىّ.

و نجمت: ظهرت.

و الظنبوب: حرف الساق.

و الصيصية: الهنة الّتي في مؤخّر رجل الديك.

و القنزعة: الشعر المجتمع في موضع من الرأس.

و الوسمة بكسر السين و سكونها: شجر العظلم يخضب به.

و الأسحم: الأسود. التلفّع: التلحّف.

و اليقق: خالص البياض.

و يأتلق: يلمع. و البصيص: البريق.

و تترى: تسقط منها شي‏ء عقيب شي‏ء.

و أدمجه: أحكمه. و الذرّة: النملة الصغيرة.

و الهمجة: ذبابة صغيرة كالبعوضة.

و مقصود الخطبة التنبيه على عجائب صنع اللّه لغاية الالتفات إليه و التفكّر في ملكوته و قد عرفت معنى الابتداع. و أراد بالموات ما لا حياة له، و الساكن كالأرض، و ذو الحركات كالأفلاك و شاهد [شواهد خ‏] البيّنات ما ظهر للعقول من لطائف المخلوقات فاستدّلت بها على لطف صنعته و كمال قدرته فانقادت لتلك الدلائل و الطرق الواضحة إلى معرفته و الإقرار به و التسليم لأمره، و استعار لفظ نعيق في الأسماع لظهور تلك الدلائل في صماخ العقل، و ما الاولى مفعول لأقام، و الضمير في له يرجع إلى ما، و في به و له الثانية إلى اللّه، و في دلائله يحتمل العود إلى كلّ واحد منهما، و ما الثانية محلّها الجرّ بالعطف على الضمير المضاف إليه في دلائله: أى نعقت في أسماعنا دلائله على وحدانيّته و دلائل ما خلق، و قد عرفت فيما سبق كيفية الاستدلال بكثرة ما خلق و اختلافه فى وحدانيته و الأطيار التي أسكنها أخاديد الأرض كالقطاة و الصدى، و الّتي أسكنها خروق فجاجها كالقبج، و الّتي أسكنها رءوس الجبال كالعقبان و الصقور. ثمّ أخذ يصف اختلافها بالأجنحة في هيئاتها و كيفيّات خلقها تحت تصريف قدرته و حكمته. ثمّ أشار إلى اعتبار تكوينها و إحداثها في عجائب صورها و ألوانها و تركيب خلقها في عبل الجثّة تمنع سمّوه في الهواء كالنعام. ثمّ نبّه على لطيف حكمته في تنسيقها مختلفة الألوان‏ و الأصباغ فمنها مغموس في قالب لون واحد قد طوّق بخلاف ما صبغ به كالفواخت، و شرع في التنبيه بحال الطاوس على لطف الصنع لاشتماله على جميع الألوان، و كفى بوصفه عليه السّلام شارحا فإنّه لا أبلغ منه و لا أجمع لتفاصيل الحكمة الموجودة في هذا الموصوف غير أنّه قد يحتاج بعض ألفاظه عليه السّلام إلى بيان.

فأراد بقصبه قصب ريش ذنبه و جناحيه و إشراجها ضبط اصولها بالأعصاب و العظام و شرج بعضها لبعض، و وصفه عليه السّلام لهيئة درجه إلى الانثى حال إرادة السفاد وصف من شاهد و استثبت الهيئة و أحسن بتشبيهه لذنبه عند إرادة السفاد بالقلع الدارىّ فإنّه في تلك الحالة يبسط ريشه و ينشره. ثمّ يرفعه و ينصبه فيصير كهيئة الشراع المرفوع، و وجه التشبيه زيادة على ذلك أشار إليها بقوله: عنجه نوتيّه، و ذلك أنّ الملّاحين يصرفون الشراع تارة بالجذب، و تارة بالإرخاء، و تارة بتحويله يمينا و شمالا و ذلك بحسب انصرافهم من بعض الجهات إلى بعض فأشبههم هذا الطائر عند حركته لإرادة السفاد و زيفانه في تصريف ذنبه و تحويله، و له في ذلك هيئة لا يستثبت وجه الشبه فيها كما هو إلّا من شاهدها مع مشاهدة المشبّه به، و لذلك قال: احيلك من ذلك على معاينة لا كمن يحيلك على ضعيف إسناده. و إنّما خصّ دارين بالذكر لأنّها كانت المرسى القديم في زمانه عليه السّلام حيث كانت معمورة. و قوله: و لو كان كزعم من يزعم. إلى قوله: المنبجس. أى لو كان حاله في النكاح كزعم من يزعم، و هو إشارة إلى زعم قوم أنّ الذكر تدمع عينه فتقف الدمعة بين أجفانه فتأتى الانثى فتطعمها فتلقح من تلك الدمعة، و روي تنجشها مدامعه: أى تغصّ بها و تحار فيها، و هو عليه السّلام لم يحل ذلك، و إنّما قال: ليس ذلك بأعجب من مطاعمة الغراب، و العرب تزعم أنّ الغراب لا يسفد. و من أمثالهم أخفى من سفاد الغراب، و يزعمون أنّ اللقاح من مطاعمة الذكر و الانثى و إيصال جزء من الماء الّذي فيه في قانصته إليها و هي أن يضع كلّ منهما منقاره في منقار صاحبه و يتزاقّا و ذلك مقدّمة للسفاد في كثير من الطير كالحمام و غيره، و هذا و إن كان ممكنا في بعض الطير كالطاووس و الغراب 310 غير أنّ ذلك بعيد.

على أنّه قد نقل الشيخ في الشفاء أنّ القبجة تحبلها ريح تهبّ من ناحية الحجل و من سماع صوته، قال: و النوع المسمّى مالاقيا يتلاصق بأفواهها ثمّ يتشابك فذلك سفادها، و نقل الجاحظ في كتاب الحيوان أنّ الطاوسة قد تبيض من الريح بأن تكون في سفالة الريح و فوقها الذكر فتحمل ريحه فتبيض منها.

قال: و بيض الريح قلّ أن يفرخ. و أقول: قد يوجد في الدجاج ذلك إلّا أنّه قلّ ما يفرخ كما ذكره. ثمّ شبّه عليه السّلام قصب ذنبه بالمدارى من الفضّة، و من شاهد صورة قيام ذنبه مع بياض اصول ريشه و تفرّقها عند نشره للسفاد عرف موضع التشبيه المذكور و وقوعه موقعه، و كذلك شبّه الخطوط الصفرة المستديرة على رءوس ريش الذنب بخالص العقيان في الصفرة الفاقعة مع ما يعلوها من البريق، و ما في وسط تلك الدارات من الدوائر الخضر بقطع الزبرجد في الخضرة، و استعار لها لفظ الشموس ملاحظة لمشابهتها لها في الاستدارة و الاستنارة. ثمّ قال: و إن شبّهته بما أنبتت الأرض. إلى قوله: كلّ ربيع، و وجه الشبه اجتماع الألوان مع نضارتها و بهجتها. و كذلك وجه الشبه في تشبيهه بموشىّ الحلل أو المعجب من برود اليمين، و كذلك إن شاكلته بالحلىّ، و وجه شبهه بالفصوص المختلفة الألوان المنطّقة في الفضّة: أى المرصّعة في صفائح الفضّة و المكلّل الّذي جعل كالإكليل بذلك الترصيع. ثمّ حكى صورة مشيته و صوته كالقهقهة عند نظره إلى حسن سرباله و إعجابه بجمال كسوته، و لفظ الضحك و القهقهة و السربال مستعار و كذلك حاله في نظره إلى قوائمه فإنّه يصيح كالمتوجّع من قبح ساقيه و دقّتها و يخضع و ينقمع بعد تعظّمه و نفخه لنفسه، و وجه تشبيه قوائمه بقوائم الديكة الخلاسيّة الدقّة و الطول و التشظّى و نتوّ العرقوب. ثمّ أخذ في وصف صيصيته و قنزعته و هي رويشات يسيرة طوال في مؤخّر رأسه نحو الثلث بارزة عن ريش رأسه خضر موشّاة. ثمّ أخذ في وصف عنقه، و شبّه مخرجه بالإبريق و وجه الشبه الهيئة المعلومة بالمشابهة و كذلك مغرزه من رأسه إلى حيث بطنه يشبه في لونه صبغ الوسمة في السواد المشرق أو الحريرة السوداء الملبسة مرآة ذات صقال في سرابها و مخالطة بصيص المرآة لها أو المعجر الأسود إلّا أنّ ذلك السواد لكثرة مائه و شدّة بريقه يخيّل للناظر أنّه ممتزج بخضرة ناضرة. ثمّ وصف الخلط الأبيض عند محلّ سمعه، و شبّهه في دقّته و استوائه بخطّ القلم الدقيق، و في بياضه بلون الاقحوان. ثمّ أجمل في تعديد الألوان فقال: و قلّ صبغ إلّا و قد أخذ منه بقسط و علاه: أى و زاد على الصبغ بكثرة صقاله و بريقه و بصيص ديباجه، و لفظ الديباج مستعار لريشه. ثمّ رجع إلى تشبيهه بالأزاهير المبثوثة، و نبّه على كمال قدرة صانعها بأنّها مع ذلك لم تربّها أمطار الربيع: أى لم تعدّها لتلك الألوان أمطار ربيع و لا شموس قيظ لأنّه لمّا خيّل أنّها أزاهير و كان من شأن الأزاهير المختلفة أنّها لا تتكوّن إلّا في زمن الربيع بإمطاره و حرارة الشمس المعدّة لتنويره أراد أن يبيّن عظمة صانعها بأنّها مع كونها أزاهير خلقها بغير مطر و لا شمس. ثمّ أخبر عن حالة له اخرى هي محلّ الاعتبار في حكمة الصانع و قدرته، و هو أنّه يتحسّر و يعرى من ذلك الريش الحسن شيئا بعد شي‏ء، ثمّ ينبت جميعا كلّ ريشه موضع ريشة بلونها الأوّل من غير زيادة أو نقصان حتّى كأنّها هي، و شبّهه في سقوطه و نباته بتحاتّ أوراق الشجر من الأغصان و نباتها. ثمّ نبّه على وجود حكمة الصانع في الشعرة الواحدة من شعرات ريشه بأنّك إذا تأمّلتها أرتك من شفافيّتها و شدّة بصيصها تارة حمرة كحمرة الورد، و تارة خضرة كخضرة الزبرجد. و تارة صفرة كصفرة الذهب. ثمّ عقّب ذلك الوصف البليغ باستبعاد وصول الفطن العميقة إلى صفة هذا، و أراد العجز عن وصف علل هذه الألوان و اختلافها و اختصاص كلّ من مواضعها بلون غير الآخر، و علل هيئاتها و ساير ما عدّده فإنّ أقلّ جزء منه ممّا يتحيّر الأوهام في درك علّته و تقصر الألسن عن وصفه، و يحتمل أن يريد العجز عن استثبات جزئيّات أوصافه الظاهرة و تشريحه فإنّ ما ذكره عليه السّلام و إن كان في غاية البلاغة إلّا أنّ فيه وراء ذلك جزئيّات لم يستثبتها الوصف. و هو الأقرب، و يؤيّده تنزيهه للّه تعالى باعتبار قهره للعقول عن وصف هذا المخلوق الّذي جلّاه و أظهره للعيون فأدركته محدودا ملوّنا و مؤلّفا مكوّنا و أعجز الألسن عن تلخيص وصفه و تأدية نعته. ثم نزّهه باعتبار أمر آخر و هو إحكامه قوائم الذرّة و الهمجة و سائر ما فوقها كالحيتان و كبار حيوان البرّ كالفيلة. ثمّ باعتبار حكمه و تقديره على كلّ حيّ منها ضرورة الموت، و فيه تنبيه على ذكر هادم اللذّات. و اعلم أنّه قد ذكرت للطاوس أحوال اخرى تخصّه أكثرها قالوا: إنّه غاية ما يعيش خمسا و عشرين سنة، و تبيض في السنة الثالثة من عمره، و تبيض في السنة مرّة واحدة اثنتى عشرة بيضة في ثلاثة أيّام، و يحضنها ثلاثين يوما فتفرخ، و تحتّ ريشه عند سقوط ورق الشجر و ينبت مع ابتداء نبات ورقه

القسم الثاني منها في صفة الجنة:

فَلَوْ رَمَيْتَ بِبَصَرِ قَلْبِكَ نَحْوَ مَا يُوصَفُ لَكَ مِنْهَا- لَعَزَفَتْ نَفْسُكَ عَنْ بَدَائِعِ مَا أُخْرِجَ إِلَى الدُّنْيَا- مِنْ شَهَوَاتِهَا وَ لَذَّاتِهَا وَ زَخَارِفِ مَنَاظِرِهَا- وَ لَذَهِلَتْ بِالْفِكْرِ فِي اصْطِفَافِ أَشْجَارٍ- غُيِّبَتْ عُرُوقُهَا فِي كُثْبَانِ الْمِسْكِ عَلَى سَوَاحِلِ أَنْهَارِهَا- وَ فِي تَعْلِيقِ كَبَائِسِ اللُّؤْلُؤِ الرَّطْبِ فِي عَسَالِيجِهَا وَ أَفْنَانِهَا- وَ طُلُوعِ تِلْكَ الثِّمَارِ مُخْتَلِفَةً فِي غُلُفِ أَكْمَامِهَا- تُجْنَى مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفٍ فَتَأْتِي عَلَى مُنْيَةِ مُجْتَنِيهَا- وَ يُطَافُ عَلَى نُزَّالِهَا فِي أَفْنِيَةِ قُصُورِهَا- بِالْأَعْسَالِ الْمُصَفَّقَةِ وَ الْخُمُورِ الْمُرَوَّقَةِ- قَوْمٌ لَمْ تَزَلِ الْكَرَامَةُ تَتَمَادَى بِهِمْ- حَتَّى حَلُّوا دَارَ الْقَرَارِ وَ أَمِنُوا نُقْلَةَ الْأَسْفَارِ- فَلَوْ شَغَلْتَ قَلْبَكَ أَيُّهَا الْمُسْتَمِعُ- بِالْوُصُولِ إِلَى مَا يَهْجُمُ عَلَيْكَ مِنْ تِلْكَ الْمَنَاظِرِ الْمُونِقَةِ- لَزَهِقَتْ نَفْسُكَ شَوْقاً إِلَيْهَا- وَ لَتَحَمَّلْتَ مِنْ مَجْلِسِي هَذَا- إِلَى مُجَاوَرَةِ أَهْلِ الْقُبُورِ اسْتِعْجَالًا بِهَا- جَعَلَنَا اللَّهُ وَ إِيَّاكُمْ مِمَّنْ يَسْعَى‏ بِقَلْبِهِ- إِلَى مَنَازِلِ الْأَبْرَارِ بِرَحْمَتِهِ

اللغة
أقول: عزفت: زهدت و انصرفت.

و الكبايس: جمع كباسة و هي العذق.

و العساليج: الغصون واحدها عسلوج، و كذلك الأفنان جمع فنن.

و الأكمام جمع كمامة بكسر الكاف: و هي غلاف الطلع.

و العسل المصفّق: المصفىّ.

المعنى

و قوله: فلو رميت ببصر قلبك. استعارة لطيفة: أى لو نظرت بعين بصيرتك و فكرت في معنى ما وصف لك من متاع الجنّة لم تجد لشي‏ء من بدائع ما اخرج إلى الدنيا من متاعها إلى شي‏ء من متاع الجنّة إلّا نسبة و هميّة، إذا لا حظتها نفسك عزفت و أعرضت عن متاع الدنيا و ما يعدّ فيها لذّة، و غابت بفكرها في اصطفاق الأشجار الموصوفة فيها و تمايل أغصانها. ثمّ وصف أشجارها و أنهارها و ساير ما عدّده من متاع الجنّة وصفا لا مزيد عليه. فهذه هي الجنّة المحسوسة الموعودة، و أنت بعد معرفتك بقواعد التأويل و حقايق ألفاظ العرب و مجازاتها و استعاراتها و تشبيهاتها و تمثيلاتها و ساير ما عدّدناه لك في صدر الكتاب من قواعد علم البيان، و كان لك مع ذلك ذوق طرف من العلم الإلهىّ أمكنك أن تجعل هذه الجنّة المحسوسة سلّما و مثالا لتعقّل الجنّة المعقولة و متاعها كتأويلك مثلا أشجار الجنّة استعارة للملائكة السماويّة و الاصطفاق ترشيح تلك الاستعارة، و كثبان المسك استعارة للمعارف و الكمالات الّتي لهم من واهب الجود و هم مغمورون فيها و قد وجدوا لها و منها كما تنبت الأشجار في الكثبان، و لفظ الأنهار استعارة للملائكة المجرّدين عن التعلّق بالأجرام الفلكيّة باعتبار كون هذه الملائكة اصولا و مبادى للملائكة السماويّة كما أنّ الأنهار مبادى ممدّة لحياة الأشجار و أسباب لوجودها، و اللؤلؤ الرطب و الثمار استعارة لما يفيض من تلك الأرواح من العلوم و الكمالات على النفوس القابلة لها من غير بخل و لا منع.

فهي ثمارها تأتى على منية مجتنيها بحسب استعداده لكلّ منها. و القوّة المتخيّلة تحكى تلك الإفاضات في هذه العبارات و الظواهر المحسوسة المعدودة و تكسوها 314 صورة ما هو مشتهى للمتخيّل كلّ بحسب شهوته. و لذلك كان في الجنّة كلّ ما تشتهى الأنفس و تلذّ الأعين و يتأهّل لحضوره فيحضر لها عند إرادتها إيّاه، و كذلك لفظ العسل و الخمر استعارة لتلك الإفاضات المشتهات الملذّة للنفس بحسب محاكاة المتخيّلة لها في صورة هذا المشروب المحسوس المشتهى لبعض النفوس فتصوّره بصورته. و قوله: ثمّ قوم لم تزل الكرامة. إلى قوله: الأسفار. استعار لفظ التمادى الّذي هو من أفعال العقلاء لتأخّر الكرامة عنهم و انتظارهم لها في الدنيا إلى غاية حلولهم دار القرار و حصول الكرامة لهم هناك و أمنهم من نقلة الأسفار. ثمّ عقّب بتشويق المستمع إلى ما هناك.

و قوله: فلو شغلت قلبك. أى أخذت في إعداد نفسك الوصول إلى ما يهجم عليك: أى يفاض عليك من تلك الصور البهيّة المعجبة لزهقت نفسك: أى متّ شوقا إليها، و رحلت إلى مجاورة أهل القبور استعجالا لقربهم إلى ما يشتاق إليه. ثمّ ختم الخطبة بالدعاء لنفسه و للسامعين أن يعدّهم اللّه تعالى لسلوك سبيله و قطع منازل طريقه الموصلة إلى منازل الأبرار و هي درجات الجنّة و مقاماتها. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 305

خطبه 163شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام

لما اجتمع الناس عليه و شكوا مما نقموه على عثمان، و سالوه مخاطبته عنهم و استعتابه لهم، فدخل عليه فقال:-

إِنَّ النَّاسَ وَرَائِي- وَ قَدِ اسْتَسْفَرُونِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُمْ- وَ وَ اللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَكَ- مَا أَعْرِفُ شَيْئاً تَجْهَلُهُ- وَ لَا أَدُلُّكَ عَلَى أَمْرٍ لَا تَعْرِفُهُ- إِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نَعْلَمُ- مَا سَبَقْنَاكَ إِلَى شَيْ‏ءٍ فَنُخْبِرَكَ عَنْهُ- وَ لَا خَلَوْنَا بِشَيْ‏ءٍ فَنُبَلِّغَكَهُ- وَ قَدْ رَأَيْتَ كَمَا رَأَيْنَا وَ سَمِعْتَ كَمَا سَمِعْنَا- وَ صَحِبْتَ رَسُولَ اللَّهِ ص كَمَا صَحِبْنَا- وَ مَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ- وَ لَا ابْنُ الْخَطَّابِ بِأَوْلَى بِعَمَلِ الْخَيْرِ مِنْكَ- وَ أَنْتَ أَقْرَبُ إِلَى أَبِي رَسُولِ اللَّهِ ص وَشِيجَةَ رَحِمٍ مِنْهُمَا- وَ قَدْ نِلْتَ مِنْ صِهْرِهِ مَا لَمْ يَنَالَا فَاللَّهَ اللَّهَ فِي نَفْسِكَ- فَإِنَّكَ وَ اللَّهِ مَا تُبَصَّرُ مِنْ عَمًى- وَ لَا تُعَلَّمُ مِنْ جَهْلٍ- وَ إِنَّ الطُّرُقَ لَوَاضِحَةٌ وَ إِنَّ أَعْلَامَ الدِّينِ لَقَائِمَةٌ- فَاعْلَمْ أَنَّ أَفْضَلَ عِبَادِ اللَّهِ عِنْدَ اللَّهِ إِمَامٌ عَادِلٌ- هُدِيَ وَ هَدَى فَأَقَامَ سُنَّةً مَعْلُومَةً- وَ أَمَاتَ بِدْعَةً مَجْهُولَةً- وَ إِنَّ السُّنَنَ لَنَيِّرَةٌ لَهَا أَعْلَامٌ- وَ إِنَّ الْبِدَعَ لَظَاهِرَةٌ لَهَا أَعْلَامٌ- وَ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ إِمَامٌ جَائِرٌ ضَلَّ وَ ضُلَّ بِهِ- فَأَمَاتَ سُنَّةً مَأْخُوذَةً وَ أَحْيَا بِدْعَةً مَتْرُوكَةً- وَ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص يَقُولُ- يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْإِمَامِ الْجَائِرِ- وَ لَيْسَ مَعَهُ نَصِيرٌ وَ لَا عَاذِرٌ- فَيُلْقَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيَدُورُ فِيهَا كَمَا تَدُورُ الرَّحَى- ثُمَّ يَرْتَبِطُ فِي قَعْرِهَا- وَ إِنِّي أَنْشُدُكَ اللَّهَ أَنْ تَكُونَ إِمَامَ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَقْتُولَ- فَإِنَّهُ كَانَ يُقَالُ- يُقْتَلُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ إِمَامٌ يَفْتَحُ عَلَيْهَا الْقَتْلَ- وَ الْقِتَالَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ- وَ يَلْبِسُ أُمُورَهَا عَلَيْهَا وَ يَبُثُّ الْفِتَنَ فِيهَا- فَلَا يُبْصِرُونَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ- يَمُوجُونَ فِيهَا مَوْجاً وَ يَمْرُجُونَ فِيهَا مَرْجاً- فَلَا تَكُونَنَّ لِمَرْوَانَ سَيِّقَةً يَسُوقُكَ حَيْثُ شَاءَ بَعْدَ جَلَالِ السِّنِّ- وَ تَقَضِّي الْعُمُرِ فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كَلِّمِ النَّاسَ فِي أَنْ يُؤَجِّلُونِي- حَتَّى أَخْرُجَ إِلَيْهِمْ مِنْ مَظَالِمِهِمْ- فَقَالَ ع مَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَلَا أَجَلَ فِيهِ- وَ مَا غَابَ فَأَجَلُهُ وُصُولُ أَمْرِكَ إِلَيْهِ

اللغة

أقول: استسفروني: اتّخذوني سفيرا: أى رسولا.

و الوشيجة: عروق الشجرة.

و السيقة بتشديد الياء: ما يسوقه العدوّ في الغارة من الدوابّ. و جلال السنّ: علوّه.
و حاصل الكلام استعتابه بالليّن من القول.
فأثبت له منزلته من العلم: أى بأحكام الشريعة و السنن المتداولة بينهم في زمان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الظهور على كلّ ما ظهر عليه منها من مرئىّ و مسموع و الصحبة المماثلة لصحبته، و ذكر أنّ الشيخين ليسا بأولى منه بعمل الحقّ. ثمّ فخّمه عليهما بقرب الوشيجة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الصهورة من دونهما، و لفظ الوشيجة مستعار لما بينه و بينهم من القرابة.
فأمّا كونه أقرب وشيجة منهما فلكونه من ولد عبد مناف دونهما. ثمّ حذّره اللّه و عقّب التحذير بتنبيهه على أنّه غير محتاج إلى تعليم فيما يراد منه مع وضوح طريق الشريعة و قيام أعلام الدين. ثمّ تنبيهه على أفضليّة الإمام العادل بالصفات المذكورة، و على قيام أعلام السنن، و على قيام أعلام البدع ليقتدى بتلك و ينكب عن هذه. ثمّ على حال الإمام الجاير يوم القيامة بما نقل من الخبر عن سيّد البشر صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. ثمّ ناشده اللّه تعالى محذّرا له أن يكون الإمام المقتول في هذه الامّة و قد كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخبر بذلك بهذه العبارة الّتي نقلها بعد قوله: يقال. أو بما يناسبها. ثمّ نهاه أن يكون سيّقة لمروان بن الحكم: أى بصرفه حسب مقاصده بعد بلوغه معظم 304 السنّ و تقضّى العمر. و قد كان مروان من أقوى الأسباب الباعثة على قتل عثمان، و كان يعكس الآراء الّتي يشار على عثمان بها من عليّ عليه السّلام و غيره [يشار بها بين علىّ و غيره خ‏] مع كونه بغيظا إلى المعتبرين من الصحابة و كونه طريد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قوله في جوابه: ما كان بالمدينة فلا أجل فيه. إلى آخره. كلام جزل حاسم لما عساه يكون مماطلة من طلب التأجيل لأنّ الحاضر لا معنى لتأجيله، و الغائب لا عذر في تأخيره بعد بلوغ أمره إليك كالّذي أعطاه أقربائه من أموال بيت المال على غير وجهه. و قد سبق في الفصول المتقدّمة من أمر عثمان مع الصحابة و ما نقموه عليه ما فيه كفاية. و باللّه التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحرانی)، ج 3 ، صفحه‏ى 302

خطبه 162شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

القسم الأول

الْحَمْدُ لِلَّهِ خَالِقِ الْعِبَادِ وَ سَاطِحِ الْمِهَادِ- وَ مُسِيلِ الْوِهَادِ وَ مُخْصِبِ النِّجَادِ- لَيْسَ لِأَوَّلِيَّتِهِ ابْتِدَاءٌ وَ لَا لِأَزَلِيَّتِهِ انْقِضَاءٌ- هُوَ الْأَوَّلُ وَ لَمْ يَزَلْ وَ الْبَاقِي بِلَا أَجَلٍ- خَرَّتْ لَهُ الْجِبَاهُ وَ وَحَّدَتْهُ الشِّفَاهُ- حَدَّ الْأَشْيَاءَ عِنْدَ خَلْقِهِ لَهَا إِبَانَةً لَهُ مِنْ شَبَهِهَا- لَا تُقَدِّرُهُ الْأَوْهَامُ بِالْحُدُودِ وَ الْحَرَكَاتِ- وَ لَا بِالْجَوَارِحِ وَ الْأَدَوَاتِ لَا يُقَالُ لَهُ مَتَى- وَ لَا يُضْرَبُ لَهُ أَمَدٌ بِحَتَّى- الظَّاهِرُ لَا يُقَالُ مِمَّ وَ الْبَاطِنُ لَا يُقَالُ فِيمَ- لَا شَبَحٌ فَيُتَقَصَّى وَ لَا مَحْجُوبٌ فَيُحْوَى- لَمْ يَقْرُبْ مِنَ الْأَشْيَاءِ بِالْتِصَاقٍ- وَ لَمْ يَبْعُدْ عَنْهَا بِافْتِرَاقٍ- وَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ عِبَادِهِ شُخُوصُ لَحْظَةٍ- وَ لَا كُرُورُ لَفْظَةٍ وَ لَا ازْدِلَافُ رَبْوَةٍ- وَ لَا انْبِسَاطُ خُطْوَةٍ فِي لَيْلٍ دَاجٍ- وَ لَا غَسَقٍ سَاجٍ يَتَفَيَّأُ عَلَيْهِ الْقَمَرُ الْمُنِيرُ- وَ تَعْقُبُهُ الشَّمْسُ‏ ذَاتُ النُّورِ فِي الْأُفُولِ وَ الْكُرُورِ- وَ تَقَلُّبِ الْأَزْمِنَةِ وَ الدُّهُورِ- مِنْ إِقْبَالِ لَيْلٍ مُقْبِلٍ وَ إِدْبَارِ نَهَارٍ مُدْبِرٍ- قَبْلَ كُلِّ غَايَةٍ وَ مُدَّةِ وَ كُلِّ إِحْصَاءٍ وَ عِدَّةٍ تَعَالَى عَمَّا يَنْحَلُهُ الْمُحَدِّدُونَ مِنْ صِفَاتِ الْأَقْدَارِ- وَ نِهَايَاتِ الْأَقْطَارِ وَ تَأَثُّلِ الْمَسَاكِنِ- وَ تَمَكُّنِ الْأَمَاكِنِ- فَالْحَدُّ لِخَلْقِهِ مَضْرُوبٌ وَ إِلَى غَيْرِهِ مَنْسُوبٌ لَمْ يَخْلُقِ الْأَشْيَاءَ مِنْ أُصُولٍ أَزَلِيَّةٍ- وَ لَا مِنْ أَوَائِلَ أَبَدِيَّةٍ- بَلْ خَلَقَ مَا خَلَقَ فَأَقَامَ حَدَّهُ- وَ صَوَّرَ فَأَحْسَنَ صُورَتَهُ- لَيْسَ لِشَيْ‏ءٍ مِنْهُ امْتِنَاعٌ وَ لَا لَهُ بِطَاعَةِ شَيْ‏ءٍ انْتِفَاعٌ- عِلْمُهُ بِالْأَمْوَاتِ الْمَاضِينَ كَعِلْمِهِ بِالْأَحْيَاءِ الْبَاقِينَ- وَ عِلْمُهُ بِمَا فِي السَّمَاوَاتِ الْعُلَى- كَعِلْمِهِ بِمَا فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى

اللغة

أقول: الساطح: الباسط.

و المهاد: الأرض،

و الوهاد: جمع و هدة و هي المكان المطمئنّ.

و النجاد: جمع نجد، و هو المكان المرتفع.

و ازدلاف الربوة: تقدّمها.

و الساجى: الساكن.

و تفيّؤ القمر: ذهابه و مجيئه حالتي أخذه في التبدّر و أخذه في النقصان إلى المحاق.

و مجد مؤثّل و بيت مؤثّل: أصيل قديم.

و قد اشتملت الخطبة من علم التوحيد على مباحث قدّم الحمد للّه تعالى باعتباراتها:

الأوّل: قوله: خالق العباد. إلى قوله: النجاد.
إشارة إلى كونه مبدءا لجميع الموجودات، و بيانه: أنّ لفظ العباد مشتمل على من في السماوات و من في الأرض لقوله تعالى «إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً»«» و تدخل في ذلك الأجسام الفلكيّة لكونها أجساما للملائكة، و سطح المهاد إشارة إلى خلق الأرض و جعلها مهادا لما خلق من الحيوان، و مسيل‏ الوهاد و مخصب النجاد إشارة إلى إيجاده لسائر ما ينتفع به الخلق في الدنيا.
إذا عرفت ذلك فقد اشتملت هذه الألفاظ على إيجاده لجميع الموجودات الممكنة.
و قد ثبت أنّ خالق جميع الموجودات الممكنة لا يكون ممكنا فاستلزم ذلك كونه تعالى واجب الوجود.

الثاني من الاعتبارات السلبيّة: كونه تعالى لا ابتداء لأوليّته
أي لا حدّ لكونه أوّلا للأشياء تقف عنده أوّليّته و تنتهى به و إلّا لكان محدثا فكان ممكنا فلم يكن واجب الوجود. هذا خلف.

الثالث: و لا انقضاء لأزليّته
أى لا غاية ينتهي عندها و ينقضي و إلّا لقابل العدم فلم يكن واجب الوجود. هذا خلف. و قوله: هو الأوّل لم يزل و الباقى بلا أجل. تأكيد للاعتبارين الثاني و الثالث بعبارة الاثبات.

الرابع: خرّت له الجباه و وحدّته الشفاه
و هو إشارة إلى كمال الوهيّته و استحقاقه للعبادة.

الخامس: أنّه لا يشبهه شي‏ء
إذ كلّ شي‏ء ما عداه محدود يقدّره العقل و الوهم و يشار إليه بحدود يحيطان به منها، و لا شي‏ء منه تعالى كذلك. إذ كلّ وهم قفره بحدّ أو بحركة أو جارحة أو أداة كما هو مقتضى الوهم في إدراكه لمدركاته فقد ضلّ ضلالا بعيداً عن تصوّره. و قد سبقت الإشارة إلى ذلك.

السادس: أنّه منزّه عن لحوق الزمان
فلا يسأل عنه بمتى، و عن غاية الزمان فلا يضرب له أمد بحتّى.

السابع: كونه ظاهرا
و مع غاية ظهوره لا مادّة له و لا أصل يستفاد منه فلا يقال ممّا هو موجود.

الثامن: كونه باطنا
و مع غاية بطونه و خفائه لا حيّز له فيقال فيه بطن و خفى كسائر الخفيّات من الأجسام و الجسمانيّات. و قد سبق بيان كونه تعالى باطنا و ظاهرا غير مرّة.

التاسع:
كونه و ليس بشخص فيلحقه التغيّر و الانقضاء.

العاشر: و لا محجوب فيحويه الحجاب.
إذ الشخص للناظر و الحجاب من لواحق الاجسام التي تنزه قدسه عنها.

الحادى عشر:
من الاعتبارات الإضافيّة كونه تعالى قريبا من الأشياء لا بالالتصاق.

الثاني عشر: كونه بعيدا منها لا بالافتراق
و قد عرفت معنى قربه و بعده في الخطبة الاولى، و لمّا كان الالتصاق و الافتراق من لواحق الأجسام لا جرم تنزّه قربه و بعده من الأشياء عنها.

الثالث عشر: كونه لا يخفى عليه من عباده شخوص لحظة.
إلى قوله: و إدبار نهار مدبر. إشارة إلى إحاطة علمه بكلّ المعلومات، و شخوص اللحظة مدّ البصر بلا حركة جفن، و كرور اللفظة رجوعها، و ازدلاف الربوة تقدّمها و أراد الربوة المتقدّمة: أى في النظر و البادية عند مدّ العين فإنّ الربى أوّل ما يقع في العين من الأرض، و الضمير في عليه للغسق. و قوله: و تعقّبه الشمس: أى تتعقّبه فحذف إحدى التائين كقوله تعالى «تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ» و روى تعقبه، و الضمير المنصوب فيه للقمر. و قوله: من إقبال ليل. متعلّق بالتقليب، و المعنى أنّ الشمس تعاقب القمر فتطلع عند افوله، و يطلع عند افولها.

الرابع عشر: كونه قبل كلّ غاية و مدّة و إحصاء و عدّة
لأنّه تعالى خالق الكلّ و مبدءه فوجب تقدّمه و قبليّته.

الخامس عشر: تنزّهه و تعاليه عمّا تصفه به المشبّهة و المتّبعون لحكم أوهامهم في جنابه المقدّس من صفات المقادير كالأقطار و النهايات و الجوانب و إصالة البيوت و قدمها و الاستقرار في المساكن و سائر ما هي حدود و لواحق يتقيّد بها ذوات الأعيان. فإنّ كلّ تلك الحدود مضروبة منه لخلقه و منسوبة إليهم دونه.

السادس عشر: كون مخلوقاته صادرة عنه من غير اصول أزليّة و لا أوائل أبديّة
أي أوّليّة سابقة و معنى هذا الكلام أنّه لم يخلق ما خلق على مثال سبق يكون أصلا لا أوّل له حذا حذوه، و قيل: معناه أنّه ليس لما خلق أصل أزليّ أبديّ خلق منه من مادّة و صورة كما زعمت الفلاسفة، و روى: و لا من أوائل أبديّة. و قوله: بل خلق ما خلق فأقام حدّه. أى بل هو المخترع لإقامة حدوده، و هي من المقادير و الأشكال و النهايات و الآجال و الغايات على وفق الحكمة الإلهيّة، و كذلك صوّر ما صوّر فأحسن صورته: أى أتى به على وجه الإحكام و الإتقان.

السابع عشر: كونه ليس لغيره منه امتناع
إشارة إلى كمال قدرته و و احاطة علمه.

الثامن عشر: كونه لا انتفاع له بطاعة شي‏ء
لأنّ الانتفاع من لوازم الحاجة الممتنعة عليه، و هو إشارة إلى وصف الغنى.

التاسع عشر: كون علمه تعالى بالأموات الماضين كعلمه بالأحياء الباقين، و علمه بما في السماوات العلى كعلمه بما في الأرضين السفلى
و هو إشارة إلى أنّ علمه غير مستفاد من غيره و لا يلحقه تغيّر و تجدّد فلا يتجدّد له علم لم يكن بل علمه تعالى أزليّ أبدي‏ّ تامّ لا يلحقه نقصان، نسبة جميع الممكنات إليه على سواء. و قد علمت تحقيقه في المباحث الإلهيّة في مظانها. و باللّه التوفيق.

القسم الثاني منها:

أَيُّهَا الْمَخْلُوقُ السَّوِيُّ وَ الْمُنْشَأُ الْمَرْعِيُّ- فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْحَامِ وَ مُضَاعَفَاتِ الْأَسْتَارِ- . بُدِئْتَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ- وَ وُضِعْتَ فِي قَرارٍ مَكِينٍ إِلى‏ قَدَرٍ مَعْلُومٍ وَ أَجَلٍ مَقْسُومٍ- تَمُورُ فِي بَطْنِ أُمِّكَ جَنِيناً لَا تُحِيرُ دُعَاءً وَ لَا تَسْمَعُ نِدَاءً- ثُمَّ أُخْرِجْتَ مِنْ مَقَرِّكَ إِلَى دَارٍ لَمْ تَشْهَدْهَا- وَ لَمْ تَعْرِفْ سُبُلَ‏ مَنَافِعِهَا- فَمَنْ هَدَاكَ لِاجْتِرَارِ الْغِذَاءِ مِنْ ثَدْيِ أُمِّكَ- وَ عَرَّفَكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ مَوَاضِعَ طَلَبِكَ وَ إِرَادَتِكَ- هَيْهَاتَ إِنَّ مَنْ يَعْجِزُ عَنْ صِفَاتِ ذِي الْهَيْئَةِ وَ الْأَدَوَاتِ- فَهُوَ عَنْ صِفَاتِ خَالِقِهِ أَعْجَزُ- وَ مِنْ تَنَاوُلِهِ بِحُدُودِ الْمَخْلُوقِينَ أَبْعَدُ

اللغة

أقول: السوىّ: المستوى.

و المرعىّ: المعتنى بأمره.

المعنى

و الخطاب للإنسان. و نبّهه بكونه سويّا مرعيّا على وجود خالقه الحكيم اللطيف. و قد عرفت كيفيّة تخليق الإنسان و تصويره شيئا فشيا إلى حال كماله و وضعه، و كذلك نبّهه بتقلّبه في حالاته و أطوار خلقته و باستفهامه عمّن هداه لاجترار غذائه من ثدى امّه و عمّن عرّفه عند الحاجة مواضع طلبه و هي الأثداء على وجود خالق هداه إلى جميع حاجاته. فهذا القدر من العلم بالصانع أمر ضروريّ في النفوس و إن احتاج إلى أدنى تنبيه. و ما وراء ذلك بمعنى صفات الكمال و نعوت الجلال امور لا تطّلع عليها العقول البشريّة بالكنه و إنّما تطّلع منها على اعتبارات و مقايسات له إلى خلقه، و يحتاج فيها إلى الدليل و البرهان. و قد أشرنا إلى ذلك من قبل. و نبّه على بعد إدراكها و العجز عنها بقوله: هيهات. إلى قوله: و الأدوات: أى من يعجز من صفات نفسه في حال تخليقه و الاطّلاع على منافع جزئيّات أعضائه مع كونها محسوسة مشاهدة له فهو عن صفات خالقه الّتي هي أبعد الأشياء عنه مناسبة أعجز، و من إدراكه بالمقايسة و التشبيه بحدود المخلوقين و صفاتهم أبعد. و باللّه العصمة و التوفيق.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 296
إ

خطبه 161شرح ابن میثم بحرانی

و من كلام له عليه السّلام لبعض أصحابه

و قد سأله: كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام و أنتم أحق به فقال: يَا أَخَا بَنِي أَسَدٍ إِنَّكَ لَقَلِقُ الْوَضِينِ- تُرْسِلُ فِي غَيْرِ سَدَدٍ- وَ لَكَ بَعْدُ ذِمَامَةُ الصِّهْرِ وَ حَقُّ الْمَسْأَلَةِ- وَ قَدِ اسْتَعْلَمْتَ فَاعْلَمْ- أَمَّا الِاسْتِبْدَادُ عَلَيْنَا بِهَذَا الْمَقَامِ- وَ نَحْنُ الْأَعْلَوْنَ نَسَباً وَ الْأَشَدُّونَ بِالرَّسُولِ ص نَوْطاً- فَإِنَّهَا كَانَتْ أَثَرَةً شَحَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمٍ- وَ سَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ آخَرِينَ- وَ الْحَكَمُ اللَّهُ وَ الْمَعْوَدُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ

           وَ دَعْ عَنْكَ نَهْباً صِيحَ فِي حَجَرَاتِهِ           وَ هَلُمَّ الْخَطْبَ فِي ابْنِ أَبِي سُفْيَانَ‏

فَلَقَدْ أَضْحَكَنِي الدَّهْرُ بَعْدَ إِبْكَائِهِ- وَ لَا غَرْوَ وَ اللَّهِ- فَيَا لَهُ خَطْباً يَسْتَفْرِغُ الْعَجَبَ وَ يُكْثِرُ الْأَوَدَ- حَاوَلَ الْقَوْمُ إِطْفَاءَ نُورِ اللَّهِ مِنْ مِصْبَاحِهِ- وَ سَدَّ فَوَّارِهِ مِنْ يَنْبُوعِهِ- وَ جَدَحُوا بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ شِرْباً وَبِيئاً- فَإِنْ تَرْتَفِعْ عَنَّا وَ عَنْهُمْ مِحَنُ الْبَلْوَى- أَحْمِلْهُمْ مِنَ الْحَقِّ عَلَى مَحْضِهِ وَ إِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى- فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ- إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ

اللغة
أقول: الوضين: بطان القتب و حزام السرج.

و الغلق: الاضطراب.

و الذمامة بالكسر: الحرمة،

و يروى ماتّة الصهر: أى وسيلته و هي المصاهرة،

و النوط: التعلّق.

و الأثرة بالتحريك: الاستبداد و الاستيثار.

و الحجرة بفتح الحاء: الناحية، و الجمع حجرات بفتح الجيم و سكونها.

و هلّم: يستعمل بمعنى تعالى كقوله تعالى «هَلُمَّ إِلَيْنا» و قد يستعمل بمعنى هات كما هي هنا فيتعدّى كما قال تعالى «هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ».

و لا غرو: أى لا عجب.

و الأود: الاعوجاج.

و الجدح بالجيم بعدها الحاء: الخلط و التخويض و التكدير.

و الشرب بالكسر: الحظّ من الماء.

و الوبيى‏ء: ذو الوباء الممرض.

المعنى

فأمّا جوابه للأسديّ فإنّه يقال للرجل إذا لم يكن ذا ثبات في عقله و اموره بحيث يسأل عمّا لا يعنيه أو يضع سؤاله في غير موضعه و يستعجل: إنّه قلق الوضين، و أصله أنّ الوضين إذا قلق اضطرب القتب فلم يثبت فطابق حال من لا يثبت في مقاله و حركاته فضرب مثلا له، و كذلك قوله: و ترسل في غير سدد: أى تتكلّم في غير موضع الكلام لا على استقامة. و هذا تأديب له. و قوله: و لك بعد. إلى قوله: استعملت. إبداء للعذر في حسن جوابه فإنّ للمصاهرة حقّ و للسائل على المسئول حقّ الاسترشاد و السؤال. فأمّا كونه صهرا فلأنّ زينب بنت جحش زوجة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم‏ كانت أسديّة. و هي زينب بنت جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرّة بن كثير بن غنم ابن دوذان بن أسد بن خزيمة و أمّها أميمة بنت عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف فهى بنت عمّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. قالوا: و المصاهرة المشار إليها هى هذه، و نقل القطب الراونديّ أنّ عليّا عليه السّلام كان متزوّجا في بنى أسد. و أنكره الشارح ابن أبى الحديد معتمدا على أنّه لم يبلغنا ذلك، و الإنكار لا معنى له. إذ ليس كلّ ما لم يبلغنا من حالهم لا يكون حقّا و يلزم أن لا يصل إلى غيرنا. و قوله: أمّا الاستبداد. شروع في الجواب و الضمير في إنّها يعود إلى معنى الأثرة في الاستبداد، و القوم الّذين شحّوا عليها فعند الإماميّة من تقدّم عليه في الإمامة، و عند غيرهم فربّما قالوا المراد بهم أهل الشورى بعد مقتل عمر. و قوله: و الحكم اللّه و المعود إليه. أى المرجع في يوم القيامة في معنى التظلّم و التشكّى، و المعود مبتداء خبره القيامة. فأمّا البيت فهو لامرء القيس، و أصله أنّه تنقّل في أحياء العرب بعد قتل أبيه فنزل على رجل من خذيلة طيّ يقال له طريف فأحسن جواره. فمدحه و أقام معه. ثمّ إنّه خاف أن لا يكون له منعة فتحوّل عنه و نزل على خالد بن سدوس بن اسمع النبهاني فأغارت بنو خذيلة عليه و هو في جوار خالد فذهبوا بإبله فلمّا أتاه الخبر ذكر ذلك لخالد فقال له: أعطنى رواحلك ألحق عليها فأردّ عليك إبلك ففعل فركب خالد في أثر القوم حتّى أدركهم فقال: يا بني خذيلة أغرتم على إبل جارى. قالوا: ما هو لك بجار. قالوا: بلى و اللّه و هذه رواحله. فرجعوا إليه فأنزلوه عنهنّ و ذهبوا بهنّ و بالإبل. فقال امرء القيس القصيدة الّتي أوّلها البيت:
       فدع عنك نهبا صيح في حجراته           و لكن حديث ما حديث الرواحل‏

و النهب هنا ما ينهب و حجراته جوانبه، و حديث الثاني مبتداء و الأوّل خبره و ما للتنكير و هي الّتي إذا دخلت على اسم زادته إبهاما كقوله: لأمر ما جدع قصير أنفه. و المعنى دع ذكر الإبل فإنّه مفهوم، و لكن حديث الرواحل حديث ما:

أى حديث مبهم لا يدرى كيف هو، و ذلك أنّه قيل: إنّ خالدا هو الّذي ذهب بالرواحل. فكان عنده لبس في أمرها. فأمّا استشهاده عليه السّلام به فالمرويّ في استشهاده النصف الأوّل من البيت، و وجه مطابقته لما هو فيه أنّ السابقين من الأئمّة و إن كانوا قد استبدّوا بهذا الأمر فحديثهم مفهوم. إذ لهم الاحتجاج بالقدمة في الإسلام و الهجرة و قرب المنزلة من الرسول و كونهم من قريش. فدع ذكرهم و ذكر نهبهم هذا المقام فيما سبق، و لكن هات ما نحن فيه الآن من خطب معاوية بن أبي سفيان، و الخطب هو الحادث الجليل، و أراد هات ذكر خطبه فحذف المضاف للعلم به، و أشار به إلى الأحوال الّتي أدّت إلى أن كان معاوية منازعا له في هذا الأمر مع بعده عنه حتّى صار قائما عند كثير من الناس مقامه. و قوله: فلقد أضحكنى الدهر بعد إبكائه. إشارة إلى غبنه ممّن تقدّم عليه في هذا الأمر، و ضحكه بعد ذلك تعجّب ممّا حكمت به الأوقات و اعتبار. ثمّ قال و لا عجب: أى ذلك أمر يجلّ عن التعجّب. ثمّ أخذ في استعظامه فقال: يا له خطبا يستفرغ العجب: أى يفنيه حتّى صار كلا عجب و هو من باب الإغراق و المبالغة كقول ابن هانى:
         قد سرت في الميدان يوم طرادهم             فعجبت حتّى كدت لا أتعجّب‏

و يحتمل أن يكون قوله: و لا غرو و اللّه: أى إذا نظر الإنسان إلى حقيقة الدنيا و تصرّف أحوالها. فيكون قوله بعد ذلك: فيا له. استيناف لاستعظام هذا الأمر.
و كونه يكثر الاعوجاج ظاهر فإنّ كلّ امرء بعد عن الشريعة ازداد الأمر به اعوجاجا. و قوله: حاول القوم. إلى قوله: ينبوعه. فالقوم قريش، و مصباح أنوار اللّه استعارة لخاصّة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من أهل بيته، و كذلك ينبوعه استعارة لهم باعتبار كونهم معدنا لهذا الأمر و لوازمه، و وجه الاستعارتين ظاهر. يريد أنّهم حاولوا إزالة هذا الأمر عن مستقرّه و معدنه الأحقّ به و هو بيت الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. ثمّ استعار لفظ الشرب الوبيى‏ء لذلك الأمر، و لفظ الجدح للكدر الواقع بينهم و المجاذبة لهذا الأمر، و استعار لفظ الوبيى‏ء له باعتبار كونه سببا للهلاك و القتل بينهم. و قوله: فإن ترتفع. إلى آخره. أى فإن يجتمعوا علىّ و يرتفع بيني و بينهم ما ابتلينا به من هذه المحن و الإحن أسلك بهم محض الحقّ، و إن أبوا إلّا البقاء على ما هم عليه فلا أسف عليهم.

و اقتبس الآية المشتملة على تأديب نفسه و توطينها على ترك الأسف عليهم إن لم يؤمنوا و على تهديدهم و وعيدهم باطّلاع اللّه على أعمالهم السيّئة.

شرح‏ نهج ‏البلاغة(ابن‏ ميثم بحرانی)، ج 3 ، صفحه‏ى 292

 

خطبه 160شرح ابن میثم بحرانی

و من خطبة له عليه السّلام

بَعَثَهُ بِالنُّورِ الْمُضِي‏ءِ وَ الْبُرْهَانِ الْجَلِيِّ- وَ الْمِنْهَاجِ الْبَادِي وَ الْكِتَابِ الْهَادِي- أُسْرَتُهُ خَيْرُ أُسْرَةٍ وَ شَجَرَتُهُ خَيْرُ شَجَرَةٍ- أَغْصَانُهَا مُعْتَدِلَةٌ وَ ثِمَارُهَا مُتَهَدِّلَةٌ-مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ وَ هِجْرَتُهُ بِطَيْبَةَ عَلَا بِهَا ذِكْرُهُ وَ امْتَدَّ مِنْهَا صَوْتُهُ- أَرْسَلَهُ بِحُجَّةٍ كَافِيَةٍ وَ مَوْعِظَةٍ شَافِيَةٍ وَ دَعْوَةٍ مُتَلَافِيَةٍ- أَظْهَرَ بِهِ الشَّرَائِعَ الْمَجْهُولَةَ- وَ قَمَعَ بِهِ الْبِدَعَ الْمَدْخُولَةَ- وَ بَيَّنَ بِهِ الْأَحْكَامَ الْمَفْصُولَةَ- فَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دَيْناً تَتَحَقَّقْ شِقْوَتُهُ- وَ تَنْفَصِمْ عُرْوَتُهُ وَ تَعْظُمْ كَبْوَتُهُ- وَ يَكُنْ مَآبُهُ إِلَى الْحُزْنِ الطَّوِيلِ وَ الْعَذَابِ الْوَبِيلِ- وَ أَتَوَكَّلُ عَلَى اللَّهِ تَوَكُّلَ الْإِنَابَةِ إِلَيْهِ- وَ أَسْتَرْشِدُهُ السَّبِيلَ الْمُؤَدِّيَةَ إِلَى جَنَّتِهِ- الْقَاصِدَةَ إِلَى مَحَلِّ رَغْبَتِهِ: أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ وَ طَاعَتِهِ- فَإِنَّهَا النَّجَاةُ غَداً وَ الْمَنْجَاةُ أَبَداً- رَهَّبَ فَأَبْلَغَ وَ رَغَّبَ فَأَسْبَغَ- وَ وَصَفَ لَكُمُ الدُّنْيَا وَ انْقِطَاعَهَا- وَ زَوَالَهَا وَ انْتِقَالَهَا- فَأَعْرِضُوا عَمَّا يُعْجِبُكُمْ فِيهَا لِقِلَّةِ مَا يَصْحَبُكُمْ مِنْهَا- أَقْرَبُ دَارٍ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ وَ أَبْعَدُهَا مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ- فَغُضُّوا عَنْكُمْ عِبَادَ اللَّهِ غُمُومَهَا وَ أَشْغَالَهَا- لِمَا قَدْ أَيْقَنْتُمْ بِهِ مِنْ فِرَاقِهَا وَ تَصَرُّفِ حَالَاتِهَا- فَاحْذَرُوهَا حَذَرَ الشَّفِيقِ النَّاصِحِ وَ الْمُجِدِّ الْكَادِحِ- وَ اعْتَبِرُوا بِمَا قَدْ رَأَيْتُمْ مِنْ مَصَارِعِ الْقُرُونِ قَبْلَكُمْ- قَدْ تَزَايَلَتْ أَوْصَالُهُمْ- وَ زَالَتْ أَبْصَارُهُمْ وَ أَسْمَاعُهُمْ- وَ ذَهَبَ شَرَفُهُمْ وَ عِزُّهُمْ- وَ انْقَطَعَ سُرُورُهُمْ وَ نَعِيمُهُمْ- فَبُدِّلُوا بِقُرْبِ الْأَوْلَادِ فَقْدَهَا- وَ بِصُحْبَةِ الْأَزْوَاجِ مُفَارَقَتَهَا- لَا يَتَفَاخَرُونَ وَ لَا يَتَنَاسَلُونَ- وَ لَا يَتَزَاوَرُونَ وَ لَا يَتَحَاوَرُونَ- فَاحْذَرُوا عِبَادَ اللَّهِ حَذَرَ الْغَالِبِ لِنَفْسِهِ- الْمَانِعِ لِشَهْوَتِهِ النَّاظِرِ بِعَقْلِهِ- فَإِنَّ الْأَمْرَ وَاضِحٌ وَ الْعَلَمَ قَائِمٌ- وَ الطَّرِيقَ جَدَدٌ وَ السَّبِيلَ قَصْدٌ

اللغة

أقول: اسرته: أهله.

و المتهدّلة: المتدلّية.

و طيبة: اسم للمدينة سمّاها به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد كان اسمها يثرب، و روى أنّ يزيد بن معاوية سمّاها خيبة.

و تلافيت الشي‏ء: استدركته.

و الكبوة: العثرة.

و الوبيل: المهلك.

و الكدح: السعى و العمل.

و خلاصة الفصل ذكر ممادح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. ثمّ الموعظة الحسنة و التنفير عن الدنيا.

و النور المضي‏ء نور النبوّة، و البرهان الجلىّ المعجزات و الآيات الموضحة لنبوّته، و المنهاج البادى هو شريعته و دينه الواضح، و الكتاب الهادى القرآن لهديه إلى سبيل الجنّة، و ظاهر كون اسرته خير الاسرة. و لفظ الشجرة مستعار لأصله، و ظاهر كون قريش أفضل العرب، و لفظ الأغصان مستعار لأشخاص بيته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كعليّ و أولاده و زوجته و أعمامه و إخوانه، و اعتدال هذه الأغصان تقاربهم في الفضل و الشرف، و ثمارها مستعار لفضائلهم العلميّة و العمليّة، و تهدّلها كناية عن ظهورها و كثرتها و سهولة الانتفاع بها، و ذكر مولده بمكّة و حجرته بالمدينة في معرض مدحته لشرف مكّة بالبيت العتيق و شرف المدينة بأهلها حيث آووه و نصروه حين هاجر إليها فعلا بها ذكره و انتشرت فيها صيته و امتدّت دعوته، و لأنّه هاجر إليها و هي بلدة مجدب قليل الخصب ضعيف الأهل مع غلبة خصومه و قوّة المشركين عليه في ذلك الوقت. ثمّ إنّه مع ذلك علا بها ذكره و انتشرت فيها صيته فكان ذلك من آيات نبوّته أيضا، و الحجّة الكافية ما جاء به من الآيات الّتي قهر بها أعداء اللّه، و الموعظة الشافية ما اشتمل عليه القرآن العظيم و السنّة الكريمة من الوعد و الوعيد و ضرب الأمثال و التذكير بالقرون الماضية و الآراء المحمودة الجاذبة للناس في أرشد الطرق إلى جناب ربّهم، و كفى بها شفاء للقلوب من أدواء الجهل، و الدعوة المتلافية فإنّه استدرك بها ما فسد من نظام الخلق و تلافى بها ما هلك من قلوبهم و أسوّد من ألواح نفوسهم، و الشرائع المجهولة طرايق دينه و قوانين شريعته الّتي لم يكن ليهتدى إليها إلّا بظهوره، و البدع ما كانت عليه أهل الجاهليّة من الآثام و الفساد في الأرض، و الأحكام المفصولة ما فصّله و بيّنه لنا من أحكام دين الإسلام الّذي من ابتغى غيره دينا ضلّ عن سواء طريق النجاة فتحقّقت شقوته في الآخرة و انفصمت عروته: أى انقطع متمسّك النجاة في يده فعظمت عثرته في سفره إلى الآخرة و كان مرجعه إلى الحزن الطويل على ما فرّط في جنب اللّه و مصيره إلى العذاب المهلك في دار البوار.

ثمّ أنشأ يتوكّل على اللّه توكّل المنيب إليه: أى الملتفت بقلبه عن غيره المسلّم بجميع اموره إليه، و يسأله الإرشاد إلى سبيله القاصدة إلى جنّته الّتي هي محلّ الرغبة إليه. ثمّ عقّب بالموعظة فبدء بالوصيّة بتقوى اللّه و طاعته و أطلق عليها لفظ النجاة مجازا إطلاقا لاسم المسبّب على السبب المادّى لكونها معدّة لإفاضة النجاة من عذاب يوم القيامة. و قيل: النجاة الناقة الّتي ينجى عليها فاستعار لفظها للطاعة لأنّها كالمطيّة ينجو بها المطيع من العطب، و لفظ المنجاة إذ هي محلّ النجاة دائما، و الضمير في رهّب و رغّب للّه: أى فأبلغ في وعيده و أسبغ الترغيب فاتمه و وصف الدنيا بالاوصاف الموجبه للرغبه عنها. ثم امر عليه السلام بالإعراض عن زينتها، و علّل حسن ذلك الإعراض بقلّة ما يستصحب الإنسان منها إلى الآخرة، و أراد الإعراض بالقلب الّذي هو الزهد الحقيقيّ، و إنّما قال: لقلّة ذلك و لم يقل لعدمه لأنّ السالكين لابدّ أن يستصحبوا منها شيئا و هو ما يكتسبه أحدهم من الكمالات إلى الآخرة لكن القدر الّذي يكتسبه المترفون من الكمالات إذا قصدوا بأموالهم و سائر زينة الحياة الدنيا الوصول إلى اللّه تعالى قليل نور، و مع ذلك فهم في غاية الخطر من مزلّة القدم في كلّ حركة و تصرّف بخلاف أمر القشف الّذين اقتصروا منها على مقدار الضرورة البدنيّة، و يحتمل أن يريد بالقليل الّذي يصحبهم منها كالكفن و نحوه، و إنّما كانت أقرب دار من سخط اللّه و أبعدها من إطاعة اللّه لأنّ الميل فيها إلى اللهو و اللعب و الاستمتاع بزينتها المستلزم لسخط اللّه أغلب‏ من الانتفاع بها في سلوك سبيل اللّه. و قوله: فغضّوا. أى فكفّوا عن أنفسكم الغمّ لأجلها و الاشتغال بها لما تيقّنتم من فراقها لأنّ الغمّ إنّما ينبغي أن يوجّه نحو ما يبقى. ثمّ حذّر منها حذر الشفيق على نفسه الناصح المجدّ الكادح لها. ثمّ أخذ في الأمر باعتبار ما هو مشاهد من مصارع القرون الماضية و أحوالها الخالية من تفرّق أوصالهم و زوال أسماعهم و أبصارهم إلى سائر ما عدّده من الأحوال الّتي نزلت بهم و استبدلوها من الأحوال الدنيويّة الّتي كانوا عليها. ثمّ حذّر منها حذر الغالب لنفسه الأمّارة بالسوء الناظر بعين عقله مقابح شهوته المانع لها عن العبور إلى حدّ الإفراط من فضيلة العفّة فإنّ أمر الدنيا و الآخرة واضح لمن اعتبر حالهما، و علم الشريعة الهادي إلى الحقّ قائم، و الطريق إلى اللّه سهل مستقيم قاصد: أى فلا يكن أمركم عليكم غمّة.

شرح نهج البلاغة(ابن ميثم بحراني)، ج 3 ، صفحه‏ى 289